كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَجَرَهُ بِالدَّنَانِيرِ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ وَأَشَارَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ إلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِالْفَضْلِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْخُبْثِ ضَعِيفٌ هُنَا وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ فِي الْحَقِيقَةِ جِنْسَانِ فَبِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ يَنْعَدِمُ رِبْحُ مَا لَمْ يَضْمَنْ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَوَجْهُ مَا ذُكِرَ هُنَا أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ فِي الصُّورَةِ جِنْسَانِ ، وَفِي الْحُكْمِ جِنْسٌ وَاحِدٌ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ فِي شِرَاءِ مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ جُعِلَا كَجِنْسٍ وَاحِدٍ فَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ بِأَكْثَرَ مِمَّا اسْتَأْجَرَ يُجْعَلَانِ كَجِنْسٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى فِيهِمَا سَوَاءٌ ، وَهُوَ أَنَّ الرِّبْحَ يَحْصُلُ لَا عَلَى ضَمَانِهِ ، وَإِنْ أَجَرَ بِثَوْبٍ قِيمَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ مِائَةٍ لَمْ يَتَصَدَّقْ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ جِنْسَ الْبَدَلَيْنِ مُخْتَلِفٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَلَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ رِبْحُ مَا لَمْ يَضْمَنْ ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَ رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنْ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ عَوْدِ رَأْسِ الْمَالِ إلَيْهِ .
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ رَجُلًا يَحْمِلُ لَهُ دَنَّ خَلٍّ فَعَثَرَ الْحَمَّالُ فَانْكَسَرَ الْحَمْلُ قَدْ بَيَّنَّا فِي الْإِجَارَاتِ أَنَّ الْحَمَّالَ أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ ، وَأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الِانْكِسَارِ يَكُونُ بِجِنَايَةِ يَدِهِ فَيَكُونُ ضَامِنًا إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَصَاحِبُ الدَّنِّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَحْمُولٍ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مَحْمُولًا إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي انْكَسَرَ فِيهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ مَا حَمَلَ وَلَوْ تَعَمَّدَ كَسْرَهُ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَنَا .
وَقَالَ زُفَرُ يُضَمِّنُهُ قِيمَتَهُ مَحْمُولًا إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي كُسِرَ فِيهِ وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ بِحِسَابِ مَا حَمَلَ وَذَكَرَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ قِيَاسَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ هَكَذَا ؛ لِأَنَّ أَجِيرَ الْمُشْتَرَكِ عِنْدَهُ أَمِينٌ لَا يَضْمَنُ بِاعْتِبَارِ الْقَبْضِ ، فَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ بِاعْتِبَارِ جِنَايَتِهِ عِنْدَ الْكَسْرِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ قِيمَتِهِ عِنْدَ تَقَرُّرِ سَبَبِ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَسْبِقُ سَبَبَهُ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : إذَا اخْتَارَ صَاحِبُ الدَّنِّ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَحْمُولٍ لَمْ يُضَمِّنْهُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْقَبْضِ ، وَلَا بِاعْتِبَارِ جِنَايَتِهِ أَيْضًا ، وَلَكِنْ تُفَرَّقُ عَلَيْهِ الصَّفْقَةُ حِينَ كَسَرَهُ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ فَغَيَّرَ عَلَيْهِ شَرْطَ عَقْدِهِ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ فِي مِقْدَارِ مَا يَحْمِلُهُ فَيُسْقِطُ حِصَّةَ ذَلِكَ مِنْ الْأَجْرِ وَيُضَمِّنُهُ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَحْمُولٍ ، فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَفْسَخُ الْعَقْدَ فِي مِقْدَارِ مَا يَحْمِلُهُ ، وَذَلِكَ مُتَلَاشٍ غَيْرُ قَائِمٍ ؟ قُلْنَا : بَلْ هُوَ قَائِمٌ حُكْمًا بِبَقَاءِ بَدَلِهِ فَإِنَّ الْحَمَّالَ ضَامِنٌ قِيمَتَهُ مَحْمُولًا إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ الْفَسْخُ عِنْدَ تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَى الْعَيْنِ يَجُوزُ فَسْخُهُ عَلَى بَدَلِ الْعَيْنِ إذَا كَانَ قَائِمًا كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ فَقُتِلَ
أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ ثُمَّ مَاتَ الْآخَرُ كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ عَلَى الْقِيمَةِ فِي الْمَنْقُولِ كَتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ عَلَيْهِ ، وَلَكِنْ لَوْ انْكَسَرَ مِنْ غَيْرِ عَمَلِهِ بِأَنْ أَصَابَهُ حَجَرٌ مِنْ مَكَان أَوْ وَقَعَ عَلَيْهِ حَائِطٌ أَوْ كَسَرَهُ رَجُلٌ ، وَهُوَ عَلَى رَأْسِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا هُوَ ضَامِنٌ إذَا تَلِفَ بِمَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَمَلِهِ ، وَإِنْ قَالَ رَبُّ الدَّنِّ عَبَرَ فَانْكَسَرَ ، وَقَالَ الْحَمَّالُ أَصَابَهُ حَجَرٌ فَانْكَسَرَ أَوْ قَالَ كَانَ مُنْكَسِرًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْحَمَّالِ وَلَهُ الْأَجْرُ إلَى حَيْثُ انْكَسَرَ ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُودَعِ يَدَّعِي عَلَيْهِ صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ الِاسْتِهْلَاكَ ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ ، وَأَمَّا الْأَجْرُ إلَى حَيْثُ انْكَسَرَ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّنِّ صَارَ مُسْتَوْفِيًا ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَيُقَرِّرُ عَلَيْهِ حِصَّتَهُ مِنْ الْأَجْرِ ثُمَّ مَاتَ ، وَلَمْ يُخْلِفْ بَدَلًا فَلَا يُمْكِنُ فَسْخُ الْعَقْدِ فِيهِ بِاعْتِبَارِ تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ ؛ فَلِهَذَا كَانَ لِلْحَمَّالِ الْأَجْرُ حَيْثُ انْكَسَرَ .
وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ ثَوْبًا إلَى صَبَّاغٍ يَصْبُغُهُ فَصَبَغَهُ فَقَالَ رَبُّ الثَّوْبِ : أَمَرْتُك أَنْ تَصْبُغَهُ أَحْمَرَ وَقَالَ الصَّبَّاغُ : أَمَرْتنِي أَنْ أَصْبُغَهُ أَسْوَدَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ مُسْتَفَادٌ مِنْ جِهَتِهِ ، وَفِيهِ خِلَافُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْإِجَارَاتِ ، فَإِنْ اخْتَارَ أَخْذَ الثَّوْبِ قُوِّمَ الثَّوْبُ أَبْيَضَ وَقُوِّمَ مَصْبُوغًا بِذَلِكَ الصِّبْغِ فَأَعْطَاهُ مَا زَادَ الصِّبْغُ فِيهِ وَلِأَنَّهُ وَافَقَ فِي أَصْلِ الصِّبْغِ ، وَإِنْ خَالَفَ فِي الصِّفَةِ وَلِأَنَّ الصِّبْغَ عَيْنٌ اتَّصَلَ بِهِ فَلَا يُسَلَّمُ لَهُ مَجَّانًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ هَبَّتْ الرِّيحُ بِثَوْبِ إنْسَانٍ وَأَلْقَتْهُ فِي صَبْغِ غَيْرِهِ أَوْ غَصَبَ ثَوْبًا وَصَبَغَهُ وَاخْتَارَ رَبُّ الثَّوْبِ أَخْذَ الثَّوْبِ فَإِنَّهُ يُعْطِيهِ مَا زَادَ الصِّبْغُ فِيهِ .
وَإِذَا تَكَارَى الرَّجُلُ دَابَّةً مِنْ الْبَصْرَةِ إلَى الْكُوفَةِ فَلَهُ أَنْ يَذْهَبَ بِهَا إلَى أَيِّ نَوَاحِيهَا شَاءَ ؛ لِأَنَّ الْكُوفَةَ اسْمٌ لِلْبَلْدَةِ الْوَاحِدَةِ ، وَجَوَانِبُ الْبَلْدَةِ الْوَاحِدَةِ كَمَكَانٍ وَاحِدٍ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ فِي عَقْدِ السَّلَمِ إذَا شَرَطَ إبْقَاءَ الْمُسْلَمِ فِيهِ بِالْكُوفَةِ جَازَ الْعَقْدُ ، فَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ إذَا اسْتَأْجَرَهَا إلَى الْكُوفَةِ جَازَ الْعَقْدُ لَهُ أَنْ يَذْهَبَ إلَى أَيِّ نَوَاحِيهَا شَاءَ بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ فَإِنَّ مَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ يَبْلُغُ عَلَيْهَا إلَى مَنْزِلِهِ فِي الْعَادَةِ .
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى الرَّيِّ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَذْهَبَ بِهَا إلَى أَيِّ نَوَاحِيهَا شَاءَ ، وَالْكِرَاءُ إلَى الرَّيِّ فَاسِدٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : هُوَ جَائِزٌ ، وَهُوَ إلَى مَدِينَتِهَا دُونَ نَوَاحِيهَا ، وَقَدْ رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ إلَى مَدِينَتِهَا بِالِاسْتِحْسَانِ ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ الرَّيَّ اسْمٌ لِوِلَايَةٍ تَشْتَمِلُ عَلَى مَدَائِنَ وَنَوَاحِيَ فَلَا يَجُوزُ الْعَقْدُ لِلْجَهَالَةِ الَّتِي تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إنَّمَا يُطْلَقُ هَذَا الِاسْمُ عَلَى مَدِينَتِهَا فِي الْعُرْفِ وَالثَّابِتُ بِالْعُرْفِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ وَلَوْ سَمَّى مَدِينَةً مِنْ مَدَائِنِهَا كَانَ جَائِزًا ، وَكَذَلِكَ خُرَاسَانُ وَالشَّامُ وَالْعِرَاقُ إنْ سَمَّى مِنْهَا مَكَانًا مَعْلُومًا جَازَ الْعَقْدُ ، وَإِنْ أَطْلَقَ فَسَدَ الْعَقْدُ لِلْجَهَالَةِ الَّتِي تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَنَظِيرُ هَذَا فِي دِيَارِنَا لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى كَاشْغَرَ جَازَ الْعَقْدُ فَإِنَّهُ اسْمٌ لِلْبَلْدَةِ خَاصَّةً ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا مِنْ كَاشْغَرَ إلَى فَرْغَانَةَ لَمْ يَجُزْ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ مُشْتَمِلٌ عَلَى بِلَادٍ مُتَبَاعِدَةٍ فَتُمْكِنُ فِيهِ جَهَالَةٌ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا إلَى أُوزْجَنْدَ جَازَ الْعَقْدُ ، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرَهَا مِنْ أُوزْجَنْدَ إلَى سَمَرْقَنْدَ ؛ لِأَنَّهُ اسْمٌ لِلْبَلْدَةِ أَوْ إنْ اسْتَأْجَرَهَا إلَى بُخَارَى فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ مَشَايِخُ بُخَارَى رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَإِنَّ بُخَارَى مِنْ كَرْمِينِيَةَ إلَى قَرِيرٍ وَهِيَ تَشْتَمِلُ عَلَى مَوَاضِعَ مُتَبَايِنَةٍ بِمَنْزِلَةِ الرَّيِّ فَتَمَكَّنَ فِيهِ جَهَالَةٌ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا .
وَلَوْ تَكَارَى دَابَّتَيْنِ يَحْمِلُ عَلَيْهِمَا إلَى الْمَدَائِنِ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا فَأَكْرَى أَحَدَهُمَا بِتِسْعَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا بِمِثْلِ ذَلِكَ الشَّرْطِ طَابَ لَهُ الْفَضْلُ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ خَاصَّةً بِحِصَّةِ هَذِهِ الدَّابَّةِ فَلَا يَظْهَرُ فِي الْعَقْدِ الثَّانِي رِبْحٌ مَا لَمْ يَضْمَنْ وَلَوْ أَكْرَى أَحَدَهُمَا بِأَكْثَرَ مِنْ الْأَجْرِ كُلِّهِ يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ وَبِشَيْءٍ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ شَيْئًا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ بِإِزَاءِ الدَّابَّةِ الثَّانِيَةِ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ ذَلِكَ رِبْحًا مَا لَمْ يَضْمَنْ فِي الْعَقْدِ الثَّانِي مَعَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ فَيَتَصَدَّقُ بِذَلِكَ الْفَضْلِ .
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلَيْنِ يَبْنِيَانِ لَهُ حَائِطًا ، فَعَمِلَهُ أَحَدُهُمَا ، وَمَرِضَ الْآخَرُ وَهُمَا شَرِيكَانِ فَالْأَجْرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ اسْتِحْسَانًا ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا أَجْرَ لِلَّذِي لَمْ يَعْمَلْ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ بِاعْتِبَارِ الْعَمَلِ ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُمَا قَبِلَا الْعَقْدَ جَمِيعًا ثُمَّ الَّذِي أَقَامَ الْعَمَلَ فِي نَصِيبِهِ مُسْلِمٌ لِمَا الْتَزَمَهُ ، وَفِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ نَائِبٌ عَنْهُ فَقَامَ مَقَامَهُ فَيَكُونُ الْأَجْرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظَائِرَهُ فِي الْإِجَارَاتِ وَذَكَرْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالشَّرِكَةِ هَذَا فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ .
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَحْمِلُ لَهُ طَعَامًا مَعْلُومًا إلَى مَكَان مَعْلُومٍ عَلَى دَوَابِّهِ هَذِهِ فَحَمَلَهُ عَلَى غَيْرِ تِلْكَ الدَّوَابِّ فَلَهُ الْأَجْرُ كُلُّهُ اسْتِحْسَانًا ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا أَجْرَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ إنَّمَا تَتَنَاوَلُ مَنَافِعَ الدَّوَابِّ الَّتِي عَيَّنَهَا ، وَلَمْ يُسَلَّمْ إلَيْهِ ذَلِكَ ، وَفِي حَقِّ غَيْرِ تِلْكَ الدَّوَابِّ يُجْعَلُ الْعَقْدُ كَأَنْ لَيْسَ فَكَأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِحَمْلِ طَعَامِهِ عَلَى دَوَابِّهِ فَلَا أَجْرَ لَهُ وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ قَبِلَ عَمَلَ الْحَمْلِ فِي ذِمَّتِهِ بَعْدَ الْإِجَارَةِ ، وَقَدْ أَوْفَى مَا قَبِلَهُ سَوَاءٌ حَمَلَ الطَّعَامَ عَلَى تِلْكَ الدَّوَابِّ أَوْ عَلَى غَيْرِهَا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى تَعْيِينِ تِلْكَ الدَّوَابِّ فِي تَصْحِيحِ الْعَقْدِ بَعْدَ إعْلَامِ مِقْدَارِ الطَّعَامِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ يَحْمِلُ لَهُ طَعَامًا مَعْلُومًا إلَى مَكَان مَعْلُومٍ كَانَ الْعَقْدُ جَائِزًا ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ الدَّوَابَّ ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ لِصَاحِبِ الطَّعَامِ فِي عَيْنِ تِلْكَ الدَّوَابِّ مَقْصُودٌ ، وَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ حَمْلُ الطَّعَامِ ، فَإِذَا سَقَطَ اعْتِبَارُ تَعْيِينِ الدَّوَابِّ لِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ كَانَ لَهُ الْأَجْرُ بِإِقَامَةِ الْعَمَلِ الْمَشْرُوطِ ، وَهُوَ حَمْلُ الطَّعَامِ .
وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِحَمْلِهِ بِنَفْسِهِ فَحَمَلَهُ عَلَى دَوَابِّهِ أَوْ عَبِيدِهِ أَوْ عَلَى غَيْرِهِمْ ، وَذَهَبَ مَعَهُ حَتَّى بَلَّغَهُ ذَلِكَ الْمَكَانَ فَلَهُ الْأَجْرُ اسْتِحْسَانًا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حَمْلُ الطَّعَامِ ، وَقَدْ أَوْفَاهُ كَمَا الْتَزَمَ ، وَلَيْسَ هُوَ بِمُخَالِفٍ ؛ لِأَنَّهُ مَا فَارَقَ الطَّعَامَ حِينَ ذَهَبَ مَعَهُ ، وَلَا أَخْرَجَهُ مِنْ يَدِهِ فَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا ، وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَطَ لَهُ طَرِيقًا فَحَمَلَهُ فِي طَرِيقٍ آخَرَ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ صَاحِبِ الطَّعَامِ قَدْ حَصَلَ حِينَ أَوْصَلَ الطَّعَامَ إلَى الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ فِي أَيِّ الطَّرِيقَيْنِ حَمَلَهُ ، وَإِنْ حَمَلَهُ فِي الْبَحْرِ ضَمِنَهُ إنْ غَرِقَ ؛ لِأَنَّهُ عَرَّضَهُ لِلتَّلَفِ فَإِنَّ الْغَالِبَ مِنْ حَالِ رَاكِبِ الْبَحْرِ أَنَّهُ عَلَى شَرَفِ الْهَلَاكِ مَعَ مَا مَعَهُ ، وَإِنْ سَلَّمَ لَهُ الْأَجْرَ اسْتِحْسَانًا ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ طَرِيقَانِ فِي الْبَرِّ أَحَدُهُمَا : آمِنٌ وَالْآخَرُ مَخُوفٌ فَحَمَلَهُ فِي الطَّرِيقِ الْمَخُوفِ ، فَإِنْ تَلِفَ كَانَ ضَامِنًا ، وَإِنْ سَلِمَ اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ اسْتِحْسَانًا ، فَكَذَلِكَ هُنَا ؛ لِأَنَّ الْبَحْرَ بِمَنْزِلَةِ الطَّرِيقِ الْمَخُوفِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُودَعِ أَنْ يُسَافِرَ الْوَدِيعَةِ فِي طَرِيقِ الْبَحْرِ كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا فِي الطَّرِيقِ الْمَخُوفِ .
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلَيْنِ يَحْمِلَانِ لَهُ طَعَامًا مِنْ الْفُرَاتِ إلَى أَهْلِهِ فَحَمَلَهُ كُلَّهُ أَحَدُهُمَا ، وَهُمَا شَرِيكَانِ فِي الْعَمَلِ فَالْأَجْرُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْأَجْرِ بِاعْتِبَارِ تَقَبُّلِ الْعَمَلِ ، وَقَدْ بَاشَرَاهُ أَوْ بَاشَرَهُ أَحَدُهُمَا بِوَكَالَةٍ لِصَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّ مَبْنَى شَرِكَةِ الْعِنَانِ عَلَى الْوَكَالَةِ ثُمَّ هُوَ فِي إقَامَةِ الْعَمَلِ نَائِبٌ عَنْ صَاحِبِهِ أَيْضًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا شَرِيكَيْنِ فِي الْعَمَلِ فَلِلْعَامِلِ نِصْفُ الْأَجْرِ فِي نِصْفِ الطَّعَامِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا قَبِلَ حَمْلَ نِصْفِ الطَّعَامِ بِنِصْفِ الْأَجْرِ ، وَقَدْ حَمَلَهُ وَلَا أَجْرَ لَهُ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْحَمْلِ ضَامِنًا لِنِصْفِ الْأَجْرِ بِمَنْزِلَةِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ لَوْ حَمَلَهُ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ غَيْرُ نَائِبٍ عَنْ الْآخَرِ هُنَا ، فَإِنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ بَيْنَهُمَا عَقْدُ شَرِكَةٍ فَلَمْ يَجْعَلْهُ نَائِبًا عَنْ نَفْسِهِ فَيَكُونُ هُوَ فِي ذَلِكَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ .
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَذْهَبَ إلَى مَكَانِ كَذَا فَيَجِيءَ بِأَهْلِهِ كُلِّهِمْ ، وَهُمْ خَمْسَةٌ ، فَذَهَبَ وَجَاءَ بِهِمْ فَلَهُ الْأَجْرُ الْمُسَمَّى ؛ لِأَنَّهُ اُسْتُؤْجِرَ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ ، وَقَدْ أَوْفَى الْعَمَلَ الْمَشْرُوطَ عَلَيْهِ بِكَمَالِهِ فَلَهُ الْأَجْرُ كُلُّهُ ، فَإِنْ وَجَدَ بَعْضَهُمْ قَدْ مَاتَ فَجَاءَ بِمَنْ بَقِيَ مِنْهُمْ فَلَهُ أَجْرُ ذَهَابِهِ ، وَلَهُ الْأَجْرُ بِحِسَابِ مَنْ جَاءَ بِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ فِي الذَّهَابِ أَقَامَ مَا الْتَزَمَ مِنْ الْعَمَلِ عَلَى نَحْوِ مَا الْتَزَمَهُ فَاسْتَوْجَبَ أَجْرَ الذَّهَابِ ، وَمَا يَكُونُ مِنْ الْأَجْرِ الْمُسَمَّى ، فَإِنَّهُ يَتَوَزَّعُ عَلَى حِصَّةِ مَنْ جَاءَ بِهِمْ ، وَمَنْ مَاتُوا فَيَلْزَمُهُ بِحِصَّةِ مَنْ جَاءَ بِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَ بَعْضَ هَذَا الْعَمَلِ دُونَ الْبَعْضِ فَيَكُونُ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ مَا أَقَامَ مِنْ الْعَمَلِ ، وَإِنْ وَجَدَهُمْ كُلَّهُمْ قَدْ هَلَكُوا فَعَادَ بِنَفْسِهِ فَلَهُ أَجْرُ ذَهَابِهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي الذَّهَابِ أَقَامَ مَا لَزِمَهُ بِالْعَقْدِ كَمَا الْتَزَمَهُ ، وَفِي الرُّجُوعِ هُوَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ بِالْعَوْدِ إلَى وَطَنِهِ لَيْسَ بِعَامِلٍ لِلْمُسْتَأْجِرِ حِينَ لَمْ يَأْتِ بِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِهِ ؛ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَجْرُ الذَّهَابِ خَاصَّةً ؛ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَذْهَبُ لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْمُسْتَأْجِرِ فَكَانَ عَامِلًا لَهُ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ فِي رُجُوعِهِ وَحْدَهُ تَحْصِيلُ شَيْءٍ مِنْ مَقْصُودِ الْمُسْتَأْجِرِ ، فَلَمْ يَكُنْ عَامِلًا لَهُ فِي ذَلِكَ .
فَإِنْ اُسْتُؤْجِرَ عَلَى أَنْ يَذْهَبَ بِكِتَابٍ لَهُ إلَى مَكَانِ كَذَا فَيَدْفَعَهُ إلَى فُلَانٍ ، فَذَهَبَ بِهِ فَوَجَدَهُ قَدْ مَاتَ أَوْ تَحَوَّلَ إلَى بَلَدٍ آخَرَ فَرَدَّ الْكِتَابَ فَلَا شَيْءَ لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ الْكِتَابَ فَلَهُ الْأَجْرُ بِحِسَابِ ذَهَابِهِ مَعْنَى هَذَا أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِيَذْهَبَ بِالْكِتَابِ إلَى فُلَانٍ وَيَأْتِيَهُ بِالْجَوَابِ ، فَإِذَا ذَهَبَ بِهِ ، وَلَمْ يَرُدَّ الْكِتَابَ ، وَلَمْ يَأْتِهِ بِالْجَوَابِ فَهُوَ فِي الذَّهَابِ عَامِلٌ لِلْمُسْتَأْجِرِ سَاعٍ فِي تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ وَلَيْسَ بِعَامِلٍ فِي الرُّجُوعِ فَيَسْتَحِقُّ حِصَّةَ الذَّهَابِ مِنْ الْأَجْرِ ، وَإِنْ رَدَّ الْكِتَابَ فَلَا شَيْءَ لَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْمَقْصُودِ حِينَ رَدَّ كِتَابَهُ إلَيْهِ فَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا لَهُ فِي الذَّهَابِ ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَهُ أَجْرُ الذَّهَابِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْكِتَابِ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ ، وَإِنَّمَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِاعْتِبَارِ ذَهَابِهِ بِنَفْسِهِ ، وَقَدْ ذَهَبَ فَقَدْ تَقَرَّرَ حَقُّهُ فِي أَجْرِ الذَّهَابِ فَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ بِعَوْدِهِ رَدَّ الْكِتَابَ أَوْ لَمْ يَرُدَّهُ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : هُوَ لَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِمُجَرَّدِ الذَّهَابِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْكِتَابِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ الْكِتَابَ فِي أَهْلِهِ ، وَذَهَبَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَجْرٌ فَكَذَلِكَ إذَا رَدَّ الْكِتَابَ مَعَهُ ، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ فِي الْمَسْأَلَةِ مُضْطَرِبٌ .
وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْمِلَ لَهُ طَعَامًا إلَى مَكَانِ كَذَا فَيَدْفَعَهُ إلَى فُلَانٍ فَوَجَدَ فُلَانًا قَدْ مَاتَ فَرَجَعَ بِالطَّعَامِ إلَى الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ فَلَا أَجْرَ لَهُ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَهُ الْأَجْرُ ، وَهُوَ غَاصِبٌ فِي رَدِّ الطَّعَامِ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ ضَامِنٌ إنْ هَلَكَ فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حَمَلَ الطَّعَامَ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ فَقَدْ أَوْفَى الْعَمَلَ الْمَشْرُوطَ ، وَمَا كَانَ الْبَدَلُ بِمُقَابَلَتِهِ فَتَقَرَّرَ حَقُّهُ فِي الْأَجْرِ وَانْتَهَى الْعَقْدُ نِهَايَتَهُ ثُمَّ هُوَ فِي الرُّجُوعِ بِالطَّعَامِ غَاصِبٌ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَيَكُونُ ضَامِنًا لَهُ إنْ هَلَكَ وَبِغَصْبِهِ لَا يَبْطُلُ حَقُّهُ فِيمَا تَقَرَّرَ مِنْ الْأَجْرِ وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْبَدَلُ بِمُقَابَلَةِ حَمْلِ الطَّعَامِ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ ، وَقَدْ فَسَخَ ذَلِكَ حِينَ رَجَعَ بِالطَّعَامِ ، وَفَوَّتَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَى الْمُشْتَرِي .
وَإِنْ اسْتَوْدَعَ الطَّعَامَ رَجُلًا فِي تِلْكَ الْبِلَادِ فَهَلَكَ الطَّعَامُ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ فِي الدَّفْعِ إلَى الْأَجْنَبِيِّ ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأَمِينِ فِي ذَلِكَ الطَّعَامِ مَا لَمْ يَدْفَعْهُ إلَى فُلَانٍ وَالْمُودِعُ إذَا أَوْدَعَ الْوَدِيعَةَ رَجُلًا آخَرَ كَانَ ضَامِنًا إذَا هَلَكَ فِي يَدِ الْمُودَعِ الثَّانِي ، وَإِذَا صَارَ ضَامِنًا كَانَ هَذَا ، وَمَا لَوْ اسْتَهْلَكَ الطَّعَامَ سَوَاءٌ وَلِصَاحِبِهِ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي حَمَلَهُ مِنْهُ وَلَا أَجْرَ لَهُ أَوْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي اسْتَوْدَعَهُ وَلَهُ الْأَجْرُ ، وَهَذَا نَظِيرُ مَسْأَلَةِ الدَّنِّ إذَا تَعَمَّدَ كَسْرَهُ ، وَإِنَّمَا الشُّبْهَةُ هُنَا فِي أَنَّهُ اعْتَبَرَ الْقِيمَةَ وَالطَّعَامَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ يُضَمِّنُهُ مِثْلَهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي حَمَلَهُ مِنْهُ وَلَا أَجْرَ لَهُ أَوْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي اسْتَوْدَعَهُ ، وَلَهُ الْأَجْرُ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَدَدِيًّا مُتَقَارِبًا مِنْ الطَّعَامِ كَالْبِطِّيخِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ انْتَهَى إلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ فَوَجَدَ صَاحِبَهُ قَدْ مَاتَ فَرَفَعَ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي فَأَمَرَ بِبَيْعِهِ أَوْ يَدْفَعُهُ إلَى رَجُلٍ آخَرَ فَفَعَلَ ذَلِكَ بِأَمْرِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَلَهُ الْأَجْرُ ؛ لِأَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةَ النَّظَرِ فِي مَالِ الْغَائِبِ ، وَفِعْلُهُ بِأَمْرِ الْقَاضِي ، وَفِعْلُهُ بِأَمْرِ صَاحِبِ الطَّعَامِ سَوَاءٌ ، وَلَوْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِأَمْرِ صَاحِبِ الطَّعَامِ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا وَلَهُ الْأَجْرُ فَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَ بِأَمْرِ الْقَاضِي قَالَ : وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَدْخُلَ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ صِدْقَهُ فِيمَا يَقُولُ : وَلِأَنَّهُ قَدْ الْتَزَمَ حِفْظَهُ فَيُوَلِّيهِ الْقَاضِي مَا تَوَلَّى ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا نُصِبَ الْقَاضِي لِفَصْلِ الْخُصُومَةِ لَا لِإِنْشَائِهَا ، وَلَيْسَ هُنَا خَصْمٌ لِمَنْ فِي يَدِهِ الطَّعَامُ ؛ فَلِهَذَا لَا يَنْظُرُ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ ، وَهُوَ أَوْلَى الْوَجْهَيْنِ لَهُ
.
وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ : مَنْ جَاءَنِي بِمَتَاعِي مِنْ مَكَانِ كَذَا فَلَهُ دِرْهَمٌ فَذَهَبَ رَجُلٌ فَلَمْ يَجِدْ الْمَتَاعَ ثُمَّ جَاءَ فَلَا أَجْرَ لَهُ أَمَّا إذَا ذَهَبَ فَجَاءَ بِالْمَتَاعِ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ الْمُسَمَّى عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ لَهُ الْمُسَمَّى لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ } وَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ فَهُوَ ثَابِتٌ فِي حَقِّنَا حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ النَّسْخِ وَلَكِنَّا نَقُولُ : هَذَا اسْتِئْجَارُ الْمَجْهُولِ ، وَاسْتِئْجَارُ الْمَجْهُولِ بَاطِلٌ إلَّا أَنَّهُ إذَا حَمَلَهُ إنْسَانٌ بَعْدَ مَا سَمِعَ كَلَامَهُ ، فَإِنَّمَا جَاءَ بِهِ عَلَى جِهَةِ تِلْكَ الْإِجَارَةِ ، وَقَدْ رَضِيَ الْقَائِلُ بِذَلِكَ فَيَسْتَوْجِبُ أَجْرَ الْمِثْلِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ جِهَةَ الشَّيْءِ بِمَنْزِلَةِ حَقِيقَتِهِ فَأَمَّا إذَا ذَهَبَ فَلَمْ يَجِدْ الْمَتَاعَ فَرَجَعَ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْأَجْرُ بِخِلَافِ مَا إذَا خَاطَبَ بِهِ إنْسَانًا بِعَيْنِهِ فَهُنَاكَ يَسْتَحِقُّ أَجْرَ الذَّهَابِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ انْعَقَدَ بَيْنَهُمَا حِينَ خَاطَبَهُ بِعَيْنِهِ فَكَانَ هُوَ فِي الذَّهَابِ عَامِلًا لِلْمُسْتَأْجِرِ سَاعِيًا فِي تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ فَيَسْتَحِقُّ أَجْرَ الذَّهَابِ ، وَهُنَا الْعَقْدُ مَا انْعَقَدَ بَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ وَبَيْنَ الذَّاهِبِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخَاطِبْهُ بِعَيْنِهِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ انْعِقَادُ الْعَقْدِ بِاعْتِبَارِ مَجِيئِهِ بِالْمَتَاعِ ، وَإِذَا لَمْ يَجِئْ بِالْمَتَاعِ لَمْ يَكُنْ عَامِلًا لَهُ فِي الذَّهَابِ وَالْمَجِيءِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ فَلِهَذَا لَا يَسْتَوْجِبُ شَيْئًا مِنْ الْأَجْرِ .
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا عِشْرِينَ ثَوْبًا رَبْطِيًّا فَحَمَلَ عَلَيْهَا هَرَوِيًّا فَعَطِبَتْ الدَّابَّةُ لَمْ يَضْمَنْ اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّ فِي الضَّرَرِ عَلَى الدَّابَّةِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الرَّبْطِيِّ وَالْهَرَوِيِّ ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْ الْقِيمَةِ مَا يَكُونُ مُقَيَّدًا دُونَ مَا لَا يُقَيَّدُ كَمَا أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مِنْ التَّعْيِينِ مَا يَكُونُ مُقَيَّدًا دُونَ مَا لَا يُقَيَّدُ وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا هَذِهِ الْأَثْوَابَ الرَّبْطِيَّةَ فَحَمَلَ عَلَيْهَا مِثْلَهَا مِنْ الثِّيَابِ الرَّبْطِيَّةِ فَعَطِبَتْ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا فَكَذَلِكَ هُنَا .
وَإِذَا تَكَارَى الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ دَابَّةً ، وَنَقَدَهُ الْكِرَاءَ ثُمَّ أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِالْكِرَاءِ ثُمَّ أَفْلَسَ الْمُكَارِي ، وَلَمْ يَرْكَبْ الرَّجُلُ فَعَلَى الْكَفِيلِ أَنْ يَرُدَّ الْكِرَاءَ ؛ لِأَنَّهُ كَفِيلٌ لِلْمُسْتَكْرِي عَنْ الْمُكَارِي مَا وَجَبَ رَدُّهُ مِنْ الْكِرَاءِ الْمَقْبُوضِ وَحِينَ أَفْلَسَ الْمُكَارِي ، وَلَمْ يَجِدْ الْمُسْتَكْرِي الدَّابَّةَ لِيَرْكَبَهَا فَقَدْ وَجَبَ عَلَى الْمُكَارِي رَدُّ جَمِيعِ الْكِرَاءِ ، وَقَدْ كَفَلَ الْكَفِيلُ بِذَلِكَ فَكَانَ مُطَالَبًا بِهِ ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الْكَفَالَةِ إلَى سَبَبِ الْوُجُوبِ صَحِيحٌ ، فَإِنْ رَضِيَ مِنْ الْكَفِيلِ أَنْ يَحْمِلَهُ إلَى الْمَكَانِ الَّذِي تَكَارَا إلَيْهِ فَحَمَلَهُ وَأَنْفَقَ أَكْثَرَ مِنْ الْكِرَاءِ لَمْ يَرْجِعْ الْكَفِيلُ عَلَى الْمُكَارِي إلَّا بِالْكِرَاءِ الَّذِي قَبَضَ مِنْ الْمُسْتَكْرِي ؛ لِأَنَّهُ مَا ضَمِنَ عَنْهُ إلَّا ذَلِكَ الْقَدْرَ فَهُوَ فِي الزِّيَادَةِ مُتَبَرِّعٌ ، فَإِنْ قِيلَ : كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالْكِرَاءِ الْمَقْبُوضِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ مَا نَقَدَ عَنْهُ الْكِرَاءَ ، وَإِنَّمَا أَوْفَى عَنْهُ مَا الْتَزَمَ مِنْ الْحَمْلِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَالْمُكَارِي مَا أَمَرَهُ أَنْ يَكْفُلَ عَنْهُ ذَلِكَ فَكَانَ هُوَ فِي إيفَاءِ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مُتَبَرِّعٍ أَوْ كَفِيلٍ بِغَيْرِ الْأَمْرِ قُلْنَا : لَا كَذَلِكَ فَإِنَّهُ بِمَا أَوْفَى مِنْ الْحَمْلِ أَسْقَطَ عَنْ نَفْسِهِ ضَمَانَ الْكِرَاءِ كَمَا أَنَّهُ بِأَدَاءِ الْمَقْبُوضِ يُسْقِطُ عَنْ نَفْسِهِ ضَمَانَ الْكِرَاءِ ، وَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا بَلْ هُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِيُسْقِطَ بِهِ الضَّمَانَ عَنْ نَفْسِهِ ، وَلَمَّا أَمَرَهُ بِالْكَفَالَةِ بِالْكِرَاءِ عَنْهُ فَقَدْ أَقَامَهُ مُقَامَ نَفْسِهِ فِي إيفَاءِ مَا الْتَزَمَهُ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُوَفِّيَ عَنْهُ الْكِرَاءَ ، وَبَيْنَ أَنْ يُوَفِّيَ بِمَا الْتَزَمَهُ مِنْ الْحَمْلِ فَإِنَّهُ يُسْقِطُ بِهِ مُطَالَبَةَ الْمُسْتَكْرِي إيَّاهُ فِي ذَلِكَ ، وَإِنْ مَاتَ الْمُكَارِي ، وَلَمْ يَحْمِلْهُ فَعَلَى الْكَفِيلِ أَنْ يَرُدَّ الْكِرَاءَ ؛ لِأَنَّ بِمَوْتِ الْمُكَارِي قَدْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ ،
وَلَزِمَهُ رَدُّ الْمَقْبُوضِ مِنْ الْكِرَاءِ فَإِنَّهُ كَفَلَ الْكَفِيلَ بِذَلِكَ .
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ أَشْهُرًا مَعْلُومَةً يُؤَدِّبُ ابْنَهُ ، وَيَقُومُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً لِعَمَلٍ مَعْلُومٍ بِطَرِيقِ الْعُرْفِ ، وَهُوَ عَمَلٌ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَى الْمُؤَدِّبِ إقَامَتُهُ عُرْفًا وَلَا دِينًا وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى مِثْلِهِ صَحِيحٌ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ بِخِلَافِ تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ دِينًا ؛ لِأَنَّهُ فِي الْمَعْنَى خِلَافَةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكُلُّ مُسْلِمٍ مَأْمُورٌ بِهِ دِينًا .
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيُجَصِّصَ لَهُ حَائِطًا أَوْ لِيُطَيِّنَ لَهُ سَطْحًا ، وَلَمْ يُبَيِّنْ طِينًا وَلَا جِصًّا مَعْلُومًا فَهُوَ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ ذَلِكَ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ ، فَإِنَّ عَمَلَ النَّاسِ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفٌ ، وَكُلُّ نَوْعٍ مِنْهُ مُتَعَارَفٌ فَكَانَ الْعَمَلُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَجْهُولًا ؛ فَلِهَذَا فَسَدَ الْعَقْدُ ، وَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ إنْ عَمِلَ ؛ لِأَنَّهُ أَوْفَى الْعَمَلَ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَلَا يَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْمُسَمَّى ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَقُولُ : أَنَا مَا رَضِيتُ بِجَمِيعِ الْمُسَمَّى بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْعَمَلِ ، فَإِنْ كَانَ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ غِلْظَةً مِنْ الْجِصِّ أَوْ الطِّينِ كَذَا فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ صَارَ مَعْلُومًا بِبَيَانِ الْغِلْظَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُفْضِي إلَى تَمَكُّنِ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا .
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَنْقُدُ لَهُ الدَّرَاهِمَ كُلَّ أَلْفٍ بِكَذَا أَوْ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى كُلِّ شَهْرٍ بِكَذَا يَنْقُدُ لَهُ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى عَمَلٍ مَعْلُومٍ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى ذَلِكَ مُتَعَارَفٌ بَيْنَ النَّاسِ ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ ، وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي عَقَدَ عَلَى مَنَافِعَ فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ لِيُقِيمَ بِتِلْكَ الْمَنَافِعِ عَمَلًا مَقْصُودًا فِي النَّاسِ .
وَإِذَا كَانَتْ الْوَرَثَةُ كِبَارًا غُيَّبًا وَلَيْسَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ وَلَا وَصِيَّةَ فَلِلْوَصِيِّ أَنْ يَبِيعَ الرَّقِيقَ وَالْمَتَاعَ اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةَ الْحِفْظِ إلَى أَنْ يَحْضُرَ الْغَائِبُ ، وَبَيْعُ الْمَنْقُولِ مِنْ الْحِفْظِ فَإِنَّ حِفْظَ الثَّمَنِ رُبَّمَا يَكُونُ أَيْسَرَ مِنْ حِفْظِ الْعَيْنِ ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ نَظَرًا لِلْغَائِبِ ، وَلَوْ أَنَّهُمْ نَهَوْهُ عَنْ الْبَيْعِ فَبَاعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا ثَبَتَتْ لَهُ الْوِلَايَةُ لِأَجْلِ النَّظَرِ لَهُمْ إذَا لَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ نَصًّا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ فَهُنَاكَ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ التَّصَرُّفِ نَظَرًا لِلَّذِي أَقَامَهُ مُقَامَ الْمَيِّتِ فَنَهْيُ الْوَرَثَةِ إيَّاهُ عَنْ الْبَيْعِ لَا يَصِحُّ .
وَإِذَا كَانَ الْوَارِثُ صَغِيرًا ، وَلِلْمَيِّتِ دَيْنٌ عَلَى رَجُلٍ بِصَكٍّ فَقَالَ الْمَطْلُوبُ لِلْوَصِيِّ : حُطَّ عَنِّي النِّصْفَ لِأُعْطِيَك النِّصْفَ وَادْفَعْ إلَيَّ الصَّكَّ ، وَكَانَ فِيهِ شُهُودٌ لَا يَشْهَدُونَ إلَّا أَنْ يَرَوْا الصَّكَّ وَيَعْلَمُوا أَنَّهُ حَطَّ لِلْيَتِيمِ فِي الْحَالِ فَإِنَّهُ لَا يَسَعُ الْوَصِيَّ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ فِيهِ إتْوَاءَ مَا بَقِيَ مِنْ مَالِهِ يَعْنِي فِي رَدِّ الصَّكِّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ حَطَّ الدَّيْنِ عَنْهُ بَاطِلٌ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الدَّيْنُ وَاجِبًا بِعَقْدِهِ فَلَا يَتْوَى بِهِ حَقُّ الْيَتِيمِ ، وَلَكِنْ إذَا كَانَ الشُّهُودُ لَا يَشْهَدُونَ مَا لَمْ يَرَوْا الصَّكَّ فَفِي دَفْعِ الصَّكِّ إلَيْهِ إتْوَاءُ مَالِ الْيَتِيمِ حَتَّى إذَا كَانَتْ الشُّهُودُ يَشْهَدُونَ بِغَيْرِ صَكٍّ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إتْوَاءُ مَالِهِ بَلْ فِيهِ نَظَرٌ لَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَسْتَوْفِي نِصْفَ حَقِّهِ فِي الْحَالِ ثُمَّ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا بَقِيَ فَيَسْتَوْفِيهِ ، وَحَطُّهُ بَاطِلٌ إذَا أَثْبَتَ الْمَدْيُونُ ذَلِكَ بِالْحُجَّةِ .
وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ فِي دَارِهِ دَعْوَى فَرَأَى الْوَصِيُّ أَنْ يُصَالِحَهُ ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ إنْ لَمْ يُصَالِحْهُ أَنْ يَأْتِيَ بِبَيِّنَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَسَعُهُ أَنْ يُصَالِحَهُ ؛ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى مَا اسْتَوْجَبَ الْمُدَّعِي شَيْئًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ } ، وَمَا يَخَافُهُ الْوَصِيُّ مَوْهُومٌ فَلَيْسَ كُلُّ مُدَّعٍ يَكُونُ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى دَعْوَاهُ ، وَلَا كُلُّ شَاهِدٍ يَرْغَبُ فِي حُضُورِ مَجْلِسِ الْقَاضِي لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَبَعْدَ الْأَدَاءِ رُبَّمَا تَظْهَرُ عَدَالَتُهُ ، وَرُبَّمَا لَا تَظْهَرُ ، وَلَوْ أَدَّى شَيْئًا مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَوْهُومِ كَانَ مُخْرِجًا مَالَهُ عَنْ مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ يَحْصُلُ بِمُقَابَلَتِهِ ، وَلَا مَنْفَعَةَ تَحْصُلُ لَهُ حَقِيقَةً وَلَيْسَ لِلْوَصِيِّ هَذِهِ الْوِلَايَةُ ، وَإِنْ جَاءَ الْمُدَّعِي بِبَيِّنَةٍ عُدُولٍ يَعْرِفُهُمْ الْوَصِيُّ ، وَكَانَ الصُّلْحُ خَيْرًا لِلْيَتِيمِ فِي رَأْيِ الْوَصِيِّ وَسِعَهُ أَنْ يُصَالِحَهُ ؛ لِأَنَّ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ حَقَّ الْمُدَّعِي قَدْ ثَبَتَ ظُهُورُهُ بِشَهَادَةِ الْعُدُولِ ، وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ فَفِي هَذَا تَحْصِيلُ الْمَالِ مِنْ الْوَصِيِّ لِلْيَتِيمِ أَوْ تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ ، وَإِنَّمَا نُصِبَ الْوَصِيُّ لِذَلِكَ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ الْأَجَلُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : هَذَا إذَا عَلِمَ الْوَصِيُّ قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ مِنْ الْمُدَّعِي أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُجِبْ إلَى الصُّلْحِ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ رَغِبَ فِيهِ الْمُدَّعِي بَعْدَ ذَلِكَ فَأَمَّا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ بَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لَا يَرْغَبُ فِي الصُّلْحِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُصَالِحَهُ قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ إذَا عَلِمَ أَنَّ لَهُ شُهُودًا يَشْهَدُونَ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ بِهَذَا التَّأْخِيرِ يَنْعَدِمُ تَمَكُّنُهُ مِنْ تَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ وَعَلَى الْوَصِيِّ أَنَّهُ لَا يُؤَخِّرُ ذَلِكَ إلَى وَقْتٍ يَفُوتُهُ .
وَإِذَا كَاتَبَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ دَخَلَ فِيهِ رَقِيقُهُ وَدُورُهُ وَكُلُّ عَيْنٍ وَدَيْنٍ هُوَ مِنْ كَسْبِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَالُهُ فَالْمَالُ يَصِيرُ مُضَافًا إلَى الْعَبْدِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ كَسْبُهُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَمَالَهُ } الْحَدِيثَ وَالْإِضَافَةُ إلَيْهِ تَبْقَى مَا بَقِيَ الْمَالُ فِي يَدِهِ فَأَمَّا بَعْدَ أَخْذِ الْمَوْلَى الْمَالَ مِنْهُ لَا يَبْقَى مُضَافًا إلَيْهِ شَرْعًا وَعُرْفًا فَلَا يَكُونُ الْمَقْبُوضُ مِنْهُ فِيمَا سَمَّى مِنْ مَالِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ أَمَةٌ قَدْ زَوَّجَهَا إيَّاهُ مَوْلَاهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي كِتَابَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى بِتَصَرُّفِهِ صَارَ قَابِضًا الْأَمَةَ مِنْهُ فَالْتَحَقَتْ بِغَيْرِهَا مِمَّا قَبَضَهُ مِنْهُ .
( فَإِنْ قِيلَ ) أَلَيْسَ إنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا زَوَّجَ الْأَمَةَ الْمَبِيعَةَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَصِيرُ قَابِضًا لَهَا بِتَصَرُّفِهِ فَكَيْفَ يَصِيرُ الْمَوْلَى هُنَا قَابِضًا ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ إنَّمَا لَمْ يَجْعَلْهُ قَابِضًا هُنَاكَ ؛ لِأَنَّ الْيَدَ لِلْبَائِعِ فِيهَا يَدٌ مُسْتَحِقَّةٌ ، وَالْمُشْتَرِي مَمْنُوعٌ مِنْ قَبْضِهَا مَا لَمْ يُؤَدِّ الثَّمَنَ ، وَإِنْ تَعَيَّبَتْ بِالنِّكَاحِ ، وَلَكِنْ لَمَّا لَمْ يُؤَثِّرْ هَذَا الْعَيْبُ فِي عَيْنِهَا لَمْ يُجْعَلْ قَابِضًا بِهِ ، وَهُنَا مَا كَانَ لِلْعَبْدِ فِي هَذِهِ الْأَمَةِ يَدٌ مُسْتَحِقَّةٌ وَلَا كَانَ الْمَوْلَى مَمْنُوعًا مِنْ قَبْضِهَا وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا فَجَعَلْنَاهُ قَابِضًا لَهَا بِالتَّزْوِيجِ ؛ لِأَنَّ بِالتَّزْوِيجِ الْتَزَمَ تَسْلِيمَهَا إلَى الزَّوْجِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِيَدِهِ فِيهَا ، وَإِذَا أَنْفَقَ الْمُفَاوِضُ عَلَى نَفْسِهِ أَفْضَلَ مِنْ نَفَقَةِ صَاحِبِهِ ، وَكَانَتْ تَطِيبُ نَفْسُ صَاحِبِهِ بِذَلِكَ ، وَكَانَ لِصَاحِبِهِ دَيْنٌ عَلَى الَّذِي أَنْفَقَ لَمْ تَفْسُدْ الْمُفَاوَضَةُ اسْتِحْسَانًا حَتَّى يُؤَدِّيَ إلَيْهِ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ أَنَّهُ مَتَى فَضَلَ أَحَدُهُمَا بِمَالٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ الْمَالِ فِي الشَّرِكَةِ تَفْسُدُ بِهَا الْمُفَاوَضَةُ ، وَإِنْ فَضَلَ
بِمَالٍ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ الْمَالِ فِي الشَّرِكَةِ لَا تَصْلُحُ بِهَا الْمُفَاوَضَةُ اسْتِحْسَانًا ، وَالدَّيْنُ الَّذِي وَجَبَ لِأَحَدِهِمَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ الْمَالِ فِي الشَّرِكَةِ ، فَإِذَا قَبَضَهُ فَقَدْ صَارَ نَقْدًا صَالِحًا أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ وَرِثَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ دَارًا أَوْ رَقِيقًا فِي الْقِيَاسِ تَفْسُدُ الْمُفَاوَضَةُ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا تَفْسُدُ حَتَّى يَبِيعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَيَصِيرَ مَالًا يَعْنِي حَتَّى يَقْبِضَ الثَّمَنَ نَقْدًا ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَإِنَّ مَا وَرِثَ أَحَدُهُمَا يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا لَا يَكُونُ مُشْتَرَكًا ، وَلَكِنَّ الدَّارَ وَالرَّقِيقَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ فَلَا تَفْسُدُ الْمُفَاوَضَةُ حَتَّى يَصِيرَ ثَمَنُهُ نَقْدًا فِي يَدِهِ فَحِينَئِذٍ تَفْسُدُ الْمُفَاوَضَةُ لِانْعِدَامِ شَرْطِ الصِّحَّةِ ، وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَالِ الَّذِي يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ .
وَإِذَا خَلَعَ امْرَأَتَهُ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ وَقَبْلَ خُلْعِهَا ضَمِنَ أَبُوهَا بِالْمَهْرِ وَضَمِنَ لِلزَّوْجِ مَا أَدْرَكَهُ فِيهِ جَازَ ذَلِكَ عَلَى الْأَبِ ، وَتُؤَاخِذُ الِابْنَةُ الزَّوْجَ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ فَيَرْجِعُ بِهِ الزَّوْجُ عَلَى الْأَبِ ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِالْخُلْعِ يُفِيدُ وُجُودَ الْقَبُولِ مِنْ الضَّامِنِ لِلدَّرَكِ ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ ، وَقَدْ وَقَعَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَيُقَرَّرُ نِصْفُ مَالِهَا عَلَى الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَبِ وِلَايَةٌ عَلَى إسْقَاطِ حَقِّهَا مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ يُقَابِلُهُ فَتَرْجِعُ عَلَى الزَّوْجِ بِنِصْفِ الْمَهْرِ وَيَرْجِعُ بِهِ الزَّوْجُ عَلَى الْأَبِ ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ لَهُ مَا أَدْرَكَهُ فِيهِ مِنْ الدَّرَكِ فِي حَقِّهَا ، وَإِضَافَةُ الْكَفَالَةِ إلَى سَبَبِ الْوُجُوبِ بِهَذَا الطَّرِيقِ صَحِيحٌ وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَقُولُ : الْخُلْعُ لَا يَقَعُ إلَّا بِالْمَهْرِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّهَا ، وَلَيْسَ لِلْأَبِ أَنْ يَخْلَعَهَا مِنْ زَوْجِهَا عَلَى مَالِهَا بَلْ هُوَ فِي ذَلِكَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ ، فَإِنَّمَا يَجْعَلُهَا عَلَى مَالٍ يَلْزَمُهُ فِي ذِمَّتِهِ فَكَأَنَّهُ خَلَعَهَا عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْمَهْرِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ ، وَجَعَلَ ذَلِكَ قِصَاصًا بِالْمَهْرِ فَفِيمَا لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُ الزَّوْجِ ، وَهُوَ النِّصْفُ الَّذِي رَجَعَتْ الِابْنَةُ بِهِ عَلَى الزَّوْجِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْأَبِ فَيُطَالِبَهُ بِذَلِكَ بِسَبَبِ الْخُلْعِ مَعَ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّ الْمُقَاصَّةَ لَمْ تَقَعْ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ ، وَلَمْ يَسْتَفِدْ الزَّوْجُ الْبَرَاءَةَ إلَّا بِأَدَاءِ الْمَالِ فَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْأَبِ بِهَذَا الطَّرِيقِ .
وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ : قَدْ بَارَأْتُكِ بِمَا لَكِ عَلَيَّ مِنْ الْمَهْرِ فَقَبِلَتْ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ وَالْمُبَارَأَةَ يُسْتَعْمَلَانِ اسْتِعْمَالًا وَاحِدًا وَبَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ فِي الْمَعْنَى وَالْحُكْمِ وَلَوْ قَالَ خَالَعْتُكِ بِمَا لَكِ عَلَيَّ مِنْ الْمَهْرِ فَقَبِلَتْ جَازَ فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : بَارَأْتُكِ ، وَلَوْ خَلَعَهَا عَلَى حُكْمِهِ ثُمَّ حَكَمَ بِشَيْءٍ لَمْ تَرْضَ بِهِ الْمَرْأَةُ فَلَهُ الْأَقَلُّ مِنْ حُكْمِهِ ، وَمِنْ الْمَهْرِ الَّذِي أَعْطَاهَا ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى مَجْهُولٌ ، وَهُوَ مَا يَحْكُمُ بِهِ فَإِنَّهُ مَجْهُولُ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ ، وَالْخُلْعُ عَلَى بَدَلٍ مَجْهُولٍ يُوجِبُ عَلَيْهَا رَدَّ الْمَقْبُوضِ مِنْ الْمَهْرِ كَمَا لَوْ خَلَعَهَا عَلَى ثَوْبٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ إلَّا أَنْ يَحْكُمَ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ ، فَإِنَّمَا حَكَمَ عَلَى نَفْسِهِ بِإِسْقَاطِ بَعْضِ حَقِّهِ ، وَذَلِكَ نَافِذٌ مِنْهُ ، فَإِنْ حَكَمَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، فَإِنَّمَا حَكَمَ عَلَيْهَا بِالزِّيَادَةِ ، وَلَيْسَ لَهُ عَلَيْهَا هَذِهِ الْوِلَايَةُ ؛ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ الْأَقَلُّ ، وَلَوْ خَلَعَهَا عَلَى أَنَّ لَهُ عَلَيْهَا أَقَلَّ مَهْرٍ يَتَزَوَّجُ عَلَيْهِ فَالْخُلْعُ جَائِزٌ ، وَلَهُ عَلَيْهَا الْمَهْرُ الَّذِي أَخَذَتْ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ سَمَّى فِي الْخُلْعِ مَالًا مَجْهُولَ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ فَلَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ ، وَلَكِنْ ثَبَتَ حُكْمُ الْغُرُورِ بِهِ ، وَذَلِكَ يُوجِبُ عَلَيْهَا رَدَّ الْمَقْبُوضِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِ هَذِهِ التَّسْمِيَةِ أَنَّ الْمَهْرَ لَا يَجِبُ مَا لَمْ تُزَوِّجْ نَفْسَهَا وَلَا يَلْزَمُهَا بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا ، وَرُبَّمَا لَا يَرْغَبُ أَوْ لَا يَبْقَى إلَى أَوَانِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ .
وَإِذَا أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ فِي حَقٍّ لَهُ عَلَى رَجُلٍ فِي بَلَدٍ آخَرَ فَسَأَلَ الْقَاضِي أَنْ يَكْتُبَ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ وَعَدَالَتِهِمْ وَبِتَوْكِيلِهِ وَكِيلًا بِالْقِيَامِ مَقَامَهُ بِالْمُطَالَبَةِ وَالْقَبْضِ إلَى قَاضِي ذَلِكَ الْبَلَدِ فَلَهُ فِعْلُهُ بَعْدَ مَا يُسْتَحْلَفُ بِاَللَّهِ مَا أَخَذَ مِنْ مَالِهِ هَذَا شَيْئًا وَلَا يَعْلَمُ وَكِيلًا ، وَلَا رَسُولًا لَهُ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكْتُبُ لَهُ بِذَلِكَ نَظَرًا مِنْهُ لِلْمُدَّعِي ، وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَفِي الِاسْتِحْلَافِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ نَظَرٌ مِنْهُ لِلْغَائِبِ ، وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ الْمُطَالَبَةِ بِهَذَا النَّظَرِ لِغَيْبَتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ لَهُ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لِلْمُدَّعِي أَيْضًا فَرُبَّمَا يَدَّعِي الْخَصْمُ عِنْدَ الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ أَنَّهُ قَدْ أَوْفَاهُ الْمَالَ وَيَطْلُبُ يَمِينَهُ ، وَمِنْ رَأْيِ ذَلِكَ الْقَاضِي أَنْ لَا يَقْضِيَ بِالْمَالِ مَا لَمْ يَحْلِفْ عَلَى قِيَاسِ مَسْأَلَةِ الْغَيْبِ فَيَتَعَذَّرُ عَلَى وَكِيلِهِ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ ؛ فَلِهَذَا يَسْتَحْلِفُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَكْتُبُ ذَلِكَ الِاسْتِحْلَافَ فِي كِتَابِهِ ؛ لِأَنَّ تَمَامَ النَّظَرِ فِيهِ ، وَلَا يَسْتَحْلِفُ الطَّالِبَ لَقَدْ شَهِدَتْ شُهُودُك بِحَقٍّ ؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ لَوْ كَانَ حَاضِرًا وَطَلَبَ اسْتِحْلَافَهُ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يُجِبْهُ إلَى ذَلِكَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ الْخَصْمَ لَوْ كَانَ حَاضِرًا وَطَلَبَ يَمِينَهُ مَا أَخَذَ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا أَجَابَهُ الْقَاضِي إلَى ذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ قَاضِيًا لَا يُجِيزُ الْكِتَابَ إلَّا عَلَى ذَلِكَ يَعْنِي إنْ كَانَ يَرَى رَأْيَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فِي اسْتِحْلَافِ الطَّالِبِ لَقَدْ شَهِدَتْ شُهُودُك بِحَقٍّ فَقَالَ الطَّالِبُ : اسْتَحْلِفْنِي وَاكْتُبْ لِي بِيَمِينِي اسْتَحْلَفَهُ بِاَللَّهِ لَقَدْ شَهِدَتْ شُهُودُك بِحَقٍّ فَإِنَّ الْمَالَ لَهُ عَلَى فُلَانٍ ثُمَّ يَكْتُبُ لَهُ ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهَذَا إذَا كَانَ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ يَرَى ذَلِكَ ، فَإِنَّ فِي هَذَا الِاسْتِحْلَافِ نَظَرًا لِلطَّالِبِ ؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ يُرِيدُ أَنْ يَبْعَثَ
وَكِيلًا وَلَا يَحْضُرَ مَجْلِسَ ذَلِكَ الْقَاضِي لِيَسْتَحْلِفَهُ فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ إلَّا بِهَذَا ، وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ لَهُ ، فَإِذَا طَلَبَ مِنْهُ مَا فِيهِ نَظَرٌ لَهُ أَجَابَهُ الْقَاضِي إلَى ذَلِكَ ، وَلَوْ أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا وَسَأَلَهُ أَنْ يَكْتُبَ شَهَادَتَهُ وَحَالَهُ فَعَلَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا لِلطَّالِبِ فَرُبَّمَا يَكُونُ شَاهِدُهُ الْآخَرُ فِي الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ شَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ فِي مَجْلِسِهِ إلَّا بِهَذَا الطَّرِيقِ فَيُجِيبُهُ الْقَاضِي إلَى ذَلِكَ حَتَّى إذَا ثَبَتَ الْكِتَابُ عِنْدَهُ وَجَاءَ بِشَاهِدِهِ الْآخَرِ فَشَهِدَ لَهُ قَضَى بِحَقِّهِ لِتَمَامِ الْحُجَّةِ .
وَإِذَا أَسْلَمَتْ مُدَبَّرَةُ الذِّمِّيِّ فَاسْتَسْعَتْ فِي قِيمَتِهَا فَعَجَزَتْ عَنْ السِّعَايَةِ ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي هُوَ الَّذِي قَوَّمَهَا ، وَاسْتَسْعَاهَا لَمْ يَرُدَّهَا وَأَجْبَرَهَا عَلَى السِّعَايَةِ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْقَضَاءِ قَائِمٌ ، وَهُوَ إسْلَامُهَا مَعَ كُفْرِ الْمَوْلَى فَلَا يُعْتَبَرُ عَجْزُهَا بِمَنْزِلَةِ مُعْتَقِ الْبَعْضِ إذَا اسْتَسْعَاهُ الْقَاضِي فِيمَا بَقِيَ مِنْ قِيمَةِ الشَّرِيكِ السَّاكِتِ فَعَجَزَ عَنْ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي صَالَحَهَا عَلَى ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ فَضْلٌ عَلَى الْقِيمَةِ فَيُبْطِلَ الْقَاضِي الْفَضْلَ وَيُجْبِرَهَا عَلَى السِّعَايَةِ فِي الْقِيمَةِ ، وَالْحَاصِلُ : أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَشْتَغِلُ بِمَا لَا يُفِيدُ ، وَلَا يَنْقُضُ شَيْئًا لِيُعِيدَ مِثْلَهُ فِي الْحَالِ ، وَإِذَا كَانَ الصُّلْحُ عَلَى مِقْدَارِ الْقِيمَةِ فَلَيْسَ فِي نَفْسِ هَذَا الصُّلْحِ فَائِدَةٌ لَهَا فَلَا يَشْتَغِلُ الْقَاضِي بِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ عَلَى الْقِيمَةِ فَفِي نَقْضِهِ فَائِدَةٌ لَهَا ، وَهُوَ سُقُوطُ الزِّيَادَةِ عَنْهَا وَعَجْزُهَا يُسْقِطُ عَنْهَا مَا الْتَزَمَتْ لِمَوْلَاهَا بِاخْتِيَارِهَا لِعَجْزِ الْمُكَاتَبَةِ عَنْ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ؛ فَلِهَذَا يَبْطُلُ هَذَا الصُّلْحُ عِنْدَ عَجْزِهَا ، وَيَجْبُرُهَا عَلَى السِّعَايَةِ فِي الْقِيمَةِ لِإِسْلَامِهَا مَعَ إصْرَارِ مَوْلَاهَا عَلَى الْكُفْرِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
كِتَابُ الْحِيَلِ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إمْلَاءً اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي كِتَابِ الْحِيَلِ أَنَّهُ مِنْ تَصْنِيفِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَمْ لَا كَانَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْجُوزَجَانِيُّ يُنْكِرُ ذَلِكَ ، وَيَقُولُ : مَنْ قَالَ : إنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ صَنَّفَ كِتَابًا سَمَّاهُ الْحِيَلَ فَلَا تُصَدِّقْهُ ، وَمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ ، فَإِنَّمَا جَمَعَهُ وَرَّاقُو بَغْدَادَ .
وَقَالَ : إنَّ الْجُهَّالَ يَنْسُبُونَ عُلَمَاءَنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ إلَى ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْيِيرِ ، فَكَيْفَ يُظَنُّ بِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ سَمَّى شَيْئًا مِنْ تَصَانِيفِهِ بِهَذَا الِاسْمِ لِيَكُونَ ذَلِكَ عَوْنًا لِلْجُهَّالِ عَلَى مَا يَتَقَوَّلُونَ وَأَمَّا أَبُو حَفْصٍ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ يَقُولُ : هُوَ مِنْ تَصْنِيفِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَكَانَ يَرْوِي عَنْهُ ذَلِكَ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ فَإِنَّ الْحِيَلَ فِي الْأَحْكَامِ الْمُخْرِجَةِ عَنْ الْإِمَامِ جَائِزَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ، وَإِنَّمَا كَرِهَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَعَسِّفِينَ لِجَهْلِهِمْ وَقِلَّةِ تَأَمُّلِهِمْ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ مِنْ الْكِتَابِ - قَوْله تَعَالَى - { : وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ } هَذَا تَعْلِيمُ الْمَخْرَجِ لِأَيُّوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ يَمِينِهِ الَّتِي حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ زَوْجَتَهُ مِائَةً ، فَإِنَّهُ حِينَ قَالَتْ : لَهُ لَوْ ذَبَحْتَ عَنَاقًا بِاسْمِ الشَّيْطَانِ فِي قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ أَوْرَدَهَا أَهْلُ التَّفْسِيرِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَقَالَ - تَعَالَى - : { فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجِهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ } إلَى قَوْلِهِ { ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ } وَذَلِكَ مِنْهُ حِيلَةٌ ، وَكَانَ هَذَا حِيلَةً لِإِمْسَاكِ أَخِيهِ عِنْدَهُ حِينَئِذٍ لِيُوقِفَ إخْوَتَهُ عَلَى مَقْصُودِهِ .
وَقَالَ جَلَّ جَلَالُهُ حِكَايَةً عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ { سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ
اللَّهُ صَابِرًا } ، وَلَمْ يَقُلْ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ قَيَّدَ سَلَامَتَهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ ، وَهُوَ مَخْرَجٌ صَحِيحٌ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - { وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ يَوْمَ الْأَحْزَابِ لِعُرْوَةِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي شَأْنِ بَنِي قُرَيْظَةَ فَلَعَلَّنَا أَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ ، فَلَمَّا قَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْحَرْبُ خُدْعَةٌ } ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ اكْتِسَابُ حِيلَةٍ وَمَخْرَجٍ مِنْ الْإِثْمِ بِتَقْيِيدِ الْكَلَامِ بِلَعَلَّ { وَلَمَّا أَتَاهُ رَجُلٌ وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ حَلَفَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ ثَلَاثًا أَنْ لَا يُكَلِّمَ أَخَاهُ قَالَ لَهُ : طَلِّقْهَا وَاحِدَةً ، فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَكَلِّمْ أَخَاكَ ثُمَّ تَزَوَّجْهَا } .
وَهَذَا تَعْلِيمُ الْحِيلَةِ وَالْآثَارُ فِيهِ كَثِيرَةٌ ، مَنْ تَأَمَّلَ أَحْكَامَ الشَّرْعِ وَجَدَ الْمُعَامَلَاتِ كُلَّهَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَإِنَّ مَنْ أَحَبَّ امْرَأَةً إذَا سَأَلَ فَقَالَ : مَا الْحِيلَةُ لِي حَتَّى أَصِلَ إلَيْهَا ؟ يُقَالُ لَهُ تَزَوَّجْهَا ، وَإِذَا هَوِيَ جَارِيَةً فَقَالَ : مَا الْحِيلَةُ لِي حَتَّى أَصِلَ إلَيْهَا ؟ يُقَالُ لَهُ : اشْتَرِهَا ، وَإِذَا كَرِهَ صُحْبَةَ امْرَأَتِهِ فَقَالَ : مَا الْحِيلَةُ لِي فِي التَّخَلُّصِ مِنْهَا قِيلَ لَهُ طَلِّقْهَا .
وَبَعْدَ مَا طَلَّقَهَا إذَا نَدِمَ وَسَأَلَ الْحِيلَةَ فِي ذَلِكَ قِيلَ لَهُ رَاجِعْهَا ؟ وَبَعْدَ مَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا إذَا تَابَتْ مِنْ سُوءِ خُلُقِهَا وَطَلَبَا حِيلَةَ قِيلَ لَهُمَا الْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِزَوْجٍ آخَرَ ، وَيَدْخُلَ بِهَا فَمَنْ كَرِهَ الْحِيَلَ فِي الْأَحْكَامِ ، فَإِنَّمَا يَكْرَهُ فِي الْحَقِيقَةِ أَحْكَامَ الشَّرْعِ ، وَإِنَّمَا يَقَعُ مِثْلُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مِنْ قِلَّةِ التَّأَمُّلِ .
فَالْحَاصِلُ : أَنَّ مَا يَتَخَلَّصُ بِهِ الرَّجُلُ مِنْ الْحَرَامِ أَوْ يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الْحَلَالِ مِنْ الْحِيَلِ فَهُوَ حَسَنٌ ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ أَنْ يَحْتَالَ فِي حَقٍّ لِرَجُلٍ
حَتَّى يُبْطِلَهُ أَوْ فِي بَاطِلٍ حَتَّى يُمَوِّهَهُ أَوْ فِي حَقٍّ حَتَّى يُدْخِلَ فِيهِ شُبْهَةً فَمَا كَانَ عَلَى هَذَا السَّبِيلِ فَهُوَ مَكْرُوهٌ ، وَمَا كَانَ عَلَى السَّبِيلِ الَّذِي قُلْنَا أَوَّلًا فَلَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَالَ { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } فَفِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ مَعْنَى التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ، وَفِي النَّوْعِ الثَّانِي مَعْنَى التَّعَاوُنِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ : بَدَأَ الْكِتَابُ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ آيَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلسَّائِلِ لَا أَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى أُخْبِرَكَ بِهَا فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أَخْرَجَ إحْدَى رِجْلَيْهِ مِنْ الْمَسْجِدِ أَخْبَرَهُ بِالْآيَةِ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَ الرِّجْلَ الْأُخْرَى } فَأَهْلُ الْحَدِيثِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَرْوُونَ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى وَجْهٍ آخَرَ فَإِنَّهُمْ يَرْوُونَ { عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ إذْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَعَاهُ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صَلَاتِهِ جَاءَ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا مَنَعَك أَنْ تُجِيبَنِي إذْ دَعَوْتُك أَمَا تَدْرِي قَوْلَ اللَّهِ - تَعَالَى - { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ } قَالَ : كُنْت فِي الصَّلَاةِ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْك السَّلَامُ ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَلَا أُنَبِّئُك بِسُورَةٍ أُنْزِلَتْ عَلَيَّ لَيْسَ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ مِثْلُهَا فَقُلْتُ نَعَمْ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا أَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ حَتَّى أُخْبِرَك بِهَا ثُمَّ شَغَلَهُ وَفْدٌ عَنِّي فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَخْرُجَ جَعَلْت أَمْشِي مَعَهُ ، وَأَقُولُ فِي نَفْسِي : لَعَلَّهُ نَسِيَ
يَمِينَهُ فَلَمَّا أَخْرَجَ إحْدَى رِجْلَيْهِ فَقُلْت : السُّورَةُ الَّتِي وَعَدْتَنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَاذَا تَقْرَأُ فِي صَلَاتِك قُلْت : أُمَّ الْقُرْآنِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَعَمْ إنَّهَا هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيت لَيْسَ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ وَلَا فِي الزَّبُورِ مِثْلُهَا } .
وَفَائِدَةُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَخْبَرَهُ بَعْدَ إخْرَاجِ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ خُلْفِ الْوَعْدِ فَإِنَّ الْوَعْدَ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ كَالْعَهْدِ مِنْ غَيْرِهِمْ ، وَلِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْحِنْثِ عَلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي حَدِيثِ أُبَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ لَعَلَّهُ نَسِيَ يَمِينَهُ فَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ كَانَ حَلَفَ لَهُ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَصِيرُ خَارِجًا بِإِخْرَاجِ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ ، وَلَا دَاخِلًا بِإِدْخَالِ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ : مَنْ حَلَفَ عَلَى زَوْجَتِهِ أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنْ الدَّارِ فَأَخْرَجَتْ إحْدَى رِجْلَيْهَا لَمْ يَحْنَثْ فِي يَمِينِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْخُرُوجَ انْتِقَالٌ مِنْ الدَّاخِلِ إلَى الْخَارِجِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِإِخْرَاجِ الْقَدَمَيْنِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا وُجُوهَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ ثُمَّ مُرَادُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَفْضِيلِ آيَةٍ أَوْ سُورَةٍ عَلَى غَيْرِهَا هُوَ الثَّوَابُ عِنْدَ التِّلَاوَةِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ كَلَامُ اللَّهِ - تَعَالَى - غَيْرُ مُحْدَثٍ وَلَا مَخْلُوقٍ ، وَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَ السُّوَرِ وَالْآيِ فِي هَذَا وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ الْقَارِئَ يَنَالُ الثَّوَابَ عَلَى قِرَاءَةِ سُورَةٍ مَا لَا يَنَالُهُ عَلَى قِرَاءَةِ سُورَةٍ أُخْرَى بَيَانُهُ أَنَّهُ بِقِرَاءَةِ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ يَسْتَحِقُّ مِنْ الثَّوَابِ مَا لَا يَسْتَحِقُّ بِقِرَاءَةِ تَبَّتْ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ فِي قِرَاءَةِ سُورَةِ الْإِخْلَاصِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَالْإِقْرَارُ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَالثَّنَاءُ عَلَى
اللَّهِ - تَعَالَى - بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ، وَفِي قِرَاءَةِ سُورَةِ تَبَّتْ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهَا مَا بَيَّنَّا مِنْ الْمَعَانِي الْأُخْرَى ، وَمَا نُقِلَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الْآثَارِ مِنْ نَحْوِ مَا رُوِيَ أَنَّ { مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْإِخْلَاصِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَكَأَنَّمَا خَتَمَ الْقُرْآنَ ، وَمَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْكَافِرُونَ فَكَأَنَّمَا قَرَأَ رُبُعَ الْقُرْآنِ } تَأْوِيلُهُ مَا بَيَّنَّا وَأَيَّدَ مَا قُلْنَا : اتِّفَاقُ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ عَلَى تَعْيِينِ الْفَاتِحَةِ لِلْقِرَاءَةِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ عِنْدَ بَعْضِهِمْ وَاجِبًا وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ فَرْضًا .
وَذُكِرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : مِنْ مَعَارِيضِ الْكَلَامِ مَا يُغْنِي الْمُسْلِمَ عَنْ الْكَذِبِ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِ الْمَعَارِيضِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْكَذِبِ فَإِنَّ الْكَذِبَ حَرَامٌ لَا رُخْصَةَ فِيهِ ، وَاَلَّذِي يَرْوِي حَدِيثَ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِي الْكَذِبِ فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ فِي الرَّجُلِ يُصْلِحُ بَيْنَ النَّاسِ ، وَالرَّجُلِ يَكْذِبُ لِامْرَأَتِهِ وَالْكَذِبِ فِي الْحَرْبِ } تَأْوِيلُهُ فِي اسْتِعْمَالِ مَعَارِيضِ الرِّجَالِ الْكَلَامَ فَإِنَّ صَرِيحَ الْكَذِبِ لَا يَحِلُّ هُنَا كَمَا لَا يَحِلُّ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْمَوَاضِعِ .
وَاَلَّذِي يُرْوَى أَنَّ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَذَبَ ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ إنْ صَحَّ ، فَتَأْوِيلُ هَذَا : أَنَّهُ ذَكَرَ كَلَامًا عَرَّضَ فِيهِ مَا خَفِيَ عَنْ السَّامِعِ مُرَادُهُ ، وَأَضْمَرَ فِي قَلْبِهِ خِلَافَ مَا أَظْهَرَهُ فَأَمَّا الْكَذِبُ الْمَحْضُ مِنْ جُمْلَةِ الْكَبَائِرِ ، وَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ كَانُوا مَعْصُومِينَ عَنْ ذَلِكَ وَمَنْ جَوَّزَ عَلَيْهِمْ الْكَذِبَ فَقَدْ أَبْطَلَ الشَّرَائِعَ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِهِمْ ، وَإِذَا جَازَ عَلَيْهِمْ الْكَذِبُ فِي خَبَرٍ وَاحِدٍ جَازَ فِي جَمِيعِ مَا أَخْبَرُوا بِهِ .
وَبُطْلَانُ هَذَا الْقَوْلِ لَا يَخْفَى عَلَى ذِي لُبٍّ ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ اسْتِعْمَالُ الْمَعَارِيضِ ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَا يَسُرُّنِي بِمَعَارِيضِ الْكَلَامِ حُمْرُ النَّعَمِ ، فَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ أَنَّ بِمَعَارِيضِ الْكَلَامِ يَتَخَلَّصُ الْمَرْءُ مِنْ الْإِثْمِ ، وَيَحْصُلُ مَقْصُودُهُ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ حُمْرِ النَّعَمِ وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِ الْمَعَارِيضِ قَوْله تَعَالَى { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ } الْآيَةَ فَقَدْ جَوَّزَ اللَّهُ - تَعَالَى - الْمَعَارِيضَ ، وَنَهَى عَنْ التَّصْرِيحِ بِالْخِطْبَةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا } .
ثُمَّ
بَيَانُ اسْتِعْمَالِ الْمَعَارِيضِ مِنْ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يُقَيِّدَ الْمُتَكَلِّمُ كَلَامَهُ بِلَعَلَّ وَعَسَى كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { فَلَعَلَّنَا أَمَرْنَاهُمْ بِذَلِكَ } ، وَلَمْ يَكُنْ أَمَرَ بِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ كَذِبًا مِنْهُ لِتَقْيِيدِ كَلَامِهِ بِلَعَلَّ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ يُضْمِرُ فِي لَفْظِهِ مَعْنًى سِوَى مَا يُظْهِرُهُ وَيَفْهَمُهُ السَّامِعُ مِنْ كَلَامِهِ ، وَبَيَانُهُ فِيمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِتِلْكَ الْعَجُوزِ : إنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا الْعَجَائِزُ فَجَعَلَتْ تَبْكِي فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَهْلُ الْجَنَّةِ جُرْدٌ مُرْدٌ مُكَحَّلُونَ } أَخْبَرَهَا بِلَفْظٍ أَضْمَرَ فِيهِ سِوَى مَا فَهِمَتْ مِنْ كَلَامِهِ فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ لَا بَأْسَ بِهِ .
وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ خَطَبَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا قَتَلْت عُثْمَانَ وَلَا كَرِهْت قَتْلَهُ ، وَمَا أَمَرْت وَلَا نَهَيْت فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَنْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِحَالِهِ فَقَالَ لَهُ فِي ذَلِكَ قَوْلًا فَلَمَّا كَانَ فِي مَقَامٍ آخَرَ فَقَالَ مَنْ كَانَ سَائِلِي عَنْ قَتْلِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَاَللَّهُ قَتَلَهُ ، وَأَنَا مَعَهُ قَالَ ابْنُ سِيرِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذِهِ كَلِمَةٌ قُرَشِيَّةٌ ذَاتُ وُجُوهٍ أَمَّا قَوْلُهُ مَا قَتَلْتُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ صِدْقٌ حَقِيقَةً وَلَا كَرِهْت قَتْلَهُ أَيْ كَانَ قَتْلُهُ بِقَضَاءِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَنَالَ دَرَجَةَ الشَّهَادَةِ فَمَا كَرِهْت لَهُ هَذِهِ الدَّرَجَةَ ، وَمَا كَرِهْت قَضَاءَ اللَّهِ وَقَدَرَهُ وَأَمَّا قَوْلُهُ : فَاَللَّهُ قَتَلَهُ وَأَنَا مَعَهُ مَقْتُولٌ أُقْتَلُ كَمَا قُتِلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِأَنَّهُ يُسْتَشْهَدُ بِقَوْلِهِ { وَإِنَّ أَشْقَى الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ مَنْ خَضَّبَ بِدَمِك هَذِهِ مِنْ هَذِهِ وَأَشَارَ إلَى عُنُقِهِ وَلِحْيَتِهِ } .
وَقَدْ كَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
اُبْتُلِيَ بِصُحْبَةِ قَوْمٍ عَلَى هِمَمٍ مُتَفَرِّقَةٍ فَقَدْ كَانَ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ ، وَمِنْهُ مَا يُرْوَى عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ أَنَّ عَلِيًّا لَمَّا قَتَلَ الزَّنَادِقَةَ نَظَرَ إلَى الْأَرْضِ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ إلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَالَ : صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ثُمَّ قَامَ فَدَخَلَ بَيْتَهُ فَأَكْثَرَ النَّاسُ فِي ذَلِكَ فَدَخَلْت عَلَيْهِ فَقُلْت يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَاذَا فَنِيَتْ بِهِ الشِّيعَةُ مُنْذُ الْيَوْمِ أَرَأَيْت نَظَرَك إلَى الْأَرْضِ ثُمَّ رَفْعَك إلَى السَّمَاءِ ثُمَّ قَوْلَك صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَشَيْءٌ عَهِدَ إلَيْك رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ شَيْءٌ رَأَيْته فَقَالَ عَلِيٌّ هَلْ عَلَيَّ مِنْ بَأْسٍ أَنْ أَنْظُرَ إلَى الْأَرْضِ فَقُلْت لَا فَقَالَ وَهَلْ عَلَيَّ مِنْ بَأْسٍ أَنْ أَنْظُرَ إلَى السَّمَاءِ فَقُلْت لَا فَقَالَ هَلْ عَلَيَّ مِنْ بَأْسٍ أَنْ أَقُولَ : صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فَقُلْت لَا فَقَالَ فَإِنِّي رَجُلٌ مُكَابِدٌ ، وَإِنَّمَا أَشَارَ إلَى الْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْوُقُوفِ عَلَى مَا يُضْمِرُهُ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْ أَصْحَابِهِ ، وَكَانَ يَضَعُ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ وَيَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ مُوَجَّهٍ لِذَلِكَ .
وَمِنْهُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ إذَا دَخَلَهُ رِيبَةٌ مِنْ كُلِّ فَرِيقٍ جَعَلَ يَمْسَحُ جَبِينَهُ وَيَقُولُ : مَا كَذَبْت وَلَا كِدْت يُوهِمُهُمْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَهُ بِحَالِهِمْ فَيُظْهِرُونَ لَهُ مَا فِي بَاطِنِهِمْ ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : وَاَللَّهِ لَا أَغْسِلُ شَعْرِي حَتَّى أَفْتَحَ مِصْرَ وَأَتْرُكَ الْبَصْرَةَ كَجَوْفِ حِمَارٍ مَيِّتٍ وَأَعْرُكَ أُذُنَ عَمَّارٍ عَرْكَ الْأَدِيمِ ، وَأَسُوقَ الْعَرَبَ بِعَصَايَ فَذَكَرُوا لِابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ فَقَالَ إنَّ عَلِيًّا يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ لَا يَصْدُرُ ، وَهَا غُرَّةُ هَامَتِهِ عَلَى مِثْلِ الطَّشْتِ لَا شَعْرَ عَلَيْهَا ، فَأَيُّ شَعْرٍ يَغْسِلُهُ بِهَذِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْكِبَارَ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ مَعَارِيضَ الْكَلَامِ فِي حَوَائِجِهِمْ ، وَكَذَلِكَ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ عَلَى مَا حُكِيَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ كُنْت عِنْدَ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَامْرَأَتُهُ تُعَاتِبُهُ فِي جَارِيَتِهِ وَبِيَدِهِ مِرْوَحَةٌ فَقَالَ أُشْهِدُكُمْ أَنَّهَا لَهَا فَلَمَّا خَرَجْنَا قَالَ عَلَى مَاذَا شَهِدْتُمْ قُلْنَا شَهِدْنَا عَلَى أَنَّكَ جَعَلْتَ الْجَارِيَةَ لَهَا فَقَالَ : أَمَا رَأَيْتُمُونِي أُشِيرُ إلَى الْمِرْوَحَةِ إنَّمَا قُلْت لَكُمْ اشْهَدُوا أَنَّهَا لَهَا ، وَأَنَا أَعْنِي الْمِرْوَحَةَ الَّتِي كُنْت أُشِيرُ إلَيْهَا وَكَانُوا يُعَلِّمُونَ غَيْرَهُمْ ذَلِكَ أَيْضًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ عَنْ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رَجُلٍ أَخَذَهُ رَجُلٌ فَقَالَ إنَّ لِي مَعَك حَقًّا قَالَ لَا فَقَالَ احْلِفْ لِي بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَقَالَ : احْلِفْ وَاعْنِ مَسْجِدَ حَيِّك ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ هَذَا عَلَى أَنَّ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلِمَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ مُبْطِلٌ ، وَإِنَّمَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَرِيءٌ فَعَلَّمَهُ الْحِيلَةَ ، وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ - تَعَالَى - يَعْنِي مَسْجِدَ حَيِّهِ فَإِنَّ الْمَسَاجِدَ كُلَّهَا بُيُوتُ اللَّهِ - تَعَالَى - أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ } .
وَلَكِنْ فِيهِ بَعْضُ الشُّبْهَةِ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ الرَّجُلُ بَرِيئًا عَنْ الْحَقِّ مَا كَانَ يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لَوْ حَلَفَ بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ النِّيَّةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَرِيئًا مَا كَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ الْحَقَّ وَلَا كَانَ يَحِلُّ لِإِبْرَاهِيمَ أَنْ يُعَلِّمَهُ هَذَا لِيَمْنَعَ بِهِ الْحَقَّ ، وَمَا كَانَ يَنْفَعُهُ هَذِهِ النِّيَّةُ فَإِنَّ الْحَالِفَ إنْ كَانَ ظَالِمًا فَالْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ مَنْ يَسْتَحْلِفُهُ لَا عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ بِنِيَّتِهِ عَلَى مَا بَيَّنْته فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ الشُّبْهَةِ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ إنَّ فُلَانًا أَمَرَنِي
أَنْ آتِيَ مَكَانَ كَذَا وَأَنَا لَا أَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ فَكَيْفَ الْحِيلَةُ لِي ؟ فَقَالَ : قُلْ وَاَللَّهِ لَا أُبْصِرُ إلَّا مَا بَصَّرَنِي بِهِ غَيْرِي ، وَفِي رِوَايَةٍ إلَّا مَا سَدَّدَ لِي غَيْرِي يَعْنِي إلَّا مَا بَصَّرَك رَبُّك فَيَقَعُ عِنْدَ السَّامِعِ أَنَّ فِي بَصَرِهِ ضَعْفًا يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَأْتِيَهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَطْلُبُ مِنْهُ فَلَا يَسْتَوْجِسُ بِامْتِنَاعِهِ ، وَهُوَ يُضْمِرُ فِي نَفْسِهِ مَعْنًى صَحِيحًا فَلَا تَكُونُ يَمِينُهُ كَاذِبَةً .
