كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي

زِرَاعَتُهُ فِي هَذِهِ الْأَرْضِ وَفِي أَرْضٍ لَهُ أُخْرَى سَوَاءً فَيَكُونُ الْخَارِجُ كُلُّهُ لَهُ ، وَالْمُزَارِعُ مُتَطَوِّعٌ ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ فِي زَرْعِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ .

وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ نَخْلًا لَهُ مُعَامَلَةً بِالنِّصْفِ فَقَامَ عَلَيْهِ الْعَامِلُ وَسَقَاهُ وَحَفِظَهُ فَلَمَّا خَرَجَ طَلْعُهُ أَخَذَهُ صَاحِبُ النَّخْلِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْعَامِلِ وَقَامَ عَلَيْهِ وَسَقَاهُ وَلَقَّحَهُ حَتَّى أَدْرَكَ الْخَارِجَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ قَدْ تَأَكَّدَتْ بِخُرُوجِ الطَّلْعِ فَيَكُونُ رَبُّ النَّخْلِ بَعْدَ ذَلِكَ مُعِينًا لِلْعَامِلِ فِي النَّخْلِ بِمَنْزِلَةِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ بِعَيْنِهِ ، وَلَا أَجْرَ لِصَاحِبِ النَّخْلِ فِي تَلْقِيحِهِ وَعَمَلِهِ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فِيهِ لَمْ يَأْمُرْهُ الْعَامِلُ بِهِ ، وَلَوْ كَانَ الْعَامِلُ حِينَ قَبَضَ النَّخْلَ أَخَذَهُ صَاحِبُهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَسَقَاهُ وَقَامَ عَلَيْهِ حَتَّى طَلَعَ طَلْعُهُ ثُمَّ قَبَضَ مِنْهُ الْعَامِلُ فَلَقَّحَهُ وَسَقَاهُ وَقَامَ عَلَيْهِ حَتَّى صَارَ تَمْرًا - فَجَمِيعُ مَا خَرَجَ لِصَاحِبِ النَّخْلِ وَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ مِنْهُ ، لِأَنَّ الشَّرِكَةَ إنَّمَا تَنْعَقِدُ بَيْنَهُمَا بِخُرُوجِ الطَّلْعِ ، وَحِينَ خَرَجَ لَمْ يَكُنْ وُجِدَ مِنْ الْعَامِلِ عَمَلٌ فِيهِ لَا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا ، فَيَكُونَ الْخَارِجُ كُلُّهُ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِ النَّخْلِ ، ثُمَّ لَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِعَمَلِ الْعَامِلِ بَلْ هُوَ فِيمَا عَمِلَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ ، وَلَوْ كَانَ صَاحِبُ النَّخْلِ قَبَضَهُ وَسَقَاهُ وَقَامَ عَلَيْهِ فَلَمْ يَخْرُجْ طَلْعُهُ حَتَّى قَبَضَهُ الْعَامِلُ بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهِ فَسَقَاهُ وَقَامَ عَلَيْهِ حَتَّى خَرَجَ طَلْعُهُ ثُمَّ لَقَّحَهُ وَقَامَ عَلَيْهِ حَتَّى صَارَ تَمْرًا - فَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الشَّرِكَةَ إنَّمَا تَنْعَقِدُ عِنْدَ حُصُولِ الطَّلْعِ ، وَقَدْ وُجِدَ الْعَمَلُ مِنْ الْعَامِلِ عِنْدَ ذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اقْتَضَتْهُ الْمُعَامَلَةُ فَيَصِيرُ الْخَارِجُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْمُزَارَعَةِ بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ رَبُّ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ يَمْلِكُ فَسْخَ الْعَقْدِ قَصْدًا قَبْلَ إلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ ، وَهُنَا لَا يَمْلِكُ ، ثُمَّ هُنَاكَ لَا يُجْعَلُ رَبُّ الْأَرْضِ مُسْتَرِدًّا

فِيمَا أَقَامَ مِنْ الْعَمَلِ وَيُجْعَلُ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ ، فَهُنَا أَوْلَى ، وَفِي جَمِيعِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ لَوْ كَانَ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَالنَّخْلِ فِعْلُ مَا فَعَلَ بِأَمْرِ الْعَامِلِ وَالْمُزَارِعِ كَانَ الْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ ؛ لِأَنَّ الْمُزَارِعَ اسْتَعَانَ بِهِ فِي الْعَمَلِ وَهُوَ قَصْدُ إعَانَتِهِ لَا إقَامَةُ الْعَمَلِ لِنَفْسِهِ ، فَتَكُونُ الِاسْتِعَانَةُ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِهِ .
وَلَوْ كَانَ اسْتَأْجَرَ رَبَّ الْأَرْضِ وَالْبَذْرِ أَوْ رَبَّ النَّخْلِ عَلَى ذَلِكَ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ - فَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ ، وَلَا أَجْرَ لَهُ عَلَى الْمُزَارِعِ لِأَنَّهُ عَمِلَ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ ، وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ لِذَلِكَ أُجَرَاءَ فَفَعَلَ فَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ وَأَجْرُ الْأُجَرَاءِ عَلَيْهِ .
وَلَوْ كَانَتْ الْمُزَارَعَةُ وَالْمُعَامَلَةُ الْأُولَى بِالنِّصْفِ ثُمَّ دَفَعَهَا الْعَامِلُ إلَى رَبِّ الْأَرْضِ وَالنَّخْلِ لِيَعْمَلَ عَلَى أَنَّ لَهُ الثُّلُثَيْنِ مِنْ الْخَارِجِ وَالثُّلُثَ لِلْعَامِلِ - فَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ عَلَى الْمُزَارَعَةِ الْأُولَى ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ اسْتَأْجَرَ رَبَّ الْأَرْضِ وَالنَّخْلِ لِلْعَمَلِ بِجُزْءٍ مِنْ نَصِيبِهِ .
وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ بِدَرَاهِمَ لَمْ يَسْتَوْجِبْ الْأَجْرَ ، فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَهُ بِجُزْءٍ مِنْ نَصِيبِهِ ، وَلَا يُجْعَلُ هَذَا حَطًّا مِنْهُ لِبَعْضِ نَصِيبِهِ مِنْ الْخَارِجِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَطَّ مِنْ ضِمْنِ الْعَقْدِ الثَّانِي لَا مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ ، وَقَدْ بَطَلَ الْعَقْدُ الثَّانِي فَيَبْطُلُ مَا فِي ضِمْنِهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

[ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ] : وَإِذَا دَفَعَ رَجُلٌ نَخْلًا لَهُ مُعَامَلَةً عَلَى أَنْ يُلَقِّحَهُ ؛ فَمَا خَرَجَ مِنْهُ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ صَاحِبُ النَّخْلِ عَلَى الْعَامِلِ مِنْ السَّقْيِ وَالْحِفْظِ وَالْعَمَلِ شَيْئًا غَيْرَ التَّلْقِيحِ - نَظَرْت فِيهِ : فَإِنْ كَانَ النَّخْلُ يَحْتَاجُ إلَى الْحِفْظِ وَالسَّقْيِ فَالْمُعَامَلَةُ فَاسِدَةٌ لِأَنَّ الْعَمَلَ يُسْتَحَقُّ عَلَى الْعَامِلِ بِالشَّرْطِ وَلَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ إلَّا الْمَشْرُوطُ ، وَإِذَا كَانَ الثَّمَنُ لَا يَحْصُلُ بِالْعَمَلِ الْمَشْرُوطِ عَلَيْهِ فَمَا سِوَاهُ مِنْ الْأَعْمَالِ يَكُونُ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ .
وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَسَدَ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْمُعَامَلَةِ التَّخْلِيَةُ بَيْنَ الْعَامِلِ وَبَيْنَ النَّخِيلِ ، فَاشْتِرَاطُ بَعْضِ الْعَمَلِ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ بِعَدَمِ التَّخْلِيَةِ يَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ ، فَكَذَلِكَ اسْتِحْقَاقُ ذَلِكَ عَلَيْهِ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّ ذَلِكَ اُسْتُحِقَّ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ عَلَى الشَّرِكَةِ فِي الْخَارِجِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الْعَمَلِ الَّذِي بِهِ يَحْصُلُ الْخَارِجُ ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ ذَلِكَ عَلَى الْعَامِلِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَيَكُونُ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ ذَلِكَ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ تَسْلِيمِ نَصِيبِ الْعَامِلِ مِنْ الْخَارِجِ إلَيْهِ كَمَا شَرَطَهُ لَهُ ، فَإِنْ لَقَّحَهُ الْعَامِلُ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ وَقِيمَةُ مَا لَقَّحَهُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ صَرَفَ عَيْنَ مَالِهِ وَمَنَافِعِهِ إلَى إصْلَاحِ مِلْكِ الْغَيْرِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَيَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ أَجْرَ مِثْلِهِ بِإِزَاءِ مَنَافِعِهِ وَقِيمَةِ مَا لَقَحَهُ بِهِ بِإِزَاءِ الْعَيْنِ الَّذِي صَرَفَهُ إلَى مِلْكِ الْغَيْرِ ، فَإِنْ ابْتَغَى الْعِوَضَ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ وَلَمْ يَنَلْ حِينَ كَانَ الْخَارِجُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ النَّخْلِ فَكَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ وَقِيمَةُ مَا لَقَّحَهُ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَاجُ إلَى حِفْظٍ وَلَا إلَى سَقْيٍ وَلَا عَمَلَ غَيْرُ التَّلْقِيحِ - فَالْمُعَامَلَةُ جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْخَارِجُ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْعَامِلِ

بِالشَّرْطِ ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ فَيَكُونُ مُسْتَحَقًّا عَلَى رَبِّ النَّخْلِ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ ، فَذِكْرُهُ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ سَوَاءٌ .
وَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَاجُ إلَى سَقْيٍ وَلَكِنْ لَوْ سُقِيَ كَانَ أَجْوَدَ لِثَمَرَتِهِ إلَّا أَنَّ تَرْكَهُ لَا يَضُرُّهُ - فَالْمُعَامَلَةُ جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ صِفَةُ السَّلَامَةِ فِي الْعِوَضِ ، فَأَمَّا صِفَةُ الْجَوْدَةِ فَلَا تُسْتَحَقُّ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ ، فَلَا يَكُونَ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ شَيْءٌ مِنْ الْعَمَلِ هُنَا .
وَإِنْ كَانَ تَرْكُ السَّقْيِ يَضُرُّهُ وَيُفْسِدُ بَعْضَهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ كُلُّهُ - فَالْمُعَامَلَةُ فَاسِدَةٌ ، لِأَنَّ بِمُطْلَقِ الْمُعَاوَضَةِ يَسْتَحِقُّ صِفَةَ السَّلَامَةِ عَنْ الْعَيْبِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالْعَمَلِ الْمَشْرُوطِ عَلَى الْعَامِلِ ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَوْلِ بِاسْتِحْقَاقِ بَعْضِ الْعَمَلِ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ وَهُوَ مَا تَحْصُلُ بِهِ صِفَةُ السَّلَامَةِ ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ وَإِنْ كَانَ تَرَكَ اشْتِرَاطَ التَّلْقِيحِ عَلَيْهِ وَقَدْ اشْتَرَطَ مَا سِوَاهُ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ تَرْكَ التَّلْقِيحِ يَضُرُّهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ النَّخِيلَ إذَا لَمْ يُلَقَّحْ أَحْشَفَ التَّمْرُ ، فَقَدْ بَقِيَ بَعْضُ الْعَمَلِ عَلَى صَاحِبِ النَّخْلِ وَهُوَ مَا تَحْصُلُ بِهِ صِفَةُ السَّلَامَةِ .
وَكَذَلِكَ كُلُّ عَمَلٍ لَا يَصْلُحُ النَّخْلُ إلَّا بِهِ وَلَمْ يَشْتَرِطْهُ عَلَى الْعَامِلِ .
وَلَوْ كَانَ النَّخْلُ نَخْلًا لَا يَحْتَاجُ إلَى التَّلْقِيحِ ، وَكَانَ بِحَيْثُ يَحْصُلُ ثَمَرُهُ بِغَيْرِ تَلْقِيحٍ إلَّا أَنَّ التَّلْقِيحَ أَجْوَدُ لَهُ - فَالْمُعَامَلَةُ جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَسْتَحِقُّ صِفَةَ السَّلَامَةِ لَا صِفَةَ الْجَوْدَةِ .
وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ النَّخْلَ مُلَقَّحًا وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ الْحِفْظَ وَالسَّقْيَ جَازَ ؛ لِأَنَّ التَّخْلِيَةَ بَيْنَ النَّخْلِ وَالْعَامِلِ إنَّمَا تُشْتَرَطُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَدْ وُجِدَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا دُفِعَ إلَيْهِ غَيْرَ مُلَقَّحٍ ، وَاشْتِرَاطُ التَّلْقِيحِ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ

التَّخْلِيَةَ تَنْعَدِمُ عَقِيبَ الْعَقْدِ وَمَا يُلَقِّحُهُ صَاحِبُ النَّخْلِ ، وَالْمُعَامَلَةُ تَلْزَمُ بِنَفْسِهَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، فَاشْتِرَاطُ مَا يُفَوِّتُ مُوجَبَهَا يُفْسِدُ الْعَقْدَ ، وَفِي الْأَوَّلِ التَّلْقِيحُ مِنْ رَبِّ النَّخْلِ كَانَ قَبْلَ الْعَقْدِ فَمَا هُوَ مُوجَبُ الْعَقْدِ وَهُوَ التَّخْلِيَةُ بَيْنَ الْعَامِلِ وَالنَّخْلِ عَقِيبَ الْعَقْدِ مَوْجُودٌ ، وَإِنْ اشْتَرَطَا أَنْ يُلَقِّحَهُ صَاحِبُهُ ثُمَّ يَحْفَظَهُ الْعَامِلُ وَيَسْقِيَهُ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ انْعَقَدَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَالِ ، فَالشَّرْطُ مُفَوِّتٌ مُوجَبَ الْعَقْدِ ، وَإِنْ كَانَ مُضَافًا إلَى مَا بَعْدَ فَرَاغِ صَاحِبِ النَّخْلِ مِنْ التَّلْقِيحِ - فَذَلِكَ مَجْهُولٌ لَا يَدْرِي يُعَجِّلُهُ صَاحِبُ النَّخْلِ أَوْ يُؤَخِّرُهُ ، وَالْجَهَالَةُ فِي ابْتِدَاءِ مُدَّةِ الْمُعَامَلَةِ مُفْسِدَةٌ لِلْمُعَامَلَةِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ يُلَقِّحَهُ فِي هَذَا الشَّهْرِ صَاحِبُ النَّخْلِ عَلَى أَنْ يَحْفَظَهُ الْعَامِلُ وَيَسْقِيَهُ مِنْ غُرَّةِ الشَّهْرِ الدَّاخِلِ - فَيَجُوزُ ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ مُدَّةِ الْمُعَامَلَةِ هُنَا فِي غُرَّةِ الشَّهْرِ الدَّاخِلِ وَهُوَ مَعْلُومٌ ، وَالْمُعَامَلَةُ عَقْدُ إجَارَةٍ فَتَجُوزُ إضَافَتُهَا إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ .
وَلَوْ دَفَعَهُ إلَيْهِ وَاشْتَرَطَ التَّلْقِيحَ وَالسَّقْيَ عَلَى الْعَامِلِ وَالْحِفْظَ عَلَى رَبّ النَّخْلِ - لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يَعْدَمُ التَّخْلِيَةَ فِي جَمِيعِ مُدَّةِ الْمُعَامَلَةِ ، فَالْحِفْظُ مُحْتَاجٌ إلَيْهَا الْآنَ لِدَرْكِ الثِّمَارِ ؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْحِفْظِ فَتَجُوزُ الْمُعَامَلَةُ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْ الشُّرُوطِ مَا يَكُونُ مُفِيدًا ، فَأَمَّا مَا لَا يُفِيدُ فَالذِّكْرُ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ سَوَاءٌ .
وَلَوْ اشْتَرَطَ التَّلْقِيحَ وَالْحِفْظَ عَلَى الْعَامِلِ وَالسَّقْيَ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ لَمْ يَجُزْ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يَعْدَمُ التَّخْلِيَةَ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ يَصْلُحُ بِغَيْرِ سَقْيٍ إلَّا أَنَّ السَّقْيَ أَفْضَلُ لَهُ لَمْ يَجُزْ أَيْضًا لِأَنَّ صِفَةَ الْجَوْدَةِ

تُسْتَحَقُّ بِالشَّرْطِ ، فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ تَحْصُلُ بِمَا شُرِطَ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ اعْتِبَارِهِ ، وَإِنْ كَانَ السَّقْيُ لَا يَزِيدُ فِيهِ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّهُ تَرْكُهُ فَالْمُعَامَلَةُ جَائِزَةٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الشَّرْطِ فَائِدَةٌ ، فَذِكْرُهُ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ سَوَاءٌ .

وَلَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَرْضًا وَبَذْرًا عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا هَذِهِ السَّنَةَ فَمَا خَرَجَ مِنْهَا فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِ سَقْيًا وَلَا حِفْظًا : فَإِنْ كَانَتْ أَرْضًا يَسْقِيهَا السَّمَاءُ لَا يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى سَقْيٍ وَلَا حِفْظٍ مِثْلَ أَرْضِ الْجَزِيرَةِ وَنَحْوِهَا - فَالْمُزَارَعَةُ جَائِزَةٌ عَلَى شَرْطِهِمَا ؛ لِأَنَّ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْخَارِجُ قَدْ شُرِطَ عَلَى الْمُزَارِعِ ، وَمَا سِوَاهُ مِنْ الْعَمَلِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ فَلَا يَكُونُ مُسْتَحَقًّا عَلَى وَاحِدٍ .
وَإِنْ كَانَ لَا يُسْتَغْنَى عَنْ الْحِفْظِ وَالسَّقْيِ فَالْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَحَقُّ عَلَى الْعَامِلِ إلَّا الْعَمَلُ الْمَشْرُوطُ ، فَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ الْخَارِجُ يَكُونُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ فَكَأَنَّهُ شَرَطَ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَهُوَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ لِانْعِدَامِ التَّخْلِيَةِ .
وَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ لَا يَحْتَاجُ إلَى السَّقْيِ وَلَكِنَّهُ لَوْ سُقِيَ كَانَ أَجْوَدَ لَهُ - فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى شَرْطِهِمَا ، لِأَنَّ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَسْتَحِقُّ صِفَةَ السَّلَامَةِ لَا نِهَايَةَ الْجَوْدَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا شَرَطَ ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْجَوْدَةِ تُسْتَحَقُّ بِالشَّرْطِ .
وَإِنْ كَانَ إذَا تَرَكَ السَّقْيَ هَلَكَ بَعْضُهُ وَخَرَجَ بَعْضُهُ حَيًّا عَامِرًا عَطْشَانَ فَالْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةٌ ؛ لِأَنَّ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَسْتَحِقُّ صِفَةَ السَّلَامَةِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَا لَمْ يَشْتَرِطْ عَلَى الْعَامِلِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مُسْتَحَقًّا عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ .
وَلَوْ اشْتَرَطَ جَمِيعَ الْعَمَلِ عَلَى الْعَامِلِ إلَّا الْحِفْظَ فَإِنَّهُ اشْتَرَطَهُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ - فَالْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةٌ لِأَنَّ بِهَذَا الشَّرْطِ تَنْعَدِمُ التَّخْلِيَةُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَ السَّقْيَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ .
وَلَوْ اشْتَرَطَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ أَنْ يَبْذُرَهُ كَانَ هَذَا فَاسِدًا ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَنْعَقِدُ بَيْنَهُمَا فِي الْحَالِ ، فَالتَّخْلِيَةُ تَنْعَدِمُ إلَى أَنْ يَفْرُغَ رَبُّ الْأَرْضِ مِنْ الْبَذْرِ ، فَإِنْ

كَانَ اشْتَرَطَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ السَّقْيَ وَالسَّقْيُ لَوْ تُرِكَ لَمْ يَضُرَّهُ وَلَكِنَّهُ أَجْوَدُ لِلزَّرْعِ إنْ سُقِيَ - فَالْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةٌ ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْجَوْدَةِ تُسْتَحَقُّ بِالشَّرْطِ ، وَإِنْ كَانَ السَّقْيُ لَا يَزِيدُهُ خَيْرًا فَالْمُزَارَعَةُ جَائِرَةٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ ، وَإِنْ كَانَ الْمَطَرُ رُبَّمَا قَلَّ فَزَادَ الزَّرْعُ وَرُبَّمَا كَثُرَ فَلَمْ يَزِدْهُ السَّقْيُ خَيْرًا - لَمْ تَجُزْ الْمُزَارَعَةُ ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ مُعْتَبَرٌ مُقَيَّدٌ مِنْ وَجْهٍ .
وَالْأَصْلُ فِي الشَّرَائِطِ فِي الْعَقْدِ أَنَّهُ يَجِبُ اعْتِبَارُهَا إلَّا عِنْدَ التَّيَقُّنِ بِخُلُوِّهَا عَنْ الْفَائِدَةِ ، وَيَبْقَى هُنَا مُوجَبُ اعْتِبَارِ الشَّرْطِ ، وَبِاعْتِبَارِهِ يَفْسُدُ الْعَقْدُ لِانْعِدَامِ التَّخْلِيَةِ .
وَإِذَا بَذَرَ الرَّجُلُ فَلَمْ يَنْبُتْ شَيْءٌ حَتَّى دَفَعَهَا إلَى رَجُلٍ عَلَى أَنْ يَسْقِيَهُ وَيَحْفَظهُ فَمَا خَرَجَ مِنْهُ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ - فَهُوَ جَائِزٌ لِوُجُودِ التَّخْلِيَةِ بَيْنَ رَبِّ الْأَرْضِ وَالْمُزَارِعِ عَقِيبَ الْعَقْدِ .
وَلَوْ دَفَعَهَا إلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَبْذُرَهَا عَلَى أَنْ يَبْذُرَهَا رَبُّ الْأَرْضِ وَيَسْقِيَهَا الْمُزَارِعُ وَيَحْفَظَهَا - فَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ انْعَقَدَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَالِ ، وَالتَّخْلِيَةُ تَنْعَدِمُ إلَى أَنْ يَبْذُرَهَا رَبُّ الْأَرْضِ .
وَإِنْ كَانَ رَبُّ الْأَرْضِ اشْتَرَطَ لَهُ أَنْ يَبْذُرَ عَلَى أَنْ يَحْفَظَ الزَّرْعَ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَسْقِيَهُ - لَمْ يَجُزْ أَيْضًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُمَا أَضَافَا الْعَقْدَ إلَى وَقْتِ فَرَاغِ رَبِّ الْأَرْضِ مِنْ الْبَذْرِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ ، فَقَدْ يُعَجِّلُ رَبُّ الْأَرْضِ الْبَذْرَ وَقَدْ يُؤَخِّرُ ذَلِكَ ، وَجَهَالَةُ مُدَّةِ الْمُزَارَعَةِ تُفْسِدُ الْعَقْدَ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ يَزْرَعَ فِي هَذَا الشَّهْرِ عَلَى أَنْ يَحْفَظَهُ الْعَامِلُ وَيَسْقِيَهُ مِنْ غُرَّةِ الشَّهْرِ الدَّاخِلِ - فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ ؛ لِأَنَّهُمَا أَضَافَا الْعَقْدَ إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ فَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ بَعْدَ مَجِيءِ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَالتَّخْلِيَةُ تُوجَدُ

عَقِيبَ انْعِقَادِ الْعَقْدِ .
وَلَوْ أَنَّ الْبَذْرَ مِنْ الْمُزَارِعِ عَلَى أَنَّ الَّذِي يَلِي طَرْحَ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ رَبُّ الْأَرْضِ وَاشْتَرَطَا لِذَلِكَ وَقْتًا يَكُونُ السَّقْيُ وَالْحِفْظُ بَعْدَهُ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطَا - فَالْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةٌ ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ مُؤَاجِرٌ لِأَرْضِهِ ، وَالْعَقْدُ يَلْزَمُ مِنْ جَانِبِهِ بِنَفْسِهِ فَيُلْزِمُهُ تَسْلِيمَ الْأَرْضِ ، فَإِذَا شَرَطَ عَلَيْهِ طَرْحَ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ فَهَذَا شَرْطٌ يَعْدَمُ التَّخْلِيَةَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ، فَهُنَاكَ إنَّمَا يَلْزَمُ الْعَقْدُ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الْبَذْرِ بَعْدَ إلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ فَيَكُونُ إضَافَةَ الْمُزَارَعَةِ إلَى وَقْتٍ مَعْلُومٍ ، وَلَكِنْ يَدْخُلُ عَلَى هَذَا الْحَرْفِ الْمُعَامَلَةُ فَإِنَّهَا تَلْزَمُ بِنَفْسِهَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْجَوَابَ فِيهَا وَفِي الْمُزَارَعَةِ إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ - سَوَاءٌ .
فَالْوَجْهُ أَنْ يَقُولَ : اشْتِرَاطُ طَرْحِ الْبَذْرِ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ الْبَقَرِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ - غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلْعَقْدِ ، وَإِذَا كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الْعَامِلِ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ فَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَطَا طَرْحَ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَ الْحِفْظَ وَالسَّقْيَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ فَهَذَا شَرْطٌ يَعْدَمُ التَّخْلِيَةَ وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ الْحِفْظَ وَالسَّقْيَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَدَفَعَهَا إلَيْهِ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا بِالنِّصْفِ - جَازَ وَكَانَ السَّقْيُ وَالْحِفْظُ عَلَى الْمُزَارِعِ ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْأَرْضِ إنَّمَا أَجَّرَ أَرْضَهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ ، وَإِنَّمَا الْعَمَلُ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْخَارِجُ عَلَى الْمُزَارِعِ ، فَالْمَسْكُوتُ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ الِاشْتِرَاطِ عَلَى الْمُزَارِعِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلْعَقْدِ .

وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَرْضًا عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا بِبَذْرِهِ وَعَمَلِهِ بِالنِّصْفِ فَزَرَعَهَا ، فَلَمَّا صَارَ الزَّرْعُ بَقْلًا بَاعَ رَبُّ الْأَرْضِ الْأَرْضَ بِمَا فِيهَا مِنْ الزَّرْعِ أَوْ لَمْ يُسَمِّ زَرْعَهَا - فَالْبَيْعُ مَوْقُوفٌ ؛ لِأَنَّ الْمُزَارِعَ مُسْتَأْجِرٌ لِلْأَرْضِ ، وَمَعَ الْمُؤَاجِرِ الْعَيْنُ الْمُسْتَأْجَرَةُ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ تَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْمُسْتَأْجِرِ ؛ لِأَنَّ فِي نُفُوذِ الْعَقْدِ ضَرَرًا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمُؤَاجِرَ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ إلَّا بِإِجَازَةِ الْمُسْتَأْجِرِ فَيَتَوَقَّفُ الْبَيْعُ عَلَى إجَازَتِهِ كَالرَّاهِنِ إذَا بَاعَ الْمَرْهُونَ : فَإِنْ أَجَازَهُ الْمُزَارِعُ جَازَ ؛ لِأَنَّ إجَازَتَهُ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَالْمَانِعُ مِنْ نُفُوذِ الْعَقْدِ حَقُّهُ وَقَدْ زَالَ بِإِجَازَتِهِ ، ثُمَّ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَرْضَ بِمَا فِيهَا مِنْ الزَّرْعِ أَوْ يَدَعَ إذَا كَانَ بَاعَهَا بِزَرْعِهَا ؛ لِأَنَّ الزَّرْعَ تَبَعُ الْأَرْضِ مَا دَامَ مُتَّصِلًا بِهَا فَيَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الشُّفْعَةِ فِيهِ .
وَلَوْ أَرَادَ أَخْذَ الْأَرْضِ دُونَ الزَّرْعِ أَوْ الزَّرْعَ دُونَ الْأَرْضِ أَوْ أَخْذَ الْأَرْضِ وَحِصَّةِ رَبِّ الْأَرْضِ مِنْ الزَّرْعِ دُونَ حِصَّةِ الْمُزَارِعِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ تَمَكَّنَ مِنْ أَخْذِ الْكُلِّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْبَعْضَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي ، ثُمَّ يُقَسَّمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ وَالزَّرْعِ ، فَحِصَّةُ الْأَرْضِ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَحِصَّةُ الزَّرْعِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الزَّرْعِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّ بَعْدَ إلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ الْعَقْدُ لَزِمَ مِنْ جِهَتِهِ فَلَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ إلَّا بِإِجَازَةِ الْمُزَارِعِ ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ حَتَّى اُسْتُحْصِدَ الزَّرْعُ وَمَضَتْ السَّنَةُ وَقَدْ بَاعَهَا مَعَ الزَّرْعِ - فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ الْأَرْضَ وَنِصْفَ الزَّرْعِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ إذَا قُسِّمَ عَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ

وَقِيمَةِ الزَّرْعِ يَوْمَ وَقَعَ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّ الْمُزَارَعَةَ قَدْ انْتَهَتْ بِاسْتِحْصَادِ الزَّرْعِ فَزَالَ الْمَانِعُ مِنْ التَّسْلِيمِ فَيَتِمُّ الْعَقْدُ فِيمَا هُوَ مِلْكُ الْبَائِعِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ ابْتِدَاءُ الْبَيْعِ مِنْهُ بَعْدَ اسْتِحْصَادِ الزَّرْعِ كَانَ جَائِزًا فِي الْأَرْضِ وَحِصَّتِهِ مِنْ الزَّرْعِ ؟ فَهَذَا مِثْلُهُ ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاعَ الرَّاهِنُ الْمَرْهُونَ ثُمَّ افْتَكَّهُ الرَّاهِنُ قَبْلَ أَنْ يُفْسَخَ الْبَيْعُ ، ثُمَّ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ مَا تَمَّ فِيهِ الْعَقْدُ وَهُوَ الْأَرْضُ وَحِصَّةُ رَبِّ الْأَرْضِ مِنْ الزَّرْعِ مَا لَمْ يُحْصَدْ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بَعْضَ ذَلِكَ دُونَ بَعْضٍ .
وَالْجَوَابُ فِي الْمُعَامَلَةِ قِيَاسُ الْجَوَابِ فِي الْمُزَارَعَةِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْبَيْعَ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِجَازَةِ الْعَامِلِ ، وَبَعْدَ الْإِدْرَاكِ يَجُوزُ فِي حِصَّةِ رَبِّ النَّخْلِ فِي التَّمْرِ مَعَ النَّخْلِ ، وَفِي حِصَّةِ الْعَامِلِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِجَازَتِهِ ، فَإِنْ جُدَّ النَّخْلُ وَحُصِدَ الزَّرْعُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ الشَّفِيعُ ذَلِكَ - لَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ عَلَى الزَّرْعِ وَلَا عَلَى التَّمْرِ سَبِيلٌ لِزَوَالِ الِاتِّصَالِ ، وَلَكِنَّهُ يَأْخُذُ الْأَرْضَ وَالنَّخْلَ بِحِصَّتِهِمَا مِنْ الثَّمَنِ ، وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ الْبَائِعُ التَّمْرَ وَالزَّرْعَ فِي الْبَيْعِ لَمْ يَدْخُلْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِيهِ ، سَوَاءٌ ذَكَرَ فِي الْبَيْعِ كُلَّ حَقٍّ هُوَ لَهَا أَوْ مُرَافِقُهَا أَوْ لَمْ يَذْكُرْ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ يَقُولُ : بِذِكْرِ الْحُقُوقِ وَالْمَرَافِقِ يَدْخُلُ التَّمْرُ وَالزَّرْعُ .
وَإِنْ قَالَ بِكُلِّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ هُوَ فِيهَا أَوْ مِنْهَا - دَخَلَ الزَّرْعُ وَالتَّمْرُ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَالَ : مِنْ حُقُوقِهَا .
وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ .
وَلَوْ اخْتَصَمَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي فِي ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَحْصَدَ الزَّرْعُ وَتَكْمُلَ السَّنَةُ ، وَأَرَادَ أَحَدُهُمَا نَقْضَ الْبَيْعِ ، وَقَدْ أَبَى الْمُزَارِعُ أَنْ

يُجِيزَ الْبَيْعَ - فَالْأَمْرُ فِي نَقْضِ الْبَيْعِ إلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ عَاجِزٌ عَنْ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ لَمَّا أَبَى الْمُزَارِعُ الْإِجَازَةَ ، وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْمُشْتَرِي ، فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْبَيْعَ إلَّا أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ الْبَائِعُ مَا بَاعَهُ .
وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ هُوَ الَّذِي أَرَادَ نَقْضَ الْبَيْعِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ نَافِذٌ مِنْ جِهَتِهِ لِمُصَادَفَتِهِ مِلْكَهُ وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي إبْقَائِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَهُ ، وَهَكَذَا فِي الْمَرْهُونِ إذَا أَبَى الْمُرْتَهِنُ أَنْ يُسَلِّمَ .
فَإِنْ أَرَادَ الْمُشْتَرِي فَسْخَ الْعَقْدِ فَلَهُ ذَلِكَ ، وَإِنْ أَرَادَ الْبَائِعُ ذَلِكَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إذَا أَبَى الْمُشْتَرِي .
وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ الْمُزَارِعَ أَوْ الْمُرْتَهِنَ إذَا أَرَادَ نَقْضَ الْبَيْعِ هَلْ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا ؟ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي بَقَاءِ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا ، إنَّمَا الضَّرَرُ عَلَيْهِ فِي الْإِخْرَاجِ مِنْ يَدِهِ وَلَهُ أَنْ يَسْتَدِيمَ الْيَدَ إلَى أَنْ تَنْتَهِيَ الْمُدَّةُ ، وَذَلِكَ لَا يُنَافِي بَقَاءَ الْعَقْدِ ؛ فَلِهَذَا لَا يَكُونُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فَسْخُ الْعَقْدِ .
فَإِنْ لَمْ يُرِدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا نَقْضَ الْبَيْعِ ، وَحَضَرَ الشَّفِيعُ فَأَرَادَ أَخْذَ ذَلِكَ بِالشُّفْعَةِ - فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ يَعْتَمِدُ لُزُومَ الْعَقْدِ وَتَمَامِهِ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ ، ثُمَّ يَكُونُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرِي إنْ سَلَّمَ لَهُ الْمَبِيعَ وَإِلَّا نَقَضَهُ ، فَإِنْ قَالَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي : لَا يَسْلَمُ لَك الْبَيْعُ حَتَّى يَسْلَمَ لِلْمُشْتَرِي لَمْ يَكُنْ لَهُمَا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ سَابِقٌ عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي شَرْعًا ، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ فِيهِ إلَى الشَّفِيعِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرِي فِي جَمِيعِ ذَلِكَ حِينَ قَدَّمَهُ الشَّرْعُ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا طَلَبَ الشُّفْعَةَ .
وَإِنْ عَلِمَ الشَّفِيعُ بِهَذَا الشِّرَاءِ فَلَمْ يَطْلُبْهُ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ ، وَإِنْ سَلِمَ الشِّرَاءُ بَعْدَ ذَلِكَ

لِلْمُشْتَرِي فَأَرَادَ الشَّفِيعُ أَنْ يَطْلُبَ الشُّفْعَةَ - فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ حَقِّهِ قَدْ تَقَرَّرَ فَتَرْكُهُ الطَّلَبَ بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ يُبْطِلُ شُفْعَتَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَخْذِهِ .
وَإِنْ طَلَبَ الشُّفْعَةَ حِينَ عَلِمَ فَقَالَ لَهُ الْبَائِعُ : هَاتِ الثَّمَنَ وَخُذْهَا بِالشُّفْعَةِ وَإِلَّا فَلَا شُفْعَةَ لَك : فَإِنْ سَلَّمَ الْبَائِعُ الْأَرْضَ لِلشَّفِيعِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ الثَّمَنَ ، وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ الْأَرْضَ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَمْنَعَ الثَّمَنَ حَتَّى يُعْطِيَهُ الْأَرْضَ ؛ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْمُشْتَرِي فِي ذَلِكَ ، وَلَا حَقَّ لِلْبَائِعِ فِي اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ مَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَلَا يُبْطِلُ ذَلِكَ شُفْعَتَهُ لِأَنَّهُ قَدْ طَلَبَهَا حِينَ عَلِمَ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي مُعَامَلَةِ النَّخِيلِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

وَاخْتِلَافِهِمَا فِي الْبَذْرِ وَالشَّرْطِ .
[ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ] : وَإِذَا مَاتَ الْمُزَارِعُ بَعْدَ مَا اُسْتُحْصِدَ الزَّرْعُ وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْأَرْضِ زَرْعٌ وَلَا يُدْرَى مَا فَعَلَ - فَضَمَانُ حِصَّةِ رَبِّ الْأَرْضِ فِي مَالِ الْمُزَارِعِ مِنْ أَيِّهِمَا كَانَ الْبَذْرُ ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ رَبِّ الْأَرْضِ كَانَ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُزَارِعِ ، فَإِذَا مَاتَ مُجْهِلًا لَهُ كَانَ دَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ كَالْوَدِيعَةِ يَصِيرُ دَيْنًا بِمَوْتِ الْمُودِعِ فِي تَرِكَتِهِ إذَا كَانَ لَا يُعْلَمُ مَا صَنَعَ بِهَا .
وَكَذَلِكَ إذَا مَاتَ الْعَامِلُ بَعْدَ مَا طَلَعَ التَّمْرُ فَبَلَغَ أَوْ لَمْ يَبْلُغْ فَلَمْ يُوجَدْ فِي النَّخِيلِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ رَبِّ النَّخْلِ كَانَ أَمَانَةً فِي يَدِ الْعَامِلِ .

وَإِذَا مَاتَ رَبُّ الْأَرْضِ أَوْ الْمُزَارِعُ أَوْ مَاتَا جَمِيعًا فَاخْتَلَفَ وَرَثَتُهُمَا أَوْ اخْتَلَفَ الْحَيُّ مِنْهُمَا مَعَ وَرَثَةِ الْمَيِّتِ فِي شَرْطِ الْأَنْصِبَاءِ - فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْبَذْرِ أَوْ وَرَثَتِهِ مَعَ الْيَمِينِ ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ بِالشَّرْطِ .
فَإِذَا اُدُّعِيَ عَلَيْهِ زِيَادَةٌ فِي الْمَشْرُوطِ وَأَنْكَرَهُ هُوَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ إنْ كَانَ حَيًّا .
وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَوَرَثَتُهُ يَخْلُفُونَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ مَعَ أَيْمَانِهِمْ بِاَللَّهِ عَلَى عِلْمِهِمْ ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْآجِرِ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ الزِّيَادَةَ بِبَيِّنَتِهِ .
فَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي صَاحِبِ الْبَذْرِ أَيْضًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُزَارِعِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى الثَّبَاتِ إنْ كَانَ حَيًّا .
وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ وَرَثَتِهِ مَعَ أَيْمَانِهِمْ عَلَى الْعِلْمِ ، لِأَنَّ الْخَارِجَ فِي يَدِ الْمُزَارِعِ أَوْ فِي يَدِ وَرَثَتِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ ذِي الْيَدِ عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ خَارِجٌ مُحْتَاجٌ إلَى الْإِثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ .
وَلَوْ كَانَا حَيَّيْنِ فَاخْتَلَفَا فَأَقَامَ صَاحِبُ الْأَرْضِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ صَاحِبُ الْبَذْرِ وَأَنَّهُ شَرَطَ لِلْمُزَارِعِ الثُّلُثَ ، وَأَقَامَ الْمُزَارِعُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ صَاحِبُ الْبَذْرِ وَأَنَّهُ شَرَطَ لِرَبِّ الْأَرْضِ الثُّلُثَ - فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْخَارِجُ الْمُحْتَاجُ إلَى الْإِثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ وَإِنْ عُلِمَ أَنَّ الْبَذْرَ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُزَارِعِ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ الزِّيَادَةَ بِبَيِّنَتِهِ .

