كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي

الضِّيفَانِ ، وَلَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْفَاكِهَةِ ، وَأَمَّا الْقِثَّاءُ وَالْفُولُ وَالْجَزَرُ ، لَيْسَ مِنْ الْفَوَاكِهِ ، إنَّمَا هِيَ مِنْ الْبُقُولِ وَالتَّوَابِلِ ، بَعْضُهَا يُوضَعُ عَلَى الْمَائِدَةِ مَعَ الْبَقْلِ ، وَبَعْضُهَا يُجْعَلُ فِي الْقِدْرِ مَعَ التَّوَابِلِ .
قَالَ : وَيَدْخُلُ فِي الْفَاكِهَةِ الْيَابِسَةِ اللَّوْزُ وَالْجَوْزُ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُ الْجَوْزَ الْيَابِسَ مِنْ الْإِدَامِ دُونَ الْفَاكِهَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَفَكَّهُ بِهِ عَادَةً ، إنَّمَا يُؤْكَلُ مَعَ الْخُبْزِ كَالْجُبْنِ ، أَوْ يُجْعَلُ مَعَ التَّوَابِلِ فِي الْقِدْرِ ، وَلَكِنْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَقُولُ : رَطْبُ الْجَوْزِ مِنْ الْفَوَاكِهِ ، فَكَذَلِكَ يَابِسُهُ لِلْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا .

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامًا ، فَأَكَلَ خُبْزًا أَوْ فَاكِهَةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ حَنِثَ ، وَمُرَادُهُ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُسَمَّى طَعَامًا عَادَةً ، دُونَ مَا لَهُ طَعْمٌ حَقِيقَةً ، فَإِنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ السَّقَمُونْيَا بِهَذَا اللَّفْظِ ، وَلَهُ طَعْمٌ عَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ مَا يُسَمَّى فِي الْعَادَةِ طَعَامًا ، وَيُؤْكَلُ عَلَى سَبِيلِ التَّطَعُّمِ ، وَلَوْ حَلَفَ لِيَأْكُلَنَّ هَذَا الطَّعَامَ الْيَوْمَ ، فَأَكَلَهُ غَيْرُهُ فِي الْيَوْمِ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : يَحْنَثُ إذَا غَابَتْ الشَّمْسُ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْيَمِينَ إذَا كَانَتْ مُؤَقَّتَةً بِوَقْتٍ ، فَانْعِقَادُهَا مُوجِبًا لِلْبِرِّ فِي آخِرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ ، إلَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وُجُودُ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ ، حَتَّى إذَا قَالَ : لَأَشْرَبَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي الْكُوزِ ، وَلَا مَاءَ فِيهِ ، تَنْعَقِدُ الْيَمِينُ ، فَكَذَلِكَ هُنَا انْعِدَامُ الطَّعَامِ فِي آخِرِ الْيَوْمِ عِنْدَهُ ، لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْيَمِينِ ، فَإِذَا انْعَقَدَتْ ، وَتَحَقَّقَ فَوْتُ شَرْطِ الْبِرِّ حَنِثَ فِيهَا ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى انْعِدَامُ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْيَمِينِ ، كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الشُّرْبِ ، فَلَا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ هُنَا لَمَّا انْعَدَمَ الطَّعَامُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ تَرْكُ أَكْلِ الطَّعَامِ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْيَوْمِ ، وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَبْقَ الطَّعَامُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بِدُونِ تَوَهُّمِ الْبِرِّ لَا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَقَّتَ فِيهِ وَقْتًا حَنِثَ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ انْعَقَدَتْ فِي الْحَالِ لِتَوَهُّمِ الْبِرِّ فِيهَا لِكَوْنِ الطَّعَامِ قَائِمًا فِي الْحَالِ ، ثُمَّ فَاتَ شَرْطُ الْبِرِّ بِأَكْلِ الْغَيْرِ إيَّاهُ ، فَيَحْنَثُ ( قَالَ ) : وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ الْحَالِفُ قَبْلَ أَنْ يَأْكُلَهُ ،

وَالطَّعَامُ قَائِمٌ بِعَيْنِهِ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْبِرِّ قَدْ فَاتَ بِمَوْتِهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ مَضَتْ الْمُدَّةُ ، وَهُوَ حَيٌّ ، وَالطَّعَامُ قَائِمٌ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْبِرِّ فِعْلُ الْأَكْلِ فِي الْوَقْتِ ، وَقَدْ تَحَقَّقَ فَوْتُهُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ ، فَحَنِثَ فِي يَمِينِهِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ حَقَّ فُلَانٍ غَدًا ، فَقَضَاهُ الْيَوْمَ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَيَحْنَثُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، كَمَا جَاءَ الْغَدُ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ كَمَا جَاءَ الْغَدُ انْعَقَدَتْ الْيَمِينُ ، فَإِنَّ عَدَمَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ ، لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْيَمِينِ عِنْدَهُ .

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ طَعَامٍ اشْتَرَاهُ فُلَانٌ ، فَأَكَلَ مِنْ طَعَامٍ اشْتَرَاهُ فُلَانٌ مَعَ آخَرَ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ مَا اشْتَرَاهُ فُلَانٌ مِنْ ذَلِكَ طَعَامٌ ، وَقَدْ أَكَلَهُ ، فَإِنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ الطَّعَامِ يُسَمَّى طَعَامًا ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ دَارًا اشْتَرَاهَا فُلَانٌ ، فَسَكَنَ دَارًا اشْتَرَاهَا فُلَانٌ وَآخَرُ مَعَهُ ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الدَّارِ لَا يُسَمَّى دَارًا ، إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى فِي الطَّعَامِ أَنْ يَشْتَرِيَ هُوَ وَحْدُهُ ، فَتَعْمَلُ نِيَّتُهُ ؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ ، فَإِنَّ شِرَاءَ الطَّعَامِ قَدْ يَكُونُ وَحْدُهُ ، وَقَدْ يَكُونُ مَعَ غَيْرِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ طَعَامٍ يَمْلِكُهُ فُلَانٌ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا لِفُلَانٍ ، أَوْ ثَوْبًا اشْتَرَاهُ فُلَانٌ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الثَّوْبِ لِلْكُلِّ ، وَبَعْضُ الثَّوْبِ لَيْسَ بِثَوْبٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : هَذَا الثَّوْبُ لِفُلَانٍ ، وَهُوَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ ، كَانَ كَذِبًا ، وَلَوْ قَالَ : هَذَا الطَّعَامُ لِفُلَانٍ وَهُوَ يَعْنِي نِصْفَهُ كَانَ صِدْقًا .

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الدَّقِيقِ شَيْئًا ، فَأَكَلَ خُبْزَهُ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الدَّقِيقِ لَا يُؤْكَلُ عَادَةً ، فَتَنْصَرِفُ يَمِينُهُ إلَى مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ النَّخْلَةِ ، وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا فِيمَا لَوْ أَكَلَ عَيْنَ الدَّقِيقِ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّهُ أَكَلَ الدَّقِيقَ حَقِيقَةً ، وَالْعُرْفُ وَإِنْ اُعْتُبِرَ ، فَالْحَقِيقَةُ لَا تَسْقُطُ بِهِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ عَيْنَ الدَّقِيقِ مَأْكُولٌ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ حَقِيقَةٌ مَهْجُورَةٌ ، وَلَمَّا انْصَرَفَتْ الْيَمِينُ إلَى مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ لِلْعُرْفِ ، يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْحَقِيقَةِ كَمَنْ قَالَ لِلْأَجْنَبِيَّةِ : إنْ نَكَحْتُكِ فَعَبْدِي حُرٌّ ، فَزَنَى بِهَا لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا انْصَرَفَ إلَى الْعَقْدِ لَمْ يَتَنَاوَلْ حَقِيقَةَ الْوَطْءِ ، وَإِنْ كَانَ عَنِيَ أَكْلَ الدَّقِيقِ بِعَيْنِهِ ، لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِ الْخُبْزِ ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذِهِ الْحِنْطَةِ شَيْئًا ، فَإِنْ نَوَى يَأْكُلُهَا حَبًّا ، كَمَا هُوَ فَأَكَلَ مِنْ خُبْزِهَا أَوْ سَوِيقِهَا لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ حَقِيقَةُ كَلَامِهِ ، فَهُوَ كَالْمَلْفُوظِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ ، فَأَكَلَ مِنْ خُبْزِهَا لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَيَحْنَثُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْكِتَابِ : يَمِينُهُ عَلَى مَا يَصْنَعُ مِنْهَا ، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ عِنْدَهُمَا لَوْ أَكَلَ مِنْ عَيْنِهَا لَمْ يَحْنَثْ ، وَلَكِنْ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ : وَإِنْ أَكَلَ مِنْ خُبْزِهَا يَحْنَثُ عِنْدَهُمَا أَيْضًا ، فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَحْنَثُ بِتَنَاوُلِ عَيْنِ الْحِنْطَةِ عِنْدَهُمَا ، وَهُوَ الصَّحِيحُ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا : إنْ أَكَلَ الْحِنْطَةَ فِي الْعَادَةِ هَكَذَا يَكُونُ ، فَإِنَّكَ تَقُولُ : أَكَلْنَا أَجْوَدَ حِنْطَةٍ فِي الْأَرْضِ ، تُرِيدُ الْخُبْزَ ، وَيُقَالُ : أَهْلُ بَلْدَةِ كَذَا يَأْكُلُونَ الْحِنْطَةَ ، وَأَهْلُ

بَلْدَةِ كَذَا يَأْكُلُونَ الشَّعِيرَ ، وَالْمُرَادُ الْخُبْزُ ، إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : عَيْنُ الْحِنْطَةِ مَأْكُولٌ عَادَةً ، فَإِنَّهَا تُقْلَى فَتُؤْكَلُ ، وَتُغْلَى فَتُؤْكَلُ ، وَيُتَّخَذُ مِنْهَا الْهَرِيسَةُ ، وَمَنْ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ عَلَى أَكْلِ عَيْنٍ مَأْكُولَةٍ ، يَنْصَرِفُ يَمِينُهُ إلَى أَكْلِ عَيْنِهِ دُونَ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ كَالْعِنَبِ وَالرُّطَبِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ لِكَلَامِهِ حَقِيقَةً مُسْتَعْمَلَةً وَمَجَازًا مُتَعَارَفًا ، وَلَا يُرَادُ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ ؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ مُسْتَعَارٌ ، وَالثَّوْبُ الْوَاحِدُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مِلْكًا وَعَارِيَّةً ، فَإِذَا كَانَتْ الْحَقِيقَةُ مُرَادَةً هُنَا يَتَنَحَّى الْمَجَازُ ، وَهُمَا لَا يُنْكِرَانِ هَذَا الْأَصْلَ ، وَلَكِنَّهُمَا يَقُولَانِ : إذَا أَكَلَ الْحِنْطَةَ إنَّمَا يَحْنَثُ بِاعْتِبَارِ عُمُومِ الْمَجَازِ لَا بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظَائِرَهُ فِي وَضْعِ الْقَدَمِ وَغَيْرِهِ .
( قَالَ ) : وَإِذَا أَكَلَ مِنْ سَوِيقِهَا لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَلِكَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ فِي الْحِنْطَةِ لُبُّهَا ، وَهُوَ مَا يَصِيرُ بِالطَّحْنِ دَقِيقًا ، وَمِنْ أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ السَّوِيقَ جِنْسٌ آخَرُ غَيْرُ الدَّقِيقِ ، وَلِهَذَا جَوَّزَا بَيْعَ السَّوِيقِ بِالدَّقِيقِ مُتَفَاضِلًا ، فَمَا تَنَاوَلَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا كَانَ مَوْجُودًا فِي الْحِنْطَةِ الَّتِي عَيَّنَهَا فَلَا يَحْنَثُ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَمِينُهُ تَنَاوَلَتْ الْحَقِيقَةَ ، فَلَا يَحْنَثُ بِأَكْلِ السَّوِيقِ ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الطَّلْعِ شَيْئًا ، فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْدَ مَا صَارَ بُسْرًا لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الطَّلْعَ عَيْنُهُ مَأْكُولٌ ، وَمَتَى عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى أَكْلِ مَا تُؤْكَلُ عَيْنُهُ ، لَا يَنْصَرِفُ يَمِينُهُ إلَى مَا يَكُونُ مِنْهُ ، ثُمَّ الْبُسْرُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الطَّلْعِ .
أَلَا تَرَى

أَنَّ بَيْعَ الْبُسْرِ بِالطَّلْعِ يَجُوزُ كَيْف مَا كَانَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْبُسْرِ فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْدَ مَا صَارَ رُطَبًا ؛ لِأَنَّ الْبُسْرَ عَيْنُهُ مَأْكُولٌ ، وَلِأَنَّ الرُّطَبَ وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْبُسْرِ ، إلَّا أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَمْتَنِعُ مِنْ تَنَاوُلِ الْبُسْرِ ، وَلَا يَمْتَنِعُ مِنْ تَنَاوُلِ الرُّطَبِ ، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ مَتَى عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى عَيْنٍ بِوَصْفٍ ، يَدْعُو ذَلِكَ الْوَصْفَ إلَى الْيَمِينِ ، يَتَقَيَّدُ الْيَمِينُ بِبَقَاءِ ذَلِكَ الْوَصْفِ ، وَيَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الِاسْمِ ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الرُّطَبِ ، فَأَكَلَهُ بَعْدَ مَا صَارَ تَمْرًا لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الرُّطُوبَةِ دَاعِيَةٌ إلَى الْيَمِينِ ، فَقَدْ يَمْتَنِعُ الْإِنْسَانُ مِنْ تَنَاوُلِ الرُّطَبِ دُونَ التَّمْرِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ هَذَا الشَّابَّ ، فَكَلَّمَهُ بَعْدَ مَا شَاخَ يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الشَّابِّ لَيْسَتْ بِدَاعِيَةٍ إلَى الْيَمِينِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْحَمْلِ ، فَأَكَلَهُ بَعْدَ مَا كَبِرَ يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ الْمَذْكُورَةَ لَيْسَتْ بِدَاعِيَةٍ إلَى الْيَمِينِ ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا السَّوِيقِ ، فَشَرِبَهُ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الشُّرْبَ غَيْرُ الْأَكْلِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { : كُلُوا وَاشْرَبُوا } ، وَالشَّيْءُ لَا يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا حَدَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفِعْلَيْنِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا اللَّبَنِ فَشَرِبَهُ ، أَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُهُ ، فَأَكَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ ، وَأَكْلُ اللَّبَنِ بِأَنْ يُثْرَدَ فِيهِ الْخُبْزُ ، وَشُرْبُهُ أَنْ يَشْرَبَهُ كَمَا هُوَ ، وَلَوْ تَنَاوَلَ شَيْئًا مِمَّا يُصْنَعُ مِنْهُ كَالْجُبْنِ وَالْأَقِطِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ عَيْنَهُ مَأْكُولٌ ، وَقَدْ عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَيْهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَذُوقُ مِنْ هَذَا الْخَمْرِ ، فَذَاقَهُ بَعْدَ مَا صَارَ خَلًّا لَمْ يَحْنَثْ .

وَلَوْ حَلَفَ لَيَأْكُلَنَّ هَذَا السَّوِيقَ ، فَأَكَلَهُ كُلَّهُ إلَّا حَبَّةً مِنْهُ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى فِي الْعَادَةِ أَكْلٌ ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ أَكْلُ كُلِّهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُبْقِي حَبَّةً فِي الْإِنَاءِ ، وَبَيْنَ لَهَوَاتِهِ وَأَسْنَانِهِ ، فَتُحْمَلُ يَمِينُهُ عَلَى مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْبِرُّ إذَا كَانَ ذَلِكَ مُتَعَارَفًا بَيْنَ النَّاسِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ حَلَفَ لَيَأْكُلَنَّ هَذِهِ الرُّمَّانَةَ ، فَأَكَلَهَا كُلَّهَا إلَّا حَبَّةً وَاحِدَةً ، كَانَ قَدْ بَرَّ فِي يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ أَكْلَ الرُّمَّانَةِ هَكَذَا يَكُونُ ، فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْكُلَهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُسْقِطُ مِنْهُ حَبَّةً ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ ذَلِكَ ، فَحِينَئِذٍ قَدْ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ بِنِيَّةِ حَقِيقَةِ كَلَامِهِ ، وَلَوْ مَصَّ مَاءَهَا وَرَمَى بِالْحَبِّ لَمْ يَحْنَثْ ، سَوَاءٌ حَلَفَ عَلَى أَكْلِهَا أَوْ شُرْبِهَا ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِأَكْلٍ وَلَا شُرْبٍ ، وَلَكِنَّهُ مَصٌّ ، وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ : أَيَّتُكُمَا أَكَلَتْ هَذِهِ الرُّمَّانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ ، فَأَكَلَتَا جَمِيعًا لَمْ تَطْلُقَا ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ أَيِّ تَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُخَاطَبَيْنِ عَلَى الِانْفِرَادِ ، وَشَرْطُ الطَّلَاقِ أَكْلُ الْوَاحِدَةِ جَمِيعَ الرُّمَّانَةِ ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ ، فَلِهَذَا لَمْ تَطْلُقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا .

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلَنَّ سَمْنًا ، فَأَكَلَ سَوِيقًا ، قَدْ لُتَّ بِسَمْنٍ ، وَأَوْسَعَ حَتَّى يَسْتَبِينَ فِيهِ طَعْمَهُ ، وَيَرَى مَكَانَهُ حَنِثَ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ فِيهِ سَمْنٌ يُوجَدُ طَعْمُهُ ، وَيَسْتَبِينُ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُوجَدُ طَعْمُهُ ، وَلَا يُرَى مَكَانُهُ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى أَكْلِ عَيْنِ السَّمْنِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ عَيْنِهِ عِنْدَ الْأَكْلِ لِيَحْنَثَ وَقِيَامِ عَيْنِ الْمَأْكُولِ بِذَاتِهِ أَوْ طَعْمِهِ ، فَإِذَا كَانَ يُرَى مَكَانُهُ ، وَيَسْتَبِينُ فِيهِ طَعْمُهُ ، فَقَدْ عَلِمْنَا وُجُودَ شَرْطِ حِنْثِهِ ، زَادَ هِشَامٌ فِي نَوَادِرِهِ أَنْ يَكُونَ بِحَالٍ يُمْكِنُ عَصْرُ السَّمْنِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يُرَى مَكَانُهُ ، وَلَا يَسْتَبِينُ طَعْمُهُ فِيهِ ، فَقَدْ صَارَ مُسْتَهْلَكًا فِيهِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَا إذَا عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى مَائِعٍ فَاخْتَلَطَ بِمَائِعٍ آخَرَ مِنْ جِنْسِهِ ، أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ ، وَذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ لَبَنًا ، فَصَبَّ الْمَاءَ فِي اللَّبَنِ وَشَرِبَهُ ، فَإِنْ كَانَ اللَّوْنُ فِيمَا شَرِبَ لَوْنَ اللَّبَنِ ، وَيُوجَدُ طَعْمُهُ ، وَهُوَ الْغَالِبُ فَيَحْنَثُ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ اللَّوْنُ لَوْنَ الْمَاءِ فِيهِ ، عَلِمْنَا أَنَّ اللَّبَنَ مَغْلُوبٌ مُسْتَهْلَكٌ ، فَلَا يَحْنَثُ بِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ لِلْأَوَّلِ : لَبَنٌ مَغْشُوشٌ ، وَلِلثَّانِي مَاءٌ خَالَطَهُ لَبَنٌ ، وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي نَسْخِ الْأَصْلِ ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْغَلَبَةُ مِنْ حَيْثُ الْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ ؛ لِأَنَّ الْقَلِيلَ لَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَةِ الْكَثِيرِ ، وَإِنْ كَانَا سَوَاءً لَمْ يَحْنَثْ فِي الْقِيَاسِ لِلشَّكِّ وَالتَّرَدُّدِ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ هُوَ حَانِثٌ ؛ لِأَنَّ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ لَمْ يَصِرْ مَغْلُوبًا بِمَا سِوَاهُ ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ لَبَنَ هَذِهِ الْبَقَرَةِ ، فَخَلَطَهُ بِلَبَنِ بَقَرَةٍ أُخْرَى ، فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الْمَغْلُوبَ

فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلَكِ ، سَوَاءٌ كَانَ الْغَالِبُ مِنْ جِنْسِهِ ، أَوْ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَحْنَثُ هُنَا عَلَى كُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَكْثُرُ بِجِنْسِهِ ، وَلَا يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا بِهِ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ هَذِهِ التَّمْرَةَ ، فَاخْتَلَطَتْ بِتَمْرٍ فَأَكَلَ ذَلِكَ التَّمْرَ كُلَّهُ حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَكَلَ تِلْكَ التَّمْرَةَ حَقِيقَةً ، فَإِنَّهُ يَأْكُلُ تَمْرَةً تَمْرَةً ، وَجَهْلُهُ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ لَا يَمْنَعُ حِنْثَهُ ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَعِيرًا ، فَأَكَلَ حِنْطَةً فِيهَا شَعِيرٌ حَبَّةً حَبَّةً حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَكَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ بِيَقِينٍ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا سَبَقَ مِنْ السَّمْنِ ، إذَا كَانَ يُرَى مَكَانُهُ فِي السَّوِيقِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ يَأْكُلُ الْكُلَّ جُمْلَةً ، فَمَا يَأْكُلُهُ مِنْ السَّمْنِ مُسْتَهْلَكٌ إذَا كَانَ لَا يُرَى مَكَانُهُ ، وَهُنَا إنَّمَا يَأْكُلُ حَبَّةً حَبَّةً ، فَإِذَا أَكَلَ حَبَّةَ الشَّعِيرِ وَحْدَهَا ، فَقَدْ وُجِدَ شَرْطُ الْحِنْثِ ، حَتَّى إذَا كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى الشِّرَاءِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ يَشْتَرِي الْكُلَّ جُمْلَةً ، وَمُشْتَرِي الْحِنْطَةِ لَا يُسَمَّى مُشْتَرِيًا لِلشَّعِيرِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا حَبَّاتُ الشَّعِيرِ ؛ لِأَنَّ بَائِعَهَا لَا يُسَمَّى بَائِعَ الشَّعِيرِ ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَحْمًا ، فَإِنْ أَكَلَ شَحْمَ الْبَطْنِ ، فَهُوَ حَانِثٌ ، وَإِنْ أَكَلَ لَحْمًا يُخَالِطُهُ شَحْمُ الْبَطْنِ ، فَهُوَ حَانِثٌ ، وَإِنْ أَكَلَ لَحْمًا يُخَالِطُهُ شَحْمٌ ، يَعْنِي شَحْمَ الظَّهْرِ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهُوَ حَانِثٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَذَكَرَ الطَّحْطَاوِيُّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ أَنَّ شَحْمَ الظَّهْرِ شَحْمٌ بِذَاتِهِ ، وَيَصْلُحُ لِمَا يَصْلُحُ لَهُ الشَّحْمُ ، فَكَانَ كَشَحْمِ الْبَطْنِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : وَمِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إلَّا مَا

حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا .
} وَالْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ هُوَ الْحَقِيقَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : هَذَا لَحْمٌ عِنْدَ النَّاسِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا يَحْنَثُ بِهَذَا ، وَكَذَلِكَ فِي الْعَادَةِ يُقَالُ فِي الْعَرَبِيَّةِ : سَمِينُ اللَّحْمِ وَبِالْفَارِسِيَّةِ فربهن ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ يَمِينَهُ لَوْ كَانَ عَلَى الشِّرَاءِ لَمْ يَحْنَثْ بِهَذَا ، إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُفَرَّقُ بِمَا ذَكَرْنَا ، أَنَّ الشِّرَاءَ لَا يَتِمُّ بِهِ وَحْدَهُ ، بِخِلَافِ الْأَكْلِ ، ثُمَّ سَمِينُ اللَّحْمِ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ اللُّحُومِ فِي اتِّخَاذِ الْقَلَايَا وَالْبَاحَاتِ كَاسْتِعْمَالِ الشُّحُومِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَيْمَانَ لَا تَنْبَنِي عَلَى أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ ، وَفِي الْآيَةِ اسْتِثْنَاءُ الْحَوَايَا أَيْضًا ، وَمَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ وَاحِدٍ لَا يَقُولُ : أَنَّ مُخَّ الْعَظْمِ يَكُونُ شَحْمًا .

وَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا ، فَأَكَلَ بُسْرًا مُذَنَّبًا حَنِثَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا ، فَأَكَلَ رُطَبًا فِيهِ بَعْضُ الْبُسْرِ ، فَهُوَ حَانِثٌ ؛ لِأَنَّهُ أَكَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ حَقِيقَةً وَعُرْفًا ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رُطَبًا ، فَأَكَلَ بُسْرًا مُذَنَّبًا ، حَنِثَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بُسْرًا ، فَأَكَلَ رُطَبًا ، وَفِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْبُسْرِ ، فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : الْمُذَنِّبُ لَا يُسَمَّى رُطَبًا ، وَإِنَّمَا يُسَمَّى بُسْرًا حَتَّى يَحْنَثَ بِأَكْلِهِ ، لَوْ كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى الْبُسْرِ ، فَكَيْفَ يَكُونُ رُطَبًا وَبُسْرًا فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ؟ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا : الْجَانِبُ الَّذِي أَرْطَبَ مِنْهُ رَطُبَ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَيَّزَ ذَلِكَ ، وَأَكَلَهُ وَحْدَهُ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ ، فَكَذَلِكَ إذَا أَكَلَهُ مَعَ غَيْرِهِ ، وَلِهَذَا يَحْنَثُ لَوْ كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى أَكْلِ الْبُسْرِ ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْجَانِبَيْنِ مِنْهُ بُسْرٌ ، وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا ، فَإِنْ الرُّطَبَ وَالْبُسْرَ جِنْسٌ وَاحِدٌ ، وَمِنْ أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْمَغْلُوبَ مُسْتَهْلَكٌ بِالْغَالِبِ ، وَإِنْ كَانَ الْجِنْسُ وَاحِدًا ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ الْأَقَلُّ مُسْتَهْلَكًا بِالْأَكْثَرِ ، فَيُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ .

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ مِنْ هَذَا الْعِنَبِ شَيْئًا ، فَأَكَلَ مِنْهُ بَعْدَ مَا صَارَ زَبِيبًا لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ الْمَذْكُورَ دَاعٍ إلَى الْيَمِينِ ، فَقَدْ يَمْتَنِعُ الْمَرْءُ مِنْ تَنَاوُلِ الْعِنَبِ دُونَ الزَّبِيبِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الرُّطَبِ مَعَ التَّمْرِ ؛ وَلِأَنَّ الزَّبِيبَ غَيْرُ الْعِنَبِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ غَصَبَ عِنَبًا ، فَجَعَلَهُ زَبِيبًا انْقَطَعَ حَقُّ صَاحِبِهِ عَنْهُ ، وَيَمِينُهُ عَلَى عَيْنٍ مَأْكُولٍ ، فَلَا يَتَنَاوَلُ مَا يُتَّخَذُ مِنْهُ ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ جَوْزًا ، فَأَكَلَ مِنْهُ رَطْبًا أَوْ يَابِسًا حَنِثَ ، وَكَذَلِكَ اللَّوْزُ وَالْفُسْتُقُ وَالتِّينُ ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ الَّذِي عُقِدَ بِهِ الْيَمِينُ حَقِيقَةٌ فِي الرَّطْبِ وَالْيَابِسِ مِنْهُ ، فَإِنَّهُ بَعْدَ الْيُبْسِ لَا يَتَجَدَّدُ لِلْعَيْنِ اسْمٌ آخَرُ بِخِلَافِ الزَّبِيبِ ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شَيْئًا مِنْ الْحُلْوِ ، فَأَيُّ شَيْءٍ مِنْ الْحُلْوِ أَكَلَهُ مِنْ خَبِيصٍ أَوْ عَسَلٍ أَوْ سُكَّرٍ أَوْ نَاطِفٍ حَنِثَ ، وَالْحُلْوُ اسْمٌ لِكُلِّ شَيْءٍ حُلْوٍ ، لَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِهِ غَيْرُ حُلْوٍ ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ، وَإِنْ أَكَلَ عِنَبًا أَوْ بِطِّيخًا لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ كَانَ حُلْوًا ؛ لِأَنَّ مِنْ جِنْسِهِ حَامِضٌ غَيْرُ حُلْوٍ خُصُوصًا بِأُوزَجَنْدَ وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ خَبِيصًا ، فَأَكَلَ مِنْهُ يَابِسًا أَوْ رَطْبًا حَنِثَ ؛ لِأَنَّ الرَّطْبَ وَالْيَابِسَ خَبِيصٌ حَقِيقَةً وَعُرْفًا .

وَإِنْ حَلَفَ طَائِعًا أَوْ مُكْرَهًا أَنْ لَا يَأْكُلَ شَيْئًا سَمَّاهُ ، فَأُكْرِهَ حَتَّى أَكَلَهُ حَنِثَ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَا يَعْدِمُ الْقَصْدَ ، وَلَا يَمْنَعُ عَقْدَ الْيَمِينِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الطَّلَاقِ ، وَبَعْدَ انْعِقَادِ الْيَمِينِ شَرْطُ حِنْثِهِ الْأَكْلُ ، وَذَلِكَ فِعْلٌ مَحْسُوسٌ ، وَلَا يَنْعَدِمُ بِالْإِكْرَاهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْنَعُ حُصُولَ الشِّبَعِ وَالرَّيِّ بِهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ أَكَلَهُ ، وَهُوَ مَغْمِيٌّ عَلَيْهِ أَوْ مَجْنُونٌ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ الْأَكْلُ ، وَالْجُنُونُ وَالْإِغْمَاءُ لَا يَعْدِمُ فِعْلَ الْأَكْلِ ، وَوُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بِالْيَمِينِ لَا بِالْحِنْثِ ، وَهُوَ كَانَ صَحِيحًا عِنْدَ الْيَمِينِ ، فَيَحْنَثُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ ، وَإِنْ أُوجِرَ أَوْ صُبَّ فِي حَلْقِهِ مُكْرَهًا ، وَقَدْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُهُ لَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ ، وَهُوَ لَيْسَ بِفَاعِلٍ ، بَلْ هُوَ مَفْعُولٌ بِهِ فَلَا يَحْنَثُ ، وَلَكِنْ لَوْ شَرِبَ مِنْهُ بَعْدَ هَذَا حَنِثَ ؛ لِأَنَّ مَا سَبَقَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي إيجَادِ شَرْطِ الْحِنْثِ ، وَلَكِنْ لَا يَرْتَفِعُ الْيَمِينُ بِهِ ؛ لِأَنَّ ارْتِفَاعَهَا بِوُجُودِ شَرْطِ الْحِنْثِ .

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامًا سَمَّاهُ ، فَمَضَغَهُ حَتَّى دَخَلَ جَوْفَهُ مِنْ مَاؤُهُ ، ثُمَّ أَلْقَاهُ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ مَا وَصَلَ إلَى جَوْفِهِ عَيْنُ الطَّعَامِ ، وَلَا مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْمَضْغُ وَالْهَشْمُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَكْلَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهَذَا .

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ تَمْرًا ، فَأَكَلَ قَسْبًا لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الْقَسْبَ يَابِسُ الْبُسْرِ ، وَلَوْ أَكَلَهُ رَطْبًا لَمْ يَحْنَثْ ، فَكَذَلِكَ إذَا أَكَلَهُ يَابِسًا ، وَكَذَلِكَ إنْ أَكَلَ بُسْرًا مَطْبُوخًا ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ حَبًّا ، فَأَيُّ حَبٍّ أَكَلَ مِنْ سِمْسِمٍ أَوْ غَيْرِهِ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْحَبِّ مِمَّا يَأْكُلُهُ النَّاسُ ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي يَمِينِهِ بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ شَيْئًا بِعَيْنِهِ ، فَيَكُونُ عَلَى مَا نَوَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَكُلُّ شَيْءٍ يُؤْكَلُ وَيُشْرَبُ كَالسَّوِيقِ وَالْعَسَلِ وَاللَّبَنِ ، فَإِنْ عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى أَكْلِهِ ، لَمْ يَحْنَثْ بِشُرْبِهِ ، وَإِنْ عَقَدَ عَلَى شُرْبِهِ لَمْ يَحْنَثْ بِأَكْلِهِ ؛ لِأَنَّهُمَا فِعْلَانِ مُخْتَلِفَانِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَحِلُّ وَاحِدًا ، وَشَرْطُ حِنْثِهِ الْفِعْلُ دُونَ الْمَحِلِّ ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ خُبْزًا ، فَأَكَلَ خُبْزَ حِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ خُبْزٌ حَقِيقَةً وَعُرْفًا ، وَإِنْ أَكَلَ مِنْ خُبْزِ غَيْرِهِمَا لَمْ يَحْنَثْ ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى خُبْزًا مُطْلَقًا ، وَلَا يُؤْكَلُ ذَلِكَ عَادَةً فِي عَامَّةِ الْأَمْصَارِ ، وَإِنْ أَكَلَ خُبْزَ قَطَائِفَ لَمْ يَحْنَثْ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَاهُ ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى خُبْزًا مُطْلَقًا ، وَإِنَّمَا يُسَمَّى قَطَائِفَ ، وَإِنْ نَوَاهُ فَالْمَنْوِيُّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ ؛ لِأَنَّهُ نَوَى خُبْزًا مُقَيَّدًا ، وَإِنْ أَكَلَ خُبْزَ الْأُرْزِ ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ بَلَدٍ ذَلِكَ طَعَامُهُمْ كَأَهْلِ طَبَرِسْتَانَ فَهُوَ حَانِثٌ ، فَأَمَّا فِي دِيَارِنَا لَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ أَكْلَ خُبْزِ الْأُرْزِ غَيْرُ مُعْتَادٍ فِي دِيَارِنَا ، وَلَا يُسَمَّى خُبْزًا مُطْلَقًا ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ تَمْرًا ، فَأَكَلَ حَيْسًا حَنِثَ ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ التَّمْرُ بِعَيْنِهِ ، لَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ ، فَإِنَّ الْحَيْسَ تَمْرٌ يُنْقَعُ فِي اللَّبَنِ حَتَّى يَنْتَفِخَ فَيُؤْكَلَ .

دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ فَدَعَاهُ إلَى الْغَدَاء فَحَلَفَ أَنْ لَا يَتَغَدَّى ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَتَغَدَّى لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ إنَّمَا وَقَعَتْ جَوَابًا لِكَلَامِهِ ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ مُطْلَقَ الْكَلَامِ يَتَقَيَّدُ بِمَا سَبَقَ فِعْلًا أَوْ قَوْلًا ، حَتَّى لَوْ قَامَتْ امْرَأَتُهُ لِتَخْرُجَ ، فَقَالَ لَهَا : إنْ خَرَجْت فَأَنْتِ طَالِقٌ .
كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى تِلْكَ الْخَرْجَةِ ، فَكَذَلِكَ إذَا دَعَاهُ إلَى الْغَدَاءِ ، فَقَالَ : إنْ تَغَدَّيْت مَعْنَاهُ الْغَدَاءُ الَّذِي دَعَوْتَنِي إلَيْهِ ، وَلَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ وَتَغَدَّى ، وَلَا إذَا تَغَدَّى عِنْدَهُ فِي يَوْمٍ آخَرَ ، فَكَذَلِكَ هُنَا .
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .

بَابُ الْيَمِينِ فِي الشَّرَابِ ( قَالَ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : رَجُلٌ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ شَرَابًا فَأَيُّ شَرَابٍ شَرِبَهُ مِنْ مَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ ، حَنِثَ فِي يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الشَّرَابَ مَا يَتَأَتَّى فِيهِ فِعْلُ الشُّرْبِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا حَدَّهُ ، وَالْمَاءُ فِي ذَلِكَ كَغَيْرِهِ ، فَإِنَّهُ شَرَابٌ طَهُورٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا .
} فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ كُلُّ شَرَابٍ تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ ، وَإِنْ عَيَّنَ شَرَابًا بِعَيْنِهِ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ نَبِيذًا ، فَأَيُّ نَبِيذٍ شَرِبَهُ حَنِثَ ، وَالنَّبِيذُ الزَّبِيبُ أَوْ التَّمْرُ يُنْقَعُ فِي الْمَاءِ ، فَتُسْتَخْرَجُ حَلَاوَتُهَا ، ثُمَّ يُجْعَلُ شَرَابًا مَأْخُوذًا مِنْ النَّبْذِ ، وَهُوَ الطَّرْحُ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ .
} فَإِنْ شَرِبَ مُسْكِرًا أَوْ فَضِيخًا أَوْ عَصِيرًا لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِنَبِيذٍ ، وَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ النَّبِيذِ عَادَةً ، وَلَكِنْ هَذَا إذَا كَانَتْ يَمِينُهُ بِالْعَرَبِيَّةِ ، أَمَّا بِالْفَارِسِيَّةِ اسْمُ النَّبِيذِ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ مُسْكِرٍ ، وَالْأَيْمَانُ تَنْبَنِي عَلَى الْعُرْفِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مَاءً ، فَشَرِبَ نَبِيذًا لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ الْمَاءِ ، فَإِنَّهُ قَدْ تَغَيَّرَ بِمَا غَلَبَ عَلَيْهِ مِنْ حَلَاوَةِ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ ، وَإِنْ طُبِخَ فَلَا إشْكَالَ فِيهِ أَنَّهُ غَيْرُ الْمَاءِ .

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مَعَ فُلَانٍ شَرَابًا ، فَشَرِبَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ مِنْ شَرَابٍ وَاحِدٍ حَنِثَ ، وَإِنْ كَانَ الْإِنَاءُ الَّذِي يَشْرَبَانِ مِنْهُ مُخْتَلِفًا ، فَإِنْ شَرِبَ الْحَالِفُ مِنْ شَرَابٍ ، وَالْآخَرُ مِنْ شَرَابٍ غَيْرِهِ ، وَقَدْ ضَمَّهُمَا مَجْلِسٌ وَاحِدٌ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ مُرَادَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ مُنَادَمَتِهِ ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ إذَا جَمَعَهُمَا مَجْلِسٌ وَاحِدٌ سَوَاءٌ كَانَ الشَّرَابُ وَاحِدًا أَوْ مُخْتَلِفًا ، وَالْإِنَاءُ الَّذِي يَشْرَبَانِ فِيهِ وَاحِدًا أَوْ مُخْتَلِفًا ؛ لِأَنَّ الشُّرْبَ مَعَ الْغَيْرِ هَكَذَا يَكُونُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمِيرَ مَعَ نُدَمَائِهِ يَشْرَبُ ، ثُمَّ إنَاؤُهُ الَّذِي يَشْرَبُ مِنْهُ غَيْرُ إنَائِهِمْ ، وَرُبَّمَا يَشْرَبُ الصَّرْفَ ، وَيَمْزُجُ لَهُمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى شَرَابًا وَاحِدًا حِينَ حَلَفَ فَحِينَئِذٍ قَدْ نَوَى أَكْمَلَ مَا يَكُونُ مِنْ الشُّرْبِ مَعَ فُلَانٍ ، وَنِيَّتُهُ لِذَلِكَ صَحِيحٌ .

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ الطَّعَامَ ، فَأَكَلَ مِنْهُ شَيْئًا يَسِيرًا حَنِثَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ الْمَاءَ ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ حَقِيقَةٌ لِلْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ، وَالْفِعْلُ يَتَحَقَّقُ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ، فَإِذَا عَنِيَ الْمَاءَ كُلَّهُ وَالطَّعَامَ ، لَمْ يَحْنَثْ بِهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ وَالطَّعَامَ اسْمُ جِنْسٍ ، فَإِذَا عَنِيَ الْكُلَّ ، فَإِنَّمَا نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ ، فَتَعْمَلُ نِيَّتُهُ فَلَا يَحْنَثُ بِهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَشْرَبَ الْمَاءَ كُلَّهُ ، وَلَا أَنْ يَأْكُلَ الطَّعَامَ كُلَّهُ .

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَذُوقُ شَرَابًا ، وَهُوَ يَعْنِي لَا يَشْرَبُ النَّبِيذَ خَاصَّةً ، فَأَكَلَهُ أَكْلًا لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الشَّرَابَ ، وَالشَّرَابُ يُشْرَبُ ، فَنِيَّةُ الشُّرْبِ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ الذَّوْقِ صَحِيحٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مَتَى عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلِ الشُّرْبِ ، لَمْ يَحْنَثْ بِالْأَكْلِ ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَذُوقُ لَبَنًا ، وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَأَكَلَهُ ، أَوْ شَرِبَهُ حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ذَاقَهُ ، وَزَادَ عَلَيْهِ .

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ دِجْلَةَ ، فَغَرَفَ مِنْهَا بِقَدَحٍ وَشَرِبَهُ ، لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، إلَّا أَنْ يَضَعَ فَاهُ عَلَى دِجْلَةَ بِعَيْنِهَا فَيَشْرَبَ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ الشُّرْبَ مِنْ دِجْلَةَ هَكَذَا يَكُونُ فِي الْعَادَةِ ، فَإِنَّهُ يُقَالُ : أَهْلُ بَلْدَةِ كَذَا يَشْرَبُونَ مِنْ دِجْلَةَ ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِطَرِيقِ الِاغْتِرَافِ فِي الْأَوَانِي ، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ : حَقِيقَةُ الشُّرْبِ مِنْ دِجْلَةَ يَكُونُ بِالْكُرَاعِ ، وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ ، جَاءَ فِي { حَدِيثٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِقَوْمٍ نَزَلَ عِنْدَهُمْ : هَلْ عِنْدَكُمْ مَاءٌ بَاتَ فِي شَنٍّ وَإِلَّا كَرَعْنَا ؟ } وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحَقِيقَةَ إذَا كَانَتْ مُسْتَعْمَلَةً ، فَاللَّفْظُ يُحْمَلُ عَلَيْهِ دُونَ الْمَجَازِ ، وَالْحَقِيقَةُ مُرَادَةٌ ، فَإِنَّهُ لَوْ كَرَعَ يَحْنَثُ ، وَهُوَ حَقِيقَةُ الشُّرْبِ مِنْ دِجْلَةَ ؛ لِأَنَّ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ ، فَالْحَقِيقَةُ أَنْ يَضَعَ فَاهُ عَلَى بَعْضِ دِجْلَة ، وَالْحَقِيقَةُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ فِي مَوْضِعِهِ ، وَالْمَجَازُ اسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ مُسْتَعْمَلًا فِي مَوْضِعِهِ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ مَوْضِعِهِ ، فَلِهَذَا وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ مَسْأَلَةِ الْحِنْطَةِ سَوَاءٌ ، وَأَنَّ عِنْدَهُمَا فِي الْفَصْلَيْنِ ، إنَّمَا يَحْنَثُ لِعُمُومِ الْمَجَازِ .
( قَالَ ) : أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْجُبِّ ، فَغَرَفَ مِنْهُ بِقَدَحٍ فَشَرِبَ مِنْهُ ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ ، وَهَذَا عِنْدَهُمَا ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا كَانَ مَلْآنًا ، فَيَمِينُهُ عَلَى الْكَرْعِ خَاصَّةً ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَلْآنًا ، فَحِينَئِذٍ الْجَوَابُ كَمَا قَالَ ؛ لِأَنَّ الْكَرْعَ لَا يَتَأَتَّى هُنَا ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ هَذَا الْبِئْرِ ، وَإِنْ تَكَلَّفَ لِلْكَرْعِ مِنْ الْبِئْرِ ، فَفِيهِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي

مَسْأَلَةِ الدَّقِيقِ .
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .

