كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
وَلَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ كُرٌّ مِنْ حِنْطَةٍ وَشَعِيرٍ وَسِمْسِمٍ فَعَلَيْهِ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ الثُّلُثُ ؛ لِأَنَّ الْكُرَّ عِبَارَةٌ عَنْ أَرْبَعِينَ قَفِيزًا ، وَقَدْ فَسَّرَهُ بِالْأَجْنَاسِ الثَّلَاثَةِ فَيَكُونُ مِنْ كُلِّ جِنْسِ الثُّلُثُ .
وَلَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ قَفِيزٌ مِنْ حِنْطَةٍ وَشَعِيرٍ إلَّا رُبُعًا فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ بَعْضُ مَا يَتَنَاوَلُ كَلَامُهُ وَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ قَفِيزٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ النِّصْفُ اعْتِبَارًا لِإِقْرَارِهِ بِبَعْضِ الْقَفِيزِ بِإِقْرَارِهِ بِالْكُلِّ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : لَهُ قِبَلِي مَثَاقِيلُ مِنْ مِسْكٍ وَزَعْفَرَانٍ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ عَلَيَّ قَفِيزٌ مِنْ حِنْطَةٍ وَشَعِيرٍ فَعَلَيْهِ لَهُمَا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ قَفِيزٍ لِلتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْإِقْرَارِ وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ فِي التَّفْسِيرِ .
وَإِنْ قَالَ : اسْتَوْدَعَنِي ثَلَاثَةَ أَثْوَابِ زُطِّيٍّ وَيَهُودِيٍّ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلُهُ ، فَإِنْ شَاءَ قَالَ : يَهُودِيٌّ وَزُطِّيَّانِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ الْوَاحِدَ لَا يَتَبَعَّضُ فَتَعَيَّنَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ يَهُودِيًّا وَالْآخَرُ زُطِّيًّا بَقِيَ الثَّالِثُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ وَصْفَيْنِ ، فَإِنْ بَيَّنَهُ بِالْيَهُودِيِّ فَقَدْ الْتَزَمَ الزِّيَادَةَ ، وَإِنْ بَيَّنَهُ بِالزُّطِّيِّ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ ثَوْبٌ زُطِّيٌّ أَوْ يَهُودِيٌّ .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي لَهُ عَلَى فُلَانٍ لِفُلَانٍ ، وَكَانَ الْمُقَرُّ لَهُ عَلَى فُلَانٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ فِي صَكٍّ وَعَشَرَةَ دَنَانِيرَ فِي صَكٍّ ، فَقَالَ الْمُقِرُّ عَنَيْتُ أَحَدَهُمَا وَادَّعَاهُمَا الْمُقَرُّ لَهُ فَهُمَا جَمِيعًا لِلْمُقَرِّ لَهُ وَأَمَّا صِحَّةُ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ فَلِأَنَّهُ إخْبَارٌ مِنْ الْغَائِبِ عَنْ وَاجِبٍ سَابِقٍ ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي الدُّيُونِ كَمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْأَعْيَانِ بِخِلَافِ التَّمْلِيكِ ابْتِدَاءً ، وَتَصْحِيحُ الْإِقْرَارِ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ تَصْحِيحِ التَّمْلِيكِ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ بِالْخَمْرِ صَحِيحٌ وَتَمْلِيكُهَا ابْتِدَاءً لَا يَصِحُّ مِنْ الْمُسْلِمِ ، ثُمَّ أَدْخَلَ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي قَوْلِهِ الدَّيْنُ الَّذِي عَلَى فُلَانٍ ، وَذَلِكَ لِلْجِنْسِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَعْهُودِ فَيَتَنَاوَلُ جِنْسَ مَالِهِ عَلَى فُلَانٍ نَصًّا فَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ " عَنَيْتُ أَحَدَهُمَا " يَكُون رُجُوعًا وَلَوْ غَابَ الْمُقِرُّ لَمْ يَكُنْ لِلْمُقَرِّ لَهُ أَنْ يَتَقَاضَى الْمَالَ مِنْ الْغَرِيمِ ، وَإِنْ صَدَّقَهُ الْغَرِيمُ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِذَلِكَ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى الدَّفْعِ إلَيْهِ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِالْمِلْكِ لَا بِحَقِّ الْقَبْضِ ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ الدَّيْنِ مِلْكًا لِلْمُقَرِّ لَهُ أَنْ يَكُونَ حَقُّ الْقَبْضِ إلَيْهِ فَإِنَّ لِلْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ حَقَّ قَبْضِ الثَّمَنِ ، وَهُوَ مِلْكٌ لِلْمُوَكِّلِ وَلِهَذَا قَالَ : لَوْ دَفَعَهُ الْغَرِيمُ إلَيْهِ بَرِئَ كَمَا لَوْ دَفَعَ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ إلَى الْمُوَكِّلِ وَفِي الْأَصْلِ عَلَّلَ فِي الْمَسْأَلَةِ ، فَقَالَ ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ ، وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ نَظَرٌ فَإِنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ بِالْإِقْرَارِ جَائِزٌ ، وَلَكِنَّ مُرَادَهُ أَنْ يُقَالَ : إنَّ فِي هَذَا إبْطَالَ حَقِّ الْغَائِبِ فِي الْقَبْضِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِنِصْفِ الدَّيْنِ الَّذِي لَهُ عَلَى فُلَانٍ لِغَيْرِهِ جَازَ وَالْمُقِرُّ هُوَ الَّذِي يُتَقَاضَى فَيُعْطِي الْمُقَرَّ لَهُ نِصْفَ الدَّيْنِ الَّذِي لَهُ عَلَى فُلَانٍ لِغَيْرِهِ جَازَ وَالْمُقِرُّ هُوَ الَّذِي
يُتَقَاضَى فَيُعْطِي الْمُقَرَّ لَهُ نِصْفَ مَا يَسْتَوْفِي لِمَا بَيَّنَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ .
فَإِنْ ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ الضَّمَانَ عَلَى الْمُقِرِّ ، وَقَالَ : أَدَّيْتُهُ بِغَيْرِ أَمْرِي ، فَإِنْ قَالَ الْمُقَرُّ لَهُ لِلْمُقِرِّ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ لِلْمُقِرِّ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ صَيْرُورَةِ الْمَالِ دَيْنًا عَلَيْهِ مُبَاشَرَةٌ لِأَدَائِهِ فَلَعَلَّهُ صَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ بِاسْتِهْلَاكٍ مِنْهُ أَوْ بِأَدَائِهِمَا جَمِيعًا فَالْمُقَرُّ لَهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ بِسَبَبِ الضَّمَانِ ، وَهُوَ مُنْكِرٌ ، فَإِنْ قَالَ : أَدَّيْتُهُ بِأَمْرِكَ كَانَ ضَامِنًا لِنَصِيبِهِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ الْمُقَرُّ لَهُ مَا أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ وَادَّعَى الْمُسْقِطَ ، وَهُوَ الْإِذْنُ .
وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ كُرُّ شَعِيرٍ وَكُرُّ تَمْرٍ وَكُرُّ حِنْطَةٍ فَأَقَرَّ أَنَّ نِصْفَ طَعَامِهِ الَّذِي عَلَى فُلَانٍ لِفُلَانٍ فَلَهُ نِصْفُ الْحِنْطَةِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الطَّعَامِ مُطْلَقًا يَتَنَاوَلُ الْحِنْطَةَ وَدَقِيقَهَا ، وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي طَعَامًا أَوْ وَكَّلَ وَكِيلًا بِشِرَاءِ الطَّعَامِ يَنْصَرِفُ إلَى شِرَاءِ الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا خَاصَّةً لِأَنَّ ذِكْرَ الطَّعَامِ مُطْلَقًا يَتَنَاوَلُ الْحِنْطَةَ وَدَقِيقَهَا فَإِنَّ بَائِعَهَا يُسَمَّى بَائِعَ الطَّعَامِ وَسُوقُ الطَّعَامِ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ الْحِنْطَةُ وَدَقِيقُهَا وَلِهَذَا لَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي طَعَامًا أَوْ وَكَّلَ وَكِيلًا بِشِرَاءِ الطَّعَامِ يَنْصَرِفُ إلَى شِرَاءِ الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا خَاصَّةً وَالْإِقْرَارُ مِنْ جِنْسِ التِّجَارَةِ فَمُطْلَقُ لَفْظِ الطَّعَامِ فِيهِ يَتَنَاوَلُ الْحِنْطَةَ دُونَ الشَّعِيرِ .
وَلَوْ قَالَ : لَهُ عِنْدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ قَرْضٌ وَوَدِيعَةٌ فَهُوَ ضَامِنٌ لِنِصْفِهَا قَرْضًا وَالنِّصْفِ الْآخَرِ وَدِيعَةً ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ قَرْضٌ وَوَدِيعَةٌ تَفْسِيرٌ لِلْأَلْفِ فَيَتَنَصَّفُ بَيْنَهُمَا إذْ هُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : مُضَارَبَةٌ وَقَرْضٌ ، فَإِنْ وَصَلَ الْكَلَامَ ، فَقَالَ : مِائَةٌ مِنْهَا قَرْضٌ وَتِسْعُمِائَةٍ مُضَارَبَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِهِ أَنَّهُ يَنْزِلُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ احْتِمَالِ التَّفَاوُتِ ، وَكَانَ هَذَا بَيَانًا مُعْتَبَرًا لِظَاهِرِ لَفْظِهِ بِمَا هُوَ مُحْتَمَلٌ وَمِثْلُ هَذَا الْبَيَانِ يَصِحُّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : لَهُ قِبَلِي كُرٌّ مِنْ حِنْطَةٍ وَشَعِيرٍ الْحِنْطَةُ مَحْتُومٌ وَالشَّعِيرُ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ مَحْتُومًا قُبِلَ بَيَانُهُ مَوْصُولًا لِمَا قُلْنَا .
وَلَوْ قَالَ : لَهُ عِنْدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ هِبَةٌ أَوْ وَدِيعَةٌ فَإِنَّهَا وَدِيعَةٌ وَلَا يَكُونُ هِبَةً ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ ، وَهُوَ لَمْ يَقْبِضْهَا ، وَكَانَتْ وَدِيعَةً .
وَلَوْ قَالَ : غَصَبْتُكَ شِيَاهًا كَثِيرَةً فَهُوَ عَلَى أَرْبَعِينَ شَاةً لِمَا قُلْنَا أَنَّ التَّنْصِيصَ عَلَى مَا يُسْتَفَادُ بِهِ الْغِنَى مِنْ هَذَا الْجِنْسِ وَأَدْنَاهُ أَرْبَعُونَ شَاةً .
وَلَوْ قَالَ : غَصَبْتُكَ إبِلًا كَثِيرَةً فَهُوَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ ؛ لِأَنَّ الْكَثِيرَ مَا يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ مِنْ جِنْسِهِ ، فَأَمَّا الْخَمْسَةُ ، وَإِنْ كَانَتْ نِصَابَ الزَّكَاةِ ، وَلَكِنَّهَا قَلِيلَةٌ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ وَلِقِلَّتِهَا لَا تَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ مِنْ جِنْسِهَا وَالْكَثِيرُ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ مَا يَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ مِنْ جِنْسِهِ وَأَدْنَى ذَلِكَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ .
وَإِذَا قَالَ : حِنْطَةٌ كَثِيرَةٌ فَهِيَ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِمَا أَنَّ النِّصَابَ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا ، وَلَمْ يُبَيِّنْ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِ وَقِيلَ : الْبَيَانُ فِيهِ إلَى الْمُقِرِّ عَلَى قَوْلِهِ بَعْدَ أَنْ يُبَيِّنَ أَكْثَرَ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْحِنْطَةِ أَنْ لَوْ أَقَرَّ بِهَا مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالْحِنْطَةِ مُطْلَقًا وَبَيَّنَهُ بِالرُّبُعِ كَانَ مَقْبُولًا مِنْهُ ، فَإِذَا نَصَّ مِنْهُ عَلَى صِفَةِ الْكَثْرَةِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُبَيِّنَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ يَحْتَمِلُهُ هَذَا اللَّفْظُ .
لَوْ أَقَرَّ أَنَّ الْوَدِيعَةَ الَّتِي عِنْدَ فُلَانٍ لِفُلَانٍ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَلَيْسَ لَلْمُقَرِّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْ الْمُسْتَوْدِعِ ، وَلَكِنَّ الْمُقِرَّ يَأْخُذُهَا فَيَدْفَعُهَا إلَيْهِ عَلَى قِيَاسِ مَا بَيَّنَّاهُ فِي الدَّيْنِ ، وَفِي هَذَا بَعْضُ إشْكَالٍ فَإِنَّ قَبْضَ الْوَدِيعَةِ إلَى صَاحِبِهَا ، وَلَكِنَّهُ اُعْتُبِرَ إقْرَارُهُ ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ مِلْكِ الْعَيْنِ لَهُ ثُبُوتُ حَقِّ الْقَبْضِ لَهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُقِرُّ مُرْتَهِنًا فِيهِ أَوْ بَائِعًا مِنْ الْمُقَرِّ لَهُ ، وَكَانَ مَحْبُوسًا عِنْدَهُ بِالْيَمِينِ فِي يَدِ الْمُودَعِ فَلِهَذَا كَانَ حَقُّ الْقَبْضِ إلَى الْمُقِرِّ ، وَإِنْ دَفَعَهَا الْمُسْتَوْدِعُ إلَى الْمُقِرِّ لَهُ بَرِئَ عَلَى قِيَاسِ مَا بَيَّنَّا فِي الدَّيْنِ ، وَهَذَا لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِالْمُحْتَمَلِ لَا يَكُونُ بَلْ بِحَقٍّ ثَابِتٍ لِلْمُقِرِّ فِي الْعَيْنِ ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِظَاهِرٍ ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ عِنْدَهُ وَدَائِعُ ، فَقَالَ : عَنَيْتُ بَعْضَهَا لَمْ يُصَدَّقْ لِإِدْخَالِهِ الْأَلِفَ وَاللَّامَ فِي قَوْلِهِ الْوَدِيعَةُ كَمَا بَيَّنَّا فِي الدَّيْنِ .
فَإِنْ قَالَ فُلَانٌ مَا اسْتَوْدَعَنِي الْمُقِرُّ شَيْئًا ، وَقَالَ الْمُقِرُّ لَهُ اسْتَوْدَعْتهَا إيَّاهُ بِغَيْرِ أَمْرِي فَالْمُقِرُّ ضَامِنٌ لَهَا بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ الْمُقَرُّ لَهُ مَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْإِيدَاعِ هُنَا ، وَهُوَ فِعْلٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ الْإِذْنُ ، وَلَمْ يَثْبُتْ الْإِذْنُ إذَا حَلَفَ الْمُقَرُّ لَهُ .
وَإِنْ أَقَرَّ بِالْأَمْرِ ، وَقَالَ الْمُسْتَوْدِعُ قَدْ رَدَدْتهَا إلَى الْمُقِرِّ أَوْ قَالَ : دَفَعْتهَا إلَى الْمُقَرِّ لَهُ أَوْ قَالَ : قَدْ ضَاعَتْ فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ أَخْبَرَ بِمَا هُوَ مُسَلَّطٌ عَلَيْهِ ، وَلَكِنَّ الَّذِي يَلِي خُصُومَتَهُ فِي ذَلِكَ وَاسْتِحْلَافَهُ الْمُقِرُّ إذَا كَانَ أَوْدَعَهُ بِإِذْنِ الْمُقَرِّ لَهُ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الِاسْتِرْدَادِ إلَيْهِ فَتَكُونُ الْخُصُومَةُ لَهُ مَعَ الْمُودِعِ فِي الِاسْتِحْلَافِ ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ مَسْأَلَةً أُخْرَى إذَا قَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفٌ فَالْقَوْلُ فِي بَيَانِهِ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَسِّرْهُ بِشَيْءٍ فَالْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِهِ إلَيْهِ سَوَاءٌ فَسَّرَهُ بِمَا يَتَفَاوَتُ مِنْ الْعَدَدِيَّاتِ أَوْ لَا يَتَفَاوَت .
وَذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ إذَا قَالَ : لَهُ عَلَيَّ غَيْرُ الْأَلْفِ فَعَلَيْهِ أَلْفَانِ وَلَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ غَيْرُ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ دِرْهَمَانِ ؛ لِأَنَّ الْغَيْرَ اسْمٌ لِمَا يُقَابِلُ الشَّيْءَ فَيُوجِبُ الْمُغَايَرَةَ فِيهِ ، وَفِي الدَّرَاهِمِ إنَّمَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِدِرْهَمٍ آخَرَ ، وَفِي الْأَلْفِ بِأَلْفٍ آخَرَ ، وَفِيمَا دُونَهُ لَا يَتَغَيَّرُ اللَّفْظُ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ أَلْفٌ وَمِائَةٌ وَتِسْعُمِائَةٍ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمُغَايَرَةُ بِأَلْفٍ آخَرَ فَيَلْزَمُهُ أَلْفَانِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الْإِقْرَارِ بِكَذَا لَا بَلْ كَذَا ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : وَإِذَا أَقَرَّ ، فَقَالَ : عَلَيَّ لِفُلَانٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا بَلْ خَمْسُمِائَةٍ فَعَلَيْهِ الْأَلْفُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : خَمْسُمِائَةٍ لَا بَلْ أَلْفٌ ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ لَا بَلْ لِاسْتِدْرَاكِ الْغَلَطِ ، وَرُجُوعُهُ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ لَا يَصِحُّ وَاخْتِيَارُهُ بِوُجُوبِ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ صَحِيحٌ ، فَإِذَا قَالَ : خَمْسُمِائَةٍ لَا بَلْ أَلْفٌ فَقَدْ اسْتَدْرَكَ الْغَلَطَ بِالْتِزَامِ خَمْسِمِائَةٍ أُخْرَى زِيَادَةً عَلَى الْخَمْسِمِائَةِ الْأُولَى فَعَلَيْهِ أَلْفٌ ، وَإِذَا قَالَ : أَلْفٌ لَا بَلْ خَمْسُمِائَةٍ فَقَدْ قَصَدَ الِاسْتِدْرَاكَ بِالرُّجُوعِ عَنْ الْأَلْفِ إلَى الْخَمْسِمِائَةِ فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ مِنْهُ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ بِيضٍ لَا بَلْ سُودٍ أَوْ قَالَ : سُودٌ لَا بَلْ بِيضٌ أَوْ قَالَ : جَيِّدٌ لَا بَلْ رَدِيءٌ أَوْ رَدِيءٌ لَا بَلْ جَيِّدٌ فَعَلَيْهِ أَفْضَلُهُمَا ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ وَاحِدٌ وَمِثْلُ هَذَا الْغَلَطِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ يَقَعُ فَاسْتِدْرَاكُهُ بِالْتِزَامِ زِيَادَةِ الْوَصْفِ صَحِيحٌ وَرُجُوعُهُ عَنْ وَصْفِ الْتِزَامِهِ بَاطِلٌ .
وَلَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ دِرْهَمٌ لَا بَلْ دِينَارٌ فَعَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَدِينَارٌ ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ مُخْتَلِفٌ وَالْغَلَطُ لَا يَقَعُ فِي الْجِنْسِ الْمُخْتَلِفِ عَادَةً فَرُجُوعُهُ عَنْ الْأَوَّلِ بَاطِلٌ وَالْتِزَامُهُ الثَّانِيَ صَحِيحٌ وَمَا ذَكَرَهُ ثَانِيًا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ أَصْلًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ ثَانِيًا قَدْ تَنَاوَلَهُ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ بِاعْتِبَارِ أَصْلِهِ إنْ لَمْ يَتَنَاوَلْهُ بِصِفَتِهِ عَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ هُنَاكَ إلْحَاقُ الْوَصْفِ بِالْأَصْلِ وَهُنَا الْمُرَادُ الْتِزَامُ الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ : عَلَيَّ كُرُّ حِنْطَةٍ لَا بَلْ شَعِيرٍ فَعَلَيْهِ الْكُرَّانِ جَمِيعًا ، وَإِنْ قَالَ : قَفِيزُ حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ لَا بَلْ رَدِيءٌ أَوْ رَدِيءٌ لَا بَلْ جَيِّدٌ فَهُوَ قَفِيزٌ جَيِّدٌ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : مَحْتُومٌ مِنْ دَقَلٍ لَا بَلْ فَارِسِيٍّ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : مَحْتُومُ دَقِيقٍ رَدِيءٍ لَا بَلْ حَوَارِيٍّ فَهُوَ حَوَارِيٌّ ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ وَاحِدٌ ، وَذَكَرَ الْكَلَامَ الثَّانِيَ لِاسْتِدْرَاكِ الْغَلَطِ بِالْتِزَامِ زِيَادَةِ وَصْفٍ .
وَلَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ رَطْلٌ مِنْ بَنَفْسَجٍ لَا بَلْ حَبْرِيٍّ لَزِمَاهُ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ مُخْتَلِفٌ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ رَطْلٌ مِنْ سَمْنِ الْغَنَمِ لَا بَلْ مِنْ سَمْنِ الْبَقَرِ فَعَلَيْهِ الرَّطْلَانِ ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ مُخْتَلِفٌ .
وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا بَلْ لِفُلَانٍ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ ؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ مُخْتَلِفٌ ، وَهُوَ نَظِيرُ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ فِي الْمُقَرِّ بِهِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ رُجُوعٌ عَنْ الْإِقْرَارِ لِلْأَوَّلِ وَإِقَامَةُ الثَّانِي مَقَامَهُ فِي الْإِقْرَارِ لَهُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الثَّانِي مُكَاتَبًا لِلْمُقَرِّ لَهُ الْأَوَّلِ أَوْ عَبْدًا تَاجِرًا لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مِنْ كَسْبِ مُكَاتَبِهِ وَعَبْدِهِ الْمَدْيُونِ بِمَنْزِلَةِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَتَحَقَّقَ إقْرَارُهُ بِشَخْصَيْنِ صُورَةً وَمَعْنًى ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَفِي الْقِيَاسِ كَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّيْنَ فِي الذِّمَّةِ مُجَرَّدُ مُطَالَبَةٍ فِي الْحَالِ ، وَفِيمَا لِلْعَبْدِ هُوَ الْمُطَالَبُ دُونَ الْمَوْلَى فَكَانَ إقْرَارُهُ بِشَخْصَيْنِ فَيَكُونُ رُجُوعًا فِي حَقِّ الْأَوَّلِ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا أَلْفٌ وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ مَمْلُوكٌ لِمَوْلَاهُ فَفِي قَوْلِهِ لَا بَلْ لِعَبْدِهِ لَا يَكُونُ رُجُوعًا عَمَّا أَقَرَّ بِهِ لِلْمَوْلَى ، وَلَكِنَّهُ يَلْحَقُهُ زِيَادَةُ كَلَامِهِ فِي أَنَّ لِعَبْدِهِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِذَلِكَ الْمَالِ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ إلَّا مَالٌ وَاحِدٌ .
وَلَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ جَارِيَةٍ بَاعَنِيهَا لَا بَلْ فُلَانٌ بَاعَنِيهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ أَنَّ مُبَايَعَةَ الثَّانِي مَعَهُ كَانَتْ عَلَى وَجْهِ الْمُكَاتَبَةِ لِلنِّيَابَةِ عَنْ الْأَوَّلِ فَيَكُونُ هُوَ رَاجِعًا عَنْ الْإِقْرَارِ لِلْأَوَّلِ ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفٌ لِإِقْرَارِهِ بِتَقَرُّرِ بَيِّنَتِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنْ يُقِرَّ الثَّانِي أَنَّهَا لِلْأَوَّلِ فَحِينَئِذٍ عَلَيْهِ فِي الْقِيَاسِ أَلْفَانِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ عَلَيْهِ أَلْفٌ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ غَيْرُ رَاجِعٍ عَنْ الْإِقْرَارِ لِلْأَوَّلِ بَلْ هُوَ مُلْحَقٌ بِهِ وَثُبُوتُ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ لِلثَّانِي ، وَهَذَا وَفَصْلُ الْمَأْذُونِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ .
وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ بِيضٍ وَعَشَرَةُ دَرَاهِمَ سُودٍ فَأَقَرَّ الطَّالِبُ أَنَّهُ اقْتَضَى مِنْهُ دِرْهَمًا أَبْيَضَ لَا بَلْ أَسْوَدَ وَادَّعَى الْمَطْلُوبُ أَنَّهُ قَدْ قَضَاهُ دِرْهَمَيْنِ وَأَبَى أَلْزَمَ الطَّالِبَ الدِّرْهَمَ الْأَبْيَضَ فَقَطْ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالِاسْتِيفَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ فَإِنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِثْلَهُ فِي الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَفْضَلُهُمَا فَهَذَا مِثْلُهُ .
وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ فِي صَكٍّ وَمِائَةٌ فِي صَكٍّ آخَرَ ، فَقَالَ : قَبَضْتُ مِنْكَ عَشَرَةً مِنْ هَذَا الصَّكِّ لَا بَلْ مِنْ هَذَا وَهِيَ عَشَرَةٌ وَاحِدَةٌ فَعَلَى قِيَاسِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ يَجْعَلُهَا مِنْ أَيِّهِمَا شَاءَ الَّذِي قَضَاهُ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي مَلَّكَهُ فَالِاخْتِيَارُ فِي بَيَانِ جِهَتِهِ إلَيْهِ وَتَتَبَيَّنُ فَائِدَتُهُ فِيمَا إذَا كَانَ لِأَحَدِهِمَا كَفِيلٌ .
وَلَوْ كَانَ لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَعَشَرَةُ دَنَانِيرَ ، فَقَالَ : قَبَضْتُ مِنْكَ دِينَارًا لَا بَلْ دِرْهَمًا لَزِمَاهُ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ كَمَا فِي الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ .
وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلَيْنِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةُ دِرْهَمٍ ، فَقَالَ : قَبَضْتُ مِنْ هَذَا عَشَرَةً لَا بَلْ مِنْ هَذَا لَزِمَهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَشَرَةٌ لِاخْتِلَافِ الْمُقَرِّ لَهُ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ كَفِيلًا بِذَلِكَ عَنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ مِنْ كُلِّ كَفِيلٍ يُثْبِتُ حَقَّ الرُّجُوعِ لِذَلِكَ الْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ ؛ لِأَنَّ الْمُقَرُّ لَهُ مُخْتَلِفٌ ، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ وَاحِدًا .
وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، فَقَالَ : دَفَعْتَ إلَيَّ مِنْهَا مِائَةً بِيَدِكَ لَا بَلْ أَرْسَلْتَ بِهَا لِي مَعَ غُلَامِكَ فَهِيَ مِائَةٌ وَاحِدَةٌ .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ ، فَقَالَ الْمَطْلُوبُ وَعَشَرَةُ دَرَاهِمَ أَرْسَلْتُ بِهَا إلَيْكَ مَعَ فُلَانٍ وَثَوْبٌ بِعْتُكَهُ بِعَشَرَةٍ ، فَقَالَ الطَّالِبُ : قَدْ صَدَقْتُ فَقَدْ دَخَلَ هَذَا فِي هَذِهِ الْمِائَةِ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ بَيَانَهُ هَذَا تَقْرِيرٌ لِمَا أَقَرَّ بِهِ أَوَّلًا فَإِنَّهُ قَابِضٌ مِنْهُ مَا أَوْصَلَهُ إلَيْهِ رَسُولُهُ وَقَابِضٌ بِشِرَاءِ الثَّوْبِ أَيْضًا حَتَّى لَوْ حَلَفَ لَا يُفَارِقُهُ حَتَّى يَقْبِضَ حَقَّهُ فَقَبَضَ بِهَذَا الطَّرِيق بَرَّ فِي يَمِينِهِ وَالْبَيَانُ الْمُقَرَّرُ لِأَوَّلِ الْكَلَامِ مَقْبُولٌ مِنْ الْمُبِينِ ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ ، فَقَالَ الْمَطْلُوبُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ أَرْسَلْت بِهَا إلَيْكَ بِغَيْرِ وَاوٍ ، وَهَذَا أَوْضَحُ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى التَّفْسِيرِ لِلْجِهَةِ فِيمَا أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَهُ .
وَلَوْ كَانَ بِهِ كَفِيلٌ ، فَقَالَ : قَدْ قَبَضْتُ مِنْكَ مِائَةً لَا بَلْ مِنْ كَفِيلِكَ لَزِمَهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةٌ ؛ لِأَنَّ مَا يَقْبِضُهُ مِنْ الْكَفِيلِ يَثْبُتُ بِهِ حَقُّ الرُّجُوعِ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ بِخِلَافِ مَا يَقْبِضُهُ مِنْ الْأَصِيلِ فَكَانَ الْمُقَرُّ لَهُ مُخْتَلِفًا فَلِهَذَا كَانَ مُقِرًّا بِالْمَالَيْنِ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَحْلِفَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ يَمِينٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ بِذَلِكَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا يَتَوَجَّهُ الْيَمِينُ لِلْمُقِرِّ عَلَى الْمُقَرِّ لَهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الْإِقْرَارِ بِمَالٍ دَفَعَهُ إلَيْهِ آخَرُ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ دَفَعَ إلَيَّ هَذِهِ الْأَلْفَ فُلَانٌ فَهِيَ لِفُلَانٍ فَلَوْ ادَّعَى الْأَلْفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهِيَ لِلدَّافِعِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ لَهُ بِالْمَالِ أَوَّلًا حِينَ الْإِقْرَارِ بِوُصُولِهِ إلَى يَدِهِ مِنْ جِهَتِهِ ثُمَّ إقْرَارُهُ لِلثَّانِي حَصَلَ بِمَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ لِغَيْرِهِ بِيَدِهِ فَلَا يَكُونُ مُلْزِمًا إيَّاهُ شَيْئًا وَالْمَالُ لِلدَّافِعِ ، فَإِذَا رَدَّهُ الْمُقَرُّ عَلَيْهِ بَرِئَ مَالِكًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَالِكٍ فَإِنَّ الْمُودَعَ مِنْ الْغَاصِبِ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ يَبْرَأُ كَالْمُودَعِ مِنْ الْمَالِكِ .
وَإِذَا قَالَ : هَذِهِ الْأَلْفُ لِفُلَانٍ دَفَعَهَا إلَيَّ فُلَانٌ فَهِيَ لِلْمُقَرِّ لَهُ الْأَوَّلِ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْمِلْكِ لِلْأَوَّلِ فَإِقْرَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْيَدِ لِلثَّانِي لَا يَكُونُ صَحِيحًا فِي حَقِّ الْأَوَّلِ ، فَإِنْ ادَّعَاهَا الدَّافِعُ فَعَلَيْهِ أَوَّلًا أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهَا مَا هِيَ لِفُلَانٍ ، لِأَنَّ الْمُقِرَّ يَقُولُ أَنَا .
وَإِنْ أَقْرَرْتَ بِأَنَّكَ دَفَعْتَهَا إلَيَّ ، وَلَكِنَّ الْمِلْكَ كَانَ لِفُلَانٍ ، وَقَدْ رَدَدْتَهَا عَلَيْهِ فَلَيْسَ لَكَ عَلَيَّ شَيْءٌ فَلِهَذَا يَتَوَجَّهُ الْيَمِينُ عَلَى الثَّانِي ، فَإِنْ حَلَفَ أَنَّهَا مَا هِيَ لِفُلَانٍ ضَمِنَ الْمُقَرُّ لَهُ أَلْفًا أُخْرَى الْوَدِيعَةُ وَالْعَارِيَّةُ فِيهِ سَوَاءٌ أَمَّا إذَا كَانَ دَفَعَهَا إلَى الْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَهُوَ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا إقْرَارُ الْمُقِرِّ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ الْمَالَ وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الثَّانِي ، فَإِذَا دَفَعَهَا إلَى غَيْرِهِ بِاخْتِيَارِهِ كَانَ ضَامِنًا لَهُ بِمِثْلِهَا ، وَإِنْ كَانَ دَفَعَهَا بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِلثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ بِتَبَيُّنِ الْإِقْرَارِ لِلْأَوَّلِ مَا أَتْلَفَ عَلَى الثَّانِي شَيْئًا وَلَا اخْتِيَارَ لَهُ فِي الدَّفْعِ بَلْ الْقَاضِي أَلْزَمَهُ ذَلِكَ فَلَا يَضْمَنُ لِلثَّانِي شَيْئًا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ ضَامِنٌ لِلثَّانِي أَلْفًا ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِقْرَارِ بِهِ لِلْأَوَّلِ سَلَّطَ الْقَاضِيَ عَلَى هَذَا الْقَضَاءِ ، وَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ مُودَعٌ فِيهَا مِنْ الثَّانِي وَالْمُودَعُ بِهَذَا التَّسْلِيطِ يَصِيرُ ضَامِنًا كَمَا لَوْ دَلَّ سَارِقًا عَلَى سَرِقَةِ الْوَدِيعَةِ .
وَلَوْ قَالَ : هَذِهِ الْأَلْفُ لِفُلَانٍ أَقْرَضَنِيهَا فُلَانٌ آخَرُ فَادَّعَيَاهَا فَهِيَ لِلَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِهَا أَوَّلًا لِتَقَدُّمِ الْإِقْرَارِ لَهُ بِهَا وَلِلْمُقْرِضِ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ أَلْفًا مِنْ الثَّانِي بِحُجَّةِ الْقَرْضِ وَالْقَبْضُ بِحُجَّةِ الْقَرْضِ يُوجِبُ ضَمَانَ الْمَقْبُوضِ عَلَى الْقَابِضِ .
وَإِذَا كَانَ فِي يَدِهِ عَبْدٌ ، فَقَالَ : هُوَ لِفُلَانٍ بَاعَنِيهِ فُلَانٌ آخَرُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا أَقَرَّ لَهُ بِهِ فَالْعَبْدُ لِلْمُقَرِّ لَهُ أَوَّلًا يَدْفَعُهُ إلَيْهِ إذَا حَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لِلْآخَرِ فِي بَيْعِهِ لِتَقَدُّمِ الْإِقْرَارِ بِالْعَيْنِ لَهُ وَيَقْضِي بِالْيَمِينِ لِلْبَائِعِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِشِرَائِهِ مِنْ الثَّانِي وَيَثْبُتُ هَذَا السَّبَبُ بِإِقْرَارِهِ فِي حَقِّهِ ، وَهُوَ تَامٌّ يَقْبِضُهُ فَيَقْضِي لَهُ عَلَيْهِ بِالْيَمِينِ قَالَ : وَلَا يُشْبِهُ الْبَيْعُ وَالْقَرْضُ الْوَدِيعَةَ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ قَالَ : وَلَا يُشْبِهُ الْقَرْضُ وَالْبَيْعُ الْوَدِيعَةُ مَا سِوَاهَا ، وَهَذَا أَقْرَبُ إلَى الصَّوَابِ عَلَى ظَاهِرِ مَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّهُ أَجَابَ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِجَوَابٍ وَاحِدٍ وَأَشَارَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ وَبَيْنَ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنْ الْبَابِ حَيْثُ قَالَ : يَدْفَعُ الْمَالَ إلَى الدَّافِعِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلثَّانِي ، فَأَمَّا اللَّفْظُ الْأَوَّلُ فَهُوَ مُسْتَقِيمٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْوَدِيعَةِ قَالَ : إذَا دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَمْ يَغْرَمْ لِلثَّانِي ، وَفِي الْقَرْضِ وَالْبَيْعِ إنْ دَفَعَهُ إلَى الْأَوَّلِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَهُوَ ضَامِنٌ لِلثَّانِي وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَيَانَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَرْضِ الْوَدِيعَةِ فِي أَنَّ الْوَدِيعَةَ لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ لِلثَّانِي مَا لَمْ يَدْفَعْ إلَى الْأَوَّلِ ، وَفِي الْقَرْضِ وَالْبَيْعِ الْمَالُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لِلثَّانِي ، وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ إلَى الْأَوَّلِ شَيْئًا ، وَهَذَا فَرْقٌ ظَاهِرٌ فَإِنَّ الْإِقْرَاضَ وَالْمُبَايَعَةَ سَبَبَا ضَمَانٍ بِخِلَافِ الْإِيدَاعِ .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ لِفُلَانٍ غَصَبَهُ فُلَانٌ الْمُقَرُّ لَهُ مِنْ فُلَانٍ آخَرَ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِهِ لِلْمُقَرِّ لَهُ وَلَا يَقْضِي لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ بِالْمِلْكِ لِلْأَوَّلِ شَاهِدٌ عَلَيْهِ بِالْغَصْبِ لِلثَّانِي وَشَهَادَتُهُ عَلَيْهِ بِالْغَصْبِ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي لَفْظِ السُّؤَالِ لِفُلَانٍ غَصْبُهُ مِنْ فُلَانٍ ، وَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْمُقَرِّ لَهُ فَيَكُونُ الْمَفْهُومُ مِنْهُ إقْرَارَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْغَصْبِ لِلثَّانِي وَجَوَابُهُ أَنَّ الْعَبْدَ لِلْأَوَّلِ وَلِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ قَالَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ قَالَ : هَذَا الصَّبِيُّ ابْنُ فُلَانٍ غَصَبْتُهُ مِنْ فُلَانٍ آخَرَ وَادَّعَى الصَّبِيُّ أَنَّهُ ابْنُهُ وَادَّعَى الْمَغْصُوبُ مِنْهُ أَنَّهُ عَبْدُهُ قَضَى بِهِ لِلْأَبِ ، وَهُوَ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْهُ لِتَقَدُّمِ الْإِقْرَارِ لَهُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ قَالَ : هَذَا الصَّبِيُّ ابْنُ فُلَانٍ أَرْسَلَ بِهِ إلَيَّ مَعَ فُلَانٍ كَانَ الِابْنُ لِلْأَوَّلِ إذَا ادَّعَاهُ دُونَ الرَّسُولِ لِتَقَدُّمِ الْإِقْرَارِ لَهُ ، وَفِي جَمِيعِ هَذَا إنْ ادَّعَى الرَّسُولُ ذَلِكَ كَانَ لَهُ عَلَى الْمُقِرِّ مِثْلُهُ لِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ وَصَلَ إلَى يَدِهِ مِنْ جِهَتِهِ وَتَعَذُّرِ الرَّدِّ عَلَيْهِ بِمَا أَقَرَّ بِهِ لِلْأَوَّلِ وَدَفَعَ إلَيْهِ بِاخْتِيَارِهِ مَا خَلَا الِابْنَ ، فَإِنْ كَانَ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ فَأَقَرَّ أَنَّهُ ابْنُ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْمُقِرُّ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُقِرِّ لِلدَّافِعِ ؛ لِأَنَّ مَنْ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا هُوَ فِي يَدِ نَفْسِهِ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ لِلْغَيْرِ يَدٌ مُوجِبَةٌ لِلِاسْتِحْقَاقِ إذَا لَمْ يُقِرَّ بِالرِّقِّ عَلَى نَفْسِهِ ، وَإِنْ كَانَ صَغِيرًا لَا يَتَكَلَّمُ فَعَلَى الْمُقِرِّ قِيمَتُهُ لِلرَّسُولِ إذَا ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ وَأَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُ ؛ لِأَنَّ الَّذِي لَمْ يَتَكَلَّمْ لِصِغَرِهِ يَثْبُتُ عَلَيْهِ يَدٌ مُوجِبَةٌ لِلِاسْتِحْقَاقِ بِمَنْزِلَةِ الْبَنَاتِ وَغَيْرِهَا .
وَلَوْ قَالَ : هَذِهِ الْأَلْفُ لِفُلَانٍ أَرْسَلَ بِهَا إلَيَّ مَعَ فُلَانٍ وَدِيعَةً وَادَّعَاهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهِيَ لِلْأَوَّلِ لِتَقَدُّمِ الْإِقْرَارِ لَهُ بِهَا ، فَإِنْ قَالَ : الْأَوَّلُ لَيْسَتْ لِي ، وَلَمْ أُرْسِلْ بِهَا فَهِيَ لِلرَّسُولِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ بِالْكَلَامِ الثَّانِي أَنَّ وُصُولَهَا إلَى يَدِهِ كَانَ مِنْ يَدِ الرَّسُولِ وَإِنَّمَا أُمِرَ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ لِثُبُوتِ الِاسْتِحْقَاقِ فِيهَا لِلْأَوَّلِ ، وَقَدْ بَطَلَ ذَلِكَ بِتَكْذِيبِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُقَرُّ لَهُ غَائِبًا لَمْ يَكُنْ لِلرَّسُولِ أَنْ يَأْخُذَهَا ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ يَدَّعِيهَا لِنَفْسِهِ فَقَدْ صَارَ مُكَذَّبًا فِيمَا إذَا أَقَرَّ لَهُ بِهِ ، وَهُوَ كَوْنُهُ رَسُولًا بِالدَّفْعِ إلَيْهِ وَحَقُّ الْغَائِبِ فِيهَا ثَابِتٌ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُلْزِمٌ بِنَفْسِهِ مَا لَمْ يُكَذِّبْ الْمُقَرُّ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ مُصَدِّقًا لَهُ فِيمَا أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ رَسُولًا فِيهِ مِنْ جِهَةِ فُلَانٍ فَقَدْ انْتَهَتْ الرِّسَالَةُ بِإِيصَالِ الْمَالِ إلَيْهِ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الِاسْتِرْدَادِ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَإِذَا أَقَرَّ الْخَيَّاطُ أَنَّ الثَّوْبَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ لِفُلَانٍ أَسْلَمَهُ إلَيْهِ فُلَانٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِيهِ فَهُوَ لِلَّذِي أَقَرَّ لَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ لِتَقَدُّمِ الْإِقْرَارِ لَهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِلثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا هُوَ سَبَبُ الضَّمَانِ فِي حَقِّ الثَّانِي فَإِنَّ إسْلَامَهُ إلَيْهِ لَا يَكُونُ سَبَبًا فِي اسْتِحْقَاقِهِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الرِّسَالَةِ ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الصُّنَّاعِ .
وَلَوْ كَانَ إقْرَارُهُ بِهَذَا الثَّوْبِ أَسْلَمَهُ إلَيْهِ فُلَانٌ لِيَقْطَعَهُ قَمِيصًا ، وَهُوَ لِفُلَانٍ وَادَّعَيَاهُ فَهُوَ لِلَّذِي أَسْلَمَهُ إلَيْهِ لِتَقَدُّمِ الْإِقْرَارِ لَهُ بِهِ ، وَلَيْسَ لِلثَّانِي شَيْءٌ ، وَهَذَا نَظِيرُ مَسْأَلَةٍ أَوَّلَ الْبَابِ ، وَهُوَ مَا إذَا قَالَ : دَفَعَهُ إلَيَّ فُلَانٌ ، وَهُوَ لِفُلَانٍ .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ هَذَا الثَّوْبَ اسْتِعَارَةٌ مِنْ فُلَانٍ فَبَعَثَ بِهِ إلَيْهِ مَعَ فُلَانٍ فَهُوَ لِلَّذِي أَعَارَهُ إيَّاهُ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُقِرًّا بِالْمِلْكِ وَالْيَدِ لِلْمُعِيرِ الَّذِي اسْتَعَارَهُ مِنْهُ دُونَ الَّذِي أَوْصَلَهُ إلَيْهِ بِطَرِيقِ الرِّسَالَةِ .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ فُلَانًا أَتَاهُ بِهَذَا الثَّوْبِ عَارِيَّةً مِنْ قِبَلِ فُلَانٍ فَادَّعَاهُ فَهُوَ لِلرَّسُولِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَوَّلًا بِأَنَّهُ وَصَلَ إلَى يَدِهِ مِنْ جِهَتِهِ ، وَذَلِكَ يُلْزِمُهُ الرَّدَّ عَلَيْهِ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ عَنْهُ بِإِقْرَارِهِ لِغَيْرِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ الْإِقْرَارِ بِالِاقْتِضَاءِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّهُ اقْتَضَى مِنْ رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِ وَقَبَضَهَا ، فَقَالَ فُلَانٌ : أَخَذْتَ مِنِّي هَذَا الْمَالَ ، وَلَمْ يَكُنْ لَكَ عَلَيَّ شَيْءٌ فَرُدَّهُ عَلَيَّ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى أَنْ يَرُدَّ الْمَالَ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ .
وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى الْمُقِرِّ وَوَجْهُهُ أَنَّهُ مَا أَقَرَّ بِشَيْءٍ عَلَى نَفْسِهِ لِغَيْرِهِ وَإِنَّمَا أَقَرَّ بِوُصُولِ حَقِّهِ إلَيْهِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُلْزِمٍ إيَّاهُ شَيْئًا وَكُنَّا نَقُولُ الِاقْتِضَاءُ عِبَارَةٌ عَنْ قَبْضِ مَالٍ مَضْمُونٍ مِنْ مِلْكِ الْغَيْرِ ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضِيَ يَسْتَوْفِي مِنْ مَالِ الْمَدْيُونِ مِثْلَ مَالِهِ عَلَيْهِ فَيَصِيرُ قِصَاصًا بِدَيْنِهِ وَالْقَبْضُ الْمَضْمُونُ مِنْ مِلْكِ الْغَيْرِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ أَقَرَّ بِهِ ، ثُمَّ ادَّعَى لِنَفْسِهِ دَيْنًا عَلَى صَاحِبِهِ وَلَا يَثْبُتُ الدَّيْنُ لَهُ عَلَى صَاحِبِهِ بِدَعْوَاهُ ، وَلَكِنْ يَتَوَجَّهُ الْيَمِينُ ، فَإِذَا جَانَبَ لَزِمَهُ رَدُّ الْمَقْبُوضِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْ فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ كَانَتْ وَدِيعَةً لَهُ عِنْدَهُ أَوْ هِبَةً وَهَبَهَا لَهُ ، فَقَالَ : بَلْ هِيَ مَالِي قَبَضْتَهُ مِنِّي فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ لِإِقْرَارِهِ بِقَبْضِ الْمَالِ مِنْ يَدِ الْغَيْرِ ، وَعَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ ، وَلَمْ يَثْبُتْ مَا ادَّعَى مِنْ الْحَقِّ فِيهِ لِنَفْسِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهُ .
وَلَوْ قَالَ : أَسْكَنْتُ بَيْتِي فُلَانًا هَذَا ، ثُمَّ أَخْرَجْتُهُ مِنْهُ وَدَفَعَهُ إلَيَّ وَادَّعَى السَّاكِنُ أَنَّهُ لَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْبَيْتِ اسْتِحْسَانًا ، وَعَلَى السَّاكِنِ الْبَيِّنَةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْقَوْلُ قَوْلُ السَّاكِنِ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ وَوَجْهُهُ هُوَ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِوُصُولِ الْبَيْتِ إلَى يَدِهِ كَانَ مِنْ جِهَةِ السَّاكِنِ وَادَّعَى لِنَفْسِهِ فِيهِ مِلْكًا قَدِيمًا ، وَلَمْ يَثْبُتْ مَا ادَّعَاهُ فَعَلَيْهِ رَدُّ مَا أَقَرَّ بِقَبْضِهِ كَمَا فِي الْفَصْلِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مَا أَقَرَّ لِلسَّاكِنِ بِيَدٍ أَصْلِيَّةٍ فِي الْبَيْتِ إنَّمَا أَخْبَرَ بِأَنَّ يَدَهُ كَانَتْ بِنَاءً عَنْ يَدِهِ ؛ لِأَنَّ يَدَ السَّاكِنِ تُبْنَى عَلَى الْمَسْكَنِ وَالْحُكْمُ لِلْيَدِ الْأَصْلِيَّةِ لَا لِمَا هُوَ بِنَاءٌ فَلَمْ يَصِرْ مُقِرًّا بِمَا يُوجِبُ الِاسْتِحْقَاقَ لَهُ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الِاقْتِضَاءِ ؛ لِأَنَّهُ هُنَا أَقَرَّ بِيَدٍ أَصْلِيَّةٍ كَانَتْ لَهُ فِيمَا اسْتَوْفَاهُ مِنْهُ وَبِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْوَدِيعَةِ لِأَنَّهُ هُنَاكَ أَقَرَّ بِفِعْلِ نَفْسِهِ ، وَهُوَ قَبْضُهُ الْمَالَ مِنْ فُلَانٍ ، وَذَلِكَ إقْرَارٌ بِيَدٍ أَصْلِيَّةٍ كَانَتْ لِفُلَانٍ فِي هَذَا الْمَالِ فَبَعْدَ ذَلِكَ هُوَ فِي قَوْلِهِ كَانَتْ لِي عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ يَدَهُ بِنَاءً بَعْدَ مَا أَقَرَّ أَنَّهَا كَانَتْ أَصْلِيَّةً فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ ، وَلِأَنَّ الْإِعَارَةَ بَيْنَ النَّاسِ مَعْرُوفَةٌ ، وَفِي الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ هُنَا قَطْعُ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ عَنْ النَّاسِ لِأَنَّ الْمُعِيرَ يُتَحَرَّزُ عَنْ الْإِعَارَةِ لِلسُّكْنَى إذَا عَرَفَ أَنَّهُ لَا يُعْمَلُ بِقَوْلِهِ عِنْدَ الِاسْتِرْدَادِ فَتُرِكَ الْقِيَاسُ فِيهِ لِتَوْفِيرِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ عَلَى النَّاسِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ قَالَ : هَذِهِ الدَّابَّةُ أَعَرْتهَا فُلَانًا ، ثُمَّ قَبَضْتهَا مِنْهُ أَوْ هَذَا الثَّوْبُ لِي أَعَرْتُهُ فُلَانًا ، ثُمَّ قَبَضْتُهُ مِنْهُ .
وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّ فُلَانًا الْخَيَّاطَ خَاطَ قَمِيصَهُ هَذَا بِنِصْفِ دِرْهَمٍ وَقَبَضَ مِنْهُ الْقَمِيصَ ، وَقَالَ الْخَيَّاطُ هُوَ قَمِيصِي أَعَرْتُكَهُ فَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي الْأُولَى .
وَكَذَلِكَ الثَّوْبُ أُسْلِمَ إلَى الصَّبَّاغِ .
وَإِنْ قَالَ رَبُّ الثَّوْبِ خَاطَ لِي الْخَيَّاطُ قَمِيصِي هَذَا بِنِصْفِ دِرْهَمٍ ، وَلَمْ يَقُلْ قَبَضْتُهُ مِنْهُ فَفِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا لَا يَرْجِعُ عَلَى الْخَيَّاطِ أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَظَاهِرٌ .
وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ بِيَدِ الْخَيَّاطِ هُنَا فِي الثَّوْبِ لِأَنَّهُ قَدْ يَخِيطُ الثَّوْبَ ، وَهُوَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ بِأَنْ كَانَ أَجِيرًا وُجِدَ فِي بَيْتِهِ يَعْمَلُ لَهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ، فَإِنَّ هُنَاكَ قَدْ أَقَرَّ بِالْقَبْضِ مِنْهُ ، وَذَلِكَ إقْرَارٌ بِكَوْنِهِ فِي يَدِهِ .
وَلَوْ كَانَ الثَّوْبُ مَعْرُوفًا أَنَّهُ لِلْمُقِرِّ أَوْ الدَّابَّةُ أَوْ الدَّارُ ، فَقَالَ : أَعَرْتُهُ فُلَانًا وَقَبَضْتُهُ مِنْهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ مَعْرُوفٌ لِلْمُقِرِّ فَلَا يَكُونُ مُجَرَّدَ الْيَدِ فِيهِ لِغَيْرِهِ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ قَالَ فِي الْبَابِ الْمُتَقَدِّمِ إذَا أَقَرَّ الْخَيَّاطُ أَنَّ الثَّوْبَ الَّذِي فِي يَدِهِ لِفُلَانٍ أَسْلَمَهُ إلَيْهِ فُلَانٌ لِيَخِيطَهُ فَهُوَ لِلَّذِي أَقَرَّ لَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلَا يَضْمَنُ لِلثَّانِي مِثْلَهُ ، وَهَذَا دَلِيلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْخِلَافِيَّاتِ لِإِقْرَارِهِ أَنَّ يَدَ الَّذِي أَسْلَمَهُ إلَيْهِ بِنَاءً لَا ابْتِدَاءً ، وَلَكِنَّ مَشَايِخَنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ قَالُوا هُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ الْإِسْكَانِ أَوْ مَسْأَلَةٍ أُخْرَى ، وَهُوَ أَنَّ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مُؤْتَمَنٌ فَلَا يَصِيرُ ضَامِنًا بِمُجَرَّدِ إقْرَارِهِ لِلْأَوَّلِ وَعِنْدَهُمَا الْأَجِيرُ الْمُشْتَرَكُ ضَامِنٌ فَيَضْمَنُ الثَّوْبَ الَّذِي أَسْلَمَهُ إلَيْهِ إذَا لَمْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ وَهَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَذَكَرَ أَيْضًا فِيمَا إذَا قَالَ : هَذَا الْمَالُ لِفُلَانٍ أَرْسَلَ بِهِ إلَيَّ مَعَ فُلَانٍ وَدِيعَةً أَنَّ الْمَالَ لِلْأَوَّلِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُقِرِّ لِلرَّسُولِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَقَرَّ لَهُ بِيَدٍ هِيَ بِنَاءٌ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلِاسْتِحْقَاقِ عِنْدَهُ بِخِلَافِ الدَّيْنِ ، وَهُوَ مَا إذَا قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَرْسَلَ بِهَا إلَيَّ مَعَ فُلَانٍ ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الدَّيْنِ الذِّمَّةُ وَفِي الذِّمَّةِ سَعَةٌ فَيَكُونُ مُقِرًّا بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ لِلثَّانِي لِمَا أَقَرَّ أَنَّ وُصُولَهُ إلَى يَدِهِ مِنْ جِهَتِهِ ، وَفِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ أَوْرَدَ الْمَسْأَلَةَ فِي مَوْضِعَيْنِ ، قَالَ فِي أَحَدِهِمَا : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلدَّافِعِ ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَفِي الثَّانِي قَالَ :
عَلَيْهِ مِثْلُهُ لِلدَّافِعِ ، وَهُوَ الْأَشْبَهُ بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا بَعْضَهُ فِي الْبَابِ الْمُتَقَدِّمِ .
وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّ فُلَانًا سَكَنَ هَذَا الْبَيْتَ فَادَّعَى فُلَانٌ الْبَيْتَ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِهِ لِلسَّاكِنِ عَلَى الْمُقِرِّ ؛ لِأَنَّ السُّكْنَى تُثْبِتُ الْيَدَ لِلسَّاكِنِ عَلَى الْمَسْكَنِ وَإِقْرَارُهُ بِالْيَدِ لِلْغَيْرِ حُجَّةٌ عَلَيْهِ وَمَا يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ كَالْمُعَايَنِ فِي حَقِّهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ أَنَّ فُلَانًا زَرَعَ هَذِهِ الْأَرْضَ أَوْ بَنَى هَذِهِ الْأَرْضَ أَوْ بَنَى هَذِهِ الدَّارَ أَوْ غَرَسَ هَذَا الْكَرْمَ أَوْ الْبُسْتَانَ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ فِي يَدِ الْمُقِرِّ ، فَقَالَ : كُلُّهُ لِي وَاسْتَعَنْتُ بِكَ فَفَعَلْتَ ذَلِكَ أَوْ فَعَلْتَهُ بِأَجْرٍ ، وَقَالَ الْآخَرُ بَلْ هُوَ مِلْكِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ ؛ لِأَنَّ يَدَهُ لِلْحَالِ ظَاهِرَةٌ ، وَلَمْ يُقِرَّ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِ غَيْرِهِ مِنْ قَبْلُ لِأَنَّ فِعْلَ الزِّرَاعَةِ وَالْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ لَا يُوجِبُ الْيَدَ لِلْفَاعِلِ فِي الْمَفْعُولِ ، وَقَدْ يَفْعَلُهُ الْمُعِينُ وَالْأَجِيرُ وَالْمُعِينُ فِي يَدِ صَاحِبِهِ فَهَذَا وَقَوْلُهُ خَاطَ لِي الْقَمِيصَ سَوَاءٌ ، ثُمَّ ذَكَرَ الْخِلَافَ الَّذِي بَيَّنَّا فِيمَا إذَا قَالَ لِمُعْتَقِهِ أَخَذْتُ مِنْكَ مَالًا قَبْلَ الْعِتْقِ أَوْ قَطَعْتُ يَدَكَ قَبْلَ الْعِتْقِ وَإِنَّمَا أَعَادَهَا لِفُرُوعٍ ، فَقَالَ : وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ وَسَلَّمَهُ ، ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ قَطَعَ يَدَهُ قَبْلَ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي وَالْمَوْهُوبُ لَهُ بَلْ فَعَلْتُهُ بَعْدَ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ وَالتَّسْلِيمَ يَثْبُتُ الْحَقُّ فِيهِ لِلْمُتَمَلِّكِ كَمَا أَنَّ الْعِتْقَ يُثْبِتُ الْحَقَّ لِلْمُعْتَقِ فِي نَفْسِهِ وَأَطْرَافِهِ فَيَكُونُ الْخِلَافُ فِي الْفَصْلَيْنِ وَاحِدًا .
وَلَوْ قَالَ : قَطَعْتُ يَدَهُ ، ثُمَّ بِعْتُهُ أَوْ وَهَبْتُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَا أَقَرَّ بِالْفِعْلِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ عَلَى نَفْسِهِ فَإِنَّهُ أَقَرَّ بِالْقَطْعِ قَبْلَ ظُهُورِ بَيْعِهِ لِأَنَّ ظُهُورَ الْبَيْعِ بِإِقْرَارِهِ ، وَقَدْ أَقَرَّ بِالْقَطْعِ سَابِقًا عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْبَيْعِ فَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى هِبَتِهِ أَوْ بَيْعِهِ قَبْلَ إقْرَارِهِ بِهَذَا فَيَكُونُ عَلَى الِاخْتِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ .
وَلَوْ أَعْتَقَ أَمَةً ، ثُمَّ قَالَ : أَخَذْتُ مِنْكِ هَذَا الْوَلَدَ قَبْلَ الْعِتْقِ ، وَقَالَتْ بَلْ أَخَذْتَهُ مِنِّي بَعْدَ الْعِتْقِ فَإِنَّهُ يَرُدُّهُ عَلَيْهَا ، وَهُوَ حُرٌّ لِأَنَّ الْوَلَدَ قَائِمٌ بِعَيْنِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْمَالِ الْقَائِمِ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ أَخَذَهُ قَبْلَ الْعِتْقِ يُصَدَّقُ وَعَلَيْهِ رَدُّهُ فِي أَنَّهُ أَخَذَهُ قَبْلَ الْعِتْقِ فَعَلَيْهِ رَدُّهُ عَلَيْهَا وَالْقَوْلُ فِي حُرِّيَّتِهِ قَوْلُهَا وَلَوْ لَمْ يَقُلْ أَخَذْتُهُ مِنْكِ ، وَلَكِنَّهُ قَالَ : أَعْتَقْتُكِ بَعْدَ مَا وَلَدْتِيهِ ، وَقَالَتْ بَلْ أَعْتَقْتَنِي قَبْلَ أَنْ أَلِدَهُ ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ فِي يَدِ الْمَوْلَى فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِيَدٍ فِيهِ لَهَا مِنْ قَبْلِ وِلَادَتِهَا ، وَلِأَنَّهَا تَدَّعِي سَبْقَ تَارِيخٍ فِي الْعِتْقِ حِينَ ادَّعَتْ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْوِلَادَةِ وَالْمَوْلَى يُنْكِرُ ذَلِكَ ، وَالْعِتْقُ فِعْلٌ حَادِثٌ مِنْ الْمَوْلَى فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي إنْكَارِهِ سَبْقَ التَّارِيخِ فِيهِ ، وَلِأَنَّ عِتْقَهَا ظَهَرَ فِي الْحَالِ وَالْوَلَدُ مُنْفَصِلٌ عَنْهَا وَعِتْقُهَا غَيْرُ مُوجِبٍ الْعِتْقَ لِلْوَلَدِ الْمُنْفَصِلِ ، وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ فِي يَدِهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا ؛ لِأَنَّ يَدَهَا تُوجِبُ الِاسْتِحْقَاقَ لَهَا فِي الْحَالِ ، وَقَدْ أَقَرَّتْ بِالْحُرِّيَّةِ لِلْوَلَدِ فَوَجَبَ الْحُكْمُ بِحُرِّيَّتِهِ .
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ عَبْدًا فَأَقَرَّ رَجُلٌ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ أَلْفًا ، وَهُوَ عَبْدٌ ، وَقَالَ الْعَبْدُ أَخَذْتَهَا مِنِّي بَعْدَ الْعِتْقِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ الْقَابِضَ يَدَّعِي سَبْقَ تَارِيخٍ فِي قَبْضِهِ وَالتَّارِيخُ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ ، وَلِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ لِلْعَبْدِ ، وَهُوَ أَخْذُهُ مِنْهُ وَشَهِدَ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَالَ لِغَيْرِهِ ، وَهُوَ الْمَوْلَى فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَيَبْقَى الْمَالُ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ لِلْعَبْدِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَاتَبَهُ مَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْكَسْبِ لِلْمُكَاتَبِ وَاعْتِبَارِ يَدِهِ فِيهِ لِحَقِّهِ كَالْعِتْقِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ ، ثُمَّ أَقَرَّ رَجُلٌ أَنَّهُ غَصَبَ مِنْهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ ، وَهُوَ عِنْدَ مَوْلَاهُ الْأَوَّلِ ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي بَلْ غَصَبْتَهُ ، وَهُوَ عِنْدِي فَالْمَالُ لِلْآخَرِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِكَسْبِهِ بَعْدَ الشِّرَاءِ كَمَا أَنَّ الْعَبْدَ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِكَسْبِهِ بَعْدَ الْكِتَابَةِ فَكَمَا لَا يُصَدَّقُ الْمُقِرُّ هُنَاكَ ، وَفِيمَا يَدَّعِي مِنْ سَبْقِ التَّارِيخِ فَكَذَلِكَ هُنَا .
وَلَوْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ فَقَأَ عَيْنَ فُلَانٍ عَمْدًا ، ثُمَّ ذَهَبَتْ عَيْنُ الْفَاقِئِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَقَالَ الْمَفْقُوءُ عَيْنُهُ بَلْ فَقَأْتَ عَيْنِي وَعَيْنُكَ ذَاهِبَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَفْقُوءِ عَيْنُهُ ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْجَانِي ، فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُهُ قَائِمَةً وَقْتَ الْفَقْءِ فَالْوَاجِبُ قِصَاصٌ ، وَهُوَ فِيهَا وَاجِبٌ بِاعْتِبَارِ الْمُمَاثَلَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُهُ ذَاهِبَةً فَالْوَاجِبُ الْأَرْشُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى وُجُوبِ الضَّمَانِ وَادَّعَى الْفَاقِئُ مَا يُسْقِطُهُ بِفَوَاتِ الْمَحَلِّ بَعْدَ الْوُجُوبِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ ، وَلِأَنَّهُ يَدَّعِي تَارِيخًا سَابِقًا فِي الْفَقْءِ وَالتَّارِيخُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ .
وَلَوْ أَنَّ عَبْدًا أُعْتِقَ ، ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ قَتَلَ وَلِيَّ هَذَا الرَّجُلِ خَطَأً ، وَهُوَ عَبْدٌ ، وَقَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ قَتَلْتُهُ بَعْدَ الْعِتْقِ فَلَيْسَ عَلَى الْعَبْدِ فِي هَذَا شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ مَا أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِوُجُوبِ الضَّمَانِ فَإِنَّ جِنَايَتَهُ قَبْلَ الْعِتْقِ لَا تُوجِبُ عَلَيْهِ الضَّمَانَ فِي الْحَالِ وَلَا بَعْدَ الْعِتْقِ إنَّمَا هُوَ عَلَى مَوْلَاهُ فِي الْحَالِ يُخَاطَبُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ ، وَإِنْ أَعْتَقَهُ ، وَهُوَ يَعْلَمُ بِالْجِنَايَةِ يَصِيرُ مُخْتَارًا لِلْفِدَاءِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ فَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ إنَّمَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى الْغَيْرِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ .
وَإِذَا أَقَرَّ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ أَنَّهُ كَفَلَ عَنْ صَاحِبِهِ بِمَهْرِ أَوْ نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ أَوْ جِنَايَتِهِ لَزِمَهُ وَلَزِمَ صَاحِبَهُ أَيْضًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : يَلْزَمُهُ وَلَا يَلْزَمُ صَاحِبَهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَقَرَّ بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَى صَاحِبِهِ بِطَرِيقٍ غَيْرِ التِّجَارَةِ وَلَا قَوْلَ لَهُ عَلَى صَاحِبِهِ فِي الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ لَا بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّ فِيمَا يَجِبُ لَا بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجْنَبِيٌّ عَنْ صَاحِبِهِ يَبْقَى إقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِوُجُوبِ الْمَالِ بِطَرِيقِ الْكَفَالَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ كَفَالَةَ أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ أَوْ إقْرَارَهُ بِالْكَفَالَةِ يَلْزَمُ شَرِيكَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا يَلْزَمُ عِنْدَهُمَا فَهَذَا بِنَاءً عَلَى ذَلِكَ .
وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا أَنَّ عَلَى صَاحِبِهِ دَيْنًا قَبْلَ الشَّرِكَةِ لِفُلَانٍ فَأَنْكَرَهُ صَاحِبُهُ وَالطَّالِبُ ادَّعَى أَنَّ هَذَا الدَّيْنَ كَانَ فِي الشَّرِكَةِ لَزِمَهُمَا جَمِيعًا الْمَالُ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِمُطْلَقِ الدَّيْنِ يَنْصَرِفُ إلَى جِهَةِ التِّجَارَةِ وَلِهَذَا لَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِدَيْنٍ مُطْلَقٍ يَلْزَمُ شَرِيكَهُ ، وَفِيمَا هُوَ وَاجِبٌ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ وَإِقْرَارُ أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَعَلَى شَرِيكِهِ سَوَاءٌ .
وَلَوْ أَقَرَّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَزَعَمَ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الشَّرِكَةِ لَا يُصَدَّقُ فِي الْإِسْنَادِ إذَا أَكْذَبَهُ الطَّالِبُ فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِهِ عَنْ صَاحِبِهِ ، وَإِذَا لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْإِسْنَادِ لَزِمَ الْمُقِرَّ الْمَالُ بِإِقْرَارِهِ وَلَزِمَ شَرِيكَهُ بِالْكَفَالَةِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْمَالِ ، وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ دُونَ شَرِيكِهِ قَبْلَ الشَّرِكَةِ وَادَّعَى الطَّالِبُ أَنَّهُ عَلَيْهِ مِنْ الشَّرِكَةِ فَالْمَالُ عَلَيْهِمَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِي الْإِسْنَادِ ، وَإِنْ تَصَادَقَا أَنَّ الدَّيْنَ كَانَ قَبْلَ الشَّرِكَةِ لَمْ يُؤْخَذْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِدَيْنِ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْكَفَالَةِ بَيْنَهُمَا إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْمُفَاوَضَةِ فَيَكُونُ ثَابِتًا فِيمَا يَجِبُ بَعْدَ الْمُفَاوَضَةِ لَا فِيمَا كَانَ وَاجِبًا قَبْلَهَا .
وَإِذَا أَقَرَّ أَحَدُهُمَا أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، وَقَالَ الْآخَرُ لَا بَلْ لِفُلَانٍ لَزِمَهُمَا جَمِيعًا الْمَالُ ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي قَالَ لِفُلَانٍ لَزِمَهُمَا جَمِيعًا وَلَا أَثَرَ لِاخْتِلَافِ الْمُقَرِّ لَهُمَا فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ ذَلِكَ صَاحِبُهُ ؛ لِأَنَّ قَوْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَلْزَمُ صَاحِبَهُ وَهُمَا بَعْدَ الْمُفَاوَضَةِ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ فِي أَسْبَابِ الْتِزَامِ الْمَالِ بِالتِّجَارَةِ .
وَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ تَفَرَّقَا ، ثُمَّ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِدَيْنٍ عَلَيْهِمَا فِي الشَّرِكَةِ لَزِمَهُ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ فِي الْإِسْنَادِ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ فَيَبْقَى مُلْتَزِمًا الْمَالَ فِي الْحَالِ ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا سَبَبٌ يُوجِبُ كَفَالَةَ صَاحِبِهِ عَنْهُ فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْمَالِ فِي الْحَالِ فَلِهَذَا كَانَ الْمَالُ عَلَيْهِ خَاصَّةً ، وَعَلَى صَاحِبِهِ الْيَمِينُ إنْ ادَّعَاهُ الطَّالِبُ .
وَإِنْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَيْهِمَا مَالًا ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَحَلَفَ أَحَدُهُمَا وَأَبَى الْآخَرُ أَنْ يَحْلِفَ لَزِمَهُمَا جَمِيعًا الْمَالُ ؛ لِأَنَّ نُكُولَهُ عَنْ الْيَمِينِ كَإِقْرَارِهِ وَلِأَنَّ حَلِفَ أَحَدِهِمَا لَا يُسْقِطُ الْيَمِينَ عَنْ الْآخَرِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى لَهُمَا عَلَى إنْسَانٍ فَاسْتَحْلَفَ أَحَدُهُمَا الْمَطْلُوبَ فَحَلَفَ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ ؛ لِأَنَّ النِّيَابَةَ فِي الِاسْتِحْلَافِ تُجْزِئُ ، وَفِي الْحَلِفِ لَا تُجْزِئُ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْحَالِفُ مِنْهُمَا نَائِبًا عَنْ صَاحِبِهِ فِي الْيَمِينِ ، وَلِأَنَّهُ بَعْدَ مَا حَلَفَ أَحَدُهُمَا كَانَ اسْتِحْلَافُ الْآخَرِ مُفِيدًا ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي التَّحَرُّزِ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ أَمَّا بَعْدَ مَا اسْتَحْلَفَ أَحَدُهُمَا الْمَطْلُوبَ كَانَ اسْتِحْلَافُ الْآخَرِ إيَّاهُ غَيْرَ مُفِيدٍ لِعِلْمِنَا أَنَّهُ يَحْلِفُ لَا مَحَالَةَ .
وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ لِابْنِهِ أَوْ لِامْرَأَتِهِ أَوْ لِمُكَاتَبِهِ بِدَيْنٍ لَمْ يُصَدَّقْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى شَرِيكِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ فِيمَا يُوجَبُ لَهُمْ عَلَى الْغَيْرِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُصَدَّقُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا فِي الْمُكَاتَبِ ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ فِي الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ يَبِيعُ مِنْ أَحَدِ هَؤُلَاءِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الْإِقْرَارِ فِي الْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : وَإِذَا أَقَرَّ الْمُضَارِبُ بِدَيْنٍ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَجَحَدَهُ رَبُّ الْمَالِ فَإِقْرَارُهُ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ التِّجَارَةِ وَلِهَذَا يَمْلِكُهُ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ وَالْمُضَارِبُ مُسْتَنِدٌ لِمَا هُوَ مِنْ التِّجَارَةِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ فِيهَا بِأَجْرِ أَجِيرِ أَوْ أَجْرِ دَابَّةٍ أَوْ حَانُوتٍ ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِإِنْشَاءِ سَبَبِ وُجُوبِ هَذِهِ الدُّيُونِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَصَحَّ إقْرَارُهُ بِهَا ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ الْتِزَامِ الدَّيْنِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ وَيَحْصُلُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْمُضَارَبَةِ ، فَإِنْ كَانَ دَفَعَهَا إلَى رَبِّ الْمَالِ ، فَقَالَ : هَذَا مِنْ رَأْسِ مَالِكَ فَاقْبِضْهُ ، ثُمَّ أَقَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِبَعْضِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّيْنِ لَمْ يُصَدَّقْ ؛ لِأَنَّهُ مُنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ فَإِنَّ الْمَدْفُوعَ إنَّمَا يَكُونُ سَالِمًا لِرَبِّ الْمَالِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ إذَا فَرَغَ عَنْ الدَّيْنِ فَكَانَ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ مُقِرًّا بِأَنَّهُ لَا دَيْنَ فِيهِ ، وَلِأَنَّ حُكْمَ الْمُضَارَبَةِ قَدْ انْتَهَى فِيمَا وَصَلَ إلَى رَبِّ الْمَالِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْمُضَارِبُ إنْشَاءَ التَّصَرُّفِ فِيهِ .
وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي ذَلِكَ .
وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ رَجُلَيْنِ وَمَالُ الْمُضَارَبَةِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَرَبِحَا أَلْفًا فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا أَنَّ خَمْسَمِائَةٍ لِفُلَانٍ ، وَقَالَ الْآخَرُ بَلْ الْأَلْفُ كُلُّهَا رِبْحٌ فَإِنَّ الْمُقِرَّ يُصَدَّقُ فِي مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ مِمَّا فِي يَدِهِ لِفُلَانٍ فَإِنَّ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ الْمَالِ ، وَقَدْ أَقَرَّ بِخَمْسِمِائَةٍ شَائِعَةٍ فِي الْكُلِّ وَنِصْفُهَا فِيمَا فِي يَدِهِ وَنِصْفُهَا فِيمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ فَإِقْرَارُهُ فِيمَا فِي يَدِهِ صَحِيحٌ ، وَفِيمَا فِي يَدِ الْآخَرِ بَاطِلٌ فَيَدْفَعُ هُوَ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ وَيُقَسِّمُ مِثْلَهَا بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ وَبَيْنَ الْمُضَارِبِ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا بَلْ هِيَ لِفُلَانٍ فَلَا يَكُونُ لَهُ فِيهَا نَصِيبٌ وَمَا بَقِيَ مِنْ الرِّبْحِ ، وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ كَمَا بَيَّنَّا .
وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ بِهَذِهِ الْخَمْسِمِائَةِ لِأَبِيهِ أَوْ لِابْنِهِ فَهُوَ وَمَا سَبَقَ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمُضَارِبِ لِهَؤُلَاءِ صَحِيحٌ وَلِإِنْشَائِهِ التَّصَرُّفَ مَعَهُمْ .
وَلَوْ أَقَرَّ الْمُضَارِبُ بِرِبْحِ أَلْفِ دِرْهَمٍ فِي الْمَالِ ، ثُمَّ قَالَ : غَلِطْت إنَّمَا هُوَ خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ لَمْ يُصَدَّقْ ، وَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ الْمَالِ لِأَنَّهُ مُنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ رَاجِعٌ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ ، وَلِأَنَّهُ جَاحِدٌ لِمَا أَقَرَّ بِهِ بِحُصُولِهِ فِي يَدِهِ رِبْحًا ، وَهُوَ أَمِينٌ فِي الرِّبْحِ فَيَضْمَنُ ذَلِكَ بِالْجُحُودِ .
وَإِنْ بَقِيَ فِي يَدِهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ ، فَقَالَ : هَذَا رِبْحٌ ، وَقَدْ دَفَعْت رَأْسَ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ وَكَذَّبَهُ رَبُّ الْمَالِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يُرِيدُ اسْتِحْقَاقَ شَيْءٍ مِمَّا فِي يَدِهِ وَإِنَّمَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْأَمِينِ فِي دَفْعِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ أَمَّا فِي الِاسْتِحْقَاقِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ ، وَلَكِنْ يَحْلِفُ رَبُّ الْمَالِ بِدَعْوَى الْمُضَارِبِ ، فَإِنْ حَلَفَ يَأْخُذُ مَا فِي يَدِهِ بِحِسَابِ رَأْسِ مَالِهِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُضَارِبِ فِي الرِّبْحِ وَلَا يَظْهَرُ الرِّبْحُ مَا لَمْ يَصِلْ رَأْسُ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ .
وَإِذَا قَالَ لِرَجُلٍ : فُلَانٌ شَرِيكِي مُفَاوَضَةً ، فَقَالَ : نَعَمْ أَوْ أَجَلْ أَوْ قَالَ : صَدَقَ أَوْ قَالَ : هُوَ كَمَا قَالَ أَوْ قَالَ : هُوَ صَادِقٌ فَهَذَا كُلُّهُ سَوَاءٌ وَهُمَا شَرِيكَانِ فِي كُلِّ مَالٍ عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ أَوْ رَقِيقٍ أَوْ عَقَارٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ مَا أَتَى مِنْ الْجَوَابِ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ فَيَصِيرُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخِطَابِ مُعَادًا فِيهِ حَتَّى يَثْبُتَ بِهِ تَصَادُقُهُمَا عَلَى شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ ، وَالثَّابِتُ بِاتِّفَاقِهِمَا كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَلَوْ عَايَنَا شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ بَيْنَهُمَا كَانَ مَا فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ وَلَفْظُ الشَّرِكَةِ يُوجِبُ ذَلِكَ الْإِطْعَامَ مِثْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِسْوَتِهِ وَكِسْوَةِ أَهْلِهِ فَلِمَنْ فِي يَدِهِ اسْتِحْسَانًا ، وَفِي الْقِيَاسِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ ، وَلَكِنْ يَصِيرُ مُسْتَثْنًى مِمَّا هُوَ مُوجَبُ شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَيْهِ مَعْلُومٌ وُقُوعُهَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مُدَّةِ الْمُفَاوَضَةِ وَلِهَذَا لَوْ كَانَتْ الشَّرِكَةُ ظَاهِرَةً بَيْنَهُمْ كَانَ مَا اشْتَرَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا إلَّا الطَّعَامَ وَالْكِسْوَةَ .
وَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ الْعَقْدُ بِإِقْرَارِهِمَا .
وَكَذَلِكَ أُمُّ وَلَدِ أَحَدِهِمَا أَوْ مُدَبَّرَتُهُ ؛ لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَيْسَتْ بِمَالٍ وَالْمُدَبَّرَةَ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِلتِّجَارَةِ وَمُقْتَضَى الْمُفَاوَضَةِ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا فِي كُلِّ مَالٍ قَابِلٍ لِلتِّجَارَةِ وَالتَّصَرُّفِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَا تَثْبُتُ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَنْكُوحَةِ فَكَذَلِكَ فِي الْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُكَاتَبًا قَدْ كَاتَبَهُ قَبْلَ إقْرَارِهِ فَمَا عَلَيْهِ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ قَابِلٌ لِلتَّصَرُّفِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الدُّيُونِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ
رَقَبَةَ الْمُكَاتَبِ لَا تَصِيرُ مِيرَاثًا وَمَا عَلَيْهِ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ يَصِيرُ مِيرَاثًا لِلْوَرَثَةِ فَكَذَلِكَ بِإِقْرَارِهِ تَثْبُتُ الشَّرِكَةُ لِلْآخَرِ فِي بَدَلِ الْكِتَابَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَثْبُتُ فِي الرَّقَبَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَكَذَلِكَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْبَدَلِ قَبْلَ عَجْزِهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : هُوَ مُفَاوِضِي فِي الشَّرِكَةِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ يُضَافُ إلَيْهِمَا تَارَةً وَإِلَى أَحَدِهِمَا أُخْرَى وَثُبُوتُ حُكْمِ الْمُفَاوَضَةِ لَا يَخْتَصُّ بِأَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَكَانَتْ الْإِضَافَةُ إلَى أَحَدِهِمَا بِمَنْزِلَةِ الْإِضَافَةِ إلَيْهِمَا .
وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُ الْمُفَاوِضَيْنِ لِشَرِيكٍ ثَالِثٍ مَعَهُمَا وَأَنْكَرَ الْآخَرُ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ مِنْ جُمْلَةِ التِّجَارَةِ ، وَهُوَ مِنْ صُنْعِ التِّجَارَةِ فَإِقْرَارُ أَحَدِهِمَا بِهِ كَإِقْرَارِهِمَا فِي سَائِرِ التِّجَارَاتِ .
وَإِذَا أَقَرَّ الذِّمِّيُّ لِمُسْلِمٍ بِالْمُفَاوَضَةِ أَوْ أَقَرَّ الْمُسْلِمُ لِلذِّمِّيِّ بِهَا فَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَكُونَانِ مُتَفَاوِضَيْنِ ، وَلَكِنَّ مَا فِي أَيْدِيهِمَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ أَنَّ الْمُفَاوَضَةَ لَا تَصِحُّ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا فِي التَّصَرُّفِ فِي أَنْوَاعِ الْمَالِ ، وَإِذَا كَانَ عِنْدَهُمَا لَا يَصِحُّ إنْشَاءُ هَذَا الْعَقْدِ فَكَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِمَا مَا أَقَرَّا بِهِ فَمُوجَبُ هَذَا الْإِقْرَارِ كَوْنُ مَا بِيَدِهِمَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَمَا فِي يَدِهِمَا مَحَلٌّ لِذَلِكَ فَيَثْبُتُ هَذَا الْحُكْمُ إنْ لَمْ يَثْبُتْ أَصْلُ الْمُفَاوَضَةِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ أَحَدُ الْأَخَوَيْنِ بِأَخٍ آخَرَ فَإِنَّهُ يُشَارِكُهُ فِي الْمِيرَاثِ ، وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ بِإِقْرَارِهِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ابْتِدَاءُ الْمُفَاوَضَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ صَحِيحٌ فَكَذَلِكَ يَظْهَرُ بِإِقْرَارِ الْحُرِّ لِعَبْدٍ مَأْذُونٍ أَنَّهُ شَرِيكُهُ مُفَاوَضَةً أَوْ أَقَرَّ بِهِ لِمُكَاتَبٍ وَصَدَّقَهُ فِي ذَلِكَ لَمْ تَثْبُتْ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ إنْشَاءَ الْمُفَاوَضَةِ بَيْنَهُمَا لَا يَصِحُّ ، وَلَكِنَّ مَا فِي أَيْدِيهِمَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى ذَلِكَ وَاحْتِمَالِ أَنَّ مَا فِي أَيْدِيهِمَا لِلشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِدَيْنٍ وَلَا وَدِيعَةٍ ؛ لِأَنَّ نُفُوذَ إقْرَارِ أَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ صِحَّةِ الْمُفَاوَضَةِ ، وَلَمْ تَصِحَّ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَقَرَّ لِصَبِيٍّ تَاجِرٍ بِالْمُفَاوَضَةِ أَوْ أَقَرَّ الصَّبِيُّ التَّاجِرُ لِصَبِيٍّ تَاجِرٍ وَصَدَّقَهُ الْآخَرُ فَمَا فِي أَيْدِيهِمَا بَيْنَهُمَا لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى ذَلِكَ ، وَلَكِنْ لَا تَثْبُتُ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ إنْشَاءَ هَذَا الْعَقْدِ
بَيْنَهُمَا لَا يَصِحُّ فَإِنَّ مُوجَبَ الْمُفَاوَضَةِ الْكَفَالَةُ الْعَامَّةُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ وَالصَّبِيُّ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَلِكَ .
وَإِذَا أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِالشَّرِكَةِ مُفَاوَضَةً وَأَنْكَرَ الْآخَرُ ذَلِكَ فَلَا شَيْءَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّ تَكْذِيبَ الْمُقَرِّ لَهُ مُبْطِلٌ لِلْإِقْرَارِ .
وَلَوْ قَالَ الْآخَرُ أَنَا شَرِيكُكَ فِيمَا فِي يَدِكَ غَيْرَ مُفَاوَضَةٍ وَلَسْتَ شَرِيكِي فِيمَا فِي يَدِي فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِيمَا فِي يَدِهِ وَادَّعَى لِنَفْسِهِ مَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَقَدْ صَدَّقَهُ فِي إقْرَارِهِ وَكَذَّبَهُ فِي دَعْوَاهُ فَيَثْبُتُ مَا أَقَرَّ بِهِ وَيَكُونُ عَلَى صَاحِبِهِ الْيَمِينُ فِي إنْكَارِ مَا ادَّعَاهُ ، وَهَذَا لِأَنَّ تَكْذِيبَ الْمُقَرِّ لَهُ فِي الْجِهَةِ لَا يُوجِبُ تَكْذِيبَهُ فِي أَصْلِ الْمَالِ كَمَا لَوْ قَالَ : لَكَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ قَرْضًا ، وَقَالَ الْآخَرُ بَلْ هِيَ غَصْبٌ يَلْزَمُهُ الْمَالُ فَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ انْتِفَاءِ الْمُفَاوَضَةِ بِتَكْذِيبِهِ انْتِفَاءُ الشَّرِكَةِ فِيمَا فِي يَدِهِ كَمَا فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ .
وَإِذَا أَقَرَّ لِصَبِيٍّ لَا يَتَكَلَّمُ بِشَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ وَصَدَّقَهُ أَبُوهُ كَانَ مَا فِي يَدِ الرَّجُلِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِنِصْفِ مَا فِي يَدِهِ ، وَقَدْ اتَّصَلَ بِهِ التَّصْدِيقُ مِنْ أَبِيهِ ، وَلَكِنْ لَا يَكُونَانِ مُتَفَاوِضَيْنِ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْمُفَاوَضَةِ بَيْنَهُمَا يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا فِي التَّصَرُّفِ وَالصَّبِيُّ الَّذِي لَا يَتَكَلَّمُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلتَّصَرُّفِ .
وَإِذَا أَقَرَّ لِرَجُلٍ أَنَّهُ شَرِيكُ فُلَانٍ فِي قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ ، فَقَالَ فُلَانٌ نَعَمْ فَهُمَا شَرِيكَانِ فِي كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ ؛ لِأَنَّ لَفْظَةَ الشَّرِكَةِ تَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ } وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا جَعَلْنَا مَا فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إقْرَارُ أَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِالدَّيْنِ الْوَدِيعَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ خَصَائِصِ عَقْدِ الْمُفَاوَضَةِ ، وَلَمْ يَثْبُتْ بِإِقْرَارِهِمَا حِينَ لَمْ يُصَرِّحَا بِلَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُمَا لَوْ أَنْشَآ عَقْدَ الشَّرِكَةِ الْعَامَّةِ بَيْنَهُمَا لَا تَكُونُ مُفَاوَضَةً إلَّا أَنْ يُصَرِّحَا بِلَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعَوَامَّ مِنْ النَّاسِ قَلَّمَا يَعْرِفُونَ جَمِيعَ أَحْكَامِ الْمُفَاوَضَةِ لِيَذْكُرُوا ذَلِكَ عِنْدَ الْعَقْدِ فَأَقَامَ الشَّرْعُ التَّنْصِيصَ مِنْهُمَا عَلَى لَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ مَقَامَ ذِكْرِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ ، وَإِذَا كَانَ عَقْدُ الْإِنْشَاءِ لَا يُثْبِتُ الْمُفَاوَضَةَ إلَّا بِالتَّصْرِيحِ بِلَفْظِهَا فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْإِقْرَارِ .
وَلَوْ كَانَ أَقَرَّ أَنَّهُ شَرِيكُهُ فِي التِّجَارَاتِ كَانَ مَا فِي يَدِهِمَا مِنْ مَتَاعِ التِّجَارَةِ بَيْنَهُمَا وَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَسْكَنٌ وَلَا كِسْوَةٌ وَلَا طَعَامٌ ؛ لِأَنَّ التَّصَادُقَ مِنْهُمَا كَانَ مُقَيَّدًا بِمَالِ التِّجَارَةِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَقَدْ تَصَادَقَا هُنَاكَ فِي الشَّرِكَةِ فِي كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ ، وَذَلِكَ يَعُمُّ الدَّارَ وَالْخَادِمَ وَغَيْرَهُمَا .
وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِمَا دَارٌ أَوْ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ ، وَقَالَ : لَيْسَ هَذَا مِنْ تِجَارَتِنَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَعْيَانَ لَيْسَتْ لِلتِّجَارَةِ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ فَمَنْ قَالَ : إنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ التِّجَارَةِ فَهُوَ مُتَمَسِّكٌ بِمَا هُوَ الْأَصْلُ ، وَلِأَنَّ التَّصَادُقَ مِنْهُمَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُمَا بِصِفَةِ الْعُمُومِ وَإِنَّمَا حَصَلَ خَاصًّا فِي مَتَاعِ التِّجَارَةِ ، وَالسَّبَبُ مَتَى كَانَ مُقَيَّدًا بِوَصْفٍ لَا يَكُونُ مُوجِبًا بِدُونِ ذَلِكَ الْوَصْفِ فَمَا لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ مِنْ التِّجَارَةِ لَا يَتَحَقَّقُ سَبَبُ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ ذِي الْيَدِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا لِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ هَذَا مَالٌ فِي يَدِي مِنْ غَيْرِ الشَّرِكَةِ أَصَبْتُهُ مِنْ مِيرَاثٍ أَوْ جَائِزَةٍ أَوْ بِضَاعَةٍ لِإِنْسَانٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يَقُومَ لِلْآخَرِ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ مِنْ الشَّرِكَةِ أَوْ كَانَ فِي يَدِهِ يَوْمَ أَقَرَّ بِهِ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِهِ وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ يَوْمَ أَقَرَّ كَانَ فِي الشَّرِكَةِ ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ مِنْ التِّجَارَةِ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ وَأَنَّهُمَا خُلِقَا لِذَلِكَ وَلِهَذَا وَجَبَتْ الزَّكَاةُ فِيهِمَا بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ التِّجَارَةِ ، فَإِذَا ثَبَتَ كَوْنُهُ فِي يَدِهِ وَقْتَ الْإِقْرَارِ بِقَدْرِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلشَّرِكَةِ فِيهِ فَهُوَ يُرِيدُ إخْرَاجَهُ مِنْ الشَّرِكَةِ بَعْدَ مَا تَنَاوَلَهُ الْإِقْرَارُ بِهَا فَلَا يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ .
وَلَوْ كَانَ فِي التِّجَارَةِ ، فَقَالَ : لَيْسَ هَذَا مِنْ التِّجَارَةِ الَّتِي بَيْنَنَا ، وَلَمْ يَزَلْ فِي يَدِي قَبْلَ الشَّرِكَةِ كَانَ الْمَتَاعُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ بِثُبُوتِ التِّجَارَةِ فِيهِ صَارَ الْإِقْرَارُ بِالشَّرِكَةِ مُتَنَاوِلًا لَهُ فَلَا يُصَدَّقُ فِي إخْرَاجِهِ بَعْدَ مَا تَنَاوَلَهُ الْإِقْرَارُ .
وَلَوْ قَالَ : فُلَانٌ شَرِيكِي ، وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا ، ثُمَّ قَالَ : عَنَيْتُ فِي هَذِهِ الدَّارِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ؛ لِأَنَّ فِي بَيَانِهِ تَقْرِيرًا لِمَا أَقَرَّ بِهِ لَا تَغْيِيرًا فَيَصِحُّ مَوْصُولًا وَمَفْصُولًا ، وَلِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِقْرَارِ بِالشَّرِكَةِ غَيْرُ مُضَافٍ إلَى مَحَلٍّ لَا يُثْبِتُ مِنْ الْمَالِ إلَّا قَدْرَ مَا لَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الْوَصْفُ لَهُمَا إلَّا بِهِ ، وَهَذَا الْوَصْفُ يَتَحَقَّقُ لَهُمَا بِالشَّرِكَةِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ فَيُثْبِتُ الْقَدْرَ الْمُتَيَقَّنَ بِهِ وَيَكُونُ الْقَوْلُ فِي إنْكَارِ الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ .
وَلَوْ قَالَ : فُلَانٌ شَرِيكِي فِي تِجَارَةِ الزُّطِّيِّ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَيَّدَ إقْرَارَهُ بِمَحَلٍّ سَمَّاهُ وَتَقْيِيدُ الْمُقِرِّ إقْرَارَهُ مَوْصُولًا بِكَلَامِهِ صَحِيحٌ .
وَلَوْ قَالَ : فُلَانٌ شَرِيكِي فِي كُلِّ تِجَارَةٍ ، وَقَالَ فُلَانٌ : أَنَا شَرِيكُكَ فِيمَا فِي يَدِكَ وَلَسْتَ بِشَرِيكِي فِيمَا فِي يَدِي كَانَ الْقَوْل قَوْلَهُ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِنِصْفِ مَا فِي يَدِهِ وَادَّعَى لِنَفْسِهِ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ ، وَقَدْ صَدَّقَهُ فِي الْإِقْرَارِ وَكَذَّبَهُ فِي دَعْوَاهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ .
وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِ حَانُوتٌ ، فَقَالَ : فُلَانٌ شَرِيكِي فِيمَا فِي هَذَا الْحَانُوتِ ، ثُمَّ قَالَ : أَدْخَلْتُ هَذَا الْعِدْلَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ مِنْ غَيْرِ الشَّرِكَةِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ ، وَهُوَ عَلَى الشَّرِكَةِ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَا يَدَّعِي قَالَ : لِأَنَّ الْحَانُوتَ وَمَا فِي الْحَانُوتِ مَعْلُومٌ وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ وَقَعَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ بَيَانِ الْمُقِرِّ فِي مَعْرِفَةِ مَا أَقَرَّ بِهِ بِتَعْيِينِهِ مَحَلَّهُ ، وَهُوَ الْحَانُوتُ فَلَا يَبْقَى لَهُ قَوْلٌ فِي الْبَيَانِ ، وَلَكِنَّ جَمِيعَ مَا يُوجَدُ فِي الْحَانُوتِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ إلَّا مَا يُثْبِتُ بِالْحُجَّةِ أَنَّهُ أَدْخَلَهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَبْرَأَ غَيْرَهُ مِنْ كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ لَهُ عَلَيْهِ ، ثُمَّ ادَّعَى بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ شَيْئًا ، وَقَالَ : قَدْ حَدَثَ وُجُوبُهُ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ ، وَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَلْ كَانَ قَبْلَ الْإِبْرَاءِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يُثْبِتَ الْمُدَّعِي بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ وَجَبَ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ : جَمِيعُ مَا فِي يَدِي مُشْتَرَكٌ بَيْنِي وَبَيْنَ فُلَانٍ ، ثُمَّ قَالَ لِمَتَاعٍ بَعْدَ ذَلِكَ إنَّهُ حَدَثَ فِي يَدِي بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَالْقَوْل قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَا وَقَعَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ بَيَانِهِ هُنَاكَ فَإِنَّ مَا فِي يَدِهِ لَا يُعْلَمُ إلَّا بِقَوْلِهِ فَلِهَذَا جَعَلْنَا بَيَانَهُ مَقْبُولًا فِيهِ وَأَوْرَدَ مَسْأَلَةَ الْحَانُوتِ بَعْدَ هَذَا وَأَجَابَ فِيهَا أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُقِرِّ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ جَمِيعُ مَا فِي يَدِي بَيْنِي وَبَيْنَ فُلَانٍ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ ، وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ أَنَّ إقْرَارَهُ تَقَيَّدَ بِمَحَلٍّ خَاصٍّ ، وَهُوَ الْمَوْجُودُ فِي الْحَانُوتِ وَقْتَ إقْرَارِهِ فَمَا لَمْ يَثْبُتْ هَذَا الْقَيْدُ بِالْحُجَّةِ لَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُقَرُّ لَهُ لِأَنَّ وُجُودَهُ فِي الْحَانُوتِ فِي الْحَالِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الْحَانُوتِ عِنْدَ الْإِقْرَارِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ وَالظَّاهِرُ
حُجَّةٌ لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ لَا لِلِاسْتِحْقَاقِ .
وَلَوْ قَالَ : فُلَانٌ شَرِيكِي فِي كُلِّ تِجَارَةٍ وَأَقَرَّ بِذَلِكَ فُلَانٌ ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا ، وَفِي يَدِهِ مَالٌ ، فَقَالَ وَرَثَتُهُ هَذَا مَالٌ اسْتَفَادَهُ مِنْ غَيْرِ الشَّرِكَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُمْ لِأَنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَهُ وَلَوْ قَالَ : هُوَ فِي هَذَا الْفَصْلِ لِمَالٍ فِي يَدِهِ إنَّهُ حَادِثٌ فِي يَدِي مِنْ غَيْرِ الشَّرِكَةِ وَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهِ فِي ذَلِكَ فَكَذَلِكَ يُقْبَلُ قَوْلُ وَرَثَتِهِ ، وَإِنْ أَقَرُّوا أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ يَوْمَ أَقَرُّوا أَنَّهُ مِنْ التِّجَارَةِ فَهُوَ مِنْ الشَّرِكَةِ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُمْ بِهَذَا بَعْدَ مَوْتِهِ كَإِقْرَارِهِ بِهِ فِي حَيَاتِهِ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ صَكٌّ بِاسْمِهِ عَلَى رَجُلٍ بِمَالٍ تَارِيخُهُ قَبْلَ الْإِقْرَارِ بِالشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِالشَّرِكَةِ فِي كُلِّ تِجَارَةٍ ، وَذَلِكَ يَعُمُّ الْعَيْنَ وَالدَّيْنَ جَمِيعًا ، وَإِنْ كَانَ تَارِيخُ الصَّكِّ بَعْدَ الشَّرِكَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَرَثَةِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الشَّرِكَةِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُكْتَبُ فِي الصَّكِّ تَارِيخُ وُجُوبِ الدَّيْنِ ، فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ إنْ كَانَ هَذَا دَيْنًا حَدَثَ وُجُوبُهُ فَلَا تَثْبُتُ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا فِيهِ وَالظَّاهِرُ شَاهِدٌ لِلْوَرَثَةِ فِي ذَلِكَ وَحَاجَتُهُمْ إلَى دَفْعِ اسْتِحْقَاقِ الْمُقَرِّ لَهُ وَالظَّاهِرُ يَكْفِي لِهَذَا .
وَلَوْ قَالَ : فُلَانٌ شَرِيكِي فِي الطَّحْنِ ، وَفِي يَدِ الْمُقِرِّ رَحًا وَإِبِلٌ وَمَتَاعُ الطَّحَّانِينَ فَادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ الشَّرِكَةَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ ؛ لِأَنَّ الطَّحْنَ اسْمٌ لِلْعَمَلِ دُونَ الْآلَاتِ ، وَلَيْسَ مِنْ الضَّرُورَةِ كَوْنُهُ شَرِيكًا لَهُ فِي الْآلَاتِ ، وَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُقِرِّ فِي الْأَوَّلِ .
وَكَذَلِكَ كُلُّ عَامِلٍ فِي يَدِهِ حَانُوتٌ ، وَفِيهِ مَتَاعٌ مِنْ مَتَاعِ عَمَلِهِ فَأَقَرَّ أَنَّهُ شَرِيكٌ لِفُلَانٍ فِي عَمَلِ كَذَا فَهُمَا شَرِيكَانِ فِي الْعَمَلِ دُونَ الْمَتَاعِ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا بِإِقْرَارِهِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِيمَا صَرَّحَ بِهِ أَوْ فِيمَا هُوَ مِنْ ضَرُورَةِ مَا صَرَّحَ بِهِ .
وَلَوْ قَالَ : هُوَ شَرِيكِي فِي هَذَا الْحَانُوتِ فِي عَمَلِ كَذَا فَكُلُّ شَيْءٍ فِي ذَلِكَ الْحَانُوتِ مِنْ عَمَلٍ أَوْ مَتَاعِ ذَلِكَ الْعَمَلِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ عَيَّنَ لِمَا أَقَرَّ بِهِ مَحَلًّا ، وَهُوَ الْحَانُوتُ ، وَذَكَرَ الْعَمَلَ لِتَقْيِيدِ الْإِقْرَارِ بِمَتَاعِ ذَلِكَ الْعَمَلِ فَمَا كَانَ فِي الْحَانُوتِ مِنْ مَتَاعِ ذَلِكَ الْعَمَلِ فَقَدْ تَنَاوَلَهُ إقْرَارُهُ فَكَانَ بَيْنَهُمَا .
وَلَوْ كَانَ الْحَانُوتُ وَمَا فِيهِ فِي أَيْدِيهِمَا ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا فُلَانٌ شَرِيكِي فِي عَمَلِ كَذَا ، فَأَمَّا الْمَتَاعُ فَهُوَ لِي ، وَقَالَ الْآخَرُ بَلْ الْمَتَاعُ بَيْنَنَا فَهُوَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ ثُبُوتَ يَدِهِمَا عَلَى الْحَانُوتِ سَبَبٌ لِثُبُوتِ الْيَدِ لَهُمَا عَلَى مَا فِي الْحَانُوتِ فَكَانَ فِي قَوْلِهِ الْمَتَاعُ لِي مُدَّعِيًا لِلنِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِ صَاحِبِهِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ الْحَانُوتَ هُنَاكَ فِي يَدِ الْمُقِرِّ فَمَا فِيهِ يَكُونُ فِي يَدِهِ أَيْضًا .
وَلَوْ قَالَ : فُلَانٌ شَرِيكِي فِي كُلِّ زُطِّيٍّ اشْتَرَيْتُهُ ، وَفِي يَدِهِ عِدْلَانِ ، فَقَالَ : اشْتَرَيْتُ أَحَدَهُمَا وَوَرِثْتُ الْآخَرَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ قَيَّدَ الْمُقَرَّ بِهِ بِالزُّطِّيِّ الْمُشْتَرَى فَمَا لَمْ يَثْبُتْ هَذَا الْوَصْفُ فِي مَحَلٍّ لَا يَتَنَاوَلُ إقْرَارُهُ لِذَلِكَ الْمَحَلِّ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : هُوَ شَرِيكِي فِي كُلِّ زُطِّيٍّ عِنْدِي لِلتِّجَارَةِ ، ثُمَّ قَالَ : اشْتَرَيْتُ أَحَدَهُمَا مِنْ خَاصِّ مَالِي لِغَيْرِ التِّجَارَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الشِّرَاءِ فِي الزُّطِّيِّ لَا يَجْعَلُ الْمُشْتَرَى لِلتِّجَارَةِ بِدُونِ النِّيَّةِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ إذَا لَمْ يَنْوِ بِهِ التِّجَارَةَ وَنِيَّةُ التِّجَارَةِ لَا يُوقَفُ عَلَيْهَا إلَّا مِنْ جِهَتِهِ ، فَإِذَا قَيَّدَ الْإِقْرَارَ بِمَا لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ وَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهِ فِيهِ .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُمَا فِي يَدِهِ لِلتِّجَارَةِ ، ثُمَّ قَالَ : هَذَا مِنْ خَاصَّةِ مَالِي لَمْ يُصَدَّقْ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الشَّرِكَةِ قَدْ تَقَرَّرَ فِيهِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي إخْرَاجِهِ .
وَلَوْ قَالَ : هُوَ شَرِيكِي فِي كُلِّ زُطِّيٍّ قَدِمَ لِي مِنْ الْأَهْوَازِ أَمْسِ ، ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّ الْأَعْدَالَ الْعَشَرَةَ قَدِمَتْ لَهُ مِنْ الْأَهْوَازِ أَمْسِ ، وَقَالَ أَحَدُهُمَا مِنْ خَاصَّةِ مَالِي وَالْآخَرُ بِضَاعَةُ فُلَانٍ ، وَقَالَ الشَّرِيكُ هِيَ كُلُّهَا مِنْ الشَّرِكَةِ فَالْكُلُّ مِنْ الشَّرِكَةِ لِثُبُوتِ الْوَصْفِ الَّذِي قَيَّدَ الْإِقْرَارَ بِهِ فِي جَمِيعِ الْأَعْدَالِ بِإِقْرَارِهِ إلَّا أَنَّ الْعِدْلَ الَّذِي أَقَرَّ أَنَّهُ بِضَاعَةٌ يُصَدَّقُ عَلَى حِصَّتِهِ مِنْهُ وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى نَصِيبِ شَرِيكِهِ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لِغَيْرِهِ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ صَحِيحٌ وَيَضْمَنُ لِصَاحِبِ الْبِضَاعَةِ نِصْفَ قِيمَةِ هَذَا الْعِدْلِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتْلِفًا بِإِقْرَارِهِ السَّابِقِ لِلْمُقَرِّ لَهُ بِالشَّرِكَةِ وَإِقْرَارُهُ لِلثَّانِي عَلَى نَفْسِهِ صَحِيحٌ فَيَصِيرُ بِهِ ضَامِنًا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظَائِرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ .
وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ فَأَقَرَّا بِهِ بَيْنَهُمَا مِنْ شَرِكَتِهِمَا ، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا اسْتَوْدَعَنَاهُ فُلَانٌ فَهُوَ مُصَدَّقٌ عَلَى حِصَّتِهِ غَيْرُ مُصَدَّقٍ عَلَى حِصَّةِ شَرِيكِهِ وَلَا يَضْمَنُ لِلْمُقَرِّ لَهُ شَيْئًا مِنْ نَصِيبِ شَرِيكِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ قَطُّ وَالْمُودَعُ فِيمَا لَمْ تَصِلْ إلَيْهِ يَدُهُ لَا يَصِيرُ ضَامِنًا وَمَا كَانَ فِي يَدِهِ ، وَهُوَ الْمُقِرُّ النِّصْفَ فَقَدْ سَلَّمَهُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ .
وَإِذَا قَالَ : فُلَانٌ شَرِيكِي فِي هَذَا الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى فُلَانٍ ، وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ أَنْتَ أَدَّيْتَهُ بِغَيْرِ إذْنِي ، وَلَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ شَرِكَةٌ ، فَإِنْ كَانَ الْمُقِرُّ هُوَ الَّذِي بَاعَ الْمَبِيعَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِنِصْفِ قِيمَةِ الْمَتَاعِ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِي الثَّمَنِ إقْرَارٌ مِنْهُ أَنَّ الْأَصْلَ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَإِنَّ الثَّمَنَ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ ، وَهُوَ الَّذِي بَاشَرَ الْبَيْعَ فِيهِ ، وَذَلِكَ سَبَبٌ مُوجِبٌ الضَّمَانَ عَلَيْهِ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ الْإِذْنُ ، وَهُوَ يُنْكِرُ الْإِذْنَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذِكْرِ الْحَقِّ أَنَّهُ بَاعَهُ الْمَتَاعَ ، فَقَالَ : لَمْ أَبِعْهُ أَنَا ، وَلَكِنْ بِعْنَاهُ جَمِيعًا وَكَتَبَ الصَّكَّ بِاسْمِي فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي نَصِيبِهِ بَيْعَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَهُوَ لِذَلِكَ مُنْكِرٌ ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ كَتْبِهِ الصَّكَّ بِاسْمِهِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُبَاشِرَ لِلْبَيْعِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لِإِنْكَارِهِ مَعَ يَمِينِهِ ، فَإِنْ أَرَادَ الْمُقَرُّ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الَّذِي عَلَيْهِ الصَّكُّ نِصْفَهُ قِيمَةَ الْمَتَاعِ ، وَقَالَ : قَبَضْتَ مَتَاعِي بِغَيْرِ إذْنِي ، وَقَالَ الَّذِي عَلَيْهِ الصَّكُّ مَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ شَيْئًا بَاعَنِي الْمَتَاعَ الَّذِي الصَّكُّ بِاسْمِهِ فَلَا ضَمَانَ لَهُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ عَلَيْهِ حَقًّا ، وَهُوَ يُنْكِرُهُ وَلَوْ ضَمَّنَهُ إنَّمَا يُضَمِّنُهُ بِإِقْرَارِ الْمُقِرِّ وَإِقْرَارُهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْمُشْتَرِي فَلَا ضَمَانَ لَهُ عَلَيْهِ ، وَلَكِنَّ الْمَالَ الَّذِي فِي الصَّكِّ بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ وَحَقُّ الْمُطَالَبَةِ لِمَنْ بِاسْمِهِ الصَّكُّ .
وَإِذَا كَانَ عَبْدٌ فِي يَدِ رَجُلٍ ، وَقَالَ : هَذَا مُضَارَبَةٌ لِفُلَانٍ مَعِي بِالنِّصْفِ ، ثُمَّ بَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ ، وَقَالَ : كَانَ رَأْسُ الْمَالِ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ دَفَعْتُ الْعَبْدَ إلَيْكَ بِعَيْنِهِ لِلْمُضَارَبَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمِلْكِ الْعَبْدِ لَهُ حِينَ قَالَ : إنَّهُ مُضَارَبَةٌ لِفُلَانٍ مَعِي هَذَا فَإِنَّ اللَّامَ لِلتَّمْلِيكِ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الْعَبْدِ لِرَبِّ الْمَالِ فِي إقْرَارِهِ وَالثَّمَنُ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ ، فَإِذَا ادَّعَى الْمُضَارِبُ لِنَفْسِهِ جُزْءًا مِنْ ثَمَنِهِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ فَكَانَ الثَّمَنُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ وَعَلَيْهِ لِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ أَقَرَّ لَهُ بِذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ فَإِنَّ الْمُضَارَبَةَ بِالْعُرُوضِ فَاسِدَةٌ وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْمُضَارِبُ بِسَبَبِهِ أَجْرَ مِثْلِ عَمَلِهِ .
وَإِذَا أَقَرَّ الْمُضَارِبُ أَنَّ مَعَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ لِفُلَانٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ وَأَنَّهُ قَدْ رَبِحَ فِيهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ ، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ بَلْ رَأْسُ مَالِي أَلْفَا دِرْهَمٍ فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ بَعْضِ مَالِهِ لِنَفْسِهِ فَإِنَّ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ حَاصِلٌ مِنْ مَالِهِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ ، ثُمَّ رَجَعَ ، وَقَالَ الْمُضَارِبُ مَعَ يَمِينِهِ ، وَهُوَ قَوْلُهُمَا ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ ، وَفِي مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْقَابِضِ إذَا لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ إقْرَارٌ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ الْآنَ فَكَانَ عَلَيْهِ رَدُّ مَا أَقَرَّ بِقَبْضِهِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَالْبَاقِي رِبْحٌ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ .
وَلَوْ قَالَ : هَذَا الْمَالُ مَعِي مُضَارَبَةً لِفُلَانٍ ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ لِفُلَانٍ وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ لَهُ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ ، ثُمَّ عَمِلَ بِهِ الْمُضَارِبُ فَرَبِحَ فِيهِ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ رَأْسَ الْمَالِ إلَى الْأَوَّلِ وَنِصْفَ الرِّبْحِ وَيَدْفَعُ الْآخَرُ مِثْلَ رَأْسِ الْمَالِ غُرْمًا مِنْ مَالِهِ وَلَا يَضْمَنُ لَهُ مِنْ الرِّبْحِ شَيْئًا هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَضْمَنُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْرَ رَأْسِ مَالِهِ وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لَهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ أَنَّ الْمُضَارِبَ إذَا جَحَدَ ، ثُمَّ أَقَرَّ وَتَصَرَّفَ وَرَبِحَ كَانَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرِكَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الرِّبْحُ كُلُّهُ لِلْمُضَارِبِ فَهُنَا الْأَوَّلُ لَمَّا تَقَدَّمَ إقْرَارُ الْمُضَارِبِ لَهُ ثَبَتَ حَقُّهُ وَصَارَ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ ، ثُمَّ بِإِقْرَارِهِ لِلثَّانِي صَارَ جَاحِدًا لِحَقِّ الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا هُوَ تَصَرَّفَ وَرَبِحَ بَعْدَ جُحُودِهِ فَيَكُونُ نِصْفُ الرِّبْحِ لِلْأَوَّلِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجَمِيعُ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَلَكِنَّهُ بِسَبَبِ جَلْبِهِ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ وَيَغْرَمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ رَأْسِ مَالِهِ أَمَّا لِلْأَوَّلِ فَغَيْرُ مُشْكِلٍ وَأَمَّا لِلثَّانِي فَلِإِقْرَارِهِ بِأَنَّهُ كَانَ أَمِينًا مِنْ جِهَتِهِ ، وَقَدْ دَفَعَ الْأَمَانَةَ إلَى غَيْرِهِ وَبِإِقْرَارِهِ صَارَ ضَامِنًا لَهُ .
وَإِذَا أَقَرَّ أَنَّ الْمَالَ مُضَارَبَةٌ فِي يَدِهِ لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ وَصَدَّقَاهُ ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَحَدِهِمَا الثُّلُثَانِ وَلِلْآخَرِ الثُّلُثُ لَمْ يُصَدَّقْ ، وَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِضَافَةِ إلَيْهِمَا يَقْتَضِي الْمُنَاصَفَةَ بَيْنَهُمَا ، وَكَانَ بَيَانُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مُغَيِّرًا فَيَصِحُّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا .
وَلَوْ أَقَرَّ الْمُضَارِبَانِ بِمَالٍ فِي أَيْدِيهِمَا أَنَّهُ مُضَارَبَةٌ لِفُلَانٍ وَصَدَّقَهُمَا فِي ذَلِكَ ، ثُمَّ أَقَرَّ رَبُّ الْمَالِ لِأَحَدِهِمَا بِثُلُثِ الرِّبْحِ وَلِلْآخَرِ بِرُبُعِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ تَصْدِيقِهِ إيَّاهُمَا الْإِقْرَارُ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ لَهُمَا مِنْ الرِّبْحِ وَالْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي الرِّبْحِ بَلْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَسْتَوْجِبُ الرِّبْحَ عَلَيْهِ بِالشَّرْطِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي بَيَانِ شَرْطِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
وَإِذَا أَقَرَّ بِمُضَارَبَةٍ لِرَجُلٍ ، وَلَمْ يُسَمِّيهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِيمَا يُسَمِّي مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ جُهِلَ الْمُقَرُّ بِهِ فَالْقَوْلُ فِي بَيَانِهِ قَوْلُهُ ، وَإِنْ مَاتَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ وَارِثِهِ ؛ لِأَنَّهُ خَلْفٌ عَنْهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الْإِقْرَارِ بِالْبَرَاءَةِ وَغَيْرِهَا ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : وَإِذَا قَالَ الْإِنْسَانُ لَا حَقَّ لِي عَلَى فُلَانٍ فِيمَا أَعْلَمُ ، ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ عَلَيْهِ حَقًّا مُسَمًّى قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْبَرَاءَةُ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهَا بِقَوْلِهِ فِيمَا أَعْلَمُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي الْإِقْرَارِ يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا فَكَذَلِكَ فِي الْبَرَاءَةِ وَالْإِقْرَارِ بِهَا ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ هُنَا فَقِيلَ هُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا وَقِيلَ بَلْ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا وَيَقُولُ : إنَّ بِانْتِفَاءِ حُقُوقِهِ عَنْ الْغَيْرِ لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى مَعْرِفَتِهِ حَقِيقَةً فَقَوْلُهُ فِيمَا أَعْلَمُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِنَفْيِ الْيَقِينِ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ وَأَمَّا وُجُوبُ الْحَقِّ لِلْغَيْرِ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَعْرِفَهُ بِمَعْرِفَةِ سَبَبِهِ حَقِيقَةً فَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ فِيمَا أَعْلَمُ لِلتَّشْكِيكِ فِيهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : فِي عِلْمِي أَوْ فِي نَفْسِي أَوْ فِي ظَنِّي أَوْ فِي رَأْيِي أَوْ فِيمَا أَرَى أَوْ فِيمَا أَظُنُّ أَوْ فِيمَا أَحْسَبُ أَوْ حِسَابِي أَوْ كِتَابِي لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ إنَّمَا تُذْكَرُ لِاسْتِثْنَاءِ الْيَقِينِ فِيمَا يُقَرِّرُ بِهِ كَلَامَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ غَرِيمًا أَوْ مُوجِبًا لِلْبَرَاءَةِ .
وَلَوْ قَالَ : قَدْ عَلِمْتُ أَنَّهُ لَا حَقَّ لِي قِبَلَ فُلَانٍ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ بَيِّنَةٌ إلَّا بِتَارِيخٍ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِالْبَرَاءَةِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : قَدْ اسْتَيْقَنْتُ ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ لِتَأْكِيدِ مَعْنَى الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ بِمَا يُخْبِرُ بِهِ فَإِنَّ قَوْلَهُ " قَدْ عَلِمْتُ " خَبَرٌ عَنْ الْمَاضِي ، وَقَدْ يُقَرِّرُهُ بِهِ لِلتَّأْكِيدِ .
وَلَوْ أَطْلَقَ الْإِقْرَارَ بِالْإِبْرَاءِ لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ دَعْوَى إلَّا بِتَارِيخٍ بَعْدَهُ ، فَإِذَا أَكَّدَ بِمَا يُقْرَنُ بِهِ أَوْلَى .
وَإِذَا قَالَ : لَا حَقَّ لِي عَلَيْكَ فَأَشْهَدْ لِي عَلَيْكَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَقَالَ الْآخَرُ أَجَلْ لَا حَقَّ لَكَ عَلَيَّ ، ثُمَّ أَشْهَدَ لَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَالشُّهُودُ يَسْمَعُونَ ذَلِكَ كُلَّهُ فَهَذَا بَاطِلٌ وَلَا يَلْزَمُهُ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَا يَسَعُ الشُّهُودَ أَنْ يَشْهَدُوا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَصَادُقِهِمَا عَلَى انْتِفَاءِ حَقِّهِ عَنْهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الزُّورُ وَالْبَاطِلُ وَمَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ لَا يَصِيرُ بِالْإِشْهَادِ وَاجِبًا ، وَإِذَا عَلِمَ الشُّهُودُ انْتِفَاءَ وُجُوبِ الْمَالِ حَقِيقَةً لَا يَسَعُهُمْ أَنْ يُلْزِمُوهُ بِشَهَادَتِهِمْ شَيْئًا .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي لَمْ يَكُنْ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ فَكَذَلِكَ لَا يَسَعُ الشُّهُودَ أَنْ يَشْهَدُوا بِهِ عَلَيْهِ .
وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ تَلْجِئَةً ، فَقَالَ الطَّالِبُ بَلْ هُوَ حَقٌّ ، فَإِنْ كَانَ الْمُقَرُّ لَهُ لَمْ يُقِرَّ بِأَنَّهُ تَلْجِئَةٌ فَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْمُقِرِّ ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمُقِرِّ تَلْجِئَةً كَالرُّجُوعِ مِنْهُ عَنْ الْإِقْرَارِ فَإِنَّ ظَاهِرَ قَوْلِهِ عَلَى إقْرَارِ حَقٍّ لَازِمٍ وَمَا يَكُونُ تَلْجِئَةً فَهُوَ بَاطِلٌ وَرُجُوعُهُ عَنْ الْإِقْرَارِ لَا يَصِحُّ ، وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ بِذَلِكَ فَحِينَئِذٍ هُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الْإِقْرَارَ كَانَ زُورًا وَالْإِقْرَارُ بِالزُّورِ لَا يُوجِبُ عَلَى الْمُقِرِّ شَيْئًا .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : اشْهَدُوا أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ زُورًا وَبَاطِلًا وَكَذِبًا ، فَقَالَ فُلَانٌ صَدَقَ فِي جَمِيعِ مَا قَالَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ، فَإِنْ قَالَ صَدَقَ فِي الْمَالِ وَكَذَبَ فِي قَوْلِهِ زُورًا وَبَاطِلًا أَخَذْتُهُ بِالْأَلْفِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ بَاعَ دَارِهِ مِنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمِ تَلْجِئَةً لَزِمَ الْمُقِرَّ الْبَيْعُ إذَا كَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي قَوْلِهِ تَلْجِئَةً ، وَإِنْ صَدَّقَهُ فِي جَمِيعِ مَا قَالَ فَهُوَ بَاطِلٌ ، وَإِنْ قَالَ صَدَقَ فَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ التَّصْدِيقِ يَنْصَرِفُ إلَى جَمِيعِ مَا أَقَرَّ بِهِ إذَا لَمْ يَخُصَّ فِيهِ شَيْئًا .
وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، فَقَالَ فُلَانٌ مَا لِي عَلَيْكَ شَيْءٌ فَقَدْ بَرِئَ الْمُقِرُّ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ كَذَّبَهُ فِي الْإِقْرَارِ ، وَلِأَنَّهُ صَارَ مِيرَاثًا لَهُ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ مَا لِي عَلَيْكَ شَيْءٌ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ أَرَادَ مَا لِي عَلَيْكَ شَيْءٌ فِي الْحَالِ لِأَنِّي أَبْرَأْتُكَ وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ مَا كَانَ لِي عَلَيْكَ شَيْءٌ وَمِنْ ضَرُورَةِ نَفْيِ حَقِّهِ فِي الْمَاضِي نَفْيُهُ فِي الْحَالِ ، فَإِنْ أَعَادَ الْإِقْرَارَ ، وَقَالَ : بَلْ لَكَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، فَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ أَجَلْ هِيَ لِي عَلَيْكَ لَزِمَتْهُ أَمَّا عَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ بَطَلَ بِالتَّكْذِيبِ فَصَارَ كَالْمَعْدُومِ بَقِيَ إقْرَارُهُ الثَّانِي ، وَقَدْ صَدَّقَهُ فِيهِ ، وَعَلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي الْإِبْرَاءُ إنَّمَا يَعْمَلُ فِيمَا كَانَ وَاجِبًا وَقْتَ الْإِبْرَاءِ ، فَأَمَّا فِيمَا يَجِبُ بَعْدَهُ بِسَبَبٍ بَاشَرَهُ فَلَا يَعْمَلُ فِيهِ ذَلِكَ الْإِبْرَاءُ وَالْإِقْرَارُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْمَالِ فِي الْحُكْمِ فَلَا يَبْطُلُ بِالْإِبْرَاءِ السَّابِقِ .
وَلَوْ أَقَرَّ بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ لِفُلَانٍ غَصَبَهَا إيَّاهُ فُلَانٌ ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ لِي بَطَلَ إقْرَارُهُ بِالرَّدِّ ، فَإِنْ ادَّعَاهَا الْمُقَرُّ لَهُ وَقَعَتْ إلَيْهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْإِقْرَارَ الْأَوَّلَ صَارَ كَالْمَعْدُومِ فَكَأَنَّهُ أَنْشَأَ الْإِقْرَارَ الْآنَ وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ .
وَلَوْ قَالَ : هَذَا الْعَبْدُ لَك ، فَقَالَ : لَيْسَ هُوَ لِي ، ثُمَّ قَالَ : بَلَى هُوَ لِي لَمْ يَكُنْ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ قَدْ بَطَلَ بِالتَّكْذِيبِ ، وَلَمْ يُوجَدْ إقْرَارٌ آخَرُ فَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ قَبُولِ الْبَيِّنَةِ دَعْوَى صَحِيحَةٌ وَبَعْدَ مَا قَالَ لَيْسَ هُوَ لِي لَا يَصِحُّ دَعْوَاهُ أَنَّهُ لَهُ لِكَوْنِهِ مُنَاقِضًا فِيهِ فَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ عَلَيْهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ هَذَا الْعَبْدِ ، ثُمَّ ادَّعَاهُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ إلَّا عَلَى حَقٍّ يَحْدُثُ لَهُ بَعْدَ الْبَرَاءَةِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنَا بَرِيءٌ مِنْ هَذَا الْعَبْدِ إقْرَارٌ مِنْهُ بِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ ، وَهُوَ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى عَنْ مَحَلِّ وِلَايَتِهِ إلَى غَيْرِ وِلَايَتِهِ وَبِالدَّعْوَى بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهُ لِي يَصِيرُ مُنَاقِضًا وَبَيِّنَةُ الْمُنَاقِضِ فِي الدَّعْوَى لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : خَرَجْت مِنْ الْعَبْدِ أَوْ خَرَجَ هَذَا الْعَبْدُ عَنْ مِلْكِي أَوْ عَنْ يَدِي لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِهَذَا مَقْصُورٌ عَلَى مَحَلِّ وِلَايَتِهِ لَا يَتَعَدَّى إلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ فِيهِ لِغَيْرِهِ فَأُقِيمَ بِهِ وَحْدَهُ فَيَكُونُ هُوَ فِي الدَّعْوَى بَعْدَ ذَلِكَ مُنَاقِضًا وَقِيلَ هَذَا الْجَوَابُ فِي قَوْلِهِ خَرَجَ عَنْ يَدِي غَيْرُ صَحِيحٍ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يُوَقِّفَ فَيَقُولَ هُوَ مِلْكِي ، وَقَدْ خَرَجَ عَنْ يَدِي بِغَصْبِ ذِي الْيَدِ أَوْ إعَارَتِي مِنْهُ فَلَا يَثْبُتُ التَّنَاقُضُ .
وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِلْمَرْأَةِ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُشْهِدَ أَنِّي قَدْ تَزَوَّجْتُكِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ تَزَوُّجًا بَاطِلًا وَتَلْجِئَةً ، وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ نَعَمْ أَنَا أَفْعَلُ هَذَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ ، وَقَدْ حَضَرَ الشُّهُودُ هَذِهِ الْمَقَالَةَ ، ثُمَّ أَشْهَدَ أَنَّهُ قَدْ تَزَوَّجَهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ لَازِمٌ لَهُمَا ؛ لِأَنَّ بِالْإِشْهَادِ السَّابِقِ تَبَيَّنَ أَنَّ مَقْصُودَهُمَا بِهَذَا الْعَقْدِ الْهَزْلُ دُونَ الْجِدِّ ، وَفِي النِّكَاحِ الْجِدُّ وَالْهَزْلُ سَوَاءٌ كَمَا وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ { ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ } ، وَلِأَنَّ تَأْثِيرَ التَّلْجِئَةِ انْعِدَامُ ضَامِنِهَا بِالْعَقْدِ النَّافِذِ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ وَلَا يُشْتَرَطُ الْخِيَارُ فِي النِّكَاحِ فَكَذَلِكَ التَّلْجِئَةُ ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا تُؤَثِّرُ التَّلْجِئَةُ فِيمَا هُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْفَسْخِ بَعْدَ تَمَامِهِ وَالنِّكَاحُ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لِلْفَسْخِ بَعْدَ تَمَامِهِ وَلِهَذَا لَا يَجْرِي فِيهِ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ وَلَا يُؤَثِّرُ فِيهِ التَّلْجِئَةُ .
وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ عَلَى مَالٍ وَغَيْرِ مَالٍ وَالْخُلْعُ وَالْمَالُ وَاجِبٌ فِيمَا سُمِّيَ فِيهِ الْمَالُ ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِلسَّبَبِ فَكَمَا لَا تُؤَثِّرُ التَّلْجِئَةُ فِي أَصْلِ السَّبَبِ فَكَذَلِكَ لَا تُؤَثِّرُ فِيمَا يَتْبَعُهُ كَالْهَزْلِ وَأَمَّا بِالْكِتَابَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَبَاطِلَةٌ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِلْفَسْخِ بَعْدَ انْعِقَادِهِ كَالْبَيْعِ .
وَلَوْ قَالَ : أُرِيدُ أَنْ أُلْجِئَ إلَيْكَ دَارِي هَذِهِ وَأُشْهِدَ عَلَيْكَ بِالْبَيْعِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ تَلْجِئَةً مِنِّي إلَيْكَ لَا حَقِيقَةً ، وَقَالَ الْآخَرُ نَعَمْ فَأُشْهِدَ لَهُ بِالْبَيْعِ ، وَقَدْ حَضَرَ الشُّهُودُ تِلْكَ الْمَقَالَةَ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ فِيمَا أَعْلَمُ يَقَعُ الْبَيْعُ وَالْمَقَالَةُ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهُ بَاطِلَةٌ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْبَيْعُ بَاطِلٌ عَلَى الْكَلَامِ الْأَوَّلِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ أُلْجِئَ أَيْ أَجْعَلَكَ ظَهْرًا لِي لِأَتَمَكَّنَ بِجَاهِكَ مِنْ صِيَانَةِ مِلْكِي يُقَالُ الْتَجَأَ فُلَانٌ إلَى فُلَانٍ وَأَلْجَأَ ظَهْرَهُ إلَى كَذَا وَالْمُرَادُ هَذَا الْمَعْنَى وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَا مُلْجَأٌ مُضْطَرٌّ إلَى مَا أُبَاشِرُهُ مِنْ الْبَيْعِ مَعَكَ وَلَسْتُ بِقَاصِدٍ حَقِيقَةَ الْبَيْعِ ، ثُمَّ صَحَّحَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ رِوَايَتَهُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ فِيمَا أَعْلَمُ ؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ الْغَيْرِ كَالشَّهَادَةِ ، وَهَذَا اللَّفْظُ شَكٌّ فِي الشَّهَادَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَلَكِنْ رَوَى الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ مُطْلَقًا وَرَوَى مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْبَيْعَ بَاطِلٌ ، وَهُوَ قَوْلُهُمَا وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمَا إذَا تَصَادَقَا أَنَّهُمَا بَنَيَا عَلَى تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا كَمَا ذَكَرَاهُ فِي الْبَيْعِ نَصًّا ، وَإِنْ تَصَادَقَا أَنَّهُمَا أَعْرَضَا عَنْ تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ فَالْبَيْعُ صَحِيحٌ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْمُوَاضَعَةَ لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ وَلَا تَكُونُ أَقْوَى مِنْ الْمُعَاقَدَةِ وَلَوْ تَبَايَعَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ كَانَ الثَّانِي مُبْطِلًا لِلْأَوَّلِ ، فَإِذَا تَوَاضَعَا ، ثُمَّ تَعَاقَدَا أَوْلَى ، وَإِذَا اخْتَلَفَا ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا بَنَيْنَا عَلَى تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ ، وَقَالَ الْآخَرُ بَلْ أَعْرَضْنَا عَنْهَا فَعِنْدَهُمَا الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْبِنَاءَ عَلَى الْمُوَاضَعَةِ وَلَا
بَيْعَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ ، وَلِأَنَّا نَجْعَلُ كَأَنَّ أَحَدَهُمَا أَعْرَضَ عَنْ تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ وَالْآخَرَ بَنَى عَلَيْهَا وَتِلْكَ الْمُوَاضَعَةُ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ مِنْهُمَا وَلَوْ شَرَطَا الْخِيَارَ ، ثُمَّ أَسْقَطَهُ أَحَدُهُمَا لَمْ يَتِمَّ الْبَيْعُ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ الْأَصْلُ فِي الْعُقُودِ الشَّرْعِيَّةِ الصِّحَّةُ وَاللُّزُومُ فَمَنْ يَقُولُ لَمْ نَبْنِ عَلَى تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ يَتَمَسَّكُ بِمَا هُوَ الْأَصْلُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَتَوْضِيحُهُ أَنَّ تِلْكَ الْمُوَاضَعَةَ لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ بَلْ يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِإِبْطَالِهَا فَإِعْرَاضُ أَحَدِهِمَا عَنْ تِلْكَ الْمُوَاضَعَةِ كَإِعْرَاضِهِمَا ، وَإِنْ تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْهُمَا نِيَّةٌ عِنْدَ الْعَقْدِ فَعِنْدَهُمَا ، وَهُوَ رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْبَيْعُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُمَا مَا قَصَدَا بِالْمُوَاضَعَةِ السَّابِقَةِ إلَّا بِنَاءَ الْعَقْدِ عَلَيْهَا فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا بَنَيَا ، وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْبَيْعُ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَهُ يَقْتَضِي الصِّحَّةَ وَالْمُوَاضَعَةُ السَّابِقَةُ لَمْ يَذْكُرْهَا فِي الْعَقْدِ فَلَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِيهِ كَمَا لَوْ تَوَاضَعَا عَلَى شَرْطِ خِيَارٍ أَوْ أَجَلٍ ، وَلَمْ يَذْكُرَا ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ لَمْ يَثْبُتْ الْخِيَارُ وَلَا الْأَجَلُ فَهَذَا مِثْلُهُ .
وَلَوْ قَالَ أَشْهِدْ لِي عَلَيْكَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّهَا بَاطِلٌ أَوْ عَلَى أَنَّكَ مِنْهَا بَرِيءٌ فَفَعَلَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ نُفُوذَ الْإِقْرَارِ يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا وَلِهَذَا كَانَ الْإِكْرَاهُ مَانِعًا صِحَّةَ الْإِقْرَارِ فَهُوَ وَالْبَيْعُ سَوَاءٌ بِخِلَافِ النِّكَاحِ .
وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ إنِّي أُمْهِرُكِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِي السِّرِّ وَأَظْهَرَ فِي الْعَلَانِيَةِ أَلْفَيْنِ وَأَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ فَالْمَهْرُ لَهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْأَلْفِ سَمَّيَاهُ سُمْعَة وَبَاطِلًا فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مُوجِبًا .
