كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي

ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الْأَجْرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْإِسْكَافِ وَلَا يَمِينَ عَلَى الْمُسْتَصْنِعِ وَلَكِنَّهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِمَا قَالَ الْإِسْكَافُ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعَقْدَ غَيْرُ لَازِمٍ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَاَلَّذِي جَاءَ بِهِ عَيْنُ مِلْكِ الْإِسْكَافِ فَلَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ إلَّا بِمَا رَضِيَ بِهِ مِنْ الثَّمَنِ .

وَلَوْ أَسْلَمَ ثَوْبًا إلَى صَبَّاغٍ فَصَبَغَهُ أَحْمَرَ عَلَى مَا أَمَرَهُ بِهِ فَقَالَ الصَّبَّاغُ : صَبَغْتُهُ بِدِرْهَمٍ وَقَالَ رَبُّ الثَّوْب : بِدَانِقَيْنِ وَإِنِّي أَنْظُرُ إلَى مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ فَإِنْ زَادَ دِرْهَمًا ، أَوْ أَكْثَرَ فَلَهُ دِرْهَمٌ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ الصَّبَّاغُ مَا صَبَغَهُ بِدَانِقَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ دَانِقَيْنِ ، أَوْ أَقَلَّ ؛ فَإِنَّهُ يُعْطِيهِ دَانِقَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ رَبُّ الثَّوْبِ مَا صَبَغَهُ بِدِرْهَمٍ كَمَا يَدَّعِيهِ الصَّبَّاغُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي بَابِ الْخُصُومَاتِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الصَّبَّاغَ لَا يَجْعَلُ فِي ثَوْبِ إنْسَانٍ صِبْغًا يُسَاوِي دِرْهَمًا بِدَانِقَيْنِ إذَنْ يَخْسَرُ وَهُوَ مَا جَلَسَ لِهَذَا وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَلْتَزِمُ دِرْهَمًا بِإِزَاءِ صَبْغٍ يُسَاوِي دَانِقَيْنِ إذَنْ يَغْبِنُ وَالْمَغْبُونُ لَا مَحْمُودٌ وَلَا مَأْجُورَ ، فَإِذَا كَانَ قِيمَةُ الصَّبْغِ دِرْهَمًا ، أَوْ أَكْثَرَ فَلَهُ فَالظَّاهِرُ شَاهِدٌ لِلصَّبَّاغِ فَيُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى دَعْوَى خَصْمِهِ ، وَإِذَا كَانَتْ قِيمَةُ الصَّبْغِ أَقَلَّ مِنْ دَانِقَيْنِ فَالظَّاهِرُ شَاهِدٌ لِرَبِّ الثَّوْبِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى دَعْوَى خَصْمِهِ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ دَانِقَيْنِ وَأَقَلَّ مِنْ دِرْهَمٍ أَعْطَيْت الصَّبَّاغَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ مَا صَبَغَهُ بِدَانِقَيْنِ وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَقُولُ : هُنَا يَتَحَالَفَانِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ لَا يَشْهَدُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ عَلَى قِيَاسِ اخْتِلَافِ الزَّوْجَيْنِ فِي الْمَهْرِ إذَا كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ لَا يَشْهَدُ لِقَوْلٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَالَ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا تَخَالُفَ هُنَا بَلْ الْيَمِينُ عَلَى الصَّبَّاغِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ الْمُبْتَغَى بِالتَّحَالُفِ الْفَسْخُ وَبَعْدَ اتِّصَالِ الصَّبْغِ بِالثَّوْبِ لَا تَصَوُّرَ لِفَسْخِ الْعَقْدِ فَلَا مَعْنَى لِلتَّحَالُفِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ ؛ فَإِنَّهُ مُحْتَمِلٌ

لِلْفَسْخِ بِبَعْضِ الْأَسْبَابِ وَإِذَا لَمْ يَجِبْ التَّحَالُفُ هُنَا كَانَ عَلَى رَبِّ الثَّوْبِ قِيمَةُ الصَّبْغِ ؛ لِأَنَّ لَاتِّصَالِ الصَّبْغِ بِالثَّوْبِ مُوجِبًا وَهُوَ قِيمَتُهُ عَلَى رَبِّ الثَّوْبِ كَالْغَاضِبِ إذَا صَبَغَ ثَوْبَ إنْسَانٍ وَأَرَادَ رَبُّ الثَّوْبِ أَخْذَهُ أَعْطَاهُ قِيمَةَ الصَّبْغِ إلَّا أَنَّ رَبَّ الثَّوْبِ هُنَا يَدَّعِي بَرَاءَتَهُ عَنْ بَعْضِ الْقِيمَةِ بِرِضَاءِ الصَّبَّاغِ بِدَانِقَيْنِ وَالصَّبَّاغُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَيَحْلِفُ عَلَى دَعْوَاهُ لِهَذَا الْمَعْنَى ، وَإِنْ كَانَ الصَّبْغُ سَوَادًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ السَّوَادَ نُقْصَانٌ فَلَا يُمْكِنُ تَحْكِيمِ قِيمَةِ الصَّبْغِ بِنَفْيِ ظَاهِرِ الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارِ ، وَالصَّبَّاغُ يَدَّعِي زِيَادَةً فِي حَقِّهِ وَرَبُّ الثَّوْبِ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَيَحْلِفُ عَلَى دَعْوَاهُ لِهَذَا الْمَعْنَى وَلَوْ قَالَ رَبُّ الثَّوْبِ صَبَغْتَهُ لِي بِغَيْرِ أَجْرٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ صَبْغٍ يُنْقِصُ الثَّوْبَ ، فَأَمَّا كُلُّ صَبْغٍ يَزِيدُ فِي الثَّوْبِ قَالَ رَبُّ الثَّوْبِ صَبَغْتَهُ لِي بِغَيْرِ أَجْرٍ وَقَالَ الصَّبَّاغُ صَبَغْتُهُ بِدِرْهَمٍ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْيَمِينُ عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ وَلَيْسَ هَذَا بِتَحَالُفٍ لِلِاخْتِلَافِ فِي بَدَلِ الْعَقْدِ ، وَلَكِنَّ الصَّبَّاغَ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ دِرْهَمًا عَلَى رَبِّ الثَّوْبِ وَرَبَّ الثَّوْبِ مُنْكِرٌ فَعَلَيْهِ الْيَمِينُ ، وَرَبُّ الثَّوْبِ يَدَّعِي عَلَى الصَّبَّاغِ أَنَّهُ وَهَبَ الصَّبْغَ مِنْهُ وَقَدْ تَمَّتْ الْهِبَةُ بِاتِّصَالِهِ بِمِلْكِهِ وَالصَّبَّاغُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ ، ثُمَّ يَضْمَنُ رَبُّ الثَّوْبِ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِي ثَوْبِهِ ؛ لِأَنَّ مَا ادَّعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا انْتَفَى بِيَمِينِ صَاحِبِهِ يَبْقَى صَبْغُ الْغَيْرِ مُتَّصِلًا بِثَوْبِهِ بِإِذْنِهِ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ دِرْهَمًا ؛ لِأَنَّ الصَّبَّاغَ لَا يَدَّعِي أَكْثَرَ مِنْ دِرْهَمٍ فَهُوَ بِهَذِهِ الدَّعْوَى يَصِيرُ مُبْرِئًا لَهُ عَنْ الزِّيَادَةِ عَلَى

دِرْهَمٍ .

وَلَوْ اخْتَلَفَ الْقَصَّارُ وَرَبُّ الثَّوْبِ فِي مِقْدَارِ الْأُجْرَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَخَذَ فِي الْعَمَلِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ نَوْعُ بَيْعٍ وَقَدْ وَرَدَ النَّصُّ بِالتَّحَالُفِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي الْبَدَلِ فَيَعُمُّ ذَلِكَ أَنْوَاعَ الْبُيُوعِ ، ثُمَّ التَّحَالُفُ مَشْرُوعٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِطَرِيقِ الْفَسْخِ حَتَّى يَعُودَ إلَيْهِ رَأْسُ مَالِهِ وَعَقْدُ الْإِجَارَةِ مُحْتَمَلٌ لِلْفَسْخِ قَبْلَ إقَامَةِ الْعَمَلِ كَالْبَيْعِ ؛ فَلِهَذَا يَجِبُ التَّحَالُفَ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ كَانَ قَدْ فَرَغَ مِنْ الْعَمَلِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَصَوُّرَ لِلْفَسْخِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ فَلَا مَعْنَى لِلتَّحَالُفِ بَيْنَهُمَا وَلَكِنَّ الْقَصَّارَ يَدَّعِي زِيَادَةً فِي حَقِّهِ وَرَبَّ الثَّوْبِ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَهَذَا ظَاهِرٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ؛ فَإِنَّ هَلَاكَ السِّلْعَةِ عِنْدَهُمَا يَمْنَعُ التَّحَالُفَ فِي الْبَيْعِ ، فَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فَيَقُولُ التَّحَالُفَ هُنَاكَ مُفِيدٌ ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ عَيْنُ مَالٍ مُتَقَوِّمٌ بِنَفْسِهِ فَيُمْكِنُ إيجَابُ قِيمَتِهِ بَعْدَ انْتِفَاءِ الْعَقْدِ بِالتَّحَالُفِ وَهُنَا الْمَنَافِعُ لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ فَلَوْ تَحَالَفَا هُنَا انْتَفَى الْعَقْدُ بِالتَّحَالُفِ فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ شَيْءِ لِلْقَصَّارِ فَكَانَ جَعْلُ الْقَوْلِ قَوْلَ رَبِّ الثَّوْبِ مَعَ يَمِينِهِ أَنْفَعَ لِلْقَصَّارِ ؛ فَلِهَذَا لَا يُصَارُ إلَى التَّحَالُفِ هُنَا وَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ مَا أَقَامَ بَعْضَ الْعَمَلِ فَفِي حِصَّةِ مَا أَقَامَ الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ مَعَ يَمِينِهِ وَفِي حِصَّةِ مَا بَقِيَ يَتَحَالَفَانِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ فِي الْبَاقِي مُمْكِنٌ وَفِي حِصَّةِ مَا بَقِيَ يَتَحَالَفَانِ اعْتِبَارًا وَفِيمَ أَقَامَ مِنْ الْعَمَلِ مُتَعَذِّرُ وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَ

هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا اشْتَرَى عَبْدَيْنِ فَهَلَكَ أَحَدُهُمَا ، ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ فَقَالَ : هُنَاكَ لَا يَتَحَالَفَانِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِيهِمَا وَاحِدٌ فَإِذَا تَعَذَّرَ فَسْخُهُ فِي الْبَعْضِ بِالْهَلَاكِ يَتَعَذَّرُ فَسْخُهُ فِيمَا بَقِيَ وَهُنَا عَقْدُ لِإِجَارَةِ فِي حُكْمِ عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ يَتَجَدَّدُ انْعِقَادُهَا بِحَسْبِ مَا يُقِيمُ عَلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ فَإِنَّ تَعَذَّرَ فَسْخِهِ فِي الْبَعْضِ لَا يَمْنَعُ الْفَسْخَ فِيمَا بَقِيَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : عَمِلْتُهُ لِي بِغَيْرِ أَجْرٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يُنْكِرُ وُجُوبَ الْأَجْرِ عَلَيْهِ وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ الْقَوْلُ قَوْلُ الْأَجِيرِ إلَى أَجْرِ مِثْلِهِ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الصَّبَّاغِ وَقَدْ أَشَرْنَا إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فَهُنَاكَ الصَّبْغُ عَيْنُ مَالٍ قَائِمٍ فِي الثَّوْبِ وَهُوَ مُتَقَوِّمٌ بِنَفْسِهِ وَهُنَا لَا قِيمَةَ لِلْمَنْفَعَةِ بِدُونِ التَّسْمِيَةِ وَقَدْ أَنْكَرَ رَبُّ الثَّوْبِ التَّسْمِيَةَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ .

وَلَوْ شَارَطَ قَصَّارًا عَلَى أَنْ يُقَصِّرَ لَهُ عَشَرَةَ أَثْوَابٍ بِدِرْهَمٍ وَلَمْ يُرِهِ الثِّيَابَ وَلَمْ تَكُنْ عِنْدَهُ كَانَ فَاسِدًا ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ ؛ فَإِنَّهُ الْوَصْفُ الَّذِي يَحْدُثُ فِي الثَّوْبِ بِعَمَلِهِ ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الثِّيَابِ فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالصَّفَاقَةِ وَالرِّقَّةِ وَالْجُودَةِ وَالرَّدَاءَةِ وَعَمَلُهُ يَتَفَاضَلُ بِحَسَبِ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ أَرَاهُ الثِّيَابَ كَانَ جَائِزًا ؛ لِأَنَّ بِرُؤْيَةِ الْمَحَلِّ يَصِيرُ مِقْدَارُ الْعَمَلِ فِيهِ مَعْلُومًا ، وَلَوْ مُسَمًّى لَهُ جِنْسًا مِنْ الثِّيَابِ كَانَ مِثْلَ ذَلِكَ مَا لَمْ يُرِهَا إيَّاهُ ؛ لِأَنَّ بِتَسْمِيَةِ الْجِنْسِ لَا يَصِيرُ مِقْدَارُ الْعَمَلِ فِيهِ مَعْلُومًا فَإِنْ بَالَغَ فِي بَيَانِ الصِّفَةِ عَلَى وَجْهٍ يَصِيرُ مِقْدَارُ عَمَلِهِ مَعْلُومًا فَهُوَ وَإِرَاءَتُهُ الثِّيَابَ سَوَاءٌ .

وَلَوْ أَسْلَمَ ثَوْبًا إلَى خَيَّاطٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يَخِيطَهُ قَمِيصًا بِدِرْهَمٍ فَخَاطَهُ قَبَاءً فَلِصَاحِبِ الثَّوْبِ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْقَبَاءَ وَأَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سُمِّيَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ فِي أَصْلِ الْخِيَاطَةِ مُوَافِقٌ وَفِي الْهَيْئَةِ وَالصِّفَةِ مُخَالِفٌ وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَقُولُونَ الْقَبَاءُ وَالْقَمِيصُ تَتَفَاوَتَانِ فِي الِاسْتِعْمَالِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَّفِقُ فَلَمْ يَكُنْ فِي أَصْلِ مَقْصُودِهِ مُخَالِفًا وَإِنَّمَا خَالَفَهُ فِي تَتْمِيمِ الْمَقْصُودِ حَتَّى لَوْ خَاطَهُ سَرَاوِيلًا كَانَ غَاضِبًا ضَامِنًا وَلَا خِيَارٍ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مُقَارَبَةَ بَيْنَ الْقَمِيصِ وَالسَّرَاوِيلِ فِي الِاسْتِعْمَالِ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْجَوَابَ فِي الْفَصْلَيْنِ وَاحِدٌ وَقَدْ رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ شَبَهًا لِيَضْرِبَ لَهُ طَسْتًا فَضَرَبَهُ كُوزًا فَهُوَ بِالْخِيَارِ وَلَا مُقَارَبَةَ فِي الِاسْتِعْمَالِ هُنَا وَلَكِنَّهُ مُوَافِقٌ فِي أَصْلِ الصَّنْعَةِ مُخَالِفٌ فِي الْهَيْئَةِ وَالصِّفَةِ ، فَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الثَّوْبِ ، وَإِنْ خَاطَهُ سَرَاوِيلَ فَهُوَ فِي أَصْلِ الْخِيَاطَةِ مُوَافِقٌ وَفِي الْهَيْئَةِ مُخَالِفٌ فَإِنْ قَالَ رَبُّ الثَّوْبِ أَمَرْتُكَ بِقَمِيصٍ وَقَالَ الْخَيَّاطُ أَمَرَتْنِي بِقَبَاءٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ مَعَ يَمِينِهِ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ : الْقَوْلُ قَوْلُ الْخَيَّاطِ لِإِنْكَارِهِ الْخِلَافَ وَالضَّمَانَ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : إنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي الْبَدَلِ تَحَالَفَا إذَا كَانَ قَبْلَ إقَامَةِ الْعَمَلِ فَكَذَلِكَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلَكِنْ هَذَا لَا مَعْنَى لَهُ هُنَا ؛ لِأَنَّ رَبَّ الثَّوْبِ يَدَّعِي عَلَيْهِ ضَمَانَ قِيمَةِ الثَّوْبِ وَالْخَيَّاطَ يُنْكِرُ ذَلِكَ وَيَدَّعِي الْأَجْرَ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ رَبِّ الثَّوْبِ فَلَا يَكُونُ هَذَا فِي مَعْنَى مَا وَرَدَ الْأَثَرُ بِالتَّحَالُفِ فِيهِ مَعَ

أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّحَالُفِ الْفَسْخُ وَبَعْدَ إقَامَةِ الْعَمَلِ لَا وَجْهَ لِلْفَسْخِ ، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْخَيَّاطِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُدَّعِي الْإِذْنَ فِي خِيَاطَةِ الْقَبَاءِ وَالْوَفَاءِ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَتَقَرَّرَ الْأَجْرُ فِي ذِمَّةِ صَاحِبِ الثَّوْبِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْأَجْرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الثَّوْبِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْخَيَّاطِ ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ صَاحِبُ الثَّوْبِ : خَيِّطْهُ لِي بِغَيْرِ أَجْرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى قِيَاسِ مَا بَيَّنَّا فِي الْقِصَارَةِ ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْخِيَاطَةِ الْمُتَّصِلِ بِالثَّوْبِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ بِنَفْسِهِ وَلَمْ يَذْكَرْ فِي الْكِتَابِ مَا إذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُشَارِطْهُ عَلَى شَيْءٍ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ وَفِي النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا أَجْرَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِعَقْدِ ضَمَانٍ ، أَوْ بِتَسْمِيَةِ عِوَضٍ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : أَسْتَحْسِنُ إذَا كَانَ خَيَّطَ لَهُ فَأَوْجَبَ الْأَجْرَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْخِيَاطَةَ الَّتِي بَيْنَهُمَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ طَلَبَ مِنْهُ إقَامَةَ الْعَمَلِ بِأَجْرِهِ فَقَامَ ذَلِكَ مَقَامَ الشَّرْطِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : إنْ كَانَ الْعَامِلُ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ الْعَمَلِ بِالْأَجْرِ فُتِحَ الْحَانُوتُ لِأَجْلِهِ فَذَلِكَ يَنْزِلُ مَنْزِلَ شَرْطِ الْأَجْرِ وَيُقْضَى لَهُ بِالْأَجْرِ اسْتِحْسَانًا .

وَلَوْ أَعْطَى صَبَّاغًا ثَوْبًا لِيَصْبُغَهُ بِعُصْفُرٍ بِرُبْعِ الْهَاشِمِيِّ بِدِرْهَمٍ فَصَبَغَهُ بِقَفِيزِ عُصْفُرٍ وَأَقَرَّ رَبُّ الثَّوْبِ بِذَلِكَ فَرَبُّ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الثَّوْبِ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ وَأَعْطَاهُ مَا زَادَ الْعُصْفُرُ فِي قِيمَةِ الثَّوْبِ مَعَ الْأَجْرِ وَمَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الرُّبْعَ الْهَاشِمِيَّ هُوَ الصَّاعُ وَهُوَ رُبْعُ قَفِيزٍ فَكَأَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يَصْبُغَهُ صَبْغًا غَيْرَ مُشَبَّعٍ وَقَدْ صَبَغَ صَبْغًا مُشَبَّعًا فَكَانَ فِي أَصْلِ الْعَمَلِ مُوَافِقًا ، وَفِي الصِّفَةِ مُخَالِفًا فَيُجْبَرُ صَاحِبُ الثَّوْبِ لِذَلِكَ ، ثُمَّ أَطْلَقَ الْجَوَابُ فِي الْكِتَابِ وَمَشَايِخُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ قَالُوا يُقَسَّمُ الْجَوَابُ فِيهِ فَإِمَّا أَنْ يَصْبُغَهُ بِرُبْعِ الْهَاشِمِيِّ ، أَوْ لَا ثُمَّ بِالزِّيَادَةِ إلَى تَمَامِ الْقَفِيزِ ، أَوْ يَصْبُغَهُ بِالْقَفِيزِ دَفْعَةً وَاحِدَةً فَإِنْ كَانَ صَبَغَهُ بِرُبْعِ الْهَاشِمِيِّ أَوَّلًا فَصَاحِبُ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ أَبْيَضَ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ مَصْبُوغًا بِرُبْعِ الْهَاشِمِيِّ وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَ الْعَمَلَ الْمَشْرُوطَ وَصَارَ ذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ كَالْمُسْلَمِ إلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ لِاتِّصَالِهِ بِالثَّوْبِ ، ثُمَّ غَيَّرَهُ قَبْلَ تَمَامِ التَّسْلِيمِ فَإِنْ شَاءَ لَمْ يَرْضَ بِهِ مُتَغَيِّرًا وَضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ أَبْيَضَ ، وَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ مُتَغَيِّرًا وَضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مَصْبُوغًا بِرُبْعِ الْهَاشِمِيِّ وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ مَعَ قِيمَةِ مَا زَادَ مِنْ الْعُصْفُرِ فِيهِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ قَفِيزٍ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ غَصَبَ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِرُبْعِ قَفِيزٍ فَصَبَغَهُ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ قَفِيزٍ .
أَمَّا إذَا صَبَغَهُ بِقَفِيزٍ دَفْعَةً وَاحِدَةً فَصَاحِبُ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ أَبْيَضَ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ وَأَعْطَاهُ قِيمَةَ الصَّبْغِ وَلَا أَجْرَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَا أَقَامَ الْعَمَلَ

الْمَشْرُوطَ وَلَكِنَّهُ خَالَفَ فِي هَيْئَةِ الْعَمَلِ فِي الِابْتِدَاءِ وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ قِيمَةِ الصَّبْغِ فَلَا يُعْتَبَرُ الْأَجْرُ ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا تَبَعٌ لِلْآخَرِ فَلَا يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجِبُ الْأَجْرُ لَا يَنْظُرُ إلَى قِيمَةِ الصَّبْغِ فَهُنَا لَمَّا وَجَبَ قِيمَةُ الصَّبْغِ بِسَبَبِ مَا زَادَ مِنْ الصَّبْغِ فِيهِ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْأَجْرِ وَالْحَاكِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْمُنْتَقَى ذَكَرَ هَذَا التَّقْسِيمَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ إذَا دَفَعَ ثَوْبًا لِيَصْبُغَهُ بِمَنِّ عُصْفُرٍ بِدِرْهَمٍ فَصَبَغَهُ بِمَنَوَيْنِ دَفْعَةً وَاحِدَةً فَصَاحِبُ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ أَبْيَضَ ، وَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ الْأَجْرَ دِرْهَمًا مَعَ قِيمَةٍ مِنْ الصَّبْغِ قَالَ : ( قُلْتُ ) لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِمَ لَا يَضْمَنُ لَهُ قِيمَةَ مَنَوَيْنِ مِنْ الصَّبْغِ قَالَ : لِأَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ يَقُولُ : أَنَا خَادَعْتُهُ حَتَّى رَضِيَ بِدِرْهَمٍ مِنْ قِيمَةِ مَنِّ الصَّبْغِ وَرُبَّمَا تَكُونُ قِيمَتُهُ خَمْسَةً فَبَعْدَ وُجُودِ الرِّضَى مِنْهُ بِهَذَا الْمِقْدَارِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَضْمَنَ زِيَادَةً عَلَيْهِ ؛ فَلِهَذَا أَعْطَاهُ الْأَجْرَ مَعَ قِيمَةِ مَنِّ الصَّبْغِ ، وَإِنْ كَانَ مَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ الْأَصَحُّ وَلِأَنَّهُ ، وَإِنْ صَبَغَهُ جُمْلَةً فَإِنَّمَا يَتَشَرَّبُ فِيهِ الصَّبْغُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَإِذَا تَشَرَّبَ فِيهِ الْمِقْدَارُ الْمَشْرُوطُ وَجَبَ الْأَجْرُ فَكَانَ هَذَا وَمَا لَوْ صَبَغَهُ بِدَفْعَتَيْنِ سَوَاءٌ وَلَوْ قَالَ رَبُّ الثَّوْبِ لَمْ تَصْبُغْهُ إلَّا بِرُبْعٍ عُصْفُرٍ فَإِنْ كَانَ مِثْلُ ذَلِكَ الصَّبْغِ يَكُونُ بِرُبْعِ الْهَاشِمِيِّ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عِلْمِهِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ وَهُوَ يُنْكِرُ وُجُوبَ قِيمَةِ الصَّبْغِ عَلَيْهِ وَالِاسْتِحْلَافُ عَلَى الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الصَّبَّاغُ بَيِّنَةً ، وَإِنْ كَانَ مِثْلُ ذَلِكَ لَا

يَكُونُ بِرُبْعِ عُصْفُرٍ وَكَانَ ذَلِكَ يُعْرَفُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الصَّبَّاغِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ وَالْجَوَابُ فِيهِ كَالْجَوَابِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى .

وَلَوْ قَالَ لِخَيَّاطٍ : اُنْظُرْ إلَى هَذَا الثَّوْبِ فَإِنْ كَفَانِي قَمِيصًا فَاقْطَعْهُ بِدِرْهَمٍ وَخِطْهُ فَقَالَ : نَعَمْ ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ مَا قَطَعَهُ : إنَّهُ لَا يَكْفِيَكَ فَالْخَيَّاطُ ضَامِنٌ لِقِيمَةِ الثَّوْبِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْإِذْنَ بِالشَّرْطِ وَالْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَ الشَّرْطِ فَإِذَا لَمْ يَكْفِهِ قَمِيصًا فَإِنَّمَا قَطَعَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَمَنْ قَطَعَ ثَوْبَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لَقِيمَتِهِ وَلَوْ قَالَ لَهُ : اُنْظُرْ أَيَكْفِينِي قَمِيصًا فَقَالَ : نَعَمْ ، فَقَالَ : اقْطَعْهُ فَإِذَا هُوَ لَا يَكْفِيهِ لَمْ يَضْمَنْ ؛ لِأَنَّهُ قَطَعَهُ بِإِذْنِهِ فَإِنَّ قَوْلَهُ اقْطَعْهُ إذْنٌ مُطْلَقٌ وَلَا يُقَالُ قَدْ غَرَّهُ بِقَوْلِهِ يَكْفِيك ؛ لِأَنَّ الْغُرُورَ بِمُجَرَّدِ الْخَبَرِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي ضِمْنِ عَقْدِ ضَمَانٍ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْغَارِ كَمَا لَوْ قَالَ : هَذَا الطَّرِيقُ آمِنٌ فَسَلَكَ فِيهِ فَأَخَذَ اللُّصُوصُ مَتَاعَهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَانْعِدَامُ الْإِذْنِ هُنَاكَ بِمَا صَرَّحَ فِي لَفْظِهِ مِنْ الشَّرْطِ حَتَّى لَوْ كَانَ فِي لَفْظِهِ هُنَا مَا يَدُلُّ عَلَى الشَّرْطِ بِأَنْ يَقُولُ : فَاقْطَعْهُ ، أَوْ اقْطَعْهُ إذًا فَهُوَ ضَامِنٌ إذَا لَمْ يَكْفِهِ ؛ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلْوَصْلِ فَبِذِكْرِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ شَارِطٌ لِلْكِفَايَةِ فِي الْإِذْنِ وَقَوْلُهُ إذًا إشَارَةٌ إلَى مَا سَبَقَ فَكَأَنَّهُ قَالَ : اقْطَعْهُ إذَا كَانَ يَكْفِينِي ؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ إلَّا أَنَّهُ أَوْجَزَ كَلَامَهُ ، وَلَوْ سَلَّمَ ثَوْبًا إلَى خَيَّاطٍ فَقَطَّعَهُ لَهُ قَبَاءً فَقَالَ : بَطِّنْهُ مِنْ عِنْدِكَ وَاحْشُهُ عَلَى أَنَّ لَكَ مِنْ الْأَجْرِ كَذَا ، وَكَذَا فَهُوَ مِثْلُ الْخُفِّ الَّذِي أَمَرَهُ أَنْ يُبَطِّنَهُ وَيُنْعِلَهُ فِي الْقِيَاسِ ، وَلَكِنْ لَا أُجِيزُ هَذَا اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحْسَنٌ فِي الْقِيَاسِ بِالتَّعَامُلِ وَهَذَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ فَيُسْتَحْسَنُ الْعَوْدُ إلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ فِيهِ وَيُقَالُ إنَّهُ مُشْتَرًى لِمَعْدُومٍ ، أَوْ لِمَجْهُولٍ فَلَا يَجُوزُ وَلِأَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْخُفَّ بِدُونِ

النَّعْلِ وَالْبِطَانَةِ يُسَمَّى خُفًّا وَلَكِنْ بِالنَّعْلِ وَالْبِطَانَةِ يَصِيرُ أَحْكَمَ فَمَا شُرِطَ عَلَيْهِ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ تَبَعًا لِلْعَمَلِ ، فَأَمَّا الْقَبَاءُ وَالْجُبَّةُ لَا تَكُونُ بِدُونِ الْبِطَانَةِ وَالْحَشْوِ وَإِذَا كَانَ مَا الْتَمَسَ مِنْهُ لَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ إلَّا بِمَا شَرَطَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَبَعًا لِلْعَمَلِ وَإِنَّمَا هُوَ اسْتِصْنَاعٌ لَا تَعَامَلَ فِيهِ فَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فَإِنْ أَتَاهُ بِالْقَبَاءِ مُبَطَّنًا مَحْشُوًّا فَلِلْخَيَّاطِ قِيمَةُ بِطَانَتِهِ وَحَشْوِهِ وَأَجْرُ خِيَاطَتِهِ وَلَا تُجَاوِزُ بِهِ مَا سَمَّى لَهُ فِي أَجْرِ خِيَاطَتِهِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَهُ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ ، فَكَذَلِكَ اسْتَوْفَى غَيْرَ مِلْكِهِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّهُ فَيَلْزَمُهُ قِيمَةُ الْمُشْتَرَى بَالِغًا مَا بَلَغَ وَأَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سُمِّيَ لَهُ وَبِهَذَا اللَّفْظِ يَسْتَدِلُّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مِمَّنْ يَقُولُ فِي الْفُصُولِ الْمُتَقَدِّمَةِ إنَّ قَوْلَهُ لَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سُمِّيَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ خَاصَّةً دُونَ قِيمَةِ مَا زَادَ فِيهِ وَالْأَصَحِّ هُوَ الْفَرْقُ ؛ لِأَنَّ الْحَشْوَ وَالْبِطَانَةَ هُنَا لَمْ تَكُنْ فِي الْعَقْدِ تَبَعًا فِي الْعَمَلِ وَلِذَلِكَ فَسَدَ الْعَقْدُ فِي الْأَصْلِ وَإِذَا وَجَبَ اعْتِبَارُهُمَا مَقْصُودًا بِقِيمَتِهَا بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ وَفِيمَا سَبَقَ النَّعْلُ وَالْبِطَانَةُ فِي الْخُفِّ ، وَالْحَشْوُ وَالْبِطَانَةُ فِي الْقَلَنْسُوَةِ جُعِلَ تَبَعًا لِلْعَمَلِ فِي الْعَقْدِ وَلِذَلِكَ جَازَ الْعَقْدُ فَكَمَا أَنَّ فِي أَصْلِ الْعَمَلِ لَا يُجَاوِزُ بِالْبَدَلِ مَا سُمِّيَ لَهُ ، فَكَذَلِكَ فِيمَا هُوَ تَبَعٌ لَهُ .

وَلَوْ أَعْطَاهُ ثَوْبًا وَبِطَانَةً وَقُطْنًا وَأَمَرَهُ أَنْ يُقَطِّعَهُ جُبَّةً وَيَحْشُوَهَا وَيَنْدِفَ الْقُطْنَ عَلَيْهَا وَسَمَّى الْأَجْرَ لَهُ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِعَمَلٍ مَعْلُومٍ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ .

وَلَوْ شَرَطَ عَلَى خَيَّاطٍ أَنْ يَقْطَعَ لَهُ عَشْرَ قُمُصٍ كُلُّ قَمِيصٍ بِدِرْهَمٍ وَلَمْ يُسَمِّ لَهُ قَدْرَهَا وَجِنْسَهَا لَمْ يَجُزْ لِجَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ فَعَمَلُ الْخَيَّاطِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ جِنْسِ الثِّيَابِ وَبِاخْتِلَافِ الْقَمِيصِ فِي الطُّولِ وَالْقِصَرِ وَلَوْ قَالَ : الثِّيَابُ هَرَوِيَّةٌ وَمِقْدَارُهُ عَلَى هَذَا الشَّيْءِ مَعْرُوفٌ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ الْعَمَلِ بِمَا سُمِّيَ يَصِيرُ مَعْلُومًا عَلَى وَجْهٍ لَا يُبْقِي بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ .

وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ ثَوْبًا لِيَقْطَعَهُ قَمِيصًا وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ إنْ خَاطَهُ الْيَوْمَ فَلَهُ دِرْهَمٌ ، وَإِنْ لَمْ يَفْرُغْ مِنْهُ الْيَوْمَ فَلَهُ نِصْفُ دِرْهَمٍ ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ خَاطَهُ الْيَوْمَ فَلَهُ دِرْهَمٌ وَإِنْ لَمْ يَفْرُغْ مِنْهُ الْيَوْمَ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يَنْقُصُ عَنْ نِصْفِ دِرْهَمٍ وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ دِرْهَمًا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : هُوَ عَلَى مَا اشْتَرَطَ إذَا فَرَغَ مِنْهُ الْيَوْمُ فَلَهُ دِرْهَمٌ ، وَإِنْ فَرَغَ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ نِصْفُ دِرْهَمٍ وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْعَقْدُ فَاسِدٌ كُلُّهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَذِهِ فُصُولٌ ( أَحَدُهَا ) أَنْ يَقُولَ إنْ خِطْته الْيَوْمَ فَلَكَ دِرْهَمٌ ، وَإِنْ خِطْته غَدًا فَلَا شَيْءَ لَكَ وَهُوَ فَاسِدٌ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مُخَاطَرَةٌ ؛ فَإِنَّهُ شَرَطَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ دِرْهَمًا إنْ خَاطَهُ الْيَوْمَ وَلِنَفْسِهِ عَلَيْهِ الْعَمَلُ إنْ لَمْ يَخِطْهُ الْيَوْمَ وَهُوَ صُورَةُ الْقِمَارِ فَكَانَ فَاسِدًا وَلِأَنَّهُ يَصِيرُ تَقْدِيرُ كَلَامِهِ كَأَنَّهُ قَالَ : لَكَ أَجْرُ دِرْهَمٍ عَلَى خِيَاطَتِكَ ، أَوْ لَا شَيْءَ وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا وَكَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ دِرْهَمًا فَهَذَا مِثْلُهُ ( وَالْفَصْلُ ) الثَّانِي أَنْ يَقُولَ إنْ خِطْتَ خِيَاطَةً رُومِيَّةً فَلَكَ دِرْهَمٌ ، وَإِنْ خِطْتَهُ خِيَاطَةً فَارِسِيَّةً فَلَكَ نِصْفُ دِرْهَمٍ ، أَوْ يَقُولَ إنْ خِطْته قَبَاءً فَلَكَ دِرْهَمٌ ، وَإِنْ خِطْتُهُ قَمِيصًا فَلَكَ نِصْفُ دِرْهَمٍ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْأَوَّلِ الْعَقْدُ فَاسِدٌ كُلُّهُ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهُوَ الْقِيَاسُ ، ثُمَّ رَجَعَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ الشَّرْطَانِ جَائِزَانِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ : أَنَّ الْعَقْدَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ عِنْدَ الْعَقْدِ وَالْبَدَلَ مَجْهُولٌ وَجَهَالَةُ أَحَدِهِمَا فِي الْمُعَارَضَةِ تَكُونُ مُفْسِدَةً لِلْعَقْدِ فَجَهَالَتُهُمَا أَوْلَى كَمَا لَوْ قَالَ : بِعْتُ

مِنْكَ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، أَوْ هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِمِائَةِ دِينَارٍ أَوْ زَوَّجْتُكَ أَمَتِي هَذِهِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، أَوْ ابْنَتِي هَذِهِ بِمِائَةِ دِينَارٍ فَقَالَ : قَبِلْتُ كَانَ بَاطِلًا وَهَذَا ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ يَلْزَمُ بِنَفْسِهِ وَإِذَا لَمْ يُعَيِّنْ عَلَيْهِ نَوْعًا مِنْ الْعَمَلِ عِنْدَ الْعَقْدِ لَا يَدْرِي بِمَاذَا يُطَالِبُهُ فَكَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّهُ خَيَّرَهُ بَيْنَ نَوْعَيْنِ مِنْ الْعَمَلِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْلُومٌ فِي نَفْسِهِ وَالْبَدَلُ بِمُقَابَلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسَمًّى مَعْلُومٌ فَيَجُوزُ الْعَقْدُ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى ثَوْبَيْنِ عَلَى أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ يَأْخُذُ أَيَّهُمَا شَاءَ وَيَرُدُّ الْآخَرَ وَسَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ لَا يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا يَجِبُ بِالْعَمَلِ وَعِنْدَ الْعَمَلِ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْبَدَلِ مَعْلُومٌ ، وَكَذَلِكَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ فِي حَقِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَالْمُضَافِ وَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ عِنْدَ إقَامَةِ الْعَمَلِ وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا جَهَالَةَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ وَالْبَيْعِ فَالْعَقْدُ هُنَاكَ يَنْعَقِدُ لَازِمًا فِي الْحَالِ وَالْبَدَلُ يُسْتَحَقُّ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا عِنْدَ الْعَقْدِ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا ( وَالْفَصْلُ ) الثَّالِثُ أَنْ يَقُولَ إنْ خِطْتَهُ الْيَوْمَ فَلَكَ دِرْهَمٌ ، وَإِنْ خِطْتَهُ غَدًا فَلَكَ نِصْفُ دِرْهَمٍ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ جَائِزٌ وَالثَّانِي فَاسِدٌ وَعِنْدَهُمَا الشَّرْطَانِ جَائِزَانِ وَفِي الْقِيَاسِ يَفْسُدُ الشَّرْطَانِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ قَالَ : فِي الْبَيْعِ إنْ أَعْطَيْتَ لِي الثَّمَنَ إلَى شَهْرٍ فَعَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَإِنْ أَعْطَيْتَهُ إلَى شَهْرَيْنِ فَخَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا كَانَ الْعَقْدُ كُلُّهُ فَاسِدًا لِلتَّرَدُّدِ بَيْنَ التَّسْمِيَتَيْنِ ؛ وَلِهَذَا التَّرَدُّدِ أَفْسَدَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الشَّرْطَ

الثَّانِيَ فَكَذَلِكَ يَفْسُدُ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ وَهُمَا اعْتَبَرَا هَذَا فِي الْفَصْلِ الثَّانِي قَالَا : إنَّهُ سَمَّى عَمَلَيْنِ وَسَمَّى بِمُقَابَلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَلًا مَعْلُومًا فَيَجُوزُ الْعَقْدُ كَمَا فِي الْفَصْلِ الثَّانِي وَهَذَا ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ فِي الْغَدِ غَيْرُ عَمَلِهِ فِي الْيَوْمِ وَلِصَاحِبِ الثَّوْبِ فِي إقَامَةِ الْعَمَلِ وَفِي كُلِّ وَقْتٍ غَرَضٌ صَحِيحٌ وَإِنَّمَا يَجِبُ الْأَجْرُ عِنْدَ إقَامَةِ الْعَمَلِ وَلَا جَهَالَةَ عِنْدَ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ إنَّمَا أَفْسَدْنَا الْعَقْدَ لِمَعْنَى الْقِمَارِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا ؛ لِأَنَّهُ فِي الْيَوْمَيْنِ شَرَطَ الْأَجْرَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : عَلَّقَ الْبَرَاءَةَ عَنْ بَعْضِ الْأَجْرِ بِشَرْطِ فَوَاتِ مَنْفَعَةِ التَّعْجِيلِ بِقَوْلِهِ إنْ لَمْ تَفْرَغْ مِنْهُ الْيَوْمَ فَلَكَ نِصْفُ دِرْهَمٍ ، وَلَوْ عَلَّقَ الْبَرَاءَةَ عَنْ جَمِيعِ الْأَجْرِ بِهَذَا الشَّرْطِ لَمْ يَصِحَّ بِأَنْ قَالَ : وَإِنْ لَمْ تَفْرَغْ مِنْهُ الْيَوْمَ فَلَا شَيْءَ لَكَ ، فَكَذَلِكَ إذَا عَلَّقَ الْبَرَاءَةَ عَنْ بَعْضِ الْأَجْرِ بِهِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَلِأَنَّ الْبَرَاءَةَ لَا تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْخِيَاطَةَ فِي الْيَوْمَيْنِ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِنَّمَا تَفُوتُ مَنْفَعَةُ التَّعْجِيلِ بِتَأْخِيرِ الْعَمَلِ إلَى الْغَدِ بِخِلَافِ الْخِيَاطَةِ الرُّومِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ ؛ فَإِنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ تَعْلِيقَ الْبَرَاءَةِ عَنْ بَعْضِ الْأَجْرِ حَتَّى لَوْ قَالَ هُنَاكَ ، وَإِنْ خِطْتَهُ فَارِسِيًّا فَلَا أَجْرَ لَكَ كَانَ ذَلِكَ اسْتِعَانَةً صَحِيحَةً فِي خِيَاطَةِ الْفَارِسِيَّةِ ، وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِيمَا إذَا قَالَ لَهُ خِطْ هَذَا الثَّوْبَ الْيَوْمَ بِدِرْهَمٍ فَخَاطَهُ غَدًا مَاذَا يَجِبُ لَهُ فَفِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يَجِبُ الْمُسَمَّى بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ خِطْهُ بِدِرْهَمٍ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَجِبُ أَجْرُ الْمِثْلِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ دِرْهَمًا ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِالدِّرْهَمِ بِشَرْطِ مَنْفَعَةِ التَّعْجِيلِ

فَإِذَا فَاتَهُ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ أَجْرُ الْمِثْلِ فَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى يَقُولُ : اجْتَمَعَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي تَسْمِيَتَانِ دِرْهَمٌ وَنِصْفُ دِرْهَمٍ فَكَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا كَمَا لَوْ قَالَ : خِطْهُ بِدِرْهَمٍ ، أَوْ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ مُوجِبَ التَّسْمِيَةِ الْأُولَى عِنْدَ الْخِيَاطَةِ غَدًا الدِّرْهَمُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فَهُوَ بِالتَّسْمِيَةِ الثَّانِيَةِ يَضُمُّ الشَّرْطَ الثَّانِيَ إلَى الْأَوَّلِ فِي الْغَدِ مَعَ بَقَاءِ الْأَوَّلِ فَتَجْتَمِعُ تَسْمِيَتَانِ بِخِلَافِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا تَسْمِيَةٌ وَاحِدَةٍ وَهُوَ الدِّرْهَمُ ؛ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ نِصْفِ دِرْهَمٍ فِي الْغَدِ لَا مُوجِبَ لَهُ فِي الْيَوْمِ حَتَّى إذَا قَالَ : اسْتَأْجَرْتُكَ غَدًا لِتَخِيطَهُ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ فَخَاطَهُ الْيَوْمَ فَلَا أَجْرَ لَهُ ؛ فَلِهَذَا صَحَّ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي بِخِلَافِ الْخِيَاطَةِ الرُّومِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَجْتَمِعَ تَسْمِيَتَانِ فِي وَاحِدٍ مِنْ الْعَمَلَيْنِ حَتَّى لَوْ قَالَ : خِطْهُ خِيَاطَةً رُومِيَّةً بِدِرْهَمٍ فَخَاطَهُ خِيَاطَةً فَارِسِيَّةً كَانَ مُخَالِفًا وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَقُولُ : التَّسْمِيَةُ الْأُولَى لَهَا مُوجِبٌ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي وَهُوَ أَجْرُ الْمِثْلِ فَهُوَ بِتَسْمِيَةِ نِصْفِ دِرْهَمٍ قَصَدَ تَغْيِيرَ مُوجِبِ تِلْكَ التَّسْمِيَةِ مَعَ بَقَائِهَا وَذَلِكَ فَاسِدٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ ، وَإِنْ خِطْتَهُ غَدًا فَلَا شَيْءَ لَكَ بِخِلَافِ الْخِيَاطَةِ الرُّومِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدِ الْعَقْدَيْنِ مُوجِبٌ فِي الْعَمَلِ الْآخَرِ فَكَانَا عَقْدَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِبَدَلٍ مُسَمًّى مَعْلُومٍ فِيهَا فَلِهَذَا افْتَرَقَا .

