كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّفَقَةِ وَهُوَ غَائِبٌ وَلِأَنَّ هَذِهِ بَيِّنَةً عَادِلَةً مَسْمُوعَةً فَيَجِبُ الْقَضَاءُ بِهَا كَمَا لَوْ كَانَ الْخَصْمُ حَاضِرًا وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ عِنْدَكُمْ تُسْمَعُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ لِلْكِتَابِ بِهَا وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ بِغَيْبَةِ الْخَصْمِ مَا فَاتَ إلَّا إنْكَارُهُ وَإِنْكَارُهُ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي إيصَالِ الْمُدَّعِي إلَى حَقِّهِ وَلِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْإِنْكَارُ فَيَجِبُ التَّمَسُّكُ بِهِ ، وَإِذَا ثَبَتَ إنْكَارُهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ قُبِلَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ مُقِرًّا كَانَ الْقَضَاءُ مُتَوَجِّهًا عَلَيْهِ لِإِجْمَاعِنَا أَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ بِالْإِقْرَارِ جَائِزٌ فَعَلَيْهِ نَقِيسُ فِعْلَهُ أَنَّهُ إحْدَى حُجَّتَيْ الْقَضَاءِ وَلَنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { لَا تَقْضِ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ حَتَّى تَسْمَعَ كَلَامَ الْآخَرِ فَإِنَّكَ إذَا سَمِعْتَ كَلَامَ الْآخَرِ عَلِمْتَ كَيْفَ تَقْضِي } فَبَيَّنَ أَنَّ الْجَهَالَةَ تَمْنَعُهُ مِنْ الْقَضَاءِ وَأَنَّهَا لَا تُرْفَعُ إلَّا بِسَمَاعِ كَلَامِهِمَا .
فَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي } فَدَلِيلُنَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ اسْمٌ لِمَا يَحْصُلُ بِهِ الْبَيَانُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّهُ حَاصِلٌ بِقَوْلِهِ وَلَا فِي حَقِّ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُ حَاصِلٌ بِقَوْلِ الْمُدَّعِي إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مُنَازِعٌ إنَّمَا الْحَاجَةُ إلَى الْبَيَانِ فِي حَقِّ الْخَصْمِ الْجَاحِدِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِحُضُورِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ جَعَلَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي فِي حَالِ لَوْ ادَّعَى عَدَمَهَا اسْتَحْلَفَ الْخَصْمَ فَقَالَ { وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْهُ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ اسْمٌ لِلْحُجَّةِ وَلَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ عَجْزُهُ عَنْ الدَّفْعِ وَالطَّعْنِ ، وَالْقُرْآنُ صَارَ حُجَّةً عَلَى النَّاسِ حِينَ ظَهَرَ عَجْزُهُمْ عَنْ الْمُعَارَضَةِ وَظُهُورُ عَجْزِهِ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْهُ وَلَا
حُجَّةَ فِي حَدِيثِ هِنْدَ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ عَالِمًا بِسَبَبِ اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ النِّكَاحُ الظَّاهِرُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهَا لَمْ تُقِمْ الْبَيِّنَةَ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ أَحَدُ الْمُتَدَاعِينَ فَيُشْتَرَطُ حُضُورُهُ لِلْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ كَالْمُدَّعِي بَلْ أَوْلَى فَإِنَّ الْمُدَّعِيَ يَنْتَفِعُ بِالْقَضَاءِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَتَضَرَّرُ بِهِ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ دَعْوَى الْمُدَّعِي وَإِنْ كَانَ الْخَصْمُ شَرَطَ لِلْعَمَلِ بِالْبَيِّنَةِ حَتَّى لَا يَسْمَعُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُقِرِّ وَلَا يَقْضِي بِهَا إذَا اعْتَرَضَ الْإِقْرَارَ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِهَا وَبِغَيْبَةِ الْمُدَّعِي يَفُوتُ أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ وَهُوَ الدَّعْوَى وَبِغَيْبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَفُوتُ الشَّرْطُ الْآخَرُ وَهُوَ الْإِنْكَارُ وَفَوَاتُ شَرْطِ الشَّيْءِ كَفَوَاتِ رُكْنِهِ فِي امْتِنَاعِ الْعَمَلِ بِهِ ، وَإِنْكَارُهُ إنْ كَانَ ثَابِتًا بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ فَالشَّرْطُ بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ لَا يَثْبُتُ عِنْدَنَا مَا لَمْ يُتَيَقَّنْ بِهِ وَلِهَذَا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ : إنْ لَمْ أَدْخُلْ الدَّارَ الْيَوْمَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَمَضَى الْيَوْمُ فَقَالَ قَدْ دَخَلْتُ وَقَالَ الْعَبْدُ لَمْ تَدْخُلْ لَمْ يُعْتَقْ وَإِنْ كَانَ عَدَمُ الدُّخُولِ ثَابِتًا بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ .
وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَوْ حَضَرَ وَأَنْكَرَ فَأُقِيمَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ ثُمَّ غَابَ يُقْضَى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ إنْكَارَهُ سُمِعَ نَصًّا وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُقْضَى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ إصْرَارَهُ عَلَى الْإِنْكَارِ إلَى وَقْتِ الْقَضَاءِ شَرْطٌ وَذَلِكَ ثَابِتٌ بَعْدَ غَيْبَتِهِ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ لَا بِالنَّصِّ وَقَوْلُهُ إنَّهَا مَسْمُوعَةٌ عِنْدَنَا غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ لِلْقَضَاءِ حَتَّى أَنَّ الْخَصْمَ وَإِنْ حَضَرَ لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِهَا إنَّمَا هِيَ مَسْمُوعَةٌ لِنَقْلِهَا إلَى قَاضِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ بِالْكِتَابِ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ الْأُصُولِ عِنْدَ الْفُرُوعِ مَسْمُوعَةٌ لِنَقْلِ شَهَادَتِهِمْ لَا لِلْقَضَاءِ بِهَا وَاعْتِبَارُ الْبَيِّنَةِ
بِالْإِقْرَارِ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ لِلْحَقِّ بِنَفْسِهِ دُونَ الْقَضَاءِ بِخِلَافِ الْبَيِّنَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْإِقْرَارَ لِلْغَائِبِ صَحِيحٌ بِخِلَافِ الْبَيِّنَةِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُقِرِّ حَقُّ الطَّعْنِ فِي إقْرَارِ نَفْسِهِ فَلَيْسَ فِي الْقَضَاءِ عَلَيْهِ مَعَ غَيْبَتِهِ بِالْإِقْرَارِ تَفْوِيتُ حَقِّ الطَّعْنِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْبَيِّنَةِ .
قَالَ دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَاهَا رَجُلٌ أَنَّهَا لَهُ آجَرَهَا مِنْ ذِي الْيَدِ وَادَّعَى آخَرُ أَنَّهَا لَهُ أَوْدَعَهَا إيَّاهُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ قَضَى بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ أَنَّ وُصُولَهَا إلَى يَدِ ذِي الْيَدِ مِنْ جِهَتِهِ فَتَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْمُسَاوَاةَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ عِنْدَنَا عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي الْبَابِ الثَّانِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
قَالَ وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَى أَنَّهُ غَصَبَهُ إيَّاهُ أَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَادَّعَى آخَرُ أَنَّهُ لَهُ وَدِيعَةٌ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ قَضَى بِهِ لِصَاحِبِ الْغَصْبِ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ طَاعِنَةٌ فِي الْبَيِّنَةِ الْأُخْرَى فَإِنَّهُ يُثْبِتُ بِهَا أَنَّ يَدَ ذِي الْيَدِ كَانَتْ غَصْبًا مِنْ جِهَتِهِ وَذَلِكَ يَتَّقِي كَوْنَهُ وَدِيعَةً لِلْآخَرِ فَلِهَذَا رَجَّحْنَا بَيِّنَةَ الْغَصْبِ وَقَضَيْنَا بِهِ لِصَاحِبِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
( بَابُ الدَّعْوَى فِي الْمِيرَاثِ ) ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَبْدٌ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَتَرَكَهُ مِيرَاثًا لَهُ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرُهُ وَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَتَرَكَهُ مِيرَاثًا لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِالْعَبْدِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ) ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَارِثِينَ خَصْمٌ عَنْ مُوَرِّثِهِ فَكَأَنَّ الْمُوَرِّثَيْنِ حَيَّانِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى مِلْكٍ مُطْلَقٍ لَهُمَا فِي يَدِ ثَالِثٍ وَفِي هَذَا يُقْضَى بِالْمِلْكِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ عِنْدَنَا ، وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يُقْضَى بِأَعْدَلِ الْبَيِّنَتَيْنِ وَعِنْدَ الْأَوْزَاعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُقْضَى لِأَكْثَرِهِمَا عَدَدًا فِي الشُّهُودِ وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَتَهَاتَرُ الْبَيِّنَتَانِ وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا وَيُقْضَى لِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ فَمَالِكٌ يَقُولُ الشَّهَادَةُ إنَّمَا تَصِيرُ حُجَّةً بِالْعَدَالَةِ فَالْأَعْدَلُ فِي كَوْنِهِ حُجَّةً أَقْوَى وَالضَّعِيفُ لَا يُزَاحِمُ الْقَوِيَّ وَالْأَوْزَاعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ إلَى قَوْلِ الْجَمَاعَةِ أَكْثَرُ مِنْهُ إلَى قَوْلِ الْمَثْنَى فَيَتَرَجَّحُ أَكْثَرُهُمَا شُهُودًا بِزِيَادَةِ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ فِي قَوْلِهِمْ وَالشَّافِعِيُّ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ بِالتَّهَاتُرِ يَقُولُ قَدْ تَيَقَّنَ الْقَاضِي بِكَذِبِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ وَلَا يَعْرِفُ الصَّادِقَ مِنْ الْكَاذِبِ فَيَمْتَنِعُ الْعَمَلُ بِهِمَا .
كَمَا لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمَكَّةَ وَآخَرُ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ بِالْكُوفَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهَذَا لِأَنَّ تُهْمَةَ الْكَذِبِ تَمْنَعُ الْعَمَلَ بِالشَّهَادَةِ فَالتَّيَقُّنُ بِالْكَذِبِ أَوْلَى وَاسْتَدَلَّ بِمِلْكِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ لَوْ تَنَازَعَ اثْنَانِ فِي امْرَأَةٍ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَعَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ
بِالْقُرْعَةِ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا فِي أَمَةٍ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا أَمَتُهُ فَأَقْرَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا وَقَالَ اللَّهُمَّ أَنْتَ تَقْضِي بَيْنَ عِبَادِكَ بِالْحَقِّ ثُمَّ قَضَى بِهَا لِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ } وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا فِي بَغْلَةٍ بَيْنَ يَدَيْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَقَامَ أَحَدُهُمَا شَاهِدَيْنِ وَالْآخَرُ خَمْسَةً مِنْ الشُّهُودِ فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَصْحَابِهِ مَاذَا تَرَوْنَ فَقَالُوا يُعْطَى لِأَكْثَرِهِمَا شُهُودًا فَقَالَ فَلَعَلَّ الشَّاهِدَيْنِ خَيْرٌ مِنْ خَمْسَةٍ ثُمَّ قَالَ فِي هَذَا قَضَاءٌ وَصُلْحٌ أَمَّا الصُّلْحُ أَنْ يُجْعَلَ الْبَغْلَةَ بَيْنَهُمَا سِهَامًا عَلَى عَدَدِ شُهُودِهِمَا وَأَمَّا الْقَضَاءُ أَنْ يَحْلِفَ أَحَدُهُمَا وَيَأْخُذَ الْبَغْلَةَ فَإِنْ تَشَاحَّا عَلَى الْحَلِفِ أَقْرَعْتُ بَيْنَهُمَا وَقَضَيْتُ بِهَا لِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ وَلِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الْقُرْعَةِ لِتَعْيِينِ الْمُسْتَحِقِّ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ كَمَا فِي قِسْمَةِ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ وَلَنَا حَدِيثُ تَمِيمِ بْنِ طَرَفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا فِي عَيْنٍ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَقَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ } وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا فِي شَيْءٍ بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَقَالَ مَا أَحْوَجَكُمَا إلَى سِلْسِلَةٍ كَسِلْسِلَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ كَانَ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ إذَا جَلَسَ لِفَصْلِ الْخُصُومَاتِ نَزَلَتْ سِلْسِلَةٌ مِنْ السَّمَاءِ فَأَخَذَتْ بِعُنُقِ الظَّالِمِ ثُمَّ قَضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ } وَمَا رُوِيَ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْقُرْعَةِ فَقَدْ كَانَ فِي وَقْتٍ كَانَ الْقِمَارُ مُبَاحًا ثُمَّ انْتَسَخَ ذَلِكَ بِحُرْمَةِ الْقِمَارِ لِأَنَّ تَعْيِينَ
الْمُسْتَحِقِّ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ ابْتِدَاءً فَكَمَا أَنَّ تَعْلِيقَ الِاسْتِحْقَاقِ بِخُرُوجِ الْقُرْعَةِ يَكُونُ قِمَارًا فَكَذَلِكَ تَعْيِينُ الْمُسْتَحِقِّ بِخِلَافِ قِسْمَةِ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ فَلِلْقَاضِي هُنَا وِلَايَةُ التَّعْيِينِ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ وَإِنَّمَا يُقْرِعُ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمَا وَنَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمَيْلِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْقِمَارِ .
وَحَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُعَارِضُهُ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي رَجُلَيْنِ تَنَازَعَا فِي وَلَدٍ أَنَّهُمَا قَضَيَا بِأَنَّهُ ابْنَيْهِمَا وَلَمْ يَسْتَعْمِلَا الْقُرْعَةَ فِيهِ وَقَدْ كَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَعْمَلَ الْقُرْعَةَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ وَالْيَمِينُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَلَّ أَنَّهُ عَرَفَ انْتِسَاخَ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِحُرْمَةِ الْقِمَارِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْمُدَّعِي قَابِلٌ لِلِاشْتِرَاكِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ كَالْغَرِيمَيْنِ فِي التَّرِكَةِ إذَا كَانَتْ التَّرِكَةُ بِقَدْرِ حَقِّ أَحَدِهِمَا وَالْمُوصَى لَهُمَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالثُّلُثِ يَقْتَسِمَانِ الثُّلُثَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْمُدَّعِيَ يَقْبَلُ الِاشْتِرَاكَ وَهُوَ مِلْكُ الْعَيْنِ بِخِلَافِ مِلْكِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الِاشْتِرَاكَ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ حُجَجٌ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَكَيْفَ يُتْرَكُ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ وَقَدْ اتَّفَقَ الْفَرِيقَانِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ الْقَاضِي تَيَقَّنَ بِكَذِبِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ ضَعِيفٌ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اعْتَمَدَ سَبَبًا أَطْلَقَ بِهِ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ وَهُوَ مُعَايَنَةُ الْيَدِ لِمَنْ شَهِدَ لَهُ وَبِهِ فَارَقَ مَسْأَلَةَ مَكَّةَ وَالْكُوفَةِ فَقَدْ عَلِمْنَا هُنَاكَ أَنَّ أَحَدَهُمَا كَاذِبٌ بِيَقِينٍ لِأَنَّ الشَّخْصَ الْوَاحِدَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ بِمَكَّةَ وَالْكُوفَةِ وَقَدْ تَتَوَالَى يَدَانِ لِشَخْصَيْنِ عَلَى عَيْنٍ
وَاحِدَةٍ فِي وَقْتَيْنِ فَلِهَذَا أَوْجَبْنَا الْقَضَاءَ هُنَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ وَقَّتَ شُهُودُ أَحَدِهِمَا سَنَةً وَلَمْ يُوَقِّتْ شُهُودُ الْآخَرِ فَقَضَى بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ تَنْصِيصَ أَحَدِهِمَا عَلَى التَّوْقِيتِ لَا يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ مِلْكِهِ عَلَى الْآخَرِ فَلَعَلَّ مِلْكَ الْآخَرِ أَسْبَقُ مِنْهُ وَإِنْ لَمْ تُوَقِّتْ شُهُودُهُ وَذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ فِي النَّوَادِرِ فِي دَعْوَى الْمِلْكِ مِنْ خَارِجَيْنِ إذَا وَقَّتَ شُهُودُ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُوَقِّتْ شُهُودُ الْآخَرِ ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُقْضَى بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُقْضَى بِهِ لِلَّذِي وَقَّتَ شُهُودُهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يُقْضَى بِهِ لِلَّذِي لَمْ يُوَقِّتْ شُهُودُهُ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّارِيخَ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلْمِلْكِ وَتَنْصِيصُ أَحَدِهِمَا عَلَيْهِ لَا يُبْقِي مُسَاوَاةَ الْآخَرِ أَوْ سَفَهًا عَلَيْهِ فَكَانَ ذِكْرُهُ وُجُودًا وَعَدَمًا بِمَنْزِلَةٍ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ قِيَامُ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْمِلْكِ لِلْحَالِ وَاَلَّذِي وَقَّتَ شُهُودُهُ ثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُ مِنْ حِينِ أَرَّخَ شُهُودُهُ وَلَا مُنَازَعَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْمِلْكَ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ كَمَا لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ تُثْبِتُ الِاسْتِحْقَاقَ مِنْ الْأَصْلِ وَلِهَذَا تَسْتَحِقُّ بِهِ الزَّوَائِدَ وَيَرْجِعُ الْبَاعَةُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْبَعْضِ بِالثَّمَنِ فَكَانَ التَّارِيخُ الَّذِي لَمْ يُوَقِّتْ شُهُودُهُ أَسْبَقَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَكِنْ يَبْطُلُ هَذَا بِفَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا إذَا أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ وَالْآخَرُ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَصَاحِبُ النِّتَاجِ أَوْلَى فَلَوْ كَانَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ تُثْبِتُ الِاسْتِحْقَاقَ مِنْ الْأَصْلِ لَاسْتَوَيَا .
وَالثَّانِي إذَا ادَّعَى عَبْدٌ عَلَى مَوْلَاهُ أَنَّهُ
مَمْلُوكُهُ أَعْتَقَهُ وَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ مِلْكُهُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَبَيِّنَةُ الْعِتْقِ أَوْلَى وَلَوْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ يَثْبُتُ لِمُدَّعِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ مِنْ الْأَصْلِ لَصَارَ هُوَ أَوْلَى مِنْ مُدَّعِي الْعِتْقِ وَإِنْ وَقَّتَتْ بَيِّنَةُ أَحَدِهِمَا سَنَةً وَبَيِّنَةُ الْآخَرِ سَنَتَيْنِ قُضِيَ بِالْعَبْدِ لِصَاحِبِ السَّنَتَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَالْوَقْتُ وَغَيْرُ الْوَقْتِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ هَكَذَا ذُكِرَ فِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ فِي نُسَخِ أَبِي سُلَيْمَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى وَقْتِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُقْضَى بِهِ لِصَاحِبِ السَّنَتَيْنِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُقْضَى بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَاشْتَبَهَ مَذْهَبُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِاخْتِلَافِ النُّسَخِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ أَنَّ صَاحِبَ التَّارِيخِ السَّابِقِ أَثْبَتَ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ فِي وَقْتٍ لَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ فَيَثْبُتُ مِلْكُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ثُمَّ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْمِلْكَ إلَّا لِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ وَالْآخَرُ لَا يَدَّعِي الْمِلْكَ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ ادَّعَى الْمِلْكَ بِالشِّرَاءِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ رَجُلٍ أَوْ مِنْ وَاحِدٍ وَأَرَّخَا وَأَحَدُهُمَا أَسْبَقُ تَارِيخًا كَانَ صَاحِبُ أَسْبَقِ التَّارِيخَيْنِ أَوْلَى فَهَذَا مِثْلُهُ .
وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ التَّارِيخَ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلْمِلْكِ فَوُجُودُ ذِكْرِهِ كَعَدَمِهِ ثُمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ مُوَرِّثِهِ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لَهُ وَلَا تَارِيخَ فِي مِلْكِ الْمُوَرِّثَيْنِ فَيُقْضَى بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ حَتَّى لَوْ أَرَّخَا مِلْكَ الْمُوَرِّثَيْنِ وَتَارِيخُ أَحَدِهِمَا أَسْبَقُ كَانَ هُوَ أَوْلَى هَكَذَا ذَكَرَ هِشَامٌ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
فَأَمَّا مَسْأَلَةُ الشِّرَاءِ فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْإِمْلَاءِ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُمَا إذَا لَمْ يُؤَرِّخُوا مِلْكَ الْبَائِعَيْنِ يُقْضَى بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ فَأَمَّا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي لَا يَنْبَنِي عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ وَلَكِنْ يَحْدُثُ لِلْمُشْتَرِي مِلْكٌ جَدِيدٌ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ وَهُوَ الشِّرَاءُ فَأَسْبَقُهُمَا تَارِيخًا أَثْبَتَ مِلْكًا مُتَجَدِّدًا لِنَفْسِهِ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ غَيْرُهُ فَكَانَ هُوَ أَوْلَى فَأَمَّا مِلْكُ الْوَارِثِينَ فَيَنْبَنِي عَلَى مِلْكِ الْمُوَرِّثِينَ ؛ لِأَنَّ الْوِرَاثَةَ خِلَافَةٌ وَلَا تَارِيخَ فِي مِلْكِ الْمُوَرِّثِينَ فَاسْتَوَيَا لِهَذَا .
قَالَ وَإِنْ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَتَرَكَهُ مِيرَاثًا مُنْذُ سَنَةٍ وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَتَرَكَهُ مِيرَاثًا لَهُ مُنْذُ سَنَةٍ أَوْ لَمْ يُوَقِّتُوا وَقْتًا أَوْ وَقَّتُوا أَقَلَّ مِنْ سَنَةٍ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهِ لِلْخَارِجِ أَمَّا إذَا وَقَّتَ شُهُودُ ذِي الْيَدِ أَقَلَّ مِمَّا وَقَّتَ شُهُودُ الْخَارِجِ أَوْ لَمْ يُوَقِّتُوا فَلَا شَكَّ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْخَارِجَ أَثْبَتَ مِلْكَهُ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ ذُو الْيَدِ وَإِنْ وَقَّتَ شُهُودُ ذِي الْيَدِ مِثْلَ مَا وَقَّتَ شُهُودُ الْخَارِجِ فَقَدْ اسْتَوَتْ الْبَيِّنَتَانِ وَمِنْ أَصْلِنَا أَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ تَتَرَجَّحُ عَلَى بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ عِنْدَ التَّسَاوِي فِي دَعْوَى الْمِلْكِ وَذِكْرُ التَّارِيخِ لَمْ يُفِدْ شَيْئًا هُنَا فَكَأَنَّهُمَا لَمْ يَذْكُرَاهُ وَإِنْ وَقَّتَ شُهُودُ ذِي الْيَدِ سَنَتَيْنِ فَهُوَ لِذِي الْيَدِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ هُوَ لِلْمُدَّعِي وَهَذَا الْخِلَافُ بِنَاءً عَلَى الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَقَدْ ذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ لَا غَيْرُهُ لِلتَّارِيخِ وَكَأَنَّهُمَا لَمْ يَذْكُرَاهُ فَكَذَلِكَ هُنَا ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ لِلتَّارِيخِ فَيُقْضَى بِهِ لِلْخَارِجِ وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ صَاحِبُ أَسْبَقِ التَّارِيخَيْنِ أَثْبَتَ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ غَيْرُهُ فَهُوَ أَوْلَى خَارِجًا كَانَ أَوْ صَاحِبَ يَدٍ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ يَدَ ذِي الْيَدِ تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ وَلَكِنْ لَا تَدُلُّ عَلَى سَبْقِ التَّارِيخِ فَوَجَبَ قَبُولُ بَيِّنَتِهِ عَلَى التَّارِيخِ كَمَا يَجِبُ قَبُولُ بَيِّنَتِهِ عَلَى النِّتَاجِ وَإِذَا وَجَبَ قَبُولُ بَيِّنَتِهِ وَتَارِيخُهُ أَسْبَقُ كَانَ هُوَ أَوْلَى وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي نَوَادِرِهِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ رَجَعَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ بَعْدَ انْصِرَافِهِ مِنْ الرِّقَّةِ قَالَ لَا أَقْبَلُ مِنْ ذِي الْيَدِ بَيِّنَةً عَلَى تَارِيخٍ وَلَا غَيْرِهِ إلَّا النِّتَاجَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ ؛
لِأَنَّ التَّارِيخَ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِأَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ بِخِلَافِ النِّتَاجِ .
قَالَ : وَلَوْ كَانَتْ أَرْضٌ فِي يَدِ رَجُلٍ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَهِيَ فِي يَدَيْهِ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ وَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ لَا يَعْلَ مُوِّنَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ قُضِيَ بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ شُهُودِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ مَاتَ وَهِيَ فِي يَدَيْهِ مِثْلُ شَهَادَتِهِمْ أَنَّهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ فَإِنَّهُمْ شَهِدُوا بِيَدٍ مَجْهُولَةٍ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَالْأَيْدِي الْمَجْهُولَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ تَنْقَلِبُ يَدَ مِلْكٍ وَلِهَذَا إذَا مَاتَ الْمُودَعُ مُجْهِلًا لِلْوَدِيعَةِ صَارَ مُتَمَلِّكًا ضَامِنًا وَالْمِلْكُ إذَا ثَبَتَ لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ يَنْتَقِلُ إلَى وَرَثَتِهِ فَكَانَ هُوَ وَشَهَادَتُهُمْ بِأَنَّهُ تَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ سَوَاءً .
وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ بِأَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا وَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ قُضِيَ بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ مُوَرِّثِهِ فَكَأَنَّ مُوَرِّثَهُ كَانَ حَيًّا مُدَّعِيًا لِلْمِلْكِ وَالْآخَرُ خَصْمًا عَنْ نَفْسِهِ فِي دَعْوَى الْمِلْكِ فَاسْتَوَيَا فَكَانَ الْمُدَّعَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ وَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ أَبِ الْمُدَّعِي بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَنَقَدَهُ الثَّمَنَ قُضِيَ بِهَا لِلْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ خَصْمٌ عَنْ مُوَرِّثِهِ فِي إثْبَاتِ الشِّرَاءِ عَلَيْهِ وَمَا يَثْبُتُ شِرَاؤُهُ مِنْهُ فِي حَيَاتِهِ لَا يَصِيرُ مِيرَاثًا لِوَارِثِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ إنَّمَا يَخْلُفُهُ الْوَارِثُ فِي مِلْكٍ قَائِمٍ عِنْدَ الْمَوْتِ فَكَانَ بَيِّنَةُ مُدَّعِي الشِّرَاءِ طَاعِنَةً فِي بَيِّنَةِ مُدَّعِي الْمِيرَاثِ فَجُعِلَ هُوَ أَوْلَى فَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى صَدَقَةً أَوْ هِبَةً مَقْبُوضَةً مِنْ الْمَيِّتِ فِي صِحَّتِهِ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ أَثْبَتَ خُرُوجَهُ عَنْ مِلْكِ مُوَرِّثِهِ فِي حَيَاتِهِ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَ هَذَا تَزَوَّجَ أَمَةً عَلَيْهَا وَأَنَّ أُمَّهُ مَاتَتْ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ خَصْمٌ عَنْ أُمِّهِ وَقَدْ أَثْبَتَ سَبَبَ تَمَلُّكِهَا عَلَى أَبٍ آخَرَ فِي حَيَاتِهِ وَهُوَ النِّكَاحُ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مِيرَاثًا لَهُ عَنْ أَبِيهِ وَقَدْ ثَبَتَ خُرُوجُهُ مِنْ مِلْكِ أَبِيهِ فِي حَيَاتِهِ .
قَالَ وَإِنْ ادَّعَاهَا أَنَّهَا لَهُ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهَا لِأَبِيهِ وَلَمْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَمْ يَقْضِ لَهُ بِهَا ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى خَالَفَتْ الشَّهَادَةَ فَإِنَّهُ ادَّعَى الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ وَالشُّهُودُ شَهِدُوا بِالْمِلْكِ لِابْنِهِ وَهَذَا اللَّفْظُ يُوجِبُ أَنَّ الْأَبَ حَيٌّ فَالْمَيِّتُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْمِلْكِ وَلَا حَقَّ لَهُ فِي مِلْكِ الْأَبِ فِي حَيَاتِهِ وَإِنْ كَانَ الْأَبُ مَيِّتًا فَقَدْ شَهِدُوا بِمِلْكٍ عَرَفَ الْقَاضِي زَوَالَهُ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ لِهَذَا وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا أَنَّهَا كَانَتْ لِأَبِيهِ حِينَ مَاتَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ شَهَادَتُهُمْ مَقْبُولَةٌ لِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا مِلْكَ الْأَبِ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي وَمَا عُرِفَ ثُبُوتُهُ فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ سَبَبُ زَوَالِهِ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لِزَوَالِ مِلْكِهِ سَبَبًا سِوَى الْمَوْتِ وَهُوَ نَاقِلٌ إلَى الْوَارِثِ فَكَانَتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ بِالْمِلْكِ لَهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَيَجِبُ قَبُولُهَا كَمَا لَوْ صَرَّحُوا بِهَذَا ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لِمُقْتَضَى الْكَلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى تَصْحِيحِ الْكَلَامِ كَالْمُصَرَّحِ بِهِ .
يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ ذُو الْيَدِ أَنَّهَا كَانَتْ لِأَبِيهِ أَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى إقْرَارِهِ بِذَلِكَ أُمِرَ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُمْ شَهِدُوا بِمِلْكٍ عَرَفَ الْقَاضِي زَوَالَهُ وَلَمْ يُبَيِّنُوا سَبَبَ الزَّوَالِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ كَمَا لَوْ ادَّعَى مِلْكًا بِالشِّرَاءِ فَشَهِدُوا أَنَّهَا كَانَتْ لِبَائِعِهَا وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَتَمَكَّنُ فِي الْحَالِ مِنْ أَنْ يَقْضِيَ بِالْمِلْكِ لِابْنِهِ لِعِلْمِهِ بِزَوَالِ مِلْكِهِ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْضِيَ بِالْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّ خِلَافَتَهُ لِأَبِيهِ بِطَرِيقِ الْمِيرَاثِ إبْقَاءٌ لَهُ مَا كَانَ ثَابِتًا لِأَبِيهِ لَا أَنْ يُوجِبَ إثْبَاتَ الْمِلْكِ ابْتِدَاءً ؛
وَلِأَنَّ قِيَامَ مِلْكِ الْأَبِ وَقْتَ الْمَوْتِ شَرْطُ الِانْتِقَالِ إلَى الْوَارِثِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشَّرْطَ لَا يَثْبُتُ بِالظَّاهِرِ بَلْ بِالنَّصِّ فَإِذَا نَصَّ الشُّهُودُ عَلَى انْتِقَالِهِ بِالْمِيرَاثِ يَثْبُتُ بِالشَّرْطِ وَإِنْ لَمْ يَنُصُّوا عَلَيْهِ لَمْ يَثْبُتْ مَا هُوَ الشَّرْطُ وَالْمِلْكُ الَّذِي كَانَ لَهُ فِي حَيَاتِهِ لَا يَكُونُ دَلِيلَ مِلْكِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ نَصًّا بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْحَقَّ بِنَفْسِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْفَرْقَ فِي الْيَدِ لِلْمُدَّعِي أَمْسِ فَكَذَلِكَ هُنَا ثُمَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا لَمْ يُقِمْ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى عَدَدِ الْوَرَثَةِ لَمْ يَنْفُذْ الْقَضَاءُ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ الْوَرَثَةُ عَدَدًا فَلَا يَرِثُ هُوَ الْكُلَّ وَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا وَلَمْ يَعْرِفُوا الْوَرَثَةَ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقُولُ قَدْ ثَبَتَ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ الْمِلْكُ لِفُلَانٍ وَقْتَ الْمَوْتِ وَذَلِكَ يُوجِبُ الِانْتِقَالَ إلَى وَرَثَتِهِ وَلَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدِي أَنَّكُمْ وَرَثَتُهُ فَهَاتُوا بَيِّنَةَ أَنَّكُمْ وَلَدُهُ وَأَنَّهُ لَا وَارِثَ لِلْمَيِّتِ غَيْرُكُمْ فَإِذَا أَقَامُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى هَذَا قُضِيَ بِهَا لَهُمْ وَلَوْ لَمْ يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُمْ يَتَأَنَّى الْقَاضِي فِي ذَلِكَ ثُمَّ يَدْفَعُ إلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ وِرَاثَتَهُمْ قَدْ ثَبَتَتْ وَوُجُودُ مُزَاحِمٍ لَهُمْ فِي الْمِيرَاثِ مُحْتَمَلٌ فَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَتَأَنَّى لِكَيْ لَا يُبْتَلَى بِالْخَطَإِ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى نَقْضِ قَضَائِهِ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ فِي الْكِتَابِ مُدَّةَ التَّأَنِّي وَذَلِكَ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَاهُ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمَيِّتِ فِي الشُّهْرَةِ وَالْخُمُولَةِ وَبِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ وَرَثَتِهِ فِي الْغَيْبَةِ وَالْحُضُورِ .
وَذَكَرَ الطَّحْطَاوِيُّ أَنَّ التَّقْدِيرَ لِمُدَّةِ التَّأَنِّي الْحَوْلُ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ إبْلَاءُ الْعُذْرِ فِي حَقِّ وَارِثٍ غَائِبٍ يُمْسِي وَالْحَوْلُ مُدَّةٌ تَامَّةٌ
لِإِيلَاءِ الْعُذْرِ قَالَ الْقَائِلُ إلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدْ اعْتَذَرَ وَهُوَ نَظِيرُ أَجَلِ الْعِنِّينِ وَيَأْخُذُ مِنْهُمْ كَفِيلًا بِمَا دَفَعَ إلَيْهِمْ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَأْخُذُ مِنْهُمْ كَفِيلًا وَقَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ هَذَا شَيْءٌ احْتَاطَتْهُ الْقُضَاةُ وَهُوَ ظُلْمٌ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ لِكُلِّ مَنْ عَجَزَ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ وَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّ لِلْمَيِّتِ غَرِيمًا أَوْ وَارِثًا غَائِبًا فَلَوْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْ الْحَاضِرِ كَفِيلًا بِمَا يَدْفَعُ إلَيْهِ ؛ يَفُوتُ حَقُّ الْغَائِبِ فَفِي أَخْذِ الْكَفِيلِ نَظَرٌ لِلْغَائِبِ وَلَا ضَرَرَ فِيهِ لِلْحَاضِرِ وَهُوَ نَظِيرُ الْآبِقِ وَاللُّقَطَةُ إذَا دَفَعَهَا الْقَاضِي إلَى رَجُلٍ أَثْبَتَ عِنْدَهُ أَنَّهُ صَاحِبُهَا أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِهَا لِهَذَا الْمَعْنَى وَلِأَنَّ عَلَيْهِ صِيَانَةَ قَضَاءِ نَفْسِهِ وَهَذِهِ الصِّيَانَةُ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ حَتَّى إذَا حَضَرَ غَرِيمٌ أَوْ وَارِثٌ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ إيصَالُهُ إلَى حَقِّهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ حَقُّ الْحَاضِرِ ثَابِتٌ مَعْلُومٌ وَحَقُّ الْغَائِبِ مَوْهُومٌ وَلَا يُقَابِلُ الْمَوْهُومُ الْمَعْلُومَ فَلَا يُؤَخِّرُ الْقَاضِي تَسْلِيمَ حَقِّهِ إلَيْهِ إلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ أَرَأَيْتَ لَوْ لَمْ يَجِدْ كَفِيلًا أَكَانَ يَمْنَعُهُ حَقَّهُ هَذَا ظُلْمٌ مِنْهُ وَمَا ذَكَرَ فِي الْآبِقِ وَاللُّقَطَةِ قَوْلُهُمَا لَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَ الْكَفِيلَ إنَّمَا يَأْخُذُ الْمَجْهُولَ وَالْكَفَالَةُ لِلْمَجْهُولِ لَا تَصِحُّ وَلَا يُقَالُ يَأْخُذُ الْكَفِيلَ لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ .
وَلَا يُقَالُ يَأْخُذُهُ لِلْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَيِّتِ فِي تَسْلِيمِ مَالِهِ إلَى وَارِثِهِ وَقَدْ أَثْبَتَ الْحَاضِرُ وَرَثَتَهُ فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ وَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا كَانَتْ لِجَدِّهِ مَاتَ وَتَرَكَهَا
مِيرَاثًا لَهُ لَمْ يُقْضَ لَهُ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنَّهُ وَارِثُ جَدِّهِ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّ الْجَدَّ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لِابْنِهِ لَمْ يُقْضَ لَهُ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنَّهُ وَارِثُ جَدِّهِ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ أَوْ شَهِدُوا أَنَّ الْجَدَّ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لِأَبِيهِ ثُمَّ مَاتَ أَبُوهُ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ أَقْضِي بِهَا لِلْجَدِّ وَأَضَعُهَا عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ حَتَّى يُصَحِّحُوا عَدَدَ وَرَثَةِ الْجَدِّ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَذَا نَظِيرُ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجِبُ الْقَضَاءُ بِمَا لَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ وَعِنْدَهُمَا لَمْ يُجِيزَا الْمِيرَاثَ إلَيْهِ لَا يَظْهَرُ اسْتِحْقَاقُهُ وَكَوْنُهُ خَصْمًا فِي إثْبَاتِ مِلْكِ الْجَدِّ فَلَا يَقْضِي الْقَاضِي بِشَيْءٍ إلَّا أَنْ يُخَيَّرُوا الْمِيرَاثَ كَمَا بَيَّنَّا .
قَالَ دَارٌ فِي يَدَيْ رَجُلٍ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ وَلِأَخِيهِ فُلَانٌ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُمَا وَأَخُوهُ غَائِبٌ قَضَى الْقَاضِي بِحِصَّتِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ اسْتِحْقَاقَهُ بِالْحُجَّةِ وَهُوَ خَصْمٌ عَنْ الْمَيِّتِ فِي إثْبَاتِ مِلْكِهِ فَأَمَّا نَصِيبُ الْغَائِبِ يُتْرَكُ فِي يَدَيْ ذِي الْيَدِ حَتَّى يَحْضُرَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إنْ كَانَ ذُو الْيَدِ مُنْكِرًا أَخْرَجَ الْقَاضِي نَصِيبَ الْغَائِبِ مِنْ يَدِهِ وَوَضَعَهُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ وَلَوْ كَانَ مُقِرًّا تَرَكَ نَصِيبَ الْغَائِبِ فِي يَدِهِ وَهَذَا اسْتِحْسَانًا وَوَجْهُهُ أَنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ لِلْغَائِبِ فَإِذَا كَانَ ذُو الْيَدِ مُقِرًّا فَالنَّظَرُ فِي تَرْكِهِ فِي يَدِهِ لِظُهُورِ أَمَانَتِهِ عِنْدَهُ وَإِذَا كَانَ مُنْكِرًا فَلَيْسَ مِنْ النَّظَرِ تَرْكُهُ فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَتْ خِيَانَتُهُ مَرَّةً بِالْجُحُودِ فَلَا يَأْمَنُ بِأَنْ يَجْحَدَهُ فَيَتَعَذَّرُ عَلَى الْغَائِبِ إذَا حَضَرَ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ لَا تُوجَدُ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَكَانَ النَّظَرُ فِي إخْرَاجِهِ مِنْ يَدِهِ وَوَضْعِهِ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ وَلِأَنَّ ذَا الْيَدِ إذَا كَانَ مُنْكِرًا لَا يَمْتَنِعُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ عَدْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ فَإِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ مَالِكٌ وَالْعَدْلُ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيمَا عِنْدَهُ أَنَّهُ مِلْكُهُ وَإِذَا كَانَ مُقِرًّا يَمْتَنِعُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ فَيَجُوزُ تَرْكُهُ فِي يَدِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ الْحَاضِرُ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْ الْغَائِبِ فِي اسْتِيفَاءِ مِلْكِهِ فَيُجْعَلُ فِي حَقِّ الْغَائِبِ وُجُودُ حُضُورِهِ كَعَدَمِهِ وَقَدْ عَرَفَهَا الْقَاضِي فِي يَدِ ذِي الْيَدِ فَلَا يَتَعَرَّضُ لَهَا إلَّا بِخَصْمٍ يَحْضُرُ لِأَنَّهُ لَوْ أَخْرَجَهَا مِنْ يَدِهِ احْتَاجَ إلَى وَضْعِهَا فِي يَدِ آخَرَ مِثْلَ هَذَا أَوْ دُونَهُ وَلِأَنَّ هَذَا مُخْتَارُ الْمَيِّتِ فِي حِفْظِهَا وَاَلَّذِي يَضَعُهُ عَلَى يَدِهِ لَيْسَ بِمُخْتَارِ
الْمَيِّتِ وَلَا مُخْتَارِ وَارِثِهِ فَصَارَ هَذَا نَظِيرَ الْإِقْرَارِ .
وَالْفَرْقُ الَّذِي ذَكَرَهُ سَاقِطٌ فَإِنَّهُ بَعْدَ مَا صَارَ مُسَجَّلًا مُبَيَّنًا فِي خَرِيطَةِ الْقَاضِي يُؤْمَنُ جُحُودُ ذِي الْيَدِ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَلْتَفِتُ إلَى ذَلِكَ وَيُؤْمَنُ بِتَصَرُّفِهِ فِيهِ لِعِلْمِهِ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُمَكِّنُهُ فِيهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ إذَا تَرَكَهَا فِي يَدِ ذِي الْيَدِ وَالْمُدَّعَى مَنْقُولٌ بَقِيَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ وَالْعَقَارُ كَذَلِكَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى الضَّمَانَ فِيهَا بِالْغَصْبِ وَيَضْمَنُ بِالْجُحُودِ عِنْدَ الْكُلِّ وَإِذَا وَضَعَهُ عَلَى يَدِ عَدْلٍ كَانَ الْعَدْلُ أَمِينًا فِيهِ وَالنَّظَرُ فِي تَرْكِهِ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ لِلْغَائِبِ أَكْثَرُ فَيُتْرَكُ فِي يَدِهِ فَإِذَا حَضَرَ الْغَائِبُ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَحْتَاجُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَى إعَادَةِ الْبَيِّنَةِ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَسْأَلَةِ الْقِصَاصِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْحَاضِرَ أَثْبَتَ الْمِلْكَ لِلْمَيِّتِ فِي الْكُلِّ بِمَا أَقَامَ مِنْ الْبَيِّنَةِ فَإِنَّ أَحَدَ الْوَرَثَةِ خَصْمٌ عَنْ الْمَيِّتِ فِيمَا يُدَّعَى لَهُ وَعَلَيْهِ فَلَا يَحْتَاجُ الثَّانِي إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لِلْوَارِثِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ كَانَ الْحَقُّ يَثْبُتُ فِيهِ لِلْوَارِثِ ابْتِدَاءً فَلَا بُدَّ لِلَّذِي يَحْضُرُ مِنْ إعَادَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى حَقِّهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ هُنَاكَ لَمْ يَتَمَكَّنْ الْحَاضِرُ مِنْ اسْتِيفَاءِ نَصِيبِهِ بِمَا أَقَامَ مِنْ الْبَيِّنَةِ وَهُنَا قَدْ تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ .
قَالَ دَارٌ فِي يَدَيْ رَجُلٍ وَابْنِ أَخِيهِ فَادَّعَى الْعَمُّ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ وَادَّعَى ابْنُ الْأَخِ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُضِيَ بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَصْمٌ عَنْ مُوَرِّثِهِ فَكَأَنَّهُمَا حَيَّانِ أَثْبَتَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ وَالْأَبُ مَعَ الِابْنِ فِي الْخُصُومَةِ فِي الْمِلْكِ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ فَإِذَا تَسَاوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَجَبَ الْقَضَاءُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَإِنْ قَالَ كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَ أَخِي وَأَبِي نِصْفَيْنِ وَصَدَّقَهُ ابْنُ الْأَخِ بِذَلِكَ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَخَاهُ مَاتَ قَبْلَ ابْنِهِ وَأَقَامَ ابْنُ الْأَخِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ جَدَّهُ مَاتَ قَبْلَ أَبِيهِ ثُمَّ مَاتَ أَبُوهُ فَوَرِثَهُ فَإِنَّهُ يُقْضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ الَّذِي كَانَ لِأَبِيهِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى هَذِهِ الْمُنَازَعَةِ أَنَّ الْعَمَّ يَقُولُ مَاتَ أَخِي أَوَّلًا عَنْ ابْنٍ وَأَبٍ فَلِلْأَبِ السُّدُسُ مِنْ نَصِيبِهِ وَالْبَاقِي لِلِابْنِ ثُمَّ مَاتَ أَبِي عَنْ ابْنٍ وَابْنِ ابْنٍ فَكَانَ مَالُهُ لِابْنِهِ فَلِي سَبْعَةُ أَسْهُمٍ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ سَهْمِ الدَّارِ وَابْنُ الْأَخِ يَقُولُ مَاتَ الْجَدُّ أَوَّلًا عَنْ ابْنَيْنِ فَصَارَ نَصِيبُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ثُمَّ مَاتَ أَبِي عَنْ ابْنٍ وَأَخٍ فَصَارَ نَصِيبُهُ لِي وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدَّارِ فَإِذَا ظَهَرَتْ هَذِهِ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا وَوَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ فِي إثْبَاتِ التَّارِيخِ لِمَوْتِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا تَرْجِيحَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا مَاتَا مَعًا لِتَعَذُّرِ إثْبَاتٍ وَالتَّرْتِيبُ التَّارِيخُ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ وَلَوْ مَاتَا مَعًا لَمْ يَرِثْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْوَارِثِ حَيًّا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ شَرْطٌ لِإِثْبَاتِ الْخِلَافَةِ فِي مِلْكِهِ فَصَارَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِوَارِثِهِ الْحَيِّ فَلِهَذَا قَضَى
بِالدَّارِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
بَابُ شَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْمِيرَاثِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ رَجُلٌ مَاتَ وَلَهُ ابْنَانِ أَحَدُهُمَا مُسْلِمٌ وَالْآخَرُ كَافِرٌ فَزَعَمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ الْأَبَ مَاتَ عَلَى دِينِهِ وَأَنَّ مِيرَاثَهُ لَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلِمِ ) ؛ لِأَنَّهُ يُخْبِرُ بِأَمْرٍ دِينِيٍّ وَهُوَ وُجُوبُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَوُجُوبُ دَفْنِهِ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَالدُّعَاءُ لَهُ بِالْخَيْرِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ فِي أُمُورِ الدِّينِ حُجَّةٌ كَمَا لَوْ رُوِيَ خَبَرًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا صَلَّيْنَا عَلَيْهِ فَقَدْ حَكَمْنَا بِإِسْلَامِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ كَوْنَ مِيرَاثِهِ لِلِابْنِ الْكَافِرِ فَلِهَذَا قَضَيْنَا بِالْمِيرَاثِ لِلِابْنِ الْمُسْلِمِ وَلَمَّا تَرَجَّحَ جَانِبَهُ بِهَذَا السَّبَبِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ تَرَجُّحِ جَانِبِهِ بِشَهَادَةِ الظَّاهِرِ لَهُ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى مَا ادَّعَاهُ خَصْمُهُ وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَاهُ وَجَبَ قَبُولُ بَيِّنَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ نَوَّرَ دَعْوَاهُ بِهَا وَالْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ لَا تُعَارِضُهَا الدَّعْوَى مِمَّنْ شَهِدَ لَهُ الظَّاهِرُ أَوْ لَا يَشْهَدُ فَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُسْلِمِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَبْطُلُ الْبَيِّنَاتُ لِلْمُنَافَاةِ بَيْنَهُمَا كَمَا هُوَ أَصْلُهُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي خِلَافَةَ الْمَيِّتِ عَنْ أَمْوَالِهِ مِلْكًا وَفِي دَعْوَى الْمِلْكِ لَا تَتَرَجَّحُ الْبَيِّنَةُ بِالدِّينِ كَمَا لَوْ ادَّعَى كَافِرٌ وَمُسْلِمٌ مِلْكًا فِي يَدِ ثَالِثٍ فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ لَا يَتَرَجَّحُ الْمُسْلِمُ وَلَنَا أَنَّ إحْدَى الْحُجَّتَيْنِ تُوجِبُ إسْلَامَ الْمَيِّتِ عِنْدَ مَوْتِهِ وَالْأُخْرَى تُوجِبُ كُفْرَهُ فَيَتَرَجَّحُ الْمَوْتُ الْمُوجِبُ لِلْإِسْلَامِ كَالْمَوْلُودِ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ يُجْعَلُ مُسْلِمًا عَمَلًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ } وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ هَذَا
الْحُكْمَ ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَكَيْفَ لَا يَثْبُتُ بِالْحُجَّةِ وَإِنْ وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ الْبِنْتَيْنِ بَقِيَ خَبَرُ الْمُدَّعِي بِالْإِسْلَامِ حُجَّةً فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ يُوجِبُ تَرْجِيحَ بَيِّنَةِ الْمُسْلِمِ وَانْقِطَاعَ مُنَازَعَةِ الْكَافِرِ عَنْ مِيرَاثِهِ .
فَإِنْ ( قِيلَ ) مِنْ أَصْلِكُمْ أَنَّ الْبَيِّنَةَ تَتَرَجَّحُ بِزِيَادَةِ الْإِثْبَاتِ وَبِالْحَاجَةِ إلَيْهَا وَهَذَا فِي بَيِّنَةِ الْكَافِرِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مُتَمَسِّكٌ بِمَا هُوَ الْأَصْلُ وَهُوَ أَنَّ مَنْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ وَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى الْبَيِّنَةِ لِأَنَّا جَعَلْنَا الْقَوْلَ قَوْلَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ تَتَرَجَّحَ بَيِّنَةُ الْآخَرِ ( قُلْنَا ) مَوْضُوعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَ الْأَبُ فِي الْأَصْلِ كَافِرًا فَإِنَّ أَحَدَ وَارِثِيهِ مُقَرٌّ عَلَى الْكُفْرِ وَلَا يُقَرُّ الْوَلَدُ الْآخَرُ عَلَى الْكُفْرِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْأَبُ فِي الْأَصْلِ مُسْلِمًا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ مُرْتَدًّا وَإِذَا كَانَ فِي الْأَصْلِ كَافِرًا فَشُهُودُ الْكَافِرِ يَتَمَسَّكُونَ بِالْأَصْلِ وَشُهُودُ الْمُسْلِمِ يُثْبِتُونَ إسْلَامَهُ الْعَارِضَ فَكَانَ زِيَادَةُ الْإِثْبَاتِ مِنْ هَذَا الْجَانِبِ ، وَإِنَّمَا جَعَلْنَا الْقَوْلَ قَوْلَهُ عِنْدَ عَدَمِ الْبَيِّنَةِ لَا لِلتَّمَسُّكِ بِالْأَصْلِ بَلْ لِإِخْبَارِهِ بِأَمْرٍ دِينِيٍّ وَلَوْ كَانَ شُهُودُ الذِّمِّيِّ مُسْلِمِينَ وَشُهُودُ الْمُسْلِمِ ذِمِّيِّينَ جَعَلْنَاهَا لِلْمُسْلِمِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَقَامَ مِنْ الْحُجَّةِ مَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى خَصْمِهِ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الْفَرِيقَانِ مُسْلِمَيْنِ ، وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ إنَّمَا تَنْبَنِي عَلَى قَوْلِنَا إنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مَقْبُولَةٌ وَلَا تُقْبَلُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ اعْتِبَارًا بِالْوِلَايَةِ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ كَذَلِكَ إذَا اتَّفَقَتْ مِلَلُهُمْ وَإِنْ اخْتَلَفَتْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فَإِنَّهُمْ عِنْدَهُ أَهْلُ مِلَلٍ مُخْتَلِفَةٍ وَالْوِلَايَةُ
تَنْقَطِعُ بَيْنَهُمْ بِاخْتِلَافِ الْمِلَلِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا شَهَادَةَ لِبَعْضِهِمْ عَلَى الْبَعْضِ لِنُقْصَانِ الْكُفْرِ الَّذِي هُوَ أَكْثَرُ تَأْثِيرًا مِنْ نُقْصَانِ الرِّقِّ وَالصِّغَرِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الشَّهَادَاتِ .
وَلَوْ قَالَ أَحَدُ الِابْنَيْنِ : كُنْتُ مُسْلِمًا وَكَانَ أَبِي مُسْلِمًا وَقَالَ الْآخَرُ صَدَقْتَ وَقَدْ كُنْتُ أَيْضًا أَسْلَمْتُ فِي حَيَاتِهِ وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ وَقَالَ أَسْلَمْتَ بَعْدَ مَوْتِهِ فَالْمِيرَاثُ الَّذِي اجْتَمَعَا عَلَى إسْلَامِهِ فِي حَيَاتِهِ ؛ لِأَنَّ الِابْنَ الْآخَرَ فِي حَيَاتِهِ أَقَرَّ بِسَبَبِ حِرْمَانِهِ وَهُوَ كُفْرُهُ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ ثُمَّ ادَّعَى مَا يُزِيلُهُ وَهُوَ إسْلَامُهُ قَبْلَ مَوْتِ الْأَبِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ إسْلَامَهُ حَادِثٌ وَالْحَوَادِثُ إنَّمَا يُحَالُ بِحُدُوثِهَا عَلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ فَمَنْ ادَّعَى تَارِيخًا سَابِقًا فَعَلَيْهِ إثْبَاتُهُ بِالْحُجَّةِ وَالْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ مَتَى ثَبَتَ بِتَصَادُقِهِمَا وَادَّعَى أَحَدُهُمَا مَا يُزِيلُهُ وَأَنْكَرَ الْآخَرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ وَمَتَى أَقَرَّ بِسَبَبِ الْحِرْمَانِ ثُمَّ ادَّعَى زَوَالَهُ بِسَبَبٍ حَادِثٍ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ وَالْقَوْلُ قَوْلُ خَصْمِهِ وَمَنْ ادَّعَى الِاسْتِحْقَاقَ وَسَبَبُ الْحِرْمَانِ فِيهِ قَائِمٌ فِي الْحَالِ لَا يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ وَالْقَوْلُ قَوْلُ خَصْمِهِ كَمَنْ جَاءَ وَهُوَ مُرْتَدٌّ يَطْلُبُ مِيرَاثَ أَبِيهِ الْمُسْلِمِ وَيَزْعُمُ أَنَّهُ ارْتَدَّ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ مَا يَحْرِمُهُ الْإِرْثَ وَهُوَ الرِّدَّةُ قَائِمَةٌ فِيهِ فِي الْحَالِ فَمَتَى وَقَعَ الِاشْتِبَاهُ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي بِحُكْمِ الْحَالِ كَالْمُسْتَأْجِرِ مَعَ صَاحِبِ الرَّحَا إذَا تَنَازَعَا فِي جَرَيَانِ الْمَاءِ فِي الْمُدَّةِ فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ لِلْحَالِ جَارِيًا ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ كَانَ جَارِيًا فِيمَا مَضَى ، وَإِنْ كَانَ لِلْحَالِ مُنْقَطِعًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ كَانَ مُنْقَطِعًا فِيمَا مَضَى .
فَإِنْ ( قِيلَ ) فَإِذَا كَانَ الِابْنُ مُسْلِمًا فِي الْحَالِ يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ مُسْلِمًا فِيمَا مَضَى حَتَّى يَرِثَ أَبَاهُ الْمُسْلِمَ ( قُلْنَا ) هَذَا ظَاهِرٌ يُعَارِضُهُ ظَاهِرٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ كُفْرُهُ فِيمَا
مَضَى فَالظَّاهِرُ بَقَاؤُهُ حَتَّى يَظْهَرَ إسْلَامُهُ ثُمَّ مُوَافَقَتُهُ إيَّاهُ فِي الدِّينِ عِنْدَ الْمَوْتِ شَرْطٌ لِلْإِرْثِ وَالشَّرْطُ لَا يَثْبُتُ بِالظَّاهِرِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالنَّصِّ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ يَثْبُتُ عِنْدَ وُجُودِهِ وَالظَّاهِرُ حُجَّةٌ لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ لَا لِإِثْبَاتِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ ذَا الْيَدِ يَسْتَحِقُّ الْمِلْكَ لِمَا فِي يَدِهِ بِالظَّاهِرِ وَلَا تَثْبُتُ بِهِ الزَّوَائِدُ الَّتِي فِي يَدِ غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْعِتْقِ وَالْمِيرَاثِ الَّذِي اجْتَمَعَا عَلَى عِتْقِهِ فِي حَيَاةِ الْأَبِ ؛ لِأَنَّ عِتْقَ الْآخَرِ بَعْدَ ثُبُوتِ رِقِّهِ حَادِثٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
قَالَ دَارٌ فِي يَدِ ذِمِّيٍّ أَقَامَ مُسْلِمٌ بَيِّنَةً مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ وَأَقَامَ ذِمِّيٌّ بَيِّنَةً مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهَا لِلْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ أَقَامَ مَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى ذِي الْيَدِ وَعَلَى خَصْمِهِ الذِّمِّيِّ وَأَقَامَ الذِّمِّيُّ مَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى ذِي الْيَدِ وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى خَصْمِهِ الْمُسْلِمَ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَ الْحُجَّتَيْنِ فَصَارَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ كَأَنَّهُ لَا حُجَّةَ لِلذِّمِّيِّ فَلِهَذَا قُضِيَ لِلْمُسْلِمِ وَإِنْ كَانَتْ بَيِّنَةُ الذِّمِّيِّ مُسْلِمِينَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَقَامَ مَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى ذِي الْيَدِ وَعَلَى خَصْمِهِ فَاسْتَوَيَا فَيُقْضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ .
فَإِنْ ( قِيلَ ) الِاسْتِحْقَاقُ بِشَهَادَةِ الْمُسْلِمِينَ ثَبَتَ لِلذِّمِّيِّ فِي الْكُلِّ فَلَوْ بَطَلَ فِي النِّصْفِ إنَّمَا يَبْطُلُ بِشَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالِاسْتِحْقَاقُ بِشَهَادَةِ الْمُسْلِمِينَ لَا يَجُوزُ إبْطَالُهَا بِشَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ ( قُلْنَا ) نَحْنُ لَا نُبْطِلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَحِقُّ الْكُلَّ كَمَا شَهِدَ بِهِ شُهُودُهُ وَلَكِنَّ الْقَضَاءَ نِصْفَيْنِ لِضِيقِ الْمَحَلِّ ثُمَّ هَذَا إنَّمَا يَسْتَقِيمُ أَنْ لَوْ كَانَتْ الشُّهُودُ خَصْمًا فِيهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَالْخَصْمُ لَا يَكُونُ شَاهِدًا .
قَالَ دَارٌ فِي يَدِ مُسْلِمٍ فَقَالَ مَاتَ أَبِي وَهُوَ مُسْلِمٌ فَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لِي وَقَالَ أَخُو الْمَيِّتِ مَاتَ أَخِي وَهُوَ عَلَى دِينِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الِابْنِ وَالْمِيرَاثُ لَهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُدَّعِي الْكُفْرِ ابْنًا آخَرَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُسْلِمِ فَكَيْفَ إذَا كَانَ أَخَاهُ وَلَوْ كَانَ الْأَخُ هُوَ الْمُسْلِمُ الْمُدَّعِي لِإِسْلَامِهِ وَالِابْنُ كَافِرٌ يَدَّعِي كُفْرَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الِابْنِ ؛ لِأَنَّ الْأَخَ مَحْجُوبٌ بِالِابْنِ فَهُوَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ .
فَإِنْ ( قِيلَ ) أَلَيْسَ أَنَّهُ يُخْبِرُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَهُوَ دِينِيٌّ ( قُلْنَا ) إخْبَارُهُ بِهَذَا كَإِخْبَارِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ حِينَ لَمْ يَكُنْ هُوَ مِنْ وَرَثَتِهِ ظَاهِرًا فَلَا يَكُونُ مِنْ ضَرُورَتِهِ اسْتِحْقَاقُهُ لِلْمِيرَاثِ وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ أُخِذَتْ بَيِّنَةُ الِابْنِ الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّ فِيهَا إثْبَاتَ إسْلَامِهِ وَإِنْ أَقَامَ الْأَخُ بَيِّنَةً مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى مَا قَالَ وَلَمْ يُقِمْ الِابْنُ بَيِّنَةً لَمْ أُجِزْ شَهَادَتَهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّ الْأَخَ بِبَيِّنَتِهِ يُبْطِلُ اسْتِحْقَاقَ الْمُسْلِمِ لِمِيرَاثِهِ بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ اسْتِحْقَاقُهُ بِقَوْلِهِ وَبَيِّنَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ الثَّابِتِ لِلْمُسْلِمِ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً .
وَإِنْ قَالَتْ امْرَأَةُ الْمَيِّتِ وَهِيَ مُسْلِمَةٌ : مَاتَ زَوْجِي وَهُوَ مُسْلِمٌ وَقَالَ أَوْلَادُهُ وَهُمْ كُفَّارٌ : بَلْ تُوُفِّيَ أَبُونَا وَهُوَ كَافِرٌ وَصَدَّقَ أَخُو الْمَيِّتِ الْمَرْأَةَ وَهُوَ مُسْلِمٌ قَضَيْتُ بِالْمِيرَاثِ لِلْمَرْأَةِ وَالْأَخِ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُحْجَبُ عَنْ الْمِيرَاثِ بِأَحَدٍ فَهِيَ وَارِثَةٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ ابْنٍ وَابْنَةٍ تَدَّعِي إسْلَامَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَإِذَا حَكَمْنَا بِإِسْلَامِهِ بِقَوْلِهَا وَجَعَلْنَا الْمِيرَاثَ لَهَا وَالْأَوْلَادُ كُفَّارٌ لَا يَرِثُونَ مِنْهُ شَيْئًا فَلَا يَحْجُبُونَ الْأَخَ فَكَانَ الْبَاقِي لِلْأَخِ وَقَدْ سَعِدَ بِالْمَرْأَةِ فَإِنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ مَا كَانَ قَوْلُ الْأَخِ مَقْبُولًا وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ ابْنًا وَابْنَتًا وَأَخًا فَقَالَتْ الِابْنَةُ وَهِيَ مُسْلِمَةٌ : مَاتَ أَبِي مُسْلِمًا وَصَدَّقَهَا الْأَخُ وَهُوَ مُسْلِمٌ وَقَالَ الِابْنُ وَهُوَ كَافِرٌ : مَاتَ أَبِي كَافِرًا فَالْمِيرَاثُ لِلِابْنَةِ وَالْأَخِ ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَحْجُوبَةٍ بِالِابْنِ فَتَرَجَّحَ قَوْلُهَا فِي دَعْوَى الْإِسْلَامِ سَعِدَ الْأَخُ بِهَا كَمَا بَيَّنَّا .
فَإِنْ كَانَ لَهُ ابْنَةٌ وَأَخٌ أَحَدُهُمَا مُسْلِمٌ وَالْآخَرُ كَافِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلِمِ مِنْهُمَا أَيُّهُمَا كَانَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَارِثٌ مَعَ صَاحِبِهِ بِخِلَافِ الِابْنِ وَالْأَخِ فَالْأَخُ مَحْجُوبٌ بِالِابْنِ لَا قَوْلَ لَهُ وَهَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يُقِرَّ الْمُسْلِمُ أَنَّ الْأَبَ كَانَ كَافِرًا فَإِنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ وَادَّعَى أَنَّهُ أَسْلَمَ قَبْلَ مَوْتِهِ لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا بِحُجَّةٍ ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ مِنْ كُفْرِهِ يَبْقَى إلَى أَنْ يَظْهَرَ مَا يُزِيلُهُ وَلَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَارِضٌ يَدَّعِيهِ وَلَا مِيرَاثَ لَهُ .
وَلَوْ أَقَرَّتْ زَوْجَةُ الرَّجُلِ بَعْدَ مَوْتِهِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي الصِّحَّةِ وَاحِدَةً وَأَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَزَعَمَتْ أَنَّهُ رَاجَعَهَا وَكَذَّبَتْهَا الْوَرَثَةُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَرَثَةِ ؛ لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ بِسَبَبِ الْحِرْمَانِ وَهُوَ ارْتِفَاعُ النِّكَاحِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ثُمَّ ادَّعَتْ بَعْدَ ذَلِكَ سَبَبًا حَادِثًا لِلِاسْتِحْقَاقِ فَلَا يَظْهَرُ السَّبَبُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهَا بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَتْ الْوَرَثَةُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَهِيَ تُنْكِرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا ؛ لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِهَا ثَابِتٌ بِاتِّفَاقِهِمْ فَالْوَرَثَةُ يَدَّعُونَ عَلَيْهَا سَبَبَ الْحِرْمَانِ حَادِثًا وَهِيَ تُنْكِرُ وَهَذَا الْفَصْلُ إنَّمَا أَوْرَدَهُ إيضَاحًا لِمَا سَبَقَ فِيمَا إذَا لَمْ يُقِرَّ الِابْنُ الْمُسْلِمُ بِكُفْرِ أَبِيهِ أَوْ أَقَرَّ بِهِ وَادَّعَى إسْلَامَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ .
قَالَ زَوْجَانِ ذِمِّيَّانِ مَاتَ ابْنٌ لَهُمَا عَنْ ابْنٍ فَقَالَا : مَاتَ ابْنُنَا كَافِرًا وَقَالَ الِابْنُ وَهُوَ مُسْلِمٌ : مَاتَ أَبِي مُسْلِمًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الِابْنِ وَلَا مِيرَاثَ لِلْأَبَوَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مَعَ الْأَبَوَيْنِ وَارِثٌ غَيْرُ مَحْجُوبٍ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي إسْلَامِ الْمَيِّتِ كَمَا لَوْ كَانَتْ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِيمَا سَبَقَ .
قَالَ : رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ مِيرَاثًا فِي يَدَيْ رَجُلٍ فَأَقَامَ ابْنُهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ وَوَارِثُهُ وَلَمْ تَشْهَدْ شُهُودُهُ أَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ وَقَالَ ذُو الْيَدِ : لَهُ وَلَدٌ غَيْرُ هَذَا أَوْ قَالَ : لَا أَدْرِي أَلَهُ وَلَدٌ سِوَى هَذَا أَمْ لَا تَلَوَّمَ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ زَمَانًا رَجَاءَ أَنْ يَحْضُرَ وَارِثٌ آخَرَ فَإِذَا لَمْ يَحْضُرْ قَضَى بِالْمِيرَاثِ لَهُ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِهِ قَدْ ثَبَتَ بِالْحُجَّةِ وَقَدْ تَيَقَّنَّا بِكَوْنِهِ وَارِثًا خَلِيفَةً لِلْمَيِّتِ فِي مِلْكِهِ فَيُدْفَعُ مَالُهُ إلَيْهِ وَيُسْتَوْثَقُ مِنْهُ بِكَفِيلٍ .
مِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ قَالَ أَخْذُ الْكَفِيلِ هُنَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا بِخِلَافِ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا سَبَقَ ؛ لِأَنَّ هُنَا الشُّهُودُ لَمْ يَشْهَدُوا بِانْتِفَاءِ وَارِثٍ آخَرَ فَكَانَ الْمَوْضِعُ مَوْضِعَ الِاحْتِيَاطِ لِأَخْذِ الْكَفِيلِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ كَمَا بَيَّنَّا وَقَدْ ذَكَرْنَا أَيْضًا مُدَّةَ التَّلَوُّمِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَدْرُ ذَلِكَ بِشَهْرٍ ؛ لِأَنَّ مَا وَرَاءَ الشَّهْرِ فِي حُكْمِ الْأَجَلِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْوَارِثُ بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ وَفِيمَا دُونَ الشَّهْرِ لَيْسَ لَهُ كَثِيرُ ضَرَرٍ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الِابْنُ كَافِرًا وَقَالَ : مَاتَ أَبِي كَافِرًا وَكَذَلِكَ هَذَا الْجَوَابُ فِي كُلِّ مَنْ لَا يُحْجَبُ عَنْ الْمِيرَاثِ بِآخَرَ إذَا ثَبَتَتْ قَرَابَتُهُ يُقْضَى لَهُ بِالْمَالِ بَعْدَ التَّلَوُّمِ إذَا لَمْ تَشْهَدْ الشُّهُودُ أَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ حَتَّى لَوْ كَانَتْ أُمًّا أَوْ بِنْتًا يُقْضَى لَهَا بِجَمِيعِ مَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا عَصَبَةَ لِلْمَيِّتِ ظَاهِرًا فَكَانَ جَمِيعُ الْمِيرَاثِ لَهَا فَرْضًا وَرَدًّا فَأَمَّا إذَا كَانَ مَنْ يَثْبُتُ وِرَاثَتُهُ مِمَّنْ يُحْجَبُ بِغَيْرِهِ كَالْجَدِّ وَالْجَدَّةِ وَالْأَخِ وَالْأُخْتِ فَإِنَّهُ لَا يُعْطَى شَيْئًا مَا لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ عَلَى عَدَدِ الْوَرَثَةِ أَوْ يَشْهَدُوا أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَ هَذَا ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَخِ لِلْمِيرَاثِ يَتَعَلَّقُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ كَلَالَةً ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً } الْآيَةَ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ } وَالْكَلَالَةُ مَنْ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَالِدٌ فَمَا لَمْ يَثْبُتْ هَذَا الشَّرْطُ بِالنَّصِّ مِنْ الشُّهُودِ لَا يَكُونُ هُوَ وَارِثًا وَمَا لَمْ يُثْبِتْ وِرَاثَتَهُ لَا يُدْفَعُ الْمَالُ إلَيْهِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَإِنَّهُ وَارِثٌ بِنَسَبِهِ غَيْرُ مَحْجُوبٍ بِأَحَدٍ .
فَإِنْ ( قِيلَ ) كَيْفَ يُثْبِتُ اسْتِحْقَاقَهُ بِقَوْلِ الشُّهُودِ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ أَوْ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ وَهَذِهِ شَهَادَةٌ عَلَى النَّفْيِ ( قُلْنَا ) أَمَّا إذَا قَالُوا لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا لَا تُقْبَلُ لِتَيَقُّنِ الْقَاضِي أَنَّهُمْ جَازَفُوا ؛ إذْ لَا طَرِيقَ لَهُمْ إلَى مَعْرِفَةِ نَفْيِ الْوَارِثِ وَعِنْدَنَا تُقْبَلُ بِنَاءً عَلَى الْعَادَةِ أَنَّ مُرَادَ النَّاسِ مِنْ هَذَا لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ وَهَذِهِ شَهَادَةٌ مِنْهُمْ عَلَى إثْبَاتِ شَرْطِ الْوِرَاثَةِ إلَّا أَنَّ الشَّرْطَ نَفْيٌ وَالشَّرْطُ يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ نَفْيًا كَانَ أَوْ إثْبَاتًا كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ لَمْ تَدْخُلْ
الدَّارَ الْيَوْمَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَأَقَامَ الْعَبْدُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْهَا فَأَمَّا الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ إذَا أَثْبَتَ أَحَدُهُمَا سَبَبَ إرْثِهِ بِالْبَيِّنَةِ وَلَمْ يُثْبِتْ أَنَّهُ لَا وَارِثَ لِلْمَيِّتِ غَيْرُهُ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُقْضَى لَهُمَا بِأَكْثَرِ النَّصِيبَيْنِ بَعْدَ الْبُلُوغِ لِلزَّوْجِ بِالنِّصْفِ وَلِلْمَرْأَةِ بِالرُّبْعِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُقْضَى لَهُمَا بِأَقَلِّ النَّصِيبَيْنِ : لِلزَّوْجِ بِالرُّبْعِ وَلِلْمَرْأَةِ بِالثُّمُنِ قَالَ : لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ لِأَكْثَرِ النَّصِيبَيْنِ يَتَعَلَّقُ بِشَرْطِ عَدَمِ الْوَلَدِ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ } وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشَّرْطَ لَا يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِنَصٍّ مِنْ الشُّهُودِ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ لَا يُقْضَى لَهُمَا إلَّا بِالْمُتَيَقَّنِ وَلِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ بِهَا دُونَ الْأُخُوَّةِ فَبِالْأُخُوَّةِ تَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الْمَالِ وَلَا تَسْتَحِقُّ ذَلِكَ بِالزَّوْجِيَّةِ بِحَالٍ ، ثُمَّ الْأَخُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مَا لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَيَقُّنَ بِاسْتِحْقَاقِ شَيْءٍ لَهُ فَكَذَلِكَ الزَّوْجُ فِيمَا لَا يُتَيَقَّنُ بِاسْتِحْقَاقِهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَخِ فِي الْكُلِّ أَوْ دُونِهِ وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ أَثْبَتَ سَبَبَ الْوِرَاثَةِ مَنْ لَا يُحْجَبُ عَنْ الْمِيرَاثِ بِأَحَدٍ فَيَسْتَحِقُّ جَمِيعَ مِيرَاثِهِ بَعْدَ التَّلَوُّمِ كَالْأَبِ وَالْوَلَدِ وَهَذَا لِأَنَّ حِرْمَانَهُ عَنْ أَكْثَرِ النَّصِيبَيْنِ بِوَلَدٍ يَحْجُبُهُ وَهَذَا الْحَاجِبُ غَيْرُ ظَاهِرٍ فَيَبْقَى مُسْتَحِقًّا بِمَا أَثْبَتَ مِنْ السَّبَبِ وَصَارَ الزَّوْجُ فِي اسْتِحْقَاقِ مَا زَادَ عَلَى الرُّبْعِ كَالْأَبَوَيْنِ فِي اسْتِحْقَاقِ مَا زَادَ عَلَى السُّدُسِ .
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَعَلَّقُ بِشَرْطِ عَدَمِ الْوَلَدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ
مِمَّا تَرَكَ إنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ } الْآيَةَ ثُمَّ هُنَاكَ يُقْضَى لَهُمَا بِالْجَمِيعِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ الْحَاجِبَ غَيْرُ ظَاهِرٍ هُنَاكَ كَذَلِكَ هُنَا وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُعْطَى لِلْمَرْأَةِ رُبْعُ الثُّمُنِ ؛ لِأَنَّ أَقَلَّ نَصِيبِهَا هَذَا فَلَعَلَّ لِلْمَرْءِ ثَلَاثَ نِسْوَةٍ سِوَاهَا وَهَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ فَالزَّوْجِيَّةُ سَبَبٌ تَامٌّ لِاسْتِحْقَاقِ الثُّمُنِ لَهَا بِيَقِينٍ وَإِنَّمَا يُقْسَمُ الثُّمُنُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ لِلْمُزَاحَمَةِ وَلَا مُزَاحِمَ لَهَا هُنَا فَكَيْفَ يَنْقُصُ حَقُّهَا مِنْ الثُّمُنِ وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ يُقْضَى لَهَا بِرُبْعِ التُّسْعِ وَلِلزَّوْجِ بِالْخُمُسِ ؛ لِأَنَّ الْمُتَيَقَّنَ هَذَا الْمِقْدَارُ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّ الرَّجُلَ مَاتَ عَنْ أَبَوَيْنِ وَابْنَيْنِ وَأَرْبَعِ نِسْوَةٍ وَهِيَ الْمُتَبَرِّئَةُ الَّتِي قَالَ فِيهَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْبَدِيهِيَّةِ حِينَ سُئِلَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ أَنْقَلَبَ ثُمُنُهَا تُسْعًا ؟ فَإِنَّ أَصْلَ الْفَرِيضَةِ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ : لِلنِّسْوَةِ الثُّمُنُ ثَلَاثَةٌ وَلِلْأَبَوَيْنِ الثُّلُثُ لِكُلِّ وَاحِدٍ سُدُسُ ثَمَانِيَةٍ وَلِلِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ سِتَّةَ عَشَرَ تَعُولُ بِثَلَاثَةٍ فَكَانَتْ مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ فَلِلنِّسْوَةِ ثَلَاثَةٌ وَهِيَ التِّسْعُ حَظُّ الْوَاحِدَةِ الرُّبْعُ مِنْ ذَلِكَ فَيُقْضَى لَهَا بِهَذَا الْقَدْرِ .
وَالْيَقِينُ فِي جَانِبِ الزَّوْجِ فِي الْخُمُسِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ تَرِكَةَ أَبَوَيْنِ وَابْنَيْنِ وَزَوْجًا فَلِلزَّوْجِ الرُّبْعُ وَلِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ وَلِلِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ أَصْلُهُ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ وَتَعُولُ بِثَلَاثَةٍ فَلِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ وَذَلِكَ الْخُمُسِ وَلَكِنَّ هَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ فَإِنَّ اعْتِبَارَ الْعَوْلِ لِمَعْنَى الْمُزَاحَمَةِ وَالضِّيقِ فِي الْمَحَلِّ فَكَيْفَ يَثْبُتُ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ ظُهُورِ وَارِثٍ آخَرَ سِوَى الزَّوْجِ أَوْ الزَّوْجَةِ وَالْمَعْلُومُ لَا يُقَابِلُ الْمَوْهُومَ فَدَلَّ أَنَّ الصَّحِيحَ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
بَابُ اخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ فِي الدَّعْوَى وَغَيْرِ ذَلِكَ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ دَارٌ فِي يَدَيْ رَجُلٍ فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهَا لَهُ مُنْذُ سَنَتَيْنِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَادَّعَى ذُو الْيَدِ أَنَّهَا فِي يَدِهِ مُنْذُ سَنَتَيْنِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَلَمْ يَشْهَدُوا أَنَّهَا لَهُ قَضَيْتُ بِهَا لِلْمُدَّعِي ) ؛ لِأَنَّ شُهُودَ الْمُدَّعِي شَهِدُوا لَهُ بِالْمِلْكِ نَصًّا وَشُهُودُ ذِي الْيَدِ إنَّمَا شَهِدُوا لَهُ بِالْيَدِ ، وَالْأَيْدِي تَنَوَّعَتْ إلَى : يَدِ أَمَانَةٍ ، وَيَدِ ضَمَانٍ وَيَدِ مِلْكٍ .
فَلَا تُعَارِضُ بَيِّنَتُهُ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ وَلِأَنَّ الثَّابِتَ مِنْ يَدِهِ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْقَضَاءَ بِالْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي إذَا أَثْبَتَهَا بِالْبَيِّنَةِ فِي الْحَالِ فَكَذَلِكَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَسْنَدَ شُهُودُهُ إلَيْهِ .
قَالَ دَابَّةٌ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ مُنْذُ عَشْرِ سِنِينَ فَنَظَرَ الْقَاضِي فِي سِنِّهَا فَإِذَا هِيَ ابْنَةُ ثَلَاثِ سِنِينَ يَعْرِفُ ذَلِكَ فَبَيِّنَتُهُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ تَيَقَّنَ بِمُجَازَفَةِ الشُّهُودِ فِي شَهَادَتِهِمْ فَإِنَّهُمْ شَهِدُوا بِالْمِلْكِ لَهُ فِيهَا فِي وَقْتٍ يُتَيَقَّنُ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً فِيهِ وَالْمِلْكُ لَا يَسْبِقُ الْوُجُودَ وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْقَضَاءُ بِالْمِلْكِ فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الشَّهَادَةِ وَلَا فِي الْوَقْتِ الْمُضَافِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مُحَالٌ .
قَالَ وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدَيْ رَجُلٍ أَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ مُنْذُ سَنَةٍ وَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ اشْتَرَاهَا مِنْ آخَرَ مُنْذُ سَنَتَيْنِ وَهُوَ يَمْلِكُهَا يَوْمئِذٍ فَإِنِّي أَقْضِي بِهَا لِصَاحِبِ الشِّرَاءِ ؛ لِأَنَّهُ أَسْبَقُ تَارِيخًا وَقَدْ أَثْبَتَ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ الْآخَرُ فِيهِ وَهُوَ خَصْمٌ عَنْ بَائِعِهِ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لَهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أَرَّخَ شُهُودُهُ فَكَانَ هُوَ أَوْلَى بِهَا وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا أَنَّهَا لَهُ اشْتَرَاهَا مِنْ فُلَانٍ مُنْذُ سَنَتَيْنِ فَشَهَادَتُهُمْ بِالْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ شَهَادَتِهِمْ بِالْمِلْكِ لِلْبَائِعِ إذَا شَهِدُوا بِالشِّرَاءِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَشْهَدُوا بِالْمِلْكِ لِلْبَائِعِ وَلَا لِلْمُشْتَرِي وَلَكِنْ شَهِدُوا أَنَّ فُلَانًا بَاعَهَا مِنْهُ وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ مِنْ سَنَتَيْنِ أَوْ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ فُلَانٍ مُنْذُ سَنَتَيْنِ وَقَبَضَهَا فَهَذَا وَشَهَادَتُهُمْ بِالْمِلْكِ لَهُ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ فِي الظَّاهِرِ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّسْلِيمِ إذَا كَانَ مَالِكًا لِلْمَبِيعِ وَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَبْضِ إذَا اشْتَرَاهَا مِنْ الْمَالِكِ وَلِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ يَتَأَكَّدُ بِالتَّسْلِيمِ فَشَهَادَتُهُمْ عَلَى سَبَبِ مِلْكٍ مُتَأَكَّدٍ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمِلْكِ وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّ فُلَانًا بَاعَهَا مِنْهُ وَاسْتَوْفَى الثَّمَنَ أَوْ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا وَنَقَدَ الْبَائِعَ الثَّمَنَ وَلَمْ يَشْهَدُوا بِالْقَبْضِ وَالتَّسْلِيمِ لَمْ يُقْضَ لِمُدَّعِي الشِّرَاءِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ فَلَا يُوجِبُ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي قَبْلَ الْإِجَازَةِ فَلَمْ يَكُنْ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ إثْبَاتُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي نَصًّا وَلَا دَلَالَةً فَلَا يُقْضَى بِهَا لَهُ وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ قَضَيْنَا بِالْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي إذَا حَضَرَ الْبَائِعُ وَأَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ بَاعَهُ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى إنْكَارِهِ ؛ لِأَنَّ ذَا الْيَدِ انْتَصَبَ خَصْمًا عَنْ الْبَائِعِ فِي إنْكَارِهِ لِلْبَائِعِ الْبَيْعَ وَالْمُشْتَرِي لَا يَتَوَصَّلُ إلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ إلَّا بِإِثْبَاتِ سَبَبِهِ وَهُوَ الشِّرَاءُ مِنْ الْغَائِبِ وَمَتَى كَانَ حَقُّ الْحَاضِرِ مُتَّصِلًا بِحَقِّ الْغَائِبِ انْتَصَبَ الْحَاضِرُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ فَقَدْ اتَّصَلَ الْقَضَاءُ بِبَيِّنَةٍ قَامَتْ عَلَى خَصْمٍ فَلَا حَاجَةَ إلَى إعَادَتِهَا بَعْدَ ذَلِكَ .
قَالَ دَارٌ فِي يَدَيْ رَجُلٍ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ وَلَمْ يُوَقِّتْ شُهُودُهُ وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ مُنْذُ سَنَةٍ فَإِنِّي أَقْضِي بِهَا لِلْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّ تَارِيخَ ذِي الْيَدِ لَيْسَ بِدَلِيلِ سَبْقِ مِلْكِهِ فَلَعَلَّ شُهُودَ الْمُدَّعِي لَوْ أَرَّخُوا ذَكَرُوا تَارِيخًا سَابِقًا فَلَا يَسْتَحِقُّ ذُو الْيَدِ التَّرْجِيحَ بِمَا هُوَ مُحْتَمَلٌ فِي نَفْسِهِ وَالْتَحَقَ بِمَا لَوْ لَمْ يُذْكَرْ الْوَقْتُ فَتَتَرَجَّحُ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي .
وَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ مُنْذُ سَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ شَكَّ الشُّهُودُ فِي ذَلِكَ وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ مُنْذُ سَنَتَيْنِ قَضَيْتُ بِهَا لِذِي الْيَدِ ؛ لِأَنَّ شُهُودَ الْخَارِجِ شَكُّوا فِيمَا زَادَ عَلَى السَّنَةِ وَمَعَ الشَّكِّ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ التَّارِيخِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ مِنْ تَارِيخِهِمْ مَا يَتَّفِقُوا بِهِ وَذَلِكَ سَنَةٌ فَصَارَ تَارِيخُ ذِي الْيَدِ أَسْبَقَ فَتَتَرَجَّحُ بَيِّنَتُهُ وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ فِيهِ فِيمَا سَبَقَ وَلَوْ وَقَّتَ شُهُودُ الْمُدَّعِي سَنَةً وَوَقَّتَ شُهُودُ ذُو الْيَدِ سَنَةً أَوْ سَنَتَيْنِ شَكُّوا فِي ذَلِكَ فَهُوَ لِلْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّ مَا شَكَّ فِيهِ شُهُودُ ذِي الْيَدِ لَمْ يَثْبُتْ وَفِيمَا يَتَّفِقُوا فِيهِ اسْتَوَى تَارِيخُ ذِي الْيَدِ وَالْخَارِجِ فَتَتَرَجَّحُ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي وَلَوْ شَهِدَ شُهُودُ الْمُدَّعِي أَنَّهَا كَانَتْ لَهُ عَامَ أَوَّلٍ وَشُهُودُ ذِي الْيَدِ أَنَّهَا لَهُ مُنْذُ الْعَامِ قَضَيْتُ بِهَا لِلْمُدَّعِي لِأَنَّ تَارِيخَ شُهُودِهِ أَسْبَقُ وَلَوْ شَهِدَ شُهُودُ الْمُدَّعِي أَنَّهَا لَهُ مُنْذُ الْعَامِ وَشُهُودُ ذِي الْيَدِ أَنَّهَا لَهُ عَامَ أَوَّلٍ قَضَيْتُ بِهَا لِذِي الْيَدِ ؛ لِأَنَّ شُهُودَهُ شَهِدُوا بِتَارِيخٍ أَسْبَقَ مِنْ تَارِيخِ الْمُدَّعِي فَثَبَتَ مِلْكُهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَبَعْدَ ثُبُوتِ مِلْكِهِ لَا يَسْتَحِقُّهُ الْغَيْرُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ .
قَالَ دَارٌ فِي يَدِ رَجُلَيْنِ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ مُنْذُ سَنَةٍ وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ مُنْذُ سَنَتَيْنِ قَضَيْتُ بِهَا لِصَاحِبِ السَّنَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ فِي يَدِ كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدَّارِ فَفِي النِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِ مَنْ أَرَّخَ شُهُودُهُ سَنَةً بَيِّنَةُ الْخَارِجِ قَامَتْ بِتَارِيخٍ سَابِقٍ فَكَانَ هُوَ أَوْلَى وَفِي النِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِ مَنْ أَرَّخَ شُهُودُهُ بِسَنَتَيْنِ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ قَامَتْ عَلَى تَارِيخٍ سَابِقٍ عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ فَيَسْتَحِقُّ التَّرْجِيحَ بِهِ أَيْضًا وَلَوْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ ثُلُثَهَا مُنْذُ سَنَةٍ وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ ثُلُثَهَا مُنْذُ سَنَتَيْنِ فَإِنِّي أَقْضِي بِالثُّلُثَيْنِ لِصَاحِبِ السَّنَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُ تَنْصَرِفُ إلَى مَا فِي يَدِهِ أَوَّلًا ثُمَّ فِيمَا يَفْضُلُ عَلَى مَا فِي يَدِهِ يَنْصَرِفُ دَعْوَاهُ إلَى مَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ لِأَنَّ يَدَهُ يَدًا مُحِقَّةً تَحْسِينًا لِلظَّنِّ بِالْمُسْلِمِ وَحَمْلًا لِفِعْلِهِ عَلَى الصِّحَّةِ وَلَوْ صَرَفْنَا دَعْوَاهُ إلَى مَا فِي يَدِ غَيْرِهِ لَمْ تَكُنْ يَدُهُ يَدًا مُحِقَّةً وَفِي يَدِهِ نِصْفُ الدَّارِ فَمَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ إلَى تَمَامِ الثُّلُثَيْنِ وَهُوَ السُّدُسُ اجْتَمَعَ فِيهِ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ وَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ وَتَارِيخُ الْخَارِجِ أَسْبَقُ فَهُوَ أَوْلَى وَلِأَنَّ الْآخَرَ لَيْسَ يَدَّعِي إلَى الثُّلُثِ وَدَعْوَاهُ مُنْصَرِفَةٌ إلَى مَا فِي يَدِهِ فَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ هُوَ لَا يُنَازِعُ الْآخَرَ فِيهِ وَقَدْ أَثْبَتَ الْآخَرُ اسْتِحْقَاقَهُ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَا فِي يَدِهِ فَيُقْضَى لَهُ بِهِ ، وَتَرَكَ الثُّلُثَ فِي يَدِ صَاحِبِ الثُّلُثِ فَيَكُونُ ذَلِكَ لَهُ قَضَاءَ تَرْكٍ ؛ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ لَمْ تَقُمْ عَلَى مُنَازِعٍ لَهُ فِيهِ يَدٌ وَلَا مِلْكًا فَهَذَا الطَّرِيقُ فِيمَا إذَا كَانَ مَنْ أَرَّخَ سَنَةً يَدَّعِي ثُلُثَهَا وَالطَّرِيقُ الْأَوَّلُ فِيمَا إذَا كَانَ يَدَّعِي نِصْفَهَا وَقَدْ اخْتَلَفَتْ النُّسَخُ فِي وَضْعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .
قَالَ أَمَةٌ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا أَمَتُهُ مُنْذُ سِتَّةِ أَشْهُرٍ وَأَنَّهُ أَعْتَقَهَا أَلْبَتَّةَ مُنْذُ شَهْرٍ وَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا أَمَتُهُ مُنْذُ سَنَةٍ وَأَنَّهُ أَعْتَقَهَا عَنْ دُبُرٍ مِنْهُ مُنْذُ سَنَةٍ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهَا مُدَبَّرَةً لِمُدَّعِي التَّدْبِيرِ ؛ لِأَنَّ تَارِيخَ شُهُودِهِ أَسْبَقُ فَإِنَّهُمْ أَثْبَتُوا الْمِلْكَ وَالتَّدْبِيرَ لَهُ مُنْذُ سَنَةٍ وَالْمِلْكُ الْمُتَأَكَّدُ بِالتَّدْبِيرِ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ فَشُهُودُ الْآخَرِ إنَّمَا شَهِدُوا بِالْعِتْقِ فِيمَنْ لَا يَمْلِكُهَا وَذَلِكَ غَيْرُ مُفِيدٍ ذَكَرَهُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْأَوَّلِ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ مُدَّعِي الْعِتْقِ وَهِيَ حُرَّةٌ الْبَتَّةُ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ أَنَّ الْخَارِجَيْنِ إذَا أَرَّخَا الْمِلْكَ بِتَارِيخَيْنِ فِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ يُقْضَى بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَلَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُهُمَا لِسَبْقِ التَّارِيخِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي بَابِ دَعْوَى الْمِيرَاثِ فَهُنَا لَمَّا اسْتَوَيَا فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ بَقِيَ التَّرْجِيحُ بِمَا أَثْبَتُوا مِنْ الْعِتْقِ وَالْعِتْقُ وَالتَّدْبِيرُ إذَا اجْتَمَعَا يَتَرَجَّحُ الْعِتْقُ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يُوطَأَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَقَدْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى حُرِّيَّتِهَا مِنْ جِهَةِ مَنْ أَثْبَتَ مِلْكَهُ فِيهَا بِالْحُجَّةِ .
قَالَ دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَنَقَدَهُ الثَّمَنَ وَادَّعَى آخَرُ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْهُ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَنَقَدَهُ الثَّمَنَ وَلَمْ تُوَقِّتْ وَاحِدَةٌ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ وَقْتًا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَهُ بِنِصْفِ الثَّمَنِ الَّذِي بَيَّنَ شُهُودُهُ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْأَصْلِ كَانَ لِذِي الْيَدِ وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّمَلُّكَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الشِّرَاءِ وَقَدْ اسْتَوَيَا فِي ذَلِكَ وَلَوْ اسْتَوَيَا فِي إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ عَلَيْهِ قُضِيَ بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَكَذَلِكَ هُنَا فَإِنْ ( قِيلَ ) قَدْ تَيَقَّنَ الْقَاضِي بِكَذِبِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ ؛ لِأَنَّ التَّعَيُّنَ عَلَى دَارٍ وَاحِدَةٍ مِنْ رَجُلَيْنِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَمَالِهِ لَا يُتَصَوَّرُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَيَنْبَغِي أَنْ تَبْطُلَ الْبَيِّنَتَانِ ( قُلْنَا ) الشُّهُودُ شَهِدُوا بِنَفْسِ الْبَيْعِ لَا بِصِحَّتِهِ وَلَمْ يَشْهَدُوا بِوُقُوعِ الْبَيْعَيْنِ مَعًا وَيُتَصَوَّرُ بَيْعَانِ فِي وَقْتَيْنِ مِنْ وَاحِدٍ لِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اعْتَمَدَ سَبَبًا أَطْلَقَ لَهُ الشَّهَادَةَ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَلِأَنَّ الْبَيْعَيْنِ يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهُمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مِنْ وَكِيلِ الْمَالِكِ وَيُضَافُ عَقْدُ الْوَكِيلِ إلَى الْمُوَكِّلِ مَجَازًا فَلَعَلَّ الْوَكِيلَيْنِ بَاعَا مَعًا - فَيُقْضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُشْتَرِيَيْنِ بِنِصْفِهَا وَيُخَيَّرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ أَثْبَتَ عَقْدَهُ فِي الْكُلِّ فَلِتَبَعُّضِ الْمِلْكِ حِينَ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ إلَّا النِّصْفَ خَيَّرَهُمَا فَإِنْ رَضِيَا بِهِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الثَّمَنِ بِقَدْرِ مَا يُسَلَّمُ لَهُ مِنْ الْبَيْعِ وَذَلِكَ النِّصْفِ ، فَإِنْ رَضِيَ بِهِ أَحَدُهُمَا وَأَبَى الْآخَرُ فَلَيْسَ لِلَّذِي رَضِيَ بِهِ إلَّا نِصْفَهُ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ حِينَ خَيَّرَهُمَا فَقَدْ فَسَخَ
بَيْعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ حِينَ قَضَى بِهِ لِصَاحِبِهِ فَلَا يَعُودُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِتَرْكِ صَاحِبِهِ الْمُزَاحَمَةَ مَعَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ تَرَكَ الْمُزَاحَمَةَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بِشَيْءٍ فَحِينَئِذٍ تَكُونُ الدَّارُ لِلْآخَرِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فَإِنَّهُ أَثْبَتَ شِرَاءَهُ فِي الْكُلِّ وَلَمْ يَفْسَخْ الْقَاضِي بَيْعَهُ فِي شَيْءٍ وَإِنَّمَا كَانَ الْقَضَاءُ لَهُ بِالنِّصْفِ لِمُزَاحَمَةِ صَاحِبِهِ مَعَهُ فَإِذَا زَالَتْ الْمُزَاحَمَةُ قَضَى لَهُ بِالْكُلِّ كَالشَّفِيعَيْنِ إذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي لَهُمَا يَقْضِي لِلْآخَرِ بِجَمِيعِ الدَّارِ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ تَسْلِيمُهُ بَعْدَ الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ لِلْآخَرِ إلَّا نِصْفُ الدَّارِ .
وَلَوْ وَقَّتَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ وَقْتًا قَضَيْتُ بِهَا لِصَاحِبِ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ شِرَاءَهُ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ الْآخَرُ فِيهِ فَاسْتَحَقَّهَا مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْآخَرَ اشْتَرَاهَا مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ فَكَانَ شِرَاؤُهُ بَاطِلًا وَإِنْ وَقَّتَتْ إحْدَاهُمَا وَلَمْ تُوَقِّتْ الْأُخْرَى قَضَيْتُ بِهَا لِصَاحِبِ الْوَقْتِ ؛ لِأَنَّ شِرَاءَهُمَا حَادِثٌ فَإِنَّمَا يُحَالُ بِحُدُوثِهِ عَلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ مَا لَمْ يَثْبُتْ التَّارِيخُ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ شِرَاءُ الَّذِي لَمْ تُوَقِّتْ شُهُودُهُ فِي الْحَالِ وَقَدْ أَثْبَتَ الْآخَرُ شِرَاءَهُ سَابِقًا فَكَانَ هُوَ أَوْلَى وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى الشِّرَاءَ مِنْ رَجُلَيْنِ وَوَقَّتَهُ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُوَقِّتْ الْآخَرُ يَقْضِي بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُنَاكَ خَصْمٌ عَنْ تَابِعِهِ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لَهُ وَتَوْقِيتُ أَحَدِهِمَا لَا يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ مِلْكِ بَائِعِهِ فَلَعَلَّ مِلْكَ الْبَائِعِ الْآخَرِ أَسْبَقُ فَلِهَذَا قَضَيْنَا بِهِ بَيْنَهُمَا فَأَمَّا هُنَا اتَّفَقَا عَلَى الْمِلْكِ لِبَائِعٍ وَاحِدٍ فَإِنَّمَا حَاجَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى إثْبَاتِ سَبَبِ الِانْتِقَالِ إلَيْهِ لَا إلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِلْبَائِعِ وَسَبَبُ الْمِلْكِ فِي حَقِّ
الَّذِي وَقَّتَ شُهُودُهُ أَسْبَقُ فَكَانَ هُوَ بِالدَّارِ أَحَقَّ ، وَإِنْ لَمْ يُوَقِّتْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَكَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا وَقَدْ قَبَضَهَا قَضَيْتُ بِهَا لِذِي الْيَدِ ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ صَادِرٌ عَنْ الْعَقْدِ الَّذِي أَثْبَتَهُ بِالْبَيِّنَةِ حَمْلًا لِفِعْلِهِ عَلَى الصِّحَّةِ فَكَانَ شِرَاؤُهُ مُتَأَكَّدًا بِالْقَبْضِ فَيَتَرَجَّحُ بِهِ لِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ قَبْضَهُ اقْتَرَنَ بِعَقْدِ الْآخَرِ وَهُوَ صَادِرٌ عَنْ عَقْدِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَقْدًا سَابِقًا وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْبَائِعِ فَقَطْ وَذَلِكَ فِي بَيِّنَتِهِ فَأَمَّا الْخَارِجُ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى ذِي الْيَدِ كَمَا يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِهِ عَلَى الْبَائِعِ وَلَيْسَ فِي بَيِّنَتِهِ مَا يُوجِبُ الِاسْتِحْقَاقَ عَلَى ذِي الْيَدِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ عَقْدُ ذِي الْيَدِ سَابِقًا وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَيَا الشِّرَاءَ مِنْ اثْنَيْنِ وَأَحَدُهُمَا قَابِضٌ فَإِنَّ الْخَارِجَ أَوْلَى هُنَاكَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِبَائِعِهِ أَوَّلًا ؛ فَاجْتَمَعَ فِي حَقِّ الْبَائِعَيْنِ بِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ وَبَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ فَكَانَتْ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى فَأَمَّا هُنَا لَا يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِلْبَائِعِ بَلْ هُوَ ثَابِتٌ بِتَصَادُقِهِمَا عَلَيْهِ إنَّمَا حَاجَتُهَا إلَى إثْبَاتِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ .
وَسَبَبُ الْقَابِضِ أَقْوَى فَكَانَ هُوَ أَوْلَى فَإِنْ شَهِدَ شُهُودُ الْخَارِجِ عَلَى وَقْتٍ لَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَ الْقَابِضِ مِنْ الْقَبْضِ دَلِيلُ سَبْقِ عَقْدِهِ وَهُوَ دَلِيلٌ مُعَايَنٌ وَالتَّارِيخُ فِي حَقِّ الْخَارِجِ مُخْبِرٌ بِهِ وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ ثُمَّ يَدُ ذِي الْيَدِ ثَابِتَةٌ بِيَقِينٍ فَلَا يُنْقَضُ إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ وَبِذِكْرِ الْوَقْتِ مِنْ شُهُودِ الْخَارِجِ لَا يُزِيلُ احْتِمَالَ سَبْقِ عَقْدِ ذِي الْيَدِ فَلَا يُنْقَضُ قَبْضُهُ إلَّا أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّ بَيْعَ الْخَارِجِ كَانَ قَبْلَ بَيْعِ ذِي الْيَدِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ بَيْعُ الْخَارِجِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ
تَقَدُّمَ الْعَقْدِ ثَبَتَ بِنَصٍّ مِنْ شُهُودِهِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْقَابِضَ اشْتَرَى مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِيَانِ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْ رَجُلٍ آخَرَ وَالدَّارُ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قُضِيَ بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَبَتَ الْمِلْكُ لِبَائِعِهِ أَوَّلًا وَقَدْ اسْتَوَتْ الْبَيِّنَتَانِ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِلْبَائِعِ فَيُقْضَى بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَيَتَخَيَّرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُشْتَرِيَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا وَإِذَا اخْتَارَ الْأَخْذَ رَجَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى بَائِعِهِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ إنْ كَانَ نَقَدَهُ إيَّاهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ إلَّا نِصْفَ الْمَبِيعِ وَلَوْ وَقَّتَا وَقْتَيْنِ كَانَ صَاحِبُ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ أَوْلَى لِإِثْبَاتِهِ الْمِلْكَ لِبَائِعِهِ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ الْآخَرُ فِيهِ وَيَرْجِعُ الْآخَرُ بِالثَّمَنِ عَلَى بَائِعِهِ لِاسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ مِنْ يَدِهِ .
وَلَوْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ فُلَانٍ بِثَمَنٍ مُسَمًّى وَهُوَ يَمْلِكُهَا وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ فُلَانًا آخَرَ وَهَبَهَا لَهُ وَقَبَضَهَا مِنْهُ وَهُوَ يَوْمئِذٍ يَمْلِكُهَا قُضِيَ بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَمَّنْ مَلَكَهُ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لَهُ أَوَّلًا ثُمَّ لِنَفْسِهِ فَالْحُجَّتَانِ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لَهُمَا سَوَاءٌ فَيَقْضِي بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ ثَالِثٌ الْبَيِّنَةَ عَلَى الصَّدَقَةِ مِنْ ثَالِثٍ مَعَ الْقَبْضِ وَأَقَامَ رَابِعٌ الْبَيِّنَةَ عَلَى إرْثِهِ مِنْ أَبِيهِ قَضَى بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَصْمٌ عَمَّنْ مَلَكَهُ فَإِنْ ( قِيلَ ) إنَّمَا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي الدَّارِ فَكَيْفَ يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ فِي جُزْءٍ مِنْهُمَا مُشَاعًا ؟ ( قُلْنَا ) قِيلَ مَوْضُوعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الدَّابَّةِ وَلَئِنْ كَانَ فِي الدَّارِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثْبَتَ اسْتِحْقَاقَهُ فِي الْكُلِّ إلَّا أَنَّهُ لِأَجْلِ الْمُزَاحَمَةِ يُسَلَّمُ لَهُ الْبَعْضُ ، وَهَذِهِ الْمُزَاحَمَةُ بَعْدَ الْقَبْضِ فَكَانَ شُيُوعًا طَارِئًا وَذَلِكَ لَا يُبْطِلُ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ فُلَانٍ بِثَمَنٍ مُسَمًّى وَتَقَابَضَا وَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ فُلَانًا ذَلِكَ وَهَبَهَا مِنْهُ وَقَبَضَهَا قَضَى بِهَا لِصَاحِبِ الشِّرَاءِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَحْتَاجَانِ هُنَا إلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِمَنْ مَلَكَهَا فَإِنَّهُ ثَابِتٌ بِتَصَادُقِهِمَا وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ إلَى إثْبَاتِ سَبَبِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ وَالشِّرَاءُ أَقْوَى مِنْ الْهِبَةِ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ ضَمَانٍ يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي الْعِوَضَيْنِ وَالْهِبَةُ تَبَرُّعٌ ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ يُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ وَالْهِبَةُ لَا تُوجِبُ الْمِلْكَ إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَكَانَ مِلْكُ مُدَّعِي الشِّرَاءِ سَابِقًا فَلِهَذَا جُعِلَ أَوْلَى وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الشِّرَاءَ
وَالْآخَرُ الصَّدَقَةَ وَادَّعَى أَحَدُهُمَا الشِّرَاءَ وَالْآخَرُ الرَّهْنَ فَالشِّرَاءُ أَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ الشِّرَاءَ وَادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّ فُلَانًا ذَلِكَ تَزَوَّجَهَا عَلَيْهَا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُقْضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ ثُمَّ لِلْمَرْأَةِ نِصْفُ الْقِيمَةِ عَلَى الزَّوْجِ وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِنِصْفِ الثَّمَنِ إنْ كَانَ نَقَدَهُ إيَّاهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يُقْضَى بِهَا لِصَاحِبِ الشِّرَاءِ وَلِلْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ قِيمَةُ الدَّابَّةِ .
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ تَصْحِيحَ الْبَيِّنَاتِ وَالْعَمَلَ بِهَا وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ ؛ لِأَنَّهَا حُجَجٌ وَهُنَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الْبَيِّنَتَيْنِ بِأَنْ يُجْعَلَ الشِّرَاءُ سَابِقًا فَإِنَّ تَسْمِيَةَ مِلْكِ الْغَيْرِ صَدَاقًا تَسْمِيَةٌ صَحِيحَةٌ مُوجِبَةٌ لِقِيمَةِ الْمُسَمَّى عِنْدَ تَعَذُّرِ تَسْلِيمِ عَيْنِهِ فَلِهَذَا جَعَلْنَا الشِّرَاءَ سَابِقًا وَلِأَنَّ الشِّرَاءَ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ مُوجِبٌ الضَّمَانَ فِي الْعِوَضَيْنِ وَالنِّكَاحُ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ فِي الْمَنْكُوحَةِ ؛ فَكَانَ الشِّرَاءُ أَقْوَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَجُعِلَ أَوْلَى وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ يُثْبِتُ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِمَا فَتَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ كَمَا فِي دَعْوَى الشِّرَاءَيْنِ وَمِنْ وَجْهٍ النِّكَاحُ أَقْوَى ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الصَّدَاقِ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ مُتَأَكَّدًا حَتَّى لَا يَبْطُلَ بِالْهَلَاكِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ بِخِلَافِ الْمِلْكِ فِي الْمُشْتَرَى وَيَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِي الصَّدَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِخِلَافِ الْمُشْتَرَى فَإِنْ لَمْ يَتَرَجَّحْ جَانِبُ النِّكَاحِ بِهَذَا فَلَا أَقَلَّ مِنْ الْمُسَاوَاةِ وَفِيمَا قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إثْبَاتُ تَارِيخٍ لَمْ يَشْهَدْ بِهِ الشُّهُودُ وَالتَّارِيخُ بَيْنَ الْعَقْدَيْنِ يَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ فَإِذَا قَضَيْنَا بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ اسْتَحَقَّ عَلَى الْمَرْأَةِ نِصْفَ الصَّدَاقِ
فَيَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْمُسْتَحَقِّ وَاسْتَحَقَّ عَلَى الْمُشْتَرِي نِصْفَ الْمَبِيعِ فَيَرْجِعُ بِثَمَنِهِ وَإِنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الرَّهْنَ وَالْقَبْضَ وَالْآخَرُ الْهِبَةَ وَالْقَبْضَ فَالرَّهْنُ أَوْلَى وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ أَنَّ الْهِبَةَ أَوْلَى فِي الْقِيَاسِ .
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْهِبَةَ تُفِيدُ مِلْكَ الْعَيْنِ وَالرَّهْنُ لَا يُوجِبُ فَكَانَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِمِلْكِ الْعَيْنِ أَقْوَى وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الرَّهْنَ عَقْدُ ضَمَانٍ وَالْهِبَةُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ وَعَقْدُ الضَّمَانِ أَقْوَى مِنْ عَقْدِ التَّبَرُّعِ وَلِأَنَّهُ يُثْبِتُ بَدَلَيْنِ الْمَرْهُونَ وَالدَّيْنَ وَالْهِبَةُ لَا تُثْبِتُ إلَّا بَدَلًا وَاحِدًا فَكَانَ الرَّهْنُ أَوْلَى مِنْ الْهِبَةِ وَكَذَلِكَ الرَّهْنُ أَوْلَى مِنْ الصَّدَقَةِ وَالنِّكَاحُ أَوْلَى مِنْ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ كَالشِّرَاءِ فَأَمَّا الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ سَوَاءٌ ، حَتَّى لَوْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْهِبَةَ وَالْآخَرُ الصَّدَقَةَ يَسْتَوِيَانِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَبَرُّعٌ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ فَإِنْ ( قِيلَ ) الصَّدَقَةُ لَا رُجُوعَ فِيهَا بِخِلَافِ الْهِبَةِ فَكَانَتْ الصَّدَقَةُ أَقْوَى ( قُلْنَا ) امْتِنَاعُ الرُّجُوعِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهَا وَهُوَ الثَّوَابُ لَا لِقُوَّةِ السَّبَبِ وَلَوْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِالْهِبَةِ وَهُوَ صِلَةُ الرَّحِمِ لَمْ يَرْجِعْ فِيهَا أَيْضًا .
قَالَ دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ ذِي الْيَدِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَنَقَدَهُ الثَّمَنَ وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ الْمُدَّعِي وَنَقَدَهُ الثَّمَنَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَتَهَاتَرُ الْبَيِّنَتَانِ جَمِيعًا سَوَاءٌ شَهِدُوا بِالْقَبْضِ أَوْ لَمْ يَشْهَدُوا وَيَتْرُكُ الدَّارَ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقْضِي بِالْبَيِّنَتَيْنِ جَمِيعًا فَإِنْ لَمْ تَشْهَدْ الشُّهُودُ بِالْقَبْضِ يُجْعَلُ شِرَاءُ ذِي الْيَدِ سَالِمًا فَيَأْمَنُ بِتَسْلِيمِهِ إلَى الْخَارِجِ وَإِنْ شَهِدُوا بِالْقَبْضِ يُجْعَلُ شِرَاءُ الْخَارِجِ سَابِقًا فَيُسَلَّمُ لِذِي الْيَدِ .
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْبَيِّنَاتِ حُجَجٌ فَمَهْمَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ لَا يَجُوزُ إبْطَالُ شَيْءٍ مِنْهَا كَالْحُجَجِ الشَّرْعِيَّةِ وَهُنَا الْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ مُمْكِنٌ أَمَّا إذَا لَمْ تَشْهَدْ الشُّهُودُ بِالْقَبْضِ فَإِمْكَانُ الْعَمَلِ بِهَا فِي جَعْلِ شِرَاءِ ذِي الْيَدِ سَابِقًا ؛ لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَا شِرَاءَ الْخَارِجِ سَابِقًا لَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ مِنْ بَائِعِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَلِأَنَّ قَبْضَ ذِي الْيَدِ صَادِرٌ عَنْ عَقْدِهِ الَّذِي أَثْبَتَهُ بِالْبَيِّنَةِ وَذَلِكَ دَلِيلُ سَبْقِ عَقْدِهِ فَإِنْ شَهِدَ الشُّهُودُ بِالْقَبْضِ يُجْعَلُ عَقْدُ الْخَارِجِ سَابِقًا ؛ لِأَنَّ انْقِضَاءَ قَبْضِهِ دَلِيلُ سَبْقِ عَقْدِهِ ، وَقِيَامُ قَبْضِ الْآخَرِ دَلِيلُ تَأَخُّرِ عَقْدِهِ وَلِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَا عَقْدَ ذِي الْيَدِ سَابِقًا كَانَ قَبْضُهُ غَصْبًا حَرَامًا وَلَوْ جَعَلْنَا عَقْدَهُ مُتَأَخِّرًا كَانَ قَبْضُهُ بِحَقٍّ فَلِهَذَا أَثْبَتْنَا التَّارِيخَ بَيْنَ الْعَقْدَيْنِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَهَذَا عَمَلٌ بِالدَّلِيلِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدَعْوَى الشِّرَاءِ أَثْبَتَ إقْرَارَ صَاحِبِهِ بِالْمِلْكِ لَهُ فَكُلُّ بَائِعٍ مُقِرٌّ بِوُقُوعِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ
عَلَى إقْرَارِ صَاحِبِهِ بِالْمِلْكِ لَهُ وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ تَهَاتَرَ الْإِقْرَارُ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ مِنْ الْإِقْرَارَيْنِ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ .
وَلَوْ عَايَنَ إقْرَارَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْمِلْكِ لِصَاحِبِهِ مَعًا بَطَلَ الْإِقْرَارَانِ جَمِيعًا فَهَذَا مِثْلُهُ لِمَعْنَى أَنَّ شُهُودَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَشْهَدُوا بِالتَّارِيخِ فَكُلُّ أَمْرَيْنِ ظَهَرَا وَلَا يُعْرَفُ سَبْقُ أَحَدِهِمَا جُعِلَ كَأَنَّهُمَا وَقَعَا مَعًا فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ التَّارِيخِ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ قَضَاءٌ بِمَا لَمْ تَشْهَدْ بِهِ الشُّهُودُ فَإِذَا جَعَلْنَاهُمَا كَالْوَاقِعِ مَعًا بَطَلَا لِلْمُنَافَاةِ بَيْنَهُمَا وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ إمْكَانُ الْعَمَلِ بِالْبَيِّنَتَيْنِ بِمَا شَهِدُوا بِهِ دُونَ مَا لَمْ يَشْهَدُوا بِهِ فَإِنْ وَقَّتَ الشُّهُودُ وَقْتَيْنِ فَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ وَقْتُ الْخَارِجِ سَابِقًا أَوْ وَقْتُ ذِي الْيَدِ وَكُلُّ وَجْهٍ عَلَى وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ تَشْهَدَ الشُّهُودُ بِالْقَبْضِ أَوْ لَمْ يَشْهَدُوا بِهِ فَإِنْ كَانَ وَقْتُ الْخَارِجِ سَابِقًا فَإِنْ لَمْ تَشْهَدْ الشُّهُودُ بِالْقَبْضِ قُضِيَ بِهَا لِذِي الْيَدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ؛ لِأَنَّ شِرَاءَهُ ثَبَتَ سَابِقًا ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْهُ ذُو الْيَدِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَبَيْعُ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَهُمَا جَائِزٌ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يُقْضَى بِهَا لِلْخَارِجِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَإِنْ شَهِدَ الشُّهُودُ بِالْقَبْضِ يُقْضَى بِهَا لِذِي الْيَدِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْخَارِجَ بَاعَهَا مِنْ بَائِعِهِ بَعْدَ مَا قَبَضَهَا وَذَلِكَ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ وَقْتُ ذِي الْيَدِ سَابِقًا يَقْضِي بِهَا لِلْخَارِجِ سَوَاءٌ كَانَ الشُّهُودُ شَهِدُوا بِالْقَبْضِ أَوْ لَمْ يَشْهَدُوا أَمَّا إذَا شَهِدُوا بِالْقَبْضِ فَلَا إشْكَالَ وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَشْهَدُوا بِهِ ؛ لِأَنَّ ذَا الْيَدِ قَابِضٌ وَقَدْ ثَبَتَ شِرَاؤُهُ سَابِقًا فَيُجْعَلُ قَبْضُهُ صَادِرًا لَا عَنْ عَقْدِهِ ثُمَّ الْخَارِجُ إنَّمَا اشْتَرَاهَا مِنْهُ بَعْدَ قَبْضِهِ
فَيُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِهَا إلَيْهِ .
قَالَ أَمَةٌ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ وَأَقَامَتْ الْأَمَةُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْعِتْقِ أَوْ التَّدْبِيرِ فَإِنَّ بَيِّنَتَهَا أَوْلَى ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ مُوجِبٌ لِلْحَقِّ بِنَفْسِهِ وَالْعِتْقُ أَقْوَى فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ بَعْدَ وُقُوعِهِ وَكَذَلِكَ التَّدْبِيرُ بِخِلَافِ الشِّرَاءِ وَلِأَنَّ الْعَبْدَ بِالْعِتْقِ يَصِيرُ قَابِضًا لِنَفْسِهِ وَلِأَنَّ الْعِتْقَ يَنْفَرِدُ بِهِ الْمُعْتِقُ وَالشِّرَاءُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ وَكَانَ الْعِتْقُ وَالتَّدْبِيرُ سَابِقًا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَوْ اسْتَوَيَا لَمْ يُمْكِنْ الْقَضَاءُ بِالشِّرَاءِ لِإِقْرَانِ الْعِتْقِ بِهِ فَإِنَّ مُعْتِقَ الْبَعْضِ لَا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ فَلِهَذَا جَعَلْنَا بَيِّنَتَهَا أَوْلَى وَإِنْ وَقَّتَتْ الْبَيِّنَتَانِ فَأَوَّلُهُمَا أَوْلَاهُمَا إنْ كَانَ الْعِتْقُ أَوَّلًا فَغَيْرُ مُشْكِلٍ وَإِنْ كَانَ الشِّرَاءُ أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَثْبَتَ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ فِي وَقْتٍ لَا تُنَازِعُهُ الْأَمَةُ فِيهِ ثُمَّ هِيَ أَثْبَتَتْ الْعِتْقَ وَالتَّدْبِيرَ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ لَهَا حَقًّا وَلَوْ وَقَّتَتْ بَيِّنَةُ الشِّرَاءِ وَلَمْ تُوَقِّتْ بَيِّنَةُ الْعِتْقِ أَوْ التَّدْبِيرِ كَانَ الْعِتْقُ وَالتَّدْبِيرُ أَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعِتْقَ وَالتَّدْبِيرَ يَقَعُ مُسَلَّمًا بِنَفْسِهِ فَوُجِدَ الْقَبْضُ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَالْوَقْتُ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ وَكَانَ الْقَبْضُ أَوْلَى .
فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ قَبَضَهُ فَهُوَ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الْقَبْضِ دَلِيلُ سَبْقِ عَقْدِهِ وَلِأَنَّ قَبْضَهُ مُعَايَنٌ وَقَبْضُ الْآخَرِ ثَابِتٌ حُكْمًا فَكَانَ الْمُعَايَنُ أَوْلَى وَحَمْلُ فِعْلِ الْمُسْلِمِ عَلَى الصِّحَّةِ وَالْحِلِّ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ إلَّا أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ أَنَّ الْعِتْقَ أَوَّلٌ أَوْ وَقَّتُوا وَقْتًا يُعْرَفُ أَنَّهُ أَوَّلٌ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْعِتْقُ أَوْلَى ؛ لِانْعِدَامِ مُزَاحَمَةِ الْمُشْتَرِي فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يُوَقِّتْ بَيِّنَةَ الشِّرَاءِ إلَّا أَنَّ
الْمُشْتَرِيَ قَدْ قَبَضَهُ فَهُوَ أَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ قَبْضَهُ دَلِيلُ تَقَدُّمِ عَقْدِهِ إلَّا أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ أَنَّ الْعِتْقَ أَوَّلٌ وَكَذَلِكَ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ مَعَ الْعِتْقِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْرِيعِ لِأَنَّ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ مَعَ الْقَبْضِ مُوجِبَةٌ لِلْمِلْكِ كَالشِّرَاءِ وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ أَوْ الْأَمَةُ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ ذَا الْيَدِ وَهَبَهَا لَهُ وَقَبَضَهَا مِنْهُ وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي بِمِثْلِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِهَا لِذِي الْيَدِ أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِتَهَاتُرِ الْبَيِّنَتَيْنِ كَمَا بَيَّنَّا وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الشُّهُودَ شَهِدُوا بِالْقَبْضِ فَانْقَضَى وَقَبْضُ الْخَارِجِ دَلِيلُ سَبْقِ عَقْدِهِ وَقِيَامُ قَبْضِ ذِي الْيَدِ دَلِيلٌ بِآخِرِ عَقْدِهِ .
وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ اشْتَرَى الْأَمَةَ مِنْ ذِي الْيَدِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَنَّهُ أَعْتَقَهَا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْهُ أَيْضًا فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهَا لِصَاحِبِ الْعِتْقِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ يَتَأَكَّدُ بِالْعِتْقِ حَتَّى لَا يَحْتَمِلَ النَّقْضَ وَلِأَنَّ الْعِتْقَ قَبْضٌ مِنْهُ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا أَعْتَقَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ يَصِيرُ قَابِضًا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَحَدَ الْمُشْتَرِيَيْنِ إذَا أَثْبَتَ الْقَبْضَ كَانَ هُوَ أَوْلَى وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ هِبَةً مَقْبُوضَةً وَادَّعَى الْآخَرُ صَدَقَةً مَقْبُوضَةً وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَإِنْ وَقَّتَتْ إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ وَلَمْ تُوَقِّتْ الْأُخْرَى قَضَيْتُ بِهَا لِصَاحِبِ الْوَقْتِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثْبَتَ سَبَبَ مِلْكٍ حَادِثٍ فَإِنَّمَا يُحَالُ بِحُدُوثِهِ عَلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ وَقَدْ أَثْبَتَ أَحَدُهُمَا تَارِيخًا سَابِقًا بِالتَّوْقِيتِ فَيُقْضَى بِهَا لَهُ وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ مَنْ لَمْ يُوَقِّتْ شُهُودُهُ قَضَيْتُ بِهَا لَهُ ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ دَلِيلُ سَبْقِ عَقْدِهِ وَهُوَ دَلِيلٌ مُعَايَنٌ وَالْوَقْتُ فِي حَقِّ الْآخَرِ مُخْبِرٌ بِهِ وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَوَّلٌ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ هُوَ أَوْلَى لِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ صَاحِبُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ تَارِيخٌ وَلَا قَبْضٌ مُعَايَنٌ لِأَحَدِهِمَا فَفِيمَا لَا يُقْسَمُ يُقْضَى بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَفِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ كَالدَّارِ وَنَحْوِهِ تَبْطُلُ الْبَيِّنَتَانِ جَمِيعًا إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَا يُرَجِّحُ إحْدَاهُمَا مِنْ قَبْضٍ أَوْ تَارِيخٍ ؛ لِأَنَّا لَوْ عَمِلْنَا بِهَا قَضَيْنَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ الْآخَرِ وَالْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ فِي مُشَاعٍ تَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لَا تَجُوزُ ، قِيلَ : هَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُقْضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ عَلَى
قِيَاسِ هِبَةِ الدَّارِ مِنْ رَجُلَيْنِ وَقِيلَ يَنْبَغِي عَلَى قَوْلِهِمْ جَمِيعًا أَنْ يُقْضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثْبَتَ قَبْضَهُ فِي الْكُلِّ ثُمَّ الشُّيُوعُ بَعْدَ ذَلِكَ طَارِئٌ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمَذْكُورَ فِي الْكِتَابِ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّا لَوْ قَضَيْنَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ إنَّمَا يُقْضَى بِالْعَقْدِ الَّذِي شَهِدَ بِهِ شُهُودُهُ وَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْعَقْدَيْنِ لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ مِنْ رَجُلَيْنِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَيَكُونَ الشُّيُوعُ فِي الْمِلْكِ الْمُسْتَفَادِ بِالْهِبَةِ مَانِعَ صِحَّتِهَا .
وَإِذَا اخْتَصَمَ رَجُلَانِ فِي دَابَّةٍ أَوْ عَرْضٍ مِنْ الْعُرُوضِ كَائِنًا مَا كَانَ وَهُوَ قَائِمٌ بِعَيْنِهِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَسْمَعُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ وَالدَّعْوَى حَتَّى يُحْضِرَا ذَلِكَ الَّذِي اخْتَصَمَا فِيهِ ؛ لِأَنَّ إعْلَامَ الْمُدَّعِي شَرْطٌ لِصِحَّةِ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ وَتَمَامُ الْإِعْلَامِ بِالْإِشَارَةِ إلَى الْعَيْنِ وَإِحْضَارُ مَا يُنْقَلُ بِيُسْرٍ فَيُؤْمَرُ ذُو الْيَدِ بِإِحْضَارِهِ وَلَا يُقَالُ كَيْفَ كُلِّفَ إحْضَارَهُ وَلَمْ يَثْبُتْ الِاسْتِحْقَاقُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ بِالْإِجْمَاعِ يُكَلَّفُ الْحُضُورَ بِنَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ شَيْءٌ بَعْدُ نَظَرًا لِلْمُدَّعِي لِيَتَمَكَّنَ مِنْ إثْبَاتِ حَقِّهِ فَكَذَلِكَ يُكَلَّفُ بِإِحْضَارِ الْعَيْنِ إذْ لَيْسَ عَلَيْهِ فِيهِ كَثِيرُ ضَرَرٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَقَارًا فَحِينَئِذٍ إحْضَارُهُ مُتَعَذِّرٌ فَيُقَامُ ذِكْرُ الْحُدُودِ فِي الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ مَقَامَ الْإِشَارَةِ إلَى الْعَيْنِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَيَسِّرُ وَالْوَاجِبُ مِنْ التَّعْرِيفِ فِي كُلِّ مَحَلٍّ الْقَدْرُ الْمُتَيَسَّرُ وَهُوَ نَظِيرُ ذِكْرِ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ فِي حَقِّ الْغَائِبِ وَالْمَيِّتِ وَإِنْ كَانَ الْعَيْنُ الْمُدَّعَى مُسْتَهْلَكًا فَحِينَئِذٍ يَتَعَذَّرُ إحْضَارُهُ فَيُقَامُ ذِكْرُ الْوَصْفِ وَالْقِيمَةِ مَقَامَ الْإِشَارَةِ إلَى الْعَيْنِ فِي صِحَّةِ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ وَلِأَنَّ الْمُدَّعَى هُنَا فِي الْحَقِيقَةِ دَيْنٌ فِي الذِّمَّةِ وَهُوَ الْقِيمَةُ فَإِعْلَامُهُ بِذِكْرٍ صِفَتِهِ وَقِيمَتِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
بَاب الدَّعْوَى فِي النِّتَاجِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ دَابَّةٌ فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَاهَا آخَرُ أَنَّهَا دَابَّتُهُ نَتَجَهَا عِنْدَهُ ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ قُضِيَ بِهَا لِذِي الْيَدِ اسْتِحْسَانًا ) ، وَفِي الْقِيَاسِ يُقْضَى بِهَا لِلْخَارِجِ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ وَوَجْهُهُ أَنَّ مَقْصُودَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إثْبَاتُ الْمِلْكِ حَتَّى لَا يَصِيرَ خَصْمًا لَا بِدَعْوَى الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ وَفِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ لَا تُعَارِضُ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ كَمَا بَيَّنَّا فِي دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ تُوجِبُ الِاسْتِحْقَاقَ مِنْ الْأَصْلِ كَإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى النِّتَاجِ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا لِلْأَثَرِ وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ الْهَيْثَمِ عَنْ رَجُلٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى نَاقَةً بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَجُلٍ ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا نَاقَتُهُ نَتَجَهَا ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا دَابَّتُهُ نَتَجَهَا فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا لِلَّذِي هِيَ فِي يَدَيْهِ } ؛ وَلِأَنَّ يَدَ ذِي الْبَيِّنَةِ لَا تَدُلُّ عَلَى أَوْلَوِيَّةِ الْمِلْكِ فَهُوَ يُثْبِتُ مَا لَيْسَ بِثَابِتٍ فَوَجَبَ بِظَاهِرِ يَدِهِ فَوَجَبَ قَبُولُ الْبَيِّنَةِ .
ثُمَّ تَتَرَجَّحُ بِيَدِهِ بِخِلَافِ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَإِنَّ هُنَاكَ لَا يُثْبِتُ بِبَيِّنَتِهِ إلَّا مَا هُوَ ثَابِتٌ لَهُ بِظَاهِرِ يَدِهِ فَوَجَبَ قَبُولُ بَيِّنَتِهِ ، وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ ، وَهُوَ أَنَّ حَاجَةَ ذِي الْيَدِ إلَى دَفْعِ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ ، وَفِي إقَامَتِهِ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ مَا يَدْفَعُ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ ؛ لِأَنَّ النِّتَاجَ لَا يَتَكَرَّرُ فَإِذَا أَثْبَتَ أَنَّهُ نَتَجَهَا انْدَفَعَ اسْتِحْقَاقُ الْخَارِجِ ضَرُورَةً ، فَأَمَّا فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَلَيْسَ فِي
بَيِّنَتِهِ مَا يَدْفَعُ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ فِي الْحَالِ لَا يَبْقَى مِلْكًا كَانَ لِلْخَارِجِ فِيهِ مِنْ قَبْلُ فَلِهَذَا عَمِلْنَا بَيِّنَةَ الْخَارِجِ هُنَاكَ وَكَانَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ الطَّرِيقُ عِنْدِي فِي النِّتَاجِ تَهَاتُرُ الْبَيِّنَتَيْنِ ؛ لِتَيَقُّنِ الْقَاضِي بِكَذِبِ أَحَدِهِمَا إذْ لَا تَصَوُّرَ لِنِتَاجِ دَابَّةٍ مِنْ دَابَّتَيْنِ .
