كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
مُدَبَّرٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَثْلَاثًا جَنَى جِنَايَةً فَعَلَيْهِمَا قِيمَتُهُ عَلَى قَدْرِ حِصَّتِهِمَا فِيهِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِيمَةِ عَلَى الْمَوْلَى لِمَنْعِهِ دَفْعَ الرَّقَبَةِ بِالتَّدْبِيرِ السَّابِقِ ، وَإِنَّمَا مَنَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِقَدْرِ مِلْكِهِ فَيَلْزَمُهُ مِنْ الْقِيمَةِ بِقَدْرِ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا دَبَّرَ نَصِيبَهُ مِنْهُ وَاخْتَارَ الْآخَرُ تَرْكَهُ عَلَى حَالِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ عِنْدَهُ يَتَجَزَّأُ إلَّا أَنَّ الْآخَرَ لَا يُخَاطَبُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ فِي نَصِيبِهِ ؛ لِأَنَّ مُدَبَّرَ الْبَعْضِ لَا يَتَحَمَّلُ التَّمْلِيكَ كَمُعْتَقِ الْبَعْضِ فَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ دَفْعُ نَصِيبِهِ كَمَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ نَصِيبُهُ .
مُدَبَّرٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ عَلَى أَحَدِهِمَا جِنَايَةٌ فَعَلَى الْآخَرِ نِصْفُ قِيمَتِهِ لَهُ ؛ لِأَنَّ قِيمَتَهُ نَصِيبُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَمَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْمَالِ عَلَيْهِ هَدَرٌ وَجِنَايَةُ نَصِيبِ صَاحِبِهِ عَلَيْهِ مُعْتَبَرُهُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَحَلَّ الدَّفْعِ كَانَ يُخَاطَبُ صَاحِبُهُ بِدَفْعِ نَصِيبِهِ إلَيْهِ فَكَذَلِكَ يُخَاطَبُ بِدَفْعِ نِصْفِ الْقِيمَةِ إلَيْهِ إذَا كَانَ نَصِيبُهُ مُدَبَّرًا ، فَإِنْ أَعْطَى ذَلِكَ بِأَمْرِ الْقَاضِي ، ثُمَّ جَنَى الْمُدَبَّرُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ فَعَلَى الْمَوْلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَةِ الْمُدَبَّرِ لِلْأَجْنَبِيِّ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ الْأُولَى لَمْ تَثْبُتْ فِي نَصِيبِهِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ نَصِيبِهِ إلَّا هَذِهِ الْجِنَايَةَ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ فَيَغْرَمُ نِصْفَ قِيمَتِهِ لَهُ فَيَكُونُ النِّصْفُ الْبَاقِي فِيمَا أَخَذَهُ الْمَوْلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مِنْ صَاحِبِهِ يَقْتَسِمَانِهِ عَلَى مِقْدَارِ أَنْصَافِ جِنَايَتِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ جِنَايَتَانِ وَالْمَوْلَى لَا يَغْرَمُ بِجِنَايَاتِ الْمُدَبَّرِ ، وَإِنْ كَثُرَتْ إلَّا قِيمَةً وَاحِدَةً ، وَقَدْ غَرِمَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مَرَّةً فَلَا يَغْرَمُ شَيْئًا آخَرَ وَلَكِنْ مَا غَرِمَ يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّ قَدْ وَصَلَ إلَيْهِ نِصْفَ حَقِّهِ ، فَإِنَّ مَا بَقِيَ نِصْفَ حَقِّهِ وَالْمَوْلَى الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ مَا تَثْبُتُ مِنْ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ إلَّا نِصْفَهُ فَكَانَ هَذَا النِّصْفُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ، فَإِنْ جَنَى الْمُدَبَّرُ بَعْدَ ذَلِكَ جِنَايَةً مَالِيَّةً لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَوْلَيَيْنِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ شَيْءٌ آخَرَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَرِمَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ مَرَّةً وَلَكِنَّ الْآخَرَ يَتْبَعُ الْمَوْلَى الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ الْأَوَّلَ فَيَكُونُ مَا أَخَذَهُ الْمَوْلَى وَالْأَوَّلُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ هَذَا الْآخَرِ يَضْرِبُ فِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِنِصْفِ حَقِّهِ وَيَكُونُ مَا أَخَذَ الْأَوَّلُ أَيْضًا مِنْ الْمَوْلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا
الْآخَرِ يَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ بِنِصْفِ الْجِنَايَةِ لِاسْتِوَاءِ حَقِّهِمَا فِيهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ جَنَى بَعْدَ ذَلِكَ جِنَايَةً أُخْرَى فَهُوَ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ وَالْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَّا يَعُمُّ الْفُصُولَ كُلَّهَا .
وَإِذَا جَنَى الْمُدَبَّرُ عَلَى أَحَدِ مَوْلَيَيْهِ جِنَايَةً تَزِيدُ عَلَى قِيمَتِهِ فَغَرِمَ شَرِيكُهُ لَهُ نِصْفَ قِيمَتِهِ بِأَمْرِ الْقَاضِي ، ثُمَّ جَنَى الْمُدَبَّرُ عَلَى الْآخَرِ فَغَرِمَ شَرِيكُهُ لَهُ نِصْفَ قِيمَتِهِ بِأَمْرِ الْقَاضِي ، ثُمَّ جَنَى عَلَى أَجْنَبِيٍّ جِنَايَةً ، فَإِنَّهُ يَضْرِبُ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْلَيَيْنِ فِيمَا فِي يَدِهِ بِنِصْفِ الْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْلَيَيْنِ غَرِمَ قِيمَةَ نَصِيبِهِ بِجِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ مَرَّةً فَلَا يَغْرَمُ شَيْئًا آخَرَ ، ثُمَّ حَقُّ الْآخَرِ اسْتَوَى بِحَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْلَيَيْنِ فِي النِّصْفِ الَّذِي وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ الْقِيمَةِ فَكَذَلِكَ يَقْسِمُ كُلُّ نِصْفٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ فِي يَدِهِ نِصْفَانِ .
رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ مُدَبَّرًا لَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ فَجَنَى الْمُدَبَّرُ جِنَايَةً فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ وَيَسْعَى الْمُدَبَّرُ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ بِمَوْتِ الْمَوْلَى عَتَقَ ثُلُثُهُ بِالتَّدْبِيرِ وَلَزِمَهُ السِّعَايَةُ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ وَالْمُسْتَسْعَى بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ وَجِنَايَةُ الْمُكَاتَبِ تُوجِبُ عَلَيْهِ فِي كَسْبِهِ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ وَعَلَى قَوْلِهِمَا حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَجِنَايَتُهُ تَكُونُ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَعَاقِلَتُهُ عَاقِلَةُ مَوْلَاهُ ، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حُكْمُهُ فِي الْجِنَايَةِ كَحُكْمِ الْمُكَاتَبِ حَتَّى إذَا جَنَى جِنَايَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِشَيْءٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي قَضَى عَلَيْهِ لِلْأَوَّلِ بِالْقِيمَةِ ، ثُمَّ جَنَى جِنَايَةً أُخْرَى فَحِينَئِذٍ تَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ لِلثَّانِي .
وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا قَبْلَ الْقَضَاءِ وَبَيْنَ مَا بَعْدَهُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الدِّيَاتِ ، وَفِيهِ إشْكَالٌ هَاهُنَا ، فَإِنَّ فِي الْمُكَاتَبِ جَعَلْنَا جِنَايَتَهُ فِي رَقَبَتِهِ لِتَوَهُّمِ دَفْعِهِ بِالْجِنَايَةِ بَعْدَ الْعَجْزِ ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي مُعْتِقِ الْبَعْضِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُوجِبُ جِنَايَتِهِ الْقِيمَةَ فِي ذِمَّتِهِ ابْتِدَاءً سَوَاءً قَضَى بِهَا الْقَاضِي أَوْ لَمْ يَقْضِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الدَّفْعُ هَاهُنَا مُتَوَهَّمٌ أَيْضًا ، فَإِنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ مُعْتِقُ الْبَعْضِ يُسْتَدَامُ فِيهِ الرِّقُّ فِيمَا بَقِيَ مِنْهُ وَيَكُونُ مُحْتَمِلًا لِلتَّمْلِيكِ وَالتَّمَلُّكُ ، فَإِنْ اجْتَهَدَ الْقَاضِي هَذَا الْقَوْلَ حَكَمَ بِهِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ الْأَدَاءِ بَعْدَ حُكْمِهِ فَلِهَذَا تَتَعَلَّقُ جِنَايَتُهُ بِرَقَبَتِهِ كَمَا تَتَعَلَّقُ بِجِنَايَةِ الْمُكَاتَبِ إلَّا أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ فِي فَصْلٍ ، وَهُوَ أَنَّ هَذَا الْمُدَبَّرَ لَوْ مَاتَ بَعْدَ جِنَايَتِهِ قَبْلَ أَنْ
يَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِلْوَرَثَةِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ ، فَإِنَّ مَا تَرَكَهُ بَيْنَ أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ وَأَصْحَابِ الدَّيْنِ الَّذِينَ لَهُمْ عَلَيْهِ بِالْحِصَصِ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ ، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هُنَاكَ إذَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْمُكَاتَبِ حَتَّى مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ كَانَ صَاحِبُ الدَّيْنِ مُقَدَّمًا عَلَى صَاحِبِ الْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ بِمَوْتِهِ عَاجِزًا تَنْفَسِخُ الْكِتَابَةُ وَيَبْطُلُ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فَكَانَ صَاحِبُ الدَّيْنِ أَقْوَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ هُنَا ، فَإِنَّ بِمَوْتِهِ لَا يَنْفَسِخُ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلسِّعَايَةِ عَلَيْهِ وَلَكِنْ يَتَحَوَّلُ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ إلَى الْقِيمَةِ بِاعْتِبَارِ النَّاسِ عَنْ الدَّفْعِ سَوَاءٌ كَانَ قَضَى الْقَاضِي بِالدَّفْعِ أَوْ لَمْ يَقْضِ فَلِهَذَا كَانَ مُسَاوِيًا لِصَاحِبِ الدَّيْنِ .
وَلَوْ تَرَكَ وَلَدًا لَهُ مِنْ ابْنِهِ وَلَمْ يَتْرُكْ مَالًا يَسْعَى الْوَلَدُ فِيمَا عَلَى أَبِيهِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِ الْمُكَاتَبَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْوَلَدَ هُنَاكَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ يَسْعَى فِي بَدَلِ الْكِتَابَةِ ، وَفِيمَا كَانَ عَلَى ابْنِهِ لِأَصْحَابِ الدَّيْنِ وَالْجِنَايَةِ ، فَإِنْ كَانَ الْمُدَبَّرُ قَدْ سَعَى فِيمَا قَدْ كَانَ لِلْوَرَثَةِ وَلَمْ يَقْضِ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ حَتَّى مَاتَ الْأَبُ يَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَةِ أَبِيهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ، وَفِيمَا عَلَى أَبِيهِ لِأَصْحَابِ الدَّيْنِ وَالْجِنَايَةِ ، فَإِنْ كَانَ الْمُدَبَّرُ قَدْ سَعَى فِيمَا قَدْ كَانَ لِلْوَرَثَةِ وَلَمْ يَقْضِ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ حَتَّى مَاتَ الْأَبُ لَمْ يَسْعَ الِابْنُ فِي شَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الْأَبَ عَتَقَ بِأَدَاءِ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ إلَى وَرَثَتِهِ وَالْوَلَدُ عَتَقَ بِعِتْقِهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ لِتَنْفِيذِ الْعِتْقِ بِالْأَدَاءِ ، فَإِذَا عَتَقَ بِالْأَوَّلِ فِي حَيَاتِهِ لَمْ يُطَالَبْ بِشَيْءٍ مِنْ دَيْنِ أَبِيهِ كَمَا لَا يُطَالَبُ بِهِ سَائِرُ وَرَثَةِ أَبِيهِ .
رَجُلٌ أَوْصَى بِعِتْقِ عَبْدٍ لَهُ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ ، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي فَجَنَى الْعَبْدُ جِنَايَةً بَعْدَ مَوْتِهِ قَالَ يَدْفَعُهُ إلَى الْوَرَثَةِ وَتَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ أَوْ يَفْدُونَهُ مُتَطَوِّعِينَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَيَعْتِقُونَهُ عَنْ الْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْعِتْقِ لَا تَصِيرُ مُنَفَّذَةً بِدُونِ التَّنْفِيذِ فَجَنَى بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى قَبْلَ أَنْ يُعْتِقَ كَانَ هُوَ بِمَحَلِّ الدَّفْعِ ، وَهُوَ مُبْقًى عَلَى مَحَلِّ مِلْكِ الْمَوْلَى فَيُخَاطَبُ مَنْ يَخْلُفُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ ، وَإِذَا دَفَعَهُ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ لِفَوَاتِ مَحِلِّهَا ، فَإِذَا اخْتَارَ فِدَاهُ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فِي ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ عَلَيْهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ تَبَرَّعَ أَجْنَبِيٌّ بِالْفِدَاءِ عَنْهُ ، وَإِذَا ظَهَرَ عَنْ الْجِنَايَةِ يُعْتَقُ عَنْ الْمَيِّتِ كَمَا كَانَ يُعْتَقُ قَبْلَ الْجِنَايَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ وَفَدَوْهُ أُعْتِقَ وَاسْتَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْعِتْقِ إنَّمَا تَنْفُذُ مِنْ ثُلُثِهِ وَجِنَايَةُ الْمُدَبَّرِ الذِّمِّيِّ بِمَنْزِلَةِ جِنَايَةِ مُدَبَّرِ الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّهُ مَانِعٌ دَفْعَ الرَّقَبَةِ بِالتَّدْبِيرِ السَّابِقِ كَالْمُسْلِمِ ، فَإِنَّ الذِّمِّيَّ مُلْزَمٌ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتْبَعَ مُدَبَّرَهُ كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتْبَعَ أُمَّ وَلَدِهِ وَسَوَاءٌ مَا جَنَى قَبْلَ إسْلَامِهِ وَمَا جَنَى بَعْدَ إسْلَامِهِ مَا لَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ بِالسِّعَايَةِ لِمَوْلَاهُ الذِّمِّيِّ مِنْ أَجْلِ إسْلَامِ الْمُدَبَّرِ ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْإِسْلَامِ لَا يَضُرُّ مَا لَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ بِالسِّعَايَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مَوْلَاهُ لَوْ أَسْلَمَ بَقِيَ مُدَبَّرًا لَهُ عَلَى حَالِهِ فَيَكُونُ مُوجَبُ جِنَايَتِهِ عَلَى مَوْلَاهُ ، فَإِنْ قَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ السِّعَايَةَ فِي قِيمَتِهِ ، ثُمَّ جَنَى كَانَ عَلَيْهِ فِي كَسْبِهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مَوْلَاهُ لَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ
هَذَا بَقِيَ هُوَ فِي حُكْمِ الْمُكَاتَبِ يُعْتَقُ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ إلَّا أَنْ يَعْجَزَ عَنْهَا فَيَكُونُ هُوَ فِي جِنَايَتِهِ كَالْمُكَاتَبِ ، وَهَذَا بِالْإِجْمَاعِ أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلِأَنَّ الْمُسْتَسْعَى بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْعَى لِيُعْتِقَ بِخِلَافِ مُعْتَقِ الْبَعْضِ .
وَأَمَّا مُدَبَّرُ الْعَبْدِ الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ ، فَإِنْ كَانَ دَبَّرَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، ثُمَّ جَنَى الْعَبْدُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ قِيلَ لِلْحَرْبِيِّ ادْفَعْهُ أَوْ افْدِهِ ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَاطِلٌ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ ، فَإِنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا أَعْتَقَ عَبْدَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَانَ عِتْقُهُ بَاطِلًا ، وَإِذَا أَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ لَهُ أَنْ يَتْبَعَهُ فَكَذَا إذَا دَبَّرَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَانَ لَهُ أَنْ يَتْبَعَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .
وَإِنْ كَانَ بِمَحَلِّ التَّبَعِ يُخَاطَبُ مَوْلَاهُ فِي جِنَايَتِهِ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ ، وَإِنْ كَانَ دَبَّرَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مُدَبَّرِ الذِّمِّيِّ ؛ لِأَنَّ تَدْبِيرَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ صَحِيحٌ كَإِعْتَاقِهِ فَيَتَعَذَّرُ بِهِ دَفْعُ الرَّقَبَةِ وَيَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ بِجِنَايَتِهِ دَيْنًا عَلَيْهِ ، فَإِنْ دَبَّرَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، ثُمَّ لَحِقَ الْحَرْبِيُّ بِدَارِ الْحَرْبِ وَالْعَبْدُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، ثُمَّ جَنَى جِنَايَةً لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ مِنْهَا شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ جِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ الْقِيمَةُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ مَوْلَاهُ وَالدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْحَرْبِيِّ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمُدَبَّرِهِ ، فَإِنْ رَجَعَ الْحَرْبِيُّ بِأَمَانٍ أَوْ مُسْلِمًا أَوْ أَسْلَمَ أَهْلُ دَارِهِ أَخَذَهُ بِقِيمَتِهِ كَمَا يُؤْخَذُ بِسَائِرِ الدُّيُونِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ سُبِيَ الْحَرْبِيُّ فَالْمُدَبَّرُ حُرٌّ ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ تَبَدَّلَتْ بِالسَّبْيِ مِنْ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ إلَى صِفَةِ الْمَمْلُوكِيَّةِ وَذَلِكَ كَمَوْتِهِ حُكْمًا فَيُعْتَقُ بِهِ مُدَبَّرُهُ ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ حَيَاةٌ وَالرِّقَّ تَلَفٌ وَلِأَنَّهُ بِالرِّقِّ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلْمِلْكِ فَلَا يَبْقَى الْمُدَبَّرُ عَلَى مِلْكِهِ ، وَلَا يَتَحَمَّلُ النَّقْلَ إلَى غَيْرِهِ فَيُعْتَقُ لِهَذَا وَالْجِنَايَةُ تَبْطُلُ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ وَالْحَرْبِيُّ إذَا سُبِيَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يَبْطُلُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْمَأْذُونِ .
وَإِنْ قُتِلَ الْمَوْلَى وَلَمْ
يُسْبَ أَوْ مَاتَ فَالْمُدَبَّرُ حُرٌّ وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ السِّعَايَةِ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَلَا لِوَرَثَةِ الْحَرْبِيِّ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ بَاقٍ فِي هَذَا الْمُدَبَّرِ ، وَلَا حُرْمَةَ لِحَقِّ وَرَثَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُدَبَّرِ السِّعَايَةُ لِحَقِّهِمْ وَلَكِنَّهُ مُدَبَّرٌ مَاتَ مَوْلَاهُ لَا وَارِثَ لَهُ فَيُعْتَقُ كُلُّهُ مِنْ غَيْرِ سِعَايَةٍ .
وَإِذَا فَقَأَ الْحُرُّ عَيْنَ مُدَبَّرٍ أَوْ أُمِّ وَلَدٍ أَوْ مُكَاتَبٍ أَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ أَوْ أُذُنَيْهِ أَوْ رِجْلَيْهِ كَانَ عَلَيْهِ نُقْصَانُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ إيجَابَ جَمِيعِ الْقِيمَةِ عَلَى الْجَانِي غَيْرُ مُمْكِنٍ هَاهُنَا ، فَإِنَّ شَرْطَ وُجُوبِ جَمِيعِ قِيمَةِ الدِّيَةِ دَفْعُ الْجُثَّةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ قِنًّا فَغَرِمَ الْجَانِي جَمِيعَ الْقِيمَةِ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ سَلِمَتْ لَهُ الْجُثَّةُ وَاِتِّخَاذُ هَذَا الشَّرْطِ مُتَعَذِّرٌ فِي هَؤُلَاءِ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ نُقْصَانَ الْمَالِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ جَنَى عَلَى الْمَمْلُوكِ جِنَايَةً لَيْسَ لَهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ ، فَإِنَّهُ يَجِبُ نُقْصَانٌ ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بِعَبْدٍ بِأَنْ فَقَأَ عَيْنَهُ أَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ كَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ كَامِلَةً ، فَإِذَا أَخَذَهَا الْمَوْلَى دَفَعَ إلَيْهِ الْجُثَّةَ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَيْسَ عَلَيْهِ دَفْعُ الْجُثَّةِ إلَى الْجَانِي وَلَكِنْ يَأْخُذُ مِنْهُ الْقِيمَةَ وَيُسَلِّمُ لَهُ الْجُثَّةَ ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ بَدَلٌ عَنْ الْفَائِتِ خَاصَّةً ، فَإِنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْمَمَالِيكِ بِمَنْزِلَةِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْأَحْرَارِ وَلِهَذَا يُقَدَّرُ بَدَلُ طَرَفِهِ بِكَمَالِ بَدَلِ نَفْسِهِ كَمَا فِي الْحَرِيمِ الْوَاجِبِ فِي حَقِّ الْحُرِّ يَكُونُ بَدَلًا عَنْ الْفَائِتِ دُونَ الْقَائِمِ فَكَذَلِكَ مِنْهُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ .
وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِ مُسْتَقِيمٌ ، فَإِنَّهُ يَجْعَلُ طَرَفَ الْعَبْدِ مَضْمُونًا بِالْقِصَاصِ بِطَرَفِ الْحُرِّ ، وَلَا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ إحْدَى الْيَدَيْنِ مِنْ الْعَبْدِ يَغْرَمُ نِصْفَ الْقِيمَةِ ، وَلَا يَمْلِكُ بِهِ شَيْئًا مِنْ الْجُثَّةِ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ بَدَلًا عَنْ الْفَائِتِ خَاصَّةً فَكَذَلِكَ إذَا قَطَعَ الْيَدَيْنِ اعْتِبَارًا لِلْكُلِّ بِالْبَعْضِ وَأَصْحَابُنَا يَقُولُونَ يُوفِرُ عَلَى الْمَوْلَى كَمَالَ بَدَلِ مِلْكِهِ وَمِلْكُهُ مُحْتَمَلٌ لِلنَّقْلِ فَلَا يُحْتَمَلُ لِلْبَدَلِ عَلَى نَفْسِهِ عَلَى مِلْكِهِ كَالْغَاصِبِ إذَا أَخَذَ مِنْهُ الْمَغْصُوبُ الْقِيمَةَ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ بِالِاتِّفَاقِ أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي عِنْدَنَا ، وَهَذَا
لِأَنَّ الْبَدَلَ وَالْمُبْدَلَ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَالضَّمَانُ إنَّمَا يَجِبُ جَبْرًا لِلْفَائِتِ فَمَعَ بَقَاءِ أَصْلِ مِلْكِهِ فِي الْعَيْنِ لَا يَمْلِكُ إيجَابَ الضَّمَانِ بِطَرِيقِ الْجُبْرَانِ ، ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ هَاهُنَا بَدَلٌ عَنْ جَمِيعِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ يُقَدَّرُ بِمَالِيَّةِ الْعَبْدِ وَأَنَّ الْعَبْدَ صَارَ فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلَكِ لِفَوَاتِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ مِنْهُ ، وَلَوْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا حَقِيقَةً كَانَ الْوَاجِبُ مِنْ الْقِيمَةِ بَدَلًا عَنْهُ فَكَذَلِكَ إذَا صَارَ مُسْتَهْلَكًا حُكْمًا ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوَاجِبَ بَدَلٌ عَنْ الْكُلِّ فَيَمْلِكُ بِهِ مَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ دُونَ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ ، وَالْجُثَّةُ وَإِنْ كَانَتْ مُسْتَهْلَكَةً حُكْمًا فَهِيَ مَحَلُّ التَّمْلِيكِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ مُسْتَهْلَكَةٌ حَقِيقَةً ، فَأَمَّا فِي الْحُرِّ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ بِمُقَابِلَةِ الْجُثَّةِ إذْ لَا قِيمَةَ لَلْحَرْبِيِّ الْحُرِّ ؛ لِأَنَّ جَعْلَ الْقِيمَةِ بِمُقَابَلَةِ الْجُثَّةِ إنَّمَا يُجْعَلُ لِيُتَمَلَّكَ وَالْحُرُّ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ ، فَلَوْ جَعَلْنَا الدِّيَةَ بِمُقَابَلَةِ الْجُثَّةِ إنَّمَا يُجْعَلُ لِيُتَمَكَّنَ مِنْ إتْلَافِهِ الْجُثَّةَ ، وَهَذَا لَا وَجْهَ لَهُ .
فَأَمَّا إذَا قُطِعَ إحْدَى الْيَدَيْنِ مِنْ الْعَبْدِ فَهُنَاكَ الْجُثَّةُ قَائِمَةً حَقِيقَةً وَحُكْمًا لِبَقَاءِ مَنْفَعَتِهَا فَيُجْعَلُ الْوَاجِبُ بِمُقَابِلَةِ الْمُتْلَفِ خَاصَّةً ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْ مَالِيَّةِ الْمُعْتِقِ وَالْفَائِتُ جُزْءٌ مِنْ الْعَيْنِ فَيُمْكِنُ جَعْلَ الْجُزْءِ بِمُقَابِلَةِ الْجُزْءِ وَهَا هُنَا الْوَاجِبُ جَمِيعُ مَالِيَّةِ الْعَيْنِ وَالْفَائِتُ جُزْءٌ مِنْ الْعَيْنِ حَقِيقَةً وَجَمِيعُ الْمَالِيَّةِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تُجْعَلَ بِمُقَابِلَةِ الْجُزْءِ فَلِهَذَا جَعَلْنَا الْقِيمَةَ بِمُقَابِلَةِ الْكُلِّ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ إذَا غَرِمَ نِصْفَ الْقِيمَةِ بِقَطْعِ إحْدَى الْيَدَيْنِ ، فَأَمَّا إنْ مَلَكَ نِصْفًا مُعَيَّنًا مِنْ جَانِبِ الْيَدِ الْمَقْطُوعَةِ وَلِحَيَوَانٍ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ أَوْ نِصْفًا شَائِعًا مِنْ جَمِيعِ
الْعَبْدِ فَيَكُونُ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ مَعْنًى ؛ لِأَنَّ الْيَدَ مِنْ الْآدَمِيِّ نِصْفُهُ ، وَقَدْ فَاتَ النِّصْفُ وَمُلِكَ نِصْفٌ فَمَا بَقِيَ فَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَلَّمَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ بِضَمَانِ نِصْفِ الْقِيمَةِ ، فَأَمَّا هَاهُنَا الْوَاجِبُ جَمِيعُ مَالِيَّةِ الْعَيْنِ ، وَلَا يُسَلَّمُ لَهُ إلَّا جَمِيعُ مَالِيَّةِ الْعَيْنِ تَمْلِيكًا وَإِتْلَافًا ، فَإِنْ أَبَى الْمَوْلَى أَنْ يَدْفَعَ الْجُثَّةَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِشَيْءٍ عَلَى الْجَانِي فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِنُقْصَانِ الْمَالِيَّةِ .
وَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا الْخِيَارُ ثَبَتَ لِلْمَوْلَى بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ الْجُثَّةَ وَيَأْخُذَ الْقِيمَةَ وَبَيْنَ أَنْ يُمْسِكَ وَيَأْخُذَ النُّقْصَانَ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الْأَعْمَشُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ الْخِيَارُ لِلْجَانِي بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ الْجُثَّةَ وَيَغْرَمَ الْقِيمَةَ وَبَيْنَ أَنْ يَغْرَمَ النُّقْصَانَ وَلَا يَأْخُذَ الْجُثَّةَ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ عَلَيْهِ فَالْخِيَارُ فِي مِقْدَارِ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الضَّمَانِ إلَيْهِ وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ .
وَوَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْعَبْدَ فِي حُكْمِ الْجِنَايَةِ عَلَى أَطْرَافِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ حَتَّى لَا يَتَعَلَّقَ الْقِصَاصُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى أَطْرَافِهِ بِحَالٍ ، وَلَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ وَتَجِبُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ ، وَفِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْأَمْوَالِ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمَالِكِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ خَرَقَ ثَوْبَ إنْسَانٍ خَرْقًا فَاحِشًا أَوْ قَطَعَ بَعْضَ قَوَائِمِ دَابَّةِ الْغَيْرِ كَانَ لِصَاحِبِهَا الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَهُ جَمِيعَ الْقِيمَةِ وَيُسَلِّمَ الْعَيْنَ إلَيْهِ وَبَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَهُ النُّقْصَانَ فَهَذَا مِثْلُهُ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْحُرِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ النُّقْصَانُ فِي بَدَلِ نَفْسِهِ بِالْجِنَايَةِ عَلَى طَرَفِهِ وَهَا هُنَا يُمْكِنُ النُّقْصَانُ مِنْ بَدَلِ نَفْسِهِ بِالْجِنَايَةِ عَلَى طَرَفِهِ
فَيُعْتَبَرُ النُّقْصَانُ هَاهُنَا .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْمُدَبَّرِ يُعْتَبَرُ نُقْصَانُ الْمَالِيَّةِ لِتَعَذُّرِ الدَّفْعِ فَكَذَلِكَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْقِنِّ ، فَإِذَا امْتَنَعَ دَفْعُ الرَّقَبَةِ الْتَحَقَ بِمَا لَوْ كَانَ الدَّفْعُ مُتَعَذِّرًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْبَائِعَ لَوْ قَطَعَ يَدَيْ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَاخْتَارَ الْمُشْتَرِي إمْضَاءَ الْعَقْدِ ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ مِنْ الثَّمَنِ حِصَّةُ نُقْصَانِ الْمَالِيَّةِ ، لِهَذَا الْمَعْنَى إنْ يَقْطَعْ الْيَدَيْنِ النُّقْصَانُ فِي بَدَلِ نَفْسِهِ فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ النُّقْصَانُ مِنْ قِيمَةِ الثَّمَنِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ الْجِنَايَةُ عَلَى بَنِي آدَمَ إنْ أَوْجَبَتْ كَمَالَ بَدَلِ النَّفْسِ لَا يَكُونُ مُوجِبَ النُّقْصَانِ كَمَا فِي الْجِنَايَةِ عَلَى الْأَحْرَارِ ، وَهَذَا لِأَنَّ كَمَالَ بَدَلِ النَّفْسِ وُجُوبُهُ بِالنَّصِّ وَالنُّقْصَانُ إنَّمَا يَكُونُ بِطَرِيقِ الِاجْتِهَادِ وَالْحَذَرُ وَالِاجْتِهَادُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ النَّصِّ فَمَعَ وُجُودِ النَّصِّ لَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ النُّقْصَانِ وَبِهِ فَارَقَ الْمُدَبَّرَ ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ هُنَاكَ جَمِيعُ بَدَلِ النَّفْسِ بِالْجِنَايَةِ عَلَى أَطْرَافِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ الْقِيمَةَ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ النُّقْصَانِ بِطَرِيقِ الْمَصِيرِ إلَى الِاجْتِهَادِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ النَّصِّ ، وَكَذَلِكَ فِي جِنَايَةِ الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ مَعَ إمْضَاءِ الْمُشْتَرِي الْعَقْدَ لَا يَجِبُ جَمِيعُ بَدَلِ النَّفْسِ بِجِنَايَةِ الْبَائِعِ فَاعْتَبَرْنَا مِنْهَا النُّقْصَانَ لِذَلِكَ ، وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ ، وَهُوَ أَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى أَطْرَافِ الْمَمَالِيكِ مِنْ وَجْهٍ بِمَنْزِلَةِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْأَمْوَالِ وَمِنْ وَجْهٍ بِمَنْزِلَةِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْأَحْرَارِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ يَجِبُ جَمِيعُ بَدَلِ النَّفْسِ بِقَطْعِ الطَّرَفِ ، وَإِنَّ الْأَطْرَافَ تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ ، فَإِذَا كَانَ مَعْنَى النَّفْسِيَّةِ مُعْتَبَرًا فِي الْجِنَايَةِ عَلَى نَفْسِ الْمَمْلُوكِ فَكَذَلِكَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى أَطْرَافِهِ
وَمَا تَرَدَّدَ بَيْنَ أَصْلَيْنِ تَوَفَّرَ حَظُّهُ عَلَيْهِمَا فَلِشَبَهِهِ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْأَمْوَالِ قُلْنَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَحَلَّ الدَّفْعِ يَجِبُ النُّقْصَانُ وَلِشَبَهِهِ بِجِنَايَةِ الْأَحْرَارِ قُلْنَا إذَا وَجَبَ كَمَالُ بَدَلِ النَّفْسِ لَا يُعْتَبَرُ النُّقْصَانُ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوَاجِبَ هَاهُنَا هُوَ الْقِيمَةُ دُونَ النُّقْصَانِ عَنْ شَرْطِ اسْتِيفَاءِ جَمِيعِ الْقِيمَةِ تُسَلَّمُ الْجُثَّةُ ، فَإِذَا مَنَعَ الْمَوْلَى هَذَا الشَّرْطَ بِاخْتِيَارِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِشَيْءٍ كَمَا لَوْ كَسَرَ قَلْبَ فِضَّةٍ لِإِنْسَانٍ ، فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْقَلْبِ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ الْقَلْبِ مَصُوغًا مِنْ الذَّهَبِ وَيُسَلِّمُ إلَيْهِ الْمَكْسُورُ ، وَإِذَا أَمْسَكَ الْمَكْسُورَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ إيجَادَ شَرْطِ سَلَامَةِ الْقِيمَةِ لَهُ فَيَكُونُ كَالْمُبَرِّئِ لَهُ عَنْ ضَمَانِ الْقِيمَةِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا .
رَجُلٌ غَصَبَ مُدَبَّرَ رَجُلٍ فَقَتَلَ عِنْدَهُ قَتِيلًا خَطَأً ، ثُمَّ رَدَّهُ عَلَى الْمَوْلَى فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَزِمَهُ بِجِنَايَةٍ كَانَتْ عِنْدَهُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمَغْصُوبَ لَوْ كَانَ عَبْدًا فَدَفَعَهُ الْمَوْلَى بِالْجِنَايَةِ رَجَعَ بِقِيمَتِهِ عَلَى الْغَاصِبِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ جِنَايَتُهُ عَلَى نَفْسٍ عَمْدًا فَقَتَلَهُ عِنْدَ الْمَوْلَى رَجَعَ عَلَى الْغَاصِبِ بِقِيمَتِهِ ، قِنًّا كَانَ أَوْ مُدَبَّرًا ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِسَبَبٍ كَانَ عِنْدَهُ ، فَإِنْ غَصَبَ الْمُدَبَّرَ رَجُلٌ آخَرُ فَقَتَلَ عِنْدَهُ قَتِيلًا آخَرَ خَطَأً فَلَيْسَ عَلَى الْمَوْلَى شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ غَرِمَ الْقِيمَةَ بِسَبَبِ جِنَايَتِهِ مَرَّةً وَلَكِنَّ وَلِيَّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ يَتْبَعُ وَلِيَّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى فَيَأْخُذُ مِنْهُ نِصْفَ تِلْكَ الْقِيمَةِ ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ الْآخَرِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ ، وَهُوَ مَا أَخَذَهُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ فَيَدْفَعُهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ اسْتَحَقَّ جَمِيعَ الْقِيمَةِ فَارِغًا وَلِأَنَّ الثَّانِيَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ نِصْفَ الْجِنَايَةِ عَلَى الْأَوَّلِ بِجِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ عِنْدَ الْغَاصِبِ الثَّانِي إلَّا أَنَّ الرُّجُوعَ بِسَبَبِ الْغَصْبِ ، وَقَدْ كَانَ بَيْنَ الْمَوْلَى وَالْغَاصِبِ الثَّانِي فَهُوَ الَّذِي يَرْجِعُ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ وَيَدْفَعُهُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الْأُولَى .
وَلَوْ غَصَبَ مُدَبَّرًا فَقَتَلَ الْمُدَبَّرُ الْغَاصِبَ أَوْ عَبْدَهُ أَوْ رَجُلًا هُوَ وَارِثُهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَوْلَى الْمُدَبِّرِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ أَنَّ جِنَايَةَ الْعَبْدِ الْمَغْصُوبِ عَلَى الْغَاصِبِ وَعَلَى مَالِهِ هَدَرٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَهَا لَا يُفِيدُ شَيْئًا فَقَرَارُ الضَّمَانِ يَكُونُ عَلَى الْغَاصِبِ فَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ ، وَلَوْ جَنَى الْمُدَبَّرُ عِنْدَ الْغَاصِبِ عَلَى مَوْلَاهُ جِنَايَةً فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ يُعْتَبَرُ جِنَايَتُهُ فَيَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْغَاصِبِ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ جِنَايَتُهُ عَلَى مَوْلَاهُ وَعَلَى مَالِ مَوْلَاهُ هَدْرٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الدِّيَاتِ فِي الْعَبْدِ فَكَذَلِكَ فِي الْمُدَبَّرِ وَكَلَامُهُمَا فِيهِ أَوْضَحُ فَالْمُدَبَّرُ بِالضَّمَانِ لَا يَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلْغَاصِبِ .
وَأُمُّ الْوَلَدِ فِي جِنَايَاتِهَا وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُدَبَّرِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ دَفْعَهَا بِالْجِنَايَةِ بِسَبَبٍ لَمْ يَصِرْ الْمَوْلَى بِهِ مُخْتَارًا ، وَفِي وُجُوبِ ضَمَانِ أُمِّ الْوَلَدِ بِالْغَصْبِ اخْتِلَافٌ مَعْرُوفٌ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، وَكَذَلِكَ فِي وُجُوبِ السِّعَايَةِ عَلَيْهَا بَعْدَمَا عَتَقَ نَصِيبُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ مِنْهَا .
وَلَوْ أَنَّ أَمَةً بَيْنَ رَجُلَيْنِ دَبَّرَهَا أَحَدُهُمَا ، ثُمَّ وَطِئَهَا الْآخَرُ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ الْوَاطِئُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ عِنْدَهُ يَتَجَزَّأُ فَنَصِيبُ الْمُسْتَوْلَدُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ وَذَلِكَ كَافٍ لِثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ مِنْهُ بِالدَّعْوَةِ وَعَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَةِ الْوَلَدِ وَنِصْفُ قِيمَةِ عَقْرِ الْأُمِّ ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَهَا وَهِيَ مُشْتَرَكَةٌ وَلَمْ يَتَمَلَّكْ نَصِيبَ شَرِيكَهُ مِنْهَا لِأَجْلِ التَّدْبِيرِ فَيَصِيرُ الْوَلَدُ مَقْصُودًا بِالْإِتْلَافِ وَلِهَذَا يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَةِ الْوَلَدِ مَعَ نِصْفِ الْعَقْرِ لِشَرِيكِهِ .
وَجِنَايَتُهَا عَلَيْهِمَا أَوْ عَلَى غَيْرِهِمَا بِمَنْزِلَةِ جِنَايَةِ مُدَبَّرٍ هُوَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي الْحُكْمِ ، فَإِنْ مَاتَ الْوَاطِئُ مِنْهُمَا عَتَقَ نَصِيبُهُ مِنْهَا وَيَسْعَى لِلْآخَرِ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا مُدَبَّرَةً ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ لَمْ يَثْبُتْ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ ، فَإِنْ مَاتَ الْمُدَبِّرُ مِنْهُمَا عَتَقَ نَصِيبُهُ إذَا كَانَ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِهِ ، وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهَا لِلْمُسْتَوْلِدِ ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ أُمُّ وَلَدٍ ، وَلَا سِعَايَةَ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ لِمَوْلَاهَا عِنْدَهُ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ هِيَ مُدَبَّرَةٌ كُلُّهَا لِلْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ عِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ وَعَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَتِهَا لِلْوَاطِئِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ نَصِيبَهَا مِنْهُ بِالتَّدْبِيرِ وَجِنَايَتُهَا عَلَيْهِ وَوَلَدُهَا لَهُ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْ الْوَاطِئِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا اسْتَوْلَدَ مُدَبَّرَةَ الْغَيْرِ إلَّا أَنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ عَنْهُ لِلشُّبْهَةِ فَيَلْزَمُهُ الْعَقْرُ لِلْمُدَبِّرِ ، وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْ الْوَاطِئِ .
وَإِذَا جَنَى الْمُكَاتَبُ جِنَايَاتٍ ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ سَيِّدَهُ فَعَلَى الْمُكَاتَبِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ ؛ لِأَنَّ جِنَايَاتِهِ كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِرَقَبَتِهِ ، وَقَدْ تَحَوَّلَتْ إلَى ذِمَّتِهِ لِوُقُوعِ النَّاسِ عَنْ دَفْعِهِ بِسَبَبِ الْعِتْقِ إلَّا أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَصِيرُ ضَامِنًا شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ مَا أَتْلَفَ عَلَى أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ شَيْئًا ، فَإِنَّهُمْ قَبْلَ الْعِتْقِ كَانُوا يُطَالِبُونَ الْمُكَاتَبَ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ فِي كَسْبِهِ وَذَلِكَ بَاقٍ لَهُمْ بَعْدَ الْعِتْقِ ، فَإِنْ قَضَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَرَضِيَ بَعْضُهُمْ جَازَ مَا فَعَلَ وَلَمْ يُشْرِكْهُمْ الْآخَرُونَ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ دَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي ذِمَّتِهِ ، وَهُوَ حُرٌّ وَالْحُرُّ يَمْلِكُ تَخْصِيصَ الْغُرَمَاءِ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ ، وَهُوَ كَدَيْنٍ آخَرَ عَلَى الْمُكَاتَبِ لِأُنَاسٍ ، وَكَذَلِكَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ ، وَهُوَ مُكَاتَبٌ ؛ لِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي ذِمَّتِهِ ، وَهُوَ قَضَاءُ دُيُونِهِ مِنْ أَكْسَابِهِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ ، وَلَوْ لَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ حَتَّى عَجَزَ فَأَعْتَقَهُ الْمَوْلَى ، وَهُوَ يَعْلَمُ بِهَا كَانَ مُخْتَارًا ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْعَجْزِ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ ، فَإِذَا مَنَعَ أَحَدُهُمَا صَارَ مُخْتَارًا لِلْآخَرِ إذَا كَانَ عَالِمًا بِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا ، فَقَدْ صَارَ مُسْتَهْلِكًا لِلرَّقَبَةِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ جَنَى ، وَهُوَ مُكَاتَبٌ ، ثُمَّ عَجَزَ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَجَنَى جِنَايَةً أُخْرَى فَهُمَا سَوَاءٌ فِيهِ ؛ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِرَقَبَتِهِ فَيَخْلُصُ الْمَوْلَى بِدَفْعِ الرَّقَبَةِ إلَيْهِمَا قَبْلَ الْإِعْتَاقِ وَيَدْفَعُ الْقِيمَةَ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ إنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ بِهَا فَهُوَ مُخْتَارٌ لِلْأَرْشِ فِيهَا .
مُكَاتَبَةٌ جَنَتْ جِنَايَةً ، ثُمَّ جُنِيَ عَلَيْهَا بَعْدَ ذَلِكَ ، ثُمَّ عَجَزَتْ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهَا وَلِيُّهَا فَالْمَوْلَى بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ دَفَعَهَا ، وَإِنْ شَاءَ فَدَاهَا ، فَإِنْ فَدَاهَا ، فَقَدْ ظَهَرَهَا عَنْ الْجِنَايَةِ فَيَتْبَعُ الْجَانِي عَلَيْهِمَا بِالْأَرْشِ إنْ كَانَ ذَلِكَ لَمْ يَأْتِ عَلَى جَمِيعِ قِيمَتِهَا ، وَإِنْ أَتَى عَلَى جَمِيعِ قِيمَتِهَا مِنْ نَحْوِ فَقْءِ الْعَيْنَيْنِ أَوْ قَطْعِ الْيَدَيْنِ أَوْ جَدْعِ الْأَنْفِ ، وَقَدْ بَرِأَتْ مِنْ ذَلِكَ فَالْمَوْلَى بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ دَفَعَهَا إلَى الْجَانِي وَأَخَذَ مِنْهُ قِيمَتَهَا ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَفِي قَوْلِهِمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنُقْصَانِ قِيمَتِهَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا وَإِنْ اخْتَارَ دَفْعَهَا إلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ قَامَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ فِي الْجِنَايَةِ عَلَيْهَا مَقَامَ الْمَالِكِ فَيَتْبَعُ الْجَانِيَ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ إنْ كَانَ لَا يَأْتِي عَلَى جَمِيعِ قِيمَتِهَا ، وَإِنْ كَانَ يَأْتِي عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ دَفَعَهَا إلَيْهِ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ قِيمَتَهَا ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا ، وَلَا شَيْءَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ جَنَى عَلَى رَجُلٍ جِنَايَةً ، ثُمَّ جَنَى عَلَيْهِ جِنَايَةً ، ثُمَّ دَفَعَهُ الْمَوْلَى بِجِنَايَتِهِ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ الْعَبْدُ فَكَذَلِكَ فِي الْمُكَاتَبِ .
وَالْأَرْشُ مُخَالِفٌ لِلْوَلَدِ ، فَإِنَّ الْمُكَاتَبَةَ لَوْ وَلَدَتْ بَعْدَ الْجِنَايَةِ ، ثُمَّ عَجَزَتْ فَدَفَعَهَا الْمَوْلَى كَانَ الْوَلَدُ لِلْمَوْلَى وَأَرْشُ الْجِنَايَةِ يَكُونُ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ بَدَلُ جُزْءٍ وَكَانَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِهِ وَحُكْمُ الْبَدَلِ حُكْمُ الْمُبْدَلِ وَالْوَلَدُ لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ شَيْءٍ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ زِيَادَةٌ تَوَلَّدَتْ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى فَيَكُونُ سَالِمًا لِلْمَوْلَى .