وَإِذَا اشْتَرَى نَعْلًا بِدِرْهَمٍ وَشِرَاكًا مَعَهَا عَلَى أَنْ يَحْذُوَهَا الْبَائِعُ فَهُوَ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا لِكَوْنِهِ مُتَعَارَفًا بَيْنَ النَّاسِ وَإِذَا كَانَ أَصْلُ الْعَقْدِ يَجُوزُ لِلْعُرْفِ فَالشَّرْطُ فِي الْعَقْدِ إذَا كَانَ مُتَعَارَفًا لِلْجَوَازِ أَوْلَى .

وَإِنْ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنْ يَخِيطَهُ الْبَائِعُ بِعَشَرَةٍ فَهُوَ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ شَرْطٍ فِيهِ إجَارَةٌ ؛ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ بَعْضُ الْبَدَلِ بِمُقَابَلَةِ الْخِيَاطَةِ فَهِيَ إجَارَةٌ مَشْرُوطَةٌ فِي بَيْعٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِمُقَابَلَتِهَا شَيْءٌ مِنْ الْبَدَلِ فَهِيَ إعَانَةٌ مَشْرُوطَةٌ فِي الْبَيْعِ ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ وَهَذَا وَمَسْأَلَةُ النَّعْلِ فِي الْقِيَاسِ سَوَاءٌ غَيْرُ أَنَّ هُنَاكَ اسْتِحْسَانًا لِلْعُرْفِ وَلَا عُرْفَ هُنَا فَيُؤْخَذُ بِهِ بِالْقِيَاسِ .

وَلَوْ جَاءَ إلَى حَذَّاءٍ بِشِرَاكَيْنِ وَنَعْلَيْنِ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى أَنْ يَحْذُوَهُمَا لَهُ بِأَجْرٍ مُسَمًّى جَازَ ، وَإِنْ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ الشِّرَاكَيْنِ فَأَرَاهُمَا إيَّاهُ وَرَضِيَهُ ، ثُمَّ حَذَاهُمَا لَهُ كَانَ جَائِزًا أَيْضًا اسْتِحْسَانًا وَفِي الْخُفِّ يُنْعَلُ وَيُرَقَّعُ كَذَلِكَ الْجَوَابُ بِخِلَافِ مَا لَوْ شَرَطَ فِي الْجُبَّةِ وَالْقَبَاءِ الْبِطَانَةَ وَالْحَشْوَ عَلَى الْعَامِلِ وَالْفَرْقُ بِالْعُرْفِ ، ثُمَّ شَرَطَ هُنَا أَنْ يُرِيَهُ الشِّرَاكَ وَالنَّعْلَ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ إرَاءَتُهُ إيَّاهُ وَلَكِنْ إنْ أَعْلَمَهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُبْقِي بَيْنَهُمَا فِيهِ مُنَازَعَةٌ فَذَلِكَ كَافٍ لِمَا فِي شَرْطِ الْإِرَاءَةِ مِنْ بَعْضِ الْحَرَجِ .

وَلَوْ شَرَطَ عَلَى الْخَيَّاطِ أَنْ يَكُونَ كُمُّ الْقَمِيصِ مِنْ عِنْدِهِ كَانَ فَاسِدًا لِانْعِدَامِ الْعُرْفِ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَ عَلَى الْبَنَّاءِ أَنْ يَكُونَ الْآجُرُّ وَالْجِصُّ مِنْ عِنْدِهِ وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ يَشْتَرِطُ فِيهِ عَلَى الْعَامِلِ شَيْئًا مِنْ قِبَلِهِ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَهُوَ فَاسِدٌ إلَّا فِيمَا بَيَّنَّا لِلْعُرْفِ فَإِذَا عَمِلَهُ فَالْعَمَلُ لِصَاحِبِ الْمَتَاعِ وَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِهِ مَعَ قِيمَةِ مَا زَادَ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا لِمَا اشْتَرَاهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَتَعَذَّرَ رَدُّهُ حِينَ صَارَ وَصْفًا مِنْ أَوْصَافِ مِلْكِهِ وَاسْتَوْفَى عَمَلَهُ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَكَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ .

وَإِذَا رَدَّ الْقَصَّارُ عَلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ ثَوْبًا غَيْرَهُ خَطَأً ، أَوْ عَمْدًا فَقَطَعَهُ وَخَاطَهُ ، ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ يُضَمِّنُ أَيَّهُمَا شَاءَ ؛ لِأَنَّ الْقَصَّارَ جَانٍ فِي تَسْلِيمِ ثَوْبِهِ إلَى الْغَيْرِ ، وَالْقَابِضَ فِي قَبْضِهِ وَقَطْعِهِ وَخِيَاطَتِهِ ، فَيُضَمِّنُ أَيَّهُمَا شَاءَ فَإِنْ ضَمَّنَ الْقَصَّارَ فَقَدْ مَلَكَ الْقَصَّارُ الثَّوْبَ بِالضَّمَانِ وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْقَاطِعَ قَطَعَ ثَوْبَهُ وَخَاطَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ وَيُعَامَلُ بِمَا يُعَامَلُ بِهِ الْغَاصِبُ ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْقَاطِعَ لَمْ يَرْجِعْ الْقَاطِعُ بِهَذِهِ الْقِيمَةِ عَلَى الْقَصَّارِ ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ بِسَبَبِ عَمَلٍ بَاشَرَهُ لِنَفْسِهِ وَفِي الْوَجْهَيْنِ يَرْجِعُ عَلَى الْقَصَّارِ بِثَوْبِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَيَّنَ مِلْكَهُ وَقَدْ بَقِيَ فِي يَدِ الْقَصَّارِ فَيَأْخُذُهُ مِنْهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ مَتَى يَجِبُ لِلْعَامِلِ الْأَجْرُ .
( قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِذَا هَلَكَ الثَّوْبُ عِنْدَ الْقَصَّارِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ فَلَا أَجْرَ لَهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : هُوَ ضَامِنٌ إلَّا إذَا تَلِفَ بِأَمْرٍ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ كَالْحَرْقِ الْغَالِبِ ) وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِي كُلِّ أَجِيرٍ مُشْتَرَكٍ كَالْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ فِي حِفْظِ الثِّيَابِ وَغَيْرِهِ وَالْمُشْتَرَكُ مَنْ يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِالْعَمَلِ وَيَعْمَلُ لِغَيْرِ وَاحِدٍ وَلِهَذَا يُسَمَّى مُشْتَرَكًا وَلَا خِلَافَ أَنَّ أَجِيرَ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ ضَامِنًا ؛ لِمَا تَلِفَ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ وَهُوَ الَّذِي يَسْتَوْجِبُ الْبَدَلَ بِمُقَابَلَةِ مَنَافِعِهِ حَتَّى إذَا سَلَّمَ النَّفْسَ اسْتَوْجَبَ الْأَجْرَ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَعْمِلْهُ صَاحِبُهُ وَلَا يَمْلِكُ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ مِنْ آخَرَ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ خَالَفَ بِمُوجِبِ الْعَقْدِ فَكَانَ ضَامِنًا كَمَا إذَا دَقَّ الثَّوْبَ وَتَخَرَّقَ ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الْحِفْظُ وَعَقْدُ الْمُعَاوَضَةِ يَقْتَضِي سَلَامَةَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَنْ الْعَيْبِ فَيَكُونُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ حِفْظًا سَلِيمًا فَإِذَا سُرِقَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْحِفْظِ السَّلِيمِ فَكَانَ مُخَالِفًا مُوجِبَ الْعَقْدِ كَمَا قُلْنَا فِي الدَّقِّ فَالْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ وُفِّيَ سَلِيمًا عَنْ عَيْبِ التَّخَرُّقَ فَإِذَا تَخَرَّقَ كَانَ ضَامِنًا وَهَذَا فِي الْأَجِيرِ بِالْحِفْظِ ظَاهِرٌ ، وَكَذَلِكَ فِي الْقَصَّارِ فَإِنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى إقَامَةِ الْعَمَلِ إلَّا بِالْحِفْظِ ، وَالْعَمَلُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْمُسْتَحَقِّ إلَّا بِهِ يَكُونُ مُسْتَحَقًّا وَالْمُسْتَحَقُّ بِالْمُعَاوَضَةِ السَّلِيمُ دُونَ الْمَعِيبِ وَالْبَدَلِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِمُقَابَلَةِ الْحِفْظِ هُنَا لَكِنْ لَمَّا كَانَ مُسْتَحَقًّا بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ تُعْتَبَرُ

فِيهِ صِفَةُ السَّلَامَةِ كَأَوْصَافِ الْمَبِيعِ إلَّا أَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ يَكُونُ عَفْوًا كَمَا فِي السِّرَايَةِ فِي حَقِّ النِّزَاعِ فَإِنَّهُ عَفْوٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ وَالْقِيَاسُ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ الْعَيْنَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ لِمَنْفَعَتِهِ وَهُوَ إقَامَةُ الْعَمَلِ لَهُ فِيهِ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَالْمُودِعِ وَأَجِيرِ الْوَاحِدِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ إمَّا أَنْ يَكُونَ ضَمَانَ عَقْدٍ ، أَوْ ضَمَانَ جُبْرَانٍ وَالْعَقْدُ وَارِدٌ عَلَى الْعَمَلِ لَا عَلَى الْعَيْنِ فَلَا تَصِيرُ الْعَيْنُ بِهِ مَضْمُونَةً وَالْجُبْرَانُ لِلْفَوَاتِ وَهُوَ مَا فَوَّتَ عَلَى الْمَالِكِ شَيْئًا حِينَ قَبَضَهُ بِإِذْنِهِ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ لَا يَضْمَنُ أَجِيرُ الْوَاحِدِ ، فَكَذَلِكَ الْمُشْتَرَكُ وَهُمَا يَقُولَانِ يُسْتَحْسَنُ فَنُضَمِّنُ الْمُشْتَرَكَ احْتِيَاطًا بِخِلَافِ الْخَاصِّ فَالْعَيْنُ هُنَاكَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّ أَجِيرَ الْخَاصِّ يَعْمَلُ لَهُ فِي بَيْتِهِ وَلِأَنَّ الْبَدَلَ هُنَاكَ لَيْسَ بِمُقَابَلَةِ الْعَمَلِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ السَّلَامَةُ عَنْ الْعَيْبِ وَلَكِنَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : هَذَا نَظَرٌ فِيهِ ضَرَرٌ فِي حَقِّ الْأَجِيرِ وَهُوَ أَنْ يَلْزَمَهُ مَا لَمْ يَلْتَزِمْهُ وَنَظَرُ الشَّرْعِ لِلْكُلِّ فَمِنْ النَّظَرِ لِلْأَجِيرِ أَنْ لَا يَكُونَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ وَلَمَّا تَسَاوَى الْجَانِبَانِ لَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ بِالشَّكِّ وَمَا قَالَ : إنَّمَا يَسْتَقِيمُ أَنْ لَوْ كَانَ التَّلَفُ يَتَوَلَّدُ مِنْ الْحِفْظِ كَمَا يَتَوَلَّدُ مِنْ الْعَمَلِ وَلَا يُتَصَوَّرُ تَوَلُّدُ التَّلَفِ مِنْ الْحِفْظِ إلَّا أَنْ يَضِيعَ بِتَرْكِ الْحِفْظِ وَعِنْدَ ذَلِكَ هُوَ ضَامِنٌ لَا أَجْرَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْوَصْفُ الْحَادِثُ فِي الثَّوْبِ بِعَمَلِهِ وَقَدْ فَاتَ قَبْلَ تَمَامِ التَّسْلِيمِ عَلَى صَاحِبِهِ فَلَا أَجْرَ لَهُ بِخِلَافِ أَجِيرِ الْوَاحِدِ فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُنَاكَ مَنَافِعُهُ فِي الْمُدَّةِ وَقَدْ تَمَّ التَّسْلِيمُ فِيهِ فَبِهَلَاكِ الْعَيْنِ

عِنْدَهُ لَا يَبْطُلُ الْأَجْرُ وَأَمَّا عِنْدَهُمَا رَبُّ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الثَّوْبِ قُصُورًا وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَقْصُورٍ وَلَا أَجْرَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ صَارَ مُسْلَمًا مِنْ وَجْهٍ بِاتِّصَالِهِ بِالثَّوْبِ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ التَّسْلِيمُ حَتَّى تَغَيَّرَ إلَى الْبَدَلِ وَهُوَ ضَمَانُ الْقِيمَةِ فَيَتَخَيَّرُ صَاحِبُ الثَّوْبِ إنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ مُتَغَيِّرًا فَضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مَقْصُورًا وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَرْضَ بِالتَّغَيُّرِ وَفَسَخَ الْعَقْدَ فِيهِ فَيُضَمِّنُهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ أَبْيَضَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَبِلَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ ؛ فَإِنَّهُ يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي ، فَأَمَّا إذَا تَلِفَ بِعَمَلِهِ بِأَنَّ دَقَّ الثَّوْبَ فَتَخَرَّقَ فَهُوَ ضَامِنٌ عِنْدَنَا .
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يُجَاوِزْ الْحَدَّ الْمُعْتَادَ وَلِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهِ قَوْلَانِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ يَقُولُ : هُوَ ضَامِنُ سَوَاءٌ تَلِفَ بِفِعْلِهِ أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ يَقُولُ : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ تَلِفَ بِفِعْلِهِ ، أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ ، وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ عَمَلٌ مَأْذُونٌ فِيهِ فَمَا تَلِفَ بِسَبَبِهِ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَالْمُعَيَّنِ فِي الدَّقِّ وَأَجِيرِ الْوَاحِدِ ، وَبَيَانُهُ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِيَدُقَّ الثَّوْبَ ، وَالدَّقُّ عَمَلٌ مَعْلُومٌ بِحَدِّهِ وَهُوَ إرْسَالُ الْمِدَقَّةِ عَلَى الْمَحَلِّ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ وَقَدْ أَتَى بِتِلْكَ الصِّفَةِ فَكَانَ مَأْذُونًا فِيهِ ، ثُمَّ التَّخَرُّقَ إنَّمَا كَانَ لَوْ هَاءَ فِي الثَّوْبِ وَلَيْسَ فِي وُسْعِ الْعَامِلِ التَّحَرُّزُ مِنْ ذَلِكَ ، فَهُوَ نَظِيرُ الْبَزَّاغِ وَالْفَصَّادِ وَالْحَجَّامِ وَالْخَتَّانِ إذَا سَرَى إلَى النَّفْسِ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ لِهَذَا الْمَعْنَى وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ وَمَا يُسْتَحَقُّ عَلَى الْمَرْءِ لَا يُبْعَدُ بِمَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ وَبِهِ فَارَقَ

الْمَشْيَ فِي الطَّرِيقِ وَالرَّمْيَ إلَى الْهَدَفِ ؛ فَإِنَّهُ مُبَاحٌ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ فَقُيِّدَ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ أَجِيرَ الْقَصَّارِ إذَا دَقَّ فَتَخَرَّقَ الثَّوْبُ لَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ عَلَى الْأَجِيرِ ، وَعِنْدُكُمْ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْأُسْتَاذِ فَإِنْ كَانَ هَذَا الْعَمَلُ مَأْذُونًا فِيهِ لَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ عَلَى أَحَدٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا فِيهِ فَهُوَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَى مَنْ بَاشَرَهُ فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ : مَنْ بَاشَرَهُ لَا يَضْمَنُ وَغَيْرُهُ يَضْمَنُ بِسَبَبِهِ فَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِفِعْلٍ غَيْرِ مَأْذُونٍ فِيهِ فَيَكُونُ مَأْذُونًا كَمَا لَوْ دَقَّ الثَّوْبَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْإِذْنَ ثَابِتٌ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ ، وَالْمَعْقُودَ عَلَيْهِ عَمَلٌ فِي الذِّمَّةِ ، وَالْعَقْدُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَمُطْلَقُهُ يَقْتَضِي سَلَامَةَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَنْ الْعَيْبِ كَعَقْدِ الْبَيْعِ وَمَا فِي الذِّمَّةِ يُعْرَفُ بِصِفَتِهِ وَالْمَوْصُوفُ بِأَنَّهُ سَلِيمٌ غَيْرُ الْمَوْصُوفِ بِأَنَّهُ مَعِيبٌ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ السَّلِيمُ الْمُزَيِّنُ لِلثَّوْبِ عَرَفْنَا أَنَّ الْمَعِيبَ الْمُخَرَّقَ لِلثَّوْبِ غَيْرُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ مَأْذُونًا فِيهِ وَبِهِ فَارَقَ أَجِيرَ الْوَاحِدِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ يَقُولُ : هُنَاكَ الْبَدَلُ لَيْسَ بِمُقَابَلَةِ السَّلِيمِ بَلْ بِمُقَابَلَةِ تَسْلِيمِ النَّفْسِ دُونَ الْعَمَلِ وَصِفَةُ السَّلَامَةِ فِي الْعَمَلِ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ إلَّا أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ الْعَمَلُ وَالْبَدَلُ بِمُقَابَلَةِ الْمَقْصُودِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يُقَامُ تَسْلِيمُ النَّفْسِ مَقَامَ الْعَمَلِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْأَجِيرِ لِتَضِيقَ مُدَّةُ التَّسْلِيمِ عَلَيْهِ وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا وَجَدَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ لَا يَكُونُ الْبَدَلُ بِمُقَابَلَتِهِ كَمَا يُقَامُ تَسْلِيمُ النَّفْسِ فِي النِّكَاحِ مَقَامَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ ، ثُمَّ إذَا

وَجَدَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الْوَطْءُ كَانَ الْبَدَلُ بِمُقَابَلَتِهِ فَالصَّحِيحُ أَنْ يَقُولَ : الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي حَقِّ أَجِيرِ الْوَاحِدِ مَنَافِعُهُ وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ إعْلَامُهُ بِبَيَانِ الْمُدَّةِ وَمَنَافِعُهُ عَيْنٌ وَالْعَيْنُ لَا تَخْتَلِفُ بِكَوْنِهِ سَلِيمًا ، أَوْ مَعِيبًا كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ ؛ فَإِنَّهُ ، وَإِنْ وَجَدَ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَيْبًا لَا يَخْرُجُ الْعَقْدُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَنَاوِلًا لَهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْإِذْنَ مُتَنَاوِلٌ لِلْعَمَلِ مَعِيبًا كَانَ ، أَوْ سَلِيمًا وَهُنَا الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ عَمَلٌ فِي الذِّمَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَعَقْدُ السَّلَمِ إذَا تَنَاوَلَ الْجَيِّدَ لَا يَكُونُ الرَّدِيءُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ مَا لَمْ يُسْقِطْ حَقَّهُ فِي الْجَوْدَةِ بِالرِّضَاءِ بِهِ ، فَهُنَا مَا دَامَ الْعَمَلُ السَّلِيمُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ لَا يَكُونُ الْمَعِيبُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَرْضَى بِهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُعَيَّنِ ؛ فَإِنَّهُ وَاهِبٌ لِلْعَمَلِ وَالْهِبَةُ لَا تَقْتَضِي السَّلَامَةَ عَنْ الْعَيْبِ فَبِالتَّخَرُّقِ لَا يَخْرُجُ الْعَمَلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا فِيهِ ، وَبِخِلَافِ الْبَزَّاغِ وَالْفَصَّادِ وَالْحَجَّامِ فَهُنَاكَ الْعَمَلُ مَعْلُومٌ بِحَدِّهِ لَا بِصِفَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ حَرَجٌ وَالْحَرَجُ الَّذِي هُوَ غَيْرُ سَارٍ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْبَشَرِ فَإِنَّمَا يَلْتَزِمُ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ مَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ دُونَ مَا لَا يَقْدِرُ ، فَأَمَّا التَّحَرُّزُ عَنْ التَّخَرُّقِ فَفِي وُسْعِ الْقَصَّارِ فِي الْجُمْلَةِ إلَّا أَنَّهُ رُبَّمَا يَلْحَقُهُ الْحَرَجُ فِيهِ ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْتِزَامِهِ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ التَّخَرُّقَ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِشَيْءٍ فِي طَيِّ الثَّوْبِ ، أَوْ لِرِقَّةٍ فِي الثَّوْبِ ، أَوْ لِحِدَّةٍ فِي الْمِدَقَّةِ وَكُلُّ هَذَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ عِنْدَ التَّأَمُّلِ ، فَأَمَّا السِّرَايَةُ فَلِضَعْفِ الطَّبِيعَةِ عَنْ دَفْعِ أَثَرِ الْجِنَايَةِ ، وَلَا طَرِيقَ لِلْوُقُوفِ بِحَالٍ يُوَضِّحُهُ أَنَّ التَّلَفَ هُنَاكَ لَا يَحْصُلُ فِي حَالِ الْعَمَلِ وَإِنَّمَا يَكُونُ

بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ بِمُدَّةٍ وَالْعَمَلُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يُقَابِلُهُ بَدَلٌ مَضْمُونٌ فَمَا يُقَابِلُ الْمَضْمُونَ يَكُونُ مَضْمُونًا إلَّا أَنَّهُ بِالْفَرَاغِ مِنْهُ يَصِيرُ مُسَلَّمًا إلَى صَاحِبِهِ فَإِنَّمَا حَصَلَ التَّلَفُ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ ضَمَانِ الْعَاقِدِ ، وَهُنَا التَّخَرُّقُ يَحْصُلُ فِي حَالِ الْعَمَلِ لَا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ وَفِي حَالِ الْعَمَلِ التَّسْلِيمُ لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ وَهُوَ عَمَلٌ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يُقَابِلُهُ بَدَلٌ مَضْمُونٌ وَالْمُتَوَلِّدُ مِنْ الْمَضْمُونِ يَكُونُ مَضْمُونًا ، فَأَمَّا أَجِيرُ الْقَصَّارِ فَهُوَ أَجِيرٌ وَاحِدٌ وَالْبَدَلُ فِي حَقِّهِ بِمُقَابَلَةِ مَنَافِعِهِ فَلِهَذَا لَا يَكُونُ ضَامِنًا ، ثُمَّ عَمَلُهُ لِلْأُسْتَاذِ كَعَمَلِ الْأُسْتَاذِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ لَوْ قَامَ بِالثَّوْبِ بِنَفْسِهِ فَخَرَّقَ الثَّوْبُ كَانَ ضَامِنًا ، فَكَذَلِكَ إذَا عَمَلَ لَهُ أَجِيرُهُ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ : لِصَاحِبِ الثَّوْبِ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مَقْصُورًا وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَقْصُورٍ وَلَا أَجْرَ لَهُ ( قَالَ ) بِشْرُ بْنُ غِيَاثٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَذَا الْجَوَابُ صَحِيحٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا قَبْضُهُ قَبْضُ ضَمَانٍ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ وَقْتَ الْقَبْضِ غَيْرَ مَقْصُورٍ ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَهُوَ خَطَأٌ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ قَبَلَ قَبْضِ الْقَصَّارِ قَبْضُ أَمَانَةٍ ، وَإِنَّمَا الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ الْعَمَلُ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ مَعْمُولًا وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ مَا قُلْنَا فَإِنَّا لَا نَقُولُ نُضَمِّنُهُ قِيمَتَهُ بِالْقَبْضِ وَلَكِنَّهُ يُضَمِّنُهُ قِيمَتَهُ بِالْإِتْلَافِ إنْ شَاءَ مَعْمُولًا ، وَإِنْ شَاءَ غَيْرَ مَعْمُولٍ ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ يَصِيرُ مُسَلَّمًا مِنْ وَجْهٍ بِاتِّصَالِهِ بِالثَّوْبِ ، وَذَلِكَ الْعَمَلُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْقُودًا عَلَيْهِ عِنْدَ الرِّضَاءِ بِهِ كَالرَّدِيءِ فِي بَابِ السَّلَمِ مَكَانَ الْجَيِّدِ

يَكُونُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ عِنْدَ التَّجَوُّزِ بِهِ فَإِذَا وَقَعَ التَّغَيُّرُ فِي الْعَمَلِ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ مُتَغَيِّرًا فَضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مَعْمُولًا وَأَعْطَاهُ الْأَجْرَ ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَرْضَ بِهِ فَيَخْرُجُ الْعَمَلُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْقُودًا عَلَيْهِ وَيُضَمِّنُهُ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَعْمُولٍ وَلَا أَجْرَ لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَهْلِكْ الثَّوْبُ ، وَأَرَادَ صَاحِبُهُ أَخْذَهُ كَانَ لِلْقَصَّارِ أَنْ يَمْنَعُهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الْأَجْرَ وَقَدْ بَيَّنَّا خِلَافَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَا وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ أَجِيرً يَكُونُ أَثَرُ عَمَلِهِ قَائِمًا فِي الْمَعْمُولِ كَالنَّسَّاجِ وَالْقَصَّارِ وَالصَّبَّاغِ وَالْفَتَّالِ فَلَهُ حَقُّ الْحَبْسِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْوَصْفُ الَّذِي أَحْدَثَهُ فِي الثَّوْبِ وَهُوَ قَائِمٌ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ بِبَدَلِهِ وَكُلُّ مَنْ لَيْسَ لِعَمَلِهِ أَثَرٌ فِي الْمَعْمُولِ كَالْحَمَّالِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَوْجِبُ الْحَبْسَ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ نَفْسُ الْعَمَلِ وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهُ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ فَإِنْ ( قِيلَ ) فِي الْقَصَّارِ : عَمَلُهُ فِي إزَالَةِ الدَّرَنِ وَالْوَسَخِ لَا فِي إحْدَاثِ الْبَيَاضِ فِي الثَّوْبِ فَالْبَيَاضُ لِلْقُطْنِ صِفَةٌ أَصِيلَةٌ ( قُلْنَا ) نَعَمْ وَلَكِنْ لَمَّا غَلَبَ الدَّرَنُ وَالْوَسَخُ حَتَّى اسْتَتَرَ بِهِ صَارَ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومِ وَحِينَ أَظْهَرَهُ الْقَصَّارُ بِعَمَلِهِ جُعِلَ ظُهُورُهُ مُضَافًا إلَى عَمَلِهِ فَيَكُونُ أَثَرُ عَمَلِهِ قَائِمًا فِي الْمَعْمُولِ فَإِنْ مَنَعَهُ فَهَلَكَ فَالْجَوَابُ عَلَى مَا بَيَّنَّا ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ كَانَ بِحَقٍّ فَلَا يَكُونُ سَبَبًا مُوجِبًا لِلضَّمَانِ فِيمَا لَيْسَ بِمَضْمُونٍ ؛ فَلِهَذَا يَسْتَوِي الْهَلَاكُ بَعْدَ الْمَنْعِ وَقَبْلَهُ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقُّ الْحَبْسِ ، فَإِذَا حَبَسَهُ كَانَ غَاصِبًا ضَامِنًا لِلْقِيمَةِ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ الثَّوْبَ قَبْلَ تَمَامِ الْعَمَلِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَيُعْطِيَهُ مِنْ الْأَجْرَ بِمِقْدَارِ مَا عَمِلَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى

يَفْرُغَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَازِمٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ لِكَوْنِهِ مُعَاوَضَةً فَمَا لَيْسَ لِلْقَصَّارِ أَنْ يُفَرِّقَ الصَّفْقَةَ عَلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ فَيَمْتَنِعَ مِنْ إقَامَةِ بَعْضِ الْعَمَلِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ ذَلِكَ لِرَبِّ الثَّوْبِ وَكَمَا أَنَّ إقَامَةَ الْعَمَلِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْقَصَّارِ فَإِمْسَاكُ الْعَيْنِ إلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْ الْعَمَلِ مُسْتَحَقٌّ لَهُ ؛ وَلِهَذَا لَا يَأْخُذُهُ مِنْهُ صَاحِبُهُ .

، وَإِنْ اسْتَأْجَرَ حَمَّالًا لِيَحْمِلَ لَهُ شَيْئًا عَلَى ظَهْرِهِ ، أَوْ عَلَى دَابَّتِهِ إلَى مَوْضِعٍ مَعْلُومٍ فَحَمَلَهُ وَصَاحِبُهُ يَمْشِي مَعَهُ ، أَوْ لَيْسَ مَعَهُ فَانْكَسَرَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ ، أَوْ عَثَرَ فَانْكَسَرَتْ الدَّابَّةُ فَانْكَسَرَ الْمَتَاعُ ( قَالَ : ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اعْلَمْ بِأَنَّ الْحَمَّالَ أَجِيرٌ مُشْتَرَكٌ بِمَنْزِلَةِ الْقَصَّارِ ، وَإِنْ تَلِفَ فِي يَدِهِ بِغَيْرِ فِعْلِهِ بِأَنْ زَحَمَهُ النَّاسُ فَفِي وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ خِلَافٌ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ كَمَا بَيَّنَّا ، وَإِنْ تَلِفَ بِفِعْلِهِ بِأَنْ تَعَثَّرَ فَانْكَسَرَ الْمَتَاعُ فَهُوَ ضَامِنٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّ التَّلَفَ حَصَلَ بِجِنَايَةِ يَدِهِ ، ثُمَّ عِنْدَنَا لِصَاحِبِ الْمَتَاعِ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ مَحْمُولًا إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي سَقَطَ وَأَعْطَاهُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِصَّتِهِ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَحْمُولٍ وَلَا أَجْرَ لَهُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ صَارَ مُسَلَّمًا إنْ كَانَ صَاحِبُهُ يَمْشِي مَعَهُ فَلَا يُشْكِلُ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لَا يَمْشِي مَعَهُ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُسَلَّمًا بِاتِّصَالِهِ بِمِلْكِهِ ، ثُمَّ تَغَيَّرَ قَبْلَ تَمَامِ التَّسْلِيمِ فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِهَذَا وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : الصَّفْقَةُ قَدْ تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ فِيمَا لَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ إلَّا بِجُمْلَتِهِ فَإِنَّ مَقْصُودَ صَاحِبِ الْمَتَاعِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِوُصُولِ الْمَتَاعِ إلَى مَوْضِعِ حَاجَتِهِ فَإِذَا انْكَسَرَ فِي بَعْضِ الطَّرِيقِ فَقَدْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ فِيمَا بَقِيَ لِلْفَوَاتِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الصَّفْقَةَ قَدْ تَفَرَّقَتْ فَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِهَذَا التَّفَرُّقِ وَقَرَّرَ الْعَقْدَ فِيمَا اسْتَوْفَى مِنْ الْعَمَلِ وَأَعْطَاهُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِصَّتِهِ ، وَإِنْ شَاءَ أَبَى ذَلِكَ وَفَسَخَ الْعَقْدَ فِي الْكُلِّ فَيُضَمِّنُهُ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَحْمُولٍ وَلَا أَجْرَ لَهُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ الْمَتَاعِ وَلَوْ هَلَكَ فِي نِصْفِ الطَّرِيقِ بِغَيْرِ فِعْلِهِ لَمْ يَضْمَنْ

شَيْئًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَانَ لَهُ نِصْفُ الْأَجْرِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ الْعَمَلَ مِنْ الْقَصَّارِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُنَا صَارَ مُسَلَّمًا بِنَفْسِهِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَسْتَوْجِبُ الْحَبْسَ إذَا فَرَغَ مِنْ الْعَمَلِ فَكَانَ هُوَ فِي هَذَا الْحُكْمِ كَأَجِيرِ الْوَاحِدِ بِخِلَافِ الْقَصَّارِ فَالتَّسْلِيمُ هُنَاكَ لَا يَتِمُّ بِإِقَامَةِ الْعَمَلِ بِدَلِيلِ أَنَّ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ لِاسْتِيفَاءِ الْأَجْرِ وَهَذَا الْفَصْلُ يُوهِنُ طَرِيقَةَ الرَّازِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ، وَيَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّ الصَّحِيحَ مَا قُلْنَا أَوَّلًا مِنْ أَنَّ ثُبُوتَ الْخِيَارِ لِلتَّغَيُّرِ إلَى الْبَدَلِ وَقِيَامِ الْبَدَلِ مَقَامَ الْأَصْلِ فِي فَسْخِ الْعَقْدِ فِيهِ حَتَّى أَنَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ؛ لَمَّا لَمْ يَجِبْ الْبَدَلُ وَهُوَ الضَّمَانُ لَا يُمْكِنُ فَسْخُ الْعَقْدِ فِيمَا أَقَامَ مِنْ الْعَمَلِ فَكَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِصَّةِ ذَلِكَ وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ فِي الْكِرَاءِ إلَى مَكَّةَ لَا يُعْطَى شَيْئًا مِنْ كِرَائِهِ حَتَّى يَرْجِعَ مِنْ مَكَّةَ ، وَكَذَلِكَ كَأَنْ يَقُولُ فِي جَمِيعِ مَنْ يُحَمِّلُ الْحُمُولَةَ عَلَى ظَهْرِهِ ، أَوْ عَلَى دَابَّتِهِ ، أَوْ سَفِينَةٍ ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : كُلُّ مَا صَارَ مَسِيرًا لَهُ مِنْ الْأَجْرِ شَيْءٌ مَعْرُوفٌ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَسَوَاءٌ كَانَ الْأَجْرُ دَرَاهِمَ ، أَوْ ثَوْبًا ، أَوْ عَبْدًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْأُجْرَةَ لَا تُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَلَا يَجِبُ تَسْلِيمُهَا بِهِ عِنْدَنَا عَيْنًا كَانَ ، أَوْ دَيْنًا وَإِنَّمَا تُمْلَكُ بِأَحَدِ مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ إمَّا التَّعْجِيلُ ، أَوْ شَرْطُ التَّعْجِيلِ ، أَوْ اسْتِيفَاءُ مَا يُقَابِلُهُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَيَجِبُ تَسْلِيمُهَا عِنْدَ تَسْلِيمِ الدَّارِ ، أَوْ الدَّابَّةِ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَمُطْلَقُهُ يُوجِبُ مِلْكَ الْبَدَلِ بِنَفْسِهِ كَعَقْدِ

الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةُ وَمَنْفَعَةُ الْعَيْنِ فَكَمَا يُمْلَكُ الْبَدَلُ فِي الْعَقْدِ الْوَارِدِ عَلَى الْعَيْنِ بِنَفْسِهِ ، فَكَذَلِكَ فِي الْعَقْدِ الْوَارِدِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ صِحَّةُ الِاسْتِئْجَارِ بِأُجْرَةٍ مُؤَجَّلَةٍ وَمَا لَيْسَ بِعَيْنٍ فَهُوَ دَيْنٌ وَالدَّيْنُ بِالدَّيْنِ حَرَامٌ فِي الشَّرْعِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ ، وَإِنْ كَانَتْ مَعْدُومَةً عِنْدَ الْعَقْدِ حَقِيقَةً فَقَدْ جُعِلَتْ كَالْمَوْجُودَةِ حُكْمًا بِدَلِيلِ جَوَازِ الْعَقْدِ وَلُزُومِهِ وَعَقْدُ الْمُعَاوَضَةِ عَلَى الْمَعْدُومِ لَا يَنْعَقِدُ وَلَا يُلْتَزَمُ وَلِلشَّرْعِ وِلَايَةٌ أَنْ يَجْعَلَ الْمَعْدُومَ حَقِيقَةً مَوْجُودًا حُكْمًا لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ كَمَا جَعَلَ النُّطْفَةَ فِي الرَّحِمِ وَلَا حَيَاةَ فِيهَا كَالْحَيِّ حُكْمًا فِي حَقِّ الْإِرْثِ وَالْعِتْقِ وَالْوَصِيَّةِ وَكَمَا جُعِلَ الْحَيُّ حَقِيقَةً كَالْمَيِّتِ حُكْمًا وَالْمُرْتَدِّ اللَّاحِقِ بِدَارِ الْحَرْبِ وَإِذَا صَارَتْ مَوْجُودَةً حُكْمًا الْتَحَقَتْ بِالْمَوْجُودِ حَقِيقَةً فَتَصِيرُ مَمْلُوكَةً بِالْعَقْدِ وَكَمَا يَصِيرُ مَمْلُوكًا بِالْعَقْدِ حُكْمًا يَصِيرُ مُسَلَّمًا بِتَسْلِيمِ الدَّارِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِالْإِجَارَةِ مِنْ الْغَيْرِ وَأَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَ دَارَيْنِ فَانْهَدَمَتْ إحْدَاهُمَا بِالْقَبْضِ لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ فِي رَدِّ الْأُخْرَى لِتَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ بَعْدَ التَّمَامِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَأَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى سُكْنَى دَارٍ سَنَةً فَسَلَّمَ الدَّارَ إلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَحْبِسَ نَفْسَهَا لِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ تَسْلِيمِ الدَّارِ إلَيْهَا وَلَا يَدْخُلُ عَلَى هَذَا مَا إذَا انْهَدَمَتْ الدَّارُ فَإِنَّ الْمَنْفَعَةَ لَا تَتْلَفُ فِي ضَمَانِ الْمُسْتَأْجِرِ ؛ لِأَنَّا جَعَلْنَاهَا كَالْمَوْجُودَةِ الْمُسَلَّمَةِ بِاعْتِبَارِ عَرَضِيَّةِ الْوُجُودِ فِي الْمُدَّةِ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِانْهِدَامِ الدَّارِ وَهُوَ كَمَا لَوْ جَعَلْنَا

النُّطْفَةَ فِي الرَّحِمِ كَالْحَيِّ لِكَوْنِهَا مُعَدَّةً لِذَلِكَ فَإِنْ زَالَ ذَلِكَ بِالِانْفِصَالِ مَيِّتًا بَطَلَ حُكْمُ الْعِتْقِ وَالْإِرْثِ وَالْوَصِيَّةِ لَهُ لِانْعِدَامِ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ جُعِلَ كَالْمَوْجُودِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْأُجْرَةَ تُمْلَكُ بِشَرْطِ التَّعْجِيلِ وَلَوْ كَانَ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْعَقْدِ تَأَخُّرُ الْمِلْكِ فِي الْأَجْرِ أَوْ لَمْ تُجْعَلْ الْمَنْفَعَةُ كَالْمَوْجُودَةِ حُكْمًا ؛ لَمَا وَجَبَ الْأَجْرُ بِالشَّرْطِ كَمَا قُلْتُمْ فِي الْإِجَارَةِ الْمُضَافَةِ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَلِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْبَابِ أَنْ تُقَامَ عَيْنُ الدَّارِ مَقَامَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي حَقِّ انْعِقَادِ الْعَقْدِ ، فَكَذَلِكَ فِي مِلْكِ الْبَدَلِ كَعَقْدِ السَّلَمِ فَإِنَّ الذِّمَّةَ لَمَّا أُقِيمَتْ مَقَامَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ هُنَاكَ فِي انْعِقَادِ الْعَقْدِ وَلُزُومِهِ مَلَكَ الْبَدَلَ بِهِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَقْتَضِي تَقَابُلَ الْبَدَلَيْنِ فِي الْمِلْكِ وَالتَّسْلِيمِ كَعَقْدِ الْبَيْعِ ، ثُمَّ أَحَدُ الْبَدَلَيْنِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ لَمْ تَصِرْ مَمْلُوكَةً بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، فَكَذَلِكَ الْأُجْرَةُ وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ مَعْدُومٌ فِي نَفْسِهِ ، وَالْمِلْكُ مِنْ صِفَاتِ الْمَوْجُودَاتِ فَالْمَعْدُومُ لَا يُوصَفُ بِشَيْءٍ سِوَى أَنَّهُ مَعْدُومٌ وَالْمِلْكُ عِبَارَةٌ عَنْ الْقُدْرَةِ فَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ عَلَى الْمَعْدُومِ وَإِذَا لَمْ يَمْلِكْ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ فَلَوْ مَلَكَ الْبَدَلِ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِقَضِيَّةِ الْمُعَاوَضَةِ ، ثُمَّ عِنْدَ الْحُدُوثِ تُمْلَكُ الْمَنْفَعَةِ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ مِنْ قَبْلُ وَمِلْكُهُ لَا يَكُونُ عِوَضًا عَنْ مِلْكِهِ وَلَا وَجْهَ أَنْ يُقَالَ إنَّ الْمَنَافِعَ الَّتِي تَحْدُثُ فِي الْمُدَّةِ تُجْعَلُ مَوْجُودَةً حُكْمًا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُقَدَّرُ الشَّيْءُ حُكْمًا إذَا كَانَ يُتَصَوَّرُ حَقِيقَةً كَمَا فِيمَا اسْتَشْهَدُوا بِهِ فَإِنَّ الْحَيَّ يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْمَوْتُ وَالْمَيِّتَ يُتَصَوَّرُ فِيهِ

الْحَيَاةُ وَلَا تَصَوُّرَ لِوُجُودِ الْمَنَافِعِ الَّتِي تَحْدُثُ فِي الْمُدَّةِ جُمْلَةً فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَدَّرَ حُكْمًا ، فَأَمَّا جَوَازُ الْعَقْدِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ تُجْعَلُ مَوْجُودَةً حُكْمًا وَكَيْف يُقَالُ هَذَا وَالْمَوْجُودُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ حَقِيقَةً لَا يَقْبَلُ الْعَقْدَ فَإِنَّ الْمَنْفَعَةَ عَرَضٌ لَا يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهَا وَقْتَيْنِ وَالتَّسْلِيمَ بِحُكْمِ الْعَقْدِ يَكُونُ عَقِيبَهُ وَالْجُزْءَ الْمَوْجُودَ حَقِيقَةً لَا بَقَاءَ لَهُ لِيُسَلَّمَ عَقِيبَ الْعَقْدِ وَمَا لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ التَّسْلِيمُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِعُقُودِ الْمُعَاوَضَةِ ، فَلَوْ جَعَلْنَاهَا كَالْمَوْجُودَةِ حَقِيقَةً لَمْ تَقْبَلْ الْعَقْدَ فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ جَوَازَ الْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قَالَهُ الْخَصْمُ بَلْ بِأَحَدِ الطَّرِيقِينَ إمَّا بِإِقَامَةِ عَيْنِ الدَّارِ الْمُنْتَفَعِ بِهَا مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي حَقِّ صِحَّةِ الْإِيجَابِ ، ثُمَّ انْعِقَادُ الْعَقْدِ حَقُّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ الْمُضَافِ إلَى وَقْتِ الْحُدُوثِ وَهُوَ مَعْنَى مَا قُلْنَا إنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ فِي حُكْمِ عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ يَتَجَدَّدُ انْعِقَادُهَا بِحَسَبِ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ بَعْدَ الْوُجُودِ لَا يَتَحَقَّقُ ، وَحُكْمُ الِانْعِقَادِ بَعْدَ الْإِيجَابِ يَحْتَمِلُ التَّأْخِيرَ فِي حُكْمِ الْمَحَلِّ كَالطَّلَاقِ الْمُضَافِ وَالْعِتْقِ الْمُضَافِ وَالْوَصِيَّةِ وَالْمُزَارَعَةِ عَلَى أَصْلِ الْخَصْمِ وَالْمُضَارَبَةِ بِالِاتِّفَاقِ ، أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ الْإِيجَابُ بَعْدَ وُجُودِ الْمَنْفَعَةِ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْوُجُودِ فِيهِ شَرْعًا لِانْعِقَادِ الْعَقْدِ تَيْسِيرًا وَلَكِنْ عَرَضِيَّةُ الْوُجُودِ بِكَوْنِ الْعَيْنِ مُنْتَفَعًا بِهَا تَكْفِي لِانْعِقَادِ الْعَقْدِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ رَضِيعَةً صَحَّ النِّكَاحُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ عَرَضِيَّةَ الْوُجُودِ فِيمَا هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَهُوَ مِلْكُ الْحِلِّ يُقَامُ مَقَامَ الْوُجُودِ وَعَلَى الطَّرِيقَيْنِ جَمِيعًا إقَامَةُ الشَّيْءِ مَقَامَ غَيْرِهِ تَكُونُ بِطَرِيقِ