وَبَيَانُهُ فِيمَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مِنْ كَمَالِ الْعَقْلِ مُوَابَأَةُ النَّاسِ فِيمَا لَا يَأْثَمُ بِهِ } وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ سِيرِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ كَانَ رَجُلٌ مِنْ بَاهِلَةَ عَيُونًا فَرَأَى بَغْلَةً لِشُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَأَعْجَبَتْهُ فَقَالَ لَهُ شُرَيْحٌ أَمَا إنَّهَا إذَا رَبَضَتْ لَمْ تَقُمْ حَتَّى تُقَامَ أَيْ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ هُوَ الَّذِي يُقِيمُهَا بِقُدْرَتِهِ ، وَقَالَ الرَّجُلُ : أُفٍّ أُفٍّ ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ زِيَادَةٌ فَإِنَّ الرَّجُلَ لَمَّا أَبْصَرَ الْبَغْلَةَ فَأَعْجَبَتْهُ رَبَضَتْ مِنْ سَاعَتِهَا فَقَالَ شُرَيْحٌ مَا قَالَ فَلَمَّا قَالَ الرَّجُلُ : أُفٍّ أُفٍّ قَامَتْ .
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ ، وَقَدْ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَعَوَّذُ مِنْ عَيْنِ السُّوءِ } ، وَمِنْهُ يُقَالُ إنَّ الْعَيْنَ تُدْخِلُ الرَّجُلَ الْقَبْرَ وَالْجَمَلَ الْقِدْرَ فَأَرَادَ شُرَيْحٌ أَنْ يَرُدَّ عَيْنَهُ بِأَنْ يُحَقِّرَهَا فِي عَيْنِهِ ، وَقَالَ مَا قَالَ وَأَضْمَرَ فِيهِ مَعْنًى صَحِيحًا ، وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يُقِيمُهَا بِقُدْرَتِهِ وَذُكِرَ عَنْ النَّزَّالِ بْنِ سِيدَةَ قَالَ جَعَلَ حُذَيْفَةُ يَحْلِفُ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَى أَشْيَاءَ بِاَللَّهِ مَا قَالَهَا ، وَقَدْ سَمِعْنَاهُ يَقُولُهَا ، فَقُلْنَا لَهُ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ سَمِعْنَاك تَحْلِفُ لِعُثْمَانَ عَلَى أَشْيَاءَ مَا قُلْتهَا ، وَقَدْ سَمِعْنَاك قُلْتهَا فَقَالَ : إنِّي أَشْتَرِي دِينِي بَعْضَهُ بِبَعْضٍ مَخَافَةَ أَنْ يَذْهَبَ
كُلُّهُ وَإِنَّ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ ، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْضُ الْمُدَارَاةِ فَكَانَ يَسْتَعْمِلُ مَعَارِيضَ الْكَلَامِ فِيمَا يُخْبِرُهُ بِهِ وَيَحْلِفُ لَهُ عَلَيْهِ فَلَمَّا أَشْكَلَ عَلَى السَّامِعِ سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : إنِّي أَشْتَرِي دِينِي بَعْضَهُ بِبَعْضٍ يَعْنِي أَسْتَعْمِلُ مَعَارِيضَ الْكَلَامِ عَلَى سَبِيلِ الْمُدَارَاةِ أَوْ كَأَنَّهُ كَانَ يَحْلِفُ مَا قَالَهَا ، وَيَعْنِي مَا قَالَهَا فِي هَذَا الْمَكَانِ أَوْ فِي شَهْرِ كَذَا أَوْ يَعْنِي الَّذِي فَإِنَّ مَا قَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى الَّذِي فَهَذَا وَنَحْوُهُ مِنْ بَابِ اسْتِعْمَالِ الْمَعَارِيضِ وَبَيَانُهُ فِيمَا ذُكِرَ عَنْ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ لِي رَجُلٌ : إنِّي أَنَالُ مِنْ رَجُلٍ شَيْئًا فَيَبْلُغُهُ عَنِّي فَكَيْفَ أَعْتَذِرُ مِنْهُ فَقَالَ لَهُ إبْرَاهِيمُ وَاَللَّهِ إنَّ اللَّهَ لَيَعْلَمُ مَا قُلْت لَك مِنْ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ أَيْ أَضْمِرْ فِي قَلْبِك الَّذِي مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ لَيَعْلَمُ الَّذِي قُلْت لَك مِنْ حَقِّك مِنْ شَيْءٍ .
وَعَنْ عُقْبَةَ بْنِ غَرَّارٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : كُنَّا نَأْتِي إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهُوَ خَائِفٌ مِنْ الْحَجَّاجِ فَكُنَّا إذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِ يَقُولُ لَنَا : إنْ سُئِلْتُمْ عَنِّي وَحَلَفْتُمْ فَاحْلِفُوا بِاَللَّهِ مَا تَدْرُونَ أَيْنَ أَنَا وَلَا لَكُمْ عِلْمٌ بِمَكَانِي وَلَا فِي أَيْ مَوْضِعٍ أَنَا وَاعْنُوا أَنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ فِي أَيْ مَوْضِعٍ أَنَا فِيهِ قَاعِدٌ أَوْ قَائِمٌ فَتَكُونُونَ قَدْ صَدَقْتُمْ وَأَتَاهُ رَجُلٌ فِي الدِّيوَانِ فَقَالَ إنِّي اعْتَرَضْت عَلَى دَابَّةٍ ، وَقَدْ نَفَقَتْ وَهُمْ يُرِيدُونَ يُحَلِّفُونَنِي أَنَّهَا الدَّابَّةُ الَّتِي اعْتَرَضْت عَلَيْهَا فَكَيْفَ أَحْلِفُ فَقَالَ ارْكَبْ دَابَّةً وَاعْتَرِضْ عَلَيْهَا عَلَى بَطْنِك رَاكِبًا ثُمَّ احْلِفْ لَهُمْ أَنَّهَا الدَّابَّةُ الَّتِي اعْتَرَضْت عَلَيْهَا فَيَفْهَمُونَ الْغَرَضَ وَأَنْتَ تَعْنِي اعْتَرَضْت عَلَيْهَا عَلَى بَطْنِك وَيُحْكَى عَنْ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ رَجُلٌ ، وَهُوَ لَا يُرِيدُ أَنْ
يَأْذَنَ لَهُ رَكِبَ رَشَادًا وَأَرَادَ فَرَسَ الْبُخْتِ وَقَالَ لِجَارِيَتِهِ قُولِي : إنَّ الشَّيْخَ قَدْ رَكِبَ وَرُبَّمَا يَقُولُ لَهَا : اضْرِبِي قَدَمَكِ عَلَى الْأَرْضِ وَقُولِي : لَيْسَ الشَّيْخُ هُنَا أَيْ تَحْتَ قَدَمِي .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَأَنْ أَحْلِفَ بِاَللَّهِ كَاذِبًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ بِغَيْرِهِ صَادِقًا وَمُرَادُهُ بِهَذَا الْمُبَالَغَةُ فِي النَّهْيِ عَنْ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَكَفَّارَتُهُ أَنْ يَقُولَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } وَقَالَ { عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِالطَّوَاغِيتِ } فَالْحَلِفُ بِغَيْرِ اللَّهِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَ كَاذِبًا أَوْ صَادِقًا ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الرُّخْصَةَ فِي الْحَلِفِ بِاَللَّهِ كَاذِبًا ، فَإِنَّ الْكَذِبَ حَرَامٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤَكِّدَهُ بِالْيَمِينِ فَكَيْفَ يُرَخِّصُ فِيهِ مَعَ التَّأْكِيدِ بِالْيَمِينِ وَقَدْ أَوَّلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى أَنَّ الْحَالِفَ بِاَللَّهِ - تَعَالَى - وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فِي خَبَرِهِ ، فَهُوَ مُعَظِّمٌ اسْمَ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي حَلِفِهِ ، وَيَرْوُونَ فِيهِ حَدِيثًا عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ عَنْ رَجُلٍ أَنَّهُ حَلَفَ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ ، وَكَانَ كَاذِبًا فِي يَمِينِهِ فَنَزَلَ الْوَحْيُ عَلَى نَبِيِّ ذَلِكَ الزَّمَانِ أَنَّهُ غَفَرَ لَهُ ذَلِكَ بِتَوْحِيدِهِ ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ .
وَذُكِرَ عَنْ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ الْيَمِينُ عَلَى نِيَّةِ الْحَالِفِ إذَا كَانَ مَظْلُومًا ، وَإِنْ كَانَ ظَالِمًا فَعَلَى نِيَّةِ الْمُسْتَحْلِفِ وَبِهِ نَأْخُذُ ، وَيَقُولُ : الْمَظْلُومُ يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا تَيَسَّرَ لَهُ شَرْعًا فِي وَإِنَّمَا يَحْلِفُ لَهُ لِيَدْفَعَ الظُّلْمَ عَنْ نَفْسِهِ فَتُعْتَبَرُ نِيَّتُهُ فِي ذَلِكَ ، وَالظَّالِمُ مَأْمُورٌ شَرْعًا بِالْكَفِّ عَنْ الظُّلْمِ وَاتِّصَالِ الْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ فَلَا تُعْتَبَرُ نِيَّتُهُ فِي الْيَمِينِ ، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ نِيَّةُ الْمُسْتَحْلِفِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ إذَا كَانَ مُحِقًّا فَالْيَمِينُ مَشْرُوعَةٌ لِحَقِّهِ يَمْتَنِعُ الظَّالِمُ عَنْ الْيَمِينِ لِحَقِّهِ فَيَخْرُجُ مِنْ حَقِّهِ أَوْ يَهْلَكُ إنْ حَلَفَ كَاذِبًا كَمَا أَهْلَكَ حَقَّهُ فَيَكُونُ إهْلَاكًا بِمُقَابَلَةِ إهْلَاكٍ بِمَنْزِلَةِ الْقِصَاصِ ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ هَذَا إذَا اعْتَبَرْنَا نِيَّةَ الْمُسْتَحْلِفِ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْحَالِفُ مَظْلُومًا فَالْيَمِينُ مَشْرُوعَةٌ لِحَقِّهِ ، وَهَذَا رُجْحَانُ جَانِبِ الصِّدْقِ فِي حَقِّهِ ، وَانْقِطَاعُ مُنَازَعَةِ الْمُدَّعِي مَعَهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ فَتُعْتَبَرُ نِيَّةُ الْحَالِفِ فِي ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ فِي الْيَمِينِ عِلْمُهُ أَيْضًا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَلَا يَسْتَثْنِي فَالْإِثْمُ وَالْبِرُّ فِيهِمَا عَلَى عِلْمِهِ يَعْنِي إذَا حَلَفَ ، وَعِنْدَهُ أَنَّ الْأَمْرَ كَمَا حَلَفَ عَلَيْهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ بِخِلَافِهِ لَمْ يَكُنْ آثِمًا فِي يَمِينِهِ ، وَهُوَ تَفْسِيرُ يَمِينِ اللَّغْوِ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ ظَالِمًا حِينَ كَانَ لَا يَعْلَمُ خِلَافَ مَا هُوَ عَلَيْهِ فَاعْتَبَرْنَا مَا عِنْدَهُ ، وَإِذَا كَانَ يَعْلَمُ خِلَافَ ذَلِكَ فَهُوَ ظَالِمٌ فِي يَمِينِهِ فَيَكُونُ آثِمًا وَيُعْتَبَرُ فِيهِ نِيَّةُ مَا عِنْدِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ مِنْ رَجُلٍ دَارًا سِنِينَ مَعْلُومَةً فَخَافَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يَغْدِرَ بِهِ رَبُّ الدَّارِ فَلْيُسَمِّ لِكُلِّ سَنَةٍ مِنْ هَذِهِ السِّنِينَ أَجْرًا أَوْ يَجْعَلْ لِلسَّنَةِ الْأَخِيرَةِ أَجْرًا كَثِيرًا وَمَعْنَى هَذَا : أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ خَافَ أَنْ تُنْقَضَ الْإِجَارَةُ بَيْنَهُمَا قَبْلَ انْتِهَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ بِمَوْتِ رَبِّ الدَّارِ أَوْ بِأَنْ يَلْحَقَهُ دَيْنٌ فَادِحٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُذْرِ ، وَقَدْ لَا يَكُونُ مَقْصُودُهُ إلَّا السُّكْنَى فِي آخِرِ الْمُدَّةِ فَالْحِيلَةُ مَا ذُكِرَ ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ الْأَجْرَ لِلسِّنِينَ الْمُتَقَدِّمَةِ شَيْئًا قَلِيلًا حَتَّى إذَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ قَبْلَ حُصُولِ مَقْصُودِهِ لَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْأَجْرِ مَا يَتَضَرَّرُ بِهِ ، وَيُمْنَعُ رَبُّ الدَّارِ مِنْ الْفَسْخِ لِلْعُذْرِ كَيْ لَا يَفُوتَهُ مُعْظَمُ الْأَجْرِ بِالسُّكْنَى فِي السَّنَةِ الْأَخِيرَةِ وَالْأَحْوَطُ أَنْ يَجْعَلَ الْعَقْدَ فِي صَفْقَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَعَلَ الْكُلَّ صَفْقَةً وَاحِدَةً ، وَفَرَّقَ التَّسْمِيَةَ فَرُبَّمَا يَذْهَبُ بَعْضُ الْقُضَاةِ إلَى رَأْيِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ وَيُوَزِّعُ الْمُسَمَّى عَلَى جَمِيعِ الْمُدَّةِ بِالْحِصَّةِ ، فَلَا يُنْظَرُ إلَى تَفْرِيقِ التَّسْمِيَةِ مَعَ اتِّحَادِ الصَّفْقَةِ وَعِنْدَ اخْتِلَافِ الصَّفْقَةِ يَأْمَنُ مِنْ ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا لَوْ أَرَادَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى الدَّارِ مِنْ مَرَمَّتِهَا ، وَيَخَافُ أَنْ لَا يَرُدَّ عَلَيْهِ ذَلِكَ رَبُّ الدَّارِ إنْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مِقْدَارِ مَا يُرِيدُ أَنْ يُنْفِقَهُ فَيَضُمَّ ذَلِكَ إلَى أَجْرِ الدَّارِ فِي السَّنَةِ الْأَخِيرَةِ وَيُقِرَّ رَبُّ الدَّارِ أَنِّي اسْتَسْلَفْت مِنْهُ هَذَا الْمِقْدَارَ مِنْ أَجْرِ السَّنَةِ الْأَخِيرَةِ حَتَّى إذَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا أَقَرَّ أَنَّهُ اسْتَسْلَفَهُ مِنْ ذَلِكَ ، وَإِنْ خَافَ أَنْ يُحَلِّفَهُ رَبُّ الدَّارِ أَنَّهُ سَلَّمَ إلَيْهِ شَيْئًا كَمَا هُوَ رَأْيُ بَعْضِ الْقُضَاةِ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَبِيعَ مِنْهُ شَيْئًا
بِذَلِكَ الْقَدْرِ حَتَّى إذَا حَلَفَ لَمْ يَكُنْ كَاذِبًا فِي يَمِينِهِ ، فَإِنْ كَانَ رَبُّ الدَّارِ هُوَ الَّذِي يَخَافُ أَنْ يُنْكِرَ الْمُسْتَأْجِرُ بَعْضَ السِّنِينَ ، وَيُعْذَرَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ أَيْ يُفْسَخُ الْعَقْدُ بِعُذْرٍ فَالسَّبِيلُ أَنْ يَجْعَلَ أَكْثَرَ الْأُجْرَةِ لِلسَّنَةِ الْأُولَى حَتَّى لَا يَفْسَخَ الْمُسْتَأْجِرُ بَعْدَ مُضِيِّهَا الْعَقْدَ فِي بَقِيَّةِ الْمُدَّةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ أَكْثَرُ الْأُجْرَةِ ، وَإِنْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ لَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ صَاحِبُ الدَّارِ .
وَإِنْ خَافَ أَنْ يَغِيبَ الْمُسْتَأْجِرُ وَيَمْتَنِعَ أَهْلُهُ مِنْ رَدِّ الدَّارِ إلَيْهِ إذَا طَلَبَهُ لِوَقْتِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُؤَاجِرَهَا مِنْ أَهْلِهِ ، وَيَضْمَنَ لَهُ الزَّوْجُ رَدَّهَا لِلْوَقْتِ الَّذِي يُسَمِّيهِ فَيُؤْخَذُ بِهِ حِينَئِذٍ عَلَى الشَّرْطِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَجَرَهَا مِنْ الْأَهْلِ فَعَلَيْهِ رَدُّهَا إلَيْهِ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ ، وَيَصِيرُ الزَّوْجُ مُلْتَزِمًا رَدَّهَا بِالضَّمَانِ أَيْضًا فَيُطَالِبُهُ بِهِ عِنْدَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ قَالَ : وَفِي هَذَا بَعْضُ الشُّبْهَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ رَدُّ الدَّارِ إنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ لَا يَمْنَعَ الْآجِرَ إذَا جَاءَ لِيَأْخُذَهَا ، وَمِثْلُ هَذَا لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ بِرَدِّ الْوَدِيعَةِ عَلَى الْمُودِعِ هَذَا وَلِأَنَّ الْكَفَالَةَ إنَّمَا تَصِحُّ بِمَا هُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الْأَصِيلِ ، وَالرَّدُّ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَكَيْفَ تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ إلَّا أَنْ يُقِرَّ الزَّوْجُ أَنَّهُ ضَامِنٌ لَهُ تَسْلِيمَ الدَّارِ إلَيْهِ فِي وَقْتِ كَذَا بِحَقٍّ لَازِمٍ صَحِيحٍ فَيَكُونُ مُؤَاخَذًا بِإِقْرَارِهِ ، وَلَكِنَّ هَذَا كَذِبٌ لَا رُخْصَةَ فِيهِ فَالْأَحْوَطُ أَنْ يَأْخُذَ الزَّوْجُ الدَّارَ مِنْهَا بَعْدَ رِضَاهَا عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِيلَاءِ لِيَصِيرَ بِهِ ضَامِنًا رَدَّ الدَّارِ عَلَيْهَا فِي الْمُدَّةِ وَعَلَى مَالِكِ الدَّارِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ أَنْ يُقِرَّ بِذَلِكَ بَيْنَ يَدَيْ الشُّهُودِ ، وَيَكُونُ لِرَبِّ الدَّارِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِتَسْلِيمِ الدَّارِ إلَيْهِ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْمُدَّةِ ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ ، وَهُوَ أَنْ يُؤَاجِرَ الدَّارَ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ ثُمَّ إنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يُوَكِّلُ رَبَّ الدَّارِ فِي الْخُصُومَةِ مَعَ أَهْلِهِ لِاسْتِرْدَادِ الدَّارِ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ كُلَّمَا عَزَلَهُ فَهُوَ وَكِيلٌ بِهِ ، فَإِذَا غَابَ الْمُسْتَأْجِرُ كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ أَهْلَ الْمُسْتَأْجِرِ بِرَدِّ الدَّارِ عَلَيْهِ بِحُكْمِ وَكَالَةِ الْمُسْتَأْجِرِ فِي وَقْتِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ غَيْرَ مَلِيءٍ بِالْأَجْرِ فَيَنْبَغِي لِلْآجِرِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلًا
بِأَجْرِ الدَّارِ مَا سَكَنَهَا أَبَدًا أَوْ يُسَمَّى كُلُّ شَهْرِ لِلضَّامِنِ فَتَكُونُ هَذِهِ كَفَالَةً بِمَالٍ مَعْلُومٍ ، وَهُوَ مُضَافٌ إلَى سَبَبِ الْوُجُوبِ فَيَكُونُ صَحِيحًا ، وَيَأْخُذُ الْكَفِيلُ بِهَا إذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ لِلْإِفْلَاسِ وَدَيْنِ الْأُجْرَةِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ ، فَكَمَا أَنَّ طَرِيقَ التَّوَثُّقِ فِي سَائِرِ الدُّيُونِ الْكَفَالَةُ فَكَذَلِكَ فِي الْأُجْرَةِ .
رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ دَارًا لَا بِنَاءَ فِيهَا فَأَذِنَ لَهُ رَبُّ الدَّارِ أَنْ يَبْنِيَهَا وَيَحْسِبَ لَهُ رَبُّ الدَّارِ مَا أَنْفَقَ فِي الْبِنَاءِ مِنْ الْأَجْرِ ، فَإِنْ بَيَّنَهُ وَبَيَّنَ كَذَا كَذَا دِرْهَمًا فَهُوَ جَائِزٌ قِيلَ : هَذَا الْجَوَابُ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمَا ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ دَيْنٌ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ الْآلَاتِ بِالدَّيْنِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُجَوِّزُ هَذِهِ الْوَكَالَةَ عَلَى مَا قَالَ فِي الْبُيُوعِ إذَا قَالَ صَاحِبُ الدَّيْنِ لِلْمَدْيُونِ : سَلِّمْ مَالِي عَلَيْك فِي كَذَا وَاشْتَرِ لِي بِمَالِي عَلَيْك عَبْدًا وَالْأَصَحُّ : أَنَّ هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالصَّرْفِ إلَى مَحَلٍّ مَعْلُومٍ ، وَهُوَ بِنَاءُ الدَّارِ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا قَالَ فِي الْإِجَارَاتِ إذَا أَمَرَ صَاحِبُ الْحَمَّامِ الْمُسْتَأْجِرَ بِمَرَمَّةِ الْحَمَّامِ بِبَعْضِ الْأُجْرَةِ أَوْ اسْتَأْجَرَهُ دَابَّةً وَغُلَامًا إلَى مَكَانِ مَعْلُومٍ وَأَمَرَهُ بِأَنْ يُنْفِقَ بَعْضَ الْأُجْرَةِ فِي عَلَفِ الدَّابَّةِ وَنَفَقَةِ الْغُلَامِ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ فَهَذَا مِثْلُهُ ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ مَا أَنْفَقَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَدَّعِي صَرْفَ الزِّيَادَةِ إلَى الْبِنَاءِ فِيمَا أَنْفَقَ ، وَرَبُّ الدَّارِ يُنْكِرُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى تَسْلِيمَ ذَلِكَ إلَى رَبِّ الدَّارِ فَأَنْكَرَهُ رَبُّ الدَّارِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ رَبُّ الدَّارِ أَشْهَدَ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مُصَدَّقٌ فِيمَا يَقُولُ : إنَّهُ أَنْفَقَ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ ؛ لِأَنَّهُ أَشْهَدَ عَلَى مَا هُوَ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ فَإِنَّ الْأَجْرَ دَيْنٌ مَضْمُونٌ لَهُ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَإِنَّمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْأَمِينِ فِي الشَّرْعِ ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الضَّامِنِ ، فَإِذَا شَهِدَ عَلَى تَصْدِيقِ الضَّامِنِ كَانَ الْإِشْهَادُ بَاطِلًا ، وَالْقَوْلُ
قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ عِنْدَ الْإِجَارَةِ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مُصَدَّقٌ فِيمَا يَدَّعِي إنْفَاقَهُ مِنْ الْأُجْرَةِ لَمْ يُصَدَّقْ فِي ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَحَدَ أَنْ يَكُونَ بَنَى فِيهَا وَقَالَ دَفَعْتهَا إلَيْهِ ، وَهَذَا الْبِنَاءُ فِيهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ اسْتِيفَاءَ شَيْءٍ مِنْ الْأَجْرِ وَالْبِنَاءُ تَبَعٌ لِلْأَصْلِ فَاتِّفَاقُهُمَا عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ مِلْكٌ لَهُ لَا مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَأْجِرِ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْبِنَاءَ لَهُ لَا مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَأْجِرِ أَيْضًا ، فَإِذَا ادَّعَى الْمُسْتَأْجِرُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي بَنَى هَذَا الْبِنَاءَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُثْبِتَ مَا ادَّعَاهُ بِالْبَيِّنَةِ ، فَإِنْ أَرَادَ الْمُشْتَرِي أَنْ يُصَدَّقَ فِي النَّفَقَةِ عَجَّلَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ بِقَدْرِ النَّفَقَةِ ، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ بِقَبْضِهِ ثُمَّ يَدْفَعُهُ رَبُّ الدَّارِ إلَيْهِ ، وَيُوَكِّلُهُ بِالنَّفَقَةِ عَلَى دَارِهِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُسْتَأْجِرِ حِينَئِذٍ فِي نَفَقَةِ مِثْلِهِ ، وَفِي هَذَا الْهَلَاكِ إذَا ادَّعَاهُ ؛ لِأَنَّ بِالتَّعْجِيلِ مَلَكَ الْأَجْرَ الْمَقْبُوضَ وَبَرِئَتْ ذِمَّةُ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْهُ ثُمَّ إذَا رَدَّهُ عَلَيْهِ لِيُنْفِقَهُ فِي دَارِهِ كَانَ أَمِينًا فِي ذَلِكَ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَمِينِ فِي الْمُحْتَمَلِ مَعَ الْيَمِينِ كَالْمُودَعِ يَدَّعِي رَدَّ الْوَدِيعَةِ أَوْ هَلَاكَهَا إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يُصَدَّقُ فِي نَفَقَةِ مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَا يُكَذِّبُهُ فِي ذَلِكَ الْمِقْدَارِ ، وَفِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ يُكَذِّبُهُ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ كَالْوَصِيِّ يَدَّعِي الْإِنْفَاقَ عَلَى الْيَتِيمِ مِنْ مَالِهِ يُصَدَّقُ فِي نَفَقَةِ مِثْلِهِ وَلَا يُصَدَّقُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ .
وَإِذَا خَافَ رَبُّ الدَّارِ أَنْ يَتْبَعَهُ الْمُسْتَأْجِرُ فِي رَدِّ الدَّارِ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ وَأَجَرَهَا مِنْهُ سَنَةً مِنْ يَوْمِهِ عَلَى أَنَّ أُجْرَتَهَا بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ تَكُونُ كُلَّ يَوْمٍ دِينَارًا فَيَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ يَكُونُ مُضَافًا إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبِلِ وَإِضَافَةُ الْإِجَارَةِ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبِلِ صَحِيحٌ فَبَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ لَا يَمْتَنِعُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ رَدِّ الدَّارِ مَخَافَةَ أَنْ يَلْزَمَهُ كُلَّ يَوْمٍ دِينَارٌ ، فَإِنْ قَالَ الْمُسْتَأْجِرُ : أَنَا لَا آمَنُ أَنْ يَغِيبَ رَبُّ الدَّارِ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ فَلَا يُمْكِنُنِي أَنْ أَرُدَّهَا عَلَيْهِ ، وَيَلْزَمُنِي كُلَّ يَوْمٍ دِينَارٌ فَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ : أَنْ يَجْعَلَا بَيْنَهُمَا عَدْلًا وَيَسْتَأْجِرَ الْمُسْتَأْجِرُ الدَّارَ مِنْ الْعَدْلِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ حَتَّى إذَا مَضَتْ السَّنَةُ ، وَتَغَيَّبَ رَبُّ الدَّارِ يَتَمَكَّنُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ رَدِّهَا عَلَى الْعَدْلِ فَلَا يَلْزَمُهُ الدِّينَارُ بِاعْتِبَارِ كُلِّ يَوْمٍ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا كُلَّ شَهْرٍ بِكَذَا فَلُزُومُ الْعَقْدِ يَكُونُ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ ، فَإِذَا تَمَّ الشَّهْرُ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي يَهِلُّ فِيهَا الْهِلَالُ فَالْحِيلَةُ : أَنْ يُمْضِيَهُ قَبْلَ الْفَسْخِ لِيَلْزَمَ الْعَقْدُ فِي رَأْسِ الشَّهْرِ الدَّاخِلِ ، فَإِذَا خَافَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يَبْعَثَ الْأَجْرَ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي يُهِلُّ فِيهَا الْهِلَالُ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَجْعَلَا بَيْنَهُمَا عَدْلًا حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ فَسْخِ الْإِجَارَةِ مَعَ الْعَدْلِ عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ يَقُولُ إذَا أَدَّى الْأَجْرَ فِي وَسَطِ الشَّهْرِ ، وَمِنْ عَزْمِهِ الْفَسْخُ عِنْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لَهُ إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَقَدْ فَسَخْت الْعَقْدَ بَيْنِي وَبَيْنَك ، وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُ تَعْلِيقُ الْفَسْخِ بِالشَّرْطِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ
يَقُولَ لَهُ : فَسَخْت الْإِجَارَةَ بَيْنِي وَبَيْنَك رَأْسَ الشَّهْرِ فَتَكُونُ هَذِهِ إضَافَةَ الْفَسْخِ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبِلِ ، وَلَا تَكُونُ تَعْلِيقًا بِالشَّرْطِ ، وَكَمَا تَصِحُّ إضَافَةُ الْإِجَارَةِ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهَا بِالشَّرْطِ ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ إضَافَةُ الْفَسْخِ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبِلِ ، وَهَذَا يَجُوزُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ .
وَإِذَا اكْتَرَى الرَّجُلُ إبِلًا لِمَتَاعٍ لَهُ إلَى مِصْرَ بِمِائَةِ دِينَارٍ ، فَإِنْ قَصَرَ عَنْهَا إلَى الرَّمْلَةِ فَالْكِرَاءُ سَبْعُونَ دِينَارًا فَإِنَّ قَصَرَ عَنْ الرَّمْلَةِ إلَى أَذْرَعَاتٍ فَالْكِرَاءُ سِتُّونَ دِينَارًا فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ لِجَهَالَةِ مِقْدَارِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَجَهَالَةِ الْأَجْرِ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْعَقْدِ وَلِأَنَّهُ عَلَّقَ الْبَرَاءَةَ مِنْ بَعْضِ الْأَجْرِ بِالشَّرْطِ وَلَوْ عَلَّقَ الْبَرَاءَةَ مِنْ جَمِيعِ الْأَجْرِ بِشَرْطٍ فِيهِ حَظْرٌ لَمْ تَصِحَّ الْإِجَارَةُ فَكَذَلِكَ إذَا عَلَّقَ الْبَرَاءَةَ مِنْ بَعْضِ الْأَجْرِ ، فَإِنْ حَمَلَهُ إلَى مِصْرَ فَفِي الْقِيَاسِ لَهُ أَجْرُ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَجِبُ الْمِائَةُ الدِّينَارِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُفْسِدَ قَدْ زَالَ ، وَهُوَ نَظِيرُ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي الْإِجَارَاتِ أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِلرُّكُوبِ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ أَوْ ثَوْبًا لِلُّبْسِ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَنْ يَرْكَبُ وَمَنْ يَلْبَسُ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا ، وَلَوْ رَكِبَهَا أَوْ لَبِسَهُ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ وَجَبَ الْمُسَمَّى اسْتِحْسَانًا لِانْعِدَامِ الْمُفْسِدِ ، وَهُوَ الْجَهَالَةُ قَالَ : وَالْحِيلَةُ لَهُمَا فِي ذَلِكَ حَتَّى لَا يَفْسُدَ أَنْ يَسْتَأْجِرَهَا إلَى أَذْرَعَاتَ بِخَمْسِينَ دِينَارًا ، وَيَسْتَأْجِرَ مِنْ أَذْرَعَاتَ إلَى الرَّمْلَةِ بِعِشْرِينَ دِينَارًا وَيَسْتَأْجِرَ مِنْ الرَّمْلَةِ إلَى مِصْرَ بِثَلَاثِينَ دِينَارًا ، فَإِذَا بَلَغَ أَذْرَعَاتَ ، فَإِنْ أَرَادَ صَاحِبُ الْمَتَاعِ أَنْ لَا يَذْهَبَ إلَى الرَّمْلَةِ كَانَ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُ فِي فَسْخِ الْعَقْدِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَحْمِلَهُ إلَى الرَّمْلَةِ فَلَيْسَ لِصَاحِبِ الْإِبِلِ أَنْ يَمْتَنِعَ ، وَكَذَلِكَ مِنْ الرَّمْلَةِ إلَى مِصْرَ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْإِبِلِ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْإِبِلِ وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَذْهَبَ بِنَفْسِهِ مَاشِيًا ، وَإِنْ أَبَى فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُ فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ وَصَاحِبُ الْمَتَاعِ لَهُ أَنْ
يَبِيعَ مَتَاعَهُ بِأَذْرَعَاتٍ وَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا إلَى الرَّمْلَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُ فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ .
وَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يُؤَاجِرَ أَرْضًا لَهُ فِيهَا زَرْعٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا حِيلَةٌ إلَّا خَصْلَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَهِيَ أَنْ يَبِيعَهُ الزَّرْعَ ثُمَّ يُؤَاجِرَهُ الْأَرْضَ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ جَوَازِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ أَنْ يَتَمَكَّنَ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ بَعْدَ الْإِجَارَةِ ، وَإِذَا بَاعَهُ الزَّرْعَ ثُمَّ أَجَرَ الْأَرْضَ فَهُوَ يَتَمَكَّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ يَرَى زَرْعَهُ فِيهَا ، وَإِذَا لَمْ يَبِعْهُ الزَّرْعَ لَا يَتَمَكَّنُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا ، وَهِيَ مَشْغُولَةٌ بِزَرْعِ الْآخَرِ ، وَلَا يُمْكِنُهُ التَّسْلِيمُ إلَّا بِقَلْعِ زَرْعِهِ ، وَفِيهِ ضَرَرٌ بَيِّنٌ عَلَيْهِ ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ فِي الْأَرْضِ أَشْجَارٌ أَوْ بِنَاءٌ فَأَرَادَ أَنْ يُؤَاجِرَهَا مِنْهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْأَشْجَارَ وَالْبِنَاءَ مِنْهُ أَوَّلًا ثُمَّ يُؤَاجِرَهُ الْأَرْضَ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّهُ يَبِيعُ الْأَشْجَارَ بِطَرِيقِهَا إلَى بَابِهَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا بَابٌ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُبَيِّنَ طَرِيقًا مَعْلُومًا لَهَا مِنْ جَانِبٍ مِنْ جَوَانِبِ الْأَرْضِ حَتَّى يَصِحَّ الشِّرَاءُ ثُمَّ يُؤَاجِرَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَكُونُ صَحِيحًا ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِجَارَةِ تَنْبَنِي عَلَى صِحَّةِ الشِّرَاءِ ، فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ الطَّرِيقَ فِي الشِّرَاءِ فَسَدَ الشِّرَاءُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَلَوْ قَبَضَهَا كَانَ الرَّدُّ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ لِفَسَادِ الْعَقْدِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ مَا لَمْ يَكُنْ الشِّرَاءُ صَحِيحًا فَشَرَطَ ذَلِكَ لِبَيَانِ الطَّرِيقِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) رَجُلٌ وَكَّلَ رَجُلًا أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً لَهُ بِعَيْنِهَا بِكَذَا دِرْهَمًا فَلَمَّا رَآهَا الْوَكِيلُ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا لِنَفْسِهِ ، فَإِنْ اشْتَرَاهَا بِمِثْلِ ذَلِكَ الثَّمَنِ ، أَوْ أَقَلَّ فَهُوَ مُشْتَرٍ لِلْآمِرِ ، وَإِنْ نَوَى الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ ، أَوْ صَرَّحَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُمْتَثِلٌ أَمْرَ الْمُوَكِّلِ فِيمَا بَاشَرَهُ مِنْ الْعَقْدِ ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ عَزْلَ نَفْسِهِ فِي مُوَافَقَةِ أَمْرِ الْآمِرِ ، فَيَكُونُ مُشْتَرِيًا لِلْآمِرِ ، وَإِنْ اشْتَرَاهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا سَمَّى لَهُ مِنْ الثَّمَنِ أَوْ اشْتَرَاهَا بِدَنَانِيرَ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ أَمْرَ الْآمِرِ فَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ بَعْدَ قَبُولِ الْوَكَالَةِ تَامُّ الْوِلَايَةِ فِي تَصَرُّفِهِ فَيَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ لِمَا تَعَذَّرَ تَنْفِيذُهُ عَلَى الْآمِرِ ، وَلَا يَكُونُ آثِمًا فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الْوَكَالَةِ لَا يُلْزِمُهُ الشِّرَاءَ لِلْآمِرِ لَا مَحَالَةَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْوَكَالَةَ ، وَأَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الشِّرَاءِ أَصْلًا ، وَلَا يَكُونُ آثِمًا فِي اكْتِسَابِهِ هَذِهِ الْحِيلَةَ لِيَشْتَرِيَهَا لِنَفْسِهِ ، وَلَا يُقَالُ : إذَا اشْتَرَى بِأَكْثَرَ مِمَّا سَمَّى لَهُ فَفِي حِصَّةِ مَا سَمَّى لَهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرِيًا لِلْآمِرِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَهُ بِشِرَاءِ جَمِيعِهَا بِالْمُسَمَّى مِنْ الثَّمَنِ لَا بِشِرَاءِ بَعْضِهَا وَلِأَنَّ الْوَكِيلَ بِشِرَاءِ الْجَارِيَةِ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَ نِصْفَهَا لِلْآمِرِ ، فَإِنَّ مَقْصُودَ الْأَمْرِ لَا يَحْصُلُ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ كَانَ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا لَهُ ، وَلَمْ يُسَمِّ ثَمَنًا ، فَإِنْ اشْتَرَاهَا بِأَحَدِ النَّقْدَيْنِ فَهُوَ لِلْآمِرِ ، وَإِنْ نَوَاهَا لِنَفْسِهِ أَوْ اشْتَرَاهَا بِمَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ بِعَيْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ أَوْ بِعَرْضٍ بِعَيْنِهِ فَهُوَ مُشْتَرٍ لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ يَنْصَرِفُ إلَى الشِّرَاءِ بِالنَّقْدِ فَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالشِّرَاءِ فَكَأَنَّهُ صَرَّحَ بِذَلِكَ ؛
لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْعُرْفِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ ، فَإِنْ أَمَرَ الْوَكِيلُ رَجُلًا آخَرَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا لِلْوَكِيلِ الْأَوَّلِ ، فَإِنْ اشْتَرَاهَا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ بِالدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ كَانَ مُشْتَرِيًا لِلْآمِرِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْوَكِيلِ الثَّانِي بِمَحْضَرٍ مِنْ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ كَفِعْلِ الْأَوَّلِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ بِمُطْلَقِ التَّوْكِيلِ يَنْفُذُ هَذَا التَّصَرُّفُ عَلَى الْآمِرِ ، فَإِنْ اشْتَرَاهَا بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ لِيَشْتَرِيَهَا بِمَحْضَرٍ مِنْهُ ، وَإِذَا فَعَلَ لَا يَنْفُذُ شِرَاؤُهُ عَلَى الْآمِرِ فَيَكُونُ مُخَالِفًا أَمْرَ الْمُوَكِّلِ فِي هَذَا الْعَقْدِ عَلَيْهِ خَاصَّةً إلَّا أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ الْأَوَّلُ قَالَ لَهُ : اعْمَلْ فِيهَا بِرَأْيِكَ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ شِرَاءُ الْوَكِيلِ الْآخَرِ لِلْآمِرِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ مُمْتَثِلٌ أَمْرَ الْآمِرِ فِي هَذَا التَّوْكِيلِ فَإِنَّهُ مَتَى فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَى رَأْيِ الْوَكِيلِ عَلَى الْعُمُومِ يَمْلِكُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِهِ ، وَيَكُونُ فِعْلُ الْوَكِيلِ الثَّانِي كَفِعْلِ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ ، فَيَنْفُذُ عَلَى الْآمِرِ إذَا اشْتَرَاهَا بِالنَّقْدِ .
وَلَوْ كَانَ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ جَارِيَةٍ بِعَيْنِهَا فَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَبِيعَهَا مِنْ نَفْسِهِ ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهَا لِنَفْسِهِ فَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ : أَنْ يَطْلُبَ مِنْ الْمُوَكِّلِ تَفْوِيضَ الْآمِرِ إلَى رَأْيِهِ فِي بَيْعِهَا عَلَى الْعُمُومِ وَيَقُولُ لَهُ : مَا صَنَعْت فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَكَّلَ الْوَكِيلُ رَجُلًا آخَرَ يَبِيعُهَا ثُمَّ يَشْتَرِيهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَكِيلِ فَيَصِحُّ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَكِيلَ الثَّانِيَ لَيْسَ الْوَكِيلَ الْأَوَّلَ وَلَكِنَّهُ وَكِيلُ صَاحِبِ الْجَارِيَةِ فَقَدْ قَالَ لَهُ صَاحِبُهَا : مَا صَنَعْت مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَالتَّوْكِيلُ مِنْ صَنِيعِهِ فَيَصِيرُ الثَّانِي بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَكَّلَهُ صَاحِبُ الْجَارِيَةِ بِبَيْعِهَا فَيَنْفُذُ بَيْعُهُ إيَّاهَا مِنْ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ .
وَإِنْ
أَبَى صَاحِبُ الْجَارِيَةِ أَنْ يُفَوِّضَ الْأَمْرَ إلَى رَأْيِهِ عَلَى الْعُمُومِ فَالسَّبِيلُ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ ثُمَّ يَسْتَقِيلَهُ الْعَقْدَ فَتَنْفُذَ الْإِقَالَةُ عَلَى الْوَكِيلِ خَاصَّةً أَوْ يَطْلُبَ مِنْ الْمُشْتَرِي أَنْ يُوَلِّيَهُ الْعَقْدَ فِيهَا أَوْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ ابْتِدَاءً وَلَا يَأْثَمُ بِذَلِكَ بَعْدَ أَنْ لَا يَدَعَ الِاسْتِقْصَاءَ فِي ثَمَنِهَا فِي الْبَيْعِ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا قَدْ ائْتَمَنَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْأَمَانَةَ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك } وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ فِي أَنْ لَا يَدَعَ الِاسْتِقْصَاءَ فِي ثَمَنِهَا .