وَإِذَا جَنَى الْمُكَاتَبُ جِنَايَةً فَقَضَى عَلَيْهِ بِهَا ، ثُمَّ جَنَى أُخْرَى فَلَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ بِهَا حَتَّى عَجَزَ أَوْ جَنَاهَا بَعْدَ الْعَجْزِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنَّ الْمَوْلَى يَدْفَعُهُ بِهَذِهِ الْجِنَايَةِ وَيَتْبَعُهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ وَالْجِنَايَةُ الْمَقْضِيُّ بِهَا فَيُبَاعُ فِيهِمَا ؛ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِرَقَبَتِهِ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْقَضَاءُ ، وَقَدْ صَارَتْ الْأُولَى دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ بِالْقَضَاءِ ، فَقَدْ اجْتَمَعَ بَعْدَ الْعَجْزِ دَيْنٌ وَجِنَايَةٌ فَيَبْدَأُ بِالدَّفْعِ بِالْجِنَايَةِ ، ثُمَّ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ لِمُرَاعَاةِ الْحَقَّيْنِ .
وَجِنَايَةُ الْمُكَاتَبِ عَلَى مَوْلَاهُ وَعَلَى الْأَجْنَبِيِّ سَوَاءٌ مَا لَمْ يَعْجَزْ ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ جِنَايَتِهِ فِي كَسْبِهِ وَالْمَوْلَى فِي كَسْبِهِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ قَبْلَ الْعَجْزِ ، فَإِذَا عَجَزَ بَطَلَتْ جِنَايَتُهُ عَلَى الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى صَارَ أَحَقَّ بِكَسْبِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ لَهُ الْحَقُّ فِي كَسْبِهِ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ جَنَى عَلَيْهِ بَعْدَ الْعَجْزِ كَانَ هَدَرًا فَكَذَلِكَ إذَا جَنَى قَبْلَ الْعَجْزِ ، ثُمَّ عَجَزَ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ قَضَى عَلَيْهِ بِجِنَايَةِ الْمَوْلَى وَالْأَجْنَبِيِّ وَهُمَا سَوَاءٌ ، ثُمَّ عَجَزَ بِيعَ نِصْفُهُ فِي جِنَايَةِ الْأَجْنَبِيِّ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ دَيْنًا عَلَيْهِ وَبِالْعَجْزِ يَسْقُطُ نَصِيبُ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا وَلَكِنْ لَا يَزْدَادُ بِهِ حَقُّ الْأَجْنَبِيِّ فَيُبَاعُ نِصْفُهُ فِي دَيْنِ الْأَجْنَبِيِّ لِهَذَا ، لَا أَنْ يَقْضِيَ الْمَوْلَى عَنْهُ نِصْفَ الْقِيمَةِ ، وَإِنْ كَانَ قَضَى بِجِنَايَةِ الْمَوْلَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ جَنَى عَلَى الْأَجْنَبِيِّ فَقَضَى بِهَا أَيْضًا ، ثُمَّ عَجَزَ بِيعَتْ رَقَبَتُهُ كُلُّهَا فِي جِنَايَةِ الْأَجْنَبِيِّ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتَوْجَبَ جَمِيعَ الْقِيمَةِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَبِالْعَجْزِ يَسْقُطُ دَيْنُ الْمَوْلَى وَيَبْقَى دَيْنُ الْأَجْنَبِيِّ فَيُبَاعُ فِيهِ إلَّا أَنْ يَقْضِيَ
الْمَوْلَى عَنْهُ .
رَجُلٌ قَطَعَ يَدَ مُكَاتَبِهِ فَقَضَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَالْمُكَاتَبَةُ إلَى أَجَلٍ ، ثُمَّ جَنَى الْمُكَاتَبُ جِنَايَةً عَلَى رَجُلٍ فَقَضَى عَلَيْهِ بِهَا ، ثُمَّ عَجَزَ فَرَدَّ فِي الرِّقِّ قَالَ لَا تَبْطُلُ جِنَايَةُ الْمَوْلَى عَلَى الْمُكَاتَبِ وَيُبَاعُ الْمُكَاتَبُ فِي جِنَايَةِ الْأَجْنَبِيِّ ، فَإِنْ لَمْ يَفِ ثَمَنُهُ أَوْ قَطَعَ بِهَا رَجَعَ فِيمَا عَلَى الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْقِيمَةِ كَانَ دَيْنًا لَهُ عَلَى الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ كَسْبِهِ وَكَسْبُهُ بَعْدَ الْعَجْزِ لَا يُسَلَّمُ لِلْمَوْلَى مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَالْقِيمَةُ لِوَلِيِّ جِنَايَتِهِ دَيْنٌ عَلَيْهِ فَيُبَاعُ فِيهِ ، فَإِذَا لَمْ يَفِ ثَمَنُهُ بِالْقِيمَةِ رَجَعَ بِمَا بَقِيَ عَلَى الْمَوْلَى ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مُكَاتَبٍ اسْتَهْلَكَ لَهُ مَوْلَاهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، ثُمَّ اسْتَدَانَ بَعْدَ ذَلِكَ دَيْنًا وَمُكَاتَبَتُهُ إلَى أَجَلٍ ، ثُمَّ عَجَزَ أَوْ مَاتَ اتَّبَعَ الْمَوْلَى بِذَلِكَ فَكَانَ بَيْنَ سَائِرِ غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ لَا يُسَلَّمُ لِمَوْلَاهُ مَا لَمْ يَفْرُغُ مِنْ دَيْنِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْمُكَاتَبُ جَنَى عَلَى أَجْنَبِيٍّ وَقُضِيَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ ، ثُمَّ جَنَى عَلَيْهِ الْمَوْلَى جِنَايَةً فَقُضِيَ عَلَيْهِ بِهَا ، ثُمَّ عَجَزَ بِيعَ الْعَبْدُ فِي دَيْنِ الْأَجْنَبِيِّ ، فَإِنْ وَفَّى وَإِلَّا نُظِرَ إلَى مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ يَوْمَ جَنَى الْمُكَاتَبُ فَيَضْمَنُ الْمَوْلَى لِلْأَجْنَبِيِّ الْأَقَلَّ مِنْهُ وَمِنْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى بِجِنَايَتِهِ أَتْلَفَ جُزْءًا قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ وَبِقَضَاءِ الْقَاضِي صَارَتْ الْقِيمَةُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ فَيَقْضِي مِنْ ثَمَنِهِ وَكَسْبِهِ وَمَا وَجَبَ عَلَى الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ كَسْبِهِ ، فَإِذَا لَمْ يَفِ ثَمَنُهُ بِدَيْنِهِ ضَمِنَ الْمَوْلَى ذَلِكَ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ عَبْدًا لَوْ جَنَى جِنَايَةً ، ثُمَّ جَنَى عَلَيْهِ الْمَوْلَى ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِجِنَايَتِهِ ، ثُمَّ اخْتَارَ دَفْعَهُ ضَمِنَ مَا جَنَى عَلَيْهِ .
وَاسْتَوْضَحَ
هَذَا كُلَّهُ بِمُكَاتِبٍ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَاسْتَهْلَكَ لَهُ مَوْلَاهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ اسْتَدَانَ بَعْدَ ذَلِكَ الْقَائِمُ مَاتَ وَلَمْ يَتْرُكْ مَالًا غَيْرَ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى مَوْلَاهُ اتَّبَعَ الْغُرَمَاءُ جَمِيعًا الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ الْمَوْلَى بِتِلْكَ الْأَلْفِ حَتَّى يَأْخُذُونَهَا فَيَقْسِمُونَهَا ، وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ يَبْطُلُ فِيمَا سَبَقَ عَنْ الْمَوْلَى لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَوْلَى فِي هَذِهِ الْفُصُولِ شَيْئًا إلَّا لِلْغُرَمَاءِ الْأَوَّلِينَ فَهَذَا يُوَضِّحُ لَك جَمِيعَ مَا سَبَقَ .
رَجُلٌ جَنَى عَلَى مُكَاتَبِهِ جِنَايَةً ، ثُمَّ مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَتَرَكَ وَلَدًا وُلِدَ فِي الْمُكَاتَبَةِ وَلَمْ يَدَعْ شَيْئًا ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الِابْنِ مِنْ الْمُكَاتَبَةِ بِقَدْرِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ دَيْنًا عَلَى الْمَوْلَى لِلْمُكَاتَبِ ، وَقَدْ بَقِيَتْ الْكِتَابَةُ لَمَّا خَلَّفَ وَلَدًا فَيَصِيرُ الْمَوْلَى مُسْتَوْفِيًا ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ ؛ لِأَنَّ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمُكَاتَبِ إنَّمَا كَانَ لَا تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ لِمَكَانِ الْأَجَلِ فِي بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَبِمَوْتِهِ سَقَطَ الْأَجَلُ فِي الْمَالِ الَّذِي خَلَّفَهُ كَمَا لَوْ تَرَكَ وَفَاءً ، وَإِذَا صَارَ الْمَوْلَى مُسْتَوْفِيًا ذَلِكَ كَانَ عَلَى الْوَلَدِ أَنْ يَسْعَى فِيمَا بَقِيَ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ، فَإِنْ كَانَ عَلَى الْمُكَاتَبِ دَيْنٌ يُقْضَى عَلَى الْمَوْلَى بِالْأَرْشِ فَيُؤْخَذُ مِنْهُ وَيُودِي إلَى غَرِيمِ الْمُكَاتَبِ ؛ لِأَنَّ مَا عَلَى الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ كَسْبِ الْمُكَاتَبِ ، وَالدَّيْنُ فِي كَسْبِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى بَدَلِ الْكِتَابَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَيَمْنَعُ ذَلِكَ وُقُوعَ الْمُقَاصَّةِ وَلَكِنْ يَأْخُذُهُ الْغَرِيمُ مِنْ الْمَوْلَى وَيَسْعَى الْوَلَدُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ وَالْمُكَاتَبَةُ ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ أَبِيهِ فِيمَا كَانَ وَاجِبًا عَلَى أَبِيهِ .
وَلَوْ جَنَى الْمُكَاتَبُ عَلَى مَوْلَاهُ جِنَايَةً فَقَضَى عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ وَالْجِنَايَةُ أَكْثَرُ مِنْ الْقِيمَةَ ، ثُمَّ أَعْتَقَ الْمَوْلَى نِصْفَهُ فَهَذَا وَمَا لَوْ أَعْتَقَ كُلَّهُ سَوَاءٌ ، وَلَوْ أَعْتَقَ كُلَّهُ بَعْدَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ بَقِيَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ يَسْعَى فِيهِ لِمَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْعِتْقِ كَانَ يَسْعَى فِيهِ فَلَا يَزِيدُهُ الْعِتْقُ إلَّا وَكَادًة فَكَذَلِكَ إذَا أَعْتَقَ نِصْفَهُ ؛ وَيَسْعَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ مَعَ ذَلِكَ فِي الْأَقَلِّ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ وَمِنْ نِصْفِ الْمُكَاتَبَةِ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ عِنْدَهُ يَتَجَزَّأُ فَيَجِبُ إخْرَاجُ الْبَاقِي إلَى الْحُرِّيَّةِ بِالسِّعَايَةِ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الْأَقَلُّ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ .
وَإِذَا قَتَلَ الْعَبْدُ رَجُلًا خَطَأً ، ثُمَّ كَاتَبَهُ الْمَوْلَى فَالْكِتَابَةُ جَائِزَةٌ إنْ عِلْمَ الْمَوْلَى بِالْجِنَايَةِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ؛ لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ وَالْمَوْلَى مُتَمَكِّنٌ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ وَهَبَهُ أَوْ بَاعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهُ لَمْ تَكُنْ الْجِنَايَةُ بَعْضَهَا فَكَذَلِكَ إذَا كَاتَبَهُ ، فَإِنْ كَانَ الْمُكَاتَبُ يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْأَرْشِ ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ بِالْكِتَابَةِ دَفْعَ الرَّقَبَةِ فَيَصِيرُ بِهِ مُخْتَارًا لِلْأَرْشِ وَيَسْتَوِي إنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ أَوْ لَمْ يَعْجِزْ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ إنْ لَمْ يُخَاصِمْ فِي الْأَرْشِ حَتَّى عَجَزَ كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَدْفَعَهُ بِالْجِنَايَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا خُوصِمَ وَقَضَى الْقَاضِي بِالْأَرْشِ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تُزِيلُ مِلْكَ الْمَوْلَى ، وَهُوَ يَعْرِضُ الْفَسْخَ فَفِيهِ لَا يَكُونُ اخْتِيَارًا لِلْأَرْشِ ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ بِهِ الِاخْتِيَارُ إذَا تَأَكَّدَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ دَفْعِ الرَّقَبَةِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ الْمُطَالَبَةِ ، فَإِذَا عَجَزَ قَبْلَ الْقَضَاءِ صَارَتْ الْكِتَابَةُ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ وَالْكِتَابَةُ كَانَتْ تَمْنَعُهُ مِنْ دَفْعِهِ بِالْجِنَايَةِ وَإِقْدَامُهُ عَلَيْهِ مَعَ عِلْمِهِ بِالْجِنَايَةِ يَكُونُ اخْتِيَارًا لِلْفِدَاءِ لِبَيْعِهِ رَقَبَتَهُ مِنْ إنْسَانٍ ، فَإِنَّهُ وَإِنْ فُسِخَ الْبَيْعُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَمْ يَسْقُطْ الْأَرْشُ عَنْ الْمَوْلَى ، وَإِنْ كَانَ كَاتَبَهُ ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِجِنَايَتِهِ فَعَجَزَ قَبْلَ الْخُصُومَةِ فِي الْجِنَايَةِ خُيِّرَ الْمَوْلَى بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مَا صَارَ مُخْتَارًا شَيْئًا هَاهُنَا ، وَإِنَّمَا يَغْرَمُ الْقِيمَةَ لِاسْتِهْلَاكِ الرَّقَبَةِ ، فَإِذَا ارْتَفَعَ الْمَانِعُ مِنْ الدَّفْعِ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي ، فَقَدْ انْقَدَمَ الِاسْتِهْلَاكُ فَيُخَيَّرُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاعَهُ ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ ، ثُمَّ فَسْخُ الْبَيْعِ بِسَبَبٍ هُوَ فَسْخٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ قَبْلَ أَنْ
يُخَاصِمَ فِي الْجِنَايَةِ ، فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ ، وَإِنْ كَاتَبَهُ بَعْدَمَا قَضَى بِهِ لِأَصْحَابِ الْجِنَايَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضُوهُ كَانَ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي تَحَوَّلَ إلَى مِلْكِ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ ، فَإِنَّمَا كَاتَبَ مَا لَا يَمْلِكُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ بَاعَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَانَ بَاطِلًا فَكَذَلِكَ إذَا كَاتَبَهُ ، وَلَوْ كَاتَبَهُ ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ فَلَمْ يَقْضِ بِهَا حَتَّى مَاتَ الْمُكَاتَبُ وَلَمْ يَدَعْ شَيْئًا فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَشْرَفَ عَلَى الْمَوْتِ تَحَقَّقَ عَجْزُهُ عَنْ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَانْفَسَخَتْ الْكِتَابَةُ فَزَالَ الْمَانِعُ مِنْ الدَّفْعِ فَخَرَجَ الْمَوْلَى مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَهْلِكًا وَصَارَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ عَجَزَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ ، ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَبْطُلُ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ لِفَوَاتِ مَحَلِّ حَقِّهِ ، وَلَوْ مَاتَ عَنْ وَفَاءٍ كَانَتْ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ يَبْقَى بَعْدَ مَوْتِهِ فَيَتَحَقَّقُ مِنْ الْمَوْلَى اسْتِحْقَاقُ الرَّقَبَةِ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ فَيَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ لِهَذَا ، وَكَذَلِكَ إنْ تَرَكَ وَلَدًا يَسْعَى فِي الْكِتَابَةِ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ يَبْقَى بِبَقَاءِ الْوَلَدِ كَمَا يَبْقَى بِاعْتِبَارِ مَالٍ خَلَفَهُ ، فَإِنْ عَجَزَ فَرَدَّ فِي الرِّقِّ لَمْ تَبْطُلْ الْقِيمَةُ عَنْ السَّيِّدِ قَالَ ؛ لِأَنِّي أَلْزَمْتُهَا إيَّاهُ وَمُرَادُهُ إذَا عَجَزَ بَعْدَمَا قَضَى الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ عَلَى الْوَلَدِ ، فَأَمَّا إذَا عَجَزَ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ ، فَقَدْ بَطَلَتْ الْجِنَايَةُ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ قَائِمٌ مَقَامَ أَبِيهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَبَ لَوْ مَاتَ عَاجِزًا قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ يَبْطُلُ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ بَعْدَ الْقَضَاءِ فَكَذَلِكَ إذَا عَجَزَ الْوَلَدُ وَلَيْسَ فِي عُنُقِ الْوَلَدِ شَيْءٌ مِنْ حَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حَقَّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ لَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ .
وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَجَنَى جِنَايَةً فَكَاتَبَهُ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ فَأَدَّى إلَيْهِ الْمُكَاتَبَةَ ، ثُمَّ جَاءَ أَصْحَابُ الْجِنَايَةِ ، فَإِنْ كَانَ عَلِمَ بِالْجِنَايَةِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِنِصْفِ الْأَرْشِ ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ فَهُوَ ضَامِنٌ نِصْفَ قِيمَةِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُ فِي نَصِيبِهِ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ وَكِتَابَتُهُ فِي نَصِيبِهِ تَنْفُذُ فِي حَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ وَيَتَأَكَّدُ بِأَدَاءِ الْبَدَلِ فَهُوَ وَمَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ كُلَّهُ سَوَاءٌ ، وَأَمَّا الَّذِي لَمْ يُكَاتِبْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مَا أَحْدَثَ بَعْدَ جِنَايَتِهِ شَيْئًا يَصِيرُ بِهِ مُخْتَارًا وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِ مَا قَبَضَ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ عَبْدٍ مُشْتَرِكٍ بَيْنَهُمَا وَيُضَمِّنُهُ قِيمَةَ نَصِيبِهِ أَيْضًا إنْ كَانَ مُوسِرًا وَيَسْعَى الْعَبْدُ فِيهِ إنْ كَانَ مُعْسِرًا ، ثُمَّ يَدْفَعُ ذَلِكَ إلَى أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مِنْ الْعَبْدِ فَاتَ وَأَخْلَفَ بَدَلًا فَيَدْفَعُ إلَى وَلِيِّ الْجِنَايَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَرْشُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ .
وَإِنْ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ ضَمِنَ نِصْفَ الْقِيمَةِ لِأَصْحَابِ الْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ ذَلِكَ مُتْلَفًا عَلَيْهِمْ بِإِعْتَاقِهِ ، وَلَا سَبِيلَ لِأَصْحَابِ الْجِنَايَةِ عَلَى مَا أَخَذَهُ مِنْ الْمُكَاتَبِ مِنْ نِصْفِ مَا قَبَضَ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَسْبُ نَصِيبِهِ وَلَيْسَ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ عَلَى كَسْبِ الْجَانِي سَبِيلٌ ، وَإِنْ كَاتَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُمَا يَعْلَمَانِ بِالْجِنَايَةِ أَوْ كَاتَبَهُ أَحَدُهُمَا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ وَهُمَا يَعْلَمَانِ بِالْجِنَايَةِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عِنْدَهُمَا لَا تَتَجَزَّأُ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْمُكَاتَبُ يَصِيرُ مُخْتَارًا لِنَصِيبِهِ ، فَأَمَّا الْآذِنُ لَا يَصِيرُ مُخْتَارًا ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عِنْدَهُ تَتَجَزَّأُ فِي نَصِيبِهِ فَكَانَ هَذَا فِي حُكْمِ الْجِنَايَةِ وَمَا لَوْ كَاتَبَهُ بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ سَوَاءٌ .
رَجُلٌ كَاتَبَ عَبْدًا ، وَقَدْ جَنَى جِنَايَةً وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا ، ثُمَّ جَنَى جِنَايَةً أُخْرَى فَقُضِيَ عَلَيْهِ بِهَا ، ثُمَّ عَجَزَ ، ثُمَّ حَضَرَ أَصْحَابُ الْجِنَايَةِ الْأُولَى قَالَ يَدْفَعُهُ الْمَوْلَى إلَيْهِمْ وَيَبِيعُهُ صَاحِبُ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ الْمَقْضِيِّ بِهَا فَيُبَاعُ لَهُ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ الْأُولَى بَاقِيَةٌ فِي رَقَبَتِهِ بَعْدَ عَقْدِ الْكِتَابَةِ ، فَإِنَّ الْمَوْلَى لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهَا .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ عَجَزَ قَبْلَ الْقَضَاءِ دَفَعَ بِهَا فَكَانَ وُجُودُ تِلْكَ الْجِنَايَةِ قَبْلَ الْكِتَابَةِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ ، وَقَدْ تَحَوَّلَ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَحِينَ عَجَزَ كَانَ عَبْدًا قَدْ اجْتَمَعَ فِي رَقَبَتِهِ دَيْنٌ وَجِنَايَةٌ فَيُدْفَعُ بِالْجِنَايَةِ أَوَّلًا ، ثُمَّ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ لِمُرَاعَاةِ الْحَقَّيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِشَيْءٍ حَتَّى عَجَزَ خَيَّرَ الْمَوْلَى بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَهُ بِالْجِنَايَتَيْنِ أَوْ يَفْدِيَهُ بِالْأَرْشِ مِنْهُمَا .
وَإِذَا قَتَلَ الْمُكَاتَبُ رَجُلًا خَطَأً ، ثُمَّ قَتَلَ رَجُلًا آخَرَ خَطَأً ، ثُمَّ جَاءَ وَلِيُّ أَحَدِهِمَا فَقُضِيَ لَهُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِالْجِنَايَةِ الْأُخْرَى ، ثُمَّ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ ، فَإِنَّ نِصْفَ قِيمَةِ الْعَبْدِ دَيْنٌ لِلْمَقْضِيِّ لَهُ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ وَجَمِيعُ الْجِنَايَةِ الْأُخْرَى فِي النِّصْفِ الْبَاقِي ، فَإِنْ شَاءَ مَوْلَاهُ فَدَاهُ ، وَإِنْ شَاءَ دَفَعَهُ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَتَيْنِ اجْتَمَعَتَا عَلَيْهِ فِي حَالَةِ الْكِتَابَةِ فَيَكُونُ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ ، وَإِنَّمَا قَضَى الْقَاضِي لِلْأَوَّلِ بِجَمِيعِ الْقِيمَةِ لِجَهْلِهِ بِالْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ فَحِينَ عَلِمَ بِهَا تَبَيَّنَ أَنَّ قَضَاءَهُ فِيمَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ لِلْمُقْضَى لَهُ كَانَ بَاطِلًا فَكَأَنَّهُ مَا قَضَى لَهُ إلَّا بِنِصْفِ الْقِيمَةِ ، فَإِذَا عَجَزَ كَانَ نِصْفُ الْقِيمَةِ دَيْنًا لَهُ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ يُبَاعُ فِيهِ وَحَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ فِي النِّصْفِ الثَّانِي لِانْعِدَامِ الْمُحَوَّلِ إلَى الْقِيمَةِ ، وَهُوَ قَضَاءُ الْقَاضِي فَيُخَيَّرُ الْمَوْلَى فِيهِ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ ، وَلَوْ لَمْ يَعْجَزْ وَأَخَذَ الْمَقْضِيِّ لَهُ فِيهِ جَمِيعَ الْقِيمَةِ ، ثُمَّ حَضَرَ الْآخَرُ ، فَإِنَّهُ يَقْضِي لِلْآخَرِ عَلَى الْمُكَاتَبِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ وَيَرْجِعُ الْمُكَاتَبُ عَلَى الْأَوَّلِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ اسْتَوْفَى مِنْهُ فَوْقَ حَقِّهِ ، فَإِنَّ حَقَّهُ كَانَ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لِلثَّانِي ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ إحْدَى الْجِنَايَتَيْنِ قَبْلَ الْكِتَابَةِ وَقَدْ غَرِمَ الْمُكَاتَبُ مَا كَانَ مِنْهُ قَبْلَ الْكِتَابَةِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مُوجَبُ الْجِنَايَةِ الْأُولَى عَلَى مَوْلَاهُ وَمُوجَبُ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْمُكَاتَبِ فَلَمْ يَجْتَمِعَا فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ وَلِهَذَا كَانَ قَضَاءُ الْقَاضِي لِلثَّانِي بِجَمِيعِ الْقِيمَةِ صَحِيحًا وَهَا هُنَا مُوجِبُ الْجِنَايَتَيْنِ عَلَى الْمُكَاتَبِ وَالْمُكَاتَبُ لَا يُلْزِمُهُ بِجِنَايَاتِهِ إلَّا الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ
.
مُكَاتَبٌ قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً ، ثُمَّ قَتَلَ رَجُلًا آخَرَ خَطَأً فَقَضَى عَلَيْهِ بِإِحْدَى الْجِنَايَتَيْنِ ، ثُمَّ قَتَلَ آخَرَ خَطَأً ، فَإِنَّهُ يَكُونُ لِلْمُقْضَى لَهُ نِصْفُ الْقِيمَةِ الَّتِي قَضَى لَهُ بِهَا ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْقَضَاءِ كَانَ الْمَوْجُودُ مِنْهُ جِنَايَتَيْنِ فَحَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْلَيَيْنِ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ ، وَقَدْ تَحَوَّلَ حَقُّ الْمَقْضِيِّ لَهُ إلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، ثُمَّ قَضَى لِلثَّالِثِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْقِيمَةِ فَرْعٌ مِنْ الْجِنَايَةِ بِتَحْوِيلِ الْقَاضِي حَقَّ الثَّانِي إلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ فَيَتَعَلَّقُ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ بِذَلِكَ النِّصْفِ فَلِهَذَا يَقْضِي لَهُ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ وَيَقْضِي أَيْضًا بِنِصْفِ الْقِيمَةِ لِلَّذِي لَمْ يَقْضِ لَهُ بِشَيْءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّالِثِ أَثْلَاثًا ثُلُثَاهُ لِلْأَوْسَطِ وَثُلُثُهُ لِلثَّالِثِ ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا النِّصْفِ اجْتَمَعَ حَقُّ الْأَوْسَطِ وَحَقُّ الثَّالِثِ ، فَإِنَّ الْمُحَوَّلَ لَمْ يُوجَدْ ، وَفِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَنَى إلَّا أَنْ يُقْضَى لَهُمَا بِنِصْفِ الْقِيمَةِ إلَّا أَنَّ الثَّالِثَ قَدْ وَصَلَ إلَيْهِ نِصْفُ حَقِّهِ فَلَا يَضْرِبُ فِي هَذَا النِّصْفِ إلَّا بِمَا بَقِيَ لَهُ وَالْأَوْسَطُ مَا وَصَلَ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ حَقِّهِ فَهُوَ يَضْرِبُ بِجَمِيعِ حَقِّهِ فِي هَذَا النِّصْفِ فَلِهَذَا كَانَ النِّصْفُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا ، وَلَوْ عَجَزَ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالْجِنَايَةِ الثَّالِثَةِ فَاخْتَارَ دَفْعَهُ كَانَ نِصْفُهُ بَيْنَ الثَّالِثِ وَالْأَوْسَطِ أَثْلَاثًا ثُلُثَاهُ لِلْأَوْسَطِ وَثُلُثُهُ لِلثَّالِثِ وَيَكُونُ النِّصْفُ الْبَاقِي لِلثَّالِثِ خَاصَّةً وَيَكُونُ حَقُّ الْمَقْضِيِّ لَهُ دَيْنًا فِي هَذَا النِّصْفِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَوَّلِ تَحَوَّلَ إلَى ذِمَّتِهِ فِي هَذَا النِّصْفِ فَتَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ الثَّالِثِ فَعِنْدَ الْعَجْزِ اجْتَمَعَ فِي هَذَا النِّصْفِ دَيْنٌ وَجِنَايَةٌ فَيَدْفَعُ بِالْجِنَايَةِ ، ثُمَّ يُبَاعُ بِالدَّيْنِ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ ، فَقَدْ اجْتَمَعَ فِي هَذَا نِصْفٌ وَحَقُّ الْأَوْسَطِ فَيُدْفَعُ إلَيْهِمَا
وَيَضْرِبُ فِيهِ الْأَوْسَطُ بِجَمِيعِ حَقِّهِ وَالثَّالِثُ بِنِصْفِ حَقِّهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إلَيْهِ نِصْفُ حَقِّهِ فَلِهَذَا كَانَ النِّصْفُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا .
مُكَاتَبٌ قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً ، ثُمَّ فَقَأَ عَيْنَ رَجُلٍ فَقَضَى لِلْمَفْقُوءَةِ عَيْنُهُ بِثُلُثِ الْقِيمَةِ عَلَيْهِ ، ثُمَّ عَجَزَ قَالَ يُبَاعُ الثُّلُثُ فِي دَيْنِ الْمَفْقُوءَةِ عَيْنُهُ وَيَدْفَعُهُ الْمَوْلَى إلَى وَلِيِّ النَّفْسِ أَوْ يَفْدِيهِ بِجَمِيعِ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمَا كَانَ تَعَلَّقَ بِهِ أَثْلَاثًا ، فَإِنَّ حَقَّ الْمَفْقُوءَةِ عَيْنُهُ فِي خَمْسَةِ آلَافٍ وَحَقَّ وَلِيِّ النَّفْسِ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ كَانَ بِمَحَلِّ الدَّفْعِ كَانَ يَدْفَعُ إلَيْهِمَا أَثْلَاثًا فَكَذَلِكَ الْقِيمَةُ فِي الْمُكَاتَبِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا ، ثُمَّ الْمُحَوَّلُ ، وَهُوَ الْقَضَاءُ وُجِدَ فِي حَقِّ الْمَفْقُوءَةِ عَيْنُهُ فَيَصِيرُ ثُلُثُ الْقِيمَةِ دَيْنًا لَهُ فِي مَالِيَّةِ ثُلُثِ الرَّقَبَةِ يُبَاعُ فِيهِ بَعْدَ الْعَجْزِ ، وَالثُّلُثَانِ حَقُّ مَوْلَى النَّفْسِ وَلَمْ يُوجَدْ الْمُحَوَّلُ فِيهِ حَتَّى عَجَزَ فَيُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِأَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ ثُلُثَيْهِ أَوْ يَفْدِيَهُ بِجَمِيعِ الدِّيَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَعْجِزْ حَتَّى قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً ، ثُمَّ عَجَزَ فَاخْتَارَ دَفْعَهُ ، فَأَمَّا الْمَقْضِيِّ لَهُ فَلَهُ ثُلُثُ الْقِيمَةِ دَيْنًا فِي ثُلُثِ الْعَبْدِ ، وَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ وَلِيِّ الثَّالِثِ بِذَلِكَ الثُّلُثِ فَاجْتَمَعَ فِي ذَلِكَ الثُّلُثِ دَيْنٌ وَجِنَايَةٌ فَيَدْفَعُ فِي الْجِنَايَةِ ، ثُمَّ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ ، وَأَمَّا الثُّلُثَانِ ، فَقَدْ اجْتَمَعَ فِيهِمَا حَقُّ وَلِيِّ الْأَوَّلِ وَحَقُّ وَلِيِّ الْآخَرِ وَلَمْ يُوجَدْ الْمُحَوَّلُ فِي حَقِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَدْفَعُ إلَيْهِمَا ، ثُمَّ يَضْرِبُ فِيهِ الْأَوَّلُ بِالدِّيَةِ وَالْآخَرُ بِثُلُثَيْ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إلَيْهِ ثُلُثُ حَقِّهِ ، فَإِنَّمَا يُقْسَمُ ثُلُثَا الرَّقَبَةِ بَيْنَهُمَا أَخْمَاسًا عَلَى قَدْرِ حَقِّهِمَا .
وَلَوْ جَنَى الْمُكَاتَبُ جِنَايَتَيْنِ فَقَضَى لِأَحَدِهِمَا بِنِصْفِ الْقِيمَةِ فَأَدَّاهَا إلَيْهِ الْمُكَاتَبُ ، ثُمَّ قَضَى لِلْآخَرِ وَسَلَّمَ مَا اسْتَوْفَى لَا شَرِكَةَ لِلثَّانِي مَعَ الْأَوَّلِ فِيمَا قَبَضَ ؛ لِأَنَّ حَقَّ أَحَدِهِمَا تَمَيَّزَ عَنْ حَقِّ الْآخَرِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ تَحَوَّلَ حَقُّ الْقِيمَةِ إلَى الْقِيمَةِ وَحَقُّ الْآخَرِ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ حَتَّى لَوْ عَجَزَ قَبْلَ الْقَضَاءِ يَدْفَعُ إلَيْهِ نِصْفَهُ فَلَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ مُشَارَكَةِ الْمُسْتَوْفِي فِيمَا اسْتَوْفَى ، سَوَاءٌ مَاتَ الْمُكَاتَبُ أَوْ لَمْ يَمُتْ عَجَزَ أَوْ لَمْ يَعْجِزْ .
مُكَاتَبَةٌ قَتَلَتْ رَجُلًا خَطَأً ، ثُمَّ فَقَأَتْ عَيْنَ آخَرَ ، ثُمَّ وَلَدَتْ وَلَدًا فَقَضَى عَلَيْهَا لِلْمَفْقُوءَةِ عَيْنُهُ بِثُلُثِ قِيمَتِهَا ، ثُمَّ عَجَزَتْ ، فَإِنَّ حَقَّ وَلِيِّ النَّفْسِ فِي ثُلُثَيْ رَقَبَةِ الْأُمِّ يَدْفَعُ أَوْ يَفْدِي ؛ لِأَنَّ الْمُحَوَّلَ ، وَهُوَ الْقَضَاءُ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهِ وَيُبَاعُ الثُّلُثُ فِي دَيْنِ الْمَقْضِيِّ لَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَفِ الثُّلُثُ بِحَقِّهِ بِيعَ ثُلُثُ الْوَلَدِ فِيهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغَرِيمِ حَقٌّ قَوِيٌّ فِي الْأُمِّ فَيَسْرِي إلَى الْوَلَدِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ أَمَةً مَدْيُونَةً لَوْ وَلَدَتْ بِيعَ وَلَدُهَا مَعَهَا فِي الدَّيْنِ بِخِلَافِ حَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ وَحَقُّ الْمَفْقُوءَةِ عَيْنُهُ صَارَ دَيْنًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي فِي الثُّلُثِ فَيَثْبُتُ فِي ثُلُثِ الْوَلَدِ أَيْضًا فَهُوَ نَظِيرُ مُكَاتَبَةٍ عَجَزَتْ وَعَلَيْهَا دَيْنٌ ، وَقَدْ وَلَدَتْ فِي مُكَاتَبَتِهَا فَبِيعَتْ فِي دَيْنِهَا فَلَمْ يَفِ ثَمَنُهَا بِهِ بِيعَ وَلَدُهَا فِيهِ أَيْضًا بِخِلَافِ حَقِّ وَلِيِّ النَّفْسِ وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ حَقَّ صَاحِبِ الدَّيْنِ يَثْبُتُ فِي الْكَسْبِ فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ فِي الْوَلَدِ بِخِلَافِ حَقِّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ ، وَإِنْ كَانَ إنَّمَا قَضَى لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ بِالسِّعَايَةِ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهَا ، ثُمَّ عَجَزَتْ ، وَقَدْ وَلَدَتْ فِي مُكَاتَبَتِهَا فَحَقُّ الْمَفْقُوءَةِ عَيْنُهُ فِي ثُلُثِ رَقَبَتِهَا إنْ شَاءَ دَفَعَهُ ، وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ وَلَدِهَا وَيُبَاعُ ثُلُثُهَا لِلْمُقْضَى لَهُ ، فَإِنْ وَفَّى وَإِلَّا بِيعَ ثُلُثَا الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ صَاحِبِ الْوَلَدِ صَارَ دَيْنًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَالدَّيْنُ يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ وَحَقُّ صَاحِبِ الْعَيْنِ فِي الْجِنَايَةِ لَمْ يَصِرْ دَيْنًا بَعْدُ فَلَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ .
مُكَاتَبٌ قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً فَقَضَى عَلَيْهِ بِهَا ، ثُمَّ جَنَى جِنَايَتَيْنِ فَقَضَى عَلَيْهِ بِإِحْدَاهُمَا ، ثُمَّ عَجَزَ وَالْجِنَايَاتُ مُسْتَوِيَةٌ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا تَأْتِي عَلَى قِيمَتِهِ ، فَإِنَّ الْقِيمَةَ لِلْمُقْضَى لَهُ دَيْنٌ فِي جَمِيعِ الرَّقَبَةِ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ تَحَوَّلَ حَقُّ الْأَوَّلِ إلَى الْقِيمَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَمْ يَكُنْ فِي رَقَبَتِهِ جِنَايَةٌ سِوَاهَا فَيَثْبُتُ حَقُّهُ فِي جَمِيعِ الْقِيمَةِ دَيْنًا فِي جَمِيعِ الرَّقَبَةِ ، ثُمَّ لَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِمَا يَكُونُ لَهُ مِنْ الْجِنَايَةِ وَنِصْفُ الْقِيمَةِ لِلْمُقْضَى لَهُ الْآخَرُ دَيْنٌ فِي نِصْفِ الرَّقَبَةِ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ تَعَلَّقَتَا بِرَقَبَتِهِ فَيَكُونُ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَوْلَيَيْنِ فِي النِّصْفِ ، وَقَدْ تَحَوَّلَ حَقُّ الْمَقْضِيِّ لَهُ إلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَبَقِيَ حَقُّ الْآخَرِ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ فَيُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِدَفْعِهِ إلَى مَنْ لَمْ يَقْضِ لَهُ أَوْ الْفِدَاءُ ، فَإِنْ فَدَاهُ طَهُرَ هَذَا النِّصْفُ عَنْ حَقِّ الثَّالِثِ ، وَإِنَّمَا بَقِيَ فِيهِ حَقُّ الْأَوَّلِ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ فَيُبَاعُ هَذَا النِّصْفُ لَهُ خَاصَّةً .
وَأَمَّا النِّصْفُ الْآخَرُ ، فَقَدْ وَجَبَ فِيهِ دَيْنَانِ دَيْنُ الْمَقْضِيِّ لَهُ الْأَوَّلُ وَدَيْنُ الْمَقْضِيِّ لَهُ الثَّانِي فَيُبَاعُ هَذَا النِّصْفُ وَيُقْسَمُ الثَّمَنُ بَيْنَ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي أَثْلَاثًا ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يَضْرِبُ فِيهِ بِخَمْسَةِ آلَافٍ ، فَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ نِصْفُ حَقِّهِ وَالثَّانِي يَضْرِبُ فِيهِ بِعَشَرَةِ آلَافٍ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ شَيْءٌ هَكَذَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمُخْتَصَرِ قَالَ وَالْأَوْضَحُ عِنْدِي أَنَّ هَذَا النِّصْفَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَضَاءِ الْقَاضِي حَوَّلَ إلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ فِي هَذَا النِّصْفِ فَكَانَا مُسْتَوِيَيْنِ فِي ذَلِكَ فَيَكُونُ ثَمَنُ هَذَا النِّصْفِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَإِنْ دَفَعَ الْمَوْلَى نِصْفَهُ بِالْجِنَايَةِ بِيعَ النِّصْفُ الْمَدْفُوعُ فِي دَيْنِ الْأَوَّلِ خَاصَّةً ؛
لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي هَذَا النِّصْفِ دَيْنٌ وَجِنَايَةٌ فَيُدْفَعُ أَوَّلًا بِالْجِنَايَةِ ، ثُمَّ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ وَبِيعَ النِّصْفُ الْبَاقِي لِلْآخَرَيْنِ نِصْفَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حَقَّهُمَا فِي هَذَا النِّصْفِ تَحَوَّلَ إلَى الْقِيمَةِ وَهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِيهِ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ الْقِيمَةِ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا غَلَطٌ ، وَلَوْ كَانَ قَضَى لِلْآخَرَيْنِ أَيْضًا بِقِيمَةِ الْعَبْدِ ، ثُمَّ عَجَزَ بِيعَ الْعَبْدُ فَكَانَ نِصْفُهُ ثَمَنُهُ لِلْأَوَّلِ وَنِصْفُهُ لِلْآخَرَيْنِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَوَّلِ ثَبَتَ فِي جَمِيعِ الْقِيمَةِ وَحَقَّ الْآخَرَيْنِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي إنَّمَا ثَبَتَ فِي قِيمَةٍ وَاحِدَةٍ أَيْضًا .
مُكَاتَبٌ قَتَلَ ثَلَاثَةَ أَنْفُسٍ خَطَأً فَقَضَى لِأَحَدِهِمْ بِثُلُثِ قِيمَتِهِ ، ثُمَّ إنَّ أَحَدَ الْآخَرَيْنِ وَهَبَ جِنَايَتَهُ لِلْمُكَاتَبِ ، ثُمَّ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ قَالَ يُبَاعُ ثُلُثُهُ فِي دَيْنِ الْمَقْضِيِّ لَهُ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي تَحَوَّلَ إلَى ثُلُثِ الْقِيمَةِ دَيْنًا فِي ثُلُثِ الْمَالِيَّةِ ، ثُمَّ يُبَاعُ الثُّلُثُ فِي دَيْنِهِ بَعْدَ الْعَجْزِ وَيَدْفَعُ الْمَوْلَى ثُلُثَهُ إلَى الثَّالِثِ وَيَبْقَى ثُلُثُهُ لِلْمَوْلَى لَا حَقَّ لَهُمَا فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ حِينَ قَضَى لِأَحَدِهِمْ بِثُلُثِ الْقِيمَةِ ، فَقَدْ قَضَى بِالْقِيمَةِ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا إلَّا أَنَّ حَقَّ الثَّانِي لَمْ يَتَحَوَّلْ إلَى الْقِيمَةِ بَعْدُ ، فَإِنْ عَجَزَ دَفَعَ الْمَوْلَى إلَيْهِ مِنْ الْعَبْدِ بِمِقْدَارِ حَقِّهِ ، وَهُوَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ مِنْهُ كَانَ حَقَّ الْوَاهِبِ ، وَقَدْ أَسْقَطَهُ بِالْهِبَةِ فَيَبْقَى لِلْمَوْلَى .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ عَبْدًا لَوْ جَنَى جِنَايَتَيْنِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا عَنْ جِنَايَتِهِ كَانَ نِصْفُهُ لِلسَّيِّدِ لِهَذَا الْمَعْنَى إذْ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِهِ فَحِصَّةُ الْعَافِي تُسَلَّمُ لِلْمَوْلَى ، وَفِي حِصَّةِ الْآخَرِ يُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُكَاتَبُ جَنَى جِنَايَتَيْنِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا عَنْهُ وَقَضَى لِلْآخَرِ بِحَقِّهِ ، ثُمَّ عَجَزَ بِيعَ لِلْآخَرِ نِصْفُهُ فِي دَيْنِهِ مِنْهُ وَيَبْقَى الْعَبْدُ سَالِمًا لِلْمَوْلَى ، وَهُوَ حِصَّةُ الْعَافِي ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ مَالٌ يَفِي بِدَيْنِ الْمَقْضِيِّ لَهُ قَضَى دَيْنَهُ وَيَبْقَى سَالِمًا لِلْمَوْلَى إنْ كَانَ الْآخَرُ قَدْ عَفَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَفَا خُوطِبَ الْمَوْلَى بِدَفْعِ نَصِيبِهِ إلَيْهِ أَوْ الْفِدَاءِ ، وَإِنْ كَانَ مَا فِي يَدِهِ لَا يَفِي بِحَقِّ الْمَقْضِيِّ لَهُ بِذَلِكَ ، ثُمَّ بِيعَ بِقَدْرِ نَصِيبِهِ ثُلُثًا كَانَ أَوْ نِصْفًا فِيمَا بَقِيَ لَهُ مِنْ الدَّيْنِ ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ سِوَى ذَلِكَ تَحَاصَّا فِي هَذَا الْمَالِ لِاسْتِوَاءِ حَقِّهِمَا فِيهِ ، ثُمَّ يُبَاعُ مَا بَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ فِي دَيْنِ صَاحِبِ
الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ دَيْنَهُ تَعَلَّقَ بِجَمِيعِ الرَّقَبَةِ فَلَا يُسَلَّمُ شَيْءٌ مِنْ الرَّقَبَةِ لِلْمَوْلَى مَا لَمْ يَصِلْ إلَى الْغَرِيمِ كَمَالُ حَقِّهِ .
وَإِذَا وُلِدَ لِلْمُكَاتَبِ فِي كِتَابَتِهِ مِنْ أَمَةٍ لَهُ وَلَدٌ فَقَتَلَهُ رَجُلٌ خَطَأً كَانَتْ قِيمَتُهُ لِلْمُكَاتَبِ ؛ لِأَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي كِتَابَتِهِ صَارَ تَبَعًا لَهُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ أَحَقَّ بِكَسْبِهِ يَأْخُذُهُ فَيَقْضِي بِهِ مِنْ دَيْنِ الْكِتَابَةِ ؟ فَكَذَلِكَ هُوَ أَحَقُّ بِبَدَلِ رَقَبَتِهِ .
