كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي

مَالِيَّةِ الْعَبْدِ بِدَفْعِ جَمِيعِهِ بِالْجِنَايَةِ فَكَذَلِكَ بِدَفْعِ نِصْفِهِ .

وَلَوْ أَقَرَّ الْعَبْدُ أَنَّهُ قَتَلَ رَجُلًا عَمْدًا ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ كَانَ مُصَدَّقًا فِي ذَلِكَ صَدَّقَهُ الْمَوْلَى أَوْ كَذَّبَهُ ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ إقْرَارِهِ اسْتِحْقَاقُهُ دَمَهُ ، وَدَمُهُ خَالِصٌ حَقَّهُ فَإِنَّ الْعَبْدَ يَبْقَى فِيهِ عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ ، ثُمَّ حَقُّ الْغَرِيمِ فِي مَالِيَّتِهِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ مِلْكِ مَوْلَاهُ ، وَمِلْكُ الْمَوْلَى لَا يَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَ دَمِهِ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقَوَدِ ، فَكَذَلِكَ حَقُّ الْغَرِيمِ ، وَإِنْ عَفَا أَحَدُ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ بَطَلَتْ الْجِنَايَةُ كُلُّهَا ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْعَافِي قَدْ سَقَطَ بِالْعُقْرِ ، وَلَوْ بَقِيَ نَصِيبُ الَّذِي لَمْ يَعْفُ لَكَانَ مُوجِبَهُ الدَّفْعَ بِمَنْزِلَةِ جِنَايَةِ الْخَطَأِ ، وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ بِالْجِنَايَةِ خَطَأً بَاطِلٌ إذَا كَذَّبَهُ الْمَوْلَى فِيهِ ، فَيُبَاعُ فِي الدَّيْنِ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى بِجَمِيعِ الدَّيْنِ فَإِنْ فَدَاهُ ، وَقَدْ صَدَّقَ الْعَبْدَ بِالْجِنَايَةِ قِيلَ لَهُ : ادْفَعْ النِّصْفَ إلَى الَّذِي لَمْ يَعْفُ ، وَإِنْ كَانَ كَذَّبَهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ، فَالْعَبْدُ كُلُّهُ لِلْمَوْلَى إذَا فَدَاهُ بِالدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الَّذِي لَمْ يَعْفُ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي حَقِّ الْمَوْلَى إذَا كَذَّبَ الْعَبْدَ فِيهِ .

وَإِذَا وَجَدَ الْمَأْذُونُ فِي دَارِ مَوْلَاهُ قَتِيلًا ، وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَدَمُهُ هَدَرٌ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى فِي مَالِهِ حَالًّا الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ دَيْنِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَتَلَ الْمَوْلَى الْقَتِيلَ بِيَدِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ وَجَدَ عِنْدَ الْغَيْرِ قَتِيلًا فِي دَارِهِ جُعِلَ كَأَنَّهُ قَتَلَهُ بِيَدِهِ فَكَذَلِكَ إذَا وَجَدَ عِنْدَهُ قَتِيلًا فِيهِ وَلَوْ قَتَلَهُ بِيَدِهِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً كَانَ عَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ ، وَمِنْ الدَّيْنِ فِي مَالِهِ حَالًّا ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ حَقِّ الْغَرِيمِ فِي الْمَالِيَّةِ ، وَلَوْ وَجَدَ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِ الْمَأْذُونِ قَتِيلًا فِي دَارِ الْمَوْلَى ، وَلَا دَيْنَ عَلَى الْمَأْذُونِ فَدَمُهُ هَدَرٌ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ رَقَبَةِ الْمَأْذُونِ وَلِأَنَّهُ كَالْقَاتِلِ لَهُ بِيَدِهِ وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَأْذُونِ دَيْنٌ مُحِيطٌ بِقِيمَتِهِ وَكَسْبِهِ فَعَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ فِي مَالِهِ ثَلَاثَ سِنِينَ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَفِي قَوْلِهِمَا عَلَيْهِ قِيمَتُهُ حَالًّا ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ لَا يُحِيطُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ كَانَتْ الْقِيمَةُ حَالَّةً فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَتَلَهُ الْمَوْلَى بِيَدِهِ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّ الدَّيْنَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُحِيطًا فَالْمَوْلَى مَالِكٌ لِكَسْبِهِ كَمَا هُوَ مَالِكٌ ؛ لِرَقَبَتِهِ فَيَكُونُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ لِحَقِّ الْغَرِيمِ فِي مَالِيَّتِهِ ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مُحِيطًا فَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ لَا يَمْلِكُ كَسْبَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَقَتْلُهُ إيَّاهُ بِمَنْزِلَةِ قَتْلِهِ عِنْدَ الْأَجْنَبِيِّ ، فَتَكُونُ الْقِيمَةُ مُؤَجَّلَةً فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا بِاعْتِبَارِ الْقَتْلِ ، وَلَكِنَّهَا عَلَيْهِ فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ وَجْهٍ كَالْمَالِكِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِخْلَاصِهِ لِنَفْسِهِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ فَلَا تَعْقِلُهُ الْعَاقِلَةُ ؛ لِذَلِكَ .