الضَّرُورَةِ فَتُقَدَّرُ بِقَدْرِ الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي مِلْكِ الْبَدَلِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ حُكْمُ السَّبَبِ وَالْحُكْمُ قَدْ يَتَأَخَّرُ عَنْ السَّبَبِ وَإِنَّمَا الشَّرْطُ أَنْ لَا يَخْلُوَ السَّبَبُ عَنْ الْحُكْمِ ، فَأَمَّا أَنْ يَقْتَرِنَ .
بِهِ فَلَا وَفِي حُكْمِ مِلْكِ الْبَدَلِ لَا ضَرُورَةَ فَاعْتَبَرْنَا مَا هُوَ الْأَصْلُ وَهُوَ أَنْ يَتَأَخَّرَ إلَى وُجُودِ الْمِلْكِ فِيمَا يُقَابِلُهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ قَبْلَ تَسْلِيمِ الدَّارِ لَا يَجِبُ تَسْلِيمُ الْأَجْرِ وَلَوْ جُعِلَتْ الْمَنْفَعَةُ كَالْعَيْنِ لَكَانَ أَوَّلُ التَّسْلِيمَيْنِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ كَالثَّمَنِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ وَلَا يَقُولُ : إنَّ الْمَنْفَعَةَ دَيْنٌ فَإِنَّ الدَّيْنَ مَحَلُّهُ الذِّمَّةُ وَهُوَ لَا يَلْتَزِمُ الْمَنْفَعَةَ فِي الذِّمَّةِ فَكَيْف نَقُولُ ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْعَدَمُ عِنْدَ الْعَقْدِ فَمَا يَكُونُ دَيْنًا فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمَوْجُودِ بِوُجُودِ مَحَلِّهِ وَلِهَذَا جَعَلْنَا الْمُسْلَمَ فِيهِ مَمْلُوكًا بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَجَعَلْنَا بَدَلَهُ مَمْلُوكًا حَتَّى وَجَبَ عَلَى رَبِّ السَّلَمِ تَسْلِيمُهُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَهَذَا بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُنَاكَ الْعَيْنُ وَالْمِلْكُ فِي بَابِ النِّكَاحِ لَا يَحْتَمِلُ التَّأَخُّرَ عَنْ السَّبَبِ فَلِهَذِهِ الضَّرُورَةِ جَعَلْنَاهُ كَالْمَوْجُودِ فِي حُكْمِ الْمِلْكِ فَأَمَّا إذَا شَرَطَ التَّعْجِيلَ فَنَقُولُ امْتِنَاعُ الْمِلْكِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ كَانَ بِمُقْتَضَى مُطْلَقِ الْمُعَاوَضَةِ ، وَذَلِكَ يَتَغَيَّرُ بِالشَّرْطِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ فَإِنَّ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْعَقْدِ مِلْكُ الْمَبِيعِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، ثُمَّ يَتَأَخَّرُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَمُقْتَضَى مُطْلَقِ الْبَيْعِ وُجُوبُ تَسْلِيمِ الثَّمَنِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، ثُمَّ يَتَعَيَّنُ شَرْطُ الْأَجَلِ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ الْمُضَافَةِ فَإِنَّ امْتِنَاعَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ هُنَا لَيْسَ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ بَلْ بِالتَّصْرِيحِ بِالْإِضَافَةِ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالْمُضَافُ إلَى وَقْتٍ لَا يَكُونُ مَوْجُودًا قَبْلَ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَا يَتَغَيَّرُ هَذَا

الْمَعْنَى بِالشَّرْطِ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يُمْلَكُ بِشَرْطِ التَّعْجِيلِ ثَبَتَ أَنَّهُ يُمْلَكُ بِالتَّعْجِيلِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ فَوْقَ اشْتِرَاطِ التَّعْجِيلِ ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ بِالْقَبْضِ وَلِلْقَبْضِ تَأْثِيرٌ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ فِيمَا لَمْ يُمْلَكْ بِنَفْسِ الْعَقْدِ كَمَا فِي الْهِبَةِ ، وَنَفَقَةُ الزَّوْجَةِ تُمْلَكُ بِالْقَبْضِ لِمُدَّةٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَلَا يُمْلَكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، ثُمَّ كَمَا لَا ضَرُورَةَ فِي الْمِلْكِ لَا ضَرُورَةَ فِي التَّسْلِيمِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَأَخَّرُ التَّسْلِيمُ عَنْ الْعَقْدِ فَلَا يُجْعَلُ مُسَلِّمًا بِتَسْلِيمِ الدَّارِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ التَّسْلِيمِ بِحُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ فِي نَقْلِ الضَّمَانِ وَلَمَّا لَمْ يَنْتَقِلْ إلَى ضَمَانِ الْمُسْتَأْجِرِ عَرَفْنَا أَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُسَلَّمًا إلَيْهِ وَجَوَازُ تَصَرُّفِهِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي يَجُوزُ فِيهِ تَصَرُّفُ الْآخَرِ لِعَجْزِهِ عَنْ التَّصَرُّفِ بَعْدَ الْوُجُودِ حَقِيقَةً كَمَا بَيَّنَّا ، وَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ تَفَرُّقِ الصَّفْقَةِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ ذَلِكَ عِنْدَ الْقَبْضِ حَقِيقَةً فَتُقَامُ الدَّارُ فِيهِ مَقَامَهُ كَمَا فِي حُكْمِ التَّصَرُّفِ وَصِحَّةُ تَسْمِيَةِ الْمَنْفَعَةِ صَدَاقًا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةُ الْعَقْدِ مِلْكُ الْمُسَمَّى بِنَفْسِ الْعَقْدِ ؛ فَإِنَّهُ فِي حُكْمِ الْبَيْعِ عِنْدَنَا وَلِهَذَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى عَبْدِ الْغَيْرِ صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ وَيَتَأَخَّرُ الْمِلْكُ إلَّا أَنْ يُحَصِّلَ الزَّوْجُ مِلْكُ الْعَقْدُ لِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مُجَرَّدُ تَسْلِيمِ الدَّارِ فِي سُقُوطِ حَقِّهَا فِي الْحَبْسِ لِوُجُودِ الرِّضَاءِ مِنْهَا بِذَلِكَ فَإِنَّهَا لَمَّا جَعَلَتْ الصَّدَاقَ الْمَنَافِعَ الَّتِي تُوجَدُ فِي الْمُدَّةِ مَعَ عِلْمِهَا أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ تَسْلِيمُهَا جُمْلَةً فَقَدْ صَارَتْ رَاضِيَةً بِسُقُوطِ حَقِّهَا فِي الْحَبْسِ عِنْدَ تَسْلِيمِ الدَّارِ إلَيْهَا لَتُحْدِثُ الْمَنْفَعَةَ عَلَى مِلْكِهَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِمَهْرٍ مُنَجَّمٍ وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ أَوَّلًا فِي

الْكِرَاءِ إلَى مَكَّةَ لَا يُعْطِيهِ شَيْئًا مِنْ الْكِرَاءِ حَتَّى يَرْجِعَ مِنْ مَكَّةَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهِ ، وَوُجُوبُ تَسْلِيمِ الْأَجْرِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ خَيَّاطًا لِيَخِيطَ لَهُ ثَوْبًا لَا يَلْزَمُهُ إيفَاءُ الْأَجْرِ مَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ الْعَمَلِ ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ : كُلَّمَا سَارَ مَسِيرًا لَهُ مِنْ الْأَجْرِ شَيْءٌ مَعْرُوفٌ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِحَسَبِهِ يَصِيرُ مُسَلَّمًا وَإِنَّمَا يَجِبُ تَسْلِيمُ الْأَجْرِ عِنْدَ تَسْلِيمِ مَا يُقَابِلُهُ وَكَانَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنَّهُ كُلَّمَا سَارَ شَيْئًا وَلَوْ خَطْوَةً يَجِبُ تَسْلِيمُ مَا يُقَابِلُهُ مِنْ الْأَجْرِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَا يُعْرَفُ فَلَوْ أَخَذْنَا بِالْقِيَاسِ لَمْ نَتَفَرَّغْ إلَى شُغْلٍ آخَرَ بَلْ يُسَلِّمُ الْأَجْرَ فِي كُلِّ سَاعَةٍ بِقَدْرِ مَا يَسْتَوْفِي مِنْ الْعَمَلِ وَذَلِكَ بَعِيدٌ وَكَانَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : كُلَّمَا سَارَ مَرْحَلَةً أَوْفَى حِصَّتَهُ مِنْ الْأَجْرِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : إذَا سَارَ ثُلُثَ الطَّرِيقِ طَالَبَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الْأَجْرِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الطَّرِيقِ قَدْ يَكْتَرِي الْمَرْءُ فِيهِ دَابَّةً ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى أُخْرَى وَعَلَى هَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا مُدَّةً مَعْلُومَةً فَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّل مَا لَمْ تَنْتَهِ الْمُدَّةُ لَا يَجِبُ تَسْلِيمُ الْأَجْرِ وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ إذَا مَضَى مِنْ الْمُدَّةِ مَا لَهُ حِصَّةٌ مَعْلُومَةٌ مِنْ الْأَجْرِ يَجِبُ إيفَاءُ الْأَجْرِ بِحِسَابِهِ فَالْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدَّرَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ ، وَإِنْ عَجَّلَ الْأَجْرَ كُلَّهُ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ بِالْفَضْلِ وَأَوْفَى قَبْلَ وُجُوبِ الْإِيفَاءِ فَهُوَ كَمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ إذَا عَجَّلَهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا عَجَّلَ مِنْ الْأَجْرِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مَلَكَ ذَلِكَ بِالْقَبْضِ بَعْدَ انْعِقَادِ الْعَقْدِ فَلَا يَرْجِعُ فِيهِ حَالَ

بَقَاءِ الْعَقْدِ ، وَإِنْ أَشَرَطَ فِي الْعَقْدِ أَنْ لَا يُسَلِّمَ الْأَجْرَ حَتَّى يَرْجِعَ ، أَوْ حَتَّى تَنْتَهِيَ الْمُدَّةُ فَهُوَ جَائِزٌ أَمَّا فِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ فَهَذَا شَرْطٌ يُوَافِقُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ هَذَا اشْتِرَاطُ الْأَجَلِ فِي الْأَجْرِ وَالْأَجْرُ قِيَاسُ الثَّمَنِ يَثْبُتُ الْأَجَلُ فِيهِ إذَا كَانَ دَيْنًا وَلَا يَصِحُّ التَّأْجِيلُ فِيهِ إذَا كَانَ عَيْنًا وَلَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ جَمِيع الْأَجْرِ ، أَوْ وَهَبَهُ لَهُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ دَيْنًا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَصَحَّ فِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا تَبْطُلُ بِهِ الْإِجَارَةُ ، وَإِنْ كَانَ عَيْنًا لَمْ يَصِحُّ حَتَّى يَقْبَلَ الْآخَرُ فَإِنْ قَبِلَ بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ ؛ لِأَنَّ الْمُعَيَّنَ مِنْ الْأَجْرِ كَالْمَبِيعِ ، وَالْمُشْتَرِي إذَا وَهَبَ الْمَبِيعَ مِنْ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا تَصِحُّ الْهِبَةُ مَا لَمْ يَقْبَلْ فَإِذَا قَبِلَ انْفَسَخَ الْعَقْدُ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ دَيْنًا فَمِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ يَقُولُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَجِبُ الْأَجْرُ بِالْعَقْدِ مُؤَجَّلًا وَالْإِبْرَاءُ عَنْ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ صَحِيحٌ وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ لَا يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ عَيْنًا كَانَ ، أَوْ دَيْنًا وَالْإِبْرَاءُ قَبْلَ الْوُجُوبِ لَا يَصِحُّ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ بَنَوْا مَسْأَلَةَ الْمُصَارَفَةِ عَلَى هَذَا وَلَكِنَّ هَذَا شَيْءٌ لَا يُرْوَى عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ نَصًّا وَفِي الْجَامِعِ بَنَى الْمَسَائِلَ عَلَى أَنَّ الْأَجْرَ لَا يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ عَيْنًا كَانَ ، أَوْ دَيْنًا وَلَكِنَّ وَجْهَ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هُوَ الْعَقْدُ ، وَالْعَقْدُ مُنْعَقِدٌ إلَّا أَنَّ الْوُجُوبَ تَأَخَّرَ لِتَأَخُّرِ مَا يُقَابِلُهُ وَالْإِبْرَاءُ بَعْدَ وُجُوبِ سَبَبِ الْوُجُوبِ صَحِيحٌ ، كَالْإِبْرَاءِ عَنْ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ مَشْرُوطًا فِي الْخُلْعِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ لَمَّا اُعْتُبِرَ فِي جَوَازِ أَدَاءِ الْوَاجِبِ وَأُقِيمَ مَقَامَ

الْوُجُوبِ فَكَذَلِكَ فِي الْإِسْقَاطِ وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ وَإِسْقَاطُ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ لَا يَتَحَقَّقُ وَالْهِبَةُ تَمْلِيكٌ وَتَمْلِيكُ مَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَا يَصِحُّ وَلَوْ جَازَ الْإِبْرَاءُ وَبَقِيَ الْعَقْدُ بِمِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ الْمَنْفَعَةَ عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَهَذَا يُخَالِفُ قَضِيَّةَ الْإِجَارَةِ فَإِنَّهُ مِنْ حُكْمِ الْإِعَارَةِ ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ بَعْضِ الْأُجْرَةِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ شَيْءٍ مِنْ الْمَنْفَعَةِ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْحَطِّ فَيَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ ، وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ عَقَدَ فِي الِابْتِدَاءِ بِمَا بَقِيَ وَلَوْ بَاعَهُ بِالْأَجْرِ مَتَاعًا وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالدَّيْنِ الْمُضَافِ إلَيْهِ بَلْ بِمِثْلِهِ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى بِالدَّيْنِ الْمَظْنُونِ شَيْئًا ، ثُمَّ تَصَادَقَا عَلَى أَنْ لَا دَيْنَ بَقِيَ الشِّرَاءُ صَحِيحًا ، ثُمَّ لَمَّا اتَّفَقَا عَلَى الْمُقَاصَّةِ بِالْأَجْرِ مَعَ عِلْمِهِمَا بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَكَأَنَّهُمَا شَرَطَا تَعْجِيلَ الْأَجْرِ وَيُجْعَلُ ذَلِكَ مُضْمَرًا فِي كَلَامِهِمَا لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِهِمَا كَمَا إذَا قَالَ : اعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ يُجْعَلُ التَّمْلِيكُ مُضْمَرًا لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِهِمَا فَيَصِيرُ الْأَجْرُ بِالثَّمَنِ قِصَاصًا بِهَذَا الطَّرِيقِ وَلَا يَكُونُ لِلْبَائِعِ حَقُّ حَبْسِ الْمَبِيعِ بِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ ، فَإِنْ لَمْ يُوَفِّهِ الْعَمَلَ لِعُذْرٍ رَجَعَ عَلَيْهِ بِالدَّرَاهِمِ دُونَ الْمَتَاعِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا انْفَسَخَ الْعَقْدُ بَعْدَمَا صَارَ مُسْتَوْفِيًا لِلْأَجْرِ بِالْمُقَاصَّةِ وَجَبَ رَدُّ مَا اسْتَوْفَى كَمَا لَوْ اسْتَوْفَاهُ حَقِيقَةً أَوْ لَمَّا انْفَسَخَ الْعَقْدُ ظَهَرَ أَنَّ الْأَجْرَ غَيْرُ وَاجِبٍ وَأَنَّ الْمُقَاصَّةَ لَا تَقَعُ بِهِ وَلَكِنَّ أَصْلَ الشِّرَاءِ بَقِيَ صَحِيحًا بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ فَيُطَالِبُهُ بِالثَّمْنِ .

وَإِنْ بَاعَهُ الْمُسْتَأْجِرُ بِالدَّرَاهِمِ دَنَانِيرَ وَدَفَعَهَا إلَيْهِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ فَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ الصَّرْفُ بَاطِلٌ فَإِذَا افْتَرَقَا قَبْلَ إيفَاءِ الْعَمَلِ فَوَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّهُمَا لَمَّا أَضَافَا عَقْدَ الصَّرْفِ إلَى الْأُجْرَةِ فَقَدْ قَصَدَا الْمُقَاصَّةَ بِهَا وَلَا وَجْهَ لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِهِمَا إلَّا بِتَقْدِيمِ اشْتِرَاطِ التَّعْجِيلِ فَيُقَدَّمُ ذَلِكَ لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِهِمَا ، ثُمَّ الْمُضْمَرُ كَالْمُصَرَّحِ بِهِ وَلَوْ صَرَّحَ بِاشْتِرَاطِ التَّعْجِيلِ ، ثُمَّ صَارَفَ بِهِ دِينَارًا وَقَبَضَهُ لَمْ يَبْطُلْ الْعَقْدُ بِالِافْتِرَاقِ ، فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ ضِمْنًا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا وَهُوَ نَظِيرُ الشِّرَاءِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْ كَفَلَ عَنْ غَيْرِهِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِأَمْرِهِ ، ثُمَّ صَارَفَ بِهِ مَعَ الْمَكْفُولِ عَنْهُ دِينَارًا قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ جَازَ ذَلِكَ لِوُجُودِ السَّبَبِ ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ دَيْنُهُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ مَا لَمْ يُؤَدِّ مِثْلَهُ وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ وُجُوبَ الْعَشَرَةِ مُقْتَرِنٌ بِعَقْدِ الصَّرْفِ وَمَا يَجِبُ بِعَقْدِ الصَّرْفِ إذَا لَمْ يُقْبَضْ حَتَّى افْتَرَقَا بَطَلَ الْعَقْدُ كَمَا لَوْ تَصَارَفَا دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ مُطْلَقًا وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَجْرَ لَمْ يَجِبْ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ بِالِاتِّفَاقِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْعَمَلِ وَلَا سَبَبَ لِلْوُجُوبِ بَعْدَهُ سِوَى الصَّرْفِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ وَاجِبٌ بِعَقْدِ الصَّرْفِ وَاَلَّذِي قَالَ : مِنْ أَنَّهُ يُقَدَّمُ اشْتِرَاطُ التَّعْجِيلِ لَيْسَ بِقَوِيٍّ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى اشْتِرَاطِ التَّعْجِيلِ لِلْمُقَاصَّةِ بِهِ لَا لِصِحَّةِ عَقْدِ الصَّرْفِ فَعَقْدُ الصَّرْفِ صَحِيحٌ بِدَرَاهِمَ فِي ذِمَّتِهِ وَأَوَانُ الْمُقَاصَّةِ بَعْدَ عَقْدِ الصَّرْفِ فَهَبْ أَنَّ شَرْطَ التَّعْجِيلِ يَثْبُتُ مُقَدَّمًا عَلَى الْمُقَاصَّةِ فَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ عَقْدِ الصَّرْفِ ، أَوْ مَعَهُ وَبَدَلُ الصَّرْفِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قِصَاصًا

بِدَيْنٍ يَجِبُ بَعْدَهُ فَإِنْ ( قِيلَ : ) يُجْعَلُ شَرْطُ التَّعْجِيلِ مُقَدَّمًا عَلَى عَقْدِ الصَّرْفِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِمَا وَهُوَ الْمُقَاصَّةُ إلَّا بِهِ ( قُلْنَا ) : إنَّمَا يُقَدَّمُ عَلَى الْعَقْدِ بِطَرِيقِ الْإِجْبَارِ مَا هُوَ مِنْ شَرَائِطِ الْعَقْدِ ، وَوُجُوبُ الْأَجْرِ لَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ عَقْدِ الصَّرْفِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ نَقَدَ الْعَشَرَةَ فِي الْمَجْلِسِ كَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا ، ثُمَّ لَا يَشْتَغِلُ بِالِاحْتِيَالِ لِبَقَاءِ الْعَقْدِ صَحِيحًا ( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ عَشَرَةً وَثَوْبًا بِعَشَرَةٍ وَثَوْبٍ وَافْتَرَقَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ الْعَقْدُ فِي الدَّرَاهِمِ وَلَوْ صَرَفْنَا الْجِنْسَ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ لَمْ يَبْطُلْ وَلَكِنْ قِيلَ : يَحْتَالُ لِلتَّصْحِيحِ فِي الِابْتِدَاءِ وَلَا يَحْتَالُ لِلْبَقَاءِ عَلَى الصِّحَّةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْأُجْرَةَ إذَا كَانَتْ بَقَرَةً بِعَيْنِهَا فَصَارَفَ بِهَا دِينَارًا وَافْتَرَقَا قَبْلَ قَبْضِ الْبَقَرَةِ لَمْ يَصِحَّ وَلَوْ كَانَ اشْتِرَاطُ التَّعْجِيلِ مُعْتَبَرًا فِي إبْقَاءِ الْعَقْدِ صَحِيحًا لَاسْتَوَى فِيهِ الْعَيْنُ وَالدَّيْنُ وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْكَفِيلِ فَبِالْكَفَالَةِ كَمَا وَجَبَ لِلطَّالِبِ عَلَى الْكَفِيلِ وَجَبَ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ وَلَكِنَّهُ مُؤَجَّلٌ إلَى أَدَائِهِ ، وَالْمُصَارَفَةُ بِالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ صَحِيحٌ وَقَدْ بَيَّنَّا هَاهُنَا أَنَّ الْأَجْرَ لَا يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ عَيْنًا كَانَ أَوْ دَيْنًا فَيَبْطُلُ عَقْدُ الصَّرْفِ بِالِافْتِرَاقِ قَبْلَ قَبْضِ الدَّرَاهِمَ وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُوَفِّيَهُ الْعَمَلَ وَقَدْ حَمَلَهُ بَعْضَ الطَّرِيقِ أَوْ لَمْ يَحْمِلْهُ فَإِنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ مِنْ الدَّرَاهِمِ بِقَدْرِ مَا لَمْ يُوَفِّهِ مِنْ الْعَمَلِ وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَوْفِيًا لِلْأَجْرِ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ فَبِقَدْرِ مَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فِيهِ يَلْزَمُهُ رَدُّهُ ، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ الصَّرْفُ بَاطِلٌ فَعَلَيْهِ رَدُّ دِينَارٍ ، وَإِنْ شَرَطَ فِي الْأَجَلِ مُدَّةً مَعْلُومَةً فَذَلِكَ صَحِيحٌ وَاعْتِبَارُ الْأَجَلِ مِنْ حِينِ يَجِبُ

الْأَجْرُ ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ يُؤَخِّرُ الْمُطَالَبَةَ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ قَبْلَ الْوُجُوبِ ، وَإِنْ كَانَ الْأَجْرُ شَيْئًا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ فَلَمْ يَشْتَرِطْ لَهُ مَكَانَ الْإِيفَاءِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْعَقْدُ فَاسِدٌ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هُوَ جَائِزٌ وَهُوَ نَظِيرُ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ أَنَّ الْأَجْرَ بِمَنْزِلَةِ الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ ، وَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ شَيْئًا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ بَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ فَكَيْفَ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الْأَجْرِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ( قُلْنَا ) : فِي الثَّمَنِ إنْ لَمْ يَكُنْ مُؤَجَّلًا فَالْإِيفَاءُ يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَيَتَعَيَّنُ مَوْضِعُ الْعَقْدِ لِإِيفَائِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَكَانُ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ ، وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : إحْدَاهُمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ كَمَا فِي السَّلَمِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ التَّسْلِيمِ الْآنَ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ وَلَا يَدْرِي فِي أَيِّ مَكَان يَكُونُ عِنْدَ ذَلِكَ فَلَا يَصِحُّ الْعَقْدُ إلَّا بِبَيَانِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي الْأَصْلِ يُوجِبُ تَسْلِيمَ الثَّمَنِ بِنَفْسِهِ وَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى يَتَعَيَّنُ مَوْضِعُ الْعَقْدِ لِلتَّسْلِيمِ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ إمْكَانَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ وَإِنَّمَا تَأَخَّرَ بِعَارِضِ شَرْطِ الْأَجَلِ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْأَجَلِ مُعْتَبَرٌ فِي تَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ لَا فِي نَفْيِ الْوُجُوبِ فَبَقِيَ مَكَانُ الْعَقْدِ مُتَعَيِّنًا لِلتَّسْلِيمِ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ ، فَأَمَّا السَّلَمُ فَلَا يُوجِبُ تَسْلِيمَ الْمُسْلَمِ فِيهِ عَقِيبَ الْعَقْدِ بِحَالٍ وَإِنَّمَا يُوجِبُ ذَلِكَ عِنْدَ سُقُوطِ الْأَجَلِ فَلَا يَتَعَيَّنُ مَكَانُ الْعَقْدِ فِيهِ لِلتَّسْلِيمِ وَالْإِجَارَةُ نَظِيرُ السَّلَمِ ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ لَا يُوجِبُ تَسْلِيمَ الْأَجْرِ عَلَيْهِ عَقِيبَهُ بِحَالٍ فَلَا

يَتَعَيَّنُ مَوْضِعُ الْعَقْدِ لِإِيفَائِهِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ مَكَانِ الْإِيفَاءِ ؛ لِأَنَّ بِدُونِ بَيَانِ الْمَكَانِ تَتَمَكَّنُ فِيهِ جَهَالَةٌ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ هُنَا كَمَا فِي السَّلَمِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ عِنْدَهُمَا يَتَعَيَّنُ مَوْضِعُ الْعَقْدِ لِلتَّسْلِيمِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ التَّسْلِيمِ فِيهِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، وَهُنَا فِي إجَارَةِ الْأَرْضِ وَالدَّارِ تَعَيَّنَ مَوْضِعُ الْأَرْضِ وَالدَّارِ لِلْإِيفَاءِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْأَجْرِ هُنَا بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ لَا بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَالِاسْتِيفَاءُ يَكُونُ عِنْدَ الدَّارِ فَيَجِبُ تَسْلِيمُ الْأَجْرِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَفِي الْحُمُولَةِ حَيْثُمَا وَجَبَ لَهُ ذَلِكَ وَفِي الْعَمَلِ بِيَدِهِ حَيْثُ يُوَفِّيهِ الْعَمَلَ فَإِنْ طَالَبَهُ بِهِ وَفِي بَلَدٍ آخَرَ لَمْ يُكَلَّفْ حَمْلَهُ إلَيْهِ وَلَكِنْ يَسْتَوْثِقُ لَهُ مِنْهُ حَتَّى يُوَفِّيَهُ فِي مَوْضِعِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُطَالِبُ بِإِيفَاءِ مَا لَزِمَهُ وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْحَمْلُ إلَى مَكَان آخَرَ وَلَكِنْ يَسْتَوْثِقُ مِنْهُ ؛ مُرَاعَاةً لِجَانِبِ الطَّالِبِ وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ حَيْثُ شَاءَ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَلَيْسَ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ فَيُطَالِبُهُ بِالْإِيفَاءِ حَيْثُمَا لَقِيَهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ السِّمْسَارِ .
( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ذُكِرَ حَدِيثُ قَيْسِ بْنِ أَبِي غَرْزَةَ الْكِنَانِيِّ قَالَ : { كُنَّا نَبْتَاعُ الْأَوْسَاقَ بِالْمَدِينَةِ وَنُسَمِّي أَنْفُسَنَا السَّمَاسِرَةَ فَخَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمَّانَا بِاسْمٍ هُوَ أَحْسَنُ مِنْ اسْمِنَا قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ إنَّ الْبَيْعَ يَحْضُرُهُ اللَّغْوُ وَالْحَلِفُ فَشُوبُوهُ بِالصَّدَقَةِ } وَالسِّمْسَارُ اسْمٌ لِمَنْ يَعْمَلُ لِلْغَيْرِ بِالْأَجْرِ بَيْعًا وَشِرَاءً وَمَقْصُودُهُ مِنْ إيرَادِ الْحَدِيثِ بَيَانُ جَوَازِ ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا بَيَّنَ فِي الْبَابِ طَرِيقَ الْجَوَازِ ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمَّاهُمْ بِمَا هُوَ أَحْسَنُ مِمَّا كَانُوا يُسَمُّونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ وَهُوَ الْأَلْيَقُ بِكَرَمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُسْنِ مُعَامَلَتِهِ مَعَ النَّاسِ وَإِنَّمَا كَانَ اسْمُ التُّجَّارِ أَحْسَنَ ) ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُطْلَقُ فِي الْعِبَادَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّاجِرَ يُنْدَبُ لَهُ إلَى أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنْ الصَّدَقَةِ ؛ لِمَا أَشَارَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ إنَّ الْبَيْعَ يَحْضُرُهُ اللَّغْوُ وَالْحَلِفُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ قَدْ يُبَالِغُ فِي وَصْفِ سِلْعَتِهِ حَتَّى يَتَكَلَّمَ بِمَا هُوَ لَغْوٌ وَقَدْ يُجَازِفُ فِي الْحَلِفِ لِتَرْوِيجِ سِلْعَتِهِ فَيُنْدَبُ إلَى الصَّدَقَةِ لِيَمْحُوَ أَثَرَ ذَلِكَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } وَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا } وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى سِمْسَارٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقَالَ اشْتَرِ بِهَا زُطِّيًّا لِي بِأَجْرِ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِعَمَلٍ مَجْهُولٍ فَالشِّرَاءُ قَدْ يَتِمُّ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ وَقَدْ لَا يَتِمُّ بِعَشْرِ كَلِمَاتٍ ، ثُمَّ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى عَمَلٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى إقَامَتِهِ بِنَفْسِهِ فَإِنَّ

الشِّرَاءَ لَا يَتِمُّ مَا لَمْ يُسَاعِدْهُ الْبَائِعُ عَلَى الْبَيْعِ وَكَذَلِكَ إنْ سَمَّى لَهُ عَدَدَ الثِّيَابِ ، أَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِبَيْعِ طَعَامٍ ، أَوْ شِرَاءِ طَعَامٍ وَجَعَلَ أَجْرَهُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ النُّقُودِ ، أَوْ غَيْرِهَا فَهَذَا كُلُّهُ فَاسِدٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ لَهُ عَلَى كُلِّ ثَوْبٍ يَشْتَرِيهِ دِرْهَمًا ، أَوْ عَلَى كُرٍّ مِنْ حِنْطَةٍ يَبِيعُهُ دِرْهَمًا فَهُوَ فَاسِدٌ ؛ لِمَا بَيَّنَّا

وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ لِيَبِيعَ لَهُ ، أَوْ لِيَشْتَرِيَ لَهُ فَهَذَا جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَتَنَاوَلُ مَنَافِعَهُ هُنَا وَهُوَ مَعْلُومٌ بِبَيَانِ الْمُدَّةِ وَالْأَجِيرَ قَادِرٌ عَلَى إيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ إلَيْهِ نَفْسَهُ فِي جَمِيعِ الْيَوْمِ اسْتَوْجَبَ الْأَجْرُ ، وَإِنْ لَمْ يَتَّفِقْ لَهُ بَيْعٌ ، أَوْ شِرَاءٌ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُنَاكَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ حَتَّى لَا يَجِبُ الْأَجْرُ بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ إذَا لَمْ يَعْمَلْ بِهِ ، ثُمَّ فِيمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ فَاسِدًا إذَا اشْتَرَى وَبَاعَ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ ، وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سَمَّى لَهُ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ إجَارَةٍ فَاسِدَةٍ وَقَالَ : أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : إنْ شَاءَ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَلَمْ يَشْتَرِطْ لَهُ أَجْرًا فَيَكُونُ وَكِيلًا مُعَيَّنًا لَهُ ، ثُمَّ يُعَوِّضُهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ مِثْلَ الْأَجْرِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَا لَا يُخَالِفُهُمَا فَإِنَّ التَّعْوِيضَ فِي هِبَةِ الْأَعْيَانِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ عَنْ الْكُلِّ ، فَكَذَلِكَ فِي هِبَةِ الْمَنَافِعِ وَقَدْ أَحْسَنَ إلَيْهِ بِالْإِعَانَةِ وَإِنَّمَا جَزَاءُ الْإِحْسَانِ الْإِحْسَانُ .

وَإِنْ قَالَ بِعْ الْمَتَاعَ وَلَكَ الدِّرْهَمُ ، أَوْ اشْتَرِ لِي هَذَا الْمَتَاعَ وَلَكَ الدِّرْهَمُ فَفَعَلَ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سَمَّى ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِلْعَمَلِ الَّذِي سَمَّاهُ بِدِرْهَمٍ ، فَإِنَّ جَوَابَ الْأَمْرِ بِحَرْفِ الْوَاوِ كَجَوَابِ الشَّرْطِ بِحَرْفِ الْفَاءِ وَلَوْ قَالَ : إنْ بِعْت هَذَا الْمَتَاعَ لِي فَلَكَ دِرْهَمٌ كَانَ اسْتِئْجَارًا ، فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : بِعْهُ وَلَكَ دِرْهَمٌ ، ثُمَّ قَدْ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ إجَارَةٍ فَاسِدَةٍ فَيَلْزَمُهُ أَجْرُ مِثْلِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ الْكَفَالَةِ بِالْأَجْرِ .
قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةَ وَالْحَوَالَةَ فِي جَمِيعِ الْإِجَارَاتِ بِالْأُجْرَةِ فِي عَاجِلِهَا وَآجِلِهَا ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ ، وَإِنْ لَمْ تَجِبْ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَالسَّبَبُ الْمُوجِبُ قَدْ وُجِدَ وَالْكَفَالَةُ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ صَحِيحَةٌ كَالْكَفَالَةِ بِالدَّرَكِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ التَّوَثُّقُ وَكَمَا يَحْتَاجُ إلَى التَّوَثُّقِ فِيمَا هُوَ وَاجِبٌ فَكَذَلِكَ فِيمَا هُوَ يَعْرِضُ لِلْوُجُوبِ ، ثُمَّ الْكَفَالَةُ بِدَيْنٍ سَيَجِبُ صَحِيحَةٌ كَالْكَفَالَةِ بِمَا يَدُورُ لَهُ عَلَى فُلَانٍ وَالرَّهْنُ بِالْأَجْرِ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الرَّهْنِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ وَاسْتِيفَاءُ الْأَجْرُ قَبْلَ الْوُجُوبِ صَحِيحٌ فَالرَّهْنُ بِهِ كَذَلِكَ ، وَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الرَّهْنِ بِهِ ثَبَتَ جَوَازُ الْكَفَالَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ، ثُمَّ يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ نَحْوُ مَا عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ إنْ لَمْ يَشْتَرِطْ خِلَافَهُ فِي تَعْجِيلٍ أَوْ تَأْخِيرٍ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لِلضَّمِّ فَتَنْضَمُّ بِهِ ذِمَّةُ الْكَفِيلِ إلَى ذِمَّةِ الْأَصِيلِ فِيمَا هُوَ ثَابِتٌ فِيهِ بِصَفْقَتِهِ ، ثُمَّ الْكَفِيلُ يَلْتَزِمُ الْمُطَالَبَةَ الَّتِي هِيَ عَلَى الْأَصِيلِ ؛ وَلِهَذَا لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ إلَّا بِمَضْمُونٍ يُطَالِبُ بِهِ الْأَصِيلُ وَلَيْسَ لِلْكَفِيلِ أَنْ يَأْخُذَ الْمُسْتَأْجِرَ بِالْأَجْرِ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ وَلَكِنَّهُ إنْ أَلْزَمَهُ بِهِ صَاحِبُهُ فَلَهُ أَنْ يُلْزِمَ الْمَكْفُولَ عَنْهُ حَتَّى يَفُكَّهُ وَيُؤَدِّيَهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ مَا اسْتَوْجَبَ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ مُؤَخَّرٌ إلَى وَقْتِ أَدَائِهِ فَإِنَّهُ بِالْكَفَالَةِ أَقْرَضَ ذِمَّتَهُ مِنْ الْأَصِيلِ فَيَجِبُ لَهُ مِثْلُ مَا الْتَزَمَهُ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ وَبِالْأَدَاءِ يَصِيرُ مُقْرِضًا مَالَهُ مِنْهُ حِينَ أَسْقَطَ دَيْنَ الطَّالِبِ عَنْهُ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُعَامِلُ الْأَصِيلَ بِحَسَبِ مَا يُعَامِلُ إنْ طُولِبَ طَالَبَ ، وَإِنْ لُوزِمَ لَازَمَ ، وَإِنْ حُبِسَ حَبَسَ ، وَإِنْ أَدَّى رَجَعَ ، وَإِنْ عَجَّلَ الْكَفِيلُ الْأَجْرَ مِنْ عِنْدِهِ قَبْلَ

الْوَقْتِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ صَاحِبُهُ مِنْ مُطَالَبَةِ الْمُسْتَأْجِرِ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ الْكَفِيلُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الْوَقْتَ ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ مُتَبَرِّعٌ لِلْأَدَاءِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ وَتَبَرُّعُهُ لَا يُسْقِطُ حَقَّ الْأَصِيلِ فِي الْأَجَلِ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا لَهُ وَكَمَا أَنَّ الطَّالِبَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ عَلَى الْأَصِيلِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ ، فَكَذَلِكَ الْكَفِيلُ ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الْأَجْرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ ، فَإِنْ أَقَرَّ الْكَفِيلُ بِفَضْلٍ عَلَى ذَلِكَ لَزِمَهُ مَنْ عِنْده وَلَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ دُونَ الْأَصِيلِ ، وَإِنْ أَقَامُوا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْأَجِيرِ لِإِثْبَاتِهِ الزِّيَادَةَ وَلَهُ الْخِيَارُ فِي اسْتِيفَاءِ مَا أَثْبَتَهُ بَيْنَ أَنْ يُطَالِبَ بِهِ الْكَفِيلَ ، أَوْ الْأَصِيلَ .

وَإِنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا بِثَوْبٍ بِعَيْنِهِ وَكَفَلَ بِهِ رَجُلٌ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الْعَيْنِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ بِسَبَبِ الْعَقْدِ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ الْعَمَلِ فَإِنَّمَا الْتَزَمَ الْكَفِيلُ تَسْلِيمًا مُسْتَحَقًّا عَلَى الْأَصِيلِ وَهُوَ مِمَّا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ ، وَالْكَفَالَةُ بِمِثْلِهِ صَحِيحَةٌ عِنْدَنَا بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ فَإِنْ اسْتَكْمَلَ السُّكْنَى وَهَلَكَ الثَّوْبُ عِنْدَ صَاحِبِهِ بَرِئَ الْكَفِيلُ ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ الْتَزَمَ تَسْلِيمَ الثَّوْبِ وَقَدْ بَرِئَ الْأَصِيلُ عَنْ تَسْلِيمِ الثَّوْبِ بِالْهَلَاكِ فَيَبْرَأُ الْكَفِيلُ كَمَا لَوْ مَاتَ الْمَكْفُولُ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ بِالْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ فَهُنَاكَ الْغَاصِبُ لَا يَبْرَأُ عَنْ تَسْلِيمِ الثَّوْبِ بِالْهَلَاكِ وَلِهَذَا يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ ، وَالْقِيمَةُ تَقُومُ مَقَامَ الْعَيْنِ وَهُنَا الْمُسْتَأْجِرُ بَرِئَ عَنْ تَسْلِيمِ الثَّوْبِ حَتَّى لَا تَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ وَلَكِنْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ بِهَلَاكِ الثَّوْبِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَيَلْزَمُهُ أَجْرُ مِثْلِ الدَّارِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ وَالْكَفِيلُ مَا الْتَزَمَ مِنْ أَجْرِ مِثْلِ الدَّارِ شَيْئًا ؛ فَلِهَذَا بَرِئَ مِنْ الْكَفَالَةِ .

وَإِنْ اسْتَأْجَرَ الدَّارَ بِخِدْمَةِ عَبْدٍ شَهْرًا وَكَفَلَ رَجُلٌ بِالْخِدْمَةِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى إيفَائِهِ فَخِدْمَةُ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ لَا يُمْكِنُ إيفَاؤُهَا مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ ، وَإِنْ كَفَلَ بِنَفْسِ الْعَبْدِ ؛ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِهِ ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ نَفْسِ الْعَبْدِ بِالْعَقْدِ يُسْتَحَقُّ عَلَى الْمُؤَاجِرِ ، وَهُوَ مِمَّا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ وَيُطَالِبُ الْكَفِيلُ بِتَسْلِيمِهِ فَإِذَا مَضَى الشَّهْرُ وَأَقَرَّ الْمَكْفُولُ لَهُ أَنَّهُ كَانَ حَقَّهُ قَبْلَ خِدْمَةِ الشَّهْرِ الْمَاضِي بَرِئَ الْكَفِيلُ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِتَسْلِيمِ الْعَبْدِ تَسْقُطُ عَنْ الْأَصِيلِ بِمُضِيِّ الشَّهْرِ وَفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَبَرِئَ الْكَفِيلُ وَلَهُ أَجْرُ مِثْلِ الدَّارِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الدَّارِ بَقِيَتْ مُسْتَوْفَاةً وَقَدْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ بِفَوَاتِ مَا يُقَابِلُهَا قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ فَيَجِبُ رَدُّ الْمُسْتَوْفَى وَرَدُّ الْمَنْفَعَةِ بِرَدِّ أَجْرِ الْمِثْلِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْكَفِيلِ مِنْ ذَلِكَ .

وَإِذَا اسْتَأْجَرَ مَحْمَلًا أَوْ زَامِلَةً إلَى مَكَّةَ ، وَكَفَلَ بِهَا رَجُلٌ بِالْحُمُولَةِ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِمَا هُوَ مَضْمُونٌ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ وَتَجْرِي النِّيَابَةُ فِي إيفَائِهِ ؛ لِأَنَّ الْحُمُولَةَ إذَا لَمْ تَكُنْ مُعَيَّنَةً فَالْكَفِيلُ يَقْدِرُ عَلَى إيفَائِهِ كَمَا يَقْدِرُ الْأَصِيلُ ؛ فَلِهَذَا يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ بِالْحُمُولَةِ كَمَا يُؤْخَذُ الْمُؤَاجِرُ ، فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَ مِنْهُ إبِلًا بِغَيْرِ أَعْيَانِهَا يَحْمِلُ عَلَيْهَا مَتَاعًا مُسَمًّى إلَى بَلَدٍ مَعْلُومٍ وَكَفَلَ لَهُ رَجُلٌ بِالْحُمُولَةِ جَازَ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا وَلَوْ اسْتَأْجَرَ إبِلًا بِعِيَانِهَا وَكَفَلَ رَجُلٌ بِالْحُمُولَةِ لَمْ تَجُزْ الْكَفَالَةُ ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إيفَاءِ الْمَكْفُولِ بِهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَإِنَّ غَيْرَ مَا عُيِّنَ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْمُعَيَّنِ فِي الْإِيفَاءِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَفَلَ بِمَالٍ بِشَرْطِ أَنْ يُؤَدِّيَ ذَلِكَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ الْأَصِيلُ ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا لِيَسْكُنَهَا ، أَوْ أَرْضًا لِيَزْرَعَهَا ، أَوْ رَجُلًا لِيَخْدُمَهُ وَكَفَلَ لَهُ رَجُلٌ بِالْوَفَاءِ بِذَلِكَ كُلِّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ عَاجِزٌ عَنْ إيفَاءِ مَا الْتَزَمَ بِمَالِهِ وَنَفْسِهِ بِنَفْسِ الْكَفَالَةِ لَا تَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى مَالِ الْأَصِيلِ لِيُوَفِّيَ مَا الْتَزَمَ مِنْهُ وَكُلُّ شَيْءٍ أَبْطَلْنَا فِيهِ الْكَفَالَةَ مِنْ هَذَا فَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ نَافِذَةٌ إذَا لَمْ تَكُنْ الْكَفَالَةُ شَرْطًا فِي الْإِجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا عَقْدَانِ مُخْتَلِفَانِ فَفَسَادُ أَحَدِهِمَا لَا يُوجِبُ فَسَادُ الْآخَرِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ شَرْطًا فِي الْإِجَارَةِ فَعَقْدُ الْإِجَارَةِ نَظِيرُ الْبَيْعِ فِي أَنَّهُ يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ ، وَإِنْ عَجَّلَ لَهُ الْأَجْرَ وَكَفَلَ لَهُ الْكَفِيلُ فَالْأَجْرُ إنْ لَمْ يُوَفِّهِ الْخِدْمَةُ وَالسُّكْنَى وَالزِّرَاعَةُ فَهَذَا جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِدَيْنٍ مُضَافٍ إلَى سَبَبِ وُجُوبِهِ .

