كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي

( قَالَ ) وَلَا يَسْتَلِمُ الرُّكْنَيْنِ الْآخَرَيْنِ إلَّا عَلَى قَوْلِ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ اسْتَلَمَ الْأَرْكَانَ الْأَرْبَعَةَ فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَا تَسْتَلِمْ الرُّكْنَيْنِ فَقَالَ : لَيْسَ شَيْءٌ مِنْهُ بِمَهْجُورٍ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْقِيَاسُ يَنْفِي اسْتِلَامَ الرُّكْنِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ تَعْظِيمِ الْبُقْعَةِ كَسَائِرِ الْمَوَاضِعِ مِنْ الْبَيْتِ ، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ فِي الْحَجَرِ بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَقِيَ مَا سِوَاهُ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ ثُمَّ الرُّكْنَانِ الْآخَرَانِ لَيْسَا مِنْ أَرْكَانِ الْبَيْتِ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ قَصَّرُوا الْبَيْتَ عَنْ قَوَاعِدِ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَعَلَى مَا بَيَّنَّا فَلَا يَسْتَلِمُهُمَا

( قَالَ ) وَإِنْ رَمَلَ فِي طَوَافِهِ كُلِّهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْمَشْيَ عَلَى هَيْئَتِهِ فِي الْأَشْوَاطِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ الْآدَابِ ، وَبِتَرْكِ الْآدَابِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ

( قَالَ ) وَإِنْ مَشَى فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ أَوْ فِي بَعْضِهَا ثُمَّ ذَكَرَ ذَلِكَ لَمْ يَرْمُلْ فِيمَا بَقِيَ ؛ لِأَنَّ الرَّمَلَ فِي الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثَةِ سُنَّةٌ فَإِذَا فَاتَتْ مِنْ مَوْضِعِهَا لَا تُقْضَى ، وَالْمَشْيُ عَلَى هَيْئَتِهِ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأُخَرِ مِنْ آدَابِ الطَّوَافِ أَوْ مِنْ السُّنَنِ فَإِنْ تَرَكَ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ مَا هُوَ سَنَتُهَا لَا يَتْرُكُ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأُخَرِ مَا هُوَ سَنَتُهَا

( قَالَ ) وَإِنْ جَعَلَ لِلَّهِ عَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ زَحْفًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ مَاشِيًا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْتَزِمُ بِالنَّذْرِ مَا يَتَنَفَّلُ بِهِ أَوْ مَا يَكُونُ قُرْبَةً فِي نَفْسِهِ ، وَأَصْلُ الطَّوَافِ قُرْبَةٌ فَأَمَّا الزَّحْفُ مِنْ أَفْعَالِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ ، وَلَيْسَ بِقُرْبَةٍ فِي شَرِيعَتِنَا فَلَا تَلْزَمُهُ هَذِهِ الصِّفَةُ بِالنَّذْرِ ، وَإِنْ طَافَ كَذَلِكَ زَحْفًا فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ مَا دَامَ بِمَكَّةَ ، وَإِنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ طَافَ مَحْمُولًا أَوْ رَاكِبًا عَلَى مَا بَيَّنَّا

( قَالَ ) وَإِنْ طَافَ بِالْبَيْتِ مِنْ ، وَرَاءِ زَمْزَمَ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ظُلَّةِ الْمَسْجِدِ أَجْزَأَهُ عَنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ فَطَوَافُهُ يَكُونُ بِالْبَيْتِ فَيَصِيرُ بِهِ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ فَأَمَّا إذَا طَافَ مِنْ وَرَاءِ الْمَسْجِدِ فَكَانَتْ حِيطَانُهُ بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ الْكَعْبَةِ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّهُ طَافَ بِالْمَسْجِدِ لَا بِالْبَيْتِ ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ أَرَأَيْت لَوْ طَافَ بِمَكَّةَ كَانَ يُجْزِئُهُ ، وَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ فِي مَكَّةَ أَرَأَيْت لَوْ طَافَ فِي الدُّنْيَا أَكَانَ يُجْزِئُهُ مِنْ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ لَا يُجْزِئُهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَهَذَا مِثْلُهُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ ، وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ

( بَابُ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ) ( قَالَ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِذَا سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَرَمَلَ فِي سَعْيِهِ كُلِّهِ مِنْ الصَّفَا إلَى الْمَرْوَةِ ، وَمِنْ الْمَرْوَةِ إلَى الصَّفَا فَقَدْ أَسَاءَ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
وَكَذَلِكَ إنْ مَشَى فِي جَمِيعِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الطَّوَافُ بَيْنَهُمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } .
فَأَمَّا السَّعْيُ فِي بَطْنِ الْوَادِي ، وَالْمَشْيُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ أَدَبٌ أَوْ سُنَّةٌ فَتَرْكُهُ لَا يُوجِبُ إلَّا الْإِسَاءَةَ كَتَرْكِ الرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ

( قَالَ ) وَإِنْ بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ وَخَتَمَ بِالصَّفَا حَتَّى فَرَغَ أَعَادَ شَوْطًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ الَّذِي بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ فِيهِ ثُمَّ أَقْبَلَ مِنْهَا إلَى الصَّفَا لَا يَعْتَدُّ بِهِ ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ افْتِتَاحَ هَذَا الطَّوَافِ مَشْرُوعٌ مِنْ الصَّفَا عَلَى مَا رَوَيْنَا أَنَّهُ لَمَّا { سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَيِّهِمَا نَبْدَأُ فَقَالَ ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى } ، وَإِذَا افْتَتَحَ مِنْ غَيْرِ مَوْضِعِ الِافْتِتَاحِ لَا يَعْتَدُّ بِطَوَافِهِ حَتَّى يَصِلَ إلَى مَوْضِعِ الِافْتِتَاحِ ثُمَّ الْمُعْتَدُّ بِهِ يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ إتْمَامُهُ بِشَوْطٍ آخَرَ كَمَا لَوْ افْتَتَحَ الطَّوَافَ مِنْ غَيْرِ الْحَجَرِ

( قَالَ ) وَإِنْ تَرَكَ السَّعْيَ فِيمَا بَيْنَ الصَّفَا ، وَالْمَرْوَةِ رَأْسًا فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَنَا ، وَهَذَا لِأَنَّ السَّعْيَ وَاجِبٌ ، وَلَيْسَ بِرُكْنٍ عِنْدَنَا ، الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ، وَتَرْكُ الْوَاجِبِ يُوجِبُ الدَّمَ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى السَّعْيُ رُكْنٌ لَا يَتِمُّ لِأَحَدٍ حَجٌّ وَلَا عُمْرَةٌ إلَّا بِهِ ، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ فَاسْعَوْا ، وَالْمَكْتُوبُ رُكْنٌ } ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا أَتَمَّ اللَّهُ تَعَالَى لِامْرِئٍ حَجَّةً وَلَا عُمْرَةً لَا يَطُوفُ لَهَا بَيْنَ الصَّفَا ، وَالْمَرْوَةِ } ، وَجُحَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا } ، وَمِثْلُ هَذَا اللَّفْظِ لِلْإِبَاحَةِ لَا لِلْإِيجَابِ فَيَقْتَضِي ظَاهِرُ الْآيَةِ أَنْ لَا يَكُونَ وَاجِبًا ، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا هَذَا الظَّاهِرَ فِي حُكْمِ الْإِيجَابِ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ فَبَقِيَ مَا وَرَاءَهُ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا اللَّفْظَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، لِأَصْحَابِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَتَحَرَّزُونَ عَنْ الطَّوَافِ بِهِمَا لِمَكَانِ الصَّنَمَيْنِ عَلَيْهِمَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إسَافٍ ، وَنَائِلَةٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ ثُمَّ بَيَّنَ فِي الْآيَةِ أَنَّ الْمَقْصُودَ حَجُّ الْبَيْتِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوْ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ } فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَا لَا يَتَّصِلُ بِالْبَيْتِ مِنْ الطَّوَافِ يَكُونُ تَبَعًا لِمَا هُوَ مُتَّصِلٌ بِالْبَيْتِ ، وَلَا تَبْلُغْ دَرَجَةُ التَّبَعِ دَرَجَةَ الْأَصْلِ فَتَثْبُتُ فِيهِ صِفَةُ الْوُجُوبِ لَا الرُّكْنِيَّةُ فَكَانَ السَّعْيُ مَعَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ نَظِيرَ الْوُقُوفِ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ مَعَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ، وَذَلِكَ وَاجِبٌ لَا رُكْنٌ فَهَذَا

مِثْلُهُ ، وَهُوَ نَظِيرُ رَمْيِ الْجِمَارِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُقَدَّرٌ بِعَدَدِ السَّبْعِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْبَيْتِ ، وَلَا يَصِحُّ اسْتِدْلَالُهُ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ ؛ لِأَنَّ فِي ظَاهِرِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السَّعْيَ مَكْتُوبٌ ، وَبِالِاتِّفَاقِ عَيْنُ السَّعْيِ غَيْرُ مَكْتُوبٌ فَإِنَّهُ لَوْ مَشَى فِي طَوَافِهِ بَيْنَهُمَا أَجْزَأَهُ ، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ دُونَ الرَّكِينَةِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ التَّمَامَ بِالسَّعْيِ ، وَأَدَاءُ أَصْلِ الْعِبَادَةِ يَكُونُ بِأَرْكَانِهَا فَصِفَةُ التَّمَامِ بِالْوَاجِبِ فِيهَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ مِنْهُ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فَهُوَ كَتَرْكِ الْكُلِّ فِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ يَقُومُ مَقَامَ الْكَمَالِ ، وَإِنْ تَرَكَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ أَطْعَمَ لِكُلِّ شَوْطٍ مِسْكِينًا إلَّا أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ دَمًا فَحِينَئِذٍ يُنْقِصُ مِنْهُ مَا شَاءَ ، وَهُوَ نَظِيرُ طَوَافِ الصَّدَرِ فِي ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ إنْ فَعَلَهُ رَاكِبًا فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ الدَّمُ فِي الْأَكْثَرِ ، وَالصَّدَقَةُ فِي الْأَقَلِّ لِمَا بَيَّنَّا

( قَالَ ) وَيَجُوزُ سَعْيُ الْجُنُبِ ، وَالْحَائِضِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْبَيْتِ فَلَا تَكُونُ الطَّهَارَةُ شَرْطًا فِيهِ كَالْوُقُوفِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَنَاسِكِ ، وَإِنَّمَا اشْتِرَاطُ الطَّهَارَةِ فِي الطَّوَافِ خَاصَّةً لِاخْتِصَاصِهِ بِالْبَيْتِ

( قَالَ ) وَلَا يَجُوزُ السَّعْيُ قَبْلَ الطَّوَافِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَرَفَ قُرْبَةً بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإِنَّمَا سَعَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الطَّوَافِ ، وَهَكَذَا تَوَارَثَهُ النَّاسُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا ، وَهُوَ فِي الْمَعْنَى مُتَمِّمٌ لِلطَّوَافِ فَلَا يَكُونُ مُعْتَدًّا بِهِ قَبْلَهُ كَالسُّجُودِ فِي الصَّلَاةِ أَوْ شَرْطُ الِاعْتِدَادِ بِهِ تَقَدُّمُ الطَّوَافِ فَإِذَا انْعَدَمَ هَذَا الشَّرْطُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ كَالسُّجُودِ لَمَّا كَانَ شَرْطُ الِاعْتِدَادِ بِهِ تَقَدُّمَ الرُّكُوعِ فَإِذَا سَبَقَ الرُّكُوعَ لَا يُعْتَدُّ بِهِ

( قَالَ ) وَيَجُوزُ السَّعْيُ بَعْدَ أَنْ يَطُوفَ الْأَكْثَرَ مِنْ الطَّوَافِ ؛ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ

( قَالَ ) وَيُكْرَهُ لَهُ تَرْكُ الصُّعُودِ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَعَدَ عَلَيْهِمَا ، وَأَمَرَنَا بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ بِقَوْلِهِ { خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ } ، وَكَذَلِكَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ ، وَمَنْ بَعْدِهِمْ تَوَارَثُوا الصُّعُودَ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ بِقَدْرِ مَا يَصِيرُ الْبَيْتُ بِمَرْأَى الْعَيْنِ مِنْهُمْ فَهُوَ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ يُكْرَهُ تَرْكُهَا .
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي نُزُولِهِ مِنْ الصَّفَا كَانَ يَقُولُ اللَّهُمَّ اسْتَعْمِلْنِي بِسُنَّةِ نَبِيِّك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَتَوَفَّنِي عَلَى مِلَّتِهِ ، وَأَعِذْنِي مِنْ مُعْضِلَاتِ الْفِتَنِ أَوْ مِنْ مُعْضِلَاتِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ بِتَرْكِ الصُّعُودِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الطَّوَافُ بَيْنَهُمَا ، وَقَدْ أَتَى بِذَلِكَ

( قَالَ ) وَإِنْ طَافَ لِحَجَّتِهِ ، وَوَاقَعَ النِّسَاءَ ثُمَّ سَعَى بَعْدَ ذَلِكَ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّ تَمَامَ التَّحَلُّلِ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ يَحْصُلُ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { فَإِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ حَلَّ لَهُ النِّسَاءُ } فَاشْتِغَالُهُ بِالْجِمَاعِ بَعْدَ الطَّوَافِ قَبْلَ السَّعْيِ كَاشْتِغَالِهِ بِعَمَلٍ آخَرَ مِنْ نَوْمٍ أَوْ أَكْلٍ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ أَدَاءِ السَّعْيِ بَعْدَهُ ، وَإِنْ أَخَّرَ السَّعْيَ حَتَّى رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِهِ كَمَا بَيَّنَّا ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ إلَى مَكَّةَ لِيَأْتِيَ بِالسَّعْيِ يَرْجِعُ بِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ تَحَلُّلَهُ بِالطَّوَافِ قَدْ تَمَّ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ إلَّا بِإِحْرَامٍ .
( قَالَ ) وَالدَّمُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ الرُّجُوعِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا رَجَعَ كَانَ مُؤَدِّيًا السَّعْيَ فِي إحْرَامٍ آخَرَ غَيْرَ الْإِحْرَامِ الَّذِي أَدَّى بِهِ الْحَجَّ ، وَإِنْ أَرَاقَ دَمًا انْجَبَرَ بِهِ النُّقْصَانُ الْوَاقِعُ فِي الْحَجِّ ، وَلِأَنَّ فِي إرَاقَةِ الدَّمِ تَوْفِيرَ مَنْفَعَةِ اللَّحْمِ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الرُّجُوعِ لِلَّسْعَى ، وَإِنْ رَجَعَ سَعَى أَوْ كَانَ بِمَكَّةَ وَسَعَى بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ بِأَيَّامِ النَّحْرِ إنَّمَا التَّوْقِيتُ فِي الطَّوَافِ بِالنَّصِّ فَلَا يَلْزَمُهُ بِتَأْخِيرِ السَّعْيِ شَيْءٌ

( قَالَ ) وَلَا يَنْبَغِي لَهُ فِي الْعُمْرَةِ أَنْ يُحِلَّ حَتَّى يَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَثَرَ جَاءَ فِيهَا أَنَّهُ { إذَا طَافَ وَسَعَى وَحَلَقَ أَوْ قَصَّرَ حَلَّ } ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْفَرْقَ بَيْنَ سَعْيِ الْعُمْرَةِ ، وَسَعْيِ الْحَجِّ فَإِنَّ أَدَاءَ سَعْيِ الْحَجِّ بَعْدَ تَمَامِ التَّحَلُّلِ بِالطَّوَافِ صَحِيحٌ ، وَأَلَّا يُؤَدِّيَ سَعْيَ الْعُمْرَةِ إلَّا فِي حَالِ بَقَاءِ الْإِحْرَامِ ؛ لِأَنَّ الْأَثَرَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَرَدَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، وَفِي مِثْلِهِ عَلَيْنَا الِاتِّبَاعُ إذْ لَا يُعْقَلُ فِيهِ مَعْنًى ثُمَّ مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ مَا هُوَ مُؤَدًّى بَعْدَ تَمَامِ التَّحَلُّلِ كَالرَّمْيِ فَيَجُوزُ السَّعْيُ أَيْضًا بَعْدَ تَمَامِ التَّحَلُّلِ ، وَلَيْسَ مِنْ أَعْمَالِ الْعُمْرَةِ مَا يَكُونُ مُؤَدًّى بَعْدَ تَمَامِ التَّحَلُّلِ ، وَالسَّعْيُ مِنْ أَعْمَالِ الْعُمْرَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ قَبْلَ التَّحَلُّلِ بِالْحَلْقِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ

( بَابُ الْخُرُوجُ مِنْ مِنًى ) ( قَالَ ) وَيُسْتَحَبُّ لِلْحَاجِّ أَنْ يُصَلِّيَ الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِمِنًى ، وَيُقِيمَ بِهَا إلَى صَبِيحَةِ عَرَفَةَ هَكَذَا عَلَّمَ جَبْرَائِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ حِينَ وَقَفَهُ عَلَى الْمَنَاسِكِ فَإِنَّهُ خَرَجَ بِهِ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ إلَى مِنًى فَيُصَلِّي الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ بِمِنًى ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَّ يَرْوُونَ فِيهِ بِمِنًى أَوْ لِأَنَّهُمْ يَرْوُونَ ظُهُورَهُمْ فِيهِ بِمِنًى فَفِي هَذِهِ التَّسْمِيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَكُونُوا بِمِنًى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ ، وَإِنْ صَلَّى الظُّهْرَ بِمَكَّةَ ثُمَّ رَاحَ إلَى مِنًى لَمْ يَضُرَّهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِمِنًى فِي هَذَا الْيَوْمِ نُسُكٌ مَقْصُودٌ فَلَا يَضُرُّهُ تَأْخِيرُ إتْيَانِهِ ، وَإِنْ بَاتَ بِمَكَّةَ لَيْلَةَ عَرَفَةَ وَصَلَّى بِهَا الْفَجْرَ ثُمَّ غَدَا مِنْهَا إلَى عَرَفَاتٍ ، وَمَرَّ بِمِنًى أَجْزَأَهُ لِمَا بَيَّنَّا ، وَقَدْ أَسَاءَ فِي تَرْكِهِ الِاقْتِدَاءَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَإِنَّهُ أَقَامَ بِمِنًى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ } كَمَا رَوَاهُ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُفَسَّرًا .
( قَالَ ) ثُمَّ يَنْزِلُ حَيْثُ أَحَبَّ مِنْ عَرَفَاتٍ ، وَيَصْعَدُ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ بَعْدَ الزَّوَالِ ، وَيُؤَذِّنُ الْمُؤَذِّنُ ، وَهُوَ عَلَيْهِ فَإِذَا فَرَغَ قَامَ الْإِمَامُ يَخْطُبُ فَحَمِدَ اللَّهَ ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ ، وَلَبَّى ، وَهَلَّلَ وَكَبَّرَ ، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَوَعَظَ النَّاسَ وَأَمَرَهُمْ وَنَهَاهُمْ وَدَعَا اللَّهَ تَعَالَى بِحَاجَتِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي الْحَجِّ عِنْدَنَا ثَلَاثَةَ خُطَبٍ إحْدَاهَا قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ ، وَالثَّانِيَةُ يَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَاتٍ ، وَالثَّالِثَةُ فِي الْغَدِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ بِمِنًى فَيَخْطُبُ بِمَكَّةَ قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِيَوْمٍ يُعَلِّمُهُمْ كَيْفَ يُحْرِمُونَ بِالْحَجِّ ، وَكَيْفَ

يَخْرُجُونَ مِنْهَا إلَى مِنًى ، وَكَيْفَ يَتَوَجَّهُونَ إلَى عَرَفَاتٍ ، وَكَيْفَ يَنْزِلُونَ بِهَا ثُمَّ يُمْهِلُهُمْ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ حَتَّى يَعْمَلُوا بِمَا عَلَّمَهُمْ ثُمَّ يَخْطُبُ يَوْمَ عَرَفَةَ خُطْبَةً يُعَلِّمُهُمْ فِيهَا مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ فِي هَذَا الْيَوْمِ ، وَفِي يَوْمِ النَّحْرِ ثُمَّ يُمْهِلُهُمْ لِيَعْمَلُوا بِمَا عَلَّمَهُمْ ثُمَّ يَخْطُبُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ خُطْبَةً يُعَلِّمُهُمْ فِيهَا بَقِيَّةَ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ أُمُورِ النُّسُكِ .
وَعَنْ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ يَخْطُبُ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِمِنًى ، وَيَوْمَ عَرَفَةَ بِعَرَفَاتٍ ، وَيَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى ؛ لِأَنَّهُ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ ، وَيَوْمَ عَرَفَةَ يَقِفُ ، وَيَوْمَ النَّحْرِ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ ، وَأَرْكَانُ الْحَجِّ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ الثَّلَاثَةُ فَيَخْطُبُ فِي كُلِّ يَوْمٍ يَأْتِي فِيهِ بِذَلِكَ الرُّكْنِ ثُمَّ بَيَّنَ فِي الْكِتَابِ كَيْفِيَّةَ الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِعَرَفَةَ ، وَاشْتِرَاطُ الْإِمَامِ فِيهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا الْفَصْلِ بِتَمَامِهِ

( قَالَ ) وَمَنْ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ شَيْئًا مِنْ كُلِّ صَلَاةٍ فَهُوَ كَإِدْرَاكِ جَمِيعِ الصَّلَاةِ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا عَلَى قِيَاسِ الْجُمُعَةِ إذَا أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي التَّشَهُّدِ مِنْهَا كَانَ مُدْرِكًا الْجُمُعَةَ

( قَالَ ) وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ سَبَقَهُ الْحَدَثُ فِي الظُّهْرِ فَاسْتَخْلَفَ رَجُلًا فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِهِمْ الظُّهْرَ ، وَالْعَصْرَ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِيمَا كَانَ عَلَيْهِ أَدَاؤُهُ ، وَكَانَ عَلَيْهِ أَدَاءُ الصَّلَاتَيْنِ فَيَقُومُ خَلِيفَتُهُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ .
( قَالَ ) فَإِنْ رَجَعَ الْإِمَامُ فَأَدْرَكَ مَعَهُ جُزْءًا مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ جَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ مُدْرِكٌ لِأَوَّلِ الظُّهْرِ لِآخِرِ الْعَصْرِ ، وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ حَتَّى فَرَغَ خَلِيفَتُهُ مِنْ الْعَصْرِ فَإِنَّ الْإِمَامَ لَا يُصَلِّي الْعَصْرَ مَا لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ شَرْطٌ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ هُنَا كَالْإِمَامِ ، وَأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْجُمُعَةِ فِي هَذَا ، وَقَدْ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا أَنَّهُ إذَا نَفَرَ النَّاسُ عَنْهُ فَصَلَّى وَحْدَهُ الصَّلَاتَيْنِ أَجْزَأَهُ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجَمَاعَةَ فِيهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَقِيلَ مَا ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا قَوْلُهُمَا ؛ لِأَنَّهُ أَطْلَقَ الْجَوَابَ هُنَا نَصَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقِيلَ فِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ جَعَلَهَا فِي اشْتِرَاطِ الْجَمَاعَةِ فِيهَا ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ اشْتِرَاطُ الْجَمَاعَةِ هُنَاكَ لِتَسْمِيَةِ تِلْكَ الصَّلَاةِ جُمُعَةً ، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ إنَّمَا سَمَّى هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الِاسْمِ مَا يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ الْجَمَاعَةِ ، وَمَعْنَى الْجَمْعِ هُنَا مُنْصَرِفٌ إلَى الصَّلَاتَيْنِ لَا إلَى الْمُؤَدِّينَ لَهُمَا فَلَا تُشْتَرَطُ الْجَمَاعَةُ فِيهِمَا .
( قَالَ ) وَلَيْسَ فِي هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ الْقِرَاءَةُ جَهْرًا إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَقُولُ يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ مُؤَدَّاةٌ بِجَمْعٍ عَظِيمٍ فَيَجْهَرُ فِيهَا

بِالْقِرَاءَةِ كَالْجُمُعَةِ ، وَالْعِيدَيْنِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّ رُوَاةَ نُسُكِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَنْقُلُوا أَنَّهُ جَهَرَ فِي هَاتَيْنِ بِالْقِرَاءَةِ ، وَهُمَا يُؤَدَّيَانِ فِي هَذَا الْمَكَانِ كَمَا يُؤَدَّيَانِ فِي غَيْرِهِ مِنْ الْأَمْكِنَةِ ، وَفِي غَيْرِ هَذَا الْيَوْمِ فَلَا يَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِيهِمَا عَمَلًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلَاةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ } أَيْ لَيْسَ فِيهَا قِرَاءَةٌ مَسْمُوعَةٌ

( قَالَ ) وَإِنْ خَطَبَ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ تَرَكَ الْخُطْبَةَ وَصَلَّى صَلَاتَيْنِ مَعًا أَجْزَأَهُ ، وَقَدْ أَسَاءَ فِي تَرْكِهِ الِاقْتِدَاءَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الْخُطْبَةَ لَيْسَتْ مِنْ شَرَائِطِ هَذَا الْجَمْعِ بِخِلَافِ الْجُمُعَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فَهَذِهِ خُطْبَةُ وَعْظٍ وَتَذْكِيرٍ وَتَعْلِيمٍ لِبَعْضِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْوَقْتِ فَتَرْكُهَا لَا يُوجِبُ إلَّا الْإِسَاءَةَ كَتَرْكِ الْخُطْبَةِ فِي الْعِيدَيْنِ

( قَالَ ) وَإِنْ كَانَ يَوْمَ غَيْمٍ فَاسْتَبَانَ أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ قَبْلَ الزَّوَالِ ، وَالْعَصْرَ بَعْدَهُ فَالْقِيَاسُ أَنَّهُ يُعِيدُ الظُّهْرَ وَحْدَهَا ؛ لِأَنَّ الْعَصْرَ مُؤَدَّاةٌ فِي وَقْتِهَا ، وَحِينَ أَدَّى الْعَصْرَ مَا كَانَ ذَاكِرًا لِلظُّهْرِ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى النَّاسِي ، وَالتَّرْتِيبُ يَسْقُطُ بِالنِّسْيَانِ ، وَلَكِنْ اُسْتُحْسِنَ أَنْ يُعِيدَ الْخُطْبَةَ وَالصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْعَصْرِ فِي هَذَا الْيَوْمِ تَقْدِيمُ الظُّهْرِ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ فَإِنَّ الْعَصْرَ مُعَجَّلٌ عَلَى وَقْتِهِ ، وَهَذَا التَّعْجِيلُ لِلْجَمْعِ فَإِنَّمَا يَحْصُلُ الْجَمْعُ بِأَدَاءِ الْعَصْرِ إذَا تَقَدَّمَ أَدَاءُ الظُّهْرِ بِصِفَةِ الصِّحَّةِ فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الظُّهْرَ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا كَانَ عَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا

( قَالَ ) وَإِنْ أَحْدَثَ الْإِمَامُ بَعْدَ الْخُطْبَةِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ فِي الصَّلَاةِ فَأَمَرَ رَجُلًا قَدْ شَهِدَ الْخُطْبَةَ أَوْ لَمْ يَشْهَدْ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمْ أَجْزَأَهُمْ ؛ لِأَنَّ الْخُطْبَةَ لَيْسَتْ مِنْ شَرَائِطِ هَذَا الْجَمْعِ

( قَالَ ) وَإِنْ تَقَدَّمَ رَجُلٌ مِنْ النَّاسِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْإِمَامِ فَصَلَّى بِهِمْ الصَّلَاتَيْنِ جَمِيعًا لَمْ يُجْزِهِمْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ هَذَا الْإِمَامَ شَرْطُ هَذَا الْجَمْعِ عِنْدَهُ

( قَالَ ) وَإِنْ مَاتَ الْإِمَامُ فَصَلَّى بِهِمْ خَلِيفَتُهُ أَوْ ذُو سُلْطَانٍ أَجْزَأَهُمْ ؛ لِأَنَّ خَلِيفَتَهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ صَلَّى الْإِمَامُ بِنَفْسِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ ذُو سُلْطَانٍ صَلَّى كُلَّ صَلَاةٍ لِوَقْتِهَا بِمَنْزِلَةِ الْجُمُعَةِ

( قَالَ ) وَلَا جُمُعَةَ بِعَرَفَةَ يَعْنِي إذَا كَانَ النَّاسُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِعَرَفَاتٍ لَا يُصَلُّونَ الْجُمُعَةَ بِهَا ؛ لِأَنَّ الْمِصْرَ مِنْ شَرَائِطِ الْجُمُعَةِ وَعَرَفَاتٍ لَيْسَتْ فِي حُكْمِ الْمِصْرِ إذْ لَيْسَ لَهَا أَبْنِيَةٌ إنَّمَا هِيَ فَضَاءٌ ، وَلَيْسَتْ مِنْ فِنَاءِ مَكَّةَ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْحِلِّ بِخِلَافِ مِنًى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ فِنَاءِ مَكَّةَ ، وَلِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمِصْرِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ لِمَا فِيهَا مِنْ الْأَبْنِيَةِ وَالْأَسْوَاقِ الْمُرَكَّبَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الصَّلَاةِ

( قَالَ ) وَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ لَمْ يُجْزِهِ ، وَمَنْ وَقَفَ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ أَوْ لَيْلَةَ النَّحْرِ قَبْلَ انْشِقَاقِ الْفَجْرِ أَوْ مَرَّ بِهَا مُجْتَازًا ، وَهُوَ يَعْرِفُهَا أَوْ لَا يَعْرِفُهَا أَجْزَأَهُ فَالْحَاصِلُ أَنَّ ابْتِدَاءَ وَقْتِ الْوُقُوفِ بَعْدَ زَوَالٍ عِنْدَنَا ، وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْيَوْمَ مُسَمًّى بِأَنَّهُ يَوْمُ عَرَفَةَ فَإِنَّمَا يَصِيرُ الْيَوْمُ مُطْلَقًا مِنْ وَقْتِ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْحَجُّ عَرَفَةَ فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ } .
وَالنَّهَارُ اسْمٌ لِلْوَقْتِ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ سُمِّيَ نَهَارًا لِجَرَيَانِ الشَّمْسِ فِيهِ كَالنَّهْرِ يُسَمَّى نَهْرًا لِجَرَيَانِ الْمَاءِ فِيهِ ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا وَقَفَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَكَانَ مُبَيِّنًا وَقْتَ الْوُقُوفِ بِفِعْلِهِ فَدَلَّ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْوُقُوفِ بَعْدَ الزَّوَالِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِلْحَجَّاجِ بَعْدَ الزَّوَالِ إنْ أَرَدْت السُّنَّةَ فَالسَّاعَةُ ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُسَمَّى الْيَوْمُ بِهَذَا الِاسْمِ ، وَإِنْ كَانَ وَقْتُ الْوُقُوفِ بَعْدَ الزَّوَالِ كَيَوْمِ الْجُمُعَةِ صَارَ وَقْتًا لِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الزَّوَالِ مَعَ أَنَّ الْيَوْمَ مُسَمًّى بِهَذَا الِاسْمِ ثُمَّ الْأَصْلُ فِيمَا قُلْنَا حَدِيثُ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسِ بْنِ أَوْسٍ الطَّائِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى { أَنَّهُ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَبِيحَةَ الْجَمْعِ ، وَهُوَ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ فَقَالَ أَكْلَلْت رَاحِلَتِي ، وَأَجْهَدْتُ نَفْسِي وَمَا مَرَرْتُ بِجَبَلٍ مِنْ الْجِبَالِ إلَّا وَقَفْت عَلَيْهِ فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ ؟ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ وَقَفَ مَعَنَا هَذَا الْمَوْقِفَ وَصَلَّى مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ ، وَقَدْ كَانَ

أَفَاضَ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ عَرَفَاتٍ سَاعَةً مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ }

( قَالَ ) وَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ بَعْدَ الزَّوَالِ ثُمَّ أَفَاضَ مِنْ سَاعَتِهِ أَوْ أَفَاضَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ أَوْ صَلَّى بِهَا الصَّلَاتَيْنِ ، وَلَمْ يَقِفْ أَوْ أَفَاضَ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا ، وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُجْزِئُهُ إلَّا أَنْ يَقِفَ فِي الْيَوْمِ وَجُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ إفَاضَتُهُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ ، وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ } ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : هَذِهِ الزِّيَادَةُ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ ، وَإِنَّمَا الْمَشْهُورُ رَوَاهُ فِي الْكِتَابِ ، وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَةُ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ ، وَفِيمَا رَوَيْنَا ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سَاعَةٌ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بِنَفْسِ الْوُقُوفِ فِي وَقْتِهِ يَصِيرُ مُدْرِكًا لِلْحَجِّ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَدِمْ الْوُقُوفَ إلَى وَقْتِ غُرُوبِ الشَّمْسِ ثُمَّ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ إذَا أَفَاضَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْوُقُوفِ رُكْنٌ ، وَاسْتِدَامَتُهُ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَاجِبَةٌ لِمَا فِيهَا مِنْ إظْهَارِ مُخَالَفَةِ الْمُشْرِكِينَ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ بِهِ ، وَتَرْكُ الْوَاجِبِ يُوجِبُ الْجَبْرَ بِالدَّمِ .
فَإِنْ رَجَعَ وَوَقَفَ بِهَا بَعْدَمَا غَابَتْ الشَّمْسُ لَمْ يَسْقُطْ الدَّمُ إلَّا فِي رِوَايَةِ ابْنِ الشُّجَاعِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَقُولُ : يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ قَالَ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَدْرَكَ مَا فَاتَهُ ، وَأَتَى بِمَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الْإِفَاضَةُ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، وَقَدْ أَتَى بِهِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ كَمَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ حَلَالًا ثُمَّ عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ وَأَحْرَمَ ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى مَنْ وَصَلَ إلَى عَرَفَاتٍ بَعْدَ الزَّوَالِ اسْتِدَامَةُ الْوُقُوفِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ ، وَلَمْ يَتَدَارَكْ ذَلِكَ

بِالِانْصِرَافِ بَعْدَ الشَّمْسِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ ، وَإِنْ عَادَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ حَتَّى أَفَاضَ مَعَ الْإِمَامِ فَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّ الدَّمَ يَسْقُطُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الْإِفَاضَةُ مَعَ الْإِمَامِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، وَقَدْ تَدَارَكَ ذَلِكَ فِي وَقْتِهِ .
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ لَا يَسْقُطُ الدَّمُ هُنَا أَيْضًا ؛ لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْوُقُوفِ قَدْ انْقَطَعَتْ بِذَهَابِهِ فَبِرُجُوعِهِ لَا يَصِيرُ وُقُوفُهُ مُسْتَدَامًا بَلْ مَا فَاتَ مِنْهُ لَا يُمْكِنُهُ تَدَارُكُهُ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ

( قَالَ ) وَإِذَا أُغْمِيَ عَلَى الْمُحْرِمِ فَوَقَفَ بِهِ أَصْحَابُهُ بِعَرَفَاتٍ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ تَأَدَّى الْوُقُوفُ بِحُصُولِهِ فِي الْمَوْقِفِ فِي وَقْتِ الْوُقُوفِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَرَّ بِعَرَفَاتٍ مَارٌّ ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهَا فِي وَقْتِ الْوُقُوفِ أَجْزَأَهُ ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَتَأَدَّى رُكْنُ الْعِبَادَةِ مِنْ الْمُغْمَى عَلَيْهِ كَمَا يَتَأَدَّى رُكْنُ الصَّوْمِ ، وَهُوَ الْإِمْسَاكُ بَعْدَ النِّيَّةِ مِنْ الْمُغْمَى .
( قَالَ ) وَوُقُوفُ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ وَمَنْ صَلَّى صَلَاتَيْنِ وَمَنْ لَمْ يُصَلِّ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْوُقُوفَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالْبَيْتِ فَلَا تَكُونُ الطَّهَارَةُ شَرْطًا فِيهِ ، وَفَرْضِيَّةُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِالْوُقُوفِ فَتَرْكُهَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الْوُقُوفِ كَمَا لَا يُؤَثِّرُ فِي الصَّوْمِ

( قَالَ ) وَإِنْ وَقَفَ الْقَارِنُ بِعَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لِلْعُمْرَةِ فَهُوَ رَافِضٌ لَهَا إنْ نَوَى الرَّفْضَ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الْمُعْتَبَرَ تَعَذُّرُ أَدَاءِ الْعُمْرَةِ بَعْدَ الْوُقُوفِ ، وَهَذَا مُتَحَقِّقٌ نَوَى الرَّفْضَ أَوْ لَمْ يَنْوِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَا إذَا اشْتَبَهَ يَوْمُ عَرَفَةَ عَلَى النَّاسِ بِأَنْ لَمْ يَرَوْا هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ إذَا نَحَرُوا ، وَوَقَفُوا بِعَرَفَةَ فِي يَوْمٍ فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ وَقَفُوا فِي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ لَا يَجْزِيهِمْ ، وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ وَقَفُوا يَوْمَ النَّحْرِ أَجْزَأَهُمْ اسْتِحْسَانًا ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجْزِيهِمْ ؛ لِأَنَّ الْوُقُوفَ مُؤَقَّتٌ بِوَقْتٍ مَخْصُوصٍ فَلَا يَجُوزُ بَعْدَ ذَلِكَ الْوَقْتِ كَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَرَفَتُكُمْ يَوْمَ تَعْرِفُونِ } ، وَفِي رِوَايَةٍ حَجُّكُمْ يَوْمَ تَحُجُّونَ ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ بَعْدَمَا وَقَفُوا بِيَوْمٍ إذَا جَاءَ الشُّهُودُ لِيَشْهَدُوا أَنَّهُمْ رَأَوْا الْهِلَالَ قَبْلَ ذَلِكَ لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَمِعَ لِهَذِهِ الشَّهَادَةِ ، وَلَكِنَّهُ يَقُولُ قَدْ تَمَّ لِلنَّاسِ حَجُّهُمْ ، وَلَا مَقْصُودَ فِي شَهَادَتِهِمْ سِوَى ابْتِغَاءِ الْفِتْنَةِ فَإِنْ جَاءُوا فَشَهِدُوا عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ فِيهِ النَّاسُ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى عَرَفَاتٍ قَبْلَ الْفَجْرِ قَبْلَ شَهَادَتِهِمْ ، وَأَمَرَ النَّاسَ بِالْخُرُوجِ لِيَقِفُوا فِي وَقْتِ الْوُقُوفِ ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ لَا يَسْتَمِعُ إلَى شَهَادَتِهِمْ ، وَيَقِفُ النَّاسُ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي ، وَيُجْزِئُهُمْ

( قَالَ ) وَإِنْ جَامَعَ الْقَارِنُ بِعَرَفَةَ قَبْلَ زَوَالِ الشَّمْسِ ، وَقَدْ طَافَ لِعُمْرَتِهِ فَعَلَيْهِ دَمَانِ ، وَيَفْرُغُ مِنْ حَجَّتِهِ ، وَعُمْرَتِهِ ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْحَجِّ ، وَهُنَا فُصُولٌ :

( أَحَدُهَا ) فِي الْمُفْرِدِ بِالْحَجِّ إذَا جَامَعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ يَفْسُدُ حَجُّهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْمُنَافَاةِ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْجِمَاعِ فَإِذَا وُجِدَ الْجِمَاعُ فَسَدَ الْحَجُّ ، وَعَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِي الْفَاسِدِ ، وَالْقَضَاءُ مِنْ قَابِلٍ .
عَلَى هَذَا اتَّفَقَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَنْ شَرَعَ فِي الْإِحْرَامِ لَا يَصِيرُ خَارِجًا عَنْهُ إلَّا بِأَدَاءِ الْأَعْمَالِ فَاسِدًا كَانَ أَوْ صَحِيحًا ، وَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بَدَنَةٌ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا الدَّمُ لِتَعْجِيلِ هَذَا الْإِحْلَالِ ، وَالشَّاةُ تَكْفِي فِيهِ كَمَا فِي الْمُحْصَرِ ، وَجَزَاءُ فِعْلِهِ هُنَا وُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَهَمُّ مَا يَجِبُ فِي الْحَجِّ فَلَا يَجِبُ مَعَهُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى فَأَمَّا إذَا جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لَا يَفْسُدُ حَجُّهُ عِنْدَنَا ، وَلَكِنْ يَلْزَمُهُ بَدَنَةٌ ، وَيُتِمُّ حَجَّهُ ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا جَامَعَ قَبْلَ الرَّمْيِ يَفْسُدُ حَجُّهُ ؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ قَبْلَ الرَّمْيِ مُطْلَقٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ شَيْءٌ مِمَّا هُوَ حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ ، وَالْجِمَاعُ فِي الْإِحْرَامِ الْمُطْلَقِ مُفْسِدٌ لِلنُّسُكِ كَمَا قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الرَّمْيِ فَقَدْ جَاءَ أَوَانُ التَّحَلُّلِ ، وَحَلَّ لَهُ الْحَلْقُ الَّذِي كَانَ حَرَامًا قَبْلُ عَلَى الْمُحْرِمِ ، وَالْحُجَّةُ لَنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { إذَا جَامَعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ فَسَدَ نُسُكُهُ ، وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ ، وَإِذَا جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَحَجَّتُهُ تَامَّةٌ ، وَعَلَيْهِ دَمٌ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْحَجُّ عَرَفَةَ فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ } ، وَبِالِاتِّفَاقِ لَمْ يُرِدْ التَّمَامَ مِنْ حَيْثُ أَدَاءُ الْأَفْعَالِ فَقَدْ بَقِيَ