بَابُ الْكِسْوَةِ ( قَالَ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَإِذَا حَلَفَ لَا يَشْتَرِي ثَوْبًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَاشْتَرَى كِسَاءَ خَزٍّ أَوْ طَيْلَسَانًا أَوْ فَرْوًا أَوْ قَبَاءً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَلْبَسُ النَّاسُ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الثَّوْبِ حَقِيقَةٌ لِهَذَا وَيَنْطَلِقُ عَلَيْهِ عُرْفًا ، وَإِنْ اشْتَرَى مِسْحًا أَوْ بِسَاطًا لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الثَّوْبِ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ عَادَةً وَإِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى مَلْبُوسِ بَنِي آدَمَ ، وَفِي الْأَيْمَانِ لِلْعَادَةِ عِبْرَةٌ .
وَلَوْ اشْتَرَى قَلَنْسُوَةً لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِثَوْبٍ فَالثَّوْبُ مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى خِرْقَةً لَا تَكُونُ أَيْ لَا تَبْلُغُ نِصْفَ ثَوْبٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ وَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْكِسْوَةُ فِي الْكَفَّارَةِ وَإِنْ اشْتَرَى أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الثَّوْبِ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الثَّوْبِ يَنْطَلِقُ عَلَى أَكْثَرِ الثَّوْبِ وَلِأَنَّهُ يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَى ثَوْبًا صَغِيرًا حَنِثَ وَمُرَادُهُ مَا يَكُونُ إزَارًا أَوْ سَرَاوِيلَ يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ وَتَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا فَلَوْ سَمَّى ثَوْبًا بِعَيْنِهِ وَلَبِسَ مِنْهُ طَائِفَةً يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِهِ حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى لَابِسًا لَهُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَلْبَسُ الرِّدَاءَ وَبَعْضُ جَوَانِبِهِ عَلَى الْأَرْضِ

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا بِعَيْنِهِ فَاِتَّخَذَ مِنْهُ جُبَّةً وَحَشَاهَا وَلَبِسَهَا حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ حِنْثِهِ لُبْسُ الْعَيْنِ وَعَقَدَ الْيَمِينَ بِاسْمِ الثَّوْبِ وَالثَّوْبُ بَاقٍ بَعْدَ مَا اتَّخَذَ مِنْهُ الْجُبَّةَ فَإِنَّ لَابِسَ الْجُبَّةِ يُسَمَّى لَابِسًا لِلثَّوْبِ بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ عَلَى قَمِيصٍ لَا يَلْبَسُهُ أَبَدًا فَجَعَلَ مِنْهُ قَبَاءً فَلَبِسَهُ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ بِاسْمِ الْقَمِيصِ وَلَا يَبْقَى هَذَا الِاسْمُ بَعْدَ مَا جَعَلَهُ قَبَاءً أَلَا تَرَى أَنَّ لَابِسَ الْقَبَاءِ لَا يُسَمَّى لَابِسًا لِلْقَمِيصِ ؟

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ مِنْ غَزْلِ فُلَانَةَ شَيْئًا فَلَبِسَ ثَوْبًا مِنْ غَزْلِهَا حَنِثَ ؛ لِأَنَّ لُبْسَ الْغَزْلِ هَكَذَا يَكُونُ فِي الْعَادَةِ وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ غَيْرُ الْغَزْلِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ غَصَبَ غَزْلًا فَنَسَجَهُ كَانَ الثَّوْبُ لَهُ ؟ وَلَكِنَّهُ تَرَكَ هَذَا الْقِيَاسَ لِلْعُرْفِ فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَلُفُّ الْغَزْلَ عَلَى نَفْسِهِ هَكَذَا ، وَلَوْ فَعَلَهُ لَا يُسَمَّى لَابِسًا ثَوْبًا وَإِنَّمَا يُسَمَّى لَابِسًا لِلْغَزْلِ ، وَإِنْ نَوَى الْغَزْلَ بِعَيْنِهِ قَبْلَ أَنْ يُنْسَجَ لَمْ يَحْنَثْ إذَا لَبِسَهُ يَعْنِي ثَوْبًا ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ .
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مِنْ غَزْلِ فُلَانَةَ فَلَبِسَ ثَوْبًا مِنْ غَزْلِهَا وَغَزْلِ أُخْرَى لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الَّذِي مِنْ غَزْلِهَا بَعْضُ الثَّوْبِ ، وَيَسْتَوِي إنْ نُسِجَ غَزْلُهُمَا مُخْتَلَطًا أَوْ غَزْلُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِي جَانِبٍ عَلَى حِدَةٍ ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا مِنْ نَسْجِ فُلَانٍ أَوْ مِنْ شِرَاءِ فُلَانٍ وَهَذَا إذَا كَانَ فُلَانٌ ذَلِكَ يُبَاشِرُ الشِّرَاءَ وَالنَّسْجَ بِيَدِهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَنْسِجُ لَهُ غِلْمَانُهُ وَأُجَرَاؤُهُ فَهُوَ حَانِثٌ إذَا لَبِسَ ثَوْبًا نَسَجُوهُ لَهُ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْحَالِفِ مُعْتَبَرٌ فِي الْيَمِينِ

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ خَزًّا فَلَبِسَ ثَوْبًا مِنْ هَذَا الَّذِي يُسَمِّيه النَّاسُ الْخَزُّ حَنِثَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَالِصًا ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الِاسْمِ مُنْصَرِفٌ إلَى مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعُرْفَ اصْطِلَاحٌ حَادِثٌ طَرَأَ عَلَى أَصْلِ اللُّغَةِ وَهُوَ مَقْصُودُ الْمُتَكَلِّمِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ .
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ حَرِيرًا أَوْ إبْرَيْسَمًا فَلَبِسَ ثَوْبَ خَزٍّ سَدَاهُ حَرِيرٌ وَإِبْرَيْسَمٌ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ لَا يُنْسَبُ إلَى سَدَاهُ وَإِنَّمَا يُنْسَبُ إلَى لُحْمَتِهِ فَإِنَّ اللُّحْمَةَ هِيَ الَّتِي تَظْهَرُ دُونَ السَّدَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ لُبْسَ الْحَرِيرِ حَرَامٌ عَلَى الذُّكُورِ ثُمَّ لَا بَأْسَ بِلُبْسِ الْعَتَّابِيِّ وَالْمُصْمَتِ وَإِنْ كَانَ سَدَاهُ حَرِيرًا ؛ لِأَنَّ لُحْمَتَهُ غَزْلٌ ؟ وَلَوْ لَبِسَ ثَوْبًا لُحْمَتُهُ إبْرَيْسَمٌ أَوْ حَرِيرٌ حَنِثَ عِنْدنَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ حَرِيرًا كُلَّهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلرِّجَالِ لُبْسُهُ ؟ وَالشَّافِعِيُّ يَعْتَبِرُ اللَّوْنَ وَالْبَرِيقَ فَيَقُولُ : إنْ كَانَ الْغَالِبَ عَلَيْهِ بَرِيقَ الْإِبْرَيْسَمِ وَلِينَهُ حَنِثَ وَإِلَّا فَلَا ، وَأَشَارَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْخَزِّ وَلَا مَعْنًى لِلْفَرْقِ سِوَى الْعُرْفِ ، فَإِنَّ النَّاسَ يُسَمُّونَهُ ثَوْبَ الْخَزِّ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لُحْمَتُهُ خَزًّا وَلَا يُسَمُّونَهُ ثَوْبَ الْحَرِيرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ حَرِيرًا كُلَّهُ أَوْ يَكُونَ لُحْمَتُهُ حَرِيرًا .
( قَالَ ) إلَّا أَنْ يَعْنِيَ سَدَا الثَّوْبِ أَوْ لُحْمَتَهُ أَوْ عَلَمَهُ فَحِينَئِذٍ يَحْنَثُ إذَا لَبِسَهُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ ؛ لِأَنَّهُ شَدَّدَ الْأَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ بِنِيَّتِهِ .
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ قُطْنًا فَلَبِسَ ثَوْبَ قُطْنٍ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ الْقُطْنَ هَكَذَا يُلْبَسُ ، وَإِنْ لَبِسَ قَبَاءً لُبِسَ بِقُطْنِ وَلَكِنَّهُ مَحْشُوٌّ بِقُطْنٍ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الْقَبَاءَ يُنْسَبُ إلَى الظِّهَارَةِ لَا إلَى الْحَشْوِ ، وَلَا يُسَمَّى فِي النَّاسِ لَابِسًا لِلْحَشْوِ وَإِنَّمَا يُسَمَّى لَابِسًا لِلْقَبَاءِ الْمَحْشُوِّ فَلَا يَحْنَثُ لِكَوْنِ حَشْوِهِ قُطْنًا إلَّا أَنْ يَعْنِيَهُ .

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ كَتَّانًا فَلَبِسَ ثَوْبًا مِنْ قُطْنٍ وَكَتَّانٍ حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَبِسَ الْكَتَّانَ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبَ كَتَّانٍ ؛ لِأَنَّهُ إذَا سَمَّى الثَّوْبَ فَشَرْطُ حِنْثِهِ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُ كَتَّانًا وَلَمْ يُوجَدْ ، وَإِذَا سَمَّى الْكَتَّانَ فَشَرْطُ حِنْثِهِ وَهُوَ لُبْسُ الْكَتَّانِ قَدْ وُجِدَ ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ : هَذَا ثَوْبُ قُطْنٍ وَكَتَّانٍ فَإِنَّ الْقُطْنَ وَالْكَتَّانَ يَسْتَوِيَانِ فِي إضَافَةِ الثَّوْبِ إلَيْهِمَا فَلَا يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَى أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ، بِخِلَافِ الْخَزِّ فَإِنَّهُ يَغْلِبُ عَلَى الْإِبْرَيْسَمِ فِي نِسْبَةِ الثَّوْبِ إلَيْهِ وَبِخِلَافِ الْإِبْرَيْسَمِ مَعَ الْغَزْلِ فَإِنَّ الْإِبْرَيْسَمَ يَغْلِبُ عَلَى الْغَزْلِ فِي نِسْبَةِ الثَّوْبِ إلَيْهِ حَتَّى يُسَمَّى مُلْحَمًا وَإِنْ كَانَ سَدَاهُ قُطْنًا وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ هَذَا الْقُطْنَ فَجَعَلَهُ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ الْقُطْنَ هَكَذَا يُلْبَسُ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ بَنَى هَذِهِ الْمَسَائِلَ عَلَى مَعَانِي كَلَامِ النَّاسِ فَلَا يَشْكُلُ عَلَى مَنْ يَتَأَمَّلُ فِي كَلَامِ النَّاسِ .
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا قَدْ سَمَّاهُ بِعَيْنِهِ فَاتَّزَرَ بِهِ أَوْ ارْتَدَى أَوْ اشْتَمَلَ بِهِ حَنِثَ ، وَالْقَمِيصُ وَغَيْرُهُ فِيهِ سَوَاءٌ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ : لَا أَلْبَسُ قَمِيصًا فَاتَّزَرَ بِقَمِيصٍ أَوْ ارْتَدَى بِهِ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ فِي الْقِيَاسِ فِي الْفَصْلَيْنِ سَوَاءٌ ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا بِنَاءً عَلَى الْحَرْفِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّ الْوَصْفَ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ مُعْتَبَرٌ وَفِي الْمُعَيَّنِ لَا يُعْتَبَرُ إنَّمَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِوَصْفِهِ ، ثُمَّ لُبْسُ الْقَمِيصِ بِصِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ مُتَعَارَفٌ وَالثَّابِتُ بِالْعُرْفِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ ، وَإِذَا لَمْ يُعَيِّنْ الْقَمِيصَ انْصَرَفَتْ يَمِينُهُ إلَى اللُّبْسِ بِالصِّفَةِ الْمَعْرُوفَةِ فَإِذَا اتَّزَرَ بِهِ أَوْ ارْتَدَى بِهِ لَمْ يَحْنَثْ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : مَا لَبِسْت الْيَوْمَ قَمِيصًا كَانَ صِدْقًا ؟ وَأَمَّا فِي الْمُعَيَّنِ لَا يُعْتَبَرُ

الْوَصْفُ فَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ لَبِسَهُ كَانَ حَانِثًا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : مَا لَبِسْت هَذَا الْقَمِيصَ وَقَدْ اتَّزَرَ بِهِ كَانَ كَاذِبًا ؟ وَإِنْ لَبِسَ قَمِيصًا لَيْسَ لَهُ كُمَّانِ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى قَمِيصًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُمٌّ ؛ لِأَنَّ الْقَمِيصَ كَالدِّرْعِ وَقَدْ يَشْتَرِي الرَّجُلُ لِدِرْعِهِ كُمَّيْنِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْقَمِيصَ وَالدِّرْعَ يُنْسَبُ إلَى الْبَدَنِ فَلَا يَنْعَدِمُ الِاسْمُ بِعَدَمِ الْكُمَّيْنِ ، كَالرَّجُلِ يُسَمَّى رَجُلًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ يَدَانِ .
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا فَوَضَعَهُ عَلَى عَاتِقِهِ يُرِيدُ بِهِ الْحَمْلَ لَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّهُ حَامِلٌ حَافِظٌ لَا مُسْتَعْمِلٌ لَابِسٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمِينَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ بِالْأَمَانَةِ لَمْ يَضْمَنْ ؟ وَإِنْ نَوَى نَوْعًا مِنْ الثِّيَابِ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يُدَنْ فِي الْحُكْمِ ؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ .
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ مِنْ ثَوْبِ فُلَانٍ شَيْئًا وَهُوَ يَنْوِي مَا عِنْدَهُ فَاشْتَرَى فُلَانٌ ثِيَابًا فَلَبِسَ مِنْهَا لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ فَإِنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلٍ فِي مِلْكٍ مُضَافٍ إلَى فُلَانٍ وَنَوَى حَقِيقَةَ الْإِضَافَةِ فِي الْحَالِ فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ وَيُجْعَلُ مَا نَوَى كَالْمَلْفُوظِ بِهِ

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَكْسُو فُلَانًا شَيْئًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَكَسَاهُ قَلَنْسُوَةً أَوْ خُفَّيْنِ أَوْ نَعْلَيْنِ أَوْ جَوْرَبَيْنِ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ الْكِسْوَةَ عِبَارَةٌ عَنْ التَّمْلِيكِ وَمَا مَلَكَهُ شَيْءٌ فَيَتِمُّ شَرْطُ حِنْثِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَكْسُوهُ ثَوْبًا فَإِنَّ الثَّوْبَ مَا يَكُونُ سَاتِرًا لِبَدَنِهِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْخُفِّ وَالْقَلَنْسُوَةِ وَلِهَذَا لَا تَتَأَدَّى بِهِمَا الْكِسْوَةُ فِي الْكَفَّارَةِ ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَكْسُوهُ ثَوْبًا فَأَعْطَاهُ دَرَاهِمَ فَاشْتَرَى بِهَا ثَوْبًا لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ مَا كَسَاهُ الثَّوْبَ وَإِنَّمَا وَهَبَ لَهُ الدَّرَاهِمَ وَأَشَارَ عَلَيْهِ بِمَشُورَةٍ وَالْمَوْهُوبُ لَهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ اشْتَرَى بِهَا ثَوْبًا وَإِنْ شَاءَ غَيْرَهُ فَلَوْ أَرْسَلَ إلَيْهِ بِثَوْبِ كِسْوَةٍ حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ كَسَاهُ فَإِنَّ فِعْلَ رَسُولِهِ كَفِعْلِهِ فَإِنْ نَوَى أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ يَدِهِ إلَى يَدِهِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ .

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ سِلَاحًا فَتَقَلَّدَ سَيْفًا أَوْ تَنَكَّبَ قَوْسًا أَوْ تُرْسًا لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى فِي النَّاسِ لَابِسًا وَإِنَّمَا يُسَمَّى مُتَقَلِّدًا لِلسَّيْفِ أَوْ حَامِلًا لِلسِّلَاحِ أَوْ مُعَلِّقًا لَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَوْ لَبِسَ دِرْعَ حَدِيدٍ حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى بِهِ لَابِسًا لِلسِّلَاحِ ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ دِرْعًا فَلَبِسَ دِرْعَ حَدِيدٍ أَوْ دِرْعَ امْرَأَةٍ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الدِّرْعِ تَنَاوَلَهُمَا حَقِيقَةً وَعَادَةً فَإِنْ عَنِيَ أَحَدُهُمَا فَقَدْ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ ، فَلَا يَحْنَثُ إلَّا بِلُبْسِ مَا عَنِيَ .
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ شَيْئًا فَلَبِسَ دِرْعَ حَدِيدٍ أَوْ دِرْعَ امْرَأَةٍ أَوْ خُفَّيْنِ أَوْ قَلَنْسُوَةً حَنِثَ فِي كُلِّ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلِ اللُّبْسِ فِي مَحَلٍّ هُوَ شَيْءٌ وَاسْمُ الشَّيْءِ يَتَنَاوَلُ هَذَا كُلَّهُ ، وَفِعْلُ اللُّبْسِ يُوجَدُ فِي كُلِّهَا فَلِهَذَا حَنِثَ .
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ الْقَضَاءِ فِي الْيَمِينِ ( قَالَ ) وَإِذَا حَلَفَ لَيُعْطِيَنَّ فُلَانًا مَالَهُ رَأْسَ الشَّهْرِ أَوْ عِنْدَ الْهِلَالِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَلَهُ اللَّيْلَةُ الَّتِي يُهِلُّ فِيهَا الْهِلَالُ وَيَوْمُهَا كُلُّهَا ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ جُزْءٌ مِنْ الزَّمَانِ يَشْتَمِلُ عَلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَرَأْسُ كُلِّ شَهْرٍ أَوَّلُهُ ، فَأَوَّلُ اللَّيْلَةِ وَأَوَّلُ الْيَوْمِ مِنْ الشَّهْرِ يَكُونُ رَأْسَ الشَّهْرِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْعُرْفِ يُقَالُ : الْيَوْمُ رَأْسُ الشَّهْرِ وَإِنَّمَا أَهَلَّ الْبَارِحَةَ ، وَعِنْدَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقُرْبِ وَذِكْرُهُ فِي الْمَعْنَى وَذِكْرُ الرَّأْسِ سَوَاءٌ وَإِنْ حَلَفَ لَيُعْطِيهِ حَقَّهُ صَلَاةَ الظُّهْرِ فَلَهُ وَقْتُ الظُّهْرِ كُلُّهُ ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تُذْكَرُ بِمَعْنَى الْوَقْتِ .
قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ لِلصَّلَاةِ أَوَّلًا وَآخِرًا } وَالْمُرَادُ الْوَقْتُ ، وَلِأَنَّ الْإِعْطَاءَ إنَّمَا يَكُونُ فِي الزَّمَانِ لَا فِي الصَّلَاةِ فَعَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ الْوَقْتُ .
وَإِنْ قَالَ : عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْ حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ فَهُوَ إلَى أَنْ تَبْيَضَّ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ نَهْي عَنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ثُمَّ النَّهْيُ يَمْتَدُّ إلَى أَنْ تَبْيَضَّ .
وَإِنْ قَالَ : ضَحْوَةً فَوَقْتُ الضَّحْوَةِ مِنْ حِينَ تَبْيَضُّ الشَّمْسُ إلَى أَنْ تَزُولَ .
وَإِنْ قَالَ : مَسَاءً فَالْمَسَاءُ مَسَاءَانِ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الزَّوَالِ وَالْآخَرُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ فَأَيُّهُمَا نَوَى صَحَّتْ نِيَّتُهُ .
وَإِنْ قَالَ : سَحَرًا فَوَقْتُ السَّحَرِ مِمَّا بَعْدَ ذَهَابِ ثُلُثَيْ اللَّيْلِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي ، فَإِنْ لَمْ يُعْطِهِ حَتَّى مَضَى الْوَقْتُ الَّذِي سَمَّاهُ حَنِثَ لِفَوَاتِ شَرْطِ الْبِرِّ .
وَإِنْ قَالَ : يَوْمَ كَذَا فَلَهُ ذَلِكَ الْيَوْمُ كُلُّهُ فَإِذَا غَابَتْ الشَّمْسُ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهُ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ صَوْمَ الْيَوْمِ يَتَأَدَّى بِوُجُودِ الْإِمْسَاكِ فِي هَذَا الْقَدْرِ ، وَإِنْ أَعْطَاهُ قَبْلَ مَجِيءِ الْوَقْتِ الْمُسَمَّى أَوْ وَهَبَهُ

لَهُ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ ثُمَّ جَاءَ الْوَقْتُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْيَمِينَ الْمُؤَقَّتَةَ إنَّمَا تَنْعَقِدُ مُوجَبًا فِي آخِرِ الْوَقْتِ الْمُسَمَّى ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا حَقَّ لَهُ عَلَيْهِ وَفِي مِثْلِهِ لَا يَنْعَقِدُ الْيَمِينُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
وَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ مُضِيِّ الْوَقْتِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ تَرْكُ فِعْلِ الْأَدَاءِ فِي آخِرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ إلَيْهِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَضَى إلَى وَكِيلِ الطَّالِبِ بَرَّ ؛ لِأَنَّ دَفْعَهُ إلَى وَكِيلِ الطَّالِبِ كَدَفْعِهِ إلَى الطَّالِبِ

وَإِنْ حَلَفَ لَا يُعْطِيَهُ حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ فُلَانٌ فَمَاتَ فُلَانٌ قَبْلَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فَأَعْطَاهُ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَيَحْنَثُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلِ الْإِعْطَاءِ وَجَعَلَ لِذَلِكَ غَايَةً وَهُوَ إذْنُ فُلَانٍ فَبِمَوْتِ فُلَانٍ تَفُوتُ الْغَايَةُ وَذَلِكَ يُوجِبُ صَيْرُورَةَ الْيَمِينِ مُطْلَقَةً لِإِطْلَاقِهَا وَإِذْنُ فُلَانٍ كَانَ مَانِعًا مِنْ الْحِنْثِ فَبِفَوَاتِهِ يَتَحَقَّقُ اتِّحَادُ شَرْطِ الْحِنْثِ وَلَا يَنْعَدِمُ وَهُمَا يَقُولَانِ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ حُرْمَةُ الدَّفْعِ إلَى غَايَةٍ وَهُوَ إذْنُ فُلَانٍ وَقَدْ فَاتَ إذْنُهُ بِمَوْتِهِ فَيَفُوتُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَالْعَقْدُ لَا يَبْقَى بَعْدَ فَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تَوْضِيحُهُ أَنَّهَا لَوْ بَقِيَتْ بَقِيَتْ حُرْمَةُ الدَّفْعِ مُطْلَقًا لَا مُؤَقَّتًا وَهَذَا الْمُطْلَقُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا بِيَمِينِهِ فَلَا يَثْبُتُ مِنْ بَعْدُ ، وَلِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ حِنْثِهِ تَرْكَ الِاسْتِئْذَانِ مِنْ فُلَانٍ قَبْلَ الْإِعْطَاءِ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ مَوْتِ فُلَانٍ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَفُوتُ شَرْطُ الْحِنْثِ بِمَوْتِ فُلَانٍ .

وَإِنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ فُلَانًا مَالَهُ وَفُلَانٌ قَدْ مَاتَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حِنْثٌ فِي يَمِينِهِ ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ بِمَوْتِهِ حِينَ حَلَفَ حَنِثَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهُ أَوْ لَيُكَلِّمَنَّهُ أَوْ لَيَقْتُلَنَّهُ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ : يَحْنَثُ عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْيَمِينَ إلَى مَحَلِّهَا فَانْعَقَدَتْ ، ثُمَّ شَرْطُ الْبِرِّ فَاتَ مِنْهُ ، وَفَوَاتُ شَرْطِ الْبِرِّ يُوجِبُ الْحِنْثَ كَمَا لَوْ كَانَ عَالِمًا بِمَوْتِهِ أَوْ كَانَ حَيًّا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْتُلَهُ ، وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ مَحَلَّ الْيَمِينِ خَبَرٌ فِي الْمُسْتَقْبِلِ سَوَاءٌ كَانَ الْحَالِفُ قَادِرًا عَلَيْهِ أَوْ عَاجِزًا عَنْهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَأَمَسَّنَّ السَّمَاءَ أَوْ لَأُحَوِلَنَّ هَذَا الْحَجَرَ ذَهَبًا انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ ؟ لِأَنَّهُ عَقَدَهَا عَلَى خَبَرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ عَاجِزًا عَنْ إيجَادِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا : مَحَلُّ الْيَمِينِ الْمَعْقُودَةِ خَبَرٌ فِيهِ رَجَاءُ الصِّدْقِ ؛ لِأَنَّهَا تُعْقَدُ لِلْحَظْرِ أَوْ لِلْإِيجَابِ أَوْ لِإِظْهَارِ مَعْنَى الصِّدْقِ ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا لَيْسَ فِيهِ رَجَاءُ الصِّدْقِ فَلَا تَنْعَقِدُ أَصْلًا كَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ ثُمَّ إذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ بِمَوْتِهِ فَمَقْصُودُهُ إزْهَاقُ رُوحٍ مَوْجُودَةٍ فِيهِ وَقْتَ الْيَمِينِ وَلَا تَصَوُّرَ لِهَذَا إذَا كَانَ مَيِّتًا ، وَإِذَا كَانَ يَعْلَمُ بِمَوْتِهِ فَمَقْصُودُهُ إزْهَاقُ رُوحٍ يُحْدِثُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ إذَا أَحْيَاهُ ، وَذَلِكَ مُتَوَهَّمٌ فَانْعَقَدَتْ يَمِينُهُ ثُمَّ حَنِثَ لِوُقُوعِ الْيَأْسِ عَمَّا هُوَ شَرْطُ الْبِرِّ ظَاهِرًا ، وَعَلَى هَذَا : وَاَللَّهِ لَأَشْرَبَنَّ هَذَا الْمَاءَ الَّذِي فِي هَذَا الْكُوزِ وَلَا مَاءَ فِي الْكُوزِ لَا تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى خَبَرٍ لَيْسَ فِيهِ

رَجَاءُ الصِّدْقِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا فَرْقَ هُنَا بَيْنَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الْكُوزَ لَا مَاءَ فِيهِ أَوْ لَا يَعْلَمَ ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى شُرْبِ الْمَاءِ الْمَوْجُودِ فِي الْكُوزِ وَاَللَّهِ تَعَالَى إنْ أَحْدَثَ فِي الْكُوزِ مَاءً فَلَيْسَ هُوَ الْمَاءُ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا فِي الْكُوزِ وَقْتَ الْيَمِينِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْقَتْلِ إذَا كَانَ يَعْلَمُ بِمَوْتِ فُلَانٍ ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلِ الْقَتْلِ فِي فُلَانٍ فَإِذَا أَحْيَاهُ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ فُلَانٌ فَكَانَ مَا عَقَدَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ مُتَوَهَّمًا .
وَوِزَانُ هَذَا فِي مَسْأَلَةِ الْكُوزِ إنْ لَوْ قَالَ : لَأَقْتُلَنَّ هَذَا الْمَيِّتَ فَإِنَّ يَمِينَهُ لَا يَنْعَقِدُ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَصَوُّرَ لِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ إذَا أَحْيَاهُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى يَتَحَقَّقَ فِيهِ فِعْلُ الْقَتْلِ لَا يَكُونُ مَيِّتًا ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْقَتْلِ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ضِدِّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ إذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ بِمَوْتِهِ يَنْعَقِدُ يَمِينُهُ بِاعْتِبَارِ مَا يَتَوَهَّمُهُ بِجَعْلِهِ كَالْمَوْجُودِ حَقِيقَةً فِي حَقِّهِ ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ بِمَوْتِهِ لَا تَنْعَقِدُ يَمِينُهُ ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ فَأَمَّا إذَا حَلَفَ لَيَمَسَّنَّ السَّمَاءَ فَهُوَ آثِمٌ فِي هَذِهِ الْيَمِينِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْيَمِينِ تَعْظِيمُ الْمُقْسَمِ بِهِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِيَمِينِهِ هَتْكُ حُرْمَةِ الِاسْمِ بِاسْتِعْمَالِ الْيَمِينِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَعْتَبِرُ لِعَقْدِ الْيَمِينِ أَنْ يَكُونَ مَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ فِي وُسْعِهِ إيجَادُهُ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا وَلَكِنَّا نَقُولُ : انْعِقَادُ الْيَمِينِ بِاعْتِبَارِ تَوَهُّمِ الصِّدْقِ فِي الْخَبَرِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ ، فَإِنَّ السَّمَاءَ عَيْنٌ مَمْسُوسٌ وَالْمَلَائِكَةُ يَصْعَدُونَ السَّمَاءَ .
وَلَوْ أَقْدَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى صُعُودِ السَّمَاءِ يَصْعَدُ وَكَذَلِكَ الْحَجَرُ مَحَلٌّ قَابِلٌ لِلتَّحَوُّلِ

لِوُجُودِهِ فَانْعَقَدَتْ يَمِينُهُ ثُمَّ حَنِثَ فِي الْحَالِ لِعَجْزِهِ عَنْ إيجَادِ شَرْطِ الْبِرِّ ظَاهِرًا وَذَلِكَ كَافٍ لِلْحِنْثِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْفِعْلِ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ يَحْنَثُ إذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَهُ ؛ لِوُجُودِ الْعَجْزِ عَنْ إيجَادِ شَرْطِ الْبِرِّ ظَاهِرًا وَلَا فَائِدَةَ فِي انْتِظَارِ الْمَوْتِ هُنَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَجْزَ ثَابِتٌ فِي الْحَالِ وَلَا يُقَالُ : إعَادَةُ الزَّمَانِ الْمَاضِي فِي قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْضًا وَقَدْ فَعَلَهُ لِسُلَيْمَانَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْعَقِدَ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْتُمْ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ أَخْبَرَ عَنْ فِعْلٍ قَدْ وُجِدَ مِنْهُ وَذَلِكَ لَا كَوْنَ لَهُ وَاَللَّهِ تَعَالَى .
وَإِنْ أَعَادَ الزَّمَانَ الْمَاضِيَ لَا يَصِيرُ الْفِعْلُ مَوْجُودًا مِنْ الْحَالِفِ حَتَّى يَفْعَلَهُ وَفِي مَسْأَلَةِ مَسِّ السَّمَاءِ لَوْ وَقَّتَ يَمِينَهُ لَمْ يَحْنَثْ مَا لَمْ يَمْضِ ذَلِكَ الْوَقْتُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ انْعِقَادَ الْيَمِينِ الْمُؤَقَّتَةِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ الْمُسَمَّى وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَحْنَثُ فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَوَقَّتُ انْعِقَادُ الْيَمِينِ إذَا كَانَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ فِي وُسْعِهِ إيجَادُهُ عِنْدَ ذَلِكَ ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِ إيجَادُهُ كَانَ تَوْقِيتُهُ لَغْوًا فَيَحْنَثُ فِي الْحَالِ ، وَهَكَذَا عَلَى مَذْهَبِهِ فِي مَسْأَلَةِ شُرْبِ الْمَاءِ الَّذِي فِي الْكُوزِ إذَا وَقَّتَ يَمِينَهُ ، فَإِنْ كَانَ فِي الْكُوزِ مَاءٌ لَمْ يَحْنَثْ إلَّا فِي آخِرِ الْوَقْتِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْكُوزِ مَاءٌ حَنِثَ فِي الْحَالِ .

وَلَوْ حَلَفَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ لَيَأْتِيَنَّ الْبَصْرَةَ فَمَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ طَلُقَتْ عِنْدَ الْمَوْتِ ؛ لِأَنَّ بِمَوْتِهِ فَاتَ شَرْطُ الْبِرِّ وَهُوَ إتْيَانُ الْبَصْرَةِ ، وَلَا نَقُولُ : إنَّهُ يَحْنَثُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَكِنَّهُ كَمَا أَشْرَفَ عَلَى الْمَوْتِ وَتَحَقَّقَ عَجْزُهُ عَنْ إتْيَانِ الْبَصْرَةِ حَنِثَ حَتَّى إنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَا مِيرَاثَ لَهَا وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمِيرَاثُ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَتَعْتَدُّ إلَى أَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ بِمَنْزِلَةِ امْرَأَةِ الْفَارِّ ، فَإِنْ مَاتَتْ هِيَ وَهُوَ حَيٌّ لَمْ تَطْلُقْ ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إتْيَانِ الْبَصْرَةِ بَعْدَ مَوْتِهَا فَلَمْ يَتَحَقَّقْ شَرْطُ الْحِنْثِ بِمَوْتِهَا .
وَلَوْ حَلَفَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ إنْ لَمْ تَأْتِ الْبَصْرَةَ هِيَ فَمَاتَتْ فَلَا مِيرَاثَ لِلزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَوْتِ فَقَدْ تَحَقَّقَ عَجْزُهَا عَنْ إتْيَانِ الْبَصْرَةِ فَتَطْلُقُ ثَلَاثًا قَبْلَ مَوْتِهَا ، وَلَوْ مَاتَ الزَّوْجُ كَانَ لَهَا الْمِيرَاثُ ؛ لِأَنَّهَا تَقْدِرُ عَلَى إتْيَانِ الْبَصْرَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ .

وَلَوْ حَلَفَ بِعِتْقِ كُلِّ مَمْلُوكٍ لَهُ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا فَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ هَذَا اللَّفْظُ الْمَوْجُودَ فِي مِلْكِهِ حِينَ حَلَفَ ، فَإِنْ بَقِيَ فِي مِلْكِهِ إلَى وَقْتِ الْكَلَامِ عَتَقَ وَإِلَّا فَلَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ حِينَ حَلَفَ مَمْلُوكٌ لَمْ يَنْعَقِدْ يَمِينُهُ .
وَلَوْ قَالَ : إذَا كَلَّمْت فُلَانًا فَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي يَوْمَ أُكَلِّمُهُ حُرٌّ فَهُوَ كَمَا قَالَ ، إذَا مَلَكَ مَمْلُوكًا ثُمَّ كَلَّمَهُ عَتَقَ .
وَإِنْ قَالَ : كُلُّ مَمْلُوكٍ أَشْتَرِيهِ حُرٌّ يَوْمَ أُكَلِّمُ فُلَانًا فَاشْتَرَى رَقِيقًا ثُمَّ كَلَّمَ فُلَانًا ثُمَّ اشْتَرَى آخَرِينَ عَتَقَ الَّذِينَ اشْتَرَاهُمْ قَبْلَ الْكَلَامِ وَلَمْ يَعْتِقْ الَّذِينَ اشْتَرَاهُمْ بَعْدَ الْكَلَامِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَشْتَرِيه شَرْطٌ ، وَقَوْلُهُ فَهُوَ حُرٌّ يَوْمَ أُكَلِّمُ فُلَانًا جَزَاءً لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْجَزَاءَ مَا يَتَعَقَّبُ حَرْفَ الْجَزَاءِ ، فَإِنَّمَا جَعَلَ الْجَزَاءَ عِتْقًا مُعَلَّقًا بِالْكَلَامِ ، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ فِي الَّذِينَ اشْتَرَاهُمْ قَبْلَ الْكَلَامِ .
وَلَوْ تَنَاوَلَ كَلَامُهُ الَّذِينَ اشْتَرَاهُمْ بَعْدَ الْكَلَامِ لَعَتَقُوا بِنَفْسِ الشِّرَاءِ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا هُوَ الْجَزَاءُ الَّذِي عَلَّقَهُ بِالشِّرَاءِ ، وَإِنْ حَلَفَ بِعِتْقِ عَبْدِهِ إنْ لَمْ يُكَلِّمْ فُلَانًا فَمَاتَ الْحَالِفُ عَتَقَ الْعَبْدَ مِنْ ثُلُثِهِ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ فَوْتُ الْكَلَامِ فِي حَيَاتِهِ ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ عِنْدَ مَوْتِهِ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ فَيُعْتَبَرُ مِنْ ثُلُثِهِ .
وَإِنْ مَاتَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ وَبَقِيَ الْحَالِفُ عَتَقَ الْعَبْدُ لِفَوَاتِ شَرْطِ الْبِرِّ وَهُوَ الْكَلَامُ مَعَ فُلَانٍ فَإِنَّ الْمَيِّتَ لَا يُكَلَّمُ ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكَلَامِ الْإِفْهَامُ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بَعْدَ الْمَوْتِ .

وَإِنْ حَلَفَ لَا يُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ فَأَمَرَ رَجُلًا فَطَلَّقَهَا أَوْ جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِهَا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا حَنِثَ ؛ لِأَنَّ الْمُوقِعَ لِلطَّلَاقِ هُوَ الزَّوْجُ وَلَكِنْ بِعِبَارَةِ الْوَكِيلِ أَوْ بِعِبَارَتِهَا وَحُقُوقُ الْعَقْدِ فِي الطَّلَاقِ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ بَلْ هُوَ مُعَبَّرٌ عَنْ الْآمِرِ فَكَأَنَّهُ طَلَّقَهَا بِنَفْسِهِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ بِلِسَانِهِ فَحِينَئِذٍ يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ مَقْصُودَهُ أَنْ لَا يُفَارِقَهَا ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ أَنْ لَا يَتَكَلَّمَ بِطَلَاقِهَا ، وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَى مَا فِي ضَمِيرِهِ ، وَلِهَذَا لَوْ خَلَعَهَا وَقَالَ : أَنْتِ بَائِنٌ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ مَا مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْهُ وَقَصَدَهُ بِيَمِينِهِ قَدْ أَتَى بِهِ .
وَلَوْ آلَى مِنْهَا فَمَضَتْ الْمُدَّةُ بَانَتْ وَحَنِثَ فِي يَمِينِهِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ طَلَاقٌ مُؤَجَّلٌ فَعِنْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَيَكُونُ مُضَافًا إلَى الزَّوْجِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ إنَّمَا وَقَعَ حُكْمًا بِاعْتِبَارِ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا فَلَا يَكُونُ شَرْطُ الْحِنْثِ بِهِ مَوْجُودًا ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ عِنِّينًا فَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُنَا رِوَايَتَانِ فِي إحْدَاهُمَا سَوَّى بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْإِيلَاءِ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ نَائِبٌ عَنْ الزَّوْجِ فِي الطَّلَاقِ شَرْعًا بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ ، وَفِي الْأُخْرَى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ، فَقَالَ هُنَا : لَمْ يُوجَدْ مِنْ الزَّوْجِ مَعْنًى يَصِيرُ بِهِ مُبَاشِرًا لِلطَّلَاقِ ، وَذَلِكَ شَرْطُ حِنْثِهِ ، وَالْعِتْقُ قِيَاسُ الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّ الْحُقُوقَ فِيهِ تَتَعَلَّقُ بِمَنْ وَقَعَ لَهُ دُونَ مَنْ

بَاشَرَهُ .

فَأَمَّا إذَا حَلَفَ لَا يَبِيعُ وَلَا يَشْتَرِي فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَفَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ وَالْعَاقِدُ لِغَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حُقُوقِ الْعَقْدِ ، فَلَا يَصِيرُ الْحَالِفُ بِفِعْلِ الْوَكِيلِ عَاقِدًا إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى أَنْ لَا يَأْمُرَ غَيْرَهُ فَحِينَئِذٍ قَدْ شَدَّدَ الْأَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ بِنِيَّتِهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْحَالِفُ مِمَّنْ لَا يُبَاشِرُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ تَتَقَيَّدُ بِمَا عُرِفَ مِنْ مَقْصُودِ الْحَالِفِ .

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ امْرَأَةً فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَزَوَّجَهُ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ فِي النِّكَاحِ تَتَعَلَّقُ بِالْآمِرِ دُونَ الْعَاقِدِ ، وَلِأَنَّ الْوَكِيلَ لَا يُضِيفُ الْعَقْدَ إلَى نَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا يُضِيفُ إلَى الْمُوَكِّلِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الرَّسُولِ ، وَكَذَلِكَ إنْ زَوَّجَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَأَجَازَهُ بِالْقَوْلِ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ الْعَاقِدُ لَيْسَ بِمُعَبَّرٍ عَنْهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِهِ مِنْ جِهَتِهِ وَالْإِجَازَةُ لَيْسَتْ بِعَقْدٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَا هُوَ شَرْطُ النِّكَاحِ وَهُوَ الشُّهُودُ لَا يُشْتَرَطُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ ؟ فَلِهَذَا لَا يَحْنَثُ وَفِي الْإِجَازَةِ بِالْفِعْلِ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ ( قَالَ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ يَخْتَصُّ بِالْقَوْلِ حَتَّى لَا يَنْعَقِدَ بِالْفِعْلِ بِحَالٍ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْمُجِيزُ بِالْفِعْلِ عَاقِدًا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا إنَّمَا يَكُونُ رَاضِيًا وَشَرْطُ حِنْثِهِ الْعَقْدُ دُونَ الرِّضَا .
وَإِنْ قَالَ : كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً قَبْلَ الْكَلَامِ وَأُخْرَى بَعْدَهُ تَطْلُقُ الَّتِي تَزَوَّجَ قَبْلَ الْكَلَامِ خَاصَّةً ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّزَوُّجَ شَرْطٌ ، وَالطَّلَاقُ جَزَاءٌ مُعَلَّقٌ بِالْكَلَامِ ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي الَّتِي تَزَوَّجَهَا قَبْلَ الْكَلَامِ دُونَ الَّتِي يَتَزَوَّجُهَا بَعْدَ الْكَلَامِ ؛ لِأَنَّهَا لَوْ طَلُقَتْ بِنَفْسِ التَّزَوُّجِ ، وَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ جَزَاءَ شَرْطِهِ وَفِيهِ اخْتِلَافُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْجَامِعِ ، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ الْفَرْقَ بَيْنَ مَا إذَا وَقَّتَ يَمِينَهُ فَقَالَ : إلَى ثَلَاثِينَ سَنَةً وَبَيْنَ مَا إذَا لَمْ يُوَقِّتْ وَبَيْنَ مَا إذَا قَدَّمَ الشَّرْطَ ، أَوْ أَخَّرَ وَقَالَ : إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَكُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ طَالِقٌ ،

فَإِنَّمَا تَطْلُقُ بِهَذَا اللَّفْظِ الَّتِي تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الْكَلَامِ وَقَّتَ يَمِينَهُ أَوْ لَمْ يُوَقِّتْ .
وَإِذَا حَلَفَ لَا يَبِيعُ لِرَجُلٍ شَيْئًا قَدْ سَمَّاهُ بِعَيْنِهِ فَبَاعَهُ لِآخَرَ طَلَبَهُ إلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ ، وَكَذَلِكَ الشِّرَاءُ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ : لَا أَبِيعُ لِفُلَانٍ أَيْ لِأَجْلِ فُلَانٍ ، وَمَا بَاعَ لِأَجْلِهِ حِينَ أَمَرَهُ بِهِ غَيْرُهُ ، وَإِنَّمَا بَاعَهُ لِأَجْلِ مَنْ أَمَرَ بِهِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ : لَا أَبِيعُ ثَوْبًا لِفُلَانٍ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ لَا أَبِيعُ ثَوْبًا هُوَ مَمْلُوكٌ لِفُلَانٍ وَقَدْ وَجَدَ ذَلِكَ وَإِنْ أَمَرَهُ بِهِ غَيْرُهُ وَإِيضَاحُ هَذَا الْفَرْقِ فِي الْجَامِعِ .