وَإِنْ أَسْلَمَ ثَوْبًا إلَى خَيَّاطٍ لِيَخِيطَهُ لَهُ بِأَجْرٍ مُسَمًّى وَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِالْخِيَاطَةِ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِمَضْمُونٍ تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ فَإِنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَى الْخَيَّاطِ الْعَمَلُ فِي ذِمَّتِهِ إنْ شَاءَ إنْ شَاءَ أَقَامَهُ بِنَفْسِهِ وَإِنْ شَاءَ أَقَامَهُ بِنَائِبِهِ فَتَمَكَّنَ الْكَفِيلُ مِنْ إيفَاءِ هَذَا الْعَمَلِ أَيْضًا فَلِهَذَا كَانَ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ أَنْ يُطَالِبَ أَيَّهُمَا شَاءَ فَإِنْ خَاطَهُ الْكَفِيلُ رَجَعَ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ بِأَجْرِ مِثْلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ ؛ لِأَنَّهُ أَوْفَى عَنْهُ مَا الْتَزَمَ بِأَمْرِهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ وَبِمِثْلِ الْخِيَاطَةِ أَجْرُ الْمِثْلِ ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الثَّوْبِ اشْتَرَطَ عَلَى الْخَيَّاطِ أَنْ يَخِيطَهُ بِيَدِهِ فَهَذَا شَرْطٌ مُفِيدٌ مُعْتَبَرٌ لِتَفَاوُتِ النَّاسِ فِي عَمَلِ الْخَيَّاطِ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ إقَامَةُ الْعَمَلِ بِيَدِهِ لَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ لَهُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ عَاجِزٌ عَنْ إيفَائِهِ بِنَفْسِهِ وَبِالْكَفَالَةِ لَا تَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى يَدِ الْأَصِيلِ لِيُوَفِّيَ مَا الْتَزَمَهُ بِيَدِهِ ؛ فَلِهَذَا يَطْلُبُ الْكَفَالَةَ ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَعْمَالِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ إجَارَةِ الظِّئْرِ .
قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ الِاسْتِئْجَارُ لِلظَّئُورَةِ جَائِزٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } وَالْمُرَادُ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { ، وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى } يَعْنِي بِأَجْرٍ وَبُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ يَتَعَامَلُونَهُ فَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَقَدْ اُسْتُؤْجِرَ لِإِرْضَاعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَلِيمَةُ وَبِالنَّاسِ إلَيْهِ حَاجَةٌ ؛ لِأَنَّ الصِّغَارَ لَا يَتَرَبَّوْنَ إلَّا بِلَبَنِ الْآدَمِيَّةِ وَالْأُمُّ قَدْ تَعْجِزُ عَنْ الْإِرْضَاعِ لِمَرَضٍ ، أَوْ مَوْتٍ ، أَوْ تَأْبَى الْإِرْضَاعَ فَلَا طَرِيقَ إلَى تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ سِوَى اسْتِئْجَارِ الظِّئْرِ جُوِّزَ ذَلِكَ لِلْحَاجَةِ ، وَزَعَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةُ ، وَهُوَ الْقِيَامُ بِخِدْمَةِ الصَّبِيِّ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَأَمَّا اللَّبَنُ فَتَبَعٌ فِيهِ ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ عَيْنٌ وَالْعَيْنُ لَا تُسْتَحَقُّ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ كَلَبَنِ الْأَنْعَامِ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْعَقْدَ يَرِدُ عَلَى اللَّبَنِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِ تَبَعٌ وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ مَنْفَعَةُ الثَّدْيِ فَمَنْفَعَةُ كُلِّ عُضْوٍ عَلَى حَسَبِ مَا يَلِيقُ بِهِ وَهَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ : اسْتِحْقَاقُ لَبَنِ الْآدَمِيَّةِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَجَوَازُ بَيْعِ لَبَنِ الْأَنْعَامِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَقَدْ ذُكِرَ فِي كِتَابٍ أَنَّهَا ، لَوْ رَبَّتْ الصَّغِيرَ بِلَبَنِ الْأَنْعَامِ ، لَا تَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ وَقَدْ قَامَتْ بِمَصَالِحِهِ فَلَوْ كَانَ اللَّبَنُ تَبَعًا وَلَمْ يَكُنْ الْأَجْرُ بِمُقَابَلَتِهِ لَاسْتَوْجَبَتْ الْأَجْرَ ، ثُمَّ بَدَأَ الْبَابُ بِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ { لَا تُرْضِعْ لَكُمْ الْحَمْقَاءُ فَإِنَّ اللَّبَنَ يُفْسِدُ } وَهُوَ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ اللَّبَنَ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ عَيْنِهَا ؛ لِأَنَّهُ يَتَوَلَّدُ مِنْهَا فَتُؤَثِّرُ فِيهِ حَمَاقَتُهَا وَيَظْهَرُ أَثَرٌ فِي ذَلِكَ الرَّضِيعِ لِمَا لِلْغِذَاءِ مِنْ الْأَثَرِ ، وَنَظِيرُهُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا تُرْضِعْ لَكُمْ سَيِّئَةُ الْخُلُقِ } .

وَإِذَا اسْتَأْجَرَ ظِئْرًا تُرْضِعُ صَبِيًّا لَهُ سَنَتَيْنِ حَتَّى تَفْطِمَهُ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهَا بِعَمَلٍ مَعْلُومٍ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ وَطَعَامُهَا وَكِسْوَتُهَا عَلَى نَفْسِهَا ؛ لِأَنَّهَا شَرَطَتْ عَلَيْهِمْ الْأَجْرَ الْمُسَمَّى بِمُقَابَلَةِ عَمَلِهَا فَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ حَالُهَا بَعْدَ الْعَقْدِ كَمَا قَبْلَ الْعَقْدِ ، وَتُرْضِعُهُ فِي بَيْتِهَا إنْ شَاءَتْ وَلَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تُرْضِعَهُ فِي بَيْتِ أَبِيهِ ؛ لِأَنَّهَا بِالْعَقْدِ الْتَزَمَتْ فِعْلَ الْإِرْضَاعِ وَمَا الْتَزَمَتْ الْمَقَامَ فِي بَيْتِهِمْ وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى إيفَاءِ مَا الْتَزَمَتْ فِي بَيْتِ نَفْسِهَا فَإِنْ اشْتَرَطَتْ كِسْوَتَهَا كُلَّ سَنَةٍ ثَلَاثَةَ أَثْوَابٍ زُطِّيَّةٍ وَاشْتَرَطَتْ عِنْدَ الْفِطَامِ دَرَاهِمَ مُسَمَّاةً ، وَقَطِيفَةً ، وَمِسْحًا ، وَفِرَاشًا فَذَلِكَ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ خَاصَّةً دُونَ سَائِرِ الْإِجَارَاتِ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ وَهُوَ الْقِيَاسُ ، وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَطَتْ عَلَيْهِمْ طَعَامًا فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَاف وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ هَذَا عَقْدُ إجَارَةٍ فَلَا يَصِحُّ إلَّا بِإِعْلَامِ الْأُجْرَةِ كَمَا فِي سَائِرِ الْإِجَارَاتِ ، وَالطَّعَامُ مَجْهُولُ الْجِنْسِ وَالْمِقْدَارِ وَالصِّفَةِ ، وَالْكِسْوَةُ كَذَلِكَ هُنَا ، وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ كَمَا فِي سَائِرِ الْإِجَارَاتِ ؛ لِأَنَّهَا تُفْضِيَ إلَى الْمُنَازَعَةِ فَكَذَلِكَ هُنَا ، وَهَذَا قِيَاسٌ يَشُدُّهُ الْأَثَرُ وَهُوَ قَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ } فَإِنْ أَقَامَتْ الْعَمَلَ فَلَهَا أَجْرُ مِثْلِهَا ؛ لِأَنَّهَا وَفَّتْ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ ، إلَّا أَنْ يُسَمُّوا لَهَا ثِيَابًا مَعْلُومَةَ الْجِنْسِ وَالطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالرُّقْعَةِ وَيَضْرِبُوا لِذَلِكَ أَجَلًا وَيُسَمُّوا لَهَا كُلَّ يَوْمٍ كَيْلًا مِنْ الدَّقِيقِ مَعْلُومًا فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ كَمَا فِي سَائِرِ الْإِجَارَاتِ وَالْبُيُوعِ

وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } يَعْنِي أَجْرًا عَلَى الْإِرْضَاعِ بَعْدَ الطَّلَاقِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ قَالَ : { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } ، وَذَلِكَ أَجْرُ الرَّضَاعِ لَا نَفَقَةُ النِّكَاحِ وَلِأَنَّ النَّاسَ تَعَارَفُوا بِهَذَا الْعَقْدِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَلَيْسَ فِي عَيْنِهِ نَصٌّ يُبْطِلُهُ وَفِي النُّزُوعِ عَنْ هَذِهِ الْعَادَةِ حَرَجٌ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُعِدُّونَ الظِّئْرَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِمْ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يَسْتَنْكِفُونَ عَنْ تَقْدِيرِ طَعَامِهَا وَكِسْوَتِهَا كَمَا يَسْتَنْكِفُونَ عَنْ تَقْدِيرِ طَعَامِ الزَّوْجَاتِ وَكِسْوَتِهِنَّ ، ثُمَّ إنَّمَا لَمْ يُجَوَّزْ هَذَا فِي سَائِرِ الْإِجَارَاتِ لِتَمَكُّنِ الْمُنَازَعَةِ فِي الثَّانِي ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هُنَا ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَمْنَعُونَ الظِّئْرَ كِفَايَتَهَا مِنْ الطَّعَامِ ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ ذَلِكَ تَرْجِعُ إلَى وَلَدِهِمْ وَرُبَّمَا يُكَلِّفُونَهَا أَنْ تَأْكُلَ فَوْقَ الشِّبَعِ لِيَكْثُرَ لَبَنُهَا ، وَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُونَهَا كِفَايَتَهَا مِنْ الْكِسْوَةِ لِكَوْنِ وَلَدِهِمْ فِي حِجْرِهَا ، ثُمَّ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ فِي هَذَا الْعَقْدِ يُتَوَسَّعُ فِيهِ مَا لَا يُتَوَسَّعُ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ حَتَّى أَنَّ اللَّبَنَ الَّذِي هُوَ عَيْنٌ حَقِيقَةً يُسْتَحَقُّ بِهَذِهِ الْإِجَارَةِ دُونَ غَيْرِهَا ، فَكَذَلِكَ يُتَوَسَّعُ فِي الْعِوَضِ الْآخَرِ فِي هَذَا الْعَقْدِ مَا لَا يُتَوَسَّعُ فِي غَيْرِهِ وَإِذَا جَازَ الْعَقْدُ عِنْدَهُ كَانَ لَهَا الْوَسَطُ مِنْ الْمَتَاعِ وَالثِّيَابِ الْمُسَمَّاةِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ ذَلِكَ بِمُطْلَقِ التَّسْمِيَةِ فِي عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْوَسَطِ كَمَا فِي الصَّدَاقِ إذَا سَمَّى لَهَا عَبْدًا ، أَوْ ثَوْبًا هَرَوِيًّا وَهَذَا ؛ لِأَنَّ فِي تَعْيِينِ الْوَسَطِ نَظَرٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَلَوْ اشْتَرَطُوا عَلَيْهَا أَنْ تُرْضِعَ الصَّبِيَّ فِي مَنْزِلِهِمْ فَهُوَ جَائِزٌ كَمَا فِي سَائِرِ الْإِجَارَاتِ إذَا اشْتَرَطَ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى الْأَجِيرِ إقَامَةَ الْعَمَلِ فِي بَيْتِهِ وَهَذَا ؛

لِأَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِهَذَا الشَّرْطِ فَإِنَّهَا تَتَعَاهَدُ الصَّبِيَّ فِي بَيْتِهِمْ مَا لَا تَتَعَاهَدُهُ فِي بَيْتِ نَفْسِهَا ، وَرُبَّمَا لَا يَتَحَمَّلُ قَلْبُهُمَا غَيْبَةَ الْوَلَدِ عَنْهُمَا وَالشَّرْطُ الْمُفِيدُ فِي الْعَقْدِ مُعْتَبَرٌ ، فَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ فَأَجَّرَتْ نَفْسَهَا لِلظِّئْرَةِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يُبْطِلَ عَقْدَ الْإِجَارَةِ قِيلَ : هَذَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ مِمَّا يَشِينُهُ أَنْ تَكُونَ زَوْجَتُهُ ظِئْرًا فَلِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ مِمَّنْ لَا يَشِينُهُ ذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ وَالْأَصَحُّ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ فِي الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ تُرْضِعُهُ فِي بَيْتِ أَبَوَيْهِ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ مِنْ مَنْزِلِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ تُرْضِعُهُ فِي بَيْتِ نَفْسِهَا فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ إدْخَالِ صَبِيِّ الْغَيْرِ مَنْزِلَهُ ؛ وَلِأَنَّهَا فِي الْإِرْضَاعِ وَالسَّهَرِ بِاللَّيْلِ تُتْعِبُ نَفْسَهَا ، وَذَلِكَ يُنْقِصُ مِنْ جَمَالِهَا ، وَجَمَالُهَا حَقُّ الزَّوْجِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الْإِضْرَارِ بِهِ فِي حَقِّهِ كَمَا يَمْنَعُهَا مِنْ التَّطَوُّعَاتِ ، وَهَذَا إذَا كَانَ زَوْجُهَا مَعْرُوفًا ، فَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا لَا تُعْرَفُ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ إلَّا بِقَوْلِهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْإِجَارَةَ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ لَزِمَهَا ، وَقَوْلَهَا غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي حَقِّ مَنْ اسْتَأْجَرَهَا وَلِأَنَّهُ تَتَمَكَّنُ تُهْمَةُ الْمُرَاضَعَةِ مَعَ هَذَا الرَّجُلِ بِأَنْ يُقِرَّ لَهُ بِالنِّكَاحِ لِيَفْسَخَ الْإِجَارَةَ ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمَنْكُوحَةِ إذَا كَانَتْ مَجْهُولَةَ الْحَالِ فَأَقَرَّتْ بِالرِّقِّ عَلَى نَفْسِهَا فَإِنَّهَا لَا تُصَدَّقُ فِي إبْطَالِ النِّكَاحِ فَإِنْ هَلَكَ الصَّبِيُّ بَعْدَ سَنَةٍ فَلَهَا أَجْرُ مَا مَضَى وَلَهَا مِمَّا اشْتَرَطَتْ مِنْ الْكِسْوَةِ وَالدَّرَاهِمِ عِنْدَ الْفِطَامِ بِحِسَابِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا أَوْفَتْ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الْمُدَّةِ الْمَاضِيَةِ فَتَقَرَّرَ حَقُّهَا فِيمَا يُقَابِلُ ذَلِكَ مِنْ الْبَدَلِ ، ثُمَّ

يَتَحَقَّقُ فَوَاتُ الْمَقْصُودِ فِيمَا بَقِيَ فَلَا يَجِبُ مَا يَخُصُّهُ مِنْ الْبَدَلِ وَلَوْ ضَاعَ الصَّبِيُّ مِنْ يَدِهَا ، أَوْ وَقَعَ فَمَاتَ ، أَوْ سُرِقَ مِنْ حُلِيِّ الصَّبِيِّ ، أَوْ مِنْ ثِيَابِهِ شَيْءٌ لَمْ تَضْمَنْ الظِّئْرُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ فَإِنَّ الْعَقْدَ وَرَدَ عَلَى مَنَافِعِهَا فِي الْمُدَّةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تُشْغِلَ نَفْسَهَا فِي الْمُدَّةِ عَنْ رَضَاعِ الصَّبِيِّ ، وَلَا تُؤَاجِرُ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِهِمْ لِمِثْلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ وَالْأَجِيرُ الْخَاصُّ أَمِينٌ فِيمَا فِي يَدِهِ بِخِلَافِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرِكِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُضَمِّنُهُ وَلَيْسَ عَلَيْهَا مِنْ عَمَلِ أَبَوَيْ الصَّبِيِّ شَيْءٌ إنْ كَلَّفُوهَا عَجْنًا ، أَوْ طَبْخًا ، أَوْ خَبْزًا ؛ لِأَنَّهَا الْتَزَمَتْ بِالْعَقْدِ الظُّئُورَةَ ، وَهَذِهِ الْأَعْمَالِ لَا تَتَّصِلُ بِالظُّئُورَةِ فَلَا يَلْزَمُهَا إلَّا أَنْ تَتَطَوَّعَ بِهِ ، فَأَمَّا عَمَلُ الصَّبِيِّ وَغَسْلُ ثِيَابِهِ وَمَا يُصْلِحُهُ مِمَّا يُعَالَجُ بِهِ الصِّبْيَانُ مِنْ الدُّهْنِ وَالرَّيْحَانِ فَهُوَ عَلَى الظِّئْرِ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ عَمَلِ الظُّئُورَةِ ، وَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ يَأْكُلُ الطَّعَامَ فَلَيْسَ عَلَى الظِّئْرِ أَنْ تَشْتَرِيَ لَهُ الطَّعَامَ ؛ لِأَنَّهَا الْتَزَمَتْ تَرْبِيَتَهُ بِلَبَنِهَا دُونَ الطَّعَامِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ عَلَى أَهْلِهِ وَعَلَيْهَا أَنْ تُهَيِّئَهُ لَهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَنْ عَمِلَ الظُّئُورَةَ فَقَدْ جَعَلَ الدُّهْنَ وَالرَّيْحَانِ عَلَيْهَا ، بِخِلَافِ الطَّعَامِ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعُرْفِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَهُوَ أَصْلٌ كَبِيرٌ فِي الْإِجَارَةِ فَإِنَّ مَا يَكُونُ مِنْ التَّوَابِعِ غَيْرَ مَشْرُوطٍ فِي الْعَقْدِ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْعُرْفُ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ حَتَّى قِيلَ : فِي اسْتِئْجَارِ اللَّبَّانِ : إنَّ الزِّنْبِيلَ وَالْمَلْبَنَ عَلَى صَاحِبِ اللَّبَنِ بِنَاءً عَلَى عُرْفِهِمْ ، وَالسِّلْكَ وَالْإِبْرَةَ عَلَى الْخَيَّاطِ بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ وَالدَّقِيقَ عَلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ دُونَ الْحَائِكِ فَإِنْ كَانَ عُرْفُ أَهْلِ

الْبَلْدَةِ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَهُوَ عَلَى مَا يَتَعَارَفُونَ ، وَحَثْيَ التُّرَابِ عَلَى الْحَفَّارِ فِي الْقَبْرِ بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ ، وَإِخْرَاجَ الْخُبْزِ مِنْ التَّنُّورِ عَلَى الْخَبَّازِ وَغَرْفَ الْمَرَقَةِ فِي الْقِصَاعِ عَلَى الطَّبَّاخِ إذَا اُسْتُؤْجِرَ لِطَبْخِ عُرْسٍ وَإِنْ اُسْتُؤْجِرَ لِطَبْخِ قِدْرٍ خَاصٍّ فَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِانْعِدَامِ الْعُرْفِ فِيهِ ، وَإِدْخَالُ الْجَمَلِ الْمَنْزِلَ عَلَى الْحَمَّالِ إذَا حَمَّلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَصْعَدَ بِهِ عَلَى السَّطْحِ ، أَوْ الْغُرْفَةِ لِلْعُرْفِ ، وَإِذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا حِمْلًا إلَى مَنْزِلِهِ فَإِنْزَالُ الْحِمْلِ عَنْ ظَهْرِ الدَّابَّةِ عَلَى الْمُكَارِي وَفِي إدْخَالِهِ الْمَنْزِلَ يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ ، وَالْإِكَافُ عَلَى صَاحِبِ الدَّابَّةِ وَفِي الْجَوَالِيفِ وَالْحَبْلِ يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ وَكَذَلِكَ فِي السَّرْجِ وَاللِّجَامِ يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ فَهُوَ الْأَصْلُ ، أَمَّا التَّوَابِعُ الَّتِي لَا تُشْتَرَطُ عِنْدَ الْعَقْدِ يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ فِيهَا وَبِهِ يُفْصَلُ عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ وَإِذَا أَرَادَ أَهْلُ الصَّبِيِّ أَنْ يُخْرِجُوا الظِّئْرَ قَبْلَ الْأَجَلِ فَلَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ إلَّا مِنْ عُذْرٍ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَازِمٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ إلَّا أَنَّ الْإِجَارَةَ تَنْفَسِخُ بِالْعُذْرِ عِنْدَنَا عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي بَابِهِ ، ثُمَّ الْعُذْرُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ أَنْ لَا يَأْخُذَ الصَّبِيُّ مِنْ لَبَنِهَا فَيَفُوتُ بِهِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَلَا عُذْرَ أَبْيَنُ مِنْ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ إذَا تَقَايَأَ لَبَنَهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِالصَّبِيِّ عَادَةً فَالْحَاجَةُ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ عُذْرٌ فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ ، وَكَذَلِكَ إذَا حَبِلَتْ ؛ لِأَنَّ لَبَنَهَا يَفْسُدُ بِذَلِكَ وَيَضُرُّ بِالصَّبِيِّ فَإِذَا خَافُوا عَلَى الصَّبِيِّ مِنْ ذَلِكَ كَانَ لَهُمْ عُذْرٌ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ سَارِقَةً ؛ فَإِنَّهُمْ يَخَافُونَ عَلَى مَتَاعِهِمْ إنْ كَانَتْ فِي بَيْتِهِمْ وَعَلَى مَتَاعِ الصَّبِيِّ وَحِلْيَتِهِ إذَا كَانَ مَعَهَا ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ فَاجِرَةً بَيِّنَةً فُجُورِهَا فَيَخَافُونَ عَلَى

أَنْفُسِهِمْ فَهَذَا عُذْرٌ ؛ لِأَنَّهَا تَشْتَغِلُ بِالْفُجُورِ وَبِسَبَبِهِ يَنْقُصُ مِنْ قِيَامِهَا بِمَصَالِح الصَّبِيِّ وَرُبَّمَا تَحْمِلُ مِنْ الْفُجُورِ فَيُفْسِدُ ذَلِكَ لَبَنَهَا وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ كَافِرَةً ؛ لِأَنَّ كُفْرَهَا فِي اعْتِقَادِهَا وَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ بِالصَّبِيِّ ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ : عَيْبُ الْفُجُورِ فِي هَذَا فَوْقَ عَيْبِ الْكُفْرِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي بَعْضِ نِسَاءِ الرُّسُلِ كَافِرَةٌ كَامْرَأَةِ نُوحٍ وَلُوطٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ { وَمَا بَغَتْ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ هَكَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } ، وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادُوا سَفَرًا فَتَأْبَى أَنْ تَخْرُجَ مَعَهُمْ فَهَذَا عُذْرٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَذَّرُ الْخُرُوجُ لِلسَّفَرِ عِنْدَ الْحَاجَةِ لِمَا عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ وَلَا تُجْبَرُ هِيَ عَلَى الْخُرُوجِ مَعَهُمْ ؛ لِأَنَّهَا مَا الْتَزَمَتْ تَحَمُّلَ ضَرَرِ السَّفَرِ وَلَا يُمْكِنُهُمْ تَرْكُ الصَّبِيِّ عِنْدَهَا ؛ لِأَنَّ غَيْبَتَهُمْ عَنْ الْوَلَدِ تُوحِشُهُمْ فَلِدَفْعِ الضَّرَرِ يَكُونُ لَهُمْ أَنْ يَفْسَخُوا الْإِجَارَةَ وَلَيْسَ لِلظِّئْرِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْ عِنْدِهِمْ إلَّا مِنْ عُذْرٍ ، وَعُذْرُهَا مِنْ مَرَضٍ يُصِيبُهَا لَا تَسْتَطِيعُ مَعَهُ الرَّضَاعَ ؛ لِأَنَّهَا تَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ وَرُبَّمَا يُصِيبُهُ انْضِمَامُ تَعَبِ الرَّضَاعِ إلَى الْمَرَضِ وَلَهُمْ أَنْ يُخْرِجُوهَا إذَا مَرِضَتْ ؛ لِأَنَّهَا تَعْجِزُ بِالْمَرَضِ عَمَّا هُوَ مَقْصُودُهُمْ وَهُوَ الْإِرْضَاعِ فَرُبَّمَا يَقِلُّ بِسَبَبِهِ لَبَنُهَا أَوْ يَفْسُدَ ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ زَوْجُهَا سَلَّمَ الْإِجَارَةَ فَلَهُ أَنْ يُخْرِجَهَا لِمَا بَيَّنَّا ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً بِالظَّئُورَةِ فَلَهَا أَنْ تَفْسَخَ ؛ لِأَنَّهَا رُبَّمَا لَا تَعْرِفُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ مَا تُبْتَلَى بِهِ مِنْ الْمُقَاسَاةِ وَالسَّهَرِ ، فَإِذَا جَرَّبَتْ ذَلِكَ تَضَرَّرَتْ وَلِأَنَّهَا تَغَيَّرَتْ مِنْ هَذَا الْعَمَلِ عَلَى مَا قِيلَ : تَجُوعُ الْحُرَّةُ وَلَا تَأْكُلُ بِثَدْيَيْهَا ، وَمَا كَانَتْ تَعْرِفُ مَا يَلْحَقُهَا مِنْ الذُّلِّ ، إذَا

لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً بِذَلِكَ فَإِذَا عَمِلَتْ كَانَ لَهَا أَنْ تَفْسَخَ الْعَقْدَ ، وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الصَّبِيِّ يُؤْذُونَهَا بِأَلْسِنَتِهِمْ كَفُّوا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ظُلْمٌ مِنْهُمْ ، وَالْكَفُّ عَنْ الظُّلْمِ وَاجِبٌ ، وَإِنْ سَاءُوا أَخْلَاقَهُمْ مَعَهَا كَفُّوا عَنْهَا ؛ لِأَنَّ سُوءَ الْخُلُقِ مَذْمُومٌ ، فَإِذَا لَمْ يَكُفُّوا عَنْهَا كَانَ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ ؛ لِأَنَّهَا تَتَضَرَّرُ بِالصَّبْرِ عَلَى الْأَذَى وَسُوءِ الْخُلُقِ وَلَوْ كَانَ زَوْجُهَا قَدْ سَلَّمَ الْإِجَارَةَ فَأَرَادُوا مَنْعَهُ مِنْ غَشَيَانِهَا مَخَافَةَ الْحَبَلِ وَأَنْ يَضُرَّ ذَلِكَ بِالصَّبِيِّ ، فَلَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهُ ذَلِكَ فِي مَنْزِلِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْمَنْزِلَ لَهُمْ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَدْخُلَهُ إلَّا بِإِذْنِهِمْ ، وَإِنْ لَقِيَهَا فِي مَنْزِلِهِ فَلَهُ أَنْ يَغْشَاهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَقٌّ لَهُ بِالنِّكَاحِ ، وَبِتَسْلِيمِ الْإِجَارَةِ لَا يَسْقُطُ حَقُّهُ عَمَّا كَانَ مُسْتَحَقًّا لَهُ فَلَا تَسْتَطِيعُ الظِّئْرُ أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا وَلَا يَسَعُ أَهْلَ الصَّبِيِّ أَنْ يَمْنَعُوهَا عَنْ ذَلِكَ ، وَلَا يَسَعُ الظِّئْرَ أَنْ تُطْعِمَ أَحَدًا مِنْ طَعَامِهِمْ بِغَيْرِ أَمْرِهِمْ لِأَنَّهَا فِي ذَلِكَ كَغَيْرِهَا مِنْ الْأَجْنَبِيَّاتِ فَإِنْ زَارَهَا أَحَدٌ مِنْ وَلَدِهَا فَلَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنْ الْكَيْنُونَةِ عِنْدَهَا ؛ لِأَنَّ الْمَنْزِلَ لَهُمْ ، وَلَهُمْ أَنْ يَمْنَعُوهَا مِنْ الزِّيَارَةِ إذَا كَانَتْ تَضُرُّ بِالصَّبِيِّ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ الْتَزَمَتْ مَا يَرْجِعُ إلَى إصْلَاحِ الصَّبِيِّ وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ ، وَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِالصَّبِيِّ فَلَيْسَ لَهُمْ مَنْعُهَا ؛ لِأَنَّهَا حُرَّةٌ مَالِكَةٌ أَمْرَ نَفْسِهَا فِيمَا وَرَاءَ مَا الْتَزَمَتْ لَهُمْ .

وَيَجُوزُ لِلْأَمَةِ التَّاجِرَةِ أَنْ تُؤَاجِرَ نَفْسَهَا ظِئْرًا كَمَا أَنَّ لَهَا أَنْ تُؤَاجِرَ نَفْسَهَا لِعَمَلٍ آخَرَ ؛ لِأَنَّ رَأْسَ مَالِهَا بِتِجَارَتِهَا مَنَافِعُهَا ، وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبَةُ ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ التَّاجِرُ ، أَوْ الْمُكَاتَبُ يُؤَاجِرُ أُمَّتَهُ ظِئْرًا ، أَوْ يَسْتَأْجِرُ ظِئْرًا لِصَبِيٍّ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ مِنْ عُقُودِ التِّجَارَةِ وَلِأَنَّ التَّدْبِيرَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى إصْلَاحِ كَسْبِهِ إلَيْهِ ، فَكَمَا يَشْتَرِي لِصَبِيٍّ لَهُ طَعَامًا ، فَكَذَلِكَ يَسْتَأْجِرُ لَهُ الظِّئْرَ لِتُرْضِعَهُ ، وَكَمَا يَبِيعُ أَمَتَهُ ، فَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهَا فَإِنْ رَدَّ فِي الرِّقِّ بَعْدَ الِاسْتِئْجَارِ انْتَقَضَتْ الْإِجَارَةُ فَإِنْ كَانَ هُوَ أَجَّرَ أَمَتَهُ لَمْ تُنْتَقَضُ الْإِجَارَةُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ تَنْتَقِضُ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمَنَافِعَ بِالْإِجَارَةِ اُسْتُحِقَّتْ عَلَى الْمُكَاتَبِ وَبِعَجْزِهِ بَطَلَ حَقُّهُ ، وَصَارَ الْحَقُّ فِي الْمَنَافِعِ لِلْمَوْلَى فَتَبْطُلُ الْإِجَارَةُ كَمَا لَوْ مَاتَ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فِي مِلْكِ التَّصَرُّفِ وَالْكَسْبِ حَتَّى يَخْتَصَّ هُوَ بِالتَّصَرُّفِ دُونَ الْمَوْلَى فَعَجْزُهُ يَكُون نَاقِلًا الْحَقَّ مِنْهُ إلَى الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ مَوْتِ الْحُرِّ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَبْطُلُ اسْتِئْجَارُهُ ، وَبِهِ فَارَقَ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ فَإِنَّ الْكَسْبَ كَانَ مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى وَكَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ فَالْحَجْرُ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ نَاقِلًا الْحَقَّ إلَى مَوْلَاهُ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ اسْتِئْجَارَهُ لَا يَبْطُلُ فَكَذَلِكَ إجَارَتُهُ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أُعْتِقَ الْمُكَاتَبُ ؛ لِأَنَّ بِالْعِتْقِ يَتَقَرَّرُ حَقُّهُ فِي مِلْكِ الْكَسْبِ وَالتَّصَرُّفِ وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا اسْتَبْرَأَ أَمَتَهُ ، ثُمَّ عَتَقَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ اسْتِبْرَاءٌ جَدِيدٌ وَلَوْ عَجَزَ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى فِيهَا اسْتِبْرَاءٌ جَدِيدٌ وَأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَوْ اشْتَرَى قَرِيبَ نَفْسِهِ مِنْ وَالِدٍ ، أَوْ وَلَدٍ

امْتَنَعَ بَيْعُهُ وَلَوْ اشْتَرَى قَرِيبَ الْمَوْلَى لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ بَيْعه وَأَنَّهُ يَجُوزُ دَفْعُ الزَّكَاةِ إلَى الْمُكَاتَبِ وَإِنْ كَانَ مَوْلَاهُ غَنِيًّا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْكَسْبَ لَهُ مَا دَامَ مُكَاتَبًا فَبِالْعَجْزِ يَنْتَقِلُ إلَى مَوْلَاهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ مَاتَ عَاجِزًا بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ فَكَذَلِكَ إذَا عَجَزَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : بِعَجْزِهِ انْقَلَبَ حَقُّ الْمِلْكِ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ فَلَا تَبْطُلُ الْإِجَارَةُ كَمَا إذَا عَتَقَ ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْكَسْبَ دَائِرٌ بَيْنَ الْمُكَاتَبِ وَالْمَوْلَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ حَقُّ الْمِلْكِ لَا حَقِيقَةُ الْمِلْكِ وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ امْرَأَةَ مَوْلَاهُ ، أَوْ امْرَأَةَ نَفْسِهِ لَا يَفْسُدُ النِّكَاحُ ، وَلَوْ تَزَوَّجَ الْمَوْلَى أَمَةً مِنْ كَسْبِ مُكَاتَبِهِ لَمْ يَجُزْ ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ الْمُكَاتَبُ أَمَةً مِنْ كَسْبِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّ الْمِلْكِ وَجَانِبُ الْمَوْلَى فِي حَقِيقَةِ الْمِلْكِ يَتَرَجَّحُ عَلَى جَانِبِ الْمُكَاتَبِ ؛ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِذَلِكَ وَالْمُكَاتَبُ لَيْسَ بِأَهْلٍ وَلَوْ أَدَّى مُكَاتَبُ الْمُكَاتَبِ الْبَدَلَ كَانَ الْوَلَاءُ لِمَوْلَى الْأَوَّلِ ، وَلَوْ أَعْتَقَ الْمَوْلَى مَنْ يُكَاتِبُ عَلَى الْمُكَاتَبَ مِنْ أَقْرِبَائِهِ نَفَذَ عِتْقُهُ فِيهِ وَلَا يَنْفُذُ عِتْقُ الْمُكَاتَبِ فَعَرَفْنَا أَنَّ فِي حَقِيقَةِ الْمِلْكِ يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الْمَوْلَى ، ثُمَّ إذَا تَحَقَّقَ الْمِلْكُ لِلْمُكَاتَبِ بِالْعِتْقِ لَا تَبْطُلُ الْإِجَارَةُ فَإِذَا تَحَقَّقَ لِلْمَوْلَى بِالْعَجْزِ أَوْلَى وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَبَدَّلُ مَنْ اُسْتُحِقَّ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ الْحُرُّ وَقَدْ قَبِلَ الِاسْتِئْجَارَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا وَالْأَصَحُّ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فَيَقُولُ اسْتِئْجَارُ الْمُكَاتَبِ كَانَ لِحَاجَتِهِ دُونَ حَاجَةِ مَوْلَاهُ وَقَدْ سَقَطَتْ حَاجَتُهُ بِعَجْزِهِ فَأَمَّا إجَارَتُهُ كَانَتْ لِتَحْصِيلِ الْأُجْرَةِ وَفِيهِ حَقٌّ لِلْمَوْلَى كَمَا لِلْمُكَاتَبِ ،

فَبِعَجْزِهِ لَا يَنْعَدِمُ مَا لِأَجْلِهِ لَزِمَتْ الْإِجَارَةُ ، ثُمَّ يُسَلِّمُ أَنَّ الْمُكَاتَبَ مُنْفَرِدٌ بِالتَّصَرُّفِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى حَجَرَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي كَسْبِهِ وَلَكِنَّ بُطْلَانَ الْإِجَارَةِ بِاعْتِبَارِ انْتِقَالِ الْمِلْكِ دُونَ تَبَدُّلِ الْمُنْصَرِفِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ الْمَدْيُونَ يَتَصَرَّفُ فِي كَسْبِهِ دُونَ الْمَوْلَى ، ثُمَّ بِالْحَجْرِ وَسُقُوطِ الدَّيْنِ يَتَبَدَّلُ الْمُتَصَرِّفُ وَلَا تَبْطُلُ بِهِ الْإِجَارَةُ لِانْعِدَامِ انْتِقَالِ الْمِلْكِ ، وَكَذَلِكَ لَا يَبْطُلُ الِاسْتِئْجَارِ هُنَاكَ ؛ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ لِحَاجَةِ الْمَوْلَى فَهُوَ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ إذَا قَضَى الدَّيْنَ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى إصْلَاحِ مِلْكِهِ يَكُونُ مِنْ حَاجَتِهِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إذَا مَاتَ الْمُكَاتِبُ عَاجِزًا فَالْإِجَارَةُ لَا تَنْفَسِخُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا لَوْ عَجَزَ فِي حَيَاتِهِ ، فَأَمَّا فَصْلُ الِاسْتِبْرَاءِ فَذَلِكَ يَنْبَنِي عَلَى مِلْكِ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ دُونَ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمَبِيعَةَ إذَا حَاضَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَجْتَزِئَ بِتِلْكَ الْحَيْضَةِ ، وَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ مِلْكَ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ لِلْمُكَاتِبِ ، وَكَذَلِكَ امْتِنَاعُ الْبَيْعِ يَنْبَنِي عَلَى مِلْكِ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ لِلْمُكَاتِبِ فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ لَمَّا كَانَ يَمْلِكُ الْكِتَابَةِ فِي كَسْبِهِ يَتَكَاتَبُ عَلَيْهِ قَرِيبُهُ ، وَلَمَّا كَانَ لَا يَمْلِكُ الْعِتْقَ فِي كَسْبِهِ لَا يُعْتِقُ عَلَيْهِ قَرِيبُهُ ، فَأَمَّا الْمَوْلَى فَلَا يَمْلِكُ الْكِتَابَةَ فِي كَسْبِهِ وَلَا الْعِتْقَ ؛ فَلِهَذَا لَا يَتَكَاتَبُ قَرِيبُ الْمَوْلَى إذَا اشْتَرَاهُ الْمُكَاتِبُ ، وَكَذَلِكَ حِلُّ الصَّدَقَةِ يَنْبَنِي عَلَى انْعِدَامِ مِلْكِ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ ابْنَ السَّبِيلِ يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ وَالْمَوْلَى ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فَلَا يَدَ لَهُ فِي كَسْبِ الْمُكَاتَبِ فَلِهَذَا جَازَ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى مُكَاتَبِ الْغَنِيِّ ، فَأَمَّا بُطْلَانُ الْإِجَارَةِ

فَيَنْبَنِي عَلَى انْتِقَالِ مِلْكِ الْعَيْنِ مِنْ الْمُؤَاجِرِ إلَى غَيْرِهِ كَمَا قَرَّرْنَا فَإِنْ مَاتَ أَبُ الصَّبِيِّ الْحُرِّ لَمْ تَنْتَقِضْ إجَارَةُ الظِّئْرِ ؛ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ لِحَاجَةِ الصَّبِيِّ وَالْأَبُ فِيهِ كَالنَّائِبِ عَنْهُ وَلِهَذَا يُؤَدِّي الْأَجْرَ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ وَأَجْرُ الظِّئْرِ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ فِي مِيرَاثِ الصَّبِيِّ ؛ لِأَنَّهُ مَالُهُ وَلَوْ كَانَ لَهُ فِي حَيَاةِ أَبِيهِ مَالًا كَانَ لِلْأَبِ أَنْ يُؤَدِّيَ أَجْرَ الظِّئْرِ مِنْهُ ، فَكَذَلِكَ يُؤَدِّي مَعْنَى مِيرَاثِهِ بَعْدَهُ .

وَلَوْ اسْتَأْجَرُوهَا أَنْ تُرْضِعَ صَبِيَّيْنِ لَهُمْ كُلَّ شَهْرٍ بِكَذَا فَمَاتَ أَحَدُهُمَا رُفِعَ عَنْهُمْ نِصْفَ الْأَجْرِ ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَجْرِ بِمُقَابَلَةِ إرْضَاعِ الصَّبِيَّيْنِ فَيَتَوَزَّعُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ يَقِلُّ فِي عَمَلِ الْإِرْضَاعِ أَوْ يَنْعَدِمُ وَقَدْ بَطَلَ الْعَقْدُ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ مِنْهُمَا ؛ فَلِهَذَا يُرْفَعُ عَنْهُمْ نِصْفُ الْأَجْرِ .

وَلَوْ اسْتَأْجَرُوا ظِئْرَيْنِ يُرْضِعَانِ صَبِيًّا وَاحِدًا فَذَلِكَ جَائِزٌ وَيَتَوَزَّعُ الْأَجْرُ بَيْنَهُمَا عَلَى لَبَنِهِمَا فَإِنْ كَانَ لَبَنُهُمَا وَاحِدًا فَالْأَجْرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ، وَإِنْ كَانَ مُتَفَاوِتًا فَبِحَسَبِ ذَلِكَ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ اللَّبَنُ وَأَنَّ الْبَدَلَ بِمُقَابَلَتِهِ فَإِنْ مَاتَتْ إحْدَاهُمَا بَطَلَ الْعَقْدُ فِي حَقِّهَا لِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلِلْأُخْرَى حِصَّتُهَا مِنْ الْأَجْرِ

وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ لَبَنِ بَنِي آدَمَ عَلَى وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ عِنْدَنَا وَلَا يَضْمَنُ مُتْلِفُهُ أَيْضًا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَيَضْمَنُ مُتْلِفُهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَبَنٌ طَاهِرٌ أَوْ مَشْرُوبٌ طَاهِرٌ كَلَبَنِ الْأَنْعَامِ وَلِأَنَّهُ غِذَاءٌ لِلْعَالَمِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ كَسَائِرِ الْأَغْذِيَةِ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فَإِنَّ الْمَالِيَّةَ وَالتَّقَوُّمَ بِكَوْنِ الْعَيْنِ مُنْتَفَعًا بِهِ شَرْعًا وَعُرْفًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَيْنٌ يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَيَكُونُ مَالًا مُتَقَوِّمًا كَالصِّبْغِ فِي عَمَلِ الصِّبَاغَةِ وَالْحِبْرِ فِي الْوَرَّاقَةِ وَالْحَرَضِ وَالصَّابُونِ فِي غَسِيلِ الثِّيَابِ بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ لِلْبَيْعِ أَقْبَلُ مِنْهُ لِلْإِجَارَةِ .
( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ أَنَّ لَبَنَ الْآدَمِيَّةِ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا يَضْمَنُ مُتْلِفُهُ كَالْبُزَاقِ وَالْمُخَاطِ وَالْعَرَقِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْمَالَ اسْمٌ ؛ لِمَا هُوَ مَخْلُوقٌ لِإِقَامَةِ مَصَالِحِنَا بِهِ مِمَّا هُوَ غَيْرُنَا ، فَأَمَّا الْآدَمِيُّ خُلِقَ مَالِكًا لِلْمَالِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ مَالًا وَبَيْنَ كَوْنِهِ مَالِكًا لِلْمَالِ مُنَافَاةٌ وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } ، ثُمَّ لِأَجْزَاءِ الْآدَمِيِّ مِنْ الْحُكْمِ مَا لِعَيْنِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ شَعْرَ الْآدَمِيِّ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إكْرَامًا لِلْآدَمِيِّ بِخِلَافِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ وَأَنَّ غَائِطَ الْآدَمِيِّ يُدْفَنُ وَمَا يَنْفَصِلُ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ يُنْتَفَعُ بِهِ وَاللَّبَنُ جُزْءٌ مُتَوَلِّدٌ مِنْ عَيْنِ الْآدَمِيِّ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْحُرْمَةَ تَثْبُتُ بِاعْتِبَارِهِ وَهِيَ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ كَمَا تَثْبُتُ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ بِالْمَاءِ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْآدَمِيِّ وَالْمُتَوَلِّدُ مِنْ الْأَصْلِ يَكُونُ بِصِفَةِ الْأَصْلِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْآدَمِيُّ مَالًا فِي الْأَصْلِ ، فَكَذَلِكَ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ مِنْ اللَّبَنِ بِمَنْزِلَةِ

الْوَلَدِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ وَلَدَ الْأُضْحِيَّةِ يَثْبُتُ فِيهِ الْحُكْمُ تَبَعًا وَأَنَّ لَبَنَ الْأُضْحِيَّةِ إذَا حُلِبَتْ يُتَصَدَّقُ بِهِ وَلِهَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : يَجُوزُ بَيْعُ لَبَنِ الْأَمَةِ دُونَ لَبَنِ الْحُرَّةِ اعْتِبَارًا لِلَبَنِ الْوَلَدِ وَلَكِنَّ هَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ ؛ لِأَنَّ جَوَازَ بَيْعِ الْوَلَدِ بِصِفَةِ الرِّقِّ ، فَأَمَّا الْآدَمِيُّ بِدُونِ هَذَا الْوَصْفِ لَا يَكُونُ مَحِلًّا لِلْبَيْعِ وَلَا رِقَّ فِي اللَّبَنِ ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ فِيمَا تَحُلُّهُ الْحَيَاةُ ؛ فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الضَّعْفِ وَلَا حَيَاةَ فِي اللَّبَنِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْمَغْرُورِ لَمْ يُوجِبُوا قِيمَةَ اللَّبَنِ فَلَوْ كَانَ اللَّبَنُ مَالًا مُتَقَوِّمًا كَانَ ذَلِكَ لِلْمُسْتَحِقِّ وَكَانَ لَهُ الْقِيمَةَ لِلْإِتْلَافِ فِي يَدِ الْمَغْرُورِ ، وَلَا يُدْخَلُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ الْمَنَافِعُ فَإِنَّهَا تَقْبَلُ الْعَقْدَ مِنْ الْحُرِّ ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَتَوَلَّدُ مِنْ الْعَيْنِ وَلَكِنَّهَا أَعْرَاضٌ تَحْدُثُ فِي الْعَيْنِ شَيْئًا فَشَيْئًا ، فَكَانَتْ غَيْرَ الْآدَمِيِّ ، ثُمَّ نَحْنُ نَجْعَلُ اللَّبَنَ كَالْمَنْفَعَةِ إلَّا أَنَّ عِنْدَنَا الْمَنْفَعَةَ لَا تُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ وَتُسْتَحَقُّ بِالْإِجَارَةِ دُونَ الْبَيْعِ ، فَكَذَلِكَ لَبَنُ الْآدَمِيِّ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ اللَّبَنَ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ مَقْصُودٍ ؛ لِأَنَّهُ عَيْنٌ وَالْعَيْنُ الَّذِي هُوَ مَالٌ مَقْصُودٌ لَا يُسْتَحَقُّ بِالْإِجَارَةِ كَلَبَنِ الْأَنْعَامِ بِخِلَافِ الصِّبْغِ فَصَاحِبُ الثَّوْبِ هُنَاكَ لَا يَسْتَحِقُّ بِالْإِجَارَةِ عَيْنَ الصِّبْغِ بَلْ مَا يَحْدُثُ فِي الثَّوْبِ مِنْ اللَّوْنِ وَكَذَلِكَ الْخُبْزُ وَكَذَلِكَ الْحَرَضُ وَالصَّابُونُ الْمُسْتَحَقُّ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ إزَالَةُ الدَّرَنِ وَالْوَسَخِ عَنْ الثَّوْبِ حَتَّى أَنَّ الْقَصَّارَ بِأَيِّ شَيْءٍ أَزَالَ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ وَهُنَا الْمُسْتَحَقُّ بِالْإِجَارَةِ عَيْنُ اللَّبَنِ حَتَّى لَوْ رَبَّتْ الصَّبِيَّ بِلَبَنِ الْأَنْعَامِ لَا تَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ

اللَّبَنَ غِذَاءٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَإِنَّمَا هُوَ غِذَاءٌ فِي تَرْبِيَةِ الصِّبْيَانِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ فَهُمْ لَا يَتَرَبَّوْنَ إلَّا بِلَبَنِ الْجِنْسِ عَادَةً كَالْمَيْتَةِ تَكُونُ غِذَاءً عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ وَهَذَا نَظِيرُ النِّكَاحِ فَإِنَّ الْبُضْعَ يُتَمَلَّكُ بِالْعَقْدِ لِلْحَاجَةِ إلَى اقْتِضَاءِ الشَّهْوَةِ وَإِقَامَةِ النَّسْلِ ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِالْجِنْسِ ، ثُمَّ ذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ مَعَ أَنَّ الْغِذَاءَ مَا فِي الثَّدْيِ مِنْ اللَّبَنِ ، وَذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ بِالِاتِّفَاقِ ، فَأَمَّا مَا يَحْلِبُ الْقَوَارِيرَ قَلَّ مَا يَحْصُلُ بِهِ غِذَاءُ الصَّبِيِّ وَفِي تَجْوِيزِ ذَلِكَ فَسَادٌ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَجَّرُ بِهِ الصِّبْيَانُ فَتَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَنْ كَانَ اللَّبَنُ مِنْهَا وَلَا يَعْلَمُ ذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ سَائِرُ أَجْزَاءِ الْآدَمِيِّ مُتَقَوِّمٌ حَتَّى يَضْمَنَ بِإِتْلَافٍ ، فَكَذَلِكَ هَذَا الْجُزْءُ قُلْنَا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْآدَمِيَّ فِي الْأَصْلِ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ وَلَا نَقُولُ يَضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ أَجْزَاءَ الْآدَمِيِّ بَلْ يَجِبُ الضَّمَانُ بِالنُّقْصَانِ الْمُتَمَكِّنِ فِي الْأَصْلِ حَتَّى لَوْ انْدَمَلَتْ الْجِرَاحَةُ بِالْبُرْءِ وَنَبَتَتْ السِّنُّ بَعْدَ الْقَلْعِ لَا يَجِبُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا نُقْصَانَ فِي الْأَصْلِ ، فَكَذَلِكَ الْإِتْلَافُ فِي اللَّبَنِ لَا يَتَمَكَّنُ نُقْصَانٌ فِي الْأَصْلِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ فَإِنْ قِيلَ لَا كَذَلِكَ فَالْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ جُزْءٍ لَمْ يُضْمَنْ بِالْإِتْلَافِ عِنْدَ الشُّبْهَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ نُقْصَانٌ فِي الْأَصْلِ قُلْنَا الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ النَّفْسِ مِنْ وَجْهٍ ؛ وَلِهَذَا لَا يُجْعَلُ الْبَدَلُ فِي إسْقَاطِ الْوَاجِبِ بِإِتْلَافِهِ وَاللَّبَنُ لَيْسَ نَظِيرَهُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَا يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ بَعْدَ الْبَدَلِ وَمِثْلُهُ لَا يُضْمَنُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَقَوِّمًا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَسْتَعْطِيَ

الرَّجُلُ بِلَبَنِ الْمَرْأَةِ وَيَشْرَبَهُ لِلدَّوَاءِ ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ وَلَوْ أَصَابَ ثَوْبًا لَمْ يُنَجِّسْهُ ؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ طَاهِرٌ فِي الْأَصْلِ فَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ يَكُونُ طَاهِرًا إلَّا مَا قَامَ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ عَلَى نَجَاسَتِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ عَرَقَهُ وَبُزَاقَهُ يَكُونُ طَاهِرًا وَلِأَنَّ الْمُنْفَصِلَ مِنْ أَجْزَاءِ الْحَيِّ إنَّمَا يَتَنَجَّسُ بِاعْتِبَارِ الْمَوْتِ وَلَا حَيَاةَ فِي اللَّبَنِ وَلَا يَحُلُّهُ الْمَوْتُ وَلِأَنَّ الْمُسْتَحِيلَ مِنْ الْغِذَاءِ إلَى فَسَادٍ وَنَتِنِ رَائِحَةٍ يَكُونُ نَجِسًا وَاللَّبَنُ لَيْسَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ؛ فَلِهَذَا كَانَ طَاهِرًا .