فَلَوْ اشْتَرَاهَا الْوَكِيلُ لِلْآمِرِ فِي مَسْأَلَةِ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ وَقَبَضَهَا ثُمَّ وَجَدَ بِهَا عَيْبًا قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى الْآمِرِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا بِالْعَيْبِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ رَدِّهَا بِكَوْنِهَا فِي يَدِهِ وَالْوَكِيلُ بِالْعَقْدِ فِي حُقُوقِ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ ، فَإِذَا رَدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي انْفَسَخَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ مِنْ الْأَصْلِ وَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ ، وَقَدْ بَقِيَ هُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ مَا لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُ الْآمِرِ فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا لِنَفْسِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَاشْتَرَاهَا ، وَهُوَ عَالِمٌ بِعَيْبِهَا لَمْ يَكُنْ الشِّرَاءُ إلَّا لِلْآمِرِ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى وَكَالَتِهِ مَا لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُ الْآمِرِ إلَّا أَنَّهُ عَالِمٌ بِعَيْبِهَا ، وَهُوَ فِي الِابْتِدَاءِ لَوْ عَلِمَ بِعَيْبِهَا ، وَاشْتَرَاهَا لِنَفْسِهِ كَانَ الشِّرَاءُ لِلْآمِرِ فَكَذَلِكَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ .
وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ يَكُونُ خَصْمًا فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ لِنَفْسِهِ ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ ذَلِكَ فَالْحِيلَةُ فِيهِ أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ لِيَبِيعَهُ بِحَضْرَتِهِ فَيَنْفُذَ ذَلِكَ عَلَى الْآمِرِ عِنْدَنَا ، وَخُصُومَةُ الْمُشْتَرِي فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ لَا تَكُونُ مَعَ الْوَكِيلِ ، وَإِنَّمَا تَكُونُ مَعَ عَاقِدِهِ ،
فَإِنْ أَبَى الْمُشْتَرِي إلَّا بِأَنْ يَضْمَنَ الْوَكِيلُ الْأَوَّلُ الدَّرْكَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَتَحَرَّزَ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ حَاصِلٌ مِنْ غَيْرِ ضَمَانِ الدَّرْكِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا وَجَدَ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا فَلَا خُصُومَةَ لَهُ بِالْعَيْبِ مَعَ الضَّامِنِ لِلدَّرْكِ ، وَإِذَا رَدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ بِالْعَيْبِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالثَّمَنِ عَلَى الضَّامِنِ لِلدَّرْكِ ؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ لَيْسَ يُدْرَكُ .
وَإِذَا خَلَعَ الْأَبُ ابْنَتَهُ مِنْ زَوْجِهَا بِمَالِهَا عَلَى الزَّوْجِ مِنْ الصَّدَاقِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ ، وَلَمْ تَطْلُقْ الْبِنْتُ سَوَاءٌ كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ خُلْعُ الْأَبِ عَلَى ابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ ، كَمَا يَجُوزُ تَزْوِيجُ الْأَبِ ابْنَهُ الصَّغِيرَ بِمَالِ الِابْنِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي النِّكَاحِ فَإِنَّ فِي الْخُلْعِ الْمَرْأَةَ تَلْتَزِمُ مَالًا بِإِزَاءِ مَا لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِهَا بِالْخُلْعِ شَيْءٌ مُتَقَوِّمٌ ، وَلَيْسَ لِلْأَبِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ عَلَى ابْنَتِهِ صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً فَهِيَ فِي الْخُلْعِ كَأَجْنَبِيٍّ إلَّا أَنْ يَضْمَنَ الدَّرْكَ لِلزَّوْجِ فَحِينَئِذٍ يَنْفُذُ الْخُلْعُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي الشُّرُوطِ .
وَإِذَا خَافَ الْوَكِيلُ بِشِرَاءِ مَتَاعٍ مِنْ بَلَدٍ مِنْ الْبُلْدَانِ يَبْعَثُ بِالْمَتَاعِ مَعَ غَيْرِهِ أَوْ يَسْتَوْدِعُ الْمَالَ غَيْرَهُ فَيَصِيرُ ضَامِنًا فَالْحِيلَةُ لَهُ فِي ذَلِكَ : أَنْ يَسْتَأْذِنَ رَبَّ الْمَالِ فِي أَنْ يَعْمَلَ بِرَأْيِهِ ، فَإِذَا أَذِنَ لَهُ فِي الْعَمَلِ بِرَأْيِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَصْنَعَ ذَلِكَ ، وَجَازَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِالتَّصَرُّفِ وَيَدْفَعَ الْمَالَ إلَيْهِ ، فَإِنَّ الْمُوَكِّلَ أَجَازَ صَنِيعَهُ عَلَى الْعُمُومِ ، وَالتَّوْكِيلُ مِنْ صَنِيعِهِ فَيَنْفُذُ ذَلِكَ عَلَى الْمُوَكِّلِ ، كَأَنَّهُ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) رَجُلٌ لَهُ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى مِائَةٍ يُؤَدِّيهَا إلَيْهِ فِي كُلِّ شَهْرٍ كَذَا ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَلَيْهِ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَنَا ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيُبْطِلُهُ غَيْرُنَا يَعْنِي شَرِيكًا وَابْنَ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَإِنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ : هَذَا تَعْلِيقُ الْتِزَامِ الْمَالِ بِالْحَظْرِ ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ : إنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَلَيْهِ مِائَتَا دِرْهَمٍ يَعْنِي إنْ لَمْ يُؤَدِّ الْمِائَةَ فِي نُجُومِهَا ، وَلَا يَدْرِي أَيُؤَدِّي أَمْ لَا يُؤَدِّي وَتَعْلِيقُ الْتِزَامِ الْمَالِ بِالْحَظْرِ لَا يَجُوزُ فَالْفِقْهُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَحُطَّ رَبُّ الْمَالِ عَنْهُ ثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ عَاجِلًا ثُمَّ يُصَالِحَهُ مِنْ الْمِائَتَيْنِ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ يُؤَدِّيهَا إلَيْهِ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَهْرِ كَذَا عَلَى أَنَّهُ إنْ أَخَّرَهَا عَنْ هَذَا الْوَقْتِ فَلَا صُلْحَ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذَا .
وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ يُؤَدِّيهَا إلَيْهِ فِي سَنَةٍ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ أُخْرَى فَإِنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ صَفْقَتَانِ فِي صَفْقَةٍ وَشَرْطَانِ فِي عَقْدٍ ، وَلِأَنَّ فِيهِ تَعْلِيقَ الْتِزَامِ الْمَالِ بِالْحَظْرِ ، وَهُوَ أَنْ لَا يُؤَدِّيَ الْأَلْفَ فِي السَّنَةِ ، وَإِنْ أَرَادَ الْحِيلَةَ فِي ذَلِكَ فَالْحِيلَةُ أَنْ يُكَاتِبَهُ عَلَى أَلْفَيْ دِرْهَمٍ ثُمَّ يُصَالِحَهُ مِنْهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ يُؤَدِّيهَا إلَيْهِ فِي سَنَةٍ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَا صُلْحَ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ الْعَقْدُ صَحِيحًا عَلَى بَدَلٍ مُسَمًّى ، وَيَكُونُ الصُّلْحُ صَحِيحًا عَلَى مَا وَقَعَ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الصُّلْحِ يَنْبَنِي عَلَى التَّوَسُّعِ ، وَمِثْلُ هَذَا الصُّلْحِ يَصِحُّ بَيْنَ الْحُرَّيْنِ فَبَيْنَ الْمَوْلَى وَمُكَاتَبِهِ أَوْلَى ، وَلِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الشَّرْطِ فِي الْبَيْعِ يَصِحُّ فَإِنَّهُ لَوْ بَاعَ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُؤَدِّ الثَّمَنَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا كَانَ جَائِزًا عَلَى هَذَا الشَّرْطِ ، فَلَأَنْ يَجُوزَ الصُّلْحُ عَلَى شَرْطٍ أَوْلَى .
رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ دَارًا فِي يَدِ ابْنِهِ وَامْرَأَتِهِ فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهَا لَهُ فَصَالَحَهُ الِابْنُ وَالْمَرْأَةُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ غَيْرِ إقْرَارٍ مِنْهُمَا كَانَتْ الْمِائَةُ عَلَيْهِمَا أَثْمَانًا وَالدَّارُ بَيْنَهُمَا أَثْمَانًا ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَنْ الْإِنْكَارِ إنَّمَا يَجُوزُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ إسْقَاطُ دَعْوَى الْمُدَّعِي حَقَّهُ وَخُصُومَةٌ تَلْزَمُهُ لِبَعْضِ الْمَصَالِحِ وَلِهَذَا جَازَ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَوْ كَانَ مِنْهُ تَمْلِيكًا مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، فَإِذَا صَحَّ أَنَّهُ إسْقَاطٌ بَقِيَتْ الدَّارُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الصُّلْحِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ الدَّعْوَى ، وَقَدْ كَانَتْ أَثْمَانًا ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الدَّارَ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَمَانِيَةٍ ثَبَتَ أَنَّ الْمَالَ عَلَيْهِمَا يَتَوَزَّعُ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ بِمُطْلَقِ قَبُولِ الْعَقْدِ إنَّمَا يَجِبُ الْمَالُ عَلَى مَنْ يَنْتَفِعُ فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْمَالِ بِقَدْرِ مَا يَنَالُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ ، وَإِنْ صَالَحَاهُ بَعْدَ إقْرَارِهِمَا بِهَا لَهُ ، وَأَرَادَا بِالْإِقْرَارِ تَصْحِيحَ الصُّلْحِ فَالْمِائَةُ عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ ، وَالدَّارُ بَيْنَهُمَا كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا أَقَرَّا أَنَّهَا لِلْمُدَّعِي ثُمَّ صَالَحَاهُ فَكَأَنَّهُمَا اشْتَرَيَا الدَّارَ بِالْمِائَةِ وَظَهَرَ بِإِقْرَارِهِمَا أَنَّ الدَّارَ لَمْ تَكُنْ مِيرَاثًا بَيْنَهُمَا وَبِمُطْلَقِ الشِّرَاءِ يَقَعُ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِيَيْنِ فِي الْمَنْزِلِ نِصْفَيْنِ ، وَيَكُونُ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ ، فَإِنْ أَرَادَا أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا أَثْمَانًا فَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقِرَّا لِلْمُدَّعِي بِالدَّارِ ثُمَّ يُصَالِحَهُمَا مِنْهَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ لِلْمَرْأَةِ ثُمُنُ الدَّارِ وَلِلِابْنِ سَبْعَةُ أَثْمَانِهَا ، فَإِذَا صَرَّحَا بِذَلِكَ كَانَ الْمِلْكُ فِي الدَّارِ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا صَرَّحَا بِهِ ، وَالثَّمَنُ كَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَيَاهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا ثُمُنُهَا ،
وَلِلْآخَرِ سَبْعَةُ أَثْمَانِهَا .
رَجُلٌ ادَّعَى فِي دَارِ رَجُلٍ دَعْوَى فَصَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْهَا فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي ؛ وَلِهَذَا لَوْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى دَارٍ كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ ، وَفِي زَعْمِ الْمُدَّعِي أَنَّهُ يَسْتَوْفِي مِنْ الدَّارِ مِائَةَ ذِرَاعٍ بِمِلْكِهِ الْقَدِيمِ إلَّا أَنْ يَتَمَلَّكَهَا عَلَى ذِي الْيَدِ ابْتِدَاءً فَيَكُونُ صَحِيحًا ، فَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ ذِرَاعٍ مِنْ دَارٍ أُخْرَى لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَازَ عِنْدَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَلَّكُ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ بِعِوَضٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ اشْتَرَى مِائَةَ ذِرَاعٍ مِنْ دَارٍ ، وَذَلِكَ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ جَائِزٌ عِنْدَهُمَا .
مَرِيضٌ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ مَالًا ، وَلَهُ بِهِ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَصَالَحَهُ مِنْهُ عَلَى دَرَاهِمَ يَسِيرَةٍ وَأَقَرَّ الْمَرِيضُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى هَذَا الْمَطْلُوبِ شَيْءٌ ثُمَّ مَاتَ جَازَ إقْرَارُهُ فِي الْقَضَاءِ ، وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْ وَرَثَتِهِ بَيِّنَةٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِذَلِكَ الْمَالِ أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ يُقِرُّ بِذَلِكَ فَيَتَمَكَّنُ فِي هَذَا الصُّلْحِ مُحَابَاةً ، وَهُوَ يُعْتَبَرُ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ ، وَأَمَّا إذَا أَقَرَّ بِذَلِكَ ، فَإِقْرَارُهُ بِمَا يَتَضَمَّنُ بَرَاءَةَ الْأَجْنَبِيِّ مُعْتَبَرٌ بِإِقْرَارِهِ لِلْأَجْنَبِيِّ ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ شَيْءٌ يَكُونُ صَحِيحًا وَبَعْدَ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ مِنْهُ لَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى مِنْ وَرَثَتِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَقُومُونَ مَقَامَهُ ، وَهُوَ لَوْ ادَّعَى بَعْدَ ذَلِكَ مَالًا مُطْلَقًا عَلَيْهِ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ ، وَلَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ فَكَذَلِكَ الْوَرَثَةُ إذَا ادَّعَوْا ذَلِكَ .
رَجُلٌ لَهُ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ حَالٌّ فَصَالَحَهُ عَلَى أَنْ يُنَجِّمَهُ نُجُومًا عَلَيْهِ ، وَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ عَنْ صَاحِبِهِ عَلَى أَنَّهُمَا إنْ أَخَّرَا نَجْمًا عَنْ مَحَلِّهِ ، فَالْمَالُ عَلَيْهِمَا حَالٌّ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَخَذَ بِالْمَالِ كَفِيلًا كَانَ الْكَفِيلُ مُطَالَبًا بِهِ كَالْأَصِيلِ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ لَهُ عَلَى رَجُلَيْنِ مَالٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَنَجَّمَهُ عَلَيْهِمَا نُجُومًا عَلَى أَنَّهُمَا لَوْ أَخَّرَا نَجْمًا عَنْ مَحَلِّهِ فَالْمَالُ عَلَيْهِمَا حَالٌّ وَذَلِكَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ تَنْجِيمَ الْمَالِ عَلَيْهِمَا صُلْحٌ فَقَدْ عَلَّقَ بُطْلَانَ الصُّلْحِ بِعَامِ الْوَفَاءِ بِالشَّرْطِ ، وَذَلِكَ جَائِزٌ ، فَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ إنَّمَا أَخَذَ مِنْ الْمَطْلُوبِ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَفِّ بِهِ عِنْدَ كُلِّ نَجْمٍ فَالْكَفِيلُ ضَامِنٌ لِجَمِيعِ الْمَالِ عَلَى النُّجُومِ الَّتِي سَمَّيَا فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَنَا ، وَبَعْضُ الْفُقَهَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَعْنِي ابْنَ أَبِي لَيْلَى لَا يُجَوِّزُ تَعْلِيقَ الْمَالِ بِالْمَالِ بِحَظْرِ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ بِالنَّفْسِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْكَفَالَةِ ، فَالْفِقْهُ فِي ذَلِكَ : أَنْ يَضْمَنَ الْكَفِيلُ الْمَالَ عَلَى أَنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ كُلِّ نَجْمٍ بِدَفْعِ الْمَطْلُوبِ عِنْدَ مَحَلِّهِ إلَى الطَّالِبِ ، فَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ الْكُلِّ ؛ لِأَنَّ إيفَاءَ الْمَطْلُوبِ يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ فَاشْتِرَاطُ بَرَاءَتِهِ عِنْدَ إيفَاءِ الْكَفِيلِ شَرْطٌ مُوَافِقٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ فَيَكُونُ صَحِيحًا .
رَجُلٌ صَالَحَ غَرِيمًا لَهُ عَلَى أَنْ يُؤَجِّلَهُ بِمَا عَلَيْهِ عَلَى أَنْ يَضْمَنَ لَهُ فُلَانٌ الْمَالَ إلَى ذَلِكَ الْأَجَلِ ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَا صُلْحَ بَيْنَهُمَا ، وَالْمَالُ حَلَّ عَلَيْهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَلَا آمَنُ أَنْ يُبْطِلَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ يَعْنِي بِهِ أَنْ يُبْطِلَهُ عَلَى طَرِيقِ الْقِيَاسِ فَإِنَّ الصُّلْحَ قِيَاسُ الْبَيْعِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ وَإِذَا شَرَطَ فِي الْبَيْعِ ضَمَانَ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ كَانَ ذَلِكَ مُبْطِلًا لِلْبَيْعِ فَكَذَلِكَ الصُّلْحُ فَالْفِقْهُ فِي ذَاكَ أَنْ يَكُونَ الْكَفِيلُ حَاضِرًا فَيَضْمَنَهُ ؛ لِأَنَّ عَلَى طَرِيقِ الْقِيَاسِ إنَّمَا لَا يَصِحُّ هَذَا الْعَقْدُ لِبَقَاءِ الْغَرَرِ فِيهِ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيَضْمَنُ الْكَفِيلُ الْمَالَ أَوْ لَا يَضْمَنُ ، فَإِذَا ضَمِنَهُ فَقَدْ انْعَدَمَ مَعْنَى الْغُرُورِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا فَالْفِقْهُ فِيهِ أَنْ يُصَالِحَهُ عَلَى مَا ذَكَرْت عَلَى أَنَّ فُلَانًا إنْ ضَمِنَ هَذَا الْمَالَ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ كَذَا فَالصُّلْحُ تَامٌّ وَإِلَّا فَلَا صُلْحَ بَيْنَهُمَا ، فَإِذَا كَانَ الْعَقْدُ بِهَذِهِ كَانَ تَمَامُ الصُّلْحِ بِقَدْرِ مَا ضَمِنَ فُلَانٌ ، وَلَا يَبْقَى غَرَرٌ إذَا ضَمِنَ فُلَانٌ فَالصُّلْحُ بَيْنَهُمَا صَحِيحٌ .
وَإِذَا كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ إلَى كَذَا فَالْمَالُ عَلَيْهِ وَأَخَذَ الْكَفِيلُ مِنْ الْمَطْلُوبِ رَهْنًا لَمْ يَجُزْ الرَّهْنُ ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الرَّهْنِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ ، وَمَا وَجَبَ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْمَطْلُوبِ مَالُهُ ، وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ لَيْسَتْ بِمَالٍ ، وَالْكَفَالَةُ بِالْمَالِ مُتَعَلِّقَةٌ بِعَدَمِ الْمُوَافَاةِ بِالنَّفْسِ فَكَيْفَ يَصِحُّ الرَّهْنُ مِنْ غَيْرِ دَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ ، فَإِنْ أَرَادَ الْحِيلَةَ فِي ذَلِكَ فَالْوَجْهُ أَنْ يَبْدَأَ بِضَمَانِ الْمَالِ فَيَقُولَ : أَنَا ضَامِنٌ لِمَا لَكَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَالِ ، فَإِنْ وَافَيْت بِهِ إلَى كَذَا مِنْ الْأَجَلِ ، فَأَنَا بَرِيءٌ ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يَرْتَهِنَ مِنْهُ رَهْنًا بِمَا ضَمِنَهُ ؛ لِأَنَّهُ كَمَا وَجَبَ الْمَالُ لِلطَّالِبِ عَلَى الْكَفِيلِ وَجَبَ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْمَطْلُوبِ فَيَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ مِنْهُ بِهِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَا إذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فَقَطْ ، وَأَرَادَ الْكَفِيلُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْمَطْلُوبِ رَهْنًا وَلَا إشْكَالَ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ مَا إذَا أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا فَإِنَّ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ لَا تَسْتَدْعِي دَيْنًا وَاجِبًا ، وَصِحَّةُ الرَّهْنِ تَسْتَدْعِي ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الرَّهْنُ بِالدَّرْكِ ، وَتَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِالدَّرْكِ ثُمَّ الْحِيلَةُ فِي هَذَا : أَنْ يُقِرَّ الْمَطْلُوبُ أَنَّ هَذَا الْكَفِيلَ ضَمِنَ عَنْهُ مَالًا لِرَجُلٍ مِنْ النَّاسِ بَاشَرَهُ وَلَا يُسَمِّيَ ذَلِكَ الرَّجُلَ وَلَا مِقْدَارَ الْمَالِ ثُمَّ يُعْطِيَهُ رَهْنًا بِذَلِكَ فَيَكُونَ صَحِيحًا فِي الْحُكْمِ ، وَيَكُونَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَطْلُوبِ فِي مِقْدَارِ ذَلِكَ الْمَالِ ، فَيُمَكَّنَ بِأَدَائِهِ مِنْ إخْرَاجِ الرَّهْنِ ، فَإِنْ قَالَ الْكَفِيلُ : مَقْصُودِي لَا يَتِمُّ بِهَذَا وَرُبَمَا يَقُولُ : الْمَطْلُوبُ بَعْدَ كَفَالَتِي بِالنِّصْفِ أَنَّ الْمَالَ دِرْهَمٌ فَيُعْطِينِي ذَلِكَ وَيَسْتَرِدَّ النِّصْفَ فَالسَّبِيلُ أَنْ يَجْعَلَا بَيْنَهُمَا عَدْلًا ثِقَةً يَثِقَانِ بِهِ ، وَيَكُونَ ارْتِهَانُ الْكَفِيلِ مِنْ ذَلِكَ الْعَدْلِ
بِأَمْرِ الْمَطْلُوبِ فَلَا يَسْتَرِدُّ مِنْهُ الرَّهْنَ قَبْلَ بَرَاءَتِهِ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ .
رَجُلٌ أَخَذَ مِنْ غَرِيمِهِ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ يَوْمَ كَذَا فَالْكَفِيلُ ضَامِنٌ لِنَفْسِ فُلَانٍ غَرِيمٌ آخَرُ لِلطَّالِبِ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَنَا يَعْنِي قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَلَا آمَنُ أَنْ يُبْطِلَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَعْنِي أَنَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا لَا يَجُوزُ ، فَالْفِقْهُ فِيهِ أَنْ يَكْفُلَ بِنَفْسِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ عَلَى أَنَّهُ إنْ وَافَى بِفُلَانٍ أَحَدُهُمَا مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ يَوْمِ كَذَا فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْكَفَالَةِ الْأُخْرَى فَيَكُونُ جَائِزًا عِنْدَهُمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْبَرَاءَةَ عَلَى الْكَفَالَتَيْنِ بِالْمُوَافَاةِ وَبِنَفْسِ أَحَدِهِمَا ، وَكَمَا يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ بِالْمُوَافَاةِ بِالْمَالِ ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْبَرَاءَةِ عَنْ الْكَفَالَتَيْنِ بِالْمُوَافَاةِ بِنَفْسِ أَحَدِهِمَا ، وَلَوْ أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ يَوْمَ غَدٍ فَمَا عَلَى الْمَطْلُوبِ مِنْ الْمَالِ فَهُوَ عَلَى الْكَفِيلِ فَلَمْ يُوَافِ بِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْمَالِ وَالنَّفْسِ ؛ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِالنَّفْسِ كَفَالَةً مُطْلَقَةً فَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ وَعَلَّقَ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ بِحَظْرِ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ ، فَإِنْ قَالَ : لَا آمَنُ أَنْ يُبْرِئَهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ مِنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَلَا يُعْرَفُ مَنْ هَذَا الْقَائِلُ ، وَلَهُ وَجْهٌ صَحِيحٌ ، وَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَالُ دُونَ النَّفْسِ وَبَعْدَ مَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ وَتَمَكَّنَ الطَّالِبُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَالِ مِنْ الْكَفِيلِ لَا تَبْقَى الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ فِي مَعْنَى تَوْقِيتِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ إلَى الْوَقْتِ الَّذِي حَصَلَ عَدَمُ الْمُوَافَاةِ فِيهِ فَشَرَطَ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ ، فَلَا تَبْقَى الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِهَا ثُمَّ الْفِقْهُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُضَمِّنَّهُ الْمَالَ وَالنَّفْسَ عَلَى أَنَّهُ إنْ وَافَاهُ بِنَفْسِهِ لِوَقْتِ كَذَا فَهُوَ بَرِيءٌ
مِنْ النَّفْسِ وَالْمَالِ ، وَإِنْ لَمْ يُوَافِهِ بِهِ لِذَلِكَ الْأَجَلِ فَالنَّفْسُ وَالْمَالُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ كَفَلَ لَهُ كَفَالَةً مُطْلَقَةً .
( مَسَائِلُ مُتَفَرِّقَةٌ ) قَالَ : وَإِذَا خَافَ الْوَصِيُّ جَهْلَ بَعْضِ الْقُضَاةِ فِي أَنْ يَسْأَلَهُ عَمَّا وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ ثُمَّ يَسْأَلَهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا أَنْفَقَ وَعَمِلَ ، وَإِنَّمَا سَمَّى هَذَا جَهْلًا ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ حُكْمِ الشَّرْعِ فَالْوَصِيُّ أَمِينٌ ، وَالْقَوْلُ فِي الْمُحْتَمَلِ قَوْلُ الْأَمِينِ ، وَهُوَ مُتَبَرِّعٌ فِي قَبُولِ الْوِصَايَةِ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَيِّتِ فَكَمَا لَمْ يَكُنْ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَ الْمُوصِيَ عَمَّا تَرَكَهُ مِنْ الْمَالِ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ الْوَصِيَّ عَمَّا وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ الْمَالِ فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ الْقُضَاةِ كَانَ جَهْلًا ، وَلَكِنْ رَأَى بَعْضُ الْقُضَاةِ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ وَيَعُدُّوهُ مِنْ الِاحْتِيَاطِ فَبَيَّنَ الْحِيلَةَ لِلْوَصِيِّ فِي ذَلِكَ بِأَنْ يُوَلِّيَ غَيْرَهُ فِي قَبْضِ التَّرِكَةِ وَبَيْعِهَا وَقَضَاءِ الدَّيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَلَا يَشْهَدُ الْوَصِيُّ عَلَى نَفْسِهِ بِوُصُولِ شَيْءٍ إلَيْهِ وَلَا يُبَاشِرُهَا بِنَفْسِهِ بَلْ يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِالْبَيْعِ وَقَضَاءِ الدَّيْنِ فَلَا يَكُونُ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ تَرِكَةُ الْمَيِّتِ وَلَا عَمِلَ فِي التَّرِكَةِ بِنَفْسِهِ ، فَإِنْ أَرَادَ الْقَاضِي أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ مَا قَضَيْت دَيْنًا وَلَا وَصَلَ إلَيْك تَرِكَةٌ وَلَا أَمَرْت بِشَيْءٍ مِنْهَا يُبَاعُ وَلَا وَكَّلْت بِهِ ، فَإِذَا كَانَ الْوَصِيُّ ، وَضَعَ التَّرِكَةَ مَوَاضِعَهَا عَلَى حُقُوقِهَا فَهُوَ مَظْلُومٌ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ فَيَسَعُهُ أَنْ يَحْلِفَ وَيَنْوِيَ غَيْرَ مَا اسْتَحْلَفَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَظْلُومًا فَيَمِينُهُ مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا لِيَتَمَكَّنَ بِهَا مِنْ دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ وَالْخَصَّافُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَوَسَّعَ فِي كِتَابِهِ فِي هَذَا الْبَابِ ، فَقَالَ : يَنْوِي مَا فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي وَقْتِ كَذَا لِوَقْتٍ غَيْرِ الْوَقْتِ الَّذِي فَعَلَ فِيهِ أَوْ فِي مَكَانِ كَذَا لِمَكَانٍ غَيْرِ الْمَكَانِ الَّذِي فَعَلَ فِيهِ أَوْ مَعَ إنْسَانٍ غَيْرِ الَّذِي عَامَلَهُ ، وَهَذَا لِأَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ نِيَّةَ
التَّخْصِيصِ فِيمَا ثَبَتَ بِمُقْتَضَى الْكَلَامِ صَحِيحَةٌ كَمَا تَصِحُّ فِي الْمَلْفُوظِ فَإِنَّ الْمُقْتَضِي عِنْدَهُ كَالْمَنْصُوصِ فِي أَنَّ لَهُ عُمُومًا فَتَجُوزُ نِيَّةُ التَّخْصِيصِ فِيهِ ، وَكَانَ يَسْتَدِلُّ عَلَى ذَلِكَ بِمَسْأَلَةِ الْمُسَاكَنَةِ الَّتِي أَوْرَدَهَا مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ إذَا حَلَفَ لَا يُسَاكِنُ فُلَانًا ، وَهُوَ يَنْوِي مُسَاكَنَتَهُ فِي بَيْتِهِ أَنَّهُ يَعْمَلُ بِنِيَّتِهِ ، وَالْمَكَانُ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ فَصَحَّتْ نِيَّةُ التَّخْصِيصِ فِيهِ .
وَقَالَ فِي الْجَامِعِ : إذَا حَلَفَ لَا يَخْرُجُ وَنَوَى السَّفَرَ صَحَّتْ نِيَّتُهُ ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي يَخْرُجُ إلَيْهِ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ وَصَحَّ نِيَّةُ التَّخْصِيصِ فِيهِ .
وَقَالَ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى : إذَا أَقَرَّ بِنَسَبِ غُلَامٍ صَغِيرٍ فَجَاءَتْ أُمُّ الصَّغِيرِ بَعْدَ مَوْتِهِ تَطْلُبُ مِيرَاثَ الزَّوْجَاتِ فَإِنَّهَا تَسْتَحِقُّ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالنَّسَبِ يَقْتَضِي الْفِرَاشَ بَيْنَ الْمُقِرِّ وَبَيْنَ أُمِّ الصَّغِيرِ ، فَجُعِلَ الثَّابِتُ بِمُقْتَضَى كَلَامِهِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ ، وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ مِنْ الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا أَنَّ الْمُقْتَضَى لَا عُمُومَ لَهُ وَأَنَّ نِيَّةَ التَّخْصِيصِ فِيمَا ثَبَتَ بِمُقْتَضَى الْكَلَامِ لَا تَكُونُ صَحِيحَةً حَتَّى إذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ أَوْ لَا يَشْرَبُ وَنَوَى طَعَامًا بِعَيْنِهِ أَوْ شَرَابًا بِعَيْنِهِ لَمْ تُعْتَبَرْ نِيَّتُهُ ؛ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ فِعْلُ الْأَكْلِ ، فَأَمَّا الْمَأْكُولُ ثَابِتٌ بِمُقْتَضَى كَلَامِهِ وَثُبُوتُ الْمُقْتَضَى لِلْحَاجَةِ إلَى تَصْحِيحِ الْكَلَامِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ فِي مَوْضِعٍ يَصِحُّ الْكَلَامُ بِدُونِهِ ، وَالثَّابِتُ بِالْحَاجَةِ لَا يَعْدُو مَوْضِعَ الْحَاجَةِ ، وَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ الْعُمُومِ لِلْمُقْتَضَى ، وَلَا إلَى جَعْلِهِ كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِيمَا وَرَاءَ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ فَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْمُسَاكَنَةِ فَهُنَاكَ نِيَّةُ التَّخْصِيصِ فِي الْمَكَانِ لَا تَعْمَلُ عِنْدَنَا حَتَّى لَوْ قَالَ : عَنَيْت بِهِ الْمُسَاكَنَةَ فِي بَيْتٍ بِعَيْنِهِ لَا يُعْمَلُ بِنِيَّتِهِ ، وَلَكِنْ إنَّمَا يُعْمَلُ بِنِيَّتِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى إكْمَالِ الْمَنْصُوصِ فَالْمُسَاكَنَةُ تَكُونُ تَارَةً فِي بَلَدِهِ وَتَارَةً فِي مَحِلِّهِ وَتَارَةً فِي دَارٍ وَأَيًّا مَا كَانَ مِنْ الْمُسَاكَنَةِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ فَهُوَ إنَّمَا نَوَى صِفَةَ الْكَمَالِ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ؛ فَلِهَذَا يُعْمَلُ بِنِيَّتِهِ ، وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْخُرُوجِ لَا نَقُولُ بِنِيَّتِهِ فِي تَخْصِيصِ الْمَكَانِ حَتَّى لَوْ نَوَى الْخُرُوجَ إلَى بَغْدَادَ لَا يُعْمَلُ بِنِيَّتِهِ ، فَإِذَا نَوَى السَّفَرَ ، فَإِنَّمَا نَوَى نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْخُرُوجِ ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ أَنْوَاعٌ شَرْعًا خُرُوجٌ لِلسَّفَرِ وَلِمَا دُونَ السَّفَرِ ، وَإِنَّمَا اخْتِلَافُهُمَا بِاخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ ،
فَإِنَّمَا يُعْمَلُ بِنِيَّتِهِ فِي تَنَوُّعِ الْخُرُوجِ فِي لَفْظِهِ ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْفِعْلِ كَذِكْرِ الْمَصْدَرِ ، وَفِي مَسْأَلَةِ النَّسَبِ الْفِرَاشُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا ثَبَتَ بِمُقْتَضَى كَلَامِهِ ، وَلَكِنْ مَا ثَبَتَ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ يَثْبُتُ حُكْمُهُ ، وَإِنْ لَمْ يُجْعَلْ كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ كَالْبَيْعِ الثَّابِتِ فِي قَوْلِهِ : أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ يَثْبُتُ حُكْمُهُ ، وَهُوَ مِلْكُ الْبَدَلَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يُجْعَلْ ذَلِكَ كَالْبَيْعِ الْمُصَرَّحِ بِهِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ : يَنْبَغِي أَنْ يَنْوِيَ شَيْئًا هُوَ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ أَوْ يَكُونَ رَاجِعًا إلَى تَخْصِيصِ مَا فِي لَفْظِهِ حَتَّى يَكُونَ عَامِلًا وَأَسْهَلُ طَرِيقٍ قَالُوا فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْأَيْمَانِ : إنَّ الْقَاضِيَ إذَا قَالَ لَهُ : قُلْ وَاَللَّهِ ؛ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ : هُوَ اللَّهُ فَدَغَمَ الْهَاءَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَفْطِنُ بِهِ الْقَاضِي ثُمَّ يَمْضِي فِي كَلَامِهِ إلَى آخِرِهِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ يَمِينًا وَلَا يَأْثَمُ بِهِ إذَا كَانَ مَظْلُومًا .
وَإِذَا أَرَادَ الْوَصِيُّ أَنْ يَدْفَعَ إلَى الْوَرَثَةِ أَمْوَالَهُمْ ، وَيَكْتُبَ عَلَيْهِمْ الْبَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ أَيُّهُمَا أَوْثَقُ لَهُ أَنْ يُسَمِّيَ مَا جَرَى عَلَى يَدِهِ ، وَمَا أَعْطَاهُمْ أَوْ لَا يُسَمِّي قَالَ : الْأَوْثَقُ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ الْبَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ وَلَا يُسَمِّيَ شَيْئًا فَإِنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَحْضُرَ صَاحِبُ دَيْنٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَوْ وَارِثٍ فَيُضَمِّنَهُ مَا سَمَّى أَنَّهُ دَفَعَهُ إلَى الْوَرَثَةِ ، وَإِذَا كَتَبَ بَرَاءَتَهُ مِنْ كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ فَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ أَنْ يُضَمِّنُوهُ شَيْئًا فَهَذَا أَوْثَقُ لَلْوَصِيِّ وَلَكِنَّ الْأَوْثَقَ لِلْوَارِثِ أَنْ يُسَمِّيَ ذَلِكَ فَرُبَّمَا يُخْفِي الْوَصِيُّ بَعْضَ التَّرِكَةِ ، فَإِذَا كَتَبُوا لَهُ الْبَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ سَبِيلٌ عَلَى مَا ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنْ الْجِنَايَةِ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَإِذَا سَمَّوْا مَا وَصَلَ إلَيْهِمْ كَانَ لَهُمْ أَنْ يُخَاصِمُوا فِيمَا يَظْهَرُ فِي يَدِهِ مِنْ التَّرِكَةِ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَذُكِرَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ لِيُحِلَّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ لَمْ يَأْمُرْهُ الزَّوْجُ بِذَلِكَ وَلَا الْمَرْأَةُ قَالَ : هَذَا مَا يَجُوزُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَبِهِ نَأْخُذُ ؛ لِأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا نِكَاحًا مُطْلَقًا ، وَالنِّكَاحُ سُنَّةٌ مَرْغُوبٌ فِيهَا ، وَإِنَّمَا قَصَدَ بِذَلِكَ ارْتِفَاعَ الْحُرْمَةِ بَيْنَهُمَا لِيَمْنَعَهُمَا بِذَلِكَ عَلَى ارْتِكَابِ الْمُحَرَّمِ وَيُوصِلَهُمَا إلَى مُرَادِهِمَا بِطَرِيقٍ حَلَالٍ فَتَكُونَ إعَانَةٌ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ، وَذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَادِمٌ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ مِنْ سُوءِ الْخُلُقِ خُصُوصًا إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ فَلَوْ امْتَنَعَ الثَّانِي مِنْ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِيُحِلَّهَا لِلْأَوَّلِ رُبَمَا يَحْمِلُهَا النَّدَمُ أَوْ فَرْطُ مَيْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ مُحَلِّلٍ فَهُوَ يَسْعَى إلَى إتْمَامِ مُرَادِهِمَا عَلَى وَجْهٍ يَنْدُبَانِ إلَيْهِ فِي الشَّرْعِ فَيَكُونُ مَأْجُورًا فِيهِ ، وَفِي نَظِيرِهِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَقَالَ نَادِمًا أَقَالَهُ اللَّهُ عَثَرَاتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ، فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْحِلَّ يَحْصُلُ بِدُخُولِ الزَّوْجِ الثَّانِي بِهَا ، وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ أَنْ يُحِلَّهَا لِلْأَوَّلِ ، فَإِذَا تَزَوَّجَهَا بِهَذَا الشَّرْطِ بِأَنْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ لَهُ : تَزَوَّجْنِي فَحَلِّلْنِي أَوْ قَالَ لَهُ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ : تَزَوَّجْ هَذِهِ الْمَرْأَةَ فَحَلِّلْهَا لِي أَوْ قَالَ الثَّانِي لِلْمَرْأَةِ : أَتَزَوَّجُكِ فَأُحَلِّلُكِ لِلْأَوَّلِ فَهَذَا مَكْرُوهٌ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ قَالُوا بَلَى قَالَ هُوَ الرَّجُلُ يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ فَيُحَلِّلُهَا لِزَوْجٍ كَانَ لَهَا قَبْلَهُ } وَلَكِنْ مَعَ هَذَا
يَجُوزُ النِّكَاحُ وَيَثْبُتُ الْحِلُّ لِلْأَوَّلِ بِدُخُولِ الثَّانِي بِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَنْهِيَّ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ النِّكَاحِ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ النِّكَاحِ وَالدُّخُولُ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ يُحِلُّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا النِّكَاحُ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى التَّوْقِيتِ لِلنِّكَاحِ وَالتَّوْقِيتُ مُفْسِدٌ لِلنِّكَاحِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً شَهْرًا ، وَإِذَا فَسَدَ النِّكَاحُ الثَّانِي فَالدُّخُولُ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا يُوجِبُ الْحِلَّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ النِّكَاحُ جَائِزٌ ، وَلَكِنَّ الشَّرْطَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَهْدِمُ الشَّرْطَ وَلَا يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ إلَّا أَنَّهُمَا لَوْ قَصَدَا الِاسْتِهْجَانَ عِوَضًا بِالْحِرْمَانِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْحِلُّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ كَمَا لَوْ قَتَلَ مُورِثَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ .
وَلَوْ قَالَ الرَّجُلُ إنْ خَطَبْت فُلَانَةَ أَوْ تَزَوَّجْتهَا فَأَجَازَتْ فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَلَهُ أَنْ يَخْطُبَهَا ثُمَّ يَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ ، وَلَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا دَخَلَ حَرْفُ أَوْ بَيْنَ الشَّرْطَيْنِ فَيَكُونُ الثَّابِتُ أَحَدَهُمَا ، وَتَتَحَلَّلُ الْيَمِينُ بِوُجُوبِ أَحَدِ الشَّرْطَيْنِ ، فَإِنْ خَطَبَهَا أَوَّلًا انْحَلَّتْ الْيَمِينُ وَهِيَ لَيْسَتْ فِي نِكَاحِهِ فَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا يَمِينَ فَلَا تَطْلُقُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ إنْ قَبَّلْتهَا أَوْ تَزَوَّجْتهَا فَهِيَ طَالِقٌ فَقَبَّلَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ تَطْلُقْ وَلَوْ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ أَنْ يَخْطُبَهَا ثُمَّ بَلَغَهَا فَأَجَازَتْ طَلُقَتْ ثَلَاثًا ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ هُنَا شَرْطُ التَّزَوُّجِ وَإِتْمَامُ ذَلِكَ بِإِجَازَتِهَا وَهِيَ عِنْدَ تَمَامِ الشَّرْطِ فِي نِكَاحِهِ فَتَطْلُقُ ثَلَاثًا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إنْ قَبَّلْتهَا أَوْ تَزَوَّجْتهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ أَنْ يُقَبِّلَهَا وَتَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ قَالَ إنْ خَطَبْت فُلَانَةَ فَهِيَ كَذَا أَوْ كُلُّ امْرَأَةٍ خَطَبْتهَا فَهِيَ كَذَا أَنَّ يَمِينَهُ لَا تَنْعَقِدُ ؛ لِأَنَّ الْخِطْبَةَ غَيْرُ الْعَقْدِ ، وَهِيَ تَسْبِقُ الْعَقْدَ فَلَا يَكُونُ هُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ مُضِيفًا الطَّلَاقَ إلَى الْمِلْكِ ، وَهَذَا فِي لِسَانِ الْعَرَبِيَّةِ ، فَإِنْ عَقَدَ يَمِينَهُ بِلِسَانِ الْفَارِسِيَّةِ فَقَالَ : " أكر فُلَانَة رَابِحُوا همه مَا هُوَ دى لَهُ بَحْرَاهُمْ " ، فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَكُونُ هَذَا اللَّفْظُ يُفْهِمُ غَيْرَ الْخِطْبَةِ لَا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ أَيْضًا هَكَذَا الْعُرْفُ بِخُرَاسَانَ ، وَمَا وَرَاءَ النَّهْرِ فَأَمَّا فِي هَذِهِ الدِّيَارِ ، فَإِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهَذَا اللَّفْظِ التَّزَوُّجَ فَيَنْعَقِدُ الْيَمِينُ إذَا كَانَ مُرَادُهُ هَذَا وَيَقَعُ الطَّلَاقُ إذَا تَزَوَّجَهَا .