وَإِذَا كَانَ لِلْمُكَاتَبَةِ وَلَدٌ وَلَدَتْهُ فِي الْمُكَاتَبَةِ فَجَنَى الْوَلَدُ جِنَايَةً قَضَى عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ وَلَمْ يَلْحَقْ الْأُمَّ مِنْهَا شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَمَّا دَخَلَ فِي كِتَابَتِهَا صَارَ مُكَاتَبًا لِلْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ يَنْفُذُ عِتْقُهُ فِيهِ وَجِنَايَةُ الْمُكَاتَبِ تُوجِبُ عَلَيْهِ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ ، وَلَا يُقَالُ إنَّ الْأُمَّ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُوجَبُ جِنَايَتِهِ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا كَانَتْ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ لِتُؤَدِّي مِنْهُ بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَتَجْعَلُ الْعِتْقَ لِنَفْسِهَا وَلَهُ حَتَّى إنَّ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْكَسْبِ يَكُونُ لِلْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ مُكَاتَبٍ آخَرَ لِلْمَوْلَى وَضَمَانُ الْمُكَاتَبَةِ دَيْنًا عَلَى الْمُكَاتَبِ بَاطِلٌ فِي رِقِّهَا ، فَإِنْ عَتَقَتْ جَازَ ذَلِكَ الضَّمَانُ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ إذَا ضَمِنَ مَالًا عَنْ إنْسَانٍ ، ثُمَّ عَتَقَ أُخِذَ بِذَلِكَ الضَّمَانِ ، وَكَذَلِكَ إنْ ضَمِنَتْ دَيْنًا آخَرَ عَلَى الْوَلَدِ مِنْهُ لَمْ يَصِحَّ ضَمَانُهَا فِي حَالِ رِقِّهَا ، فَإِنْ عَتَقَتْ كَانَ ضَمَانُهَا صَحِيحًا لِزَوَالِ الْمَانِعِ ، وَهُوَ الرِّقُّ .
وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ وَامْرَأَتُهُ مُكَاتَبَيْنِ كِتَابَةً وَاحِدَةً فَوَلَدَتْ وَلَدًا ، ثُمَّ قَتَلَهُ الْأَبُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِلْأُمِّ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ دَخَلَ فِي كِتَابَتِهَا ، فَإِنَّهُ جُزْءٌ مِنْهَا يَتْبَعُهَا فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةُ فَكَذَلِكَ بَدَلُ الرَّقَبَةِ ، وَكَذَلِكَ فِي الْكِتَابَةِ .
وَجِنَايَةُ الْأَبِ عَلَى الْوَلَدِ كَجِنَايَةِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ ، وَلَوْ قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ آخَرَ كَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِلْأُمِّ ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الرَّقَبَةِ بِمَنْزِلَةِ الْكَسْبِ وَكَسْبُ الْوَلَدِ لِلْأُمِّ دُونَ الْأَبِ فَكَذَلِكَ بَدَلُ الرَّقَبَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَدَّيَا فَعَتَقَا ، فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لَهَا وَبِالْعِتْقِ يَتَأَكَّدُ حَقُّهَا قَبْلَهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ الِابْنُ أَبَاهُ كَانَ الضَّمَانُ فِي قِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُكَاتَبًا لِلْمَوْلَى تَبَعًا لِأُمِّهِ فَجِنَايَتُهُ عَلَى أَبِيهِ كَجِنَايَةِ مُكَاتَبٍ آخَرَ فَيَلْزَمُهُ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ وَلَيْسَ عَلَى الْأُمِّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلْأُمِّ فِي الْكِتَابَةِ .
فَإِنْ أَدَّتْ الْأُمُّ عَتَقُوا جَمِيعًا وَكَانَتْ الْقِيمَةُ الْوَاجِبَةُ عَلَيْهِ مِيرَاثًا عَنْ الْأَبِ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ أَكْسَابِهِ ، وَلَوْ لَمْ يَقْتُلْ الْوَلَدُ الْأَبَ وَلَكِنَّ الْأُمَّ قَتَلَتْ الْوَلَدَ لَمْ يَلْزَمْهَا شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مِنْهَا ، وَلَوْ قَتَلَهُ غَيْرُهَا كَانَتْ الْقِيمَةُ وَاجِبَةً لَهَا ، فَإِذَا كَانَتْ هِيَ الَّذِي قَتَلَتْهُ لَوْ وَجَبَتْ الْقِيمَةُ وَجَبَتْ لِنَفْسِهَا عَلَى نَفْسِهَا وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ الْوَلَدُ الْأُمَّ فَلَيْسَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهَا فَجِنَايَتُهُ عَلَيْهَا كَجِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْكِتَابَةَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَتْ الْأُمُّ بَاقِيَةً وَلِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهَا ، فَإِنَّ الْكِتَابَةَ تَبْقَى بِمَوْتِهَا حَتَّى يُؤَدِّي الْبَدَلَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْعَى فِيمَا كَانَتْ الْأُمُّ تَسْعَى
فِيهِ ، وَإِنْ قَتَلَ الْأَبُ الْوَلَدَ كَانَ عَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ قِيمَةِ أَبِيهِ بِسَبَبِ جِنَايَتِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ دَاخِلًا فِي كِتَابَةِ أَبِيهِ فَلَا يَقُومُ مَقَامَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَالْأُمُّ حَيَّةٌ تَسْعَى فِي الْكِتَابَةِ فَلَا حَاجَةَ لِلْوَلَدِ إلَى السِّعَايَةِ فِيمَا عَلَى أَبِيهِ ، فَإِنْ أَدَّتْ الْأُمُّ جَمِيعَ الْكِتَابَةِ عَتَقَا جَمِيعًا وَالسِّعَايَةُ الْوَاجِبَةُ عَلَى الْوَلَدِ بِجِنَايَتِهِ عَلَى الْأَبِ تَكُونُ مِيرَاثًا عَنْهُ تَأْخُذُ الْأُمُّ حِصَّتَهَا فَمَا أَدَّتْ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ كَسْبٍ آخَرَ يَخْلُفُهُ الْأَبُ وَمَا بَقِيَ هُوَ مِيرَاثٌ لِوَرَثَةِ الْأَبِ لَيْسَ لِهَذَا الْوَلَدِ مِنْهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ قَاتِلٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ صَغِيرًا فَحِينَئِذٍ لَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ بِقَتْلِهِ عِنْدَنَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الدِّيَاتِ وَإِنَّ حِرْمَانَ الْمِيرَاثِ بِسَبَبِ الْقَتْلِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ مَنْ يُنْسَبُ إلَى تَقْصِيرٍ فِي التَّحَرُّزِ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَلِأَنَّ حِرْمَانَ الْمِيرَاثِ جَزَاءَ الْفِعْلِ الْمَحْظُورِ وَذَلِكَ يَنْبَنِي عَلَى الْخِطَابِ فَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الصَّبِيُّ بِمَنْزِلَةِ الْبَالِغِ فِي حِرْمَانِ الْمِيرَاثِ بِسَبَبِ الْقَتْلِ كَمَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبَالِغِ فِي الْكَفَّارَةِ عَلَى مَذْهَبِهِ .
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا كَاتَبَ عَبْدَيْنِ مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً فَوُلِدَ لِأَحَدِهِمَا وَلَدٌ مِنْ أَمَتِهِ ، ثُمَّ جَنَى الْأَبُ عَلَى وَلَدِهِ أَوْ جَنَى عَلَيْهِ فَالْجِنَايَةُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي كِتَابَةِ أَبِيهِ فَكَانَ مَانِعًا لَهُ فَجِنَايَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِمَنْزِلَةِ جِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُمَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ فِي حُكْمِ الْكِتَابَةِ ، فَلَوْ اعْتَبَرْنَا جِنَايَةَ أَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِمَنْزِلَةِ جِنَايَتِهِ عَلَى آخَرَ كَانَتْ الْقِيمَةُ وَاجِبَةً عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، وَلَوْ جَنَى الْمُكَاتَبُ الْآخَرُ عَلَى الْوَلَدِ لَزِمَتْهُ الْجِنَايَةُ لِلْأَبِ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ الْآخَرَ مِنْ هَذَا الْوَلَدِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ وَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَ الْآخَرَ لَوْ جَنَى عَلَى الْأَبِ كَانَتْ جِنَايَتُهُ مُعْتَبَرَةً فَكَذَلِكَ إنْ جَنَى عَلَى الْوَلَدِ الَّذِي لَمْ يُبَعْ لَهُ فِي الْكِتَابَةِ .
وَإِذَا وَلَدَتْ الْمُكَاتَبَةُ وَلَدًا ، ثُمَّ أَقَرَّتْ عَلَيْهِ بِجِنَايَةٍ أَوْ دَيْنٍ لَمْ تُصَدَّقْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ لِلْمَوْلَى حِينَ دَخَلَ فِي كِتَابَتِهَا ، وَإِقْرَارُهَا عَلَى مُكَاتَبِ الْمَوْلَى بِالدَّيْنِ وَالْجِنَايَةِ بَاطِلٌ ، وَكَذَلِكَ إنْ أَدَّتْ فَعَتَقَتْ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ ازْدَادَ بُعْدًا عَنْهَا ، فَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ قَبْلَ أَنْ تُؤَدِّيَ مِنْ مَالِهِ أُخِذَتْ بِإِقْرَارِهَا مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهَا أَحَقُّ بِالْمَالِ الَّذِي خَلَفَهُ الْوَلَدُ ، وَقَدْ أَقَرَّتْ أَنَّ ذَلِكَ الْمَالَ مَشْغُولٌ بِحَقِّ صَاحِبِ الدَّيْنِ وَالْجِنَايَةِ ، وَإِنَّ حَقَّهُمَا مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّهَا فَتُؤَاخَذُ بِإِقْرَارِهَا وَتُجْعَلُ كَأَنَّهَا جَدَّدَتْ الْإِقْرَارَ بِدَيْنٍ بَعْدَ مَوْتِ الْوَلَدِ كَمَنْ أَقَرَّ عَلَى مُوَرِّثِهِ بِدَيْنٍ فِي حَيَاتِهِ ، ثُمَّ مَاتَ فَصَارَ الْمَالُ مِيرَاثًا لَهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قُتِلَ الْوَلَدُ فَأَخَذَتْ قِيمَتَهُ ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ كَسْبِهِ فِي أَنَّهُ يُسَلَّمُ لَهَا إذَا فَرَغَ مِنْ دَيْنِهِ وَجِنَايَتِهِ فَيَكُونُ إقْرَارُهَا صَحِيحًا فِيهِ إذَا خَلَصَ
الْحَقُّ لَهَا .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الدَّيْنَ لَوْ كَانَ ثَابِتًا عَلَى الْوَلَدِ بِالْبَيِّنَةِ كَانَ الْغَرِيمُ أَحَقَّ بِكَسْبِهِ وَقِيمَتِهِ إذَا قُتِلَ ، وَلَوْ أَقَرَّ الْوَلَدُ عَلَى الْأُمِّ بِجِنَايَةٍ أَوْ دَيْنٍ لَمْ يُصَدَّقْ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ كَانَ عَلَى الْأُمِّ دُونَهُ ، وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى أُمِّهِ فِي أَنَّهُ يُلْزِمُهَا دَيْنًا ، فَإِنْ مَاتَتْ الْأُمُّ عَنْ مَالٍ بُدِئَ بِالْكِتَابَةِ فَقُضِيَتْ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْأُمِّ كَمَا لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْوَلَدِ لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْمَوْلَى ، وَحَقُّ اسْتِيفَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ مِنْ تَرِكَتِهَا بَعْدَ مَوْتِهَا ، فَإِذَا قَضَتْ الْكِتَابَةَ وَحُكِمَ بِعِتْقِهَا كَانَ الْبَاقِي مِيرَاثًا مِنْهَا لِلِابْنِ فَيُؤَاخَذُ بِإِقْرَارِهِ فِيمَا وَرِثَهُ كَمَا لَوْ جَدَّدَ الْإِقْرَارَ عَلَيْهَا بِذَلِكَ بَعْدَمَا صَارَ الْمَالُ مِيرَاثًا لَهُ ، وَإِنْ لَمْ تَدَعْ الْأُمُّ شَيْئًا فَقَضَى عَلَى الْوَلَدِ أَنْ يَسْعَى فِيمَا عَلَى أُمِّهِ مِنْ الْكِتَابَةِ ، وَهُوَ مُقِرٌّ الْيَوْمَ بِالْجِنَايَةِ الَّتِي كَانَ أَقَرَّ بِهَا عَلَى الْأُمِّ ، فَإِنَّهُ يَقْضِي عَلَيْهَا بِالسِّعَايَةِ فِيهَا أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ يُعَامَلُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ كَأَنَّ مَا أَقَرَّ بِهِ حَقٌّ وَالثَّابِتُ بِالْإِقْرَارِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ ، وَلَوْ ثَبَتَ فِي الْكَسْبِ الْقَائِمِ فِي يَدِهِ .
وَلَوْ ثَبَتَتْ الْجِنَايَةُ بِالْبَيِّنَةِ كَانَ عَلَى الْوَلَدِ السِّعَايَةُ بَعْدَ مَوْتِهَا فِي الْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهَا وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ مَعَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ، فَإِنْ عَجَزَ ، وَقَدْ أَدَّى بَعْضَ الْكِتَابَةِ لَمْ يَسْتَرِدَّ مَا أَدَّى وَيَبْطُلُ مَا بَقِيَ ؛ لِأَنَّ بِالْعَجْزِ صَارَ كَسْبُهُ وَرَقَبَتُهُ حَقًّا لِلْمَوْلَى وَإِقْرَارُهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى غَيْرُ صَحِيحٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يَسْتَرِدُّ مِنْ الْقَابِضِ مَا أَدَّى لِأَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى عِنْدَ عَجْزِهِ إنَّمَا ثَبَتَ فِي الْكَسْبِ الْقَائِمِ فِي يَدِهِ وَذَلِكَ خَرَجَ مِنْ مِلْكِهِ إلَى مِلْكِ الْقَابِضِ بِسَبَبٍ صَحِيحٍ فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ حَقُّ الْمَوْلَى .
وَلَوْ أَقَرَّتْ الْمُكَاتَبَةُ عَلَى وَلَدِهَا بِدَيْنٍ وَعَلَى الْوَلَدِ دَيْنٌ بِبَيِّنَةٍ ، وَفِي يَدِهِ مَالٌ قَدْ اكْتَسَبَهُ فَصَاحِبُ الْبَيِّنَةِ أَحَقُّ بِمَالِهِ ؛ لِأَنَّ دَيْنَهُ ثَابِتٌ بِحُجَّةٍ هِيَ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْكُلِّ وَدَيْنُ الْآخَرِ إنَّمَا ثَبَتَ بِإِقْرَارِ الْمُكَاتَبَةِ وَإِقْرَارُهَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى غَيْرِهَا ، فَإِنْ قَضَى صَاحِبُ الْبَيِّنَةِ وَفَضَلَ شَيْءٌ كَانَ لِلَّذِي أَقَرَّتْ لَهُ الْأُمُّ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدِهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهَا أَحَقُّ بِكَسْبِهِ إذَا فَرَغَ مِنْ دَيْنِهِ ، وَقَدْ أَقَرَّتْ بِأَنَّ حَقَّ الْمُقَرِّ لَهُ فِيهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّهَا ، فَإِنْ عَجَزَتْ أَوْ عَتَقَتْ لَمْ يَلْزَمْ رَقَبَةَ الْوَلَدِ مِنْ إقْرَارِهَا شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ بِالْعَجْزِ صَارَ الْوَلَدُ عَبْدًا لِلسَّيِّدِ فَلَا يَجُوزُ إقْرَارُهَا عَلَيْهِ وَبِالْعِتْقِ صَارَ الْوَلَدُ حُرًّا وَلَمْ يَبْقَ لَهَا حَقٌّ فِي كَسْبِهِ فَلَا يَجُوزُ إقْرَارُهَا عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ ، وَلَا فِي كَسْبِهِ ، وَلَوْ قُتِلَ الْوَلَدُ وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ وَأَخَذَتْ قِيمَتَهُ صُرِفَتْ فِي الدَّيْنِ بِمَنْزِلَةِ كَسْبٍ خَلَفَهُ الْوَلَدُ ؛ لِأَنَّهَا أَحَقُّ بِجَمِيعِ ذَلِكَ ، فَإِنْ صَرَفَتْ فِي الدَّيْنِ ، ثُمَّ عَجَزَتْ لَمْ يُسْتَرَدَّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ مِنْ الْمُقَرِّ لَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى إنَّمَا ثَبَتَ بَعْدَ عَجْزِهَا فِيمَا بَقِيَ فِي يَدِهَا ، فَأَمَّا الْمَصْرُوفُ إلَى الدَّيْنِ ، فَقَدْ خَرَجَ مِنْ مِلْكِهَا إلَى مِلْكِ الْمُقَرِّ لَهُ فَلَا يَثْبُتُ حَقُّ الْمَوْلَى فِي شَيْءٍ مِنْهُ .
وَلَوْ غَصَبَ الْمُكَاتَبُ عَبْدًا فَهَلَكَ عِنْدَهُ ضَمِنَ قِيمَتَهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَمْوَالِ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الْعَقْدِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي الْمَضْمُونِ وَالْمُكَاتَبُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ بِخِلَافِ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ ، فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَاتَبِ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ إلَّا الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ اعْتِبَارًا لِلْمُكَاتَبِ بِالْقِنِّ وَضَمَانُ الْمَال بِسَبَبِ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ يَجِبُ عَلَى الْقِنِّ فِي ذِمَّتِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ وَضَمَانُ الْجِنَايَةِ لَا يُوجِبُ عَلَى الْمَوْلَى إلَّا دَفْعَ الرَّقَبَةِ بِهَا فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ .
فَإِنْ غَصَبَ الْمُكَاتَبُ عَبْدًا قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَصَارَتْ قِيمَتُهُ فِي يَدِهِ أَلْفَيْنِ ، ثُمَّ قَتَلَهُ وَقَتَلَ آخَرَ خَطَأً فَمَوْلَى الْعَبْدِ بِالْخِيَارِ ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ مِنْ الْمُكَاتَبِ فِي عَبْدِهِ سَبَبَانِ مُوجِبَانِ لِلضَّمَانِ الْغَصْبُ وَالْقَتْلُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ بِأَيِّ السَّبَبَيْنِ شَاءَ ، فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَهُ بِالْقَتْلِ قَضَى عَلَى الْمُكَاتَبِ بِقِيمَتِهِ وَاقْتَسَمَ الْمَوْلَى الْعَبْدَ الْمَغْصُوبَ وَوَلِيُّ الْحُرِّ يَضْرِبُ فِيهِ الْمَوْلَى بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ قِيمَتِهِ وَقْتَ الْقَتْلِ وَوَلِيُّ الْحُرِّ بِالدِّيَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اخْتَارَ تَضْمِينَهُ بِالْقَتْلِ ، فَقَدْ أَبْرَأَهُ عَنْ ضَمَانِ الْغَصْبِ فَيُجْعَلُ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ فِي يَدِ مَوْلَاهُ ، وَإِنْ أَرَادَ الْمَوْلَى أَنْ يُضَمِّنَهُ بِالْغَصْبِ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ يَوْمَ غَصَبَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقَضَى عَلَيْهِ لِوَلِيِّ الْحُرِّ بِقِيمَةِ الْمُكَاتَبِ بِسَبَبِ جِنَايَتِهِ عَلَى الْحُرِّ ، وَلَا يَشْتَرِكَانِ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ بِسَبَبِ الْغَصْبِ يَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَمَا وَجَبَ بِسَبَبِ الْقَتْلِ يَكُونُ فِي رَقَبَتِهِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُشَارَكَةُ بَيْنَهُمَا فِيهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ لَهُمَا بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ فَيَشْتَرِكَانِ فِي الْقِيمَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الْمُكَاتَبَةِ بِقَدْرِ حَقِّهِمَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ يَوْمَ غُصِبَ أَكْثَرَ الْقِيمَتَيْنِ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ فِي التَّخْرِيجِ سَوَاءٌ .
رَجُلٌ كَاتَبَ نِصْفَ عَبْدٍ لَهُ فَاسْتَهْلَكَ الْعَبْدُ مَالًا لِرَجُلٍ فَذَلِكَ دَيْنٌ فِي عُنُقِهِ يَسْعَى فِيهِ ، وَلَا يُبَاعُ شَيْءٌ مِنْهُ فِي الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا صَارَ الْكُلُّ مُكَاتَبًا ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ النِّصْفُ مِنْهُ مُكَاتَبٌ وَمُكَاتَبُ النِّصْفِ لَا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ كَمُكَاتَبِ الْجَمِيعِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ .
وَلَوْ أَنَّ مُكَاتَبًا قَتَلَ عَمْدًا وَلَهُ وَارِثٌ فِي كَسْبِهِ غَيْرُ الْمَوْلَى أَوْ لَيْسَ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُهُ وَلَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً فِي قِيمَتِهِ ، وَلَا وَفَاءَ بِالْمُكَاتَبَةِ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ ضَرَرًا عَلَى الْمُكَاتَبِ ، وَفِي إيجَابِ الْقِيمَةِ تُوَفَّرُ الْمَنْفَعَةُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي عَنْهُ كِتَابَتُهُ فَيُحْكَمُ بِحُرِّيَّتِهِ وَحَقُّ الْمَقْتُولِ فِي بَدَلِ نَفْسِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ غَيْرِهِ فَإِيجَابُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمَقْتُولُ أَوْلَى مِنْ إيجَابِ الْقِصَاصِ الَّذِي لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِلْمَقْتُولِ ، وَلَا لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ بِسَبَبِهِ إذَا تَرَكَ وَارِثًا غَيْرَ الْمَوْلَى وَاشْتِبَاهُ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ ، وَإِنْ تَرَكَ وَفَاءً وَلَهُ وَلَدٌ حُرٌّ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ أَيْضًا ، وَإِنْ اجْتَمَعَ فِي طَلَبِهِ الْوَلِيُّ وَالْوَلَدُ لِاشْتِبَاهِ الْمُسْتَوْفِي كَانَ عَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُؤَدِّي كِتَابَتَهُ فَيُحْكَمُ بِحُرِّيَّتِهِ وَالْقِصَاصُ لِوَلَدِهِ ، وَعَلَى قَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَمُوتُ عَبْدًا فَيَكُونُ الْقِصَاصُ لِمَوْلَاهُ وَاخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ يُورِثُ الشُّبْهَةَ وَلِأَنَّ الْمَوْلَى يَأْخُذُ بَدَلَ الْكِتَابَةِ مِنْ تَرِكَتِهِ فَيُحْكَمُ بِحُرِّيَّتِهِ فَبِاعْتِبَارِ ابْتِدَاءِ الْقَتْلِ الْقِصَاصُ لِلْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ جِنَايَةٌ عَلَى مِلْكِهِ وَبِاعْتِبَارِ الْمَآلِ الْقِصَاصُ لِلْوَارِثِ ؛ لِأَنَّهُ يُحْكَمُ بِمَوْتِهِ حُرًّا فَلِاشْتِبَاهِ الْمُسْتَوْفِي كَذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ إنْ اجْتَمَعَا عَلَى اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْفِعْلِ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ فَبِاجْتِمَاعِهِمَا لَا يَصِيرُ مُوجِبًا ، وَإِنْ لَمْ يَدَعْ الْمُكَاتَبُ شَيْئًا فَلَا قِصَاصَ فِي هَذَا الْوَجْهِ لِلْمَوْلَى وَمُرَادُهُ مِنْ هَذَا الْفَصْلِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي قِيمَتِهِ وَفَاءٌ بِالْكِتَابَةِ أَمَّا إذَا كَانَ فِي قِيمَتِهِ وَفَاءٌ بِهَا ، فَقَدْ ذَكَرَ قَبْلَ هَذَا أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ أَيْضًا ، وَإِنْ تَرَكَ وَفَاءً ، وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُ
الْمَوْلَى فَلِلْمَوْلَى الْقِصَاصُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَيَّنٌ لِلِاسْتِيفَاءِ مَاتَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا قِصَاصَ فِيهِ لِاشْتِبَاهِ السَّبَبِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْمُكَاتَبِ .
رَجُلٌ قَطَعَ يَدَ مُكَاتَبٍ ، ثُمَّ جَنَى الْمُكَاتَبُ عَلَى الْقَاطِعِ جِنَايَةً ، ثُمَّ عَجَزَ فَعَلَى الْحُرِّ أَرْشُ الْجِنَايَةِ لِلْمَوْلَى وَيَدْفَعُ الْمَوْلَى عَبْدَهُ مَقْطُوعًا أَوْ يَفْدِيهِ ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ عَلَى الْحُرِّ بِجِنَايَتِهِ بِمَنْزِلَةِ كَسْبِ الْمُكَاتَبِ وَكَسْبُهُ لِلْمَوْلَى بَعْدَ الْعَجْزِ ، ثُمَّ حَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ تَعَلَّقَ بِالْعَبْدِ مَقْطُوعًا ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ وُجِدَتْ مِنْهُ ، وَهُوَ أَقْطَعُ الْيَدِ فَيُخَاطَبُ مَوْلَاهُ بِالدَّفْعِ لِذَلِكَ بَعْدَ الْعَجْزِ أَوْ الْفِدَاءِ ، وَإِنْ كَانَتْ جِنَايَةُ الْمُكَاتَبِ عَلَى الْحُرِّ قَبْلَ جِنَايَتِهِ عَلَيْهِ قِيلَ لِلْمَوْلَى ادْفَعْهُ أَوْ افْدِهِ ، فَإِنْ دَفَعَهُ بَطَلَتْ جِنَايَةُ الْحُرِّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى الْحُرِّ وَيَدُهُ صَحِيحَةٌ فَيَتَعَلَّقُ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ بِيَدِهِ ، ثُمَّ يُحَوَّلُ إلَى بَدَلِهِ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ ، فَإِذَا اخْتَارَ الْمَوْلَى دَفْعَهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ أَرْشَ الْيَدِ مَعَهُ لَوْ كَانَ الْجَانِي أَجْنَبِيًّا آخَرَ ، فَإِذَا كَانَ هُوَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ ، فَقَدْ مَلَكَ مَا عَلَيْهِ مِنْ أَرْشِ الْيَدِ فَيَسْقُطُ ذَلِكَ عَنْهُ ، وَإِنْ فَدَاهُ أَخَذَ الْمَوْلَى مِنْ الْحُرِّ أَرْشَ جِنَايَتِهِ عَلَى الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ إلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ كَمَالُ حَقِّهِ وَطَهُرَ الْعَبْدُ مِنْ الْجِنَايَةِ فَيَكُونُ أَرْشُ يَدِهِ خَالِصَ حَقِّ الْمَوْلَى .
رَجُلٌ كَاتَبَ نِصْفَ عَبْدِهِ ، ثُمَّ قَطَعَ رَجُلٌ يَدَيْهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ النُّقْصَانِ ؛ لِأَنَّ مُكَاتَبَ النِّصْفِ مُكَاتَبُ الْكُلِّ فِي أَنَّهُ يَتَعَذَّرُ تَسْلِيمَ الْجُثَّةِ إلَى الْجَانِي ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الدِّيَاتِ أَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ وُجُوبَ ضَمَانِ جَمِيعِ الْقِيمَةِ عَلَى الْجَانِي ، فَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُ النُّقْصَانِ ، ثُمَّ نِصْفُ ذَلِكَ لِلْمَوْلَى وَنِصْفُهُ لِلْمُكَاتَبِ ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ مِنْهُ مُكَاتَبٌ وَالنِّصْفُ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى غَيْرَ مُكَاتَبٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَضَمَانُ النُّقْصَانِ بِمَنْزِلَةِ كَسْبٍ اكْتَسَبَهُ الْمُكَاتَبُ فَيَكُونُ نِصْفُهُ لِمَوْلَاهُ وَنِصْفُهُ لِلْمُكَاتَبِ .
وَإِذَا قَتَلَ عَبْدُ الْمُكَاتَبِ رَجُلًا خَطَأً فَاخْتَارَ الْمُكَاتَبُ فِدَاءَهُ بِالدِّيَةِ وَقَضَى عَلَيْهِ بِهَا فَهُوَ دَيْنٌ فِي عُنُقِ الْمُكَاتَبِ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ فِي عَبْدِهِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ ، وَفِي اخْتِيَارِ الْفِدَاءِ مَنْفَعَةٌ لَهُ ، وَهُوَ اسْتِخْلَاصُ عَبْدِهِ عَنْ الْجِنَايَةِ فَيَكُونُ هُوَ فِيهِ كَالْحُرِّ وَتَكُونُ الدِّيَةُ عَلَيْهِ دَيْنًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ دُيُونِهِ وَيُطَالِبُهُ بِهِ فِي حَالِ الْكِتَابَةِ ، وَإِنْ عَجَزَ بِيعَ فِيهِ إلَّا أَنْ يُؤَدِّيَهُ الْمَوْلَى عَنْهُ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَقَرَّ الْمُكَاتَبُ عَلَى عَبْدِهِ بِجِنَايَةٍ جَازَ إقْرَارُهُ عَلَيْهِ وَيُخَيَّرُ الْمُكَاتَبُ فِيهِ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ يُقِرُّ عَلَى عَبْدِهِ بِذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَ عَنْ جِنَايَةٍ عَلَى عَبْدِهِ فَهُوَ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ ، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ هَذَا فِيمَا إذَا عَجَزَ وَأَدَّى فِي الدِّيَاتِ .
رَجُلٌ كَاتَبَ نِصْفَ عَبْدِهِ ، ثُمَّ جَنَى الْمُكَاتَبُ جِنَايَةً ضَمِنَ الْمَوْلَى نِصْفَهَا وَسَعَى الْمُكَاتَبُ فِي نِصْفِهَا ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ أَحَقُّ بِنِصْفِ كَسْبِهِ فَيَكُونُ مُوجَبُ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ وَالْمَوْلَى أَحَقُّ بِنِصْفِ كَسْبِهِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ فَيَكُونُ مُوجَبُ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الْأَقَلُّ مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ وَمِنْ نِصْفِ الْأَرْشِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَانِعًا دَفْعَ هَذَا النِّصْفِ بِالْكِتَابَةِ السَّابِقَةِ وَلَمْ يَصِرْ مُخْتَارًا بِذَلِكَ فَيَكُونُ مُسْتَهْلِكًا ضَامِنًا لِلْقِيمَةِ كَمَا فِي جِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ ، فَإِنْ قَضَى بِذَلِكَ عَلَيْهِمَا ، ثُمَّ عَجَزَ بِيعَ نِصْفُهُ فِي النِّصْفِ الَّذِي قَضَى بِهِ عَلَيْهِ وَكَانَ النِّصْفُ الْآخَرُ دَيْنًا عَلَى الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي تَحَوَّلَ مِنْ نِصْفِ نَفْسِهِ إلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَيُبَاعُ ذَلِكَ النِّصْفُ فِيهِ بَعْدَ عَجْزِهِ ، فَأَمَّا النِّصْفُ الْآخَرُ ، فَإِنَّمَا قَضَى بِهِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمَوْلَى فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِعَجْزِهِ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ قَضَى بِهِ كَانَ السَّبَبُ الْقَضَاءُ ، وَهُوَ تَعَذُّرُ الدَّفْعِ قَائِمًا ، فَإِنْ لَمْ يَعْجِزْ وَلَكِنْ قَتَلَ آخَرَ خَطَأً ، فَإِنَّهُ يَقْضِي عَلَى الْمُكَاتَبِ بِنِصْفِ قِيمَةٍ أُخْرَى ؛ لِأَنَّهُ فِي النِّصْفِ هُوَ مُكَاتَبٌ فِيهِ ، وَقَدْ تَحَوَّلَ حَقُّ الْأَوَّلِ إلَى الْقِيمَةِ بِالْقَضَاءِ فَيَتَعَلَّقُ حَقُّ الثَّانِي بِهَذَا النِّصْفِ فَيَقْضِي عَلَيْهِ بِنِصْفِ قِيمَةٍ لِهَذَا وَيَدْخُلُ الثَّانِي مَعَ الْأَوَّلِ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ الَّذِي قَضَى بِهِ عَلَى الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مَا مَنَعَ بِالْكِتَابَةِ السَّابِقَةِ إلَّا نِصْفَ الرَّقَبَةِ فَلَا يَغْرَمُ بِاعْتِبَارِهِ إلَّا نِصْفَ الْقِيمَةِ ، وَقَدْ أَدَّى ذَلِكَ النِّصْفَ إلَى الْأَوَّلِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرَ وَلَكِنَّ الثَّانِي يُشَارِكُ الْأَوَّلَ فِيمَا قَبَضَ مِنْ الْمَوْلَى مِنْ نِصْفِ الْقِيمَةِ ، وَإِنْ عَجَزَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ لِلثَّانِي قِيلَ لِلْمَوْلَى ادْفَعْهُ
إلَى الثَّانِي أَوْ افْدِهِ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ الثَّانِيَةَ تَعَلَّقَتْ بِرَقَبَتِهِ بِاعْتِبَارِ تَوَهُّمِ الدَّفْعِ بَعْدَ الْعَجْزِ ، فَإِنْ دَفَعَهُ تَبِعَهُ الْأَوَّلُ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَوَّلِ تَحَوَّلَ إلَى نِصْفِ الْقِيمَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَاجْتَمَعَ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ دَيْنٌ وَجِنَايَةٌ فَيَدْفَعُ بِالْجِنَايَةِ ، ثُمَّ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ وَيَكُونُ لِلْأَوَّلِ عَلَى الْمَوْلَى نِصْفُ الْقِيمَةِ لِقَضَاءِ الْقَاضِي لَهُ بِذَلِكَ .
رَجُلٌ كَاتَبَ نِصْفَ أَمَتِهِ ، ثُمَّ وَلَدَتْ وَلَدًا فَجَنَى الْوَلَدُ جِنَايَةً ، فَإِنَّهُ يَسْعَى فِي نِصْفِ جِنَايَتِهِ وَيَكُونُ نِصْفُهَا عَلَى الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ نِصْفُهُ مُكَاتَبٌ وَنِصْفُهُ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى فَفِي النِّصْفِ الَّذِي هُوَ مُكَاتَبٌ مُوجَبُ جِنَايَتِهِ عَلَيْهِ ، وَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ مُوجَبُ جِنَايَتِهِ عَلَى الْمَوْلَى إلَّا أَنَّ الدَّفْعَ لِلْمَوْلَى مُتَعَذِّرٌ بِسَبَبِ الْكِتَابَةِ السَّابِقَةِ فَعَلَيْهِ نِصْفُ قِيمَتِهِ ، فَإِنْ أَعْتَقَ السَّيِّدُ الْأُمَّ بَعْدَمَا جَنَى الْوَلَدُ عَتَقَ نِصْفُ الْوَلَدِ وَسَعَى فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِلْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْوَلَدِ كَانَ مُكَاتَبًا تَبَعًا لِأُمِّهِ فَيُعْتَقُ بِعِتْقِهَا وَالنِّصْفُ الْآخَرُ كَانَ مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى ، وَقَدْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْمِلْكِ لَهُ بِسَبَبِ عِتْقِ النِّصْفِ فَعَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ لِلْمَوْلَى وَنِصْفُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْوَلَدِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ نِصْفَهُ كَانَ مُكَاتَبًا ، وَقَدْ تَأَكَّدَ ذَلِكَ بِالْعِتْقِ ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْجِنَايَةِ إذَا أَعْتَقَ الْمَوْلَى الْوَلَدَ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ لَا سِعَايَةَ عَلَى الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَتَقَ بِإِعْتَاقِ الْمَوْلَى إيَّاهُ ، وَفِي الْأَوَّلِ إنَّمَا عَتَقَ بِحُكْمِ السِّعَايَةِ فِي الْكِتَابَةِ وَذَلِكَ كَانَ فِي النِّصْفِ مِنْهُ دُونَ النِّصْفِ ، وَلَوْ لَمْ يَعْتِقْ أَحَدٌ مِنْهُمَا وَلَمْ يَجْنِيَا عَلَى الْأَجْنَبِيِّ وَلَكِنْ جَنَى أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ جِنَايَتِهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ نِصْفِ الْجِنَايَةِ بِاعْتِبَارِ الْكِتَابَةِ فِي النِّصْفِ ، ثُمَّ نِصْفُ ذَلِكَ عَلَى الْمَوْلَى بِاعْتِبَارِ أَنَّ النِّصْفَ مَمْلُوكٌ لَهُ ، وَهُوَ مُسْتَهْلَكٌ بِالْكِتَابَةِ السَّابِقَةِ وَنِصْفُهُ عَلَى الْجَانِي لِلْمَوْلَى بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ نِصْفُهُ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى غَيْرُ مُكَاتَبٍ فَيَصِيرُ بَعْضُهُ بِالْبَعْضِ قِصَاصًا ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ مِثْلُ مَا لِصَاحِبِهِ ، وَلَوْ جَنَتْ الْأُمُّ ، ثُمَّ
مَاتَتْ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهَا وَلَمْ تَدَعْ شَيْئًا فَوَلَدُهَا بِمَنْزِلَتِهَا يَسْعَى فِي نِصْفِ الْجِنَايَةِ وَالْكِتَابَةِ ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْوَلَدِ مُكَاتَبٌ مَعَهَا ، وَلَوْ كَانَ الْكُلُّ تَبَعًا لَهَا كَأَنْ يَقُومَ مَقَامَهَا فِي السِّعَايَةِ فِيمَا عَلَيْهَا مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَمُوجَبُ الْجِنَايَةِ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمَوْلَى ابْتِدَاءً فَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ بِمَوْتِهَا كَجِنَايَةِ الْمُدَبَّرِ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ قَضَى عَلَيْهَا بِالْجِنَايَةِ أَوْ لَمْ يَقْضِ .
أَمَّا فِي النِّصْفِ الَّذِي هُوَ عَلَى الْمَوْلَى فَغَيْرُ مُشْكِلٍ ، وَفِي النِّصْفِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهَا فَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ بَقِيَتْ بِبَقَاءِ مَنْ يُؤَدِّي الْبَدَلَ وَتَصِيرُ جِنَايَتُهَا دَيْنًا بِمَوْتِهَا عَمَّنْ يُؤَدِّي كَمَا تَصِيرُ دَيْنًا بِمَوْتِهَا عَمَّنْ يُؤَدِّي لَهُ بَدَلَ الْكِتَابَةِ فَكَانَ الْقَضَاءُ وَغَيْرُ الْقَضَاءِ فِيهِ سَوَاءٌ ، فَإِنْ جَنَى الْوَلَدُ بَعْدَ ذَلِكَ جِنَايَةً ، ثُمَّ عَجَزَ ، وَقَدْ كَانَ قَضَى عَلَيْهِ بِجِنَايَةِ أُمِّهِ ، فَإِنَّ الَّذِي قُضِيَ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ جِنَايَةِ أُمِّهِ دَيْنٌ فِي نَفْسِهِ غَيْرَ أَنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يَدْفَعَهُ بِجِنَايَتِهِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ وَلِيِّ جِنَايَتِهِ تَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ وَزَالَ الْمَانِعُ مِنْ دَفْعِهِ بِعَجْزِهِ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَيَكُونُ لِلْمَوْلَى أَنْ يَدْفَعَهُ بِجِنَايَتِهِ ، وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ ، فَإِنْ فَدَاهُ بِيعَ نِصْفُهُ فِي الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى أُمِّهِ ، وَإِنْ دَفَعَهُ لَمْ يَتْبَعْهُ فِي هَذَا الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنُ أُمِّهِ وَحَقُّ وَلِيِّ جِنَايَتِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ صَاحِبِ دَيْنِ أُمِّهِ فَلِهَذَا لَمْ يَتْبَعْهُ الْمَقْضِيِّ لَهُ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ فِي مِلْكِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ .
رَجُلٌ كَاتَبَ نِصْفَ عَبْدِهِ فَجَنَى جِنَايَةً ، ثُمَّ كَاتَبَ النِّصْفَ الْبَاقِيَ فَجَنَى جِنَايَةً أُخْرَى وَلَمْ يَكُنْ قَضَى لِلْأَوَّلِ ، فَإِنَّ عَلَى الْأَوَّلِ نِصْفُ الْجِنَايَةِ الْأُولَى وَيُقْضَى عَلَى الْمُكَاتَبِ بِقِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ حِين جَنَى عَلَى الْأَوَّلِ كَانَ النِّصْفُ مِنْهُ مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى غَيْرَ مُكَاتَبٍ فَكَانَ الدَّفْعُ مِنْهُ مُتَعَذِّرًا فَوَجَبَ عَلَى الْمَوْلَى نِصْفُ قِيمَتِهِ لِوَلِيِّ تِلْكَ الْجِنَايَةِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ ، ثُمَّ جَنَى عَلَى الثَّانِي ، وَهُوَ مُكَاتَبٌ كُلُّهُ فَيَقْضِي عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ وَتَكُونُ نِصْفُ هَذِهِ الْقِيمَةِ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ الَّذِي كُوتِبَ مِنْهُ آخِرًا مَا ثَبَتَ فِيهِ إلَّا حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ فَقِيمَةُ هَذَا النِّصْفِ عِنْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي تَكُونُ لَهُ خَاصَّةً وَالنِّصْفُ الْآخَرُ ، وَهُوَ الَّذِي كُوتِبَ مِنْهُ أَوَّلًا قَدْ تَعَلَّقَ بِهِ الْجِنَايَتَانِ جَمِيعًا فَقِيمَةُ ذَلِكَ النِّصْفِ إذَا قَضَى بِهِ الْقَاضِي يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَاءِ حَقِّهِمَا فِيهِ ، فَقَدْ وَصَلَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ حَقِّهِ ، وَإِنَّمَا بَقِيَ لَهُ نِصْفُ حَقِّهِ ، فَإِنْ عَجَزَ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي دَفَعَهُ إلَيْهِمَا أَوْ فَدَاهُ ، فَإِنْ كَانَ قَضَى عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ الْأُولَى قَبْلَ أَنْ يَجْنِيَ الثَّانِيَةَ ، ثُمَّ عَجَزَ ، فَإِنَّ لِلْمُقْضَى لَهُ نِصْفُ مَا قَضَى لَهُ عَلَى الْمَوْلَى وَنِصْفُهُ دَيْنٌ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ وَيَدْفَعُ الْعَبْدُ إلَى الثَّانِي أَوْ يَفْدِيهِ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ جَنَى عَلَى الثَّانِي كَانَتْ الرَّقَبَةُ فَارِغَةً عَنْ الْجِنَايَةِ الْأُولَى فَيَتَعَلَّقُ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ بِهِ فَيَدْفَعُ إلَيْهِ بَعْدَ الْعَجْزِ أَوْ يَفْدِي بِالدِّيَةِ ، فَإِنْ دَفَعَهُ تَبِعَهُ الْأَوَّلُ فَيُبَاعُ لَهُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِمَا قُلْنَا إنَّ نِصْفَ الْقِيمَةِ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَيَتْبَعُهُ ذَلِكَ فِي مِلْكِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ وَيُبَاعُ فِيهِ إلَّا أَنْ يَقْضِيَهُ عَنْهُ .
وَلَوْ كَاتَبَ نِصْفَ عَبْدِهِ فَجَنَى جِنَايَةً ، ثُمَّ كَاتَبَ النِّصْفَ الْبَاقِي فَجَنَى جِنَايَةً ، ثُمَّ عَجَزَ عَنْ الْمُكَاتَبَةِ الْأُولَى يُرَدُّ ذَلِكَ النِّصْفُ إلَى الرِّقِّ ؛ لِأَنَّ كُلَّ نِصْفٍ بِمَنْزِلَةِ شَخْصٍ عَلَى حِدَةٍ فَالْعَجْزُ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ لَا يُوجِبُ الْعَجْزَ فِي النِّصْفِ الثَّانِي ، وَإِنَّمَا تَنْفَسِخُ الْكِتَابَةُ فِيمَا تَقَرَّرَ فِيهِ سَبَبُهُ ، ثُمَّ يَقْضِي عَلَى الْمَوْلَى لِلْأَوَّلِ خَاصَّةً بِنِصْفِ جِنَايَتِهِ وَنِصْفُهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثَّانِي يَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ بِنِصْفِ جِنَايَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ الْأُولَى كَانَ قَدْ أَوْجَبَ عَلَى الْمَوْلَى نِصْفَ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ جَنَى تِلْكَ الْجِنَايَةَ كَانَ النِّصْفُ مِنْهُ لِلْمَوْلَى مِلْكًا فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ الْحُكْمُ لِعَجْزِهِ ، وَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى الْأَوَّلِ مُتَعَلِّقَةً بِنِصْفِ الرَّقَبَةِ ، وَقَدْ تَعَلَّقَ أَيْضًا جِنَايَتُهُ عَلَى الثَّانِي بِذَلِكَ النِّصْفِ وَكَانَ عَلَى الْمَوْلَى دَفْعُ ذَلِكَ النِّصْفِ بِالْجِنَايَتَيْنِ بَعْدَ عَجْزِهِ عَنْ الْمُكَاتَبَةِ الْأُولَى لَوْلَا الْكِتَابَةُ الثَّانِيَةُ ، وَهُوَ بِالْكِتَابَةِ الثَّانِيَةِ صَارَ مَانِعًا دَفْعَ ذَلِكَ النِّصْفِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَصِرْ مُخْتَارًا فَعَلَيْهِ نِصْفُ الْقِيمَةِ بَيْنَ وَلِيِّ الْجِنَايَتَيْنِ نِصْفَيْنِ ، وَعَلَى الْمُكَاتَبِ نِصْفُ الْقِيمَةِ أَيْضًا لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ ؛ لِأَنَّهُ جَنَى عَلَيْهِ وَالنِّصْفُ الْبَاقِي مُكَاتَبٌ فَمُوجَبُ جِنَايَتِهِ عَلَيْهِ فِي هَذَا النِّصْفِ مَا بَقِيَتْ الْكِتَابَةُ وَهِيَ بَاقِيَةٌ .
وَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْمُكَاتَبَةِ الثَّانِيَةِ خَاصَّةً وَلَمْ يَعْجِزْ عَنْ الْأُولَى فَعَلَى الْمَوْلَى هُنَا الْأَقَلُّ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ وَنِصْفِ الْجِنَايَةِ الْأُولَى ، وَهُوَ لِلْأَوَّلِ خَاصَّةً وَنِصْفُ الْجِنَايَةِ الْأَخِيرَةِ فَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ جِنَايَتِهِ وَيَقْضِي عَلَى الْمُكَاتَبِ فِي النِّصْفِ الَّذِي كُوتِبَ أَخِيرًا بِالْأَقَلِّ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَنْصَافِ جِنَايَتِهِمَا ، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى
قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
فَأَمَّا عِنْدَهُمَا إذَا كَاتَبَ الرَّجُلُ نِصْفَ عَبْدِهِ فَهُوَ مُكَاتَبٌ كُلُّهُ وَالْحُكْمُ فِي جِنَايَتِهِ كَالْحُكْمِ فِي جِنَايَةِ الْمُكَاتَبِ عَلَى مَا سَبَقَ .
رَجُلٌ كَاتَبَ عَبْدَيْنِ لَهُ مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً ، ثُمَّ جَنَى أَحَدُهُمَا جِنَايَةً سَعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ وَلَمْ يَلْزَمْ صَاحِبَهُ مِنْهَا شَيْءٌ إنْ عَاشَ هَذَا أَوْ مَاتَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ بِمُقَابِلَةِ بَعْضِ الْبَدَلِ فَاتِّحَادُ الْعَقْدِ وَاخْتِلَافُ الْعَقْدِ فِيمَا يَلْزَمُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْجِنَايَةِ وَالدَّيْنِ سَوَاءٌ ، وَلَوْ كُوتِبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ لَمْ يَلْزَمْ أَحَدَهُمَا شَيْءٌ مِمَّا عَلَى صَاحِبِهِ مِنْ جِنَايَةٍ أَوْ دَيْنٍ فَكَذَلِكَ إذَا كُوتِبَا بِعَقْدٍ وَاحِدٍ ، وَإِنَّمَا صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُطَالَبًا بِجَمِيعِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ لِأَجْلِ الضَّمَانِ وَلِأَنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى الْعِتْقِ إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ الْبَدَلِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الدَّيْنِ وَالْجِنَايَةِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ خَطَأً وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْمَقْتُولِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَا مُكَاتَبَيْنِ فِي عَقْدَيْنِ ، ثُمَّ الْحَيُّ مِنْهُمَا يَسْعَى فِي جَمِيعِ الْكِتَابَةِ وَتَبْقَى الْكِتَابَةُ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّهُ مَاتَ عَمَّنْ يُؤَدِّي الْبَدَلَ وَلِأَنَّ الْعَقْدَ وَاحِدٌ فَلَا يُمْكِنُ فَسْخُهُ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ مَعَ إبْقَائِهِ فِي حَقِّ الْحَيِّ ، وَلَا بُدَّ مِنْ إبْقَاءِ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْحَيِّ ، وَهَذَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْحُرِّيَّةِ إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ الْبَدَلِ ، وَإِذَا أَدَّاهَا عَتَقَ وَاسْتَوْجَبَ الرُّجُوعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِمَا يُؤَدِّي عَنْهُ مِنْ حِصَّتِهِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ قِصَاصًا بِمَا لِصَاحِبِهِ عَلَيْهِ مِنْ الْقِيمَةِ وَيُؤَدِّي فَضْلًا إنْ بَقِيَ عَلَيْهِ وَيَرْجِعُ بِفَضْلٍ إنْ كَانَ بَقِيَ لَهُ .
وَلَوْ كَاتَبَ أَمَتَيْنِ لَهُ مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً فَوَلَدَتْ إحْدَاهُمَا وَلَدًا ، ثُمَّ جَنَى الْوَلَدُ عَلَى الْأُخْرَى فَأَدَّتْ أَمَةٌ الْمُكَاتَبَةَ عَتَقُوا ، فَإِنَّ الْأُمَّ تَرْجِعُ عَلَى صَاحِبَتِهَا بِحِصَّتِهَا مِنْ الْمُكَاتَبَةِ ؛ لِأَنَّهَا أَدَّتْ ذَلِكَ عَنْهَا بِحُكْمٍ صَحِيحٍ بِأَمْرِهَا وَيَسْعَى الْوَلَدُ فِي الْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ كَانَ مُكَاتَبًا وَجِنَايَةُ الْمُكَاتَبِ تُلْزِمُهُ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ وَيَتَقَرَّرُ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِالْعِتْقِ لِوُقُوعِ النَّاسِ عَنْ الدَّفْعِ بِهِ ، فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْوَلَدِ مَالٌ حِينَ عَتَقَ كَانَ ذَلِكَ لِلْأُمِّ إنْ لَمْ يَكُنْ قَضَى بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْمُكَاتَبِ قَبْلَ الْعِتْقِ لَا تَصِيرُ دَيْنًا إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي لِتَوَهُّمِ الدَّفْعِ بَعْدَ الْعَجْزِ وَكَسْبُ الْوَلَدِ الْمَوْلُودِ فِي الْكِتَابَةِ سَالِمٌ لَهَا بِشَرْطِ الْفَرَاغِ عَنْ دَيْنِهِ لِمَا قُلْنَا أَنَّ فِي حُكْمِ الْكَسْبِ وَلَدُهَا بِمَنْزِلَةِ عَبْدِهَا وَالْجِنَايَةُ إنَّمَا صَارَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ بَعْدَ الْعِتْقِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ سَلَامَةِ الْكَسْبِ لَهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ قَضَى عَلَيْهِ بِهَا قَبْلَ الْعِتْقِ فَحِينَئِذٍ مُوجَبُ الْجِنَايَةِ مِنْ قِيمَةٍ أَوْ أَرْشٍ بِمَنْزِلَةِ دَيْنٍ آخَرَ عَلَى الْوَلَدِ وَدَيْنُهُ فِي كَسْبِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ أُمِّهِ بِمَنْزِلَةِ دَيْنِ الْعَبْدِ فَيُؤْخَذُ الدَّيْنُ أَوَّلًا مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَهُوَ لِلْأُمِّ .
وَلَوْ كَانَتْ الْأُخْرَى جَنَتْ عَلَى الْوَلَدِ كَانَ أَرْشُ ذَلِكَ عَلَيْهَا لِلْأُمِّ ؛ لِأَنَّ أَرْشَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهَا بِمَنْزِلَةِ كَسْبِهِ وَالْمَعْنَى فِيهِمَا أَنَّ الْوَلَدَ إنَّمَا يُجْعَلُ مِلْكًا لِلْمَوْلَى ضَرُورَةَ التَّبَعِيَّةِ فِي الْكِتَابَةِ كَمَا يَكُونُ خَارِجًا مِنْ حُكْمِ الْكِتَابَةِ لَا تَتَحَقَّقُ فِيهِ هَذِهِ الضَّرُورَةُ فَجُعِلَ ذَلِكَ لَهَا وَأَرْشُ طَرَفِهِ خَارِجٌ مِنْ الْكِتَابَةِ ، وَكَذَلِكَ كَسْبُهُ فَيَسْلَمُ ذَلِكَ كُلُّهُ لِلْأُمِّ بِمَنْزِلَةِ كَسْبِهَا وَأَرْشِ طَرَفِهَا ، فَإِنْ أَدَّتْ فِي
الْكِتَابَةِ صَارَ مَا أَدَّتْ عَنْ صَاحِبَتِهَا قِصَاصًا بِالْأَرْشِ وَيَتَرَاجَعَانِ بِالْفَضْلِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْجَبَ الرُّجُوعَ عَلَى صَاحِبَتِهَا بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ وَصَاحِبَتُهَا اسْتَوْجَبَتْ الرُّجُوعَ عَلَيْهَا بِمَا أَدَّتْ عَنْهَا مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَتَقَعُ الْمُقَاصَّةُ كَذَلِكَ .
عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ جَنَى جِنَايَةً فَكَاتَبَهُ أَحَدُهُمَا ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ وَالْآخَرُ يَعْلَمُ فَبَلَغَ الْمَوْلَى الَّذِي لَمْ يُكَاتِبْ كِتَابَةَ صَاحِبِهِ فَأَجَازَهَا لَمْ يَكُنْ مُخْتَارًا بِالْإِجَازَةِ ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ فَلَا يَصِيرُ بِهِ مُخْتَارًا ، وَأَمَّا الْمُجِيزُ ، فَقَدْ كَانَ الدَّفْعُ مُتَعَذِّرًا فِي نَصِيبِهِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ فِي النِّصْفِ كَعَقْدِ الْكِتَابَةِ فِي الْكُلِّ فِي الْمَنْعِ عَنْ الدَّفْعِ بِالْجِنَايَةِ ، فَإِنْ قِيلَ لَا كَذَلِكَ فَالْمُجِيزُ قَبْلَ الْإِجَازَةِ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ فَسْخِ الْكِتَابَةِ وَدَفْعِ نَصِيبِهِ بِالْجِنَايَةِ ، وَإِنَّمَا يَتَعَذَّرُ ذَلِكَ بِإِجَازَتِهِ الْكِتَابَةَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ مُخْتَارًا لِلْأَرْشِ قُلْنَا هُوَ بِالْإِجَازَةِ أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي الْفَسْخِ فَلَا يَتَصَرَّفُ فِي الْمَحَلِّ الْمُسْتَحَقِّ بِالْجِنَايَةِ وَالِاخْتِيَارُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِتَصَرُّفِهِ فِي الْمَحَلِّ الْمُسْتَحَقِّ بِالْجِنَايَةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ ، فَإِذَا فَوَّتَ أَحَدَهُمَا تَعَيَّنَ الْآخَرُ ، وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا ، فَإِنَّهُ مَا تَصَرَّفَ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ بِشَيْءٍ ، وَإِنَّمَا أَسْقَطَ حَقَّهُ فِي فَسْخِ كِتَابَةِ صَاحِبِهِ فِي نَصِيبِهِ وَمَا كَانَ دَفْعُ نَصِيبِ صَاحِبِهِ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَلِهَذَا لَا يُجْعَلُ بِهَذِهِ الْإِجَازَةِ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ وَلَكِنْ يَكُونُ عَلَيْهِمَا الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَاتَبَاهُ وَهُمَا لَا يَعْلَمَانِ بِالْجِنَايَةِ .
عَبْدٌ جَنَى عَلَى حُرٍّ بِقَطْعِ يَدِهِ ، ثُمَّ قَطَعَ يَدَ الْعَبْدِ رَجُلٌ حُرٌّ ، وَلَا يُعْلَمُ أَيُّ الْجِنَايَتَيْنِ قَبْلُ ، فَقَالَ الْحُرُّ كَانَتْ جِنَايَةُ الْعَبْدِ عَلَيَّ قَبْلَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ ، وَقَالَ الْمَوْلَى بَلْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ الْمَوْلَى أَرْشَ يَدِ الْعَبْدِ ظَاهِرٌ ، وَهُوَ مِلْكُهُ رَقَبَتَهُ وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِدَعْوَاهُ سَبْقَ جِنَايَةِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ إثْبَاتُ مَا يَدَّعِي بِالْبَيِّنَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَعَلَى الْمَوْلَى الْيَمِينُ ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ يَدَّعِي تَارِيخًا سَابِقًا فِي جِنَايَةِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ ، وَهَذَا التَّارِيخُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِبَيِّنَةِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ وَحَلَفَ الْمَوْلَى خُيِّرَ ، فَإِنْ شَاءَ دَفَعَ الْعَبْدَ إلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ بِجَمِيعِ الْأَرْشِ .
قَالَ : ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ عَبْدًا لَوْ قَطَعَ يَدَ حُرٍّ وَجَرَحَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ ، فَقَالَ الْمَوْلَى فَعَلْت ذَلِكَ قَبْلَ جِنَايَةِ عَبْدِي عَلَيْهِ ، وَقَالَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بَلْ فَعَلْته بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ يَدَّعِي اخْتِيَارَ الْفِدَاءِ وَالْمَوْلَى مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ .
وَإِنْ الْتَقَى عَبْدٌ وَحُرٌّ وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَصًا فَشَجَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ مُوضِحَةً فَبَرِئَا جَمِيعًا ، وَلَا يُدْرَى أَيُّهُمَا بَدَأَ بِالضَّرْبَةِ ، فَقَالَ الْمَوْلَى لِلْحُرِّ أَنْتَ بَدَأْت بِالضَّرْبَةِ ، وَقَالَ الْحُرُّ بَلْ الْعَبْدُ بَدَأَ بِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا مِنْ الْمَعْنَيَيْنِ أَنَّ الْحُرَّ يَدَّعِي سَبْقَ تَارِيخٍ فِي جِنَايَةِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ وَيَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ أَرْشِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ ، فَإِذَا حَلَفَ الْمَوْلَى كَانَ عَلَى الْحُرِّ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَةِ الْعَبْدِ ، لِلْمَوْلَى أَرْشُ الْمُوضِحَةِ وَيَدْفَعُ الْمَوْلَى عَبْدَهُ بِجِنَايَتِهِ أَوْ يَفْدِيهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَعَ الْعَبْدِ سَيْفٌ فَمَاتَ الْعَبْدُ وَبَرِئَ الْحُرُّ ؛ لِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ عَلَى الْعَبْدِ هَاهُنَا ، فَإِنَّهُ لَا قِصَاصَ بَيْنَ الْعَبِيدِ وَالْأَحْرَارِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَالْحُرُّ إنَّمَا جَنَى عَلَى الْعَبْدِ بِالْقِصَاصِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ ، فَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ مِنْ ذَلِكَ فَكَانَ الْوَاجِبُ الْأَرْشَ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى .
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَوْلَى فِي إنْكَارِ التَّارِيخِ كَانَ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ جَمِيعُ قِيمَةِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْعَبْدِ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ فَيَكُونُ مِقْدَارَ مَا تَقْتَضِيهِ ضَرْبَةُ الْحُرِّ فِي قِيمَتِهِ إلَى الْوَقْتِ الَّذِي ضَرَبَ الْعَبْدُ الْحُرَّ ، وَهُوَ الْوَقْتُ الَّذِي يَفْدِيهِ الْمَوْلَى ذَلِكَ يَكُونُ لِلْمَوْلَى وَيَكُونُ فِي الْبَاقِي أَرْشُ جِنَايَتِهِ عَلَى الْحُرِّ ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ اسْتَحَقَّ نَفْسَهُ بِجِنَايَتِهِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ مَاتَ وَأَخْلَفَ بَدَلًا فَيَقُومُ الْبَدَلُ مَقَامَهُ وَيُؤْمَرُ الْمَوْلَى بِدَفْعِ ذَلِكَ الْقَدْرِ إلَى الْحُرِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَرْشُ جِنَايَتِهِ عَلَيْهِ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَدْفَعُ إلَيْهِ مِقْدَارَ أَرْشِ جِنَايَتِهِ وَالْبَاقِي لِلْمَوْلَى ، وَإِنْ كَانَ السَّيْفُ مَعَ الْحُرِّ وَالْعَصَا مَعَ الْعَبْدِ ، وَقَدْ مَاتَ الْعَبْدُ وَأَرْشُ جِرَاحَةِ الْحُرِّ أَكْثَرُ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ ، فَقَالَ
الْمَوْلَى أَنْتَ بَدَأْت فَضَرَبْت عَبْدِي ، وَقَالَ الْحُرُّ بَلْ الْعَبْدُ بَدَأَ فَضَرَبَنِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ سَبْقَ التَّارِيخِ فِي جِنَايَةِ عَبْدِهِ عَنْ الْحُرِّ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ الْحُرَّ قِصَاصًا ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ عَبْدَهُ بِالسَّيْفِ وَبَطَلَ حَقُّ الْحُرِّ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لَهُ بِجِنَايَةِ الْعَبْدِ نَفْسُ الْعَبْدِ ، وَقَدْ مَاتَ وَلَمْ يَخْلُفْ بَدَلًا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَخْلَفَ الْقِصَاصَ ، وَإِبْقَاءَ مُوجَبِ جِنَايَةِ الْعَبْدِ عَلَى الْحُرِّ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِنْ الْقِصَاصِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ، فَإِنْ قِيلَ : كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْحُرِّ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْحُرُّ جَنَى عَلَى الْعَبْدِ أَوَّلًا ، فَقَدْ اسْتَحَقَّ نَفْسَهُ بِجِنَايَتِهِ ، ثُمَّ أَقْدَمَ عَلَى قَتْلِ نَفْسٍ هِيَ مُسْتَحَقَّةٌ لَهُ بِالْجِنَايَةِ فَصَيَّرَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ عَنْهُ فِي الْوَجْهَيْنِ .
قُلْنَا : لَا كَذَلِكَ ، فَإِنَّ عَبْدًا لَوْ جَنَى عَلَى الْحُرِّ ، ثُمَّ جَنَى الْحُرُّ عَلَيْهِ وَقَتَلَهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ جِنَايَةِ الْعَبْدِ عَلَى مَوْلَاهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ جِنَايَةَ الْخَطَأِ تَتَبَاعَدُ عَنْ الْجَانِي وَتَتَعَلَّقُ بِأَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِ وَأَقْرَبُ النَّاسِ إلَى الْعَبْدِ مَوْلَاهُ وَلِهَذَا خُيِّرَ الْمَوْلَى بَيْنَ الدَّفْعِ وَبَيْنَ الْفِدَاءِ وَحَقُّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فِي الْعَبْدِ حَقٌّ ضَعِيفٌ حَتَّى لَا يَمْنَعُ بِقَوَدِ شَيْءٍ مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْمَوْلَى فِيهِ وَمِثْلُ هَذَا الْحَقِّ الضَّعِيفِ لَا يُعْتَبَرُ شُبْهَةٌ فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ ، فَإِنْ أَقَامَ الْحُرُّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْعَبْدِ أَنَّهُ بَدَأَ فَضَرَبَهُ فَهَذَا مِثْلُ الْأَوَّلِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حَقَّهُ فِي الْعَبْدِ بِسَبَبِ جِنَايَتِهِ حَقٌّ ضَعِيفٌ فَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ وُجُوبَ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ بِقَتْلِهِ إيَّاهُ ، وَقَدْ فَاتَ مَحَلُّ حَقِّ الْحُرِّ فَبَطَلَ حَقُّهُ .
وَلَوْ الْتَقَى عَبْدٌ وَحُرٌّ وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَصًا فَاضْطَرَبَا فَشَجَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ مُوضِحَةً فَبَرِآ مِنْهَا وَاتَّفَقَ الْمَوْلَى وَالْحُرُّ إنَّهُمَا لَا يَدْرِيَانِ أَيُّهُمَا بَدَأَ ، فَإِنَّ الْمَوْلَى يَدْفَعُ الْمَوْلَى أَوْ يَفْدِيهِ ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْعَبْدِ عَلَى الْحُرِّ مَعْلُومَةٌ وَهِيَ تُثْبِتُ الْخِيَارَ لِلْمَوْلَى ، فَإِنْ دَفَعَهُ رَجَعَ عَلَى الْحُرِّ بِنِصْفِ أَرْشِ جِنَايَةِ الْحُرِّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْحُرِّ عَلَيْهِ إنْ سَبَقَتْ فَلِلْمَوْلَى الْأَرْشُ ، وَإِنْ تَأَخَّرَتْ فَلَيْسَ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ مَدْفُوعٌ مَعَ الْعَبْدِ بِجِنَايَتِهِ فَلِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ قُلْنَا يَرْجِعُ عَلَى الْحُرِّ بِنِصْفِ أَرْشِ جِنَايَتِهِ عَلَى الْعَبْدِ ، وَإِنْ فَدَاهُ رَجَعَ عَلَى الْحُرِّ بِجَمِيعِ أَرْشِ جِنَايَتِهِ عَلَى الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْفِدَاءِ طَهَّرَهُ عَنْ جِنَايَتِهِ وَأَرْشُ جِنَايَةِ الْحُرِّ عَلَيْهِ سَالِمٌ لَهُ بَعْدَ الْفِدَاءِ ، وَإِنْ تَقَدَّمَتْ جِنَايَةُ الْعَبْدِ عَلَى الْحُرِّ .
وَلَوْ كَانَا عَبْدَيْنِ فَشَجَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ مَعًا وَبَرِآ خُيِّرَ مَوْلَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَإِنْ شَاءَ دَفَعَهُ ، وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ بِجِنَايَةِ مَمْلُوكِهِ عَلَى مَمْلُوكِ صَاحِبِهِ ، فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ صَارَ عَبْدُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ فَلَا يَتَرَاجَعَانِ بِشَيْءٍ سِوَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَصَلَ إلَى مَا كَانَ مُسْتَحِقًّا لَهُ ، وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ أَدَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَرْشَ جِنَايَةِ الْآخَرِ تَامًّا ، وَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا بِالضَّرْبَةِ قِيلَ لِمَوْلَى الْبَادِي بِالضَّرْبَةِ ادْفَعْهُ أَوْ افْدِهِ ؛ لِأَنَّ عَبْدَهُ سَبَقَ بِالْجِنَايَةِ فَيُخَيَّرُ هُوَ أَوَّلًا ، فَإِنْ دَفَعَهُ صَارَ الْعَبْدُ لِلْمَدْفُوعِ إلَيْهِ ، وَلَا يَرْجِعُ الدَّافِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ بِشَيْءٍ لَزِمَهُ دَفْعُ ذَلِكَ إلَيْهِ مَعَ عَبْدِهِ عَنْ الْجِنَايَةِ فَتَبْقَى جِنَايَةُ عَبْدِ الْآخَرِ عَلَيْهِ مُعْتَبَرَةً ، فَإِنْ مَاتَ الْبَادِي مِنْ الضَّرْبَةِ وَبَرِئَ الْآخَرُ وَقِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةُ آلَافٍ ، فَإِنَّ قِيمَةَ الْمَيِّتِ فِي عُنُقِ الْحَيِّ يَدْفَعُ بِهَا أَوْ يَفْدِي ، فَإِنْ فَدَاهُ بِقِيمَةِ الْمَيِّتِ رَجَعَ فِي تِلْكَ الْقِيمَةِ بِأَرْشِ جِنَايَةِ عَبْدِهِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ كَانَ ثَابِتًا فِي رَقَبَةِ الْمَيِّتِ بِاعْتِبَارِ جِنَايَتِهِ عَلَى مِلْكِهِ ، وَقَدْ مَاتَ وَأَخْلَفَ بَدَلًا فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي ذَلِكَ الْبَدَلِ بِأَرْشِ جِرَاحَةِ عَبْدِهِ ، وَإِنْ دَفَعَهُ رَجَعَ بِأَرْشِ شَجَّةِ عَبْدِهِ فِي عُنُقِهِ وَيُخَيَّرُ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مِنْ عَبْدِهِ كَانَتْ بَعْدَ الشَّجَّةِ فَلَا يَتَعَلَّقُ حَقُّ مَوْلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِأَرْشِ تِلْكَ الشَّجَّةِ ، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ جِنَايَةِ مَوْلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مُخَيَّرًا بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ جِنَايَتِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ عَبْدًا لَوْ شَجَّ عَبْدًا مُوضِحَةً ، ثُمَّ جَاءَ عَبْدٌ آخَرَ فَقَتَلَ الشَّاجَّ خَطَأً خُيِّرَ مَوْلَاهُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ ، فَإِنْ
فَدَاهُ كَانَ أَرْشُ جِرَاحَةِ الْمَشْجُوجِ فِي ذَلِكَ الْفِدَاءِ ، وَإِنْ دَفَعَهُ خُيِّرَ مَوْلَى الْعَبْدِ الْمَيِّتِ ، فَإِنْ شَاءَ دَفَعَهُ عَلَى مَا سَبَقَ ، وَقَدْ أَعَادَ جَوَابَ هَذَا السُّؤَالِ بَعْدَ هَذَا بِأَسْطُرٍ ، وَقَالَ مَوْلَى الْمَيِّتِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ دَفَعَ أَرْشَ جِنَايَةِ الْحَيِّ مَكَانَ قِيمَةِ عَبْدِهِ فِي عُنُقِ الْبَاقِي وَيُخَيَّرُ مَوْلَاهُ ، فَإِنْ شَاءَ دَفَعَهُ ، وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يَدْفَعَ الْمَوْلَى أَرْشَ جِنَايَةِ الْحَيِّ فَلَا شَيْءَ لَهُ فِي عُنُقِ الْحَيِّ ؛ لِأَنَّ عَبْدَهُ هُوَ الْبَادِي بِالْجِنَايَةِ فَلَا يَكُونُ لَهُ فِي عُنُقِ الْحَيِّ شَيْءٌ حَتَّى يُؤَدِّيَ أَرْشَ جِنَايَتِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ عَبْدَهُ لَوْ كَانَ حَيًّا بُدِئَ بِهِ فَقِيلَ لَهُ ادْفَعْهُ أَوْ افْدِهِ ؟ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَيِّتًا ، وَلَوْ بَرِئَ الْأَوَّلُ وَمَاتَ الْآخَرُ مِنْ الْجِنَايَةِ خُيِّرَ مَوْلَى الْأَوَّلِ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ هُوَ الَّذِي بَدَأَ بِالْجِنَايَةِ ، فَإِنْ فَدَى عَبْدَهُ كَانَ أَرْشُ جِنَايَةِ عَبْدِهِ فِي الْفِدَاءِ بَعْدَمَا يَدْفَعُ مِنْهُ أَرْشَ مُوضِحَةَ الْعَبْدِ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْآخَرَ جَنَى عَلَى عَبْدِهِ ، وَهُوَ مَشْجُوجٌ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّهُ بِأَرْشِ الشَّجَّةِ ، وَإِنَّمَا كَانَ حَقُّهُ فِي الْعَبْدِ مَشْجُوجًا ، وَقَدْ مَاتَ وَأَخْلَفَ عِوَضًا ، وَإِنْ دَفَعَ عَبْدَهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ بِالدَّفْعِ يَسْقُطُ عَنْ أَرْشِ جِنَايَةِ الْعَبْدِ الْآخَرِ عَلَى عَبْدِهِ ، فَإِذَا اسْتَوْفَى ذَلِكَ لَزِمَهُ دَفْعُهُ مَعَ عَبْدِهِ فَلَا يَكُونُ اسْتِيفَاؤُهُ مُفِيدًا شَيْئًا .
وَلَوْ تَضَارَبَ الْعَبْدَانِ بِالْعَصَا فَشَجَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ مُوضِحَةً فَبَرِآ وَالْبَادِئُ مَعْرُوفٌ ، ثُمَّ إنَّ عَبْدًا لِرَجُلٍ قَتَلَ الْبَادِئَ مِنْهُمَا خَطَأً قِيلَ لِمَوْلَاهُ ادْفَعْهُ أَوْ افْدِهِ ، فَإِنْ فَدَاهُ بِقِيمَتِهِ أَدَّى مَوْلَاهُ مِنْ تِلْكَ الْقِيمَةِ أَرْشَ جِرَاحَةِ الْعَبْدِ الْبَاقِي وَالْفَضْلُ لَهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّ مَوْلَى الْبَادِي هُوَ الْمُخَاطَبُ أَوَّلًا وَحُكْمُ جِنَايَةِ مَمْلُوكِهِ إنَّمَا يَتَبَيَّنُ بِاخْتِيَارِ مَوْلَى الْعَبْدِ الثَّالِثِ الدَّفْعَ أَوْ الْفِدَاءَ فَلِهَذَا بُدِئَ بِهِ وَلَمَّا اخْتَارَ الْفِدَاءَ ، فَقَدْ اخْتَلَفَ الْبَادِي قِيمَتُهُ فَلِمَوْلَى الْعَبْدِ الْبَاقِي فِي تِلْكَ الْقِيمَةِ أَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَى عَبْدِهِ وَالْفَضْلُ لِمَوْلَى الْبَادِي ، ثُمَّ يَرْجِعُ مَوْلَى الْبَادِي بِأَرْشِ جِرَاحَةِ عَبْدِهِ فِي عِتْقِ الْعَبْدِ الْبَاقِي فَيَدْفَعُ بِهَا أَوْ يَفْدِي ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إلَى مَوْلَى الْعَبْدِ الْبَاقِي كَمَالُ حَقِّهِ ، وَإِنْ دَفَعَ مَوْلَى الْقَاتِلِ عَبْدَهُ قَامَ الْمَدْفُوعُ مَقَامَ الْمَقْتُولِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَقْتُولَ لَوْ كَانَ الْبَاقِيَ كَأَنْ يُخَيَّرَ مَوْلَاهُ أَوَّلًا ، فَإِنْ دَفَعَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْمَوْلَى الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ مِنْ أَرْشِ جِرَاحَةِ عَبْدِهِ شَيْءٌ ، وَإِنْ فَدَاهُ رَجَعَ فِي عُنُقِ صَاحِبِهِ بِأَرْشِ جِرَاحَةِ عَبْدِهِ فَكَذَا هُنَا .
وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ الثَّالِثُ قَتَلَ الْآخَرَ مِنْهُمَا فَدَفَعَهُ مَوْلَاهُ قَامَ الْمَدْفُوعُ مَقَامَ الْمَقْتُولِ ، فَإِنْ فَدَاهُ بِقِيمَتِهِ خُيِّرَ مَوْلَى الْبَادِي بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ ، فَإِنَّ دَفْعَهُ إلَيْهِ شَيْءٌ لَهُ عَلَى مَوْلَى الْمَقْتُولِ ، وَلَا فِي قِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ اخْتِيَارِهِ الدَّفْعَ يَكُونُ حَقُّ مَوْلَى الْمَقْتُولِ ثَابِتًا فِي أَرْشِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْعَبْدِ الْبَادِي فَلَا يُفِيدُ رُجُوعُ مَوْلَاهُ عَلَيْهِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ مَا قَبَضَهُ مِنْهُ يَلْزَمُهُ رَدُّهُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ فَدَاهُ ، فَقَدْ طَهَّرَ عَبْدَهُ مِنْ الْجِنَايَةِ ، وَقَدْ فَاتَ الْمَقْتُولُ وَأَخْلَفَ قِيمَةً فَيَرْجِعُ فِي تِلْكَ الْقِيمَةِ
بِأَرْشِ جِرَاحَةِ عَبْدِهِ ، وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ الْقَاتِلُ خُيِّرَ مَوْلَى الْعَبْدِ الْبَادِئُ ، فَإِنْ شَاءَ دَفَعَ أَرْشَ شَجَّةِ الْمَقْتُولِ ، وَإِنْ شَاءَ دَفَعَ نَفْسَهُ وَأَيَّهُمَا فَعَلَ ، فَقَدْ بَطَلَ حَقُّهُ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ كَانَ فِي الْمَقْتُولِ مَشْجُوجًا ، وَقَدْ فَاتَ وَلَمْ يَخْلُفْ عِوَضًا ؛ لِأَنَّ عِوَضَهُ كَانَ الْعَبْدَ الْقَاتِلَ ، وَقَدْ فَاتَ وَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ .
وَلَوْ مَاتَ الْبَادِئُ بِالضَّرْبَةِ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ وَبَقِيَ الْآخَرُ ، فَإِنَّ مَوْلَى الْبَادِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ دَفَعَ إلَى مَوْلَى الثَّانِي أَرْشَ جِنَايَةِ عَبْدِهِ وَيَتْبَعُ عَبْدَهُ بِأَرْشِ جِنَايَةِ عَبْدِهِ ؛ لِأَنَّ بِالْفِدَاءِ طَهَّرَ عَبْدَهُ عَنْ الْجِنَايَةِ ، وَقَدْ جَنَى الْعَبْدُ الْآخَرُ عَلَى عَبْدِهِ فَيَتْبَعُهُ بِأَرْشِ ذَلِكَ وَيُخَيَّرُ مَوْلَى الْعَبْدِ بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ عَبْدَهُ بِذَلِكَ أَوْ يَفْدِيَهُ ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يَدْفَعَ الْأَرْشَ فَلَا شَيْءَ لَهُ فِي عُنُقِ الْعَبْدِ الْحَيِّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ هُوَ الْمُخَاطَبُ ابْتِدَاءً لِبُدَاءَةِ عَبْدِهِ بِالْجِنَايَةِ وَشَرْطُ وُجُوبِ الْجِنَايَةِ بِوَجْهِ الْخِطَابِ لَهُ عَلَى مَوْلَى الْبَاقِي أَنْ يَدْفَعَ أَرْشَ جِنَايَةِ عَبْدِهِ عَلَيْهِ ، فَإِذَا انْعَدَمَ هَذَا الشَّرْطُ بِإِبَائِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَوْلَى الْمَفْقُوءَةِ عَيْنَاهُ إذَا دَفَعَ الشَّجَّةَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِع عَلَى الْبَاقِي بِشَيْءٍ .
وَلَوْ أَنَّ عَبْدَيْنِ الْتَقَيَا وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَصًا فَشَجَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ مُوضِحَةً وَأَحَدُهُمَا بَدَأَ بِالضَّرْبَةِ ، وَهُوَ مَعْلُومٌ فَمَاتَ الضَّارِبُ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا مِنْ ضَرْبَةِ صَاحِبِهِ وَبَرِئَ الْآخَرُ فَمَوْلَى الْعَبْدِ الْمَيِّتِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ دَفَعَ أَرْشَ جِنَايَةِ الْحَيِّ فَكَانَتْ قِيمَةُ عَبْدِهِ فِي عُنُقِ الْحَيِّ وَخُيِّرَ مَوْلَاهُ بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَهُ أَوْ يَفْدِيَهُ ؛ لِأَنَّهُ بِالْفِدَاءِ طَهَّرَ عَبْدَهُ ، وَإِنْ شَاءَ قَتَلَ الْعَبْدَ الْبَاقِيَ وَيُخَيَّرُ مَوْلَاهُ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ ، وَلَا يَتَعَلَّقُ حَقُّهُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْبَاقِيَ إنَّمَا قَتَلَ الضَّارِبَ الْأَوَّلَ ، وَهُوَ مَشْجُوجٌ ، وَإِنْ أَبَى مَوْلَى الْمَيِّتِ أَنْ يَدْفَعَ أَرْشَ جِنَايَةِ الْحَيِّ فَلَا شَيْءُ لَهُ فِي عُنُقِ الْحَيِّ لِتَفْوِيتِهِ شَرْطَهُ كَمَا بَيَّنَّا .
وَلَوْ كَانَا بَرِئَا مِنْ الْمُوضِحَتَيْنِ ، ثُمَّ إنَّ الْبَادِيَ مِنْهُمَا قَتَلَ الْآخَرَ خَطَأً خُيِّرَ مَوْلَاهُ ، فَإِنْ شَاءَ دَفَعَهُ ، وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ بِأَرْشِ الْمُوضِحَةِ وَبِالْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ تَخَلَّلَ بَيْنَ الْجِنَايَتَيْنِ بُرْءٌ فَتَكُونُ جِنَايَتُهُ الثَّانِيَةُ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْأَوَّلِ بِمَنْزِلَةِ جِنَايَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ ، فَإِذَا فَدَاهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ اخْتِيَارِ الدَّفْعِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَدْفَعَ أَرْشَ الْجِنَايَةِ عَلَى عَبْدِهِ مَعَهُ فَلَا يَكُونُ اسْتِيفَاؤُهُ مُفِيدًا شَيْئًا ، وَإِنْ فَدَاهُ كَانَ أَرْشُ شَجَّةِ الْمَقْتُولِ لِمَوْلَاهُ خَاصَّةً وَيَكُونُ أَرْشُ شَجَّةِ الْحَيِّ فِي هَذِهِ الْقِيمَةِ الْمَقْبُوضَةِ يَأْخُذُهُ مَوْلَاهُ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ كَانَ ثَابِتًا فِي الْمَقْتُولِ ، وَقَدْ فَاتَ وَأَخْلَفَ قِيمَةً فَيَثْبُتُ حَقُّهُ فِي تِلْكَ الْقِيمَةِ وَذَلِكَ بِقَدْرِ أَرْشِ شَجَّةِ الْحَيِّ ، وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ هُوَ الَّذِي قَتَلَ الْبَادِيَ خَطَأً ، فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ مَوْلَى الْمَقْتُولِ ، فَإِنْ شَاءَ أَبْطَلَ جِنَايَتَهُ ، وَلَا شَيْءَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ ، وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ بِأَرْشِ مُوضِحَةِ
الْحَيِّ ، ثُمَّ يُخَيَّرُ مَوْلَى الْحَيِّ بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ عَبْدَهُ أَوْ يَفْدِيَهُ بِقِيمَةِ الْمَقْتُولِ .
وَهَذَا نَظِيرُ مَا سَبَقَ عَلَى مَعْنَى أَنَّ مَوْلَى الْبَادِي هُوَ الْمُخَاطَبُ أَوَّلًا وَشَرْطُ ثُبُوتِ حَقِّ الرُّجُوعِ لَهُ أَنْ يَفْدِيَ عَبْدَهُ بِمُوضِحَةِ الْعَبْدِ الْحَيِّ ، فَإِنْ وَجَدَ مِنْهُ هَذَا الشَّرْطَ يَكُونُ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ مَوْلَى الْحَيِّ بِمُوجَبِ جِنَايَةِ عَبْدِهِ عَلَى عَبْدِهِ ، فَإِنْ أَبَى إيجَادَ هَذَا الشَّرْطِ كَانَ مُبْطِلًا حَقَّهُ فَلَا شَيْءَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ ، وَإِنْ اخْتَارَ مَوْلَى الْعَبْدِ الْآخَرِ دَفْعَ عَبْدِهِ فَدَفَعَهُ ، فَإِنَّ أَرْشَ الشَّجَّةِ الَّتِي شَجَّهَا الْأَوَّلُ فِي عُنُقِهِ ، فَإِنْ شَاءَ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ فَدَاهُ ، وَإِنْ شَاءَ دَفَعَهُ الْمَوْلَى إلَى الْمَدْفُوعِ فَهُوَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَقْتُولِ وَسَوَاءٌ دَفَعَهُ أَوْ فَدَاهُ لَمْ يَكُنْ لِلْأَوَّلِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ مِنْ الْآخَرِ عَلَى الْأَوَّلِ كَانَتْ ، وَهُوَ مَشْجُوجٌ فَلَا يَتَعَلَّقُ حَقُّ مَوْلَى الْأَوَّلِ بِبَدَلِ تِلْكَ الشَّجَّةِ .
قَالَ الْحَاكِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْآخَرَ يَسْبِقُ إلَى الدَّفْعِ قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ الْأَوَّلُ شَيْئًا فَالْحُكْمُ مَا بَيَّنَهُ أَوَّلًا ، وَإِنْ كَانَ لَا يُعْرَفُ الْبَادِئُ مِنْ الْعَبْدَيْنِ بِالضَّرْبَةِ ، ثُمَّ قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بَعْدَمَا بَرِئَا ، فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ مَوْلَى الْقَاتِلِ ، فَإِنْ شَاءَ دَفَعَ عَبْدَهُ ، وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ بِقِيمَةِ الْمَقْتُولِ الْمَشْجُوجِ صَحِيحًا ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا جِنَايَةَ الْقَاتِلِ عَلَى الْمَقْتُولِ وَكُنَّا قَدْ عِلْمنَا أَنَّ الْمَقْتُولَ كَانَ صَحِيحًا وَاشْتَبَهَ حَالُهُ وَقْتَ الْقَتْلِ فَيَجِبُ التَّمَسُّكَ بِمَا كَانَ مَعْلُومًا فَلِهَذَا يَفْدِيهِ بِقِيمَتِهِ صَحِيحًا إنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ ، فَإِنْ دَفَعَهُ كَانَ لَهُ نِصْفُ أَرْشِ شَجَّتِهِ فِي عُنُقِهِ بِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ كَمَا بَيَّنَّا ، فَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ بِذَلِكَ ، وَإِنْ شَاءَ دَفَعَ مِنْهُ حِصَّةَ قِيمَةِ الْعَبْدِ مَشْجُوجًا مِنْ الْعَبْدِ الَّذِي دَفَعَهُ أَوْ يَفْدِيهِ ،
فَإِنْ فَدَاهُ بِقِيمَتِهِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِأَرْشِ الشَّجَّةِ فِي الْفِدَاءِ الَّذِي دَفَعَهُ بَعْدَمَا يَدْفَعُ الْعَبْدُ الْمَقْتُولُ نِصْفَ أَرْشِ شَجَّتِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الَّذِي فَدَى عَبْدَهُ بِقِيمَتِهِ بِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ فِيهِ فَيُسَلَّمُ ذَلِكَ لِمَوْلَى الْعَبْدِ الْمَقْتُولِ مِنْ الْفِدَاءِ أَوْ يَرْجِعُ فِيمَا بَقِيَ مِنْهُ بِأَرْشِ شَجَّةِ عَبْدِهِ .
وَلَوْ الْتَقَى عَبْدَانِ وَتَضَارَبَا فَقَطَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَ صَاحِبِهِ مَعًا فَبَرِئَا ، فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ مَوْلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَإِنْ شَاءَ دَفَعَ عَبْدَهُ وَأَخَذَ عَبْدَ صَاحِبِهِ ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ عَبْدَهُ ، وَلَا شَيْءَ لَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْحُرِّ إذَا كَانَ هُوَ الْقَاطِعَ لِيَدِ الْعَبْدِ فَكَذَلِكَ فِي الْعَبْدَيْنِ .
وَلَوْ أَنَّ أَمَةً قَطَعَتْ يَدَ رَجُلٍ ، ثُمَّ وَلَدَتْ وَلَدًا فَقَتَلَهَا وَلَدُهَا خَطَأً ، فَإِنَّ الْمَوْلَى بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ دَفَعَ الْوَلَدَ إلَى الْمَقْطُوعَةِ يَدُهُ ، وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ وَأَيَّهُمَا فَعَلَ خُيِّرَ مَوْلَى الْمَقْطُوعَةِ يَدُهُ بَيْنَ دَفْعِ الْأَقَلِّ مِنْ دِيَةِ الْعَبْدِ وَمِنْ قِيمَةِ الْأُمِّ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَقْطُوعَةِ يَدُهُ كَانَ ثَابِتًا فِي الْأُمِّ وَالْوَلَدُ مَا انْفَصَلَ عَنْهَا ، بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ آخَرَ جَنَى عَلَيْهَا فَتُعْتَبَرُ جِنَايَتُهُ لِحَقِّ صَاحِبِ الْيَدِ وَيُخَيَّرُ كَمَا بَيَّنَّا .
وَلَوْ أَنَّ عَبْدًا قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً ، ثُمَّ إنَّ عَبْدَ الرَّجُلِ قَطَعَ يَدَ هَذَا الْعَبْدِ خَطَأً فَبَرِآ فَمَوْلَى الْقَاطِعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ دَفَعَ عَبْدَهُ ، وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ وَأَيَّهُمَا فَعَلَ خُيِّرَ مَوْلَى الْمَقْطُوعَةِ يَدُهُ ، فَإِنْ شَاءَ دَفَعَ عَبْدَهُ وَمَا أَخَذَ بِجِنَايَتِهِ مَعَهُ ، وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ ؛ لِأَنَّ عَبْدَهُ كَانَ صَحِيحًا حِينَ قَتَلَ الرَّجُلَ فَحَقُّ وَلِيِّهِ كَانَ ثَابِتًا فِي الْجُزْءِ الْفَائِتِ مِنْهُ بِقَطْعِ الْعَبْدِ يَدَهُ إلَى بَدَلٍ فَيَثْبُتُ حَقُّهُ فِي بَدَلِهِ أَيْضًا ، فَإِذَا اخْتَارَ دَفْعَهُ فَعَلَيْهِ دَفْعُ بَدَلِ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ هَذَا اخْتِيَارًا لِلْآخَرِ ؛ لِأَنَّ نَفْسَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا اُسْتُحِقَّتْ بِجِنَايَتِهِ وَأَحَدُهُمَا مُنْفَصِلٌ عَنْ الْآخَرِ فَكَانَ هَذَا وَمَا لَوْ كَانَتْ جِنَايَتُهُمَا عَلَى شَخْصَيْنِ سَوَاءٌ فَلَا يَكُونُ إعْتَاقُهُ أَحَدِهِمَا اخْتِيَارًا فِي حَقِّ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَذَّرُ دَفْعُ الْآخَرِ بِجِنَايَتِهِ بِسَبَبِ هَذَا الْإِعْتَاقِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا سَبَقَ ، فَإِنَّ الْمَوْلَى لَوْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ الْمَدْفُوعَ بِالْيَدِ الْمَقْطُوعَةِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ اخْتِيَارًا لِلْفِدَاءِ ؛ لِأَنَّ دَفْعَهُمَا كَانَ بِاعْتِبَارِ جِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَفِي الْجِنَايَةِ الْوَاحِدَةِ اخْتِيَارُهُ فِي الْبَعْضِ يَكُونُ اخْتِيَارًا فِي الْكُلِّ .
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ فَأَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ قَبْلَ أَنْ تَبْرَأَ ، وَهُوَ يَعْلَمُ بِذَلِكَ أَوْ لَا يَعْلَمُ فَلَا شَيْءَ لَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِنُقْصَانِ قِيمَةِ عَبْدِهِ فِي قَوْلِهِمَا ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ ، فَإِنَّهُ بِالْإِعْتَاقِ فَوَّتَ بِتَسْلِيمِ الْجُثَّةِ ، وَلَوْ مَنَعَ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ فَكَذَلِكَ إذَا فَوَّتَهُ وَعِنْدَهُمَا لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ تَسْلِيمِ الْجُثَّةِ وَيَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْقِيمَةِ فَكَذَلِكَ إذَا فَوَّتَ ذَلِكَ بِالْعِتْقِ .