وَإِنْ أَجَّرَتْ الظِّئْرُ نَفْسَهَا مِنْ قَوْمٍ آخَرِينَ تُرْضِعُ لَهُمْ صَبِيًّا وَلَا يَعْلَمُ أَهْلُهَا الْأَوَّلُونَ بِذَلِكَ فَأَرْضَعَتْ حَتَّى فَرَغَتْ فَإِنَّهَا قَدْ أَثِمَتْ وَهَذِهِ جِنَايَةٌ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهَا صَارَتْ مُسْتَحَقَّةً لِلْأَوَّلِينَ فَإِنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ الْخَاصِّ فَصَرْفُ تِلْكَ الْمَنَافِعِ إلَى الْآخَرِينَ يَكُونُ جِنَايَةً مِنْهَا وَلَهَا الْأَجْرُ كَامِلًا عَلَى الْفَرِيقَيْنِ ؛ لِأَنَّهَا حَصَّلَتْ مَقْصُودَ الْفَرِيقَيْنِ وَلَا تَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ مَا أَخَذَتْ مِنْ كُلِّ فَرِيقٍ إنَّمَا أَخَذَتْهُ عِوَضًا عَنْ مِلْكِهَا فَإِنَّ مَنَافِعَهَا مَمْلُوكَةٌ لَهَا .

وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَسْتَأْجِرَ الْمُسْلِمُ الظِّئْرَ الْكَافِرَةَ أَوْ الَّتِي قَدْ وَلَدَتْ مِنْ الْفُجُورِ ؛ لِأَنَّ خُبْثَ الْكُفْرِ فِي اعْتِقَادِهَا دُونَ لَبَنِهَا وَالْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَالرُّسُلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِيهِمْ مَنْ أُرْضِعَ بِلَبَنِ الْكَوَافِرِ ، وَكَذَلِكَ فُجُورُهَا لَا يُؤَثِّرُ فِي لَبَنِهَا .

فَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا تُرْضِعْ صَبِيًّا لَهُ فِي بَيْتِهَا فَدَفَعَتْهُ إلَى خَادِمِهَا فَأَرْضَعَتْهُ حَتَّى انْقَضَى الْأَجَلُ وَلَمْ تُرْضِعْهُ بِنَفْسِهَا فَلَهَا أَجْرُهَا ؛ لِأَنَّهَا الْتَزَمَتْ فِعْلَ الْإِرْضَاعِ فَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهَا مُبَاشَرَتُهُ بِنَفْسِهَا فَسَوَاءٌ أَقَامَتْ بِنَفْسِهَا أَوْ بِخَادِمِهَا فَقَدْ حَصَلَ مَقْصُودُ أَهْلِ الصَّبِيِّ وَكَذَلِكَ لَوْ أَرْضَعَتْهُ حَوْلًا ، ثُمَّ يَبِسَ لَبَنُهَا فَأَرْضَعَتْ خَادِمُهَا حَوْلًا آخَرَ فَلَهَا الْأَجْرُ كَامِلًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ تُرْضِعُهُ هِيَ وَخَادِمُهَا فَلَهَا الْأَجْرُ تَامًّا وَلَا شَيْءَ لِخَادِمِهَا ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ فَفِيمَا زَادَ عَلَى الْمَشْرُوطِ لَا تَسْمِيَةَ فِي حَقِّهَا وَلَا فِي حَقِّ خَادِمِهَا ، وَلَوْ يَبِسَ لَبَنُهَا فَاسْتَأْجَرَتْ لَهُ ظِئْرًا كَانَ عَلَيْهِ الْأَجْرُ الْمَشْرُوطُ وَلَهَا الْأَجْرُ كَامِلًا اسْتِحْسَانًا ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا أَجْرَ لَهَا ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ أَجِيرِ الْخَاصِّ وَلَيْسَ لِلْأَجِيرِ الْخَاصِّ أَنْ يَسْتَأْجِرَ غَيْرَهُ لِإِقَامَةِ الْعَمَلِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَهَا الْأَجْرُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَرْبِيَةُ الصَّبِيِّ بِلَبَنِ الْجِنْسِ وَقَدْ حَصَلَ ، وَلِأَنَّ مُدَّةَ الرَّضَاعِ تَطُولُ فَلَمَّا اسْتَأْجَرُوهَا مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهَا قَدْ تَمْرَضُ أَوْ يَيْبَسُ لَبَنُهَا فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ فَقَدْ رَضُوا مِنْهَا بِالِاسْتِئْجَارِ لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِهِمْ وَتَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ ؛ لِأَنَّ هَذَا رِبْحٌ حَصَلَ لَا عَلَى ضَمَانِهَا { وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ } .

وَإِذَا اسْتَأْجَرَ امْرَأَتَهُ عَلَى إرْضَاعِ وَلَدِهِ مِنْهَا فَلَا أَجْرَ لَهَا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَهَا الْأَجْرُ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهَا لِعَمَلٍ غَيْرِ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهَا بِالنِّكَاحِ حَتَّى لَا تُطَالَبَ بِهِ وَلَا تُجْبَرَ عَلَيْهِ إذَا امْتَنَعَتْ فَيَصِحُّ الِاسْتِئْجَارُ كَالْخِيَاطَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَعْمَالِ وَالنَّفَقَةُ مُسْتَحَقَّةٌ لَهَا بِالنِّكَاحِ لَا بِمُقَابَلَةِ الْإِرْضَاعِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا ، وَإِنْ أَبَتْ الْإِرْضَاعَ كَانَ لَهَا النَّفَقَةُ فَهُوَ نَظِيرُ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ لَا تَكُونُ مَانِعَةً مِنْ صِحَّةِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الْإِرْضَاعِ .
( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } مَعْنَاهُ لِيُرْضِعْنَ فَهُوَ أَمْرٌ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ وَالْأَمْرُ يُفِيدُ الْوُجُوبَ فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْإِرْضَاعُ وَاجِبًا عَلَيْهَا شَرْعًا وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى مِثْلِ هَذَا الْعَمَلِ لَا يَجُوزُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ { : مَثَلُ الَّذِينَ يَغْزُوَن مِنْ أُمَّتِي وَيَأْخُذُونَ الْأَجْرَ كَمَثَلِ أُمِّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ تُرْضِعُ وَلَدَهَا وَتَأْخُذُ الْأَجْرَ مِنْ فِرْعَوْنَ } ، ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وَالْمُرَادُ النَّفَقَةُ فَفِي هَذَا الْعَطْفِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ النَّفَقَةَ لَهَا بِمُقَابَلَةِ الْإِرْضَاعِ وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } وَالْمُرَادُ مَا يَكُونُ بِمُقَابَلَةِ الْإِرْضَاعِ فَإِذَا اسْتَوْجَبَ عِوَضًا بِمُقَابَلَةِ الْإِرْضَاعِ لَا يَسْتَوْجِبُ عِوَضًا آخَرَ بِالشَّرْطِ وَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّ هَذَا الْعَمَلَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهَا دِينًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهَا دِينًا فَإِنَّهَا تُطَالَبُ بِهِ فَتْوَى وَلَا تُجْبَرُ عَلَيْهِ كُرْهًا وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى مِثْلِهِ لَا يَجُوزُ كَالِاسْتِئْجَارِ عَلَى كَنْسِ الْبَيْتِ وَالتَّقْبِيلِ وَاللَّمْسِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ

بِعَقْدِ النِّكَاحِ يَثْبُتُ الِاتِّحَادُ بَيْنَهُمَا فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ النِّكَاحِ وَالْوَلَدُ مَقْصُودٌ بِالنِّكَاحِ فَكَانَتْ هِيَ فِي الْإِرْضَاعِ عَامِلَةً لِنَفْسِهَا مَعْنًى فَلَا تَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ عَلَى الزَّوْجِ بِالشَّرْطِ كَمَا فِي التَّقْبِيلِ وَاللَّمْسِ وَالْمُجَامَعَةِ وَهَكَذَا نَقُولُ فِي سَائِرِ أَعْمَالِ الْبَيْتِ مِنْ الطَّبْخِ وَالْخَبْزِ وَالْغَسْلِ وَمَا يَرْجِعُ مَنْفَعَتُهُ إلَيْهِمَا فَهُوَ لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ الْأَجْرَ بِالشَّرْطِ وَمَا يَكُونُ لِتِجَارَةِ الزَّوْجِ فَهُوَ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ عَلَيْهَا دِينًا وَلَا يَرْجِعُ مَنْفَعَتُهُ إلَيْهَا وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ بَاقٍ بَيْنَهُمَا بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ فَمَعْنَى الِاتِّحَادِ قَائِمٌ ، فَأَمَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ الِاسْتِئْجَارُ صَحِيحٌ لِأَنَّهَا صَارَتْ أَجْنَبِيَّةً مِنْهُ وَإِرْضَاعُ الْوَلَدِ عَلَى الْأَبِ كَنَفَقَتِهِ بَعْدَ الْفِطَامِ ، وَكَذَلِكَ فِي الْعِدَّةِ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ لَوْ اسْتَأْجَرَهَا جَازَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهَا فِي نَفَقَتِهِ فَكَانَتْ هَذِهِ الْحَالُ كَمَا قَبْلَ الطَّلَاقِ وَلَكِنَّا نَقُولُ مَعْنَى الِاتِّحَادِ الَّذِي كَانَ بِالنِّكَاحِ قَدْ زَالَ بِالطَّلَاقِ الْبَائِنِ وَالْإِرْضَاعُ بَعْدَ هَذَا لَا يَكُونُ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهَا دِينًا بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ أَعْمَالِ الْبَيْتِ فَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُهَا عَلَيْهِ وَذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ لِلرَّضِيعِ مَالٌ اسْتَأْجَرَهَا فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ بِمَالِ الرَّضِيعِ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهَا لَيْسَ فِي مَالِ الرَّضِيعِ فَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْجِبَ الْأَجْرَ فِي مَالِهِ بِمُقَابَلَةِ الْإِرْضَاعِ بِالشَّرْطِ بِخِلَافِ مَالِ الزَّوْجِ فَإِنَّ نَفَقَتَهَا عَلَيْهِ وَهُوَ إنَّمَا الْتَزَمَ نَفَقَتَهَا لِهَذِهِ الْأَعْمَالِ فَلَا تَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ عِوَضًا آخَرَ ، وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَ خَادِمَهَا لِذَلِكَ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ خَادِمِهَا مِلْكُهَا وَبَدَلُهَا كَمَنْفَعَةِ نَفْسِهَا ، وَإِنْ

اسْتَأْجَرَ مُكَاتِبَهَا كَانَ لَهَا الْأَجْرُ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ كَالْحُرَّةِ فِي مَنَافِعِهَا وَمَكَاسِبِهَا يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ كَمَا تَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ نَفَقَتُهَا تَجِبُ نَفَقَةُ خَادِمِهَا وَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ مُكَاتَبَتِهَا

وَلَوْ اسْتَأْجَرَهَا تُرْضِعُ صَبِيًّا لَهُ مِنْ غَيْرِهَا جَازَ وَعَلَيْهِ الْأَجْرُ لِأَنَّ هَذَا الْعَمَلَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهَا دِينًا حَتَّى لَا تُؤْمَرَ بِهِ فَتْوَى وَهُوَ لَيْسَ مِنْ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ الْقَائِمِ بَيْنَهُمَا بِخِلَافِ وَلَدِهِ مِنْهَا .

وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أُمَّهُ أَوْ ابْنَتَهُ أَوْ أُخْتَهُ تُرْضِعُ صَبِيًّا لَهُ كَانَ جَائِزًا وَعَلَيْهِ الْأَجْرُ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ ذَاتِ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْإِرْضَاعَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَى وَاحِدَةٍ دِينًا حَتَّى لَا تُؤْمَرَ بِهِ فَتْوَى فَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُهَا عَلَيْهِ فَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا ، ثُمَّ أَبَتْ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَدْ أَلِفَهَا الصَّبِيُّ لَا يَأْخُذُ إلَّا مِنْهَا فَإِنْ كَانَتْ مَعْرُوفَةً بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَتْرُكَ الْإِجَارَةَ إلَّا مِنْ عُذْرٍ ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُعْرَفُ بِذَلِكَ فَلَهَا أَنْ تَأْبَى وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْأَجْنَبِيَّاتِ أَنَّهَا إذَا لَمْ تُعْرَفْ بِذَلِكَ الْعَمَلِ فَإِنَّمَا تَأْبَى لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهَا فَيَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا لَهَا ، فَكَذَلِكَ فِي الْمَحَارِمِ .

وَلَوْ اسْتَأْجَرَ ظِئْرًا لِتُرْضِعَ لَهُ صَبِيًّا فِي بَيْتِهَا فَجَعَلَتْ تُؤَجِّرُ لَبَنَ الْغَنَمِ وَتَغْذُوهُ بِكُلِّ مَا يُصْلِحُهُ حَتَّى اسْتَكْمَلَ الْحَوْلَيْنِ وَلَهَا لَبَنٌ أَوْ لَيْسَ لَهَا لَبَنٌ فَلَا أَجْرَ لَهَا ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ بِمُقَابَلَةِ الْإِرْضَاعِ وَهِيَ لَمْ تُرْضِعْهُ إلَّا بِمَا سَقَتْهُ لَبَنَ الْغَنَمِ وَلِأَنَّ مَقْصُودَهُمْ عَمَلٌ مُصْلِحٌ لِلصَّبِيِّ وَمَا أَتَتْ بِهِ مُفْسِدٌ فَالْآدَمِيُّ لَا يَتَرَبَّى تَرْبِيَةً صَالِحَةً إلَّا بِلَبَنِ الْجِنْسِ ، وَإِنْ جَحَدَتْ ذَلِكَ وَقَالَتْ قَدْ أَرْضَعْتُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهَا فَصَلَاحُ الْوَلَدِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُ لَبَنَ الْآدَمِيَّةِ ، وَإِنْ أَقَامَ أَهْلُ الصَّبِيِّ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَوْا فَلَا أَجْرَ لَهَا ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ ، وَإِنْ أَقَامُوا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ أُخِذَتْ بَيِّنَتُهَا ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْأَجْرَ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ مَنْ اسْتَأْجَرَهَا وَيَثْبُتُ إيفَاءُ الْعَمَلِ الْمَشْرُوطِ وَالْمُثْبَتُ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ يَتَرَجَّحُ عَلَى الْبَاقِي .

وَإِذَا الْتَقَطَ الرَّجُلُ لَقِيطًا فَاسْتَأْجَرَ لَهُ ظِئْرًا فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَقُومُ بِإِصْلَاحِهِ وَاسْتِئْجَارُ الظِّئْرِ مِنْ إصْلَاحِهِ وَعَلَيْهِ الْأَجْرُ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ بِالْعَقْدِ وَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ فِي إلْزَامِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ اللَّقِيطِ وَكُلُّ يَتِيمٍ لَيْسَ لَهُ أُمٌّ لِتُرْضِعَهُ فَعَلَى أَوْلِيَائِهِ كُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ أَنْ يَسْتَأْجِرُوا لَهُ ظِئْرًا عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ ؛ لِأَنَّ أَجْرَ الظِّئْرِ كَالنَّفَقَةِ بَعْدَ الْفِطَامِ وَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمْ بِقَدْرِ الْمِيرَاثِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } وَفِي قَوْلِهِ وَلَيْسَ لَهُ أُمٌّ تُرْضِعُهُ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْإِرْضَاعَ عَلَيْهَا إذَا كَانَتْ حَيَّةً وَلَهَا لَبَنٌ دُونَ سَائِرِ الْأَقَارِبِ ؛ لِأَنَّهَا مُؤْسِرَةٌ فِي حُكْمِ الْإِرْضَاعِ وَسَائِرُ الْقَرَابَاتِ بِمَنْزِلَةِ الْمُعْسِرِ فِي ذَلِكَ فَكَانَ عَلَيْهَا دُونَهُمْ بِخِلَافِ النَّفَقَةِ فَإِنْ كَانَ لَا وَلِيَّ لَهُ فَأُجْرَةُ الظِّئْرِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ نَفَقَتِهِ بَعْدَ الْفِطَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ إجَارَةِ الدُّورِ وَالْبُيُوتِ ( قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ دَارًا سَنَةً بِكَذَا وَلَمْ يُسَمِّ الَّذِي يُرِيدُهَا لَهُ فَهُوَ جَائِزٌ ) ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَعْلُومٌ بِالْعُرْفِ فَإِنَّمَا يُسْتَأْجَرُ الدَّارُ لِلسُّكْنَى وَيُبْنَى لِذَلِكَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهَا تُسَمَّى مَسْكَنًا وَالْمَعْلُومُ بِالْعُرْفِ كَالْمَشْرُوطِ بِالنَّصِّ وَلَهُ أَنْ يَسْكُنَهَا وَيُسْكِنَهَا مَنْ شَاءَ ؛ لِأَنَّ السُّكْنَى لَا تَتَفَاوَتُ فِيهَا النَّاسُ وَلِأَنَّ سُكْنَاهُ لَا تَكُونُ إلَّا بِعِيَالِهِ وَأَوْلَادِهِ وَمَنْ يَعُولُهُمْ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ أَجْنَبِيٍّ وَكَثْرَةُ الْمَسَاكِنِ فِي الدَّارِ لَا تَضُرُّ بِهَا بَلْ تَزِيدُ فِي عِمَارَتِهَا ؛ لِأَنَّ خَرَابَ الْمَسْكَنِ بِأَنْ لَا يَسْكُنَهُ أَحَدٌ وَلَهُ أَنْ يَضَعَ فِيهَا مَا بَدَا لَهُ مِنْ الثِّيَابِ وَالْمَتَاعِ وَالْحَيَوَانِ ؛ لِأَنَّ سُكْنَاهُ لَا تَتِمُّ إلَّا بِذَلِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالْعُرْفِ وَيَعْمَلُ فِيهَا مَا بَدَا لَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ يَعْنِي الْوُضُوءَ وَغَسْلَ الثِّيَابِ وَكَسْرَ الْحَطَبِ وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ سُكْنَاهُ لَا تَخْلُو عَنْ هَذِهِ الْأَعْمَالِ عَادَةً فَهِيَ مِنْ تَوَابِعِ السُّكْنَى وَالْمُعْتَادُ مِنْهُ لَا يَضُرُّ بِالْبِنَاءِ مَا خَلَا الرَّحَا أَنْ يُنْصَبَ فِيهِ أَوْ الْحَدَّادَ أَوْ الْقَصَّارَ فَإِنَّ هَذَا يَضُرُّ بِالْبِنَاءِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ إلَّا بِرِضَاءِ صَاحِبِ الْبَيْتِ وَيَشْتَرِطُ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ وَالْمُرَادُ رَحَا الْمَاءِ أَوْ رَحَا الثَّوْرِ ، فَأَمَّا رَحَا الْيَدِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ أَنْ يَنْصِبَهُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَضُرُّ بِالْبِنَاءِ وَهُوَ مِنْ تَوَابِعِ السُّكْنَى فِي الْعَادَةِ ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ يُفْسِدُ الْبِنَاءَ أَوْ يُوهِنُهُ فَذَلِكَ لَا يَصِيرُ مُسْتَحَقًّا لِلْمُسْتَأْجِرِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ وَمَا لَا يُفْسِدُ الْبِنَاءَ فَهُوَ مُسْتَحَقٌّ لَهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ السُّكْنَى الَّتِي لَا تُوهِنُ الْبِنَاءَ بِمَنْزِلَةِ صِفَةِ السَّلَامَةِ فِي الْمَبِيعِ فَيَسْتَحِقُّهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ وَمَا يُوهِنُ

الْبِنَاءَ بِمَنْزِلَةِ صِفَةِ الْجَوْدَةِ أَوْ الْكِتْبَةِ أَوْ الْخَبْزِ فِي الْمَبِيعِ فَلَا يَصِيرُ مُسْتَحَقًّا إلَّا بِالشَّرْطِ ، وَعَلَى هَذَا كَسْرُ الْحَطَبِ بِالْقَدْرِ الْمُعْتَادِ مِنْهُ لَا يُوهِنُ الْبِنَاءَ فَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ وَكَانَ بِحَيْثُ يُوهِنُ الْبِنَاءَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ إلَّا بِرِضَاءِ صَاحِبِ الدَّارِ .

، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا لِلسُّكْنَى كُلَّ شَهْرٍ بِكَذَا فَلَهُ أَنْ يَرْبِطَ فِيهِ دَابَّتَهُ وَبَعِيرَهُ وَشَاتَهُ وَهَذَا إذَا كَانَ فِي الدَّارِ مَوْضِعٌ مُعَدٌّ لِذَلِكَ وَهُوَ الْمَرْبِطُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلَيْسَ لَهُ اتِّخَاذُ الْمَرْبِطِ فِي دِيَارِنَا ؛ لِأَنَّ الْمَنَازِلَ بِبُخَارَى تَضِيقُ عَنْ سُكْنَى النَّاسِ فَكَيْف تَتَّسِعُ لِإِدْخَالِ الدَّوَابِّ فِيهَا وَإِنَّمَا هَذَا الْجَوَابُ بِنَاءً عَلَى عُرْفِهِمْ فِي الْكُوفَةِ لِمَا فِي الْمَنَازِلِ بِهَا مِنْ السَّعَةِ وَلَهُ أَنْ يُسْكِنَهَا مَنْ أَحَبَّ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَأْتِيهِ ضَيْفٌ فَيَسْكُنُ مَعَهُ أَيَّامًا وَقَدْ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُسْكِنَهَا صَدِيقًا لَهُ بِأَجْرٍ أَوْ بِغَيْرِ أَجْرٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَضُرُّ بِالْبِنَاءِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ ، فَإِنْ أَجَّرَهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا اسْتَأْجَرَهَا بِهِ تَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَصْلَحَ مِنْهَا بِنَاءً أَوْ زَادَ فِيهَا شَيْئًا فَحِينَئِذٍ يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْمَنَافِعَ كَالْأَعْيَانِ الْمَوْجُودَةِ حُكْمًا فَتَصِيرُ مَمْلُوكَةً لَهُ بِالْعَقْدِ مُسَلَّمَةً إلَيْهِ بِتَسْلِيمِ الدَّارِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا وَقَبَضَهُ ، ثُمَّ بَاعَهُ وَرَبِحَ فِيهِ فَالرِّبْحُ يَطِيبُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ رِبْحٌ عَلَى مِلْكِ حَلَالٍ لَهُ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْمَنَافِعُ لَمْ تَدْخُلْ فِي ضَمَانِهِ ، وَإِنْ قَبَضَ الدَّارَ ؛ بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَوْ انْهَدَمَتْ لَمْ يَلْزَمْهُ الْأَجْرُ فَهَذَا رِبْحٌ حَصَلَ لَا عَلَى ضَمَانِهِ { وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ } ، ثُمَّ الْمَنَافِعُ فِي حُكْمِ الِاعْتِيَاضِ إنَّمَا تَأْخُذُ حُكْمَ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ بِالتَّسْمِيَةِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لَا يُؤَاجِرُ وَهُوَ مَالِكٌ لِلْمَنْفَعَةِ فَإِنَّ الْمُعِيرَ يَقُولُ لَهُ مَلَّكْتُكَ مَنْفَعَتَهَا وَجَعَلْت لَك مَنْفَعَتَهَا وَلَوْ أَضَافَ الْإِعَارَةَ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ يَثْبُتُ مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ لِلْمُوصَى لَهُ

فَكَذَلِكَ إذَا أَوْجَبَهَا لَهُ فِي حَيَاتِهِ وَمَعَ ذَلِكَ يُؤَاجِرُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُقَابَلَتِهَا تَسْمِيَةٌ فَكَذَلِكَ هُنَا وَفِيمَا زَادَ عَلَى الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ لَا تَسْمِيَةَ بِمُقَابَلَةِ الْمَنْفَعَةِ فِي قَصْدِهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَسْتَفْضِلَ ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَيْسَتْ كَالْعَيْنِ فَإِنَّ مَنْ يَمْلِكُ الْعَيْنَ بِالْهِبَةِ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْعِوَضِ بِالْبَيْعِ إلَّا أَنْ يَكُونَ زَادَ فِيهِ شَيْئًا فَحِينَئِذٍ يَجْعَلُ الْفَضْلَ بِمُقَابَلَةِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ فَلَا يَظْهَرُ الْفَضْلُ الْخَالِي عَنْ الْمُقَابَلَةِ ، وَكَذَلِكَ إذَا أَجَّرَهُ بِجِنْسٍ آخَرَ ؛ لِأَنَّ الْفَضْلَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ لَا يَظْهَرُ إلَّا بِالتَّقَوُّمِ وَالْعَقْدُ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ ، فَأَمَّا عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ يَعُودُ إلَيْهِ مَا غَرِمَ فِيهِ بِعَيْنِهِ وَيَتَيَقَّنُ بِالْفَضْلِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَعِيرِ إذَا أَجَّرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْأَجْرِ .

وَإِنْ كَانَ اسْتَأْجَرَهَا كُلَّ شَهْرٍ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْقُضَ الْإِجَارَةَ عِنْدَ رَأْسِ الشَّهْرِ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلٍّ مَتَى أُضِيفَتْ إلَى مَا لَا يُعْلَمُ مُنْتَهَاهُ تَتَنَاوَلُ الْأَدْنَى ، فَإِنَّمَا لَزِمَ الْعَقْدُ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ فَإِذَا تَمَّ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْقُضَ الْإِجَارَةَ فَإِنْ سَكَنَهَا مِنْ الشَّهْرِ الثَّانِي يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتْرُكَ الْإِجَارَةَ إلَى تَمَامِ الشَّهْرِ إلَّا مِنْ عُذْرٍ ؛ لِأَنَّ التَّرَاضِيَ مِنْهُمَا بِالْعَقْدِ فِي الشَّهْرِ الثَّانِيَ يَتِمُّ إذَا سَكَنَهَا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ فَيَلْزَمُ الْعَقْدُ فِيهِ بِتَرَاضِيهِمَا كَمَا لَزِمَ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْخِيَارُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي اللَّيْلَةِ الْأُولَى مِنْ الشَّهْرِ الدَّاخِلِ وَيَوْمِهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رَأْسُ الشَّهْرِ وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَقُولُ : الْخِيَارُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حِينَ يُهِلُّ الْهِلَالُ حَتَّى إذَا مَضَى سَاعَةً فَالْعَقْدُ يَلْزَمُهُمَا وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ ، وَلَكِنَّهُ فِيهِ نَوْعُ حَرَجٍ فَلِدَفْعِ الْحَرَجِ قَالَ : الْخِيَارُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْ الشَّهْرِ .

وَإِذَا اسْتَأْجَرَهَا كُلَّ شَهْرٍ بِكَذَا وَلَمْ يُسَمِّ أَوَّلَ الشَّهْرِ فَهُوَ مِنْ الْوَقْتِ الَّذِي اسْتَأْجَرَهَا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا يَصِحُّ الِاسْتِئْجَارُ إلَّا أَنْ يَتَّصِلَ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ بِالْعَقْدِ وَلَا يَتَّصِلُ إلَّا بِالشَّرْطِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَطْلَقَ ذِكْرَ الشَّهْرِ فَلَيْسَ بَعْضُ الشُّهُورِ لِتَعْيِينِهِ لِلْعَقْدِ بِأَوْلَى مِنْ بَعْضٍ وَجَهَالَةُ الْمُدَّةِ مُفْسِدَةٌ لِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ نَكَّرَ الشَّهْرَ وَالشَّهْرُ الْمُتَّصِلُ بِالْعَقْدِ مُعَيَّنٌ فَلَا يَتَعَيَّنُ بِاسْمِ النَّكِرَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ شَهْرًا لَا يَتَعَيَّنُ الشَّهْرُ الَّذِي يَعْقُبُ نَذْرَهُ مَا لَمْ يُعَيِّنْهُ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْأَوْقَاتُ كُلُّهَا فِي حُكْمِ الْإِجَارَةِ سَوَاءٌ وَفِي مِثْلِهِ يَتَعَيَّنُ الزَّمَانُ الَّذِي يَعْقُبُ السَّبَبَ كَمَا فِي الْآجَالِ وَالْأَيْمَانِ إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ فُلَانًا شَهْرًا وَهَذَا ؛ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ عَنْ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَا يَكُونُ إلَّا بِمُؤَخِّرٍ ، وَالْمُؤَخِّرُ يَنْعَدِمُ فِيمَا تَسْتَوِي فِيهِ الْأَوْقَاتُ بِخِلَافِ الصَّوْمِ ؛ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ الشُّرُوعُ فِيهِ بِبَعْضِ الْأَوْقَاتِ حَتَّى أَنَّ اللَّيْلَ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ يَوْمُ الْعِيدَيْنِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الشُّرُوعَ فِي الصَّوْمِ لَا يَكُونُ إلَّا بِعَزِيمَةٍ مِنْهُ وَرُبَّمَا لَا يَقْتَرِنُ ذَلِكَ بِالسَّبَبِ ، فَأَمَّا دُخُولُ الْمَنْفَعَةِ فِي الْعَقْدِ لَا يَسْتَدْعِي مَعْنًى مِنْ جِهَتِهِ سِوَى الْعَقْدِ فَمَا يَحْدُثُ بَعْدَ الْعَقْدِ يَكُونُ دَاخِلًا فِي الْعَقْدِ إلَّا أَنْ يَمْنَعَ مِنْهُ مَانِعٌ ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْعَقْدُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْ الشَّهْرِ فَلَهُ شَهْرٌ بِالْهِلَالِ تَمَّ أَوْ نَقَصَ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ فَلَهُ ثَلَاثُونَ يَوْمًا لِأَنَّ الْأَهِلَّةَ أَصْلٌ فِي الشُّهُورِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْأَهِلَّةِ } وَالْأَيَّامُ تَدُلُّ عَلَى الْأَهِلَّةِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

بِقَوْلِهِ { : صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا } وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى الْبَدَلِ إذَا تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ الْأَصْلِ فَإِنْ كَانَ اسْتَأْجَرَهَا شَهْرًا حِينَ أَهَلَّ الْهِلَالُ فَاعْتِبَارُ الْأَصْلِ هُنَا مُمَكِّنٌ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْكُنَهَا إلَى أَنْ يُهِلَّ الْهِلَالُ مِنْ الشَّهْرِ الدَّاخِلِ وَإِذَا كَانَ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ فَقَدْ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُهُ بِالْأَهِلَّةِ فَيُعْتَبَرُ بِالْأَيَّامِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا .

، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا أَكْثَرَ مِنْ شَهْرٍ فَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّهُ إذَا اسْتَأْجَرَهَا مُدَّةً مَعْلُومَةً صَحَّ الِاسْتِئْجَارُ طَالَتْ أَوْ قَصُرَتْ وَفِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَفِي قَوْلٍ آخَرَ يَجُوزُ إلَى ثَلَاثِينَ سَنَةً وَلَا يَجُوزُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ وَفِي قَوْلٍ آخَرَ يَجُوزُ أَبَدًا ، وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ جَوَازَ الِاسْتِئْجَارِ لِلْحَاجَةِ وَالْحَاجَةُ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِسَنَةٍ كَمَا فِي الْأَرَاضِيِ وَنَحْوِهَا وَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ لَا حَاجَةَ وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي يَقُولُ : الْعَادَةُ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَلَّ مَا يَسْكُنُ بِالْإِجَارَةِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ سَنَةً ؛ فَإِنَّهُ يَتَّخِذُ الْمَسْكَنَ مِلْكًا إذَا كَانَ قَصْدُهُ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ يَقُولُ : الْمَنَافِعُ كَالْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ فَالْعَقْدُ عَلَى الْعَيْنِ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ التَّوْقِيتِ ، فَكَذَلِكَ الْعَقْدُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ إعْلَامَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا بُدَّ مِنْهُ ، وَالْمَنْفَعَةُ لَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً إلَّا بِبَيَانِ الْمُدَّةِ فَإِنَّهَا تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَكَانَتْ الْمُدَّةُ لِلْمَنْفَعَةِ ، فَالْكَيْلُ وَالْوَزْنُ فِيمَا هُوَ مُقَدَّرٌ فَكَمَا لَا يَصِيرُ الْمِقْدَارُ هُنَا مَعْلُومًا إلَّا بِذِكْرِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ لَا يَصِيرُ الْمِقْدَارُ هُنَا مَعْلُومًا إلَّا بِذَكَرِ الْمُدَّةِ ، وَبَعْدَ إعْلَامِ الْمُدَّةِ الْعَقْدُ جَائِزٌ قَلَّ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ أَوْ كَثُرَ ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ جَوَازُ الِاسْتِئْجَارِ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ قَوْله تَعَالَى { عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْت عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ } وَلِأَنَّ كُلَّ مُدَّةٍ تَصْلُحُ أَجَلًا لِلْبَيْعِ فَإِنَّهَا تَصْلُحُ مَشْرُوطَةً فِي عَقْدِ الْإِجَارَةِ كَالسَّنَةِ وَمَا دُونَهَا وَالْمَعْنَى فِيهِ وَهُوَ أَنَّ الشَّرْطَ الْإِعْلَامُ فِيهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ .

فَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا سَنَةً مُسْتَقْبَلَةً وَذَلِكَ حِينَ يَهِلُّ الْهِلَالُ تُعْتَبَرُ سَنَةً بِالْأَهِلَّةِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ يُعْتَبَرُ سَنَةً بِالْأَيَّامِ ثَلَثَمِائَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُعْتَبَرُ شَهْرًا بِالْأَيَّامِ وَإِحْدَى عَشَرَ شَهْرًا بِالْأَهِلَّةِ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْأَهِلَّةَ أَصْلٌ وَالْأَيَّامَ بَدَلٌ فَفِي الشَّهْرِ الْوَاحِدِ تُقَدَّرُ الْأَهِلَّةُ وَفِي إحْدَى عَشَرَ شَهْرًا اعْتِبَارُ مَا هُوَ أَصْلٌ مُمْكِنٌ فَلَا مَعْنَى لِلْمَصِيرِ إلَى الْبَدَلِ ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْمُدَّةِ يُعْتَبَرُ بِالْأَيَّامِ بِالِاتِّفَاقِ ، فَكَذَلِكَ جَمِيعُ الْمُدَّةِ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْكُلِّ بِتَسْمِيَةٍ وَاحِدَةٍ وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَتِمَّ الشَّهْرُ الْأَوَّلُ لَا يَدْخُلُ الشَّهْرُ الثَّانِي فَإِذَا كَانَ ابْتِدَاءُ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ فِي بَعْضٍ فَتَمَامُهُ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ الدَّاخِلِ أَيْضًا وَإِنَّمَا يَدْخُلُ الشَّهْرُ الثَّانِي فِي بَعْضِ الشَّهْرِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ بِالْأَيَّامِ ، وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ شَهْرٍ وَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ فِي بَابِ الْعِدَّةِ أَنَّهَا تُعْتَبَرُ بِالْأَيَّامِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى الْفَرْقِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْأَصْلَيْنِ أَنَّ الْإِجَارَةَ عُقُودٌ مُتَفَرِّقَةٌ فَإِذَا أَهَلَّ الْهِلَالُ يَتَجَدَّدُ الْعَقْدُ عِنْدَ ذَلِكَ فَيَجْعَلُ ذَلِكَ كَأَنَّهُمَا جَدَّدَا الْعَقْدَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ؛ فَلِهَذَا تُعْتَبَرُ أَحَدَ عَشَر شَهْرًا بِالْهِلَالِ وَلَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْعِدَّةِ ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ فَتُغَيَّرُ كُلُّهَا بِالْأَيَّامِ ، ثُمَّ قَالَ إذَا اسْتَأْجَرَهَا سَنَةً أَوَّلُهَا هَذَا

الْيَوْمُ وَهُوَ رَابِعُ عَشَرَةٍ مَضَيْنَ مِنْ الشَّهْرِ فَإِنَّهُ يَسْكُنُهَا بَقِيَّةَ هَذَا الشَّهْرِ وَإِحْدَى عَشَرَ شَهْرًا بِالْأَهِلَّةِ وَسِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ الشَّهْرِ الْبَاقِي وَهَذَا غَلَطٌ وَالصَّحِيحُ مَا ذَكَرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ اسْتَأْجَرَهَا لِأَرْبَعَ عَشَرَةَ بَقِينَ مِنْ الشَّهْرِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَاضِي مِنْ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ أَرْبَعَ عَشَرَةَ فَقَدْ سَكَنَهَا بَعْدَ الْعَقْدِ سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا فِي ذَلِكَ الشَّهْرِ فَلَا يَسْكُنُهَا فِي آخِرِ الْمُدَّةِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا لِتَمَامِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَقَدْ قَالَ يَسْكُنُهَا سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا فَعَرَفْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ لِأَرْبَعَ عَشَرَةَ بَقِينَ مِنْ الشَّهْرِ .

وَإِذَا اسْتَأْجَرَ بَيْتًا فِي عُلُوِّ دَارٍ وَمَنْزِلًا عَلَى ظُلَّةٍ عَلَى ظَهْرِ طَرِيقٍ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ مَسْكَنٌ مُعَدٌّ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ مِنْ حَيْثُ السُّكْنَى وَلَوْ اسْتَأْجَرَ بَيْتًا عَلَى أَنْ يُقْعِدَ فِيهِ قَصَّارًا فَأَرَادَ أَنْ يُقْعِدَ فِيهِ حَدَّادًا فَلَهُ ذَلِكَ إنْ كَانَتْ مَضَرَّتُهُمَا وَاحِدَةً أَوْ كَانَتْ مَضَرَّةُ الْحَدَّادِ أَقَلَّ ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مَضَرَّةً لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الرِّحَالَانِ التَّقْيِيدُ إذَا كَانَ مُفِيدًا يُعْتَبَرُ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُفِيدٍ لَا يُعْتَبَرُ ، وَالْفَائِدَةُ فِي حَقِّ صَاحِبِ الدَّارِ بِأَنَّ مَا لَا يُوهِنُ بِنَاءَهُ وَلَا يُفْسِدُهُ فَلَا تَكُونُ مَضَرَّتُهُ مِثْلَ الْمَشْرُوطِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ وَالْمَنْفَعَةُ صَارَتْ مَمْلُوكَةً لِلْمُسْتَأْجَرِ وَلِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّ بِغَيْرِهِ كَيْفَ شَاءَ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مَضَرَّةً فَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُلْحِقَ بِهِ ضَرَرًا لَمْ يَرْضَ بِهِ صَاحِبُ الدَّارِ فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ .
وَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ وَالْحَرْبِيُّ وَالْمُسْتَأْمَنُ وَالْحُرُّ وَالْمَمْلُوكُ التَّاجِرُ وَالْمُكَاتَبُ كُلُّهُمْ سَوَاءٌ فِي الْإِجَارَةِ لِأَنَّهَا مِنْ عُقُودِ التِّجَارَةِ وَهُمْ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ .

وَإِنْ اسْتَأْجَرَ الذِّمِّيُّ دَارًا سَنَةً بِالْكُوفَةِ بِكَذَا دِرْهَمًا مِنْ مُسْلِمٍ فَإِنْ اتَّخَذَ فِيهَا مُصَلًّى لِنَفْسِهِ دُونَ الْجَمَاعَةِ لَمْ يَكُنْ لِرَبِّ الدَّارِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ سُكْنَاهَا وَهَذَا مِنْ تَوَابِعِ السُّكْنَى ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ فِيهَا مُصَلَّى لِلْعَامَّةِ وَيَضْرِبَ فِيهَا بِالنَّاقُوسِ فَلِرَبِّ الدَّارِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ يَمْلِكُ الدَّارَ وَلَكِنْ عَلَى سَبِيلِ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ؛ فَإِنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ إحْدَاثِ الْكَنَائِسِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ فَلِكُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يَمْنَعُهُ رَبُّ الدَّارِ وَهَذَا ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ، لَا خِصَاءَ فِي الْإِسْلَامِ وَلَا كَنِيسَةَ } وَالْمُرَادُ نَفْيُ إحْدَاثِ الْكَنَائِسِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ ، وَفِي الْخِصَاءِ تَأْوِيلَانِ .
( أَحَدُهُمَا ) خِصَاءُ بَنِي آدَمَ فَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَأْمُرُ بِهِ الشَّيْطَانُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ } ، وَالِامْتِنَاعُ مِنْ صُحْبَةِ النِّسَاءِ عَلَى قَصْدِ التَّبَتُّلِ وَالتَّرَهُّبِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمْ لَا يُمْنَعُونَ مِنْ السُّكْنَى فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ فَيَجُوزُ بَيْعُ الدُّورِ وَإِجَارَتُهَا مِنْهُمْ لِلسُّكْنَى إلَّا أَنْ يَكْثُرُوا عَلَى وَجْهٍ تَقِلُّ بِسَبَبِهِ جَمَاعَاتُ الْمُسْلِمِينَ فَحِينَئِذٍ يُؤْمَرُونَ بِأَنْ يَسْكُنُوا نَاحِيَةً مِنْ الْمِصْرِ غَيْرَ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَسْكُنُهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وَجْهٍ يَأْمَنُونَ اللُّصُوصَ وَلَا يَظْهَرُ الْخَلَلُ فِي جَمَاعَاتِ الْمُسْلِمِينَ ، وَيُمْنَعُونَ مِنْ إحْدَاثِ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ مُصَلًّى الْعَامَّةِ فَهَذَا مِنْهُ إحْدَاثُ الْكَنِيسَةِ وَكَذَلِكَ يُمْنَعُونَ مِنْ إظْهَارِ بَيْعِ الْخُمُورِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى الِاسْتِخْفَافِ بِالْمُسْلِمِينَ وَمَا أَعْطَيْنَاهُمْ الذِّمَّةَ عَلَى أَنْ يُظْهِرُوا ذَلِكَ فَكَانَ

الْإِظْهَارُ فِسْقًا مِنْهُمْ فِي التَّعَاطِي فَلِكُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ صَاحِبُ الدَّارِ وَغَيْرُهُ فِيهِ سَوَاءٌ ، وَكَذَلِكَ يُمْنَعُونَ مِنْ إظْهَارِ شُرْبِ الْخَمْرِ وَضَرْبِ الْمَعَازِفِ وَالْخُرُوجِ سُكَارَى فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ بِالْمُسْلِمِينَ أَيْضًا وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي دَارٍ بِالسَّوَادِ أَوْ بِالْجَبَلِ كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَصْنَعَ فِيهَا مَا شَاءَ ، كَانَ أَبُو الْقَاسِم الصَّفَّار رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : هَذَا الْجَوَابُ فِي سَوَادِ الْكُوفَةِ فَإِنَّ عَامَّةَ مَنْ يَسْكُنُهَا مِنْ الْيَهُودِ وَالرَّوَافِضِ - لَعَنَهُمْ اللَّهُ - فَأَمَّا فِي دِيَارِنَا يُمْنَعُونَ مِنْ إحْدَاثِ ذَلِكَ فِي السَّوَادِ كَمَا يُمْنَعُونَ فِي الْمِصْرِ ؛ لِأَنَّ عَامَّةَ مَنْ يَسْكُنُ الْقُرَى فِي دِيَارِنَا مُسْلِمُونَ وَفِيهَا الْجَمَاعَةُ وَالدَّرْسُ وَمَجْلِسُ الْوَعْظِ كَمَا فِي الْأَمْصَارِ ، فَأَمَّا وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْأَمْصَارَ مَوْضِعُ إعْلَامِ الدِّينِ نَحْوُ إقَامَةِ الْجَمَاعَاتِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَتَنْفِيذِ الْأَحْكَامِ فِي إحْدَاثِ الْبِيَعِ فِي الْأَمْصَارِ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ لِلْمُسْلِمِينَ ، فَأَمَّا الْقُرَى فَلَيْسَتْ بِمَوَاضِعِ أَعْلَامِ الدِّينِ فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ إحْدَاثِ ذَلِكَ فِي الْقُرَى .
( قَالَ : ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ عِنْدِي أَصَحُّ فَإِنَّ الْمَنْعَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْأَمْصَارِ لَا يَفْتَتِنُ بِهِ بَعْضُ جُهَّالِ الْمُسْلِمِينَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُمْ إذَا لَمْ يُظْهِرُوا لَمْ يُمْنَعُوا مِنْ أَنْ يَضَعُوا مِنْ ذَلِكَ بَيْنَهُمْ مَا شَاءُوا ، وَخَوْفُ الْفِتْنَةِ فِي إظْهَارِ ذَلِكَ فِي الْقُرَى أَكْثَرُ فَإِنَّ الْجَهْلَ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى أَغْلَبُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ { أَهْلُ الْقُبُورِ هُمْ أَهْلُ الْكُفُورِ } وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمَعْنَى مَا قُلْنَا قَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ لَا تُرَائَى نَارَاهُمَا } وَقَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا

تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ الْمُشْرِكِينَ } .

وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ مُسْلِمًا فَظَهَرَ مِنْهُ فِسْقٌ فِي الدَّارِ أَوْ دَعَارَةٌ أَوْ كَانَ يَجْمَعُ فِيهَا عَلَى الشُّرْبِ مَنَعَهُ رَبُّ الدَّارِ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ لَا لِمِلْكِهِ الدَّارَ بَلْ عَلَى سَبِيلِ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ فَإِنَّهُ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ صَاحِبُ الدَّارِ وَغَيْرُهُ فِيهِ سَوَاءٌ ، وَلَيْسَ لِرَبِّ الدَّارِ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ الدَّارِ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مُسْلِمًا كَانَ أَوْ ذِمِّيًّا ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ لَازِمٌ لَا يُفْسَخُ إلَّا بِعُذْرٍ وَالْعُذْرُ ضَرَرٌ يَزُولُ بِفَسْخِ الْإِجَارَةِ وَهَذَا لَيْسَ مِنْ تِلْكَ الْجُمْلَةِ فَلَا تُفْسَخُ الْإِجَارَةُ لِأَجْلِهِ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ بَاعَهُ الدَّارَ كَانَ يَفْسَخُ الْبَيْعَ ؛ لِمَا ظَهَرَ مِنْهُ لَا سَبِيلَ لَهُ إلَى ذَلِكَ ، فَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ ، وَإِذَا سَقَطَ حَائِطٌ مِنْ الدَّارِ فَأَرَادَ الْمُسْتَأْجِرُ تَرْكَ الْإِجَارَةِ نَظَرَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِالسُّكْنَى فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ مَنْفَعَةُ السُّكْنَى وَلَمْ يَتَغَيَّرْ بِمَا حَدَثَ فَهُوَ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ فَاعْوَرَّ الْعَبْدُ ، وَذَلِكَ لَا يُنْقِصُ مِنْ خِدْمَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ يَضُرُّ ذَلِكَ بِالسُّكْنَى فَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ لِتَمَكُّنِ الْخَلَلِ فِي مَقْصُودِهِ وَالْعَيْبُ الْحَادِثُ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لِلسُّكْنَى بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْمُسْتَأْجَرِ لِلْخِدْمَةِ إذَا مَرِضَ وَهَذَا ؛ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ بِقَبْضِ الدَّارَ لَا تَدْخُلُ الْمَنْفَعَةُ فِي ضَمَانِ الْمُسْتَأْجِرِ فَحُدُوثُ الْمُغَيِّرِ بَعْدَ قَبْضِ الدَّارِ وَقَبْلَهُ سَوَاءٌ إلَّا أَنْ يَنْتَبِهَ صَاحِبُ الدَّارِ قَبْلَ فَسْخِ الْمُسْتَأْجِرِ الْعَقْدَ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَفْسَخَ لِزَوَالِ الْعَيْبِ وَارْتِفَاعِ الْمُغَيِّرِ كَالْعَبْدِ إذَا بَرَأَ وَإِنَّمَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ الْفَسْخِ بِحَضْرَةِ رَبِّ الدَّارِ فَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ فَلَا يَكُونُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْآجِرِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ إلْزَامِ حُكْمِ الرَّدِّ

الْآخَرَ فَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ مَا قَبْلَ الْقَبْضِ وَمَا بَعْدَهُ كَمَا فِي رَدَّ الْمَبِيعِ بِالْعَيْبِ .

وَلَوْ خَرَجَ فِي حَالِ غَيْبَةِ رَبِّ الدَّارِ فَالْأَجْرُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ سَكَنَ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ مَعَ التَّغَيُّرِ فَلَزِمَهُ الْأَجْرُ ، وَكَذَلِكَ إنْ سَكَنَ مَعَ حَضْرَةِ رَبِّ الدَّارِ ؛ لِأَنَّ التَّغَيُّرَ فِي وَصْفِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَإِذَا رَضِيَ بِهِ لَا يُحَطُّ شَيْءٌ مِنْ الْأَجْرِ كَالْمُشْتَرِي إذَا رَضِيَ بِالْعَيْبِ .

وَإِنْ سَقَطَتْ الدَّارُ كُلُّهَا فَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ شَاهِدًا كَانَ صَاحِبُ الدَّارِ أَوْ غَائِبًا وَفِيهِ طَرِيقَانِ لِمَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ .
أَحَدُهُمَا أَنَّ الْعَقْدَ انْفَسَخَ بِسُقُوطِ جَمِيعِ الْبِنَاءِ لِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَنْفَعَةُ السُّكْنَى ؛ فَإِنَّهُ بِالْبِنَاءِ كَانَ مَسْكَنًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ دَخَلَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ تَغَيُّرٌ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ اسْتِئْجَارَ الْحِرَابِ لِلسُّكْنَى لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءً ، فَكَذَلِكَ لَا يَبْقَى الْعَقْدُ وَإِذَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ سَقَطَ الْأَجْرُ سَوَاءً كَانَ رَبُّ الدَّارِ شَاهِدًا أَوْ غَائِبًا ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ حُضُورِهِ لِلْفَسْخِ قَصْدًا لَا لِلِانْفِسَاخِ حُكْمًا .
( وَطَرِيقٌ ) آخَرُ وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّ الْعَقْدَ لَا يَنْفَسِخُ بِالِانْهِدَامِ وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ كِتَابُ الصُّلْحِ .
( قَالَ : ) وَلَوْ صَالَحَ عَلَى سُكْنَى دَارٍ فَانْهَدَمَتْ الدَّارُ لَا يَبْطُلُ الصُّلْحُ وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ اسْتَأْجَرَ بَيْتًا فَانْهَدَمَ فَبَنَاهُ الْمُؤَاجِرُ وَأَرَادَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يَسْكُنَهُ فِي بَقِيَّةِ الْمُدَّةِ فَلَيْسَ لِلْمُؤَجِّرِ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَنْفَسِخْ وَلِأَنَّ أَصْلَ الْمَوْضِعِ مَسْكَنٌ بَعْدَ انْهِدَامِ الْبِنَاءِ يَتَأَتَّى فِيهِ السُّكْنَى بِنَصْبِ الْفُسْطَاطِ وَالْخَيْمَةِ فَيَبْقَى الْعَقْدُ لِهَذَا وَلَكِنْ لَا أَجْرَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِانْعِدَامِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الِانْتِفَاعِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَصَدَهُ بِالِاسْتِئْجَارِ فَإِنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ الِانْتِفَاعِ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْأَجْرِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ مَنَعَهُ غَاصِبٌ مِنْ السُّكْنَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَجْرُ ، فَكَذَلِكَ إذَا انْهَدَمَ الْبِنَاءُ بِخِلَافِ مَا إذَا سَقَطَ حَائِطٌ مِنْهَا فَالتَّمَكُّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ هُنَاكَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَصَدَهُ بِالْعَقْدِ قَائِمٌ فَيَلْزَمُهُ الْأَجْرُ مَا لَمْ يَفْسَخْ الْعَقْدُ بِمَحْضَرٍ مِنْ رَبِّ الدَّارِ .

وَإِذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا سَنَةً فَلَمْ يُسَلِّمْهَا إلَيْهِ حَتَّى مَضَى الشَّهْرُ وَقَدْ طَلَبَ التَّسْلِيمَ أَوْ لَمْ يَطْلُبْ ، ثُمَّ تَحَاكَمَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْقَبْضِ فِي بَاقِي السَّنَةِ عِنْدَنَا وَلَا لَلْمُؤَاجِرِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِلْمُسْتَأْجِرِ حَقُّ فَسْخِ الْعَقْدِ فِيمَا بَقِيَ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّ عِنْدَهُ الْمَنَافِعَ فِي حُكْمِ الْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ فَإِذَا فَاتَ بَعْضُ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ قَبْلَ الْقَبْضِ يُجْبَرُ فِيمَا بَقِيَ لِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ فَإِنَّهَا إذَا تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ تَخَيَّرَ فِيمَا بَقِيَ لِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ فَإِنَّهَا تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّمَامِ ، وَذَلِكَ مُثْبِتٌ حَقَّ الْفَسْخِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى شَيْئَيْنِ فَهَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ يُوضِحُهُ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَسْتَأْجِرُ دَارًا وَحَانُوتًا سَنَةً وَمَقْصُودُهُ مِنْ ذَلِكَ شَهْرًا وَاحِدًا كَالْحَاجِّ بِمَكَّةَ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ فَإِذَا مَنَعَهُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي كَانَتْ مَقْصُودَةً لَهُ لَوْ قُلْنَا يَلْزَمُهُ التَّسْلِيمُ بَعْدَ ذَلِكَ تَضَرَّرَ بِهِ فَلِدَفْعِ الضَّرَرِ أَثْبَتْنَا لَهُ حَقَّ الْفَسْخِ ، وَعِنْدَنَا عَقْدُ الْإِجَارَةِ فِي حُكْمِ عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ حَتَّى يَتَجَدَّدَ انْعِقَادُهُمَا بِحَسَبِ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، فَلَا يَتَمَكَّنُ تَفَرُّقُ الصَّفْقَةِ مَعَ تَفَرُّقِ الْعُقُودِ وَفَوَاتُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي عَقْدٍ لَا يُؤَثِّرُ فِي عَقْدٍ آخَرَ بِخِلَافِ الْبَيْعِ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَ دَارَيْنِ وَقَبَضَهُمَا فَانْهَدَمَتْ إحْدَاهُمَا لَا يَتَخَيَّرُ فِي الْآخَرِ ، وَالْمَنَافِعُ بِقَبْضِ الدَّارِ لَمْ تَدْخُلْ فِي ضَمَانِهِ فَقَدْ تَفَرَّقَتْ الصَّفْقَةُ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّمَامِ ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الصَّفْقَةِ بِدُخُولِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي ضَمَانِهِ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْفَسْخِ ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الِانْهِدَامُ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَإِنْ سَلَّمَهَا إلَيْهِ إلَّا بَيْتًا

كَانَ مَشْغُولًا بِمَتَاعِ الْمُؤَاجِرِ رَفَعَ مِنْهُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ إنَّمَا يَجِبُ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ ، فَإِنَّمَا يَلْزَمُ بِقَدْرِ مَا اسْتَوْفَى ، وَكَذَلِكَ لَوْ سَلَّمَهَا إلَيْهِ كُلَّهَا ، ثُمَّ انْتَزَعَ مِنْهَا بَيْتًا ؛ لِأَنَّهُ زَالَ تَمَكُّنُهُ مِنْ اسْتِيفَاءِ مَنْفَعَةِ السُّكْنَى فِي الْبَيْتِ حِينَ اُنْتُزِعَ مِنْهُ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْهُ إلَيْهِ فِي الِابْتِدَاءِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ انْتَزَعَ الْكُلَّ مِنْهُ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْأَجْرُ فَالْجُزْءُ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ ، وَلَوْ غَصَبَ الدَّارَ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ الْأَجْنَبِيُّ سَقَطَ عَنْهُ الْأَجْرُ فِي مُدَّةِ الْغَصْبِ لِزَوَالِ تَمَكُّنِ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ .

وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ الدَّارِ بِالْمَوْصُوفِ مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ شَرَطَ لَهُ أَجَلًا أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ بِمَنْزِلَةِ الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ نَوْعُ بَيْعٍ فَمَا يَصْلُحُ بَدَلًا فِي الْبَيْعِ يَصْلُحُ فِي الْإِجَارَةِ ، وَالْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ يَصْلُحُ بَدَلًا فِي الْبَيْعِ مَوْصُوفًا حَالًّا كَانَ أَوْ مُؤَجَّلًا وَالثِّيَابُ لَا تَصْلُحُ مَوْصُوفَةً إلَّا مُؤَجَّلَةً وَالْحَيَوَانُ لَا يَصْلُحُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُعَيَّنًا ، فَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ وَهَذَا عَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي يَقُولُ : الْمَنْفَعَةُ مَالٌ ، وَإِنْ كَانَ دُونَ الْعَيْنِ ظَاهِرًا ؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بَدَلًا عِوَضًا عَمَّا هُوَ مَالٌ وَعَلَى الطَّرِيقِ الَّذِي يَقُولُ : لَيْسَ بِمَالٍ فَالْحَيَوَانُ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ فِي الْعُقُودِ الْمُبَيَّنَةِ عَلَى التَّوَسُّعِ فِي الْبَدَلِ ، وَهُوَ مَا لَمْ يُشْرَعْ فِي الْأَصْلِ لِتَحْصِيلِ الْمَالِ ، فَأَمَّا الْإِجَارَةُ مُبَيَّنَةٌ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ فِي الْبَدَلِ مَشْرُوعَةٌ لِتَحْصِيلِ الْمَالِ كَالْبَيْعِ وَالْحَيَوَانُ بِغَيْرِ عَيْنِهِ يَكُونُ مَجْهُولَ مِقْدَارِ الْمَالِيَّةِ ؛ فَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ فِي الْإِجَارَةِ .

وَإِنْ اسْتَأْجَرَ دَارًا بِعَبْدٍ بِعَيْنِهِ فَأَعْتَقَهُ رَبُّ الدَّارِ قَبْلَ أَنْ يَتَقَابَضَا لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْأُجْرَةَ إذَا كَانَتْ عَيْنًا لَا تُمَلَّكُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَعِتْقُ الْإِنْسَانِ فِيمَا لَا يَمْلِكُ بَاطِلٌ ، فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ دَفَعَ إلَيْهِ الْعَبْدَ وَلَمْ يَقْبِضْ الدَّارَ حَتَّى أَعْتَقَهُ رَبُّ الدَّارِ فَعِتْقُهُ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ تُمْلَكُ بِالتَّعْجِيلِ فَإِنْ قَبَضَ الدَّارَ وَتَمَّتْ السُّكْنَى فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ بِاسْتِحْقَاقِ الدَّارِ أَوْ مَوْتِ أَحَدِهِمَا أَوْ غَرَقِ الدَّارِ أَوْ انْعَدَمَ التَّمَكُّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْهَدْمِ فَعَلَى الْمُعْتِقِ قِيمَةُ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمَّا انْفَسَخَ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ الْعَبْدِ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّ الْعَبْدِ لِنُفُوذِ الْعِتْقِ فِيهِ فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ لَا يَبْطُلُ بِمَا حَدَثَ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ سُلِّطَ عَلَيْهِ وَمَلَّكَهُ إيَّاهُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ حَالَ قِيَامِ الْعَقْدِ فَنَفَذَ عِتْقُهُ وَالْعِتْقُ بَعْدَ مَا نَفَذَ لَا يُمْكِنُ نَقْضُهُ ، وَلَوْ لَمْ يَقْبِضْ الْعَبْدَ حَتَّى سَكَنَ الدَّارَ شَهْرًا ، ثُمَّ أَعْتَقَا جَمِيعًا الْعَبْدَ وَهُوَ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ عِتْقُ رَبِّ الدَّارِ بِقَدْرِ أَجْرِ الشَّهْرِ ، وَيَجُوزُ عِتْقُ الْمُسْتَأْجِرِ فِيمَا بَقِيَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ رَبَّ الدَّارِ مَلَكَ مِنْهُ حِصَّةَ مَا اسْتَوْفَى الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ فَكَانَ الْعَبْدُ مُشْتَرِكًا بَيْنَهُمَا فَإِذَا أَعْتَقَاهُ عَتَقَ ، وَتُنْتَقَضُ الْإِجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ ؛ لِأَنَّ جَوَازَهَا بِاعْتِبَارِ مَالِيَّةِ الْعَبْدِ وَقَدْ فَاتَ بِالْعَقْدِ فَهُوَ كَمَا لَوْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَّا أَنَّ فِي الْمَوْتِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَجْرُ مِثْلِ الدَّارِ بِقَدْرِ مَا سَكَنَ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ انْتَقَضَ بِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَبَقِيَتْ الْمَنْفَعَةُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ مُسْتَوْفَاةً بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَعَلَيْهِ رَدُّ بَدَلِهَا وَهُوَ أَجْرُ الْمِثْلِ ، وَفِيمَا

أَعْتَقَاهُ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ لِأَنَّ رَبَّ الدَّارِ صَارَ قَابِضًا ؛ لِمَا يَخُصُّ الْمُسْتَوْفِيَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ مِنْ الْعَبْدِ ، وَلَوْ اسْتَكْمَلَ السُّكْنَى ، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ أَوْ اسْتَحَقَّ كَانَ عَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ ، وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ دَفَعَ الْعَبْدَ وَلَمْ يَسْكُنْ الدَّارَ حَتَّى أَعْتَقَهُ فَعِتْقُهُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ خَرَجَ مِنْ مِلْكِهِ بِالتَّسْلِيمِ إلَى رَبِّ الدَّارِ فَإِنَّمَا أَعْتَقَ مَالًا يَمْلِكُهُ .

وَلَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا سَنَةً فَسَكَنَهَا ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ فَالْأَجْرُ لَلْمُؤَاجَرِ دُونَ الْمُسْتَحِقِّ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ غَاصِبًا وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْغَصْبِ أَنَّ الْغَاصِبَ إذَا أَجَّرَ الْمَغْصُوبَ فَالْأَجْرُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِعَقْدِهِ وَهُوَ الَّذِي ضَمِنَ تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ ، وَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ لَا يَتَصَدَّقُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : الْعَقَارُ يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ ، وَمِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ مَنْ اسْتَرْبَحَ عَلَى ضَمَانِهِ لَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِهِ كَمَا فِي الْمُودَعِ إذَا تَصَرَّفَ فِي الْوَدِيعَةِ ، وَلَوْ انْهَدَمَتْ مِنْ السُّكْنَى ضَمِنَ السَّاكِنُ ؛ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ وَالْعَقَارُ يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُؤَاجِرِ ؛ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ وَقَدْ كَانَ ضَمِنَ سَلَامَةَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَنْ عَيْبِ الِاسْتِحْقَاقِ فَإِذَا لَمْ يَسْلَمْ رَجَعَ كَمَا يَغْرَمُ بِسَبَبِهِ .

وَلَوْ أَجَرَ دَارِهِ مِنْ رَجُلٍ فَامِيٍّ سَنَةً بِدَرَاهِمَ مَعْلُومَةٍ ، ثُمَّ اسْتَقْرَضَ رَجُلٌ مِنْ رَبِّ الدَّارِ شَهْرَيْنِ فَأَمَرَ الْفَامِيَّ أَنْ يُعْطِيَهُ ذَلِكَ فَكَانَ الرَّجُلُ يَشْتَرِي بِهِ مِنْ الْفَامِيِّ الدَّقِيقَ وَالزَّيْتَ وَغَيْرَهُ حَتَّى اسْتَوْفَى أَجْرَ الشَّهْرَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ رَبَّ الدَّارِ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ وَهُوَ بِنَفْسِهِ لَوْ عَامَلَ الْفَامِيَّ بِذَلِكَ يَجُوزُ ، وَلَيْسَ لِلْفَامِيِّ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ رَبِّ الدَّارِ فَتَسْلِيمُهُ إلَيْهِ كَتَسْلِيمِهِ إلَى رَبِّ ، الدَّارِ وَلَكِنَّهُ قَرْضٌ لِرَبِّ الدَّارِ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَبَضَ بِنَفْسِهِ ، ثُمَّ أَقْرَضَهُ مِنْهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَخَذَ دِينَارًا فِيمَا أَخَذَ وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَهُمْ فِي الْمُصَارَفَةِ فِي الْأَجْرِ مَعَ رَبِّ الْبَيْتِ فَكَذَلِكَ مَعَ مَنْ قَامَ مَقَامَهُ وَهُوَ الْمُسْتَقْرِضُ ، وَلَوْ كَانَ لِلْفَامِيِّ عَلَى الرَّجُلِ دِينَارٌ أَوْ أَجْرُ الْبَيْتِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فِي كُلِّ شَهْرٍ فَمَضَى شَهْرَانِ ، ثُمَّ أَمَرَ رَبُّ الدَّارِ الْفَامِيَّ أَنْ يَدْفَعَ أَجْرَ الشَّهْرَيْنِ إلَى الْمُسْتَقْرِضِ وَقَاصَّهُ بِالدِّينَارِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ ، وَأَخَذَ بِالْفَضْلِ شَيْئًا فَهُوَ جَائِزٌ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ فَعَلَهُ رَبُّ الْبَيْتِ فَإِنَّ أَجْرَ الشَّهْرَيْنِ قَدْ وَجَبَ وَالْمُقَاصَّةُ بِالدِّينَارِ بَعْدَ وُجُوبِهَا تَجُوزُ بِالتَّرَاضِي وَلَيْسَ هَذَا تَصَرُّفٌ فِيمَا بَيْنَ رَبِّ الْبَيْتِ وَالْمُسْتَقْرِضِ وَلَكِنَّهُ صَرْفٌ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْتَقْرِضِ وَالْفَامِيِّ حَتَّى يَرْجِعَ رَبُّ الْبَيْتِ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ بِالدَّرَاهِمِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ اشْتَرَى بِهِ الْفَامِيُّ شَيْئًا وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْبَيْتِ أَقْرَضَ الدَّرَاهِمَ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ وَشَرْطُ شَيْءٍ آخَرَ مَكَانَهُ بَاطِلٌ وَإِنْ أَحَالَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِالدَّرَاهِمِ فَقَاصَّهُ بِالدِّينَارِ فَإِنَّمَا لِلْمُقْرِضِ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ عِشْرُونَ دِرْهَمًا ؛

لِأَنَّ مَا جَرَى بَيْنَهُمَا مِنْ الشَّرْطِ كَانَ صَرْفًا بِالنَّسِيئَةِ وَهُوَ بَاطِلٌ ، وَلَوْ كَانَ أَقْرَضَهُ أَجْرَ الشَّهْرَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَسْكُنَ شَيْئًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ وَطَابَتْ نَفْسُ الْفَامِيِّ بِذَلِكَ وَأَعْطَاهُ بِهِ دَقِيقًا أَوْ زَيْتًا أَوْ دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ مِنْهَا ، ثُمَّ مَاتَ رَبُّ الْبَيْتِ قَبْلَ السُّكْنَى أَوْ انْهَدَمَ الْبَيْتُ أَوْ اُسْتُحِقَّ لَمْ يَرْجِعْ الْفَامِيُّ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ بِشَيْءٍ ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ رَبِّ الْبَيْتِ فِيمَا قَبَضَهُ مِنْهُ وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى رَبِّ الْبَيْتِ بِالدَّرَاهِمِ وَرَبُّ الْبَيْتِ عَلَى الْمُسْتَقْرِضِ بِالدَّرَاهِمِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَخِيرًا فِي حِصَّةِ الْبَيْتِ هَكَذَا ، فَأَمَّا فِي حِصَّةِ الدِّينَارِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِالدِّينَارِ بِعَيْنِهِ عَلَى الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الْأَصْلُ ؛ لِأَنَّ الْمُصَارَفَةَ كَانَتْ قَبْلَ وُجُوبِ الْأَجْرِ وَقَدْ بَطَلَتْ بِالِافْتِرَاقِ قَبْلَ التَّقَابُضِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالدِّينَارِ كَمَا كَانَ فِي ذِمَّتِهِ ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا وَقَدْ وَجَبَ الْأَجْرُ عَلَى الْفَامِيِّ بِشَرْطِ التَّعْجِيلِ فَإِنَّهُ قَالَ : وَأَمَرَهُ أَنْ يُعَجِّلَهُ قُلْنَا : شَرْطُ التَّعْجِيلِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا كَانَ مَذْكُورًا فِي الْعَقْدِ وَقَوْلُهُ : وَأَمَرَهُ أَنْ يُعَجِّلَهُ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِمَاسِ لَا عَلَى سَبِيلِ الشَّرْطِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ كَانَ قَالَ : وَطَابَتْ نَفْسُ الْفَامِيِّ بِذَلِكَ .

وَلَا يَجُوزُ اسْتِئْجَارُ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى وَالْخِدْمَةِ بِالْخِدْمَةِ وَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُ السُّكْنَى بِالْخِدْمَةِ وَالرُّكُوبُ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ عَلَى كُلِّ حَالٍ اتَّفَقَتْ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ أَوْ اخْتَلَفَتْ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْمَنَافِعَ كَالْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ ، وَمُبَادَلَةُ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ صَحِيحٌ عِنْدَ الْمُسَاوَاةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَعِنْدَ التَّفَاوُتِ فِي غَيْرِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ ، وَالْمَنَافِعُ لَيْسَتْ بِمَالِ الرِّبَا فَيَجُوزُ مُبَادَلَةُ بَعْضِهَا بِالْبَعْضِ ، وَإِنْ جَازَ الِاعْتِيَاضُ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالدَّرَاهِمِ جَازَ مُعَاوَضَةً عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ كَمَا إذَا اخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَنْفَعَةِ ، وَلَنَا فِيهِ طَرِيقَانِ .
( أَحَدُهُمَا ) مَنْقُولٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : مُبَادَلَةُ السُّكْنَى بِالسُّكْنَى كَبَيْعِ الْقُوهِيِّ بِالْقُوهِيِّ نُسْأَةً وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْحَالِ فَإِذَا اتَّحَدَ الْجِنْسُ كَانَ هَذَا مُبَادَلَةَ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ يَحْرُمُ نَسِيئَةً وَبِالْجِنْسِ يَحْرُمُ النَّسَأُ عِنْدَنَا بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَ الْجِنْسُ ، فَإِنْ قِيلَ النَّسَأُ مَا يَكُونُ عَنْ شَرْطٍ فِي الْعَقْدِ وَالْأَجَلُ هُنَا غَيْرُ مَشْرُوطٍ كَيْفَ وَالْمَنَافِعُ فِي حُكْمِ الْأَعْيَانِ دُونَ الدُّيُونِ ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ فِي حُكْمِ الدَّيْنِ لَمْ يَجُزْ مَعَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ فَالدَّيْنُ بِالدَّيْنِ حَرَامٌ ، وَإِنْ اخْتَلَفَ الْجِنْسُ قُلْنَا : لَمَّا كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مِمَّا يَحْدُثُ فِي الْمُدَّةِ لَا يُتَصَوَّرُ حُدُوثُهُ جُمْلَةً بَلْ يَكُونُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ الْأَجَلِ أَوْ أَبْلَغَ مِنْهُ ، فَإِنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالتَّسْلِيمِ تَتَأَخَّرُ بِالْأَجَلِ ، فَكَذَلِكَ الْمُطَالَبَةُ بِتَسْلِيمِ جَمِيعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا تَثْبُتُ فِي الْحَالِ بَلْ تَتَأَخَّرُ إلَى حُدُوثِ الْمَنْفَعَةِ ، وَهَذَا أَبْلُغُ مِنْ ذَلِكَ ؛

لِأَنَّ بِالْأَجَلِ لَا يَتَأَخَّرُ انْعِقَادُ الْعَقْدِ وَهُنَا يَتَأَخَّرُ انْعِقَادُ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلَكِنْ لَيْسَ بِدَيْنٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ وَالْمَنَافِعُ لَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ وَالْمُحَرَّمُ الدَّيْنُ بِالدَّيْنِ فَلِكَوْنِ الْمَنْفَعَةِ لَيْسَتْ بِدَيْنٍ جَوَّزْنَا الْعَقْدَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَلِلْجِنْسِيَّةِ أَفْسَدْنَا الْعَقْدَ عِنْدَ اتِّفَاقِ الْجِنْسِ ، وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ أَنَّ جَوَازَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ لِلْحَاجَةِ فَإِنَّمَا يَجُوزُ عَلَى وَجْهٍ تَرْتَفِعُ بِهِ الْحَاجَةُ وَفِي مُبَادَلَةِ الْمَنْفَعَةِ بِجِنْسِهَا لَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ السُّكْنَى قَبْلَ الْعَقْدِ وَلَا يَحْصُلُ لَهُ بِالْعَقْدِ إلَّا مَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْهُ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ ، فَأَمَّا عِنْدَ اخْتِلَافِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ الْحَاجَةُ مُتَحَقِّقَةٌ وَبِالْعَقْدِ يَحْصُلُ لَهُ مَا لَمْ يَكُنْ حَاصِلًا قَبْلَهُ فَصَاحِبُ السُّكْنَى قَدْ تَكُونُ حَاجَتُهُ إلَى خِدْمَةِ الْعَبْدِ أَوْ رُكُوبِ الدَّابَّةِ ، ثُمَّ إنَّ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ إذَا اسْتَوْفَى أَحَدُهُمَا الْمَنْفَعَةَ فَعَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ تَقَوُّمَ الْمَنْفَعَةِ بِالتَّسْمِيَةِ وَالْمُسَمَّى بِمُقَابَلَةِ الْمُسْتَوْفَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَنْفَعَةُ لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي نَفْسِهَا ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَعَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ كَمَا لَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا وَلَمْ يُسَمِّ الْأَجْرَ وَسَكَنَهَا وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ مِنْ الْعَقْدِ مُعْتَبَرٌ بِالْجَائِزِ فَكَمَا أَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ الْجَائِزِ ، فَكَذَلِكَ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ .

وَإِذَا أَجَّرَ دَارِهِ مِنْ رَجُلٍ شَهْرًا بِثَوْبٍ بِعَيْنِهِ فَسَكَنَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الثَّوْبَ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ إذَا كَانَتْ ثَوْبًا بِعَيْنِهِ فَهُوَ كَالْمَبِيعِ وَبَيْعُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ مِنْ الْبَائِعِ وَلَا مِنْ غَيْرِهِ قَالَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ كَانَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَجْرُ مِثْلِهَا وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى بَقَاءِ الْغَرَرِ ، وَالْمَكِيلُ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لِلتَّصَرُّفِ وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ مِنْ الْعُرُوضِ وَالْحَيَوَانِ أَوْ الْمَوْزُونِ وَتِبْرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، وَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ التِّبْرَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ فِي كِتَابِ الشِّرْكَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْأَجْرُ شَيْئًا مِنْ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ بِغَيْرِ عَيْنِهِ مَوْصُوفًا كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ثَمَنًا وَالِاسْتِبْدَالُ بِالثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ ، فَكَذَلِكَ بِالْأَجْرِ فَإِنْ ابْتَاعَ بِهِ مِنْهُ شَيْئًا بِعَيْنِهِ جَازَ إنْ قَبَضَهُ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ لِأَنَّهُمَا افْتَرَقَا عَنْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ ، وَإِنْ ابْتَاعَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَلَا يُفَارِقُهُ حَتَّى يَقْبِضَ مِنْهُ فَإِنْ فَارَقَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ انْتَقَضَ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّهُمَا افْتَرَقَا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ وَهُوَ الْحُكْمُ فِي ثَمَنِ الْبَيْعِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ غَيْرِهِ فَإِنَّ بَيْعَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يَجُوزُ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ يَقُولُ : كَمَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِمَّنْ عَلَيْهِ ، فَكَذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ إذَا بَاعَهُ مِنْهُ يَصِيرُ قَابِضًا لَهُ بِذِمَّتِهِ وَإِذَا بَاعَهُ مِنْ غَيْرِهِ فَهُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ مَا لَمْ يَسْتَوْفِ وَلَا يَدْرِي مَتَى يَسْتَوْفِي فَإِنَّمَا يَبِيعُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَقَدْ شَرَطَ لِلتَّسْلِيمِ

أَجَلًا مَجْهُولًا وَهُوَ إلَى أَنْ يَخْرُجَ ، وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلْبَيْعِ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ بَيْتًا بِثَوْبٍ فَأَجَرَهُ بِدَرَاهِمَ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الثَّوْبِ طَابَ لَهُ الْفَضْلُ لِأَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ لَا يَظْهَرُ الْفَضْلُ إلَّا بِالتَّقْوِيمِ ، وَالْعَقْدُ لَا يُوجِبُ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا اخْتَلَفَ الْجِنْسُ فِيهِ حَتَّى لَوْ اسْتَأْجَرَهُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَأَجَرَهُ بِدِينَارَيْنِ طَابَ لَهُ الْفَضْلُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ الْفَضْلُ بَيْنَ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ إلَّا بِالتَّقْوِيمِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مُبَادَلَةَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِدِينَارَيْنِ تَجُوزُ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ وَلَا يَظْهَرُ بَيْنَهُمَا الْفَضْلُ الْخَالِي عَنْ الْمُقَابَلَةِ فَفِي عَقْدَيْنِ أَوْلَى ، وَإِذَا كَانَ أَجْرُ الدَّارِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ قَفِيزَ حِنْطَةٍ مَوْصُوفَةٍ وَأَشْهَدَ الْمُؤَاجِرُ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ قَفِيزَ حِنْطَةٍ ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّ الدَّرَاهِمَ نَبَهْرَجَةٌ وَأَنَّ الطَّعَامَ مَعِيبٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ اسْتِيفَاءَ حَقِّهِ فَإِنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ يُعْرَفُ بِالصِّفَةِ وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الصِّفَةِ وَلَا مُنَاقَضَةَ فِي كَلَامِهِ فَاسْمُ الدَّرَاهِمِ يَتَنَاوَلُ النَّبَهْرَجَةَ وَاسْمُ الْحِنْطَةِ يَتَنَاوَلُ الْمَعِيبَ ، وَإِنْ كَانَ حِينَ أَشْهَدَ قَالَ : قَدْ قَبَضْت مِنْ أَجْرِ الدَّارِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ قَفِيزَ حِنْطَةٍ لَمْ يُصَدَّقْ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى ادِّعَاءِ الْعَيْبِ وَالزَّيْفِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : اسْتَوْفَيْت أَجْرَ الدَّارِ ، ثُمَّ قَالَ : وَجَدْتُهُ زُيُوفًا لَمْ يُصَدَّقْ بِبَيِّنَةٍ وَلَا غَيْرِهَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِقَبْضِ الْجِيَادِ فَإِنَّ أَجْرَ الدَّارِ مِنْ الْجِيَادِ فَيَكُونُ هُوَ مُنَاقِضًا فِي قَوْلِهِ وَجَدْتُهُ زُيُوفًا وَالْمُنَاقِضُ لَا قَوْلَ لَهُ وَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ ، وَلَوْ كَانَ الْأَجْرُ ثَوْبًا بِعَيْنِهِ فَقَبَضَهُ ، ثُمَّ جَاءَ يَرُدُّهُ بِعَيْبٍ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ لَيْسَ هَذَا ثَوْبِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى

أَنَّهُ قَبَضَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ كَانَ شَيْئًا بِعَيْنِهِ ، ثُمَّ ادَّعَى الْآخَرُ لِنَفْسِهِ حَقَّ الرَّدِّ وَالْمُسْتَأْجِرُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ، فَإِنْ أَقَامَ رَبُّ الدَّارِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْعَيْبِ رَدَّهُ سَوَاءٌ كَانَ الْعَيْبُ يَسِيرًا أَوْ فَاحِشًا عَلَى قِيَاسِ الْمَبِيعِ ، ثُمَّ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ بِرَدِّهِ لِفَوَاتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ فَيَأْخُذُ مِنْهُ قِيمَةَ السُّكْنَى وَهُوَ أَجْرُ مِثْلِ الدَّارِ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمَّا فَسَدَ لَزِمَهُ رَدُّ الْمُسْتَوْفَى مِنْ السُّكْنَى وَرَدُّ السَّكَنِ بِرَدِّ أَجْرِ الْمِثْلِ ، وَإِنْ كَانَ حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ لَمْ يَسْتَطِعْ رَدَّهُ رَجَعَ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ مِنْ أَجْرِ مِثْلِ الدَّارِ ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّدِّ يَكُونُ مِنْ الْبَدَلِ كَمَا فِي الْبَيْعِ .

وَإِذَا خَرَجَ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ الدَّارِ وَفِيهَا تُرَابٌ وَرَمَادٌ مِنْ كُنَاسَةٍ فَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ إخْرَاجُهُ ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ بِفِعْلِهِ وَهُوَ الَّذِي شَغَلَ مِلْكَ الْغَيْرِ بِهِ فَعَلَيْهِ تَفْرِيغُهُ إذَا خَرَجَ مِنْ الدَّارِ وَلَكِنْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ ظَاهِرٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ، فَأَمَّا الْبَالُوعَةُ وَمَا أَشْبَهَهَا فَلَيْسَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ تَنْظِيفُهَا اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ هَذَا كَالْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ بِفِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ وَلِلِاسْتِحْسَانِ وَجْهَانِ .
( أَحَدُهُمَا ) الْعُرْفُ فَإِنَّ النَّاس لَمْ يَتَعَارَفُوا تَكْلِيفَ الْمُسْتَأْجِرِ تَنْظِيفَ الْبَالُوعَةِ إذَا خَرَجَ مِنْ الْمَنْزِلِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعُرْفَ مُعْتَبَرٌ فِي الْإِجَارَةِ .
( وَالثَّانِي ) أَنَّ الْبَالُوعَةَ مَطْوِيَّةٌ فَتَحْتَاجُ لِلتَّنْظِيفِ وَإِلَى الْحَفْرِ ، وَذَلِكَ تَصَرُّفٌ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ فَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ ، فَأَمَّا مَا كَانَ ظَاهِرًا فَهُوَ لَا يَحْتَاجُ فِي التَّفْرِيغِ إلَى نَقْضِ بِنَاءٍ وَحَفْرٍ فَعَلَيْهِ إخْرَاجُ ذَلِكَ ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي التُّرَابِ الظَّاهِرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ أَنَّهُ اسْتَأْجَرَهَا وَهُوَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ رَبَّ الدَّارِ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ حَقًّا قَبْلَهُ وَهُوَ تَفْرِيغُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَيَدَّعِي إحْدَاثَ شَغْلِ مِلْكِهِ وَالْمُسْتَأْجِرُ مُنْكِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ، فَأَمَّا مَسِيلُ مَاءِ الْحَمَّامِ ظَاهِرًا كَانَ أَوْ مُسْقَفًا فَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ كَنْسُهُ إذَا امْتَلَأَ هُوَ الْمُتَعَارَفُ بَيْنَ النَّاسِ وَلِأَنَّهُ ظَاهِرٌ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَإِنَّمَا يُسْقَفُ لِكَيْ لَا يَتَأَذَّى النَّاسُ بِرَائِحَتِهِ وَلِأَنَّهُ لَا يُمْلَأُ لِيُتْرَكَ بَلْ لِيُفَرَّغَ إذَا امْتَلَأَ وَكَانَ التَّفْرِيغُ عَلَى مَنْ مَلَأَهُ بِخِلَافِ الْبَالُوعَةِ فَقَضَاءُ الْحَاجَةِ فِي بِئْرِ الْبَالُوعَةِ لَا يَكُونُ لِقَصْدِ النَّقْلِ وَالتَّفْرِيغِ بَلْ يُتْرَكُ ذَلِكَ عَادَةً ؛ فَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ .

وَلَوْ اشْتَرَطَ رَبُّ الدَّارِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ حِينَ أَجَرَهُ إخْرَاجَ مَا أَحْدَثَهُ فِيهَا مِنْ تُرَابٍ أَوْ سِرْجِينٍ كَانَ جَائِزًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِدُونِ الشَّرْطِ فَالشَّرْطُ لَا يَزِيدُهُ إلَّا وَكَادَةً .
.