عَلَيْهِ بَعْضُ الْأَرْكَانِ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْإِتْمَامَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَأْمَنُ الْفَسَادَ بَعْدَهُ ، وَهُوَ الْمَعْنَى الْفِقْهِيُّ أَنَّ بِالْوُقُوفِ تَأَكَّدَ حَجُّهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَأْمَنُ الْفَوَاتَ بَعْدَ الْوُقُوفِ فَكَمَا يَثْبُتُ حُكْمُ التَّأَكُّدِ فِي الْأَمْنِ مِنْ الْفَوَاتِ فَكَذَلِكَ فِي الْأَمْنِ مِنْ الْفَسَادِ فَأَمَّا قَبْلَ الْوُقُوفِ حَجُّهُ غَيْرُ مُتَأَكَّدٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَفُوتُهُ بِمُضِيِّ وَقْتِ الْوُقُوفِ فَكَذَلِكَ يَفْسُدُ بِالْجِمَاعِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْجِمَاعَ مَحْظُورٌ كَسَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ ، وَارْتِكَابُ مَحْظُورَاتِ الْحَجِّ غَيْرُ مُفْسِدٍ لَهُ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ الْجِمَاعُ مُفْسِدًا تَرَكْنَا هَذَا الْأَصْلَ فِيمَا إذَا حَصَلَ الْجِمَاعُ قَبْلَ تَأَكُّدِ الْإِحْرَامِ بِدَلِيلِ الْإِجْمَاعِ ، وَمَا بَعْدَ التَّأَكُّدِ لَيْسَ فِي مَعْنَى مَا قَبْلَهُ فَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ ، وَهَذَا وَعَلَى أَصْلِهِ أَظْهَرُ فَإِنَّهُ يَقُولُ إذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ قَبْلَ الْوُقُوفِ جَازَ حَجُّهُ عَنْ الْفَرْضِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْوُقُوفِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ عِنْدَهُ لَوْ جَامَعَ قَبْلَ الرَّمْيِ يَفْسُدُ الْحَجُّ ، وَإِذَا جَامَعَ بَعْدَهُ لَا يَفْسُدُ ، وَالْجِمَاعُ قَبْلَ الرَّمْيِ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ تَأْثِيرًا مِنْ تَرْكِ الرَّمْيِ ، وَتَرْكُ الرَّمْيِ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلْحَجِّ فَكَيْفَ يَكُونُ الْجِمَاعُ قَبْلَهُ مُفْسِدًا

( وَالْفَصْلُ الثَّانِي ) الْمُفْرِدُ بِالْعُمْرَةِ إذَا جَامَعَ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ أَكْثَرَ الْأَشْوَاطِ فَسَدَتْ عُمْرَتُهُ ، وَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَإِنْ جَامَعَ بَعْدَمَا طَافَ أَكْثَرَ الْأَشْوَاطِ لَا تَفْسُدُ عُمْرَتُهُ ؛ لِأَنَّ رُكْنَ الْعُمْرَةِ هُوَ الطَّوَافُ فَيَتَأَكَّدُ إحْرَامُهُ بِأَدَاءِ أَكْثَرِ الْأَشْوَاطِ كَمَا يَتَأَكَّدُ إحْرَامُ الْحَجِّ بِالْوُقُوفِ ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَنَا ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا تَفْسُدُ عُمْرَتُهُ ، وَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ ؛ لِأَنَّ الْجِمَاعَ مَحْظُورُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النُّسُكَيْنِ فَكَمَا أَنَّ فِي الْحَجِّ يَجِبُ الْبَدَنَةُ بِالْجِمَاعِ فَكَذَلِكَ بِالْعُمْرَةِ ، وَعِنْدَنَا لَا مَدْخَلَ لِلْبَدَنَةِ فِي الْعُمْرَةِ بِخِلَافِ الْحَجِّ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي طَوَافِ الْحَجِّ فَفِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا يَنْبَنِي هَذَا عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي الْعُمْرَةِ عِنْدَنَا الْعُمْرَةُ سُنَّةٌ ، وَعَلَى قَوْلِهِ فَرِيضَةٌ كَفَرِيضَةِ الْحَجِّ ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } فَقَدْ قَرَنَ بَيْنَهُمَا فِي الْأَمْرِ بِالْإِتْمَامِ فَدَلَّ عَلَى فَرْضِيَّتِهِمَا .
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ ثَابِتٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الْعُمْرَةُ فَرِيضَةُ الْحَجِّ } ، وَقَالَ صَبِيُّ بْنُ مَعْبَدٍ فَوَجَدْتُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ وَاجِبَيْنِ عَلَيَّ { ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْخَثْعَمِيَّةِ حُجِّي عَنْ أَبِيكِ وَاعْتَمِرِي } .
وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ .
( وَلَنَا ) حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الْحَجُّ جِهَادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ ، { وَسَأَلَ رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْعُمْرَةِ أَوَاجِبَةٌ هِيَ فَقَالَ لَا ، وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَك } ، وَلِأَنَّ الْعُمْرَةَ لَا تَتَوَقَّتُ بِوَقْتٍ مَعْلُومٍ فِي السَّنَةِ وَإِنَّمَا بَايَنَ النَّفَلُ الْفَرْضَ بِهَذَا فَإِنَّ الْفَرْضَ يَتَوَقَّتُ بِوَقْتٍ وَالنَّفَلَ لَا يَتَوَقَّتُ ،

وَلِأَنَّهُ يَتَأَدَّى بِنِيَّةِ غَيْرِهِ فَإِنَّ عِنْدَهُ الْمُحْرِمُ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ يَكُونُ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ ، وَبِالْإِجْمَاعِ فَائِتُ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِأَعْمَالِ الْعُمْرَةِ ، وَالْفَرْضُ إنَّمَا بَايَنَ النَّفَلَ بِهَذَا فَإِنَّ النَّفَلَ يَتَأَدَّى بِنِيَّةِ الْفَرْضِ ، وَالْفَرْضُ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ لَا يَتَأَدَّى بِنِيَّةِ النَّفْلِ فَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قُرِئَتْ بِالنَّصْبِ وَبِالرَّفْعِ { وَالْعُمْرَةُ لِلَّهِ } فَالْقِرَاءَةُ بِالرَّفْعِ ابْتِدَاءُ خَبَرِ الْعُمْرَةِ لِلَّهِ ، وَالنَّوَافِلُ لِلَّهِ تَعَالَى كَالْفَرَائِضِ .
ثُمَّ هَذَا أَمْرٌ بِالْإِتْمَامِ بَعْدَ الشُّرُوعِ ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ ، وَمَا عَرَفْنَا ابْتِدَاءَ فَرِيضَةِ الْحَجِّ بِهَذِهِ الْآيَةِ بَلْ عَرَفْنَاهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { ، وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَقْصُودَ زِيَارَةُ الْبَيْتِ ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ حَاصِلٌ بِفَرِيضَةِ نُسُكٍ وَاحِدٍ فَلَا تَثْبُتُ صِفَةُ الْفَرِيضَةِ فِي عَدَدٍ مِنْهُ ، وَلِهَذَا لَا يَتَكَرَّرُ فَرِيضَةُ الْحَجِّ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ فَرِيضَةٌ أَيْ مُقَدَّرَةٌ بِأَعْمَالٍ كَالْحَجِّ فَإِنَّ الْفَرْضَ هُوَ التَّقْدِيرُ ، وَبِهِ نَقُولُ أَنَّهَا مُقَدَّرَةٌ فَأَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْآثَارَ قَدْ اشْتَبَهَتْ فِيهِ ، وَلَكِنَّ صِفَةَ الْفَرِيضَةِ مَعَ اشْتِبَاهِ الْأَدِلَّةِ لَا تَثْبُتُ فَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَنَا أَنَّ أَصْلَهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ بَلْ هُوَ تَبَعٌ لِلْحَجِّ لَا يَكُونُ وُجُوبُ الْبَدَنَةِ بِالْجِمَاعِ فِي الْحَجِّ دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِهَا فِي الْعُمْرَةِ ، وَعِنْدَهُ لَمَّا كَانَ فَرْضًا وَجَبَ بِالْجِمَاعِ فِيهِ مَا يَجِبُ فِي الْحَجِّ .

( وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ ) الْقَارِنُ إذَا جَامَعَ قَبْلَ الزَّوَالِ ، وَقَدْ طَافَ لِعُمْرَتِهِ فَإِنَّمَا جَامَعَ بَعْدَ تَأَكُّدِ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ فَلَا تَفْسُدُ عُمْرَتُهُ بِهَذَا الْجِمَاعِ ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِأَجْلِهِ ، وَجَامَعَ قَبْلَ تَأَكُّدِ إحْرَامِ الْحَجِّ فَيَفْسُدُ حَجُّهُ ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَعْجِيلِ الْإِحْلَالِ ، وَقَضَاءِ الْحَجِّ ، وَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ بِفَسَادِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ ، وَإِنْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ فَعَلَيْهِ لِلْعُمْرَةِ دَمٌ ، وَلِلْحَجِّ جَزُورٌ ، وَعَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْسُدُ وَاحِدٌ مِنْ النُّسُكَيْنِ بِهَذَا الْجِمَاعِ

( قَالَ ) وَكَذَلِكَ لَوْ جَامَعَ بَعْدَ الْحَلْقِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ يَرُدُّ بِهِ فِي وُجُوبِ الْجَزُورِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ لِلْحَجِّ فِي حَقِّ النِّسَاءِ بَاقٍ حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُهُ دَمُ الْعُمْرَةِ هُنَا ؛ لِأَنَّ تَحَلُّلَهُ لِلْعُمْرَةِ قَدْ تَمَّ بِالْحَلْقِ

( قَالَ ) وَمَنْ جَامَعَ لَيْلَةَ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ عَرَفَةَ فَسَدَ حَجُّهُ ، وَعَلَيْهِ شَاةٌ ؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ لَا يَتَأَكَّدُ بِدُخُولِ وَقْتِ الْوُقُوفِ ، وَإِنَّمَا يَتَأَكَّدُ بِفِعْلِ الْوُقُوفِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْآمَنَ مِنْ الْفَوَاتِ لَا يَحْصُلُ بِدُخُولِ وَقْتِهِ ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِالْوُقُوفِ فَكَانَ هَذَا ، وَمَا لَوْ جَامَعَ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الْوُقُوفِ سَوَاءٌ

( قَالَ ) وَإِذَا وَقَفَ الْقَارِنُ بِعَرَفَةَ قَبْلَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ ثُمَّ جَامَعَ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إحْرَامَهُ لِلْعُمْرَةِ قَدْ ارْتَفَضَ بِالْوُقُوفِ وَلَزِمَهُ دَمٌ لِرَفْضِ الْعُمْرَةِ ، وَعَلَيْهِ جَزُورٌ لِلْجِمَاعِ ؛ لِأَنَّ جِمَاعَهُ صَادَفَ إحْرَامَ الْحَجِّ بَعْدَمَا تَأَكَّدَ فَيُتِمُّ حَجَّهُ ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ

( قَالَ ) وَمَنْ دَخَلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَخَافَ الْفَوْتَ إنْ رَجَعَ إلَى الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ ، وَوَقَفَ أَجْزَأَهُ ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ الْوَقْتِ هَكَذَا نُقِلَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ، وَغَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا إذَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ الْوَقْتِ ، وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الشَّرْعَ عَيَّنَ الْمِيقَاتَ لِلْإِحْرَامِ فَبِتَأْخِيرِهِ الْإِحْرَامَ عَنْ الْمِيقَاتِ يَتَمَكَّنُ فِيهِ النُّقْصَانُ ، وَنَقَائِصُ الْحَجِّ تُجْبَرُ بِالدَّمِ ، وَلَمَّا اُبْتُلِيَ بِبَلِيَّتَيْنِ يَخْتَارُ أَهْوَنَهُمَا ، وَالْتِزَامُ الدَّمِ أَهْوَنُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى الْمِيقَاتِ لِتَفْوِيتِهِ الْحَجَّ

( قَالَ ) وَإِذَا وَقَفَ الْحَاجُّ بِعَرَفَةَ ثُمَّ أَهَلَّ وَهُوَ وَاقِفٌ بِحَجَّةٍ أُخْرَى فَإِنَّهُ يَرْفُضُهَا ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِرَفْضِهَا ، وَحَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ مَكَانَهَا ، وَيَمْضِي فِي الَّتِي هُوَ فِيهَا ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَإِحْرَامُهُ بَاطِلٌ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَنْ أَحْرَمَ بِحَجَّتَيْنِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ ، وَإِنَّمَا يَرْفُضُهَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرْفُضْهَا ، وَوَقَفَ لَهَا لِبَقَاءِ وَقْتِ الْوُقُوفِ يَصِيرُ مُؤَدِّيًا حَجَّتَيْنِ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤَدِّيَ فِي سَنَةٍ أَكْثَرَ مِنْ حَجَّةٍ وَاحِدَةٍ ، وَإِذَا رَفَضَهَا فَعَلَيْهِ الدَّمُ لِرَفْضِهَا ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ الْإِحْرَامِ بَعْدَ صِحَّةِ الشُّرُوعِ قَبْلَ أَدَاءِ الْأَفْعَالِ فَلَزِمَهُ الدَّمُ كَالْمُحْصَرِ ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَكَانَهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُحْصَرِ بِالْحَجِّ إذَا تَحَلَّلَ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى فَائِتِ الْحَجِّ ، وَفَائِتُ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ ، وَهَذَا لَمْ يَأْتِ بِأَعْمَالِ الْعُمْرَةِ فَكَانَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا مَعَ قَضَاءِ الْحَجِّ .
( قَالَ ) وَكَذَلِكَ إنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ أَيْضًا يَرْفُضُهَا ؛ لِأَنَّ وُقُوفَهُ لَوْ طَرَأَ عَلَى عُمْرَةٍ صَحِيحَةٍ أَوْجَبَ رَفْضَهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْقَارِنِ إذَا وَقَفَ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ لِعُمْرَتِهِ فَكَذَلِكَ إذَا اقْتَرَنَ بِوُقُوفِهِ إحْرَامُ الْعُمْرَةِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرْفُضْهَا أَدَّى أَفْعَالَهَا فَيَكُونُ بَانِيًا أَعْمَالَ الْعُمْرَةِ عَلَى أَعْمَالِ الْحَجِّ فَلِهَذَا يَرْفُضُهَا ، وَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَقَضَاؤُهَا لِخُرُوجِهِ مِنْهَا بَعْدَ صِحَّةِ الشُّرُوعِ .
( قَالَ ) وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَهَلَّ بِالْحَجِّ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَهُوَ رَافِضٌ سَاعَةَ أَهَلَّ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرْفُضْهَا عَادَ إلَى عَرَفَاتٍ فَوَقَفَ فَيَصِيرُ مُؤَدِّيًا حَجَّتَيْنِ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَهَلَّ بِحَجَّتَيْنِ فَإِنَّ هُنَاكَ إذَا عَجَّلَ فِي عَمَلِ أَحَدِهِمَا لَا

يَصِيرُ رَافِضًا لِلْآخَرِ ، وَهُنَا هُوَ مَشْغُولٌ بِعَمَلِ أَحَدِهِمَا بَلْ هُوَ مُؤَدٍّ لَهُ فَلِهَذَا يَرْتَفِضُ الْآخَرُ فِي الْحَالِ فَكَذَلِكَ إنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ فَهُوَ رَافِضٌ لَهَا .
وَفِي الْكِتَابِ أَضَافَ هَذَا الْقَوْلَ إلَى أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُخَالِفُهُمَا فِي هَذَا لِمَا قُلْنَا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَصِرْ رَافِضًا كَانَ بَانِيًا أَعْمَالَ الْعُمْرَةِ عَلَى أَعْمَالِ الْحَجِّ فَأَمَّا إذَا أَهَلَّ بِحَجَّةٍ أُخْرَى بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ لَمْ يَرْفُضْهَا ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْوُقُوفِ قَدْ فَاتَ فَلَوْ بَقِيَ إحْرَامُهُ هَذَا لَا يَكُونُ مُؤَدِّيًا حَجَّتَيْنِ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَكِنَّهُ يُتِمُّ أَعْمَالَ الْحَجَّةِ الْأُولَى ، وَيَمْكُثُ حَرَامًا إلَى أَنْ يَحُجَّ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ إلَّا أَنَّهُ إنْ حَلَقَ لِلْحَجَّةِ الْأُولَى يَلْزَمُهُ دَمٌ لِجِنَايَتِهِ عَلَى الْإِحْرَامِ الثَّانِي بِذَلِكَ الْحَلْقِ ، وَإِنْ لَمْ يَحْلِقْ فَعَلَيْهِ الدَّمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَيْضًا لِتَأْخِيرِ الْحَلْقِ فِي الْحَجَّةِ الْأُولَى عَنْ وَقْتِهِ وَعِنْدَهُمَا بِهَذَا التَّأْخِيرِ لَا يَلْزَمُهُ دَمٌ ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ يَكُونُ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَكُونُ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ ، وَهَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ بْنُ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى .
وَأَشْهُرُ الْحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو الْقِعْدَةِ وَعَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ عِنْدَنَا ، وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى جَمِيعُ ذِي الْحِجَّةِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ } ، وَأَقَلُّ الْجَمْعِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَنْهُمْ أَنَّ أَشْهُرَ الْحَجِّ شَوَّالٌ ، وَذُو الْقِعْدَةِ ، وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فَأَقَامُوا

أَكْثَرَ الثَّلَاثَةِ مَقَامَ الْكَمَالِ فِي مَعْنَى الْآيَةِ لِمَعْنًى هُوَ أَنَّ بِالِاتِّفَاقِ يَفُوتُ الْحَجُّ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ، وَفَوَاتُ الْعِبَادَةِ يَكُونُ بِمُضِيِّ وَقْتِهَا فَأَمَّا مَعَ بَقَاءِ الْوَقْتِ لَا يَتَحَقَّقُ الْفَوَاتُ ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنَّ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ عَشْرَ لَيَالٍ ، وَتِسْعَةُ أَيَّامٍ فَأَمَّا الْيَوْمُ الْعَاشِرُ لَيْسَ بِوَقْتِ الْحَجِّ ؛ لِأَنَّ الْفَوَاتَ يَتَحَقَّقُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ الْيَوْمِ الْعَاشِرِ ، وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ ، وَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ الْيَوْمُ الْعَاشِرُ مِنْ وَقْتِ الْحَجِّ ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالُوا وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ ، وَذِكْرُ أَحَدِ الْعَدَدَيْنِ مِنْ الْأَيَّامِ ، وَاللَّيَالِي بِعِبَارَةِ الْجَمْعِ يَقْتَضِي دُخُولَ مَا بِإِزَائِهِ مِنْ الْعَدَدِ الْآخَرِ ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى هَذَا الْيَوْمَ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ } ، وَالْمُرَادُ يَوْمُ النَّحْرِ لَا وَقْتُ الْحَجِّ لِأَدَاءِ الطَّوَافِ فِيهِ دُونَ الْوُقُوفِ فَلِهَذَا يَتَحَقَّقُ الْفَوَاتُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْهُ لِفَوَاتِ رُكْنِ الْوُقُوفِ .
( فَأَمَّا ) الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى احْتَجَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُهِلُّ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ مُهِلٌّ بِالْعُمْرَةِ } ، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ كَالتَّكْبِيرِ لِلصَّلَاةِ فَكَمَا لَا يَجُوزُ الشُّرُوعُ فِي الْفَرِيضَةِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ فِي الصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ فِي الْحَجِّ ، وَالْإِحْرَامُ أَحَدُ أَرْكَانِ الْحَجِّ فَلَا يُتَأَدَّى فِي غَيْرِ وَقْتِ الْحَجِّ كَسَائِرِ الْأَرْكَانِ ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ كَانَ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ ؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ وَقْتُ الْعُمْرَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ فَاتَ حَجُّهُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ يَبْقَى إحْرَامُهُ لِلْعُمْرَةِ فَكَذَلِكَ إذَا حَصَلَ ابْتِدَاءُ إحْرَامِهِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ .
( وَلَنَا ) أَنَّ

الْإِحْرَامَ لِلْحَجِّ بِمَنْزِلَةِ الطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ فَإِنَّهُ مِنْ الشَّرَائِطِ لَا مِنْ الْأَرْكَانِ حَتَّى يَكُونَ مُسْتَدَامًا إلَى الْفَرَاغِ مِنْهُ ، وَهَذَا حَدُّ شَرْطِ الْعِبَادَةِ لَا حَدُّ رُكْنِ الْعِبَادَةِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَتَّصِلُ بِهِ أَدَاءُ الْأَفْعَالِ فَالْإِحْرَامُ يَكُونُ عِنْدَ الْمِيقَاتِ ، وَأَدَاءُ الْأَفْعَالِ بِمَكَّةَ ، وَلَوْ أَحْرَمَ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ أَشْهُرِ الْحَجِّ يَصِحُّ ، وَأَدَاءُ الْأَفْعَالِ بَعْدَ ذَلِكَ بِزَمَانٍ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ فَلَا يَسْتَدْعِي صِحَّةَ الْوَقْتِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فَإِنَّ أَدَاءَ الْأَرْكَانِ هُنَاكَ يَتَّصِلُ بِالتَّكْبِيرِ فَإِذَا حَصَلَ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ لَا يَتَّصِلُ أَدَاءُ الْأَرْكَانِ بِهِ ، وَالْحَدِيثُ فِي الْبَابِ شَاذٌّ جِدًّا فَلَا يُعْتَمَدُ عَلَى مِثْلِهِ ، وَلَكِنْ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ ؛ مِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَقُولُ الْكَرَاهَةُ لِمَعْنَى أَنَّ الْإِحْرَامَ مِنْ وَجْهٍ بِمَنْزِلَةِ الْأَرْكَانِ ، وَلِهَذَا لَوْ حَصَلَ قَبْلَ الْعِتْقِ لَا يَتَأَدَّى بِهِ فَرْضُ الْحَجِّ بَعْدَ الْعِتْقِ ، وَمَا تَرَدَّدَ بَيْنَ أَصْلَيْنِ يُوَفِّرُ حَظَّهُ عَلَيْهِمَا فَلِشَبَهِهِ بِالشَّرَائِطِ يَجُوزُ قَبْلَ الْوَقْتِ ، وَلِشَبَهِهِ بِالْأَرْكَانِ يَكُونُ مَكْرُوهًا ، وَقِيلَ بَلْ الْكَرَاهَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ مِنْ مُوَاقَعَةِ الْمَحْظُورِ إذَا طَالَ مُكْثُهُ فِي الْإِحْرَامِ

( قَالَ ) وَيَجْمَعُ الْإِمَامُ بَيْنَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِمُزْدَلِفَةَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ فَإِنْ تَطَوَّعَ بَيْنَهُمَا أَقَامَ لِلْعِشَاءِ إقَامَةً أُخْرَى ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا تَطَوَّعَ بَيْنَهُمَا أَذَّنَ ، وَأَقَامَ لِلْعِشَاءِ ؛ لِأَنَّ الْفَصْلَ بَيْنَهُمَا قَدْ تَحَقَّقَ بِالِاشْتِغَالِ بِالتَّطَوُّعِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُؤَدِّي كُلَّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا فَعَلَيْهِ الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ لِكُلِّ صَلَاةٍ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لَا يَنْقَطِعُ بِهَذَا الْفَصْلِ كَمَا لَا يَنْقَطِعُ إذَا اشْتَغَلَ بِالْأَكْلِ ، وَلَكِنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إعْلَامِ النَّاسِ أَنَّهُ يُصَلِّي الْعِشَاءَ ، وَبِالْإِقَامَةِ يَتِمُّ هَذَا الْإِعْلَامُ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ صَلَّى الْمَغْرِبَ بِمُزْدَلِفَةَ ثُمَّ تَعَشَّى ثُمَّ أَفْرَدَ الْإِقَامَةَ لِلْعِشَاءِ فَإِنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ بِعَرَفَاتٍ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ أَوْ صَلَّاهَا فِي طَرِيقِ الْمُزْدَلِفَةِ قَبْلَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ أَوْ بَعْدَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَهَا بِمُزْدَلِفَةَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُكْرَهُ مَا صَنَعَ ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الْفَرْضَ فِي وَقْتِهِ فَإِنَّ مَا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَقْتُ الْمَغْرِبِ بِالنُّصُوصِ الظَّاهِرَةِ ، وَأَدَاءُ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا صَحِيحٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعِدْ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ ، وَلَوْ لَمْ يَقَعْ مَا أَدَّى مَوْقِعَ الْجَوَازِ لَمَا سَقَطَ عَنْهُ الْإِعَادَةُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ { أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ كَانَ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَرِيقِ الْمُزْدَلِفَةِ فَلَمَّا غَرَبَتْ الشَّمْسُ قَالَ : الصَّلَاةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الصَّلَاةُ أَمَامَك } ، وَلَمْ يُرِدْ بِهَذَا فِعْلَ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ حَرَكَاتُ

الْمُصَلِّي ، وَهُوَ مَعَهُ فَإِمَّا إنْ أَرَادَ بِهِ الْوَقْتَ أَوْ الْمَكَانَ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْمَكَانَ فَقَدْ بَيَّنَ بِهَذَا النَّصِّ اخْتِصَاصَ أَدَاءِ الصَّلَاةِ بِمَكَانٍ ، وَهُوَ الْمُزْدَلِفَةُ فَلَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهَا ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْوَقْتَ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ وَقْتَ الْمَغْرِبِ فِي حَقِّ الْحَاجِّ لَا يَدْخُلُ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ ، وَأَدَاءُ الصَّلَاةِ قَبْلَ الْوَقْتِ لَا يَجُوزُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّأْخِيرِ ؛ لِأَنَّ فِي الِاشْتِغَالِ بِالصَّلَاةِ انْقِطَاعَ سَيْرِهِ فَإِنَّ أَدَاءَ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا فَرِيضَةٌ فَلَا يَسْقُطُ بِهَذَا الْعُذْرِ ، وَلَكِنَّ الْأَمْرَ بِالتَّأْخِيرِ لِلْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِالْمُزْدَلِفَةِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَفُوتُ بِأَدَاءِ الْمَغْرِبِ فِي طَرِيقِ الْمُزْدَلِفَةِ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ بَعْدَ الْوُصُولِ إلَى الْمُزْدَلِفَةِ لِيَصِيرَ جَمْعًا بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ كَمَا هُوَ الْمَشْرُوعُ نُسُكًا ، وَلِهَذَا سَقَطَتْ عَنْهُ الْإِعَادَةُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْإِعَادَةِ لِمَكَانِ إدْرَاكِ فَضِيلَةِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا ، وَهَذَا يَفُوتُ بِفَوَاتِ وَقْتِ الْعِشَاءِ ، وَلِهَذَا قُلْنَا إذَا بَقِيَ فِي الطَّرِيقِ حَتَّى صَارَ بِحَيْثُ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى الْمُزْدَلِفَةِ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ ، وَلَا يُؤَخِّرُهَا بَعْدَ ذَلِكَ

( قَالَ ) وَيُغَلِّسُ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ بِالْمُزْدَلِفَةِ حِينَ يَنْشَقُّ لَهُ الْفَجْرُ الثَّانِي لِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا بَيَّنَّا ثُمَّ يُغْفِي حَتَّى إذَا أَسْفَرَ دَفَعَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَهَذَا الْوُقُوفُ وَاجِبٌ عِنْدَنَا ، وَلَيْسَ بِرُكْنٍ حَتَّى إذَا تَرَكَهُ لِغَيْرِ عِلَّةٍ يَلْزَمُهُ دَمٌ ، وَحَجُّهُ تَامٌّ ، وَعَلَى قَوْلِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْوُقُوفُ رُكْنٌ لَا يَتِمُّ الْحَجُّ إلَّا بِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ } ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ عُرْوَةَ بْنِ مُضَرِّسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى { مَنْ وَقَفَ مَعَنَا هَذَا الْمَوْقِفَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ } عَلَّقَ تَمَامَ حَجِّهِ بِهَذَا الْوُقُوفِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِ .
( وَلَنَا ) قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْحَجُّ عَرَفَةَ فَمَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ } ، وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ تَرْكُ هَذَا الْوُقُوفِ بِعُذْرٍ { فَإِنَّ ضُبَاعَةَ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِي عَنْهَا كَانَتْ شَاكِيَةً فَاسْتَأْذَنَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَصِيرِ إلَى مِنًى لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ فَأَذِنَ لَهَا } ، وَرُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّمَ ضَعَفَةِ أَهْلِهِ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ بِلَيْلٍ } ، وَلَوْ كَانَ رُكْنًا لَمْ يَجُزْ تَرْكُهُ لِعُذْرٍ ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْوُقُوفَ مَعَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ بِمَنْزِلَةِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ مَعَ طَوَافِ الصَّدَرِ ثُمَّ طَوَافُ الصَّدَرِ وَاجِبٌ ، وَلَيْسَ بِرُكْنٍ ، وَيَجُوزُ تَرْكُهُ بِعُذْرِ الْحَيْضِ فَكَذَا هَذَا ، وَالْمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إلَّا مُحَسِّرًا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إلَّا بَطْنَ عُرَنَةَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْأَثَرَ الْمَرْوِيَّ فِي هَذَا الْبَابِ فِيمَا سَبَقَ .
( قَالَ ) وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَكُونَ وُقُوفُهُ بِمُزْدَلِفَةَ عِنْدَ الْجَبَلِ الَّذِي يُقَالُ لَهُ

قُزَحُ مِنْ وَرَاءِ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتَارَ لِوُقُوفِهِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَقِفَ مِنْ وَرَاءِ الْإِمَامِ قَرِيبًا مِنْهُ لِيُؤَمِّنَ عَلَى دُعَائِهِ فَكَذَلِكَ فِي الْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ فَإِنْ تَعَجَّلَ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ بِلَيْلٍ فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ امْرَأَةٍ خَافَتْ الزِّحَامَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِمَا رَوَيْنَا ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِهِ وَاجِبًا مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ فَإِنْ أَفَاضَ مِنْهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ مَعَ النَّاسِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِأَصْلِ الْوُقُوفِ فِي وَقْتِهِ ، وَلَكِنَّهُ مُسِيءٌ فِيمَا صَنَعَ لِتَرْكِهِ امْتِدَادَ الْوُقُوفِ

( قَالَ ) فَإِنْ مَرَّ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ مَرًّا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ وُقُوفَهُ تَأَدَّى بِهَذَا الْمِقْدَارِ ، وَكَذَا إنْ كَانَ مَرَّ بِهَا نَائِمًا أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ فَلَمْ يَقِفْ مَعَ النَّاسِ حَتَّى أَفَاضُوا ؛ لِأَنَّ حُصُولَهُ فِي مَوْضِعِ الْوُقُوفِ فِي وَقْتِهِ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ وُقُوفِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَكَذَلِكَ فِي الْوُقُوفِ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ، وَإِنْ لَمْ يَبِتْ بِالْمُزْدَلِفَةِ لَيْلَةَ النَّحْرِ بِأَنْ نَامَ فِي الطَّرِيقِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْبَيْتُوتَةَ بِالْمُزْدَلِفَةِ لَيْسَتْ بِنُسُكٍ مَقْصُودٍ ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ الْوُقُوفُ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَقَدْ أَتَى بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَلَا يَلْزَمُهُ بِتَرْكِ مَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ شَيْءٌ كَمَا بَيَّنَّا فِي تَرْكِ الْبَيْتُوتَةِ بِهَا فِي لَيَالِي الرَّمْيِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ

( بَابُ رَمْيِ الْجِمَارِ ) ( قَالَ ) رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَيَبْدَأُ إذَا وَافَى مِنًى بِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ثُمَّ بِالذَّبْحِ إنْ كَانَ قَارِنًا أَوْ مُتَمَتِّعًا ثُمَّ بِالْحَلْقِ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي هَذَا الْيَوْمِ أَنْ نَرْمِيَ ثُمَّ نَذْبَحَ ثُمَّ نَحْلِقَ } ، وَلِأَنَّ الذَّبْحَ وَالْحَلْقَ مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ أَلَا تَرَى أَنَّ تَحَلُّلَ الْمُحْصَرِ بِالذَّبْحِ فَيُقَدَّمُ الرَّمْيُ عَلَيْهِمَا ثُمَّ الذَّبْحُ فِي مَعْنَى التَّحَلُّلِ دُونَ الْحَلْقِ فَإِنَّ الْحَلْقَ مَحْظُورُ الْإِحْرَامِ وَالذَّبْحُ لَا ، فَكَانَ الذَّبْحُ مُقَدَّمًا عَلَى الْحَلْقِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِي وَقْتِ ابْتِدَاءِ الرَّمْيِ فِي هَذَا الْيَوْمِ ، وَكَذَلِكَ يَخْتَلِفُونَ فِي آخِرِ وَقْتِهِ ؛ نَفَى ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَقْتَهُ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ ، وَلَكِنَّهُ لَوْ رَمَى بِاللَّيْلِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقْتُهُ زَوَالُ الشَّمْسِ ، وَمَا بَعْدَ الزَّوَالِ يَكُونُ قَضَاءً وَلِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ قَوْلَانِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ إنَّمَا يَرْمِي ذَلِكَ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ فَإِذَا غَرَبَتْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْفِدْيَةُ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ فِي هَذَا الرَّمْيِ ، وَمَا عُرِفَ الرَّمْيُ قُرْبَةً إلَّا بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْوَقْتِ فَيَتَحَقَّقُ فَوَاتُهُ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ ، وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ يَقُولُ يَمْتَدُّ وَقْتُهُ إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ حَتَّى يَأْتِيَ بِمَا تَرَكَ مِنْ الرَّمْيِ فِي آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الرَّمْيَ كُلَّهُ فِي حُكْمِ نُسُكٍ وَاحِدٍ .
وَإِنْ اخْتَلَفَ مَكَانُهُ وَزَمَانُهُ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْفَوَاتُ فِيهِ إلَّا بِفَوَاتِ وَقْتِهِ ، وَذَلِكَ بِمُضِيِّ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، وَقَاسَ بِالتَّكْبِيرَاتِ فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ الصَّلَوَاتِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ يَقْضِيهَا

بِالتَّكْبِيرَاتِ إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ وَقْتَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ بِالنَّصِّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي هَذَا الْيَوْمِ } ، وَذَهَابُ تَمَامِ الْيَوْمِ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقِيسُ الرَّمْيَ فِي هَذَا الْيَوْمِ بِالرَّمْيِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَيَقُولُ كَمَا أَنَّ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَقْتَ الرَّمْيِ نِصْفُ الْيَوْمِ ، وَهُوَ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ فَكَذَا فِي هَذَا الْيَوْمِ وَقْتُ الرَّمْيِ نِصْفُ الْيَوْمِ ، وَذَلِكَ إلَى زَوَالِ الشَّمْسِ إلَّا أَنَّهُ رَمَى بِاللَّيْلِ لَمْ يَغْرَمْ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رَخَّصَ لِلرُّعَاةِ أَنْ يَرْمُوا لَيْلًا } ، وَلِأَنَّ الْيَوْمَ لَمَّا كَانَ وَقْتًا لِلرَّمْيِ فَاللَّيْلُ يَتْبَعُهُ فِي ذَلِكَ كَلَيْلَةِ النَّحْرِ تُجْعَلُ تَبَعًا لِيَوْمِ عَرَفَةَ فِي حُكْمِ الْوُقُوفِ فَإِنْ لَمْ يَرْمِهَا حَتَّى يُصْبِحَ مِنْ الْغَدِ رَمَاهَا لِبَقَاءِ وَقْتِ جِنْسِ الرَّمْيِ ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ دَمٌ لِلتَّأْخِيرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ عِنْدَهُمَا ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا بَيَّنَّا فِي تَأْخِيرِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ فَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُنَا جَعَلَ تَأْخِيرَ الرَّمْيِ عَنْ وَقْتِهِ بِمَنْزِلَةِ تَرْكِهِ ، وَرَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ نُسُكٌ تَامٌّ فَكَمَا أَنَّ تَرْكَهُ يُوجِبُ الدَّمَ فَكَذَلِكَ تَأْخِيرُهُ عَنْ وَقْتِهِ ، وَكَذَلِكَ إنَّ تَرْكَ الْأَكْثَرِ مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ الْكُلِّ ، وَإِنْ تَرَكَ مِنْهَا حَصَاةً أَوْ حَصَاتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا إلَى الْغَدِ رَمَاهَا ، وَتَصَدَّقَ لِكُلِّ حَصَاةٍ بِنِصْفِ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ عَلَى مِسْكِينٍ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ دَمًا فَحِينَئِذٍ يُنْقِصُ مِنْهُ مَا شَاءَ ؛ لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ أَقَلُّ فَتَكْفِيهِ الصَّدَقَةُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي تَأْخِيرِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ ، وَإِنْ تَرَكَ رَمْيَ إحْدَى الْجِمَارِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ

؛ لِأَنَّ رَمْيَ الْجِمَارِ الثَّلَاثِ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي نُسُكٌ وَاحِدٌ فَإِذَا تَرَكَ أَحَدَهَا كَانَ الْمَتْرُوكُ أَقَلَّ فَتَكْفِيهِ الصَّدَقَةُ إلَّا أَنَّ الْمَتْرُوكَ أَكْثَرُ مِنْ النِّصْفِ فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهُ الدَّمُ ، وَجُعِلَ تَرْكُ الْأَكْثَرِ كَتَرْكِ الْكُلِّ

( قَالَ ) وَإِنْ تَرَكَ الرَّمْيَ كُلَّهُ فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ إلَى آخِرِ أَيَّامِ الرَّمْيِ رَمَاهَا عَلَى التَّأْلِيفِ ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الرَّمْيِ بَاقٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَدَارَكَ الْمَتْرُوكَ مَا بَقِيَ وَقْتُهُ كَالْأُضْحِيَّةِ إذَا أَخَّرَهَا إلَى آخِرِ أَيَّامِ النَّحْرِ ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِلتَّأْخِيرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِمَا فَإِنْ تَرَكَهَا حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ مِنْ آخِرِ أَيَّامِ الرَّمْيِ سَقَطَ عَنْهُ الرَّمْيُ بِفَوَاتِ الْوَقْتِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي الرَّمْيِ غَيْرُ مَعْقُولٍ ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَاهُ قُرْبَةً بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ إنَّمَا رَمَى فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَلَا يَكُونُ الرَّمْيُ قُرْبَةً بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِهَا كَمَا لَا يَكُونُ إرَاقَةُ الدَّمِ قُرْبَةً بَعْدَ مُضِيِّ أَيَّامِ النَّحْرِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ قُرْبَةً كَانَ عَبَثًا فَلَا يَشْتَغِلُ بِهِ ، وَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الرَّمْيَ كُلَّهُ نُسُكٌ وَاحِدٌ ، وَهُوَ وَاجِبٌ فَتَرْكُهُ يُوجِبُ الْجَبْرَ بِالدَّمِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا فِي تَرْكِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ الْبَعْضِ مُوجِبًا لِلدَّمِ ثُمَّ لَا يَجِبُ بِتَرْكِ الْكُلِّ إلَّا دَمٌ وَاحِدٌ كَمَا أَنَّ حَلْقَ رُبُعِ الرَّأْسِ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ يُوجِبُ الدَّمَ ثُمَّ حَلْقُ جَمِيعِ الرَّأْسِ لَا يُوجِبُ إلَّا دَمًا وَاحِدًا ، وَقَصُّ أَظْفَارِ يَدٍ وَاحِدَةٍ يُوجِبُ الدَّمَ ثُمَّ قَصُّ الْأَظْفَارِ كُلِّهَا لَا يُوجِبُ إلَّا دَمًا وَاحِدًا

( قَالَ ) وَإِنْ بَدَأَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَرَمَاهَا ثُمَّ بِالْوُسْطَى ثُمَّ بِاَلَّتِي تَلِي الْمَسْجِدَ ثُمَّ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي يَوْمِهِ قَالَ يُعِيدُ عَلَى الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى ، وَجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ؛ لِأَنَّهُ نُسُكٌ شُرِعَ مُرَتَّبًا فِي هَذَا الْيَوْمِ فَمَا سَبَقَ أَوْ أَنَّهُ لَا يَعْتَدُّ بِهِ فَكَانَ رَمْيُ الْجَمْرَةِ الْأُولَى بِمَنْزِلَةِ الِافْتِتَاحِ لِلْجَمْرَةِ الْوُسْطَى ، وَالْوُسْطَى بِمَنْزِلَةِ الِافْتِتَاحِ لِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَمَا أَدَّى قَبْلَ وُجُودِ مِفْتَاحِهِ لَا يَكُونُ مُعْتَدًّا بِهِ كَمَنْ سَجَدَ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَوْ سَعَى قَبْلَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ فَالْمُعْتَدُّ مِنْ رَمْيِهِ هُنَا الْجَمْرَةُ الْأُولَى فَلِهَذَا يُعِيدُ عَلَى الْوُسْطَى ، وَعَلَى جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ

( قَالَ ) وَإِنْ رَمَى مِنْ كُلِّ جَمْرَةٍ ثَلَاثَ حَصَيَاتٍ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَبْدَأُ مِنْ الْأُولَى بِأَرْبَعِ حَصَيَاتٍ لِيُتِمَّهَا ثُمَّ يُعِيدَ عَلَى الْوُسْطَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ ، وَكَذَلِكَ عَلَى جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ، وَلَا يَعْتَدُّ بِمَا رَمَى مِنْ الْوُسْطَى وَجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ سَبَقَ أَوَانَهُ فَإِنَّهُ حَصَلَ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِأَكْثَرِ الرَّمْيِ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْأُولَى فَكَأَنَّهُ لَمْ يَرْمِ مِنْهَا شَيْئًا .
( قَالَ ) وَإِنْ رَمَى مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ بِأَرْبَعٍ أَرْبَعٍ فَإِنَّهُ يَرْمِي لِكُلِّ وَاحِدَةٍ بِثَلَاثِ حَصَيَاتٍ ؛ لِأَنَّ رَمْيَ أَكْثَرِ الْجَمْرَةِ الْأُولَى بِمَنْزِلَةِ كَمَالِهِ فِي الِاعْتِدَادِ بِرَمْيِ الْجَمْرَةِ الْوُسْطَى كَمَا أَنَّ أَكْثَرَ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ كَكَمَالِهِ فِي الِاعْتِدَادِ بِالسَّعْيِ بَعْدَهُ ، وَإِذَا كَانَ مَا رَمَى مِنْ كُلِّ جَمْرَةٍ مُعْتَدًّا بِهِ فَعَلَيْهِ إكْمَالُ رَمْيِ كُلِّ جَمْرَةٍ بِثَلَاثِ حَصَيَاتٍ فَإِنْ اسْتَقْبَلَ رَمْيَهَا فَهُوَ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى مُوَافَقَةِ فِعْلِ رَسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ مَا اشْتَغَلَ بِالثَّانِيَةِ إلَّا بَعْدَ إكْمَالِ الْأُولَى