وَإِنْ قَتَلَ الْمَوْلَى مُكَاتَبَهُ أَوْ عَبْدَ مُكَاتَبِهِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً أَوْ وُجِدَ الْمُكَاتَبُ قَتِيلًا فِي دَارِ مَوْلَاهُ يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى قِيمَةُ الْقَتِيلِ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِيمَةِ هَاهُنَا بِاعْتِبَارِ الْقَتْلِ ، فَإِنَّ كَسْبَ الْمُكَاتَبِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ ، لِلْمَوْلَى رَقَبَتُهُ مِنْ وَجْهٍ كَالزَّائِلَةِ عَنْ مِلْكِ الْمَوْلَى عَلَى مَا عُرِفَ أَنَّ الْمُكَاتَبَ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ يَدًا فَتَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى الْقِيمَةُ بِنَفْسِ الْقَتْلِ فَتَكُونُ مُؤَجَّلَةً ، وَلَكِنَّهَا تَجِبُ فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ مَمْلُوكَةٌ لَهُ مِنْ وَجْهِ أَنَّ لَهُ فِي كَسْبِهِ حَقَّ الْمِلْكِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَمْلِكُهُ حَقِيقَةً عِنْدَ عَجْزِ الْمُكَاتَبِ فَلَا تَعْقِلُهُ الْعَاقِلَةُ كَذَلِكَ .
وَهَذَا إذَا كَانَ فِي الْقِيمَةِ ، وَفِي تَرِكَتِهِ وَفَاءٌ لِمُكَاتَبِهِ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُبْقِي عَقْدَ الْكِتَابَةِ وَيُؤَدِّي الْبَدَلَ مِنْ كَسْبِهِ وَبَدَلَ نَفْسِهِ فَيُحْكَمُ بِحُرِّيَّتِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَفَاءً فِيهِمَا فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَوْلَى فِي قَتْلِ مُكَاتَبِهِ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ انْفَسَخَتْ بِمَوْتِهِ عَاجِزًا فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ قَتَلَ عَبْدَهُ ، وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ .

وَلَوْ وُجِدَ الْمَوْلَى قَتِيلًا فِي دَارِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ كَانَتْ دِيَةُ الْمَوْلَى عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ؛ لِوَرَثَتِهِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي قَوْلِهِمَا دَمُهُ هَدَرٌ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الدَّارَ فِي حُكْمِ الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ دَارٍ أُخْرَى لِلْمَوْلَى حَتَّى لَوْ وُجِدَ فِيهَا أَجْنَبِيٌّ قَتِيلًا كَانَتْ دِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةٍ الْمَوْلَى فَإِذَا وُجِدَ الْمَوْلَى قَتِيلًا فِيهَا فَهَذَا رَجُلٌ وُجِدَ قَتِيلًا فِي دَارِ نَفْسِهِ ، وَهَذَا الْخِلَافُ مَعْرُوفٌ فِيمَا إذَا وُجِدَ قَتِيلًا فِي دَارِ نَفْسِهِ وَسَنُبَيِّنُهُ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ .

وَلَوْ وُجِدَ الْعَبْدُ قَتِيلًا فِي دَارِ نَفْسِهِ ، وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَدَمُهُ هَدَرٌ ؛ لِأَنَّ دَارِهِ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى فَكَأَنَّهُ وُجِدَ قَتِيلًا فِي دَارِ الْمَوْلَى ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَعَلَى الْمَوْلَى الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ دِيَتِهِ حَالًّا فِي مَالِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَجَدَ قَتِيلًا فِي دَارٍ أُخْرَى لِلْمَوْلَى لِأَنَّ دَارَ الْعَبْدِ فِي حُكْمِ الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ دَارِ الْمَوْلَى فَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَ الْعَبْدُ فِيهَا قَتِيلًا ، وَذَكَرَ فِي الْمَأْذُونِ الصَّغِيرِ أَنَّ هَذَا اسْتِحْسَانٌ سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ .

وَلَوْ وُجِدَ الْغَرِيمُ الَّذِي لَهُ الدَّيْنُ قَتِيلًا فِي دَارِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ كَانَتْ دِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ مَوْلَاهُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ؛ لِأَنَّهُ فِي مِلْكِ دَارِهِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَجَانِبِ ، وَإِنَّمَا حَقُّهُ فِي دَيْنِ ذِمَّتِهِ مُتَعَلِّقٌ بِمَالِيَّةِ كَسْبِهِ .
وَبِذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ جِنَايَتِهِ عَلَيْهِ ثُمَّ لَا يَبْطُلُ دَيْنُهُ عَلَى الْعَبْدِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وُجِدَ قَتِيلًا فِي دَارٍ أُخْرَى لِلْمَوْلَى وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْقَتِيلُ عَبْدًا لِلْغَرِيمِ كَانَتْ قِيمَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَوْلَى فِي ثَلَاثِ سِنِينَ عَبْدُهُ فِي ذَلِكَ كَعَبْدِ غَيْرِهِ وَإِذَا أَذِنَ الْمُكَاتِبُ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ فَوُجِدَ فِي دَارِ الْمَأْذُونِ قَتِيلٌ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَعَلَى الْمُكَاتَبِ قِيمَةُ رَقَبَتِهِ لِأَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ فِي مَالِهِ حَالَّةً بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وُجِدَ قَتِيلًا فِي دَارٍ أُخْرَى مِنْ كَسْبِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ فِي كَسْبِهِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فِي مِلْكِهِ فَيَصِيرُ كَالْجَانِي بِيَدِهِ وَجِنَايَةُ الْمُكَاتَبِ تُوجِبُ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَلَوْ كَانَ الَّذِي وُجِدَ قَتِيلًا فِي دَارِ الْعَبْدِ هُوَ الْمُكَاتَبَ كَانَ دَمُهُ هَدَرًا كَمَا لَوْ وُجِدَ قَتِيلًا فِي دَارٍ أُخْرَى لَهُ وَهَذَا لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُكَاتَبِ وَالْحُرِّ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ مُوجَبَ جِنَايَةِ الْحُرِّ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَمُوجَبَ جِنَايَةِ الْمُكَاتَبِ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَجِبَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَسَنُقَرِّرُ هَذَا الْفَرْقَ فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَوْ كَانَ الْمَأْذُونُ هُوَ الَّذِي وُجِدَ قَتِيلًا فِي دَارِهِ كَانَ عَلَى الْمُكَاتَبِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ قِيمَةِ الْمَأْذُونِ فِي مَالِهِ حَالًّا لِغَيْرِ الْمَأْذُونِ لِأَنَّ هَذِهِ الدَّارَ فِي حُكْمِ الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِيهَا كَدَارٍ أُخْرَى لِلْمُكَاتَبِ وَلَوْ وُجِدَ الْعَبْدُ قَتِيلًا فِي دَارٍ أُخْرَى لِلْمُكَاتَبِ كَانَ