وَإِذَا مَرِضَ رَجُلٌ وَفِي يَدِهِ أَرْضٌ لِرَجُلٍ قَدْ أَخَذَهَا مُزَارَعَةً ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فِي الصِّحَّةِ ، وَالْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ فَأَقَرَّ أَنَّهُ شَرَطَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ الثُّلُثَيْنِ ، ثُمَّ مَاتَ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْغَ رَمَاءُ : فَإِنْ كَانَ أَقَرَّ بَعْدَ مَا اسْتَحْصَدَ الزَّرْعَ - بُدِئَ بِدَيْنِ الْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِالْعَيْنِ ، وَالْمَرِيضُ إذَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ لَمْ يُصَدَّقْ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّة فَيُبْدَأُ بِدَيْنِهِمْ فَيُقْضَى ، فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ كَانَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ مِقْدَارُ أَجْرِ مِثْلِهَا مِنْ الثُّلُثَيْنِ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِهِ ، وَلِأَنَّ فِي مِقْدَارِ أَجْرِ الْمِثْلِ أَقَرَّ بِسَبَبٍ مُوجِبٍ لِلِاسْتِحْقَاقِ ، وَهُوَ يَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ ذَلِكَ السَّبَبِ فِي حَقِّ وَرَثَتِهِ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ ، فَإِنْ بَقِيَ مِنْ الثُّلُثَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْءٌ كَانَ لَهُ مِنْ الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى مِقْدَارِ أَجْرِ الْمِثْلِ مُحَابَاةٌ مِنْهُ ، وَالْمَرِيضُ لَوْ أَنْشَأَ الْمُحَابَاةَ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ اُعْتُبِرَتْ مِنْ ثُلُثِهِ ، فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِهِ .
وَإِنْ كَانَ أَقَرَّ بِذَلِكَ حِينَ طَلَعَ الزَّرْعُ وَفِي ثُلُثَيْ الزَّرْعِ فَضْلٌ عَنْ أَجْرِ الْمِثْلِ يَوْمَ أَقَرَّ بِذَلِكَ فَلَمْ يُثْبِتْ حَتَّى اسْتَحْصَدَ الزَّرْعَ ثُمَّ مَاتَ - فَإِنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ يَضْرِبُ مَعَ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ بِمِقْدَارِ أَجْرِ مِثْلِ الْأَرْضِ مِنْ الثُّلُثَيْنِ فَيَتَحَاصُّونَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ ، فَإِنَّ ابْتِدَاءَ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ قَبْلَ إدْرَاكِ الزَّرْعِ صَحِيحٌ فَتُنْفَى التُّهْمَةُ عَنْ إقْرَارِهِ فِي مِقْدَارِ أَجْرِ الْمِثْلِ وَيُجْعَلُ كَمَا لَوْ أَنْشَأَ الْعَقْدَ ابْتِدَاءً فَتَثْبُتُ الْمُزَاحَمَة بَيْنَ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ وَبَيْنَ صَاحِبِ الْأَرْضِ فِي ذَلِكَ ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ بَعْدَ اسْتِحْصَادِ الزَّرْعِ لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءُ عَقْدِ الْمُزَارَعَةِ بَيْنَهُمَا فَيَتَمَكَّنُ فِي إقْرَارِهِ تُهْمَةٌ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ .
وَإِنْ كَانَ

الدَّيْنُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ فِي الْمَرَضِ فَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ يَتَحَاصُّونَ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِدَيْنٍ ثُمَّ تَعَيَّنَ ، وَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْإِقْرَارَيْنِ حَالَةَ الْمَرَضِ فَكَأَنَّهُمَا وُجِدَا مَعًا .
وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي بُدِئَ بِأَجْرِ الْمِثْلِ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي إقْرَارِهِ فِي حَالٍ يَتَمَكَّنُ مِنْ إنْشَاءِ الْعَقْدِ ، وَلِهَذَا كَانَ مُزَاحِمًا لِغُرَمَاءِ الصِّحَّةِ ، وَمَنْ يُزَاحِمُ غُرَمَاءَ الصِّحَّةِ يَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ فِي الْمَرَضِ .
وَلَوْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ رَبِّ الْأَرْضِ كَانَ الْمَرِيضُ مُصَدَّقًا فِيمَا أَقَرَّ لَهُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الْبَذْرِ هُنَا فِي مِقْدَارِ مَا شَرَطَ لَهُ .
وَلَوْ أَنَّ الْمَرِيضَ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ مُعِينًا لَهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي ذَلِكَ .
فَإِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ مُزَارَعَةً بِجُزْءٍ يَسِيرٍ أَوْلَى أَنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ - وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ - لِأَنَّ إقْرَارَهُ هُنَا تَصَرُّفٌ مِنْهُ فِي مَنَافِعِهِ وَلَا حَقَّ لِلْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ فِي ذَلِكَ .
وَلَوْ كَانَ الْمَرِيضُ رَبَّ الْأَرْضِ وَعَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ فَأَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بَعْدَ مَا اسْتَحْصَدَ الزَّرْعَ أَنَّهُ شَرَطَ لِلْمُزَارِعِ الثُّلُثَيْنِ ثُمَّ مَاتَ - بُدِئَ بِدَيْنِ الصِّحَّةِ ؛ لِأَنَّ هَذَا إقْرَارٌ مِنْهُ بِالْعَيْنِ فِي مَرَضِهِ ، فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ كَانَ لِلْمُزَارِعِ مِقْدَارُ أَجْرِ مِثْلِهِ مِنْ ثُلُثَيْ الزَّرْعِ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ صَحِيحٌ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ فَإِنَّهُ يُقِرُّ بِالْعَيْنِ بِسَبَبٍ لَا مُحَابَاةَ فِيهِ وَلَوْ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ بَعْدَ إقْرَارِهِ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ ، ثُمَّ الْبَاقِي مِنْ الثُّلُثَيْنِ وَصِيَّةٌ لَهُ مِنْ الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ مُحَابَاةٌ فَيَكُونُ وَصِيَّةً تُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ أَقَرَّ بِهَا أَوْ أَنْشَأَهَا .
وَإِنْ كَانَ أَقَرَّ بِذَلِكَ حِينَ زَرَعَ الْمُزَارِعُ وَفِي ثُلُثَيْ الزَّرْعِ يَوْمئِذٍ فَضْلٌ عَنْ أَجْرِ مِثْلِهِ ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ مَا اسْتَحْصَدَ الزَّرْعَ يُحَاصُّ الْمُزَارِعُ غُرَمَاءَ الصِّحَّةِ

بِمِقْدَارِ أَجْرِ مِثْلِهِ مِنْ ثُلُثَيْ مَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَنْشَأَ الْعَقْدَ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ هَذَا الْقَدْرِ بِسَبَبٍ لَا تُهْمَةَ فِيهِ ، ثُمَّ الْبَاقِي وَصِيَّةٌ لَهُ .
وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى الْمَرِيضِ بِإِقْرَارِهِ فِي مَرَضِهِ فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَتَحَاصُّونَ ، وَفِي الْوَجْهِ الثَّانِي بُدِئَ بِأَجْرِ مِثْلِ الْمُزَارِعِ .
وَحَالُ رَبِّ الْأَرْضِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَحَالِ الْمُزَارِعِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْمُعَامَلَةِ إذَا مَرِضَ صَاحِبُ النَّخْلِ وَأَقَرَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ نَظِيرُ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّخْرِيجِ .
وَإِنْ كَانَ الْمَرِيضُ هُوَ الْعَامِلُ فَقَالَ : شَرَطَ لِي صَاحِبُ النَّخْلِ السُّدُسَ - فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ إذَا صَدَّقَهُ صَاحِبُ النَّخْلِ ؛ لِأَنَّ الَّذِي مِنْ جِهَتِهِ مُجَرَّدُ الْعَمَلِ .
وَلَوْ قَالَ كُنْت مُعِينًا لَهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَهُنَا أَوْلَى وَلَا يَقْبَلُ بَيِّنَةَ غُرَمَاءِ الْعَامِلِ وَوَرَثَتِهِ عَلَى دَعْوَى الزِّيَادَةِ لِأَنَّهُ مُكَذِّبٌ لَهُمْ فِي ذَلِكَ ، وَالشُّهُودُ إنَّمَا يُثْبِتُونَ الْحَقَّ لَهُ ، فَبَعْدَ مَا أَكَذَبَهُمْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ لَهُ وَالْوَرَثَةُ يَقُومُونَ مَقَامَهُ .
وَلَوْ ادَّعَى هُوَ ذَلِكَ قَبْلَ مَوْتِهِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ فَكَذَلِكَ غُرَمَاؤُهُ وَوَرَثَتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ .
وَلَا يَمِينَ عَلَى رَبِّ النَّخْلِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ يَنْبَنِي عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ .
وَإِنْ كَانَ الْمَرِيضُ صَاحِبَ النَّخْلِ وَالْعَامِلُ أَحَدَ وَرَثَتِهِ فَأَقَرَّ لَهُ بِشَرْطِ النِّصْفِ بَعْدَ مَا بَلَغَ التَّمْرُ - فَإِقْرَارُهُ بَاطِلُ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْعَيْنِ لَهُ وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ بِالْعَيْنِ بَاطِلٌ .
وَإِنْ كَانَ أَقَرَّ حِينَ بَدَأَ بِالْعَمَلِ وَطَلَعَ الْكُفُرَّى ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ مَا بَلَغَ التَّمْرُ - أَخَذَ الْعَامِلُ مِقْدَارَ أَجْرِ مِثْلِهِ مِنْ نِصْفِ التَّمْرِ ، لِأَنَّ إقْرَارَهُ هُنَا بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ الْعَقْدِ فَلَا تَتَمَكَّنُ فِيهِ التُّهْمَةُ بِقَدْرِ أَجْرِ الْمِثْلِ ،

وَيُحَاصُّ أَصْحَابَ دَيْنِ الصِّحَّةِ بِهِ وَيُبْدَأُ بِهِ قَبْلَ الدَّيْنِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ فِي مَرَضِهِ ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ وَصِيَّةٌ لِلْوَارِثِ وَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ .
وَإِنْ أَرَادَ الْوَارِثُ الْعَامِلُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ بَقِيَّةَ الْوَرَثَةِ عَلَى مَا بَقِيَ لَهُ مِمَّا أَقَرَّ لَهُ بِهِ الْمَرِيضُ بَعْدَ مَا أَخَذَ أَجْرَ مِثْلِهِ - فَإِنَّ إقْرَارَ الْمُعَامَلَةِ كَانَ فِي الْمَرَضِ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ أَقَرُّوا بِمَا ادَّعَى لَمْ يَلْزَمْهُمْ شَيْءٌ ، وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهَا كَانَتْ فِي الصِّحَّةِ وَأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِهَا فِي الْمَرَضِ - اُسْتُحْلِفُوا عَلَى عَمَلِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ أَقَرُّوا بِمَا ادَّعَى لَزِمَهُمْ ، فَإِنْ أَنْكَرُوا اُسْتُحْلِفُوا عَلَى عَمَلِهِمْ لِرَجَاءِ نُكُولِهِمْ .
وَإِنْ كَانَ الْمَرِيضُ هُوَ الْعَامِلُ وَرَبُّ النَّخْلِ مِنْ وَرَثَتِهِ صُدِّقَ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ قِلَّةِ نَصِيبِهِ ، كَمَا لَوْ زَعَمَ أَنَّهُ كَانَ مُعِينًا لَهُ ، وَهَذَا لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ فِي مَنَافِعِهِ وَلِلْمَرِيضِ أَنْ يَتَبَرَّعَ بِمَنَافِعِهِ عَلَى وَارِثِهِ إلَّا أَنَّ بَيِّنَةَ غُرَمَائِهِ وَوَرَثَتِهِ عَلَى الزِّيَادَةِ مَقْبُولَةٌ فِي هَذَا الْوَجْهِ ، وَلَهُمْ أَنْ يَسْتَحْلِفُوهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بَيِّنَةٌ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَرِيضِ فِيمَا يَكُونُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْوَرَثَةِ بَاطِلٌ .
وَلَوْ لَمْ يُقِرَّ بِذَلِكَ كَانَتْ الْبَيِّنَةُ مِنْهُمْ عَلَى دَعْوَى الزِّيَادَةِ مَقْبُولَةً وَيُسْتَحْلَفُ الْخَصْمُ إذَا أَنْكَرَ ، فَكَذَلِكَ إذَا طَلَبَ إقْرَارَهُ بِمَا أَقَرَّ بِهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

[ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ] : رَجُلٌ رَهَنَ عِنْدَ رَجُلٍ أَرْضًا وَنَخْلًا بِدَيْنٍ عَلَيْهِ لَهُ ، فَلَمَّا قَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ قَالَ لَهُ الرَّاهِنُ : احْفَظْهُ وَاسْقِهِ وَلَقِّحْهُ عَلَى أَنَّ الْخَارِجَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ فَفَعَلَ ذَلِكَ - فَالْخَارِجُ وَالْأَرْضُ وَالنَّخِيلُ كُلُّهُ رَهْنٌ وَالْمُعَامَلَةُ فَاسِدَةٌ ؛ لِأَنَّ حِفْظَ الْمَرْهُونِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْجِبَ شَيْئًا بِمُقَابَلَتِهِ عَلَى الرَّاهِنِ .
[ أَلَا تَرَى ] أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَ عَلَى الْحِفْظِ لَمْ يَجُزْ الِاسْتِئْجَارُ ؟ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ مَا سِوَى الْحِفْظِ مِنْ الْأَعْمَالِ فَتَكُونُ الْمُعَامَلَةُ فَاسِدَةً وَالْخَارِجُ كُلُّهُ لِرَبِّ النَّخْلِ إلَّا أَنَّهُ مَرْهُونٌ ؛ لِأَنَّهُ تَوَلَّدَ مِنْ عَيْنِ رَهْنٍ ، وَلِلْمُرْتَهِنِ أَجْرُ مِثْلِهِ فِي التَّلْقِيحِ وَالسَّقْيِ دُونَ الْحِفْظِ ؛ لِأَنَّ الْحِفْظَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الرَّهْنِ ، أَمَّا التَّلْقِيحُ وَالسَّقْيُ فَقَدْ أَوْفَاهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ ، وَلَا يُقَالُ : يَنْبَغِي أَنْ يُبْطَلَ عَقْدُ الرَّهْنِ بِعَقْدِ الْمُعَامَلَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَرْهُونَ هُوَ النَّخْلُ وَالْأَرْضُ وَعَقْدُ الْمُعَامَلَةِ يَتَنَاوَلُ مَنْفَعَةَ الْعَامِلِ ، وَالْعَقْدُ فِي مَحَلٍّ لَا يَرْفَعُ عَقْدًا آخَرَ فِي مَحَلٍّ آخَرَ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الرَّهْنُ أَرْضًا مَزْرُوعَةً وَقَدْ صَارَ الزَّرْعُ فِيهَا بَقْلًا .
وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ أَرْضًا بَيْضَاءَ فَزَارَعَهُ الرَّاهِنُ عَلَيْهَا بِالنِّصْفِ ، وَالْبَذْرُ مِنْ الْمُرْتَهِنِ - جَازَ وَالْخَارِجُ عَلَى الشَّرْطِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْبَذْرِ مُسْتَأْجِرٌ لِلْأَرْضِ ، وَالْمُرْتَهِنُ إذَا اسْتَأْجَرَ الْمَرْهُونَ مِنْ الرَّاهِنِ يَبْطُلُ عَقْدُ الرَّهْنِ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ أَلْزَمُ مِنْ الرَّهْنِ ، وَقَدْ طَرَأَ الْعَقْدَانِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَكَانَ الثَّانِي رَافِعًا لِلْأَوَّلِ ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْخَارِجُ عَلَى الشَّرْطِ وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُعِيدَهَا رَهْنًا .
وَإِنْ مَاتَ الرَّاهِنُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَكُنْ الْمُرْتَهِنُ أَحَقَّ بِهَا مِنْ غُرَمَائِهِ لِبُطْلَانِ عَقْدِ

الرَّهْنِ ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ الرَّاهِنِ كَانَتْ الْمُزَارَعَةُ جَائِزَةً وَلِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُعِيدَ الْأَرْضَ فِي الرَّهْنِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الزَّرْعِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ هُنَا يُرَدُّ عَلَى عَمَلِ الْمُزَارِعِ فَلَا يُبْطَلُ بِهِ عَقْدُ الرَّهْنِ ، إلَّا أَنَّ الْمُرْتَهِنَ صَارَ كَالْمُعِيرِ لِلْأَرْضِ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ .
[ أَلَا تَرَى ] أَنَّهُ لَوْ دَفَعَهَا إلَى غَيْرِهِ مُزَارَعَةً بِرِضَا الْمُرْتَهِنِ ، وَالْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ الرَّاهِنِ كَانَ الْمُرْتَهِنُ كَالْمُعِيرِ لِلْأَرْضِ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِأَنْ يَنْتَفِعَ هُوَ بِالْأَرْضِ ؟ وَذَلِكَ بِإِعَارَةٍ فَيَخْرُجُ بِهِ مِنْ ضَمَانِ الرَّهْنِ ، وَلَكِنْ لَا يُبْطَلُ بِهِ عَقْدُ الرَّهْنِ ؛ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ أَضْعَفُ مِنْ الرَّهْنِ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يُعِيدَ الْأَرْضَ فِي الرَّهْنِ .
وَإِنْ كَانَ الرَّهْنُ أَرْضًا بَيْضَاءَ وَفِيهَا مَحَلٌّ فَأَمَرَهُ الرَّاهِنُ بِأَنْ يَزْرَعَ الْأَرْضَ بِبَذْرِهِ وَعَمَلِهِ بِالنِّصْفِ ، وَيَقُومَ عَلَى النَّخْلِ وَيَسْقِيَهُ وَيُلَقِّحَهُ وَيَحْفَظَهُ بِالنِّصْفِ أَيْضًا فَفَعَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ فَقَدْ خَرَجَتْ الْأَرْضُ مِنْ الرَّهْنِ وَلَيْسَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُعِيدَهَا فِيهِ ، وَالْخَارِجُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ صَارَ مُسْتَأْجِرًا لِلْأَرْضِ .
وَأَمَّا النَّخْلُ وَالتَّمْرُ فَلَا تَصِحُّ الْمُعَامَلَةُ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي النَّخْلِ يَرِدُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْعَامِلِ فَلَا يُبْطَلُ بِهِ عَقْدُ الرَّهْنِ ، وَبِبَقَاءِ عَقْدِ الرَّهْنِ الْحِفْظُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ ، ثُمَّ النَّخْلُ وَالتَّمْرُ لَا يَفْتَكُّهُمَا إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ الدَّيْنَ .
وَإِنْ هَلَكَ النَّخْلُ وَالتَّمْرُ هَلَكَ بِحِصَّةِ قِيمَةِ النَّخْلِ مِنْ الدَّيْنِ مَعَ قِيمَةِ الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَضْمُونًا بِذَلِكَ الْقَدْرِ حِينَ رَهَنَهُ ، وَالتَّمْرُ الَّذِي هَلَكَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ ، وَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ فِي النَّخْلِ لَا فِي الْحِفْظِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ رَبِّ الْأَرْضِ إلَّا أَنَّ الْأَرْضَ تَعُودُ رَهْنًا هُنَا إذَا انْقَضَتْ الْمُزَارَعَةُ ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ هُنَا فِي

مَعْنَى الْمُعِيرِ لَهَا مِنْ الرَّاهِنِ ، فَإِنْ مَاتَ الرَّاهِنُ كَانَ الْمُرْتَهِنُ أَحَقَّ بِهَا مِنْ غُرَمَائِهِ ، سَوَاءٌ مَاتَ بَعْدَ مَا انْقَضَتْ الْمُزَارَعَةُ أَوْ قَبْلَهَا لِبَقَاءِ عَقْدِ الرَّهْنِ ، وَاخْتِصَاصِ الْمُرْتَهِنِ بِالْمَرْهُونِ بِحُكْمِ عَقْدِ الرَّهْنِ .
وَإِنْ نَقَصَهَا الزَّرْعُ شَيْئًا ذَهَبَ مِنْ مَالِ الرَّاهِنِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مِنْ ضَمَانِ الرَّهْنِ حِينَ كَانَ الْمُرْتَهِنُ مُعِيرًا مِنْ الرَّاهِنِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

[ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ] : وَإِذَا شَرَطَ الْمُزَارِعُ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ مَعَ حِصَّتِهِ مِنْ الزَّرْعِ دَرَاهِمَ مَعْلُومَةً أَوْ شَيْئًا مِنْ الْعَمَلِ - فَسَدَتْ الْمُزَارَعَةُ ؛ لِأَنَّ بِاشْتِرَاطِ شَيْءٍ مِنْ الْعَمَلِ عَلَيْهِ تَنْعَدِمُ التَّخْلِيَةُ ، وَبِاشْتِرَاطِ الدَّرَاهِمِ عَلَيْهِ يَجْتَمِعُ الْإِجَارَةُ مَعَ الشَّرِكَةِ فِي الْخَارِجِ ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْمُزَارَعَةِ .
فَإِنْ قَالَ : أُبْطِلَ الشَّرْطُ لِتَجُوزَ الْمُزَارَعَةُ لَمْ يَجُزْ وَلَمْ يَبْطُلْ بِإِبْطَالِهِ ، لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ تَمَكَّنَ فِيمَا هُوَ مِنْ صُلْبِ الْعَقْدِ وَمِنْ مُوجَبَاتِهِ ، فَبِإِسْقَاطِهِ لَا يَنْقَلِبُ الْعَقْدُ صَحِيحًا كَاشْتِرَاطِ الْخَمْرِ مَعَ الْأَلْفِ فِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ الْحَصَادَ أَوْ الدِّيَاسَ أَوْ التَّنْقِيَةَ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ الْعَقْدِ فِي هَذَا الشَّرْطِ وَمَا فِيهِ مِنْ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ ثُمَّ هَذَا الشَّرْطُ مِنْ صُلْبِ الْعَقْدِ فَلَا يَنْقَلِبُ الْعَقْدُ صَحِيحًا إذَا أَسْقَطَهُ مَنْ شُرِطَ لَهُ .
وَلَوْ اشْتَرَطَا لِأَحَدِهِمَا خِيَارًا مَعْلُومًا فِي الْمُزَارَعَةِ جَازَ عَلَى مَا اشْتَرَطَا ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُزَارَعَةِ يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ فَيَجُوزُ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ مُدَّةً مَعْلُومَةً كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ ، وَإِنْ كَانَ خِيَارًا غَيْرَ مُؤَقَّتٍ أَوْ إلَى وَقْتٍ مَجْهُولٍ - فَالْمُزَارَعَةُ فَاسِدَةٌ ، فَإِنْ أَبْطَلَ صَاحِبُ الْخِيَارِ خِيَارَهُ وَأَجَازَ الْمُزَارَعَةَ جَازَتْ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ زَائِدٌ عَلَى مَا تَمَّ بِهِ الْعَقْدُ فَهُوَ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ فِيمَا هُوَ مُوجَبُ الْعَقْدِ ، وَالْمُعَامَلَةُ قِيَاسُ الْمُزَارَعَةِ فِي ذَلِكَ .

وَإِنْ اشْتَرَطَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ أَنَّ مَا صَارَ لَهُ لَمْ يَبِعْهُ وَلَمْ يَهَبْهُ - فَالْمُزَارَعَةُ جَائِزَةٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَالشَّرْطُ الَّذِي لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لَيْسَ لَهُ مُطَالِبٌ فَيَلْغُو وَيَبْقَى الْعَقْدُ صَحِيحًا .
وَذُكِرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْأَصْلِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ تَبْطُلُ الْمُزَارَعَةُ بِهَذَا الشَّرْطِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا عَلَى أَحَدِهِمَا ، وَالشَّرْطُ الَّذِي فِيهِ الضَّرَرُ كَالشَّرْطِ الَّذِي فِيهِ الْمَنْفَعَةُ لِأَحَدِهِمَا ، فَكَمَا أَنَّ ذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ فَكَذَا هَذَا .
قَالَ : لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ فِيهِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَسَدَتْ الْمُزَارَعَةُ ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا الشَّرْطِ مَنْفَعَةً ، وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي فِيهِ مَنْفَعَةٌ يُطَالِبُ بِهِ الْمُنْتَفِعُ ، وَالشَّرْطَ الَّذِي فِيهِ الضَّرَرُ لَا تَتَوَجَّهُ الْمُطَالَبَةُ مِنْ أَحَدٍ ، فَإِنْ أَبْطَلَ صَاحِبُ الشَّرْطِ شَرْطَهُ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي لَمْ تَجُزْ الْمُزَارَعَةُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ فِي الْبَيْعِ مَنْفَعَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا يُبْطَلُ الشَّرْطُ بِإِبْطَالِ أَحَدِهِمَا إلَّا أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَى إبْطَالِهِ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ الْعَقْدُ .
وَإِنْ كَانَ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَهَبَ لَهُ نَصِيبَهُ فَسَدَتْ الْمُزَارَعَةُ ؛ لِلْمَنْفَعَةِ فِي هَذَا الشَّرْطِ لِأَحَدِهِمَا ، فَإِنْ أَبْطَلَهُ صَاحِبُهُ جَازَتْ الْمُزَارَعَةُ ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِي هَذَا الشَّرْطِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ خَاصَّةً فَتَسْقُطُ ، وَهُوَ شَرْطٌ وَرَاءَ مَا تَمَّ بِهِ الْعَقْدُ ، فَإِذَا سَقَطَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَبَقِيَ الْعَقْدُ صَحِيحًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إمْلَاءً اعْلَمْ بِأَنَّ الشِّرْبَ هُوَ نَصِيبٌ مِنْ الْمَاءِ لِلْأَرَاضِيِ كَانَتْ أَوْ لِغَيْرِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } وَقَالَ تَعَالَى { وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ } وَقِسْمَةُ الْمَاءِ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ جَائِزَةٌ .
بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ ، وَالنَّاسُ تَعَامَلُوهُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ مُنْكِرٍ ، وَهُوَ قِسْمَةٌ تَجْرِي بِاعْتِبَارِ الْحَقِّ دُونَ الْمِلْكِ إذْ الْمَاءُ فِي النَّهْرِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ ، وَالْقِسْمَةُ تَجْرِي تَارَةً بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ كَقِسْمَةِ الْمِيرَاثِ وَالْمُشْتَرَى وَتَارَةً بِاعْتِبَارِ الْحَقِّ كَقِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ بَيْنَ الْغَانِمِينَ ثُمَّ بَدَأَ الْكِتَابُ بِحَدِيثٍ رَوَاهُ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ : مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ مَا حَوْلَهُ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا عَطَنًا لِمَاشِيَتِهِ } وَالْمُرَادُ الْحَفْرُ فِي الْمَوَاتِ مِنْ الْأَرْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَعِنْدَهُمَا لَا يُشْتَرَطُ إذْنُ الْإِمَامِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ .
وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَشْهَدُ لَهُمَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرَ الْحَفْرَ فَقَطْ وَمِثْلُ هَذَا فِي لِسَانِ صَاحِبِ الشَّرْعِ لِبَيَانِ السَّبَبِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَهُوَ حُرٌّ } وَلَكِنْ أَبُو الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لَا يُثْبِتُ نَفْسَ الْحَفْرِ مَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي الْمَوَاتِ مِنْ الْأَرْضِ ، وَهَذَا اللَّفْظُ لَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِظَاهِرِهِ إلَّا بِزِيَادَةٍ لَا يَدُلُّ اللَّفْظُ عَلَيْهَا

، فَلَا يَقْوَى الِاسْتِدْلَال بِهَا ثُمَّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبِئْرَ لَهَا حَرِيمٌ مُسْتَحَقٌّ مِنْ قِبَلِ أَنَّ حَافِرَ الْبِئْرِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِبِئْرِهِ إلَّا بِمَا حَوْلَهُ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ أَنْ يَقِفَ عَلَى شَفِيرِ الْبِئْرِ يَسْقِي الْمَاءَ ، وَإِلَى أَنْ يَبْنِيَ عَلَى شَفِيرِ الْبِئْرِ مَا يُرَكِّبُ عَلَيْهِ الْبَكَرَةَ ، وَإِلَى أَنْ يَبْنِيَ حَوْضًا يَجْمَعُ فِيهِ الْمَاءَ ، وَإِلَى مَوْضِعٍ تَقِفُ فِيهِ مَوَاشِيهِ عِنْدَ الشُّرْبِ ، وَرُبَّمَا يَحْتَاجُ أَيْضًا إلَى مَوْضِعٍ تَنَامُ فِيهِ مَوَاشِيهِ بَعْدَ الشُّرْبِ فَاسْتَحَقَّ الْحَرِيمَ لِذَلِكَ .
وَقَدَّرَ الشَّرْعُ ذَلِكَ بِأَرْبَعِينَ ذِرَاعًا ، وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ الْمَقَادِيرِ النَّصُّ دُونَ الرَّأْيِ إلَّا أَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ يَقُولُ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا مِنْ الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ يَجْمَعُ الْجَوَانِبَ الْأَرْبَعَ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمُرَادَ التَّقْدِيرُ بِأَرْبَعِينَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ صَاحِبِ الْبِئْرِ الْأَوَّلِ لِكَيْ لَا يَحْفِرَ أَحَدٌ فِي حَرِيمِهِ بِئْرًا أُخْرَى فَيَتَحَوَّلُ إلَيْهَا مَا بِبِئْرِهِ ، وَهَذَا الضَّرَرُ رُبَّمَا لَا يَنْدَفِعُ بِعَشَرَةِ أَذْرُعٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فَإِنَّ الْأَرَاضِيَ تَخْتَلِفُ بِالصَّلَابَةِ وَالرَّخَاوَةِ ، وَفِي مِقْدَارِ أَرْبَعِينَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ يُتَيَقَّنُ بِدَفْعِ هَذَا الضَّرَرِ ، وَيَسْتَوِي فِي مِقْدَارِ الْحَرِيمِ بِئْرُ الْعَطَنِ وَبِئْرُ النَّاضِحِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا حَرِيمُ بِئْرِ الْعَطَنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا ، وَحَرِيمُ بِئْرِ النَّاضِحِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا ، وَاسْتَدَلَّا بِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { قَالَ : حَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ وَحَرِيمُ بِئْرِ الْعَطَنِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا وَحَرِيمُ بِئْرِ النَّاضِحِ سِتُّونَ ذِرَاعًا } ؛ وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْحَرِيمِ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ ، وَحَاجَةُ صَاحِبِ الْبِئْرِ النَّاضِحِ إلَى

الْحَرِيمِ أَكْثَرُ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مَوْضِعٍ يَسِيرُ فِيهِ النَّاضِحُ لِيَسْتَقِيَ فِيهِ الْمَاءَ مِنْ الْبِئْرِ بِذَلِكَ ، وَفِي بِئْرِ الْعَطَنِ إنَّمَا يَسْتَقِي بِيَدِهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَاسْتِحْقَاقُ الْحَرِيمِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ صَاحِبَ الْعَيْنِ يَسْتَحِقُّ مِنْ الْحَرِيمِ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُ الْبِئْرِ ؛ لِأَنَّ مَاءَ الْعَيْنِ يَفِيضُ عَلَى الْأَرْضِ وَيَحْتَاجُ صَاحِبُهُ إلَى اتِّخَاذِ الْمَزَارِعِ حَوْلَ ذَلِكَ لِيَنْتَفِعَ بِمَا يَفِيضُ مِنْ الْمَاءِ ، وَإِلَى أَنْ يَبْنِيَ غَدِيرًا يَجْتَمِعُ فِيهِ الْمَاءُ فَاسْتَحَقَّ لِذَلِكَ زِيَادَةَ الْحَرِيمِ وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { قَالَ مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فَلَهُ مَا حَوْلَهَا أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا } وَلَيْسَ فِيهِ فَصْلٌ بَيْنَ بِئْرِ الْعَطَنِ وَالنَّاضِحِ وَمِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْعَامَّ الْمُتَّفَقَ عَلَى قَبُولِهِ ، وَالْعَمَلِ بِهِ يَتَرَجَّحُ عَلَى الْخَاصِّ الْمُخْتَلَفِ فِي قَبُولِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ ، وَلِهَذَا رَجَّحَ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا أَخْرَجَتْ الْأَرْضُ فَفِيهِ الْعُشْرُ } عَلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ } وَعَلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَيْسَ فِي الْخَضْرَاوَاتِ صَدَقَةٌ } وَرَجَّحَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { التَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ } عَلَى خَبَرِ الْعَرَايَا ؛ وَلِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْحَرِيمِ حُكْمٌ ثَبَتَ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِاعْتِبَارِ عَمَلِهِ .
، وَعَمَلُهُ فِي مَوْضِعِ الْبِئْرِ خَاصَّةً فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ شَيْئًا مِنْ الْحَرِيمِ ، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالنَّصِّ فَبِقَدْرِ مَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْآثَارُ ثَبَتَ الِاسْتِحْقَاقُ ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ الْأَثَرُ لَا يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُهُ بِالشَّكِّ هَذَا أَصْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي

مَسَائِلِ الْحَرِيمِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَجْعَلْ لِلنَّهْرِ حَرِيمًا ، وَكَذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنَّهُ قَالَ : لَا يَسْتَحِقُّ الْغَازِي لِفَرَسِهِ إلَّا سَهْمًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا الْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ فَأَمَّا حَرِيمُ الْعَيْنِ خَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ كَمَا وَرَدَ بِهِ الْحَدِيثُ ؛ لِأَنَّ الْآثَارَ اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ .
وَلَكِنْ عِنْدَ بَعْضِهِمْ الْخَمْسُمِائَةِ فِي الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا وَالْأَصَحُّ أَنَّ لَهُ خَمْسَمِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ، وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي هَذَا مُفَسَّرًا فِي بِئْرِ النَّاضِحِ قَالَ : يَتَقَدَّرُ حَرِيمُهُ بِسِتِّينَ ذِرَاعًا مِنْ كُلِّ جَانِبٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّشَا أَطْوَلَ مِنْ ذَلِكَ ، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَذْهَبَ التَّقْدِيرُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ بِمَا سُمِّيَ مِنْ الذُّرْعَانِ ، ثُمَّ الِاسْتِحْقَاقُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فِي الْمَوَاتِ مِنْ الْأَرْضِ بِمَا لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ .
أَمَّا فِيمَا هُوَ حَقُّ الْغَيْرِ فَلَا حَتَّى لَوْ حَفَرَ إنْسَانٌ بِئْرًا ، فَجَاءَ آخَرُ وَحَفَرَ عَلَى مُنْتَهَى حَدِّ حَرِيمِهِ بِئْرًا ؛ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْحَرِيمَ مِنْ الْجَانِبِ الَّذِي هُوَ حَرِيمُ صَاحِبِ الْبِئْرِ الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ الْجَوَانِبِ الْأُخَرِ فِيمَا لَا حَقَّ فِيهِ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْجَانِبِ الْأَوَّلِ قَدْ سَبَقَ إلَيْهِ ، وَقَدْ ثَبَتَ اسْتِحْقَاقُهُ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : مِنَّا مُبَاحٌ مَنْ سَبَقَ } فَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ أَنْ يُبْطِلَ عَلَيْهِ حَقَّهُ ، وَيُشَارِكَهُ فِيهِ .

وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَسْفَلُ النَّهْرِ آمِرٌ عَلَى أَهْلِ أَعْلَاهُ حَتَّى يَرْوُوا .
وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَيْسَ لِأَهْلِ الْأَعْلَى أَنْ يُسَكِّرُوا النَّهْرَ وَيَحْبِسُوا الْمَاءَ عَنْ أَهْلِ الْأَسْفَلِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ جَمِيعًا ثَابِتٌ فَلَا يَكُونُ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يَمْنَعَ حَقَّ الْبَاقِينَ وَيَخْتَصَّ بِذَلِكَ .
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَاءُ فِي النَّهْرِ حَيْثُ لَا يَجْرِي فِي أَرْضِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَّا بِالسَّكْرِ ، فَإِنَّهُ يُبْدَأُ بِأَهْلِ الْأَسْفَلِ حَتَّى يَرْوُوا ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَهْلِ الْأَعْلَى أَنْ يُسَكِّرُوا لِيَرْتَفِعَ الْمَاءُ إلَى أَرَاضِيِهِمْ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ فِي السَّكْرِ إحْدَاثَ شَيْءٍ فِي وَسَطِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي حَقِّ جَمِيعِ الشُّرَكَاءِ ، وَحَقُّ أَهْلِ الْأَسْفَلِ ثَابِتٌ مَا لَمْ يَرْوُوا ، فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا أَهْلَ الْأَعْلَى مِنْ السَّكْرِ ، وَلِهَذَا سَمَّاهُمْ آمِرًا ؛ لِأَنَّ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا أَهْلَ الْأَعْلَى مِنْ السَّكْرِ ، وَعَلَيْهِمْ طَاعَتُهُمْ فِي ذَلِكَ ، وَمَنْ تَلْزَمُك طَاعَتُهُ فَهُوَ أَمِيرُك .
بَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { صَاحِبُ الدَّابَّةِ الْقَطُوفِ أَمِيرٌ عَلَى الرَّاكِبِ } ؛ لِأَنَّهُ يَأْمُرُهُمْ بِانْتِظَارِهِ ، وَعَلَيْهِمْ طَاعَتُهُ بِحَقِّ الصُّحْبَةِ فِي السَّفَرِ ، وَفِيهِ حِكَايَةُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ حِينَ رَكِبَ مَعَ الْخَلِيفَةِ يَوْمًا فَتَقَدَّمَهُ الْخَلِيفَةُ لِجَوْدَةِ دَابَّتِهِ فَنَادَاهُ أَيُّهَا الْقَاضِي الْحَقْ بِي فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : إنَّ دَابَّتَك إذَا حُرِّكَتْ طَارَتْ ، وَإِنَّ دَابَّتِي إذَا حُرِّكَتْ قَطَفَتْ ، وَإِذَا تُرِكَتْ وَقَفَتْ فَانْتَظِرْنِي فَإِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { صَاحِبُ الدَّابَّةِ الْقَطُوفِ أَمِيرٌ عَلَى الرَّاكِبِ } فَأَمَرَ بِأَنْ يُحْمَلَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى جَنَبَةٍ لَهُ وَقَالَ : أَحْمِلُ إيَّاكَ عَلَى هَذَا أَهْوَنُ مِنْ تَأْمِيرِك عَلَيَّ .
وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ يَرْفَعُهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

{ قَالَ : إذَا بَلَغَ الْوَادِي الْكَعْبَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ الْأَعْلَى أَنْ يَحْبِسُوهُ عَنْ الْأَسْفَلِ } ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمَاءُ فِي الْوَادِي وَالْوَادِي اسْمٌ لِمَوْضِعٍ فِي أَسْفَلِ الْجَبَلِ يَنْحَدِرُ الْمَاءُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ مِنْ الْجَبَلِ فَيَجْتَمِعُ فِيهِ ، وَيَجْرِي إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ فَقَوْلُهُ : إذَا بَلَغَ الْوَادِي الْكَعْبَيْنِ لَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ بِالْكَعْبَيْنِ بَلْ الْإِشَارَةُ إلَى كَثْرَةِ الْمَاءِ ؛ لِأَنَّ فِي مَوْضِعِ الْوَادِي سَعَةً ، فَإِذَا بَلَغَ الْمَاءُ فِيهِ هَذَا الْمِقْدَارَ فَهُوَ كَثِيرٌ يَتَوَصَّلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ عَادَةً فَإِذَا أَرَادَ أَهْلُ الْأَعْلَى أَنْ يَحْبِسُوهُ عَنْ أَهْلِ الْأَسْفَلِ فَإِنَّمَا قَصَدُوا بِذَلِكَ الْإِضْرَارَ بِأَهْلِ الْأَسْفَلِ فَكَانُوا مُتَعَنِّتِينَ فِي ذَلِكَ لَا مُنْتَفِعِينَ بِالْمَاءِ ، وَإِذَا كَانَ الْمَاءُ دُونَ ذَلِكَ فَرُبَّمَا لَا يَفْضُلُ عَنْ حَاجَةِ أَهْلِ الْأَعْلَى فَهُمْ مُنْتَفِعُونَ بِهَذَا الْحَبْسِ ، وَالْمَاءُ الَّذِي يَنْحَدِرُ مِنْ الْجَبَلِ إلَى الْوَادِي عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ فَمَنْ يَسْبِقْ إلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ ، بِمَنْزِلَةِ النُّزُولِ فِي الْمَوْضِعِ الْمُبَاحِ .
كُلُّ مَنْ سَبَقَ إلَى مَوْضِعٍ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ ، وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَنَّتَ ، وَيَقْصِدَ الْإِضْرَارَ بِالْغَيْرِ فِي مَنْعِهِ عَمَّا وَرَاءَ مَوْضِعِ الْحَاجَةِ ، فَعِنْدَ قِلَّةِ الْمَاءِ بَدَا أَهْلُ الْأَعْلَى أَسْبَقَ إلَى الْمَاءِ فَلَهُمْ أَنْ يَحْبِسُوهُ عَنْ أَهْلِ الْأَسْفَلِ .
بِهِ { قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَادِثَةٍ مَعْرُوفَةٍ } ، وَعِنْدَ كَثْرَةِ الْمَاءِ يَتِمُّ انْتِفَاعُ صَاحِبِ الْأَعْلَى مِنْ غَيْرِ حَبْسٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَنَّتَ بِحَبْسِهِ عَنْ أَهْلِ الْأَسْفَلِ .

وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الْمُسْلِمُونَ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ فِي الْمَاءِ وَالْكَلَإِ وَالنَّارِ } وَفِي الرِّوَايَاتِ : النَّاسُ شُرَكَاءُ فِي ثَلَاثٍ ، وَهَذَا أَعَمُّ مِنْ الْأَوَّلِ فَفِيهِ إثْبَاتُ الشَّرِكَةِ لِلنَّاسِ كَافَّةً : الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ ، وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَتَفْسِيرُ هَذِهِ الشَّرِكَةِ فِي الْمِيَاهِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْأَوْدِيَةِ ، وَالْأَنْهَارِ الْعِظَامِ كَجَيْحُونَ وَسَيْحُونَ ، وَفُرَاتٍ ، وَدِجْلَةٍ ، وَنِيلٍ فَإِنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَا بِمَنْزِلَةِ الِانْتِفَاعِ بِالشَّمْسِ ، وَالْهَوَاءِ وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ ، وَغَيْرُهُمْ ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ ذَلِكَ ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الِانْتِفَاعِ بِالطُّرُقِ الْعَامَّةِ مِنْ حَيْثُ التَّطَرُّقُ فِيهَا .
، وَمُرَادُهُمْ مِنْ لَفْظَةِ الشَّرِكَةِ بَيْنَ النَّاسِ بَيَانُ أَصْلِ الْإِبَاحَةِ ، وَالْمُسَاوَاةِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الِانْتِفَاعِ لَا أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُمْ فَالْمَاءُ فِي هَذِهِ الْأَوْدِيَةِ لَيْسَ بِمِلْكٍ لِأَحَدٍ .

فَأَمَّا مَا يَجْرِي فِي نَهْرٍ خَاصٍّ لِأَهْلِ قَرْيَةٍ فَفِيهِ نَوْعُ شَرِكَةٍ لِغَيْرِهِمْ ، وَهُوَ حَقُّ السَّعَةِ مِنْ حَيْثُ الشِّرْبُ ، وَسَقْيُ الدَّوَابِّ فَإِنَّهُمْ لَا يَمْنَعُونَ أَحَدًا مِنْ ذَلِكَ ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الشَّرِكَةَ أَخَصُّ مِنْ الْأَوَّلِ فَلَيْسَ لِغَيْرِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ أَنْ يَسْقُوا نَخِيلَهُمْ ، وَزُرُوعَهُمْ مِنْ هَذَا النَّهْرِ ، وَكَذَلِكَ الْمَاءُ فِي الْبِئْرِ فِيهِ لِغَيْرِ صَاحِبِ الْبِئْرِ شَرِكَةٌ لِهَذَا الْقَدْرِ ، وَهُوَ السَّعَةُ ، وَكَذَلِكَ الْحَوْضُ فَإِنَّ مَنْ جَمَعَ الْمَاءَ فِي حَوْضِهِ ، وَكَرْمِهِ ، فَهُوَ أَخَصُّ بِذَلِكَ الْمَاءِ مَعَ بَقَاءِ حَقِّ السَّقْيِ فِيهِ لِلنَّاسِ ، حَتَّى إذَا أَخَذَ إنْسَانٌ مِنْ حَوْضِهِ مَاءً لِلشُّرْبِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ ، وَإِذَا أَتَى إلَى بَابِ كَرْمِهِ لِيَأْخُذَ الْمَاءَ مِنْ حَوْضِهِ لِلشُّرْبِ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ كَرْمَهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِلْكٌ خَاصٌّ لَهُ .
وَلَكِنْ إنْ كَانَ يَجِدُ الْمَاءَ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فِي غَيْرِ مِلْكِ أَحَدٍ يَقُولُ لَهُ : اذْهَبْ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، وَخُذْ حَاجَتَك مِنْ الْمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِدُ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يُخْرِجَ الْمَاءَ إلَيْهِ أَوْ يُمَكِّنَهُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ فَيَأْخُذَ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقَّ السَّعَةِ فِي الْمَاءِ الَّذِي فِي حَوْضِهِ عَنَدَ الْحَاجَةِ .
فَأَمَّا إذَا أَحْرَزَ الْمَاءَ فِي جُبٍّ أَوْ جَرَّةٍ أَوْ قِرْبَةٍ فَهُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُهُ فِيهِ ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْهُ إلَّا بِرِضَاهُ ، وَلَكِنْ فِيهِ شُبْهَةُ الشَّرِكَةِ مِنْ وَجْهٍ ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الْقَطْعُ لِسَرِقَتِهِ ، وَعَلَى هَذَا حُكْمُ الشَّرِكَةِ فِي الْكَلَإِ فِي الْمَوَاضِعِ الَّتِي لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهَا بَيْنَ النَّاسِ فِيهِ شَرِكَةٌ عَامَّةٌ ، فَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ .

فَأَمَّا مَا نَبَتَ مِنْ الْكَلَإِ فِي أَرْضِهِ مِمَّا لَمْ يُنْبِتْهُ أَحَدٌ فَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ النَّاسِ أَيْضًا حَتَّى إذَا أَخَذَهُ إنْسَانٌ فَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ أَرْضَهُ لِيَأْخُذَ ذَلِكَ فَلِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الدُّخُولِ فِي أَرْضِهِ ، وَلَكِنْ إنْ كَانَ يَجِدُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ يَأْمُرُهُ بِالذَّهَابِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِدُ ، وَكَانَ بِحَيْثُ يَخَافُ عَلَى ظَهْرِهِ ، فَإِمَّا أَنْ يُخْرِجَ إلَيْهِ مِقْدَارَ حَاجَتِهِ أَوْ يُمَكِّنَهُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ أَرْضَهُ فَيَأْخُذَ مِقْدَارَ حَاجَتِهِ .
فَأَمَّا مَا أَنْبَتَهُ صَاحِبُ الْأَرْضِ بِأَنْ سَقَى أَرْضَهُ ، وَكَرَبَهَا لِنَبْتِ الْحَشِيشِ فِيهَا لِدَوَابِّهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِذَلِكَ ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَنْتَفِعَ بِشَيْءٍ مِنْهُ إلَّا بِرِضَاهُ ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِكَسْبِهِ ، وَالْكَسْبُ لِلْمُكْتَسِبِ ، وَهَذَا الْجَوَابُ فِيمَا لَمْ يُنْبِتْهُ صَاحِبُ الْأَرْضِ مِنْ الْحَشِيشِ دُونَ الْأَشْجَارِ ، فَأَمَّا فِي الْأَشْجَارِ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْأَشْجَارِ النَّابِتَةِ فِي أَرْضِهِ مِنْ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَشْجَارَ تُحْرَزُ عَادَةً ، وَقَدْ صَارَ مُحْرِزًا لَهُ مِنْ يَدِهِ الثَّابِتَةِ عَلَى أَرْضِهِ ، فَأَمَّا الْحَشِيشُ فَلَا يُحْرَزُ عَادَةً .
وَتَفْسِيرُ الْحَشِيشِ مَا تَيَسَّرَ عَلَى الْأَرْضِ مِمَّا لَيْسَ لَهُ سَاقٌ ، وَالشَّجَرُ مَا يَنْبُتُ عَلَى سَاقٍ ، وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى { وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } وَالنَّجْمُ مَا يَنْجُمُ فَتَيَسَّرَ عَلَى الْأَرْضِ ، وَالشَّجَرُ مَا لَهُ سَاقٌ .

وَبَيَانُ الشَّرِكَةِ فِي النَّارِ أَنَّ مَنْ أَوْقَدَ نَارًا فِي صَخْرٍ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَنْتَفِعَ بِنَارِهِ مِنْ حَيْثُ الِاصْطِلَاءُ بِهَا ، وَتَجْفِيفُ الثِّيَابِ ، وَالْعَمَلُ بِضَوْئِهَا ، فَأَمَّا إذَا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ ذَلِكَ الْجَمْرِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إذَا مَنَعَهُ صَاحِبُ النَّارِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَطَبٌ أَوْ فَحْمٌ قَدْ أَحْرَزَهُ الَّذِي أَوْقَدَ النَّارَ ، وَإِنَّمَا الشَّرِكَةُ الَّتِي أَثْبَتَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي النَّارِ ، وَالنَّارُ جَوْهَرُ الْحَرِّ دُونَ الْحَطَبِ ، وَالْفَحْمِ فَإِنْ أَخَذَ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ ذَلِكَ الْجَمْرِ نُظِرَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَا لَهُ قِيمَةٌ إذَا جَعَلَهُ صَاحِبُهُ فَحْمًا كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا لَا قِيمَةَ لَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ .
وَلَهُ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يَمْنَعُونَ هَذَا الْقَدْرَ عَادَةً ، وَالْمَانِعُ يَكُونُ مُتَعَنِّتًا لَا مُنْتَفِعًا ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُتَعَنِّتَ مَمْنُوعٌ مِنْ التَّعَنُّتِ شَرْعًا .

، وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ بُقَعِ الْمَاءِ } يَعْنِي الْمُسْتَنْقَعَ فِي الْحَوْضِ ، وَبِهِ نَأْخُذُ فَإِنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكٌ فَيَسْتَدْعِي مَحَلًّا مَمْلُوكًا ، وَالْمَاءُ فِي الْحَوْضِ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لِصَاحِبِ الْحَوْضِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فَلِظَاهِرِ الْحَدِيثِ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الشِّرْبِ وَحْدَهُ ؛ لِأَنَّ مَا يَجْرِي فِي النَّهْرِ الْخَاصِّ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لِلشُّرَكَاءِ ، وَالْبَيْعُ لَا يَسْبِقُ الْمِلْكَ ، وَإِنَّمَا الثَّابِتُ لِلشُّرَكَاءِ فِي النَّهْرِ الْخَاصِّ حَقُّ الِاخْتِصَاصِ بِالْمَاءِ مِنْ حَيْثُ سَقْيُ النَّخِيلِ ، وَالزَّرْعِ ، وَلِصَاحِبِ الْمُسْتَنْقَعِ مِثْلُ ذَلِكَ ، وَبَيْعُ الْحَقِّ لَا يَجُوزُ ، وَعَنْ الْهَيْثَمِ أَنَّ قَوْمًا ، وَرَدُوا مَاءً فَسَأَلُوا أَهْلَهُ أَنْ يَدُلُّوهُمْ عَلَى الْبِئْرِ فَأَبَوْا ، فَسَأَلُوهُمْ أَنْ يُعْطُوهُمْ دَلْوًا ، فَأَبَوْا أَنْ يُعْطُوهُمْ فَقَالُوا لَهُمْ : إنَّ أَعْنَاقَنَا ، وَأَعْنَاقَ مَطَايَانَا قَدْ كَادَتْ تُقْطَعُ ، فَأَبَوْا أَنْ يُعْطُوهُمْ فَذَكَرُوا ذَلِكَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لَهُمْ عُمَرُ فَهَلَّا ، وَضَعْتُمْ فِيهِمْ السِّلَاحَ .
وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُمْ إذَا مَنَعُوهُمْ لِيَسْتَقُوا الْمَاءَ مِنْ الْبِئْرِ فَلَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ بِالسِّلَاحِ فَإِذَا خَافُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَوْ عَلَى ظُهُورِهِمْ مِنْ الْعَطَشِ كَانَ لَهُمْ فِي الْبِئْرِ حَقُّ السَّعَةِ ، فَإِذَا مَنَعُوا حَقَّهُمْ ، وَقَصَدُوا إتْلَافَهُمْ كَانَ لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ عَنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَعَنْ ظُهُورِهِمْ كَمَا لَوْ قَصَدُوا قَتْلَهُمْ بِالسِّلَاحِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَاءُ مُحْرَزًا فِي إنَاءٍ فَلَيْسَ لِلَّذِي يَخَافُ الْهَلَاكَ مِنْ الْعَطَشِ أَنْ يُقَاتِلَ صَاحِبَ الْمَاءِ بِالسِّلَاحِ عَلَى الْمَنْعِ ، وَلَكِنْ يَأْخُذُ مِنْهُ فَيُقَاتِلُهُ عَلَى ذَلِكَ بِغَيْرِ سِلَاحٍ ، وَكَذَلِكَ فِي الطَّعَامِ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ مُحْرَزٌ لِصَاحِبِهِ ، وَلِهَذَا كَانَ الْآخِذُ ضَامِنًا لَهُ فَإِذَا جَازَ لَهُ أَخْذُهُ لِحَاجَتِهِ فَالْمَانِعُ يَكُونُ دَافِعًا عَنْ مَالِهِ .
وَقَالَ

عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ } فَكَيْفَ يُقَاتِلُ مَنْ إذَا قَتَلَهُ كَانَ شَهِيدًا عَلَى لِسَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَمَّا الْبِئْرُ مُبَاحٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِصَاحِبِ الْبِئْرِ فَلَا يَكُونُ هُوَ فِي الْمَنْعِ دَافِعًا عَنْ مِلْكِهِ ، وَلَكِنَّهُ مَانِعٌ عَنْ الْمُضْطَرِّ حَقَّهُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ بِالسِّلَاحِ ، وَلِلْأَوَّلِ أَنْ يُقَاتِلَ بِمَا دُونَ السِّلَاحِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَاء مَأْمُورٌ بِأَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ بِقَدْرِ مَا يَدْفَعُ بِهِ الضَّرُورَةَ عَنْهُ فَهُوَ فِي الْمَنْعِ مُرْتَكِبٌ مَا لَا يَحِلُّ فَيُؤَدِّبُهُ عَلَى ذَلِكَ بِغَيْرِ سِلَاحٍ ، وَلَيْسَ مُرَادُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُقَاتَلَةَ بِالسِّلَاحِ عَلَى مَنْعِ الدَّلْوِ فَإِنَّ الدَّلْوَ كَانَ مِلْكًا لَهُمْ .
وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَلِكَ فَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ فَهَلَّا وَضَعْتُمْ فِيهِمْ السِّلَاحَ أَيْ رَهَنْتُمْ عِنْدَهُمْ مَا مَعَكُمْ مِنْ السِّلَاحِ لِيَطْمَئِنُّوا إلَيْكُمْ فَيُعْطُونَكُمْ الدَّلْوَ لَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْأَمْرَ بِالْقِتَالِ .

، وَعَنْ عُرْوَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ : مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ } ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَوَاتَ مِنْ الْأَرَاضِي يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ .
وَأَصَحُّ مَا قِيلَ فِي حَدِّ الْمَوَاتِ أَنْ يَقِفَ الرَّجُلُ فِي طَرَفِ الْعُمْرَانِ فَيُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ فَإِلَى أَيِّ مَوْضِعٍ يَنْتَهِي صَوْتُهُ ، يَكُونُ مِنْ فِنَاءِ الْعُمْرَانِ ؛ لِأَنَّ سُكَّانَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ يَحْتَاجُونَ إلَى ذَلِكَ لِرَعْيِ الْمَوَاشِي ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْمَوَاتِ ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُهَا بِالْإِحْيَاءِ بَعْدَ إذْنِ الْإِمَامِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا حَاجَةَ فِيهِ إلَى إذْنِ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَذِنَ فِي ذَلِكَ ، وَمَلَّكَهَا مِمَّنْ أَحْيَاهَا أَوْ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهَا فَكُلُّ مَنْ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهَا ، وَتَمَّ إحْرَازُهُ لَهَا فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا كَمَنْ أَخَذَ صَيْدًا ، أَوْ حَطَبًا أَوْ حَشِيشًا أَوْ وَجَدَ مَعْدِنًا ، أَوْ رِكَازًا فِي مَوْضِعٍ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : لَيْسَ لِلْمَرْءِ إلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِهِ } ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ عَامًّا فَمِنْ أَصْلِهِ : أَنَّ الْعَامَ الْمُتَّفَقَ عَلَى قَبُولِهِ يَتَرَجَّحُ عَلَى الْخَاصِّ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إلَّا أَنَّ عَادِيَّ الْأَرْضِ هِيَ لِلَّهِ ، وَرَسُولِهِ ثُمَّ هِيَ لَكُمْ مِنْ بَعْدُ } فَمَا كَانَ مُضَافًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالتَّدْبِيرُ فِيهِ إلَى الْإِمَامِ فَلَا يَسْتَبِدُّ أَحَدٌ بِهِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ كَخُمُسِ الْغَنِيمَةِ فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَشَارَ إلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَرَاضِيَ كَانَتْ فِي يَدِ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ صَارَتْ فِي يَدِ الْمُسْلِمِينَ بِإِيجَافِ الْخَيْلِ فَكَانَ ذَلِكَ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى

وَرَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَمَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يَخْتَصَّ أَحَدٌ بِشَيْءٍ مِنْهُ دُونَ إذْنِ الْإِمَامِ كَالْغَنَائِمِ .
وَقَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً } لِبَيَانِ السَّبَبِ ، وَبِهِ نَقُولُ إنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ بَعْدَ إذْنِ الْإِمَامِ هُوَ الْإِحْيَاءُ ، وَلَكِنَّ إذْنَ الْإِمَامِ شَرْطٌ ، وَلَيْسَ فِي هَذَا اللَّفْظِ مَا يَنْفِي هَذَا الشَّرْطَ بَلْ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ } إشَارَةٌ إلَى هَذَا الشَّرْطِ فَالْإِنْسَانُ عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ ، وَالْأَخْذُ بِطَرِيقِ التَّغَالُبِ فِي مَعْنَى عِرْقٍ ظَالِمٍ ، وَقِيلَ مَعْنَى قَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { وَلَيْسَ لِعِرْقٍ ظَالِمٍ حَقٌّ } أَنَّ الرَّجُلَ إذَا غَرَسَ أَشْجَارًا فِي مِلْكِهِ فَخَرَجَتْ عُرُوقُهَا إلَى أَرْضِ جَارِهِ ، أَوْ خَرَجَتْ أَغْصَانُهَا إلَى أَرْضِ جَارِهِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مِنْ أَرْضِ جَارِهِ بِتِلْكَ الْأَغْصَانِ وَالْعُرُوقِ الظَّالِمَةِ فَالظُّلْمُ عِبَارَةٌ عَنْ تَحْصِيلِ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ قِيلَ : الْمُرَادُ بِعِرْقٍ ظَالِمٍ أَنْ يَتَعَدَّى فِي الْإِحْيَاءِ مَا وَرَاءَ أَحَدِ الْمَوَاتِ فَيَدْخُلَ فِي حَقِّ الْغَيْرِ ، وَلَا يَسْتَحِقُّ بِذَلِكَ شَيْئًا مِنْ حَقِّ الْغَيْرِ ، وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيِّتَةً فَهِيَ لَهُ ، وَلَيْسَ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ حَقٌّ وَالْمُرَادُ بِالْمُحَجَّرِ الْمُعَلَّمُ بِعَلَامَةٍ فِي مَوْضِعٍ ، وَاشْتِقَاقُ الْكَلِمَةِ مِنْ الْحَجْرِ ، وَهُوَ الْمَنْعُ فَإِنَّ مَنْ أَعْلَمَ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْمَوَاتِ عَلَامَةً فَكَأَنَّهُ مَنَعَ الْغَيْرَ مِنْ إحْيَاءِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَسُمِّيَ فِعْلُهُ تَحْجِيرًا .
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا مَرَّ بِمَوْضِعٍ مِنْ الْمَوَاتِ فَقَصَدَ إحْيَاءَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، فَوَضَعَ حَوْلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَحْجَارًا أَوْ حَصَدَ مَا فِيهَا مِنْ الْحَشِيشِ ، وَالشَّوْكِ ، وَجَعَلَهَا حَوْلَ ذَلِكَ فَمَنَعَ الدَّاخِلَ مِنْ الدُّخُولِ فِيهَا فَهَذَا تَحْجِيرٌ ، وَلَا يَكُونُ

إحْيَاءً إنَّمَا الْإِحْيَاءُ أَنْ يَجْعَلَهَا صَالِحَةً لِلزِّرَاعَةِ بِأَنْ كَرَبَهَا أَوْ ضَرَبَ عَلَيْهَا الْمُسَنَّاةَ أَوْ شَقَّ لَهَا نَهْرًا ثُمَّ بَعْدَ التَّحْجِيرِ لَهُ مِنْ الْمُدَّةِ ثَلَاثُ سِنِينَ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَرْجِعَ إلَى وَطَنِهِ ، وَيُهَيِّئَ أَسْبَابَهُ ثُمَّ يَرْجِعَ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَيُحْيِيَهُ فَيُجْعَلُ لَهُ مِنْ الْمُدَّةِ لِلرُّجُوعِ إلَى وَطَنِهِ سَنَةً ، وَإِصْلَاحِ أُمُورِهِ فِي وَطَنِهِ سَنَةً ، وَالرُّجُوعِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ سَنَةً فَإِلَى ثَلَاثِ سِنِينَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَغِلَ بِإِحْيَاءِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ غَيْرُهُ ، وَلَكِنْ يَنْتَظِرُهُ لِيَرْجِعَ ، وَبَعْدَ مُضِيِّ هَذِهِ الْمُدَّةِ الظَّاهِرَ أَنَّهُ قَدْ بَدَا لَهُ ، وَأَنَّهُ لَا يُرِيدُ الرُّجُوعَ إلَيْهَا فَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ إحْيَاؤُهَا هَذَا مِنْ طَرِيقِ الدِّيَانَةِ فَأَمَّا فِي الْحُكْمِ إذَا أَحْيَاهَا إنْسَانٌ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَهِيَ لَهُ ؛ لِأَنَّ بِالتَّحْجِيرِ لَمْ تَصِرْ مَمْلُوكَةً لِلْأَوَّلِ فَسَبَبُ الْمِلْكِ هُوَ الْإِحْيَاءُ دُونَ التَّحْجِيرِ ، وَعَنْ طَاوُسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إنَّ عَادِيَّ الْأَرْضِ لِلَّهِ ، وَرَسُولِهِ فَمَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ } ، وَالْمُرَادُ الْمَوَاتُ مِنْ الْأَرَاضِي سَمَّاهُ عَادِيًّا عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا مَا خَرِبَتْ عَلَى عَهْدِ عَادٍ ، وَفِي الْعَادَاتِ الظَّاهِرَةِ مَا يُوصَفُ بِطُولِ مُضِيِّ الزَّمَانِ عَلَيْهِ يُنْسَبُ إلَى عَادٍ فَمَعْنَاهُ مَا تَقَدَّمَ خَرَابُهُ مِمَّا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ ، وَعَنْ أَبِي مُعَسِّرٍ عَنْ أَشْيَاخِهِ رَفَعُوهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَضَى فِي السِّرَاجِ مِنْ مَاءِ الْمَطَرِ إذَا بَلَغَ الْمَاءُ الْكَعْبَيْنِ أَنْ لَا يَحْبِسَهُ إلَّا عَلَى جَارِهِ } قَالَ أَبُو مُعَسِّرٍ السِّرَاجُ : السَّوَاقِي ، وَهِيَ الْجَدَاوِلُ الَّتِي عِنْدَ سَفْحِ الْجَبَلِ يَجْتَمِعُ مَاءُ السَّيْلِ فِيهَا ثُمَّ يَنْحَدِرُ مِنْهَا إلَى الْوَادِي ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ

الْعِبَارَةُ عَنْ كَثْرَةِ الْمَاءِ .

وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ بْنِ عَمْرٍو بْنِ نُفَيْلٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ بِغَيْرِ حَقٍّ طَوَّقَهُ اللَّهُ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ } قِيلَ : مَعْنَاهُ مَنْ تَطَوَّقَ فِي أَرْضِ الْغَيْرِ فَالْمَوْضِعُ الَّذِي يَضَعُ عَلَيْهِ الْقَدَمَ بِمَنْزِلَةِ شِبْرٍ مِنْ الْأَرْضِ ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ مَنْ نَقَصَ مِنْ الْمُسَنَّاةِ فِي جَانِبِ أَرْضِهِ بِأَنْ حَوَّلَ ذَلِكَ إلَى أَرْضِ جَارِهِ فَذَلِكَ قَدْرُ شِبْرٍ مِنْ الْأَرْضِ أَخَذَهُ أَوْ كَانَ أَرْضُهُ بِجَنْبِ الطَّرِيقِ فَجَعَلَ الْمُسَنَّاةَ عَلَى الطَّرِيقِ لِتَتَّسِعَ بِهِ أَرْضُهُ فَهُوَ فِي مَعْنَى شِبْرٍ مِنْ الْأَرْضِ أَخَذَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَهُوَ مَعْنَى الْحَدِيثِ الَّذِي رُوِيَ : لَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الطَّرِيقِ .
يَعْنِي الْعَلَامَةَ بَيْنَ الْأَرَضِينَ .
وَقِيلَ : إنَّمَا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشِّبْرَ عَلَى طَرِيقِ التَّمْثِيلِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ غَصْبِ الْأَرَاضِي ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ التَّحْقِيقَ ثُمَّ فِي الْحَدِيثِ بَيَانُ عِظَمِ الْمَاءِ ثُمَّ فِي غَصْبِ الْأَرَاضِي ، وَهُوَ دَلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى غَاصِبِ الْأَرَاضِي فِي الدُّنْيَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَيَّنَ جَزَاءَ الْآخِذِ بِالْوَعِيدِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْقِيَامَةِ ، وَلَوْ كَانَ حُكْمُ الضَّمَانِ ثَابِتًا لَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُبَيِّنَهُ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى مَعْرِفَتِهِ أَمَسُّ ثُمَّ جَعَلَ الْمَذْكُورَ مِنْ الْوَعِيدِ جَمِيعَ جَزَائِهِ فَلَوْ أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ الْوَعْدُ جَمِيعَ جَزَائِهِ وَلِلْفُقَهَاءِ فِي مَعْنَى مِثْلِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ طَرِيقَيْنِ أَحَدُهُمَا الْحَمْلُ عَلَى حَقِيقَتِهِ أَنَّهُ يُطَوَّقُ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ فِي الْقِيَامَةِ لِيُعْرَفَ بِهِ مَا فَعَلَهُ ، وَيَكُونَ ذَلِكَ عُقُوبَةً لَهُ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرْكَزُ عِنْدَ بَابِ اسْتِهِ تُعْرَفُ بِهِ غَدْرَتُهُ } .
وَالْمُرَادُ بِهِ

بَيَانُ شِدَّةِ الْعُقُوبَةِ لَا حَقِيقَةَ مَا ذُكِرَ مِنْ أَنَّهُ يُطَوَّقُ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مِنْ الْأَرْضِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ } ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ : لَا تَمْنَعُوا الْمَاءَ مَخَافَةَ الْكَلَإِ } يُرِيدُ بِهِ أَنَّ صَاحِبَ الْبِئْرِ إذَا كَانَ لَهُ مَرْعًى حَوْلَ بِئْرِهِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ يَسْتَقِي الْمَاءَ مِنْ بِئْرِهِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِظُهُورِهِ مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَ ظَهْرُهُ مِنْ ذَلِكَ الْكَلَإِ ؛ لِأَنَّ لَهُ فِي حَقِّ الشُّقَّةِ فِي مَاءِ الْبِئْرِ فَلَا يَمْنَعُهُ حَقَّهُ ، وَلَكِنْ يَحْفَظُ جَانِبَ أَرْضِهِ ، وَمَا فِيهِ مِنْ الْكَلَإِ حَتَّى لَا يُدْخِلَ دَابَّةَ الْمُسْتَقِي فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، وَإِنْ شَقَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَخْرَجَ إلَيْهِ مِنْ الْمَاءِ مِقْدَارَ حَاجَتِهِ ، وَحَاجَةَ ظَهْرِهِ ، وَعَنْ نَافِعٍ رَفَعَ حَدِيثَهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ : لَا تَمْنَعُوا أَحَدًا مَاءً وَلَا كَلَأً وَلَا نَارًا فَإِنَّهُ مَتَاعٌ لِلْمُقْوِينَ وَقُوَّةٌ لِلْمُسْتَعِينِينَ } ، وَالْمُقْوِي هُوَ الَّذِي فَنِيَ زَادُهُ ، وَالْمُسْتَعِينُ هُوَ الْمُضْطَرُّ الْمُحْتَاجُ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَثْبَتَ بَيْنَ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ شَرِكَةً عَامَّةً بِطَرِيقِ الْإِبَاحَةِ فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ أَحَدًا مِمَّا جَعَلَهُ الشَّرْعُ حَقًّا لَهُ .

وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ نَهْرٌ أَوْ بِئْرٌ أَوْ قَنَاةٌ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ ابْنَ السَّبِيلِ أَنْ يَسْقِيَ مِنْهَا فَيَشْرَبَ ، وَيَسْقِيَ دَابَّتَهُ ، وَبَعِيرَهُ ، وَشِيَاهَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ الشُّقَّةِ ، وَالشُّقَّةُ عِنْدَنَا الشِّرْبُ لِبَنِي آدَمَ ، وَالْبَهَائِمِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْمَاءِ تَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ وَقْتٍ ، وَمَنْ سَافَرَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَصْحِبَ الْمَاءَ مِنْ وَطَنِهِ لِذَهَابِهِ وَرُجُوعِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى أَخْذِ الْمَاءِ مِنْ الْآبَارِ ، وَالْأَنْهَارِ الَّتِي تَكُونُ عَلَى طَرِيقِهِ ، وَفِي الْمَنْعِ مِنْ ذَلِكَ حَرَجٌ ، وَكَمَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ لِنَفْسِهِ فَكَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِظَهْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْعَادَةِ يَعْجِزُ عَنْ السَّفَرِ بِغَيْرِ مَرْكَبٍ ، وَكَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ لِلطَّبْخِ وَالْخَبْزِ ، وَغَسْلِ الثِّيَابِ ، وَأَحَدٌ لَا يَمْنَعُ أَحَدًا مِنْ ذَلِكَ .

فَإِنْ كَانَ لَهُ جَدْوَلٌ يَجْرِي فِيهِ الْمَاءُ إلَى أَرْضِهِ ، وَبِجَنْبِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ صَاحِبُ مَاشِيَةٍ إذَا شَرِبَتْ الْمَاشِيَةُ مِنْهَا انْقَطَعَ الْمَاءُ لِكَثْرَةِ الْمَوَاشِي ، وَقِلَّةِ مَاءِ الْجَدْوَلِ فَقَدْ اخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هَذَا مِنْ الشُّقَّةِ ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْجَدْوَلِ أَنْ يَمْنَعَ ذَلِكَ ، وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ ؛ لِأَنَّ الشُّقَّةَ مَا لَا يَضُرُّ بِصَاحِبِ النَّهْرِ وَالْبِئْرِ فَأَمَّا مَا يَضُرُّ بِهِ ، وَيَقْطَعُ حَقَّهُ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ ذَلِكَ اعْتِبَارًا بِسَقْيِ الْأَرَاضِي ، وَالنَّخِيلِ وَالشَّجَرِ ، وَالزَّرْعِ فَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ يُرِيدُ سَقْيَ نَخْلِهِ وَشَجَرِهِ ، وَزَرْعِهِ مِنْ نَهْرِهِ أَوْ قَنَاتِهِ أَوْ بِئْرِهِ أَوْ عَيْنِهِ .
وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ إلَّا بِإِذْنِهِ إمَّا لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُسَوِّيَ نَفْسَهُ بِصَاحِبِ الْحَقِّ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَالنَّهْرُ وَالْقَنَاةُ إنَّمَا يُشَقُّ لِهَذَا الْمَقْصُودِ ، وَلَيْسَ لِغَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ أَنْ يُسَوِّيَ نَفْسَهُ بِالْمُسْتَحِقِّ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِخِلَافِ الشُّقَّةِ ، فَذَلِكَ بَيْعٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ ؛ لِأَنَّ النَّهْرَ ، وَالْقَنَاةَ لَا يُشَقُّ فِي الْعَادَةِ لِأَجْلِهِ أَوْ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَحْفِرَ نَهْرًا مِنْ هَذَا النَّهْرِ إلَى أَرْضِهِ فَيَكْسِرَ بِهِ ضِفَّةَ النَّهْرِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَكْسِر ضِفَّة نَهْر الْغَيْر ، وَكَذَلِكَ فِي الْبِئْر يَحْتَاج إلَى أَنْ يَشُقّ نَهْرًا مِنْ رَأْس الْبِئْر إلَى أَرْضه ، وَمَا حَوْل الْبِئْر حَقُّ صَاحِب الْبِئْر حَرِيمًا لَهُ فَلَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يُحْدِثَ فِيهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنه ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ يُرِيد أَنْ يَجْرِي مَاؤُهُ فِي هَذَا النَّهْر مَعَ صَاحِب النَّهْر لِيَسْقِيَ بِهِ أَرْضه ؛ لِأَنَّ النَّهْر مِلْك خَاصّ لِأَهْلِ النَّهْر فَلَا يَجُوز لَهُ أَنْ يَنْتَفِع بِمُلْكِ الْغَيْر إلَّا بِإِذْنِهِ فَإِنْ كَانَ قَدْ اتَّخَذَ شَجَره أَوْ خَضِرَة فِي دَاره فَأَرَادَ أَنْ يَسْقِي ذَلِكَ الْمَوْضِع بِحَمْلِ

الْمَاء إلَيْهِ بِالْجَرَّةِ فَقَدْ اسْتَقْضَى فِيهِ بَعْض الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَئِمَّة بَلْخِي رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، وَقَالُوا لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِإِذْنِ صَاحِب النَّهْر ، وَالْأَصَحّ أَنَّهُ لَا يَمْنَع مِنْ هَذَا الْمِقْدَار ؛ لِأَنَّ النَّاس يَتَوَسَّعُونَ فِيهِ ، وَالْمَنْع مِنْهُ يُعَدُّ مِنْ الدَّنَاءَة قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَنَّ اللَّه يُحِبّ مَعَالِي الْأُمُور ، وَيُبْغِض سَفْسَافهَا } فَإِنْ أَذِنَ لَهُ صَاحِب النَّهْر فِي سُقِيَ أَرْضه أَوْ عَادَة ذَلِكَ الْمَوْضِع فَلَا بَأْس بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَنْع كَانَ لِمُرَاعَاةِ حَقّه فَإِذَا رَضِيَ بِهِ فَقَدْ زَالَ الْمَانِع .

وَإِنْ بَاعَهُ شِرْبَ يَوْمٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَاءَ فِي النَّهْرِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ إنَّمَا هُوَ حَقُّ صَاحِبِ النَّهْرِ ، وَبَيْعُ الْحَقِّ لَا يَجُوزُ ؛ وَلِأَنَّهُ مَجْهُولٌ لَا يَدْرِي مِقْدَارَ مَا يُسَلَّمُ لَهُ مِنْ الْمَاءِ فِي الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ ، وَبَيْعُ الْمَجْهُولِ لَا يَجُوزُ ، وَهُوَ غَرَرٌ فَلَا تَدْرِي أَنَّ الْمَاءَ يَجْرِي فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي النَّهْرِ أَوْ لَا يَجْرِي ، وَإِذَا انْقَطَعَ الْمَاءُ فَلَيْسَ لِلْبَائِعِ تَمَكُّنُ إجْرَائِهِ { ، وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ } ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ ؛ لِأَنَّهُ يَلْتَزِمُ تَسْلِيمَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ أَوْ تَسْلِيمَ مَا لَا يَعْرِفُ مِقْدَارَهُ ثُمَّ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الِاسْتِئْجَارِ الْمَاءُ ، وَهُوَ عَيْنٌ ، وَالِاسْتِئْجَارُ الْمَقْصُودُ لِاسْتِهْلَاكِ الْعَيْنِ لَا يَجُوزُ كَاسْتِئْجَارِ الْمَرْعَى لِلرَّاعِي ، وَاسْتِئْجَارِ الْبَقَرَةِ لِمَنْفَعَةِ اللَّبَنِ بِخِلَافِ اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ فَإِنَّ لَبَنَ الْآدَمِيَّةِ فِي حُكْمِ الْمَنْفَعَةِ ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ كُلِّ عُضْوٍ بِحَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِ فَمَنْفَعَةُ الثَّدْيِ اللَّبَنُ ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ لَبَنِ الْآدَمِيَّةِ ؛ وَلِأَنَّ الْعَقْدَ هُنَاكَ يُرَدُّ عَلَى مَنْفَعَةِ التَّرْبِيَةِ ، وَاللَّبَنُ آلَةٌ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى غَسْلِ الثِّيَابِ فَالْحَرَضُ وَالصَّابُونُ آلَةٌ فِي ذَلِكَ ، وَالِاسْتِئْجَارُ لِعَمَلِ الصِّنَاعَةِ فَإِنَّ الصُّنْعَ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ فِي ذَلِكَ فَأَمَّا هُنَا لَا مَقْصُودَ فِي هَذَا الِاسْتِئْجَارِ سِوَى الْمَاءِ ، وَهُوَ عَيْنٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ فِي إجَارَتِهِ أَوْ شَرَابِهِ شُرْبَ هَذِهِ الْأَرْضِ ، وَهَذَا الشَّجَرِ ، وَهَذَا الزَّرْعِ أَوْ قَالَ حَتَّى يَكْتَفِيَ فَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ لِمَعْنَى الْجَهَالَةِ ، وَالْغَرَرِ .

وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ شِرْبَ مَاءٍ ، وَمَعَهُ أَرْضٌ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ عَيْنٌ مَمْلُوكَةٌ مَقْدُورَةُ التَّسْلِيمِ فَالْعَقْدُ يَرِدُ عَلَيْهَا ، وَالشِّرْبُ يَسْتَحِقُّ بَيْعًا ، وَقَدْ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ بَيْعُ مَا لَا يَجُوزُ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ كَالْأَطْرَافِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ لَا يَجُوزُ إفْرَادُهَا بِالْبَيْعِ ثُمَّ يَدْخُلُ بَيْعًا فِي بَيْعِ الْأَصْلِ ، وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَفْتَى أَنْ يَبِيعَ الشِّرْبَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَرْضٌ لِلْعَادَةِ الظَّاهِرَةِ فِيهِ فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ ، وَهَذِهِ عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِنَسَفَ قَالُوا الْمَأْجُورُ الِاسْتِصْنَاعُ لِلتَّعَامُلِ ، وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ يَأْبَاهُ فَكَذَلِكَ بَيْعُ الشِّرْبِ بِدُونِ الْأَرْضِ .

وَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا مَعَ شِرْبِهَا جَازَ كَمَا يَجُوزُ الشِّرَاءُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الِانْتِفَاعُ بِالْأَرْضِ مِنْ حَيْثُ الزِّرَاعَةِ ، وَالْغِرَاسَةِ ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ بِالشِّرْبِ فَذِكْرَ الشِّرْبِ مَعَ الْأَرْضِ فِي الِاسْتِئْجَارِ لِتَحْقِيقِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالِاسْتِئْجَارِ فَلَا يَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ .

وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ أَرْضًا لَمْ يَكُنْ لَهُ شِرْبُهَا ، وَلَا مَسْكُ مَا بِهَا ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَتَنَاوَلُ عَيْنَ الْأَرْضِ بِذِكْرِ حُدُودِهَا فَمَا يَكُونُ خَارِجًا مِنْ حُدُودِهَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْعَقْدِ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ ، وَالشِّرْبُ وَالْمَسِيلُ خَارِجٌ مِنْ الْحُدُودِ الْمَذْكُورَةِ فَإِنْ اشْتَرَطَ شِرْبَهَا فَلَهُ الشِّرْبُ ، وَلَيْسَ لَهُ الْمَسِيلُ ؛ لِأَنَّ الشِّرْبَ غَيْرُ الْمَسِيلِ فَالْمَسِيلُ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَسِيلُ فِيهِ الْمَاءُ ، وَالشِّرْبُ الْمَاءُ الَّذِي يَسِيلُ فِي الْمَسِيلِ فَبِاشْتِرَاطِ أَحَدِهِمَا لَا يَثْبُتُ لَهُ اسْتِحْقَاقُ الْأَجْرِ ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْمَشْرُوطَ خَاصَّةً ، وَيُجْعَلُ فِيمَا لَمْ يُذْكَرْ كَأَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ شَيْئًا .
وَلَوْ اشْتَرَطَ مَسِيلَ الْمَاءِ مَعَ الشِّرْبِ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ كُلَّهُ بِالشَّرْطِ ، وَلَوْ اشْتَرَاهَا بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهَا كَانَ لَهُ الْمَسِيلُ ، وَالشِّرْبُ ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ حُقُوقِهَا فَالْمَقْصُودُ بِالْأَرَاضِيِ الِانْتِفَاعُ بِهَا ، وَإِنَّمَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ بِالْمَسِيلِ ، وَالشِّرْبِ فَكَانَتْ مِنْ حُقُوقِهَا كَالطَّرِيقِ لِلدَّارِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَ مَرَافِقَهَا ؛ لِأَنَّ الْمَرَافِقَ مَا يُتَرَفَّقُ بِهِ فَإِنَّمَا يَتَأَتَّى التَّرَفُّقُ بِالْأَرْضِ بِالشِّرْبِ ، وَالْمَسِيلِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَ كُلَّ قَلِيلٍ ، وَكَثِيرٍ هُوَ فِيهَا أَوْ مِنْهَا كَانَ لَهُ الشِّرْبُ ، وَالْمَسِيلُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ثُمَّ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ مِنْهَا أَيْ مِنْ حُقُوقِهَا ، وَلَكِنَّهُ حَذَفَ الْمُضَافَ ، وَأَقَامَ الْمُضَافَ إلَيْهِ مَقَامَهُ ، وَمِثْلُ هَذَا الْحَذْفِ عُرْفُ أَهْلِ اللِّسَانِ .

وَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا فَلَيْسَ لَهُ مَسِيلُ مَاءٍ ، وَلَا شِرْبٌ فِي الْقِيَاسِ إذَا أَطْلَقَ الْعَقْدَ كَمَا فِي الشِّرَاءِ فَالْمُسْتَأْجِرُ يَسْتَحِقُّ بِالْعَقْدِ بِذِكْرِ الْحُدُودِ كَالْمُشْتَرِي فَكَمَا أَنَّ الشِّرْبَ ، وَالْمَسِيلَ الَّذِي هُوَ خَارِجٌ عَنْ الْحُدُودِ الْمَذْكُورَةِ لَا يُسْتَحَقُّ بِالشِّرَاءِ فَكَذَلِكَ بِالِاسْتِئْجَارِ ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَجَعَلَ لِلْمُسْتَأْجِرِ مَسِيلَ الْمَاءِ ، وَالشِّرْبِ هُنَا بِخِلَافِ الشِّرَاءِ ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الِاسْتِئْجَارِ بِاعْتِبَارِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ لَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُهُ كَالْمُهْرِ الصَّغِيرِ ، وَالْأَرْضِ السَّبِخَةِ ، وَالِانْتِفَاعُ بِالْأَرْضِ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِالشِّرْبِ ، وَالْمَسِيلِ فَلَوْ لَمْ يَدْخُلْهُمَا يُفْسَخُ الْعَقْدُ ، وَالْمُتَعَاقِدَانِ قَصَدَا تَصْحِيحَ الْعَقْدِ فَكَانَ هُنَا ذِكْرُ الشِّرْبِ ، وَالْمَسِيلِ بِخِلَافِ الشِّرَاءِ فَمُوجَبُهُ مِلْكُ الْعَيْنِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ شِرَاءَ مَا لَا يَمْلِكُ الِانْتِفَاعَ بِهِ جَائِزٌ نَحْوَ الْأَرْضِ السَّبْخَةِ ، وَالْمُهْرِ الصَّغِيرِ فَلَا يَدْخُلُ فِي الشِّرَاءِ مَا وَرَاءَ الْمُسَمَّى بِذِكْرِ الْحُدُودِ ، وَفِي الْكِتَابِ ذَكَرَ حَرْفًا آخَرَ فَقَالَ ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ يَدِ صَاحِبِهَا يَعْنِي أَنَّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ لَا يَتَمَلَّكُ الْمُسْتَأْجِرُ شَيْئًا مِنْ الْعَيْنِ ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الِانْتِفَاعَ بِهِ فِي الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ فَلَوْ أَدْخَلْنَا الشِّرْبَ ، وَالْمَسِيلَ لَمْ يَتَضَرَّرْ صَاحِبُ الْأَرْضِ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهَا ، وَفِي إدْخَالِهِمَا تَصْحِيحُ الْعَقْدِ فَأَمَّا الْبَيْعُ يُزِيلُ مِلْكَ الْعَيْنِ عَنْ الْبَائِعِ فَفِي إدْخَالِ الشِّرْبِ ، وَالْمَسِيلِ فِي الْبَيْعِ إزَالَةُ مِلْكِهِ عَمَّا لَمْ يُظْهِرْ رِضَاهُ بِهِ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الثِّمَارَ ، وَالزَّرْعَ يَدْخُلُ فِي رَهْنِ الْأَشْجَارِ ، وَالْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْهِبَةِ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ بِدُونِ الشَّرْطِ يَدْخُلُ الشِّرْبُ ، وَالْمَسِيلُ فِي الْأَشْجَارِ

فَمَعَ الشَّرْطِ أَوْلَى ، وَكَذَلِكَ إنْ شَرَطَ كُلَّ حَقٍّ هُوَ لَهَا أَوْ مَرَافِقَهَا أَوْ كُلَّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ ، هُوَ فِيهَا أَوْ مِنْهَا فَعِنْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ يَدْخُلُ الشِّرْبُ ، وَالْمَسِيلُ فِي الشِّرَاءِ فَفِي الْإِجَارَةِ أَوْلَى .

وَإِذَا كَانَ نَهْرٌ بَيْنَ قَوْمٍ لَهُمْ عَلَيْهِ أَرْضُونَ ، وَلَا يُعْرَفُ كَيْف كَانَ أَصْلُهُ بَيْنَهُمْ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ ، وَاخْتَصَمُوا فِي الشِّرْبِ فَإِنَّ الشِّرْبَ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَرَاضِيِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالشِّرْبِ سَقْيُ الْأَرَاضِي ، وَالْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ تَخْتَلِفُ بِقِلَّةِ الْأَرَاضِي ، وَكَثْرَتِهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ الشِّرْبِ بِقَدْرِ أَرْضِهِ ، وَقَدْرِ حَاجَتِهِ ، وَالْبِنَاءُ عَلَى الظَّاهِرِ ، وَاجِبٌ حَتَّى يَتَبَيَّنَ خِلَافَهُ فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ اسْتَوَوْا فِي إثْبَاتِ الْيَدِ عَلَى الْمَالِ فِي النَّهْرِ ، وَالْمُسَاوَاةُ فِي الْيَدِ تُوجِبُ الْمُسَاوَاةَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ فَالْيَدُ لَا تَثْبُتُ عَلَى الْمَاءِ فِي النَّهْرِ لِأَحَدٍ حَقِيقَةً ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ الِانْتِفَاعُ بِالْمَاءِ .
وَالظَّاهِرُ أَنَّ انْتِفَاعَ مَنْ لَهُ عَشَرُ قِطَاعٍ لَا يَكُونُ مِثْلَ انْتِفَاعِ مَنْ لَهُ قِطْعَةٌ وَاحِدَةٌ ثُمَّ الْمَاءُ لَا يُمْكِنُ إحْرَازُهُ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا إحْرَازُهُ بِسَقْيِ الْأَرَاضِي فَإِنَّمَا ثَبَتَ الْيَدُ عَلَيْهِ بِحَسَبِ ذَلِكَ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الطَّرِيقِ إذَا اخْتَصَمَ فِيهِ الشُّرَكَاءُ فَإِنَّهُمْ يَسْتَوُونَ فِي مِلْكِ رُقْبَةِ الطَّرِيقِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ سَعَةُ الدَّارِ ، وَضِيقُهَا ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ عَيْنٌ تَثْبُتُ الْيَدُ عَلَيْهِ ، وَالْمَقْصُودُ التَّطَرُّقُ فِيهِ ، وَالتَّطَرُّقُ فِيهِ إلَى الدَّارِ الْوَاسِعَةِ ، وَإِلَى الدَّارِ الضَّيِّقَةِ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ بِخِلَافِ الشِّرْبِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فَإِنْ كَانَ الْأَعْلَى لَا يَشْرَبُ حَتَّى يَسْكُرَ النَّهْرَ عَلَى الْأَسْفَلِ ، وَلَكِنَّهُ يَشْرَبُ بِحِصَّتِهِ ؛ لِأَنَّ فِي السَّكْرِ قَطْعَ مَنْفَعَةِ الْمَاءِ عَنْ أَهْلِ الْأَسْفَلِ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ ، وَلَيْسَ لِبَعْضِ الشُّرَكَاءِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ فِي نَصِيبِ شُرَكَائِهِ يُوضِحُهُ أَنَّ فِي السَّكْرِ إحْدَاثَ شَيْءٍ فِي وَسَطِ النَّهْرِ ، وَرَقَبَةُ النَّهْرِ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمْ فَلَيْسَ لِبَعْضِ الشُّرَكَاءِ أَنْ يُحْدِثَ فِيهَا شَيْئًا بِدُونِ إذْنِ

الشُّرَكَاءِ ، وَرُبَّمَا يَنْكَسِرُ النَّهْرُ بِمَا يَحْدُثُ فِيهَا عِنْدَ السَّكْرِ فَإِنْ تَرَاضَوْا عَلَى أَنَّ الْأَعْلَى يَسْكُرُ النَّهْرَ حَتَّى تُشْرَبَ حِصَّتُهُ أَجَزْت ذَلِكَ بَيْنَهُمْ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ حَقُّهُمْ ، وَقَدْ انْعَدَمَ بِتَرَاضِيهِمْ فَإِنْ اصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يَسْكُرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي يَوْمِهِ أَجَزْته أَيْضًا فَإِنَّ قِسْمَةَ الْمَاءِ فِي النَّهْرِ تَكُونُ بِالْأَجْرِ تَارَةً ، وَبِالْأَيَّامِ أُخْرَى فَإِنْ تَرَاضَوْا عَلَى الْقِسْمَةِ بِالْأَيَّامِ جَازَ لَهُمْ ذَلِكَ ، وَهَذَا لِحَاجَتِهِمْ إلَى ذَلِكَ فَقَدْ يَقِلُّ الْمَاءُ فِي النَّهْرِ بِحَيْثُ لَا يَتَمَكَّنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَنْتَفِعَ بِحِصَّتِهِ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِالسَّكْرِ ، وَلَكِنَّهُ إنْ تَمَكَّنَ مِنْ أَنْ يَسْكُرَ بِلَوْحٍ أَوْ بَابٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْكُرَ بِالطِّينِ وَالتُّرَابِ ؛ لِأَنَّ بِهِ يَنْكَسِرُ النَّهْرُ عَادَةً ، وَفِيهِ إضْرَارٌ بِالشُّرَكَاءِ إلَّا أَنْ يُظْهِرُوا التَّرَاضِي عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ اخْتَلَفُوا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَسْكُرَهُ عَلَى صَاحِبِهِ .