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَهَبُ لِفُلَانٍ هِبَةً فَوَهَبَ وَلَمْ يَقْبَلْ فُلَانٌ أَوْ قَبِلَ وَلَمْ يَقْبِضْ فَهُوَ حَانِثٌ عِنْدَنَا ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : لَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ عَقْدُ تَمْلِيكٍ كَالْبَيْعِ وَفِي الْبَيْعِ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَقْبَلْ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَحْصُلُ قَبْلَ قَبُولِهِ فَكَذَلِكَ فِي الْهِبَةِ ، وَلِهَذَا قَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْبَيْعِ : لَوْ بَاعَهُ بَيْعًا فَاسِدًا لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَقْبِضَهُ الْمُشْتَرِي ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْهِبَةُ تَبَرُّعٌ وَذَلِكَ يَتِمُّ فِي جَانِبِ الْمُتَبَرِّعِ بِفِعْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ إيجَابٌ لَا يُقَابِلُهُ اسْتِيجَابٌ وَذَلِكَ يَتِمُّ بِالْمُوجِبِ فِي حَقِّهِ كَالْإِقْرَارِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ مُعَاوَضَةٌ وَإِيجَابٌ يُقَابِلُهُ اسْتِيجَابٌ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْعُرْفُ فَإِنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ : وَهَبْت لِفُلَانٍ فَرَدَّ عَلَيَّ هِبَتِي ، وَأَهْدَيْت إلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيَّ هَدِيَّتِي وَكَذَلِكَ كُلُّ عَقْدٍ هُوَ تَبَرُّعٌ كَالصَّدَقَةِ وَالْقَرْضِ حَتَّى لَوْ حَلَفَ لَا يُقْرِضُ فُلَانًا شَيْئًا فَأَقْرَضَهُ وَلَمْ يَقْبَلْ حَنِثَ ، إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : فِي الْقَرْضِ لَا يَحْنَثُ كَمَا فِي الْبَيْعِ فَإِنَّ الْقَرْضَ عَقْدُ ضَمَانٍ فَإِنَّهُ يُوجِبُ ضَمَانَ الْمِثْلِ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِقَبْضِهِ وَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ يُفَرِّقُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا حَلَفَ لَا يَسْتَقْرِضُ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ إذَا طَلَبَ الْقَرْضَ مِنْ آخَرَ .
وَإِنْ لَمْ يُقْرِضْهُ ؛ لِأَنَّ السِّينَ فِي قَوْلِهِ اسْتَقْرَضْت لِمَعْنَى السُّؤَالِ فَإِنَّمَا شَرْطُ حِنْثِهِ طَلَبُ الْقَرْضِ ، وَقَدْ وُجِدَ بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يُقْرِضُ أَوْ حَلَفَ لَا يَهَبُ فَأَمَرَ غَيْرَهُ حَتَّى فَعَلَ حَنِثَ وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَكْسُوهُ أَوْ لَا يَحْمِلُهُ عَلَى دَابَّةٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْعُقُودِ الَّتِي لَا تَتَعَلَّقُ الْحُقُوقُ فِيهَا بِالْعَاقِدِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ : كَسَا الْأَمِيرُ

فُلَانًا ؟ وَإِنَّمَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِهِ .

وَإِنْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ عَبْدَهُ ، أَوْ لَيَخِيطَنَّ ثَوْبَهُ ، أَوْ لَيَبْنِيَنَّ دَارِهِ فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَفَعَلَ بَرَّ فِي يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ لِذَلِكَ ، وَإِنْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِهِ فَإِنَّ فِي الْعُرْفِ يُقَالُ : بَنَى فُلَانٌ دَارًا أَوْ خَاطَ فُلَانٌ ثَوْبًا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ أَمَرَ غَيْرَهُ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ بَنَّاءً وَلَا خَيَّاطًا إلَّا أَنْ يَكُونَ عُنِيَ أَنْ يَبْنِيَهُ بِيَدِهِ فَحِينَئِذٍ الْمَنْوِيُّ حَقِيقَةً فِعْلِهِ وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ يَحْسُنُ فِيهِ أَنْ يَقُولَ فَعَلْته وَقَدْ فَعَلَ وَكِيلُهُ .
وَلَوْ حَلَفَ عَلَى حُرٍّ لَيَضْرِبَنَّهُ فَأَمَرَ غَيْرَهُ فَضَرَبَهُ لَمْ يَبَرَّ حَتَّى يَضْرِبَهُ بِيَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْحُرِّ فَلَا يُعْتَبَرُ أَمْرُهُ فِيهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلضَّارِبِ حِلُّ الضَّرْبِ بِاعْتِبَارِ أَمْرِهِ ؟ بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ فَأَمْرُ غَيْرِهِ بِضَرْبِهِ مُعْتَبَرٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الضَّارِبَ يَسْتَفِيدُ بِهِ حِلَّ الضَّرْبِ ؟ وَلِأَنَّ الْعَادَةَ الظَّاهِرَةَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَتَرَفَّعُ مِنْ ضَرْبِ عَبْدِهِ بِيَدِهِ وَإِنَّمَا يَأْمُرُ بِهِ غَيْرَهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ مَقْصُودُهُ وَلَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي حَقِّ الْحُرِّ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَالِفُ السُّلْطَانَ أَوْ الْقَاضِيَ فَحِينَئِذٍ يَبَرُّ إذَا أَمَرَ غَيْرَهُ بِضَرْبِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبَاشِرُ الضَّرْبَ بِنَفْسِهِ عَادَةً .
وَضَرْبُ الْغَيْرِ بِأَمْرِهِ يُضَافُ إلَيْهِ فَيُقَالُ : الْأَمِيرُ الْيَوْمَ ضَرَبَ فُلَانًا وَضَرَبَ الْقَاضِي فُلَانًا الْحَدَّ ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ أَنْ يَضْرِبَهُ بِيَدِهِ فَحِينَئِذٍ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ فَتَعْمَلُ نِيَّتُهُ وَيَدِينُ فِي الْقَضَاءِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ الْيَمِينِ فِي الْخِدْمَةِ ( قَالَ ) رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَإِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ لَا يَسْتَخْدِمُ خَادِمًا قَدْ كَانَتْ تَخْدُمُهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَجَعَلَتْ الْخَادِمُ تَخْدُمُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَهَا حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَخْدِمُهَا بِاسْتِدَامَةِ مِلْكِهِ فِيهَا فَإِنَّهُ إنَّمَا اشْتَرَاهَا لِلْخِدْمَةِ فَمَا دَامَ مُسْتَدِيمًا لِلْمِلِكِ فِيهَا فَهُوَ دَلِيلُ اسْتِخْدَامِهَا وَلِأَنَّهَا كَانَتْ تَخْدُمُهُ قَبْلَ الْيَمِينِ بِاسْتِخْدَامٍ كَانَ مِنْهُ فَإِذَا جَعَلَتْ تَخْدُمُهُ عَلَى حَالِهَا ، وَلَمْ يَنْهَهَا فَهُوَ مُسْتَخْدِمٌ لَهَا بِمَا سَبَقَ مِنْهُ حَتَّى لَوْ نَهَاهَا ثُمَّ خَدَمَتْهُ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ بِالنَّهْيِ قَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ الِاسْتِخْدَامِ السَّابِقِ وَلِأَنَّ إدَامَةَ الْمِلْكِ دَلِيلُ الِاسْتِخْدَامِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْفِعْلِ بَعْدَ التَّصْرِيحِ بِخِلَافِهِ .
وَلَوْ حَلَفَ عَلَى خَادِمٍ لَا يَمْلِكُهَا أَنْ لَا يَسْتَخْدِمَهَا فَخَدَمَتْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَحْنَثْ لِانْعِدَامِ الِاسْتِخْدَامِ صَرِيحًا وَدَلَالَةً فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ لِيَكُونَ طَالِبًا خِدْمَتَهَا بِاسْتِدَامَةِ ذَلِكَ الْمِلْكِ أَوْ لِيَجْعَلَ الِاسْتِخْدَامَ السَّابِقَ بِاعْتِبَارِهِ قَائِمًا ، وَإِنْ كَانَ حَلَفَ أَنْ لَا تَخْدُمَهُ حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى فِعْلِ الْخَادِم وَقَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُ ذَلِكَ سَوَاءٌ كَانَ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِخْدَامَ طَلَبُ الْخِدْمَةِ وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ عَمَلِ بَيْتِهِ فَإِنَّهُ خِدْمَتُهُ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَتَّخِذُ الْخَادِمَ لِذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ سَأَلَهَا وَضُوءًا أَوْ شَرَابًا ، أَوْ أَشَارَ ، أَوْ أَوْمَأَ إلَيْهَا بِذَلِكَ فَقَدْ اسْتَخْدَمَهَا ؛ لِأَنَّ الِاسْتِخْدَامَ بِالْإِيمَاءِ وَالْإِشَارَةِ ظَاهِرٌ مِمَّنْ تَرَفَّعَ عَنْ أَنْ يُخَاطِبَ خَدَمَهُ بِالْكَلَامِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَسْتَعِينَ بِهَا فَأَشَارَ إلَيْهَا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَنِثَ إنْ أَعَانَتْهُ أَوْ لَمْ تُعِنْهُ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِعَانَةَ

طَلَبُ الْإِعَانَةِ ، وَقَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى أَنْ تَفْعَلَهُ فَلَا يَحْنَثُ حِينَئِذٍ حَتَّى تُعِينَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْإِعَانَةُ دُونَ الِاسْتِعَانَةِ ، فَإِذَا ذَكَرَ السَّبَبَ وَعُنِيَ بِهِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ عَمِلَتْ نِيَّتُهُ .
فَإِذَا حَلَفَ لَا يَخْدُمُهُ خَادِمُ فُلَانٍ فَجَلَسَ عَلَى مَائِدَةٍ مَعَ قَوْمٍ يَطْعَمُونَ ، وَذَلِكَ الْخَادِمُ يَقُومُ فِي طَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ خَدَمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَوُجِدَ بِهِ شَرْطُ الْحِنْثِ فِي حَقِّ الْحَالِفِ بِدَلِيلِ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كُنَّ جِوَارِي عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَخْدُمْنَ الضِّيفَانَ كَاشِفَاتِ الرُّءُوسِ مُضْطَرِبَاتِ الثَّدْيِ .
وَإِنْ كَانَ حَلَفَ أَنْ لَا يَسْتَخْدِمَهَا لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لَهُ وَسَوَاءٌ فِي ذَلِكَ إذَا اسْتَخْدَمَ غُلَامًا أَوْ جَارِيَةً صَغِيرًا كَانَ أَوْ كَبِيرًا ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْخَادِمِ يَتَنَاوَلُهُمَا وَالِاسْتِخْدَامُ يَتَحَقَّقُ مِنْهُمَا وَهُوَ مُتَعَارَفٌ أَيْضًا فَلِهَذَا حَنِثَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .

بَابُ الْيَمِينِ فِي الرُّكُوبِ ( قَالَ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِذَا حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً فَرَكِبَ حِمَارًا أَوْ فَرَسًا أَوْ بِرْذَوْنًا أَوْ بَغْلًا حَنِثَ وَكَذَلِكَ إنْ رَكِبَ غَيْرَهَا مِنْ الدَّوَابِّ كَالْبَعِيرِ وَالْفِيلِ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الدَّابَّةِ يَتَنَاوَلُهُ حَقِيقَةً وَعُرْفًا فَإِنَّ الدَّابَّةَ مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ قَالَ تَعَالَى { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ } الْآيَةَ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَحْنَثُ لِعِلْمِنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ التَّعْمِيمَ فِي كُلِّ مَا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ وَقَدْ وَقَعَ يَمِينُهُ عَلَى فِعْلِ الرُّكُوبِ فَيَتَنَاوَلُ مَا يَرْكَبُ مِنْ الدَّوَابِّ فِي غَالِبِ الْبُلْدَانِ وَهُوَ الْخَيْلُ وَالْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ وَقَدْ تَأَيَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } وَإِنَّمَا ذَكَرَ الرُّكُوبَ فِي هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ فَأَمَّا فِي الْأَنْعَامِ ذَكَرَ مَنْفَعَةَ الْأَكْلِ بِقَوْلِهِ { وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ } وَبِأَنْ كَانَ يَرْكَبُ الْفِيلَ وَالْبَعِيرَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ يَتَنَاوَلُهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَقَرَ وَالْجَامُوسَ يُرْكَبُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ ؟ ثُمَّ لَا يَفْهَمُ أَحَدٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ : فُلَانٌ رَكِبَ دَابَّةَ الْبَقَرِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ جَمِيعَ ذَلِكَ فَيَكُونَ عَلَى مَا نَوَى ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَيْهِ .
وَإِنْ عَنِي الْخَيْلَ وَحْدَهُ لَمْ يُدَنْ فِي الْحُكْمِ ؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ ، وَإِنْ قَالَ : لَا أَرْكَبُ وَعَنِيَ الْخَيْلَ وَحْدَهَا لَمْ يُدَنْ فِي الْقَضَاءِ وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ فِي لَفْظِهِ فِعْلُ الرُّكُوبِ ، وَالْخَيْلُ لَيْسَ بِمَذْكُورٍ ، وَنِيَّةُ التَّخْصِيصِ تَصِحُّ فِي الْمَلْفُوظِ دُونَ مَا لَا لَفْظَ لَهُ .
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ فَرَسًا فَرَكِبَ بِرْذَوْنًا لَمْ يَحْنَثْ وَكَذَلِكَ إنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ بِرْذَوْنًا فَرَكِبَ فَرَسًا لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الْبِرْذَوْنَ فَرَسُ الْعَجَمِ وَالْفَرَسُ اسْمُ

الْعَرَبِيِّ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ عَرَبِيًّا فَكَلَّمَ عَجَمِيًّا أَوْ عَلَى عَكْسِ هَذَا لَمْ يَحْنَثْ .
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ شَيْئًا مِنْ الْخَيْلِ فَرَكِبَ فَرَسًا أَوْ بِرْذَوْنًا حَنِثَ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْخَيْلِ يَجْمَعُ الْكُلَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ } الْآيَةَ ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ الْغَازِي السَّهْمَ بِالْبِرْذَوْنِ وَالْفَرَسِ جَمِيعًا .
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً فَحُمِلَ عَلَيْهَا مُكْرَهًا لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلِهِ فِي الرُّكُوبِ وَهُوَ مَا رَكِبَهَا بَلْ حُمِلَ عَلَيْهَا مُكْرَهًا ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَمْلَ يَتَحَقَّقُ فِيمَا يَسْتَحِيلُ نِسْبَةُ الْفِعْلِ إلَيْهِ كَالْجَمَادَاتِ .
وَإِنْ رَكِبَ دَابَّةً عُرْيَانًا أَوْ بِسَرْجٍ أَوْ إكَافٍ حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ رَكِبَهَا وَالرُّكُوبُ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ مُعْتَادٌ .

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً لِفُلَانٍ فَرَكِبَ دَابَّةً لِعَبْدِهِ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إلَّا أَنْ يَنْوِيَهَا وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ حَانِثٌ ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى دَابَّةٍ هِيَ مَمْلُوكَةٌ لِفُلَانٍ فَإِنَّ اللَّامَ دَلِيلٌ عَلَى الْمِلْكِ ، وَكَسْبُ الْعَبْدِ مَمْلُوكٌ لِمَوْلَاهُ فَيَكُونُ حَانِثًا بِهِ ، وَكَوْنُهَا فِي يَدِ عَبْدِهِ كَكَوْنِهَا فِي يَدِ أَجِيرِهِ ، وَهُمَا يَقُولَانِ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى دَابَّةٍ هِيَ مَنْسُوبَةٌ إلَى فُلَانٍ وَهَذِهِ مَنْسُوبَةٌ إلَى الْعَبْدِ حَقِيقَةً مِنْ حَيْثُ إنَّهُ اكْتَسَبَهَا وَعُرْفًا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُقَالُ : دَابَّةُ عَبْدِ فُلَانٍ وَشَرْعًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ } فَقَدْ أَضَافَ الْمَالَ إلَى الْعَبْدِ فَلَا يَحْنَثُ بِهِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ وَهُوَ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ : لَا أَدْخُلُ دَارًا لِفُلَانٍ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ النِّسْبَةُ بِالسُّكْنَى دُونَ الْمِلْكِ فَهَذَا مِثْلُهُ ثُمَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : إنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِكَسْبِهِ وَبِرَقَبَتِهِ لَمْ يَحْنَثْ .
وَإِنْ نَوَاهَا ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ الْمَدْيُونِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنَّ هُنَاكَ إذَا نَوَاهَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّهُ نَوَى إضَافَةَ الْمِلْكِ وَهُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنْ نَوَاهَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ اسْتِغْرَاقُ كَسْبِ الْعَبْدِ بِالدَّيْنِ لَا يَمْنَعُ مِلْكَ الْمَوْلَى وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْنَثُ عَلَى كُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَهُ إضَافَةُ الْمِلْكِ وَاسْتِغْرَاقُ كَسْبِ الْعَبْدِ بِالدَّيْنِ يَمْنَعُ مِلْكَ الْمَوْلَى .
وَإِنْ رَكِبَ دَابَّةً لِمُكَاتَبِ فُلَانٍ لَمْ يَحْنَثْ وَكَذَلِكَ الدَّارُ وَالثَّوْبُ ؛ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ إضَافَةَ الْمِلْكِ

فَكَسْبُ الْمُكَاتَبِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ مَا بَقِيَ مُكَاتَبًا ، وَإِنْ اعْتَبَرَ إضَافَةَ النِّسْبَةِ فَهِيَ مَنْسُوبَةٌ إلَى الْمُكَاتَبِ دُونَ الْمَوْلَى .
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ مَرْكَبًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَرَكِبَ سَفِينَةً أَوْ مَحْمَلًا أَوْ دَابَّةً حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الْمَرْكَبَ هُنَا وَكُلُّ هَذَا مَرْكَبٌ وَالْمَرْكَبُ مَا يُرْكَبُ ، وَمِنْ حَيْثُ الْعُرْفُ تُسَمَّى السَّفِينَةُ مَرْكَبًا ، وَكَذَلِكَ شَرْعًا .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا } { وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا } .
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ بِهَذَا السَّرْجِ فَزَادَ فِيهِ شَيْئًا أَوْ نَقَصَ مِنْهُ حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ ذَلِكَ السَّرْجُ الَّذِي عَيَّنَهُ وَقَدْ رَكِبَ بِهِ وَالنُّقْصَانُ وَالزِّيَادَةُ فِي شَيْءٍ لَا يُبَدِّلُ أَصْلَهُ .
وَلَوْ بَدَّلَ السَّرْجَ نَفْسَهُ وَتَرَكَ اللِّبْدَ وَالصُّفَّةَ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ اسْمَ السَّرْجِ لِلْحَنَا أَصْلٌ وَاللِّبْدُ وَالصُّفَّةُ وَصْفٌ فِيهِ ، وَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الْأَصْلُ دُونَ الْوَصْفِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَدْعُوهُ إلَى الْيَمِينِ ضِيقُ السَّرْجِ وَسَعَتُهُ وَذَلِكَ يَتَبَدَّلُ بِتَبَدُّلِ الْحَنَا دُونَ اللِّبْدِ وَالصُّفَّةِ .

وَإِذَا حَلَفَ بِاَللَّهِ مَالِهِ مَالٌ وَلَهُ دَيْنٌ عَلَى مُفْلِسٍ أَوْ عَلَى مَلِيٍّ وَلَيْسَ لَهُ غَيْرُهُ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَيْسَ بِمَالٍ حَقِيقَةً فَالْمَالُ مَا يُتَمَوَّلُ ، وَتَمَوُّلُ مَا فِي الذِّمَّةِ لَا يَتَحَقَّقُ ، وَالْمَالُ مَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى قَضَاءِ الْحَوَائِجِ ، وَمَا فِي الذِّمَّةِ بِاعْتِبَارِ عَيْنِهِ غَيْرُ صَالِحٍ لِذَلِكَ بَلْ بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ وَهُوَ بِالْقَبْضِ ، وَالْمَقْبُوضُ عَيْنٌ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ رَجُلٌ قَدْ غَصَبَهُ مَالًا فَاسْتَهْلَكَهُ وَأَقَرَّ بِهِ أَوْ جَحَدَهُ وَهُوَ قَائِمٌ بِعَيْنِهِ لَمْ يَحْنَثْ أَمَّا إذَا اسْتَهْلَكَهُ فَقَدْ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ إذَا كَانَ جَاحِدًا لَهُ فَهُوَ تَاوٍ فِي حَقِّ الْحَالِفِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ بِاعْتِبَارِهِ وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ بِاعْتِبَارِهِ ؟ وَالتَّاوِي لَا يُمْكِنُ تَمَوُّلُهُ فَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ مَالًا لَهُ .
وَلَوْ كَانَتْ لَهُ وَدِيعَةٌ عِنْدَ إنْسَانٍ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ عَيْنُ مَالِهِ وَيَدُ مُودَعِهِ كَيَدِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِرْدَادِهَا مَتَى شَاءَ ، وَأَنَّهُ تَنْفُذُ تَصَرُّفَاتُهُ فِيهَا مُطْلَقًا ؟ وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَغْصُوبَ إذَا كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ وَالْغَاصِبُ مُقِرٌّ بِهِ قِيلَ هُنَا : يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ اسْتِرْدَادِهَا بِقُوَّةِ السُّلْطَانِ ، لَمَّا كَانَ الْغَاصِبُ مُقِرًّا بِهِ وَتَصَرُّفُهُ فِيهِ يَنْفُذُ فَهُوَ كَالْوَدِيعَةِ وَقِيلَ : لَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ إذَا كَانَ قَاهِرًا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ عَنْهُ .
وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا وَفِي الْعُرْفِ إذَا صُودِرَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ قَدْ افْتَقَرَ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَالٌ .
وَإِنْ كَانَ مَنْ صَادَرَهُ مُقِرًّا وَفِي بَابِ الْأَيْمَانِ الْعُرْفُ مُعْتَبَرٌ .
وَإِنْ كَانَتْ عِنْدَهُ فِضَّةٌ أَوْ ذَهَبٌ قَلِيلٌ أَوْ كَثِيرٌ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ النَّقْدَ مَالٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّ زَكَاةَ الْمَالِ تَجِبُ فِي النُّقُودِ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ ؟ إلَّا أَنَّ اعْتِبَارَ النِّصَابِ

هُنَاكَ لِإِثْبَاتِ صِفَةِ الْغِنَى لِلْمَالِكِ بِهَا ، أَمَّا هُنَا اسْمُ الْمَالِ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ ، وَكَذَلِكَ مَالُ التِّجَارَةِ وَالسَّائِمَةِ كَانَ ذَلِكَ مَالًا حَقِيقَةً وَشَرْعًا حَتَّى تَجِبَ الزَّكَاةُ فِيهَا .
وَإِنْ نَوَى الْفِضَّةَ وَالذَّهَبَ خَاصَّةً لَمْ يَدِنْ فِي الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ .
وَإِنْ كَانَ لَهُ عُرُوضٌ أَوْ حَيَوَانٌ غَيْرُ السَّائِمَةِ لَمْ يَحْنَثْ وَفِي الْقِيَاسِ يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَالٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ تَتَنَاوَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ ؟ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ : لَيْسَ ذَلِكَ بِمَالٍ شَرْعًا وَعُرْفًا حَتَّى لَا تَجِبَ الزَّكَاةُ فِيهَا وَلَا يُعَدُّ صَاحِبُهَا مُتَمَوِّلًا بِهَا وَالْأَيْمَانُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ وَكَانَ لَهُ عَبْدٌ لَهُ مَالٌ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَيَحْنَثُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهَذَا وَمَسْأَلَةُ الدَّابَّةِ سَوَاءٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .

بَابُ الْوَقْتِ فِي الْيَمِينِ ( قَالَ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ لَيُعْطِيَنَّ فُلَانًا حَقَّهُ إذَا صَلَّى الْأُولَى فَلَهُ وَقْتُ الظُّهْرِ إلَى آخِرِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِذِكْرِ الصَّلَاةِ الْوَقْتُ وَالْأُولَى هِيَ الظُّهْرُ فِي لِسَانِ النَّاسِ فَلَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَخْرُجْ وَقْتُ الظُّهْرِ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهُ .
وَإِنْ حَلَفَ لَيُعْطِيهِ كُلَّ شَهْرٍ دِرْهَمًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ وَقَدْ حَلَفَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ فَهَذَا الشَّهْرُ يَدْخُلُ فِي يَمِينِهِ وَيَنْبَغِي أَنْ يُعْطِيَهُ فِيهِ دِرْهَمًا قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ فِي آخِرِ الشَّهْرِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ لَيُعْطِيَنَّهُ فِي الشَّهْرِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ قَبْلَ أَنْ يُهِلَّ الْهِلَالُ سَوَاءٌ كَانَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ أَوْ آخِرِهِ ؟ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ فِي شَهْرٍ ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ الَّذِي فِيهِ أَقْرَبُ الشُّهُورِ إلَيْهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : فِي كُلِّ يَوْمٍ ، كَانَ الْيَوْمُ الَّذِي حَلَفَ فِيهِ دَاخِلًا فِي الْجُمْلَةِ ؟ فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ فِي كُلِّ شَهْرٍ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَالُ عَلَيْهِ نُجُومًا عِنْدَ انْسِلَاخِ كُلِّ شَهْرٍ فَحَلَفَ لَيُعْطِيَنَّهُ النُّجُومَ فِي كُلِّ شَهْرٍ كَانَ لَهُ ذَلِكَ الشَّهْرَ الَّذِي حَلَّ فِيهِ النَّجْمُ فَمَتَى أَعْطَاهُ فِي آخِرِ ذَلِكَ الشَّهْرِ فَقَدْ بَرَّ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ الْبِرِّ إعْطَاءَ كُلِّ نَجْمٍ بَعْدَ حُلُولِهِ فِي الشَّهْرِ ، وَالشَّهْرُ اسْمٌ لِجُزْءٍ مِنْ الزَّمَانِ مِنْ حِينَ يُهِلُّ الْهِلَالُ إلَى أَنْ يُهِلَّ الْهِلَالُ فَإِذَا أَعْطَاهُ فِي ذَلِكَ أَوْ فِي آخِرِهِ فَقَدْ تَمَّ شَرْطُ بِرِّهِ .
وَلَوْ حَلَفَ لَيُعْطِيَنَّهُ عَاجِلًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَالْعَاجِلُ قَبْلَ أَنْ يَمْضِيَ الشَّهْرُ ؛ لِأَنَّ الْآجَالَ فِي الْعَادَةِ تُقَدَّرُ بِالشُّهُورِ ، وَأَدْنَى ذَلِكَ شَهْرٌ فَمَا دُونَهُ فِي حُكْمِ الْعَاجِلِ وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا عَاجِلًا ، فَإِنْ كَانَ يَعْنِي شَيْئًا فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَإِذَا كَلَّمَهُ بَعْدَ شَهْرٍ لَمْ يَحْنَثْ ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : مَلِيًّا

فَالْمُرَادُ بِهِ الْبَعِيدُ ، قَالَ تَعَالَى { وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا } وَإِنْ كَانَ يَعْنِي شَيْئًا فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى وَإِلَّا كَانَ عَلَى الشَّهْرِ فَصَاعِدًا ؛ لِأَنَّ الْبَعِيدَ وَالْأَجَلَ سَوَاءٌ .
وَإِنْ حَلَفَ لَيُعْطِيَنَّهُ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ الدَّاخِلِ فِيهِ فَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَبْلَ أَنْ يَمْضِيَ مِنْهُ نِصْفُهُ ، وَإِنْ مَضَى مِنْهُ نِصْفُهُ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهُ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ لِلشَّهْرِ أَوَّلًا وَآخِرًا ، فَأَوَّلُهُ عِنْدَ الطَّلَاقِ يَتَنَاوَلُ النِّصْفَ الْأَوَّلَ ، وَالْآخِرُ مِنْهُ يَتَنَاوَلُ النِّصْفَ الْآخَرَ .
وَعَلَى هَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُهُ آخِرَ يَوْمٍ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ وَأَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ آخِرِ الشَّهْرِ أَنَّ يَمِينَهُ يَتَنَاوَلُ الْخَامِسَ عَشَرَ وَالسَّادِسَ عَشَرَ .
وَإِنْ حَلَفَ لَا يُعْطِيهِ مَالَهُ عَلَيْهِ حِينًا فَأَعْطَاهُ قَبْلَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ الْحِينَ قَدْ يُذْكَرُ بِمَعْنَى السَّاعَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } وَالْمُرَادُ وَقْتُ الصَّلَاةِ وَيُذْكَرُ بِمَعْنَى أَرْبَعِينَ سَنَةً .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنْ الدَّهْرِ } وَيُذْكَرُ بِمَعْنَى سِتَّةِ أَشْهُرٍ كَمَا نَقَلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى { تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا } أَنَّهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ مِنْ حِينَ يَخْرُجُ الطَّلْعُ إلَى أَنْ يُدْرَكَ التَّمْرُ ، فَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يُحْمَلُ عَلَى الْوَسَطِ مِنْ ذَلِكَ ، فَإِنَّ خَيْرَ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا وَلِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ السَّاعَةَ فَإِنَّهُ إذَا قَصَدَ الْمُمَاطَلَةَ سَاعَةً وَاحِدَةً لَا يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَرْبَعِينَ سَنَةً ، فَإِنَّهُ إذَا أَرَادَ ذَلِكَ يَقُولُ : أَبَدًا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَالزَّمَانُ فِي هَذَا كَالْحِينِ ؛ لِأَنَّهُمَا يُسْتَعْمَلَانِ اسْتِعْمَالًا وَاحِدًا ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ لِغَيْرِهِ : لَمْ أَلْقَك مُنْذُ

حِينٍ ، لَمْ أَلْقَك مُنْذُ زَمَانٍ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ ذِكْرُهُ مُعَرَّفًا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ أَوْ مُنَكَّرًا ؛ لِأَنَّ سِتَّةَ أَشْهُرٍ لَمَّا صَارَ مَعْهُودًا فِي الْحِينِ وَالزَّمَانِ فَالْمُعَرَّفُ يَنْصَرِفُ إلَى الْمَعْهُودِ .
وَكَذَلِكَ الدَّهْرُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : لَا أَدْرِي مَا الدَّهْرُ .
مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ : هَذَا الِاخْتِلَافُ فِيمَا إذَا ذَكَرَهُ مُنَكَّرًا وَقَالَ : دَهْرًا ، فَأَمَّا إذَا ذَكَرَهُ مُعَرَّفًا فَذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ الْعُمْرِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { حِينٌ مِنْ الدَّهْرِ } فَقَدْ جَعَلَ الْحِينَ مِنْ الدَّهْرِ جُزْءًا فَيَبْعُدُ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا فِي التَّقْدِيرِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إنَّ الْخِلَافَ فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ وَهُمَا يَقُولَانِ الدَّهْرُ فِي الْعُرْفِ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْحِينِ وَالزَّمَانِ ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ : لِغَيْرِهِ لَمْ أَلْقَك مُنْذُ دَهْرٍ لَمْ أَلْقَك مُنْذُ حِينٍ وَفِي أَلْفَاظِ الْيَمِينِ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْعُرْفُ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : قَدْ عَلِمْت بِالنَّصِّ أَنَّ الْحِينَ بَعْضُ الدَّهْرِ ، وَلَمْ أَجِدْ فِي تَقْدِيرِ الدَّهْرِ شَيْئًا نَصًّا وَنَصْبُ الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ فِيمَا لَمْ يَرِدْ نَصٌّ بِخِلَافِهِ فَلِهَذَا تَوَقَّفَ وَلَا عَيْبَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ، أَلَا تَرَى أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ فَقَالَ : لَا أَدْرِي حِينَ لَمْ يَحْضُرْهُ جَوَابٌ ثُمَّ قَالَ : طُوبَى لِابْنِ عُمَرَ سُئِلَ عَمَّا لَا يَدْرِي فَقَالَ : لَا أَدْرِي ؟ وَقِيلَ إنَّمَا قَالَ : لَا أَدْرِي ؛ لِأَنَّهُ حَفِظَ لِسَانَهُ عَنْ الْكَلَامِ فِي مَعْنَى الدَّهْرِ فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَا تَسُبُّوا الدَّهْرَ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الدَّهْرُ } مَعْنَاهُ أَنَّهُ خَالِقُ الدَّهْرِ ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ فِيمَا يُؤْثِرُ عَنْ رَبِّهِ :

اسْتَقْرَضْت مِنْ عَبْدِي فَأَبَى أَنْ يُقْرِضَنِي ، وَهُوَ يَسُبُّنِي وَلَا يَدْرِي فَسَبَّ الدَّهْرَ وَيَقُولُ : وَادَهْرَاهُ وَإِنَّمَا أَنَا الدَّهْرُ } حَدِيثٌ فِيهِ طُولٌ فَلِهَذِهِ الْآثَارِ الظَّاهِرَةِ حَفِظَ لِسَانَهُ وَقَالَ لَا أَدْرِي مَا الدَّهْرُ .
وَهُوَ كَمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُئِلَ عَنْ خَيْرِ الْبِقَاعِ فَقَالَ : لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ جِبْرِيلَ ، فَسَأَلَ جِبْرِيلَ فَقَالَ : لَا أَدْرِي حَتَّى أَسْأَلَ رَبِّي ، فَصَعِدَ إلَى السَّمَاءِ ثُمَّ نَزَلَ وَقَالَ : سَأَلْت رَبِّي عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : خَيْرُ الْبِقَاعِ الْمَسَاجِدُ ، وَخَيْرُ أَهْلِهَا مَنْ يَكُونُ أَوَّلَ النَّاسِ دُخُولًا وَآخِرُهُمْ خُرُوجًا } فَعَرَفْنَا أَنَّ التَّوَقُّفَ فِي مِثْلِ هَذَا يَكُونُ مِنْ الْكَمَالِ لَا مِنْ النُّقْصَانِ .
وَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ الْأَيَّامَ فَهُوَ عَلَى عَشْرَةِ أَيَّامٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ عَلَى سَبْعَةِ أَيَّامٍ ؛ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ لِلْمَعْهُودِ فِيمَا فِيهِ مَعْهُودٌ وَالْمَعْهُودُ فِي الْأَيَّامِ السَّبْعَةِ الَّتِي تَدُورُ عَلَيْهَا الشُّهُورُ وَالسِّنِينُ كُلَّمَا دَارَتْ عَادَتْ ، وَفِي الشُّهُورِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا وَلَيْسَ فِي السِّنِينَ مَعْهُودٌ فَيُسْتَغْرَقُ الْعُمْرُ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْكَثْرَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَيَّامًا كَثِيرَةً ، وَأَكْثَرُ مَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْأَيَّامِ مَقْرُونًا بِالْعَدَدِ الْعَشَرَةَ ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ بَعْدَهُ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا وَكَذَلِكَ فِي الشُّهُورِ وَالسِّنِينَ فَيَنْصَرِفُ يَمِينُهُ إلَى الْعَشَرَةِ مِمَّا سَمَّى .
وَإِنْ قَالَ : أَيَّامًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى هُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ لَفْظَ الْجَمْعِ وَأَدْنَى مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجَمْعِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَذَكَرَ هُنَا

أَنَّ عَلَى قَوْلِهِ يَكُونُ عَلَى عَشْرَةِ أَيَّامٍ سَوَاءٌ قَالَ أَيَّامًا أَوْ قَالَ الْأَيَّامُ ، وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا عَلَى أَنَّ هَذَا غَلَطٌ وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ ثَمَّةَ .
وَإِنْ حَلَفَ لَيُعْطِيَنَّهُ غَدًا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَإِذَا أَعْطَاهُ قَبْلَ أَنْ يَنْتَصِفَ النَّهَارُ بَرَّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ لِلنَّهَارِ أَوَّلًا وَآخِرًا كَمَا لِلشَّهْرِ .
وَإِنْ حَلَفَ لَيُعْطِيَنَّهُ مَعَ حِلِّ الْمَالِ أَوْ عِنْدَ حِلِّهِ أَوْ حِينَ يَحِلُّ الْمَالُ أَوْ حَيْثُ يَحِلُّ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَهَذَا يُعْطِيه سَاعَةَ يَحِلُّ فَإِنْ أَخَّرَهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ مَعَ لِلضَّمِّ ، وَعِنْدَ لِلْقُرْبِ ، وَحِينَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ يُرَادُ بِهِ السَّاعَةُ عَادَةً فَكَأَنَّهُ حَلَفَ لَيُعْطِيَنَّهُ سَاعَةَ يَحِلُّ فَإِذَا أَخَّرَهُ مِنْ ذَلِكَ حَنِثَ .

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَضْرِبُ عَبْدَهُ فَوَجَأَهُ أَوْ خَنَقَهُ أَوْ قَرَصَهُ أَوْ مَدَّ شَعْرَهُ أَوْ عَضَّهُ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ الضَّرْبَ فِعْلٌ مُوجِعٌ عَلَى قَصْدِ الِاسْتِخْفَافِ أَوْ التَّأْدِيبِ ، وَهَذَا كُلُّهُ مُوجِعٌ مُوَصِّلٌ الْأَلَمَ إلَى قَلْبِهِ فَكَانَ ضَرْبًا ، وَكَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْعَادَةِ الْقَاصِدُ إلَى ضَرْبِ عَبْدِهِ إنَّمَا يَقْصِدُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ وَيُسَمَّى فِعْلُهُ ضَرْبًا وَمَنْ يُعَايِنُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ يُسَمِّيه ضَارِبًا عَبْدَهُ .
وَلَوْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّهُ مِائَةَ سَوْطٍ فَضَرَبَهُ مِائَةَ سَوْطٍ وَخَفَّفَ بَرَّ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ بِرِّهِ أَصْلُ الضَّرْبِ دُونَ نِهَايَتِهِ وَالْخَفِيفُ كَالضَّرْبِ الشَّدِيدِ وَمُطْلَقُ الِاسْمِ لَا يَتَنَاوَلُ نِهَايَةَ الشَّيْءِ وَإِنْ جَمَعَهَا جَمَاعَةٌ ثُمَّ ضَرَبَهُ بِهَا لَمْ يَبَرَّ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ ضَارِبًا لَهُ بِمَا يَصِلُ إلَى بَدَنِهِ وَالْوَاصِلُ إلَى بَدَنِهِ بَعْضُ السِّيَاطِ حِينَ جَمَعَ الْكُلَّ جَمْعًا فَلِهَذَا لَا يَبَرُّ .
وَلَوْ ضَرَبَهُ بِهِ بِسَوْطٍ وَاحِدٍ لَهُ شُعْبَتَانِ خَمْسِينَ وَوَقَعَتْ عَلَيْهِ الشُّعْبَتَانِ بَرَّ ؛ لِأَنَّ كُلَّ شُعْبَةٍ سَوْطٌ وَاقِعٌ عَلَى بَدَنِهِ ضَرْبًا فَيَصِيرُ بِكُلِّ إيقَاعٍ ضَارِبًا لَهُ سَوْطَيْنِ فَإِذَا ضَرَبَهُ خَمْسِينَ فَقَدْ ضَرَبَهُ مِائَةَ سَوْطٍ وَهُوَ شَرْطُ بِرِّهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِمَامَ يَصِيرُ مُقِيمًا حَدَّ الزِّنَا بِهَذَا الْمِقْدَارِ ؟ فَكَذَلِكَ الْحَالِفُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .

بَابُ الْبِشَارَةِ ( قَالَ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِذَا قَالَ : أَيُّ غِلْمَانِي بَشَّرَنِي بِكَذَا فَهُوَ حُرٌّ فَبَشَّرَهُ بِذَلِكَ وَاحِدٌ ثُمَّ آخَرُ عَتَقَ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ بَشِيرٌ وَالْآخَرَ مُخْبِرٌ فَإِنَّ الْبَشِيرَ مَنْ يُخْبِرُهُ بِمَا غَابَ عَنْهُ عِلْمُهُ فَتَتَغَيَّرُ عِنْدَ سَمَاعِهِ بَشَرَةُ وَجْهِهِ ، وَإِنَّمَا وُجِدَ هَذَا مِنْ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي .
وَإِنْ بَشَّرُوهُ مَعًا عَتَقُوا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَخْبَرَهُ بِمَا غَابَ عَنْهُ عِلْمُهُ فَالْعِلْمُ بِالْمُخْبَرِ بِهِ يَتَعَقَّبُ الْخَبَرَ وَلَا يَقْتَرِنُ بِهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْبِشَارَةَ تَتَحَقَّقُ مِنْ الْجَمَاعَةِ قَوْله تَعَالَى وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ .
وَلَوْ بَعَثَ أَحَدَ غِلْمَانِهِ مَعَ رَجُلٍ بِالْبِشَارَةِ فَقَالَ : إنَّ غُلَامَك يُبَشِّرُك بِكَذَا عَتَقَ ؛ لِأَنَّ عِبَارَةَ الرَّسُولِ كَعِبَارَةِ الْمُرْسِلِ فَالْبَشِيرُ هُوَ الْمُرْسَلُ وَالرَّسُولُ مُبَلِّغٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُك بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ } وَإِنَّمَا سَمِعْت مِنْ رُسُلِ اللَّهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ الْمَلَائِكَةُ ثُمَّ كَانَ بِشَارَةً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لَهَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَتَبَ بِهِ إلَيْهِ كِتَابًا ؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ بِالْكِتَابِ كَالْبَيَانِ بِاللِّسَانِ ، فَإِنْ قَالَ : نَوَيْت الْمُشَافَهَةَ لَمْ يَعْتِقْ ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ فَإِنَّ الْبِشَارَةَ إنَّمَا تَكُونُ حَقِيقَةً مِنْهُ إذَا سَمِعَهُ بِعِبَارَتِهِ وَإِذَا قَالَ : أَيُّ غِلْمَانِي أَخْبَرَنِي بِكَذَا فَالْأَوَّلُ وَالثَّانِي وَالْكَاتِبُ وَالْمُرْسِلُ يَعْتِقُونَ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ مُتَحَقِّقٌ مِنْهُمْ فَقَدْ يُخْبَرُ الْمَرْءُ بِمَا هُوَ مَعْلُومٌ لَهُ كَمَا يُخْبَرُ بِمَا غَابَ عَنْهُ عِلْمُهُ إلَّا أَنْ يَعْنِيَ الْمُشَافَهَةَ فَتَعْمَلُ نِيَّتُهُ ؛ لِأَنَّهُ حَقِيقَةُ كَلَامِهِ وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسِخَ الْأَصْلِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْأَخْبَارِ وَالْإِعْلَامِ ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْإِعْلَامَ يَحْصُلُ بِالْكِتَابِ وَالرَّسُولِ كَالْأَخْبَارِ فَأَمَّا الْإِعْلَامُ لَا يَكُونُ مِنْ

الثَّانِي بَعْدَ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْإِعْلَامَ إيقَاعُ الْعِلْمِ بِالْخَبَرِ وَذَلِكَ لَا يَتَكَرَّرُ بِخِلَافِ الْأَخْبَارِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ : أَخْبَرَنِي بِهَذَا غَيْرُ وَاحِدٍ وَلَا يَقُولُ أَعْلَمَنِي غَيْرُ وَاحِدٍ ؟ وَإِذَا قَالَ : أَيُّ غِلْمَانِي حَدَّثَنِي فَهُوَ عَلَى الْمُشَافَهَةِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : كَلَّمَنِي ، أَلَا تَرَى أَنَّا نَقُولُ : أَخْبَرَنَا اللَّهُ بِكَذَا بِكِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ ، وَلَا نَقُولُ : حَدَّثَنَا اللَّهُ وَلَا كَلَّمَنَا اللَّهُ ؟ وَإِنْ حَلَفَ إنْ عَلِمَ بِمَكَانِ فُلَانٍ لَيُخْبِرَنَّكَ بِهِ ثُمَّ عَلِمَا جَمِيعًا فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُخْبِرَهُ لِيَبَرَّ ؛ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ يَتَحَقَّقُ ، وَإِنْ كَانَ الْمُخْبَرُ بِهِ مَعْلُومًا لَهُ ، وَلَوْ قَالَ : لَيُعْلِمَنَّكَ بِهِ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ حَانِثٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُمَا إذَا عَلِمَا جَمِيعًا بِهِ فَمَا هُوَ شَرْطُ بِرِّهِ وَهُوَ الْإِعْلَامُ فَائِتٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : لَأَشْرَبَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي الْكُوزِ وَلَا مَاءَ فِيهِ

وَإِنْ قَالَ : يَوْمَ أَفْعَلُ كَذَا فَعَبْدُهُ حُرٌّ فَفَعَلَهُ لَيْلًا عَتَقَ ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْوَقْتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلَّا مُتَحَرِّفًا } وَالرَّجُلُ يَقُولُ : أَنْتَظِرُ يَوْمَ فُلَانٍ وَيُذْكَرُ ، وَالْمُرَادُ بَيَاضُ النَّهَارِ فَقُلْنَا : إذَا قُرِنَ بِهِ مَا يَمْتَدُّ كَالصَّوْمِ عُلِمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ بَيَاضُ النَّهَارِ ، وَإِذَا قُرِنَ بِهِ مَا لَا يَمْتَدُّ فَالْمُرَادُ بِهِ الْوَقْتُ وَإِنَّمَا قَرَنَ بِذِكْرِ الْيَوْمِ هُنَا فِعْلًا لَا يَمْتَدُّ فَكَانَ بِمَعْنَى الْوَقْتِ .
وَإِنْ قَالَ : نَوَيْت النَّهَارَ دُونَ اللَّيْلِ دِينَ فِي الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ وَهِيَ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ .
وَإِنْ قَالَ : لَيْلَةَ أَفْعَلُ كَذَا فَهُوَ عَلَى اللَّيْلِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ ضِدُّ النَّهَارِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً } وَكَمَا أَنَّ النَّهَارَ مُخْتَصٌّ بِزَمَانِ الضِّيَاءِ فَاللَّيْلُ مُخْتَصٌّ بِزَمَانِ الظُّلْمَةِ وَالسَّوَادِ .
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَبِيتُ فِي مَكَانِ كَذَا فَأَقَامَ فِيهِ وَلَمْ يَنَمْ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ الْبَيْتُوتَةَ هُوَ الْمُكْثُ وَالْقَرَارُ بِاللَّيْلِ فِي مَكَان وَلِهَذَا يُسَمَّى الْمَوْضِعُ الَّذِي يَكُونُ الْمَرْءُ فِيهِ بِاللَّيْلِ مَبِيتًا ، وَاللَّفْظُ لَا يَدُلُّ عَلَى النَّوْمِ وَالْيَقِظَةِ فَيَحْنَثُ نَامَ أَوْ لَمْ يَنَمْ ، إلَّا أَنْ يَعْنِيَ النَّوْمَ فَيَكُونُ عَلَى مَا نَوَى ؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي لَفْظِهِ وَالْعُرْفُ وَالِاسْتِعْمَالُ يَشْهَدُ لَهُ وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ ، وَإِنْ أَقَامَ فِيهِ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى مَنْزِلِهِ .
وَإِذَا سُئِلَ أَيْنَ بَاتَ قَالَ : فِي مَنْزِلِي ، وَلِأَنَّ الْأَكْثَرَ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْكَمَالِ وَالْأَقَلُّ تَبَعٌ لِلْأَكْثَرِ ، فَإِذَا أَقَامَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ فَكَأَنَّهُ أَقَامَ فِيهِ جَمِيعَ اللَّيْلِ فَيَحْنَثُ

وَإِنْ حَلَفَ لَا يُظِلُّهُ ظِلُّ بَيْتٍ فَدَخَلَ بَيْتًا حَنِثَ ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ عِبَارَةٌ عَنْ الدُّخُولِ فِي عُرْفِ النَّاسِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يُظِلُّهُ ظِلُّ الْبَيْتِ إذَا دَخَلَ تَحْتَ سَقْفِهِ ، وَإِنْ أَقَامَ فِي ظِلِّهِ خَارِجًا لَمْ يَحْنَثْ إلَّا أَنْ يَنْوِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ عِبَارَةٌ عَنْ الدُّخُولِ لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ .
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْوِيهِ بَيْتٌ فَآوَاهُ بَيْتٌ سَاعَةً مِنْ اللَّيْلِ أَوْ النَّهَارِ ثُمَّ خَرَجَ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَكُونَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ أَوْ النَّهَارِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْإِيوَاءَ وَالْبَيْتُوتَةَ تَتَقَارَبُ فِي الِاسْتِعْمَالِ ، إلَّا أَنَّ الْبَيْتُوتَةَ فِي اللَّيْلِ خَاصَّةً ، يُقَالُ : بَاتَ فُلَانٌ يَفْعَلُ كَذَا إذَا فَعَلَ لَيْلًا ، وَظَلَّ يَفْعَلُ كَذَا إذَا فَعَلَهُ نَهَارًا ، فَأَمَّا الْإِيوَاءُ يُسْتَعْمَلُ فِيهِمَا ، ثُمَّ الْبَيْتُوتَةُ لَا تَكُونُ إلَّا فِي أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ فَكَذَلِكَ الْإِيوَاءُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ أَوْ النَّهَارِ ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ : إذَا دَخَلَ سَاعَةً حَنِثَ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ الْإِيوَاءَ بِالْحُصُولِ فِي مَكَان ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { سَآوِي إلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي } أَيْ أَلْتَجِئُ إلَيْهِ فَأَكُونُ فِيهِ ، وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : لَا آوَانِي وَإِيَّاكَ ظِلُّ بَيْتٍ مَا دُمْت عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ، أَيْ : لَا أَجْتَمِعُ مَعَك ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا آوَاهُ الْحِرْزُ فَفِيهِ الْقَطْعُ } فَإِذَا أَوَاهُ الْحِرْزُ أَيْ : حَصَلَ فِيهِ ، فَإِذَا دَخَلَ الْبَيْتَ سَاعَة فَقَدْ وُجِدَ الْإِيوَاءُ فَيَحْنَثُ .
وَلَوْ أَدْخَلَ إحْدَى قَدَمَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ مَا حَصَلَ فِي الْبَيْتِ بِإِدْخَالِ إحْدَى الْقَدَمَيْنِ وَكَذَلِكَ إنْ أَدْخَلَ جَسَدَهُ وَهُوَ قَائِمٌ وَلَمْ يُدْخِلْ رِجْلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ اعْتِمَادَ الْقَائِمِ عَلَى رِجْلَيْهِ وَالْجَسَدُ تَبَعٌ لِلرِّجْلَيْنِ ،

فَإِذَا لَمْ يُدْخِلْهُمَا لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا فِي الْبَيْتِ فَلَا يَحْنَثُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ الْيَمِينِ فِي الْكَفَالَةِ ( قَالَ ) وَإِذَا حَلَفَ لَا يَكْفُلُ بِكَفَالَةٍ فَكَفَلَ بِنَفْسِ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ دَابَّةٍ أَوْ بِدَرَكٍ فِي بَيْعٍ فَهُوَ حَانِثٌ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ بِمَا عَلَى الْغَيْرِ مِنْ تَسْلِيمِ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ مِنْهُ ، وَيُسَمَّى بِهِ فِي النَّاسِ كَفِيلًا ، وَالْمُتَحَرِّزُ مِنْ الْكَفَالَةِ يَكُونُ مُمْتَنِعًا مِنْ ذَلِكَ فَيَحْنَثُ ، وَالضَّمَانُ وَالْقَبَالَةُ قِيَاسُ الْكَفَالَةِ ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالًا وَاحِدًا .
وَإِذَا حَلَفَ لَا يَكْفُلُ عَنْ إنْسَانٍ بِشَيْءٍ فَكَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ صِلَةَ عَنْ لَا تُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ فَأَمَّا الصِّلَةُ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ الْبَاءُ يُقَالُ : كَفَلَ بِنَفْسِ فُلَانٍ وَكَفَلَ عَنْ فُلَانٍ بِكَذَا مِنْ الْمَالِ

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَكْفُلُ عَنْهُ بِشَيْءٍ فَاشْتَرَى لَهُ بِأَمْرِهِ شَيْئًا لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ بِمَا عَلَى الْغَيْرِ وَالثَّمَنُ بِالشِّرَاءِ هُنَا فِي ذِمَّةِ الْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ فَلَا يَكُونُ الْوَكِيلُ كَفِيلًا عَنْ الْمُوَكِّلِ بَلْ يَكُونُ هُوَ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ وَلِهَذَا طَالَبَهُ بِالثَّمَنِ وَإِنْ أَبْرَأَهُ الْبَائِعُ عَنْهُ وَحَبَسَ الْمَبِيعَ عَنْهُ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ .
وَإِنْ كَفَلَ بِأَمْرِهِ عَنْ إنْسَانٍ شَيْئًا لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ عَنْ الْآمِرِ شَيْئًا هُوَ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا الْتَزَمَ مَا عَلَى الْمَطْلُوبِ وَلَكِنْ بِمَسْأَلَةِ الْآمِرِ فَكَانَ كَفِيلًا عَنْ الْمَطْلُوبِ دُونَ الْآمِرِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَبْرَأُ بِبَرَاءَةِ الْمَطْلُوبِ ، وَأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ عِنْدَ الْأَدَاءِ عَلَى الْآمِرِ بِشَيْءٍ ؟ وَإِنَّمَا يَرْجِعُ عَلَى الْمَطْلُوبِ إذَا كَانَ ذَلِكَ بِسُؤَالِهِ .
وَلَوْ كَانَ الْمَالُ عَلَى فُلَانٍ وَبِهِ كَفِيلٍ فَأَمَرَ فُلَانٌ الْحَالِفَ فَكَفَلَ بِهَا عَنْ كَفِيلِهِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ غَيْرُ الْأَصِيلِ وَهُوَ إنَّمَا كَفَلَ عَنْ الْكَفِيلِ ، وَشَرْطُ حِنْثِهِ الْكَفَالَةُ عَنْ الْأَصِيلِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَرِئَ الْكَفِيلُ الْأَوَّلُ بَرِئَ الْكَفِيلُ الثَّانِي ، وَإِنْ بَقِيَ الْمَالُ عَلَى الْأَصِيلِ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَكْفُلُ لَهُ فَكَفَلَ لِغَيْرِهِ وَالدَّرَاهِمُ أَصْلُهَا لَهُ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لَهُ أَنْ يَلْتَزِمَ مُطَالَبَةً عَلَيْهِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمُطَالَبَةَ إنَّمَا تَتَوَجَّهُ لِلْمَكْفُولِ لَهُ دُونَ مَنْ يَمْلِكُ أَصْلَ الْمَالِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَفَلَ لِعَبْدِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ الْمُطَالَبَةَ لِلْمَوْلَى إنَّمَا الْتَزَمَهَا لِلْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْمَالِ لِلْمَوْلَى ، وَلَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ لَفْظِ الْحَالِفِ فِي بِرِّهِ وَحِنْثِهِ .
وَإِنْ كَفَلَ لِفُلَانٍ وَأَصْلُ الدَّرَاهِمِ لِغَيْرِهِ حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمُطَالَبَةَ لِفُلَانٍ وَمَتَى كَانَ وُجُوبُ الْمَالِ بِعَقْدِهِ فَفِي حُكْمِ الْمُطَالَبَةِ كَانَ

الْوَاجِبُ لَهُ وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْمِلْكِ لِغَيْرِهِ

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَكْفُلُ عَنْهُ فَضَمِنَ عَنْهُ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ وَالْكَفَالَةَ تَتَقَارَبُ فِي الِاسْتِعْمَالِ كَالْهِبَةِ مَعَ التَّخَلِّي وَالْعُمْرَى ، وَإِنْ كَانَ عَنِيَ اسْمَ الْكَفَالَةِ أَنْ لَا يَكْفُلَ وَلَكِنْ يَضْمَنُ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ لَفْظِهِ وَلَكِنَّهُ نَوَى الْفَصْلَ بَيْنَ الضَّمَانِ وَالْكَفَالَةِ وَهَذَا خِلَافُ الظَّاهِرِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَكْفُلُ عَنْ فُلَانٍ وَأَحَالَ فُلَانٌ عَلَيْهِ بِمَالِهِ عَلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُحْتَالِ لَهُ دَيْنٌ عَلَى الْمُحِيلِ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ عَنْهُ أَنْ يَلْتَزِمَ الْمُطَالَبَةَ عَنْهُ لِغَيْرِهِ بِمَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قَبْلَ الْكَفَالَةِ وَذَلِكَ لَمْ يُوجَدْ هُنَا إنَّمَا وَكَّلَ فُلَانٌ الْمُحْتَالُ لَهُ بِقَبْضِ دَيْنِهِ مِنْ الْحَالِفِ ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ كَفَالَةً عَنْهُ لِلْمُحْتَالِ لَهُ ، وَكَذَلِكَ إنْ ضَمِنَهُ لَهُ .
وَلَوْ كَانَ لِلْمُحْتَالِ لَهُ عَلَى الْمُحِيلِ مَالٌ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُحِيلِ مَالٌ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمُطَالَبَةَ عَنْهُ لِلْمُحْتَالِ لَهُ بِمَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَالِالْتِزَامُ بِقَبُولِ الْحَوَالَةِ أَبْلُغُ مِنْ الِالْتِزَامِ بِالْكَفَالَةِ وَالضَّمَانِ فَإِذَا كَانَ يَحْنَثُ هُنَاكَ فَكَذَلِكَ يَحْنَثُ هُنَا ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي حَقِّ الْمُلْتَزِمِ إنَّمَا الْفَرْقُ فِي حَقِّ الْمَضْمُونِ عَنْهُ أَنَّ الْحَوَالَةَ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ وَالْكَفَالَةُ لَا تُوجِبُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ

بَابُ الْيَمِينِ فِي الْكَلَامِ وَغَيْرِهِ ( قَالَ ) وَإِذَا حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ الْيَوْمَ ثُمَّ صَلَّى لَمْ يَحْنَثْ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ يَحْنَثُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ مُتَكَلِّمٌ فَإِنَّ التَّكَلُّمَ لَيْسَ إلَّا تَحْرِيكُ اللِّسَانِ وَتَصْحِيحُ الْحُرُوفِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مَفْهُومًا مِنْ الْعِبَادِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَتَى بِهِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ كَانَ حَانِثًا ؟ فَكَذَلِكَ فِي الصَّلَاةِ وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ يُحْدِثُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ وَإِنَّ مِمَّا أَحْدَثَ أَنْ لَا يُتَكَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ } وَلَا يَفْهَمُ أَحَدٌ مِنْ هَذَا تَرْكَ الْقِرَاءَةِ وَأَذْكَارِ الصَّلَاةِ ، وَكَذَلِكَ فِي الْعُرْفِ يُقَالُ : فُلَانٌ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي صَلَاتِهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَتَى بِأَذْكَارِ الصَّلَاةِ ، وَيُقَالُ : حُرْمَةُ الصَّلَاةِ تَمْنَعُ الْكَلَامَ وَلَا يُرَادُ بِهِ الْأَذْكَارُ ، وَالْعُرْفُ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَيْمَانِ ، فَأَمَّا إذَا قَرَأَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أَوْ سَبَّحَ أَوْ هَلَّلَ أَوْ كَبَّرَ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَكَلَّمَ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَالُ : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ وَإِنَّ التَّكَلُّمَ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْأَخْرَسِ وَالْقِرَاءَةُ وَالذِّكْرُ بِاللِّسَانِ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْأَخْرَسِ فَكَانَ كَلَامًا ؟ وَكَذَلِكَ لَوْ أَنْشَدَ شِعْرًا أَوْ تَكَلَّمَ بِأَيِّ لِسَانٍ كَانَ فَهُوَ حَانِثٌ لِوُجُودِ الشَّرْطِ

وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا فَنَادَاهُ مِنْ بَعِيدٍ فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ صَوْتَهُ لَا يَحْنَثُ ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَسْمَعُ صَوْتَهُ فَهُوَ حَانِثٌ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُكَلِّمًا فُلَانًا بِإِيقَاعِ صَوْتِهِ فِي أُذُنِهِ فَإِذَا كَانَ مِنْ الْبُعْدِ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ ، وَإِذَا كَانَ بِحَيْثُ يَسْمَعُ فَقَدْ أَوْقَعَ صَوْتَهُ فِي إذْنِهِ وَإِنْ لَمْ يَفْهَمْ لِتَغَافُلِهِ عَنْهُ وَاشْتِغَالِهِ بِغَيْرِهِ فَيَحْنَثُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَوَّلَ يُسَمَّى هَاذِيًا وَالثَّانِيَ يُسَمَّى مُنَادِيًا لَهُ ؟ وَكَذَلِكَ لَوْ نَادَاهُ وَهُوَ نَائِمٌ فَأَيْقَظَهُ حَنِثَ وَهَذَا ظَاهِرٌ وَقَعَ فِي بَعْضِ نُسِخَ الْأَصْلِ فَنَادَاهُ أَوْ أَيْقَظَهُ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَنْتَبِهْ بِنِدَائِهِ فَهُوَ حَانِثٌ ؛ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ صَوْتَهُ فِي أُذُنِهِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَفْهَمْ لِمَانِعٍ ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ النَّائِمَ كَالْغَائِبِ ، وَإِنْ لَمْ يَنْتَبِهْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ نَادَاهُ مِنْ بَعِيدٍ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ صَوْتَهُ فَلَا يَكُونُ حَانِثًا ، وَإِذَا انْتَبَهَ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ أَسْمَعَهُ صَوْتَهُ فَيَكُونُ مُكَلِّمًا لَهُ ، وَقِيلَ : هُوَ عَلَى الْخِلَافِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ النَّائِمَ كَالْمُنْتَبِهِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَحْنَثُ ، بَيَانُهُ فِيمَنْ رَمَى سَهْمًا إلَى صَيْدٍ فَوَقَعَ عِنْدَ نَائِمٍ حَيًّا ثُمَّ لَمْ يُدْرِكْ ذَكَاتَهُ حَتَّى مَاتَ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي كِتَابِ الصَّيْدِ .
وَإِنْ مَرَّ عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ وَهُوَ فِيهِمْ حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ مُخَاطِبٌ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِسَلَامِهِ ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْقَوْمُ دُونَهُ فَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُكَلِّمًا لَهُ إذَا قَصَدَ بِالْخِطَابِ غَيْرَهُ وَلَكِنَّهُ لَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّهُ فِي الظَّاهِرِ مُخَاطِبٌ لَهُمْ .
وَإِنْ كَتَبَ إلَيْهِ أَوْ أَرْسَلَ لَمْ يَحْنَثْ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْكَلَامَ لَا يَكُونُ إلَّا مُشَافَهَةً ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدًا

مِنَّا لَا يَسْتَجِيزُ أَنْ يَقُولَ : كَلَّمَنِي اللَّهُ وَقَدْ أَتَانَا كِتَابُهُ وَرَسُولُهُ ؟ وَإِنَّمَا يُقَالُ : كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ؛ لِأَنَّهُ أَسْمَعَهُ كَلَامَهُ بِلَا وَاسِطَةٍ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْمَى أَوْ أَشَارَ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَا لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْأَخْرَسِ وَالْإِيمَاءُ وَالْإِشَارَةُ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ فَلَا يَكُونُ كَلَامًا وَذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : سَأَلَنِي هَارُونُ عَمَّنْ حَلَفَ لَا يَكْتُبُ إلَى فُلَانٍ فَأَمَرَ أَنْ يُكْتَبَ إلَيْهِ بِإِيمَاءٍ أَوْ إشَارَةٍ هَلْ يَحْنَثُ فَقُلْت : نَعَمْ إذَا كَانَ مِثْلُك يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ السُّلْطَانَ لَا يَكْتُبُ بِنَفْسِهِ عَادَةً إنَّمَا يَأْمُرُ بِهِ غَيْرَهُ وَمِنْ عَادَتِهِمْ الْأَمْرُ بِالْإِيمَاءِ وَالْإِشَارَةِ ، وَعَنْ ابْنِ سِمَاعَةَ قَالَ : سَأَلْت مُحَمَّدًا عَمَّنْ حَلَفَ لَا يَقْرَأُ كِتَابًا لِفُلَانٍ فَنَظَرَ فِيهِ حَتَّى فَهِمَهُ وَلَمْ يَقْرَأْهُ فَقَالَ : سَأَلَ هَارُونُ أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ هَذَا وَكَانَ قَدْ اُبْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَقَالَ : لَا يَحْنَثُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِنْ ذَلِكَ ، ثُمَّ نَدِمَ وَقَالَ أَمَّا أَنَا فَلَا أَقُولُ فِيهِ شَيْئًا ، وَذَكَرَ هِشَامٌ وَابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْوُقُوفُ عَلَى مَا فِيهِ لَا عَيْنُ الْقِرَاءَةِ ، وَفِي الْأَيْمَانِ يُعْتَبَرُ الْمَقْصُودُ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ اللَّفْظَ مُرَاعًى وَلَفْظُهُ الْقِرَاءَةُ وَالنَّظَرُ وَالتَّفَكُّرُ لِيَفْهَمَ لَا يَكُونُ قِرَاءَةً ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَأَدَّى بِهِ فَرْضُ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ ؟ وَإِنْ قَالَ : لَا أُكَلِّمُ مَوْلَاك وَلَهُ مَوْلَيَانِ أَعْلَى وَأَسْفَلُ وَلَا نِيَّةَ لَهُ حَنِثَ بِأَيِّهِمَا كَلَّمَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : لَا أُكَلِّمُ جَدَّك وَلَهُ جَدَّانِ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا اسْمٌ مُشْتَرَكٌ وَالْأَسْمَاءُ الْمُشْتَرَكَةُ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ تَعُمُّ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى النَّفْيِ لَا يَتَحَقَّقُ

بِدُونِ التَّعْمِيمِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّكِرَةِ تَعُمُّ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ دُونَ الْإِثْبَاتِ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْوَصِيَّةِ لِمَوْلَاهُ وَقَدْ بَيَّنَّا تَمَامَ هَذَا الْفَرْقِ فِي الْجَامِعِ .

وَإِنْ حَلَفَ لَا يُفَارِقُ غَرِيمَهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مَالِهِ عَلَيْهِ فَلَزِمَهُ ثُمَّ فَرَّ مِنْهُ الْغَرِيمُ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ فِي الْمُفَارَقَةِ وَهُوَ مَا فَارَقَ غَرِيمَهُ إنَّمَا الْغَرِيمُ هُوَ الَّذِي فَارَقَهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَابَرَهُ حَتَّى انْفَلَتَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِيَمِينِهِ مَنْعَ نَفْسِهِ عَمَّا فِي وُسْعِهِ دُونَ مَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ .
( قَالَ ) : وَلَوْ أَنَّ الْمَطْلُوبَ أَحَالَ بِالْمَالِ عَلَى رَجُلٍ وَأَبْرَأَهُ الطَّالِبُ مِنْهُ ثُمَّ فَارَقَهُ لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ مَا جَعَلَهُ غَايَةً وَهُوَ اسْتِيفَاءُ مَالِهِ عَلَيْهِ قَدْ فَاتَ حِينَ بَرِئَ الْمَطْلُوبُ بِالْحَوَالَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فَوْتَ الْغَايَةِ عِنْدَهُمَا يُسْقِطُ الْيَمِينَ لَا إلَى حِنْثٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا فِي قَوْلِهِ لَا أُكَلِّمُك حَتَّى يَأْذَنَ لِي فُلَانٌ فَإِنْ نَوَى الْمَالَ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَرَجَعَ الطَّالِبُ إلَى الْمَطْلُوبِ لَمْ يَحْنَثْ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ تَنْفَسِخُ بِالتَّوَى وَلَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَإِنَّمَا تَنْفَسِخُ الْحَوَالَةُ فِي حَقِّ حُكْمٍ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ ، وَسُقُوطُ الْيَمِينِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَلِهَذَا لَا يَعُودُ الْيَمِينُ بِانْفِسَاخِ الْحَوَالَةِ وَإِنْ لَمْ يَحِلَّ بِالْمَالِ وَلَكِنَّهُ قَضَاهُ وَفَارَقَهُ ثُمَّ وَجَدَهُ زُيُوفًا أَوْ بَهْرَجَةً أَوْ سُتُّوقًا فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ الْفِضَّةُ لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ رَدَّهُ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَوْفٍ بِالْقَبْضِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَجَوَّزَ بِهَا فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ جَازَ ؟ فَتَمَّ شَرْطُ بِرِّهِ ثُمَّ انْتَقَضَ قَبْضُهُ بِالرَّدِّ فَلَا يَنْتَقِضُ بِهِ حُكْمُ الْبِرِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَاضَ وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ النُّحَاسُ كَالسَّتُّوقَةِ فَهُوَ حَانِثٌ ؛ لِأَنَّهُ مَا صَارَ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ بِالْقَبْضِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَجَوَّزَ بِهِ فِي الصَّرْفِ

وَالسَّلَمِ لَا يَجُوزُ .
وَإِنْ اسْتَحَقَّ الْمَقْبُوضَ مِنْ يَدِهِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَوْفٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَجَازَهُ الْمُسْتَحِقُّ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ جَازَ ؟ ثُمَّ انْتَقَضَ قَبْضُهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ بَعْدَ حُصُولِ الِاسْتِيفَاءِ وَشَرْطُ الْبِرِّ لَا يَحْتَمِلُ الِانْتِقَاضَ .
وَإِنْ حَلَفَ لَيُعْطِيَنَّهُ حَقَّهُ عَنْ قَرِيبٍ فَهُوَ وَقَوْلُهُ عَاجِلًا سَوَاءٌ ، وَإِنْ نَوَى وَقْتًا فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى ؛ لِأَنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا قَرِيبٌ عَاجِلٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ عَلَى أَقَلِّ مِنْ شَهْرٍ اسْتِحْسَانًا وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا .
وَإِنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَحْبِسَ عَنْهُ مِنْ حَقِّهِ شَيْئًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْطِيَهُ سَاعَةَ حَلَفَ ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ عِبَارَةٌ عَنْ التَّأْخِيرِ فَإِنْ لَمْ يُؤَخِّرْهُ بَعْدَ الْحَلِفِ لَمْ يَكُنْ حَابِسًا ، وَإِنْ أَخَّرَهُ كَانَ حَابِسًا وَلَكِنَّ الْحَبْسَ قَدْ يَطُولُ وَيَقْصُرُ فَإِنْ حَاسَبَهُ فَأَعْطَاهُ كُلَّ شَيْءٍ لَهُ عِنْدَهُ وَأَقَرَّ بِذَلِكَ الطَّالِبُ ثُمَّ أَتَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَيَّامٍ فَقَالَ : بَقِيَ لِي عِنْدَك كَذَا مِنْ قَبْلِ كَذَا فَذَكَرَ الْمَطْلُوبَ ذَلِكَ وَقَدْ كَانَ نَسِيَا ذَلِكَ جَمِيعًا لَمْ يَحْنَثْ إذَا أَعْطَاهُ سَاعَتَئِذٍ ، أَوْ قَالَ لَهُ : خُذْهُ ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا لَا يَكُونُ مَعْلُومًا لَهُمَا وَبَعْدَ التَّذَكُّرِ لَمْ يَحْبِسْهُ وَلَكِنَّهُ أَعْطَاهُ بِالْمُنَاوَلَةِ أَوْ التَّخْلِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَلِهَذَا لَمْ يَحْنَثْ .

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَقْعُدُ عَلَى الْأَرْضِ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَقَعَدَ عَلَى بِسَاطٍ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَ عَلَى الْأَرْضِ مَنْ يُبَاشِرُ الْأَرْضَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ مَا هُوَ مُنْفَصِلٌ عَنْهُ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ وَفِي الْعُرْفِ الرَّجُلُ يَقُولُ لِغَيْرِهِ اجْلِسْ عَلَى الْبِسَاطِ وَلَا تَجْلِسْ عَلَى الْأَرْضِ وَيَقُولُ فُلَانٌ جَالِسٌ عَلَى الْأَرْضِ وَفُلَانٌ عَلَى الْبِسَاطِ وَالْعُرْفُ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَيْمَانِ .
وَإِنْ قَعَدَ عَلَى الْأَرْضِ وَلِبَاسُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى فِي النَّاسِ قَاعِدًا عَلَى الْأَرْضِ وَلِأَنَّ الْمَلْبُوسَ تَبِعَ اللَّابِسَ فَلَا يَصِيرُ حَائِلًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَمْتَنِعُ مِنْ الْجُلُوسِ عَلَى الْأَرْضِ لِكَيْ لَا تَضُرَّ بِهِ وَهَذَا يُوجَدُ ، وَإِنْ كَانَ ذَيْلُهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَرْضِ وَلَا يُوجَدُ إذَا جَلَسَ عَلَى بِسَاطٍ

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ فَمَشَى عَلَيْهَا بِنَعْلٍ أَوْ خُفٍّ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ الْمَشْيَ عَلَى الْأَرْضِ هَكَذَا يَكُونُ فِي الْعُرْفِ وَإِنْ مَشْي عَلَى بِسَاطٍ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَاشٍ عَلَى الْأَرْضِ وَلَوْ مَشْي عَلَى ظَهْرِ إجَارٍ حَافِيًا أَوْ بِنَعْلَيْنِ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ ظَهْر الْإِجَارِ يُسَمَّى أَرْضًا عُرْفًا فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ الْجُلُوسَ عَلَيْهِ يَقُولُ لَهُ غَيْرُهُ اجْلِسْ عَلَى الْبِسَاطِ وَلَا تَجْلِسْ عَلَى الْأَرْضِ

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ فِي الْفُرَاتِ فَمَرَّ عَلَى الْجِسْرِ أَوْ دَخَلَ سَفِينَةً لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ دَخَلَ الْمَاءَ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ فِي الْعُرْفِ دُخُولُ الْفُرَاتِ بِالشُّرُوعِ فِي الْمَاءِ ، وَالْجِسْرُ وَالسَّفِينَةُ مَا اُتُّخِذَ لِلْعَاجِزِينَ عَنْ الشُّرُوعِ فِي الْفُرَاتِ ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْحَاصِلَ عَلَى الْجِسْرِ أَوْ السَّفِينَةِ لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي الْفُرَاتِ عُرْفًا وَفِي النَّوَادِرِ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَغْدَادَ فَمَرَّ فِي الدِّجْلَةِ فِي السَّفِينَةِ فَهُوَ حَانِثٌ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَخْرُجْ إلَى الْحَدِّ .
( قَالَ ) وَلَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ بَغْدَادَ فَجَاءَ مِنْ الْمَوْصِلِ فِي السَّفِينَةِ فِي دِجْلَةَ حَتَّى دَخَلَ بَغْدَادَ كَانَ مُقِيمًا وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ إلَى الْحَدِّ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَوَّى بَيْنَهُمَا وَيَقُولُ الْمَوْضِعُ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ مِنْ بَغْدَادَ فَيَكُونُ حَانِثًا ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ الدَّارَ فَدَخَلَهَا رَاكِبًا وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : مُرَادُ الْحَالِفِ دُخُولُ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَتَوَطَّنُ فِيهِ أَهْلُ بَغْدَادَ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَخْرُجْ إلَى الْحَدِّ فَإِنَّ قَهْرَ الْمَاءِ يَمْنَعُ قَهْرَ غَيْرِهِ .
وَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا إلَى كَذَا وَكَذَا ، فَإِنْ نَوَى شَيْئًا فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا فَلَهُ أَنْ يُكَلِّمَهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ كَانَ مُطْلَقًا لَهُ قَبْلَ الْيَمِينِ فَلَا يَمْتَنِعُ إلَّا الْقَدْرَ الْمُتَيَقَّنَ بِهِ ، وَالْمُتَيَقَّنُ ذَلِكَ الْيَوْمُ ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ إذَا كَانَ مُرَادُهُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ لَا يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَقِينَ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَلَا يَحْنَثُ بِالشَّكِّ .
( فَإِنْ قِيلَ ) أَلَيْسَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ : عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا يَلْزَمُهُ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا ( قُلْنَا ) وَهُنَا لَوْ قَالَ : كَذَا وَكَذَا يَوْمًا فَالْجَوَابُ كَذَلِكَ ، فَأَمَّا إذَا لَمْ

يَقُلْ يَوْمًا فَيُحْتَمَلُ أَنَّ مُرَادَهُ السَّاعَةُ ، وَالْيَوْمُ وَاللَّيْلَةُ يَشْتَمِلُ عَلَى سَاعَاتٍ كَثِيرَةٍ فَلِهَذَا لَهُ أَنْ يُكَلِّمَهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ .
وَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا إلَى قُدُومِ الْحَاجِّ أَوْ إلَى الْحَصَادِ فَقَدِمَ أَوَّلُ قَادِمٍ كَانَ لَهُ أَنْ يُكَلِّمَهُ ؛ لِأَنَّ مُرَادَهُ وَقْتُ الْقُدُومِ وَوَقْتُ الْحَصَادِ ، وَقَدْ عَلِمْنَا بِدُخُولِ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَهُوَ كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ إلَى الْغَدِ فَكَمَا طَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ الْغَدِ لَهُ أَنْ يُكَلِّمَهُ

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَؤُمُّ النَّاسَ فَأَمَّ بَعْضَهُمْ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ اسْمُ جِنْسٍ وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ اسْتِغْرَاقَ الْجِنْسِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فَيَتَنَاوَلُ أَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجِنْسِ

وَإِنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُهُ حَتَّى الشِّتَاءَ فَجَاءَ أَوَّلُ الشِّتَاءِ سَقَطَتْ الْيَمِينُ وَكَذَلِكَ الصَّيْفُ وَقَدْ بَيَّنَّا الْفُصُولَ الْأَرْبَعَةَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَسْتَعِيرُ مِنْ فُلَانٍ فَاسْتَعَارَ مِنْهُ حَائِطًا يَضَعُ عَلَيْهِ جُذُوعَهُ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِعَارَةَ طَلَبُ الْعَارِيَّةِ وَقَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُ بِمَا اسْتَعَارَ مِنْ حَائِطِهِ لِيَضَعَ عَلَيْهِ جُذُوعَهُ فَهُوَ كَمَا لَوْ اسْتَعَارَ مِنْهُ بَيْتًا أَوْ دَارًا أَوْ دَابَّةً ، وَلَوْ سَارَ إلَيْهِ ضَيْفًا أَوْ دَخَلَ عَلَيْهِ فَاسْتَقَى مِنْ بِئْرِهِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى مُسْتَعِيرًا شَيْئًا فَإِنَّ مَوْضِعَ جُلُوسِ الضَّيْفِ وَمَا جَلَسَ عَلَيْهِ فِي يَدِ الْمُضِيفِ وَمَنْ اسْتَقَى مِنْ بِئْرٍ فِي دَارِ غَيْرِهِ لَا تَثْبُتُ يَدُهُ عَلَى الرَّشَا فَلَا يَكُونُ مُسْتَعِيرًا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَعْرِفُ هَذَا الرَّجُلَ وَهُوَ يَعْرِفُهُ بِوَجْهِهِ دُونَ اسْمِهِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ يَعْرِفُهُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَإِنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُشِيرَ إلَيْهِ إذَا كَانَ حَاضِرًا وَلَا يُمْكِنُهُ إحْضَارُهُ إذَا كَانَ غَائِبًا وَالثَّابِتُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ لَا يَكُونُ ثَابِتًا مُطْلَقًا ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ رَجُلًا عَنْ رَجُلٍ فَقَالَ : هَلْ تَعْرِفُهُ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ ، فَقَالَ : هَلْ تَدْرِي مَا اسْمُهُ ؟ قَالَ : لَا ، قَالَ : فَإِنَّك إذًا لَا تَعْرِفُهُ } إلَّا أَنْ يَعْنِيَ مَعْرِفَةَ وَجْهِهِ فَإِنْ عَنِيَ ذَلِكَ فَقَدْ شَدَّدَ الْأَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ ، وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِمَا نَوَى ، وَهَذَا إذَا كَانَ لِلْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ اسْمٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ اسْمٌ بِأَنْ وُلِدَ مِنْ رَجُلٍ فَرَأَى الْوَلَدُ جَارَهُ وَلَكِنْ لَمْ يُسَمِّ بَعْدُ فَحَلَفَ الْجَارُ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ هَذَا الْوَلَدَ فَهُوَ حَانِثٌ ؛ لِأَنَّهُ يَعْرِفُ وَجْهَهُ وَيَعْرِفُ نَسَبَهُ وَلَيْسَ لَهُ اسْمٌ خَاصٌّ لِيَشْتَرِطَ مَعْرِفَةَ ذَلِكَ فَكَانَ حَانِثًا فِي يَمِينِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابٌ فِي الِاسْتِثْنَاءِ ( قَالَ ) وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ إلَّا أَنْ يَقْدَمَ فُلَانٌ فَإِنْ قَدِمَ فُلَانٌ لَمْ تَطْلُقْ ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ طَلُقَتْ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ لَمْ يَقْدَمْ فُلَانٌ أَيْ إلَّا أَنْ يَقْدَمَ فُلَانٌ فَلَا تَكُونُ طَالِقًا ، وَإِنَّمَا لَا تَكُونُ طَالِقًا عِنْدَ قُدُومِ فُلَانٍ إذَا كَانَ الْوُقُوعُ مُتَعَلِّقًا بِشَرْطِ عَدَمِ الْقُدُومِ ، سَوَاءٌ كَانَ الشَّرْطُ نَفْيًا أَوْ إثْبَاتًا فَمَا لَمْ يُوجَدْ لَا يَنْزِلُ الْجَزَاءُ ، فَإِنْ قَدِمَ فُلَانٌ فَشَرْطُ الْوُقُوعِ قَدْ انْعَدَمَ وَإِذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ فَقَدْ تَحَقَّقَ شَرْطُ الْوُقُوعِ الْآنَ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَلَّمْتِ فُلَانًا إلَّا أَنْ يَقْدَمَ فُلَانٌ فَإِنَّهَا إنْ كَلَّمَتْ فُلَانًا قَبْلَ الْقُدُومِ طَلُقَتْ ، وَإِنْ سَبَقَ الْقُدُومُ لَمْ تَطْلُقْ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَلَّمَتْ فُلَانًا يَمِينٌ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ وَالْيَمِينُ قَابِلَةٌ لِلتَّوْقِيتِ ، فَكَانَ قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَقْدَمَ فُلَانٌ تَوْقِيتٌ - لِيَمِينِهِ بِمَعْنَى حَتَّى وَإِذَا كَلَّمَتْ قَبْلَ الْقُدُومِ فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ وَالْيَمِينُ بَاقِيَةٌ فَتَطْلُقُ .
وَإِذَا قَدِمَ فُلَانٌ فَقَدْ انْتَهَتْ الْيَمِينُ بِوُجُودِ غَايَتِهَا ، وَإِذَا كَلَّمَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ وَلَا يَمِينَ ، فَأَمَّا فِي الْأَوَّلِ قَوْلُهُ : أَنْتِ طَالِقٌ إيقَاعٌ لَا يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ فَلَوْ جَعَلْنَا قَوْلَهُ إلَّا أَنْ يَقْدَمَ فُلَانٌ بِمَعْنَى حَتَّى كَانَ لَغْوًا وَكَلَامُ الْعَاقِلِ مَهْمَا أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ لَا يَجُوزُ إلْغَاؤُهُ فَجَعَلْنَا قَوْلَهُ " إلَّا أَنْ يَقْدَمَ فُلَانٌ " بِمَعْنَى الشَّرْطِ ؛ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ .
وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إلَّا أَنْ يَرَى فُلَانٌ غَيْرَ ذَلِكَ فَهَذَا إلَيْهِ عَلَى مَجْلِسِهِ الَّذِي يُعْلَمُ فِيهِ فَإِنْ قَامَ قَبْلَ أَنْ يَرَى غَيْرَهُ طَلُقَتْ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ إنْ لَمْ يَرَ فُلَانٌ غَيْرَ ذَلِكَ .
وَلَوْ قَالَ : إنْ رَأَى فُلَانٌ غَيْرَ ذَلِكَ كَأَنْ

يَتَوَقَّتَ بِالْمَجْلِسِ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ إنْ لَمْ يَرَ فُلَانٌ غَيْرَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ لِلْأَمْرِ مِنْ فُلَانٍ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : إلَّا أَنْ يَشَاءَ فُلَانٌ غَيْرَ ذَلِكَ أَوْ إلَّا أَنْ يَبْدُوَ لِفُلَانٍ غَيْرَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِلِسَانِهِ ؛ لِأَنَّا لَا نَقِفُ عَلَى مَا فِي ضَمِيرِهِ وَإِنَّمَا يُعَبِّرُ عَمَّا فِي قَلْبِهِ لِسَانُهُ .
وَلَوْ قَالَ : إلَّا أَنْ أَرَى غَيْرَ ذَلِكَ أَوْ إلَّا أَنْ أَشَاءَ أَوْ إلَّا أَنْ يَبْدُوَ لِي فَهُوَ إلَى الْمَوْتِ ؛ لِأَنَّ فِي حَقِّهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَعْنَى تَمْلِيكِ الْأَمْرِ مِنْ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ كَانَ مَالِكًا لِأَمْرِهَا فَيُحْمَلُ عَلَى حَقِيقَةِ الشَّرْطِ ، وَعَدَمُ رُؤْيَتِهِ غَيْرَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهَا يَتَحَقَّقُ ، وَالْحَالُ بَعْدَ مَوْتِهَا فِي حَقِّهِ كَالْحَالِ قَبْلَهُ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ فُلَانٌ أَوْ أَحَبَّ أَوْ رَضِيَ أَوْ هَوِيَ أَوْ أَرَادَ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى مَجْلِسِ عِلْمِهِ بِهِ .
وَلَوْ أَضَافَ إلَى نَفْسِهِ فَكَانَ عَلَى الْأَبَدِ ؛ لِأَنَّ فِي حَقِّ الْغَيْرِ يُجْعَلُ تَمْلِيكًا لِلْأَمْرِ مِنْهُ فَيَخْتَصُّ بِالْمَجْلِسِ وَفِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ تَمْلِيكًا فَيَبْقَى حَقِيقَةُ الشَّرْطِ مُعْتَبَرًا وَلَوْ قَالَ : إنْ لَمْ أَشَأْ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا أَشَاءُ لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ عَدَمُ مَشِيئَةِ طَلَاقِهَا فِي عُمْرِهِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ لَا أَشَاءُ فَإِنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَنْ يَشَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَلَوْ قَالَ : إنْ أَبَيْت طَلَاقَك أَوْ كَرِهْت طَلَاقَك ثُمَّ قَالَ : لَسْت أَشَاءُ طَلَاقَك وَقَدْ أَبَيْته طَلُقَتْ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الشَّرْطَ هُنَا وُجُودَ فِعْلٍ هُوَ إبَاءٌ مِنْهُ ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : لَا أَشَاءُ ، أَوْ بِقَوْلِهِ : أَبَيْت ، وَفِي الْأَوَّلِ جَعَلَ الشَّرْطَ عَدَمَ الْمَشِيئَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ : إنْ سَكَتُّ عَنْ مَشِيئَةِ طَلَاقِك حَتَّى أَمُوتَ فَلَا يَصِيرُ الشَّرْطُ مَوْجُودًا بِقَوْلِهِ لَا أَشَاءُ فَلِهَذَا لَا تَطْلُقُ .
وَلَوْ قَالَ : إنْ لَمْ يَشَأْ فُلَانٌ ذَلِكَ ، فَقَالَ فُلَانٌ : لَا

أَشَاءُ طَلُقَتْ لَا بِقَوْلِهِ لَا أَشَاءُ وَلَكِنْ بِخُرُوجِ الْمَشِيئَةِ عَنْ يَدِهِ ، فَقَوْلُهُ لَا أَشَاءُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَامَ عَنْ الْمَجْلِسِ أَوْ أَخَذَ فِي عَمَلٍ آخَرَ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ وَقَّتَ كَلَامَهُ فِي حَقِّ فُلَانٍ فَقَالَ إنْ لَمْ يَشَأْ فُلَانٌ الْيَوْمَ فَقَالَ فُلَانٌ لَا أَشَاءُ لَمْ تَطْلُقْ ؛ لِأَنَّ هَذَا يَتَوَقَّتُ بِالْيَوْمِ دُونَ الْمَجْلِسِ وَبِقَوْلِهِ لَا أَشَاءُ لَا تَنْعَدِمُ الْمَشِيئَةُ مِنْهُ فِي بَقِيَّةِ الْيَوْمِ فَلِهَذَا لَا تَطْلُقُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصِّدْقِ وَالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .

بَابُ الْيَمِينِ فِي الْأَزْهَارِ وَالرَّيَاحِينِ ( قَالَ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِذَا حَلَفَ لَا يَشْتَرِي بَنَفْسَجًا فَاشْتَرَى دُهْنَ بَنَفْسَجٍ حَنِثَ عِنْدَنَا وَلَمْ يَحْنَث عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَبِرُ حَقِيقَةَ لَفْظِهِ وَمَا اشْتَرَى غَيْرَ الْبَنَفْسَجِ ؛ لِأَنَّ الْمُنْتَقِلَ إلَى الدُّهْنِ رَائِحَةُ الْبَنَفْسَجِ لَا عَيْنَهُ وَلَكِنَّا نَعْتَبِرُ الْعُرْفَ فَإِنَّهُ إذَا أَطْلَقَ اسْمَ الْبَنَفْسَجِ فِي الْعُرْفِ يُرَادُ بِهِ الدُّهْنُ وَيُسَمَّى بَائِعُهُ بَائِعَ الْبَنَفْسَجِ فَيَصِيرُ هُوَ بِشِرَائِهِ مُشْتَرِيًا لِلْبَنَفْسَجِ أَيْضًا وَلَوْ اشْتَرَى وَرَقَ الْبَنَفْسَجِ لَمْ يَحْنَثْ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ يَحْنَثُ أَيْضًا ، وَهَذَا شَيْءٌ يَنْبَنِي عَلَى الْعُرْفِ وَفِي عُرْفِ أَهْلِ الْكُوفَةِ بَائِعُ الْوَرَقِ لَا يُسَمَّى بَائِعَ الْبَنَفْسَجِ وَإِنَّمَا يُسَمَّى بِهِ بَائِعَ الدُّهْنِ فَبَنَى الْجَوَابَ فِي الْكِتَابِ عَلَى ذَلِكَ ، ثُمَّ شَاهَدَ الْكَرْخِيُّ عُرْفَ أَهْلِ بَغْدَادَ أَنَّهُمْ يُسَمُّونَ بَائِعَ الْوَرَقِ بَائِعَ الْبَنَفْسَجِ أَيْضًا ، فَقَالَ : يَحْنَثُ بِهِ ، وَهَكَذَا فِي دِيَارِنَا ، وَلَا يَقُولُ : اللَّفْظُ فِي أَحَدِهِمَا حَقِيقَةٌ وَفِي الْآخَرِ مَجَازٌ وَلَكِنْ فِيهِمَا حَقِيقَةٌ أَوْ يَحْنَثُ فِيهِمَا بِاعْتِبَارِ عُمُومِ الْمَجَازِ ، وَالْخَيْرِيُّ كَالْبَنَفْسَجِ فَأَمَّا الْحِنَّا وَالْوَرْدُ فَقَالَ : إنِّي أَسْتَحْسِنُ أَنْ أَجْعَلَهُ عَلَى الْوَرَقِ وَالْوَرْدِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ .
وَإِنْ اشْتَرَى دُهْنَهُمَا لَمْ يَحْنَثْ وَالْقِيَاسُ فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ وَلَكِنَّهُ بَنَى الِاسْتِحْسَانَ عَلَى الْعُرْفِ وَأَنَّ الْوَرْدَ وَالْحِنَّا تُسَمَّى بِهِ الْعَيْنُ دُونَ الدُّهْنِ ، وَالْبَنَفْسَجُ وَالْخَيْرِيُّ يُسَمَّى بِهِمَا مُطْلَقًا وَالْيَاسَمِينُ قِيَاسُ الْوَرْدِ يُسَمَّى بِهِ الْعَيْنُ فَإِنَّ الدُّهْنَ يُسَمَّى بِهِ زَنْبَقًا .
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي بِزْرًا فَاشْتَرَى دُهْنَ بِزْرٍ حَنِثَ وَإِنْ اشْتَرَى الْحَبَّ لَمْ يَحْنَثْ لِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ الظَّاهِرِ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي دُهْنًا فَهَذَا عَلَى الدُّهْنِ

الَّذِي يَدَّهِنُ بِهِ النَّاسُ عَادَةً حَتَّى لَوْ اشْتَرَى زَيْتًا أَوْ بِزْرًا لَمْ يَحْنَثْ

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدَّهِنُ فَادَّهَنَ بِزَيْتٍ حَنِثَ وَلَوْ ادَّهَنَ بِسَمْنٍ أَوْ بِزْرٍ لَمْ يَحْنَثْ وَالزَّيْتُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُلْقَى فِيهِ الْأَرَايِحُ وَيُطْبَخُ ثُمَّ يُدْهَنُ بِهِ يَكُونُ دُهْنًا وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يُدْهَنُ بِهِ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ دُهْنًا مُطْلَقًا ، فَإِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى الشِّرَاءِ لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِذَا كَانَتْ عَلَى الِادِّهَانِ يَحْنَثُ بِهِ ، وَأَمَّا السَّمْنُ وَالْبِزْرُ لَا يُدْهَنُ بِهِمَا فِي الْعَادَةِ بِحَالٍ

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي بَزًّا فَاشْتَرَى فَرْوًا أَوْ مِسْحًا لَمْ يَحْنَثْ وَكَذَلِكَ الطَّيَالِسَةُ وَالْأَكْيِسَةُ ؛ لِأَنَّ بَائِعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يُسَمَّى بَزَّازًا وَلَا يُبَاعُ فِي سُوقِ الْبَزَّازِينَ أَيْضًا فَلَا يَصِيرُ مُشْتَرِيًا الْبَزَّ بِشِرَائِهَا

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي طَعَامًا فَاشْتَرَى تَمْرًا أَوْ فَاكِهَةً حَنِثَ فِي الْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ اسْمٌ لِمَا يَطْعَمُهُ النَّاسُ ، وَالْفَاكِهَةُ وَالتَّمْرُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى الْأَكْلِ حَنِثَ بِهِمَا ؟ فَكَذَلِكَ الشِّرَاءُ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ : لَا يَحْنَثُ إلَّا فِي الْحِنْطَةِ وَالْخُبْزِ وَالدَّقِيقِ ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى الشِّرَاءِ ، وَالشِّرَاءُ إنَّمَا يَتِمُّ بِهِ وَبِالْبَائِعِ ، وَمَا يُسَمَّى بَائِعُهُ بَائِعَ الطَّعَامِ أَوْ يُبَاعُ فِي سُوقِ الطَّعَامِ يَصِيرُ هُوَ بِشِرَائِهِ مُشْتَرِيًا لِلطَّعَامِ ، وَبَائِعُ الْفَاكِهَةِ وَاللَّحْمِ لَا يُسَمَّى بَائِعَ الطَّعَامِ فَلَا يَصِيرُ هُوَ بِشِرَائِهَا مُشْتَرِيًا لِلطَّعَامِ أَيْضًا بِخِلَافِ الْأَكْلِ فَإِنَّهُ يَتِمُّ بِالْآكِلِ وَحْدَهُ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ حَقِيقَةُ الِاسْمِ

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي سِلَاحًا فَاشْتَرَى حَدِيدًا غَيْرَ مَعْمُولٍ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ بَائِعَهُ لَا يُسَمَّى بَائِعَ السِّلَاحِ وَإِنَّمَا يُسَمَّى حَدَّادًا وَكَذَلِكَ يُبَاعُ فِي سُوقِ الْحَدَّادِينَ وَلَا يُبَاعُ فِي سُوقِ الْأَسْلِحَةِ .
وَإِنْ اشْتَرَى سِكِّينًا لَمْ يَحْنَثْ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ بَائِعَهُ لَا يُسَمَّى بَائِعَ السِّلَاحِ وَإِنَّمَا يُسَمَّى سَكَّانًا ، وَأَمَّا إذَا اشْتَرَى سَيْفًا أَوْ دِرْعًا أَوْ قَوْسًا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّهُ سِلَاحٌ يُبَاعُ فِي سُوقِ السِّلَاحِ وَبَائِعُهُ يُسَمَّى بَائِعَ السِّلَاحِ فَيَصِيرُ هُوَ مُشْتَرِيًا السِّلَاحَ بِشِرَائِهِ .
( قَالَ ) وَإِذَا سَأَلَ رَجُلٌ رَجُلًا عَنْ حَدِيثٍ فَقَالَ : أَكَانَ كَذَا وَكَذَا ؟ فَقَالَ : نَعَمْ وَسِعَهُ أَنْ يَقُولَ : حَدَّثَنِي فُلَانٌ بِكَذَا ، وَإِنْ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ صَادِقًا ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي جَوَابِهِ نَعَمْ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ فَيَصِيرُ مَا تَقَدَّمَ كَالْمُعَادِ فِيهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَرَأَ صَكًّا عَلَى غَيْرِهِ ، وَقَالَ أَشْهَدُ عَلَيْك بِكَذَا وَكَذَا فَقَالَ : نَعَمْ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ عَلَيْهِ

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَشُمُّ طِيبًا فَدَهَنَ بِهِ لِحْيَتَهُ فَوَجَدَ رِيحَهُ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلٍ مِنْهُ يُسَمَّى شَمَّ الطِّيبِ وَلَمْ يُوجَدْ ، وَإِنَّمَا وَصَلَتْ رَائِحَةُ الطِّيبِ إلَى دِمَاغِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ مَرَّ عَلَى سُوقِ الْعَطَّارِينَ فَدَخَلَ رَائِحَةُ الطِّيبِ فِي أَنْفِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُحْرِمَ بِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَأَنَّهُ لَوْ ادَّهَنَ قَبْلَ إحْرَامِهِ ثُمَّ وَجَدَ رِيحَهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ؟ وَهُوَ مَمْنُوعُ مِنْ شَمِّ الطِّيبِ فِي الْإِحْرَامِ ، وَلَيْسَ الدُّهْنُ بِطِيبٍ إذَا لَمْ يُجْعَلْ فِيهِ طِيبٌ إنَّمَا الطِّيبُ مَا يُجْعَلُ فِيهِ الْمِسْكُ وَالْعَنْبَرُ وَنَحْوُهُمَا ؛ لِأَنَّ الطِّيبَ مَا لَهُ رَائِحَةٌ مُسْتَلَذَّةٌ وَلَيْسَ لِلدُّهْنِ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ طِيبٌ وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ الدُّهْنُ لِتَلْيِينِ الْجِلْدِ وَدَفْعِ الْيُبُوسَةِ لَا لِلطِّيبِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَطَيِّبًا .
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَشُمُّ دُهْنًا أَوْ لَا يَدَّهِنُ فَالزَّيْتُ فِيهِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَدْهَانِ وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَالشِّرَاءِ

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَشُمُّ رَيْحَانًا فَشَمَّ آسًا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الرَّيَاحِينِ حَنِثَ ، وَإِنْ شَمَّ الْيَاسَمِينَ أَوْ الْوَرْدَ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ جُمْلَةِ الْأَشْجَارِ ، وَالرَّيْحَانُ اسْمٌ لِمَا لَيْسَ لَهُ شَجَرٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ } { وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ } قَدْ جَعَلَ الرَّيْحَانَ غَيْرَ الشَّجَرِ عَرَفْنَا أَنَّ مَا لَهُ شَجَرٌ فَلَيْسَ بِرَيْحَانٍ وَإِنْ كَانَ لَهُ رَائِحَةٌ مُسْتَلَذَّةٌ ، وَكَذَلِكَ فِي الْعُرْفِ لَا يُطْلَقُ اسْمُ الرَّيْحَانِ عَلَى الْوَرْدِ وَالْيَاسَمِينِ وَإِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى مَا يَنْبُتُ مِنْ بِزْرِهِ مِمَّا لَا شَجَرَ لَهُ ، وَقِيلَ : الرَّيْحَانُ مَا يَكُونُ لِعَيْنِهِ رَائِحَةٌ مُسْتَلَذَّةٌ وَشَجَرُ الْوَرْدِ وَالْيَاسَمِينِ لَيْسَ لِعَيْنِهِ رَائِحَةٌ إنَّمَا الرَّائِحَةُ لِلْوَرْدِ خَاصَّةً فَلَا يَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ الرَّيَاحِينِ

( قَالَ ) وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً حَلَفَتْ أَنْ لَا تَلْبَسَ حُلِيًّا فَلَبِسَتْ خَاتَمَ الْفِضَّةِ لَمْ تَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ مَمْنُوعٌ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْحُلِيِّ وَلَهُ أَنْ يَلْبَسَ خَاتَمَ الْفِضَّةِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِحُلِيٍّ وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ مَصُوغًا عَلَى هَيْئَةِ خَاتَمِ الرِّجَالِ فَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَى هَيْئَةِ خَاتَمِ النِّسَاءِ مِمَّا لَهُ فُصُوصٌ فَهُوَ مِنْ الْحُلِيِّ ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْحُلِيِّ لِلتَّزَيُّنِ بِهِ ، وَالسِّوَارُ وَالْخَلْخَالُ وَالْقِلَادَةُ وَالْقُرْطُ مِنْ الْحُلِيِّ ؛ لِأَنَّهَا تُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ الْحُلِيِّ لِلتَّزَيُّنِ بِهَا حَتَّى يَخْتَصَّ بِلُبْسِهَا مَنْ يَلْبَسُ الْحُلِيِّ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى وَعَدَ ذَلِكَ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ بِقَوْلِهِ { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ } فَأَمَّا اللُّؤْلُؤُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَكُونُ حُلِيًّا إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَصَّعًا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى هُوَ حُلِيٌّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا } وَلِقَوْلِهِ { وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } وَكَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْعُرْفُ يُسْتَعْمَلُ ذَلِكَ اسْتِعْمَالَ الْحُلِيِّ ، فَالْمَرْأَةُ قَدْ تَلْبَسُ عِقْدَ لُؤْلُؤٍ لِلتَّحَلِّي بِهَا وَلَكِنَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى شَاهَدَ الْعُرْفَ فِي عَصْرِهِ وَأَنَّهُمْ يَتَحَلَّوْنَ بِاللُّؤْلُؤِ مُرَصَّعًا بِالذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ وَلَا يَتَحَلَّوْنَ بِاللُّؤْلُؤِ وَحْدَهُ فَبَنَى الْجَوَابَ عَلَى مَا شَاهَدَهُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا تُبْنَى مَسَائِلُ الْأَيْمَانِ عَلَى أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ وَلَكِنَّ قَوْلَهُمَا أَظْهَرُ وَأَقْرَبُ إلَى عُرْفِ دِيَارِنَا .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَقْطَعُ بِهَذَا السِّكِّينِ فَكَسَرَهُ فَجَعَلَ مِنْهُ سِكِّينًا آخَرَ ثُمَّ قَطَعَ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ كَسَرَهُ فَقَدْ زَالَ الِاسْمُ الَّذِي عَقَدَ بِهِ الْيَمِينَ فَلِهَذَا لَا يَحْنَثُ وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الدَّارِ إذَا جَعَلَهَا بُسْتَانًا

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَتَزَوَّجُ امْرَأَةً فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً بِغَيْرِ شُهُودٍ حَنِثَ فِي الْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ عَنْ أَصْلِ الْعَقْدِ وَالْفَسَادُ وَالْجَوَازُ صِفَةٌ لَا يَنْعَدِمُ أَصْلُ الْعَقْدِ بِانْعِدَامِهَا كَالْبَيْعِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى الْمَاضِي بِأَنْ قَالَ : مَا تَزَوَّجْت كَانَ عَلَى الْفَاسِدِ وَالْجَائِزِ فَكَذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالنِّكَاحِ مِلْكُ الْحِلِّ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ كَيْف وَقَدْ نَفَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْلَ الْعَقْدِ بِغَيْرِ شُهُودٍ حَيْثُ قَالَ : { لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ } بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَالْمَقْصُودُ هُنَاكَ وَهُوَ الْمِلْكُ يَحْصُلُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ إذَا تَأَكَّدَ بِالْقَبْضِ وَبِخِلَافِ مَا لَوْ تَدَبَّرَ الْكَلَامَ فِي النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْخَبَرِ عَنْ الْمَاضِي مِنْ النِّكَاحِ لَيْسَ مَقْصُودُهُ الْحِلَّ وَالْعِفَّةَ وَإِنَّمَا يَمِينُهُ فِي الْمَاضِي عَلَى مُجَرَّدِ الْخَبَرِ ، وَالْخَبَرُ يَتَحَقَّقُ عَنْ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ وَالْجَائِزِ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي عَبْدًا فَاشْتَرَاهُ شِرَاءً فَاسِدًا حَنِثَ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَحْنَثُ إلَّا بِالْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ نَظِيرُ الْقَبُولِ فِي الشِّرَاءِ الصَّحِيحِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمِلْكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : شَرْطُ حِنْثِهِ الْعَقْدُ وَبِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ فَاسِدًا كَانَ أَوْ صَحِيحًا ، وَالْمِلْكُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي تَحْقِيقِ شَرْطِ الْحِنْثِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ أَوْ اشْتَرَاهُ لِغَيْرِهِ حَنِثَ ؟ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لَهُ قَالَ وَهَذَا وَالنِّكَاحُ سَوَاءٌ فِي الْقِيَاسِ وَلَكِنِّي أَسْتَحْسِنُ فِي الْبَيْعِ ، وَهَذَا الِاسْتِحْسَانُ يَعُودُ إلَى الْقِيَاسِ فِي النِّكَاحِ ، وَأَشَارَ إلَى الْفَرْقِ فَقَالَ : أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ عَتَقَ وَأَنَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ

؟ فَدَلَّ أَنَّ الْعَقْدَ مُنْعَقِدٌ هُنَا غَيْرُ مُنْعَقِدٍ هُنَاكَ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فَصَلَّاهَا بِغَيْرِ وُضُوءٍ فَفِي الْقِيَاسِ يَحْنَثُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَحْنَثُ وَهَذَا وَالنِّكَاحُ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالصَّلَاةِ الْعِبَادَةُ وَنَيْلُ الثَّوَابِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالصَّلَاةِ بِغَيْرِ وُضُوءٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا صَلَاةَ إلَّا بِطَهُورٍ }

( قَالَ ) وَلَوْ حَلَفَ لَا يُصَلِّي فَافْتَتَحَ الصَّلَاةَ لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَةً وَسَجْدَةً اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ فِعْلٌ يَكُونُ بِهِ مُصَلِّيًا وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِالتَّكْبِيرِ ؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى فِي الْعَادَةِ مُصَلِّيًا ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُصَلِّينَ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ : الصَّلَاةُ تَشْتَمِلُ عَلَى أَرْكَانٍ : مِنْهَا الْقِيَامُ ، وَالْقِرَاءَةُ ، وَالسُّجُودُ ، وَالرُّكُوعُ ؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ بِجَمِيعِ الْبَدَنِ ، وَكُلُّ رُكْنٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْكَانِ لَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الصَّلَاةِ فَلَا يَكُونُ مُصَلِّيًا مُطْلَقًا مَا لَمْ يَأْتِ بِأَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَإِنَّمَا يُسَمَّى مُصَلِّيًا بَعْدَ التَّكْبِيرِ مَجَازًا عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ اشْتَغَلَ بِالْأَرْكَانِ الَّتِي يَصِيرُ بِهَا مُصَلِّيًا ، فَإِذَا قَيَّدَ الرَّكْعَةَ بِسَجْدَةٍ فَقَدْ أَتَى بِأَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ تَكْرَارًا وَلَا يُشْتَرَطُ التَّكْرَارُ فِي إتْمَامِ شَرْطِ الْحِنْثِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ الْقَعْدَةَ مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ .
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَصُومُ فَأَصْبَحَ صَائِمًا ثُمَّ أَفْطَرَ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ رُكْنٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ وَشَرْطُهُ النِّيَّةُ فَلَمَّا أَصْبَحَ نَاوِيًا لِلصَّوْمِ فَقَدْ أَتَى بِمَا هُوَ رُكْنُ الصَّوْمِ فَيَتِمُّ بِهِ شَرْطُ حِنْثِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَالَ يَوْمًا فَحِينَئِذٍ إذَا أَفْطَرَ قَبْلَ اللَّيْلِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ صَوْمُ يَوْمٍ كَامِلٍ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِامْتِدَادِ الْإِمْسَاكِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ

وَإِنْ حَلَفَ لَيُفْطِرَنَّ عِنْدَ فُلَانٍ وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَأَفْطَرَ عَلَى مَاءٍ وَتَعَشَّى عِنْدَ فُلَانٍ حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ بِرِّهِ الْفِطْرَ عِنْدَ فُلَانٍ وَقَدْ تَعَشَّى عِنْدَ فُلَانٍ وَمَا أَفْطَرَ عِنْدَهُ فَالْفِطْرُ الْحُكْمِيُّ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ وَحَقِيقَتُهُ بِوُصُولِ الْمُفْطِرِ إلَى جَوْفِهِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ فُلَانًا ، وَإِنْ كَانَ نَوَى حِينَ حَلَفَ الْعَشَاءَ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ يُذْكَرُ فِي الْعَادَةِ وَالْمُرَادُ الْعَشَاءُ ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ : أَفْطَرْت عِنْدَ فُلَانٍ وَفُلَانٌ يُفْطِرُ عِنْدَهُ جَمَاعَةٌ وَالْمُرَادُ التَّعَشِّي

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَتَوَضَّأُ بِكُوزِ فُلَانٍ فَصَبَّ فُلَانٌ عَلَيْهِ الْمَاءَ مِنْ كُوزِهِ فَتَوَضَّأَ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ التَّوَضُّؤَ بِالْمَاءِ الَّذِي فِي الْكُوزِ لَا يُغَيِّرُ الْكُوزَ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي يَصُبُّ عَلَيْهِ الْمَاءَ مِنْ ذَلِكَ الْكُوزِ غَيْرُهُ ، وَكُوزُ الصُّفْرِ وَالْإِدَامِ وَغَيْر ذَلِكَ فِيهِ سَوَاءٌ ، وَهَذَا إذَا كَانَ ذَلِكَ يُسَمَّى كُوزًا عَادَةً فَأَمَّا إذَا تَوَضَّأَ بِإِنَاءٍ لِفُلَانٍ غَيْرِ الْكُوزِ لَمْ يَحْنَثْ وَلَوْ كَانَ فُلَانٌ هُوَ الَّذِي وَضَّاهُ وَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ وَهُوَ التَّوَضُّؤُ وَلَمْ يُوجَدْ ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَشْرَبُ بِقَدَحِ فُلَانٍ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

بَابُ الْيَمِينِ فِي الْعِتْقِ ( قَالَ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلٌ تَزَوَّجَ أَمَةً ثُمَّ قَالَ لَهَا : إنْ مَاتَ مَوْلَاك فَأَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ فَمَاتَ الْمَوْلَى وَالزَّوْجُ وَارِثُهُ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا ، وَلَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ ؛ لِأَنَّ مَوْتَ الْمُورَثِ سَبَبٌ لِانْتِقَالِ الْمَالِ إلَى الْوَارِثِ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلنِّكَاحِ وَأَوَانُ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَيَقْتَرِنُ الطَّلَاقُ بِحَالِ فَسَادِ النِّكَاحِ ، وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَمَا إذَا قَالَ : إذَا بَاعَك مِنِّي فَأَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ ثُمَّ اشْتَرَاهَا لَمْ تَطْلُقْ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ إلَّا فِي النِّكَاحِ الْمُسْتَقِرِّ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ فِي حَالِ انْتِقَالِ الْمِلْكِ إلَيْهِ وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ لَوْ كَانَ قَالَ : إذَا مَاتَ مَوْلَاك فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَمَاتَ الْمَوْلَى وَهُوَ وَارِثُهُ لَا تَعْتِقُ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَنْزِلُ إلَّا فِي الْمِلْكِ الْمُسْتَقِرِّ ، وَبِنَفْسِ مَوْتِ الْمَوْلَى لَا يَسْتَقِرُّ الْمِلْكُ لِلْوَارِثِ وَلَكِنَّ أَوَانَ اسْتِقْرَارِ مِلْكِهِ بَعْدَهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ : إذَا مَاتَ مَوْلَاك فَمَلَكَتْك ؛ لِأَنَّ أَوَانَ الْعِتْقِ هُنَاكَ مَا بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : وُجِدَ شَرْطُ الطَّلَاقِ وَهِيَ مَنْكُوحَةٌ بَعْدُ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ الزَّوْجُ وَارِثًا لَهُ .
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مَوْتَ الْمَوْلَى سَبَبٌ لِزَوَالِ مِلْكِهِ فَإِنَّمَا يَزُولُ مِلْكُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى الْوَارِثِ بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ يَفْسُدُ النِّكَاحُ بَعْدَ مَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ قَبْلَ هَذَا بِدَرَجَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ يَقْتَرِنُ بِزَوَالِ مِلْكِ الْمَوْلَى ، وَزَوَالُ مِلْكِ الْمَوْلَى غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي دَفْعِ اسْتِقْرَارِ النِّكَاحِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا إذَا مَاتَ مَوْلَاك فَأَنْتِ

حُرَّةٌ لَمْ تَعْتِقْ ؛ لِأَنَّ أَوَانَ وُقُوعِ الْعِتْقِ مَعَ زَوَالِ مِلْكِ الْمَالِكِ ، وَمِلْكُ الْوَارِثِ يَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِذَا لَمْ يُعْتَبَرُ الْمِلْكُ الَّذِي يَتَأَخَّرُ لِلْوَارِثِ فِي تَصْحِيحِ عِتْقِهِ فَكَذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ فِي الْمَنْعِ مِنْ وُقُوعِ الطَّلَاقِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ الْمِلْكَ بِقَوْلِهِ : إذَا مَاتَ مَوْلَاك فَمَلَكْتُك وَقَعَ الْعِتْقُ دُونَ الطَّلَاقِ ؟ فَإِذَا لَمْ يَشْتَرِطْ الْمِلْكَ يَقَعُ الطَّلَاقُ دُونَ الْعِتْقِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مُنَفِّذٌ لِلْعِتْقِ مَانِعٌ وُقُوعَ الطَّلَاقِ رَجُلٌ : قَالَ لِأَمَتِهِ إذَا مَاتَ فُلَانٌ فَأَنْتِ حُرَّةٌ ثُمَّ بَاعَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ثُمَّ قَالَ لَهَا : إذَا مَاتَ مَوْلَاك فَأَنْتِ طَالِقٌ اثْنَتَيْنِ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى وَهُوَ وَارِثُهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تَعْتِقُ وَيَقَعُ الطَّلَاقُ ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقَعُ الْعَتَاقُ وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَلَا الْعَتَاقُ ، أَمَّا أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَمْتَنِعُ وُقُوعُهُ إلَّا بَعْدَ الْمِلْكِ كَمَا أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَقَعُ إلَّا بَعْدَ الْمِلْكِ ، وَقَدْ عَلَّقَهُمَا الْحَالِفُ بِمَوْتِ فُلَانٍ وَاَلَّذِي ثَبَتَ بِمَوْتِ فُلَانٍ زَوَالُ مِلْكِهِ ثُمَّ ثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْوَارِثِ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَأَوَانُ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ قَبْلَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ وَلَا يَقَعُ الْعِتْقُ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ مَعَ وُقُوعِ الْمِلْكِ ، وَحَالُ وُقُوعِ الْمِلْكِ لِلزَّوْجِ فِي رَقَبَتِهَا لَيْسَ بِحَالِ اسْتِقْرَارِ النِّكَاحِ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَلَا يَقَعُ الْعِتْقُ ؛ لِأَنَّهُ يَقْتَرِنُ بِوُقُوعِ الْمِلْكِ ، وَأَوَانُ نُفُوذِ الْعِتْقِ مَا بَعْدَ الْمِلْكِ ، وَأَمَّا زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَقُولُ : لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ ؛ لِمَا قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ مَا بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى لَيْسَ

بِحَالِ اسْتِقْرَارِ النِّكَاحِ ، وَيَقَعُ الْعِتْقُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ حَلَفَ بِالْعِتْقِ فِي الْمِلْكِ وَالشَّرْطِ ثُمَّ فِي الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الشَّرْطِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى الْمُورَثِ وَكَمَا مَاتَ الْمُورَثُ انْتَقَلَ الْمِلْكُ إلَى الْوَارِثِ فَيَقَعُ الْعِتْقُ .
وَلَا يُعْتَبَرُ تَخَلُّلُ زَوَالِ الْمِلْكِ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ حُرَّةٌ ثُمَّ بَاعَهَا ثُمَّ اشْتَرَاهَا ثُمَّ دَخَلَتْ الدَّارَ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْعِتْقَ لَمَّا كَانَ أَوَانَ نُزُولِهِ بَعْدَ الْمِلْكِ يَصِيرُ تَقْدِيرُ كَلَامِهِ كَأَنَّهُ قَالَ : إذَا مَاتَ مَوْلَاك فَوَرِثْتُك وَلَا يُدْرَجُ مِثْلُ هَذَا فِي الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّهُ يُبْطِلُ الطَّلَاقَ ، وَالْإِدْرَاجُ لِلتَّصْحِيحِ لَا لِلْأَبْطَالِ أَوْ يُدْرَجُ حَتَّى لَا يَقَعَ الطَّلَاقُ وَيَقَعَ الْعِتْقُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ زُفَرَ .
وَإِذَا قَالَ لِأَمَتِهِ : إذَا بَاعَك فُلَانٌ فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَبَاعَهَا مِنْ فُلَانٍ ثُمَّ اشْتَرَاهَا مِنْهُ لَمْ تَعْتِقْ ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ بَيْعُ فُلَانٍ إيَّاهَا وَبَيْعُ فُلَانٍ مِنْ الْحَالِفِ سَبَبٌ لِزَوَالِ مِلْكِهِ فَأَمَّا وُقُوعُ الْمِلْكِ لِلْحَالِفِ بِشِرَائِهِ لَا بِبَيْعِ فُلَانٍ فَلِهَذَا لَا تَعْتِقُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : إذَا وَهَبَك لِي فُلَانٌ فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَبَاعَهَا مِنْ فُلَانِ وَسَلَّمَهَا ثُمَّ اسْتَوْدَعَهَا الْبَائِعُ ثُمَّ قَالَ لِلْبَائِعِ : هَبْهَا لِي فَقَالَ : هِيَ لَك أَنَّهَا لَهُ ؟ وَهَذَا قَبُولٌ وَلَا تَعْتِقُ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ وَالْهِبَةَ وَقَعَا وَهِيَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُهَا بِالْهِبَةِ وَالشِّرَاءِ بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَالْوَاهِبِ فَكَانَ الْعِتْقُ مُتَّصِلًا بِزَوَالِ مِلْكِ الْبَائِعِ وَالْوَاهِبِ أَوْ مُقْتَرِنًا بِوُقُوعِ الْمِلْكِ لِلْحَالِفِ ، وَلَا يُنَفَّذُ الْعِتْقُ إلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ .
وَإِنْ قَالَ : إذَا وَهَبَك فُلَانٌ مِنِّي فَأَنْتِ حُرَّةٌ فَوَهَبَهَا مِنْهُ وَهُوَ قَابِضٌ لَهَا عَتَقَتْ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : إذَا بَاعَك فُلَانٌ مِنِّي فَأَنْتِ حُرَّةٌ ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِمَا هُوَ سَبَبُ

الْمِلْكِ فِي حَقِّهِ وَإِضَافَةُ الْعِتْقِ إلَى سَبَبِ الْمِلْكِ كَإِضَافَتِهِ إلَى نَفْسِ الْمِلْكِ

رَجُلٌ قَالَ لِآخَرَ : يَا فُلَانٌ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُك عَشْرَةَ أَيَّامٍ ، وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُك تِسْعَةَ أَيَّامٍ ، وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُك ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ فَقَدْ حَنِثَ مَرَّتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْيَمِينِ الثَّانِيَةِ صَارَ مُخَاطِبًا لَهُ فَيَحْنَثُ فِي الْيَمِين الْأُولَى وَبِالْيَمِينِ الثَّالِثَةِ صَارَ مُخَاطِبًا لَهُ فَيَحْنَثُ فِي الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ الثَّالِثَةُ حَتَّى إنْ كَلَّمَهُ فِي الثَّمَانِيَةِ الْأَيَّامِ حَنِثَ أَيْضًا وَإِنْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُك ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُك تِسْعَةَ أَيَّامٍ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُك عَشْرَةَ أَيَّامٍ فَقَدْ حَنِثَ مَرَّتَيْنِ وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ الثَّالِثَةُ إنْ كَلَّمَهُ فِي الْعَشَرَةِ الْأَيَّامِ حَنِثَ أَيْضًا .
رَجُلٌ قَالَ : عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لَهُ حُرٌّ وَكُلُّ امْرَأَةٍ لَهُ طَالِقٌ إنْ دَخَلَ هَذِهِ الدَّارَ ، وَقَالَ رَجُلٌ آخَرُ : عَلَيَّ مِثْلُ مَا حَلَفْت عَلَى يَمِينِك مِنْ هَذِهِ الْأَيْمَانِ إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَدَخَلَ الثَّانِي الدَّارَ لَزِمَهُ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يَلْزَمْهُ عِتْقٌ وَلَا طَلَاقٌ ؛ لِأَنَّ الثَّانِي صَرَّحَ بِكَلِمَةِ عَلَيَّ وَهِيَ كَلِمَةُ الْتِزَامٍ فَكَانَتْ عَامِلَةً فِيمَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ فِي الذِّمَّةِ دُونَ مَا لَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ فِي الذِّمَّةِ ، وَالْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى يَصِحُّ الْتِزَامُهُ فِي الذِّمَّةِ فَيَتَعَلَّقُ بِدُخُولِهِ الدَّارَ وَعِنْدَ الدُّخُولِ يَصِيرُ كَالْمُنَجِّزِ فَأَمَّا الطَّلَاقُ لَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ فِي الذِّمَّةِ وَالْعِتْقِ وَإِنْ كَانَ يَصِحُّ الْتِزَامُهُ فِي الذِّمَّةِ وَلَكِنْ لَا يَتَنَجَّزُ فِي الْمَحَلِّ بِدُونِ التَّنْجِيزِ فَلِهَذَا لَا يَعْتِقُ مَمْلُوكُهُ وَلَا تَطْلُقُ زَوْجَتُهُ إذَا دَخَلَ الدَّارَ ، وَذُكِرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ ، وَقَالَ آخَرُ عَلَيَّ مِثْلُ ذَلِكَ فِي امْرَأَتِي مِنْ الطَّلَاقِ إنْ دَخَلْتُهَا فَدَخَلَ

الثَّانِي الدَّارَ لَمْ تَطْلُقْ امْرَأَتُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَطَلُقَتْ عِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ أَلْزَمَ نَفْسَهُ عِنْدَ دُخُولِ الدَّارِ فِي امْرَأَتِهِ مِنْ الطَّلَاقِ مَا الْتَزَمَهُ الْأَوَّلُ وَالْأَوَّلُ إنَّمَا أَلْزَمَ نَفْسَهُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا عِنْدَ الدُّخُولِ لَا لُزُومَ الطَّلَاقِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَيَثْبُتُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الثَّانِي .
( قَالَ ) فِي الْكِتَابِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ طَلَاقُ امْرَأَتِي لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ؟ وَهَذَا يَصِيرُ رِوَايَةً فِي فَصْلٍ وَفِيهِ اخْتِلَافٌ أَنَّ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ طَلَاقُك عَلَيَّ وَاجِبٌ أَوْ طَلَاقُك لِي لَازِمٌ فَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : يَقَعُ الطَّلَاقُ فِيهِمَا جَمِيعًا وَالْعِرَاقِيُّونَ مِنْ مَشَايِخِنَا كَانُوا يَقُولُونَ فِي قَوْلِهِ " عَلَيَّ وَاجِبٌ " : لَا يَقَعُ وَفِي قَوْلِهِ " لِي لَازِمٌ " : يَقَعُ ، وَالْأَصَحُّ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِيهِمَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ وَاللُّزُومَ يَكُونُ فِي الذِّمَّةِ وَالطَّلَاقُ لَا يُلْتَزَمُ فِي الذِّمَّةِ وَلَيْسَ لِالْتِزَامِهِ فِي الذِّمَّةِ عَمَلٌ فِي الْوُقُوعِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ لِي لَازِمٌ يَقَعُ ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ حُكْمُ الطَّلَاقِ لِي لَازِمٌ وَجَعْلُ السَّبَبِ كِنَايَةً عَنْ الْحُكْمِ صَحِيحٌ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَنْوِي فِي ذَلِكَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لُزُومُ الْحُكْمِ إيَّاهُ فَإِذَا نَوَى الْوُقُوعَ وَقَعَ فَأَمَّا الْعِتْقُ فَقَدْ جَعَلَ الثَّانِي بِهَذَا اللَّفْظِ عَلَيْهِ عِتْقُ مَمَالِيكِهِ فَيُؤْمَرُ بِالْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْبَرَ عَلَيْهِ فِي الْقَضَاءِ كَمَا لَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ عَبْدِي هَذَا لَمْ يَعْتِقْ بِهَذَا الْقَوْلِ وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ لَهُ إنْ بَقِيَ بِهِ مَعْنَاهُ أَنْ يُؤْمَرَ بِالْوَفَاءِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ

رَبِّهِ كَمَا هُوَ مُوجِبُ نَذْرِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ عَبْدُهُ سَالِمٌ حُرٌّ إنْ دَخَلَ الدَّارَ فَقَالَ رَجُلٌ آخَرُ : عَلَيَّ مِثْلُ مَا جَعَلْت عَلَى نَفْسِك إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَدَخَلَهَا أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَهَذَا ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ يَلْتَزِمُ بِالدُّخُولِ عِتْقَ مَا لَا يَمْلِكُهُ وَلَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ فَإِنْ عَنِيَ بِهِ عِتْقَ عَبْدٍ مِنْ عَبِيدِهِ الَّذِي يَمْلِكُهُ فَالْأَحْسَنُ لَهُ أَنْ يَفِيَ بِهِ وَهُوَ آثِمٌ إنْ لَمْ يَفِ بِهِ لِتَرْكِ الْوَفَاءِ بِالْمَنْذُورِ وَبَيَانُهُ فِي قَوْله تَعَالَى { وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ } الْآيَةَ ، وَأَمَّا الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ وَالنَّذْرُ وَالصِّيَامُ وَكُلُّ شَيْءٍ يَتَقَرَّبُ بِهِ الْعَبْدُ إلَى رَبِّهِ فَإِذَا قَالَ رَجُلٌ آخَرُ : عَلَيَّ مِثْلُ مَا حَلَفْت بِهِ إنْ فَعَلْت فَفَعَلَهُ الثَّانِي فَإِنَّهُ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْأَوَّلُ عَلَيَّ عِتْقُ نَسَمَةٍ إنْ فَعَلْت كَذَا فَفَعَلَ فَعَلَيْهِ عِتْقُ نَسَمَةٍ ؛ لِأَنَّهُ قُرْبَةٌ يَصِحُّ الْتِزَامُهَا فِي الذِّمَّةِ بِالنَّذْرِ وَالْوَفَاءِ بِالنُّذُورِ يُؤْمَرُ بِهِ النَّاذِرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ وَاَللَّهُ أَعْلَم .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ الْحُدُودِ ( قَالَ ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إمْلَاءً : الْحَدُّ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمَنْعُ ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْبَوَّابُ حَدَّادًا لِمَنْعِهِ النَّاسَ مِنْ الدُّخُولِ وَسُمِّيَ اللَّفْظُ الْجَامِعُ الْمَانِعُ حَدًّا ؛ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ مَعَانِيَ الشَّيْءِ وَيَمْنَعُ دُخُولَ غَيْرِهِ فِيهِ فَسُمِّيَتْ الْعُقُوبَاتُ حُدُودًا ؛ لِكَوْنِهَا مَانِعَةً مِنْ ارْتِكَابِ أَسْبَابِهَا .
وَفِي الشَّرْعِ ، الْحَدُّ : اسْمٌ لِعُقُوبَةٍ مُقَدَّرَةٍ تَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَلِهَذَا لَا يُسَمَّى بِهِ التَّعْزِيرُ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ وَلَا يُسَمَّى بِهِ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ الْعِبَادِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ حَقِّ الْعِبَادِ فِي الْأَصْلِ بِطَرِيقِ الْجُبْرَانِ فَأَمَّا مَا يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَالْمَنْعُ مِنْ ارْتِكَابِ سَبَبِهِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَنْ أَنْ يَلْحَقَهُ نُقْصَانٌ لِيُحْتَاجَ فِي حَقِّهِ إلَى الْجُبْرَانِ وَهِيَ أَنْوَاعٌ فَهَذَا الْكِتَابُ لِبَيَانِ نَوْعَيْنِ : مِنْهَا حَدُّ الزِّنَا وَحَدُّ النِّسْبَةِ إلَى الزِّنَا ، وَسَبَبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يُضَافُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَاتِ تُضَافُ إلَى أَسْبَابِهَا وَالْمُوجِبُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَكِنَّ الْأَسْبَابَ لِتَيْسِيرِ الْمَعْرِفَةِ عَلَى الْعِبَادِ لَا أَنْ تَكُونَ الْأَسْبَابُ هِيَ الْمُوجِبَةُ ، ثُمَّ حَدُّ الزِّنَا نَوْعَانِ : رَجْمٌ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ ، وَجَلْدٌ فِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ .
وَقَدْ كَانَ الْحُكْمُ فِي الِابْتِدَاءِ الْحَبْسُ فِي الْبُيُوتِ وَالتَّعْيِيرُ وَالْأَذَى بِاللِّسَانِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ } وَقَالَ { فَآذُوهُمَا } ثُمَّ انْتَسَخَ ذَلِكَ بِحَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا الْبِكْرُ بِالْبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ

بِالْحِجَارَةِ } وَقَدْ كَانَ هَذَا قَبْلَ نُزُولِ سُورَةِ النُّورِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ خُذُوا عَنِّي ، وَلَوْ كَانَ بَعْدَ نُزُولِهَا لَقَالَ خُذُوا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ انْتَسَخَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } وَاسْتَقَرَّ الْحُكْمُ عَلَى الْجَلْدِ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُحْصَنِ وَالرَّجْمِ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ فَأَمَّا الْجَلْدُ فَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَأَمَّا الرَّجْمُ فَهُوَ حَدٌّ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ ، إلَّا عَلَى قَوْلِ الْخَوَارِجِ فَإِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الرَّجْمَ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَقْبَلُونَ الْأَخْبَارَ إذَا لَمْ تَكُنْ فِي حَدِّ التَّوَاتُرِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الرَّجْمَ حَدٌّ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ مَاعِزًا بَعْدَ مَا سَأَلَ عَنْ إحْصَانِهِ وَرَجَمَ الْغَامِدِيَّةَ ، وَحَدِيثُ الْعَسِيفِ حَيْثُ قَالَ : وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا } دَلِيلٌ عَلَى ذَلِكَ ، وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْمِنْبَرِ : وَإِنَّ مِمَّا أُنْزِلَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ الشَّيْخَ وَالشَّيْخَةَ إذَا زَنَيَا فَارْجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ وَسَيَأْتِي قَوْمٌ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ وَلَوْلَا أَنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ زَادَ عُمَرُ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَكَتَبْتُهَا عَلَى حَاشِيَةِ الْمُصْحَفِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ حَدًّا عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ هُمَا حَدُّ الْمُحْصَنِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَالثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ } وَلِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ جَلَدَ شُرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةَ ، ثُمَّ رَجَمَهَا ، ثُمَّ قَالَ : جَلَدْتهَا بِكِتَابِ اللَّهِ وَرَجَمْتهَا بِالسُّنَّةِ .
( وَحُجَّتنَا ) حَدِيثُ مَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ قَدْ رَجَمَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَجْلِدْهُمَا ، وَقَالَ : فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ الزَّجْرُ

عَنْ ارْتِكَابِ السَّبَبِ وَأَبْلَغُ مَا يَكُونُ مِنْ الزَّجْرِ بِعُقُوبَةٍ تَأْتِي عَلَى النَّفْسِ بِأَفْحَشِ الْوُجُوهِ فَلَا حَاجَةَ مَعَهَا إلَى الْجَلْدِ ، وَالِاشْتِغَالُ بِهِ اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُفِيدُ وَمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ لَا يَكُونُ مَشْرُوعًا حَدًّا ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا قَدْ انْتَسَخَ وَقِيلَ تَأْوِيلُ قَوْلِهِ جَلْدُ مِائَةٍ وَرَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ الْجَلْدُ فِي حَقِّ ثَيِّبٍ هُوَ غَيْرُ مُحْصَنٍ ، وَالرَّجْمُ فِي حَقِّ ثَيِّبٍ هُوَ مُحْصَنٌ وَحَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ جَلَدَهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْ إحْصَانَهَا ثُمَّ عَلِمَ إحْصَانَهَا فَرَجَمَهَا وَهُوَ الْقِيَاسُ عِنْدَنَا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْجَامِعِ

ثُمَّ سَبَبُ هَذَا الْحَدِّ يَثْبُتُ عِنْدَ الْإِمَامِ بِالشَّهَادَةِ تَارَةً وَبِالْإِقْرَارِ أُخْرَى فَبَدَأَ الْكِتَابُ بِبَيَانِ مَا يَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ فَقَالَ وَالزِّنَا مُخْتَصٌّ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْحُقُوقِ فِي أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى { ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } وَقَدْ تَكَلَّفَ بَعْضُهُمْ فِيهِ مَعْنًى وَهُوَ أَنَّ الزِّنَا لَا يَتِمُّ إلَّا بِاثْنَيْنِ ، وَفِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ وَلَكِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّ شَهَادَةَ شَاهِدَيْنِ كَمَا يُثْبِتُ فِعْلَ الْوَاحِدِ يُثْبِتُ فِعْلَ الِاثْنَيْنِ وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ السَّتْرَ عَلَى عِبَادِهِ وَإِلَى ذَلِكَ نَدَبَ وَذَمَّ مَنْ أَحَبَّ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فَلِتَحْقِيقِ مَعْنَى السَّتْرِ شُرِطَ زِيَادَةُ الْعَدَدِ فِي الشُّهُودِ عَلَى هَذِهِ الْفَاحِشَةِ وَإِلَيْهِ { أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ ائْتِ بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِك وَإِلَّا فَحَدٌّ فِي ظَهْرِك } وَإِلَيْهِ أَشَارَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِين شَهِدَ عِنْدَهُ أَبُو بَكْرَةَ وَشِبْلُ بْنُ مَعْبَدٍ وَنَافِعُ بْنُ الْأَزْرَقِ عَلَى الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالزِّنَا فَقَالَ لِزِيَادٍ وَهُوَ الرَّابِعُ بِمَ تَشْهَدُ فَقَالَ : أَنَا رَأَيْت أَقْدَامًا بَادِيَةً وَأَنْفَاسًا عَالِيَةً وَأَمْرًا مُنْكَرًا ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : رَأَيْتُهُمَا تَحْتَ لِحَافٍ وَاحِدٍ يَنْخَفِضَانِ وَيَرْتَفِعَانِ وَيَضْطَرِبَانِ اضْطِرَابَ الْخَيْزُرَانِ ، وَفِي رِوَايَةٍ : رَأَيْت رَجُلًا أَقْعَى وَامْرَأَةً صَرْعَى وَرِجْلَيْنِ مَخْضُوبَتَيْنِ وَإِنْسَانًا يَذْهَبُ وَيَجِيءُ وَلَمْ أَرَ مَا سِوَى ذَلِكَ فَقَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَفْضَحْ وَاحِدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفِي هَذَا بَيَانُ اشْتِرَاطِ الْأَرْبَعَةِ لِإِبْقَاءِ سَتْرِ الْعِفَّةِ

( قَالَ ) وَإِذَا شَهِدَتْ الْأَرْبَعَةُ بِالزِّنَا بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْأَلَهُمْ عَنْ الزِّنَا مَا هُوَ ؟ وَكَيْف هُوَ ؟ وَمَتَى زَنَى ؟ وَأَيْنَ زَنَى ؟ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِلَفْظٍ مُحْتَمِلٍ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَسْتَفْسِرَهُمْ ، أَمَّا السُّؤَالُ عَنْ مَاهِيَّةِ الزِّنَا ؛ لِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْتَقِدُ فِي كُلِّ وَطْءٍ حَرَامٍ أَنَّهُ زِنًى وَلِأَنَّ الشَّرْعَ سَمَّى الْفِعْلَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ زِنًى قَالَ { الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْمَشْيُ وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ أَوْ يُكَذِّبُ } وَالْحَدُّ لَا يَجِبُ إلَّا بِالْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَفْسَرَ مَاعِزًا حَتَّى فَسَّرَ كَالْمِيلِ فِي الْمُكْحُلَةِ وَالرَّشَا فِي الْبِئْرِ ؟ وَقَالَ لَهُ مَعَ ذَلِكَ : لَعَلَّك قَبَّلْتهَا ، لَعَلَّك مَسِسْتهَا حَتَّى إذَا ذَكَرَ الْكَافَ وَالنُّونَ قَبْلَ إقْرَارِهِ .
وَالزِّنَا لُغَةً : مَأْخُوذٌ مِنْ الزِّنَا وَهُوَ الضِّيقُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِالْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ فَلِهَذَا سَأَلَهُمْ عَنْ مَاهِيَّةِ الزِّنَا وَكَيْفِيَّتِهِ ، وَأَمَّا السُّؤَالُ عَنْ الْوَقْتِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْعَهْدُ مُتَقَادِمًا فَإِنَّ حَدَّ الزِّنَا بِحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ لَا يُقَامُ بَعْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ عِنْدَنَا وَالسُّؤَالُ عَنْ الْمَكَانِ لِتَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ فَعَلَ ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ تَحْتَ وِلَايَةِ الْإِمَامِ وَالسُّؤَالُ عَنْ الْمَزْنِيِّ بِهَا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ مَاعِزًا عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ الْآنَ أَقْرَرْت أَرْبَعَةً فَبِمَنْ زَنَيْت وَلِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ لَهُ نِكَاحٌ أَوْ شُبْهَةُ نِكَاحٍ فِي الْمَفْعُولِ بِهَا وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ لِلشُّهُودِ فَإِذَا فَسَّرُوا تَبَيَّنَ ذَلِكَ لِلْقَاضِي وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقَاضِيَ مَنْدُوبٌ إلَى الِاحْتِيَالِ لِدَرْءِ الْحَدِّ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ادْرَءُوا الْحُدُودَ

بِالشُّبُهَاتِ } وَلَقَّنَ الْمُقِرَّ الرُّجُوعَ بِقَوْلِهِ أَسَرَقَ مَا إخَالُهُ سَرَقَ وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : اُطْرُدُوا الْمُعْتَرِفِينَ يَعْنِي الَّذِينَ يُقِرُّونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ وَمِنْ أَسْبَابِ احْتِيَالِ الدَّرْءِ أَنْ يَسْتَقْصِيَ مَعَ الشُّهُودِ وَلِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ مَا إذَا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ فَيَسْتَقْضِي لِلتَّحَرُّزِ عَنْ ذَلِكَ فَإِذَا بَيَّنُوا ذَلِكَ وَالْقَاضِي لَا يَعْرِفُ عَدَالَةَ الشُّهُودِ فَإِنَّهُ يَحْبِسُهُ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ الشُّهُودِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ خَلَّى سَبِيلَهُ هَرَبَ فَلَا يَظْفَرُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا وَجْهَ إلَى أَخْذِ الْكَفِيلِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْكَفِيلِ نَوْعُ احْتِيَاطٍ فَلَا يَكُونُ مَشْرُوعًا فِيمَا بُنِيَ عَلَى الدَّرْءِ .
( فَإِنْ قِيلَ ) الِاحْتِيَاطُ فِي الْحَبْسِ أَظْهَرُ ( قُلْنَا ) حَبْسُهُ لَيْسَ بِطَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ بَلْ بِطَرِيقِ التَّعْزِيرِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَّهَمًا بِارْتِكَابِ الْفَاحِشَةِ فَيَحْبِسُهُ تَعْزِيرًا وَلِهَذَا لَا يَحْبِسُهُ فِي الدُّيُونِ قَبْلَ ظُهُورِ عَدَالَةِ الشُّهُودِ وَلِأَنَّ الْحَبْسَ أَقْصَى الْعُقُوبَةِ هُنَاكَ فَإِنَّهُ بَعْدَ مَا ثَبَتَ الْحَقُّ لَا يُعَاقِبُهُ إلَّا بِالْحَبْسِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْعَلَهُ قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَقِّ بِخِلَافِ الْحُدُودِ فَإِذَا ظَهَرَتْ عَدَالَةُ الشُّهُودِ نَظَرَ فِي أَمْرِ الرَّجُلِ فَإِنْ كَانَ مُحْصَنًا رَجَمَهُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُحْصَنٍ جَلَدَهُ وَالْإِحْصَانُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الرَّجْمُ لَهُ شَرَائِطُ فَالْمُتَقَدِّمُونَ يَقُولُونَ شَرَائِطُهُ سَبْعَةٌ : الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالنِّكَاحُ الصَّحِيحُ وَالدُّخُولُ بِالنِّكَاحِ وَأَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ مِثْلَ الْآخَرِ فِي صِفَةِ الْإِحْصَانِ وَالْإِسْلَامُ وَالْأَصَحُّ أَنْ نَقُولَ شَرْطُ الْإِحْصَانِ عَلَى الْخُصُوصِ اثْنَانِ الْإِسْلَامُ وَالدُّخُولُ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ بِامْرَأَةٍ هِيَ مِثْلُهُ ، فَأَمَّا الْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ فَهُمَا شَرْطُ الْأَهْلِيَّةِ لِلْعُقُوبَةِ لَا شَرْطُ الْإِحْصَانِ عَلَى

الْخُصُوصِ ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْمُخَاطَبِ لَا يَكُونُ أَهْلًا لِالْتِزَامِ شَيْءٍ مِنْ الْعُقُوبَاتِ وَالْحُرِّيَّةُ شَرْطُ تَكْمِيلِ الْعُقُوبَةِ لَا أَنْ تَكُونَ شَرْطُ الْإِحْصَانِ عَلَى الْخُصُوصِ فَأَمَّا الدُّخُولُ شَرْطٌ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ } وَالثُّيُوبَةُ لَا تَكُونُ إلَّا بِالدُّخُولِ وَشَرَطْنَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّ الثُّيُوبَةَ عَلَى مَا عَلَيْهِ أَصْلُ حَالِ الْآدَمِيِّ مِنْ الْحُرِّيَّةِ لَا يُتَصَوَّرُ بِسَبَبٍ مَشْرُوعٍ سِوَى النِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَكَانَ الْمَقْصُودُ بِهِ تَغْلِيظُ الْجَرِيمَةِ ؛ لِأَنَّ الرَّجْمَ أَفْحَشُ الْعُقُوبَاتِ فَيَسْتَدْعِي أَغْلَظَ الْجِنَايَاتِ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الزِّنَا بَعْدَ إصَابَةِ الْحَلَالِ يَكُونُ أَغْلَظَ وَلِهَذَا لَا تُشْتَرَطُ الْعِفَّةُ عَنْ الزِّنَا فِي هَذَا الْإِحْصَانِ بِخِلَافِ إحْصَانِ الْقَذْفِ ؛ لِأَنَّ الزِّنَا بَعْدَ الزِّنَا أَغْلَظُ فِي الْجَرِيمَةِ مِنْ الزِّنَا بَعْدَ الْعِفَّةِ .
فَأَمَّا الْإِسْلَامُ شَرْطٌ فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى { لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِّي عَنْهُمَا رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا } وَزَادَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَقَدْ أُحْصِنَا ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذِهِ عُقُوبَةٌ يَعْتَقِدُ الْكَافِرُ حُرْمَةَ سَبَبِهَا فَيُقَامُ عَلَيْهِ كَمَا يُقَامُ عَلَى الْمُسْلِمِ كَالْجَلْدِ وَالْقَطْعِ وَالْقَتْلِ فِي الْقِصَاصِ بِخِلَافِ حَدِّ الشُّرْبِ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَقَدُ حُرْمَةُ سَبَبِهِ وَتَأْثِيرُهُ مَا بَيَّنَّا أَنَّ مَا اُشْتُرِطَ فِي الْإِحْصَانِ إنَّمَا يُشْتَرَطُ لِمَعْنًى تَغَلُّظِ الْجَرِيمَةِ ، وَغِلَظُ الْجَرِيمَةِ بِاعْتِبَارِ الدِّينِ مِنْ حَيْثُ اعْتِقَادُ الْحُرْمَةِ فَإِذَا كَانَ هُوَ فِي دِينِهِ مُعْتَقِدًا لِلْحُرْمَةِ كَالْمُسْلِمِ فَقَدْ حَصَلَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَكَانَ بِهِ مُحْصَنًا ، فَإِنَّ الْمُحْصَنَ مَنْ يَكُونُ فِي حِصْنٍ وَمُنِعَ مِنْ الزِّنَا وَهُوَ بِاعْتِقَادِهِ مَمْنُوعٌ

مِنْ الزِّنَا ، وَقَدْ أُنْذِرَ عَلَيْهِ بِالْعُقُوبَةِ فِي دِينِهِ فَكَانَ مُحْصَنًا ثُمَّ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ الْإِسْلَامِ لِمَعْنَى الْفَضِيلَةِ وَالْكَرَامَةِ وَالنِّعْمَةِ كَمَا لَا يُشْتَرَطُ سَائِرُ الْفَضَائِلِ مِنْ الْعِلْمِ وَالشَّرَفِ وَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ الْإِسْلَامِ لِمَعْنَى التَّغْلِيظِ ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ أَلْيَقُ بِهَذَا مِنْ الْإِسْلَامِ فَالْإِسْلَامُ لِلتَّخْفِيفِ وَالْعِصْمَةِ وَالْكُفْرُ مِنْ دَوَاعِي التَّغْلِيظِ فَإِذَا كَانَ تُقَامُ هَذِهِ الْعُقُوبَةُ عَلَى الْمُسْلِمِ بِارْتِكَابِ هَذِهِ الْفَاحِشَةِ فَعَلَى الْكَافِرِ أَوْلَى .
( وَحُجَّتُنَا ) قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَشْرَكَ بِاَللَّهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ } مَعْنَاهُ لَيْسَ بِكَامِلِ الْحَالِ فَإِنَّ الْمُحْصَنَ مَنْ هُوَ كَامِلُ الْحَالِ ، وَالرَّجْمُ لَا يُقَامُ إلَّا عَلَى مَنْ هُوَ كَامِلُ الْحَالِ وَالِاعْتِمَادُ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالثُّيُوبَةِ فَإِنَّ الثُّيُوبَةَ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ شَرْطٌ لِإِيجَابِ الرَّجْمِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَقْصُودَ انْكِسَارُ شَهْوَتِهِ بِإِصَابَةِ الْحَلَالِ وَهَذَا الْمَقْصُودُ يَتِمُّ بِالْإِصَابَةِ بِمُلْكِ الْيَمِينِ كَمَا يَتِمُّ بِالنِّكَاحِ ، ثُمَّ شُرِطَ أَنْ يَكُونَ بِالنِّكَاحِ فَمَا كَانَ ذَلِكَ إلَّا لِاعْتِبَارِ مَعْنَى النِّعْمَةِ وَيَتَبَيَّنُ بِهَذَا أَنَّ مَا يُشْتَرَطُ لِإِقَامَةِ الرَّجْمِ يُشْتَرَطُ بِطَرِيقٍ هُوَ نِعْمَةٌ فَكَذَلِكَ اعْتِقَادُ الْحُرْمَةِ يُشْتَرَطُ بِطَرِيقٍ هُوَ نِعْمَةٌ وَذَلِكَ بِالْإِسْلَامِ بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ أَصْلَ النِّعْمَةِ فِي الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ مَوْجُودٌ إنَّمَا انْعَدَمَ نِهَايَتُهَا ، وَأَصْلُ النِّعْمَةِ مُنْعَدِمٌ هُنَا فِيمَا يَعْتَقِدُهُ الْكَافِرُ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ الْجَرِيمَةَ كَمَا تَتَغَلَّظُ بِاجْتِمَاعِ الْمَوَانِعِ تَتَغَلَّظُ بِاجْتِمَاعِ النِّعَمِ وَلِهَذَا هَدَّدَ اللَّهُ تَعَالَى نِسَاءَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِي اللَّهُ عَنْهُنَّ وَبِضِعْفِ مَا هَدَّدَ بِهِ غَيْرَهُنَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } لِزِيَادَةِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِنَّ وَعُوتِبَ

الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى الزَّلَّاتِ بِمَا لَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ غَيْرُهُمْ لِزِيَادَةِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِمْ ، وَالْحُرُّ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ الْكَامِلُ وَلَا يُقَامُ عَلَى الْعَبْدِ لِزِيَادَةِ نِعْمَةِ الْحُرِّيَّةِ فِي حَقِّ الْحُرِّ ، فَبَدَنُ الْعَبْدِ أَكْثَرُ احْتِمَالًا لِلْحَدِّ مِنْ بَدَنِ الْحُرِّ فَعَرَفْنَا أَنَّ بِزِيَادَةِ النِّعْمَةِ يَزْدَادُ تَغْلِيظُ الْجَرِيمَةِ ؛ لِمَا فِي ارْتِكَابِ الْفَاحِشَةِ مِنْ كَفْرَانِ النِّعْمَةِ ، فَأَمَّا سَائِرُ الْفَضَائِلِ إنَّمَا لَا تُشْتَرَطُ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْحَدِّ بِالرَّأْيِ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ وَنَحْنُ قُلْنَا مَا يَكُونُ شَرْطًا بِالِاتِّفَاقِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُشْتَرَطَ بِطَرِيقٍ هُوَ نِعْمَةٌ اسْتِدْلَالًا بِالثُّيُوبَةِ ، فَأَمَّا مَا لَمْ يُعْرَفْ شَرْطًا لَوْ أَثْبَتْنَاهُ لَأَثْبَتْنَاهُ بِالرَّأْيِ ابْتِدَاءً مَعَ أَنَّهُ إنَّمَا يُشْتَرَطُ فِي الْإِحْصَانِ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِحْصَانِ وَسَائِرُ الْفَضَائِلِ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِحْصَانِ ، وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَيُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِحْصَانِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } وَقَالَ تَعَالَى { فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ } فَأَمَّا الْعِفَّةُ ، وَإِنْ كَانَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِحْصَانِ وَلَكِنَّ الْعِفَّةَ انْزِجَارٌ عَنْ الزِّنَا ، وَالِانْزِجَارُ عَنْ الزِّنَا مَعَ الْإِقْدَامِ عَلَى الزِّنَا لَا يَتَحَقَّقُ فَلَا يُمْكِنُ اشْتِرَاطُ الْعِفَّةِ مُقْتَرِنًا بِالزِّنَا وَلَا سَابِقًا عَلَى الزِّنَا ؛ لِأَنَّهُ لَا تَتَغَلَّظُ بِهِ الْجَرِيمَةُ كَمَا بَيَّنَّا ، فَإِنَّ الْإِصْرَارَ عَلَى الزِّنَا أَفْحَشُ فِي الْجَرِيمَةِ مَعَ أَنَّ الْعِفَّةَ الْوُقُوفُ عَلَى حُدُودِ الدِّينِ ، فَإِذَا شَرَطْنَا أَصْلَ الدِّينِ بِطَرِيقٍ هُوَ نِعْمَةٌ فَقَدْ حَصَلَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ .
فَأَمَّا الْحَدِيثُ فَإِنَّمَا رَجَمَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ دَعَا بِالتَّوْرَاةِ وَبِابْنِ صُورِيَّا الْأَعْوَرِ وَنَاشَدَهُ بِاَللَّهِ حَتَّى اعْتَرَفَ بِأَنَّ حُكْمَ

الزِّنَا فِي كِتَابِهِمْ الرَّجْمُ فَرَجَمَهُمَا ، وَقَالَ : أَنَا أَحَقُّ مَنْ أَحْيَا سُنَّةً أَمَاتُوهَا ، وَإِحْيَاءُ سُنَّةٍ أُمِيتَتْ إنَّمَا يَكُونُ بِالْعَمَلِ بِهَا فَدَلَّ أَنَّهُ إنَّمَا رَجَمَهُمَا بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ ، وَلَمْ يَكُنْ الْإِحْصَانُ شَرْطًا فِي الرَّجْمِ بِحُكْمِ التَّوْرَاةِ ، وَقَوْلُهُ وَقَدْ أُحْصِنَا شَاذٌّ وَلَوْ ثَبَتَ فَمُرَادُهُ الْإِحْصَانُ مِنْ حَيْثُ الْحُرِّيَّةُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } وَأَمَّا اشْتِرَاطُ إحْصَانِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْآخَرِ فَهُوَ مَذْهَبُنَا ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ بِشَرْطٍ ، حَتَّى إنَّ الْمَمْلُوكَيْنِ إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا وَطْءٌ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ فِي حَالَةِ الرِّقِّ ثُمَّ عَتَقَا لَا يَكُونَا مُحْصَنَيْنِ عِنْدَنَا ، وَكَذَلِكَ الْكَافِرَانِ ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُمَا مُحْصَنَانِ .
وَكَذَلِكَ الْحُرُّ إذَا تَزَوَّجَ أَمَةً أَوْ صَغِيرَةً أَوْ مَجْنُونَةً وَدَخَلَ بِهَا ، وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ إذَا تَزَوَّجَ كِتَابِيَّةً وَدَخَلَ بِهَا أَوْ أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا الزَّوْجُ الْكَافِرُ فَدَخَلَ بِهَا قَبْلَ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ مُحْصَنَةً بِهَذَا الدُّخُولِ عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَثْبُتُ الْإِحْصَانُ ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ قَدْ تَمَّ وَهُوَ انْكِسَارُ الشَّهْوَةِ بِإِصَابَةِ الْحَلَالِ وَأَنْ يَكُونَ بِطَرِيقٍ هُوَ نِهَايَةٌ فِي النِّعْمَةِ وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِمَا رُوِيَ { أَنَّ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِيَهُودِيَّةٍ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعْهَا فَإِنَّهَا لَا تُحْصِنُك } ، وَأَنَّ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : دَعْهَا فَإِنَّهَا لَا تُحْصِنُك { وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُحْصِنُ الْمُسْلِمَ

الْيَهُودِيَّةُ وَلَا النَّصْرَانِيَّةُ ، وَلَا الْحُرَّةَ الْعَبْدُ وَلَا الْحُرَّ الْأَمَةُ } وَفِيهِ مَعْنَيَانِ : أَحَدُهُمَا ، أَنَّ الزَّوْجِيَّةَ تَنْبِيءُ عَنْ الْمُسَاوَاةِ فَذَلِكَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِمْ زَوْجُ نَعْلٍ زَوْجُ خُفٍّ ، وَقَدْ صَارَتْ الزَّوْجِيَّةُ هُنَا شَرْطًا فَتُشْتَرَطُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي الصِّفَةِ ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الزَّوْجِيَّةِ يَكُونُ بِهِ ثُمَّ بِسَبَبِ الرِّقِّ يُنْتَقَصُ مِلْكُ الْحِلِّ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ حُرِّيَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِتَكُونَ الثُّيُوبَةُ بَعْدَ كَمَالِ مِلْكِ الْحِلِّ ، وَإِذَا ثَبَتَ اشْتِرَاطُ الْحُرِّيَّةِ يَثْبُتُ اشْتِرَاطُ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ فِيهَا بِطَرِيقِ الْأُولَى ؛ لِأَنَّ بِسَبَبِ الصِّغَرِ يَدْخُلُ فِي هَذَا الْفِعْلِ نُقْصَانٌ فَإِنَّ تَمَامَ مَيْلِ طَبْعِ الْمَرْءِ إلَى الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ .
وَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ الْإِسْلَامُ ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَةَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ نَاقِصَةُ الْحَالِ لَا يَتِمُّ سُكُونُهُ إلَيْهَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الرَّجْمَ أَقْصَى الْعُقُوبَاتِ ، وَفِي شَرَائِطِهِ يُعْتَبَرُ النِّهَايَةُ أَيْضًا احْتِيَالًا لِدَرْءِ هَذِهِ الْعُقُوبَةِ ، فَإِنْ أَقَرَّ الزَّانِي بِأَنَّهُ مُحْصَنٌ فَإِقْرَارُهُ عَلَيْهِ حُجَّةٌ تَامَّةٌ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِيمَا يُقِرُّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَلَكِنَّهُ يَسْتَفْسِرُهُ الْإِمَامُ ؛ لِأَنَّ الْإِحْصَانَ لَفْظٌ مُبْهَمٌ وَهُوَ يُطْلَقُ عَلَى أَشْيَاءَ يُسَمَّى بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا ، وَإِنْ قَالَ لَسْت بِمُحْصَنٍ فَشَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ أَنَّهُ مُحْصَنٌ اسْتَفْسَرَهُمَا عَنْ الْإِحْصَانِ مَا هُوَ وَكَيْفَ هُوَ فَإِذَا بَيَّنَا ذَلِكَ رَجَمَهُ إنْ كَانَ الشَّاهِدُ بِالْإِحْصَانِ رَجُلَيْنِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْإِحْصَانِ عَدَدُ الْأَرْبَعَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ مُوجِبٌ لِلْعُقُوبَةِ .
( قَالَ ) وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ بِالْإِحْصَانِ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يَثْبُتُ الْإِحْصَانُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، أَمَّا الْكَلَامُ مَعَ الشَّافِعِيِّ

رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَنْبَنِي عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي النِّكَاحِ أَنَّ النِّكَاحَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ عِنْدَهُ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ مَعَ النِّسَاءِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ وَلَا مِنْ حُقُوقِ مَا هُوَ مَالٌ ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْكَلَامُ هُنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ زُفَرَ فَحُجَّته رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْإِحْصَانِ هُنَا تَكْمِيلُ الْعُقُوبَةِ وَبِاعْتِبَارِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ لَا يَكُونُ لِلنِّسَاءِ فِيهِ شَهَادَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمُكَمِّلَ لِلْعُقُوبَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُوجِبِ لِأَصْلِ الْعُقُوبَةِ بِهِ فَكَمَا لَا يَثْبُتُ أَصْلُ الْعُقُوبَةِ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ .
فَكَذَلِكَ تَكْمِيلُهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ هَذَا الزَّانِيَ لَوْ كَانَ عَبْدًا مُسْلِمًا لِذِمِّيٍّ فَشَهِدَ ذِمِّيَّانِ أَنَّ مَوْلَاهُ كَانَ أَعْتَقَهُ قَبْلَ الزِّنَا وَقَدْ اسْتَجْمَعَ سَائِرَ شَرَائِطِ الْإِحْصَانِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْعِتْقِ عَلَى الذِّمِّيِّ مَقْبُولَةٌ ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ هُنَا تَكْمِيلَ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ نَظَرْنَا إلَى الْمَقْصُودِ دُونَ الْمَشْهُودِ بِهِ .
يُوَضِّحُ مَا قُلْنَا أَنَّ الْإِحْصَانَ شَرْطٌ وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى الشَّرْطِ وُجُودًا عِنْدَهُ كَمَا يُضَافُ إلَى السَّبَبِ ثُبُوتًا بِهِ فَكَمَا لَا يَثْبُتُ سَبَبُ الْعُقُوبَةِ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ فَكَذَلِكَ شَرْطُهَا .
( وَحُجَّتُنَا ) فِيهِ أَنَّ الْإِحْصَانَ لَيْسَ بِسَبَبٍ مُوجِبٍ لِلْعُقُوبَةِ فَيَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ ، وَهَذَا لَا إشْكَالَ فِيهِ فَإِنَّ الْإِحْصَانَ عِبَارَةٌ عَنْ خِصَالٍ حَمِيدَةٍ بَعْضُهَا مَأْمُورٌ بِهِ وَبَعْضُهَا مَنْدُوبُ إلَيْهِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِإِيجَابِ الْعُقُوبَةِ وَلَا هُوَ شَرْطٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ مَا يَتَوَقَّفُ الْحُكْمُ عَلَى وُجُودِهِ بَعْدَ السَّبَبِ وَلَا يَتَوَقَّفُ وُجُوبُ الرَّجْمِ عَلَى وُجُودِ الْإِحْصَانِ بَعْدَ الزِّنَا فَإِنَّهُ وَإِنْ صَارَ مُحْصَنًا بَعْدَ الزِّنَا لَمْ يُرْجَمْ وَلَكِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ

حَالٍ فِي الزَّانِي يَصِيرُ الزِّنَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مُوجِبًا لِلرَّجْمِ ، وَالْحُكْمُ غَيْرُ مُضَافٍ إلَى الْحَالِ ثُبُوتًا بِهِ وَلَا وُجُودًا عِنْدَهُ ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالنِّكَاحِ فِي هَذِهِ الْحَالِ وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الْحَالَةِ سَوَاءٌ .
وَأَمَّا شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَنَقُولُ : الْعِتْقُ هُنَاكَ يَثْبُتُ وَإِنَّمَا لَا يَثْبُتُ سَبْقُ التَّارِيخِ ؛ لِأَنَّ هَذَا تَارِيخٌ يُنْكِرُهُ الْمُسْلِمُ وَمَا يُنْكِرُهُ الْمُسْلِمُ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَلِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَتَضَرَّرُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ مِنْ حَيْثُ إقَامَةُ الْعُقُوبَةِ الْكَامِلَةِ عَلَيْهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَضَرَّرَ الْمُسْلِمُ بِشَهَادَةِ الْكُفَّارِ ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ دَخَلَهَا الْخُصُوصُ فِي الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ فَإِنَّ شَهَادَتَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ وَعَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ مَقْبُولَةٌ فِي الْحُدُودِ وَغَيْرِهَا فَإِذَا كَانَ الْخُصُوصُ فِي الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ يَنْظُرُ إلَى مَنْ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بَعْدَ شَهَادَتِهِمْ وَاَلَّذِي يُقَامُ هُنَا الْحَدُّ الْكَامِلُ عَلَى الْمُسْلِمِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا فِيهِ ، فَأَمَّا شَهَادَةُ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ دَخَلَهَا الْخُصُوصُ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ لَا فِي الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ قَبُولُهَا إذَا كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ سَبَبَ الْعُقُوبَةِ أَوْ شَرْطًا مُؤَثِّرًا فِي الْعُقُوبَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْإِحْصَانِ فَلِهَذَا قُبِلَتْ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ هُنَا .
( قَالَ ) فَإِنْ قَالَ شُهُودُ الْإِحْصَانِ حِينَ اسْتَفْسَرَهُمْ الْقَاضِي : إنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَجَامَعَهَا أَوْ بَاضَعَهَا فَذَلِكَ كَافٍ ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْجِمَاعِ يَتَنَاوَلُ الْجِمَاعَ فِي الْفَرْجِ خَاصَّةً ، وَلِهَذَا مَا تَعَلَّقَ بِالْجِمَاعِ مِنْ الْأَحْكَامِ شَرْعًا إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ ، وَالْمُبَاضَعَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنْ إدْخَالِ الْبُضْعِ فِي الْبُضْعِ فَأَمَّا إذَا قَالُوا دَخَلَ بِهَا فَذَلِكَ يَكْفِي لِثُبُوتِ

الْإِحْصَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا يَكْفِي فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : الدُّخُولُ مُشْتَرَكٌ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْوَطْءُ وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْمُلَاقَاةُ .
وَكُلُّ لَفْظٍ مُشْتَرَكٍ أَوْ مُبْهَمٍ يَذْكُرُ الشُّهُودُ فَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَسْتَفْسِرَهُمْ لِيَكُونَ إقْدَامُهُ عَلَى الْأَمْرِ عَنْ بَصِيرَةٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا : أَتَاهَا أَوْ قَرِبَهَا لَا يُكْتَفَى بِذَلِكَ ؟ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : إنَّهُمْ ذَكَرُوا الدُّخُولَ مُضَافًا إلَيْهَا وَالدُّخُولَ مُضَافًا إلَى النِّسَاءِ بِحَرْفِ الْبَاءِ يُرَادُ بِهِ الْجِمَاعُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } وَإِذَا قِيلَ : فُلَانٌ دَخَلَ بِامْرَأَتِهِ لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إلَّا الْجِمَاعُ ، وَالِاسْمُ مُشْتَرَكٌ بِدُونِ الصِّلَةِ ، وَأَمَّا مَعَ هَذِهِ الصِّلَةِ وَالْإِضَافَةِ فَلَا وَهُوَ كَاسْمِ الْوَطْءِ فَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْوَطْءُ بِالْقَدَمِ ، ثُمَّ إذَا قَالُوا : وَطِئَهَا كَانَ ذَلِكَ كَافِيًا لِثُبُوتِ الْإِحْصَانِ فَهَذَا مِثْلُهُ ، وَلَكِنْ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : قَدْ يُقَالُ : دَخَلَ بِهَا وَالْمُرَادُ مَرَّ بِهَا أَيْ خَلَى بِهَا إلَّا أَنَّ ذَلِكَ نَوْعُ مَجَازٍ وَالْمَجَازُ لَا يُعَارِضُ الْحَقِيقَةَ .
( قَالَ ) وَإِنْ شَهِدُوا عَلَى التَّزْوِيجِ فَقَطْ غَيْرَ أَنَّ لَهُ مِنْهَا وَلَدًا فَهُوَ إحْصَانٌ ، وَلَا يَكُونُ الْإِحْصَانُ بِشَيْءٍ أَبْيَنَ مِنْ هَذَا ؛ لِأَنَّا لَمَّا حَكَمْنَا بِثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ فَقَدْ حَكَمْنَا بِالدُّخُولِ بِهَا وَذَلِكَ أَقْوَى مِنْ شَهَادَةِ الشُّهُودِ عَلَى أَنَّهُ جَامَعَهَا ، وَلِأَنَّ الَّذِي يَقَعُ بِهِ الْعِلْمُ بِالدُّخُولِ بِهَا إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا أَوْلَادٌ فَوْقَ مَا يَقَعُ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ .
( قَالَ ) وَلَا يَكُونُ مُحْصَنًا بِالْخَلْوَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ انْكِسَارُ الشَّهْوَةِ بِإِصَابَةِ الْحَلَالِ لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْ

الْحَرَامِ ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالْخَلْوَةِ وَإِنَّمَا تُجْعَلُ الْخَلْوَةُ تَسْلِيمًا لِلْمُسْتَحِقِّ بِالْعَقْدِ فِي حُكْمِ الْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ سَائِرَ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْوَطْءِ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْهَا بِالْخَلْوَةِ ؟ فَكَذَلِكَ الْإِحْصَانُ

( قَالَ ) وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ ، وَلَا بَيْنَ الْجَلْدِ وَالنَّفْيِ أَمَّا فِي حَقِّ الْجَمْعِ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالرَّجْمِ فِي حَقِّ الْمُحْصَنِ فَقَدْ بَيَّنَّاهُ ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْبِكْرِ فَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالنَّفْيِ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا فَيَجْلِدُ مِائَةً وَيُغَرِّبُ سَنَةً ، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ { بِحَدِيثِ الْعَسِيفِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عَلَى ابْنِك جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْرِيبُ عَامٍ } وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ وَغَرَّبَ وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ضَرَبَ وَغَرَّبَ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ضَرَبَ وَغَرَّبَ ، وَاشْتَغَلَ بَعْضُهُمْ بِالْقِيَاسِ فَقَالَ : النَّفْيُ مِمَّا يَقَعُ بِهِ التَّعْزِيرُ فَكَانَ مِنْ جِنْسِهِ حَدًّا كَالْجَلْدِ ، وَلَكِنْ هَذَا كَلَامُ الْجُهَّالِ فَإِنَّ إثْبَاتَ الْحُدُودِ وَتَكْمِيلَهَا بِالْقِيَاسِ لَا يَكُونُ وَلَكِنْ الْحَرْفُ لَهُمْ أَنَّ الزِّنَا قَبْلَ أَنْ تَتَّخِذَهُ الْمَرْأَةُ عَادَةً تَكْتَسِبُ بِهِ إنَّمَا يَنْشَأُ مِنْ الصُّحْبَةِ وَالْمُؤَالَفَةِ وَالْمُؤَانَسَةِ ، وَالْفَرَاغُ وَالتَّغْرِيبُ قَاطِعٌ لِهَذَا السَّبَبِ وَالْحَدُّ مَشْرُوعٌ لِلزَّجْرِ عَنْ ارْتِكَابِ سَبَبِهِ فَمَا يَكُونُ قَاطِعًا لِلسَّبَبِ يَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُود فَيَكُونُ حَدًّا .
أَلَا تَرَى أَنَّ حَدَّ السَّرِقَةِ مَشْرُوعٌ بِقَطْعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ هَذَا الْفِعْلِ بِالْمَشْيِ وَالْبَطْشِ فَقَطْعُ الْآلَةِ الْمَاشِيَةِ وَالْبَاطِشَةِ مَانِعٌ لَهُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِكُمْ كَيْفَ تَنْفِي مَعَ الْمَحْرَمِ أَوْ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ ؛ لِأَنَّ النَّفْيَ هِجْرَةٌ وَاجِبَةٌ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمَحْرَمُ كَالْهِجْرَةِ فِي الَّتِي أَسْلَمَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، فَلَمَّا كَانَ حَدًّا فَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَتَكَلَّفَ لِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي إقَامَتِهِ كَالْجَلْدِ .
( وَحُجَّتُنَا ) فِيهِ قَوْله تَعَالَى { فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ } فَقَدْ جَعَلَ الْجَلْدَ جَمِيعَ حَدِّ الزِّنَا

فَلَوْ أَوْجَبْنَا مَعَهُ التَّغْرِيبَ كَانَ الْجَلْدُ بَعْضَ الْحَدِّ فَيَكُونُ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ وَذَلِكَ يَعْدِلُ النَّسْخَ ، وَرُوِيَ { أَنْ مُحَدَّجًا سَقِيمًا وُجِدَ عَلَى بَطْنِ أَمَةٍ مِنْ إمَاءِ الْحَيِّ يَفْجُرُ بِهَا فَأُتِيَ بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : اضْرِبُوهُ مِائَةً ، فَقَالُوا : إنَّ بَدَنَهُ لَا يَحْتَمِلُ الضَّرْبَ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : خُذُوا عُثْكَالًا عَلَيْهِ مِائَةُ شِمْرَاخٍ فَاضْرِبُوهُ بِهَا } وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالتَّغْرِيبِ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ حَدًّا لَتَكَلَّفَ لَهُ كَمَا تَكَلَّفَ لِلْحَدِّ ، وَأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَلَدَ أَبَا بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي دَارِهِ عَلَى الزِّنَا ، وَأَمَرَ امْرَأَتَهُ أَنْ تَكْتُمَ فَلَوْ كَانَ التَّغْرِيبُ مُتَمِّمًا لِلْحَدِّ لَمَا أَمَرَهَا بِالْكِتْمَانِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ وَلَمَّا نُفِيَ شَارِبُ الْخَمْرِ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِالرُّومِ فَقَالَ وَاَللَّهِ لَا أَنْفِي أَحَدًا بَعْدَ هَذَا أَبَدًا فَلَوْ كَانَ مَشْرُوعًا حَدًّا لَمَا حَلَفَ أَنْ لَا يُقِيمَهُ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَفَى بِالنَّفْيِ فِتْنَةً وَالْحَدُّ مَشْرُوعٌ لَتَسْكِينِ الْفِتْنَةِ فَمَا يَكُونُ فِتْنَةً لَا يَكُونُ حَدًّا .
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا اخْتَلَفَا فِي أُمِّ وَلَدٍ زَنَتْ بَعْدَ مَوْتِ مَوْلَاهَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تُجْلَدُ ، وَلَا تُنْفَى ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تُنْفَى وَأَخَذْنَا بِقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى دَفْعِ الْفِتْنَةِ وَالْفَسَادِ وَمَعْنَى هَذَا مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ قَالَ أَرَأَيْت شَابَّةً زَنَتْ أَكُنْتُ أَنْفِيهَا ؟ أَيْ فِي نَفْيِهَا تَعْرِيضٌ لَهَا لِمِثْلِ مَا اُبْتُلِيَتْ بِهِ فَإِنَّهَا عِنْدَ أَبَوَيْهَا تَكُونُ مَحْفُوظَةً فَفِي دَارِ الْغُرْبَةِ تَكُونُ خَلِيعَةَ الْعَذَارِ ، وَالنِّسَاءُ لَحْمٌ عَلَى وَضَمٍ إلَّا مَا ذُبَّ عَنْهُنَّ ، وَإِنَّمَا تَبْقَى الْمَرْأَةُ مَحْفُوظَةً بِالْحَافِظِ وَالِاسْتِحْيَاءِ

وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ بِالتَّغْرِيبِ فَيَكُونُ تَعْرِيضًا لَهَا لِلْإِقْدَامِ عَلَى هَذِهِ الْفَاحِشَةِ بِرَفْعِ الْمَانِعِ وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا قَالَهُ الْخَصْمُ ؛ لِأَنَّ مَا يَنْشَأُ عَنْ الصُّحْبَةِ وَالْمُؤَانَسَةِ يَكُونُ مَكْتُومًا ، وَمَا يَنْشَأُ عَنْ الْمُوَاقَحَةِ يَكُونُ ظَاهِرًا ، فَإِنَّ فِي هَذَا قَطْعًا لِسَبَبِ مَا يَنْشَأُ عَنْ الْمُحَادَثَةِ وَهُوَ مَكْتُومٌ فَفِيهِ تَعْرِيضٌ لِلزِّنَا بِطَرِيقِ الْوَقَاحَةِ وَهُوَ أَفْحَشُ ثُمَّ قَالَ : أَرَأَيْت أَمَةً زَنَتْ أَكُنْت أَنْفِيهَا ؟ فَأَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَوْلَاهَا وَبَيْنَ خِدْمَتِهَا وَحَقُّ الْمَوْلَى فِي الْخِدْمَةِ مَرْعِيٌّ وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الشَّرْعِ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَمَةَ لَا تُنْفَى فَكَذَلِكَ الْحُرَّةُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ } وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ نِصْفَ الْحَدِّ خَمْسُونَ جَلْدَةً ثَبَتَ أَنَّ كَمَالَهُ مِائَةُ جَلْدَةٍ ثُمَّ لَا يَجُوزُ أَنْ تُنْفَى الْحُرَّةُ مَعَ الْمَحْرَمِ ؛ لِأَنَّ الْمَحْرَمَ لَمْ يَزْنِ فَكَيْف يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ؟ وَبِدُونِ الْمَحْرَمِ هِيَ مَمْنُوعَةٌ عَنْ الْمُسَافَرَةِ شَرْعًا فَلَا يَجُوزُ إقَامَةُ الْحَدِّ بِطَرِيقٍ فِيهِ إبْطَالُ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ شَرْعًا .
فَأَمَّا الْمُهَاجِرَةُ لَا تَقْصِدُ السَّفَرَ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ وَإِنَّمَا تَقْصِدُ التَّخَلُّصَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ حَتَّى لَوْ وَصَلَتْ إلَى جَيْشٍ لَهُمْ مَنَعَةٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَأَمِنَتْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُسَافِرَ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْجَلْدِ وَالتَّغْرِيبِ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ اُنْتُسِخَ بِنُزُولِ سُورَةِ النُّورِ .
وَالْمُرَادُ بِالتَّغْرِيبِ الْحَبْسُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْزِيرِ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى { أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ } : إنَّهُ الْحَبْسُ ، وَقَالَ الْقَائِلُ : وَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالْمَدِينَةِ رَحْلُهُ فَإِنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ أَيْ : مَحْبُوسٌ ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِحَبْسٍ بِطَرِيقِ التَّعْزِيرِ حَتَّى تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ وَإِنْ ثَبَتَ النَّفْيُ عَلَى أَحَدٍ

فَذَلِكَ بِطَرِيقِ الْمَصْلَحَةِ لَا بِطَرِيقِ الْحَدِّ كَمَا نَفَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيتَ الْمُخَنَّثَ مِنْ الْمَدِينَةِ ، وَنَفَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَصْرَ بْنَ حَجَّاجٍ مِنْ الْمَدِينَةِ حِينَ سَمِعَ قَائِلَةً تَقُولُ : هَلْ مِنْ سَبِيلٍ إلَى خَمْرٍ فَأَشْرَبُهَا أَوْ هَلْ سَبِيلٌ إلَى نَصْرِ بْنِ حَجَّاجِ فَنَفَاهُ وَالْجَمَالُ لَا يُوجِبُ النَّفْيَ وَلَكِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لِلْمَصْلَحَةِ ، فَإِنَّهُ قَالَ : وَمَا ذَنْبِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ : لَا ذَنْبَ لَك وَإِنَّمَا الذَّنْبُ لِي حَيْثُ لَا أُطَهِّرُ دَارَ الْهِجْرَةِ مِنْك ، وَقَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي النَّفْيِ كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ يَنْفِي إلَى بَلَدٍ غَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي فَجَرَ فِيهِ وَلَكِنْ دُونَ مَسِيرَةِ سَفَرٍ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَكُونُ النَّفْيُ دُونَ مَسِيرَةِ سَفَرٍ .
( قَالَ ) وَلَا يَكُونُ مُحْصَنًا بِالْجِمَاعِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الْوَطْءِ الْحَرَامِ فَلَا يُتِمُّ بِهِ عَلَيْهِ النِّعْمَةَ وَلَا يَسْتَفِيدُ كَمَالَ الْحَالِ ، وَالْإِحْصَانُ عِبَارَةٌ عَنْ ذَلِكَ وَلَا بِالْجِمَاعِ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ إذَا كَانَ قَالَ لَهَا إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ ؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ قَامَتْ لَنَا عَلَى أَنَّهَا تَطْلُقُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَجِمَاعُهُ إيَّاهَا بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ زِنًى إلَّا أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ لِشُبْهَةِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ وَلَكِنْ لَا يُسْتَفَادُ بِهَذَا الْفِعْلِ كَمَالُ الْحَالِ ، وَكَذَلِكَ إنْ تَزَوَّجَ الْمُسْلِمُ مَجُوسِيَّةً أَوْ مُسْلِمَةً بِغَيْرِ شُهُودٍ فَدَخَلَ بِهَا ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ أَنْوَاعِ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ

( قَالَ ) وَإِذَا ثَبَتَ الزِّنَا عِنْدَ الْقَاضِي سَأَلَ الزَّانِيَ : أَمُحْصِنٌ أَنْتَ ؟ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالْإِحْصَانِ اسْتَغْنَى الْقَاضِي عَنْ طَلَبِ إحْصَانِهِ بِالْحُجَّةِ ، فَإِنْ أَنْكَرَ إحْصَانَهُ وَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ فَرُجِمَ ثُمَّ رَجَعَ شُهُودُ الْإِحْصَانِ لَمْ يَضْمَنُوا شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُمْ مَا شَهِدُوا بِسَبَبِ الْعُقُوبَةِ وَلَا بِشَرْطِهَا ، وَلِأَنَّ سَبَبَ الْعُقُوبَةِ ثَابِتٌ بِبَقَاءِ شُهُودِ الزِّنَا عَلَى شَهَادَتِهِمْ ، فَإِنْ رَجَعَ شُهُودُ الزِّنَا وَشُهُودُ الْإِحْصَانِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى شُهُودِ الْإِحْصَانِ عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَشْتَرِكُونَ فِي الضَّمَانِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِ أَنَّ الْإِحْصَانَ شَرْطُ الرَّجْمِ وَأَنَّ شُهُودَ الشَّرْطِ يَضْمَنُونَ عِنْدَ الرُّجُوعِ كَشُهُودِ السَّبَبِ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَنَا لَا ضَمَانَ عَلَى شُهُودِ الشَّرْطِ ، ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِحْصَانَ لَيْسَ بِشَرْطٍ ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ حَقِيقَةً مَا يَتَوَقَّفُ تَمَامُ السَّبَبِ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ حَالٌ فِي الزَّانِي فَلَا يَكُونُ الْإِتْلَافُ مُضَافًا إلَيْهِ بِوَجْهٍ ، وَرُبَّمَا قَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْإِحْصَانُ يَغْلُظُ جَرِيمَتُهُ وَالرَّجْمُ عُقُوبَةُ جَرِيمَةٍ مُغَلَّظَةٍ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ بِشُهُودِ الْإِحْصَانِ تَغَلَّظَتْ جَرِيمَتُهُ كَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَثْبَتَ أَصْلَ الْجَرِيمَةِ فَصَارُوا فِي الْمَعْنَى كَسِتَّةِ نَفَرٍ شَهِدُوا عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْقَتْلِ ، وَلَكِنَّ هَذَا بَعِيدٌ ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ وَالنِّكَاحَ يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُضَافَ إلَيْهِمَا الْجَرِيمَةُ وَلَا تَغْلِيظُهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ بِالزِّنَا وَآخَرَانِ بِالْإِحْصَانِ لَا تَتِمُّ الْحُجَّةُ ، مَعْلُومٌ أَنَّ الرَّجْمَ يُسْتَحَقُّ بِشَهَادَةِ شُهُودٍ أَرْبَعَةٍ فَلَوْ كَانَ شُهُودُ الْإِحْصَانِ كَشُهُودِ الزِّنَا لَتَمَّتْ الْحُجَّةُ هُنَا ، فَأَمَّا إذَا رَجَعَ شُهُودُ الزِّنَا أَوْ بَعْضُهُمْ فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : إمَّا أَنْ يَرْجِعَ أَحَدُهُمْ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ إقَامَةِ

الْحَدِّ أَوْ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ ، فَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمْ قَبْلَ الْقَضَاءِ يُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ عِنْدَنَا كَمَا لَوْ رَجَعُوا جَمِيعًا ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُحَدُّ إلَّا الرَّاجِعُ خَاصَّةً وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْحُجَّةَ تَمَّتْ بِاجْتِمَاعِ الْأَرْبَعَةِ عَلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ ، وَتَمَامُ الْحُجَّةِ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَلَامُهُمْ قَذْفًا ، ثُمَّ الرَّاجِعُ فَسَخَ مَعْنَى الشَّهَادَةِ مِنْ كَلَامِهِ بِرُجُوعِهِ فَيَنْقَلِبُ كَلَامُهُ قَذْفًا وَلَكِنَّ لَهُ وِلَايَةَ فَسْخِ الشَّهَادَةِ عَلَى نَفْسِهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ فَيَبْقَى كَلَامُ الْبَاقِينَ شَهَادَةً وَصَارَ فِي حَقِّهِمْ كَأَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ فَلَا يَلْزَمُهُمْ الْحَدُّ بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَ ثَلَاثَةٌ وَامْتَنَعَ الرَّابِعُ ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ لَمْ تَتِمَّ هُنَاكَ وَالشَّهَادَةُ عَلَى الزِّنَا فِي الْحَقِيقَةِ قَذْفٌ ، وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ تَمَامِ الْحُجَّةِ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا شَرْعًا فَلَمَّا لَمْ تَتِمَّ الْحُجَّةُ هُنَاكَ بَقِيَ كَلَامُهُمْ قَذْفًا فَيَلْزَمُهُمْ الْحَدُّ وَلَمَّا تَمَّتْ الْحُجَّةُ هُنَا لَمْ يَكُنْ كَلَامُهُمْ قَذْفًا ، ثُمَّ حُكْمُ فَسْخِ الشَّهَادَةِ بِرُجُوعِ الرَّابِعِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْبَاقِي .
( وَحُجَّتُنَا ) فِيهِ أَنَّ الْعَارِضَ بِالشُّهُودِ قَبْلَ الْقَضَاءِ كَالْمُقْتَرِنِ بِأَصْلِ الْأَدَاءِ بِدَلِيلِ عَمَى الشُّهُودِ وَرِدَّتِهِمْ وَبِدَلِيلِ الْمَالِ ، فَإِنَّ رُجُوعَ الشُّهُودِ هُنَاكَ قَبْلَ الْقَضَاءِ يَمْنَعُ الْقَاضِيَ مِنْ الْقَضَاءِ بِالْمَالِ لِعَدَمِ تَمَامِ الْحُجَّةِ فِي الِابْتِدَاءِ ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ : لَوْ امْتَنَعَ الرَّابِعُ مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فِي الِابْتِدَاءِ يُقَامُ حَدُّ الْقَذْفِ عَلَى الثَّلَاثَةِ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ لِسُكُوتِ الرَّابِعِ بَلْ بِنِسْبَتِهِمْ إيَّاهُ إلَى الزِّنَا ، فَكَذَلِكَ إذَا رَجَعَ أَحَدُهُمْ قَبْلَ الْقَضَاءِ قَوْلُهُ إنَّ الْحُجَّةَ تَمَّتْ وَكَانَ كَلَامُهُمْ شَهَادَةً .
( قُلْنَا ) هَذَا مَوْقُوفٌ مُرَاعًى ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَكُونُ حُجَّةً مُوجِبَةً مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا الْقَضَاءُ

، فَإِذَا لَمْ يَتَّصِلْ الْقَضَاءُ هُنَا بِالشَّهَادَةِ حَتَّى رَجَعَ أَحَدُهُمْ بَقِيَ كَلَامُهُمْ قَذْفًا بِالزِّنَا إلَّا أَنْ يَكُونَ حُجَّةُ الْحَدِّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ تَامَّةً ، أَلَا تَرَى أَنَّ كَلَامَ الرَّاجِعِ قَذْفٌ بِالزِّنَا ؟ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَوْ شُهِدَ مَعَ الْقَاذِفِ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يُقَامُ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ جَمِيعًا فَكَذَلِكَ هُنَا ، فَأَمَّا إذَا رَجَعَ أَحَدُهُمْ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ فَإِنَّهُ لَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْعَارِضَ بَعْدَ الْقَضَاءِ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْعَارِضِ قَبْلَهُ بِدَلِيلِ عَمَى الشُّهُودِ وَرِدَّتِهِمْ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يُمْكِنُهُ إقَامَةُ الْحَدِّ إلَّا بِحُجَّةٍ كَامِلَةٍ وَلَمْ تَبْقَ بَعْدَ رُجُوعِ أَحَدِهِمْ ثُمَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْآخَرِ يُحَدُّونَ جَمِيعًا حَدَّ الْقَذْفِ اسْتِحْسَانًا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يُحَدُّ الرَّاجِعُ وَحْدَهُ وَهُوَ الْقِيَاسُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ رُجُوعَ الشَّاهِدِ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالرُّجُوعِ قَبْلَ الْقَضَاءِ .
وَفِيمَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ كَالرُّجُوعِ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ بِدَلِيلِ الْمَالِ ، فَإِنَّهُمْ إذَا رَجَعُوا بَعْدَ الْقَضَاءِ لَا يَمْتَنِعُ الِاسْتِيفَاءُ عَلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَرُجُوعُ أَحَدِهِمْ فِيهِ بَعْدَ الْقَضَاءِ كَالرُّجُوعِ قَبْلَهُ ، فَأَمَّا سُقُوطُ حَدِّ الْقَذْفِ عَنْهُمْ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ فَرُجُوعُ أَحَدِهِمْ فِيهِ بَعْدَ الْقَضَاءِ كَرُجُوعِهِ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْحُجَّةَ تَعْتَمِدُ الْقَضَاءَ وَبَعْدَ مَا تَمَّتْ الْحُجَّةُ لَا يَكُونُ كَلَامُهُمْ قَذْفًا ثُمَّ بِرُجُوعِ أَحَدِهِمْ يَبْطُلُ مَعْنَى الْحُجَّةِ فِي حَقِّهِ فَيَصِيرُ كَلَامُهُ قَذْفًا وَلَكِنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى

الْبَاقِينَ وَلَا عَلَى إبْطَالِ حُكْمِ الْحَاكِمِ ، فَيَبْقَى كَلَامُ الْبَاقِينَ حُجَّةً غَيْرَ قَذْفٍ كَمَا كَانَ قَبْلَ رُجُوعِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَقُولَانِ : رُجُوعُ أَحَدِهِمْ بَعْدَ الْقَضَاءِ كَرُجُوعِهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِدَلِيلِ سُقُوطِ الْحَدِّ عَنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ إبْطَالِ الْحُكْمِ ، وَإِذَا ثَبَتَ بُطْلَانُ الْحُكْمِ بِهَذَا الدَّلِيلِ كَانَ هَذَا وَمَا قَبْلَ الْقَضَاءِ سَوَاءً ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ فِيمَا يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى تَمَامُ الْقَضَاءِ بِالِاسْتِيفَاءِ فَإِنَّ الِاسْتِيفَاءَ مِنْ تَتِمَّةِ الْقَضَاءِ وَلِهَذَا كَانَ إلَى الْإِمَامِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِإِعْلَامِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ بِحَقِّهِ أَوْ لِتَمْكِينِهِ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ ، وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى النِّيَابَةُ فِي الِاسْتِيفَاءِ وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ بِالْقَضَاءِ بَلْ بِحَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ فَإِذَا رَجَعَ أَحَدُهُمْ قَبْلَ تَمَامِ الْقَضَاءِ بِالِاسْتِيفَاءِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ رُجُوعِهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَكَذَلِكَ إنْ أُقِيمَ بَعْضُ الْحَدِّ ، ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُهُمْ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَتَجَزَّى فَاسْتِيفَاؤُهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِإِتْمَامِهِ فَأَمَّا إذَا رَجَعَ أَحَدُهُمْ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ الْحَدُّ جَلْدًا أَوْ رَجْمًا ، فَإِنْ كَانَ جَلْدًا فَإِنَّهُ يُحَدُّ هَذَا الرَّاجِعُ بِالِاتِّفَاقِ وَلَا حَدَّ عَلَى الْبَاقِينَ ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ تَمَّتْ وَالْحُكْمَ تَأَكَّدَ بِالِاسْتِيفَاءِ ، فَرُجُوعُ أَحَدِهِمْ يُبْطِلُ مَعْنَى الشَّهَادَةِ فِي حَقِّهِ لِإِقْرَارِهِ فَيَكُونُ قَاذِفًا لَهُ ، وَلَا يَبْطُلُ بِهِ مَعْنَى الشَّهَادَةِ الْمُتَأَكَّدَةِ فِي حَقِّ الْبَاقِينَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمْ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْحَدُّ رَجْمًا فَعِنْدَنَا يُحَدُّ الرَّاجِعُ وَحْدَهُ ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُحَدُّ الرَّاجِعُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الرَّاجِعَ لَا يَكُونُ قَاذِفًا لَهُ بِالرُّجُوعِ فَإِنَّهُ

يُثْنِي عَلَيْهِ خَيْرًا فَيَقُولُ : كَانَ عَفِيفًا وَلَمْ يَكُنْ زَانِيًا ، وَإِنَّمَا يَكُونُ قَاذِفًا لَهُ بِالشَّهَادَةِ السَّابِقَةِ ، فَتَبَيَّنَّ أَنَّهُ قَذَفَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ وَمَنْ قَذَفَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ ؛ لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يُورَثُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا ؛ لِأَنَّ الْمَقْذُوفَ حَيٌّ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ أَنَّ أَحَدَ الشُّهُودِ كَانَ عَبْدًا ، فَإِنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا يُحَدُّونَ حَدَّ الْقَذْفِ وَإِنْ كَانَ رُجِمَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَلَا رَجْمَ عَلَيْهِمْ بِالِاتِّفَاقِ وَهَذَا مِثْلُهُ .
( وَحُجَّتُنَا ) فِيهِ أَنَّهُ بِالرُّجُوعِ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْتِزَامِ حَدِّ الْقَذْفِ وَإِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ حُجَّةٌ وَتَحْقِيقُهُ وَهُوَ أَنَّ الشَّاهِدَ عِنْدَ الرُّجُوعِ لَا يَصِيرُ قَاذِفًا مِنْ وَقْتِ الشَّهَادَةِ بَلْ يَصِيرُ قَاذِفًا فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّ اقْتِرَانَ مَعْنَى الشَّهَادَةِ بِكَلَامِهِ يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَذْفًا وَإِنَّمَا انْتَزَعَ مَعْنَى الشَّهَادَةِ مِنْ كَلَامِهِ عِنْدَ رُجُوعِهِ فَيَصِيرُ كَلَامُهُ السَّابِقُ الْآنَ قَذْفًا ، كَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ عِنْدَ دُخُولِ الدَّارِ يَصِيرُ ذَلِكَ الْكَلَامُ طَلَاقًا لَا أَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ طَلَاقًا ؛ لِأَنَّ صَيْرُورَتَهُ طَلَاقًا بِاعْتِبَارِ وُصُولِهِ إلَى الْمَحَلِّ ، وَوُصُولُهُ إلَى الْمَحَلِّ مَقْصُورٌ عَلَى الْحَالِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ كَلَامُهُ فِي الْحَالِ قَذْفًا ، وَالْمَقْذُوفُ فِي الْحَالِ مَيِّتٌ وَمَنْ قَذَفَ مَيِّتًا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ ( فَإِنْ قِيلَ ) هُوَ فِي الْحَالِ مَرْجُومٌ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ لَوْ قَذَفَهُ قَاذِفٌ لَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ فَكَيْف يُحَدُّ هَذَا الرَّاجِعُ ( قُلْنَا ) هُوَ مَرْجُومٌ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ بِشَهَادَتِهِمْ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّ شَهَادَتَهُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ وَزَعْمُهُ مُعْتَبَرٌ فِي نَفْسِهِ بِخِلَافِ الْقَاذِفِ ، فَإِنَّ قَذْفَهُ لَا يَقْدَحُ فِي الشَّهَادَةِ الَّتِي هِيَ حُجَّةٌ .
( فَإِنْ قِيلَ ) أَكْثَرُ مَا

فِيهِ أَنَّهُ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ كَانَ عَفِيفًا ، وَلَوْ قَذَفَهُ إنْسَانٌ بِالزِّنَا ثُمَّ أَكْذَبَ نَفْسَهُ وَقَالَ إنَّهُ كَانَ عَفِيفًا لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ أَيْضًا ( قُلْنَا ) نَعَمْ الْقَاذِفُ وَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ فَالْحُجَّةُ الْمُسْقِطَةُ لِلْإِحْصَانِ بَقِيَتْ كَامِلَةً فِي حَقِّهِ ، فَأَمَّا إذَا رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْ الشُّهُودِ لَا تَبْقَى الْحُجَّةُ الْمُسْقِطَةُ لِلْإِحْصَانِ كَامِلَةً فِي حَقِّهِ فَلِهَذَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا ظَهَرَ أَنَّ أَحَدَهُمْ عَبْدٌ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا شَهَادَةَ لَهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ كَلَامَهُمْ كَانَ قَذْفًا فِي حَالِ حَيَاتِهِ ، وَمَنْ قَذَفَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، فَأَمَّا حُكْمُ الضَّمَانِ فَعَلَى الرَّاجِعِ رُبْعُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ مَقْتُولٌ ظُلْمًا بِشَهَادَتِهِمْ وَكُلُّ شَاهِدٍ عَلَى الزِّنَا مُتْلِفٌ رُبْعَ النَّفْسِ كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ شَهِدَ أَحَدُ الشُّهُودِ عَلَى الْمُغِيرَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَوَّهْ أُودِيَ رُبْعُ الْمُغِيرَةِ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ مَنْ يَقُومُ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْحَقِّ ، وَإِنَّمَا انْعَدَمَتْ الْحُجَّةُ فِي رُبْعِ الْحَقِّ فَلِهَذَا كَانَ عَلَى الرَّاجِعِ رُبْعُ الدِّيَةِ عِنْدَنَا .
( قَالَ ) وَلَوْ رَجَعُوا جَمِيعًا حُدُّوا حَدَّ الْقَذْفِ وَغَرِمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رُبْعَ الدِّيَةِ عِنْدَنَا ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالْحَسَنُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى : يُقْتَلُونَ ؛ لِأَنَّهُمْ قَاتِلُونَ لَهُ ، فَإِنَّ مَا يَحْصُلُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي يَكُونُ مُضَافًا إلَى شَهَادَةِ الشُّهُودِ ، وَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْقَاتِلِينَ لَهُ ، وَلَكِنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِإِبَاحَةِ دَمِهِ شُبْهَةٌ مَانِعَةٌ مِنْ وُجُوبِ الْقِصَاصِ مَعَ أَنَّ الرَّجْمَ يَكُونُ بِالْحِجَارَةِ ، وَمُبَاشَرَةُ الْقَتْلِ بِالْحَجَرِ لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ عِنْدَنَا ، وَالشُّهُودُ مُتَسَبِّبُونَ عِنْدَنَا ، وَلَا قِصَاصَ عَلَى الْمُتَسَبِّبِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ فِي شُهُودِ الْقِصَاصِ

( قَالَ ) وَإِنْ قَالَ أَحَدُ الشُّهُودِ بَعْدَ الرَّجْمِ : كُنْت يَوْمَ شَهِدْت عَلَيْهِ كَافِرًا أَوْ مَمْلُوكًا لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى أَصْحَابِهِ فِي ذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ كَلَامَهُمْ حُجَّةٌ مُتَأَكَّدَةٌ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ ، وَإِقْرَارُ الْمَرْءِ حُجَّةٌ عَلَى نَفْسِهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ فَلَا يَتَبَيَّنُ بِقَوْلِهِ إنَّ كَلَامَهُمْ كَانَ قَذْفًا بِخِلَافِ مَا إذَا ظَهَرَ أَنَّ أَحَدَهُمْ كَانَ كَافِرًا أَوْ عَبْدًا فَإِنَّ هُنَاكَ تَبَيَّنَ أَنَّ كَلَامَهُمْ كَانَ قَذْفًا فَإِنْ كَانَ الْمَقْذُوفُ حَيًّا بِأَنْ كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا يُحَدُّونَ وَإِنْ كَانَ الْمَقْذُوفُ مَيِّتًا بِأَنْ كَانَ الْحَدُّ رَجْمًا لَا يُحَدُّونَ ثُمَّ إذَا ظَهَرَ أَنَّ أَحَدَ الشُّهُودِ كَانَ أَعْمَى أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ فَهُوَ وَمَا لَوْ ظَهَرَ أَنَّهُ عَبْدٌ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الْمَحْدُودَ فِي الْقَذْفِ لَيْسَ لَهُ شَهَادَةُ الْأَدَاءِ فَإِنَّ الشَّرْعَ أَبْطَلَ شَهَادَتَهُ وَلِهَذَا لَا يُلَاعِنُ امْرَأَتَهُ وَالْأَعْمَى لَيْسَتْ لَهُ شَهَادَةٌ فِي الزِّنَا ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الزِّنَا لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ الرُّؤْيَةِ كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ وَلَيْسَ لِلْأَعْمَى ذَلِكَ وَمُعْتَقُ الْبَعْضِ كَالْمُكَاتَبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا شَهَادَةَ لِلْمُكَاتَبِ ، فَإِذَا كَانَ ظُهُورُ هَذَا بَعْدَ الرَّجْمِ فَدِيَةُ الْمَرْجُومِ فِي بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ هَذَا خَطَأٌ مِنْ الْإِمَامِ فِي عَمَلِهِ لِلَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ ضَمَانُهُ فِي مَالِ اللَّهِ وَهُوَ مَالُ بَيْتِ الْمَالِ ، وَالْإِمَامُ فِي هَذَا عَامِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَطْهِيرُ دَارِ الْإِسْلَامِ عَنْ ارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ فِيهَا فَيَكُونُ الضَّمَانُ فِي مَالِ الْمُسْلِمِينَ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَى الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ كَانَ خَصْمًا وَفِيمَا هُوَ خَصْمٌ لَا يَكُونُ قَاضِيًا كَمَا فِي حُقُوقِ نَفْسِهِ فَإِذَا تَعَذَّرَ إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ قُلْنَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى مَنْ وَقَعَ الْقَضَاءُ لَهُ فَفِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى يَكُونُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ، وَفِي حُقُوقِ

الْعِبَادِ كَالْقِصَاصِ وَالْمَالِ يَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى الْمَقْضِيِّ لَهُ

( قَالَ ) فَإِنْ رَجَمَهُ الْإِمَامُ بِشَهَادَتِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الشُّهُودِ ، ثُمَّ سَأَلَ عَنْهُمْ فَأُخْبِرَ أَنَّهُمْ غَيْرُ عُدُولٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ ؛ لِأَنَّ لِلْفَاسِقِ شَهَادَةَ الْأَدَاءِ عِنْدَنَا وَلَكِنْ يَتَوَقَّفُ فِي شَهَادَتِهِ لِتَمَكُّنِ تُهْمَةِ الْكَذِبِ ، وَلِهَذَا يُلَاعِنُ امْرَأَتَهُ فَلَا يَتَبَيَّنُ بِظُهُورِ فِسْقِهِمْ أَنَّ الْقَاضِيَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ فَلِهَذَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ ، وَفِي الْكِتَابِ قَالَ : إنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ إذَا تَابُوا ، وَهَذَا ضَعِيفٌ فَالْكُفَّارُ تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ إذَا أَسْلَمُوا وَالْعَبِيدُ إذَا أُعْتِقُوا ، وَالِاعْتِمَادُ عَلَى مَا قُلْنَا

( قَالَ ) فَإِنْ وُجِدَ الرَّجُلُ مَجْبُوبًا بَعْدَ مَا رُجِمَ فَعَلَى الشُّهُودِ الدِّيَةُ ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ كَذِبُهُمْ بِيَقِينٍ ؛ لِأَنَّ الْمَجْبُوبَ لَيْسَ لَهُ آلَةُ الزِّنَا فَكَيْف يَزْنِي ، وَظُهُورُ كَذِبِهِمْ هُنَا فَوْقَ ظُهُورِ كَذِبِهِمْ فِيمَا إذَا رَجَعُوا بِخِلَافِ مَا إذَا ظَهَرَ أَنَّهُمْ عَبِيدٌ أَوْ كُفَّارٌ ، فَإِنَّ هُنَاكَ لَمْ يَتَيَقَّنْ بِكَذِبِهِمْ وَالْعَبْدُ وَالْكَافِرُ قَدْ يُصَدَّقُ ، وَلَكِنْ لَا شَهَادَةَ لَهُمْ فَكَانَ خَطَأً مِنْ الْإِمَامِ فَلِهَذَا كَانَ الضَّمَانُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ، وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً فَنَظَرَ النِّسَاءُ إلَيْهَا بَعْدَ الرَّجْمِ ، وَقُلْنَ هِيَ عَذْرَاءُ أَوْ رَتْقَاءُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الشُّهُودِ بِقَوْلِ النِّسَاءِ ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ لَا تَكُونُ حُجَّةً تَامَّةً فِي إلْزَامِ ضَمَانِ الْمَالِ وَلَا مَقْصُودَ هُنَا سِوَى إيجَابِ ضَمَانِ الْمَالِ عَلَى الشُّهُودِ بِخِلَافِ الْجَبِّ فَذَلِكَ مُعَايَنٌ يُتَيَقَّنُ بِهِ لَا مِنْ جِهَةِ قَوْلِ النِّسَاءِ ، لَكِنْ إنْ نَظَرَ إلَيْهَا النِّسَاءُ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ وَقُلْنَ هِيَ عَذْرَاءُ أَوْ رَتْقَاءُ يُدْرَأُ عَنْهَا الْحَدُّ ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ تَتَمَكَّنُ بِقَوْلِ النِّسَاءِ وَلَا شُبْهَةَ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا فَمَعَ الرَّتْقِ لَا يُتَصَوَّرُ الزِّنَا الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ ، وَبَعْدَ الزِّنَا الْمُوجِبِ لِلْحَدِّ لَا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ الْعُذْرَةِ

( قَالَ ) وَإِذَا شَهِدُوا بِالزِّنَا وَالْإِحْصَانِ وَمَاتُوا أَوْ غَابُوا أَوْ عَمُوا أَوْ ارْتَدُّوا أَوْ خَرِسُوا أَوْ ضُرِبُوا حَدَّ الْقَذْفِ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ أَوْ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى بِشَهَادَتِهِمْ لَمْ يُرْجَمْ ، أَمَّا مَا يُبْطِلُ الشَّهَادَةَ كَالْعَمَى وَالْخَرَسِ وَالرِّدَّةِ وَحَدِّ الْقَذْفِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعَوَارِضَ لَوْ اقْتَرَنَتْ بِالشَّهَادَةِ مَنَعَتْهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ حُجَّةً ، فَكَذَلِكَ إذَا اعْتَرَضَتْ بَعْدَ الشَّهَادَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُ مِمَّا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَلَكِنْ لَا حَدَّ عَلَى الشُّهُودِ ؛ لِأَنَّهُمْ جَاءُوا مَجِيءَ الشُّهُودِ وَالْعَدَدُ مُتَكَامِلٌ ، وَكَذَلِكَ إنْ أَصَابَ ذَلِكَ أَحَدُ الشُّهُودِ فَهُوَ وَمَا لَوْ أَصَابَهُمْ فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ فَأَمَّا فِي مَوْتِ الشُّهُودِ وَغَيْبَتِهِمْ فَنَقُولُ إنَّ ذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي الْحُجَّةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي حُقُوقِ النَّاسِ لَا يَمْتَنِعُ عَلَى الْقَاضِي الْقَضَاءُ بِهَا فَكَذَلِكَ فِي الزِّنَا ، إذَا كَانَ الْحَدُّ جَلْدًا ؛ لِأَنَّ بِالْمَوْتِ يَتَأَكَّدُ عَدَالَتُهُمْ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ مَا يُبْطِلُ عَدَالَتَهُمْ ، وَكَذَلِكَ غَيْبَتُهُمْ لَا تَكُونُ قَدْحًا فِي عَدَالَتِهِمْ فَلَا يَمْنَعُ إقَامَةَ الْحَدِّ عَلَى الْقَاضِي ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْحَدُّ رَجْمًا فَإِنَّهُ لَا يُقَامُ بَعْدَ غَيْبَةِ الشُّهُودِ وَمَوْتِهِمْ ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ فِي الرَّجْمِ أَنْ يَبْدَأَ بِهِ الشُّهُودُ ثُمَّ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ وَقَدْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ بِمَوْتِهِمْ وَغَيْبَتِهِمْ .
وَهَذَا قَوْلُنَا ، وَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُعْتَبَرُ فِي الرَّجْمِ بِدَايَةُ الشُّهُودِ وَلَكِنَّ الْإِمَامَ هُوَ الَّذِي يَبْدَأُ قَالَ ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ فَارَقُوا سَائِرَ النَّاسِ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ ، وَإِقَامَةُ الرَّجْمِ لَيْسَ مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فِي شَيْءٍ فَهُمْ فِي ذَلِكَ كَسَائِرِ النَّاسِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَدَّ لَوْ كَانَ جَلْدًا لَا يُؤْمَرُ الشُّهُودُ بِالضَّرْبِ ؟ فَكَذَا الرَّجْمُ وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ

بِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْجُمَ شُرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةَ قَالَ الرَّجْمُ رَجْمَانِ رَجْمُ سِرٍّ وَرَجْمُ عَلَانِيَةٍ فَرَجْمُ الْعَلَانِيَةِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الْمَرْأَةِ مَا فِي بَطْنِهَا وَتَعْتَرِفَ بِذَلِكَ فَيَبْدَأَ فِيهِ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ ، وَرَجْمُ السِّرِّ أَنْ يَشْهَدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا فَيَبْدَأَ الشُّهُودُ ثُمَّ الْإِمَامُ ثُمَّ النَّاسُ وَلِأَنَّ فِي الْأَمْرِ بِبِدَايَةِ الشُّهُودِ احْتِيَالًا لِدَرْءِ الْحَدِّ فَالْإِنْسَانُ قَدْ يَجْتَرِئُ عَلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ كَاذِبًا ثُمَّ إذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ ، وَقَدْ أُمِرْنَا فِي الْحُدُودِ بِالِاحْتِيَالِ لِلدَّرْءِ بِخِلَافِ الْجَلْدِ فَكُلُّ أَحَدٍ لَا يُحْسِنُ الضَّرْبَ ، فَلَوْ أَمَرْنَا الشُّهُودَ بِذَلِكَ رُبَّمَا يَقْتُلُونَهُ بِخِرَقِهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ قَتْلُهُ مُسْتَحَقًّا ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الرَّجْمِ ، فَكُلُّ أَحَدٍ يُحْسِنُ الرَّمْيَ وَقَدْ صَارَ الْإِتْلَافُ مُسْتَحَقًّا هُنَا .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : يُؤْمَرُ الشُّهُودُ بِالْبِدَايَةِ إذَا كَانُوا حَاضِرِينَ حَتَّى إذَا امْتَنَعُوا لَا يُقَامُ الرَّجْمُ فَإِذَا مَاتُوا أَوْ غَابُوا يُقَامُ الرَّجْمُ هُنَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَعَذَّرَ الْبِدَايَةُ بِهِمْ بِسَبَبٍ لَا يَلْحَقُهُمْ فِيهِ تُهْمَةٌ فَلَا يَمْتَنِعُ إقَامَةُ الرَّجْمِ كَمَا لَوْ كَانُوا مَقْطُوعِي الْأَيْدِي أَوْ مَرْضَى أَوْ عَاجِزِينَ عَنْ الْحُضُورِ بِخِلَافِ مَا لَوْ امْتَنَعُوا ؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا مُتَّهَمِينَ بِذَلِكَ وَلَكِنَّا نَقُولُ حِين كَانُوا مَقْطُوعِي الْأَيْدِي فِي الِابْتِدَاءِ لَمْ تُسْتَحَقَّ الْبِدَايَةُ بِهِمْ لِلتَّعَذُّرِ ، فَأَمَّا هُنَا فَقَدْ اُسْتُحِقَّ الْبِدَايَةُ بِهِمْ لِتَيَسُّرِ ذَلِكَ عِنْدَ الْحُكْمِ فَإِذَا تَعَذَّرَ بِالْمَوْتِ أَوْ الْغَيْبَةِ لَا يُقَامُ الْحَدُّ كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ بِامْتِنَاعِهِمْ

( قَالَ ) وَلَا يُحْفَرُ لِلْمَرْجُومِ وَلَا يُرْبَطُ بِشَيْءٍ وَلَا يُمْسَكُ وَلَكِنْ يُنْصَبُ قَائِمًا لِلنَّاسِ فَيُرْجَمُ { ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ مَاعِزًا وَلَمْ يُحْفَرْ لَهُ وَلَا رَبَطَهُ فَإِنَّهُ رُوِيَ لَمَا مَسَّهُ حَرُّ الْحِجَارَةِ هَرَبَ فَاسْتَقْبَلَهُ رَجُلٌ بِلَحْيِ جَمَلٍ فَقَتَلَهُ ثُمَّ لَمَّا أُخْبِرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَلَّا خَلَّيْتُمْ سَبِيلَهُ ؟ وَفِي رِوَايَةٍ أَبْطَأَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ فَهَرَبَ مِنْ أَرْضٍ قَلِيلَةِ الْحِجَارَةِ إلَى أَرْضِ كَثِيرَةِ الْحِجَارَةِ } ، وَلَوْ كَانَ مَرْبُوطًا أَوْ فِي حَفِيرَةٍ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ الْهَرَبِ ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنْ حُفِرَ لَهَا فَحَسَنٌ وَإِنْ تَرَكَ لَمْ يَضُرَّ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَمَرَ بِرَجْمِ الْغَامِدِيَّةِ أَمَرَ بِأَنْ يُحْفَرَ لَهَا إلَى قَرِيبٍ مِنْ السُّرَّةِ فَجُعِلَتْ فِيهَا فَلَمَّا رَجَمُوهَا وَمَاتَتْ أَمَرَ بِإِخْرَاجِهَا وَصَلَّى عَلَيْهَا وَقَالَ : لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ لَهُ } وَأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَفَرَ لِشُرَاحَةَ الْهَمْدَانِيَّةِ إلَى قَرِيبٍ مِنْ السُّرَّةِ ثُمَّ لَفَّهَا فِي ثِيَابِهَا وَجَعَلَهَا فِيهَا ثُمَّ رَمَاهَا وَكَانَ مُصِيبَ الرَّمْيَةِ فَأَصَابَ أَصْلَ أُذُنِهَا وَلِأَنَّ مَبْنَى حَالِ الْمَرْأَةِ عَلَى السِّتْرِ وَالْحَفْرُ أَسْتَرُ لَهَا ؛ لِأَنَّهَا تَضْطَرِبُ إذَا مَسَّتْهَا الْحِجَارَةُ فَرُبَّمَا يَنْكَشِفُ شَيْءٌ مِنْ عَوْرَتِهَا وَلَكِنْ مَعَ هَذَا الْحَفْرِ لَيْسَ مِنْ الْحَدِّ فِي شَيْءٍ فَلَا يَضُرُّ تَرْكُهُ فَأَمَّا مَبْنَى حَالِ الرِّجَالِ عَلَى الظُّهُورِ فَيَنْصِبُ قَائِمًا عِنْدَ الرَّجْمِ وَلَا يُشَبَّهُ بِالنِّسَاءِ فِي الْحَفْرِ لَهُ

وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ بِالزِّنَا فَادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ أَكْرَهَهَا وَلَمْ يَشْهَدْ الشُّهُودُ بِذَلِكَ وَلَكِنَّهُمْ شَهِدُوا أَنَّهَا طَاوَعَتْهُ فَعَلَيْهِمَا الْحَدُّ ؛ لِأَنَّ إنْكَارَهَا صِفَةَ الطَّوَاعِيَةِ لَا يَكُونُ فَوْقَ إنْكَارِهَا أَصْلَ الْفِعْلِ وَلَا يَنْفَعُهَا ذَلِكَ بَعْدَ مَا شَهِدَ الشُّهُودُ بِهِ عَلَيْهَا وَلَكِنْ إنْ قَالَتْ : تَزَوَّجَنِي ، وَقَالَ الرَّجُلُ : كَذَبَتْ بَلْ زَنَيْت بِهَا فَلَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّهَا تَدَّعِي عَلَيْهِ الصَّدَاقَ وَلَوْ سَاعَدَهَا الزَّوْجُ عَلَى ذَلِكَ لَزِمَهُ الصَّدَاقُ فَإِذَا أَنْكَرَ كَانَ لَهَا أَنْ تُحَلِّفَهُ عَلَيْهِ فَإِذَا نَكَلَ لَزِمَهُ الصَّدَاقُ وَإِنْ حَلَفَ لَمْ يَلْزَمْهُ الصَّدَاقُ وَلَا يُحَدُّ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أُقِيمَ الْحَدُّ إنَّمَا يُقَامُ بِالْحَلِفِ وَالْحُدُودُ لَا تُقَامُ بِالْأَيْمَانِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهَا بِدَعْوِي الْإِكْرَاهِ لَا تَدَّعِي الصَّدَاقَ ؛ لِأَنَّ الزِّنَا بِالْمُكْرَهَةِ لَا يُوجِبُ الصَّدَاقَ لَهَا وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُخَالِفُنَا فِي الْفَصْلَيْنِ فَيَقُولُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُمَا أَوْ دَعْوَى أَحَدِهِمَا النِّكَاحَ لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ } وَهَذَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ زَانٍ لَا يَعْجِزُ عَنْ دَعْوِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ أَوْ فَاسِدٍ فَلَوْ أَسْقَطْنَا الْحَدَّ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى لَانْسَدَّ بَابُ إقَامَةِ الْحَدِّ وَلَكِنَّا نَقُولُ كَمَا أُمِرْنَا بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ فَقَدْ أُمِرْنَا بِدَرْئِهَا بِالشُّبْهَةِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ } وَتَتَمَكَّنُ الشُّبْهَةُ عِنْدَ دَعْوَى أَحَدِهِمَا النِّكَاحَ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيُسْتَحْلَفُ خَصْمُهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى الِاسْتِحْلَافَ فِي النِّكَاحِ فَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ يَسْقُطُ عَنْ الْآخَرِ لِلشَّرِكَةِ وَلَا يُؤَدِّي هَذَا إلَى سَدِّ بَابِ الْحَدِّ ، أَلَا تَرَى أَنَّ هَذَا الْحَدَّ يُقَامُ بِالْإِقْرَارِ

