كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ كَانَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ ، أَوْ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَأُعْتِقَتْ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَمَا عُرِفَ أَنَّهُ كَانَ فِي الْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ تُعْتَقَ فَهُوَ لِلرَّجُلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَقَعَتْ الْمُنَازَعَةُ فِي ذَلِكَ قَبْلَ عِتْقِهَا وَمَا أَحْدَثَا بَعْدَ الْعِتْقِ قَبْلَ أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا فَهُوَ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّ يَدَهَا بِالْعِتْقِ تَتَقَوَّى فَتَسْتَوِي بِيَدِ الرَّجُلِ فِيمَا أَحْدَثَ بَعْدَ الْعِتْقِ
( قَالَ : ) فَإِنْ كَانَ لَهُ نِسْوَةٌ فَوَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ ، فَإِنْ كُنَّ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ فَمَتَاعُ النِّسْوَةِ بَيْنَهُنَّ سَوَاءٌ لِلْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُنَّ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ الْقُرْبُ مِنْ الِاسْتِعْمَالِ وَقُوَّةُ الْيَدِ بِسَبَبِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ فَمَا فِي بَيْتِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا عَلَى مَا وَصَفْنَا وَلَا يُشَارِكُ بَعْضُهُنَّ بَعْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فِيمَا فِي بَيْتِ ضَرَّتِهَا فَلَا تَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ .
( قَالَ : ) وَإِذَا أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ بِمَتَاعٍ أَنَّ الرَّجُلَ اشْتَرَاهُ فَهُوَ لِلرَّجُلِ ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلْمِلْكِ وَقَدْ أَقَرَّتْ لَهُ بِمُبَاشَرَةِ هَذَا السَّبَبِ ؛ وَلِأَنَّ مَا أَقَرَّتْ بِهِ كَالْمُعَايَنِ ، وَلَوْ عَايَنَاهُ اشْتَرَى شَيْئًا كَانَ ذَلِكَ مَمْلُوكًا لَهُ ، فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّتْ هِيَ بِشِرَائِهِ .
( قَالَ : ) وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ فَقَالَتْ الْوَرَثَةُ لِلْمَرْأَةِ قَدْ كَانَ طَلَّقَك فِي حَيَاتِهِ ثَلَاثًا وَأَرَادُوا أَنْ يَأْخُذُوا مِنْهَا الْمُشْكِلَ لَمْ يُصَدَّقُوا عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا التَّفْرِيعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَقُولُ : إذَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِالطَّلَاقِ فَفِي الْمُشْكِلِ الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ وَإِذَا وَقَعَتْ بِالْمَوْتِ فَفِي الْمُشْكِلِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْبَاقِي مِنْهُمَا ، ثُمَّ هُنَا الْوَرَثَةُ يَدَّعُونَ طَلَاقًا لَمْ يَظْهَرْ سَبَبُهُ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ فِي ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ أَرَادُوا مَنْعَ مِيرَاثِهَا بِهَذِهِ الدَّعْوَى لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمْ فِي ذَلِكَ وَلِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا بَعْدَ مَا تَحْلِفُ بِاَللَّهِ أَنَّهَا مَا تَعْلَمُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ؛ لِأَنَّهَا لَوْ أَقَرَّتْ بِالطَّلَاقِ لَزِمَهَا فَإِذَا أَنْكَرَتْ حَلَفَتْ عَلَيْهِ وَلَكِنَّ الِاسْتِحْلَافَ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ يَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ ، فَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي صِحَّتِهِ ثَلَاثًا ثُمَّ مَاتَ ، أَوْ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ ثَلَاثًا ، ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَفِي الْمُشْكِلِ الْقَوْلُ قَوْلُ وَرَثَةِ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أَجْنَبِيَّةً بِهَذَا الطَّلَاقِ وَلَوْ وَقَعَتْ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْمُشْكِلِ بَعْدَ الطَّلَاقِ كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الزَّوْجِ ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ وَرَثَتِهِ ، وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ فِي الْمَرَضِ لَا يَجْعَلُهَا أَجْنَبِيَّةً مَا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا .
أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَرِثُهُ بِالزَّوْجِيَّةِ إذَا مَاتَ فَكَانَ هَذَا وَمَا لَوْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِالْمَوْتِ سَوَاءٌ ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ فِي الْمُشْكِلِ قَوْلَهَا ، وَإِنْ كَانَا مَمْلُوكَيْنِ أَوْ مُكَاتَبَيْنِ ، أَوْ كَافِرَيْنِ فَالْقَوْلُ فِي الْمَتَاعِ عَلَى مَا وَصَفْنَا فِي الْحُرَّيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الدَّعْوَى وَالْخُصُومَةِ .
وَالْكُفَّارُ وَالْمَمَالِيكُ فِي ذَلِكَ يَسْتَوُونَ
بِالْأَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا فِي سَائِرِ الْخُصُومَاتِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ
بَابُ الْقِسْمَةِ بَيْنَ النِّسَاءِ .
اعْلَمْ بِأَنَّ الزَّوْجَ مَأْمُورٌ بِالْعَدْلِ فِي الْقِسْمَةِ فِيمَا بَيْنَ النِّسَاءِ ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً } إلَى قَوْلِهِ { ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ لَا تَعُولُوا } مَعْنَاهُ : أَنْ لَا تَجُورُوا ، وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ أَنَّ مَعْنَاهُ : أَنْ لَا تَكْثُرَ عِيَالُكُمْ ، وَهَذَا مُخَالِفٌ لِقَوْلِ السَّلَفِ فَالْمَنْقُولُ عَنْهُمْ أَنْ لَا تَمِيلُوا ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ خَطَأٌ مِنْ حَيْثُ اللُّغَةُ ، فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ كَثْرَةَ الْعِيَالِ لَكَانَ يَقُولُ : أَنْ لَا تُعِيلُوا .
يُقَالُ : عَالَ إذَا مَالَ ، وَأَعَالَ إذَا صَارَ مُعِيلًا ، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى كَذَلِكَ أَيْضًا غَلَطٌ ، فَإِنَّهُ أَمَرَ بِالِاكْتِفَاءِ بِالْوَاحِدَةِ وَاِتِّخَاذِ مَا بَيَّنَّا مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ عِنْدَ هَذَا الْجَوْرِ ، وَمَعْنَى كَثْرَةِ الْعِيَالِ وَوُجُوبِ النَّفَقَةِ يَحْصُلُ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ ، كَمَا يَحْصُلُ فِي مِلْكِ النِّكَاحِ وَإِنَّمَا يَنْعَدِمُ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ اسْتِحْقَاقُ التَّسْوِيَةِ فِي الْقِسْمَةِ .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَعْدِلُ فِي الْقِسْمَةِ بَيْنَ نِسَائِهِ ، وَكَانَ يَقُولُ : اللَّهُمَّ هَذَا قَسْمِي فِيمَا أَمْلِكُ فَلَا تُؤَاخِذْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ } يَعْنِي : مِنْ زِيَادَةِ الْمَحَبَّةِ لِبَعْضِهِنَّ وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ كَانَتْ لَهُ زَوْجَتَانِ فَمَالَ إلَى إحْدَاهُمَا فِي الْقَسْمِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَحَدُ شِقَّيْهِ مَائِلٌ } ؛ وَلِأَنَّ النِّسَاءَ رَعَايَاهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَحْفَظُهُنَّ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِنَّ وَكُلُّ رَاعٍ مَأْمُورٌ بِالْعَدْلِ فِي رَعِيَّتِهِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ : { كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ } إذَا
عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ : إذَا كَانَ لِلرَّجُلِ الْحُرِّ ، أَوْ الْمَمْلُوكِ امْرَأَتَانِ حُرَّتَانِ ، فَإِنَّهُ يَكُونُ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يَوْمًا وَلَيْلَةً وَإِنْ شَاءَ أَنْ يَجْعَلَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَعَلَ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ ، فَأَمَّا فِي مِقْدَارِ الدَّوْرِ فَالِاخْتِيَارُ إلَيْهِ ، وَهَذِهِ التَّسْوِيَةُ فِي الْبَيْتُوتَةِ عِنْدَهَا لِلصُّحْبَةِ وَالْمُؤَانَسَةِ لَا فِي الْمُجَامَعَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَنْبَنِي عَلَى النَّشَاطِ وَلَا يُقْدَرُ عَلَى اعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ فِيهِ ، فَهُوَ نَظِيرُ الْمَحَبَّةِ فِي الْقَلْبِ .
وَرُوِيَ عَنْ الْأَشْعَثِ بْنِ الْحَكَمِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حِينَ دَخَلَ بِهَا : إنْ شِئْت سَبَّعْتُ لَك وَسَبَّعْتُ لَهُنَّ } ، زَادَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ { إنْ شِئْت ثَلَّثْتُ لَك وَثَلَّثْتُ لَهُنَّ } ، وَفِي رِوَايَةٍ { وَإِنْ شِئْت ثَلَّثْتُ لَك ، ثُمَّ دُرْت } ، وَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا فَقَالُوا : الْجَدِيدَةُ وَالْقَدِيمَةُ فِي حُكْمِ الْقَسْمِ سَوَاءٌ بِكْرًا كَانَتْ الْجَدِيدَةُ ، أَوْ ثَيِّبًا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : إنْ كَانَتْ بِكْرًا يُفَضِّلُهَا بِسَبْعِ لَيَالٍ ، وَإِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا فَثَلَاثُ لَيَالٍ ، ثُمَّ التَّسْوِيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { تُفَضَّلُ الْبِكْرُ بِسَبْعٍ وَالثَّيِّبُ بِثَلَاثٍ } ، وَلِأَنَّ الْقَدِيمَةَ قَدْ أَلِفَتْ صُحْبَتَهُ وَأَنِسَتْ بِهِ وَالْجَدِيدَةُ مَا أَلِفَتْ ذَلِكَ بَلْ فِيهَا نَوْعُ نَفْرَةٍ وَوَحْشَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يُزِيلَ ذَلِكَ عَنْهَا بِبَعْضِ الصُّحْبَةِ لِتَسْتَوِيَ بِالْقَدِيمَةِ فِي الْإِلْفِ ، ثُمَّ الْمُسَاوَاةُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِذَا كَانَتْ بِكْرًا فَفِيهَا زِيَادَةُ نَفْرَةٍ عَنْ الرِّجَالِ فَيُفَضِّلُهَا بِسَبْعِ لَيَالٍ ، وَإِذَا كَانَتْ ثَيِّبًا فَهِيَ قَدْ صَحِبَتْ الرِّجَالَ وَإِنَّمَا لَمْ تَصْحَبْهُ خَاصَّةً فَيَكْفِيهَا ثَلَاثُ لَيَالٍ ؛
لِتَأْنَسَ بِصُحْبَتِهِ .
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ التَّسْوِيَةِ ؛ اجْتِمَاعُهَا فِي نِكَاحِهِ وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَلَوْ وَجَبَ تَفْضِيلُ إحْدَاهُمَا كَانَتْ الْقَدِيمَةُ أَوْلَى بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْوَحْشَةَ فِي جَانِبِهَا أَكْثَرُ حَيْثُ أَدْخَلَ غَيْرَهَا عَلَيْهَا فَإِنَّ ذَلِكَ يَغِيظُهَا عَادَةً ، وَلِأَنَّ لِلْقَدِيمَةِ زِيَادَةَ حُرْمَةٍ بِسَبَبِ الْخِدْمَةِ ، كَمَا يُقَالُ لِكُلِّ جَدِيدٍ لَذَّةٌ وَلِكُلِّ قَدِيمٍ حُرْمَةٌ وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمُرَادُ التَّفْضِيلُ بِالْبِدَايَةِ دُونَ الزِّيَادَةِ ، كَمَا ذُكِرَ فِي { حَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا إنْ شِئْت سَبَّعْت لَك وَسَبَّعْت لَهُنَّ } وَقَوْلُهُ : { إنْ شِئْت ثَلَّثْت لَك ، ثُمَّ دُرْت } أَيْ أَخْبَرْت بِمِثْلِ ذَلِكَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ إنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَبْدَأَ بِالْجَدِيدَةِ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ اللَّذَّةِ وَلَكِنْ بَعْدَ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا .
( قَالَ : ) وَالْمُسْلِمَةُ وَالْكَافِرَةُ وَالْمُرَاهِقَةُ وَالْمَجْنُونَةُ وَالْبَالِغَةُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْقَسْمِ سَوَاءٌ لِلْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُنَّ فِي سَبَبِ هَذَا الْحَقِّ وَهُوَ الْحِلُّ الثَّابِتُ بِالنِّكَاحِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقِيمَ عِنْدَ إحْدَاهُنَّ أَكْثَرَ مِمَّا يُقِيمُ عِنْدَ الْأُخْرَى ، إلَّا أَنْ تَأْذَنَ لَهُ فِيهِ ؛ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَأْذَنَ نِسَاءَهُ فِي مَرَضِهِ أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا فَأَذِنَّ لَهُ فِي ذَلِكَ فَكَانَ فِي بَيْتِهَا حَتَّى قُبِضَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ وَالْمَرِيضَ فِي الْقَسْمِ سَوَاءٌ { ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَّلِ مَرَضِهِ كَانَ يَكُونُ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ، ثُمَّ لَمَّا شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ اسْتَأْذَنَهُنَّ فِي أَنْ يَكُونَ عِنْدَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا } فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ وَالْمَرِيضَ سَوَاءٌ وَأَنَّ عِنْدَ الْإِذْنِ لَهُ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَ إحْدَاهُنَّ .
فَأَمَّا الْأَمَةُ وَالْمُكَاتَبَةُ وَالْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ تَكُونُ زَوْجَةَ الرَّجُلِ فَيَتَزَوَّجُ عَلَيْهَا حُرَّةً فَلِلْحُرَّةِ يَوْمَانِ وَلِلْأَمَةِ يَوْمٌ وَاحِدٌ ؛ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَلَى مَا رَوَيْنَا قَالَ : وَلِلْحُرَّةِ الثُّلُثَانِ مِنْ الْقَسْمِ وَلِلْأَمَةِ الثُّلُثُ ، وَلِأَنَّ حِلَّ الْأَمَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حِلِّ الْحُرَّةِ ، وَاسْتِحْقَاقُ الْقَسْمِ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ ، وَالرِّقُّ فِي الْمُكَاتَبَةِ وَالْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ قَائِمٌ .
( قَالَ : ) ، وَإِنْ سَافَرَ الرَّجُلُ مَعَ إحْدَى امْرَأَتَيْهِ لِحَجٍّ أَوْ غَيْرِهِ فَلَمَّا قَدِمَ طَالَبَتْهُ الثَّانِيَةُ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهَا مِثْلَ الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَ فِيهَا مَعَ الْأُخْرَى فِي السَّفَرِ لَمْ يَكُنْ لَهَا ذَلِكَ وَلَمْ يُحْتَسَبْ عَلَيْهِ بِأَيَّامِ سَفَرِهِ مَعَ الَّتِي كَانَتْ مَعَهُ وَلَكِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ الْعَدْلَ بَيْنَهُنَّ ، وَالْكَلَامُ هُنَا فِي فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِأَيَّتِهِمَا مِنْ غَيْرِ إقْرَاعٍ بَيْنَهُمَا عِنْدَنَا .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ، إلَّا أَنْ يُقْرِعَ بَيْنَهُمَا ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأَصَابَتْنِي الْقُرْعَةُ فِي السَّفْرَةِ الَّتِي أَصَابَنِي فِيهَا مَا أَصَابَنِي } .
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمَرْأَةِ فِي الْقَسْمِ عِنْدَ سَفَرِ الزَّوْجِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ وَلَا يَسْتَصْحِبَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ فَلَيْسَ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُنَّ فِي حَالَةِ السَّفَرِ وَإِنَّمَا كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَطْبِيبًا لِقُلُوبِهِنَّ وَنَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمَيْلِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَبِهِ نَقُولُ : إنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ لِلزَّوْجِ ، ثُمَّ إذَا سَافَرَ بِبَعْضِهِنَّ لَيْسَ لِلْبَاقِينَ بَعْدَ الرُّجُوعِ الِاحْتِسَابُ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْمُدَّةِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ سَافَرَ بِبَعْضِهِنَّ بِغَيْرِ اقْتِرَاعٍ فَذَلِكَ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْأُخْرَى بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْإِقْرَاعَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كَانَتْ مُدَّةُ سَفَرِهِ نَوْبَةَ الَّتِي كَانَتْ مَعَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْأُخْرَى مِثْلُ ذَلِكَ لِيَتَحَقَّقَ الْعَدْلُ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ وُجُوبُ التَّسْوِيَةِ فِي وَقْتِ اسْتِحْقَاقِ الْقَسْمِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمَرْأَةِ فِي الْقَسْمِ فِي حَالِ سَفَرِ
الزَّوْجِ فَلَا يَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ التَّسْوِيَةِ بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْمُدَّةِ كَمَا إذَا سَافَرَ بِهَا بِالْقُرْعَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ فِي حَالَةِ الْحَضَرِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْبِدَايَةُ بِإِقْرَاعٍ ، أَوْ بِغَيْرِ إقْرَاعٍ ، فَكَذَلِكَ فِي السَّفَرِ .
( قَالَ : ) وَلَوْ أَقَامَ عِنْدَ إحْدَاهُمَا شَهْرًا ، ثُمَّ خَاصَمَتْهُ الْأُخْرَى فِي ذَلِكَ قُضِيَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْعَدْلَ بَيْنَهُمَا وَمَا مَضَى فَهُوَ هَدَرٌ ، غَيْرَ أَنَّهُ هُوَ فِيهِ آثِمٌ ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تَكُونُ بَعْدَ الطَّلَبِ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَمَا مَضَى قَبْلَ الطَّلَبِ لَيْسَ مِنْ الْقِسْمَةِ فِي شَيْءٍ ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ الْعَدْلُ فِي الْقِسْمَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَا مَضَى قَبْلَ نِكَاحِ إحْدَاهُمَا لَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الَّتِي جَدَّدَ نِكَاحَهَا ، فَكَذَلِكَ مَا مَضَى قَبْلَ طَلَبِهَا .
( قَالَ : ) فَإِنْ عَادَ إلَى الْجَوْرِ بَعْدَ مَا نَهَاهُ الْقَاضِي أَوْجَعَهُ عُقُوبَةً وَأَمَرَهُ بِالْعَدْلِ ؛ لِأَنَّهُ أَسَاءَ الْأَدَبَ فِيمَا صَنَعَ وَارْتَكَبَ مَا هُوَ حَرَامٌ عَلَيْهِ وَهُوَ الْجَوْرُ فَيُعَزَّرُ فِي ذَلِكَ وَيُؤْمَرُ بِالْعَدْلِ .
( قَالَ : ) وَلَوْ كَانَ عِنْدَ الرَّجُلِ امْرَأَةٌ فَدَخَلَتْ فِي سِنِّهَا أَيْ كَبِرَتْ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِهَا شَابَّةً فَطَلَبَتْ أَنْ يُمْسِكَهَا وَيَتَزَوَّجَ بِالْأُخْرَى وَيُقِيمَ عِنْدَ الَّتِي تَزَوَّجَ أَيَّامًا وَيُقِيمَ عِنْدَهَا يَوْمًا فَتَزَوَّجَ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ كَانَ جَائِزًا لَا بَأْسَ بِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { ، وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا ، أَوْ إعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي هَذَا .
وَبَلَغَنَا { عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ لِسَوْدَةِ بِنْتِ زَمْعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حِينَ طَعَنَتْ فِي السِّنِّ : اعْتَدِّي فَسَأَلَتْهُ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُرَاجِعَهَا وَيَجْعَلَ يَوْمَ نَوْبَتِهَا لِعَائِشَةَ ؛ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِكَيْ تُحْشَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَعَ أَزْوَاجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُنَّ فَفَعَلَ .
} ( قَالَ : ) وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقِيمَ الرَّجُلُ عِنْد إحْدَى امْرَأَتَيْهِ أَكْثَرَ مِمَّا يُقِيمُ عِنْدَ الْأُخْرَى إذَا أَذِنَتْ لَهُ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ فِي مَقَامِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِإِذْنِهِنَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ وَلِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ } قَالَ : هَذَا فِي الْحُبِّ فَأَمَّا فِي الْقَسْمِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْدِلَ وَلَا يُفَضِّلَ إحْدَاهُمَا ، إلَّا بِإِذْنِ الْأُخْرَى وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْله تَعَالَى { ، وَإِنْ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا } مِثْلُ قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الَّتِي رَضِيَتْ أَسْقَطَتْ حَقَّ نَفْسِهَا وَهِيَ مِنْ أَهْلِ أَنْ تُسْقِطَ حَقَّهَا ، إلَّا أَنَّ هَذَا الرِّضَا لَيْسَ يُلْزِمُهَا شَيْئًا حَتَّى إذَا أَرَادَتْ أَنْ تَرْجِعَ وَتُطَالِبَ بِالْعَدْلِ فِي الْقَسْمِ فَلَهَا ذَلِكَ .
( قَالَ : ) وَاذَا أَقَامَ عِنْدَ امْرَأَتِهِ الْأَمَةِ يَوْمًا ، ثُمَّ أُعْتِقَتْ لَمْ يُقِمْ عِنْدَ الْحُرَّةِ الْأُخْرَى ، إلَّا يَوْمًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَقَةَ اسْتَوَتْ بِالْحُرَّةِ فِي السَّبَبِ فَعَلَيْهِ مُرَاعَاةُ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْقَسْم وَتُجْعَلُ حُرِّيَّتُهَا عِنْدَ انْتِهَاءِ النَّوْبَةِ إلَيْهَا بِمَنْزِلَةِ حُرِّيَّتِهَا عِنْدَ ابْتِدَاءِ النَّوْبَةِ وَلَوْ أَقَامَ عِنْدَ الْحُرَّةِ يَوْمًا ، ثُمَّ أَعْتَقَتْ تَحَوَّلَ عَنْهَا إلَى الْمُعْتَقَةِ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ اسْتَوَتْ بِهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُفَضِّلَ الْحُرَّةَ بِشَيْءٍ بَعْدَ مَا اسْتَوَتْ الْمُعْتَقَةُ بِهَا .
( قَالَ : ) وَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ فَكَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ وَيَصُومُ النَّهَارَ فَاسْتَعْدَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ ، فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِأَنْ يَبِيتَ مَعَهَا وَيُفْطِرَ لَهَا .
وَبَلَغَنَا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِكَعْبِ بْنَ سَوْرٍ اقْضِ بَيْنَهُمَا فَقَالَ : أَرَاهَا إحْدَى نِسَائِهِ الْأَرْبَعِ لَهُنَّ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا وَلَهَا يَوْمُ وَلَيْلَةٌ .
وَقِصَّةُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَقَالَتْ : إنَّ زَوْجِي يَصُومُ النَّهَارَ وَيَقُومُ اللَّيْلَ ، فَقَالَ : نِعْمَ الرَّجُلُ زَوْجُك ، فَأَعَادَتْ كَلَامَهَا مِرَارًا ، فِي كُلِّ ذَلِكَ يُجِيبُهَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَذَا ، فَقَالَ كَعْبُ بْنُ سَوْرٍ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّهَا تَشْكُو مِنْ زَوْجِهَا فِي أَنَّهُ هَجَرَ مِنْ صُحْبَتِهَا فَتَعَجَّبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مِنْ فِطْنَتِهِ وَقَالَ اقْضِ بَيْنَهُمَا ، فَقَضَى كَعْبٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَا ذُكِرَ فَوَلَّاهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ ، ثُمَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا يَتَعَيَّنُ حَقُّهَا فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِ لَيَالٍ وَلَكِنْ يُؤْمَرُ الزَّوْجُ بِأَنْ يُرَاعِيَ قَلْبَهَا وَيَبِيتَ مَعَهَا أَحْيَانًا .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : إذَا كَانَ لِلرَّجُلِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ فَاشْتَغَلَ عَنْهَا بِالصِّيَامِ وَالْقِيَامِ ، أَوْ بِصُحْبَةِ الْإِمَاءِ فَخَاصَمَتْهُ فِي ذَلِكَ قَضَى الْقَاضِي لَهَا بِلَيْلَةٍ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِ لَيَالٍ لِحَدِيثِ كَعْبِ بْنِ سَوْرٍ ، وَلِأَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُسْقِطَ حَقَّهَا عَنْ ثَلَاثِ لَيَالٍ بِأَنْ يَتَزَوَّجَ ثَلَاثًا سِوَاهَا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسْقِطَ حَقَّهَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ .
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْقِسْمَةَ وَالْعَدْلَ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ وَلَا مُزَاحَمَةَ هُنَا حِينَ لَمْ يَكُنْ فِي نِكَاحِهِ ، إلَّا وَاحِدَةٌ ، أَرَأَيْت لَوْ كَانَ تَحْتَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ أَكَانَ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ مِنْ
أَرْبَعَةٍ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَلَا يَشْتَغِلُ بِالصِّيَامِ وَالْقِيَامِ أَبَدًا ، حَتَّى لَا يَصُومَ لَا رَمَضَانَ وَلَا غَيْرَهُ ، هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِأَنْ يُؤْنِسَهَا بِصُحْبَتِهِ أَحْيَانًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ مُؤَقَّتٌ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْمُزَاحَمَةِ تَلْحَقُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الْمُغَايَظَةُ لِمَقَامِهِ عِنْدَ الْأُخْرَى ، فَيُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ الْمُزَاحَمَةِ .
( قَالَ : ) وَإِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ عَلَى أَنْ يُقِيمَ عِنْدَ إحْدَاهُمَا يَوْمًا وَالْأُخْرَى يَوْمَيْنِ ، ثُمَّ طَلَبَتْ الَّتِي لَهَا الْيَوْمُ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَهُمَا فَلَهَا ذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهَا رَضِيَتْ بِتَرْكِ الْعَدْلِ فِيمَا مَضَى مِنْ الْمُدَّةِ فَلَا يُلْزِمُهَا ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ شَيْئًا ، وَلِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ وَهُوَ بَاطِلٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بَاطِلٌ .
}
( قَالَ : ) وَالْمَجْبُوبُ وَالْخَصِيُّ وَالْعِنِّينُ فِي الْقِسْمَةِ سَوَاءٌ بَيْنَ النِّسَاءِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ وُجُوبَ الْقَسْمِ وَالْعَدْلِ لِلصُّحْبَةِ وَالْمُؤَانَسَةِ دُونَ الْمُجَامَعَةِ وَحَالُ هَؤُلَاءِ فِي هَذَا كَحَالِ الْفَحْلِ ، وَكَذَلِكَ الْغُلَامُ الَّذِي لَمْ يَحْتَلِمْ إذَا دَخَلَ بِامْرَأَتَيْنِ ، فَإِنَّهُ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا فِي الْقَسْمِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ التَّسْوِيَةِ لِحَقِّ النِّسَاءِ ، وَحُقُوقُ الْعِبَادِ تَتَوَجَّهُ عَلَى الصِّبْيَانِ عِنْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ كَمَا يَتَوَجَّهُ عَلَى الْبَالِغِينَ .
( قَالَ : ) وَإِذَا جَعَلَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا جُعْلًا عَلَى أَنْ يَزِيدَهَا فِي الْقَسْمِ يَوْمًا فَفَعَلَ لَمْ يَجُزْ ، وَتَرْجِعُ فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّهَا رَشَتْهُ عَلَى أَنْ يَجُورَ وَالرِّشْوَةُ حَرَامٌ ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الرِّشْوَةِ فِي الْحُكْمِ وَهُوَ مِنْ السُّحْتِ ؛ فَلِهَذَا تَسْتَرِدُّ مَا أَعْطَتْ وَعَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ فِي الْقَسْمِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَطَّتْ لَهُ شَيْئًا مِنْ الْمَهْرِ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ ، أَوْ زَادَهَا الزَّوْجُ فِي مَهْرِهَا ، أَوْ جَعَلَ لَهَا جُعْلًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ نَوْبَتَهَا لِفُلَانَةَ فَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهَا بِهَذَا لَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ شَيْئًا فَلَا تَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ الْمَالَ بِمُقَابِلَتِهِ وَلِأَنَّهَا أَخَذَتْ الرِّشْوَةَ عَلَى أَنْ تَرْضَى بِالْجَوْرِ وَذَلِكَ حَرَامٌ ، فَكَانَ الْجُعْلُ مَرْدُودًا .
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .
بَابُ نَفَقَةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ ( قَالَ : ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيُجْبَرُ الرَّجُلُ الْمُوسِرُ عَلَى نَفَقَةِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ إذَا كَانَا مُحْتَاجَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ } نَهَى عَنْ التَّأْفِيفِ لِمَعْنَى الْأَذَى ، وَمَعْنَى الْأَذَى فِي مَنْعِ النَّفَقَةِ عِنْدَ حَاجَتِهِمَا أَكْثَرُ ؛ وَلِهَذَا يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمَا ، وَإِنْ كَانَا قَادِرَيْنِ عَلَى الْكَسْبِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْأَذَى فِي الْكَدِّ وَالتَّعَبِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي التَّأْفِيفِ وَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ أَطْيَبَ مَا يَأْكُلُ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ ، وَإِنَّ وَلَدَهُ لَمِنْ كَسْبِهِ ؛ فَكُلُوا مِمَّا كَسَبَ أَوْلَادُكُمْ .
} وَإِذَا كَانَ الْأَوْلَادُ ذُكُورًا وَإِنَاثًا مُوسِرِينَ فَنَفَقَةُ الْأَبَوَيْنِ عَلَيْهِمْ بِالسَّوِيَّةِ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ النَّفَقَةَ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ عَلَى قِيَاسِ الْمِيرَاثِ وَعَلَى قِيَاسِ نَفَقَةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَبَوَيْنِ النَّفَقَةَ بِاعْتِبَارِ التَّأْوِيلِ وَحَقُّ الْمِلْكِ لَهُمَا فِي مَالِ الْوَلَدِ ، كَمَا قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك } وَفِي هَذَا الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ سَوَاءٌ وَلِهَذَا يَثْبُتُ لَهُمَا هَذَا الِاسْتِحْقَاقُ مَعَ اخْتِلَافِ الْمِلَّةِ ، وَإِنْ انْعَدَمَ التَّوَارُثُ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الْمِلَّةِ .
( قَالَ : ) وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ مُعْسِرًا وَهُمَا مُعْسِرَانِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا اسْتَوَيَا فِي الْحَالِ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا بِإِيجَابِ نَفَقَتِهِ عَلَى صَاحِبِهِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ ، إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : إذَا كَانَ الْأَبُ زَمِنًا وَكَسْبُ الِابْنِ لَا يَفْضُلُ عَنْ نَفَقَتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَضُمَّ الْأَبَ إلَى نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفْعَلْ ضَاعَ الْأَبُ وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَا يَخْشَى الْهَلَاكَ عَلَى الْوَلَدِ وَالْإِنْسَانُ لَا
يَهْلِكُ عَلَى نِصْفِ بَطْنِهِ .
( قَالَ : ) ، وَكَذَلِكَ الْجَدُّ أَبُ الْأَبِ وَالْجَدَّةُ أُمُّ الْأُمِّ وَأُمُّ الْأَبِ ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ الْوَالِدَيْنِ وَحَالُهُمْ فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ كَحَالِ الْأَبَوَيْنِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّأْوِيلَ فِي مَالِ النَّافِلَةِ يَثْبُتُ لِلْجَدِّ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ كَمَا يَثْبُتُ لِلْأَبِ .
( قَالَ : ) وَيُجْبَرُ الرَّجُلُ عَلَى نَفَقَةِ أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } وَالنَّفَقَةُ بَعْدَ الْفِطَامِ بِمَنْزِلَةِ مُؤْنَةِ الرَّضَاعِ قَبْلَ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مِنْ الْأَبِ فَتَكُونُ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ كَنَفَقَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ ، ثُمَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا يُشَارِكُ الْأَبَ فِي النَّفَقَةِ أَحَدٌ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ النَّفَقَةَ عَلَى الْأَبِ وَالْأُمِّ أَثْلَاثًا بِحَسَبِ مِيرَاثِهِمَا مِنْ الْوَلَدِ فَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، كَمَا لَا يُشَارِكُ الْأَبُ فِي مُؤْنَةِ الرَّضَاعِ أَحَدٌ ، فَكَذَلِكَ فِي النَّفَقَةِ ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْأَبُ مُوسِرًا فَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا وَالْأُمُّ مُوسِرَةٌ أُمِرَتْ بِأَنْ تُنْفِقَ مِنْ مَالِهَا عَلَى الْوَلَدِ وَيَكُونُ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى الْأَبِ إذَا أَيْسَرَ ، وَكَذَلِكَ الْأَبُ إذَا كَانَ مُعْسِرًا وَلَهُ أَخٌ مُوسِرٌ فَإِنَّ الْأَخَ وَهُوَ عَمُّ الْوَلَدِ يُعْطِي نَفَقَةَ الْوَلَدِ وَيَكُونُ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى الْأَبِ لَهُ إذَا أَيْسَرَ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَبِ وَلَكِنَّ الْإِنْفَاقَ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْخِيرَ فَيُقَامُ مَالُ الْغَيْرِ مَقَامَ مَالِهِ فِي أَدَاءِ مِقْدَارِ الْحَاجَةِ مِنْهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ إذَا أَيْسَرَ وَاَلَّذِي قُلْنَا فِي الصِّغَارِ مِنْ الْأَوْلَادِ كَذَلِكَ فِي الْكِبَارِ إذَا كُنَّ إنَاثًا ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ عَاجِزَاتٌ عَنْ الْكَسْبِ ؛ وَاسْتِحْقَاقُ النَّفَقَةِ لِعَجْزِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ عَنْ كَسْبِهِ .
وَإِنْ كَانُوا ذُكُورًا بَالِغِينَ لَمْ يُجْبَرْ الْأَبُ عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ لِقُدْرَتِهِمْ عَلَى الْكَسْبِ ، إلَّا مَنْ كَانَ مِنْهُمْ زَمِنًا ، أَوْ أَعْمَى ، أَوْ مُقْعَدًا ، أَوْ أَشَلَّ الْيَدَيْنِ لَا يَنْتَفِعُ بِهِمَا ، أَوْ مَفْلُوجًا ، أَوْ مَعْتُوهًا فَحِينَئِذٍ تَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى الْوَالِدِ لِعَجْزِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ عَنْ الْكَسْبِ ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَلَدِ مَالٌ فَإِذَا كَانَ لِلْوَلَدِ مَالٌ فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ
مُوسِرٌ غَيْرُ مُحْتَاجٍ وَاسْتِحْقَاقُ النَّفَقَةِ عَلَى الْغَنِيِّ لِلْمُعْسِرِ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ إذْ لَيْسَ أَحَدُ الْمُوسِرِينَ بِإِيجَابِ نَفَقَتِهِ عَلَى صَاحِبِهِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ ، فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْعَقْدِ لِتَفْرِيغِهَا نَفْسَهَا لَهُ فَتَسْتَحِقُّ مُوسِرَةً كَانَتْ ، أَوْ مُعْسِرَةً فَأَمَّا الِاسْتِحْقَاقُ هُنَا بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ فَلَا يَثْبُتُ عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ .
( قَالَ : ) فَإِنْ كَانَ مَالُ الْوَلَدِ غَائِبًا أُمِرَ الْأَبُ بِأَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ فِي مَالِ الْوَلَدِ إذَا حَضَرَ مَالُهُ لَكِنَّهُ إنْ أَشْهَدَ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْحُكْمِ ، وَإِنْ أَنْفَقَ بِغَيْرِ إشْهَادٍ لَكِنْ عَلَى نِيَّةِ الرُّجُوعِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي الْحُكْمِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ يَقْصِدُ التَّبَرُّعَ بِمِثْلِ هَذَا ، وَالْقَاضِي يَتَّبِعُ الظَّاهِرَ فَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِمَا فِي ضَمِيرِهِ .
( قَالَ : ) ، وَكَذَلِكَ يُجْبَرُ عَلَى نَفَقَةِ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ الصِّغَارُ وَالنِّسَاءُ وَأَهْلُ الزَّمَانَةِ مِنْ الرِّجَالِ إذَا كَانُوا ذَوِي حَاجَةٍ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى غَيْرِ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : تَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى كُلِّ وَارِثٍ مَحْرَمًا كَانَ ، أَوْ غَيْرَ مَحْرَمٍ وَاسْتَدَلَّ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } وَلَكِنَّا نَقُولُ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَلَى الْوَارِثِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِثْلُ ذَلِكَ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَبْنِي عَلَى أَصْلِهِ فَإِنَّ عِنْدَهُ اسْتِحْقَاقَ الصِّلَةِ بِاعْتِبَارِ الْوِلَادِ دُونَ الْقَرَابَةِ حَتَّى لَا يُعْتَقَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ ، إلَّا الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ عِنْدَهُ وَجَعَلَ قَرَابَةَ الْأُخُوَّةِ فِي ذَلِكَ كَقَرَابَةِ بَنِي الْأَعْمَامِ ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ وَفِيمَا بَيْنَ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ الِاسْتِحْقَاقُ بِعِلَّةِ الْجُزْئِيَّةِ دُونَ الْقَرَابَةِ وَحُمِلَ قَوْله تَعَالَى { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } عَلَى نَفْيِ الْمُضَارَّةِ دُونَ النَّفَقَةِ ، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِ عُمَرَ وَزَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَإِنَّهُمَا قَالَا وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْ النَّفَقَةِ ، ثُمَّ نَفْيُ الْمُضَارَّةِ لَا يَخْتَصُّ بِهِ الْوَارِثُ بَلْ يَجِبُ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ الْوَارِثِ ، كَمَا يَجِبُ عَلَى الْوَارِثِ عَلَى أَنَّ الْكِنَايَةَ فِي قَوْلِهِ ذَلِكَ تَكُونُ عَنْ الْأَبْعَدِ وَإِذَا أُرِيدَ بِهِ الْأَقْرَبُ يُقَالُ هَذَا فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ عَرَفْنَا أَنَّهُ مُنْصَرِفٌ إلَى قَوْلِهِ { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْقَرَابَةَ الْقَرِيبَةَ يُفْتَرَضُ وَصْلُهَا وَيَحْرُمُ قَطْعُهَا قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ثَلَاثٌ مُعَلَّقَاتٌ
بِالْعَرْشِ النِّعْمَةُ وَالْأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ تَقُولُ النِّعْمَةُ : كُفِرْت وَلَمْ أُشْكَرْ ، وَتَقُولُ الْأَمَانَةُ : خُوِّنْت وَلَمْ أُرَدَّ ، وَيَقُولُ الرَّحِمُ : قُطِعْت وَلَمْ أُوصَلْ .
} وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى قَطِيعَةَ الرَّحِمِ مِنْ الْمَلَاعِنِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ } وَمَنْعُ النَّفَقَةِ مَعَ يَسَارِ الْمُنْفِقِ وَصِدْقِ حَاجَةِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ يُؤَدِّي إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ ؛ وَلِهَذَا اخْتَصَّ بِهِ ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ إذَا بَعُدَتْ لَا يُفْرَضُ وَصْلُهَا ؛ وَلِهَذَا لَا تَثْبُتُ الْمَحْرَمِيَّةُ بِهَا ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْمُوسِرَةُ تُجْبَرُ عَلَى مَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ الرَّجُلُ مِنْ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الِاسْتِحْقَاقَ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ كَالْعِتْقِ عِنْدَ الدُّخُولِ فِي الْمِلْكِ .
( قَالَ : ) وَلَا يُجْبَرُ الْمُعْسِرُ عَلَى نَفَقَةِ أَحَدٍ ، إلَّا عَلَى نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ الصَّغِيرِ ، أَمَّا اسْتِحْقَاقُ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ بِاعْتِبَارِ الْعَقْدِ وَأَمَّا الْأَوْلَادُ الصِّغَارُ فَلِأَنَّهُمْ أَجْزَاؤُهُ فَكَمَا لَا تَسْقُطُ عَنْهُ نَفَقَةُ نَفْسِهِ لِعُسْرَتِهِ ، فَكَذَلِكَ نَفَقَةُ أَوْلَادِهِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ } فَأَمَّا نَفَقَةُ الْأَقَارِبِ اسْتِحْقَاقُهَا بِطَرِيقِ الصِّلَةِ فَتَكُونُ عَلَى الْمُوسِرِينَ دُونَ الْمُعْسِرِينَ كَالزَّكَاةِ وَعَلَى هَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَضْلٌ عَلَى حَاجَتِهِ مِقْدَارَ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ لَا تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ الْأَقَارِبِ إلَّا أَنَّهُ يَرْوِي هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ : إذَا كَانَ كَسْبُهُ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمًا وَيَكْفِيه لِنَفَقَتِهِ وَنَفَقَةِ عِيَالِهِ أَرْبَعَةُ دَوَانِقَ يُؤْمَرُ بِصَرْفِ الْفَضْلِ إلَى أَقَارِبِهِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ فَيُعْتَبَرُ فِي جَانِبِ الْمُؤَدِّي لِتَيْسِيرِ الْأَدَاءِ وَتَيْسِيرُ الْأَدَاءِ مَوْجُودٌ إذَا كَانَ كَسْبُهُ يَفْضُلُ عَنْ نَفَقَتِهِ .