وَإِنْ أَرَادَ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَكْتَرِيَ مِنْهُ نَهْرًا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَاءٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ؛ لِأَنَّ فِي كَرِي النَّهْرِ كَسْرُ ضِفَّةِ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ بِقَدْرِ فُوَّهَةِ النَّهْرِ الَّذِي يُكْرِيه ، وَفِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ لَيْسَ لِبَعْضِ الشُّرَكَاءِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَاءِ أَصْحَابِهِ كَمَا لَوْ أَرَادَ هَدْمَ الْحَائِطِ الْمُشْتَرَكِ أَوْ إحْدَاثَ بَابٍ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصِبَ عَلَيْهِ رَحًا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِرِضًا مِنْ أَصْحَابِهِ ؛ لِأَنَّ مَا يُنْصَبُ مِنْ الرَّحَا إنَّمَا يَضَعُهُ فِي مِلْكٍ مُشْتَرَكٍ إلَّا أَنْ تَكُونَ رَحًا لَا تَضُرُّ بِالنَّهْرِ ، وَلَا بِالْمَاءِ فَيَكُونُ مَوْضِعُهَا فِي أَرْضٍ خَاصٍّ لَهُ فَإِنْ كَانَ هَكَذَا فَهُوَ جَائِزٌ يَعْنِي إذَا لَمْ يَكُنْ يُغَيِّرُ الْمَاءَ عَنْ سُنَّتِهِ .
وَلَا يَمْنَعُ جَرَيَانَ الْمَاءِ بِسَبَبِ الرَّحَا بَلْ يَجْرِي كَمَا كَانَ يَجْرِي قَبْلَ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يَضَعُ الرَّحَا فِي مِلْكٍ خَاصٍّ لَهُ فَإِذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِغَيْرِ رِضَا الشُّرَكَاءِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُحْدِثُ مَا يُحْدِثُهُ مِنْ الْأَبْنِيَةِ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ ، وَبِسَبَبِ الرَّحَا لَا يَنْتَقِصُ الْمَاءُ بَلْ يَنْتَفِعُ صَاحِبُ الرَّحَا بِالْمَاءِ مَعَ بَقَاءِ الْمَاءِ عَلَى حَالِهِ فَمَنْ يَمْنَعُهُ عَنْ ذَلِكَ يَكُونُ مُتَعَنِّتًا قَاصِدًا إلَى الْإِضْرَارِ بِهِ لَا دَافِعًا الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى تَعَنُّتِهِ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصِبَ عَلَيْهَا دَالِيَةً أَوْ سَانِيَةً ، وَكَانَ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِالنَّهْرِ ، وَلَا بِالشِّرْبِ ، وَكَانَ بِنَاءُ ذَلِكَ فِي مِلْكِهِ خَاصَّةً كَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ ، وَلَا يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِغَيْرِهِ ، وَإِنْ أَرَادَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ أَنْ يُكْرُوا هَذَا النَّهْرَ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ عَلَيْهِمْ مُؤْنَةُ الْكِرَاءِ مِنْ أَعْلَاهُ فَإِذَا جَاوَزَ أَرْضَ رَجُلٍ دَفَعَ عَنْهُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْكِرَاءُ عَلَيْهِمْ

جَمِيعًا مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ بِحِصَصِ الشِّرْبِ ، وَالْأَرَاضِي ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الشُّرَكَاءَ فِي النَّهْرِ إذَا كَانُوا عَشَرَةً فَمُؤْنَةُ الْكِرَاءِ مِنْ أَوَّلِ النَّهْرِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةٌ إلَى أَنْ يُجَاوِزَ أَرْضَ أَحَدِهِمْ فَحِينَئِذٍ تَكُونُ مُؤْنَةُ الْكِرَاءِ عَلَى الْبَاقِينَ اتِّسَاعًا إلَى أَنْ يُجَاوِزَ أَرْضًا أُخْرَى ثُمَّ يَكُونُ عَلَى الْبَاقِينَ أَثْمَانٌ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ إلَى آخِرِ النَّهْرِ وَعِنْدَهُمَا الْمُؤْنَةُ عَلَيْهِمْ اعْتِبَارًا مِنْ أَوَّلِ النَّهْرِ إلَى آخِرِهِ ؛ لِأَنَّ لِصَاحِبِ الْأَعْلَى حَقًّا فِي أَسْفَلِ النَّهْرِ ، وَهُوَ تَسْيِيلُ الْفَاضِلِ عَنْ حَاجَتِهِ مِنْ الْمَاءِ فِيهِ فَإِذَا سَدَّ ذَلِكَ فَاضَ الْمَاءُ عَلَى أَرْضِهِ فَأَفْسَدَ زَرْعَهُ فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَنْتَفِعُ بِالنَّهْرِ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرٍ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَسْتَحِقَّ الشُّفْعَةَ بِمِثْلِ هَذَا النَّهْرِ ، وَحَقُّ أَهْلِ الْأَعْلَى ، وَأَهْلِ الْأَسْفَلِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ فَإِذَا اسْتَوَوْا فِي الْغُنْمِ يَسْتَوُونَ فِي الْغُرْمِ أَيْضًا ، وَهُوَ مُؤْنَةُ الْكِرَاءِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ مُؤْنَةُ الْكِرَاءِ عَلَى مَنْ يَنْتَفِعُ بِالنَّهْرِ بِسَقْيِ الْأَرْضِ مِنْهُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى صَاحِبِ الشُّقَّةِ مِنْ مُؤْنَةِ الْكِرَاءِ شَيْءٌ ، وَإِذَا جَاوَزَ الْكِرَاءُ أَرْضَ رَجُلٍ فَلَيْسَ لَهُ فِي كِرَاءِ مَا بَقِيَ مَنْفَعَةُ سَقْيِ الْأَرْضِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ مُؤْنَةِ الْكِرَاءِ ثُمَّ مَنْفَعَتُهُ فِي أَسْفَلِ النَّهْرِ مِنْ حَيْثُ إجْرَاءُ فَضْلِ الْمَاءِ فِيهِ ، وَصَاحِبُ الْمَسِيلِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ عِمَارَةِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِاعْتِبَارِ تَسْيِيلِ الْمَاءِ فِيهِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مَنْ لَهُ حَقُّ تَسْيِيلِ مَاءِ سَطْحِهِ عَلَى سَطْحِ جَارِهِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ عِمَارَةِ سَطْحِ جَارِهِ بِهَذَا الْحَقِّ ثُمَّ هُوَ يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ بِدُونِ كَرِي أَسْفَلِ النَّهْرِ بِأَنْ يَسُدَّ فُوَّهَةَ النَّهْرِ مِنْ أَعْلَاهُ إذَا اسْتَغْنَى عَنْ الْمَاءِ فَعَرَفْنَا

أَنَّ الْحَاجَةَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي الْتِزَامِ مُؤْنَةِ الْكِرَاءِ الْحَاجَةُ إلَى سَقْيِ الْأَرْضِ .
فَرَّعَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ الْكِرَاءَ إذَا انْتَهَى إلَى فُوَّهَةِ أَرْضِهِ مِنْ النَّهْرِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ مُؤْنَةٍ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ عَلَيْهِ مُؤْنَةَ الْكِرَاءِ إلَى أَنْ يُجَاوِزَ حَدَّ أَرْضِهِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْكِتَابِ ؛ لِأَنَّ لَهُ رَأْيًا فِي اتِّحَادِ فُوَّهَةِ الْأَرْضِ مِنْ أَعْلَاهَا ، وَأَسْفَلِهَا فَهُوَ مُنْتَفِعٌ بِالْكِرَاءِ مَنْفَعَةَ سَقْيِ الْأَرْضِ مَا لَمْ يُجَاوِزْ أَرْضَهُ ، وَيَخْتَلِفُونَ فِيمَا إذَا جَاوَزَ الْكِرَاءُ أَرْضَ رَجُلٍ فَسَقَطَ عَنْهُ مُؤْنَةُ الْكِرَاءِ هَلْ لَهُ أَنْ يَفْتَحَ الْمَاءَ لِسَقْيِ أَرْضِهِ .
مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْكِرَاءَ قَدْ انْتَهَى فِي حَقِّهِ حِينَ سَقَطَتْ مُؤْنَته ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَفْرُغْ شُرَكَاؤُهُ مِنْ الْكَرِي كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْكُرَ عَلَى شُرَكَائِهِ فَيَخْتَصُّ بِالِانْتِفَاعِ بِالْمَأْذُونِ شُرَكَاؤُهُ ، وَلِأَجْلِ التَّحَرُّزِ عَنْ هَذَا الْخِلَافِ جَرَى الرَّسْمُ بِأَنْ يُوجَدَ فِي الْكِرَاءِ مِنْ أَسْفَلِ النَّهْرِ أَوْ يَتْرُكَ بَعْضَ النَّهْرِ مِنْ أَعْلَاهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ أَسْفَلِهِ قَالَ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا أَعْلَمُ لَيْسَ عَلَى أَهْلِ الشُّقَّةِ مِنْ الْكِرَاءِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُحْصَوْنَ فَمُؤْنَةُ الْكِرَاءِ لَا تُسْتَحَقُّ عَلَى قَوْمٍ لَا يُحْصَوْنَ ؛ وَلِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَحِقُّونَ الشُّفْعَةَ لِحَقِّ الشُّفْعَةِ ؛ وَلِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ ، وَالْمُؤْنَةُ عَلَى الْأُصُولِ دُونَ الْأَتْبَاعِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الدِّيَةَ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي الْمَحَلَّةِ عَلَى عَاقِلَةِ أَصْحَابِ الْحِطَّةِ دُونَ الْمُشْتَرِينَ ، وَالسُّكَّانِ .
قَالَ : وَالْمُسْلِمُونَ جَمِيعًا شُرَكَاءُ فِي الْفُرَاتِ ، وَفِي كُلِّ نَهْرٍ عَظِيمٍ أَوْ وَادٍ يَسْتَقُونَ مِنْهُ ، وَيَسْقُونَ مِنْهُ الشُّقَّةَ ، وَالْخُفَّ ، وَالْحَافِرَ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِمِثْلِ

هَذِهِ الْأَنْهَارِ كَالِانْتِفَاعِ بِالطُّرُقِ الْعَامَّةِ فَكَمَا لَا يَمْنَعُ أَحَدٌ أَحَدًا مِنْ التَّطَرُّقِ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ فَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَذَا النَّهْرِ الْعَظِيمِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ فِي هَذِهِ الْأَنْهَارِ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهِ حَقٌّ عَلَى الْخُصُوصِ فَإِنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ قَهْرِ أَحَدٍ ؛ لِأَنَّ قَهْرَ الْمَاءِ يَمْنَعُ قَهْرَ غَيْرِهِ فَالِانْتِفَاعُ بِهِ كَالِانْتِفَاعِ بِالشَّمْسِ ، وَلِكُلِّ قَوْمٍ شِرْبُ أَرْضِهِمْ ، وَنَخْلِهِمْ ، وَشَجَرِهِمْ ، لَا يُحْبَسُ عَنْ أَحَدٍ دُونَ أَحَدٍ ، وَإِنْ أَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يُكْرِيَ مِنْهُ نَهْرًا فِي أَرْضِهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَضُرُّ بِالنَّهْرِ الْأَعْظَمِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِهِ فَلَهُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَرَادَ الْجُلُوسَ فِي الطَّرِيقِ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَضُرَّ بِالْمَارَّةِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِهِمْ فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّطَرُّقِ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ فَكَذَلِكَ فِي النَّهْرِ الْأَعْظَمِ فَإِنَّ كَسْرَ ضِفَّةِ النَّهْرِ الْأَعْظَمِ رُبَّمَا يَضُرُّ بِالنَّاسِ ضَرَرًا عَامًّا مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَاءَ يُفِيضُ عَلَيْهِمْ ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا ضَرَرَ ، وَلَا ضِرَارَ } فِي الْإِسْلَامِ ، وَعِنْدَ خَوْفِ الضَّرَرِ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ ، وَعَلَى السُّلْطَانِ كِرَاءُ هَذَا النَّهْرِ الْأَعْظَمِ إنْ احْتَاجَ إلَى الْكِرَاءِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حَاجَةِ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَمَالُ بَيْتِ الْمَالِ مُعَدٌّ لِذَلِكَ فَإِنَّ مَالَ الْمُسْلِمِينَ أُعِدَّ لِلصَّرْفِ إلَى مَصَالِحِهِمْ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مَالَ الْقَنَاطِرِ ، وَالْجُسُورِ ، وَالرِّبَاطَاتِ عَلَى الْإِمَامِ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ فَكَذَا كِرَاءُ هَذَا النَّهْرِ الْأَعْظَمِ ، وَكَذَلِكَ إصْلَاحُ مَسَنَّاتِهِ إنْ خَافَ مِنْهُ غَرَقًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ فَلَهُ أَنْ يُجْبِرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ ، وَيُحْرِجَهُمْ ؛ لِأَنَّ

الْمَنْفَعَةَ فِيهِ لِلْعَامَّةِ فَفِي تَرْكِهِ ضَرَرٌ عَامٌّ ، وَالْإِمَامُ نُصِّبَ نَاظِرًا فَيَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ الْإِجْبَارِ فِيمَا كَانَ الضَّرَرُ فِيهِ عَامًّا ؛ لِأَنَّ الْعَامَّةَ قَلَّ مَا يُنْفِقُونَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إجْبَارٍ ، وَفِي نَظِيرِهِ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَوْ تُرِكْتُمْ لَبِعْتُمْ أَوْلَادَكُمْ ، وَلَيْسَ هَذَا النَّهْرَ خَاصٌّ لِقَوْمٍ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِمْ فِيهِ ، وَلَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوا مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْقِيَ مِنْ نَهْرِهِمْ أَرْضَهُ ، وَشَجَرَهُ ، وَزَرْعَهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شَرِكَةٌ خَاصَّةٌ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ بِهِ الشُّفْعَةُ بِخِلَافِ الشَّرِكَةِ فِي الْوَادِي ، وَالْأَنْهَارِ الْعِظَامِ فَإِنَّهُ لَا تُسْتَحَقُّ بِهِ الشُّفْعَةُ ثُمَّ فِي الشَّرِكَةِ الْخَاصَّةِ التَّدْبِيرُ فِي الْكِرَاءِ إلَيْهِمْ ، وَمُؤْنَةُ الْكِرَاءِ عَلَيْهِمْ فِي مَالِهِمْ ، وَإِنْ طَلَبَ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يُجْبِرَ الْبَاقِينَ عَلَى ذَلِكَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ فَأَمَّا إذَا اتَّفَقُوا عَلَى تَرْكِ الْكِرَاءِ فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا يُجْبِرُهُمْ الْإِمَامُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا لَوْ امْتَنَعُوا مِنْ عِمَارَةِ أَرَاضِيهمْ ، وَدُورِهِمْ ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ يُجْبِرُهُمْ عَلَى ذَلِكَ لِحَقِّ أَصْحَابِ الشُّقَّةِ فِي النَّهْرِ .

قَالَ أَبُو يُوسُفَ ، وَسَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ الرَّجُلِ اسْتَأْجَرَ النَّهْرَ يَصِيدُ فِيهِ السَّمَكَ أَوْ اسْتَأْجَرَ جِهَةً يَصِيدُ فِيهَا السَّمَكَ قَالَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا الِاسْتِئْجَارِ مَا هُوَ عَيْنٌ ، وَهُوَ السَّمَكُ ؛ وَلِأَنَّ السَّمَكَ فِي النَّهْرِ وَالْأَجَمَةِ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ لَا اخْتِصَاصَ بِهِ لِصَاحِبِ النَّهْرِ وَالْأَجَمَةِ ، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْعِوَضَ عَنْهُمْ بِطَرِيقِ الْإِجَارَةِ ، وَالْبَيْعِ ثُمَّ اسْتِئْجَارُ النَّهْرِ لِصَيْدِ السَّمَكِ كَاسْتِئْجَارِ الْمَقَابِضِ لِلِاصْطِيَادِ فِيهَا ، وَذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ بَابِ الْغَرَرِ .

وَلَوْ اشْتَرَى عُشْرَ نَهْرٍ أَوْ عُشْرَ قَنَاةٍ أَوْ بِئْرٍ أَوْ عَيْنِ مَاءٍ بِأَرْضِهِ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ أَصْلَهَا مَمْلُوكَةٌ فَقَدْ اشْتَرَى جُزْءًا مَمْلُوكًا مَعْلُومًا مِنْ عَيْنٍ مَمْلُوكَةٍ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ بِخِلَافِ مَا لَوْ اشْتَرَى الشِّرْبَ بِغَيْرِ أَرْضِهِ ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاعَ عُشْرَ الطَّرِيقِ يَجُوزُ بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاعَ حَقَّ التَّطَرُّقِ فِيهِ .

وَلَوْ اسْتَأْجَرَ حَوْضًا أَوْ بِرْكَةً أَوْ بِئْرًا يَسْتَقِي مِنْهُ الْمَاءَ كُلَّ شَهْرٍ بِأَجْرٍ مُسَمًّى لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَاءُ ، وَهُوَ عَيْنٌ لَا يَسْتَحِقُّ إتْلَافَهُ بِالْإِجَارَةِ .

نَهْرٌ جَارٍ لِرَجُلٍ فِي أَرْضِ رَجُلٍ فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمُسَنَّاةَ ، وَلَا يُعْرَفُ فِي يَدِ مَنْ هِيَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ هِيَ لِرَبِّ الْأَرْضِ يَغْرِسُ فِيهَا مَا بَدَا لَهُ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَهْدِمَهَا ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ الْمُسَنَّاةُ لِصَاحِبِ النَّهْرِ ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ حَفَرَ نَهْرًا بِإِذْنِ الْإِمَامِ فِي مَوْضِعٍ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَسْتَحِقُّ لَهُ حَرِيمًا وَعِنْدَهُمَا يَسْتَحِقُّ لَهُ حَرِيمًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ لِمُلْقَى طِينِهِ ، وَالْمَشْيُ عَلَيْهِ لِإِجْرَاءِ الْمَاءِ فِي النَّهْرِ ، وَحَرِيمُ النَّهْرِ عِنْدَهُمَا بِقَدْرِ عَرْضِ النَّهْرِ حَتَّى إذَا كَانَ قَدَّرَ عَرْضَ النَّهْرِ بِقَدْرِ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ فَلَهُ مِنْ الْحَرِيمِ بِقَدْرِ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا ، وَفِي اخْتِيَارِ الطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ذِرَاعٌ ، وَنِصْفٌ فِيمَا نَقَلَ عَنْهُ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ بِقَدْرِ عَرْضِ النَّهْرِ عِنْدَهُمَا فَاسْتِحْقَاقُ الْحَرِيمِ لِأَجَلِ الْحَاجَةِ ، وَصَاحِبُ النَّهْرِ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ كَصَاحِبِ الْبِئْرِ ، وَالْعَيْنِ ، وَمَتَى كَانَ الْمَعْنَى فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مَعْلُومًا تَعَدَّى الْحُكْمَ بِذَلِكَ الْمَعْنَى إلَى الْفَرْعِ ، وَحَاجَةُ صَاحِبِ النَّهْرِ إلَى الْمَشْيِ عَلَى حَافَّتَيْ النَّهْرِ لِيُجْرِيَ الْمَاءَ فِي النَّهْرِ إذَا احْتَبَسَ بِشَيْءٍ وَقَعَ فِي النَّهْرِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَمْشِيَ فِي وَسَطِ النَّهْرِ ، وَكَذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى مَوْضِعٍ يُلْقِي فِيهِ الطِّينَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عِنْدَ الْكِرَاءِ لِمَا فِي النَّقْلِ إلَى أَسْفَلِهِ مِنْ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ اسْتِحْقَاقُ الْحَرِيمِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ ، وَجْهٍ ، وَالنَّهْرُ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْبِئْرِ ، وَالْعَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْحَرِيمِ هُنَاكَ مُتَحَقِّقَةٌ فِي الْحَالِ ، وَهُنَا الْحَاجَةُ مَوْهُومَةٌ

بِاعْتِبَارِ الْكِرَاءِ ، وَقَدْ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ ، وَقَدْ لَا يَحْتَاجُ ثُمَّ هُنَاكَ الِانْتِفَاعُ لَا يَتَأَتَّى بِالْبِئْرِ بِدُونِ الْحَرِيمِ ، وَهُنَا يَتَأَتَّى إلَّا فِي أَنْ يُلْحِقَهُ ذَلِكَ بَعْضَ الْحَرَجِ فِي نَقْلِ الطِّينِ أَوْ الْمَشْيِ فِي ، وَسَطِ النَّهْرِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ يُؤْخَذُ فِيهِ بِأَصْلِ الْقِيَاسِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مَنْ بَنَى قَصْرًا فِي مَغَارَةٍ لَا يَسْتَحِقُّ لِذَلِكَ حَرِيمًا ، وَإِنْ كَانَ وَقَدْ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ لِإِلْقَاءِ الْكُنَاسَةِ فِيهِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْحَرِيمِ لَا يَكُونُ بِدُونِ التَّقْدِيرِ فِيهِ ، وَنَصْبُ الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ صَاحِبَ النَّهْرِ يَسْتَحِقُّ الْحَرِيمَ قُلْنَا عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ الظَّاهِرُ شَاهِدٌ لَهُ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَمَّا كَانَ لَا يَسْتَحِقُّ لِلنَّهْرِ حَرِيمًا فَالظَّاهِرُ شَاهِدٌ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ ، وَعَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هُمَا يَقُولَانِ عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ الْقَوْلُ قَوْلُ ذِي الْيَدِ ، وَصَاحِبُ النَّهْرِ مُسْتَعْمِلٌ لِحَرِيمِ النَّهْرِ لِاسْتِمْسَاكِ الْمَاءِ فِي النَّهْرِ ، وَإِلْقَاءِ الطِّينِ عَلَيْهِ ، وَالِاسْتِعْمَالُ يَدْفَعُهَا فَبِاعْتِبَارِ أَنَّهُ فِي يَدِهِ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَهُ كَمَا لَوْ اخْتَصَمَا فِي ثَوْبٍ ، وَأَحَدُهُمَا لَابِسُهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ الْحَرِيمُ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ صَالِحٌ لِمَا تَصْلُحُ لَهُ الْأَرْضُ ، وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِ النَّهْرِ ، وَمِنْ حَيْثُ الِانْتِفَاعِ كَمَا أَنَّ صَاحِبَ النَّهْرِ يَمْسِكُ الْمَاءَ بِالْحَرِيمِ فِي نَهْرِهِ فَصَاحِبُ الْأَرْضِ يَدْفَعُ الْمَاءَ بِالْحَرِيمِ عَنْ أَرْضِهِ فَقَدْ اسْتَوَيَا فِي اسْتِعْمَالِ الْحَرِيمِ ، وَيَتَرَجَّحُ جَانِبُ صَاحِبِ الْأَرْضِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَا فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لَهُ فَلَهُ أَنْ يَغْرِسَ فِيهِ مَا بَدَا لَهُ مِنْ الْأَشْجَارِ ، وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَهْدِمَهُ ؛ لِأَنَّ لِصَاحِبِ النَّهْرِ حَقُّ اسْتِمْسَاكِ الْمَاءِ فِي نَهْرِهِ فَلَا يَكُونُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يُبْطِلَ

حَقَّهُ بِهَدْمِهِ بِمَنْزِلَةِ حَائِطٍ لِرَجُلٍ ، وَلِآخَرَ عَلَيْهِ جُذُوعٌ لَا يَكُونُ لِصَاحِبِ الْحَائِطِ أَنْ يَهْدِمَ الْحَائِطَ ، وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ لِمُرَاعَاةِ حَقِّ صَاحِبِ الْجُذُوعِ .

وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِرَجُلٍ اسْقِنِي يَوْمًا مِنْ نَهَرِك عَلَى أَنْ أَسْقِيك يَوْمًا مِنْ نَهْرِي الَّذِي فِي مَكَانِ كَذَا لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ مُعَاوَضَةَ الْمَاءِ بِالْمَاءِ لَا تَجُوزُ وَإِنْ كَانَ الْبَدَلُ مَعْلُومًا لِجَهَالَةِ الشِّرْبِ وَمَعْنَى الْغَرَرِ فَلَأَنْ لَا تَجُوزُ مُعَاوَضَةُ الشِّرْبِ بِالشِّرْبِ ، وَمَعْنَى الْغَرَرِ ، وَالْجَهَالَةِ فِيهِ أَظْهَرُ وَأَوْلَى ، وَكَذَا لَوْ قَالَ اسْقِنِي يَوْمًا نَخْدُمُك عَبْدِي هَذَا شَهْرًا أَوْ بِرَقَبَتِهِ أَوْ بِرُكُوبِ دَابَّتِي هَذِهِ شَهْرًا أَوْ بِرُكُوبِهَا كَذَا كَذَا يَوْمًا ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَهُوَ كُلُّهُ بَاطِلٌ لِمَعْنَى الْغَرَرِ ، وَالْجَهَالَةِ ، وَعَلَى الَّذِي أَخَذَ الْعَبْدَ رَدُّهُ إنْ كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ ، وَقِيمَتُهُ إنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا ، وَإِنْ كَانَ شَرَطَ خِدْمَتَهُ شَهْرًا ، وَقَدْ اسْتَوْفَاهَا فَعَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْعَبْدِ ، وَرَقَبَتَهُ مَحَلٌّ لِلْعَقْدِ فَإِذَا اسْتَوْفَاهُ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ كَانَ عَلَيْهِ عِوَضُهُ ، وَلَيْسَ لَهُ بِمَا أَخَذَ الْآخَرُ مِنْ شِرْبِهِ قِيمَةٌ ، وَلَا عِوَضٌ ؛ لِأَنَّ الشِّرْبَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْعَقْدِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ فَاسِدًا ، وَلَا جَائِزًا ، وَكُلُّ عَقْدٍ لَا جَوَازَ لَهُ بِحَالٍ فَهُوَ كَالْإِذْنِ فَكَمَا أَنَّهُ لَوْ سَقَى أَرْضَهُ بِإِذْنِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مِنْ عِوَضِ الْمَاضِي فَكَذَا بِحُكْمِ الْعَقْدِ الْبَاطِلِ فِيهِ لَا يَتَقَوَّمُ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ .

وَسُئِلَ أَبُو يُوسُفَ عَنْ نَهْرِ مَرْوَ ، وَهُوَ نَهْرٌ عَظِيمٌ قَرِيبٌ مِنْ الْفُرَاتِ إذَا دَخَلَ مَرْوَ كَانَ مَاؤُهُ قِسْمَةً بَيْنَ أَهْلِهِ بِالْحِصَصِ لِكُلِّ قَوْمٍ كُوًى مَعْرُوفَةٌ فَأَخَذَ رَجُلٌ أَرْضًا كَانَتْ مَوَاتًا ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ شِرْبٌ ثُمَّ كَرَى لَهَا نَهْرًا مِنْ فَوْقِ مَرْوَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَمْلِكُهُ أَحَدٌ فَسَاقَ الْمَاءَ إلَيْهَا مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ الْعَظِيمِ قَالَ إنْ كَانَ هَذَا النَّهْرُ يَضُرُّ بِأَهْلِ مَرْوَ ضِرَارًا بَيِّنًا فِي مَائِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ، وَيَمْنَعُهُ السُّلْطَانُ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِهِمْ فَلَهُ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهُ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ فِي هَذَا الْوَادِي عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَقُّ الِانْتِفَاعِ بِهِ إذَا كَانَ لَا يَضُرُّ بِغَيْرِهِ .
وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَدْخُلْ فِي الْمَقَاسِمِ لَا يَصِيرُ الْحَقُّ فِيهِ خَالِصًا لِلشُّرَكَاءِ ، وَلِهَذَا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا كَرَى نَهْرًا مِنْ فَوْقِ مَرْوَ فَإِذَا كَانَ لَا يَضُرُّ بِهِمْ فَبِصَرْفِهِ لَا يَمَسُّ حُقُوقَهُمْ ، وَلَا يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِهِمْ فَلَا يَمْنَعُوهُ مِنْ ذَلِكَ ، وَإِذَا كَانَ لَا يَضُرُّ بِهِمْ فَكُلُّ أَحَدٍ مَمْنُوعٌ مِنْ أَنْ يُلْحِقَ الضَّرَرَ بِغَيْرِهِ فَكَيْفَ لَا يَمْنَعُ مِنْ إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالْعَامَّةِ ، وَالسُّلْطَانُ نَائِبٌ عَنْهُمْ فِي النَّظَرِ لَهُمْ فَيَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ لَا بِطَرِيقِ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِهِ بَلْ ؛ لِأَنَّهُ إلَى تَسْكِينِ الْفِتْنَةِ أَقْرَبُ فَأَمَّا لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ ، وَالضَّرَرُ يُتَوَهَّمُ مِنْ ، وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا مِنْ حَيْثُ كَسْرِ ضِفَّةِ الْوَادِي ، وَالثَّانِي أَنَّهُ يَكْثُرُ دُخُولُ الْمَاءِ فِي هَذَا النَّهْرِ ، وَرُبَّمَا يَتَحَوَّلُ أَكْثَرَ الْمَاءِ إلَى هَذَا الْمَاءِ لِيَضُرَّ بِأَهْلِ مَرْوَ ، وَقِيلَ لَهُ فَإِنْ كَانَ رَجُلٌ لَهُ كُوًى مَعْرُوفَةٌ أَلَهُ أَنْ يَزِيدَ فِيهَا قَالَ إنْ كَانَتْ الْكُوَى فِي النَّهْرِ الْأَعْظَمِ فَزَادَ فِي مِلْكِهِ كُوَّةً أَوْ كُوَّتَيْنِ ، وَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ بِأَهْلِ النَّهْرِ

فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ فِي النَّهْرِ الْأَعْظَمِ لَمْ يَقَعْ فِي الْمُقَاسِمِ بَعْدُ فَهُوَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ كَمَا كَانَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ مَرْوَ فَزِيَادَةُ كُوَّةٍ أَوْ كُوَّتَيْنِ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ سَبْقِ نَهْرٍ ابْتِدَاءً مِنْ هَذَا النَّهْرِ الْأَعْظَمِ ، وَهُوَ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْ ذَلِكَ كَمَا بَيَّنَّا فَهَذَا مِثْلُهُ .
فَإِنْ كَانَ نَهْرٌ خَاصٌّ لِقَوْمٍ فَأَخَذَ مِنْ هَذَا النَّهْرِ الْأَعْظَمِ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فِي هَذَا النَّهْرِ كُوًى مُسَمَّاةً لِشِرْبِهِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَزِيدَ كُوَّةً ، وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِأَهْلِ النَّهْرِ الْخَاصِّ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ فِي هَذَا النَّهْرِ الْخَاصِّ قَدْ ، وَقَعَ فِي الْمُقَاسَمَةِ ، وَالشَّرِكَةُ فِي هَذَا النَّهْرِ شَرِكَةٌ خَاصَّةٌ حَتَّى يَسْتَحِقَّ فِيهَا الشُّفْعَةُ ، وَلَيْسَ لِبَعْضِ الشُّرَكَاءِ أَنْ يَزِيدَ فِيمَا يَسْتَوْفِي عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِ سَوَاءٌ أَضَرَّ ذَلِكَ بِالشُّرَكَاءِ أَوْ لَمْ يَضُرَّ فَزِيَادَةُ كُوَّةٍ فِي فُوَّهَةِ أَرْضِهِ يَكُونُ لِيَزْدَادَ فِيهِ دُخُولُ الْمَاءِ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِ ، وَهُوَ كَالشُّرَكَاءِ فِي الطَّرِيقِ لَيْسَ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يُحْدِثَ فِيهِ طَرِيقًا لِدَارٍ لَمْ يَكُنْ لَهَا طَرِيقًا فِي هَذِهِ السِّكَّةِ الْخَاصَّةِ بِفَتْحِ بَابٍ حَادِثٍ فَإِنْ قِيلَ : كَيْف يَمْنَعُ مِنْ إحْدَاثِ الْكُوَّةِ فِي لَوْحٍ ، وَهُوَ خَالِصُ مِلْكِهِ قُلْنَا ؛ لِأَنَّ الْكُوَى مِنْهُمْ سَبَبٌ لِبَيَانِ مِقْدَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَلَوْ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ لَكَانَ إذَا تَقَادَمَ الْعَهْدُ ادَّعَى لِنَفْسِهِ زِيَادَةَ حَقٍّ ، وَاسْتَدَلَّ بِالْكُوَى إنْ كَانَ الْمَاءُ يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْكُوَى فِي الْحَالِ فَسَبَبُ الْمَنْعِ ظَاهِرٌ فَإِنَّ مَا يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْكُوَى زِيَادَةٌ عَلَى حَقِّهِ فِي النَّهْرِ .

وَكَانَ هَذِهِ الْمَسَائِلُ سَأَلَ عَنْهَا إبْرَاهِيمُ بْنُ رُسْتُمَ ، وَأَبُو عِصْمَةَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الْمَرْوِيَّانِ أَبَا يُوسُفَ أَوْ ابْنَ الْمُبَارَكِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ثُمَّ فَرَّعَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ فَسَأَلَتْهُ هَلْ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ هَذَا النَّهْرِ الْخَاصِّ أَنْ يَتَّخِذَ عَلَيْهِ رَحَا مَاءٍ يُكْرِي لَهَا نَهْرًا مِنْهُ فِي أَرْضِهِ يَسِيلُ فِيهِ مَاءُ النَّهْرِ ثُمَّ يُعِيدُهُ إلَيْهِ ، وَذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِأَهْلِ الشِّرْبِ قَالَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَعْلَاهُ إلَى أَسْفَلِهِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يُحْدِثَ فِيهِ حَدَثًا ، وَلَا يَتَّخِذُ عَلَيْهِ جِسْرًا ، وَلَا قَنْطَرَةً إلَّا بِرِضَاهُمْ بِمَنْزِلَةِ طَرِيقٍ خَاصٍّ بَيْنَ قَوْمٍ ، وَالْجِسْرُ اسْمٌ لِمَا يُوضَعُ ، وَيُرْفَعُ مِمَّا يُتَّخَذُ مِنْ الْخَشَبِ ، وَالْأَلْوَاحِ .
وَالْقَنْطَرَةُ مَا يُتَّخَذُ مِنْ الْآجُرِّ ، وَالْحَجَرِ ، وَيَكُونُ مَوْضُوعًا ، وَلَا يُرْفَعُ ، وَكُلُّ ذَلِكَ يُحْدِثُهُ مَنْ يَتَّخِذُهُ فِي مِلْكٍ مُشْتَرَكٍ فَلَا يَمْلِكُهُ إلَّا بِرِضَاهُمْ سَوَاءٌ كَانَ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ ثُمَّ مَنْ يَتَّخِذُهُ إذَا كَرَى لَهُ نَهْرًا مِنْهُ فَفِيهِ كَسْرُ ضِفَّةِ النَّهْرِ ، وَتَغْيِيرُ الْمَاءِ عَنْ سُنَنِهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْتَقِصَ الْمَاءُ مِنْهُ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ يَجْرِي عَلَى سُنَنِهِ لَا يَتَبَيَّنُ فِيهِ نُقْصَانٌ ، وَإِذَا انْفَرَجَ يَتَبَيَّنُ فِيهِ النُّقْصَانُ ، وَإِنْ عَادَ إلَى النَّهْرِ ، وَكَذَلِكَ الْعَيْنُ أَوْ الْبِرْكَةُ يَكُونُ بَيْنَ قَوْمٍ فَالشَّرِكَةُ فِيهِمَا خَاصَّةٌ كَمَا بَيَّنَّا .

وَسَأَلَتْهُ عَنْ نَهْرٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ لَهُ خَمْسُ كُوًى مِنْ هَذَا النَّهْرِ الْأَعْظَمِ ، وَأَحَدُ الرَّجُلَيْنِ أَرْضُهُ فِي أَعْلَى هَذَا النَّهْرِ ، وَالْآخَرُ أَرْضُهُ فِي أَسْفَلِ هَذَا النَّهْرِ فَقَالَ صَاحِبُ الْأَعْلَى أَنِّي أُرِيدُ أَنْ أَشَدَّ بَعْضَ هَذِهِ الْكُوَى ؛ لِأَنَّ مَاءَ النَّهْرِ يَكْثُرُ فَيُفِيضُ فِي أَرْضِي ، وَأَتَأَذَّى مِنْهُ ، وَلَا يَبْلُغُك حَتَّى يَقِلَّ فَيَأْتِيك مِنْهُ مَا يَنْفَعُهُ قَالَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ الْإِضْرَارَ بِشَرِيكِهِ ثُمَّ ضَرَرُ النُّزَلَاءِ يَلْحَقُ صَاحِبَ الْأَعْلَى بِفِعْلِ صَاحِبِ الْأَسْفَلِ بَلْ تَكُونُ أَرْضُهُ فِي أَعْلَى النَّهْرِ ، وَبِمُقَابَلَةِ هَذَا الضَّرَرِ مَنْفَعَةٌ إذَا قَلَّ الْمَاءُ .
وَلَوْ سَدَّ بَعْضَ الْكُوَى يَلْحَقُ صَاحِبَ الْأَسْفَلِ ضَرَرٌ لِنُقْصَانِ صَاحِبِ الْأَعْلَى ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ كَمَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَسْكُرَ النَّهْرَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ اجْعَلْ لِي نِصْفَ هَذَا النَّهْرِ ، وَلَك نِصْفُهُ فَإِذَا كَانَ فِي حِصَّةٍ سَدَدْت مِنْهَا مَا بَدَا لِي ، وَأَنْتَ فِي حِصَّتِك تَفْتَحُهَا كُلُّهَا فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ قَدْ تَمَّتْ بَيْنَهُمَا مَرَّةً بِالْكُوَى فَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ أَنْ يُطَالِبَ بِقِسْمَةٍ أُخْرَى ، وَفِي الْقِسْمَةِ الْأُولَى الِانْتِفَاعُ بِالْمَاءِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَدَامٌ ، وَفِيمَا يُطَالَبُ هَذَا بِهِ يَكُونُ انْتِفَاعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْمَاءِ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ ، وَرُبَّمَا يَضُرُّ ذَلِكَ بِصَاحِبِ الْأَسْفَلِ فَإِنْ تَرَاضَيَا عَلَى ذَلِكَ فَلَهُمَا مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ فَإِنْ أَقَامَا عَلَى هَذَا التَّرَاضِي زَمَانًا ثُمَّ بَدَا لِصَاحِبِ الْأَسْفَلِ أَنْ يَنْقُضَ فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُعِيرٌ لِصَاحِبِهِ نَصِيبَهُ مِنْ الشِّرْبِ فِي نَوْبَتِهِ مِنْ الشَّهْرِ ، وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَرْجِعَ مَتَى شَاءَ ، وَكَذَلِكَ لِوَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ خُلَفَاؤُهُ فِي ذَلِكَ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ مُبَادَلَةً فَإِنَّ بَيْعَ الشِّرْبِ بِالشِّرْبِ ، وَإِجَارَةَ الشِّرْبِ

بِالشِّرْبِ بَاطِلٌ .

وَسَأَلْتُهُ عَنْ نَهْرٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ لَهُ أَرْبَعُ كُوًى فَأَضَافَ إلَيْهَا رَجُلٌ أَجْنَبِيٌّ كُوَّتَيْنِ فِي نَهْرِهِمَا بِرِضَاهُمَا حَتَّى إذَا انْتَهَى إلَى أَسْفَلِ النَّهْرِ كَرَى مِنْهُ نَهْرًا إلَى أَرْضِهِ ثُمَّ بَدَا لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَنْقُضَهُ بَعْدَ زَمَانٍ أَوْ بَدَا لِوَرَثَتِهِ أَوْ لِبَعْضِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِ نَقْضُهُ فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمْ أَعَارُوا الْأَجْنَبِيَّ النَّهْرَ لِيُجْرِيَ مَاءَهُ فِيهِ إلَى نَهْرِهِ خَاصَّةً فَلَهُمْ أَنْ يَسْتَرِدُّوا الْعَارِيَّةَ مَتَى شَاءُوا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ذَلِكَ فِي نَصِيبِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَأْبَى ذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ فَلَهُ أَنْ يَنْقُضَهُ أَيْضًا فِي الِانْتِهَاءِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ رِضَا بَعْضِ الشُّرَكَاءِ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّهِ لَا فِي حَقِّ بَقِيَّةِ الشُّرَكَاءِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَطَرَّقَ فِي طَرِيقٍ مُشْتَرَكٍ شَرِكَةً خَاصَّةً فَيَرْضَى بِهِ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ دُونَ الْبَعْضِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَطَرَّقَ فِيهِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ انْتِفَاعُهُ بِنَصِيبِ التَّرَاضِي عَلَى الْخُصُوصِ بَلْ يَكُونُ انْتِفَاعُهُ بِنَصِيبِ جَمِيعِ الشُّرَكَاءِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِنَصِيبِ الْمَانِعِ إلَّا بِرِضَاهُ .

، وَسَأَلَتْهُ عَنْ نَهْرٍ خَاصٍّ مِنْ النَّهْرِ الْأَعْظَمِ بَيْنَ قَوْمٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَهْرٌ مِنْهُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ لَهُ كُوَّتَانِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ لَهُ ثَلَاثٌ فَقَالَ صَاحِبُ الْأَسْفَلِ لِصَاحِبِ الْأَعْلَى أَنَّكُمْ تَأْخُذُونَ أَكْثَرَ مِنْ نَصِيبِكُمْ ؛ لِأَنَّ دَفْقَةَ الْمَاءِ ، وَكَثْرَتَهُ ، وَفِي رِوَايَةٍ ؛ لِأَنَّ دَفْعَةَ الْمَاءِ ، وَكَثْرَتَهُ مِنْ أَعْلَى النَّهْرِ فَدَخَلَ فِي كُوَاكُمْ شَيْءٌ كَثِيرٌ ، وَلَا مَاءَ هُنَا إلَّا ، وَهُوَ قَلِيلٌ غَائِرٌ فَنَحْنُ نُرِيدُ أَنْ نَنْقُصَكُمْ بِقَدْرِ ذَلِكَ ، وَنَجْعَلُ لَكُمْ أَيَّامًا مَعْلُومَةً ، وَنَسُدُّ فِيهَا كُوَانَا ، وَلَنَا أَيَّامًا مَعْلُومَةً تَسُدُّونَ فِيهَا كُوَاكُمْ قَالَ لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ ، وَيُتْرَكُ عَلَى حَالِهِ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْيَوْمِ ؛ لِأَنَّهَا قُسِّمَتْ مَرَّةً فَلَا يَكُونُ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يُطَالِبَ بِقِسْمَةٍ أُخْرَى ثُمَّ الْأَصْلُ إنَّ مَا وُجِدَ قَدِيمًا فَإِنَّهُ يُتْرَكُ عَلَى حَالِهِ ، وَلَا يُغَيَّرُ إلَّا بِحُجَّةٍ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا فِي أَوَّلِ الْوَكَالَةِ فِي حَدِيثِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ أَرَأَيْت هَذَا الضَّفِيرَ أَكَانَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَلَوْ كَانَ جَوْرُ الْمَاءِ تَرَكَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ أَهْلُ الْأَسْفَلِ نَحْنُ نُرِيدُ أَنْ نُوَسِّعَ رَأْسَ النَّهْرِ ، وَنُزِيدُ فِي كُوَاهُ ، وَقَالَ أَهْلُ الْأَعْلَى إنْ فَعَلْتُمْ ذَلِكَ كَثُرَ الْمَاءُ حَتَّى يَفِيضَ فِي أَرْضِنَا ، وَيَنِزُّ لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ الْأَسْفَلِ أَنْ يُحْدِثُوا فِيهِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَصَرَّفُونَ فِيمَا هُوَ مُشْتَرَكٌ عَلَى ، وَجْهٍ يَضُرُّ بِبَعْضِ الشُّرَكَاءِ فَيُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ ، وَإِنْ بَاعَ رَجُلٌ مِنْهُمْ كُوَّةً لَهُ فِيهِ كُلُّ يَوْمٍ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ أَوْ أُجْرَةٍ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ غَرَرٌ لَا يُعْرَفُ ، وَهُوَ لَيْسَ بِمِلْكٍ ، وَبَيْعُ مُجَرَّدِ الْحَقِّ بَاطِلٌ .

وَسَأَلْتُهُ عَنْ هَذَا النَّهْرِ إذَا خَافُوا أَنْ يَنْبَثِقَ ، وَأَرَادُوا أَنْ يُحَصِّنُوهُ فَامْتَنَعَ بَعْضُهُمْ مِنْ الدُّخُولِ مَعَهُمْ قَالَ إنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَامٌّ أَجْبَرْتُهُمْ جَمِيعًا عَلَى تَحْصِينِهِ بِالْحِصَصِ ؛ لِأَنَّ فِي تَرْكِ الْإِجْبَارِ هُنَا تَهْيِيجُ الْفِتْنَةِ ، وَتَسْكِينُ الْفِتْنَةِ لَازِمٌ شَرْعًا فَلِأَجْلِ التَّسْكِينِ يُجْبِرُهُمْ الْإِمَامُ عَلَى تَحْصِينِهِ بِالْحِصَصِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ عَامٌّ أَوْ أَجْبَرَهُمْ عَلَيْهِ ، وَأَمَرْت كُلَّ إنْسَانٍ أَنْ يُحَصِّنَ نَصِيبَ نَفْسِهِ يَعْنِي بِطَرِيقِ الْفَتْوَى ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ فِي الْمِلْكِ يَكُونُ إلَى الْمَالِكِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ عَامٌّ كَانَ لَهُ رَأْيٌ فِي ذَلِكَ مِنْ التَّعْجِيلِ ، وَالتَّأْجِيلِ ، وَرُبَّمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ فِي كُلِّ ، وَقْتٍ ، وَلَا يَتَفَرَّغُ لِذَلِكَ بِخِلَافِ الْكَرْيِ فَإِنَّ بَعْضَ الشُّرَكَاءِ فِي هَذَا النَّهْرِ الْخَاصِّ إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْكَرْيِ أُجْبِرَ عَلَيْهِ إذَا طَلَبَهُ بَعْضُ الشُّرَكَاءِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ قَدْ الْتَزَمُوهُ عَادَةً فَحَاجَةُ النَّهْرِ إلَى الْكَرْيِ فِي كُلِّ ، وَقْتٍ مَعْلُومٌ بِطَرِيقِ الْعَادَةِ فَاَلَّذِي يَأْبَى الْكَرْيَ يُرِيدُ قَطْعَ مَنْفَعَةِ الْمَاءِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَشُرَكَائِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فَلِهَذَا أُجْبِرَ عَلَيْهِ فَأَمَّا الْبَثْقُ فَمَوْهُومٌ غَيْرُ مَعْلُومِ الْوُقُوعِ عَادَةً فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ عَامٌّ لَا يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ لِحَقٍّ مَوْهُومٍ لِشَرِيكِهِ .

وَسَأَلَتْهُ عَنْ رَجُلٍ اتَّخَذَ فِي أَرْضٍ لَهُ رَحَا مَاءٍ عَلَى هَذَا النَّهْرِ الْأَعْظَمِ الَّذِي لِلْعَامَّةِ مِفْتَحُهُ فِي أَرْضِهِ ، وَمَصَبُّهُ فِي أَرْضِهِ لَا يَضُرُّ بِأَحَدٍ فَأَرَادَ بَعْضُ جِيرَانِهِ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنْ ذَلِكَ قَالَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ ، وَشَقُّ نَهْرٍ مِنْ هَذَا النَّهْرِ الْأَعْظَمِ لِمَنْفَعَةِ الرَّحَا كَشِقِّ نَهْرٍ مِنْ هَذَا النَّهْرِ الْأَعْظَمِ لِيَسْقِيَ بِهِ أَرْضًا أَحْيَاهَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُدْخِلْ الْمَاءَ فِي الْمَقَاسِمِ بَعْدُ فَهَذَا مِثْلُهُ .

قَالَ ، وَسَأَلَتْهُ عَنْ هَذَا النَّهْرِ الْأَعْظَمِ إذَا كَانَتْ عَلَيْهِ أَرْضٌ لِرَجُلٍ خَدَّهَا الْمَاءُ فَنَقَصَ الْمَاءُ ، وَجَرَزَ عَنْ أَرْضٍ فَاِتَّخَذَهَا هَذَا الرَّجُلُ ، وَجَرَّهَا إلَى أَرْضِهِ قَالَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ جَرَزَ عَنْهَا الْمَاءُ مِنْ النَّهْرِ الْأَعْظَمِ ، وَهُوَ حَقُّ الْعَامَّةِ قَدْ يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ إذَا كَثُرَ الْمَاءُ فِي النَّهْرِ الْأَعْظَمِ أَوْ تَحَوَّلَ إلَى هَذَا الْجَانِبِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا لِنَفْسِهِ بِأَنْ يَضُمَّهَا إلَى أَرْضِهِ إذَا كَانَ ذَلِكَ يَضُرُّ بِالنَّهْرِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِي جَرَزَ ، وَهُوَ صَحِيحٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ } .

وَسَأَلَتْهُ فَقُلْت بَلَغَنِي أَنَّ الْفُرَاتَ بِأَرْضِ الْجَزِيرَةِ يَجْرُزُ عَنْ أَرْضٍ عَظِيمَةٍ فَيَتَّخِذُهَا الرَّجُلُ مَزْرَعَةً ، وَهِيَ فِي حَدِّ أَرْضِهِ قَالَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ يَضُرُّ بِالْفُرَاتِ ؛ لِأَنَّ هَذَا حَقُّ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِالْفُرَاتِ فَلَهُ ذَلِكَ عِنْدَهُمَا بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذْنُ الْإِمَامِ بِمَنْزِلَةِ إحْيَاءِ الْمَوَاتِ قَالَ ، وَإِذَا حَصَّنَهَا مِنْ الْمَاءِ فَقَدْ أَحْيَاهَا ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ صَالِحَةٌ لِلزِّرَاعَةِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ زِرَاعَتِهَا لِأَجْلِ الْمَاءِ فَإِذَا حَصَّنَهَا مِنْهُ فَقَدْ أَحْيَاهَا فَأَمَّا سَائِرُ الْأَرَاضِي فَبِمُجَرَّدِ التَّحْصِينِ لَا يَتِمُّ الْإِحْيَاءُ بَلْ ذَلِكَ تَحَجُّرٌ فَإِنَّهَا إنَّمَا تَصِيرُ صَالِحَةً لِلزِّرَاعَةِ إذَا أَحْرَقَ الْحَصَائِدَ فِيهَا ، وَبَقِيَ الْحَشِيشُ مِنْهَا ، وَكَرَبَهَا فَبِذَلِكَ يَتِمُّ إحْيَاؤُهَا .