فَإِنَّمَا يُقْضَى بِهَا لِذِي الْيَدِ فَصَارَ تَرْكًا لِتَهَاتُرِ الْبَيِّنَتَيْنِ ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْخَارِجَيْنِ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ إنَّمَا يُقْضَى بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَلَوْ كَانَ الطَّرِيقُ مَا قَالَ لَكَانَ يُتْرَكُ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ الشَّاةُ الْمَذْبُوحَةُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا ، وَسِقْطُهَا فِي يَدِ الْآخَرِ ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ فِيمَا يُقْضَى بِهَا وَبِالسِّقْطِ لِمَنْ فِي يَدِهِ أَصْلُ الشَّاةِ ، وَلَوْ كَانَ الطَّرِيقُ تَهَاتُرَ الْبَيِّنَتَيْنِ لَكَانَ يُتْرَكُ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا فِي يَدِهِ ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ بِأَنَّ الْقَاضِيَ تَيَقَّنَ بِكَذِبِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى النِّتَاجِ لَيْسَ بِمُعَايَنَةِ الِانْفِصَالِ فِي الْأُمِّ بَلْ بِدُونِهِ الْفَصِيلُ يَتْبَعُ النَّاقَةَ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ اعْتَمَدَ سَبَبًا صَحِيحًا لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا ، وَلَا يُصَارُ إلَى التَّهَاتُرِ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ الْفَرِيقَيْنِ عَلَى الْمِلْكَيْنِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوِلَادَةِ فِي مِلْكِهِ فَهَذَا وَالنِّتَاجُ فِي الدَّابَّةِ سَوَاءٌ .
وَكَذَلِكَ إذَا أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ثَوْبَهُ نَسَجَهُ فَإِنَّ النَّسْجَ فِي الثَّوْبِ يُوجِبُ أَوْلَوِيَّةَ الْمِلْكِ فِيهِ وَهُوَ لَا يَتَكَرَّرُ كَالنِّتَاجِ فِي الدَّابَّةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الثَّوْبُ بِحَيْثُ يُنْسَجُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ كَالْخَزِّ يُنْسَجُ ،
ثُمَّ يُنْكَثُ فَيُغْزَلُ ثَانِيًا فَحِينَئِذٍ يُقْضَى بِهِ لِلْخَارِجِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ النِّتَاجَ مَخْصُوصٌ مِنْ الْقِيَاسِ بِالسُّنَّةِ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ إلَّا مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَأَمَّا مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ إلَّا مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ لَا يَلْحَقُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أُلْحِقَ بِهِ ؛ كَانَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ ، وَلَا يُقَاسُ عَلَى الْمَخْصُوصِ مِنْ الْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّ قِيَاسَ الْأَصْلِ يُعَارِضُهُ وَكُلُّ قِيَاسٍ لَا يَنْفَكُّ عَمَّا يُعَارِضُهُ فَهُوَ بَاطِلٌ إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ مَا لَا يَتَكَرَّرُ فَهُوَ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيَلْتَحِقُ بِهِ وَيَكُونُ إثْبَاتُ الْحُكْمِ فِيهِ بِدَلَالَةِ النَّصِّ وَمَا يَتَكَرَّرُ لَيْسَ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيُعَادُ فِيهِ إلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ
قَالَ : وَلَوْ ادَّعَى الدَّابَّةَ خَارِجَانِ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا دَابَّتُهُ نَتَجَهَا عِنْدَهُ وَيُقْضَى بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ؛ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فَإِنْ وَقَّتَتْ بَيِّنَةُ أَحَدِهِمَا ، وَلَمْ تُوَقِّتْ بَيِّنَةُ الْآخَرِ وَهِيَ مُشْكِلَةُ السِّنِّ قُضِيَ بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ الَّذِي لَمْ يُوَقِّتْ أَثْبَتَ مِلْكَهُ فِيهَا مِنْ حِينِ وُجِدَتْ ، وَالْمِلْكُ لَا يَسْبِقُ الْوُجُودَ فَلَمْ يَكُنْ التَّوْقِيتُ مُفِيدًا شَيْئًا فِي حَقِّ مَنْ وَقَّتَهُ إذَا كَانَتْ مُشْكِلَةُ السِّنِّ فَكَانَ ذِكْرُهُ كَعَدَمِ ذِكْرِهِ فَإِنْ كَانَ السِّنُّ عَلَى أَحَدِ الْوَقْتَيْنِ ، وَقَدْ وَقَّتَتْ بَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقْتًا قَضَيْتُ بِهَا لِمَنْ وَافَقَ تَوْقِيتُهُ سِنَّ الدَّابَّةِ ، وَلَا عِبْرَةَ بِالْأَوَّلِ وَالْآخَرِ ؛ لِأَنَّ عَلَامَةَ الصِّدْقِ ظَهَرَتْ فِي شَهَادَةِ مَنْ وَافَقَ سِنَّ الدَّابَّةِ تَوْقِيتُهُ .
وَعَلَامَةُ الْكَذِبِ تَظْهَرُ فِي شَهَادَةِ الْفَرِيقِ الْآخَرِ فَيُقْضَى بِالشَّهَادَةِ الَّتِي ظَهَرَ فِيهَا عَلَامَةُ الصِّدْقِ وَإِنْ كَانَتْ عَلَى غَيْرِ الْوَقْتَيْنِ أَوْ كَانَتْ مُشْكِلَةً قَضَيْتُ بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ .
مِنْ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ قَالَ : جَمَعَ فِي السُّؤَالِ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ ، ثُمَّ أَجَابَ عَنْ أَحَدِهِمَا وَهُوَ مَا إذَا كَانَتْ مُشْكِلَةً فَأَمَّا إذَا كَانَ سِنُّهَا عَلَى غَيْرِ الْوَقْتَيْنِ يُعْلَمُ ذَلِكَ ، ظَهَرَ بُطْلَانُ الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى قِيَاسِ مَا تَقَدَّمَ إذَا كَانَ الْمُدَّعِي وَاحِدًا وَوَقْتُ شُهُودِهِ الْمِلْكَ مُنْذُ عَشْرِ سِنِينَ وَهِيَ بِنْتُ ثَلَاثِينَ سَنَةٍ أَنَّ بَيِّنَتَهُ بَاطِلَةٌ فَكَذَلِكَ هُنَا إذَا كَانَ سِنُّهَا عَلَى غَيْرِ الْوَقْتَيْنِ فَقَدْ عَلِمَ الْقَاضِي بِمُجَازَفَةِ الْفَرِيقَيْنِ وَكَذِبِهِمَا فِي الشَّهَادَةِ ، وَقَدْ فَعَلَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ مِثْلَ هَذَا فِي الْكِتَابِ ، جَمَعَ بَيْنَ السُّؤَالَيْنِ ، ثُمَّ أَجَابَ عَنْ أَحَدِهِمَا وَتَرَكَ الْآخَرَ فِي النِّكَاحِ ، وَالْإِجَارَاتِ وَغَيْرِهِمَا أَوْ يَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ أَوْ كَانَتْ مُشْكِلَةً "
أَوْ " تَأْتِي بِمَعْنَى الْوَاوِ ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَوْ يَزِيدُونَ } مَعْنَاهُ : وَيَزِيدُونَ فَهُنَا أَيْضًا مَعْنَاهُ إذَا كَانَ عَلَى غَيْرِ الْوَقْتَيْنِ ، وَكَانَتْ مُشْكِلَةً فَحِينَئِذٍ الْجَوَابُ صَحِيحٌ وَالْأَصَحُّ أَنْ يَقُولَ جَوَابُهُ صَحِيحٌ لِلْفَصْلَيْنِ أَمَّا إذَا كَانَتْ مُشْكِلَةً ؛ فَلَا شَكَّ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ عَلَى غَيْرِ الْوَقْتَيْنِ ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ ذِكْرِ الْوَقْتِ لَحِقَهُمَا وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ فِي اعْتِبَارِهِ إبْطَالُ حَقِّهِمَا فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ ذِكْرِ الْوَقْتِ أَصْلًا وَيُنْظَرُ إلَى مَقْصُودِهِمَا وَهُوَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ فِي الدَّابَّةِ ، وَقَدْ اسْتَوَيَا فِي ذَلِكَ فَوَجَبَ الْقَضَاءُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ؛ لِأَنَّا لَوْ اعْتَبَرْنَا التَّوْقِيتَ بَطَلَتْ الْبَيِّنَتَانِ وَبَقِيَتْ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ ، وَقَدْ اتَّفَقَ الْفَرِيقَانِ عَلَى اسْتِحْقَاقِهِمَا عَلَى ذِي الْيَدِ فَكَيْفَ يُتْرَكُ فِي يَدِهِ مَعَ قِيَامِ حُجَّةِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى النَّسْجِ وَالثِّيَابِ ، وَالنِّتَاجِ وَالْمِلْكِ لَهُ ، وَأَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ قَضَيْتُ بِهَا لِذِي الْيَدِ عَلَى الْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ اسْتَوَيَا فَيَتَرَجَّحُ ذُو الْيَدِ بِحُكْمِ يَدِهِ ، وَإِنْ وَقَّتَتْ الْبَيِّنَتَانِ فِي الدَّابَّةِ وَقْتَيْنِ فَإِنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ عَلَى وَقْتِ بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي قَضَيْتُ بِهَا لَهُ ؛ لِأَنَّ عَلَامَةَ الصِّدْقِ ظَهَرَتْ فِي شَهَادَةِ شُهُودِهِ وَعَلَامَةُ الْكَذِبِ ظَهَرَتْ فِي شَهَادَةِ شُهُودِ ذِي الْيَدِ .
وَإِنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ عَلَى وَقْتِ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ أَوْ كَانَتْ مُشْكِلَةً قَضَيْتُ بِهَا لِذِي الْيَدِ إمَّا لِظُهُورِ عَلَامَةِ الصِّدْقِ فِي شُهُودِهِ أَوْ لِسُقُوطِ اعْتِبَارِ التَّوْقِيتِ إذَا كَانَتْ مُشْكِلَةً
قَالَ : وَإِذَا كَانَ الثَّوْبُ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ خَارِجٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ثَوْبُهُ نَسَجَهُ ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ يُعْلَمُ أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُنْسَجُ إلَّا مَرَّةً فَهُوَ لِذِي الْيَدِ ، وَإِنْ كَانَ يُعْلَمُ أَنَّهُ يُنْسَجُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فَهُوَ لِلْخَارِجِ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ ، وَإِنْ كَانَ مُشْكِلًا لَا يَسْتَبِينُ أَنَّهُ يُنْسَجُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ قَضَيْتُ بِهِ لِلْمُدَّعِي وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْأَصْلِ .
قَالَ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الْحَاصِلِ ، وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ ؛ لِأَنَّ النِّتَاجَ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا مَرَّةً فَمَا لَا يَكُونُ إلَّا مُشْكِلًا لَا يَكُونُ فِي مَعْنَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ حَقِيقَةً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيُؤْخَذُ فِيهِ بِأَصْلِ الْقِيَاسِ وَيُقْضَى بِهِ لِلْمُدَّعِي .
، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْمُنَازَعَةُ فِي نَصْلِ سَيْفٍ ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ سَيْفُهُ ضَرَبَهُ فَإِنَّهُ يَسْأَلُ أَهْلَ الْعِلْمِ بِذَلِكَ مِنْ الصَّيَاقِلَةِ ؛ لِأَنَّ هَذَا مُشْكِلٌ عَلَى الْقَاضِي فَيَسْأَلُ عَنْهُ مَنْ لَهُ عِلْمٌ بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } ، وَقَالَ النَّبِيُّ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُنَازِعُوا الْأَمْرَ أَهْلَهُ } فَإِنْ قَالُوا : لَا يُضْرَبُ إلَّا مَرَّةً يُقْضَى بِهِ لِذِي الْيَدِ ، وَإِنْ قَالُوا يُضْرَبُ مِثْلُهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَعْرِفُوا ؛ يُقْضَى بِهِ لِلْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ .
قَالَ : وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي غَزْلٍ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ يُقْضَى بِهِ لِلَّذِي هُوَ فِي يَدَيْهَا ؛ لِأَنَّ الْقُطْنَ لَا يُغْزَلُ إلَّا مَرَّةً فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى النِّتَاجِ وَبِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ مَنْ غَصَبَ قُطْنًا فَغَزَلَهُ بِمِلْكِهِ فَإِنَّ الْمَذْكُورَ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ إذَا غَزَلَهُ ، وَنَسَجَهُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْفَصْلَ ، وَلَمَّا جَعَلَهُ هُنَا فِي مَعْنَى النِّتَاجِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَالنِّتَاجُ سَبَبٌ لِأَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ فِي الدَّابَّةِ عَرَفْنَا أَنَّ الْغَزْلَ سَبَبٌ لِأَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ فِي الْمَغْزُولِ لِلَّذِي غَزَلَهُ وَفِي الشَّعْرِ إذَا كَانَ مِمَّا يُنْقَضُ وَيُغْزَلُ يُقْضَى بِهِ لِلْمُدَّعِي ، وَكَذَلِكَ الْمِرْعِزَّى ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ ، وَكَذَلِكَ فِي الْحُلِيِّ يُقْضَى بِهِ لِلْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّهُ يُصَاغُ مَرَّتَيْنِ فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى خُطَّةِ الدَّارِ قَضَيْتُ بِهَا لِلْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّ الْخُطَّةَ قَدْ تَكُونُ غَيْرَ مَرَّةٍ فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ قِسْمَةِ الْإِمَامِ عِنْدَ الْفَتْحِ يَخُطُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَانِمِينَ خَطًّا فِي مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ يَمْلِكُهُ ذَلِكَ بِالْقِسْمَةِ فَيَكُونُ خَطُّهُ لَهُ ، وَهَذَا قَدْ يَكُونُ غَيْرَ مَرَّةٍ بِأَنْ يَرْتَدَّ أَهْلُهَا وَتَصِيرَ مَحْكُومَةً بِأَنَّهَا دَارُ الشِّرْكِ لِوُجُودِ شَرَائِطِهَا ، ثُمَّ يَظْهَرُ عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ ثَانِيَةً فَيَقْسِمُهَا الْإِمَامُ بِالْخَطِّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَمَا بَيَّنَّا .
قَالَ ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي صُوفٍ فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ جَزَّهُ مِنْ غَنَمِهِ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِهِ لِذِي الْيَدِ ؛ لِأَنَّ الْجَزَّ لَا يَكُونُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَكَذَلِكَ الْمِرْعِزَّى وَالْجَزُّ وَالشَّعْرُ فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى النِّتَاجِ فَإِنْ ( قِيلَ ) : كَيْفَ يَكُونُ الْجَزُّ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ وَهُوَ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِأَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ فَإِنَّ الصُّوفَ ، وَهُوَ عَلَى ظَهْرِ الشَّاةِ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ فَكَانَ مَالًا ظَاهِرًا قَبْلَ الْجَزِّ .
( قُلْنَا ) نَعَمْ ، وَلَكِنْ كَانَ
وَصْفًا لِلشَّاةِ ، وَلَمْ يَكُنْ مَالًا مَقْصُودًا إلَّا بَعْدَ الْجَزِّ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ الْجَزِّ ، وَإِنَّ مَا تَنَازَعَا فِيهِ مَالٌ مَقْصُودٌ قَالَ ، وَإِذَا كَانَتْ الْأَرْضُ وَالنَّخْلُ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ نَخْلُهُ ، وَأَرْضُهُ ، وَأَنَّهُ غَرَسَ هَذَا النَّخْلَ فِيهَا ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ ؟ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ يُقْضَى بِهَا لِلْمُدَّعِي ، وَكَذَلِكَ الْكُرُومُ ، وَالشَّجَرُ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْمُنَازَعَةِ فِي مِلْكِ الْأَرْضِ فَإِنَّ النَّخْلَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ لِلْأَرْضِ حَتَّى يَدْخُلَ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْأَرْضِ مَعْنَى النِّتَاجِ ؛ وَلِأَنَّ النَّخْلَ يُغْرَسُ غَيْرَ مَرَّةٍ فَقَدْ يَغْرِسُ الثَّالِثَةَ إنْسَانٌ ، ثُمَّ يَقْلَعُهَا غَيْرُهُ وَيَغْرِسُهَا فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ .
وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي الْحِنْطَةِ ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا حِنْطَةٌ زَرَعَهَا فِي أَرْضِهِ قَضَيْتُ بِهَا لِلْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّ الزَّرْعَ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ مَرَّةٍ فَإِنَّ الْحِنْطَةَ قَدْ تُزْرَعُ فِي الْأَرْضِ ، ثُمَّ يُغَرْبِلُ التُّرَابَ فَيُمَيِّزُ الْحِنْطَةَ ، ثُمَّ تُزْرَعُ ثَانِيَةً فَلَمْ يَكُنْ هَذَا فِي مَعْنَى النِّتَاجِ
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ أَرْضٌ فِيهَا زَرْعٌ فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْأَرْضَ وَالزَّرْعَ لَهُ ، وَأَنَّهُ زَرَعَهَا يُقْضَى بِهَا لِلْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْمُنَازَعَةِ فِي مِلْكِ الْأَرْضِ ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهَا مَعْنَى النِّتَاجِ .
وَكَذَلِكَ قُطْنٌ أَوْ كَتَّانٌ فِي يَدِ رَجُلٍ أَقَامَ هُوَ مَعَ خَارِجِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَهُ زَرْعُهُ فِي أَرْضِهِ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهِ لِلْمُدَّعِي لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الزَّرْعَ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ مَرَّةٍ .
وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُزْرَعُ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ قَالَ : وَهَذَا لَا يُشْبِهُ الصُّوفَ وَالْمِرْعِزَّى ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَزْرَعُ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ وَيَكُونُ لِلزَّارِعِ ، وَلَا يَسْتَحِقُّهُ رَبُّ الْأَرْضِ بِخُرُوجِهِ مِنْ أَرْضِهِ ، وَأَمَّا الصُّوفُ وَالْمِرْعِزَّى لَا يَكُونُ إلَّا لِصَاحِبِ الْغَنَمِ فَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ الشَّاةِ الَّتِي فِي يَدِ ذِي الْيَدِ مَمْلُوكَةً لَهُ أَنْ يَكُونَ الَّذِي جَزَّ مِنْهَا مَمْلُوكًا لَهُ ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ الزَّرْعِ فِي أَرْضٍ هِيَ مَمْلُوكَةٌ لِذِي الْيَدِ أَنْ يَكُونَ الزَّرْعُ مَمْلُوكًا لَهُ ؛ وَلِأَنَّ الْجَزَّ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ ، وَالزَّرْعُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ لِاحْتِمَالِ التَّكَرُّرِ فَلِهَذَا قَضَيْنَا بِهِ لِلْمُدَّعِي .
قَالَ : وَلَوْ كَانَ الْقُطْنُ شَجَرًا ثَابِتًا فِي أَرْضٍ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا أَرْضُهُ ، وَأَنَّهُ زَرَعَ هَذَا الْقُطْنَ فِيهَا ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ يُقْضَى بِهَا لِلْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْمُنَازَعَةِ فِي الْأَرْضِ ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهَا مَعْنَى النِّتَاجِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْمُنَازَعَةُ فِي دَارٍ ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا دَارُهُ بَنَاهَا بِمَالِهِ يَقْضِي بِهَا لِلْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ يَكُونُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ
قَالَ : وَلَوْ كَانَتْ أَمَةٌ فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَاهَا آخَرُ أَنَّهَا أَمَتُهُ ، وَأَنَّهَا وُلِدَتْ عِنْدَهُ فِي مِلْكِهِ مِنْ أَمَتِهِ فِي يَدَيْهِ ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ يُقْضَى بِهَا لِذِي الْيَدِ ؛ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ فِي بَنِي آدَمَ كَالنِّتَاجِ فِي الْبَهَائِمِ ، وَلَوْ كَانَ الْمُدَّعِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أُمِّهَا الَّتِي عِنْدَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهَا أَمَتُهُ ، وَأَنَّهَا وَلَدَتْ هَذِهِ فِي مِلْكِهِ ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ قَضَيْتُ بِهَا ، وَبِأُمِّهَا لِلْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الدَّعْوَى فِي الْأُمِّ ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهَا مَعْنَى النِّتَاجِ فَوَجَبَ الْقَضَاءُ بِهَا لِلْمُدَّعِي ، ثُمَّ الْوَلَدُ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأُمِّ ، وَكَانَ مِنْ ضَرُورَةِ الْقَضَاءِ بِالْأُمِّ لِلْمُدَّعِي الْقَضَاءُ بِالْوَلَدِ لَهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي صُوفٍ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ جَزَّهُ مِنْ شَاتِه هَذِهِ ، وَهِيَ فِي مِلْكِهِ ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ مِنْ شَاةٍ أُخْرَى فِي يَدِهِ قَضَيْتُ بِهَا لِذِي الْيَدِ ، وَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الشَّاةِ أَنَّهَا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهَا شَاتُهُ ، وَأَنَّهُ جَزَّ هَذَا الصُّوفَ فِي مِلْكِهِ مِنْهَا ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ قَضَيْتُ بِهَا لِلْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى فِي أَصْلِ الشَّاةِ فَإِنَّمَا أَثْبَتَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْبَيِّنَةِ الْمِلْكَ الْمُطْلَقَ فِيهَا فَتَتَرَجَّحُ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي ، ثُمَّ الصُّوفُ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ .
فَإِنْ ( قِيلَ ) : قَدْ يَكُونُ الصُّوفُ وَالْوَلَدُ لِغَيْرِ صَاحِبِ الْأَصْلِ بِأَنْ يُوصِيَ بِمَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ لِلْإِنْسَانِ وَبِرَقَبَتِهَا لِآخَرَ أَوْ يُوصِيَ بِالشَّاةِ لِإِنْسَانٍ وَبِصُوفِهَا لِآخَرَ ( قُلْنَا ) لَا كَذَلِكَ فَالْوَلَدُ وَالصُّوفُ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ إلَّا أَنْ يَمْلِكَ غَيْرَهُ بِسَبَبٍ يُنْشِئُهُ مَالِكُ الْأَصْلِ مِنْ وَصِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهِ
قَالَ عَبْدٌ فِي يَدَيْ رَجُلٍ فَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ وُلِدَ فِي مِلْكِهِ مِنْ أَمَتِهِ هَذِهِ وَمِنْ عَبْدِهِ هَذَا ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهِ لِلَّذِي هُوَ فِي يَدَيْهِ لِإِثْبَاتِهِ أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ فِيهِ فَيَكُونُ ابْنُ عَبْدِهِ ، وَأَمَتِهِ دُونَ ابْنِ عَبْدِ الْآخَرِ ، وَأَمَتِهِ ؛ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ لَمَّا تَرَجَّحَتْ بِالْقَضَاءِ بِالْمِلْكِ صَارَتْ الْبَيِّنَةُ الْأُخْرَى مَدْفُوعَةً لَا يُقْضَى بِهَا بِالنَّسَبِ كَمَا لَا يُقْضَى بِهَا بِالْمِلْكِ ، وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ اشْتَرَاهُ مِنْ فُلَانٍ ، وَأَنَّهُ وُلِدَ فِي مِلْكِ بَائِعِهِ ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ اشْتَرَاهُ مِنْ فُلَانٍ آخَرَ ، وَأَنَّهُ وُلِدَ فِي مِلْكِهِ قُضِيَ بِهِ لِذِي الْيَدِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَصْمٌ فِي إثْبَاتِ نِتَاجِ بَائِعِهِ كَمَا هُوَ خَصْمٌ فِي إثْبَاتِ مِلْكِ بَائِعِهِ ، وَلَوْ حَضَرَ الْبَائِعَانِ ، وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ كَانَ ذُو الْيَدِ أَوْلَى فَهَذَا مِثْلُهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى نِتَاجِ بَائِعِهِ ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ فِي مِلْكِهِ فَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ أَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى وِرَاثَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَوْ هِبَةٍ مَقْبُوضَةٍ مِنْ رَجُلٍ ، وَأَنَّهُ وُلِدَ فِي مِلْكِ ذَلِكَ الرَّجُلِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَلَقَّى الْمِلْكَ مِنْ جِهَةِ مُوَرِّثِهِ وَمُوصِيهِ فَيَكُونُ خَصْمًا عَنْهُ فِي إثْبَاتِ نِتَاجِهِ .
وَلَوْ كَانَ عَبْدٌ فِي يَدَيْ رَجُلٍ فَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ وُلِدَ فِي مِلْكِهِ ، وَلَمْ يُسَمُّوا أُمَّهُ ، وَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ وُلِدَ عِنْدَهُ مِنْ أُمِّهِ هَذِهِ فَإِنَّهُ يُقْضَى لِلَّذِي أُمُّهُ فِي يَدَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ تَتَرَجَّحُ بِزِيَادَةِ الْإِثْبَاتِ وَفِي بَيِّنَةِ مَنْ عَيَّنَ أُمَّهُ زِيَادَةٌ ، وَهُوَ إثْبَاتُ نِسَبِهِ مِنْ أُمِّهِ فَيَتَرَجَّحُ بِذَلِكَ فَإِنْ شَهِدَ الشُّهُودُ لِذِي الْيَدِ أَنَّهُ
لَهُ وُلِدَ فِي مِلْكِهِ مِنْ أَمَتِهِ هَذِهِ لِأَمَةٍ أُخْرَى قُضِيَ بِهِ لِذِي - الْيَدِ ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ فِي الْوِلَادَةِ لَا تُعَارِضُ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ سَوَاءٌ حَصَلَ مِنْ وَاحِدَةٍ أَوْ مِنْ اثْنَتَيْنِ فَأَمَّا أُمُّهُ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهَا لِلَّذِي الْعَبْدُ فِي يَدِهِ الَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مُزَاحِمَ لَهُ فِي الْأُمِّ بِحُجَّةٍ يُقِيمُهَا عَلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ فِيهِ فَلِهَذَا قَضَيْتُ بِهَا لِلَّذِي الْعَبْدُ فِي يَدَيْهِ الَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ .
قَالَ : وَإِنْ كَانَ عَبْدٌ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ وُلِدَ فِي مِلْكِهِ مِنْ أَمَتِهِ هَذِهِ وَمِنْ عَبْدِهِ هَذَا ، وَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحُجَّةِ عَلَى الْوِلَادَةِ فِي الْمِلْكِ ، ثُمَّ قَالَ ، وَيَكُونُ الِابْنُ مِنْ الْأَمَتَيْنِ وَالْعَبْدَيْنِ جَمِيعًا فَأَمَّا ثُبُوتُ نَسَبِهِ مِنْ الْعَبْدَيْنِ فَهُوَ عَلَى قَوْلِ عُلَمَائِنَا وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْ رَجُلَيْنِ بِحَالٍ حُرَّيْنِ كَانَا أَوْ عَبْدَيْنِ ادَّعَيَا لَقِيطًا أَوْ وَلَدَ جَارِيَةٍ بَيْنَهُمَا ، وَلَكِنَّهُ يُرْجَعُ إلَى قَوْلِ الْقَائِفِ فَإِنْ قَالَ الْقَائِفُ : إنَّهُ ابْنُهُ يَثْبُت النَّسَب مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ مَوْضِعًا لَا يُوجَدُ الْقَائِفُ فِيهِ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا وَيُقْضَى بِالنَّسَبِ لِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ .
وَاحْتَجَّ فِي الْمَنْعِ مِنْ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْ اثْنَيْنِ أَنَّ ثُبُوتَ نَسَبِ الْمَوْلُودِ مِنْ الْوَالِدِ بِكَوْنِهِ مَخْلُوقًا مِنْ مَائِهِ وَنَحْنُ نَتَيَقَّنُ أَنَّهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ مِنْ مَاءِ رَجُلَيْنِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلٌ لِلْوَلَدِ كَالْأُمِّ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْضِ لِلْفَرْخِ وَالْحَبِّ لِلْحِنْطَةِ فَكَمَا لَا يُتَصَوَّرُ فَرْخٌ وَاحِدٌ مِنْ سُنْبُلَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ حَبَّتَيْنِ فَكَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ ، وَلَدٌ وَاحِدٌ مِنْ مَائِينَ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ وُصُولَ الْمَائِينَ إلَى الرَّحِمِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لَا يُتَصَوَّرُ ، وَإِذَا
وَصَلَ أَحَدُ الْمَائِينَ فِي الرَّحِمِ يَنْسَدُّ فَمُ الرَّحِمِ فَلَا يَخْلُصُ إلَيْهِ الْمَاءُ الثَّانِي فَإِذَا تَعَذَّرَ الْقَضَاءُ بِالنَّسَبِ مِنْهُمَا جَمِيعًا يُرْجَعُ إلَى قَوْلِ الْقَائِفِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { قَالَتْ دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَسَارِيرُ وَجْهِهِ تَبْرُقُ مِنْ السُّرُورِ ، وَقَالَ أَمَا تَرَيْنَ يَا عَائِشَةُ أَنَّ مُجَزِّزَ الْمُدْلِجِيَّ مَرَّ بِأُسَامَةَ وَزَيْدٍ وَهُمَا نَائِمَانِ تَحْتَ لِحَافٍ وَاحِدٍ قَدْ غَطَّيَا رُءُوسَهُمَا وَبَدَتْ أَقْدَامُهُمَا فَقَالَ هَذِهِ الْأَقْدَامُ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ فَسُرُورُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } بِقَوْلِ الْقَائِفِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ حُجَّةٌ فِي النَّسَبِ ؛ وَلِأَنَّ الْقَائِفَ يَعْتَبِرُ الشَّبَهَ ؛ وَلِلشَّبَهِ فِي الدَّعَاوَى عِبْرَةٌ كَمَا قُلْتُمْ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ إذَا اخْتَصَمَ فِيهِ الزَّوْجَانِ فَمَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ ، وَمَا يَصْلُحُ لِلنِّسَاءِ فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ ، وَكَذَلِكَ إذَا اخْتَلَفَ الْآجِرُ وَالْمُسْتَأْجِرُ فِي مِلْكِ لَوْحٍ مَوْضُوعٍ فِي الدَّارِ فَإِنْ كَانَ تَصَاوِيرُهُ تُشْبِهُ تَصَاوِيرَ مَا فِي السَّقْفِ وَمَوْضِعِهِ ظَاهِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآجِرِ ، وَإِنْ كَانَ يُخَالِفُ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجَرِ ، وَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يُوجَدُ الْقَائِفُ يُصَارُ إلَى الْإِقْرَاعِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ فِي جَوَازِ اسْتِعْمَالِ الْقُرْعَةِ لِتَعْيِينِ الْمُسْتَحَقِّ عِنْد الْإِقْرَارِ ، وَقَدْ اسْتَعْمَلَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي دَعْوَى النَّسَبِ حِين كَانَ بِالْيَمَنِ .
وَحُجَّتُنَا فِي إبْطَالِ الْمَصِيرِ إلَى قَوْلِ الْقَائِفِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَعَ حُكْمَ اللِّعَانِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ عِنْدَ نَفْيِ النَّسَبِ ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِالرُّجُوعِ إلَى قَوْلِ الْقَائِفِ فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ حُجَّةً لَأَمَرَ بِالْمَصِيرِ إلَيْهِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ ؛ وَلِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِفِ رَجْمٌ بِالْغَيْبِ وَدَعْوَى لِمَا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعِلْمِهِ ، وَهُوَ مَا فِي الْأَرْحَامِ كَمَا قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى { وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ } ، وَلَا بُرْهَانَ لَهُ عَلَى هَذِهِ الدَّعْوَى وَعِنْدَ انْعِدَامِ الْبُرْهَانِ كَانَ فِي قَوْلِهِ قَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ وَنِسْبَةُ الْأَوْلَادِ إلَى غَيْرِ الْآبَاءِ وَمُجَرَّدُ الشَّبَهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَقَدْ يُشْبِهُ الْوَلَدُ أَبَاهُ الْأَدْنَى ، وَقَدْ يُشْبِهُ الْأَبَ الْأَعْلَى الَّذِي بِاعْتِبَارِهِ يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَى الْأَجَانِبِ فِي الْحَالِ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ { رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَتَاهُ رَجُلٌ فَقَالَ : أَنَا أَسْوَدُ شَدِيدُ السَّوَادِ ، وَقَدْ ، وَلَدَتْ امْرَأَتِي ، وَلَدًا أَبْيَضَ فَلَيْسَ مِنَى فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ لَكَ مِنْ إبِلٍ فَقَالَ نَعَمْ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَوْنُهَا قَالَ حُمْرٌ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ فَقَالَ نَعَمْ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّ ذَاكَ فَقَالَ لَعَلَّ عِرْقًا نَزَعَ أَوْ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَعَلَّ هَذَا عِرْقًا نَزَعَ } فَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِلشَّبَهِ ، وَفِي مَتَاعِ الْبَيْتِ عِنْدَنَا التَّرْجِيحُ بِالِاسْتِعْمَالِ لَا بِالشَّبَهِ وَفِي اللَّوْحِ التَّرْجِيحُ بِالظَّاهِرِ لَا بِالشَّبَهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنْ إسْكَافًا وَعَطَّارًا لَوْ تَنَازَعَا فِي أَدَاةِ الْأَسَاكِفَةِ لَا يَتَرَجَّحُ الْإِسْكَافُ بِالشَّبَهِ ، وَثُبُوتُ نَسَبِ أُسَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ بِالْفِرَاشِ لَا بِقَوْلِ الْقَائِفِ إلَّا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَطْعَنُونَ فِي ذَلِكَ لِاخْتِلَافِ لَوْنِهِمَا ، وَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ عِنْدَ الْقَافَةِ عِلْمٌ بِذَلِكَ ، وَأَنَّ بَنِي الْمُدْلِجِ هُمْ الْمُخْتَصُّونَ بِعَمَلِ الْقِيَافَةِ ، وَجَزِّ رِيشِهِمْ فَلَمَّا قَالَ مَا قَالَ كَانَ قَوْلُهُ رَدًّا لِطَعْنِ الْمُشْرِكِينَ فَإِنَّمَا سُرَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهَذَا ، لَا لِأَنَّ قَوْلَ الْقَائِفِ حُجَّةٌ فِي النَّسَبِ شَرْعًا .
فَأَمَّا الدَّلِيلُ عَلَى إثْبَاتِ النَّسَبِ مِنْهُمَا حَدِيثُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حِينَ قَالَ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ إنْ لَبَّسَا فَلُبِّسَ عَلَيْهِمَا ، وَلَوْ بَيَّنَّا لَبُيِّنَ لَهُمَا هُوَ ابْنُهُمَا يَرِثُهُمَا ، وَيَرِثَانِهِ ، وَهُوَ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا .
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَالْمُدَّعِي قَابِلٌ لِلِاشْتِرَاكِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ مِنْ الرَّجُلِ بِاعْتِبَارِ الْفِرَاشِ لَا بِحَقِيقَةِ انْخِلَاقِهِ مِنْ مَائِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَتِهِ ، وَلَا بِاعْتِبَارِ الْوَطْءِ ؛ لِأَنَّهُ سِرٌّ عَنْ غَيْرِ الْوَاطِئِينَ فَأَقَامَ الشَّرْعُ الْفِرَاشَ مَقَامَهُ تَيْسِيرًا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ } وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ يَعْتَمِدُ عَلَى مَا عَلِمَ بِهِ مِنْ الْفِرَاشِ ، وَالْحُكْمُ الْمَطْلُوبُ مِنْ النَّسَبِ الْمِيرَاثُ ، وَالنَّفَقَةُ وَالْحَضَانَةُ وَالتَّرْبِيَةُ ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ الِاشْتِرَاكَ فَيُقْضَى بِهِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : إنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ خَلْقُ الْوَلَدِ مِنْ الْمَائِينَ فَإِنَّ السَّبَبَ الظَّاهِرَ مَتَى أُقِيمَ مَقَامَ الْمَعْنَى الْخَفِيِّ تَيْسِيرًا سَقَطَ اعْتِبَارُ مَعْنَى الْبَاطِنِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ يُتَصَوَّرُ بِأَنْ يَطَأَهَا أَحَدُهُمَا فَلَا يَخْلُصُ الْمَاءُ إلَى أَحَدِهِمَا حَتَّى يَطَأَهَا الثَّانِي فَيَخْلُصُ الْمَاءَانِ إلَى الرَّحِمِ مَعًا ، وَيَخْتَلِطُ الْمَاءَانِ فَيَتَخَلَّقُ مِنْهُمَا الْوَلَدُ بِخِلَافِ الْبَيْضَتَيْنِ وَالْحَبَّتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَصَوُّرَ لِلِاخْتِلَاطِ فِيهِمَا .
قَالَ : وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي لِلنَّسَبِ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَتَيْنِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَثْبُتُ مِنْهُمْ ، وَإِنْ كَثُرُوا أَخْذًا بِالْقِيَاسِ كَمَا قَرَّرْنَا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَثْبُتُ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمُثَنَّى ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ مِنْ اثْنَيْنِ بِحَدِيثِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَفِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ يُوجَدُ بِأَصْلِ الْقِيَاسِ الَّذِي قَرَّرَهُ الْخَصْمُ لِاسْتِحَالَةِ إثْبَاتِ نَسَبٍ مِنْ عَشَرَةٍ
أَوْ أَكْثَرَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : يَثْبُتُ مِنْ ثَلَاثَةٍ ؛ لِأَنَّهَا أَدْنَى الْجَمْعِ ، وَلَا نِهَايَةَ لِلزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلَاثَةِ فَالْقَوْلُ بِهِ يُؤَدِّي إلَى التَّفَاحُشِ فَاعْتَبَرْتُ أَدْنَى الْجَمْعِ ، وَقُلْتُ يَثْبُتُ مِنْ ثَلَاثَةٍ ، وَلَا يَثْبُتُ مِنْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَأَمَّا فِي الْأَمَتَيْنِ يَثْبُتُ النَّسَبُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَكَذَلِكَ مِنْ الْحُرَّتَيْنِ إذَا ادَّعَتَا لَقِيطًا ، وَأَقَامَتَا الْبَيِّنَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ الْمَرْأَتَيْنِ بِحَالٍ ، وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ أَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ مِنْ الْمَرْأَةِ بِسَبَبِ انْفِصَالِ الْوَلَدِ عَنْهَا ؛ وَلِهَذَا يَثْبُتُ مِنْ الزَّانِيَةِ ، وَهَذَا سَبَبٌ مُعَايَنٌ يُوقَفُ عَلَيْهِ فَيُعْتَبَرُ حَقِيقَتُهُ ، وَلَا تَصَوُّرَ لِانْفِصَالِ ، وَلَدٍ وَاحِدٍ مِنْ الْمَرْأَتَيْنِ فَيُتَيَقَّنُ بِكَذِبِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ ، وَلَا يُعْرَفُ الصَّادِقُ مِنْ الْكَاذِبِ فَتَبْطُلُ الْبَيِّنَتَانِ بِخِلَافِ الرَّجُلَيْنِ فَسَبَبُ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْ الرَّجُلِ الْفِرَاشُ عَلَى مَا قَرَّرْنَا .
وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ نَعَمْ حَقِيقَةُ هَذَا النَّسَبِ مِنْ امْرَأَتَيْنِ مُحَالٌ ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ النَّسَبِ حُكْمُهُ لَا عَيْنُهُ ، وَهُوَ الْحَضَانَةُ وَالتَّرْبِيَةُ مِنْ جَانِبِ الْأُمِّ ، وَهَذَا الْحُكْمُ قَابِلٌ لِلِاشْتِرَاكِ فَتُقْبَلُ الْبَيِّنَتَانِ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ وَيَكُونُ ذِكْرُ السَّبَبِ كِنَايَةً عَنْ الْحُكْمِ مَجَازًا ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ وَهُوَ أَكْبَرُ سِنًّا مِنْهُ : هَذَا ابْنِي يُعْتِقُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ صَرِيحُ كَلَامِهِ مُحَالًا ، وَلَكِنْ يُجْعَلُ كِنَايَةً عَنْ حُكْمِهِ مَجَازًا .
وَمَا قَالَا يَبْطُلُ بِدَعْوَى النِّتَاجِ فَإِنَّ وِلَادَة شَاةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ شَاتَيْنِ حَقِيقَةً مُحَالٌ ، وَمَعَ ذَلِكَ إذَا أَثْبَتَ الْخَارِجَانِ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ يُقْضَى بِالْحُكْمِ الْمَطْلُوبِ وَهُوَ الْمِلْكُ ؛ لِأَنَّهُ قَابِلٌ لِلِاشْتِرَاكِ فَهَذَا مِثْلُهُ .
قَالَ : وَإِذَا كَانَ قَبَاءٌ مَحْشُوًّا فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَهُ قَطَعَهُ وَحَشَاهُ ، وَخَاطَهُ فِي مِلْكِهِ ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةِ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهِ لِلْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّ الْحَشْوَ وَالْخِيَاطَةَ قَدْ تَكُونُ غَيْرَ مَرَّةٍ فَلَمْ تَكُنْ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ ، وَكَذَلِكَ الْحَبَّةُ الْمَحْشُوَّةُ وَالْفَرْوُ ، وَكُلُّ مَا يُقْطَعُ مِنْ الثِّيَابِ وَالْبُسُطِ ، وَالْأَنْمَاطِ وَالْوَسَائِدِ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَتَكَرَّرُ ، وَكَذَلِكَ الثَّوْبُ الْمَصْبُوغُ بِالْعُصْفُرِ أَوْ الزَّعْفَرَانِ أَوْ الْوَرْسِ إذَا أَقَامَ الْخَارِجُ ، وَذُو الْيَدِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ لَهُ صَبْغَهُ فِي مِلْكِهِ ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ يُصْبَغُ غَيْرَ مَرَّةٍ ، وَقَدْ يُصْبَغُ عَلَى لَوْنٍ ، ثُمَّ يُصْبَغُ عَلَى لَوْنٍ آخَرَ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ ، وَكَذَلِكَ أَوَانِي الصُّفْرِ ، وَالْحَدِيدِ يُقْضَى بِهِ لِلْمُدَّعِي إلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ لَا يُصْبَغُ إلَّا مَرَّةً فَحِينَئِذٍ يَكُونُ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ ، وَكَذَلِكَ الْأَبْوَابُ ، وَالسُّرَرُ وَالْكَرَاسِيُّ إذَا أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ يَجُرُّهُ فِي مِلْكِهِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً يُقْضَى بِهِ لِذِي الْيَدِ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ فَإِنْ كَانَ يَكُونُ غَيْرَ مَرَّةٍ أَوْ لَا يُعْلَمُ يُقْضَى بِهَا لِلْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ وَعَلَى هَذَا الْخِفَافُ وَالنِّعَالُ ، وَالْقَلَانِسُ .