أُمُّ وَلَدٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ كَاتَبَاهَا فَقَتَلَتْ أَحَدَ الْمَوْلَيَيْنِ خَطَأً فَعَلَيْهَا الْأَقَلُّ مِنْ الْقِيمَةِ وَمِنْ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْمُكَاتَبَةِ عَلَى مَوْلَاهَا كَجِنَايَتِهَا عَلَى أَجْنَبِيٍّ آخَرَ ، وَقَدْ جَنَتْ وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ فَعَلَيْهَا الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهَا وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ ، فَإِنْ قَتَلَتْ الْآخَرَ بَعْدَهُ فَعَلَى عَاقِلَتِهَا الدِّيَةُ ؛ لِأَنَّهَا عَتَقَتْ حِينَ قَتَلَتْ الْأَوَّلَ مِنْهُمَا عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا ، وَإِنْ لَزِمَهَا السِّعَايَةُ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ فَالْمُسْتَسْعَى حُرٌّ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا سِعَايَةَ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ لِمَوْلَاهَا فَعَرَفْنَا أَنَّهَا قَتَلَتْ الْآخَرَ مِنْهُمَا وَهِيَ حُرَّةٌ فَعَلَيْهَا الدِّيَةُ وَعَلَيْهَا كَفَّارَتَانِ ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ بِالْقَتْلِ تَجِبُ عَلَى الْمَمْلُوكَةِ كَمَا تَجِبُ عَلَى الْحُرِّ ، وَإِنْ قَتَلَتْهُمَا مَعًا فَعَلَيْهَا قِيمَتُهَا ؛ لِأَنَّهَا جَنَتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ ، وَإِنَّمَا عَتَقَتْ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَلَوْ جَنَتْ عَلَى أَجْنَبِيَّيْنِ ، ثُمَّ عَتَقَتْ كَانَ عَلَيْهَا قِيمَتُهَا لَهُمَا فَكَذَلِكَ إنْ جَنَتْ عَلَى مَوْلَيَيْهَا .
وَإِذَا قَطَعَ الرَّجُلُ يَدَ عَبْدِ قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَلَمْ يَبْرَأْ حَتَّى زَادَتْ قِيمَتُهُ فَصَارَتْ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ قَطَعَ آخَرُ رِجْلَهُ مِنْ خِلَافٍ ، ثُمَّ مَاتَ مِنْهُمَا جَمِيعًا قَالَ عَلَى الْأَوَّلِ سِتُّمِائَةِ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا ، وَعَلَى الْآخَرِ سَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا قَالَ الْحَاكِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَفِي جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَظَرٌ ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ أَجَابَ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ بِخِلَافِ هَذَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا تَمَامَهُ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعِنْدِي مَا ذَكَرَ هَاهُنَا صَحِيحٌ وَتَأْوِيلُهُ أَنَّ قِيمَتَهُ صَارَتْ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ صَحِيحًا لَا مَقْطُوعَ الْيَدِ فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الْجَوَابُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْأَوَّلَ حِينَ قَطَعَ يَدَهُ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ لَزِمَهُ بِالْقَطْعِ خَمْسُمِائَةٍ ، ثُمَّ الثَّانِي بِقَطْعِ الرِّجْلِ أَتْلَفَ نِصْفَ مَا بَقِيَ فَيَلْزَمُهُ أَيْضًا خَمْسُمِائَةٍ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ قِيمَتُهُ صَحِيحًا أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَقِيمَةُ مَقْطُوعِ الْيَدِ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، وَقَدْ أَتْلَفَ نِصْفَهُ بِقَطْعِ الرِّجْلِ ، وَهُوَ مَقْطُوعُ الْيَدِ فَيَلْزَمُهُ خَمْسُمِائَةٍ فَحِينَ مَاتَ مِنْهَا ، فَقَدْ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتْلِفًا نِصْفَ مَا بَقِيَ مِنْهُ بِسِرَايَةِ جِنَايَتِهِ إلَّا أَنَّ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ لَا مُعْتَبَرَ بِزِيَادَةِ الْقِيمَةِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ نِصْفُ هَذَا مِنْ الْقِيمَةِ الْأُولَى وَالْقِيمَةُ الْأُولَى كَانَتْ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَرُبْعُ تِلْكَ الْقِيمَةِ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ فَعَلَيْهِ بِالسِّرَايَةِ نِصْفُ ذَلِكَ الرُّبْعِ ، وَهُوَ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ ، فَإِذَا ضَمَمْت ذَلِكَ إلَى خَمْسِمِائَةٍ يَكُونُ سِتَّمِائَةٍ وَخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ ، وَقَدْ أُوجِبَ عَلَى الْأَوَّلِ هَذَا الْمِقْدَارُ وَالْآخَرُ مِنْهُمَا لَزِمَهُ بِالسِّرَايَةِ قِيمَةُ مَا تَلِفَ بِسِرَايَةِ فِعْلُهُ وَذَلِكَ مُعْتَبَرٌ مِنْ قِيمَتِهِ وَقْتَ جِنَايَتِهِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَرُبْعُ تِلْكَ الْقِيمَةِ خَمْسُمِائَةٍ
فَنِصْفُ الرُّبْعِ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ ، وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ بِأَصْلِ الْجِنَايَةِ خَمْسُمِائَةٍ وَبِالسِّرَايَةِ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ فَذَلِكَ سَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ دِرْهَمًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إمْلَاءُ يَوْمِ الْأَرْبِعَاءِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْآخَرِ سَنَةَ سِتٍّ وَسِتِّينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ : الْأَصْلُ فِي إيجَابِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ قَضَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِأَوْلِيَاءِ الضَّارِبَةِ : قُومُوا فَدُوهُ .
قَالَ أَخُوهَا عَمْرُو بْنُ عُوَيْمِرٍ الْأَسْلَمِيُّ : أَنَدِي مَنْ لَا عَقَلَ وَلَا صَاحَ وَلَا اسْتَهَلَّ وَلَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ وَمِثْلُ دَمِهِ يُطَلُّ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الْكُهَّانِ ؟ أَوْ قَالَ : دَعْنِي وَأَرَاجِيزَ الْعَرَبِ قُومُوا فَدُوهُ فَقَالَ : إنَّ لَهَا بَيْتًا هُمْ سُرَاةُ الْحَيِّ وَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنِّي فَقَالَ : بَلْ أَنْتَ أَحَقُّ بِهَا قُمْ فَدِهِ } وَشَيْءٌ مِنْ الْمَعْقُولِ يَدُلُّ عَلَيْهِ ، وَهُوَ أَنَّ الْخَاطِئَ مَعْذُورٌ وَعُذْرُهُ لَا يُعْدِمُ حُرْمَةَ نَفْسِ الْمَقْتُولِ وَلَكِنْ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ فَأَوْجَبَ الشَّرْعُ الدِّيَةَ صِيَانَةً لِنَفْسِ الْمَقْتُولِ عَنْ الْهَدَرِ ، وَفِي إيجَابِ الْكُلِّ عَلَى الْقَاتِلِ إجْحَافٌ بِهِ وَاسْتِئْصَالٌ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعُقُوبَةِ ، وَقَدْ سَقَطَتْ الْعُقُوبَةُ عَنْهُ لِلْعُذْرِ فَضَمَّ الشَّرْعُ إلَيْهِ الْعَاقِلَةَ لِدَفْعِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ عَنْهُ ، وَكَذَلِكَ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْآلَةَ آلَةُ التَّأْدِيبِ وَلَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ مَحْظُورًا مَحْضًا وَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ ، فَلَا يَكُونُ جَمِيعُ الدِّيَةِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ لِدَفْعِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ عَنْهُ ، وَلَكِنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ الدِّيَةَ هَاهُنَا مُغَلَّظَةً لِيَظْهَرَ تَأْثِيرُ مَعْنَى الْعَمْدِ وَأَوْجَبَهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ لِدَفْعِ مَنْعِ الْعُقُوبَةِ عَنْ الْقَاتِلِ .
ثُمَّ هَذَا الْفَصْلُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِضَرْبِ اسْتِهَانَةٍ وَقِلَّةِ مُبَالَاةٍ وَتَقْصِيرٍ فِي التَّحَرُّزِ
وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِقُوَّةٍ يَجِدُهَا الْمَرْءُ فِي نَفْسِهِ وَذَلِكَ بِكَثْرَةِ أَعْوَانِهِ وَأَنْصَارِهِ وَإِنَّمَا يَنْصُرُهُ عَاقِلَتُهُ فَضُمُّوا إلَيْهِ فِي إيجَابِ الدِّيَةِ عَلَيْهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ لِهَذَا الْمَعْنَى ، وَكُلُّ أَحَدٍ لَا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُبْتَلَى بِمِثْلِهِ وَعِنْدَ ذَلِكَ يَحْتَاجُ إلَى إعَانَةِ غَيْرِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعِينَ مَنْ اُبْتُلِيَ لِيُعِينَهُ غَيْرُهُ إذَا اُبْتُلِيَ بِمِثْلِهِ كَمَا هُوَ الْعَادَةُ بَيْنَ النَّاسِ فِي التَّعَاوُنِ وَالتَّوَادِّ فَهَذَا هُوَ صُورَةُ أُمَّةٍ مُتَنَاصِرَةٍ وَجِبِلَّةُ قَوْمٍ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ مُتَعَاوِنِينَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَبِهِ أَمَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - الْأُمَّةَ هَذِهِ ، ثُمَّ كَانَتْ لِلْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَسْبَابٌ لِلتَّنَاصُرِ مِنْهَا الْقَرَابَةُ ، وَمِنْهَا الْوَلَاءُ ، وَمِنْهَا الْحِلْفُ ، وَمِنْهَا مُمَاحَلَةُ الْعَدُوِّ ، وَقَدْ بَقِيَ ذَلِكَ إلَى زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَكُونُوا حُلَفَاءَ لَهُ كَمَا كَانُوا حُلَفَاءَ لِجَدِّهِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ .
وَدَخَلَ بَنُو بَكْرٍ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ لِيَكُونُوا حُلَفَاءَ لَهُمْ الْحَدِيثَ فَكَانُوا يَضِلُّونَ عَنْ حَلِيفِهِمْ وَعَدِيدِهِمْ وَيَعْقِلُ عَنْهُمْ حَلِيفُهُمْ وَعَدِيدُهُمْ وَمَوْلَاهُمْ بِاعْتِبَارِ التَّنَاصُرِ كَمَا يَعْقِلُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ بِاعْتِبَارِ التَّنَاصُرِ .
فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَدَوَّنَ الدَّوَاوِينَ صَارَ التَّنَاصُرُ بَيْنَهُمْ بِالدِّيوَانِ فَكَانَ أَهْلُ دِيوَانٍ وَاحِدٍ يَنْصُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى فَجَعَلَ عُمَرُ الْعَاقِلَةَ أَهْلَ الدِّيوَانِ .
بَيَانُهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَدَأَ بِهِ الْكِتَابَ فَقَالَ : بَلَغَنَا أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَضَ الْعَقْلَ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ وَسَّعَ الدِّيوَانَ فَجَعَلَ الْعَقْلَ فِيهِ ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى عَشِيرَةِ الرَّجُلِ فِي أَمْوَالِهِمْ وَبِهَذَا أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَقَالُوا : الْعَقْلُ
عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ مِنْ الْعَاقِلَةِ .
وَأَبَى الشَّافِعِيُّ ذَلِكَ فَقَالَ : هُوَ عَلَى الْعَشِيرَةِ فَقَدْ كَانَ عَلَيْهِمْ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَسْخَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ .
وَلَكِنَّا نَقُولُ : قَدْ قَضَى بِهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ فَكَانَ ذَلِكَ إجْمَاعًا مِنْهُمْ ، فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يُظَنُّ بِهِمْ الْإِجْمَاعُ عَلَى خِلَافِ مَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْنَا : هَذَا اجْتِمَاعٌ عَلَى وِفَاقِ مَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِهِ عَلَى الْعَشِيرَةِ بِاعْتِبَارِ النُّصْرَةِ وَكَانَ قُوَّةُ الْمَرْءِ وَنُصْرَتُهُ يَوْمَئِذٍ بِعَشِيرَتِهِ ، ثُمَّ لَمَّا دَوَّنَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الدَّوَاوِينَ صَارَتْ الْقُوَّةُ وَالنُّصْرَةُ بِالدِّيوَانِ ، فَقَدْ كَانَ الْمَرْءُ يُقَاتِلُ قَبِيلَتَهُ عَنْ دِيوَانِهِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ يَوْمَ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ جَعَلَ بِإِزَاءِ كُلِّ قَبِيلَةٍ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الْقَبِيلَةِ لِيَكُونُوا هُمْ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ قَوْمَهُمْ فَلِهَذَا قَضَوْا بِالدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ .
ثُمَّ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ : إلْزَامُ الدِّيَةِ الْعَاقِلَةَ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ وَالصِّلَةُ الْمَالِيَّةُ مُسْتَحَقَّةٌ بِوَصْلَةِ الْقَرَابَةِ دُونَ الدِّيوَانِ كَالنَّفَقَةِ وَالْمِيرَاثِ .
وَنَحْنُ نَقُولُ : الْوُجُوبُ عَلَيْهِمْ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ كَمَا قَالَ وَإِيجَابُهُ فِيمَا هُوَ صِلَةٌ أَوْلَى وَأَهْلُ دِيوَانٍ وَاحِدٍ فِيمَا يَخْرُجُ مِنْ الصِّلَةِ لَهُمْ بِعَيْنِ الْعَطَاءِ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ، وَإِيجَابُ هَذِهِ الصِّلَةِ فِيمَا يَصِلُ إلَيْهِمْ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ أَوْلَى فِي إيجَابِهِ مِنْ أُصُولِ أَمْوَالِهِمْ ، ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ النُّصْرَةُ فَفِي حَقِّ كُلِّ قَاتِلٍ يُعْتَبَرُ مَا بِهِ تَتَحَقَّقُ النُّصْرَةُ ، وَتَنَاصُرُ أَهْلِ الدِّيوَانِ يَكُونُ
بِالدِّيوَانِ ، فَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ مِنْ قَوْمٍ يَتَنَاصَرُونَ بِالْحِلْفِ فَذَلِكَ هُوَ الْمُعْتَبَرُ ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى مَتَى عَقَلَ فِي الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ تَعَدَّى الْحُكْمُ بِذَلِكَ الْمَعْنَى إلَى الْفُرُوعِ ، ثُمَّ الْقَاتِلُ أَحَدُ الْعَوَاقِلِ يَلْزَمُهُ مِنْ الدِّيَةِ مِثْلُ مَا يَلْزَمُ أَحَدَ الْعَاقِلَةِ عِنْدَنَا .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ عَلَى الْقَاتِلِ شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ مَرْفُوعٌ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ } وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ } ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ ، ثُمَّ هَذَا الْجُزْءُ كَسَائِرِ الْأَجْزَاءِ فَبِالْمَعْنَى الَّذِي نُوجِبُ سَائِرَ الْأَجْزَاءِ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْ نُصْرَةٍ أَوْ صِلَةٍ نُوجِبُ هَذَا الْجُزْءَ عَلَيْهِمْ أَيْضًا وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْإِيجَابُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِدَفْعِ الْإِجْحَافِ وَالِاسْتِئْصَالِ عَنْ الْقَاتِلِ وَالتَّخْفِيفِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ فِي الْكُلِّ لَا فِي الْجُزْءِ ، ثُمَّ الْوُجُوبُ عَلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ النُّصْرَةِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَنْصُرُ نَفْسَهُ كَمَا يَنْصُرُ غَيْرَهُ وَكَمَا أَنَّهُ مَعْذُورٌ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ شَرْعًا فَالْعَاقِلَةُ لَا يُؤَاخَذُونَ بِفِعْلِهِ أَيْضًا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - : { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } ، وَمَنْ لَمْ يَجْنِ فَهُوَ أَبْعَدُ مِنْ الْمُؤَاخَذَةِ مِنْ الْجَانِي الْمَعْذُورِ ، فَإِذَا أَوْجَبْنَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَاقِلَةِ جُزْءًا مِنْ الدِّيَةِ فَلَأَنْ نُوجِبَ عَلَيْهِ مِثْلَ ذَلِكَ أَوْلَى ، وَهَذَا لِأَنَّ مَحَلَّ أَدَاءِ الْوَاجِبِ الْعَطَاءُ الَّذِي يَخْرُجُ لَهُمْ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَكَمَا يَخْرُجُ الْعَطَاءُ لِغَيْرِ الْقَاتِلِ يَخْرُجُ لِلْقَاتِلِ .
وَذُكِرَ عَنْ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ قَالَ : فَرَضَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الدِّيَةَ تُؤْخَذُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَالنِّصْفُ فِي سَنَتَيْنِ وَمَا دُونَ الثُّلُثِ فِي سَنَةٍ وَبِهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ جَمِيعُ
الدِّيَةِ مَتَى وَجَبَتْ بِنَفْسِ الْقَتْلِ كَانَتْ مُؤَجَّلَةً فِي ثَلَاثِ سِنِينَ سَوَاءٌ كَانَتْ عَلَى الْعَاقِلَةِ أَوْ فِي مَالِ الْقَاتِلِ كَالْأَبِ يَقْتُلُ ابْنَهُ عَمْدًا ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الدِّيَاتِ ، وَإِذَا كَانَ جَمِيعُ الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَكُلُّ ثُلُثٍ مِنْهُ فِي سَنَةٍ .
وَمَتَى كَانَ الْوَاجِبُ بِالْقَتْلِ ثُلُثَ بَدَلِ النَّفْسِ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ كَانَ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إلَى تَمَامِ الثُّلُثَيْنِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ الدِّيَةِ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ تَقَوُّمَ النَّفْسِ بِالْمَالِ غَيْرُ مَعْقُولٍ ، وَإِنَّمَا عُرِفَ ذَلِكَ شَرْعًا وَالشَّرْعُ إنَّمَا وَرَدَ بِإِيجَابِ الدِّيَةِ مُؤَجَّلَةً فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَعَلَيْنَا اتِّبَاعُ ذَلِكَ وَاتِّبَاعُ الْأَجْزَاءِ بِالْجُمْلَةِ فِي مِقْدَارِ مَا يَثْبُتُ فِيهَا مِنْ الْأَجَلِ .
وَالشَّافِعِيُّ يَجْعَلُ التَّأْجِيلَ لِمَعْنَى التَّخْفِيفِ كَالْإِيجَابِ عَلَى الْعَاقِلَةِ مَعْنَى التَّخْفِيفِ مَعْقُولٌ فَأَمَّا فِي التَّأْجِيلِ فَمَعْنَى نُقْصَانِ الْمَالِيَّةِ ؛ لِأَنَّ الْمُؤَجَّلَ فِي الْمَالِيَّةِ أَنْقَصُ مِنْ الْحَالِّ وَبِسَبَبِ صِفَةِ الْعَمْدِيَّةِ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا لِلتَّخْفِيفِ وَلَكِنْ لَيْسَ لِهَذِهِ الصِّفَةِ تَأْثِيرٌ فِي إيجَابِ زِيَادَةٍ عَلَى قِيمَةِ الْمُتْلَفِ وَلَوْ أَوْجَبْنَا الدِّيَةَ عَلَيْهِ حَالًّا كَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً ، فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ مُغَلَّظَةً وَفِيهِ إيجَابُ زِيَادَةِ الْمَالِيَّةِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْعَمْدِ ؟ قُلْنَا : نَعَمْ وَلَكِنَّا إنَّمَا نُنْكِرُ إيجَابَ الزِّيَادَةِ بِالرَّأْيِ فِيمَا لَا مَدْخَلَ لِلرَّأْيِ فِيهِ وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ إنَّمَا أَوْجَبْنَاهَا بِالنَّصِّ كَأَصْلِ الْمَالِ بِمُقَابِلَةِ النَّفْسِ أَوْجَبْنَاهُ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ فِي دِيَةِ الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ : فِي النَّفْسِ عَلَى الْعَاقِلَةِ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ فِي ثَلَاثَةِ أَعْوَامٍ فِي كُلِّ عَامٍ الثُّلُثُ ، وَمَا كَانَ مِنْ
جِرَاحَاتِ الْخَطَأِ فَعَلَى الْعَاقِلَةِ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ إذَا بَلَغَتْ الْجِرَاحَةُ ثُلُثَيْ الدِّيَةِ فَفِي عَامَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ النِّصْفُ فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ فَفِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ وَبِهِ نَقُولُ ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ مِنْ الْأَرْشِ مَتَى بَلَغَ نِصْفَ عُشْرِ بَدَلِ النَّفْسِ فِي حَقِّ الرَّجُلِ أَوْ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، وَمَا دُونَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الْمَالِ يَكُونُ عَلَى الْجَانِي .
وَالشَّافِعِيُّ يُسَوِّي بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ .
وَالْقِيَاسُ فِيهِ أَحَدُ السَّبَبَيْنِ .
أَمَّا التَّسْوِيَةُ فَكَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي إيجَابِ الْكُلِّ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَالتَّسْوِيَةُ فِي أَنْ لَا يُوجَبَ شَيْءٌ عَلَى الْعَاقِلَةِ كَمَا فِي ضَمَانِ الْمَالِ وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالسُّنَّةِ ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ السُّنَّةُ فِي أَرْشِ الْجَنِينِ بِالْإِيجَابِ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَأَرْشُ الْجَنِينِ نِصْفُ عُشْرِ بَدَلِ الرَّجُلِ فَيَقْضِي بِذَلِكَ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَفِيمَا دُونَهُ يُؤْخَذُ بِالْقِيَاسِ .
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا وَلَا صُلْحًا وَلَا اعْتِرَافًا وَلَا مَا دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ } .
وَأَرْشُ الْمُوضِحَةِ نِصْفُ عُشْرِ بَدَلِ النَّفْسِ فَفِيمَا دُونَهُ يُؤْخَذُ بِالْقِيَاسِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِيجَابَ عَلَى الْعَاقِلَةِ كَانَ لِمَعْنَى دَفْعِ الْإِجْحَافِ عَنْ الْجَانِي وَذَلِكَ فِي الْكَثِيرِ دُونَ الْقَلِيلِ فَلِهَذَا أَوْجَبْنَا الْكَثِيرَ عَلَى الْعَاقِلَةِ دُونَ الْقَلِيلِ وَالْفَاضِلُ بَيْنَهُمَا يَكُونُ مُقَدَّرًا وَأَدْنَى ذَلِكَ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ .
قَالَ : وَلَيْسَ عَلَى النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ مِمَّنْ كَانَ لَهُ عَطَاءٌ فِي الدِّيوَانِ عَقْلٌ ؛ لِأَنَّهُ بَلَغَنَا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : لَا يَعْقِلُ مَعَ الْعَاقِلَةِ صَبِيٌّ وَلَا امْرَأَةٌ ، وَإِنَّمَا جَعَلَ الْفَضْلَ فِيمَا يُؤَدِّي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - عَلَى عَشِيرَةِ الرَّجُلِ وَلَمْ يَجِيئُوا عَلَى وَجْهِ الْعَوْنِ لِصَاحِبِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ يَدٍ وَاحِدَةٍ وَنُصْرَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى غَيْرِهِمْ ، وَهَذِهِ النُّصْرَةُ إنَّمَا تَقُومُ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ فَبِنْيَةُ الْمَرْأَةِ لَا تَصْلُحُ لِهَذِهِ النُّصْرَةِ ، وَكَذَلِكَ النُّصْرَةُ لَا تَقُومُ بِالصِّبْيَانِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الشَّرْعَ نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ ؛ لِأَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ لِدَفْعِ مَنْ يُقَاتِلُهُمْ وَتَنَاصُرُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ ، وَكَذَلِكَ الْجِزْيَةُ الَّتِي خَلَتْ عَنْ النُّصْرَةِ لَمْ تُوجَبْ عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فَكَذَلِكَ تَحَمُّلُ الْعَقْلِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الْقَاتِلَةُ أَوْ الصَّبِيُّ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمَا شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ بِخِلَافِ الرَّجُلِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ جُزْءٍ عَلَى الْقَاتِلِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَحَدُ الْعَوَاقِلِ ، وَهُوَ لَا يُوجَدُ فِي النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَلَا يُنْظَرُ إلَى مَا لَهُمْ مِنْ فَرْضِ الْعَطَاءِ فِي الدِّيوَانِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ النُّصْرَةِ بَلْ بِاعْتِبَارِ الْمُؤْنَةِ كَمَا فَرَضَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَطَاءَ فِي الدِّيوَانِ فَكَانَ يُوَصِّلُهُ لَهُنَّ فِي كُلِّ سَنَةٍ .
وَإِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ خَطَأً فَلَمْ يُرْفَعْ إلَى الْقَاضِي حَتَّى مَضَتْ سُنُونَ ، ثُمَّ رُفِعَ إلَيْهِ ، فَإِنَّهُ يَقْضِي بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يَقْضِي ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْأَجَلِ يُبْنَى عَلَى وُجُوبِ الْمَالِ وَالْمَالُ إنَّمَا يَجِبُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَأَمَّا قَبْلَ الْقَضَاءِ فَالْمَالُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْمُتْلَفَاتِ يَكُونُ بِالْمِثْلِ بِالنَّصِّ وَمِثْلُ النَّفْسِ نَفْسٌ إلَّا أَنَّهُ إذَا رَفَعَ إلَى الْقَاضِي فَيَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ عَنْ اسْتِيفَاءِ النَّفْسِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَتَحَوُّلِ الْحَقِّ بِقَضَائِهِ إلَى الْمَالِ كَمَا فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ ، فَإِنَّ قِيمَتَهُ إنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْمَغْرُورِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، وَإِنْ كَانَ رَدُّ عَيْنِهِ مُتَعَذِّرًا قَبْلَ الْقَضَاءِ وَلَكِنْ فِي الْحُكْمِ جَعَلَ الْوَاجِبَ رَدَّ الْعَيْنِ إلَى أَنْ يُحَوِّلَهُ الْقَاضِي إلَى الْقِيمَةِ بِقَضَائِهِ لِتَحَقُّقِ الْعَجْزِ عَنْ رَدِّ الْعَيْنِ وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَ الْوَلَدُ قَبْلَ الْقَضَاءِ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا وَاعْتَبَرَ قِيمَةَ الْوَلَدِ يَوْمَ الْقَضَاءِ لِهَذَا ، وَهُوَ نَظِيرُ الْأَجَلِ فِي حَقِّ الْعَيْنِ ، فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ مَا مَضَى مِنْ الْمُدَّةِ قَبْلَ الْخُصُومَةِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ابْتِدَاءُ التَّأْجِيلِ مِنْ وَقْتِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَكَذَلِكَ هَاهُنَا ابْتِدَاءُ التَّأْجِيلِ يَكُونُ مِنْ وَقْتِ قَضَاءِ الْقَاضِي ، فَإِنْ كَانُوا أَهْلَ دِيوَانٍ قَضَى بِذَلِكَ فِي أَعْطِيَاتِهِمْ فَيَجْعَلُ الثُّلُثَ فِي أَوَّلِ عَطَاءٍ يَخْرُجُ لَهُمْ بَعْدَ قَضَائِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْقَتْلِ وَقَضَائِهِ وَبَيْنَ خُرُوجِ أَعْطِيَاتِهِمْ إلَّا شَهْرٌ أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ كَانَ لِمَعْنَى تَأَخُّرِ خُرُوجِ الْعَطَاءِ وَمَحَلُّ قَضَاءِ الدِّيَةِ مِنْهُ الْعَطَاءُ ، فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ خُرُوجُ الْعَطَاءِ بَعْدَ الْقَضَاءِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَخْرُجْ سِنِينَ لَمْ يُطَالَبُوا بِشَيْءٍ فَكَذَلِكَ إذَا خَرَجَ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِشَهْرٍ أَوْ أَقَلَّ يُؤْخَذُ مِنْهُ ثُلُثُ الدِّيَةِ
وَالثُّلُثُ الثَّانِي فِي الْعَطَاءِ الْآخَرِ إذَا خَرَجَ إنْ أَبْطَأَ بَعْدَ الْحَوْلِ أَوْ عَجَّلَ قَبْلَ السَّنَةِ ، وَكَذَلِكَ الثُّلُثُ الثَّالِثُ ، فَإِنْ عَجَّلَ لِلْقَوْمِ الْعَطَاءَ فَخَرَجَتْ لَهُمْ ثَلَاثَةُ أَعْطِيَةٍ مَرَّةً وَهِيَ أَعْطِيَةٌ اسْتَحَقُّوهَا بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِالدِّيَةِ ، فَإِنَّ الدِّيَةَ كُلَّهَا تُؤْخَذُ مِنْ تِلْكَ الْأَعْطِيَةِ الثَّلَاثَةِ لِوُصُولِ مَحَلِّ أَدَاءِ الدِّيَةِ مِنْهُ إلَى يَدِ الْعَاقِلَةِ .
قَالَ : وَلَا يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْقَوْمِ حَتَّى يُصِيبَ الرَّجُلُ فِي عَطَائِهِ مِنْ الدِّيَةِ كُلِّهَا أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ أَوْ ثَلَاثَةً أَوْ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : مَا يُقْضَى بِهِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ دِينَارٍ ؛ لِأَنَّهَا صِلَةٌ وَاجِبَةٌ شَرْعًا فَيُعْتَبَرُ بِالزَّكَاةِ وَأَدْنَى مَا يَجِبُ فِي الزَّكَاةِ نِصْفُ دِينَارٍ أَوْ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ ، فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ بِمَعْنَى نِصْفِ دِينَارٍ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْإِيجَابُ عَلَيْهِمْ لِلتَّخْفِيفِ عَلَى الْقَاتِلِ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَعَسَّرُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَذَلِكَ فِي إيجَابِ الْقَلِيلِ دُونَ الْكَثِيرِ ، ثُمَّ هَذِهِ يُؤْمَرُونَ بِأَدَائِهَا عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّعِ فَلَا يَبْلُغُ مِقْدَارُهَا مِقْدَارَ الْوَاجِبِ مِنْ الزَّكَاةِ بَلْ يَنْقُصُ مِنْ ذَلِكَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَا تَجِبُ هَذِهِ الصِّلَةُ فِي أُصُولِ أَمْوَالِهِمْ ، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِيمَا هُوَ صِلَةٌ لَهُمْ ، وَهُوَ الْعَطَاءُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْفِيفِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ التَّقْدِيرَ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ فِيمَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ وَذَلِكَ غَلَطٌ ، فَقَدْ فَسَّرَهَا هُنَا فَقَالَ : حَتَّى يُصِيبَ الرَّجُلُ فِي عَطَائِهِ مِنْ الدِّيَةِ كُلِّهَا أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ أَوْ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَّا دِرْهَمٌ أَوْ دِرْهَمٌ وَثُلُثٌ ، فَإِنْ قَلَّتْ الْعَاقِلَةُ فَكَانَ يُصِيبُ الرَّجُلُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ أَوْ أَرْبَعَةٍ ضُمَّ إلَيْهِمْ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ فِي النَّسَبِ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ حَتَّى يُصِيبَ الرَّجُلُ فِي عَطَائِهِ مَا وَصَفْنَا ، وَهَذَا لِأَنَّ إيجَابَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِمْ إجْحَافٌ بِهِمْ فَلَا يَجُوزُ فَلِذَلِكَ ضُمَّ إلَيْهِمْ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ كَمَا ضَمَمْنَا الْعَاقِلَةَ إلَى الْقَبَائِلِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْإِجْحَافِ بِهِمْ وَلِأَنَّهُ مَتَى حَزَبَهُمْ
أَمْرٌ وَلَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ دَفْعِ ذَلِكَ عَنْهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ ، فَإِنَّمَا يَسْتَعِينُونَ بِأَقْرَبِ الْقَبَائِلِ إلَيْهِمْ ، فَإِذَا كَانُوا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ يَسْتَنْصِرُونَ بِهِمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَكَذَلِكَ يُضَمُّونَ إلَيْهِمْ فِي تَحَمُّلِ الْعَقْلِ عِنْدَ الْحَاجَةِ .
قَالَ : وَلَا يَسْتَحِقُّونَ الْعَطَاءَ عِنْدَنَا إلَّا بِآخِرِ السَّنَةِ فَلِذَلِكَ قُلْنَا : إذَا خَرَجَ الْعَطَاءُ بَعْدَ الْقَضَاءِ بِشَهْرٍ أَوْ أَقَلَّ أُخِذَ مِنْهُ ثُلُثُ الدِّيَةِ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْعَطَاءَ إنَّمَا يَخْرُجُ لَهُمْ فِي الْعَادَةِ فِي كُلِّ سَنَةٍ وَاسْتِحْقَاقُ ذَلِكَ عِنْدَ تَمَامِ السَّنَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ وَالتَّبَرُّعِ إلَى آخَرِ الْمُدَّةِ فِي حُكْمِ الْمُعَاوَضَاتِ دُونَ الصِّلَاتِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ اسْتِحْقَاقُ الصِّلَةِ عِنْدَ تَمَامِ الْمُدَّةِ وَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهَا إلَّا بِالْقَبْضِ بِمَنْزِلَةِ الْجِزْيَةِ وَلِهَذَا قُلْنَا : إنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَوْ أَسْلَمَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْجِزْيَةِ وَفِي حَقِّ أَهْلِ الدِّيوَانِ أَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ قَبْلَ خُرُوجِ الْعَطَاءِ وَقَبْلَ تَمَامِ السَّنَةِ لَمْ يَصِرْ عَطَاؤُهُ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ وُجُوبَهُ بِاعْتِبَارِ آخِرِ السَّنَةِ .
فَمَتَى كَانَ يَجِيءُ ذَلِكَ الْوَقْتُ بَعْدَ الْقَضَاءِ كَانَ الْعَطَاءُ الْوَاجِبُ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الْوَقْتِ مَحَلًّا لِأَخْذِ الدِّيَةِ مِنْهُ ، وَإِذَا لَمْ يَقْضِ عَلَيْهِمْ بِالدِّيَةِ حَتَّى مَضَتْ سُنُونَ ، ثُمَّ قَضَى بِهَا وَلَمْ يُخْرِجْ لِلنَّاسِ أَعْطِيَاتِهِمْ الْمَاضِيَةَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا مِنْ الدِّيَةِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ هَذِهِ الْأَعْطِيَةِ بِاعْتِبَارِ مُدَّةٍ مَضَتْ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَمَحَلُّ الْأَدَاءِ الْأَعْطِيَاتُ الَّتِي تَجِبُ بَعْدَ الْقَضَاءِ فَلِهَذَا لَا يُسْتَوْفَى مِنْ الْأَعْطِيَاتِ الْمَاضِيَةِ شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ وَيَسْتَقْبِلُ بِصَاحِبِ الدِّيَةِ الْأَعْطِيَةَ الْمُسْتَقْبَلَةَ بَعْدَ الْقَضَاءِ .
وَلَوْ كَانَتْ عَاقِلَةُ الرَّجُلِ أَصْحَابَ رِزْقٍ يَأْخُذُونَهُ فِي كُلِّ شَهْرٍ قَضَى عَلَيْهِمْ بِالدِّيَةِ فِي أَرْزَاقِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فِي كُلِّ سَنَةٍ الثُّلُثُ ؛ لِأَنَّ الرِّزْقَ فِي حَقِّهِمْ قَائِمٌ مَقَامَ الْعَطَاءِ ، فَإِنَّ الْعَطَاءَ إنَّمَا كَانَ مَحَلًّا لِقَضَاءِ الدِّيَةِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ صِلَةٌ يَخْرُجُ لَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَلِأَجْلِهِ اجْتَمَعُوا وَأَثْبَتُوا أَسْمَاءَهُمْ فِي الدِّيوَانِ ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الرِّزْقِ إذَا كَانُوا أَصْحَابَ رِزْقٍ ، ثُمَّ يَنْظُرُ إنْ كَانَتْ أَرْزَاقُهُمْ تَخْرُجُ فِي كُلِّ سَنَةٍ فَكُلَّمَا خَرَجَ رِزْقٌ يُؤْخَذُ مِنْهُ الثُّلُثُ ، وَإِنْ كَانَ يَخْرُجُ فِي كُلِّ شَهْرٍ فَمِقْدَارُ نِصْفِ سُدُسِ الثُّلُثِ يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ رِزْقٍ حَتَّى يَكُونَ الْمُسْتَوْفَى فِي كُلِّ سَنَةٍ مِقْدَارَ الثُّلُثِ يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ رِزْقٍ ، وَإِنْ خَرَجَ الرِّزْقُ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِيَوْمٍ أَوْ أَكْثَرَ أَخَذَ مِنْ رِزْقِ ذَلِكَ الشَّهْرِ بِحِصَّةِ الشَّهْرِ كَمَا بَيَّنَّا ، فَإِنْ كَانُوا يَأْخُذُونَ الْأَرْزَاقَ فِي كُلِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَخَرَجَ لَهُمْ رِزْقُ سِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ الْقَضَاءِ أَخَذَ مِنْهُمْ سُدُسَ الدِّيَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ أَرْزَاقٌ فِي كُلِّ شَهْرٍ وَلَهُمْ أَعْطِيَةٌ فِي كُلِّ سَنَةٍ فُرِضَتْ عَلَيْهِمْ الدِّيَةُ فِي أَعْطِيَاتِهِمْ دُونَ أَرْزَاقِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْأَرْزَاقَ إنَّمَا كَانَتْ خَلَفًا عَنْ الْأَعْطِيَاتِ وَلَا يُعْتَبَرُ الْخَلَفُ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَرْزَاقَ لَهُمْ لِكِفَايَةِ الْوَقْتِ فَأَخْذُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْهُمْ يُؤَدِّي إلَى إضْرَارٍ بِهِمْ وَبِعِيَالَاتِهِمْ فَيَشُقُّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عَادَةً فَأَمَّا الْأَعْطِيَاتُ فَلَيْسَتْ لِكِفَايَةِ الْوَقْتِ وَلَكِنْ لِتَأَلُّفِهِمْ حَتَّى يَكُونُوا مُجْتَمَعِينَ فِي الدِّيوَانِ يَقُومُونَ بِالنُّصْرَةِ فَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ الْأَدَاءُ مِنْ الْأَعْطِيَاتِ فَلِهَذَا قُلْنَا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ بِفَرْضِ الدِّيَةِ مِنْ الْأَعْطِيَاتِ دُونَ الْأَرْزَاقِ
وَمَنْ جُنِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَأَهْلِ الثُّمُنِ الَّذِينَ لَا دِيوَانَ لَهُمْ فُرِضَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ عَلَى الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ مِنْهُمْ يَوْمَ يَقْضِي الْقَاضِي بِالدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ تَنَاصُرَهُمْ بِالْقُرْبِ ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ عِنْدَ الْقَضَاءِ بِالدِّيَةِ كَمَا فِي حَقِّ أَهْلِ الدِّيوَانِ وَيُضَمُّ إلَيْهِ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ فِي النَّسَبِ حَتَّى يُصِيبَ الرَّجُلُ مِنْ الدِّيَةِ فِي السِّنِينَ الثَّلَاثَةِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ أَوْ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ لِتَحَقُّقِ مَعْنَى التَّخْفِيفِ عَلَيْهِمْ ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُنَا أَوْلَى بِالِاعْتِبَارِ مِنْهُ فِي حَقِّ أَهْلِ الدِّيوَانِ ؛ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ هَاهُنَا وَالْأَدَاءَ مِنْ الْأَعْطِيَاتِ يَكُونُ أَيْسَرَ مِنْ الْأَدَاءِ مِنْ أُصُولِ الْأَمْوَالِ .
وَمَنْ أَقَرَّ بِقَتْلٍ خَطَأٍ وَلَمْ يَرْتَفِعُوا إلَى الْقَاضِي سِنِينَ ، ثُمَّ ارْتَفَعُوا قَضَى عَلَيْهِ بِالدِّيَةِ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يَقْضِي ؛ لِأَنَّ مَا يَثْبُتُ بِالِاعْتِرَافِ لَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : وَلَا صُلْحًا وَلَا اعْتِرَافًا } ، وَهَذَا لِأَنَّ إقْرَارَهُ فِي حَقِّهِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّدْقِ وَفِي حَقِّ عَاقِلَتِهِ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَذِبِ لِكَوْنِهِ مُتَّهَمًا فِي حَقِّهِمْ ، ثُمَّ مُوجِبُ الْجِنَايَةِ فِي الْأَصْلِ عَلَى الْجَانِي ، ثُمَّ تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ لِلتَّخْفِيفِ عَلَيْهِ ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ التَّسَبُّبُ فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ فَفِي الْوَاجِبِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ وَالتَّأْجِيلِ فِيهِ مِنْ وَقْتِ الْقَضَاءِ لَا مِنْ وَقْتِ الْإِقْرَارِ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْإِقْرَارِ مِنْ الْقَتْلِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَفِي الْقَتْلِ الْمُعَايَنِ الدِّيَةُ إنَّمَا تَجِبُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فِيهَا أَوَّلًا .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَتَلَ وَلِيَّ هَذَا الرَّجُلِ وَأَقَرَّ أَنَّهُ خَاصَمَهُ إلَى قَاضِي بَلَدِ كَذَا فَقَامَتْ بِذَلِكَ الْبَيِّنَةُ فَقَضَى بِهِ الْقَاضِي عَلَى عَاقِلَتِهِ مِنْ أَهْلِ دِيوَانِ الْكُوفَةِ وَصَدَّقَهُ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فِي ذَلِكَ وَكَذَّبَهُ الْعَاقِلَةُ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْعَاقِلَةِ ؛ لِأَنَّ تَصَادُقَهُمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي تَقَرَّرَ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَبَعْدَ تَقَرُّرِهِ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَا يَبْقَى عَلَيْهِ وَتَصَادُقُهُمَا حُجَّةٌ فِي حَقِّهِمَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ هُوَ قَضَاءُ الْقَاضِي وَلَمْ يُوجَدْ أَصْلًا فَيَقْضِي بِهَا فِي مَالِ الْمُقِرِّ قَالَ : إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ عَطَاءٌ مَعَهُمْ فَتَكُونُ عَلَيْهِ حِصَّتُهُ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ فِي مِقْدَارِ حِصَّتِهِ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ وَفِي حِصَّةِ عَوَاقِلِهِمْ يُقِرُّ عَلَيْهِمْ فَيُؤْخَذُ بِمَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ الْقَاتِلَ إنَّمَا يَكُونُ أَحَدَ الْعَوَاقِلِ عِنْدَنَا إذَا كَانَ لَهُ عَطَاءٌ فِي الدِّيوَانِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فَلَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ الدِّيَةِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ الْأَعْطِيَاتِ ، فَإِنْ قِيلَ : لَمَّا كَانَ أَصْلُ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ تَحَوَّلَ بِزَعْمِهِ إلَى عَاقِلَتِهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، فَإِذَا تَوِيَ ذَلِكَ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِجُحُودِهِمْ يَنْبَغِي أَنْ يَقْضِيَ بِالْكُلِّ عَلَيْهِمْ كَمَا إذَا تَوِيَ الدَّيْنُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِجُحُودِهِ عَادَ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ قُلْنَا : هَذَا مُسْتَقِيمٌ فِيمَا إذَا كَانَ أَصْلُهُ دَيْنًا لِدَفْعِ التَّوَى عَنْ مَالِ الْمُسْلِمِ ، وَهَذَا أَيْضًا لَمْ يَكُنْ دَيْنًا عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ لِصِيَانَةِ دَمِ الْمَقْتُولِ عَنْ الْهَدَرِ وَبَعْدَ مَا تَقَرَّرَ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا يَتَحَوَّلُ إلَيْهِ بِحَالٍ سَوَاءٌ اسْتَوْفَى مِنْ الْعَاقِلَةِ أَوْ لَمْ يَسْتَوْفِ وَالْعَمْدُ الَّذِي
لَا قَوَدَ فِيهِ يَقْضِي بِالدِّيَةِ مِنْ مَالِ الْقَاتِلِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يَقْضِي بِهَا الْقَاضِي لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا } وَلِأَنَّ ذَلِكَ لِلتَّخْفِيفِ وَدَفْعِ الْإِجْحَافِ عَنْ الْقَاتِلِ وَالْعَامِدُ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ .
وَلَوْ قَتَلَ عَشَرَةٌ رَجُلًا فَعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عُشْرُ الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ؛ لِأَنَّ مَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بَدَلُ النَّفْسِ وَبَدَلُ النَّفْسِ يَكُونُ مُؤَجَّلًا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَيُعْتَبَرُ الْجُزْءُ مِنْهُ بِالْكُلِّ وَلَا يَعْقِلُ أَهْلُ مِصْرٍ عَنْ أَهْلِ مِصْرٍ آخَرَ ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ بِهِ إذَا كَانَ لِأَهْلِ مِصْرٍ دِيوَانٌ عَلَى حِدَةٍ أَوْ كَانَ تَنَاصُرُهُمْ بِاعْتِبَارِ الْقُرْبِ فِي السُّكْنَى وَأَهْلُ مِصْرٍ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِ مِصْرٍ آخَرَ وَيَعْقِلُ أَهْلُ كُلِّ مِصْرٍ عَنْ أَهْلِ سُوقِهِمْ وَقُرَاهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ لِأَهْلِ الْمِصْرِ ، فَإِذَا حَزَبَهُمْ أَمْرٌ اسْتَنْصَرُوا بِهِمْ فَأَهْلُ مِصْرٍ يَعْقِلُونَ عَنْهُمْ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْقُرْبِ وَالنُّصْرَةِ ، وَمَنْ كَانَ مَنْزِلُهُ بِالْبَصْرَةِ وَدِيوَانُهَا بِالْكُوفَةِ عَقَلَ عَنْهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا اسْتَنْصَرَ بِأَهْلِ دِيوَانِهِ لَا بِجِيرَانِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْقُرْبَ فِي السُّكْنَى لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ قُرْبِ الْقَرَابَةِ وَلَوْ أَنَّ أَخَوَيْنِ لِأَبٍ وَأُمٍّ دِيوَانُ أَحَدِهِمَا بِالْكُوفَةِ وَدِيوَانُ الْآخَرِ بِالْبَصْرَةِ لَمْ يَعْقِلْ أَحَدُهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ ، وَإِنَّمَا يَعْقِلُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَهْلُ دِيوَانِهِ فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ .
وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ أَهْلُ دِيوَانٍ وَاحِدٍ مُخْتَلِفِينَ فِي أَنْسَابِهِمْ مِنْهُمْ مَنْ لَهُ وَلَاءٌ ، وَمِنْهُمْ الْقُرْبَى ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا وَلَاءَ لَهُ جَنَى بَعْضُهُمْ جِنَايَةً عَقَلَ عَنْهُ أَهْلُ رَايَتِهِ وَأَهْلُ فِنَائِهِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَقْرَبَ إلَيْهِ فِي النَّسَبِ ؛ لِأَنَّ اسْتِنْصَارَهُ بِأَهْلِ رَايَتِهِ أَظْهَرُ ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ لَا يَرْجِعُ فِي اسْتِنْصَارِهِ إلَى عَشِيرَتِهِ عَادَةً وَلِأَنَّ عَطَاءَ أَهْلِ رَايَةٍ وَاحِدَةٍ إنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَهُمْ فِي ذَلِكَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ، وَإِنْ كَانَ عَدَدُ أَهْلِ رَايَتِهِ قَلِيلًا ضَمَّ إلَيْهِمْ الْإِمَامُ مَنْ رَأَى مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ حَتَّى يَجْعَلَهُمْ عَاقِلَةً وَاحِدَةً لِدَفْعِ الْإِجْحَافِ عَنْ أَهْلِ رَايَتِهِ ، وَإِنَّمَا يَضُمُّ إلَيْهِمْ الْإِمَامُ مَنْ يَكُونُ أَقْرَبُ إلَيْهِمْ فِي مَعْنَى النُّصْرَةِ إذَا حَزَبَهُمْ أَمْرٌ فِي ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ الْإِمَامُ فَجُعِلَ مُفَوَّضًا إلَى رَأْيِهِ لِهَذَا .
وَمَنْ لَا دِيوَانَ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَنَحْوِهِمْ تَعَاقَلُوا عَلَى الْأَنْسَابِ ، وَإِنْ تَبَاعَدَتْ مَنَازِلُهُمْ وَاخْتَلَفَتْ الْبَادِيَتَانِ ؛ لِأَنَّ تَنَاصُرَهُمْ بِالْأَنْسَابِ وَلِأَنَّ حَالَهُمْ فِي مَعْنَى الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ قَضَى بِالْعَقْلِ عَلَى الْأَقَارِبِ وَلَا يَعْقِلُ أَهْلُ الْبَادِيَةِ عَنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ الَّذِينَ عَوَاقِلُهُمْ فِي الْعَطَاءِ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْأَمْصَارِ إنَّمَا يَقُومُ بِنُصْرَتِهِمْ وَالذَّبِّ عَنْهُمْ أَهْلُ الْعَطَاءِ مِنْ أَهْلِ دِيوَانِهِمْ لَا أَهْلُ إخْوَةِ الْبَادِيَةِ ، وَهُوَ إنَّمَا يَتَقَوُّونَ بِأَهْلِ الْعَطَاءِ ، وَكَذَلِكَ لَا يَعْقِلُ أَهْلُ الْعَطَاءِ عَنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَقَوُّونَ بِهِمْ وَلَا يَنْصُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، وَإِنْ كَانُوا إخْوَةً لِأَبٍ وَأُمٍّ ، وَإِنَّمَا يَنْصُرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَهْلَ الْعَطَاءِ .
وَمَنْ جَنَى جِنَايَةً عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ وَلَيْسَ فِي عَطَاءٍ وَأَهْلُ الْبَادِيَةِ أَقْرَبُ إلَيْهِ وَمَسْكَنُهُ الْمِصْرُ عَقَلَ عَنْهُ أَهْلُ الدِّيوَانِ مِنْ ذَلِكَ الْمِصْرِ ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِنُصْرَةِ أَهْلِ الْمِصْرِ وَالدَّفْعِ عَنْهُمْ وَلَا يَخُصُّونَ بِذَلِكَ مَنْ كَانَ لَهُ فِي الْمِصْرِ عَطَاءٌ دُون مَنْ لَا عَطَاءَ لَهُ فَلِهَذَا كَانُوا عَاقِلَةً لِجَمِيعِ أَهْلِ الْمِصْرِ ، وَكَذَلِكَ لَا يَعْقِلُ عَنْ صَاحِبِ الْعَطَاءِ أَهْلُ الْبَادِيَةِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ نَازِلًا وَأَصْحَابُ الْأَرْزَاقِ الَّذِينَ لَا أَعْطِيَاتِ لَهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْعَطَاءِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لِكَوْنِ الْأَرْزَاقِ خَلَفًا عَنْ الْأَعْطِيَاتِ فِي حَقِّهِمْ .
وَإِنْ كَانَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ عَوَاقِلُ مَعْرُوفَةٌ يَتَعَاقَلُونَ بِهَا فَقَتَلَ أَحَدُهُمْ قَتِيلًا خَطَأً فَدِيَتُهُ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامَ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَمَعْنَى التَّنَاصُرُ الَّذِي يُبْنَى عَلَيْهِ الْعَقْلُ يُوجَدُ فِي حَقِّهِمْ كَمَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَاقِلَةٌ مَعْرُوفَةٌ يَتَعَاقَلُونَ بِهَا فَالدِّيَةُ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يُقْضَى بِهَا عَلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ أَصْلَ الْوُجُوبِ عَلَى الْقَاتِلِ ، وَإِنَّمَا يَتَحَوَّلُ عَنْهُ إلَى الْعَاقِلَةِ إذَا وُجِدَتْ ، فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ مُسْلِمٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَتَلَ مُسْلِمًا خَطَأً وَهُمَا أَجْنَبِيَّانِ مِنْهَا ، فَإِنَّهُ يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّ مَنْ يَكُونُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَأَهْلُ دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَعْقِلُونَ عَنْهُ وَتَمَكُّنِهِ مِنْ هَذَا الْفِعْلِ لَمْ يَكُنْ بِنُصْرَتِهِمْ وَلَا يَعْقِلُ مُسْلِمٌ عَنْ كَافِرٍ وَلَا كَافِرٌ عَنْ مُسْلِمٍ وَالْكُفَّارُ يَتَعَاقَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَّتُهُمْ ؛ لِأَنَّ التَّعَاقُلَ يَنْبَنِي عَلَى الْمُوَالَاةِ وَالتَّنَاصُرِ وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمِلَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } وَقَالَ { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا } ، فَلَمَّا انْقَطَعَتْ الْمُوَالَاةُ بَيْنَ مَنْ هَاجَرَ ، وَمَنْ لَمْ يُهَاجِرْ حِين كَانَتْ الْهِجْرَةُ فَرِيضَةً كَانَ ذَلِكَ قَطْعًا لِلْمُوَالَاةِ بَيْنَ الْكُفَّارِ وَالْمُسْلِمِينَ وَحُكْمُ الْمِيرَاثِ وَالنَّفَقَةِ يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا .
وَلَوْ كَانَ الْقَاتِلُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَلَهُ بِهَا عَطَاءٌ فَلَمْ يَقْضِ بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ حَتَّى جَعَلَ دِيوَانَهُ إلَى الْبَصْرَةِ ، فَإِنَّهُ يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ يُقْضَى عَلَى عَاقِلَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْمَالِ الْجِنَايَةُ عِنْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي ، وَقَدْ تَحَقَّقَتْ مِنْهُ وَعَاقِلَتُهُ أَهْلُ دِيوَانِ الْكُوفَةِ وَبَعْدَ مَا تَحَوَّلَ إلَى دِيوَانِ الْبَصْرَةِ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ جِنَايَةٌ ، وَإِنَّمَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عِنْدَ جِنَايَتِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ قَضَى بِالْبَيِّنَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِالْكُوفَةِ ، ثُمَّ تَحَوَّلَ إلَى دِيوَانِ الْبَصْرَةِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ شَيْءٍ كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَكَذَلِكَ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ فِي الْقَتْلِ الْخَطَأِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْقَضَاءُ وَغَيْرُ الْقَضَاءِ ، وَالثَّانِي عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ الْعَاقِلَةَ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ وَالصِّلَاتُ لَا تَصِيرُ دَيْنًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّ الْمَالَ لَا يَجِبُ بِنَفْسِ الْقَتْلِ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي عَلَى مَا قَرَّرَنَا أَنَّ الْعَجْزَ عَنْ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ إنَّمَا يَتَقَرَّرُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، ثُمَّ أَصْلُ الْوُجُوبِ عَلَى الْقَاتِلِ وَبَعْدَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ تَتَحَمَّلُ عَنْهُ عَاقِلَتُهُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِقَتْلٍ خَطَأٍ كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِ خَاصَّةً وَلَوْ كَانَ الْوُجُوبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ ابْتِدَاءً وَجَبَتْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ عِنْدَ الْإِقْرَارِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِ عِنْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي ، فَإِنَّمَا تَتَحَمَّلُ عَنْهُ مَنْ يَكُونُ عَاقِلَةً لَهُ عِنْدَ الْقَضَاءِ ، وَهُوَ أَهْلُ دِيوَانِ الْبَصْرَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَضَى بِهَا عَلَى عَاقِلَتِهِ بِالْكُوفَةِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ قَدْ تَقَرَّرَ الْوُجُوبُ عَلَيْهِمْ فَلَا
يَتَحَوَّلُ إلَى غَيْرِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ ، ثُمَّ إذَا تَحَوَّلَ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي تُؤْخَذُ مِنْهُ فِي عَطَائِهِ بِالْبَصْرَةِ حِصَّتُهُ ؛ لِأَنَّ فِي مِقْدَارِ حِصَّتِهِ مَحَلُّ الْأَدَاءِ وَعَطَاؤُهُ مِنْ دِيوَانِ الْبَصْرَةِ عِنْدَ الْأَدَاءِ فَيُؤْخَذُ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْهُ وَفِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مَحَلُّ الْأَدَاءِ عَطَاءُ أَهْلِ الْكُوفَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّقْدِيرَ عَلَيْهِمْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَلَوْ قَلَّتْ الْعَاقِلَةُ بَعْدَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ وَتَعَذَّرَ الْأَخْذُ مِنْهُمْ ضَمَّ إلَيْهِمْ أَقْرَبَ الْقَبَائِلِ فِي النَّسَبِ حَتَّى يَعْقِلُوا مَعَهُمْ لِدَفْعِ الْإِجْحَافِ عَنْهُمْ وَلَا يُشْبِهُ قِلَّةَ الْعَاقِلَةِ بَعْدَ الْقَضَاءِ تَحَوُّلُ الرَّجُلِ بِعَطَائِهِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ يُضَافُونَ إلَيْهِمْ عَاقِلَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَهَذِهِ عَاقِلَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ يَعْنِي أَنَّ الَّذِينَ يُضَمُّونَ إلَيْهِمْ يَكُونُونَ بِمَنْزِلَةِ الْأَتْبَاعِ لَهُمْ فَلَا تَتَبَدَّلُ الْعَاقِلَةُ بِاعْتِبَارِهِمْ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الضَّمَّ لِدَفْعِ الْإِجْحَافِ عَنْهُمْ وَذَلِكَ عِنْدَ الْأَدَاءِ فَيُصَارُ فِيهِ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ وَأَمَّا الْقَضَاءُ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَفِي حُكْمِ وُجُوبِ الدِّيَةِ وَذَلِكَ يَثْبُتُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَيُعْتَبَرُ فِيهِ وَقْتُ الْقَضَاءِ .
وَلَوْ كَانَ رَجُلٌ مَسْكَنُهُ بِالْكُوفَةِ فَقَتَلَ رَجُلًا خَطَأً فَلَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ حَتَّى تَحَوَّلَ عَنْ الْكُوفَةِ وَاسْتَوْطَنَ الْبَصْرَةَ ، فَإِنَّهُ يَقْضِي بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِالْبَصْرَةِ وَلَوْ كَانَ قَضَى بِهَا بِالْبَصْرَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِالْكُوفَةِ وَلَمْ يَنْتَقِلْ عَنْهُمْ ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا عَطَاءَ لَهُ إذَا كَانَ يَسْكُنُ مِصْرًا فَعَاقِلَتُهُ أَهْلُ دِيوَانِ ذَلِكَ الْمِصْرِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَهُ عَطَاءٌ ، وَكَذَلِكَ الْبَدَوِيُّ إذَا الْتَحَقَ بِالدِّيوَانِ بَعْدَ الْقَتْلِ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي ، فَإِنَّهُ يَقْضِي بِالدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْقَضَاءِ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِالْبَادِيَةِ لَمْ يَتَحَوَّلْ عَنْهُمْ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَمْ تَجْنِهَا الْعَاقِلَةُ ، وَإِنَّمَا جَنَاهَا الرَّجُلُ ، فَإِنَّمَا يَكُونُ عَلَى عَاقِلَتِهِ إذَا قَضَى بِهَا عَلَيْهِمْ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ التَّأْجِيلَ فِي الدِّيَةِ يُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ قَضَاءِ الْقَاضِي وَلَوْ قُلْنَا تَتَحَوَّلُ بِتَحْوِيلِهِ إلَى دِيوَانٍ آخَرَ بَعْدَ الْقَضَاءِ لَكَانَ إذَا تَحَوَّلَ بَعْدَ مُضِيِّ سَنَةٍ يُؤْخَذُ الثُّلُثُ مِنْ الدِّيوَانِ الَّذِي انْتَقِلْ إلَيْهِمْ حَالًّا وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ وَفِي اعْتِبَارِ الْأَجَلِ مِنْ وَقْتِ قَضَاءِ الْقَاضِي دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّ الْجِنَايَةَ إنَّمَا تُوجِبُ الْمَالَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي .
وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ قَضَى عَلَيْهِمْ بِالدِّيَةِ فِي أَمْوَالِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَأَدَّوْا الثُّلُثَ أَوْ الثُّلُثَيْنِ أَوْ لَمْ يُؤَدُّوا أَشْيَاءَ حَتَّى جَعَلَهُمْ الْإِمَامُ فِي الْعَطَاءِ صَارَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِمْ فِي أَعْطِيَاتِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ قَضَى بِهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فِي أَمْوَالِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْعَطَاءَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَلَيْسَ فِي أَخْذِ ذَلِكَ مِنْ الْعَطَاءِ يُعْتَبَرُ الْقَضَاءُ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ الْعَطَاءَ مَحَلُّ الْأَدَاءِ فَيَكُونُ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ وَقْتُ الْأَدَاءِ لَا وَقْتَ الْقَضَاءِ وَالْأَخْذُ مِنْ الْعَطَاءِ بِمَعْنَى التَّيْسِيرِ عَلَيْهِمْ فَهُوَ بِمَنْزِلَةٍ أَقْرَبُ مِنْ الْقَبَائِلِ إلَيْهِمْ عِنْدَ قِلَّتِهِمْ ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ وَقْتُ الْأَدَاءِ لَا وَقْتَ قَضَاءِ الْقَاضِي وَلَكِنَّهُ - يَقْضِي عَلَيْهِمْ فِي أَعْطِيَاتِهِمْ بِمَا كَانَ قَضَى عَلَيْهِمْ بِالْبَادِيَةِ حَتَّى إنْ كَانَ قَضَى بِالْإِبِلِ لَمْ يَتَحَوَّلْ عَنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ فِي الْقَضَاءِ بِشَيْءٍ آخَرَ إبْطَالُ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَلَيْسَ فِي الْقَضَاءِ بِهِ فِي أَعْطِيَاتِهِمْ إبْطَالُ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ .
وَإِذَا قَتَلَ ابْنُ الْمُلَاعَنَةِ رَجُلًا خَطَأً فَعَقَلَتْ عَنْهُ عَاقِلَةُ الْأُمِّ ، ثُمَّ ادَّعَاهُ الْأَبُ وَثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ رَجَعَتْ عَاقِلَةُ الْأُمِّ بِمَا أَدَّتْ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ قَضَى الْقَاضِي لِعَاقِلَةِ الْأُمِّ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ بِهَا ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ كَانَ ثَابِتًا مِنْهُ بِالْفِرَاشِ ، وَقَدْ انْقَطَعَتْ النِّسْبَةُ عَنْهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَلَكِنْ بَقِيَ أَصْلُ النَّسَبِ مَوْقُوفًا عَلَى حَقِّهِ حَتَّى إذَا ادَّعَاهُ غَيْرُهُ لَمْ يَثْبُتْ مِنْهُ ، وَإِذَا ادَّعَاهُ هُوَ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ مَعَ كَوْنِهِ مُنَاقِضًا ، وَإِنْ كَذَبَتْهُ الْأُمُّ فِي ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ لَا مِنْ وَقْتِ الدَّعْوَى فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ عَقَلَ جِنَايَةً كَانَتْ عَلَى عَاقِلَةِ أَبِيهِ وَعَاقِلَةُ الْأُمِّ مَا كَانُوا مُتَبَرِّعِينَ فِيمَا أَدَّوْا بَلْ أُجْبِرُوا عَلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَيَثْبُتُ لَهُمْ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ وَيَصِيرُ حَالُهُمْ مَعَ عَاقِلَةِ الْأُمِّ كَحَالِ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ وَلِيَّ الْجِنَايَةِ لَوْ كَانَ هُوَ الْمَقْضِيُّ لَهُ بِالدِّيَةِ عَلَيْهِمْ كَانَ التَّأْجِيلُ فِيهِ مُعْتَبَرًا مِنْ وَقْتِ قَضَاءِ الْقَاضِي لَا مِنْ وَقْتِ الْجِنَايَةِ فَكَذَلِكَ إذَا قَضَى بِهِ لِعَاقِلَةِ الْأُمِّ عَلَيْهِمْ يُعْتَبَرُ التَّأْجِيلُ فِيهِ مِنْ وَقْتِ قَضَاءِ الْقَاضِي لَا مِنْ وَقْتِ دَعْوَى الْأَبِ ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّأْجِيلَ لِتَأَخُّرِ الْمُطَالَبَةِ وَذَلِكَ بَعْدَ تَقَرُّرِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِمْ ، وَإِنَّمَا يَتَقَرَّرُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي .
وَكَذَلِكَ إذَا مَاتَ الْمُكَاتَبُ عَنْ وَلَدٍ حُرٍّ وَوَفَاءٌ فَلَمْ يُؤَدِّ الْكِتَابَةَ حَتَّى جَنَى ابْنَهُ وَابْنُهُ مِنْ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ مَوْلَاةٍ لِبَنِي تَمِيمٍ وَالْمُكَاتَبُ لِرَجُلٍ مِنْ هَمْدَانَ فَعَقَلَ عَنْهُ جِنَايَتَهُ قَوْمُ أُمِّهِ ، ثُمَّ أَدَّى الْكِتَابَةَ ، فَإِنَّ عَاقِلَةَ الْأُمِّ يَرْجِعُونَ بِمَا أَدَّوْا عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ ؛ لِأَنَّ عِتْقَ الْمُكَاتَبِ عِنْدَ أَدَاءِ الْبَدَلِ يَسْتَنِدُ إلَى حَالِ حَيَاتِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ لِلْوَلَدِ وَلَاءٌ مِنْ جَانِبِ الْأَبِ حِين جَنَى ، وَإِنَّ مُوجِبَ جِنَايَتِهِ عَلَى مَوَالِي أَبِيهِ وَمَوَالِي أُمِّهِ مَا كَانُوا مُتَبَرِّعِينَ عَنْهُ فِي الْأَدَاءِ فَيَرْجِعُونَ بِالْمُؤَدَّى عَلَى مَوَالِي الْأَبِ .
وَكَذَلِكَ رَجُلٌ أَمَرَ صَبِيًّا أَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا فَقَتَلَهُ فَضَمِنَتْ عَاقِلَةُ الصَّبِيِّ الدِّيَةَ رَجَعَتْ بِهَا عَلَى عَاقِلَةِ الْآمِرِ ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ مُتَسَبِّبٌ مُتَعَدٍّ ، فَإِنَّهُ اسْتَعْمَلَ الصَّبِيَّ فِي أَمْرٍ لَحِقَهُ فِيهِ تَبَعَةٌ فَيَثْبُتُ لِعَاقِلَتِهِ حَقُّ الرُّجُوعِ بِمَا أَدُّوا عَلَى الْآمِرِ غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْآمِرُ يُثْبِتُ الْأَمْرَ بِالْبَيِّنَةِ فَرُجُوعُهُمْ عَلَى عَاقِلَةِ الْآمِرِ ؛ لِأَنَّ التَّسَبُّبَ فِي الْجِنَايَةِ لَا يَكُونُ فَوْقَ الْمُبَاشَرَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْآمِرُ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ ، فَإِنَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يَقْضِي بِهَا الْقَاضِي عَلَى الْآمِرِ أَوْ عَلَى عَاقِلَتِهِ ، فَإِنَّ إقْرَارَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، وَإِنْ كَانُوا اجْتَمَعُوا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ وَقَضَى الْقَاضِي بِهَا لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ وَلِعَاقِلَةِ الصَّبِيِّ عَلَى عَاقِلَةِ الْآمِرِ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ وَالسَّبَبُ هُوَ الْجِنَايَةُ وَذَلِكَ قَدْ وُجِدَ مِنْ الصَّبِيِّ فَيَقْضِي لِلْمَوْلَى عَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ ، ثُمَّ الرُّجُوعُ عَلَى عَاقِلَةِ الْآمِرِ بِسَبَبِ الْأَمْرِ وَذَلِكَ بَيْنَ الْآمِرِ وَالصَّبِيِّ فَيَقْضِي لِعَاقِلَةِ الصَّبِيِّ عَلَى عَاقِلَةِ الْآمِرِ مِثْلَ ذَلِكَ فَكُلَّمَا أَخَذَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ مِنْ عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ شَيْئًا أَخَذَتْ عَاقِلَةُ الصَّبِيِّ مِنْ عَاقِلَةِ الْآمِرِ بِمِثْلِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ لِدَفْعِ الْغُرْمِ عَنْ عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْغُرْمُ بِالْأَدَاءِ فَيَرْجِعُونَ بِقَدْرِ مَا أَدُّوا بِمَنْزِلَةِ رُجُوعِ الْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ إذَا كَانَ كَفَلَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ .
وَلَوْ أَنَّ ابْنَ الْمُلَاعَنَةِ قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً فَقَضَى الْقَاضِي بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْأُمِّ فَأَدَّوْا الثُّلُثَ ، ثُمَّ ادَّعَاهُ الْأَبُ وَحَضَرُوا جَمِيعًا ، فَإِنَّهُ يَقْضِي لِعَاقِلَةِ الْأُمِّ بِالثُّلُثِ الَّذِي أَدَّوْا عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ ؛ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُتَبَرِّعِينَ فِي أَدَاءِ ذَلِكَ وَيَبْدَأُ بِهِمْ فِي سَنَةِ مُسْتَقْبِلَةً قَبْلَ أَهْلِ الْجِنَايَةِ وَيَبْطُلُ الْفَضْلُ عَنْ عَاقِلَةِ الْأُمِّ وَيَقْضِي بِالثُّلُثَيْنِ الْبَاقِيَيْنِ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ فِي السَّنَتَيْنِ بَعْدَ السَّنَةِ الْأُولَى وَلَا يَسْتَرِدُّ مِنْ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ مَا أُخِذَ مِنْ عَاقِلَةِ الْأُمِّ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ ذَلِكَ بِسَبَبٍ صَحِيحٍ ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ قَضَى بِذَلِكَ عَلَى عَاقِلَةِ الْأُمِّ فَكَانَ قَضَاؤُهُ ذَلِكَ حَقًّا يَوْمَئِذٍ ، وَإِنَّمَا يَبْطُلُ الْفَضْلُ عَنْ عَاقِلَةِ الْأُمِّ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِالْقَضَاءِ بِثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنْ أَبِيهِ أَنَّ جِنَايَتَهُ عَلَى عَاقِلَةِ أَبِيهِ لَا عَاقِلَةِ أُمِّهِ وَلَا فَائِدَةَ فِي اسْتِيفَاءِ مَا بَقِيَ مِنْ عَاقِلَةِ الْأُمِّ ، ثُمَّ الْقَضَاءُ بِالرُّجُوعِ لَهُمْ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ بَلْ يَسْتَوْفِي مَا بَقِيَ مِنْ عَاقِلَةِ الْأَبِ .
بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ الْآمِرِ مَعَ الصَّبِيِّ ، فَإِنَّ هُنَاكَ السَّبَبَ بَيْنَ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ وَبَيْنَ الْآمِرِ وَهُنَا السَّبَبُ بَيْنَ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ وَعَاقِلَةِ الْأَبِ قَدْ ظَهَرَ بِدَعْوَى السَّبَبِ فَلِهَذَا قَضَى بِالْبَاقِي عَلَيْهِمْ ، ثُمَّ فِي السَّنَةِ الْأُولَى بَعْدَ الْقَضَاءِ لَيْسَ لِوَلِيِّ الْجِنَايَةِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْهُمْ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لِعَاقِلَةِ الْأُمِّ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِمْ بِمَا أَدَّوْا فِي هَذِهِ السَّنَةِ وَحَقُّهُمْ مُقَدَّمٌ ، فَإِنَّهُمْ يَرْجِعُونَ بِمَا اسْتَوْفَاهُ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ فَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّ وَلِيَّ الْجِنَايَةِ يَسْتَوْفِي مِنْهُمْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ أَيْضًا شَيْئًا أَدَّى إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْهُمْ ثُلُثَيْ دِيَةٍ وَاحِدَةٍ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَفِيهِ إجْحَافٌ بِهِمْ ، وَعَلَى هَذَا ابْنُ الْمُكَاتَبِ الَّذِي
وَصَفْنَاهُ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ ابْنِ الْمُلَاعَنَةِ حِينَ اسْتَنَدَتْ حُرِّيَّةُ ابْنِهِ إلَى حَيَاةِ أَبِيهِ ، وَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ حُرَّةً وَمَوْلَاهُ لِبَنِي تَمِيمٍ تَحْتَ عَبْدٍ لِرَجُلٍ مِنْ هَمْدَانَ فَوَلَدَتْ غُلَامًا فَعَاقِلَةُ الِابْنِ عَاقِلَةُ أُمِّهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا وَلَاءَ لَهُ مِنْ جِهَةِ أَبِيهِ ، فَإِنَّهُ عَبْدٌ وَالْوَلَاءُ كَالنَّسَبِ فَيَتْبَعُ الْوَلَدُ فِيهِ أُمَّهُ إذَا انْعَدَمَ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ كَمَا فِي النَّسَبِ ، فَإِنْ جَنَى جِنَايَةً فَلَمْ يَقْضِ بِهَا الْقَاضِي عَلَى عَاقِلَةِ الْأُمِّ حَتَّى عَتَقَ الْأَبُ ، فَإِنَّ الْقَاضِي يُحَوِّلُ وَلَاءَهُ إلَى مَوَالِي أَبِيهِ ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ وَلَاءٌ فِي جَانِبِ الْأَبِ ، وَهُوَ الْأَصْلُ كَمَا فِي النَّسَبِ ، ثُمَّ يَقْضِي الْقَاضِي بِالْجِنَايَةِ الَّتِي قَدْ جَنَاهَا عَلَى عَاقِلَةِ أُمِّهِ وَلَا يُحَوِّلُهَا عَنْهُمْ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ حَفَرَ بِئْرًا قَبْلَ عِتْقِ أَبِيهِ ، ثُمَّ سَقَطَ فِيهَا إنْسَانٌ بَعْدَ عِتْقِ أَبِيهِ ، وَمَا خَاصَمَ فِي ذَلِكَ حَتَّى قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْأُمِّ إنْ كَانَ بَالِغًا ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا فَأَبُوهُ لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ السَّبَبِ كَانَتْ مِنْهُ فَهُوَ الْخَصْمُ بِالْقَضَاءِ بِالسَّبَبِ عَلَيْهِ وَالْحُكْمُ يُبْنَى عَلَى السَّبَبِ ، ثُمَّ إنَّمَا يَقْضِي هَاهُنَا عَلَى عَاقِلَةِ الْأُمِّ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فِي ابْنِ الْمُلَاعَنَةِ وَابْنِ الْمُكَاتَبِ ؛ لِأَنَّ هَذَا وَلَاءٌ حَادِثٌ حَدَثَ بَعْدَ الْجِنَايَةِ وَلَمْ يَسْتَنِدْ إلَى وَقْتٍ سَابِقٍ فَلَمْ يَتَبَيَّنْ بِهِ أَنَّهُ عِنْدَ جِنَايَتِهِ لَمْ تَكُنْ عَلَى عَاقِلَةِ مَوَالِي أُمِّهِ وَفِي مَسْأَلَةِ النَّسَبِ لَمْ يَثْبُتْ مِنْ وَقْتِ الدَّعْوَى ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ ، وَكَذَلِكَ عِتْقُ الْمُكَاتَبِ الْمَيِّتَ عِنْدَ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ لَا يَثْبُتُ مَقْصُورًا عَلَى حَالَةِ الْأَدَاءِ بَلْ يَسْتَنِدُ إلَى حَالِ حَيَاتِهِ فَلِهَذَا كَانَ الْقَضَاءُ هُنَاكَ عَلَى عَاقِلَةِ أَبِيهِ وَهَا هُنَا عَلَى عَاقِلَةِ الْأُمِّ ، وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ حَفْرِ الْبِئْرِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْوُقُوعِ إنَّمَا يَصِيرُ جَانِيًا بِالْحَفْرِ السَّابِقِ ، وَقَدْ كَانَتْ عَاقِلَتُهُ فِي الْوَقْتِ قَوْمَ أُمِّهِ .
وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مُسْلِمَةً مَوْلَاةً لِبَنِي تَمِيمٍ جَنَتْ جِنَايَةً أَوْ حَفَرَتْ بِئْرًا فَلَمْ يَقْضِ بِالْجِنَايَةِ حَتَّى ارْتَدَّتْ وَلَحِقَتْ بِدَارٍ الْحَرْبِ ، ثُمَّ سُبِيَتْ فَأَعْتَقَهَا رَجُلٌ مِنْ هَمْدَانَ ، ثُمَّ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ رَجُلٌ فَمَاتَ قَضَى بِتِلْكَ الْجِنَايَةِ عَلَى بَنِي تَمِيمٍ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا حَدَثَ لَهَا وَلَاءٌ بِسَبَبِ الْإِعْتَاقِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ أَوْ الْحَفْرِ فَلَا أَثَرَ لِهَذَا الْوَلَاءِ فِي الْجِنَايَةِ الَّتِي كَانَتْ مِنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَعَلَّلَ فِي الْكِتَابِ فَقَالَ : لِأَنَّ الْحَالَةَ الثَّانِيَةَ غَيْرُ الْحَالَةِ الْأُولَى يَعْنِي أَنَّ حَالَهَا تَبَدَّلَ بِالسَّبْيِ وَالْعِتْقِ فَكَانَتْ فِي حُكْمِ شَخْصٍ آخَرَ ، وَإِنَّمَا يَقْضِي بِالْجِنَايَةِ الْأُولَى عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِيَةِ وَعَاقِلَةُ الْجَانِيَةِ بَنُو تَمِيمٍ فَأَمَّا هَمْدَانُ فَعَاقِلَةُ امْرَأَةٍ أُخْرَى فِي الْحُكْمِ ؛ لِأَنَّهَا تَبَدَّلَ حَالُهَا حِينَ صَارَتْ فِي حُكْمِ امْرَأَةٍ أُخْرَى .
حَرْبِيٌّ أَسْلَمَ وَوَالَى مُسْلِمًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، ثُمَّ جَنَى جِنَايَةً عَقَلَتْ عَنْهُ عَاقِلَةُ الَّذِي وَالَاهُ ، فَإِنَّ وَلَاءَ الْمُوَالَاةِ عِنْدَنَا بِمَنْزِلَةِ وَلَاءِ الْعِتْقِ فِي حُكْمِ عَقْلِ الْجِنَايَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الْوَلَاءِ ، ثُمَّ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ بِوَلَائِهِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّهَا تَأَكَّدَتْ بِفِعْلِ الْجِنَايَةِ ، فَإِنْ عَقَلُوا عَنْهُ أَوْ لَمْ يَقْضِ بِهَا حَتَّى أُسِرَ أَبُوهُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ فَاشْتَرَاهُ رَجُلٌ وَأَعْتَقَهُ جَرَّ وَلَاءَ ابْنِهِ ؛ لِأَنَّ وَلَاءَ الْعِتْقِ أَقْوَى مِنْ وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ فَبَعْدَ مَا ظَهَرَ لِأَبِيهِ وَلَاءُ عِتْقٍ لَا يَبْقَى وَلَاءُ الْمُوَالَاةِ فِي حَقِّهِ بَلْ يُلْغَى حُكْمًا وَتَأَكُّدُهُ لَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ الثَّابِتِ وَلَاؤُهُ لِمَوَالِي أُمِّهِ عَلَيْهِ ، ثُمَّ لَا تَرْجِعُ عَاقِلَةُ الَّذِي كَانَ وَالَاهُ عَلَى عَاقِلَةِ مَوَالِي الْأَبِ بِشَيْءٍ فَلَا تَزُولُ تِلْكَ الْجِنَايَةُ عَنْهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَضَى بِهَا عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ هَذَا وَلَاءٌ حَادِثٌ بِسَبَبٍ جَدِيدٍ ، وَهُوَ إعْتَاقُ الْأَبِ فَلَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ فِي الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَفَرَ بِئْرًا قَبْلَ أَنْ يُؤْسَرَ أَبُوهُ ، ثُمَّ وَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ بَعْدَ عِتْقِ الْأَبِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَى عَاقِلَةِ الَّذِي وَالَاهُ دُونَ عَاقِلَةِ أَبِيهِ وَالْخُصُومَةُ فِي سَبَبِهِ مَعَ الْجَانِي ؛ لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ السَّبَبِ كَانَتْ مِنْهُ .
ذِمِّيٌّ أَسْلَمَ وَلَمْ يُوَالِ أَحَدًا حَتَّى قَتَلَ قَتِيلًا خَطَأً فَلَمْ يَقْضِ بِهِ حَتَّى وَالَى رَجُلًا مِنْ بَنِي تَمِيمٍ ، ثُمَّ جَنَى جِنَايَةً أُخْرَى ، فَإِنَّهُ يَقْضِي بِالْجِنَايَتَيْنِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ وَيُجْعَلُ وِلَاؤُهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَتَبْطُلُ مُوَالَاتُهُ مَعَ الَّذِي وَالَاهُ ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَسْلَمَ وَلَمْ يُوَالِ أَحَدًا فَوَلَاؤُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ حَتَّى يَكُونَ مِيرَاثُهُ لَوْ مَاتَ لِبَيْتِ الْمَالِ ، فَإِذَا جَنَى جِنَايَةً تُعْقَلُ وَجَبَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ وَتَأَكَّدَ بِهِ حُكْمُ ذَلِكَ الْوَلَاءِ وَلَا يَصِحُّ مِنْهُ عَقْدُ الْمُوَالَاةِ بَعْدَ ذَلِكَ مَعَ أَحَدٍ فَلِهَذَا كَانَ مُوجِبُ جِنَايَتِهِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَى بِسَهْمٍ أَوْ حَجَرٍ خَطَأً قَبْلَ أَنْ يُوَالِيَ أَحَدًا فَلَمْ تَقَعْ الرَّمْيَةُ حَتَّى وَالَى رَجُلًا ، ثُمَّ وَقَعَتْ فَقَتَلَتْ رَجُلًا كَانَتْ مُوَالَاتُهُ بَاطِلَةً ؛ لِأَنَّهُ بِالرَّمْيِ جَانٍ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَالَةُ الرَّمْي حَتَّى لَوْ رَمَى إلَى صَيْدٍ ، وَهُوَ مُسْلِمٌ ، ثُمَّ ارْتَدَّ فَأَصَابَهُ السَّهْمُ حَلَّ تَنَاوُلُهُ ، وَإِذَا كَانَ بِالرَّمْيِ جَانِيًا وَذَلِكَ حَصَلَ مِنْهُ قَبْلَ الْمُوَالَاةِ تَأَكَّدَ بِهِ الْوَلَاءُ لِبَيْتِ الْمَالِ وَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَلَمْ يَقَعْ فِيهَا أَحَدٌ حَتَّى وَالَى رَجُلًا ، ثُمَّ وَقَعَ فِيهَا رَجُلٌ فَمَاتَ ، فَإِنَّ دِيَةَ الْقَتِيلِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ وَوَلَاءُ الَّذِي وَالَاهُ صَحِيحٌ وَلَا يُشْبِهُ هَذَا مَا مَضَى قَبْلَهُ مِنْ الرَّمْيَةِ وَالْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْحَفْرِ لَيْسَ بِجِنَايَةٍ يَجِبُ بِهَا أَرْشٌ حَتَّى يَعْطَبَ فِيهَا إنْسَانٌ ، فَقَدْ وَالَى وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ جِنَايَةٌ فَصَحَّتْ الْمُوَالَاةُ وَالرَّمْيَةُ كَانَتْ جِنَايَةً مِنْهُ ، فَإِنَّمَا وَالَاهُ وَفِي عُنُقِهِ جِنَايَةٌ وَبَيَانُ هَذَا الْفَرْقِ أَنَّ الرَّامِيَ مُبَاشِرٌ وَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُبَاشَرَةُ إلَّا بِاعْتِبَارِ فِعْلِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ بِالرَّمْيِ مُلْتَزَمٌ الْقَوَدَ إذَا كَانَ عَمْدًا وَالْكَفَّارَةَ إذَا كَانَ خَطَأً فَعَرَفْنَا أَنَّهُ جَانٍ حِينَ رَمَى
وَأَمَّا الْحَافِرُ فَلَيْسَ بِمُبَاشِرٍ لِلْقَتْلِ وَلِهَذَا لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ وَلَا يَحْرُمُ الْمِيرَاثُ وَلَكِنَّهُ مُتَسَبِّبٌ ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ هَذَا السَّبَبُ عِنْدَ وُقُوعِ الْوَاقِعِ فِي الْبِئْرِ ، فَقَدْ وَالَى وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ جِنَايَةٌ فَصَحَّتْ الْمُوَالَاةُ ، ثُمَّ دِيَةُ هَذَا الْوَاقِعِ فِي الْبِئْرِ لَا تَكُونُ عَلَى مَنْ وَالَاهُ ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْوُقُوعِ صَارَ جَانِيًا عَلَيْهِ بِالْحَفْرِ السَّابِقِ ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الْمُوَالَاةِ ، وَمَنْ وَالَاهُ لَمْ يَتَحَمَّلْ عَنْهُ مُوجِبَ أَفْعَالِهِ قَبْلَ الْمُوَالَاةِ وَلَا يَعْقِلُ عَنْهُ بَيْتُ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ جَعَلَ ذَلِكَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ بَطَلَ وَلَاؤُهُ وَلَا وَجْهَ لِإِبْطَالِ الْوَلَاءِ الْمَحْكُومِ بِصِحَّتِهِ قُلْنَا : إنْ وَجَبَ عَلَيْهِ دِيَةُ الْقَتِيلِ فِي مَالِهِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا عَاقِلَةَ لَهُ .
وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يُسْلِمُ وَيُوَالِي رَجُلًا ، ثُمَّ يَجْنِي أَوْ يَرْمِي أَوْ يَحْفِرُ بِئْرًا ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ بِوَلَائِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ فِي الْمَعْنَى تَحَوَّلَ بِالْوَلَاءِ ، فَإِنَّهُ كَانَ مَوْلَى لِبَيْتِ الْمَالِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتَحَوَّلَ بِوَلَاءٍ كَانَ ثَابِتًا عَلَيْهِ لِبَيْتِ الْمَالِ وَبَيْنَ أَنْ يَتَحَوَّلَ بِوَلَاءٍ كَانَ ثَابِتًا عَلَيْهِ لِإِنْسَانٍ بِعَقْدِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ حَافِرَ الْبِئْرِ لَوْ لَمْ يَقَعْ فِي الْبِئْرِ أَحَدٌ حَتَّى تَحَوَّلَ بِوَلَائِهِ إلَى رَجُلٍ فَوَالَاهُ وَعَاقَدَهُ ، ثُمَّ جَنَى جِنَايَاتٍ كَثِيرَةً كَانَ عَقْلُهَا عَلَى عَاقِلَةِ الْمَوْلَى الْآخَرِ عَلِمَ بِالْحَفْرِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْرِ أَنَّهُ يَقَعُ فِي الْبِئْرِ إنْسَانٌ أَوْ لَا يَقَعُ فَيَكُونُ وَلَاؤُهُ مَعَ الثَّانِي صَحِيحًا وَعَقْلُ جِنَايَتِهِ عَلَيْهِ فَبَعْدَ مَا عَقَلُوا إذَا وَقَعَ فِي الْبِئْرِ رَجُلٌ لَوْ قُلْنَا بِأَنَّ دِيَتَهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَوْلَى الْأَوَّلِ أَوْ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ بَطَلَ هَذَا كُلُّهُ وَذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ ، ثُمَّ اشْتَغَلَ فِي الْكِتَابِ بِالْكَلَامِ مَعَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ : إنْ قَالَ قَائِلٌ : فَكَيْفَ لَمْ يَشْتَبِهْ الْوَلَاءُ الْمُنْتَقِلُ بِعِتْقِ الْأَبِ قَبْلَ الْقَضَاءِ لِلْعَاقِلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ تَكُونُ إحْدَاهُمَا عَاقِلَةً ، ثُمَّ لَا يَتَحَوَّلُ إلَى الْعَاقِلَةِ الْأُخْرَى ، وَقَدْ قُلْت : إذَا تَحَوَّلَ مِنْ دِيوَانٍ إلَى دِيوَانٍ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي أَنَّهُ يَقْضِي بِالدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ الَّذِي انْتَقِلْ إلَيْهِمْ ، ثُمَّ أَشَارَ إلَى الْفَرْقِ فَقَالَ : إذَا انْتَقَلَ مِنْ وَلَاءٍ إلَى وَلَاءٍ صَارَتْ الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ فِي حَقِّهِ غَيْرَ الْحَالَةِ الْأُولَى فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ نَفْسِهِ وَنَظِيرُهُ مَا بَيَّنَّا فِي الْمَرْأَةِ الْجَانِيَةِ إذَا ارْتَدَّتْ فَسُبِيَتْ وَأُعْتِقَتْ وَصَاحِبُ الْعَاقِلَتَيْنِ لَمْ يَتَحَوَّلْ حَالُهُ بَلْ حَالُهُ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ تَحَوَّلَتْ عَاقِلَتُهُ بِتَحَوُّلِهِ مِنْ دِيوَانٍ إلَى دِيوَانٍ فَلِهَذَا كَانَ الْمُعْتَبَرُ
عَاقِلَتَهُ وَقْتَ الْقَضَاءِ وَاسْتَوْضَحَ هَذَا بِمَا بَيَّنَّا أَنَّ نَفْسَ الْقَتْلِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ النَّفْسُ ، فَإِنَّمَا يَتَحَوَّلُ إلَى الدِّيَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَعِنْدَ الْقَضَاءِ الْعَاقِلَةُ يَتَحَمَّلُونَ عَنْهُ فَمِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ يَكُونَ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ أَوَّلًا .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْإِقْرَارِ بِقَتْلِ الْخَطَأِ ، ثُمَّ اسْتَوْضَحَ هَذَا بِمَسْأَلَةٍ مُبْتَدَأَةٍ فَقَالَ : كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : لَوْ أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً فَلَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ بِالدِّيَةِ حَتَّى صَالَحَهُ عَلَى عِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ عَلَى أَلْفَيْ دِينَارٍ أَوْ عَلَى مِائَتِي بَعِيرٍ أَوْ ثَلَاثَةِ آلَافِ شَاةٍ أَوْ ثَلَثِمِائَةِ بَقَرَةٍ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ وَرُدَّ إلَى الدِّيَةِ وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِأَلْفِ دِينَارٍ فَصَالَحَ عَلَى عِشْرِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ مِائَتِي بَعِيرٍ بِأَعْيَانِهَا كَانَ جَائِزًا فَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ النَّفْسَ إنَّمَا تَصِيرُ مَا لَا بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَالْقَضَاءُ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الصُّلْحُ بَدَلُ النَّفْسِ وَبَدَلُ النَّفْسِ شَرْعًا مُقَدَّرٌ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ أَوْ مِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ فَالصُّلْحُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ بَاطِلٌ وَبَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِالدَّنَانِيرِ قَدْ وَجَبَتْ الدَّنَانِيرُ ، فَإِنَّمَا يَقَعُ الصُّلْحُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ الدَّنَانِيرِ عَلَى الدَّرَاهِمِ أَوْ الْإِبِلِ ، ثُمَّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَا يَسْتَقِيمُ جَوَابُهَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَإِنَّ عِنْدَهُ الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ لَيْسَا بِأَصْلٍ فِي الدِّيَةِ وَلَا يَدْخُلُهُمَا التَّقْدِيرُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ الصُّلْحُ عِنْدَهُ عَلَى أَيِّ مِقْدَارٍ كَانَ مِنْهَا وَقِيلَ : بَلْ هُوَ مُسْتَقِيمٌ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ الْقَاضِي لَوْ قَضَى فِي الدِّيَةِ بِالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ كَانَ قَضَاؤُهُ نَافِذًا فِيمَا يَقْضِي بِأَلْفَيْ شَاةٍ وَمِائَتِي بَقَرَةٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَيَنْفُذُ قَضَاءُ الْقَاضِي بِهِ ، وَكَذَلِكَ إذَا اصْطَلَحَ الْخَصْمَانِ ؛ لِأَنَّ صُلْحَهُمَا فِي حَقِّهِمَا كَقَضَاءِ الْقَاضِي بِهِ وَلَوْ قَضَى
الْقَاضِي فِي الدِّيَةِ بِثَلَاثَةِ آلَافِ شَاةٍ أَوْ ثَلَثِمِائَةِ بَقَرَةٍ لَمْ يَجُزْ قَضَاؤُهُ فَكَذَلِكَ إذَا اصْطَلَحَ الْخَصْمَانِ عَلَى ذَلِكَ .