وَسَأَلَتْهُ عَنْ نَهْرٍ بَيْنَ قَوْمٍ يَأْخُذُ مِنْ هَذَا النَّهْرِ الْأَعْظَمِ لَهُ فِيهِ كُوًى مُسَمَّاةٌ ، وَلِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ نَهْرٌ مِنْ هَذَا النَّهْرِ الْخَاصِّ فَأَرَادَ رَجُلٌ أَنْ يَسُدَّ كُوَّةً لَهُ ، وَيَفْتَحُ كُوَّةً أَعْلَى مِنْ تِلْكَ فِي ذَلِكَ النَّهْرِ قَالَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَكْسِرُ ضِفَّةَ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ ، وَيُرِيدُ أَنْ يَزِيدَ فِي حَقِّهِ ؛ لِأَنَّ دُخُولَ الْمَاءِ فِي أَعْلَى النَّهْرِ مِنْ كُوَّةٍ يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ دُخُولِهِ مِنْ أَسْفَلِ النَّهْرِ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْكَوَّةِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الطَّرِيقِ فَمَنْ يَكُونُ طَرِيقُهُ فِي أَعْلَى السِّكَّةِ الْخَاصَّةِ إذَا أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ فِي أَسْفَلِ السِّكَّةِ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ بِتَصَرُّفِهِ لَا يَزِيدُ فِي حَقِّهِ فَهُوَ الَّذِي يَتَطَرَّقُ فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ سَوَاءٌ كَانَ بَابُ دَارِهِ فِي أَعْلَى السِّكَّةِ أَوْ فِي أَسْفَلِهَا ثُمَّ هُنَاكَ إنَّمَا يَتَصَرَّفُ فِي حَائِطٍ هُوَ مِلْكُهُ بِفَتْحِ بَابٍ فِي أَسْفَلِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَفْتَحَ بَابَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً أَوْ يَرْفَعَ جَمِيعَ الْحَائِطِ لَمْ يَمْنَعْهُ أَحَدٌ مِنْ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْكُوَى فَإِنَّهُ إنْ أَرَادَ أَنْ يَزِيدَ كُوَّةً أُخْرَى مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَ أَنْ يُحَوِّلَهَا مِنْ جَانِبٍ إلَى جَانِبٍ .

وَسَأَلَتْهُ عَنْ هَذِهِ الْكُوَى لَوْ أَرَادَ صَاحِبُهَا أَنْ يُكْرِيَهَا فَيُسْفِلَهَا عَنْ مَوْضِعِهَا لِيَكُونَ أَكْثَرَ لِأَخْذِهَا مِنْ الْمَاءِ قَالَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ بِالْكَرْيِ يَتَصَرَّفُ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ لَهُ أَنْ يُكْرِيَ جَمِيعَ النَّهْرِ فَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يُكْرِيَ هَذَا الْمَوْضِعَ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ هَذَا إذَا عَلِمَ أَنَّهَا فِي الْأَصْلِ كَانَتْ مُسَفَّلَةً فَارْتَفَعَتْ بِانْكِبَاسِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْ الْمَاءِ فَإِنَّهُ بِالْكَرْيِ يُعِيدُهَا إلَى الْحَالَةِ الْأُولَى ، وَذَلِكَ حَقُّهُ فَأَمَّا إذَا عَلِمَ أَنَّهَا كَانَتْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَأَرَادَ أَنْ يُسَفِّلَهَا مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُزِيدَ عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِ مِنْ الْمَاءِ ، وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَ الْكُوَى ، وَكَانَتْ مُتَسَفِّلَةً لِيَكُونَ أَقَلَّ لِلْمَاءِ فِي أَرْضِهِ فَلَهُ ذَلِكَ ، وَعَلَى مَا قَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا إذَا كَانَ هُوَ بِالرَّفْعِ يُعِيدُهَا إلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ فَأَمَّا إذَا أَرَادَ أَنْ يُغَيِّرَهَا عَمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ فَيُمْنَعُ عَنْهُ ( قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ ) ، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ عَلَى كُلِّ حَالٍّ ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِي الْأَصْلِ بِاعْتِبَارِ سَعَةِ الْكُوَّةِ ، وَضِيقِهَا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ السُّفْلِ ، وَالتَّرَفُّعُ هُوَ الْعَادَةُ بَيْنَ أَهْلِ مَرْوَ فَإِنَّمَا يُمْنَعُ مَنْ يُوَسِّعُ الْكُوَّةَ ، وَيُضَيِّقُهَا ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ أَنْ يُسْفِلَهَا أَوْ يَرْفَعَهَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَغْيِيرُ مَا ، وَقَعَتْ الْقِسْمَةُ عَلَيْهِ .

وَسَأَلَتْهُ عَنْ نَهْرٍ خَاصٍّ لِرَجُلٍ مِنْ هَذَا النَّهْرِ الْخَاصِّ أَرَادَ أَنْ يُقَنْطِرَ فِيهِ ، وَيَسْتَوْثِقَ مِنْهُ قَالَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُقَنْطَرًا أَوْ مُسْتَوْثِقًا مِنْهُ فَأَرَادَ أَنْ يُنْقِصَ ذَلِكَ لِعِلَّةٍ أَوْ لِغَيْرِ عِلَّةٍ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَزِيدُ فِي أَخْذِ الْمَاءِ فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَرْفَعُ بِنَاءً هُوَ خَالِصُ مِلْكِهِ ، وَإِنْ كَانَ يَزِيدُ فِي أَخْذِهِ الْمَاءَ مُنِعَ مِنْهُ لِحَقِّ الشُّرَكَاءِ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُوَسِّعَ فَمَ النَّهْرِ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ بِهَذَا التَّوَسُّعِ يَرْفَعُ ضِفَّةَ النَّهْرِ الْمُشْتَرَكِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ يَزِيدُ عَلَى هَذَا مِقْدَارَ حِصَّةٍ فِي أَصْلِ الْمَاءِ أَمَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا تَكُونُ الْقِسْمَةُ بِالْكُوَى فَغَيْرُ مُشْكِلٍ أَوْ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَكُونُ الْقِسْمَةُ بِالْكُوَى إذَا ، وَسَّعَ فَمَ النَّهْرِ ، وَاحْتَبَسَ الْمَاءَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَيَدْخُلُ فِي كُوَاهُ أَكْثَرَ مِمَّا يَدْخُلُ إذَا لَمْ يُوَسِّعْ فَمَ النَّهْرِ ، وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُؤَخِّرَ الْكُوَى عَنْ فَمِ النَّهْرِ فَجَعَلَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَذْرُعٍ مِنْ فَمِ النَّهْرِ إلَى أَسْفَلِهِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يُحْتَبَسُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَيَدْخُلُ فِي كُوَاهُ أَكْثَرَ مِمَّا يَدْخُلُ إذَا كَانَتْ الْكُوَى فِي فَمِ النَّهْرِ .

وَسَأَلَتْهُ عَنْ رَجُلٍ مَاتَ مِمَّنْ لَهُ هَذَا الشِّرْبُ قَالَ الشِّرْبُ مِيرَاثٌ بَيْنَ ، وَرَثَتِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ خُلَفَاؤُهُ يَقُومُونَ مَقَامَهُ فِي أَمْلَاكِهِ ، وَحُقُوقِهِ ، وَقَدْ تَمَلَّكَ بِالْمِيرَاثِ مَا لَا يَمْلِكُ بِسَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ كَالْقِصَاصِ ، وَالدَّيْنِ ، وَالْخَمْرِ يُمْلَكُ بِالْإِرْثِ فَكَذَلِكَ الشِّرْبُ ، وَإِنْ أَوْصَى فِيهِ بِوَصِيَّةٍ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ ثُمَّ مَا امْتَنَعَ الْبَيْعُ ، وَالْهِبَةُ ، وَالصَّدَقَةُ فِي الشِّرْبِ لِلْغُرُورِ ، وَالْجَهَالَةِ أَوْ لِعَدَمِ الْمِلْكِ فِيهِ فِي الْحَالِ ، وَالْوَصِيَّةِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ لَا تَبْطُلُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا يُثْمِرُ نَخِيلُهُ الْعَامُّ يَصِحُّ فَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ بِالشِّرْبِ .

، وَسَأَلَتْهُ عَنْ أَمِيرِ خُرَاسَانَ إذَا جَعَلَ لِرَجُلٍ شِرْبًا فِي هَذَا النَّهْرِ الْأَعْظَمِ ، وَذَلِكَ الشِّرْبُ لَمْ يَكُنْ فِيمَا مَضَى أَوْ كَانَ لَهُ شِرْبُ كُوَّتَيْنِ فَزَادَ مِثْلُ ذَلِكَ ، وَأَقْطَعَهُ إيَّاهُ ، وَجَعَلَ مُفَتَّحَةً فِي أَرْضٍ يَمْلِكُهَا الرَّجُلُ أَوْ فِي أَرْضٍ لَا يَمْلِكُهَا قَالَ إنْ كَانَ ذَلِكَ يَضُرُّ بِالْعَامَّةِ لَمْ يَجُزْ فَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِهِمْ فَهُوَ جَائِزٌ إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مِلْكِ أَحَدٍ ؛ لِأَنَّ لِلسُّلْطَانِ وِلَايَةُ النَّظَرِ دُونَ الْإِضْرَارِ بِالْعَامَّةِ فَفِيمَا لَا يَضُرُّ بِالْعَامَّةِ يَكُونُ هَذَا الْإِقْطَاعُ مِنْهُ نَظَرًا لِمَنْ أَقَطَعَهُ إيَّاهُ ، وَفِيمَا يَضُرُّ بِهِمْ يَكُونُ هَذَا الْإِقْطَاعُ إضْرَارًا بِالْعَامَّةِ ، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ يُوضِحُهُ أَنَّ فِيمَا يَضُرُّ بِهِمْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَمْنَعَ فَالْإِمَامُ فِي الْإِقْطَاعِ يَكُونُ مُبْطِلًا حَقَّهُ ، وَلَهُ وِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ حَقِّ الْعَامَّةِ لَا وِلَايَةُ الْإِبْطَالِ ، وَفِيمَا لَا يَضُرُّ بِهِمْ قَدْ كَانَ لَهُ أَنْ يُحْدِثَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إقْطَاعٍ مِنْ الْإِمَامِ فَبَعْدُ الْإِقْطَاعِ أَوْلَى ، وَإِذَا أَصْفَى أَمِيرُ خُرَاسَانَ شِرْبَ رَجُلٍ ، وَأَرْضُهُ ، وَأَقْطَعَهَا لِرَجُلٍ آخَرَ لَمْ يَجُزْ ، وَيَرُدُّ إلَى صَاحِبِهَا الْأَوَّلِ ، وَإِلَى ، وَرَثَتِهِ ، وَالْمُرَادُ بِالْإِصْفَاءِ الْغَصْبُ ، وَلَكِنْ حَفِظَ لِسَانَهُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ لَفْظَ الْغَصْبِ فِي أَفْعَالِ السَّلَاطِينِ لِمَا فِيهِ مِنْ بَعْضِ الْوَحْشَةِ ، وَاخْتَارَ لَفْظُ الْإِصْفَاءِ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى تَوْقِيرِ السُّلْطَانِ ، وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُوصِي أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ فَيَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يَكُونَ مُقْبِلًا عَلَى شَأْنِهِ حَافِظًا لِلِسَانِهِ مُوَقِّرًا لِسُلْطَانِهِ ثُمَّ فِي هَذَا الْفِعْلِ السُّلْطَانُ كَغَيْرِهِ شَرْعًا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ } ، وَتُمْلِيك مِلْكِ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ يَكُونُ لَغْوًا فَيَجِبُ رَدُّ ذَلِكَ عَلَى صَاحِبِهِ إنْ كَانَ حَيًّا ، وَعَلَى ، وَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ،

وَهَكَذَا فِيمَا حَازَهُ لِنَفْسِهِ مِنْ أَمْلَاك النَّاسِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا اسْتَخْلَفَ أَمَرَ بِرَدِّ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى أَرْبَابِهَا ؛ لِأَنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مِنْ بَنِي أُمَيَّةَ كَانُوا أَخَذُوهَا ظُلْمًا .

وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ عَلَى شِرْبٍ بِغَيْرِ أَرْضٍ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ ، وَلَيْسَ لَهَا مِنْ الشِّرْبِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الشِّرْبَ بِدُونِ الْأَرْضِ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ ، وَلِهَذَا لَا يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ بِعَقْدٍ ، وَلَا بِغَيْرِهِ ثُمَّ هُوَ مَجْهُولٌ جَهَالَةً مُتَفَاحِشَةً فَلَا يَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ ، وَلَكِنَّ بُطْلَانَ التَّسْمِيَةِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ النِّكَاحِ بِمَنْزِلَةِ تَرْكِ التَّسْمِيَةِ فَيَكُونُ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا إنْ دَخَلَ بِهَا ، وَالْمُتْعَةُ إنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا .

وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا عَلَى شِرْبٍ بِغَيْرِ أَرْضٍ كَانَ بَاطِلًا ، وَلَا يَكُونُ لَهُ مِنْ الشِّرْبِ شَيْءٌ ، وَلَكِنَّ الْخُلْعَ صَحِيحٌ ، وَعَلَيْهَا أَنْ تَرُدَّ الْمَهْرَ الَّذِي أَخَذَتْ ؛ لِأَنَّهَا أَطْمَعَتْ الزَّوْجَ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ فِيمَا هُوَ مَرْغُوبٌ فِيهِ فَتَكُونُ غَارَّةً لَهُ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ ، وَالْغُرُورُ فِي الْخُلْعِ يُلْزِمُهَا رَدَّ مَا قَبَضَتْ كَمَا لَوْ اخْتَلَعَتْ بِمَا فِي بَيْتِهَا مِنْ الْمَتَاعِ فَإِذَا لَيْسَ فِي بَيْتِهَا شَيْءٌ ، وَالصُّلْحُ فِي الدَّعْوَى عَلَى الشِّرْبِ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْمَصَالِحَ عَلَيْهِ مِمَّا لَا يُمْلَكُ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَعْقُودِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا لَا يُسْتَحَقُّ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَعْقُودِ فَالصُّلْحُ عَلَيْهِ بَاطِلٌ ، وَصَاحِبُ الدَّعْوَى عَلَى دَعْوَاهُ ، وَحَقِّهِ فَإِنْ كَانَ قَدْ شَرِبَ مِنْ ذَلِكَ الشِّرْبِ مُدَّةً طَوِيلَةً فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الشِّرْبَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلْعَقْدِ أَصْلًا فَكَانَ الْعَقْدُ فِيهِ كَالْإِذْنِ الْمُطْلَقِ فَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ مِنْ قِصَاصٍ فِي نَفْسٍ أَوْ فِيمَا دُونَهُ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ ، وَجَازَ الْعَفْوُ ، وَعَلَى الْقَاطِعِ الدِّيَةُ ، وَأَرْشُ الْجِرَاحَةِ ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ مِنْ الْقَوَدِ عَلَى شِرْبٍ نَظِيرَ الْخُلْعِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ جَهَالَةَ الْبَدَلِ ، وَإِنْ تَفَاحَشَتْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَالْخُلْعُ ، وَالصُّلْحُ صَحِيحٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ إسْقَاطٌ لَيْسَ فِيهِ تَمْلِيكٌ إلَّا أَنَّ فِي الصُّلْحِ عَلَى الْقَوَدِ إذَا لَمْ يَثْبُتْ الْمُسَمَّى ، وَتُمْكِنُ فِي التَّسْمِيَةِ مَعْنَى الْغُرُورِ يَجِبُ رَدُّ الدِّيَةِ ، وَفِي الْخُلْعِ يَجِبُ رَدُّ الْمَقْبُوضِ ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ تَتَقَوَّمُ بِالدِّيَةِ ، وَالْبِضْعِ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ لَا يَتَقَوَّمُ فَيَجِبُ رَدُّ الْمَقْبُوضِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ ، وَالْغُرُورِ .

وَلَوْ مَاتَ صَاحِبُ الشِّرْبِ ، وَعَلَيْهِ دُيُونٌ لَمْ يَبِعْ فِي دَيْنِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ أَرْضٌ فَيُبَاعُ مَعَ أَرْضِهِ ؛ لِأَنَّ فِي حَالِ حَيَاتِهِ كَانَ لَا يَجُوزُ مِنْهُ بَيْعُ الشِّرْبِ بِدُونِ الْأَرْضِ فَكَذَا بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَقَدْ تَكَلَّمَ مَشَايِخُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي أَنَّ الْإِمَامَ مَاذَا يَصْنَعُ بِهَذَا الشِّرْبِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يَتَّخِذُ حَوْضًا ، وَيَجْمَعُ فِيهِ ذَلِكَ الْمَاءَ فِي كُلِّ يَوْمِهِ ثُمَّ يَبِيعُ الْمَاءَ الَّذِي جَمَعَهُ فِي الْحَوْضِ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ - فَيَقْضِي بِهِ الدَّيْنَ .
( قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ ) رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ يَنْظُرُ صَاحِبَ أَرْضٍ لَيْسَ لَهُ شِرْبٌ فَيَضُمُّ ذَلِكَ الشِّرْبَ إلَى أَرْضِهِ ، وَيَبِيعُهَا بِرِضَاهُ ثُمَّ يَنْظُرُ إلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ بِدُونِ الشِّرْبِ ، وَمَعَ الشِّرْبِ فَيَجْعَلُ تَفَاوُتَ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الثَّمَنِ مَصْرُوفًا إلَى قَضَاءِ دَيْنِ الْمَيِّتِ ، وَمَا ، وَرَاءَ ذَلِكَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ اشْتَرَى عَلَى تَرِكَةِ هَذَا الْمَيِّتِ أَرْضًا بِغَيْرِ شِرْبٍ ثُمَّ ضَمَّ هَذَا الشِّرْبَ إلَيْهَا ، وَبَاعَهَا فَيَصْرِفُ الثَّمَنَ إلَى قَضَاءِ ثَمَنِ الْأَرْضِ الْمُشْتَرَاةِ ، وَمَا يَفْضُلُ مِنْ ذَلِكَ لِلْغُرَمَاءِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى أَنْ يُبَاعَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ أَوْ يُوهَبَ لَهُ أَوْ يُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ بِنَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ لَمْ يَجْرِ فَكَذَلِكَ إذَا أَوْصَى أَنْ يُبَاعَ مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ قَالَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ أَرْضٌ فَيَجُوزُ مِنْ ثُلُثِهِ يُرِيدُ الْهِبَةَ أَوْ الصَّدَقَةَ أَوْ الْمُحَابَاةَ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ مِنْ ثُلُثِهِ .
قَالَ : وَإِنْ أَوْصَى أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَ فُلَانٍ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً مِنْ شِرْبِهِ أَجَزْت ذَلِكَ مِنْ ثُلُثِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالشِّرْبِ كَالْوَصِيَّةِ بِالْغَلَّةِ الْمَجْهُولَةِ ، وَذَلِكَ يَنْفُذُ مِنْ ثُلُثِهِ ، وَإِنْ مَاتَ الَّذِي لَهُ الْوَصِيَّةُ بَطَلَتْ ، وَصِيَّتُهُ فِي الشِّرْبِ قَالَ ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ

الْخِدْمَةِ يَعْنِي إذَا أَوْصَى بِخِدْمَةِ عَبْدِهِ لِإِنْسَانٍ فَمَاتَ الْمُوصَى لَهُ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الشِّرْبَ كَالْمَنْفَعَةِ إلَّا أَنَّهَا مَجْهُولَةٌ جَهَالَةً لَا تَقْبَلُ الْإِعْلَامَ ، وَالْخِدْمَةُ تَقْبَلُ الْإِعْلَامَ بِبَيَانِ الْمُدَّةِ فَيَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهَا بِالْإِجَارَةِ إذَا كَانَتْ مَعْلُومَةً فَيَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهَا بِالْوَصِيَّةِ مِنْ الثُّلُثِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا بِبَيَانِ الْمُدَّةِ فَكَذَلِكَ اسْتِحْقَاقُ الشِّرْبِ بِالْوَصِيَّةِ يَجُوزُ ، وَإِنْ كَانَتْ مَجْهُولَةً ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لِلْمُوصَى لَهُ بِاعْتِبَارِ حَاجَتِهِ فَيَبْطُلُ بِمَوْتِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ يَخْلُفُونَهُ فِيمَا كَانَ مِلْكًا أَوْ حَقًّا مُتَأَكِّدًا لَهُ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الشِّرْبِ كَمَا فِي الْخِدْمَةِ فَإِنْ أَوْصَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِشِرْبِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَهَذَا بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ حَاجَةَ الْمَسَاكِينِ إلَى الطَّعَامِ دُونَ الْمَاءِ ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى الشِّرْبِ مَنْ لَهُ أَرْضٌ ، وَلَيْسَ لِلْمَسَاكِينِ ذَلِكَ ، وَلَا بَدَلَ لِلشِّرْبِ حَتَّى يَصْرِفَ بَدَلَهُ إلَى الْمَسَاكِينِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ ، وَالْإِجَارَةَ فَكَانَ بَاطِلًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ فِي حَيَاتِهِ : هُوَ صَدَقَةٌ فِي الْمَسَاكِينِ إنْ فَعَلْت كَذَا فَفَعَلَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لِتَنْفِيذِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ فِي عَيْنِ الشِّرْبِ ، وَلَا فِي بَدَلِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ أَرْضٌ فَحِينَئِذٍ تَصِحُّ ، وَصِيَّتُهُ ، وَنَذْرُهُ فَتَنْعَقِدُ - يَمِينُهُ فَإِذَا حَنِثَ يَجِبُ تَنْفِيذُهُ فِي التَّصَدُّقِ بِعَيْنِهِ أَوْ بِقِيمَتِهِ بَعْدَ الْبَيْعِ .
وَلَوْ أَوْصَى بِأَنْ يَسْقِيَ مِسْكِينًا بِعَيْنِهِ فِي حَيَاتِهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ فِيهِ بِاعْتِبَارِ عَيْنِهِ كَمَا لَوْ أَوْصَى لَهُ - بِعَيْنٍ بِخِلَافِ مَا أَوْصَى بِهِ فِي الْمَسَاكِينِ فَتَصْحِيحُ تِلْكَ الْوَصِيَّةِ بِاعْتِبَارِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى يَجْعَلُ شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى لِيَكُونَ مَصْرُوفًا إلَى سَدِّ حَاجَةِ الْمُحْتَاجِينَ ، وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى فِي الشِّرْبِ

بِدُونِ الْأَرْضِ .

وَلَوْ بَاعَ الشِّرْبَ بِعَبْدٍ ، وَقَبَضَ الْعَبْدَ ، وَأَعْتَقَهُ جَازَ عِتْقُهُ ، وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي الْعَبْدِ فَاسِدٌ فَإِنَّ شِرَاءَ الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ يَكُونُ فَاسِدًا فَكَذَلِكَ عِنْدَ تَسْمِيَةِ الشِّرْبِ ، وَالْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ فَيَنْفُذُ الْعِتْقُ فِيهِ ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي ضَمَانُ الْقِيمَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ أَمَةً فَوَطِئَهَا فَوَلَدَتْ مِنْهُ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا ، وَعَقْرُهَا ، وَذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْعَقْدَ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ ، وَقَدْ قَالَ فِي الْبُيُوعِ فِي الْمُشْتَرَاةِ شِرَاءً فَاسِدًا ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ عُقْرٌ فِي ، وَطْئِهَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْبُيُوعِ ، وَجْهَ الرِّوَايَتَيْنِ ، وَالتَّوْفِيقَ بَيْنَهُمَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَجَّرَهُ بِعَبْدٍ فَأَعْتَقَهُ ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ فِي الْإِجَارَةِ إذَا كَانَ عَيْنًا فَهُوَ كَالْمَبِيعِ فَيَصِيرُ مَمْلُوكًا بِالْقَبْضِ ، وَيَنْفُذُ الْعِتْقُ فِيهِ ، وَيَجِبُ رَدُّ قِيمَتِهِ .

وَلَوْ ادَّعَى شِرْبًا فِي يَدَيْ رَجُلٍ أَنَّهُ بِغَيْرِ أَرْضٍ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الدَّعْوَى إعْلَامُ الْمُدَّعِي فِي الدَّعْوَى ، وَالشَّهَادَةِ ، وَالشِّرْبُ مَجْهُولٌ جَهَالَةً لَا تَقْبَلُ الْإِعْلَامَ ، وَلِأَنَّهُ يَطْلُبُ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ لَهُ بِالْمِلْكِ فِي الْمُدَّعَى إذَا أَثْبَتَ دَعْوَاهُ بِالْبَيِّنَةِ ، وَالشِّرْبُ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ بِغَيْرِ أَرْضٍ فَلَا يَسْمَعُ الْقَاضِي فِيهِ الدَّعْوَى ، وَالْخُصُومَةَ .
كَالْخَمْرِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ يُقْبَلُ بِبَيِّنَةٍ ، وَيَقْضِي لَهُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الشِّرْبَ مَرْغُوبٌ فِيهِ ، وَمُنْتَفَعٌ بِهِ ، وَقَدْ يَكُونُ الِاسْتِحْقَاقُ فِيهِ لِلْإِنْسَانِ مُنْفَرِدًا عَنْ الْأَرْضِ بِالْمِيرَاثِ ، وَالْوَصِيَّةِ ، وَقَدْ يَبِيعُ الْأَرْضَ بِدُونِ الشِّرْبِ فَيَبْقَى لَهُ الشِّرْبُ ، وَحْدَهُ فَإِذَا اسْتَوْلَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ الظُّلْمَ عَنْ نَفْسِهِ بِإِثْبَاتِ حَقِّهِ بِالْبَيِّنَةِ ثُمَّ الْقَاضِي لَا يُمَلِّكُهُ بِالْقَضَاءِ شَيْئًا ابْتِدَاءً ، وَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ بَاطِنًا فِي الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ ، وَإِنَّمَا يَظْفَرُ بِقَضَاءِ حَقِّهِ أَوْ مِلْكِهِ ، وَالشِّرْبُ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ يَقْضِي لَهُ بِالدَّيْنِ بِالْحُجَّةِ ، وَالدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْغَيْرِ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ ابْتِدَاءً .

وَإِذَا كَانَتْ لِرَجُلٍ أَرْضٌ ، وَلِرَجُلٍ فِيهَا نَهْرٌ يَجْرِي فَأَرَادَ رَبُّ الْأَرْضِ أَنْ لَا يُجْرِيَ النَّهْرَ فِي أَرْضِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ بَلْ يُتْرَكُ عَلَى حَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ النَّهْرِ فِي يَدِ صَاحِبِ النَّهْرِ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ لَهُ بِإِجْرَاءِ مَائِهِ فِيهِ فَعِنْدَ الِاخْتِلَافِ الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي أَنَّهُ مِلْكُهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ جَارِيًا سَأَلْتُهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ هَذَا النَّهْرَ لَهُ فَإِنْ جَاءَ بِبَيِّنَةٍ قَضَيْت بِهِ لَهُ لِإِثْبَاتِهِ حَقَّ نَفْسِهِ بِالْحُجَّةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى أَصْلِ النَّهْرِ ، وَجَاءَ بِبَيِّنَةٍ أَنَّهُ كَانَ مَجْرَاهُ فِي هَذَا النَّهْرِ يَسُوقُهُ إلَى أَرْضِهِ حَتَّى يَسْقِيَهَا مِنْهُ أَجَزْت ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا لَهُ بِحَقٍّ مُسْتَحَقٍّ فِي النَّهْرِ ، وَهُوَ الْمَجْرَى ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظَائِرَ هَذَا فِي الطَّرِيقِ ، وَالْمَسِيلِ ، وَبَيَّنَّا أَنَّ الْجَهَالَةَ هُنَاكَ لَا تَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ فَكَذَا الْمَجْرَى هُنَا ، وَكَذَلِكَ الْمَصَبُّ إذَا كَانَ نَهَرُهُ ذَلِكَ يَصُبُّ فِي أَرْضٍ أُخْرَى فَمَنَعَهُ صَاحِبُ الْأَرْضِ السُّفْلَى الْمَجْرَى ، وَأَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى أَصْلِ النَّهْرِ أَنَّهُ لَهُ ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ لَهُ فِيهِ مَصَبًّا أَجَزْت ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَصَبَّ كَالْمَسِيلِ ، وَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ مَسِيلَ مَاءٍ عَلَى سَطْحِ جَارِهِ كَانَتْ الْبَيِّنَةُ مَقْبُولَةً فَهَذَا مِثْلُهُ .

وَلَوْ سَقَى الرَّجُلُ أَرْضَهُ أَوْ شَجَرَهَا أَوْ مَلَأَهَا مَاءً فَسَالَ مِنْ مَائِهَا فِي أَرْضِ رَجُلٍ فَغَرَّقَهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانُهَا لِأَنَّهُ فِي هَذَا التَّسْبِيبِ غَيْرُ مُتَعَدٍّ بَلْ هُوَ مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ ، وَلِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ مُطْلَقًا ، وَالْمُتَسَبِّبُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا فِي تَسَبُّبِهِ لَا يَكُونُ ضَامِنًا كَحَافِرِ الْبِئْرِ ، وَوَاضِعِ الْحَجَرِ فِي مِلْكِهِ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ أَوْقَدَ النَّارَ فِي أَرْضِهِ فَوَقَعَ الْحَرِيقُ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ ضَامِنًا لِكَوْنِهِ مُتَصَرِّفًا فِي خَالِصِ مِلْكِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَزَّتْ أَرْضُ جَارِهِ مِنْ هَذَا الْمَاءِ .

وَلَوْ اجْتَمَعَ فِي هَذَا الْمَاءِ سَمَكٌ فَصَادَهُ رَجُلٌ كَانَ لِلصَّيَّادِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَهُ } ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ اصْطَادَ مِنْ أَرْضِ رَجُلٍ ظَبْيًا فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ دُونَ صَاحِبِ الْأَرْضِ ، وَإِنْ كَانَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الدُّخُولِ فِي أَرْضِهِ .

وَإِذَا كَانَتْ لِرَجُلٍ أَرْضٌ فِيهَا مَرَاعِي فَأَجَّرَ مَرَاعِيهَا أَوْ بَاعَهَا كُلُّ سَنَةٍ بِشَيْءٍ مُسَمًّى تَرْعَى فِيهَا غَنَمٌ مُسَمَّاةٌ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْكَلَأُ ، وَهُوَ عَلَى أَصْلِ شَرِكَةِ الْإِبَاحَةِ لَا اخْتِصَاصَ لِصَاحِبِ الْمَرْعَى بِهِ ثُمَّ هَذَا اسْتِئْجَارٌ الْمَقْصُودُ بِهِ اسْتِهْلَاكُ الْعَيْنِ ، وَشِرَاءُ مَا هُوَ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ فَيَكُونُ بَاطِلًا كَبَيْعِ الشِّرْبِ ، وَإِجَارَتِهِ .
وَلَوْ أَخَذَ صَاحِبُ الْأَرْضِ شَيْئًا مِنْ هَذَا فَأَحْرَزَهُ ثُمَّ بَاعَهُ كَانَ جَائِزًا بِمَنْزِلَةِ الْمَاءِ الَّذِي أَحْرَزَهُ فِي الْأَوَانِي ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ بِالْإِحْرَازِ فِيهِ قَدْ تَمَّ ، وَهُوَ مُتَقَوِّمٌ لِكَوْنِهِ مُنْتَفِعًا بِهِ .

وَلَوْ كَانَ زَرَعَ رَجُلٌ قَصِيلًا فِي أَرْضِهِ ثُمَّ أَجَّرَهُ مِنْ رَجُلٍ يَرْعَى فِيهِ غَنَمَهُ كَانَ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا الِاسْتِئْجَارِ اسْتِهْلَاكُ الْعَيْنِ ؛ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِالْإِجَارَةِ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَالْقَصِيلُ عَيْنٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِالْإِجَارَةِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ قِيمَةُ مَا رَعَتْ غَنَمُهُ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَوْفِيًا مُسْتَهْلِكًا لَهُ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْكَلَإِ فِي الْمَرَاعِي فَقَدْ نَبَتَ ذَاكَ مِنْ غَيْرِ إنْبَاتِ أَحَدٍ فَكَانَ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ الْمُشْتَرِي ، وَالْبَائِعُ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ سَوَاءٌ ، وَهَذَا مِمَّا اسْتَنْبَتَهُ صَاحِبُ الْأَرْضِ فَيَكُونُ مَمْلُوكًا لَهُ حَتَّى لَوْ بَاعَهُ جَازَ بَيْعُهُ ، وَإِنَّمَا لَمْ تَجُزْ إجَارَتُهُ لِمَا قُلْنَا ، وَلِمَعْنَى الْغَرَرِ فِيهِ فَإِذَا أَتْلَفَ مِلْكًا مُتَقَوِّمًا لِغَيْرِهِ بِسَبَبِ عَقْدٍ فَاسِدٍ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ .

وَلَوْ اسْتَأْجَرَ مَرْعًى لِعَبْدٍ بِعَيْنِهِ فَرَعَاهُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ لَمْ يَضْمَنْ مَا رَعَى ، وَيَأْخُذُ عَبْدَهُ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ كَانَ فَاسِدًا فَيَسْتَرِدُّ عَبْدَهُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ فَإِنْ كَانَ الْمُؤَاجِرُ قَدْ أَعْتَقَهُ أَوْ بَاعَهُ جَازَ ذَلِكَ ، وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَيُنْفِذُ عِتْقَهُ فِيهِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مَحَلٌّ لِلْمِلْكِ فَيَنْفُذُ الْعَقْدُ مُقَيَّدًا بِحُكْمِهِ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا إذَا اشْتَرَى عَبْدًا بِشِرْبٍ بِخِلَافِ الْعَبْدِ بِالرِّبْحِ فَهُنَاكَ ، وَإِنْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي لَا يَمْلِكُهُ ، وَلَا يُنْفِذُ عِتْقَهُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ بِالْمَيْتَةِ ، وَالدَّمِ ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يَتَقَوَّمُ بِالْعَبْدِ بِحَالٍ ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ أَصْلًا فَبِتَسْمِيَتِهِ يَخْرُجُ السَّبَبُ مِنْ أَنْ يَكُونَ تَمْلِيكَ مَالٍ بِمَالٍ فَأَمَّا الشِّرْبُ ، وَالْكَلَأُ فَمَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِالْعَقْدِ تَبَعًا لِلْأَرْضِ ، وَهُوَ مُنْتَفَعٌ بِهِ شَرْعًا .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْإِحْرَازُ الْمُوجِبُ لِلْمِلْكِ ، وَبَعْدَ الْإِحْرَازِ يَكُونُ مَالًا مُتَقَوِّمًا فَقَبْلَ الْإِحْرَازِ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ بِتَسْمِيَتِهِ عَلَى مَا هُوَ مَحَلٌّ لِلتَّمْلِيكِ بِالْعَقْدِ فَيَنْفُذُ عِتْقُهُ فِيهِ بَعْدَ الْقَبْضِ .

وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَنْ يَرْعَى غَنَمَهَا فِي أَرْضِهِ سَنَةً كَانَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي نَفْسِهِ أَوْ يَسْتَحِقُّ بِذِكْرِهِ تَسْلِيمَ مَالٍ ، وَالْكَلَأُ ، وَالشِّرْبُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا تَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ فِي النِّكَاحِ .

وَلَوْ أَوْصَى بِكَلَأٍ فِي أَرْضَهُ سِنِينَ أَوْ ، وَهَبَهُ أَوْ صَالَحَ عَلَيْهِ مِنْ قِصَاصٍ أَوْ مَالٍ كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الشِّرْبِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَعْنَى فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُبْقًى عَلَى شَرِكَةِ الْإِبَاحَةِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ .

وَلَوْ أَحْرَقَ كَلَأً أَوْ حَصَائِدَ فِي أَرْضَهُ فَذَهَبَتْ النَّارُ يَمِينًا ، وَشِمَالًا ، وَأَحْرَقَتْ شَيْئًا لِغَيْرِهِ لَمْ يَضْمَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا السَّبَبِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُوقِدَ النَّارَ فِي مِلْكِ نَفْسه مُطْلَقًا ، وَتَصَرُّفُ الْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ لَا يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ : وَهَذَا إذَا كَانَتْ الرِّيَاحُ هَادِئَةً حِينَ أَوْقَدَ النَّارَ فَأَمَّا إذَا أَوْقَدَ النَّارَ فِي يَوْمِ رِيحٍ عَلَى ، وَجْهٍ يَعْلَمُ أَنَّ الرِّيحَ يَذْهَبُ بِالنَّارِ إلَى مِلْكِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَوْقَدَ النَّارَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مَنْ صَبَّ فِي مِيزَابٍ مَائِعًا ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ مَا تَحْتَ الْمِيزَابِ إنْسَانٌ جَالِسٌ فَأَفْسَدَ ذَلِكَ الْمَائِعُ ثِيَابَهُ كَانَ الَّذِي صَبَّهُ ضَامِنًا ، وَإِنْ كَانَ صَبَّهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ .

وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَتَى طَائِفَةً مِنْ الْبَطِيحَةِ مِمَّا لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهِ مِلْكٌ مِمَّا قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ الْمَاءُ فَضَرَبَ عَلَيْهِ الْمُسَنَّاةَ ، وَاسْتَخْرَجَهُ ، وَأَحْيَاهُ ، وَقَطَعَ مَا فِيهِ مِنْ الْقَصَبِ رَأَيْتهَا لَهُ بِمَنْزِلَةِ أَرْضِ الْمَيْتَةِ ، وَكَذَلِكَ مَا عَالَجَ مِنْ أَجَمَةٍ أَوْ جَزِيرَةٍ فِي بَحْرٍ بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ لِأَحَدٍ فِيهِ مِلْكٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَوَاتِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا حَدَّ الْمَوَاتِ فَأَعَادَ ذَلِكَ هُنَا ، وَذَكَرَ أَنَّ كُلَّ أَرْضٍ مِنْ السَّوَادِ ، وَالْجِبَالِ الَّتِي لَا يَبْلُغُهَا الْمَاءُ مِنْ أَرْضِ الْعَرَبِ مِمَّا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ فِيهَا مِلْكٌ فَهُوَ كُلُّهُ مِنْ الْمَوَاتِ ، وَمُرَادُهُ مَا كَانَ مِنْ فِنَاءِ الْعُمْرَانِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ مِنْ حَقِّ السُّكَّانِ فِي الْعُمْرَانِ ، وَلَوْ أَحْيَاهُ ، وَكَانَ لَهُ مَالِكٌ قَبْلَ ذَلِكَ رَدَدْته إلَى مَالِكِهِ الْأَوَّلِ ، وَلَمْ أَجْعَلْ لِلثَّانِي فِيهِ حَقًّا ، وَلَكِنَّهُ ضَامِنٌ لِمَا قَطَعَ مِنْ قَضْبِهَا ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْغَيْرِ مُحْتَرَمٌ لِحُرْمَةِ الْمَالِكِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكَ عَلَيْهِ بِالْأَحْيَاءِ بِغَيْرِ رِضَاهُ ، وَلَكِنَّهُ أَتْلَفَ مَا قَطَعَ مِنْ قَضْبِهَا ، وَكَانَتْ مَمْلُوكَةً لِصَاحِبِهَا فَعَلَيْهِ ضَمَانُهَا ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي قَدْ زَرَعَهَا فَالزَّرْعُ لَهُ ، وَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا نَقَصَ مِنْ الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ غَصَبَ أَرْضًا فَزَرَعَهَا .

وَإِنْ احْتَفَرَ الرَّجُلُ بِئْرًا فِي مَفَازَةٍ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَجَاءَ رَجُلٌ آخَرُ ، وَاحْتَفَرَ فِي حَرِيمِهَا الْمَذْكُورَةِ بِئْرًا كَانَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَسُدَّ مَا احْتَفَرَهُ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ حَرِيمَ الْبِئْرِ صَارَ مَمْلُوكًا لِصَاحِبِ الْبِئْرِ إذَا حَفَرَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ ، وَالثَّانِي مُتَعَدٍّ فِي تَصَرُّفِهِ فِي مِلْكِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهَذَا التَّصَرُّفِ شَيْئًا ؛ وَلِأَنَّهُ ضَامِنٌ لِلنُّقْصَانِ ، وَلِلْأَوَّلِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِسَدِّ مَا احْتَفَرَ ، وَهُوَ عِرْقٌ ظَالِمٌ وَلَا حَقَّ لَهُ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَنَى أَوْ زَرَعَ أَوْ أَحْدَثَ فِيهِ شَيْئًا لِلْأَوَّلِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ لِمِلْكِهِ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ ، وَمَا عَطِبَ فِي بِئْرِ الْأَوَّلِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي حَفْرِهِ ، وَمَا عَطِبَ فِي بِئْرِ الثَّانِي فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي تَسَبُّبِهِ .
وَلَوْ أَنَّ الثَّانِيَ حَفَرَ بِئْرًا بِأَمْرِ الْإِمَامِ فِي غَيْرِ حَرِيمِ الْأَوَّلِ ، وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنْهُ فَذَهَبَ مَاءُ الْبِئْرِ الْأَوَّلِ ، وَعَرَفَ أَنَّ ذَهَابَ ذَلِكَ مِنْ حَفْرِ الثَّانِي فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِيمَا صَنَعَ بَلْ هُوَ مُحِقٌّ فِي الْحَفْرِ فِي غَيْرِ حَرِيمِ الْأَوَّلِ ، وَالْمَاءُ تَحْتَ الْأَرْضِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَهُ فِي تَحْوِيلِ مَاءِ بِئْرِهِ إلَى بِئْرِ الثَّانِي كَالتَّاجِرِ إذَا كَانَ لَهُ حَانُوتٌ فَاِتَّخَذَ آخَرُ بِجَنْبِهِ حَانُوتًا لِمِثْلِ تِلْكَ التِّجَارَةِ فَكَسَدَتْ تِجَارَةُ الْأَوَّلِ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ الثَّانِيَ .

وَلَوْ احْتَفَرَ قَنَاةً بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فِي مَفَازَةٍ ثُمَّ سَاقَ الْمَاءَ حَتَّى أَتَى بِهِ أَرْضًا فَأَحْيَاهَا فَإِنَّهُ يَجْعَلُ لِقَنَاتِهِ ، وَمَخْرَجِ مَائِهِ حَرِيمًا عَلَى قَدْرِ مَا يُصْلِحُهُ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمَا فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ يَسْتَحِقُّ الْحَرِيمَ لِلْمَوْضِعِ الَّذِي يَقَعُ الْمَاءُ فِيهِ عَلَى ، وَجْهِ الْأَرْضِ فَأَمَّا إذَا كَانَ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَلَا ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَخْرَجَ عَيْنًا إلَّا أَنَّهُ تَحَرَّزَ عَنْ بَيَانِ الْمِقْدَارِ فِيهِ بِالرَّأْيِ ، وَلَمْ يَجِدْ فِي الْقَنَاةِ نَصًّا بِعَيْنِهِ فَقَالَ : حَرِيمُهُ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهُ فَأَمَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَقَعُ فِيهِ مَاؤُهُ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ الْقَنَاةِ فَبِمَنْزِلَةِ النَّهْرِ إلَّا أَنَّهُ يَجْرِي تَحْتَ الْأَرْضِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْكَلَامَ فِي الْحَرِيمِ لِلنَّهْرِ فَكَذَلِكَ الْقَنَاةُ ، وَإِذَا كَانَتْ الْقَنَاةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ ، وَالْأَرْضُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ اسْتَحْيَا أَحَدُهُمَا أَرْضًا أُخْرَى فَأَرَادَ أَنْ يَسْقِيَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ نَهْرٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ ، وَيُثْبِتُ لِهَذِهِ الْأَرْضِ الْأُخْرَى شِرْبًا مِنْ هَذِهِ الْقَنَاةِ فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَا شَرِيكِهِ .