قَالَ : وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي سَمْنٍ أَوْ زَيْتٍ أَوْ دُهْنٍ ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَهُ عَصَرَهُ وَسَلَاهُ فِي مِلْكِهِ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهِ لِذِي الْيَدِ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً فَهُوَ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ ، وَكَذَلِكَ السَّوِيقُ وَالْعَصِيرُ وَالْخَلُّ وَالْجُبْنُ ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ ، وَأَمَّا الشَّاةُ الْمَسْلُوقَةُ إذَا أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا شَاتُهُ ضَحَّى بِهَا ، وَسَلَخَهَا فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهَا لِلْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ وَالسَّلْخَ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلْمِلْكِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْغَاصِبَ لَا يَمْلِكُ بِهِ فَلَمْ يَكُنْ هَذَا فِي مَعْنَى النِّتَاجِ فِي إثْبَاتِ أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ بِهِ فَلِهَذَا قَضَيْنَا بِهِ لِلْمُدَّعِي
قَالَ : وَإِنْ أَقَامَ خَارِجَانِ الْبَيِّنَةَ دَعْوَى الدَّابَّةِ أَحَدُهُمَا عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ وَالْآخَرُ عَلَى النِّتَاجِ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهَا لِصَاحِبِ النِّتَاجِ لِإِثْبَاتِهِ أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ فَإِنَّهَا لَا تُتَمَلَّكُ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ وَالْآخَرُ لَا يَدَّعِي تَمَلُّكَهَا مِنْ جِهَتِهِ وَفِي الْكِتَابِ قَالَ عَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ النَّاتِجُ أَحَقُّ مِنْ الْعَارِفِ يَعْنِي بِالْعَارِفِ الْخَارِجِ الَّذِي يَدَّعِي مِلْكًا مُطْلَقًا ، وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي لَحْمٍ مَشْوِيٍّ أَوْ سَمَكَةٍ مَشْوِيَّةٍ ، وَأَقَامَ الْخَارِجُ ، وَذُو الْيَدِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ شَوَاهُ فِي مِلْكِهِ يُقْضَى بِهَا لِلْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّ الشَّيَّ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ مَرَّةٍ فَإِنَّ اللَّحْمَ يُشْوَى ، ثُمَّ يُعَادُ ثَانِيًا فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ .
وَكَذَلِكَ الْمُصْحَفُ إذَا أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ مُصْحَفُهُ كَتَبَهُ فِي مِلْكِهِ يُقْضَى بِهِ لِلْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِلْمِلْكِ ، وَلَكِنَّهُ قَدْ يَتَكَرَّرُ يُكْتَبُ ، ثُمَّ يُمْحَى ، ثُمَّ يُكْتَبُ فَلِهَذَا قَضَيْنَا بِهِ لِلْمُدَّعِي
قَالَ : وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي أَمَةٍ فَأَقَامَ أَحَدُ الْخَارِجِينَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا أَمَتُهُ ، وُلِدَتْ فِي مِلْكِهِ ، وَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا أَمَتُهُ سُرِقَتْ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهَا لِصَاحِبِ الْوِلَادَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ شُهُودُ السَّرِقَةِ أَنَّهَا أَمَتُهُ أَبَقَتْ مِنْهُ أَوْ غَصَبَهَا إيَّاهُ ذُو الْيَدِ فَهِيَ لِصَاحِبِ الْوِلَادَةِ ؛ لِأَنَّ فِي بَيِّنَتِهِ إثْبَاتَ أَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ ، وَلَيْسَ فِي الْبَيِّنَةِ الْأُخْرَى ذَلِكَ فَكَانَ اسْتِحْقَاقُهُ سَابِقًا ، وَكَذَلِكَ فِي الدَّابَّةِ إذَا شَهِدَ شُهُودُ أَحَدِهِمَا بِالنِّتَاجِ ، وَشُهُودُ الْآخَرِ أَنَّهَا دَابَّتُهُ آجَرَهَا مِنْ ذِي الْيَدِ أَوْ أَعَارَهَا أَوْ رَهَنَهَا إيَّاهُ فَهِيَ لِصَاحِبِ النِّتَاجِ ؛ لِأَنَّ فِي شَهَادَةِ شُهُودِهِ دَلِيلُ سَبْقِ مِلْكِهِ .
قَالَ : وَإِذَا كَانَ الثَّوْبُ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ نَسَجَهُ ، وَلَمْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ لَهُ لَمْ يُقْضَ لَهُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْهَدُوا لَهُ بِالْمِلْكِ نَصًّا فَقَدْ يَنْسِجُ الْإِنْسَانُ ثَوْبَ الْغَيْرِ بِإِذْنِهِ ، وَلَا يَمْلِكُهُ كَالنَّسَّاجِ يَنْسِجُ ثِيَابَ النَّاسِ
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فِي دَابَّةٍ أَنَّهَا نُتِجَتْ عِنْدَهُ أَوْ فِي أَمَةٍ أَنَّهَا وُلِدَتْ عِنْدَهُ فَلَيْسَتْ هَذِهِ اللَّفْظَةُ شَهَادَةً بِالْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ شَيْئًا .
وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا أَنَّهَا ابْنَةُ أَمَتِهِ فَلَيْسَ فِي هَذَا اللَّفْظِ شَهَادَةٌ بِالْمِلْكِ لَهُ إنَّمَا فِيهِ شَهَادَةٌ بِالنَّسَبِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ قَدْ يَشْتَرِي أَمَةً ، وَلَهَا ابْنَةٌ فِي يَدِ غَيْرِهِ فَهِيَ ابْنَةُ أَمَتِهِ ، وَلَا تَكُونُ مَمْلُوكَةً لَهُ أَوْ بِشَيْءٍ بَعْدَ الِانْفِصَالِ عَنْهَا فَهِيَ ابْنَةُ أَمَتِهِ ، وَلَا تَكُونُ مَمْلُوكَةً لَهُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا عَلَى ثَوْبٍ أَنَّهُ غُزِلَ مِنْ قُطْنِ فُلَانٍ وَنُسِجَ لَمْ يُقْضَ لَهُ بِهِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْقُطْنِ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِمِلْكِ الْغَزْلِ وَالثَّوْبِ ، وَإِنَّ الْغَاصِبَ إذَا غَزَلَ الْقُطْنَ وَنَسَجَهُ كَانَ الثَّوْبُ مَمْلُوكًا لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِلْقُطْنِ ، وَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ كَانَ مَالِكًا لِلْقُطْنِ ، وَلَا يَمْلِكُ الثَّوْبَ بِهِ فَلَيْسَ فِي هَذَا اللَّفْظِ شَهَادَةٌ بِالْمِلْكِ لَهُ نَصًّا فَإِنْ قَالَ : أَنَا أَمَرْتُهُ أَنْ يَغْزِلَ ، وَيَنْسِجَ قُضِيَ لَهُ بِالثَّوْبِ ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْغَيْرِ بِأَمْرِهِ كَعَمَلِهِ بِنَفْسِهِ ، وَاَلَّذِي غَزَلَهُ وَنَسَجَهُ بِإِنْكَارِهِ الْأَمْرَ يَدَّعِي بِمِلْكِهِ عَلَيْهِ فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ .
وَلَوْ شَهِدُوا أَنْ هَذِهِ الْحِنْطَةَ مِنْ زَرْعٍ حُصِدَ مِنْ أَرْضِ فُلَانٍ فَأَرَادَ صَاحِبُ الْأَرْضِ أَخْذَ الْحِنْطَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْحِنْطَةَ ؛ لِأَنَّهُمْ أَضَافُوا الْأَرْضَ إلَيْهِ مِلْكًا وَيَدًا فَمَا فِي أَرْضِهِ مِنْ الزَّرْعِ يَكُونُ فِي يَدِهِ ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ شَهَادَتِهِمْ أَنَّهُ أَخَذَهَا مِنْ يَدِهِ فَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ .
وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُمْ مَا شَهِدُوا بِالْمِلْكِ لَهُ فِي الزَّرْعِ إنَّمَا أَضَافُوا الْأَرْضَ إلَيْهِ بِالْمِلْكِيَّةِ ، وَقَدْ تَكُونُ الْأَرْضُ مَمْلُوكَةً لَهُ ، وَالزَّرْعُ الَّذِي فِيهَا
لِغَيْرِهِ كَمَنْ غَصَبَ أَرْضًا فَزَرَعَهَا ، وَكَذَلِكَ مَا شَهِدُوا بِالْيَدِ فِي الزَّرْعِ ، وَلَا فِي الْأَرْضِ نَصًّا فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ الْأَرْضِ مَمْلُوكَةً لَهُ أَنْ تَكُونَ فِي يَدِهِ فَلِهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا .
وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا أَنَّ هَذِهِ الْحِنْطَةَ مِنْ زَرْعٍ كَانَ فِي أَرْضِهِ أَوْ أَنَّ هَذَا التَّمْرَ مِنْ نَخْلٍ كَانَ فِي أَرْضِهِ ، وَأَنَّ هَذَا الزَّبِيبَ مِنْ كَرْمٍ كَانَ فِي أَرْضِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ مَا أَضَافُوا مَا وَقَعَ فِيهِ الدَّعْوَى إلَيْهِ مِلْكًا ، وَلَا يَدًا ، وَقَدْ يَكُونُ النَّخْلُ وَالْكَرْمُ فِي الْأَرْضِ لِغَيْرِ صَاحِبِ الْأَرْضِ مِلْكًا وَيَدًا ، وَلَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ أُخِذَ بِهِ لِإِقْرَارِهِ بِالْأَخْذِ مِنْ مِلْكِهِ ، وَالْإِقْرَارُ بِالْأَخْذِ مِنْ مِلْكِهِ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِالْأَخْذِ مِنْ يَدِهِ فَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ يُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ الْقَضَاءُ فَنَوْعُ احْتِمَالِهِ فِيهِ لَا يَمْنَعُنَا مِنْ الْعَمَلِ بِظَاهِرِهِ فَأَمَّا الشَّهَادَةُ لَا تُوجِبُ الْحَقَّ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، وَإِنَّمَا يَقْضِي الْقَاضِي بِالْمَشْهُودِ بِهِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الشَّهَادَةِ تَنْصِيصٌ عَلَى مِلْكٍ أَوْ يَدٍ لِلْمُدَّعِي فَالْمُدَّعِي لَا يُقْضَى بِهِ لَهُ .
تَوْضِيحُ الْفَرْقِ : أَنَّ فِي إقْرَارِهِ بَيَانَ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ كَانَ فِي يَدِ هَذَا أَمْسِ فَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ وَفِي الشَّهَادَةِ كَذَلِكَ ، وَلَكِنْ لَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ أَمْسِ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ شَيْئًا .
قَالَ : وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّ هَذَا التَّمْرَ أَخَذَهُ هَذَا مِنْ نَخْلِ فُلَانٍ قُضِيَ لَهُ بِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ يَدِ فُلَانٍ ؛ لِأَنَّ الْمُتَّصِلَ بِنَخْلِهِ مِنْ التَّمْرِ يَكُونُ فِي يَدِهِ .
وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ نَخْلِ فُلَانٍ ، وَهُوَ يَمْلِكُهُ أَوْ أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ ، وَلَدَتْهُ أَمَةُ فُلَانٍ وَهُوَ يَمْلِكُهَا قُضِيَ لَهُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمْ صَرَّحُوا بِالْوَلَدِ مِنْ مِلْكِهِ ،
وَالْمُتَوَلِّدُ مِنْ مِلْكِ الْإِنْسَانِ يَكُونُ مَمْلُوكًا لَهُ إلَى أَنْ يَتَمَلَّكَهُ الْغَيْرُ بِسَبَبٍ عَارِضٍ مِنْ وَصِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَكَانَ هَذَا ، وَشَهَادَتُهُمْ بِالْمِلْكِ لَهُ فِي الْمُدَّعَى سَوَاءً .
وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا أَنَّ هَذِهِ الْحِنْطَةَ مِنْ زَرْعِ هَذَا ؛ لِأَنَّهُمْ أَضَافُوا إلَيْهِ بِالْمَلَكِيَّةِ وَشَهِدُوا أَنْ هَذِهِ الْحِنْطَةَ جُزْءٌ مِنْهُ فَإِنَّ " مِنْ " لِلتَّبْعِيضِ فَكَانَ هَذَا تَنْصِيصًا عَلَى الشَّهَادَةِ بِالْمِلْكِ لَهُ فِي الْحِنْطَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا أَنَّ هَذَا الزَّبِيبَ مِنْ كَرْمِ هَذَا ، وَهَذَا التَّمْرَ مِنْ نَخْلِ هَذَا قُضِيَ لَهُ بِهِ لِشَهَادَتِهِمْ بِالتَّوَلُّدِ مِنْ مِلْكِهِ .
وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّ فُلَانًا غَزَلَ هَذَا الثَّوْبَ مِنْ قُطْنِ فُلَانٍ وَهُوَ يَمْلِكُ الْقُطْنَ وَنَسَجَ الثَّوْبَ فَإِنِّي أَقْضِي عَلَى الَّذِي غَزَلَ مِثْلَ ذَلِكَ الْقُطْنِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مِلْكَ الْقُطْنِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِمِلْكِ الثَّوْبِ ، وَلَكِنْ مَنْ غَزَلَ قُطْنَ الْغَيْرِ ، وَنَسَجَهُ فَالثَّوْبُ لَهُ وَهُوَ ضَامِنٌ لِمِثْلِ ذَلِكَ الْقُطْنِ ، وَإِنْ قَالَ صَاحِبُ الْقُطْنِ أَمَرْتُهُ بِذَلِكَ أَخَذَ الثَّوْبَ ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَالِكًا لِلْقُطْنِ وَاَلَّذِي غَزَلَ وَنَسَجَ يَدَّعِي تَمَلُّكَهُ عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ كَمَا لَوْ ادَّعَى التَّمَلُّكَ عَلَيْهِ بِالْبَيْعِ فَأَنْكَرَهُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا أَنَّ فُلَانًا طَحَنَ هَذَا الدَّقِيقَ مِنْ حِنْطَةِ فُلَانٍ وَهُوَ يَمْلِكُهَا قُضِيَ عَلَيْهِ بِحِنْطَةٍ مِثْلِهَا ، وَإِنْ قَالَ رَبُّ الْحِنْطَةِ : أَنَا أَمَرْتُهُ أَخَذَ الدَّقِيقَ لِمَا بَيَّنَّا
قَالَ : وَإِذَا كَانَ الدَّجَاجُ أَوْ الشَّيْءُ مِنْ الطُّيُورِ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَهُ فَرَّخَ فِي مِلْكِهِ ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ قُضِيَ بِهِ لِذِي الْيَدِ ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى النِّتَاجِ لَا يَتَكَرَّرُ ، وَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْبَيْضَةَ الَّتِي خَرَجَتْ هَذِهِ الدَّجَاجَةُ مِنْهَا كَانَتْ لَهُ لَمْ يُقْضَ لَهُ بِالدَّجَاجَةِ ، وَلَكِنْ يُقْضَى عَلَى صَاحِبِ الدَّجَاجَةِ بِبَيْضَةٍ مِثْلِهَا لِصَاحِبِهَا ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْبَيْضَةِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِمِلْكِ الدَّجَاجَةِ فَإِنَّ مَنْ غَصَبَ بَيْضَةً وَحَضَنَهَا ذَلِكَ تَحْتَ دَجَاجَةٍ كَانَ الْفَرْخُ لِلْغَاصِبِ وَعَلَيْهِ بَيْضَةٌ مِثْلُ الْمَغْصُوبَةِ ، وَهَذَا لَا يُشْبِهُ الْوِلَادَةَ ، وَالنِّتَاجَ ؛ لِأَنَّ مَنْ غَصَبَ أَمَةً أَوْ دَابَّةً فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ لَا يَمْلِكُ الْوَلَدَ بَلْ هُوَ لِصَاحِبِ الْأَصْلِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْبَيْضَةَ بِالْحَضَانَةِ تَصِيرُ مُسْتَهْلَكَةً فَيُحَالُ بِحُدُوثِ الْفَرْخِ عَلَى عَمَلِ الْحَضَانَةِ بِخِلَافِ الدَّابَّةِ ، وَالْأَمَةِ فَإِنَّهَا لَا تَصِيرُ مُسْتَهْلَكَةً بِالْوِلَادَةِ فَيَكُونُ مَمْلُوكًا لِصَاحِبِ الْأَصْلِ لِتَوَلُّدِهِ مِنْ مِلْكِهِ .
قَالَ : وَلَوْ غَصَبَ دَجَاجَةً فَبَاضَتْ عِنْدَهُ فَالْبَيْضَةُ لِصَاحِبِهَا لِتَوَلُّدِهَا مِنْ مِلْكِهِ فَإِنْ بَاضَتْ بَيْضَتَيْنِ فَحَضَنَتْ الدَّجَاجَةُ نَفْسَهَا عَلَى أَحَدِهِمَا فَخَرَجَ مِنْهَا فَرْخٌ وَحَضَنَهَا الْغَاصِبُ عَلَى الْأُخْرَى فَخَرَجَ مِنْهَا فَرْخٌ فَالْفَرْخُ الْأَوَّلُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ مَعَ الدَّجَاجَةِ وَالْفَرْخُ الْآخَرُ لِلْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّ مَا حَصَلَ بِفِعْلِهِ يَصِيرُ مَمْلُوكًا لَهُ وَمَا حَصَلَ بِفِعْلِ الدَّجَاجَةِ نَفْسِهَا لَا صُنْعَ لِلْغَاصِبِ فِيهِ فَلَا يَمْلِكُهُ بَلْ يَكُونُ لِمَالِكِ الْأَصْلِ كَمَا قُلْنَا فِيمَنْ غَصَبَ حِنْطَةً وَزَرَعَهَا كَانَ الزَّرْعُ لَهُ ، وَلَوْ هَبَّتْ الرِّيحُ بِالْحِنْطَةِ فَجَعَلَتْهَا مَزْرُوعَةً فِي الْأَرْضِ كَانَ الزَّرْعُ لِصَاحِبِ الْحِنْطَةِ ؛ لِأَنَّ بِنَاءَ الْحُكْمِ عَلَى فِعْلِ الرِّيحِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَيُجْعَلُ مَمْلُوكًا
لِصَاحِبِ الْأَصْلِ ؛ وَلِأَنَّ مَا حَضَنَهَا الْغَاصِبُ صَارَ مُسْتَهْلَكًا بِفِعْلِهِ فَيَكُونُ ضَامِنًا لِمِثْلِهِ وَيَصِيرُ مَمْلُوكًا لَهُ بِالضَّمَانِ فَإِنَّمَا يَتَوَلَّدُ الْفَرْخُ مِنْ مِلْكِهِ فَأَمَّا مَا حَضَنَتْ الدَّجَاجَةُ بِنَفْسِهَا لَمْ تَصِرْ مَضْمُونَةً عَلَى الْغَاصِبِ فَلَا يَمْلِكُهَا فَبَقِيَ ذَلِكَ الْفَرْخُ لِصَاحِبِ الْأَصْلِ
قَالَ ثَوْبٌ مَصْبُوغٌ بِعُصْفُرٍ فِي يَدِ رَجُلٍ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ هَذَا الْعُصْفُرَ الَّذِي فِي هَذَا الثَّوْبِ لِفُلَانٍ صَبَغَ بِهِ هَذَا الثَّوْبَ فَلَا يَدْرِي مَنْ صَبَغَهُ وَجَحَدَ ذَلِكَ صَاحِبُ الثَّوْبِ فَادَّعَى صَاحِبُ الْعُصْفُرِ أَنَّ رَبَّ الثَّوْبِ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي ضَمَانَ قِيمَةِ الْعُصْفُرِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَهُوَ مُنْكِرٌ ، وَلَيْسَ فِي شَهَادَةِ شُهُودِهِ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ فَإِنَّ ثَوْبَ الْغَيْرِ إذَا هَبَّتْ بِهِ الرِّيحُ ، وَأَلْقَتْهُ فِي صَبْغِ إنْسَانٍ فَانْصَبَغَ كَانَ الصَّبْغُ لِصَاحِبِهِ فِي الثَّوْبِ الْآخَرِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ صَاحِبَ الثَّوْبِ شَيْئًا ، وَلَكِنْ يُقَوَّمُ الثَّوْبُ أَبْيَضَ وَيُقَوَّمُ مَصْبُوغًا فَإِنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ يَضْمَنُ لَهُ مَا زَادَ الْعُصْفُرُ فِي ثَوْبِهِ ، وَإِلَّا بِيعَ الثَّوْبُ فَيَصْرِفُ فِيهِ صَاحِبُ الثَّوْبِ بِقِيمَةِ ثَوْبِهِ أَبْيَضَ وَصَاحِبُ الْعُصْفُرِ مَا زَادَ الْعُصْفُرُ فِي ثَوْبِهِ ؛ لِأَنَّهُمَا شَرِيكَانِ فِي الثَّوْبِ الْمَصْبُوغِ أَحَدُهُمَا بِالثَّوْبِ وَالْآخَرُ بِالْعُصْفُرِ ، وَلَكِنَّ الثَّوْبَ أَصْلٌ ، وَالْعُصْفُرَ فِيهِ وَصْفٌ فَكَانَ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ الْأَصْلِ دُونَ صَاحِبِ الْوَصْفِ
قَالَ : وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي لَبِنٍ فَأَقَامَ الْخَارِجُ وَذُو الْيَدِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَهُ ضَرَبَهُ فِي مِلْكِهِ يُقْضَى بِهِ لِلْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّ اللَّبِنَ يُضْرَبُ غَيْرَ مَرَّةٍ بِأَنْ يُضْرَبَ ، ثُمَّ يُكْسَرَ ، ثُمَّ يَضْرِبَ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ فَلِهَذَا قُضِيَ بِهِ لِلْمُدَّعِي .
قَالَ : وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي جُبْنٍ فَأَقَامَ الْخَارِجُ وَذُو الْيَدِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ جُبْنُهُ صَنَعَهُ فِي مِلْكِهِ فَهُوَ لِلَّذِي فِي يَدَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْجُبْنَ لَا يُصْنَعُ إلَّا مَرَّةً وَهُوَ سَبَبٌ لِأَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ بِمَنْزِلَةِ النِّتَاجِ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا مَا بَيَّنَّا .
وَالثَّانِي إذَا أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ اللَّبَنَ الَّذِي صُنِعَ مِنْهُ هَذَا الْجُبْنُ مِلْكُهُ فَيُقْضَى بِهِ لِلْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْمُنَازَعَةِ فِي اللَّبَنِ وَبَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ قَامَتْ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ .
وَالثَّالِثُ : أَنْ يُقِيمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنْ حَلْبَ اللَّبَنِ الَّذِي صَنَعَ مِنْهُ هَذَا الْجُبْنَ مِنْ شَاتِهِ فِي مِلْكِهِ فَيُقْضَى لِذِي الْيَدِ ؛ لِأَنَّ الْحَلْبَ فِي اللَّبَنِ لَا يَتَكَرَّرُ فَكَانَ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ .
وَالرَّابِعُ : إذَا أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ الشَّاةَ الَّتِي حَلَبَ مِنْهَا اللَّبَنَ الَّذِي صَنَعَ مِنْهُ هَذَا الْجُبْنَ مِلْكُهُ فَيُقْضَى بِهِ لِلْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّ الْمُنَازَعَةَ فِي مِلْكِ الشَّاةِ ، وَبَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهَا قَامَتْ عَلَى الْمُطْلَقِ .
وَالْخَامِسُ : أَنْ يُقِيمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ الشَّاةَ الَّتِي حَلَبَ مِنْهَا اللَّبَنَ الَّذِي صَنَعَ مِنْهُ هَذَا الْجُبْنَ شَاتُهُ وُلِدَتْ فِي مِلْكِهِ مِنْ شَاتِهِ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ ؛ لِأَنَّ الْحُجَّتَيْنِ قَامَتَا عَلَى النِّتَاجِ فِي الشَّاةِ الَّتِي كَانَتْ الْمُنَازَعَةُ فِيهَا
قَالَ : وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي آجُرٍّ أَوْ جِصٍّ أَوْ نَوْرَةٍ ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَهُ صَنَعَهُ فِي مِلْكِهِ قَضَيْتُ بِهِ لِذِي الْيَدِ ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقْضَى بِالْآجُرِّ لِلْخَارِجِ ، وَيُجْعَلَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الشَّيْءِ فِي اللَّحْمِ ، وَلَكِنَّهُ قَالَ : طَبْخُ الْآجُرِّ لَا يَتَكَرَّرُ فَإِنَّهُ بِالطَّبْخِ الْأَوَّلِ يَحْدُثُ لَهُ اسْمُ الْآجُرِّ فَإِنْ أُعِيدَ طَبْخُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَحْدُثُ بِهِ اسْمٌ آخَرُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مِمَّا لَا يَتَكَرَّرُ ، وَكَذَلِكَ طَبْخُ الْجِصِّ وَالنُّورَةِ فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى النِّتَاجِ
قَالَ فَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى فِي جِلْدِ شَاةٍ ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ جِلْدُهُ سَلَخَهُ فِي مِلْكِهِ قُضِيَ بِهِ لِذِي الْيَدِ ؛ لِأَنَّ سَلْخَ الْجِلْدِ لَا يَتَكَرَّرُ فَكَانَ فِي مَعْنَى النِّتَاجِ ، وَلَوْ لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ لَهُمَا ، وَلَكِنَّ الْمُدَّعِيَ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ جِلْدُ شَاتِه ، وَلَمْ يَشْهَدُوا لَهُ بِهِ لَمْ يُقْضَ لَهُ بِالْمِلْكِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا عَلَى صُوفٍ أَنَّهُ صُوفُ شَاتِه أَوْ عَلَى لَحْمٍ أَنَّهُ لَحْمُ شَاتِه قَالَ عِيسَى رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا غَلَطٌ ، وَأَرَى جَوَابَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ لَا يَسْتَمِرُّ عَلَى أَصْلٍ وَاحِدٍ ، وَقَدْ قَالَ قَبْلَ هَذَا إذَا قَالُوا هَذِهِ الْحِنْطَةُ مِنْ زَرْعِ هَذَا أَوْ هَذَا الزَّبِيبُ مِنْ كَرْمِهِ أَوْ هَذَا التَّمْرُ مِنْ نَخْلِهِ قُضِيَ لَهُ بِهِ ، وَأَيُّ فَرْقٍ بَيْنَ تِلْكَ الْمَسَائِلِ ، وَبَيْنَ هَذِهِ الْمَسَائِلِ بَلْ الْجِلْدُ وَالصُّوفُ وَاللَّحْمُ فِي كَوْنِهِ مَمْلُوكًا بِمِلْكِ الْأَصْلِ أَبْلَغُ مِنْ مِلْكِ الزَّرْعِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ بِمِلْكِ الْأَصْلِ ، فَإِنْ ( قِيلَ ) : إنَّ هُنَا قَدْ يَنْفَصِلُ مِلْكُ الصُّوفِ عَنْ مِلْكِ الْأَصْلِ بِالْوَصِيَّةِ فَكَذَلِكَ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ ، وَلَكِنَّ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُمْ مَا جَعَلُوا الْمُدَّعَى هُنَا فِي شَهَادَتِهِمْ مِنْ مِلْكِهِ إنَّمَا نَسَبُوهُ إلَى شَاةٍ ، ثُمَّ نَسَبُوا إلَيْهِ الشَّاةَ بِالْمِلْكِيَّةِ فَلَمْ يَكُنْ شَهَادَةً بِالْمِلْكِ فِي الْمُدَّعَى نَصًّا فَأَمَّا هُنَاكَ شَهِدُوا أَنَّ الْمُدَّعَاةَ مِنْ مِلْكِهِ وَذَلِكَ شَهَادَةٌ بِالْمِلْكِ لَهُ فِي الْمُدَّعَى نَصًّا .
قَالَ : وَلَوْ كَانَتْ شَاةٌ مَسْلُوخَةٌ فِي يَدِ رَجُلٍ وَجِلْدُهَا وَرَأْسُهَا وَسَقَطُهَا فِي يَدِ آخَرَ فَأَقَامَ ذُو الْيَدِ فِي الشَّاةِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الشَّاةَ وَالْجِلْدَ وَالرَّأْسَ وَالسَّقْطَ لَهُ ، وَأَقَامَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ السَّقْطُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُقْضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا فِي يَدَيْ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثْبَتَ
فِيمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ مِلْكًا مُطْلَقًا بِالْبَيِّنَةِ ، وَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ فِي دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ تَتَرَجَّحُ .
وَلَوْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ الشَّاةَ شَاتُهُ تُنْجِبُ عِنْدَهُ فِي مِلْكِهِ فَذَبَحَهَا وَسَلَخَهَا ، وَأَنَّ لَهُ جِلْدَهَا ، وَرَأْسَهَا وَسَقْطَهَا يُقْضَى بِالْكُلِّ لِلَّذِي الشَّاةُ فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ النِّتَاجَ فِي الشَّاةِ فَاسْتَحَقَّ الْقَضَاءَ بِأَوَّلِيَّةِ الْمِلْكِ لَهُ فِيهَا ، وَجِلْدُهَا وَرَأْسُهَا وَسَقْطُهَا بِبَيْعِهَا فَلِهَذَا قَضَيْنَا بِالْمِلْكِ لِذِي الْيَدِ .
قَالَ : وَلَوْ كَانَتْ شَاةٌ فِي يَدَيْ رَجُلٍ وَشَاةٌ أُخْرَى فِي يَدِ آخَرَ فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى شَاةِ صَاحِبِهِ الَّذِي فِي يَدَيْهِ أَنَّهَا شَاتُهُ وُلِدَتْ فِي مِلْكِهِ مِنْ هَذِهِ الشَّاةِ الْقَائِمَةِ فِي يَدِهِ فَإِنَّهُ يُقْضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِشَاةِ صَاحِبِهِ الَّتِي فِي يَدَيْهِ وَتَأْوِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَ سِنُّ الشَّاتَيْنِ مُشْكِلًا فَأَمَّا إذَا كَانَ مَعْلُومًا ، وَأَحَدُهُمَا تَصْلُحُ أُمًّا لِلْأُخْرَى وَالْأُخْرَى لَا تَصْلُحُ أُمًّا لَهَا ، وَكَانَتْ عَلَامَةُ الصِّدْقِ ظَاهِرَةً فِي شُهُودِ أَحَدِهِمَا وَعَلَامَةُ الْكَذِبِ ظَاهِرَةً فِي شَهَادَةِ شُهُودِ الْآخَرِ يَقْضِي بِهَا بِمَا ظَهَرَ فِيهِ عَلَامَةُ الصِّدْقِ فَأَمَّا عِنْدَ الْإِشْكَالِ لَا تَظْهَرُ عَلَامَةُ الصِّدْقِ ، وَلَا الْكَذِبِ فِي شَهَادَةِ أَحَدِهِمَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا فِي يَدِهِ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ ، وَصَاحِبُهُ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ ، وَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ عَلَى النِّتَاجِ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَلِهَذَا قَضَيْنَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَبْطُلُ الْبَيِّنَتَانِ جَمِيعًا لِتَيَقُّنِنَا بِكَذِبِ أَحَدِهِمَا فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ وَالِدَةً لِصَاحِبَتِهَا وَمَوْلُودَةً مِنْهُمَا ، وَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الشَّاةَ الَّتِي فِي
يَدِهِ شَاتُهُ وُلِدَتْ فِي مِلْكِهِ ، وَأَنَّ شَاةَ صَاحِبِهِ ، وَلَدَتْهَا شَاتُهُ هَذِهِ فِي مِلْكِهِ ، وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ يَقْضِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا فِي يَدَيْهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا فِي يَدِهِ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ ، وَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ عَلَى النِّتَاجِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ ، وَلَوْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ الشَّاةَ الَّتِي فِي يَدِهِ شَاتُهُ وُلِدَتْ فِي مِلْكِهِ ، وَأَنَّ شَاةَ صَاحِبِهِ لَهُ ، وَلَدَتْهَا شَاتُهُ فِي مِلْكِهِ ، وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَهَذَا ، وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ يُقْضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا فِي يَدِهِ لِإِثْبَاتِهِ النِّتَاجَ فِيهَا
قَالَ : وَلَوْ كَانَتْ شَاتَانِ فِي يَدِ رَجُلٍ أَحَدُهُمَا بَيْضَاءُ وَالْأُخْرَى سَوْدَاءُ فَادَّعَاهُمَا رَجُلٌ ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُمَا لَهُ ، وَأَنَّ هَذِهِ الْبَيْضَاءَ ، وَلَدَتْ هَذِهِ السَّوْدَاءَ فِي مِلْكِهِ ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُمَا لَهُ ، وَأَنَّ هَذِهِ السَّوْدَاءَ ، وَلَدَتْ هَذِهِ الْبَيْضَاءَ فِي مِلْكِهِ فَإِنَّهُ يَقْضِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالشَّاةِ الَّتِي ذَكَرَ شُهُودُهُ أَنَّهَا وُلِدَتْ فِي مِلْكِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ النِّتَاجَ فِيهَا بِالْبَيِّنَةِ وَصَاحِبُهُ أَثْبَتَ فِيهَا مِلْكًا مُطْلَقًا وَالْبَيِّنَةُ عَلَى النِّتَاجِ أَوْلَى مِنْ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ ذِي الْيَدِ أَوْ الْخَارِجِ .
قَالَ وَإِذَا كَانَتْ شَاةٌ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا شَاتُهُ وُلِدَتْ فِي مِلْكِهِ فَقَضَى الْقَاضِي لَهُ بِهَا ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا شَاتُهُ وُلِدَتْ فِي مِلْكِهِ ، وَقَالَ ذُو الْيَدِ لِلْقَاضِي : قَدْ قَضَيْتَ لِي بِالْوِلَادَةِ بِالْبَيِّنَةِ فَإِنْ اكْتَفَيْتَ بِذَلِكَ ، وَإِلَّا أَعَدْتُهَا فَإِنَّهُ يَأْمُرُهُ أَنْ يُعِيدَ بَيِّنَتَهُ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْبَيِّنَةِ الْأُولَى كَانَ عَلَى خَصْمِهِ خَاصَّةً فَيَجْعَلُ إقَامَتَهَا فِي حَقِّ الثَّانِي وُجُودًا وَعَدَمًا بِمَنْزِلَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ بِهِ لِلْمِلْكِ وَثُبُوتُ الْمِلْكِ بِالْبَيِّنَةِ فِي حَقِّ شَخْصٍ لَا يَقْتَضِي ثُبُوتَهُ فِي حَقِّ شَخْصٍ آخَرَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ يَصِيرُ ذُو الْيَدِ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ فَإِنْ أَعَادَ بَيِّنَةً قَضَى بِهَا لَهُ تَقْدِيمًا لِبَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ فِي النِّتَاجِ ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْهَا قَضَى بِهَا لِلْمُدَّعِي فَإِنْ قَضَى بِهَا لِلْمُدَّعِي ، ثُمَّ أَقَامَ الْمَقْضِيُّ لَهُ الْأَوَّلُ شُهُودَهُ عَلَى الْوِلَادَةِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْبَلُ بَيِّنَتَهُ وَيُبْطِلُ قَضَاءَهُ لِلْآخَرِ ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَفِي الْقِيَاسِ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ فَلَا تُقْبَلُ
بَيِّنَتُهُ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ تَلَقِّي الْمِلْكِ مِنْ جِهَةِ الْمَقْضِيِّ لَهُ .
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ مَنْ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ يُثْبِتُ أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ ، وَأَنَّ هَذَا الْعَيْنَ حَادِثٌ عَلَى مِلْكِهِ فَلَا يَتَصَوَّرُ اسْتِحْقَاقَ هَذَا الْمِلْكِ عَلَى غَيْرِهِ فَلَمْ يَصِرْ ذُو الْيَدِ بِهِ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ ، وَقَدْ تَبَيَّنَ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ أَنَّ الْقَاضِيَ أَخْطَأَ فِي قَضَائِهِ ، وَأَنَّ أَوَّلِيَّةَ الْمِلْكِ لِذِي الْيَدِ فَلِهَذَا انْقَضَى قَضَاؤُهُ بِخِلَافِ الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَإِنْ ( قِيلَ ) الْقَضَاءُ بِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ مَعَ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ عَلَى النِّتَاجِ مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُنْقَضَ قَضَاءُ الْقَاضِي لِمُصَادَقَتِهِ مَوْضِعَ الِاجْتِهَادِ .
( قُلْنَا ) إنَّمَا يَكُونُ قَضَاؤُهُ عَنْ اجْتِهَادٍ إذَا كَانَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ قَائِمَةً عِنْدَهُ وَقْتَ الْقَضَاءِ فَتُرَجَّحُ بِاجْتِهَادِهِ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ عَلَيْهَا ، وَهَذِهِ الْبَيِّنَةُ مَا كَانَتْ قَائِمَةً عِنْدَ قَضَائِهِ فَلَمْ يَكُنْ قَضَاؤُهُ عَلَى اجْتِهَادٍ بَلْ كَانَ لِعَدَمِ مَا يُدْفَعُ مِنْ ذِي الْيَدِ فَإِذَا أَقَامَ حُجَّةَ الدَّفْعِ انْتَقَضَ الْقَضَاءُ الْأَوَّلُ وَعَلَى هَذَا لَوْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ ، وَقَضَى الْقَاضِي بِهَا لَهُ ، ثُمَّ أَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ يَقْضِي بِهَا لَهُ وَيَنْتَقِضُ الْقَضَاءُ الْأَوَّلُ لِمَا بَيَّنَّا .
قَالَ : أَمَةٌ فِي يَدِ رَجُلٍ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّ قَاضِيَ بَلَدِ كَذَا قَضَى لَهُ بِهَا عَلَى هَذَا الرَّجُلِ بِشَهَادَةِ شُهُودٍ شَهِدُوا عِنْدَهُ ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا أَمَتُهُ وُلِدَتْ فِي مِلْكِهِ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ فِي وَجْهٍ مِنْهَا يَقْضِي الْقَاضِي بِهَا لِلْمُدَّعِي بِالِاتِّفَاقِ ، وَهُوَ إذَا شَهِدَ شُهُودُ الْمُدَّعِي أَنَّ قَاضِيَ بَلَدِ كَذَا قَضَى لَهُ بِهَا مُطْلَقًا ، وَلَمْ يَزِيدُوا عَلَى هَذَا شَيْئًا ؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ ذَلِكَ الْقَاضِيَ إنَّمَا قَضَى لَهُ بِهَا بِشَهَادَةِ شُهُودٍ شَهِدُوا عِنْدَهُ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ ذِي الْيَدِ أَوْ وَهَبَهَا لَهُ فَلَا تَكُونُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ عَلَى الْوِلَادَةِ فِي مِلْكِهِ مُبْطِلًا لِذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الْقَضَاءُ بَلْ يَكُونُ مُقَرَّرًا لَهُ .
وَكَذَلِكَ إنْ فَسَّرَ شُهُودُ الْقَضَاءِ بِهَذَا التَّفْسِيرِ فَهُوَ آكَدُ فِي تَنْفِيذِ ذَلِكَ الْقَضَاءِ ، وَالْوَجْهَانِ الْآخَرَانِ أَنْ يَشْهَدَ شُهُودُ الْمُدَّعِي أَنَّ قَاضِيَ بَلَدِ كَذَا قَضَى لَهُ بِهَا بِشَهَادَةِ شُهُودٍ شَهِدُوا عِنْدَهُ أَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ أَوْ بِشَهَادَةِ شُهُودٍ شَهِدُوا عِنْدَهُ أَنَّهَا أَمَتُهُ وُلِدَتْ فِي مِلْكِهِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي أَوْلَى فِي هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ ، وَلَا يَنْقُضُ الْقَاضِي الثَّانِي قَضَاءَ الْأَوَّلِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ عَلَى الْوِلَادَةِ فِي مِلْكِهِ أَوْلَى فَيَقْضِي بِهَا لَهُ .
وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ ذَا الْيَدِ لَوْ أَقَامَ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ عِنْدَ الْقَاضِي الْأَوَّلِ نَقَضَ الْأَوَّلُ قَضَاءَهُ ، وَقَضَى بِهَا لِذِي الْيَدِ فَكَذَلِكَ إذَا أَقَامَهَا عِنْدَ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ قَضَاءِ الْأَوَّلِ عِنْدَ الثَّانِي بِالْبَيِّنَةِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ مُبَاشَرَتِهِ الْقَضَاءَ بِنَفْسِهِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ لَمَّا بَيَّنُوا سَبَبَ الْعَقَارِ إلَى احْتِمَالِ التَّمَلُّكِ عَلَى الْيَدِ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي الْأَوَّلِ نَفَذَ بِيَقِينٍ فَلَيْسَ لِلثَّانِي أَنْ يُبْطِلَهُ مَعَ الِاحْتِمَالِ كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَبَيَانُ الِاحْتِمَالِ هُنَا إذَا قَالُوا بِشَهَادَةِ شُهُودٍ شَهِدُوا عِنْدَهُ أَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ اشْتَرَاهَا مِنْ ذِي الْيَدِ ، وَلَكِنَّهُمْ تَرَكُوا هَذِهِ الزِّيَادَةَ لِلتَّلَبُّسِ عَلَى الْقَاضِي بِأَنْ قَالُوا بِشَهَادَةِ شُهُودٍ شَهِدُوا عِنْدَهُ أَنَّهَا وُلِدَتْ فِي مِلْكِهِ فَيَحْتَمِلُ أَنَّ ذِي الْيَدِ كَانَ أَقَامَ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ عِنْدَ ذَلِكَ الْقَاضِي فَتَتَرَجَّحُ شَهَادَةُ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ ، وَقَضَى بِهَا لَهُ ، وَكَانَ ذَلِكَ قَضَاءً نَافِذًا لَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلِهَذَا لَا يَنْقُضُ الثَّانِي قَضَاءَ الْأَوَّلِ مَعَ الِاحْتِمَالِ وَمِثْلُ هَذَا الِاحْتِمَالِ لَا يُوجَدُ إذَا أَقَامَ ذُو الْيَدِ بَيِّنَةً عَلَى الْوِلَادَةِ عِنْدَ الْقَاضِي الْأَوَّلِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ تَنَازَعَا فِيهَا خَارِجَانِ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا أَمَتُهُ قَضَى لَهُ بِهَا قَاضِي بَلَدِ كَذَا بِشَهَادَةِ شُهُودٍ شَهِدُوا عِنْدَهُ أَنَّهَا لَهُ عَلَى هَذَا ، وَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا أَمَتُهُ وُلِدَتْ فِي مِلْكِهِ فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقْضِي بِهَا لِصَاحِبِ الْوِلَادَةِ وَعِنْدَهُمَا يَقْضِي بِهَا لِصَاحِبِ الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ مَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يَجُوزُ نَقْضُ الْقَضَاءِ كَمَا بَيَّنَّا
قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَبْدٌ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ وُلِدَ فِي مِلْكِهِ وَوَقَّتُوا وَقْتًا فَكَانَ الْعَبْدُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَصْغَرَ مَعْرُوفٌ فَشَهَادَةُ الشُّهُودِ بَاطِلَةٌ ؛ لِتَيَقُّنِ الْقَاضِي بِمُجَازَفَتِهِمْ فِيهَا ، وَهَذَا يُبَيِّنُ لَكَ أَنَّ الصَّوَابَ فِي الْقَضَاءِ نِصْفَانِ فِي قَوْلِهِ فَإِنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ عَلَى غَيْرِ الْوَقْتَيْنِ أَوْ كَانَتْ مُشْكِلَةٌ أَنَّهُ فِي أَحَدِ الْفَصْلَيْنِ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ عَلَى غَيْرِ الْوَقْتَيْنِ فَالْجَوَابُ بُطْلَانُ الشَّهَادَتَيْنِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( بَابُ الشَّهَادَةِ فِي الْوِلَادَةِ ، وَالنَّسَبِ ) ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : عَبْدٌ صَغِيرٌ فِي يَدِ رَجُلٍ يَدَّعِي أَنَّهُ عَبْدُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ) ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَتَاعِ ، وَقَوْلُ ذِي الْيَدِ فِيمَا فِي يَدِهِ حُجَّةٌ لِلدَّفْعِ فَإِنْ ادَّعَى آخَرُ أَنَّهُ ابْنُهُ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي نَسَبَ مِلْكِ الْغَيْرِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ قَضَى أَنَّهُ ابْنٌ لَهُ لِإِثْبَاتِهِ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ ، وَجُعِلَ حُرًّا ؛ لِأَنَّ فِي الْحُكْمِ بِثُبُوتِ النَّسَبِ حُكْمًا بِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِهِ ، وَمَاءُ الْحُرِّ جُزْءٌ مِنْهُ فَيَكُونُ حُرًّا مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِرَحِمِ الْأَمَةِ وَحِينَ لَمْ يُسَمُّوا أَمَةً فِي الشَّهَادَةِ لَمْ يَظْهَرْ اتِّصَالُ مَائِهِ بِرَحِمِ الْأَمَةِ فَبَقِيَ عَلَى الْحُرِّيَّةِ فَهَذِهِ مُوجِبَةٌ لِبَيِّنَةِ حُرِّيَّةِ الْوَلَدِ فَلَا يُعَارِضُهَا قَوْلُ ذِي الْيَدِ فِي إثْبَاتِ رِقِّهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ يَدَّعِي أَنَّهُ ابْنُهُ فَالْمُدَّعِي الَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَوْلَى بِالْقَضَاءِ بِالنَّسَبِ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لَا يُعَارِضُهَا الْيَدُ ، وَلَا قَوْلُ ذِي الْيَدِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُدَّعِي ذِمِّيًّا أَوْ عَبْدًا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ ؛ لِإِثْبَاتِهِ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ وَالْعَبْدُ ، وَالذِّمِّيُّ مِنْ أَهْلِ النَّسَبِ كَالْحُرِّ الْمُسْلِمِ فَإِنْ أَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ ، وَأَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ قَضَيْتُ بِنَسَبِهِ لِذِي الْيَدِ ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى النِّتَاجِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ هُنَاكَ تَتَرَجَّحُ عَلَى بَيِّنَةِ الْخَارِجِ .
وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ امْرَأَتِهِ هَذِهِ قَضَى بِنَسَبِهِ مِنْ ذِي الْيَدِ وَمِنْ امْرَأَتِهِ ، وَإِنْ جَحَدَتْ هِيَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْفِرَاشُ بَيْنَهُمَا قَائِمٌ وَالْحُكْمُ مَتَى ظَهَرَ عَقِيبَ سَبَبٍ ظَاهِرٍ يُحَالُ بِهِ عَلَى ذَلِكَ السَّبَبِ
وَذَلِكَ الْفِرَاشُ بَيْنَهُمَا يُثْبِتُ النَّسَبَ مِنْهُمَا فَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِهِ مِنْ أَحَدِهِمَا بِذَلِكَ السَّبَبِ ثُبُوتُهُ مِنْ الْآخَرِ فَلَا يَنْتَفِي بِجُحُودِهَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَحَدَ الْأَبُ وَادَّعَتْ الْأُمُّ
قَالَ : وَلَوْ كَانَ الصَّبِيُّ فِي يَدِ عَبْدٍ ، وَامْرَأَتُهُ الْأَمَةُ ، وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُمَا ، وَأَقَامَ آخَرُ مِنْ الْعَرَبِ أَوْ مِنْ الْمَوَالِي أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ امْرَأَتِهِ هَذِهِ وَهِيَ مِثْلُهُ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِبَيِّنَةِ الْخَارِجَيْنِ ؛ لِأَنَّ فِي بَيِّنَتِهِمَا زِيَادَةَ إثْبَاتِ الْحُرِّيَّةِ لِلْوَلَدِ ، وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِثْبَاتِ فَتَتَرَجَّحُ بِزِيَادَةِ الْإِثْبَاتِ
قَالَ : وَلَوْ كَانَ الصَّبِيُّ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ امْرَأَتِهِ هَذِهِ ، وَهُمَا حُرَّانِ ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ ، وَلَمْ يَنْسِبُوهُ إلَى أُمِّهِ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِهِ لِلْمُدَّعِي لِزِيَادَةِ الْإِثْبَاتِ فِي بَيِّنَتِهِ وَهُوَ ثُبُوتُ النَّسَبِ مِنْ أُمِّهِ فَصَارَتْ الزِّيَادَةُ فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ كَزِيَادَةِ إثْبَاتِ الْحُرِّيَّةِ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْأُمُّ هِيَ الْمُدَّعِيَةَ فَإِنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ بِالْفِرَاشِ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا خَصْمًا عَنْ الْآخَرِ فَلَا إثْبَاتَ ، وَلَوْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ وَشَهِدَ شُهُودُ ذِي الْيَدِ عَلَى إقْرَارِهِ أَنَّهُ ابْنُهُ قَضَى بِهِ لِلْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ إقْرَارِ ذِي الْيَدِ بِالْبَيِّنَةِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ سَمَاعِ الْقَاضِي إقْرَارَهُ ، وَذَلِكَ يَنْدَفِعُ بِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ ، ثُمَّ أَعَادَ مَسْأَلَةَ الرَّجُلَيْنِ ، وَالْمَرْأَتَيْنِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ .
( فَرْعٌ ) عَلَيْهِ مَا لَوْ وَقَّتَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقْتًا قَالَ : يُنْظَرُ إلَى سِنِّ الصَّبِيِّ فَإِنْ كَانَ مُشْكِلًا فَهُوَ وَمَا لَمْ يُوَقِّتَا سَوَاءٌ يَقْضِ بِهِ لَهُمَا ، وَإِنْ كَانَ مُشْكِلًا فِي أَحَدِهِمَا وَهُوَ أَكْبَرُ سِنًّا مِنْ الْآخَرِ أَوْ أَصْغَرُ مَعْرُوفٌ قَضَيْتُ بِهِ لِلْمُشْكِلِ ؛ لِأَنَّ عَلَامَةَ الْكَذِبِ ظَهَرَتْ فِي شَهَادَةِ الْآخَرَيْنِ ، وَلَمْ تَظْهَرْ فِي شَهَادَةِ هَؤُلَاءِ لِكَوْنِهِ مُحْتَمِلًا لِلْوَقْتِ الَّذِي وَقَّتُوهُ قَالَ : وَلَوْ كَانَ الصَّبِيُّ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَتْ امْرَأَةٌ شَاهِدَيْنِ أَنَّهُ ابْنُهَا قَضَيْتُ بِالنَّسَبِ مِنْهَا لِإِثْبَاتِهَا الدَّعْوَى بِالْحُجَّةِ ، وَإِنْ كَانَ ذُو الْيَدِ يَدَّعِيهِ لَمْ يَقْضِ لَهُ بِهِ ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الدَّعْوَى لَا يُعَارِضُ الْبَيِّنَةَ .
فَإِنْ ( قِيلَ ) لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ ثُبُوتِهِ مِنْهُ وَمِنْهَا ( قُلْنَا ) نَعَمْ ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ النَّسَبِ مِنْهُمَا إلَّا بِالْقَضَاءِ بِالْفِرَاشِ بَيْنَهُمَا ، وَمُجَرَّدُ قَوْلِهِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَيْهَا فِي إثْبَاتِ الْفِرَاشِ فِي النِّكَاحِ
بَيْنَهُمَا ، وَلَوْ لَمْ تُقِمْ الْمَرْأَةُ إلَّا امْرَأَةً وَاحِدَةً شَهِدَتْ أَنَّهَا ، وَلَدَتْ فَإِنْ كَانَ ذُو الْيَدِ يَدَّعِي أَنَّهُ ابْنُهُ أَوْ عَبْدُهُ لَمْ يُقْضَ لِلْمَرْأَةِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ الثَّابِتَ بِالْيَدِ لَا يَبْطُلُ بِشَهَادَةِ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فِي إبْطَالِ حَقٍّ ثَابِتٍ لِلْغَيْرِ ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ لَا يَدَّعِيهِ فَإِنِّي أَقْضِي بِهِ لِلْمَرْأَةِ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَقْضِي ؛ لِأَنَّ الْيَدَ فِي اللَّقِيطِ مُسْتَحِقٌّ لِذِي الْيَدِ حَتَّى لَوْ أَرَادَ غَيْرُهُ أَنْ يَنْزِعَهُ مِنْ يَدِهِ لَمْ يَمْلِكْ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَمَحَّضَ هَذَا مَنْفَعَةً لِلْوَلَدِ فِي إثْبَاتِ نَسَبِهِ ، وَحُرِّيَّتِهِ ، وَلَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقٍّ لِذِي الْيَدِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي فِي الْوَلَدِ شَيْئًا إنَّمَا يَدُهُ فِيهِ صِيَانَةً عَنْ ضَيَاعِهِ فَلِهَذَا أَثْبَتْنَا النَّسَبَ مِنْهَا بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ
قَالَ عَبْدٌ فِي يَدِ رَجُلٍ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ وُلِدَ فِي مِلْكِهِ ، وَأَنَّهُ أَعْتَقَهُ ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ وُلِدَ فِي مِلْكِهِ فَإِنِّي أَقْضِي بِهِ لِلَّذِي أَعْتَقَهُ ؛ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْبَيِّنَةِ زِيَادَةَ الْحُرِّيَّةِ فَلَوْ رَجَّحْنَا بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ جَعَلْنَاهُ مَمْلُوكًا لَهُ ، وَكَيْفَ يُجْعَلُ مَمْلُوكًا ، وَقَدْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْحُرِّيَّةِ ، وَلَوْ كَانَ الْمُدَّعِي دَبَّرَهُ أَوْ كَاتَبَهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهَذَا شَيْئًا أَمَّا فِي الْكِتَابَةِ لَا إشْكَالَ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ مُحْتَمِلٌ لِلْفَسْخِ كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فَكَأَنَّهُ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى تَصَرُّفِهِ فِيهِ بِبَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ فَلَا يَتَرَجَّحُ بِهِ .
وَأَمَّا فِي التَّدْبِيرِ فَقَدْ أَعَادَ الْمَسْأَلَةَ فِي آخِرِ الْكِتَابِ ، وَجَعَلَهُ كَالْعِتْقِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ .
وَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ : أَنَّ بِالتَّدْبِيرِ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ عِتْقٍ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَكَانَ مُعْتَبَرًا بِحَقِيقَةِ الْعِتْقِ ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ الْوَلَاءُ عَلَى الْعَبْدِ بِبَيِّنَتِهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا ، وَإِذَا كَانَ الْوَلَاءُ هُوَ الْمَقْصُودَ ، وَالْمِلْكُ بَيْعٌ فَتَتَرَجَّحُ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ لِهَذَا .
وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ : أَنَّ التَّدْبِيرَ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا كَالْكِتَابَةِ فَكَانَ الْمِلْكُ هُوَ الْمَقْصُودَ بِالْإِثْبَاتِ لِكَوْنِهِ قَائِمًا فَتَتَرَجَّحُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ لِإِثْبَاتِ الْوِلَادَةِ فِي مِلْكِهِ بِخِلَافِ الْعِتْقِ فَإِنَّ الْمِلْكَ لَا يَبْقَى بَعْدَ الْعِتْقِ فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ هُنَاكَ إثْبَاتَ الْوَلَاءِ ، وَلَوْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ وُلِدَ فِي مِلْكِهِ ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ وُلِدَ فِي مِلْكِهِ قَضَى بِهِ لِلْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّ فِي بَيِّنَتِهِ إثْبَاتَ الْحُرِّيَّةِ فَإِنَّ الْمَوْلُودَ مِنْ أَمَتِهِ فِي مِلْكِهِ حُرُّ الْأَصْلِ ، وَإِذَا كَانَ يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ إثْبَاتُ حُرِّيَّةِ الْعِتْقِ فَعِنْدَ إثْبَاتِ حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ أَوْلَى
قَالَ صَبِيٌّ فِي يَدِ امْرَأَةٍ فَأَقَامَتْ شَاهِدَةٌ أَنَّهُ ابْنُهَا ، وَأَقَامَتْ الَّتِي هُوَ فِي يَدَيْهَا شَهَادَةٌ أَنَّهُ ابْنُهَا قَضَيْتُ بِهِ لِلَّذِي هُوَ فِي يَدَيْهَا ؛ لِأَنَّ الْحُجَّتَيْنِ اسْتَوَيَا فِي دَعْوَى النَّسَبِ فَيَتَرَجَّحُ جَانِبُ ذِي الْيَدِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا رَجُلَانِ ، وَلِلَّتِي هُوَ فِي يَدَيْهَا امْرَأَةٌ قَضَيْت بِهِ لِلْمُدَّعِيَةِ ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ لَا تُقَابِلُ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ حُجَّةٌ تَامَّةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَشَهَادَةُ الْمَرْأَةِ حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ
قَالَ : وَلَوْ كَانَ الصَّبِيُّ فِي يَدِ رَجُلٍ ، وَامْرَأَةٍ يَدَّعِيَانِ أَنَّهُ ابْنُهُمَا فَشَهِدَتْ لَهُمَا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَأَقَامَ رَجُلٌ آخَرُ شَاهِدَيْنِ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ امْرَأَتِهِ هَذِهِ قَضَيْتُ بِهِ لِلْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ لَا تُقَابِلُ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ حُجَّةٌ تَامَّةٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَشَهَادَةُ الْمَرْأَةِ حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ
قَالَ : وَلَوْ كَانَ الصَّبِيُّ فِي يَدِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَانِ تَدَّعِيَانِ أَنَّهُ ابْنُهُمَا فَشَهِدَتْ لَهُمَا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَأَقَامَ رَجُلٌ آخَرُ شَاهِدَيْنِ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ امْرَأَتِهِ هَذِهِ قَضَيْتُ بِهِ لِلْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ لَا تُعَارِضُ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ وَبَقِيَ الْيَدُ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ ، وَالْبَيِّنَةُ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ وَالْيَدُ لَا تُعَارِضُ الْبَيِّنَةَ
قَالَ : وَلَوْ كَانَ صَبِيٌّ فِي يَدِ ذِمِّيٍّ فَشَهِدَ لَهُ ذِمِّيَّانِ أَنَّهُ ابْنُهُ ، وَأَقَامَ مُسْلِمٌ شَاهِدَيْنِ مُسْلِمَيْنِ أَنَّهُ ابْنُهُ قَضَيْتُ بِهِ لِلْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْمُسْلِمِ حُجَّةٌ عَلَى خَصْمِهِ الذِّمِّيِّ وَبَيِّنَةُ الذِّمِّيِّ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ عَلَى خَصْمِهِ الْمُسْلِمِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ شُهُودُ الْمُسْلِمِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَإِنْ كَانَ شُهُودُ الذِّمِّيِّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَشُهُودُ الْمُسْلِمِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ قَضَيْتُ بِهِ لِذِي الْيَدِ ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُجَّةٌ عَلَى خَصْمِهِ فَلَمَّا اسْتَوَيَا تَرَجَّحَ ذُو الْيَدِ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى النِّتَاجِ لَا يَتَكَرَّرُ ، وَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ فِي يَدِ ثَالِثٍ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ قَضَيْتُ بِهِ لِلْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّ فِي بَيِّنَتِهِ إثْبَاتَ الزِّيَادَةِ وَهُوَ إسْلَامُ الْوَلَدِ ؛ وَلِأَنَّ أَحَدَ الْبَيِّنَتَيْنِ يُوجِبُ كُفْرَهُ وَالْأُخْرَى تُوجِبُ إسْلَامَهُ فَيَتَرَجَّحُ الْمُوجِبُ لِلْإِسْلَامِ عَلَى الْمُوجِبِ لِلْكُفْرِ
قَالَ : وَلَوْ كَانَ الصَّبِيُّ فِي يَدِ رَجُلٍ وَامْرَأَتِهِ فَقَالَ الرَّجُلُ هُوَ ابْنِي مِنْ فُلَانَةَ لِامْرَأَةٍ غَيْرِهَا ، وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ هُوَ ابْنِي مِنْ زَوْجِي فُلَانٍ ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ جَعَلْته ابْنَ هَذَيْنِ اللَّذَيْنِ فِي يَدِهِمَا ؛ لِأَنَّ سَبَبَ النَّسَبِ فِيمَا بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ ، وَهُوَ الْفِرَاشُ فَيُحَالُ بِهِ عَلَى هَذَا السَّبَبِ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُمَا ؛ وَلِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْحَاضِرَيْنِ يُنْصَبُ خَصْمًا عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَائِبَيْنِ وَالْغَائِبَانِ الْخَارِجَانِ لَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ بِأَنْفُسِهِمَا تَرَجَّحَتْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ عَلَى بَيِّنَتِهِمَا فَكَذَلِكَ هُنَا
قَالَ صَبِيٌّ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ مُسْلِمٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ امْرَأَتِهِ هَذِهِ الْحُرَّةِ ، وَأَقَامَ عَبْدٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَمَةِ ، وَأَقَامَتْ مُكَاتَبَةٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ مِنْ هَذِهِ الْمُكَاتَبَةِ فَإِنِّي أَقْضِي بِهِ لِلْحُرِّ لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ اسْتَوَتْ فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ وَفِي الْحُرِّ زِيَادَةُ إثْبَاتٍ الْحُرِّيَّةِ لِلْوَلَدِ فَإِنْ لَمْ يَدَّعِهِ الْحُرُّ ، وَإِنَّمَا ادَّعَاهُ الْعَبْدُ وَالْمُكَاتَبُ فَإِنَى أَقْضِي بِهِ لِلْمُكَاتَبِ ؛ لِأَنَّ فِي بَيِّنَتِهِ زِيَادَةً فَإِنَّ وَلَدَ الْمُكَاتَبَةِ يَكُونُ مُكَاتَبًا ، وَالْكِتَابَةُ تُفْسِدُ الْعِتْقَ وَيَثْبُتُ بِهِ لِلْمُكَاتِبِ مِلْكُ الْيَدِ وَالْمُكَاتَبِ فَكَانَ الْمُثْبِتُ لِلزِّيَادَةِ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ أَوْلَى
قَالَ : وَلَوْ ادَّعَى نَصْرَانِيٌّ وَيَهُودِيٌّ وَمَجُوسِيٌّ ، وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْبَيِّنَةَ قَضَيْتُ بِهِ لِلْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ إذَا قُوبِلَ بِدَيْنِ الْمَجُوسِيِّ فَدَيْنُ الْمَجُوسِيِّ شَرٌّ مِنْهُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ ذَبَائِحَ الْيَهُودِ ، وَالنَّصَارَى تَحِلُّ ، وَكَذَلِكَ مُنَاكَحَتُهُنَّ ، وَلَا تَحِلُّ ذَبَائِحُ الْمَجُوسِيِّ وَمُنَاكَحَتُهُنَّ لِلْمُسْلِمِينَ فَكَانَ حَالُ الْيَهُودِيِّ ، وَالنَّصْرَانِيِّ مَعَ الْمَجُوسِيِّ كَحَالِ الْمُسْلِمِ مَعَ الْيَهُودِيِّ ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا : إنَّ الْمَوْلُودَ بَيْنَ الْمَجُوسِيِّ وَالْكِتَابِيِّ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْكِتَابِيِّ تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا تَتَرَجَّحُ الْبَيِّنَةُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بِالدَّيْنِ اعْتِبَارًا لِدَعْوَى النَّسَبِ بِدَعْوَى الْمِلْكِ
وَلَوْ ادَّعَى مُسْلِمٌ ، وَكَافِرٌ مِلْكًا ، وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ أَوْ كِتَابِيٌّ أَوْ مَجُوسِيٌّ ، وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ لَمْ تَتَرَجَّحْ أَحَدُهُمَا ، وَلَكِنَّا نَقُولُ فِي دَعْوَى الْمِلْكَيْنِ : لَيْسَ فِي بَيِّنَةِ أَحَدِهِمَا زِيَادَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ يَسْتَوِيَانِ فَأَمَّا فِي النَّسَبِ فِي إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ زِيَادَةُ مَنْفَعَةٍ لِلْوَلَدِ فَتَتَرَجَّحُ تِلْكَ الْبَيِّنَةُ لِهَذَا
قَالَ : وَلَوْ ادَّعَى عَبْدٌ مُسْلِمٌ أَنَّهُ ابْنُهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَمَةِ وَادَّعَى حُرٌّ ذِمِّيٌّ أَنَّهُ ابْنُهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ مِنْ امْرَأَتِهِ هَذِهِ يَقْضِي لِلْحُرِّ الذِّمِّيِّ ؛ لِأَنَّ فِي بَيِّنَتِهِ إثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ لِلْوَلَدِ وَذَلِكَ مَنْفَعَةٌ عَاجِلًا ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا بَلَغَ لَا يُمْكِنُهُ اكْتِسَابُ الْحُرِّيَّةِ لِنَفْسِهِ ، وَلَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى يَهْدِيهِ فَيُسْلِمَ بِنَفْسِهِ ، وَكَانَ تَرْجِيحُ جَانِبِ الْحُرِّيَّةِ أَوْلَى فِي حَقِّهِ
قَالَ : صَبِيٌّ فِي يَدِ رَجُلٍ لَا يَدَّعِيهِ فَأَقَامَتْ امْرَأَةٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهَا ، وَلَدْته ، وَأَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ ، وَلَمْ يُسَمُّوا أُمَّهُ جَعَلْته ابْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْبَيِّنَتَيْنِ مُمْكِنٌ فَإِنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ جَمِيعًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي يَدِ الْمَرْأَةِ ، وَلَيْسَ فِي قَبُولِ بَيِّنَتِهَا مَا يَدْفَعُ بَيِّنَةَ الرَّجُلِ فَقَضَيْنَا بِالنَّسَبِ مِنْهُمَا ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ الْقَضَاءُ بِالْفِرَاشِ بَيْنَهُمَا وَمَا ثَبَتَ لِضَرُورَةِ الشَّهَادَةِ فَهُوَ كَالْمَشْهُودِ بِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( بَابُ دَعْوَى الرَّهْطِ فِي الدَّارِ ) قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَاهَا رَجُلٌ جَمِيعًا ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ ، وَادَّعَى آخَرُ نِصْفَهَا ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُقَسِّمُ بَيْنَ الْمُدَّعِيَيْنِ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ أَرْبَاعًا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهَا لِمُدَّعِي الْجَمِيعِ وَرُبُعُهَا لِمُدَّعِي النِّصْفِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُقَسِّمُ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ وَالْمُضَارَبَةِ أَثْلَاثًا ؛ وَلِهَذَا نَظَائِرُ ، وَأَضْدَادٌ ، وَمِنْ نَظَائِرِهَا الْمُوصَى لَهُ بِجَمِيعِ الْمَالِ وَبِنِصْفِهِ عِنْدَ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ وَالْمُوصَى لَهُ بِعَيْنٍ مَعَ الْمُوصَى لَهُ بِنِصْفِ ذَلِكَ الْعَيْنِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ سِوَاهُ .
وَمِنْ أَضْدَادِهَا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ الْمُشْتَرَكُ إذَا أَدَانَهُ أَحَدُ الْمَوْلَيَيْنِ مِائَةً ، وَأَجْنَبِيٌّ مِائَةً ، ثُمَّ بِيعَ بِمِائَةٍ فَالْقِسْمَةُ بَيْنَ الْمَدِينِ وَالْأَجْنَبِيِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِطَرِيقِ الْعَوْلِ أَثْلَاثًا وَعِنْدَهُمَا بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ أَرْبَاعًا ، وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ إذَا قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً وَفَقَأَ عَيْنَ آخَرَ وَغَرِمَ الْمَوْلَى قِيمَتَهُ لَهُمَا ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إذَا قَتَلَ رَجُلًا عَمْدًا وَآخَرَ خَطَأً ؛ وَلِلْمَقْتُولِ عَمْدًا ابْنَانِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا ، ثُمَّ دُفِعَ الْعَبْدُ بِالْجِنَايَتَيْنِ وَمِمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقِسْمَةَ فِيهِ بِطَرِيقِ الْعَوْلِ التَّرِكَةُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَالْغُرَمَاءِ وَضَاقَتْ التَّرِكَةُ عَنْ إيفَاءِ حُقُوقِهِمْ وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالسُّدُسِ إذَا لَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ ، وَمِمَّا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْقِسْمَةَ فِيهِ بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ فُضُولِيٌّ بَاعَ عَبْدَ رَجُلٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، وَبَاعَ فُضُولِيٌّ آخَرَ نِصْفَهُ فَأَجَازَ الْمَوْلَى الْبَيْعَيْنِ فَالْقِسْمَةُ بَيْنَ الْمُشْتَرِيَيْنِ بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ أَرْبَاعًا .
وَأَصْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ قِسْمَةَ الْعَيْنِ مَتَى وَجَبَتْ بِسَبَبِ حَقٍّ فِي الْعَيْنِ
كَانَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ فَالتَّرِكَةُ بَيْنَ الْوَرَثَةِ ، وَمَتَى وَجَبَتْ بِسَبَبِ حَقٍّ كَانَ فِي الْعَيْنِ كَالْأَصْلِ فَالْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ كَمَا فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ فَإِنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُشْتَرِينَ كَانَ فِي الثَّمَنِ يَتَحَوَّلُ بِالشِّرَاءِ إلَى الْمَبِيعِ وَفِي مَسْأَلَةِ الدَّعْوَى حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ فِي الْعَيْنِ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ لِمَعْنَى أَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَائِعٌ فِي الْعَيْنِ فَمَا مِنْ جُزْءٍ مِنْهُ إلَّا ، وَصَاحِبُ الْقَلِيلِ مُزَاحِمٌ فِيهِ صَاحِبَ الْكَثِيرِ بِنَصِيبِهِ فَلِهَذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ بِطَرِيقِ الْعَوْلِ .
وَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذَا كَانَ يُدْلِي بِسَبَبٍ صَحِيحٍ مَعْلُومٍ فَالْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ كَالْوَرَثَةِ فِي التَّرِكَةِ ، وَإِذَا كَانَ يُدْلِي لَا بِسَبَبٍ صَحِيحٍ ثَابِتٍ فَالْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ ، وَمَا لَا مُنَازَعَةَ فِيهِ لِصَاحِبِ الْقَلِيلِ يُسَلَّمُ لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ فِي بَيْعِ الْفُضُولِيِّ فَإِنَّ بَيْعَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ صَحِيحٍ قَبْلَ إجَازَةِ الْمَالِكِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ إنَّمَا يُصَارُ إلَيْهَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ ، وَذَلِكَ عِنْدَ قُوَّةِ السَّبَبِ وَاسْتِوَاءِ السَّبَبَيْنِ فِي صِفَةِ الصِّحَّةِ فَفِي مَسْأَلَةِ الدَّعْوَى سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الشَّهَادَةُ ، وَهِيَ لَا تُوجِبُ شَيْئًا قَبْلَ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ فَلَمْ يَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ السَّبَبَيْنِ مَعْلُومَ الصِّحَّةِ فَلِهَذَا كَانَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ وَمَا قَالَ يَبْطُلُ بِحَقِّ الْغُرَمَاءِ فِي التَّرِكَةِ فَإِنَّ قِسْمَةَ الْعَيْنِ بِسَبَبِ حَقٍّ كَانَ فِي الذِّمَّةِ ، وَمَعَ ذَلِكَ كَانَتْ الْقِسْمَةُ عَوْلِيًّا .
قَالَ فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعُونَ ثَلَاثَةً يَدَّعِي أَحَدُهُمْ جَمِيعَهَا ، وَالْآخَرُ نِصْفَهَا وَالْآخَرُ ثُلُثَهَا ، وَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْقِسْمَةُ بِطَرِيقِ الْعَوْلِ
فَتَكُونُ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مِنْ سِتَّةٍ يَضْرِبُ مُدَّعِي الْكُلِّ بِسِهَامِ الدَّارِ سِتَّةً وَمُدَّعِي الثُّلُثَيْنِ بِسِهَامِ الثُّلُثَيْنِ أَرْبَعَةً وَمُدَّعِي النِّصْفِ بِثَلَاثَةٍ فَيَقْسِمُ الدَّارَ بَيْنَهُمْ عَلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ سَهْمًا .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقِسْمَةُ بِطَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ ، وَلَا مُنَازَعَةَ لِصَاحِبِ النِّصْفِ وَالثُّلُثَيْنِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثَيْنِ وَصَاحِبُ الْجَمِيعِ يَدَّعِي ذَلِكَ فَيُسَلَّمُ لَهُ بِلَا مُنَازَعَةٍ ، وَمَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ إلَى تَمَامِ الثُّلُثَيْنِ لَا مُنَازَعَةَ فِيهِ لِصَاحِبِ النِّصْفِ فَيَكُونُ بَيْنَ صَاحِبِ الْجَمِيعِ وَالثُّلُثَيْنِ نِصْفَيْنِ يَبْقَى سِتَّةٌ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمْ فِيهِ فَكَانَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا فَيُسَلِّمُ لِمُدَّعِي النِّصْفِ سُدُسَ الدَّارِ ؛ وَلِمُدَّعِي الثُّلُثَيْنِ رُبُعَ الدَّارِ ؛ وَلِمُدَّعِي الْجَمِيعِ مَا بَقِيَ وَذَلِكَ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ
قَالَ : وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ رَجُلَيْنِ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا نِصْفَهَا وَالْآخَرُ جَمِيعَهَا فَالْبَيِّنَةُ عَلَى مُدَّعِي الْجَمِيعِ ؛ لِأَنَّ دَعْوَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْصَرِفٌ إلَى مَا فِي يَدِهِ أَوَّلًا لِيَكُونَ يَدُهُ مُحِقَّةٌ فِي حَقِّهِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ حَمْلَ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصِّحَّةِ وَاجِبٌ فَصَاحِبُ النِّصْفِ لَا يَدَّعِي شَيْئًا مِمَّا فِي يَدِ صَاحِبِ الْجَمِيعِ ، وَصَاحِبُ الْجَمِيعِ يَدَّعِي شَيْئًا مِمَّا فِي يَدِ صَاحِبِ النِّصْفِ فَعَلَيْهِ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالدَّارُ كُلُّهَا لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ اجْتَمَعَ بَيِّنَةُ الْخَارِجِ ، وَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ فِيمَا فِي يَدِ صَاحِبِ النِّصْفِ فَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ
قَالَ : وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ فَادَّعَى أَحَدُهُمْ جَمِيعَهَا وَالْآخَرُ ثُلُثَيْهَا وَالْآخَرُ نِصْفَهَا ، وَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ ، وَاسْتُحْلِفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَنَكَلَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمْ فَتَكُونُ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا ؛ لِأَنَّ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثَ الدَّارِ ، وَدَعْوَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَنْصَرِفُ إلَى مَا فِي يَدِهِ ، ثُمَّ فِيمَا فَضَلَ فِي ذَلِكَ إلَى مَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى بِهِ مِنْ الْآخَرِ ، وَلَا بَيِّنَةَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيمَا فِي يَدِهِ فَأَمَّا الثُّلُثُ الَّذِي فِي يَدِ صَاحِبِ النِّصْفِ لَا بَيِّنَةَ لَهُ فِي ذَلِكَ ، وَصَاحِبُ الْجَمِيعِ يَدَّعِي الْجَمِيعَ ، وَصَاحِبُ النِّصْفِ يَدَّعِي الثُّلُثَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الثُّلُثَيْنِ ثُلُثٌ فِي يَدِهِ وَثُلُثٌ فِي يَدِ صَاحِبِهِ فَيَكُونُ دَعْوَاهُ فِيمَا فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ الثُّلُثِ فَيُسَلِّمُ نِصْفَ هَذَا الثُّلُثِ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ بِلَا مُنَازَعَةٍ ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ؛ لِاسْتِوَاءِ مُنَازَعَتِهِمَا فِيهِ فَصَارَ هَذَا الثُّلُثُ عَلَى أَرْبَعَةٍ ، وَالثُّلُثُ الَّذِي فِي يَدِ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ صَاحِبُ الْجَمِيعِ يَدَّعِي جَمِيعَهُ ، وَصَاحِبُ النِّصْفِ يَدَّعِي رُبُعَهُ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي النِّصْفَ وَالثُّلُثَ فِي يَدِهِ فَإِنَّمَا بَقِيَ الثُّلُثُ فِي يَدِ صَاحِبِهِ فَكَانَ دَعْوَاهُ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ السُّدُسِ ، وَذَلِكَ رُبُعُ مَا فِي يَدَيْهِ فَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَا فِي يَدِهِ سَالِمٌ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ ، وَاسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا فِي الرُّبُعِ فَكَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَمَا فِي يَدِ صَاحِبِ الْجَمِيعِ يَدَّعِي صَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ نِصْفَهُ وَصَاحِبُ النِّصْفِ رُبُعَهُ وَفِي الْمَالِ سِعَةٌ فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ مَا ادَّعَاهُ فَإِنْ جَعَلْت سِهَامَ الدَّارِ عَلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ كَانَ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَمَانِيَةٌ ، وَالسَّالِمُ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ
مِمَّا فِي يَدِ صَاحِبِ النِّصْفِ سِتَّةٌ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَا فِي يَدِهِ ، وَلَهُ مِمَّا فِي يَدِ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ سَبْعَةٌ وَيَبْقَى لَهُ مِمَّا كَانَ فِي يَدِهِ سَهْمَانِ فَجُمْلَةُ مَا سَلَّمَ لَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وَصَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ أَخَذَ مِمَّا فِي يَدِ صَاحِبِ الْجَمِيعِ أَرْبَعَةٌ وَمِمَّا فِي يَدِ صَاحِبِ النِّصْفِ سَهْمَيْنِ وَذَلِكَ سِتَّةٌ فَهُوَ لَهُ وَصَاحِبُ النِّصْفِ أَخَذَ مِمَّا فِي يَدِ صَاحِبِ الْجَمِيعِ سَهْمَيْنِ وَمِمَّا فِي يَدِ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ سَهْمًا فَإِذَا جَمَعْت بَيْنَ هَذِهِ السِّهَامِ كَانَتْ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ وَعِنْدَهُمَا الْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ فَصَاحِبُ الْجَمِيعِ يَضْرِبُ فِيمَا فِي يَدِ صَاحِبِ النِّصْفِ بِالْجَمِيعِ وَصَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ بِالنِّصْفِ فَصَارَ هَذَا الثُّلُثُ أَثْلَاثًا وَصَاحِبُ الْجَمِيعِ فِيمَا فِي يَدِ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ بِالْجَمِيعِ وَصَاحِبُ النِّصْفِ بِالرُّبُعِ فَصَارَ هَذَا الثُّلُثُ أَخْمَاسًا وَصَاحِبُ النِّصْفِ يَأْخُذُ مِمَّا فِي يَدِ صَاحِبِ الْجَمِيعِ الرُّبُعَ ، وَصَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ يَأْخُذُ النِّصْفَ فَصَارَ هَذَا الثُّلُثُ أَرْبَاعًا فَقَدْ ، وَقَعَ الْكَسْرُ بِالْأَثْلَاثِ ، وَالْأَرْبَاعِ وَالْأَخْمَاسِ فَاضْرِبْ خَمْسَةً فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ خَمْسَةَ عَشَرَ ، ثُمَّ فِي أَرْبَعَةٍ فَيَكُونُ سِتِّينَ فَصَارَ كُلُّ ثُلُثٍ مِنْ الدَّارِ عَلَى سِتِّينَ سَهْمًا فَيَكُونُ جَمِيعُهَا مِائَةً ، وَثَمَانِينَ فَمَا فِي يَدِ صَاحِبِ النِّصْفِ ، وَذَلِكَ سِتُّونَ سَهْمًا لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ ثُلُثَاهُ أَرْبَعُونَ وَصَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ عِشْرُونَ وَمَا فِي يَدِ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ لِصَاحِبِ النِّصْفِ خَمْسَةٌ ، وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ ؛ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ وَيَأْخُذُ صَاحِبُ النِّصْفِ مِمَّا فِي يَدِ صَاحِبِ الْجَمِيعِ رُبُعَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ ، وَصَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ النِّصْفَ ثَلَاثِينَ فَيَبْقَى فِي يَدِ صَاحِبِ الْجَمِيعِ خَمْسَةَ عَشَرَ ، وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ يَدِ الْآخَرَيْنِ ثَمَانِيَةٌ وَثَمَانُونَ ، وَذَلِكَ مِائَةٌ وَثَلَاثَةُ أَسْهُمٍ فَذَلِكَ نَصِيبُهُ .
وَصَاحِبُ الثَّلَاثِينَ أَخَذَ
مِنْ يَدِ صَاحِبِ الْجَمِيعِ ثَلَاثِينَ ، وَمِنْ يَدِ صَاحِبِ النِّصْفِ عِشْرِينَ وَذَلِكَ خَمْسُونَ ، وَصَاحِبُ النِّصْفِ أَخَذَ مِنْ يَدِ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ اثْنَيْ عَشَرَ ، وَمِنْ يَدِ صَاحِبِ الْجَمِيعِ خَمْسَةَ عَشَرَ فَيَكُونُ سَبْعَةٌ وَعِشْرُونَ فَإِذَا جَمَعْت بَيْنَ هَذِهِ السِّهَامِ كَانَتْ مِائَةً وَثَمَانِينَ مِثْلُ سِهَامِ الدَّارِ فَاسْتَقَامَ
قَالَ : دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنْهَا مَنْزِلٌ وَفِي يَدِ آخَرَ مِنْهَا مَنْزِلٌ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا الدَّارَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَقَالَ الْآخَرُ هِيَ كُلُّهَا لِي ، وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَلِمُدَّعِي الْكُلِّ الْمَنْزِلُ الَّذِي فِي يَدِهِ وَنِصْفُ الْمَنْزِلِ الَّذِي فِي يَدِ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْآخَرِ فِي نِصْفٍ شَائِعٍ فَإِنَّمَا يَدَّعِي هُوَ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ ، وَلَا دَعْوَى لَهُ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ ، وَمُدَّعِي الْجَمِيعِ يَدَّعِي ذَلِكَ لِنَفْسِهِ فَيَأْخُذُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَازِعَ لَهُ ، وَمُدَّعِي النِّصْفِ يَدَّعِي نِصْفَ الْمَنْزِلِ الَّذِي فِي يَدِ مُدَّعِي الْجَمِيعِ ، وَهُوَ يُنَازِعُهُ فِي ذَلِكَ فَلَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا بِحُجَّةٍ
قَالَ : وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ كُلُّهَا فِي أَيْدِيهِمَا ، وَلَمْ يُعْرَفْ شَيْءٌ مِنْهَا فِي يَدٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ؛ لِأَنَّ مُدَّعِي النِّصْفِ تَنْصَرِفُ دَعْوَاهُ إلَى مَا فِي يَدِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْآخَرُ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ ، وَإِنْ كَانَ سُفْلُهَا فِي يَدِ رَجُلٍ ، وَعُلُوُّهَا فِي يَدِ آخَرَ وَطَرِيقُ الْعُلُوِّ فِي السَّاحَةِ فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّ الدَّارَ لَهُ فَالدَّارُ لِصَاحِبِ السُّفْلِ إلَّا الْعُلُوَّ وَطَرِيقَهُ فَإِنَّهُ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ ؛ لِأَنَّ الْعُلُوَّ فِي يَدِ صَاحِبِ الْعُلُوِّ ، وَكَذَلِكَ طَرِيقُهُ فِي السُّفْلِ فَإِنَّهُ مُسْتَعْمِلٌ لَهُ بِالتَّطَرُّقِ فِيهِ إلَى عُلُوِّهِ فَأَمَّا السُّفْلُ وَالسَّاحَةُ فَفِي يَدِ صَاحِبِ السُّفْلِ ؛ لِأَنَّ هُوَ الْمُسْتَعْمِلُ لِلسَّاحَةِ بِوَضْعِ أَمْتِعَتِهِ وَصَبِّ وُضُوئِهِ ، وَكَسْرِ حَطَبِهِ فِيهِ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهُ ، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ تَرْجِيحًا لِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ عَلَى بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ فِي دَعْوَى الْمِلْكِ
قَالَ : وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ ثَلَاثَةٍ فَادَّعَى أَحَدُهُمْ النِّصْفَ وَالْآخَرُ الثُّلُثَ وَالثَّالِثُ السُّدُسَ وَجَحَدَ بَعْضُهُمْ دَعْوَى الْبَعْضِ فَإِنَّ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الثُّلُثَ ، فَالثُّلُثُ الَّذِي فِي يَدِ مُدَّعِي السُّدُسِ لَهُ نِصْفُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ مَوْقُوفٌ عِنْدَهُ فَإِنْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ لِصَاحِبِ النِّصْفِ أَخَذَ مِنْ يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبَيْهِ نِصْفَ سُدُسِ الدَّارِ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي النِّصْفَ ، وَفِي يَدِهِ الثُّلُثُ فَمَا زَادَ عَلَيْهِ إلَى تَمَامِ النِّصْفِ هُوَ السُّدُسُ يَدَّعِيهِ ، وَفِي يَدِ صَاحِبَيْهِ إذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا يَصْرِفُ دَعْوَاهُ إلَى مَا فِي يَدِهِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَإِذَا أَثْبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ أَخَذَ مِنْ يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ السُّدُسِ ، وَلَا يُقَالُ : إنَّ نِصْفَ مَا فِي يَدِ مُدَّعِي السُّدُسِ هُوَ لَا يَدَّعِيهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْصَرِفَ دَعْوَى مُدَّعِي النِّصْفِ إلَيْهِ حَتَّى يَأْخُذَ كُلُّ ذَلِكَ السُّدُسَ مِنْ غَيْرِ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَدَّعِي بَعْضَ ذَلِكَ فِي يَدِ صَاحِبِ الثُّلُثِ فَكَيْفَ يَأْخُذُهُ مِنْ يَدِ مُدَّعِي السُّدُسِ وَهُوَ إنَّمَا يَدَّعِيهِ فِي يَدِ غَيْرِهِ وَالثَّانِي أَنَّ بِاعْتِبَارِ دَعْوَاهُ شَيْئًا مِمَّا فِي يَدِ صَاحِبِ الثُّلُثِ كَانَ صَاحِبُ الثُّلُثِ مُنَازِعًا لَهُ فِي هَذَا السُّدُسِ الَّذِي فِي يَدِ صَاحِبِ السُّدُسِ وَهُوَ لَا يَدَّعِيهِ ، وَمَعَ تَمَكُّنِ الْمُنَازَعَةِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ إلَّا بِحُجَّةٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( بَابُ دَعْوَى الْحَائِطِ وَالطَّرِيقِ ) ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَإِذَا كَانَ الْحَائِطُ بَيْنَ دَارَيْنِ فَادَّعَاهُ صَاحِبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الدَّارَيْنِ فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ جُذُوعٌ ، وَلَيْسَ لِلْآخَرِ عَلَيْهِ جُذُوعٌ فَهُوَ لِصَاحِبِ الْجُذُوعِ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِوَضْعِ الْجُذُوعِ تَرْجِيحًا عَلَى صَاحِبِهِ ) ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْجُذُوعِ مُحْتَمِلٌ قَدْ يَكُونُ عَنْ مِلْكٍ ، وَقَدْ يَكُونُ عَنْ اسْتِعَارَةٍ ، وَقَدْ يَكُونُ عَنْ غَصْبٍ وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً .
وَلَنَا أَنَّ وَاضِعَ الْجُذُوعِ مُسْتَعْمِلٌ لِلْحَائِطِ بِوَضْعِ حَمْلِهِ عَلَيْهِ ، وَالِاسْتِعْمَالُ يَدٌ وَعِنْدَ تَعَارُضِ الدَّعْوَتَيْنِ الْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْيَدِ كَمَا لَوْ تَنَازَعَا فِي دَابَّةٍ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهَا حِمْلٌ كَانَ هُوَ أَوْلَى بِهَا ؛ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ ؛ وَلِأَنَّ وَضْعَهُ الْجُذُوعَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ بَنَى الْحَائِطَ لِحَاجَتِهِ إذْ وَضَعَ حِمْلَهُ عَلَيْهِ ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْعَلَامَةِ تُثَبِّتُ التَّرْجِيحَ كَمَا إذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ يُجْعَلُ مَا يَصْلُحُ لِلرَّجُلِ لِلرَّجُلِ وَمَا يَصْلُحُ لِلنِّسَاءِ لِلْمَرْأَةِ ، وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ هَوَادِي أَوْ بَوَارِي لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِجَهْلٍ مَقْصُودٍ بُنِيَ الْحَائِطُ لِأَجْلِهِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ التَّرْجِيحُ كَمَا لَوْ تَنَازَعَا فِي دَابَّةٍ ؛ وَلِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ مِخْلَاةُ عَلَفِهَا لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ التَّرْجِيحَ بِخِلَافِ الْجُذُوعِ فَإِنَّهُ حِمْلٌ مَقْصُودٌ يُبْنَى الْحَائِطُ لِأَجْلِهِ فَيَثْبُتُ لَهُ الْيَدُ بِاعْتِبَارِهِ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ جُذُوعٌ أَوْ أَنِصَالٌ ؛ وَلِلْآخَرِ بَوَارِي فَهُوَ لِصَاحِبِ الْجُذُوعِ وَالْأَنْصَالِ ، وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ جُذُوعٌ ؛ وَلِلْآخَرِ أَنِصَالٌ فَصَاحِبُ الْجِذْعِ أَوْلَى وَمُرَادُهُ مِنْ هَذَا مُدَاخَلَةُ أَنْصَافِ اللَّبِنِ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ إذَا كَانَ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الِاتِّصَالِ بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا ؛
لِأَنَّ وَضْعَ الْجُذُوعِ اسْتِعْمَالٌ لِلْحَائِطِ وَالِاتِّصَالُ مُجَاوَرَةٌ وَالْيَدُ تَثْبُتُ بِالِاسْتِعْمَالِ دُونَ الْمُجَاوَرَةِ ، فَكَانَ صَاحِبُ الْجُذُوعِ أَوْلَى .
كَمَا لَوْ تَنَازَعَا فِي دَابَّةٍ ، وَأَحَدُهُمَا رَاكِبُهَا وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِلِجَامِهَا فَالرَّاكِبُ أَوْلَى ، وَذَكَرَ الطَّحْطَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ صَاحِبَ الِاتِّصَالِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ صَارَ فِي حُكْمِ حَائِطٍ وَاحِدٍ فَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الِاتِّصَالِ فِي بَعْضِهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لِأَحَدِهِمَا فَيُرَدُّ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ إلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ ؛ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي بَنَاهُ مَعَ حَائِطِهِ فَمُدَاخَلَةُ أَنْصَافٍ لِلَّبِنِ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا عِنْدَ بِنَاءٍ لِحَائِطَيْنِ مَعًا فَكَانَ هُوَ أَوْلَى .
قَالَ فِي الْكِتَابِ : إلَّا أَنْ يَكُونَ اتِّصَالُ تَرْبِيعِ بَيْتٍ أَوْ دَارٍ فَيَكُونُ لِصَاحِبِ الِاتِّصَالِ حِينَئِذٍ ، وَكَانَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ صِفَةُ هَذَا الِاتِّصَالِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْحَائِطُ الْمُتَنَازَعُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ جَمِيعًا مُتَّصِلًا بِحَائِطَيْنِ لِأَحَدِهِمَا ، وَالْحَائِطَانِ مُتَّصِلَانِ بِحَائِطٍ لَهُ بِمُقَابَلَةِ الْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ حَتَّى يَصِيرَ مُرَبَّعًا شِبْهَ الْقُبَّةِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْكُلُّ فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ فَصَاحِبُ الِاتِّصَالِ أَوْلَى .
وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ اتِّصَالُ جَانِبَيْ الْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ بِحَائِطَيْنِ لِأَحَدِهِمَا فَأَمَّا اتِّصَالُ الْحَائِطَيْنِ بِحَائِطٍ أُخْرَى غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَعَلَيْهِ أَكْثَرُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ .
لِأَنَّ التَّرْجِيحَ إنَّمَا يَقَعُ لَهُ يَكُونُ مِلْكُهُ مُحِيطًا بِالْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، وَذَلِكَ يَتِمُّ بِالِاتِّصَالِ بِجَانِبَيْ الْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ ؛ وَلِصَاحِبِ الْجُذُوعِ مَوْضِعُ جُذُوعِهِ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ صَاحِبِ الِاتِّصَالِ بِالظَّاهِرِ وَهُوَ حُجَّةٌ لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ لَا لِلِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْغَيْرِ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ عَلَى صَاحِبِ الْجُذُوعِ رَفْعَ جُذُوعِهِ .
فَإِنْ ( قِيلَ ) :
لَمَّا قَضَى بِالْحَائِطِ لِصَاحِبِ الِاتِّصَالِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَأْمُرَ الْآخَرَ بِرَفْعِ الْجِذْعِ ؛ لِأَنَّهُ حِمْلٌ مَوْضُوعٌ لَهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ سَبَبٍ ظَاهِرٍ لِاسْتِحْقَاقِهِ كَمَا لَوْ تَنَازَعَا فِي دَابَّةٍ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهَا حِمْلٌ ؛ وَلِلْآخَرِ مِخْلَاةٌ يَقْضِي لِصَاحِبِ الْحِمْلِ ، وَيُؤْمَرُ الْآخَرُ بِرَفْعِ الْمِخْلَاةِ قُلْنَا : لِأَنَّ وَضْعَ الْمِخْلَاةِ عَلَى دَابَّةِ الْغَيْرِ لَا يَكُونُ مُسْتَحَقًّا لَهُ فِي الْأَصْلِ بِسَبَبٍ فَكَانَ مِنْ ضَرُورَةِ الْقَضَاءِ بِالدَّابَّةِ لِصَاحِبِ الْحِمْلِ أَمْرُ الْآخَرِ بِرَفْعِ الْمِخْلَاةِ فَأَمَّا هُنَا فَقَدْ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ وَضْعِ الْجُذُوعِ عَلَى حَائِطٍ لِغَيْرِهِ بِأَنْ كَانَ ذَلِكَ مَشْرُوطًا فِي أَصْلِ الْقِسْمَةِ فَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ لِصَاحِبِ الِاتِّصَالِ اسْتِحْقَاقُ رَفْعِ الْجُذُوعِ عَلَى الْآخَرِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ ، وَقَضَى لَهُ بِهِ يُؤْمَرُ الْآخَرُ بِرَفْعِ جُذُوعِهِ ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ لِلِاسْتِحْقَاقِ فَيَسْتَحِقُّ صَاحِبُهَا رَفْعَ جُذُوعِهِ عَنْ مِلْكِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَّصِلًا بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ جُذُوعٌ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِيهِ فِي الْيَدِ حُكْمًا فَإِنَّهُ بِكَوْنِهِ بَيْنَ دَارَيْهِمَا يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ الْيَدُ حُكْمًا ، وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ عَشْرُ خَشَبَاتٍ ؛ وَلِلْآخَرِ عَلَيْهِ خَشَبَةٌ وَاحِدَةٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا تَحْتَ خَشَبَتِهِ ، وَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ اسْتَحْسَنَ ذَلِكَ فِي الْخَشَبَةِ وَالْخَشَبَتَيْنِ ، وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ .
وَقَالَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ : الْحَائِطُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ عَشْرِ خَشَبَاتٍ إلَّا مَوْضِعَ الْخَشَبَةِ فَإِنَّهُ لِصَاحِبِهَا وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ الْحَائِطَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ الْقِيَاسُ ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ بِمَوْضِعِ الْخَشَبِ يُثَبِّتُ يَدَ صَاحِبِهَا عَلَيْهِ
فَصَاحِبُ الْقَلِيلِ فِيهِ يَسْتَوِي بِصَاحِبِ الْكَثِيرِ كَمَا لَوْ تَنَازَعَا فِي ثَوْبٍ عَامَّتُهُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَطَرَفٌ مِنْهُ فِي يَدِ الْآخَرِ كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ .
وَوَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ الْإِقْرَارِ لِصَاحِبِ الْعَشْرِ خَشَبَاتٍ عَلَيْهِ حِمْلٌ مَقْصُودٌ يُبْنَى الْحَائِطُ لِأَجْلِهِ ؛ وَلِيس لِصَاحِبِ الْخَشَبَةِ الْوَاحِدَةِ مِثْلُ ذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّ الْحَائِطَ لَا يُبْنَى لِأَجْلِ خَشَبَةٍ وَاحِدَةٍ عَادَةً ، وَإِنَّمَا يُنْصَبُ لِأَجْلِهَا أُسْطُوَانَةٌ فَكَانَ صَاحِبُ الْعَشْرِ خَشَبَاتٍ أَوْلَى بِهِ كَمَا فِي الدَّابَّةِ إذَا كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهَا حِمْلٌ مَقْصُودٌ ؛ وَلِلْآخَرِ مِخْلَاةٌ يَقْضِي بِهَا لِصَاحِبِ الْحِمْلِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَرْفَعُ خَشَبَةَ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ صَاحِبِ الْخَشَبَاتِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ يَسْتَحِقُّ بِهِ رَفْعَ الْخَشَبَةِ عَلَى الْآخَرِ .
وَأَمَّا وَجْهُ رِوَايَةِ كِتَابِ الدَّعْوَى أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِاعْتِبَارِ وَضْعِ الْخَشَبَةِ فَيَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمِلْكُ فِيمَا تَحْتَ خَشَبَتِهِ لِوُجُودِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ بِهِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَأَمَّا مَا بَيْنَ الْخَشَبَاتِ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ يَقْضِي بِهِ لِأَيِّهِمَا ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ قَالَ يَقْضِي بِالْكُلِّ بَيْنَهُمَا عَلَى إحْدَى عَشَرَ سَهْمًا عَشَرَةٌ لِصَاحِبِ الْخَشَبَاتِ وَسَهْمٌ لِصَاحِبِ الْخَشَبَةِ الْوَاحِدَةِ اعْتِبَارٌ لِمَا بَيْنَ الْخَشَبَاتِ بِمَا هُوَ تَحْتَ كُلِّ خَشَبَةٍ مِنْ الْحَائِطِ ، وَأَكْبَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يَقْضِي بِهِ لِصَاحِبِ الْعَشْرِ خَشَبَاتٍ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْآخَرِ بِالْخَشَبَةِ لَا بِعَلَامَةٍ يَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي بَنَى الْحَائِطَ أَوْ لِلْآخَرِ عَلَيْهِ عَلَامَةٌ يَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى أَنَّهُ هُوَ الَّذِي بَنَى الْحَائِطَ فَإِنَّ الْحَائِطَ يُبْنَى لِوَضْعِ عَشْرِ خَشَبَاتٍ لَا لِوَضْعِ خَشَبَةٍ وَاحِدَةٍ فَلِهَذَا كَانَ الْكُلُّ لِصَاحِبِ الْخَشَبَاتِ إلَّا مَوْضِعَ الْخَشَبَةِ الْوَاحِدَةِ لِضَرُورَةِ اسْتِعْمَالِ صَاحِبِهَا .
وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَعْدُو
مَوَاضِعَهَا ، وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ عَشْرُ خَشَبَاتٍ ؛ وَلِلْآخَرِ ثَلَاثُ خَشَبَاتٍ فَصَاعِدًا قُضِيَ بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ اعْتِبَارًا لِأَدْنَى الْجَمْعِ بِأَقْصَاهُ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ حِمْلًا مَقْصُودًا يُبْنَى الْحَائِطُ لِأَجْلِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ التَّفَاوُتُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْقِلَّةِ ، وَالْكَثْرَةِ كَمَا لَوْ تَنَازَعَا فِي دَابَّةٍ ؛ وَلِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ خَمْسُونَ مَنًا ؛ وَلِلْآخَرِ مِائَةُ مَنًا كَانَتْ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ خَشَبٌ ؛ وَلِلْآخَرِ عَلَيْهِ حَائِطُ سُتْرَةٍ فَالْحَائِطُ الْأَسْفَلُ لِصَاحِبِ الْخَشَبِ لِكَوْنِهِ مُسْتَعْمِلًا لَهُ بِوَضْعِ حِمْلٍ مَقْصُودٍ عَلَيْهِ ؛ وَلِصَاحِبِ السُّتْرَةِ السُّتْرَةُ عَلَى حَالِهَا ؛ لِأَنَّ بِالظَّاهِرِ لَا يَسْتَحِقُّ رَفْعَهُ سُتْرَةً الْآخَرُ بِمَنْزِلَةِ سُفْلٍ لِأَحَدِهِمَا وَعَلَيْهِ عُلُوٌّ لِآخَرَ ، وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ سُتْرَةٌ ، وَلَيْسَ لِلْآخَرِ عَلَيْهِ شَيْءٌ يُقْضَى بِهِ لِصَاحِبِ السُّتْرَةِ ؛ لِأَنَّ الْحَائِطَ قَدْ يُبْنَى لِأَجْلِ السُّتْرَةِ فَكَانَتْ هَذِهِ عَلَامَةً لِاسْتِحْقَاقِ صَاحِبِهَا ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْهَوَادِي فَإِنَّ الْحَائِطَ لَا يُبْنَى لِأَجْلِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُهُ بِهِ التَّرْجِيحَ
قَالَ : وَإِذَا كَانَ جِصٌّ بَيْنَ دَارَيْنِ يَدَّعِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبَيْ الدَّارَيْنِ وَالْقِمْطُ إلَى أَحَدِهِمَا قُضِيَ بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُقْضَى لِمَنْ عَلَيْهِ الْقِمْطُ وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ دَهْثَمِ بْنِ قُرَّانَ { أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا فِي جِصٍّ فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيَقْضِيَ بَيْنَهُمَا فَقَضَى بِالْجِصِّ لِمَنْ إلَيْهِ الْقِمْطُ ، ثُمَّ أَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَصْوَبَهُ } وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ احْتَجَّ فَقَالَ نَفْسُ الْقِمْطِ مُتَنَازَعٌ فِيهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ دَلِيلُ الْمِلْكِ لِأَحَدِهِمَا وَهُوَ الْمُتَنَازَعُ فِيهِ بِعَيْنِهِ ؛ وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتَّخِذُ جِصًّا وَيَجْعَلُ الْقِمْطَ إلَى جَانِبِ جَارِهِ لِيَكُونَ جَانِبُهُ مُسْتَوِيًا فَيُطَيِّنُهُ وَيُجَصِّصُهُ ، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّ صَاحِبَ الْقِمْطِ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ حِينَ تَحَاكَمَا فَقَضَى لَهُ حُذَيْفَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْبَيِّنَةِ ، وَذَكَرَ الْقِمْطَ عَلَى سَبِيلِ التَّعْرِيفِ كَمَا يُقَالُ قَضَى لِصَاحِبِ الْعِمَامَةِ وَالطَّيْلَسَانِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَلَفَا فِي حَائِطٍ وَوَجْهُهُ إلَى أَحَدِهِمَا وَظَهْرُهُ إلَى الْآخَرِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا يَقْضِي لِمَنْ كَانَ إلَيْهِ ظَهْرُ الْبِنَاءِ ، وَأَنْصَافُ اللَّبِنِ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَجْعَلُ ظَهْرَ الْبِنَاءِ إلَى جَانِبِ نَفْسِهِ لِيَكُونَ مُسْتَوِيًا وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : هَذِهِ الْعَادَةُ مُشْتَرَكَةٌ قَدْ يَجْعَلُهَا إلَى جَانِبِ جَارِهِ ، وَقَدْ يَجْعَلُهَا إلَى الطَّرِيقِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلَ انْعِدَامِ مِلْكِهِ فِي الْحَائِطِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الطَّاقَاتُ إلَى أَحَدِهِمَا فَالْحَاصِلُ أَنَّ ظَهْرَ الْبِنَاءِ كُلَّهُ مُتَنَازَعٌ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ دَلِيلًا لِلْحُكْمِ بِهِ لِأَحَدِهِمَا
قَالَ : وَإِذَا كَانَ سُفْلُ الْحَائِطِ لِرَجُلٍ وَعُلُوُّهُ لِآخَرَ فَأَرَادَ صَاحِبُ السُّفْلِ أَنْ يَهْدِمَ السُّفْلَ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ السُّفْلَ فِيهِ حَقٌّ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ مِنْ حَيْثُ قَرَارُ بِنَائِهِ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُبْطِلَ حَقَّ الْغَيْرِ عَنْ مِلْكِ نَفْسِهِ .
وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْتَحَ فِيهِ بَابًا ، وَلَا كُوَّةً ، وَلَا يُدْخِلُ فِيهِ جِذْعًا لَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَاءِ صَاحِبِ الْعُلُوِّ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَهُ أَنْ يَفْتَحَ ذَلِكَ إذَا كَانَ لَا يَضُرُّ بِصَاحِبِ الْعُلُوِّ فَإِنْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يَضُرُّ بِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ ، وَكَذَلِكَ لَمْ يَحْفِرْ فِي سُفْلِهِ بِئْرًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ أَنْ يُحْدِثَ عَلَى عُلُوِّهِ بِنَاءً أَوْ يَضَعَ عَلَيْهِ جُذُوعًا أَوْ يَشْرَعَ فِيهِ كَنِيفًا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَضَرَّ بِالسُّفْلِ أَوْ لَمْ يَضُرَّ وَعِنْدَهُمَا إنْ أَضَرَّ بِالسُّفْلِ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَضُرَّ بِالسُّفْلِ لَمْ يُمْنَعْ .
حُجَّتُهُمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا يَتَصَرَّفُ فِي خَالِصِ حَقِّهِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَلْحَقَ الضَّرَرُ بِمَنْ لَهُ فِيهِ حَقٌّ كَالْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ عَلَى الْمُوصِي لَهُ بِالرَّقَبَةِ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْمُوصَى لَهُ بِالرَّقَبَةِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِهِ إلَّا مَا يَضُرُّ بِالْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ حَقُّ بِنَاءِ قَدْرٍ مَعْلُومٍ عَلَى بِنَاءِ السُّفْلِ ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ مُنِعَ مِنْهُ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا حِمْلًا مَعْلُومًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ بِالدَّابَّةِ ، وَكَذَلِكَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ لَهُ حَقٌّ فِي بِنَاءِ السُّفْلِ مِنْ حَيْثُ قَرَارُ عُلُوِّهِ عَلَيْهِ وَفَتْحُ الْبَابِ ، وَالْكُوَّةِ يُوهِنُ الْبِنَاءَ ، وَكَذَلِكَ حَفْرُ الْبِئْرِ فِي
سَاحَةِ السُّفْلِ يُوهِنُ الْبِنَاءَ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَا صَاحِبِ الْعُلُوِّ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ الَّذِي يَضُرُّ بِصَاحِبِهِ فَلَوْ كَانَ الْمِلْكُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَالِصًا لَمْ يُمْنَعْ أَحَدُهُمَا مِنْ التَّصَرُّفِ ، وَإِنْ أَدَّى إلَى الْإِضْرَارِ بِصَاحِبِهِ كَالْجَارَيْنِ
قَالَ ، وَإِذَا كَانَ الْحَائِطُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَحَدِهِمَا أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ الْحَائِطَ لَهُ قَضَيْتُ لَهُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الْحَائِطِ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ إقْرَارِهِ بِالْبَيِّنَةِ كَثُبُوتِهِ بِالْمُعَايَنَةِ ، وَإِقْرَارُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الْإِضْرَارَ فِيهِ عَلَى الشَّرِيكِ فَلَا فَرْقَ فِي حَقِّهِ بَيْنَ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي الْحَائِطِ الْمُقِرُّ أَوْ الْمَقَرُّ لَهُ فَإِنْ كَانَ الْحَائِطُ فِي يَدِ رَجُلٍ ، وَلَهُ جُذُوعٌ شَاخِصَةٌ فِيهِ عَلَى دَارِ رَجُلٍ آخَرَ فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ الدَّارَ فَكَمَا لَا يَكُونُ لِغَيْرِهِ أَنْ يُحْدِثَ فِي سَاحَةِ دَارِهِ عَلَيْهِ كَنِيفًا فَلِصَاحِبِ الدَّارِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ هَوَاءَ الدَّارِ حَقٌّ لِصَاحِبِهَا كَسَاحَةٍ بَنَاهَا بِغَيْرِ رِضَاهُ فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهُ إحْدَاثُ الْبِنَاءِ فِي هَوَاءِ دَارِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ وَالْجُذُوعُ الشَّاخِصَةُ نَوْعٌ ظَاهِرٌ يَدْفَعُ بِهِ الِاسْتِحْقَاقَ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ شَيْئًا ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ الدَّارِ أَنْ يَقْطَعَ الْجُذُوعَ ؛ لِأَنَّهَا وُجِدَتْ كَذَلِكَ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ حُجَّةً لِذَلِكَ إلَّا أَنْ تَكُونَ نَفْسُ الْجُذُوعِ بِحَقٍّ مُسْتَحَقًّا لِصَاحِبِهَا فَلَا يَكُونُ لِصَاحِبِ الدَّارِ أَنْ يَقْطَعَهَا إلَّا بِحُجَّةٍ وَالظَّاهِرُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً كَذَلِكَ إلَّا أَنْ تَكُونَ جُذُوعًا لَا يَحْمِلُ عَلَى مِثْلِهَا شَيْئًا إنَّمَا هُوَ أَطْرَافُ جُذُوعٍ خَارِجَةٍ فِي دَارِهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَقْطَعَهَا ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الْجُذُوعِ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ بِعَيْنِهَا إنَّمَا الْمَقْصُودُ هُوَ الْبِنَاءُ عَلَيْهَا فَمَا لَا يُبْنَى عَلَى مِثْلِهِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَقًّا لَهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ فَكَانَ لِصَاحِبِ الدَّارِ أَنْ يَقْطَعَهَا وَمَا يُبْنَى عَلَيْهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَقًّا لَهُ بِسَبَبٍ فَلَا يَكُونُ لَهُ قَطْعُهَا مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ أَحْدَثَ نَصْبَهَا غَصْبًا
قَالَ : وَإِذَا كَانَ السُّفْلُ لِرَجُلٍ ، وَالْعُلُوُّ لِآخَرَ فَانْهَدَمَ لَمْ يُجْبَرْ صَاحِبُ السُّفْلِ عَلَى بِنَاءِ السُّفْلِ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ ، وَلَا يُجْبَرُ صَاحِبُ الْمِلْكِ عَلَى بِنَاءِ مِلْكِهِ فَلَهُ حَقُّ التَّدْبِيرِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ كَإِنْشَاءِ بَيْعٍ أَوْ بِنَاءٍ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ صَاحِبُ السُّفْلِ هُوَ الَّذِي هَدَمَهُ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَعَدِّيًا بِالْهَدْمِ لِمَا لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ فِي بِنَاءِ السُّفْلِ مِنْ حَقِّ قَرَارِ الْعُلُوِّ عَلَيْهِ فَيُجْبَرُ عَلَى بِنَائِهِ بِحَقِّهِ كَالرَّاهِنِ إذَا قَبِلَ الْمَرْهُونَ أَوْ الْمَوْلَى قَبِلَ عَبْدَهُ الْمَدْيُونَ فَأَمَّا عِنْدَ الِانْهِدَامِ لَمْ يُوجَدْ مِنْ صَاحِبِ السُّفْلِ فِعْلٌ هُوَ عُدْوَانٌ ، وَلَكِنْ لِصَاحِبِ الْعُلُوِّ أَنْ يَبْنِيَ السُّفْلَ ، ثُمَّ يَبْنِيَ عَلَيْهِ الْعُلُوَّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى بِنَاءِ مِلْكِهِ إلَّا بِبِنَاءِ السُّفْلِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَتَطَرَّقَ بِبِنَاءِ السُّفْلِ ؛ لِيَتَوَصَّلَ إلَى حَقِّهِ ، ثُمَّ يَمْنَعُ صَاحِبَ السُّفْلِ مِنْ أَنْ يَسْكُنَ سُفْلَهُ حَتَّى يَرُدَّ عَلَى صَاحِبِ الْعُلُوِّ قِيمَةَ الْبِنَاءِ ؛ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى بِنَاءِ السُّفْلِ لِيَتَوَصَّلَ إلَى مَنْفَعَةِ مِلْكِهِ فَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِيهِ وَالْبِنَاءُ مِلْكُ الثَّانِي فَكَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْبِنَاءِ حَتَّى يَتَمَلَّكَهُ عَلَيْهِ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ وَذَكَرَ الْخَصَّافُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِ السُّفْلِ بِمَا أَنْفَقَ فِي بِنَاءِ السُّفْلِ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي هَذَا الْإِنْفَاقِ شَرْعًا فَيَكُونُ كَالْمَأْمُورِ بِهِ مِنْ صَاحِبِ السُّفْلِ ؛ لِأَنَّ لِلشَّرْعِ عَلَيْهِ وِلَايَةً .
وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْبِنَاءَ مِلْكُهُ فَيَتَمَلَّكُهُ عَلَيْهِ صَاحِبُ السُّفْلِ بِقِيمَتِهِ كَثَوْبِ الْغَيْرِ إذَا انْصَبَغَ بِصَبْغِ غَيْرِهِ فَأَرَادَ صَاحِبُ الثَّوْبِ أَنْ يَأْخُذَ ثَوْبَهُ يُعْطِي صَاحِبَ الثَّوْبِ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِي الثَّوْبِ ؛ لِأَنَّ الصَّبْغَ مِلْكُ صَاحِبِ الصَّبْغِ فِي ثَوْبِهِ وَذَكَرَ فِي الْأَمَالِي عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ
السُّفْلَ كَالْمَرْهُونِ فِي يَدِ صَاحِبِ الْعُلُوِّ ، وَمُرَادُهُ مِنْ ذَلِكَ مَنْعُ صَاحِبِ السُّفْلِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِسُفْلِهِ بِمَنْزِلَةِ الرَّهْنِ
قَالَ : وَلَوْ كَانَ بَيْتٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَوْ دَارٌ فَانْهَدَمَتْ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُجْبِرَ صَاحِبَهُ عَلَى الْبِنَاءِ ؛ لِأَنَّ تَمْيِيزَ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا مِنْ نَصِيبِ الْآخَرِ بِقِسْمَةِ السَّاحَةِ مُمْكِنٌ فَإِنْ بَنَاهَا أَحَدُهُمَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى شَرِيكِهِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ فِي هَذَا الْبِنَاءِ فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ مُطَالَبَةِ صَاحِبِهِ بِالْقِسْمَةِ لِيَبْنِيَ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ بِخِلَافِ الْعُلُوِّ وَالسُّفْلِ ، وَكَذَلِكَ الْحَائِطُ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ جُذُوعٌ ؛ لِأَنَّ أُسَّ الْحَائِطِ مُحْتَمِلٌ لِلْقِسْمَةِ بَيْنَهُمَا إلَّا أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ نَحْوَ الْحَائِطِ الْمَبْنِيِّ بِالْخَشَبَةِ فَحِينَئِذٍ يُجْبَرُ أَحَدُهُمَا عَلَى بِنَائِهِ ، وَإِذَا بَنَاهُ أَحَدُهُمَا مَعَ صَاحِبِهِ مُنِعَ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ قِيمَةَ نَصِيبِهِ كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ إذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْكَسْبِ ، وَامْتَنَعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ كَانَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْحَائِطِ جُذُوعٌ لَهُمَا فَلِأَحَدِهِمَا أَنْ يُجْبِرَ صَاحِبَهُ عَلَى الْمُسَاعَدَةِ مَعَهُ فِي بِنَائِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُسَاعِدْهُ عَلَى ذَلِكَ بَنَاهُ بِنَفْسِهِ ، ثُمَّ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ مِنْ وَضْعِ جُذُوعِهِ عَلَيْهِ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ قِيمَةَ حِصَّتِهِ مِنْ الْبِنَاءِ ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقٌّ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ مِنْ حَيْثُ وَضْعُ الْجُذُوعِ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ يَبْطُلُ بِقِسْمَةِ أُسِّ الْحَائِطِ بَيْنَهُمَا فَإِنْ كَانَ الْجُذُوعُ عَلَى الْحَائِطِ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَلِصَاحِبِ الْجُذُوعِ أَنْ يَبْنِيَ الْحَائِطَ ، وَلَا يُشَاجِرَ صَاحِبَهُ عَلَى الْمُطَالَبَةِ بِقِسْمَةِ الْحَائِطِ ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقَّ وَضْعِ الْجُذُوعِ عَلَى نَصِيبِ صَاحِبِهِ فَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي يُطَالِبُ بِالْقِسْمَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْقِسْمَةِ كَانَ لِحَقِّهِ ، وَقَدْ رَضِيَ هُوَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ وَصَارَ هُوَ فِي حَقِّ الْآخَرِ كَأَنَّهُ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا
عَلَيْهِ جُذُوعٌ ، وَكَذَلِكَ الْحَمَّامُ الْمُشْتَرَكُ إذَا انْهَدَمَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّارِ ؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ السَّاحَةِ مُمْكِنٌ فَإِذَا بَنَاهُ أَحَدُهُمَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ
قَالَ : وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ بَابٌ مِنْ دَارِهِ فِي دَارِ رَجُلٍ فَأَرَادَ أَنْ يَمُرَّ فِي دَارِهِ مِنْ ذَلِكَ الْبَابِ فَمَنَعَهُ صَاحِبُ الدَّارِ فَصَاحِبُ الْبَابِ هُوَ الْمُدَّعِي لِلطَّرِيقِ فِي دَارِ الْغَيْرِ فَعَلَيْهِ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ ، وَرَبُّ الدَّارِ هُوَ الْمُنْكِرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَبِفَتْحِ الْبَابِ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ فَتْحَ الْبَابِ رَفْعُ جُزْءٍ مِنْ الْحَائِطِ ، وَلَوْ رَفَعَ جَمِيعَ حَائِطِهِ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ شَيْئًا فَكَذَلِكَ إذَا فَتَحَ بَابًا ، وَقَدْ يَكُونُ فَتْحُ الْبَابِ لِدُخُولِ الضَّوْءِ وَالرِّيحِ ، وَقَدْ يَكُونُ لِلِاسْتِئْنَاسِ بِالْجَارِ وَالتَّحَدُّثِ مَعَهُ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى طَرِيقٍ لَهُ فِي الدَّارِ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ يَمُرُّ فِي هَذِهِ الدَّارِ مِنْ هَذَا الْبَابِ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِيَدٍ كَانَتْ لَهُ فِي هَذَا الطَّرِيقِ فِيمَا مَضَى وَبِهَذِهِ الشَّهَادَةِ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُدَّعِي شَيْئًا .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّا لَوْ عَايَنَّاهُ مَرَّ فِيهِ مَرَّةً لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّ لَهُ فِيهَا طَرِيقًا ثَابِتًا فَحِينَئِذٍ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ ، وَالطَّرِيقُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَقًّا لَهُ فِي دَارِ الْجَارِ فِي أَصْلِ الْقِسْمَةِ أَوْ أَوْصَى لَهُ بِهِ فَتُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَى إثْبَاتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدُوا الطَّرِيقَ ، وَلَمْ يُسَمُّوا ذَرْعَ الْعَرْضِ وَالطُّولِ بَعْدَ أَنْ يَقُولُوا : إنَّ لَهُ طَرِيقًا فِي هَذِهِ الدَّارِ مِنْ هَذَا الْبَابِ إلَى بَابِ الدَّارِ فَالشَّهَادَةُ مَقْبُولَةٌ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ يَقُولُ تَأْوِيلُهُ إذَا شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِ الْخَصْمِ بِذَلِكَ فَالْجَهَالَةُ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ فَأَمَّا إذَا شَهِدُوا عَلَى الثَّبَاتِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ لِجَهَالَةٍ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهَا تَكُونُ مَقْبُولَةً ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ إنَّمَا تَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ إذَا تَعَذَّرَ عَلَى
الْقَاضِي الْقَضَاءُ بِهَا ، وَهُنَا لَا يَتَعَذَّرُ فَإِنَّ عَرْضَ الْبَابِ يُجْعَلُ حَكَمًا فَيَكُونُ عَرْضُ الطَّرِيقِ لَهُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ وَطُولُهُ إلَى بَابِ الدَّارِ .
قَالَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ فَإِنْ لَمْ يَجِدُوا الطَّرِيقَ فَذَلِكَ أَحْوَرُ لِلشَّهَادَةِ وَفِي بَعْضِهَا قَالَ : وَإِنْ سَمُّوا الطُّولَ ، وَالْعَرْضَ فَذَلِكَ أَحْوَرُ لِلشَّهَادَةِ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ تَرْتَفِعُ بِهِ ، وَأَمَّا اللَّفْظُ الْأَوَّلُ فَوَجْهُهُ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى التَّحْدِيدِ لِلْعَمَلِ بِالشَّهَادَةِ ، وَرُبَّمَا يَمْتَنِعُ بِذِكْرِهَا الْعَمَلُ بِهَا فَإِنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يُقَدِّرُ الطَّرِيقَ بِسَبْعَةِ أَذْرُعٍ لِحَدِيثٍ رُوِيَ فِيهِ فَلَوْ بَيَّنَ الشُّهُودُ عَرْضَ الطَّرِيقِ رُبَّمَا يَذْكُرُونَ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ وَالْقَاضِي يَذْهَبُ إلَى ذَلِكَ الْمَذْهَبِ فَيَرُدُّ شَهَادَتَهُمْ ، وَإِذَا أَطْلَقُوا عَمِلَ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمْ .
فَكَانَ تَرْكُ التَّحْدِيدِ أَنْفَذَ لِلشَّهَادَةِ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ أَحْوَرُ أَيْ أَنْفَذُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالُوا مَاتَ أَبُوهُ وَتَرَكَ هَذَا الطَّرِيقَ مِيرَاثًا ؛ لِأَنَّهُمْ بَيَّنُوا سَبَبَ مِلْكِهِ وَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي شَهَادَتِهِمْ .
قَالَ : وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ مِيزَابٌ فِي دَارِ رَجُلٍ فَأَرَادَ أَنْ يُسَيِّلَ فِيهِ الْمَاءَ فَمَنَعَهُ رَبُّ الدَّارِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَيِّلَ فِيهِ الْمَاءَ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ مَسِيلًا ؛ لِأَنَّ الْمِيزَابَ مُرَكَّبٌ فِي مِلْكِهِ كَالْبَابِ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ حَقًّا فِي دَارِ الْغَيْرِ إلَّا بِحُجَّةٍ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُمْ قَدْ رَأَوْهُ يُسَيِّلُ فِيهِ الْمَاءَ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ شَيْئًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُمْ شَهِدُوا بِيَدٍ كَانَتْ لَهُ فِيمَا مَضَى ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الشُّرْبِ أَنَّهُمَا لَوْ تَنَازَعَا فِي نَهْرٍ ، وَأَحَدُهُمَا يُسَيِّلُ فِيهِ مَاءَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ يَدَهُ قَائِمَةٌ فِي النَّهْرِ بِاسْتِعْمَالِهِ بِتَسْيِيلِ الْمَاءِ فِيهِ .
فَأَمَّا هُنَا لَيْسَتْ لَهُ يَدٌ قَائِمَةٌ فِي الدَّارِ بِتَسْيِيلِ
الْمَاءِ فِي الْمِيزَابِ فِي ، وَقْتٍ سَابِقٍ وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ قَالُوا إذَا كَانَ مَسِيلُ الْمَاءِ إلَى جَانِبِ الْمِيزَابِ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ قَدِيمٌ لَمْ يُحْدِثْ صَاحِبُ السَّطْحِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ تَسْيِيلَ الْمَاءِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجْعَلُ سَطْحَهُ إلَى جَانِبِ مِيزَابٍ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَقُّ تَسْيِيلِ الْمَاءِ فِيهِ بِعَمَلِهِ .
أَمَّا إذَا امْتَنَعَ مِنْ تَسْيِيلِ الْمَاءِ فِيهِ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ تَغْيِيرُهُ إلَى جَانِبٍ آخَرَ فَإِنْ شَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّ لَهُ مَسِيلَ مَاءٍ فِيهَا مِنْ هَذَا الْمِيزَابِ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ فِي حَقِّهِ فَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ لِمَاءِ الْمَطَرِ فَهُوَ لِمَاءِ الْمَطَرِ ، وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ لِصَبِّ الْوُضُوءِ فِيهِ فَهُوَ لِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمْ بَيَّنُوا صِفَةَ مَا شَهِدُوا بِهِ مِنْ الْحَقِّ ، وَإِنْ لَمْ يُفَسِّرُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ فِي ذَلِكَ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْحَقِّ ثَابِتٌ بِالشَّهَادَةِ ، وَلَا يَثْبُتُ صِفَتُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الدَّارِ ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ فِي حَقِّهِ فَإِنَّ الْمَسِيلَ لِمَاءِ الْمَطَرِ يَكُونُ ضَرَرُهُ فِي وَقْتٍ خَاصٍّ ؛ وَلِصَبِّ الْوُضُوءِ فِيهِ يَكُونُ الضَّرَرُ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِي الْبَيَانِ قَوْلَ صَاحِبِ الدَّارِ وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ عَلَى جُحُودِهِ دَعْوَى صَاحِبِهِ اعْتِبَارًا لِلصِّفَةِ بِالْأَصْلِ ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّارُ الَّتِي ادَّعَى الطَّرِيقَ أَوْ الْمَسِيلَ فِيهَا بَيْنَ الْوَرَثَةِ فَأَقَرَّ بَعْضُهُمْ بِالطَّرِيقِ وَالْمَسِيلِ وَجَحَدَ ذَلِكَ الْبَعْضُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي أَنْ يَمُرَّ فِيهِ ، وَلَا يُسَيِّلُ مَاءَهُ بِقَوْلِ بَعْضِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى الِانْتِفَاعِ إلَّا بِنَصِيبِ الْجَاحِدِينَ ، وَإِقْرَارُ الْمُقِرِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّهِمْ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّطَرُّقِ أَوْ بِسَيْلِ الْمَاءِ فِي نَصِيبِ الْمُقِرِّ خَاصَّةً ؛
لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَمَيِّزٍ عَنْ نَصِيبِ شُرَكَائِهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالْمِلْكِ فَإِنَّ إقْرَارَ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ فِي نَصِيبِهِ يَجْعَلُ الْمُقِرَّ أَحَقَّ بِنَصِيبِ الْمُقِرِّ مِنْ حَيْثُ التَّصَرُّفُ فِيهِ ، وَالِانْتِفَاعُ بِهِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ ذَلِكَ فِي نَصِيبِ الْمُقِرِّ عَلَى أَنْ يَكُونَ قَائِمًا مَقَامَهُ ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : فَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ فِي نَصِيبِ الْمُقِرِّ تَطَرَّقَ فِيهِ الْمُقَرُّ لَهُ ، وَيُسَيِّلُ مَاءَهُ ، وَإِنْ وَقَعَ فِي نَصِيبِ غَيْرِهِ يَضْرِبُ الْمَقَرُّ لَهُ بِالطَّرِيقِ أَوْ الْمَسِيلِ فِي نَصِيبِ الْمُقِرِّ بِقَدْرِ ذَلِكَ وَيَضْرِبُ الْمُقِرُّ بِحِصَّتِهِ سِوَى الطَّرِيقِ وَالْمَسِيلِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ كَانَتْ الْوَرَثَةُ ثَلَاثَةً ضَرَبَ الْمُقِرُّ بِثُلُثِ الْمَسِيلِ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ إذَا أَقَرَّ لَهُ بِمِلْكِ الطَّرِيقِ أَوْ الْمَسِيلِ ، وَأَصْلُهُ فِيمَا ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ : دَارٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِبَيْتٍ بِعَيْنِهِ لِإِنْسَانٍ وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
قَالَ : وَإِذَا كَانَ مَسِيلُ الْمَاءِ فِي قَنَاةٍ فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ مِيزَابًا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَاءِ أَصْلِ أَهْلِ الدَّارِ الَّذِينَ عَلَيْهِمْ الْمَسِيلُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مِيزَابًا فَأَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُ قَنَاةً لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَاهُمْ ؛ لِأَنَّ فِي الْقَنَاةِ الْمَاءَ لَا يَفِيضُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ، وَلَكِنَّهُ مُغَوِّرٌ ، يَسِيلُ الْمَاءُ فِي بَطْنِهِ وَفِي الْمِيزَابِ يَسِيلُ الْمَاءُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ الْقَنَاةَ مِيزَابًا فَفِيهِ زِيَادَةُ ضَرَرٍ عَلَى أَهْلِ الدَّارِ بِأَنْ يَفِيضَ الْمَاءُ فِي سَاحَةِ الدَّارِ ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ الْمِيزَابَ قَنَاةً يَحْتَاجُ إلَى حَفْرِ سَاحَةِ الدَّارِ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ مِنْ الْحَقِّ قَدْرًا
مَعْلُومًا فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُلْحِقَ الضَّرَرَ بِهِمْ فِي الزِّيَادَةِ إلَّا بِرِضَاهُمْ ، وَقِيلَ : هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مَمْلُوكًا لَهُ ، وَإِنَّمَا لَهُ تَسْيِيلُ الْمَاءِ فِيهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَوْضِعُ مَمْلُوكًا لَهُ فَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْقَنَاةَ مِيزَابًا ، وَالْمِيزَابَ قَنَاةً ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي خَالِصِ مِلْكِهِ فَلَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ ضَرَرٌ يَلْحَقُ جَارَهُ .