وَلَوْ أَقَرَّ رَجُلٌ بِقَتْلِ رَجُلٍ خَطَأً عِنْدَ الْقَاضِي وَأَقَامَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ مُحْتَاجٌ إلَى هَذِهِ الْبَيِّنَةِ فَوَجَبَ قَبُولُهَا وَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمَالَ لَا يَجِبُ بِدُونِ الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ فَلَوْ وَجَبَ الْمَالُ بِهِ عَلَيْهِ لَا يَسْتَقِيمُ قَبُولُ الْبَيِّنَةِ مِنْ الْوَلِيِّ بَعْدَهُ وَالْقَضَاءُ بِهِ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، فَإِنْ قَالَ الْوَلِيُّ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِهِ : لَا أَعْلَمُ لِي بَيِّنَةً فَاقْضِ لِي بِهَا عَلَيْهِ فِي مَالِهِ فَقَضَى الْقَاضِي بِهَا فِي مَالِ الْمُقِرِّ ، ثُمَّ وَجَدَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ بَيِّنَةً فَأَرَادَ أَنْ يُحَوِّلَ ذَلِكَ إلَى الْعَاقِلَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلَا يَكُونُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُبْطِلَ قَضَاءَهُ بِبَيِّنَتِهِ فَتُحَوَّلُ ذَلِكَ إلَى الْعَاقِلَةِ وَلَوْ قَالَ الْوَلِيُّ : لَا تَعْجَلْ بِالْقَضَاءِ فِي مَالِهِ لَعَلِّي أَجِدُ بَيِّنَةً فَأَخَّرَهُ الْقَاضِي ، ثُمَّ وَجَدَ بَيِّنَةً قَضَى لَهُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِمَا بَيَّنَّا .
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ ، ثُمَّ إنَّ الْإِمَامَ نَقَلَ أَهْلَ الْبَادِيَةِ إلَى الْأَمْصَارِ فَتَفَرَّقُوا فِيهَا وَصَارُوا أَصْحَابَ أَعْطِيَةٍ ، ثُمَّ وَقَعَ فِي تِلْكَ الْبِئْرِ إنْسَانٌ كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ يَوْمَ وَقَعَ الرَّجُلُ فِي الْبِئْرِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْوُقُوعِ فِي الْبِئْرِ يَصِيرُ جَانِيًا بِالْحَفْرِ السَّابِقِ وَأُورِدَ هَذَا النَّوْعُ لِإِيضَاحِ مَا سَبَقَ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا الْحَفْرِ وَغَيْرِهِ قَالَ : وَكَذَلِكَ لَوْ حَفَرَ ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْعَطَاءِ ، ثُمَّ أَبْطَلَ الْإِمَامُ عَطَاءَهُمْ وَرَدَّهُمْ إلَى أَنْسَابِهِمْ فَتَعَاقَلُوا عَلَيْهَا زَمَانًا طَوِيلًا ، ثُمَّ مَاتَ إنْسَانٌ فِي الْبِئْرِ كَانَ عَلَيْهِ الْيَوْمُ الَّذِي وَجَبَ الْمَالُ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الرَّجُلَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ نَسَبِهِ ، وَإِنْ أُثْبِتَ لَهُ فِي الدِّيوَانِ عَطَاءٌ وَلَمْ يَتَحَوَّلْ إلَى حَالَةٍ أُخْرَى ، وَإِنَّمَا انْتَقَلَتْ عَاقِلَتُهُ فَلَا تَتَبَدَّلُ بِهِ نَفْسُهُ .
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ عَطَاءِ الْكُوفَةِ جَنَى رَجُلٌ مِنْهُمْ جِنَايَةً وَقَضَى بِهَا عَلَى عَاقِلَتِهِ ، ثُمَّ أُلْحِقَ بِقَوْمٍ مِنْ قَوْمِهِ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ دِيوَانٌ وَجُعِلُوا مَعَ قَوْمِهِمْ عَقَلُوا مَعَهُمْ وَدَخَلُوا فِيمَا قَضَى بِهِ مِنْ الْجِنَايَةِ وَلَمْ يَدْخُلُوا فِيمَا أَدَّوْا قَبْلَ ذَلِكَ ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَلَّتْ الْعَاقِلَةُ حَتَّى ضَمَّ الْإِمَامُ إلَيْهِمْ أَقْرَبَ الْقَبَائِلِ فِي النَّسَبِ وَالْأَصْلُ فِي هَذَا كُلِّهِ أَنَّ حَالَ الْجَانِي إذَا تَبَدَّلَ حُكْمًا وَانْتَقَلَ مِنْ وَلَاءٍ إلَى وَلَاءٍ بِسَبَبٍ حَادِثٍ لَمْ تَنْتَقِلْ جِنَايَتُهُ عَنْ الْأُولَى كَانَ قَضَى بِهَا أَوْ لَمْ يَقْضِ ، وَإِنْ ظَهَرَتْ حَالَةٌ حَقِيقَةٌ مِثْلَ دَعْوَى الْمُلَاعَنَةِ حَوَّلَتْ الْجِنَايَةَ إلَى الْأُخْرَى وَقَعَ الْقَضَاءُ بِهَا أَوْ لَمْ يَقَعْ وَلَوْ لَمْ تَخْتَلِفْ حَالَةُ الْجَانِي وَلَكِنَّ الْعَاقِلَةَ تَبَدَّلَتْ كَانَ الِاعْتِبَارُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِالْقَضَاءِ ، فَإِنْ كَانَ قَضَى عَلَى الْأُولَى لَمْ يَنْتَقِلْ إلَى الثَّانِيَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَضَى بِهَا عَلَى الْأُولَى ، فَإِنَّهُ يَقْضِي بِهَا عَلَى الثَّانِيَةِ ، وَإِذَا كَانَتْ الْعَاقِلَةُ وَاحِدَةً فَلَحِقَهَا زِيَادَةٌ أَوْ نُقْصَانٌ اشْتَرَكُوا فِي ، حُكْمِ الْجِنَايَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَبَعْدَهُ إلَّا فِيمَا سَبَقَ أَدَاؤُهُ .
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ مِنْ أَهْلِ الْإِبِلِ جَنَى جِنَايَةً فَلَمْ يَقْضِ بِهَا حَتَّى نَقَلَهُ الْإِمَامُ وَقَوْمَهُ فَجَعَلَهُمْ أَهْلَ عَطَاءٍ وَجَعَلَ عَطَاءَهُمْ الدَّنَانِيرَ ، ثُمَّ رَفَعَ إلَى الْقَاضِي قَضَى عَلَيْهِمْ بِالدَّنَانِيرِ دُونَ الْإِبِلِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَعِنْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي مَا لَهُمْ عَطَاءٌ فَيَقْضِي بِالدِّيَةِ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ قَضَى عَلَيْهِمْ بِمِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ ، ثُمَّ نَقَلَهُ الْإِمَامُ وَقَوْمَهُ إلَى الْعَطَاءِ وَجَعَلَ عَطَاءَهُمْ الدَّنَانِيرَ أَخَذُوا بِالْإِبِلِ أَوْ بِقِيمَتِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَالٌ غَيْرُ الْعَطَاءِ أُخِذَتْ قِيمَةُ الْإِبِلِ مِنْ أَعْطِيَاتِهِمْ قَلَّتْ الْقِيمَةُ أَوْ كَثُرَتْ ؛ لِأَنَّ الْإِبِلَ تَعَيَّنَتْ دِيَةٌ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَالْحَيَوَانُ لَا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ ثُبُوتًا صَحِيحًا بَلْ يَتَرَدَّدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِيمَةِ فَلَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُ ذَلِكَ الْقَضَاءِ بِصَيْرُورَتِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعَطَاءِ وَلَكِنَّهُمْ يُؤْخَذُونَ بِمَا قَضَى بِهِ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَالٌ غَيْرُ الْعَطَاءِ أُخِذَتْ قِيمَةُ الْإِبِلِ مِنْ أَعْطِيَاتِهِمْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَا لَهُمْ ، وَقَدْ ذُكِرَ قَبْلَ هَذَا إذَا قَضَى عَلَيْهِمْ بِالدِّيَةِ ، ثُمَّ جَعَلَهُمْ الْإِمَامُ أَهْلَ الْعَطَاءِ صَارَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِمْ فِي أَعْطِيَاتِهِمْ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ كِلْتَاهُمَا فِي هَذَا الْكِتَابِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ وَفَّقَ فَقَالَ : هُنَاكَ أَبْهَمَ الْجَوَابَ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ أَعْطِيَاتِهِمْ لِلتَّيْسِيرِ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُبَيِّنْ مَاذَا يُؤْخَذُ ، ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ هَاهُنَا فَقَالَ : تُؤْخَذُ قِيمَةُ الْإِبِلِ مِنْ أَعْطِيَاتِهِمْ وَتَأْوِيلُ مَا ذُكِرَ هُنَاكَ أَنَّهُ قَضَى مِنْ جِنْسِ الْعَطَاءِ عَلَيْهِمْ بِالدِّيَةِ وَلَمْ يُعَيِّنْ جِنْسًا مِنْهَا بِقَضَائِهِ حَتَّى صَارُوا أَهْلَ عَطَاءٍ ، وَإِنَّمَا يُعَيِّنُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ الْعَطَاءِ وَيَأْخُذُهُ مِنْ
الْعَطَاءِ وَهَا هُنَا عَيَّنَ الْجِنْسَ عِنْدَ قَضَائِهِ وَقَضَى عَلَيْهِمْ بِمِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ وَالْعَطَاءُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْإِبِلِ فَيَكُونُ الرَّأْيُ إلَيْهِمْ إنْ شَاءُوا أَدَّوْا الْإِبِلَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ، وَإِنْ شَاءُوا الْقِيمَةَ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَالٌ غَيْرُ الْعَطَاءِ تُؤْخَذُ الْقِيمَةُ مِنْ أَعْطِيَاتِهِمْ .
وَلَوْ أَنَّ ذِمِّيًّا أَسْلَمَ وَوَالَى رَجُلًا ، ثُمَّ جَنَى جِنَايَةً خَطَأً فَلَمْ يَقْضِ بِهَا الْقَاضِي عَلَى الْعَاقِلَةِ بِشَيْءٍ حَتَّى أَبْرَأَ أَوْلِيَاءُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ الْجَانِيَ مِنْ الْجِنَايَةِ فَلِلْجَانِي أَنْ يَتَحَوَّلَ بِوَلَائِهِ عَنْ الَّذِي وَالَاهُ ؛ لِأَنَّ بِإِبْرَائِهِ سَقَطَ مُوجِبُ الْجِنَايَةِ وَلَمْ يَجِبْ شَيْءٌ عَلَى الَّذِي وَالَاهُ ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَلَوْ كَانَ الْإِبْرَاءُ بَعْدَ مَا قَضَى الْقَاضِي عَلَى الْعَاقِلَةِ بِالدِّيَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ بِوَلَائِهِ ؛ لِأَنَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَجَبَتْ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِتَأَكُّدِ الْوِلَايَةِ ، ثُمَّ بِسُقُوطِهِ عَنْ الْعَاقِلَةِ بِالْإِبْرَاءِ وَسُقُوطِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ سَوَاءٌ وَمَعْنَى هَذَا الْفَرْقِ أَنَّ مُوجِبَ الْجِنَايَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ عَلَى الْجَانِي فَالْإِبْرَاءُ يَكُونُ إسْقَاطًا عَنْ الْعَاقِلَةِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ إذَا لَمْ يُوجَدْ الْإِبْرَاءُ وَلَا الْقَضَاءُ حَتَّى تَحَوَّلَ بِوَلَائِهِ إلَى غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مُوجِبَ الْجِنَايَةِ الْأُولَى الْبَاقِيَةِ ، فَإِنَّمَا يَقْضِي الْقَاضِي بِهِ عَلَى عَاقِلَةِ الْأُولَى فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَحَوَّلَ حَتَّى لَوْ كَانَ أَقَرَّ الْجَانِي بِالْجِنَايَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ سَوَاءٌ قَضَى بِهَا عَلَيْهِ فِي مَالِهِ أَوْ لَمْ يَقْضِ ؛ لِأَنَّهُ مُوجِبُ الْجِنَايَةِ الثَّانِيَةِ بِإِقْرَارِهِ يَكُونُ عَلَيْهِ لَا عَلَى عَاقِلَتِهِ فَلَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ مَا يَتَأَكَّدُ بِهِ الْوَلَاءُ وَلَمْ يَجْنِ وَلَكِنَّهُ الْتَحَقَ مَعَهُمْ فِي دِيوَانِهِمْ فَجَنَى بَعْضُهُمْ فَعَقَلَ عَنْهُ مَعَهُمْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ بِوَلَائِهِ عَنْهُمْ ؛ لِأَنَّ الَّذِي وَالَاهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُحَوِّلَهُ إذَا عَقَلَ عَنْهُمْ فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْهُمْ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمَوْلَى بَعْدَ مَا عَقَلَ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبْرَأَ مِنْ وَلَائِهِ كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ بِالْوَلَاءِ عَنْهُ ، وَقَدْ كَانَ قَبْلَ الْعَقْلِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَلِكَ ، فَإِذَا لَمْ
يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَتَحَوَّلَ بَعْدَ عَقْلِ الْجِنَايَةِ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يُحَوِّلَهُ أَيْضًا وَلَوْ أَخَذَ مَعَهُمْ الْعَطَاءَ وَلَمْ يَعْقِلْ عَنْهُمْ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْهُمْ ؛ لِأَنَّ بِأَخْذِ الْعَطَاءِ لَا يَتَأَكَّدُ حُكْمُ الْوَلَاءِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ إنَّمَا يَتَأَكَّدُ ذَلِكَ بِعَقْلِ الْجِنَايَةِ اعْتِبَارًا لِوَلَاءِ الْمُوَالَاةِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَتَأَكَّدُ بِعَقْلِ الْجِنَايَةِ حَتَّى إنْ عَقَلَ عَقْلَ الْجِنَايَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَحَوَّلَ بِوَلَائِهِ وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ عَقْلِ الْجِنَايَةِ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ جَانِبَيْنِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( قَالَ ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : اعْلَمْ بِأَنَّ الْوَصِيَّةَ عَقْدٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ مَرْغُوبٌ لَيْسَ بِفَرْضٍ وَلَا وَاجِبٍ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إذَا كَانُوا مِمَّنْ لَا يَرِثُونَهُ فَرْضٌ ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ الْوَصِيَّةُ وَاجِبَةٌ عَلَى أَحَدٍ مِمَّنْ لَمْ يَرِثُوهُ وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } وَالْمَكْتُوبُ عَلَيْنَا يَكُونُ فَرْضًا ، وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ يُرِيدُ الْوَصِيَّةَ فِيهِ أَنْ يَبِيتَ لَيْلَتَيْنِ إلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَ رَأْسِهِ } ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ مَشْرُوعَةٌ لَنَا لَا عَلَيْنَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { إنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً فِي أَعْمَالِكُمْ فَضَعُوهُ حَيْثُ شِئْتُمْ أَوْ قَالَ حَيْثُ أَحْبَبْتُمْ } ، وَالْمَشْرُوعُ لَنَا مَا لَا يَكُونُ فَرْضًا وَلَا وَاجِبًا عَلَيْنَا بَلْ يَكُونُ مَنْدُوبًا إلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ النَّوَافِلِ مِنْ الْعِبَادَاتِ ثُمَّ التَّبَرُّعُ بَعْدَ الْوَفَاءِ مُعْتَبَرٌ بِالتَّبَرُّعِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ وَذَلِكَ إحْسَانٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ التَّبَرُّعُ بِالْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ اتَّفَقَ أَكْثَرُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ آيَةُ الْمَوَارِيثِ ثُمَّ اُنْتُسِخَ ، وَتَكَلَّمُوا فِي نَاسِخِهِ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : إنَّمَا اُنْتُسِخَ بِقَوْلِهِ : { مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } فَإِنَّهُ نَصَّ عَلَى الْمِيرَاثِ بَعْدَ وَصِيَّةٍ مُنَكَّرَةٍ فَلَوْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ثَابِتَةً بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ
لَذَكَرَ الْإِرْثَ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ الْمُعَرَّفَةِ ؛ لِأَنَّ تِلْكَ وَصِيَّةٌ مَعْهُودَةٌ ، وَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْكِتَابِ بِالسُّنَّةِ وَالرَّازِيُّ كَانَ لَا يُجَوِّزُ نَسْخَ الْكِتَابِ إلَّا بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَقُولُونَ إنَّمَا انْتَسَخَ هَذَا الْحُكْمُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { إنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } ، وَهَذَا حَدِيثٌ مَشْهُورٌ تَلَقَّتْهُ الْعُلَمَاءُ بِالْقَبُولِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَنَسْخُ الْكِتَابِ جَائِزٌ بِمِثْلِهِ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّ مَا تَلَقَّتْهُ الْعُلَمَاءُ بِالْقَبُولِ وَالْعَمَلِ بِهِ كَالْمَسْمُوعِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ سَمِعْنَاهُ يَقُولُ لَا تَعْمَلُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّ حُكْمَهَا مَنْسُوخٌ لَمْ يَجُزْ الْعَمَلُ بِهَا وَلِأَجْلِ شُهْرَةِ هَذَا الْحَدِيثِ بَدَأَ الْكِتَابَ بِهِ وَرَوَاهُ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَةِ قَالَ : { إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْوَرَثَةُ } ، وَفِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ بَيَانٌ أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْجَوَازِ لَا نَفْيُ التَّحْقِيقِ ، وَمِنْ ضَرُورَةِ نَفْيِ الْجَوَازِ نَفْيُ الْفَرْضِيَّةِ وَالْوُجُوبِ ، وَالْحَدِيثُ مُرْسَلٌ بِالطَّرِيقِ الَّذِي رَوَاهُ وَلَكِنَّ الْمَرَاسِيلَ حُجَّةٌ عِنْدَنَا كَالْمَسَانِيدِ أَوْ أَقْوَى مِنْ الْمَسَانِيدِ ؛ لِأَنَّ الرَّاوِيَ إذَا سَمِعَ الْحَدِيثَ مِنْ وَاحِدٍ لَا يَشُقُّ عَلَيْهِ حِفْظُ اسْمِهِ فَيَرْوِيه مُسْنَدًا وَإِذَا سَمِعَهُ مِنْ جَمَاعَةٍ يَشُقُّ عَلَيْهِ حِفْظُ الرِّوَايَةِ فَيُرْسِلُ الْحَدِيثَ فَكَانَ الْإِرْسَالُ مِنْ الرَّاوِي الْمَعْرُوفِ دَلِيلَ شُهْرَةِ الْحَدِيثِ ، فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ فَهُوَ شَاذٌّ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى وَالْوُجُوبُ لَا يَثْبُتُ بِمِثْلِهِ ، ثُمَّ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا كَانَ ابْتِدَاءً قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الْمَوَارِيثِ أَوْ الْمُرَادُ ذَلِكَ لَا يَلِيقُ بِطَرِيقِ الِاحْتِيَاطِ
وَالْأَخْذِ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَبِيتَ شَبْعَانَ وَجَارُهُ طَاوٍ إلَى جَنْبِهِ } ، وَالْمُرَادُ مَا بَيَّنَّا .
ثُمَّ الْوَصِيَّةُ تَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ مِنْ الْمَالِ وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الدَّيْنِ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : إنَّكُمْ تَقْرَءُونَ الْوَصِيَّةَ قَبْلَ الدَّيْنِ { وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَبْدَأُ بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْوَصِيَّةِ } ، وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، فَهَذَا مِنْهُمَا إشَارَةٌ إلَى مَعْنَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فِي الْآيَةِ ، ثُمَّ قَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِ الْمَرْءِ ؛ لِأَنَّهُ تَفْرُغُ بِهِ ذِمَّتُهُ وَالْوَصِيَّةُ لَيْسَتْ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِ وَحَاجَتُهُ مُقَدَّمَةٌ فِي تَرِكَتِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ يُقَدَّمُ جِهَازُهُ وَكَفَنُهُ لِحَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ فَكَذَلِكَ قَضَاءُ الدَّيْنِ ، ثُمَّ زَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ بَعْدَ الدَّيْنِ تُقَدَّمُ عَلَى الْمِيرَاثِ لِظَاهِرِ الْآيَةِ وَأَكْثَرُهُمْ قَالُوا التَّقْدِيمُ لَا يَظْهَرُ فِي الْوَصِيَّةِ بَلْ الْوَارِثُ يَسْتَحِقُّ الثُّلُثَيْنِ إرْثًا فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْمُوصَى لَهُ الثُّلُثَ بِالْوَصِيَّةِ وَالْمُرَادُ مِنْ الْآيَةِ تَقْدِيمُ الْوَصِيَّةِ عَلَى الْمِيرَاثِ فِي الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ لِلْإِرْثِ إذَا لَمْ يُوصِ فِيهِ بِشَيْءٍ ، فَإِذَا أَقْضَى كَانَتْ الْوَصِيَّةُ فِي الثُّلُثِ مُقَدَّمَةً عَلَى الْمِيرَاثِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ الْوَصِيَّةِ النَّافِذَةِ شَرْعًا ثُلُثُ الْمَالِ مَا رَوَاهُ مِنْ حَدِيثِ : { سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ ، فَقَالَ لَا قَالَ فَبِنِصْفِهِ قَالَ لَا قَالَ فَبِثُلُثِهِ قَالَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ إنَّك إنْ تَدَعْ وَرَثَتَك أَغْنِيَاءَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ فُقَرَاءَ يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ } ، وَفِي رِوَايَةٍ : يَتَكَفْكَفُونَ ، وَأَصْلُ هَذَا الْحَدِيثِ مَا رُوِيَ : { أَنَّ سَعْدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرِضَ بِمَكَّةَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعُودُهُ ، فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْلُفُ عَنْ دَارِ الْهِجْرَةِ فَأَمُوتُ بِمَكَّةَ ، فَقَالَ : إنِّي
لِأَرْجُوَ أَنْ يُبْقِيَك اللَّهُ يَنْتَفِعَ بِك أَقْوَامٌ وَيُضَرُّ بِكَ آخَرُونَ لَكِنَّ الْبَائِسَ سَعْدَ بْنَ خَوْلَةَ يُرْثَى لَهُ إنْ مَاتَ بِمَكَّةَ } ، قِيلَ هَذَا مِنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ إشَارَةٌ إلَى مَا جَرَى مِنْ الْفُتُوحِ عَلَى يَدِ سَعْدٍ فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، ثُمَّ { قَالَ : يَا رَسُولَ إنِّي لَا يَرِثُنِي إلَّا ابْنَةٌ لِي أَفَأُوصِي بِمَالِي كُلِّهِ } ، الْحَدِيثَ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِهِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ ذَمَّ الْمُعْتَدِينَ فِي الْوَصِيَّةِ وَالتَّعَدِّي فِي الْوَصِيَّةِ مُجَاوَزَةُ حَدِّهَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - : { وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ } ، وَفِي الْحَدِيثِ : { الْحَيْفُ فِي الْوَصِيَّةِ أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ } ، وَالْحَيْفُ هُوَ الظُّلْمُ وَالْمَيْلُ وَذَلِكَ بِمُجَاوَزَةِ الْحَدِّ الْمَحْدُودِ شَرْعًا بِأَنْ يُوصِيَ لِبَعْضِ وَرَثَتِهِ أَوْ يُوصِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ عَلَى الْإِضْرَارِ بِوَرَثَتِهِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَحَلَّ الْوَصِيَّةِ الثُّلُثُ مَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ : { إنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ } ، ثُمَّ بَيَّنَ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ : { إنَّك إنْ تَدَعْ عِيَالَك أَغْنِيَاءَ } ، مَعْنَاهُ وَرَثَتُك أَقْرَبُ إلَيْك مِنْ الْأَجَانِبِ فَتَرْكُ الْمَالِ خَيْرٌ لَك مِنْ الْوَصِيَّةِ فِيهِ ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّ التَّعْلِيلَ فِي الْوَصِيَّةِ أَفْضَلُ وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ ، وَقَالَ : لَأَنْ يُوصِيَ بِالْخُمُسِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ أَنْ يُوصِيَ بِالرُّبُعِ وَلَأَنْ يُوصِيَ بِالرُّبُعِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ أَنْ يُوصِيَ بِالثُّلُثِ ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِثْلُ ذَلِكَ وَزَادَ وَقَالَ : مَنْ أَوْصَى بِالثُّلُثِ فَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا يَعْنِي لَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا مِمَّا جَعَلَ لَهُ الشَّرْعُ حَقَّ الْوَصِيَّةِ فِيهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْقَلِيلَ فِي الْوَصِيَّةِ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَبْعَدَ وَحْشَةَ الْوَرَثَةِ ، فَإِنَّهُ إذَا أَوْصَى بِجَمِيعِ الثُّلُثِ قَالَ
الْوَارِثُ لَا مِنَّةَ لَهُ عَلَيَّ ، فَإِنَّهُ مَا تَرَكَ الْوَصِيَّةَ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إلَّا لِعَجْزِهِ عَنْ تَنْفِيذِهِ شَرْعًا وَحَقُّ الْوَارِثِ ثَبَتَ فِي مَالِهِ شَرْعًا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { إنَّ أَفْضَلَ الصَّدَقَةِ أَنْ تَتَصَدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ تَأْمُلُ الْعَيْشَ وَتَخْشَى الْفَقْرَ حَتَّى إذَا بَلَغَ هَذَا - وَأَشَارَ إلَى التَّرَاقِي - قُلْتَ : لِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا كَانَ ذَلِكَ } وَإِنْ لَمْ يَقُلْ ، وَإِنَّمَا تَحِلُّ الْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ شَرْعًا لِمَنْ يَتْرُكُ مَالًا كَثِيرًا يَسْتَغْنِي وَرَثَتُهُ بِثُلُثِهِ إمَّا لِكَثْرَةِ الْمَالِ أَوْ لِقِلَّةِ الْوَرَثَةِ هَكَذَا رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا اسْتَأْذَنَهُ رَجُلٌ فِي الْوَصِيَّةِ لِمَنْ يَتْرُكُ خَيْرًا يُرِيدُ قَوْله تَعَالَى : { إنْ تَرَكَ خَيْرًا } ، ثُمَّ يَسْتَدِلُّ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ : { الْغَنِيَّ الشَّاكِرَ أَفْضَلُ مِنْ الْفَقِيرِ الصَّابِرِ } ، فَإِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدَّمَ صِفَةَ الْغِنَى لِوَرَثَةِ سَعْدٍ ، فَقَالَ { إنَّك إنْ تَدَعْ عِيَالَك أَغْنِيَاءَ } ، وَلَكِنَّا نَقُولُ قَدَّمَ صِفَةَ الْغِنَى لَهُمْ وَاخْتَارَ الْفَقْرَ لِنَفْسِهِ وَالْأَفْضَلُ مَا اخْتَارَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ ، ثُمَّ إنَّمَا قَدَّمَ الْغَنِيَّ عَلَى الْفَقِيرِ الَّذِي يَسْأَلُ كَمَا قَالَ : { مِنْ أَنْ تَدَعَهُمْ فُقَرَاءَ يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ } ، أَيْ يُلِحُّونَ فِي السُّؤَالِ وَنَحْنُ إنَّمَا نُقَدِّمُ الْفَقِيرَ الصَّابِرَ دُونَ الَّذِي يَسْأَلُ كَمَا وَصَفَهُمْ اللَّهُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - : { يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إلْحَافًا } ، وَهَذَا لِأَنَّ الْفَقْرَ مَعَ الصَّبْرِ أَسْلَمُ لِلْمَرْءِ وَأَزْيَنُ لِلْمُؤْمِنِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { الْفَقْرُ أَزْيَنُ لِلْمُؤْمِنِ مِنْ الْعَذَارِ الْجَيِّدِ عَلَى جِلْدِ الْفَرَسِ } .
فَأَمَّا الْغِنَى فَسَبَبٌ لِلطُّغْيَانِ وَالْفِتْنَةِ قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - : { كَلًّا إنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى } وَرُوِيَ أَنَّ
حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أَوْصَى إلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ يَوْمَ أُحُدٍ وَأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْصَى إلَى الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ لِلْمَرْءِ أَنْ يُوصِيَ إلَى غَيْرِهِ فِي الْقِيَامِ بِحَوَائِجِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ ، وَهَذَا مِنْ نَظَرِ الشَّرْعِ لَهُ أَيْضًا فَقَدْ يُفَرِّطُ فِي بَعْضِ حَوَائِجِهِ فِي حَيَاتِهِ أَوْ تَخْتَرِمُهُ الْمَنِيَّةُ فَيَحْتَاجُ إلَى مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْقِيَامِ بِحَوَائِجِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَالْإِيصَاءُ إلَى الْغَيْرِ كَانَ مَشْهُورًا بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَخْلَفَ عُمَرَ وَأَوْصَى إلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي حَوَائِجِهِ وَعُمَرُ أَوْصَى إلَى حَفْصَةَ وَتَكَلَّمَ النَّاسُ فِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ أَوْصَى إلَى أَحَدٍ وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَمْ يُوصِ إلَى أَحَدٍ بِشَيْءٍ إنَّمَا : { أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ أَنْ يُصَلِّيَ بِالنَّاسِ } ، وَبِهِ اسْتَدَلُّوا عَلَى خِلَافَتِهِ ، فَقَالُوا مَا اخْتَارَهُ لِأَمْرِ دِينِنَا إلَّا وَهُوَ يَرْضَى بِهِ لِأَمْرِ دُنْيَانَا .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُوصِيَ إلَى مَنْ هُوَ أَقْرَبُ إلَيْهِ إذَا كَانَ أَهْلًا لِذَلِكَ كَمَا أَوْصَى عَلِيٌّ إلَى وَلَدِهِ الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { وَأَوْصَى حَمْزَةُ إلَى زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ آخَى بَيْنَهُمَا حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ } ، وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ إنْسَانٍ أَوْصَى بِسَهْمٍ مِنْ مَالِهِ ، فَقَالَ هُوَ السُّدُسُ وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، فَقَالَ مُطْلَقُ لَفْظِ السَّهْمِ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْإِقْرَارِ يَنْصَرِفُ إلَى السُّدُسِ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مِنْهُمْ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ قَالُوا السَّهْمُ السُّدُسُ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمٌ مِثْلُ أَخَسِّ سِهَامِ الْوَرَثَةِ وَرُوِيَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ عَنْ شُرَيْحٍ ؛ لِأَنَّ مَالَهُ يَصِيرُ سِهَامًا بَيْنَ وَرَثَتِهِ فَذِكْرُ السَّهْمِ يَنْصَرِفُ إلَى ذَلِكَ وَأَخَسُّ السِّهَامِ مُتَيَقَّنٌ فِيهِ إلَّا أَنْ يُجَاوِزَ السَّهْمُ فَحِينَئِذٍ لَا تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ بِدُونِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ هَذَا إنْ لَوْ ذَكَرَ السَّهْمَ مُعَرَّفًا ، وَقَدْ ذَكَرَهُ مُنَكَّرًا بِقَوْلِهِ أَوْصَيْت لَكُمْ بِسَهْمٍ مِنْ مَالِي فَيَنْصَرِفُ إلَى مَا فَسَّرَ أَهْلُ اللُّغَةِ السَّهْمَ بِهِ وَبَيَانُ الْمَسْأَلَةِ يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ .
وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إذَا أَوْصَى الرَّجُلُ بِوَصِيَّتَيْنِ فَالْأَخِيرَةُ مِنْهُمَا أَمْلَكُ وَبِظَاهِرِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ ، فَقَالَ الْوَصِيَّةُ الثَّانِيَةُ بِالثُّلُثِ أَوْ بِالْعِتْقِ لِلَّذِي أَوْصَى بِهِ لِغَيْرِهِ يَكُونُ دَلِيلَ الرُّجُوعِ عَنْ الْوَصِيَّةِ الْأُولَى وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُرَادُ وَصِيَّتَانِ بَيْنَهُمَا مُنَافَاةٌ بِأَنْ يُوصِيَ بِبَيْعِ عَبْدِهِ مِنْ إنْسَانٍ ، ثُمَّ يُوصِيَ بِعِتْقِهِ أَوْ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ ، فَإِنَّ بَيْنَ هَاتَيْنِ الْوَصِيَّتَيْنِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ مُنَافَاةٌ فَالثَّانِيَةُ مِنْهُمَا دَلِيلُ الرُّجُوعِ عَنْ الْأُولَى ، فَأَمَّا إذَا أَوْصَى إلَى إنْسَانٍ بِعَبْدٍ بِعَيْنِهِ ، ثُمَّ أَوْصَى لِآخَرَ بِذَلِكَ الْعَبْدِ فَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْوَصِيَّتَيْنِ فِي الْمَحَلِّ وَمُرَادُهُ أَنْ يَكُونَ كُلُّهُ لِأَحَدِهِمَا إنْ لَمْ يَقْبَلْ الْآخَرُ الْوَصِيَّةَ أَوْ لَمْ يَبْقَ إلَى مَا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا إنْ قَبِلَا جَمِيعًا الْوَصِيَّةَ فَلَا تَكُونُ الثَّانِيَةُ مِنْهُمَا دَلِيلَ الرُّجُوعِ عَنْ الْأُولَى ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْمُوصَى لَهُ الْأَوَّلُ التَّرْجِيحَ بِالسَّبْقِ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يُزَاحِمَ الْمُوصَى لَهُ الثَّانِيَةَ ، وَعَنْ إبْرَاهِيمَ فِي الرَّجُلِ يَمُوتُ وَلَمْ يَحُجَّ قَالَ إنْ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ فَمِنْ الثُّلُثِ ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ فَلَا شَيْءَ وَبِهَذَا نَأْخُذُ .
وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ فَنَقُولُ فِيمَا يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ - تَعَالَى - خَالِصًا كَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ لَا يَصِيرُ دَيْنًا فِي التَّرِكَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ مُقَدَّمًا عَلَى الْمِيرَاثِ وَلَكِنَّهُ يَنْفُذُ مِنْ الثُّلُثِ إنْ أَوْصَى بِهِ كَمَا يَنْفُذُ بِسَائِرِ التَّبَرُّعَاتِ ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهِ فَهُوَ يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا ، وَإِنْ كَانَ مُؤَاخَذًا فِي الْآخِرَةِ بِالتَّفْرِيطِ فِي أَدَاءً بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ يَصِيرُ ذَلِكَ دَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ مُقَدَّمًا عَلَى الْمِيرَاثِ أَوْصَى بِهِ أَوْ لَمْ يُوصِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا
الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْمَنَاسِكِ وَالزَّكَاةِ ، وَعَنْ إبْرَاهِيمَ فِي الرَّجُلِ يُوصِي بِثُلُثِ مَالِهِ يُحَجُّ بِهِ عَنْهُ أَوْ يُعْتَقُ بِهِ رَقَبَةٌ فَلَمْ تَتِمَّ الْحَجَّةُ وَلَا الرَّقَبَةُ قَالَ يُتَصَدَّقُ عَنْهُ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا ، فَإِنَّ تَنْفِيذَ الْوَصِيَّةِ تَجِبُ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ الْمُوصِي بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَالتَّحَرُّزُ عَنْ التَّبْدِيلِ وَاجِبٌ بِالنَّصِّ قَالَ - تَعَالَى - : { فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ } الْآيَةَ ، وَإِنَّمَا يُحَجُّ بِثُلُثِهِ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ ، وَإِنْ كَانَ الثُّلُثُ لِقِلَّتِهِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحَجَّ بِهِ عَنْهُ فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ وَكَانَ إبْرَاهِيمُ ذَهَبَ فِي ذَلِكَ إلَى أَنَّ مَقْصُودَ الْمُوصِي التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ - تَعَالَى - بِثُلُثِ مَالِهِ وَنَيْلُ الثَّوَابِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الْمَالِ فَيَجِبُ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَذَلِكَ فِي التَّصَدُّقِ بِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ اعْتِبَارُ التَّعْبِيرِ فِي أَلْفَاظِ الشَّرْعِ يَجِبُ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو عَنْ حِكْمَةٍ حَمِيدَةٍ ، فَأَمَّا فِي أَوَامِرِ الْعِبَادِ فَيُعْتَبَرُ اللَّفْظُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ أَمَرَ إنْسَانًا بِأَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ لِلسُّنَّةِ فَطَلَّقَهَا بِغَيْرِ السُّنَّةِ لَمْ يَقَعْ ؟ وَالشَّرْعُ أَمَرَ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ لِلسُّنَّةِ ، وَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ لِغَيْرِ السُّنَّةِ كَانَ طَلَاقُهُ وَاقِعًا .
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُوصِيَ الْمُسْلِمُ لِلنَّصْرَانِيِّ أَوْ النَّصْرَانِيُّ لِلْمُسْلِمِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثُّلُثِ وَهَكَذَا عَنْ شُرَيْحٍ وَبِهِ نَأْخُذُ ، فَإِنَّ الْوَصِيَّةَ تَبَرُّعٌ بَعْدَ الْوَفَاةِ بِعَقْدِ مُبَاشَرَةٍ فَيُعْتَبَرُ بِالتَّبَرُّعِ فِي حَيَاتِهِ وَلَا بَأْسَ بِعَقْدِ الْهِبَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى : { لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ } إلَى قَوْلِهِ : { أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ } ، وَإِنْ أَرَادَ بِهَذَا بَيَانَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ ، فَإِنَّ الْإِرْثَ لَا يَجْرِي مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ ؛ لِأَنَّ الْإِرْثَ طَرِيقُهُ طَرِيقُ الْوِلَايَةِ وَالْخِلَافَةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَبْقَى لِلْوَارِثِ الْمَالُ الَّذِي كَانَ لِلْمُوَرِّثِ وَاخْتِلَافُ الدِّينِ يَقْطَعُ الْوِلَايَةَ ، فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ فَتَمْلِيكٌ بِعَقْدٍ مُبْتَدَأٍ وَلِهَذَا لَا يَرُدُّ الْمُوصَى لَهُ بِالْعَيْبِ وَلَا يَصِيرُ مَغْرُورًا فِيمَا اشْتَرَاهُ الْمُوصِي بِخِلَافِ الْوَارِثِ ، وَعَنْ إبْرَاهِيمَ فِي الرَّجُلِ يَسْتَأْذِنُ وَرَثَتَهُ فِي الْوَصِيَّةِ فَيَأْذَنُونَ لَهُ ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ بَعْدَ مَوْتِهِ قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ إنْ شَاءُوا رَجَعُوا وَبِهِ نَأْخُذُ ، فَإِنَّ الْإِجَازَةَ مِنْ الْوَرَثَةِ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْوَصِيَّةِ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ أَوْ فِي الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ ، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ إجَازَتُهُمْ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي ، فَأَمَّا فِي حَيَاتِهِ فَلَا تُعْتَبَرُ ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ إمَّا أَنْ تَكُونَ بِمَنْزِلَةِ التَّمْلِيكِ مِنْهُمْ أَوْ بِمَنْزِلَةِ إسْقَاطِ الْحَقِّ ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ ذَلِكَ كُلُّهُ لَهُمْ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي فَتَمْلِيكُهُمْ قَبْلَ أَنْ يَمْلِكُوا أَوْ إسْقَاطُهُمْ لِحَقِّهِمْ قَبْلَ أَنْ يَتَقَرَّرَ وُجُوبُ الْحَقِّ لَهُمْ يَكُونُ لَغْوًا ، ثُمَّ إجَازَتُهُمْ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ لَا تَكُونُ دَلِيلَ الرِّضَا مِنْهُمْ بِهَذَا بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ كَارِهُونَ لَهُ إلَّا أَنَّهُمْ احْتَشَمُوا الْمُوَرِّثَ فَلَمْ يُجَاهِرُوهُ بِالْإِبَاءِ فَلَوْ لَزِمَهُمْ حُكْمُ الْإِجَازَةِ فِي
حَالَةِ الْحَيَاةِ تَضَرَّرُوا بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِجَازَتُهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ دَلِيلُ الرِّضَا مِنْهُمْ .
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ فِي رَجُلٍ أَوْصَى لِغَيْرِ وَارِثٍ بِدَيْنٍ أَوْ أَقَرَّ بِهِ قَالَ هُوَ جَائِزٌ وَلَوْ أَحَاطَ بِمَالِهِ وَمُرَادُهُ الْإِقْرَارُ بِالدَّيْنِ لَا الْوَصِيَّةُ ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ وَصِيَّةً لِذِكْرِهِ إيَّاهُ فِيمَا بَيْنَ الْوَصَايَا ، وَفِي مَوْضِعِ الْوَصِيَّةِ وَبِهَذَا نَأْخُذُ فَنَقُولُ الْإِقْرَارُ لِغَيْرِ الْوَارِثِ بِالدَّيْنِ صَحِيحٌ ، وَإِنْ أَحَاطَ بِمَالِهِ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَقَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ ، وَعَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ لَهُ ثَلَاثُ بَنِينَ فَأَوْصَى لِرَجُلٍ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ قَالَ لَهُ الرُّبُعُ وَبِهِ نَأْخُذُ ؛ لِأَنَّ مِثْلَ الشَّيْءِ غَيْرُهُ فَهُوَ جَعَلَ نَصِيبَ أَحَدِ الْبَنِينَ مِعْيَارًا لِمَا أَوْجَبَ الْوَصِيَّةَ فِيهِ وَجَعَلَ وَصِيَّتَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ ، فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ يَصِيرُ الْمُوصَى لَهُ بِالْإِيجَابِ كَابْنٍ آخَرَ لَهُ مَعَ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ فَلَهُ الرُّبُعُ أَوْ يُقَالَ يُنْظَرُ فِي نَصِيبِ أَحَدِ الْبَنِينَ فَيُزَادُ عَلَى أَصْلِ السِّهَامِ مِثْلُ ذَلِكَ لِلْمُوصَى لَهُ وَالْمَالُ بَيْنَ الْبَنِينَ الثَّلَاثَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ لِكُلِّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ سَهْمٌ ، فَإِذَا زِدْنَا لِلْمُوصَى لَهُ سَهْمًا عَلَى الثَّلَاثَةِ كَانَتْ السِّهَامُ أَرْبَعَةً ، ثُمَّ نُعْطِيه ذَلِكَ السَّهْمَ فَيَكُونُ لَهُ الرُّبُعُ وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ الثُّلُثَ بِهَذَا الْإِيجَابِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حِينَئِذٍ يُنَفِّذُ الْوَصِيَّةَ لَهُ فِي نَصِيبِ أَحَدِ الْبَنِينَ لَا فِي مِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ ، وَهُوَ إنَّمَا أَوْصَى لَهُ بِمِثْلِ نَصِيبِ أَحَدِهِمْ .
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ وَالشَّعْبِيِّ قَالَا فِي رَجُلٍ أَوْصَى لِرَجُلَيْنِ بِالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ فَرَدُّوا إلَى الثُّلُثِ بَيْنَهُمْ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ لِصَاحِبِ النِّصْفِ ثَلَاثَةٌ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ اثْنَانِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ .
وَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ عِنْدَ عَدَمِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ تَبْطُلُ فِي حَقِّ الضَّرْبِ بِهَا فِي ثُلُثٍ ، وَبَيَانُهُ إذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِثُلُثِ مَالِهِ فَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ أَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِنِصْفِ مَالِهِ فَلَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا ، وَعِنْدَهُمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا أَرْبَاعًا عَلَى أَنْ يَضْرِبَ الْمُوصَى لَهُ بِالْجَمِيعِ بِالثُّلُثِ فِي سِهَامِ جَمِيعِ الْمَالِ الثَّلَاثَةِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ بِسَهْمٍ وَاحِدٍ ، وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي يَكُونُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا عَلَى أَنْ يَضْرِبَ الْمُوصَى لَهُ بِالْجَمِيعِ بِسَهْمَيْنِ وَالْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ بِسَهْمٍ فَهُمَا يَقُولَانِ : مَا يُوجِبُهُ الْمُوصِي بَعْدَ مَوْتِهِ مُعْتَبَرٌ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - مِنْ السِّهَامِ لِلْوَرَثَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَوْجَبَ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ وَلِلْأُخْتِ النِّصْفَ وَلِلْأُمِّ الثُّلُثَ فَكَانَ مُوجَبُ اسْتِحْقَاقِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَا أُوجِبَ لَهُ عِنْدَ الِانْفِرَادِ وَالضَّرْبِ بِجَمِيعِ مَا سُمِّيَ لَهُ بِالْوَصِيَّةِ فِي مَحَلِّ الْمِيرَاثِ عِنْدَ الْمُزَاحَمَة فَكَذَلِكَ فِيمَا أَوْجَبَ الْمُوصِي .