وَلَوْ تَوَاضَعَا عَلَى أَنَّ الْمَهْرَ فِي السِّرِّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَأَنَّهُمَا يُظْهِرَانِ الْعَقْدَ بِمِائَةِ دِينَارٍ سُمْعَةً فَفَعَلَا ذَلِكَ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ؛ لِأَنَّ مَا تَوَاضَعَا عَلَيْهِ لَمْ يَذْكُرَاهُ فِي الْعَقْدِ وَثُبُوتُ الْمُسَمَّى إنَّمَا يَكُونُ بِالتَّسْمِيَةِ وَمَا سَمَّيَاهُ فِي الْعَقْدِ يَقْصِدَانِ بِهِ السُّمْعَةَ فَبَقِيَ النِّكَاحُ خَالِيًا عَنْ تَسْمِيَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ ، وَكَذَا لَوْ قَالَا هَذَا فِي الْبَيْعِ وَأَمَّا فِي الْأَلْفِ دِرْهَمٍ وَالْمِائَةِ دِينَارٍ فَفِي الْقِيَاسُ الْبَيْعُ بَاطِلٌ لَوْ لَمْ يُسَمِّيَا ثَمَنًا وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الْبَيْعُ صَحِيحٌ بِمِائَةِ دِينَارٍ ؛ لِأَنَّهُمَا قَصَدَا تَصْحِيحَ أَصْلِ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا قَصَدَا السُّمْعَةَ فِي الثَّمَنِ وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ أَصْلِ الْعَقْدِ هُنَا إلَّا بِاعْتِبَارِ الثَّمَنِ الْمُسَمَّى فِيهِ وَأَمَّا فِي النِّكَاحِ فَتَصْحِيحُ أَصْلِ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْمَهْرِ الْمُسَمَّى فِيهِ مُمْكِنٌ وَلَوْ كَانَ هَذَا الْأَلْفُ وَالْأَلْفَانِ فِي الْبَيْعِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ فِيمَا أَعْلَمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْبَيْعُ بِأَلْفَيْنِ وَهَكَذَا رَوَاهُ الْمُعَلَّى عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَرَوَى مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي إمْلَائِهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْبَيْعَ صَحِيحٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَهُوَ قَوْلُهُمَا لِأَنَّهُمَا قَصَدَا السُّمْعَةَ بِذِكْرِ أَحَدِ الْأَلْفَيْنِ وَلَا حَاجَةَ فِي تَصْحِيحِ الْبَيْعِ إلَى اعْتِبَارِ تَسْمِيَتِهِمَا الْأَلْفَ الثَّانِيَةَ فَهَذَا وَالنِّكَاحُ سَوَاءٌ وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَسْمِيَةِ الثَّمَنِ ، فَإِذَا وَجَبَ اعْتِبَارُ بَعْضِ الْمُسَمَّى وَجَبَ اعْتِبَارُ كُلِّهِ كَمَا فِي اخْتِلَافِ الْجِنْسِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ وَقِيلَ هَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْأَلْفَيْنِ غَيْرُ الْأَلْفِ وَلِهَذَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بِالْأَلْفِ وَالْآخَرُ بِالْأَلْفَيْنِ لَمْ يُقْبَلْ عِنْدَهُ فَهُوَ
وَاخْتِلَافُ الْجِنْسِ سَوَاءٌ عَلَى مَذْهَبِهِ ، وَلَكِنَّ هَذَا يُنْصِفُ بِالنِّكَاحِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الْإِقْرَارِ بِالْجِنَايَةِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَقَرَّ بِقَتْلِ رَجُلٍ خَطَأً وَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِهِ عَلَى آخَرَ وَادَّعَى الْوَلِيُّ ذَلِكَ كُلَّهُ كَانَ لَهُ عَلَى الْمُقِرِّ نِصْفُ الدِّيَةِ وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ قَدْ أَقَرَّ لَهُ بِدِيَةٍ كَامِلَةٍ حِينَ زَعَمَ أَنَّهُ تَفَرَّدَ بِالْقَتْلِ ، وَقَدْ صَدَّقَهُ فِي النِّصْفِ حِينَ زَعَمَا أَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِي الْقَتْلِ وَتَصْدِيقُهُ فِي بَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ صَحِيحٌ فَإِنَّ الشُّهُودَ شَهِدُوا لَهُ عَلَى الْآخَرِ بِدِيَةٍ كَامِلَةٍ ، وَهُوَ قَدْ ادَّعَى عَلَيْهِ نِصْفَ الدِّيَةِ وَالشَّهَادَةُ بِالْأَكْثَرِ مِمَّا ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً لِمَعْنًى ، وَهُوَ أَنَّهُ صَارَ مُكَذِّبًا لِشُهُودِهِ فِي بَعْضِ مَا شَهِدُوا لَهُ وَتَكْذِيبُ الْمُدَّعِي شُهُودَهُ يُبْطِلُ شَهَادَتَهُمْ وَصَارَ مُكَذِّبًا لِلْمُقِرِّ أَيْضًا فِي بَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ ، وَلَكِنَّ تَكْذِيبَ الْمُقَرِّ لَهُ فِي الْبَعْضِ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ التَّصْدِيقِ فِي الْبَعْضِ وَلَوْ ادَّعَى الْوَلِيُّ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى الْمُقِرِّ كَانَ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَدَّقَهُ فِي جَمِيعِ مَا أَقَرَّ بِهِ ، وَلَكِنَّ مَا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ لَا تَعْقِلُهُ الْعَاقِلَةُ لِلْحَدِيثِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا نَعْقِلُ صُلْحًا وَلَا عَمْدًا وَلَا عَبْدًا وَلَا اعْتِرَافًا } ، وَهَذَا لِأَنَّ قَوْلَ الْمُقِرِّ حُجَّةٌ عَلَى نَفْسِهِ خَاصَّةً دُونَ عَاقِلَتِهِ وَلَوْ ادَّعَى ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى الَّذِي قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُكَذِّبًا لِلْمُقِرِّ فَبَطَلَ إقْرَارُهُ وَبَقِيَتْ دَعْوَاهُ عَلَى الَّذِي شَهِدَ لَهُ الشُّهُودُ ، وَقَدْ ثَبَتَ عَلَيْهِ قَتْلُ الْخَطَأِ بِالْبَيِّنَةِ فَتَكُونُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ .
وَلَوْ أَقَرَّ رَجُلٌ أَنَّهُ قَتَلَ فُلَانًا عَمْدًا وَحْدَهُ وَأَقَرَّ آخَرُ بِمِثْلِ ذَلِكَ ، وَقَالَ الْوَلِيُّ قَتَلْتُمَاهُ جَمِيعًا كَانَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُمَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَارَ مُقِرًّا لَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقِصَاصِ ، وَقَدْ صَدَّقَهُ فِي ذَلِكَ ، ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَسْبَابَ مَطْلُوبَةٌ لِأَحْكَامِهَا فَبَعْدَ مَا وُجِدَ التَّصَادُقُ فِي الْحُكْمِ لَا يُعْتَبَرُ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَالتَّصْدِيقِ فِي السَّبَبِ .
وَلَوْ قَالَ لِأَحَدِهِمَا أَنْتَ قَتَلْتَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ لِأَنَّهُ كَذَّبَ الْآخَرَ فِي إقْرَارِهِ فَبَطَلَ ذَلِكَ الْإِقْرَارُ وَيَبْقَى الْإِقْرَارُ الثَّانِي ، وَقَدْ صَدَّقَهُ فِيهِ وَلَوْ قَالَ صَدَقْتُمَا فِيهِ وَلَا يُتَصَوَّرُ تَكْرَارُ الْقَتْلِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مِنْ شَخْصَيْنِ عَلَى وَاحِدٍ فَكَانَ فِي تَصْدِيقِ الْأَكْثَرِ مِنْهُمَا أَنَّهُ قَتَلَهُ وَحْدَهُ تَكْذِيبُ الْأَصْغَرِ .
وَكَذَلِكَ فِي تَصْدِيقِهِ الْأَصْغَرَ أَنَّهُ قَتَلَهُ وَحْدَهُ تَكْذِيبُ الْأَكْبَرِ فَلِهَذَا لَا يُقْبَلُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا .
وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَتَلَهُ عَمْدًا وَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِمِثْلِ ذَلِكَ عَلَى آخَرَ فَادَّعَى الْوَلِيُّ أَحَدَهُمَا كَانَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ الْمُقِرَّ ؛ لِأَنَّهُ صَدَّقَهُ فِيمَا أَقَرَّ لَهُ بِهِ مِنْ الْقِصَاصِ وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْآخَرِ لِأَنَّهُ ادَّعَى عَلَيْهِ قَتْلًا مُشْتَرَكًا وَالشُّهُودُ شَهِدُوا عَلَيْهِ بِقَتْلٍ انْفَرَدَ هُوَ بِهِ فَكَانَتْ الشَّهَادَةُ أَزْيَدَ مِنْ الدَّعْوَى ، وَلِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ فِي السَّبَبِ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ كَمَا لَوْ ادَّعَى أَلْفًا غَصْبًا وَشَهِدَ لَهُ الشُّهُودُ بِأَلْفٍ قَرْضٍ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ مِنْ الْإِقْرَارِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّهُ اقْتَضَى مِنْ فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، فَقَالَ فُلَانٌ مَا كَانَ لَكَ عَلَيَّ شَيْءٌ ، وَلَكِنَّكَ أَخَذْتَهَا مِنِّي ظُلْمًا أَمَرَ الْقَاضِي بِرَدِّهَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا مَرَّةً وَأَعَدْنَاهَا لِفُرُوعٍ نَذْكُرُهَا هُنَا ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ : قَبَضْتُهَا بِوَكَالَةٍ مِنْ فُلَانٍ كَانَتْ لَهُ عَلَيْكَ أَوْ وَهَبْتَهَا لَهُ فَأَمَرَنِي فَقَبَضْتُهَا وَدَفَعْتُهَا إلَيْهِ كَانَ ضَامِنًا لِلْمَالِ وَإِقْرَارُهُ بِالْقَبْضِ لِغَيْرِهِ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ كَإِقْرَارِهِ بِالْقَبْضِ لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَنْتَفِي عَنْهُ فِي الْفَصْلَيْنِ بِثُبُوتِ الْمَالِ لَهُ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ وَلِمَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ قَبَضَ لَهُ ، وَلَمْ يُثْبِتْ ذَلِكَ بِدَعْوَاهُ فَكَانَ ضَامِنًا لِلْمَالِ .
وَإِذَا أَقَرَّ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَجَحَدَ ذَلِكَ فُلَانٌ وَادَّعَى الطَّالِبُ أَنَّ الْمَالَ عَلَى الْمُقِرِّ وَحْدَهُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ الْمُقِرَّ مِنْ ذَلِكَ النِّصْفُ ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الْأَلْفِ إلَى نَفْسِهِ وَإِلَى غَيْرِهِ مُوجِبَةٌ لِلِانْقِسَامِ فَصَارَ مُقِرًّا بِنِصْفِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَبِنِصْفِهِ عَلَى الْآخَرِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْآخَرَ لَوْ صَدَّقَهُ كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهَا ، فَإِذَا كَذَّبَهُ بَطَلَ مَا أَقَرَّ بِهِ عَلَيْهِ وَبَقِيَ مُؤَاخَذًا بِمَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَهُوَ النِّصْفُ .
وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ بِمِثْلِهِ مِنْ غَصْبٍ أَوْ وَدِيعَةٍ أَوْ مُضَارَبَةٍ أَوْ قَتْلِ خَطَأٍ أَوْ جِرَاحَةٍ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ لِمَا بَيَّنَّا .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَطَعَ يَدَ فُلَانٍ هُوَ وَفُلَانٍ عَمْدًا وَجَحَدَ فُلَانٌ ذَلِكَ وَادَّعَى الطَّالِبُ أَنَّ الْمُقِرَّ قَطَعَهُ وَحْدَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ فِي الْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِنِصْفِ الْأَرْشِ فَإِنَّ الْيَدَيْنِ لَا يُقْطَعَانِ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَنَا ، وَلَكِنْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَالَيْنِ بِنِصْفِ الْأَرْشِ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي عَلَيْهِ الْقِصَاصَ فَكَانَ مُكَذِّبًا لَهُ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ مُدَّعِيًا عَلَيْهِ شَيْئًا آخَرَ ، وَلَكِنْ اسْتَحْسَنَ ، فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ نِصْفُ أَرْشِ الْيَدِ ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا قَالَ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ إذَا قَالَ : قَتَلْتَ وَلِيَّ هَذَا عَمْدًا ، فَقَالَ بَلْ قَتَلْتُهُ خَطَأً تَقْضِي بِالدِّيَةِ اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا أَقَرَّ بِهِ مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى الدَّعْوَى بِأَنْ يَقُولَ حَقِّي فِي الْقِصَاصِ ، وَلَكِنَّهُ طَلَبَ مِنِّي أَنْ آخُذَ الْمَالَ عِوَضًا عَنْ الْقِصَاصِ ، وَهَذَا جَائِزٌ .
وَكَذَلِكَ هُنَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا أَقَرَّ بِهِ ، وَهُوَ نِصْفُ الْأَرْشِ مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى دَعْوَى الْقِصَاصِ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي النَّفْسِ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ الْمُقِرَّ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ الْمُثَنَّى يَقْتُلُ الْوَاحِدَ ، وَقَالَ وَالْقِيَاسُ فِي النَّفْسِ هَكَذَا أَنْ لَا يُسْتَوْفَى الْمُثَنَّى بِالْوَاحِدِ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ يَعْتَمِدُ الْمُمَاثَلَةَ وَالْوَاحِدُ لَا يَكُونُ مِثْلًا لِلْمُثَنَّى وَكَيْفَ يَكُونُ مِثْلًا لَهُمَا ، وَهُوَ مِثْلٌ لِكُلِّ وَاحِدِ مِنْهُمَا وَكُنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ فِي النَّفْسِ لِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَتَلَ سَبْعَةً مِنْ أَهْلِ صَنْعَاءَ بِوَاحِدٍ ، وَقَالَ لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتُهُمْ بِهِ ، وَهَذَا الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ فِي الْمَبْسُوطِ إلَّا هُنَا .
وَلَوْ قَالَ أَقْرَضَنِي أَنَا فُلَانٌ أَلْفَ دِرْهَمٍ لَزِمَهُ النِّصْفُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِنِصْفِ الْمَالِ قَالَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَفُلَانٍ ، ثُمَّ قَالَ عَنَيْتُ الْآخَرَ مَعِي فِي الدَّيْنِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ ، وَكَانَ الدَّيْنُ لَهُمَا عَلَيْهِ نِصْفَيْنِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَوَقَعَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلِفُلَانٍ ، وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ هُوَ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَهُ .
وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلِفُلَانٍ كَانَتْ الْأَلْفُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ .
وَإِذَا أَقَرَّ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَحَدِهِمَا سِتُّمِائَةٍ وَلِلْآخَرِ أَرْبَعُمِائَةٍ لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا أَنْ يَصِلَ كَلَامَهُ ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى أَوَّلِ كَلَامِهِ الْمُنَاصَفَةُ بَيْنَهُمَا فَكَانَ بَيَانُهُ مُغَيِّرًا ، وَلَكِنَّهُ مِنْ مُحْتَمِلَاتِ كَلَامِهِ فَيَصِحُّ مَوْصُولًا وَلَا يَصِحُّ مَفْصُولًا إلَّا أَنَّهُ إذَا فَصَلَ فَعَلَيْهِ لِلَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِأَرْبَعِمِائَةٍ خَمْسُمِائَةٍ ؛ لِأَنَّهُ رَاجِعٌ عَنْ الْإِقْرَارِ لَهُ فِي قَدْرِ الْمِائَةِ وَعَلَيْهِ لِلْآخَرِ سِتُّمِائَةٍ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ فِي بَيَانِهِ بِمِائَةٍ زَائِدَةٍ ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ .
وَلَوْ قَالَ أَقْرَضَنِي فُلَانٌ أَلْفَ دِرْهَمٍ مَعَ فُلَانٍ كَانَتْ الْأَلْفُ لَهُمَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ أَقْرَضَنِي فُلَانٌ مَعَ فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ مَعَ لِلْقِرَانِ فَيُوجِبُ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا كَحَرْفِ الْوَاوِ .
وَلَوْ قَالَ : أَقْرَضَنِي فُلَانٌ أَلْفَ دِرْهَمٍ عِنْدَ فُلَانٍ كَانَتْ الْأَلْفُ لِلْأَوَّلِ لِأَنَّهُ مَا أَشْرَكَ الثَّانِيَ مَعَ الْأَوَّلِ فِي الْإِقْرَاضِ وَإِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّ الْإِقْرَاضَ مِنْ الْأَوَّلِ كَانَ بِالْقُرْبِ مِنْ الثَّانِي .
وَلَوْ قَالَ أَقْرَضَنِي وَفُلَانًا مَعِي أَلْفَ دِرْهَمٍ كَانَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فُلَانًا مَنْصُوبًا فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ فِي مَحَلِّ الْمَفْعُولِ كَالْمُقِرِّ وَأَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ أُقِرَّ فِيهِمَا جَمِيعًا بِالْأَلْفِ فَلِهَذَا كَانَتْ عَلَيْهِ خَمْسُمِائَةٍ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ وَفُلَانٌ مَعِي وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ .
وَإِنْ قَالَ : أَقْرَضَنِي - وَفُلَانٌ مَعِي شَاهِدٌ عَلَى ذَلِكَ - فُلَانٌ أَلْفَ دِرْهَمٍ كَانَتْ الْأَلْفُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ لِلثَّانِي خَبَرًا ، وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ شَاهِدًا فَلَا يَدْخُلُ مَعَهُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ الِاسْتِقْرَاضِ فَإِنَّمَا يَكُونُ مُقِرًّا عَلَى نَفْسِهِ خَاصَّةً بِاسْتِقْرَاضِ الْأَلْفِ .
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ وَفُلَانٌ مَعِي حَالَيْنِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ إقْرَارِ الْوَصِيِّ وَالْوَكِيلِ بِالْقَبْضِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : وَإِذَا أَقَرَّ الْوَصِيُّ أَنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى جَمِيعَ مَا لِلْمَيِّتِ عَلَى فُلَانٍ ، وَلَمْ يُسَمِّ كَمْ هُوَ صَحَّ إقْرَارُهُ فِي بَرَاءَةِ الْغَرِيمِ ؛ لِأَنَّهُ فِي الِاسْتِيفَاءِ قَائِمٌ مَقَامَ الْوَصِيِّ فَإِقْرَارُهُ بِهِ كَإِقْرَارِ الْمُوصِي بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْهُمَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى بَيَانِ الْمُسْتَوْفَى فِيمَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْقَبْضِ وَمَا تَمَّ اسْتِيفَاؤُهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْقَبْضِ فَتَرْكُ الْبَيَانِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ .
وَلَوْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : إنَّمَا قَبَضْتُ مِنْهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ ، وَقَالَ الْغَرِيمُ كَانَ لِلْمَيِّتِ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، وَقَدْ صَحَّ فَيَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يُطَالِبَهُ بِشَيْءٍ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّ بَيَانَ الْمِقْدَارِ مِنْ الْوَصِيِّ لِلْمُسْتَوْفَى غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي حَقِّ الْغَرِيمِ ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ فِي أَنْ يُلْزِمَ ذِمَّتَهُ شَيْئًا ، وَقَدْ اسْتَفَادَ الْبَرَاءَةَ بِإِقْرَارِهِ مُطْلَقًا ، وَلَكِنْ لَا ضَمَانَ عَلَى الْوَصِيِّ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْغَرِيمِ فِي بَيَانِ مِقْدَارِ الدَّيْنِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي إلْزَامِ الضَّمَانِ عَلَى الْوَصِيِّ فَإِنَّ إقْرَارَ الْمَرْءِ إنَّمَا يَصِحُّ فِيمَا يُلْزِمُ نَفْسَهُ لَا غَيْرَهُ ، وَهُوَ بِهَذَا الْإِقْرَارِ لَا يُلْزِمُ نَفْسَهُ وَإِنَّمَا يُلْزِمُ الْوَصِيَّ فَلَا مُعْتَبَرَ بِإِقْرَارِهِ ، وَلَكِنَّ الْقَوْلَ فِي مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ قَوْلُ الْوَصِيِّ مَعَهُ ، فَإِنْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّ لِلْمَيِّتِ عَلَى الْغَرِيمِ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى إقْرَارِ الْغَرِيمِ بِذَلِكَ قَبْلَ إشْهَادِهِ بِالْقَبْضِ فَالْوَصِيُّ ضَامِنٌ لَهَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ بِقَبْضِ جَمِيعِ مَا لِلْمَيِّتِ عَلَى فُلَانٍ ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ كَانَ لِلْمَيِّتِ عَلَى فُلَانٍ يَوْمئِذٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَانْصَرَفَ إقْرَارُهُ بِالْقَبْضِ إلَى جَمِيعِهَا ، فَإِنْ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : قَبَضْتُ مِائَةً كَانَ رَاجِعًا عَنْ بَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ مِنْهُ فَيَصِيرُ ضَامِنًا بِجُحُودِهِ ، وَلِأَنَّهُ إنْ قَبَضَ الْمِائَةَ فَقَدْ تَعَذَّرَ بِإِقْرَارِهِ اسْتِيفَاءُ مَا بَقِيَ مِنْ الْغَرِيمِ وَصَارَ هُوَ مُتْلِفًا لِذَلِكَ عَلَى الْيَتِيمِ وَالْوَصِيُّ بِالْإِتْلَافِ يَصِيرُ ضَامِنًا وَالْمَنْعُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ كَإِتْلَافِ الْمُسْتَوْفِي إيجَابَ الضَّمَانِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ شُهُودَ الْإِبْرَاءِ إذَا رَجَعُوا ضَمِنُوا ؛ لِأَنَّهُمْ مَنَعُوهُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ بِشَهَادَتِهِمْ فَصَارُوا مُتْلِفِينَ عَلَيْهِ ، وَالْوَكِيلُ فِي الْقَبْضِ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيِّ ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ أَقَامَهُ مَقَامَ
نَفْسِهِ فِي الْقَبْضِ فَإِقْرَارُهُ بِالْقَبْضِ مُطْلَقًا كَإِقْرَارِ الْمُوَكِّل بِهِ .
فَإِذَا قَالَ الْوَصِيُّ : قَبَضْتُ جَمِيعَ مَا لِلْمَيِّتِ عَلَى فُلَانٍ ، وَهُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ ، فَقَالَ فُلَانٌ كَانَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، وَقَدْ قَبَضَهَا الْوَصِيُّ ، فَقَالَ الْوَصِيُّ : إنَّمَا قَبَضْتُ مِائَةً فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ الْغَرِيمِ تِسْعُمِائَةٍ ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ عَلَيْهِ قَدْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ وَالْوَصِيُّ مَا أَقَرَّ إلَّا بِقَبْضِ مِائَةٍ ؛ لِأَنَّهُ فَسَّرَ مُطْلَقَ إقْرَارِهِ مَوْصُولًا بِكَلَامِهِ وَالْكَلَامُ الْمُطْلَقُ إذَا اتَّصَلَ بِهِ تَفْسِيرٌ كَانَ الْحُكْمُ لِذَلِكَ التَّفْسِيرِ فَكَأَنَّهُ قَالَ : قَبَضْتُ مِائَةَ دِرْهَمٍ مِنْهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ هُنَاكَ لَمْ يُفَسِّرْ إقْرَارَهُ الْمُبْهَمَ بِشَيْءٍ فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ مَا نَصَّ عَلَيْهِ ، وَهُوَ مُتَنَاوِلٌ لِجَمِيعِ مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْغَرِيمِ قَالَ : وَلَا يُصَدَّقُ الْوَصِيُّ أَنَّ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ مِائَةٌ .
وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ فِي هَذَا بِخِلَافِ الطَّالِبِ وَأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ جَمِيعَ مَا لَهُ عَلَى فُلَانٍ فَالْمَطْلُوبُ بَرِيءٌ مِنْ جَمِيعِ الْأَلْفِ لِأَنَّ إقْرَارَ الطَّالِبِ بِقَبْضِ جَمِيعِ مَا لَهُ عَلَى فُلَانٍ وَتَفْسِيرُهُ ذَلِكَ بِالْمِائَةِ كَلَامٌ صَحِيحٌ مُعْتَبَرٌ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ الْوَاجِبُ أَلْفًا يَكُونُ هُوَ مُبَرَّأً عَنْ الزِّيَادَةِ بِهَذَا وَالْإِبْرَاءُ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ صَحِيحٌ بِخِلَافِ الْوَصِيِّ وَالْوَكِيلِ فَإِنَّ إبْرَاءَهُمَا لَا يَكُونُ صَحِيحًا فَلَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُمَا فِي إسْقَاطِ مَا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ إذَا فُسِّرَ إقْرَارُهُمَا بِالْمِائَةِ مَوْصُولًا .
( تَوْضِيحُ الْفَرْقِ ) أَنَّ الطَّالِبَ صَارَ رَادًّا لِإِقْرَارِ الْمُقِرِّ فِيمَا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ بِقَوْلِهِ : إنَّ جَمِيعَ مَالِي عَلَيْهِ مِائَةٌ وَرَدُّ الْإِقْرَارِ مِنْهُ صَحِيحٌ ، فَأَمَّا الْوَصِيُّ وَالْوَكِيلُ فَرَدُّ الْإِقْرَارِ مِنْهُمَا بَاطِلٌ ، وَقَدْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِ الْغَرِيمِ وُجُوبُ جَمِيعِ الْأَلْفِ عَلَيْهِ وَهُمَا أَقَرَّا بِقَبْضِ الْمِائَةِ فَبَقِيَ الْغَرِيمُ مُطَالَبًا بِتِسْعِمِائَةٍ .
وَلَوْ أَنَّ الْوَصِيَّ بَاعَ خَادِمًا لِلْوَرَثَةِ وَأَشْهَدَ أَنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى جَمِيعَ ثَمَنِهَا وَهِيَ مِائَةُ دِرْهَمٍ ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي بَلْ كَانَتْ مِائَةً وَخَمْسِينَ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ فِي الْإِقْرَارِ بِالِاسْتِيفَاءِ هُنَا بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الْحَقِّ لِأَنَّ وُجُوبَ الثَّمَنِ بِعَقْدِهِ ، وَفِيمَا يَجِبُ فِي الْعَقْدِ الْعَاقِدُ كَالْمَالِكِ وَلِهَذَا صَحَّ إبْرَاؤُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَهُوَ فِي الِاسْتِيفَاءِ كَالْمَالِكِ بِالِاتِّفَاقِ .
وَلَوْ كَانَ الْمَالِكُ هُوَ الَّذِي بَاعَ وَأَقَرَّ بِالِاسْتِيفَاءِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَانَ الْمُشْتَرِي بَرِيئًا عَنْ جَمِيعِ الثَّمَنِ .
وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ ، وَلَكِنْ لَا يُصَدَّقُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْوَصِيِّ فِي إلْزَامِ الزِّيَادَةِ بَلْ الْقَوْلُ قَوْلُ الْوَصِيِّ فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْوَصِيِّ فِي إلْزَامِ ذِمَّتِهِ شَيْئًا وَالْوَصِيُّ فِي الْمَقْبُوضِ أَمِينٌ فَالْقَوْلُ فِي مِقْدَارِهِ قَوْلُهُ مَعَ الْيَمِينِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ بَيَّنَ الثَّمَنَ بِالْإِقْرَارِ بَعْدَ فَرَاغِ ذِمَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ وَوِلَايَةُ بَيَانِ الْمِقْدَارِ لَهُ حَالَ اشْتِغَالِ ذِمَّتِهِ بِالْيَمِينِ لَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ كَالْبَائِعِ ، وَإِذَا أَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ فَقَدْ اسْتَقَلَّ بِبَيَانِ مِقْدَارِهِ وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ إقْرَارِهِ بِالْقَبْضِ ، وَالْوَكِيلُ وَالْمُضَارِبُ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيِّ .
وَلَوْ أَقَرَّ الْوَصِيُّ أَنَّهُ اسْتَوْفَى مِنْ الْمُشْتَرِي مِائَةَ دِرْهَمٍ وَهِيَ جَمِيعُ الثَّمَنِ ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي بَلْ الثَّمَنُ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ فَلِلْوَصِيِّ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْخَمْسِينَ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِقَبْضِ الْمِائَةِ فَقَطْ وَقَوْلُهُ وَهِيَ جَمِيعُ الثَّمَنِ كَلَامُ لَغْوٍ وَلَمَّا ثَبَتَ بِإِقْرَارِ الْمُشْتَرِي أَنَّ الثَّمَنَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْفَضْلِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَقَدْ أَقَرَّ هُنَاكَ بِقَبْضِ جَمِيعِ الثَّمَنِ أَوَّلًا ، وَذَلِكَ كَلَامٌ مُعْتَبَرٌ مِنْهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْمُشْتَرِيَ بِشَيْءٍ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ .
وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ صَاحِبُ الْمَالِ مَالَ نَفْسِهِ وَفِي هَذَا بَعْضُ إشْكَالٍ فَفِي قَوْلِهِ وَهِيَ جَمِيعُ الثَّمَنِ مَعْنَى الْحَطِّ لِمَا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْفَضْلِ ، وَلَكِنْ يَقُولُ الْحَطُّ وَالْإِبْرَاءُ تَصَرُّفٌ فِي الْوَاجِبِ بِالْإِسْقَاطِ ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْوُجُوبِ لَا يَكُونُ تَصَرُّفًا فِي الْوَاجِبِ كَإِنْكَارِ الزَّوْجِ لِأَصْلِ النِّكَاحِ لَا يَكُونُ تَصَرُّفًا فِي النِّكَاحِ بِالطَّلَاقِ ، وَقَدْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِ الْمُشْتَرِي أَنَّ الثَّمَنَ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْفَضْلِ .
وَلَوْ أَقَرَّ الْوَصِيُّ أَنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى جَمِيعَ مَا لِلْمَيِّتِ عَلَى فُلَانٍ ، وَهُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ كَانَ لَهُ مِائَتَا دِرْهَمٍ فَإِنَّ الْغَرِيمَ يُؤْخَذُ بِالْمِائَةِ الْفَاضِلَةِ وَلَا يُصَدَّقُ الْوَصِيُّ عَلَى إبْطَالِهَا ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ هُنَا لَمْ يَكُنْ بِعَقْدِ الْوَصِيِّ فَلَا قَوْلَ لَهُ إلَّا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الِاسْتِيفَاءِ ، وَقَدْ أَقَرَّ بِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى مِائَةُ دِرْهَمٍ مَوْصُولًا بِكَلَامِهِ ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ الْمَالَ مِائَتَا دِرْهَمٍ ، وَكَانَ الْغَرِيمُ مُطَالِبًا بِالْبَاقِي بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَإِنَّ وُجُوبَ الْمَالِ هُنَاكَ بِعَقْدِ الْوَصِيِّ فَكَانَ قَوْلُ الْوَصِيِّ قَوْلًا مُطْلَقًا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى بَرَاءَةِ الْمُشْتَرِي ، فَإِذَا أَقَرَّ بِقَبْضِ الْجَمِيعِ أَوَّلًا صَحَّ إقْرَارُهُ فِي بَرَاءَةِ الْمُشْتَرِي .
وَلَوْ أَقَرَّ الْوَصِيُّ أَنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى جَمِيعَ مَا لِلْمَيِّتِ عِنْدَ فُلَانٍ مِنْ وَدِيعَةٍ أَوْ مُضَارَبَةٍ أَوْ شَرِكَةٍ أَوْ بِضَاعَةٍ أَوْ عَارِيَّةٍ ، ثُمَّ قَالَ الْوَصِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ إنَّمَا قَبَضْتُ مِائَةَ دِرْهَمٍ ، وَقَالَ الْمَطْلُوبُ قَبَضَ الْوَصِيُّ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى ذَلِكَ فَالْوَصِيُّ ضَامِنٌ لِذَلِكَ كُلِّهِ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَلَوْ عَايَنَّا قَبْضَ الْوَصِيِّ الْأَلْفَ ، ثُمَّ جَحَدَ قَبْضَ مَا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ كَانَ ضَامِنًا فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ ، وَإِنْ لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ عَلَى هَذَا فَالْمَطْلُوبُ غَيْرُ مُصَدِّقٍ عَلَى الْوَصِيِّ بَلْ الْقَوْلُ قَوْلُ الْوَصِيِّ فِي مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ مَعَ الْيَمِينِ ، وَلَكِنْ لَا يَرْجِعُ الْوَصِيُّ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَمِينًا فِيمَا فِي يَدِهِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي دَفْعِهِ إلَى الْوَصِيِّ فِي بَرَاءَةِ نَفْسِهِ عَنْ الضَّمَانِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ ضَامِنٌ لِمَا فِي ذِمَّتِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْبِقْ الْإِقْرَارُ مِنْ الْوَصِيِّ بِالِاسْتِيفَاءِ لَكَانَ الْقَوْلُ فِي الْأَمَانَاتِ قَوْلَ الْأَمِينِ فِي الدَّفْعِ ، وَفِي الدُّيُونِ فِي الْإِيفَاءِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ إقْرَارِ الْوَصِيِّ ، وَلَكِنَّ قَوْلَ الْأَمِينِ مَقْبُولٌ فِيمَا هُوَ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ بَرَاءَةُ نَفْسِهِ عَنْ الضَّمَانِ لِإِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى الْوَصِيِّ وَالْوَكِيلِ بِالْقَبْضِ فِي هَذَا كَالْوَصِيِّ .
وَإِذَا أَقَرَّ الْوَصِيُّ أَنَّهُ قَبَضَ كُلَّ دَيْنٍ لِلْمَيِّتِ عَلَى النَّاسِ فَجَاءَ غَرِيمٌ لِلْمَيِّتِ ، وَقَالَ : دَفَعْتُ إلَيْكَ كَذَا ، وَقَالَ الْوَصِيُّ مَا قَبَضْتُ مِنْكَ شَيْئًا وَمَا عَلِمْت أَنَّ لِلْمَيِّتِ عَلَيْكَ شَيْئًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَصِيِّ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْقَبْضِ هُنَا بَاطِلٌ فَإِنَّ الْمُوصِي لَوْ أَقَرَّ بِهَذَا بِنَفْسِهِ كَانَ بَاطِلًا مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ بِالْقَبْضِ مَجْهُولٌ وَجَهَالَةُ الْمُقَرِّ لَهُ مَتَى كَانَتْ فَاحِشَةً كَانَتْ تَابِعَةً صِحَّةَ الْإِقْرَارِ وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى أَصْلِ هَذَا الدَّيْنِ لَمْ يَلْزَمْ الْوَصِيَّ مِنْهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقِرَّ بِقَبْضِ شَيْءٍ مِنْ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ وَمَعْنَاهُ مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْقَبْضِ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ لِلْغَرِيمِ فَإِنَّ الْمَقْبُوضَ يَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَى الْقَابِضِ لِلْغَرِيمِ ، ثُمَّ يَصِيرُ قِصَاصًا بِمَا لَهُ عَلَيْهِ وَإِقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ لِلْمَجْهُولِ بَاطِلٌ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ بِالْقَبْضِ مِنْ الْمَجْهُولِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : قَبَضْتُ كُلَّ دَيْنٍ لِفُلَانٍ بِالْكُوفَةِ فَهُوَ بَاطِلٌ لِجَهَالَةِ الْمُقَرِّ لَهُ وَالْوَكِيلُ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيِّ .
وَإِذَا أَقَرَّ الْوَصِيُّ أَنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى مَا عَلَى مُكَاتَبِ فُلَانٍ الْمِائَةَ ، وَهُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَالْمُكَاتَبُ مَعْرُوفٌ يَدَّعِي ذَلِكَ وَيَقُولُ : قَبَضْتَ مِنِّي أَلْفَ دِرْهَمٍ وَهِيَ جَمِيعُ مُكَاتَبَتِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَصِيِّ فِي الْمِائَةِ وَيَلْزَمُ الْمُكَاتَبَ تِسْعُمِائَةٍ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ هَذَا الدَّيْنِ لَمْ يَكُنْ بِعَقْدِ الْوَصِيِّ ، وَقَدْ فَسَّرَ إقْرَارَهُ بِالْمِائَةِ بِكَلَامٍ مَوْصُولٍ وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُقِرًّا بِقَبْضِ الْمِائَةِ وَيَبْقَى الْمُكَاتَبُ مُطَالَبًا بِتِسْعِمِائَةٍ ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُ الْإِيفَاءَ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ بِغَيْرِ حُجَّةٍ .
وَإِنْ أَقَرَّ الْوَصِيُّ بِقَبْضِ الْمُكَاتَبَةِ مِنْهُ ، وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا عَتَقَ الْمُكَاتَبُ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الِاسْتِيفَاءِ إلَى الْوَصِيِّ فَإِقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ مُطْلَقًا يُوجِبُ بَرَاءَةَ ذِمَّةِ الْمُكَاتَبِ كَإِقْرَارِ الْوَصِيِّ بِهِ ، فَإِنْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّ أَصْلَ الْمُكَاتَبَةِ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَوْ أَنَّ الْمُكَاتَبَ أَقَرَّ بِذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَشْهَدَ الْوَصِيُّ بِالْقَبْضِ فَالْوَصِيُّ ضَامِنٌ لِجَمِيعِ الْأَلْفِ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْقَبْضِ مُطْلَقًا يَنْصَرِفُ إلَى جَمِيعِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ جَمِيعَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَكَأَنَّهُ أَقَرَّ بِقَبْضِ ذَلِكَ مُفَسَّرًا .
وَلَوْ أَقَرَّ الْوَصِيُّ أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، وَقَالَ : قَبَضَ الْمَيِّتُ مِنْهَا تِسْعَمِائَةٍ فِي حَيَاتِهِ وَقَبَضْتُ أَنَا مِائَةً بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَقَالَ الْمُكَاتَبُ بَلْ قَبَضَ مِنِّي الْأَلْفَ كُلَّهَا فَالْمُكَاتَبُ حُرٌّ لِإِقْرَارِ الْوَصِيِّ بِقَبْضٍ مُبْرِئٍ فِي جَمِيعِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ، فَإِنْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ لِلْمُكَاتَبِ عَلَى إقْرَارِ الْوَصِيِّ أَنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى جَمِيعَ مَا كَانَ عَلَى الْمُكَاتَبِ وَالثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ فَتَكُونُ الْأَلْفُ كُلُّهَا عَلَى الْوَصِيِّ فِي مَالِهِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ الْوَرَثَةُ مَا يَعْلَمُونَ أَنَّ الْمَيِّتَ قَبَضَ مِنْهَا تِسْعَمِائَةٍ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ يَدَّعِي عَلَيْهِمْ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُمْ فَيُسْتَحْلَفُونَ عَلَيْهِ عِنْدَ إنْكَارِهِمْ ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْلَافَ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ يَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ تَصِحُّ هَذِهِ الدَّعْوَى مِنْ الْوَصِيِّ ، وَقَدْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى إقْرَارِهِ بِاسْتِيفَاءِ جَمِيعِ مَا عَلَى الْمُكَاتَبِ قُلْنَا ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِهَذَا مُحْتَمَلٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُبَاشِرَ لِلِاسْتِيفَاءِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ مُبَاشِرًا لِاسْتِيفَاءِ بَعْضِهِ فَيُضِيفُ الْوَصِيُّ الِاسْتِيفَاءَ لِنَفْسِهِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ فِعْلَهُ مُتَمِّمٌ لِاسْتِيفَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَمُوجِبٌ عِتْقَ الْمُكَاتَبِ فَلَا يَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنْ دَعْوَاهُ أَنَّ الْمَيِّتَ قَدْ اسْتَوْفَى الْبَعْضَ وَالْوَكِيلُ فِي قَبْضِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فِي هَذَا كَالْوَصِيِّ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَقَرَّ الْوَصِيُّ أَنَّهُ اسْتَوْفَى مَا كَانَ عَلَى فُلَانٍ مِنْ دَيْنِ الْمَيِّتِ ، فَقَالَ الْغَرِيمُ كَانَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَدَفَعْتُهَا إلَيْكَ ، وَقَالَ الْوَصِيُّ : كَانَ لَهُ عَلَيْكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، وَلَكِنَّكَ أَعْطَيْتُهُ خَمْسَمِائَةٍ وَدَفَعْتَ إلَيَّ خَمْسَمِائَةٍ بَعْدَ مَوْتِهِ فَعَلَى الْوَصِيِّ جَمِيعُ الْأَلْفِ لِإِقْرَارِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ ، وَلَكِنَّهُ يَحْلِفُ الرَّدِيَّة عَلَى مَا ادَّعَى مِنْ قَبْضِ الْمَيِّتِ نَفْسَهُ وَالْإِشْكَالُ فِي هَذَا
كَالْإِشْكَالِ فِي الْأَوَّلِ وَقَدْ ظَنَّ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ فِي الْفَصْلَيْنِ فِيمَا إذَا انْضَافَ فِعْلُ الِاسْتِيفَاءِ إلَى نَفْسِهِ ، وَلَكِنَّهُ أَقَرَّ بِفِعْلِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ ، فَقَالَ : قَدْ اسْتَوْفَى جَمِيعَ مَا عَلَى فُلَانٍ وَهَذَا غَلَطٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْوَصِيَّ جَمِيعُ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَقْبُولَ الْقَوْلِ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ الْوُصُولِ إلَيْهِ إذَا لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ الْوَصِيُّ أَنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى مَا لِفُلَانٍ الْمَيِّتِ عَلَى النَّاسِ مِنْ دَيْنٍ اسْتَوْفَاهُ مِنْ فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ وَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّ لِلْمَيِّتِ عَلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، فَقَالَ الْوَصِيُّ لَيْسَتْ هَذِهِ مِمَّا قَبَضْتُ فَإِنَّهَا تَلْزَمُ الْوَصِيَّ ، وَكُلُّ مَنْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَنَّ لِلْمَيِّتِ عَلَيْهِ مَالًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُ الْوَصِيَّ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْقَبْضِ مِنْ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ وَإِقْرَارُهُ لِلْمَعْلُومِ بِالْمَجْهُولِ صَحِيحٌ كَمَا أَقَرَّ بِهِ ، وَقَدْ أَقَرَّ بِقَبْضِ جَمِيعِ دُيُونِ الْمَيِّتِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَصِحَّةُ الْقَضَاءِ مِنْ الْمُتَبَرِّعِ كَصِحَّتِهِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ وَلَوْ أَقَرَّ بِقَبْضِ جَمِيعِ مَا لِلْمَيِّتِ عَلَيْهِ كَانَ ضَامِنًا لِكُلِّ مَا يَثْبُتُ لِلْمَيِّتِ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ فَكَذَلِكَ هَذَا بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَإِنَّ إقْرَارَهُ بِالْقَبْضِ هُنَا مِنْ الْمَجْهُولِ ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ .
وَكَذَلِكَ الْوَارِثُ يَكْتُبُ عَلَى الْوَارِثِ الْبَرَاءَةَ مِنْ كُلِّ مِيرَاثٍ وَيَكْتُبُ إلَيْهِ عَجَّلْتُ نَصِيبَكَ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ تَرَكَهُ الْمَيِّتُ عَلَى النَّاسِ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّهِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْ مَعْلُومٍ ، وَهُوَ الْوَارِثُ الَّذِي عَجَّلَ لَهُ ذَلِكَ وَالْإِقْرَارُ بِالْمَجْهُولِ لِلْمَعْلُومِ صَحِيحٌ .