( قَالَ : ) وَإِذَا امْتَنَعَ الْأَبُ مِنْ الْإِنْفَاقِ عَلَى أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ حُبِسَ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ سَائِرِ الدُّيُونِ فَإِنَّ الْوَالِدَ غَيْرُ مَحْبُوسٍ فِيهِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّفَقَةَ لِحَاجَةِ الْوَقْتِ فَهُوَ بِالْمَنْعِ يَكُونُ قَاصِدًا إلَى إتْلَافِهِ وَالْأَبُ يَسْتَوْجِبُ الْعُقُوبَةَ عِنْدَ قَصْدِهِ إلَى إتْلَافِ وَلَدِهِ ، كَمَا لَوْ عَدَا عَلَيْهِ بِالسَّيْفِ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ دَفْعًا لَهُ بِخِلَافِ سَائِرِ الدُّيُونِ لَا تَسْقُطُ بِتَأْخِيرِ الْأَدَاءِ وَالنَّفَقَةُ لَا تَصِيرُ دَيْنًا بَلْ تَسْقُطُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ فَيَسْتَوْجِبُ الْحَبْسَ إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْأَدَاءِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا قُلْنَا إنَّ مَنْ جَارَ فِي الْقَسْمِ يَوْجَعُ عُقُوبَةً وَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ إيفَاءِ حَقٍّ آخَرَ لَا يُحْبَسُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْحَقَّ لَا يَسْقُطُ بِتَأْخِيرِ الْأَدَاءِ وَمَا جَارَ فِيهِ مِنْ الزَّمَانِ لَا يَصِيرُ دِينًا فَيَوْجَعُ عُقُوبَةً لِيَمْتَنِعَ مِنْ الْجَوْرِ .
( قَالَ : ) وَمَنْ كَانَ لَهُ مَسْكَنٌ ، أَوْ خَادِمٌ لَيْسَ لَهُ غَيْرُهُ وَهُوَ مُحْتَاجٌ تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ فَعَلَى الْمُوسِرِ مِنْ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ نَفَقَتُهُ وَقَالَ الْخَصَّافُ فِي كِتَابِهِ بَعْدَ مَا رَوَى هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ غَيْرُهُ لَيْسَ عَلَيْهِ نَفَقَتُهُ وَلَكِنْ يُقَالُ لَهُ بِعْ مَسْكَنَك وَخَادِمَك وَأَنْفِقْ عَلَى نَفْسِك ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَكْتَفِيَ بِمَنْزِلٍ يُكْرَى فَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْمَنْزِلُ وَالْخَادِمُ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِ ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَنْعَدِمُ بِمِلْكِهَا حَاجَتُهُ .
( قَالَ : ) وَلَا يُقْضَى بِالنَّفَقَةِ فِي مَالِ أَحَدٍ مِمَّنْ ذَكَرْنَا إذَا كَانَ رَبُّ الْمَالِ غَائِبًا ، أَوْ مَفْقُودًا مَا خَلَا الْوَالِدَيْنِ وَالزَّوْجَةَ فَإِنِّي أَقْضِي لَهُمْ مِنْ مَالِ الْغَائِبِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ فَلَا يَتَقَوَّى ، إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُوجِدَ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ فَأَمَّا مَا كَانَ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ فَهُوَ ثَابِتٌ بِنَفْسِهِ وَلِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَمُدَّ يَدَهُ فَيَأْخُذَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي وَلِلْقَاضِي أَنْ يُعِينَهُ عَلَى ذَلِكَ إذَا كَانَ صَاحِبُ الْمَالِ حَاضِرًا ، أَوْ غَائِبًا وَالسَّبَبُ مَعْلُومًا لِلْقَاضِي ، أَلَا تَرَى { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِهِنْدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا خُذِي مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ } وَهُوَ كَانَ غَائِبًا وَقَالَ فِي كِتَابِ الْمَفْقُودِ وَإِنْ اسْتَوْثَقَ مِنْهُ بِكَفِيلٍ فَحَسَنٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَخَذَ النَّفَقَةَ ، أَوْ بَعَثَ الْغَائِبُ بِنَفَقَتِهِ فَيَقْصِدُ الْأَخْذَ ثَانِيًا وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ لِكُلِّ مَنْ عَجَزَ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ فَإِذَا كَانَ الْغَائِبُ عَاجِزًا عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ نَظَرَ الْقَاضِي لَهُ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ إنْ شَاءَ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُمْ ذَلِكَ وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهُمْ كَفِيلًا فَهُوَ مُسْتَقِيمٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَا خَصْمٌ يَطْلُبُ مِنْ الْقَاضِي أَخْذَ الْكَفِيلِ وَإِنَّمَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَى الْقَاضِي عِنْدَ طَلَبِ الْخَصْمِ .
( قَالَ : ) فَإِنْ كَانَ لَهُ عِنْدَ هَؤُلَاءِ مَالٌ فَأَنْفَقَهُ عَلَى نَفْسِهِ أَجَزْتُهُ وَلَمْ أُضَمِّنْهُ ؛ لِأَنَّهُ ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِ حَقِّهِ ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ غَيْرِهِمْ فَأَعْطَاهُمْ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي حَتَّى أَنْفَقُوا كَانَ ضَامِنًا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْحِفْظِ .
وَدَفْعُهُ إلَى غَيْرِهِ لِيُنْفِقَ لَيْسَ مِنْ الْحِفْظِ فَيَصِيرُ بِهِ مُخَالِفًا ضَامِنًا وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ أَرَادَ الْمُودَعُ أَنْ يَقْضِيَ الْوَدِيعَةِ دَيْنَ الْمُودِعِ
لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَيَصِيرُ ضَامِنًا إنْ فَعَلَهُ ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الدَّيْنِ إذَا ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ .
( قَالَ : ) ، وَإِنْ بَاعَ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَتَاعَ الْغَائِبِ لِلنَّفَقَةِ أَبْطَلْتُ بَيْعَهُ مَا خَلَا الْأَبَ الْمُحْتَاجَ فَإِنِّي أُجِيزُ بَيْعَهُ عَلَى وَلَدِهِ الْغَائِبِ فِيمَا سِوَى الْعَقَارِ اسْتِحْسَانًا لِمَا يُنْفِقُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا يَجُوزُ فِي الْعَقَارِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ صَغِيرًا ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الْمَفْقُودِ .
( قَالَ ) ، وَكَذَلِكَ قِيَاسُ قَوْلِهِ فِي الْمَفْقُودِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْأَبِ أَيْضًا عَلَى ابْنِهِ الْكَبِيرِ الْغَائِبِ فِي الْعَقَارِ ، كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ غَيْرِهِ وَالْقِيَاسُ مَا قَالَا ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَبِ قَدْ زَالَتْ بِبُلُوغِ الصَّبِيِّ عَنْ عَقْلٍ فَيَكُونُ هُوَ فِي بَيْعِ أَمْوَالِهِ كَغَيْرِهِ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ النَّفَقَةَ لَا تَكُونُ أَوْجَبَ مِنْ سَائِرِ الدُّيُونِ وَلَيْسَ لِلْأَبِ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ مَتَاعِ وَلَدِهِ فِي دَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ وَلَا يَقْضِي الْقَاضِي بِذَلِكَ أَيْضًا لِمَا فِيهِ مِنْ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ ، فَكَذَلِكَ فِي النَّفَقَةِ وَاسْتِحْقَاقِ الْأُمِّ النَّفَقَةَ كَاسْتِحْقَاقِ الْأَبِ ، ثُمَّ الْأُمُّ لَا تَبِيعُ عُرُوضَ الْوَلَدِ فِي نَفَقَتِهَا فَكَذَلِكَ الْأَبُ وَاسْتَحْسَنَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ : وِلَايَةُ الْأَبِ ، وَإِنْ زَالَتْ بِالْبُلُوغِ وَلَكِنْ بَقِيَ أَثَرُهَا وَلِهَذَا صَحَّ مِنْهُ الِاسْتِيلَادُ فِي جَارِيَةِ الِابْنِ فَلِبَقَاءِ أَثَرِ وِلَايَتِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْعُرُوضَ ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْعُرُوضِ مِنْ الْحِفْظِ ، فَإِنَّ الْعُرُوضَ يُخْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْهَلَاكِ ، وَحِفْظُ الثَّمَنِ أَيْسَرُ ، وَوِلَايَةُ الْحِفْظِ تَثْبُتُ لِمَنْ يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ كَالْوَصِيِّ فِي حَقِّ الْوَارِثِ الْكَبِيرِ الْغَائِبِ لَهُ وِلَايَةُ الْحِفْظِ وَبَيْعُ الْعُرُوضِ ، فَكَذَلِكَ لِلْأَبِ ذَلِكَ وَبَعْدَ الْبَيْعِ الثَّمَنُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ مِقْدَارَ النَّفَقَةِ ، فَأَمَّا بَيْعُ الْعَقَارِ لَيْسَ مِنْ الْحِفْظِ ؛ لِأَنَّهُ مُحَصَّنٌ بِنَفْسِهِ فَلَا
يَمْلِكُ ذَلِكَ ، إلَّا بِمُطْلَقِ الْوِلَايَةِ وَهُوَ عِنْدَ صِغَرِ الْوَلَدِ أَوْ جُنُونِهِ وَإِذَا بَاعَ عِنْدَ ذَلِكَ أَخَذَ مِنْ الثَّمَنِ نَفَقَتَهُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ وَبِخِلَافِ الْأُمِّ وَسَائِرِ الْأَقَارِبِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي حَالَةِ الصِّغَرِ لِيَبْقَى أَثَرُ تِلْكَ الْوِلَايَةِ بَعْدَ الْبُلُوغِ ، وَكَذَلِكَ لَيْسَ لَهُمْ وِلَايَةُ حِفْظِ الْمَالِ فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ مِنْهُمْ بَيْعُ الْعُرُوضِ .
( قَالَ : ) وَلَا يُجْبَرُ الْمُسْلِمُ عَلَى نَفَقَةِ الْكُفَّارِ مِنْ قَرَابَتِهِ وَلَا الْكُفَّارُ عَلَى نَفَقَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَرَابَتِهِمْ ؛ لِأَنَّ هَذَا الِاسْتِحْقَاقَ بِعِلَّةِ وِلَايَةِ الْوِرَاثَةِ شَرْعًا وَبِسَبَبِ اخْتِلَافِ الدِّينِ يَنْعَدِمُ التَّوَارُثُ ، إلَّا الْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدَ وَالزَّوْجَةَ ، أَمَّا اسْتِحْقَاقُ الزَّوْجَةِ لِلنَّفَقَةِ بِسَبَبِ الْعَقْدِ وَذَلِكَ مُتَحَقِّقٌ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ ، أَمَّا فِي حَقِّ الْوَالِدَيْنِ وَالْوَلَدِ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَثْبُتَ اسْتِحْقَاقُ النَّفَقَةِ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهَا بِطَرِيقِ الصِّلَةِ كَنَفَقَةِ الْأَقَارِبِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ : يَجِبُ عَلَى الْوَلَدِ الْمُسْلِمِ نَفَقَةُ أَبَوَيْهِ الذِّمِّيَّيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } وَلَيْسَ مِنْ الْمُصَاحَبَةِ بِالْمَعْرُوفِ أَنْ يَتَقَلَّبَ فِي نِعَمِ اللَّهِ وَيَدَعَهُمَا يَمُوتَانِ جُوعًا وَالنَّوَافِلُ وَالْأَجْدَادُ وَالْجَدَّاتُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَالْأُمِّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبَوَيْنِ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُمْ بِاعْتِبَارِ الْوِلَادِ بِمَنْزِلَةِ اسْتِحْقَاقِ الْأَبَوَيْنِ .
( قَالَ : ) وَإِذَا مَاتَ الْأَبُ وَلِلْوَلَدِ الصَّغِيرِ أُمٌّ وَجَدٌّ أَبُ الْأَبِ فَنَفَقَتُهُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمَا أَثْلَاثًا بِخِلَافِ الْأَبِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، فَإِنَّهُ لَا يُشَارِكُهُ فِي النَّفَقَةِ أَحَدٌ لِحَقِيقَةِ الْجُزْئِيَّةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَلَدِ ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْجَدِّ فَإِنَّ اتِّصَالَ النَّافِلَةِ بِوَاسِطَةِ الْأَبِ كَاتِّصَالِ الْأَخِ فَكَمَا أَنَّ فِي الْأَخِ وَالْأُمِّ النَّفَقَةَ عَلَيْهِمَا بِحَسَبِ الْمِيرَاثِ إذَا كَانَا مُوسِرَيْنِ ، فَكَذَلِكَ فِي الْجَدِّ وَالْأُمِّ النَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا بِحَسَبِ الْمِيرَاثِ .
( قَالَ : ) ، وَإِنْ كَانَ لِلْوَلَدِ خَالٌ مُوسِرٌ وَابْنُ عَمٍّ مُوسِرٌ فَالنَّفَقَةُ عَلَى الْخَالِ دُونَ ابْنِ الْعَمِّ ، وَإِنْ كَانَ الْمِيرَاثُ لِابْنِ الْعَمِّ ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ وَابْنُ الْعَمِّ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ وَالْخَالُ مَحْرَمٌ فَتَكُونُ النَّفَقَةُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مُوسِرًا .
( قَالَ : ) وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ زَمِنًا مُعْسِرًا وَلَهُ ابْنٌ مُعْسِرٌ صَغِيرٌ ، أَوْ كَبِيرٌ زَمِنٌ وَلِلرَّجُلِ ثَلَاثَةُ إخْوَةٍ مُتَفَرِّقِينَ أَهْلُ يَسَارٍ فَنَفَقَةُ الرَّجُلِ تَكُونُ عَلَى أَخِيهِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَعَلَى أَخِيهِ لِأُمٍّ أَسْدَاسًا بِحَسَبِ مِيرَاثِهِمَا مِنْهُ وَأَمَّا نَفَقَةُ الْأَوْلَادِ فَعَلَى الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ لَهُ مِيرَاثَ الْوَلَدِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ خَاصَّةً ، فَإِنَّهُ عَمٌّ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَلَا يَرِثُ مَعَهُ الْعَمُّ لِأَبٍ وَلَا الْعَمُّ لِأُمٍّ وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ يَكُونُ مُحْتَاجًا يُجْعَلُ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومِ فَتَكُونُ النَّفَقَةُ بَعْدَهُ عَلَى مَنْ يَكُونُ وَارِثًا بِحَسَبِ مِيرَاثِهِ وَإِذَا كَانَ الْوَلَدُ بِنْتًا كَانَتْ نَفَقَةُ الْأَبِ وَالْبِنْتِ عَلَى الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ خَاصَّةً ، أَمَّا نَفَقَةُ الْبِنْتِ ؛ فَلِمَا بَيَّنَّا ، وَأَمَّا نَفَقَةُ الْأَبِ فَلِأَنَّ الْوَارِثَ هُنَا هُوَ الْأَخُ لِأَبٍ وَأُمٍّ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ الْأَخَ لِأَبٍ وَأُمٍّ يَرِثُ مَعَ الْبِنْتِ وَالْأَخُ لِأُمٍّ لَا يَرِثُ مَعَ الْبِنْتِ ؛ فَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ تُجْعَلَ الْبِنْتُ كَالْمَعْدُومَةِ وَلَكِنْ تُعْتَبَرُ صِفَةُ الْوِرَاثَةِ مَعَ بَقَائِهَا بِخِلَافِ الِابْنِ ، فَإِنَّهُ لَا يَرِثُ مَعَهُ أَحَدٌ مِنْ الْإِخْوَةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُجْعَلَ كَالْمُعْدِمِ وَإِذَا جُعِلَ كَذَلِكَ فَمِيرَاثُ الْأَبِ بَيْنَ الْأَخِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَالْأَخِ لِأُمٍّ أَسْدَاسًا فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا بِحَسَبِ ذَلِكَ .
( قَالَ : ) ، وَإِنْ كَانَ مَكَانَ الْإِخْوَةِ أَخَوَاتٌ مُتَفَرِّقَاتٌ ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ ذَكَرًا فَنَفَقَةُ الْأَبِ عَلَى أَخَوَاتِهِ أَخْمَاسًا ؛ لِأَنَّ أَحَدًا مِنْ الْأَخَوَاتِ لَا يَرِثُ مَعَ الِابْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُجْعَلَ الِابْنُ كَالْمَعْدُومِ وَبَعْدَ ذَلِكَ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُنَّ أَخْمَاسًا ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَخَمْسَةٌ لِلْأُخْتِ لِأَبٍ وَخَمْسَةٌ لِلْأُخْتِ لِأُمٍّ بِطَرِيقِ الْفَرْضِ وَالرَّدِّ ، فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمْ بِحَسَبِ ذَلِكَ ، وَنَفَقَةُ الْوَلَدِ عَلَى الْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ خَاصَّةً فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا ؛
لِأَنَّ مِيرَاثَهُ إذَا مَاتَ عِنْدَ عَدَمِ الْوَالِدِ لِلْعَمَّةِ لِأَبٍ وَأُمٍّ خَاصَّةً دُونَ الْعَمَّةِ لِأَبٍ ، أَوْ لِأُمٍّ .
أَمَّا فِي قَوْلِ مَنْ يُوَرِّثُ الْعَمَّاتِ الْمُتَفَرِّقَاتِ كَمَا يُوَرِّثُ الْأَخَوَاتِ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ التَّنْزِيلِ فَنَفَقَةُ الْوَلَدِ عَلَيْهِنَّ أَيْضًا أَخْمَاسًا بِحَسَبِ الْمِيرَاثِ وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمِيرَاثِ قَالَ : نَفَقَةُ الْأَبِ تَكُونُ عَلَى الْأُخْتِ لِأَبٍ السُّدُسُ مِنْ ذَلِكَ وَالْبَاقِي أَرْبَاعٌ عَلَى الْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ وَعَلَى الْأُخْتِ لِأُمٍّ رُبْعُهُ بِحَسَبِ الْمِيرَاثِ ، فَإِنَّهُ لَا يَرَى الرَّدَّ عَلَى الْأُخْتِ لِأَبٍ مَعَ الْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ بِنْتًا فَنَفَقَةُ الْأَبِ عَلَى الْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهَا وَارِثَةٌ مَعَ الْبَنَاتِ فَإِنَّ الْأَخَوَاتِ مَعَ الْبَنَاتِ عَصَبَةٌ فَلَا تُجْعَلُ الْبِنْتُ كَالْمَعْدُومِ هُنَا وَلَكِنْ لَوْ مَاتَ الْأَبُ كَانَ نِصْفُ مِيرَاثِهِ لِلْبِنْتِ وَالْبَاقِي لِلْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ ، فَكَذَلِكَ نَفَقَتُهُ عَلَى الْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ ، وَكَذَلِكَ نَفَقَةُ الْبِنْتِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ، إلَّا فِي قَوْلِ أَهْلِ التَّنْزِيلِ ، فَإِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ الْمِيرَاثَ بَيْنَ الْعَمَّاتِ أَخْمَاسًا فَنَفَقَةُ الْبِنْتِ عَلَيْهِنَّ أَخْمَاسًا أَيْضًا ، وَأَمَّا عِنْدَنَا مِيرَاثُ الْبِنْتِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَبِ كُلُّهُ لِلْعَمَّةِ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهَا أَيْضًا ، ثُمَّ أَشَارَ إلَى الْأَصْلِ الَّذِي قُلْنَا أَنَّهُ يُنْظَرُ إلَى وَارِثِ الْأَبِ فَإِنْ كَانَ يُحْرِزُ الْمِيرَاثَ كُلَّهُ وَهُوَ مُعْسِرٌ جَعَلْته كَالْمَيِّتِ ، ثُمَّ نَظَرْت إلَى مَنْ يَرِثُهُ فَجَعَلْت النَّفَقَةَ عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمْ فَإِنْ كَانَ الَّذِي يَرِثُهُ لَا يُحْرِزُ الْمِيرَاثَ كُلَّهُ جَعَلْت النَّفَقَةَ عَلَى مَنْ يَرِثُ مَعَهُ .
( قَالَ : ) امْرَأَةٌ مُعْسِرَةٌ وَلَهَا وَلَدٌ مُوسِرٌ وَأُمٌّ مُوسِرَةٌ فَنَفَقَتُهَا عَلَى الْوَلَدِ دُونَ الْأُمِّ ، وَكَذَلِكَ الْأَبُ نَفَقَتُهُ عَلَى ابْنِهِ دُونَ أَبِيهِ لِلتَّأْوِيلِ الثَّابِتِ لَهُ فِي مَالِ وَلَدِهِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك } وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْوَالِدِ وَلَا فِي حَقِّ الْأُمِّ وَكَمَا لَا يُشَارِكُ الْوَالِدَ فِي النَّفَقَةِ عَلَى الْوَلَدِ أَحَدٌ ، فَكَذَلِكَ لَا يُشَارِكُ الْوَلَدَ فِي النَّفَقَةِ عَلَى الْوَالِدَيْنِ أَحَدٌ مِنْ أُمٍّ وَلَا أَبٍ وَلَا جَدٍّ .
( قَالَ : ) وَيُجْبَرُ أَهْلُ الذِّمَّةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى النَّفَقَةِ ، كَمَا يُجْبَرُ أَهْلُ الْإِسْلَامِ ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ فِي الْكُفْرِ ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ يَتَوَارَثُونَ مَعَ اخْتِلَافِ النِّحَلِ فَيَثْبُتُ حُكْمُ اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ أَيْضًا وَلَا يُجْبَرُ الْمُوسِرُ عَلَى نَفَقَةِ الْمُعْسِرِ مِنْ قَرَابَتِهِ إذَا كَانَ رَجُلًا صَحِيحًا ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَسْبِ ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ الَّذِي لَا زَمَانَةَ بِهِ لَا يَعْجِزُ عَنْ كَسْبِ الْقُوتِ عَادَةً وَبِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَى الْعَادَةِ الظَّاهِرَةِ دُونَ النَّادِرِ ، إلَّا فِي الْوَالِدَيْنِ خَاصَّةً وَفِي الْجَدِّ أَبِ الْأَبِ إذَا مَاتَ أَبُو الْوَلَدِ ، فَإِنَّهُ يُجْبَرُ الْوَلَدُ عَلَى نَفَقَتِهِ وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا لِدَفْعِ الْأَذَى الَّذِي يَلْحَقُهُ لِلْكَدِّ وَالتَّعَبِ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
( قَالَ : ) وَلَا يُجْبَرُ الْمَمْلُوكُ وَالْمُكَاتَبُ عَلَى نَفَقَةِ أَحَدٍ مِنْ قَرَابَتِهِ ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْمَمْلُوكِ لِمَوْلَاهُ وَالْمُكَاتَبُ لَيْسَ لَهُ فِي كَسْبِهِ مِلْكٌ فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ هُوَ دَائِرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَوْلَاهُ فَلَا يَلْزَمُهُ نَفَقَةُ أَحَدٍ مِنْ قَرَابَتِهِ ، إلَّا وَلَدَهُ الْمَوْلُودَ فِي الْكِتَابَةِ مِنْ أَمَتِهِ ، فَإِنَّهُ دَاخِلٌ فِي كِتَابَتِهِ وَكَسْبِهِ لَهُ لِتَكُونَ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ .
( قَالَ : ) وَلَا يُجْبَرُ الْمُسْلِمُ وَلَا الذِّمِّيُّ عَلَى النَّفَقَةِ لِوَالِدَيْهِ وَوَلَدِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ ، وَإِنْ كَانُوا مُسْتَأْمَنِينَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ وَلَا يَثْبُتُ لِلْحَرْبِيِّ اسْتِحْقَاقُ الصِّلَةِ عَلَى مَنْ هُوَ أَهْلُ دَارِ الْإِسْلَامِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَا يَتَوَارَثَانِ ، وَإِنْ كَانَا عَلَى مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الْكُفْرِ فَكَذَلِكَ اسْتِحْقَاقُ النَّفَقَةِ لِبَعْضِهِمْ عَلَى الْبَعْضِ
( قَالَ : ) وَنَفَقَةُ الْمَعْتُوهِ عَلَى ابْنِهِ دُونَ أَبِيهِ لِتَأْوِيلِ الْمِلْكِ لَهُ فِي مَالِ ابْنِهِ دُونَ مَالِ أَبِيهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا مُعْسِرًا كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَى الِابْنِ دُونَ الْأَبِ ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَعْتُوهًا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ الطَّلَاقِ ( قَالَ ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إمْلَاءً الطَّلَاقِ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ إزَالَةِ الْقَيْدِ ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ الْإِطْلَاقِ يَقُولُ الرَّجُلُ أَطْلَقْت إبِلِي وَأَطْلَقْت أَسِيرِي وَطَلَّقْت امْرَأَتِي فَالْكُلُّ مِنْ الْإِطْلَاقِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ اللَّفْظُ لِاخْتِلَافِ الْمَعْنَى فَفِي الْمَرْأَةِ يَتَكَرَّرُ الطَّلَاقُ ، وَإِذَا تَمَّ رَفْعُ الْقَيْدِ بِتَكَرُّرِ الطَّلَاقِ لَا يَأْتِي تَقْيِيدُهُ ثَانِيًا فِي الْحَالِ فَفِي التَّفْعِيلِ مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ ؛ فَلِهَذَا يُقَالُ فِي الْمَرْأَةِ طَلُقَتْ ، وَهُوَ كَقَوْلِهِمْ حِصَانٌ وَحِصَانٌ لَكِنْ يُقَالُ فِي الْفَرَسِ حِصَانٌ أَيْ بَيِّنُ التَّحَصُّنِ ، وَفِي الْمَرْأَةِ حَصَانٌ أَيْ بَيِّنَةُ الْحِصْنِ ، وَكَذَا يُقَالُ عَدْلٌ وَعَدِيلٌ وَكِلَاهُمَا مُشْتَقٌّ مِنْ الْعَدَالَةِ وَالْمُعَادَلَةِ وَلَكِنْ يَخْتَصُّ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ بِالْآدَمِيِّ لِمَعْنًى اخْتَصَّ بِهِ وَمُوجِبُ الطَّلَاقِ فِي الشَّرِيعَةِ رَفْعُ الْحِلِّ الَّذِي بِهِ صَارَتْ الْمَرْأَةُ مَحِلًّا لِلنِّكَاحِ إذَا تَمَّ الْعَدَدُ ثَلَاثًا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَيُوجِبُ زَوَالُ الْمِلْكِ بِاعْتِبَارِ سُقُوطِ الْيَدِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا وَانْعِدَامِ الْعِدَّةِ عِنْدَ عَدَمِ الدُّخُولِ وَالِاعْتِيَاضِ عِنْدَ الْخُلْعِ .
فَالِاسْمُ شَرْعِيٌّ فِيهِ مَعْنَى اللُّغَةِ وَإِيقَاعُ الطَّلَاقِ مُبَاحٌ وَإِنْ كَانَ مُبْغَضًا فِي الْأَصْلِ عِنْدَ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ لَا يُبَاحُ إيقَاعُ الطَّلَاقِ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ اللَّهُ كُلَّ ذَوَّاقٍ مِطْلَاقٍ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيُّمَا امْرَأَةٍ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا مِنْ نُشُوزٍ فَعَلَيْهَا لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُهُ
فِي الرَّجُلِ يَخْلَعُ امْرَأَتَهُ وَلِأَنَّ فِيهِ كُفْرَانَ النِّعْمَةِ فَإِنَّ النِّكَاحَ نِعْمَةٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنْ النِّسَاءِ } الْآيَةَ وَكُفْرَانُ النِّعْمَةِ حَرَامٌ ، وَهُوَ رَفْعُ النِّكَاحِ الْمَسْنُونِ فَلَا يَحِلُّ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَذَلِكَ إمَّا كِبَرُ السِّنِّ لِمَا رُوِيَ أَنَّ سَوْدَةَ لَمَّا طَعَنَتْ فِي السِّنِّ طَلَّقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِمَّا لِرِيبَةٍ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ إنَّ امْرَأَتِي لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ طَلِّقْهَا فَقَالَ إنِّي أُحِبُّهَا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْسِكْهَا إذَنْ .
} وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ } وقَوْله تَعَالَى { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } وَذَلِكَ كُلُّهُ يَقْتَضِي كُلُّهُ إبَاحَةَ الْإِيقَاعِ { وَطَلَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ يَأْمُرُهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ } وَلَمْ يَكُنْ هُنَاكَ كِبَرُ سِنٍّ وَلَا رِيبَةَ وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ طَلَّقَ أُمَّ عَاصِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ طَلَّقَ تُمَاضِرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَالْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَأَقَامَهُنَّ بَيْنَ يَدَيْهِ صَفًّا وَقَالَ أَنْتُنَّ حِسَانُ الْأَخْلَاقِ نَاعِمَاتُ الْأَرْدَافِ طَوِيلَاتُ الْأَعْنَاقِ اذْهَبْنَ فَأَنْتُنَّ طَلَاقٌ وَأَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا اسْتَكْثَرَ مِنْ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ بِالْكُوفَةِ حَتَّى قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْمِنْبَرِ إنَّ ابْنِي هَذَا مِطْلَاقٌ فَلَا تُزَوِّجُوهُ فَقَالُوا إنَّا
نُزَوِّجُهُ ثُمَّ نُزَوِّجُهُ وَلِأَنَّ هَذَا إزَالَةُ الْمِلْكِ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ فَيَكُونُ مُبَاحًا فِي الْأَصْلِ كَالْإِعْتَاقِ ، وَفِيهِ مَعْنَى كُفْرَانِ النِّعْمَةِ مِنْ وَجْهٍ وَمَعْنَى إزَالَةِ الرِّقِّ مِنْ وَجْهٍ فَالنِّكَاحُ رِقٌّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { النِّكَاحُ رِقٌّ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ أَيْنَ يَضَعُ كَرِيمَتَهُ } .
وَرُوِيَ { بِمَ يَرِقُّ كَرِيمَتَهُ } وَلِهَذَا صَانَ الشَّرْعُ الْقَرَابَةَ الْقَرِيبَةَ عَنْ هَذَا الرِّقِّ حَيْثُ حَرَّمَ نِكَاحَ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ .
وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ : { وَإِنَّ أَبْغَضَ الْمُبَاحَاتِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى الطَّلَاقُ } فَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ مُبَاحٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إزَالَةِ الرِّقِّ وَمُبْغِضٌ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى كُفْرَانِ النِّعْمَةِ ثُمَّ مَعْنَى النِّعْمَةِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ مُوَافَقَةِ الْأَخْلَاقِ فَأَمَّا عِنْدَ عَدَمِ مُوَافَقَةِ الْأَخْلَاقِ فَاسْتِدَامَةُ النِّكَاحِ سَبَبٌ لِامْتِدَادِ الْمُنَازَعَاتِ فَكَانَ الطَّلَاقُ مَشْرُوعًا مُبَاحًا لِلتَّفَصِّي عَنْ عُهْدَةِ النِّكَاحِ عِنْدَ عَدَمِ مُوَافَقَةِ الْأَخْلَاقِ .
ثُمَّ هُوَ نَوْعَانِ طَلَاقُ سُنَّةٍ وَطَلَاقُ بِدْعَةٍ وَالسُّنَّةُ فِي الطَّلَاقِ نَوْعَانِ سُنَّةٌ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ وَسُنَّةٌ مِنْ حَيْثُ الْوَقْتُ فَالسُّنَّةُ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ مَا بَدَأَ بِبَيَانِهِ الْكِتَابُ ، وَهُوَ نَوْعَانِ حَسَنٌ وَأَحْسَنُ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَاحِدَةً فِي وَقْتِ السَّنَةِ ، وَيَدَعَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا .
هَكَذَا نُقِلَ عَنْ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِي اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا يَسْتَحْسِنُونَ أَنْ لَا يَزِيدُوا فِي الطَّلَاقِ عَلَى وَاحِدَةٍ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ وَأَنَّ هَذَا أَفْضَلُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَنْ يُطَلِّقَ الرَّجُلُ ثَلَاثًا عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ وَاحِدَةً وَلِأَنَّهُ مُبْغَضٌ شَرْعًا لَكِنَّهُ مُبَاحٌ لِمَقْصُودِ التَّفَصِّي عَنْ عُهْدَةِ النِّكَاحِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْوَاحِدَةِ وَلَا يَرْتَفِعُ بِهَا الْحِلُّ الَّذِي هُوَ نِعْمَةٌ فَالِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا أَحْسَنُ وَالْحَسَنُ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ عِنْدَ كُلِّ طُهْرٍ وَاحِدَةً .
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : لَا أَعْرِفُ الْمُبَاحَ مِنْ الطَّلَاقِ إلَّا وَاحِدَةً ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { إنَّمَا السُّنَّةُ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ اسْتِقْبَالًا فَتُطَلِّقَهَا لِكُلِّ طُهْرٍ تَطْلِيقَةً فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ تَطْلُقَ لَهَا النِّسَاءُ } .
يُرِيدُ بِهِ الْإِشَارَةَ إلَى قَوْله تَعَالَى { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } .
وَلَمَّا قَابَلَ اللَّهُ تَعَالَى الطَّلَاقَ بِالْعِدَّةِ ، وَالطَّلَاقُ ذُو عَدَدٍ وَالْعِدَّةُ ذَاتُ عَدَدٍ تَنْقَسِمُ آحَادُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ أَعْطِ هَؤُلَاءِ الرِّجَالَ الثَّلَاثَةَ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ وَلِأَنَّ عَدَمَ مُوَافَقَةِ الْأَخْلَاقِ أَمْرٌ بَاطِنٌ لَا يُوقَفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَأَقَامَ الشَّرْعُ السَّبَبَ الظَّاهِرَ الدَّالَّ عَلَيْهِ ، وَهُوَ الطُّهْرُ الَّذِي لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ مَقَامَ
حَقِيقَةِ الْحَاجَةِ لِعَدَمِ مُوَافَقَةِ الْأَخْلَاقِ لِأَنَّهُ زَمَانُ الرَّغْبَةِ فِيهَا طَبْعًا وَشَرْعًا فَلَا يَخْتَارُ فِرَاقَهَا إلَّا لِلْحَاجَةِ وَمَتَى قَامَ السَّبَبُ الظَّاهِرُ مَقَامَ الْمَعْنَى الْبَاطِنِ دَارَ الْحُكْمُ مَعَهُ وُجُودًا وَعَدَمًا .
وَهَذَا السَّبَبُ الظَّاهِرُ مُتَكَرِّرٌ فَتَتَكَرَّرُ إبَاحَةُ الطَّلَاقِ بِتَكَرُّرِهِ وَيُجْعَلُ ذَلِكَ قَائِمٌ مَقَامَ تَجَدُّدِ الْحَاجَةِ حُكْمًا وَإِلَيْهِ أَشَارَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ إذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ لِلسُّنَّةِ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً وَهِيَ طَاهِرَةٌ مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا طَلَّقَهَا بَعْدَ مَا تَحِيضُ وَتَطْهُرُ ثُمَّ يَدَعُهَا حَتَّى تَحِيضَ وَتَطْهُرَ ثُمَّ يُطَلِّقَهَا أُخْرَى فَكَانَتْ قَدْ بَانَتْ مِنْهُ بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ وَبَقِيَ عَلَيْهَا مِنْ عِدَّتِهَا حَيْضَةٌ .
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ إيقَاعُ الثَّلَاثِ جُمْلَةً بِدْعَةٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا أَعْرِفُ فِي الْجَمْعِ بِدْعَةً وَلَا فِي التَّفْرِيقِ سُنَّةً بَلْ الْكُلُّ مُبَاحٌ وَرُبَّمَا يَقُولُ إيقَاعُ الثَّلَاثِ جُمْلَةً سُنَّةٌ حَتَّى إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ وَقَعَ الْكُلُّ فِي الْحَالِ عِنْدَهُ قَالَ وَبِالِاتِّفَاقِ لَوْ نَوَى وُقُوعَ الثَّلَاثِ جُمْلَةً يَقَعُ جُمْلَةً وَلَوْ لَمْ يَكُنْ سُنَّةٌ لَمَا عَمِلْت نِيَّتُهُ لِأَنَّ النِّيَّةَ بِخِلَافِ الْمَلْفُوظِ بَاطِلٌ وَاسْتُدِلَّ فِي ذَلِكَ بِحَدِيثِ { الْعَجْلَانِيِّ فَإِنَّهُ لَمَّا لَاعَنَ امْرَأَتَهُ قَالَ كَذَبْت عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أَمْسَكْتهَا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيقَاعَ الثَّلَاثِ جُمْلَةً } وَقَالَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلَاثًا الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَتْ { فَلَمْ يَجْعَلْ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى } وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تُمَاضِرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهَا ثَلَاثًا فِي مَرَضِ مَوْتِهِ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ شَهْبَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ثَلَاثًا حِينَ هَنَّأَتْهُ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَ مَوْتِ عَلِيٍّ .
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ إزَالَةَ الْمِلْكِ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ فَيَكُونُ مُبَاحًا مُطْلَقًا جَمَعَ أَوْ فَرَّقَ كَالْعِتْقِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ لَهُ جُمْلَةً كَانَ مُبَاحًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ فَرَّقَ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْوَاحِدَةِ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ هَذَا يُزِيلُ الْمِلْكَ عَنْ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُنَاكَ الْإِيقَاعُ يُزِيلُ الْمِلْكَ عَنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ تَصَرُّفُ مَمْلُوكٍ بِالنِّكَاحِ فَيَكُونُ مُبَاحًا فِي الْأَصْلِ وَالتَّحْرِيمُ فِيهِ لِمَعْنًى عَارِضٍ كَالظِّهَارِ الَّذِي انْضَمَّ إلَيْهِ وَصْفُ كَوْنِهِ مُنْكَرًا مِنْ الْقَوْلِ وَزُورًا وَالْإِيلَاءُ الَّذِي انْضَمَّ إلَيْهِ مَعْنَى قَطْعِ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ عَلَى وَجْهِ الْإِضْرَارِ وَالتَّعَنُّتِ فَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ مُبَاحُ الْإِيقَاعِ إلَّا إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ مَعْنًى مُحَرَّمٌ وَهُوَ الْإِضْرَارُ بِهَا بِتَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا إذَا طَلَّقَهَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ .
وَتَلْبِيسِ أَمْرِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا إذَا طَلَّقَهَا فِي طُهْرٍ قَدْ جَامَعَهَا فِيهِ لِأَنَّهَا لَا تَدْرِي أَنَّهَا حَامِلٌ فَتَعْتَدُّ بِوَضْعِ الْحَمْلِ أَوْ حَائِلٌ فَتَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ وَذَلِكَ مُنْعَدِمٌ إذَا طَلَّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ سَوَاءٌ أَوْقَعَ الثَّلَاثَ أَوْ الْوَاحِدَةَ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ هَذَا طَلَاقٌ صَادَفَ زَمَانَ الِاحْتِسَابِ مَعَ زَوَالِ الِارْتِيَابِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } مَعْنَاهُ دَفْعَتَانِ كَقَوْلِهِ أَعْطَيْته مَرَّتَيْنِ وَضَرَبْته مَرَّتَيْنِ وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْجِنْسِ فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ كُلُّ الطَّلَاقِ الْمُبَاحِ فِي دَفْعَتَيْنِ وَدَفْعَةٍ ثَالِثَةٍ فِي قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ طَلَّقَهَا } أَوْ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } عَلَى حَسَبِ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ أَهْلُ
التَّفْسِيرِ .
وَفِي حَدِيثِ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى { أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُغْضَبًا فَقَالَ أَتَلْعَبُونَ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ } وَاللَّعِبُ بِكِتَابِ اللَّهِ تَرْكُ الْعَمَلِ بِهِ فَدَلَّ أَنَّ مَوْقِعَ الثَّلَاثِ جُمْلَةً مُخَالِفٌ لِلْعَمَلِ بِمَا فِي الْكِتَابِ وَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } تَفْرِيقُ الطَّلْقَاتِ عَلَى عَدَدِ أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ خَاطَبَ الزَّوْجَ بِالْأَمْرِ بِإِحْصَاءِ الْعِدَّةِ وَفَائِدَتُهُ التَّفْرِيقُ فَإِنَّهُ قَالَ { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } أَيْ يَبْدُو لَهُ فَيُرَاجِعُهَا وَذَلِكَ عِنْدَ التَّفْرِيقِ لَا عِنْدَ الْجَمْعِ ، وَفِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ قَوْمًا جَاءُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا إنَّ أَبَانَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْفًا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَانَتْ امْرَأَتُهُ بِثَلَاثٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَقِيَ تِسْعُمِائَةٍ وَسَبْعَةٍ وَتِسْعِينَ وِزْرًا فِي عُنُقِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } { وَأَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَمَّا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرَاجِعَهَا فَقَالَ أَرَأَيْت لَوْ طَلَّقْتهَا ثَلَاثًا أَكَانَتْ تَحِلُّ لِي فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا بَانَتْ مِنْك } وَهِيَ مَعْصِيَةٌ .