الْمُكَاتَبُ كَالْجَانِي عَلَيْهِ بِيَدِهِ فَيَلْزَمُهُ أَقَلُّ الْقِيمَتَيْنِ فِي مَالِهِ حَالًّا لِغُرَمَائِهِ فَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَ فِي هَذِهِ الدَّارِ قَتِيلًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : وَلَيْسَ لِلْمَأْذُونِ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي التِّجَارَةِ ، وَالْكِتَابَةُ لَيْسَتْ بِتِجَارَةٍ ، وَلَكِنَّهَا عَقْدُ إرْقَاقٍ يُقْصَدُ بِهَا الْإِعْتَاقُ ، وَالْمَأْذُونُ فِيمَا لَيْسَ بِتِجَارَةٍ كَالْمَحْجُورِ كَالتَّزْوِيجِ ثُمَّ الْفَكُّ بِالْكِتَابَةِ فَوْقَ الْفَكِّ الثَّابِتِ بِالْإِذْنِ ، وَلَا يُسْتَفَادُ بِالشَّيْءِ مَا هُوَ فَوْقَهُ فِي مَحَلٍّ فِيهِ حَقُّ الْغَيْرِ فَإِنَّهُ كَاتَبَهُ ، وَأَجَازَ مَوْلَاهُ الْكِتَابَةَ جَازَ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ لَهُ مُنَجَّزٌ حَالَ وُقُوعِهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِجَازَةِ ، فَتَكُونُ الْإِجَازَةُ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ .
وَبَيَانُهُ أَنَّ كَسْبَ الْمَأْذُونِ خَالِصُ مِلْكِ الْمَوْلَى يَمْلِكُ فِيهِ مُبَاشَرَةَ الْكِتَابَةِ فَيَمْلِكُ فِيهِ الْإِجَازَةَ ثُمَّ لَا سَبِيلَ لِلْعَبْدِ عَلَى قَبْضِ الْبَدَلِ بَلْ كُلُّ ذَلِكَ إلَى الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ نَائِبٌ عَنْهُ كَالْوَكِيلِ ، وَالْكِتَابَةُ مِنْ الْعُقُودِ الَّتِي يَكُونُ الْعَاقِدُ فِيهَا مُعْتَبَرًا ، فَيَكُونُ قَبْضُ الْبَدَلِ إلَى مَنْ نَفَّذَ الْعَقْدَ مِنْ جِهَتِهِ ، وَإِنْ دَفَعَهَا الْمُكَاتَبُ إلَى الْعَبْدِ لَمْ يَبْرَأْ إلَّا أَنْ يُوَكِّلَهُ الْمَوْلَى بِقَبْضِهَا ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي حُكْمِ قَبْضِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ ، وَكَذَلِكَ إنْ لَحِقَهُ دَيْنٌ بَعْدَ إجَازَةِ الْمَوْلَى الْكِتَابَةَ ؛ لِأَنَّ بِإِجَازَتِهِ صَارَ الْمَمْلُوكُ مُكَاتَبًا لَهُ ، وَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَسْبًا لِعَبْدِهِ فَالدَّيْنُ الَّذِي يَلْحَقُ الْعَبْدَ فِيهِ ذَلِكَ لَا يَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ وَلَا بِكَسْبِهِ كَمَا لَوْ أَخَذَهُ الْمَوْلَى مِنْ يَدِهِ ، وَكَاتَبَهُ أَوْ لَمْ يُكَاتِبْهُ ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ كَثِيرٌ أَوْ قَلِيلٌ فَمُكَاتَبَتُهُ بَاطِلَةٌ ، وَإِنْ أَجَازَهُ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى بِالْإِجَازَةِ يُخْرِجُ الْمُكَاتَبَ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَسْبًا لِلْعَبْدِ ، وَقِيَامُ الدَّيْنِ عَلَيْهِ يَمْنَعُ الْمَوْلَى مِنْ ذَلِكَ قَلَّ الدَّيْنُ أَوْ كَثُرَ كَمَا لَوْ أَخَذَهُ مِنْ يَدِهِ ،

وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنْ لَمْ يَرُدَّ الْكِتَابَةَ حَتَّى أَدَّاهَا فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى لَمْ يُجِزْهَا لَمْ يَعْتِقْ ، وَرُدَّ رَقِيقًا لِلْمَأْذُونِ فَبِيعَ فِي دَيْنِهِ ، وَصَرَفَ مَا أَخَذَهُ مِنْهُ مِنْ الْمُكَاتَبَةِ فِي دَيْنِهِ .
لِأَنَّ الْكِتَابَةَ بِدُونِ إجَازَةِ الْمَوْلَى لَغْوٌ ، وَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَتِهِ فَأَدَاءُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فِي حَالِ تَوَقُّفِ الْعِتْقِ لَا يُوجِبُ الْعِتْقَ لَهُ ، وَالْعَبْدُ حِينَ قَبَضَ الْبَدَلَ مِنْهُ يَصِيرُ كَالْمُعْتَقِ لَهُ ، وَإِعْتَاقُهُ لَغْوٌ ، وَالْمَقْبُوضُ مِنْ إكْسَابِهِ يُصْرَفُ إلَى دَيْنِ الْمَأْذُونِ مَعَ رَقَبَتِهِ بِطَرِيقِ الْبَيْعِ فِيهِ .
وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى أَجَازَ الْمُكَاتَبَةَ وَأَمَرَ الْعَبْدَ بِقَبْضِهَا ، وَعَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِرَقَبَتِهِ وَبِمَا فِي يَدِهِ فَأَدَّى الْمُكَاتَبُ الْمُكَاتَبَةَ فَهَذَا ، وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَهُ حَتَّى لَا يَنْفُذَ مِنْهُ مُبَاشَرَةُ الْكِتَابَةِ وَالْإِعْتَاقِ فِيهِ فَلَا يَعْمَلُ إجَازَتُهُ أَيْضًا ، وَلَا يَعْتِقُ بِقَبْضِ الْبَدَلِ مِنْهُ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ قَصْدًا ، وَفِي قَوْلِهِمَا هُوَ حُرُّ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ كَسْبَهُ ، وَإِنْ كَانَ دَيْنُهُ مُحِيطًا حَتَّى لَوْ أَعْتَقَهُ يَنْفُذُ عِتْقُهُ ، فَكَذَلِكَ إذَا أَجَازَ مُكَاتَبَتَهُ ، وَقَبَضَ الْبَدَلَ هُوَ أَوْ الْعَبْدُ بِأَمْرِهِ يُجْعَلُ كَالْمُعْتَقِ لَهُ ، فَيَكُونُ حُرًّا وَالْمَوْلَى ضَامِنٌ لَقِيمَتِهِ لِلْغُرَمَاءِ .
لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ كَانَتْ حَقًّا لَهُمْ وَقَدْ أَتْلَفَهَا الْمَوْلَى عَلَيْهِمْ ، وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبَةُ الَّتِي قَبَضَهَا الْمَوْلَى تُؤْخَذُ مِنْهُ فَتُصْرَفُ إلَى الْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الْمُكَاتَبَةَ مِنْ كَسْبِهِ ، وَالْغُرَمَاءُ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ مِنْ الْمَوْلَى فَلَا يُسَلِّمُ ذَلِكَ لِلْمَوْلَى مَا بَقِيَ مِنْ دَيْنِهِمْ ، وَلَوْ كَانَ دَيْنُ الْمَأْذُونِ لَا يُحِيطُ بِهِ ، وَبِمَا لَهُ عِتْقٌ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ إجَازَةَ الْمَوْلَى الْكِتَابَةَ كَمُبَاشَرَتِهِ ، وَلَوْ كَاتَبَهُ وَقَبَضَ الْبَدَلَ عَتَقَ فَإِنَّ

الدَّيْنَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُحِيطًا لَا يَمْنَعُ مِلْكَهُ ، وَلَا إعْتَاقَهُ ثُمَّ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِلْغُرَمَاءِ ، وَيَأْخُذُ الْغُرَمَاءُ الْمُكَاتَبَةَ الَّتِي قَبَضَهَا الْمَوْلَى أَوْ الْمَأْذُونَ مِنْ دَيْنِهِمْ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي كَسْبِهِ ، وَمَالِيَّةُ رَقَبَتِهِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى وَقَدْ أَتْلَفَ الْمَوْلَى مَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ بِالْإِعْتَاقِ

وَلَيْسَ لِلْمَأْذُونِ أَنْ يَكْفُلَ بِنَفْسٍ وَلَا مَالَ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ مِنْ عُقُودِ التَّبَرُّعَاتِ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْوَضْعِ ، وَالتَّبَرُّعُ ضِدُّ التِّجَارَةِ ، وَانْفِكَاكُ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي التِّجَارَةِ خَاصَّةً ، وَهَذَا بِخِلَافِ التَّوْكِيلِ فِي الْحَجْرِ بِالشِّرَاءِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَبَرُّعٍ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْوَضْعِ بَلْ هُوَ مِنْ عَمَلِ التِّجَارَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ التُّجَّارَ لَا يَتَحَرَّزُونَ عَنْ ذَلِكَ ، وَيَتَحَرَّزُونَ عَنْ الْكَفَالَةِ غَايَةَ التَّحَرُّزِ ، وَكَذَلِكَ لَا يَهَبُ ، وَلَا يَتَصَدَّقُ بِالدِّرْهَمِ وَالثَّوْبِ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَلَا يُعَوِّضُ مَا وُهِبَ لَهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ تَبَرُّعٌ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْوَضْعِ ، وَلَا يُقْرِضُ ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : قَرْضُ مَرَّتَيْنِ صَدَقَةُ مَرَّةٍ فَإِنْ أَجَازَ الْمَوْلَى هَذِهِ التَّبَرُّعَاتِ مِنْهُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَجُزْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَمَالِيَّةُ رَقَبَتِهِ ، وَمَنَافِعِهِ كُلِّهَا لِمَوْلَاهُ فَإِجَازَتُهُ كَمُبَاشَرَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَحَقُّ الْغُرَمَاءِ فِي ذَلِكَ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ .

وَإِذَا أَهْدَى الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ هَدِيَّةً أَوْ دَعَا رَجُلًا إلَى مَنْزِلِهِ فَغَذَّاهُ أَوْ أَعَارَهُ دَابَّةً يَرْكَبُهَا أَوْ ثَوْبًا يَلْبَسُهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ ، وَلَا ضَمَانَ فِيهِ عَلَى الرَّجُلِ إنْ هَلَكَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَهُ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ ، وَفِي الْقِيَاسِ هَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ : وَهَذَا مِمَّا يَصْنَعُهُ التُّجَّارُ ، وَلَا يَجِدُونَ مِنْهُ بُدًّا فِي التِّجَارَةِ فَإِنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى اسْتِجْلَابِ قُلُوبِ الْمُهَاجِرِينَ إلَى أَنْفُسِهِمْ ، وَإِعَارَةِ مَوْضِعِ الْجُلُوسِ وَالْوِسَادَةِ مِمَّنْ يَأْتِيهِمْ ؛ لِيُعَامِلَهُمْ فَلَوْ لَمْ نُجَوِّزْ ذَلِكَ مِنْ الْمَأْذُونِ لَأَدَّى إلَى الْحَرَجِ ، وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ وَأَيَّدَ هَذَا الِاسْتِحْسَانَ مَا رَوَيْنَا { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ وَأَنَّ سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَهْدَى إلَى النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ مَمْلُوكٌ فَقَبِلَهُ وَأَكَلَ أَصْحَابُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَتَاهُ بِصَدَقَةٍ فَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِأَكْلِهَا وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهَا } ، وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْعَبْدِ يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ فَقَالَ : بِالرَّغِيفِ وَنَحْوِهِ وَبِهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ : يَتَصَدَّقُ الْمَأْذُونُ بِالطَّعَامِ ، وَلَا يَتَصَدَّقُ بِالدَّرَاهِمِ وَالْكِسْوَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ أَمَرَ الطَّعَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّوَسُّعِ ، وَلِهَذَا جَازَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَصَدَّقَ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ بِدُونِ اسْتِطْلَاعِ رَأْيِ الزَّوْجِ فَإِنَّ النَّاسَ لَا يَمْتَنِعُونَ مِنْ ذَلِكَ عَادَةً ، وَالْمُكَاتَبُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ كَالْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ الْحَاجِزَ لَهُ عَنْ التَّبَرُّعَاتِ قَائِمٌ فِيهِ إلَّا أَنَّ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إلَّا بِإِذْنِ الْمَوْلَى بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْمَأْذُونِ خَالِصُ كَسْبِ الْمَوْلَى وَالْمَوْلَى مَمْنُوعٌ مِنْ كَسْبِ الْمَأْذُونِ سَوَاءٌ

كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ .

وَلَوْ أَعْتَقَ الْمَأْذُونُ أُمَّتَهُ عَلَى مَالٍ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ فَإِنْ أَجَازَهُ الْمَوْلَى جَازَ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ كَمَا لَوْ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ ، وَالْمَالُ دَيْنٌ لِلْمَوْلَى عَلَيْهَا ، وَلَا يَجُوزُ قَبْضُ الْمَأْذُونِ لَهُ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهُ فِي الْعَقْدِ كَانَ مُعَبِّرًا عَنْ الْمَوْلَى فَهُوَ فِي قَبْضِ الْبَدَلِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ ، وَإِنْ لَحِقَهُ دَيْنٌ بَعْدَ إجَازَةِ الْمَوْلَى لَمْ يَكُنْ لِلْغَرِيمِ فِي ذَلِكَ الْمَالِ حَقٌّ ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ حُرٍّ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ غُرَمَاءِ الْمَأْذُونِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَأْذُونِ دَيْنٌ لَا يُحِيطُ بِرَقَبَتِهِ ، وَبِمَا فِي يَدِهِ جَازَ الْعِتْقُ بِإِجَازَةِ الْمَوْلَى أَيْضًا ؛ لِكَوْنِهِ مَالِكًا فِيهَا ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا لِلْغُرَمَاءِ .
لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي مَالِيَّتِهَا ، وَقَدْ أَتْلَفَهَا الْمَوْلَى بِالْإِجَازَةِ ثُمَّ الْمَالِ عَلَيْهَا لِلْمَوْلَى لَا حَقَّ لِغُرَمَاءِ الْمَأْذُونِ فِي ذَلِكَ ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْكِتَابَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَمَةَ هَاهُنَا تَعْتِقُ بِنَفْسِ الْقَبُولِ ، وَمَا تَكْتَسِبُ بَعْدَ ذَلِكَ خَالِصَ مِلْكِهَا فَإِنَّمَا يُؤَدِّي بَدَلَ الْكِتَابَةِ مِنْ كَسْبٍ اكْتَسَبَهُ فِي حَالِ رِقِّهِ وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ فِيهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ يُحِيطُ بِالْمَأْذُونِ ، وَبِمَا فِي يَدِهِ فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِمَا وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَعْتِقُ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمَوْلَى فِي كَسْبِ الْمَأْذُونِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ .

وَلَوْ تَزَوَّجَ الْمَأْذُونُ امْرَأَةً حُرَّةً بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ وَدَخَلَ بِهَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ فَالْمَأْذُونُ فِيهِ كَالْمَحْجُورِ ، وَلَكِنْ يَلْزَمُهُ الْمَهْرُ بِالدُّخُولِ بِشُبْهَةِ الْعَقْدِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِالْمَهْرِ حَتَّى يَعْتِقَ ؛ لِأَنَّ هَذَا دَيْنٌ لَزِمَهُ بِسَبَبِ عَقْدٍ هُوَ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى ، فَيُؤَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ كَدَيْنِ الْكَفَالَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي النِّكَاحِ أَنَّ الْمَأْذُونَ لَا يُزَوِّجُ عَبْدَهُ ، وَإِنَّ فِي تَزْوِيجِهِ أَمَتَهُ خِلَافًا ، وَلِلْمَأْذُونِ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ أَجِيرًا يَعْمَلُ فِي مَالِهِ بِأَجْرٍ مَضْمُونٍ فِي ذِمَّتِهِ ، وَالِاسْتِئْجَارُ لِلْعَمَلِ بِبَعْضِ الرِّبْحِ يَكُونُ أَنْفَعُ لَهُ ، وَهُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ ، وَكَذَلِكَ يَأْخُذُ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ ؛ لِأَنَّهُ يَشْتَرِي بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ ، وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ لِيَسْتَفِيدَ الرِّبْحَ ، فَلَأَنْ يَمْلِكَ الشِّرَاءَ عَلَى وَجْهٍ يَرْجِعُ فِيهِ بِالْعُهْدَةِ عَلَى غَيْرِهِ ، وَيَحْصُلُ الرِّبْحُ لِنَفْسِهِ كَانَ أَوْلَى .

وَإِذَا اشْتَرَكَ الْعَبْدَانِ الْمَأْذُونُ لَهُمَا فِي التِّجَارَةِ شَرِكَةَ عِنَانٍ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَا بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ بَيْنَهُمَا لَمْ يَجُزْ مِنْ ذَلِكَ النَّسِيئَةُ وَجَازَ النَّقْدُ ؛ لِأَنَّ فِي النَّسِيئَةِ مَعْنَى الْكَفَالَةِ عَنْ صَاحِبِهِ ، وَالْمَأْذُونُ لَا يَمْلِكُ الْكَفَالَةَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَكَا شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ ، فَإِنَّ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا تَكُونُ عِنَانًا لَا مُفَاوَضَةً لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْكَفَالَةِ ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُمَا الْمَوْلَيَانِ فِي الشَّرِكَةِ عَلَى الشِّرَاءِ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ ، وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِمَا فَهُوَ جَائِزٌ كَمَا لَوْ أَذِنَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْلَاهُ بِالْكَفَالَةِ أَوْ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ بِالنَّسِيئَةِ .