وَلَوْ كَانَ نَهْرٌ بَيْنَ قَوْمٍ لَهُمْ عَلَيْهِ أَرَضُونَ لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَرْضٌ مَعْلُومَةٌ فَأَرَادَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَسُوقَ شِرْبَهُ إلَى أَرْضٍ أُخْرَى لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي ذَلِكَ النَّهْرِ شِرْبٌ فِيمَا مَضَى فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَوْجِبُ بِذَلِكَ فِي النَّهْرِ غَيْرَ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ أَمَّا إذَا كَانَ يَسْقِي أَرْضَهُ الَّتِي لَهَا شِرْبٌ مِنْ هَذَا النَّهْرِ مَعَ ذَلِكَ فَهُوَ يَسْتَوْفِي أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ ، وَإِنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَسُوقَ شِرْبَهُ الْأَوَّلَ إلَى هَذِهِ الْأَرْضِ الْأُخْرَى لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ ، وَتَقَادَمَ الْعَهْدُ ادَّعَى لِلْأَرْضِ شِرْبًا مِنْ هَذَا النَّهْرِ مَعَ الْأَوَّلِ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِالنَّهْرِ الْمُعَدِّ لِإِجْرَاءِ الْمَاءِ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ إلَى هَذِهِ الْأَرْضِ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ يَسْتَوْجِبُ بِذَلِكَ فِي النَّهْرِ شِرْبًا لَمْ يَكُنْ لَهُ قَبْلَ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَسُوقَ شِرْبَهُ فِي أَرْضِهِ الْأُولَى حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى هَذِهِ الْأُخْرَى فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَوْفِي فَوْقَ حَقِّهِ فَالْأَرْضُ تَنْشُفُ بَعْضَ الْمَاءِ قَبْلَ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى هَذِهِ الْأَرْضِ الْأُخْرَى ثُمَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ طَرِيقٍ بَيْنَ قَوْمٍ إذَا أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَنْ يَفْتَحَ فِيهِ طَرِيقًا فِي دَارٍ أُخْرَى ، وَسَاكِنُ تِلْكَ الدَّارِ غَيْرُ سَاكِنِ هَذِهِ الدَّارِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ بَيْنَ هَذَا ، وَبَيْنَ مَا إذَا كَانَ سَاكِنُ الدَّارَيْنِ وَاحِدًا ، وَإِذَا أَرَادَ هَذَا الرَّجُلُ أَنْ يَسْقِيَ مِنْ هَذَا النَّهْرِ نَخِيلًا فِي أَرْضٍ أُخْرَى لَيْسَ لَهَا فِي هَذَا النَّهْرِ شِرْبٌ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ كَمَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يَسْقِيَ زَرْعًا مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ الْأُخْرَى ، وَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَصْحَابُ النَّهْرِ رَجُلًا يُقَسِّمُ بَيْنَهُمْ الشِّرْبَ كُلَّ شَهْرٍ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ ، وَيَقُومُ عَلَى نَهْرِهِمْ فَذَلِكَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَتَنَاوَلُ مَنَافِعَهُ الَّتِي تُوجَدُ فِي الْمُدَّةِ ، وَهِيَ

مَعْلُومَةٌ بِبَيَانِ الْمُدَّةِ ، وَالْبَدَلُ الَّذِي بِمُقَابِلَتِهَا مَعْلُومٌ ، وَإِنْ اسْتَأْجَرُوهُ بِشِرْبٍ مِنْ النَّهْرِ مَكَانَ الْآخَرِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ إذَا كَانَتْ مُعَيَّنَةً فَهِيَ كَالْمَبِيعِ ، وَالشِّرْبُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَبِيعًا مَقْصُودًا ، وَيَكُونُ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَوْفَاهُ مَنَافِعَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ .
وَلَوْ أَعْطَوْهُ كَفِيلًا بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْكَفِيلِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ إنَّمَا الْتَزَمَ الْمُطَالَبَةَ بِمَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْأَصِيلِ ، وَلَيْسَ عَلَى الْأَصِيلِ مِنْ تَسْلِيمِ الشِّرْبِ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ لَا يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ .

وَإِذَا احْتَفَرَ الْقَوْمُ بَيْنَهُمْ نَهْرًا عَلَى أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ عَلَى مِسَاحَةِ أَرَاضِيِهِمْ ، وَتَكُونُ نَفَقَتُهُ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ ، وَوَضَعُوا عَلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَكْثَرَ مِمَّا عَلَيْهِ غَلَطًا رَجَعَ بِذَلِكَ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ اسْتَوْفَوْا ذَلِكَ مِنْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَعَلَيْهِمْ رَدُّهُ ، وَلَوْ ، وَضَعُوا عَلَيْهِ أَقَلَّ مِنْ نَصِيبِهِ - رَجَعُوا عَلَيْهِ بِالْفَضْلِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَا أَوْفَاهُمْ بَعْضَ مَا كَانَ مُسْتَحِقًّا عَلَيْهِ ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ إسْقَاطُ شَيْءٍ مِنْ حَقِّهِمْ عَنْهُ فَيَكُونُ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَلَيْهِ بِالْفَضْلِ .

وَإِذَا كَانَ نَهْرًا بَيْنَ قَوْمٍ فَاصْطَلَحُوا عَلَى أَنْ يُسَمُّوا لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ شِرْبًا مُسَمًّى ، وَفِيهِمْ الْغَائِبُ ، وَالشَّاهِدُ فَقَدِمَ الْغَائِبُ فَلَهُ أَنْ يَنْقُضَ ؛ لِأَنَّ قِسْمَتَهُمْ لَمْ تَكُنْ بِحَضْرَتِهِ ، وَلَا بِحَضْرَةِ نَائِبِهِ ، وَلَا وِلَايَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ فِي تَمْيِيزِ نَصِيبِهِ بِالْقِسْمَةِ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يُبْطِلَهَا لِيَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ فَإِنْ كَانُوا أَوْفَوْهُ حَقَّهُ ، وَحَازُوهُ ، وَقَسَّمُوهُ ، وَأَبَانُوهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَقَضَ احْتَاجَ إلَى إعَادَتِهِ مِنْ سَاعَتِهِ ، وَلَا يُمَكَّنُ مِنْ النَّقْضِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَكَانَ فِي النَّقْضِ مُتَعَنِّتًا .

، وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِثَمَنِ الشِّرْبِ ، وَلَا بِالْأُجْرَةِ بِمُقَابَلَةِ الشِّرْبِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ عَلَى الْمَطْلُوبِ فَلَا يَصْلُحُ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ بِالْكَفَالَةِ فَإِنْ نَقَدَ الْكَفِيلُ الثَّمَنَ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْبَائِعِ الَّذِي نَقَدَهُ إنْ شَاءَ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مِنْهُ مَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِقًّا لَهُ ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى عَنْهُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُ الْمُؤَدِّي بِالضَّمَانِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَدَّاهُ بِنَفْسِهِ ، وَإِذَا ، وَكَّلَ رَجُلٌ ، وَكِيلًا بِشِرْبِهِ يَسُوقُهُ إلَى أَرْضِهِ ، وَيَقُومُ عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ جِهَةَ الِانْتِفَاعِ بِالشِّرْبِ تَتَعَيَّنُ ، وَقَدْ أَنَابَ الْوَكِيلَ فِيهِ مَنَابَ نَفْسِهِ فَلَا يَحْتَاجُ بَيَانُهُ لِصِحَّةِ التَّوْكِيلِ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْبَيَانِ لِتَمَكُّنِ الْوَكِيلِ مِنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْمُوَكِّلِ ، وَذَلِكَ فِيمَا لَا تَكُونُ الْجِهَةُ مُتَعَيِّنَةً فِيهِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ شِرْبَ أَرْضِهِ كَمَا لَيْسَ لِصَاحِبِ الشِّرْبِ أَنْ يَبِيعَهُ بِنَفْسِهِ ، وَلَا أَنْ يَسْقِيَ أَرْضَ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَبَرُّعٌ ، وَبِمُطْلَقِ التَّوْكِيلِ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ كَمَنْ وَكَّلَ غَيْرَهُ بِمَالِهِ مَلَكَ الْحِفْظَ بِهَذَا اللَّفْظِ دُونَ التَّبَرُّعِ .

وَإِذَا اتَّخَذَ الرَّجُلُ مَشْرَعَةً عَلَى شَاطِئِ الْفُرَاتِ لِيَسْتَقِيَ مِنْهَا السَّقَّاءُونَ ، وَيَأْخُذَ مِنْهُمْ الْأَجْرَ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْتَعْهُمْ شَيْئًا ، وَلَمْ يُؤَاجِرْهُمْ أَرْضًا ، مَعْنَاهُ : أَنَّهُمْ يَأْخُذُونَ الْمَاءَ مِنْ الْفُرَاتِ فِي أَوَانِيهِمْ ، وَالْمَاءُ فِي الْفُرَاتِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِصَاحِبِ الْمَشْرَعَةِ ثُمَّ الْمَوْضِعُ الَّذِي اتَّخَذَ فِيهِ الْمَشْرَعَةَ مِنْ الْأَرْضِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ ، وَلَوْ كَانَ مَمْلُوكًا فَهُوَ لَمْ يُؤَاجِرْهُمْ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ فِي يَدِهِ عَلَى حَالِهِ ، وَشَرْطُ إجَارَةِ الْأَرْضِ تَسْلِيمُهَا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ ؛ وَلِأَنَّهُمْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِالْأَرْضِ ، وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُونَ بِالْمَاءِ فَمَا يُعْطُونَهُ مِنْ الْمَاءِ لَا يَكُونُ عِوَضًا عَنْ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ بَلْ هُوَ أَكْلُ مَالِ الْغَيْرِ بِالْبَاطِلِ ، وَلَوْ تَقَبَّلَ هَذِهِ الْمَشْرَعَةَ كُلَّ شَهْرٍ بِشَيْءٍ مُسَمًّى تَقُومُ فِيهِ الدَّوَابُّ أَجَزْت ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْأَجْرَ بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ فَإِنَّ إيقَافَ الدَّوَابِّ فِي مَوْضِعٍ مِنْ الْأَرْضِ انْتِفَاعٌ بِهَا ، وَيَدُ الْمُسْتَأْجِرِ تَثْبُتُ عَلَيْهِ بِإِيقَافِ الدَّوَابِّ فِيهَا ، وَهِيَ مَعْلُومَةٌ بِبَيَانِ الْمُدَّةِ فَصَحَّتْ الْإِجَارَةُ لِذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلٌ قِطْعَةً مِنْهَا يَوْمَ يُقِيمُ فِيهَا بِغَيْرِ آلَةٍ جَازَ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ السَّقَّائِينَ مَا اسْتَأْجَرُوا مَوْضِعًا مَعْلُومًا ، وَلَا بَيَّنُوا لِوُقُوفِهِمْ مُدَّةً مَعْلُومَةً فَبَطَلَتْ الْإِجَارَةُ هُنَاكَ لِلْغَرَرِ ، وَالْجَهَالَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْمَشْرَعَةُ لَا يَمْلِكُهَا الَّذِي اتَّخَذَهَا فَلَا يَنْبَغِي لَهُ هَذَا ، وَلَا يَصِحُّ لَهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ دُكَّانًا فِي الطَّرِيقِ لِيُؤَاجِرَهُ مِنْ النَّاسِ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ فِي الطَّرِيقِ حَقُّ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ فِي مَوْضِعِ الْمَشْرَعَةِ مِنْ شَطِّ الْفُرَاتِ حَقُّ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُمْ ، وَبَيْنَ

حَقِّهِمْ بِاِتِّخَاذِ الْمُشَرَّعَةِ فِيهِ لِيُؤَاجِرَهُ فَيَكْتَسِبُ لِنَفْسِهِ .
وَلَوْ كَانَتْ فِي مَوْضِعٍ لَا حَقَّ فِيهِ لِأَحَدٍ فَاِتَّخَذَ مَشْرَعَةً فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَقُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ بِغَيْرِ أَجْرٍ كَمَا كَانَ لَهُمْ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُتَّخَذَ فِيهِ مَشْرَعَةٌ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ بِتَصَرُّفِهِ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُمْ ، وَبَيْنَ حَوَائِجِهِمْ ، وَإِنَّمَا أُرَخِّصُ لَهُ فِي ذَلِكَ إذَا كَانَتْ الْأَرْضُ لَهُ يَمْلِكُ رَقَبَتَهَا فَحِينَئِذٍ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ خُصُوصًا فِي غَيْرِ وَقْتِ الضَّرُورَةِ .
وَلَوْ أَرَادَ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَمُرُّوا فِي تِلْكَ الْأَرْضِ لِيَسْقُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ فَمَنَعَهُمْ مِنْهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ غَيْرُهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُمْ ، وَإِنْ كَانَ يَمْلِكُ رَقَبَتَهَا وَلَكِنَّهُمْ يَمُرُّونَ فِي أَرْضِهِ ، وَمَشْرَعَتِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ مَوْضِعُ الْحَاجَةِ ، وَالضَّرُورَةِ فَالْمَاءُ سَبَبٌ لِحَيَاةِ الْعَالَمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { ، وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } فَإِذَا لَمْ يَجِدُوا طَرِيقًا آخَرَ كَانَ هَذَا الطَّرِيقُ مُتَعَيَّنًا لِوُصُولِهِمْ مِنْهُ إلَى حَاجَتِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ لَهُمْ طَرِيقٌ غَيْرُ ذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ إلَى التَّطَرُّقِ فِي مِلْكِهِ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ طَعَامِ الْغَيْرِ فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ مِثْلُ ذَلِكَ الطَّعَامِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ طَعَامِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ يَجِبُ الضَّمَانُ لِمَا فِي التَّنَاوُلِ مِنْ إتْلَافِ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَهُنَا لَيْسَ فِي الْمُرُورِ بَيْنَ أَرْضِهِ إتْلَافُ شَيْءٍ عَلَيْهِ .

وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ نَهْرٌ فِي أَرْضِ رَجُلٍ فَأَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ فِي أَرْضِهِ لِيُعَالِجَ مِنْ النَّهْرِ شَيْئًا فَمَنَعَهُ رَبُّ الْأَرْضِ مِنْ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ أَرْضَهُ إلَّا أَنْ يَمْضِيَ فِي بَطْنِ النَّهْرِ ، وَكَذَلِكَ الْقَنَاةُ ، وَالْبِئْرُ ، وَالْعَيْنُ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي أَرْضِهِ ، وَلَا نَفْعَ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّطَرُّقِ فِي أَرْضِهِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ بِأَنْ يَمْضِيَ فِي أَرْضِ النَّهْرِ مَعَ أَنَّ هَذَا فِيهِ ضَرَرٌ خَاصٌّ ، وَفِي الْأَوَّلِ ضَرَرٌ عَامٌّ ، وَقَدْ يَتَحَمَّلُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ الْعَامِّ مَا لَا يَتَحَمَّلُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ الْخَاصِّ فَإِنْ كَانَ لَهُ طَرِيقٌ فِي الْأَرْضِ فَلَهُ أَنْ يَمُرَّ فِي طَرِيقِهِ إلَى النَّهْرِ ، وَالْعَيْنِ ، وَالْقَنَاةِ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَوْفِي مَا هُوَ مُسْتَحِقٌّ لَهُ .

وَإِذَا اصْطَلَحَ الرَّجُلَانِ عَلَى أَنْ يُخْرِجَا نَفَقَةً يَحْفِرَانِ بِهَا بِئْرًا فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبِئْرُ لِأَحَدِهِمَا ، وَالْحَرِيمُ لِلْآخَرِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُمَا قَصْدًا التَّفَرُّقَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ ثَبَتَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا شَرْعًا ، وَهُوَ الْبِئْرُ ، وَالْحَرِيمُ ثُمَّ اسْتِحْقَاقُ الْحَرِيمِ عَلَى طَرِيقِ التَّبَعِ لِتَمَكُّنِ الِانْتِفَاعِ بِهِ مِنْ الْبِئْرِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِالشَّرْطِ مَقْصُودًا مُنْفَصِلًا عَنْ الْبِئْرِ ثُمَّ فِي هَذَا الشَّرْطِ إضْرَارٌ بِصَاحِبِ الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِبِئْرِهِ مِنْ غَيْرِ حَرِيمٍ ، وَاعْتِبَارُ الشَّرْطِ لِلْمَنْفَعَةِ لَا لِلضَّرَرِ ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْمَنْفَعَةُ بَيْنَهُمَا مُخْتَلِفَةً أَوْ مُتَّفِقَةً ، وَإِنْ اشْتَرَطَا أَنْ يَكُونَ الْحَرِيمُ ، وَالْبِئْرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عَلَى أَنْ يُنْفِقَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِمَّا يُنْفِقُ الْآخَرُ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ عَلَيْهِمَا بِقَدْرِ الْمِلْكِ فَشَرْطُ الْمُنَاصَفَةِ فِي الْمِلْكِ يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ النَّفَقَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ شَرْعًا فَيَكُونُ اشْتِرَاطُ زِيَادَةِ النَّفَقَةِ عَلَى أَحَدِهِمَا مُخَالِفًا لِحُكْمِ الشَّرْعِ فَإِنْ فَعَلَا كَذَلِكَ رَجَعَ صَاحِبُ الْأَكْثَرِ بِنِصْفِ الْفَضْلِ عَلَى صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَقَ بِأَمْرِ صَاحِبِهِ فَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِي حِصَّةِ صَاحِبِهِ .

وَإِذَا كَانَتْ بِئْرٌ فِي أَرْضٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ الْبِئْرِ بِطَرِيقِهِ فِي الْأَرْضِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ يَبِيعُ طَرِيقًا بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ آخَرَ ، وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْأَرْضِ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَبِيعَ طَرِيقًا فِيهَا إلَّا بِرِضَا شَرِيكِهِ .
وَلَوْ بَاعَ نِصْفَ الْبِئْرِ بِغَيْرِ طَرِيقٍ جَازَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ طَرِيقٌ فِي الْأَرْضِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ بِتَسْمِيَةِ الْبِئْرِ فِي الْبَيْعِ مُطْلَقًا لَا يَدْخُلُ الطَّرِيقُ الْخَاصُّ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ كَمَا أَنْ بِتَسْمِيَةِ الدَّارِ ، وَالْبَيْتِ فِي الْبَيْعِ لَا يَدْخُلُ الطَّرِيقُ ، وَإِنْ بَاعَ نَصِيبَهُ مِنْ الْأَرْضِ مَعَ الْبِئْرِ ، وَنَصِيبُهُ نِصْفُ الْأَرْضِ جَازَ كُلُّهُ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مَعْلُومٌ ، وَالْمُشْتَرِي يَقُومُ مَقَامَ الْبَائِعِ فِي مِلْكِهِ ، وَلَا ضَرَرَ عَلَى الشَّرِيكِ فِي صِحَّةِ هَذَا الْبَيْعِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ نَهْرٌ فِي أَرْضِ رَجُلٍ فَادَّعَى رَجُلٌ فِيهِ شِرْبَ يَوْمٍ فِي الشَّهْرِ ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ قُضِيَ لَهُ بِهِ ، وَكَذَلِكَ مَسِيلُ الْمَاءِ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِاتِّفَاقِ الْخَصْمَيْنِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الشِّرْبِ ، وَالْمَسِيلِ لَا تَمْنَعُ إثْبَاتَهُ بِالْبَيِّنَةِ .
وَلَوْ ادَّعَى يَوْمَيْنِ فِي الشَّهْرِ فَجَاءَ بِشَاهِدٍ عَلَى يَوْمٍ فِي رَقَبَةِ النَّهْرِ ، وَشَاهِدٍ آخَرَ عَلَى يَوْمَيْنِ فَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَقْضِي بِشَيْءٍ ، وَفِي قَوْلِهِمَا يَقْضِي بِيَوْمٍ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ اخْتِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ فِي التَّطْلِيقَةِ ، وَالتَّطْلِيقَتَيْنِ ، وَالْأَلْفِ ، وَالْأَلْفَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي يَدَّعِي شِرْبَ يَوْمٍ فِي الشَّهْرِ لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ ؛ لِأَنَّهُ كَذَّبَ أَحَدَ شَاهِدَيْهِ ، وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّ لَهُ شِرْبَ يَوْمٍ ، وَلَمْ يُسَمُّوا عَدَدًا ، وَلَمْ يَشْهَدُوا أَنَّ لَهُ فِي رَقَبَةِ النَّهْرِ شَيْئًا لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمْ ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ مَجْهُولٌ جَهَالَةً يَتَعَذَّرُ عَلَى الْقَاضِي الْقَضَاءُ مَعَهَا .

وَإِنْ ادَّعَى عُشْرَ نَهْرٍ أَوْ قَنَاةٍ فَشَهِدَ لَهُ أَحَدُهُمَا بِالْعُشْرِ ، وَالْآخَرُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ ، وَإِنْ شَهِدُوا بِالْإِقْرَارِ لِاخْتِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ لَفْظًا ، وَمَعْنًى ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا تُقْبَلُ عَلَى الْأَقَلِّ اسْتِحْسَانًا ، وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْخُمْسِ بَطَلَتْ الشَّهَادَةُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ شَهِدَ لَهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا ادَّعَى .

وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ أَرْضًا عَلَى نَهْرٍ شِرْبُهَا مِنْهُ فَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ أَنَّهَا لَهُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الشِّرْبَ سَبَبًا فَإِنِّي أَقْضِي لَهُ بِهَا ، وَبِحِصَّتِهِ مِنْ الشِّرْبِ ؛ لِأَنَّ الشِّرْبَ تَبَعُ الْأَرْضِ ، وَاسْتِحْقَاقُ التَّبَعِ بِاسْتِحْقَاقِ الْأَصْلِ ، وَإِنْ شَهِدُوا لَهُ بِالشِّرْبِ دُونَ الْأَرْضِ لَمْ نَقْضِ لَهُ مِنْ الْأَرْضِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ تَبَعٌ ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْأَصْلَ بِاسْتِحْقَاقِ التَّبَعِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُمْ لَوْ شَهِدُوا لَهُ بِالْبِنَاءِ لَا يَسْتَحِقُّ مَوْضِعَهُ مِنْ الْأَرْضِ .
وَلَوْ شَهِدُوا لَهُ بِالْأَرْضِ اسْتَحَقَّ الْبِنَاءَ تَبَعًا ، وَكَذَلِكَ الْأَشْجَارُ مَعَ الثِّمَارِ .

وَإِذَا ادَّعَى أَرْضًا فِي يَدِ رَجُلٍ فَشَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ أَنَّهَا لَهُ ، وَشَهِدَ آخَرُ عَلَى إقْرَارِ ذِي الْيَدِ بِذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا شَهِدَ بِإِقْرَارٍ هُوَ كَلَامٌ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ ، وَالْكَذِبِ ، وَالْآخَرُ شَهِدَ لَهُ بِمِلْكِ الْأَرْضِ ، وَهُمَا مُتَغَايِرَانِ .

وَلَوْ كَاتَبَ رَجُلٌ عَبْدَهُ عَلَى شِرْبٍ بِغَيْرِ أَرْضٍ أَوْ عَلَى أَرْضٍ ، وَشِرْبٍ لَمْ يَجُزْ أَمَّا الشِّرْبُ بِغَيْرِ أَرْضٍ فَلَا يُسْتَحَقُّ بِالتَّسْمِيَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ فِي الْأَرْضِ مَعَ الشِّرْبِ إذَا لَمْ تَكُنْ بِعَيْنِهَا فَهِيَ مِمَّا لَا يُسْتَحَقُّ دَيْنًا بِشَيْءٍ مِنْ عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ ، وَإِنْ كَانَتْ أَرْضًا بِعَيْنِهَا لِغَيْرِهِ لَمْ يَجُزْ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ يَسْتَدْعِي تَسْمِيَةَ الْبَدَلِ فَتَسْمِيَةُ عَيْنٍ هُوَ مَمْلُوكٌ لِغَيْرِ الْعَاقِدِ لَا يَكُونُ صَحِيحًا كَالْبَيْعِ ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ عِنْدَ الْكِتَابَةِ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى فَإِنَّمَا يَصِيرُ هُوَ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ بَعْدَ الْكِتَابَةِ فَيَكُونُ هَذَا مِنْ الْمَوْلَى مُبَادَلَةَ مِلْكِهِ بِمِلْكِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ فِي الْكِتَابَةِ عَلَى الْأَعْيَانِ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ ، وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدٌ أَنَّ فُلَانًا أَوْصَى لَهُ بِثُلُثِ أَرْضِهِ ، وَثُلُثِ شِرْبِهِ ، وَشَهِدَ آخَرُ بِثُلُثِ شِرْبِهِ دُونَ أَرْضِهِ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِثُلُثِ الشِّرْبِ لَهُ لِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَيْهِ لَفْظًا ، وَمَعْنًى ، وَلَيْسَ لَهُ فِي ثُلُثِ الْأَرْضِ إلَّا شَاهِدٌ وَاحِدٌ ، وَلَوْ أَوْصَى بِثُلُثِ شِرْبِهِ بِغَيْرِ أَرْضِهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ فِي الْحَجِّ أَوْ الْفُقَرَاءِ أَوْ فِي الرِّقَابِ كَانَ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّ صَرْفَ الْمُوصَى بِهِ إلَى هَذِهِ الْجِهَاتِ يَكُونُ بِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ أَوْ بِالْبَيْعِ ، وَصَرْفِ الثَّمَنِ إلَيْهَا ، وَالشِّرْب لَا يَحْتَمِل شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ أَوْصَى بِثُلُثِ حَقِّهِ فِي النَّهْرِ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى مَعَهُ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَرْضِ يَعْنِي أَرْضَ النَّهْرِ ، وَهُوَ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ مَعَ الْأَرْضِ .

وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ أَرْضٌ ، وَشِرْبٌ فَادَّعَى الرَّجُلُ أَنَّهُ اشْتَرَى ذَلِكَ مِنْهُ بِأَلْفٍ فَشَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ أَنَّهُ اشْتَرَى الشِّرْبَ ، وَالْأَرْضَ بِأَلْفٍ ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ اشْتَرَى الْأَرْضَ ، وَحْدَهَا بِغَيْرِ شِرْبٍ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ شِرْبًا فَهَذِهِ الشَّهَادَةُ لَا تَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُكَذِّبُ أَحَدَ شَاهِدَيْهِ ؛ وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَضَاءِ بِالشِّرْبِ لَهُ ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ عَلَى شِرَاءِ الشِّرْبِ مَعَ الْأَرْضِ وَاحِدٌ ، وَالْمُدَّعِي غَيْرُ رَاضٍ بِالْتِزَامِ الْأَلْفِ بِمُقَابَلَةِ الْأَرْضِ بِدُونِ الشِّرْبِ فَإِنْ كَانَ هَذَا الثَّانِي شَهِدَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهَا أَوْ بِمَرَافِقِهَا أَوْ بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ ، وَهُوَ فِيهَا أَوْ مِنْهَا جَازَتْ الشَّهَادَةُ ؛ لِأَنَّ الشِّرْبَ يَدْخُلُ فِي شِرَاءِ الْأَرْضِ بِذِكْرِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ فِي الْعِبَارَةِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمَا فِي الْمَعْنَى ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْعَمَلَ بِشَهَادَتِهِمَا كَمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْهِبَةِ ، وَالْآخَرُ بِالنِّحْلَةِ ، وَلَوْ جَحَدَ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ ، وَادَّعَى رَبُّ الْأَرْضِ أَنَّهُ بَاعَهَا بِأَلْفٍ بِغَيْرِ شِرْبٍ فَزَادَ أَحَدُ شَاهِدَيْهِ الشِّرْبَ أَوْ الْحُقُوقَ أَوْ الْمَرَافِقَ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ مُكَذِّبٌ أَحَدَ شَاهِدَيْهِ .

وَإِذَا بَاعَ الرَّجُلُ شِرْبًا بِأَمَةٍ ، وَقَبَضَهَا فَوَطِئَهَا فَوَلَدَتْ مِنْهُ فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالْقَبْضِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ ، وَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا ، وَلَمْ يُذْكَرْ الْعُقْرُ هُنَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ خُصُوصًا فِيمَا إذَا تَعَذَّرَ رَدُّهَا بِأَنْ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، وَلَوْ وَطِئَهَا رَجُلٌ بِشُبْهَةٍ ، وَأَخَذَ بَائِعُ الشِّرْبِ الْمَهْرَ أَوْ قَطَعَ رَجُلٌ يَدَهَا أَوْ فَقَأَ - عَيْنَهَا فَأَخَذَ الْمُشْتَرِي أَرْشَ ذَلِكَ ثُمَّ مَاتَتْ الْجَارِيَةُ عِنْدَهُ ضَمِنَ قِيمَتَهَا ، وَالْأَرْشُ وَالْمَهْرُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَضْمَنُ قِيمَتَهَا مِنْ ، وَقْتِ الْقَبْضِ فَيَتَقَرَّرُ مِلْكُهُ فِيهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَكَانَ الْأَرْشُ ، وَالْعُقْرُ حَاصِلًا بَعْدَ مِلْكِهِ فَيَكُونُ لَهُ .
وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَلَدِ فَإِنَّهَا لَوْ ، وَلَدَتْ ثُمَّ مَاتَتْ فَالْمُشْتَرِي ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا ، وَعَلَيْهِ رَدُّ الْوَلَدِ مَعَ رَدِّ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَيْسَ بِعِوَضٍ عَنْ جُزْءٍ مَضْمُونٍ مِنْهَا ، وَإِنَّمَا يَتَقَرَّرُ لَهُ الْمِلْكُ بِالضَّمَانِ فَيَتَقَرَّرُ الْمِلْكُ فِي الْمَضْمُونِ أَوْ فِيمَا هُوَ عِوَضٌ عَنْ الْمَضْمُونِ أَوْ فِيمَا هُوَ تَبَعٌ لِلْمَضْمُونِ ؛ لِأَنَّ التَّبَعَ يَمْلِكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ ، وَالْوَلَدُ بَعْدَ الِانْفِصَالِ لَيْسَ بِمَضْمُونٍ ، وَلَا هُوَ عِوَضٌ عَنْ الْمَضْمُونِ ، وَلَا هُوَ تَبَعٌ لِلْمَضْمُونِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ وُجُوبُ رَدِّ الْوَلَدِ بِتَقَرُّرِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ فِي الْأُمِّ فَأَمَّا الْأَرْشُ فَبَدَلُ جُزْءٍ مَضْمُونٍ ، وَقَدْ سَلَّمَ بَدَلَ هَذَا الْجُزْءِ لِمُشْتَرِي الشِّرْبِ حِينَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا صَحِيحَةً فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَلَّمَ لَهُ بَدَلٌ آخَرُ إذْ لَا يُسَلَّمُ لِلْمَرْءِ بَدَلَانِ عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ ، وَكَذَلِكَ الْمَهْرُ فَإِنَّهُ عِوَضٌ عَنْ الْمُسْتَوْفِي بِالْوَطْءِ ، وَالْمُسْتَوْفِي بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ ، وَقَدْ ضَمِنَ قِيمَةَ جَمِيعِ الْعَيْنِ فَيُسَلِّمُ لَهُ مَا كَانَ بَدَلُ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ فَإِنْ قِيلَ : الْمُسْتَوْفِي بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ جُزْءٍ ،

وَلَكِنَّهُ جُزْءٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ بِالْوَطْءِ نُقْصَانٌ فِيهَا ، وَتَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْعُقْرِ مِنْ الْوَاطِئِ رَدَّهَا الْمُشْتَرِي ، وَلَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا قُلْنَا نَعَمْ الْمُسْتَوْفِي بِالْوَطْءِ جُزْءٌ غَيْرُ مَضْمُونٍ حَقِيقَةً ، وَلَكِنَّهُ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ الَّذِي هُوَ مَضْمُونٌ ، وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ وَطْءَ الْمُشْتَرِي يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ أَوْ بِمَنْزِلَةِ جُزْءٍ هُوَ ثَمَرَهُ كَالْكَسْبِ فَالْكَسْبُ تَبَعٌ لِلْمَضْمُونِ فِي حُكْمِ الْمِلْكِ فَكَذَلِكَ الْعُقْرُ الْمُسْتَوْفِي مِنْ الْوَاطِئِ فَإِنْ قِيلَ : فَالْوَلَدُ أَيْضًا خَلْفٌ عَنْ جُزْءٍ هُوَ مَضْمُونٌ ، وَهُوَ النُّقْصَانُ الْمُتَمَكِّنُ بِالْوِلَادَةِ ، وَلِهَذَا يَنْجَبِرُ بِهِ قُلْنَا الْخِلَافَةُ بِحُكْمِ اتِّحَادِ السَّبَبِ لَا ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ عَنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ ، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ رَدُّ الْعِوَضِ لِوُصُولِ مِثْلِهِ إلَى بَائِعِ الْجَارِيَةِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْوَلَدِ .
وَلَوْ كَانَتْ حَيَّةً فَأَخَذَ الْبَائِعُ الْجَارِيَةَ تَبِعَهَا الْأَرْشُ ، وَالْمَهْرُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَرَّرْ مِلْكُ الْمُشْتَرِي فِيهَا بَلْ انْعَدَمَ مِنْ الْأَصْلِ بِرَدِّهَا ؛ وَلِأَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُهُ رَدُّ هَذَا الْجُزْءِ حَالَ قِيَامِهِ فَكَذَلِكَ يَلْزَمُهُ رَدُّ بَدَلِهِ مَعَ رَدِّ الْأَصْلِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَإِذَا اشْتَرَى أَرْضًا بِشِرْبِهَا ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَفِي الْأَرْضِ زَرْعٌ قَدْ اشْتَرَطَهُ مَعَهَا ثُمَّ سَقَى الزَّرْعَ مِنْ ذَلِكَ الشِّرْبِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ أَوْ سَقَى بِذَلِكَ الشِّرْبِ زَرْعًا فِي أَرْضٍ أُخْرَى أَوْ نَخْلًا أَوْ شَجَرًا فَهَذَا رِضًا ، وَقَطْعٌ لِلْخِيَارِ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي الْمُشْتَرَى تَصَرُّفًا بِصِفَةِ الْمَالِكِ ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُهُ شَرْعًا إلَّا بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ ، وَيَقْصِدُ بِمُبَاشَرَتِهِ إصْلَاحَ الْمِلْكِ ، وَإِحْرَازَهُ فَكَانَ دَلِيلُ الرِّضَا بِتَقَرُّرِ مِلْكِهِ ، وَدَلِيلُ الرِّضَا فِي إسْقَاطِ الْخِيَارِ كَصَرِيحِ الرِّضَا ، وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ ، وَصَنَعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ قَطْعٌ لِلْخِيَارِ ، وَفَسْخٌ لِلْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُ مُقَرِّرٌ لِمِلْكِهِ بِمَا بَاشَرَ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ نَخِيلًا فَلَقَّحَهَا أَوْ أَرْضًا فَكَرَبَهَا أَوْ سَرْقَنَهَا فَهُوَ قَطْعٌ لِلْخِيَارِ ، وَفَسْخٌ لِلْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُ مُقَرِّرٌ لِمِلْكِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَدَّ النَّخِيلَ أَوْ قَطَفَ الْكَرْمَ فَهَذَا كُلُّهُ تَصَرُّفٌ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ ، وَيُقْصَدُ بِهِ إحْرَازُ الْمِلْكِ ، وَإِصْلَاحُهُ .

وَإِذَا اشْتَرَى عُشْرَ نَهْرٍ أَوْ بِئْرٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ سَقَى أَرْضًا لَهُ مِنْ ذَلِكَ فَهَذَا قَطْعٌ لِلْخِيَارِ بِخِلَافِ مَا لَوْ سَقَى مِنْهُ بَقَرًا أَوْ غَنَمًا أَوْ اسْتَقَى لِلشُّقَّةِ مِنْ الْبِئْرِ أَوْ لِلْوُضُوءِ فَهَذَا لَا يَكُونُ رِضًا ؛ لِأَنَّ سَقْيَ الْأَرْضِ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْبِئْرِ ، وَالنَّهْرِ ، وَلَا يَمْلِكُهُ شَرْعًا إلَّا بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ فَإِقْدَامُهُ عَلَيْهِ يَكُونُ تَقْرِيرًا لِمِلْكِهِ ، وَأَمَّا الِاسْتِقَاءُ لِلشُّقَّةِ فَغَيْرُ مَقْصُودٍ بِالنَّهْرِ ، وَالْبِئْرِ ، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِالْمِلْكِ شَرْعًا فَإِقْدَامُهُ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ دَلِيلَ الرِّضَا بِمِلْكِهِ يُوَضِّحُهُ : أَنَّ قَبْلَ الْبَيْعِ كَانَ يَمْلِكُ الِاسْتِقَاءَ مِنْ هَذَا الْبِئْرِ لِلشُّقَّةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ فَسْخِ الْبَيْعِ بِمِلْكِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلْبَيْعِ فِيهِ ، وَأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَيْهِ لَا يُوجِبُ تَنْفِيذَ الْبَيْعِ فَأَمَّا سَقْيُ الْأَرْضِ فَمَا كَانَ يَمْلِكُهُ قَبْلَ الْبَيْعِ ، وَلَا بَعْدَ فَسْخِ الْبَيْعِ بَلْ إنَّمَا يُمَكَّنُ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ الْبَيْعِ فَإِقْدَامُهُ عَلَيْهِ تَقْرِيرٌ لِلْبَيْعِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَالِاسْتِقَاءُ لِلشُّقَّةِ لَا يَكُونُ قَطْعًا لِخِيَارِهِ ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْهُ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ قِيَامِ مِلْكِهِ شَرْعًا ( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْهُ بَعْدَ تَمَامِ الْبَيْعِ بِالْإِجَارَةِ بِخِلَافِ سَقْيِ الْأَرْضِ مِنْهُ .

وَإِذَا اشْتَرَى نَهْرًا ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَسَقَى أَجْنَبِيٌّ أَرْضًا لَهُ مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ ، وَالْمُشْتَرِي لَا يَعْلَمُ بِهِ فَلَيْسَ هَذَا بِقَطْعٍ لِلْخِيَارِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ نُقْصَانٌ فِي الْعَيْنِ ، وَلَا ، وَجَدَ مِنْ الْمُشْتَرِي دَلِيلَ الرِّضَا بِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ عَيَّبَهُ أَجْنَبِيٌّ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنَّ خِيَارَهُ إنَّمَا يَسْقُطُ هُنَاكَ لِتَمَكُّنِ النُّقْصَانِ فِي الْعَيْنِ ، وَعَجْزِهِ عَنْ رَدِّهِ كَمَا قَبَضَ .

وَإِذَا اشْتَرَى نَهْرًا بِقَنَاةٍ ، وَأَسْقَطَ الْخِيَارَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ سَقَى أَرْضَهُ مِمَّا اشْتَرَى فَهُوَ إجَازَةٌ لِلْبَيْعِ ، وَإِنْ سَقَاهَا مِمَّا بَاعَ فَهُوَ نَقْضٌ لِلْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ خِيَارَهُ فِيمَا بَاعَ خِيَارٌ لِلْبَائِعِ فَسَقْيِهِ لِلْأَرْضِ مِمَّا بَاعَ دَلِيلُ تَقَرُّرِ مِلْكِهِ فِيمَا بَاعَ ، وَفِيمَا اشْتَرَى دَلِيلُ الرِّضَا بِتَمَلُّكِهِ .
وَلَوْ أَنَّ الْآخَرَ هُوَ الَّذِي سَقَى أَرْضَهُ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا لَمْ يَكُنْ هَذَا نَقْضًا لِلْبَيْعِ ، وَلَا إجَارَةً ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي جَانِبِهِ لَازِمٌ ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنْ إسْقَاطِ خِيَارِ صَاحِبِهِ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا لِجَارِيَتِهِ ، وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ أَعْتَقَ مَا بَاعَ فَهُوَ نَقْضٌ مِنْهُ لِلْبَيْعِ ، وَإِنْ أَعْتَقَ مَا اشْتَرَى فَهُوَ إجَازَةٌ ، وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ صَاحِبُهُ لَمْ يَكُنْ نَقْضًا ، وَلَا إجَازَةً ؛ لِأَنَّ عِتْقَ صَاحِبِهِ فِيمَا بَاعَ لَمْ يَنْفُذْ لِزَوَالِ مِلْكِهِ ، وَفِيمَا اشْتَرَى لَا يَنْفُذُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَمْلِكْهُ فَإِنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ خُرُوجَ الْمَبِيعِ عَنْ مِلْكِهِ .

وَلَوْ اشْتَرَى بِئْرًا ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَقَبَضَهَا فَانْخَسَفَتْ أَوْ انْهَدَمَتْ أَوْ ذَهَبَ مَاؤُهَا أَوْ نَقَصَ نُقْصَانًا فَاحِشًا لَزِمَهُ الْبَيْعُ لِتَغَيُّرِ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ بِاخْتِيَارِهِ يَمْلِكُ الرَّدَّ كَمَا قَبَضَ ، وَلَا يَمْلِكُ إلْحَاقَ الضَّرَرِ بِالْبَائِعِ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ مُتَغَيِّرًا ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ رَدِّهِ كَمَا قَبَضَ ، وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَذَهَبَ مَاؤُهَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَالْبَائِعُ عَلَى خِيَارِهِ إنْ شَاءَ أَمْضَى الْبَيْعَ ، وَأَخَذَ الثَّمَنَ ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ الْمَبِيعَ ، وَأَخَذَ قِيمَةَ النُّقْصَانِ ؛ لِأَنَّهَا تَعَيَّبَتْ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْبَائِعَ مِنْ التَّصَرُّفِ بِحُكْمِ خِيَارِهِ ، وَإِذَا فَسَخَ الْبَيْعَ بَقِيَتْ مَضْمُونَةً عِنْدَ الْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ ، وَالْعَقَارُ يُضْمَنُ بِالْقَبْضِ بِجِهَةِ الْعَقْدِ فَلِهَذَا ضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ ، وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَبَنَاهَا ، وَطَوَاهَا حَتَّى عَادَتْ كَمَا كَانَتْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا ؛ لِأَنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ بِحُكْمِ الْمِلْكِ ، وَهُوَ مَسْقِطٌ لِلْخِيَارِ فَكَيْف يَعُودُ بِهِ خِيَارُهُ الَّذِي سَقَطَ .

وَإِذَا اشْتَرَى بِئْرًا ، وَحَرِيمَهَا بِشَرْطِ الْخِيَارِ ، وَفِي حَرِيمِهَا كَلَأٌ فَأَرْعَاهَا الْغَنَمَ ، وَأَبَانَهَا فِي عَطَنِ الْبِئْرِ لَمْ يَكُنْ هَذَا رِضًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ سَقَى مِنْهَا غَنَمًا لَهُ أَوْ أَبَانَهَا فِي الْعَطَنِ ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الْكَلَإِ شَرْعًا لَيْسَ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ فَقَدْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْهُ قَبْلَ الْبَيْعِ ، وَبَعْدَ فَسْخِ الْبَيْع بِخِلَافِ مَا لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي حَرِيمِهَا أَوْ بَنَى فِيهَا فَإِنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ لَا يَمْلِكُهُ إلَّا بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ فَيَكُونُ إقْدَامُهُ عَلَيْهِ دَلِيلَ الرِّضَا .
وَلَوْ كَانَ فِيهِ شَجَرٌ مِمَّا تُنْبِتُهُ النَّاسُ فَأَفْسَدَتْهُ الْغَنَمُ أَوْ قَلَعَتْهُ كَانَ هَذَا مُلْزِمًا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ الْحَادِثِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ، وَذَلِكَ مُسْقِطٌ لِخِيَارِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ أَجْنَبِيٌّ .
وَلَوْ هَدَمَ الْبِئْرَ إنْسَانٌ فَضَمِنَهُ الْمُشْتَرِي قِيمَةَ الْهَدْمِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ قَطْعًا لِلْخِيَارِ ؛ لِأَنَّ قَبْلَ التَّضْمِينِ سَقَطَ خِيَارُهُ لِلتَّعْنِيتِ ، وَالتَّضْمِينُ تَصَرُّفٌ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ بِهِ مَا سَقَطَ مِنْ الْخِيَارِ ، وَكَرِي النَّهْرِ ، وَكَسْرُ الْبِئْرِ رِضًا بِالْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ لَا يُفْعَلُ إلَّا فِي الْمِلْكِ عَلَى قَصْدِ الْإِصْلَاحِ فَهُوَ كَالْبِنَاءِ ، وَالْحَفْرِ فِي الْقَنَاةِ ، وَإِنْ ، وَقَعَ فِي الْبِئْرِ مَا يُنَجِّسُهُ مِنْ عُذْرَةٍ أَوْ شَاةٍ أَوْ عُصْفُورٍ أَوْ فَأْرَةٍ فَمَاتَتْ فَذَلِكَ يَلْزَمُهُ الْبَيْعُ سَوَاءً ، وَجَبَ نَزْحُ جَمِيعِ الْمَاءِ أَوْ نَزْحُ بَعْضِ الدِّلَاءِ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ قَدْ تَنَجَّسَ بِمَا وَقَعَ فِي الْبِئْرِ قَبْلَ النَّزْحِ مِنْهُ فَالنَّجَاسَةُ فِي الْمَاءِ عَيْبٌ فِي الْعُرْفِ ، وَالتَّعَيُّبُ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي مُسْقِطٌ لِخِيَارِهِ .

وَإِذَا اسْتَعَارَ مِنْ رَجُلٍ نَهْرًا لِيَسْقِيَ مِنْهُ بِهِ أَرْضَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثُمَّ سَقَى بِهِ أَرْضَهُ فَهَذَا قَطْعٌ لِلْخِيَارِ ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الشِّرَاءِ إنَّمَا سَقَى بِهِ بِحُكْمِ الْبَيْعِ لَا بِحُكْمِ الِاسْتِعَارَةِ فَإِنَّ الْإِعَارَةَ تَنْقَطِعُ بِزَوَالِ مِلْكِ الْبَائِعِ بِالْبَيْعِ الثَّابِتِ فِي حَقِّهِ فَتُقَدَّمُ الِاسْتِعَارَةُ وُجُودًا ، وَعَدَمًا بِمَنْزِلَةٍ ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ الْمُشْتَرِي الشِّرْبَ بِغَيْرِ أَرْضٍ أَوْ سَاوَمَ بِهِ أَوْ أَجَّرَهُ إجَارَةً صَحِيحَةً أَوْ أَجَّرَ الشِّرْبَ إجَارَةً فَاسِدَةً أَوْ رَهَنَ وَاحِدًا مِنْهُمَا أَوْ تَزَوَّجَ عَلَيْهِ أَوْ أَعَارَهُ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَزَرَعَ الْمُسْتَعِيرُ الْأَرْضَ أَوْ سَقَى بِالشِّرْبِ أَوْ لَمْ يَفْعَلْ فَهَذَا كُلُّهُ قَطْعٌ لِلْخِيَارِ ؛ لِأَنَّ مَا بَاشَرَ مِنْ التَّصَرُّفِ لَا يَفْعَلُهُ إلَّا الْمَالِكُ عَادَةً فَإِقْدَامُهُ عَلَيْهِ دَلِيلُ الرِّضَا بِمِلْكِهِ .