وَإِذَا اسْتَأْجَرَ فَامِيٌّ مِنْ رَجُلٍ بَيْتًا فَبَاعَ فِيهِ زَمَانًا ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْهُ وَاخْتَلَفَا فِيمَا فِيهِ مِنْ الْأَوَانِي وَالرُّفُوفِ وَالتَّحَاتِحِ الَّتِي قَدْ بَنَى عَلَيْهِ الْبِنَاءَ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنَا أَحَدَثْتهَا وَقَالَ رَبُّ الْبَيْتِ كَانَتْ فِيهِ حِينَ أَجَّرْتُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ فَهُوَ الَّذِي يَتَّخِذُ ذَلِكَ عَادَةً لِحَاجَتِهِ إلَيْهِ فَرَبُّ الْبَيْتِ مُسْتَغْنٍ عَنْ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ يَبْنِي الْبَيْتَ لِيُؤَاجِرَهُ مِمَّنْ يَسْتَأْجِرُ مِنْهُ ، ثُمَّ كُلُّ عَامِلٍ يَتَّخِذُ فِيهِ مَا يَكُونُ مِنْ أَدَاةِ عَمَلِهِ ، وَعِنْدَ الْمُنَازَعَةِ الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مَوْضُوعَةٌ فِي الْبَيْتِ وَفِي الْمَوْضُوعِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ كَسَائِرِ الْأَمْتِعَةِ وَكَذَلِكَ الطَّحَّانُ إذَا خَرَجَ مِنْ الْبَيْتِ فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ مَتَاعِ الرَّحَى وَمَا تَحْتَهَا مِنْ بِنَائِهَا وَخَشَبِهَا الَّتِي فِيهَا وَأُسْطُوَانَاتهَا فَذَلِكَ كُلُّهُ لِلطَّحَّانِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَدَاءِ عَمَلِهِ ، وَكَذَلِكَ الْقَصَّابُ وَالْقَلَّاءُ وَالْحَدَّادُ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ الْأَوْعِيَةِ وَالْأَدَاةِ الَّتِي تَكُونُ لِلصَّانِعِ ، وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَطْبُخَ فِيهَا الْآجُرَّ وَالْفَخَّارَ ، ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الْأَتُّونِ الَّتِي يَطْبُخُ فِيهَا الْآجُرَّ فَفِي الْقِيَاسِ الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّهُ بِنَاءٌ كَسَائِرِ الْأَبْنِيَةِ وَفِي الْبِنَاءِ الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْأَرْضِ لِأَنَّهُ تَبَعٌ لِأَرْضِهِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ قَالَ : لِأَنِّي رَأَيْت الْمُسْتَأْجِرَ هُوَ الَّذِي بَنَى وَإِنَّمَا يُبْنَى الْحُكْمُ عَلَى مَا يَعْرِفُ عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ ثُمَّ هَذَا الْبِنَاءُ لِحَاجَةِ الْمُسْتَأْجِرِ لَيْسَ لِحَاجَةِ رَبِّ الْأَرْضِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَبْنِيَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ كُلَّ عَامِلٍ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ يَبْنِي الْأَتُّونَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَتَّخِذُهُ أَهْلُ صَنْعَتِهِ ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي بِنَاءٍ سِوَى مَا ذَكَرْنَا أَوْ فِي بَابٍ

أَوْ خَشَبَةٍ أُدْخِلَتْ السَّقْفَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ أَنَّهُ أَجَرَهَا وَهِيَ كَذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الْآجُرُّ الْمَفْرُوشُ وَالْغَلَقُ وَالْمِيزَابُ فَالظَّاهِرُ أَنَّ رَبَّ الدَّارِ هُوَ الَّذِي يَتَّخِذُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ السَّاكِنَ بِهِ يَتَمَكَّنُ مِنْ السُّكْنَى فِي الدَّارِ وَعَلَى رَبِّ الدَّارِ تَمْكِينُ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْ الِانْتِفَاعِ فَهُوَ الَّذِي يُحْدِثُ مَا بِهِ لِيَتِمَّ تَمَكُّنُهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ ، وَمَا كَانَ فِي الدَّارِ مِنْ لَبِنٍ مَوْضُوعٍ أَوْ آجُرٍّ أَوْ جِصٍّ أَوْ جِذْعٍ أَوْ بَابٍ مَوْضُوعٍ فَهُوَ لِلْمُسْتَأْجِرِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَتَاعِ الْمَوْضُوعِ غَيْرِ مُرَكَّبٍ فِي الْبِنَاءِ وَلَا هُوَ تَبَعٌ لِلْأَرْضِ وَالْبِنَاءِ ، فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَفِي كُلِّ شَيْءٍ جَعَلْنَا الْقَوْلَ فِيهِ قَوْلَ الْمُسْتَأْجِرِ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الدَّارِ ؛ لِأَنَّهَا مُثْبِتَةٌ لِحَقِّهِ .

وَلَوْ كَانَ فِي الدَّارِ بِئْرُ مَاءٍ مَطْوِيَّةٌ أَوْ بَالُوعَةٌ مَحْفُورَةٌ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنَا أَحْدَثْتهَا وَأَنَا أَقْلَعُهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ تَوَابِعِ الْبِنَاءِ وَمِمَّا لَا يَتَأَتَّى بِدُونِهِ السُّكْنَى وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي قَلْعِهَا إلَى نَقْضِ الْبِنَاءِ وَالْمُسْتَأْجِرُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ وَهِيَ الْبَيِّنَةُ ، وَكَذَلِكَ الْخُصُّ وَالسُّتْرَةُ وَالْخَشَبُ الْمَبْنِيُّ فِي بِنَاءٍ وَالدَّرَجُ فَالْمُرَادُ مِنْ الدَّرَجِ مَا يَكُونُ مَبْنِيًّا مِنْهُ ، فَأَمَّا مَا يَكُونُ مَوْضُوعًا فِيهِ كَالسُّلَّمِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِي رَفْعِهِ إلَى قَلْعِ الْبِنَاءِ وَهُوَ مَوْضُوعٌ كَالْأَمْتِعَةِ .
( قَالَ ) وَكَذَلِكَ التَّنُّورُ ، وَكَذَلِكَ الْأَتُّونُ الَّتِي يَطْبُخُ فِيهَا الْآجُرَّ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ وَفِي التَّنُّورِ الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا إلَّا بِالْعُرْفِ ، ثُمَّ التَّنُّورُ مِنْ تَوَابِعِ الْبِنَاءِ فِي الدَّارِ فَيَحْتَاجُ إلَيْهِ كُلُّ سَاكِنٍ ، فَأَمَّا الْأَتُّونُ فَإِنَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مَنْ يَطْبُخُ الْآجُرَّ دُونَ مَنْ يَعْمَلُ فِي الْأَرْضِ عَمَلًا آخَرَ ، فَالظَّاهِرُ هُنَاكَ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ هُوَ الَّذِي بَنَاهُ وَالظَّاهِرُ هُنَا أَنَّ رَبَّ الدَّارِ هُوَ الَّذِي يَبْنِي التَّنُّورَ ، وَلَوْ كَانَ فِي الدَّارِ كُوَّارِتُ نَحْلٍ أَوْ حَمَّامَاتٌ فَذَلِكَ كُلُّهُ لِلْمُسْتَأْجِرِ كَالْمَتَاعِ الْمَوْضُوعِ ، وَلَوْ أَقَرَّ رَبُّ الدَّارِ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ خَصَّصَهَا أَوْ فَرَشَهَا بِالْآجُرِّ أَوْ رَكَّبَ فِيهَا بَابًا أَوْ غَلَقًا كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَقْلَعَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَضُرُّ قَلْعُهُ بِالدَّارِ ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مِلْكِهِ ، فَأَمَّا مَا يَضُرُّ بِهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْلَعَهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ رَبِّ الدَّارِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ رَبَّ الدَّارِ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ غَصْبًا لَمْ يَكُنْ لِمَالِكِ ذَلِكَ الْعَيْنِ أَنْ يَقْلَعَهُ فَإِذَا فَعَلَهُ الْمَالِكُ أَوْلَى وَلَكِنَّ قِيمَةَ ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الدَّارِ يَوْمَ يَخْتَصِمُونَ ؛

لِأَنَّ ذَلِكَ الْعَيْنَ احْتَبَسَ عِنْدَهُ فَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ كَمَا لَوْ انْصَبَغَ ثَوْبُ إنْسَانِ بِصِبْغِ الْغَيْرِ فَأَرَادَ صَاحِبُ الثَّوْبِ أَنْ يَأْخُذَهُ وَإِنَّمَا اعْتَبَرَ قِيمَتَهُ عِنْدَ الْخُصُومَةِ ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ تَمَلَّكَهُ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَلَوْ انْهَدَمَ بَيْتٌ مِنْ الدَّارِ فَاخْتَلَفَا فِي نَقْضِهِ فَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ أَنَّهُ مِنْ بَيْتٍ انْهَدَمَ فَهُوَ لِرَبِّ الدَّارِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ اخْتَلَفَا قَبْلَ الِانْهِدَامِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ رَبِّ الدَّارِ فَكَذَلِكَ بَعْدَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ ذَلِكَ وَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ هُوَ لِي فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَوْضُوعٌ كَسَائِرِ الْأَمْتِعَةِ وَلَوْ كَانَ رَبُّ الدَّارِ أَمَرَهُ بِالْبِنَاءِ فِي الدَّارِ عَلَى أَنْ يَحْبِسَهُ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ فَاتَّفَقَا عَلَى الْبِنَاءِ وَاخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ النَّفَقَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُسْتَأْجِرِ ؛ لِأَنَّ حَاصِلَ اخْتِلَافِهِمَا فِيمَا صَارَ الْمُسْتَأْجِرُ مُوَفِّيًا مِنْ الْأَجْرِ فَهُوَ يَدَّعِي الزِّيَادَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَتُهُ وَرَبُّ الدَّارِ يُنْكِرُهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ رَبُّ الدَّارِ لَمْ تَبْنِ أَوْ بَنَيْتَ بِغَيْرِ إذْنِي ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَدَّعِي عَلَيْهِ الْأَمْرَ وَبِهِ يَصِيرُ مُوَفِّيًا الْأَجْرَ عِنْدَ الْبِنَاءِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ لِإِنْكَارِهِ ، وَلَوْ كَانَ عَلَى بَابٍ مِنْهَا مِصْرَاعَانِ فَسَقَطَ أَحَدُهُمَا وَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ هُمَا لِي أَوْ قَالَ : هَذَا السَّاقِطُ لِي وَيَعْرِفُ أَنَّهُ أَخُو الْمُغْلَقِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ ، أَمَّا فِي الْمُغْلَقِ غَيْرُ مُشْكِلٍ وَالسَّاقِطُ إذَا كَانَ أَخُ الْمُغْلَقِ فَهُمَا كَشَيْءٍ وَاحِدٍ مَضَى فِي مَعْنَى الِانْتِفَاعِ حَتَّى لَا يَنْتَفِعَ بِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُسْتَأْجِرِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى إقَامَتِهَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِيهَا بَيْتٌ مُصَوَّرٌ بِجُذُوعٍ مُصَوَّرَةٍ فَسَقَطَ جِذْعٌ مِنْهَا فَكَانَ فِي الْبَيْتِ مَطْرُوحًا فَقَالَ

رَبُّ الدَّارِ هُوَ مِنْ سَقْفِ هَذَا الْبَيْتِ وَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ بَلْ هُوَ لِي وَيَعْرِفُ أَنَّ تَصَاوِيرَهُ مُوَافِقٌ لِتَصَاوِيرِ الْبَيْتِ فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ لِشَهَادَةِ الظَّاهِرِ لَهُ ، وَهُوَ نَظِيرُهُ مَا لَوْ اخْتَلَفَا الزَّوْجَانِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ فَمَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ يُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَ الزَّوْجِ وَمَا يَصْلُحُ لِلنِّسَاءِ فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ لِشَهَادَةِ الظَّاهِرِ لَهَا ، ثُمَّ مُوَافَقَةُ التَّصَاوِيرِ وَكَوْنُ مَوْضِعِ ذَلِكَ الْجِذْعِ مِنْ السَّقْفِ ظَاهِرًا دَلِيلٌ فَوْقَ الْيَدِ ، وَإِذَا جُعِلَ الْقَوْلُ قَوْلَ ذِي الْيَدِ لِشَهَادَةِ الظَّاهِرِ لَهُ فَهَذَا أَوْلَى ، وَعِمَارَةُ الدَّارِ وَتَطْيِينُهَا وَإِصْلَاحُ الْمِيزَابِ وَمَا وَهِيَ مِنْ بِنَائِهَا عَلَى رَبِّ الدَّارِ ؛ لِأَنَّ بِهِ يَتَمَكَّنُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ سُكْنَى الدَّارِ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ سُتْرَةٍ يَضُرُّ تَرْكُهَا بِالسُّكْنَى ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ اسْتَحَقَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بِصِفَةِ السَّلَامَةِ فَإِنْ أَبَى أَنْ يَفْعَلَ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا لِوُجُودِ الْعَيْبِ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ اسْتَأْجَرَهَا وَهِيَ كَذَلِكَ وَقَدْ رَآهَا فَحِينَئِذٍ هُوَ رَاضٍ بِالْعَيْبِ فَلَا يَرُدُّهَا لِأَجْلِهِ ، وَإِصْلَاحُ بِئْرِ الْمَاءِ وَالْبَالُوعَةِ وَالْمَخْرَجِ عَلَى رَبِّ الدَّارِ ، وَإِنْ كَانَ امْتَلَأَ مِنْ فِعْلِ الْمُسْتَأْجِرِ ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلَى هَدْمِ الْبِنَاءِ ، وَلَكِنْ لَا يُجْبَرُ رَبُّ الدَّارِ عَلَى ذَلِكَ وَلَا الْمُسْتَأْجِرُ ، وَإِنْ شَاءَ الْمُسْتَأْجِرُ أَنْ يُصْلِحَ ذَلِكَ فَعَلَ وَلَا يُحْتَسَبُ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ ، وَإِنْ شَاءَ خَرَجَ إذَا أَبَى رَبُّ الدَّارِ أَنْ يَفْعَلَهُ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُجْبَرُ عَلَى إصْلَاحِ مِلْكِهِ وَلَكِنَّ الْعَيْبَ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ يُثْبِتُ لِلْعَاقِدِ حَقَّ الْفَسْخِ فِيمَا يَعْتَمِدُ لُزُومُهُ تَمَامَ الرِّضَاءِ .

وَلَوْ اسْتَأْجَرَ مِنْ رَجُلٍ نِصْفَ أَرْضٍ غَيْرِ مَقْصُودٍ أَوْ نِصْفَ عَبْدٍ أَوْ نِصْفَ دَابَّةٍ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالشُّيُوعُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ سَوَاءٌ عِنْدَهُ فِي إفْسَادِ الْإِجَارَةِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ جَائِزٌ وَيَتَهَايَآنِ فِيهِ ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذَا مُعَاوَضَةُ مَالٍ بِمَالٍ فَتَلْزَمُ فِي الْمَشَاعِ كَالْبَيْعِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْإِجَارَةِ مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ وَلِلْجُزْءِ الشَّائِعِ مَنْفَعَةٌ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ أَجَّرَ مِنْ شَرِيكِهِ يَجُوزُ الْعَقْدُ لِهَذَا الْمَعْنَى وَلَوْ أَجَّرَ مِنْ رَجُلَيْنِ تَجُوزُ الْعُقُودُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْتَأْجَرِينَ يَمْلِكُ مَنْفَعَةَ النِّصْفِ شَائِعًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ أَعَارَ نِصْفَ دَارِهِ مِنْ إنْسَانٍ جَازَ ذَلِكَ وَتَأْثِيرُ الشُّيُوعِ فِي الْمَنْعِ مِنْ عَقْدِ التَّبَرُّعِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْمُعَاوَضَةِ كَمَا فِي الْهِبَةِ مَعَ الْبَيْعِ فَإِذَا جَازَ تَمْلِيكُ مَنْفَعَةِ نِصْفِ الدَّارِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ فَبِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ أَوْلَى وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : الْتَزَمَ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ تَسْلِيمَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَلَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ بَاعَ الْآبِقَ أَوْ أَجَرَهُ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ يَرِدُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ وَتَسْلِيمُ الْمَنْفَعَةِ يَكُونُ بِاسْتِيفَاءِ الْمُسْتَأْجِرِ وَلَا يَتَحَقَّقُ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ مِنْ النِّصْفِ شَائِعًا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ مِنْ جُزْءٍ مُعَيَّنٍ ؛ فَإِنَّهُمَا إنْ تَهَايَآ عَلَى الْمَكَانِ فَإِنَّمَا يَسْكُنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَاحِيَةً بِعَيْنِهَا ، وَإِنْ تَهَايَآ عَلَى الزَّمَانِ فَإِنَّمَا يَسْكُنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَمِيعَ الدَّارِ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ فَعَرَفْنَا أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمَنْفَعَةِ فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ لَا يَتَحَقَّقُ فَكَانَ بِإِضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى جُزْءٍ شَائِعٍ مُلْتَزِمًا تَسْلِيمَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَيُحْكَى عَنْ

أَبِي طَاهِرٍ الدَّبَّاسِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إذَا أَجَرَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ يَصِحُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِذَا أَجَرَ الْمَالِكُ نِصْفَ أَرْضِهِ لَا يَصِحُّ وَكَانَ يُفَرِّقُ فَيَقُولُ : يَحْتَاجَانِ إلَى الْمُهَايَأَةِ ، فَإِمَّا أَنْ يَعُودَ إلَى يَدِ الْأَجِيرِ جَمِيعُ الْمُسْتَأْجَرِ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ إذَا تَهَايَآ عَلَى الزَّمَانِ أَوْ بَعْضُ الْمُسْتَأْجَرِ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ إذَا تَهَايَآ عَلَى الْمَكَانِ وَعَوْدُ الْمُسْتَأْجَرِ إلَى يَدِ الْأَجِيرِ يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْمَنْفَعَةِ بِحُكْمِ الْإِجَارَةِ كَمَا لَوْ أَعَارَهُ الْمُسْتَأْجِرُ مِنْ الْأَجِيرِ أَوْ أَجَرَهُ مِنْهُ فَاسْتِحْقَاقُ ذَلِكَ بِسَبَبٍ يَقْتَرِنُ بِالْعَقْدِ يُبْطِلُ الْإِجَارَةَ فَأَمَّا إذَا أَجَرَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ فَالْمُهَايَأَةُ تَكُونُ بَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ وَالشَّرِيكِ فَلَا يَعُودُ الْمُسْتَأْجَرُ إلَى يَدِ الْأَجِيرِ وَإِنَّمَا يَعُودُ إلَى يَدِ أَجْنَبِيٍّ وَذَلِكَ جَائِزٌ فِي الْإِجَارَةِ كَمَا لَوْ أَعَارَهُ الْمُسْتَأْجِرُ أَوْ أَجَّرَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا عِنْدَهُ وَالْعَقْدُ فَاسِدٌ ؛ لِمَا بَيَّنَّا وَلِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِالْمُهَايَأَةِ وَالْمُهَايَأَةُ عَقْدٌ آخَرُ لَيْسَ مِنْ حُقُوقِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ فَبِدُونِهِ لَا تَثْبُتُ الْقُدْرَةُ عَلَى قَبْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ جَوَازِ الْعَقْدِ ، فَإِنْ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ مَعَ الْفَسَادِ اسْتَوْجَبَ أَجْرَ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ التَّسْلِيمِ يُفْسِدُ الْعَقْدَ وَلَا يَمْنَعُ انْعِقَادَهُ كَمَا فِي بَيْعِ الْآبِقِ فَإِذَا اسْتَوْفَى فَقَدْ تَحَقَّقَ الِاسْتِيفَاءُ بَعْدَ انْعِقَادِ .
الْعَقْدِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ هُنَاكَ بِالتَّخْلِيَةِ يَتِمُّ ، وَذَلِكَ فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ يَتِمُّ ، فَأَمَّا إذَا أَجَّرَهُ مِنْ شَرِيكِهِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا

يَجُوزُ ذَلِكَ وَجَعَلَهُ كَالرَّهْنِ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي يَتَنَاوَلُهَا الْعَقْدُ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِغَيْرِهَا وَهُوَ مَنْفَعَةُ نَصِيبِهِ ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِعَقْدِ الْإِجَارَةِ كَمَنْ اسْتَأْجَرَ أَحَدَ زَوْجَيْ الْمِقْرَاضِ لِمَنْفَعَةِ قَرْضِ الثِّيَابِ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِمَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْعَقْدُ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ بِالْعَقْدِ يَتَأَتَّى هُنَا ؛ فَإِنَّهُ يَسْكُنُ جَمِيعَ الدَّارِ فَيَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا مَنْفَعَةَ نَصِيبِهِ بِمِلْكِهِ وَمَنْفَعَةَ الْمُسْتَأْجِرِ بِحُكْمِ الْإِجَارَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَجَّرَهُ مِنْ غَيْرِ شَرِيكِهِ فَهُنَاكَ يَتَعَذَّرُ الِاسْتِيفَاءُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ وَهُوَ نَظِيرُ بَيْعِ الْآبِقِ مِمَّنْ هُوَ فِي يَدِهِ يَجُوزُ بِكَوْنِ التَّسْلِيمِ مَقْدُورًا عَلَيْهِ بِيَدِهِ وَمِنْ غَيْرِ مَنْ فِي يَدِهِ لَا يَجُوزُ لِعَجْزِهِ عَنْ التَّسْلِيمِ وَهَذَا بِخِلَافِ الرَّهْنِ فَبِالشُّيُوعِ هُنَاكَ يَنْعَدِمُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ هُوَ الْحَبْسُ الْمُسْتَدَامُ وَلَا تَصَوُّرَ لِذَلِكَ فِي الشَّائِعِ وَفِي هَذَا الشَّرِيكُ وَالْأَجْنَبِيُّ سَوَاءٌ ، فَأَمَّا هُنَا بِالشُّيُوعِ لَا يَنْعَدِمُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ إنَّمَا يَنْعَدِمُ التَّسْلِيمُ ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الشَّرِيكِ وَبِهِ فَارَقَ الْهِبَةَ أَيْضًا فَالشُّيُوعُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْضِ الَّذِي بِهِ يَقَعُ الْمِلْكُ ، وَالْهِبَةُ مِنْ الشَّرِيكِ وَمِنْ غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَأَمَّا إذَا أَجَّرَ مِنْ رَجُلَيْنِ فَتَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَمَا أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ مَقْدُورٌ عَلَيْهِ لِلْمُؤَاجِرِ ، ثُمَّ الْمُهَايَأَةُ بَعْدَ ذَلِكَ تَكُونُ بَيْنَ الْمُسْتَأْجَرِينَ بِحُكْمِ مِلْكَيْهِمَا وَهُوَ نَظِيرُ الرَّاهِنِ مِنْ رَجُلَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ لِوُجُودِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ مَا

أَوْجَبَهُ الرَّاهِنُ لَهُمَا فَإِنْ مَاتَ أَحَدُ الْمُسْتَأْجَرِينَ حَتَّى بَطَلَ الْعَقْدُ فِي نَصِيبِهِ فَقَدْ ذَكَرَ الطَّحْطَاوِيُّ عَنْ خَالِدِ بْنِ صَبِيحٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُ يَفْسُدُ الْعَقْدُ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ يَتَجَدَّدُ انْعِقَادُهَا بِحَسَبِ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى شُيُوعٍ يَقْتَرِنُ بِالْعَقْدِ ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَبْقَى الْعَقْدُ فِي حَقِّ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ تَجَدُّدَ الِانْعِقَادِ فِي حَقِّ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، فَأَمَّا أَصْلُ الْعَقْدِ فَمُنْعَقِدٌ لَازِمٌ فِي الْحَالِ وَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى الشُّيُوعُ طَارِئٌ وَالطَّارِئُ مِنْ الشُّيُوعِ لَيْسَ نَظِيرَ الْمُقَارِنِ كَمَا فِي الْهِبَةِ إذَا وَهَبَ لَهُ جَمِيعَ الدَّارِ وَسَلَّمَهَا ، ثُمَّ رَجَعَ فِي نِصْفِهَا وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِعَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ بِهَا اسْتِحْقَاقُ التَّسْلِيمِ وَالْمُؤَثِّرُ الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ فَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ اسْتِحْقَاقُ التَّسْلِيمِ .

رَجُلٌ تَكَارَى دَارًا مِنْ رَجُلٍ عَلَى أَنْ جَعَلَ أَجْرَهَا أَنْ يَكْسُوَهُ ثَلَاثَةَ أَثْوَابٍ فَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى مَجْهُولُ الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ ، وَالثِّيَابُ بِمُطْلَقِ التَّسْمِيَةِ لَا تَصْلُحُ عِوَضًا فِي الْبَيْعِ فَلَا تَصْلُحُ أُجْرَةً وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا فِيمَا سَكَنَ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ .

وَلَوْ تَكَارَى مَنْزِلًا كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ فَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَنْزِلِ وَلَمْ يَفْتَحْ لَهُ الْبَابَ فَجَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ وَطَلَبَ الْأَجْرَ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ لَمْ يَفْتَحْهُ وَلَمْ أَنْزِلْهُ ، فَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى فَتْحِهِ فَالْكِرَاءُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ ؛ فَإِنَّهُ فِي الِامْتِنَاعِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ قَاصِدٌ إلَى الْإِضْرَارِ بِالْأَخِيرِ فَيُرَدُّ عَلَيْهِ قَصْدُهُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى فَتْحِهِ فَلَا أَجْرَ لَهُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَا تَمَكَّنَ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ وَعَلَى الْمُؤَاجِرِ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ فَلَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِدُونِهِ إذَا لَمْ يَسْتَوْفِ .

وَلَوْ تَكَارَى مَنْزِلًا فِي دَارٍ وَفِي الدَّارِ سُكَّانٌ فَخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَنْزِلِ فَلَمَّا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ طَلَبَ الْأَجْرَ فَقَالَ : مَا سَكَنْتُهُ حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْمَنْزِلِ فِيهِ فُلَانٌ السَّاكِنُ ، وَالسَّاكِنُ مُقِرٌّ بِذَلِكَ أَوْ جَاحِدٌ ؛ فَإِنَّهُ بِحُكْمِ الْحَالِ فَإِنَّهُ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ فِيهِ فِي الْحَالِ فَالْأَجْرُ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَ الْغَاصِبُ فِيهِ فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ ، وَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ وَقَعَ بَيْنَهُمَا فِيمَا مَضَى وَالْحَالُ مَعْلُومٌ فَيُرَدُّ الْمَجْهُولُ إلَى الْمَعْلُومِ وَيَحْكُمُ فِيهِ الْحَالُ كَالْمُسْتَأْجِرِ مَعَ رَبِّ الرَّحَا إذَا اخْتَلَفَا فِي انْقِطَاعِ الْمَاءِ فِي الْمُدَّةِ بِحُكْمِ الْحَالِ فِيهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَنْزِلِ سَاكِنٌ فِي الْحَالِ فَالْمُسْتَأْجِرُ ضَامِنٌ الْأَجْرَ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ فِي الْحَالِ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا فِيمَا مَضَى فَيَلْزَمُهُ الْأَجْرُ وَالْمَانِعُ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ

وَلَوْ تَكَارَى بَيْتًا وَلَمْ يُسَمِّ مَا يَعْمَلُ فِيهِ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ بِالْعُرْفِ وَهُوَ السُّكْنَى فِي الْبَيْتِ ، وَذَلِكَ لَا يَتَفَاوَتُ فَلَا حَاجَةَ إلَى تَسْمِيَةٍ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ الْقِصَارَةَ وَنَظَائِرَهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِالْبِنَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ فَإِنْ عَمِلَهَا فَانْهَدَمَ الْبَيْتُ فَهُوَ ضَامِنٌ ؛ لِمَا انْهَدَمَ مِنْ عَمَلِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ مُتَعَدٍّ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ فِيمَا ضَمِنَ لِأَنَّ الْأَجْرَ وَالضَّمَانَ لَا يَجْتَمِعَانِ ؛ فَإِنَّهُ يَتَمَلَّكُ الْمَضْمُونَ بِالضَّمَانِ مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ وُجُوبِ الضَّمَانِ ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَجْرُ فِيمَا اسْتَوْفَى مِنْ مَنْفَعَةِ مِلْكِ نَفْسِهِ ، وَإِنْ سَلَّمَ فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ لَا أَجْرَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ فِيمَا صَنَعَ ؛ وَلِهَذَا كَانَ ضَامِنًا ، وَلَا أَجْرَ عَلَى الْغَاصِبِ فِي الْمَنْفَعَةِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ وَزِيَادَةً وَإِنَّمَا كَانَ ضَامِنًا بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ فَإِذَا سَلَّمَ سَقَطَ اعْتِبَارُ تِلْكَ الزِّيَادَةِ حُكْمًا فَيَلْزَمُهُ الْأَجْرُ بِاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَإِذَا انْهَدَمَ فَقَدْ وَجَبَ اعْتِبَارُ تِلْكَ الزِّيَادَةِ لِإِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ ؛ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الْأَجْرُ .

وَإِنْ قَالَ الْمُسْتَأْجِرُ : اسْتَأْجَرْتُهُ مِنْكَ لِأَعْمَلَ فِيهِ الْقِصَارَةَ وَقَالَ رَبُّ الْبَيْتِ : أَكْرَيْتُكَ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْبَيْتِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُوجِبُ وَلَوْ أَنْكَرَ الْإِيجَابَ وَالْإِذْنَ أَصْلًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ إذَا أَقَرَّ بِشَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ وَلِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَدَّعِي زِيَادَةً فِيمَا اسْتَحَقَّهُ بِالْعَقْدِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُثْبِتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ وَرَبُّ الدَّارِ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ، وَإِنْ سَكَنَهُ وَأَسْكَنَ فِيهِ مَعَهُ غَيْرَهُ فَانْهَدَمَ مِنْ سُكْنَى غَيْرِهِ لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِيمَا صَنَعَ وَكَثْرَةُ السَّاكِنِينَ فِي الدَّارِ لَا تُوهِنُ الْبِنَاءَ وَلَكِنَّهَا تَزِيدُ فِي عِمَارَةِ الدَّارِ .

وَإِذَا طَلَب رَبُّ الْبَيْتِ أَجْرَ مَا سَكَنَ فَقَالَ السَّاكِنُ أَسْكَنْتنِيهِ بِغَيْرِ أَجْرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الدَّارِ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الْأَجْرَ فِي ذِمَّةِ السَّاكِنِ فَعَلَيْهِ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ ، وَالسَّاكِنُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَيْنِ إذَا قَالَ : بِعْتُهُ مِنْكَ وَقَالَ الْآخَرُ وَهَبْته لِي وَقَدْ هَلَكَ فِي يَدِهِ لِأَنَّ الْعَيْنَ مُتَقَوِّمٌ فِي نَفْسِهِ وَلَا تَسْقُطُ قِيمَتُهُ إلَّا بِالْإِيجَابِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ وَلَمْ يُوجَدْ ، فَأَمَّا الْمَنْفَعَةُ لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِشَرْطِ الْبَدَلِ وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ ، وَإِنْ قَالَ السَّاكِنُ الدَّارُ لِي أَوْ قَالَ : هِيَ دَارُ فُلَانٍ وَكَّلَنِي بِالْقِيَامِ عَلَيْهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ السَّاكِنِ ؛ لِأَنَّ الْيَدَ لَهُ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الطَّالِبِ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ مِلْكَهُ وَالسَّاكِنُ خَصْمٌ لَهُ لِظُهُورِهَا فِي يَدِهِ فَلَا تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ عَنْهُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ هِيَ دَارُ فُلَانٍ وَلِأَنَّ الطَّالِبَ يَدَّعِي عَلَيْهِ فِعْلًا وَهُوَ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْهُ بِحُكْمِ الْإِجَارَةِ ، وَإِنْ قَالَ السَّاكِنُ وَهَبْتهَا لِي لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى الْهِبَةِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْمِلْكِ لَهُ وَادَّعَى تَمْلِيكَهَا عَلَيْهِ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ الْآخَرِ مُنْكِرٌ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَتُهُ إنْ أَقَامَهَا ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ سَبَبَ الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ هُنَا وَهُوَ الْهِبَةُ فَإِنْ أَقَرَّ بِأَصْلِ الْكِرَاءِ وَادَّعَى الْهِبَةَ فَدَعْوَاهُ بَاطِلٌ وَالْكِرَاءُ لَازِمٌ لِإِقْرَارِهِ لَهُ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَى مِنْ الْهِبَةِ .

رَجُلٌ تَكَارَى مِنْ رَجُلَيْنِ مَنْزِلًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ كُلَّ سَنَةٍ فَخَرَجَ الرَّجُلُ مِنْهُ وَعَمَدَ أَهْلُهُ فَأَكْرَوْا مِنْ الْمَنْزِلِ بَيْتًا وَأَنْزَلُوا إنْسَانًا بِغَيْرِ أَجْرِ فَانْهَدَمَ الْمَنْزِلُ الَّذِي سَكَنُوهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ غَاصِبٌ وَالْعَقَارُ لَا يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ الثَّانِي إلَّا أَنْ يَنْهَدِمَ مِنْ عَمَلِهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُتْلِفًا وَإِذَا انْهَدَمَ مِنْ عَمَلِهِ وَضَمِنَهُ رَجَعَ بِهِ عَلَى الَّذِي أَجَّرَهُ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ بِعَقْدِ ضَمَانٍ بَاشَرَهُ .

رَجُلٌ تَكَارَى مَنْزِلًا كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ ، ثُمَّ طَلَّقَ امْرَأَته وَذَهَبَ مِنْ الْمِصْرِ فَلَا كِرَاءَ عَلَى الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَسْتَأْجِرْ وَلَمْ تَلْتَزِمْ شَيْئًا مِنْ الْأَجْرِ وَالْكِرَاءُ عَلَى الزَّوْجِ ؛ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ بِمَنْ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي السُّكْنَى فِي الْمَنْزِلِ وَلَا تَخْرُجُ مِنْ الْمَنْزِلِ حَتَّى يُهِلَّ الْهِلَالُ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي الشَّهْرِ الْوَاحِدِ لَزِمَ بِهَذَا اللَّفْظِ فَلَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالْفَسْخِ ، فَإِنْ تَكَارَى عَلَى أَنْ يَنْزِلَهُ وَحْدَهُ لَا يَنْزِلُهُ غَيْرُهُ ، وَتَزَوَّجَ امْرَأَةً أَوْ امْرَأَتَيْنِ فَلَهُ أَنْ يُنْزِلَهَا مَعَهُ وَلَيْسَ الشَّرْطُ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ ، فَكُلَّمَا كَانَ السُّكَّانُ فِي الدَّارِ أَكْثَرَ كَانَ ذَلِكَ أَعَمْرَ لَهَا .

وَإِنْ حَفَرَ الْمُسْتَأْجِرُ فِي الدَّارِ بِئْرًا لِلْمَاءِ أَوْ الْوُضُوءِ فَعَطِبَ فِيهَا إنْسَانٌ أَوْ دَابَّةٌ فَإِنْ حَفَرَ بِإِذْنِ رَبِّ الدَّارِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ حَفَرَ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ ؛ لِأَنَّ الْمُسَبِّبَ إنَّمَا يَضْمَنُ إذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي السَّبَبِ وَهُوَ فِي الْحَفْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ مُتَعَدٍّ ، فَأَمَّا فِي الْحَفْرِ بِإِذْنِهِ لَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا وَلَكِنْ يُجْعَلُ فِعْلُهُ كَفِعْلِ رَبِّ الدَّارِ .

وَإِنْ تَكَارَى دَارًا كُلَّ شَهْرٍ بِعَشَرَةٍ عَلَى أَنْ يَعْمُرَهَا وَيُعْطِيَ أَجْرَ حَارِسِهَا وَنُوَّابِهَا فَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ مَا يَعْمُرُ بِهِ الدَّارَ عَلَى رَبِّ الدَّارِ وَالثَّانِيَةُ كَذَلِكَ عَلَيْهِ فَهِيَ الْجِبَايَةُ بِمَنْزِلَةِ الْخَرَاجِ فَهِيَ مَجْهُولَةٌ فَقَدْ شَرَطَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مَجْهُولًا مَعَ الْعَشَرَةِ وَضَمُّ الْمَجْهُولِ إلَى الْمَعْلُومِ يَجْعَلُ الْكُلَّ مَجْهُولًا ، فَأَمَّا أَجْرُ الْحَارِسِ فَهُوَ عَلَى السَّاكِنِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِعَمَلِهِ وَإِذَا سَكَنَ الدَّارَ فَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا بَالِغًا مَا بَلَغَ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَرَبُّ الدَّارِ مَا رَضِيَ بِالْمُسَمَّى حِينَ ضَمَّ إلَيْهِ شَيْئًا آخَرَ لِنَفْسِهِ ؛ فَلِهَذَا لَزِمَهُ أَجْرُ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ وَالْإِشْهَادُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُسْتَعِيرِ فِي الْحَائِطِ الْوَاهِي بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْإِشْهَادَ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى مَنْ يَتَمَكَّنُ مِنْ هَدْمِ الْحَائِطِ ؛ فَإِنَّهُ يُطَالِبُهُ بِتَفْرِيغِ مَا اشْتَغَلَ مِنْ الْهَوَاءِ بِالْحَائِطِ الْمَائِلِ ، وَهَؤُلَاءِ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ التَّفْرِيغِ بِالْهَدْمِ فَلَا تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِمْ الْمُطَالَبَةُ .

رَجُلٌ تَكَارَى مَنْزِلًا فِي دَارٍ وَفِي الدَّارِ سُكَّانٌ غَيْرُهُ فَأَدْخَلَ دَابَّةً فِي الدَّارِ وَأَوْقَفَهَا عَلَى بَابِهِ فَضَرَبَتْ إنْسَانًا فَمَاتَ ، أَوْ هَدَمَتْ حَائِطًا ، أَوْ دَخَلَ ضَيْفٌ لَهُ عَلَى دَابَّةٍ فَوَطِئَ إنْسَانًا مِنْ السُّكَّانِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى السَّاكِنِ وَلَا عَلَى الضَّيْفِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي إدْخَالِ الدَّابَّةِ وَإِيقَافِهَا فِي الدَّارِ ، فَإِنَّ لِلسَّاكِنِ أَنْ يَرْبِطَ دَابَّتَهُ فِيهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ عَلَى الدَّابَّةِ حِينَ أَوْطَأَتْ إنْسَانًا فَحِينَئِذٍ يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّهُ مُبَاشِرٌ لِلْإِتْلَافِ ، وَإِنْ تَكَارَاهَا سَنَةً وَقَبَضَهَا لَمْ يَكُنْ لِرَبِّ الدَّارِ أَنْ يَرْبِطَ فِيهَا دَابَّتَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَى السَّاكِنِ ؛ لِأَنَّ السَّاكِنَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الِانْتِفَاعِ كَالْمَالِكِ ، وَالْمَالِكَ كَالْأَجْنَبِيِّ فَإِنْ فَعَلَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَتْ لِكَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا فِي التَّسَبُّبِ وَلَوْ تَكَارَى دَارًا يَسْكُنُهَا شَهْرًا بِخِدْمَةِ عَبْدٍ شَهْرًا فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ لِجَهَالَةِ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ بِعَيْنِهِ فَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ لِاخْتِلَافِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ فَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يَخْدُمَ وَسَكَنَ الدَّارَ فَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الدَّارِ ؛ لِأَنَّ بِمَوْتِ الْعَبْدِ فَاتَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مِنْ الْخِدْمَةِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ فِي حَقِّ السُّكْنَى وَبَقِيَتْ السُّكْنَى مُسْتَوْفَاةً بِعَقْدٍ فَاسِدٍ وَكَانَ عَلَى الْمُسْتَوْفِي أَجْرُ الْمِثْلِ .

رَجُلٌ تَكَارَى دَارًا سَنَةً بِمِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ لَا يَسْكُنَهَا وَلَا يَنْزِلَ فِيهَا فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ ؛ لِأَنَّهُ نَفَى مُوجِبَ الْعَقْدِ بِالشَّرْطِ ، وَمِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ لَا يُلَائِمُ الْعَقْدَ فَإِنْ سَكَنَهَا فَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا وَلَا يُنْقِصُ مِمَّا سَمَّى ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ الْتَزَمَ الْمُسَمَّى بِدُونِ أَنْ يَسْكُنَهَا فَالْتِزَامُهُ لَهَا إذَا سَكَنَ أَظْهَرُ ، وَرَبُّ الدَّارِ إنَّمَا رَضِيَ بِالْمُسَمَّى إذَا لَمْ يَسْكُنْهَا فَعِنْدَ السُّكْنَى لَا يَكُونُ رَاضِيًا بِهَا ؛ فَلِهَذَا أَعْطَاهُ أَجْرَ مِثْلِهَا بَالِغًا مَا بَلَغَ فَإِنْ تَكَارَاهَا عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا فَلَمْ يَسْكُنْهَا وَلَكِنَّهُ جَعَلَ فِيهَا حَيَوَانًا وَقَالَ رَبُّ الدَّارِ رُدَّهَا عَلَيَّ .
( قَالَ : ) هَذَا يُخَرِّبُهَا فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْمُدَّةُ ؛ لِأَنَّ مَا فَعَلَ مِنْ السُّكْنَى .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ سَكَنَهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ فِيهَا مِنْ الْحُبُوبِ مَعَ نَفْسِهِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فَهَذَا مِمَّا صَارَ مُسْتَحَقًّا بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ فَلَا يَمْنَعُهُ رَبُّ الدَّارِ مِنْهُ وَلَا يَفْسَخُ الْعَقْدَ لِأَجْلِهِ ، وَإِذَا أَنْزَلَ الْمُسْتَأْجِرُ زَوْجَ ابْنَتِهِ مَعَهُ فِي الدَّارِ فَلَمَّا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ طَالَبَهُ بِالْأَجْرِ فَلَيْسَ لَهُ وَلَا لِرَبِّ الدَّارِ أَنْ يَأْخُذَ الزَّوْجَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَجْرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّ الدَّارِ ، وَالْمُسْتَأْجِرُ أَسْكَنَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَشْرُطَ عَلَيْهِ أَجْرًا وَلَوْ أَسْكَنَهُ مِلْكَهُ لَمْ يُطَالِبْهُ بِالْأَجْرِ ، فَكَذَلِكَ إذَا أَسْكَنَهُ دَارًا يَكْتَرِيهَا فَإِنْ تَكَارَى مَنْزِلًا فِي دَارٍ فِيهَا سُكَّانٌ فَأَمَرَهُ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ أَنْ يَكْنُسَ الْبِئْرَ الَّتِي فِي الدَّارِ فَفَعَلَ وَطَرَحَ تُرَابَهَا فِي الدَّارِ فَعَطِبَ بِذَلِكَ إنْسَانٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ بِأَمْرِ رَبِّ الدَّارِ كَفِعْلِ رَبِّ الدَّارِ بِنَفْسِهِ وَكَذَلِكَ إنْ فَعَلَهُ بِغَيْرِ أَمْرِ رَبِّ الدَّارِ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ تَوَابِعِ السُّكْنَى فَإِنَّ السَّاكِنَ مُرْتَفِقٌ بِالْبِئْرِ وَلَا

يَتَأَتَّى لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِالْكَنْسِ فَلَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا فِيمَا صَنَعَ ؛ فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ ، إلَّا أَنْ يَخْرُجَ التُّرَابُ إلَى الطَّرِيقِ فَحِينَئِذٍ هُوَ مُتَعَدٍّ فِي إلْقَاءِ التُّرَابِ فِي الطَّرِيقِ فَكَانَ ضَامِنًا .