وَبِهَذِهِ الْآثَارِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَ الْإِنْكَارَ عَلَى الْعَجْلَانِيِّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ شَفَقَةً عَلَيْهِ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لِشِدَّةِ الْغَضَبِ رُبَّمَا لَا يَقْبَلُ قَوْلَهُ فَيُكَفِّرُ فَأَخَّرَ الْإِنْكَارَ إلَى وَقْتٍ آخَرَ وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ { اذْهَبْ فَلَا سَبِيلَ لَك عَلَيْهَا } أَوْ كَرَاهَةُ إيقَاعِ الثَّلَاثِ لِمَا فِيهِ مِنْ سَدِّ بَابِ التَّلَافِي مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ
وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي حَقِّ الْعَجْلَانِيِّ لِأَنَّ بَابَ التَّلَافِي بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ مُنْسَدٌّ مَا دَامَا مُصِرَّيْنِ عَلَى اللِّعَانِ وَالْعَجْلَانِيُّ كَانَ مُصِرًّا عَلَى اللِّعَانِ وَلَنَا إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ كَرَاهَةُ إيقَاعِ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَوْ أَنَّ النَّاسَ طَلَّقُوا نِسَاءَهُمْ كَمَا أُمِرُوا لَمَا فَارَقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَلَهُ إلَيْهَا حَاجَةٌ إنَّ أَحَدَكُمْ يَذْهَبُ فَيُطَلِّقُ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ يَقْعُدُ فَيَعْصِرُ عَيْنَيْهِ مَهْلًا مَهْلًا بَارَكَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فِيكُمْ كِتَابُ اللَّهِ وَسُنَّةُ رَسُولِهِ فَمَاذَا بَعْدَ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ إلَّا الضَّلَالُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ .
وَقَالَ الْكَرْخِيُّ لَا أَعْرِفُ بَيْنَ أَهْلِ الْعِلْمِ خِلَافًا إنَّ إيقَاعَ الثَّلَاثِ جُمْلَةً مَكْرُوهٌ إلَّا قَوْلَ ابْنِ سِيرِينَ وَأَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَيَتَبَيَّنُ بِهَذَا أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إنَّمَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَةِ أَطْهَارٍ وَأَنَّ الْحَسَنَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إنَّمَا قَالَ لِشَهْبَاءَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ وَعِنْدَنَا لَا بَأْسَ بِهِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ تَحْرِيمُ الْبُضْعِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فَيَكُونُ مَكْرُوهًا كَالظِّهَارِ بَلْ أَوْلَى فَإِنَّ الظِّهَارَ تَحْرِيمُ الْبُضْعِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ إزَالَةِ الْمِلْكِ ، وَفِي إيقَاعِ الثَّلَاثِ تَحْرِيمُ الْبُضْعِ مَعَ إزَالَةِ الْمِلْكِ وَالْفِقْهُ فِيهِ مَا بَيَّنَّا أَنَّ إبَاحَةَ الْإِيقَاعِ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّفَصِّي عَنْ عُهْدَةِ النِّكَاحِ عِنْدَ عَدَمِ مُوَافَقَةِ الْأَخْلَاقِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْوَاحِدَةِ وَلَا يَحْصُلُ بِهَا تَحْرِيمُ الْبُضْعِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْحَاجَةُ إلَى مَا يَكُونُ مُحَرِّمًا
لِلْبُضْعِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُبَاحَ أَصْلًا .
وَلَكِنْ أُبِيحَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْأَطْهَارِ لِتَجَدُّدِ الْحَاجَةِ حُكْمًا عَلَى مَا قَرَّرْنَا وَلِأَنَّ فِي إيقَاعِ الثَّلَاثِ قَطْعُ بَابِ التَّلَافِي وَتَفْوِيتُ التَّدَارُكِ عِنْدَ النَّدَمِ ، وَفِيهِ مَعْنَى مُعَارَضَةِ الشَّرْعِ فَالْإِسْقَاطَاتُ فِي الْأَصْلِ لَا تَتَعَدَّدُ كَالْعَتَاقِ وَغَيْرِهِ وَإِنَّمَا جَعَلَ الشَّرْعُ الطَّلَاقَ مُتَعَدِّدًا لِمَعْنَى التَّدَارُكِ عِنْدَ النَّدَمِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ تَفْوِيتُ هَذَا الْمَعْنَى فِي نَفْسِهِ بَعْدَ مَا نَظَرَ الشَّرْعُ لَهُ كَمَا لَا يُبَاحُ لَهُ الْإِيقَاعُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ لِأَنَّهُ حَالَةُ نَفْرَةِ الطَّبْعِ عَنْهَا وَكَوْنُهُ مَمْنُوعًا شَرْعًا فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَنْدَمُ إذَا جَاءَ زَمَانُ الطُّهْرِ فَيُكْرَهُ إيقَاعُ الطَّلَاقِ لِمَعْنَى خَوْفِ النَّدَمِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً فِي الطُّهْرِ ثُمَّ أُخْرَى فِي الْحَيْضِ يَكُونُ مَكْرُوهًا وَلَيْسَ فِي إيقَاعِ الثَّانِيَةِ فِي الْحَيْضِ مَعْنَى تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ وَلَا مَعْنَى اشْتِبَاهِ أَمْرِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا فَدَلَّ أَنْ مَعْنَى كَرَاهَةِ الْإِيقَاعِ لِمَعْنَى خَوْفِ النَّدَمِ إذَا جَاءَ زَمَانُ الطُّهْرِ وَهَذَا فِي إيقَاعِ الثَّلَاثِ أَظْهَرُ فَكَانَ مَكْرُوهًا وَيَسْتَوِي فِي هَذَا الْمَدْخُولُ بِهَا وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا لِأَنَّ مَعْنَى تَحْرِيمِ الْبُضْعِ بِإِيقَاعِ الثَّلَاثِ يَحْصُلُ فِي الْحَالَتَيْنِ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ .
وَكَذَلِكَ يَسْتَوِي فِي الْكَرَاهَةِ إيقَاعُ الثَّلَاثِ جُمْلَةً وَإِيقَاعُ الثِّنْتَيْنِ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ لِمَعْنَى عَدَمِ الْحَاجَةِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الثَّانِيَةِ كَوُجُودِهِ فِي الثَّالِثَةِ وَلِأَنَّ إيقَاعَ الثِّنْتَيْنِ وَإِنْ كَانَ لَا يَحْصُلُ بِهِ تَحْرِيمُ الْبُضْعِ فَإِنَّهُ يَقْرُبُ مِنْهُ وَهَذَا الْقُرْبُ مُعْتَبَرٌ فِي الْحُكْمِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا قَالَتْ لِزَوْجِهَا طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ وَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً يَجِبُ ثُلُثُ الْأَلْفِ وَلَوْ طَلَّقَهَا اثْنَتَيْنِ يَجِبُ ثُلُثَا الْأَلْفِ وَكَمَا أَنَّ سَدَّ بَابِ التَّلَافِي
حَرَامٌ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فَكَذَلِكَ مَا يَقْرُبُ مِنْهُ يَكُونُ حَرَامًا .
وَأَمَّا السُّنَّةُ مِنْ حَيْثُ الْوَقْتِ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّ الْمَدْخُولِ بِهَا وَذَلِكَ أَنْ يُطَلِّقَهَا إذَا طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضِ قَبْلَ أَنْ يُجَامِعَهَا فِيهِ قَالَ فِي الْكِتَابِ بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ مِنْهُ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ { فَإِنَّهُ لَمَّا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هَكَذَا أَمَرَك اللَّهُ يَا ابْنَ عُمَرَ إنَّمَا السُّنَّةُ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ اسْتِقْبَالًا } الْحَدِيثَ ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ { إنَّ ابْنَك أَخْطَأَ السُّنَّةَ مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا فَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْهَا إنْ شَاءَ طَاهِرَةً مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ أَوْ حَامِلًا قَدْ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ تَطْلُقَ لَهَا النِّسَاءُ } وَجَاءَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } أَيْ يُطَلِّقُهَا طَاهِرَةً مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ .
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ إبَاحَةَ الْإِيقَاعِ لِلتَّفَصِّي عَنْ عُهْدَةِ النِّكَاحِ عِنْدَ عَدَمِ مُوَافَقَةِ الْأَخْلَاقِ وَذَلِكَ لَا يَظْهَرُ بِالْإِيقَاعِ حَالَةَ الْحَيْضِ لِأَنَّهَا حَالُ نَفْرَةِ الطَّبْعِ عَنْهَا وَكَوْنُهُ مَمْنُوعًا عَنْهَا شَرْعًا فَرُبَّمَا يَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى الطَّلَاقِ وَكَذَلِكَ فِي الطُّهْرِ الَّذِي جَامَعَهَا فِيهِ لِأَنَّهُ قَدْ حَصَلَ مَقْصُودُهُ مِنْهَا فَنَقَلَ رَغْبَتَهُ فِيهَا فَلَا يَكُونُ الْإِيقَاعُ دَلِيلَ عَدَمِ مُوَافَقَةِ الْأَخْلَاقِ فَأَمَّا فِي الطُّهْرِ الَّذِي لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ تَعْظُمُ رَغْبَتُهُ فِيهَا فَلَا يَقْدُمُ عَلَى الطَّلَاقِ إلَّا لِعَدَمِ مُوَافَقَةِ الْأَخْلَاقِ ؛ فَلِهَذَا اخْتَصَّتْ إبَاحَةُ الْإِيقَاعِ بِهِ وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنَّهُ يُكْرَهُ إيقَاعُ الطَّلَاقِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ مِنْ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا لِأَنَّ مَعْنَى نَفْرَةِ الطَّبْعِ
وَالْمَنْعِ شَرْعًا لَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ كَوْنِهَا مَدْخُولًا بِهَا أَوْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا وَمَعْنًى آخَرُ فِيهِ أَنَّ فِي الْإِيقَاعِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ إضْرَارًا بِهَا مِنْ حَيْثُ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا لِأَنَّ هَذِهِ الْحَيْضَةَ لَا تَكُونُ مَحْسُوبَةً مِنْ الْعِدَّةِ وَتَطْوِيلُ الْعِدَّةِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا } .
وَفِي الْإِيقَاعِ فِي طُهْرٍ قَدْ جَامَعَهَا فِيهِ إضْرَارٌ بِهَا مِنْ حَيْثُ اشْتِبَاهِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا وَلِهَذَا قُلْنَا لَا بَأْسَ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ عَلَى غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا وَلِأَنَّ رَغْبَتَهُ فِيهَا كَانَتْ بِالنِّكَاحِ فَلَا يَقِلُّ ذَلِكَ بِحَيْضِهَا مَا لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُهُ مِنْهَا فَكَانَ الْإِيقَاعُ دَلِيلَ عَدَمِ مُوَافَقَةِ الْأَخْلَاقِ بِخِلَافِ الْمَدْخُولِ بِهَا فَإِنَّ مَقْصُودَهُ بِالنِّكَاحِ قَدْ حَصَلَ مِنْهَا وَإِنَّمَا رَغْبَتُهُ فِيهَا فِي الطُّهْرِ بَعْدَ ذَلِكَ لِتَمَكُّنِهِ فِيهِ مِنْ غَشَيَانِهَا وَيَنْعَدِمُ ذَلِكَ بِالْحَيْضِ ؛ تَوْضِيحُهُ أَنَّ إبَاحَةَ الْإِيقَاعِ بِشَرْطِ أَنْ يَأْمَنَ النَّدَمَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } ، وَفِي الْإِيقَاعِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ عَلَى الْمَدْخُولِ بِهَا لَا يَأْمَنُ النَّدَمَ إذَا جَاءَ زَمَانُ الطُّهْرِ وَالرَّغْبَةِ فِيهَا وَكَذَلِكَ فِي الْإِيقَاعِ فِي طُهْرٍ قَدْ جَامَعَهَا فِيهِ لَا يَأْمَنُ النَّدَمَ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَظْهَرُ بِهَا حَبَلٌ فَتَحْمِلُهُ شَفَقَتُهُ عَلَى الْوَلَدِ عَلَى تَحَمُّلِ سُوءِ خُلُقِهَا وَإِلَى نَحْوِهِ أَشَارَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لَعَلَّ شَفَقَةَ الْوَلَدِ تُنْدِمُهُ ؛ فَلِهَذَا كُرِهَ الْإِيقَاعُ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ .
وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا طَلَّقَهَا وَاحِدَةً إذَا طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضِ وَاخْتَارَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى تَأْخِيرَ الْإِيقَاعِ إلَى آخِرِ الطُّهْرِ لِيَكُونَ أَبْعَدَ عَنْ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ وَظَاهِرُ مَا يَقُولُ
فِي الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُطَلِّقُهَا حِينَ تَطْهُرُ مِنْ الْحَيْضِ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ الْإِيقَاعَ رُبَّمَا يُجَامِعُهَا وَمِنْ قَصْدِهِ أَنَّهُ يُطَلِّقُهَا فَيُبْتَلَى بِالْإِيقَاعِ عَقِيبَ الْجِمَاعِ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ ؛ فَلِهَذَا طَلَّقَهَا حِينَ تَطْهُرُ مِنْ حَيْضِهَا فَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ طَلَّقَهَا أُخْرَى وَاحْتَسَبَ بِهَذِهِ الْحَيْضَةِ مِنْ عِدَّتِهَا فَإِذَا حَاضَتْ الثَّالِثَةَ وَطَهُرَتْ طَلَّقَهَا أُخْرَى وَقَدْ بَقِيَ عَلَيْهَا مِنْ عِدَّتِهَا حَيْضَةٌ وَلِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلٌ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْعِدَّةِ مِنْ آخِرِ التَّطْلِيقَاتِ إذَا تَكَرَّرَ الْإِيقَاعُ لِأَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ الدُّخُولِ مُوجِبٌ لِلْعِدَّةِ كَالْحَدَثِ بَعْدَ الطَّهَارَةِ مُوجِبٌ لِلْوُضُوءِ فَكَمَا أَنَّهُ إذَا أَحْدَثَ بَعْدَ غَسْلِ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ يَلْزَمُهُ اسْتِئْنَافُ الْوُضُوءِ فَكَذَلِكَ إذَا تَكَرَّرَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا يَلْزَمُهَا اسْتِئْنَافُ الْعِدَّةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْعِدَّةِ الدُّخُولُ وَإِنَّمَا تَصِيرُ شَارِعَةً فِي الْعِدَّةِ حِينَ يَصِيرُ الزَّوْجُ غَيْرَ مُرِيدٍ لَهَا وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِالتَّطْلِيقَةِ الْأُولَى ثُمَّ الثَّانِيَةُ وَالثَّالِثَةُ تُقَرِّرَ ذَلِكَ الْمَعْنَى وَلَا تُبْطِلُهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ رَاجَعَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا لِأَنَّ بِالرَّجْعَةِ يَنْعَدِمُ ذَلِكَ الْمَعْنَى فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُرِيدًا لَهَا .
تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ تَبَيُّنُ فَرَاغِ الرَّحِمِ وَذَلِكَ لَا يَتَغَيَّرُ بِتَكَرُّرِ الطَّلَاقِ وَعَدَمِ التَّكَرُّرِ ؛ فَلِهَذَا كَانَتْ عِدَّتُهَا مِنْ التَّطْلِيقَةِ الْأُولَى وَعَلَى هَذَا اتَّفَقَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِي اللَّه عَنْهُمْ .
.
( قَالَ ) وَلَا تَحِلُّ لَهُ الْمَرْأَةُ بَعْدَ مَا وَقَعَ عَلَيْهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ يَدْخُلُ بِهَا وَالطَّلَاقُ مَحْصُورٌ بِعَدَدِ الثَّلَاثِ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ بَيَانَ التَّطْلِيقَتَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ } وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الثَّالِثَةِ فَقِيلَ هِيَ فِي قَوْلِهِ { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } وَهَكَذَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا رَزِينٍ الْعُقَيْلِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ عَرَفْنَا التَّطْلِيقَتَيْنِ فِي الْقُرْآنِ فَأَيْنَ الثَّالِثَةُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله تَعَالَى { أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } } وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّ بَيَانَ الثَّالِثَةِ فِي قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } لِأَنَّهُ عِنْدَ ذِكْرِهَا ذَكَرَ مَا هُوَ حُكْمُ الثَّالِثَةِ ، وَهُوَ حُرْمَةُ الْمَحِلِّ إلَى غَايَةٍ وَمَعْنَاهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا الثَّالِثَةَ وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ النِّكَاحَ الصَّحِيحَ شَرْطُ الْحِلِّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ بَعْدَ وُقُوعِ الثَّلَاثِ عَلَيْهَا .
وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الدُّخُولَ بِهَا شَرْطٌ أَيْضًا وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِأَنَّ فِي الْقُرْآنِ شَرْطُ الْعَقْدِ فَقَطْ وَلَا زِيَادَةَ بِالرَّأْيِ وَلَكِنَّ هَذَا قَوْلٌ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ وَلَوْ قَضَى بِهِ قَاضٍ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ فَإِنَّ شَرْطَ الدُّخُولِ ثَابِتٌ بِالْآثَارِ الْمَشْهُورَةِ فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ لَمْ تَحِلَّ لِلْأَوَّلِ حَتَّى تَذُوقَ مِنْ عُسَيْلَتِهِ وَيَذُوقَ مِنْ عُسَيْلَتِهَا } وَمِنْهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَأَبَتَّ طَلَاقَهَا فَتَزَوَّجَتْ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ مَا وَجَدْت مَعَهُ إلَّا مِثْلَ هَذِهِ وَأَشَارَتْ إلَى هُدْبَةِ ثَوْبِهَا فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ ضَبَطَ نَفْسَهُ فَقَالَ أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ فَقَالَتْ نَعَمْ فَقَالَ لَا حَتَّى يَذُوقَ مِنْ عُسَيْلَتِك وَتَذُوقِي مِنْ عُسَيْلَتِهِ } وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ عَمْرَو بْنَ حَزْمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ الْعُمَيْصَاءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ثَلَاثًا فَتَزَوَّجَتْ بِآخَرَ فَلَمَّا خَلَا بِهَا جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَشْكُو ضَعْفَ حَالِهِ فِي بَابِ النِّسَاءِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ أَصَابَك فَقَالَتْ لَا فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ لَا تَحِلِّينَ لِعَمْرٍو حَتَّى تَذُوقِي مِنْ عُسَيْلَتِهِ وَيَذُوقَ مِنْ عُسَيْلَتِك } .
وَقَبْلُ فِي الْقُرْآنِ ذَكَرَ الدُّخُولَ إشَارَةً فَإِنَّهُ أَضَافَ فِعْلَ النِّكَاحِ إلَى الزَّوْجِ وَإِلَيْهَا فَيَقْتَضِي ذَلِكَ فِعْلُ النِّكَاحِ بَعْدَ الزَّوْجِيَّةِ وَذَلِكَ الْوَطْءُ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَنْعُ الْأَزْوَاجِ مِنْ الِاسْتِكْثَارِ مِنْ الطَّلَاقِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالدُّخُولِ فَفِيهِ مُغَايَظَةَ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ وَدُخُولُ الثَّانِي بِهَا بِالنِّكَاحِ مُبَاحٌ مُبْغَضٌ عِنْدَ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ كَمَا أَنَّ الِاسْتِكْثَارَ مِنْ الطَّلَاقِ مُبْغَضٌ شَرْعًا لِيَكُونَ الْجَزَاءُ بِحَسَبِ الْعَمَلِ .
( قَالَ ) فَإِنْ تَزَوَّجَ بِهَا الثَّانِي عَلَى قَصْدِ أَنْ يُحَلِّلَهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ صَحَّ النِّكَاحُ وَيَثْبُتُ الْحِلُّ لِلْأَوَّلِ إذَا دَخَلَ بِهَا الثَّانِي وَفَارَقَهَا فَإِنْ شَرَطَ أَنْ يُحَلِّلَهَا لِلْأَوَّلِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْجَوَابُ كَذَلِكَ وَيُكْرَهُ هَذَا الشَّرْطُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى النِّكَاحُ جَائِزٌ وَلَكِنْ لَا تَحِلُّ بِهِ لِلْأَوَّلِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى النِّكَاحُ فَاسِدٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ } وَعَقْدُ النِّكَاحِ سُنَّةٌ وَنِعْمَةٌ فَمَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمَرْءُ اللَّعْنَ لَا يَكُونُ نِكَاحًا صَحِيحًا وَلِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى شَرْطِ التَّوْقِيتِ وَشَرْطُ التَّوْقِيتِ مُبْطِلٌ لِلنِّكَاحِ وَلَكِنْ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ هَذَا لَيْسَ بِتَوْقِيتٍ فِي النِّكَاحِ وَلَكِنَّهُ اسْتِعْجَالٌ لِمَا هُوَ مُؤَخَّرٌ شَرْعًا فَيُعَاقَبُ بِالْحِرْمَانِ كَمَنْ قَتَلَ مُورِثَهُ يُحْرَمُ مِنْ الْمِيرَاثِ .
وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ هَذَا الشَّرْطُ وَرَاءَ مَا يَتِمُّ بِهِ الْعَقْدُ فَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ وَالنِّكَاحُ لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ ثُمَّ النَّهْيُ عَنْ هَذَا الشَّرْطِ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ النِّكَاحِ فَإِنَّ هَذَا النِّكَاحَ شَرْعًا مُوجِبٌ حِلَّهَا لِلْأَوَّلِ فَعَرَفْنَا أَنَّ النَّهْيَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَذَلِكَ لَا يُؤَثِّرُ فِي النِّكَاحِ فَلِهَذَا ثَبَتَ الْحِلُّ لِلْأَوَّلِ إذَا دَخَلَ بِهَا الثَّانِي بِحُكْمِ هَذَا النِّكَاحِ الصَّحِيحِ .
( قَالَ ) ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَامِلٌ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً مَتَى شَاءَ حَتَّى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُطَلِّقَهَا عَقِيبَ الْجِمَاعِ لِأَنَّ كَرَاهَةَ الْإِيقَاعِ عَقِيبَ الْجِمَاعِ لِاشْتِبَاهِ أَمْرِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا وَخَوْفِ النَّدَمِ إذَا ظَهَرَ بِهَا حَبَلٌ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا وَلِأَنَّ الْحَبَلَ يَزِيدُ فِي رَغْبَتِهِ فِيهَا فَيَكُونُ إيقَاعُ الطَّلَاقِ بَعْدَ ظُهُورِهِ دَلِيلُ عَدَمِ مُوَافَقَةِ الْأَخْلَاقِ .
( قَالَ ) فَإِنْ كَانَ جَامَعَهَا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا فَلَهُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَيَفْصِلُ بَيْنَ التَّطْلِيقَتَيْنِ بِشَهْرٍ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَا تَطْلُقُ الْحَامِلُ لِلسُّنَّةِ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدَةٍ ، وَفِي الْكِتَابِ قَالَ بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ .
وَقَوْلُ الصَّحَابِيِّ إذَا كَانَ فَقِيهًا مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي طَلَاقِ السُّنَّةِ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ التَّطْلِيقَتَيْنِ بِفَصْلٍ مَحْسُوبٍ مِنْ فُصُولِ الْعِدَّةِ كَمَا فِي حَقِّ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ وَالْآيِسَةِ وَالشَّهْرُ فِي حَقِّ الْحَامِلِ لَيْسَ بِفَصْلٍ مَحْسُوبٍ مِنْ فُصُولِ الْعِدَّةِ فَلَا يُفْصَلُ بِهِ بَيْنَ طَلَاقَيْ السُّنَّةِ وَهَذَا لِأَنَّ الطَّلَاقَ مُقَابَلٌ بِفُصُولِ الْعِدَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّ عِدَّةَ الْأَمَةِ لَمَّا تَقَدَّرَتْ بِحَيْضَتَيْنِ مَلَكَ عَلَيْهَا تَطْلِيقَتَيْنِ وَإِنْ بِسَبَبِ عَدَمِ الدُّخُولِ لَمَّا انْعَدَمَتْ فُصُولُ الْعِدَّةِ انْعَدَمَ مِلْكُ التَّفْرِيقِ إلَّا أَنَّ النِّكَاح يُعْقَدُ لِلدُّخُولِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي مِلْكِ أَصْلِ الطَّلَاقِ لِهَذَا فَعَرَفْنَا أَنَّ التَّفْرِيقَ بِاعْتِبَارِ فُصُولِ الْعِدَّةِ وَمُدَّةُ الْحَبَلِ طَالَتْ أَوْ قَصُرَتْ بِمَنْزِلَةِ فَصْلٍ وَاحِدٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الِاسْتِبْرَاءَ يَتَقَدَّرُ بِهَا .
وَفِي الْفَصْلِ الْوَاحِدِ لَا يَمْلِكُ تَفْرِيقَ الطَّلْقَاتِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَسْنُونِ وَلِأَنَّ هَذَا شَهْرٌ فِي حَقِّ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فَلَا يَصْلُحُ لِلْفَصْلِ بَيْنَ طَلَاقَيْ السُّنَّةِ كَمَا فِي الْمُمْتَدَّةِ طُهْرُهَا بِخِلَافِ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذَا نَوْعُ عِدَّةٍ فَيَكُونُ مَحَلًّا لِتَفْرِيقِ الطَّلْقَاتِ الْمَمْلُوكَةِ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ كَالْأَقْرَاءِ وَالْأَشْهُرِ وَهَذَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ مَحَلَّ إيقَاعِ الطَّلْقَاتِ الْعِدَّةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } وَعِدَّةُ الْحَامِلِ نَوْعٌ مِنْ
أَنْوَاعِ الْعِدَّةِ بَلْ هِيَ الْأَصْلُ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعِدَّةِ تَبَيُّنُ فَرَاغِ الرَّحِمِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِوَضْعِ الْحَمْلِ عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُقَالَ لَا يَمْلِكُ تَفْرِيقَ الطَّلَاقِ عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْعِدَّةِ .
وَفِي حَقِّ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ فُصُولُ الْعِدَّةِ إنَّمَا تَقَعُ اتِّفَاقًا لَا قَصْدًا فَأَمَّا الْمَعْنَى الْمُعْتَبَرُ تَجَدُّدُ زَمَانِ الرَّغْبَةِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِمُضِيِّ حَيْضَةٍ ، وَفِي حَقِّ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ لَا يُوجَدُ هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّ الْأَوْقَاتَ فِي حَقِّهَا سَوَاءٌ وَلَا بُدَّ مِنْ إبَاحَةِ التَّفْرِيقِ فِي عِدَّتِهَا فَأَقَمْنَا الشَّهْرَ فِي حَقِّهَا مَقَامَ الْحَيْضَةِ فِي حَقِّ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ فَصْلٌ مِنْ فُصُولِ الْعِدَّةِ ثُمَّ يَنْعَدِمُ هَذَا الْمَعْنَى فِي حَقِّ الْحَامِلِ فَلَا بُدَّ مِنْ إبَاحَةِ التَّفْرِيقِ فِي عِدَّتِهَا فَأَقَمْنَا الشَّهْرَ فِي حَقِّ الْآيِسَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ شَهْرٌ فِي عِدَّةٍ لَا حَيْضَ فِيهَا .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِفُصُولِ الْعِدَّةِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ الصَّغِيرَةِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ يَقَعُ عَلَيْهَا لِلْحَالِ وَاحِدَةٌ فَإِذَا مَضَى شَهْرٌ وَقَعَتْ أُخْرَى ، وَإِذَا مَضَى شَهْرٌ وَقَعَتْ أُخْرَى ثُمَّ إذَا حَاضَتْ يَلْزَمُهَا اسْتِئْنَافُ الْعِدَّةِ وَالتَّطْلِيقَاتُ الثَّلَاثُ وَقَعَتْ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِفُصُولِ الْعِدَّةِ ثُمَّ الْحَامِلُ لَا تَحِيضُ وَالشَّهْرُ فِي حَقِّ مَنْ لَا تَحِيضُ فَصْلٌ مِنْ فُصُولِ الْعِدَّةِ فِي حَقِّ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَتَفْرِيقِ الطَّلَاقِ وَلَكِنْ هُنَا فِي حَقِّ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَجَدْنَا مَا هُوَ أَقْوَى مِنْ الشَّهْرِ ، وَهُوَ وَضْعُ الْحَمْلِ ، وَفِي حَقِّ التَّفْرِيقِ بِالطَّلَاقِ لَمْ نَجِدْ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْ الشَّهْرِ فَبَقِيَ الشَّهْرُ فَصْلًا مِنْ فُصُولِ الْعِدَّةِ فِي حَقِّ تَفْرِيقِ الطَّلَاقِ وَإِنْ لَمْ يَبْقَ فِي حَقِّ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كَمَا فِي الصَّغِيرَةِ إذَا حَاضَتْ يُقَرِّرُهُ أَنَّ الْحَبَلَ
يُؤَثِّرُ فِي إبَاحَةِ إيقَاعٍ كَانَ مُحَرَّمًا قَبْلَهُ ، وَهُوَ الطَّلَاقُ عَقِيبَ الْجِمَاعِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُؤَثِّرَ فِي الْمَنْعِ مِمَّا كَانَ مُبَاحًا قَبْلَهُ وَلَا يَدْخُلُ عَلَى مَا قُلْنَا إذَا بَقِيَ مِنْ مُدَّةِ حَمْلِهَا يَوْمٌ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ لِمُدَّةِ الْحَمْلِ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ يَوْمًا إلَّا أَنَّ التَّفْرِيطَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ حِينَ أَخَّرَ الْإِيقَاعَ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْ الْمُدَّةِ فَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَصْلُ الْمُدَّةِ قَابِلًا لِتَفْرِيقِ الثَّلَاثِ كَالْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ تَلْزَمُهُ الصَّلَاةُ لِأَنَّ التَّفْرِيطَ جَاءَ مِنْ قِبَلِهِ حِينَ أَخَّرَ الْإِسْلَامَ .
وَلَا مَعْنَى لِمَا قَالَ أَنَّ مُدَّةَ الْحَبَلِ كَحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ بَلْ هِيَ بِمَنْزِلَةِ ثَلَاثِ حِيَضٍ حَتَّى تَنْقَضِيَ بِهَا الْعِدَّةُ وَلَكِنَّ الِاسْتِبْرَاءَ إنَّمَا لَا يُقَدَّرُ بِبَعْضِ مُدَّةِ الْحَبَلِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَبَيُّنُ فَرَاغِ الرَّحِمِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ قَبْلَ الْوَضْعِ فَزِيدَ فِي مُدَّةِ الِاسْتِبْرَاءِ إذَا كَانَتْ حَامِلًا لِهَذَا الْمَعْنَى لَا أَنْ تَجْعَلَ مُدَّةَ الْحَبَلِ كَحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْحَامِلَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَإِنَّهُ لَزِمَهَا صِفَةٌ مُنَافِيَةٌ لِلْحَيْضِ حَتَّى أَنَّهَا وَإِنْ رَأَتْ الدَّمَ لَا يَكُونُ حَيْضًا بِخِلَافِ الْمُمْتَدَّةِ طُهْرُهَا .
( قَالَ ) ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا وَهِيَ لَا تَحِيضُ مِنْ كِبَرٍ أَوْ صِغَرٍ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً مَتَى شَاءَ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا عَقِيبَ الْجِمَاعِ حَتَّى بِمُضِيِّ الشَّهْرِ لِأَنَّهُ يَفْصِلُ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْجِمَاعِ بِمَا يَفْصِلُ بِهِ بَيْنَ الطَّلَاقَيْنِ فِي عِدَّةٍ هِيَ ذَاتُ فُصُولٍ كَمَا فِي حَقِّ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ ثُمَّ هُنَا يَفْصِلُ بَيْنَ طَلَاقَيْهَا بِشَهْرٍ فَكَذَلِكَ يَفْصِلُ بَيْنَ طَلَاقِهَا وَجِمَاعِهَا بِشَهْرٍ وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْحَامِلِ فِي أَنَّهَا لَا حَيْضَ فِي عِدَّتِهَا فَيُبَاحُ إيقَاعُ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا عَقِيبَ الْجِمَاعِ كَمَا يُبَاحُ الْإِيقَاعُ عَلَى الْحَامِلِ وَكَأَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ فِي حَقِّ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ إنَّمَا كُرِهَ إيقَاعُ الطَّلَاقِ عَقِيبَ الْجِمَاعِ لِتَوَهُّمِ الْحَبَلِ وَهَذَا لَا يُوجَدُ هُنَا فَكَانَ إيقَاعُ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا عَقِيبَ الْجِمَاعِ مُبَاحًا .
فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا طَلَّقَهَا بَعْدَ شَهْرٍ آخَرَ ثُمَّ بَعْدَ شَهْرٍ آخَرَ وَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ مِنْ التَّطْلِيقَةِ الْأُولَى وَذَلِكَ يُتْلَى فِي الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ } وَالْمُرَادُ الصَّغِيرَةُ وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْإِيقَاعَ إذَا كَانَ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ تُعْتَبَرُ الشُّهُورُ بِالْأَهِلَّةِ نَاقِصَةً أَوْ كَامِلَةً فَإِنْ كَانَ الْإِيقَاعُ فِي وَسَطِ الشَّهْرِ فَفِي حَقِّ تَفْرِيقِ الطَّلَاقِ يُعْتَبَرُ كُلُّ شَهْرٍ بِالْأَيَّامِ وَذَلِكَ ثَلَاثُونَ يَوْمًا بِالِاتِّفَاقِ .
وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ تُعْتَبَرُ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ بِالْأَيَّامِ وَعِنْدَهُمَا يُعْتَبَرُ شَهْرٌ وَاحِدٌ بِالْأَيَّامِ وَشَهْرَانِ بِالْأَهِلَّةِ لِأَنَّ الْأَهِلَّةَ هِيَ الْأَصْلُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَسْأَلُونَك عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ } وَالْأَيَّامُ بَدَلٌ عَنْهَا فَفِي الشَّهْرِ الْوَاحِدِ تَعَذَّرَ
اعْتِبَارُ مَا هُوَ الْأَصْلُ فَاعْتُبِرَ الْبَدَلُ ، وَفِي الشَّهْرَيْنِ لَمْ يَتَعَذَّرْ اعْتِبَارُ مَا هُوَ الْأَصْلُ وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ مَا لَمْ يَتِمَّ الشَّهْرُ الْأَوَّلُ لَا يَدْخُلُ الشَّهْرُ الثَّانِي فَدُخُولُ الشَّهْرِ الثَّانِي وَسَطُ الشَّهْرِ الثَّانِي أَيْضًا وَكَذَلِكَ فِي الشَّهْرِ الثَّالِثِ فَيَتَعَذَّرُ اعْتِبَارُ الْكُلِّ بِالْأَهِلَّةِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهَا بِالْأَيَّامِ وَلَا يُحْكَمُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا إلَّا بِتَمَامِ تِسْعِينَ يَوْمًا مِنْ حِينِ طَلَّقَهَا .
وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَنَّ الشَّهْرَ فِي حَقِّ الَّتِي لَا تَحِيضُ بِمَنْزِلَةِ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ فِي حَقِّ الَّتِي تَحِيضُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الشَّهْرُ فِي حَقِّهَا بِمَنْزِلَةِ الْحَيْضِ فِي حَقِّ الَّتِي تَحِيضُ حَتَّى يَتَقَدَّرَ بِهِ الِاسْتِبْرَاءُ وَيُفْصَلَ بِهِ بَيْنَ طَلَاقَيْ السُّنَّةِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي حَقِّ ذَوَاتِ الْقُرْءِ الْحَيْضُ وَلَكِنْ لَا يُتَصَوَّرُ الْحَيْضُ إلَّا بِتَخَلُّلِ الطُّهْرِ ، وَفِي الشُّهُورِ يَنْعَدِمُ هَذَا الْمَعْنَى فَكَانَ الشَّهْرُ قَائِمًا مَقَامَ مَا هُوَ الْمُعْتَبَرُ ، وَإِذَا طَلَّقَهَا وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ فَهُوَ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ مَا لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ وَهَذَا حُكْمٌ ثَبَتَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ فَإِنَّ إزَالَةَ الْمِلْكِ بِالطَّلَاقِ إسْقَاطٌ وَالْإِسْقَاطُ يَتِمُّ بِنَفْسِهِ كَالْعِتْقِ وَلَكِنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ لِلزَّوْجِ حَقَّ الرَّجْعَةِ فِي الْعِدَّةِ بَعْدَ التَّطْلِيقَةِ وَالتَّطْلِيقَتَيْنِ لِلتَّدَارُكِ عِنْدَ النَّدَمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { ، وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } مَعْنَاهُ قُرْبَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهِنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِالْمُرَاجَعَةِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ } وَالْمُرَادُ بِالْإِمْسَاكِ الْمُرَاجَعَةُ بَعْدَ التَّطْلِيقَتَيْنِ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } وَعِدَّةُ الَّتِي تَحِيضُ ثَلَاثُ حِيَضٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ {
ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ } ، وَهُوَ حُكْمٌ مَقْطُوعٌ بِهِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ ثُمَّ عُطِفَ عَلَيْهِ مَا هُوَ مُجْتَهَدٌ فِيهِ فَقَالَ الْقُرْءُ هِيَ الْحَيْضُ وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هِيَ الْأَطْهَارُ حَتَّى أَنَّ عَلَى مَذْهَبِهِ كَمَا طَعَنَتْ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ يُحْكَمُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَعِنْدَنَا مَا لَمْ تَطْهُرْ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ لَا يُحْكَمُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ .
وَأَصْلُ الْخِلَافِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَقَدْ رَوَى الشَّعْبِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ بِضْعَة عَشَرَ مِنْ الصَّحَابَةِ الْحَبْرِ فَالْحَبْرِ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو الدَّرْدَاءِ وَعُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ قَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ قَالَ الزَّوْجُ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا مَا لَمْ تَحِلَّ لَهَا الصَّلَاةُ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ قَالُوا الْأَقْرَاءُ الْأَطْهَارُ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ كَمَا طَعَنَتْ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ تَبِينُ مِنْ زَوْجِهَا وَلَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ حَتَّى تَطْهُرَ .
وَكَذَلِكَ أَهْلُ اللُّغَةِ يُطْلِقُونَ اسْمَ الْقُرْءِ عَلَى الطُّهْرِ وَالْحَيْضِ جَمِيعًا قَالَ الْقَائِلُ .
يَا رُبَّ ذِي ضَغَنٍ وَضَبٍّ فَارِضٍ لَهُ قُرُوءٌ كَقُرُوءِ الْحَائِضِ وَقَالَ الْأَعْشَى مُورِثَةُ مَالٍ وَفِي الْحَيِّ رِفْعَةٌ لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا وَالْمُرَادُ الْأَطْهَارُ لِأَنَّ زَمَانَ الْحَيْضِ يَضِيعُ وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ الْوَقْتُ قَالَ الْقَائِلُ إذَا هَبَّتْ لِقَارِئِهَا الرِّيَاحُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ وَقْتُ الطُّهْرِ بِهِ أَشْبَهُ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الِاجْتِمَاعِ يُقَالُ مَا قَرَأَتْ النَّافَّةُ سُلًّا قَطُّ أَيْ مَا جَمَعَتْ فِي رَحِمِهَا وَلَدًا قَطُّ وَاجْتِمَاعُ الدَّمِ فِي الرَّحِمِ فِي حَالَةِ الطُّهْرِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ وَقْتُ الْحَيْضِ بِهِ أَشْبَهُ لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ عَارِضٌ لِلنِّسَاءِ فَوَقْتُ الطُّهْرِ أَصْلٌ وَوَقْتُ الْحَيْضِ عَارِضٌ مَعَ أَنَّ اجْتِمَاعَ
الدَّمِ فِي حَالَةِ الطُّهْرِ لَا يُعْلَمُ حَقِيقَةً وَلَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يُسَمَّى ذَلِكَ الْوَقْتُ قُرْءًا بِاعْتِبَارِ الدَّمِ الْمُجْتَمِعِ ثُمَّ إنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ أَهْلِ اللُّغَةِ يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَى لُغَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لَمَّا اخْتَلَفُوا فِي التَّابُوتِ وَالتَّابُوهِ رَجَّحُوا لُغَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا اُكْتُبُوا بِالتَّاءِ وَالْقُرْءُ فِي لُغَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَيْضُ { قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ إذَا أَتَاك قُرْؤُك فَدَعِي الصَّلَاةَ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصَّلَاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِهَا } وَالْقُرْءُ وَالْأَقْرَاءُ كِلَاهُمَا جَمْعٌ كَمَا يُقَالُ فَلْسٌ وَفُلُوسٌ وَنُزُلٌ وَأَنْزَالٌ ثُمَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى رَجَّحَ الْأَطْهَارَ بِاعْتِبَارِ حَرْفِ الْهَاءِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ فَقَالَ جَمْعُ الْمُذَكَّرِ يُؤَنَّثُ وَالطُّهْرُ هُوَ الْمُذَكَّرُ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْإِعْرَابُ يَتْبَعُ اللَّفْظَ دُونَ الْمَعْنَى يُقَالُ ثَلَاثَةُ أَفْرَاسٍ وَثَلَاثُ دَوَابَّ وَقَالَ أَيْضًا الْقُرْءُ عِبَارَةٌ عَنْ الِانْتِقَالِ يُقَالُ قَرَأَ النَّجْمَ إذَا انْتَقَلَ وَكَمَا طَعَنَتْ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ فَقَدْ وُجِدَ ثَلَاثُ انْتِقَالَاتٍ مِنْ الطُّهْرِ وَلَكِنْ هَذَا لَا مَعْنَى لَهُ فَالِانْتِقَالُ مِنْ الْحَيْضِ إلَى الطُّهْرِ أَيْضًا قُرْءٌ فَكَانَ يَنْبَغِي عَلَى هَذَا أَنْ تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ إذَا طَعَنَتْ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ وَأَحَدٌ لَمْ يَقُلْ بِهَذَا .
وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ مَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ جَمْعًا مَقْرُونًا بِالْعَدَدِ اقْتَضَى الْكَوَامِلَ مِنْهُ وَالطَّلَاقُ هُوَ الْمُبَاحُ فِي حَالَةِ الطُّهْرِ فَلَوْ جَعَلْنَا الْقُرْءَ الْأَطْهَارَ لَكَانَ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِقُرْأَيْنِ وَبَعْضِ الثَّالِثِ وَهَذَا يَسْتَقِيمُ فِي جَمْعٍ غَيْرِ مَقْرُونٍ بِالْعَدَدِ
لِقَوْلِهِ تَعَالَى { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } فَأَمَّا فِي جَمْعٍ مَقْرُونٍ بِالْعَدَدِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْكَوَامِلِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إذَا حُمِلَ الْقُرْءُ عَلَى الْحَيْضِ فَيَكُونُ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِثَلَاثِ حِيَضٍ كَوَامِلَ .
وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } مَعْنَاهُ فِي عِدَّتِهِنَّ وَالطَّلَاقُ الْمُبَاحُ فِي حَالَةِ الطُّهْرِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْعِدَّةَ بِالطُّهْرِ وَقَدْ فَسَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ لِابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { إنَّمَا السُّنَّةُ أَنْ تَسْتَقْبِلَ الطُّهْرَ اسْتِقْبَالًا فَتُطَلِّقَهَا لِكُلِّ قُرْءٍ تَطْلِيقَةً فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ } وَاسْتَدَلَّ عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مِنْ الْحَيْضِ وَالْحَبَلِ فَهُوَ بَيَانُ الْمُرَادِ بِالْقُرُوءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ } الْآيَةَ وَإِنَّمَا نَقَلَ إلَى الْأَشْهُرِ عِنْدَ عَدَمِ الْحَيْضِ وَالنَّقْلُ إلَى الْبَدَلِ يَكُونُ عِنْدَ عَدَمِ الْأَصْلِ فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُرْءِ الْحَيْضُ وقَوْله تَعَالَى { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } أَيْ قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ كَمَا يُقَالُ زَيَّنْتُ الدَّارَ لِقُدُومِ الْحَاجِّ وَتَوَضَّأْتُ لِلصَّلَاةِ أَيْ قَبْلَهَا ، وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لِقُبُلِ عِدَّتِهِنَّ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ عِدَّةُ الْإِيقَاعِ وَنَحْنُ نَقُولُ إنَّ عِدَّةَ الْإِيقَاعِ بِالْأَطْهَارِ .
فَأَمَّا عِدَّةُ الِاعْتِدَادِ بِالْحِيَضِ بَيَانُهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { طَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ } وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى هُوَ يَقُولُ الطَّلَاقُ السُّنِّيُّ يَسْتَعْقِبُ جُزْءًا
مَحْسُوبًا مِنْ الْعِدَّةِ كَمَا فِي الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا كَانَ الِاعْتِدَادُ بِالْأَطْهَارِ وَنَحْنُ نَقُولُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْعِدَّةِ تَبَيُّنُ فَرَاغِ الرَّحِمِ وَلِهَذَا لَا تَجِبُ إلَّا عِنْدَ تَوَهُّمِ اشْتِغَالِ الرَّحِمِ وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ بِوَضْعِ الْحَمْلِ إذَا كَانَتْ حَامِلًا وَالْحَيْضِ ؛ هِيَ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى تَبَيُّنِ فَرَاغِ الرَّحِمِ دُونَ الطُّهْرِ فَكَانَ الِاعْتِبَارُ بِالْحَيْضِ أَوْلَى ثُمَّ الْأَصْلُ فِي الْعِبَادَاتِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَى أَرْكَانٍ يَنْفَصِلُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ أَنَّ الْأَدَاءَ لَا يَتَّصِلُ بِالشُّرُوعِ فِيهَا كَمَا فِي الْحَجِّ .
وَفِيمَا يَكُونُ مُتَّصِلُ الْأَرْكَانِ يَتَّصِلُ الْأَدَاءُ بِالشُّرُوعِ كَالصَّلَاةِ وَالْعِدَّةُ بِالْأَشْهُرِ مُتَّصِلَةُ الْأَرْكَانِ فَيَتَّصِلُ الْأَدَاءُ بِالشُّرُوعِ فِيهَا وَالْعِدَّةُ بِالْأَقْرَاءِ مُنْفَصِلَةُ الْأَرْكَانِ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ فَلَا يَجِبُ أَنْ يَتَّصِلَ الْأَدَاءُ بِالشُّرُوعِ فِيهَا وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَا الِاسْتِبْرَاءُ فَإِنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِالْحَيْضِ بِالنَّصِّ وَالْمَقْصُودُ تَبَيُّنُ فَرَاغِ الرَّحِمِ فَكَذَلِكَ الْعِدَّةُ .
( قَالَ ) وَعِدَّةُ الْحَامِلِ أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا وَلَوْ وَضَعَتْ حَمْلَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ بِيَوْمٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } وَلِأَنَّ وَضْعَ الْحَمْلِ أَدَلُّ عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ مَعْرِفَةُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ مِنْ الْأَقْرَاءِ وَعِدَّةُ الْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ بِالنَّصِّ وَتَكَلَّمُوا فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى { إنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ } قَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُرَادُ ارْتِيَابُهَا فِي حَالِ نَفْسِهَا أَنَّهَا هَلْ تَحِيضُ بَعْدَ هَذَا أَوْ لَا حَتَّى قَالَ إذَا ارْتَابَتْ تَرَبَّصَتْ سَنَةً ثُمَّ اعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَلَكِنَّا نَقُولُ لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى { ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ } قَالَتْ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ مِنْ صِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ وَارْتَابُوا فِي ذَلِكَ فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى { وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إنْ ارْتَبْتُمْ } ، وَفِي قَوْلِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْ الْقُرْءِ الْحَيْضَ .
( قَالَ ) وَالْكِتَابِيَّةُ تَحْتَ الْمُسْلِمِ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمَةِ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِمُرَاعَاةِ وَقْتِ السُّنَّةِ الزَّوْجُ ، وَهُوَ مُسْلِمٌ ، وَفِي الْعِدَّةِ الْوَاجِبِ عَلَيْهَا حَقُّ الزَّوْجِ ، وَهُوَ مُسْلِمٌ .
( قَالَ ) وَالْأَمَةُ بِمَنْزِلَةِ الْحُرَّةِ فِي وَقْتِ السُّنَّةِ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِمُرَاعَاةِ وَقْتِ السُّنَّةِ الزَّوْجُ وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِكَوْنِهَا حُرَّةً أَوْ أَمَةً وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ إذَا كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا وَلِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عِدَّةُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ وَلَوْ اسْتَطَعْت لَجَعَلْتهَا حَيْضَةً وَنِصْفًا بَيَّنَ أَنَّ التَّنْصِيفَ بِسَبَبِ الرِّقِّ يَثْبُتُ فِي الْعِدَّةِ وَلَكِنْ بِقَدْرِ الْمُمْكِنِ وَالْحَيْضَةُ الْوَاحِدَةُ لَا تَحْتَمِلُ التَّنْصِيفَ
وَإِنْ كَانَتْ آيِسَةً أَوْ صَغِيرَةً فَعِدَّتُهَا شَهْرٌ وَنِصْفٌ لِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَلِأَنَّ الشَّهْرَ مُحْتَمِلٌ لِلتَّنْصِيفِ وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ عِدَّتُهَا بِالشُّهُورِ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ لِظَاهِرِ الْآيَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الرِّقُّ يُنَصِّفُ ذَوَاتَ الْأَعْدَادِ بِمَنْزِلَةِ الْجَلَدَاتِ فِي الْحُدُودِ وَعِدَّتُهَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا بِوَضْعِ الْحَمْلِ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ تَبَيُّنَ فَرَاغِ الرَّحِمِ لَا يَحْصُلُ قَبْلَ ذَلِكَ .
( قَالَ ) ، وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ غَائِبًا عَنْ امْرَأَتِهِ فَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِلسُّنَّةِ كَتَبَ إلَيْهَا إذَا جَاءَك كِتَابِي هَذَا ثُمَّ حِضْتِ فَطَهُرْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ امْتَدَّ طُهْرُهَا الَّذِي جَامَعَهَا فِيهِ فَلَوْ كَتَبَ إذَا جَاءَك كِتَابِي هَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ ، وَهُوَ خِلَافُ السُّنَّةِ ؛ فَلِهَذَا قُيِّدَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، وَفِي الرُّقَيَّاتِ زَادَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ وَعَلِمْتِ مَا فِيهِ لِجَوَازِ أَنْ لَا تَقْرَأَ كِتَابَ زَوْجِهَا فَيَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا وَهِيَ لَا تَشْعُرُ بِذَلِكَ وَلَكِنْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَمْ يَذْكُرْ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لِأَنَّ الْمُغَيَّبَةَ لَا تَكُونُ أَحْرَصَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا عَلَى قِرَاءَةِ كِتَابِ زَوْجِهَا وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا لَا تُؤَخِّرُ ذَلِكَ .
.
( قَالَ ) فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا ثَلَاثًا كَتَبَ ثُمَّ إذَا حِضْتِ وَطَهُرْتِ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ شَاءَ أَوْجَزَ فَكَتَبَ إذَا جَاءَكِ كِتَابِي هَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ فَيَقَعُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِأَنَّ الْكِتَابَ مِمَّنْ نَأَى بِمَنْزِلَةِ الْخِطَابِ مِمَّنْ دَنَا وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ كَتَبَ إذَا جَاءَكِ كِتَابِي هَذَا ثُمَّ أَهَلَّ شَهْرٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَإِنْ شَاءَ كَتَبَ إذَا جَاءَك كِتَابِي هَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِلسُّنَّةِ إذَا كَانَتْ مِمَّنْ لَا تَحِيضُ فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَ .
( قَالَ ) وَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِامْرَأَتِهِ وَلَمْ يَخْلُ بِهَا فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا مَتَى شَاءَ خِلَافًا لِزُفَرَ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ وَلَيْسَ عَلَيْهَا عِدَّةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } قَالَ مَشَايِخُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى ، وَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَتْلُوّ لَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ بَلْ الْمَتْلُوُّ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } الْآيَةَ وَلَكِنَّ هَذَا غَلَطٌ وَقَعَ مِنْ الْكَاتِبِ وَتَرَكَ كَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَدْ خَلَا بِهَا فَطَلَاقُهَا وَعِدَّتُهَا مِثْلُ الَّتِي دُخِلَ بِهَا لِأَنَّ الْخَلْوَةَ الصَّحِيحَةَ فِي حُكْمِ الْعِدَّةِ بِمَنْزِلَةِ الدُّخُولِ وَمُرَاعَاةُ وَقْتِ السُّنَّةِ فِي الطَّلَاقِ لِأَجْلِ الْعِدَّةِ فَتُقَامُ الْخَلْوَةُ فِيهِ أَيْضًا مَقَامَ الدُّخُولِ .
( قَالَ ) ، وَإِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فَقَدْ أَخْطَأَ السُّنَّةَ وَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ عَلَيْهَا وَعَلَى قَوْلِ الرَّوَافِضِ لَا يَقَعُ ، وَفِي الْكِتَابِ ذَكَرَ بَابًا رَدًّا عَلَيْهِمْ فَيُؤَخَّرُ الْكَلَامُ فِيهِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَالْقَدْرُ الَّذِي نَذْكُرُهُ هُنَا حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُرْ ابْنَك فَلْيُرَاجِعْهَا } وَالْمُرَاجَعَةُ تَكُونُ بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَلَكِنَّهُمْ يَدَّعُونَ أَنَّ الْمَرْوِيَّ فَلْيَرْجِعْهَا وَقَدْ كَانَ أَخْرَجَهَا مِنْ بَيْتِهِ فَإِنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يَرُدَّهَا إلَى بَيْتِهِ وَهَذَا بَاطِلٌ مِنْ الْكَلَامِ فَقَدْ قِيلَ لِابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَلْ احْتَسَبْت بِتِلْكَ الطَّلْقَةِ فَقَالَ وَمَالِي لَا أَحْتَسِبُ بِهَا وَإِنْ اسْتَحْمَقْتُ أَوْ اسْتَجْهَلْتُ أَكَانَ لَا يَقَعُ طَلَاقِي وَلَمَّا ذُكِرَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الشُّورَى ابْنُهُ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ أُقَلِّدُ أُمُورَ الْمُسْلِمِينَ مِمَّنْ لَمْ يُحْسِنْ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ فَطَلَّقَهَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ فَهُوَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ ذَلِكَ الطَّلَاقَ كَانَ وَاقِعًا وَأَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يَصُونَ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ .
.
( قَالَ ) ثُمَّ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا كَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّهُ لَوْ رَاجَعَهَا لَمْ تَبِنْ مِنْهُ بِطَلَاقٍ مَحْظُورٍ وَيَنْدَفِعُ عَنْهَا ضَرَرُ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ فَإِذَا لَمْ يُرَاجِعْهَا بَانَتْ مِنْهُ بِطَلَاقٍ مَحْظُورٍ وَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ فَلِهَذَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا .
( قَالَ ) فَإِذَا طَهُرَتْ مِنْ حَيْضَةٍ أُخْرَى طَلَّقَهَا إنْ شَاءَ وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهَا إذَا طَهُرَتْ مِنْ هَذِهِ الْحَيْضَةِ لَا يُبَاحُ إيقَاعُ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا وَذَكَرَ الطَّحْطَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ ثُمَّ طَهُرَتْ مِنْ تِلْكَ الْحَيْضَةِ يُبَاحُ إيقَاعُ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا وَقِيلَ مَا ذَكَرَهُ الطَّحْطَاوِيُّ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ وَقْتَ السُّنَّةِ الطُّهْرُ الَّذِي لَا جِمَاعَ فِيهِ وَقَدْ وُجِدَ وَمَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ قَوْلُهُمَا لِأَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَ الطَّلَاقَيْنِ بِحَيْضَةٍ كَامِلَةٍ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إذَا طَهُرَتْ مِنْ هَذِهِ الْحَيْضَةِ وَحَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ رُوِيَ بِرِوَايَتَيْنِ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ { مُرْ ابْنَك فَلْيُرَاجِعْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ وَتَطْهُرَ ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا إنْ شَاءَ } فَهُوَ دَلِيلُ قَوْلِهِمَا وَمِنْ طَرِيقٍ آخَرَ { مُرْ ابْنَك فَلْيُرَاجِعْهَا فَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْهَا إنْ شَاءَ } وَهَذَا يَحْتَمِلُ بَقِيَّةَ هَذِهِ الْحَيْضَةِ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَلِكَ إنْ طَلَّقَهَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ .
( قَالَ ) وَلَوْ طَلَّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ وَاحِدَةً ثُمَّ رَاجَعَهَا بِالْقَوْلِ فَأَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا أُخْرَى فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ لِلسُّنَّةِ فَلَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِيهِ رِوَايَتَانِ فَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ شَرْطُ الْفَصْلِ بَيْنَ طَلَاقَيْ السُّنَّةِ الْحَيْضَةُ الْكَامِلَةُ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَلْيُطَلِّقْهَا فِي كُلِّ قُرْءٍ تَطْلِيقَةً } وَلِأَنَّ إيقَاعَ تَطْلِيقَةٍ فِي طُهْرٍ فِي الْمَنْعِ مِنْ تَطْلِيقَةٍ أُخْرَى فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ كَالْجِمَاعِ فَكَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ الْجِمَاعِ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ الْفَصْلُ بِالْحَيْضَةِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا كَانَتْ الثَّانِيَةُ تَقَعُ فِي الْعِدَّةِ وَبِالْمُرَاجَعَةِ قَدْ ارْتَفَعَتْ الْعِدَّةُ فَكَانَتْ الثَّانِيَةُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْإِيقَاعِ وَقَدْ حَصَلَ فِي طُهْرٍ لَا جِمَاعَ فِيهِ ثُمَّ الرَّجْعَةُ تُسْقِطُ جَمِيعَ الْعِدَّةِ وَلَوْ تَخَلَّلَ بَيْنَ التَّطْلِيقَتَيْنِ مَا يُسْقِطُ بَعْضَ الْعِدَّةِ كَانَتْ الثَّانِيَةُ وَاقِعَةً عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ فَإِذَا تَخَلَّلَ مَا يُسْقِطُ جَمِيعَ الْعِدَّةِ أَوْلَى وَكَذَلِكَ لَوْ رَاجَعَهَا بِالتَّقْبِيلِ أَوْ الْمَسِّ عَنْ شَهْوَةٍ حَتَّى رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا كَانَ أَخَذَ بِيَدِ امْرَأَتِهِ عَنْ شَهْوَةٍ فَقَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ يَقَعُ عَلَيْهَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ فِي الْحَالِ يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا لِأَنَّ كُلَّمَا وَقَعَ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةٌ صَارَ مُرَاجِعًا لَهَا فَتَقَعُ أُخْرَى فَأَمَّا إذَا رَاجَعَهَا بِالْجِمَاعِ فَإِنْ لَمْ تَحْبَلْ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا أُخْرَى فِي هَذَا الطُّهْرِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ طُهْرٌ قَدْ جَامَعَهَا فِيهِ وَإِنْ رَاجَعَهَا بِالْجِمَاعِ فَحَبِلَتْ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ
اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا أُخْرَى أَيْضًا لِأَنَّهُ قَدْ طَلَّقَهَا فِي هَذَا الطُّهْرِ وَاحِدَةً وَالطُّهْرُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِأَكْثَرَ مِنْ تَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى وَجْهِ السُّنَّةِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا أُخْرَى لِأَنَّ الْعِدَّةَ الْأُولَى قَدْ سَقَطَتْ وَالطَّلَاقُ عَقِيبَ الْجِمَاعِ فِي الطُّهْرِ إنَّمَا لَا يَحِلُّ لِاشْتِبَاهِ أَمْرِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ إذَا حَبِلَتْ وَظَهَرَ الْحَبَلُ بِهَا .
( قَالَ ) ، وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَاحِدَةً بَائِنَةً فَقَدْ أَخْطَأَ السُّنَّةَ وَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ عَلَيْهَا ، وَفِي زِيَادَاتِ الزِّيَادَاتِ قَالَ التَّطْلِيقَةُ الْبَائِنَةُ تَقَعُ بِصِفَةِ السُّنَّةِ كَالرَّجْعِيَّةِ لِأَنَّ { ابْنَ رُكَانَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ أَلْبَتَّةَ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيقَاعَ الطَّلَاقِ بِهَذَا اللَّفْظِ } فَلَوْ كَانَ خِلَافَ السُّنَّةِ لَأَنْكَرَ عَلَيْهِ كَمَا أَنْكَرَ عَلَى ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَالْوَاقِعُ بِهَذَا اللَّفْظِ يَكُونُ بَائِنًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَالْخُلْعُ فَإِنَّهُ يَقَعُ بَائِنًا وَلَا يَكُونُ مَكْرُوهًا فَأَمَّا وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ إبَاحَةَ الْإِيقَاعِ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّفَصِّي عَنْ عُهْدَةِ النِّكَاحِ وَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى زِيَادَةِ صِفَةِ الْبَيْنُونَةِ فَكَانَتْ زِيَادَةُ هَذِهِ الصِّفَةِ كَزِيَادَةِ الْعَدَدِ ثُمَّ لَا مَقْصُودَ لَهُ فِي ذَلِكَ سِوَى رَدِّ نَظَرِ الشَّرْعِ لَهُ بِقَطْعِ خِيَارِ الرَّجْعَةِ وَسَدِّ بَابِ التَّلَافِي عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ النَّدَمِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْخُلْعِ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ لِاسْتِرْدَادِ مَا سَاقَ لَهَا مِنْ الصَّدَاقِ إذَا كَانَ النُّشُوزُ مِنْهَا مَعَ أَنَّ الْخُلْعَ لَا يَكُونُ إلَّا عِنْدَ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَالطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يَكُونُ إلَّا بَائِنًا وَاَلَّتِي لَمْ يُدْخَلْ بِهَا لَيْسَتْ نَظِيرَ الَّتِي دُخِلَ بِهَا بِدَلِيلِ الْإِيقَاعِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ ابْنِ رُكَانَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا وَقَبْلَ الدُّخُولِ بِأَيِّ لَفْظٍ أَوْقَعَ يَكُونُ بَائِنًا وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ أَخَّرَ الْإِنْكَارَ إلَى وَقْتٍ آخَرَ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لِفَرْطِ الْغَيْظِ لَا يَقْبَلُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .
بَابُ الرَّجْعَةِ ( قَالَ ) ، وَإِذَا طَلَّقَهَا وَاحِدَةً فِي الطُّهْرِ أَوْ فِي الْحَيْضِ أَوْ بَعْدَ الْجِمَاعِ فَهُوَ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ مَادَامَ فِي الْعِدَّةِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { طَلَّقَ سَوْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا بِقَوْلِهِ اعْتَدِّي ثُمَّ رَاجَعَهَا } { وَطَلَّقَ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ثُمَّ رَاجَعَهَا بِالْوَطْءِ } وَيَسْتَوِي إنْ طَالَتْ مُدَّةُ الْعِدَّةِ أَوْ قَصُرَتْ لِأَنَّ النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا بَاقٍ مَا بَقِيَتْ الْعِدَّةُ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عَلْقَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَارْتَفَعَ حَيْضُهَا سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا ثُمَّ مَاتَتْ فَوَرِثَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْهَا وَقَالَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَبَسَ مِيرَاثَهَا عَلَيْك فَإِذَا انْقَضَتْ الْعِدَّةُ قَبْلَ الرَّجْعَةِ فَقَدْ بَطَلَ حَقُّ الرَّجْعَةِ وَبَانَتْ الْمَرْأَةُ مِنْهُ ، وَهُوَ خَاطِبٌ مِنْ الْخُطَّابِ يَتَزَوَّجُهَا بِرِضَاهَا إنْ اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ .
وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُرَاجِعَهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَأَحْسَنُ ذَلِكَ أَنْ لَا يَغْشَاهَا حَتَّى يُشْهِدَ شَاهِدَيْنِ عَلَى رَجْعَتِهَا وَالْإِشْهَادُ عَلَى الرَّجْعَةِ مُسْتَحَبٌّ عِنْدَنَا ، وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى شَرْطٌ لَا تَصِحُّ الرَّجْعَةُ إلَّا بِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهَذَا عَجِيبٌ مِنْ مَذْهَبِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجْعَلُ الْإِشْهَادَ عَلَى النِّكَاحِ شَرْطًا وَيَجْعَلُ الْإِشْهَادَ عَلَى الرَّجْعَةِ شَرْطًا لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } وَالْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَلِأَنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِدَامَةٌ لِلنِّكَاحِ وَالْإِشْهَادُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي اسْتِدَامَةِ النِّكَاحِ وَبَيَانُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الرَّجْعَةَ إمْسَاكًا ، وَهُوَ مَنْعٌ لِلْمُزِيلِ مِنْ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلَهُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ فَلَا يَكُونُ الْإِشْهَادُ عَلَيْهَا شَرْطًا كَالْفَيْءِ فِي الْإِيلَاءِ وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ
الِاسْتِحْبَابُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الرَّجْعَةِ وَالْفُرْقَةِ وَأَمَرَ بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهِمَا ثُمَّ الْإِشْهَادُ عَلَى الْفُرْقَةِ مُسْتَحَبٌّ لَا وَاجِبٌ فَكَذَلِكَ عَلَى الرَّجْعَةِ ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى { وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ } ثُمَّ الْبَيْعُ صَحِيحٌ مِنْ غَيْرِ إشْهَادٍ وَلَيْسَ فِي الرَّجْعَةِ عِوَضٌ لَا قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ لِأَنَّهُ اسْتِدَامَةٌ لِلْمِلْكِ فَلَا يَسْتَدْعِي عِوَضًا وَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ رِضَاهَا وَلَا رِضَى الْمَوْلَى لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الزَّوْجَ أَحَقَّ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ } وَإِنَّمَا يَكُونُ أَحَقَّ إذَا اسْتَبَدَّ بِهِ وَالْبَعْلُ هُوَ الزَّوْجُ ، وَفِي تَسْمِيَتِهِ بَعْلًا بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ دَلِيلُ بَقَاءِ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهُمَا فَالْمُبَاعَلَةُ هِيَ الْمُجَامَعَةُ فَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ وَطْأَهَا حَلَالٌ لَهُ ، وَهُوَ قَوْلُ عُلَمَائِنَا إنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُحَرِّمُ الْوَطْءَ وَلَكِنْ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا قَبْلَ الْإِشْهَادِ عَلَى الْمُرَاجَعَةِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُرَاجِعًا لَهَا مِنْ غَيْرِ شُهُودٍ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا مَا لَمْ يُرَاجِعْهَا وَلِهَذَا شُرِطَ الْإِشْهَادُ عَلَى الرَّجْعَةِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِاسْتِبَاحَةِ الْوَطْءِ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنْ أَرَادُوا إصْلَاحًا } وَالْإِصْلَاحُ يَكُونُ بَعْدَ تَمَكُّنِ الْفَسَادِ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ الْفَسَادُ هُنَا بِزَوَالِ أَصْلِ الْمِلْكِ عَرَفْنَا أَنَّهُ تَمَكَّنَ الْفَسَادُ بِحُرْمَةِ الْوَطْءِ وَيَجُوزُ أَنْ يُثْبِتَ حُرْمَةَ الْوَطْءِ مَعَ قِيَامِ أَصْلِ الْمِلْكِ كَمَنْ كَاتَبَ أَمَتَهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا وَإِنْ بَقِيَ الْمِلْكُ بَعْدَ الْكِتَابَةِ وَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ مَهْرٌ جَدِيدٌ بِالْوَطْءِ كَمَا فِي الْمُكَاتَبَةِ وَلِأَنَّ هَذَا طَلَاقٌ وَاقِعٌ فَيَحْرُمُ الْوَطْءُ كَالْوَاقِعِ بِقَوْلِهِ أَنْتِ بَائِنٌ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْأَقْرَاءَ يُحْتَسَبُ بِهَا مِنْ الْعِدَّةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَمَعَ بَقَاءِ مِلْكِ النِّكَاحِ
مُطْلَقًا لَا يُحْتَسَبُ بِالْأَقْرَاءِ مِنْ الْعِدَّةِ لِأَنَّ الْعِدَّةَ لِصِيَانَةِ الْمَاءِ وَصَوْنُ الْمَاءِ بِالنِّكَاحِ أَبْلَغُ مِنْهُ بِالْعِدَّةِ وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ لِتَبَيُّنِ فَرَاغِ الرَّحِمِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ تَكُونَ هِيَ مَشْغُولَةً بِمَا يُبَيِّنُ فَرَاغَ رَحِمِهَا وَيَكُونُ الزَّوْجُ مُسَلَّطًا عَلَى شُغْلِ رَحِمِهَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا إذَا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ إلَى سَنَتَيْنِ يُجْعَلُ هَذَا مِنْ عُلُوقٍ قَبْلَ الطَّلَاقِ وَلَوْ بَقِيَ الْحِلُّ بَيْنَهُمَا لَكَانَ يَسْتَنِدُ الْعُلُوقُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ وَهِيَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الرَّجْعَةَ إمْسَاكًا وَذَلِكَ اسْتِدَامَةٌ لِلْمِلْكِ فَدَلَّ أَنَّ الْمِلْكَ بَاقٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَمِلْكُ النِّكَاحِ لَيْسَ إلَّا مِلْكَ الْحِلِّ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ عَيْنَهَا وَلَا مَنَافِعَهَا فَبَقَاءُ مِلْكِ النِّكَاحِ مُطْلَقًا يَكُونُ دَلِيلَ بَقَاءِ حِلِّ الْوَطْءِ إلَّا بِعَارِضٍ يَحْرُمُ بِهِ الْوَطْءُ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ كَالْحَيْضِ وَالظِّهَارِ وَاخْتِلَافِ الدِّينِ وَبِكَوْنِهَا مُطَلَّقَةً لَا يَحْرُمُ الْوَطْءُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ أَمَةً فَاشْتَرَاهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ كَانَ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا فَكَذَلِكَ لَا يَحْرُمُ الْوَطْءُ فِي مِلْكِ النِّكَاحِ وَالدَّلِيلُ عَلَى بَقَاءِ الْمِلْكِ مُطْلَقًا أَنَّهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَاتِ كَالظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ وَاللِّعَانِ وَأَنَّهُمَا يَتَوَارَثَانِ وَأَنَّهُ يَمْلِكُ الِاعْتِيَاضَ بِالْخُلْعِ وَمِلْكُ الِاعْتِيَاضِ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ بَقَاءِ أَصْلِ الْمِلْكِ وَأَنَّهُ الرَّجْعَةُ يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا وَالرَّجْعَةُ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِحِلِّ الْوَطْءِ مَقْصُودًا حَتَّى لَا يُعْتَبَرَ فِيهَا الْمَهْرُ وَلَا رِضَاهَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَاقِعٌ فَلَوْ كَانَ حُكْمُ الطَّلَاقِ زَوَالَ الْمِلْكِ بِهِ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ بَعْدَ الطَّلَاقِ لِأَنَّ الْمُزَالَ لَا يُزَالُ وَكَمَا أَنَّ الطَّلَاقَ الثَّانِيَ وَاقِعٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَزُولَ الْمِلْكُ بِهِ فَكَذَلِكَ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْحُكْمَ الْأَصْلِيَّ لِلطَّلَاقِ
رَفَعَ الْحِلَّ عَنْ الْمَحَلِّ إذَا تَمَّ ثَلَاثًا .
فَأَمَّا زَوَالُ الْمِلْكِ بِهِ مُعَلَّقٌ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ قَبْلَ الرَّجْعَةِ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عَدَمُ قَبْلِهِ وَإِنَّمَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الرَّجْعَةَ رَدًّا وَإِصْلَاحًا لِأَنَّهُ يُعِيدُهَا بِالرَّجْعَةِ إلَى الْحَالَةِ الْأُولَى حَتَّى لَا تَبِينَ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَا لِأَنَّهُ يُعِيدُهَا إلَى الْمِلْكِ وَمِلْكُ النِّكَاحِ لَيْسَ نَظِيرَ مِلْكِ الْيَمِينِ فَإِنَّ صِفَةَ الْحِلِّ هُنَاكَ تَنْفَصِلُ عَنْ أَصْلِ الْمِلْكِ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً كَالْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَالْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ وَهُنَا صِفَةُ الْحِلِّ تَنْفَصِلُ عَنْ أَصْلِ الْمِلْكِ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً مَعَ أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ صَارَتْ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا بِمَا الْتَزَمَتْ مِنْ الْعِوَضِ وَهُنَا الزَّوْجُ أَحَقُّ بِهَا وَوِزَانُ هَذَا مِنْ الْمُكَاتَبَةِ أَنْ لَوْ طَلَّقَهَا بِعِوَضٍ .
وَكَوْنُ الطَّلَاقِ وَاقِعًا لَا يَكُونُ دَلِيلَ حُرْمَةِ الْوَطْءِ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ كَمَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ فَإِنَّ الطَّلَاقَ يَبْقَى وَاقِعًا وَالْوَطْءُ حَلَالٌ وَهَذَا لِأَنَّ هَذِهِ الْإِزَالَةَ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ وَالْمُسْقِطُ يَكُونُ مُتَلَاشِيًا لَا يُتَصَوَّرُ إعَادَتُهُ وَالِاحْتِسَابُ بِالْأَقْرَاءِ مِنْ الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ صَارَ غَيْرَ مُرِيدٍ لَهَا بِالطَّلَاقِ وَكَمَنْ وَطِئَ أَمَتَهُ ثُمَّ أَرَادَ بَيْعَهَا يَسْتَبْرِئُهَا مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ وَالْحِلِّ وَاسْتِنَادِ الْعُلُوقِ إلَى أَبْعَدِ الْأَوْقَاتِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ إثْبَاتِ الرَّجْعَةِ بِالشَّكِّ فَإِنَّا لَوْ أَسْنَدْنَا الْعُلُوقَ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ وَجَعَلْنَاهُ مُرَاجِعًا لَهَا بِالشَّكِّ ، وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى مَذْهَبِنَا أَنَّ جِمَاعَهُ إيَّاهَا فِي الْعِدَّةِ رَجْعَةٌ مِنْهُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَكُونُ رَجْعَةً وَاعْتُبِرَ الرَّجْعَةُ بِأَصْلِ النِّكَاحِ فَكَمَا لَا يَثْبُتُ أَصْلُ النِّكَاحِ بِالْفِعْلِ فَكَذَلِكَ لَا تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ ، وَفِي الْحَقِيقَةِ هَذَا بِنَاءٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ عِنْدَهُ الرَّجْعَةَ سَبَبٌ لِاسْتِبَاحَةِ الْوَطْءِ وَرَفْعِ الْخَلَلِ الْوَاقِعِ فِي
الْمِلْكِ فَلَا يَكُونُ إلَّا بِالْقَوْلِ .
وَالْجِمَاعُ قَبْلَ الرَّجْعَةِ حَرَامٌ فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْحِلِّ وَعِنْدَنَا الرَّجْعَةُ اسْتِدَامَةٌ لِلْمِلْكِ وَالْفِعْلُ الْمُخْتَصُّ بِهِ يَكُونُ أَدَلَّ عَلَى اسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ مِنْ الْقَوْلِ ، وَهُوَ نَظِيرُ الْفَيْءِ فِي الْإِيلَاءِ فَإِنَّهُ مَنْعٌ لِلْمُزِيلِ مِنْ أَنْ يَعْمَلَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْجِمَاعِ وَنَقُولُ أَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ أَنَّ الطَّلَاقَ مُزِيلٌ لِلْمِلْكِ وَلَكِنَّ الْمُزِيلَ مَتَى ظَهَرَ وَأَعْقَبَ خِيَارَ الِاسْتِبْقَاءِ فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ يَكُونُ مُسْتَبْقِيًا لِلْمِلْكِ بِالْوَطْءِ كَمَنْ بَاعَ أَمَتَهُ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ وَطِئَهَا صَارَ بِالْوَطْءِ مُسْتَبْقِيًا لِلْمِلْكِ بَلْ أَوْلَى لِأَنَّ هُنَاكَ يُحْتَاجُ إلَى فَسْخِ السَّبَبِ الْمُزِيلِ وَهُنَا لَا يُحْتَاجُ إلَى رَفْعِ الطَّلَاقِ الْوَاقِعِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَبَّلَهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ تَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ الْمُوجِبِ لِلْحِلِّ كَالْوَطْءِ فَتَكُونُ مُبَاشَرَتُهُ دَلِيلَ اسْتِبْقَاءِ الْمِلْكِ أَلَا تَرَى فِي ثُبُوتِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ جُعِلَتْ هَذِهِ الْأَفْعَالُ بِمَنْزِلَةِ الْوَطْءِ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الرَّجْعَةِ وَالْأَحْسَنُ لَهُ أَنْ يُشْهِدَ شَاهِدَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ هَكَذَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حِينَ سُئِلَ عَمَّنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَلَمْ يُعْلِمْهَا حَتَّى غَشِيَهَا فَقَالَ طَلَّقَهَا لِغَيْرِ السُّنَّةِ وَرَاجَعَهَا عَلَى غَيْرِ السُّنَّةِ وَلْيُشْهِدْ عَلَى ذَلِكَ شَاهِدَيْنِ .
( قَالَ ) وَلَا يَكُونُ النَّظَرُ إلَى شَيْءٍ مِنْ جَسَدِهَا سِوَى الْفَرْجِ رَجْعَةً لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ وَلِأَنَّهُ لَا تَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ وَلِأَنَّ النَّظَرَ إلَى الْفَرْجِ نَوْعُ اسْتِمْتَاعٍ فَإِنَّ النَّظَرَ إلَى الْفَرْجِ إمَّا لِحُسْنِهِ أَوْ لِلِاسْتِمْتَاعِ وَلَيْسَ فِي الْفَرْجِ مَعْنَى الْحُسْنِ فَكَانَ النَّظَرُ إلَيْهِ اسْتِمْتَاعًا بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ وَالنَّظَرُ إلَى الْفَرْجِ بِغَيْرِ شَهْوَةٍ لَا يَكُون رَجْعَةً لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْمِلْكِ فَإِنَّ الْقَابِلَةَ تَنْظُرُ وَالْحَافِظَةُ كَذَلِكَ فَأَمَّا إذَا قَبَّلَتْهُ بِشَهْوَةٍ أَوْ لَمَسَتْهُ بِشَهْوَةٍ أَوْ نَظَرَتْ إلَى فَرْجِهِ بِشَهْوَةٍ تَثْبُتُ بِهِ الرَّجْعَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَا تَثْبُتُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مِنْ الزَّوْجِ دَلِيلُ اسْتِبْقَاءِ الْمِلْكِ وَلَيْسَ لَهَا وِلَايَةُ اسْتِبْقَاءِ الْمِلْكِ فَلَا يَكُونُ فِعْلُهَا رَجْعَةً وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا فِعْلُهَا بِهِ كَفِعْلِهِ بِهَا فَإِنَّ الْحِلَّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَفِعْلُهَا بِهِ فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ كَفِعْلِهِ بِهَا فَكَذَلِكَ فِي الرَّجْعَةِ ثُمَّ فَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْخِيَارِ فَقَالَ الْأَمَةُ إذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ بِالْبَائِعِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ يَكُونُ فَسْخًا لِلْبَيْعِ وَهُنَا لَا يَكُونُ رَجْعَةً مِنْهَا لِأَنَّ إسْقَاطَ الْخِيَارِ قَدْ يَحْصُلُ بِفِعْلِهَا ، وَهُوَ مَا إذَا جَنَتْ عَلَى نَفْسِهَا أَوْ قَتَلَتْ نَفْسَهَا وَالرَّجْعَةُ لَا تَكُونُ بِفِعْلِهَا قَطُّ وَقَدْ رَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ فَقَالَ لَا يَسْقُطُ هُنَاكَ الْخِيَارُ بِفِعْلِهَا .
وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُفَرِّقُ فَيَقُولُ هُنَاكَ يَسْقُطُ الْخِيَارُ بِفِعْلِهَا لِمَا فِيهِ مِنْ فَسْخِ الْبَيْعِ إنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ وَإِثْبَاتُ الْمِلْكِ إنْ كَانَ الْخِيَارُ
لِلْمُشْتَرِي وَلَيْسَ إلَيْهَا ذَلِكَ وَهُنَا لَيْسَ فِي الرَّجْعَةِ فَسْخُ السَّبَبِ وَلَا إثْبَاتُ الْمِلْكِ وَلَكِنْ إنَّمَا تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ بِفِعْلِهَا إذَا أَقَرَّ الزَّوْجُ أَنَّهَا فَعَلَتْ ذَلِكَ بِشَهْوَةٍ فَأَمَّا إذَا ادَّعَتْ هِيَ وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ لَا تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهَا فَعَلَتْ ذَلِكَ بِشَهْوَةٍ لِأَنَّ الشُّهُودَ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ إلَّا بِقَوْلِهَا وَقَوْلُهَا غَيْرُ مَقْبُولٍ إذَا أَنْكَرَهُ الزَّوْجُ .
( قَالَ ) وَتَعْلِيقُ الرَّجْعَةِ بِالشَّرْطِ بَاطِلٌ وَكَذَلِكَ الْإِضَافَةُ إلَى وَقْتٍ حَتَّى إذَا قَالَ رَاجَعْتُك غَدًا أَوْ إذَا جَاءَ غَدٌ فَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ فَلَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ كَأَصْلِ النِّكَاحِ وَإِنَّمَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ مَا يَجُوزُ أَنْ يَحْلِفَ بِهِ وَلَا يَحْلِفُ بِالرَّجْعَةِ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ ، وَهُوَ نَظِيرُ الْإِذْنِ لِلْعَبْدِ وَالتَّوْكِيلُ يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لِأَنَّهُ إطْلَاقٌ وَرَفْعٌ لِلْقَيْدِ وَالْحَجْرُ عَلَى الْعَبْدِ وَعَزْلُ الْوَكِيلِ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لِأَنَّهُ تَقْيِيدٌ .
( قَالَ ) وَإِنْ قَالَ كُنْت رَاجَعْتُك أَمْسِ صَدَقَ إنْ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ بُعْدٌ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ فَلَا يَكُونُ مُتَّهَمًا فِي الْإِخْبَارِ وَلَمْ يُصَدَّقْ إذَا قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا لَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ خَبَرٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَإِذَا كَانَ يَمْلِكُ مُبَاشَرَتَهُ فِي الْحَالِ تَنْتَفِي تُهْمَةُ الْكَذِبِ عَنْ خَبَرِهِ ، وَإِذَا كَانَ لَا يَمْلِكُ مُبَاشَرَتَهُ تَتَمَكَّنُ تُهْمَةُ الْكَذِبِ فِي خَبَرِهِ وَهُوَ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا قَالَ قَبْلَ الْعَزْلِ كُنْت بِعْته مِنْ فُلَانٍ يُصَدَّقُ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ بَعْدَ الْعَزْلِ فَإِنْ صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ فِي إخْبَارِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كَانَ مُصَدَّقًا لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَعْدُوهُمَا وَتَصَادُقُهُمَا عَلَى الرَّجْعَةِ كَتَصَادُقِهِمَا عَلَى أَصْلِ النِّكَاحِ .