رَجُلٌ حَلَفَ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ بِالْكُوفَةِ امْرَأَةً فَزَوَّجَهُ وَكِيلٌ لَهُ بِالْكُوفَةِ فَهُوَ حَانِثٌ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالنِّكَاحِ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ حَتَّى لَا يَسْتَغْنِيَ عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْمُوَكِّلِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ فَمُبَاشَرَةُ الْوَكِيلِ لَهُ كَمُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ فِي حَقِّ الْحِنْثِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يَشْتَرِي شَيْئًا بِالْكُوفَةِ فَاشْتَرَى لَهُ وَكِيلُهُ لَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي الشِّرَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ حَتَّى يَسْتَغْنِيَ عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْمُوَكِّلِ وَيَتَعَلَّقُ حُقُوقُ الْعَقْدِ بِهِ ثُمَّ الْحِيلَةُ فِي مَسْأَلَةِ النِّكَاحِ : أَنْ تُوَكِّلَ الْمَرْأَةُ وَكِيلًا يُزَوِّجُهَا مِنْهُ ثُمَّ يَخْرُجَ الْوَكِيلُ وَالزَّوْجُ إلَى الْحِيرَةِ أَوْ غَيْرِهَا بَعْدَ أَنْ يَخْرُجَا مِنْ أَبْيَاتِ الْكُوفَةِ ثُمَّ يُزَوِّجَهَا مِنْهُ فَلَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا بِالْكُوفَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمُقِيمَ بِالْكُوفَةِ إذَا خَرَجَ مِنْ أَبْيَاتِ الْكُوفَةِ عَلَى قَصْدِ السَّفَرِ كَانَ مُسَافِرًا يَقْصُرُ الصَّلَاةَ فَعَرَفْنَا أَنَّ التَّزَوُّجَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا يَكُونُ تَزْوِيجًا بِالْكُوفَةِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ تَوْكِيلَهَا لِئَلَّا تُبْتَلَى بِالْخُرُوجِ مَعَ غَيْرِ الْمَحْرَمِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ .
رَجُلٌ قَالَ لِعَبْدِهِ قَدْ أَذِنْت لَك أَنْ تَتَزَوَّجَ كُلَّ أَمَةٍ تَشْتَرِيهَا فَاشْتَرَى الْعَبْدُ أَمَةً فَتَزَوَّجَهَا بِبَيِّنَةٍ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ مَا اشْتَرَاهَا صَارَتْ مَمْلُوكَةً لِلْمَوْلَى وَقَدْ أَقَامَهُ الْمَوْلَى مُقَامَ نَفْسِهِ فِي ذَلِكَ ، وَلَوْ زَوَّجَ بِنَفْسِهِ أُمَّتَهُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الشُّهُودِ جَازَ فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رَجُلٍ لَهُ جَارِيَةٌ تَخْرُجُ فِي حَوَائِجِهِ ، وَهُوَ يَطَؤُهَا فَحَمَلَتْ وَوَلَدَتْ وَسِعَهُ أَنْ يَدَّعِيَهُ ، وَأَنْ يَبِيعَهُ مَعَهَا ، وَإِنْ كَانَ لَا يَدَعُهَا تَخْرُجُ لَمْ يَسَعْهُ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ يَعْزِلُ عَنْهَا ، وَلَا يَطْلُبُ وَلَدَهَا لَمْ يَسَعْهُ ذَلِكَ إذَا حَبَسَهَا وَمَنَعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ ، وَهَذَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ ، فَأَمَّا فِي الْحُكْمِ لَا يَلْزَمُهُ النَّسَبُ إلَّا بِالدَّعْوَى إلَّا أَنَّهُ إذَا حَصَّنَهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُ سَوَاءٌ كَانَ يَعْزِلُ عَنْهَا أَوْ لَا يَعْزِلُ فَعَلَيْهِ الْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ وَالْبِنَاءِ عَلَى الظَّاهِرِ ، وَذُكِرَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ فَقَالَ : إنَّ لِي جَارِيَةً أَطَؤُهَا وَأَعْزِلُ عَنْهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَشَدْتُك بِاَللَّهِ : هَلْ كُنْتَ تَعُودُ إلَى جِمَاعِهَا قَبْلَ أَنْ تَبُولَ ؟ قَالَ نَعَمْ فَمَنَعَهُ مِنْ أَنْ يَنْفِيَهُ فَهُوَ عِنْدَنَا عَلَى الَّتِي قَدْ حَصَّنَتْ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ يُتَوَهَّمُ بَقَاءُ بَعْضِ الْمَنِيِّ فِي إحْلِيلِهِ فَبِالْمُعَاوَدَةِ يَصِلُ إلَيْهَا إذَا عَادَ فِي جِمَاعِهَا قَبْلَ الْبَوْلِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا أَتَى أَهْلَهُ وَاغْتَسَلَ قَبْلَ أَنْ يَبُولَ ثُمَّ سَالَ مِنْهُ بَقِيَّةُ الْمَنِيِّ يَلْزَمُهُ الِاغْتِسَالُ ثَانِيًا ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ يَعْزِلُ عَنْهَا فَصَبَّ الْمَاءَ مِنْ فَوْقُ فَرُبَّمَا يَعُودُ إلَى فَرْجِهَا فَتَحْبَلُ بِهِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَسَعُهُ نَفْيُ الْوَلَدِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ { النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْعَزْلِ قَالَ إذَا أَرَادَ اللَّهُ خَلْقَ نَسَمَةٍ مِنْ مَاءٍ فَهُوَ خَالِقُهَا ، وَإِنْ صَبَبْتُمْ ذَلِكَ عَلَى صَخْرَةٍ فَاعْزِلُوا أَوْ لَا تَعْزِلُوا } .
وَإِذَا غَابَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ فَأَرَادَ الثَّانِي مِنْهُمَا أَنْ يُبْطِلَ الشَّرِكَةَ فَالْحِيلَةُ لَهُ : أَنْ يُرْسِلَ رَسُولًا إلَيْهِ بِأَنَّهُ قَدْ فَارَقَهُ وَنَقَضَ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الشَّرِكَةِ ، فَإِذَا بَلَغَ الرَّسُولُ ذَلِكَ فَقَدْ انْقَضَتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْفَرِدُ بِنَقْضِ الشَّرِكَةِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِعِلْمِ صَاحِبِهِ لِيَنْدَفِعَ الضَّرَرُ عَنْهُ وَالْغَرَرُ عَنْ شَرِيكِهِ بِذَلِكَ وَعِبَارَةُ الرَّسُولِ فِي إعْلَامِهِ كَعِبَارَةِ الْمُرْسِلِ ، وَهَذَا فِي كُلِّ عَقْدٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ نَحْوُ عَزْلِ الْوَكِيلِ وَالْحَجْرِ عَلَى الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَفَسْخِ الْمُضَارَبَةِ وَنَقْضِ وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ إذَا كَانَ الْأَسْفَلُ غَائِبًا فَأَرَادَ الْأَعْلَى أَنْ يَنْقُضَ وَلَاءَهُ أَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولًا يُبَلِّغُهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَدْ نَقَضَ مُوَالَاتَهُ فَيَكُونُ تَبْلِيغُ الرَّسُولِ إيَّاهُ كَتَبْلِيغِ الْمُرْسِلِ بِنَفْسِهِ ، وَإِنْ أَرَادَ ذَلِكَ الْأَسْفَلُ فَلَهُ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَعْقِلَ عَنْهُ الْأَعْلَى ، وَإِنْ شَاءَ فَعَلَ كَذَلِكَ ، وَإِنْ شَاءَ إلَى غَيْرِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ نَقْضًا لِلْمُوَالَاةِ مَعَ الْأَوَّلِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الْوَلَاءِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
بَابُ الْأَيْمَانِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ مِنْ ثِيَابِ فُلَانٍ شَيْئًا وَلَيْسَ لِفُلَانٍ يَوْمَئِذٍ ثَوْبٌ ثُمَّ اشْتَرَى ثَوْبًا فَلَبِسَهُ الْحَالِفُ حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى لُبْسِ ثَوْبٍ مُضَافٍ إلَى فُلَانٍ فَيُعْتَبَرُ وُجُودُ الْإِضَافَةِ عِنْدَ اللُّبْسِ ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامَ فُلَانٍ بِشَرْطِ وُجُودِ الْإِضَافَةِ عِنْدَ الْأَكْلِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الَّذِي دَعَاهُ إلَى الْيَمِينِ لَيْسَ مَعْنًى فِي الثَّوْبِ وَالطَّعَامِ بَلْ لِمَعْنًى لَحِقَهُ مِنْ جِهَةِ فُلَانٍ وَبِذَلِكَ الْمَعْنَى إنَّمَا يَمْتَنِعُ مِنْ اتِّحَادِ الْفِعْلِ فِيهِ لِكَوْنِهِ مُضَافًا إلَى فُلَانٍ وَقْتَ اتِّحَادِ الْفِعْلِ لَا وَقْتَ الْيَمِينِ وَفَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الدَّارِ وَقَالَ : الدَّارُ لَا يُسْتَحْدَثُ الْمِلْكُ فِيهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ فَلَا يَتَنَاوَلُ يَمِينُهُ إلَّا مَا كَانَ مَوْجُودًا فِي مِلْكِ فُلَانٍ عِنْدَ يَمِينِهِ فَأَمَّا الثَّوْبُ وَالطَّعَامُ فَيُسْتَحْدَثُ الْمِلْكُ فِيهِمَا فِي كُلِّ وَقْتٍ ، وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ يَمِينُهُ مَا كَانَ فِي مِلْكِ فُلَانٍ عِنْدَ وُجُودِ الْفِعْلِ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَكْسُو فُلَانًا فَوَهَبَ لَهُ ثَوْبًا صَحِيحًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَصْنَعَ مِنْهُ قَمِيصًا حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَسَاهُ فَهَذَا اللَّفْظُ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ تَمْلِيكَ الثَّوْبِ مِنْهُ لَا إلْبَاسَ الثَّوْبِ إيَّاهُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ تَتَأَدَّى بِكِسْوَةِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ، وَذَلِكَ بِالتَّمْلِيكِ دُونَ الْإِلْبَاسِ وَيُقَالُ فِي الْعَادَةِ كَسَا الْأَمِيرُ فُلَانًا إذَا مَلَكَهُ سَوَاءٌ لَبِسَهُ فُلَانٌ أَوْ لَمْ يَلْبَسْهُ ، فَقَدْ يُطْلَقُ اسْمُ الْكِسْوَةِ عَلَى مَا لَا يَتَأَتَّى فِيهِ اللُّبْسُ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ التَّمْلِيكُ ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ قَمِيصًا لِفُلَانٍ فَلَبِسَ قَمِيصًا لِعَبْدِهِ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ قَالَ الْحَاكِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَحْنَثُ ، وَهَذَا خِلَافُ مَا مَضَى فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي
حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ لَمْ يَحْنَثْ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَحْنَثُ قَالَ : وَلَكِنْ عِنْدِي أَنَّ الْجَوَابَ الَّذِي ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ فِيمَا إذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ وَنَوَاهُ ، فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ كَسْبَهُ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ كَسْبَهُ فَأَمَّا عِنْدَ عَدَمِ النِّيَّةِ أَوْ عِنْدَ عَدَمِ الدَّيْنِ عَلَى الْعَبْدِ فَلَا خِلَافَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ إنَّهُ لَا يَحْنَثُ ، وَإِنْ حَلَفَ أَنَّهُ لَا يَكْسُو فُلَانًا فَكَسَا عَبْدَهُ لَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّهُ مَا مَلَكَ الثَّوْبَ مِنْ فُلَانٍ ، وَإِنَّمَا مَلَكَهُ عَبْدُهُ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَقَعُ لِلْمَوْلَى عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ مِنْ عَبْدِهِ حُكْمًا ، وَذَلِكَ لَيْسَ شَرْطَ حِنْثِهِ ثُمَّ هَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ظَاهِرٌ ، فَإِنَّ عِنْدَهُ لَوْ وَهَبَ لِعَبْدِ أَخِيهِ يَمْلِكُ الرُّجُوعَ فِيهِ ، وَلَمْ يُجْعَلْ كَهِبَتِهِ لِأَخِيهِ فَكَذَلِكَ إذَا كَسَا عَبْدَ فُلَانٍ لَا يُجْعَلُ فِي حُكْمِ الْحِنْثِ كَأَنَّهُ كَسَا فُلَانًا وَهُمَا يَقُولَانِ فِي حُكْمِ الرُّجُوعِ هِبَتُهُ لِعَبْدِ أَخِيهِ كَهِبَتِهِ لِأَخِيهِ لِاعْتِبَارِ أَنَّ الْخُصُومَةَ فِي الرُّجُوعِ تَكُونُ مَعَ الْمَوْلَى ، وَهُوَ قَرِيبٌ لَهُ فَرُجُوعُهُ يُؤَدِّي إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَهُنَا شَرْطُ حِنْثِهِ نَفْسُ الْكِسْوَةِ لَا مَعْنًى يَنْبَنِي عَلَيْهِ ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ مَعَ الْعَبْدِ دُونَ الْمَوْلَى .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْقَبُولَ وَالرَّدَّ فِيهِ يُعْتَبَرُ مَعَ الْعَبْدِ دُونَ الْمَوْلَى ؟ وَعَلَى هَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا فَبَاعَ مِنْ عَبْدِهِ لَمْ يَحْنَثْ ، وَهَذَا فِي الْبَيْعِ أَظْهَرُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَاعَ مِنْ وَكِيلِ فُلَانٍ لَمْ يَحْنَثْ فَكَيْفَ يَحْنَثُ إذَا بَاعَ مِنْ عَبْدِ فُلَانٍ وَالْعَبْدُ فِي الشِّرَاءِ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ لَا لِمَوْلَاهُ ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَبِيعُ هَذَا الثَّوْبَ مِنْ فُلَانٍ بِثَمَنٍ فَبَاعَهُ بِجَارِيَةٍ لَمْ يَحْنَثْ ؛
لِأَنَّ الثَّمَنَ اسْمٌ لِلنَّقْدِ الَّذِي يَتَعَيَّنُ فِي الْعَقْدِ ، وَلِأَنَّ الْبَيْعَ بِثَمَنٍ لَا يَتَنَاوَلُ بَيْعَ الْمُقَابَضَةِ ، فَإِنَّ فِي بَيْعِ الْمُقَابَضَةِ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَائِعًا مِنْ وَجْهٍ مُشْتَرِيًا مِنْ وَجْهٍ وَالْبَيْعُ بِثَمَنٍ مَا يَكُونُ بَيْعًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي مِنْ فُلَانٍ ثَوْبًا فَأَمَرَ رَجُلًا فَاشْتَرَى لَهُ مِنْهُ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ فِي حُقُوقِ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ يُسْتَغْنَى عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْآمِرِ ؟ قَالُوا : وَهَذَا إذَا كَانَ الْحَالِفُ مِمَّنْ يُبَاشِرُ الشِّرَاءَ بِنَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يُبَاشِرُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ ، فَهُوَ حَانِثٌ فِي يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِيَمِينِهِ مَنْعَ نَفْسِهِ عَمَّا لَا يُبَاشِرُهُ عَادَةً ، وَفِي الْيَمِينِ مَقْصُودُ الْحَالِفِ مُعْتَبَرٌ ، وَحُكِيَ أَنَّ الرَّشِيدَ سَأَلَ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ : أَمَّا أَنْتَ فَنَعَمْ يَعْنِي إذَا كَانَ لَا يُبَاشِرُ الْعَقْدَ بِنَفْسِهِ فَجَعَلَهُ حَانِثًا بِشِرَاءِ وَكِيلِهِ لَهُ ، وَإِنْ وَهَبَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ الثَّوْبَ لِلْحَالِفِ عَلَى شَرْطِ الْعِوَضِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ مَا اشْتَرَاهُ مِنْهُ فَالشِّرَاءُ يُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ ، وَالْهِبَةُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ لَا تُوجِبُ الْمِلْكَ إلَّا بِالْقَبْضِ ثُمَّ بِالْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ إنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْبَيْعِ بَعْدَ اتِّصَالِ الْقَبْضِ بِهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، وَهُوَ جَعْلُ الشَّرْطِ نَفْسَ الْعَقْدِ وَبِنَفْسِ الْعَقْدِ لَا يَصِيرُ هُوَ مُشْتَرِيًا ، وَلَا صَاحِبُهُ بَائِعًا مِنْهُ ، فَلِهَذَا لَمْ يَحْنَثْ
قَالَ : وَسَأَلْت أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ رَجُلٍ حَلَفَ لَا يُسَاكِنُ فُلَانًا فِي دَارٍ ، وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَسَكَنَ مَعَهُ فِي دَارِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَقْصُورَةٍ عَلَى حِدَةٍ قَالَ : لَا يَحْنَثُ حَتَّى يَكُونَا فِي مَقْصُورَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَفِيهَا قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ يَحْنَثُ ، وَهُوَ رِوَايَةُ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهَذِهِ ثَلَاثُ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَسْكُنَا فِي مَحَلَّةٍ وَاحِدَةٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي دَارٍ مِنْهَا لَا يَحْنَثُ بِدُونِ النِّيَّةِ ؛ لِأَنَّ الْمُسَاكَنَةَ عَلَى مِيزَانِ الْمُفَاعَلَةِ فَتَقْتَضِي وُجُودَ الْفِعْلِ مِنْهُمَا فِي مَسْكَنٍ وَاحِدٍ وَكُلُّ دَارٍ مَسْكَنٌ عَلَى حِدَةٍ فَلَمْ يَجْمَعْهُمَا مَسْكَنٌ وَاحِدٌ .
وَالثَّانِي : أَنْ يَسْكُنَا فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي بَيْتٍ مِنْهَا ، فَإِنَّهُ يَكُونُ حَانِثًا فِي يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ الدَّارِ مَسْكَنٌ وَاحِدٌ وَيُسَمَّى فِي الْعُرْفِ سَاكِنًا مَعَ صَاحِبِهِ ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي بَيْتٍ وَالثَّالِثُ أَنْ يَكُونَ فِي الدَّارِ مَقَاصِيرُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَقْصُورَةٍ عَلَى حِدَةٍ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : هُنَا الدَّارُ مَسْكَنٌ وَاحِدٌ وَالْمَقَاصِيرُ فِيهَا كَالْبُيُوتِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ يُتَّخَذُ الْمَرَافِقُ كَالْمَطْبَخِ وَالْمَرْبِطِ ؟ فَعَرَفْنَا أَنَّ جَمِيعَهَا فِي السُّكْنَى مَسْكَنٌ وَاحِدٌ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ كُلُّ مَقْصُورَةٍ مَسْكَنٌ عَلَى حِدَةٍ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ السَّارِقَ مِنْ بَعْضِ الْمَقَاصِيرِ لَوْ أَخَذَ فِي صَحْنِ الدَّارِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ كَانَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ ، وَإِنَّ سَاكِنَ إحْدَى الْمَقْصُورَتَيْنِ لَوْ سَرَقَ مِنْ الْمَقْصُورَةِ الْأُخْرَى مَتَاعَ صَاحِبِهِ كَانَ عَلَيْهِ الْقَطْعُ ؟ فَكَانَتْ الْمَقَاصِيرُ فِي دَارٍ بِمَنْزِلَةِ الدُّورِ فِي مَحَلَّةٍ وَاحِدَةٍ بِخِلَافِ الْبُيُوتِ فَكُلُّ بَيْتٍ مِنْ الدَّارِ لَيْسَ بِمَسْكَنٍ عَلَى حِدَةٍ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْكُلَّ حِرْزٌ وَاحِدٌ حَتَّى إنَّ السَّارِقَ مِنْ بَيْتٍ إذَا أَخَذَ فِي صَحْنِ الدَّارِ وَمَعَهُ مَتَاعٌ
لَمْ يُقْطَعْ وَالضَّيْفُ الَّذِي هُوَ مَأْذُونٌ بِالدُّخُولِ فِي إحْدَى الْبَيْتَيْنِ إذَا سَرَقَ مِنْ الْبَيْتِ الْآخَرِ لَمْ يُقْطَعْ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْكُلَّ مَسْكَنٌ وَاحِدٌ هُنَاكَ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ ، وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَدَخَلَ عَلَيْهِ فِي دَارٍ قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَحْنَثُ وَجَعَلَ الدُّخُولَ عَلَيْهِ فِي الدَّارِ كَالدُّخُولِ فِي مَحَلَّةٍ أَوْ قَرْيَةٍ ، وَإِنَّمَا الدُّخُولُ عَلَى الْغَيْرِ فِي الْعُرْفِ بِأَنْ يَدْخُلَ بَيْتًا هُوَ فِيهِ أَوْ مَقْصُورَةً هُوَ فِيهَا عَلَى قَصْدِ زِيَارَتِهِ فَمَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ ، وَمَشَايِخُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ قَالُوا : فِي عُرْفِ دِيَارِنَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَمَا يَجْلِسُ فِي بَيْتِهِ لِيَزُورَهُ النَّاسُ يَجْلِسُ فِي دَارِهِ لِذَلِكَ فَكَانَ ذَلِكَ مَقْصُودًا بِيَمِينِهِ قَالَ : وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي دِهْلِيزٍ لَمْ يَحْنَثْ فِي يَمِينِهِ ، وَمُرَادُهُ مِنْ ذَلِكَ دِهْلِيزٌ إذَا رَدَّ الْبَابَ يَبْقَى خَارِجًا فَإِمَّا كُلُّ مَوْضِعٍ إذَا رَدَّ الْبَابَ يَبْقَى دَاخِلًا ، فَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ يَنْبَغِي أَنْ يَحْنَثَ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَجْلِسُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِيَزُورَهُ النَّاسُ فِيهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إلَّا بِإِذْنِهِ ؟ بِخِلَافِ الْمَوْضِعِ الَّذِي هُوَ خَارِجَ الْبَابِ فَلِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَصِلَ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَلَوْ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَنْ يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ بِدُونِ إذْنِهِ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شَرْطَ حِنْثِهِ ، وَلَا يُسَمَّى دُخُولًا عَلَيْهِ فِي الْعَادَةِ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ مَنْزِلًا وَحَلَفَ الْآخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَدْخُلُ عَلَى الْحَالِفِ الْأَوَّلِ مَنْزِلًا فَدَخَلَا مَعًا لَمْ يَحْنَثْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَاخِلَ الْمَنْزِلِ وَلَكِنْ مَعَ صَاحِبِهِ لَا عَلَى صَاحِبِهِ فَالدُّخُولُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ عِنْدَ الدُّخُولِ لِقَاءَهُ وَإِكْرَامَهُ بِالزِّيَارَةِ ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ إذَا كَانَ هُوَ مَعَهُ ، فَإِنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَاخِلًا عَلَى صَاحِبِهِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَنْ يُجْعَلَ دَاخِلًا عَلَى صَاحِبِهِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَطَأُ مَنْزِلَ فُلَانٍ بِقَدَمِهِ يَعْنِي بِذَلِكَ لَا يَضَعُ قَدَمَهُ عَلَى أَرْضِ مَنْزِلِهِ فَدَخَلَهُ وَعَلَيْهِ خُفَّانِ أَوْ نَعْلَانِ أَوْ رَاكِبًا لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ فِي الْعُرْفِ دُخُولُهُ مَنْزِلَهُ فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ ، وَهُوَ دَاخِلٌ سَوَاءٌ كَانَ رَاكِبًا أَوْ مَاشِيًا أَوْ حَافِيًا أَوْ مُنْتَعِلًا ، وَإِنْ نَوَى حَقِيقَةَ وَضْعِ الْقَدَمِ ، فَإِنَّمَا نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَطَأُ الشَّيْءَ بِقَدَمَيْهِ حَقِيقَةً مِنْ غَيْرِ فَاصِلٍ بَيْنَهُمَا ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إذَا دَخَلَهَا رَاكِبًا أَوْ مُنْتَعِلًا ، وَمَنْ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ عُومِلَ بِنِيَّتِهِ
وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : إنْ دَخَلْتِ دَارَ أَبِيك إلَّا بِإِذْنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ فَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ فِي أَنْ لَا يَحْنَثَ أَنْ يَقُولَ لَهَا : قَدْ أَذِنْت لَك فِي دُخُولِ هَذِهِ الدَّارِ كُلَّمَا شِئْت فَتَدْخُلُ كُلَّمَا شَاءَتْ ، وَلَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الدُّخُولَ بِإِذْنِهِ مُسْتَثْنًى مِنْ يَمِينِهِ ، وَالْإِذْنُ بِكَلِمَةِ كُلَّمَا يَتَنَاوَلُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ مَا لَمْ يُوجَدْ النَّهْيُ فَهِيَ كُلُّ مَرَّةٍ إنَّمَا تَدْخُلُ بِإِذْنِهِ إلَّا أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الدُّخُولِ فَحِينَئِذٍ إذَا دَخَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ دُخُولًا بِغَيْرِ إذْنِهِ
وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ خَرَجْتِ مِنْ بَيْتِي ، وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَخَرَجَتْ مِنْ الْبَيْتِ إلَى الْحُجْرَةِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِخَارِجَةٍ مِنْ الْبَيْتِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ لَا تُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ ؟ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ } ، وَلِأَنَّ مَقْصُودَهُ مِنْ هَذَا أَنْ لَا يَرَاهَا النَّاسُ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِالْخُرُوجِ إلَى السِّكَّةِ لَا بِالْخُرُوجِ إلَى الْحُجْرَةِ ؛ لِأَنَّ الْحُجْرَةَ مِنْ حِرْزِهِ لَا يَدْخُلُهَا أَحَدٌ إلَّا بِإِذْنِهِ لِمَنْزِلِهِ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ بَيْتَهُ فَدَخَلَ حُجْرَتَهُ قِيلَ : لَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّهُ مَا دَخَلَ بَيْتَهُ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ إذَا دَخَلَ عَلَيْهِ فِي دَارٍ لَمْ يَحْنَثْ قَالُوا : وَفِي عُرْفِ دِيَارِنَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ فَاسْمُ الْبَيْتِ يَتَنَاوَلُ السُّفْلَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مَنْ بَاتَ فِي حُجْرَتِهِ إذَا قِيلَ لَهُ : أنذيت الْبَلْدَةَ اللَّيْلَةَ يَسْتَجِيرُ أَنْ يَقُولَ فِي بَيْتِي ؟
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْخُذُ مَالَهُ عَلَى فُلَانٍ إلَّا جَمِيعًا فَأَخَذَ حَقَّهُ جَمِيعًا إلَّا دِرْهَمًا وَهَبَهُ لِلْمَطْلُوبِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ أَنْ يَأْخُذَ مَالَهُ عَلَى فُلَانٍ مُتَفَرِّقًا ، فَإِنَّهُ لَمَّا اسْتَثْنَى الْأَخْذَ جُمْلَةً وَاحِدَةً عَرَفْنَا أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ الْأَخْذُ مُتَفَرِّقًا ، فَإِذَا وَهَبَ لَهُ الْبَعْضَ أَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ الْبَعْضِ فَلَمْ يُوجَدْ الْأَخْذُ مُتَفَرِّقًا فَلَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ أَخَذَ جَمِيعَ حَقِّهِ فَوَجَدَ فِيهِ دِرْهَمًا مُتَفَرِّقًا لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَسْتَبِدَّ لَهُ فَإِنْ اسْتَبَدَّ لَهُ حِينَئِذٍ يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ قَبْلَ الِاسْتِبْدَالِ لَمْ يُوجَدْ أَخْذُ جَمِيعِ الْحَقِّ مُتَفَرِّقًا ، وَإِنَّمَا الْمَوْجُودُ أَخْذُ بَعْضِ حَقِّهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ شَرْطَ حِنْثِهِ فَأَمَّا بَعْدَ الِاسْتِبْدَالِ ، فَقَدْ أَخَذَ جَمِيعَ الْحَقِّ مُتَفَرِّقًا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ السَّتُّوقَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ وَبِقَبْضِهِ لَا يَصِيرُ قَابِضًا ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بِهِ الصَّرْفُ وَالسَّلَمُ لَمْ يَجُزْ فَحِينَ اسْتَبْدَلَهُ ، فَقَدْ وُجِدَ الْآنَ قَبْضُ مَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ ، وَقَدْ كَانَ قَبَضَ بَعْضَهُ فِي الِابْتِدَاءِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ وَجَدَ أَخْذَ جَمِيعِ الْحَقِّ مُتَفَرِّقًا حَتَّى لَوْ وَجَدَ الْكُلَّ سُتُّوقًا فَاسْتَبْدَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ مَا أَخَذَ حَقَّهُ مُتَفَرِّقًا
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَتَقَاضَى فُلَانًا فَلَزِمَهُ فَلَمْ يَتَقَاضَاهُ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الْمُلَازَمَةَ غَيْرُ التَّقَاضِي فَالتَّقَاضِي يَكُونُ بِاللِّسَانِ وَالْمُلَازَمَةُ تَكُونُ بِالْبَدَنِ وَالْمُلَازَمَةُ غَيْرُ التَّقَاضِي فِي عُرْفِ النَّاسِ وَمَبْنَى الْأَيْمَانِ عَلَى الْعُرْفِ
وَلَوْ حَلَفَ الْمَطْلُوبُ لِيُعْطِيَهُ حَقَّهُ دِرْهَمًا دُونَ دِرْهَمٍ فَأَعْطَاهُ بَعْضَ حَقِّهِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ إعْطَاءُ جَمِيعِ حَقِّهِ مُتَفَرِّقًا ، فَإِنَّ قَوْلَهُ دِرْهَمًا دُونَ دِرْهَمٍ عِبَارَةٌ عَنْ التَّفَرُّقِ عَادَةً ، وَهُوَ بِإِعْطَاءِ بَعْضِ الْحَقِّ إنَّمَا أَعْطَاهُ حَقَّهُ مُتَفَرِّقًا
وَلَوْ حَلَفَ الطَّالِبُ لَا يُفَارِقُهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مَا لَهُ عَلَيْهِ فَنَامَ الطَّالِبُ أَوْ غَفَلَ فَهَرَبَ الْمَطْلُوبُ لَمْ يَحْنَثْ فِي يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدَ يَمِينِهِ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ ، وَهُوَ مَا فَارَقَ الْمَطْلُوبَ إنَّمَا الْمَطْلُوبُ فَارَقَهُ حِينَ هَرَبَ مِنْهُ ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يُفَارِقُهُ فَأَمَرَهُ السُّلْطَانُ أَنْ لَا يَتَعَرَّضَ لَهُ وَحَال بَيْنَهُ وَبَيْنَ لُزُومِهِ فَذَهَبَ الْمَطْلُوبُ ، وَلَمْ يَقْدِرْ الطَّالِبُ عَلَى إمْسَاكِهِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ مَا فَارَقَهُ إنَّمَا الْمَطْلُوبُ هُوَ الَّذِي هَرَبَ مِنْهُ وَفِعْلُ غَيْرِهِ لَا يَكُونُ فِعْلًا لَهُ وَلِكَوْنِهِ بِأَمْرِ السُّلْطَانِ عَجَزَ عَنْ إمْسَاكِهِ وَبِهَذَا لَا يَصِيرُ مُفَارِقًا لَهُ
وَلَوْ قَالَ كُلُّ شَيْءٍ أُبَايِعُ بِهِ فُلَانًا ، فَهُوَ صَدَقَةٌ ثُمَّ بَايَعَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يُزِيلُ مِلْكَهُ ، فَإِنَّمَا أَضَافَ النَّذْرَ بِالصَّدَقَةِ إلَى حَالِ زَوَالِ مِلْكِهِ عَمَّا بَايَعَ غَيْرَهُ بِهِ وَالْمُضَافُ إلَى وَقْتٍ كَالْمُنْشَأِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَبَعْدَ مَا زَالَ مِلْكُهُ بِالْبَيْعِ عَنْ الْعَيْنِ لَوْ قَالَ : لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِهَذَا الْعَيْنِ لَمْ يَصِحَّ نَذْرُهُ فَإِنْ قِيلَ : لِمَاذَا لَمْ يُجْعَلْ هَذَا اللَّفْظُ الْتِزَامًا لِلتَّصَدُّقِ بِيَمِينِهِ قُلْنَا ؛ لِأَنَّهُ قَالَ ، فَهُوَ صَدَقَةٌ ، وَلَمْ يَقُلْ قِيمَتُهُ صَدَقَةٌ وَالْمُلْتَزِمُ لِلتَّصَدُّقِ بِالْعَيْنِ لَا يَكُونُ مُلْتَزِمًا لِلتَّصَدُّقِ بِالثَّمَنِ
وَلَوْ حَلَفَ الْمَطْلُوبُ أَنْ لَا يُعْطِيَ الطَّالِبَ شَيْئًا ثُمَّ أَمَرَ الْمَطْلُوبُ رَجُلًا فَأَعْطَاهُ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ هُوَ الْمُعْطِي ، فَإِنَّ الدَّافِعَ رَسُولٌ مِنْ جِهَتِهِ بِالتَّسْلِيمِ إلَى فُلَانٍ فَيَصِيرُ الْمُعْطِي فُلَانًا .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ صَدَقَتَهُ إلَى إنْسَانٍ لِيُفَرِّقَهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ ثُمَّ إنَّ الدَّافِعَ لَمْ يُحْضِرْ النِّيَّةَ عِنْدَ التَّصَدُّقِ جَازَ إذَا وُجِدَتْ النِّيَّةُ مِمَّنْ أَمَرَهُ بِالصَّدَقَةِ وَجُعِلَ كَأَنَّهُ هُوَ الْمُعْطِي فَهَذَا مِثْلُهُ فَإِنْ حَلَفَ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ يَدِهِ إلَى يَدِهِ يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ حِنْثِهِ إعْطَاءً مُقَيَّدًا بِصِفَةٍ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِالْمُنَاوَلَةِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْإِعْطَاءَ مِنْ يَدِهِ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْمُعْطِي ، وَهُوَ الْمُبَاشِرُ لِلْإِعْطَاءِ فِيهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ، وَإِذَا صَرَّحَ فِي يَمِينِهِ بِالْإِعْطَاءِ عَلَى أَتَمِّ الْوُجُوهِ لَا يَحْنَثُ بِمَا دُونَهُ ، وَإِذَا أَطْلَقَ اللَّفْظَ يُعْتَبَرُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ سَوَاءٌ أَعْطَاهُ بِيَدِهِ أَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ فَأَعْطَاهُ
وَإِنْ حَلَفَ أَنْ لَا يُعْطِيَهُ مَا عَلَيْهِ دِرْهَمًا فَمَا فَوْقَهُ فَأَعْطَاهُ حَقَّهُ كُلَّهُ دَنَانِيرَ ، وَإِنَّمَا عَنَى الدَّرَاهِمَ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ فِي يَمِينِهِ بِالدَّرَاهِمِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ مَا صَرَّحَ بِهِ خُصُوصًا إذَا تَأَيَّدَ ذَلِكَ بِنِيَّتِهِ ، وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَمْتَنِعُ مِنْ إعْطَاءِ الدَّرَاهِمِ ، وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ إعْطَاءِ الدَّنَانِيرِ لِمَالِهِ مِنْ الْمَقْصُودِ فِي الصَّرْفِ وَالتَّقْيِيدِ إذَا كَانَ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ
وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ : إنْ أَكَلْت عِنْدَك طَعَامًا أَبَدًا ، فَهُوَ كُلُّهُ حَرَامٌ يَنْوِي بِذَلِكَ الْعَيْنَ فَأَكَلَهُ عِنْدَهُ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْحَرَامَ مَا أَكَلَهُ وَبَعْدَمَا أَكَلَهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَجْعَلَهُ حَرَامًا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ وَصْفَ الشَّيْءِ بِأَنَّهُ حَرَامٌ بِطَرِيقِ أَنَّهُ مَحَلٌّ لِإِيقَاعِ الْفِعْلِ الْحَرَامِ فِيهِ ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ الْأَكْلِ وَتَحْرِيمُ الْحَلَالِ إنَّمَا يَكُونُ يَمِينًا إذَا صَادَفَ مَحَلَّهُ فَأَمَّا إذَا لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ كَانَ لَغْوًا ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ يَقُولُ إنَّهُ بَعْدَمَا أَكَلَهُ حَرَامٌ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ انْفَصَلَ عَنْهُ كَانَ حَرَامًا ؟ فَيَقُولُ هُوَ صَادَفَ مَحَلَّهُ فِي كَلَامِهِ ، وَلَكِنَّ هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهُ كَمَا أَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ يَمِينٌ فَتَحْرِيمُ الْحَرَامِ يَمِينٌ حَتَّى إذَا قَالَ : هَذَا الْخَمْرُ عَلَيَّ حَرَامٌ وَنَوَى بِهِ الْيَمِينَ كَانَ يَمِينًا فَعَرَفْنَا أَنَّ الطَّرِيقَ هُوَ الْأَوَّلُ ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا التَّحْرِيمَ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ أَصْلًا
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَذُوقُ طَعَامًا لِفُلَانٍ فَأَكَلَ طَعَامًا لَهُ وَلِآخَرَ حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذَاقَ طَعَامَ فُلَانٍ وَالطَّعَامُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ اثْنَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُزْءٌ مِنْهُ وَالذَّوْقُ يَتِمُّ بِذَلِكَ الْجُزْءِ كَالْأَكْلِ يَتِمُّ بِهِ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامَ فُلَانٍ فَأَكَلَ طَعَامًا لَهُ وَلِآخَرَ كَانَ حَانِثًا فِي يَمِينِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبَ فُلَانٍ فَلَبِسَ ثَوْبًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ أَوْ لَا يَرْكَبُ دَابَّةَ فُلَانٍ فَرَكِبَ دَابَّةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ ؛ لِأَنَّ الْجُزْءَ الَّذِي هُوَ مَمْلُوكٌ لِفُلَانٍ لَا يُسَمَّى ثَوْبًا ، وَلَا دَابَّةً وَعَلَى هَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لُقْمَةً لِفُلَانٍ فَأَكَلَ طَعَامًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ كُلَّ لُقْمَةٍ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فُلَانٍ ، وَإِنَّمَا جَعَلَ شَرْطَ حِنْثِهِ أَكْلَ لُقْمَةِ فُلَانٍ خَاصَّةً ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ الشَّرَابَ ، وَلَا نِيَّةَ لَهُ بِهَذَا غَيْرَ الْخَمْرِ فَإِنْ شَرِبَ غَيْرَهَا لَمْ يَحْنَثْ يَعْنِي غَيْرَهَا مِمَّا لَا يُسْكِرُ فَأَمَّا مَا يُشْرَبُ لِلسُّكْرِ وَالتَّلَهِّي بِهِ إذَا شَرِبَ شَيْئًا مِنْهُ كَانَ حَانِثًا ؛ لِأَنَّ الشَّرَابَ فِي النَّاسِ إذَا أُطْلِقَ يُرَادُ بِهِ الْمُسْكِرُ وَالْإِنْسَانُ إنَّمَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ بِيَمِينِهِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ السُّكْرِ فَيَتَنَاوَلُ مُطْلَقَ لَفْظِهِ مَا يُسْكِرُ وَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ حَقِيقَةِ لَفْظِهِ بِالِاتِّفَاقِ حَتَّى لَا يَحْنَثَ بِشُرْبِ الْمَاءِ أَوْ اللَّبَنِ ، وَهُوَ شَرَابٌ فَالشَّرَابُ حَقِيقَةً مَا يُشْرَبُ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يُزَايِلُ حَرَامًا فَشَرِبَ خَمْرًا لَمْ يَحْنَثْ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا اللَّفْظِ الْفُجُورُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَيَنْصَرِفُ يَمِينُهُ إلَيْهِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ غَيْرَهُ فَالْحَاصِلُ أَنَّ دَلِيلَ الْعُرْفِ يَغْلِبُ عَلَى حَقِيقَةِ اللَّفْظِ فِي بَابِ الْأَيْمَانِ ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي بَنَفْسَجًا يَنْصَرِفُ إلَى دُهْنِ الْبَنَفْسَجِ دُونَ الْوَرَقِ وَالْبَنَفْسَجُ لِلْوَرَقِ حَقِيقَةً فَعَرَفْنَا أَنَّ الْعُرْفَ يُعْتَبَرُ فِي بَابِ الْأَيْمَانِ ، وَإِنَّ مُطْلَقَ اللَّفْظِ يَتَقَيَّدُ بِمَقْصُودِ الْحَالِفِ
وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : إنْ أَمْسَيْت قَبْلَ أَنْ أُطْعَمَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ، وَلَا نِيَّةَ لَهُ قَالَ إنْ غَرَبَتْ الشَّمْسُ ، وَلَمْ يُطْعَمْ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا اللَّفْظِ دُخُولُ اللَّيْلِ ، وَذَلِكَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، فَإِنَّ الْإِمْسَاءَ قَبْلَ الْإِصْبَاحِ ، فَإِنَّمَا يَقُولُ الرَّجُلُ لِآخَرَ كَيْفَ أَصْبَحْت فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَكَيْف أَمْسَيْت فِي آخِرِ النَّهَارِ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الصَّائِمَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ مِنْ الصَّبَاحِ إلَى الْمَسَاءِ وَيَنْتَهِي ذَلِكَ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ ؟ فَإِذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ ، وَلَمْ يَطْعَمْ ، فَقَدْ أَمْسَى قَبْلَ أَنْ يَطْعَمَ فَيَحْنَثَ فِي يَمِينِهِ
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الْجَمَلَ فَكَبِرَ حَتَّى صَارَ مُسِنًّا فَأَكَلَهُ حَنِثَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْأَيْمَانِ مِنْ الْجَامِعِ وَغَيْرِهِ أَنَّ فِي الْحَيَوَانِ الْعَيْنُ لَا تَتَبَدَّلُ بِتَبَدُّلِ الْوَصْفِ ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هَذَا الصَّبِيَّ وَكَلَّمَهُ بَعْدَ مَا شَبَّ أَوْ لَا يُكَلِّمُ هَذَا الشَّابَّ فَكَلَّمَهُ بَعْدَ مَا شَاخَ حَنِثَ بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذَا الرُّطَبَ فَأَكَلَهُ بَعْدَ مَا صَارَ ثَمَرًا لَمْ يَحْنَثْ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ الْأَصْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
بَابٌ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) امْرَأَةٌ حَامِلٌ تُرِيدُ أَنْ تَهَبَ مَهْرَهَا لِزَوْجِهَا عَلَى أَنَّهَا إنْ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا كَانَ الزَّوْجُ بَرِيئًا مِنْ الْمَهْرِ ، وَإِنْ سَلِمَتْ عَادَ الْمَهْرُ عَلَى زَوْجِهَا ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَشْتَرِيَ مِنْ الزَّوْجِ ثَوْبًا لَمْ تَرَهُ بِأَنْ كَانَ فِي مِنْدِيلٍ فَتَشْتَرِيهِ بِجَمِيعِ مَهْرِهَا أَوْ نِصْفِهِ فَإِنْ مَاتَتْ فِي نِفَاسِهَا بَرِئَ الزَّوْجُ ، وَإِنْ سَلِمَتْ مِنْ عِلَّتِهَا رَدَّتْ الثَّوْبَ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَعَادَ الْمَهْرُ عَلَى زَوْجِهَا ، وَهَذَا يَسْتَقِيمُ إذَا بَقِيَ الثَّوْبُ عَلَى حَالِهِ ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ وَبِهِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ مِنْ الْأَصْلِ فَيَعُودُ الْمَهْرُ عَلَيْهِ ، كَمَا كَانَ ، وَلَكِنَّ الثَّوْبَ قَدْ يَتَعَيَّبُ عِنْدَهَا أَوْ يَهْلَكُ فَيَتَعَذَّرُ رَدُّهُ فَالسَّبِيلُ أَنْ تَشْتَرِيَ الثَّوْبَ وَتُشْهِدَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَقْبِضَهُ مِنْ الزَّوْجِ حَتَّى لَا يَتَعَذَّرَ عَلَيْهَا الرَّدُّ إذَا سَلِمَتْ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ
رَجُلٌ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَشْتَرِيَ دَارًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ إنْ فَعَلَ اشْتَرَاهَا الْآمِرُ مِنْهُ بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ فَخَافَ الْمَأْمُورُ إنْ اشْتَرَاهَا أَنْ لَا يَرْغَبَ الْآمِرُ فِي شِرَائِهَا قَالَ : يَشْتَرِي الدَّارَ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِيهَا وَيَقْبِضُهَا ثُمَّ يَأْتِيهِ الْآمِرُ فَيَقُولُ لَهُ قَدْ أَخَذْتهَا مِنْك بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ فَيَقُولُ الْمَأْمُورُ هِيَ لَك بِذَلِكَ ، وَلَا بُدَّ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهَا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى هَذَا الشَّرْطِ لِجَوَازِ التَّصَرُّفِ فِي الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَهُمَا وَالْمُشْتَرِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمُشْتَرَى بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا أَنَّهُ هَلْ يَمْلِكُهُ مَعَ شَرْطِ الْخِيَارِ أَمْ لَا ؟ فَإِنَّمَا قَالَ الْآمِرُ : يَبْدَأُ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمُشْتَرَى فَيَقُولُ : أَخَذْت مِنْك بِأَلْفٍ وَمِائَةٍ ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ لَهُ لَوْ بَدَأَ قَالَ : بِعْتهَا مِنْك رُبَّمَا لَا يَرْغَبُ الْآمِرُ فِي شِرَائِهَا وَيَسْقُطُ خِيَارُ الْمَأْمُورِ بِذَلِكَ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي أَنْ يَبْدَأَ الْآمِرُ حَتَّى إذَا قَالَ الْمَأْمُورُ : هِيَ لَك بِذَلِكَ ، ثُمَّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ لَمْ يَرْغَبْ الْآمِرُ فِي شِرَائِهَا يُمَكِّنُ الْمَأْمُورَ مِنْ رَدِّهَا بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَيَنْدَفِعُ الضَّرَرُ عَنْهُ بِذَلِكَ
رَجُلٌ حَلَفَ يُعْتِقُ كُلَّ مَمْلُوكٍ يَمْلِكُهُ إلَى ثَلَاثِينَ سَنَةً وَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ ظِهَارٍ فَأَرَادَ أَنْ يُعْتِقَ وَيَجُوزَ عَنْ ظِهَارِهِ قَالَ يَقُولُ الرَّجُلُ أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ عَتَقَ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ هُنَا ، وَإِنْ كَانَ يَثْبُتُ لِلْآمِرِ ، فَإِنَّمَا يَثْبُتُ ذَلِكَ فِي حُكْمِ تَصْحِيحِ الْعِتْقِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ بِطَرِيقِ الْإِضْمَارِ وَالْمَقْصُودُ بِالْإِضْمَارِ تَصْحِيحُ الْكَلَامِ فَفِيمَا يَرْجِعُ إلَى تَصْحِيحِ الْكَلَامِ يَظْهَرُ حُكْمُ الْمُضْمَرِ ، وَلَا يَظْهَرُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَلَا يَصِيرُ شَرْطُ الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ الْأُولَى مَوْجُودًا بِهَذَا اللَّفْظِ فَيَقَعُ الْعِتْقُ عَنْ الظِّهَارِ ، كَمَا أَوْجَبَهُ بِالْكَلَامِ الثَّانِي وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَصِيرُ رِوَايَةً فِي فَصْلٍ ، وَهُوَ مَنْ قَالَ لِعَبْدِ الْغَيْرِ : مَلَكْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ قَالَ : إنْ مَلَكْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ عَنْ ظِهَارِي ثُمَّ اشْتَرَاهُ لَا يُجْزِئُهُ عَنْ الظِّهَارِ ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ صَارَ مُسْتَحَقًّا بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ ، وَلَا يَمْلِكُ إبْدَالَهُ بِغَيْرِهِ فَعِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ إنَّمَا يُعْتَقُ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ ، وَلَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ نِيَّةُ الظِّهَارِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَكَلَّفَ فِي هَذَا الْفَصْلِ فَقَالَ : يَقُولُ الرَّجُلُ : أَعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عَلَى كَذَا ، وَلَوْ كَانَ هُوَ يُمْكِنُهُ إعْتَاقُهُ عَنْ ظِهَارِهِ لَقَالَ : إنَّهُ يَقُولُ لِهَذَا الْمَمْلُوكِ : إنْ مَلَكْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ عَنْ ظِهَارِي ثُمَّ يَشْتَرِيهِ فَلَمَّا لَمْ يَذْكُرْ هَكَذَا عَرَفْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُعْتَقَ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ بِالْإِيجَابِ الْأَوَّلِ خَاصَّةً
امْرَأَةٌ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا وَلَهَا عَلَيْهِ دَيْنٌ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ فَحَلَفَ مَا لَهَا عَلَيْهِ حَقٌّ فَأَرَادَتْ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ وَأَنْكَرَتْ أَنْ تَكُونَ عِدَّتُهَا قَدْ انْقَضَتْ تُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ نَفَقَةً بِقَدْرِ دَيْنِهَا قَالَ يَسَعُهَا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا لَوْ ظَفِرَتْ بِجِنْسِ حَقِّهَا كَانَ لَهَا أَنْ تَأْخُذَهُ بِغَيْرِ عِلْمِهِ فَكَذَلِكَ إنْ تَمَكَّنَتْ مِنْ الْأَخْذِ بِهَذَا الطَّرِيقِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ هَذَا الزَّوْجَ ، وَإِنْ كَانَ يُعْطِيهَا بِطَرِيقِ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ فَهِيَ إنَّمَا تَسْتَوْفِي بِحِسَابِ دَيْنِهَا وَلَهَا حَقُّ اسْتِيفَاءِ مَالِ الزَّوْجِ بِحِسَابِ دَيْنِهَا عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ مِنْهُ فَإِنْ حَلَّفَهَا الْقَاضِي عَلَى انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَحَلَفَتْ تَعْنِي بِهِ شَيْئًا غَيْرَ ذَلِكَ وَسِعَهَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهَا مَتَى كَانَتْ مَظْلُومَةً تُعْتَبَرُ نِيَّتُهَا ، فَإِذَا حَلَفَتْ مَا انْقَضَتْ عِدَّتِي تَعْنِي بِهِ عِدَّةَ عُمْرِهَا وَسِعَهَا ذَلِكَ
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَرَادَ أَنْ يَدْفَعَ مَالًا مُضَارَبَةً إلَى رَجُلٍ وَأَرَادَ أَنْ يَكُونَ الْمُضَارِبُ ضَامِنًا لَهُ فَالْحِيلَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقْرِضَهُ رَبُّ الْمَالِ الْمَالَ إلَّا دِرْهَمًا ثُمَّ يُشَارِكَهُ بِذَلِكَ الدِّرْهَمِ فِيمَا أَقْرَضَهُ عَلَى أَنْ يَعْمَلَا فَمَا رَزَقَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ ، فَهُوَ بَيْنَهُمَا عَلَى كَذَا ، وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَقْرِضَ بِالْقَبْضِ يَصِيرُ ضَامِنًا لِلْمُسْتَقْرَضِ مُتَمَلِّكًا ثُمَّ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا مَعَ التَّفَاوُتِ فِي رَأْسِ الْمَالِ صَحِيحٌ فَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ عَلَى مَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الرِّبْحُ عَلَى مَا اشْتَرَطَا وَالْوَضِيعَةُ عَلَى الْمَالِ وَيَسْتَوِي إنْ عَمَلًا جَمِيعًا أَوْ عَمِلَ بِهِ أَحَدُهُمَا فَرَبِحَ ، فَإِنَّ الرِّبْحَ يَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذَا الشَّرْطِ ، وَإِنْ شَاءَ أَقْرَضَ الْمَالَ كُلَّهُ لِلْمُضَارِبِ ثُمَّ يَدْفَعُهُ الْمُسْتَقْرِضُ إلَى الْمُقْرِضِ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ ثُمَّ يَدْفَعُهُ الْمُقْرِضُ إلَى الْمُسْتَقْرِضِ بِضَاعَةً فَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِأَنَّ دَفْعَهُ إلَى صَاحِبِ الْمَالِ بِضَاعَةً كَدَفْعِهِ إلَى أَجْنَبِيٍّ آخَرَ ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الرِّبْحُ كُلُّهُ لِلْعَامِلِ هُنَا ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ صَاحِبُ الْمَالِ ، وَهُوَ فِي عَمَلِهِ فِي مِلْكِهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ نَائِبًا عَنْ غَيْرِهِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ فَهَذِهِ الْحِيلَةُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ خَاصَّةً فَالْمَالُ كُلُّهُ صَارَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ عَلَى جِهَةِ الْقَرْضِ ثُمَّ هُوَ الْعَامِلُ فِي الْمَالِ ، وَالرِّبْحُ عَلَى شَرْطِ الْمُضَارَبَةِ فَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الْحِيلَةُ هِيَ الْأَوْلَى
قَالَ : وَسَأَلْت أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ الرَّجُلِ يَشْتَرِي دَارًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَخَافَ أَنْ يَأْخُذَهَا جَارُهَا بِالشُّفْعَةِ فَاشْتَرَاهَا بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ مِنْ صَاحِبِهَا ثُمَّ أَعْطَاهُ بِأَلْفِ دِينَارٍ أَوْ أَلْفِ دِرْهَمٍ قَالَ : هُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مُصَادَقَةٌ بِالثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَذَلِكَ جَائِزٌ لِحَدِيثِ { ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : أَلَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعَلَيَّ بَأْسٌ أَنِّي أَبِيعُ الْإِبِلَ بِالْبَقِيعِ وَرُبَّمَا أَبِيعُهَا بِالدَّرَاهِمِ وَآخُذُ مَكَانَهَا دَنَانِيرَ ؟ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : لَا بَأْسَ إذَا افْتَرَقْتُمَا وَلَيْسَ بَيْنَكُمَا عَمَلٌ } فَإِنْ حَلَّفَهُ الْقَاضِي مَا دَالَسْتَ وَلَا دَلَّسْت فَحَلَفَ كَانَ صَادِقًا ؛ لِأَنَّ هَذِهِ عِبَارَةٌ عَنْ الْغُرُورِ وَالْخِيَانَةِ ، وَلَمْ يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ، وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَيْهِ يَمِينٌ اشْتَرَاهَا كَذَلِكَ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ يَمِينٌ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ لِرَجَاءِ النُّكُولِ أَوْ الْإِقْرَارِ ، وَهُوَ لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ فَالسَّبِيلُ أَنْ يَأْمُرَ بَعْضَ أَصْدِقَائِهِ أَنْ يَشْتَرِيَهَا لَهُ كَذَلِكَ وَيُشْهِدَ عَلَى الْوَكَالَةِ وَيَجْعَلَهُ جَائِزَ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ فَإِنْ اشْتَرَاهَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الشَّفِيعِ وَالْمُشْتَرِي فِي ذَلِكَ خُصُومَةٌ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ مَا دَامَتْ فِي يَدِهِ ، فَهُوَ خَصْمٌ لِلشَّفِيعِ إلَّا أَنْ يُشْهِدَ عَلَى تَسْلِيمِهَا لِلْآمِرِ ثُمَّ يُودِعَهَا الْآمِرُ مِنْهُ أَوْ يُعِيرَهَا
رَجُلٌ أَحَبَّ أَنْ يَشْتَرِيَ دَارًا بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَإِنْ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ أَخَذَهَا بِعِشْرِينَ أَلْفٍ ، وَلَوْ اسْتَحَقَّ الدَّارَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْبَائِعِ إلَّا بِعَشَرَةِ آلَافٍ قَالَ يَشْتَرِيهَا بِعِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَيَنْقُدُهُ تِسْعَةَ آلَافٍ وَتِسْعِينَ دِرْهَمًا وَدِينَارًا ، فَإِنَّمَا بَقِيَ مِنْ الثَّمَنِ فَإِنْ رَغِبَ فِيهَا الشَّفِيعُ أَخَذَهَا بِعِشْرِينَ أَلْفٍ ، وَإِنْ اُسْتُحِقَّتْ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِمَا دَفَعَ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا اُسْتُحِقَّتْ بَطَلَ عَقْدُ الصَّرْفِ لِوُجُودِ الِافْتِرَاقِ قَبْلَ قَبْضِ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ ، وَلَا يَرْجِعُ إلَّا بِمَا أَدَّى وَقَبْلَ الِاسْتِحْقَاقِ الصَّرْفُ صَحِيحٌ فَلَا يَأْخُذُ الشَّفِيعُ الدَّارَ إلَّا بِعِشْرِينَ أَلْفٍ ، وَلَوْ أَعْطَاهُ بِالْبَاقِي مَكَانَ الدِّينَارِ ثَوْبًا أَوْ مَتَاعًا رَجَعَ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ بِعِشْرِينَ أَلْفٍ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الدَّارِ لَا يُبْطِلُ الْبَيْعَ فِي الثَّوْبِ وَالْمَتَاعِ فَيَكُونُ قَابِضًا مِنْهُ عِشْرِينَ أَلْفٍ فَيَلْزَمُهُ رَدُّ ذَلِكَ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الدَّارِ فَأَمَّا عَقْدُ الصَّرْفِ يَبْطُلُ بِاسْتِحْقَاقِ الدَّارِ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا رَدُّ الْمَقْبُوضِ ، فَلَوْ لَمْ يُسْتَحَقَّ وَوَجَدَ بِالدَّارِ عَيْبًا رَدَّهَا بِعِشْرِينَ أَلْفٍ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الثَّمَنَ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ وُجُوهَ الْحِيَلِ لِإِبْطَالِ الشُّفْعَةِ أَوْ لِتَقْلِيلِ رَغْبَةِ الشَّفِيعِ فِي الْأَخْذِ ، وَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِهِ قَبْلَ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ مَكْرُوهٌ أَشَدَّ الْكَرَاهَةِ ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ مَشْرُوعَةٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الشَّفِيعِ فَاَلَّذِي يَحْتَالُ لِإِسْقَاطِهَا بِمَنْزِلَةِ الْقَاصِدِ إلَى الْإِضْرَارِ بِالْغَيْرِ ، وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : إنَّهُ يَمْتَنِعُ مِنْ الْتِزَامِ هَذَا الْحَقِّ مَخَافَةَ أَنْ لَا يُمْكِنَهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ إذَا الْتَزَمَهُ ، وَذَلِكَ
لَا يَكُونُ مَكْرُوهًا كَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ كَيْفَ يَلْزَمُهُ نَفَقَةُ الْأَقَارِبِ وَالْحَجِّ ؟ فَهَذَا دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ لَا الْإِضْرَارُ بِالْغَيْرِ ؛ لِأَنَّ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ عَنْ التَّصَرُّفِ أَوْ تَمَلُّكِ الدَّارِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ إضْرَارٌ بِهِ ، وَهُوَ إنَّمَا قَصَدَ دَفْعَ هَذَا الضَّرَرِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْحِيلَةُ لِمَنْعِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ وَاسْتَدَلَّ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْأَمَالِي قَالَ : أَرَأَيْت لَوْ كَانَ لِرَجُلٍ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَلَمَّا كَانَ قَبْلَ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ تَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ مِنْهَا كَانَ هَذَا مَكْرُوهًا ، وَإِنَّمَا تَصَدَّقَ بِالدِّرْهَمِ حَتَّى يَتِمَّ الْحَوْلُ وَلَيْسَ فِي مِلْكِهِ نِصَابٌ فَلَا يَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ ، وَلَا أَحَدٌ يَقُولُ بِأَنَّ هَذَا يَكُونُ مَكْرُوهًا أَوْ يَكُونُ هُوَ فِيهِ آثِمًا
قَالَ وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ دَارًا لِغَيْرِهِ وَكَتَبَ فِي الصَّكِّ وَنَقَدَ فُلَانٌ فُلَانًا الثَّمَنَ كُلَّهُ مِنْ مَالِ فُلَانٍ الْآمِرِ فَلِلْبَائِعِ أَنْ لَا يَرْضَى بِهَذَا لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ فَرُبَّمَا يَجِيءُ الْآمِرُ فَيَقُولُ : قَدْ أَخَذْت مَالِي وَأَقْرَرْت بِذَلِكَ حِينَ أَشْهَدْت عَلَى الصَّكِّ ، وَلَمْ آمُرْ فُلَانًا بِالشِّرَاءِ لِي فَيَسْتَرِدَّ مَالَهُ ، وَلَا يَقْدِرُ هُوَ عَلَى الْمُشْتَرِي لِيُطَالِبَهُ بِثَمَنِ الدَّارِ ، وَإِنْ لَمْ يَكْتُبْ هَذَا فَفِيهِ نَوْعُ ضَرَرٍ عَلَى الْآمِرِ ، وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ الْمُشْتَرِي الْآمِرَ بِالْمَالِ وَيَقُولَ نَقَدْت الثَّمَنَ مِنْ مَالِي فَالْحِيلَةُ أَنْ يَكْتُبَ : وَقَدْ نَقَدَ فُلَانٌ فُلَانًا الثَّمَنَ .
وَلَا يَكْتُبَ مِنْ مَالِ مَنْ هُوَ ، فَإِذَا خَتَمَ الشُّهُودُ كَانَتْ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْبَيْعِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ فَقَطْ ثُمَّ يُقِرُّ الْمُشْتَرِي بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ مَا نَقَدَهُ مِنْ الثَّمَنِ إنَّمَا هُوَ مِنْ مَالِ الْآمِرِ فَيَكُونُ إقْرَارُهُ حُجَّةً عَلَيْهِ لِلْآمِرِ فَيَنْدَفِعُ الضَّرَرُ عَنْهُمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
بَابُ الِاسْتِحْلَافِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَغِيبَ فَقَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ : كُلُّ جَارِيَةٍ تَشْتَرِيهَا فَهِيَ حُرَّةٌ حَتَّى تَرْجِعَ إلَى الْكُوفَةِ ، وَمِنْ رَأْيِهِ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً كَيْفَ يَصْنَعُ ؟ قَالَ : إذَا حَلَفَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَقُولُ : نَعَمْ فَيُرِيهَا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ أَنَّهُ حَلَفَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي طَلَبَتْ ، وَهُوَ يَعْنِي بَنِي تَغْلِبَ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ أَوْ يَنْوِي بِقَلْبِهِ وَاحِدَ الْأَنْعَامِ ، فَإِنَّهُ يُقَالُ نَعَمْ وَالْأَنْعَامُ هِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ } الْآيَةَ ، فَإِذَا عَنَى هَذَا لَمْ يَكُنْ حَالِفًا فَإِنْ أَبَتْ إلَّا أَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الَّذِي يَقُولُ : كُلُّ جَارِيَةٍ أَشْتَرِيهَا فَهِيَ حُرَّةٌ ، قَالَ : فَلْيَفْعَلْ ذَلِكَ وَلْيَعْنِ بِذَلِكَ كُلَّ سَفِينَةٍ جَارِيَةٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ } وَالْمُرَادُ السُّفُنُ ، فَإِذَا عَنَى ذَلِكَ عَمِلَ بِنِيَّتِهِ ؛ لِأَنَّهَا ظَالِمَةٌ لَهُ فِي هَذَا الِاسْتِحْلَافِ وَنِيَّةُ الْمَظْلُومِ فِيمَا يُحَلَّفُ عَلَيْهِ مُعْتَبَرَةٌ ، وَإِنْ حَلَّفَتْهُ بِطَلَاقِ كُلِّ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا عَلَيْهَا فَلْيَقُلْ : كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا عَلَيْك فَهِيَ طَالِقٌ ، وَهُوَ يَنْوِي بِذَلِكَ كُلَّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا عَلَى رَقَبَتِك فَيُعْمَلُ بِنِيَّتِهِ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ فَلَا يَحْنَثُ إذَا تَزَوَّجَ عَلَى غَيْرِ رَقَبَتِهَا فَإِنْ كَانَ إنَّمَا عَنَى أَنْ لَا أَتَزَوَّجَ عَلَى إطْلَاقِك فَهَذِهِ النِّيَّةُ تَعْمَلُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَا يَحْنَثُ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً أُخْرَى ، وَكَذَلِكَ إنْ عَنَى بِقَوْلِهِ فَهِيَ طَالِقٌ مِنْ الْوَثَاقِ فَنِيَّتُهُ صَحِيحَةٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنْ قَالَ : كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَأَطَؤُهَا فَهِيَ طَالِقٌ وَعَنَى الْوَطْءَ بِقَدَمِهِ ، فَهُوَ يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ
لَفْظِهِ ، وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ : يَنْبَغِي أَنْ يَدِينَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِي الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ فَالْوَطْءُ يَكُونُ بِالْقَدَمِ حَقِيقَةً إلَّا أَنَّا نَقُولُ الْوَطْءُ مَتَى أُضِيفَ إلَى النِّسَاءِ ، فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْجِمَاعِ دُونَ الْوَطْءِ بِالْقَدَمِ ، وَإِنَّمَا يُرَادُ الْوَطْءُ بِالْقَدَمِ إذَا ذُكِرَ مُطْلَقًا غَيْرَ مُضَافٍ إلَى النِّسَاءِ ، فَلِهَذَا لَا يَدِينُ هُنَا فِي الْقَضَاءِ ، وَهُوَ مَدِينٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى
رَجُلٌ اتَّهَمَ جَارِيَةً أَنَّهَا سَرَقَتْ لَهُ مَالًا فَقَالَ : أَنْتِ حُرَّةٌ إنْ لَمْ تَصْدُقِينِي وَخَافَ الْمَوْلَى أَنْ لَا تَصْدُقَهُ فَتَعْتِقُ فَمَا الْحِيلَةُ فِيهِ قَالَ : تَقُولُ الْجَارِيَةُ : قَدْ سَرَقْته ثُمَّ تَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ : لَمْ أَسْرِقْهُ فَيَتَيَقَّنُ أَنَّهَا صَدَقَتْهُ فِي إحْدَى الْكَلَامَيْنِ ، وَلَا تُعْتَقُ ، وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ بَدَأْتُك بِالْكَلَامِ وَقَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ بَعْدَ ذَلِكَ : وَإِنْ ابْتَدَأْتُك بِالْكَلَامِ فَجَارِيَتِي حُرَّةٌ فَالْحِيلَةُ فِيهِ أَنْ يَبْدَأَ الزَّوْجُ بِالْكَلَامِ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ كَلَّمَتْهُ بَعْدَ كَلَامِهِ حِينَ خَاطَبَتْهُ بِيَمِينِهَا فَلَا يَكُونُ الزَّوْجُ مُبْتَدِئًا لَهَا بِالْكَلَامِ بَعْدَ يَمِينِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْيَمِينُ مِنْهُمَا جَمِيعًا فَالْحِيلَةُ فِيهِ أَنْ يُكَلِّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ مَعًا عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ إذَا حَلَفَ رَجُلَانِ فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ إنْ ابْتَدَأْتُك بِالْكَلَامِ فَالْتَقَيَا وَسَلَّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ مَعًا لَمْ يَحْنَثْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُبْتَدِئَ بِالشَّيْءِ مَنْ يَسْبِقُ غَيْرَهُ بِذَلِكَ الشَّيْءِ ، فَإِذَا اقْتَرَنَ كَلَامُهُ بِكَلَامِ صَاحِبِهِ لَمْ يَكُنْ مُبْتَدِئًا
رَجُلٌ قَالَ : وَاَللَّهِ أَمَّا أَنَا لَا أَجْلِسُ فَمَا أَقُومُ حَتَّى أُقَامَ يَعْنِي حَتَّى يُقَوِّيَنِي اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ فَيُقِيمَنِي ، فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ ، وَهُوَ صَادِقٌ فِي يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ أَنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةُ اللَّهِ تَعَالَى ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَاَللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } فَلَا يَقُومُ أَحَدٌ مَا لَمْ يُقِمْهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقِيلَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إلَى اللَّهِ } أَنَّ الْمُرَادَ هَذَا ، وَهُوَ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَغْنِي فِي شَيْءٍ مِنْ أَقْوَالِهِ وَحَرَكَاتِهِ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا قَالَ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ إذَا حَلَفَ لَيَأْتِيَنَّهُ غَدًا إلَّا أَنْ لَا يَسْتَطِيعَ ، وَهُوَ يَعْنِي بِذَلِكَ الْقَضَاءَ وَالْقَدَرَ ، فَإِنَّهُ تَعْمَلُ نِيَّتُهُ ، وَلَا يَكُونُ حَانِثًا فِي يَمِينِهِ بِحَالٍ
وَلَوْ قَالَ لِأَمَتِهِ : أَنْتِ حُرَّةٌ إنْ ذُقْت طَعَامًا حَتَّى أَضْرِبَك فَأَنِفَتْ الْأَمَةُ فَالْحِيلَةُ أَنْ يَهَبَهَا لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ ثُمَّ يَتَنَاوَلَ الطَّعَامَ فَلَا يَحْنَثَ فِي يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا لِوَلَدِهِ بِنَفْسِ الْهِبَةِ ، فَإِنَّمَا يُوجَدُ الشَّرْطُ وَهِيَ لَيْسَتْ فِي مِلْكِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ
قَالَ : وَسُئِلَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ امْرَأَةٍ قَالَتْ لِزَوْجِهَا : اخْلَعْنِي فَقَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ سَأَلْتنِي الْخُلْعَ إنْ لَمْ أَخْلَعْك فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ : جَارِيَتِي حُرَّةٌ إنْ لَمْ أَسْأَلْك قَبْلَ اللَّيْلِ وَجَاءَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : سَلِيهِ الْخُلْعَ فَقَالَتْ لِزَوْجِهَا : أَسْأَلُك أَنْ تَخْلَعَنِي فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِزَوْجِهَا : قُلْ قَدْ خَلَعْتُك عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ تُعْطِيهَا لِي فَقَالَ لَهَا الزَّوْجُ ذَلِكَ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَهَا قُولِي لَا أَقْبَلُهُ فَقَالَتْ ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قُومَا ، فَقَدْ بَرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا فِي يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ بِرِّهَا فِي الْيَمِينِ أَنْ تَسْأَلَهُ الْخُلْعَ ، وَقَدْ سَأَلَتْهُ وَشَرْطَ بِرِّ الزَّوْجِ أَنْ يَخْلَعَهَا بَعْدَ سُؤَالِهَا ، وَقَدْ فَعَلَ ، فَإِنَّمَا عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ خَاصَّةً ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ مِنْهُ فَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ حِينَ رَدَّتْ الْخُلْعَ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَصِيرُ رِوَايَةً فِيمَا إذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا : اخْلَعْنِي فَقَالَ الزَّوْجُ خَلَعْتُك عَلَى كَذَا أَنَّهُ لَا يَقَعُ الْفُرْقَةُ مَا لَمْ تَقُلْ الْمَرْأَةُ قَبِلْت بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَتْ : اخْلَعْنِي عَلَى كَذَا فَقَالَ : قَدْ فَعَلْت ، فَإِنَّهُ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ ؛ لِأَنَّهَا إذَا لَمْ تَذْكُرْ الْبَدَلَ كَانَ كَلَامُهَا سُؤَالًا لِلْخُلْعِ لَا أَحَدَ شَطْرَيْ الْعَقْدِ إلَّا أَنَّ فِي النِّكَاحِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَذْكُرَ الْبَدَلَ وَبَيْنَ أَنْ لَا يَذْكُرَ ، فَإِنَّ وُجُوبَ الْمَهْرِ يَسْتَغْنِي عَنْ التَّسْمِيَةِ هُنَاكَ ، وَلَا يَعْتَمِدُ الرِّضَى وَوُجُوبُ الْبَدَلِ فِي الْخُلْعِ لَا يَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ التَّسْمِيَةِ وَبِاعْتِبَارِ تَمَامِ الرِّضَا ، فَلِهَذَا فَرَّقْنَا بَيْنَ مَا إذَا ذَكَرَ الْبَدَلَ وَبَيْنَ مَا إذَا لَمْ يَذْكُرْهُ وَذَكَرَ الْخَصَّافُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْحِيَلِ نَظِيرَ هَذِهِ الْحِكَايَةِ فَقَالَ : إنَّ بَعْضَ مَنْ كَانَ يَتَأَذَّى مِنْهُ
أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ كَلَامٌ فَامْتَنَعَتْ مِنْ جَوَابِهِ فَقَالَ : إنْ لَمْ تُكَلِّمِينِي اللَّيْلَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ فَسَكَتَتْ وَامْتَنَعَتْ مِنْ كَلَامِهِ فَخَافَ أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ فَطَافَ عَلَى الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي اللَّيْلِ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ حِيلَةً فَجَاءَ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَذَكَرَ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ : هَلْ أَتَيْت أُسْتَاذَك فَجَعَلَ يَعْتَذِرُ إلَيْهِ وَيَقُولُ لَا فَرَجَ لِي إلَّا مِنْ قِبَلِك فَذَكَرَ أَنَّهُ قَالَ لَهُ : اذْهَبْ فَقُلْ لِلَّذِينَ حَوْلَهَا مِنْ أَقَارِبِهَا اُدْعُوهَا فَمَاذَا أَصْنَعُ بِكَلَامِهَا ، فَإِنَّهَا أَهْوَنُ عَلَيَّ مِنْ التُّرَابِ وَأَسْمَعُهَا مِنْ هَذَا بِمَا تَقْدِرُ فَجَاءَ وَقَالَ ذَلِكَ حَتَّى ضَجِرَتْ وَقَالَتْ بَلْ أَنْتَ كَذَا وَكَذَا فَصَارَتْ مُكَلِّمَةً لَهُ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَخَرَجَ مِنْ يَمِينِهِ وَهَذِهِ الْحِكَايَةُ أَوْرَدَهَا فِي مَنَاقِبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ إنَّهُ قَالَ لِلرَّجُلِ ارْجِعْ إلَى بَيْتِك حَتَّى آتِيك فَأَتَشَفَّعَ لَك فَرَجَعَ الرَّجُلُ إلَى بَيْتِهِ وَجَاءَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَثَرِهِ فَصَعِدَ مِئْذَنَةَ مَحَلَّتِهِ وَأَذَّنَ فَظَنَّتْ الْمَرْأَةُ أَنَّ الْفَجْرَ قَدْ طَلَعَ فَقَالَتْ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانِي مِنْك فَجَاءَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى الْبَابِ وَقَالَ قَدْ بَرَّتْ يَمِينُك وَأَنَا الَّذِي أَذَّنْت أَذَانَ بِلَالٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي نِصْفِ اللَّيْلِ
قَالَ وَسُئِلَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ أَخَوَيْنِ تَزَوَّجَا أُخْتَيْنِ فَزُفَّتْ امْرَأَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى زَوْجِ أُخْتِهَا فَلَمْ يَعْلَمُوا بِذَلِكَ حَتَّى أَصْبَحُوا فَذُكِرَ ذَلِكَ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ : لِيُطَلِّقْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً ثُمَّ يَتَزَوَّجْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمَرْأَةَ الَّتِي دَخَلَ بِهَا ، وَفِي مَنَاقِبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ذُكِرَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حِكَايَةٌ أَنَّهَا وَقَعَتْ لِبَعْضِ الْأَشْرَافِ بِالْكُوفَةِ وَكَانَ قَدْ جَمَعَ الْعُلَمَاءَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ لِوَلِيمَتِهِ ، وَفِيهِمْ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَانَ فِي عِدَادِ الشَّبَابِ يَوْمَئِذٍ فَكَانُوا جَالِسِينَ عَلَى الْمَائِدَةِ إذْ سَمِعُوا وَلْوَلَةَ النِّسَاءِ فَقِيلَ : مَاذَا أَصَابَهُنَّ فَذَكَرُوا أَنَّهُمْ غَلِطُوا فَأَدْخَلُوا امْرَأَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ وَدَخَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاَلَّتِي أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ وَقَالُوا : إنَّ الْعُلَمَاءَ عَلَى مَائِدَتِكُمْ فَسَلُوهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَسَأَلُوا فَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهَا قَضَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ الْمَهْرُ وَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الْعِدَّةُ ، فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا دَخَلَ بِهَا زَوْجُهَا وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَنْكُثُ بِأُصْبُعِهِ عَلَى طَرَفِ الْمَائِدَةِ كَالْمُتَفَكِّرِ فِي شَيْءٍ فَقَالَ لَهُ مَنْ إلَى جَانِبِهِ أَبْرِزْ مَا عِنْدَك هَلْ عِنْدَك شَيْءٌ آخَرُ فَغَضِبَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ هَلْ : يَكُونُ عِنْدَهُ بَعْدَ قَضَاءِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَعْنِي فِي الْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : عَلَيَّ بِالزَّوْجَيْنِ فَأَتَى بِهِمَا فَسَارَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّهُ هَلْ تُعْجِبُك الْمَرْأَةُ الَّتِي دَخَلْت بِهَا ؟ قَالَ : نَعَمْ ثُمَّ قَالَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا : طَلِّقْ امْرَأَتَك تَطْلِيقَةً فَطَلَّقَهَا ثُمَّ زَوَّجَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمَرْأَةَ الَّتِي دَخَلَ بِهَا وَقَالَ قُومَا إلَى
أَهْلِكُمَا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ سُفْيَانُ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا هَذَا الَّذِي صَنَعْت ؟ فَقَالَ : أَحْسَنَ الْوُجُوهِ وَأَقْرَبَهَا إلَى الْأُلْفَةِ وَأَبْعَدَهَا عَنْ الْعَدَاوَةِ أَرَأَيْت لَوْ صَبَرَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى انْقَضَتْ الْعِدَّةُ أَمَا كَانَ يَبْقَى فِي قَلْبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْءٌ بِدُخُولِ أَخِيهِ بِزَوْجَتِهِ ؟ وَلَكِنِّي أَمَرْت كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَتَّى يُطَلِّقَ زَوْجَتَهُ ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ دُخُولٌ ، وَلَا خَلْوَةٌ ، وَلَا عِدَّةٌ عَلَيْهَا مِنْ الطَّلَاقِ ثُمَّ تَزَوَّجَتْ كُلُّ امْرَأَةٍ مِمَّنْ وَطِئَهَا وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ مِنْهُ وَعِدَّتُهُ لَا تَمْنَعُ نِكَاحَهُ وَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ زَوْجَتِهِ وَلَيْسَ فِي قَلْبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْءٌ فَعَجِبُوا مِنْ فِطْنَةِ أَبِي حَنِيفَةَ وَحُسْنِ تَأَمُّلِهِ ، وَفِي هَذِهِ الْحِكَايَةِ بَيَانُ فِقْهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي خَتَمَ بِهَا الْكِتَابَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
كِتَابُ الْكَسْبِ ( قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَإِذْ قَدْ أَجَبْتُكُمْ إلَى مَا سَأَلْتُمُونِي مِنْ إمْلَاءِ شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ عَلَى حَسَبِ الطَّاقَةِ ، وَقَدْرِ الْفَاقَةِ بِالْآثَارِ الْمَشْهُورَةِ وَالْإِشَارَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي تَصْنِيفَاتِ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ لِإِظْهَارِ وَجْهِ التَّأْثِيرِ وَبَيَانِ طَرِيقِ التَّقْدِيرِ رَأَيْت أَنَّ أُلْحِقَ بِهِ إمْلَاءَ شَرْحِ كِتَابِ الْكَسْبِ الَّذِي يَرْوِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ تَصْنِيفَاتِهِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَشْتَهِرْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ ذَلِكَ أَبُو حَفْصٍ ، وَلَا أَبُو سُلَيْمَانَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْحَاكِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمُخْتَصَرِ ، وَفِيهِ مِنْ الْعُلُومِ مَا لَا يَسَعُ جَهْلُهَا ، وَلَا التَّخَلُّفُ عَنْ عَمَلِهَا ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إلَّا حَثُّ الْمُفْلِسِينَ عَلَى مُشَارَكَةِ الْمُكْتَسِبِينَ فِي الْكَسْبِ لِأَنْفُسِهِمْ وَالتَّنَاوُلُ مِنْ كَدِّ يَدِهِمْ لَكَانَ يَحِقُّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ إظْهَارُ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْعُلَمَاءِ .
وَقَدْ كَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيَّنَ بَعْضَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْإِيثَارِ فِيهِ فَنَذْكُرُ مَا ذَكَرَهُ تَبَرُّكًا بِالْمَسْمُوعِ مِنْهُ وَنُلْحِقُ بِهِ مَا تَكَلَّمَ فِيهِ أَهْلُ الْأُصُولِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، وَمَا يَجُودُ بِهِ الْخَاطِرُ مِنْ الْمَعَانِي وَالْإِشَارَاتِ فَنَقُولُ الِاكْتِسَابُ فِي عُرْفِ اللِّسَانِ تَحْصِيلُ الْمَالِ بِمَا حَلَّ مِنْ الْأَسْبَابِ وَاللَّفْظُ فِي الْحَقِيقَةِ يُسْتَعْمَلُ فِي كُلِّ بَابٍ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ } وَقَالَ تَعَالَى { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } أَيْ بِجِنَايَتِكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ ، وَقَدْ سَمَّى جِنَايَةَ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ كَسْبًا وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا فِي آيَةِ السَّرِقَةِ { جَزَاءً بِمَا كَسَبَا } أَيْ
بَاشَرَا بِارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ فَعَرَفْنَا أَنَّ اللَّفْظَ مُسْتَعْمَلٌ فِي كُلِّ بَابٍ وَلَكِنْ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُفْهَمُ مِنْهُ اكْتِسَابُ الْمَالِ ثُمَّ بَدَأَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ بِقَوْلِهِ طَلَبُ الْكَسْبِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ، وَفِي رِوَايَةٍ وَقَالَ : طَلَبُ الْكَسْبِ بَعْدَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ الْفَرِيضَةُ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { طَلَبُ الْحَلَالِ كَمُقَارَعَةِ الْأَبْطَالِ ، وَمَنْ مَاتَ دَائِبًا فِي طَلَبِ الْحَلَالِ مَاتَ مَغْفُورًا } وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُقَدِّمُ دَرَجَةَ الْكَسْبِ عَلَى دَرَجَةِ الْجِهَادِ فَيَقُولُ لَأَنْ أَمُوتَ بَيْنَ شُعْبَتَيْ رَجُلٍ أَضْرِبُ فِي الْأَرْضِ ابْتَغَى مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَقْتُلَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَ الَّذِينَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى الْمُجَاهِدِينَ بِقَوْلِهِ { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } الْآيَةَ ، وَفِي الْحَدِيثِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَافَحَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَإِذَا يَدَاهُ قَدْ اكْتَبَتَا فَسَأَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : أَضْرِبُ بِالْمَرِّ وَالْمِسْحَاةِ لِأُنْفِقَ عَلَى عِيَالِي فَقَبَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ وَقَالَ كَفَّانِ يُحِبُّهُمَا اللَّهُ تَعَالَى } .
وَفِي هَذَا بَيَانٌ أَنَّ الْمَرْءَ بِاكْتِسَابِ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ يَنَالُ مِنْ الدَّرَجَاتِ أَعْلَاهَا ، وَإِنَّمَا يَنَالُ ذَلِكَ بِإِقَامَةِ الْفَرِيضَةِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى إقَامَةِ الْفَرْضِ إلَّا بِهِ فَحِينَئِذٍ كَانَ فَرْضًا بِمَنْزِلَةِ الطَّهَارَةِ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا ، أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ بِقُوَّةِ بَدَنِهِ ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ بِالْقُوتِ عَادَةً ، وَلِتَحْصِيلِ الْقُوتِ طُرُقُ الِاكْتِسَابِ أَوْ التَّغَالُبُ بِالِانْتِهَابِ وَالِانْتِهَابُ يَسْتَوْجِبُ
الْعِقَابَ ، وَفِي التَّغَالُبِ فَسَادٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ فَعَيَّنَ جِهَةَ الِاكْتِسَابِ لِتَحْصِيلِ الْقُوتِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { نَفْسُ الْمُؤْمِنِ بَطْنَتُهُ فَلْيُحْسِنْ إلَيْهَا } يَعْنِي الْإِحْسَانَ بِأَنْ لَا يَمْنَعَهَا قَدْرَ الْكِفَايَةِ ، وَإِنَّمَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِالْكَسْبِ ، كَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ إلَّا بِالطَّهَارَةِ ، وَلَا بُدَّ لِذَلِكَ مِنْ كُوزٍ يَسْتَقِي بِهِ الْمَاءَ أَوْ دَلْوٍ أَوْ رِشًا يَنْزَحُ بِهِ الْمَاءَ مِنْ الْبِئْرِ ، وَكَذَلِكَ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ إلَّا بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِثَوْبٍ ، وَلَا يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِالِاكْتِسَابِ عَادَةً وَمَا لَا يَتَأَتَّى إقَامَةُ الْفَرْضِ إلَّا بِهِ يَكُونُ فَرْضًا فِي نَفْسِهِ ثُمَّ الْكَسْبُ طَرِيقُ الْمُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِالتَّمَسُّكِ بِهُدَاهُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَبِهُدَاهُمْ اقْتَدِهِ } وَبَيَانُهُ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ اكْتَسَبَ أَبُونَا آدَم عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنْ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى } أَيْ تَتْعَبْ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ وَقَالَ مُجَاهِدٌ فِي تَفْسِيرِهِ لَا تَأْكُلْ خُبْزًا بِزَيْتٍ حَتَّى تَعْمَلَ عَمَلًا إلَى الْمَوْتِ وَفِي الْآثَارِ { أَنَّ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا أُهْبِطَ إلَى الْأَرْضِ أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْحِنْطَةِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَزْرَعَهَا فَزَرَعَهَا وَسَقَاهَا وَحَصَدَهَا وَدَرَسَهَا وَطَحَنَهَا وَخَبَزَهَا فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ حَانَ وَقْتُ الْعَصْرِ أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَالَ : إنَّ رَبَّك يُقْرِئُكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ : إنْ صُمْت بَقِيَّةَ الْيَوْمِ غَفَرْت لَك خَطِيئَتَك وَشَفَّعْتُك فِي أَوْلَادِك فَصَامَ وَكَانَ حَرِيصًا عَلَى تَنَاوُلِ ذَلِكَ الطَّعَامِ لِيَنْظُرَ يَجِدُ لَهُ مِنْ الطَّعْمِ مَا كَانَ يَجِدُ لِطَعَامِ الْجَنَّةِ } فَمِنْ ثَمَّةَ حَرَصَ الصَّائِمُونَ بَعْدَ الْعَصْرِ عَلَى تَنَاوُلِ الطَّعَامِ .