الْمَقْصُودُ اسْتِحْقَاقُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِمَا أَوْجَبَهُ لَهُ عِنْدَ الِانْفِرَادِ وَإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُوصِيَ قَصَدَ سَلَامَةَ مَا سُمِّيَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَمَالِهِ وَتَفْضِيلَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَفِي أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ
تَعَذَّرَ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِ عِنْدَ عَدَمِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ ، وَفِي حُكْمِ الْآخَرِ مَا تَعَذَّرَ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِ فَيَجِبُ تَحْصِيلُهُ كَمَا لَوْ قَالَ أَوْصَيْت بِهَذِهِ الْأَلْفِ لِفُلَانٍ مِنْهَا بِسِتِّمِائَةٍ وَلِفُلَانٍ مِنْهَا بِسَبْعِمِائَةٍ تُعْتَبَرُ تَسْمِيَتُهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَفِي الْقَدْرِ الَّذِي سُمِّيَ التَّفْضِيلُ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُهُ فِي اسْتِحْقَاقِ جَمِيعِ الْمُسَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِضِيقِ الْمَحِلِّ ، ثُمَّ وَصِيَّتُهُ بِالنِّصْفِ وَالثُّلُثِ يَنْصَرِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى جُزْءٍ شَائِعٍ فِي جَمِيعِ مَالِهِ ، وَفِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ تَنْفُذُ وَصِيَّةُ أَحَدِهِمَا بِجَمِيعِ الثُّلُثِ الَّذِي لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِهِ وَجَعَلَ الزِّيَادَةَ فِيمَا أَوْصَى لِأَحَدِهِمَا بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْآخَرِ خَاصَّةً حَتَّى يَبْطُلَ بِعَدَمِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ وَذَلِكَ خِلَافُ مَا أَوْجَبَهُ الْمُوصِي .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِأَحَدِهِمَا بِثُلُثِ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِسُدُسِ مَالِهِ وَلِأَحَدِهِمَا بِالثُّلُثِ وَلِلْآخَرِ بِالرُّبُعِ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَضْرِبَ بِجَمِيعِ مَا أَوْصَى بِهِ لَهُ فِي الثُّلُثِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى لِأَحَدِهِمَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَلِلْآخَرِ بِأَلْفَيْنِ وَثُلُثُ مَالِهِ أَلْفٌ ضَرَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الثُّلُثِ بِجَمِيعِ مَا سُمِّيَ لَهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ فِي مَرَضِهِ عَبْدًا قِيمَتُهُ أَلْفٌ وَعَبْدًا قِيمَتُهُ أَلْفَانِ وَثُلُثُ مَالِهِ أَلْفٌ أَوْ بَاعَ مِنْ إنْسَانٍ عَبْدًا وَحَابَاهُ بِأَلْفٍ وَبَاعَ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا وَحَابَاهُ بِأَلْفَيْنِ ضَرَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الثُّلُثِ بِجَمِيعِ مَا حَبَاهُ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ فَكَذَلِكَ فِيمَا سَبَقَ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - طَرِيقَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ عِنْدَ عَدَمِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ مَفْسُوخَةٌ بِتَغْيِيرِ الْوَصِيَّةِ الْمَفْسُوخَةِ كَالْمَرْجُوعِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الضَّرْبَ بِهَا كَالْوَصِيَّةِ بِمَالِ الْجَارِ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ ؛
لِأَنَّهَا كَانَتْ مَوْقُوفَةً عَلَى إجَازَةِ الْوَرَثَةِ فَتَنْفَسِخُ بِرَدِّهِمْ كَالْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ يَنْفَسِخُ بِرَدِّهِ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ حَقَّ الضَّرْبِ فِيهِ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الْإِيجَابِ ، وَقَدْ بَطَلَ ذَلِكَ بِالِانْفِسَاخِ فَلَا مَعْنَى لِلضَّرْبِ بِهِ فِي مُزَاحَمَةِ وَصِيَّةِ الْإِيجَابِ فِيهَا صَحِيحٌ ، وَلِهَذَا فَارَقَ الْمَوَارِيثَ ، فَإِنَّ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - لِكُلِّ وَارِثٍ صَحِيحٌ قَطْعًا وَيَقِينًا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ الْمُضَارَبَةُ بِهَا عِنْدَ ضِيقِ الْمَحَلِّ لِعِلْمِنَا أَنَّ الْمَالَ الْوَاحِدَ لَا يَكُونُ لَهُ نِصْفَانِ وَثُلُثٌ وَبِهِ فَارَقَ الْوَصِيَّةَ بِالثُّلُثِ وَالسُّدُسِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إيجَابٌ صَحِيحٌ لَا يَنْفَسِخُ بِرَدِّ الْوَارِثِ ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إيجَابٌ بِتَسْمِيَةٍ يُوجَدُ ذَلِكَ فِيمَا هُوَ مَحَلُّ الْوَصِيَّةِ ، وَهُوَ الثُّلُث ، فَأَمَّا هَذَا فَإِيجَابٌ بِتَسْمِيَةٍ لَا تُوجَدُ تِلْكَ التَّسْمِيَةُ إلَّا فِيمَا هُوَ حَقُّ الْوَرَثَةِ فَيَبْطُلُ بِرَدِّهِمْ الْإِيجَابَ فِيمَا يَتَنَاوَلُ حَقَّهُمْ ، وَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ بِالْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ ، فَإِنَّهَا مَا وَقَعَتْ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ فِي أَعْيَانِ التَّرِكَةِ دُونَ الْأَلْفِ الْمُرْسَلَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ تَنْفِيذُ جَمِيعِ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ عَلَى مَا سَمَّى الْمُوصِي مِنْ غَيْرِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ بِأَنْ يَكْثُرَ مَالُ الْمُوَرِّثِ فَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْعِتْقِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ وَصِيَّةٌ بِالْبَرَاءَةِ عَنْ السِّعَايَةِ وَالسِّعَايَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُلُوفِ الْمُرْسَلَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ يُتَصَوَّرُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدُونِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ بِأَنْ يَكْثُرَ مَالُ الْمَيِّتِ .
وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْمُحَابَاةِ فَالْوَصِيَّةُ بِالْمُحَابَاةِ تَكُونُ مِنْ الثَّمَنِ وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ الْمُرْسَلِ حَتَّى يُتَصَوَّرَ تَنْفِيذُهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدُونِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ عِنْدَ كَثْرَةِ الْمَالِ ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا فَاسِدٌ ، فَإِنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ فِيمَا إذَا أَوْصَى بِعَبْدٍ بِعَيْنِهِ لِإِنْسَانٍ قِيمَتَهُ أَلْفٌ وَبِعَبْدٍ آخَرَ بِعَيْنِهِ لِإِنْسَانٍ قِيمَتُهُ أَلْفَانِ وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُمَا وَهُنَا يُتَصَوَّرُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي جَمِيعِ مَا سُمِّيَ لَهُ بِغَيْرِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ بِأَنْ يَكْثُرَ مَالُ الْمَيِّتِ فَيَخْرُجَ الْعَبْدَانِ مِنْ الثُّلُثِ قُلْنَا نَعَمْ وَلَكِنَّ وَصِيَّتَهُمَا بِعَيْنِ التَّرِكَةِ حَقُّ الْوَرَثَةِ فَكَانَتْ تِلْكَ الْوَصِيَّةُ وَاقِعَةً فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ إلَّا بَعْدَ قِيَامِ مِلْكِهِ فِي الْعَيْنِ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِالْأَلْفِ الْمُرْسَلَةِ ، فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ مَالٌ عِنْدَ الْوَصِيَّةِ وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَصِيَّةٌ ضَعِيفَةٌ حَتَّى لَا يَجِبَ تَنْفِيذُهَا إلَّا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ وَالْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ وَصِيَّةٌ قَوِيَّةٌ ، وَلَا مُزَاحَمَةَ بَيْنَ الضَّعِيفِ وَالْقَوِيِّ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَلَكِنَّ الضَّعِيفَ فِي مُقَابَلَةِ الْقَوِيِّ كَالْمَعْدُومِ ، بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ مَعَ الْوَصِيَّةِ لِلْأَجْنَبِيِّ ، فَإِنَّهُ لَا يُثْبِتُ الْمُزَاحَمَةَ بَيْنَهُمَا وَالْمُضَارَبَةَ عِنْدَ عَدَمِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ وَبِهِ فَارَقَ الْمَوَارِيثَ ، فَقَدْ اسْتَوَتْ السِّهَامُ فِي الْقُوَّةِ ، وَكَذَلِكَ الْوَصَايَا فِي الثُّلُثِ ، فَقَدْ اسْتَوَتْ فِي الْقُوَّةِ لِمُصَادَفَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحَلَّ الْوَصِيَّةِ ، وَكَذَلِكَ التَّرِكَةُ إذَا كَانَتْ أَلْفًا ، وَفِيهَا دَيْنٌ أَلْفٌ وَدَيْنٌ أَلْفَانِ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَيْنِ اسْتَوَيَا فِي الْقُوَّةِ ، وَكَذَلِكَ الْوَصَايَا فِي الْأُلُوفِ الْمُرْسَلَةِ وَالْعِتْقِ وَالْمُحَابَاةِ ،
فَإِنَّهَا اسْتَوَتْ فِي الْقُوَّةِ حِينَ لَمْ تَصِحَّ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَقَوْلُ الْمُوصِي قَصْدٌ تَبَيَّنَ فَلَنَا التَّفْصِيلُ بِنَاءً عَلَى صِحَّةِ الْإِيجَابِ فِي حَقِّ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَقَدْ بَطَلَ ذَلِكَ بِالرَّدِّ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ عَلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي فَلَا يُزَاحِمُ الْقَوِيَّ وَبِهِ فَارَقَ مَسْأَلَةَ الْأَلْفِ ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِضَافَةِ إلَيْهِمَا يَعْقُبُهُ تَفْسِيرٌ ، وَهُوَ مَا سُمِّيَ مِنْ السِّتِّمِائَةِ لِأَحَدِهِمَا وَالسَّبْعِمِائَةِ لِلْآخَرِ فَيَكُونُ الْحُكْمُ لِذَلِكَ التَّفْسِيرِ اسْتِوَاءَ الْإِيجَابِ فِي الْقُوَّةِ وَمَا قَالُوا إنَّ الْإِيجَابَ يَنْصَرِفُ إلَى جُزْءٍ شَائِعٍ هَاهُنَا فَاسِدٌ ، فَإِنَّهُ إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِابْنِهِ اسْتَحَقَّ الْمُوصَى لَهُ جَمِيعَ الثُّلُثِ وَلَوْ انْصَرَفَ الْإِيجَابُ إلَى ثُلُثٍ شَائِعٍ فِي جَمِيعِ الْمَالِ صَارَ لَهُ ثُلُثُ الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ صَادَفَ مَحَلَّ الْوَصِيَّةِ وَحَيْثُ اسْتَحَقَّ جَمِيعَ الثُّلُثِ عَرَفْنَا أَنَّ تَسْمِيَةَ الثُّلُثِ مُطْلَقًا تَنْفِيذُ مَحَلِّ الْوَصِيَّةِ لِتَصْحِيحِ إيجَابِهِ فِي جَمِيعِهِ كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ اثْنَيْنِ يَبِيعُ أَحَدُهُمَا نِصْفًا مُطْلَقًا ، فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ الْبَيْعُ إلَى نَصِيبِهِ خَاصَّةً ، فَهَذَا مِثْلُهُ .
وَعَنْ أَبِي عَاصِمٍ الثَّقَفِيِّ قَالَ سَأَلَنِي إبْرَاهِيمُ عَنْ رَجُلٍ أَوْصَى بِنِصْفِ مَالِهِ وَثُلُثِهِ وَرُبُعِهِ فَأَجَازُوا قُلْت لَا عِلْمَ لِي بِهَا قَالَ لِي خُذْ مَالًا لَهُ نِصْفٌ وَثُلُثٌ وَرُبُعٌ وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ فَخُذْ نِصْفَهَا سِتَّةً وَثُلُثَهَا أَرْبَعَةً وَرُبُعَهَا ثَلَاثَةً فَاقْسِمْ الْمَالَ عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى اخْتَلَفُوا فِي تَخْرِيجِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مَعْرُوفَةٌ تُدْعَى الثَّقَفِيَّةَ وَرُبَّمَا يُمْتَحَنُ مَنْ يَدَّعِي التَّحَرُّزَ فِي الْمُقَدَّرَاتِ مِنْ أَصْحَابِنَا ، فَأَمَّا تَخْرِيجُ قَوْلِهِمَا فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ
الْقِسْمَةَ عِنْدَهُمَا عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ وَالْمُضَارَبَةِ فَالْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ يَضْرِبُ بِنِصْفِ الْمَالِ سِتَّةً مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ يَضْرِبُ بِأَرْبَعَةٍ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ وَالْمُوصَى لَهُ بِالرُّبُعِ يَضْرِبُ بِثَلَاثَةٍ فَمَبْلَغُ هَذِهِ السِّهَامِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ فَحِينَئِذٍ أَجَازَهُ الْوَرَثَةُ يُقْسَمُ جَمِيعُ الْمَالِ بَيْنَهُمْ عَلَى ذَلِكَ ، وَعِنْدَ عَدَمِ الْإِجَازَةِ يُقْسَمُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى ذَلِكَ ، وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَقِسْمَةُ الْمَالِ بَيْنَهُمْ عِنْدَ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ فَخَرَّجَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلَهُ عَلَى طَرِيقٍ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى طَرِيقٍ آخَرَ وَالْحَسَنُ عَلَى طَرِيقٍ آخَرَ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَوَى طَرِيقَهُ عَنْهُ .
وَطَرِيقُ الْحَسَنِ أَوْجَهُ ، فَأَمَّا طَرِيقُ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ فَضَلَ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ بِسَهْمَيْنِ ؛ لِأَنَّ تَفَاوُتَ مَا بَيْنَ النِّصْفِ وَالثُّلُثِ سَهْمَانِ وَلَا مُنَازَعَةَ فِي هَذَيْنِ السَّهْمَيْنِ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ وَالرُّبُعِ فَيَأْخُذُهُمَا صَاحِبُ النِّصْفِ ، ثُمَّ لَا مُنَازَعَةَ لِصَاحِبِ الرُّبُعِ فِيمَا زَادَ عَلَى الرُّبُعِ إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ ، وَهُوَ سَهْمٌ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ وَالنِّصْفِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي ذَلِكَ ، وَفِي الْمَالِ سِعَةٌ فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمًا فَفِي ثَمَانِيَةٍ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمْ فِيهَا يَكُونُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا فَانْكَسَرَ بِالْأَثْلَاثِ فَيُضْرَبُ أَصْلُ الْمَالِ اثْنَا عَشَرَ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ صَاحِبُ النِّصْفِ أَخَذَ مَرَّةً سَهْمَيْنِ وَمَرَّةً سَهْمًا ، وَقَدْ ضُرِبَ ذَلِكَ فِي الثَّلَاثَةِ وَهِيَ تِسْعَةٌ .
وَصَاحِبُ الثُّلُثِ أَخَذَ سَهْمًا وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَالْبَاقِي أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ بَيْنَهُمْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَمَانِيَةٌ فَحَصَلَ لِصَاحِبِ الرُّبُعِ ثَمَانِيَةٌ مِنْ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَحَدَ عَشَرَ وَلِصَاحِبِ النِّصْفِ سَبْعَةَ عَشَرَ .
وَأَمَّا تَخْرِيجُ مُحَمَّدٍ لِقَوْلِ أَبِي
حَنِيفَةَ فَقَرِيبٌ مِنْ هَذَا وَلَكِنَّهُ قَالَ لَمَّا أَخَذَ صَاحِبُ النِّصْفِ سَهْمَيْنِ بِلَا مُنَازَعَةَ تَرَاجَعَ حَقُّهُ إلَى الثُّلُثِ فَوَصَايَاهُمْ جَمِيعًا بَعْدَ ذَلِكَ اجْتَمَعَتْ فِي الثُّلُثِ ، وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوَصَايَا مَتَى وَقَعَتْ فِي الثُّلُثِ فَالْقِسْمَةُ بَيْنَ أَرْبَابِهَا عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ فَيَضْرِبُ صَاحِبُ النِّصْفِ بِمَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ ، وَهُوَ أَرْبَعَةٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ بِأَرْبَعَةٍ أَيْضًا وَصَاحِبُ الرُّبُعِ بِثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ فَالسَّبِيلُ أَنْ تَضْرِبَ أَصْلَ الْمَالِ اثْنَيْ عَشَرَ فِي إحْدَى عَشَرَ فَيَكُونُ مِائَةً وَاثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ كَانَ قَدْ أَخَذَ صَاحِبُ النِّصْفِ سَهْمَيْنِ وَضَرَبْنَا سَهْمًا فِي أَحَدَ عَشَرَ وَذَلِكَ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ مِائَةٌ وَعَشَرَةٌ لِصَاحِبِ الرُّبُعِ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثُونَ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعُونَ وَلِصَاحِبِ النِّصْفِ كَذَلِكَ فَجُمْلَةُ مَا حَصَلَ لِصَاحِبِ النِّصْفِ اثْنَانِ وَسِتُّونَ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعُونَ وَلِصَاحِبِ الرُّبُعِ ثَلَاثُونَ .
فَأَمَّا تَخْرِيجُ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ لِقَوْلِهِ فَهُوَ أَنَّهُ اجْتَمَعَ هَاهُنَا وَصِيَّتَانِ وَصِيَّةٌ فِي الثُّلُثِ وَوَصِيَّةٌ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَرَى الْقِسْمَةَ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ فِي الْوَصَايَا فِي الثُّلُثِ وَالْقِسْمَةَ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ فِي الْوَصَايَا فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَيَعْتَبِرُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَيَبْدَأُ بِقِسْمَةِ الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ تَكُونُ عَنْ مُوَافَقَةٍ فَهُوَ أَقْوَى مِمَّا يَنْبَنِي عَلَى الْمُنَازَعَةِ وَلِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِي مَحَلِّهَا أَقْوَى مِمَّا إذَا جَاوَزَتْ مَحَلَّهَا فَنَقُولُ : يَضْرِبُ صَاحِبُ النِّصْفِ فِي الثُّلُثِ بِجَمِيعِ الثُّلُثِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ بِمِثْلِهِ وَصَاحِبُ الرُّبُعِ بَيْنَهُمْ فَيُضْرَبُ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ فَيَكُونُ جَمِيعُ الْمَالِ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ ، ثُمَّ يَأْتِي إلَى الْقِسْمَةِ بِطَرِيقِ
الْمُنَازَعَةِ فَنَقُولُ صَاحِبُ النِّصْفِ حَقُّهُ فِي النِّصْفِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَذَلِكَ سِتَّةَ عَشَرَ وَنِصْفٌ ، وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ أَرْبَعَةٌ بَقِيَ لَهُ مِنْ حَقِّهِ اثْنَا عَشَرَ وَنِصْفٌ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ كَانَ حَقُّهُ فِي أَحَدَ عَشَرَ وَصَلَ إلَيْهِ أَرْبَعَةٌ بَقِيَ لَهُ سَبْعَةٌ فَمَا زَادَ عَلَى سَبْعَةٍ إلَى تَمَامِ اثْنَيْ عَشَرَ وَنِصْفٍ لَا مُنَازَعَةَ فِيهِ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ فَيَأْخُذُهُ صَاحِبُ النِّصْفِ وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَنِصْفٌ ، ثُمَّ صَاحِبُ الرُّبُعِ كَانَ حَقُّهُ فِي الرُّبُعِ وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَرُبُعٌ وَصَلَ إلَيْهِ ثَلَاثَةٌ بَقِيَ لَهُ خَمْسَةٌ وَرُبُعٌ فَمَا زَادَ عَلَى خَمْسَةٍ وَرُبُعٍ إلَى تَمَامِ سَبْعَةٍ لَا مُنَازَعَةَ فِيهِ لِصَاحِبِ الرُّبُعِ فَصَاحِبُ الثُّلُثِ وَالنِّصْفِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِيه ، وَفِي الْمَالِ سِعَةٌ فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَهْمًا وَثَلَاثَةَ أَرْبَاعٍ بِلَا مُنَازَعَةٍ فَجُمْلَةُ مَا أَخَذَا مِنْ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ ، وَهُوَ ثُلُثَا الْمَالِ تِسْعَةٌ مَرَّةً خَمْسَةٌ وَنِصْفٌ وَمَرَّتَيْنِ سَهْمٌ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَنِصْفٌ وَالْبَاقِي ثَلَاثَةَ عَشَرَ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمْ فِيهِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا فَانْكَسَرَ بِالْأَثْلَاثِ وَكَانَ قَدْ انْكَسَرَ بِالْأَنْصَافِ وَالْأَرْبَاعِ إلَّا أَنَّ الرُّبُعَ يُجْزِي عَنْ النِّصْفِ ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ يَخْرُجُ مِنْ مَخْرَجِ الرُّبُعِ فَالسَّبِيلُ أَنْ يَضْرِبَ ثَلَاثَةً فِي أَرْبَعَةٍ فَيَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَ ، ثُمَّ يَضْرِبُ أَصْلَ الْمَالِ وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ فِي اثْنَيْ عَشَرَ فَيَكُونُ ثَلَثَمِائَةٍ وَسِتَّةً وَتِسْعِينَ الثُّلُثُ مِنْ ذَلِكَ مِائَةٌ وَاثْنَانِ وَثَلَاثُونَ كَانَ لِصَاحِبِ النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةٌ مَضْرُوبَةٌ فِي اثْنَيْ عَشَرَ وَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ مِثْلُ ذَلِكَ وَلِصَاحِبِ الرُّبُعِ ثَلَاثَةٌ مَضْرُوبَةٌ فِي اثْنَيْ عَشَرَ وَذَلِكَ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ وَكَانَ مَا أَخَذَ صَاحِبُ النِّصْفِ مِنْ الثَّلَاثِينَ بِلَا مُنَازَعَةٍ خَمْسَةٌ وَنِصْفٌ مَضْرُوبَةٌ فِي اثْنَيْ عَشَرَ فَذَلِكَ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ .
وَمَا
أَخَذَ صَاحِبُ النِّصْفِ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ ثَلَاثَةٌ وَنِصْفٌ مَضْرُوبَةٌ فِي اثْنَيْ عَشَرَ وَذَلِكَ اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِكُلِّ وَاحِد مِنْهُمَا أَحَدٌ وَعِشْرُونَ وَكَانَ الَّذِي لَا يَسْتَقِيمُ بَيْنَهُمْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ مَضْرُوبَةً فِي اثْنَيْ عَشَرَ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِائَةً وَسِتَّةً وَخَمْسِينَ بَيْنَهُمْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ اثْنَانِ وَخَمْسُونَ فَصَاحِبُ الرُّبُعِ مَا وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ الثُّلُثَيْنِ إلَّا اثْنَانِ وَخَمْسُونَ وَصَاحِبُ الثُّلُثِ أَخَذَ مَرَّةً اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ وَمَرَّةً أَحَدًا وَعِشْرِينَ وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ ، وَصَاحِبُ النِّصْفِ أَخَذَ مَرَّةً اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ وَمَرَّةً أَحَدًا وَعِشْرِينَ وَمَرَّةً سِتَّةً وَسِتِّينَ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِائَةً وَتِسْعَةً وَسِتِّينَ ، فَإِذَا جَمَعْت بَيْنَ هَذِهِ السِّهَامِ بَلَغَتْ سِهَامُ ثُلُثَيْ الْمَالِ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعَةً وَسِتِّينَ ، فَإِذَا ضَمَمْته إلَى الثُّلُثِ الَّذِي اقْتَسَمُوهُ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ كَانَتْ الْجُمْلَةُ ثَلَثَمِائَةٍ وَسِتَّةً وَتِسْعِينَ فَاسْتَقَامَ التَّخْرِيجُ .
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ إذَا أَوْصَى الرَّجُلُ وَأَعْتَقَ بُدِئَ بِالْعِتْقِ وَبِهِ نَأْخُذُ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعِتْقَ أَقْوَى سَبَبًا مِنْ سَائِرِ الْوَصَايَا ، فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ ، وَهُوَ إسْقَاطٌ لِلرِّقِّ وَالْمُسْقَطُ يَكُونُ مُتَلَاشِيًا وَسَائِرُ الْوَصَايَا يَتَحَمَّلُ الْفَسْخَ وَالرُّجُوعَ عَنْهَا وَثُبُوتُ الْحُكْمِ بِحَسَبِ السَّبَبِ وَلَا مُزَاحَمَةَ لِلضَّعِيفِ مَعَ الْقَوِيِّ ، ثُمَّ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَخَذَا بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَدَّمَا الْعِتْقَ عَلَى الْمُحَابَاةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ خَصَّ الْمُحَابَاةَ مِنْ سَائِرِ الْوَصَايَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا أَقْوَى سَبَبًا فَسَبَبُهَا عَقْدُ الضَّمَانِ وَعَقْدُ الضَّمَانِ أَقْوَى مِنْ التَّبَرُّعِ وَقُوَّةُ الْعِتْقِ بِاعْتِبَارِ حُكْمِ السَّبَبِ فَعِنْدَ الْبُدَاءَةِ بِالْمُحَابَاةِ يَتَرَجَّحُ بِالسَّبْقِ وَبِقُوَّةِ السَّبَبِ ، فَقَالَ يَبْدَأُ بِهَا ، وَعِنْدَ الْبُدَاءَةِ بِالْعِتْقِ يَسْتَوِيَانِ مِنْ حَيْثُ إنَّ لِلْعِتْقِ قُوَّةَ السَّبْقِ وَقُوَّةَ الْحُكْمِ وَلِلْمُحَابَاةِ قُوَّةَ السَّبَبِ وَالْمُعْتَبَرُ أَوَّلًا السَّبَبُ ، فَإِنَّ الْحُكْمَ يَنْبَنِي عَلَى السَّبَبِ فَيَتَحَاصَّانِ وَسَيَأْتِي بَيَانُ الْمَسْأَلَةِ فِي مَوْضِعِهَا .
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ فِي رَجُلٍ يُوصِي إلَى رَجُلٍ فَيَمُوتُ الْمُوصَى إلَيْهِ فَيُوصِي إلَى رَجُلٍ آخَرَ ، فَإِنَّ وَصِيَّتَهُمَا جَمِيعًا صَحِيحَةٌ وَبِهِ نَأْخُذُ ، فَإِنَّ الْوَصِيَّ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوصِي فِي وِلَايَتِهِ فِي الْمَالِ ، وَقَدْ كَانَتْ وِلَايَتُهُ فِي مَالِهِ وَمَالِ الْمُوصِي الْأَوَّلِ فَيَخْلُفُهُ وَصِيُّهُ فِي التَّصَرُّفِ فِي الْمَالَيْنِ ؛ لِأَنَّ - بَعْدَ قَبُولِ الْوَصِيَّةِ - التَّصَرُّفَ فِي مَالِ الْمُوصِي الْأَوَّلِ مِنْ حَوَائِجِ الْوَصِيِّ كَالتَّصَرُّفِ فِي مَالِ نَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا يُقِيمُ الْمُوصِي مَقَامَهُ فِيمَا هُوَ مِنْ حَاجَتِهِ .
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ فِي الرَّجُلِ يُوصِي لِأُمِّ وَلَدِهِ فِي حَيَاتِهِ وَصِحَّتِهِ فَيَمُوتُ قَالَ هُوَ مِيرَاثٌ ، وَإِنْ أَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ لَهَا بِوَصِيَّةٍ فَهُوَ لَهَا مِنْ الثُّلُثِ وَالْمُرَادُ بِوَصِيَّتِهِ لَهَا فِي صِحَّتِهِ الْإِقْرَارُ وَالْهِبَةُ لَا الْوَصِيَّةُ الْمُضَافَةُ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ ؛ لِأَنَّ حَالَةَ الصِّحَّةِ وَحَالَةَ الْمَرَضِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَبِهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ الْهِبَةُ لِأُمٍّ الْوَلَدِ وَالْإِقْرَارُ لَهَا بِالدَّيْنِ بَاطِلٌ مِنْ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهَا بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِهِ وَكَسْبُهَا لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْقِنَّةِ ، فَأَمَّا وَصِيَّتُهُ لَهَا مُضَافَةً إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَصَحِيحَةٌ ؛ لِأَنَّهَا تَعْتِقُ بِالْمَوْتِ وَوُجُوبُ الْوَصِيَّةِ يَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَالْوَصِيَّةُ لَهَا بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ لِجَارِيَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ عِنْدَ مَوْتِهِ بِدَيْنٍ لِوَارِثٍ ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ، وَإِنْ أَقَرَّ لِغَيْرِ وَارِثٍ بِالدَّيْنِ جَازَ وَلَوْ أَحَاطَ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَبِهِ نَأْخُذُ فِي الْفَصْلَيْنِ ، وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ .
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ فِي الْمَرْأَةِ يَضْرِبُهَا الطَّلْقُ قَالَ هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ فِي الْوَصِيَّةِ وَالتَّبَرُّعِ .
وَالطَّلْقُ اسْمٌ لِوَجَعِ الْوِلَادَةِ وَيُسَمَّى ذَلِكَ مَخَاضًا أَيْضًا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - : { فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ } وَمَتَى أَخَذَهَا وَجَعُ الْوِلَادَةِ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ ؛ لِأَنَّهَا أَشْرَفَتْ عَلَى الْهَلَاكِ إلَّا أَنَّهُ قَدْ يَأْخُذُهَا الْوَجَعُ ، ثُمَّ يَسْكُنُ فَبِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الْوَجَعِ لَا تَصِيرُ فِي التَّبَرُّعَاتِ كَالْمَرِيضَةِ بِمَنْزِلَةِ مَرِيضٍ يَعْقُبُهُ بُرْءٌ ، وَإِنَّمَا تَصِيرُ كَالْمَرِيضَةِ إذَا أَخَذَهَا الْوَجَعُ الَّذِي يَكُونُ آخِرُهُ انْفِصَالَ الْوَلَدِ عَنْهَا مِنْ سَلَامَتِهَا بِهِ أَوْ مَوْتِهَا ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ مَرَضُ الْمَوْتِ وَمَرَضُ الْمَوْتِ مَا يَتَّصِلُ بِهِ مَنْ أَوْصَى بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ لَمْ يَجُزْ فِي الْفَضْلِ عَلَى الثُّلُثِ إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْوَرَثَةُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهُمْ كِبَارٌ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ تَعَلَّقَ بِمَالِهِ بِمَرَضِهِ وَلَكِنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الثُّلُثَ مَحَلًّا لِوَصِيَّةِ الْمُوصِي لِيَتَدَارَكَ بِهِ مَا فَرَّطَ فِي حَيَاتِهِ فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إذَا أَوْصَى بِهِ ، فَقَدْ قَصَدَ الْإِضْرَارَ بِوَرَثَتِهِ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِمْ عَمَّا تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِهِ وَإِيثَارِ الْأَجْنَبِيِّ عَلَى مَنْ آثَرَهُ الشَّرْعُ ، وَهُوَ الْوَارِثُ فَلِلْوَارِثِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ قَصْدَهُ بِأَنْ يَأْبَى الْإِجَازَةَ وَلَا مُعْتَبَرَ بِإِجَازَتِهِ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي عِنْدَنَا .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى تَصِحُّ إجَازَتُهُ فِي حَيَاتِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بَعْدَ وَفَاتِهِ ؛ لِأَنَّهُ سَقَطَ حَقُّهُ بِالْإِجَازَةِ وَبِالْمَرَضِ قَدْ تَعَلَّقَ حَقُّهُ بِمَالِهِ فَيَصِحُّ إسْقَاطُهُ وَفِقْهُ هَذَا أَنَّ حَقَّ الْوَارِثِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي مَالِهِ بِالْمَوْتِ وَلَكِنَّ سَبَبَ مَوْتِهِ الْمَرَضُ فَلَمَّا أُقِيمَ هَذَا السَّبَبُ مُقَامَ حَقِيقَةِ الْمَوْتِ فِي مَنْعِ الْمُوَرِّثِ مِنْ التَّصَرُّفِ الْمُبْطِلِ لِحَقِّ الْوَارِثِ فَكَذَلِكَ قَامَ مَقَامَهُ فِي صِحَّةِ إسْقَاطِ الْحَقِّ مِنْ
الْوَارِثِ بِالْإِجَازَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ إسْقَاطُ الْحَقِّ قَبْلَ وُجُودِ السَّبَبِ لَا يَجُوزُ وَيُعْتَبَرُ الْمَرَضُ بِسَبَبِ تَعَلُّقِ حَقِّهِ بِمَالٍ بَلْ السَّبَبُ مَرَضُ الْمَوْتِ وَمَرَضُ الْمَوْتِ مَا يَتَّصِلُ بِهِ الْمَوْتُ فَقَبْلَ اتِّصَالِ الْمَوْتِ لَا يَكُونُ سَبَبًا ، وَهَذَا الِاتِّصَالُ مَوْهُومٌ فَيَكُونُ هَذَا إسْقَاطَ الْحَقِّ قَبْلَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ ، ثُمَّ الْإِجَازَةُ مِنْ الْوَارِثِ إنَّمَا تَعْمَلُ لِوُجُودِ دَلِيلِ الرِّضَا مِنْهُ بِتَصَرُّفِ الْمَرِيضِ وَإِجَازَتُهُ فِي حَيَاةِ الْمُوصِي لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ بَلْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ احْتَشَمَ الْمُوَرِّثَ فَلَمْ يُجَاهِرْهُ بِالرَّدِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ رَاضِيًا بِوَصِيَّتِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَجَازَهُ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَفِي الْإِجَازَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ إنْ لَمْ يَكُنْ الْوَارِثُ مِنْ أَهْلِهِ بِأَنْ كَانَ صَغِيرًا فَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطُ الْحَقِّ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ كَبِيرًا فَإِجَازَتُهُ صَحِيحَةٌ وَيُسَلِّمُ الْمَالَ لِلْمُوصَى لَهُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ مِنْ الْمُوصِي عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ صَحِيحَةٌ بِطَرِيقِ التَّمْلِيكِ مِنْ الْوَارِثِ ابْتِدَاءً مِنْهُ حَتَّى لَا يَتِمَّ إلَّا بِالْقَبْضِ عَلَى قَوْلِهِ ، وَعِنْدَنَا يَتِمُّ مِنْ غَيْرِ قَبْضِ الْمُوصَى لَهُ وَالشُّيُوعُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِجَازَةِ وَلَيْسَ لِلْوَارِثِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ بِنَفْسِ الْمَوْتِ قَدْ صَارَ قَدْرُ الثُّلُثَيْنِ مِنْ الْمَالِ مِلْكًا لِلْوَارِثِ ؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ يَثْبُتُ مِنْ غَيْرِ قَبُولِ الْوَارِثِ وَلَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ فَإِجَازَتُهُ تَكُونُ إخْرَاجًا لِلْمَالِ عَنْ مِلْكِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَهَذَا فِيهِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِمَالِ جَارِهِ فَأَجَازَهُ الْجَارُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ تَصَرُّفُ الْمُوصِي صَادَفَ مِلْكَهُ وَامْتَنَعَ نُفُوذُهُ بِقِيَامِ حَقِّ الْغَيْرِ فِيهِ إجَازَةُ مَنْ لَهُ الْحَقُّ تَكُونُ إسْقَاطًا كَإِجَازَةِ الْمُرْتَهِنِ بَيْعَ الرَّاهِنِ ، وَكَذَلِكَ إنْ أَجَازُوا وَصِيَّةَ الْوَارِثِ .
وَلَوْ أَوْصَى بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِ رَجُلٍ أَوْ بِعَبْدٍ أَوْ بِثَوْبٍ فَأَجَازَ ذَلِكَ الرَّجُلُ قَبْلَ مَوْتِهِ أَوْ بَعْدَهُ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ مَا لَمْ يَدْفَعْهُ إلَى الْمُوصَى لَهُ ، فَإِذَا دَفَعَهُ إلَيْهِ جَازَ ؛ لِأَنَّ وَصِيَّتَهُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ كَأَنَّهُ وَهَبَ مَالَ غَيْرِهِ فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ وَالْقَبْضِ كَمَا لَوْ وَهَبَ مَالَ نَفْسِهِ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى بِمَالِ نَفْسٍ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُنَفَّذْ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ ، فَإِذَا أَجَازُوا ، فَقَدْ أَبْطَلُوا حَقَّهُمْ وَجَازَ مِنْ قِبَلِ الْمُوصِي جَوَازُ الْوَصِيَّةِ فَلَمْ يَكُنْ التَّسْلِيمُ مِنْ شَرْطِ صِحَّتِهَا وَجَوَازِهَا .
وَإِذَا أَوْصَى الرَّجُلُ لِرَجُلٍ بِعَبْدٍ وَلِآخَرَ بِثَوْبٍ وَلِآخَرَ بِدَارٍ وَالثُّلُثُ يَبْلُغُ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَالْوَصِيَّةُ تَبْلُغُ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ أَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثَيْ وَصِيَّتِهِ وَبَطَلَ الثُّلُثُ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إبْطَالِ الْفَضْلِ عَلَى الثُّلُثِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمْ بِإِبْطَالِهَا أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ ، وَقَدْ اسْتَوَوْا فِي اسْتِحْقَاقِ الثُّلُثِ فَكَذَا فِي إبْطَالِهِ فَيَنْقُصُ مِنْ وَصِيَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثُهَا .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَبْلَغِ الْوَصَايَا وَإِلَى ثُلُثِ مَالِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مِقْدَارَ الثُّلُثِ يَنْقُصُ مِنْ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الثُّلُثَ ، وَإِنْ كَانَ نِصْفًا النِّصْفُ .
وَتَفْسِيرُهُ إذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ بِعَبْدٍ قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلِآخَرَ بِثَوْبٍ قِيمَتُهُ ثَلَثُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَلِآخَرَ بِدَارٍ قِيمَتُهَا مِائَتَانِ فَذَلِكَ كُلُّهُ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ وَثُلُثُ مَالِهِ أَلْفٌ فَالزِّيَادَةُ مِقْدَارُ الثُّلُثِ فَيَنْقُصُ مِنْ وَصِيَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِقْدَارُ الثُّلُثِ فَلِصَاحِبِ الْعَبْدِ ثُلُثَا الْعَبْدِ وَلِصَاحِبِ الدَّارِ ثُلُثَا الدَّرَاهِمِ وَلِصَاحِبِ الثَّوْبِ ثُلُثَا الثَّوْبِ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ .
وَإِذَا أَوْصَى لِذَوِي قَرَابَتِهِ بِالثُّلُثِ ، فَإِنَّ ذَوِي قَرَابَتِهِ كُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ ، قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُنَا خَمْسَةُ أَلْفَاظٍ إمَّا أَنْ يُوصِيَ لِذَوِي قَرَابَتِهِ أَوْ لِأَقَارِبِهِ أَوْ لِأَنْسَابِهِ أَوْ لِأَرْحَامِهِ أَوْ لِذَوِي أَرْحَامِهِ فَأَبُو حَنِيفَةَ يَعْتَبِرُ خَمْسَةَ أَشْيَاءَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ وَاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا مَا سِوَى الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ ، وَمَنْ لَا يَرِثُ وَالْأَقْرَبَ فَالْأَقْرَبَ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ يَدْخُلُ فِيهَا جَمِيعُ ذَوِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ الْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ، ثُمَّ رَجَعَ ، فَقَالَ كُلُّ مَنْ يَجْمَعُهُ وَأَبَاهُ أَقْصَى أَبٍ فِي الْإِسْلَامِ وَيَدْخُلُ فِي الْوَصِيَّةِ ذُو الرَّحِمِ وَغَيْرُ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ كُلُّهُمْ سَوَاءٌ ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَالِاخْتِلَافُ فِي مَوْضِعَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَصْرِفُ إلَى ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَلَا يَصْرِفُ إلَى غَيْرِهِمْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ .
وَالثَّانِي أَنَّهُ يَصْرِفُ إلَى الْأَقْرَبِ فَالْأَقْرَبِ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَهُمَا يَسْتَوِي فِيهِ الْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ وَاتَّفَقُوا أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِيهَا الْوَصِيَّةُ لِوَارِثٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ } ، وَكَذَلِكَ يُعْتَبَرُ الِاثْنَانِ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ ذَوِي لَفْظُ جَمْعٍ وَأَقَلُّ الْجَمْعِ اثْنَانِ فِي الْمِيرَاثِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْأَخَوَيْنِ يَنْقُلَانِ الْأُمَّ مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ فَكَذَلِكَ فِي الْوَصِيَّةِ إذْ هِيَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ فَلِذَلِكَ لَا يَصْرِفُ إلَى الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهُمَا يُسَمَّيَانِ قَرَابَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ } مِنْ بَيْنِهِمَا فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْوَالِدَيْنِ غَيْرُ الْقَرَابَةِ ، فَإِذَا خَرَجَ الْأَبُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا لِلِابْنِ خَرَجَ الِابْنُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا لِلْأَبِ وَهَلْ يَدْخُلُ فِيهَا الْجُدُودُ وَوَلَدُ الْوَلَدِ فَفِي الزِّيَادَاتِ أَنَّهُ يَدْخُلُ وَلَمْ يَذْكُرْ
فِيهِ خِلَافًا وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْجَدَّ وَوَلَدَ الْوَلَدِ لَا يَدْخُلَانِ فِي الْوَصِيَّةِ ، وَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ الْجَدَّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ وَوَلَدَ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرَ أَبُو حَنِيفَةَ ذَا الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ ؛ لِأَنَّ الْمُوصِيَ قَصَدَ بِالْوَصِيَّةِ صِلَةَ الرَّحِمِ ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى } ، وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا : { وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ } فَلَمَّا كَانَ مَأْمُورًا بِصِلَةِ الْقَرَابَةِ ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الصِّلَةُ مِمَّنْ كَانَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَانْصَرَفَتْ الْوَصِيَّةُ إلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ الْمُطْلَقَةَ قَرَابَةُ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ لِاخْتِصَاصِهَا بِأَحْكَامٍ مَخْصُوصَةٍ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ الْمُنَاكَحَةِ وَالْعِتْقِ عِنْدَ الْمِلْكِ وَعَدَمِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ عِنْدَ الْعِشْرَةِ فَانْصَرَفَتْ الْوَصِيَّةُ إلَيْهِ ، وَإِنَّمَا اُعْتُبِرَ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ أَقْرَبَ إلَيْهِ فَهُوَ أَشْبَهُ بِهَذَا اللَّفْظِ فَكَانَ أَوْلَى كَمَا فِي الْعَصَبَاتِ وَذَوِي الْأَرْحَامِ فِي الْمِيرَاثِ وَالْأَقْرَبِ فِي الشُّفْعَةِ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ الْأَقْرَبُ وَالْأَبْعَدُ مِنْهُ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ الِاسْمِ سَوَاءٌ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِإِخْوَتِهِ وَلَهُ إخْوَةٌ بَعْضُهُمْ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَبَعْضُهُمْ لِأَبٍ وَبَعْضُهُمْ لِأُمٍّ أَنَّهُمْ فِي الْوَصِيَّةِ سَوَاءٌ وَلَا يُعْتَبَرُ الْأَقْرَبُ .
وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِيهِ ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَغَيْرُ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَيَصْرِفُ إلَى كُلِّ مَنْ يَجْمَعُهُ .
وَأَبَاهُ أَقْصَى أَبٍ فِي الْإِسْلَامِ إنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي الْأَبْعَدِينَ أَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا مِنْ الْأَقْرَبِينَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ
لَا يُقَالُ لِلْأَخِ أَوْ الْعَمِّ هَذَا قُرْبَى فَيَدْخُلُونَ كُلُّهُمْ فِي الْوَصِيَّةِ .
( أَلَا تَرَى ) إلَى مَا رُوِيَ فِي الْخَبَرِ : { لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ } جَمَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقْرِبَاءَهُ سَبْعِينَ نَفْسًا ، وَقَالَ لَهُمْ إنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } ، وَكَانَ فِيهِمْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ وَغَيْرُهُ فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّهُمْ فِي الْوَصِيَّةِ سَوَاءٌ إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ جَمِيعُ أَوْلَادِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَجْعَلُ الْحَدَّ فِيهِ مَنْ يَجْمَعُهُ وَإِيَّاهُمْ أَقْصَى أَبٍ فِي الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَرَدَ الْإِسْلَامُ صَارَتْ الْمَعْرِفَةُ بِأَهْلِ الْإِسْلَامِ وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يُعْرَفُ بِقَبَائِل الْجَاهِلِيَّةِ وَهُمَا إنَّمَا قَالَا ذَلِكَ فِي زَمَانِهِمَا ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ رُبَّمَا يَبْلُغُ إلَى ثَلَاثَةِ آبَاءٍ أَوْ أَرْبَعَةِ آبَاءٍ وَلَا يُجَاوِزُ ذَلِكَ فَتَتَبَيَّنُ أَقْرِبَاؤُهُ أَمَّا فِي زَمَانِنَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْتَبَرَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ النِّسْبَةَ قَدْ طَالَتْ فَتَقَعُ الْوَصِيَّةُ لِقَوْمٍ مَجْهُولِينَ .
فَإِنْ تَرَكَ عَمَّيْنِ وَخَالَيْنِ وَهُمْ لَيْسُوا بِوَرَثَةٍ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْوَصِيَّةُ لِلْعَمَّيْنِ دُونَ الْخَالَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْعَمَّ أَقْرَبُ مِنْ الْخَالِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ بِدَلِيلِ الْوِلَايَةِ ، وَعِنْدَهُمَا الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ وَلَوْ كَانَ لَهُ عَمٌّ وَاحِدٌ وَخَالَانِ كَانَ لِلْعَمِّ النِّصْفُ وَالنِّصْفُ لِلْخَالَيْنِ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَى بِلَفْظِ الْجَمْعِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ ذَوِي وَأَقَلُّ الْجَمْعِ فِي الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ وَيُصْرَفُ النِّصْفُ إلَى الْخَالَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا يَسْتَحِقَّانِ اسْمَ الْقَرَابَةِ ، فَإِذَا خَرَجَ الْعَمُّ مِنْ الْوَسَطِ صَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ إلَّا الْخَالَيْنِ .