وَلَوْ اشْتَرَى رَحَا مَاءٍ بِنَهْرِهَا ، وَالْبَيْتَ الَّذِي هُوَ فِيهِ ، وَمَتَاعَهَا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا فَإِنْ طَحَنَ بِهَا لَمْ يَكُنْ رِضًا بِهَا ؛ لِأَنَّ الطَّحْنَ لِلِاخْتِبَارِ لَا لِلِاخْتِيَارِ فَإِنَّ مَقْصُودَهُ مِنْ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ أَنَّهُ يَنْظُرُ هَلْ يَتِمُّ مَقْصُودُهُ بِهَا أَوْ لَا يَتِمُّ ، وَلَا يَعْرِفُ ذَلِكَ إلَّا بِالطَّحْنِ فَهُوَ نَظِيرُ الِاسْتِخْدَامِ فِي الْمَمَالِيكِ ، وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ لِلنَّظَرِ إلَى سَيْرِهَا فَإِنْ نَقَصَهَا الطَّحْنُ أَوْ انْكَسَرَتْ فَهَذَا رِضًا مِنْهُ بِسَبَبِ التَّعَيُّبِ فِي ضَمَانِهِ لَا بِسَبَبِ الطَّحْنِ .

وَلَوْ اشْتَرَى أَرْضًا ، وَشِرْبًا ، وَقَالَ لِي الرِّضَا إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إنْ رَضِيتُ أَجَزْتُ ، وَإِنْ كَرِهْتُ تَرَكْتُ ، أَوْ قَالَ : لِي الْخِيَارُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَهَذَا جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ لِنَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَإِنَّمَا يُبْنَى الْحُكْمُ عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ .

وَإِذَا بَاعَ أَرْضًا ، وَشِرْبًا بِجَارِيَةٍ ، وَاشْتَرَطَ الْخِيَارَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَكَانَ مَعَ الْجَارِيَةِ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَأَنْفَقَهَا لَمْ يَكُنْ هَذَا رِضًا بِخِلَافِ مَا إذَا قَبَّلَ الْجَارِيَةَ أَوْ جَامَعَهَا أَوْ عَرَضَهَا عَلَى الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ مُتَعَيِّنَةٌ فِي الْعَقْدِ فَإِقْدَامُهُ عَلَى تَصَرُّفٍ فِيهَا هُوَ دَلِيلُ الرِّضَا بِمِلْكِهَا ، وَيَكُونُ إسْقَاطًا لِلْخِيَارِ فَأَمَّا الْمِائَةُ الَّتِي قَبَضَهَا فَغَيْرُ مُتَعَيِّنَةٍ فِي الْعَقْدِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ كَانَ لِمُشْتَرِي الْأَرْضِ أَنْ يُعْطِيَ غَيْرَهَا ، وَإِنَّهُ بَعْدَ الْفَسْخِ لَا يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ رَدُّ الْمَقْبُوضِ مِنْ الدَّرَاهِمِ بِعَيْنِهِ فَلَا يَكُونُ تَصَرُّفُهُ فِيهَا دَلِيلَ الرِّضَا بِحُكْمِ الْبَيْعِ فَكَانَ عَلَى خِيَارِهِ بَعْدَ إنْفَاقِهَا .

وَلَوْ اشْتَرَى أَرْضًا ، وَشِرْبًا ، وَشَرَطَ الْخِيَارَ فِي الْأَرْضِ دُونَ الشِّرْبِ أَوْ فِي الشِّرْبِ دُونَ الْأَرْضِ فَهَذَا بَيْعٌ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ وَاحِدَةٌ ، وَالثَّمَنَ جُمْلَةٌ ، وَاَلَّذِي لَمْ يَشْتَرِطْ الْخِيَارَ فِيهِ يَتِمُّ الْبَيْعُ فِيهِ ، وَثَمَنُهُ مَجْهُولٌ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ فِي أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ .

وَإِذَا اشْتَرَى الْعَبْدُ التَّاجِرُ أَرْضًا ، وَشِرْبًا بِشَرْطِ الْخِيَارِ ، وَنَقَضَ مَوْلَاهُ الْبَيْعَ أَوْ أَجَازَهُ فَنَقْضُهُ بَاطِلٌ سَوَاءً كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ لِأَنَّهُ حَجْرٌ خَاصٌّ فِي إذْنٍ عَامٍّ ، وَإِجَازَتُهُ تَصِحُّ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ مِلْكُهُ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِالْبَيْعِ ، وَالْهِبَةِ ، وَيَسْقُطُ بِهِ خِيَارُ الْعَبْدِ لَا مَحَالَةَ فَكَذَلِكَ يَصِحُّ مِنْهُ إسْقَاطُ خِيَارِهِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ مِنْ كَسْبِهِ لَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ التَّصَرُّفِ الْمُسْقِطِ لِخِيَارِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ خِيَارِهِ فِيهِ قَصْدًا .

وَإِنْ كَانَ نَهْرٌ بَيْنَ قَوْمٍ لَهُمْ عَلَيْهِ أَرْضُونَ ، وَلِبَعْضِ أَرْضِهِمْ سَوَانِي فِي ذَلِكَ النَّهْرِ ، وَلِبَعْضِهَا دَوَالِي ، وَبَعْضِهَا لَيْسَتْ لَهَا سَاقِيَّةٌ ، وَلَا دَالِيَةٌ ، وَلَيْسَ لَهَا شِرْبٌ مَعْرُوفٌ مِنْ هَذَا النَّهْرِ ، وَلَا مِنْ غَيْرِهِ فَاخْتَصَمُوا فِي هَذَا النَّهْرِ ، وَادَّعَى صَاحِبُ الْأَرْضِ أَنَّ لَهَا فِيهِ شِرْبًا ، وَهِيَ عَلَى شَاطِئِ النَّهْرِ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ النَّهْرُ بَيْنَ أَصْحَابِ السَّوَانِي وَالدَّوَالِي دُونَ أَهْلِ الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّ يَدَ أَصْحَابِ السَّوَانِي ، وَالدَّوَالِي ثَابِتَةٌ عَلَيْهِ بِالِاسْتِعْمَالِ ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ مِثْلُ ذَلِكَ الْيَدِ فَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ تَنَازَعَ اثْنَانِ فِي ثَوْبٍ ، وَأَحَدُهُمَا لَابِسُهُ ، وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِذَيْلِهِ أَوْ تَنَازَعَا فِي دَابَّةٍ ، وَأَحَدُهُمَا رَاكِبُهَا ، وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِلِجَامِهَا .
وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ : النَّهْرُ بَيْنَهُمْ جَمِيعًا عَلَى قَدْرِ أَرَاضِيهمْ الَّتِي عَلَى شَطِّ النَّهْرِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِحَفْرِ النَّهْرِ سَقْيُ الْأَرَاضِي لَا اتِّخَاذُ السَّوَانِي وَالدَّوَالِي ، فَفِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ عَلَى حَالِهِمْ عَلَى السَّوَاءِ فِي إثْبَاتِ الْيَدِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَنَازَعَا فِي حَائِطٍ ، وَلِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ جَرَادِي أَوْ بَوَارِي أَوْ تَنَازَعَا فِي دَابَّةٍ ، وَلِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِمَا مِخْلَاةٌ أَوْ مِنْدِيلٌ فَإِنَّهُ لَا يَتَرَجَّحُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ تَحَمُّلٌ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فَكَذَلِكَ اتِّخَاذُ السَّوَانِي ، وَالدَّوَالِي عَلَى النَّهْرِ تَبَعٌ غَيْرُ مَقْصُودٍ فَلَا يَتَرَجَّحُ بِذَلِكَ صَاحِبُهُ فَإِنْ كَانَ يُعْرَفُ لَهُمْ شِرْبٌ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْرُوفِ ، وَإِلَّا فَهُوَ بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَرَاضِيهِمْ ؛ لِأَنَّ الشِّرْبَ لِحَاجَةِ الْأَرَاضِي فَتُقَدَّرُ بِقَدْرِ الْأَرْضِ .
وَإِنْ كَانَ لِهَذَا الْأَرْضِ شِرْبٌ مَعْرُوفٌ مِنْ غَيْرِ هَذَا النَّهْرِ فَلَهَا شِرْبُهَا مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ ، وَلَيْسَ لَهَا مِنْ هَذَا النَّهْرِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ الْوَاحِدَةَ

لَا يُجْعَلُ شِرْبُهَا مِنْ نَهْرَيْنِ عَادَةً فَكَوْنُ شِرْبٍ مَعْرُوفٍ لَهَا مِنْ نَهْرٍ آخَرَ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّهُ لَا شِرْبَ لَهَا فِي هَذَا النَّهْرِ ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى شَطِّهِ ؛ وَلِأَنَّ صَاحِبَ هَذِهِ الْأَرْضِ إنَّمَا كَانَ يَسْتَحِقُّ لَهَا شِرْبًا مِنْ هَذَا النَّهْرِ لِحَاجَةِ الْأَرْضِ إلَى الشِّرْبِ ، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ بِالشِّرْبِ الْمَعْرُوفِ لَهَا مِنْ نَهْرٍ آخَرَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا شِرْبٌ مِنْ غَيْرِهِ قَضَيْتُ لَهَا فِيهِ بِشِرْبٍ ، وَلَوْ كَانَ لِصَاحِبِهَا أَرْضٌ أُخْرَى إلَى جَنْبِهَا لَيْسَ لَهَا شِرْبٌ مَعْلُومٌ فَإِنِّي أَسْتَحْسِنُ أَنْ أَجْعَلَ لِأَرَاضِيِهِ كُلِّهَا إنْ كَانَتْ مُتَّصِلَةَ الشِّرْبِ مِنْ هَذَا النَّهْرِ ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَسْتَحِقُّ الشِّرْبَ مِنْ هَذَا النَّهْرِ لِلْأَرْضِ الْأُخْرَى إلَّا بِحُجَّةٍ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُخْرَى غَيْرُ مُتَّصِلَةٍ بِالنَّهْرِ بَلْ الْأَرْضُ الْأُولَى حَائِلَةٌ بَيْنَ النَّهْرِ وَبَيْنَهَا ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ لَا بُدَّ لِلْأَرْضِ مِنْ شِرْبٍ ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَا لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِالشِّرْبِ ، وَالظَّاهِرُ عِنْدَ اتِّصَالِ أَرَاضِيه بَعْضِهَا بِبَعْضٍ أَنْ تَشْرَبَ كُلُّهَا مِنْ هَذَا النَّهْرِ فَيَجِبُ الْبِنَاءُ عَلَى هَذَا الظَّاهِرِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ خِلَافُهُ فَإِنْ قِيلَ : الظَّاهِرُ يُعْتَبَرُ فِي دَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ لَا فِي إثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَالْحَاجَةُ هُنَا إلَى إثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ قُلْنَا نَعَمْ ، وَلَكِنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمُتَنَازِعِينَ لَهُ فِي هَذَا النَّهْرِ غَيْرُ ثَابِتٍ إلَّا بِمِثْلِ هَذَا الظَّاهِرِ فَيَصْلُحُ هَذَا الظَّاهِرُ لَهُ مُعَارِضًا ، وَمُزَاحِمًا لِخُصَمَائِهِ ، وَإِنْ كَانَ إلَى جَانِبِ أَرْضِهِ أَرْضٌ لِآخَرَ ، وَأَرْضُ الْأَوَّلِ بَيْنَ النَّهْرِ ، وَبَيْنَهَا ، وَلَيْسَ لِهَذِهِ الْأَرْضِ شِرْبٌ مَعْرُوفٌ ، وَلَا يَدْرِي مِنْ أَيْنَ كَانَ شِرْبُهَا فَإِنِّي أَجْعَلُ لَهَا شِرْبًا مِنْ هَذَا النَّهْرِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ مَا قَرَّرْنَا مِنْ الظَّاهِرِ لَا يَخْتَلِفُ بِاتِّحَادِ مَالِكِ الْأَرَضِينَ ، وَاخْتِلَافِ الْمَالِكِ إلَّا أَنْ يَكُونَ النَّهْرُ مَعْرُوفًا لِقَوْمٍ خَاصًّا

بِهِمْ فَلَا أَجْعَلُ لِغَيْرِهِمْ فِيهِ شِرْبًا إلَّا بِبَيِّنَةٍ ؛ لِأَنَّ الْمُنَازِعِينَ هُنَا دَلِيلٌ لِاسْتِحْقَاقِ سِوَى الظَّاهِرِ ، وَهُوَ إضَافَةُ النَّهْرِ إلَيْهِمْ ، وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ إضَافَةُ مِلْكٍ أَوْ إضَافَةُ إحْدَاثٍ أَنَّهُمْ هُمْ الَّذِينَ حَفَرُوا هَذَا النَّهْرَ ، وَهُوَ مَمْلُوكٌ لَهُمْ فَلَا يَسْتَحِقُّ غَيْرُهُمْ فِيهِ شَيْئًا إلَّا بِبَيِّنَةٍ فَإِنْ كَانَ هَذَا النَّهْرُ يَصُبُّ فِي أَجَمَةٍ ، وَعَلَيْهِ أَرْضٌ لِقَوْمٍ مُخْتَلِفِينَ ، وَلَا يَدْرِي كَيْفَ كَانَتْ حَالُهُ ، وَلَا لِمَنْ كَانَ أَصْلُهُ فَتَنَازَعَ أَهْلُ الْأَرْضِ ، وَأَهْلُ الْأَجَمَةِ فِيهِ فَإِنِّي أَقْضِي بِهِ بَيْنَ أَصْحَابِ الْأَرْضِ بِالْحِصَصِ ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَقْطَعُوهُ عَنْ أَهْلِ الْأَجَمَةِ ، وَلَيْسَ لِأَهْلِ الْأَجَمَةِ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنْ الْمَسِيلِ فِي أَجَمَتِهِمْ ؛ لِأَنَّ النَّهْرَ إنَّمَا يُحْفَرُ لِسَقْيِ الْأَرَاضِي فِي الْعَادَةِ فَالظَّاهِرُ فِيهِ شَاهِدٌ لِأَصْحَابِ الْأَرَاضِي ، وَهُمْ الْمُنْتَفِعُونَ بِالنَّهْرِ فِي سَقْيِ أَرَاضِيهمْ مِنْهُ ، وَلَكِنْ لِأَهْلِ الْأَجَمَةِ نَوْعُ مَنْفَعَةٍ أَيْضًا ، وَهُوَ فَضْلُ الْمَاءِ الَّذِي يَقَعُ فِي أَجَمَتِهِمْ فَلَا يَكُونُ لِأَصْحَابِ الْأَرَاضِي قَطْعُ ذَلِكَ عَنْهُمْ بِالظَّاهِرِ ، وَلِأَصْحَابِ الْأَرَاضِي مَنْفَعَةٌ فِي مَسِيلِ فَضْلِ الْمَاءِ فِي الْأَجَمَةِ فَلَا يَكُونُ لِأَصْحَابِ الْأَجَمَةِ أَنْ يَمْنَعُوهُمْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ حَائِطٍ تَنَازَعَ فِيهِ رَجُلَانِ ، وَلِأَحَدِهِمَا فِيهِ اتِّصَالُ تَرْبِيعٍ ، وَلِآخَرَ عَلَيْهِ جُذُوعٌ فَالْحَائِطُ لِصَاحِبِ الِاتِّصَالِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُكَلِّفَ الْآخَرَ رَفْعَ جُذُوعِهِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ مَا وُجِدَ عَلَى صِفَةٍ لَا يُغَيَّرُ عَنْهَا إلَّا بِحُجَّةٍ مُلْزِمَةٍ ، وَالظَّاهِرُ لَا يَكْفِي لِذَلِكَ .

وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا بَنَى حَائِطًا مِنْ حِجَارَةٍ فِي الْفُرَاتِ ، وَاتَّخَذَ عَلَيْهِ رَحًا يَطْحَنُ بِالْمَاءِ لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ ، وَمَنْ خَاصَمَهُ مِنْ النَّاسِ فِيهِ هَدَمَهُ ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْفُرَاتِ حَقُّ الْعَامَّةِ بِمَنْزِلَةِ الطَّرِيقِ الْعَامِّ ، وَلَوْ بَنَى رَجُلٌ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يُخَاصِمَهُ فِي ذَلِكَ ، وَيَهْدِمَهُ فَأَمَّا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ كَانَ هَذَا الْحَائِطُ الَّذِي بَنَاهُ فِي الْفُرَاتِ يَضُرُّ بِمَجْرَى السُّفُنِ أَوْ الْمَاءِ بِأَنْ لَمْ يَسَعْهُ وَهُوَ فِيهِ أَثِمَ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِأَحَدٍ فَهُوَ فِي سِعَةٍ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِمَنْزِلَةِ الطَّرِيقِ الْعَامِّ إذَا بُنِيَ فِيهِ بِنَاءٌ فَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ فَهُوَ آثِمٌ فِي ذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا ضَرَرَ ، وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ } ، وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِهِمْ فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَمَنْ خَاصَمَهُ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ قَضَى عَلَيْهِ بِهَدْمِهِ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِيهِ لِلنَّاسِ كَافَّةً فَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ فِي هَذِهِ الْخُصُومَةِ سَوَاءُ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ لِلذِّمِّيِّ حَقَّ الْمُرُورِ فِي الطَّرِيقِ كَمَا لِلْمُسْلِمِ فَكَانَ لَهُ فِي هَذِهِ الْخُصُومَةِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ مِثْلَ مَا لِلْمُسْلِمِ ، وَكَذَلِكَ النِّسَاءُ ، وَالْمُكَاتَبُونَ ، وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلَا خُصُومَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ تَبَعٌ لِمَوْلَاهُ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الِانْتِفَاعِ بِالطَّرِيقِ ، وَالْفُرَاتُ مَقْصُودٌ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ ، وَالْمَرْأَةِ فَهُمَا فِي ذَلِكَ كَالْحُرِّ ، وَالصَّبِيُّ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ تَبَعٌ لَا خُصُومَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ ، وَالْمَغْلُوبُ ، وَالْمَعْتُوهُ كَذَلِكَ إلَّا أَنْ يُخَاصِمَ عَنْهُ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ ، وَلَا فَائِدَةَ فِي هَذَا الْجَوَابِ الَّذِي قَالَ أَنَّهُ يُخَاصِمُ عَنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ ؛ لِأَنَّهُمَا يُخَاصِمَانِ فِي ذَلِكَ عَنْ أَنْفُسِهِمَا ، وَإِنْ كَانَا قَدْ أَسْقَطَا حَقَّهُمَا فَهَذَا مِمَّا لَا يَسْقُطُ بِالْإِسْقَاطِ

فَلَا مَعْنَى لِخُصُومَتِهِمَا عَلَى وَجْهِ النِّيَابَةِ ، وَهُمَا يَمْلِكَانِ ذَلِكَ عَنْ أَنْفُسِهِمَا .

وَإِنْ كَانَ نَهْرٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ لِأَحَدِهِمَا ثُلُثَاهُ ، وَلِلْآخَرِ ثُلُثُهُ فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَسْقِيَ صَاحِبُ الثُّلُثِ مِنْهُ يَوْمًا ، وَصَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ يَوْمَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُمَا اقْتَسَمَا مَاءَ النَّهْرِ بَيْنَهُمَا عَلَى تَرَاضٍ ، وَالْمُنَاوَبَةُ بِالْأَيَّامِ فِي هَذَا كَالْقِسْمَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { ، وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ } ، وَقَالَ تَعَالَى { لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } .

وَإِذَا كَانَتْ الْأَرْضُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَهَدَمَ الْبَائِعُ بِنَاءَهَا أَوْ أَفْسَدَ نَهْرَهَا أَوْ بِئْرَهَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّ بِخِيَارِهِ ، وَقَدْ لَزِمَهُ الْبَيْعُ ، وَيَضْمَنُ الْبَائِعُ قِيمَةَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا تَعَيَّبَتْ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي ، وَالْبَائِعُ صَارَ كَالْأَجْنَبِيِّ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مِنْ جِهَتِهِ تَمَّ بِالتَّسْلِيمِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَبِيعُ عَبْدًا فَقَتَلَهُ الْبَائِعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي كَانَ الْبَيْعُ لَازِمًا لِلْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ ، وَعَلَى الْبَائِعِ قِيمَتُهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا ، وَقَبَضَهُ ، وَلَمْ يَرَهُ فَحَرَقَهُ الْبَائِعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي لَزِمَ الْبَيْعُ لِلْمُشْتَرِي ، وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ : لَا يَسْقُطُ خِيَارُ الْمُشْتَرِي بِمَا أَحْدَثَ الْبَائِعُ فِي الْمَبِيعِ ، وَلَيْسَ الْبَائِعُ فِي ذَلِكَ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَجَانِبِ ؛ لِأَنَّ تَعَذُّرَ الرَّدِّ عِنْدَ التَّعَيُّبِ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْبَائِعِ ، وَقَدْ وُجِدَ مِنْهُ الرِّضَا بِهَذَا الضَّرَرِ حِينَ عَيَّبَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا عَيَّبَهُ أَجْنَبِيٌّ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ ، وَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ ، وَخِيَارِ الْعَيْبِ سَوَاءٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ .

ثَلَاثَةُ نَفَرٍ بَيْنَهُمْ حَرْثٌ حَصَدُوهُ ، وَجَمَعُوهُ ، وَفِي يَدِ أَحَدِهِمْ وَضَعُوهُ ؛ لِيَحْفَظَ لَهُمْ فَزَعَمَ أَنَّهُ قَدْ دَفَعَ نَصِيبَ الرَّجُلَيْنِ إلَى أَحَدِهِمَا ، وَالْمَدْفُوعُ إلَيْهِ يُنْكِرُ ذَلِكَ ، وَالْآخَرُ يُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ دَفَعَ إلَيْهِ حَقَّهُ أَوْ يَقُولُ دَفَعَ إلَيْهِ بِغَيْرِ أَمْرِي أَوْ بَقِيَ الثُّلُثُ فِي يَدِ الثَّالِثِ ، وَقَالَ الدَّافِعُ دَفَعْتُ إلَى صَاحِبِي ثُلُثَهُ أَوْ حَقَّهُ ثُمَّ قَالَ دَفَعْتُ إلَيْهِ أَيْضًا بَعْدَ ذَلِكَ ثُلُثَ صَاحِبِهِ بِأَمْرِهِ ، وَهُمَا يُنْكِرَانِ ذَلِكَ قَالَ يَقْتَسِمُونَ الثُّلُثَ الَّذِي بَقِيَ فِي يَدِهِ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا ، وَيَضْمَنُ ثُلُثَ مَا دَفَعَ فَيَكُونُ لِلْآخَرَيْنِ بَيْنَهُمْ نِصْفَيْنِ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى أَحْكَامٍ ثَلَاثَةٍ حُكْمُ الِاخْتِصَاصِ ، وَحُكْمُ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ ، وَحُكْمُ الْخِلَافِ فَأَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الِاخْتِصَاصِ فَنَقُولُ جَمِيعُ الزَّرْعِ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ ثَلَاثَتِهِمْ ، وَكَانَ الْحَافِظُ أَمِينًا فِي نَصِيبِ الْآخَرَيْنِ ، وَدَعْوَاهُ الدَّفْعَ إلَى أَحَدِهِمَا بِأَمْرِ صَاحِبِهِ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَاهُ دَفْعَ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَيْهِ .
وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَمِينِ فِي بَرَاءَتِهِ عَنْ الضَّمَانِ ، وَلَكِنْ قَوْلُهُ فِي اسْتِحْقَاقِ شَيْءٍ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَالثُّلُثُ الَّذِي بَقِيَ فِي يَدِهِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ ثَلَاثَتِهِمْ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ ذَلِكَ الْمُشْتَرَكِ فَهُوَ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ نَصِيبِ الْآخَرَيْنِ مِنْ هَذَا الثُّلُثِ عَلَيْهِمَا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ ، وَيُقَسَّمُ هَذَا الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا بِاعْتِبَارِ شَرِكَةِ الْأَصْلِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمَكِيلَ لَوْ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ اثْنَيْنِ فَظَهَرَ نِصْفُهُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا ، وَزَعَمَ أَنَّ صَاحِبَهُ قَدْ اسْتَوْفَى النِّصْفَ الْآخَرَ ، وَجَحَدَ صَاحِبُهُ ، وَحَلَفَ يُجْعَلُ هَذَا النِّصْفُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ كَالتَّاوِي فَكَذَلِكَ هُنَا إذَا حَلَفَ الْآخَرَانِ عَلَى دَعْوَاهُ يُجْعَلُ هَذَا الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا ، وَأَمَّا

حُكْمُ الْأَمَانَةِ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ دَفَعَ نَصِيبَ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ مِنْ الثُّلُثَيْنِ إلَيْهِ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهُ مَعَ الْيَمِينِ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ ادَّعَى رَدَّ الْأَمَانَةِ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَلَكِنْ بِيَمِينِهِ تَثْبُتُ بَرَاءَتُهُ عَنْ الضَّمَانِ ، وَلَا يَثْبُتُ الْوُصُولُ إلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ دَفَعَ إلَيْهِ كَالْمُودَعِ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةِ عَلَى الْوَصِيِّ فَإِنَّ الْوَصِيَّ لَا يَكُونُ ضَامِنًا لِلصَّبِيِّ شَيْئًا بِيَمِينِ الْمُودَعِ ، وَأَمَّا حُكْمُ الْخِلَافِ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ قَدْ دَفَعَ نَصِيبَ الْآخَرِ إلَى شَرِيكِهِ ، وَدَفْعُ الْأَمِينُ الْأَمَانَةَ إلَى غَيْرِ صَاحِبِهَا مُوجِبٌ الضَّمَانَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الدَّفْعُ بِأَمْرِ صَاحِبِهَا فَقَدْ أَقَرَّ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ فِي نَصِيبِهِ ، وَهُوَ ثُلُثُ الثُّلُثَيْنِ ، وَادَّعَى الْمُسْقِطَ ، وَهُوَ أَمْرُهُ إيَّاهُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ ، وَعَلَى الْمُنْكِرِ الْيَمِينَ فَإِذَا حَلَفَ غَرِمَ لَهُ ثُلُثَ الثُّلُثَيْنِ ثُمَّ هَذَا الثُّلُثُ بَيْنَ الْآخَرَيْنِ نِصْفَانِ ؛ لِأَنَّهُمَا مُتَّفِقَانِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَدْفَعُ إلَيْهِ شَيْئًا ، وَأَنَّ هَذَا الْمَقْبُوضَ جُزْءٌ مِنْ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا أَوْ بَدَلُ جُزْءٍ مُشْتَرَكٍ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ بِاعْتِبَارِ زَعْمِهِمَا .

رَجُلٌ عَمَدَ إلَى نَهْرِ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً أَوْ نَهْرٍ خَاصٍّ عَلَيْهِ طَرِيقُ الْعَامَّةِ أَوْ لِقَوْمٍ خَاصٍّ فَاِتَّخَذَ عَلَيْهِ قَنْطَرَةً ، وَاسْتَوْثَقَ مِنْ الْعَمَلِ ، وَلَمْ يَزَلْ النَّاسُ ، وَالدَّوَابُّ يَمُرُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى انْكَسَرَ أَوْ وَهَى فَوَقَعَ إنْسَانٌ فِيهِ أَوْ دَابَّةٌ فَمَاتَ أَوْ عَبَرَ بِهِ إنْسَانٌ ، وَهُوَ يَرَاهُ مُتَعَمِّدًا يُرِيدُ الْمَشْيَ عَلَيْهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا ؛ لِأَنَّ مَا فَعَلَهُ حِسْبَةً ، وَقَدْ ، وَجَدَ الرِّضَا مِنْ عَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ بِاِتِّخَاذِهِمْ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مَمَرًّا فَكَأَنَّهُ فَعَلَهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ مَا تَلِفَ بِسَبَبِهِ ، وَإِنْ ، وَضَعَ عَارِضَةً أَوْ بَابًا فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَمَشَى عَلَيْهِ إنْسَانٌ مُتَعَمِّدٌ لِذَلِكَ فَانْكَسَرَ الْبَابُ ، وَعَطِبَ الْمَاشِي فَضَمَانُ الْبَابِ عَلَى الَّذِي كَسَرَهُ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاضِعِ الْبَابِ الَّذِي عَطِبَ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَاشِيَ مُتَعَمِّدٌ الْمَشْيَ عَلَى الْبَابِ مُبَاشِرٌ كَسْرَهُ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مَنْ أَوْطَأَ إنْسَانًا فَقَتَلَهُ كَانَ مُبَاشِرًا لِقَتْلِهِ حَتَّى تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ ، وَوَاضِعُ الْبَابِ ، وَإِنْ كَانَ فِي تَسَبُّبِهِ مُتَعَدِّيًا ، وَلَكِنَّ الْمَاشِيَ تَعَمَّدَ الْمَشْيَ عَلَيْهِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ التَّسَبُّبُ إذَا طَرَأَتْ الْمُبَاشَرَةُ عَلَيْهِ كَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَتَعَمَّدَ إنْسَانٌ إلْقَاءَ نَفْسِهِ فِي الْبِئْرِ ، وَأَلْقَاهُ فِيهِ غَيْرُهُ لَا يَكُونُ عَلَى الْحَافِرِ شَيْءٌ ، وَعَلَى هَذَا مَنْ رَشَّ الطَّرِيقَ فَتَعَمَّدَ إنْسَانٌ الْمَشْيَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، وَزَلَقَتْ رِجْلُهُ ، وَعَطِبَ لَمْ يَكُنْ عَلَى الَّذِي رَشَّ ضَمَانٌ بِخِلَافِ مَنْ مَشَى عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، وَكَانَ لَا يُبْصِرُهُ بِأَنْ كَانَ أَعْمَى أَوْ كَانَ لَيْلًا فَحِينَئِذٍ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الَّذِي رَشَّ الطَّرِيقَ إذَا عَطِبَ بِهِ الْمَاشِي ، وَتَمَامُ بَيَانِ هَذِهِ الْفُصُولِ فِي الدِّيَاتِ ، وَإِصْلَاحُ النَّهْرِ الْعَامِّ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ نَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ ، وَمَالُ بَيْتِ

الْمَالِ مُعَدٌّ لِذَلِكَ .

وَلَوْ أَنَّ الْوَالِيَ أَذِنَ لِرَجُلٍ أَنْ يَنْصِبَ طَاحُونَةً عَلَى مَاءٍ لِقَوْمٍ خَاصَّةً فِي أَرْضٍ لِرَجُلٍ ، وَلَا يَضُرُّ أَهْلَ النَّهْرِ شَيْءٌ ، وَأَهْلُ النَّهْرِ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ أَوْ يَضُرُّهُمْ ، وَالْوَالِي يَرَى فِي ذَلِكَ صَلَاحًا لِلْعَامَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَضَعَ ذَلِكَ إلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِ الْأَرْضِ ، وَصَاحِبِ النَّهْرِ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ خَاصٌّ ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ وِلَايَةُ النَّظَرِ فِي الْمِلْكِ الْخَاصِّ لِإِنْسَانٍ بِتَقْدِيمِ غَيْرِهِ فِيهِ عَلَيْهِ بَلْ هُوَ فِي ذَلِكَ كَسَائِرِ الرَّعَايَا ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ مِنْ الْمَالِكِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ وَخَوْفِ الْهَلَاكِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ كَمَا يَكُونُ لِصَاحِبِ الْمَخْمَصَةِ فَلِهَذَا لَمْ يُعْتَبَرْ إذْنُ الْإِمَامِ هُنَا .

أَهْلُ مَدِينَةٍ بَنَوْهَا بَعْدَ قِسْمَةِ الْوَالِي بَيْنَهُمْ ، وَتَرَكَ فِيهَا طَرِيقًا لِلْعَامَّةِ فَرَأَى الْوَالِي بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُعْطِيَ بَعْضَ الطَّرِيقِ أَحَدًا يَنْتَفِعُ بِهِ ، وَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ بِأَهْلِ الطَّرِيقِ فَإِنْ كَانَتْ الْمَدِينَةُ لِلْوَالِي فَهُوَ جَائِزٌ ، وَإِنْ كَانَتْ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعْطِيَ مِنْهَا شَيْئًا ، وَلَا يَنْبَغِي لِلَّذِي يُعْطَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ثَابِتٌ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَلِلْإِمَامِ وِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِمْ دُونَ الْإِسْقَاطِ ، وَإِيثَارُ غَيْرِهِمْ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الرَّجُلَ لَمَّا جَاءَ بِكُبَّةٍ مِنْ شَعْرٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَالَ أَخَذْتهَا مِنْ الْفَيْءِ لِأَخِيطَ بِهَا بَرْذعَةَ بَعِيرِي فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَّا نَصِيبِي مِنْهَا فَهُوَ لَك فَلَمَّا تَحَرَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَخْصِيصِهِ بِتِلْكَ الْكُبَّةِ دُونَ سَائِرِ الْغَانِمِينَ عَرَفْنَا أَنَّ عَلَى كُلِّ وَالِي أَنْ يَتَحَرَّزَ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ أَيْضًا .

قَوْمٌ اقْتَسَمُوا أَرْضًا لَهُمْ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الطَّرِيقِ فَإِنْ كَانُوا قَدْ اخْتَلَفُوا بَعْدَ تَمَامِ الْقِسْمَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِإِنْكَارِهِ حَقَّ الْغَيْرِ فِيمَا فِي يَدِهِ ، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَفْرُغُوا مِنْ الْقِسْمَةِ جَعَلُوا الطَّرِيقَ بَيْنَهُمْ عَلَى مَا شَاءُوا ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْكَلَامَ فِي الطَّرِيقِ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ ، وَإِنَّ الْأَثَرَ الْمَرْوِيَّ فِيهِ بِالتَّقْدِيرِ بِسَبْعَةِ أَذْرُعٍ غَيْرُ مَأْخُوذٍ بِهِ ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ هُنَا فَقَالَ بَلَغَنَا فِي ذَلِكَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَثَرٌ يَرْفَعُهُ { إذَا اشْتَجَرَ الْقَوْمُ فِي الطَّرِيقِ جُعِلَ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ } ، وَلَا نَأْخُذُ بِهِ ؛ لِأَنَّا لَا نَدْرِي أَحَقٌّ هَذَا الْحَدِيثُ أَمْ لَا .
وَلَوْ عَلِمْنَا أَنَّهُ حَقٌّ أَخَذْنَا بِهِ ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ أَثَرٌ شَاذٌّ فِيمَا يَحْتَاجُ الْخَاصُّ ، وَالْعَامُّ إلَى مَعْرِفَتِهِ ، وَقَدْ ظَهَرَ عَمَلُ النَّاسِ بِخِلَافِهِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَتَحُوا الْبِلَادَ ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ أَنَّهُ أَخَذَ بِهَذَا الْحَدِيثِ فِي تَقْدِيرِ الطَّرِيقِ الْمَنْسُوبِ إلَى النَّاسِ بِسَبْعَةِ أَذْرُعٍ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْحَدِيثَ غَيْرُ صَحِيحٍ .
وَلَوْ عُلِمَ أَنَّهُ حَقٌّ وَجَبَ الْأَخْذُ بِهِ ؛ لِأَنَّ مَا قَدَّرَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِتَقْدِيرٍ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ ، وَلَا يَجُوزُ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ بِالرَّأْيِ ، قَوْلُهُمْ عَشْرُ بِسِتَّاتِ مِنْ مَاءٍ يَجْرِي لَهُمْ جَمِيعًا فِي نَهْرٍ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَى عَشْرَ منتات ، وَهُوَ صَحِيحٌ أَيْضًا ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ اللَّفْظَيْنِ مُسْتَعْمَلٌ فِي قِسْمَةِ الْمَاءِ ، وَكُلُّ منت سِتُّ بِسِتَّاتِ ، وَكُلُّ بِسِتٍّ سِتُّ شَعَرَاتٍ ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ بَيْنَ أَهْلِ مَرْوَ ، وَمَقْصُودُهُ مَا قَالَ إذَا أَصْفَى مِنْهَا مِنْ رَجُلٍ مِنْهُمْ ، وَقَطَعَ ذَلِكَ مِنْ نَهْرِهِمْ بِحَقِّ الَّذِي أَصْفَى عَنْهُ مِنْ غَيْرِ قِسْمَةٍ فَهُوَ شَرِيكُهُمْ فِيمَا بَقِيَ ، وَاَلَّذِي أَصْفَى مِنْ حَقِّهِمْ جَمِيعًا فَالْإِصْفَاءُ هُوَ الْغَصْبُ فَمَعْنَاهُ إذَا

غَصَبَ الْوَالِي نَصِيبَ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ مِنْ الشِّرْبِ ، وَجَعَلَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ فَهَذَا الْمَغْصُوبُ يَكُونُ مِنْ حَقِّ الشُّرَكَاءِ كُلِّهِمْ ، وَمَا بَقِيَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ عَلَى أَصْلِ حَقِّهِمْ أَنَّ الْمَغْصُوبَ كَالْمُسْتَهْلَكِ ، وَمَا تَوَى مِنْ الْمُشْتَرَكِ يَتْوِي عَلَى الشَّرِكَةِ ، وَمَا يَبْقَى يَبْقَى عَلَى الشَّرِكَةِ فَهَذَا مِثْلُهُ ، رَجُلٌ لَهُ مَجْرَى مَاءٍ يَجْرِي إلَى بُسْتَانِهِ أَوْ يَجْرِي إلَى دَارِ قَوْمٍ مِيزَابٌ لَهُ أَوْ كَانَ لَهُ مَمْشًى فِي دَارِ قَوْمٍ قَدْ كَانَ يَمْشِي فِيهِ إلَى مَنْزِلِهِ فَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ مِنْ أَيْنَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لِلْمُدَّعِي قَالَ إذَا شَهِدُوا أَنَّ لَهُ طَرِيقًا فِيهَا أَوْ مَجْرَى مَاءٍ أَوْ مَسِيلَ مَاءٍ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ ، وَقَضَى لَهُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ حَقًّا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ إلَّا بِحُجَّةٍ ، وَمَا غَابَ عَنْ الْقَاضِي عِلْمُهُ فَالْحُجَّةُ فِيهِ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ ، وَلَا حَاجَةَ بِالشَّاهِدَيْنِ إلَى بَيَانِ صِفَةِ الطَّرِيقِ ، وَالْمَجْرَى ، وَالْمَسِيلِ ، وَإِنْ كَانُوا لَوْ بَيَّنُوا ذَلِكَ كَانَ أَحْسَنَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ

قَالَ ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ ، وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : إمْلَاءً اعْلَمْ أَنَّ الْخَمْرَ حَرَامٌ بِالْكِتَابِ ، وَالسُّنَّةِ .
: أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ ، وَالْمَيْسِرُ } إلَى أَنْ قَالَ { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } ، وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ سُؤَالُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ { قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْخَمْرُ مُهْلِكَةٌ لِلْمَالِ مُذْهِبَةٌ لِلْعَقْلِ فَادْعُ اللَّهَ تَعَالَى يُبَيِّنُهَا لَنَا فَجَعَلَ يَقُولُ اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا بَيَانًا شَافِيًا فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى { يَسْأَلُونَك عَنْ الْخَمْرِ ، وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ ، وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } فَامْتَنَعَ مِنْهَا بَعْضُ النَّاسِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : نُصِيبُ مِنْ مَنَافِعِهَا ، وَنَدَعُ الْمَأْثَمَ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : اللَّهُمَّ زِدْنَا فِي الْبَيَانِ ، فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى { لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ ، وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } فَامْتَنَعَ بَعْضُهُمْ ، وَقَالُوا : لَا خَيْرَ لَنَا فِيمَا يَمْنَعُنَا مِنْ الصَّلَاةِ ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : بَلْ نُصِيبُ مِنْهَا فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَقَالَ عُمَرُ : اللَّهُمَّ زِدْنَا فِي الْبَيَانِ فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا الْخَمْرُ ، وَالْمَيْسِرُ } الْآيَةَ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : انْتَهَيْنَا رَبَّنَا } .
وَالْخَمْرُ هُوَ النِّيءُ مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ الْمُشْتَدِّ بَعْدَمَا غَلَى ، وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ عَلَى هَذَا ، وَدَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى { : إنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا } أَيْ عِنَبًا يَصِيرُ خَمْرًا بَعْدَ الْعَصْرِ ، وَالْمَيْسِرُ الْقِمَارُ ، وَالْأَنْصَابُ ذَبَائِحُهُمْ بِاسْمِ آلِهَتِهِمْ فِي أَعْيَادِهِمْ ، وَالْأَزْلَامُ الْقِدَاحُ وَاحِدُهَا زَلَمٌ كَقَوْلِك قَلَمٌ ، وَأَقْلَامٌ ، وَهَذَا شَيْءٌ كَانُوا يَعْتَادُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إذَا

أَرَادَ أَحَدُهُمْ أَمْرًا أَخَذَ سَهْمَيْنِ مَكْتُوبٌ عَلَى أَحَدِهِمَا أَمَرَنِي رَبِّي ، وَالْآخَرُ نَهَانِي رَبِّي فَجَعَلَهُمَا فِي وِعَاءٍ ثُمَّ أَخْرَجَ أَحَدَهُمَا فَإِنْ خَرَجَ الْأَمْرُ ، وَجَبَ عَلَيْهِ مُبَاشَرَةُ ذَلِكَ الْأَمْرِ ، وَإِنْ خَرَجَ النَّهْيُ حَرُمَ عَلَيْهِ مُبَاشَرَتُهُ ، وَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ رِجْسٌ .
وَالرِّجْسُ مَا هُوَ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ ، وَإِنَّهُ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ يَعْنِي أَنَّ مَنْ لَا يَنْتَهِي عَنْهُ مُتَابِعٌ لِلشَّيْطَانِ مُجَانِبٌ لِمَا فِيهِ رِضَا الرَّحْمَنِ ، وَفِي قَوْلِهِ عَزَّ ، وَجَلَّ { : فَاجْتَنِبُوهُ } أَمْرٌ بِالِاجْتِنَابِ مِنْهُ ، وَهُوَ نَصٌّ فِي التَّحْرِيمِ ثُمَّ بَيَّنَ الْمَعْنَى فِيهِ بِقَوْلِهِ عَزَّ ، وَجَلَّ { إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ ، وَالْمَيْسِرِ ، وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ، وَعَنْ الصَّلَاةِ } ، وَكَانَ هَذَا إشَارَةً إلَى الْإِثْمِ الَّذِي بَيَّنَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الْأُولَى بِقَوْلِهِ عَزَّ ، وَجَلَّ ، : { وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } ، وَفِي قَوْلِهِ { : فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } أَبْلَغُ مَا يَكُونُ مِنْ الْأَمْرِ بِالِاجْتِنَابِ عَنْهُ ، وَقَالَ تَعَالَى { : قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ، وَمَا بَطَنَ ، وَالْإِثْمَ } ، وَالْإِثْمُ مِنْ أَسْمَاءِ الْخَمْرِ قَالَ الْقَائِلُ .
شَرِبْت الْإِثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي كَذَاكَ الْإِثْمُ يَذْهَبُ بِالْعُقُولِ ، وَقِيلَ : هَذَا إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ ، { وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا } ، وَالسُّنَّةُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَعَنَ اللَّهُ فِي الْخَمْرِ عَشْرًا } الْحَدِيثَ ، وَذَلِكَ دَلِيلُ نِهَايَةِ التَّحْرِيمِ ، وَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { شَارِبُ الْخَمْرِ كَعَابِدِ الْوَثَنِ } ، وَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْخَمْرُ أُمُّ الْخَبَائِثِ } ، وَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا ، وَضَعَ الرَّجُلُ قَدَحًا فِيهِ خَمْرٌ عَلَى يَدِهِ لَعَنَتْهُ مَلَائِكَةُ السَّمَوَاتِ

وَالْأَرْضِ فَإِنْ شَرِبَهَا لَمْ تُقْبَلْ صَلَاتُهُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ، وَإِنْ دَاوَمَ عَلَيْهَا فَهُوَ كَعَابِدِ الْوَثَنِ } ، وَكَانَ جَعْفَرٌ الطَّيَّارُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَتَحَرَّزُ عَنْ هَذَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَالْإِسْلَامِ ، وَيَقُولُ الْعَاقِلُ يَتَكَلَّفُ لِيَزِيدَ فِي عَقْلِهِ فَأَنَا لَا أَكْتَسِبُ شَيْئًا يُزِيلُ عَقْلِي ، وَالْأُمَّةُ أَجْمَعَتْ عَلَى تَحْرِيمِهَا ، وَكَفَى بِالْإِجْمَاعِ حُجَّةً هَذِهِ حُرْمَةٌ قَوِيَّةٌ بَاتَّةٌ حَتَّى يَكْفُرَ مُسْتَحِلُّهَا ، وَيَفْسُقَ شَارِبُهَا .
.