وَلَوْ أَقَرَّ الْوَصِيُّ أَنَّهُ قَبَضَ جَمِيعَ مَا فِي مَنْزِلِ فُلَانٍ مِنْ مَتَاعِهِ وَمِيرَاثِهِ ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ هُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَخَمْسَةُ أَثْوَابٍ وَأَقَامَ الْوَرَثَةُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ فِي مَنْزِلِ فُلَانٍ يَوْمَ مَاتَ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَمِائَةُ ثَوْبٍ لَمْ يَلْزَمْ الْوَصِيَّ أَكْثَرُ مِمَّا أَقَرَّ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِي الْمَقْبُوضِ فَالْقَوْلُ فِي بَيَانِهِ قَوْلُهُ ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ الزِّيَادَةِ فِي مَنْزِلِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ قَبْضُ الْوَصِيِّ لِذَلِكَ فَمَا لَمْ يَشْهَدْ الشُّهُودُ أَنَّ الْوَصِيَّ قَبَضَ ذَلِكَ لَا يَصِيرُ ضَامِنًا وَهَذَا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْقَبْضِ هُنَا مُطْلَقًا مُوجِبٌ بَرَاءَةَ الْمُشْتَرِي عَنْ الْكُلِّ فَقَوْلُ الْوَصِيِّ مُتْلِفٌ لِمَا زَادَ عَلَى الْقَدْرِ الَّذِي بَيَّنَهُ مَفْصُولًا وَهُنَا إقْرَارُهُ بِقَبْضِ جَمِيعِ مَا فِي الْمَنْزِلِ مُطْلَقًا لَا يُوجِبُ إتْلَافَ شَيْءٍ مِنْ الْأَعْيَانِ وَقَوْلُهُ فِي بَيَانِ مَا وَصَلَ إلَيْهِ مَقْبُولٌ لِمَا بَيَّنَّا فَلَا يَكُونُ هُوَ ضَامِنًا لِمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُتْلِفْهُ ، وَلَمْ يَشْهَدْ الشُّهُودُ بِوُصُولِهِ إلَيْهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ مَا فِي ضَيْعَةِ فُلَانٍ مِنْ طَعَامٍ وَمَا فِي نَخْلَةِ هَذَا مِنْ ثَمَرٍ وَأَنَّهُ قَبَضَ زَرْعَ هَذِهِ الْأَرْضِ ، ثُمَّ قَالَ : هُوَ كَذَا وَادَّعَى الْوَارِثُ أَكْثَرَ مِنْهُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ فِي هَذِهِ الضَّيْعَةِ كَذَا وَكَذَا لَمْ يَلْزَمْ الْوَصِيَّ زِيَادَةٌ عَلَى مَا أَقَرَّ بِقَبْضِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مُطْلَقَ الْإِقْرَارِ لَا يُوجِبُ إتْلَافَ شَيْءٍ وَلَا يَلْزَمُ إلَّا مَا يَثْبُتُ قَبْضُهُ فِيهِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ قَبْضُهُ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ أَنَّهُ قَبَضَهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ الْإِقْرَارِ بِالْبَيْعِ وَالْعَيْبِ فِيهِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : وَإِذَا أَقَرَّ الْبَائِعُ أَنَّهُ بَاعَ هَذَا الْعَبْدَ مِنْ هَذَا وَبِهِ هَذَا الْعَيْبُ وَأَنَّ الْمُشْتَرِيَ أَبْرَأَهُ مِنْهُ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ إذَا جَحَدَ الْمُشْتَرِي الْإِبْرَاءَ ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْبَيْعِ يَقْتَضِي سَلَامَةَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَوُجُوبُ الْعَيْبِ يُثْبِتُ لِلْمُشْتَرِي حَقَّ الرَّدِّ فَالْبَائِعُ يَدَّعِي عَلَيْهِ إسْقَاطَ حَقِّهِ بَعْدَ مَا ظَهَرَ سَبَبُهُ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ ؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ فَوَاتُ وَصْفٍ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَالْوَصْفُ يُسْتَحَقُّ بِاسْتِحْقَاقِ الْأَصْلِ فَصَارَ ذَلِكَ الْجُزْءُ حَقًّا لِلْمُشْتَرِي بِاسْتِحْقَاقِهِ أَصْلَ الْمَبِيعِ وَالْبَائِعُ يَدَّعِي بُطْلَانَ اسْتِحْقَاقِهِ بَعْدَ ظُهُورِ سَبَبِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ اسْتَحْلَفَ الْمُشْتَرِي بِاَللَّهِ مَا أَبْرَأَهُ وَلَا رَضِيَ بِهِ وَلَا خَرَجَ مِنْ مِلْكِهِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ يَقُولُ إنَّمَا يَسْتَحْلِفُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ إذَا ادَّعَى الْبَائِعُ كُلَّهُ ، فَأَمَّا إذَا ادَّعَى الْبَائِعُ الْإِبْرَاءَ اسْتَحْلَفَهُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّ الْبَائِعِ فَإِنَّمَا تَتَوَجَّهُ بِقَدْرِ طَلَبِهِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْقَاضِي يَسْتَحْلِفُهُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ صِيَانَةً لِقَضَاءِ نَفْسِهِ ، وَلِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي سُقُوطَ حَقِّهِ فِي الرَّدِّ وَهَذِهِ الْأَسْبَابُ مُسْقِطَةٌ لِحَقِّهِ فِي الرَّدِّ فَصَارَ كَأَنَّهُ ادَّعَى جَمِيعَ ذَلِكَ فَلِهَذَا يَسْتَحْلِفُهُ مُفَسِّرًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ .
وَإِنْ ادَّعَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ اشْتَرَاهُ وَبِهِ هَذَا الْعَيْبُ ، وَهُوَ عَيْبٌ يَحْدُثُ مِثْلُهُ وَجَحَدَ الْبَائِعُ ذَلِكَ وَأَقَرَّ أَنَّهُ بَاعَهُ وَبِهِ عَيْبٌ لَمْ يُسَمِّهِ لَمْ يَلْزَمْهُ بِهَذَا الْإِقْرَارِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِدَعْوَاهُ مُعَيِّنًا يَصِيرُ مُبْرِئًا لَهُ عَمَّا سِوَاهُ وَالْبَائِعُ مَا أَقَرَّ بِذَلِكَ الْعَيْبِ بِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا أَقَرَّ بِعَيْبٍ مُنْكَرٍ وَالْمُنْكَرُ غَيْرُ الْمُعَيَّنِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ إقْرَارُهُ مُلْزِمًا بَقِيَ دَعْوَى الْمُشْتَرِي الرَّدَّ بِعَيْبٍ يَحْدُثُ مِثْلُهُ وَالْبَائِعُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ .
وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ اثْنَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِعَيْبٍ وَجَحَدَ الْآخَرُ كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْمُقِرِّ دُونَ الْآخَرِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَائِعٌ لِنِصْفِهِ وَإِقْرَارُ الْمُقِرِّ حُجَّةٌ عَلَيْهِ دُونَ شَرِيكِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ وَاحِدًا وَلَهُ شَرِيكٌ مُفَاوِضٌ فَجَحَدَ الْبَائِعُ الْعَيْبَ وَأَقَرَّ بِهِ شَرِيكُهُ كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى التِّجَارَةِ مُلْزِمٌ شَرِيكَهُ فَكَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُ ، وَفِي الْحُكْمِ كَإِقْرَارِهِمَا ، وَإِنْ كَانَ الشَّرِيكُ شَرِيكَ عِنَانٍ لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُ بِإِقْرَارِهِ ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ فَهُوَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُخَاصِمَ الشَّرِيكَ فِي هَذَا الْعَيْبِ بِخِلَافِ الْمُفَاوِضِ إذَا بَاعَ خَادِمًا مِنْ الْمُضَارَبَةِ فَأَقَرَّ رَبُّ الْمَالِ فِيهَا بِعَيْبٍ لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْمُضَارِبِ بِذَلِكَ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْمُضَارِبِ وَرَبُّ الْمَالِ فِي ذَلِكَ كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ نَهَاهُ الْمُضَارِبُ عَنْ الْبَيْعِ لَمْ يَعْمَلْ بِنَهْيِهِ وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَفْسَخَ عَلَيْهِ عَقْدًا لَمْ يَمْلِكْهُ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ بِمَا يُثْبِتُ حَقَّ الْفَسْخِ لِلْمُشْتَرِي .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ هُوَ الَّذِي بَاعَ فَأَقَرَّ الْمُضَارِبُ بِالْعَيْبِ ؛ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ الَّذِي بَاشَرَهُ رَبُّ الْمَالِ .
وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ أَقَرَّ الْآمِرُ بِعَيْبٍ وَجَحَدَهُ الْوَكِيلُ لَمْ يَلْزَمْ الْوَكِيلَ وَلَا الْآمِرَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ فِي الْعَيْبِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ وَالْوَكِيلُ فِيهِ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ فَكَانَ الْآمِرُ أَجْنَبِيًّا مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ فَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي حَقُّ الرَّدِّ بِإِقْرَارِهِ .
وَلَوْ أَقَرَّ الْوَكِيلُ بِالْعَيْبِ وَجَحَدَهُ الْآمِرُ كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّهُ فِي حُقُوقِ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ فَإِقْرَارُهُ بِثُبُوتِ حَقِّ الْفَسْخِ لِلْمُشْتَرِي صَحِيحٌ ، وَلَكِنْ فِي حَقِّهِ دُونَ الْآمِرِ ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ قَدْ انْتَهَتْ بِالتَّسْلِيمِ فَلَا يَكُونُ قَوْلُ الْوَكِيلِ بَعْدَ ذَلِكَ مُلْزِمًا لِلْآمِرِ ، وَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ يَحْدُثُ مِثْلَهُ ، فَإِنْ أَقَامَ الْوَكِيلُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ الْآمِرِ رَدَّهُ عَلَيْهِ لِثُبُوتِ الْعَيْبِ بِالْحُجَّةِ فِي يَدِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ اسْتَحْلَفَ الْآمِرَ عَلَى دَعْوَاهُ ، فَإِنْ نَكَلَ رَدَّهُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ حَلَفَ فَهُوَ لَازِمٌ لِلْوَكِيلِ ، وَفِي شَرِيكَيْ الْعِنَانِ لَوْ أَقَرَّ الْبَائِعُ مِنْهُمَا بِالْعَيْبِ وَجَحَدَ شَرِيكُهُ رَدَّهُ عَلَيْهِ وَلَزِمَهُمَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ الَّتِي بَيْنَهُمَا مَا انْتَهَتْ لِتَسْلِيمِ الْمَبِيعِ ، وَلَكِنَّهَا قَائِمَةٌ بِقِيَامِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ ، وَكَانَ تَصَرُّفُ الْبَائِعِ مِنْهُمَا نَافِذًا فِي حَقِّ شَرِيكِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ أَقَالَ الْمُشْتَرِي أَوْ اشْتَرَاهُ مِنْهُ ابْتِدَاءً يَلْزَمُ شَرِيكَهُ فَكَذَلِكَ إذَا رَدَّهُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ عَلَى مَا سَبَقَ .
وَكَذَلِكَ الْمُضَارِبُ إذَا أَقَرَّ بِالْعَيْبِ لَزِمَهُ وَلَزِمَ رَبَّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ النِّيَابَةَ فِي التَّصَرُّفِ بَاقِيَةٌ بِبَقَاءِ الْمُضَارَبَةِ وَلَوْ أَقَالَهُ الْعَبْدَ أَوْ اشْتَرَاهُ لَزِمَ رَبَّ الْمَالِ فَكَذَلِكَ إذَا رَدَّهُ ، وَإِنْ كَانَا شَرِيكَيْنِ فِي سِلْعَةٍ خَاصَّةٍ فَالْبَائِعُ مِنْهُمَا بِأَمْرِ صَاحِبِهِ وَكِيلٌ فِي بَيْعِ نَصِيبِهِ ، وَقَدْ انْتَهَتْ وَكَالَتُهُ بِالتَّسْلِيمِ فَإِقْرَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ دُونَ شَرِيكِهِ فَلَوْ بَاعَهَا مِنْ آخَرَ فَطَعَنَ فِيهَا الْمُشْتَرِي الْآخَرُ بِعَيْبٍ وَأَقَرَّ بِهِ الْبَائِعُ الثَّانِي ، فَإِنْ قَبِلَهَا بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ سَوَاءٌ كَانَ عَيْبًا يَحْدُثُ مِثْلُهُ أَوْ لَا
يَحْدُثُ مِثْلُهُ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ الْمَشْهُورُ فِي عَامَّةِ الرِّوَايَاتِ ؛ لِأَنَّ الْقَبُولَ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ الْإِقَالَةِ ، وَهُوَ فَسْخٌ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَبَيْعُ جَدِيدٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا فَصَارَ فِي حَقِّ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ كَأَنَّ الْبَائِعَ الثَّانِيَ اشْتَرَاهُ ابْتِدَاءً ، وَفِي كِتَابِ الْبُيُوعِ أَشَارَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْعَيْبِ الَّذِي يَحْدُثُ مِثْلُهُ أَوْ لَا يَحْدُثُ ، فَقَالَ فِي الْعَيْبِ الَّذِي لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ سَوَاءٌ قَبِلَهُ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ رَدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ لِتَيَقُّنِهِ بِوُجُودِ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ ، وَلِأَنَّهُ فَعَلَ بِدُونِ الْقَاضِي غَيْرَ مَا يَأْمُرُ بِهِ الْقَاضِي لَوْ رَفَعَ الْأَمْرَ إلَيْهِ ، وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِالْخُصُومَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ فِيهَا فَائِدَةً وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ ، وَإِنْ قَبِلَهَا بِقَضَاءٍ فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى بَائِعِهَا سَوَاءٌ رَدَّ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ أَوْ بِنُكُولِهِ أَوْ بِبَيِّنَةٍ قَامَتْ ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ ، وَقَدْ تَيَقَّنَّا بِوُجُودِ الْعَيْبِ عِنْدَ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ فَيَرُدُّهَا عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ عَيْبًا يَحْدُثُ مِثْلُهُ فَلَهُ أَنْ يُخَاصِمَ بَائِعَهُ وَيُثْبِتَ بِالْحُجَّةِ وُجُودَ الْعَيْبِ عِنْدَهُ لِيَرُدَّهَا عَلَيْهِ إنْ كَانَ رَدَّ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ .
وَكَذَلِكَ إنْ رَدَّ عَلَيْهِ بِنُكُولِهِ ؛ لِأَنَّ النُّكُولَ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الْإِقْرَارِ وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ جُحُودٌ لِلْعَيْبِ نَصًّا ، فَإِنْ كَانَ قَالَ : بِعْتُهَا ، وَلَيْسَ هَذَا الْعَيْبُ بِهَا فَاسْتَحْلَفَهُ فَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ فَرَدَّهَا عَلَيْهِ فَأَرَادَ خُصُومَةَ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ فِيهَا وَاحْتَجَّ الْبَائِعُ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْعَيْبُ بِهَا فَإِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ رَدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ جُحُودِهِ كَوْنَ الْعَيْبِ عِنْدَ الْإِقْرَارِ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ
عَلَيْهِ لِلْبَائِعِ الْأَوَّلِ وَهَذَا الْجُحُودُ مُطْلِقٌ لَهُ الْيَمِينَ ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ صَارَ كَالْبَاذِلِ لِفَسْخِ الْمُشْتَرِي مِنْهُ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ بَائِعَهُ كَمَا لَوْ قَبِلَهُ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ .
وَإِذَا بَاعَ دَارًا ، ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ بَاعَهَا ، وَفِيهَا هَذَا الْعَيْبُ لِصَدْعٍ فِي حَائِطٍ يَخَافُ مِنْهُ أَوْ كَسْرٍ فِي جِذْعٍ أَوْ فِي بَابٍ رَدَّهُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَيْبَ يُمْكِنُ بِقَضَاءِ بَاقِي الْمَالِيَّةِ ، وَقَدْ يُقَلِّلُ رَغَائِبَ النَّاسِ فِيهِ ، وَقَدْ ثَبَتَ كَوْنُهُ عِنْدَهُ بِإِقْرَارِهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ أَرْضًا فِيهَا نَخِيلٌ فَأَقَرَّ بِعَيْبٍ بِبَعْضِ الثَّمَرِ فِي نَخْلَةٍ أَوْ شَجَرَةٍ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَبِيعَ كُلَّهُ فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ فَوُجُودُ الْعَيْبِ فِي جُزْءٍ مِنْهُ كَوُجُودِهِ فِي جَمِيعِهِ .
وَكَذَلِكَ الثِّيَابُ وَالْعُرُوضُ وَالْحَيَوَانُ يُقِرُّ الْبَائِعُ فِيهِ بِعَيْبٍ يُنْقِصُ الثَّمَنَ ؛ لِأَنَّ مَا يُنْقِصُ الثَّمَنَ يَعُدُّهُ التُّجَّارُ عَيْبًا وَيُقَلِّلُ رَغَائِبَهُمْ فِي السِّلْعَةِ فَيَثْبُتُ حَقُّ الرَّدِّ بِهِ .
وَلَوْ قَالَ : بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ وَبِهِ حَرْقٌ فَجَاءَ الْمُشْتَرِي بِحَرْقٍ آخَرَ ، فَقَالَ : بِعْتَنِيهِ وَهَذَا بِهِ ، وَقَالَ الْبَائِعُ لَيْسَ هَذَا الَّذِي أَقْرَرْتُ لَكَ بِهِ وَهَذَا حَدَثَ عِنْدَكَ ، وَلَمْ يَكُنْ بِالثَّوْبِ حَرْقٌ غَيْرُهُ لَمْ يُصَدَّقْ الْبَائِعُ عَلَى مَا قَالَ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يُكَذِّبُهُ ؛ لِأَنَّ الْحَرْقَ الْمَوْجُودَ فِي الثَّوْبِ لَا يَنْعَدِمُ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لَهُ أَثَرٌ ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يُخَاطَ أَوْ يُرْفَأَ وَأَثَرُهُمَا يَكُونُ ظَاهِرًا ، فَإِنْ لَمْ يُرَ فِي الثَّوْبِ حَرْقٌ ظَاهِرٌ أَوْ لَا أَثَرَ لِحَرْقٍ سِوَى مَا عَيَّنَهُ الْمُشْتَرِي عَرَفْنَا أَنَّ مَا أَقَرَّ بِهِ الْبَائِعُ هُوَ الَّذِي عَيَّنَهُ الْمُشْتَرِي فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِذَلِكَ وَلَوْ قَالَ : كَانَ هَذَا الْحَرْقُ صَغِيرًا وَزَادَ فِيهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِأَصْلِ الْحَرْقِ لَا بِمِقْدَارِهِ فَالْقَدْرُ الَّذِي ادَّعَى الْمُشْتَرِي لَمْ يَسْبِقْ مِنْ الْبَائِعِ إقْرَارٌ بِهِ فَكَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْبَائِعِ لِإِنْكَارِهِ وَالْحَرْقُ فِي ذَلِكَ قِيَاسُ الْخَرْقِ وَلَوْ كَانَ فِيهِ حَرْقٌ غَيْرُ ذَلِكَ ، فَقَالَ : بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ وَهَذَا بِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ الْآخَرُ بِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ بَيَانَهُ مُطَابِقٌ لِمُطْلَقِ كَلَامِهِ فَإِنَّهُ أَقَرَّ بِالْحَرْقِ فِي الثَّوْبِ وَاَلَّذِي عَيَّنَهُ سِوَى مَا أَرَادَ الْمُشْتَرِي الرَّدَّ بِهِ فَخَرَجَ بِهِ عَنْ عُهْدَةِ إقْرَارِهِ يَبْقَى دَعْوَى الْمُشْتَرِي لِلْحَرْقِ الثَّانِي وَالْبَائِعُ مُنْكِرٌ لَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ .
وَلَوْ قَالَ : بِعْتُهُ هَذَا الْعَبْدَ وَبِهِ قُرْحَةٌ ، ثُمَّ جَاءَ الْمُشْتَرِي يُرِيدُ رَدَّهُ ، فَقَالَ الْبَائِعُ قَدْ بَرِئَ الْعَبْدُ مِنْ تِلْكَ الْقُرْحَةِ وَهَذِهِ غَيْرُهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ الْقُرْحَةَ تَزُولُ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لَهَا أَثَرٌ بَعْدَ الْبُرْءِ فَلَمْ يَكُنْ مِنْ ضَرُورَتِهِ إقْرَارُ الْبَائِعِ كَوْنَ هَذِهِ الْقُرْحَةِ الَّتِي عَيَّنَهَا الْمُشْتَرِي مَوْجُودَةً عِنْدَهُ .
وَكَذَلِكَ إنْ سَمَّى الْبَائِعُ نَوْعًا مِنْ الْعُيُوبِ صُدِّقَ أَنَّهُ قَدْ ذَهَبَ وَهَذَا غَيْرُهُ إنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَبْرَأُ وَيَذْهَبُ .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ بَاعَهُ أَقْطَعَ الْيَدِ فَجَاءَ بِهِ الْمُشْتَرِي ، وَهُوَ أَقْطَعُ الْيَدَيْنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ ، وَلَكِنْ يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ فِي يَدٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْبَائِعِ لَمْ يَتَنَاوَلْ إلَّا قَطْعَ يَدٍ وَاحِدَةٍ فَقَطْعُ الْيَدِ الثَّانِيَةِ عَيْبٌ حَادِثٌ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَيَمْنَعُهُ مِنْ الرَّدِّ وَيَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ بَعْدَ مَا يَحْلِفُ الْبَائِعُ بِاَللَّهِ مَا بَاعَهُ ، وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ لِلْعَبْدِ أُصْبُعٌ زَائِدَةٌ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهُ بِهِ ، وَإِنْ أَقَرَّ الْبَائِعُ أَوْ أَنْكَرَ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَحْدُثُ مِثْلُهُ عَادَةً فَقَدْ تَيَقَّنَّا بِوُجُودِهَا عِنْدَ الْبَائِعِ فَيَرُدُّهُ الْمُشْتَرِي إلَّا أَنْ يُثْبِتَ الْبَائِعُ سَبَبًا مَانِعًا مِنْ الرَّدِّ ، وَقَدْ تَسْتَوِي هَذِهِ الْمَوَاضِعُ فِي الْخُصُومَةِ فِي الْعَيْبِ بَيْنَ حَضْرَةِ الْعَبْدِ وَغَيْبَتِهِ إذَا كَانَ الْبَائِعُ مُقِرًّا بِوُجُودِ الْعَيْبِ بِهِ فِي الْحَالِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْخُصُومَةَ فِي مَوْتِ الْعَبْدِ مَسْمُوعَةٌ .
وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ هَذَا مِنْ فُلَانٍ وَقَبَضَ الثَّمَنَ مِنْهُ ، وَلَمْ يُسَمِّهِ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَيْعِ فِي الثَّمَنِ يَنْتَهِي بِقَبْضِهِ فَتَرْكُ التَّسْمِيَةِ فِيهِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا فِيمَا تَتَوَجَّهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ وَيُحْتَاجُ إلَى قَبْضِهِ ، وَذَلِكَ مَعْدُومٌ فِي الثَّمَنِ الْمَقْبُوضِ وَلَوْ سَمَّى وَأَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَهُ كَانَ هَذَا أَجْوَزَ مِنْ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى قَطْعِ الْمُنَازَعَةِ وَالْخُصُومَةِ فَقَدْ تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ أَوْ رَدِّهِ بِالْعَيْبِ ، فَإِذَا كَانَ مُسَمًّى لَا تُمْكِنُ فِيهِ الْمُنَازَعَةُ .
وَلَوْ سَمَّى ثَمَنًا ، وَقَالَ : لَمْ أَقْبِضْهُ ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي قَدْ أَقَبَضَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ وَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ دَيْنٌ لَازِمٌ لِلْبَائِعِ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي ، فَإِذَا ادَّعَى بَقَاءَهُ كَانَ عَلَيْهِ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ لِإِنْكَارِهِ فَإِنَّ إقْرَارَهُ بِالْبَيْعِ لَا يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِقَبْضِ الثَّمَنِ كَمَا أَنَّ إقْرَارَ الْمُشْتَرِي بِالشِّرَاءِ لَا يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِقَبْضِ السِّلْعَةِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْعَبْدَ حَتَّى يَنْقُدَ الثَّمَنَ ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْبَيْعِ عَنْ حَالٍ يُثْبِتُ حَقَّ الْحَبْسِ لِلْبَائِعِ مَا دَامَ الْمَبِيعُ فِي يَدِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ قَبَضَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْقُدَ الثَّمَنَ ، وَلَيْسَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْعَبْدَ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ حَقِّهِ فِي الْحَبْسِ سَقَطَ بِتَسْلِيمِهِ إلَى الْمُشْتَرِي ، وَقَدْ سَلَّمَهُ ، وَهَذَا لِأَنَّ مُطْلَقَ فِعْلِ الْمُشْتَرِي مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَحِلُّ شَرْعًا مَا لَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ الَّذِي لَا يَحِلُّ شَرْعًا كَالْقَبْضِ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ ، وَلِأَنَّ خُرُوجَ الْمَبِيعِ مِنْ يَدِ الْبَائِعِ مُبْطِلٌ حَقَّهُ فِي الْحَبْسِ إلَّا أَنْ يُثْبِتَ أَنَّهُ كَانَ يَعْتَبِرُ رِضَاهُ .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ بَاعَهُ مِنِّي أَوْ قَبَضَهُ مِنِّي ، ثُمَّ اسْتَحَقَّ الْعَبْدَ أَوْ رَدَّهُ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ لِلْمُشْتَرِي فِي ذِمَّةِ الْبَائِعِ فَالْقَوْلُ فِي بَيَانِ مِقْدَارِهِ قَوْلُ الْمَدْيُونِ وَلَا يُصَدَّقُ صَاحِبُ الدَّيْنِ عَلَى دَعْوَى الزِّيَادَةِ إلَّا بِحُجَّةٍ .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ بَاعَهُ مِنْهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، فَقَالَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتُهُ بِخَمْسِمِائَةٍ ، وَقَدْ خَرَجَ نِصْفُ الْعَبْدِ مِنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا قَالَ فِي الْبُيُوعِ إذَا تَعَيَّبَ الْمَبِيعُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ، ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ لَمْ يَتَحَالَفَا إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْبَائِعُ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْعَبْدَ وَلَا يَأْخُذُ لِلْعَيْبِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يُسَلَّمْ لِلْمُشْتَرِي شَيْءٌ فَيَصِحُّ رِضَا الْبَائِعِ بِسُقُوطِ حَقِّهِ فِي حِصَّةِ الْعَيْبِ فَيَتَحَالَفَانِ عِنْدَ ذَلِكَ وَهُنَا مَا أَخْرَجَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ مِلْكِهِ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ سَالِمٌ لَهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ ذَلِكَ مَجَّانًا فَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ فِي الثَّمَنِ قَوْلَ الْمُشْتَرِي سَوَاءٌ رَضِيَ الْبَائِعُ بِاسْتِرْدَادِ مَا بَقِيَ أَوْ لَمْ يَرْضَ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقَوْلُ فِي الثَّمَنِ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ إلَّا أَنْ يَرْضَى الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ مَا بَقِيَ مِنْهُ وَيُتْبِعَ الْمُشْتَرِيَ بِحِصَّةِ مَا خَرَجَ مِنْ مِلْكِهِ عَلَى قَوْلِ الْمُشْتَرِي فَحِينَئِذٍ يَجْرِي التَّحَالُفُ ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْل أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ تَعَذُّرَ جَرَيَانِ التَّحَالُفِ فِي بَعْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا يَمْنَعُ التَّحَالُفَ فِيمَا بَقِيَ كَمَا فِي الْعَبْدَيْنِ إذَا هَلَكَ أَحَدُهُمَا ، ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ يَتَحَالَفَانِ فِي الْقَائِمِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ هَلَاكَ أَحَدِهِمَا لَا يُوجِبُ عَيْبًا فِي الْآخَرِ فَلَمْ يُشْتَرَطْ فِيهِ رِضَا الْبَائِعِ وَهُنَا خُرُوجُ بَعْضِ الْعَيْنِ عَنْ مِلْكِهِ يُوجِبُ الْعَيْبَ فِيمَا بَقِيَ فَلِهَذَا شُرِطَ رِضَا الْبَائِعِ بِالْفَسْخِ فِيمَا بَقِيَ مِنْهُ لِجَرَيَانِ التَّحَالُفِ بَيْنَهُمَا .
وَكَذَلِكَ فِي الْعَبْدَيْنِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا رَضِيَ بِأَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْ ثَمَنِ الْهَالِكِ شَيْئًا تَحَالَفَا فِي الْقَائِمِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يُسَلَّمْ لِلْمُشْتَرِي شَيْءٌ فَرِضَاهُ
بِذَلِكَ مُسْقِطٌ لِحَقِّهِ فِي تَضْمِينِ الْهَالِكِ لِلْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَبَضَهُ بِإِذْنِهِ بِغَيْرِ عَقْدٍ ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَيُحَالِفَانِ وَيَتَرَادَّانِ قِيمَةَ الْعَبْدِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْبَائِعُ أَنْ يَأْخُذَ مَا بَقِيَ مِنْ الْعَبْدِ وَقِيمَةَ مَا اسْتَهْلَكَ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ خُرُوجَ جَمِيعِ الْعَبْدِ مِنْ مِلْكِهِ لَا يَمْنَعُ جَرَيَانَ التَّحَالُفِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَكَذَلِكَ خُرُوجُ بَعْضِهِ وَمَا بَقِيَ يَتَعَيَّبُ لِخُرُوجِ الْبَعْضِ عَنْ مِلْكِهِ فَثَبَتَ لِلْبَائِعِ الْخِيَارُ ، وَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِعَيْبِهِ فَاسْتَرَدَّهُ مَعَ قِيمَةِ مَا اسْتَهْلَكَ مِنْهُ الْمُشْتَرِي ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَرْضَ وَاسْتَرَدَّ جَمِيعَ قِيمَةِ الْعَبْدِ مِنْهُ .
وَإِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ بَاعَ هَذَا الْعَبْدَ مِنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، فَقَالَ : مَا اشْتَرَيْتُهُ مِنْكَ بِشَيْءٍ ، ثُمَّ قَالَ : بَلَى قَدْ ابْتَعْتُهُ مِنْكَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَقَالَ الْبَائِعُ مَا بِعْتُكَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَبْطُلْ بِمُجَرَّدِ إنْكَارِهِ الشِّرَاءَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْبَائِعَ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَقَضَى الْقَاضِي بِالشِّرَاءِ فَإِنَّمَا وُجِدَ التَّصْدِيقُ مِنْ الْمُشْتَرِي فِي حَالِ قِيَامِ الْبَيْعِ بَيْنَهُمَا وَلَا مُعْتَبَرَ بِجُحُودِ الْبَائِعِ بَعْدَ ذَلِكَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ بَعْدَ جُحُودِ الْمُشْتَرِي لَوْ اسْتَحْلَفَهُ الْبَائِعُ فَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ ثَبَتَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا حَتَّى يَقْضِيَ بِهِ الْقَاضِي ، فَإِذَا أَقَرَّ الْمُشْتَرِي أَوْلَى أَنْ يُثْبِتَ الْبَيْعَ .
وَلَوْ كَانَ حِينَ جَحَدَ الْمُشْتَرِي الشِّرَاءَ قَالَ الْبَائِعُ : صَدَقْتَ لَمْ تَشْتَرِهِ ، ثُمَّ قَالَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ ذَلِكَ : قَدْ اشْتَرَيْتُهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْبَيْعُ ، وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ بَيِّنَةٌ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ حِينَ صَدَّقَهُ فِي إنْكَارِ الشِّرَاءِ انْتَقَضَ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا بِتَصَادُقِهِمَا فَإِنَّهُمَا يَمْلِكَانِ فَسْخَ الْعَقْدِ فَتَجَاحُدُهُمَا لَهُ يَكُونُ فَسْخًا .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْبَائِعَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إثْبَاتِ الْبَيْعِ بِالْبَيِّنَةِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُحَلِّفَ الْمُشْتَرِيَ فَكَذَلِكَ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَى الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَلَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ بَيِّنَةٌ عَلَى ذَلِكَ لِلتَّنَاقُضِ فِي كَلَامِهِ إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الْبَائِعُ عَلَى مَا يَدَّعِي مِنْ الشِّرَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ تَصَادُقُهُمَا عَلَى الشِّرَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا كَانَ تَجَاحُدُهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْفَسْخِ إذْ التَّجَاحُدُ لَمْ يَكُنْ فَسْخًا فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا جُعِلَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْفَسْخِ فِي الْحَقِيقَةِ ، فَإِذَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ كَانَ مُنْعَقِدًا بَيْنَهُمَا حَقِيقَةً ظَهَرَ الْبَيْعُ بِهَذَا التَّصَادُقِ .
وَلَوْ أَنَّهُ بَاعَ هَذَا الْعَبْدَ مِنْ فُلَانٍ ، وَلَمْ يُسَمِّ ثَمَنًا ، فَقَالَ فُلَانٌ اشْتَرَيْتُهُ مِنْكَ بِخَمْسِمِائَةٍ وَجَحَدَ الْبَائِعُ أَنْ يَكُونَ بَاعَهُ بِشَيْءٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْبَائِعِ بِالْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ لَيْسَ بِشَيْءٍ كَإِيجَابِهِ الْبَيْعَ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مَا يُمْكِنُ الْعَمَلُ بِهِ وَالِالْتِزَامُ بِحُكْمِهِ وَلَا يُمْكِنُنَا أَنْ نُلْزِمَهُ بَيْعًا بِثَمَنٍ مُسَمًّى بِهَذَا الْإِقْرَارِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقِرُّ بِذَلِكَ وَلَا يَكُونُ الْبَيْعُ إلَّا بِثَمَنٍ مُسَمًّى فَلِهَذَا كَانَ إقْرَارُهُ بَاطِلًا بَقِيَ دَعْوَى الْمُشْتَرِي بِالْبَيْعِ بِخَمْسِمِائَةٍ وَالْبَائِعُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ الْمُشْتَرِي بِالشِّرَاءِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ وَادَّعَى الْبَائِعُ بَيْعَهُ مِنْهُ بِثَمَنٍ مُسَمًّى فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ وَإِقْرَارُ الْمُشْتَرِي غَيْرُ مُلْزِمٍ إيَّاهُ شَيْئًا لِمَا بَيَّنَّا وَهَذَا بِخِلَافِ مَا سَبَقَ مِنْ الْإِقْرَارِ بِالْبَيْعِ وَالْقَبْضِ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ بِدُونِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِمُوجَبِ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ مُمْكِنٌ فَإِنَّ مُوجِبَهُ إلْزَامُ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ لِانْتِهَاءِ حُكْمِ الْعَقْدِ فِي الثَّمَنِ بِالْقَبْضِ فَلِهَذَا كَانَ الْإِقْرَارُ صَحِيحًا .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ بَاعَهُ مِنْ فُلَانٍ ، ثُمَّ قَالَ : لَا بَلْ مِنْ فُلَانٍ فَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ لِتَعَذُّرِ إلْزَامِ شَيْءٍ بِحُكْمِهِ وَيَحْلِفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ادَّعَى شِرَاءً بِثَمَنٍ مُسَمًّى بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ لَمْ يَسْبِقْ ذَلِكَ الْإِقْرَارُ مِنْ الْبَائِعِ .
وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَى هَذَا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ فَجَحَدَهُ الْبَائِعُ فَادَّعَى الْمُدَّعِي أَنَّ الْعَبْدَ كَانَ لَهُ فِي الْأَصْلِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُ الشِّرَاءَ مِنْهُ إقْرَارٌ بِأَنَّ أَصْلَ الْمِلْكِ كَانَ لَهُ فَإِنَّ الِاسْتِيَامَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ إقْرَارٌ بِالْمِلْكِ لِلْبَائِعِ فَالشِّرَاءُ أَوْلَى ، وَعَلَى الرِّوَايَتَيْنِ جَمِيعًا هُوَ أَقَرَّ بِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ فَكَانَ فِي دَعْوَاهُ الْمِلْكَ ثَمَنُ الْأَصْلِ بَعْدَ هَذَا مُنَاقِضًا وَالْمُنَاقِضُ لَا قَوْلَ لَهُ وَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ مِنْ فُلَانٍ ، وَلَمْ يُسَمِّ الْعَبْدَ ، ثُمَّ جَحَدَ فَهَذَا الْإِقْرَارُ بَاطِلٌ لِتَعَذُّرِ الْإِلْزَامِ بِحُكْمِهِ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ بِالْبَيْعِ فِي عَبْدٍ يُعَبِّرُ عَنْهُ كَإِيجَابِ الْبَيْعِ فِي عَبْدٍ يُعَبِّرُ عَنْهُ .
وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ أَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ مِنْ فُلَانٍ غَيْرَ أَنَّ الشُّهُودَ لَا يَعْرِفُونَهُ بِعَيْنِهِ وَمُرَادُهُ مِنْ هَذَا أَنَّهُمْ شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِهِ بِبَيْعِ عَبْدٍ ، وَقَالُوا لَا نَعْرِفُهُ بِعَيْنِهِ لَوْ أَشْهَدَهُمْ عَلَى إقْرَارِهِ بِذَلِكَ وَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ الْعَبْدَ بِعَيْنِهِ فَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ لِتَعَذُّرِ الْإِلْزَامِ بِحُكْمِهِ ، وَهُوَ عَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ فِي دَارٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ دَابَّةٍ ، فَإِنْ حَدَّدَ الْأَرْضَ وَالدَّارَ وَسَمَّى الثَّمَنَ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ التَّحْدِيدَ فِيمَا يَتَعَذَّرُ إحْضَارُهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِشَارَةِ إلَى الْعَيْنِ فِيمَا يَتَيَسَّرُ إحْضَارُهُ بِدَلِيلِ سَمَاعِ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ بِاعْتِبَارِهِ ، وَكَانَ هَذَا إقْرَارًا مُلْزِمًا ، فَإِنْ جَحَدَ الْبَائِعُ بَعْدَ ذَلِكَ فَشَهِدَ الشُّهُودُ بِإِقْرَارِهِ وَلَا يَعْرِفُ الشُّهُودُ الْحُدُودَ قُبِلَتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ بَعْدَ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَعْرِفَةِ الْحُدُودِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ كَانَ إقْرَارُهُ مُلْزِمًا فَكَانَ الْعَمَلُ بِهَا مُتَمَكَّنًا فَالْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ تَكُونُ مَسْمُوعَةً .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَقَرَّ بِالشِّرَاءِ ، ثُمَّ جَحَدَ وَادَّعَى الْبَائِعُ ذَلِكَ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ لِمَا بَيَّنَّا .
وَيَجُوزُ إقْرَارُ شَرِيكِ الْعِنَانِ عَلَى شَرِيكِهِ فِي بَيْعِ شَيْءٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ ، وَفِي شِرَاءِ شَيْءٍ قَائِمٍ بِعَيْنِهِ فِي يَدِ الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمِلْكٍ أَنْشَأَهُ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ مَا دَامَتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا قَائِمَةً فَتَنْتَفِي التُّهْمَةُ عَنْ إقْرَارِهِ بِذَلِكَ فَلِهَذَا صَحَّ إقْرَارُهُ وَلَهُ عَلَى شَرِيكِهِ ثَمَنُ حِصَّتِهِ وَكَمَا لَوْ أَنْشَأَ الشِّرَاءَ أَوْ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ شِرَاءِ شَيْءٍ مُسْتَهْلَكٍ يَكُونُ دَيْنًا يَلْزَمُهُ دُونَ شَرِيكِهِ إلَّا أَنْ يُقِرَّ بِهِ شَرِيكُهُ ، فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ فَالثَّابِتُ بِتَصَادُقِهِمَا كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ ، وَإِنْ جَحَدَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَقِّ صَاحِبِهِ وَكِيلٌ بِالشِّرَاءِ وَالْوَكِيلُ لَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ بِالشِّرَاءِ إذَا كَانَ الْمَبِيعُ مُسْتَهْلَكًا فِي إلْزَامِ الثَّمَنِ فِي ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ فَكَذَلِكَ الشَّرِيكُ لَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ فِي إلْزَامِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ شَرِيكِهِ ؛ لِأَنَّهُ بِعَقْدِ الشَّرِكَةِ يَتَسَلَّطُ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ وَلَا يَتَسَلَّطُ عَلَى ذِمَّةِ شَرِيكِهِ فِي إلْزَامِ الدَّيْنِ فِيهَا وَهَذَا الْإِقْرَارُ يُوجِبُ الدَّيْنَ فِي ذِمَّةِ شَرِيكِهِ مِنْ غَيْرِ مِلْكٍ يَظْهَرُ لَهُ بِمُقَابَلَتِهِ فِي الْعَيْنِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَبِيعُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ وَأَمَّا الْمُضَارِبُ ، فَإِذَا أَقَرَّ بِالْمُضَارَبَةِ بِبَيْعٍ أَوْ بِشِرَاءٍ فَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي ذَلِكَ فِيهَا أَوْ فِي الدَّيْنِ اعْتِبَارًا لِلْإِقْرَارِ بِالْإِنْشَاءِ وَلَوْ أَنْشَأَ الشِّرَاءَ صَحَّ مِنْهُ ، وَكَانَ الثَّمَنُ دَيْنًا عَلَى رَبِّ الْمَالِ حَتَّى إذَا هَلَكَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ فِي يَدِهِ قَبْلَ أَنْ يُنْفِذَهُ رَجَعَ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ بِالشِّرَاءِ يَكُونُ صَحِيحًا مُطْلَقًا لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ .
وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا يَبِيعُ عَبْدًا لَهُ وَأَقَرَّ الْوَكِيلُ أَنَّهُ قَدْ بَاعَهُ مِنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَصَدَّقَهُ وَجَحَدَ الْوَكِيلُ فَالْعَبْدُ لِفُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْأَمْرِ بَاقٍ بَعْدَ الْوَكَالَةِ ، وَهُوَ مَالِكٌ لِإِنْشَاءِ الْبَيْعِ فِيهِ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ بِذَلِكَ سَوَاءٌ أَضَافَهُ إلَى نَفْسِهِ أَوْ إلَى وَكِيلِهِ غَيْرَ أَنَّ الْآمِرَ مَعَ الْمُشْتَرِي لَا يُصَدَّقَانِ فِي إلْزَامِ الْعُهْدَةِ عَلَى الْوَكِيلِ وَمَتَى تَعَذَّرَ إيجَابُ الْعُهْدَةِ عَلَيْهِ يَتَعَلَّقُ بِأَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِ ، وَهُوَ الْمُوَكِّلُ كَمَا لَوْ كَانَ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ صَبِيًّا مَحْجُورًا .
وَلَوْ أَمَرَ رَجُلٌ رَجُلًا بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ لَهُ فَأَقَرَّ الْوَكِيلُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَصَدَّقَهُ الْبَائِعُ وَجَحَدَهُ الْآمِرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ .
وَلَوْ أَقَرَّ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَسَمَّى جِنْسَهُ وَصِفَتَهُ وَثَمَنَهُ فَأَقَرَّ الْوَكِيلُ أَنَّهُ قَدْ اشْتَرَى هَذَا الْعَبْدَ لِلْآمِرِ بِالثَّمَنِ الَّذِي سَمَّاهُ لَهُ وَجَحَدَ الْآمِرُ ، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ مَدْفُوعًا إلَى الْوَكِيلِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيمَا دُفِعَ إلَيْهِ مِنْ الثَّمَنِ ، وَقَدْ أَخْبَرَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِيهِ وَمُبَاشَرَةِ مَا كَانَ مُسَلَّطًا عَلَى مُبَاشَرَتِهِ فَيَكُونُ مُصَدَّقًا فِيهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الثَّمَنُ مَدْفُوعًا إلَيْهِ لَمْ يُصَدَّقْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : إذَا كَانَ الْعَبْدُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ وَكَانَ مِثْلُهُ يُشْتَرَى بِذَلِكَ الثَّمَنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ وَكَلَامُهُمَا ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ أَقَرَّ بِمَا بِهِ يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فَيُقْبَلُ إقْرَارُهُ فِيهِ كَمَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ مَعِيبًا ، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي إقْرَارِهِ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ رُبَّمَا اشْتَرَى هَذَا الْعَبْدَ لِنَفْسِهِ فَظَهَرَ أَنَّهُ مَغْبُونٌ فِيهِ فَأَرَادَ أَنْ يُلْزِمَهُ الْآمِرَ وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْعَبْدِ الْمُعَيَّنِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ بِالثَّمَنِ الْمُسَمَّى لَهُ وَالثَّانِي أَنَّهُ رُبَّمَا كَانَ هَذَا الْعَبْدُ فِي الْأَصْلِ مَمْلُوكًا لَهُ ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُلْزِمَهُ الْآمِرَ بِهَذَا الْإِقْرَارِ وَلَوْ بَاشَرَ شِرَاءَهُ مِنْ نَفْسِهِ لِلْآمِرِ لَمْ يَصِحَّ فَتَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي إخْرَاجِ كَلَامِهِ مَخْرَجَ الْإِقْرَارِ فَلِهَذَا لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ هَذِهِ التُّهْمَةُ إذَا قَصَدَ إلْزَامَ الثَّمَنِ ذِمَّتَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى ذِمَّتِهِ فِي إلْزَامِهِ مُطْلَقًا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ مَدْفُوعًا إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُلْزِمُ ذِمَّةَ الْآمِرِ شَيْئًا بَلْ يُجْبَرُ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِيمَا يُجْهَلُ إضَافَتُهُ ، وَإِذَا كَانَ الْآمِرُ قَدْ مَاتَ ، ثُمَّ أَقَرَّ الْوَكِيلُ بِشِرَاءِ هَذَا الْعَبْدِ ، فَإِنْ
كَانَ الثَّمَنُ فِي يَدِهِ بِعَيْنِهِ أَوْ فِي يَدِ الْبَائِعِ أَوْ كَانَ الْآمِرُ لَمْ يَدْفَعْ الثَّمَنَ إلَيْهِ لَمْ يُصَدَّقْ الْوَكِيلُ عَلَى الْآمِرِ أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ الثَّمَنُ مَدْفُوعًا إلَيْهِ فَظَاهِرٌ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الثَّمَنُ مَدْفُوعًا إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ قَدْ بَطَلَتْ بِمَوْتِ الْآمِرِ وَصَارَ مَا فِي يَدِهِ مِنْ الثَّمَنِ مِلْكًا لِلْوَرَثَةِ فَهُوَ بِهَذَا الْإِقْرَارِ يُرِيدُ إبْطَالَ مِلْكِهِمْ فِي الثَّمَنِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ حَالِ حَيَاةِ الْآمِرِ ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ قَائِمَةٌ ، وَهُوَ يَمْلِكُ إخْرَاجَ الثَّمَنِ مِنْ مِلْكِهِ بِإِنْشَاءِ الشِّرَاءِ فَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ ، وَإِذَا لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ هُنَا يَكُونُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ وَيَلْزَمُهُ الثَّمَنُ إلَّا أَنْ يَحْلِفَ الْوَرَثَةُ عَلَى عَمَلِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ أَقَرُّوا بِمَا ادَّعَاهُ لَزِمَهُمْ وَالِاسْتِحْلَافُ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ يَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ اسْتَهْلَكَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ وَيَلْزَمُ الْبَيْعُ الْمَيِّتَ ؛ لِأَنَّهُ بِهَذَا الْإِقْرَارِ لَا يُخْرِجُ شَيْئًا مِنْ مِلْكِ الْوَرَثَةِ ، وَلَكِنَّهُ يُنْكِرُ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ فَمَا كَانَ أَمِينًا فِيهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ وَهَذَا مُسْتَحْسَنٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الْجَامِعِ .