( قَالَ ) وَإِنْ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَوْقَ الْعَقَبَةِ أَجْزَأَهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَرْمِيَهَا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي ، وَلَكِنْ مَا حَوْلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ كُلِّهِ مَوْضِعُ الرَّمْيِ فَإِذَا رَمَاهَا مِنْ فَوْقِ الْعَقَبَةِ فَقَدْ أَقَامَ النُّسُكَ فِي مَوْضِعِهِ فَجَازَ .
( قَالَ ) وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يُكَبِّرْ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ أَوْ جَعَلَ مَكَانَ التَّكْبِيرَاتِ تَسْبِيحًا أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ كُلِّ حَصَاةٍ ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالتَّسْبِيحِ كَمَا يَحْصُلُ بِالتَّكْبِيرِ ثُمَّ هُوَ مِنْ آدَابِ الرَّمْيِ فَتَرْكُهُ لَا يُوجِبُ شَيْئًا

( قَالَ ) وَإِنْ رَمَاهَا بِحِجَارَةٍ أَوْ بِطِينٍ يَابِسٍ جَازَ عِنْدَنَا ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ إلَّا بِالْحَجَرِ اتِّبَاعًا لِمَا وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ فَإِنَّ فِيمَا لَا يُعْقَلُ الْمَعْنَى فِيهِ إنَّمَا يَحْصُلُ الِامْتِثَالُ بِعَيْنِ الْمَنْصُوصِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِعْلُ الرَّمْيِ ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالطِّينِ كَمَا يَحْصُلُ بِالْحَجَرِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ الْخَلِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْحَجَرِ بِعَيْنِهِ مَقْصُودٌ إنَّمَا مَقْصُودُهُ فِعْلُ الرَّمْيِ إمَّا لِإِعَادَةِ الْكَبْشِ أَوْ لِطَرْدِ الشَّيْطَانِ عَلَى حَسَبِ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الرُّوَاةُ فَقُلْنَا بِأَيِّ شَيْءٍ حَصَلَ فِعْلُ الرَّمْيِ أَجْزَأَهُ بِمَنْزِلَةِ أَحْجَارِ الِاسْتِنْجَاءِ فَكَمَا يَحْصُلُ الِاسْتِنْجَاءُ بِالْحَجَرِ يَحْصُلُ الِاسْتِنْجَاءُ بِالطِّينِ وَغَيْرِهِ ، وَبَعْضُ الْمُتَشَفِّعَةِ يَقُولُونَ : إنْ رَمَى بِالْبَعْرَةِ أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ رَمَى بِالْفِضَّةِ أَوْ الذَّهَبِ أَوْ اللُّؤْلُؤِ وَالْجَوَاهِرِ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إهَانَةُ الشَّيْطَانِ ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْبَعْرِ دُونَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْجَوَاهِرِ ، وَلَسْنَا نَقُولُ بِهَذَا ، وَلَكِنْ نَقُولُ الرَّمْيُ بِالْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ يُسَمَّى فِي النَّاسِ نِثَارًا لَا رَمْيًا ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ الرَّمْيُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْمِيَ بِكُلِّ مَا يُسَمَّى بِهِ رَامِيًا

( قَالَ ) فَإِنْ رَمَى إحْدَى الْجِمَارِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ جُمْلَةً فَهَذِهِ وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ تَفَرُّقُ الْأَعْمَالِ لَا عَيْنُ الْحَصَيَاتِ فَإِذَا أَتَى بِفِعْلٍ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ حَصَاةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا لَوْ أَطْعَمَ كَفَّارَةَ الْيَمَنِ مِسْكِينًا وَاحِدًا مَكَانَ إطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ جُمْلَةً لَمْ يُجْزِهِ إلَّا عَنْ إطْعَامِ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ

( قَالَ ) وَإِنْ رَمَاهَا بِأَكْثَرَ مِنْ سَبْعِ حَصَيَاتٍ لَمْ تَضُرَّهُ تِلْكَ الزِّيَادَةُ ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ فَلَا يَضُرُّهُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ .
( قَالَ ) وَإِنْ نَقَصَ حَصَاةٍ لَا يَدْرِي مِنْ أَيَّتُهُنَّ نَقَصَهَا أَعَادَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُنَّ حَصَاةً وَاحِدَةً أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ فِي بَابِ الْعِبَادَةِ كَمَا لَوْ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ صَلَاةٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ ، وَلَا يَدْرِي مِنْ أَيُّهَا تَرَكَ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ

( قَالَ ) وَإِنْ قَامَ عِنْدَ الْجَمْرَةِ وَوَضَعَ الْحَصَاةَ عِنْدَهَا وَضْعًا لَمْ يُجْزِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِعْلُ الرَّمْيِ ، وَالْوَاضِعُ غَيْرُ رَامٍ ، وَإِنْ طَرَحَهَا طَرْحًا أَجْزَأَهُ ، وَقَدْ أَسَاءَ ؛ لِأَنَّ الطَّارِحَ رَامٍ إلَّا أَنَّ الرَّمْيَ تَارَةً يَكُونُ أَمَامَهُ وَتَارَةً يَكُونُ عِنْدَ قَدَمَيْهِ بِالطَّرْحِ ، وَلَكِنَّهُ مُسِيءٌ لِمُخَالَفَةِ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصْفًا

( قَالَ ) فَإِنْ رَمَاهَا مِنْ بَعِيدٍ فَلَمْ تَقَعْ الْحَصَاةُ عِنْدَ الْجَمْرَةِ فَإِنْ وَقَعَتْ قَرِيبًا مِنْهَا أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِمَّا لَا يَتَأَتَّى التَّحَرُّزُ عَنْهُ خُصُوصًا عِنْدَ كَثْرَةِ الزِّحَامِ ، وَإِنْ وَقَعَتْ بَعِيدًا مِنْهَا لَمْ يُجْزِهِ ؛ لِأَنَّ الرَّمْيَ قُرْبَةٌ فِي مَكَان مَخْصُوصٍ فَفِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ لَا يَكُونُ قُرْبَةً

( قَالَ ) وَإِنْ رَمَاهَا بِحَصَاةٍ أَخَذَهَا مِنْ عِنْدِ الْجَمْرَةِ أَجْزَأَهُ وَقَدْ أَسَاءَ ؛ لِأَنَّ مَا عِنْدَ الْجَمْرَةِ مِنْ الْحَصَى مَرْدُودٌ فَيَتَشَاءَمُ بِهِ ، وَلَا يَتَبَرَّكُ بِهِ ، وَبَيَانُهُ فِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا بَالُ الْجِمَارِ تُرْمَى مِنْ وَقْتِ الْخَلِيلِ صَلَاةُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَلَمْ تَصِرْ هِضَابًا تَسُدُّ الْأُفُقَ فَقَالَ : أَمَا عَلِمْت أَنَّ مَنْ يُقْبَلُ حَجُّهُ رُفِعَ حَصَاهُ ، وَمَنْ لَمْ يُقْبَلْ حَجُّهُ تُرِكَ حَصَاهُ حَتَّى قَالَ مُجَاهِدٌ لَمَّا سَمِعْتُ هَذَا مِنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلْتُ عَلَى حَصَيَاتِي عَلَامَةً ثُمَّ تَوَسَّطْتُ الْجَمْرَةَ فَرَمَيْت مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ثُمَّ طَلَبْتُ فَلَمْ أَجِدْ بِتِلْكَ الْعَلَامَةِ شَيْئًا مِنْ الْحَصَى فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا إنَّ مَا بَقِيَ فِي مَوْضِعِ الرَّمْيِ مَرْدُودٌ ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا يُجْزِئُهُ لِوُجُودِ فِعْلِ الرَّمْيِ وَمَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لَا يُجْزِئُهُ ، وَهَذَا عَجَبٌ مِنْ مَذْهَبِهِ فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ التَّوَضُّؤَ بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ ، وَلَا يُجَوِّزُ الرَّمْيَ بِمَا قَدْ رُمِيَ بِهِ مِنْ الْأَحْجَارِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ فِعْلَ الرَّمْيِ لَا يُغَيِّرُ صِفَةَ الْحِجَارَةِ .
( قَالَ ) فَإِنْ لَمْ يَقُمْ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ اللَّتَيْنِ يَقُومُ النَّاسُ عِنْدَهُمَا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ سُنَّةٌ فَتَرْكُهُ لَا يُوجِبُ إلَّا الْإِسَاءَةَ

( قَالَ ) وَإِنْ كَانَ أَقَامَ أَيَّامَ مِنًى بِمَكَّةَ غَيْرَ أَنَّهُ يَأْتِي مِنًى فِي كُلِّ يَوْمٍ فَيَرْمِي الْجِمَارَ فَقَدْ أَسَاءَ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مَا تَرَكَ إلَّا السُّنَّةَ ، وَهِيَ الْبَيْتُوتَةُ بِمِنًى فِي لَيَالِي الرَّمْيِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا { أَنَّ الْعَبَّاسَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ لِأَجْلِ السِّقَايَةِ فَأَذِنَ لَهُ } فَقِيلَ إنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ

( قَالَ ) فَإِنْ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَجْزَأَهُ قَالَ بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ عَطَاءٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ يَجْعَلُ مِنًى عَنْ يَمِينِهِ ، وَالْكَعْبَةَ عَنْ يَسَارِهِ ، وَيَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ ، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَرْمِيَهَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَإِنْ رَمَاهَا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ رَمَاهَا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ قَبْلَ الزَّوَالِ لَمْ يُجْزِهِ ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الرَّمْيِ فِي هَذَا الْيَوْمِ بَعْدَ الزَّوَالِ عُرِفَ بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُجْزِئُهُ قَبْلَهُ ، وَذَكَرَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُنْتَقَى أَنَّ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ يَوْمَ النَّحْرِ وَقْتُ الرَّمْيِ حَتَّى لَوْ رَمَى أَجْزَأَهُ .
( قَالَ ) وَكَذَلِكَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ، وَهُوَ الْيَوْمُ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إنْ كَانَ مِنْ قَصْدِهِ أَنْ يَتَعَجَّلَ النَّفْرَ الْأَوَّلَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَرْمِيَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ قَبْلَ الزَّوَالِ ، وَإِنْ رَمَى بَعْدَ الزَّوَالِ فَهُوَ أَفْضَلُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ قَصْدِهِ لَا يُجْزِئُهُ الرَّمْيُ إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ قَصْدِهِ التَّعْجِيلُ فَرُبَّمَا يَلْحَقُهُ بَعْضُ الْحَرَجِ فِي تَأْخِيرِ الرَّمْيِ إلَى مَا بَعْدَ الزَّوَالِ بِأَنْ لَا يَصِلَ إلَى مَكَّةَ إلَّا بِاللَّيْلِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى أَنْ يَرْمِيَ قَبْلَ الزَّوَالِ لِيَصِلَ إلَى مَكَّةَ بِالنَّهَارِ فَيَرَى مَوْضِعَ نُزُولِهِ فَيُرَخَّصُ لَهُ فِي ذَلِكَ ، وَالْأَفْضَلُ مَا هُوَ الْعَزِيمَةُ ، وَهُوَ الرَّمْيُ بَعْدَ الزَّوَالِ ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَقُولُ هَذَا الْيَوْمُ نَظِيرُ الْيَوْمِ الثَّانِي فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى فِيهِ بَعْدَ الزَّوَالِ فَلَا يُجْزِئُهُ الرَّمْيُ فِيهِ قَبْلَ الزَّوَالِ .
( قَالَ ) فَإِنْ رَمَى فِي

الْيَوْمِ الثَّالِثِ يُخَيَّرُ بَيْنَ النَّفْرِ ، وَبَيْنَ الْمُقَامِ إلَى أَنْ يَرْمِيَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ ، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } ، وَخِيَارُهُ هَذَا يَمْتَدُّ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ الْخِيَارُ فِي الْيَوْمِ ، وَامْتِدَادُ الْيَوْمِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ اللَّيْلُ لَيْسَ بِوَقْتٍ لِرَمْيِ الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَيَكُونُ خِيَارُهُ فِي النَّفْرِ بَاقِيًا قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ فَإِنَّهُ وَقْتُ الرَّمْيِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَلَا يَبْقَى خِيَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ اللَّيَالِيَ هُنَا تَابِعَةٌ لِلْأَيَّامِ الْمَاضِيَةِ فَكَمَا كَانَ خِيَارُهُ ثَابِتًا فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَكَذَلِكَ فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي بَعْدَهُ .
( قَالَ ) وَإِنْ صَبَرَ إلَى الْيَوْمِ الرَّابِعِ جَازَ لَهُ أَنْ يَرْمِيَ الْجِمَارَ فِيهِ قَبْلَ الزَّوَالِ اسْتِحْسَانًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا يُجْزِئُهُ بِمَنْزِلَةِ الْيَوْمِ الثَّانِي ، وَالثَّالِثِ ؛ لِأَنَّهُ يَوْمٌ تُرْمَى فِيهِ الْجِمَارُ الثَّلَاثُ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ بِخِلَافِ يَوْمِ النَّحْرِ وَأَبُو حَنِيفَةَ احْتَجَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إذَا انْتَفَحَ النَّهَارُ فِي آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَارْمُوا يُقَالُ انْتَفَحَ النَّهَارُ إذَا عَلَا ، وَاعْتُبِرَ آخِرُ الْأَيَّامِ بِأَوَّلِ الْأَيَّامِ فَكَمَا يَجُوزُ الرَّمْيُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ قَبْلَ زَوَالِ الشَّمْسِ فَكَذَا فِي الْيَوْمِ الْآخَرِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الرَّمْيَ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ يَجُوزُ تَرْكُهُ أَصْلًا فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يُشْبِهُ النَّوَافِلَ ، وَالتَّوْقِيتُ فِي النَّفْلِ لَا يَكُونُ عَزِيمَةً فَلِهَذَا جُوِّزَ الرَّمْيُ

فِيهِ قَبْلَ الزَّوَالِ لِيَصِلَ إلَى مَكَّةَ قَبْلَ اللَّيْلِ

( قَالَ ) وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَرْمِيَ الْجِمَارَ مِثْلَ حَصَاةِ الْخَذْفِ هَكَذَا { عَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ فَإِنَّهُ جَعَلَ طَرَفَ إحْدَى سَبَّابَتَيْهِ عِنْدَ الْأُخْرَى فَرَمَى بِمِثْلِ حَصَى الْخَذْفِ ، وَقَالَ هَكَذَا فَارْمُوا } ، وَإِنْ رَمَى بِأَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ أَجْزَأَهُ ، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْمِيَ الْكِبَارَ مِنْ الْأَحْجَارِ ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يُصِيبُ أَحَدًا فَيَتَأَذَّى بِهِ ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْفِ ، وَإِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي الدِّينِ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَلْبَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ }

( قَالَ ) وَلَيْسَ فِي الْقِيَامِ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ دُعَاءٌ مُؤَقَّتٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّوْقِيتَ فِي الدُّعَاءِ يُذْهِبُ بِرِقَّةِ الْقَلْبِ ، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَهُمَا حِذَاءَ مَنْكِبَيْهِ لِلْحَدِيثِ { لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعِ مَوَاطِنَ ، وَفِي الْمَقَامَيْنِ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ }

( قَالَ ) وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي رَمْيِ الْجِمَارِ سَوَاءٌ كَمَا فِي سَائِر الْمَنَاسِكِ ، وَإِنْ رَمَاهَا رَاكِبًا أَجْزَأَهَا لِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى الْجِمَارَ رَاكِبًا } ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ كُلِّ جَمْرَةٍ

( قَالَ ) وَالْمَرِيضُ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ رَمْيَ الْجِمَارِ يُوضَعُ الْحَصَى فِي كَفِّهِ حَتَّى يَرْمِيَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا يَعْجِزُ عَنْهُ يَسْتَعِينُ بِغَيْرِهِ ، وَإِنْ رُمِيَ عَنْهُ أَجْزَأَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ فَإِنَّ النِّيَابَةَ تَجْرِي فِي النُّسُكِ كَمَا فِي الذَّبْحِ

( قَالَ ) وَالصَّبِيُّ الَّذِي يَحُجُّ بِهِ أَبُوهُ يَقْضِي الْمَنَاسِكَ وَيَرْمِي الْجِمَارَ ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي بِهِ لِلتَّخَلُّقِ حَتَّى يَتَيَسَّرَ لَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَيُؤْمَرَ بِهِ بِمِثْلِ مَا يُؤْمَرُ بِهِ الْبَالِغُ ، وَإِنْ تَرَكَ الرَّمْيَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ يُحْرِمُ عَنْهُ أَبُوهُ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُمَا لِلتَّخَلُّقِ فَلَا يَكُونُ وَاجِبًا إذْ لَيْسَ لِلْأَبِ عَلَيْهِمَا وِلَايَةُ الْإِيجَابِ فِيمَا لَا مَنْفَعَةَ لَهُمَا فِيهِ عَاجِلًا ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الدَّمُ بِتَرْكِ الرَّمْيِ عَلَيْهِمَا ، وَهُوَ مُعْتَبَرٌ بِالْكَفَّارَاتِ لَا يَجِبُ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى الصَّبِيِّ ، وَالْمَجْنُونِ عِنْدَنَا ، وَالْأَصْلُ فِي جَوَازِ الرَّمْيِ هَكَذَا مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّ امْرَأَةً رَفَعَتْ صَبِيًّا مِنْ هَوْدَجِهَا إلَيْهِ فَقَالَتْ أَلِهَذَا حَجٌّ فَقَالَ نَعَمْ ، وَلَكِ أَجْرُهُ } فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يُحْرِمَ عَنْ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ ، وَالْمَجْنُونُ بِمَنْزِلَةِ الصَّغِيرِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ

بَابُ الْحَلْقِ ) ( قَالَ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { الْحَلْقُ أَفْضَلُ مِنْ التَّقْصِيرِ } لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَثَرِ فِيهِ ، وَلِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ بَعْدَ الذَّبْحِ قَضَاءُ التَّفَثِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } ، وَهُوَ فِي الْحَلْقِ أَتَمُّ وَالتَّقْصِيرُ فِيهِ بَعْضُ الْحَلْقِ فَلِهَذَا كَانَ الْحَلْقُ أَفْضَلَ ، وَالتَّقْصِيرُ يُجْزِي وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهِ ، وَرَوَاهُ فِي الْكِتَابِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ كَمْ تُقَصِّرُ الْمَرْأَةُ ؟ فَقَالَ مِثْلَ هَذِهِ يَعْنِي مِثْلَ الْأُنْمُلَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ الشَّعْرِ إلَّا ذَلِكَ الْقَدْرُ كَانَ يُتِمُّ تَحَلُّلَهُ بِأَخْذِهِ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ الشَّعْرِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ يُتِمُّ تَحَلُّلَهُ بِأَخْذِ ذَلِكَ الْمِقْدَارِ وَالتَّقْصِيرُ ، قَائِمٌ مَقَامَ الْحَلْقِ فِي حُكْمِ التَّحَلُّلِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فِي أَحَدِ جَانِبَيْ رَأْسِهِ أَجْزَأَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ حَلَقَ نِصْفَ رَأْسِهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ فَعَلَهُ فِي أَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ ، وَكَانَ بِقَدْرِ الثُّلُثِ أَوْ الرُّبُعِ فَكَذَلِكَ يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ حُكْمٍ تَعَلَّقَ بِالرَّأْسِ فَالرُّبُعُ مِنْهُ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْكَمَالِ كَالْمَسْحِ بِالرَّأْسِ ، وَلَكِنَّهُ مُسِيءٌ فِي الِاكْتِفَاءِ بِهَذَا الْمِقْدَارِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { حَلَقَ جَمِيعَ رَأْسِهِ ، وَأُمِرْنَا بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ } فَمَا كَانَ أَقْرَبَ إلَى مُوَافَقَةِ فِعْلِهِ فَهُوَ أَفْضَلُ ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَفْعَلُ هَذَا ضِنَةً مِنْهُ بِشَعْرِهِ ، وَفِيمَا هُوَ نُسُكٌ تُكْرَهُ الضِّنَةُ فِيهِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ فَكَيْفَ بِالشَّعْرِ

( قَالَ ) وَإِذَا جَاءَ يَوْمُ النَّحْرِ ، وَلَيْسَ عَلَى رَأْسِهِ شَعْرٌ أَجْرَى الْمُوسَى عَلَى رَأْسِهِ تَشَبُّهًا بِمَنْ يَحْلِقُ ؛ لِأَنَّهُ وُسْعُ مِثْلِهِ ، وَالتَّكْلِيفُ بِحَسَبِ الْوُسْعِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَخْرَسَ يُؤْمَرُ بِتَحْرِيكِ الشَّفَتَيْنِ عِنْدَ التَّكْبِيرِ وَالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ فَيَنْزِلُ ذَلِكَ مِنْهُ مَنْزِلَةَ قِرَاءَةِ النَّاطِقِ فَهَذَا مِثْلُهُ

( قَالَ ) وَإِنْ حَلَقَ رَأْسَهُ بِالنُّورَةِ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ التَّفَثِ فِيهِ يَحْصُلُ ، وَالْمُوسَى أَحَبُّ إلَيَّ ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى مُوَافَقَةِ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

( قَالَ ) وَأَكْرَهُ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَ الْحَلْقَ حَتَّى تَذْهَبَ أَيَّامُ النَّحْرِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْحَلْقُ لِلتَّحَلُّلِ فِي الْحَجِّ مُؤَقَّتٌ بِالزَّمَانِ ، وَهُوَ أَيَّامُ النَّحْرِ ، وَبِالْمَكَانِ ، وَهُوَ الْحَرَمُ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَتَوَقَّتُ بِالزَّمَانِ ، وَلَا بِالْمَكَانِ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَتَوَقَّتُ بِالْمَكَانِ دُونَ الزَّمَانِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَتَوَقَّتُ بِالزَّمَانِ دُونَ الْمَكَانِ فَزُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ التَّحَلُّلُ عَنْ الْإِحْرَامِ مُعْتَبَرٌ بِابْتِدَاءِ الْإِحْرَامِ ، وَابْتِدَاءُ الْإِحْرَامِ مُؤَقَّتٌ بِالزَّمَانِ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ بِالْمَكَانِ حَتَّى يُكْرَهَ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَلَا يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ فِي أَيِّ مَكَان شَاءَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الْمِيقَاتِ فَكَذَلِكَ التَّحَلُّلُ عَنْهُ بِالْحَلْقِ يَتَوَقَّتُ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانُ دُونَ الْمَكَانِ حَتَّى إذَا أَخَّرَهُ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ يَلْزَمُهُ الدَّمُ ، وَإِذَا خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ ثُمَّ حَلَقَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ مَا كَانَ لِلتَّحَلُّلِ فِي الْحَجِّ يَتَوَقَّتُ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ جَمِيعًا كَالطَّوَافِ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ التَّحَلُّلُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ ، وَيَتَوَقَّتُ بِأَيَّامِ النَّحْرِ فَكَمَا أَنَّهُ لَوْ أَخَّرَ الطَّوَافَ عَنْ وَقْتِهِ يَلْزَمُهُ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَكَذَلِكَ إذَا أَخَّرَ الْحَلْقَ عَنْ وَقْتِهِ ، وَعَلَى هَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَعْتَدَّ بِحَلْقِهِ خَارِجَ الْحَرَمِ كَمَا لَا يَعْتَدُّ بِطَوَافِهِ ، وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ مُعْتَدًّا بِهِ ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ فِعْلِهِ الرَّأْسُ دُونَ الْحَرَمِ فَيَحْصُلُ بِهِ التَّحَلُّلُ ، وَلَكِنَّهُ جَانٍ بِتَأْخِيرِهِ عَنْ مَكَانِهِ فَيَلْزَمُهُ دَمٌ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ الْمَكَانِ كَمَا يَلْزَمُهُ عَنْ وَقْتِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَلْقَ لَا يُعْقَلُ فِيهِ مَعْنَى

الْقُرْبَةِ ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَاهُ قُرْبَةً بِفِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ مَا حُلِقَ لِلْحَجِّ إلَّا فِي الْحَرَمِ يَوْمَ النَّحْرِ فَمَا وُجِدَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَكُونُ قُرْبَةً ، وَمَا خَالَفَ هَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فَيَلْزَمُهُ الْجَبْرُ فِيهِ بِالدَّمِ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْحَلْقُ الَّذِي هُوَ نُسُكٌ فِي أَوَانِهِ بِمَنْزِلَةِ الْحَلْقِ الَّذِي هُوَ جِنَايَةٌ قَبْلَ أَوَانِهِ فَكَمَا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ ، وَلَا مَكَان فَكَذَلِكَ هَذَا لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ وَلَا مَكَان ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اخْتَصَّ بِزَمَانٍ وَمَكَانٍ لَمْ يَكُنْ مُعْتَدًّا بِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ ، وَلَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الزَّمَانِ كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَسَوَاءٌ أَخَّرَهُ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ أَوْ خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ فَحَلَقَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ تَعَلُّقُ الْمَنَاسِكِ بِالْمَكَانِ آكَدُ مِنْ تَعَلُّقِهَا بِالزَّمَانِ أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّوَافَ الْمُخْتَصَّ بِمَكَانٍ لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ ، وَالْمُؤَقَّتُ مِنْ الطَّوَافِ بِزَمَانٍ يَكُونُ مُعْتَدًّا بِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الزَّمَانِ فَعَرَفْنَا أَنَّ تَعَلُّقَهُ بِالْمَكَانِ أَشَدُّ فَالْحَلْقُ الَّذِي هُوَ مُخْتَصٌّ بِالْحَرَمِ بِفِعْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَتَى بِهِ خَارِجَ الْحَرَمِ يَتَمَكَّنُ فِيهِ النُّقْصَانُ فَيَلْزَمُهُ الْجَبْرُ بِالدَّمِ ، وَتَأْخِيرُهُ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ لَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ كَثِيرُ نُقْصَانٍ فَلَا يَلْزَمُهُ الْجَبْرُ بِالدَّمِ فَأَمَّا فِي الْعُمْرَةِ فَلَا يَتَوَقَّتُ الْحَلْقُ بِزَمَانٍ حَتَّى لَوْ أَخَّرَ الْحَلْقَ فِيهِ شَهْرًا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعُمْرَةِ لَا يَتَوَقَّتُ بِالزَّمَانِ ، وَمَا هُوَ الرُّكْنُ ، وَهُوَ الطَّوَافُ فِيهِ أَيْضًا لَا يَتَوَقَّتُ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانُ فَكَذَلِكَ الْحَلْقُ فِيهِ لَا يَتَوَقَّتُ بِخِلَافِ الْحَجِّ ، وَلَكِنَّهُ يَتَوَقَّتُ بِالْحَرَمِ حَتَّى لَوْ حَلَقَ لِلْعُمْرَةِ خَارِجَ الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ دَمٌ

عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهَا اللَّهُ تَعَالَى كَمَا فِي الْحَجِّ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا شَيْءَ عَلَيْهِ

( قَالَ ) وَلَيْسَ عَلَى الْمُحْصَرِ حَلْقٌ إذَا حَلَّ وَإِنْ حَلَقَ أَوْ قَصَّرَ فَحَسَنٌ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَرَى عَلَيْهِ الْحَلْقَ ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَاحْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْحَدِيثِ { فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُحْصِرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ مَعَ أَصْحَابِهِ فَأَمَرَهُمْ بِالْحَلْقِ بَعْدَ بُلُوغِ الْهَدَايَا مَحَلَّهَا ، وَكَرِهَ لَهُمْ تَأْخِيرَ ذَلِكَ حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ لِأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ ابْدَأْ بِنَفْسِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّ فِي نَفْسِك رَجَاءَ الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ لِلْحَالِ فَحَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ مِنْهُ بَادَرُوا إلَى الْحَلْقِ } ، وَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحْصَرْ لَكَانَ يَتَحَلَّلُ بِالْحَلْقِ عِنْدَ أَدَاءِ الْأَعْمَالِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْإِحْصَارِ يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْحَلْقِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ بِهِ ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ سَائِرِ الْأَفْعَالِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا الْحَلْقُ إنَّمَا يَكُونُ نُسُكًا بَعْدَ أَدَاءِ الْأَفْعَالِ فَأَمَّا قَبْلَ أَدَاءِ الْأَفْعَالِ فَهُوَ جِنَايَةٌ فَإِذَا تَحَقَّقَ عَجْزُهُ عَنْ تَرْتِيبِ الْحَلْقِ عَلَى سَائِرِ الْأَفْعَالِ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ وَإِنَّمَا تَحَلُّلُهُ بِالْهَدْيِ هُنَا ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَهَى الْمُحْصَرَ عَنْ الْحَلْقِ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } فَذَلِكَ دَلِيلُ الْإِبَاحَةِ بَعْدَ بُلُوغِ الْهَدْيِ مَحِلَّهُ لَا دَلِيلُ الْوُجُوبِ فَأَمَّا حَلْقُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ فَقَدْ ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا لَا يَحْلِقُ الْمُحْصَرُ إذَا أُحْصِرَ فِي الْحِلِّ أَمَّا إذَا

أُحْصِرَ فِي الْحَرَمِ يَحْلِقُ ؛ لِأَنَّ الْحَلْقَ عِنْدَهُمَا مُؤَقَّتٌ بِالْحَرَمِ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا كَانَ مُحْصَرًا بِالْحُدَيْبِيَةِ ، وَبَعْضُ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ الْحَرَمِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ مَضَارِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ فِي الْحِلِّ ، وَمُصَلَّاهُ فِي الْحَرَمِ فَإِنَّمَا حَلَقَ فِي الْحَرَمِ ، وَبِهِ نَقُولُ عَلَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا أَمَرَهُمْ بِالْحَلْقِ لِيُحَقِّقَ بِهِ عَزْمَهُمْ عَلَى الِانْصِرَافِ ، وَيَأْمَنَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ جَانِبِهِمْ ، وَلَا يَشْتَغِلُونَ بِمَكِيدَةٍ أُخْرَى بَعْدَ الصُّلْحِ

( قَالَ ) وَلَيْسَ عَلَى الْحَاجِّ إذَا قَصَّرَ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ لِحْيَتِهِ أَوْ شَارِبِهِ أَوْ أَظْفَارِهِ أَوْ يَتَنَوَّرَ ؛ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ قَائِمٌ مَقَامَ الْحَلْقِ ، وَلَوْ أَرَادَ الْحَلْقَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي لِحْيَتِهِ ، وَلَا فِي شَارِبِهِ فَكَذَلِكَ التَّقْصِيرُ ، وَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَضُرَّهُ ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ أَوَانُ التَّحَلُّلِ ، وَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ التَّحَلُّلُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ قَضَاءِ التَّفَثِ

( قَالَ ) وَإِنْ حَلَقَ الْمُحْرِمُ رَأْسَ حَلَالٍ تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ عَنْ إزَالَةِ مَا يَنْمُو مِنْ الْبَدَنِ عَنْ نَفْسِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الرَّاحَةِ وَالزِّينَةِ لَهُ ، وَلَا يَحْصُلُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِحَلْقِ رَأْسِ الْحَلَالِ فَلَا يَلْزَمُهُ بِهِ شَيْءٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَلَالَ لَوْ حَلَقَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّ إزَالَةَ مَا يَنْمُو مِنْ بَدَنِ الْآدَمِيِّ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ فَيَكُونُ الْمُحْرِمُ مَمْنُوعًا عَنْ مُبَاشَرَةِ ذَلِكَ مِنْ بَدَنِ غَيْرِهِ كَمَا يَكُونُ مَمْنُوعًا مِنْ مُبَاشَرَتِهِ فِي نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ قَتْلِ الصَّيْدِ فَإِنَّهُ جَانٍ فِي قَتْلِ صَيْدِ غَيْرِهِ كَمَا يَكُونُ جَانِيًا فِي قَتْلِ صَيْدِ نَفْسِهِ إلَّا أَنَّ كَمَالَ جِنَايَتِهِ بِانْضِمَامِ مَعْنَى الرَّاحَةِ وَالزِّينَةِ إلَى فِعْلِهِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ تَكَامَلَتْ جِنَايَتُهُ فَلَزِمَهُ الدَّمُ ، وَإِذَا فَعَلَهُ بِغَيْرِهِ لَا تَتَكَامَلُ جِنَايَتُهُ فَتَكْفِيهِ الصَّدَقَةُ

( قَالَ ) وَإِذَا حَلَقَ الْمُحْرِمُ رَأْسَ مُحْرِمٍ آخَرَ فَإِنْ فَعَلَهُ بِأَمْرِهِ فَعَلَى الْمَحْلُوقِ دَمٌ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْغَيْرِ بِأَمْرِهِ كَفِعْلِهِ بِنَفْسِهِ ، وَمَعْنَى الرَّاحَةِ وَالزِّينَةِ لَهُ مُتَحَقِّقٌ فَيَلْزَمُهُ دَمٌ ، وَعَلَى الْحَالِقِ رَأْسَهُ صَدَقَةٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ جَانٍ فِي أَصْلِ فِعْلِهِ ، وَإِنْ حَلَقَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ بِأَنْ كَانَ الْمُحْرِمُ نَائِمًا فَجَاءَ ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ أَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى ذَلِكَ فَعَلَى الْمَحْلُوقِ رَأْسُهُ دَمٌ عِنْدَنَا ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ يُخْرِجُ الْمُكْرَهَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُؤَاخَذًا بِحُكْمِ الْفِعْلِ ، وَالنَّوْمُ أَبْلَغُ مِنْ الْإِكْرَاهِ ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ يُفْسِدُ قَصْدَهُ ، وَبِالنَّوْمِ يَنْعَدِمُ الْقَصْدُ أَصْلًا ، وَعِنْدَنَا بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ وَالنَّوْمِ يَنْتَفِي عَنْهُ الْإِثْمُ ، وَلَكِنْ لَا يَنْتَفِي حُكْمُ الْفِعْلِ إذَا تَقَرَّرَ سَبَبُهُ ، وَالسَّبَبُ هُنَا مَا نَالَ مِنْ الرَّاحَةِ وَالزِّينَةِ بِإِزَالَةِ التَّفَثِ عَنْ بَدَنِهِ ، وَذَلِكَ حَصَلَ لَهُ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ .
وَلَا يَتَخَيَّرُ هُنَا بَيْنَ أَجْنَاسِ الْكَفَّارَاتِ الثَّلَاثِ بِخِلَافِ الْمُضْطَرِّ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْعُذْرُ سَمَاوِيٌّ وُجِدَ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ ، وَهُنَا الْعُذْرُ بِسَبَبٍ وُجِدَ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ فَيُؤَثِّرُ فِي إسْقَاطِ الذَّنْبِ ، وَلَا يَخْرُجُ بِهِ الدَّمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَعَيَّنًا عَلَيْهِ ثُمَّ لَا يَرْجِعُ الْمَحْلُوقُ رَأْسُهُ بِهَذَا الدَّمِ عَلَى الْحَالِقِ ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : يَرْجِعُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ ، وَأَلْزَمَهُ هَذَا الْغُرْمَ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّمَا لَزِمَهُ ذَلِكَ لِمَعْنَى الرَّاحَةِ وَالزِّينَةِ ، وَهُوَ حَاصِلٌ لَهُ فَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ كَمَا لَا يَرْجِعُ الْمَغْرُورُ بِالْعُقْرِ ؛ لِأَنَّهُ بِمُقَابَلَةِ اللَّذَّةِ الْحَاصِلَةِ لَهُ بِالْوَطْءِ وَالْجَوَابُ فِي قَصِّ الْأَظْفَارِ هُنَا كَالْجَوَابِ فِي الْحَلْقِ

( قَالَ ) وَإِذَا أَخَذَ الْمُحْرِمُ مِنْ شَارِبِهِ أَوْ مِنْ رَأْسِهِ شَيْئًا أَوْ مَنْ مَسَّ مِنْ لِحْيَتِهِ فَانْتَثَرَ مِنْهَا شَعْرٌ فَعَلَيْهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ صَدَقَةٌ لِوُجُودِ أَصْلِ الْجِنَايَةِ بِمَا أَزَالَهُ مِنْ بَدَنِهِ ، وَلَكِنْ لَمْ تَتِمَّ جِنَايَتُهُ حِينَ فَعَلَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا لِتَحْصِيلِ الرَّاحَةِ وَالزِّينَةِ فَتَكْفِيهِ الصَّدَقَةُ

( قَالَ ) وَإِنْ أَخَذَ ثُلُثَ رَأْسِهِ أَوْ ثُلُثَ لِحْيَتِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الرُّبُعَ فِي الْكِتَابِ ، وَالْجَوَابُ : فِي الرُّبُعِ كَذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّأْسِ فَالرُّبُعُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْكَمَالِ كَمَا فِي الْحَلْقِ عِنْدَ التَّحَلُّلِ ، وَهَذَا لِأَنَّ حَلْقَ بَعْضِ الرَّأْسِ لِمَعْنَى الرَّاحَةِ وَالزِّينَةِ مُعْتَادٌ فَإِنَّ الْأَتْرَاكَ يَحْلِقُونَ أَوْسَاطَ رُءُوسِهِمْ ، وَبَعْضُ الْعَلَوِيَّةِ يَحْلِقُونَ نَوَاصِيَهُمْ لِابْتِغَاءِ الرَّاحَةِ وَالزِّينَةِ فَتَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ بِهَذَا الْمِقْدَارِ ، وَالْجِنَايَةُ الْمُتَكَامِلَةُ تُوجِبُ الْجَبْرَ بِالدَّمِ ثُمَّ الْأَصْلُ بَعْدَ هَذَا أَنَّهُ مَتَى حَلَقَ عُضْوًا مَقْصُودًا بِالْحَلْقِ مِنْ بَدَنِهِ قَبْلَ أَوَانِ التَّحَلُّلِ فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَإِنْ حَلَقَ مَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ فَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ ، وَمِمَّا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ : حَلْقُ شَعْرِ الصَّدْرِ أَوْ السَّاقِ ، وَمِمَّا هُوَ مَقْصُودٌ : حَلْقُ الرَّأْسِ أَوْ الْإِبْطَيْنِ فَإِنْ حَلَقَ أَحَدَهُمَا أَوْ نَتَفَ أَوْ أَطَلَى بِنُورَةٍ فَعَلَيْهِ الدَّمُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ بِالْحَلْقِ لِمَعْنَى الرَّاحَةِ ، وَفِيمَا ذَكَرَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْإِبْطَيْنِ النَّتْفُ دُونَ الْحَلْقِ فَإِنَّهُ قَالَ نَتَفَ إبْطَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْحَلْقَ فَإِنْ حَلَقَ مَوْضِعَ الْمَحَاجِمِ فَعَلَيْهِ دَمٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَفِي قَوْلِهِمَا عَلَيْهِ صَدَقَةٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ غَيْرُ مَقْصُودٍ بِالْحَلْقِ ، وَإِنَّمَا يَحْلِقُ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ الْحِجَامَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ حَلْقِ شَعْرِ الصَّدْرِ وَالسَّاقِ ، وَصَحَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { احْتَجَمَ ، وَهُوَ مُحْرِمٌ } ، وَمَا كَانَ يَرْتَكِبُ فِي إحْرَامِهِ الْجِنَايَةَ الْمُتَكَامِلَةَ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ إنَّهُ حَلْقٌ مَقْصُودٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْمَقْصُودِ إلَّا بِهِ ، وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْمَقْصُودِ إلَّا بِهِ يَكُونُ مَقْصُودًا

فَتَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ ، وَلَمْ يُنْقَلْ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلَقَ مَوْضِعَ الْمَحَاجِمِ } إنَّمَا نُقِلَ عَنْهُ الْحِجَامَةُ ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ الْحَلْقُ فَإِنَّ الْحَجَّامَ إذَا كَانَ حَاذِقًا يَشْرِطُ طُولًا فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْحَلْقِ ، وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَحْجُومُ أَشْعَرَ الْبَدَنَ ، وَلَمْ يُنْقَلْ فِي { صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَشْعَرَ الْبَدَنَ } ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ يَتَحَرَّزُ عَنْ الْجِنَايَةِ الْمُوجِبَةِ لِلصَّدَقَةِ كَمَا يَتَحَرَّزُ عَنْ الْجِنَايَةِ الْمُوجِبَةِ لِلدَّمِ وَعِنْدَهُمَا هَذِهِ جِنَايَةٌ مُوجِبَةٌ لِلصَّدَقَةِ

( قَالَ ) فَإِنْ حَلَقَ الرَّقَبَةَ كُلَّهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِأَنَّهُ حَلْقٌ مَقْصُودٌ لِلرَّاحَةِ وَالزِّينَةِ فَإِنَّ الْعَلَوِيَّةَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَا إذَا حَلَقَ شَارِبَهُ إنَّمَا ذَكَرَ إذَا أَخَذَ مِنْ شَارِبِهِ فَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ إذَا حَلَقَ شَارِبَهُ يَلْزَمُهُ الدَّمُ ؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ بِالْحَلْقِ يَفْعَلُهُ الصُّوفِيَّةُ ، وَغَيْرُهُمْ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الدَّمُ ؛ لِأَنَّهُ طَرَفٌ مِنْ أَطْرَافِ اللِّحْيَةِ ، وَهُوَ مَعَ اللِّحْيَةِ كَعُضْوٍ وَاحِدٍ ، وَإِنْ كَانَتْ السُّنَّةُ قَصَّ الشَّارِبِ وَإِعْفَاءَ اللِّحَى ، وَإِذَا كَانَ الْكُلُّ عُضْوًا وَاحِدًا لَا يَجِبُ بِمَا دُونَ الرُّبُعِ مِنْهُ الدَّمُ ، وَالشَّارِبُ دُونَ الرُّبُعِ مِنْ اللِّحْيَةِ فَتَكْفِيهِ الصَّدَقَةُ فِي حَلْقِهِ .
( قَالَ ) وَعَلَى الْقَارِنِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ كَفَّارَتَانِ ؛ لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامَيْنِ فَفِعْلُهُ جِنَايَةٌ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَلْزَمُهُ جُزْءَانِ عِنْدَنَا عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي بَابِ جَزَاءِ الصَّيْدِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