قَالَ أَرَأَيْتَ لَوْ جَعَلَ مِيزَابًا أَطْوَلَ مِنْ مِيزَابِهِ أَوْ أَعْرَضَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إنْ جَعَلَهُ أَطْوَلَ كَانَ انْصِبَابُ الْمَاءِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ حَقُّهُ فِيهِ ، وَإِنْ جَعَلَهُ أَعْرَضَ يَنْصَبُّ الْمَاءُ فِيهِ أَكْثَرَ مِمَّا هُوَ حَقُّهُ ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُسَيِّلَ فِيهِ مَاءَ سَطْحٍ آخَرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ السَّطْحِ حَقُّ تَسْيِيلِ الْمَاءِ فِي هَذَا الدَّارِ وَفِيهِ زِيَادَةُ ضَرَرٍ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَنْقُلَ الْمِيزَابَ عَنْ مَوْضِعِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَنْصَبُّ الْمَاءُ فِيهِ فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي هُوَ حَقُّهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَهُ أَوْ يُسْفِلَهُ فَفِي كُلِّ ذَلِكَ نَوْعُ ضَرَرٍ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ سِوَى مَا كَانَ مُسْتَحَقًّا لِصَاحِبِ الْمِيزَابِ فَلَا يَمْلِكُهُ إلَّا بِرِضَاهُ .
قَالَ : وَلَوْ أَرَادَ أَهْلُ الدَّارِ أَنْ يَبْنُوا حَائِطًا لِيَسُدَّ مَسِيلَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمْ قَصَدُوا مَنْعَ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ لِلْغَيْرِ فِي دَارِهِمْ ، وَإِنْ أَرَادُوا أَنْ يَبْنُوا بِنَاءً يَسِيلُ مِيزَابُهُ عَلَى سَطْحِهِ كَانَ لَهُمْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى صَاحِبِ الْمِيزَابِ إذْ لَا فَرْقَ فِي حَقِّهِ بَيْنَ أَنْ يَنْصَبَّ مَاءُ الْمَطَرِ فِي سَاحَةِ الدَّارِ أَوْ عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ يَبْنُونَهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، وَلَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَبْنُوا فِي سَاحَةِ الدَّارِ مَا يَمْنَعُ صَاحِبَ الطَّرِيقِ مِنْ التَّطَرُّقِ فِيهِ ، وَلَكِنَّهُمْ إذَا أَرَادُوا أَنْ يَبْنُوا السَّاحَةَ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَتْرُكُوا مِنْ السَّاحَةِ بِقَدْرِ الطَّرِيقِ ،
وَيُثْبِتُونَ مَا سِوَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ إلَّا فِي مَوْضِعِ الطَّرِيقِ فَإِنْ ، وَقَعَتْ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمْ فِي عَرْضِ مَا يَتْرُكُونَ لَهُ مِنْ الطَّرِيقِ جَعَلُوهُ قَدْرَ عَرْضِ بَابِ الدَّارِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِمْ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لِصَاحِبِ الطَّرِيقِ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَحْمِلُ مَعَ نَفْسِهِ فِي الطَّرِيقِ إلَّا مَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إدْخَالِهِ فِي بَابِ الدَّارِ ، وَيَتَمَكَّنُ لِذَلِكَ فِي طَرِيقٍ عَرْضُهُ مِثْلُ عَرْضِ بَابِ الدَّارِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
( بَابُ الدَّعْوَى فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ مِنْ وَجْهَيْنِ ) قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ ، وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ مُنْذُ سَنَةٍ جَاءَ بِشَاهِدَيْنِ فَشَهِدَا أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ ذِي الْيَدِ مُنْذُ سَنَتَيْنِ لَمْ تُقْبَلْ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ قَبُولِ الْبَيِّنَةِ تَقْدِيمُ الدَّعْوَى فَإِنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ إنَّمَا يَجِبُ بَقَاؤُهَا عِنْدَ طَلَبِ صَاحِبِ الْحَقِّ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ ، وَمَا شَهِدَ بِهِ شُهُودُهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ الدَّعْوَى بِهِ مِنْهُ ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَدَّعِيَهُ ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُ الْأَوَّلَ يُنَاقِضُ دَعْوَاهُ الثَّانِيَ فَإِنَّ بِمَا ، وَرِثَهُ عَنْ أَبِيهِ مُنْذُ سَنَةٍ لَا يَتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرِيًا لَهُ مِنْ ذِي الْيَدِ مُنْذُ سَنَتَيْنِ ، وَالتَّنَاقُضُ يَعْدِمُ مِيرَاثًا قَدْ أَكْذَبَ شُهُودَهُ عَلَى الشِّرَاءِ فَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ لَهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا بِهِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ لَهُ مِنْ ذِي الْيَدِ مُنْذُ سَنَتَيْنِ ، وَلَوْ كَانَ الْمُدَّعِي ادَّعَى أَنَّ ذِي الْيَدِ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ مُنْذُ سَنَةٍ وَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى الشِّرَاءِ مُنْذُ سَنَتَيْنِ لَمْ تُقْبَلْ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ بَعْدَ دَعْوَاهُ الْأُولَى لَا يُمْكِنُهُ دَعْوَى الشِّرَاءِ مُنْذُ سَنَتَيْنِ ؛ فَلِانْعِدَامِ الدَّعْوَى أَوَّلًا كَذَلِكَ شُهُودُهُ تَمْنَعُ الْعَمَلَ بِشَهَادَتِهِمْ ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى الشِّرَاءَ أَوَّلًا مُنْذُ سَنَةٍ ، ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الصَّدَقَةِ مُنْذُ سَنَتَيْنِ .
وَلَوْ ادَّعَى الصَّدَقَةَ مُنْذُ سَنَةٍ ، ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ مُنْذُ شَهْرٍ لَمْ تُقْبَلْ إلَّا أَنْ يُوَفِّقَ فَيَقُولَ جَحَدَنِي الصَّدَقَةَ فَاشْتَرَيْتهَا مِنْهُ فَحِينَئِذٍ يَقْضِي بِهَا لَهُ ؛ لِأَنَّ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ الشَّهَادَةَ مُخَالِفَةٌ لِلدَّعْوَى إلَّا أَنَّ التَّوْفِيقَ مُمْكِنٌ فَقَدْ يَجْحَدُ الْمُتَصَدِّقُ الصَّدَقَةَ فَيَشْتَرِيَهَا مِنْهُ الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَتُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عِنْدَ التَّوْفِيقِ كَمَا لَوْ ادَّعَى أَلْفًا وَشَهِدَ لَهُ الشُّهُودُ بِأَلْفٍ
وَخَمْسِمِائَةٍ لَمْ تُقْبَلْ إلَّا أَنْ يُوَفِّقَ الْمُدَّعِي فَيَقُولُ كَانَ حَقِّي أَلْفًا ، وَخَمْسَمِائَةٍ ، وَلَكِنِّي اسْتَوْفَيْتُ مِنْهُ خَمْسَمِائَةٍ ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ الشُّهُودُ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ هُنَاكَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُوَفِّقَ فَيَقُولُ جَحَدَنِي الصَّدَقَةَ مُنْذُ سَنَةٍ فَاشْتَرَيْتهَا مِنْهُ مُنْذُ سَنَتَيْنِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى الشِّرَاءَ مُنْذُ سَنَةٍ ، ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الصَّدَقَةِ مُنْذُ شَهْرٍ ، وَقَالَ جَحَدَنِي الشِّرَاءَ فَسَأَلْته فَتَصَدَّقَ عَلَيَّ بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَهَذَا تَوْفِيقٌ صَحِيحٌ يَنْعَدِمُ بِهِ التَّنَاقُضُ ، وَإِكْذَابُ الشُّهُودِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى الْمِيرَاثَ مِنْ أَبِيهِ مُنْذُ سَنَةٍ وَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى شِرَائِهَا مِنْ ذِي الْيَدِ مُنْذُ شَهْرٍ فَقَالَ جَحَدَنِي ذَلِكَ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَاشْتَرَيْتهَا مِنْهُ مُنْذُ شَهْرٍ فَهَذَا تَوْفِيقٌ صَحِيحٌ .
وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى أَمَةً فِي يَدَيْ رَجُلٍ فَقَالَ اشْتَرَيْتهَا مِنْهُ بِعَبْدِي هَذَا مُنْذُ سَنَةٍ ، ثُمَّ جَاءَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مُنْذُ سَنَةٍ وَجَاءَ بِشَاهِدَيْنِ فَشَهِدَا أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مُطْلَقًا أَوْ مُنْذُ شَهْرٍ تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ إذَا وَفَّقَ أَوْ قَالَ حِينَ جَحَدَنِي الشِّرَاءَ بِالْعَبْدِ فَاشْتَرَيْتهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ بَعْدَمَا قُمْنَا مِنْ مَجْلِسِك أَيُّهَا الْقَاضِي وَالْبَيْعُ الثَّانِي يَنْقُضُ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ فَيَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِالْعَقْدِ الَّذِي شَهِدُوا بِهِ عِنْدَ هَذَا التَّوْفِيقِ ، وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ اشْتَرَاهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مُنْذُ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ أَقْبَلْ شَهَادَتَهُمَا ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْيَدِ يُوجِبُ اخْتِلَافَ الْعَقْدِ فَالتَّوْفِيقُ غَيْرُ مُمْكِنٍ إنْ شَهِدُوا بِالشِّرَاءِ مِنْهُ مُنْذُ سَنَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَارِيخَ بَيْنَ الْعَقْدِ الْمُدَّعَى ، وَالْمَشْهُودِ بِهِ ، وَإِنْ شَهِدُوا بِالشِّرَاءِ بِأَلْفٍ مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ لَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِالْعَقْدِ الَّذِي شَهِدُوا بِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْمُدَّعَى كَانَ بَعْدَهُ
بِزَعْمِ الْمُدَّعِي ، وَهُوَ يَنْقُضُ الْعَقْدَ الْأَوَّلَ فَلَا يُمْكِنُهُ الْقَضَاءُ بِالْعَقْدِ الْمُدَّعَى ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ لَمْ تَقُمْ بِهِ فَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ
قَالَ فَإِنْ ادَّعَى عَيْنًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ لَهُ وَشَهِدَ شُهُودُهُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ ذِي الْيَدِ وَنَقَدَهُ الثَّمَنَ أَوْ ، وَهَبَهُ ذُو الْيَدِ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ أَوْ أَنَّهُ وَرِثَهُ مِنْ أَبِيهِ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ الْمُوَافَقَةُ بَيْنَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ مَعْنًى لَا لَفْظًا .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمُدَّعِيَ يَقُولُ أَدَّعِي عَلَيْهِ كَذَا ، وَالشَّاهِدُ يَقُولُ أَشْهَدُ عَلَيْهِ بِكَذَا ، وَالْمُوَافَقَةُ مَعْنًى مَوْجُودٌ هُنَا ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى الْمِلْكَ ، وَقَدْ شَهِدُوا لَهُ بِالْمِلْكِ مَعَ بَيَانِ سَبَبِهِ ، وَلَا بُدَّ لِلْمِلْكِ مِنْ سَبَبٍ فَبَيَانُ سَبَبِ الْمِلْكِ مِنْ الشُّهُودِ فِي الشَّهَادَةِ إنْ لَمْ يُؤَكِّدْ شَهَادَتَهُمْ بِالْمِلْكِ لَا تَنْدَفِعُ بِهَا ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى الشِّرَاءَ مِنْ ذِي الْيَدِ وَشَهِدَ لَهُ الشُّهُودُ بِالْمِلْكِ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ هُنَاكَ أَزْيَدُ مِنْ الدَّعْوَى فَإِنَّ الْمِلْكَ بِالشِّرَاءِ حَادِثٌ ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ تُثْبِتُ الِاسْتِحْقَاقَ مِنْ الْأَصْلِ حَتَّى يَرْجِعَ الْبَاعَةُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالثَّمَنِ .
فَأَمَّا إذَا ادَّعَى مِلْكًا مُطْلَقًا وَشَهِدَ الشُّهُودُ بِالشِّرَاءِ فَالْمِلْكُ بِهِ دُونَ الْمُدَّعَى فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ كَمَا لَوْ ادَّعَى أَلْفًا وَشَهِدَ لَهُ الشُّهُودُ بِخَمْسِمِائَةٍ تُقْبَلُ .
وَلَوْ ادَّعَى خَمْسَمِائَةٍ وَشَهِدَ لَهُ الشُّهُودُ بِأَلْفٍ لَا تُقْبَلُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ لَهُ ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ لِفُلَانٍ وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ فِيهِ ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الدَّعْوَتَيْنِ فَالْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ قَدْ نَصَّفَ الْعَيْنَ إلَى نَفْسِهِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ لَهُ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ بِهِ فَيَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِمَا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ بَعْدَ دَعْوَاهُ الْأَوَّلِ ، وَلَوْ ادَّعَى أَوَّلَ مَرَّةٍ أَنَّهُ لِفُلَانٍ وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ فِيهِ ، ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَهُ لَمْ أَقْبَلْ بَيِّنَتَهُ ؛ لِأَنَّ
مَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ لَا يُضَافُ إلَى غَيْرِهِ عِنْدَ الْخُصُومَةِ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِالْمَشْهُودِ بِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ لَهُ بَعْدَ مَا أَقَرَّ أَنَّهُ وَكِيلٌ فِيهِ بِالْخُصُومَةِ بِمَا ادَّعَاهُ الْأَوَّلَ ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَضَاءِ بِالْمِلْكِ ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ لَمْ يَشْهَدُوا بِهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لِفُلَانٍ آخَرَ وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ فِيهِ لَا أَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالْخُصُومَةِ فِي الْعَيْنِ مِنْ جِهَةِ زَيْدٍ لَا بِصِفَةٍ إلَى غَيْرِهِ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ التَّنَاقُضِ بَيْنَ الدَّعْوَتَيْنِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ التَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا .
قَالَ : وَلَوْ ادَّعَاهُ لِرَجُلٍ زَعَمَ أَنَّهُ وَكَّلَهُ فِيهِ بِالْخُصُومَةِ ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ بَاعَهُ مِنْ فُلَانٍ وَهُوَ يَمْلِكُهُ ، وَكَّلَنِي فُلَانٌ الْمُشْتَرِي بِالْخُصُومَةِ وَجَاءَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ ، وَقَضَيْتُ بِهِ لِلْمُوَكِّلِ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُ وَفَّقَ بَيْنَ الدَّعْوَتَيْنِ بِتَوْفِيقٍ مُمْكِنٍ لَوْ عَايَنَّا ذَلِكَ صَحَّحْنَا دَعْوَاهُ الثَّانِيَةَ .
فَكَذَلِكَ إذَا ، وَفَّقَ بِتِلْكَ الصِّفَةِ وَيَقْضِي بِهِ لِلْمُوَكِّلِ الْآخَرِ وَتَأْوِيلُ هَذَا إذَا شَهِدَ الشُّهُودُ بِالْمِلْكِ بِالشِّرَاءِ فَأَمَّا إذَا شَهِدُوا بِالْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ .
قَالَ : وَلَوْ ادَّعَى الْقَاضِي فِي صَكٍّ جَاءَ بِاسْمِهِ ، ثُمَّ جَاءَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ ذَلِكَ الْمَالَ لِغَيْرِهِ ، وَأَنَّهُ قَدْ وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ فِيهِ قَبِلْت ذَلِكَ مِنْهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْخُصُومَةِ قَدْ يُضِيفُ الْمَالَ إلَى نَفْسِهِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ لَهُ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ بِهِ فَيَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( بَابُ ادِّعَاءِ الْوَلَدِ ) ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ذُكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إلَيْهِ إذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ بِوَلَدِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ ، وَهَكَذَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبِقَوْلِهِمَا نَأْخُذُ أَنَّهُ مَتَى ثَبَتَ النَّسَبُ بِإِقْرَارِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ) ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَالنَّسْخَ وَلَا يُتَصَوَّرُ تَحْوِيلُهُ مِنْ شَخْصٍ إلَى شَخْصٍ وَبِإِقْرَارِهِ ثَبَتَ مِنْهُ لِكَوْنِ الْإِقْرَارِ حُجَّةً عَلَيْهِ فَإِنْ ( قِيلَ ) أَلَيْسَ أَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ مِنْ الزَّوْجِ بِفِرَاشِ النِّكَاحِ ، ثُمَّ يَمْلِكُ نَفْيَهُ بِاللِّعَانِ ( قُلْنَا ) ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ هُنَاكَ بِحُكْمِ الْفِرَاشِ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْهُ فَيُتَصَوَّرُ نَفْيُهُ أَمَّا هُنَا بِثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْهُ بِتَنْصِيصِهِ عَلَى أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِهِ فَلَا يَبْقَى بَعْدَهُ احْتِمَالُ النَّفْيِ كَالْمُشْتَرِي إذَا أَقَرَّ بِالْمِلْكِ لِلْبَائِعِ ، ثُمَّ اسْتَحَقَّ مِنْ يَدِهِ وَرَجَعَ بِالثَّمَنِ لَمْ يَبْطُلْ إقْرَارُهُ حَتَّى إذَا عَادَ إلَى يَدِهِ يَوْمًا يُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِهِ إلَى الْبَائِعِ بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَاهُ ، وَلَمْ يُقِرَّ لَهُ بِالْمِلْكِ ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الشِّرَاءِ ، وَإِنْ كَانَ إقْرَارًا بِالْمِلْكِ فَالِاحْتِمَالُ فِيهِ بَاقٍ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِهِ نَصًّا وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ مَرَّ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى جَارِيَةٍ تَسْقِي مَعَ رَجُلٍ مِنْ بِئْرٍ فَقَالَ لِمَنْ هَذِهِ فَقَالُوا لِفُلَانٍ قَالَ : وَلَعَلَّهُ يَطَؤُهَا قَالُوا نَعَمْ قَالَ أَمَّا إنَّهَا لَوْ وَلَدَتْ أَلْزَمَتْهُ وَلَدَهَا وَبِظَاهِرِهِ يَأْخُذُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَنَقُولُ الْأَمَةُ تَصِيرُ فِرَاشًا بِنَفْسِ الْوَطْءِ ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ الْفِرَاشَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِإِقْرَارِ الْمَوْلَى وَهُنَا الْإِقْرَارُ فِي الْأَجَانِبِ وَبِهِ لَا يَثْبُتُ الْفِرَاشُ .
فَأَمَّا أَنْ يَحْمِلَهُ عَلَى أَنَّهُ عَرَفَ أَنَّهَا أُمُّ ، وَلَدِهِ أَوْ
يَحْمِلَهُ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ ذَلِكَ حَثُّ النَّاسِ عَلَى تَحْصِينِ الْجَوَارِي ، وَمَنْعِهِنَّ عَنْ الِاخْتِلَاطِ بِالرِّجَالِ فَقَدْ ظَهَرَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا يُخَالِفُ هَذَا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَهُ جَارِيَةٌ ، وَكَانَ يَطَؤُهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ وَنَفَاهُ ، وَقَالَ اللَّهُمَّ لَا يُلْحَقُ بِآلِ عُمَرَ مَنْ لَا يُشْبِهُهُمْ فَأَقَرَّتْ أَنَّهُ مِنْ فُلَانٍ الرَّاعِي .
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَطَأُ جَارِيَتَهُ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَنَفَاهُ فَقَالَ كُنْتُ أَطَؤُهَا ، وَلَا أَبْغِي ، وَلَدَهَا أَيْ أَعْزِلُ عَنْهَا ، وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَاَلَّذِي ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَنْ وَطِئَ وَلِيدَةً لَهُ فَضَيَّعَهَا فَالْوَلَدُ مِنْهُ وَالضَّيَاعُ عَلَيْهِ لَا حُجَّةَ فِيهِ لِلْخَصْمِ ؛ لِأَنَّ الْوَلِيدَةَ اسْمٌ لِأُمِّ الْوَلَدِ فَإِنَّهُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٌ أَيْ : وَالِدَةٌ وَذُكِرَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ حَصِّنُوهُنَّ أَوْ لَا تُحَصِّنُوهُنَّ أَيُّمَا رَجُلٌ وَطِئَ جَارِيَةً فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ أَلْزَمْتُهُ إيَّاهُ ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْحَثِّ لِلنَّاسِ عَلَى تَحْصِينِ السَّرَارِي وَمَنْعِهِنَّ عَنْ الْخُرُوجِ ، ثُمَّ لَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ بِالْفِرَاشِ وَالْفِرَاشُ تَارَةً يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ وَتَارَةً يَثْبُتُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَأَمَّا الْفِرَاشُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ يَثْبُتُ بِنَفْسِهِ إذَا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِمُدَّةٍ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْعُلُوقَ بَعْدَ النِّكَاحِ ثَبَتَ النَّسَبُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْتَفِي إلَّا بِاللِّعَانِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ ، وَكَذَلِكَ النَّسَبُ يَثْبُتُ بِشُبْهَةِ النِّكَاحِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الدُّخُولُ ، وَهَذِهِ الشُّبْهَةُ تَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ تَارَةً ، وَبِإِخْبَارِ الْمُخْبِرِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ تَارَةً ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ تَعْمَلُ عَمَلَ الْحَقِيقَةِ
فِيمَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ ، وَأَمْرُ النَّسَبِ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ جُعِلَتْ الشُّبْهَةُ بِمَنْزِلَةِ حَقِيقَةِ النِّكَاحِ فَكَذَلِكَ فِي النَّسَبِ وَمَتَى ثَبَتَ النَّسَبُ بِالشُّبْهَةِ لَا يُمْكِنُ نَفْيُهُ بِحَالٍ ؛ لِأَنَّ نَفْيَ النَّسَبِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ لَا يَكُونُ إلَّا بِاللِّعَانِ ، وَلَا يَجْرِي اللِّعَانُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَالْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ .
وَأَمَّا بِمِلْكِ الْيَمِينِ لَا خِلَافَ أَنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْمِلْكِ ، وَلَا بِالْوَطْءِ بِشُبْهَةِ الْمِلْكِ بِدُونِ الدَّعْوَةِ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ بِنَفْسِ الْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ هَلْ يَصِيرُ فِرَاشًا حَتَّى لَا يَثْبُتَ النَّسَبُ بِهِ عِنْدَنَا إلَّا أَنْ يُقِرَّ الْمَوْلَى بِالنَّسَبِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْوَطْءِ ، وَلَكِنْ إذَا كَانَ الْمَوْلَى يَطَؤُهَا وَيَمْنَعُهَا مِنْ الْخُرُوجِ فَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ وَلَدَهَا ، وَلَا يَنْفِيَهُ فَإِنَّ الْمِيَرَةَ فِي هَذَا ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُهُ حُكْمًا إلَّا بِالدَّعْوَةِ وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ عَنْ { عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَمْعَةَ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا اخْتَصَمَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي وَلَدٍ وَلَدَتْهُ زَمْعَةُ فَقَالَ عَبْدٌ وَلَدُ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي وَقَالَ سَعْدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ابْنُ أَخِي عَهِدَ إلَيَّ فِيهِ أَخِي وَأَمَرَنِي أَنْ أَضُمَّهُ إلَى نَفْسِي فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ لَك يَا عَبْدُ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ } فَقَدْ أَثْبَتَ النَّسَبَ مِنْ زَمْعَةَ بِإِقْرَارِ مَنْ يَخْلُفُهُ بِوَطْئِهِ إيَّاهَا ، وَلَمْ يَسْبِقْ مِنْ زَمْعَةَ دَعْوَةُ النَّسَبِ فَدَلَّ أَنَّ الْفِرَاشَ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْوَطْءِ .
وَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّهُ وَضَعَ مَاءَهُ حَيْثُ لَهُ وَضْعُهُ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ كَمَا فِي فِرَاشِ النِّكَاحِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْوَطْءَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ عَقْدِ النِّكَاحِ .
( أَلَا تَرَى )
أَنَّهُ تَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ كَمَا يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ بَلْ أَقْوَى فَحُرْمَةُ الرَّبِيبَةِ تَثْبُتُ بِالْوَطْءِ ، وَلَا يَثْبُتُ بِنَفْسِ النِّكَاحِ ، وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَطْئًا بِمِلْكِ الْيَمِينِ كَمَا يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا نِكَاحًا ، ثُمَّ الْفِرَاشُ فِي حَقِّ النَّسَبِ يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ فَكَذَلِكَ بِالْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ ، وَلَنَا أَنَّ وَطْءَ الْأَمَةِ كَمِلْكِهَا وَبِمِلْكِهَا لَا يَثْبُتُ الْفِرَاشُ ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ قَدْ يَكُونُ لِبَيْعِهَا ، وَقَدْ يَكُونُ لِوَطْئِهَا فَكَذَلِكَ وَطْؤُهُ إيَّاهَا مُحْتَمِلٌ قَدْ يَكُونُ لِلِاسْتِفْرَاشِ ، وَقَدْ يَكُونُ لِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ ، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ بِالْعَزْلِ عَنْهَا عَادَةً ، وَيَنْفَرِدُ بِذَلِكَ شَرْعًا وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً فَلَا يَثْبُتُ مِنْهُ إلَّا بِالدَّعْوَةِ الَّتِي لَا يَبْقَى بَعْدَهَا احْتِمَالٌ بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا لِلْفِرَاشِ عَادَةً .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ الْوَطْءِ هُنَاكَ جُعِلَ بِمَنْزِلَةِ حَقِيقَةِ الْوَطْءِ وَهُنَا بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الْوَطْءِ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِالِاتِّفَاقِ لِلِاحْتِمَالِ فَكَذَلِكَ بِحَقِيقَةِ الْوَطْءِ ؛ وَلِأَنَّ هُنَاكَ لَا يَبْطُلُ بِثُبُوتِ النَّسَبِ مِلْكًا بَاتًّا لِلزَّوْجِ ، وَهُنَا يَبْطُلُ مِلْكُ الْمَالِيَّةِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا بِثُبُوتِ نَسَبِ وَلَدِهَا .
وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِي إبْطَالِ الْمِلْكِ الْمُتَحَقَّقِ بِهِ وَبِهِ فَارَقَ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ فَلَيْسَ فِي إثْبَاتِهَا إبْطَالُ الْمِلْكِ بَلْ بَابُ الْحُرْمَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فَيَجُوزُ إثْبَاتُهُ مَعَ الِاحْتِمَالِ ؛ وَلِأَنَّ ثُبُوتَهُ بِاعْتِبَارِ الِاتِّحَادِ بَيْنَ الْوَاطِئِينَ حِسًّا حَتَّى تَصِيرَ أُمَّهَاتُهَا ، وَبَنَاتُهَا كَأُمَّهَاتِهِ وَبَنَاتِهِ وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِمِلْكِ الْيَمِينِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الرَّضَاعَ فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ جُعِلَ كَالنَّسَبِ ، وَلَمْ يُجْعَلْ كَهُوَ فِي إبْطَالِ الْمِلْكِ بِهِ يَعْنِي بِالْعِتْقِ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ حُرْمَةُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ نِكَاحًا
لِلتَّحَرُّزِ عَنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ بَيْنَهُمَا وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ .
فَأَمَّا حَدِيثُ عَبْدٍ فَقَدْ ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَمَالِي أَنَّ وَلِيدَةَ زَمْعَةَ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي الْحَدِيثِ زِيَادَةٌ { قَالَ وَلَدُ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِ أَبِي لِأَنِّي أَقْرَبه أَبِي } وَعِنْدَنَا إذَا أَقَرَّ الْمَوْلَى بِالنَّسَبِ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ لَيْسَ بِقَضَاءٍ بِالنَّسَبِ بَلْ هُوَ قَضَاءٌ بِالْمِلْكِ لَهُ لِكَوْنِهِ وَلَدَ أَمَةِ أَبِيهِ ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ بِنَسَبِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { قَالَ لِسَوْدَةِ فَأَمَّا أَنْتِ يَا سَوْدَةُ فَاحْتَجِبِي مِنْهُ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِأَخٍ لَك } وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ تَأْكِيدُ نَفْيِ النَّسَبِ عَنْ عُتْبَةَ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَاهِرًا لِإِلْحَاقِ النَّسَبِ بِزَمْعَةَ .
قَالَ : وَإِذَا حَبِلَتْ الْأَمَةُ عِنْدَ رَجُلٍ ، ثُمَّ بَاعَهَا ، وَقَبَضَ ثَمَنَهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَادَّعَاهُ الْبَائِعُ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ ، وَقَضَى بِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لَهُ ، وَلَدُهَا حُرُّ الْأَصْلِ وَعَلَيْهِ رَدُّ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ مَا لَمْ يُصَدِّقْهُ الْمُشْتَرِي ، وَبِهِ أَخَذَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَجْهُ الْقِيَاسِ فِي ذَلِكَ : أَنَّ الْبَائِعَ مُنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ سَاعٍ فِي نَقْضِ مَا قَدْ تَمَّ بِهِ وَهُوَ الْبَيْعُ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ كَمَا لَوْ قَالَ كُنْتُ أَعْتَقْتُهَا أَوْ دَبَّرْتُهَا قَبْلَ أَنْ أَبِيعَهَا ؛ وَهَذَا لِأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى بَيْعِهَا إقْرَارٌ مِنْهُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِأُمِّ ، وَلَدٍ لَهُ ، وَلَنَا أَنَّا تَيَقَّنَّا بِحُصُولِ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِهِ وَذَلِكَ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْبَيِّنَةِ فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ عَنْهَا كَالْمَرِيضِ إذَا جَاءَتْ جَارِيَتُهُ بِوَلَدٍ فِي مِلْكِهِ فَادَّعَى نَسَبَهُ نَزَلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الْبَيِّنَةِ فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ ، وَالْوَرَثَةِ عَنْهَا وَعَنْ وَلَدِهَا .
وَتَفْسِيرُ الْوَصْفِ : أَنَّ أَدْنَى مُدَّةِ الْحَبَلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَإِذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ تَيَقَّنَّا بِحُصُولِ الْعُلُوقِ قَبْلَ الْبَيْعِ ، وَتَأْثِيرِهِ ، وَهُوَ أَنَّ بِحُصُولِ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِهِ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ اسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ بِالدَّعْوَةِ ، وَذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ ، وَإِنَّمَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ مَا كَانَ مُحْتَمِلًا لِلْإِبْطَالِ فَأَمَّا فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ إلَّا إبْطَالَ الْحَالِ بَعْدَ الْبَيْعِ ، وَقَبْلَهُ سَوَاءٌ ، فَإِذَا بَقِيَ حَقُّ اسْتِلْحَاقِ النَّسَبِ لَهُ بَقِيَ مَا كَانَ ثَابِتًا وَهُوَ التَّفَرُّدُ بِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى تَصْدِيقِ الْمُشْتَرِي وَخَفَاءِ أَمْرِ الْعُلُوقِ يَكُونُ عُذْرًا لَهُ فِي إسْقَاطِ اعْتِبَارِ التَّنَاقُضِ ، وَقَبُولِ قَوْلِهِ فِي إبْطَالِ الْبَيْعِ .
كَمَا أَنَّ الزَّوْجَ إذَا كَذَّبَ نَفْسَهُ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِنَفْيِ النَّسَبِ ثَبَتَ
مِنْهُ ، وَبَطَلَ حُكْمُ الْحَاكِمِ ، وَلَا يُنْظَرُ إلَى التَّنَاقُضِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَعْلَمُ تَدَيُّنًا أَنَّ الْعُلُوقَ لَيْسَ مِنْهُ ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّهُ مِنْهُ ، وَلَا يُوجَدُ مِثْلُ هَذَا فِي دَعْوَى الْعِتْقِ وَالتَّدْبِيرِ فَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْبَائِعِ فِيهِ فَإِنْ ادَّعَاهُ الْمُشْتَرِي بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَى طَرِيقِ الْقِيَاسِ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ دَعْوَةَ الْبَائِعِ لَمْ تَصِحَّ ، وَعَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِحْسَانِ لَمَّا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْ الْبَائِعِ لَا تَصِحُّ دَعْوَةُ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ قَدْ انْتَقَضَ فَصَارَ هُوَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ ؛ وَلِأَنَّ الْوَلَدَ قَدْ اسْتَغْنَى عَنْ النَّسَبِ بِثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنْ الْبَائِعِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي ادَّعَاهُ أَوَّلًا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ فِي الْحَالِ يَمْلِكُ إعْتَاقَهَا ، وَإِعْتَاقَ ، وَلَدَهَا فَتَصِحُّ دَعْوَتُهُ أَيْضًا لِحَاجَةِ الْوَلَدِ إلَى النَّسَبِ وَالْحُرِّيَّةِ وَيَثْبُتُ لَهَا أُمِّيَّةُ الْوَلَدِ بِإِقْرَارِهِ .
ثُمَّ لَا تَصِحُّ دَعْوَةُ الْبَائِعِ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ قَدْ اسْتَغْنَى عَنْ النَّسَبِ حِينَ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْ الْمُشْتَرِي ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ يَثْبُتُ فِيهِ مَا لَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ وَهُوَ حَقِيقَةُ النَّسَبِ فَيَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الِاسْتِلْحَاقِ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا لِلْبَائِعِ ضَرُورَةً فَإِنْ ادَّعَيَاهُ مَعًا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْ الْبَائِعِ عِنْدَنَا ، وَقَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ لِلْمُشْتَرِي حَقِيقَةَ الْمِلْكِ فِيهَا وَفِي ، وَلَدِهَا ؛ وَلِلْبَائِعِ حَقٌّ وَالْحَقُّ لَا يُعَارِضُ الْحَقِيقَةَ كَمَا لَوْ جَاءَتْ جَارِيَةُ رَجُلٍ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ هُوَ ، وَأَبُوهُ مَعًا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ فِيهَا ؛ وَلِلْأَبِ حَقٌّ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْحَقِّ فِي مُقَابَلَةِ الْحَقِيقَةِ ، وَلَنَا أَنَّ دَعْوَةَ الْبَائِعِ دَعْوَةُ اسْتِيلَاءٍ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعُلُوقِ فِي مِلْكِهِ ، وَدَعْوَةُ الْمُشْتَرِي دَعْوَةُ تَجْوِيزٍ
فَإِنَّ أَصْلَ الْعُلُوقِ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ ، وَلَا يُعَارِضُ دَعْوَةَ التَّجْوِيزِ دَعْوَةُ الِاسْتِيلَاءِ كَمَا لَا يُعَارِضُ نَفْسَ الْإِعْتَاقِ دَعْوَةُ الِاسْتِيلَادِ بِمَعْنَى أَنَّ دَعْوَةَ الِاسْتِيلَادِ لَا تَقْتَصِرُ عَلَى الْحَالِ بَلْ تَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ الْعُلُوقِ ، وَدَعْوَةُ التَّحْرِيرِ تَقْتَصِرُ عَلَى الْحَالِ فَدَعْوَةُ الْبَائِعِ سَابِقَةٌ مَعْنًى فَكَأَنَّهَا سَبَقَتْ صُورَةً بِخِلَافِ دَعْوَةِ الْمَوْلَى مَعَ أَبِيهِ ، فَإِنَّ شَرْطَ صِحَّةِ دَعْوَةِ الْأَبِ بِمِلْكِ الْجَارِيَةِ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ إذْ لَيْسَ لَهُ فِي مَالِ وَلَدِهِ مِلْكٌ ، وَلَا حَقُّ الْمِلْكِ ، فَاقْتِرَانُ دَعْوَةِ الْمَوْلَى بِدَعْوَةِ الْأَبِ يَمْنَعُ تَحْصِيلَ هَذَا الشَّرْطِ فَلِهَذَا أَثْبَتْنَا النَّسَبَ مِنْ الْمَوْلَى دُونَ أَبِيهِ ، وَلَوْ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَعْتَقَ الْأُمَّ أَوْ اسْتَوْلَدَهَا أَوْ دَبَّرَهَا ، ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ الْوَلَدَ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَحْتَاجُ إلَى النَّسَبِ بَعْدَ عِتْقِ الْأُمِّ وَهُوَ مَقْصُودٌ بِالدَّعْوَةِ ، وَحَقُّ الِاسْتِيلَادِ فِي الْأُمِّ يَثْبُتُ تَبَعًا فَلَا يَمْتَنِعُ ثُبُوتُ الْأَصْلِ بِامْتِنَاعِ ثُبُوتِ الْبَيْعِ إذْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ ثُبُوتُ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ لِلْأُمِّ كَمَا فِي ، وَلَدِ الْمَغْرُورِ يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ ، وَلَا تَصِيرُ الْأُمُّ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمَغْرُورِ ، ثُمَّ يَرُدُّ الْبَائِعُ حِصَّةَ الْوَلَدِ مِنْ الثَّمَنِ دُونَ الْأُمِّ ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ فَسْخُ الْبَيْعِ فِي الْأُمِّ لِمَا جَرَى فِيهَا مِنْ عِتْقِ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَرُدَّ أَمَةً تُوطَأُ بِالْمِلْكِ بَعْدَ مَا نَفَذَ الْعِتْقُ فِيهَا ، وَلَمْ يَتَعَذَّرْ الْفَسْخُ فِي الْوَلَدِ ، وَقَدْ صَارَ الْوَلَدُ مَقْصُودًا بِهَذَا الِاسْتِرْدَادِ فَتَصِيرُ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ فَلِهَذَا يَسْتَرِدُّ الْمُشْتَرِي حِصَّةَ الْوَلَدِ مِنْ الثَّمَنِ .
وَلَوْ مَاتَتْ الْأُمُّ ، ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ نَسَبَ الْوَلَدِ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ لِمَا بَيَّنَّا وَيَرُدُّ الْبَائِعُ جَمِيعَ الثَّمَنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَ
أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُمْسِكُ حِصَّةَ الْأُمِّ مِنْ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ فَسْخُ الْبَيْعِ فِيهَا بِالْمَوْتِ كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي الْحَقِيقَةِ تُبْنَى عَلَى الْمَسْأَلَةِ الْخِلَافِيَّةِ الْمَعْرُوفَةِ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي مَالِيَّةِ أُمِّ الْوَلَدِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا قِيمَةَ لِرِقِّهَا حَتَّى لَا يَضْمَنَ بِالْغَضَبِ ، فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهَا حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ ، وَقَدْ زَعَمَ الْبَائِعُ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ ، وَزَعْمُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ وَعَلَى قَوْلِهِمَا لِرِقِّهَا قِيمَةٌ حَتَّى يَضْمَنَ بِالْغَصْبِ فَيُمْسِكَ حِصَّتَهَا مِنْ الثَّمَنِ .
ثُمَّ الْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَ هَذَا وَالْأَوَّلِ أَنَّ هُنَاكَ الْقَاضِي كَذَّبَ الْبَائِعَ فِيمَا زَعَمَ حِينَ جَعَلَهَا مُعْتَقَةً مِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي أَوْ مُدَبَّرَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ فَلَمْ يَبْقَ لِزَعْمِهِ غَيْرُهُ فَأَمَّا هُنَا بِمَوْتِهَا لَمْ يَجُزْ الْحُكْمُ بِخِلَافِ مَا زَعَمَ الْبَائِعُ فَبَقِيَ زَعْمُهُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّهِ فَلِهَذَا رَدَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ ، وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي بَاعَ الْأُمَّ أَوْ ، وَهَبَهَا أَوْ رَهَنَهَا أَوْ أَجَرَهَا أَوْ كَاتَبَهَا أَبْطَلْتُ جَمِيعَ ذَلِكَ وَرَدَدْتُهَا عَلَى الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ مُحْتَمِلَةٌ لِلنَّقْضِ كَالْبَيْعِ الْأَوَّلِ فَكَمَا يَجُوزُ نَقْضُ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ بِدَعْوَةِ الِاسْتِيلَاءِ مِنْ الْبَائِعِ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ نَقْضُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ .
وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَعْتَقَ الْوَلَدَ أَوْ دَبَّرَهُ ، ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ نَسَبَهُ لَمْ يُصَدَّقْ فِي ذَلِكَ إذَا أَكْذَبَهُ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مَقْصُودٌ بِالدَّعْوَةِ ، وَقَدْ ثَبَتَ الْمُشْتَرِي فِيهِ مَا لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ ، وَهُوَ الْوَلَاءُ فَيَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الِاسْتِلْحَاقِ الَّذِي كَانَ لِلْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْ الْمُشْتَرِي لَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ حَقُّ الدَّعْوَةِ بَعْدَ ذَلِكَ
فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ الْوَلَاءُ لَهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَبِلَ الْوَلَدَ عِنْدَهُ ، وَأَخَذَ قِيمَتَهُ ، ثُمَّ ادَّعَاهُ الْبَائِعُ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَتُهُ كَمَا لَوْ مَاتَ الْوَلَدُ ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ بِالْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ قَدْ اسْتَغْنَى عَنْ النَّسَبِ ، وَصِحَّةُ دَعْوَةِ الْبَائِعِ لِحَاجَةِ الْوَلَدِ إلَى النَّسَبِ ، ثُمَّ لَا يَرُدُّ الْأُمَّ عَلَى الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا تَبَعٌ لِحَقِّ الْوَلَدِ فِي النَّسَبِ ، وَلَمْ يَثْبُتْ مَا هُوَ الْأَصْلُ فَلَا يَثْبُتُ مَا هُوَ بَيْعٌ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ كَانَ مَقْصُودًا لَا تَبَعًا .
وَلَوْ قُطِعَتْ يَدُ الْوَلَدِ فَأَخَذَ الْمُشْتَرِي نِصْفَ قِيمَتِهِ ، ثُمَّ ادَّعَاهُ الْبَائِعُ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ الْأَقْطَعَ مُحْتَاجٌ إلَى النَّسَبِ مَحَلٌّ لِانْتِقَاصِ الْبَيْعِ فِيهِ ، وَلَكِنَّ الْأَرْشَ يَبْقَى سَالِمًا لِلْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ إبَانَةَ الْيَدِ كَانَتْ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ ، وَدَعْوَةُ الْبَائِعِ إنَّمَا تَعْمَلُ فِي الْقَائِمِ دُونَ الْيَدِ الْمُبَانَةِ ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ بُطْلَانُ حَقِّ الْمُشْتَرِي عَنْ الْأَرْشِ ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَصِلُ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ مَالٌ لَيْسَ مِنْ النَّسَبِ فِي شَيْءٍ فَيَرُدُّ الْجَارِيَةَ مَعَ ، وَلَدِهَا عَلَى الْبَائِعِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ إلَّا حِصَّةَ الْيَدِ فَقَدْ احْتَبَسَ بَدَلَهَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَلَا يُسَلَّمُ لَهُ مَجَّانًا ، وَلَكِنْ حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَنِ تُسَلَّمُ لِلْبَائِعِ كَمَا ذَكَرْنَا فِيمَا إذَا اُحْتُبِسَتْ الْأُمُّ عِنْدَهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْقَطْعُ فِي الْأُمِّ ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي أَشَرْنَا إلَيْهِ يَجْمَعُ الْكُلَّ ، وَلَوْ فَقَأَ رَجُلٌ عَيْنَيْ الْوَلَدِ فَدَفَعَهُ الْمُشْتَرِي إلَى الْجَانِي ، وَأَخَذَ قِيمَتَهُ ، ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ نَسَبَهُ صَحَّتْ دَعْوَتُهُ ؛ لِأَنَّ الْمَفْقُوءَةَ عَيْنَاهُ يَحْتَاجُ إلَى النَّسَبِ وَدَفْعُهُ بِالْجِنَايَةِ مُحْتَمِلٌ لِلنَّقْضِ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ دَعْوَةِ الْبَائِعِ فَيَرُدُّ الْأُمَّ وَالْوَلَدَ عَلَى الْبَائِعِ ، وَيَرُدُّ جَمِيعَ الثَّمَنِ عَلَى الْمُشْتَرِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