وَإِذَا دَفَعَ رَجُلٌ إلَى رَجُلٍ عَبْدًا وَأَمَرَهُ بِبَيْعِهِ ، ثُمَّ مَاتَ الْآمِرُ فَأَقَرَّ الْوَكِيلُ أَنَّهُ بَاعَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَبَضَهُ ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ قَائِمًا لَمْ يُصَدَّقْ الْوَكِيلُ ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ بَطَلَتْ بِمَوْتِ الْآمِرِ وَالْعَبْدُ صَارَ مَمْلُوكًا لِلْوَارِثِ فَإِقْرَارُهُ بِمَا يُبْطِلُ فِيهِ مِلْكَ الْوَارِثِ بَاطِلٌ ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا صُدِّقَ لِأَنَّهُ لَا يُبْطِلُ إقْرَارُهُ مِلْكًا لِلْوَارِثِ وَإِنَّمَا يُنْكِرُ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ فِيمَا كَانَ أَمِينًا فِيهِ .
وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ لِرَجُلٍ أَجْنَبِيٍّ ، وَقَدْ اسْتَهْلَكَ الْمُشْتَرِي الْعَبْدَ ، فَقَالَ رَبُّ الْعَبْدِ لِلْبَائِعِ أَنَا أَمَرْتُكَ بِالْبَيْعِ فَلِي الثَّمَنُ ، وَقَالَ الْوَكِيلُ لَمْ تَأْمُرْنِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْعَبْدِ وَلَهُ الثَّمَنُ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ وَالْأَصْلُ كَانَ مَمْلُوكًا لِرَبِّ الْعَبْدِ فَالثَّمَنُ يَكُونُ لَهُ وَالْوَكِيلُ بِجُحُودِهِ الْآمِرَ مُنَاقِضٌ مِنْ وَجْهٍ لِأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى الْبَيْعِ كَالْإِقْرَارِ مِنْهُ بِصِحَّتِهِ وَصِحَّتُهُ بِإِذْنِ صَاحِبِ الْعَبْدِ وَمِنْ وَجْهٍ آخَرَ هُوَ لَا يَدَّعِي لِنَفْسِهِ شَيْئًا بِهَذَا الْجُحُودِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا فَلِرَبِّ الْعَبْدِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُشْتَرِيَ الْقِيمَةَ وَيَرْجِعَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ فَيَأْخُذُ رَبُّ الْعَبْدِ مِنْهُ هَذَا الثَّمَنَ بِحِسَابِ الْقِيمَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْوَكِيلُ مُدَّعِيًا لِنَفْسِهِ شَيْئًا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْعَبْدُ قَائِمًا وَهَذَا أَظْهَرُ ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْعَبْدِ يَمْلِكُ إجَازَةَ الْبَيْعِ فِيهِ فَلَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي إقْرَارِهِ بِالْإِذْنِ وَلَوْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ ، وَلَكِنَّهُ أَجَازَ الْبَيْعَ ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ جَازَ ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي نُفُوذِ الْعَقْدِ وَثُبُوتِ حُكْمِهِ بِمَنْزِلَةِ الْإِنْشَاءِ فَإِنَّمَا تَصِحُّ الْإِجَازَةُ فِي مَحَلٍّ يَصِحُّ إنْشَاءُ الْبَيْعِ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ أَنَّهُ حَيٌّ أَوْ مُسْتَهْلَكٌ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ حَتَّى يَعْرِفَ أَنَّهُ مَيِّتٌ ؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ حَيَاتَهُ وَمَا عُرِفَ ثُبُوتُهُ فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ وَيَجِبُ التَّمَسُّكُ بِهِ حَتَّى يَعْلَمَ خِلَافَهُ ، وَإِنْ كَانَ قَطَعَ يَدَهُ ، ثُمَّ أَجَازَ الْبَيْعَ فَالْأَرْشُ لِلْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ وَالْمُشْتَرِي عِنْدَ الْإِجَازَةِ يَسْتَحِقُّ الْمَبِيعَ بِالزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْبَيْعَ الْمَوْقُوفَ سَبَبُ مِلْكٍ تَامٍّ فَإِنَّمَا يُوجِدُ قَطْعَ الْيَدِ
وَلِلْمُشْتَرِي فِيهِ سَبَبُ مِلْكٍ تَامٍّ ، فَإِذَا تَمَّ لَهُ الْمِلْكُ بِذَلِكَ السَّبَبِ مَلَكَ الْأَرْشَ ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ فَالْأَرْشُ لِرَبِّ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ الْيَدَ الْمَقْطُوعَةَ عَلَى مِلْكِهِ الْمُتَقَرِّرِ فَبَدَلُهُ يَكُونُ لَهُ .
وَإِنْ أَقَرَّ رَبُّ الْعَبْدِ أَنَّهُ أَجَازَ الْبَيْعَ بَعْدَ مَا وَقَعَ الْبَيْعُ بِيَوْمٍ ، وَقَالَ الْمُشْتَرِي لَمْ يُجِزْ وَالْعَبْدُ قَائِمٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْإِجَازَةِ فِي الْحَالِ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي إخْرَاجِ الْكَلَامِ مَخْرَجَ الْإِقْرَارِ وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مَيِّتًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْعَبْدِ لَا يَمْلِكُ الْإِجَازَةَ فِي الْحَالِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْإِقْرَارِ بِهِ ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي الْيَمِينُ عَلَى عِلْمِهِ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ رَبُّ الْعَبْدِ بِمَا ادَّعَاهُ لَزِمَهُ ، فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ قَبْلَهُ رَجُلٌ فَوَجَبَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْإِجَازَةِ فِيهِ لَا يَصِحُّ كَمَا لَا يَصِحُّ إنْشَاءُ الْعَقْدِ فَهُوَ وَالْمَيِّتُ فِي حُكْمِ الْإِجَازَةِ سَوَاءٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الْإِقْرَارِ بِالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) رَجُلٌ أَقَرَّ أَنَّهُ تَزَوَّجَ فُلَانَةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فِي صِحَّةٍ أَوْ مَرَضٍ ، ثُمَّ جَحَدَهُ وَصَدَّقَتْهُ فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ ظَهَرَ فِي حَقِّهِ بِإِقْرَارِهِ ، ثُمَّ لَا يَبْطُلُ بِجُحُودِهِ رُجُوعُهُ فَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ بَاطِلٌ ، فَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ تَصْدِيقُ الْمُقَرِّ لَهُ اسْتَنَدَ التَّصْدِيقُ إلَى وَقْتِ الْإِقْرَارِ ، وَكَانَ كَالْمَوْجُودِ يَوْمئِذٍ فَيَثْبُتُ النِّكَاحُ وَلَهَا الْمِيرَاثُ وَالْمَهْرُ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ فَضْلٌ عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا فَيَبْطُلُ الْفَضْلُ إذَا كَانَ فِي الْمَرَضِ ؛ لِأَنَّهَا وَارِثَةٌ ، وَهُوَ مُتَّهَمٌ فِي الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ وَمَا زَادَ عَلَى مَهْرِ الْمِثْلِ لَوْ ثَبَتَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ ، فَأَمَّا مِقْدَارُ مَهْرِ الْمِثْلِ فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ لِصِحَّةِ النِّكَاحِ فَلَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي إقْرَارِهِ بِهِ .
وَلَوْ أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ فِي صِحَّةٍ أَوْ مَرَضٍ أَنَّهَا تَزَوَّجَتْ فُلَانًا بِكَذَا ، ثُمَّ جَحَدَتْهُ ، فَإِنْ صَدَّقَهَا الزَّوْجُ فِي حَيَاتِهَا يَثْبُتُ النِّكَاحُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ جُحُودَهَا بَعْدَ الْإِقْرَارِ بَاطِلٌ ، وَإِنْ صَدَّقَهَا بَعْدَ مَوْتِهَا لَمْ يَثْبُتْ النِّكَاحُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا مِيرَاثَ لِلزَّوْجِ مِنْهَا ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَثْبُتُ النِّكَاحُ اعْتِبَارًا لِجَانِبِهَا بِجَانِبِهِ بِعِلَّةِ أَنَّ النِّكَاحَ يَنْتَهِي بِالْمَوْتِ فَإِنَّهُ يُعْقَدُ لِلْعُمْرِ فَمُضِيُّ الْمُدَّةِ يُنْهِيه وَلِهَذَا يُسْتَحَقُّ الْمَهْرَ وَالْمِيرَاثَ ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الدُّخُولُ وَالْمُنْتَهِي مُتَقَرِّرٌ فِي نَفْسِهِ فَيَصِحُّ التَّصْدِيقُ فِي حَالِ تَقَرُّرِ الْمُقَرَّرِ بِهِ كَمَا يَصِحُّ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَأَشَارَ إلَى الْفَرْقِ فِي الْكِتَابِ ، فَقَالَ : لِأَنَّ الْفِرَاشَ لَهُ عَلَيْهَا لَا لَهَا وَتَقْرِيرُ هَذَا مِنْ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنَّ الْعِدَّةَ تَبْقَى بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَيْهَا وَالْعِدَّةُ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ عَلَيْهَا فَبَقَاؤُهَا كَبَقَاءِ النِّكَاحِ فِي صِحَّةِ التَّصْدِيقِ وَبَعْدَ مَوْتِهَا لَا عِدَّةَ فِي جَانِبِ الزَّوْجِ فَقَدْ فَاتَ الْمُقَرُّ بِهِ لَا إلَى أَثَرٍ فَلَا يَعْمَلُ التَّصْدِيقُ بَعْدَ ذَلِكَ وَالثَّانِي أَنَّ الزَّوْجَ مَالِكٌ لِحُكْمِ النِّكَاحِ وَالْمَرْأَةُ مَحَلُّ الْمِلْكِ وَبَعْدَ فَوَاتِ الْمَحَلِّ لَا يُتَصَوَّرُ بَقَاءُ الْمِلْكِ حُكْمًا فَيَبْقَى الْمِلْكُ بِبَقَاءِ الْمَحَلِّ فَيُعْمَلُ بِتَصْدِيقِهَا وَلِهَذَا حَلَّ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُغَسِّلَهَا بَعْدَ مَوْتِهَا وَالثَّالِثُ أَنَّ الْفِرَاشَ لَمَّا كَانَ لَهُ عَلَيْهَا فَالزَّوْجُ فِي التَّصْدِيقِ بَعْدَ مَوْتِهَا مُدَّعٍ لِنَفْسِهِ لَا أَنْ يَكُونَ مُقِرًّا لَهَا بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا كَانَ فِي مِلْكِ الْحِلِّ ، وَقَدْ انْقَطَعَ بِمَوْتِهَا بِالْكُلِّيَّةِ ، فَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ فَالتَّصْدِيقُ مِنْ الْمَرْأَةِ إقْرَارٌ لَهُ عَلَى نَفْسِهَا
بِالْفِرَاشِ فَيَصِحُّ التَّصْدِيقُ بِهَذَا الطَّرِيقِ ، ثُمَّ يَبْتَنِي عَلَيْهِ حُكْمُ الْمِيرَاثِ وَالْمَهْرِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ تَكُنْ الْمَرْأَةُ جَحَدَتْ بَعْدَ إقْرَارِهَا حَتَّى مَاتَتْ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ كَمَا بَيَّنَّا .
وَإِنْ أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهَا تَزَوَّجَتْ هَذَا الرَّجُلَ وَهِيَ أَمَةٌ ، وَقَدْ كَانَتْ أَمَةً ، ثُمَّ عَتَقَتْ ، وَقَالَ الزَّوْجُ قَدْ تَزَوَّجْتُهَا بَعْدَ الْعِتْقِ أَوْ قَبْلَهُ فَهُوَ سَوَاءٌ وَالنِّكَاحُ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى نُفُوذِ النِّكَاحِ إنْ كَانَ بَعْدَ الْعِتْقِ فَظَاهِرٌ ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْعِتْقِ فَقَدْ كَانَ يُوقَفُ عَلَى سُقُوطِ حَقِّ الْمَوْلَى أَوْ سَقَطَ حَقُّهُ بِالْعِتْقِ ، ثُمَّ الْأَصْلُ بَعْدَ هَذَا فِيمَا ذُكِرَ مِنْ الْمَسَائِلِ أَنَّ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ مَتَى أَضَافَ الْإِقْرَارَ بِالنِّكَاحِ إلَى حَالٍ يُنَافِي أَصْلَ الْعَقْدِ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ إلَّا أَنْ يُثْبِتَ الْآخَرُ مَا يَدَّعِيهِ بِالْبَيِّنَةِ ، وَذَلِكَ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ تَزَوَّجْتُكِ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ أَوْ قَبْلَ أَنْ أُولَدَ أَوْ قَالَ : تَزَوَّجْتُكِ وَأَنَا صَبِيٌّ فَإِنَّ الصِّبَا يَمْنَعُ الْأَهْلِيَّةَ لِلْعَقْدِ بِدُونِ إذْنِ الْوَلِيِّ أَوْ يَقُولُ تَزَوَّجْتُكِ وَأَنَا نَائِمٌ فَإِنَّ النَّوْمَ حَالٌ مَعْهُودَةٌ فِي الْإِنْسَانِ تُنَافِي أَصْلَ الْعَقْدِ ، وَإِنْ قَالَ : تَزَوَّجْتُكِ وَأَنَا مَجْنُونٌ ، فَإِنْ عُلِمَ جُنُونُهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى حَالٍ مَعْهُودَةٍ تُنَافِي أَهْلِيَّةَ الْعَقْدِ فَكَانَ مُنْكِرًا مَعْنَى وَإِنْ كَانَ لَا يُعْرَفُ جُنُونُهُ فَالنِّكَاحُ لَازِمٌ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَهُ إلَى حَالٍ غَيْرِ مَعْهُودَةٍ فِيهِ وَلَا تَثْبُتُ هَذِهِ الْحَالُ بِخَبَرِهِ فَأَمَّا إذَا أَحَدَهُمَا النِّكَاحَ إلَى حَالٍ لَا تُنَافِي أَصْلَ النِّكَاحِ كَانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ ، وَلَكِنْ يُمْنَعُ ثُبُوتُ الْحِلِّ وَانْعِقَادُ الْعَقْدِ لِانْعِدَامِ شَرْطِهِ لَا يُصَدَّقُ فِي الْإِضَافَةِ وَيُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الشَّيْءِ تَابِعٌ لَهُ فَإِقْرَارُهُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ إقْرَارٌ بِشَرَائِطِهِ فَهُوَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ رَاجِعٌ عَنْ الْإِقْرَارِ بِبَاطِلٍ ، وَبَيَانُهُ أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّ النِّكَاحَ كَانَ بِغَيْرِ شُهُودٍ أَوْ فِي حَالٍ ادَّعَى تَمَجُّسَ الْمَرْأَةِ
قَبْلَ أَنْ تُسْلِمَ أَوْ فِي عِدَّةِ الْغَيْرِ أَوْ تَزَوَّجَهَا وَأُخْتُهَا تَحْتَهُ أَوْ تَزَوَّجَهَا وَتَحْتَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي هَذِهِ الْإِضَافَةِ ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ ثُبُوتِ النِّكَاحِ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ لِمَعْنًى فِي الْمَحِلِّ وَالْمَحِلُّ فِي حُكْمِ الْمَشْرُوطِ وَإِقْرَارُهُ بِالْعَقْدِ إقْرَارٌ بِشَرْطِهِ إلَّا أَنَّ الْمَرْأَةَ إنْ كَانَتْ هِيَ الَّتِي ادَّعَتْ هَذِهِ الْمَوَانِعَ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ لَازِمٌ لَهَا ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الَّذِي ادَّعَى ذَلِكَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ تَطْلِيقِهِ إيَّاهَا ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهَا نِصْفُ الْمُسَمَّى ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهَا جَمِيعُ الْمُسَمَّى وَنَفَقَةُ الْعِدَّةِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ، وَقَالَتْ هِيَ مَا طَلَّقْتَنِي أَوْ تَزَوَّجْتُ غَيْرَكَ وَدَخَلَ بِي فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا لِإِقْرَارِهِ بِذَلِكَ وَعَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ لَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَجَمِيعُ الْمَهْرِ وَنَفَقَةُ الْعِلَّةِ الدُّخُولُ لِمَا بَيَّنَّا .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا أَمْسِ ، وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ مَوْصُولًا ، وَقَالَتْ هِيَ مَا اسْتَثْنَى لَمْ يَلْزَمْهُ النِّكَاحُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّتْ هِيَ بِالنِّكَاحِ وَادَّعَتْ الِاسْتِثْنَاءَ وَادَّعَى هُوَ النِّكَاحَ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إذَا اتَّصَلَ بِالْكَلَامِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ مَانِعٌ كَوْنَ الْكَلَامِ إيجَابًا فَكَانَ هُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ مُنْكِرًا لِأَصْلِ الْعَقْدِ لَا مُقِرًّا بِهِ فَيُجْعَلُ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلَهُ وَاَلَّذِي بَيَّنَّا فِي النِّكَاحِ مِثْلُهُ فِي الطَّلَاقِ فِي دَعْوَى الِاسْتِثْنَاءِ ، وَفِي الْإِضَافَةِ إلَى حَالٍ مُنَافِيَةٍ لِأَصْلِ الطَّلَاقِ كَحَالِ النَّوْمِ وَالصِّبَا وَالْجُنُونِ إذَا كَانَ يُعْرَفُ ذَلِكَ أَنَّهُ إصَابَةٌ لِلْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَّا .
وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَةٍ أَلَمْ أَتَزَوَّجْكِ أَمْسِ أَوْ أَلَيْسَ تَزَوَّجْتُكِ أَمْسِ أَوْ أَمَا تَزَوَّجْتُكِ أَمْسِ ، فَقَالَتْ بَلَى وَجَحَدَ الزَّوْجُ فَهَذَا إقْرَارٌ بِالنِّكَاحِ مِنْهُمَا لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ جَوَابَ الِاسْتِفْهَامِ بِنَفْيٍ يَكُونُ حَرْفَ بَلَى وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخِطَابِ يَصِيرُ مُعَادًا فِي الْجَوَابِ ، وَعَلَى هَذَا الطَّلَاقِ إذَا قَالَ : مَا طَلَّقْتُكِ أَمْسِ أَوْ لَيْسَ قَدْ طَلَّقْتُكِ أَمْسِ فَقَالَتْ نَعَمْ أَوْ بَلَى فَهَذَا إقْرَارٌ بِالطَّلَاقِ .
وَكَذَلِكَ إنْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ ، وَقَالَ الزَّوْجُ بَلَى فَهُوَ إقْرَارٌ لِمَا بَيَّنَّا .
وَلَوْ قَالَ لَهَا قَدْ تَزَوَّجْتُكِ أَمْسِ ، فَقَالَتْ لَا ، ثُمَّ قَالَتْ بَلَى ، وَقَالَ هُوَ لَا لَزِمَهُ النِّكَاحُ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَمْ يَبْطُلْ بِتَكْذِيبِهَا فَإِنَّ النِّكَاحَ عَقْدٌ لَازِمٌ لَا يَبْطُلُ بِجُحُودِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فَصَحَّ تَصْدِيقُهَا بَعْدَ التَّكْذِيبِ وَيَثْبُتُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ إنْ أَنْكَرَ الزَّوْجُ النِّكَاحَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِتَصَادُقِهِمَا فَلَا مُعْتَبَرَ بِإِنْكَارِهِ .
وَإِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ طَلَّقَهَا مُنْذُ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ ، فَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا مُنْذُ شَهْرٍ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى وَقْتٍ قَبْلَ النِّكَاحِ وَلَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ ، وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا مُنْذُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا لِكَوْنِهِ مَالِكًا لِلِانْتِفَاعِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي أُسْنِدَ الطَّلَاقُ إلَيْهِ إلَّا أَنَّهَا إنْ صَدَقَتُهُ فِي الْإِسْنَادِ فَعِدَّتُهَا مِنْ حِينِ وَقَعَ الطَّلَاقُ ، وَإِنْ كَذَّبَتْهُ فِي الْإِسْنَادِ فَعِدَّتُهَا مِنْ وَقْتِ إقْرَارِ الزَّوْجِ بِهِ ؛ لِأَنَّ فِي الْعِدَّةِ حَقَّهَا مِنْ حَيْثُ إنَّهَا تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الْإِسْنَادِ إذَا لَمْ تُصَدِّقْهُ فِي ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهَا .
وَلَوْ قَالَ : فُلَانَةُ طَالِقٌ ، وَذَلِكَ اسْمُ امْرَأَتِهِ أَوْ قَالَ : عَنَيْتُ غَيْرَهَا لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْحُكْمِ ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ إيقَاعٌ شَرْعِيٌّ ، وَلِأَنَّهُ لَهُ الْإِيقَاعُ عَلَى زَوْجَتِهِ دُونَ غَيْرِهَا ، فَإِذَا قَالَ : عَنَيْتُ غَيْرَهَا كَانَ الظَّاهِرُ مُكَذِّبًا لَهُ فِي مَقَالَتِهِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْحُكْمِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : ابْنَةُ فُلَانٍ طَالِقٌ وَاسْمُ أَبِيهَا مَا قَالَ طَلُقَتْ ، وَلَمْ يُصَدَّقْ فِي قَوْلِهِ لَمْ أَعْنِ امْرَأَتِي .
وَكَذَلِكَ لَوْ نَسَبَهَا إلَى أُمِّهَا أَوْ إلَى وَلَدِهَا ، فَإِذَا قَالَ : عَنَيْتُ غَيْرَهَا يَكُونُ الظَّاهِرُ مُكَذِّبًا لَهُ فِي مَقَالَتِهِ .
وَكَذَلِكَ كَلَامُهُ صَالِحٌ لِلْإِيقَاعِ عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا يَدَّعِي بَعْدَ ذَلِكَ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَ كَلَامَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ إيقَاعًا فَلَا يُصَدَّقُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ .
وَلَوْ أَقَرَّ بَعْدَ الدُّخُولِ أَنَّهُ كَانَ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا ، وَقَدْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا فَالطَّلَاقُ وَاقِعٌ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى وَقْتٍ لَا يُنَافِي الْوُقُوعَ فِيهِ فَيُجْعَلُ مُوقِعًا لِلطَّلَاقِ وَلَهَا عَلَيْهِ مَهْرٌ وَنِصْفٌ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ نِصْفَ الْمَهْرِ عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَأَنَّهُ وَطِئَهَا بِالشُّبْهَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَلْزَمُهُ مَهْرٌ بِالْوَطْءِ وَنِصْفُ مَهْرٍ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ إقْرَارِ الْمَحْجُورِ وَالْمَمْلُوكِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَإِذَا حَجَرَ الْقَاضِي عَلَى حُرٍّ ، ثُمَّ أَقَرَّ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِدَيْنٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ نَسَبٍ أَوْ قَذْفٍ أَوْ زِنًا فَهَذَا كُلُّهُ جَائِزٌ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَى الْحُرِّ بِسَبَبِ السَّفَهِ بَاطِلٌ عِنْدَهُمَا فَإِقْرَارُهُ بَعْدَ الْحَجْرِ كَإِقْرَارِهِ قَبْلَهُ قَالَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ إنْ كَانَ عَدْلًا وَمَعْنَى هَذَا مَعْنَى الِاسْتِشْهَادِ وَأَنَّ الْإِقْرَارَ مُلْزِمًا كَالشَّهَادَةِ ، فَإِذَا كَانَ بِسَبَبِ السَّفَهِ لَا يُؤَثِّرُ فِي إفْسَادِ عِبَارَتِهِ وَلَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُلْزَمًا بِطَرِيقِ الشَّهَادَةِ فَكَذَلِكَ بِطَرِيقِ الْإِقْرَارِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْآخَرِ ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْحَجْرُ عَلَيْهِ صَحِيحٌ وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِدَيْنٍ وَلَا بَيْعٍ كَمَا لَا يَجُوزُ مُبَاشَرَتُهُ هَذِهِ الْأَسْبَابَ عِنْدَهُمَا .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ تَأْثِيرَ الْحَجْرِ عِنْدَهُمَا كَتَأْثِيرِ الْهَزْلِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ السَّفِيهِ لَا يَكُونُ عَلَى نَهْجِ أَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ لِمُكَابَرَتِهِ عَقْلَهُ كَمَا أَنَّ فِعْلَ الْهَازِلِ لَا يَكُونُ عَلَى نَهْجِ أَفْعَالِ الْعُقَلَاءِ لِقَصْدِهِ غَيْرَهُ فَكُلُّ مَا أَثَّرَ فِيهِ الْهَزْلُ أَثَّرَ فِيهِ الْحَجْرُ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِهِ وَمَا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْحَجْرُ ، وَلَكِنَّ هَذَا يَبْطُلُ بِالشَّهَادَةِ حَتَّى إذَا عَلِمَ الْقَاضِي أَنَّ الشَّاهِدَ قَدْ قَصَدَ الْهَزْلَ بِشَهَادَتِهِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ، ثُمَّ الْحَجْرُ لَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِيهِ وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الْحَجْرِ .
وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ لِصَبِيٍّ صَغِيرِ لَقِيطٍ بِدَيْنِ مِائَةِ دِرْهَمٍ فَهُوَ لَازِمٌ لَهُ ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ أَهْلٌ أَنْ يَجِبَ لَهُ الْحَقُّ عَلَى غَيْرِهِ وَتَصْحِيحُ الْإِقْرَارِ مَحْضُ مَنْفَعَةٍ لَهُ وَالصِّبَا لَا يُوجِبُ الْحَجْرَ عَنْ ذَلِكَ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : أَقْرَضَنِي الصَّبِيُّ وَالصَّبِيُّ بِحَالٍ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يُقْرِضُ فَالْمَالُ لَازِمٌ لَهُ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ بَاشَرَ هَذَا السَّبَبَ وَإِضَافَةُ الْمُقَرِّ بِهِ إلَى الصَّبِيِّ بِطَرِيقٍ بَاشَرَهُ إنَّمَا بَاشَرَهُ لَهُ ، وَلِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ هَذَا السَّبَبَ لَا يَثْبُتُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الصَّبِيِّ ، وَلَكِنَّ امْتِنَاعَ ثُبُوتِ السَّبَبِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمَالِ بِإِقْرَارِهِ كَمَا لَوْ كَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي السَّبَبِ بِإِنْ قَالَ : لَكَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ قَرْضٍ أَقْرَضْتَنِيهِ ، وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ مَا أَقْرَضْتُكَ بَلْ غَصَبْتَهَا مِنِّي فَالْمَالُ لَازِمٌ ، وَإِنْ لَمْ يُثْبِتْ السَّبَبُ تَكْذِيبَهُ إيَّاهُ .
عَلَى هَذَا لَوْ قَالَ : أَوْدَعَنِي هَذَا الصَّبِيُّ أَوْ هَذَا الْعَبْدُ مِائَةَ دِرْهَمٍ أَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ لِمَجْنُونٍ فَإِقْرَارُهُ بِأَصْلِ الْمَالِ صَحِيحٌ وَالسَّبَبُ بَاطِلٌ لِمَا قُلْنَا .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَفِيلٌ لِهَذَا الصَّبِيِّ عَنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَالصَّبِيُّ لَا يَعْقِلُ وَلَا يَتَكَلَّمُ فَهَذَا بَاطِلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ كُفِّلَ لِغَائِبٍ بِمَالٍ وَلَا يَقْبَلُ عَنْ الْغَائِبِ أَحَدٌ فَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَهُمَا صَحِيحٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَكَذَلِكَ إذَا كُفِّلَ لِصَبِيٍّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْعَقْدُ بَاطِلٌ وَإِقْرَارُهُ بِالْعَقْدِ الْبَاطِلِ لَا يُلْزِمُهُ شَيْئًا ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْعَقْدُ صَحِيحٌ وَالْمَالُ لَازِمٌ لَهُ لِإِقْرَارِهِ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ لِلصَّبِيِّ قَالَ : كَأَنْ كَانَ أَبُو الصَّبِيِّ أَوْ وَصِيُّهُ خَاطَبَهُ بِهَذِهِ الْكَفَالَةِ فَالْكَفَالَةُ بَاطِلَةٌ عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ بَلْ هُوَ مَوْقُوفٌ ، فَإِذَا أَدْرَكَ الصَّبِيُّ وَرَضِيَ بِهَا جَازَتْ ، وَإِنْ رَجَعَ الرَّجُلُ قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَ الصَّبِيُّ بَطَلَتْ فِي قَوْلِهِمَا ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْكَفَالَةِ لَا يُثْبِتُ الْوِلَايَةَ لِلْأَبِ وَالْوَصِيِّ ، وَالْكَفَالَةُ وَإِنْ كَانَتْ لَا تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ ، وَهُوَ تَمْلِيكٌ لِلدَّيْنِ مِنْ الْكَفِيلِ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى إذَا أَدَّى رَجَعَ عَلَى الْأَصِيلِ بِحُكْمِ الْأَدَاءِ وَبَيْنَ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ اخْتِلَافًا فِي بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ فَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ الْكَفَالَةُ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ كَالْحَوَالَةِ وَلَوْ - اجْتَهَدَ قَاضٍ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ وَقَضَى بِهِ نَفَذَ ، وَفِيهِ إضْرَارُ الصَّبِيِّ فَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ ذَلِكَ بَلْ هُمَا فِيهِ كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ إذَا بَلَغَهُ وَصَحَّ رُجُوعُ الْكَفِيلِ قَبْلَ إجَازَتِهِ فَكَذَلِكَ هُنَا تَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الصَّبِيِّ إذَا أَدْرَكَ وَصَحَّ رُجُوعُ الْكَفِيلِ قَبْلَ إدْرَاكِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَلْزَمْ بَعْدُ .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ رَهَنَ هَذَا اللَّقِيطَ لِفُلَانٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَاللَّقِيطُ لَا يَتَكَلَّمُ جَازَ عَلَى الْكَفِيلِ وَلَا يَلْزَمُ الصَّبِيَّ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمُقِرِّ عَلَى نَفْسِهِ صَحِيحٌ ، وَعَلَى اللَّقِيطِ بَاطِلٌ ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ امْتِنَاعِ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَى الْأَصِيلِ امْتِنَاعُ وُجُوبِهِ عَلَى الْكَفِيلِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالْكَفَالَةِ عَنْ بَالِغٍ وَجَحَدَ الْبَالِغُ وُجُوبَ الْمَالِ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْكَفِيلَ ضَامِنٌ لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْأَصِيلِ شَيْءٌ ، وَهَذَا لِأَنَّ الصَّبِيَّ أَهْلٌ أَنْ يَجِبَ الْمَالُ عَلَيْهِ بِحَالٍ ؛ لِأَنَّ لَهُ ذِمَّةٌ صَحِيحَةٌ فَيُجْعَلُ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ كَانَ مَا أَقَرَّ بِهِ حَقٌّ ، وَإِنْ امْتَنَعَ ثُبُوتُهُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ كَمَنْ قَالَ لِآخَرَ : كَفَلْتُ لَكَ عَنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ الَّتِي أَقْرَضْتُهُ أَمْسِ وَيَعْلَمُ أَنَّ الْغَائِبَ لَمْ يَقْدَمْ مُنْذُ سَنَةٍ فَالْمَالُ وَاجِبٌ عَلَى الْكَفِيلِ لِلْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَّا .
وَلَوْ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ لِرَجُلٍ حَاضِرٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، فَقَالَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ قَدْ رَضِيتُ بِكَفَالَتِكَ ، ثُمَّ قَالَ الطَّالِبُ قَدْ رَضِيتُ بِضَمَانِكَ لِي فَالضَّمَانُ جَائِزٌ وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ إذَا ادَّعَى الْمَكْفُولُ ؛ لِأَنَّ رِضَا الْمَكْفُولِ عَنْهُ بِالْكَفَالَةِ حَصَلَ قَبْلَ تَمَامِ الْعَقْدِ فَإِنَّ تَمَامَهُ بِقَبُولِ الطَّالِبِ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ أَمْرِهِ إيَّاهُ بِأَنْ يَكْفُلَ عَنْهُ ، فَإِذَا أَدَّى يَرْجِعُ عَلَيْهِ فَلَوْ قَالَ الْمَكْفُولُ لَهُ أَوَّلًا : قَدْ رَضِيتُ ، ثُمَّ قَالَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ : قَدْ رَضِيتُ كَانَ رِضَاهُ بَاطِلًا ، وَلَمْ يَرْجِعْ الْكَفِيلُ بِالْمَالِ إذَا أَدَّاهُ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تَمَّتْ بِقَبُولِ الطَّالِبِ وَلَزِمَ الْمَالُ الْكَفِيلَ إذَا أَدَّاهُ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تَمَّتْ بِقَبُولِ الطَّالِبِ وَلَزِمَ الْمَالُ الْكَفِيلَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَرْجِعُ إذَا أَدَّى فَلَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ بِرِضَا الْمَكْفُولِ عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ رِضَاهُ وَإِجَازَتَهُ إنَّمَا تُؤَثِّرُ فِي الْمَوْقُوفِ لَا فِي النَّافِذِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْآخَرِ الْكَفَالَةُ تَتِمُّ بِالْكَفِيلِ قَبْلَ قَبُولِ الطَّالِبِ فَيَسْتَوِي الْجَوَابُ فِي الْفَصْلَيْنِ وَلَا يُعْتَبَرُ رِضَا الْمَكْفُولِ عَنْهُ فِي إثْبَاتِ الرُّجُوعِ لِلْكَفِيلِ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا وَقَوْلُ الْمَكْفُولِ عَنْهُ قَدْ ثَبَتَتْ كَفَالَتُكَ أَوْ سَلَّمْتُهَا أَوْ أَجَزْتُهَا مِثْلَ قَوْلِهِ قَدْ رَضِيتُ بِهَا ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى يَجْمَعُ الْفُصُولَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنَّ الْكَفِيلَ بَعْدَ مَا رَضِيَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ رَجَعَ عَنْ الْكَفَالَةِ قَبْلَ رِضَا الْمَكْفُولِ لَهُ بِهَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْمَالُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ نُفُوذَ الْعَقْدِ بِرِضَا الْمَكْفُولِ لَهُ فَرُجُوعُ الْكَفِيلِ قَبْلَ نُفُوذِ الْعَقْدِ صَحِيحٌ .
وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ التَّاجِرِ لِلْأَجْنَبِيِّ بِدَيْنٍ أَوْ وَدِيعَةٍ أَوْ إجَارَةِ جَائِزٌ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِقِيمَتِهِ وَمَا فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ أَسْبَابِ التِّجَارَةِ وَمِنْ جُمْلَةِ صُنْعِ التِّجَارَةِ وَالْإِذْنُ فَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِيمَا هُوَ مِنْ عَمَلِ التِّجَارَةِ وَلَا يُخِلُّ هَذَا الْفَكُّ بِوُجُوبِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ فَإِقْرَارُهُ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ بَعْدَ وُجُوبِ الدَّيْنِ كَإِقْرَارِهِ قَبْلَهُ .
وَإِنْ أَقَرَّ لِمَوْلَاهُ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ أَوْ وَدِيعَةٍ فِي يَدِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَخْلُفُهُ فِي كَسْبِهِ خِلَافَةَ الْوَارِثِ الْمُوَرِّثَ فَكَمَا أَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِمَالِ الْمَرِيضِ يَمْنَعُهُ مِنْ الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ فَكَذَلِكَ تَعَلُّقُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِكَسْبِ الْعَبْدِ وَرَقَبَتِهِ يَمْنَعُهُ مِنْ الْإِقْرَارِ لِمَوْلَاهُ إلَّا أَنَّ تَعَلُّقَ حَقِّ الْغُرَمَاءِ هُنَاكَ فِي حَقِّ الْمَرَضِ وَهُنَا التَّعَلُّقُ ثَابِتٌ فِي صِحَّةِ الْعَبْدِ وَمَرَضِهِ .
وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُ الْعَبْدِ التَّاجِرِ لِلْأَجْنَبِيِّ بِجِنَايَةٍ لَيْسَ فِيهَا قِصَاصٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ التِّجَارَةِ وَالْإِذْنُ فَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي التِّجَارَاتِ فَفِيمَا لَيْسَ بِتِجَارَةٍ الْمَأْذُونُ وَالْمَحْجُورُ سَوَاءٌ وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ عَلَى مَوْلَاهُ بَاطِلٌ ، وَإِذَا أَقَرَّ بِقَتْلٍ عَمْدًا جَازَ إقْرَارُهُ وَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَإِنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالْقِصَاصِ دَمُهُ ، وَهُوَ فِي حُكْمِ الدَّمِ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ ، وَلِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ ، وَفِيمَا لَا يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ الْعَبْدُ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ كَطَلَاقِ زَوْجَتِهِ يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِهِ كَمَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِإِيقَاعِهِ .
وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِسَبَبٍ مُوجِبٍ لِلْحَدِّ كَالْقَذْفِ وَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ .
وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِسَرِقَةٍ مُسْتَهْلَكَةٍ مُوجِبَةٍ لِلْقَطْعِ ، وَفِي إقْرَارِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِسَرِقَةِ مَالٍ قَائِمٍ بِعَيْنِهِ فِي يَدِهِ خِلَافٌ مَعْرُوفٌ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ ، فَأَمَّا إقْرَارُ الْمَأْذُونِ بِهِ فَصَحِيحٌ فِي حَقِّ الْمَالِ وَالْقَطْعِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَّا بِالْمَالِ فَلِانْفِكَاكِ الْحَجْرِ ، وَأَمَّا بِالْقَطْعِ فَإِنَّهُ مُبْقَى فِيهِ عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ .
وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ فِي رَقَبَتِهِ بِمَهْرِ امْرَأَةٍ وَلَا بِكَفَالَةٍ بِنَفْسٍ وَلَا بِمَالٍ وَلَا بِعِتْقِ عَبْدٍ لَهُ وَلَا بِمُكَاتَبَتِهِ وَلَا بِتَدْبِيرِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ فَالْمَأْذُونُ فِيهِ كَالْمَحْجُورِ .
وَإِذَا أَقَرَّ بِنِكَاحِ امْرَأَةٍ جَازَ إقْرَارُهُ غَيْرَ أَنَّ الْمَوْلَى لَهُ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَنْشَأَ الْعَقْدَ فَلِلْمَوْلَى أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ تَصَرُّفٌ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ فِي شَيْءٍ بِخِلَافِ إقْرَارِهِ بِالطَّلَاقِ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ وَيَنْفَرِدُ بِهِ الْعَبْدُ إنْشَاءً وَإِقْرَارًا .
وَلَوْ أَقَرَّ الْعَبْدُ التَّاجِرُ أَنَّهُ افْتَضَّ امْرَأَةً بِأُصْبُعِهِ أَمَةً كَانَتْ أَوْ حُرَّةً لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ فِي قَوْلِ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالِافْتِضَاضِ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِالْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ هَذَا بِالْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ يُبَاعُ فِيهِ وَلَا يَدْفَعُ بِمَنْزِلَةِ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ بِخِلَافِ الْجِنَايَةِ ، وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بِالْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ صَحِيحٌ يُؤَاخَذُ بِضَمَانِهِ فِي الْحَالِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْغَاصِبَ بِالِافْتِضَاضِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا فَإِنَّهُ يَسْلُكُ بِهِ مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ حَتَّى يَمْلِكَ بِالْعَقْدِ مَقْصُودًا وَيَسْتَحِقَّ بِالْبَيْعِ شَرْطًا وَإِقْرَارُهُ بِضَمَانِ الْمَالِ صَحِيحٌ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هَذَا الْإِقْرَارَ بِالْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ بِالْأُصْبُعِ جِنَايَةٌ مَحْضَةٌ وَالْمُتْلَفُ بِهِ جُزْءٌ مِنْ الْآدَمِيِّ وَالْمَأْذُونُ فِي الْإِقْرَارِ بِالْجِنَايَةِ كَالْمَحْجُورِ فَكَمَا أَنَّ الْمَحْجُورَ لَوْ أَقَرَّ بِهَذَا لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى مَوْلَاهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِهِ ، فَأَمَّا قَوْلُهُ أَنَّهُ يُبَاعُ فِيهِ فَقَدْ قِيلَ أَنَّهُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ خَاصَّةً وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ يَقُولُ مِنْ حَيْثُ إنَّ هَذَا الْجُزْءَ يُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْآدَمِيِّ هُوَ مُلْحَقٌ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ وَمَا تَرَدَّدَ بَيْنَ أَصْلَيْنِ يُوَفِّرُ عَلَيْهِ حَظُّهُ مِنْهُمَا فَلِشُبْهَةِ الْمَالِ قُلْنَا إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ سَبَبُهُ يُبَاعُ الْعَبْدُ فِيهِ وَلِشَبَهِهِ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ لَا يَثْبُتُ عَلَى الْعَبْدِ بِإِقْرَارِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الدَّفْعَ إنَّمَا يَصِيرُ مُسْتَحَقًّا بِفِعْلٍ هُوَ خَطَأٌ إذَا كَانَ اسْتِحْقَاقُ الْقِصَاصِ بِعَمْدِهِ وَلَا يُسْتَحَقُّ الْقِصَاصُ بِعَمْدِ هَذَا الْفِعْلِ بِحَالٍ فَكَذَلِكَ لَا
يُسْتَحَقُّ دَفْعُ الْعَبْدِ بِهِ ، وَإِذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ تَعَيَّنَ جِهَةُ الْبَيْعِ فِيهِ ، وَلَكِنْ إذَا ثَبَتَ السَّبَبُ ثَبَتَ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْمَوْلَى .
وَلَوْ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِتَزْوِيجِ أَمَتِهِ وَأَنَّهُ قَدْ أُقْبَضَهَا لَمْ يَلْزَمْ مَهْرٌ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ حَتَّى يَعْتِقَ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَيْسَ الْمَأْذُونُ وَالْمَحْجُورُ فِيهِ فِي الْإِقْرَارِ سَوَاءٌ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْحُرَّةِ كَذَلِكَ الْجَوَابُ أَطْلَقَهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : إذَا كَانَتْ كَبِيرَةً ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَهْرِ بِالْعَقْدِ لَهَا وَهَذَا الْعَقْدُ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ فَهِيَ قَدْ رَضِيَتْ بِتَأْخِيرِهِ حِينَ طَاوَعَتْ الْعَبْدَ فِيهِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ أَمَةً ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى زَوَّجَهَا لَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ حَتَّى يَعْتِقَ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى صَارَ رَاضِيًا بِتَأْخِيرِ حَقِّهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَوْلَى زَوَّجَهَا فَهُوَ مُؤَاخَذٌ بِالْمَهْرِ فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِالِافْتِضَاضِ مِنْ الْأَمَةِ فِي حُكْمِ الْمَالِ حَتَّى يَسْتَحِقَّ بِالْبَيْعِ شَرْطًا ، وَهُوَ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بِإِتْلَافِ مَالِ مَمْلُوكٍ لِلْمَوْلَى صَحِيحٌ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ فَيَلْزَمُهُ الْمَهْرُ هُنَا بِاعْتِبَارِ الْإِتْلَافِ دُونَ الْعَقْدِ وَإِنْ كَانَتْ الْأَمَةُ ثَيِّبًا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ حَتَّى يَعْتِقَ ؛ لِأَنَّ بِالْوَطْءِ هُنَا لَمْ يُتْلِفْ شَيْئًا مِمَّا هُوَ مَالٌ وَإِنَّمَا وُجُوبُ الْمَهْرِ بِاعْتِبَارِ عَقْدِ النِّكَاحِ وَإِقْرَارُ الْمَأْذُونِ بِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ فِي حَقِّ مَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ فِي شَيْءٍ ، ثُمَّ ذُكِرَ فِي نُسَخِ أَبِي سُلَيْمَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْدَ هَذَا ، وَإِنْ كَانَ ذَهَبَ الْعَبْدُ بِهَا إلَى مَنْزِلِهِ وَهِيَ بِكْرٌ يَعْلَمُ ذَلِكَ فَمَوْلَاهَا بِالْخِيَارِ إنْ أَرَادَ أَنْ يُضَمِّنَهُ الْعُذْرَةَ بِالْغَصْبِ فَلَهُ ذَلِكَ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُضَمِّنَهُ بِالْوَطْءِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ حَتَّى يَعْتِقَ لَمْ يُذْكَرْ هَذَا الْفَصْلُ فِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ لِأَبِي يُوسُفَ
رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَقَالَ مَشَايِخُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ : الصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا التَّفْرِيعَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ حِينَ ذَهَبَ بِهَا إلَى مَنْزِلِ مَوْلَاهُ فَقَدْ صَارَ غَاصِبًا لَهَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا وَضَمَانُ الْغَصْبِ يُؤَاخَذُ بِهِ الْمَأْذُونُ فِي الْحَالِ ، فَإِذَا اخْتَارَ الْمَوْلَى تَضْمِينَهُ مَا ذَهَبَ مِنْ الْعُذْرَةِ عِنْدَهُ لَا بِوَطْئِهِ بَلْ بِالْغَصْبِ السَّابِقِ كَمَا لَوْ عَايَنَّاهُ أَنَّهُ غَصَبَ أَمَةً عَذْرَاءَ وَرَدَّهَا بَعْدَ زَوَالِ عُذْرَتِهَا ، وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَهُ بِالْوَطْءِ فَفِي الْوَطْءِ وُجُوبُ الْمَهْرِ بِاعْتِبَارِ الْعَقْدِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ الْمَأْذُونُ فِي الْحَالِ حَتَّى يَعْتِقَ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَعَ الْوَطْءِ هُنَا إتْلَافُ الْعُذْرَةِ فَيَضْمَنُ بِاعْتِبَارِ الْحَالِ لِحَقِّ مَوْلَاهُ وَيَصِحُّ إقْرَارُهُ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ بِإِتْلَافِ الْمَالِ .
وَلَوْ أَقَرَّ الْعَبْدُ التَّاجِرُ أَنَّهُ وَطِئَ أَمَةً اشْتَرَاهَا فَافْتَضَّهَا ، ثُمَّ اسْتَحَقَّتْ فَعَلَيْهِ مَهْرُهَا لِلْحَالِ ؛ لِأَنَّ الِافْتِضَاضَ هُنَا بِالْوَطْءِ تَرَتَّبَ عَلَى سَبَبٍ هُوَ تَجَاوُزُهُ ، وَهُوَ الْبَيْعُ الَّذِي لَوْلَاهُ لَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ الْحَدَّ فَكَانَ الضَّمَانُ الْوَاجِبُ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ مِنْ جِنْسِ ضَمَانِ التِّجَارَةِ فَصَحَّ إقْرَارُ الْعَبْدِ بِهِ فِي الْحَالِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَالسَّبَبُ هُنَا عَقْدُ النِّكَاحِ وَالنِّكَاحُ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ فِي شَيْءٍ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْعَبْدِ بِهِ فِي الْحَالِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ السَّبَبَ مُعْتَبَرٌ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَ بَيْعًا فَاسِدًا وَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي ضَمِنَ الْقِيمَةَ كَمَا يَضْمَنُهَا بِالْغَصْبِ ، وَلَكِنَّ الْوَكِيلَ هُوَ الَّذِي يَسْتَوْفِيهِ دُونَ الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ هَذِهِ الْقِيمَةِ بِسَبَبِ عَقْدِ الْوَكِيلِ فَيُجْعَلُ مُعْتَبَرًا بِضَمَانِ الْعَقْدِ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ ضَمَانُ الْعَيْنِ ، قَالَ فِي الْكِتَابِ : أَرَأَيْتَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّ عَيْنَهَا ذَهَبَتْ مِنْ عَمَلِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِ عَمَلِهِ لَمْ يَضْمَنْ وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ عُذْرَتَهَا ذَهَبَتْ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ ضَمِنَ كَمَا يَضْمَنُ الْعَيْنَ الْمُسْتَحِقُّ وَهَذَا يُبَيِّنُ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ النِّكَاحِ فَإِنَّ سَبَبَ النِّكَاحِ لَا يَضْمَنُ الْعَيْنَ إذَا ذَهَبَتْ مِنْ غَيْرِ عَمَلِهِ .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ وَطِئَ صَبِيَّةً بِشُبْهَةٍ فَأَذْهَبَ عُذْرَتَهَا فَأَفْضَاهَا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هَكَذَا قَالَ فِي نُسَخِ أَبِي سُلَيْمَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَفِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَالْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ حَتَّى يَعْتِقَ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِوُجُوبِ الْمَهْرِ بِالْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ بِوُجُوبِ الْمَهْرِ بِسَبَبِ النِّكَاحِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هُنَاكَ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ لَا يَلْزَمُهُ بِإِقْرَارِهِ شَيْءٌ حَتَّى يَعْتِقَ فَهَذَا مِثْلُهُ وَتَبَيَّنَ بِمَا ذُكِرَ هُنَا فِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ فِعْلَهُ الْكَبِيرَةَ هُنَاكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَأَمَّا ضَمَانُ الْإِفْضَاءِ فَهُوَ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ بِالْجِنَايَةِ لَا يَصِحُّ مَأْذُونًا كَانَ أَوْ مَحْجُورًا ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى مَوْلَاهُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ وَطِئَ أَمَةً بِشُبْهَةٍ فَأَذْهَبَ عُذْرَتَهَا وَأَفْضَاهَا بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ بِالْوَطْءِ بِالنِّكَاحِ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ كَانَ الْبَوْلُ لَا يَسْتَمْسِكُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لَا فِي الْحَالِ وَلَا بَعْدَ الْعِتْقِ ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْإِفْضَاءَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يُوجِبُ كَمَالَ الدِّيَةِ فِي الْحُرَّةِ دُونَ الْمَهْرِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ فَيَكُونُ هَذَا إقْرَارًا بِالْجِنَايَةِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ مِنْ الْعَبْدِ ، وَإِنْ كَانَ الْبَوْلُ يَسْتَمْسِكُ قَالَ فِي نُسَخِ أَبِي سُلَيْمَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُصَدَّقُ فِي الْمَهْرِ وَيَكُونُ دَيْنًا عَلَيْهِ الْيَوْم وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْإِفْضَاءِ ؛ لِأَنَّ الْإِفْضَاءَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فِي الْحُرَّةِ يُوجِبُ ثُلُثَ الدِّيَةِ وَالْمَهْرَ فَإِقْرَارُ
الْعَبْدِ صَحِيحٌ فِي حَقِّ الْمَهْرِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ النِّكَاحِ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ أَذْهَبَ عُذْرَتَهَا بِغَيْرِ تَزْوِيجِ الْمَوْلَى وَفِي الْإِفْضَاءِ لَا يُصَدَّقُ ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانُ جِنَايَةٍ ، وَفِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : وَإِنْ كَانَ الْبَوْلُ يَسْتَمْسِكُ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْمَهْرِ فَلَا يَكُونُ دَيْنًا عَلَيْهِ وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْجِنَايَةَ قَدْ تَحَقَّقَتْ هُنَا بِالْإِفْضَاءِ فَلَمْ يَبْقَ إذْهَابُ الْعُذْرَةِ بِالْوَطْءِ مُعْتَبَرًا وَإِنَّمَا كَانَ وُجُوبُ الْمَهْرِ بِاعْتِبَارِ الْوَطْءِ خَاصَّةً فَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى إذَا كَانَتْ ثَيِّبًا وَإِقْرَارُهُ بِالْجِنَايَةِ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا صَحِيحًا أَصْلًا بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَمَا ذُكِرَ فِي نُسَخِ أَبِي سُلَيْمَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَشْبَهَ بِالصَّوَابِ .
وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بِالشَّرِكَةِ فِي شَيْءٍ خَاصٍّ أَوْ فِي تِجَارَةٍ كَثِيرَةٍ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ مِنْ عُقُودِ التِّجَارَةِ ، وَهُوَ مِنْ صُنْعِ التِّجَارَةِ فَإِقْرَارُ الْعَبْدِ بِهِ صَحِيحٌ ، وَإِنْ أَقَرَّ بِشَرِكَةٍ مُفَاوَضَةً جَازَ عَلَيْهِ فِيمَا فِي يَدِهِ كُلِّهِ ، وَلَمْ يَكُنْ مُفَاوِضًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الرَّقِيقَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمُفَاوَضَةِ فَبَطَلَ إقْرَارُهُ بِهَا وَيَبْقَى مُعْتَبَرًا فِي اسْتِحْقَاقِ الْمُقَرِّ لَهُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلْإِقْرَارِ بِجَمِيعِ مَا فِي يَدِهِ لِغَيْرِهِ فَكَذَلِكَ بِنِصْفِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ امْتِنَاعِ ثُبُوتِ الْمُفَاوَضَةِ امْتِنَاعُ ثُبُوتِ الشَّرِكَةِ فِي الْمَالِ .
وَلَوْ كَانَ مَوْلَى الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ مُرْتَدًّا أَذِنَ لَهُ فِي حَالِ إسْلَامِهِ أَوْ بَعْدَ ارْتِدَادِهِ ، ثُمَّ أَسْلَمَ الْمَوْلَى أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ فَالْعَبْدُ فِي أَقَارِيرِهِ فِي حَالِ رِدَّةِ مَوْلَاهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا إقْرَارُهُ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ عِنْدَهُمَا لَا تَتَوَقَّفُ .
وَكَذَلِكَ مِلْكُهُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ لَا يَتَوَقَّفُ فَيَبْقَى الْعَبْدُ مَأْذُونًا لَهُ عَلَى حَالِهِ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِلْكُهُ يَتَوَقَّفُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ كَمَا يَتَوَقَّفُ نَفْسُهُ وَلِهَذَا قَالَ : يَتَوَقَّفُ تَصَرُّفُهُ فِي الْمَالِ ، وَإِذْنُهُ لِلْعَبْدِ كَانَ بِمُطْلَقِ مِلْكِهِ ، فَإِذَا تَوَقَّفَ مِلْكُهُ بِالرِّدَّةِ لَمْ يَبْقَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا ، وَإِذَا كَانَ حُكْمُ الْإِذْنِ لَا يَبْقَى بَعْدَ الرِّدَّةِ فَلَأَنْ لَا يَثْبُتُ ابْتِدَاءً فِي الرِّدَّةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَلِهَذَا كَانَ إقْرَارُهُ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ .
وَإِذَا وَلَدَتْ الْأَمَةُ التَّاجِرَةُ وَعَلَيْهَا دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا دَيْنٌ لَمْ يَكُنْ وَلَدُهَا مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ لِأَنَّ وَلَدَهَا مِلْكُ الْمَوْلَى فَلَا يَصِيرُ مَأْذُونًا إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ الْمَوْلَى فِي حَالِ أَهْلِيَّتِهِ لِذَلِكَ وَهَذَا بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ فَإِنَّ وَلَدَ الْمُكَاتَبَةِ كَأُمِّهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لَازِمٌ فِيهَا فَيَسْرِي إلَى وَلَدِهَا وَالْإِذْنُ فِي التِّجَارَةِ لَيْسَ بِحَقٍّ لَازِمٍ فِي الْأُمِّ هُنَا فَلَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكِتَابَةِ الْعِتْقُ وَالْوَلَدُ يَنْفَصِلُ عَنْهَا ، وَهُوَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَلِكَ .
وَإِذَا أَقَرَّ الْأَجِيرُ أَنَّ مَا فِي يَدِهِ مِنْ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ مِنْ تِجَارَةٍ أَوْ مَتَاعٍ أَوْ مَالِ عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ فَهُوَ لِفُلَانٍ ، وَقَالَ : أَنَا أَجِيرُ لَهُ فِيهِ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِمَنَافِعِ نَفْسِهِ وَمَا فِي يَدِهِ وَمَا كَانَ فِي يَدِهِ يَوْمَئِذٍ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ لِفُلَانٍ كُلُّهُ لَا حَقَّ لِلْأَجِيرِ فِيهِ لِإِقْرَارِهِ بِجَمِيعِ ذَلِكَ لَهُ وَالْإِقْرَارُ عَامًّا يَصِحُّ كَمَا يَصِحُّ خَاصًّا غَيْرَ أَنِّي أَسْتَحْسِنُ فِي الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ فَأَجْعَلُهُمَا لِلْأَجِيرِ وَفِي الْقِيَاسِ هُمَا لِلْمُقَرِّ لَهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَهُ مِنْ قَلِيلٍ فِي يَدِهِ وَكَثِيرٍ ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ ، فَقَالَ الْأَجِيرُ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ فَحَاجَتُهُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ اتَّخَذَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى مِنْ عُمُومِ إقْرَارِهِ كَمَا يَصِيرُ الطَّعَامُ وَالْكِسْوَةُ مُسْتَثْنًى مِنْ عُمُومِ شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ مِثْلُ مَا اُسْتُحْسِنَا فِي ثِيَابِ بَدَلِ الْأَجْرِ إذَا كَانَ يَعْمَلُ فِي بَيْتِ الْأُسْتَاذِ عِنْد اخْتِلَافِهِمَا فِيهَا فَيُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْأَجِيرِ فِيهِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَمْتِعَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ مَا كَانَ فِي يَدِهِ يَوْمَ أَقَرَّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَجِيرِ فِيمَا إذَا قَالَ أَصَبْتُهُ بَعْدَ إقْرَارِي لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ مَا فِي يَدِهِ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِي كُلِّ إقْرَارٍ لَا يَقَعُ الِاسْتِغْنَاءُ بِهِ عَنْ بَيَانِ الْمُقِرِّ يُجْعَلُ بَيَانُهُ مَقْبُولًا فِيهِ .
وَلَوْ أَقَرَّ الْأَجِيرُ أَنَّ مَا فِي يَدِهِ مِنْ تِجَارَةِ كَذَا فَهُوَ لِفُلَانٍ كَانَ مَا فِي يَدِهِ مِنْ تِلْكَ التِّجَارَةِ وَقْتَ إقْرَارِهِ لِفُلَانٍ لِتَقْيِيدِهِ الْإِقْرَارَ بِذَلِكَ وَمَا كَانَ فِي يَدَيْهِ مِنْ غَيْرِ تِلْكَ التِّجَارَةِ فَلَيْسَ لِفُلَانٍ مِنْهُ شَيْءٌ وَالْقَوْلُ فِي بَيَانِهِ قَوْلُ الْمُقِرِّ .
وَكَذَلِكَ مَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ تِلْكَ التِّجَارَةِ وَادَّعَى أَنَّهُ أَصَابَهُ بَعْدَ إقْرَارِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَا وَقَعَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ بَيَانِهِ بِإِقْرَارِهِ فَوَجَبَ قَبُولُ بَيَانِهِ فِي ذَلِكَ .
وَإِذَا أَقَرَّ الْأَجِيرُ أَنَّ مَا فِي يَدِهِ مِنْ تِجَارَةٍ أَوْ مَالٍ لِفُلَانٍ ، وَفِي يَدِهِ صُكُوكٌ وَمَالُ عَيْنٍ فَهُوَ كُلُّهُ لِفُلَانٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ التِّجَارَةِ فَإِنَّ مَا فِي الصُّكُوكِ وَجَبَ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ ، وَهُوَ مَالٌ مِنْ وَجْهٍ بِاعْتِبَارِ مَالِهِ فَيَتَنَاوَلُهُ عُمُومُ إقْرَارِهِ .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ مَا فِي يَدِهِ مِنْ طَعَامٍ فَهُوَ لِفُلَانٍ ، وَفِي يَدِهِ حِنْطَةٌ وَشَعِيرٌ وَسِمْسِمٌ وَتَمْرٌ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ لِفُلَانٍ إلَّا الْحِنْطَةُ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ جِنْسِ التِّجَارَةِ ، وَاسْمُ الطَّعَامِ فِيمَا هُوَ تِجَارَةٌ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْحِنْطَةَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا سَبَقَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ مِنْ الْحِنْطَةِ شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ لِلْمُقَرِّ لَهُ لِانْعِدَامِ الْمُقَرِّ بِهِ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي عَيَّنَهُ بِإِقْرَارِهِ ، وَهُوَ يَدُهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الْيَمِينِ وَالْإِقْرَارِ فِي الرِّقِّ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : رَجُلٌ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إنْ حَلَفَ أَوْ عَلَى أَنْ يَحْلِفَ أَوْ مَتَى حَلَفَ أَوْ حِينَ حَلَفَ أَوْ مَعَ يَمِينِهِ أَوْ فِي يَمِينِهِ فَحَلَفَ فُلَانٌ عَلَى ذَلِكَ وَجَحَدَ الْمُقِرُّ بِالْمَالِ لَمْ يُؤْخَذْ بِالْمَالِ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِإِقْرَارٍ ، وَلَكِنَّهُ مُخَاطَرَةٌ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ عَلَّقَ الْإِقْرَارَ بِشَرْطٍ فِيهِ خَطَرٌ ، وَهُوَ يَمِينُ الْخَصْمِ وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ يُخْرِجُ كَلَامَهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ إقْرَارًا كَالِاسْتِثْنَاءِ ، وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْ هَذَا شَرْطًا كَانَ جَاعِلًا الْيَمِينَ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْمَالِ وَيَمِينُ الْمُدَّعِي لَيْسَ بِسَبَبٍ لِاسْتِحْقَاقِ الْمَالِ فَإِنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْيَمِينَ لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِلِاسْتِحْقَاقِ ، وَلَيْسَ لَهُ ، وَلِأَنَّهُ جَعَلَ مَا لَيْسَ بِسَبَبٍ سَبَبًا قَالَ .
وَكَذَلِكَ الْإِبْرَاءُ مِنْ الْمَالِ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ الْمُخَاطَرَاتِ بَاطِلٌ ، فَإِنْ قَالَ الطَّالِبُ : إنْ حَلَفْتَ عَلَيْهَا فَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْهَا فَهَذَا تَعْلِيقُ الشِّرَاءِ بِالْمُخَاطَرَةِ وَالْبَرُّ أَنْ لَا يُحْتَمَلَ التَّعْلِيقُ بِالْأَخْطَارِ فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّ يَمِينَ الْمُنْكِرِ تُوجِبُ بَرَاءَتَهُ شَرْعًا قُلْنَا عَنْ الْيَمِين لَا فَإِنَّهُ لَوْ حَلَفَ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ لَا تَثْبُتُ بِهِ الْبَرَاءَةُ .
وَكَذَلِكَ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ الْيَمِينُ لَا تُوجِبُ الْبَرَاءَةَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ بَيِّنَةَ الْمُدَّعِي بَعْدَهَا مَسْمُوعَةٌ ، وَلَكِنْ إنَّمَا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَهُ بَعْدَ يَمِينِهِ لِانْعِدَامِ الْحُجَّةِ مِنْ إقْرَارٍ أَوْ نُكُولٍ أَوْ بَيِّنَةٍ فَتَتَأَخَّرُ خُصُومَتُهُ إلَى أَنْ يَجِدَ حُجَّةً لَا أَنْ تَكُونَ الْيَمِينُ مُوجِبَةً لِلْبَرَاءَةِ .
وَلَوْ ادَّعَى الطَّالِبُ عَلَيْهِ الْمَالَ فَحَكَّمَا رَجُلًا فَحَلَّفَهُ ، فَإِنْ حَلَفَ انْقَطَعَتْ الْخُصُومَةُ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي حَقِّهَا كَالْقَاضِي وَبِالْيَمِينِ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي تَنْقَطِعُ الْخُصُومَةُ إلَّا أَنْ يَجِدَ الْبَيِّنَةَ ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَحْلِفَ فَقَضَى الْحَكَمُ عَلَيْهِ بِالْمَالِ كَانَ جَائِزًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ عِنْدَ الْقَاضِي وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ يَمِينٍ لَوْ امْتَنَعَ مِنْهَا يَسْتَحِقُّ الْقَضَاءَ بِهَا عَلَيْهِ ، فَإِذَا حَلَفَ تَنْقَطِعُ الْخُصُومَةُ بِهِ ، وَفِي كُلِّ يَمِينٍ لَوْ امْتَنَعَ مِنْهَا لَا يَصِيرُ الْقَضَاءُ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَالْخُصُومَةُ لَا تَنْقَطِعُ بِتِلْكَ الْيَمِينِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ النُّكُولَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ ، وَفِيهِ فُصُولٌ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى .
وَإِذَا أَقَرَّ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ أَوْ صَبِيٌّ يَعْقِلُ أَوْ لَقِيطٌ لَمْ يَجْرِ فِيهِ حُكْمُ الْعِتْقِ بِالرِّقِّ لِرَجُلٍ فَهُوَ جَائِزٌ لِصُنْعِ الْمُقَرِّ لَهُ بِهِ مَا يَصْنَعُ بِمَمْلُوكَةِ أَمَّا الْبَالِغُ إذَا أَقَرَّ بِهِ فَهُوَ غَيْرُ مُشْكِلٍ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ ، وَلَيْسَ هُنَا دَلِيلٌ يُكَذِّبُهُ فِي ذَلِكَ شَرْعًا ، فَأَمَّا الصَّبِيُّ إذَا أَقَرَّ بِهِ فَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ إقْرَارُهُ ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الصَّبِيِّ مُعْتَبَرٌ فِيمَا يَنْفَعُهُ دُونَ مَا يَضُرُّهُ وَالْإِقْرَارُ بِالرِّقِّ لَيْسَ مِمَّا يَنْفَعُهُ ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا صَارَ عَاقِلًا وَجَبَ اعْتِبَارُ قَوْلِهِ فِي نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ حُرٌّ وَمَنْ هُوَ فِي يَدِهِ يَزْعُمُ أَنَّهُ عَبْدٌ جُعِلَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الصَّبِيِّ ، وَإِذَا وَجَبَ اعْتِبَارُ قَوْلِهِ إذَا ادَّعَى حُرِّيَّةَ نَفْسِهِ وَجَبَ اعْتِبَارُ قَوْلِهِ فِي ضِدِّهِ أَيْضًا كَمَا أَنَّهُ أَيْضًا لَمَّا اُعْتُبِرَ قَوْلُهُ وَاعْتِقَادُهُ إذَا أَسْلَمَ اُعْتُبِرَ ذَلِكَ إذَا ارْتَدَّ أَيْضًا ، وَلِأَنَّ هَذَا الْإِقْرَارَ يَنْفَعُهُ عَاجِلًا ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ عَلَى مَوْلَاهُ ، وَلِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالرِّقِّ سُكُوتٌ مِنْهُ عَنْ دَعْوَى الْحُرِّيَّةِ لَا مَحَالَةَ وَانْقِيَادٌ لِلْمُقَرِّ لَهُ حَتَّى يُثْبِتَ عَلَيْهِ يَدَهُ ، وَإِذَا ثَبَتَتْ عَلَيْهِ يَدُهُ ، وَهُوَ يَدَّعِي رِقِّيَّتَهُ وَجَبَ قَبُولُ قَوْلِهِ كَمَا إذَا كَانَ صَبِيًّا لَا يَعْقِلُ ، وَإِنْ كَانَ الْمُقِرُّ حُرَّ الْأَصْلِ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ بِالرِّقِّ ؛ لِأَنَّهُ مُكَذَّبٌ فِيهِ شَرْعًا بِاعْتِبَارِ حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ فَيَكُونُ إقْرَارُهُ هَذَا إبْطَالًا لِحُرِّيَّتِهِ وَإِيجَابًا لِلرِّقِّ عَلَى نَفْسِهِ ، وَذَلِكَ لَيْسَ تَحْتَ وِلَايَةِ أَحَدٍ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مُعْتِقًا لِرَجُلٍ فَأَقَرَّ بِالرِّقِّ لِآخَرَ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ لِأَنَّ وَلَاءَهُ ثَابِتٌ لِلَّذِي أَعْتَقَهُ وَالْوَلَاءُ كَالنَّسَبِ وَمَعْرُوفُ النَّسَبِ مِنْ إنْسَانٍ إذَا أَقَرَّ بِالنَّسَبِ لِغَيْرِهِ لَمْ يَصِحَّ
فَكَذَلِكَ هُنَا قَالَ إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الَّذِي أَعْتَقَهُ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ إقْرَارُهُ لِأَنَّهُ الْمَانِعُ حَقَّهُ فَلَا يَبْقَى بَعْدَ تَصْدِيقِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ النَّسَبِ فَإِنَّ هُنَاكَ صَاحِبُ النَّسَبِ الْمَعْرُوفِ ، وَإِنْ صَدَّقَهُ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْ الْمُقَرِّ لَهُ ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ بَعْدَ الثُّبُوتِ بِحَالٍ بِخِلَافِ الْوَلَاءِ فَإِنَّ الْمُعْتَقَةَ إذَا ارْتَدَّتْ وَلَحِقَتْ فَسُبِيَتْ فَأُعْتِقَتْ كَانَ الْوَلَاءُ عَلَيْهَا لِلثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ فَتَصْدِيقُ الْمُعْتَقِ الْأَوَّلِ هُنَا عَامِلٌ فِي إبْطَالِ حَقِّهِ فَكَانَ مَمْلُوكًا لِلْمُقَرِّ لَهُ .
وَإِذَا كَانَ عَبْدٌ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَرَّ أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِآخَرَ ، وَقَالَ الَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ أَنْتَ عَبْدِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ ذِي الْيَدِ ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ حِينَ أَقَرَّ بِهِ لَمْ يَبْقَ لَهُ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي نَفْسِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الثَّابِتِ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ ذِي الْيَدِ لِاسْتِحْقَاقِهِ رَقَبَتَهُ بِيَدِهِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْعَبْدُ فِي يَدِ أَحَدٍ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ لَا اسْتِحْقَاقَ لِأَحَدٍ فِيهِ فَهُوَ بِإِقْرَارِهِ لِأَحَدِهِمَا يَصِيرُ مُنْقَادًا لَهُ فَتَثْبُتُ الْيَدُ عَلَيْهِ لِلْمُقَرِّ لَهُ وَيَكُونُ فِي الْحُكْمِ كُلِّهِ فِي يَدِهِ فَيُجْعَلُ مَمْلُوكًا لَهُ .
وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِ قَصَّارٍ أَوْ فِي مَكْتَبٍ ، فَقَالَ أَنْتَ عَبْدِي ، وَقَالَ الْعَبْدُ بَلْ أَنَا عَبْدُ فُلَانٍ أَسْلَمَنِي إلَيْكَ وَادَّعَاهُ فُلَانٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَصَّارِ وَصَاحِبُ الْمَكْتَبِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ حِينَ أَقَرَّ بِالرِّقِّ فَقَدْ سَقَطَ اعْتِبَارُ يَدِهِ فِي نَفْسِهِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِي الْمِلْكِ قَوْلَ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ وَبِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَنَا حُرٌّ ؛ لِأَنَّهُ هُنَا لَمْ يُقِرَّ بِالرِّقِّ عَلَى نَفْسِهِ فَبَقِيَتْ يَدُهُ فِي نَفْسِهِ مُعْتَبَرَةً وَهِيَ أَقْرَبُ الْأَيْدِي إلَيْهِ فَلَا تَظْهَرُ مَعَ ذَلِكَ يَدُ ذِي الْيَدِ فِيهِ .
وَإِذَا كَانَتْ أَمَةٌ فِي يَدِ رَجُلٍ ، فَقَالَتْ أَنَا أُمُّ وَلَدٍ لِفُلَانٍ أَوْ مُكَاتَبَتُهُ أَوْ مُدَبَّرَتُهُ وَصَدَّقَهَا فُلَانٌ ، وَقَالَ ذُو الْيَدِ بَلْ أَنْتِ أَمَةٌ لِي فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْقَوْلُ قَوْلُ ذِي الْيَدِ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقَوْلُ قَوْلُ الْأَمَةِ وَالْمُقَرِّ لَهُ ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهَا حَقَّ الْحُرِّيَّةِ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَاهَا حَقِيقَةَ الْحُرِّيَّةِ وَلَوْ قَالَتْ أَنَا حُرَّةٌ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا وَلَا يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُ يَدِ ذِي الْيَدِ عَلَيْهَا إلَّا بِحُجَّةٍ فَكَذَلِكَ هُنَا ( تَوْضِيحُهُ ) أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ فِي يَدِ نَفْسِهَا كَالْحُرَّةِ فَلَا تَظْهَرُ يَدُ ذِي الْيَدِ فِيهَا مَعَ دَعْوَاهَا أَنَّهَا مُكَاتَبَةٌ كَمَا لَا يَظْهَرُ مَعَ دَعْوَاهَا أَنَّهَا حُرَّةٌ وَهَذَا نَوْعُ اسْتِحْسَانٍ ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْقِيَاسُ قَوْلُهَا ؛ لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ بِالرِّقِّ الْمُسْقِطِ لِاعْتِبَارِ يَدِهَا فِي نَفْسِهَا فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهَا إلَّا بِحُجَّةٍ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهَا لَوْ ادَّعَتْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَلَى ذِي الْيَدِ لَمْ تُسْمَعْ إلَّا بِحُجَّةٍ فَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَتْ عَلَى غَيْرِهِ وَتَصْدِيقُ الْمُقَرِّ لَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّ ذِي الْيَدِ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ وَلَوْ قَالَ الْمُقَرُّ لَهُ هِيَ أَمَةٌ لِي غَيْرُ مُدَبَّرَةٍ كَانَ الْقَوْلُ فِيهَا قَوْلَ ذِي الْيَدِ بِالِاتِّفَاقِ فَكَذَلِكَ إذَا صَدَّقَهَا فِي التَّدْبِيرِ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ قَالَتْ كُنْتُ أَمَةً لِفُلَانٍ فَأَعْتَقَنِي وَصَدَّقَهَا فُلَانٌ بِذَلِكَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هِيَ أَمَةٌ لِذِي الْيَدِ ؛ لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ بِالرِّقِّ ، ثُمَّ ادَّعَتْ زَوَالَهُ بِسَبَبٍ حَادِثٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ هِيَ حُرَّةٌ لِأَنَّهَا لَمْ تُقِرَّ بِالرِّقِّ لِذِي الْيَدِ وَزَعَمَتْ أَنَّهَا حُرَّةٌ فِي الْحَالِ فَفِي حَقِّ ذِي الْيَدِ هَذَا وَدَعْوَاهَا حُرِّيَّةَ الْأَصْلِ سَوَاءٌ ، وَلَكِنَّ هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهَا حُرِّيَّةَ الْأَصْلِ تَتِمُّ
بِهَا وَدَعْوَاهَا الْعِتْقَ مِنْ فُلَانٍ لَا يَتِمُّ إلَّا بِتَصْدِيقٍ مِنْ فُلَانٍ وَتَصْدِيقُ فُلَانٍ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى ذِي الْيَدِ .
وَلَوْ كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ غُلَامٌ ، فَقَالَ أَنَا ابْنُ فُلَانٍ وَأُمِّي أُمُّ وَلَدٍ لَهُ ، وَقَالَ ذُو الْيَدِ : أَنْتَ عَبْدِي وَأُمُّكَ أَمَتِي ، وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ هُوَ ابْنِي فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا كَالْأَوَّلِ وَهُمَا جَمِيعًا لِذِي الْيَدِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ مَمْلُوكِهِ فَكَمَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الْأَمَةِ فِي ذَلِكَ عَلَى ذِي الْيَدِ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ جُزْءٌ مِنْهَا وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ قَوْلَ الْأَمَةِ اسْتِحْسَانًا وَأَمَّا مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ يَقُولُ هُنَا أَجْعَلُ الْوَلَدَ حُرًّا ابْنًا لِلَّذِي ادَّعَاهُ اسْتِحْسَانًا .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِلَّذِي هُوَ فِي يَدِهِ أَنَا ابْنُكَ مِنْ أُمِّ وَلَدٍ لَكَ هَذِهِ وَكَذَّبَهُ الْمَوْلَى أَجْعَلُهُ حُرًّا اسْتِحْسَانًا فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ نَصَّ عَلَى قَوْلِهِ هَذَا فِي بَعْضِ نُسَخِ الْإِقْرَارِ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْوَلَدَ هُنَا يَدَّعِي حُرِّيَّةَ الْأَصْلِ لِنَفْسِهِ سَوَاءٌ ادَّعَى أَنَّهُ ابْنُ ذِي الْيَدِ أَوْ ابْنُ غَيْرِهِ ، وَفِي حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ الْقَوْلُ قَوْلُهُ كَمَا لَوْ قَالَ أَنَا حُرُّ الْأَصْلِ ، وَلَمْ يُرَدَّ عَلَى هَذَا ، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ حُكْمُ إقْرَارِهِ هُنَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَصْدِيقِ الْمُقَرِّ لَهُ فَكَانَ هَذَا وَدَعْوَاهُ حُرِّيَّةَ الْعِتْقِ سَوَاءٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ أَنَا حُرُّ الْأَصْلِ فَإِنَّ حُكْمَ قَوْلِهِ هُنَاكَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَصْدِيقِ غَيْرِهِ .
وَلَوْ كَانَ فِي يَدَيْهِ عَبْدٌ ، وَقَالَ أَعْتَقْتَنِي فَكَذَّبَهُ الْمَوْلَى كَانَ عَبْدًا لَهُ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالرِّقِّ لَهُ ، ثُمَّ ادَّعَى زَوَالَهُ بِسَبَبٍ حَادِثٍ فَلَا يُصَدَّقُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ .
وَإِذَا أَعْتَقَ الرَّجُلُ عَبْدًا لَهُ ، ثُمَّ أَقَرَّ الرَّجُلُ وَالْعَبْدُ أَنَّهُ كَانَ مَمْلُوكًا لِفُلَانٍ وَادَّعَى ذَلِكَ ، وَلَمْ يَجْرِ فِي عِتْقِهِ حُكْمٌ فَهُمَا مُصَدَّقَانِ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ لَمْ يَجْرِ الْحُكْمُ بِخِلَافِهِ فَصَحَّ إقْرَارُهُ وَصَارَ مَمْلُوكًا وَظَهَرَ هَذَا الْمِلْكُ فِي حَقِّ الْمُعْتَقِ بِتَصْدِيقِهِ أَيْضًا فَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُهُ ، وَإِنْ كَانَ جَرَى فِي عِتْقِهِ حُكْمٌ مِنْ حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ أَوْ شَيْءٍ مِمَّا يَجْرِي فِي الْحُرِّ دُونَ الْعَبْدِ فَأَمْضَى الْقَاضِي ذَلِكَ فَإِنَّ هَذَا لَا يَرِدُ فِي الرِّقِّ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُكَذَّبًا فِي إقْرَارِهِ شَرْعًا وَالْمُقِرُّ إذَا كَذَّبَهُ الشَّرْعُ لَمْ يُعْتَبَرْ إقْرَارُهُ ، وَإِنْ أَقَرَّ مَوْلَاهُ أَنَّهُ اغْتَصَبَهُ مِنْ فُلَانٍ ضَمَّنَهُ الْقِيمَةَ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ عَلَى نَفْسِهِ صَحِيحٌ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّ الْمَغْصُوبِ بِمَا نَفَذَ فِيهِ مِنْ الْعِتْقِ مِنْ جِهَتِهِ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ .
وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى هِبَةً مِنْهُ أَوْ شِرَاءً ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ وَحَلَفَ فُلَانٌ مَا فَعَلَ ذَلِكَ ضَمِنَ لَهُ قِيمَةَ الْغُلَامِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّمَلُّكِ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّهُ فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ .
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا ، ثُمَّ ادَّعَى بَعْدَ الْإِجَارَةِ أَنَّهُ عَبْدُهُ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ اسْتِئْجَارَهُ مِنْ غَيْرِهِ يَشْهَدُ بِالْمِلْكِ لِذَلِكَ الْغَيْرِ أَوْ إقْرَارٌ بِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ وَالِاسْتِخْدَامِ فَيَكُونُ فِي دَعْوَى الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ بَعْدَ ذَلِكَ مُنَاقِضًا فَلَا يُسْمَعُ مِنْهُ ، وَلَكِنَّهُ عَبْدٌ لِمَنْ أَقَرَّ لَهُ الْعَبْدُ بِالْمِلْكِ ، وَهُوَ الْآخَرُ .
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَالَ أُمِّي كَانَتْ أَمَةً لِفُلَانٍ ، وَلَمْ أُولَدْ أَنَا قَطُّ إلَّا حُرًّا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى أُمِّهِ بِالرِّقِّ وَإِقْرَارُهُ عَلَيْهَا نَافِذٌ ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ رِقِّ أُمِّهِ رِقُّهُ فَإِنَّ وَلَدَ الْمَعْرُوفِ حُرُّ الْأَصْلِ وَالْأُمُّ رَقِيقَةٌ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِأَمَةٍ لِإِنْسَانٍ وَلَهَا وَلَدٌ فِي يَدِهِ فَإِنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ لِلْمُقِرِّ دُونَ الْمُقَرِّ لَهُ فَلَمَّا لَمْ يَجْعَلْ إقْرَارَهُ بِالْأُمِّ إقْرَارًا بِالْوَلَدِ فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ إقْرَارُ الْوَلَدِ بِرِقِّ الْأُمِّ إقْرَارًا بِرِقِّ نَفْسِهِ ( تَوْضِيحُهُ ) أَنَّ مَنْ يَكُونُ مَعْرُوفًا بِحُرِّيَّةِ الْأَصْلِ إذَا قَالَ جَدَّتِي كَانَتْ أَمَةً لَا يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ الْإِقْرَارَ بِالرِّقِّ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَبَوَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ أُمِّي كَانَتْ أَمَةً لِفُلَانٍ ، فَإِذَا ادَّعَى فُلَانٌ رِقَّهُ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ .
وَلَوْ أَنَّ مَجْهُولَةَ الْأَصْلِ تَزَوَّجَتْ رَجُلًا ، ثُمَّ أَقَرَّتْ بِالْمِلْكِ لِرَجُلٍ فَهِيَ أَمَةٌ لَهُ لِإِقْرَارِهَا عَلَى نَفْسِهَا بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ وَلَا يَصْدُقُ عَلَى فَسَادِ النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهَا أَمَةً لَهُ لِإِقْرَارِهَا عَلَى نَفْسِهَا بِكَوْنِهَا أَمَةً فَسَادُ النِّكَاحِ فَإِنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ بِإِذْنِ مَوْلَاهَا صَحِيحٌ بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى أَبُو الزَّوْجِ نَسَبَهَا وَصَدَّقَتْهُ ؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ نَسَبِهَا مِنْ أَبِي الزَّوْجِ انْتِفَاءَ النِّكَاحِ وَمَا ثَبَتَ بِوُجُودِ الْمُنَافِي ضَرُورَةً لَا يَكُونُ مُحَالًا بِهِ عَلَى إقْرَارِهَا وَهُنَا لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ ضَرُورَةِ رَقِّهَا فَسَادُ النِّكَاحِ فَلَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهَا وَإِقْرَارُهَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الزَّوْجِ إنَّ رِقَّهَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الزَّوْجِ فِي حَقِّ حُكْمٍ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ التَّلَافِي وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا يَثْبُتُ فِي كُلِّ حُكْمٍ لَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ التَّلَافِي وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ حَتَّى لَوْ كَانَ أَعْطَاهَا الْمَهْرَ قَبْلَ الْإِقْرَارِ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ ؛ لِأَنَّا لَوْ صَدَّقْنَاهَا فِي هَذَا الْحُكْمِ لَحِقَهُ ضَرَرٌ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَلَوْ أَعْطَاهَا الْمَهْرَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ لَمْ تَبْرَأْ مِنْهُ ؛ لِأَنَّا لَوْ صَدَّقْنَاهَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ هُنَا لَتَمَكَّنَ مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ بِدَفْعِ الصَّدَاقِ إلَى مَوْلَاهَا دُونَهَا ، وَعَلَى هَذَا لَوْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً ، ثُمَّ أَقَرَّتْ بِالرِّقِّ صَارَ طَلَاقُهَا ثِنْتَيْنِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّتْ بَعْدَ مَا طَلَّقَهَا ثِنْتَيْنِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ مَضَتْ مِنْ عِدَّتِهَا حَيْضَةٌ فَأَقَرَّتْ بِالرِّقِّ صَارَتْ عِدَّتُهَا حَيْضَتَيْنِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّتْ بَعْدَ مُضِيِّ حَيْضَتَيْنِ ، وَعَلَى هَذَا مَا وَلَدَتْ مِنْ وَلَدٍ قَبْلَ الْإِقْرَارِ فَهُمْ أَحْرَارٌ لَا يُصَدَّقُ عَلَيْهِمْ فِي إبْطَالِ حُرِّيَّتِهِمْ .
وَكَذَلِكَ مَا كَانَ مَوْجُودًا فِي بَطْنِ أُمِّهِمْ بِأَنْ وَلَدَتْ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، فَأَمَّا
مَا يَحْدُثُ مِنْ الْأَوْلَادِ بَعْدُ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ هُمْ أَرِقَّاءُ وَالْوَقْتُ فِيهِ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ هُمْ أَحْرَارٌ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ بِالنِّكَاحِ اسْتَحَقَّ حُرْمَةَ الْأَوْلَادِ وَهِيَ لَا تُصَدَّقُ فِي إبْطَالِ الْحَقِّ الثَّابِتِ وَلَوْ قَبِلْنَا إقْرَارَهَا فِي رِقِّ الْأَوْلَادِ تَضَرَّرَ الزَّوْجُ ضَرَرًا لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ عَنْ نَفْسِهِ إلَّا أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ وَطِئَهَا ، وَفِيهِ إبْطَالُ الِاسْتِحْقَاقِ الثَّابِتِ لَهُ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ هَذَا وَلَدٌ حُرٌّ مِنْ أُمٍّ رَقِيقَةٍ فَيَكُونُ رَقِيقًا كَمَا لَوْ ثَبَتَ رِقُّهَا بِالْبَيِّنَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مِنْ الْأُمِّ يَتْبَعُهَا فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ فَالزَّوْجُ لَمَّا أَعْلَقَهَا مَعَ عِلْمِهِ بِرِقِّهَا فَقَدْ رَضِيَ بِرِقِّ هَذَا الْوَلَدِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ إقْرَارِهَا ، وَفِي قَبُولِ إقْرَارِهَا فِي هَذَا الْحُكْمِ لَا ضَرَرَ عَلَى الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ مِنْ أَنْ يُعْزَلَ عَنْهَا عِنْدَ الْوَطْءِ ، وَلِأَنَّ الْوَلَدَ ثَمَرَةٌ فَلَا يُسْتَحَقُّ بِالنِّكَاحِ وَلِهَذَا لَوْ كَانَتْ عَجُوزًا أَوْ عَقِيمًا لَا يَثْبُتُ لِلزَّوْجِ الْخِيَارُ فَكَيْفَ تَكُونُ صِفَةُ حُرِّيَّةِ الْوَلَدِ مُسْتَحَقَّةً لَهُ بِالنِّكَاحِ فَلِهَذَا قَبِلْنَا إقْرَارَهَا فِي هَذَا الْحُكْمِ .
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مَجْهُولَ الْأَصْلِ لَهُ أَوْلَادٌ وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادٍ أَقَرَّ بِالرِّقِّ لِرَجُلٍ جَازَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ لِكَوْنِ مَا أَخْبَرَ بِهِ مُحْتَمَلًا وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى أَوْلَادِهِ وَأُمَّهَاتِهِمْ وَمُدَبِّرِيهِ وَمُكَاتَبِيهِ ؛ لِأَنَّهُمْ اسْتَحَقُّوا الْحُرِّيَّةَ أَوْ حَقَّهَا ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ رَقِّهِ بُطْلَانُ هَذَا الْحَقِّ عَلَيْهِمْ فَلَا يُصَدَّقُ فِي حَقِّهِمْ .
وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً مَجْهُولَةً فِي يَدِهَا ابْنٌ لَهَا صَغِيرٌ مِنْ فُجُورٍ أَقَرَّتْ أَنَّهَا أَمَةٌ لِفُلَانٍ وَأَنَّ ابْنَهَا عَبْدٌ لَهُ فَهِيَ مُصَدَّقَةٌ عَلَى نَفْسِهَا وَابْنِهَا ؛ لِأَنَّ الِابْنَ لَمَّا كَانَ لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْرِفْ أَصْلَهُ فَادَّعَتْ أَنَّهُ عَبْدُهَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِهَا فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّتْ بِالرِّقِّ لِغَيْرِهَا ، وَإِنْ كَانَ ابْنُهَا يَتَكَلَّمُ ، فَقَالَ أَنَا حُرٌّ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ؛ لِأَنَّ مَنْ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ كَالْبَائِعِ لَا تَقْوَى يَدُ الْغَيْرِ عَلَيْهِ بَلْ يَدُهُ عَلَى نَفْسِهِ أَقْوَى فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي حُرِّيَّتِهِ .
وَكَذَلِكَ رَجُلٌ وَامْرَأَتُهُ مَجْهُولَانِ لَهُمَا ابْنٌ صَغِيرٌ لَا يَتَكَلَّمُ أَقَرَّا بِالرِّقِّ لِرَجُلٍ عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَابْنِهِمَا جَازَ لِمَا بَيَّنَّا .
وَإِنْ قَالَا نَحْنُ مَمْلُوكَانِ لِفُلَانٍ وَابْنُنَا هَذَا مَمْلُوكٌ لِفُلَانٍ آخَرَ وَكَذَّبَهُمَا مَوْلَاهُمَا فِي الِابْنِ فَالِابْنُ عَبْدٌ لَهُ مَعَهُمَا ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُمَا بِالرِّقِّ عَلَى أَنْفُسِهِمَا يُسْقِطُ اعْتِبَارَ يَدِهِمَا وَيَجْعَلُ يَدَهُمَا لَاغِيَةً فَكَمَا لَا قَوْلَ لَهُمَا بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِالرِّقِّ فِي إبْطَالِ الِاسْتِحْقَاقِ الثَّابِتِ لِذِي الْيَدِ فِيهِمَا فَكَذَلِكَ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمَا فِي إبْطَالِ الِاسْتِحْقَاقِ الثَّابِتِ لِلْمُقَرِّ لَهُ فِي وَلَدِهِمَا .
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى أَمَةً أَنَّهَا أَمَتُهُ وَادَّعَتْ الْأَمَةُ أَنَّهُ عَبْدُهَا وَلَا يُعْرَفُ أَصْلُهُمَا ، وَلَيْسَ الْوَاحِدُ مِنْهُمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَصَدَّقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ فِي دَعْوَاهُ جَعَلْتُ ذَلِكَ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّ تَصْدِيقَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ إقْرَارٌ بِالرِّقِّ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَبَيْنَ الْإِقْرَارَيْنِ مُنَافَاةٌ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالِكًا لِصَاحِبِهِ وَمَمْلُوكًا لَهُ ، فَإِذَا تَحَقَّقَ التَّنَافِي بَيْنَهُمَا تَهَاتَرَا إذْ لَيْسَ الْعَمَلُ بِأَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ ، وَإِنْ كَانَ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْآخَرِ فَاَلَّذِي أَقَرَّ أَخِيرًا مَمْلُوكٌ لِلْأَوَّلِ إذَا صَدَّقَهُ ثَانِيَةً ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالرِّقِّ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ يَتَضَمَّنُ رَدَّ إقْرَارِ صَاحِبِهِ ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ فَيُرَدُّ ذَلِكَ الْإِقْرَارُ لَهُ وَيَبْقَى إقْرَارُ الثَّانِي بِالرِّقِّ عَلَى نَفْسِهِ ، فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي ذَلِكَ كَانَ عَبْدًا لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ ، وَلَمْ يُكَذِّبْهُ لَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَمْلُوكًا لِلْآخَرِ لِأَنَّ إقْرَارَ الْأَوَّلِ قَدْ بَطَلَ بِالرَّدِّ ، وَلَمْ يَبْطُلْ بِإِقْرَارِ الثَّانِي تَصْدِيقُ الْمُقِرِّ وَلَوْ قَالَ لِآخَرَ أَنَا عَبْدٌ لَكَ ، فَقَالَ الْآخَرُ لَا ، ثُمَّ قَالَ بَلَى أَنْتَ عَبْدِي فَهُوَ عَبْدُهُ ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ الثَّابِتَ لَا يَبْطُلُ بِالْجُحُودِ وَالْإِقْرَارُ مَتَى حَصَلَ بِمَا لَمْ يَرْتَدَّ بِالرَّدِّ يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ الْمُقَرُّ بِهِ مَوْقُوفًا عَلَى تَصْدِيقِهِ فِي الْإِقْرَارِ بِالسَّبَبِ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ فِي يَدَيْهِ ، فَقَالَ أَنَا عَبْدُكَ ، فَقَالَ لَا ، ثُمَّ قَالَ نَعَمْ لَمْ يَكُنْ عَبْدَهُ فَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَعْرِفْ يَدَهُ فِيهِ .
وَلَوْ قَالَ ذُو الْيَدِ لِرَجُلٍ هُوَ عَبْدُكَ يَا فُلَانُ ، فَقَالَ لَا ، ثُمَّ قَالَ هُوَ عَبْدِي فَهُوَ عَبْدٌ لِذِي الْيَدِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ لِفُلَانٍ بِالْمِلْكِ وَالْمِلْكُ مِمَّا يَبْطُلُ الْإِقْرَارُ فِيهِ بِالرَّدِّ وَالتَّصْدِيقُ بَعْدَ مَا بَطَلَ الْإِقْرَارُ بِالرَّدِّ لَا يَكُونُ مُوجِبًا شَيْئًا بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَإِنَّهُ إقْرَارٌ بِالرِّقِّ وَالرِّقُّ لَا يَبْطُلُ بِالرَّدِّ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَبْطُلُ بِالرَّدِّ مَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ مِنْ شَخْصٍ إلَى شَخْصٍ فَلِهَذَا عَمِلَ التَّصْدِيقُ هُنَاكَ بَعْدَ الرَّدِّ ، وَفِي الْكِتَابِ قَالَ وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الْأَوَّلَ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ أَحَدٍ وَهَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ فَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي يَدِهِ أَوْ لَا يَكُونَ فِي يَدِهِ وَإِنَّمَا الْفَرْقُ الصَّحِيحُ مَا قُلْنَا .
وَلَوْ قَالَ الَّذِي هُوَ فِي يَدَيْهِ هُوَ عَبْدُكَ يَا فُلَانُ ، فَقَالَ فُلَانٌ بَلْ هُوَ عَبْدُكَ ، ثُمَّ قَالَ بَلَى هُوَ عَبْدِي وَجَاءَ بِالْبَيِّنَةِ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ بَلْ هُوَ عَبْدُكَ رَدٌّ لِإِقْرَارِهِ وَإِقْرَارٌ بِمِلْكِ الْعَبْدِ لَهُ ، فَإِنْ ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ مُنَاقِضًا .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ لِفُلَانٍ ، ثُمَّ جَاءَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ لَهُ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ لِلتَّنَاقُضِ .
وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ دَارًا ، فَقَالَ هَذِهِ الدَّارُ لِي إلَّا هَذَا الْبَيْتَ وَجَحَدَهُ ذُو الْيَدِ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّ الدَّارَ لَهُ ، فَإِنْ قَالَ كَانَ الْبَيْتُ لِي فَبِعْتُهُ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّ الشُّهُودَ ، وَإِنْ شَهِدُوا لَهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا ادَّعَاهُ إلَّا أَنَّهُ وَفَّقَ بَيْنَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ بِتَوْقِيفٍ مُحْتَمَلٍ فَيَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُكَذِّبًا لِشُهُودِهِ ، وَإِنْ قَالَ لَمْ يَكُنْ الْبَيْتُ لِي قَطُّ فَهَذَا إكْذَابٌ مِنْهُ لِشُهُودِهِ إذَا شَهِدُوا لَهُ بِجَمِيعِ الدَّارِ وَالْمُدَّعِي إذَا أَكْذَبَ شُهُودَهُ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمْ لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ سَأَلَهُ الْقَاضِي عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ بِبَيَانِهِ مِنْ سُؤَالِهِ ، فَإِنْ أَتَى بِبَيِّنَةٍ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ فِي الظَّاهِرِ مُكَذِّبٌ شُهُودَهُ فَإِنَّهُمْ شَهِدُوا لَهُ بِأَكْثَرَ مِمَّا ادَّعَاهُ إلَّا أَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ التَّوْقِيفِ ، فَإِذَا أَبَى أَنْ يُوقِفَ نَفَى ظَاهِرَ الْإِكْذَابِ أَرَأَيْتَ لَوْ قُضِيَ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ ، ثُمَّ قَالَ الْمُدَّعِي مَا كَانَ الْبَيْتُ لِي قَطُّ لَمْ يَكُنْ بِحَقٍّ عَلَيْهِ إبْطَالُ قَضَائِهِ فَكَذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ لَا يُقْضَى إذَا لَمْ يُبَيِّنْ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ بِالْأَلْفِ دِرْهَمٍ وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ بِأَلْفَيْنِ ، فَإِنْ قَالَ لَمْ يَكُنْ لِي عَلَيْهِ إلَّا أَلْفُ دِرْهَمٍ فَهَذَا إكْذَابٌ مِنْهُ لِشُهُودِهِ .
وَإِنْ قَالَ كَانَ لِي عَلَيْهِ أَلْفَانِ فَأَبْرَأْتُهُ مِنْ أَلْفٍ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يُبَيِّنَ بَطَلَتْ الشَّهَادَةُ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ فِي الْفَصْلَيْنِ ، وَفِي الْقِيَاسِ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ حُجَجٌ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهَا مَا أَمْكَنَ وَمَا دَامَ التَّوْقِيفُ مُمْكِنًا فَالْمَانِعُ مِنْ الْعَمَلِ بِالْبَيِّنَةِ غَيْرُ مُتَعَذِّرٍ وَلَكِنْ اُسْتُحْسِنَ لِلْإِكْذَابِ الظَّاهِرِ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
وَإِذَا أَقَرَّتْ الْأَمَةُ بِالرِّقِّ لِرَجُلٍ فَبَاعَهَا الْمُقَرُّ لَهُ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لَهُ فِيهَا بِإِقْرَارِهَا وَالْمِلْكُ مُطْلَقٌ لِلتَّصَرُّفِ ، فَإِذَا ادَّعَتْ عِتْقًا بَعْدَ الْبَيْعِ وَأَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ عَلَى عِتْقٍ مِنْ الْبَائِعِ قَبْلَ الْبَيْعِ أَوْ عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ مِنْ الْأَصْلِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهَا اسْتِحْسَانًا ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّهَا انْقَادَتْ لِلْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ ، وَذَلِكَ إقْرَارٌ مِنْهَا بِأَنَّهَا لَمْ يَجْرِ فِيهَا مِنْ الْبَائِعِ عِتْقٌ قَبْلَ هَذَا فَتَكُونُ مُنَاقَضَةً فِي دَعْوَى الْعِتْقِ قَبْلَ ذَلِكَ ، وَإِذَا ادَّعَتْ حُرِّيَّةَ الْأَصْلِ فَالتَّنَاقُضُ ظَاهِرٌ لِتَقَدُّمِ الْإِقْرَارِ مِنْهَا بِالرِّقِّ عَلَى نَفْسِهَا وَمَعَ التَّنَاقُضِ فِي الدَّعْوَى لَا تَكُونُ الْبَيِّنَةُ مَقْبُولَةً ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ ، فَقَالَ التَّنَاقُضُ بِعَدَمِ الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَةِ عَلَى عِتْقِ الْأَمَةِ يُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ الدَّعْوَى فَكَذَلِكَ مَعَ التَّنَاقُضِ ، وَفِي الْكِتَابِ عَلَّلَ ، فَقَالَ : لِأَنَّ هَذَا فَرْجٌ وَمَعْنَاهُ أَنْ يَخْرُجَ الْفَرْجُ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَتَكُونُ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ مَقْبُولَةً حِسْبَةً ، وَلَكِنْ هَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ ، فَأَمَّا التَّنَاقُضُ مِنْ الْعَبْدِ فَيَمْنَعُ قَبُولَ الْبَيِّنَةِ عَلَى حُرِّيَّتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُنَا ؛ لِأَنَّ التَّنَاقُضَ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَحُرِّيَّةُ الْأَصْلِ بَعْدَ تَأَكُّدِهَا لَا تَحْتَمِلُ الْإِبْطَالَ .
وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ لَا يَكُونُ التَّنَاقُضُ فِيهِ مَانِعًا مِنْ قَبُولِ الْبَيِّنَةِ كَالنَّسَبِ فَإِنَّ التَّنَاقُضَ فِي دَعْوَى النَّسَبِ لَا يَمْنَعُ صِحَّتَهُ حَتَّى أَكْذَبَ الْمُلَاعَنُ نَفْسَهُ لَثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ .
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا بَاعَ عَبْدًا وَدَفَعَهُ إلَى الْمُشْتَرِي وَقَبَضَ ثَمَنَهُ وَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي وَذَهَبَ بِهِ إلَى مَنْزِلِهِ وَالْعَبْدُ سَاكِتٌ ، وَهُوَ مِمَّنْ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ فَهَذَا إقْرَارٌ مِنْهُ بِالرِّقِّ ؛ لِأَنَّهُ إنْقَادٌ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ شَرْعًا إلَّا فِي الرَّقِيقِ وَإِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالرِّقِّ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ بِالْإِقْرَارِ بِهِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي دَعْوَى الْحُرِّيَّةِ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَسْعَى فِي بَعْضِ مَا تَمَّ بِهِ إلَّا أَنْ تَقُومَ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ وَالتَّنَاقُضُ لَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ .
وَكَذَلِكَ لَوْ رَهَنَهُ أَوْ دَفَعَهُ بِجِنَايَةٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا تَصَرُّفٌ فِي الْعَيْنِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِرِقِّهِ فَانْقِيَادُهُ لِذَلِكَ إقْرَارٌ بِالرِّقِّ عَلَى نَفْسِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَجَّرَهُ ، ثُمَّ قَالَ أَنَا حُرٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَصَرُّفٌ فِي مَنَافِعِهِ لَا فِي عَيْنِهِ ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةِ الْإِجَارَةِ رِقُّ الْمَحَلِّ فَإِنَّ مَنَافِعَ الْحُرِّ تُمْلَكُ بِالْإِجَارَةِ عِنْدَ إيجَابِهِ أَوْ إيجَابِ الْغَيْرِ بِبَيَانِهِ وَتَكُونُ مَنْفَعَتُهُ حَقًّا لَهُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ كَانَ يَخْدُمُهُ ، ثُمَّ قَالَ أَنَا حُرٌّ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَذَلِكَ إذَا خَدَمَ الْمُسْتَأْجِرَ بِإِجَارَتِهِ ، قَالَ : وَالْإِجَارَةُ لَيْسَتْ بِإِقْرَارٍ مِنْ الْخَادِمِ بِالرِّقِّ وَهِيَ إقْرَارٌ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ بِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ حَتَّى لَوْ ادَّعَاهُ بَعْدَ مَا اسْتَأْجَرَهُ لِنَفْسِهِ لَمْ يُصَدَّقْ ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ تُمْلَكُ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ فَمُبَاشَرَتُهُ سَبَبَ الْمِلْكِ فِي الْمَنْفَعَةِ مَقْصُودًا يَكُونُ إقْرَارًا مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الرَّقَبَةَ وَأَمَّا إيجَابُ الْمَنْفَعَةِ لِلْغَيْرِ فَلَا يَكُونُ إقْرَارًا عَلَى نَفْسِهِ بِالْمِلْكِ فِي الْعَيْنِ لِأَحَدٍ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَعِرْنِي هَذَا يَخْدُمْنِي كَانَ هَذَا إقْرَارًا مِنْ الْمُسْتَعِيرِ أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ لَهُ كَمَا أَنَّهُ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ
عَلَى يَدِنَا .
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَدِمَ مِنْ بَلَدٍ وَمَعَهُ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ يَخْدُمُونَهُ فَادَّعَى أَنَّهُمْ رَقِيقُهُ وَادَّعَوْا أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ كَانُوا أَحْرَارًا ؛ لِأَنَّ الْيَدَ لَا تَقْوَى عَلَى مَنْ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانُوا أَغِلْمَةً عُجْمًا أَوْ سُودًا أَوْ حَبَشًا فَهَذِهِ الصِّفَاتُ لَا تُنَافِي حُرِّيَّةَ الْأَصْلِ .
وَكَذَلِكَ إنْ عُلِمَ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّ يَدَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أَقْوَى فَمَا لَمْ يُقِرَّ بِالْمِلْكِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُمْ فِي الْحُرِّيَّةِ .
وَلَوْ عَرَضَ جَارِيَةً عَلَى الْبَيْعِ وَهِيَ سَاكِتَةٌ لَمْ يَكُنْ هَذَا إقْرَارًا بِالرِّقِّ مِنْهَا .
وَكَذَلِكَ الْغُلَامُ ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُحْتَمَلٌ فَقَدْ يَكُونُ لِلتَّعْجِيبِ أَنَّهُ كَيْفَ تَعْرِضُنِي وَأَنَا حُرَّةٌ ، وَقَدْ يَكُونُ لِلِاسْتِخْفَافِ فَعَلَيْهِ لَا الْتِفَاتَ إلَى كَلَامِهِ لِكَوْنِهِ لَاعِبًا فَلِهَذَا يُجْعَلُ إقْرَارًا بِالرِّقِّ .
وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً زَوَّجَهَا رَجُلٌ مِنْ آخَرَ فَأَقَرَّتْ بِذَلِكَ ، ثُمَّ ادَّعَى الَّذِي زَوَّجَهَا أَنَّهَا أَمَتُهُ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ انْقِيَادَهَا بِالنِّكَاحِ لَا يَكُونُ إقْرَارًا مِنْهَا بِالرِّقِّ كَانْقِيَادِهَا لِلْإِجَارَةِ فَإِنَّ الْحُرَّةَ مَحَلٌّ لِلنِّكَاحِ .
وَلَوْ كَاتَبَهَا أَوْ أَعْتَقَهَا عَلَى مَالٍ أَوْ قَالَتْ كَاتِبْنِي أَوْ أَعْتِقْنِي أَوْ بِعْنِي نَفْسِي أَوْ بِعْنِي مِنْ فُلَانٍ أَوْ ارْهَنِّي مِنْ فُلَانٍ أَوْ تَزَوَّجْ فُلَانَةَ عَلَى رَقَبَتِي أَوْ قَالَتْ لِامْرَأَةٍ اخْتَلِعِي مِنْ زَوْجِكَ عَلَى رَقَبَتِي فَهَذَا كُلُّهُ إقْرَارٌ مِنْهَا بِالرِّقِّ ؛ لِأَنَّ مَا صَرَّحَتْ بِهِ لَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهُ فِيهَا إلَّا بِرَقَبَتِهَا فَتَصْرِيحُهَا بِذَلِكَ إقْرَارٌ مِنْهَا بِالرِّقِّ عَلَى نَفْسِهَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَتْ أَجِّرْنِي مِنْ فُلَانٍ فَهَذَا لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالرِّقِّ لِمَا قُلْنَا .
وَلَوْ قَالَ لِآخَرَ أَعْتِقْنِي كَانَ هَذَا إقْرَارًا بِالرِّقِّ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَصِحُّ فِيهِ إلَّا بَعْدَ الرِّقِّ مِمَّنْ هُوَ يَمْلِكُهُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَلَمْ تَعْتِقْنِي أَمْسِ أَوَ لَيْسَ قَدْ أَعْتَقْتَنِي أَمْسِ أَوْ مَا أَعْتَقْتَنِي أَمْسِ كَانَ هَذَا إقْرَارًا بِالرِّقِّ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الْإِقْرَارِ بِالنِّكَاحِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) امْرَأَةٌ قَالَتْ لِرَجُلٍ طَلِّقْنِي فَهَذَا إقْرَارٌ مِنْهَا بِالنِّكَاحِ ؛ لِأَنَّهَا طَلَبَتْ مِنْهُ مَا لَا يَصِحُّ شَرْعًا إلَّا بَعْدَ صِحَّةِ النِّكَاحِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِالنِّكَاحِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الطَّلَاقَ لِلْإِطْلَاقِ عَنْ قَيْدِ النِّكَاحِ فَكَأَنَّهَا قَالَتْ أَطْلِقْنِي عَنْ قَيْدِ النِّكَاحِ الَّذِي لَكَ عَلَيَّ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَتْ اخْلَعْنِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَهَذَا أَظْهَرُ ؛ لِأَنَّهَا الْتَزَمَتْ الْبَدَلَ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْبَدَلُ إلَّا بِزَوَالِ مِلْكِ النِّكَاحِ عَنْهَا بِالْخُلْعِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَتْ طَلَّقْتَنِي أَمْسِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ أَنْتِ مِنِّي مُظَاهِرٌ أَوْ مُولٍ فَإِنَّ شَيْئًا مِمَّا أَخْبَرَتْ بِهِ لَا يَصِحُّ إلَّا بَعْدَ صِحَّةِ النِّكَاحِ فَإِقْرَارُهَا بِهِ تَضَمَّنَ الْإِقْرَارَ بِالنِّكَاحِ .
وَلَوْ قَالَ الرَّجُلُ اخْتَلِعِي مِنِّي بِمَالٍ كَانَ هَذَا إقْرَارًا مِنْهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ بِمَالٍ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ صِحَّةِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَتْ لَهُ طَلِّقْنِي ، فَقَالَ لَهَا اخْتَارِي أَوْ أَمْرُكَ بِيَدِكَ فِي الطَّلَاقِ فَهَذَا مِنْهُ إقْرَارٌ بِالنِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ تَفْوِيضَهُ الطَّلَاقَ إلَيْهَا لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ صِحَّةِ النِّكَاحِ .
وَلَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكِ لَا يَكُونُ هَذَا إقْرَارًا مِنْهُ بِأَنَّهَا زَوْجَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ كَلَامٌ مُحْتَمَلٌ فَلَعَلَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْ قُرْبَانِهَا لِعَدَمِ الْمِلْكِ لَهُ عَلَيْهَا وَلَعَلَّهُ قَصَدَ الْإِضْرَارَ بِهَا وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً ، ثُمَّ هَذَا الْكَلَامُ نَفْيُ مُوجِبِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا وَنَفْيُ مُوجِبِ الْعَقْدِ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالْعَقْدِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ بَائِنَةٌ أَوْ بَتَّةٌ ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَهَا بِالْحُرْمَةِ وَمُوجَبُ النِّكَاحِ ضِدُّهُ ، وَهُوَ الْحِلُّ فَوَصْفُهَا بِهِ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالنِّكَاحِ إلَّا أَنْ تَقُولَ لَهُ طَلِّقْنِي فَيَقُولُ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ غَيْرَ أَنَّ مُذَاكَرَةَ الطَّلَاقِ مُعَيِّنَةً لِلطَّلَاقِ وَلِهَذَا لَا يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى الْبَيِّنَةِ وَإِيقَاعُ الطَّلَاقِ إقْرَارٌ مِنْهُ بِالنِّكَاحِ .
وَلَوْ قَالَ : أَنَا مُولٍ مِنْكَ أَوْ مُظَاهِرٌ كَانَ إقْرَارًا مِنْهُ بِالنِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ وَالظِّهَارَ تَصَرُّفٌ مِنْهُ يَخْتَصُّ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ .
وَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي لَمْ يَكُنْ إقْرَارًا بِالنِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ هَذَا إخْبَارٌ مِنْهُ بِحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ ، وَهُوَ ضِدُّ مُوجَبِ النِّكَاحِ .
وَلَوْ قَالَ أَلَمْ أُطَلِّقْكِ أَمْسِ أَوْ أَمَا طَلَّقْتُكِ أَمْسِ فَهَذَا إقْرَارٌ مِنْهُ بِالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا الِاسْتِفْهَامِ مَعْنَى التَّقْرِيرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ } أَيْ قَدْ أَتَاكُمْ وَتَقْرِيرُ الطَّلَاقِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ النِّكَاحِ فَكَانَ إقْرَارًا بِهِمَا .
وَلَوْ قَالَ هَلْ طَلَّقْتُكِ أَمْسِ كَانَ هَذَا إقْرَارًا بِالنِّكَاحِ دُونَ الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ النِّكَاحِ فَكَانَ هَذَا إقْرَارًا بِالنِّكَاحِ .
وَلَوْ قَالَتْ هَذَا ابْنِي مِنْكَ ، فَقَالَ نَعَمْ فَهُوَ إقْرَارٌ مِنْهُمَا بِالنِّكَاحِ إذَا كَانَتْ مَعْرُوفَةً أَنَّهَا حُرَّةٌ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ بِاعْتِبَارِ الْفِرَاشِ وَالْأَصْلُ فِيهِ الْفِرَاشُ الصَّحِيحُ وَالشَّرْعُ إنَّمَا يُرِيدُ الصَّحِيحَ دُونَ الْفَاسِدِ وَلَا يَثْبُتُ الْفِرَاشُ الصَّحِيحُ عَلَى الْحُرَّةِ إلَّا بِالنِّكَاحِ فَكَانَ اتِّفَاقُهُمَا عَلَى النَّسَبِ اتِّفَاقًا عَلَى سَبَبِهِ ، وَهُوَ النِّكَاحُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ إقْرَارِ الْمُكَاتَبِ وَالْحُرِّ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : وَإِذَا أَقَرَّ الْمُكَاتَبُ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ لِحُرٍّ أَوْ لِعَبْدٍ مِنْ ثَمَنِ بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ أَوْ غَصْبٍ فَهَذَا لَازِمٌ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ التِّجَارَةِ وَعَقْدُ الْكِتَابَةِ يُوجِبُ انْفِكَاكَ الْحَجْرِ عَنْهُ مِمَّا هُوَ مِنْ التِّجَارَةِ ، فَإِنْ عَجَزَ لَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِإِقْرَارِهِ كَالثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ ، ثُمَّ حَجَرَ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ لَمْ يَبْطُلْ إقْرَارُهُ فَالْمُكَاتَبُ أَوْلَى بِذَلِكَ .
وَلَوْ أَقَرَّ الْمُكَاتَبُ لِمَوْلَاهُ بِدَيْنٍ جَازَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ صَارَ أَحَقَّ بِمَكَاسِبِهِ وَصَارَ الْمَوْلَى مِنْهُ كَالْأَجْنَبِيِّ .
وَإِقْرَارُ الْمُكَاتَبِ بِالْحُدُودِ جَائِزٌ كَإِقْرَارِ الْعَبْدِ بِهَا ، وَإِنْ أَقَرَّ بِمَهْرٍ مِنْ نِكَاحٍ لَمْ يَلْزَمْ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ وَلَا هُوَ سَبَبُ اكْتِسَابِ الْمَالِ فِي حَقِّ الزَّوْجِ إلَّا أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا أَقَرَّ بِالدُّخُولِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِ الْعَبْدِ التَّاجِرِ بِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَذْهَبَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ افْتَضَّ امْرَأَةً بِأُصْبُعِهِ حُرَّةً أَوْ أَمَةً أَوْ صَبِيَّةً فَهَذَا يَلْزَمُهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ التَّاجِرَ لَوْ أَقَرَّ بِهِ كَانَ مُؤَاخَذًا بِهِ فِي الْحَالِ عِنْدَهُ فَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِالْجِنَايَةِ .
وَإِقْرَارُ الْمُكَاتَبِ بِالْجِنَايَةِ صَحِيحٌ فِي حَالِ قِيَامِ الْكِتَابَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ يَجِبُ فِيهِ وَكَسْبُهُ حَقُّهُ ، فَإِنْ عَجَزَ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ بَطَلَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجَازَ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا إذَا عَجَزَ بَعْدَ مَا قَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ قُلْنَا إذَا عَجَزَ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي يَبْطُلُ إقْرَارُهُ هَكَذَا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، وَهُوَ الَّذِي اعْتَمَدَهُ الْحَاكِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجَعَلَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ بِقَتْلِ رَجُلٍ خَطَأً ، وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ عَنْهُ أَنَّ هُنَا الْجَوَابُ مُطْلَقٌ كَمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْخَطَأِ تَتَعَلَّقُ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَتَحَوَّلُ إلَى كَسْبِهِ بِالْقَضَاءِ حَتَّى لَوْ عَجَزَ قَبْلَ الْقَضَاءِ لَدَفَعَ بِهِ ، فَأَمَّا جِنَايَتُهُ بِالِافْتِضَاضِ بِالْأُصْبُعِ فَلَا تَتَعَلَّقُ بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْفَعُ بِهِ بِحَالٍ وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِهِ ابْتِدَاءً ، فَإِنْ عَجَزَ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَ الْقَضَاءِ كَانَ مُطَالَبًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا كَانَ سَبَبُهُ إقْرَارَهُ لَمْ يُطَالَبْ بِهِ بَعْدَ الْعَجْزِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ بِالْجِنَايَةِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ قَضَاءُ الْقَاضِي ، وَإِذَا قَضَى عَلَيْهِ بِأَرْشِ جِنَايَةِ الْخَطَأِ بَعْدَ مَا أَقَرَّ بِهِ فَأَدَّى بَعْضَهُ ، ثُمَّ عَجَزَ بَطَلَ فِيهِ مَا بَقِيَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ طُولِبَ بِهِ إنَّمَا يُطَالَبُ بِإِقْرَارِهِ بِالْجِنَايَةِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِيمَا هُوَ حَقُّ الْمَوْلَى ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هُوَ لَازِمٌ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ دَيْنًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَالْتَحَقَ بِسَائِرِ الدُّيُونِ بِخِلَافِ مَا إذَا عَجَزَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ دَيْنًا فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ أَقَرَّ بِهِ بَعْدَ الْعَجْزِ وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَفِي مَسْأَلَةِ كِتَابِ الدِّيَاتِ وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ الْعَبْدَ تَاجِرٌ أَوْ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ بِدَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ وَأَرَادَ مَوْلَاهُ أَخْذَهُ مِنْ الْمُقِرِّ فِي حَالِ غَيْبَةِ الْعَبْدِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ لِلْعَبْدِ يَدًا فِي مَكَاسِبِهِ مَحْجُورًا كَانَ أَوْ مَأْذُونًا حَتَّى لَا يَتِمَّ كَسْبُهُ لِمَوْلَاهُ إلَّا بِشَرْطِ الْفَرَاغِ مِنْ دَيْنِهِ فَأَخْذُ الْمَوْلَى لِذَلِكَ يَتَضَمَّنُ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ بِبُطْلَانِ حَقِّهِ عَنْهُ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ غَيْبَتِهِ .
وَلَوْ أَقَرَّ الْحُرُّ لِعَبْدٍ بِوَدِيعَةٍ فَأَقَرَّ الْعَبْدُ أَنَّهَا لِغَيْرِهِ ، فَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا جَازَ إقْرَارُهُ ، وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَإِقْرَارُهُ بِهَا لِغَيْرِهِ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ فِي يَدِ الْمُودَعِ .
وَلَوْ كَانَ فِي يَدِ الْعَبْدِ مَالٌ فَأَقَرَّ بِهِ لِغَيْرِهِ صَحَّ إنْ كَانَ مَأْذُونًا ، وَلَمْ يَصِحَّ إنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ هُنَا .
وَلَوْ أَقَرَّ الْحُرُّ لِعَبْدٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ بِدَيْنٍ ، وَقَدْ أَذِنَ لَهُ أَحَدُهُمَا فِي التِّجَارَةِ دُونَ الْآخَرِ جَازَ إقْرَارُهُ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ لَا يَخْتَلِفُ بِكَوْنِ الْمُقَرِّ لَهُ مَأْذُونًا أَوْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَجَازَ ، وَإِنْ كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ فَيَكُونُ بَيْنَ الْمَوْلَيَيْنِ نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ وَلَا يَخْتَصُّ الْإِذْنُ بِشَيْءٍ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ وَإِنَّمَا اخْتِصَاصُ الْإِذْنِ يُعَلِّقُ دَيْنَ الْعَبْدِ بِنَصِيبِهِ مِنْ الرَّقَبَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِمَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ لَا بِصِحَّةِ الِاكْتِسَابِ مِنْ الْعَبْدِ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَلَا يُسَلَّمُ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ شَيْءٌ لِلَّذِي لَمْ يَأْذَنْهُ مَا لَمْ يَقْضِ الْعَبْدُ دَيْنَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ سَلَامَةَ الْكَسْبِ لِلْمَوْلَى مُتَعَلِّقَةٌ بِفَرَاغِهِ عَنْ حَاجَةِ الْعَبْدِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ دَيْنٌ بِالِاسْتِهْلَاكِ فَاكْتَسَبَ كَسْبًا كَانَ ذَلِكَ الْكَسْبُ مَصْرُوفًا إلَى دَيْنِهِ وَلَوْ أَقَرَّ هَذَا الْعَبْدُ بِدَيْنٍ لَزِمَهُ فِي حِصَّةِ الَّذِي أَذِنَ لَهُ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ غَيْرُ صَحِيحٍ فِي حَقِّ مَوْلَاهُ وَنَصِيبُ الَّذِي لَمْ يَأْذَنْ لَهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فَأَجْعَلُ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حُكْمِ الْإِقْرَارِ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ عَلَى حِدَةٍ وَمَا فِي يَدِهِ مِنْ كَسْبٍ يُقْضَى بِهِ دَيْنُهُ وَيَكُونُ الْبَاقِي بَيْنَ الْمَوْلَيَيْنِ نِصْفَيْنِ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مِنْ غَيْرِ التِّجَارَةِ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَيَكُونُ نِصْفُهُ لِلَّذِي لَمْ يَأْذَنْ لَهُ قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا فِي نَصِيبِ الَّذِي لَمْ يَأْذَنْ لَهُ مِنْ الرَّقَبَةِ فَكَذَلِكَ فِي الْكَسْبِ الَّذِي لَا يَعْتَمِدُ فِي حُصُولِهِ عَلَى الْإِذْنِ كَالْمَوْهُوبِ وَنَحْوِهِ بِخِلَافِ مَا اكْتَسَبَهُ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ فَإِنَّ سَبَبَ حُصُولِ ذَلِكَ
الْكَسْبِ تِجَارَةٌ وَالْإِقْرَارُ مِنْ التِّجَارَةِ وَالدَّيْنُ الْوَاجِبُ بِسَبَبٍ هُوَ تِجَارَةٌ يَظْهَرُ فِي الْكَسْبِ الْحَاصِلِ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ ، وَإِذَا ظَهَرَ فِيهِ لَا يُسَلَّمُ شَيْءٌ مِنْهُ لِلَّذِي لَمْ يَأْذَنْ لَهُ إلَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ دَيْنِهِ كَمَا لَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ مُعَايَنٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ إقْرَارِ الرَّجُلِ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ قِبَلَ فُلَانٍ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ قِبَلَ فُلَانٍ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ الْإِقْرَارَ مَخْرَجَ الْعُمُومِ وَإِجْرَاؤُهُ عَلَى الْعُمُومِ مُمْكِنٌ لِجَوَازِ أَنْ يَنْفِيَ حُقُوقَهُ عَنْ فُلَانٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَأَمْكَنَ الْعَمَلُ بِمُوجَبِ هَذَا الْكَلَامِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ مِنْ الْمُقِرِّ بِخِلَافِ قَوْلِهِ جَمِيعُ مَا فِي يَدِي لِفُلَانٍ فَإِنَّ الْعَمَلَ بِمُوجَبِ ذَلِكَ الْكَلَامِ غَيْرُ مُمْكِنٍ إلَّا بِبَيَانِ الْمُقِرِّ وَلَا يُمْكِنُ إجْرَاؤُهُ الْكَلَامَ هُنَاكَ عَلَى الْعُمُومِ ؛ لِأَنَّ زَوْجَتَهُ وَوَلَدَهُ فِي يَدِهِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ لِلْمُقَرِّ لَهُ فَلِهَذَا وَجَبَ الرُّجُوعُ إلَى بَيَانِهِ هُنَاكَ ، ثُمَّ يَدْخُلُ فِي هَذَا اللَّفْظِ كُلُّ عَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ وَكُلُّ كَفَالَةٍ أَوْ جِنَايَةٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ حَدٍّ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَبَقَ فَكُلُّ هَذَا حَقٌّ مَالًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَالٍ ، وَإِنْ قَالَ هُوَ بَرِيءٌ مِمَّا لِي عَلَيْهِ فَهُوَ مِثْلُ ذَلِكَ أَيْضًا غَيْرَ أَنَّهُ لَا تَدْخُلُ الْأَمَانَةُ فِي هَذَا اللَّفْظِ كَالْوَدِيعَةِ الْعَارِيَّةِ ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ عَلَيَّ خَاصٌّ لِمَا هُوَ وَاجِبٌ فِي الذِّمَّةِ فَلَا تَدْخُلُ فِيهِ الْأَمَانَةُ إذْ لَا وُجُوبَ فِي ذِمَّةِ الْأَمِينِ .
وَإِنْ قَالَ هُوَ بَرِيءٌ مِمَّا لِي عِنْدَهُ فَإِنَّمَا يَدْخُلُ فِي هَذَا اللَّفْظِ الْأَمَانَةُ خَاصَّةً ، فَأَمَّا الْغُصُوبُ وَالْوَدَائِعُ الَّتِي خَالَفَ فِيهَا فَقَدْ صَارَ ضَمَانُهَا مُسْتَحَقًّا فِي ذِمَّتِهِ بِمَنْزِلَةِ الدُّيُونِ فَلَا يَدْخُلُ فِي هَذَا اللَّفْظِ .
وَإِنْ قَالَ هُوَ بَرِيءٌ مِمَّا لِي قِبَلَهُ بَرِئَ مِنْ الْأَمَانَةِ وَالْغُصُوبِ جَمِيعًا ، وَإِنْ ادَّعَى الطَّالِبُ بَعْدَ ذَلِكَ حَقًّا لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ عَلَيْهِ حَتَّى يَشْهَدَ شُهُودُهُ بَعْدَ الْبَرَاءَةِ أَوْ يُوَقِّتُوا وَقْتًا بَعْدَهَا ؛ لِأَنَّهُ بِهَذَا اللَّفْظِ اسْتَفَادَ الْبَرَاءَةَ عَلَى الْعُمُومِ وَلَا يُسْمَعُ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ الدَّعْوَى إلَّا أَنْ يَعْلَمَ خُرُوجَ مَا ادَّعَاهُ الْعَامَّةُ فَإِنَّ الْعَمَلَ بِالْعَامِّ وَاجِبٌ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلُ الْخُصُوصِ .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ فُلَانًا قَدْ بَرِئَ مِنْ حَقِّهِ قِبَلَهُ ، ثُمَّ قَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ حَقٍّ لَهُ عَلَيَّ فَإِنَّ لَفْظَ الْجِنْسِ يَعُمُّ جَمِيعَ ذَلِكَ الْجِنْسِ بِمَنْزِلَةِ اللَّفْظِ الْعَامِّ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ هُوَ بَرِيءٌ مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي لِي قِبَلَهُ أَوْ مِمَّا لِي قِبَلَهُ أَوْ مِنْ دَيْنِي عَلَيْهِ أَوْ مِنْ حَقِّي عَلَيْهِ ، وَلَكِنْ يَدْخُلُ فِي الْبَرَاءَةِ مِنْ الْحُقُوقِ الْكَفَالَةُ وَالْجِنَايَةُ الَّتِي فِيهَا قَوَدٌ أَوْ أَرْشٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِهِ .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ قِبَلَ فُلَانٍ ، ثُمَّ ادَّعَى قِبَلَهُ حَدَّ قَذْفٍ أَوْ سَرِقَةٍ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ الْبَرَاءَةِ ، وَهُوَ وَدَعْوَى الدَّيْنِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ .
وَلَوْ قَالَ إنَّهُ قَدْ بَرِئَ مِنْ قَذْفِهِ إيَّايَ ، ثُمَّ طَلَبَهُ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ لَهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعَفْوِ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ مُوجِبِ قَذْفِهِ إيَّايَ فَإِنَّ الْبَرَاءَةَ عَنْ عَيْنِ الْقَذْفِ لَا تَتَحَقَّقُ وَمُوجَبُ الْقَذْفِ عِنْدَنَا لَا يَسْقُطُ بِالْعَفْوِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ نَفَى حَقَّهُ مِنْ الْأَصْلِ فَكَانَ مُنْكِرًا لِلسَّبَبِ فِي حَدِّ الْقَذْفِ لَا مُسْقِطًا لِلْحَدِّ ، وَلَوْ قَالَ : مَا قَذَفَنِي لَمْ تُسْمَعْ مِنْهُ دَعْوَى الْقَذْفِ بَعْدَ ذَلِكَ مُطْلَقًا فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لَا حَقَّ لِي قِبَلَهُ .
وَلَوْ قَالَ هُوَ بَرِيءٌ مِنْ السَّرِقَةِ الَّتِي ادَّعَيْتُهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانٌ وَلَا قَطْعٌ ؛ لِأَنَّ دَعْوَى السَّرِقَةِ حَقُّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ ، وَهُوَ مِمَّا يَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ وُهِبَ الْمَسْرُوقَ مِنْ السَّارِقِ سَقَطَتْ خُصُومَتُهُ وَبِدُونِ خُصُومَتِهِ لَا تَظْهَرُ السَّرِقَةُ فِي حَقِّ الْمَالِ وَلَا فِي حَقِّ الْقَطْعِ .
وَلَوْ قَالَ لَسْتُ مِنْ فُلَانٍ فِي شَيْءٍ ، ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَالٍ لَهُ عَلَيْهِ قَبْلَ هَذَا الْقَوْلِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ وَهَذَا الْقَوْلُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ مَا تَعَرَّضَ فِي كَلَامِهِ لِلْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ وَإِنَّمَا تَعَرَّضَ لِنَفْسِهِ وَالْحَقُّ الَّذِي عَلَيْهِ غَيْرُ نَفْسِهِ فَلَا يَصِيرُ مَذْكُورًا بِذِكْرِ نَفْسِهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : بَرِئْتُ مِنْ فُلَانٍ أَوْ قَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِنْ فُلَانٍ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْقَوْلُ بَرَاءَةً مِنْ حَقٍّ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا قِبَلَ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْبَرَاءَةَ إلَى نَفْسِهِ دُونَ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ فَلَا يَصِيرُ الْحَقُّ مَذْكُورًا بِهِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْبَرَاءَةَ مِنْ نَفْسِ الْغَيْرِ تَكُونُ إظْهَارًا لِلْعَدَاوَةِ مَعَهُ وَالْبَرَاءَةُ مِنْ الْحَقِّ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ إظْهَارٌ لِلْمَحَبَّةِ .
وَلَوْ قَالَ لَسْتُ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ الَّتِي فِي يَدِ فُلَانٍ فِي شَيْءٍ ، ثُمَّ ادَّعَى بَعْدَ ذَلِكَ حَقًّا فِيهَا لَمْ تُقْبَلْ دَعْوَاهُ ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَ نَفْسَهُ مِنْ الدَّارِ عَلَى الْعُمُومِ وَاتِّصَالُهُ بِالدَّارِ مِنْ حَيْثُ مِلْكُهُ أَوْ حَقٌّ لَهُ فِيهِ فَإِخْرَاجُهُ نَفْسَهُ مِنْهَا عَلَى الْعُمُومِ وَيَكُونُ إقْرَارًا بِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا وَلَا مِلْكَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ لَسْتُ مِنْ فُلَانٍ فِي شَيْءٍ فَإِنَّ اتِّصَالَهُ مِنْ فُلَانٍ مِنْ حَيْثُ الْمَحَبَّةُ وَالتَّنَاصُرُ فَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا الْكَلَامُ إقْرَارًا مِنْهُ بِأَنَّهُ لَا مَحَبَّةَ بَيْنَهُمَا وَلَا تَنَاصُرَ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ أَنَا بَرِيءٌ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ كَانَ هَذَا إقْرَارًا مِنْهُ بِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا ؛ لِأَنَّ تَبَرُّؤَهُ عَنْ الْعَيْنِ يَكُونُ إقْرَارًا بِانْقِطَاعِ سَبَبِ اتِّصَالِهِ بِهِ ، وَذَلِكَ بِالْمَلْكِ أَوْ الْحَقِّ .