( قَالَ ) ، وَإِذَا طَهُرَتْ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ غَيْرَ أَنَّهَا لَمْ تَغْتَسِلْ فَالرَّجْعَةُ بَاقِيَةٌ لَهُ عَلَيْهَا وَهَذَا إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ ؛ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا عَشَرَةً فَقَدْ تَيَقَّنَّا بِخُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ بِنَفْسِ انْقِطَاعِ الدَّمِ ، وَإِذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ لَمْ نَتَيَقَّنْ بِذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ يُعَاوِدَهَا الدَّمُ فَيَكُونَ ذَلِكَ حَيْضًا إذَا لَمْ يُجَاوِزْ الْعَشَرَةَ وَقَدْ قَالَتْ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ الزَّوْجُ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا مَا لَمْ تَغْتَسِلْ أَوْ مَا لَمْ تَحِلَّ لَهَا الصَّلَاةُ وَحِلُّ الصَّلَاةِ يَكُونُ بِالِاغْتِسَالِ ، وَإِذَا أَخَّرَتْ الْغُسْلَ حَتَّى ذَهَبَ وَقْتُ أَدْنَى الصَّلَاةِ إلَيْهَا انْقَطَعَ حَقُّ الرَّجْعَةِ عِنْدَنَا وَلَا يَنْقَطِعُ عِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَمَلًا بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَا لَمْ تَحِلَّ لَهَا الصَّلَاةُ وَلِبَقَاءِ تَوَهُّمِ مُعَاوَدَةِ الدَّمِ وَكَوْنُ ذَلِكَ حَيْضًا وَلَكِنَّا نَقُولُ بِذَهَابِ الْوَقْتِ صَارَتْ الصَّلَاةُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا وَذَلِكَ مِنْ خَوَاصِّ أَحْكَامِ الطَّاهِرَاتِ فَإِذَا انْضَمَّ ذَلِكَ إلَى الِانْقِطَاعِ تَقْوَى بِهِ كَالِاغْتِسَالِ وَلَا يُعْتَبَرُ تَوَهُّمُ مُعَاوَدَةِ الدَّمِ بَعْدَهُ كَمَا لَا يُعْتَبَرُ بَعْدَ الِاغْتِسَالِ وَقِيلَ فِي مَعْنَى قَوْلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حَتَّى تَحِلَّ لَهَا الصَّلَاةُ أَيْ تَحِلَّ عَلَيْهَا الصَّلَاةُ بِأَنْ تَلْزَمَهَا بِذَهَابِ الْوَقْتِ ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى { أُولَئِكَ لَهُمْ اللَّعْنَةُ } أَيْ عَلَيْهِمْ اللَّعْنَةُ أَرَأَيْت لَوْ أَخَّرَتْ الِاغْتِسَالَ شَهْرًا طَمَعًا فِي أَنْ يُرَاجِعَهَا الزَّوْجُ أَكَانَ تَبْقَى الرَّجْعَةُ إلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ هَذَا قَبِيحٌ فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ أَقَامَ الزَّوْجُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي عِدَّتِهَا قَدْ رَاجَعْتهَا أَوْ أَنَّهُ قَالَ قَدْ جَامَعْتهَا كَانَ ذَلِكَ رَجْعَةً لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَهَذَا مِنْ أَعْجَبِ الْمَسَائِلِ فَإِنَّهُ يُثْبِتُ إقْرَارَ
نَفْسِهِ بِالْبَيِّنَةِ بِمَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لِلْحَالِّ لَمْ يَكُنْ مَقْبُولًا مِنْهُ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ وَكَذَّبَتْهُ الْمَرْأَةُ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَحْلِفَهَا فَلَا يَمِينَ لَهُ عَلَيْهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا الْيَمِينُ لِأَنَّ هَذَا اسْتِحْلَافٌ فِي الرَّجْعَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَرَى ذَلِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي النِّكَاحِ فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّهَا لَوْ ادَّعَتْ انْقِضَاءَ عِدَّتِهَا تُسْتَحْلَفُ فِي ذَلِكَ ثُمَّ لَوْ نَكَلَتْ كَانَ لِلزَّوْجِ أَنْ يُرَاجِعَهَا قُلْنَا ذَلِكَ اسْتِحْلَافٌ فِي الْعِدَّةِ فَإِذَا نَكَلَتْ بَقِيَتْ الْعِدَّةُ وَهِيَ مَحَلُّ الرَّجْعَةِ وَهَذَا اسْتِحْلَافٌ فِي نَفْسِ الرَّجْعَةِ وَالْخَلْوَةُ بِالْمُعْتَدَّةِ لَيْسَتْ بِرَجْعَةٍ لِأَنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِالْمِلْكِ فَإِنَّهُ يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْلُوَ بِذَوَاتِ مَحَارِمِهِ فَلَا يَكُونُ دَلِيلَ اسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ .
( قَالَ ) وَلَوْ كَتَمَهَا الطَّلَاقَ ثُمَّ رَاجَعَهَا وَكَتَمَهَا الرَّجْعَةَ فَهِيَ امْرَأَتُهُ لِأَنَّهُ فِي إيقَاعِ الطَّلَاقِ هُوَ مُسْتَبِدٌّ بِهِ وَكَذَلِكَ فِي الرَّجْعَةِ فَإِنَّهُ اسْتِدَامَةٌ لِمِلْكِهِ وَلَا يَلْزَمُهَا بِهِ شَيْءٌ فَلَا مُعْتَبَرَ بِعِلْمِهَا فِيهِ وَلَكِنَّهُ أَسَاءَ فِيمَا صَنَعَ حِينَ تَرَكَ الْإِشْهَادَ عَلَى الرَّجْعَةِ ، وَهُوَ مُسْتَحَبٌّ قَالَ بَلَغَنَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُرَاجِعَ امْرَأَتَهُ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهَا حَتَّى يُشْهِدَ .
( قَالَ ) ، وَإِذَا قَالَ زَوْجُ الْمُعْتَدَّةِ لَهَا قَدْ رَاجَعْتُكِ فَقَالَتْ مُجِيبَةً لَهُ قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا تَثْبُتُ الرَّجْعَةُ وَعِنْدَهُمَا الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ وَالرَّجْعَةُ صَحِيحَةٌ لِأَنَّهَا صَادَفَتْ الْعِدَّةَ فَإِنَّ عِدَّتَهَا بَاقِيَةٌ مَا لَمْ تُخْبِرْ بِالِانْقِضَاءِ وَقَدْ سَبَقَتْ الرَّجْعَةُ خَبَرَهَا بِالِانْقِضَاءِ فَصَحَّتْ الرَّجْعَةُ وَسَقَطَتْ الْعِدَّةُ فَإِنَّهَا أَخْبَرَتْ بِالِانْقِضَاءِ بَعْدَ سُقُوطِ الْعِدَّةِ وَلَيْسَ لَهَا وِلَايَةُ الْإِخْبَارِ بَعْدَ سُقُوطِ الْعِدَّةِ لَوْ سَكَتَتْ سَاعَةً ثُمَّ أَخْبَرَتْ وَلِأَنَّهَا صَارَتْ مُتَّهَمَةً فِي الْإِخْبَارِ بِالِانْقِضَاءِ بَعْدَ رَجْعَةِ الزَّوْجِ فَلَا يُقْبَلُ خَبَرُهَا كَمَا لَوْ قَالَ الْمُوَكِّلُ لِلْوَكِيلِ عَزَلْتُك فَقَالَ الْوَكِيلُ كُنْت بِعْته وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ الرَّجْعَةُ صَادَفَتْ حَالَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلَا تَصِحُّ لِأَنَّ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ لَيْسَ بِعِدَّةٍ مُطْلَقًا وَشَرْطُ الرَّجْعَةِ أَنْ تَكُونَ فِي عِدَّةِ مُطَلَّقَةٍ وَبَيَانُهُ أَنَّهَا أَمِينَةٌ فِي الْإِخْبَارِ وَلَا يُمْكِنُهَا أَنْ تُخْبِرَ إلَّا بَعْدَ الِانْقِضَاءِ فَإِذَا أَخْبَرَتْ مُجِيبَةً لِلزَّوْجِ عَرَفْنَا ضَرُورَةَ أَنَّ الِانْقِضَاءَ سَابِقٌ وَأَقْرَبُ أَحْوَالِهِ حِلُّ قَوْلِ الزَّوْجِ رَاجَعْتُك بِخِلَافِ مَا إذَا سَكَتَتْ سَاعَةً فَإِنَّ أَقْرَبَ الْأَحْوَالِ لِلِانْقِضَاءِ هُنَاكَ حَالُ سُكُوتِهَا وَلَا يُقَالُ مُصَادِفَةُ الرَّجْعَةِ حَالَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ نَادِرٌ لِأَنَّ انْقِضَاءَ الْعِدَّةِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُوَافِقَ حَالَةً فَتَارَةً يُوَافِقُ كُلَّهَا وَتَارَةً يَوْمَهَا وَتَارَةً قَوْلَ الزَّوْجِ رَاجَعْتُك وَإِنْ تَمَكَّنَ مَا هُوَ نَادِرٌ ، وَهُوَ رَجْعَةُ الزَّوْجِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَإِنَّمَا تَصِيرُ مُتَّهَمَةً إذَا فَرَّطَتْ فِي الْإِخْبَارِ بِالتَّأْخِيرِ وَلَا تَفْرِيطَ مِنْهَا هُنَا لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى الْإِخْبَارِ إلَّا بَعْدَ الِانْقِضَاءِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ فَإِنَّهُ مُفَرِّطٌ فِي الْإِخْبَارِ لِأَنَّ بَيْعَهُ
كَانَ قَبْلَ الْعَزْلِ لَا مَعَ الْعَزْلِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَا إذَا قَالَ لَهَا قَدْ طَلَّقْتُك فَقَالَتْ مُجِيبَةً لَهُ قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي قِيلَ هُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ مَعَ انْقِضَاءِ عِدَّتِك وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَقَعُ لِإِقْرَارِ الزَّوْجِ بِالْوُقُوعِ كَمَا لَوْ قَالَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كُنْت طَلَّقْتُك فِي الْعِدَّةِ كَانَ مُصَدَّقًا فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ الرَّجْعَةِ .
( قَالَ ) وَالتَّوَارُثُ قَائِمٌ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ بَيْنَهُمَا قَائِمَةٌ وَإِنَّمَا انْتَهَتْ بِالْمَوْتِ ، وَهُوَ سَبَبُ التَّوَارُثِ وَيَسْتَوِي فِيهِ التَّطْلِيقَةُ وَالتَّطْلِيقَتَانِ وَيَمْلِكُ مُرَاجَعَةَ الْمَرْأَةِ الْكِتَابِيَّةِ وَالْمَمْلُوكَةِ فِي عِدَّتِهَا مِثْلَ مَا يَمْلِكُهُ عَلَى الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ لِأَنَّهَا اسْتِدَامَةٌ لِلْمِلْكِ كَمَا قُلْنَا وَالْمُكَاتَبَةُ وَالْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ الْأَمَةِ فِي الطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ لِبَقَاءِ الرِّقِّ الْمُنْصِفِ لِلْحِلِّ فِيهِنَّ وَالْمُسْتَسْعَاةُ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهَا كَالْمُكَاتَبَةِ .
( قَالَ ) ، وَإِذَا قَالَ زَوْجُ الْأَمَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا كُنْت رَاجَعْتهَا فِي الْعِدَّةِ وَصَدَّقَهُ الْمَوْلَى وَكَذَّبَتْهُ الْأَمَةُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ لِأَنَّ بِضْعَهَا مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى وَيَنْزِلُ الْمَوْلَى فِيهَا مَنْزِلَةَ الْحُرَّةِ مِنْ نَفْسِهَا حَتَّى يَصِحَّ تَزْوِيجُهُ إيَّاهَا وَإِقْرَارُهُ بِالنِّكَاحِ عَلَيْهَا فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ بِالرَّجْعَةِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِ الْحُرَّةِ عَلَى نَفْسِهَا بِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ الرَّجْعَةُ تَنْبَنِي عَلَى سَبَبٍ لَا قَوْلٍ لِلْمَوْلَى فِيهِ ، وَهُوَ قِيَامُ الْعِدَّةِ فَإِنَّ الْقَوْلَ فِي الْعِدَّةِ قَوْلُهَا فِي الْبَقَاءِ وَالِانْقِضَاءِ دُونَ الْمَوْلَى فَكَذَلِكَ فِيمَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ صِحَّةَ الرَّجْعَةِ حَالَ قِيَامِ الْعِدَّةِ وَلَا مِلْكَ لِلْمَوْلَى عِنْدَ ذَلِكَ فِي الْبُضْعِ وَلَا تَصَرُّفَ فَكَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَهَا بِخِلَافِ التَّزْوِيجِ وَالْإِقْرَارِ بِهِ عَلَيْهَا وَلَوْ كَانَتْ هِيَ الَّتِي صَدَّقَتْ الزَّوْجَ وَكَذَّبَهُ الْمَوْلَى لَمْ تَثْبُتْ الرَّجْعَةُ أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَلِأَنَّ بُضْعَهَا فِي الْحَالِ خَالِصٌ حَقُّ الْمَوْلَى فَإِنَّ عِدَّتَهَا مُنْقَضِيَةٌ ؛ فَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي ذَلِكَ .
( قَالَ ) وَالْمُعْتَدَّةُ مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ تَتَشَوَّفُ وَتَتَزَيَّنُ لَهُ لِأَنَّ الزَّوْجِيَّةَ بَاقِيَةٌ بَيْنَهُمَا ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ عَلَى أَنْ يُرَاجِعَهَا وَتَشَوُّفُهَا لَهُ يُرَغِّبُهُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ لَا يُرَاجِعَهَا فَأَحْسَنُ ذَلِكَ أَنْ يُعْلِمَهَا بِدُخُولِهِ عَلَيْهَا بِالتَّنَحْنُحِ وَخَفْقِ النَّعْلِ كَيْ تَتَأَهَّبَ لِدُخُولِهِ لَا لِأَنَّ الدُّخُولَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ الِاسْتِئْذَانِ حَرَامٌ وَلَكِنَّ الْمَرْأَةَ فِي بَيْتِهَا فِي ثِيَابِ مِهْنَتِهَا فَرُبَّمَا يَقَعُ بَصَرُهُ عَلَى فَرْجِهَا وَتَقْتَرِنُ بِهِ الشَّهْوَةُ فَيَصِيرُ مُرَاجِعًا لَهَا بِغَيْرِ شُهُودٍ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ ، وَإِذَا صَارَ مُرَاجِعًا وَلَيْسَ مِنْ قَصْدِهِ إمْسَاكُهَا احْتَاجَ إلَى أَنْ يُطَلِّقَهَا وَتَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ فَيَكُونُ إضْرَارًا بِهَا مِنْ حَيْثُ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ وَلِهَذَا قَالَ أَكْرَهُ أَنْ يَرَاهَا مُتَجَرِّدَةً إذَا كَانَ لَا يُرِيدُ رَجْعَتَهَا وَإِنْ رَآهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِأَنَّ مَا فَوْقَ الرُّؤْيَةِ ، وَهُوَ الْغَشَيَانُ حَلَالٌ لَهُ .
( قَالَ ) ، وَإِذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ تَطْلِيقَةٍ بَائِنَةٍ أَوْ فُرْقَةٍ بِخُلْعٍ أَوْ إيلَاءٍ أَوْ لِعَانٍ أَوْ اخْتِيَارِهَا أَمْرَ نَفْسِهَا أَوْ بِالْأَمْرِ بِالْيَدِ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَلَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا لِأَنَّ حُكْمَ الرَّجْعَةِ عُرِفَ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ وَالنَّصُّ وَرَدَ بِمُطْلَقِ الطَّلَاقِ فَبَقِيَ الطَّلَاقُ الْمُقَيَّدُ بِصِفَةِ الْبَيْنُونَةِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَهَذَا لِأَنَّ كَوْنَهَا مُطَلَّقَةً حُكْمُ مُطْلَقِ الطَّلَاقِ وَهَذَا لَا يُنَافِي مِلْكَ النِّكَاحِ كَمَا بَعْدَ الرَّجْعَةِ وَكَوْنُهَا مُبَانَةً أَوْ مَالِكَةً أَمْرَ نَفْسِهَا يُنَافِي مِلْكَ النِّكَاحِ وَالْمُتَنَافِيَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فَإِذَا ثَبَتَتْ الْبَيْنُونَةُ انْتَفَى النِّكَاحُ وَلَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا ، وَفِي الْخُلْعِ إنَّمَا الْتَزَمَتْ الْعِوَضَ لِتَتَخَلَّصَ مِنْ الزَّوْجِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ وَحَقِّ الرَّجْعَةِ .
( قَالَ ) ، وَإِذَا كَانَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الْخَلْوَةِ ، وَهُوَ يَقُولُ لَمْ أَدْخُلْ بِهَا فَلَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِالْبَيْنُونَةِ وَسُقُوطِ حَقِّهِ فِي الرَّجْعَةِ وَإِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ صَحِيحٌ وَلِأَنَّ الْخَلْوَةَ إنَّمَا جُعِلَتْ تَسْلِيمًا فِي حَقِّ الْمَهْرِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا وَذَلِكَ الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الرَّجْعَةِ لِأَنَّهَا حَقُّ الزَّوْجِ ، وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ غَشَيَانِهَا .
.
( قَالَ ) وَإِنْ كَانَتْ حِينَ خَلَا بِهَا حَائِضًا أَوْ صَائِمَةً فِي رَمَضَانَ أَوْ مُحْرِمَةً أَوْ رَتْقَاءَ فَلَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْخَلْوَةَ فَاسِدَةٌ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ فَإِذَا كَانَ حَقُّ الرَّجْعَةِ لَا يَثْبُتُ بِالْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ فَبِالْفَاسِدَةِ أَوْلَى وَعَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ يَقُولُ جَمِيعُ الْمَهْرِ لِأَنَّ عَلَيْهَا الْعِدَّةَ بِالِاتِّفَاقِ وَلَكِنَّا نَقُولُ فِي الْعِدَّةِ مَعْنَى حَقِّ الشَّرْعِ وَهُمَا مُتَّهَمَانِ فِي ذَلِكَ فَأَمَّا الْمَهْرُ حَقُّهَا فَيُفْصَلُ فِيهِ بَيْنَ الْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ وَالْفَاسِدَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا فُصُولَ الْخَلْوَةِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ .
( قَالَ ) ، وَإِذَا كَانَ عِنِّينًا أَوْ مَجْبُوبًا أَوْ خَصِيًّا فَخَلَى بِهَا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فَحْلًا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ الْمُرَاجَعَةِ فِي الْعِدَّةِ فَإِذَا كَانَ الْمَانِعُ مِنْ الدُّخُولِ ظَاهِرًا فِيهِ أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ حَقُّ الْمُرَاجَعَةِ فِي الْعِدَّةِ .
( قَالَ ) ، وَإِذَا ادَّعَى الزَّوْجُ الدُّخُولَ بِهَا وَقَدْ خَلَا بِهَا وَأَنْكَرَتْهُ الْمَرْأَةُ فَلَهُ الرَّجْعَةُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْفَحْلِ أَنَّهُ مَتَى خَلَى بِالْأُنْثَى الَّتِي تَحِلُّ لَهُ نَزَا عَلَيْهَا فَإِنْ قِيلَ الظَّاهِرُ حُجَّةٌ لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ وَالزَّوْجُ إنَّمَا يُرِيدُ اسْتِحْقَاقَ الرَّجْعَةِ بِقَوْلِهِ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ بَلْ الزَّوْجُ إنَّمَا يَسْتَبْقِي مِلْكَهُ بِمَا يَقُولُ وَيَدْفَعُ اسْتِحْقَاقَهَا نَفْسَهَا وَالظَّاهِرُ يَكْفِي لِذَلِكَ .
( قَالَ ) وَإِنْ لَمْ يَخْلُ بِهَا حَتَّى طَلَّقَهَا وَادَّعَى الدُّخُولَ فَلَا رَجْعَةَ لَهُ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَارِضًا لَا يُعْرَفُ سَبَبُهُ وَلِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ لَهُ عَلَيْهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَإِنَّ إنْكَارَهَا سَبَبَ الْعِدَّةِ كَإِنْكَارِهَا أَصْلَ الْعِدَّةِ وَالرَّجْعَةُ لَا تَكُونُ إلَّا فِي الْعِدَّةِ .
( قَالَ ) ، وَإِذَا قَالَتْ إنَّ عِدَّتِي قَدْ انْقَضَتْ وَذَلِكَ فِي وَقْتٍ لَا تَحِيضُ فِيهِ ثَلَاثَ حِيَضٍ لَمْ تُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمِينَ إنَّمَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَحِيلًا أَوْ مُسْتَنْكَرًا فَإِذَا أَخْبَرَتْ بِمَا هُوَ مُسْتَحِيلٌ أَوْ مُسْتَنْكَرٌ لَمْ تُصَدَّقْ فِي خَبَرِهَا ثُمَّ بَيَّنَ أَدْنَى الْمُدَّةِ الَّتِي تُصَدَّقُ فِيهَا ، وَهُوَ شَهْرَانِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَتِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا فِي قَوْلِهِمَا وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِفُرُوعِهَا فِي آخِرِ كِتَابِ الْحَيْضِ .
( قَالَ ) فَإِنْ قَالَتْ قَدْ أَسْقَطْت سَقْطًا مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ أَوْ بَعْضَ الْخَلْقِ صُدِّقَتْ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهَا مُسَلَّطَةٌ أَمِينَةٌ فِي الْإِخْبَارِ بِمَا فِي رَحِمِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ } وَالنَّهْيُ عَنْ الْكِتْمَانِ أَمْرٌ بِالْإِظْهَارِ وَقَالَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إنَّ مِنْ الْأَمَانَةِ أَنْ تُؤَمَّنَ الْمَرْأَةُ عَلَى مَا فِي رَحِمِهَا فَإِذَا أَخْبَرَتْ بِذَلِكَ وَكَانَ مُحْتَمَلًا وَجَبَ قَبُولُ خَبَرِهَا مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَإِنْ اتَّهَمَهَا الزَّوْجُ حَلَّفَهَا .
( قَالَ ) وَكُلُّ سَقْطٍ لَمْ يَسْتَبِنْ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ لَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حُكْمُ الْوَلَدِ بَلْ هُوَ كَالدَّمِ الْمُتَجَمِّدِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُمْتَحَنُ بِالْمَاءِ الْحَارِّ فَإِذَا ذَابَ فِيهِ فَهُوَ دَمٌ وَإِنْ لَمْ يَذُبْ فَهُوَ وَلَدٌ وَلَكِنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الطِّبِّ لَا مِنْ بَابِ الْفِقْهِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْحَيْضِ .
( قَالَ ) ، وَإِذَا قَالَتْ بَعْدَ مُضِيِّ شَهْرَيْنِ قَدْ انْقَضَتْ عِدَّتِي وَقَالَ الزَّوْجُ قَدْ أَخْبَرَتْنِي أَمْسِ أَنَّهَا لَمْ تَحِضْ شَيْئًا فَإِنْ كَذَّبَتْهُ الْمَرْأَةُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهَا مَا لَا يُعْرَفُ سَبَبُهُ وَهِيَ تُنْكِرُ ذَلِكَ وَقَدْ ظَهَرَ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِخَبَرِهَا وَإِنْ صَدَّقَتْهُ فِي ذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالتَّصَادُقِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَبَعْدَ مَا أَخْبَرَتْ أَمْسِ أَنَّهَا لَمْ تَحِضْ شَيْئًا فَإِخْبَارُهَا فِي الْيَوْمِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ مُسْتَحِيلٌ وَلِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا لَا يَعْدُوهُمَا وَقَدْ تَصَادَقَا عَلَى قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهُمَا .
( قَالَ ) فَإِنْ كَانَتْ تَعْتَدُّ بِالشُّهُورِ لِصِغَرٍ أَوْ إيَاسٍ فَحَاضَتْ اُنْتُقِضَ مَا مَضَى مِنْ عِدَّتِهَا بِالشُّهُورِ وَكَانَ عَلَيْهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ أَمَّا فِي الْآيِسَةِ فَظَاهِرٌ لِأَنَّهَا لَمَّا حَاضَتْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ آيِسَةً وَإِنَّمَا كَانَتْ مُمْتَدًّا طُهْرُهَا وَأَمَّا فِي الصَّغِيرَةِ إذَا حَاضَتْ فَلِأَنَّهَا قَدَرَتْ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْأَصْلِ تَمْنَعُ اعْتِبَارَ الْبَدَلِ وَلَا يَكْمُلُ مَعَ الْأَصْلِ لِأَنَّهُمَا لَا يَلْتَقِيَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِئْنَافِ وَعَلَى هَذَا قَالُوا لَوْ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً فَحَاضَتْ وَطَهُرَتْ قَبْلَ مُضِيِّ الشَّهْرِ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا أُخْرَى لِأَنَّ الْفَصْلَ بِالشَّهْرِ بَيْنَ الطَّلَاقَيْنِ كَانَ قَبْلَ ظُهُورِ الْحَيْضِ .
.
( قَالَ ) وَكَذَلِكَ لَوْ حَاضَتْ حَيْضَةً ثُمَّ أَيِسَتْ مِنْ الْحَيْضِ اعْتَدَّتْ بِالشُّهُورِ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ بَعْدَ الْحَيْضَةِ لِأَنَّ إكْمَالَ الْأَصْلِ بِالْبَدَلِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَلَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِئْنَافِ وَإِيَاسُهَا أَنْ تَبْلُغَ مِنْ السِّنِّ مَا لَا يَحِيضُ فِيهِ مِثْلُهَا لِأَنَّهُ مَعْنًى فِي بَاطِنِهَا لَا يُوقَفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ السَّبَبِ الظَّاهِرِ فِيهِ ، وَإِذَا بَلَغَتْ مِنْ السِّنِّ مَا لَا يَحِيضُ فِيهِ مِثْلُهَا وَهِيَ لَا تَرَى الدَّمَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا آيِسَةٌ وَلَمْ يُقَدَّرْ السِّنُّ فِي الْكِتَابِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى التَّقْدِيرُ بِخَمْسِينَ سَنَةً ، وَفِي رِوَايَةٍ سِتِّينَ سَنَةً وَفَصَلَ فِي رِوَايَةٍ بَيْنَ الرُّومِيَّاتِ وَالْخُرَاسَانِيَّات فَفِي الرُّومِيَّاتِ التَّقْدِيرُ بِخَمْسِينَ سَنَةً لِأَنَّ الْهَرَمَ يُسْرِعُ إلَيْهِنَّ ، وَفِي الْخُرَاسَانِيَّات التَّقْدِيرُ بِسِتِّينَ سَنَةً وَأَكْثَرُ مَشَايِخِنَا عَلَى التَّقْدِيرِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى خَمْسِينَ سَنَةً فَقَدْ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إذَا جَاوَزَتْ الْمَرْأَةُ خَمْسِينَ سَنَةً لَمْ تَرَ فِي بَطْنِهَا قُرَّةَ عَيْنٍ .
( قَالَ ) ، وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَاحِدَةً ثُمَّ رَاجَعَهَا فِي الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ ثُمَّ طَلَّقَهَا بَعْدَ الطُّهْرِ وَتَرَكَهَا حَتَّى حَاضَتْ الثَّالِثَةَ ثُمَّ رَاجَعَهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا بَعْدَ الطُّهْرِ فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ بَعْدَ التَّطْلِيقَةِ الثَّالِثَةِ ثَلَاثُ حِيَضٍ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ قَدْ صَحَّتْ لِمُصَادَفَتِهَا الْعِدَّةَ فَإِذَا طَلَّقَهَا كَانَ عَلَيْهَا عِدَّةٌ مُسْتَقْبَلَةٌ وَقَدْ أَسَاءَ فِيمَا صَنَعَ لِأَنَّهُ طَوَّلَ الْعِدَّةَ عَلَيْهَا وَجَاءَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا } أَنَّهُ نَزَلَ فِيمَا ذَكَرْنَا وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ } إنَّمَا نَزَلَتْ فِيمَا إذَا خَطَبَهَا الزَّوْجُ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَأَبَى أَوْلِيَاؤُهَا أَنْ يَتْرُكُوهَا .
( قَالَ ) ، وَإِذَا اغْتَسَلَتْ الْمُعْتَدَّةُ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ غَيْرَ أَنَّهُ بَقِيَ مِنْهَا عُضْوٌ لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ فَالزَّوْجُ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ وَلَوْ بَقِيَ مَا دُونَ الْعُضْوِ لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا رَجْعَةٌ قَالَ هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ غَيْرَ أَنِّي أَسْتَحْسِنُ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ نَصًّا مَوْضِعَ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ وَقِيلَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ فِي الْعُضْوِ الْكَامِلِ فِي الْقِيَاسِ يَنْقَطِعُ لِأَنَّهَا مُغْتَسِلَةٌ وَقَدْ غَسَلَتْ أَكْثَرَ الْبَدَنِ وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكُلِّ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَنْقَطِعُ لِأَنَّ الْعُضْوَ الْكَامِلَ وَرَدَ الْخِطَابُ بِتَطْهِيرِهِ شَرْعًا فَبَقَاؤُهُ كَبَقَاءِ جَمِيعِ الْبَدَنِ وَلِأَنَّ الْعُضْوَ الْكَامِلَ لَا يَقَعُ الِانْتِقَالُ عَنْهُ عَادَةً فَلَا يُسْرِعُ إلَيْهِ الْجَفَافُ عَادَةً بِخِلَافِ مَا دُونَهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ فِيمَا دُونَ الْعُضْوِ فِي الْقِيَاسِ يَبْقَى حُكْمُ الرَّجْعَةِ لِبَقَاءِ حُكْمِ الْحَدَثِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ } وَلِأَنَّهُ لَمْ تَحِلَّ لَهَا الصَّلَاةُ فَكَانَ هَذَا وَبَقَاءُ عُضْوٍ كَامِلٍ سَوَاءٌ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ لِأَنَّ مَا دُونَ الْعُضْوِ لِقِلَّتِهِ يُسْرِعُ إلَيْهِ الْجَفَافُ فَلَا يَتَيَقَّنُ بِعَدَمِ إصَابَةِ الْمَاءِ ؛ فَلِهَذَا يُؤْخَذُ فِيهِ بِالِاحْتِيَاطِ فَتَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ وَلَكِنْ لَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ حَتَّى تَغْسِلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ احْتِيَاطًا لِأَنَّ الْمَاءَ لَمْ يَصِلْ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ .
( قَالَ ) وَلَوْ تَرَكَتْ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ فِي الِاغْتِسَالِ لَا تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِبَقَاءِ عُضْوٍ كَامِلٍ وَتَنْقَطِعُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ احْتِيَاطًا لِشُبْهَةِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ فِي الِاغْتِسَالِ سُنَّةٌ فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ فِي قَطْعِ الرَّجْعَةِ .
( قَالَ ) ، وَإِذَا لَمْ تَقْدِرْ عَلَى الْمَاءِ بَعْدَ مَا طَهُرَتْ وَأَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ فَتَيَمَّمَتْ وَصَلَتْ مَكْتُوبَةً أَوْ تَطَوُّعًا فَقَدْ انْقَطَعَتْ الرَّجْعَةُ لِأَنَّا حَكَمْنَا بِطَهَارَتِهَا حِينَ جَوَّزْنَا صَلَاتَهَا بِالتَّيَمُّمِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ مَضَى عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ وَهُنَاكَ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ فَهُنَا كَذَلِكَ فَإِنْ وَجَدَتْ الْمَاءَ بَعْدَ هَذَا اغْتَسَلَتْ وَلَمْ يُعَدَّ حَقُّ الرَّجْعَةِ لِأَنَّ صَلَاتَهَا تِلْكَ بَقِيَتْ مُجْزِئَةً وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا عَاوَدَهَا الدَّمُ لِأَنَّ بِمُعَاوَدَةِ الدَّمِ تَبَيَّنَ أَنَّ الِانْقِطَاعَ لَمْ يَكُنْ طُهْرًا وَبِوُجُودِ الْمَاءِ لَا يَتَبَيَّنُ ذَلِكَ فَأَمَّا إذَا تَيَمَّمَتْ وَلَمْ تُصَلِّ فَلِلزَّوْجِ عَلَيْهَا حَقُّ الرَّجْعَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ اسْتِحْسَانًا ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ انْقَطَعَتْ الرَّجْعَةُ وَهُوَ الْقِيَاسُ لِأَنَّ التَّيَمُّمَ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الِاغْتِسَالِ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ فِيمَا يُبْنَى أَمْرُهُ عَلَى الِاحْتِيَاطِ بِدَلِيلِ حِلِّ أَدَاءِ الصَّلَاةِ لَهَا وَحِلِّ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَالْحُكْمُ بِسُقُوطِ الرَّجْعَةِ يُؤْخَذُ فِيهِ بِالِاحْتِيَاطِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ اغْتَسَلَتْ وَبَقِيَ عَلَى بَدَنِهَا لَمْعَةٌ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ عَنْهَا احْتِيَاطًا وَإِنْ لَمْ يَحِلَّ لَهَا أَدَاءُ الصَّلَاةِ فَهُنَا أَوْلَى وَكَذَلِكَ لَوْ اغْتَسَلَتْ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ وَلَمْ تَجِدْ غَيْرَهُ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ احْتِيَاطًا وَلَمْ يَحِلَّ لَهَا أَدَاءُ الصَّلَاةِ فِي هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ فَهُنَا أَوْلَى أَنْ تَنْقَطِعَ الرَّجْعَةُ وَقَدْ حَلَّ لَهَا أَدَاءُ الصَّلَاةِ وَهَذَا لِأَنَّ التَّيَمُّمَ طَهَارَةٌ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } فَإِذَا أَتَتْ بِهِ لَمْ تَبْقَ مُخَاطَبَةً بِالتَّطْهِيرِ فَتَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ كَالنَّصْرَانِيَّةِ تَحْتَ مُسْلِمٍ إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ انْقَطَعَتْ
الرَّجْعَةُ بِنَفْسِ الِانْقِطَاعِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُخَاطَبَةٍ بِالتَّطْهِيرِ .
وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا التَّيَمُّمُ طَهَارَةٌ ضَعِيفَةٌ فَلَا تَنْقَطِعُ بِهِ الرَّجْعَةُ كَنَفْسِ الِانْقِطَاعِ وَبَيَانُهُ أَنَّهُ لَا يُرْفَعُ الْحَدَثُ إلَّا بِيَقِينٍ حَتَّى أَنَّ الْمُتَيَمِّمَ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ كَانَ مُحْدِثًا بِالْحَدَثِ السَّابِقِ وَلِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ تَلْوِيثٌ وَتَغْيِيرٌ وَهَذَا ضِدُّ التَّطْهِيرِ وَإِنَّمَا جُعِلَ طَهَارَةً حُكْمًا لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ إلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا مُؤَقَّتَةٌ وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَعْدُو مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ فَكَانَ طَهَارَةً فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ ، وَفِيمَا هُوَ مِنْ تَوَابِعِ الصَّلَاةِ خَاصَّةً كَدُخُولِ الْمَسْجِدِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَمَسِّ الْمُصْحَفِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي حُكْمِ الرَّجْعَةِ فَكَانَ التَّيَمُّمُ فِي حُكْمِ الرَّجْعَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ كَهُوَ عِنْدَ وُجُودِ الْمَاءِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ التَّيَمُّمَ مَشْرُوعٌ لِمَقْصُودٍ ، وَهُوَ أَدَاءُ الصَّلَاةِ لَا رَفْعُ الْحَدَثِ بِهِ وَلِهَذَا لَا يُؤْمَرُ بِهِ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ ، وَفِي الْوَقْتِ أَيْضًا يُنْتَظَرُ آخِرَ الْوَقْتِ وَمَا كَانَ مَشْرُوعًا لِمَقْصُودٍ فَقَبْلَ انْضِمَامِ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ إلَيْهِ كَانَ ضَعِيفًا فَلَا يَزُولُ بِهِ الْمِلْكُ كَشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الطَّلَاقِ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ قَضَاءُ الْقَاضِي بِهِ فَمَا لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ الْقَضَاءُ لَا يَكُونُ مُزِيلًا لِلْمِلْكِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا بَقِيَ عَلَى بَدَنِهَا لَمْعَةٌ لِأَنَّ قَطْعَ الرَّجْعَةِ هُنَاكَ لِتَوَهُّمِ وُصُولِ الْمَاءِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَسُرْعَةِ الْجَفَافِ فَكَانَتْ طَهَارَةً قَوِيَّةً فِي نَفْسِهَا وَالِاغْتِسَالُ بِسُؤْرِ الْحِمَارِ كَذَلِكَ فَإِنَّهَا طَهَارَةٌ قَوِيَّةٌ لِكَوْنِهَا اغْتِسَالًا بِالْمَاءِ وَلَكِنَّهَا تُؤْمَرُ بِضَمِّ التَّيَمُّمِ إلَى ذَلِكَ فِي حُكْمِ حِلِّ الصَّلَاةِ احْتِيَاطًا لِاشْتِبَاهِ الْأَدِلَّةِ فِي طَهَارَةِ الْمَاءِ وَقَدْ كَانَ الْأَصْلُ فِيهِ الطَّهَارَةَ وَلِهَذَا لَوْ اغْتَسَلَتْ بِهِ مَعَ وُجُودِ مَاءٍ
آخَرَ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ أَيْضًا لِكَوْنِهَا طَهَارَةً قَوِيَّةً ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الطَّهَارَةَ قَوِيَّةٌ جَاءَ مَوْضِعُ الِاحْتِيَاطِ فَقُلْنَا بِأَنَّهُ تَنْقَطِعُ الرَّجْعَةُ احْتِيَاطًا وَلَا تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ حَتَّى تَغْتَسِلَ بِمَاءٍ آخَرَ أَوْ تَتَيَمَّمَ وَتُصَلِّيَ لِاحْتِمَالِ نَجَاسَةِ ذَلِكَ الْمَاءِ احْتِيَاطًا وَهَذَا بِخِلَافِ النَّصْرَانِيَّةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا اغْتِسَالٌ أَصْلًا فَكَانَ نَفْسُ الِانْقِطَاعِ كَطَهَارَةٍ قَوِيَّةٍ فِي نَفْسِهَا وَهُنَا الِاغْتِسَالُ وَاجِبٌ عَلَيْهَا بَعْدَ التَّيَمُّمِ وَإِنَّمَا تَعَذَّرَ وَلَمْ يَذْكَرْ فِي الْكِتَابِ مَا إذَا تَيَمَّمَتْ وَشَرَعَتْ فِي الصَّلَاةِ .
وَالصَّحِيحُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الرَّجْعَةَ لَا تَنْقَطِعُ مَا لَمْ تَفْرُغْ مِنْ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْحَالَ بَعْدَ شُرُوعِهَا فِي الصَّلَاةِ كَالْحَالِ قَبْلَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهَا إذَا رَأَتْ الْمَاءَ لَا يَبْقَى لِتَيَمُّمِهَا أَثَرٌ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْفَرَاغِ فَإِنَّهَا وَإِنْ رَأَتْ الْمَاءَ تَبْقَى صَلَاتُهَا مُجْزِئَةً وَتَأْوِيلُ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الزَّوْجُ أَحَقُّ بِرَجْعَتِهَا مَا لَمْ تَحِلَّ الصَّلَاةُ لَهَا وَحِلُّ الصَّلَاةِ بِالِاغْتِسَالِ فَإِنَّهُ صَحَّ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّهُ كَانَ لَا يَرَى التَّيَمُّمَ لِلْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ شَهْرًا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .
بَابُ الْعِدَّةِ وَخُرُوجِ الْمَرْأَةِ مِنْ بَيْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا عِدَّةَ ذَاتِ الْقُرُوءِ وَالْآيِسَةِ وَالصَّغِيرَةِ إذَا كَانَتْ حُرَّةً أَوْ أَمَةً فَأَمَّا عِدَّةُ الْوَفَاةِ فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا عَنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ وَيَسْتَوِي فِيهِ الْمَدْخُولُ بِهَا وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا صَغِيرَةً كَانَتْ أَوْ كَبِيرَةً حَتَّى إذَا كَانَتْ حُرَّةً مُسْلِمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً تَحْتَ مُسْلِمٍ فَعِدَّتُهَا مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } وَقَوْلُهُ { وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا } بَيَانُ أَنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ لِأَنَّ اسْمَ الزَّوْجِيَّةِ مُطْلَقًا لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ صِحَّةِ النِّكَاحِ وَيَسْتَوِي فِي هَذَا الِاسْمِ الْمَدْخُولُ بِهَا وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعِدَّةَ مَحْضُ حَقِّ النِّكَاحِ لِأَنَّ النِّكَاحَ بِالْمَوْتِ يَنْتَهِي فَإِنَّهُ يُعْقَدُ لِلْعُمْرِ وَمُضِيُّ مُدَّةِ الْعُمْرِ يُنْهِيهِ فَتَجِبُ الْعِدَّةُ حَقًّا مِنْ حُقُوقِهِ وَبَيَّنَ السَّلَفُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِيهِ خِلَافًا فِي أَرْبَعَةِ فُصُولٍ .
( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَهَا عِدَّتَانِ الْأَطْوَلُ ، وَهُوَ الْحَوْلُ وَالْأَقْصَرُ وَهُوَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ } أَيْ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } فَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ الْعِدَّةَ الْكَامِلَةَ هُوَ الْحَوْلُ وَأَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا رُخْصَةٌ لَهَا وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ وَهَذَا حُكْمٌ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ أَنَّ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُوصِيَ لَهَا بِالنَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى إلَى الْحَوْلِ ، وَقَدْ انْتَسَخَ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ { أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لَمَّا جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْتَأْذِنُهُ فِي
الِاكْتِحَالِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ إحْدَاكُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا قَعَدَتْ فِي شَرِّ أَحْلَاسِهَا حَوْلًا ثُمَّ خَرَجَتْ فَرَمَتْ كَلْبَةً بِبَعْرَةٍ أَفَلَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } .
( وَالثَّانِي ) أَنَّ الْمُعْتَبَرَ عَشْرَةُ أَيَّامٍ وَعَشْرُ لَيَالٍ مِنْ الشَّهْرِ الْخَامِسِ عِنْدَنَا وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ عَشْرُ لَيَالٍ وَتِسْعَةُ أَيَّامٍ حَتَّى يَجُوزَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ لِظَاهِرٍ قَوْله تَعَالَى وَعَشْرًا فَإِنَّ جَمْعَ الْمُؤَنَّثِ يُذَكَّرُ وَجَمْعَ الْمُذَكَّرِ يُؤَنَّثُ فَيُقَالُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ وَعَشْرُ لَيَالٍ فَلَمَّا قَالَ هُنَا وَعَشْرًا عَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ اللَّيَالِيَ وَلَكِنَّا نَقُولُ هُوَ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّ ذِكْرَ أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ مِنْ الْأَيَّامِ وَاللَّيَالِي بِعِبَارَةِ الْجَمْعِ يَقْتَضِي دُخُولَ مَا بِإِزَائِهِ مِنْ الْعَدَدِ الْآخَرِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي بَابِ الِاعْتِكَافِ .
( وَالثَّالِثُ ) أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا فَعِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا عِنْدَنَا ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ تَعْتَدُّ بِأَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ إمَّا بِوَضْعِ الْحَمْلِ أَوْ بِأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَأُولَاتِ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } يُوجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةَ بِوَضْعِ الْحَمْلِ وقَوْله تَعَالَى { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } يُوجِبُ عَلَيْهَا الِاعْتِدَادَ بِأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا احْتِيَاطًا وَلَوْ وَضَعَتْ قَبْلَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ لِأَنَّ أَمْرَ الْعِدَّةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَلَكِنْ قَدْ صَحَّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَأُولَاتِ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ } قَاضِيَةٌ عَلَى قَوْله تَعَالَى { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ } حَتَّى قَالَ
ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ شَاءَ بِأَهِلَّتِهِ إنَّ سُورَةَ النِّسَاءِ الْقُصْوَى { وَأُولَاتِ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ } نَزَلَتْ بَعْدَ قَوْلِهِ { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا } الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَوْ وَضَعَتْ مَا فِي بَطْنِهَا وَزَوْجُهَا عَلَى سَرِيرِهِ لَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ { سُبَيْعَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ الْأَسْلَمِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا فَإِنَّهَا وَضَعَتْ مَا فِي بَطْنِهَا بَعْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ بِتِسْعَةِ أَيَّامٍ فَسَأَلَتْ أَبَا السَّنَابِلِ بْنَ بَعْكَكٍ هَلْ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ فَقَالَ لَا حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ فَجَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَتْهُ بِمَا قَالَ أَبُو السَّنَابِلِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَبَ أَبُو السَّنَابِلِ فَقَدْ بَلَغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ إذَا أَرَدْت النِّكَاحَ فَادْأَبِي } وَإِنَّمَا اشْتَبَهَ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لِأَنَّ بِوَضْعِ الْحَمْلِ يَتَبَيَّنُ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ ، وَفِي التَّرَبُّصِ بِأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا لَا عِبْرَةَ بِشُغْلِ الرَّحِمِ حَتَّى تَسْتَوِيَ فِيهَا الصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَةُ بِخِلَافِ عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَلَكِنَّا نَقُولُ أَصْلُ الْعِدَّةِ مَشْرُوعٌ لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ وَتَمَامُ ذَلِكَ بِوَضْعِ الْحَمْلِ فَفِي حَقِّ الْحَامِلِ لَا يُعْتَبَرُ شَيْءٌ آخَرُ بِأَيِّ سَبَبٍ وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ .
( وَالرَّابِعُ ) أَنَّ عِدَّةَ الْوَفَاةِ مُعْتَبَرَةٌ مِنْ وَقْتِ الزَّوْجِ عِنْدَنَا ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ مِنْ حِينِ تَعْلَمُ بِمَوْتِهِ حَتَّى إذَا مَاتَ الزَّوْجُ فِي السَّفَرِ فَأَتَاهَا الْخَبَرُ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْعِدَّةِ عِنْدَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَلْزَمُهَا عِدَّةُ مُسْتَأْنَفَةٍ لِأَنَّ عَلَيْهَا الْحِدَادُ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ وَلَا يُمْكِنُهَا إقَامَةُ سَنَةِ الْحِدَادِ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِمَوْتِهِ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْعِدَّةَ تَجِبُ
بِطَرِيقِ الْعِبَادَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ عِلْمِهَا بِالسَّبَبِ لِتَكُونَ مُؤَدِّيَةً لِلْعِبَادَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْعِدَّةُ مُجَرَّدُ مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِدُونِ عِلْمِهَا فَهُوَ وَعِدَّةُ الطَّلَاقِ سَوَاءٌ وَأَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهَا لَمْ تُقِمْ سَنَةَ الْحِدَادِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مِنْ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كَمَا لَوْ كَانَتْ عَالِمَةً بِمَوْتِ الزَّوْجِ وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي الْعِدَّةِ تَبَعٌ لَا مَقْصُودٌ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْكِتَابِيَّةِ تَحْتَ الْمُسْلِمِ وَهِيَ لَا تُخَاطَبُ بِالْعِبَادَاتِ .
( قَالَ ) وَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا إذَا كَانَتْ أَمَةً أَوْ مُكَاتَبَةً أَوْ مُدَبَّرَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ فَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا فَعِدَّتُهَا شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ لِأَنَّ الرِّقَّ مُنَصِّفٌ لِلْعِدَّةِ كَمَا بَيَّنَّا وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَعِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا لِأَنَّ مُدَّةَ الْحَبَلِ لَا تَحْتَمِلُ التَّنْصِيفَ فَإِنَّ شَيْئًا مِنْ الْمَقْصُودِ وَهُوَ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ لَا يَحْصُلُ قَبْلَ وَضْعِ الْحَمْلِ .
( قَالَ ) وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا أَوْ وَاحِدَةً بَائِنَةً أَوْ رَجْعِيَّةً أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } قَالَ إبْرَاهِيمُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْفَاحِشَةُ خُرُوجُهَا مِنْ بَيْتِهَا وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْفَاحِشَةُ أَنْ تَزْنِيَ فَتَخْرُجَ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْفَاحِشَةُ نُشُوزُهَا وَأَنْ تَكُونَ بَذِيئَةَ اللِّسَانِ تَبْذُو عَلَى إحْمَاءِ زَوْجِهَا وَمَا قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ الْأَصَحُّ فَإِنَّهُ جَعَلَ الْفَاحِشَةَ غَايَةً وَالشَّيْءُ لَا يُجْعَلُ غَايَةً لِنَفْسِهِ وَمَا ذَكَرَهُ إبْرَاهِيمُ مُحْتَمَلٌ أَيْضًا وَالْمَعْنَى أَنْ يَكُونَ خُرُوجُهَا فَاحِشَةً كَمَا يُقَالُ لَا يَسُبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا أَنْ يَكُونَ كَافِرًا وَلَا يَزْنِي إلَّا أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا وَعَلَى هَذَا لَا تَخْرُجُ لِسَفَرِ الْحَجِّ وَلَا لِغَيْرِهِ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ الْخُرُوجِ مُوَقَّتٌ بِالْعِدَّةِ يَفُوتُ بِمُضِيِّهَا وَالْخُرُوجُ لِلْحَجِّ لَا يَفُوتُهَا فَتَقَدَّمَ مَا يَفُوتُ عَلَى مَا لَا يَفُوتُ .
وَأَمَّا الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ بِالنَّهَارِ لِحَوَائِجِهَا وَلَكِنَّهَا لَا تَبِيتُ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهَا لِمَا رُوِيَ { أَنَّ فُرَيْعَةَ بِنْتَ مَالِكٍ بْنِ أَبِي سِنَانٍ أُخْتَ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا تَسْتَأْذِنُهُ أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَنِي خُدْرَةَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُمْكُثِي فِي بَيْتِك حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُك } وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا خُرُوجَهَا لِلِاسْتِفْتَاءِ وَعَنْ عَلْقَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ اللَّاتِي تَوَفَّى عَنْهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ شَكَوْنَ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الْوَحْشَةَ فَرَخَّصَ لَهُنَّ أَنْ يَتَزَاوَرْنَ بِالنَّهَارِ وَلَا يَبِتْنَ فِي غَيْرِ مَنَازِلِهِنَّ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ فِي هَذِهِ الْعِدَّةِ عَلَى زَوْجِهَا فَهِيَ تَحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ لِحَوَائِجِهَا فِي النَّهَارِ وَتَحْصِيلِ مَا تُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهَا .
بِخِلَافِ الْمُطَلَّقَةِ فَإِنَّهَا مَكْفِيَّةُ الْمُؤْنَةِ وَنَفَقَتُهَا عَلَى زَوْجِهَا عَلَى أَيِّ وَجْهٍ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِالطَّلَاقِ فَلَا حَاجَةَ بِهَا إلَى الْخُرُوجِ وَإِنْ كَانَتْ أَبْرَأَتْ زَوْجَهَا فِي الْخُلْعِ فَهِيَ الَّتِي أَضَرَّتْ بِنَفْسِهَا فَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا أَنْ تَبِيتَ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهَا أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ عَلَيْهَا الْبَيْتُوتَةُ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهَا وَالْبَيْتُوتَةُ فِي جَمِيعِهَا أَوْ أَكْثَرِهَا .
( قَالَ ) وَإِنْ كَانَتْ مُدَبَّرَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ أَمَةً أَوْ مُكَاتَبَةً فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ وَالْوَفَاةِ جَمِيعًا لِأَنَّهَا مَا كَانَتْ مَمْنُوعَةً عَنْ الْخُرُوجِ فِي حَالِ النِّكَاحِ وَالْمَنْعُ فِي الْعِدَّةِ عَلَى ذَلِكَ يَنْبَنِي ، وَهَذَا لِأَنَّ خِدْمَتَهَا حَقُّ مَوْلَاهَا وَالْمَنْعُ عَنْ الْخُرُوجِ إمَّا لِحَقِّ الشَّرْعِ أَوْ لِحَقِّ الزَّوْجِ وَحَقُّ الْمَوْلَى فِي الْخِدْمَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ وَالْمُكَاتَبَةُ إنَّمَا تَخْرُجُ لِلِاكْتِسَابِ ، وَفِي كَسْبِهَا حَقُّ الْمَوْلَى إمَّا أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْهُ بَدَلَ الْكِتَابَةِ أَوْ يَخْلُصَ لَهُ إذَا عَجَزَتْ وَالْمُسْتَسْعَاةُ كَالْمُكَاتَبَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَلِكَ الْكِتَابِيَّةُ تَحْتَ مُسْلِمٍ .
أَمَّا فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ لِقِيَامِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا وَأَمَّا فِي الطَّلَاقِ الْبَائِنِ فَإِنْ مَنَعَهَا الزَّوْجُ عَنْ الْخُرُوجِ فَلَهُ ذَلِكَ تَحْصِينًا لِمَائِهِ وَلِكَيْلَا تُلْحِقَ بِهِ نَسَبًا لَيْسَ مِنْهُ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى { لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا } أَيْ وَلَدًا وَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يَمْنَعُهَا الزَّوْجُ فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ ، وَكَذَلِكَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ لَهَا أَنْ تَبِيتَ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهَا لِأَنَّ الْمَنْعَ لِحَقِّ الشَّرْعِ وَهِيَ لَا تُخَاطَبُ بِذَلِكَ وَإِلَيْهِ أَشَارَ فَقَالَ لِأَنَّ مَا فِيهَا مِنْ الشِّرْكِ أَعْظَمُ مِنْ الْخُرُوجِ فِي الْعِدَّةِ وَإِنْ كَانَتْ صَبِيَّةً فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ لِأَنَّهَا لَا تُخَاطَبُ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ هَذَا مِنْ حُقُوقِ الشَّرْعِ كَالصَّلَوَاتِ وَالْحُدُودِ وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا فِي الطَّلَاقِ الْبَائِنِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ عَلَيْهَا مِلْكٌ وَلَا يُتَوَهَّمُ الْحَبَلُ قَالُوا إلَّا أَنْ تَكُونَ مُرَاهِقَةً يُتَوَهَّمُ أَنْ تَحْبَلَ فَحِينَئِذٍ هِيَ كَالْكِتَابِيَّةِ فَأَمَّا فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ هِيَ لَا تَخْرُجُ إلَّا بِإِذْنِ الزَّوْجِ لِبَقَاءِ مِلْكِ النِّكَاحِ لَهُ عَلَيْهَا .
( قَالَ ) ، وَإِذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَعَ زَوْجِهَا فِي مَنْزِلِ مُكْرًى فَطَلَّقَهَا فِيهِ فَالْكِرَاءُ عَلَى زَوْجِهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا لِأَنَّ السُّكْنَى عَلَيْهِ وَالْكِرَاءُ مُؤْنَةُ السُّكْنَى فَتَكُونُ عَلَيْهِ كَمَا فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ فَإِنْ أَخْرَجَهَا أَهْلُ الْمَنْزِلِ فَهِيَ فِي سَعَةٍ مِنْ التَّحَوُّلِ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ فِي مَنْزِلِهِمْ وَهِيَ لَا تَقْدِرُ عَلَى الْمُقَامِ مَعَ الْإِخْرَاجِ فَيَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا لَهَا فِي التَّحَوُّلِ كَمَا إذَا انْهَدَمَ الْمَنْزِلُ فَأَمَّا فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ أَجْرُ الْمَنْزِلِ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا لَا تَسْتَوْجِبُ عَلَى زَوْجِهَا السُّكْنَى كَمَا لَا تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ فَإِنْ مَكَّنَهَا أَهْلُ الْمَنْزِلِ مِنْ الْمُقَامِ بِكِرَاءٍ وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ فَعَلَيْهَا أَنْ تَسْكُنَ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَجِدُ ذَلِكَ فَهِيَ فِي سَعَةٍ مِنْ التَّحَوُّلِ لِأَنَّ سُكْنَاهَا فِي ذَلِكَ الْمَنْزِلِ حَقُّ الشَّرْعِ فَإِذَا قَدَرْت عَلَيْهِ بِعِوَضٍ لَزِمَهَا كَالْمُسَافِرِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ بِثَمَنِ مِثْلِهِ فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ الثَّمَنُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ الثَّمَنُ فَلَهُ أَنْ يَتَيَمَّمَ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ زَوْجُ الْمُطَلَّقَةِ غَائِبًا فَأَخَذَهَا أَهْلُ الْمَنْزِلِ بِكِرَاءٍ فَعَلَيْهَا أَنْ تُعْطِيَ الْأَجْرَ وَتَسْكُنَ إذَا كَانَتْ تَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ فِي مَنْزِلِ زَوْجِهَا فَمَاتَ الزَّوْجُ إنْ كَانَ نَصِيبُهَا مِنْ ذَلِكَ يَكْفِيهَا فَعَلَيْهَا أَنْ تَسْكُنَ فِي نَصِيبِهَا فِي الْعِدَّةِ وَلَا يَخْلُو بِهَا مَنْ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ لَهَا مِنْ وَرَثَةِ الزَّوْجِ وَإِنْ كَانَ نَصِيبُهَا لَا يَكْفِيهَا فَإِنْ رَضِيَ وَرَثَةُ الزَّوْجِ أَنْ تَسْكُنَ فِيهِ سَكَنَتْ وَإِنْ أَبَوْا كَانَتْ فِي سَعَةٍ مِنْ التَّحَوُّلِ لِلْعُذْرِ وَإِنْ كَانَتْ فِي مَنْزِلٍ مَخُوفٍ عَلَى نَفْسِهَا أَوْ مَالِهَا وَلَيْسَ مَعَهَا رَجُلٌ كَانَتْ فِي سَعَةٍ مِنْ الرِّحْلَةِ لِأَنَّ الْمُقَامَ مَعَ الْخَوْفِ لَا يُمْكِنُ ، وَفِي الْمُقَامِ ضَرَرٌ عَلَيْهَا فِي نَفْسِهَا وَمَالِهَا وَذَلِكَ عُذْرٌ فِي إسْقَاطِ حَقِّ الشَّرْعِ كَمَا لَوْ
كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ سَبُعٌ أَوْ عَدُوٌّ وَلَوْ كَانَتْ بِالسَّوَادِ فَدَخَلَ عَلَيْهَا الْخَوْفُ مِنْ سُلْطَانٍ أَوْ غَيْرِهِ كَانَتْ فِي سَعَةٍ مِنْ التَّحَوُّلِ إلَى الْمِصْرِ لِأَنَّهَا تَتَمَكَّنُ مِنْ إزَالَةِ الْخَوْفِ هُنَا بِالتَّحَوُّلِ إلَى الْمِصْرِ وَلَوْ كَانَ زَوَالُ الْخَوْفِ بِالتَّحَوُّلِ مِنْ مَنْزِلٍ إلَى مَنْزِلٍ كَانَ لَهَا أَنْ تَتَحَوَّلَ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ بِالتَّحَوُّلِ مِنْ السَّوَادِ إلَى الْمِصْرِ .
( قَالَ ) ، وَإِذَا طَلَّقَهَا وَهِيَ فِي بَيْتِ أَهْلِهَا أَوْ غَيْرِهِمْ زَائِرَةً كَانَ عَلَيْهَا أَنْ تَعُودَ إلَى مَنْزِلِ زَوْجِهَا حَتَّى تَعْتَدَّ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ زَوْجُهَا مَعَهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهَا الْمُقَامُ فِي مَنْزِلٍ مُضَافٍ إلَيْهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ } وَالْإِضَافَةُ إلَيْهَا بِكَوْنِهَا سَاكِنَةً فِيهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهَا الْمُقَامُ فِي مَنْزِلٍ كَانَتْ سَاكِنَةً فِيهِ إلَى وَقْتِ الْفُرْقَةِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَنْزِلَ الَّذِي هِيَ فِيهِ زَائِرَةٌ لَيْسَ بِمُضَافٍ إلَيْهَا فَعَلَيْهَا أَنْ تَعُودَ إلَى الْمَنْزِلِ الَّذِي كَانَتْ سَاكِنَةً فِيهِ لِتَتَمَكَّنَ مِنْ إقَامَةِ حَقِّ الشَّرْعِ .
( قَالَ ) وَلَوْ سَافَرَ بِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا فَهِيَ لَا تُفَارِقُ زَوْجَهَا لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يَقْطَعُ النِّكَاحَ فَأَمَّا إذَا طَلَّقَهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا فِي مَنْزِلِهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا قَبْلَ الرَّجْعَةِ عِنْدَنَا وَلَهُ ذَلِكَ عِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قِيلَ هَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَنَّ السَّفَرَ بِهَا رَجْعَةٌ عِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ دَلِيلُ اسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ كَالتَّقْبِيلِ وَالْمَسِّ بِشَهْوَةٍ وَعِنْدَنَا لَا يَكُونُ السَّفَرُ بِهَا رَجْعَةً لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْمِلْكِ كَالْخَلْوَةِ وَقِيلَ هِيَ مَسْأَلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ فَهُوَ يَقُولُ الْحِلُّ وَالنِّكَاحُ بَيْنَهُمَا قَائِمٌ فَلَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا وَلَكِنَّا نَقُولُ هِيَ مُعْتَدَّةٌ وَالْمُعْتَدَّةُ مَمْنُوعَةٌ مِنْ إنْشَاءِ السَّفَرِ مَعَ زَوْجِهَا كَمَا تُمْنَعُ مِنْ إنْشَاءِ السَّفَرِ مَعَ الْمَحْرَمِ وَرُبَّمَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا فِي الطَّرِيقِ فَتَبْقَى بِغَيْرِ مَحْرَمٍ وَلَا زَوْجٍ وَأَمَّا فِي الطَّلَاقِ الْبَائِنِ فَإِنْ كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَقْصِدِهَا دُونَ مَسِيرَةِ سَفَرٍ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ مَنْزِلِهَا كَذَلِكَ فَعَلَيْهَا أَنْ تَرْجِعَ إلَى مَنْزِلِهَا لِأَنَّهَا كَمَا رَجَعَتْ تَصِيرُ مُقِيمَةً ، وَإِذَا مَضَتْ تَكُونُ مُسَافِرَةً مَا لَمْ تَصِلْ إلَى الْمَقْصِدِ .
فَإِذَا قَدَرَتْ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ اسْتِدَامَةِ السَّفَرِ فِي الْعِدَّةِ تَعَيَّنَ عَلَيْهَا ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَقْصِدِهَا دُونَ مَسِيرَةِ سَفَرٍ وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ مَنْزِلِهَا مَسِيرَةُ سَفَرٍ مَضَتْ إلَى مَقْصِدِهَا وَلَمْ تَرْجِعْ لِأَنَّهَا إذَا مَضَتْ لَا تَكُونُ مُنْشِئَةً سَفَرًا وَلَا سَائِرَةً فِي الْعِدَّةِ مَسِيرَةَ سَفَرٍ ، وَإِذَا رَجَعَتْ تَكُونُ مُنْشِئَةً سَفَرًا ؛ فَلِهَذَا مَضَتْ إلَى مَقْصُودِهَا وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مَسِيرَةَ سَفَرٍ ، فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ أَوْ مَوْتُ الزَّوْجِ فِي مَوْضِعٍ لَا تَقْدِرُ عَلَى الْمُقَامِ فِيهِ كَالْمَفَازَةِ تَوَجَّهَتْ إلَى أَيِّ الْجَانِبَيْنِ شَاءَتْ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهَا
مَحْرَمٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ وَيَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَخْتَارَ أَقْرَبَ الْجَانِبَيْنِ وَهِيَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَاَلَّتِي أَسْلَمَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَهَا أَنْ تُهَاجِرَ إلَى دَارِنَا مِنْ غَيْرِ مَحْرَمٍ لِأَنَّهَا خَائِفَةٌ عَلَى نَفْسِهَا وَدِينِهَا فَهَذِهِ فِي الْمَفَازَةِ كَذَلِكَ .
فَأَمَّا إذَا كَانَتْ فِي مِصْرٍ أَوْ قَرْيَةٍ تَقْدِرُ عَلَى الْمُقَامِ فِيهِ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا مَحْرَمٌ فَكَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مَعَهَا مَحْرَمٌ فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ إلَى أَيِّ الْجَانِبَيْنِ شَاءَتْ لِأَنَّهَا غَرِيبَةٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَالْغَرِيبُ يُؤْذَى وَيُقْصَدُ بِالْجَفَاءِ وَمَنْ يَصْبِرُ عَلَى الْأَذَى فَكَانَتْ مُضْطَرَّةً إلَى الْخُرُوجِ فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ إلَى أَيِّ الْجَانِبَيْنِ شَاءَتْ كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي الْمَفَازَةِ إلَّا أَنَّ هَذَا مِنْ وَجْهِ إنْشَاءِ سَفَرٍ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْحَرَمُ بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى طَرِيقَانِ .
( أَحَدُهُمَا ) أَنَّهَا إلَى الْآنَ كَانَتْ تَابِعَةً لِلزَّوْجِ فِي السَّفَرِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ نِيَّةُ الزَّوْجِ فِي السَّفَرِ وَالْإِقَامَةِ لَا نِيَّتُهَا وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ فَتَكُونُ هِيَ مُنْشِئَةٌ سَفَرًا مِنْ مَوْضِعِ أَمْنٍ وَغِيَاثٍ وَالْعِدَّةُ تَمْنَعُهَا مِنْ ذَلِكَ كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي مَنْزِلِهَا بِخِلَافِ الْمَفَازَةِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِمَوْضِعِ الْإِقَامَةِ فَلَا تَكُونُ هِيَ فِي التَّحَوُّلِ مُنْشِئَةً سَفَرًا وَقَالُوا عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ إذَا كَانَتْ سَافَرَتْ مَعَ الْمَحْرَمِ بِغَيْرِ زَوْجٍ فَأَتَاهَا خَبَرُ مَوْتِ الزَّوْجِ أَوْ الطَّلَاقُ لَا يَكُونُ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْمُقَامُ فِيهِ لِأَنَّهَا مَاضِيَةٌ عَلَى سَفَرِهَا لَا مُنْشِئَةٌ ( وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ ) أَنَّ تَأْثِيرَ الْعِدَّةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْخُرُوجِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَمِ الْمَحْرَمِ أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ
غَيْرِ الْمَحْرَمِ مَا دُونَ مَسِيرَةِ السَّفَرِ وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهَا فِي عِدَّتِهَا دُونَ مُدَّةِ السَّفَرِ ثُمَّ فَقْدُ الْمَحْرَمِ هُنَا يَمْنَعُهَا مِنْ الْخُرُوجِ بِالِاتِّفَاقِ فَلَأَنْ تَمْنَعَهَا الْعِدَّةُ مِنْ الْخُرُوجِ وَأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي مَوْضِعٍ مَخُوفٍ أَوْلَى بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ فِي الْمَفَازَةِ فَإِنَّ فَقْدَ الْمَحْرَمِ هُنَاكَ لَا يَمْنَعُهَا مِنْ الْخُرُوجِ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي مَوْضِعِ الْقَرَارِ فَكَذَلِكَ الْعِدَّةُ حَتَّى لَوْ وَصَلَتْ إلَى مِصْرٍ أَوْ قَرْيَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
( قَالَ ) وَلِلْمُعْتَدَّةِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهَا إلَى الدَّارِ وَتَبِيتَ فِي أَيِّ بُيُوتِ الدَّارِ شَاءَتْ لِأَنَّ جَمِيعَ الدَّارِ مَنْزِلٌ وَاحِدٌ وَعَلَيْهَا أَنْ تَبِيتَ فِي مَنْزِلِهَا وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي أَيِّ بَيْتٍ بَاتَتْ وَبِالْخُرُوجِ إلَى صَحْنِ الدَّارِ لَا تَصِيرُ خَارِجَةً مِنْ مَنْزِلِهَا أَلَا تَرَى أَنَّهَا فِي حَالِ بَقَاءِ النِّكَاحِ لَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الدَّارِ مَنَازِلُ غَيْرِهِمْ فَحِينَئِذٍ لَا تَخْرُجُ إلَى تِلْكَ الْمَنَازِلِ لِأَنَّ صَحْنَ الدَّارِ هُنَا بِمَنْزِلَةِ السِّكَّةِ وَبِالْوُصُولِ إلَيْهِ تَصِيرُ خَارِجَةً مِنْ مَنْزِلِهَا وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْعِدَّةِ .
( قَالَ ) ، وَإِذَا طَلَّقَهَا طَلَاقًا بَائِنًا وَلَيْسَ لَهُ إلَّا بَيْتٌ وَاحِدٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا سِتْرًا وَحِجَابًا لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ الْخَلْوَةِ بِهَا بَعْدَ ارْتِفَاعِ النِّكَاحِ فَيَتَّخِذُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا سُتْرَةً حَتَّى يَكُونَ فِي حُكْمِ بَيْتَيْنِ وَكَذَلِكَ فِي الْوَفَاةِ إذَا كَانَ لَهُ أَوْلَادٌ رِجَالٌ مِنْ غَيْرِهَا فَإِذَا هُمْ وَسَّعُوا عَلَيْهَا وَخَرَجُوا عَنْهَا أَوْ سَتَرُوا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا حِجَابًا فَلْتَقُمْ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا وَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ فَلْتَنْتَقِلْ مَعْنَاهُ إذَا أَخْرَجُوهَا وَكَانَ نَصِيبُهَا لَا يَكْفِيهَا أَوْ كَانَتْ تَخَافُ عَلَى نَفْسِهَا مِنْهُمْ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تُقِيمَ مَعَهُمْ لِأَنَّ أَوْلَادَهُ مَحْرَمٌ لَهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ وَرَثَتِهِ مَنْ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ لَهَا .
.
( قَالَ ) بَلَغَنَا أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ نَقَلَ أُمَّ كُلْثُومٍ حِينَ قُتِلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي دَارِ الْإِمَارَةِ وَرُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا نَقَلَتْ أُخْتَهَا أُمَّ كُلْثُومٍ حِينَ قُتِلَ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ .
( قَالَ ) ، وَإِذَا انْهَدَمَ مَنْزِلُ الْمُطَلَّقَةِ أَوْ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فَهِيَ فِي سَعَةٍ مِنْ التَّحَوُّلِ إلَى أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَتْ لِأَنَّ الْمُقَامَ فِي الْمَنْزِلِ الْمَهْدُومِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَكَانَ ذَلِكَ عُذْرًا فِي التَّحَوُّلِ وَالتَّدْبِيرِ فِي اخْتِيَارِ الْمَنْزِلِ إلَيْهَا بَعْدَ زَوَالِ الْمِلْكِ عَنْهَا إلَّا فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ فَإِنَّ التَّدْبِيرَ إلَى الزَّوْجِ فِي اخْتِيَارِ الْمَنْزِلِ فَلَهُ أَنْ يَنْقُلَهَا حَيْثُ أَحَبَّ وَكَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ الْبَائِنِ إذَا كَانَ الزَّوْجُ حَاضِرًا وَأَرَادَ أَنْ يَنْقُلَهَا إلَى مَنْزِلٍ آخَرَ عِنْدَ الْعُذْرِ فَالْخِيَارُ فِي ذَلِكَ إلَيْهِ لِأَنَّ مِلْكَ الْيَدِ لَهُ عَلَيْهَا بَاقٍ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ وَالسُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُحْصِنَهَا حَتَّى لَا تُلْحِقَ بِهِ مَا يَكْرَهُ وَإِنَّمَا الِاخْتِيَارُ إلَيْهَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ مَيِّتًا أَوْ غَائِبًا عِنْدَ تَحَقُّقِ الْعُذْرِ .
( قَالَ ) وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُعْتَدَّةِ أَنْ تَحُجَّ وَلَا تُسَافِرَ مَعَ مَحْرَمٍ وَغَيْرِ مَحْرَمٍ عَلَى مَا مَرَّ ، وَفِي الْكِتَابِ قَالَ بَلَغَنَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ رَدَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ رَدَّهُنَّ مِنْ قَصْرِ النَّجَفِ وَكُنَّ قَدْ خَرَجْنَ حَاجَّاتٍ فَدَلَّ أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ تُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ .
( قَالَ ) ، وَإِذَا طَلُقَتْ الْأَمَةُ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً ثُمَّ أُعْتِقَتْ صَارَتْ عِدَّتُهَا عِدَّةَ الْحُرَّةِ وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا لَمْ تَنْتَقِلْ عِدَّتُهَا مِنْ عِدَّةِ الْإِمَاءِ إلَى عِدَّةِ الْحَرَائِرِ وَعِنْدَ مَالِكٍ لَا تَنْتَقِلُ عِدَّتُهَا إلَى عِدَّةِ الْحَرَائِرِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ، وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ قَالَ تَنْتَقِلُ عِدَّتُهَا فِي الْوَجْهَيْنِ وَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ مَا يَخْتَلِفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ يَكُونُ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ حَالَ تَقَرُّرِ الْوُجُوبِ كَالْحُدُودِ وَهَكَذَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ يَرْفَعُ الْحِلَّ فَالْعِتْقُ بَعْدَهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْحِلِّ فَلَا تَتَغَيَّرُ الْعِدَّةُ كَمَا بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ يَخْتَلِفُ بِالْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّ لِتَنَصُّفِ الْحِلِّ بِسَبَبِ الرِّقِّ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ ، ثُمَّ الطَّلَاقُ الرَّجْعِيُّ لَا يُزِيلُ مِلْكَ النِّكَاحِ فَإِذَا أُعْتِقَتْ كَمُلَ مِلْكُ النِّكَاحِ عَلَيْهَا بِكَمَالِ حَالِهَا بَعْدَ الْعِتْقِ ، وَالْعِدَّةُ فِي الْمِلْكِ الْكَامِلِ تَتَقَدَّرُ بِثَلَاثِ حِيَضٍ فَأَمَّا بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ فَقَدْ زَالَ الْمِلْكُ فَلَا يَتَكَامَلُ بِالْعِتْقِ الْمِلْكُ الزَّائِلُ عَنْ الْحِلِّ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْعِدَّةَ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ بِعَرْضِ التَّغَيُّرِ حَتَّى تَتَغَيَّرَ بِمَوْتِ الزَّوْجِ مِنْ الْأَقْرَاءِ إلَى الشُّهُورِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَكَذَلِكَ بِعِتْقِهَا تَتَغَيَّرُ إلَى ثَلَاثِ حِيَضٍ فَأَمَّا بَعْدَ مَا بَانَتْ فِي الصِّحَّةِ فَلَا تَتَغَيَّرُ مِنْ الْأَقْرَاءِ إلَى الْأَشْهُرِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَكَذَلِكَ لَا تَتَغَيَّرُ بِعِتْقِهَا تَوْضِيحُهُ أَنَّ زَوَالَ الْمِلْكِ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَلَا يَزُولُ الْمِلْكُ عَنْ الْحُرَّةِ إلَّا بِثَلَاثِ حِيَضٍ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ وَبِخِلَافِ الْحُدُودِ فَإِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الدَّرْءِ وَالْإِسْقَاطِ وَالْعِدَّةُ
مَأْخُوذٌ فِيهَا بِالِاحْتِيَاطِ وَسَائِرِ وُجُوهِ الْفُرْقَةِ كَالطَّلَاقِ فِي هَذَا وَكَذَلِكَ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ لِأَنَّ الْمِلْكَ هُنَاكَ يَزُولُ بِالْمَوْتِ وَمَذْهَبُنَا فِي الْفَصْلَيْنِ مَرْوِيٌّ عَنْ النَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى .
( قَالَ ) وَإِذَا مَاتَ زَوْجُ أُمِّ الْوَلَدِ عَنْهَا وَمَوْلَاهَا وَلَا يَعْلَمُ أَيُّهُمَا مَاتَ أَوَّلًا وَبَيْنَ مَوْتَيْهِمَا أَقَلُّ مِنْ شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ فَعَلَيْهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا مِنْ آخِرِهِمَا مَوْتًا احْتِيَاطًا وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْحَيْضِ فِيهَا لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّهُ لَهُ لَيْسَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِالْحَيْضِ فَإِنَّ الْمَوْلَى لَوْ مَاتَ أَوَّلًا فَقَدْ مَاتَ وَهِيَ مَنْكُوحَةُ الْغَيْرِ فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا مِنْهُ لِأَنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةِ مِنْ الْمَوْلَى بِزَوَالِ فِرَاشِهِ عَنْهَا وَلَا فِرَاشَ لِلْمَوْلَى عَلَيْهَا هُنَا فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى آخِرًا فَقَدْ مَاتَ وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ مِنْ الزَّوْجِ فَلَمْ تَكُنْ فِرَاشًا لِلْمَوْلَى أَيْضًا وَلَكِنْ مِنْ وَجْهٍ عَلَيْهَا شَهْرَانِ وَخَمْسَةُ أَيَّامٍ ، وَهُوَ مَا إذَا مَاتَ الزَّوْجُ أَوَّلًا وَمِنْ وَجْهٍ عَلَيْهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ، وَهُوَ مَا إذَا مَاتَ الزَّوْجُ آخِرًا فَقُلْنَا تَعْتَدُّ بِأَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا احْتِيَاطًا وَإِنْ عُلِمَ أَنَّ بَيْنَ مَوْتَيْهِمَا شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَكْثَرَ فَعِدَّتُهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا تَسْتَكْمِلُ فِيهَا ثَلَاثَ حِيَضٍ لِأَنَّهُ إنْ مَاتَ الزَّوْجُ أَوَّلًا فَقَدْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِشَهْرَيْنِ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِثَلَاثِ حِيَضٍ لِأَنَّهُ مَاتَ بَعْدَ مَا صَارَتْ فِرَاشًا وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى أَوَّلًا فَقَدْ عَتَقَتْ بِمَوْتِهِ ثُمَّ عَلَيْهَا بِمَوْتِ الزَّوْجِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَالْعِدَّةُ يُؤْخَذُ فِيهَا بِالِاحْتِيَاطِ ؛ فَلِهَذَا جَمَعْنَا بَيْنَ الْعِدَّتَيْنِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ مَا بَيْنَ مَوْتَيْهِمَا وَلَا أَيُّهُمَا مَاتَ أَوَّلًا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا لَا حَيْضَ فِيهَا وَعِنْدَهُمَا تَسْتَكْمِلُ فِيهَا ثَلَاثَ حِيَضٍ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مَاتَ أَوَّلًا ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى بَعْدَ مَا مَاتَ الزَّوْجُ بَعْدَ شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ ، وَفِي الْعِدَّةِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فَالْوَجْهُ
الْوَاحِدُ يَكْفِي لِوُجُوبِهَا لِلِاحْتِيَاطِ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَسَائِلِ الْعَقْدِ إذَا تَزَوَّجَ أَرْبَعًا فِي عُقْدَةٍ وَثَلَاثًا فِي عُقْدَةٍ وَاثْنَتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ الْبَيَانِ وَجَبَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عِدَّةُ الْوَفَاةِ احْتِيَاطًا وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ سَبَبُ وُجُوبِ الْعِدَّةِ بِالْحَيْضِ لَمْ يُوجَدْ ، وَهُوَ زَوَالُ فِرَاشِ الْمَوْلَى عَنْهَا وَالِاحْتِيَاطُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ ظُهُورِ السَّبَبِ وَبَيَانُهُ أَنَّهُ إذَا مَاتَ الْمَوْلَى أَوَّلًا فَقَدْ مَاتَ وَهِيَ مَنْكُوحَةُ الزَّوْجِ وَإِنْ مَاتَ آخِرًا فَقَدْ مَاتَ وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ مِنْ الزَّوْجِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُمَا إنَّ مُضِيَّ الشَّهْرَيْنِ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ بَيْنَ الْمَوْتَيْنِ مُحْتَمَلٌ قُلْنَا نَعَمْ وَلَكِنَّ مُضِيَّ هَذِهِ الْمُدَّةِ بَيْنَ الْمَوْتَيْنِ لَيْسَ بِعِدَّةٍ حَتَّى يُؤْخَذَ فِيهَا بِالِاحْتِيَاطِ وَلَا سَبَبَ لِوُجُوبِ الْعِدَّةِ فَلَا يُقَدَّرُ بِهِ عِنْدَ التَّرَدُّدِ مَعَ أَنَّ كُلَّ أَمْرَيْنِ ظَهَرَا وَلَا يُعْرَفُ التَّارِيخُ بَيْنَهُمَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا حَصَلَا مَعًا فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا مَاتَا مَعًا كَالْغَرْقَى وَالْحَرْقَى وَالْهَدْمَى لَا يَرِثُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَلِأَنَّ هُنَا أَحْوَالًا ثَلَاثَةً إنْ مَاتَ الْمَوْلَى أَوَّلًا فَهُنَاكَ نِكَاحٌ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْعِدَّةِ بِالْحَيْضِ وَإِنْ مَاتَ الزَّوْجُ أَوَّلًا ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى بَعْدَهُ قَبْلَ شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ فَهُنَاكَ عِدَّةٌ تَمْنَعُ وُجُوبَ الْعِدَّةِ بِالْحَيْضِ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ فَحِينَئِذٍ تَجِبُ الْعِدَّةُ بِالْحَيْضِ وَالْحَالَةُ الْوَاحِدَةُ لَا تُعَارِضُ الْحَالَتَيْنِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَقْدِ لِأَنَّ هُنَاكَ فِي حَقِّ كُلِّ امْرَأَةٍ حَالَتَانِ إمَّا حَالُ صِحَّةِ النِّكَاحِ أَوْ حَالُ فَسَادِهِ وَالتَّعَارُضُ يَقَعُ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ ؛ فَلِهَذَا يُؤْخَذُ بِالِاحْتِيَاطِ هُنَاكَ وَكَذَلِكَ إذَا عُلِمَ أَنَّ بَيْنَ الْمَوْتَيْنِ شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ فَهُنَا حَالَتَانِ إمَّا الْعِدَّةُ بِالْأَشْهُرِ مِنْ الزَّوْجِ أَوْ بِالْحَيْضِ مِنْ الْمَوْلَى
فَلِتَعَارُضِ الْحَالَتَيْنِ أَخَذْنَا بِالِاحْتِيَاطِ .
( قَالَ ) وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الزَّوْجُ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ لِأَنَّ الطَّلَاقَ الرَّجْعِيَّ لَا يُزِيلُ مِلْكَ النِّكَاحِ فَهُوَ وَمَا تَقَدَّمَ سَوَاءٌ وَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْ الزَّوْجِ لِأَنَّهُ إنْ مَاتَ الزَّوْجُ أَوَّلًا فَقَدْ مَاتَ وَهِيَ أَمَةٌ وَالْأَمَةُ لَا تَرِثُ مِنْ الْحُرِّ شَيْئًا وَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى أَوَّلًا تَرِثُ وَالْإِرْثُ بِالشَّكِّ لَا يَثْبُتُ وَشَرْطُ إرْثِهَا مِنْهُ أَنْ تَكُونَ حُرَّةً عِنْدَ مَوْتِهِ فَمَا لَمْ يُتَيَقَّنْ بِذَلِكَ الشَّرْطِ لَا تَرِثُ مِنْهُ .