( قَالَ ) وَإِنْ أَصَابَ الْمُحْرِمَ أَذًى فِي رَأْسِهِ فَحَلَقَ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ فَعَلَيْهِ أَيُّ الْكَفَّارَاتِ الثَّلَاثِ شَاءَ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { قَالَ مَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْقُمَّلُ يَتَهَافَتُ عَلَى وَجْهِي ، وَأَنَا أُوقِدُ تَحْتَ قِدْرٍ لِي فَقَالَ أَتُؤْذِيك هَوَامُّ رَأْسِكَ فَقُلْت نَعَمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَوْلُهُ { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } فَقُلْت مَا الصِّيَامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَقُلْت وَمَا الصَّدَقَةُ قَالَ ثَلَاثَةُ آصُعَ مِنْ حِنْطَةٍ عَلَى سِتَّةِ مَسَاكِينَ فَقُلْت وَمَا النُّسُكُ قَالَ شَاةٌ } ، وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثَّلَاثَةِ ؛ لِأَنَّهَا ذُكِرَتْ بِحَرْفٍ أَوْ وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّخْيِيرَ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ ، وَلَوْ لَمْ يَرِدْ النَّصُّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَقْدِيرِ الصَّوْمِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَكُنَّا نُقَدِّرُهُ بِسِتَّةِ أَيَّامٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّرَ الطَّعَامُ بِطَعَامِ سِتَّةِ مَسَاكِينَ ، وَصَوْمُ يَوْمٍ بِمَنْزِلَةِ طَعَامِ الْمِسْكِينِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَهُ صَوْمُ سِتَّةِ أَيَّامٍ ، وَلَكِنْ ثَبَتَ بَيَانُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الصَّوْمَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ كُلِّ قِيَاسٍ بِمُقَابَلَتِهِ ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي كُلِّ مَا اُضْطُرَّ إلَيْهِ مِمَّا لَوْ فَعَلَهُ غَيْرُ مُضْطَرٍّ لَزِمَهُ الدَّمُ فَإِذَا فَعَلَهُ الْمُضْطَرُّ فَعَلَيْهِ أَيُّ الْكَفَّارَاتِ الثَّلَاثَةِ شَاءَ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيَكُونُ مُلْحَقًا بِهِ فَإِنْ اخْتَارَ الصِّيَامَ يَصُومُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنْ الْحَرَمِ أَوْ غَيْرِ الْحَرَمِ ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ عِبَادَةٌ فِي كُلِّ مَكَان .
وَإِنْ اخْتَارَ الطَّعَامَ يُجْزِئُهُ ذَلِكَ أَيْضًا فِي الْحَرَمِ ، وَغَيْرِ الْحَرَمِ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُجْزِئُهُ ذَلِكَ إلَّا فِي

الْحَرَمِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ رِفْقُ فُقَرَاءِ الْحَرَمِ وَوُصُولُ الْمَنْفَعَةِ إلَيْهِمْ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ التَّصْدِيقُ بِالطَّعَامِ قُرْبَةٌ فِي أَيِّ مَكَان كَانَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الصِّيَامِ ، وَإِنْ اخْتَارَ النُّسُكَ كَانَ مُخْتَصًّا بِالْحَرَمِ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ إرَاقَةَ الدَّمِ لَا تَكُونُ قُرْبَةً إلَّا فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ ، وَهُوَ أَيَّامُ النَّحْرِ أَوْ مَكَان مَخْصُوصٍ هُوَ الْحَرَمُ ، وَهَذَا الدَّمُ غَيْرُ مُؤَقَّتٍ بِالزَّمَانِ فَيَكُونُ مُخْتَصًّا بِالْمَكَانِ ، وَهُوَ الْحَرَمُ لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِيهِ فَيَكُونُ كَفَّارَةً لِفِعْلِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } ، وَذَلِكَ وَاجِبٌ بِطَرِيقِ الْكَفَّارَةِ فَصَارَ أَصْلًا فِي كُلِّ هَدْيٍ وَجَبَ بِطَرِيقِ الْكَفَّارَةِ فِي اخْتِصَاصِهِ بِالْحَرَمِ ، وَلِأَنَّهُ بَعْدَ ذِكْرِ الْهَدَايَا قَالَ : { ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَرَمُ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ الِاخْتِصَاصِ بِالْحَرَمِ عَيْنَ إرَاقَةِ الدَّمِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَلْوِيثَ الْحَرَمِ إنَّمَا الْمَقْصُودُ التَّصْدِيقُ بِاللَّحْمِ بَعْدَ الذَّبْحِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهِ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ دَمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْكَفَّارَةِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ فَإِنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ ذَبْحُهُ إلَّا فِي الْحَرَمِ ، وَعَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِلَحْمِهِ بَعْدَ الذَّبْحِ عَلَى فُقَرَاءِ الْحَرَمِ ، وَإِنْ تَصَدَّقَ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ الْفُقَرَاءِ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى كُلِّ فَقِيرٍ قُرْبَةٌ

( قَالَ ) وَإِنْ سُرِقَ الْمَذْبُوحُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ بِالذَّبْحِ قَدْ بَلَغَ مَحِلَّهُ ، وَوُجُوبُ التَّصَدُّقِ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالْعَيْنِ فَيَسْقُطُ بِهَلَاكِ الْعَيْنِ كَمَا إذَا هَلَكَ مَالُ الزَّكَاةِ سَقَطَتْ عَنْهُ الزَّكَاةُ

( قَالَ ) وَإِنْ سُرِقَ قَبْلَ الذَّبْحِ فَعَلَيْهِ بَدَلُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَا بَلَغَ مَحِلَّهُ بَعْدُ ، وَهُوَ نَظِيرُ الْأُضْحِيَّةِ الْوَاجِبَةِ إذَا سُرِقَتْ قَبْلَ الذَّبْحِ فَعَلَى صَاحِبِهَا مِثْلُهَا ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ دِمَاءَ الْكَفَّارَاتِ لَا يَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ ، وَأَنَّ دَمَ الْمُتْعَةِ ، وَالْقِرَانِ مُخْتَصٌّ بِيَوْمِ النَّحْرِ ؛ لِأَنَّهُ نُسُكٌ يُبَاحُ التَّنَاوُلُ مِنْهُ كَالْأُضْحِيَّةِ ، وَهُوَ مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ فِي أَوَانِهِ كَالْحَلْقِ فَأَمَّا دَمُ الْإِحْصَارِ لَا يَتَوَقَّتُ بِيَوْمِ النَّحْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا يَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ لِلتَّحَلُّلِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ دَمِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ إنَّهُ فِي مَعْنَى دِمَاءِ الْكَفَّارَاتِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ التَّنَاوُلُ مِنْهُ إلَّا لِلْفُقَرَاءِ بِخِلَافِ دَمِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ فَإِنَّهُ يُبَاحُ التَّنَاوُلُ مِنْهُ لِلْأَغْنِيَاءِ ثُمَّ وُجُوبُ هَذَا الدَّمِ لِلتَّحَلُّلِ قَبْلَ أَوَانِهِ فَإِنَّ أَوَانَ التَّحَلُّلِ مَا بَعْدَ أَدَاءِ الْأَفْعَالِ ، وَالْمُحْصَرُ يَتَحَلَّلُ قَبْلَ أَدَاءِ الْأَفْعَالِ فَكَانَ فِي فِعْلِهِ مَعْنَى الْجِنَايَةِ ، وَإِنْ أُبِيحَ لَهُ ذَلِكَ لِلْعُذْرِ فَالدَّمُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ يَكُونُ كَفَّارَةً لَا يَتَوَقَّتُ بِيَوْمِ النَّحْرِ كَالدَّمِ فِي حَقِّ مَنْ كَانَ بِرَأْسِهِ أَذًى فَأَمَّا التَّطَوُّعَاتُ مِنْ الدَّمِ يَجُوزُ ذَبْحُهَا قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ ، وَذَبْحُهَا فِي يَوْمِ النَّحْرِ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّ التَّطَوُّعَاتِ هَدَايَا وَالْوَاجِبُ فِي الْهَدَايَا تَبْلِيغُهَا إلَى الْحَرَمِ فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ يَجُوزُ ذَبْحُهَا فِي غَيْرِ أَيَّامِ النَّحْرِ ، وَفِي أَيَّامِ النَّحْرِ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي إرَاقَةِ الدَّمِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ أَظْهَرُ

( قَالَ ) وَيُبَاحُ التَّنَاوُلُ مِنْ هَدْيِ الْمُتْعَةِ ، وَالْقِرَانِ ، وَالتَّطَوُّعِ بِمَنْزِلَةِ الْأُضْحِيَّةِ ، وَالْجَوَابُ فِي الْأُضْحِيَّةِ مَعْلُومٌ ، وَهُوَ أَنَّ الْوَاجِبَ يَتَأَدَّى بِإِرَاقَةِ الدَّمِ فَإِنَّهُ يُبَاحُ التَّنَاوُلُ مِنْهُ لِلْمُضَحِّي ، وَلِمَنْ شَاءَ الْمُضَحِّي مِنْ غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ فَإِنْ أَكَلَ الْمُضَحِّي كُلَّهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، وَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالثُّلُثِ ، وَيَأْكُلَ الثُّلُثَيْنِ فَكَذَلِكَ فِيمَا هُوَ فِي مَعْنَى الْأُضْحِيَّةِ مِنْ الْهَدَايَا أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَنَاوَلَ مِنْ هَدَايَاهُ حَتَّى أَمَرَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ قِطْعَةٌ فَتُطْبَخَ لَهُ ، وَلَوْ كَانَ الْوَاجِبُ التَّصَدُّقَ بِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ لَمَا أَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا شَيْئًا فَكَمَا يُبَاحُ لَهُ تَنَاوُلُ لُحُومِ هَذِهِ الْهَدَايَا يُبَاحُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِجُلُودِهَا أَيْضًا ، وَلَا يُنْتَفَعُ بِجُلُودِ غَيْرِهَا مِنْ دِمَاءِ الْكَفَّارَاتِ بَلْ يَتَصَدَّقُ بِذَلِكَ كُلِّهِ كَمَا يَتَصَدَّقُ بِلَحْمِهَا هَكَذَا { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَاجِيَةَ حِينَ بَعَثَ بِالْهَدَايَا عَلَى يَدَيْهِ ، وَقَالَ تَصَدَّقْ بِجِلَالِهَا ، وَخُطُمِهَا } فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ التَّصَدُّقِ بِجُلُودِهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى

( قَالَ ) وَلَا يُعْطِي أُجْرَةَ الْجَزَّارِ مِنْهَا ، وَلَا مِنْ غَيْرِهَا شَيْئًا ؛ لِأَنَّ مَا يَأْخُذُهُ الْجَزَّارُ إنَّمَا يَأْخُذُهُ عِوَضًا عَنْ عَمَلِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ .
( قَالَ ) وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا مِنْ لُحُومِ الْهَدَايَا بِثَمَنٍ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالتِّجَارَةِ فِيهَا وَلَوْلَا الْإِذْنُ مِنْ قِبَلِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ لَمَا أُبِيحَ لَهُ تَنَاوُلُ بَعْضِهَا ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْإِذْنِ فِي التَّنَاوُلِ الْإِذْنُ فِي التِّجَارَةِ وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ الْإِذْنُ فِي التَّنَاوُلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ } .
( قَالَ ) وَإِذَا بَاعَ شَيْئًا مِنْ لَحْمِهَا بِثَمَنٍ أَوْ أَعْطَى الْجَزَّارَ أُجْرَةَ عَمَلِهِ مِنْ اللَّحْمِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقِيمَةِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ حَقَّ الْفُقَرَاءِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ بِصَرْفِهِ إلَى قَضَاءِ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ أَوْ بِتَحْصِيلِ عِوَضِهِ لِنَفْسِهِ ، وَهُوَ الثَّمَنُ فَيَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِقِيمَتِهِ كَمَنْ قَضَى بِنِصَابِ الزَّكَاةِ دَيْنًا عَلَيْهِ

( قَالَ ) وَإِذَا لَمْ يَبْقَ عَلَى الْمُحْرِمِ غَيْرُ التَّقْصِيرِ فَبَدَأَ بِقَصِّ أَظْفَارِهِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ بَاقٍ مَا لَمْ يَحْلِقْ أَوْ يُقَصِّرْ فَفِعْلُهُ فِي قَصِّ الْأَظْفَارِ يَكُونُ جِنَايَةً عَلَى الْإِحْرَامِ ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ تَحَلُّلَ الْحَاجِّ يَكُونُ بِالرَّمْيِ فَقَصُّ الْأَظْفَارِ بَعْدَ الرَّمْيِ لَا يَكُونُ جِنَايَةً مِنْهُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .

( بَابُ كَفَّارَةِ قَصِّ الْأَظْفَارِ ) ( قَالَ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِذَا قَصَّ الْمُحْرِمُ أَظْفَارَ يَدَيْهِ ، وَرِجْلَيْهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَنَا ، وَقَالَ عَطَاءٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ قَصَّ الْأَظْفَارِ مِنْ الْفِطْرَةِ ، وَلَمْ يَصِحَّ حَدِيثٌ فِي النَّهْيِ عَنْهُ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ فَكَانَ نَظِيرَ الْخِتَانِ ، وَلَا بَأْسَ بِالْخِتَانِ فِي الْإِحْرَامِ فَكَذَلِكَ قَصُّ الْأَظْفَارِ ، وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلِأَنَّ قَصَّ الْأَظْفَارِ مِنْ قَضَاءِ التَّفَثِ فَإِنَّهُ إزَالَةُ مَا يَنْمُو مِنْ الْبَدَنِ لِمَعْنَى الزِّينَةِ وَالرَّاحَةِ كَحَلْقِ الرَّأْسِ فَيَكُونُ مُؤَخَّرًا إلَى مَا بَعْدَ التَّحَلُّلِ ، وَمُبَاشَرَتُهُ قَبْلَ ذَلِكَ جِنَايَةٌ عَلَى الْإِحْرَامِ فَيُوجِبُ الْجَبْرَ بِالدَّمِ .
وَإِنْ قَصَّ ظُفْرًا وَاحِدًا أَوْ ظُفْرَيْنِ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ ظُفْرٍ صَدَقَةٌ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ دَمًا فَيَنْقُصَ عَنْهُ مَا شَاءَ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي كُلِّ ظُفْرٍ خُمْسُ الدَّمِ لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ الدَّمُ فِي قَصِّ خَمْسَةِ أَظْفَارٍ فَفِي كُلِّ ظُفْرٍ بِحِسَابِ ذَلِكَ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّ جِنَايَتَهُ لَمْ تَتَكَامَلْ لِأَنَّ مَعْنَى الرَّاحَةِ وَالزِّينَةِ لَا يَحْصُلُ بِقَصِّ ظُفْرٍ أَوْ ظُفْرَيْنِ ، وَالْجِنَايَةُ النَّاقِصَةُ فِي الْإِحْرَامِ تُوجِبُ الْجَبْرَ بِالصَّدَقَةِ .

( قَالَ ) وَإِنْ قَصَّ ثَلَاثَةَ أَظْفَارٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَوَّلِ اسْتِحْسَانًا ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ لِكُلِّ ظُفْرٍ صَدَقَةٌ وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ قَصَّ أَظْفَارِ يَدٍ وَاحِدَةٍ يُوجِبُ الدَّمَ بِالِاتِّفَاقِ ، وَالْأَكْثَرُ مِنْهَا يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْكَمَالِ فَالثَّلَاثُ أَكْثَرُ الْأَظْفَارِ مِنْ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ ، وَلَكِنَّهُ رَجَعَ عَنْ هَذَا فَقَالَ : الدَّمُ فِي الْأَصْلِ إنَّمَا يَجِبُ بِقَصِّ أَظْفَارِ الْيَدَيْنِ ، وَالرِّجْلَيْنِ وَالْيَدُ الْوَاحِدَةُ رُبْعُ ذَلِكَ فَتُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ الْكَمَالِ كَرُبْعِ الرَّأْسِ فِي الْحَلْقِ فَكَانَ هَذَا أَدْنَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الدَّمُ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُقَامَ الْأَكْثَرُ فِيهِ مَقَامَ الْكَمَالِ إذْ لَوْ فَعَلَ أَدَّى إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى فَيُقَالُ : إذَا قَصَّ الظُّفْرَيْنِ فَقَدْ قَصَّ أَكْثَرَ الثَّلَاثَةِ ثُمَّ إذَا قَصَّ ظُفْرًا أَوْ نِصْفًا فَقَدْ قَصَّ أَكْثَرَ الظُّفْرَيْنِ وَلَكِنْ يُقَالُ مَا كَانَ أَدْنَى الْمِقْدَارِ شَرْعًا لَا يَتَعَلَّقُ بِمَا دُونَهُ الْحُكْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ

( قَالَ ) وَلَوْ قَصَّ خَمْسَةَ أَظْفَارٍ مُتَفَرِّقَةٍ مِنْ الْيَدَيْنِ ، وَالرِّجْلَيْنِ يَلْزَمُهُ لِكُلِّ ظُفْرٍ صَدَقَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَلْزَمُهُ الدَّمُ لِأَنَّ الْمَقْصُوصَ خَمْسَةُ أَظْفَارٍ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِنْ عُضْوٍ وَاحِدٍ أَوْ عُضْوَيْنِ أَوْ مِنْ أَعْضَاءٍ مُتَفَرِّقَةٍ كَمَا فِي الْحَلْقِ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَحْلِقَ رُبْعَ الرَّأْسِ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ جَوَانِبَ مُتَفَرِّقَةٍ فِي إيجَابِ الدَّمِ ، وَكَمَا فِي حُكْم الْأَرْشِ لَا فَرْقَ فِي إيجَابِ دِيَةِ الْيَدَيْنِ بَيْنَ قَطْعِ خَمْسَةِ أَصَابِعَ مِنْ يَدٍ وَاحِدَةٍ أَوْ مِنْ يَدَيْنِ فَهَذَا مِثْلُهُ ، وَهُمَا يَقُولَانِ جِنَايَتُهُ لَمْ تَتَكَامَلْ لِأَنَّ مَعْنَى الزِّينَةِ وَالرَّاحَةِ لَا يَحْصُلُ بِقَصِّ بَعْضِ الْأَظْفَارِ مِنْ كُلِّ عُضْوٍ لِأَنَّهُ لَا يَحْسُنُ فِي النَّظَرِ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الْأَظْفَارِ مَقْصُوصًا دُونَ الْبَعْضِ فَيَزْدَادُ بِهِ شُغْلُ قَلْبِهِ لَا أَنْ يَنَالَ بِهِ الرَّاحَةَ فَإِذَا لَمْ تَتَكَامَلْ الْجِنَايَةُ كَانَ عَلَيْهِ لِكُلِّ ظُفْرٍ صَدَقَةٌ حَتَّى قَالُوا : لَوْ قَصَّ سِتَّةَ عَشَرَ ظُفْرًا مِنْ كُلِّ عُضْوٍ أَرْبَعَةٌ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ ظُفْرٍ طَعَامُ مِسْكِينٍ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ ذَلِكَ دَمًا فَحِينَئِذٍ يَنْقُصُ مِنْهُ مَا شَاءَ بِخِلَافِ الْحَلْقِ فَإِنَّ تَفْرِيقَ الْحَلْقِ مِنْ جَوَانِبِ الرَّأْسِ عَادَةٌ فَيَتِمُّ بِهِ مَعْنَى الرَّاحَةِ .

( قَالَ ) وَإِذَا انْكَسَرَ ظُفْرُ الْمُحْرِمِ فَانْقَطَعَ مِنْهُ شَظِيَّةٌ فَقَلَعَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمُنْكَسِرَ لَا يَنْمُو مِنْ الْبَدَنِ فَقَلْعُهُ لَا يَكُونُ جِنَايَةً بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَكَسَّرَ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ وَيَبِسَ إذَا أَخَذَهُ إنْسَانٌ لَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ لِانْعِدَامِ مَعْنَى النُّمُوِّ .

( قَالَ ) وَإِنْ قَصَّ الْأَظْفَارَ كُلَّهَا فِي مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ فَإِنْ كَانَ حِينَ قَصَّ أَظْفَارَ يَدٍ وَاحِدَةٍ كَفَّرَ ثُمَّ قَصَّ أَظْفَارَ أُخْرَى فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى لِأَنَّ الْجِنَايَةَ الْأُولَى قَدْ ارْتَفَعَتْ بِالتَّكْفِيرِ فَفِعْلُهُ الثَّانِي يَكُونُ جِنَايَةً مُبْتَدَأَةً فَيُوجِبُ كَفَّارَةً أُخْرَى ، وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى قَصَّ الْأَظْفَارَ كُلَّهَا فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَصَّ الْأَظْفَارَ كُلَّهَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ هَذِهِ الْجِنَايَاتِ تَسْتَنِدُ إلَى سَبَبٍ وَاحِدٍ فَلَا تُوجِبُ إلَّا كَفَّارَةً وَاحِدَةً كَمَا فِي حَلْقِ جَمِيعِ الرَّأْسِ لَا فَرْقَ أَنْ يَكُونَ فِي مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ أَوْ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ، وَهَذَا لِأَنَّ مَبْنَى الْوَاجِبِ عَلَى التَّدَاخُلِ ، وَفِيمَا يَنْبَنِي عَلَى التَّدَاخُلِ الْمَجْلِسُ الْوَاحِدُ ، وَالْمَجَالِسُ الْمُتَفَرِّقَةُ فِيهِ سَوَاءٌ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْفِطْرِ ، وَكَمَا فِي الْحُدُودِ .
وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ أَرْبَعَةُ دِمَاءٍ بِاعْتِبَارِ كُلِّ عُضْوٍ فِي مَجْلِسٍ دَمٌ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَفْعَالَ فِي مَحَالَّ مُخْتَلِفَةٍ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا جِنَايَةٌ مُتَكَامِلَةٌ مِنْهَا فَتُوجِبُ الدَّمَ ، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ حَلَقَ فِي مَجْلِسٍ ، وَقَصَّ الْأَظْفَارَ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ ، وَهَذَا لِأَنَّ كَفَّارَاتِ الْإِحْرَامِ يَغْلِبُ فِيهَا مَعْنَى الْعِبَادَةِ ، وَلَا يَجْرِي التَّدَاخُلُ فِي الْعِبَادَةِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَالْمَقْصُودُ وَاحِدٌ ، وَالْمَحَالُّ مُخْتَلِفَةٌ فَرَجَّحْنَا جَانِبَ اتِّحَادِ الْمَقْصُودِ بِسَبَبِ اتِّحَادِ الْمَجْلِسِ ، وَأَمَّا إذَا اخْتَلَفَتْ الْمَجَالِسُ يَتَرَجَّحُ جَانِبُ اخْتِلَافِ الْمَحَالِّ فَيُوجِبُ بِكُلِّ فِعْلٍ دِمَاءً بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَلَا آيَةَ السَّجْدَةِ مِرَارًا فَإِنْ كَانَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ سَجْدَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ كَانَ فِي مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ فَعَلَيْهِ بِكُلِّ تِلَاوَةٍ سَجْدَةٌ ، وَبِهِ فَارَقَ الْحَلْقَ فَإِنَّ مَحَلَّ

الْفِعْلِ هُنَاكَ وَاحِدٌ ، وَالْمَقْصُودُ وَاحِدٌ ، وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ لَوْ جَامَعَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى امْرَأَةً وَاحِدَةً أَوْ نِسْوَةً إلَّا أَنَّ مَشَايِخَنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى قَالُوا فِي الْجِمَاعِ بَعْدَ الْوُقُوفِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى عَلَيْهِ بَدَنَةٌ وَفِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ عَلَيْهِ شَاةٌ لِأَنَّهُ قَدْ دَخَلَ فِيهِ نُقْصَانٌ بِالْجِنَايَةِ الْأُولَى فَالْجِنَايَةُ الثَّانِيَةُ صَادَفَتْ إحْرَامًا نَاقِصًا فَيَجِبُ الدَّمُ ، وَيَكُونُ قِيَاسُ الْجِمَاعِ فِي إحْرَامِ الْعُمْرَةِ ، وَإِنْ أَصَابَهُ أَذًى فِي أَظْفَارِهِ حَتَّى قَصَّهَا فَعَلَيْهِ أَيُّ الْكَفَّارَاتِ الثَّلَاثِ شَاءَ لِلْأَصْلِ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانُهُ أَنَّ مَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلدَّمِ إذَا فَعَلَهُ لِعُذْرٍ تَخَيَّرَ فِيهِ الْمَعْذُورُ بَيْنَ الْكَفَّارَاتِ الثَّلَاثِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .

( قَالَ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُحْرِمٌ دَلَّ مُحْرِمًا أَوْ حَلَالًا عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَهُ الْمَدْلُولُ فَعَلَى الدَّالِّ الْجَزَاءُ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا جَزَاءَ عَلَى الدَّالِّ ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ لِأَنَّ الْجَزَاءَ وَاجِبٌ بِقَتْلِ الصَّيْدِ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا } الْآيَةَ ، وَالدَّلَالَةُ لَيْسَتْ فِي مَعْنَى الْقَتْلِ لِأَنَّ الْقَتْلَ فِعْلٌ مُتَّصِلٌ مِنْ الْقَاتِلِ بِالْمَقْتُولِ فَأَمَّا الدَّلَالَةُ وَالْإِشَارَةُ غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِالْمَحِلِّ وَهُوَ الصَّيْدُ وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالنَّصِّ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ فِيمَا لَيْسَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ جَزَاءُ صَيْدِ الْحَرَمِ يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ الْحَلَالِ ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الدَّالِّ إذَا كَانَ حَلَالًا بِالِاتِّفَاقِ لِلْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ حُرْمَةَ الصَّيْدِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ لَا تَكُونُ أَقْوَى مِنْ حُرْمَةِ مَالِ الْمُسْلِمِ وَنَفْسِهِ ، وَلَا يَضْمَنَ الدَّالُّ عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِ ، وَلَا عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا بِسَبَبِ الدَّلَالَةِ فَكَذَلِكَ هُنَا لَا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِنَّ رَجُلًا سَأَلَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ إنِّي أَشَرْت إلَى ظَبْيٍ وَأَنَا مُحْرِمٌ فَقَتَلَهُ صَاحِبِي فَقَالَ عُمَرُ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَاذَا تَرَى عَلَيْهِ فَقَالَ أَرَى عَلَيْهِ شَاةٌ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَأَنَا أَرَى عَلَيْهِ ذَلِكَ ، وَأَنَّ عَلِيًّا وَابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ سُئِلَا عَنْ مُحْرِمٍ دَلَّ عَلَى بَيْضِ نَعَامَةٍ فَأَخَذَهُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهِ فَشَوَاهُ فَقَالَا عَلَى الدَّالِّ جَزَاؤُهُ ، وَالْقِيَاسُ يُتْرَكُ بِقَوْلِ الْفُقَهَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَمَا نُقِلَ عَنْهُمْ فِي هَذَا الْبَابِ كَالْمَنْقُولِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ لَا أَظُنُّ بِهِمْ أَنَّهُمْ قَالُوا جُزَافًا ، وَالْقِيَاسُ لَا يَشْهَدُ

لِقَوْلِهِمْ حَتَّى يَقُولَ قَالُوا ذَلِكَ قِيَاسًا فَلَمْ يَبْقَ إلَّا السَّمَاعُ ثُمَّ ثَبَتَ بِاتِّفَاقِهِمْ أَنَّ الدَّلَالَةَ عَلَى الصَّيْدِ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ أَيْضًا فَإِنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي صَيْدٍ أَخَذَهُ أَبُو قَتَادَةَ ، وَكَانُوا مُحْرِمِينَ هَلْ أَعَنْتُمْ هَلْ أَشَرْتُمْ هَلْ دَلَلْتُمْ } فَجَعَلَ الْإِشَارَةَ كَالْإِعَانَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْجَزَاءَ ، وَبِهِ فَارَقَ صَيْدَ الْحَرَمِ فَإِنَّ الْمُوجِبَ لِلْحَظْرِ هُنَاكَ مَعْنًى فِي الْحِلِّ ، وَهُوَ أَمْنُ الصَّيْدِ بِسَبَبِ الْحَرَمِ فَلَا بُدَّ مَنْ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ مُتَّصِلًا بِالْمَحِلِّ حَتَّى يَكُونَ جِنَايَةً فِي إزَالَةِ الْأَمْنِ عَنْ الْمَحِلِّ .
وَهُنَا الْحَظْرُ بِسَبَبِ مَعْنًى فِي الْفَاعِلِ ، وَهُوَ أَنَّهُ مُحْرِمٌ فَكَانَ فِعْلُهُ مَحْظُورًا لِإِحْرَامٍ ، وَإِنْ لَمْ يَتَّصِلْ بِالْمَحِلِّ ، وَلِهَذَا كَانَ مَعْنَى الْجَزَاءِ هُنَا رَاجِحًا ، وَمَعْنَى غَرَامَةِ الْمَحِلِّ هُنَاكَ رَاجِحٌ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ الْإِحْرَامُ عَقْدٌ خَاصٌّ ، وَقَدْ ضَمِنَ لَهُ تَرْكَ التَّعَرُّضِ بِعَقْدِهِ فَإِذَا تَعَرَّضَ لَهُ بِالدَّلَالَةِ فَقَدْ بَاشَرَ بِخِلَافِ مَا الْتَزَمَهُ فَكَانَ قِيَاسَ الْمُودَعِ يَدُلُّ سَارِقًا عَلَى سَرِقَةِ الْوَدِيعَةِ بِخِلَافِ الدَّلَالَةِ عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِ وَنَفْسِهِ فَإِنَّهُ مَا الْتَزَمَ تَرْكَ التَّعَرُّضِ لِذَلِكَ بِعَقْدٍ خَاصٍّ ثُمَّ الْوَاجِبُ هُنَاكَ ضَمَانُ الْحَيَوَانِ فَيَكُونُ بِمُقَابَلَةِ الْمَحِلِّ فَيَجِبُ عَلَى مَنْ اتَّصَلَ فِعْلُهُ بِالْمَحِلِّ وَالدَّلَالَةِ الْمُعْتَبَرَةِ لِإِيجَابِ الْجَزَاءِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَدْلُولُ عَالِمًا بِمَكَانِ الصَّيْدِ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَدْلُولُ عَالِمًا بِهِ فَلَا جَزَاءَ عَلَى الدَّالِّ لِأَنَّ الْمَدْلُولَ مَا تَمَكَّنَ مِنْ قَتْلِهِ بِدَلَالَتِهِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَعَارَ الْمُحْرِمُ سِكِّينًا مِنْ غَيْرِهِ لِيَقْتُلَ صَيْدًا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ ذَلِكَ الْغَيْرِ

مَا يَقْتُلُ بِهِ الصَّيْدَ فَعَلَى الْمُعِيرِ الْجَزَاءُ ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ مَا يَقْتُلُ بِهِ الصَّيْدَ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُعِيرِ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ قَتْلِهِ لَمْ يَكُنْ بِإِعَارَةِ السِّكِّينِ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الدَّالِّ الْجَزَاءُ إذَا صَدَّقَهُ الْمَدْلُولُ فِي دَلَالَتِهِ فَأَمَّا إذَا كَذَّبَهُ وَلَمْ يَتْبَعْ الصَّيْدَ بِدَلَالَتِهِ حَتَّى دَلَّ عَلَيْهِ آخَرُ فَصَدَّقَهُ وَقَتَلَ الصَّيْدَ فَالْجَزَاءُ عَلَى الدَّالِّ الثَّانِي إذَا كَانَ مُحْرِمًا دُونَ الْأَوَّلِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَرَ الْمُحْرِمُ إنْسَانًا بِأَخْذِ الصَّيْدِ فَأَمَرَ الْمَأْمُورَ بِهِ إنْسَانًا آخَرَ فَالْجَزَاءُ عَلَى الْآمِرِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ الْأَوَّلَ لَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرَ الْآمِرِ فَإِنَّهُ أَمَرَهُ بِالْأَخْذِ دُونَ الْأَمْرِ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الدَّالِّ الْأَوَّلِ إذَا أَخَذَ الْمَدْلُولُ الصَّيْدَ ، وَالدَّالُّ مُحْرِمٌ فَأَمَّا إذَا حَلَّ الدَّالُّ عَنْ إحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ الْمَدْلُولُ الصَّيْدَ فَلَا جَزَاءَ عَلَى الدَّالِّ لِأَنَّ فِعْلَهُ إنَّمَا يَتِمُّ جِنَايَةً عِنْدَ زَوَالِ مَعْنَى النُّفْرَةِ بِإِثْبَاتِ يَدِ الْأَخْذِ عَلَيْهِ فَإِذَا كَانَ الدَّالُّ عِنْدَ ذَلِكَ حَلَالًا لَمْ يَكُنْ أَخْذُ الْغَيْرِ فِي حَقِّهِ أَكْثَرَ تَأْثِيرًا مِنْ أَخْذِهِ بِنَفْسِهِ ، وَلَوْ أَخَذَهُ بِنَفْسِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ فَكَذَا إذَا أَخَذَهُ غَيْرُهُ بِدَلَالَتِهِ .

( قَالَ ) وَإِذَا اشْتَرَكَ رَهْطٌ مُحْرِمُونَ فِي قَتْلِ صَيْدٍ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَزَاءٌ كَامِلٌ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِمْ جَزَاءٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمَحِلُّ ، وَلِهَذَا قَالَ الدَّالُّ الَّذِي لَمْ يَتَّصِلْ فِعْلُهُ بِالْمَحِلِّ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ، وَالْمَحِلُّ هُنَا وَاحِد فَلَا يَلْزَمُهُمْ إلَّا جَزَاءٌ وَاحِدٌ ، وَقَاسَ بِصَيْدِ الْحَرَمِ فَإِنَّ جَمَاعَةً مِنْ الْحَلَالِينَ إذَا اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِ صَيْدِ الْحَرَمِ لَا يَلْزَمُهُمْ إلَّا جَزَاءٌ وَاحِدٌ ، وَقَاسَ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ أَيْضًا فَإِنَّ الصَّيْدَ إذَا كَانَ مَمْلُوكًا لَا يَجِبُ عَلَى الَّذِينَ قَتَلُوهُ إلَّا قِيمَةٌ وَاحِدَةٌ لِصَاحِبِهِ كَذَلِكَ فِيمَا يَجِبُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَحُجَّتُنَا مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُحْرِمِ جَزَاءُ فِعْلِهِ ، وَفِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَاعِلِينَ كَامِلٌ جَنَى بِهِ عَلَى إحْرَامٍ كَامِلٍ فَيُجْعَلُ فِي حَقِّ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ ، وَكَمَا فِي الْقِصَاصِ الْوَاجِبِ بِطَرِيقِ جَزَاءِ الْفِعْلِ يُجْعَلُ كُلُّ قَاتِلٍ كَالْمُنْفَرِدِ بِهِ ، وَبِهِ فَارَقَ صَيْدَ الْحَرَمِ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ الْمَحِلِّ ، وَيَسْلُكُ بِضَمَانِ الصَّيْدِ مَسْلَكَ الْغَرَامَاتِ ، وَلِهَذَا لَا مَدْخَلَ لِلصَّوْمِ فِيهِ ، وَفِي إبَاحَةِ الدَّمِ رِوَايَتَانِ أَيْضًا فَالْغَرَامَاتُ تَكُونُ وَاجِبَةً بَدَلًا عَنْ الْمُتْلَفِ فَإِذَا كَانَ الْمُتْلَفُ وَاحِدًا لَا يَجِبُ إلَّا بَدَلٌ وَاحِدٌ كَالدِّيَةِ فَإِنَّهَا لَا تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْقَاتِلِينَ فَأَمَّا هَذِهِ الْكَفَّارَةُ تَجِبُ بِطَرِيقِ جَزَاءِ الْفِعْلِ ، وَالْفِعْلُ يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْفَاعِلِينَ يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُنَا حُرْمَةُ الْإِحْرَامِ ، وَإِحْرَامُ زَيْدٍ غَيْرُ إحْرَامِ عَمْرٍو ، وَهُنَاكَ الْمُعْتَبَرُ حُرْمَةُ الْحَرَمِ ، وَهِيَ مُتَّحِدَةٌ فِي حَقِّ الْفَاعِلِينَ فَأَمَّا ضَمَانُ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَوُجُوبُهُ بِطَرِيقِ الْجُبْرَانِ ، وَذَلِكَ يَتِمُّ بِإِيجَابِ بَدَلٍ وَاحِدٍ ،

وَمَا يَجِبُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَكُونُ بِطَرِيقِ الْجُبْرَانِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَنْ أَنْ يَلْحَقَهُ نُقْصَانٌ لِيَكُونَ مَا يَجِبُ لَهُ جُبْرَانًا .
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْقَارِنُ إذَا قَتَلَ صَيْدًا فَعَلَيْهِ جَزَاءَانِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَهُ جَزَاءٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَهُ اتِّحَادُ الْمَحَلِّ ، وَعِنْدَنَا هُوَ الْجِنَايَةُ عَلَى الْإِحْرَامِ ، وَالْقَارِنُ جَانٍ عَلَى إحْرَامَيْنِ ، وَحَقِيقَةُ الْمَسْأَلَةِ تُبْنَى عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي أَشَرْنَا إلَيْهِ فَإِنَّ عِنْدَهُ يَدْخُلُ إحْرَامُ الْعُمْرَةِ فِي إحْرَامِ الْحَجِّ ، وَلِهَذَا قَالَ يَطُوفُ الْقَارِنُ طَوَافًا وَاحِدًا فَيَدْخُلُ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ ، وَعِنْدَنَا لَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ فَإِنَّ الْقِرَانَ يُنْبِئُ عَنْ الضَّمِّ وَالْجَمْعِ دُونَ التَّدَاخُلِ فَصَارَ الْقَارِنُ بِقَتْلِ الصَّيْدِ جَانِيًا عَلَى إحْرَامَيْنِ فَيَلْزَمُهُ جَزَاءَانِ ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إحْرَامُ الْعُمْرَةِ فِي حُكْمِ التَّبَعِ لِإِحْرَامِ الْحَجِّ ، وَلِهَذَا يَتَحَقَّقُ الْجَمْعُ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ أَدَاءً فَإِنَّ الْأَصْلَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَدَاءً كَالْحَجَّتَيْنِ وَالْعُمْرَتَيْنِ ، وَإِذَا كَانَ تَبَعًا لَا يَظْهَرُ مَعَ الْأَصْلِ كَحُرْمَةِ الْحَرَمِ مَعَ حُرْمَةِ الْإِحْرَامِ فَإِنَّ الْمُحْرِمَ إذَا قَتَلَ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا جَزَاءٌ وَاحِدٌ ، وَقِيلَ إنَّ حُرْمَةَ الْحَرَمِ تَبَعٌ لِحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ فَلَا يَظْهَرُ تَأْثِيرُهُ مَعَ الْإِحْرَامِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْإِحْرَامَيْنِ أَصْلٌ مِثْلُ صَاحِبِهِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعُمُّ الْبِقَاعَ كُلَّهَا فَلَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا تَبَعًا لِلْآخَرِ بَلْ يُعْتَبَرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي إيجَابِ مُوجِبِهِ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ صَاحِبُهُ كَمَا أَنَّ حُرْمَةَ الْجِمَاعِ بِسَبَبِ حُرْمَةِ الصَّوْمِ ، وَعَدَمِ الْمِلْكِ إذَا اجْتَمَعَا بِأَنْ زَنَى الصَّائِمُ فِي رَمَضَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، وَالْكَفَّارَةُ جَمِيعًا ، وَكَذَلِكَ حُرْمَةُ الْخَمْرِ ثَابِتَةٌ لِعَيْنِهَا فَيَثْبُتُ بِالْيَمِينِ إذَا

حَلَفَ لَا يَشْرَبُهَا حُرْمَةٌ أُخْرَى ثُمَّ عِنْدَ الشُّرْبِ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ ، وَالْكَفَّارَةُ جَمِيعًا ، وَهَذَا بِخِلَافِ حُرْمَةِ الْحَرَمِ فَإِنَّهَا دُونَ حُرْمَةِ الْإِحْرَامِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَعُمُّ الْبِقَاعَ كُلَّهَا ، وَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ فَإِنَّ الْمُحْرِمَ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ دُخُولِ الْحَرَمِ ، وَإِذَا كَانَ فِي حُكْمِ التَّبَعِ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ ، وَلِأَنَّهُ لَا مَقْصُودَ هُنَاكَ سِوَى وُجُوبِ تَرْكِ التَّعَرُّضِ لِلصَّيْدِ ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ بِإِحْرَامِهِ فَلَا يَزْدَادُ بِالْحَرَمِ فِي حَقِّهِ فَأَمَّا هُنَا الْعُمْرَةُ بِعَقْدٍ مَقْصُودٍ يَحْوِي تَرْكَ التَّعَرُّضِ لِلصَّيْدِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ كَمَا يَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ

( قَالَ ) فَإِنْ قَتَلَ حَلَالَانِ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْف جَزَاءٍ كَامِلٍ بِخِلَافِ مَا إذَا ضَرَبَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَرْبَةً فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا تَقْتَضِيهِ ضَرْبَتُهُ ثُمَّ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ قِيمَتِهِ مَضْرُوبًا بِضَرْبَتَيْنِ لِأَنَّ عِنْدَ اتِّحَادِ فِعْلِهِمَا جَمِيعَ الصَّيْدِ صَارَ مُتْلَفًا بِفِعْلِهِمَا فَيَضْمَنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ الْجَزَاءِ ، وَعِنْدَ اخْتِلَافِ مَحَلِّ الْفِعْلِ الْجُزْءُ الَّذِي تَلِفَ بِضَرْبَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَأَنَّهُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِإِتْلَافِهِ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ ، وَالْبَاقِي مُتْلَفًا بِفِعْلِهِمَا فَضَمَانُهُ عَلَيْهِمَا ، وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا الْفَرْقَ فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الْجَامِعِ .