، وَكَذَا نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ نَجَّارًا يَأْكُلُ مِنْ
كَسْبِهِ وَإِدْرِيسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ خَيَّاطًا وَإِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ بَزَّارًا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { عَلَيْكُمْ بِالْبَزْرِ ، فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ بَزَّارًا } يَعْنِي الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { وَدَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِهِ } عَلَى مَا رُوِيَ { أَنَّهُ كَانَ يَخْرُجُ مُتَنَكِّرًا فَيَسْأَلُ عَنْ سِيرَةِ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ حَتَّى اسْتَقْبَلَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمًا عَلَى صُورَةِ شَابٍّ فَقَالَ لَهُ كَيْفَ تَعْرِفُ دَاوُد أَيُّهَا الْفَتَى فَقَالَ نِعْمَ الْعَبْدُ دَاوُد إلَّا أَنَّ فِيهِ خَصْلَةً قَالَ : وَمَا هِيَ ؟ قَالَ : إنَّهُ يَأْكُلُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، وَإِنَّ خَيْرَ النَّاسِ مَنْ يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِهِ فَرَجَعَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ إلَى مِحْرَابِهِ بَاكِيًا مُتَضَرِّعًا يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى وَيَقُولُ : اللَّهُمَّ عَلِّمْنِي كَسْبًا تُغْنِينِي بِهِ عَنْ بَيْتِ الْمَالِ فَعَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى صَنْعَةَ الدِّرْعِ وَلَيَّنَ لَهُ الْحَدِيدَ حَتَّى كَانَ الْحَدِيدُ فِي يَدِهِ كَالْعَجِينِ فِي يَدِ غَيْرِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ } وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ } فَكَانَ يَصْنَعُ الدِّرْعَ وَيَبِيعُ كُلَّ دِرْعٍ بِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا فَكَانَ يَأْكُلُ مِنْ ذَلِكَ وَيَتَصَدَّقُ } ، وَسُلَيْمَانُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ يَصْنَعُ الْمَكَايِيلَ مِنْ الْخُوصِ فَيَأْكُلُ مِنْ ذَلِكَ ، وَزَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ نَجَّارًا ، وَعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ غَزْلِ أُمِّهِ وَرُبَّمَا كَانَ يَلْتَقِطُ السُّنْبُلَةَ فَيَأْكُلُ مِنْ ذَلِكَ ، وَهُوَ نَوْعُ اكْتِسَابٍ .
وَنَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْعَى فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ عَلَى مَا رُوِيَ { أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَوْمًا كُنْت رَاعِيًا لِعُقْبَةَ بْنِ مُعَيْطٍ وَمَا بَعَثَ اللَّهُ نَبِيًّا إلَّا وَكَانَ رَاعِيًا } ، وَفِي حَدِيثِ { السَّائِبِ بْنِ شَرِيكٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَرِيكِي وَكَانَ خَيْرُ شَرِيكٍ لَا يُدَارِي وَلَا يُمَارِي } أَيْ : لَا يُلَاحِي ، وَلَا يُخَاصِمُ فَقِيلَ : فَبِمَاذَا كَانَتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَكُمَا فَقَالَ : فِي الْأُدْمِ وَازْدَرَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ عَلَى مَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ لِيُعْلِمَ أَنَّ الْكَسْبَ طَرِيقُ الْمُرْسَلِينَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ .
ثُمَّ الْكَسْبُ نَوْعَانِ : كَسْبٌ مِنْ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ وَكَسْبٌ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ فَالْكَاسِبُ لِنَفْسِهِ هُوَ الطَّالِبُ لِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْمُبَاحِ وَالْكَاسِبُ عَلَى نَفْسِهِ هُوَ الْبَاغِي لِمَا عَلَيْهِ فِيهِ جُنَاحٌ نَحْوَ مَا يَكُونُ مِنْ السَّارِقِ وَالنَّوْعُ الثَّانِي مِنْهُ حَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَنْ يَكْسِبْ إثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ } وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ { وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إثْمًا } الْآيَةَ ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مِنْ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ النَّوْعَ الْأَوَّلَ مِنْ الْكَسْبِ مُبَاحٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ بَلْ هُوَ فَرْضٌ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَقَالَ قَوْمٌ مِنْ جُهَّالِ أَهْلِ التَّقَشُّفِ وَحَمَاقَى أَهْلِ التَّصَوُّفِ : إنَّ الْكَسْبَ حَرَامٌ لَا يَحِلُّ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ بِمَنْزِلَةِ تَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ وَقَالُوا : إنَّ الْكَسْبَ يَنْفِي التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ يُنْقِصُ مِنْهُ ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِالتَّوَكُّلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } فَمَا يَتَضَمَّنُ نَفْيَ مَا أُمِرْنَا بِهِ مِنْ التَّوَكُّلِ يَكُونُ حَرَامًا ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَنْفِي التَّوَكُّلَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللَّهِ حَقَّ التَّوَكُّلِ لَرُزِقْتُمْ ، كَمَا يُرْزَقُ الطَّيْرُ يَغْدُو خِمَاصًا وَيَرُوحُ بِطَانًا } وَقَالَ تَعَالَى { وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } ، وَفِي هَذَا حَثٌّ عَلَى تَرْكِ الِاشْتِغَالِ بِالْكَسْبِ وَبَيَانُ أَنَّ مَا قُدِّرَ لَهُ مِنْ الْمَوْعُودِ يَأْتِيهِ لَا مَحَالَةَ .
وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ } الْآيَةَ ، وَالْخِطَابُ وَإِنْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ ، فَقَدْ أُمِرُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَتَرْكِ الِاشْتِغَالِ بِالْكَسْبِ لِطَلَبِ الرِّزْقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ } ، وَفِي الِاشْتِغَالِ بِالْكَسْبِ تَرْكُ مَا خُلِقَ الْمَرْءُ لِأَجْلِهِ وَأُمِرَ بِهِ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ { مَا أُوحِيَ إلَيَّ أَنْ أَجْمَعَ الْمَالَ وَأَكُونَ مِنْ الْمُتَاجِرِينَ ، وَإِنَّمَا أُوحِيَ إلَيَّ { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنْ السَّاجِدِينَ } الْآيَةَ } وَمَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ ذِكْرِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ التَّصَرُّفَ فِي الْمَالِ وَالْكَسْبَ بَلْ الْمُرَادُ تِجَارَةَ الْعَبْدِ مَعَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِبَذْلِ النَّفْسِ فِي طَاعَتِهِ وَالِاشْتِغَالِ بِعِبَادَتِهِ فَذَلِكَ يُسَمَّى تِجَارَةً وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ } الْآيَةَ ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ { إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ } الْآيَةَ ، وَالْمُرَادُ هَذَا النَّوْعُ ، وَهُوَ بَذْلُ النَّفْسِ لِنَيْلِ الثَّوَابِ بِالْجِهَادِ وَأَنْوَاعُ الطَّاعَةِ .
وَكَذَا قَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى آخِذَ الْمَالِ لِارْتِكَابِ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ فِي الدِّينِ بَائِعًا نَفْسَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ } وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ { اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا } وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ { النَّاسُ غَادِيَانِ بَائِعٌ نَفْسَهُ فَمُوبِقُهَا وَمُشْتَرٍ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا } ، وَإِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمْ يَشْتَغِلُوا بِالْكَسْبِ فَالْقَوْلُ مَعَ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يَلْزَمُونَ الْمَسْجِدَ فَلَا يَشْتَغِلُونَ بِالْكَسْبِ وَمُدِحُوا عَلَى ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَعْلَى الصَّحَابَةِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمْ لَمْ يَشْتَغِلُوا بِالْكَسْبِ وَهُمْ الْأَئِمَّةُ السَّادَةُ وَالْقُدْوَةُ الْقَادَةُ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ } وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا { إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ } الْآيَةَ ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ { إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ } وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا { إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً } الْآيَةَ فَفِي بَعْضِ هَذِهِ الْآيَاتِ تَنْصِيصٌ عَلَى الْحِلِّ ، وَفِي بَعْضِهَا نَدْبٌ إلَى الِاشْتِغَالِ بِالتِّجَارَةِ فَمَنْ يَقُولُ بِحُرْمَتِهَا إنَّمَا يُخَاطِبُنَا بِمَا يَفْهَمُهُ وَلَفْظُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ حَقِيقَةٌ لِلتَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ بِطَرِيقِ الِاكْتِسَابِ وَالْكَلَامُ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَةٍ لَا يَجُوزُ تَرْكُهَا إلَى نَوْعٍ مِنْ الْمَجَازِ إلَّا عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ ، كَمَا فِيمَا اسْتَشْهَدُوا بِهِ مِنْ قَوْله تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ } ، فَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمَجَازُ ، وَلَمَّا لَمْ يُوجَدْ مِثْلُ ذَلِكَ هُنَا فَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى حَقِيقَتِهِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةَ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ } وَالْمُرَادُ التِّجَارَةُ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ } يَعْنِي التِّجَارَةَ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ أَطْيَبَ مَا أَكَلْتُمْ مِنْ كَسْبِ أَيْدِيكُمْ ، وَإِنَّ أَخِي دَاوُد كَانَ يَأْكُلُ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ } وَالْمُرَادُ الْإِشَارَةُ إلَى قَوْله تَعَالَى { كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } .
وَأَقْوَى مَا تَعْتَمِدُهُ أَنَّ الِاكْتِسَابَ طَرِيقُ الْمُرْسَلِينَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، وَقَدْ قَرَّرْنَا ذَلِكَ ، وَلَا مَعْنَى لِمُعَارَضَتِهِمْ إيَّانَا فِي ذَلِكَ بِيَحْيَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ غَزْلِ أُمِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ثُمَّ يَقُولُ إنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ فِي هَذَا لَيْسَ كَغَيْرِهِمْ ، فَقَدْ بُعِثُوا لِدَعْوَةِ
النَّاسِ إلَى دِينِ الْحَقِّ وَإِظْهَارِ ذَلِكَ لَهُمْ فَكَانُوا مَشْغُولِينَ بِمَا بُعِثُوا لِأَجْلِهِ ، وَلَمْ يَشْتَغِلُوا عَامَّةَ أَوْقَاتِهِمْ بِالْكَسْبِ لِهَذَا ، وَقَدْ اكْتَسَبُوا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِيُبَيِّنُوا لِلنَّاسِ أَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَغِلَ بِهِ الْمَرْءُ وَأَنَّهُ لَا يَنْفِي التَّوَكُّلَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ، كَمَا ظَنَّهُ هَؤُلَاءِ الْجُهَّالُ ، وَقَدْ بَيَّنَ هَذَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَدِيثِهِ حَيْثُ مَرَّ بِقَوْمٍ مِنْ الْقُرَّاءِ فَرَآهُمْ جُلُوسًا قَدْ نَكَسُوا رُءُوسَهُمْ فَقَالَ : مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ فَقَالَ : هُمْ الْمُتَوَكِّلُونَ فَقَالَ : كَلًّا ، وَلَكِنَّهُمْ الْمُتَآكِلُونَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ ، أَلَا أُنَبِّئُكُمْ مَنْ الْمُتَوَكِّلُونَ ؟ فَقِيلَ : نَعَمْ ، فَقَالَ : هُوَ الَّذِي يُلْقِي الْحَبَّ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يَتَوَكَّلُ عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُ قَالَ : يَا مَعْشَرَ الْقُرَّاءِ ارْفَعُوا رُءُوسَكُمْ وَاكْتَسِبُوا لِأَنْفُسِكُمْ .
وَدَعْوَاهُمْ أَنَّ الْكِبَارَ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا لَا يَكْتَسِبُونَ دَعْوَى بَاطِلٌ ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ بَزَّارًا وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَعْمَلُ فِي الْأُدْمِ وَعُثْمَانُ كَانَ تَاجِرًا يُجْلَبُ إلَيْهِ الطَّعَامُ فَيَبِيعُهُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَكْسِبُ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ أَجَّرَ نَفْسَهُ غَيْرَ مَرَّةٍ حَتَّى أَجَّرَ نَفْسَهُ مِنْ يَهُودِيٍّ { وَقَالَ لِلْوَازِنِ : زِنْ وَارْجَحْ ، فَإِنَّ مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ هَكَذَا نَزِنُ } ، { وَبَاعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَعْبًا وَحِلْسًا مِنْ يَزِيدَ } .
{ وَاشْتَرَى نَاقَةً مِنْ أَعْرَابِيٍّ وَأَوْفَاهُ ثَمَنَهَا ثُمَّ جَحَدَ الْأَعْرَابِيُّ وَقَالَ : هَلُمَّ شَاهِدٌ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : مَنْ يَشْهَدُ لِي ؟ فَقَالَ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَا أَشْهَدُ لَك بِأَنَّك أَوْفَيْت الْأَعْرَابِيَّ ثَمَنَ النَّاقَةِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : كَيْفَ تَشْهَدُ لِي وَلَمْ تَكُنْ حَاضِرًا ؟
فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إنَّا نُصَدِّقُك فِيمَا تَأْتِينَا بِهِ مِنْ خَبَرِ السَّمَاءِ أَفَلَا نُصَدِّقُك فِيمَا تُخْبِرُ بِهِ مِنْ إيفَاءِ ثَمَنِ النَّاقَةِ ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَنْ شَهِدَ لَهُ خُزَيْمَةُ فَحَسْبُهُ } ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي قَوْله تَعَالَى { وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } فَالْمُرَادُ الْمَطَرُ الَّذِي يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ فَيَحْصُلُ بِهِ النَّبَاتُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُسَمَّى رِزْقًا عَلَى مَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ يَا ابْنَ آدَمَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرْزُقُك وَيَرْزُقُ رِزْقَك وَيَرْزُقُ رِزْقَ رِزْقِك يَعْنِي يُنْزِلُ الْمَطَرَ مِنْ السَّمَاءِ رِزْقًا لِلنَّبَاتِ ثُمَّ النَّبَاتُ رِزْقُ الْأَنْعَامِ وَالْأَنْعَامُ رِزْقٌ لِبَنِي آدَمَ ، وَلَئِنْ حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا فَنَقُولُ : فِي السَّمَاءِ رِزْقُنَا ، كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَكِنْ أَمَرَ بِاكْتِسَابِ السَّبَبِ لِيَأْتِيَنَا ذَلِكَ الرِّزْقُ عِنْدَ الِاكْتِسَابِ .
بَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا يُؤْثَرُ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ : { عَبْدِي حَرِّكْ يَدَك أُنْزِلْ عَلَيْك الرِّزْقَ } ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى مَرْيَمَ بِهَزِّ النَّخْلَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَهُزِّي إلَيْك } الْآيَةَ ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَرْزُقَهَا مِنْ غَيْرِ هَزٍّ مِنْهَا ، كَمَا كَانَ يَرْزُقُهَا فِي الْمِحْرَابِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ } الْآيَةَ ، وَإِنَّمَا أَمَرَهَا بِذَلِكَ لِيَكُونَ بَيَانًا لِلْعِبَادِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ لَا يَدَعُوا اكْتِسَابَ السَّبَبِ ، وَإِنْ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الرَّزَّاقُ ، وَهَذَا نَظِيرُ الْخَلْقِ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لَا مِنْ سَبَبٍ ، وَلَا فِي سَبَبٍ كَمَا خَلَقَ آدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ يَخْلُقُ لَا مِنْ سَبَبٍ ، وَلَا فِي سَبَبٍ كَمَا خَلَقَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَقَدْ يَخْلُقُ مِنْ سَبَبٍ فِي سَبَبٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا النَّاس إنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ } الْآيَةَ ، ثُمَّ الِاشْتِغَالُ بِالنِّكَاحِ
وَطَلَبُ الْوَلَدِ لَا يَنْفِي يَقِينَ الْعَبْدِ بِأَنَّ الْخَالِقَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَكَذَا أَمْرُ الرِّزْقِ لِيُعْلِمَ أَنَّ مَنْ يَزْعُمُ أَنَّ حَقِيقَةَ التَّوَكُّلِ فِي تَرْكِهِ الْكَسْبَ ، فَهُوَ مُخَالِفٌ لِلشَّرِيعَةِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي { قَوْلِهِ لِلسَّائِلِ الَّذِي قَالَ : أُرْسِلُ نَاقَتِي وَأَتَوَكَّلُ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا بَلْ اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ } .
وَنَظِيرُ هَذَا الدُّعَاءِ ، فَقَدْ أُمِرْنَا بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ مَا قُدِّرَ لِأَحَدٍ ، فَهُوَ يَأْتِيهِ لَا مَحَالَةَ ثُمَّ أَحَدٌ لَا يَتَطَرَّقُ بِهَذَا إلَى تَرْكِ السُّؤَالِ وَالدُّعَاءِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ كَانُوا يَسْأَلُونَ الْجَنَّةَ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُدْخِلُهُمْ الْجَنَّةَ ، وَقَدْ وَعَدَهُمْ ذَلِكَ ، وَهُوَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ وَكَانُوا يَأْمَنُونَ الْعَاقِبَةَ ثُمَّ كَانُوا يَسْأَلُونَ اللَّهَ تَعَالَى ذَلِكَ فِي دُعَائِهِمْ وَكَذَا أَمْرُ الشِّفَاءِ فَالشَّافِي هُوَ اللَّهُ ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِالْمُدَاوَاةِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { تَدَاوَوْا عِبَادَ اللَّهِ ، فَإِنَّ اللَّهَ مَا خَلَقَ دَاءً إلَّا وَخَلَقَ لَهُ دَوَاءً إلَّا السَّامُّ أَوْ قَالَ الْهَرَمُ } ، وَقَدْ { فَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ حِينَ دَاوَى مَا أَصَابَهُ مِنْ الْجِرَاحَةِ فِي وَجْهِهِ } ثُمَّ اكْتِسَابُ السَّبَبِ بِالْمُدَاوَاةِ لَا يَنْفِي التَّيَقُّنَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الشَّافِي فَكَذَا اكْتِسَابُ سَبَبِ الرِّزْقِ بِالتَّحَرُّكِ لَا يَنْفِي التَّيَقُّنَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الرَّازِقُ وَالْعَجَبُ مِنْ الصُّوفِيَّةِ أَنَّهُمْ لَا يَمْتَنِعُونَ مِنْ تَنَاوُلِ طَعَامِ مَنْ أَطْعَمَهُمْ مِنْ كَسْبِ يَدِهِ وَرِبْحِ تِجَارَتِهِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ ، فَلَوْ كَانَ الِاكْتِسَابُ حَرَامًا لَكَانَ الْمَالُ الْحَاصِلُ بِهِ حَرَامَ التَّنَاوُلِ ؛ لِأَنَّ مَا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ بِارْتِكَابِ الْحَرَامِ يَكُونُ حَرَامًا .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ بَيْعَ
الْخَمْرِ لِلْمُسْلِمِ لَمَّا كَانَ حَرَامًا كَانَ تَنَاوُلُ ثَمَنِهَا حَرَامًا وَحَيْثُ لَمْ يَمْتَنِعْ أَحَدٌ مِنْهُمْ مِنْ التَّنَاوُلِ عَرَفْنَا أَنَّ قَوْلَهُمْ مِنْ نَتِيجَةِ الْجَهْلِ وَالْكَسَلِ ثُمَّ الْمَذْهَبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ الْكَسْبَ بِقَدْرِ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ فَرِيضَةٌ وَقَالَتْ الْكَرَّامِيَّةُ بَلْ هُوَ مُبَاحٌ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَكُونَ فَرْضًا فِي كُلِّ وَقْتٍ أَوْ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى أَنْ لَا يَتَفَرَّغَ أَحَدٌ عَنْ أَدَاءِ هَذِهِ الْفَرِيضَةِ لِيَشْتَغِلَ بِغَيْرِهَا مِنْ الْفَرَائِضِ وَالْوَاجِبَاتِ وَالثَّانِي بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ مَا يَكُونُ فَرْضًا فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ شَرْعًا يَكُونُ مُضَافًا إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ ، وَلَمْ يَرِدْ الشَّرْعُ بِإِضَافَةِ الْكَسْبِ إلَى وَقْتٍ مَخْصُوصٍ ثُمَّ لَا يَخْلُوا إمَّا أَنْ يَكُونَ فَرْضًا لِرَغْبَةِ النَّاسِ إلَيْهِ أَوْ لِلضَّرُورَةِ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ ، فَإِنَّ الرَّغْبَةَ ثَابِتَةٌ فِي جَمِيعِ مَا فِي الدُّنْيَا مِنْ الْأَمْوَالِ وَأَحَدٌ لَا يَقُولُ يُفْتَرَضُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ تَحْصِيلُ جَمِيعِ ذَلِكَ وَالثَّانِي بَاطِلٌ أَيْضًا ، فَإِنَّ مَا يُفْتَرَضُ لِلضَّرُورَةِ إنَّمَا يُفْتَرَضُ عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ وَبَعْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ يَعْجِزُ عَنْ الْكَسْبِ فَكَيْفَ تَتَأَخَّرُ فَرِيضَتُهُ إلَى حَالِ عَجْزِهِ ؟ وَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُفْتَرَضَ جَمِيعُ أَنْوَاعِهِ أَوْ نَوْعٌ مَخْصُوصٌ مِنْهُ وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ ، فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ مَا اشْتَغَلُوا بِالْكَسْبِ فِي عَامَّةِ أَوْقَاتِهِمْ وَكَذَا أَعْلَامُ الصَّحَابَةِ ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْأَخْيَارِ ، وَلَا يُظَنُّ بِهِمْ أَنَّهُمْ اجْتَمَعُوا عَلَى تَرْكِ مَا هُوَ فَرْضٌ عَلَيْهِمْ وَالثَّانِي بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَعْضُ النَّاسِ بِتَخْصِيصِهِ بِهَذَا الْفَرِيضَةِ بِأَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْكَسْبَ لَيْسَ بِفَرْضٍ أَصْلًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَصْلُهُ فَرْضًا لَكَانَ
الِاسْتِكْثَارُ مِنْهُ مَنْدُوبًا إلَيْهِ وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعِبَادَاتِ وَالِاسْتِكْثَارُ مِنْهُ مَذْمُومٌ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } إلَى قَوْلِهِ { عَذَابٌ شَدِيدٌ } وَبِهَذَا الْحَرْفِ يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ طَلَبِ أَهْلِ الْعِلْمِ ، فَإِنَّ أَصْلَهُ لَمَّا كَانَ فَرْضًا كَانَ الِاسْتِكْثَارُ مِنْهُ مَنْدُوبًا إلَيْهِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ } وَالْأَمْرُ حَقِيقَةٌ لِلْوُجُوبِ ، وَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِنْفَاقُ مِنْ الْمَكْسُوبِ إلَّا بَعْدَ الْكَسْبِ وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى إقَامَةِ الْفَرْضِ إلَّا بِهِ يَكُونُ فَرْضًا وَقَالَ تَعَالَى { فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا } الْآيَةَ يَعْنِي الْكَسْبَ وَالْأَمْرُ حَقِيقَةٌ لِلْوُجُوبِ فَإِنْ قِيلَ : قَدْ رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَمَكْحُولٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُمَا قَالَا الْمُرَادُ طَلَبُ الْعِلْمِ قُلْنَا مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْسِيرِ مَرْوِيٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِنَّهُ قَالَ { طَلَبُ الْكَسْبِ بَعْدَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ هِيَ الْفَرِيضَةُ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ وَتَلَا قَوْله تَعَالَى { فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ } } فَلَا يُتْرَكُ ذَلِكَ بِقَوْلِ مَكْحُولٍ وَمُجَاهِدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَالظَّاهِرُ يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا بِدَلِيلِ مَا ذُكِرَ بَعْدَهُ { وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً } الْآيَةَ وَكَانُوا انْفَضُّوا بِذَلِكَ فِي حَالِ خُطْبَتِهِ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ وَأُمِرُوا بِهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ .
فَإِنْ قِيلَ : الْأَمْرُ بَعْدَ النَّهْيِ يُفِيدُ الْإِبَاحَةَ .
قُلْنَا : الْأَمْرُ حَقِيقَةٌ لِلْإِيجَابِ ، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ هُوَ الْإِبَاحَةُ وَالرُّخْصَةُ لَقَالَ : فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ، كَمَا قَالَ فِي بَابِ طَرِيقِ الْحَجِّ { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ } وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى الْعِيَالِ مِنْ الزَّوْجَاتِ وَالْأَوْلَادِ وَالْمُعْتَدَّاتِ ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ
الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ إلَّا بِتَحْصِيلِ الْمَالِ بِالْكَسْبِ وَمَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى أَدَاءِ الْوَاجِبِ يَكُونُ وَاجِبًا وَالْمَعْقُولُ يَشْهَدُ لَهُ ، فَإِنَّ فِي الْكَسْبِ نِظَامُ الْعَالَمِ وَاَللَّهُ تَعَالَى حَكَمَ بِبَقَاءِ الْعَالَمِ إلَى حِينِ فِنَائِهِ وَجَعَلَ سَبَبَ الْبَقَاءِ وَالنِّظَامِ كَسْبَ الْعِبَادِ ، وَفِي تَرْكِهِ تَخْرِيبَ نِظَامِهِ ، وَذَلِكَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ فَإِنْ قِيلَ : فَبَقَاءُ هَذَا النِّظَامِ يَتَعَلَّقُ التَّسَافُدِ بَيْنَ الْحَيَوَانِ وَأَحَدٌ لَا يَقُولُ : بِفَرْضِيَّةِ ذَلِكَ .
قُلْنَا : نَعَمْ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ الْبَقَاءَ بِتَسَافُدِ الْحَيَوَانَاتِ وَرَكَّبَ الشَّهْوَةَ فِي طِبَاعِهِمْ وَتِلْكَ الشَّهْوَةُ تَحْمِلُهُمْ عَلَى مُبَاشَرَةِ ذَلِكَ الْفِعْلِ فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ فَرْضًا عَلَيْهِمْ لِكَيْ لَا يَمْتَنِعُوا مِنْ ذَلِكَ ، فَإِنَّ الطَّبْعَ دَاعٍ إلَى اقْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ .
فَأَمَّا الِاكْتِسَابُ فِي الِابْتِدَاءِ فَكَدٌّ وَتَعَبٌ ، وَقَدْ تَعَلَّقَ بِهِ بَقَاءُ نِظَامِ الْعَالَمِ ، فَلَوْ لَمْ يَجْعَلْ أَصْلَهُ فَرْضًا لَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَنْ آخِرِهِمْ عَلَى تَرْكِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي طَبْعِهِمْ مَا يَدْعُوا إلَى الْكَدِّ وَالتَّعَبِ فَجَعَلَ الشَّرْعُ أَصْلَهُ فَرْضًا لِكَيْ لَا يَجْتَمِعُوا عَلَى تَرْكِهِ فَيَحْصُلَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَجَمِيعُ مَا ذَكَرُوا مِنْ التَّقْسِيمَاتِ يَبْطُلُ بِمَا أَشَارَ إلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ طَلَبُ الْكَسْبِ فَرِيضَةٌ ، كَمَا أَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ .
فَإِنَّ هَذِهِ التَّقْسِيمَاتِ تَأْتِي فِي الْعِلْمِ وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ أَصْلُهُ فَرْضًا بِالِاتِّفَاقِ فَكَذَلِكَ طَلَبُ الْكَسْبِ وَكَانَ مَعْنَى الْفَرِيضَةِ مَا بَيَّنَّا مِنْ بَقَاءِ نِظَامِ الْعَالَمِ بِهِ ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الِاسْتِكْثَارِ مِنْهُ عَلَى قَصْدِ التَّكَاثُرِ وَالتَّفَاخُرِ ، وَإِنَّمَا ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى الِاسْتِكْثَارَ إذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ { وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ }
ثُمَّ يَنْبَنِي عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَسْأَلَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهُ بَعْدَ مَا اكْتَسَبَ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ هَلْ الِاشْتِغَالُ بِالِاكْتِسَابِ أَفْضَلُ أَمْ التَّفَرُّغُ لِلْعِبَادَةِ ؟ قَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ : الِاشْتِغَالُ بِالْكَسْبِ أَفْضَلُ ، وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ عَلَى أَنَّ التَّفَرُّغَ لِلْعِبَادَةِ أَفْضَلُ ، وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ مَنْفَعَةَ الِاكْتِسَابِ أَعَمُّ ، فَإِنَّ مَا يَكْتَسِبُهُ الزَّارِعُ تَصِلُ مَنْفَعَتُهُ إلَى الْجَمَاعَةِ عَادَةً ، وَاَلَّذِي يَشْتَغِلُ بِالْعِبَادَةِ إنَّمَا يَنْفَعُ نَفْسَهُ ؛ لِأَنَّهُ بِفِعْلِهِ يُحَصِّلُ النَّجَاةَ لِنَفْسِهِ وَيُحَصِّلُ الثَّوَابَ لِجِسْمِهِ وَمَا كَانَ أَعَمَّ نَفْعًا .
، فَهُوَ أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { خَيْرُ النَّاسِ مَنْ يَنْفَعُ النَّاسَ } ، وَلِهَذَا كَانَ الِاشْتِغَالُ بِطَلَبِ الْعِلْمِ أَفْضَلُ مِنْ التَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ ذَلِكَ أَعَمُّ ، وَلِهَذَا كَانَتْ الْإِمَارَةُ وَالسَّلْطَنَةُ بِالْعَدْلِ أَفْضَلُ مِنْ التَّخَلِّي لِلْعِبَادَةِ ، كَمَا اخْتَارَهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَعَمُّ نَفْعًا وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ { الْعِبَادَةُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ } وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الْجِهَادُ عَشَرَةُ أَجْزَاءٍ تِسْعَةٌ مِنْهَا فِي طَلَبِ الْحَلَالِ لِلْإِنْفَاقِ عَلَى الْعِيَالِ } وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ بِالْكَسْبِ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ مِنْ الْجِهَادِ وَالْحَجِّ وَالصَّدَقَةِ وَبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ وَالْإِحْسَانِ إلَى الْأَقَارِبِ وَالْأَجَانِبِ ، وَفِي التَّفَرُّغِ لِلْعِبَادَةِ لَا يَتَمَكَّنُ إلَّا مِنْ أَدَاءِ بَعْضِ الْأَنْوَاعِ كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ .
وَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَالرُّسُلَ مَا اشْتَغَلُوا بِالْكَسْبِ فِي عَامَّةِ الْأَوْقَاتِ ، وَلَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ أَنَّ اشْتِغَالَهُمْ بِالْعِبَادَةِ فِي عُمْرِهِمْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ اشْتِغَالِهِمْ بِالْكَسْبِ
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمْ كَانُوا يَخْتَارُونَ لِأَنْفُسِهِمْ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ أَعْلَى مَنَاهِجِ الدِّينِ طَرِيقُ الْمُرْسَلِينَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَكَذَا النَّاسُ فِي الْعَادَةِ إذَا أَحْرَجَهُمْ أَمْرٌ يَحْتَاجُونَ إلَى دَفْعِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ يَشْتَغِلُونَ بِالْعِبَادَاتِ لَا بِالْكَسْبِ وَالنَّاسُ إنَّمَا يَتَقَرَّبُونَ إلَى الْعُبَّادِ دُونَ الْمُكْتَسِبِينَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الِاكْتِسَابَ يَصِحُّ مِنْ الْكَافِرِ وَالْمُسْلِمِ جَمِيعًا فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ الْقَوْلُ بِتَقْدِيمِهِ عَلَى مَا لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ خَاصَّةً وَهِيَ الْعِبَادَةُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ قَالَ أَحْمَزُهَا } أَيْ أَشَقُّهَا عَلَى الْبَدَنِ ، وَإِنَّمَا أَشَارَ بِهَذَا إلَى أَنَّ الْمَرْءَ يَنَالُ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ بِمَنْعِ النَّفْسِ هَوَاهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَنَهَى النَّفْسَ عَنْ الْهَوَى } الْآيَةَ وَالِاشْتِغَالُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فِي الِانْتِهَاءِ وَالدَّوَامُ فِي الْعِبَادَاتِ فَأَمَّا الْكَسْبُ فَفِيهِ بَعْضُ التَّعَبِ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَلَكِنَّهُ فِيهِ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ فِي الِانْتِهَاءِ وَتَحْصِيلُ مُرَادِ النَّفْسِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَوْلِ بِأَنَّ مَا يَكُونُ بِخِلَافِ هَوَى النَّفْسِ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً ، فَهُوَ أَفْضَلُ ، وَلَا يَدْخُلُ فِي شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا النِّكَاحُ ، فَإِنَّ الِاشْتِغَالَ بِالنِّكَاحِ أَفْضَلُ عِنْدَنَا مِنْ التَّخَلِّي لِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ أَفْضَلَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَكْثِيرِ عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى وَأُمَّةِ رَسُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَحْقِيقِ مُبَاهَاةِ رَسُولِ اللَّهِ بِهِمْ ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هُنَا فَكَانَ التَّفَرُّغُ لِلْعِبَادَةِ أَفْضَلَ مِنْ الِاشْتِغَالِ بِالْكَسْبِ بَعْد مَا يُحَصِّلُ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ
، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى اخْتَلَفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَهِيَ أَنَّ صِفَةَ الْفَقْرِ أَعْلَى أَمْ صِفَةَ الْغِنَى وَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ صِفَةَ الْفَقْرِ أَعْلَى وَقَالَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ : صِفَةُ الْغِنَى أَعْلَى ، وَقَدْ أَشَارَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْكَسْبِ فِي مَوْضِعَيْنِ إلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ مَذْهَبِنَا فَقَالَ فِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ قَنَعُوا بِمَا يَكْفِيهِمْ وَعَمَدُوا إلَى الْفُضُولِ فَوَجَّهُوهَا لِأَمْرِ آخِرَتِهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَقَالَ فِي الْمَوْضِعِ الْآخَرِ وَمَا زَادَ عَلَى مَا لَا بُدَّ مِنْهُ يُحَاسَبُ عَلَيْهِ الْمَرْءُ ، وَلَا يُحَاسَبُ أَحَدٌ عَلَى الْفَقْرِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا لَا يُحَاسَبُ الْمَرْءُ عَلَيْهِ يَكُونُ أَفْضَلَ مِمَّا يُحَاسَبُ الْمَرْءُ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا مَنْ فَضَّلَ الْغِنَى فَاحْتَجَّ وَقَالَ : الْغِنَى نِعْمَةٌ وَالْفَقْرُ بُؤْسٌ وَنِقْمَةٌ وَمِحْنَةٌ ، وَلَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ أَنَّ النِّعْمَةَ أَفْضَلُ مِنْ النِّقْمَةِ وَالْمِحْنَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْمَالَ فَضْلًا فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ { وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } وَقَالَ تَعَالَى { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ } وَمَا هُوَ فَضْلُ اللَّهِ ، فَهُوَ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ وَسُمِّيَ الْمَالُ خَيْرًا فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ { إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ } ، وَهَذَا اللَّفْظُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ عِنْدِهِ .
وَقَالَ تَعَالَى { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُد مِنَّا فَضْلًا } يَعْنِي الْمُلْكَ وَالْمَالَ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُ مِائَةُ سُرِّيَّةٍ فَتَمَنَّى مِنْ اللَّهِ تَعَالَى الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ { رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي } ، وَلَا يُظَنُّ بِأَحَدٍ مِنْ الرُّسُلِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ أَنَّهُ سَأَلَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى الدَّرَجَةَ الدُّنْيَا دُونَ الدَّرَجَةِ الْعُلْيَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الْأَيْدِي ثَلَاثَةٌ يَدُ
اللَّهِ ثُمَّ الْيَدُ الْمُعْطِيَةُ ثُمَّ الْيَدُ الْمُعْطَاةُ وَهِيَ السُّفْلَى إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى } وَالْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْيَدُ الْمُعْطِيَةُ وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ { رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّك إنْ تَدَعْ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ } وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي مَرَضِهِ إنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إلَيَّ غِنًى أَنْتِ وَأَعَزَّهُمْ عَلَيَّ فَقْرًا أَنْتِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صِفَةَ الْغِنَى أَعْلَى مِنْ صِفَةِ الْفَقْرِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا } وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ الْفَقْرِ إلَّا إلَيْك } وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ الْبُؤْسِ وَالتَّبَاؤُسِ } الْبُؤْسُ : الْفَقْرُ وَالتَّبَاؤُسُ : التَّمَسْكُنُ وَلَا يُظَنُّ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَتَعَوَّذُ بِاَللَّهِ مِنْ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْفَقْرَ أَسْلَمُ لِلْعِبَادِ وَأَعْلَى الدَّرَجَاتِ لِلْعَبْدِ مَا يَكُونُ أَسْلَمَ لَهُ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَسْلَمُ بِالْفَقْرِ مِنْ طُغْيَانِ الْغِنَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { كَلًّا إنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى } الْآيَةَ ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ { الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ } الْآيَةَ ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ الطُّغْيَانِ الْأَغْنِيَاءُ يَعْنِي الَّذِينَ ادَّعَوْا مَا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ الْبَشَرِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ أَحَدًا مِنْ الْفُقَرَاءِ وَقَعَ فِي ذَلِكَ فَدَلَّ أَنَّ الْفَقْرَ أَسْلَمُ ثُمَّ صِفَةُ الْغِنَى مِمَّا تَمِيلُ إلَيْهِ النَّفْسُ وَيَدْعُو إلَيْهِ الطَّبْعُ وَيُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى اقْتِضَاءِ الشَّهَوَاتِ ، وَلَا يُتَوَصَّلُ بِالْفَقْرِ إلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَأَعْلَى الدَّرَجَاتِ مَا يَكُونُ أَبْعَدَ مِنْ اقْتِضَاءِ الشَّهَوَاتِ وَقَالَ تَعَالَى { وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ
فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا { زُيِّنَ لِلنَّاسِ } الْآيَةَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { حُفَّتْ الْجَنَّةُ بِالْمَكَارِهِ وَحُفَّتْ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ } وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الْفَقْرُ أَزْيَنُ بِالْمُؤْمِنِ مِنْ الْعِدَاءِ الْجَيِّدِ عَلَى جَيِّدِ الْفَرَسِ } وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنَّ فُقَرَاءَ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَائِهِمْ بِنِصْفِ يَوْمٍ ، وَهُوَ خَمْسُمِائَةِ عَامٍ } ، وَفِي الْآثَارِ { إنَّ آخِرَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ دُخُولًا الْجَنَّةَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِمُلْكِهِ } { وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمًا لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَا أَبْطَأَك عَنِّي يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ قَالَ : وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : إنَّك آخِرُ أَصْحَابِي لُحُوقًا بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَقُولُ مَا حَبَسَك عَنِّي فَتَقُولُ : الْمَالُ ، كُنْت مُحَاسِبًا مَحْبُوسًا حَتَّى الْآنَ } وَكَانَ هُوَ مِنْ الْعَشَرَةِ الَّذِينَ شَهِدَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ ، وَقَدْ قَاسَمَ اللَّهَ مَالَهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَتَصَدَّقَ بِالنِّصْفِ وَأَمْسَكَ النِّصْفَ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَكَانَ مَالُهُ ثَمَانِيَةَ آلَافٍ فَتَصَدَّقَ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ ، وَفِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ كَانَ ثَمَانِيَةَ آلَافِ دِينَارٍ فَتَصَدَّقَ بِنِصْفِهَا ، وَفِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ كَانَ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفِ دِينَارٍ فَتَصَدَّقَ بِنِصْفِهَا ، وَفِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ كَانَ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ دِينَارٍ فَتَصَدَّقَ بِنِصْفِهَا وَمَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي حَقِّهِ مَا قَالَ فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ صِفَةَ الْفَقْرِ أَفْضَلُ .
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { عُرِضَ عَلَيَّ مَفَاتِيحُ خَزَائِنِ الْأَرْضِ فَاسْتَفْتَيْت أَخِي جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ فَأَشَارَ إلَيَّ بِالتَّوَاضُعِ فَقُلْت : أَكُونُ عَبْدًا أَجُوعُ يَوْمًا وَأَشْبَعُ يَوْمًا ، فَإِذَا جُعْت صَبَرْت ، وَإِذَا شَبِعْت شَكَرْت } وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ {
اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ } ، وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ لِنَفْسِهِ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ وَأَنَّ الْأَفْضَلَ لَنَا مَا سَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَا حَظُّكُمْ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ وَأَنْتُمْ حَظِّي مِنْ الْأُمَمِ } فَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْنَا التَّمَسُّكُ بِهَذَا .
وَيَتَبَيَّنُ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تَعَوَّذَ مِنْ الْفَقْرِ الْمُطْلَقِ ، وَإِنَّمَا تَعَوَّذَ مِنْ الْفَقْرِ الْمُنْسِي عَلَى مَا رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ { اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ فَقْرٍ مُنْسٍ ، وَمِنْ غِنًى يُطْغِي } إلَّا أَنَّهُ قَيَّدَ السُّؤَالَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَمُرَادُهُ ذَلِكَ أَيْضًا وَلَكِنْ مَنْ سَمِعَ اللَّفْظَ مُطْلَقًا نَقَلَهُ ، كَمَا سَمِعَ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى مَسْأَلَةٍ أُخْرَى
اخْتَلَفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ ، وَهُوَ أَنَّ الشُّكْرَ عَلَى الْغِنَى أَفْضَلُ أَمْ الصَّبْرُ عَلَى الْفَقْرِ وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقَاوِيلَ فَمِنْهُمْ مَنْ تَوَقَّفَ فِي جَوَابِهَا لِتَعَارُضِ الْآثَارِ وَقَالَ إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَوَقَّفَ فِي أَطْفَالِ الْمُشْرِكِينَ لِتَعَارُضِ الْآثَارِ فِيهِمْ وَقَالَ إذًا فَيُقْتَدَى بِهِ وَيُتَوَقَّفُ فِي هَذَا الْفَصْلِ لِتَعَارُضِ الْآثَارِ أَيْضًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُمَا سَوَاءٌ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الطَّاعِمُ الشَّاكِرُ كَالْجَائِعِ الصَّابِرِ } ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْنَى فِي كِتَابِهِ عَلَى عَبْدَيْنِ وَأَثْنَى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِعْمَ الْعَبْدُ أَحَدُهُمَا أَنْعَمَ عَلَيْهِ فَشَكَرَ ، وَهُوَ دَاوُد قَالَ اللَّهُ { وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ } الْآيَةَ وَالْآخَرُ اُبْتُلِيَ فَصَبَرَ ، وَهُوَ أَيُّوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا } الْآيَةَ فَعَرَفْنَا أَنَّهُمَا سَوَاءٌ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : الشُّكْرُ عَلَى الْغِنَى أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ نِعْمَةٍ } وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَوْ أَنَّ جَمِيعَ الدُّنْيَا صَارَتْ لُقْمَةً فَتَنَاوَلَهَا عَبْدٌ وَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ كَانَ بِمَا أَتَى بِهِ خَيْرًا مِمَّا أُوتِيَ } يَعْنِي لِمَا فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنْ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى .
وَتَبَيَّنَ بِالْحَدِيثِ الْأَوَّلِ أَنَّ الشُّكْرَ يَكُونُ بِالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ أَفْضَلَ مِنْ الصَّبْرِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى { اعْمَلُوا آلَ دَاوُد شُكْرًا } ، وَهَذَا يَعُمُّ جَمِيعَ الطَّاعَاتِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا يَعُمُّ جَمِيعَ الطَّاعَاتِ ، فَهُوَ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الصَّبْرِ عَلَى الْفَقْرِ وَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى الْفَقْرِ أَفْضَلُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الصَّبْرُ نِصْفُ الْإِيمَانِ } وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الصَّبْرُ مِنْ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ الرَّأْسِ مِنْ
الْجَسَدِ } ، وَلِأَنَّ فِي الْفَقْرِ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ وَالصَّبْرُ عَلَى الِابْتِلَاءِ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ الشُّكْرِ عَلَى النِّعْمَةِ ، يُعْتَبَرُ هَذَا بِسَائِرِ أَنْوَاعِ الِابْتِلَاءِ ، فَإِنَّ الصَّبْرَ عَلَى أَلَمِ الْمَرَضِ يَكُونُ أَعْظَمَ فِي الثَّوَابِ مِنْ الشُّكْرِ عَلَى صِحَّةِ الْبَدَنِ ، وَكَذَلِكَ الصَّبْرُ عَلَى الْعَمَى أَفْضَلُ مِنْ الشُّكْرِ عَلَى الْبَصَرِ { قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا يُؤْثَرُ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ أَخَذْت كَرِيمَتَهُ وَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ فَلَا جَزَاءَ لَهُ عِنْدِي إلَّا الْجَنَّةَ أَوْ قَالَ الْجَنَّةُ وَالرُّؤْيَةُ } ، وَهَذَا الْفِقْهُ ، وَهُوَ أَنَّ لِلْمُؤْمِنِ ثَوَابًا فِي نَفْسِ الْمُصِيبَةِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { يُؤْجَرُ الْمُؤْمِنُ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الشَّوْكَةِ تُشَاكِهِ فِي رِجْلِهِ } وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ { أَنَّ مَاعِزًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أَصَابَهُ حَرُّ الْحِجَارَةِ هَرَبَ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ نَوْعَ اضْطِرَابٍ ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ قَالَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ : لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ تَوْبَتُهُ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْأَرْضِ لَوَسِعَتْهُمْ } فَعَرَفْنَا أَنَّ نَفْسَ الْمُصِيبَةِ لِلْمُؤْمِنِ ثَوَابٌ ، وَفِي الصَّبْرِ عَلَيْهَا ثَوَابٌ أَيْضًا فَأَمَّا نَفْسُ الْغِنَى فَلَا ثَوَابَ فِيهِ ، وَإِنَّمَا الثَّوَابُ فِي الشُّكْرِ عَلَى الْغِنَى وَمَا يُنَالُ بِهِ الثَّوَابُ مِنْ الْوَجْهَيْنِ يَكُونُ أَعْلَى مِمَّا يُنَالُ فِيهِ الثَّوَابُ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ ، وَكَمَا أَنَّ فِي الشُّكْرِ عَلَى الْغِنَى ثَنَاءً عَلَى اللَّهِ تَعَالَى فَفِي الصَّبْرِ عَلَى الْمُصِيبَةِ كَذَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ } الْآيَةَ .
وَحُكِيَ أَنَّ غَنِيًّا وَفَقِيرًا تَنَاظَرَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ الْغَنِيُّ الشَّاكِرُ : أَنَا أَفْضَلُ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَقْرَضَ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ } الْآيَةَ وَقَالَ الْفَقِيرُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى إنَّمَا اسْتَقْرَضَ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ لِلْفُقَرَاءِ ، وَقَدْ يَسْتَقْرِضُ مِنْ الْخَبِيثِ وَغَيْرِ الْخَبِيثِ ، وَلَا يُسْتَقْرَضُ إلَّا
الْأَجَلُّ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْغَنِيَّ يَحْتَاجُ إلَى الْفَقِيرِ ، وَلَا يَحْتَاجُ الْفَقِيرُ إلَى الْغَنِيِّ ؛ لِأَنَّ الْغَنِيَّ يَلْزَمُهُ أَدَاءُ حَقِّ الْمَالِ ، فَلَوْ اجْتَمَعَ الْفُقَرَاءُ عَنْ آخِرِهِمْ عَلَى أَنْ لَا يَأْخُذُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُجْبَرُوا عَلَى الْأَخْذِ وَيُحْمَدُونَ شَرْعًا عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ الْأَخْذِ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْأَغْنِيَاءُ مِنْ إسْقَاطِ الْوَاجِبِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَاَللَّهُ تَعَالَى يُوصِلُ الْفُقَرَاءَ كِفَايَتَهُمْ عَلَى حَسَبِ مَا ضَمِنَ لَهُمْ فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْأَغْنِيَاءَ هُمْ الَّذِينَ يَحْتَاجُونَ إلَى الْفُقَرَاءِ وَالْفُقَرَاءُ لَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِمْ بِخِلَافِ مَا ظَنَّهُ مَنْ يَعْتَبِرُ الظَّاهِرَ وَلَا يَتَأَمَّلُ فِي الْمَعْنَى ، وَيَتَّضِحُ بِمَا قَرَّرْنَا أَنَّ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ أَفْضَلُ مِنْ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ
ثُمَّ الْكَسْبُ عَلَى مَرَاتِبَ فَمِقْدَارُ مَا لَا بُدَّ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْهُ يَعْنِي مَا يُقِيمُ بِهِ صُلْبَهُ يُفْتَرَضُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ اكْتِسَابُهُ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى إقَامَةِ الْفَرَائِضِ إلَّا بِهِ وَمَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى إقَامَةِ الْفَرَائِضِ يَكُونُ فَرْضًا فَإِنْ لَمْ يَكْتَسِبْ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ ، فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَنْ أَصْبَحَ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي بَدَنِهِ ، وَعِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا } { وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِابْنِ خُنَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا يَعِظُهُ لُقْمَةٌ تَسُدُّ بِهَا جَوْعَتَك وَخِرْقَةٌ تُوَارِي بِهَا سَوْأَتَك فَإِنْ كَانَ لَك كِنٌّ يَكُنُّك فَحَسَنٌ ، وَإِنْ كَانَ لَك دَابَّةٌ تَرْكَبُهَا بَخٍ بَخٍ } وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَالِاكْتِسَابُ بِقَدْرِ مَا يَقْضِي بِهِ دَيْنَهُ فَرْضٌ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ إنْ كَانَ غَنِيًّا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الدَّيْنُ مَقْضِيٌّ وَبِالِاكْتِسَابِ يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ } وَكَذَا إنْ كَانَ لَهُ عِيَالٌ مِنْ زَوْجَةٍ وَأَوْلَادٌ صِغَارٌ ، فَإِنَّهُ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ الْكَسْبُ بِقَدْرِ كِفَايَتِهِمْ غَنِيًّا ؛ لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَى زَوْجَتِهِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ } مَعْنَاهُ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ وُجْدِكُمْ وَهَكَذَا فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ } الْآيَةَ ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ { وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ } الْآيَةَ .
وَإِنَّمَا يُتَوَصَّلُ إلَى إيفَاءِ هَذَا الْمُسْتَحَقِّ بِالْكَسْبِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَفَى بِالْمَرْءِ إثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَمُونُ } فَالتَّحَرُّزُ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَآثِمِ فَرْضٌ ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنَّ لِنَفْسِك عَلَيْك حَقًّا ، وَإِنَّ لِأَهْلِك عَلَيْك حَقًّا فَأَعْطِ كُلَّ
ذِي حَقٍّ حَقَّهُ } ، وَلَكِنَّ هَذَا فِي الْفَرْضِيَّةِ دُونَ الْأَوَّلِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { ثُمَّ مَنْ تَعُولُ } فَإِنْ اكْتَسَبَ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ مَا يَدَّخِرُهُ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ ، فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ادَّخَرَ قُوتَ عِيَالِهِ لِسَنَةٍ بَعْدَ مَا كَانَ مَنْهِيًّا عَنْ ذَلِكَ } عَلَى مَا رُوِيَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِبِلَالٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْفِقْ بِلَالًا وَلَا تَخْشَ مِنْ ذِي الْعَرْشِ إقْلَالًا } وَالْمُتَأَخِّرُ يَكُونُ نَاسِخًا لِلْمُتَقَدِّمِ فَإِنْ كَانَ لَهُ أَبَوَانِ كَبِيرَانِ مُعْسِرَانِ ، فَإِنَّهُ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ الْكَسْبُ بِقَدْرِ كِفَايَتِهِمَا ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهُمَا مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ بَعْدَ عُسْرَتِهِ إذَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْكَسْبِ { قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلرَّجُلِ الَّذِي أَتَاهُ وَقَالَ أُرِيدُ الْجِهَادَ مَعَك أَلَك أَبَوَانِ قَالَ نَعَمْ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ارْجِعْ فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ } يَعْنِي اكْتَسِبْ وَأَنْفِقْ عَلَيْهِمَا ، وَقَالَ تَعَالَى { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } وَلَيْسَ مِنْ الْمُصَاحَبَةِ بِالْمَعْرُوفِ تَرْكُهُمَا يَمُوتَانِ جُوعًا مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْكَسْبِ ، وَلَكِنَّ هَذَا دُونَ مَا سَبَقَ فِي الْفَرْضِيَّةِ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعِي دِينَارٌ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِك فَقَالَ مَعِي آخَرُ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْفِقْهُ عَلَى عِيَالِك قَالَ مَعِي آخَرُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْفِقْهُ عَلَى وَالِدَيْك } الْحَدِيثَ فَأَمَّا غَيْرُ الْوَالِدَيْنِ مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ فَلَا يُفْتَرَضُ عَلَى الْمَرْءِ الْكَسْبُ لِلْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُ لَا تُسْتَحَقُّ نَفَقَتُهُمْ عَلَيْهِ إلَّا بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْيَسَارِ ، وَلَكِنَّهُ يُنْدَبُ إلَى الْكَسْبِ وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ لِمَا فِيهِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فِي الشَّرْعِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يُحِبُّ الْمَالَ
فَيَصِلُ بِهِ رَحِمَهُ وَيُكْرِمُ بِهِ ضَيْفَهُ وَيَبَرُّ بِهِ صَدِيقَهُ { وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَرْغَبُ لَك رَغْبَةً مِنْ الْمَالِ } .
.
.
الْحَدِيثَ ، إلَى أَنْ قَالَ : { نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ يَصِلُ بِهِ رَحِمَهُ } وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { ثَلَاثٌ مُعَلَّقَاتٌ بِالْعَرْشِ النِّعْمَةُ وَالْأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ تَقُولُ النِّعْمَةُ : كُفِرْت وَلَمْ أُشْكَرْ ، وَتَقُولُ الْأَمَانَةُ : ضُيِّعْت وَلَمْ أُؤَدَّ ، وَتَقُولُ الرَّحِمُ : قُطِعْت وَلَمْ أُوصَلْ } وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { صِلَةُ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمْرِ وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ تَرْفَعُ الْبَرَكَةَ مِنْ الْعُمْرِ } { قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِيمَا يُؤْثَرُ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَا الرَّحْمَنُ وَهِيَ الرَّحِمُ شَقَقْت لَهَا اسْمًا مِنْ اسْمِي فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْته وَمَنْ قَطَعَهَا قَطَعْته } ، وَفِي تَرْكِ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ مَا يُؤَدِّي إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ فَيُنْدَبُ إلَى الِاكْتِسَابِ لِلْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ وَبَعْدَ ذَلِكَ الْأَمْرُ مُوَسَّعٌ عَلَيْهِ فَإِنْ شَاءَ اكْتَسَبَ وَجَمَعَ الْمَالَ ، وَإِنْ شَاءَ أَبَى .
؛ لِأَنَّ السَّلَفَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ مِنْهُمْ مَنْ جَمَعَ الْمَالَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَفْعَلْ فَعَرَفْنَا أَنَّ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ مُبَاحٌ أَمَّا الْجَمْعُ فَلِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا حَلَالًا مُتَعَفِّفًا لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَوَجْهُهُ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ، وَمَنْ طَلَبَهَا مُفَاخِرًا مُكَاثِرًا لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى ، وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ } فَدَلَّ أَنَّ جَمْعَ الْمَالِ عَلَى طَرِيقِ التَّعَفُّفِ مُبَاحٌ وَكَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ { اللَّهُمَّ اجْعَلْ أَوْسَعَ رِزْقِي عِنْدَ كِبَرِ سِنِّي وَانْقِضَاءِ عُمْرِي } وَكَانَ كَذَا ، فَقَدْ اجْتَمَعَ لَهُ أَرْبَعُونَ شَاةً حَلُوبَةً وَفَدَكُ وَسَهْمٌ بِخَيْبَرَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ .
وَأَمَّا الِامْتِنَاعُ مِنْ جَمْعِ الْمَالِ فَطَرِيقٌ مُبَاحٌ أَيْضًا لِحَدِيثِ عَائِشَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ ذَهَبٍ لَتَمَنَّى إلَيْهِمَا ثَالِثًا ، وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ } وَقِيلَ هَذَا كَانَ مِمَّا يُتْلَى فِي الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ يُونُسَ مِنْ الرُّكُوعِ الثَّانِي أَوْ الثَّالِثِ ثُمَّ اُنْتُسِخَتْ تِلَاوَتُهُ وَبَقِيَتْ رِوَايَتُهُ وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { تَبًّا لِلْمَالِ } ، وَفِي رِوَايَةٍ لِصَاحِبِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { هَلَكَ الْمُكْثِرُونَ إلَّا مَنْ قَالَ بِمَالِهِ هَكَذَا وَهَكَذَا } يَعْنِي يَتَصَدَّقُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { يَقُولُ الشَّيْطَانُ : لَنْ يَنْجُوَ مِنِّي صَاحِبُ الْمَالِ مِنْ إحْدَى ثَلَاثٍ : إمَّا أَنْ أُزَيِّنَهُ فِي عَيْنِهِ فَيَجْمَعَهُ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ ، وَإِمَّا أَنْ أُحَقِّرَهُ فِي عَيْنِهِ فَيُعْطِيَ فِي غَيْرِ حِلِّهِ ، وَإِمَّا أَنْ أُحَبِّبَهُ إلَيْهِ فَيَمْنَعَ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ } فَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ الْجَمْعِ أَسْلَمُ ، وَلَا عَيْبَ عَلَى مَنْ اخْتَارَ طَرِيقَ السَّلَامَةِ ثُمَّ بَيَّنَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْكَسْبَ فِيهِ مَعْنَى الْمُعَاوَنَةِ عَلَى الْقُرَبِ وَالطَّاعَاتِ أَيَّ كَسْبٍ كَانَ حَتَّى قَالَ : إنَّ كَسْبَ فَتَّالِ الْحِبَالِ وَمُتَّخِذِ الْكِيزَانِ وَالْجِرَارِ وَكَسْبَ الْحَرَكَةِ فِيهِ مُعَاوَنَةٌ عَلَى الطَّاعَاتِ وَالْقُرَبِ ، فَإِنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ إلَّا بِالطَّهَارَةِ وَيَحْتَاجُ ذَلِكَ إلَى كُوزٍ يُسْتَقَى بِهِ الْمَاءُ وَإِلَى دَلْوٍ وَرِشَاءٍ يُنْزَحُ بِهِ الْمَاءُ وَيَحْتَاجُ إلَى سَتْرِ الْعَوْرَةِ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ ، وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ بِعَمَلِ الْحَرَكَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ أَسْبَابِ التَّعَاوُنِ عَلَى إقَامَةِ الطَّاعَةِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ لَا تَسُبُّوا الدُّنْيَا فَنِعْمَ مَطِيَّةُ الْمُؤْمِنِ الدُّنْيَا إلَى الْآخِرَةِ ، وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ سَأَلَهُ رَجُلٌ
عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِيمَانِ فَقَالَ : الصَّلَاةُ وَأَكْلُ الْخُبْزِ فَنَظَرَ إلَيْهِ الرَّجُلُ كَالْمُتَعَجِّبِ فَقَالَ : لَوْلَا الْخُبْزُ مَا عُبِدَ اللَّهُ تَعَالَى يَعْنِي بِأَكْلِ الْخُبْزِ يُقِيمُ صُلْبَهُ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ الطَّاعَةِ .
ثُمَّ الْمَذْهَبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ الْمَكَاسِبَ كُلَّهَا فِي الْإِبَاحَةِ سَوَاءٌ ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَقَشِّفَةِ مَا يَرْجِعُ إلَى الدَّنَاءَةِ مِنْ الْمَكَاسِبِ فِي عُرْفِ النَّاسِ لَا يَسَعُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ } وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ مَعَالِيَ الْأُمُورِ وَيُبْغِضُ سَفْسَافَهَا } وَالسَّفْسَافُ مَا يُدْنِي الْمَرْءَ وَيَبْخَسُهُ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنَّ مِنْ الذُّنُوبِ ذُنُوبًا لَا يُكَفِّرُهَا الصَّوْمُ ، وَلَا الصَّلَاةُ قِيلَ : فَمَا يُكَفِّرُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الْهُمُومُ فِي طَلَبِ الْمَعِيشَةِ } وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { طَلَبُ الْحَلَالِ كَمُقَارَعَةِ الْأَبْطَالِ ، وَمَنْ بَاتَ وَانِيًا مِنْ طَلَبِ الْحَلَالِ مَاتَ مَغْفُورًا لَهُ } وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الِاكْتِسَابُ لِلْإِنْفَاقِ عَلَى الْعِيَالِ } مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ بَيْنَ أَنْوَاعِ الْكَسْبِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ سِوَى التَّعَفُّفِ وَالِاسْتِغْنَاءِ عَنْ السُّؤَالِ لَكَانَ مَنْدُوبًا إلَيْهِ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { السُّؤَالُ آخِرُ كَسْبِ الْعَبْدِ } أَيْ يَبْقَى فِي ذُلِّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ { وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْ لِغَيْرِهِ مَكْسَبَةٌ فِيهَا نَقْصُ الْمَرْتَبَةِ خَيْرٌ لَك مِنْ أَنْ تَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْك أَوْ مَنَعُوك } ثُمَّ الْمَذَمَّةُ فِي عُرْفِ النَّاسِ لَيْسَتْ لِلْكَسْبِ بَلْ لِلْخِيَانَةِ وَخُلْفِ الْوَعْدِ وَالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ وَمَعْنَى الْبُخْلِ
ثُمَّ الْمَكَاسِبُ أَرْبَعَةٌ الْإِجَارَةُ وَالتِّجَارَةُ وَالزِّرَاعَةُ وَالصِّنَاعَةُ وَكُلُّ ذَلِكَ فِي الْإِبَاحَةِ سَوَاءٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَقَالَ بَعْضُهُمْ : الزِّرَاعَةُ مَذْمُومَةٌ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى شَيْئًا مِنْ آلَاتِ الْحِرَابَةِ فِي دَارِ قَوْمٍ فَقَالَ مَا دَخَلَ هَذَا بَيْتَ قَوْمٍ إلَّا ذَلُّوا } { ، وَسُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { إنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ } أَهُوَ التَّعَرُّبُ ؟ قَالَ : لَا لَكِنَّهُ الزِّرَاعَةُ } ، وَالتَّعَرُّبُ سُكْنَى الْبَادِيَةِ وَتَرْكُ الْهِجْرَةِ وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعَيْنِ وَاتَّبَعْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ ذَلَلْتُمْ حَتَّى يُطْمَعَ فِيكُمْ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ازْدَرَعَ بِالْجُرُفِ } وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { اُطْلُبُوا الرِّزْقَ تَحْتَ خَبَايَا الْأَرْضِ } يَعْنِي الزِّرَاعَةَ وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الزَّارِعُ يُتَاجِرُ رَبَّهُ } ، وَقَدْ كَانَ لَهُ فَدَكُ وَسَهْمٌ بِخَيْبَرَ فَكَانَ قُوتَهُ فِي آخِرِ الْعُمْرِ مِنْ ذَلِكَ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ لَهُ أَرْضٌ بِخَيْبَرَ يُدْعَى ثَمْغٌ ، وَقَدْ كَانَ لِابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَزَارِعُ بِالسَّوَادِ يَزْرَعُونَهَا وَيُؤَدُّونَ خَرَاجَهَا ، وَكَانَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَيْضًا مَزَارِعُ بِالسَّوَادِ وَغَيْرِهِمَا وَتَأْوِيلُ الْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِيمَا إذَا اشْتَغَلَ النَّاسُ كُلُّهُمْ بِالزِّرَاعَةِ وَأَعْرَضُوا عَنْ الْجِهَادِ حَتَّى يَطْمَعَ فِيهِمْ عَدُوُّهُمْ ، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ وَقَعَدْتُمْ عَنْ الْجِهَادِ وَذَلَلْتُمْ حَتَّى يُطْمَعَ فِيكُمْ فِيمَا إذَا اشْتَغَلَ بَعْضُهُمْ بِالْجِهَادِ وَبَعْضُهُمْ بِالزِّرَاعَةِ فَفِي عَمَلِ الْمَزَارِعِ مُعَاوَنَةٌ لِلْمُجَاهِدِ ، وَفِي عَمَلِ الْمُجَاهِدِ
دَفْعٌ عَنْ الزَّارِعِ ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُؤْمِنُونَ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا } ثُمَّ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي التِّجَارَةِ وَالزِّرَاعَةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ التِّجَارَةُ أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ } الْآيَةَ ، وَالْمُرَادُ بِالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ التِّجَارَةُ فَقَدَّمَهُ فِي الذِّكْرِ عَلَى الْجِهَادِ الَّذِي هُوَ سَنَامُ الدِّينِ وَسُنَّةُ الْمُرْسَلِينَ ، وَلِهَذَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَأَنْ أَمُوتَ بَيْنَ شُعْبَتَيْ رَحْلِي أَضْرِبُ فِي الْأَرْضِ أَبْتَغِي مِنْ فَضْلِ اللَّهِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُقْتَلَ مُجَاهِدًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { التَّاجِرُ الْأَمِينُ مَعَ الْكِرَامِ الْبَرَرَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } .
وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ عَلَى أَنَّ الزِّرَاعَةَ أَفْضَلُ مِنْ التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّهَا أَعَمُّ نَفْعًا فَبِعَمَلِ الزِّرَاعَةِ تَحْصِيلُ مَا يُقِيمُ بِهِ الْمَرْءُ صُلْبَهُ وَيَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ وَبِالتِّجَارَةِ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ وَلَكِنْ يَنْمُو الْمَالُ وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { خَيْرُ النَّاسِ مَنْ هُوَ أَنْفَعُ لِلنَّاسِ } فَالِاشْتِغَالُ بِمَا يَكُونُ نَفْعُهُ أَعَمَّ يَكُونُ أَفْضَلَ ، وَلِأَنَّ الصَّدَقَةَ فِي الزِّرَاعَةِ أَطْهَرُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِمَّا يَكْتَسِبُهُ الزَّارِعُ النَّاسُ وَالدَّوَابُّ وَالطُّيُورُ وَكُلُّ ذَلِكَ صَدَقَةٌ لَهُ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَا غَرَسَ مُسْلِمٌ شَجَرَةً فَتَنَاوَلَ مِنْهَا إنْسَانٌ أَوْ دَابَّةٌ أَوْ طَيْرٌ إلَّا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةٌ } ، وَفِي رِوَايَةٍ { وَمَا أَكَلَتْ الْعَافِيَةُ مِنْهَا فَهِيَ لَهُ صَدَقَةٌ } وَالْعَافِيَةُ هِيَ الطُّيُورُ الطَّالِبَةُ لِأَرْزَاقِهَا الرَّاجِعَةُ إلَى أَوْكَارِهَا ، وَإِذَا كَانَ فِي عَادَةِ النَّاسِ ذَمُّ الْكَسْبِ الَّذِي يَنْعَدِمُ فِيهِ التَّصْدِيقُ كَعَمَلِ الْحِيَاكَةِ مَعَ أَنَّهُ مِنْ التَّعَاوُنِ عَلَى إقَامَةِ الصَّلَاةِ عَرَفْنَا أَنَّ مَا يَكُونُ التَّصْدِيقُ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ الْكَسْبِ ، فَهُوَ أَفْضَلُ فَأَمَّا تَأْوِيلُ مَا تَعَلَّقُوا بِهِ ،
فَقَدْ رَوَى مَكْحُولٌ وَمُجَاهِدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا : الْمُرَادُ الضَّرْبُ فِي الْأَرْضِ لِطَلَبِ الْعِلْمِ وَبِهِ نَقُولُ إنَّ ذَلِكَ أَفْضَلُ
فَقَدْ أَشَارَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ طَلَبُ الْكَسْبِ فَرِيضَةٌ ، كَمَا أَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ فَتَشْبِيهُ هَذَا بِذَاكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ أَعْلَى دَرَجَةً مِنْ غَيْرِهِ وَبَيَانُ فَرْضِيَّةِ طَلَبِ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ } وَالْمُرَادُ عِلْمُ الْحَلَالِ عَلَى مَا قِيلَ : أَفْضَلُ الْعِلْمِ عِلْمُ الْحَلَالِ وَأَفْضَلُ الْعَمَلِ حِفْظُ الْحَالِ وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ مَا يَحْتَاجُ الْمَرْءُ فِي الْحَالِ لِأَدَاءِ مَا لَزِمَهُ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ عَيْنًا عِلْمُهُ كَالطَّهَارَةِ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ فَإِنْ أَرَادَ التِّجَارَةَ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ تَعَلُّمُ مَا يَتَحَرَّزُ بِهِ عَنْ الرِّبَا وَالْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ تَعَلُّمُ زَكَاةِ جِنْسِ مَالِهِ لِيَتَمَكَّنَ بِهِ مِنْ الْأَدَاءِ ، وَإِنْ لَزِمَهُ الْحَجُّ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ تَعَلُّمُ مَا يُؤَدِّي بِهِ الْحَجَّ هَذَا مَعْنَى عِلْمِ الْحَالِ وَهَذَا عِلْمٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكَمَ بِبَقَاءِ الشَّرِيعَةِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَالْبَقَاءُ بَيْنَ النَّاسِ يَكُونُ بِالتَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ فَيُفْتَرَضُ التَّعْلِيمُ وَالتَّعَلُّمُ جَمِيعًا ، وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي بَيَانِ فَرِيضَةِ الْكَسْبِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَعَنَ الَّذِينَ لَا يُعَلِّمُونَ ، وَلَا يَتَعَلَّمُونَ لِيَرْتَفِعَ الْعِلْمُ بِهِمْ وَقَالَ { إنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ الْقُلُوبِ وَلَكِنْ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ } ، فَإِذَا قَبَضَ الْعُلَمَاءَ اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالًا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا ، وَاَلَّذِي يُؤَيِّدُ هَذَا كُلَّهُ قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَك } الْآيَةَ ، وَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يُفْتَرَضُ تَعْلِيمُ الْكَافِرِ إذَا طَلَبَ ذَلِكَ فَتَعْلِيمُ الْمُؤْمِنِ أَوْلَى وَبَيَانُ قَوْلِنَا أَنَّهُ مِنْ آكَدِ الْفَرَائِضِ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَوْ شُغِلَ جَمِيعَ عُمْرِهِ
بِالتَّعَلُّمِ وَالتَّعْلِيمِ كَانَ مُفْتَرَضًا فِي الْكُلِّ ، وَلَوْ شُغِلَ جَمِيعَ عُمْرِهِ بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ كَانَ مُشْتَغِلًا فِي الْبَعْضِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إقَامَةَ الْفَرْضِ أَعْلَى دَرَجَةً مِنْ أَدَاءِ النَّفْلِ قَالَ ، وَكَمَا أَنَّ طَلَبَ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ فَأَدَاءُ الْعِلْمِ إلَى النَّاسِ فَرِيضَةٌ ؛ لِأَنَّ اشْتِغَالَ صَاحِبِ الْعِلْمِ بِالْعَمَلِ مَعْرُوفٌ وَالْعَمَلُ بِخِلَافِهِ مُنْكَرٌ فَالتَّعْلِيمُ يَكُونُ أَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيًا عَنْ الْمُنْكَرِ ، وَهُوَ فَرْضٌ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } الْآيَةَ ، وَيَخْتَلِفُونَ فِي فَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ مَنْ يَعْلَمُ حُكْمًا أَوْ حُكْمَيْنِ هَلْ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ لِمَنْ لَا يَعْلَمُهُ أَمْ لَا ؟ فَعَلَى قَوْلِ بَعْضِ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَى الَّذِينَ اشْتَهَرُوا بِالْعِلْمِ مِمَّنْ يَعْتَمِدُ النَّاسُ قَوْلَهُمْ ، وَقَدْ أَشَارَ فِي هَذَا الْكِتَابِ إلَى الْقَوْلَيْنِ وَاللَّفْظُ الْمَذْكُورُ هُنَا يُوجِبُ التَّعْمِيمَ وَقَالَ بَعْدَ هَذِهِ فَعَلَى الْبُصَرَاءِ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُبَيِّنُوا لِلنَّاسِ طَرِيقَ الْفِقْهِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَرْضِيَّةَ عَلَى الَّذِينَ اشْتَهَرُوا بِالْعِلْمِ خَاصَّةً وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَوْله تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ } وقَوْله تَعَالَى { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } الْآيَةَ ، فَتَبَيَّنَ بِالْآيَتَيْنِ أَنَّ الْكِتْمَانَ حَرَامٌ وَأَنَّ ضِدَّهُ ، وَهُوَ الْإِظْهَارُ لَازِمٌ فَيَتَنَاوَلُ ذَلِكَ كُلَّ مَنْ بَلَغَهُ عِلْمٌ ، فَإِنَّهُ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْكِتْمَانُ فِيمَا بَلَغَهُ فَيُفْتَرَضُ عَلَيْهِ الْإِظْهَارُ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا رَأَيْتُمْ آخِرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ طَعَنَ عَلَى أَوَّلِهَا فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ عِلْمٌ فَلْيُظْهِرْهُ ، فَإِنَّ كَاتِمَ الْعِلْمِ يَوْمَئِذٍ كَكَاتِمِ مَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ } ، وَلِأَنَّ تَعْلِيمَ الْعِلْمِ
بِمَنْزِلَةِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ وَعَلَى كُلٍّ أَدَاءُ الزَّكَاةِ مِنْ نِصَابِهِ وَصَاحِبُ النِّصَابِ وَصَاحِبُ الْمَنْصِبِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَجْهُ الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ الْعُلَمَاءَ فِي كُلِّ زَمَانٍ خُلَفَاءُ الرُّسُلِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْعُلَمَاءُ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِي زَمَنِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ هُوَ الْمُبَيِّنُ لِلنَّاسِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَهُ بِذَلِكَ وَقَالَ { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ } ، وَلَا يَجِبُ عَلَى أَحَدٍ سِوَاهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِحَضْرَتِهِ فَكَذَا فِي كُلِّ حِينٍ وَمَكَانٍ إنَّمَا يُفْتَرَضُ الْأَدَاءُ عَلَى الْمَشْهُورِينَ بِالْعِلْمِ دُونَ غَيْرِهِمْ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ فِي الْعَادَةِ إنَّمَا يَعْتَمِدُونَ قَوْلَ مَنْ اشْتَهَرَ بِالْعِلْمِ وَقَلَّمَا يَعْتَمِدُونَ قَوْلَ غَيْرِهِمْ وَرُبَّمَا يَسْتَخِفُّ بَعْضُهُمْ بِمَا يَسْمَعُهُ مِمَّنْ لَمْ يَشْتَهِرْ بِالْعِلْمِ ، فَلِهَذَا كَانَ الْبَيَانُ عَلَى الْمَشْهُورِينَ خَاصَّةً ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَدْرَكْت سَبْعِينَ بَدْرِيًّا كُلَّهُمْ قَدْ انْزَوَوْا ، وَلَمْ يَشْتَغِلُوا بِتَعْلِيمِ النَّاسِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِمْ ، وَكَذَا عُلَمَاءُ التَّابِعِينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فَمِنْهُمْ مَنْ تَصَدَّى لِلْفَتْوَى وَالتَّعْلِيمِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ وَانْزَوَى لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ الْخَلَلُ بِامْتِنَاعِهِ وَأَنَّ الْمَقْصُودَ حَاصِلٌ بِغَيْرِهِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ لِلْعِلْمِ ثَمَرَتَيْنِ الْعَمَلُ بِهِ وَالتَّعْلِيمُ ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُمَا جَمِيعًا فَيَكْتَفِي بِثَمَرَةِ الْعَمَلِ بِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ وَاسِعٌ وَأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْمَشْهُورِينَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ حَاصِلٌ .
( قَالَ : وَلَوْ لَمْ يَكُنْ طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةً لَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ مَخْرَجٌ مِنْ الْإِثْمِ ) يَعْنِي أَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ ارْتِكَابِ الْإِثْمِ فَرْضٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي
الْفَوَاحِشَ } الْآيَةَ ، وَلَا يُتَوَصَّلُ إلَى هَذَا التَّحَرُّزِ إلَّا بِالْعِلْمِ قَالَ ، وَلَوْ تَرَكَ النَّاسُ الْعِلْمَ لَمَا تَمَيَّزَ الْحَقُّ مِنْ الْبَاطِلِ وَالصَّوَابُ مِنْ الْخَطَأِ وَالْبَيِّنُ مِنْ الْخَفِيِّ يَعْنِي أَنَّ التَّمْيِيزَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ أَصْلُ الدِّينِ ، وَلَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِالْعِلْمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ } وَقَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى { لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ } وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يُفْتَرَضُ عَلَى كُلِّ مُخَاطَبٍ التَّمْيِيزُ بَيْنَ مَا أَحَقَّهُ اللَّهُ تَعَالَى وَبَيْنَ مَا مَحَاهُ اللَّهُ مِنْ الْبَاطِلِ وَكَذَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ التَّمَسُّكُ بِمَا هُوَ صَوَابٌ وَالتَّحَرُّزُ عَنْ الْخَطَأِ بِجَهْدِهِ وَطَرِيقُ التَّوَصُّلِ إلَى ذَلِكَ الْعِلْمُ
( قَالَ فَعَلَى الْعُلَمَاءِ إذَا مَا وَصَلَ إلَيْهِمْ مِمَّنْ قَبْلَهُمْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلنَّاسِ ) يَعْنِي أَنَّ بَيَانَ الْمَسْمُوعِ مِنْ الْآثَارِ وَاجِبٌ عَلَى الْعُلَمَاءِ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا مَقَالَةً فَوَعَاهَا ، كَمَا سَمِعَهَا ثُمَّ أَدَّاهَا إلَى مَنْ سَمِعَهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى غَيْرِ فَقِيهٍ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَسْمَعُونَ وَيُسْمَعُ مِنْكُمْ وَيَسْمَعُ مَنْ لَمْ يَسْمَعْ مِنْكُمْ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا فَلْيُبَلَّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ } ثُمَّ إنَّمَا يُفْتَرَضُ بَيَانُ مَا فِيهِ مَنْفَعَةُ النَّاسِ ، وَهُوَ النَّاسِخُ مِنْ الْآثَارِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ فَأَمَّا الْمَنْسُوخُ فَيَجِبُ رِوَايَتُهُ وَكَذَا الشَّاذُّ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى ، فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي رِوَايَتِهِ لِلنَّاسِ وَرُبَّمَا يُؤَدِّي إلَى الْفِتْنَةِ وَالتَّحَرُّزُ عَنْ الْفِتْنَةِ أَوْلَى وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَوْ حَدَّثْتُكُمْ بِكُلِّ مَا سَمِعْت لَرَمَيْتُمُونِي بِالْحِجَارَةِ وَأَنَّ مُعَاذًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ عِنْدَهُ حَدِيثٌ فِي الشَّهَادَةِ وَكَانَ لَا يَرْوِيهِ إلَى أَنْ اُحْتُضِرَ ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْلَا مَا حَضَرَنِي مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا رَوَيْته لَكُمْ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { ، مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُخْلِصًا مِنْ قَلْبِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ } فَكَانَ يَمْتَنِعُ مِنْ رِوَايَتِهِ فِي صِحَّتِهِ لِكَيْ لَا يَتَّكِلَ النَّاسُ ثُمَّ لَمَّا خَافَ الْفَوْتَ بِمَوْتِهِ رَوَاهُ لِأَصْحَابِهِ فَهَذَا أَصْلٌ لِمَا بَيَّنَّا .
( قَالَ : أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُفْتَرَضْ الْأَدَاءُ عَلَيْنَا لَمْ يُفْتَرَضْ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا ؟ حَتَّى يَنْتَهِيَ ذَلِكَ إلَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ) يَعْنِي أَنَّ النَّاسَ فِي نَقْلِ الْعِلْمِ سَوَاءٌ
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَنْقُلُ هَذَا الدِّينَ عَنْ كُلِّ خَلَفٍ عُدُولُهُ يَنْفُونَ عَنْهُ تَحْرِيفَ الْمُبْطِلِينَ وَتَأْوِيلَ الْجَاهِلِينَ } فَلَوْ جَوَّزْنَا لِلْمُتَأَخِّرِينَ تَرْكَ النَّقْلِ لَجَوَّزْنَا مِثْلَ ذَلِكَ لِلْمُتَقَدِّمِينَ فَيُؤَدِّي هَذَا إلَى الْقَوْلِ بِمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الرَّوَافِضُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ آيَاتٍ فِي شَأْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَادِيثَ فِي فَضْلِهِ وَالتَّنْصِيصَ عَلَى إمَامَتِهِ غَيْرَ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَتَمُوا ذَلِكَ حَسَدًا مِنْهُمْ لَهُ ، وَعِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ هَذَا كَذِبٌ وَزُورٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِأَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَكَيْفَ بِجَمَاعَتِهِمْ وَلَوْ كَانَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَاشْتَهَرَ وَلَكِنْ مَا يَذْهَبُ إلَيْهِ الرَّوَافِضُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ فَمُحَمَّدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَذَا الِاسْتِشْهَادِ أَشَارَ إلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ مَا تَرَكُوا نَقْلَ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ فَعَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ فِي ذَلِكَ ثُمَّ الْفَرْضُ نَوْعَانِ فَرْضُ عَيْنٍ وَفَرْضُ كِفَايَةٍ فَفَرْضُ الْعَيْنِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ إقَامَتُهُ نَحْوُ أَرْكَانِ الدِّينِ وَفَرْضُ الْكِفَايَةِ مَا إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَإِنْ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى تَرْكِهِ كَانُوا مُشْتَرَكِينَ فِي الْمَأْثَمِ كَالْجِهَادِ ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِعْزَازُ الدِّينِ ، فَإِذَا حَصَلَ هَذَا الْمَقْصُودُ مِنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ ، وَإِذَا قَعَدَ الْكُلُّ عَنْ الْجِهَادِ حَتَّى اسْتَوْلَى الْكُفَّارُ عَلَى بَعْضِ الثُّغُورِ اشْتَرَكَ الْمُسْلِمُونَ فِي الْمَأْثَمِ بِذَلِكَ وَكَذَا غُسْلُ الْمَيِّتِ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ وَالدَّفْنُ كُلُّ ذَلِكَ فَرْضُ كِفَايَةٍ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ ، وَإِنْ امْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ حَتَّى ضَاعَ مَيِّتٌ بَيْنَ قَوْمٍ مَعَ
عِلْمِهِمْ بِحَالِهِ كَانُوا مُشْتَرَكِينَ فِي الْمَأْثَمِ فَأَدَاءُ الْعِلْمِ إلَى النَّاسِ فَرْضُ كِفَايَةٍ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ ، وَهُوَ إحْيَاءُ الشَّرِيعَةِ وَكَوْنُ الْعِلْمِ مَحْفُوظًا بَيْنَ النَّاسِ بِأَدَاءِ الْبَعْضِ ، وَإِنْ امْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ حَتَّى انْدَرَسَ شَيْءٌ بِسَبَبِ ذَلِكَ كَانُوا مُشْتَرَكِينَ فِي الْمَأْثَمِ
( قَالَ وَمَا رَغَّبَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْفَضَائِلِ فَأَدَاؤُهُ إلَى النَّاسِ فَرِيضَةٌ ) وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ مُبَاشَرَةَ فِعْلِ التَّطَوُّعَاتِ وَمَا نَدَبَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ بِفَرْضٍ ، وَلَا إثْمَ عَلَى مَنْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَكِنَّ أَدَاءَ ذَلِكَ إلَى النَّاسِ فَرِيضَةٌ حَتَّى إذَا اجْتَمَعَ أَهْلُ زَمَانٍ عَلَى تَرْكِ نَفْلٍ كَانُوا تَارِكِينَ لِفَرِيضَةٍ مُشْتَرَكِينَ فِي الْمَأْثَمِ ؛ لِأَنَّ بِتَرْكِ النَّفْلِ يَنْدَرِسُ شَيْءٌ مِنْ الشَّرِيعَةِ وَلَيْسَ فِي تَرْكِ الْأَدَاءِ مَعْنَى الِانْدِرَاسِ وَنَظِيرُ هَذَا أَنَّ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ صَلَاةِ التَّطَوُّعِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ، وَلَوْ صَلَّى التَّطَوُّعَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ كَانَ آثِمًا مُعَاتَبًا ؛ لِأَنَّ فِي الْأَدَاءِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ تَغْيِيرَ حُكْمِ الشَّرْعِ وَلَيْسَ فِي تَرْكِ الْأَدَاءِ تَغْيِيرُ حُكْمِ الشَّرْعِ ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّطَوُّعَاتِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ قَطْعُ طَمَعِ الشَّيْطَانِ عَنْ وَسْوَسَتِهِ بِأَنْ يَقُولَ إذَا كَانَ هَذَا الْعَبْدُ يُؤَدِّي مَا لَيْسَ عَلَيْهِ كَيْفَ يَتْرُكُ أَدَاءَ مَا هُوَ عَلَيْهِ فَيَنْقَطِعُ طَمَعُهُ عَنْ وَسْوَسَتِهِ بِهَذَا ، وَهُوَ جَبْرٌ لِنُقْصَانِ الْفَرَائِضِ عَلَى مَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا تَمَكَّنَ فِي فَرِيضَةِ الْعَبْدِ نُقْصَانٌ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى لِمَلَائِكَتِهِ اجْعَلُوا نَوَافِلَ عَبْدِي جَبْرًا لِنُقْصَانِ فَرِيضَتِهِ } ، وَإِذَا كَانَ فِي التَّطَوُّعِ هَذَا الْمَقْصُودُ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ الْبَيَانِ فِيهِ حَتَّى يَنْدَرِسَ فَيَفُوتَ هَذَا الْمَقْصُودُ أَصْلًا فَعَرَفْنَا أَنَّ أَدَاءَهُ إلَى النَّاسِ فَرِيضَةٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُبَاشَرَةُ فِعْلِهِ فَرِيضَةً