( قَالَ ) ، وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ طَلَاقَ الرَّجْعَةِ ثُمَّ مَاتَ عَنْهَا بَطَلَتْ عِدَّةُ الطَّلَاقِ عَنْهَا وَلَزِمَهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ لِأَنَّ النِّكَاحَ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ فَكَانَ مُنْتَهِيًا بِالْمَوْتِ وَانْتِهَاءُ النِّكَاحِ بِالْمَوْتِ يُلْزِمُهَا عِدَّةَ الْوَفَاةِ وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ بِالْحَيْضِ لِيَزُولَ الْمِلْكُ بِهَا وَقَدْ زَالَ بِالْمَوْتِ فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ الَّتِي هِيَ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ وَهِيَ عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَإِنْ كَانَتْ بَائِنَةً عَنْهُ فِي الصِّحَّةِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ لَمْ تَنْتَقِلْ عِدَّتُهَا إلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ لِأَنَّ النِّكَاحَ مَا انْتَهَى بِالْوَفَاةِ هُنَا ، وَهُوَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِعِدَّةِ الْوَفَاةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { وَيَذَرُونِ أَزْوَاجًا } وَهَذِهِ لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ لَهُ عِنْدَ وَفَاتِهِ حَتَّى لَا تَرِثَ مِنْهُ بِالزَّوْجِيَّةِ شَيْئًا فَلَا يَلْزَمُهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ أَيْضًا .
( قَالَ ) وَإِذَا أَتَى الْمَرْأَةَ خَبَرُ وَفَاةِ زَوْجِهَا بَعْدَ مَا مَضَتْ مُدَّةُ الْعِدَّةِ فَقَدْ انْقَضَتْ الْعِدَّةُ لِمَا قُلْنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ وَقْتُ مَوْتِهِ لَا وَقْتُ عِلْمِهَا بِهِ وَإِنْ شَكَّتْ فِي وَقْتِ وَفَاتِهِ اعْتَدَّتْ مِنْ الْوَقْتِ الَّذِي تَسْتَيْقِنُ فِيهِ بِمَوْتِهِ لِأَنَّ الْعِدَّةَ يُؤْخَذُ فِيهَا بِالِاحْتِيَاطِ وَالِاحْتِيَاطُ فِي أَنْ يُؤْخَذَ بِالْيَقِينِ ، وَفِي الْوَقْتِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ لَا يَقِينَ ؛ فَلِهَذَا لَا تَعْتَدُّ إلَّا مِنْ الْوَقْتِ الْمُتَيَقَّنِ .
( قَالَ ) وَطَلَاقُ الْأَمَةِ ثِنْتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ تَحْتَ حُرٍّ كَانَتْ أَوْ تَحْتَ عَبْدٍ وَطَلَاقُ الْحُرَّةِ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ وَعِدَّتُهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ تَحْتَ حُرٍّ كَانَتْ أَوْ تَحْتَ عَبْدٍ ، وَفِي الْعِدَّةِ اتِّفَاقٌ أَنَّ الْعِبْرَةَ بِحَالِهَا لَا بِحَالِ الزَّوْجِ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُعْتَدَّةُ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَخْتَلِفُ بِصِغَرِهَا وَكِبَرِهَا وَكَوْنُهَا حَامِلًا أَوْ حَائِلًا فَكَذَلِكَ بِرِقِّهَا وَحُرِّيَّتِهَا .
فَأَمَّا الطَّلَاقُ بِالنِّسَاءِ أَيْضًا عِنْدَنَا ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَدَدُ الطَّلَاقِ مُعْتَبَرٌ بِحَالِ الرَّجُلِ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ عُمَرَ وَزَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَعْتَبِرُ بِمَنْ رَقَّ مِنْهُمَا حَتَّى لَا يَمْلِكُ عَلَيْهَا ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ إلَّا إذَا كَانَا حُرَّيْنِ وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الطَّلَاقُ بِالرِّجَالِ وَالْعِدَّةُ بِالنِّسَاءِ } ، وَفِي رِوَايَةٍ { يُطَلِّقُ الْعَبْدُ تَطْلِيقَتَيْنِ وَتَعْتَدُّ الْأَمَةُ بِحَيْضَتَيْنِ } وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الْمَالِكُ لِلطَّلَاقِ الْمُتَصَرِّفِ فِيهِ وَثُبُوتُ الْمِلْكِ بِاعْتِبَارِ حَالِ الْمَالِكِ كَمِلْكِ الْيَمِينِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَا يَمْنَعُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ ، وَهُوَ الصِّغَرُ وَالْجُنُونُ يُعْتَبَرُ وُجُودُهُ فِي الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ فَكَذَلِكَ مَا يَمْنَعُ مِلْكَ الطَّلَاقِ وَلِأَنَّ فِي اعْتِبَارِ عَدَدِ الطَّلَاقِ اعْتِبَارُ عَدَدِ النِّكَاحِ لِأَنَّ مَنْ يَمْلِكُ عَلَى امْرَأَتِهِ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ يَمْلِكُ عَلَيْهَا ثَلَاثَ عُقَدٍ وَمَنْ يَمْلِكُ عَلَيْهَا تَطْلِيقَتَيْنِ يَمْلِكُ عَلَيْهَا عُقْدَتَيْنِ وَالْمُعْتَبَرُ حَالُ الزَّوْجِ فِي مِلْكِ الْعَقْدِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْحُرَّ يَتَزَوَّجُ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ وَالْعَبْدُ لَا يَتَزَوَّجُ إلَّا اثْنَتَيْنِ وَأَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { طَلَاقُ الْأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وَعِدَّتُهَا
حَيْضَتَانِ } فَقَدْ جَمَعَ بَيْنَ الطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ وَمَا رُوِيَ أَنَّ الطَّلَاقَ بِالرِّجَالِ قِيلَ إنَّهُ كَلَامُ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَا يَثْبُتُ مَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ مَعْنَاهُ إيقَاعُ الطَّلَاقِ بِالرِّجَالِ .
وَمَا رُوِيَ يُطَلِّقُ الْعَبْدُ اثْنَتَيْنِ فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يُطَلِّقُ الثَّالِثَةَ أَوْ مَعْنَاهُ إذَا كَانَتْ تَحْتَهُ أَمَةٌ وَإِنَّمَا قَالَهُ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ الْحَالِ وَاعْتِبَارِ الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ وَلِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَابَلَ الطَّلَاقَ بِالْعِدَّةِ وَالْمُقَابَلَةُ تَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ وَبِالِاتِّفَاقِ فِي الْعِدَّةِ الْمُعْتَبَرِ حَالُهَا فَكَذَلِكَ فِي الطَّلَاقِ
وَمَنْ مَلَكَ عَلَى امْرَأَتِهِ عَدَدًا مِنْ الطَّلَاقِ يَمْلِكُ إيقَاعَهُ فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ السَّنَةِ وَبِهَذَا أَفْحَمَ عِيسَى بْنَ أَبَانَ الشَّافِعِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ أَيُّهَا الْفَقِيهُ إذَا مَلَكَ الْحُرُّ عَلَى امْرَأَتِهِ الْأَمَةِ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ كَيْفَ يُطَلِّقُهَا فِي أَوْقَاتِ السَّنَةِ فَقَالَ يُوقِعُ عَلَيْهَا وَاحِدَةً فَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ أَوْقَعَ عَلَيْهَا أُخْرَى فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَقُولَ فَإِذَا حَاضَتْ وَطَهُرَتْ قَالَ حَسْبُك فَإِنَّ عِدَّتَهَا قَدْ انْقَضَتْ فَلَمَّا تَحَيَّرَ رَجَعَ فَقَالَ لَيْسَ فِي الْجَمْعِ بِدْعَةٌ وَلَا فِي التَّفْرِيقِ سُنَّةٌ وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ تَصَرُّفُ مَمْلُوكٍ فِي النِّكَاحِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْعَبْدُ وَالْحُرُّ كَالظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ وَهَذَا لِأَنَّ الْعَبْدَ يَسْتَبِدُّ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْتَاجَ فِيهِ إلَى رِضَا الْمَوْلَى فَيَكُونُ فِيهِ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ كَالْإِقْرَارِ بِالْقِصَاصِ وَمَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الرِّقُّ يُخْرِجُ الرَّقِيقَ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِمِلْكِهِ كَالْمَالِ وَلَمَّا بَقِيَ أَهْلًا لِمِلْكِ الطَّلَاقِ عَرَفْنَا أَنَّ الرِّقَّ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ النِّكَاحُ لِأَنَّ الرِّقَّ يُؤَثِّرُ فِيهِ وَلَكِنَّ مِلْكُ النِّكَاحِ بِاعْتِبَارِ الْحِلِّ وَالْحِلُّ يَتَنَصَّفُ بِرِقِّهِ ؛ فَلِهَذَا لَا يَتَزَوَّجُ إلَّا اثْنَتَيْنِ وَهَذَا لِأَنَّ الْحِلَّ نِعْمَةٌ وَكَرَامَةٌ فَيَكُونُ فِي حَقِّ الْحُرِّ أَزْيَدَ مِنْهُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ أَلَا تَرَى أَنَّ حِلَّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَتَّسِعُ لِتِسْعِ نِسْوَةٍ كَرَامَةً لَهُ بِسَبَبِ النُّبُوَّةِ فَأَمَّا اعْتِبَارُ عَدَدِ النِّكَاحِ فَلَا مَعْنَى فِيهِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَمْلِكُ عَلَى امْرَأَتِهِ مِنْ الْعَقْدِ مَا لَا يُحْصَى حَتَّى لَوْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ طَلَاقٍ مِرَارًا كَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى مَا لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ مَعْتُوهًا فَهَذَا دَلِيلُنَا لِأَنَّ جَمِيعَ مَا يَمْلِكُهُ الْحُرُّ عَلَى النِّسَاءِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ عُقْدَةً
فَإِنَّهُ يَتَزَوَّجُ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ وَيَمْلِكُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَ عُقَدٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَمْلِكَ الْعَبْدُ نِصْفَ ذَلِكَ وَذَلِكَ سِتُّ عُقَدٍ بِأَنْ يَتَزَوَّجَ حُرَّتَيْنِ فَيَمْلِكُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ثَلَاثَ عُقَدٍ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا فَأَمَّا الصِّغَرُ وَالْجُنُونُ لَا يُؤَثِّرُ فِي مِلْكِ الطَّلَاقِ وَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي الْمُتَصَرِّفِ وَالْمُتَصَرِّفُ هُوَ الزَّوْجُ ثُمَّ هُوَ مُقَابَلٌ بِصِفَةِ الْبِدْعَةِ وَالسُّنَّةُ فِي الطَّلَاقِ فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ حَالُهَا فِي الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ لَا حَالُ الرَّجُلِ .
( قَالَ ) وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ لَمْ يَعْتَدَّ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ مِنْ عِدَّتِهَا هَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَشُرَيْحٌ وَإِبْرَاهِيمُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَهَذَا لِأَنَّ الْحَيْضَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تُجْزِئُ وَمَا سَبَقَ الطَّلَاقُ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ مَحْسُوبًا مِنْ الْعِدَّةِ فَيَمْنَعُ ذَلِكَ الِاحْتِسَابُ بِمَا بَقِيَ وَلَوْ احْتَسَبَ بِمَا بَقِيَ وَجَبَ إكْمَالُهَا بِالْحَيْضَةِ الرَّابِعَةِ لِأَنَّ الِاعْتِدَادَ بِثَلَاثِ حِيَضٍ كَوَامِلَ فَإِذَا وَجَبَ جُزْءٌ مِنْ الْحَيْضَةِ الرَّابِعَةِ وَجَبَ كُلُّهَا .
( قَالَ ) وَلَوْ اعْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ بِحَيْضَتَيْنِ ثُمَّ أَيِسَتْ فَعَلَيْهَا اسْتِئْنَافُ الْعِدَّةِ بِالشُّهُورِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا ، وَفِيهِ إشْكَالٌ فَإِنَّ بِنَاءَ الْبَدَلِ عَلَى الْأَصْلِ يَجُوزُ كَالْمُصَلِّي إذَا سَبَقَهُ الْحَدَثُ فَلَمْ يَجِدْ مَاءً يَتَيَمَّمُ وَيَبْنِي ، وَإِذَا عَجَزَ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ يُومِئُ وَيَبْنِي وَلَكِنَّا نَقُولُ الصَّلَاةُ بِالتَّيَمُّمِ لَيْسَتْ بِبَدَلٍ عَنْ الصَّلَاةِ بِالْوُضُوءِ إنَّمَا الْبَدَلِيَّةُ فِي الطَّهَارَةِ وَلَا تَكْمُلُ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى قَطُّ وَكَذَلِكَ الصَّلَاةُ بِالْإِيمَاءِ لَيْسَتْ بِبَدَلٍ عَنْ الصَّلَاةِ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَأَمَّا الْعِدَّةُ بِالْأَشْهُرِ فَهِيَ بَدَلٌ عَنْ الْعِدَّةِ بِالْحَيْضِ وَإِكْمَالُ الْبَدَلِ بِالْأَصْلِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ثُمَّ قَالَ إذَا أَيِسَتْ مِنْ الْحَيْضِ فَاعْتَدَّتْ - شَهْرًا أَوْ شَهْرَيْنِ ثُمَّ حَاضَتْ اعْتَدَّتْ بِالْحَيْضِ وَهَذَا يَجُوزُ فِي الْعِبَادَةِ فَإِنَّهَا بَعْدَ مَا أَيِسَتْ لَا تَحِيضُ وَإِنَّمَا كَانَ مُعْجِزَةً لِنَبِيٍّ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَلَكِنَّهَا حِينَ حَاضَتْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ آيِسَةً وَإِنَّمَا كَانَتْ مُمْتَدَّةً طُهْرُهَا فَلَهَا أَنْ تَعْتَبِرَ مَا مَضَى مِنْ الْحَيْضِ قَبْلَ أَيَّامِهَا إذَا حَاضَتْ .
( قَالَ ) ، وَإِذَا وَلَدَتْ الْمُعْتَدَّةُ ، وَفِي بَطْنِهَا وَلَدٌ آخَرُ لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا حَتَّى تَلِدَ الْآخَرَ هَكَذَا نَقَلَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَهَذَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } وَذَلِكَ اسْمٌ لِجَمِيعِ مَا فِي بَطْنِهَا وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْعِلْمُ بِفَرَاغِ الرَّحِمِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ مَا لَمْ تَضَعْ جَمِيعَ مَا فِي بَطْنِهَا .
( قَالَ ) وَإِذَا تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ الْمُعْتَدَّةُ مِنْ الطَّلَاقِ بِرَجُلٍ وَدَخَلَ بِهَا فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَعَلَيْهَا عِدَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ الْأَوَّلِ وَالْآخَرُ ثَلَاثُ حِيَضٍ ، وَهُوَ مَذْهَبُنَا لِأَنَّ الْعِدَّتَيْنِ إذَا وَجَبَتَا يَتَدَاخَلَانِ وَيَنْقَضِيَانِ بِمُضِيِّ مُدَّةٍ وَاحِدَةٍ إذَا كَانَتَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ قَوْلُ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَتَدَاخَلَانِ وَلَكِنَّهَا تَعْتَدُّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ مِنْ الْأَوَّلِ ثُمَّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ مِنْ الثَّانِي فَإِنْ كَانَتْ الْعِدَّتَانِ مِنْ وَاحِدٍ بِأَنْ وَطِئَ مُعْتَدَّتَهُ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ بِالشُّبْهَةِ فَلَا شَكَّ عِنْدَنَا أَنَّهُمَا يَنْقَضِيَانِ بِمُدَّةٍ وَاحِدَةٍ ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ يَقُولُ لَا تَجِبُ الْعِدَّةُ بِسَبَبِ الثَّانِي أَصْلًا وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا حَقَّانِ وَجَبَا لِمُسْتَحِقَّيْنِ فَلَا يَتَدَاخَلَانِ كَالْمَهْرَيْنِ وَلِأَنَّ الْعِدَّةَ فَرْضُ كَفٍّ لَزِمَهَا فِي الْمُدَّةِ وَلَا يَجْتَمِعُ الْكَفَّانِ فِي مُدَّةٍ وَاحِدَةٍ كَصَوْمَيْنِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَهَذَا هُوَ الْحَرْفُ الَّذِي يَدُورُ عَلَيْهِ الْكَلَامُ فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَهُ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي الْعِدَّةِ لِأَنَّهُ كَفٌّ عَنْ الْأَزْوَاجِ وَالْخُرُوجِ فَتَكُونُ عِبَادَةً كَالْكَفِّ عَنْ اقْتِضَاءِ الشَّهَوَاتِ فِي الصَّوْمِ وَأَدَاءُ الْعِبَادَتَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لَا يُتَصَوَّرُ .
وَلَوْ جَازَ الْقَوْلُ بِالتَّدَاخُلِ فِي الْعِدَّةِ لَكَانَ الْأَوْلَى أَقْرَاءَ عِدَّةٍ وَاحِدَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكْتَفِيَ بِقُرْءٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ ، وَهُوَ الْعِلْمُ بِفَرَاغِ الرَّحِمِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعِدَّةَ مُجَرَّدُ أَجَلٍ وَالْآجَالُ تَنْقَضِي بِمُدَّةٍ وَاحِدَةٍ فِي حَقِّ الْوَاحِدِ وَالْجَمَاعَةِ كَآجَالِ الدُّيُونِ وَبَيَانُهُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى سَمَّى الْعِدَّةَ أَجَلًا فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ { أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } وَسَمَّاهُ تَرَبُّصًا وَالتَّرَبُّصُ هُوَ
الِانْتِظَارُ وَالِانْتِظَارُ يَكُونُ سَبَبَ الْأَجَلِ كَالِانْتِظَارِ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالدَّيْنِ إلَى انْقِضَاءِ الْأَجَلِ وَمِنْ حَيْثُ الْمَقْصُودِ فِي الْأَجَلِ يَحْصُلُ مَقْصُودُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَرِيمَيْنِ بِمُدَّةٍ وَاحِدَةٍ وَهُنَا مَقْصُودُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبَيْ الْعِدَّةِ يَحْصُلُ بِثَلَاثِ حِيَضٍ ، وَهُوَ الْعِلْمُ بِفَرَاغِ رَحِمِهَا مِنْ مَائِهِ ثُمَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي الْعِدَّةِ تَبَعٌ لَا مَقْصُودٌ وَإِنَّمَا رُكْنُ الْعِدَّةِ حُرْمَةُ الْخُرُوجِ وَالتَّزَوُّجِ أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ رُكْنَ الْعِدَّةِ بِعِبَارَةِ النَّهْيِ فَقَالَ تَعَالَى وَلَا يَخْرُجْنَ وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ { وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ } وَمُوجَبُ النَّهْيِ التَّحْرِيمُ وَالْحُرُمَاتُ تَجْتَمِعُ فَإِنَّ الصَّيْدَ حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي الْحَرَمِ لِحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ وَالْحَرَمِ وَالْخَمْرُ حَرَامٌ عَلَى الصَّائِمِ لِصَوْمِهِ وَلِكَوْنِهِ خَمْرًا وَلِيَمِينِهِ إذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُهَا بِخِلَافِ رُكْنِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ مَذْكُورٌ بِعِبَارَةِ الْأَمْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ } فَعَرَفْنَا أَنَّ الرُّكْنَ فِيهِ الْفِعْلُ ثُمَّ عِدَّتُهَا تَنْقَضِي وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ وَتَنْقَضِي وَإِنْ لَمْ تَكْفِ نَفْسَهَا عَنْ الْخُرُوجِ وَالْبُرُوزِ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَدَاءُ الْعِبَادَةِ بِدُونِ رُكْنِهَا وَلِأَنَّ بِوَطْءِ الثَّانِي قَدْ لَزِمَهَا الْعِدَّةُ وَالشُّرُوعُ فِي الْعِدَّةِ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْ حَالٍ تَقَرَّرَ عَنْ سَبَبِ الْوُجُوبِ .
وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ شُرُوعُهَا فِيهِ إنَّمَا يَمْتَنِعُ بِسَبَبِ الْعِدَّةِ الْأُولَى وَالْعِدَّةُ الْأُولَى أَثَرُ النِّكَاحِ وَأَصْلُ النِّكَاحِ لَا يَمْنَعُ شُرُوعَهَا فِي الْعِدَّةِ إذَا تَقَرَّرَ سَبَبُ وُجُوبِهَا كَالْمَنْكُوحَةِ إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ فَأَثَرُهَا أَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْعِدَّةَ لِتَبَيُّنِ فَرَاغِ الرَّحِمِ وَبِمُضِيِّ الْعِدَّةِ الْأُولَى يُتَيَقَّنُ بِفَرَاغِ الرَّحِمِ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ شُرُوعُهَا فِي الْعِدَّةِ مَوْقُوفًا عَلَى التَّيَقُّنِ بِفَرَاغِ الرَّحِمِ وَلَا
مَعْنَى لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَقْرَاءِ الْعِدَّةِ الْوَاحِدَةِ فَإِنَّ الشُّهُورَ فِي الْأَجَلِ الْوَاحِدِ لَا تَتَدَاخَلُ وَالْجَلَدَاتُ فِي الْحَدِّ الْوَاحِدِ لَا تَتَدَاخَلُ وَيَتَدَاخَلُ الْحَدَّانِ وَهَذَا لِأَنَّ الْحَيْضَةَ الْوَاحِدَةَ لِتَعْرِيفِ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ وَالثَّانِيَةَ لِحُرْمَةِ النِّكَاحِ وَالثَّالِثَةَ لِفَضِيلَةِ الْحُرِّيَّةِ فَإِذَا قُلْنَا بِالتَّدَاخُلِ فِي أَقْرَاءِ عِدَّةٍ وَاحِدَةٍ يَفُوتُ هَذَا الْمَقْصُودُ ، وَفِي الْكِتَابِ قَالَ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَامِلًا فَوَضَعَتْ حَمْلَهَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْهُمَا أَمَّا إذَا كَانَتْ حَامِلًا مِنْ الْأَوَّلِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهَا كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْعِدَّتَيْنِ وَهِيَ حَامِلٌ وَعِدَّةُ الْحَامِلِ تَنْقَضِي بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَإِنْ حَبِلَتْ مِنْ الثَّانِي فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَوْلِ بِسُقُوطِ الْأَقْرَاءِ إذَا حَبِلَتْ وَالْعِدَّةُ بَعْدَ مَا سَقَطَتْ لَا تَعُودُ فَإِنْ كَانَتْ حَاضَتْ مِنْ الْأَوَّلِ حَيْضَةً ثُمَّ دَخَلَ بِهَا الثَّانِي فَعَلَيْهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ حَيْضَتَانِ تَمَامُ الْعِدَّةِ مِنْ الْأَوَّلِ وَابْتِدَاءُ الْعِدَّةِ مِنْ الثَّانِي وَالْحَيْضَةُ الثَّالِثَةُ لِإِكْمَالِ عِدَّةِ الثَّانِي حَقٌّ لَوْ تَزَوَّجَهَا الثَّانِي فِي هَذِهِ الْحَيْضَةِ جَازَ لِأَنَّ عِدَّتَهَا مِنْهُ لَا تَمْنَعُ نِكَاحَهَا وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا غَيْرُهُ حَتَّى تَمْضِيَ هَذِهِ الْحَيْضَةُ وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً فَلَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِي الْحَيْضَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ لِأَنَّ الرَّجْعَةَ اسْتِدَامَةُ النِّكَاحِ وَعِدَّةُ الْغَيْرِ لَا تَمْنَعُهُ مِنْ اسْتِدَامَةِ النِّكَاحِ وَلَكِنْ لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْ الْآخَرِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ لِأَنَّهَا بَانَتْ مِنْهُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فِي حَقِّهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنْ غَيْرِهِ وَكَذَلِكَ إنْ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً بَائِنَةً فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْ الْآخَرِ كَمَا لَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا
مِنْ الْأَوَّلِ وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ الْعِدَّتَانِ بِالشُّهُورِ .
( قَالَ ) وَلَوْ تَزَوَّجَتْ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ وَدَخَلَ الثَّانِي بِهَا ثُمَّ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا فَعَلَيْهَا بَقِيَّةُ عِدَّتِهَا مِنْ الْمَيِّتِ تَمَامُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا وَعَلَيْهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ مِنْ الْآخَرِ ثُمَّ تَحْتَسِبُ بِمَا حَاضَتْ بَعْدَ التَّفْرِيقِ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَعَشْرٍ مِنْ عِدَّةِ الْآخَرِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الشُّهُورِ وَالْحِيَضِ فَتَكُونُ شَارِعَةً فِي الْعِدَّتَيْنِ تَحْتَسِبُ بِالْمُدَّةِ مِنْ الْعِدَّةِ الْأُولَى وَبِمَا يُوجَدُ فِيهَا مِنْ الْحَيْضِ مِنْ الْعِدَّةِ الثَّانِيَةِ .
( قَالَ ) وَاذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَلَهُ امْرَأَتَانِ وَقَدْ طَلَّقَ إحْدَاهُمَا طَلَاقًا بَائِنًا وَلَا يَعْلَمُ أَيَّتَهمَا هِيَ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فِيهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ احْتِيَاطًا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مُطَلَّقَةً وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِالْحَيْضِ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مَنْكُوحَةً وَعَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ لَمْ أَدْخُلْ الدَّارَ الْيَوْمَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ مُضِيِّ الْيَوْمِ وَلَا يَدْرِي أَدْخُلُ أَمْ لَمْ يَدْخُلْ فَعَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَلَيْسَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِالْحَيْضِ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْعِدَّةِ بِالْحَيْضِ الطَّلَاقُ وَوُقُوعُ الطَّلَاقِ بِوُجُودِ الشَّرْطِ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَلَا مَعْنَى لِلِاحْتِيَاطِ قَبْلَ ظُهُورِ السَّبَبِ وَهُنَا وُقُوعُ الطَّلَاقِ مَعْلُومٌ إنَّمَا الْجَهَالَةُ فِي مَحَلِّهِ فَلِهَذَا أَلْزَمْنَا كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الْعِدَّةَ بِالْحَيْضِ احْتِيَاطًا .
( قَالَ ) ، وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فِي مَرَضِهِ ثَلَاثًا أَوْ وَاحِدَةً بَائِنَةً ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَرِثَتْهُ بِالْفِرَارِ عَلَى مَا نُبَيِّنُ فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَعَلَيْهَا مِنْ الْعِدَّةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا تَسْتَكْمِلُ فِيهَا ثَلَاثَ حِيَضٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْسَ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ لِأَنَّا حَكَمْنَا بِانْقِطَاعِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا بِالطَّلَاقِ وَسَبَبُ وُجُوبِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ انْتِهَاءُ النِّكَاحِ بِالْمَوْتِ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ لَا يَلْزَمُهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ كَمَا لَوْ كَانَ الطَّلَاقُ فِي صِحَّتِهِ وَإِنَّمَا أَخَذَتْ الْمِيرَاثَ بِحُكْمِ الْفِرَارِ وَذَلِكَ لَا يُلْزِمُهَا عِدَّةَ الْوَفَاةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُرْتَدَّ إذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ تَرِثُهُ زَوْجَتُهُ الْمُسْلِمَةُ وَلَيْسَ عَلَيْهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ لِأَنَّ زَوَالَ النِّكَاحِ كَانَ بِرِدَّتِهِ لَا بِمَوْتِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا أَخَذَتْ مِيرَاثَ الزَّوْجَاتِ بِالْوَفَاةِ فَيَلْزَمُهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً وَهَذَا لِأَنَّا إنَّمَا أَعْطَيْنَاهَا الْمِيرَاثَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ النِّكَاحَ بِمَنْزِلَةِ الْقَائِمِ بَيْنَهُمَا حُكْمًا إلَى وَقْتِ مَوْتِهِ وَبِاعْتِبَارِ إقَامَةِ الْعِدَّةِ مَقَامَ أَصْلِ النِّكَاحِ حُكْمًا إذْ لَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ السَّبَبِ عِنْدَ الْمَوْتِ لِاسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ .
وَالْمِيرَاثُ لَا يَثْبُتُ بِالشَّكِّ وَالْعِدَّةُ تَجِبُ بِالشَّكِّ فَإِذَا جُعِلَ فِي حُكْمِ الْمِيرَاثِ النِّكَاحُ كَالْمُنْتَهَى بِالْمَوْتِ حُكْمًا فَفِي حُكْمِ الْعِدَّةِ أَوْلَى وَسَبَبُ وُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا بِالْحَيْضِ مُتَقَرِّرٌ حُكْمًا فَأَلْزَمْنَاهَا الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا وَأَمَّا امْرَأَةُ الْمُرْتَدِّ فَقَدْ أَشَارَ الْكَرْخِيُّ فِي كِتَابِهِ إلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا فَنَقُولُ : هُنَاكَ مَا اسْتَحَقَّتْ الْمِيرَاثَ بِالْوَفَاةِ لِأَنَّ عِنْدَ
الْوَفَاةِ هِيَ مُسْلِمَةٌ وَالْمُسْلِمَةُ لَا تَرِثُ مِنْ الْكَافِرِ وَلَكِنْ يَسْتَنِدُ اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ إلَى وَقْتِ الرِّدَّةِ وَبِذَلِكَ السَّبَبِ لَزِمَهَا الْعِدَّةُ بِالْحَيْضِ وَلَا يَلْزَمُهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَهُنَا اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ عِنْدَ الْمَوْتِ لَا عِنْدَ الطَّلَاقِ فَعَرَفْنَا أَنَّ النِّكَاحَ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا إلَى وَقْتِ الْوَفَاةِ .
( قَالَ ) ، وَإِذَا وَلَدَتْ الْمَرْأَةُ فِي طَلَاقٍ بَائِنٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ يَوْمِ طَلَّقَهَا لَمْ يَكُنْ الْوَلَدُ لِلزَّوْجِ إذَا أَنْكَرَهُ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى مَعْرِفَةِ أَقَلِّ مُدَّةِ الْحَبَلِ وَأَكْثَرِهَا فَأَقَلُّ مُدَّةِ الْحَبَلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَوَلَدَتْ وَلَدًا لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَهَمَّ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنْ يَرْجُمَهَا فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَمَا أَنَّهَا لَوْ خَاصَمَتْكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى لَخَصَمَتْكُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } فَإِذَا ذَهَبَ لِلْفِصَالِ عَامَانِ لَمْ يَبْقَ لِلْحَبَلِ إلَّا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَدَرَأَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْحَدَّ وَأَثْبَتَ النَّسَبَ مِنْ الزَّوْجِ وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّ الْوَلَدَ تُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَمَا ذَكَرَهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُجْمَعُ خَلْقُ أَحَدِكُمْ فِي بَطْنِ أُمِّهِ الْحَدِيثَ إلَخْ وَبَعْدَ مَا تُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ يَتِمُّ خَلْقُهُ بِشَهْرَيْنِ فَيَتَحَقَّقُ الْفِصَالُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مُسْتَوَى الْخَلْقِ فَأَمَّا أَكْثَرُ مُدَّةِ الْحَبَلِ سَنَتَانِ عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَرْبَعُ سِنِينَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا غَابَ عَنْ امْرَأَتِهِ سَنَتَيْنِ ثُمَّ قَدِمَ وَهِيَ حَامِلٌ فَهَمَّ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِرَجْمِهَا فَقَالَ مُعَاذٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنْ يَكُ لَك عَلَيْهَا سَبِيلٌ فَلَا سَبِيلَ لَك عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا فَتَرَكَهَا حَتَّى وَلَدَتْ وَلَدًا قَدْ نَبَتَتْ ثَنِيَّتَاهُ يُشْبِهُ أَبَاهُ فَلَمَّا رَآهُ الرَّجُلُ قَالَ ابْنِي وَرَبِّ الْكَعْبَةِ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَتَعْجَزُ النِّسَاءُ أَنْ يَلِدْنَ مِثْلَ مُعَاذٍ لَوْلَا مُعَاذٌ لَهَلَكَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ وَضَعَتْ هَذَا الْوَلَدَ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ ثُمَّ
أَثْبَتَ نَسَبَهُ مِنْ الزَّوْجِ وَقِيلَ أَنَّ الضَّحَّاكَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ لِأَرْبَعِ سِنِينَ وَوَلَدَتْهُ بَعْدَ مَا نَبَتَتْ ثَنِيَّتَاهُ ، وَهُوَ يَضْحَكُ فَسُمِّيَ ضَحَّاكًا وَعَبْدَ الْعَزِيزِ الْمَاجِشُونِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ لِأَرْبَعِ سِنِينَ وَهَذِهِ عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي نِسَاءِ مَاجِشُونَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُنَّ يَلِدْنَ لِأَرْبَعِ سِنِينَ وَلَنَا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { لَا يَبْقَى الْوَلَدُ فِي رَحِمِ أُمِّهِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَلَوْ بِفَلْكَةِ مِغْزَلٍ } وَمِثْلُ هَذَا لَا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ فَإِنَّمَا قَالَتْهُ سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّ الْأَحْكَامَ تَنْبَنِي عَلَى الْعَادَةِ الظَّاهِرَةِ وَبَقَاءُ الْوَلَدِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ فِي غَايَةِ النُّدْرَةِ فَلَا يَجُوزُ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَيْهَا مَعَ أَنَّهُ لَا أَصْلَ لِمَا يُحْكَى فِي هَذَا الْبَابِ فَإِنَّ الضَّحَّاكَ وَعَبْدَ الْعَزِيزِ مَا كَانَا يَعْرِفَانِ ذَلِكَ مِنْ أَنْفُسِهِمَا وَكَذَلِكَ غَيْرُهُمَا كَانَ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ لِأَنَّ مَا فِي الرَّحِمِ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهَ تَعَالَى وَلَا حُجَّةَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَثْبَتَ النَّسَبَ بِالْفِرَاشِ الْقَائِمِ بَيْنَهُمَا فِي الْحَالِ أَوْ بِإِقْرَارِ الزَّوْجِ وَبِهِ نَقُولُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ أَنَّهُ غَابَ عَنْ امْرَأَتِهِ سَنَتَيْنِ أَيْ قَرِيبًا مِنْ سَنَتَيْنِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ مَتَى كَانَ الْحِلُّ قَائِمًا بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ يَسْتَنِدُ الْعُلُوقُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ ، وَهُوَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ إثْبَاتُ الرَّجْعَةِ بِالشَّكِّ أَوْ إيقَاعُ الطَّلَاقِ بِالشَّكِّ فَحِينَئِذٍ يَسْتَنِدُ الْعُلُوقُ إلَى أَبْعَدِ الْأَوْقَاتِ فَإِنَّ الطَّلَاقَ وَالرَّجْعَةَ لَا يُحْكَمُ بِهِمَا بِالشَّكِّ وَمَتَى لَمْ يَكُنْ الْحِلُّ قَائِمًا بَيْنَهُمَا يَسْتَنِدُ الْعُلُوقُ إلَى أَبْعَدِ الْأَوْقَاتِ لِلْحَاجَةِ إلَى إثْبَاتِ النَّسَبِ ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ .
( قَالَ ) وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ امْرَأَةً فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا مِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الزَّوْجِ لِأَنَّهَا وَلَدَتْهُ عَلَى فِرَاشِهِ لِمُدَّةِ حَبَلٍ تَامٍّ مِنْ وَقْتِ النِّكَاحِ .
( قَالَ ) وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بَعْدَ مَا دَخَلَ بِهَا ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ وَلَا يَصِيرُ مُرَاجِعًا لَهَا بَلْ يُحْكَمُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا لِأَنَّا نُسْنِدُ الْعُلُوقَ إلَى أَبْعَدِ الْأَوْقَاتِ ، وَهُوَ مَا قَبْلَ الطَّلَاقِ فَإِنَّا لَوْ أَسْنَدْنَاهُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ صَارَ مُرَاجِعًا لَهَا وَالرَّجْعَةُ لَا تَثْبُتُ بِالشَّكِّ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ وَلَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ وَيَصِيرُ مُرَاجِعًا لَهَا لِأَنَّ حَمْلَ أَمْرِهَا عَلَى الصَّلَاحِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ فَلَوْ جَعَلْنَا كَأَنَّ الزَّوْجَ وَطِئَهَا فِي الْعِدَّةِ فَحَبِلَتْ كَانَ فِيهِ حَمْلُ أَمْرِهَا عَلَى الصَّلَاحِ وَلَوْ جَعَلْنَا كَانَ غَيْرُهُ وَطِئَهَا كَانَ فِيهِ حَمْلُ أَمْرِهَا عَلَى الْفَسَادِ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا فَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ إسْنَادِ الْعُلُوقِ إلَى مَا قَبْلَ الطَّلَاقِ لِأَنَّ ذَلِكَ مُمْكِنٌ ، وَفِيهِ حَمْلُ أَمْرِهَا عَلَى الصَّلَاحِ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ الزَّوْجِ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ الْعُلُوقَ كَانَ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَسَوَاءٌ جَعَلْنَاهُ مِنْ الزَّوْجِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ فَفِيهِ حَمْلُ أَمْرِهَا عَلَى الْفَسَادِ فَيُجْعَلُ مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّا إذَا جَعَلْنَاهُ مِنْ الزَّوْجِ كَانَ فِيهِ حَمْلُ أَمْرِ الزَّوْجِ عَلَى الْفَسَادِ ، وَهُوَ أَنَّهُ أَقْدَمَ عَلَى الْوَطْءِ الْحَرَامِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ وَثُبُوتُ فِرَاشِهِ الْقَائِمِ بِسَبَبِ الْعِدَّةِ لَا يُثْبِتُ نَسَبَ الْوَلَدِ كَفِرَاشِ الصَّبِيِّ عَلَى امْرَأَتِهِ ثُمَّ يَلْزَمُهَا أَنْ تَرُدَّ نَفَقَةَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَهُوَ رِوَايَةُ بِشْرٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ .
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهَا رَدُّ شَيْءٍ مِنْ النَّفَقَةِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ انْقِضَاءُ عِدَّتِهَا قَبْلَ الْوِلَادَةِ فَلَا يَلْزَمُهَا رَدُّ شَيْءٍ مِنْ النَّفَقَةِ كَمَا لَوْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ وَهَذَا لِأَنَّهَا مَا دَامَتْ مُعْتَدَّةً فَهِيَ مُسْتَحِقَّةٌ لِلنَّفَقَةِ وَمَا لَمْ يَظْهَرْ سَبَبُ الِانْقِضَاءِ فَهِيَ مُعْتَدَّةٌ وَلَمْ يَظْهَرْ لِلِانْقِضَاءِ هُنَا سَبَبٌ سِوَى الْوِلَادَةِ وَلَوْ جَعَلْنَاهَا كَأَنَّهَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ فِي الْعِدَّةِ لَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهَا وَإِنْ جَعَلْنَاهَا كَأَنَّهَا تَزَوَّجَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِزَوْجٍ آخَرَ كَانَ فِيهِ حَمْلُ أَمْرِهَا عَلَى الْفَسَادِ مِنْ وَجْهٍ ، وَهُوَ أَنَّهَا أَخَذَتْ مَالًا بِغَيْرِ حَقٍّ مِنْ زَوْجِهَا مَعَ أَنَّ فِيهِ حُكْمًا بِنِكَاحٍ لَمْ يُعْرَفْ سَبَبُهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا حَمْلُ أَمْرِهَا عَلَى الصَّلَاحِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ فَلَوْ جَعَلْنَا هَذَا الْوَلَدَ مِنْ عُلُوقٍ فِي الْعِدَّةِ كَانَ فِيهِ حَمْلُ أَمْرِهَا عَلَى الزِّنَا وَلَوْ جَعَلْنَا كَأَنَّ عِدَّتَهَا قَدْ انْقَضَتْ وَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَعَلِقَتْ مِنْهُ كَانَ فِيهِ حَمْلُ أَمْرِهَا عَلَى الصَّلَاحِ فَتَعَيُّنُ هَذَا الْجَانِبِ ثُمَّ تَزْوِيجُهَا نَفْسَهَا بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهَا بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا أَوْ أَقْوَى فَتَبِينُ أَنَّهَا أَخَذَتْ النَّفَقَةَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَعَلَيْهَا رَدُّهَا وَهَذَا الْيَقِينُ فِي مِقْدَارِ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَدْنَى مُدَّةِ الْحَمْلِ وَلَا يَلْزَمُهَا الرَّدُّ إلَّا بِالْيَقِينِ وَلَا مَعْنَى لِمَا قَالَ أَنَّ فِي ذَلِكَ حَمْلُ أَمْرِهَا عَلَى الْفَسَادِ ، وَهُوَ أَخْذُ الْمَالِ بِغَيْرِ حَقٍّ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَالِ دُونَ الزِّنَا فَإِنَّ الْمَالَ بَذْلُهُ يُبَاحُ بِالْإِذْنِ وَلَا يَسْقُطُ إحْصَانُهَا بِالْأَخْذِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَبِالزِّنَا يَسْقُطُ إحْصَانُهَا وَمَنْ اُبْتُلِيَ بِبَلِيَّتَيْنِ يَخْتَارُ أَهْوَنَهُمَا وَلَئِنْ جَعَلْنَاهَا كَأَنَّهَا وُطِئَتْ بِالشُّبْهَةِ فِي الْعِدَّةِ فَكَذَلِكَ تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا أَيْضًا
لِأَنَّهُ بِمَعْنَى النُّشُوزِ مِنْهَا حِينَ جَعَلَتْ رَحِمَهَا مَشْغُولًا بِمَاءِ غَيْرِ الزَّوْجِ .