( قَالَ ) وَإِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا فَعَلَيْهِ قِيمَةُ الصَّيْدِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي قَتَلَهُ فِيهِ إنْ كَانَ الصَّيْدُ يُبَاعُ وَيُشْتَرَى فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، وَإِلَّا فَفِي أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِمَّا يُبَاعُ ذَلِكَ الصَّيْدُ وَيُشْتَرَى فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِمَّا لَهُ نَظِيرٌ مِنْ النَّعَمِ أَوْ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا لَهُ نَظِيرٌ يُنْظَرُ إلَى نَظِيرِهِ مِنْ النَّعَمِ الَّذِي يُشْبِهُهُ فِي الْمَنْظَرِ لَا إلَى الْقِيمَةِ حَتَّى يَجِبَ فِي النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ ، وَفِي حِمَارِ الْوَحْشِ بَقَرَةٌ ، وَفِي الظَّبْيِ شَاةٌ ، وَفِي الْأَرَانِبِ عَنَاقٌ فِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْحَمَامَةِ شَاةٌ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَزَعَمَ أَنَّ بَيْنَهُمَا مُشَابَهَةً مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعُبُّ ، وَيَهْدُرُ ، وَفِيمَا لَا نَظِيرَ لَهُ تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ ، وَاحْتَجَّا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } ، وَحَقِيقَةُ الْمِثْلِ مَا يُمَاثِلُ الشَّيْءَ صُورَةً وَمَعْنًى ، وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْ الْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ ، وَالنَّظِيرُ مِثْلٌ صُورَةً وَمَعْنًى وَالْقِيمَةُ مِثْلٌ مَعْنًى لَا صُورَةً ، وَفِي قَوْلِهِ مِنْ النَّعَمِ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْمِثْلُ صُورَةً .
وَعَلَى هَذَا اتَّفَقَتْ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَعُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا مَا سَمَّيْنَا مِنْ النَّظَائِرِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَخْذًا بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَإِنَّهُ فَسَّرَ الْمِثْلَ بِالْقِيمَةِ ، وَالْمَعْنَى الْفِقْهِيُّ يَشْهَدُ لَهُ فَإِنَّ الْحَيَوَانَ لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي حَقِّ حُقُوقِ

الْعِبَادَةِ يَكُونُ الْحَيَوَانُ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ دُونَ الْمِثْلِ فَكَذَلِكَ فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَكَمَا أَنَّ الْمِثْلَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ هُنَا فَكَذَلِكَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ فِي قَوْله تَعَالَى { فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ أَبْلَغُ مِنْهُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ فَإِذَا لَمْ تَكُنْ النَّعَامَةُ مِثْلًا لِلنَّعَامَةِ كَيْفَ تَكُونُ الْبَدَنَةُ مِثْلًا لِلنَّعَامَةِ ، وَالْمِثْلُ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ فَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ الشَّيْءِ مِثْلًا لِغَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْغَيْرُ مِثْلًا لَهُ ثُمَّ لَا تَكُونُ النَّعَامَةُ مِثْلًا لِلْبَدَنَةِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ فَكَذَلِكَ لَا تَكُونُ الْبَدَنَةُ مِثْلًا لِلنَّعَامَةِ ، وَإِذَا تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ صُورَةً وَجَبَ اعْتِبَارُهَا بِالْمَعْنَى ، وَهُوَ الْقِيمَةُ فَأَمَّا قَوْلُهُ مِنْ النَّعَمِ فَقَدْ قِيلَ فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ ، وَمَعْنَاهُ فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ مِنْ النَّعَمِ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ ثُمَّ ذَكَرَ الْأَصْمَعِيُّ ، وَأَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّ اسْمَ النَّعَمِ يَتَنَاوَلُ الْأَهْلِيَّ وَالْوَحْشِيَّ جَمِيعًا ، وَمَعْنَاهُ فَجَزَاءٌ قِيمَةُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ الْوَحْشِيِّ ، وَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا أَوْلَى لِأَنَّ قَوْلَهُ فَجَزَاءٌ مَصْدَرٌ ، وَمَا ذَكَرَ بَعْدَهُ وَصْفٌ فَإِنَّمَا يَكُونُ وَصْفًا لِلْمَذْكُورِ ، وَذَلِكَ إذَا حُمِلَ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَإِيجَابُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِهَذِهِ النَّظَائِرِ لَا بِاعْتِبَارِ أَعْيَانِهَا بَلْ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ إلَّا أَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَابَ الْمَوَاشِي فَكَانَ ذَلِكَ أَيْسَرَ عَلَيْهِمْ مِنْ النُّقُودِ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَدُ الْمَغْرُورِ يَفُكُّ الْغُلَامَ بِالْغُلَامِ ، وَالْجَارِيَةَ بِالْجَارِيَةِ .
الْمُرَادُ الْقِيمَةُ ، وَالِاخْتِلَافُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فُصُولٍ أَحَدُهَا مَا بَيَّنَّا ، وَالثَّانِي أَنَّ الَّذِي أَتَى الْحَكَمَيْنِ يُقَوِّمُ الصَّيْدَ

فَإِذَا ظَهَرَتْ قِيمَتُهُ فَالْخِيَارُ إلَى الْمُحْرِمِ بَيْنَ التَّكْفِيرِ بِالْهَدْيِ وَالْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْخِيَارُ إلَى الْحَكَمَيْنِ فَإِذَا عَيَّنَا نَوْعًا عَلَيْهِ يَلْزَمُهُ التَّكْفِيرُ بِهِ بِعَيْنِهِ فَأَمَّا اعْتِبَارُ الْحَكَمَيْنِ بِالنَّصِّ ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } .
وَعَلَى طَرِيقَةِ الْقِيَاسِ يَكْفِي الْوَاحِدُ لِلتَّقْوِيمِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَثْنَى أَحْوَطَ ، وَلَكِنْ يُعْتَبَرُ الْمَثْنَى بِالنَّصِّ ، وَبَيَانُهُ فِي حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّ رَجُلَيْنِ أَتَيَاهُ فَقَالَ أَحَدُهُمَا إنَّ صَاحِبِي هَذَا كَانَ مُحْرِمًا ، وَإِنَّهُ رَمَى إلَى ظَبْيٍ ، وَأَصَابَ أَحْشَاءَهُ فَمَاذَا يَجِبُ عَلَيْهِ فَسَارَّ عُمَرُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِشَيْءٍ ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ شَاةٌ فَقَامَا مِنْ عِنْدِهِ وَجَعَلَ السَّائِلُ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ إنَّ فَتْوَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ لَا تُغْنِي عَنْك شَيْئًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَعْرِفْهُ حَتَّى سَأَلَ غَيْرَهُ فَأَرَى أَنْ تَنْحَرَ رَاحِلَتَك هَذِهِ ، وَتُعَظِّمَ شَعَائِرَ اللَّهِ فَسَمِعَ ذَلِكَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَدَعَاهُ وَعَلَاهُ بِالدُّرَّةِ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنِّي لَا أُحِلُّ لَك مِنْ نَفْسِي شَيْئًا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْك فَانْظُرْ لِنَفْسِك فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرَاك حَسَنَ اللَّهْجَةِ وَالْبَيَانِ أَمَا سَمِعْت اللَّهَ يَقُولُ { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } فَأَنَا ذُو عَدْلٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ ذُو عَدْلٍ ، وَمَنْ يَعْمَلُ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى يُسَمَّى جَاهِلًا فِيكُمْ فَتَابَ الرَّجُلُ عَنْ مَقَالَتِهِ ثُمَّ احْتَجَّ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِظَاهِرِ الْآيَةِ فَإِنَّهُ قَالَ { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } فَذَكَرَ الْهَدْيَ مَنْصُوبًا عَلَى أَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ يَحْكُمُ أَوْ مَفْعُولُ حُكْمِ الْحُكْمِ فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ التَّعْيِينَ إلَى

الْحَاكِمِ ، وَفِي تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِعْلَهُمَا حُكْمًا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّ الْإِلْزَامَ إلَيْهِمَا ، وَلَيْسَ إلَيْهِمَا إلْزَامُ أَصْلِ الْوَاجِبِ فَعَرَفْنَا أَنَّ إلَيْهِمَا التَّعْيِينَ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا الْحَاجَةُ إلَى الْحَكَمَيْنِ لِإِظْهَارِ قِيمَةِ الصَّيْدِ فَبَعْدَ مَا ظَهَرَتْ الْقِيمَةُ فَهِيَ كَفَّارَةٌ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمُحْرِمِ فَإِلَيْهِ التَّعْيِينُ لِمَا يُؤَدِّي بِهِ الْوَاجِبَ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ ، وَكَمَا فِي ضَمَانِ قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ فَإِنَّ تَعْيِينَ مَا يُؤَدَّى بِهِ الضَّمَانُ إلَيْهِ دُونَ الْمُقَوِّمِينَ فَكَذَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ .
فَإِنْ اخْتَارَ التَّكْفِيرَ بِالْهَدْيِ فَعَلَيْهِ الذَّبْحُ فِي الْحَرَمِ ، وَالتَّصَدُّقُ بِلَحْمِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } فَالْهَدْيُ اسْمٌ لِمَا يُهْدَى إلَى مَوْضِعٍ مُعَيَّنٍ ، وَإِنْ اخْتَارَ الْإِطْعَامَ اشْتَرَى بِالْقِيمَةِ طَعَامًا فَيُطْعِمُ الْمَسَاكِينَ كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ ، وَإِنْ اخْتَارَ الصِّيَامَ يَصُومُ مَكَانَ طَعَامِ كُلِّ مِسْكِينٍ يَوْمًا ، وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ دُونَ طَعَامِ مِسْكِينٍ فَإِمَّا أَنْ يُطْعِمَ قَدْرَ الْوَاجِبِ ، وَإِمَّا أَنْ يَصُومَ يَوْمًا كَامِلًا فَالصَّوْمُ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ ، وَعِنْدَنَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ الصَّوْمَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْهَدْيِ وَالْإِطْعَامِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } وَحَرْفُ " أَوْ " لِلتَّخْيِيرِ ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ لَهُ الصِّيَامُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ وَقَاسَ بِكَفَّارَةِ الْيَمِينِ وَهَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ ، وَقَالَ حَرْفُ " أَوْ " لَا يَنْفِي التَّرْتِيبَ فِي الْوَاجِبِ كَمَا فِي حَقِّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ فِي قَوْله تَعَالَى { أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ } الْآيَةَ ، وَلَكِنْ هَذَا خِلَافُ الْحَقِيقَةِ ، وَالتَّمَسُّكُ بِالْحَقِيقَةِ وَاجِبٌ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الْمَجَازِ ، وَقِيَاسُ

الْمَنْصُوصِ عَلَى الْمَنْصُوصِ بَاطِلٌ ، وَإِذَا اخْتَارَ الطَّعَامَ فَالْمُعْتَبَرُ قِيمَةُ الصَّيْدِ يُشْتَرَى بِهِ الطَّعَامُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْمُعْتَبَرُ قِيمَةُ النَّظِيرِ ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمَا أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ النَّظِيرُ فَإِنَّمَا يُحَوِّلُهُ إلَى الطَّعَامِ بِاخْتِيَارِهِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ الْوَاجِبِ ، وَهُوَ النَّظِيرُ كَمَنْ أَتْلَفَ شَيْئًا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَانْقَطَعَ الْمِثْلُ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ فَإِنَّهُ يَجِبُ قِيمَةُ الْمِثْلِ ، وَعِنْدَنَا الْوَاجِبُ قِيمَةُ الصَّيْدِ ، وَالْأَصْلُ كَمَا بَيَّنَّا فَإِذَا اخْتَارَ أَدَاءَ الْوَاجِبِ بِالطَّعَامِ تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الصَّيْدِ لِأَنَّهُ هُوَ الْوَاجِبُ الْأَصْلِيُّ ، وَإِنْ اخْتَارَ الصِّيَامَ صَامَ مَكَانَ كُلِّ نِصْفِ صَاعٍ يَوْمًا عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَصُومُ مَكَانَ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي طَعَامِ الْكَفَّارَةِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ عِنْدَنَا يَتَقَدَّرُ بِنِصْفِ صَاعٍ ، وَعِنْدَهُ بِمُدٍّ ، وَمَذْهَبُهُ فِي هَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
( قَالَ ) فَإِنْ أَخْرَجَ الْحَلَالُ صَيْدَ الْحَرَمِ ، وَلَمْ يَقْتُلْهُ فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ اسْتِحْسَانًا ، وَإِنْ أَرْسَلَهُ فِي الْحِلِّ مَا لَمْ يُعْلَمُ عَوْدُهُ إلَى الْحَرَمِ لِأَنَّهُ بِالْحَرَمِ كَانَ آمِنًا ، وَقَدْ زَالَ هَذَا الْأَمْنُ بِإِخْرَاجِهِ فَيَكُونُ كَالْمُتْلِفِ لَهُ إلَّا أَنْ يُعْلَمَ عَوْدُهُ إلَى الْحَرَمِ فَحِينَئِذٍ يَعُودُ إلَيْهِ الْأَمْنُ عَلَى مَا كَانَ ، وَهُوَ كَالْمُحْرِمِ يَأْخُذُ صَيْدًا فَيَمُوتُ فِي يَدَيْهِ لَزِمَهُ جَزَاؤُهُ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فَإِنَّ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فِي نَفْرِهِ ، وَبُعْدِهِ عَنْ الْأَيْدِي .

( قَالَ ) وَإِذَا رَمَى الْحَلَالُ صَيْدًا مِنْ الْحِلِّ فِي الْحَرَمِ أَوْ مِنْ الْحَرَمِ فِي الْحِلِّ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ جَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَهَذَا لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الصَّيْدُ فِي الْحَرَمِ فَهُوَ آمِنٌ بِالْحَرَمِ ، وَإِنْ كَانَ الرَّامِي فِي الْحَرَمِ فَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ الرَّمْيِ إلَى الصَّيْدِ مِنْ الْحَرَمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } يُقَالُ أَحْرَمَ إذَا عَقَدَ عَقْدَ الْإِحْرَامِ ، وَأَحْرَمَ إذَا دَخَلَ الْحَرَامَ كَمَا يُقَالُ أَشْأَمِ إذَا دَخَلَ الشَّامَ فَكَانَ فِي الْوَجْهَيْنِ مُرْتَكِبًا لِلنَّهْيِ فَيَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الصَّيْدُ ، وَالرَّامِي فِي الْحِلِّ فَرَمَاهُ ثُمَّ دَخَلَ الصَّيْدُ الْحَرَمَ فَيُصِيبُهُ فِيهِ فَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ لِأَنَّهُ فِي الرَّمْيِ غَيْرُ مُرْتَكِبٍ لِلنَّهْيِ ، وَلَكِنْ لَا يَحِلُّ تَنَاوُلُ ذَلِكَ الصَّيْدِ ، وَهَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ الْمُسْتَثْنَاةُ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّ عِنْدَهُ الْمُعْتَبَرَ حَالَةُ الرَّمْيِ إلَّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خَاصَّةً فَإِنَّهُ اعْتَبَرَ فِي حِلِّ التَّنَاوُلِ حَالَةَ الْإِصَابَةِ احْتِيَاطًا لِأَنَّ الْحِلَّ بِالذَّكَاةِ يَحْصُلُ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِصَابَةِ فَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْإِصَابَةِ الصَّيْدُ صَيْدَ الْحَرَمِ لَمْ يَحِلَّ تَنَاوُلُهُ ، وَعَلَى هَذَا إرْسَالُ الْكَلْبِ .

( قَالَ ) وَلَا يَحِلُّ تَنَاوُلُ مَا ذَبَحَهُ الْمُحْرِمُ لِأَحَدٍ مِنْ النَّاسِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَحِلُّ لِلْمُحْرِمِ الْقَاتِلِ تَنَاوُلُهُ ، وَيَحِلُّ لِغَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ ، وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ مَعْنَى الذَّكَاةِ فِي تَسْيِيلِ الدَّمِ النَّجِسِ مِنْ الْحَيَوَانِ ، وَشَرْطُ الْحِلِّ التَّسْمِيَةُ نَدْبًا أَوْ وَاجِبًا عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ مِنْ الْمُحْرِمِ كَمَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْحَلَالِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ حَرَّمَ التَّنَاوُلَ عَلَى الْمُحْرِمِ الْقَاتِلِ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ لِيَكُونَ زَجْرًا لَهُ ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ التَّنَاوُلِ فِي حَقِّ غَيْرِهِ كَمَا يُجْعَلُ الْمَقْتُولُ ظُلْمًا حَيًّا فِي حَقِّ الْقَاتِلِ حَتَّى لَا يَرِثَهُ ، وَهُوَ مَيِّتٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } ، وَالْفِعْلُ الْمُوجِبُ لِلْحِلِّ مُسَمًّى بِاسْمِ الذَّكَاةِ شَرْعًا فَلَمَّا سَمَّاهُ قَتْلًا هُنَا عَرَفْنَا أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْحِلِّ أَصْلًا ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ هَلْ أَعَنْتُمْ هَلْ أَشَرْتُمْ هَلْ دَلَلْتُمْ ؟ فَقَالُوا : لَا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَنْ فَكُلُوا } فَإِذَا ثَبَتَ بِالْأَثَرِ أَنَّ الْإِعَانَةَ مِنْ الْمُحْرِمِ تُوجِبُ الْحُرْمَةَ فَمُبَاشَرَةُ الْقَتْلِ هُنَا أَوْلَى فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا الِاسْتِدْلَال وَعِنْدَكُمْ الصَّيْدُ لَا يَحْرُمُ تَنَاوُلُهُ بِإِشَارَةِ الْمُحْرِمِ وَدَلَالَتِهِ قُلْنَا فِيهِ رِوَايَتَانِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هُمَا فِي الزِّيَادَاتِ ، وَمِنْ ضَرُورَةِ حُرْمَةِ التَّنَاوُلِ عِنْدَ الْإِشَارَةِ حُرْمَةُ التَّنَاوُلِ عِنْدَ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ فَإِنْ قَامَ هَذَا الدَّلِيلُ عَلَى انْتِسَاخِ هَذَا الْحُكْمِ عِنْدَ الْإِشَارَةِ فَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى انْتِسَاخِهِ عِنْدَ الْمُبَاشَرَةِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا الِاصْطِيَادَ مُحَرَّمٌ لِمَعْنَى الدِّينِ ، وَلِهَذَا حَرُمَ التَّنَاوُلُ

عَلَيْهِ فَيَكُونُ نَظِيرَ اصْطِيَادِ الْمَجُوسِيِّ ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْحُرْمَةِ فِي حَقِّ الْكُلِّ فَهَذَا مِثْلُهُ .

( قَالَ ) فَإِنْ أَدَّى الْمُحْرِمُ جَزَاءَهُ ثُمَّ أَكَلَ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ مَا أَكَلَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَإِنْ كَانَ قَتَلَهُ غَيْرُهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِيمَا أَكَلَ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ سِوَى الِاسْتِغْفَارِ ، وَحُجَّتُهُمَا أَنَّ صَيْدَ الْمُحْرِمِ كَالْمَيْتَةِ أَوْ كَذَبِيحَةِ الْمَجُوسِيِّ ، وَتَنَاوُلُ الْمَيْتَةِ لَا يُوجِبُ إلَّا الِاسْتِغْفَارَ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا أَكَلَ مِنْهُ حَلَالٌ أَوْ مُحْرِمٌ آخَرُ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا الِاسْتِغْفَارُ فَكَذَا إذَا أَكَلَ هُوَ مِنْهُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحَلَالَ إذَا ذَبَحَ صَيْدًا فِي الْحُرُمِ فَأَدَّى جَزَاءَهُ ثُمَّ أَكَلَ مِنْهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ ، وَكَذَلِكَ الْمُحْرِمُ إذَا كَسَرَ بَيْضَ صَيْدٍ فَأَدَّى جَزَاءَهُ ثُمَّ شَوَاهُ فَأَكَلَهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ كَذَا هَذَا وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ تَنَاوَلَ مَحْظُورَ إحْرَامِهِ فَيَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ كَسَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ ، وَبَيَانُهُ أَنَّ قَتْلَ هَذَا الصَّيْدِ مِنْ مَحْظُورَاتِ إحْرَامِهِ ، وَالْقَتْلُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِعَيْنِهِ بَلْ لِلتَّنَاوُلِ مِنْهُ فَإِذَا كَانَ مَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ مَحْظُورَ إحْرَامِهِ حَتَّى يَلْزَمَهُ الْجَزَاءُ بِهِ فَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ أَوْلَى بِخِلَافِ مُحْرِمٍ آخَرَ فَإِنَّ هَذَا التَّنَاوُلَ لَيْسَ مِنْ مَحْظُورَاتِ إحْرَامِهِ ، وَبِخِلَافِ الْحَلَالِ فِي الْحَرَمِ لِأَنَّ وُجُوبَ الْجَزَاءِ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ الْأَمْنِ الثَّابِتِ بِسَبَبِ الْحَرَمِ ، وَذَلِكَ لِلصَّيْدِ لَا لِلَّحْمِ ، وَكَذَلِكَ الْبَيْضُ ، وُجُوبُ الْجَزَاءِ فِيهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَصْلُ الصَّيْدِ ، وَبَعْدَ الْكَسْرِ انْعَدَمَ هَذَا الْمَعْنَى يُقَرِّرُهُ أَنَّ الْمَقْتُولَ بِغَيْرِ حَقٍّ فِي حَقِّ الْقَاتِلِ كَالْحَيِّ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى لَا يَرِثَ ، وَكَالْمَيِّتِ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى تُعْتَقَ أُمُّ الْوَلَدِ إذَا قَتَلَتْ مَوْلَاهَا فَفِيمَا يَنْبَنِي أَمْرُهُ عَلَى الِاحْتِيَاطِ جَعَلْنَاهُ كَالْحَيِّ فِي حَقِّ الْقَاتِلِ ، وَهُوَ

جَزَاءُ الْإِحْرَامِ فَيَلْزَمُهُ بِالتَّنَاوُلِ جَزَاءٌ آخَرُ ، وَأَمَّا جَزَاءُ صَيْدِ الْحَرَمِ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فِي الْإِيجَابِ فَلِهَذَا اعْتَبَرْنَا مَعْنَى اللَّحْمِيَّةِ فَلَا يُوجِبُ فِيهِ الْجَزَاءَ .

( قَالَ ) وَإِذَا أَصَابَ الْحَلَالُ صَيْدًا فِي الْحِلِّ فَذَبَحَهُ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْكُلَ الْمُحْرِمُ مِنْهُ ، وَهُوَ قَوْلُ عُثْمَانَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَكْرَهُ ذَلِكَ حَتَّى رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعَاهُ إلَى الطَّعَامِ ، وَكَانَ مُحْرِمًا فَرَأَى الْيَعَاقِيبَ فِي الْقَصْعَةِ فَقَامَ فَقِيلَ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّمَا قَامَ كَرَاهَةً لِطَعَامِك فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ مَا كَرِهْت طَعَامَهُ ، وَلَكِنْ كُنْت مُحْرِمًا فَمَنْ أَخَذَ بِقَوْلِهِ اسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَجُلًا أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِجْلَ حِمَارِ وَحْشٍ فَرَدَّهُ فَرَأَى الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِهِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بِنَا رَدٌّ لِهَدِيَّتِك ، وَلَكِنَّا حُرُمٌ } .
( وَلَنَا ) فِي ذَلِكَ حَدِيثُ طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { تَذَاكَرْنَا لَحْمَ الصَّيْدِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَائِمٌ فِي حُجْرَتِهِ فَخَرَجَ إلَيْنَا فَقَالَ فِيمَ كُنْتُمْ ؟ فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا بَأْسَ بِهِ } ، وَفِي الْحَدِيثِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِالرَّوْحَاءِ مَعَ أَصْحَابِهِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ ، وَهُمْ مُحْرِمُونَ فَرَأَى حِمَارَ وَحْشٍ عَقِيرًا وَبِهِ سَهْمٌ ثَابِتٌ فَأَرَادَ أَصْحَابُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَخْذَهُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعُوهُ حَتَّى يَأْتِيَ صَاحِبُهُ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ بَهْزٌ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذِهِ رَمْيَتِي فَهِيَ لَك فَأَمَرَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَقْسِمَهَا بَيْنَ الرِّفَاقِ } ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي رُوِيَ أَنَّهُ رَدَّهُ تَصْحِيفٌ وَقَعَ مِنْ الرَّاوِي ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ أُهْدِيَ إلَيْهِ حِمَارُ وَحْشٍ ، وَلَئِنْ صَحَّ فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالرِّجْلِ الْقِطْعَةَ مِنْ اللَّحْمِ بَلْ هُوَ الْعَدَدُ مِنْ حِمَارِ الْوَحْشِ كَمَا يُقَالُ

رِجْلُ جَرَادٍ لِلْجَمَاعَةِ مِنْهُ ، وَكَانَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ إنْ اصْطَادَ الْحَلَالُ لِأَجْلِ الْمُحْرِمِ فَلَيْسَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْهُ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْمُحْرِمِينَ صَيْدُ الْبَرِّ حَلَالٌ لَكُمْ إلَّا مَا اصْطَدْتُمُوهُ أَوْ صِيدَ لَكُمْ } ، وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذِهِ اللَّامُ لَامُ التَّمْلِيكِ فَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَا كَانَ مَمْلُوكًا لِلْمُحْرِمِ صَيْدًا ، وَسَوَاءٌ اصْطَادَ الْحَلَالُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِمُحْرِمٍ فَهُوَ لَمْ يَصِرْ مَمْلُوكًا لِلْمُحْرِمِ صَيْدًا ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلْمُحْرِمِ حِينَ يُهْدِيهِ إلَيْهِ بَعْدَ الذَّبْحِ ، وَهُوَ عِنْدَ ذَلِكَ لَحْمٌ لَا صَيْدَ فِيهِ فَلِهَذَا حَلَّ تَنَاوُلُهُ .

( قَالَ ) مُحْرِمٌ كَسَرَ بَيْضَ صَيْدٍ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ ، وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ ، وَهُوَ أَنَّ الْبَيْضَ أَصْلُ الصَّيْدِ فَإِنَّهُ مُعَدٌّ لِيَكُونَ صَيْدًا مَا لَمْ يَفْسُدْ فَيُعْطَى لَهُ حُكْمُ الصَّيْدِ فِي إيجَابِ الْجَزَاءِ عَلَى الْمُحْرِمِ بِإِفْسَادِهِ كَمَا أَنَّ الْمَاءَ فِي الرَّحِمِ جُعِلَ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ فِي حُكْمِ الْعِتْقِ وَالْوَصِيَّةِ ، وَلِأَنَّهُ مُنِعَ حُدُوثُ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فِيهِ فَيُجْعَلُ كَالْمُتْلَفِ بَعْدَ الْحُدُوثِ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْرُورِ يَضْمَنُ قِيمَةَ الْوَلَدِ لِأَنَّهُ مَنَعَ حُدُوثَ الرِّقِّ فِيهِ فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَرْخٌ مَيِّتٌ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْفَرْخِ حَيًّا ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَغْرَمُ إلَّا قِيمَةَ الْبَيْضَةِ لِأَنَّهُ لَمْ تُعْلَمْ حَيَاةُ الْفَرْخِ قَبْلَ كَسْرِهِ ، وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ فَقَالَ الْبَيْضُ مَا لَمْ يَفْسُدْ فَهُوَ مُعَدٌّ لِيَخْرُجَ مِنْهُ فَرْخٌ حَيٌّ ، وَالتَّمَسُّكُ بِهَذَا الْأَصْلِ وَاجِبٌ حَتَّى يَظْهَرَ خِلَافُهُ ، وَلِأَنَّ كَسْرَ الْبَيْضَةِ سَبَبٌ لِمَوْتِ الْفَرْخِ إذَا حَصَلَ قَبْلَ أَوَانِهِ فَإِذَا ظَهَرَ الْمَوْتُ عَقِيبَ هَذَا السَّبَبِ يُحَالُ بِهِ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ ضَرَبَ بَطْنَ ظَبْيَةٍ فَطَرَحَتْ جَنِينًا مَيِّتًا ثُمَّ مَاتَتْ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُمَا جَمِيعًا أَخْذًا فِيهِ بِالثِّقَةِ لِأَنَّ الضَّرْبَ سَبَبٌ صَالِحٌ لِمَوْتِهِمَا ، وَقَدْ ظَهَرَ الْمَوْتُ عَقِيبَهُ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ أَخْذًا بِالثِّقَةِ الْإِشَارَةَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الضَّمَانِ الْوَاجِبِ لِحَقِّ الْعِبَادِ فَإِنَّ مَنْ ضَرَبَ بَطْنَ جَارِيَةٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا وَمَاتَتْ لَمَّا وَجَبَ هُنَاكَ ضَمَانُ الْأَصْلِ لَمْ يَجِبْ ضَمَانُ الْجَنِينِ لِأَنَّ الْجَنِينَ فِي حُكْمِ الْجُزْءِ مِنْ وَجْهٍ ، وَفِي حُكْمِ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ ، وَالضَّمَانُ الْوَاجِبُ لِحَقِّ الْعِبَادِ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فَلَا يَجِبُ فِي مَوْضِعِ الشَّكِّ فَأَمَّا جَزَاءُ

الصَّيْدِ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فَلِهَذَا رُجِّحَ شِبْهُ النَّفْسِ فِي الْجَنِينِ فَأَوْجَبَ عَلَيْهِ جَزَاءَهُمَا .

( قَالَ ) وَإِذَا عَطِبَ الصَّيْدُ بِفُسْطَاطِ الْمُحْرِمِ أَوْ بِحَفِيرَةٍ حَفَرَهَا لِلْمَاءِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا نَصَبَ شَبَكَةً أَوْ حَفَرَ حَفِيرَةً لِأَخْذِ الصَّيْدِ لِأَنَّهُ مُتَسَبِّبٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إلَّا أَنَّ التَّسَبُّبَ إذَا كَانَ تَعَدِّيًا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ كَحَفْرِ الْبِئْرِ عَلَى الطَّرِيقِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ تَعَدِّيًا لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ كَحَفْرِ الْبِئْرِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ ، وَنَصْبُ الشَّبَكَةِ مِنْ الْمُحْرِمِ تَعَدٍّ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ الِاصْطِيَادَ فَأَمَّا ضَرْبُ الْفُسْطَاطِ فَلَيْسَ بِتَعَدٍّ إذْ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الِاصْطِيَادَ أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَلَالَ لَوْ نَصَبَ شَبَكَةً فَتَعَقَّلَ بِهَا صَيْدٌ مَلَكَهُ حَتَّى لَوْ أَخَذَهُ غَيْرُهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ بِخِلَافِ مَا إذَا ضَرَبَ فُسْطَاطًا ، وَعَلَى هَذَا إذَا فَزِعَ مِنْهُ الصَّيْدُ فَاشْتَدَّ فَانْكَسَرَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ بِخِلَافِ مَا إذَا أَفْزَعَهُ هُوَ أَوْ حَرَّكَهُ فَإِنَّهُ وُجِدَ بِسَبَبٍ هُوَ فِيهِ مُتَعَدٍّ فَيَكُونُ هُوَ ضَامِنًا .

( قَالَ ) مُحْرِمٌ اصْطَادَ صَيْدًا فَأَرْسَلَهُ مُحْرِمٌ آخَرُ مِنْ يَدِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الصَّيْدَ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ عَلَى الْمُحْرِمِ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } فَلَمْ يَمْلِكْهُ بِالْأَخْذِ كَمَنْ اشْتَرَى خَمْرًا لَا يَمْلِكُهَا لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةُ الْعَيْنِ فَإِذَا لَمْ يَمْلِكْهُ لَمْ يَكُنْ الْمُرْسِلُ مِنْ يَدِهِ مُتْلِفًا عَلَيْهِ شَيْئًا وَلِأَنَّهُ فَعَلَ عَيْنَ مَا يَحِقُّ عَلَيْهِ فِعْلُهُ شَرْعًا فَهُوَ كَمَنْ أَرَاقَ الْخَمْرَ عَلَى الْمُسْلِمِ .
( قَالَ ) وَلَوْ قَتَلَهُ فِي يَدِهِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَزَاؤُهُ أَمَّا الْقَاتِلُ فَلِأَنَّهُ جَنَى عَلَى إحْرَامِهِ بِقَتْلِ الصَّيْدِ ، وَأَمَّا الْآخِذُ فَلِأَنَّهُ كَانَ مُتْلِفًا لِمَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فِيهِ حُكْمًا بِإِثْبَاتِ يَدِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ الْآخِذُ بِمَا ضَمِنَ مِنْ الْجَزَاءِ عَلَى الْقَاتِلِ عِنْدَنَا ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ لِأَنَّ الْآخِذَ لَمْ يَمْلِكْ الصَّيْدَ ، وَلَا كَانَتْ لَهُ فِيهِ يَدٌ مُحْتَرَمَةٌ ، وَوُجُوبُ الضَّمَانِ لَهُ عَلَى الْقَاتِلِ بِاعْتِبَارِ أَحَدِ هَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ ، وَلِأَنَّهُ بِالْقَتْلِ لَزِمَتْهُ كَفَّارَةٌ يُفْتَى بِهَا ، وَيَخْرُجُ بِالصَّوْمِ مِنْهَا فَلَوْ رَجَعَ عَلَيْهِ إنَّمَا يَرْجِعُ بِضَمَانِ الْمَالِيَّةِ ، وَيُطَالَبُ بِهِ ، وَيُحْبَسُ بِهِ ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِأَكْثَرَ مِمَّا لَزِمَهُ ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْيَدَ عَلَى هَذَا الصَّيْدِ كَانَتْ يَدًا مُعْتَبَرَةً لِحَقِّ الْآخِذِ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ الْإِرْسَالِ ، وَإِسْقَاطِ الْجَزَاءِ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَالْقَاتِلُ يَصِيرُ مُفَوِّتًا عَلَيْهِ هَذِهِ الْيَدَ فَيَكُونُ ضَامِنًا لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْهُ الْآخِذُ كَغَاضِبِ الْمُدَبَّرِ إذَا قَتَلَهُ إنْسَانٌ فِي يَدِهِ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَرَّرَ عَلَيْهِ مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ ، وَذَلِكَ سَبَبٌ مُثْبِتٌ لِلرُّجُوعِ عَلَيْهِ كَشُهُودِ الطَّلَاقِ إذَا رَجَعُوا قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَاَلَّذِي قَالَ يُفْتَى بِهِ ، وَيَخْرُجُ

عَنْهُ بِالصَّوْمِ فَذَلِكَ لَيْسَ لِمَعْنًى رَاجِعٍ إلَى نَفْسِ الْحَقِّ بَلْ لِمَعْنًى مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ فَإِنَّ حُقُوقَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ بِطَرِيقِ الْفَتْوَى ، وَالْخُرُوجُ عَنْهُ بِالصَّوْمِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ مَالِ عِبَادِهِ إنَّمَا يَطْلُبُ مِنْهُمْ التَّعْظِيمَ لِأَمْرِهِ ، وَمِثْلُ هَذَا التَّفَاوُتِ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ كَالْأَبِ إذَا غَصَبَ مُدَبَّرَ ابْنِهِ فَغَصَبَهُ مِنْهُ آخَرُ ثُمَّ إنَّ الِابْنَ ضَمِنَ أَبَاهُ رَجَعَ الْأَبُ عَلَى الْغَاصِبِ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ لَا يُحْبَسُ فِيمَا لَزِمَهُ لِابْنِهِ ، وَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ الْغَاصِبَ مِنْهُ فِيمَا يُطَالِبُهُ بِهِ .

( قَالَ ) وَلَوْ أَحْرَمَ ، وَفِي يَدِهِ ظَبْيٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهُ لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْيَدِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِمَنْزِلَةِ الْإِنْشَاءِ فَإِنَّ الْيَدَ مُسْتَدَامَةٌ ، وَكَمَا أَنَّ إنْشَاءَ الْيَدِ مُتْلِفُ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فِيهِ فَالِاسْتِدَامَةُ كَذَلِكَ .
( قَالَ ) فَإِنْ أَرْسَلَهُ إنْسَانٌ مِنْ يَدِهِ فَعَلَى الْمُرْسِلِ قِيمَتُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِذِي الْيَدِ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا شَيْءَ عَلَيْهِ اسْتِحْسَانًا ، وَهُوَ نَظِيرُ اخْتِلَافِهِمْ فِيمَنْ أَتْلَفَ عَلَى غَيْرِهِ شَيْئًا مِنْ الْمَعَازِفِ فَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا فِعْلُهُ أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ ، وَنَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ شَرْعًا بِإِرْسَالِهِ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَلْزَمُهُ شَرْعًا فَفَعَلَ ذَلِكَ غَيْرُهُ لَا يَكُونُ مُسْتَوْجِبًا لِلضَّمَانِ كَمَنْ أَرَاقَ خَمْرَ مُسْلِمٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ الصَّيْدُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ كَانَ مِلْكًا لَهُ مُتَقَوِّمًا ، وَلَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ بِالْإِحْرَامِ أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّيْدَ لَوْ كَانَ فِي بَيْتِهِ بَقِيَ مَمْلُوكًا مُتَقَوِّمًا عَلَى حَالِهِ فَاَلَّذِي أَرْسَلَهُ مِنْ يَدِهِ أَتْلَفَ عَلَيْهِ مِلْكًا مُتَقَوِّمًا فَيَضْمَنُ لَهُ بِخِلَافِ إرَاقَةِ الْخَمْرِ عَلَى الْمُسْلِمِ ثُمَّ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ رَفْعُ يَدِهِ ، وَلَوْ رَفَعَ بِنَفْسِهِ يَرْفَعُهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُفَوِّتُ مِلْكَهُ بَعْدَمَا يَحِلُّ مِنْ إحْرَامِهِ فَإِذَا فَوَّتَ هَذَا الْمُرْسِلُ مِلْكَهُ فَقَدْ زَادَ عَلَى مَا يَحِقُّ عَلَيْهِ فِعْلُهُ فَيَكُونُ ضَامِنًا لَهُ ، وَهَذَا طَرِيقُهُ أَيْضًا فِي إتْلَافِ الْمَعَازِفِ ، وَفَرْقٌ بَيْنَ هَذَا ، وَبَيْنَ مَا إذَا أَخَذَ الصَّيْدَ ، وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَالَ هُنَاكَ لَمْ يَمْلِكْهُ بِالْأَخْذِ فَالْمُرْسِلُ لَا يَكُونُ مُفَوِّتًا عَلَيْهِ مِلْكًا مُتَقَوِّمًا ، وَهُنَا بِالْإِحْرَامِ لَمْ يَبْطُلْ مِلْكُهُ عَلَى مَا قَرَّرْنَا ، وَالدَّلِيلُ فِي الْفَرْقِ أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا أَخَذَ صَيْدًا ثُمَّ

أَرْسَلَهُ فَأَخَذَهُ غَيْرُهُ ثُمَّ وَجَدَهُ الْمُحْرِمُ فِي يَدِهِ بَعْدَمَا حَلَّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ ، وَلَوْ أَحْرَمَ ، وَفِي يَدِهِ صَيْدٌ فَأَرْسَلَهُ ثُمَّ وَجَدَهُ بَعْدَمَا حَلَّ فِي يَدِ غَيْرِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ فَدَلَّ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ .

( قَالَ ) مُحْرِمٌ قَتَلَ سَبُعًا فَإِنْ كَانَ السَّبُعُ هُوَ الَّذِي ابْتَدَأَهُ فَآذَاهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَالْحَاصِلُ أَنْ نَقُولَ مَا اسْتَثْنَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْمُؤْذِيَاتِ بِقَوْلِهِ { خَمْسٌ مِنْ الْفَوَاسِقِ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ } ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ { يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ الْحَيَّةَ ، وَالْفَأْرَةَ ، وَالْعَقْرَبَ ، وَالْحَدَأَةَ ، وَالْكَلْبَ الْعَقُورَ } فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُحْرِمِ ، وَلَا عَلَى الْحَلَالِ فِي الْحَرَمِ بِقَتْلِ هَذِهِ الْخَمْسِ لِأَنَّ قَتْلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ مُبَاحٌ مُطْلَقًا ، وَهَذَا الْبَيَانُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالْمُلْحَقِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْجَزَاءِ ، وَالْمُرَادُ مِنْ الْكَلْبِ الْعَقُورِ الذِّئْبُ فَأَمَّا سِوَى الْخَمْسِ مِنْ السِّبَاعِ الَّتِي لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا إذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ مِنْهَا شَيْئًا ابْتِدَاءً فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا اسْتَثْنَى الْخَمْسَ لِأَنَّ مِنْ طَبْعِهَا الْأَذَى فَكُلُّ مَا يَكُونُ مِنْ طَبْعِهِ الْأَذَى فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخَمْسِ مُسْتَثْنًى مِنْ نَصِّ التَّحْرِيمِ فَصَارَ كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لَا تَقْتُلُوا مِنْ الصَّيُودِ غَيْرَ الْمُؤْذِي ، وَلَوْ كَانَ النَّصُّ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يَتَنَاوَلْ إلَّا مَا هُوَ مَأْكُولُ اللَّحْمِ غَيْرُ الْمُؤْذِي ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَثْنَى الْكَلْبَ الْعَقُورَ ، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الْأَسَدَ أَلَا تَرَى { أَنَّهُ حِينَ دَعَا عَلَى عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ قَالَ اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلَابِك فَافْتَرَسَهُ أَسَدٌ بِدُعَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَلِأَنَّ الثَّابِتَ بِالنَّصِّ حُرْمَةٌ مُمْتَدَّةٌ إلَى غَايَةٍ ، وَهُوَ الْخُرُوجُ مِنْ الْإِحْرَامِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } ، وَهَذَا يَتَنَاوَلُ مَأْكُولَ اللَّحْمِ فَأَمَّا غَيْرُ

مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَمُحَرَّمُ التَّنَاوُلِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ هَذَا النَّصُّ ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } ، وَاسْمُ الصَّيْدِ يَعُمُّ الْكُلَّ لِأَنَّهُ يُسَمَّى بِهِ لِتَنَفُّرِهِ ، وَاسْتِيحَاشِهِ ، وَبُعْدِهِ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِيمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ لَفْظَةَ الِاصْطِيَادِ بِهَذَا الْمَعْنَى تُطْلَقُ عَلَى أَخْذِ الرِّجَالِ قَالَ الْقَائِلُ صَيْدُ الْمُلُوكِ ثَعَالِبٌ وَأَرَانِبُ ، وَإِذَا رَكِبْتُ فَصَيْدِي الْأَبْطَالُ .
ثُمَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَّ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْ النَّصِّ خَمْسٌ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا سِوَى الْخَمْسِ فَحُكْمُ النَّصِّ فِيهِ ثَابِتٌ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ أَنَّا لَوْ جَعَلْنَا الِاسْتِثْنَاءَ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْإِيذَاءِ خَرَجَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحْصُورًا بِعَدَدِ الْخَمْسِ فَكَانَ هَذَا تَعْلِيلًا مُبْطِلًا لِلنَّصِّ ثُمَّ مَا سِوَى الْخَمْسِ فِي مَعْنَى الْأَذَى دُونَ الْخَمْسِ لِأَنَّ الْخَمْسَ مِنْ طَبْعِهَا الْبُدَاءَةُ بِالْأَذَى ، وَمَا سِوَاهَا لَا يُؤْذِي إلَّا أَنْ يُؤْذَى فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ لِيَلْحَقَ بِهِ ، وَلِذَا قَالَ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةٌ بِالنَّصِّ إلَى غَايَةٍ فَحُرْمَةُ الِاصْطِيَادِ هَكَذَا لِأَنَّ النَّصَّ يُثْبِتُ حُرْمَةَ الِاصْطِيَادِ لَا حُرْمَةِ التَّنَاوُلِ ، وَحُرْمَةُ الِاصْطِيَادِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ تَثْبُتُ فِي غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ كَمَا تَثْبُتُ فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ ثُمَّ لَا اخْتِلَافَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْجَزَاءَ يَجِبُ بِقَتْلِ الضَّبُعِ عَلَى الْمُحْرِمِ لِأَنَّ عِنْدَهُ الضَّبُعَ مَأْكُولُ اللَّحْمِ ، وَعِنْدَنَا هُوَ مِنْ السِّبَاعِ الَّتِي لَمْ يَتَنَاوَلْهَا الِاسْتِثْنَاءُ ، وَفِيهِ حَدِيثُ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { حِينَ سُئِلَ عَنْ الضَّبُعِ أَصَيْدٌ هُوَ ؟ فَقَالَ نَعَمْ فَقِيلَ أَعَلَى الْمُحْرِمِ الْجَزَاءُ فِيهِ ؟ قَالَ نَعَمْ فَقِيلَ لَهُ أَسَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ ؟ قَالَ نَعَمْ } ، وَلَكِنْ السَّبُعُ إنْ كَانَ هُوَ الَّذِي ابْتَدَأَ الْمُحْرِمَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَتْلِهِ عِنْدَنَا ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْجَزَاءُ لِأَنَّ فِعْلَ الصَّيْدِ هَدَرٌ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ } مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْجَرْحِ أَيْ جَرْحُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فِيمَا يَجِبُ مِنْ الْجَزَاءِ بِقَتْلِهِ عَلَى الْمُحْرِمِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الضَّمَانِ الْوَاجِبِ لِحَقِّ الْعِبَادِ إذَا كَانَ السَّبُعُ مَمْلُوكًا لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الْبُدَاءَةُ مِنْهُ أَوْ مِنْ السَّبُعِ فَكَذَلِكَ فِيمَا يَجِبُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَإِنَّهُ قَتَلَ ضَبُعًا فِي الْإِحْرَامِ فَأَهْدَى كَبْشًا ، وَقَالَ إنَّا ابْتَدَأْنَاهُ فَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ بَيَانُ أَنَّ الْبُدَاءَةَ إذَا كَانَتْ مِنْ السَّبُعِ لَا يُوجِبُ شَيْئًا ، وَلِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ جَعَلَ الْخَمْسَ مُسْتَثْنَاةً لِتَوَهُّمِ الْأَذَى مِنْهَا غَالِبًا ، وَتَحَقُّقُ الْأَذَى يَكُونُ أَبْلَغُ مِنْ تَوَهُّمِهِ فَتَبَيَّنَ بِالنَّصِّ أَنَّ الشَّرْعَ حَرَّمَ عَلَيْهِ قَتْلَ الصَّيْدِ ، وَمَا أَلْزَمَهُ تَحَمُّلَ الْأَذَى مِنْ الصَّيْدِ فَإِذَا جَاءَ الْأَذَى مِنْ الصَّيْدِ صَارَ مَأْذُونًا فِي دَفْعِ أَذَاهُ مُطْلَقًا فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ .
وَبِهَذَا فَارَقَ ضَمَانَ الْعِبَادِ فَإِنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ لِحَقِّ الْعِبَادِ ، وَلَمْ يُوجَدْ الْإِذْنُ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ فِي إتْلَافِهِ مُطْلَقًا حَتَّى يَسْقُطَ بِهِ الضَّمَانُ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا قَتْلُ الْمُحْرِمِ الْقَمْلَ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْجَزَاءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ يُؤْذِيهِ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا قَتَلَ قَمْلَةً وَجَدَهَا عَلَى الطَّرِيقِ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا لِأَنَّهَا مُؤْذِيَةٌ ، وَلَكِنْ إذَا قَتَلَ الْقَمْلَ عَلَى نَفْسِهِ إنَّمَا يَضْمَنُ لِمَعْنَى قَضَاءِ التَّفَثِ بِإِزَالَةِ مَا يَنْمُو مِنْ بَدَنِهِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُحْرِمِ إذَا كَانَ مُضْطَرًّا فَقَتَلَ

صَيْدًا لِأَنَّ الْإِذْنَ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ هُنَاكَ مُقَيَّدٌ ، وَلَيْسَ بِمُطْلَقٍ فَإِنَّ الْإِذْنَ فِي حَقِّ الْمُضْطَرِّ فِي قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ } الْآيَةَ ، وَالْإِذْنُ عِنْدَ الْأَذَى ثَابِتٌ بِالنَّصِّ مُطْلَقًا فِي حَقِّ الصَّيْدِ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي ابْتَدَأَ السَّبُعَ يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ بِقَتْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِقِيمَتِهِ شَاةً عِنْدَنَا ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ عَلَى قِيَاسِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ الصَّيُودِ هَكَذَا ذَكَرَ أَصْحَابُنَا هَذَا الْخِلَافَ ، وَذَكَرَ ابْنُ شُجَاعٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي شَرْحِ اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عِنْدَ زُفَرَ فِيمَا هُوَ مَأْكُولُ اللَّحْمِ لَا يُجَاوِزُ بِقِيمَتِهِ شَاةً ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ بِأَنَّ الضَّمَانَ الْوَاجِبَ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى مُعْتَبَرٌ بِالْوَاجِبِ لِحَقِّ الْعِبَادِ ، وَهُنَاكَ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَبَيْنَ غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ فَهُنَا لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا أَيْضًا فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ تَجِبُ الْقِيمَةُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا أَوْ لَا يُجَاوِزُ بِالْقِيمَةِ شَاةً فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ فِيمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ وُجُوبُ الْجَزَاءِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فَقَطْ لَا بِاعْتِبَارِ عَيْنِهِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ ، وَبِاعْتِبَارِ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ يَكُونُ مُرْتَكِبًا مَحْظُورَ إحْرَامِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ شَاةٍ كَسَائِرِ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ فَأَمَّا فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ وُجُوبُ الْجَزَاءِ بِاعْتِبَارِ عَيْنِهِ لِأَنَّهُ مُفْسِدٌ لِلَحْمِهِ بِفِعْلِهِ فَتَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ ، وَكَذَلِكَ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ وُجُوبُ الضَّمَانِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الْعَيْنِ فَيَتَقَدَّرُ بِقِيمَةِ الْعَيْنِ ، وَهَذَا لِأَنَّ زِيَادَةَ الْقِيمَةِ فِي الْفَهْدِ ، وَالنَّمِرِ ، وَالْأَسَدِ

لِمَعْنَى تَفَاخُرِ الْمُلُوكِ بِهِ لَا لِمَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ شَاةٍ إنْ كَانَ مُفْرِدًا بِالْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ ، وَإِنْ كَانَ قَارِنًا لَا يُجَاوِزُ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَاتَيْنِ لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامَيْنِ .
( قَالَ ) وَكُلُّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ ، وَكُلُّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ فِي هَذَا الْحُكْمِ سَوَاءٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي الْحَدِيثِ الْمُسْتَثْنَى مَكَانَ الْحَدَأَةِ الْغُرَابُ ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْأَبْقَعُ الَّذِي يَأْكُلُ الْجِيَفَ ، وَيَخْلِطُ فَإِنَّهُ يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى فَأَمَّا الْعَقْعَقُ فَيَجِبُ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِ عَلَى الْمُحْرِمِ لِأَنَّهُ لَا يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى غَالِبًا ، وَالْخِنْزِيرُ وَالْقِرْدُ يَجِبُ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِمَا عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَجِبُ ؛ لِأَنَّ الْخِنْزِيرَ بِمَنْزِلَةِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ مُؤْذٍ بِطَبْعِهِ ، وَقَدْ نَدَبَ الشَّرْعُ إلَى قَتْلِهِ { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثْت لِكَسْرِ الصَّلِيبِ ، وَقَتْلِ الْخِنْزِيرِ } ، وَلَكِنْ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ بِأَنَّهُ مُتَوَحِّشٌ لَا يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى غَالِبًا فَيَكُونُ نَصُّ التَّحْرِيمِ مُتَنَاوِلًا لَهُ ، وَكَذَلِكَ السَّمُّورُ وَالدَّلَقُ يَجِبُ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِمَا عَلَى الْمُحْرِمِ ، وَالْفِيلُ كَذَلِكَ إذَا كَانَ وَحْشِيًّا فَأَمَّا الْفَأْرَةُ مُسْتَثْنَاةٌ فِي الْحَدِيثِ وَحْشِيُّهَا وَأَهْلِيُّهَا سَوَاءٌ وَالسِّنَّوْرِ كَذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَجِبُ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِ أَهْلِيًّا كَانَ أَوْ وَحْشِيًّا .
وَفِي رِوَايَةِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى مَا كَانَ مِنْهُ بَرِّيًّا فَهُوَ مُتَوَحِّشٌ كَالصَّيُودِ يَجِبُ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِ عَلَى الْمُحْرِمِ فَأَمَّا الضَّبُّ فَلَيْسَ فِي مَعْنَى الْخَمْسَةِ الْمُسْتَثْنَاةِ لِأَنَّهُ لَا يَبْتَدِئُ بِالْأَذَى فَيَجِبُ

الْجَزَاءُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِقَتْلِهِ ، وَكَذَلِكَ الْأَرَانِبُ وَالْيَرْبُوعُ يَجِبُ بِقَتْلِهِمَا الْقِيمَةُ عَلَى الْمُحْرِمِ فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ هَوَامِّ الْأَرْضِ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِهِ غَيْرَ أَنَّ فِي الْقُنْفُذِ رِوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ قَالَ هُوَ نَوْعٌ مِنْ الْفَأْرَةِ ، وَفِي رِوَايَةٍ جَعَلَهُ كَالْيَرْبُوعِ فَإِذَا بَلَغَتْ قِيمَةُ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْحَيَوَانِ حَمَلًا أَوْ عَنَاقًا لَمْ يُجْزِهِ الْحَمَلُ وَلَا الْعَنَاقُ مِنْ الْهَدْيِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَأَدْنَى مَا يَجْزِي فِي ذَلِكَ الْجَذَعُ الْعَظِيمُ مِنْ الضَّأْنِ أَوْ الثَّنِيُّ مِنْ غَيْرِهَا فَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ دُونَ ذَلِكَ كَفَّرَ بِالْإِطْعَامِ أَوْ الصِّيَامِ ، وَجُعِلَ هَذَا قِيَاسُ الْأُضْحِيَّةِ فَكَمَا لَا يَجْزِي هُنَاكَ التَّقَرُّبُ بِإِرَاقَةِ دَمِ الْحَمَلِ وَالْعَنَاقِ كَمَقْصُودٍ فَكَذَلِكَ هُنَا ، وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ بِالنَّصِّ هُنَا الْهَدْيُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ فَكَمَا لَا يُجْزِئُ الْحَمَلُ وَالْعَنَاقُ فِي هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ لَا يُجْزِئُ هُنَا ، وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى جَوَّزُوا ذَلِكَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ اسْتِحْسَانًا بِالْآثَارِ الَّتِي جَاءَتْ بِهِ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالُوا فِي الْأَرْنَبِ عَنَاقٌ ، وَفِي الْيَرْبُوعِ جَفْرَةٌ ، وَلِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يُسَمِّي الدَّرَاهِمَ وَالثَّوْبَ هَدْيًا أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ لَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فَالْحَمَلُ وَالْعَنَاقُ أَوْلَى فِي ذَلِكَ ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قِيَاسُهُ عَلَى هَدْيِ الْمُتْعَةِ لِأَنَّهُ قِيَاسُ الْمَنْصُوصِ بِالْمَنْصُوصِ ، وَلِأَنَّ الْهَدْيَ قَدْ يَكُونُ عَنَاقًا وَفَصِيلًا وَجَدْيًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَهْدَى نَاقَةً فَنَتَجَتْ كَانَ وَلَدُهَا هَدْيًا مَعَهَا يُنْحَرُ ، وَلَوْ كَانَ غَيْرَ هَدْيٍ لَكَانَ يَتَصَدَّقُ

بِهِ كَذَلِكَ قَبْلَ النَّحْرِ ، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ أُجَوِّزُهُ هَدْيًا تَبَعًا لَا مَقْصُودًا كَمَا يُجَوِّزُ بِهِ التَّضْحِيَةَ تَبَعًا لَا مَقْصُودًا إذَا نَتَجَتْ الْأُضْحِيَّةُ

( قَالَ ) وَفِي بَيْضِ النَّعَامَةِ عَلَى الْمُحْرِمِ الْقِيمَةُ ، وَفِي الْكِتَابِ رَوَاهُ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُمَا أَوْجَبَا فِي بَيْضِ النَّعَامَةِ الْقِيمَةَ

( قَالَ ) وَلَوْ أَنَّ الْمُحْرِمَ رَمَى صَيْدًا فَجَرَحَهُ ثُمَّ كَفَّرَ عَنْهُ ثُمَّ رَآهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى لِأَنَّهُ صِيدَ عَلَى حَالِهِ بَعْدَ الْجُرْحِ الْأَوَّلِ ، وَقَدْ انْتَهَى حُكْمُ ذَلِكَ الْجُرْحِ بِالتَّكْفِيرِ فَقَتْلُهُ الْآنَ جِنَايَةٌ أُخْرَى مُبْتَدَأَةٌ فَيَلْزَمُهُ بِهِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى ، وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْ عَنْهُ فِي الْأُولَى لَمْ يَضُرَّهُ ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ إذَا كَفَّرَ فِي هَذِهِ الْأَخِيرَةِ إلَّا مَا نَقَصَهُ الْجُرْحُ الْأَوَّلُ يُرِيدُ بِهِ إذَا كَفَّرَ بِقِيمَةِ صَيْدٍ صَحِيحٍ مَجْرُوحٍ فَأَمَّا إذَا كَفَّرَ بِقِيمَةِ صَيْدٍ صَحِيحٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ آخَرُ لِأَنَّ الْفِعْلَيْنِ مِنْهُ جِنَايَةٌ فِي إحْرَامٍ وَاحِدٍ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ فِعْلٍ وَاحِدٍ فَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَهَذَا لِأَنَّ حُكْمَ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ بَاقٍ فَيُجْعَلُ الثَّانِي إتْمَامًا لَهُ فَأَمَّا بَعْدَ التَّكْفِيرِ قَدْ انْتَهَى حُكْمُ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ الْفِعْلُ الثَّانِي جِنَايَةً مُبْتَدَأَةً .

( قَالَ ) مُحْرِمٌ جَرَحَ صَيْدًا ثُمَّ كَفَّرَ عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ ثُمَّ مَاتَ أَجْزَأَتْهُ الْكَفَّارَةُ الَّتِي أَدَّاهَا لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ جِنَايَتُهُ عَلَى الْإِحْرَامِ بِجُرْحِ الصَّيْدِ فَإِنَّمَا أَدَّى الْوَاجِبَ بَعْدَمَا تَقَرَّرَ سَبَبُ الْوُجُوبِ فَإِذَا تَمَّ الْوُجُوبُ بِذَلِكَ السَّبَبِ جَازَ الْمُؤَدِّي كَمَا لَوْ جَرَحَ مُسْلِمًا ثُمَّ كَفَّرَ ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ .

( قَالَ ) وَإِذَا أَحْرَمَ الرَّجُلُ ، وَلَهُ فِي مَنْزِلِهِ صَيْدٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إرْسَالُهُ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَلْزَمُهُ إرْسَالُهُ لِأَنَّهُ مُتَعَرِّضٌ لِلصَّيْدِ بِإِمْسَاكِهِ فِي مِلْكِهِ ، وَذَلِكَ حَرَامٌ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ فَيَلْزَمُهُ إرْسَالُهُ كَمَا لَوْ كَانَ الصَّيْدُ فِي يَدِهِ بِحَضْرَتِهِ ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ عَلَيْهِ بِالْعَادَةِ الظَّاهِرَةِ لِأَنَّ النَّاسَ يُحْرِمُونَ وَلَهُمْ فِي بُيُوتِهِمْ بُرُوجُ الْحَمَامَاتِ وَغَيْرِهَا ، وَلَمْ يَتَكَلَّفْ أَحَدٌ لِإِرْسَالِ ذَلِكَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ وَلَا أُمِرَ بِذَلِكَ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ تَرْكُ التَّعَرُّضِ لِلصَّيْدِ لِإِزَالَةِ الصَّيْدِ عَنْ مِلْكِهِ ، وَتَعَرُّضُهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا كَانَ الصَّيْدُ فِي يَدِهِ بِحَضْرَتِهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ الصَّيْدُ غَائِبًا عَنْهُ فِي بَيْتِهِ لَا يَكُونُ هُوَ مُتَعَرِّضًا لَهُ فَلَا يَلْزَمُهُ إرْسَالُهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّعَرُّضُ لِلصَّيْدِ يَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّطَيُّبُ وَلُبْسُ الْمَخِيطِ فَلَا يَلْزَمُهُ إخْرَاجُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مِنْ مِلْكِهِ .

( قَالَ ) وَلِلْمُحْرِمِ أَنْ يَذْبَحَ الشَّاةَ وَالدَّجَاجَةَ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ الصَّيُودِ فَإِنَّ الصَّيْدَ اسْمٌ لِمَا يَكُونُ مُمْتَنِعًا مُتَوَحِّشًا فَمَا لَا يَكُونُ جِنْسُهُ مُمْتَنِعًا مُتَوَحِّشًا لَا يَكُونُ صَيْدًا .
( قَالَ ) وَكَذَلِكَ الْبَطُّ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ النَّاسِ ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْكَسْكَرِيُّ الَّذِي يَكُونُ فِي الْحِيَاضِ هُوَ كَالدَّجَاجِ مُسْتَأْنَسٌ بِجِنْسِهِ فَأَمَّا الْبَطُّ الَّذِي يَطِيرُ فَهُوَ صَيْدٌ يَجِبُ الْجَزَاءُ فِيهِ عَلَى الْمُحْرِمِ ، وَالْحَمَامُ أَصْلُهُ صَيْدٌ يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ الْجَزَاءُ فِي كُلِّ نَوْعٍ مِنْهُ ، وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ فِي الْمُسَرْوَلِ مِنْ الْحَمَامِ شَيْءٌ عَلَى الْمُحْرِمِ لِأَنَّهُ مُسْتَأْنَسٌ لَا يَفِرُّ مِنْ النَّاسِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْحَمَامُ بِجِنْسِهِ مُمْتَنِعٌ مُتَوَحِّشٌ فَكَانَ صَيْدًا ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ قَدْ اُسْتُؤْنِسَ كَالنَّعَامَةِ وَحِمَارِ الْوَحْشِيِّ وَغَيْرِهِمَا .

( قَالَ ) وَاَلَّذِي يُرَخَّصُ لِلْمُحْرِمِ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ هُوَ السَّمَكُ خَاصَّةً فَأَمَّا طَيْرُ الْبَحْرِ لَا يُرَخَّصُ فِيهِ لِلْمُحْرِمِ ، وَيَجِبُ الْجَزَاءُ بِقَتْلِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ صَيْدَ الْبَحْرِ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ } الْآيَةَ فَالْمُحْرِمُ وَالْحَلَالُ فِيهِ سَوَاءٌ ، وَلِأَنَّ الْمُحَرَّمَ بِالنَّصِّ قَتْلُ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ ، وَالْقَتْلُ فِي صَيْدِ الْبَحْرِ لَا يَتَحَقَّقُ ، وَلِأَنَّ صَيْدَ الْبَحْرِ مَا يَكُونُ بَحْرِيَّ الْأَصْلِ وَالْمَعَاشِ كَالسَّمَكِ فَأَمَّا الطَّيْرُ فَهُوَ بَرِّيُّ الْأَصْلِ بَحْرِيُّ الْمَعَاشِ لِأَنَّ تَوَالُدَهُ يَكُونُ فِي الْبَرِّ دُونَ الْمَاءِ فَيَكُونُ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ أَلَا تَرَى أَنَّ مَا يَكُونُ مَائِيَّ الْأَصْلِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يَعِيشُ فِي الْبَرِّ كَالضُّفْدَعِ جُعِلَ مَائِيًّا بِاعْتِبَارِ أَصْلِهِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَى الْمُحْرِمِ بِقَتْلِهِ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ مَا يَكُونُ بَرِّيَّ الْأَصْلِ لَا يُرَخَّصُ لِلْمُحْرِمِ فِيهِ .

( قَالَ ) مُحْرِمٌ اصْطَادَ ظَبْيَةً فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ أَوْ بَعْدَ مَا حَلَّ ثُمَّ ذَبَحَهَا ، وَوَلَدَهَا فِي الْحِلِّ أَوْ فِي الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُمَا جَمِيعًا لِأَنَّهُ حِينَ أَخَذَ الظَّبْيَةَ وَجَبَ عَلَيْهِ إرْسَالُهَا لِإِزَالَةِ جِنَايَتِهِ ، وَذَلِكَ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فِي الْحِلِّ شَرْعًا فَيَسْرِي إلَى الْوَلَدِ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ إرْسَالُ وَلَدِهَا مَعَهَا ، وَمَا كَانَ مِنْ الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ فِي الْعَيْنِ أَوْ فِي الْمَعْنَى لَا يَرْتَفِعُ بِخُرُوجِهِ عَنْ الْإِحْرَامِ فَإِذَا ذَبَحَهُمَا فَقَدْ فَوَّتَ الْحَقَّ الْمُسْتَحَقَّ فِيهِمَا شَرْعًا فَلِهَذَا وَجَبَ عَلَيْهِ جَزَاؤُهُمَا جَمِيعًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الصَّيْدُ مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ لَكَانَ الرَّدُّ فِيهِمَا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ لِحَقِّ الْمَالِكِ فَبِذَبْحِهِمَا يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُمَا فَهَذَا مِثْلُهُ أَوْ أَوْلَى .

( قَالَ ) وَأَكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَشْتَرِيَ الصَّيْدَ ، وَأَنْهَاهُ عَنْهُ لِأَنَّ الصَّيْدَ فِي حَقِّهِ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ فَلَا يَكُونُ مَالًا مُتَقَوِّمًا كَالْخَمْرِ فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ أَصْلًا ، وَإِنْ اشْتَرَاهُ مِنْ مُحْرِمٍ أَوْ حَلَالٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُخْلِيَ سَبِيلَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَخَذَهُ فَإِنْ عَطِبَ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ لِجِنَايَتِهِ عَلَى الصَّيْدِ بِإِثْبَاتِ يَدِهِ عَلَيْهِ ، وَإِنَّهُ إتْلَافٌ لِمَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فِيهِ ، وَيَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ جَزَاؤُهُ أَيْضًا إنْ كَانَ مُحْرِمًا لِأَنَّهُ جَانٍ عَلَى الصَّيْدِ بِتَسْلِيمِهِ إلَى الْمُشْتَرِي مُفَوِّتٌ لِمَا كَانَ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ مِنْ تَخْلِيَةِ سَبِيلِهِ فَكَانَ ضَامِنًا لِلْجَزَاءِ .

( قَالَ ) وَإِنْ اصْطَادَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا فَحَبَسَهُ عِنْدَهُ حَتَّى مَاتَ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْهُ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فِيهِ مَعْنًى بِإِثْبَاتِ يَدِهِ عَلَيْهِ ، وَالْإِتْلَافُ الْحُكْمِيُّ بِمَنْزِلَةِ الْإِتْلَافِ الْحَقِيقِيِّ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ قَطَعَ إحْدَى قَوَائِمِ الظَّبْيِ

( قَالَ ) مُحْرِمٌ أَوْ حَلَالٌ أَخْرَجَ صَيْدًا مِنْ الْحَرَمِ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِرَدِّهِ عَلَى الْحَرَمِ لِأَنَّهُ كَانَ بِالْحَرَمِ آمِنًا صَيْدًا ، وَقَدْ أَزَالَ ذَلِكَ الْأَمْنَ عَنْهُ بِإِخْرَاجِهِ فَعَلَيْهِ إعَادَةُ أَمْنِهِ بِأَنْ يَرُدَّهُ إلَى الْحَرَمِ فَيُرْسِلَهُ فِيهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ كُلَّ فِعْلٍ هُوَ مُتَعَدٍّ فِي فِعْلِهِ فَعَلَيْهِ نَسْخُ ذَلِكَ الْفِعْلِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ } ، وَنَسَخَ فِعْلَهُ بِأَنْ يُعِيدَهُ كَمَا كَانَ .
( قَالَ ) فَإِنْ أَرْسَلَهُ فِي الْحِلِّ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ لِأَنَّهُ مَا أَعَادَهُ آمِنًا كَمَا كَانَ فَإِنَّ الْأَمْنَ كَانَ ثَابِتًا بِسَبَبِ الْحَرَمِ فَمَا لَمْ يَصِلْ إلَى الْحَرَمِ لَا يَعُودُ إلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْنُ ، وَلَا يَخْرُجُ الْجَانِي عَنْ عُهْدَةِ فِعْلِهِ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ إذَا رَدَّهُ عَلَى غَيْرِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ إلَّا أَنْ يُحِيطَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُ وَصَلَ إلَى الْحَرَمِ سَالِمًا فَحِينَئِذٍ يَبْرَأُ عَنْ جَزَائِهِ كَمَا إذَا وَصَلَ الْمَغْصُوبُ إلَى يَدِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ .

( قَالَ ) ، وَكُلُّ شَيْءٍ صَنَعَهُ الْمُحْرِمُ بِالصَّيْدِ مِمَّا يُتْلِفُهُ مِنْهُ أَوْ يُعَرِّضُهُ لِلتَّلَفِ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ إلَّا أَنْ يُحِيطَ عِلْمُهُ بِأَنَّهُ سَلِمَ فَحِينَئِذٍ يَتِمُّ انْتِسَاخُ حُكْمِ فِعْلِهِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَجْرَحَهُ فَتَنْدَمِلَ الْجِرَاحَةُ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لَهَا أَثَرٌ أَوْ يَنْتِفَ رِيشَهُ فَيَنْبُتَ مَكَانَهُ آخَرُ أَوْ يَقْلَعَ سِنَّهُ فَيَنْبُتَ مَكَانَهُ آخَرُ فَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَاسَا هَذَا بِالضَّمَانِ الْوَاجِبِ فِي حَقِّ الْعِبَادِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْقُطُ إذْ لَمْ يَبْقَ لِلْفِعْلِ أَثَرٌ فِي الْمَحَلِّ فَكَذَا هُنَا ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَلْزَمُهُ صَدَقَةٌ بِاعْتِبَارِ مَا أَوْصَلَ مِنْ الْأَلَمِ إلَى الصَّيْدِ لِأَنَّ بِانْدِمَالِ الْجِرَاحَةِ لَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّ الْأَلَمَ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اعْتِبَارُ الْأَلَمِ أَيْضًا فِي الْجِنَايَةِ عَلَى حُقُوقِ الْعِبَادِ حَتَّى أَوْجَبَ عَلَى الْجَانِي ثَمَنَ الدَّوَاءِ ، وَأُجْرَةَ الطَّبِيبِ إلَى أَنْ تَنْدَمِلَ الْجِرَاحَةُ .

( قَالَ ) وَلَا يَنْبَغِي لِلْحَلَالِ أَنْ يُعَيِّنَ الْمُحْرِمَ عَلَى قَتْلِ الصَّيْدِ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُحْرِمِ مَعْصِيَةٌ ، وَالْإِعَانَةُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ فَقَدْ سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُعِينَ شَرِيكًا ، وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُ عَنْ التَّعَرُّضِ لِلصَّيْدِ فَإِذَا اشْتَغَلَ بِالْإِعَانَةِ فَقَدْ أَتَى بِضِدِّ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَكَانَ عَاصِيًا فِيهِ ، وَلَكِنْ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ سِوَى الِاسْتِغْفَارِ لِأَنَّ الِاصْطِيَادَ لَيْسَ بِحَرَامٍ عَلَيْهِ إنَّمَا الْمُحَرَّمُ عَلَيْهِ الْإِعَانَةُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلتَّوْبَةِ .
( قَالَ ) وَكَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ مِنْهُ لِأَنَّ بَيْعَهُ حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ ، وَلِأَنَّ فِي امْتِنَاعِهِ عَنْ الشِّرَاءِ زَجْرًا لِلْمُحْرِمِ عَنْ اصْطِيَادِهِ فَإِنَّهُ تَقِلُّ رَغْبَتُهُ فِي الِاصْطِيَادِ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَى مِنْهُ الصَّيْدُ ، وَسَوَاءٌ أَصَابَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ عِنْدَنَا ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ خَطَأً جَزَاءٌ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ } الْآيَةَ فَالتَّقْيِيدُ بِالْعَمْدِيَّةِ لِإِيجَابِ الْجَزَاءِ يَمْنَعُ وُجُوبَهُ عَلَى الْمُخْطِئِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا ضَمَانٌ يَعْتَمِدُ وُجُوبُهُ الْإِتْلَافَ فَيَسْتَوِي فِيهِ الْعَامِدُ وَالْخَاطِئُ كَغَرَامَاتِ الْأَمْوَالِ ، وَهَذِهِ كَفَّارَةٌ تُوجِبُ جَزَاءً لِلْفِعْلِ فَيَكُونُ وَاجِبًا عَلَى الْمُخْطِئِ كَالْكَفَّارَةِ بِقَتْلِ الْمُسْلِمِ ، وَهَذَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ عَلَى الْمُحْرِمِ قَتْلَ الصَّيْدِ مُطْلَقًا ، وَارْتِكَابُ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ مُوجِبٌ لِلْجَزَاءِ عَمْدًا كَانَ أَوْ خَطَأً فَأَمَّا تَقْيِيدُهُ بِالْعَمْدِ فِي الْآيَةِ فَلَيْسَ لِأَجْلِ

الْجَزَاءِ بَلْ لِأَجْلِ الْوَعِيدِ الْمَذْكُورِ فِي آخِرِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } إلَى قَوْلِهِ { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } وَهَذَا الْوَعِيدُ عَلَى الْعَامِدِ دُونَ الْمُخْطِئِ ثُمَّ ذَكَرَ الْعَمْدَ هُنَا لِلتَّنْبِيهِ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ قَدْ قَامَتْ عَلَى أَنَّ صِفَةَ الْعَمْدِيَّةِ فِي الْقَتْلِ مَانِعَةٌ مِنْ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ لِتَمَحُّضِ الْحَظْرِيَّةِ فَذَكَرَهُ اللَّهُ هُنَا حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ هُنَا إذَا كَانَ الْفِعْلُ عَمْدًا وَجَبَ إذَا كَانَ خَطَأً بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْقَتْلُ أَوَّلَ مَا أَصَابَ أَوْ أَصَابَ قَبْلَهُ شَيْئًا فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : يَجِبُ الْجَزَاءُ عَلَى الْمُبْتَدِئِ بِقَتْلِ الصَّيْدِ فَأَمَّا الْعَائِدُ إلَيْهِ لَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ ، وَلَكِنْ يُقَالُ لَهُ اذْهَبْ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْك لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ } ، وَلَكِنَّا نَقُولُ بِأَنَّ الْإِتْلَافَ لَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ الِابْتِدَاءِ وَالْعَوْدِ إلَيْهِ ، وَجَزَاءُ الْجِنَايَةِ يَجِبُ عِنْدَ الْعَوْدِ إلَيْهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى لِأَنَّ جِنَايَةَ الْعَائِدِ أَظْهَرُ مِنْ جِنَايَةِ الْمُبْتَدِئِ بِالْفِعْلِ مَرَّةً فَأَمَّا الْآيَةُ فَالْمُرَادُ مِنْ عَادَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى فِي آيَةِ الرِّبَا { وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ } يَعْنِي مَنْ عَادَ إلَى الْمُبَاشَرَةِ بَعْدَ الْعِلْمِ - بِالْحُرْمَةِ لَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْعَوْدَ إلَى الْقَتْلِ بَعْدَ الْقَتْلِ .

( قَالَ ) وَإِذَا قَتَلَ الْحَلَالُ الصَّيْدَ فِي الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ إلَّا عَلَى قَوْلِ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ وَهَذَا قَوْلٌ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ .
أَمَّا الْكِتَابُ فَ قَوْله تَعَالَى { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } يُقَالُ فِي اللُّغَةِ : أَحْرَمَ ، إذَا دَخَلَ فِي الْحَرَمِ ، كَمَا يُقَالُ : أَشْتَى ، إذَا دَخَلَ فِي الشِّتَاءِ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا ، وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا } فَإِذَا ثَبَتَ أَمْنُ صَيْدِ الْحَرَمِ بِهَذِهِ النُّصُوصِ كَانَ الْقَاتِلُ جَانِيًا بِإِتْلَافِهِ مَحِلًّا مُحْتَرَمًا مُتَقَوِّمًا فَيَلْزَمُهُ جَزَاؤُهُ ، وَالْجَزَاءُ قِيمَةُ الصَّيْدِ كَمَا فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ إلَّا أَنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَنَا أَنَّ جَزَاءَ صَيْدِ الْحَرَمِ يَتَأَدَّى بِإِطْعَامِ الْمَسَاكِينِ ، وَلَا يَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ ، وَفِي التَّأَدِّي بِالْهَدْيِ رِوَايَتَانِ ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ أَيْضًا ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَهُ أَنَّ الْوَاجِبَ هُنَا الْكَفَّارَةُ كَالْوَاجِبِ عَلَى الْمُحْرِمِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ لِمَحْضِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ الْوَاجِبُ جَزَاءَ الْفِعْلِ بِطَرِيقِ الْكَفَّارَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ فَكَمَا أَنَّ ذَلِكَ يَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ إذَا لَمْ يَجِدْ الْمَالَ عِنْدَهُ فَكَذَلِكَ هُنَا ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مَعْنَى الْغَرَامَةِ وَالْمُقَابَلَةِ بِالْحِلِّ يَغْلِبُ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا لِأَنَّ الْوَاجِبَ مِثْلُ الْمُتْلَفِ بِالنَّصِّ إمَّا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ أَوْ مِنْ حَيْثُ الْقِيمَةُ ، وَمِثْلُ الشَّيْءِ إنَّمَا يَجِبُ فِي الْأَصْلِ لِيَقُومَ مَقَامَهُ فَكَانَ جَانِبُ الْمَحِلِّ هُوَ الرَّاعِي فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ أَنَّ الْوَاجِبَ يَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ بِالنَّصِّ فَكَذَلِكَ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ .
وَأَمَّا عِنْدَنَا

الْوَاجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِطَرِيقِ الْكَفَّارَةِ فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ مَعْنَى جَزَاءِ الْفِعْلِ لِأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ فِي الْمَحِلِّ إنَّمَا الْمُحَرَّمُ فِي الْمُبَاشِرِ ، وَهُوَ إحْرَامُهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ بَعْدَمَا حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ يَجُوزُ لَهُ الِاصْطِيَادُ ، وَإِنْ لَمْ يَتَبَدَّلْ وَصْفُ الْمَحِلِّ ، وَجَزَاءُ الْفِعْلِ يَجِبُ بِطَرِيقِ الْكَفَّارَةِ فَأَمَّا فِي صَيْدِ الْحَرَمِ وُجُوبُ الْجَزَاءِ بِاعْتِبَارِ وَصْفٍ ثَابِتٍ فِي الْمَحِلِّ ، وَهُوَ صِفَةُ الْأَمْنِ الثَّابِتِ لِلصَّيْدِ بِسَبَبِ الْحَرَمِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ إنَّمَا يَتَغَيَّرُ هَذَا الْحُكْمُ بِتَغَيُّرِ وَصْفِ الْمَحِلِّ بِخُرُوجِهِ مِنْ الْحَرَمِ إلَى الْحِلِّ أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَمَا يَجِبُ ضَمَانُ الصَّيْدِ بِسَبَبِ الْحَرَمِ يَجِبُ ضَمَانُ النَّامِي مِنْ الْأَشْجَارِ النَّامِيَةِ فِي الْحَرَمِ لِمَا فِيهَا مِنْ حَيَاةِ مِثْلِهَا ، وَثُبُوتِ الْأَمْنِ لَهَا بِسَبَبِ الْحَرَمِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا يَجِبُ بِقَطْعِ الْأَشْجَارِ يَكُونُ غُرْمَ الْمَحِلِّ فَكَذَلِكَ مَا يَجِبُ بِقَتْلِ صَيْدِ الْحَرَمِ يَكُونُ غُرْمَ الْمَحِلِّ فَكَانَ هَذَا بِغَرَامَاتِ الْمَالِيَّةِ أَشْبَهَ فَكَمَا لَا مَدْخَلَ لِلصَّوْمِ فِي غَرَامَاتِ الْأَمْوَالِ ، وَإِنْ كَانَ وُجُوبُهَا لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى كَإِتْلَافِ مَالِ الزَّكَاةِ ، وَالْعُشْرِ فَكَذَلِكَ لَا مَدْخَلَ لِلصَّوْمِ فِي جَزَاءِ صَيْدِ الْحَرَمِ يُقَرِّرُهُ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا أَزَالَ الْأَمْنَ عَنْ مَحَلِّ أَمْنٍ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَيَلْزَمُهُ بِمُقَابَلَتِهِ إثْبَاتُ صِفَةِ الْأَمْنِ عَنْ الْجُوعِ لِلْمِسْكِينِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى ، وَذَلِكَ بِالْإِطْعَامِ يَحْصُلُ دُونَ الصِّيَامِ فَأَمَّا فِي صَيْدِ الْإِحْرَامِ لَمَّا كَانَ الْوَاجِبُ لِارْتِكَابِهِ فِعْلًا مُحَرَّمًا حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى يَتَأَدَّى ذَلِكَ بِفِعْلِ مَا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى ، وَهُوَ الصِّيَامُ ، وَفِي الْهَدْيِ رِوَايَتَانِ هُنَا فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يَقُولُ لَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ بَلْ بِالتَّصَدُّقِ بِاللَّحْمِ حَتَّى يُشْتَرَطَ أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ اللَّحْمِ بَعْدَ الذَّبْحِ مِثْلَ

قِيمَةِ الصَّيْدِ فَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ لَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ سُرِقَ الْمَذْبُوحُ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِإِرَاقَةِ الدَّمِ فِي الْغَرَامَاتِ ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ فِيهِ التَّمَلُّكُ مِنْ الْمُحْتَاجِ ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ فِي اللَّحْمِ ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَقُولُ يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ حَتَّى إذَا سُرِقَ الْمَذْبُوحُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ قَبْلَ الذَّبْحِ مِثْلَ قِيمَةِ الصَّيْدِ لِأَنَّ الْهَدْيَ مَالٌ يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَإِرَاقَةُ الدَّمِ طَرِيقٌ صَالِحٌ لِجَعْلِ الْمَالِ خَالِصًا بِمَنْزِلَةِ التَّصَدُّقِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُضَحِّيَ يَجْعَلُ الْأُضْحِيَّةَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى بِإِرَاقَةِ دَمِهَا فَكَذَلِكَ هُنَا

( قَالَ ) وَمَنْ دَخَلَ الْحَرَمَ بِصَيْدٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُرْسِلَهُ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ عَلَيْهِ إرْسَالُهُ لِأَنَّ الْأَمْنَ بِسَبَبِ الْحَرَمِ يَثْبُتُ لِحَقِّ الشَّرْعِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْمُبَاحِ دُونَ الْمَمْلُوكِ كَالْأَشْجَارِ فَإِنَّ مَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ فِي الْحَرَمِ لَا يَثْبُتُ فِيهِ حُرْمَةُ الْحَرَمِ ، وَقَاسَ هَذَا بِالِاسْتِرْقَاقِ فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَمْنَعُ الِاسْتِرْقَاقَ لِحَقِّ الشَّرْعِ ثُمَّ لَا يُزِيلُ الرِّقَّ الثَّابِتَ قَبْلَهُ فَكَذَا هَذَا ، وَلَكِنَّا نَقُولُ حُرْمَةُ الْحَرَمِ فِي حَقِّ الصَّيْدِ كَحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ فَكَمَا أَنَّ الْحُرْمَةَ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ تَثْبُتُ فِي حَقِّ الصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ حَتَّى يَجِبَ إرْسَالُهُ فَكَذَلِكَ الْحُرْمَةُ بِسَبَبِ الْحَرَمِ ، وَلَيْسَ هَذَا نَظِيرَ الْأَشْجَارِ لِأَنَّ مَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ لَيْسَ بِمَحِلٍّ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ أَصْلًا بِمَنْزِلَةِ الْأَهْلِيِّ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَأَمَّا الصَّيْدُ مَمْلُوكًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَمْلُوكٍ فَهُوَ مَحَلٌّ لِثُبُوتِ الْأَمْنِ لَهُ بِسَبَبِ الْحَرَمِ فَإِنْ بَاعَ الصَّيْدَ بَعْدَمَا أَدْخَلَهُ الْحَرَمَ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا يُرَدُّ إنْ كَانَ الصَّيْدُ قَائِمًا ، وَإِنْ كَانَ فَائِتًا فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْحَرَمِ فِي الصَّيْدِ مَانِعَةٌ مِنْ بَيْعِهِ كَحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ .

( قَالَ ) رَجُلٌ أَدْخَلَ الْحَرَمَ بَازِيًا أَوْ صَقْرًا فَعَلَيْهِ إرْسَالُهُ لِأَنَّهُ صَيْدٌ مُمْتَنِعٌ فَيَثْبُتُ فِيهِ الْأَمْنُ بِسَبَبِ الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ إرْسَالُهُ كَمَا لَوْ أَخَذَهُ فِي الْحَرَمِ فَإِنْ أَرْسَلَهُ فَجَعَلَ يَقْتُلُ حَمَامَاتِ الْحَرَمِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ لِأَنَّهُ بِالْإِرْسَالِ مَا قَصَدَ الِاصْطِيَادَ ، وَإِنَّمَا قَصَدَ مُبَاشَرَةَ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ ، وَهُوَ رَفْعُ الْيَدِ عَنْ الصَّيْدِ الْآمِنِ فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ عُهْدَةُ مَا يَفْعَلُهُ الصَّيْدُ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا عَنْ كَفَّارَتِهِ فَجَعَلَ الْعَبْدُ يَرْتَكِبُ الْكَبَائِرَ لَا يَكُونُ عَلَى الْمُعْتِقِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَهَذَا مِثْلُهُ .
( قَالَ ) وَلَا خَيْرَ فِيمَا يُرَخِّصُ فِيهِ أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ الْحَجَلِ وَالْيَعَاقِيبِ ، وَلَا يُدْخِلُ الْحَرَمَ شَيْئًا مِنْهَا لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَهْدَى إلَيْهِ بِمَكَّةَ بَيْضَ نَعَامٍ وَظَبْيَيْنِ حَيَّيْنِ فَلَمْ يَقْبَلْهُمَا ، وَقَالَ أَهْدَيْتُهُمَا إلَيَّ آمِنَيْنِ مَا كَانَا أَيْ مَا دَامَا يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُمَا صَارَا آمِنَيْنِ بِإِدْخَالِهِمَا فِي الْحَرَمِ حَيَّيْنِ ، وَالْحَجَلُ وَالْيَعَاقِيبُ مِنْ الصُّيُودِ فَبِإِدْخَالِ الْحَرَمِ إيَّاهُمَا حَيَّيْنِ يَثْبُتُ الْأَمْنُ فِيهِمَا فَلَا يَحِلُّ تَنَاوُلُ شَيْءٍ مِنْهُمَا ، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ وَالْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَعَادَةُ أَهْلِ مَكَّةَ فِي هَذَا التَّرْخِيصُ بِخِلَافِ النَّصِّ فَيَكُونُ سَاقِطَ الِاعْتِبَارِ فَإِنْ ذَبَحَهُمَا قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُمَا الْحَرَمَ فَلَا بَأْسَ بِتَنَاوُلِهِمَا فِي الْحَرَمِ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَدْخَلَ اللَّحْمَ فِي الْحَرَمِ ، وَاللَّحْمُ لَيْسَ بِصَيْدٍ .

( قَالَ ) وَإِنْ رَمَى صَيْدًا بَعْضُ قَوَائِمِهِ فِي الْحِلِّ ، وَبَعْضُهَا فِي الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ لِأَنَّ جَزَاءَ صَيْدِ الْحَرَمِ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ ، وَلِأَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِلْخَطَرِ ، وَالْمُوجِبُ لِلْإِبَاحَةِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ يَغْلِبُ الْمُوجِبُ لِلْخَطَرِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ فِي شَيْءٍ إلَّا غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ } فَلَا يَحِلُّ تَنَاوُلُ هَذَا الصَّيْدِ لِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا .

( قَالَ ) وَإِنْ كَانَ الرَّامِي فِي الْحَرَمِ ، وَالصَّيْدُ فِي الْحِلِّ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الِاصْطِيَادَ مُحَرَّمٌ عَلَى مَنْ كَانَ فِي الْحَرَمِ كَمَا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَى الْمُحْرِمِ فَهَذَا ، وَمَا لَوْ كَانَ الصَّيْدُ فِي الْحَرَمِ سَوَاءٌ ، وَإِنْ كَانَ الرَّامِي فِي الْحِلِّ ، وَالصَّيْدُ فِي الْحِلِّ إلَّا أَنَّ بَيْنَهُمَا قِطْعَةً مِنْ الْحَرَمِ فَمَرَّ فِيهَا السَّهْمُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ لِأَنَّا إنْ اعْتَبَرْنَا الرَّامِيَ فَهُوَ حَلَالٌ فِي الْحِلِّ ، وَإِنْ اعْتَبَرْنَا جَانِبَ الصَّيْدِ فَهُوَ صَيْدُ الْحِلِّ ، وَبِمُرُورِ السَّهْمِ فِي هَوَاءِ الْحَرَمِ لَا تَثْبُتُ حُرْمَةُ الْحَرَمِ فِي حَقِّ الصَّيْدِ ، وَلَا فِي حَقِّ الرَّامِي ، وَالسَّهْمُ لَيْسَ بِمَحَلِّ حُرْمَةِ الْحَرَمِ فَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَى الرَّامِي شَيْءٌ ، وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ .

( قَالَ ) وَإِنْ جَرَحَ الصَّيْدَ فِي الْحِلِّ ، وَهُوَ حَلَالٌ فَدَخَلَ الْحَرَمَ ثُمَّ مَاتَ فِيهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ جَزَاؤُهُ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي وَقْتِ الْجَرْحِ كَانَ مُبَاحًا ، وَالسِّرَايَةُ أَثَرُ الْفِعْلِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ أَصْلُ فِعْلِهِ مُوجِبًا لِلْجَزَاءِ لَا يَكُونُ أَثَرُهُ مُوجِبًا كَمَنْ جَرَحَ مُرْتَدًّا فَأَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا بَأْسَ بِأَكْلِ هَذَا الصَّيْدِ لِأَنَّ فِعْلَهُ كَانَ مُذَكِّيًا لَهُ مُوجِبًا لِلْحِلِّ حَتَّى لَوْ مَاتَ مِنْهُ فِي الْحِلِّ حَلَّ تَنَاوُلُهُ ، وَلَكِنَّهُ كُرِهَ أَكْلُهُ اسْتِحْسَانًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حِلَّ التَّنَاوُلِ حُكْمٌ يَثْبُتُ عِنْدَ زُهُوقِ الرُّوحِ عَنْهُ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ هُوَ صَيْدُ الْحَرَمِ فَاعْتِبَارُ هَذَا الْجَانِبِ يُحَرِّمُ التَّنَاوُلَ ، وَاعْتِبَارُ جَانِبِ الْجَرْحِ يُبِيحُ تَنَاوُلَهُ فَيَتَرَجَّحُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ عَلَى الْمُوجِبِ لِلْحِلِّ .

( قَالَ ) وَإِذَا ذَبَحَ الْهَدْيَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ بِالْكُوفَةِ ، وَتَصَدَّقَ بِهِ لَمْ يُجْزِهِ مِنْ الْهَدْيِ لِأَنَّ إرَاقَةَ الدَّمِ لَا يَكُونُ إلَّا فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ أَوْ مَكَان مَخْصُوصٍ ، وَهُوَ الْحَرَمُ كَيْفَ وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى التَّبْلِيغِ إلَى الْحَرَمِ هُنَا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ } وَلَكِنْ إنْ كَانَتْ قِيمَةُ اللَّحْمِ بَعْدَ الذَّبْحِ مِثْلَ قِيمَةِ الصَّيْدِ أَجْزَأَهُ مِنْ الطَّعَامِ إذَا أَصَابَ كُلُّ مِسْكِينٍ قِيمَةَ نِصْفِ صَاعٍ عَلَى قِيَاسِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ إذْ كَسَا عَشَرَةَ مَسَاكِينَ ثَوْبًا وَاحِدًا أَجْزَأَهُ مِنْ الطَّعَامِ دُونَ الْكِسْوَةِ إنْ كَانَتْ قِيمَةُ مَا أَصَابَ كُلَّ مِسْكِينٍ قِيمَةَ نِصْفِ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ أَكْثَرَ .

( قَالَ ) وَإِذَا أَرَادَ الصَّوْمَ بِالْكُوفَةِ فَذَلِكَ جَائِزٌ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ لِأَنَّ الصَّوْمَ قُرْبَةٌ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ فَأَمَّا صَيْدُ الْحَرَمِ فِي حَقِّ الْحَلَالِ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلصَّوْمِ فِيهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا أَصَابَ الصَّيْدَ فِي الْحَرَمِ فَحِينَئِذٍ تَتَأَدَّى كَفَّارَتُهُ بِالصَّوْمِ لِأَنَّ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ لَا يَظْهَرُ حُرْمَةُ الْحَرَمِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَتَجَزَّأُ فَلِهَذَا يَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ دَلَّ مُحْرِمٌ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحَرَمِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ بِخِلَافِ الْحَلَالِ إذَا دَلَّ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحَرَمِ لَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ كَالْمُحْرِمِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ حَتَّى تَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ فَيَكُونُ الدَّالُّ فِيهِ كَالْمُبَاشِرِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذَا الْفَصْلِ مِثْلَ قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .

( قَالَ ) وَإِذَا أَكَلَ الْمُحْرِمُ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ مَا أَكَلَ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى بِالتَّصَدُّقِ تَعَلَّقَ بِالْمَذْبُوحِ فَإِذَا صَرَفَهُ إلَى حَاجَتِهِ صَارَ ضَامِنًا قِيمَتَهُ لِلْمَسَاكِينِ ، وَكَذَلِكَ إنْ أَكَلَهُ بَعْدَمَا ذَبَحَهُ بِمَكَّةَ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ مَذْبُوحًا بِخِلَافِ مَا إذَا سُرِقَ فَإِنَّ الْهَدْيَ قَدْ بَلَغَ مَحِلَّهُ حِينَ ذَبَحَهُ بِمَكَّةَ ، وَبَقِيَ وُجُوبُ التَّصَدُّقِ مُعَلَّقًا بِعَيْنِ الْمَذْبُوحِ فَإِذَا هَلَكَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ، وَإِذَا اسْتَهْلَكَهُ بِالْأَكْلِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ لِلْفُقَرَاءِ بِمَنْزِلَةِ مَالِ الزَّكَاةِ فَإِذَا تَصَدَّقَ بِهَذِهِ الْقِيمَةِ عَلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ أَجْزَأَهُ بِمَنْزِلَةِ اللَّحْمِ إذَا تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَارَ التَّكْفِيرَ بِالْإِطْعَامِ فَإِنَّهُ لَا يَجْزِيهِ لَا أَنْ يُطْعِمَ كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ لِأَنَّ طَعَامَ الْكَفَّارَةِ فِي حَقِّ كُلِّ مِسْكِينٍ مُقَدَّرٌ بِنِصْفِ صَاعٍ كَمَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَأَمَّا فِي الْهَدْيِ فَالتَّكْفِيرُ يَحْصُلُ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ دُونَ التَّصْدِيقِ بِاللَّحْمِ ثُمَّ التَّصَدُّقُ بَعْدَ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الزَّكَاةِ فَإِنْ شَاءَ صَرَفَ الْكُلَّ إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ ، وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَهُ عَلَى الْمَسَاكِينِ ، وَفِي التَّكْفِيرِ بِالطَّعَامِ إذَا أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعِ فَفَضَلَ مُدٌّ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الْوَاجِبُ هَذَا الْمِقْدَارَ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ ، وَإِنْ اخْتَارَ الصَّوْمَ يَصُومُ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمُدِّ يَوْمًا كَامِلًا أَوْ يُطْعِمُ لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ ، وَلَهُ أَنْ يُفَرِّقَ الصَّوْمَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ لِأَنَّهُ مُطْلَقٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } فَإِنْ شَاءَ تَابَعَ ، وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ .

( قَالَ ) وَإِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ الْجَرَادَ فَعَلَيْهِ فِيهِ الْقِيمَةُ لِأَنَّ الْجَرَادَ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ ، وَقِصَّةُ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ أَهْلَ حِمْصَ أَصَابُوا جَرَادًا كَثِيرًا فِي إحْرَامِهِمْ فَجَعَلُوا يَتَصَدَّقُونَ مَكَانَ كُلِّ جَرَادَةٍ بِدِرْهَمٍ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرَى دَرَاهِمَكُمْ كَثِيرَةً يَا أَهْلَ حِمْصَ تَمْرَةٌ خَيْرٌ مِنْ جَرَادَةٍ .

( قَالَ ) وَلَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي قَتْلِ الْبَعُوضِ وَالذُّبَابِ وَالنَّمْلِ وَالْحَلَمَةِ وَالْقُرَادِ شَيْءٌ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَيْسَتْ مِنْ الصَّيُودِ فَإِنَّهَا لَا تَنْفِرُ مِنْ بَنِي آدَمَ ، وَلَوْ كَانَتْ مِنْ الصَّيُودِ كَانَتْ مُؤْذِيَةً بِطَبْعِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِيهَا ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُقَرِّدُ بَعِيرَهُ فِي إحْرَامِهِ ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِعِكْرِمَةَ مَوْلَاهُ قُمْ فَقَرِّدْ الْبَعِيرَ فَقَالَ أَنَا مُحْرِمٌ فَقَالَ لَوْ أَمَرْتُك بِنَحْرِهِ هَلْ كُنْت تَنْحَرُهُ قَالَ نَعَمْ فَقَالَ كَمْ مِنْ قُرَادٍ وَحَمْنَانَةٍ تُقْتَلُ بِالنَّحْرِ بَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُحْرِمِ فِي الْقُرَادِ وَالْحَمْنَانَةِ شَيْءٌ ، وَيُكْرَهُ لَهُ قَتْلُ الْقَمْلَةِ لَا لِأَنَّهُ صَيْدٌ ، وَلَكِنْ لِأَنَّهُ يَنْمُو مِنْ بَدَنِهِ فَيَكُونُ قَتْلُهُ مِنْ قَضَاءِ التَّفَثِ ، وَالْمُحْرِمُ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ إزَالَةِ الشَّعْرِ فَإِنْ قَتَلَهَا فَمَا تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ الْقَمْلَةِ إذْ لَا خَيْرَ فِي الْقَمْلِ كَمَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْقَمْلَةُ ضَالَّةٌ لَا تُلْتَمَسُ فَلِهَذَا يَخْرُجُ عَنْ الْوَاجِبِ بِمَا يَتَصَدَّقُ بِهِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ .

( قَالَ ) ، وَلَا بَأْسَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَغْتَسِلَ فَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اغْتَسَلَ ، وَهُوَ مُحْرِمٌ ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا لِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ ، وَيَقُولُ إنَّ الْمَاءَ يَقْتُلُ هَوَامَّ الرَّأْسِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمَاءُ لَا يَزِيدُهُ إلَّا شَعَثًا .

( قَالَ ) وَلَوْ أَنَّ حَلَالًا أَصَابَ بَيْضًا مِنْ بَيْضِ الصَّيْدِ فَأَعْطَاهُ مُحْرِمًا فَشَوَاهُ فَعَلَى الْمُحْرِمِ جَزَاؤُهُ لِأَنَّ الْبَيْضَ أَصْلُ الصَّيْدِ ، وَقَدْ أَفْسَدَهُ الْمُحْرِمُ بِفِعْلِهِ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ ، وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ بِخِلَافِ الصَّيْدِ إذَا قَتَلَهُ الْمُحْرِمُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْرُمُ بِفِعْلِ الْمُحْرِمِ مَا يَحْتَاجُ فِي حِلِّهِ إلَى الذَّكَاةِ ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الذَّكَاةِ فِي حِلِّ تَنَاوُلِ الْبَيْضِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمَ وَالْمَجُوسِيَّ فِيهِ سَوَاءٌ فَكَذَا الْمُحْرِمُ وَالْحَلَالُ ، وَوُجُوبُ الْجَزَاءِ عَلَى الْمُحْرِمِ لَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ كَمَا لَوْ دَلَّ حَلَالًا عَلَى صَيْدٍ يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ ، وَلَا يَحْرُمُ بِهِ تَنَاوُلُ الصَّيْدِ .

( قَالَ ) مُحْرِمٌ أَصَابَ صَيْدًا كَثِيرًا عَلَى قَصْدِ الْإِحْلَالِ وَالرَّفْضِ لِإِحْرَامِهِ فَعَلَيْهِ لِذَلِكَ كُلِّهِ دَمٌ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ جَزَاءُ كُلِّ صَيْدٍ لِأَنَّهُ مُرْتَكِبُ مَحْظُورِ الْإِحْرَامِ بِقَتْلِ صَيْدٍ فَيَلْزَمُهُ جَزَاؤُهُ كَمَا لَوْ لَمْ يَقْصِدْ رَفْضَ الْإِحْرَامِ ، وَهَذَا لِأَنَّ قَصْدَهُ هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ إحْرَامَهُ لَا يَرْتَفِضُ بِقَتْلِ الصَّيْدِ فَكَانَ وُجُودُ هَذَا الْقَصْدِ كَعَدَمِهِ ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ الْعِبْرَةَ لِلْمَحَلِّ دُونَ الْفِعْلِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِقَصْدِهِ إلَى الرَّفْضِ بِفِعْلِهِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ مِنْ مَحْظُورَاتِ الْإِحْرَامِ ، وَارْتِكَابُ مَحْظُورَاتِ الْعِبَادَةِ يُوجِبُ ارْتِفَاضَهَا كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْإِحْرَامَ لَازِمًا لَا يَخْرُجُ مِنْهُ إلَّا بِأَدَاءِ الْأَعْمَالِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ حِينَ لَمْ يَكُنْ لَازِمًا فِي الِابْتِدَاءِ كَانَ يَرْتَفِضُ بِارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ ، وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ إذَا أَحْرَمَتْ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا أَوْ الْمَرْأَةُ إذَا أَحْرَمَتْ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا بِحَجَّةِ التَّطَوُّعِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَازِمًا فِي حَقِّ الزَّوْجِ كَانَ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهَا بِفِعْلِ شَيْءٍ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ بِهَا فَكَانَ هُوَ فِي قَتْلِ الصَّيُودِ هُنَا قَاصِدًا إلَى تَعْجِيلِ الْإِحْلَالِ لَا إلَى الْجِنَايَةِ عَلَى الْإِحْرَامِ ، وَتَعْجِيلُ الْإِحْلَالِ يُوجِبُ دَمًا وَاحِدًا كَمَا فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى قَصْدِ رَفْضِ الْإِحْرَامِ لِأَنَّهُ قَصَدَ الْجِنَايَةَ عَلَى الْإِحْرَامِ بِقَتْلِ كُلِّ صَيْدٍ فَيَلْزَمُهُ جَزَاءُ كُلِّ صَيْدٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حُكْمَ جَزَاءِ الصَّيْدِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ يَنْبَنِي عَلَى قَصْدِهِ حَتَّى أَنَّ ضَارِبَ الْفُسْطَاطِ لَا يَكُونُ ضَامِنًا لِلْجَزَاءِ بِخِلَافِ نَاصِبِ الشَّبَكَةِ .

( قَالَ ) وَلَا يَتَصَدَّقُ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ عَلَى وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ بِمَنْزِلَةِ الزَّكَاةِ ، وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ فَإِنَّهُ مَالٌ وَجَبَ التَّصَدُّقُ بِهِ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنْ أَعْطَى مِنْهُ ذِمِّيًّا أَجْزَأَهُ إلَّا أَنَّ فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَيْثُ كُلُّ صَدَقَةِ وَاجِبَةٍ لَا يَجُوزُ صَرْفُهَا إلَى فُقَرَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْفُصُولَ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ ثَمَّةَ .

( قَالَ ) وَإِذَا بَلَغَ جَزَاءُ الصَّيْدِ جَزُورًا فَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يَشْتَرِيَ بِقِيمَتِهِ أَغْنَامًا لِأَنَّ الْمَنْدُوبَ إلَيْهِ التَّعْظِيمُ فِي الْهَدَايَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ } فَمَا كَانَ أَقْرَبَ إلَى التَّعْظِيمِ فَهُوَ أَوْلَى ، وَإِنْ اشْتَرَى أَغْنَامًا فَذَبَحَهَا وَتَصَدَّقَ بِهَا أَجْزَأَهُ عَلَى قِيَاسِ سَائِرِ الْهَدَايَا نَحْوَ هَدْيِ الْإِحْصَارِ وَهَدْيِ الْمُتْعَةِ .
( قَالَ ) وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعَرِّفَ بِالْجَزُورِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ ، وَلَا أَنْ يُقَلِّدَهُ لِأَنَّ سُنَّةَ التَّقْلِيدِ وَالتَّعْرِيفِ فِيمَا يَكُونُ نُسُكًا ، وَهَذَا دَمُ كَفَّارَةٍ فَلَا يُسَنُّ فِيهِ التَّعْرِيفُ وَالتَّقْلِيدُ ، وَإِنْ كَانَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَا يَضُرُّهُ ، وَعَلَى هَذَا هَدْيُ الْإِحْصَارِ وَالْكَفَّارَاتِ وَكَأَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مَا يَكُونُ نُسُكًا فَالتَّشْهِيرُ فِيهِ أَوْلَى لِيَكُونَ بَاعِثًا لِغَيْرِهِ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَهُ فَأَمَّا مَا يَكُونُ كَفَّارَةً فَسَبَبُهُ ارْتِكَابُ الْمَحْظُورِ فَالسِّتْرُ عَلَى نَفْسِهِ فِي مِثْلِهِ أَوْلَى مِنْ التَّشْهِيرِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذَا الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ يَسْتُرْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ } .

( قَالَ ) وَإِذَا رَمَى الصَّيْدَ وَهُوَ حَلَالٌ ثُمَّ أَحْرَمَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي الرَّمْيِ كَانَ مُبَاحًا مُطْلَقًا ، وَلِأَنَّ الْجِنَايَةَ عَلَى الْإِحْرَامِ بِمَا يَتَعَقَّبُهُ لَا بِمَا يَسْبِقُهُ .

( قَالَ ) وَإِذَا رَمَى طَائِرًا عَلَى غُصْنِ شَجَرَةٍ أَصْلُهَا فِي الْحَرَمِ أَوْ فِي الْحِلِّ لَمْ يُنْظَرْ إلَى أَصْلِهَا ، وَلَكِنْ يُنْظَرُ إلَى مَوْضِعِ الطَّائِرِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْغُصْنُ فِي الْحِلِّ فَلَا جَزَاءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَرَمِ فَعَلَيْهِ فِيهِ الْجَزَاءُ لِأَنَّ قِوَامَ الصَّيْدِ لَيْسَ بِالْغُصْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَلَمْ يَرَوْا إلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إلَّا اللَّهُ } فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ مَوْضِعَ الصَّيْدِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مِنْ هَوَاءِ الْحَرَمِ فَالصَّيْدُ صَيْدُ الْحَرَمِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ هَوَاءِ الْحِلِّ فَالصَّيْدُ صَيْدُ الْحِلِّ فَأَمَّا فِي قَطْعِ الْغُصْنِ فَيُنْظَرُ إلَى أَصْلِ الشَّجَرَةِ فَإِنْ كَانَ فِي الْحِلِّ فَلَهُ أَنْ يَقْطَعَهُ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْحَرَمِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْطَعَهُ لِأَنَّ قِوَامَ الْأَغْصَانِ بِالشَّجَرَةِ فَيُنْظَرُ إلَى أَصْلِ الشَّجَرَةِ فَيُجْعَلُ حُكْمُ الْأَغْصَانِ حُكْمَ أَصْلِهَا ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ الْأَصْلِ فِي الْحَرَمِ ، وَبَعْضُهُ فِي الْحِلِّ فَهُوَ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ أَيْضًا لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِلْحَظْرِ وَالْمُوجِبُ لِلْحِلِّ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ صَيْدٍ قَائِمُ بَعْضِ قَوَائِمِهِ فِي الْحِلِّ وَبَعْضُهَا فِي الْحَرَمِ يَكُونُ مِنْ صَيْدِ الْحَرَمِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ قَوَائِمُ الصَّيْدِ فِي الْحِلِّ وَرَأْسُهُ فِي الْحَرَمِ فَإِنَّ قِوَامَهُ بِقَوَائِمِهِ دُونَ رَأْسِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَائِمًا وَرَأْسُهُ فِي الْحَرَمِ فَحِينَئِذٍ قِوَامُهُ بِجَمِيعِ بَدَنِهِ فَإِذَا كَانَ جُزْءٌ مِنْهُ فِي الْحَرَمِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ صَيْدِ الْحَرَمِ ثُمَّ الْأَصْلُ فِي حُرْمَةِ أَشْجَارِ الْحَرَمِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا ، وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا } قَالَ هِشَامٌ سَأَلْت مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ فَقَالَ كُلُّ مَا لَا يَقُومُ عَلَى سَاقٍ .
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَطَعَ دَوْحَةً كَانَتْ فِي مَوْضِعِ الطَّوَافِ تُؤْذِي الطَّائِفِينَ فَتَصَدَّقَ

بِقِيمَتِهَا ، وَحُرْمَةُ أَشْجَارِ الْحَرَمِ كَحُرْمَةِ صَيْدِ الْحَرَمِ فَإِنَّ صَيْدَ الْحَرَمِ يَأْوِي إلَى أَشْجَارِ الْحَرَمِ ، وَيَسْتَظِلُّ بِظِلِّهَا ، وَيَتَّخِذُ الْأَوْكَارَ عَلَى أَغْصَانِهَا فَكَمَا تَجِبُ الْقِيمَةُ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ عَلَى مَنْ أَتْلَفَهُ فَكَذَلِكَ تَجِبُ الْقِيمَةُ عَلَى مَنْ قَطَعَهُ ، وَشَجَرُ الْحَرَمِ مَا يَنْبُتُ بِنَفْسِهِ لَا مَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ فَأَمَّا مَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ عَادَةً لَيْسَ لَهُ حُرْمَةُ الْحَرَمِ سَوَاءٌ أَنْبَتَهُ إنْسَانٌ أَوْ نَبَتَ بِنَفْسِهِ لِأَنَّ النَّاسَ يَزْرَعُونَ وَيَحْصُدُونَ فِي الْحَرَمِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ مُنْكِرٍ ، وَلَا زَجْرِ زَاجِرٍ فَأَمَّا مَا لَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ عَادَةً إذَا أَنْبَتَهُ إنْسَانٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَطْعِهِ أَيْضًا لِأَنَّهُ مِلْكُهُ ، وَالْتَحَقَ فِعْلُهُ بِمَا يَنْبُتُهُ النَّاسُ عَادَةً فَأَمَّا إذَا نَبَتَ بِنَفْسِهِ فَلَهُ حُرْمَةُ الْحَرَمِ ، وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا لِإِنْسَانٍ بِأَنْ نَبَتَ فِي مِلْكِهِ حَتَّى قَالُوا لَوْ نَبَتَ فِي مِلْكِ رِجْلِ أُمِّ غِيلَانٍ فَقَطَعَهُ إنْسَانٌ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِمَالِكِهِ ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِحَقِّ الشَّرْعِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَتَلَ صَيْدًا مَمْلُوكًا فِي الْحَرَمِ .

( قَالَ ) وَإِنْ قَطَعَ رَجُلَانِ شَجَرَةً مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ فَعَلَيْهِمَا قِيمَةُ وَاحِدَةٍ عَلَى قِيَاسِ صَيْدِ الْحَرَمِ إذَا قَتَلَهُ رَجُلَانِ إلَّا أَنَّ هُنَا يَسْتَوِي إنْ كَانَا مُحْرِمَيْنِ أَوْ حَلَالَيْنِ بِخِلَافِ صَيْدِ الْحَرَمِ لِأَنَّ حُرْمَةَ الصَّيْدِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ فَيَتَكَامَلُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَأَمَّا حُرْمَةُ الشَّجَرَةِ بِسَبَبِ الْحَرَمِ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يَمْنَعُ قَطْعَ الشَّجَرَةِ فَلِهَذَا كَانَ الْمُحْرِمُ وَالْحَلَالُ فِي ذَلِكَ سَوَاءً وَيَكُونُ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الْقِيمَةِ ، وَلَا يُجْزِئُ فِيهِ الصِّيَامُ إنَّمَا يُهْدِي أَوْ يُطْعِمُ عَلَى قِيَاسِ مَا بَيَّنَّا فِي صَيْدِ الْحَرَمِ فِي حَقِّ الْحَلَالِ .
( قَالَ ) وَلَا أُحِبُّ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِتِلْكَ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَدَّى قِيمَتَهَا لِأَنَّهُ لَوْ أُبِيحَ لَهُ ذَلِكَ لَتَطَرَّقَ النَّاسُ إلَى مِثْلِهِ فَلَا تَبْقَى أَشْجَارُ الْحَرَمِ ، وَفِي ذَلِكَ إيحَاشُ صَيْدِ الْحَرَمِ ، وَلَكِنَّهُ لَوْ انْتَفَعَ بِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمَقْطُوعَ صَارَ مَمْلُوكًا بِمَا غَرِمَ مِنْ الْقِيمَةِ ، وَلَيْسَ لِلْمَقْطُوعِ حُرْمَةُ الْحَرَمِ بَعْدَ الْقَطْعِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الِانْتِفَاعِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ذَبَحَ صَيْدَ الْحَرَمِ ثُمَّ تَنَاوَلَهُ بَعْدَمَا أَدَّى الْجَزَاءَ لَمْ يَلْزَمْهُ بِالتَّنَاوُلِ شَيْءٌ فَهَذَا مِثْلُهُ فَإِنْ غَرَسَهَا فَنَبَتَتْ فَلَهُ أَنْ يَقْطَعَهَا ، وَيَصْنَعَ بِهَا مَا شَاءَ لِأَنَّ الْمَقْطُوعَ مِلْكُهُ ، وَهُوَ الَّذِي أَنْبَتَهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا يُنْبِتُهُ النَّاسُ لَا يَثْبُتُ فِيهِ حُرْمَةُ الْحَرَمِ .

( قَالَ ) وَمَا تَكَسَّرَ مِنْ شَجَرِ الْحَرَمِ وَيَبِسَ حَتَّى سَقَطَ فَلَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ بِسَبَبِ الْحَرَمِ بِمَا يَكُونُ نَامِيًا فِيهِ حَيَاةَ مِثْلِهِ ، وَالْمُتَكَسِّرُ وَمَا يَبِسَ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى النُّمُوِّ فَلَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ .

( قَالَ ) ، وَلَا يُخْتَلَى حَشِيشُ الْحَرَمِ ، وَلَا يُقْطَعُ إلَّا الْإِذْخِرُ فَإِنَّهُ بَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَخَّصَ فِيهِ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ مَا رُوِيَ { أَنَّ الْعَبَّاسَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا يُخْتَلَى خَلَاهَا ، وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا قَالَ إلَّا الْإِذْخِرَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهَا لِقُبُورِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ ، أَوْ لِبُيُوتِهِمْ وَقُبُورِهِمْ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا الْإِذْخِرَ } ، وَتَأْوِيلُ هَذَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ قَصْدِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُسْتَثْنَى إلَّا أَنَّ الْعَبَّاسَ سَبَقَهُ لِذَلِكَ أَوْ كَانَ أَوْحَى أَنْ يُرَخَّصَ فِيمَا يَسْتَثْنِيهِ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَمَا لَا يُرَخَّصُ فِي قَطْعِ الْحَشِيشِ فِي الْحَرَمِ بِالْمِنْجَلِ فَكَذَلِكَ لَا يُرَخَّصُ فِي رَعْيِ الدَّوَابِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا بَأْسَ بِالرَّعْيِ لِأَنَّ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْحَرَمَ لِلْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ يَكُونُونَ عَلَى الدَّوَابِّ ، وَلَا يُمْكِنُهُمْ مَنْعُ الدَّوَابِّ مِنْ رَعْيِ الْحَشِيشِ فَفِي ذَلِكَ مِنْ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى فَيُرَخَّصُ فِيهِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا بَأْسَ بِأَنْ يُحْتَشَّ ، وَيُرْعَى لِأَجْلِ الْبَلْوَى ، وَالضَّرُورَةِ فِيهِ فَإِنَّهُ يَشُقُّ عَلَى النَّاسِ حَمْلُ عَلَفِ الدَّوَابِّ مِنْ خَارِجِ الْحَرَمِ ، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يُخْتَلَى خَلَاهَا ، وَلَا يُعْضَدُ شَوْكُهَا ، وَفِي الِاحْتِشَاشِ } ارْتِكَابُ النَّهْيِ ، وَكَذَلِكَ فِي رَعْيِ الدَّوَابِّ لِأَنَّ مَشَافِرِ الدَّوَابِّ كَالْمَنَاجِلِ ، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْبَلْوَى فِيمَا لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ بِخِلَافِهِ فَأَمَّا مَعَ وُجُودِ النَّصِّ لَا مُعْتَبَرَ بِهِ

( قَالَ ) وَلَا بَأْسَ بِأَخْذِ الْكَمْأَةِ فِي الْحَرَمِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ نَبَاتِ الْأَرْضِ بَلْ هُوَ مُودَعٌ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِأَخْذِ حِجَارَةِ الْحَرَمِ ، وَقَدْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَرِهَا ذَلِكَ ، وَلَكِنَّا نَأْخُذُ بِالْعَادَةِ الْجَارِيَةِ الظَّاهِرَةِ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ بِإِخْرَاجِ الْقُدُورِ ، وَنَحْوِهَا مِنْ الْحَرَمِ ، وَلِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْحَجَرِ فِي الْحَرَمِ مُبَاحٌ ، وَمَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي الْحَرَمِ يَجُوزُ إخْرَاجُهُ مِنْ الْحَرَمِ أَيْضًا ثُمَّ حُرْمَةُ الْحَرَمِ خَاصَّةٌ بِمَكَّةَ عِنْدَنَا ، وَلَيْسَ لِلْمَدِينَةِ حُرْمَةُ الْحَرَمِ فِي حَقِّ الصَّيُودِ ، وَالْأَشْجَارِ وَنَحْوِهَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَدِينَةِ حُرْمَةُ الْحَرَمِ حَتَّى أَنَّ مَنْ قَتَلَ صَيْدًا فِيهَا فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ { إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَرَّمَ مَكَّةَ ، وَأَنَا أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا يَعْنِي الْمَدِينَةَ ، وَقَالَ مَنْ رَأَيْتُمُوهُ يَصْطَادُ فِي الْمَدِينَةِ فَخُذُوا ثِيَابَهُ } ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَى بَعْضَ الصِّبْيَانِ بِالْمَدِينَةِ طَائِرًا فَطَارَ مِنْ يَدَيْهِ فَجَعَلَ يَتَأَسَّفُ عَلَى ذَلِكَ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ } اسْمُ ذَلِكَ الطَّيْرِ ، وَهُوَ طَيْرٌ صَغِيرٌ مِثْلُ الْعُصْفُورِ ، وَلَوْ كَانَ لِلصَّيْدِ فِي الْمَدِينَةِ حُرْمَةُ الْحَرَمِ لَمَا نَاوَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَبِيًّا ، وَلِأَنَّ هَذِهِ بُقْعَةٌ يَجُوزُ دُخُولُهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَتَكُونُ قِيَاسَ سَائِرِ الْبُلْدَانِ بِخِلَافِ الْحَرَمِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْخُلَهَا إلَّا مُحْرِمًا

( قَالَ ) وَإِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ الْبَازِيَ الْمُعَلَّمَ فَعَلَيْهِ فِيهِ الْكَفَّارَةُ غَيْرَ قِيمَتِهِ مُعَلَّمًا لِأَنَّ وُجُوبَ الْجَزَاءِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فَكَوْنُهُ مُعَلَّمًا صِفَةٌ عَارِضَةٌ لَيْسَتْ مِنْ الصَّيْدِيَّةِ فِي شَيْءٍ لِأَنَّ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فِي تَنَفُّرِهِ ، وَبِكَوْنِهِ مُعَلَّمًا يُنْتَقَصُ ذَلِكَ ، وَلَا يَزْدَادُ لِأَنَّ تَوَحُّشَهُ مِنْ النَّاسِ يَقِلُّ إذَا كَانَ مُعَلَّمًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ زَائِدًا فِي الْجَزَاءِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مَمْلُوكًا لِإِنْسَانٍ فَإِنَّ مُتْلِفَهُ يَغْرَمُ قِيمَتَهُ مُعَلَّمًا لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِيمَةِ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ ، وَمَالِيَّتُهُ بِكَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ ، وَذَلِكَ يَزْدَادُ بِكَوْنِهِ مُعَلَّمًا ، وَكَذَلِكَ الْحَمَامَةُ إذَا كَانَتْ تَجِيءُ مِنْ مَوْضِعِ كَذَا فَفِي ضَمَانِ قِيمَتِهَا عَلَى الْمُحْرِمِ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ الْمَعْنَى ، وَفِي ضَمَانِ قِيمَتِهَا لِلْعِبَادِ يُعْتَبَرُ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ تُصَوِّتُ فَتَزْدَادُ قِيمَتُهَا لِذَلِكَ فَفِي اعْتِبَارِ ذَلِكَ الْجَزَاءُ رِوَايَتَانِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لَا يُعْتَبَرُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فِي شَيْءٍ ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى يُعْتَبَرُ لِأَنَّهُ وَصْفٌ ثَابِتٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ بِمَنْزِلَةِ الْحَمَامِ إذَا كَانَ مُطَوَّقًا

( قَالَ ) وَإِذَا اُضْطُرَّ الْمُحْرِمُ إلَى قَتْلِ الصَّيْدِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْتُلَهُ لِيَأْكُلَ مِنْ لَحْمِهِ ، وَيُؤَدِّيَ الْجَزَاءَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ أَوْرَدَ فِي كِتَابِ اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا اُضْطُرَّ إلَى مَيْتَةٍ أَوْ صَيْدٍ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَتَنَاوَلُ مِنْ هَذَا الصَّيْدِ ، وَيُؤَدِّي الْجَزَاءَ ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَتَنَاوَلُ مِنْ الْمَيْتَةِ لِأَنَّهُ لَوْ قَتَلَ الصَّيْدَ صَارَ مَيْتَةً فَيَكُونُ جَامِعًا بَيْنَ أَكْلِ الْمَيْتَةِ ، وَقَتْلِ الصَّيْدِ ، وَلَهُ عَنْ أَحَدِهِمَا غُنْيَةٌ بِأَنْ يَتَنَاوَلَ الْمَيْتَةَ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ حُرْمَةُ الْمَيْتَةِ أَغْلَطُ أَلَا تَرَى أَنَّ حُرْمَةَ الصَّيْدِ تَرْتَفِعُ بِالْخُرُوجِ مِنْ الْإِحْرَامِ ، وَحُرْمَةَ الْمَيْتَةِ لَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ أَغْلَظِ الْحُرْمَتَيْنِ بِالْإِقْدَامِ عَلَى أَهْوَنِهِمَا ، وَقَتْلُ الصَّيْدِ وَإِنْ كَانَ مَحْظُورَ الْإِحْرَامِ وَلَكِنَّهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ لَا بَأْسَ بِهِ كَالْحَلْقِ عِنْدَ الْأَذَى فَلِهَذَا يَقْتُلُ الصَّيْدَ ، وَيَتَنَاوَلُ مِنْ لَحْمِهِ ، وَيُؤَدِّي الْجَزَاءَ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ

( بَابُ الْمُحْصَرِ ) ( قَالَ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْأَصْلُ فِي حُكْمِ الْإِحْصَارِ قَوْله تَعَالَى { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } أَيْ مُنِعْتُمْ مِنْ إتْمَامِهِمَا { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } شَاةٍ تَبْعَثُونَهَا إلَى الْحَرَمِ لِتُذْبَحَ ثُمَّ تَحْلِقُونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } فَعَلَى الْمُحْصَرِ إذَا كَانَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ أَنْ يَبْعَثَ بِثَمَنِ هَدْيٍ يُشْتَرَى لَهُ بِمَكَّةَ فَيُذْبَحَ عَنْهُ يَوْمَ النَّحْرِ فَيُحِلُّ عَنْ إحْرَامِهِ ، وَهَذَا قَوْلُ عُلَمَائِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَدْيَ الْإِحْصَارِ مُخْتَصٌّ بِالْحَرَمِ ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ ، وَلَكِنْ يُذْبَحُ الْهَدْيُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُحْصَرُ فِيهِ ، وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مَعَ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مُعْتَمِرًا فَأُحْصِرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ فَذَبَحَ هَدَايَاهُ وَحَلَقَ بِهَا ، وَقَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يَعُودَ مِنْ قَابِلٍ فَيُخْلُوا لَهُ مَكَّةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِغَيْرِ سِلَاحٍ فَيَقْضِي عُمْرَتَهُ } فَإِنَّمَا { نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْهَدْيَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أُحْصِرَ فِيهِ } ، وَلِأَنَّهُ لَوْ بَعَثَ بِالْهَدْيِ لَا يَأْمَنُ أَنْ لَا يَفِيَ الْمَبْعُوثُ عَلَى يَدِهِ أَوْ يَهْلِكَ الْهَدْيُ فِي الطَّرِيقِ ، وَإِذَا ذَبَحَهُ فِي مَوْضِعِهِ يُتَيَقَّنُ بِوُصُولِ الْهَدْيِ إلَى مَحِلِّهِ ، وَخُرُوجِهِ مِنْ الْإِحْرَامِ بَعْدَ إرَاقَةِ دَمِهِ فَكَانَ هَذَا أَوْلَى ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } وَالْمُرَادُ بِهِ الْحَرَمُ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى { ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } بَعْدَمَا ذَكَرَ الْهَدَايَا وَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِإِرَاقَةِ دَمٍ هُوَ قُرْبَةٌ وَإِرَاقَةُ الدَّمِ لَا يَكُونُ قُرْبَةً إلَّا فِي مَكَان مَخْصُوصٍ ، وَهُوَ الْحَرَمُ أَوْ