، وَيَجِبُ الْحَدُّ بِشُرْبِ الْقَلِيلِ ، وَالْكَثِيرِ مِنْهَا ، وَهِيَ نَجِسَةٌ نَجَاسَةً غَلِيظَةً لَا يُعْفَى عَنْ أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ مِنْهَا ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا ، وَأَكْلَ ثَمَنِهَا } ، وَبَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ يُفَصِّلُونَ بَيْنَ الْقَلِيلِ ، وَالْكَثِيرِ مِنْهَا فِي حُكْمِ الْحُرْمَةِ ، وَيَقُولُونَ الْمُحَرَّمُ مَا هُوَ سَبَبٌ لِوُقُوعِ الْعَدَاوَةِ ، وَالْبَغْضَاءِ ، وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَعَنْ الصَّلَاةِ ، وَذَلِكَ الْكَثِيرُ دُونَ الْقَلِيلِ ، وَعِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ ، وَالْجَمَاعَةِ الْقَلِيلُ مِنْهَا ، وَالْكَثِيرُ فِي الْحُرْمَةِ ، وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَحْكَامِ سَوَاءٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : حُرِّمَتْ الْخَمْرُ لِعَيْنِهَا قَلِيلُهَا ، وَكَثِيرُهَا ، وَالْمُسْكِرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ } ، ثُمَّ فِي تَنَاوُلِ الْقَلِيلِ مِنْهَا مَعْنَى الْعَدَاوَةِ ، وَالصَّدِّ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَالْقَلِيلُ يَدْعُو إلَى الْكَثِيرِ عَلَى مَا قِيلَ : مَا مِنْ طَعَامٍ ، وَشَرَابٍ إلَّا وَلَذَّتُهُ فِي الِابْتِدَاءِ تَزِيدُ عَلَى اللَّذَّةِ فِي الِانْتِهَاء إلَّا الْخَمْرَ ، فَإِنَّ اللَّذَّةَ لِشَارِبِهَا تَزْدَادُ بِالِاسْتِكْثَارِ مِنْهَا ، وَلِهَذَا يَزْدَادُ حِرْصُهُ عَلَى شُرْبِهَا إذَا أَصَابَ مِنْهَا شَيْئًا ، فَكَانَ الْقَلِيلُ مِنْهَا دَاعِيًا إلَى الْكَثِيرِ مِنْهَا فَيَكُونُ مُحَرَّمًا كَالْكَثِيرِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الرِّبَا لَمَّا حُرِّمَ شَرْعًا حُرِّمَ دَوَاعِيهِ أَيْضًا ، وَأَنَّ الْمَشْيَ عَلَى قَصْدِ الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ .
.

وَأَمَّا السَّكَرُ ، فَهُوَ النِّيءُ مِنْ مَاءٍ التَّمْرِ الْمُشْتَدِّ ، وَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَنَا ، وَقَالَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ : هُوَ حَلَالٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { : وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ ، وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا ، وَرِزْقًا حَسَنًا } ، وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ شَرْعًا مَا هُوَ حَلَالٌ ، وَحُكْمُ الْمَعْطُوفِ ، وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْرِبَةَ كَانَتْ مُبَاحَةً قَبْلَ نُزُولِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ فَيَبْقَى مَا سِوَى الْخَمْرِ بَعْدَ نُزُولِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ قَبْلُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ فِي الْآيَاتِ بَيَانُ حُكْمِ الْخَمْرِ ، وَمَا كَانَ يَكْثُرُ وُجُودُ الْخَمْرِ فِيهِمْ بِالْمَدِينَةِ ، فَإِنَّهَا كَانَتْ تُحْمَلُ مِنْ الشَّامِ ، وَإِنَّمَا كَانَ شَرَابُهُمْ مِنْ التَّمْرِ ، وَفِي ذَلِكَ وَرَدَ الْحَدِيثُ : { نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ ، وَمَا بِالْمَدِينَةِ يَوْمئِذٍ مِنْهَا شَيْءٌ ، } فَلَوْ كَانَ تَحْرِيمُ سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ مُرَادًا بِالْآيَةِ لَكَانَ الْأَوْلَى التَّنْصِيصُ عَلَى حُرْمَةِ مَا كَانَ مَوْجُودًا فِي أَيْدِيهمْ ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُمْ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ .
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ الْكَرْمِ ، وَالنَّخْلِ } ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ بَيَانَ الِاسْمِ لُغَةً ؛ لِأَنَّهُ مَا بُعِثَ مُبَيِّنًا لِذَلِكَ ، وَبَيْنَ أَهْلِ اللُّغَةِ اتِّفَاقٌ أَنَّ الِاسْمَ حَقِيقَةٌ لِلَّتِي مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ ، وَوَاضِعُ اللُّغَةِ خَصَّ كُلَّ عَيْنٍ بِاسْمٍ هُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُسَمَّى الْغَيْرُ بِهِ مَجَازًا لِمَا فِي الِاشْتِرَاكِ مِنْ اتِّهَامِ غَفْلَةِ الْوَاضِعِ ، وَالضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى ذَلِكَ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَوَهَّمٍ هُنَا ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ حُكْمُ الْحُرْمَةِ أَنَّ مَا يَكُونُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ سَوَاءٌ فِي حُكْمِ الْحُرْمَةِ ، وَلَمَّا سُئِلَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ شُرْبِ الْمُسْكِرِ لِأَجْلِ الصُّفْرِ ، : قَالَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا

حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ، فَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا ، وَرِزْقًا حَسَنًا } ، فَقَدْ قِيلَ : كَانَ هَذَا قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ التَّحْرِيمِ ، وَقِيلَ : فِي الْآيَةِ إضْمَارٌ ، وَهُوَ مَذْكُورٌ عَلَى سَبِيلِ التَّوْبِيخِ ، أَيْ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا ، وَتَدَّعُونَ رِزْقًا حَسَنًا ؟ فَإِنْ طُبِخَ مِنْ الْعِنَبِ أَدْنَى طَبْخِهِ ، أَوْ ذَهَبَ مِنْهُ بِالطَّبْخِ أَقَلُّ مِنْ الثُّلُثَيْنِ ، ثُمَّ اشْتَدَّ ، وَغَلَا ، وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ ، فَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَنَا .
وَقَالَ حَمَّادُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا طُبِخَ حَتَّى نَضِجَ حَلَّ شُرْبُهُ ، وَكَانَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ يَقُولُ : إذَا طُبِخَ أَدْنَى طَبْخِهِ ، فَلَا بَأْسَ بِشُرْبِهِ ، وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ أَوَّلًا : إذَا طُبِخَ حَتَّى ذَهَبَ مِنْهُ النِّصْفُ ، فَلَا بَأْسَ بِشُرْبِهِ ، ثُمَّ رَجَعَ ، فَقَالَ مَا لَمْ يَذْهَبْ مِنْهُ الثُّلُثَانِ بِالطَّبْخِ لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ إذَا اشْتَدَّ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَرِهَ الثُّلُثَ أَيْضًا ، وَعَنْهُ أَنَّهُ تَوَقَّفَ فِيهِ ، وَعَنْهُ أَنَّهُ حَرَّمَ ذَلِكَ كُلَّهُ إذَا كَانَ مُسْكِرًا ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ، وَطَرِيقُ مَنْ تَوَسَّعَ فِي هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ كَانَ الْكُلُّ مُبَاحًا ، ثُمَّ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ ، وَمَا عَرَفْنَا هَذِهِ الْحُرْمَةَ إلَّا بِالنَّصِّ ، فَبَقِيَ سَائِرُ الْأَشْرِبَةِ بَعْدَ نُزُولِ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ نُزُولِهِ ، وَمِنْ أَثْبَتَ التَّحْرِيمَ فِي الْكُلِّ قَالَ : نَصُّ التَّحْرِيمُ بِصِفَةِ الْخَمْرِيَّةِ ، وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ ، وَكُلُّ مَا يَكُونُ مُسْكِرًا ، فَهُوَ مُخَامِرٌ لِلْعَقْلِ ، فَيَكُونُ النَّصُّ مُتَنَاوِلًا لَهُ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الِاسْمُ لِلَّتِي مِنْ مَاءِ الْعِنَبِ حَقِيقَةً ، وَلِسَائِرِ الْأَشْرِبَةِ مَجَازًا وَمَتَى كَانَتْ الْحَقِيقَةُ مُرَادَةً بِاللَّفْظِ تَنَحَّى الْمَجَازُ ، وَهَبْكَ أَنَّ الْخَمْرَ يُسَمَّى لِمَعْنَى مُخَامَرَةِ الْعَقْلِ ، فَذَلِكَ لَا

يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يُخَامِرُ الْعَقْلَ يُسَمَّى خَمْرًا .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْفَرَسَ الَّذِي يَكُونُ أَحَدُ شِقَّيْهِ أَبْيَضَ ، وَالْآخَرُ أَسْوَدَ يُسَمَّى أَبْلَقَ ، ثُمَّ الثَّوْبُ الَّذِي يَجْتَمِعُ فِيهِ لَوْنُ السَّوَادِ ، وَالْبَيَاضِ لَا يُسَمَّى بِهَذَا الِاسْمِ ، وَكَذَلِكَ النَّجْمُ يُسَمَّى نَجْمًا لِظُهُورِهِ ، قَالُوا : نَجَمَ أَيْ ظَهَرَ ، ثُمَّ لَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يَظْهَرُ يُسَمَّى نَجْمًا ، وَإِمَامُنَا فِيمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ إبَاحَةِ شُرْبِ الْمُثَلَّثِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ الْحُصَيْنِ الْأَسَدِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَتَاهُ بِكِتَابِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَأْمُرُهُ أَنْ يَتَّخِذَ الشَّرَابَ الْمُثَلَّثَ لِاسْتِمْرَاءِ الطَّعَامِ ، وَكَانَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ لَا أَدَعُ شُرْبَهَا بَعْدَ مَا رَأَيْت عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَشْرَبُهَا ، وَيَسْقِيهَا النَّاسَ ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ الَّذِي سَأَلَ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ ، فَلَا يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ ، أَوْ يَسْقِي النَّاسَ مَا تَنَاوَلَهُ نَصُّ التَّحْرِيمِ بِوَجْهٍ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّمَا كَانَ يَشْرَبُ الْحُلْوَ مِنْهُ دُونَ الْمُسْكِرِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ قَدْ ذَهَبَ بِالطَّبْخِ نَصِيبُ الشَّيْطَانِ وَرِبْحُ جُنُونِهِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ يَشْرَبُ ذَلِكَ لِاسْتِمْرَاءِ الطَّعَامِ ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ بِالْمُشْتَدِّ مِنْهُ دُونَ الْحُلْوِ .
وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْآثَارُ الَّتِي بَدَأَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بِهَا الْكِتَابَ ، فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ زِيَادٍ قَالَ : سَقَانِي ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شُرْبَةً مَا كِدْت أَهْتَدِي إلَى مَنْزِلِي ، فَغَدَوْت عَلَيْهِ مِنْ الْغَدِ ، فَأَخْبَرْته بِذَلِكَ ، فَقَالَ مَا زِدْنَاك عَلَى عَجْوَةٍ وَزَبِيبٍ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ مَعْرُوفًا بِالزُّهْدِ ، وَالْفِقْهِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَلَا يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ كَانَ يَسْقِي

غَيْرَهُ مَا لَا يَشْرَبُهُ ، وَلَا أَنَّهُ كَانَ يَشْرَبُ مَا يَتَنَاوَلُهُ نَصُّ التَّحْرِيمِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مَا سَقَاهُ كَانَ مُشْتَدًّا حَتَّى أَثَّرَ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ مَا كَانَ يَهْتَدِي إلَى أَهْلِهِ ، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ فِي بَيَانِ التَّأْثِيرِ فِيهِ لَا حَقِيقَةَ السُّكْرِ ، فَإِنْ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ ، وَفِي قَوْلِهِ مَا زِدْنَاك عَلَى عَجْوَةٍ وَزَبِيبٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِشُرْبِ الْقَلِيلِ مِنْ الْمَطْبُوخِ مِنْ مَاءِ الزَّبِيبِ ، وَالتَّمْرِ ، وَإِنْ كَانَ مُشْتَدًّا ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِشَرَابِ الْخَلِيطَيْنِ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ الْمُتَقَشِّفَةُ : إنَّهُ لَا يَحِلُّ شَرَابُ الْخَلِيطَيْنِ .
وَإِنْ كَانَ حُلْوًا لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ شَرَابِ الْخَلِيطَيْنِ } ، وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي زَمَانِ الْجَدْبِ كُرِهَ لِلْأَغْنِيَاءِ الْجَمْعُ بَيْنَ النِّعْمَتَيْنِ ، وَفِي الْحَدِيثِ زِيَادَةٌ ، فَإِنَّهُ قَالَ ، وَعَنْ الْقِرَانِ بَيْنَ النِّعْمَتَيْنِ ، وَعَنْ الْجَمْعِ بَيْنَ نِعْمَتَيْنِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ فِي غَيْرِ زَمَانِ الْقَحْطِ حَدِيثُ { عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : كُنْت أَنْبِذُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمْرًا ، فَلَمْ يَسْتَمْرِئْهُ ، فَأَمَرَنِي ، فَأَلْقَيْت فِيهِ زَبِيبًا } ، وَلَمَّا جَازَ اتِّخَاذُ الشَّرَابِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ جَازَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِمَنْزِلَةِ مَاءِ السُّكَّرِ ، وَالْفَانِيذِ ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمُسْكِرِ ، فَقَالَ الْخَمْرُ لَيْسَ لَهَا كُنْيَةٌ ، وَفِيهِ دَلِيلُ تَحْرِيمِ السُّكْرِ ، فَإِنَّ مُرَادَهُ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ : أَنَّ السُّكْرَ فِي الْحُرْمَةِ كَالْخَمْرِ ، وَإِنْ كَانَ اسْمُهُ غَيْرَ اسْمِ الْخَمْرِ ، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ إلَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْخَمْرُ مِنْ هَاتَيْنِ الشَّجَرَتَيْنِ } .
قَالَ : وَسُئِلَ عَنْ الْفَضِيخِ قَالَ مُرَادُهُ بِذَلِكَ الْفَضُوحُ ، وَالْفَضِيخُ الشَّرَابُ

الْمُتَّخَذُ مِنْ التَّمْرِ بِأَنْ يُفْضَخَ التَّمْرُ أَيْ يُشْدَخَ ، ثُمَّ يُنْقَعَ فِي الْمَاءِ لِيَسْتَخْرِجَ الْمَاءُ حَلَاوَتَهُ ، ثُمَّ يُتْرَكَ حَتَّى يَشْتَدَّ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الَّتِي مِنْ شَرَابِ التَّمْرِ إذَا اشْتَدَّ ، فَهُوَ حَرَامٌ سُكْرًا كَانَ ، أَوْ فَضِيخًا ، فَإِنَّ السُّكْرَ مَا يَسِيلُ مِنْ التَّمْرِ حِين يَكُونُ رُطَبًا ، وَفِي قَوْلِهِ بِذَلِكَ الْفَضُوحِ بَيَانٌ أَنَّهُ يَفْضَحُ شَارِبَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لِارْتِكَابِهِ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ قَالَ : وَسُئِلَ عَنْ النَّبِيذِ ، وَالزَّبِيبِ يُعَتَّقُ شَهْرًا ، أَوْ عَشْرًا قَالَ الْخَمْرُ أُخْتُهَا ، وَفِي رِوَايَةٍ اجْتَنِبْهَا أَيْ هِيَ فِي الْحُرْمَةِ كَالْخَمْرِ ، فَاجْتَنِبْهَا ، فَظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ دَلِيلٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ لَا يَحِلُّ مَاءُ الزَّبِيبِ مَا لَمْ يُطْبَخْ حَتَّى يَذْهَبَ مِنْهُ الثُّلُثَانِ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ الْخَمْرُ اجْتَنِبْهَا إشَارَةٌ إلَى ذَلِكَ أَيْ الزَّبِيبِ إذَا نُقِعَ فِي الْمَاءِ عَادَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَتَزَبَّبَ ، فَكَمَا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ قَبْلَ أَنْ يَتَزَبَّبَ بِالطَّبْخِ مَا لَمْ يَذْهَبْ مِنْهُ الثُّلُثَانِ ، فَكَذَلِكَ الزَّبِيبُ بِخِلَافِ مَاءِ التَّمْرِ ، وَلَكِنْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ نَبِيذُ التَّمْرِ وَمَاءُ التَّمْرِ سَوَاءٌ إذَا طُبِخَ أَدْنَى طَبْخِهِ يَحِلُّ شُرْبُهُ مُشْتَدًّا بَعْدَ ذَلِكَ مَا لَمْ يَسْكَرْ مِنْهُ ، وَمُرَادُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَشْبِيهُهُ النِّيءَ مِنْهُ بِالْخَمْرِ فِي حُكْمِ الْحُرْمَةِ ، وَعَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا وَجَّهَهُ إلَى الْيَمَنِ قَالَ { انْهَهُمْ عَنْ نَبِيذِ السُّكْرِ ، وَالْمُرَادُ النِّيءُ مِنْ مَاءِ التَّمْرِ الْمُشْتَدِّ } ، وَقَدْ عَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَادَةَ أَهْلِ الْيَمَنِ فِي شُرْبِ ذَلِكَ ، فَلِهَذَا خَصَّهُ بِالْأَمْرِ بِالنَّهْيِ عَنْهُ ، وَسَمَّاهُ نَبِيذَ الْحُمْرَةِ فِي لَوْنِهِ ، وَعَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ كَانَ لِأَبِي عُبَيْدَةَ كَرْمٌ بِزُبَالَةٍ كَانَ يَبِيعُهُ

عِنَبًا ، وَإِذَا أَدْرَكَ الْعَصِيرَ بَاعَهُ عَصِيرًا ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْعَصِيرِ ، وَالْعِنَبِ مُطْلَقًا مَا دَامَ حُلْوًا .

كَمَا لَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْعِنَبِ .
وَأَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِظَاهِرِهِ ، فَقَالَ لَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْعَصِيرِ ، وَالْعِنَبِ مِمَّنْ يَتَّخِذُهُ خَمْرًا ، وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا فَسَادَ فِي قَصْدِ الْبَائِعِ ، فَإِنَّ قَصْدَهُ التِّجَارَةُ بِالتَّصَرُّفِ فِيمَا هُوَ حَلَالٌ لِاكْتِسَابِ الرِّبْحِ ، وَإِنَّمَا الْمُحَرَّمُ قَصْدُ الْمُشْتَرِي اتِّخَاذَ الْخَمْرِ مِنْهُ ، وَهُوَ كَبَيْعِ الْجَارِيَةِ مِمَّنْ لَا يَسْتَبْرِئُهَا ، أَوْ يَأْتِيهَا فِي غَيْرِ الْمَأْتَى ، وَكَبَيْعِ الْغُلَامِ مِمَّنْ يَصْنَعُ بِهِ مَا لَا يَحِلُّ .

وَعَنْ الضَّحَّاكِ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ ، فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ } مَعْنَاهُ ، فَهُوَ مِنْ الظَّالِمِينَ الْمُجَاوِزِينَ لِحُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ ، فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبْلُغَ بِالتَّعْزِيرِ الْحَدَّ الْكَامِلَ ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ ثَبَتَتْ شَرْعًا جَزَاءً عَلَى أَفْعَالٍ مَعْلُومَةٍ ، فَتَعْدِيَتُهَا إلَى غَيْرِ تِلْكَ الْأَفْعَالِ يَكُونُ بِالرَّأْيِ ، وَلَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِي الْحُدُودِ لَا فِي إثْبَاتِ أَصْلِهَا ، وَلَا فِي تَعْدِيَةِ أَحْكَامِهَا عَنْ مَوَاضِعِهَا .

وَعَنْ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : لَا بَأْسَ إذَا كَانَ لِلْمُسْلِمِ خَمْرٌ أَنْ يَجْعَلَهَا خَلًّا ، وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، وَقَالُوا : تَخْلِيلُ الْخَمْرِ جَائِزٌ خِلَافًا لِمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْآثَارَ جَاءَتْ بِإِبَاحَةِ خَلِّ الْخَمْرِ عَلَى مَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { خَيْرُ خَلِّكُمْ خَلُّ خَمْرِكُمْ } ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَصْطَبِغُ الْخُبْزَ بِخَلِّ خَمْرٍ ، وَيَأْكُلُهُ ، وَإِذَا كَانَ بِالِاتِّفَاقِ يَحِلُّ تَنَاوُلُ خَلِّ الْخَمْرِ ، فَالتَّخْلِيلُ بِالْعِلَاجِ يَكُونُ إصْلَاحًا لِلْجَوْهَرِ الْفَاسِدِ ، وَذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَةِ ، فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْحُرْمَةِ ، وَيَأْتِي بَيَانُ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوْضِعِهِ ، وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ اسْتَشَارَ النَّاسُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي شَرَابٍ مُرَقَّقٍ ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ النَّصَارَى : إنَّا نَصْنَعُ شَرَابًا فِي صَوْمِنَا ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : ائْتِنِي بِشَيْءٍ مِنْهُ قَالَ : فَأَتَاهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ قَالَ : مَا أَشْبَهَ هَذَا بِطِلَاءِ الْإِبِلِ كَيْف تَصْنَعُونَهُ ؟ قَالَ نَطْبُخُ الْعَصِيرَ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ ، وَيَبْقَى ثُلُثُهُ ، فَصَبَّ عَلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَاءً ، وَشَرِبَ مِنْهُ ، ثُمَّ نَاوَلَهُ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَهُوَ عَنْ يَمِينِهِ فَقَالَ عُبَادَةُ مَا أَرَى النَّارَ تُحِلُّ شَيْئًا ، فَقَالَ عُمَرُ يَا أَحْمَقُ أَلَيْسَ يَكُونُ خَمْرًا ؟ ثُمَّ يَصِيرُ خَلًّا ، فَنَأْكُلَهُ ، وَفِي هَذَا دَلِيلُ إبَاحَةِ شُرْبِ الْمُثَلَّثِ ، وَإِنْ كَانَ مُشْتَدًّا ، فَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَشَارَهُمْ فِي الْمُشْتَدِّ دُونَ الْحُلْوِ ، وَهُوَ مِمَّا يَكُونُ مُمْرِيًا لِلطَّعَامِ مُقَوَّيَا عَلَى الطَّاعَةِ فِي لَيَالِي الصِّيَامِ ، وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَسَنَ النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَكَانَ أَكْثَرَ النَّاسِ مَشُورَةً فِي أُمُورِ الدِّينِ خُصُوصًا فِيمَا يَتَّصِلُ بِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا

بَأْسَ بِإِحْضَارِ بَعْضِ أَهْلِ الْكِتَابِ مَجْلِسَ الشُّورَى ، فَإِنَّ النَّصْرَانِيَّ الَّذِي قَالَ مَا قَالَهُ قَدْ كَانَ حَضَرَ مَجْلِسَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلشُّورَى ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ .
وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ خَبَرَ النَّصْرَانِيِّ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُعْتَمَدَ عَلَيْهِ فِي الْمُعَامَلَاتِ إذَا وَقَعَ فِي قَلْبِ السَّامِعِ أَنَّهُ صَادِقٌ فِيهِ ، وَقَدْ اسْتَوْصَفَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَوَصَفَهُ لَهُ ، وَاعْتَمَدَ خَبَرَهُ حَتَّى شَرِبَ مِنْهُ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ دَلَالَةَ الْإِذْنِ مِنْ حَيْثُ الْعُرْفُ كَالتَّصْرِيحِ بِالْإِذْنِ ، وَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِتَنَاوُلِ طَعَامِهِمْ ، وَشَرَابِهِمْ ، فَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَسْتَأْذِنْهُ فِي الشُّرْبِ مِنْهُ ، وَإِنَّمَا كَانَ أَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ لِيَنْظُرُوا إلَيْهِ ، ثُمَّ جَوَّزَ الشُّرْبَ مِنْهُ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ ، وَمَنْ يَسْتَقْصِي فِي هَذَا الْبَابِ يَقُولُ : تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْهُ جِزْيَةً لِبَيْتِ الْمَالِ ، ثُمَّ شَرِبَ مِنْهُ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْمُثَلَّثَ إنْ كَانَ غَلِيظًا لَا بَأْسَ بِأَنْ يُرَقَّقَ بِالْمَاءِ ، ثُمَّ يُشْرِبَ مِنْهُ كَمَا ، فَعَلَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْقَى الْعَبَّاسَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ ، فَأَتَاهُ بِشَرَابٍ ، فَلَمَّا قَرَّبَهُ إلَى فِيهِ قَطَّبَ وَجْهَهُ ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ ، فَصَبَّهُ عَلَيْهِ ، ثُمَّ شَرِبَهُ ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذَا رَابَكُمْ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَشْرِبَةِ ، فَاكْسِرُوا مُتُونَهَا بِالْمَاءِ } ، وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أُتِيَ بِنَبِيذِ الزَّبِيبِ ، فَدَعَا بِمَاءٍ ، وَصَبَّهُ عَلَيْهِ ، ثُمَّ شَرِبَ ، وَقَالَ إنَّ لِنَبِيذِ زَبِيبِ الطَّائِفِ غَرَامًا ، وَفِي مُنَاوَلَتِهِ عُبَادَةَ بْنَ الصَّامِتِ ، وَكَانَ عَنْ يَمِينِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ يَكُونُ مِنْ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ ، فَهُوَ أَحَقُّ بِالتَّقْدِيمِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِعُسٍّ مِنْ لَبَنٍ ،

فَشَرِبَ بَعْضَهُ ، وَكَانَ عَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِيٌّ ، وَعَنْ يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَقَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ أَنْتَ عَلَى يَمِينِي ، وَهَذَا أَبُو بَكْرٍ ، فَقَالَ : الْأَعْرَابِيُّ مَا أَنَا بِاَلَّذِي أُوثِرَ غَيْرِي عَلَى سُؤْرِكَ ، فَثَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَدِهِ ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : الْأَيْمَنُونَ الْأَيْمَنُونَ } ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَائِلِ : ثَلَاثَةٌ يَمْنَةٌ تَدُورُ الْكَأْسُ وَالطَّسْتُ وَالْبَخُورُ ثُمَّ أُشْكِلَ عَلَى عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَقَالَ : مَا أَرَى النَّارَ تُحِلُّ شَيْئًا يَعْنِي أَنَّ الْمُشْتَدَّ مِنْ هَذَا الشَّرَابِ قَبْلَ أَنْ يُطْبَخَ بِالنَّارِ حَرَامٌ ، فَبَعْدَ الطَّبْخِ كَذَلِكَ إذْ النَّارُ لَا تُحِلُّ الْحَرَامَ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَا أَحْمَقُ أَيْ يَا قَلِيلَ النَّظَرِ ، وَالتَّأَمُّلِ أَلَيْسَ يَكُونُ خَمْرًا ؟ ثُمَّ يَكُونُ خَلًّا ؟ فَنَأْكُلُهُ يَعْنِي أَنَّ صِفَةَ الْخَمْرِيَّةِ تَزُولُ بِالتَّخْلِيلِ ، فَكَذَلِكَ صِفَةُ الْخَمْرِيَّةِ بِالطَّبْخِ حَتَّى يَذْهَبَ مِنْهُ الثُّلُثَانِ تَزُولُ ، وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ النَّارَ لَا تُحِلُّ ، وَلَكِنْ بِالطَّبْخِ تَنْعَدِمُ صِفَةُ الْخَمْرِيَّةِ كَالذَّبْحِ فِي الشَّاةِ عَيْنُهُ لَا يَكُونُ مُحَلِّلًا ، وَلَكِنَّهُ مُنْهِرٌ لِلدَّمِ ، وَالْمُحَرَّمُ هُوَ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ ، فَتَسْيِيلُ الدَّمِ الْمَسْفُوحِ يَكُونُ مُحَلِّلًا لِانْعِدَامِ مَا لِأَجْلِهِ كَانَ مُحَرَّمًا ، وَبِهَذَا أَخَذْنَا ، وَقُلْنَا يَجُوزُ التَّخْلِيلُ ؛ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ لِصِفَةِ الْخَمْرِيَّةِ ، وَإِتْلَافُ صِفَةِ الْخَمْرِيَّةِ لَا يَكُونُ مُحَرِّمًا .
.
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كُلُّ نَبِيذٍ يَفْسُدُ عِنْدَ إبَّانِهِ ، فَهُوَ نَبِيذٌ ، وَلَا بَأْسَ بِهِ ، وَكُلُّ نَبِيذٍ يَزْدَادُ جَوْرُهُ عَلَى طُولِ التَّرْكِ ، فَلَا خَيْرَ فِيهِ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ النِّيءَ مِنْ مَاءِ الزَّبِيبِ ، أَوْ التَّمْرِ أَنَّهُ مَا دَامَ حُلْوًا ، وَلَمْ يَصِرْ مُعَتَّقًا ، فَهُوَ بِحَيْثُ يَفْسُدُ عِنْدَ إبَّانِهِ ، فَلَا

بَأْسَ بِشُرْبِهِ ، وَإِذَا صَارَ مُعَتَّقًا بِأَنْ غَلَا ، وَاشْتَدَّ ، وَقَذَفَ بِالزَّبَدِ ، فَهُوَ يَزْدَادُ جَوْرُهُ عَلَى طُولِ التَّرْكِ ، فَلَا خَيْرَ فِيهِ ، وَبِهِ كَانَ يَقُولُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الِابْتِدَاءِ فِي الْمَطْبُوخِ مِنْ مَاءِ الزَّبِيبِ ، وَالتَّمْرِ إنَّهُ إذَا صَارَ مُعَتَّقًا لَا يَحِلُّ شُرْبُهُ ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَفْسُدُ إذَا تُرِكَ عَشَرَةً ، فَلَا بَأْسَ بِشُرْبِهِ ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي النِّيءِ خَاصَّةً ، فَهُوَ النَّبِيذُ حَقِيقَةً مُشْتَقٌّ مِنْ النَّبْذِ ، وَهُوَ الطَّرْحُ أَيْ يُنْبَذُ الزَّبِيبُ ، وَالتَّمْرُ فِي الْمَاءِ لِيَسْتَخْرِجَ حَلَاوَتَهُ ، فَأَمَّا إذَا طُبِخَ ، فَالطَّبْخُ يُغَيِّرُهُ عَنْ حَالِهِ ، فَلَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ النَّبِيذِ حَقِيقَةً ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُسَمَّى بِهِ مَجَازًا ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : حُرِّمَتْ الْخَمْرَةُ لِعَيْنِهَا قَلِيلُهَا ، وَكَثِيرُهَا ، وَالْمُسْكِرُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ الْأَخِيرُ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ السُّكْرُ كَالْمُؤْلِمِ اسْمٌ لِمَا يَتَوَلَّدُ الْأَلَمُ مِنْهُ ، وَإِنَّ الْخَمْرَ حَرَامٌ لِعَيْنِهَا ، وَالْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ ، وَفِي الْمُثَلَّثِ ، وَالْمَطْبُوخِ مِنْ الزَّبِيبِ ، وَالتَّمْرِ يُفَصَّلُ بَيْنَ الْقَلِيلِ ، وَالْكَثِيرِ ، فَلَا بَأْسَ بِشُرْبِ الْقَلِيلِ مِنْهُ ، وَإِنَّمَا يُحَرَّمُ مِنْهُ مَا يَتَعَقَّبُهُ السُّكْرُ ، وَهُوَ الْقَدَحُ الْأَخِيرُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْكَأْسُ الْمُسْكِرَةُ هِيَ الْحَرَامُ قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَأَمَّا مِثْلُ ذَلِكَ دَمٌ فِي ثَوْبٍ ، فَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ فِيهِ إنْ كَانَ قَلِيلًا ، فَإِذَا كَثُرَ لَمْ تَحِلَّ الصَّلَاةُ فِيهِ ، وَمِثْلُهُ رَجُلٌ يُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ مِنْ كَسْبِهِ ، فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ ، فَإِذَا أَسْرَفَ فِي النَّفَقَةِ لَمْ يَصْلُحْ لَهُ ذَلِكَ ، وَلَا يَنْبَغِي ، وَكَذَلِكَ النَّبِيذُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَشْرَبَهُ عَلَى طَعَامٍ ، وَلَا خَيْرَ فِي الْمُسْكِرِ مِنْهُ ؛

لِأَنَّهُ إسْرَافٌ ، فَإِذَا جَاءَ السُّكْرُ ، فَلْيَدَعْ الشُّرْبَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ اللَّبَنَ ، وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ الشَّرَابِ حَلَالٌ ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ إنْ كَانَ يُسْكِرُ أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنْهُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْبَنْجَ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَدَاوَى بِهِ الْإِنْسَانُ ، فَإِذَا كَادَ أَنْ يَذْهَبَ عَقْلُهُ مِنْهُ ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ ، وَفِي هَذَا كُلِّهِ بَيَانٌ أَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ السُّكْرُ إلَّا أَنَّ الْخَمْرَ الْقَلِيلَ يَدْعُو إلَى الْكَثِيرِ كَمَا قَرَّرْنَا ، فَيَحْرُمُ شُرْبُ الْقَلِيلِ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهَا دَاعِيَةٌ إلَى الْكَثِيرِ ، وَذَلِكَ فِي الْمُثَلَّثِ لَا يُوجَدُ ، فَإِنَّهُ غَلِيظٌ لَا يَدْعُو قَلِيلُهُ إلَى كَثِيرِهِ بَلْ بِالْقَلِيلِ يَسْتَمْرِئُ طَعَامَهُ ، وَيَتَقَوَّى عَلَى الطَّاعَةِ ، وَالْكَثِيرُ يُصَدِّعُ رَأْسَهُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الَّذِينَ يَعْتَادُونَ شُرْبَ الْمُسْكِرِ لَا يَرْغَبُونَ فِي الْمُثَلَّثِ أَصْلًا ، وَلَا يُقَالُ : الْقَدَحُ الْأَخِيرُ مُسْكِرٌ بِمَا تَقَدَّمَهُ ؛ لِأَنَّ الْمُسْكِرَ مَا يَتَّصِلُ بِهِ السُّكْرُ بِمَنْزِلَةِ الْمُتْخِمِ مِنْ الطَّعَامِ ، فَإِنَّ تَنَاوُلَ الطَّعَامِ بِقَدْرِ مَا يُغَذِّيهِ ، وَيُقَوِّي بَدَنَهُ حَلَالٌ ، وَمَا يُتْخِمُهُ ، وَهُوَ الْأَكْلُ ، فَوْقَ الشِّبَعِ حَرَامٌ ثُمَّ الْمُحَرَّمُ مِنْهُ الْمُتْخِمُ ، وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى الشِّبَعِ ، وَإِنْ كَانَ هَذَا لَا يَكُونُ مُتْخِمًا إلًّا بِاعْتِبَارِ مَا تَقَدَّمَهُ ، فَكَذَلِكَ فِي الشَّرَابِ .
.

وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ إنْسَانًا أَتَاهُ ، وَفِي بَطْنِهِ صَفْرَاءُ ، فَقَالَ وُصِفَ لِي السُّكْرُ ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ، وَبِهِ نَأْخُذُ ، فَنَقُولُ : كُلُّ شَرَابٍ مُحَرَّمٍ ، فَلَا يُبَاحُ شُرْبُهُ لِلتَّدَاوِي حَتَّى رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى يَسْتَأْذِنُهُ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ لِلتَّدَاوِي قَالَ إنْ كَانَ فِي بَطْنِكَ صَفْرَاءُ ، فَعَلَيْك بِمَاءِ السُّكَّرِ ، وَإِنْ كَانَ بِك رُطُوبَةٌ ، فَعَلَيْك بِمَاءِ الْعَسَلِ ، فَهُوَ أَنْفَعُ لَك ، فَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا تَتَحَقَّقُ الضَّرُورَةُ فِي الْإِصَابَةِ مِنْ الْحَرَامِ ، فَإِنَّهُ يُوجَدُ مِنْ جِنْسِهِ مَا يَكُونُ حَلَالًا ، وَالْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِهِ ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ فِي رِجْسٍ شِفَاءً } ، وَلَمْ يُرِدْ بِهِ نَفْيَ الشِّفَاءِ أَصْلًا ، فَقَدْ يُشَاهَدُ ذَلِكَ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الْخُلْفُ فِي خَبَرِ الشَّرْعِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ رِجْسًا لِلشِّفَاءِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُوجَدُ مِنْ الْحَلَالِ مَا يَعْمَلُ عَمَلَهُ ، أَوْ يَكُونُ أَقْوَى مِنْهُ ، وَعَنْ بُرَيْدَةَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : نَهَيْتُكُمْ عَنْ ثَلَاثٍ : عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ ، فَزُورُوهَا ، فَقَدْ أُذِنَ لِمُحَمَّدٍ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ أُمِّهِ ، وَلَا تَقُولُوا هُجْرًا ، وَعَنْ لَحْمِ الْأَضَاحِيِّ أَنْ تُمْسِكُوهُ ، فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، فَأَمْسَكُوهُ مَا بَدَا لَكُمْ ، وَتَزَوَّدُوا ، فَإِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ لِيَتَّسِعَ بِهِ مُوسِرُكُمْ عَلَى مُعْسِرِكُمْ ، وَعَنْ النَّبِيذِ فِي الدُّبَّاءِ ، وَالْحَنْتَمِ ، وَالْمُزَفَّتِ ، فَاشْرَبُوا فِي كُلِّ ظَرْفٍ ، فَإِنَّ الظَّرْفَ لَا يُحِلُّ شَيْئًا ، وَلَا يُحَرِّمُهُ ، وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا } ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { ، وَعَنْ الشُّرْبِ فِي الدُّبَّاءِ ، وَالْحَنْتَمِ ، وَالنَّقِيرِ ، وَالْمُزَفَّتِ ، فَاشْرَبُوا فِي

الظُّرُوفِ ، وَلَا تَشْرَبُوا مُسْكِرًا } ، وَهَذَا اللَّفْظُ رَوَاهُ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ أَيْضًا ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلُ نَسْخِ السُّنَّةِ بِالسُّنَّةِ ، فَقَدْ أُذِنَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ بَعْدَ مَا كَانَ نُهِيَ عَنْهَا ، وَبِالْإِذْنِ يُنْسَخُ حُكْمُ النَّهْيِ ، وَقِيلَ : الْمُرَادُ النَّهْيُ عَنْ زِيَارَةِ قُبُورِ الْمُشْرِكِينَ ، فَإِنَّهُمْ مَا مُنِعُوا عَنْ زِيَارَةِ قُبُورِ الْمُسْلِمِينَ قَطُّ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ قَدْ أُذِنَ لِمُحَمَّدٍ فِي زِيَارَةِ قَبْرِ أُمِّهِ ، وَكَانَتْ قَدْ مَاتَتْ مُشْرِكَةً ، وَرُوِيَ أَنَّهُ زَارَ قَبْرَهَا فِي أَرْبَعِمِائَةِ فَارِسٍ فَوَقَفُوا بِالْبُعْدِ ، وَدَنَا هُوَ مِنْ قَبْرِهَا ، فَبَكَى حَتَّى سُمِعَ نَشِيجُهُ ، وَقِيلَ : إنَّمَا نُهُوا عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِمَا كَانَ مِنْ عَادَةِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْدُبُونَ الْمَوْتَى عِنْدَ قُبُورِهِمْ ، وَرُبَّمَا يَتَكَلَّمُونَ بِمَا هُوَ كَذِبٌ ، أَوْ مُحَالٌ ، وَلِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : وَلَا تَقُولُوا هُجْرًا } أَيْ لَغْوًا مِنْ الْكَلَامِ ، فَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْمَمْنُوعَ هُوَ التَّكَلُّمُ بِاللَّغْوِ ، فَذَلِكَ مَوْضِعٌ يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يَتَّعِظَ بِهِ ، وَيَتَأَمَّلَ فِي حَالِ نَفْسِهِ ، وَهَذَا قَائِمٌ لَمْ يُنْسَخْ إلَّا أَنَّهُ فِي الِابْتِدَاءِ نَهَاهُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ لِتَحْقِيقِ الزَّجْرِ عَنْ الْهَجْرِ مِنْ الْكَلَامِ ، ثُمَّ أُذِنَ لَهُمْ فِي الزِّيَارَةِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَقُولُوا هُجْرًا ، وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ : الْإِذْنُ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ ، وَالنِّسَاءُ يُمْنَعْنَ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الْمَقَابِرِ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا خَرَجَتْ فِي تَعْزِيَةٍ لِبَعْضِ الْأَنْصَارِ ، فَلَمَّا رَجَعَتْ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَلَّك أَتَيْت الْمَقَابِرَ قَالَتْ لَا ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَوْ أَتَيْت مَا فَارَقْت جَدَّتُك يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أَيْ كُنْت مَعَهَا فِي النَّارِ ،

وَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا أَنَّ الرُّخْصَةَ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا .
فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ تَزُورُ قَبْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كُلِّ وَقْتٍ ، وَأَنَّهَا لَمَّا خَرَجَتْ حَاجَّةً زَارَتْ قَبْرَ أَخِيهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَأَنْشَدَتْ عِنْدَ الْقَبْرِ قَوْلَ الْقَائِلِ : وَكُنَّا كَنَدْمَانَيْ جَذِيمَةَ حِقْبَةً مِنْ الدَّهْرِ حَتَّى قِيلَ لَنْ يَتَصَدَّعَا ، فَلِمَا تَفَرَّقْنَا كَأَنِّي وَمَالِكًا لِطُولِ اجْتِمَاعٍ لَمْ نَبِتْ لَيْلَةً مَعًا ، وَالنَّهْيُ عَنْ إمْسَاكِ لُحُومِ الْأَضَاحِيِّ ، فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ قَدْ انْتَسَخَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { فَامْسِكُوا مَا بَدَا لَكُمْ وَتَزَوَّدُوا } ، فَإِنَّ الْقُرْبَةَ تُنَادِي بِإِرَاقَةِ الدَّمِ ، وَالتَّدْبِيرُ فِي اللَّحْمِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الْأَكْلِ ، وَالْإِمْسَاكِ ، وَالْإِطْعَامِ إلَى صَاحِبِهِ ، إلَّا أَنَّهُ لِلضِّيقِ وَالشِّدَّةِ فِي الِابْتِدَاءِ نَهَاهُمْ عَنْ الْإِمْسَاكِ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ وَالشَّفَقَةِ لِيَتْبَعَ مُوسِرُهُمْ عَلَى مُعْسِرِهِمْ ، وَلَمَّا انْعَدَمَ ذَلِكَ التَّضْيِيقُ أُذِنَ لَهُمْ فِي الْإِمْسَاكِ ، فَأَمَّا النَّهْيُ عَنْ الشُّرْبِ فِي الْأَوَانِي ، فَقَدْ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ نَهَاهُمْ عَنْ الشُّرْبِ فِي الْأَوَانِي الْمُتَثَلِّمَةِ تَحْقِيقًا لِلزَّجْرِ عَنْ الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ ، وَلِهَذَا أَمَرَ بِكَسْرِ الدِّنَانِ ، وَشَقِّ الرَّوَايَا ، فَلَمَّا تَمَّ انْزِجَارُهُمْ عَنْ ذَلِكَ أَذِنَ لَهُمْ فِي الشُّرْبِ فِي الْأَوَانِي ، وَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّ الْمُحَرَّمَ شُرْبُ الْمُسْكِرِ ، وَأَنَّ الظَّرْفَ لَا يُحِلُّ شَيْئًا ، وَلَا يُحَرِّمُهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُسْكِرَ مَا يَتَعَقَّبُهُ السُّكْرُ ، وَهُوَ الْكَأْسُ الْأَخِيرُ .
.

وَعَنْ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ أُتِيَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَعْرَابِيٍّ سَكْرَانَ مَعَهُ إدَاوَةٌ مِنْ نَبِيذٍ مُثَلَّثٍ ، فَأَرَادَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ مَخْرَجًا ، فَمَا أَعْيَاهُ إلَّا ذَهَابُ عَقْلِهِ ، فَأَمَرَ بِهِ ، فَحُبِسَ حَتَّى صَحَا ، ثُمَّ ضَرَبَهُ الْحَدَّ ، وَدَعَا بِإِدَاوَتِهِ ، وَبِهَا نَبِيذٌ ، فَذَاقَهُ ، فَقَالَ : أَوَّهْ هَذَا فَعَلَ بِهِ هَذَا الْفِعْلَ ، فَصَبَّ مِنْهُ فِي إنَاءٍ ، ثُمَّ صَبَّ عَلَيْهِ الْمَاءَ ، فَشَرِبَ ، وَسَقَى أَصْحَابَهُ ، وَقَالَ إذَا رَابَكُمْ شَرَابُكُمْ ، فَاكْسِرُوهُ بِالْمَاءِ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَحْتَالَ لِإِسْقَاطِ الْحَدِّ بِشُبْهَةٍ يُظْهِرُهَا كَمَا قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ } ، وَقَدْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي الْحُدُودِ كُلِّهَا ، وَفِي حَدِيثِ الشُّرْبِ عَلَى الْخُصُوصِ لِضَعْفٍ فِي سَبَبِهِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : مَا مِنْ أَحَدٍ أُقِيمُ عَلَيْهِ حَدًّا ، فَيَمُوتُ ، فَآخُذُ فِي نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا إلَّا حَدَّ الْخَمْرِ ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِآرَائِنَا ، فَلِهَذَا طَلَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَخْرَجًا لَهُ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ السَّكْرَانَ يُحْبَسُ حَتَّى يَصْحُوَ ، ثُمَّ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الزَّجْرُ ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ بِالْإِقَامَةِ عَلَيْهِ فِي حَالِ سُكْرِهِ ، فَإِنَّهُ لِاخْتِلَاطِ عَقْلِهِ رُبَّمَا يَتَوَهَّمُ أَنَّ الضَّارِبَ يُمَازِحُهُ بِمَا يَضْرِبُهُ ، وَالْمَقْصُودُ إيصَالُ الْأَلَمِ إلَيْهِ ، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ مَا لَمْ يَصْحُ .
وَتَأْخِيرُ إقَامَةِ الْحَدِّ بِعُذْرٍ جَائِزٌ كَالْمَرْأَةِ إذَا لَزِمَهَا حَدُّ الزِّنَا بِالرَّجْمِ ، وَهِيَ حُبْلَى لَا يُقَامُ عَلَيْهَا حَتَّى تَضَعَ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96