وَمَقْصُودُ الزَّوْجِ مِنْ الْعِدَّةِ صِيَانَةُ رَحِمِهَا فَإِذَا فَوَّتَتْ ذَلِكَ كَانَ أَعْظَمَ مِنْ نُشُوزِهَا وَهُرُوبِهَا مِنْ بَيْتِ الْعِدَّةِ فَإِذَا سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا تَبَيَّنَ أَنَّهَا أَخَذَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَزِمَهَا الرَّدُّ .
( قَالَ ) رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ كُلَّمَا وَلَدْت وَلَدًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَوَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ كَانَتْ طَالِقًا بِالْوَلَدِ الْأَوَّلِ لِوُجُودِ شَرْطِ الطَّلَاقِ ، وَهُوَ وِلَادَةُ الْوَلَدِ ثُمَّ تَصِيرُ مُعْتَدَّةً فَلَمَّا وَضَعَتْ الْوَلَدَ الثَّانِي حَكَمْنَا بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا لِأَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ وَضَعَتْ جَمِيعَ مَا فِي بَطْنِهَا وَالْوَلَدُ الَّذِي تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ لَا يَقَعُ بِهِ طَلَاقٌ لِأَنَّ أَوَانَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ مَا بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَبَعْدَ وَضْعِ الْوَلَدِ الثَّانِي هِيَ لَيْسَتْ فِي نِكَاحِهِ وَلَا فِي عِدَّتِهِ وَلَوْ وَلَدَتْ ثَلَاثَةَ أَوْلَادٍ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ وَقَعَتْ عَلَيْهَا تَطْلِيقَتَانِ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلَّمَا تَقْتَضِي تَكَرُّرَ نُزُولِ الْجُزْءِ بِتَكَرُّرِ الشَّرْطِ وَبِوِلَادَةِ الْوَلَدِ الثَّانِي تَكَرَّرَ الشَّرْطُ وَلَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ لِأَنَّ فِي بَطْنِهَا وَلَدًا آخَرَ فَيَقَعُ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةً أُخْرَى ثُمَّ بِوَضْعِ الْوَلَدِ الثَّالِثِ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا وَلَا يَقَعُ شَيْءٌ .
وَلَوْ كَانَ كُلُّ وَلَدٍ فِي بَطْنٍ عَلَى حِدَةٍ فَإِنْ كَانَ بَيْنَ كُلِّ وَلَدَيْنِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُمَا لَيْسَا بِتَوْأَمَيْنِ تَطْلُقُ ثَلَاثًا وَعَلَيْهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ لِأَنَّ بِوِلَادَةِ الْوَلَدِ الْأَوَّلِ وَقَعَتْ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةٌ فَلَمَّا وَلَدَتْ الْوَلَدَ الثَّانِيَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا عَرَفْنَا أَنَّهُ مِنْ عُلُوقٍ حَادِثٍ وَيُجْعَلُ ذَلِكَ مِنْ الزَّوْجِ حَمْلًا لِأَمْرِهَا عَلَى الصَّلَاحِ فَصَارَ مُرَاجِعًا لَهَا ثُمَّ وَقَعَ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةً ثَانِيَةً لِوُجُودِ الشَّرْطِ ، وَهُوَ وِلَادَةُ الْوَلَدِ الثَّانِي وَكَذَلِكَ حِينَ وَضَعَتْ الْوَلَدَ الثَّالِثَ وَقَعَتْ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةً ثَالِثَةً لِوُجُودِ الشَّرْطِ بَعْدَ مَا صَارَ مُرَاجِعًا لَهَا فَصَارَتْ مُطَلَّقَةً ثَلَاثًا وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِثَلَاثِ حِيَضٍ .
( قَالَ ) وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مَاتَ عَنْ امْرَأَتِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ فَإِنْ كَانَتْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِمُضِيِّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ بَعْدَ ذَلِكَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْ الزَّوْجِ لِأَنَّهُ مِنْ عُلُوقٍ حَادِثٍ بَعْدَ إقْرَارِهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ .
وَحَمْلُ كَلَامِهِمَا عَلَى الصِّحَّةِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ وَإِنْ كَانَتْ ادَّعَتْ حَبَلًا وَوَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ الزَّوْجِ لِأَنَّ إسْنَادَ الْعُلُوقِ إلَى حَالَةِ حَيَاتِهِ مُمْكِنٌ ، وَفِيهِ حَمْلُ أَمْرِهَا عَلَى الصَّلَاحِ وَالصِّحَّةِ وَلَوْ لَمْ تَدَعْ حَبَلًا وَلَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ حَتَّى جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ عِنْدَنَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِتَمَامِ عَشْرَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرَةِ أَيَّامٍ مِنْ حِينِ مَاتَ الزَّوْجُ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ الْحَبَلُ ظَاهِرًا فَقَدْ حَكَمْنَا بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِمُضِيِّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا بِالنَّصِّ وَذَلِكَ أَقْوَى مِنْ إقْرَارِهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَلَوْ أَقَرَّتْ بِذَلِكَ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِمُدَّةِ حَبَلٍ تَامٍّ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْهُ فَكَذَلِكَ هُنَا وَلَكِنَّا نَقُولُ انْقِضَاءُ عِدَّتِهَا بِمُضِيِّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا مُعَلَّقٌ بِشَرْطٍ ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ حَامِلًا فَإِنَّ آيَةَ الْحَبَلِ قَاضِيَةٌ عَلَى آيَةِ التَّرَبُّصِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَهَذَا الشَّرْطُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ إلَّا مِنْ جِهَتِهَا فَمَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَا يَحْكُمُ بِانْقِضَائِهَا وَإِنَّمَا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِمُدَّةٍ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ الْعُلُوقُ قَبْلَ مَوْتِ الزَّوْجِ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ كَمَا لَوْ ادَّعَتْ حَبَلًا ثُمَّ إنَّمَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ إذَا كَانَتْ وِلَادَتُهَا مُعَايَنَةً أَوْ أَقَرَّ بِهَا الْوَرَثَةُ .
فَأَمَّا إذَا جَحَدُوا ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْهُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ
فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَثْبُتُ النَّسَبُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ الْقَابِلَةُ وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْوِلَادَةَ مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا الرَّجُلُ وَشَهَادَةُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ حُجَّةٌ تَامَّةٌ فَكَانَتْ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ فِيهِ حُجَّةً تَامَّةً أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ هُنَاكَ حَبَلٌ ظَاهِرٌ أَوْ فِرَاشٌ قَائِمٌ أَوْ إقْرَارٌ مِنْ الزَّوْجِ بِالْحَبَلِ تَثْبُتُ الْوِلَادَةُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فَكَذَلِكَ هُنَا وَهَذَا لِأَنَّ النَّسَبَ وَالْمِيرَاثَ لَا يَثْبُتُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ وَإِنَّمَا تَثْبُتُ وِلَادَتُهَا هَذَا الْوَلَدَ ثُمَّ ثُبُوتُ النَّسَبِ وَالْمِيرَاثِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعُلُوقَ بِهِ كَانَ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى طَرِيقَانِ .
( أَحَدُهُمَا ) مَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْكِتَابِ فَقَالَ مِنْ قَبْلُ أَنَّهُ يَرِثُ وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ ثُبُوتَ الْمِيرَاثِ مُعَلَّقٌ بِالنَّسَبِ وَالْمَوْتِ وَالْحُكْمُ الْمُعَلَّقُ بِعِلَّةٍ ذَاتَ وَصْفَيْنِ يُحَالُ بِهِ عَلَى آخِرِ الْوَصْفَيْنِ وُجُودًا .
وَلِهَذَا لَوْ رَجَعَ شُهُودُ النَّسَبِ وَقَدْ شَهِدُوا بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ ضَمِنُوا الْمِيرَاثَ وَآخِرُ الْوَصْفَيْنِ هُنَا النَّسَبُ فَكَانَتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ قَائِمَةً عَلَى تَمَامِ عِلَّةِ الْإِرْثِ وَالْمِيرَاثُ لَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ وَلِأَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ لِلْحَالِ لِأَنَّا نَتَيَقَّنُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَنَسَبُ وَلَدِ الْأَجْنَبِيَّةِ لَا يَثْبُتُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرًا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْفِرَاشُ قَائِمًا فَإِنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ الْفِرَاشِ وَإِنَّمَا تَظْهَرُ الْوِلَادَةُ بِالشَّهَادَةِ وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ الزَّوْجُ بِالْحَبَلِ فَثُبُوتُ النَّسَبِ هُنَاكَ بِإِقْرَارِهِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ هُنَاكَ حَبَلٌ ظَاهِرٌ فَثُبُوتُ النَّسَبِ بِظُهُورِ
الْحَبَلِ فِي حَالِ قِيَامِ الْفِرَاشِ وَإِنَّمَا تَظْهَرُ الْوِلَادَةُ بِالشَّهَادَةِ فَقَطْ وَلِذَلِكَ إذَا أَقَرَّ الزَّوْجُ بِالْحَبَلِ فَثُبُوتُ النَّسَبِ هُنَاكَ بِإِقْرَارِهِ وَهُنَا لَا سَبَبَ لِلنَّسَبِ سِوَى الشَّهَادَةِ وَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ تَوْضِيحُهُ أَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ لَيْسَتْ بِشَهَادَةٍ أَصْلًا وَلِهَذَا لَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ وَامْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ بِالْمَالِ ثُمَّ رَجَعُوا لَمْ تَضْمَنْ الْمَرْأَةُ شَيْئًا وَإِنَّمَا جُعِلَتْ حُجَّةً فِي الْوِلَادَةِ لِلضَّرُورَةِ فَكَانَتْ ضَعِيفَةً فِي نَفْسِهَا وَالضَّعِيفُ مَا لَمْ يَتَأَيَّدْ بِمُؤَيِّدٍ لَا يَجُوزُ فَصْلُ الْحُكْمِ بِهِ كَشَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي الْمَالِ وَالْمُؤَيِّدُ الْفِرَاشُ أَوْ الْحَبَلُ الظَّاهِرُ أَوْ إقْرَارُ الزَّوْجِ بِالْحَبَلِ فَإِنْ تَأَيَّدَتْ شَهَادَتُهَا بِبَعْضِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ وَجَبَ الْحُكْمُ بِهَا وَإِلَّا فَلَا .
وَلَوْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ثُمَّ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّهَا أَبْطَلَتْ فِيمَا قَالَتْ فَإِنَّهَا أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِالشُّهُورِ وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا يَوْمئِذٍ فَكَانَ إقْرَارُهَا بَاطِلًا .
( قَالَ ) وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا أَوْ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً ثُمَّ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ بَعْدَ الطَّلَاقِ لِسَنَتَيْنِ أَوْ أَقَلَّ وَشَهِدَتْ امْرَأَةٌ عَلَى الْوِلَادَةِ وَالزَّوْجُ يُنْكِرُ الْوِلَادَةَ وَالْحَبَلَ لَمْ يَلْزَمْهُ النَّسَبُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا لَمْ يَشْهَدْ بِهِ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وَيَلْزَمُهُ النَّسَبُ فِي قَوْلِهِمَا بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ وَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ لِأَنَّهَا لِلْحَالِ أَجْنَبِيَّةٌ مِنْهُ فِي الْوَجْهَيْنِ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَتْ هَذِهِ الْمُعْتَدَّةُ مُسْلِمَةً أَوْ كَافِرَةً أَوْ أَمَةً فِي هَذَا الْحُكْمِ لِأَنَّ بَقَاءَ الْوَلَدِ فِي الْبَطْنِ لَا يَخْتَلِفُ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ .
( قَالَ ) وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ عِنْدَ زَوْجِهَا وَلَمْ يُطَلِّقْهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ الْحَبَلَ قُبِلَتْ شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ حُرَّةٍ مُسْلِمَةٍ عَلَى الْوِلَادَةِ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُقْبَلُ إلَّا شَهَادَةُ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الشَّهَادَةِ أَنَّ الْحُجَّةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ وَالْمَرْأَتَانِ تَقُومَانِ مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فِي بَابِ الشَّهَادَةِ بِالنَّصِّ حَتَّى أَنَّ الْمَالَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَقَدْ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ صِفَةِ الذُّكُورَةِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ فَسَقَطَ لِلضَّرُورَةِ وَبَقِيَ مَا سِوَاهُ عَلَى الْأَصْلِ فَيُشْتَرَطُ شَهَادَةُ الْأَرْبَعِ لِيَكُونَ ذَلِكَ فِي مَعْنَى شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ وَدَلِيلُ كَوْنِهِ شَهَادَةً اعْتِبَارُ الْحُرِّيَّةِ وَلَفْظُ الشَّهَادَةِ فِيهَا وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ إبَاحَةُ النَّظَرِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ فَإِذَا ارْتَفَعَتْ الضَّرُورَةُ بِالْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ لَا يَحِلُّ لِلثَّانِيَةِ النَّظَرُ لِأَنَّكُمْ وَإِنْ قُلْتُمْ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِالْوَاحِدَةِ تَقُولُونَ الْمُثَنَّى أَحْوَطُ وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا بُدَّ مِنْ شَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الشَّهَادَةِ الْعَدَدُ وَالذُّكُورَةُ وَقَدْ سَقَطَ اعْتِبَارُ صِفَةِ الذُّكُورَةِ لِلتَّعَذُّرِ هُنَا فَيَبْقَى الْعَدَدُ عَلَى ظَاهِرِهِ .
وَأَصْحَابُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ } ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ جَائِزَةٌ فِيمَا لَا يَسْتَطِيعُ الرِّجَالُ النَّظَرَ إلَيْهِ } وَالنِّسَاءُ اسْمُ جِنْسٍ يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَةَ وَمَا زَادَ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا خَبَرٌ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ صِفَةُ الذُّكُورَةِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَدَدُ كَرِوَايَةِ
الْأَخْبَارِ وَهَذَا لِأَنَّ النَّظَرَ إلَى الْفَرْجِ حَرَامٌ فَلَا يَحِلُّ إلَّا عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ وَعِنْدَ الضَّرُورَةِ نَظَرُ الْجِنْسِ أَهْوَنُ مِنْ نَظَرِ الذُّكُورِ وَلَمَّا سَقَطَتْ صِفَةُ الذُّكُورَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى سَقَطَ أَيْضًا اعْتِبَارُ الْعَدَدِ لِأَنَّ نَظَرَ الْوَاحِدِ أَهْوَنُ مِنْ نَظَرِ الْجَمَاعَةِ وَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّ نَظَرَ الْأَمَةِ وَالْحُرَّةِ سَوَاءٌ .
وَاَلَّذِي يَقُولُ إنَّ الْمَثْنَى أَحْوَطُ فَذَلِكَ لَا يُوجِبُ حِلَّ نَظَرِ الثَّانِيَةِ وَلَكِنْ إنْ اتَّفَقَ ذَلِكَ كَانَ أَحْوَطَ فَأَمَّا مَنْ يَشْتَرِطُ الْعَدَدَ يُوجِبُ نَظَرَ الْجَمَاعَةِ وَنَظَرُ الْوَاحِدَةِ أَهْوَنُ ثُمَّ هَذَا خَبَرٌ مِنْ وَجْهٍ شَهَادَةٌ مِنْ وَجْهٍ لِاخْتِصَاصِهَا بِمَجْلِسِ الْحُكْمِ وَمَا تَرَدَّدَ بَيْنَ أَصْلَيْنِ يُوَفِّرُ حَظَّهُ عَلَيْهِمَا فَلِاعْتِبَارِهِ بِالشَّهَادَةِ تُعْتَبَرُ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ وَلَفْظَةُ الشَّهَادَةِ وَلِاعْتِبَارِهِ بِالْخَبَرِ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الذُّكُورَةُ وَالْعَدَدُ فَإِذَا ثَبَتَ مَا قُلْنَا فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهَا الْوِلَادَةَ وَمَا هُوَ مِنْ ضَرُورَةِ الْوِلَادَةِ وَهُوَ عَيْنُ الْوَلَدِ ثُمَّ النَّسَبُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ الْفِرَاشِ الْقَائِمِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ الزَّوْجُ بِوِلَادَتِهَا وَقَالَ لَيْسَ الْوَلَدُ مِنِّي يَثْبُتُ النَّسَبُ بِالْفِرَاشِ الْقَائِمِ وَلَا يَنْتَفِي إلَّا بِاللِّعَانِ .
( قَالَ ) ، وَإِذَا أَقَرَّتْ الْمُطَلَّقَةُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِالْحَيْضِ فِي مُدَّةٍ يَحِيضُ فِيهِ مِثْلُهَا ثَلَاثَ حِيَضٍ ثُمَّ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ فَإِذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ثَبَتَ النَّسَبُ لِتَيَقُّنِنَا بِكَذِبِهَا فِيمَا قَالَتْ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ وَقْتِ إقْرَارِهَا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ ثُمَّ تَأْتِي بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ لِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ لَحِقَ الْوَلَدِ وَقَوْلُهَا فِي إبْطَالِ حَقِّهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فَكَانَ وُجُودُ إقْرَارِهَا كَعَدَمِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا تَزَوَّجَتْ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي النَّسَبِ هُنَاكَ ثَبَتَ لِلزَّوْجِ الثَّانِي فَيَنْتَفِي مِنْ الْأَوَّلِ ضَرُورَةً وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّهَا أَمِينَةٌ فِي الْإِخْبَارِ بِمَا فِي رَحِمِهَا فَإِذَا أَخْبَرَتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ، وَهُوَ مُمْكِنٌ وَجَبَ قَبُولُ خَبَرِهَا ثُمَّ إذَا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ بَعْدَ ظُهُورِ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِمُدَّةِ حَبَلٍ تَامٍّ فَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَتْ وَهَذَا لِأَنَّ حَمْلَ كَلَامِهَا عَلَى الصِّحَّةِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ .
( قَالَ ) وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَلَمْ يَخْلُ بِهَا ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَزِمَهُ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ الْعُلُوقَ بِهِ كَانَ قَبْلَ الطَّلَاقِ وَحَمْلُ أَمْرِهَا عَلَى الصِّحَّةِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ فَيُجْعَلُ هَذَا الْعُلُوقُ مِنْ الزَّوْجِ وَيَتَبَيَّنُ لَنَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَلْزَمْهُ لِأَنَّ النِّكَاحَ بِالطَّلَاقِ ارْتَفَعَ لَا إلَى عِدَّةٍ وَإِنَّمَا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِمُدَّةِ حَبَلٍ تَامٍّ بَعْدَهُ وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ بَعْدَ الْخَلْوَةِ لَزِمَهُ الْوَلَدُ إلَى سَنَتَيْنِ لِأَنَّ النِّكَاحَ بِالطَّلَاقِ قَدْ ارْتَفَعَ إلَى عِدَّةٍ وَلَمَّا جَعَلْنَا الْخَلْوَةَ بِمَنْزِلَةِ الدُّخُولِ فِي إيجَابِ الْعِدَّةِ فَكَذَلِكَ فِيمَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ ، وَهُوَ ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ .
( قَالَ ) ، وَإِذَا طَلَّقَهَا وَعِدَّتُهَا بِالشُّهُورِ لِإِيَاسِهَا مِنْ الْحَيْضِ فَاعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسَنَتَيْنِ أَوْ أَقَلَّ مِنْ وَقْتِ الطَّلَاقِ فَإِنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ مِنْ الزَّوْجِ سَوَاءٌ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَوْ لَمْ تُقِرَّ لِأَنَّهَا إنَّمَا أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِالشُّهُورِ وَلَمَّا وَلَدَتْ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا غَلِطَتْ فِيمَا قَالَتْ لِأَنَّ الْآيِسَةَ لَا تَلِدُ وَإِنَّمَا كَانَتْ هِيَ مُمْتَدَّةٌ طُهْرُهَا لَا آيِسَةٌ فَلَا تَكُونُ عِدَّتُهَا مُنْقَضِيَةً بِالشُّهُورِ ؛ فَلِهَذَا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ .
( قَالَ ) وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً فَطَلَّقَهَا زَوْجُهَا بَعْدَ مَا دَخَلَ بِهَا فَإِنْ ادَّعَتْ حَبَلًا فَذَلِكَ إقْرَارٌ مِنْهَا بِأَنَّهَا بَالِغَةٌ وَقَوْلُهَا فِي ذَلِكَ مَقْبُولٌ فَكَانَتْ هِيَ كَالْكَبِيرَةِ فِي نَسَبِ وَلَدِهَا وَإِنْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْهُ لِأَنَّا حَكَمْنَا بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَإِنَّهَا إنْ كَانَتْ صَغِيرَةً تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ بِالنَّصِّ وَإِنْ كَانَتْ كَبِيرَةً تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِإِقْرَارِهَا وَإِنْ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِمُدَّةِ حَبَلٍ تَامٍّ بَعْدَهُ .
فَأَمَّا إذَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَلَمْ تَدَّعِ حَبَلًا فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ طَلَّقَهَا يَثْبُتُ النَّسَبُ وَإِلَّا فَلَا .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ طَلَّقَهَا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ فِي الطَّلَاقِ الْبَائِنِ ، وَفِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ إنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ وَإِنْ كَانَتْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْحَبَلَ فِي الْمُرَاهِقَةِ مَوْهُومٌ وَالْحُكْمُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِالشُّهُورِ شَرْطُهُ أَنْ لَا تَكُونَ حَامِلًا وَذَلِكَ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِقَوْلِهَا كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ فِي حَقِّ الْكَبِيرَةِ ، وَإِذَا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ وَلَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ عُلُوقٍ قَبْلَ الطَّلَاقِ وَهَذَا الِاحْتِمَالُ يَكْفِي لِلنَّسَبِ ، وَفِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ شَهْرًا فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ عُلُوقٍ كَانَ فِي الْعِدَّةِ وَهُوَ مُثْبِتٌ لِلنَّسَبِ مِنْ الزَّوْجِ وَمُوجِبٌ لِلْحُكْمِ بِأَنَّهُ كَانَ مُرَاجِعًا لَهَا وَهُمَا يَقُولَانِ عَرَفْنَاهَا صَغِيرَةً
وَمَا عُرِفَ ثُبُوتُهُ بِيَقِينٍ لَا يُحْكَمُ بِزَوَالِهِ بِالِاحْتِمَالِ وَصِفَةُ الصِّغَرِ مُنَافِيَةٌ لِلْحَبَلِ فَإِذَا بَقِيَ فِيهَا صِفَةُ الصِّغَرِ حُكِمَ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ بِالنَّصِّ فَكَانَ ذَلِكَ أَقْوَى مِنْ إقْرَارِهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَإِذَا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِمُدَّةِ حَبَلٍ تَامٍّ بَعْدَهُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ الْكَبِيرَةِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهَا مَا يُنَافِي الْحَبَلَ فَلَا يُحْكَمُ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ إلَّا إذَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا وَلَا يُقَالُ الْأَصْلُ عَدَمُ الْحَبَلِ لِأَنَّ هَذَا فِي غَيْرِ الْمَنْكُوحَةِ فَأَمَّا النِّكَاحُ لَا يُعْقَدُ إلَّا لِلْإِحْبَالِ .
وَعَلَى هَذَا الصَّغِيرَةُ إذَا تُوُفِّيَ عَنْهَا زَوْجُهَا فَإِنْ أَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْهُ فَإِنْ ادَّعَتْ حَبَلًا ثُمَّ جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ يَثْبُتُ النَّسَبُ فَإِنْ لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَلَمْ تَدَّعِ حَبَلًا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إذَا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِأَقَلَّ مِنْ عَشْرَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرَةِ أَيَّامٍ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ وَإِلَّا فَلَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ مَاتَ الزَّوْجُ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ وَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ .
( قَالَ ) ، وَإِذَا تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ فِي عِدَّتِهَا مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ وَدَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ مِنْ يَوْمِ طَلَّقَهَا الْأَوَّلُ وَلِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا الثَّانِي فَالْوَلَدُ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّ نِكَاحَ الثَّانِي فَاسِدٌ وَالْفَاسِدُ مِنْ الْفِرَاشِ لَا يُعَارِضُ الصَّحِيحَ فِي حُكْمِ النَّسَبِ فَكَانَ الْوَلَدُ لِصَاحِبِ الْفِرَاشِ الصَّحِيحِ فَإِذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ طَلَّقَهَا الْأَوَّلُ وَلِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا الْآخَرُ لَمْ نُلْزِمْهُ الْأَوَّلَ وَلَا الْآخَرَ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ الْعُلُوقَ بِهِ كَانَ بَعْدَ الطَّلَاقِ مِنْ الْأَوَّلِ فَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ وَتَيَقَّنَّا أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ عَقْدِ الثَّانِي لِأَنَّ أَدْنَى مُدَّةِ الْحَبَلِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ طَلَّقَهَا الْأَوَّلُ وَلِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ تَزَوَّجَهَا الْآخَرُ وَدَخَلَ بِهَا فَهُوَ لِلْآخَرِ فَإِنَّهُ لَا مُزَاحَمَةَ لِلْأَوَّلِ هُنَا فِي النَّسَبِ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ الْعُلُوقَ بِهِ كَانَ بَعْدَ طَلَاقِهِ فَبَقِيَ الْحُكْمُ لِلْآخَرِ وَقَدْ جَاءَتْ بِهِ لِمُدَّةِ حَبَلٍ تَامٍّ بَعْدَ مَا دَخَلَ بِهَا الثَّانِي بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ فَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ .
( قَالَ ) ، وَإِذَا مَاتَ الصَّبِيُّ عَنْ امْرَأَتِهِ فَظَهَرَ بِهَا حَبَلٌ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّ عِدَّتَهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ وَلَا يُنْظَرُ إلَى الْحَبَلِ لِأَنَّهُ مِنْ زِنًا حَادِثٍ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَا يُغَيِّرُ حُكْمَ الْعِدَّةِ الْوَاجِبَةِ وَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهَا التَّرَبُّصُ بِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ عِنْدَ الْمَوْتِ وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ فِي امْرَأَةِ الْكَبِيرِ إذَا حَدَثَ الْوَلَدُ بَعْدَ الْمَوْتِ يَكُونُ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِالْوَضْعِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْجَوَابُ فِي الْفَصْلَيْنِ وَاحِدٌ وَمَتَى كَانَ الْحَبَلُ حَادِثًا بَعْدَ الْمَوْتِ كَانَ مِنْ زِنًا فَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ حُكْمُ الْعِدَّةِ .
وَإِنَّمَا الْفَرْقُ فِي امْرَأَةِ الْكَبِيرِ إذَا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا لِأَنَّهُ يَسْتَنِدُ الْعُلُوقُ إلَى مَا قَبْلَ الْمَوْتِ حَتَّى يُحْكَمَ بِثُبُوتِ النَّسَبِ فَيَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّ الْحَبَلَ لَيْسَ بِحَادِثٍ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَفِي امْرَأَةِ الصَّغِيرِ لَا يَسْتَنِدُ الْعُلُوقُ إلَى مَا قَبْلَ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا يَسْتَنِدُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ مِنْهُ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْحَبَلُ ظَاهِرًا وَقْتَ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا ظَهَرَ بَعْدَ الْمَوْتِ يُجْعَلُ هَذَا حَبَلًا حَادِثًا .
فَأَمَّا إذَا كَانَتْ حُبْلَى عِنْدَ مَوْتِ الصَّبِيِّ فَعِدَّتُهَا أَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا اسْتِحْسَانًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عِدَّتَهَا بِالشُّهُورِ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَوَجْهُهُ أَنَّا نَتَيَقَّنُ أَنَّ هَذَا الْحَبَلَ مِنْ زِنًا فَلَا يَتَقَدَّرُ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِهِ كَمَا لَوْ ظَهَرَ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهَذَا لِأَنَّ اعْتِبَارَ وَضْعِ الْحَمْلِ فِي الْعِدَّةِ لِحُرْمَةِ الْمَاءِ وَصِيَانَتِهِ وَلَا حُرْمَةَ لِمَاءِ الزَّانِي .
وَلِأَنَّا نَتَيَقَّنُ بِفَرَاغِ رَحِمِهَا مِنْ مَاءِ الزَّوْجِ عِنْدَ مَوْتِهِ فَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِالشُّهُورِ
حَقًّا لِنِكَاحِهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ بِهَا حَبَلٌ وَلَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { وَأُولَاتِ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهَا قَاضِيَةٌ عَلَى آيَةِ التَّرَبُّصِ لِأَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَهَا وَعُمُومُ هَذِهِ الْآيَةِ يُوجِبُ أَنْ لَا تَجِبَ الْعِدَّةُ عَلَى الْحَامِلِ إلَّا بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَهُوَ الْمَعْنَى أَنَّهُ قَدْ لَزِمَتْهَا الْعِدَّةُ وَهِيَ حَامِلٌ فَيَتَقَدَّرُ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِالْوَضْعِ كَامْرَأَةِ الْكَبِيرِ وَهَذَا لِأَنَّ الْعِدَّةَ فِي الْأَصْلِ مَشْرُوعَةٌ لِتُعْرَفَ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ .
وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي جَانِبِهَا هُنَا وَإِنَّمَا انْعَدَمَ اشْتِغَالُ رَحِمِهَا بِمَاءِ الزَّوْجِ وَلَيْسَ الشَّرْطُ فِيمَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ أَنْ تَكُونَ مِنْ الزَّوْجِ كَالشُّهُورِ وَالْحَيْضِ وَكَمَا لَوْ نَفَى حَبَلَ امْرَأَتِهِ وَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بِاللِّعَانِ وَحَكَمَ أَنَّ الْوَلَدَ لَيْسَ مِنْهُ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا بِوَضْعِهِ وَالدَّلِيلُ الْحُكْمِيُّ كَالدَّلِيلِ الْمُتَيَقَّنِ بِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْحَبَلُ ظَاهِرًا عِنْدَ الْمَوْتِ لِأَنَّا حَكَمْنَا بِفَرَاغِ رَحِمِهَا عِنْدَ ذَلِكَ حَمْلًا لِأَمْرِهَا عَلَى الصَّلَاحِ وَأَلْزَمْنَاهَا الْعِدَّةَ بِالشُّهُورِ حَقًّا لِلنِّكَاحِ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِحُدُوثِ الْحَبَلِ مِنْ زِنًا بَعْدَهُ .
( قَالَ ) وَالْخَصِيُّ كَالصَّحِيحِ فِي الْوَلَدِ وَالْعِدَّةِ لِأَنَّ فِرَاشَهُ كَفِرَاشِ الصَّحِيحِ وَهُوَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَالِدًا وَالْوَطْءُ مِنْهُ يَتَأَتَّى مَعَ أَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِالْوَطْءِ مِنْهُ فِي حُكْمِ النَّسَبِ حَتَّى لَا يُشْتَرَطَ التَّمَكُّنُ مِنْ الْوَطْءِ لِإِثْبَاتِ النَّسَبِ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَالِدًا وَبِدُونِ الصَّلَاحِيَّةِ لَا تَعْمَلُ الْعِلَّةُ .
.
( قَالَ ) وَكَذَلِكَ الْمَجْبُوبُ إذَا كَانَ يُنْزِلُ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَالِدًا وَالْإِعْلَاقُ بِالسُّحْقِ مِنْهُمْ مُتَوَهِّمٌ وَزَادَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ لَا يُنْزِلُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْوَلَدُ لِأَنَّهُ إذَا جَفَّ مَاؤُهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ أَوْ دُونَهُ لِأَنَّ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ يَنْعَدِمُ الْمَاءُ فِي الْحَالِ إلَى تَوَهُّمِ ظُهُورِهِ فِي الثَّانِي عَادَةً ، وَفِي حَقِّ هَذَا يَنْعَدِمُ الْمَاءُ لَا إلَى تَوَهُّمِ الظُّهُورِ فِي الثَّانِي فَإِذَا كَانَ هُنَاكَ تَنْعَدِمُ الصَّلَاحِيَّةُ فَهُنَا أَوْلَى .
( قَالَ ) وَلَا يَكُونُ طَلَاقُ الصَّبِيِّ طَلَاقًا حَتَّى يَبْلُغَ لِقَوْلِ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ كُلُّ طَلَاقٍ جَائِزٌ إلَّا طَلَاقَ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ مَرْفُوعًا ثُمَّ بُلُوغُهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِالْعَلَامَةِ أَوْ بِالسِّنِّ وَالْعَلَامَةُ فِي ذَلِكَ الْإِنْزَالُ بِالِاحْتِلَامِ وَالْإِحْبَالِ ، وَفِي حَقِّ الْجَارِيَةِ بِالِاحْتِلَامِ وَالْحَبَلِ وَالْحَيْضِ قَالُوا وَأَدْنَى الْمُدَّةِ فِي حَقِّ الْغُلَامِ اثْنَا عَشَرَ سَنَةً ، وَفِي حَقِّ الْجَارِيَةِ تِسْعُ سِنِينَ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الْحَيْضِ وَأَمَّا بُلُوغُهُمَا بِالسِّنِّ فَقَدَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْجَارِيَةِ بِسَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً ، وَفِي الْغُلَامِ بِتِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً .
وَفِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ ذَكَرَ فِي الْغُلَامِ ثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً فِي مَوْضِعٍ ، وَفِي مَوْضِعٍ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ وُفِّقَ فَقَالَ الْمُرَادُ أَنْ يَتِمَّ لَهُ ثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً وَيَطْعَنُ فِي التَّاسِعَ عَشْرَةَ وَلَكِنْ ذَكَرَ فِي نُسَخِ أَبِي سُلَيْمَانَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَفِيهِ رِوَايَتَانِ إذَنْ .
وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ يَتَقَدَّرُ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً لِحَدِيثِ { ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ عُرِضْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَرَدَّنِي ثُمَّ عُرِضْت عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي } وَلَمَّا سَمِعَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ قَالَ هَذَا هُوَ الْفَصْلُ بَيْنَ الْبَالِغِ وَغَيْرِ الْبَالِغِ وَكَتَبَ بِهِ إلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْعَادَةَ الظَّاهِرَةَ أَنَّ الْبُلُوغَ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحُكْمَ يَنْبَنِي عَلَى الظَّاهِرِ دُونَ النَّادِرِ
وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ صِفَةُ الصِّغَرِ فِيهِمَا مَعْلُومَةٌ بِيَقِينٍ فَلَا يُحْكَمُ بِزَوَالِهَا إلَّا بِيَقِينٍ مِثْلِهِ وَلَا يَقِينَ فِي مَوْضِعِ الِاخْتِلَافِ ثُمَّ أَدْنَى الْمُدَّةِ لِبُلُوغِ الْغُلَامِ اثْنَا عَشَرَ سَنَةً وَقَدْ وَجَبَ زِيَادَةُ الْمُدَّةِ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّمَا يُزَادُ سَبْعُ سِنِينَ اعْتِبَارًا بِأَوَّلِ أَمْرِهِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ الشَّرْعِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغُوا سَبْعًا } وَبَيْنَ أَهْلِ التَّفْسِيرِ اخْتِلَافٌ فِي تَفْسِيرِ الْأَشَدِّ وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَمَّا بَلَغَ أَشَدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا } فَوَجَبَ تَقْدِيرُ مُدَّةِ الْبُلُوغِ بِهِ وَلَكِنَّ الْأُنْثَى أَسْرَعُ نُشُوءًا عَادَةً فَيَنْقُصُ فِي حَقِّهَا سَنَةٌ فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ بِسَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً وَلَا حُجَّةَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَنَّهُ مَا أَجَازَهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ حَكَمَ بِبُلُوغِهِ بَلْ لِأَنَّهُ رَآهُ قَوِيًّا صَالِحًا لِلْقِتَالِ وَقَدْ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجِيزُ مِنْ الصِّبْيَانِ مَنْ كَانَ صَالِحًا لِلْقِتَالِ } عَلَى مَا رُوِيَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُرِضَ عَلَيْهِ صَبِيٌّ فَرَدَّهُ فَقِيلَ إنَّهُ رَامٍ فَأَجَازَهُ وَعُرِضَ عَلَيْهِ صَبِيَّانِ فَأَجَازَ أَحَدُهُمَا وَرَدَّ الْآخَرَ فَقَالَ الْمَرْدُودُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَجَزْته وَرَدَدْتنِي وَلَوْ صَارَعْته لَصَرَعْته فَصَارَعَهُ فَأَجَازَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } .
( قَالَ ) وَلَا يَجُوزُ طَلَاقُ الْمَجْنُونِ وَإِنْ مَاتَ عَنْ امْرَأَتِهِ كَانَ فِي حُكْمِ الْعِدَّةِ وَالْوَلَدُ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الصَّحِيحِ لِأَنَّ الْمَجْنُونَ يُجَامِعُ وَيُحْبِلُ وَقَدْ ثَبَتَ الْفِرَاشُ لَهُ بِحُكْمِ النِّكَاحِ ، وَهُوَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَالِدًا .
( قَالَ ) وَاذَا مَاتَ عَنْ أُمِّ وَلَدِهِ أَوْ أَعْتَقَهَا فَعِدَّتُهَا ثَلَاثُ حِيَضٍ فَإِنْ كَانَتْ لَا تَحِيضُ مِنْ إيَاسٍ فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَعَلَيْهَا مِنْهُ الْعِدَّةُ لِأَنَّهَا فِرَاشُهُ بَعْدَ مَا حَرُمَتْ عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ ادَّعَى نَسَبَ وَلَدِهَا ثَبَتَ مِنْهُ وَإِنَّمَا لَا يَثْبُتُ بِدُونِ الدَّعْوَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ إسَاءَةِ الظَّنِّ بِهِ وَالْحُكْمُ بِإِقْدَامِهِ عَلَى الْوَطْءِ الْحَرَامِ فَيَتَحَقَّقُ زَوَالُ الْفِرَاشِ إلَيْهَا بِالْعِتْقِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا زَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِهِ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى أَوْ أَعْتَقَهَا لِأَنَّ هُنَاكَ قَدْ اُعْتُرِضَ عَلَى فِرَاشِهِ فِرَاشُ الزَّوْجِ وَفِرَاشُ النِّكَاحِ أَقْوَى مِنْ فِرَاشِ الْمِلْكِ فَيَنْعَدِمُ الضَّعِيفُ بِالْقَوِيِّ ، وَإِذَا انْعَدَمَ لَمْ يَتَقَرَّرْ بِالْعِتْقِ سَبَبُ وُجُوبِ الْعِدَّةِ ، وَهُوَ زَوَالُ فِرَاشِهِ إلَيْهَا .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ فِي عِدَّةٍ مِنْ زَوْجٍ أَلَا تَرَى أَنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ مِنْ الْمَوْلَى وَإِنْ ادَّعَاهُ فَعَرَفْنَا أَنَّهَا لَمْ تُبْقِ فِرَاشًا لَهُ أَصْلًا .
( قَالَ ) وَلَوْ مَاتَ عَنْ أُمِّ وَلَدِهِ أَوْ أَعْتَقَهَا فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَنَتَيْنِ لَزِمَهُ لِتَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ الْعُلُوقُ بِهِ قَبْلَ الْمَوْتِ وَهَذَا لِأَنَّ الْفِرَاشَ زَالَ بِالْعِتْقِ إلَى عِدَّةٍ ، وَهُوَ نَظِيرُ فِرَاشِ النِّكَاحِ فِي أَنَّهُ يَسْتَنِدُ الْعُلُوقُ إلَى أَبْعَدِ الْأَوْقَاتِ وَلَكِنْ لَوْ نَفَاهُ الْمَوْلَى لَا يَنْتَفِي بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْعِتْقِ لِأَنَّ الْفِرَاشَ بِالْعِتْقِ يَتَقَوَّى حَتَّى لَا يَمْلِكَ نَقْلَهُ إلَى غَيْرِهِ بِالتَّزْوِيجِ فَيَلْزَمُهُ نَسَبُ الْوَلَدِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ نَفْيَهُ وَقَبْلَ الْعِتْقِ كَانَ يَمْلِكُ نَقْلَ فِرَاشِهَا إلَى غَيْرِهِ بِالتَّزْوِيجِ فَكَذَلِكَ يَمْلِكُ نَفْيَ نَسَبِ الْوَلَدِ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِحَسَبِ السَّبَبِ .
فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ مُنْذُ أَعْتَقَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَهُ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ الْعُلُوقَ كَانَ بَعْدَ الْعِتْقِ فَإِنْ ادَّعَاهُ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُ وَالْحَقُّ لَهُمَا وَمَا تَصَادَقَا عَلَيْهِ مُحْتَمِلٌ لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ فِي عِدَّتِهَا .
( قَالَ ) رَجُلٌ تَوَفَّى عَنْ امْرَأَتِهِ وَهِيَ مَمْلُوكَةٌ فَأَقَرَّتْ بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بَعْدَ شَهْرَيْنِ وَخَمْسَةِ أَيَّامٍ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ يَوْمٍ أَقَرَّتْ لَمْ يَلْزَمْ الزَّوْجَ لِأَنَّ الشَّهْرَيْنِ وَخَمْسَةَ أَيَّامٍ فِي حَقِّهَا كَأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ وَإِقْرَارُهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ مُعْتَبَرٌ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ كَذِبُهَا فَكَذَلِكَ هُنَا وَإِنْ لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَزِمَهُ الْوَلَدُ إلَى سَنَتَيْنِ لِأَنَّا نَسْنُدُ الْعُلُوقَ إلَى أَبْعَدِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ فِي حَقِّهَا لِإِثْبَاتِ نَسَبِ وَلَدِهَا مِنْ الزَّوْجِ كَمَا فِي الْحُرَّةِ .