زَمَانٍ مَخْصُوصٍ ، وَهُوَ أَيَّامُ النَّحْرِ فَفِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ لَا تَكُونُ قُرْبَةً ، وَنَقِيسُ هَذَا الدَّمَ بِدَمِ الْمُتْعَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ تَحَلَّلَ بِهِ عَنْ الْإِحْرَامِ ، وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ فَكَذَا هَذَا ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي نَحْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْهَدَايَا حِينَ أُحْصِرَ فَرُوِيَ { أَنَّهُ بَعَثَ الْهَدَايَا عَلَى يَدَيْ نَاجِيَةَ لِيَنْحَرَهَا فِي الْحَرَمِ حَتَّى قَالَ نَاجِيَةُ : مَاذَا أَصْنَعُ فِيمَا يَعْطَبُ مِنْهَا ؟ قَالَ انْحَرْهَا وَاصْبُغْ نَعْلَهَا بِدَمِهَا ، وَاضْرِبْ بِهَا صَفْحَةَ سَنَامِهَا ، وَخَلِّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ ، وَلَا تَأْكُلْ أَنْتَ وَلَا رُفْقَتُك مِنْهَا شَيْئًا } ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ أَقْرَبُ إلَى مُوَافَقَةِ الْآيَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { هُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } فَأَمَّا الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ إنْ صَحَّتْ فَنَقُولُ : الْحُدَيْبِيَةُ مِنْ الْحَرَمِ فَإِنَّ نِصْفَهَا مِنْ الْحِلِّ وَنِصْفَهَا مِنْ الْحَرَمِ الْحَرَمِ ، وَمَضَارِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ فِي الْحِلِّ ، وَمُصَلَّاهُ كَانَ فِي الْحَرَمِ فَإِنَّمَا سِيقَتْ الْهَدَايَا إلَى جَانِبِ الْحَرَمِ مِنْهَا ، وَنُحِرَتْ فِي الْحَرَمِ فَلَا يَكُونُ لِلْخَصْمِ فِيهِ حُجَّةٌ ، وَقِيلَ إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَخْصُوصًا بِذَلِكَ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَجِدُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَنْ يَبْعَثُ الْهَدَايَا عَلَى يَدِهِ إلَى الْحَرَمِ .
( قَالَ ) ثُمَّ إذَا بَعَثَ الْهَدْيَ إلَى الْحَرَمِ فَذُبِحَ عَنْهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ حَلْقٌ ، وَلَا تَقْصِيرٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْحَلْقُ نُسُكٌ فَعَلَى الْمُحْصَرِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ ثُمَّ عَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ هَكَذَا رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى

عَنْهُمَا أَمَّا قَضَاءُ الْحَجِّ فَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ فَقَدْ بَقِيَتْ عَلَيْهِ حِينَ لَمْ تَصِرْ مُؤَدَّاةً ، وَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا بِحَجَّةِ التَّطَوُّعِ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا عِنْدَنَا لِأَنَّهُ صَارَ خَارِجًا مِنْهَا بَعْدَ صِحَّةِ الشُّرُوعِ قَبْلَ أَدَائِهَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ ، وَهُوَ نَظِيرُ الشَّارِعِ فِي صَوْمِ التَّطَوُّعِ إذَا أَفْسَدَهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ ، وَأَمَّا قَضَاءُ الْعُمْرَةِ فَلِأَنَّهُ صَارَ فِي مَعْنَى فَائِتِ الْحَجِّ حِينَ كَانَ خُرُوجُهُ بَعْدَ صِحَّةِ الشُّرُوعِ قَبْلَ أَدَاءِ الْأَعْمَالِ ، وَعَلَى فَائِتِ الْحَجِّ أَعْمَالُ الْعُمْرَةِ فَإِذَا لَمْ يَأْتِ بِهَا كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ أَيْضًا .
( قَالَ ) وَإِذَا بَعَثَ بِالْهَدْيِ فَإِنْ شَاءَ أَقَامَ مَكَانَهُ ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ مَمْنُوعًا مِنْ الذَّهَابِ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْمُقَامِ وَالِانْصِرَافِ ، وَهَذَا إذَا كَانَ مُحْصَرًا بِعَدُوٍّ فَإِنْ كَانَ مُحْصَرًا بِمَرَضٍ أَصَابَهُ فَعِنْدَنَا هُوَ وَالْمُحْصَرُ بِالْعَدُوِّ سَوَاءٌ يَتَحَلَّلُ بِبَعْثِ الْهَدْيِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ لِلْمَرِيضِ أَنْ يَتَحَلَّلَ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَرَطَ ذَلِكَ عِنْدَ إحْرَامِهِ ، وَلَكِنَّهُ يَصْبِرُ إلَى أَنْ يَبْرَأَ فَإِنَّ هَذَا حُكْمٌ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، وَالْآيَةُ فِي الْإِحْصَارِ بِالْعَدُوِّ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ { فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ } ، وَكَذَلِكَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْصَرًا بِالْعَدُوِّ فَفِيمَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ النَّصُّ يَتَمَسَّكُ بِالْأَصْلِ ، وَهُوَ لُزُومُ الْإِحْرَامِ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ الْأَفْعَالَ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ التَّحَلُّلُ لَهُ حَقًّا بِالشَّرْطِ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ ضُبَاعَةَ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِي اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ شَاكِيَةً فَقَالَ لَهَا أَهِلِّي بِالْحَجِّ

وَاشْتَرِطِي أَنْ تَحِلِّي حَيْثُ حُبِسْت } فَلَوْ كَانَ لَهَا أَنْ تَتَحَلَّلَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ لَمَّا أَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشَّرْطِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مَا اُبْتُلِيَ بِهِ لَا يَزُولُ بِالتَّحَلُّلِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ كَاَلَّذِي ضَلَّ الطَّرِيقَ أَوْ أَخْطَأَ الْعَدَدَ أَوْ سُرِقَتْ نَفَقَتُهُ بِخِلَافِ الْمُحْصَرِ بِالْعَدُوِّ فَإِنَّ مَا اُبْتُلِيَ بِهِ هُنَاكَ يَزُولُ بِالتَّحَلُّلِ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ فَيَنْدَفِعُ شَرُّ الْعَدُوِّ عَنْهُ ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } فَإِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ يَقُولُونَ إنَّ الْإِحْصَارَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْمَرَضِ ، فَفِي الْعَدُوِّ يُقَالُ حُصِرَ فَهُوَ مُحْصَرٌ ، وَفِي الْمَرَضِ يُقَالُ أُحْصِرَ فَهُوَ مُحْصَرٌ ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُقَالُ فِي الْعَدُوِّ وَالْمَرَضِ جَمِيعًا أُحْصِرَ ، وَحُصِرَ فِي الْعَدُوِّ خَاصَّةً فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ لَفْظَةَ الْإِحْصَارِ تَتَنَاوَلُ الْمَرِيضَ ، وَقَوْلُهُ { فَإِذَا أَمِنْتُمْ } لَا يَمْنَعُ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمَرَضِ ، وَمَعْنَاهُ إذَا بَرِئْتُمْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الزُّكَامُ أَمَانٌ مِنْ الْجُذَامِ ، وَالدَّمَامِلُ أَمَانٌ مِنْ الطَّاعُونِ } فَعَرَفْنَا أَنَّ لَفْظَةَ الْأَمْنِ تُطْلَقُ فِي الْمَرَضِ .
وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ الْحَجَّاجِ بْنِ عُمَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرِجَ فَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ } فَذُكِرَ لِابْنِ عَبَّاسٍ ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا فَقَالَا صَدَقَ ، وَعَنْ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ خَرَجْنَا مِنْ الْبَصْرَةِ عُمَّارًا أَيْ مُعْتَمِرِينَ فَلُدِغَ صَاحِبٌ لَنَا فَأَعْرَضْنَا الطَّرِيقَ لِنَسْأَلَ مَنْ نَجِدُهُ فَإِذَا نَحْنُ بِرَكْبٍ فِيهِمْ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَسَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لِيَبْعَثْ صَاحِبُكُمْ بِدَمٍ وَيُوَاعَدْ الْمَبْعُوثَ عَلَى يَدَيْهِ أَيَّ يَوْمٍ شَاءَ فَإِذَا ذَبَحَ عَنْهُ حَلَّ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ

الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ ثَبَتَ حَقُّ التَّحَلُّلِ لِلْمُحْصَرِ بِالْعَدُوِّ مَوْجُودٌ هُنَا ، وَهُوَ زِيَادَةُ مُدَّةِ الْإِحْرَامِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا الْتَزَمَ أَنْ يُؤَدِّيَ أَعْمَالَ الْحَجِّ ، وَبِتَعَذُّرِ الْأَدَاءِ تَزْدَادُ مُدَّةُ الْإِحْرَامِ عَلَيْهِ ، وَيَلْحَقُهُ فِي ذَلِكَ ضَرْبُ مَشَقَّةٍ فَأَثْبَتَ لَهُ الشَّرْعُ حَقَّ التَّحَلُّلِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ هُنَا فَقَدْ يَزْدَادُ عَلَيْهِ مُدَّةُ الْإِحْرَامِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ وَالْمَشَقَّةُ عَلَيْهِ فِي الْمُكْثِ مُحْرِمًا مَعَ الْمَرَضِ أَكْثَرُ فَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ التَّحَلُّلِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى هَذَا لَا مَا قَالَ إنَّ الْعَدُوَّ إذَا أَحَاطُوا بِهِ مِنْ الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعَةِ أَوْ حَبَسُوهُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَزُولُ مَا بِهِ بِالتَّحَلُّلِ بِأَنْ إنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ إلَى أَهْلِهِ مَعَ ذَلِكَ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ التَّحَلُّلِ عَرَفْنَا أَنَّ الْمَعْنَى مَا قُلْنَا فَأَمَّا الَّذِي ضَلَّ الطَّرِيقَ عِنْدَنَا فَلَيْسَ مُحْصَرًا لِأَنَّهُ إنْ وَجَدَ مَنْ يَبْعَثُ بِالْهَدْيِ عَلَى يَدِهِ فَذَلِكَ الرَّجُلُ يَهْدِيهِ إلَى الطَّرِيقِ فَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى التَّحَلُّلِ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَبْعَثُ بِالْهَدْيِ ، وَعَلَى يَدَيْهِ فَإِنَّمَا يَتَحَلَّلُ لِعَجْزِهِ عَنْ تَبْلِيغِ الْهَدْيِ مَحِلَّهُ ، وَاَلَّذِي أَخْطَأَ الْعَدَدَ فَائِتُ الْحَجِّ ، وَفَائِتُ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِأَعْمَالِ الْعُمْرَةِ فَأَمَّا إذَا سُرِقَتْ نَفَقَتُهُ فَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ فَهُوَ مُحْصَرٌ يَتَحَلَّلُ بِالْهَدْيِ ، وَهَكَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا أَنَّهُ قَالَ إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ إلَى الْبَيْتِ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ وَإِلَّا فَلَا ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الْمَشْيُ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَيَلْزَمُهُ بَعْدَ الشُّرُوعِ كَمَا لَا يَلْزَمُهُ حَجَّةُ التَّطَوُّعِ ابْتِدَاءً ، وَيَلْزَمُهُ

الْإِتْمَامُ إذَا شَرَعَ فِيهَا ، وَالْفَقِيرُ لَا يَلْزَمُهُ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ ، وَيَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ إذَا شَرَعَ فِيهَا

( قَالَ ) وَإِذَا كَانَ مُحْرِمًا بِعُمْرَةٍ فَأُحْصِرَ يَتَحَلَّلُ بِالْهَدْيِ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَقُولُ حُكْمُ الْإِحْصَارِ لِمَنْ يَخَافُ الْفَوْتَ ، وَالْمُعْتَمِرُ لَا يَخَافُ الْفَوْتَ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ { رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أُحْصِرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ كَانَ مُحْرِمًا بِالْعُمْرَةِ } ، وَقَدْ بَيَّنَّا حَدِيثَ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمَلْدُوغِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ زِيَادَةُ مُدَّةِ الْإِحْرَامِ عَلَيْهِ ، وَالْمُعْتَمِرُ فِي هَذَا كَالْحَاجِّ فَيَتَحَلَّلُ بِالْهَدْيِ هُنَا إلَّا أَنَّهُ إذَا بَعَثَ بِالْهَدْيِ هُنَا يُوَاعِدُ صَاحِبَهُ يَوْمًا أَيُّ يَوْمٍ شَاءَ لِأَنَّ عَمَل الْعُمْرَةِ لَا يَخْتَصُّ بِوَقْتٍ فَكَذَا الْهَدْيُ الَّذِي يَتَحَلَّلُ بِهِ عَنْ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ بِخِلَافِ الْمُحْصَرِ بِالْحَجِّ عَلَى قَوْلِهِمَا لِأَنَّ أَعْمَالَ الْحَجِّ مُخْتَصَّةٌ بِوَقْتِ الْحَجِّ فَكَذَلِكَ الْهَدْيُ الَّذِي بِهِ يَتَحَلَّلُ مُؤَقَّتٌ بِيَوْمِ النَّحْرِ ، وَإِذَا حَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ فَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ مَكَانَهَا لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِيهَا قَدْ صَحَّ

( قَالَ ) وَالْقَارِنُ يَبْعَثُ بِهَدْيَيْنِ لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامَيْنِ ، وَتَحَلُّلُهُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا يَحْصُلُ قَبْلَ أَدَاءِ الْأَعْمَالِ فَلِهَذَا يَبْعَثُ بِهَدْيَيْنِ ، وَإِذَا تَحَلَّلَ بِهِمَا فَعَلَيْهِ عُمْرَتَانِ ، وَحَجَّةٌ يَقْضِيهُمَا بِقِرَانٍ أَوْ إفْرَادٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ إحْدَى الْعُمْرَتَيْنِ تَلْزَمُهُ لِلتَّحَلُّلِ عَنْ الْعُمْرَةِ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهَا ، وَالْأُخْرَى لِلتَّحَلُّلِ عَنْ إحْرَامِ الْحَجِّ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْمُفْرِدِ بِالْحَجِّ أَنَّ عَلَيْهِ عُمْرَةً وَحَجَّةً إذَا تَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ .
( قَالَ ) وَإِنْ بَعَثَ الْقَارِنُ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ لِيَتَحَلَّلَ بِهِ مِنْ أَحَدِ الْإِحْرَامَيْنِ لَا يَصِحُّ ذَلِكَ ، وَلَا يَتَحَلَّلُ بِهِ لِأَنَّ أَوَانَ التَّحَلُّلِ مِنْ الْإِحْرَامَيْنِ فِي حَقِّ الْقَارِنِ وَاحِدٌ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَلَا أُحِلُّ مِنْهُمَا } ، وَبِالْهَدْيِ الْوَاحِدِ لَا يَتَحَلَّلُ مِنْهُمَا فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ أَصْلًا .
( قَالَ ) وَإِذَا بَعَثَ بِهَدْيَيْنِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُعَيِّنَ الَّذِي لِلْعُمْرَةِ مِنْهُمَا وَاَلَّذِي لِلْحَجِّ لِأَنَّ هَذَا التَّعْيِينَ غَيْرُ مُفِيدٍ فَلَا يُعْتَبَرُ أَصْلًا ثُمَّ الْمَذْهَبُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ لَا يَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ حَتَّى لَوْ وَاعَدَ الْمَبْعُوثَ عَلَى يَدِهِ بِأَنْ يَذْبَحَ عَنْهُ فِي أَوَّلِ أَيَّامِ الْعَشْرِ جَازَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَخْتَصُّ بِيَوْمٍ فَالْإِهْدَاءُ دَمٌ يَتَحَلَّلُ بِهِ مِنْ إحْرَامِ الْحَجِّ فَيَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ كَهَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى نَصَّ فِي هَدْيِ الْإِحْصَارِ عَلَى مَكَان بِقَوْلِهِ { حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } فَالتَّقْيِيدُ بِالزَّمَانِ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَيْهِ فَلَا يَثْبُتُ بِالرَّأْيِ ثُمَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ دِمَاءِ الْكَفَّارَاتِ فَإِنَّهُ يَجِبُ لِلْإِحْلَالِ قَبْلَ أَوَانِهِ ، وَلِهَذَا لَا يُبَاحُ التَّنَاوُلُ مِنْهُ ، وَدِمَاءُ الْكَفَّارَاتِ تَخْتَصُّ

بِالْحَرَمِ وَلَا تَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ بِخِلَافِ دَمِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ فَإِنَّهُ نُسُكٌ يُبَاحُ التَّنَاوُلُ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْأُضْحِيَّةِ .
إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ إذَا بَعَثَ بِالْهَدْيِ ثُمَّ زَالَ الْإِحْصَارُ فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِ الْحَجِّ وَالْهَدْيِ جَمِيعًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَوَجَّهَ لِأَدَاءِ الْحَجِّ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِلْعَجْزِ عَنْ أَدَاءِ الْحَجِّ فَكَانَ فِي حُكْمِ الْبَدَلِ ، وَقَدْ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ الْبَدَلِ ، وَيَلْزَمُهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ فَإِذَا أَدْرَكَ هَدْيَهُ صَنَعَ بِهِ مَا شَاءَ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ ، وَقَدْ كَانَ عَيَّنَهُ لِمَقْصُودٍ ، وَقَدْ اسْتَغْنَى عَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إدْرَاكِ الْحَجِّ وَالْهَدْيِ جَمِيعًا لَا يَلْزَمُهُ التَّوَجُّهُ لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ أَدَاءِ الْأَعْمَالِ لَمْ يَنْعَدِمْ بِزَوَالِ الْإِحْصَارِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ ، وَإِنْ تَوَجَّهَ لِيَتَحَلَّلَ بِأَعْمَالِ الْعُمْرَةِ فَلَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ فَائِتُ الْحَجِّ ، وَفَائِتُ الْحَجِّ يَتَحَلَّلُ بِأَعْمَالِ الْعُمْرَةِ ، وَلَهُ فِي هَذَا التَّوَجُّهِ غَرَضٌ ، وَهُوَ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ ، وَأَمَّا إذَا قَدَرَ عَلَى إدْرَاكِ الْحَجِّ ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى إدْرَاكِ الْهَدْيِ ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ هَذَا عِنْدَ أَبِي حَنَفِيَّة رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا عِنْدَهُمَا لِأَنَّ عِنْدَهُمَا هَذَا الْهَدْيُ يَخْتَصُّ بِيَوْمِ النَّحْرِ فَلَا يُتَصَوَّرُ إدْرَاكُ الْحَجِّ دُونَ الْهَدْيِ ثُمَّ فِي الْقِيَاسِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ أَدَاءِ الْأَعْمَالِ قَدْ ارْتَفَعَ بِزَوَالِ الْإِحْصَارِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حُكْمَ الْبَدَلِ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ إذَا قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ فَيَلْزَمُهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ ، وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ فَقَالَ

لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ لِأَنَّهُ لَوْ تَوَجَّهَ ضَاعَ مَالُهُ فَإِنَّ الْهَدْيَ مِلْكُهُ جَعَلَهُ لِمَقْصُودٍ ، وَهُوَ التَّحَلُّلُ فَإِنْ كَانَ لَا يُدْرِكُهُ ، وَلَا يَتَحَلَّلُ بِهِ يُضَيِّعُ مَالَهُ ، وَحُرْمَةُ الْمَالِ كَحُرْمَةِ النَّفْسِ فَكَمَا كَانَ الْخَوْفُ عَلَى نَفْسِهِ عُذْرًا لَهُ فِي التَّحَلُّلِ فَكَذَلِكَ الْخَوْفُ عَلَى مَالِهِ ، وَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يَتَوَجَّهَ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْوَفَاءِ بِمَا وَعَدَ ، وَهُوَ أَدَاءُ مَا شَرَعَ فِيهِ

( قَالَ ) وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ تُحْرِمُ بِالْحَجِّ ، وَلَيْسَ لَهَا مَحْرَمٌ ، وَلَا زَوْجٌ يَخْرُجُ مَعَهَا فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمُحْصَرِ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ لِسَفَرِ الْحَجِّ إلَّا مَعَ مُحْرِمٍ أَوْ زَوْجٍ عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا وَجَدَتْ رُفْقَةَ نِسَاءٍ ثِقَاتٍ فَلَهَا أَنْ تَخْرُجَ وَإِنْ لَمْ تَجِدْ مُحْرِمًا ، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَّرَ الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ فَاشْتِرَاطُ الْمُحْرِمِ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ ، وَمِثْلُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ تَعْدِلُ عِنْدَكُمْ النَّسْخَ ثُمَّ هَذَا سَفَرٌ لِإِقَامَةِ الْفَرْضِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْمَحْرَمُ كَسَفَرِ الْهِجْرَةِ فَإِنَّ الَّتِي أَسْلَمَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَهَا أَنْ تُهَاجِرَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ ، وَهَذَا لِأَنَّ شَرَائِطَ إقَامَةِ الْفَرْضِ مَا يَكُونُ فِي وُسْعِ الْمَرْءِ عَادَةً ، وَلَا وِلَايَةَ لَهَا عَلَى الْمَحْرَمِ فِي إحْرَامِهِ ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْمَحْرَمِ الْخُرُوجُ مَعَهَا ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ لِأَجْلِ هَذَا الْخُرُوجِ بِالِاتِّفَاقِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَحْرَمَ لَيْسَ بِشَرْطٍ إلَّا أَنَّ عَلَيْهَا أَنْ تَتَحَرَّزَ عَنْ الْفِتْنَةِ ، وَفِي اخْتِلَاطِهَا بِالرِّجَالِ فِتْنَةٌ ، وَهِيَ تَسْتَوْحِشُ بِالْوَحْدَةِ فَتَخْرُجُ مَعَ رُفْقَةِ نِسْوَةٍ ثِقَاتٍ لِتَسْتَأْنِسَ بِهِنَّ ، وَلَا تَحْتَاجُ إلَى مُخَالَطَةِ الرِّجَالِ ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا يَحِلُّ لِامْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ تُسَافِرَ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيِهَا إلَّا وَمَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ إنِّي أُرِيدُ الْخُرُوجَ فِي غَزْوَةِ كَذَا وَإِنَّ امْرَأَتِي تُرِيدُ الْحَجَّ فَمَاذَا أَصْنَعُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُخْرُجْ مَعَهَا ، لَا تُفَارِقْهَا } فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ فَهِمُوا مِنْ

السَّفَرِ الَّذِي ذَكَرَهُ سَفَرَ الْحَجِّ حَتَّى قَالَ السَّائِلُ مَا قَالَ ، وَفِي أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزَّوْجَ بِأَنْ يَتْرُكَ الْغَزْوَ ، وَيَخْرُجَ مَعَهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ إلَّا مَعَ زَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ .
وَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ أَنَّهَا تُنْشِئُ سَفَرًا عَنْ اخْتِيَارٍ فَلَا يَحِلُّ لَهَا ذَلِكَ إلَّا مَعَ زَوْجٍ أَوْ مَحْرَمٍ كَسَائِرِ الْأَسْفَارِ بِخِلَافِ الْمُهَاجِرَةِ فَإِنَّهَا لَا تُنْشِئُ سَفَرًا ، وَلَكِنَّهَا تَقْصِدُ النَّجَاةَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَصَلَتْ إلَى جَيْشٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى صَارَتْ آمِنَةً لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُسَافِرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ مَحْرَمٍ ، وَلِأَنَّهَا مُضْطَرَّةٌ هُنَاكَ لِخَوْفِهَا عَلَى نَفْسِهَا أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِدَّةَ هُنَاكَ لَا تَمْنَعُهَا مِنْ الْخُرُوجِ ، وَهُنَا لَوْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ لِلْحَجِّ ، وَتَأْثِيرُ فَقْدِ الْمَحْرَمِ فِي الْمَنْعِ مِنْ السَّفَرِ كَتَأْثِيرِ الْعِدَّةِ فَإِذَا مُنِعَتْ مِنْ الْخُرُوجِ لِسَفَرِ الْحَجِّ بِسَبَبِ الْعِدَّةِ فَكَذَلِكَ بِسَبَبِ فَقْدِ الْمَحْرَمِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَرْأَةَ عُرْضَةٌ لِلْفِتْنَةِ ، وَبِاجْتِمَاعِ النِّسَاءِ تَزْدَادُ الْفِتْنَةُ ، وَلَا تُرْفَعُ إنَّمَا تُرْفَعُ بِحَافِظٍ يَحْفَظُهَا ، وَلَا يَطْمَعُ فِيهَا ، وَذَلِكَ الْمَحْرَمُ ، وَتَفْسِيرُهُ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ بِسَبَبِ قَرَابَةٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا لِأَنَّهُ لَا يَطْمَعُ فِيهَا إذَا عَلِمَ أَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ أَبَدًا فَكَذَلِكَ يُسَافِرُ بِهَا .
( قَالَ ) وَيَسْتَوِي أَنْ يَكُونَ الْمَحْرَمُ حُرًّا أَوْ مَمْلُوكًا مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا لِأَنَّ كُلَّ ذِي دِينٍ يَقُومُ بِحِفْظِ مَحَارِمِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَجُوسِيًّا فَحِينَئِذٍ لَا تَخْرُجُ مَعَهُ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ إبَاحَتَهَا لَهُ فَلَا يَنْقَطِعُ طَمَعُهُ عَنْهَا فَلِهَذَا لَا تُسَافِرُ مَعَهُ ، وَلَا يَخْلُو بِهَا .
إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ : إذَا لَمْ تَجِدْ الْمَحْرَمَ ، وَقَدْ

أَحْرَمَتْ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ فَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنْ الْخُرُوجِ شَرْعًا فَصَارَتْ كَالْمُحْصَرِ تَبْعَثُ بِالْهَدْيِ فَتَتَحَلَّلُ بِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ ، وَأَرَادَتْ أَنْ تَخْرُجَ لِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ مَعَ الْمَحْرَمِ فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ لِأَنَّهَا صَارَتْ كَالْمَمْلُوكَةِ لَهُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ ، وَثَبَتَ لَهُ حَقُّ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فَهِيَ بِهَذَا الْخُرُوجِ تَحُولُ بَيْنَ الزَّوْجِ وَبَيْنَ حَقِّهِ أَوْ تَلْزَمُهُ مَشَقَّةُ السَّفَرِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ ذَلِكَ كَمَا يَمْنَعُهَا مِنْ الْخُرُوجِ لِزِيَارَةِ الْأَقَارِبِ ، وَكَمَا يَمْنَعُهَا مِنْ الْخُرُوجِ لِحَجَّةِ التَّطَوُّعِ لَكِنَّا نَقُولُ فَرْضُ الْحَجِّ يَتَوَجَّهُ عَلَيْهَا بِاسْتِجْمَاعِ الشَّرَائِطِ فَكَانَ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ ، وَبِسَبَبِ عَقْدِ النِّكَاحِ لَا يَثْبُتُ عَلَيْهَا لِلزَّوْجِ وِلَايَةُ الْمَنْعِ مِنْ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْنَعُهَا مِنْ صِيَامِ شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَالْمَوْلَى لَا يَمْنَعُ مَمْلُوكَهُ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى مِنْ حَقِّهِ فَهَذَا مِثْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ تَجِدْ مَحْرَمًا فَإِنَّ هُنَاكَ الْفَرْضَ لَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَيْهَا لِانْعِدَامِ شَرَائِطِهِ حَتَّى لَوْ كَانَتْ لَا تَحْتَاجُ إلَى سَفَرٍ بِأَنْ كَانَ بَيْنَهَا ، وَبَيْنَ مَكَّةَ دُونَ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا ، وَإِنْ لَمْ تَجِدْ مَحْرَمًا لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْمَحْرَمِ لِلسَّفَرِ لَا لِمَا دُونَهُ ، وَأَمَّا حَجُّ التَّطَوُّعِ فَالْخُرُوجُ لِأَجْلِهِ لَمْ يَصِرْ مُسْتَثْنًى مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِفَرْضٍ عَلَيْهَا فَإِذَا أَحْرَمَتْ بِحَجَّةِ التَّطَوُّعِ كَانَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا ، وَيُحَلِّلَهَا إلَّا أَنَّ هُنَا لَا يَتَأَخَّرُ تَحْلِيلُهُ إيَّاهَا إلَى ذَبْحِ الْهَدْيِ ، وَلَكِنْ يُحَلِّلُهَا مِنْ سَاعَتِهِ ، وَعَلَيْهَا هَدْيٌ لِتَعَجُّلِ الْإِحْلَالِ ، وَعُمْرَةٌ ، وَحَجَّةٌ لِصِحَّةِ

شُرُوعِهَا فِي الْحَجِّ بِخِلَافِ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا تَتَحَلَّلُ إلَّا بِالْهَدْيِ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا حَقَّ لِلزَّوْجِ فِي مَنْعِهَا لَوْ وَجَدَتْ مَحْرَمًا ، وَإِنَّمَا تَعَذَّرَ عَلَيْهَا الْخُرُوجُ لِفَقْدِ الْمَحْرَمِ فَلَا تَتَحَلَّلُ إلَّا بِالْهَدْيِ ، وَهُنَا تَعَذَّرَ الْخُرُوجُ لِحَقِّ الزَّوْجِ ، وَكَمَا لَا يَكُونُ لَهَا أَنْ تُبْطِلَ حَقَّ الزَّوْجِ ، لَا يَكُونُ لَهَا أَنْ تُؤَخِّرَ حَقَّ الزَّوْجِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهَا مِنْ سَاعَتِهِ ، وَتَحْلِيلُهُ لَهَا أَنْ يَنْهَاهَا ، وَيَصْنَعَ بِهَا أَدْنَى مَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا فِي الْإِحْرَامِ مِنْ قَصِّ ظُفْرٍ وَنَحْوِهِ ، وَلَا يَكُونُ التَّحْلِيلُ بِالنَّهْيِ ، وَلَا بِقَوْلِهِ حَلَلْتُك لِأَنَّ عَقْدَ الْإِحْرَامِ قَدْ صَحَّ فَلَا يَصِحُّ الْخُرُوجُ إلَّا بِارْتِكَابِ مَحْظُورِهِ ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِقَوْلِهِ حَلَلْتُك ، وَهُوَ نَظِيرُ الصَّوْمِ إذَا صَحَّ الشُّرُوعُ فِيهِ لَا يَصِيرُ خَارِجًا إلَّا بِارْتِكَابِ مَحْظُورٍ حَتَّى أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ نَهَاهَا عَنْ صَوْمِ التَّطَوُّعِ لَا تَصِيرُ خَارِجَةً عَنْ الصَّوْمِ بِمُجَرَّدِ نَهْيِهِ ، وَكَذَلِكَ الْمَمْلُوكُ يُهِلُّ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَلِلْمَوْلَى أَنْ يُحَلِّلَهُ لِقِيَامِ حَقِّهِ فِي خِدْمَتِهِ ، وَمَنَافِعِهِ ، وَالْمَمْلُوكُ فِي هَذَا كَالزَّوْجَةِ فِي حَجَّةِ التَّطَوُّعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا

( قَالَ ) وَالْمُحْصَرُ بِالْحَجِّ إذَا بَعَثَ بِهَدْيَيْنِ حَلَّ بِأَوَّلِهِمَا لِأَنَّهُ مَا لَزِمَهُ لِلتَّحَلُّلِ إلَّا هَدْيٌ وَاحِدٌ ، وَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا مُعَيَّنٌ لِأَدَاءِ الْفَرْضِ ، وَالثَّانِي يَكُونُ تَطَوُّعًا ، وَالْإِحْلَالُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى هَدْيِ التَّطَوُّعِ

( قَالَ ) وَإِنْ حَلَّ الْمُحْصَرُ قَبْلَ أَنْ يَنْحَرَ هَدْيَهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِإِحْلَالِهِ لِأَنَّهُ حَلَّ قَبْلَ أَوَانِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } ، وَيَعُودُ حَرَامًا كَمَا كَانَ حَتَّى يَنْحَرَ هَدْيَهُ لِأَنَّ ذَبْحَ الْهَدْيِ مُتَعَيَّنٌ لِلتَّحَلُّلِ فَلَا يَحِلُّ بِغَيْرِهِ كَطَوَافِ الزِّيَارَةِ لَمَّا كَانَ مُتَعَيَّنًا لِلْإِحْلَالِ بِهِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ لَا يَحْصُلُ الْإِحْلَالُ بِغَيْرِهِ

( قَالَ ) وَإِنْ كَانَ الْمُحْصَرُ مُعْسِرًا لَمْ يَحِلَّ أَبَدًا إلَّا بِدَمٍ لِأَنَّ الدَّمَ مُتَعَيَّنٌ لِإِحْلَالِهِ بِالنَّصِّ كَمَا أَنَّ طَوَافَ الزِّيَارَةِ مُتَعَيَّنٌ لِإِحْلَالِهِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ فَكَمَا لَا يَحْصُلُ الْإِحْلَالُ بِغَيْرِهِ هُنَاكَ فَكَذَلِكَ هَذَا ، وَكَانَ عَطَاءٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ إذَا عَجَزَ عَنْ الْهَدْيِ نَظَرَ إلَى قِيمَةِ الْهَدْيِ فَجَعَلَ ذَلِكَ طَعَامًا يُطْعِمُ بِهِ الْمَسَاكِينَ ، كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ ، أَوْ يَصُومُ مَكَانَ طَعَامِ كُلِّ مِسْكِينٍ يَوْمًا فَيَتَحَلَّلُ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الْهَدْيِ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَمَالِي ، وَهَذَا أَحَبُّ إلَيَّ وَلِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا هَكَذَا ، وَالثَّانِي أَنَّهُ إذَا عَجَزَ عَنْ الْهَدْيِ صَامَ مَكَانَهُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ عَلَى قِيَاسِ هَدْيِ الْمُتْعَةِ لَكِنَّا نَقُولُ هَذَا كُلُّهُ قِيَاسُ الْمَنْصُوصِ عَلَى الْمَنْصُوصِ ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ بَلْ الْمَرْجِعُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ إلَى مَا وَقَعَ التَّنْصِيصُ عَلَيْهِ ، وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ

( قَالَ ) وَكُلُّ شَيْءٍ صَنَعَهُ الْمُحْصَرُ قَبْلَ أَنْ يُحِلَّ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُحْرِمِ الَّذِي لَيْسَ بِمُحْصَرٍ ، وَكَذَلِكَ إنْ ذُبِحَ عَنْ الْمُحْصَرِ هَدْيُهُ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ فَإِنَّهُ يَبْقَى حَرَامًا عَلَى حَالِهِ حَتَّى يَبْعَثَ بِهَدْيٍ فَيُذْبَحَ عَنْهُ فِي الْحَرَمِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ حَلَّ قَبْلَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِإِحْلَالِهِ سَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا بِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا

( قَالَ ) وَيُجْزِئُهُ فِي هَدْيِ الْإِحْصَارِ الْجَذَعُ الْعَظِيمُ مِنْ الضَّأْنِ ، وَالثَّنِيُّ مِنْ غَيْرِهَا لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ شَاةٌ ، وَعَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { أَشْرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلَّ سَبْعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فِي بَدَنَةٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ } فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْوَاجِبَ هُنَا مَا يَجْزِي فِي الضَّحَايَا ، وَاَلَّذِي يَجْزِي فِي الضَّحَايَا مَا سَمَّيْنَا فَكَذَا هُنَا ، وَإِنْ سُرِقَ الْهَدْيُ بَعْدَمَا ذُبِحَ عَنْهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِأَنَّهُ بَلَغَ مَحِلَّهُ فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ الَّذِي ذَبَحَهُ بَعْدَمَا ذُبِحَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَةِ مَا أَكَلَ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَنْ الْمُحْصَرِ لِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْمَبْعُوثِ عَلَى يَدِهِ لَا تَأْكُلْ أَنْتَ ، وَلَا رُفْقَتُك مِنْهَا شَيْئًا } ، وَلِأَنَّهُ قَدْ لَزِمَهُ التَّصَدُّقُ بِجَمِيعِ اللَّحْمِ عَنْ الْمُحْصَرِ فَإِذَا أَكَلَ مِنْهُ شَيْئًا كَانَ ضَامِنًا بَدَلَهُ ، وَحُكْمُ الْبَدَلِ حُكْمُ الْمُبْدَلِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِبَدَلِهِ عَنْ الْمُحْصَرِ أَيْضًا

( قَالَ ) وَإِنْ قَدِمَ مَكَّةَ قَارِنًا فَطَافَ وَسَعَى لِعُمْرَتِهِ وَحَجَّتِهِ ثُمَّ خَرَجَ إلَى بَعْضِ الْآفَاقِ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ فَأُحْصِرَ فَإِنَّهُ يَبْعَثُ بِالْهَدْيِ وَيَحِلُّ بِهِ ، وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ مَكَانَ حَجَّتِهِ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ عُمْرَةٌ مَكَانَ عُمْرَتِهِ لِأَنَّهُ فَرَغَ مِنْ عُمْرَتِهِ حِينَ طَافَ لَهَا وَسَعَى ، وَإِنَّمَا بَقِيَ عَلَيْهِ لِلْعُمْرَةِ الْحَلْقُ أَوْ التَّقْصِيرُ فَلِهَذَا لَا يَبْعَثُ بِهَدْيٍ لِأَجْلِ الْعُمْرَةِ ، وَإِنَّمَا يَبْعَثُ بِالْهَدْيِ لِلتَّحَلُّلِ عَنْ إحْرَامِ الْحَجِّ فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّهُ طَافَ وَسَعَى لِحَجَّتِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكْفِيَهُ ذَلِكَ لِلتَّحَلُّلِ كَمَا فِي فَائِتِ الْحَجِّ قُلْنَا مَا أَتَى بِهِ مِنْ الطَّوَافِ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا بَلْ كَانَ ذَلِكَ طَوَافَ التَّحِيَّةِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَحَلَّلَ بِمِثْلِهِ فَلِهَذَا يَبْعَثُ بِالْهَدْيِ لِلتَّحَلُّلِ مِنْ الْإِحْرَامِ لِلْحَجِّ ، وَلِهَذَا كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءُ عُمْرَةٍ لِأَنَّ ذَلِكَ الطَّوَافَ ، وَالسَّعْيَ صَارَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فِي حُكْمِ الْإِحْصَارِ فَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَقْصِيرِهِ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ ، وَهَذَا الدَّمُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ عِنْدَهُمَا الْحَلْقُ لِلْعُمْرَةِ يَتَوَقَّتُ بِالْحَرَمِ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا

( قَالَ ) فَإِذَا وَقَفَ بِعَرَفَةَ ثُمَّ أُحْصِرَ لَمْ يَكُنْ مُحْصَرًا لِأَنَّ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ أَحُصِرْتُمْ } أَيْ مُنِعْتُمْ عَنْ إتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ } فَإِنَّمَا مُنِعَ هَذَا بَعْدَ الْإِتْمَامِ فَلِهَذَا لَا يَكُونُ مُحْصَرًا ، وَلِأَنَّ حُكْمَ الْإِحْصَارِ إنَّمَا يَثْبُتُ عِنْدَ خَوْفِ الْفَوْتِ ، وَبَعْدَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ لَا يَخَافُ الْفَوْتَ فَلَا يَكُونُ مُحْصَرًا ، وَلَكِنَّهُ يَبْقَى مُحْرِمًا إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى الْبَيْتِ فَيَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ وَطَوَافَ الصَّدَرِ ، وَيَحْلِقَ أَوْ يُقَصِّرَ ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ الْوُقُوفِ بِمُزْدَلِفَةَ ، وَلِرَمْيِ الْجِمَارِ دَمٌ ، وَلِتَأْخِيرِ الطَّوَافِ دَمٌ ، وَلِتَأْخِيرِ الْحَلْقِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ عَلَيْهِ لِتَأْخِيرِ الْحَلْقِ وَالطَّوَافِ شَيْءٌ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ الْفُصُولِ فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ إنَّكُمْ قُلْتُمْ إذَا ازْدَادَتْ عَلَيْهِ مُدَّةُ الْإِحْرَامِ يَثْبُتُ حُكْمُ الْإِحْصَارِ فِي حَقِّهِ ، وَقَدْ ازْدَادَتْ مُدَّةُ الْإِحْرَامِ هُنَا فَلِمَاذَا لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْإِحْصَارِ فِي حَقِّهِ ؟ قُلْنَا : لَا كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّحَلُّلِ بِالْحَلْقِ إلَّا مِنْ النِّسَاءِ ، وَإِنْ كَانَ يَلْزَمُهُ بَعْضُ الدِّمَاءِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْعُذْرُ الْمُوجِبُ لِلتَّحَلُّلِ هُنَا

( قَالَ ) وَإِذَا قَدِمَ مَكَّةَ فَأُحْصِرَ بِهَا لَمْ يَكُنْ مُحْصَرًا ، وَذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْمُحْرِمِ يُحْصَرُ فِي الْحَرَمِ فَقَالَ لَا يَكُونُ مُحْصَرًا فَقُلْت أَلَيْسَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُحْصِرَ بِالْحُدَيْبِيَةِ } ، وَهِيَ مِنْ الْحَرَمِ فَقَالَ إنَّ مَكَّةَ يَوْمَئِذٍ كَانَتْ دَارَ الْحَرْبِ فَأَمَّا الْيَوْمُ فَهِيَ دَارُ الْإِسْلَامِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِحْصَارُ فِيهَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَإِنَّمَا أَنَا أَقُولُ إذَا غَلَبَ الْعَدُوُّ عَلَى مَكَّةَ حَتَّى حَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ فَهُوَ مُحْصَرٌ ، وَالْأَصَحُّ أَنْ يَقُولَ إذَا كَانَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ فَإِنْ مُنِعَ مِنْ الْوُقُوفِ وَطَوَافِ الزِّيَارَةِ جَمِيعًا فَهُوَ مُحْصَرٌ ، وَإِنْ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ مُحْصَرًا لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَمْنُوعًا مِنْ الطَّوَافِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يَفُوتَهُ الْحَجُّ فَيَتَحَلَّلَ بِالطَّوَافِ ، وَالسَّعْيِ ، وَإِنْ يَكُنْ مَمْنُوعًا مِنْ الْوُقُوفِ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ لِيُتِمَّ حَجَّهُ ، وَإِنْ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُمَا فَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ وَالتَّحَلُّلُ بِالطَّوَافِ فَيَكُونُ مُحْصَرًا كَمَا لَوْ أُحْصِرَ فِي الْحِلِّ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96