ثُمَّ لَوْ رَجَعَ الْمُقِرُّ عَنْ إقْرَارِهِ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ وَلَا يُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى سَدِّ بَابِ إقَامَةِ الْحَدِّ فِي الْإِقْرَارِ .
فَأَمَّا إذَا زَنَى بِمُكْرَهَةٍ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ دُونَ الْمَهْرِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَجِبُ الْمَهْرُ لَهَا وَهِيَ نَظِيرُ مَسْأَلَةِ الْقَطْعِ وَالضَّمَانِ أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ عِنْدَنَا عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي السَّرِقَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : هُنَا الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ مُتَقَوِّمٌ لِحَقِّهَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ مُتَقَوِّمٌ بِالْعَقْدِ وَالشُّبْهَةِ فَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُ حَقِّهَا عَنْهُ بِغَيْرِ رِضَاهَا ، فَإِذَا كَانَتْ مُطَاوِعَةً فَقَدْ رَضِيَتْ بِسُقُوطِ حَقِّهَا فَيَجِبُ الْمَهْرُ لَهَا وَلَكِنَّا نَقُولُ فِعْلُهُ بِالْمُكْرَهَةِ زِنًى وَالْوَاجِبُ بِالزِّنَا الْحَدُّ فَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ بِالرَّأْيِ ، ثُمَّ لَوْ كَانَ بُضْعُهَا يَتَقَوَّمُ عَلَى الزَّانِي لَمْ يَسْقُطْ ذَلِكَ بِرِضَاهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَتَقَوَّمُ بِشُبْهَةِ الْعَقْدِ لَمْ يَسْقُطْ بِرِضَاهَا بِأَنْ طَاوَعَتْهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ زَنَى بِأَمَةٍ وَهِيَ مُطَاوِعَةٌ لَمْ يَجِبْ الْمَهْرُ وَتُقَوَّمُ بُضْعُهَا لِحَقِّ الْمَوْلَى فَلَا يَسْقُطُ بِرِضَاهَا وَلَكِنْ إنَّمَا لَمْ يَجِبْ ؛ لِأَنَّ الْبُضْعَ لَا يَتَقَوَّمُ بِالْمَالِ بِالزِّنَا الْمَحْضِ ، وَإِنَّمَا يَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ أَوْ بِشُبْهَتِهِ وَلَمْ يُوجَدْ ثُمَّ إذَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ بِدَعْوَاهَا النِّكَاحَ وَجَبَ الصَّدَاقُ لَهَا ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ عُقُوبَةٍ أَوْ غَرَامَةٍ فَإِذَا جُعِلَ مَا ادَّعَتْ مِنْ النِّكَاحِ كَالثَّابِتِ فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ ، فَكَذَلِكَ فِي إيجَابِ الْمَهْرِ يُجْعَلُ كَالثَّابِتِ فِي إيرَاثِ الشُّبْهَةِ

( قَالَ ) وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يَطَأُ جَارِيَةَ امْرَأَتِهِ وَقَالَ : ظَنَنْتهَا تَحِلُّ لِي ، أَوْ يَطَأُ جَارِيَةَ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ وَيَقُولُ : ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي لَا حَدَّ عَلَيْهِمَا عِنْدَنَا ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمَا الْحَدُّ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ وَهُوَ الزِّنَا قَدْ تَقَرَّرَ بِدَلِيلِ أَنَّهُمَا لَوْ قَالَا عَلِمْنَا بِالْحُرْمَةِ يَلْزَمُهُمَا الْحَدُّ وَلَوْ سَقَطَ إنَّمَا يَسْقُطُ بِالظَّنِّ وَالظَّنُّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا كَمَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ أَخِيهِ أَوْ أُخْتِهِ وَقَالَ : ظَنَنْتهَا تَحِلُّ لِي وَلَكِنَّا نَقُولُ قَدْ تَمَكَّنَتْ بَيْنَهُمَا شُبْهَةُ اشْتِبَاهٍ ؛ لِأَنَّهُ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مَا يُشْتَبَهُ ، فَإِنَّ مَالَ الْمَرْأَةِ مِنْ وَجْهٍ كَأَنَّهُ لِلزَّوْجِ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى { وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى } أَيْ بِمَالِ خَدِيجَةَ ، وَلَمَّا جَاءَ رَجُلٌ إلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : إنَّ عَبْدِي سَرَقَ مِرْآةَ امْرَأَتِي ، فَقَالَ : مَالُكَ سَرَقَ بَعْضُهُ بَعْضًا وَلِأَنَّهَا حَلَالٌ لَهُ فَرُبَّمَا يُشْتَبَهُ عَلَيْهِ أَنَّ حَالَ جَارِيَتِهَا كَحَالِهَا ، وَفِي جَارِيَةِ الْأَبِ وَالْأُمِّ .
كَذَلِكَ قَدْ يُشْتَبَهُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْأَمْلَاكَ مُتَّصِلَةٌ بَيْنَ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ ، وَالْمَنَافِعُ دَائِرَةٌ وَلِأَنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مِنْ أَبِيهِ فَرُبَّمَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ أَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ حَلَالًا لِلْأَصْلِ تَكُونُ حَلَالًا لِلْجُزْءِ أَيْضًا وَشُبْهَةُ الِاشْتِبَاهِ مُؤَثِّرَةٌ فِي حَقِّ مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ دُونَ مَنْ لَمْ يَشْتَبِهْ عَلَيْهِ كَالْقَوْمِ عَلَى مَائِدَةٍ فَسُقُوا خَمْرًا عَلَى عِلْمٍ مِنْهُمْ أَنَّهُ خَمْرٌ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ وَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ لَا يُحَدُّ وَالْأَصْلُ فِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا تَضَيَّفَ أَهْلَ بَيْتٍ بِالْيَمَنِ فَأَصْبَحَ يُخْبِرُ النَّاسَ أَنَّهُ زَنَى بِرَبَّةِ الْبَيْتِ فَكَتَبَ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ عُمَرُ إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ الزِّنَا فَحُدُّوهُ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ فَعَلِّمُوهُ ،

فَإِنْ عَادَ فَحُدُّوهُ فَقَدْ جَعَلَ ظَنَّ الْحِلِّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ شُبْهَةً لِعَدَمِ اشْتِهَارِ الْأَحْكَامِ فَلَأَنْ يَكُونَ الظَّنُّ فِي مَوْضِعِ الِاشْتِبَاهِ مُورِثًا شُبْهَةً أَوْلَى فَأَمَّا إذَا لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ وَجَبَ الْمَهْرُ ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ عُقُوبَةٍ أَوْ غَرَامَةٍ وَإِذَا سَقَطَتْ الْعُقُوبَةُ وَجَبَ الْمَهْرُ

( قَالَ ) وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ اسْتَكْرَهَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ فَزَنَى بِهَا حُدَّ الرَّجُلُ دُونَ الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ لِلزَّجْرِ وَهِيَ مُنْزَجِرَةٌ حِينَ أَبَتْ التَّمْكِينَ حَتَّى اسْتَكْرَهَهَا ، وَلِأَنَّ الْإِكْرَاهَ مِنْ جِهَتِهَا يُعْتَبَرُ فِي نَفْيِ الْإِثْمِ عَنْهَا عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ أَنَّ لَهَا أَنْ تُمَكِّنَ إذَا أُكْرِهَتْ بِوَعِيدٍ مُتْلِفٍ ، وَالْحَدُّ أَقْرَبُ إلَى السُّقُوطِ مِنْ الْإِثْمِ فَإِذَا سَقَطَ الْإِثْمُ عَنْهَا فَالْحَدُّ أَوْلَى ، وَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الرَّجُلِ ؛ لِأَنَّ الزِّنَا التَّامَّ قَدْ ثَبَتَ عَلَيْهِ وَجِنَايَتُهُ إذَا اسْتَكْرَهَهَا أَغْلَظُ مِنْ جِنَايَتِهِ إذَا طَاوَعَتْهُ .
وَلَا يُقَالُ قَدْ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ كَمَا لَوْ ادَّعَتْ النِّكَاحَ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ بِدَعْوِي النِّكَاحِ تَتَمَكَّنُ فِي الْفِعْلِ وَالْفِعْلُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا ، فَأَمَّا كَوْنُهَا مُكْرَهَةً لَا يَتَمَكَّنُ بِهِ شُبْهَةٌ فِي الْفِعْلِ وَلَا يَخْرُجُ فِعْلُ الرَّجُلِ مِنْ أَنْ يَكُونَ زِنًى مَحْضًا ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَحَلُّ الْفِعْلِ وَلَا تَنْعَدِمُ الْمَحَلِّيَّةُ بِكَوْنِهَا مُكْرَهَةً ، وَهُوَ كَمَا لَوْ زَنَى بِصَبِيَّةٍ أَوْ مَجْنُونَةٍ أَوْ نَائِمَةٍ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهَا

( قَالَ ) وَلَوْ أَنَّ مَجْنُونًا أَكْرَهَ عَاقِلَةً حَتَّى زَنَى بِهَا لَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَّا الْمَرْأَةُ فَلِأَنَّهَا مُكْرَهَةٌ غَيْرُ مُمَكِّنَةٍ طَوْعًا ، وَأَمَّا الرَّجُلُ فَلِأَنَّهُ مَجْنُونٌ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْتِزَامِ الْعُقُوبَةِ ، فَإِذَا دَعَتْ الْعَاقِلَةُ الْبَالِغَةُ مَجْنُونًا أَوْ صَبِيًّا إلَى نَفْسِهَا فَزَنَى بِهَا لَا حَدَّ عَلَيْهَا عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا الْحَدُّ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهَا زَانِيَةٌ فَعَلَيْهَا الْحَدُّ بِالنَّصِّ ، وَبَيَانُهُ وَهُوَ أَنَّ الزِّنَا لَيْسَ إلَّا وَطْءٌ مُتَعَرٍّ عَنْ الْعَقْدِ وَالْمِلْكِ وَشَبَهِهِمَا وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْ أَحَدِهِمَا لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ لِمَعْنًى فَلَا يَمْتَنِعُ إقَامَتُهُ عَلَى الْآخَرِ كَمَا لَوْ زَنَى بِصَبِيَّةٍ أَوْ مَجْنُونَةٍ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ فِعْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَامِلٌ فِي نَفْسِهِ وَهِيَ فِي التَّمْكِينِ زَانِيَةٌ كَالرَّجُلِ فِي الْإِيلَاجِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهَا زَانِيَةً وَبَدَأَ بِذِكْرِهَا وَأَنَّ مَنْ نَسَبَهَا إلَى الزِّنَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ ، وَلَوْ كَانَ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْهَا مُبَاشَرَةُ الزِّنَا لَمْ يَحُدَّ قَاذِفُهَا بِهِ كَالْمَجْبُوبِ وَلِأَنَّهَا بِهَذَا التَّمْكِينِ تَقْضِي شَهْوَتَهَا كَالرَّجُلِ بِالْإِيلَاجِ فَإِذَا ثَبَتَ كَمَالُ الْفِعْلِ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ يُرَاعَى حَالُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْعُقُوبَةِ .
( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ أَنَّهَا مَكَّنَتْ نَفْسَهَا مِنْ فَاعِلٍ لَمْ يَأْثَمْ وَلَمْ يُحْرَجْ فَلَا يَلْزَمْهَا الْحَدُّ كَمَا لَوْ مَكَّنَتْ نَفْسَهَا مِنْ زَوْجِهَا وَبَيَانُ الْوَصْفِ ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الْإِثْمَ وَالْحَرَجَ يَنْبَنِي عَلَى الْخِطَابِ وَهُمَا لَا يُخَاطَبَانِ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْمُبَاشِرَ لِلْفِعْلِ هُوَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ تَابِعَةٌ بِدَلِيلِ تَصَوُّرِ الْفِعْلِ فِيهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ لَا تَشْعُرُ بِذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَصْلُ الْفِعْلِ زِنًى فَهِيَ لَا تَصِيرُ زَانِيَةً ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ

التَّبَعِ بِثُبُوتِ الْأَصْلِ وَفِعْلُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ زِنًى لُغَةً ، وَلَكِنْ لَيْسَ بِزِنًا شَرْعًا ؛ لِأَنَّ الزِّنَا شَرْعًا فِعْلٌ وَجَبَ الْكَفُّ عَنْهُ لِخِطَابِ الشَّرْعِ فَلَا يَنْفَكُّ عَنْ الْإِثْمِ وَالْحَرَجِ ، وَفِعْلُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لَا يُوصَفُ بِذَلِكَ وَإِذَا انْعَدَمَ الزِّنَا شَرْعًا فِي جَانِبِهِ فَكَذَلِكَ فِي جَانِبِهَا وَالْحَدُّ حُكْمٌ شَرْعِيٌّ فَيَسْتَدْعِي ثُبُوتَ سَبَبِهِ شَرْعًا وَإِنَّمَا سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى زَانِيَةً عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا مَزْنِيٌّ بِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى { فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ } أَيْ مَرْضِيَّةٍ وَقَالَ تَعَالَى { مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ } أَيْ مَدْفُوقٍ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى قَاذِفِهَا لِنِسْبَتِهَا إلَى مَا تَتَعَيَّرُ وَتَسْتَوْجِبُ بِهِ الْحَدَّ وَتَقْضِي بِهِ شَهْوَتَهَا وَهُوَ التَّمْكِينُ مِنْ الزِّنَا وَإِنْ كَانَتْ تَابِعَةً فِي ذَلِكَ .
وَأَمَّا الرَّجُلُ إذَا زَنَى بِصَبِيَّةٍ فَهُوَ الْمُبَاشِرُ لِأَصْلِ الْفِعْلِ وَفِعْلُهُ زِنًى لُغَةً وَشَرْعًا فَلِهَذَا لَزِمَهُ الْحَدُّ بِحَقِيقَةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ مَحَلٌّ وَالْمَحَلِّيَّةُ مُشْتَهَاةٌ وَذَلِكَ بِاللِّينِ وَالْحَرَارَةِ فَلَا يَتَمَكَّنُ نُقْصَانٌ فِيهِ بِجُنُونِهَا وَصِغَرِهَا فَقَدْ تَمَّ فِعْلُهُ زِنًى لِمُصَادَفَةِ مَحَلِّهِ ، فَأَمَّا مِنْ جَانِبِ الرَّجُلِ اسْتِعْمَالُ الْآلَةِ لَا نَفْسُ الْآلَةِ وَاسْتِعْمَالُ الْآلَةِ لَا يَكُونُ زِنًى شَرْعًا إلَّا إذَا كَانَ وَاجِبَ الْكَفِّ عِنْدَ الْخِطَابِ وَذَا بِصِفَةِ الْإِثْمِ وَالْحَرَجِ وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ بِالصِّبَا وَالْجُنُونِ وَهَذَا فِقْهٌ دَقِيقٌ وَفَرْقٌ حَسَنٌ وَفِي الْكِتَابِ عِلَلٌ فَقَالَ : ذَكَرُ الصَّبِيِّ كَأُصْبُعِهِ ، مَعْنَاهُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالزِّنَا مَعْدُومٌ فِي آلَةِ الصَّبِيِّ فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُ بِهَذِهِ الْآلَةِ زِنًى وَالْمَعْتُوهُ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ فِي الْحُكْمِ ، فَأَمَّا الْمُحْصَنَةُ إذَا زَنَى بِهَا غَيْرُ الْمُحْصَنِ فَعَلَيْهَا الرَّجْمُ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ غَيْرِ الْمُحْصَنِ زِنًى فَتَصِيرُ هِيَ زَانِيَةً بِالتَّمْكِينِ مِنْ الزِّنَا ، ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ حَالُهَا فِيمَا يُقَامُ مِنْ الْعُقُوبَةِ بَعْدَ

تَقَرُّرِ السَّبَبِ وَكُلُّ رَجُلٍ يَزْنِي بِامْرَأَةٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْحَدُّ بِشُبْهَةٍ مِثْلُ الْخَرْسَاءِ الَّتِي لَا تَنْطِقُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ تَمَكَّنَتْ هُنَا وَالْخَرْسَاءُ لَوْ كَانَتْ تَنْطِقُ رُبَّمَا تَدَّعِي شُبْهَةَ نِكَاحٍ وَقَدْ لَا تَقْدِرُ عَلَى إظْهَارِ مَا فِي نَفْسِهَا بِالْإِشَارَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهَا لَوْ ادَّعَتْ النِّكَاحَ سَقَطَ عَنْهَا الْحَدُّ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ خَرْسَاءَ وَالْأَصْل فِيهِ حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ادْرَءُوا مَا اسْتَطَعْتُمْ فَإِنَّ الْإِمَامَ لَإِنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ ، فَإِذَا وَجَدْتُمْ لِلْمُسْلِمِ مَخْرَجًا فَادْرَءُوا عَنْهُ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا زَنَى بِصَبِيَّةٍ أَوْ مَجْنُونَةٍ ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْحَدِّ عَنْهَا لَيْسَ لِلشُّبْهَةِ بَلْ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ

( قَالَ ) وَإِذَا زَنَى الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ بِالْمُسْلِمَةِ أَوْ الذِّمِّيَّةِ فَعَلَيْهَا الْحَدُّ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى : لَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْأَوَّلُ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ : يُحَدَّانِ جَمِيعًا ، أَمَّا الْمُسْتَأْمَنُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا تُقَامُ عَلَيْهِ الْحُدُودُ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا كَحَدِّ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يُقَامُ الْحَدُّ عَلَيْهِ كَمَا يُقَامُ عَلَى الذِّمِّيِّ ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ فِي دَارِنَا فَهُوَ مُلْتَزِمٌ أَحْكَامَنَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ كَالذِّمِّيِّ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَامُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَحَدُّ الْقَذْفِ وَيُمْنَعُ مِنْ الرِّبَا وَيُجْبَرُ عَلَى بَيْعِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ وَالْمُصْحَفِ إذَا اشْتَرَاهُ كَمَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ الذِّمِّيُّ ؟ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْحُدُودَ تُقَامُ صِيَانَةً لِدَارِ الْإِسْلَامِ فَلَوْ قُلْنَا لَا تُقَامُ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ يَرْجِعُ ذَلِكَ إلَى الِاسْتِخْفَافِ بِالْمُسْلِمِينَ وَمَا أَعْطَيْنَاهُ الْأَمَانَ لِيَسْتَخِفَّ بِخِلَافِ حَدِّ شُرْبِ الْخَمْرِ فَإِنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَى الذِّمِّيِّ وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُمَا يَعْتَقِدَانِ إبَاحَةَ شُرْبِ الْخَمْرِ وَإِنَّمَا أَعْطَيْنَاهُمْ الْأَمَانَ عَلَى أَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ .
( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } فَتَبْلِيغُ الْمُسْتَأْمَنِ مَأْمَنَهُ وَاجِبٌ بِهَذَا النَّصِّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى ، وَفِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ تَفْوِيتُ ذَلِكَ وَلَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ فِيهِ تَفْوِيتُ مَا هُوَ حَقُّ اللَّهِ ، وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ مَا الْتَزَمَ شَيْئًا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا دَخَلَ تَاجِرًا لِيُعَامِلَنَا ثُمَّ يَرْجِعَ إلَى دَارِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ

الْحَرْبِ ؟ وَلَوْ كَانَ مُلْتَزِمًا شَيْئًا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ كَالذِّمِّيِّ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ مَنْعَهُ مِنْ أَنْ يَعُودَ حَرْبًا لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَ مَا حَصَلَ فِي أَيْدِيهِمْ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ الْقِصَاصِ فَإِنَّهُ حَقُّ الْعِبَادِ وَهُوَ قَدْ الْتَزَمَ حُقُوقَ الْعِبَادِ فِي الْمُعَامَلَاتِ ، وَحَدُّ الْقَذْفِ فِيهِ بَعْضُ حَقِّ الْعِبَادِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ رَفْعُ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ ، وَالْإِجْبَارُ عَلَى بَيْعِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ وَهُوَ مِنْ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ فِي اسْتِخْدَامِ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ نَوْعُ إذْلَالٍ بِالْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ فِي اسْتِخْفَافِهِ بِالْمُصْحَفِ وَأَمَّا الرِّبَا فَهُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ كُلِّ عَهْدٍ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إلَّا مَنْ أَرْبَى فَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عَهْدٌ } .
فَأَمَّا فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ فَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لَا حَدَّ عَلَيْهَا أَيْضًا ؛ لِأَنَّهَا مَكَّنَتْ نَفْسَهَا مِنْ فَاعِلٍ لَا يَلْزَمُ الْحَدُّ بِفِعْلِهِ فَهُوَ كَالتَّمْكِينِ مِنْ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَا يُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ عِنْدَنَا ، وَمَا هُوَ مِنْ خَالِصِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَالْخِطَابُ فِيهِ قَاصِرٌ عَنْ الْكَافِرِ كَمَا هُوَ قَاصِرٌ عَنْ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَقَاسَ هَذَا بِمَا لَوْ مَكَّنَتْ نَفْسَهَا مِنْ مُكْرَهٍ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهَا وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِعْلُ الْمُسْتَأْمَنِ زِنًى بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَذَفَهُ قَاذِفٌ بِهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَصَارَتْ هِيَ زَانِيَةً بِالتَّمْكِينِ مِنْ الزِّنَا وَيُقَامُ عَلَيْهَا الْحَدُّ ، بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فَإِنَّ فِعْلَهُمَا لَيْسَ بِزِنًا شَرْعًا حَتَّى لَوْ قَذَفَهُمَا قَاذِفٌ بِذَلِكَ الْفِعْلِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْعَقْلِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِنَا الْكُفَّارُ لَا يُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ وَالْعِبَادَاتِ الَّتِي تَنْبَنِي عَلَى

الْإِسْلَامِ ، فَأَمَّا الْحُرُمَاتُ ثَابِتَةٌ فِي حَقِّهِمْ وَكَانَ فِعْلُ الْمُسْتَأْمَنِ وَاجِبَ الْكَفِّ عَنْهُ بِخِطَابِ الشَّرْعِ فَيَكُونُ زِنًى إلَّا أَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِوُجُوبِ تَبْلِيغِهِ مَأْمَنَهُ وَأَمَّا إذَا مَكَّنَتْ نَفْسَهَا مِنْ مُكْرَهٍ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهَا ، وَإِنْ ضَجَعَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الرِّوَايَةَ فِيهِ بِقَوْلِهِ : لَسْت أَحْفَظُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُكْرَهِ شَيْئًا وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ مَمْنُوعٌ عَنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الزِّنَا وَفِي الْإِقْدَامِ عَلَيْهِ يَكُونُ فِعْلُهُ زِنًى وَتَصِيرُ هِيَ بِالتَّمْكِينِ زَانِيَةً تَبَعًا فَيَلْزَمُهَا الْحَدُّ

( قَالَ ) وَإِذَا زَنَى الْمُسْلِمُ أَوْ الذِّمِّيُّ بِالْمُسْتَأْمَنَةِ حُدَّ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ دُونَ الْمُسْتَأْمَنَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُحَدَّانِ .
أَمَّا الْكَلَامُ فِي الْمُسْتَأْمَنَةِ فَقَدْ بَيَّنَّاهُ ، وَتَعَذُّرُ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا لَيْسَ لِلشُّبْهَةِ فَلَا يَمْنَعُ إقَامَتَهُ عَلَى الرَّجُلِ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا ؛ لِأَنَّ حَدَّ الزِّنَا يُقَامُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ عِنْدَنَا ، وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : لَا يُقَامُ وَلَكِنَّهُ يُدْفَعُ إلَى أَهْلِ دِينِهِ لِيُقِيمُوا عَلَيْهِ مَا يَعْتَقِدُونَ مِنْ الْعُقُوبَةِ ؛ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا سُئِلَا عَنْ ذِمِّيِّينَ زَنَيَا فَقَالَا : يُدْفَعَانِ إلَى أَهْلِ دِينِهِمَا ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : قَدْ أَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجْمَ عَلَى الْيَهُودِيَّيْنِ وَكَانَا ذِمِّيَّيْنِ وَلَنَا فِيهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ، وَلِأَنَّ الذِّمِّيَّ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَمُلْتَزِمٌ أَحْكَامَنَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ وَهُوَ يَعْتَقِدُ حُرْمَةَ الزِّنَا كَمَا يَعْتَقِدُهُ الْمُسْلِمُ فَيُقَامُ عَلَيْهِ كَمَا يُقَامُ عَلَى الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْحُدُودِ تَطْهِيرُ دَارِ الْإِسْلَامِ عَنْ ارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا فَهُوَ تَحْتَ يَدِ الْإِمَامِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا حَتَّى يَمْنَعَهُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَيُقِيمَ الْحَدَّ عَلَيْهِ أَيْضًا بِخِلَافِ الْمُسْتَأْمَنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ تَحْتَ يَدِ الْإِمَامِ حُكْمًا حَتَّى لَا يَمْنَعَهُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ

( قَالَ ) وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ فَقَالَ : ظَنَنْت أَنَّهَا تَحِلُّ لِي أَوْ شَبَّهْتهَا بِامْرَأَتِي أَوْ جَارِيَتِي لَمْ يُدْرَأْ عَنْهُ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الزِّنَا قَدْ تَحَقَّقَ عَنْهُ وَظَنُّهُ هَذَا لَيْسَ بِصَادِرٍ عَنْ دَلِيلٍ فَكَانَ لَغْوًا

وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ بَصِيرًا وَجَدَ امْرَأَةً عَلَى فِرَاشِهِ فَوَاقَعَهَا عَلَى ظَنِّ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ وَهِيَ أَجْنَبِيَّةٌ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ، وَكَذَلِكَ الْأَعْمَى عِنْدَنَا ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُدْرَأُ الْحَدُّ عَنْ الْأَعْمَى ؛ لِأَنَّهُ عَدِمَ آلَةَ التَّمْيِيزِ وَهُوَ الْبَصَرُ فَبُنِيَ عَلَى ظَاهِرِ الْحَالِ ، وَالظَّاهِرُ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى فِرَاشِهِ إلَّا زَوْجَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي حَقِّهِ بِخِلَافِ الْبَصِيرِ ، وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ إنْ اعْتَمَدَ مُجَرَّدَ الظَّنِّ فَإِنَّ الْمَوْجُودَةَ عَلَى فِرَاشِهِ قَدْ تَكُونُ أُمَّهُ أَوْ أُخْتَهُ وَقَدْ تَكُونُ أَجْنَبِيَّةً وَقَدْ تَكُونُ زَوْجَتَهُ فَلَا مُعْتَبَرَ بِذَلِكَ ، وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَنْ يَسْأَلَهَا كَتَمَكُّنِ الْبَصِيرِ مِنْ أَنْ يَرَاهَا .
فَأَمَّا إذَا دَعَا الْأَعْمَى امْرَأَتَهُ إلَى فِرَاشِهِ فَأَتَتْهُ أَجْنَبِيَّةٌ فَوَاقَعَهَا ، إنْ كَانَتْ قَالَتْ لَهُ أَنَا زَوْجَتُك فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَإِنْ أَجَابَتْ أَوْ أَتَتْهُ سَاكِتَةً فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّهَا إذَا قَالَتْ : أَنَا زَوْجَتُك فَقَدْ اعْتَمَدَ خَبَرَ الْوَاحِدِ وَذَلِكَ دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَصِيرَ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَأَخْبَرَهُ رَجُلٌ أَنَّ امْرَأَتَهُ هَذِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ خَبَرَهُ وَيَطَأَهَا ؟ فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهَا غَيْرُ امْرَأَتِهِ كَانَ الثَّابِتُ حُكْمَ الْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ ، فَكَذَلِكَ هِيَ إذَا أَخْبَرَتْهُ بِذَلِكَ ، فَأَمَّا إذَا لَمْ تُخْبِرْهُ فَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ إجَابَتُهَا أَوْ إتْيَانُهَا بَعْدَ مَا دَعَا زَوْجَتَهُ بِمَنْزِلَةِ إخْبَارِهَا أَنِّي زَوْجَتُك وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : إنْ أَجَابَتْهُ إلَى الْفِرَاشِ فَهُوَ كَمَا لَوْ وَجَدَهَا نَائِمَةً عَلَى فِرَاشِهِ وَكَمَا لَا يَسْقُطُ الْحَدُّ هُنَاكَ بِظَنِّهِ فَكَذَلِكَ هُنَا

( قَالَ ) رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ امْرَأَةً لِيَزْنِيَ بِهَا فَزَنَى بِهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى : عَلَيْهِمَا الْحَدُّ لِتَحَقُّقِ فِعْلِ الزِّنَا مِنْهُمَا ، فَإِنَّ الِاسْتِئْجَارَ لَيْسَ بِطَرِيقٍ لِاسْتِبَاحَةِ الْبُضْعِ شَرْعًا فَكَانَ لَغْوًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَهَا لِلطَّبْخِ أَوْ الْخَبْزِ ثُمَّ زَنَى بِهَا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الِاسْتِئْجَارِ مَنْفَعَةٌ لَهَا حُكْمُ الْمَالِيَّةِ وَالْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ الْعِتْقِ وَهُوَ لَيْسَ بِمَالٍ أَصْلًا وَالْعَقْدُ بِدُونِ مَحَلِّهِ لَا يَنْعَقِدُ أَصْلًا ، فَإِذَا لَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ كَانَ هُوَ وَالْإِذْنُ سَوَاءً .
وَلَوْ زَنَى بِهَا بِإِذْنِهَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ احْتَجَّ بِحَدِيثَيْنِ ذَكَرَهُمَا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَحَدُهُمَا مَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً اسْتَسْقَتْ رَاعِيًا فَأَبَى أَنْ يَسْقِيَهَا حَتَّى تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا فَدَرَأَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْحَدَّ عَنْهُمَا ، وَالثَّانِي أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتْ رَجُلًا مَالًا فَأَبَى أَنْ يُعْطِيَهَا حَتَّى تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا فَدَرَأَ الْحَدَّ وَقَالَ : هَذَا مَهْرٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إنَّمَا دَرَأَ الْحَدَّ عَنْهَا ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُضْطَرَّةً تَخَافُ الْهَلَاكَ مِنْ الْعَطَشِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجِبُ سُقُوطَ الْحَدِّ عَنْهُ وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيمَا إذَا كَانَتْ سَائِلَةً مَالًا كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي مَعَ أَنَّهُ عَلَّلَ فَقَالَ إنَّ هَذَا مَهْرٌ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْمَهْرَ وَالْأَجْرَ يَتَقَارَبَانِ قَالَ تَعَالَى { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } سُمِّيَ الْمَهْرُ أَجْرًا .
وَلَوْ قَالَ : أَمْهَرْتُك كَذَا لِأَزْنِيَ بِك لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ ، فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : اسْتَأْجَرْتُك تَوْضِيحُهُ أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَيْسَ بِزِنًا ، وَأَهْلُ اللُّغَةِ لَا يُسَمُّونَ الْوَطْءَ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَى الْعَقْدِ زِنًى وَلَا يَفْصِلُونَ بَيْنَ الزِّنَا

وَغَيْرِهِ إلَّا بِالْعَقْدِ فَكَذَلِكَ لَا يَفْصِلُونَ بَيْنَ الِاسْتِئْجَارِ وَالنِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا شَرْعِيٌّ ، وَأَهْلُ اللُّغَةِ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ فَعَرَفْنَا أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَيْسَ بِزِنًا لُغَةً وَذَلِكَ شُبْهَةٌ فِي الْمَنْعِ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْمُخْتَلِسِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ لَيْسَ بِسَرِقَةٍ لُغَةً ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ وَإِنْ كَانَ فِي حُكْمِ الْعِتْقِ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ مَنْفَعَةٌ ، وَالِاسْتِئْجَارُ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ لِمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ وَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ يَصِيرُ شُبْهَةً بِخِلَافِ الِاسْتِئْجَارِ لِلطَّبْخِ وَالْخَبْزِ وَلِأَنَّ الْعَقْدَ هُنَاكَ غَيْرُ مُضَافٍ إلَى الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ وَلَا إلَى مَا هُوَ سَبَبٌ لَهُ ، وَالْعَقْدُ الْمُضَافُ إلَى مَحَلٍّ يُوجِبُ الشُّبْهَةَ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ لَا فِي مَحَلٍّ آخَرَ

( قَالَ ) رَجُلٌ أُكْرِهَ حَتَّى زَنَى بِامْرَأَةٍ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ أَوَّلًا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ لَا يَزْنِي مَا لَمْ تَنْتَشِرْ آلَتُهُ وَذَلِكَ دَلِيلُ الطَّوَاعِيَةِ بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ فَإِنَّ التَّمْكِينَ يَتَحَقَّقُ مِنْهَا مَعَ الْإِكْرَاهِ فَلَا يَكُونُ تَمْكِينُهَا دَلِيلَ الطَّوَاعِيَةِ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ إذَا كَانَ الْمُكْرِهُ سُلْطَانًا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ مَشْرُوعٌ لِلزَّجْرِ وَهُوَ مُنْزَجِرٌ عَنْ الزِّنَا وَإِنَّمَا كَانَ قَصْدُهُ مِنْ الْإِقْدَامِ دَفْعُ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ كَالْمَرْأَةِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ انْتِشَارَ الْآلَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ طَائِعًا ؛ لِأَنَّ انْتِشَارَ الْآلَةِ قَدْ يَكُون طَبْعًا وَقَدْ يَكُونُ طَوْعًا .
أَلَا تَرَى أَنَّ النَّائِمَ قَدْ تَنْتَشِرُ آلَتُهُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَفِعْلٍ مِنْهُ ؟ وَإِنَّمَا انْتِشَارُ الْآلَةِ دَلِيلُ الْفُحُولِيَّةِ ، فَأَمَّا إذَا أَكْرَهَهُ غَيْرُ السُّلْطَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَلْزَمُهُ الْحَدُّ إذَا زَنَى وَعِنْدَهُمَا إذَا جَاءَ مِنْ إكْرَاهِ غَيْرِ السُّلْطَانِ مَا يُشْبِهُ إكْرَاهَ السُّلْطَانِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ، وَقِيلَ هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ ، فَإِنَّ السُّلْطَانَ كَانَ مُطَاعًا فِي زَمَنِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلَمْ يَرَ لِغَيْرِ السُّلْطَانِ مِنْ الْقُوَّةِ مَا يَقْوَى بِهِ عَلَى الْإِكْرَاهِ ، فَقَالَ : لَا يَتَحَقَّقُ الْإِكْرَاهُ إلَّا مِنْ السُّلْطَانِ ، ثُمَّ فِي عَصْرِهِمَا قَدْ ظَهَرَتْ الْقُوَّةُ لِكُلِّ مُتَغَلِّبٍ فَقَالَا : يَتَحَقَّقُ الْإِكْرَاهُ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ خَوْفُ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ إذَا كَانَ الْمُكْرِهَ قَادِرًا عَلَى إيقَاعِ مَا هَدَّدَ بِهِ سُلْطَانًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ ، بَلْ خَوْفُ التَّلَفِ هُنَا أَظْهَرُ ؛ لِأَنَّ الْمُتَغَلِّبَ يَكُونُ مُسْتَعْجِلًا لِمَا قَصَدَهُ لِخَوْفِهِ مِنْ الْعَزْلِ بِقُوَّةِ السُّلْطَانِ وَالسُّلْطَانُ ذُو أَنَاةٍ بِمَا يَفْعَلُهُ ، فَإِذَا تَحَقَّقَ

الْإِكْرَاهُ مِنْ السُّلْطَانِ بِالتَّهْدِيدِ فَمِنْ الْمُتَغَلِّبِ أَوْلَى وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ مَا يَكُونُ مُغَيِّرًا لِلْحُكْمِ يَخْتَصُّ بِالسُّلْطَانِ كَإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ وَنَحْوِهَا ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْإِكْرَاهَ مِنْ غَيْرِ السُّلْطَانِ نَادِرٌ ؛ لِأَنَّهُ مَغْلُوبٌ بِقُوَّةِ السُّلْطَانِ فَالْمُبْتَلَى بِهِ يَسْتَغِيثُ بِالسُّلْطَانِ لِيَدْفَعَ شَرَّهُ عَنْهُ فَإِذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ نَادِرٌ وَلَا حُكْمَ لِلنَّادِرِ فَأَمَّا الْمُبْتَلَى بِالسُّلْطَانِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَغِيثَ بِغَيْرِهِ لِيَدْفَعَ شَرَّهُ عَنْهُ فَيَتَحَقَّقَ خَوْفُ التَّلَفِ عَلَى نَفْسِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مُسْقِطًا لِلْحَدِّ عَنْهُ

( قَالَ ) رَجُلٌ زَنَى بِأَمَةٍ أَوْ حُرَّةٍ ثُمَّ قَالَ اشْتَرَيْتهَا دُرِئَ عَنْهُ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى سَبَبًا مُبِيحًا فَإِنَّ الشِّرَاءَ فِي الْأَمَةِ يُفِيدُ مِلْكَ الْمُتْعَةِ وَفِي الْحُرَّةِ النِّكَاحُ فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الشِّرَاءِ فَكَانَ دَعْوَاهُ الشِّرَاءَ كَدَعْوَى النِّكَاحِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مُجَرَّدَ دَعْوَى النِّكَاحِ يُسْقِطُ الْحَدَّ

( قَالَ ) وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَزَكَّاهُمْ الْمُزَكُّونَ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ فَرَجَمَهُ الْإِمَامُ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ عَبِيدٌ أَوْ مَجُوسٌ فَإِنْ ثَبَتَ الْمُزَكُّونَ عَلَى التَّزْكِيَةِ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ وَلَا عَلَى الشُّهُودِ أَمَّا عَلَى الشُّهُودِ فَلِأَنَّهُ لَمْ يَتَبَيَّنْ كَذِبُهُمْ وَلَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ إذْ لَا شَهَادَةَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِلْعَبِيدِ وَالْكُفَّارِ ، وَأَمَّا عَلَى الْمُزَكِّينَ فَلِأَنَّهُمْ اعْتَمَدُوا مَا سَمِعُوا مِنْ إسْلَامِهِمْ وَحُرِّيَّتِهِمْ وَإِنَّمَا زَكُّوهُمْ بِقَوْلِ النَّاسِ فَلَمْ يَتَبَيَّنْ كَذِبُهُمْ فِيمَا أَخْبَرُوا بِهِ الْقَاضِيَ مِنْ قَوْلِ النَّاسِ إنَّهُمْ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ فَأَمَّا إذَا رَجَعُوا عَنْ التَّزْكِيَةِ ، وَقَالُوا : تَعَمَّدْنَا فَعَلَيْهِمْ ضَمَانُ الدِّيَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى : لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُزَكِّينَ وَلَكِنَّ الدِّيَةَ فِي بَيْتِ الْمَالِ فِي الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمُزَكِّينَ مَا أَثْبَتُوا سَبَبَ الْإِتْلَافِ وَهُوَ الزِّنَا وَإِنَّمَا أَثْنَوْا عَلَى الشُّهُودِ خَيْرًا ، فَكَانُوا فِي الْمَعْنَى كَشُهُودِ الْإِحْصَانِ ، إلَّا أَنَّ أُولَئِكَ أَثْبَتُوا خِصَالًا مَحْمُودَةً فِي الزَّانِي لَا يُقَامُ الرَّجْمُ عَلَيْهِ إلَّا بِهَا وَهَؤُلَاءِ أَثْبَتُوا خِصَالًا فِي الشَّاهِدِ لَا يُقَامُ الرَّجْمُ إلَّا عِنْدَهَا ، فَكَمَا لَا ضَمَانَ عَلَى شُهُودِ الْإِحْصَانِ إذَا رَجَعُوا فَكَذَلِكَ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُزَكِّينَ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : الْمُزَكُّونَ جَعَلُوا مَا لَيْسَ بِمُوجِبٍ مُوجِبًا فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَثْبَتَ سَبَبَ الْإِتْلَافِ ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُوجِبُ شَيْئًا بِدُونِ التَّزْكِيَةِ ، وَسَبَبُ الْإِتْلَافِ الشَّهَادَةُ ، وَإِنَّمَا كَانَتْ مُوجِبَةً بِالتَّزْكِيَةِ فَكَانَتْ التَّزْكِيَةُ عِلَّةَ الْعِلَّةِ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْعِلَّةِ فِي إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ ، بِخِلَافِ شُهُودِ الْإِحْصَانِ

فَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الزِّنَا بِدُونِ الْإِحْصَانِ مُوجِبٌ لِلْعُقُوبَةِ ، وَشُهُودُ الْإِحْصَانِ مَا جَعَلُوا مَا لَيْسَ بِمُوجِبِ مُوجِبًا وَأُمًّا الشَّهَادَةُ لَا تُوجِبُ شَيْئًا بِدُونِ التَّزْكِيَةِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا وَلِهَذَا اُشْتُرِطَ الذُّكُورَةُ فِي الْمُزَكِّينَ كَشُهُودِ الزِّنَا .
وَيَثْبُتُ الْإِحْصَانُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ وَإِنْ كَانَ الْمُزَكُّونَ قَالُوا هُمْ عُدُولٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّهُمْ صَادِقُونَ فِي ذَلِكَ وَالْعَبْدُ قَدْ يَكُونُ عَدْلًا وَيَكُونُ الْقَاضِي جَهِلَ حِينَ اكْتَفَى مِنْهُمْ بِهَذَا الْقَدْرِ فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ الْمُزَكُّونَ

( قَالَ ) وَإِذَا زَنَى بِجَارِيَةٍ فَقَتَلَهَا ، إنْ قَتَلَهَا بِفِعْلِهِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَضَمَانُ الْقِيمَةِ ، الْحَدُّ لِلزِّنَا وَالْقِيمَةُ لِإِتْلَافِ النَّفْسِ ، وَهُمَا مَعْنَيَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْفَصِلٌ عَنْ الْآخَرِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بِحُرَّةٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَالدِّيَةُ وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَمَةِ يَدْرَأُ عَنْهُ الْحَدَّ لِلشُّبْهَةِ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْقِيمَةِ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْأَمَةِ بِخِلَافِ الْحُرَّةِ ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا زَنَى بِأَمَةٍ فَأَذْهَبَ بَصَرَهَا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا وَسَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّ الْجُثَّةَ الْعَمْيَاءَ تُمْلَكُ بِالضَّمَانِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ ، فَأَمَّا إذَا قَتَلَهَا فَإِنَّمَا لَزِمَهُ ضَمَانُ الْقِيمَةِ بِالْجِنَايَةِ ، وَضَمَانُ الْقِيمَةِ بِالْجِنَايَةِ بَدَلُ النَّفْسِ فَلَا يُوجِبُ الْمِلْكَ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا بَعْدَ تَقَرُّرِ الْجِنَايَةِ بِالْمَوْتِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِمَحِلٍّ لِلْمُلْكِ بَعْدَ الْمَوْتِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96