رَجُلٌ تَكَارَى دَارًا سَنَةً عَلَى أَنَّهُ فِيهَا بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَنَا وَفِي أَحَدِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّ جَوَازَ الْإِجَارَةِ بِطَرِيقِ أَنَّ الْمَنَافِعَ جُعِلَتْ كَالْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا اتَّصَلَ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ بِالْعَقْدِ وَبِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ يَنْعَدِمُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْمُدَّةِ مِنْ حِينِ سَقَطَ الْخِيَارُ ، وَإِنْ جَعَلَ ابْتِدَاءَ الْمُدَّةِ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ فَشَرْطُ الْخِيَارِ فِيهِ غَيْرُ مُمْكِنٍ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ مَشْرُوطٌ لِلْفَسْخِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُتْلَفَ شَيْءٌ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ ، وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ الْفَسْخِ ، ثُمَّ شَرْطُ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ وَالْإِجَارَةُ لَيْسَتْ فِي مَعْنَاهُ فَلَا يَجُوزُ شَرْطُ الْخِيَارِ فِيهَا ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ شَرْطُ الْخِيَارِ فِي النِّكَاحِ ، فَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يُقْصَدُ بِهِ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذَا عَقْدُ مُعَاوَضَةِ مَالٍ بِمَالٍ فَيَجُوزُ شَرْطُ الْخِيَارِ فِيهِ كَالْبَيْعِ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ الْمَالَ وَقَدْ يَقَعُ نَفْيُهُ قَبْلَ أَنْ يُرَوِّيَ الْمَرْءُ النَّظَرَ فِيهِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى شَرْطِ الْخِيَارِ فِيهِ ؛ لِيَدْفَعَ الْغَبْنَ عَنْ نَفْسِهِ وَالْإِجَارَةُ فِي هَذَا كَالْبَيْعِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ يُجْعَلُ كَالْبَيْعِ ، فَكَذَلِكَ فِي الرَّدِّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِالْإِقَالَةِ كَالْبَيْعِ وَيَعْتَمِدُ لُزُومُهُ تَمَامَ الرِّضَا بِخِلَافِ النِّكَاحِ ، ثُمَّ إنْ كَانَ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ فَالْمَنْفَعَةُ لَا تَدْخُلُ فِي ضَمَانِ الْمُسْتَأْجِرِ إلَّا بِالِاسْتِيفَاءِ وَمَا يُتْلَفُ قَبْلَ ذَلِكَ يُتْلَفُ عَلَى ضَمَانِهِ فَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْفَسْخِ ، وَإِنْ اشْتَغَلَ بِالِاسْتِيفَاءِ سَقَطَ خِيَارُهُ عِنْدَنَا

وَالْحَقِيقَةُ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْمُدَّةِ مِنْ حِينِ يَتِمُّ رِضَاهُ بِالْعَقْدِ ، وَذَلِكَ عِنْدَ اشْتِغَالِهِ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ عِنْدَ مُضِيِّ مُدَّةِ الْخِيَارِ ، فَإِنْ سَكَنَهَا فِي الْمُدَّةِ فَقَدْ تَمَّ رِضَاهُ بِاشْتِغَالِهِ بِالتَّصَرُّفِ فَيَسْقُطُ خِيَارُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ، وَإِنْ كَانَ شَرَطَ لِنَفْسِهِ الْخِيَارَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ رَضِيَهَا أَخَذَهَا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَإِنْ لَمْ يَرْضَهَا أَخَذَهَا بِخَمْسِينَ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ ؛ لِجَهَالَةِ الْأُجْرَةِ ، وَإِنْ سَكَنَهَا فَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا انْهَدَمَ مِنْهَا اعْتِبَارًا لِلْعَقْدِ الْفَاسِدِ بِالْجَائِزِ وَإِذَا أَجَّرَ الْوَصِيُّ دَارَ الْيَتِيمِ مُدَّةً طَوِيلَةً جَازَتْ الْإِجَارَةُ ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ لَوْ كَانَ بَالِغًا فِي كُلِّ عَقْدٍ نَظَرًا لَهُ إلَّا أَنْ يَنْتَقِصَ مِنْ أَجْرِ مِثْلِهَا مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ فَلَا يَجُوزُ اعْتِبَارًا لِلْإِجَارَةِ بِالْبَيْعِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِقُرْبَانِ مَالِهِ بِالْأَحْسَنِ وَبِمَا يَكُونُ أَصْلَحَ لَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : قُلْ إصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ } وَيَجُوزُ لِوَكِيلِ الْكَبِيرِ أَنْ يُؤَاجِرَهَا بِمَا قَلَّ وَكَثُرَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَّا بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ وَهُوَ نَظِيرُ الْبَيْعِ فِي ذَلِكَ .
.

رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَهِيَ فِي مَنْزِلٍ بِكِرَاءٍ فَمَكَثَ مَعَهَا سَنَةً فِيهِ ، ثُمَّ طَلَبَ صَاحِبُ الْمَنْزِلِ الْكِرَاءَ ، وَقَدْ أَخْبَرَتْ الْمَرْأَةُ الزَّوْجَ أَنَّ الْمَنْزِلَ مَعَهَا بِكِرَاءٍ أَوْ لَمْ تُخْبِرْهُ فَالْإِجَارَةُ عَلَى الْمَرْأَةِ دُونَ الرَّجُلِ ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي بَاشَرَتْ سَبَبَ وُجُوبِ الْأَجْرِ وَهُوَ الْعَقْدُ فَإِنْ كَانَ قَالَ لَهَا لَكِ عَلَيَّ مَعَ نَفَقَتِكَ أَجْرُ الْمَنْزِلِ كَذَا ، وَكَذَا وَضَمِنَهُ لِرَبِّ الْمَنْزِلِ فَهُوَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَضْمَنُ دَيْنًا وَاجِبًا لِرَبِّ الْمَنْزِلِ ، وَإِنْ أَشْهَدَ لَهَا بِهِ وَلَمْ يَضْمَنْهُ لِرَبِّ الْمَنْزِلِ ، ثُمَّ لَمْ يُعْطِهَا فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ عَلَيْهَا لَا لَهَا فَلَا يَكُونُ هُوَ ضَامِنًا لَهَا ذَلِكَ بَلْ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ مِنْهُ فَإِنْ شَاءَ أَعْطَى ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يُعْطِ .

، وَإِذَا تَكَارَى دَارًا لَمْ يَرَهَا فَلَهُ الْخِيَارُ إذَا رَآهَا ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ كَالْبَيْعِ يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا فَكَمَا لَا يَتِمُّ الرِّضَا فِي الْبَيْعِ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ ، فَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ ، وَرُؤْيَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ لَا تَتَأَتَّى وَلَكِنْ يَصِيرُ ذَلِكَ مَعْلُومًا بِرُؤْيَةِ الدَّارِ فَإِنَّ مَنْفَعَةَ السُّكْنَى تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدَّارِ فِي الضِّيقِ وَالسَّعَةِ ؛ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ رَآهَا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا خِيَارَ لَهُ فِيهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ انْهَدَمَ مِنْهَا شَيْءٌ يَضُرُّ بِالسُّكْنَى فَحِينَئِذٍ يَتَخَيَّرُ لِلتَّغَيُّرِ وَإِذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا سَنَةً كُلَّ شَهْرٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ قَبْلَ كَمَالِ السَّنَةِ ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ وَاحِدَةٌ بِاتِّحَادِ الْعَاقِدَيْنِ فَبِالتَّفْصِيلِ فِي ذِكْرِ الْبَدَلِ لَا تَتَفَرَّقُ الصَّفْقَةُ وَلَكِنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فَيَكُونُ الْعَقْدُ لَازِمًا فِي جَمِيعِ السَّنَةِ لَا يَفْسَخُهُ أَحَدُهُمَا إلَّا بِعُذْرٍ ، وَإِنْ قَالَ الْمُسْتَأْجِرُ اسْتَأْجَرْتُهَا شَهْرًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الْإِجَارَةَ فِيمَا زَادَ عَلَى الشَّهْرِ وَلَوْ أَنْكَرَ أَصْلَ الْعَقْدِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ فَكَذَلِكَ إذَا أَنْكَرَ الزِّيَادَةَ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُؤَاجِرِ ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا شَهْرًا بِدِرْهَمٍ فَسَكَنَهَا شَهْرَيْنِ فَعَلَيْهِ كِرَاءُ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ وَلَا كِرَاءَ عَلَيْهِ فِي الشَّهْرِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ فِي السُّكْنَى ، وَالْمَنَافِعُ لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا فِي الشَّهْرِ الثَّانِي وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الْعَارِيَّةِ فَإِنْ انْهَدَمَتْ مِنْ سُكْنَاهُ فَقَالَ : إنَّمَا انْهَدَمَتْ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِإِنْكَارِهِ وُجُوبَ الضَّمَانِ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الدَّارِ ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ

زَادَ عَلَى الشَّهْرِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ فِيمَا زَادَ فَيَسْتَوِي فِيهِ قَلِيلُ الْمُدَّةِ وَكَثِيرُهَا .

وَإِذَا أَجَّرَ الْبَيْتَ مِنْ رَجُلٍ وَسَلَّمَ إلَيْهِ الْمِفْتَاحَ فَلَمَّا انْقَضَتْ الْمُدَّةُ قَالَ الْمُسْتَأْجِرُ لَمْ أَقْدِرْ عَلَى فَتْحِهِ وَلَمْ أَسْكُنْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْبَيْتِ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَتُهُ أَيْضًا ، أَمَّا جَعْلُ الْقَوْلِ قَوْلَهُ لِشَهَادَةِ الظَّاهِرِ لَهُ فَالْمِفْتَاحُ مَا اُتُّخِذَ إلَّا لِفَتْحِ الْبَابِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَنْ وَصَلَ إلَيْهِ الْمِفْتَاحُ يَتَمَكَّنُ مِنْ فَتْحِ الْبَابِ إمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَنْ يُعِينُهُ وَأَمَّا تَرْجِيحُ بَيِّنَتِهِ ؛ فَلِأَنَّهُ يُثْبِتُ الْأَجْرَ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَأْجِرِ بِإِثْبَاتِهِ السَّبَبَ الْمُوجِبَ وَهُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَالْمُسْتَأْجِرُ يَنْفِي ذَلِكَ .

وَإِذَا تَكَارَى دَارًا شَهْرًا فَأَقَامَ مَعَهُ صَاحِبُ الدَّارِ فِيهَا إلَى آخِرِ الشَّهْرِ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ لَا أُعْطِيكَ الْأَجْرَ لِأَنَّكَ لَمْ تَحُلْ بَيْنِي وَبَيْنَ الدَّارِ ( قَالَ : ) عَلَيْهِ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ مَا كَانَ فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى بَعْضَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ مَنْفَعَةُ الْمَنْزِلِ الَّذِي فِي يَدِهِ فَلْيَلْزَمْهُ الْأَجْرُ بِقَدْرِهِ اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ .

رَجُلَانِ اسْتَأْجَرَا حَانُوتًا يَعْمَلَانِ فِيهِ بِأَنْفُسِهِمَا فَعَمَدَ أَحَدُهُمَا فَاسْتَأْجَرَ خَفِيرًا فَأَقْعَدَهُ فِي الْحَانُوتِ وَأَبَى الْآخَرُ أَنْ يَدَعَهُ .
( قَالَ : ) لَهُ أَنْ يُقْعِدَ فِي نَصِيبِهِ مَنْ شَاءَ مَا لَمْ يُدْخِلْ عَلَى شَرِيكِهِ فِي نِصْفِهِ ضَرَرًا بَيِّنًا ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِلْكُ مَنْفَعَةِ النِّصْفِ فَلَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيمَا يَمْلِكُهُ كَيْفَ شَاءَ إلَّا أَنَّهُ إذَا أَدْخَلَ ضَرَرًا عَلَى شَرِيكِهِ فَحِينَئِذٍ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ مُتَعَدٍّ إلَى نَصِيبِ شَرِيكِهِ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مَتَاعًا مِنْ الْآخَرِ ، وَإِنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَبْنِيَ وَسَطَ الْحَانُوتِ حَائِطًا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْبِنَاءَ تَصَرُّفٌ فِي الْعَيْنِ فَإِنَّ مَا يَمْلِكُ مَالِكُ الرَّقَبَةِ وَهُمَا يَمْلِكَانِ الْمَنْفَعَةَ دُونَ الرَّقَبَةِ ، فَإِنْ تَكَارَى بَيْتًا وَدُكَّانًا عَلَى بَابِهِ كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ وَالدُّكَّانُ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَتَرَفَّقَ بِالدُّكَّانِ فَالْكِرَاءُ جَائِزٌ فِي الدَّارِ وَيَرْفَعُ عَنْهُ بِحِسَابِ الدُّكَّانِ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْعَقْدَ فِيهِمَا إلَى مَحِلِّهِ وَهُوَ عَيْنٌ مُنْتَفِعٌ بِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ إنْسَانٌ حَتَّى اسْتَوْفَى مَنْفَعَتَهُمَا سَنَةً كَانَ عَلَيْهِ الْأَجْرُ كَامِلًا فَأُحِيلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّرَفُّقِ بِالدُّكَّانِ فَيُرْفَعُ عَنْهُ بِحِسَابِهِ مِنْ الْأَجْرِ كَمَا كَانَا بَيْتَيْنِ فَغَصَبَ أَحَدَهُمَا غَاصِبٌ .

رَجُلَانِ اسْتَأْجَرَا مَنْزِلًا وَاشْتَرَطَا فِيمَا بَيْنَهُمَا أَنْ يَنْزِلَ أَحَدُهُمَا فِي أَقْصَاهُ وَالْآخَرُ فِي مُقَدِّمِهِ وَلَمْ يَشْتَرِطَا ذَلِكَ فِي أَصْلِ الْإِجَارَةِ فَالْإِجَارَةُ جَائِرَةٌ وَلِصَاحِبِ الْأَقْصَى أَنْ يَنْزِلَ فِي مُقَدِّمِهِ مَعَ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُوَاضَعَةَ الَّتِي بَيْنَهُمَا بَعْدَمَا مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ بِالْإِجَارَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُهَايَأَةِ وَالْمُهَايَأَةُ لَا تَكُونُ وَاجِبَةً فَلَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَحَقَّ بِالِانْتِفَاعِ بِالْمُقَدَّمِ مِنْ الْآخَرِ وَإِذَا تَكَارَى دَارًا لِيَنْزِلَهَا بِنَفْسِهِ وَأَهْلِهِ فَلَمْ يَنْزِلْهَا وَلَكِنْ أَنْزَلَ فِيهَا دَوَابَّ وَبَقَرًا فَانْهَدَمَتْ مِنْ عَمَلِهِمْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِخِلَافٍ مِنْهُ فَإِنَّ مَا فَعَلَ مِنْ تَوَابِعِ السُّكْنَى وَعَلَيْهِ الْأَجْرُ وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ مَنْزِلًا تَدْخُلُ الدَّوَابُّ مِثْلَ ذَلِكَ الْمَنْزِلِ عَادَةً ، فَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَهُوَ غَاصِبٌ ضَامِنٌ ؛ لِمَا يَنْهَدِمُ بِعَمَلِهِ وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُكَارِيَيْنِ انْتَقَضَتْ الْإِجَارَةُ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا تَنْتَقِضُ بِمَوْتِهِمَا وَلَا بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا إلَّا فِي خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ إذَا شَرَطَ عَلَى الْخَيَّاطِ أَنَّهُ يَخِيطُ بِنَفْسِهِ فَمَاتَ الْخَيَّاطُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْمَنَافِعَ جُعِلَتْ كَالْأَعْيَانِ الْقَائِمَةِ ، ثُمَّ الْعَقْدُ عَلَى الْعَيْنِ لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَكَذَلِكَ الْعَقْدُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جُعِلَ كَالْعَيْنِ فَقَدْ تَمَّ الِاسْتِحْقَاقُ فِي الْكُلِّ فَبِمَوْتِ الْأَجِيرِ لَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ وَارِثَهُ يَخْلُفُهُ فِيمَا كَانَ مُسْتَحَقًّا لَهُ وَقَاسَ بِالْأَرْضِ الْمُسْتَأْجَرَةِ إذَا زَرْعَهَا الْمُسْتَأْجِرُ ثُمَّ مَاتَ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَنْتَقِضُ بِالْإِنْفَاقِ بَلْ يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِي تَرْبِيَةِ الزَّرْعِ فِيهَا إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ وَلِأَنَّ هَذَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يُقْصَدُ بِهِ اسْتِيفَاءُ الْمَنْفَعَةِ فَلَا يَبْطُلُ بِمَوْتِ الْعَاقِدِ إلَّا أَنْ يَتَضَمَّنَ هَذَا الْمَعْقُودَ

عَلَيْهِ كَالنِّكَاحِ فَإِنْ زَوَّجَ أَمَتَهُ ، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ وَبِمَوْتِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ يَرْتَفِعُ الْعَقْدُ لِتَضَمُّنِهِ فَوَاتَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ؛ وَلِهَذَا تَبْطُلُ الْإِجَارَةُ بِمَوْتِ الْخَيَّاطِ إذَا شَرَطَ عَلَيْهِ الْعَمَلَ بِيَدِهِ لِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَتَبْطُلُ الْكِتَابَةُ بِمَوْتِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَهُ لِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى بِالِاتِّفَاقِ وَلَنَا طَرِيقَانِ .
( أَحَدُهُمَا ) فِي مَوْتِ الْأَجِيرِ فَنَقُولُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ الْمَنَافِعُ الَّتِي تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْأَجِيرِ وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ فَتَبْطُلُ الْإِجَارَةُ لِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ رَقَبَةَ الدَّارِ تَنْتَقِلُ إلَى الْوَارِثِ وَالْمَنْفَعَةَ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِ الرَّقَبَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ بَاعَ الدَّارَ بِرِضَاءِ الْمُسْتَأْجِرِ بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ لِانْتِقَالِ الْمِلْكِ فِيهَا إلَى غَيْرِهِ تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ فِيمَا يَحْدُثُ فِيهَا مِنْ الْمَنْفَعَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ هُوَ مُضِيفٌ لِلْعَقْدِ إلَى الْغَيْرِ وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ إلْزَامِ الْعَقْدِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ تَتَجَدَّدُ فِي مِلْكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِحَسَبِ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ فَإِنْ .
( قِيلَ ) فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَعْمَلَ الْإِجَارَةُ فِيهَا مِنْ الْمُوَرِّثِ .
( قُلْنَا ) إنَّمَا لَا تَعْمَلُ إجَارَتُهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَوَقَّفْ عَلَى حَقِّهِ عِنْدَ الْعَقْدِ فَمَا كَانَ يَعْلَمُ عِنْدَ ذَلِكَ أَنَّ الْعَقْدَ مُضَافٌ إلَى مَحَلِّ حَقِّهِ وَهَذَا بِخِلَافِ النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ فِي حُكْمِ مِلْكِ الْعَيْنِ فَلَا يَثْبُتُ لِلْوَارِثِ بِمِلْكِ رَقَبَةِ الْأَمَةِ حَقٌّ فِيمَا هُوَ حَقُّ الزَّوْجِ كَمَا لَوْ بَاعَهَا الْمَوْلَى لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ فِي مَوْتِ الْمُسْتَأْجِرِ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ بَقِيَ الْعَقْدُ بَعْدَ مَوْتِهِ إنَّمَا يَبْقَى عَلَى أَنْ يَخْلُفَهُ الْوَارِثُ وَالْمَنْفَعَةُ الْمُجَرَّدَةُ لَا تُوَرَّثُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ

إذَا مَاتَ لَا يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِي الْمَنْفَعَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ مَالِكٌ لِلْمَنْفَعَةِ وَفِي حُكْمِ التَّوْرِيثِ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمِلْكِ بِبَدَلٍ وَبِغَيْرِ بَدَلٍ كَالْعَيْنِ ؛ وَلِهَذَا لَوْ مَاتَ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَا تُوَرَّثُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ لَوْ أَوْصَى بِرَقَبَةِ عَبْدِهِ لِإِنْسَانٍ وَبِخِدْمَتِهِ لِآخَرَ فَرَدَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ الْوَصِيَّةَ كَانَتْ الْخِدْمَةُ لِصَاحِبِ الرَّقَبَةِ دُونَ وَرَثَةِ الْمُوصِي لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمُجَرَّدَةَ لَا تُوَرَّثُ وَهَذَا لِأَنَّ الْوِرَاثَةَ خِلَافَةٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ إلَّا فِيمَا يَبْقَى لِيَكُونَ مِلْكُ الْمُوَرِّثِ فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ وَيَخْلُفَهُ الْوَارِثُ فِيهِ فِي الْوَقْتِ الثَّانِي وَالْمَنْفَعَةُ الْمَوْجُودَةُ فِي حَيَاةِ الْمُسْتَأْجِرِ لَا تَبْقَى وَاَلَّتِي لَا تَحْدُثُ لَا تَبْقَى لِتُوَرَّثَ وَاَلَّتِي تَحْدُثُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَمْ تَكُنْ مَمْلُوكَةً لَهُ لِيَخْلُفَهُ الْوَارِثُ فِيهَا فَالْمِلْكُ لَا يَسْبِقُ الْوُجُودَ ، وَإِذَا ثَبَتَ انْتِفَاءُ الْإِرْثِ تَعَيَّنَ بُطْلَانُ الْعَقْدِ فِيهِ كَعَقْدِ النِّكَاحِ يَرْتَفِعُ بِمَوْتِ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ وَارِثَهُ لَا يَخْلُفُهُ فِيهِ وَفَصَّلَ الْأَرْضَ الْمَزْرُوعَةَ ، وَالسَّفِينَةُ إذَا كَانَتْ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ فَمَاتَ صَاحِبُ السَّفِينَةِ فِي الْقِيَاسِ تَبْطُلُ الْإِجَارَةُ فِيهِمَا وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ لَا تَبْطُلُ لِلْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ فَإِنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْحَاجَةِ لَا تُعْتَبَرُ لِإِثْبَاتِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ ابْتِدَاءً حَتَّى لَوْ مَضَتْ وَالزَّرْعُ بَقْلٌ بِعَقْدٍ بَيْنَهُمَا عُقِدَتْ الْإِجَارَةُ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ فَلَأَنْ يَجُوزَ إبْقَاءُ الْعَقْدِ لِدَفْعِ هَذَا الضَّرَرِ أَوْلَى وَالْمُسْتَحْسَنُ مِنْ الْقِيَاسِ لَا يُورِدُ نَقْضًا عَلَى الْقِيَاسِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ رَجُلَانِ أَجَّرَا دَارًا ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا فَالْعَقْدُ يُنْتَقَضُ فِي حِصَّتِهِ فَإِنْ رَضِيَ الْوَارِثُ وَهُوَ كَبِيرٌ أَنْ تَكُونَ حِصَّتُهُ عَلَى الْإِجَارَةِ وَرَضِيَ بِهِ

الْمُسْتَأْجِرُ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ بَيْنَهُمَا فِي حِصَّتِهِ بِالتَّرَاضِي ، وَذَلِكَ جَائِزٌ ، وَإِنْ كَانَ مُشَاعًا ؛ لِأَنَّهُ يُؤَاجِرُ مِنْ شَرِيكِهِ فَفِي نَصِيبِ الْحَيِّ مِنْهُمَا الْعَقْدُ بَاقٍ ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الشُّيُوعَ الطَّارِئَ لَا يَرْفَعُ الْإِجَارَةَ إلَّا زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ فَإِنَّهُ سَوَّى بَيْنَ الشُّيُوعِ الطَّارِئِ وَالْمُقَارِنِ فَقَالَ بِمَوْتِ : أَحَدِهِمَا تَبْطُلُ الْإِجَارَةُ فِيهِمَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ أَحَدُ الْمُسْتَأْجَرِينَ فَبُطْلَانُ الْعَقْدِ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى الْخِلَافِ وَقَدْ بَيَّنَّا رِوَايَةً فِيهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَقَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ .

فَإِنْ تَكَارَى دَارًا سَنَةً عَلَى أَنْ يَجْعَلَ لَهُ الْأَجْرَ فَسَكَنَ الدَّارَ شَهْرًا فَقَالَ رَبُّ الْمَنْزِلِ عَجِّلْ لِي الْأَجْرَ كَمَا شَرَطْت عَلَيْكَ فَأَبَى أَنْ يُعْطِيَهُ فَأَرَادَ أَنْ يُخْرِجَهُ قَبْلَ السَّنَةِ .
( قَالَ : ) يَأْخُذُهُ بِالْأَجْرِ حَتَّى يُعَجِّلَهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ حَتَّى تَمْضِيَ السَّنَةُ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَازِمٌ كَالْبَيْعِ وَالْمُشْتَرِي إذَا امْتَنَعَ مِنْ إيفَاءِ الثَّمَنِ فَالْبَائِعُ يُطَالِبُهُ بِهِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ فَسْخِ الْبَيْعِ لِأَجْلِهِ ، فَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ بَعْدَ شَرْطِ التَّعْجِيلِ يُطَالِبُهُ بِالْأُجْرَةِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ فَسْخِ الْإِجَارَةِ لِأَجْلِهِ ، وَإِذَا بَنَى الْمُسْتَأْجِرُ فِي الدَّارِ تَنُّورًا يَخْبِزُ فِيهِ بِإِذْنِ رَبِّ الدَّارِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَاحْتَرَقَ بَيْتُ بَعْضِ الْجِيرَانِ مِنْ تَنُّورِهِ أَوْ بَعْضُ بُيُوتِ الدَّارِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا التَّسَبُّبِ فَإِنْ اتِّخَاذَ التَّنُّورِ مِنْ تَوَابِعِ السُّكْنَى وَلِلسَّاكِنِ أَنْ يَضَعَهُ فِي مَوْضِعِهِ بِغَيْرِ إذْنِ رَبِّ الدَّارِ فَفِعْلُهُ فِي ذَلِكَ كَفِعْلِ رَبِّ الدَّارِ .

فَإِنْ تَكَارَى مَنْزِلًا شَهْرًا بِدِرْهَمٍ فَسَكَنَهُ أَيَّامًا ، ثُمَّ خَرَجَ وَتَرَكَهُ وَلَمْ يُخْبِرْ رَبَّ الْمَنْزِلِ حَتَّى مَضَى الشَّهْرُ فَإِنْ خَرَجَ بِعُذْرٍ فَعَلَيْهِ أَجْرٌ بِحِسَابِ مَا سَكَنَ ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَعَلَيْهِ أَجْرُ الشَّهْرِ كُلِّهِ ؛ لِأَنَّ بِخُرُوجِهِ بِغَيْرِ عُذْرٍ لَا تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ فَبَقِيَ تَمَكُّنُهُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ مَعَ قِيَامِ الْعَقْدِ ، وَإِنْ خَرَجَ بِعُذْرٍ فَقَدْ انْفَسَخَتْ الْإِجَارَةُ فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ إلَّا لِمَا مَضَى وَهَذَا عَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ عِنْدَ الْعُذْرِ يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالْفَسْخِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي الْمَعْنَى امْتِنَاعٌ مِنْ الْتِزَامٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ عَقْدَ الْإِجَارَةِ فِي حُكْمِ الْمُتَجَدِّدِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ ، فَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الزِّيَادَاتِ لَا يَنْفَسِخُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ فَعَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ عَلَيْهِ الْأَجْرُ إذَا خَرَجَ مَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِالْفَسْخِ إلَّا أَنْ يُسَاعِدَهُ رَبُّ الدَّارِ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ يَسْكُنَ الدَّارَ بِنَفْسِهِ .

رَجُلٌ وَكَّلَ رَجُلًا أَنْ يُؤَاجِرَ مَنْزِلَهُ فَأَجَّرَهُ مِنْ ابْنِ الْمُوَكِّلِ ، أَوْ أَبِيهِ ، أَوْ عَبْدِهِ ، أَوْ مُكَاتَبِهِ فَلَمَّا مَضَتْ الْإِجَارَةُ وَطَالَبَهُمْ الْوَكِيلُ بِالْأَجْرِ أَبَوْا أَنْ يُعْطُوهُ فَالْأَجْرُ وَاجِبٌ عَلَيْهِمْ إلَّا عِنْدَ الْمُوَكِّلِ ؛ فَإِنَّهُ لَا أَجْرَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْوَكِيلِ مَعَ هَؤُلَاءِ كَعَقْدِ الْمُوَكِّلِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ لَوْ عَقَدَ مَعَهُمْ بِنَفْسِهِ إلَّا فِي عَبْدِهِ خَاصَّةً فَإِنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا ، فَكَذَلِكَ إذَا عَقَدَ وَكِيلُهُ ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الْمُسْتَأْجِرُ وَرَبُّ الدَّارِ عَبْدَهُ فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ أَيْضًا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ لِأَنَّ كَسْبَهُ لِمَوْلَاهُ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَعَلَى الْمَوْلَى الْأَجْرُ ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ الْآنَ لِغُرَمَائِهِ ، وَحَقُّهُمْ فِيهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى فَالْمَوْلَى فِيهِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ مَا لَمْ يَسْقُطُ الدَّيْنُ ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ ابْنَ الْوَكِيلِ أَوْ أَبَاهُ فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِجَارَةُ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ وَالْوَكِيلُ يُطَالَبُ بِالْأَجْرِ وَهَذَا نَظِيرُ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ يَبِيعُ مِمَّنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ ، وَإِنْ أَجَّرَهُ الْوَكِيلُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ إجَارَةً فَاسِدَةً فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْوَكِيلَ يَضْمَنُ بِالْخِلَافِ لَا بِفَسَادِ الْعَقْدِ فَلَيْسَ كُلُّ وَاحِدٍ كَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَعْرِفُ الْأَسْبَابَ الْمُفْسِدَةَ لِلْعَقْدِ وَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَجْرُ مِثْلِ الدَّارِ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِيمَا بَاشَرَهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فَكَأَنَّ الْمُوَكِّلَ بَاشَرَ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ بِنَفْسِهِ وَالْوَكِيلُ هُوَ الَّذِي يَسْتَوْفِي ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِعَقْدِهِ .
.

رَجُلٌ دَفَعَ دَارِهِ إلَى رَجُلٍ يَسْكُنُهَا وَيَرُمُّهَا وَلَا أَجْرَ لَهَا فَأَجَّرَهَا مِنْ رَجُلٍ فَانْهَدَمَتْ الدَّارُ مِنْ سُكْنَى الْآجِرِ ( قَالَ : ) يُضَمِّنُ رَبُّ الدَّارِ الْمُسْتَأْجِرَ وَيَرْجِعُ الْمُسْتَأْجِرُ بِذَلِكَ عَلَى الَّذِي آجَرَهُ ؛ لِأَنَّ رَبَّ الدَّارِ أَعَارَهَا مِنْ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ وَلَيْسَ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُؤَاجِرَ فَكَانَ الْمُسْتَأْجِرُ غَاصِبًا لَهَا ضَامِنًا ؛ لِمَا انْهَدَمَتْ مِنْ سُكْنَاهُ وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الَّذِي آجَرَهُ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ بِمُبَاشَرَةِ عَقْدِ الضَّمَانِ وَلَا يَكُونُ لِرَبِّ الدَّارِ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُؤَاجِرَ إلَّا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بِنَاءً عَلَى غَصْبِ الْعَقَارِ .

رَجُلٌ وَكَّلَ رَجُلًا بِأَنْ يُؤَاجِرَ مَنْزِلًا لَهُ فَوَهَبَهُ الْوَكِيلُ لِرَجُلٍ أَوْ أَعَارَهُ إيَّاهُ فَسَكَنَهُ سِنِينَ ، ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهُ فَلَا أَجْرَ لَهُ عَلَى الْوَكِيلِ وَلَا عَلَى السَّاكِنِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَاصِبٌ فَالْوَكِيلُ فِي الْهِبَةِ وَالْإِعَارَةِ مُخَالِفٌ وَلَكِنَّ الْمَنْفَعَةَ لَا تَتَقَوَّمُ عَلَى الْغَاصِبِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ .

رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ مَنْزِلًا وَالْمَنْزِلُ مُقْفَلٌ فَقَالَ لَهُ رَبُّ الْمَنْزِلِ خُذْ الْمِفْتَاحَ وَافْتَحْهُ وَاسْكُنْهُ فَفَتَحَ الرَّجُلُ الْمَنْزِلَ وَأَعْطَى أَجْرَ الْحَدَّادِ لِفَتْحِ الْقُفْلِ نِصْفَ دِرْهَمٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا أَعْطَى الْحَدَّادَ عَلَى رَبِّ الْمَنْزِلِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي الْتَزَمَهُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ مَأْمُورًا مِنْ جِهَةِ رَبِّ الْمَنْزِلِ ، وَإِنْ انْكَسَرَ الْقُفْلُ مِنْ مُعَالَجَةِ الْحَدَّادِ فَالْحَدَّادُ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ فَيَكُونُ ضَامِنًا ؛ لِمَا جَنَتْ يَدُهُ وَلَا يَضْمَنُ الْمُسْتَأْجِرُ الْقُفْلَ إذَا عَالَجَهُ بِمَا يُعَالَجُ مِثْلُهُ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْقُفْلِ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي فَتْحِهِ وَلَيْسَ لَهُ عِوَضٌ بِمُقَابَلَةِ عَمَلِهِ فِي فَتْحٍ الْقُفْلِ ، وَكَذَلِكَ إنْ عَالَجَهُ الْحَدَّادُ عِلَاجًا خَفِيفًا فَانْكَسَرَ يُرِيدُ بِهِ إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الِانْكِسَارَ لَمْ يَكُنْ بِفِعْلِهِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ لَا يُضَمَّنُ بِمَا يُتْلَفُ لَا بِعَمَلِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ إجَارَةِ الْحَمَّامَاتِ .
( قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ ذُكِرَ عَنْ عُمَارَةَ بْنِ عُقْبَةَ قَالَ : قَدِمَتْ إلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَسَأَلَنِي عَنْ مَالِي فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّ لِي غِلْمَانًا حَجَّامِينَ لَهُمْ غَلَّةٌ وَحَمَّامًا لَهُ غَلَّةٌ فَكَرِهَ لِي غَلَّةَ الْحَجَّامِينَ وَغَلَّةَ الْحَمَّامِ وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي كَسْبِ الْحَجَّامِ ، فَأَمَّا غَلَّةُ الْحَمَّامِ فَقَدْ كَرِهَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَخْذًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ ) قَالُوا الْحَمَّامُ بَيْتُ الشَّيْطَانِ فَسَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { شَرَّ بَيْتٍ ، تُكْشَفُ فِيهِ الْعَوْرَاتُ ، وَتُصَبُّ فِيهِ الْغُسَالَاتُ وَالنَّجَاسَاتُ } ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَصَلَ بَيْنَ حَمَّامِ الرِّجَالِ وَحَمَّامَ النِّسَاءِ فَقَالُوا : يُكْرَهُ اتِّخَاذُ حَمَّامِ النِّسَاءَ لِأَنَّهُنَّ مُنِعْنَ مِنْ الْخُرُوجِ وَأُمِرْنَ بِالْقَرَارِ فِي الْبُيُوتِ ، وَاجْتِمَاعُهُنَّ قَلَّمَا يَخْلُو عَنْ فِتْنَةٍ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ نِسَاءً دَخَلْنَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ : أَنَتُنَّ مِنْ اللَّاتِي يَدْخُلْنَ الْحَمَّامَ وَأَمَرَتْ بِإِخْرَاجِهِنَّ ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِاِتِّخَاذِ الْحَمَّامِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا لِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ خُصُوصًا فِي دِيَارِنَا وَالْحَاجَةُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ أَظْهَرُ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَحْتَاجُ إلَى الِاغْتِسَالِ مِنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالْجَنَابَةِ وَلَا تَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا فِي الْأَنْهَارِ وَالْحِيَاضِ كَمَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ الرَّجُلُ وَلِأَنَّ الْمَطْلُوبَ بِهِ مَعْنَى الزِّينَةِ بِإِزَالَةِ الدَّرَنِ وَحَاجَةُ النِّسَاءِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الزِّينَةِ أَكْثَرُ وَقَدْ صَحَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { دَخَلَ حَمَّامَ الْجُحْفَةِ } وَتَأْوِيلُ مَا رُوِيَ مِنْ كَرَاهَةِ الدُّخُولِ إذَا كَانَ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ ، فَأَمَّا بَعْدَ السَّتْرِ فَلَا بَأْسَ بِدُخُولِ الْحَمَّامِ وَلَا كَرَاهَةَ فِي غَلَّةِ الْحَمَّامِ كَمَا لَا كَرَاهَةَ فِي غَلَّةِ الدُّورِ وَالْحَوَانِيتِ .

وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ حَمَّامًا مُدَّةً مَعْلُومَةً بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ عَيْنٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ عَلَى وَجْهٍ مُبَاحٍ شَرْعًا فَإِنْ كَانَ حَمَّامًا لِلرِّجَالِ وَحَمَّامًا لِلنِّسَاءِ وَقَدْ جَدَّدَهُمَا جَمِيعًا فَسُمِّيَ فِي كِتَابِ الْإِجَارَةِ حَمَّامًا فَهُوَ فَاسِدٌ فِي الْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا اسْتَأْجَرَ حَمَّامًا وَاحِدًا فَإِنَّ النَّكِرَةَ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ تَخُصُّ وَلَا يَدْرِي أَيَّهُمَا اسْتَأْجَرَ وَهُمَا يَتَفَاوَتَانِ فِي الْمَقْصُودِ فَتَتَمَكَّنُ الْمُنَازَعَةُ بِسَبَبِ هَذِهِ الْجَهَالَةِ ، وَلَكِنِّي أَدَّعِي الْقِيَاسَ وَأُجِيزُ لَهُ الْحَمَّامَيْنِ جَمِيعًا لَعُرْفِ اللِّسَانِ ؛ فَإِنَّهُ يُقَالُ : حَمَّامُ فُلَانٍ وَهُمَا حَمَّامَانِ وَالْمَعْرُوفُ بِالْعُرْفِ كَالْمَشْرُوطِ بِالنَّصِّ وَعِمَارَةُ الْحَمَّامِ فِي صَارُوجِهِ وَحَوْضِهِ وَمَسِيلِ مَائِهِ وَإِصْلَاحِ قِدْرِهِ عَلَى رَبِّ الْحَمَّامِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَقْصُودَةَ بِالْحَمَّامِ لَا تَتِمُّ إلَّا بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَعَلَى الْمُؤَاجِرِ أَنْ يُمَكِّنَ الْمُسْتَأْجِرَ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِمَا أَجَّرَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ مَقْصُودُهُ وَلِأَنَّ الْمَرْجِعَ فِي هَذَا إلَى الْعُرْفِ وَفِي الْعُرْفِ صَاحِبُ الْحَمَّامِ هُوَ الَّذِي يُحَصِّلُ هَذِهِ الْأَعْمَالَ فَإِنْ اشْتَرَطَ الْمَرَمَّةَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَسَدَتْ الْإِجَارَةُ ؛ لِأَنَّ الْمَرَمَّةَ عَلَى الْآخَر فَهَذَا شَرْطٌ مُخَالِفٌ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ ، ثُمَّ الْمَشْرُوطُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ مِنْ ذَلِكَ أَجْرُهُ وَهُوَ مَجْهُولُ الْمِقْدَارِ وَالْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَجَهَالَةُ الْأُجْرَةِ تُفْسِدُ الْإِجَارَةَ وَلَوْ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ رَبُّ الْحَمَّامِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي كُلِّ شَهْرٍ لِمَرَمَّتِهِ مَعَ الْأُجْرَةِ وَأَذِنَ لَهُ أَنْ يُنْفِقَهَا عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومُ الْمِقْدَارِ ، وَقَدْ جَعَلَهُ نَائِبًا عَنْ نَفْسِهِ فِي إنْفَاقِهِ عَلَى مِلْكِهِ فَبِهَذَا يَسْتَدِلُّ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَسْأَلَةِ كِتَابِ الْبُيُوعِ إذَا قَالَ لِمَدِينِهِ أُسَلِّمُ

مَالِي عَلَيْكَ فَإِنَّ هُنَاكَ لَمْ يُبَيِّنْ لَهُ مَنْ يَشْتَرِي مِنْهُ مَا يَرُمُّ بِهِ الْحَمَّامَ وَمَنْ يَسْتَأْجِرُهُ لِذَلِكَ وَمَعَ هَذَا جَوَّزَ التَّوْكِيلَ ، وَكَذَلِكَ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا فِي إجَارَةِ الدَّوَابِّ لَوْ أَمَرَهُ بِإِنْفَاقِ بَعْضِ الْأُجْرَةِ عَلَى الدَّابَّةِ عَلَى عَلَفِهَا جَازَ ذَلِكَ وَهُمَا سَوَاءٌ حَتَّى زَعَمَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ الْجَوَابَ قَوْلُهُمَا وَفِي الْقِيَاسِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ قَوْلُ الْكُلِّ .
وَإِنَّمَا اسْتَحْسَنَ هُنَا أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِلتَّيْسِيرِ فَالْمُسْتَأْجِرُ لِلْحَمَّامِ يَلْحَقُهُ الْحَرَجُ بِاسْتِطْلَاعِ رَأْيِ صَاحِبِ الْحَمَّامِ عِنْدَ كُلِّ مَرَّةٍ وَالْمُسْتَأْجِرُ لِلدَّابَّةِ كَذَلِكَ ، ثُمَّ قَدْ عَيَّنَ لَهُ الْمَحِلَّ الَّذِي أَمَرَهُ بِصَرْفِ الدَّيْنِ إلَيْهِ فَنَزَلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ تَعْيِينِ مَنْ يُعَامِلُهُ كَمَا لَوْ أَمَرَ الْمَدِينَ بِأَنْ يُنْفِقَ عَلَى عِيَالِهِ مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ السَّلَمِ فَإِنْ قَالَ الْمُسْتَأْجِرُ قَدْ أَنْفَقْتهَا عَلَيْهِ لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا بِبَيِّنَتِهِ لِأَنَّ الْأَجْرَ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ ، وَالْمَدِينُ إذَا ادَّعَى قَضَاءَ الدَّيْنِ لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ إلَّا بِحُجَّةٍ وَيُسْتَحْلَفُ رَبُّ الْحَمَّامِ عَلَى عَمَلِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ فَإِذَا أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ لِرَجَاءِ نُكُولِهِ ، وَلَكِنَّ الِاسْتِحْلَافَ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ يَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَمِينٌ فِي هَذِهِ النَّفَقَةِ وَأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ فِيهَا لَمْ يَكُنْ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَدِينَ ضَامِنٌ مَا فِي ذِمَّتِهِ وَاشْتِرَاطُ كَوْنِ الضَّامِنِ أَمِينًا مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ فَكَانَ بَاطِلًا ، وَلَوْ جَعَلَا بَيْنَهُمَا رَجُلًا يَقْبِضُهَا وَنَفَقَتُهَا عَلَى الْحَمَّامِ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ : دَفَعْتهَا إلَيْهِ وَكَذَّبَهُ رَبُّ الْحَمَّامِ فَإِنْ أَقَرَّ الْعَدْلُ بِقَبْضِهَا بَرِئَ الْمُسْتَأْجِرُ ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلُ رَبِّ الْحَمَّامِ فِي الْقَبْضِ

فَيَصِحُّ مِنْهُ الْإِقْرَارُ بِالْقَبْضِ وَيُجْعَلُ كَإِقْرَارِ الْمُوَكِّلِ بِذَلِكَ فَإِنَّ رَبَّ الْحَمَّامِ حِينَ سَلَّطَهُ عَلَى الْقَبْضِ فَقَدْ سَلَّطَهُ عَلَى الْإِخْبَارِ بِهِ ، ثُمَّ الْعَدْلُ أَمِينٌ فِيمَا يَصِلُ إلَيْهِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ ضَيَاعٍ أَوْ نَفَقَةٍ مَعَ يَمِينِهِ كَالْمُودِعِ ، وَإِنْ كَانَ الْعَدْلُ كَفِيلًا بِالْأَجْرِ كَانَ مِثْلَ الْمُسْتَأْجِرِ غَيْرَ مُؤْتَمَنٍ وَلَا يُصَدَّقُ ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ ضَامِنٌ ؛ لِمَا الْتَزَمَهُ فِي ذِمَّتِهِ كَالْأَصِيلِ وَلَيْسَ لِرَبِّ الْحَمَّامِ أَنْ يَمْنَعَهُ بِئْرَ الْمَاءِ وَمَسِيلَ مَاءِ الْحَمَّامِ أَوْ مَوْضِعَ سِرْقِينِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ مَرَافِقِهِ وَمَجَامِعِهِ ، وَلَا يَتِمُّ الِانْتِفَاعُ إلَّا بِهِ فَكَانَ بَيْعًا وَالْبَيْعُ يَصِيرُ مَذْكُورًا بِذِكْرِ الْأَصْلِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَدْخَلِ الْحَمَّامِ وَفِنَائِهِ يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي قِدْرِ الْحَمَّامِ فَهِيَ لِرَبِّ الْحَمَّامِ ؛ لِأَنَّهَا مُرَكَّبَةٌ فِي بِنَائِهِ ؛ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ فِيهَا يَشْهَدُ لِرَبِّ الْحَمَّامِ فَإِنَّ اتِّخَاذَ الْقِدْرِ وَإِصْلَاحَهُ عَلَيْهِ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96