وَإِذَا اشْتَرَى الْمَأْذُونُ ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ ، وَبَاعَهُ مِنْ مَوْلَاهُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ لَمْ يَبِعْهُ الْمَوْلَى مُرَابَحَةً إلَّا عَلَى عَشَرَةٍ ؛ لِتَمَكُّنِ تُهْمَةِ الْمُسَامَحَةِ فِي الْمُعَامَلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوْلَى ، وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةٍ ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ الْعَبْدِ بِخَمْسَةَ عَشَرَ أَوْ بَاعَهُ مِنْ أَمَةٍ لِعَبْدٍ مَأْذُونٍ لَهَا فِي التِّجَارَةِ فَتُهْمَةُ الْمُسَامَحَةِ بَيْنَهُمَا مُتَمَكِّنَةٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَأْذُونُ اشْتَرَاهُ ثُمَّ بَاعَهُ مِنْ مُكَاتَبٍ لِلْمَوْلَى أَوْ عَبْدٍ آخَرَ لَهُ أَوْ مِنْ عَبْدٍ لِمُكَاتَبِ الْمَوْلَى أَوْ مِنْ مُضَارِبٍ لِلْمَوْلَى أَوْ مِنْ مُضَارِبِ الْمُكَاتَبِ لَمْ يَبِعْهُ مُرَابَحَةً إلَّا عَلَى أَقَلِّ الثَّمَنَيْنِ ، وَلَوْ بَاعَهُ مِنْ ابْنِ الْمَوْلَى أَوْ أَبِيهِ أَوْ امْرَأَتِهِ فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِتَمَكُّنِ التُّهْمَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ ، وَفِي قَوْلِهِمَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَوْلَى فِي مَالِ هَؤُلَاءِ مِلْكٌ ، وَلَا حَقُّ مِلْكٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْبُيُوعِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : وَإِذَا جَاءَ الرَّجُلُ بِالْعَبْدِ إلَى السُّوقِ فَقَالَ : هَذَا عَبْدِي فَبَايِعُوهُ فَقَدْ أَذَنْتُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَبَايِعُوهُ ، وَبَايَعَهُ أَيْضًا مَنْ لَمْ يَحْضُرْ هَذَا الْقَوْلِ ، وَلَمْ يَعْلَمْ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ حُرًّا أَوْ اسْتَحَقَّهُ رَجُلٌ فَعَلَى الَّذِي أَمَرَهُمْ بِمُبَايَعَتِهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ ، وَمِنْ الدَّيْنِ لِلَّذِينَ أَمَرَهُمْ بِمُبَايَعَتِهِ وَلِسَائِرِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ بِمَا صَنَعَ صَارَ غَارًّا لَهُمْ فَإِنَّ أَمْرَهُ إيَّاهُمْ بِالْمُبَايَعَةِ مَعَهُ يَكُونُ تَنْصِيصًا عَلَى أَنَّهُ يَصْرِفُ مَالِيَّتَهُ إلَى دُيُونِهِمْ إذَا لَحِقَهُ دَيْنٌ ، وَيَصِيرُ الْآمِرُ بِمَنْزِلَةِ الْكَفِيلِ لَهُمْ بِذَلِكَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ كَمَا قَالَهُ كَانَ حَقُّهُمْ ثَابِتًا فِي مَالِيَّتِهِ ، وَكَانَ الْمَوْلَى كَالْكَفِيلِ لَهُمْ عَنْ عَبْدِهِ بِقَدْرِ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ فَإِذَا تَحَقَّقَ مَعْنَى الْغُرُورِ ثَبَتَ لَهُمْ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ بِمَا وُجِدَ فِيهِ الْغُرُورُ أَوْ الْكَفَالَةُ ، وَهُوَ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ ، وَمِنْ دُيُونِهِ ، وَمَنْ خَاطَبَهُ بِكَلَامِهِ وَلَمْ يَحْضُرْ مَقَالَتَهُ ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمٌ يَنْبَنِي عَلَى ثُبُوتِ الْإِذْنِ ، وَالْإِذْنُ إذَا كَانَ عَامًّا مُنْتَشِرًا يَكُونُ ثَابِتًا فِي حَقِّ مَنْ عَلِمَ بِهِ ، وَفِي حَقِّ مَنْ لَا يَعْلَمُ فَكَذَلِكَ الْإِذْنُ ، وَمَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ مِنْ الْغُرُورِ وَالْكَفَالَةِ ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ قَالَ فَقَدْ أَذَنْت لَهُ فِي التِّجَارَةِ أَوْ لَمْ يَقُلْ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ : هَذَا عَبْدِي فَبَايِعُوهُ فَالْغُرُورُ وَالْكَفَالَةُ تَثْبُتُ بِإِضَافَتِهِ إلَى نَفْسِهِ ، وَأَمْرُهُ إيَّاهُمْ بِمُبَايَعَتِهِ فَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ الْإِذْنُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ .
وَلَا يَضْمَنُ لَهُمْ شَيْئًا مِنْ مَكْسُوبِهِ ؛ لِأَنَّ الْكَسْبَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ مَقَالَةِ الْمَوْلَى ، وَلَا يَدْرِي أَيَحْصُلُ أَمْ لَا يَحْصُلُ فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الْكَفَالَةِ وَالْغُرُورِ ، وَإِنْ شَاءُوا رَجَعُوا

بِدَيْنِهِمْ عَلَى الَّذِي وَلِيَ مُبَايَعَتَهُمْ إنْ كَانَ حُرًّا ؛ لِأَنَّهُ بَاشَرَ سَبَبَ الْتِزَامِ الدَّيْنِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا لَمْ يَرْجِعُوا عَلَيْهِ بِشَيْءٍ حَتَّى يَعْتِقَ ؛ لِأَنَّ مَوْلَاهُ لَمْ يَرْضَ بِتَصَرُّفِهِ وَتَعَلَّقَ الدَّيْنُ بِمَالِيَّتِهِ ، وَإِنْ اخْتَارُوا ضَمَانَ الْمَوْلَى ثُمَّ تَوَى مَا عَلَيْهِ اتَّبَعُوا الْعَبْدَ بِجَمِيعِ دَيْنِهِمْ إذَا عَتَقَ ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَهُ فِي ذِمَّتِهِ صَحِيحٌ ، وَالْمَوْلَى كَانَ كَفِيلًا عَنْهُ بِقَدْرِ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ فَإِذَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِمْ مِنْ جِهَةِ الْكَفِيلِ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَلَى الْأَصِيلِ بِجَمِيعِ دَيْنِهِمْ إذَا عَتَقَ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا وَلَكِنَّ الْعَبْدَ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ مَوْلَاهُ الَّذِي أَذِنَ لَهُ كَانَ دَبَّرَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْذَنَ أَوْ كَاتَبَ أُمَّهُ فَإِنْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لَهُ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَحِقِّ ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ اسْتِيفَاءُ دُيُونِهِمْ مِنْ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ ؛ لِثُبُوتِ حَقِّ عِتْقِهِ لَهُمْ عِنْدَ مَقَالَةِ الْمَوْلَى فَنَزَلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ حَقِّ الْمُسْتَحِقِّ أَوْ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى حُرِّيَّتِهِمْ وَإِذَا اخْتَارُوا أَنْ يُضَمِّنُوا الْمَوْلَى قِيمَةَ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ فَلَا سَبِيلَ لَهُمْ عَلَيْهِمَا فِيمَا بَقِيَ مِنْ دَيْنِهِمْ حَتَّى يَعْتِقَا ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُمَا مِلْكُ الْمَوْلَى وَقَدْ غَرِمَ الْمَوْلَى لَهُمْ مَالِيَّةَ الرَّقَبَةِ فَلَا يَبْقَى لَهُمْ سَبِيلٌ عَلَى كَسْبٍ هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ ، وَلَوْ جَاءَ بِهِ إلَى السُّوقِ فَقَالَ : عَبْدِي هَذَا ، وَقَدْ أَذِنْت لَهُ فِي التِّجَارَةِ ، وَلَمْ يَقُلْ بَايِعُوهُ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا لَمْ يَكُنْ هَذَا غُرُورًا وَلَمْ يَلْزَمْ هَذَا الْآذِنَ ضَمَانُ شَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ بِخَبَرٍ ، وَمَا أَمَرَهُمْ بِمُبَاشَرَةِ عَقْدِ الضَّمَانِ مَعَهُ ، وَحُكْمُ الْغُرُورِ وَالْكَفَالَةِ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الْخَبَرِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَ إنْسَانًا بِحُرِّيَّةِ امْرَأَةٍ فَتَزَوَّجَهَا فَاسْتَوْلَدَهَا

ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ لَمْ يَرْجِعْ الْمَغْرُورُ عَلَى الْمُخْبِرِ بِشَيْءٍ ، وَلَوْ زَوْجَهَا مِنْهُ عَلَى أَنَّهَا حُرَّةً ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ رَجَعَ عَلَى الْمُزَوِّجِ بِمَا غَرِمَ مِنْ قِيمَةِ أَوْلَادِهَا فَالْأَمْرُ بِالْمُبَايَعَةِ هَهُنَا فِي حُكْمِ الْغُرُورِ نَظِيرُ التَّزْوِيجِ هُنَاكَ ، وَالْإِخْبَارُ بِالْمِلْكِ وَالْإِذْنِ هَاهُنَا نَظِيرُ الْإِخْبَارِ بِالْحُرِّيَّةِ هُنَاكَ ، وَإِنْ قَالَ : هَذَا عَبْدِي فَبَايِعُوهُ فِي الْبَزِّ فَإِنْ قَالَ : قَدْ أَذِنْت لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَبَايِعُوهُ فِي غَيْرِ الْبَزِّ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا كَانَ الْآمِرُ ضَامِنًا لِلْغُرَمَاءِ مِنْ دَيْنِهِمْ ، وَمِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْبَزِّ فِي الْأَمْرِ بِالْمُبَايَعَةِ لَغْوٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ فَكَّ الْحَجْرِ لَا يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ بِنَوْعٍ مِنْ التِّجَارَةِ فَكَانَ هَذَا ، وَالْأَمْرُ بِالْمُبَايَعَةِ مُطْلَقًا سَوَاءً بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِحُرٍّ : مَا بَايَعْت بِهِ مِنْ الْبَزِّ فُلَانًا فَهُوَ عَلَيَّ فَبَايَعَهُ غَيْرُهُ فِي الْبَزِّ لَا يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ مِنْهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تَقْبَلُ التَّخْصِيصَ ، وَفَكُّ الْحَجْرِ الثَّابِتِ بِالْأَمْرِ بِالْمُبَايَعَةِ مَعَ الْعَبْدِ لَا يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ فَلِهَذَا كَانَ ضَامِنًا .
( أَرَأَيْت ) لَوْ بَايَعُوهُ فِي الْبَزِّ فَاسْتَقْرَضَ ثَمَنَ الْبَزِّ مِنْ رَجُلٍ فَقَضَى بِهِ الَّذِينَ بَايَعُوهُ أَمَّا كَانَ لِلْمُقْرِضِ أَنْ يَرْجِعَ بِدَيْنِهِ عَلَى الَّذِي أَمَرَهُ بِالْمُبَايَعَةِ وَهُوَ مَغْرُورٌ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلِهِ الَّذِينَ بَايَعُوهُ فِي الْبَزِّ ( أَرَأَيْت ) لَوْ اشْتَرَى بَزًّا عَلَى أَنْ يَضْمَنَ الثَّمَنَ عَنْهُ رَجُلٌ فَأَدَّى الْكَفِيلُ الَّذِينَ بَايَعُوهُ فِي الْبَزِّ أَمَّا كَانَ لِلْكَفِيلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ .

وَإِذَا أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ ، وَلَمْ يَأْمُرْ بِمُبَايَعَتِهِ ثُمَّ إنَّ الْمَوْلَى أَمَرَ رَجُلًا بِعَيْنِهِ أَوْ قَوْمًا بِأَعْيَانِهِمْ بِمُبَايَعَتِهِ فَبَايَعُوهُ مَرَّةً أُخْرَى ، وَقَدْ عَلِمُوا بِأَمْرِ الْمَوْلَى فَلَحِقَهُ دَيْنٌ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ أَوْ وُجِدَ حُرًّا أَوْ مُدَبَّرًا فَلِلَّذِينَ أَمَرَهُمْ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِمُبَايَعَتِهِ الْأَقَلُّ مِنْ حِصَّتِهِمْ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ ، وَمِنْ دَيْنِهِمْ ، وَأَمَّا الْآخَرُونَ فَلَا شَيْءَ لَهُمْ عَلَى الْمَوْلَى مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْغُرُورَ ثَبَتَ بِاعْتِبَارِ الْأَمْرِ بِالْمُبَايَعَةِ دُونَ الْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ وَالْأَمْرُ بِالْمُبَايَعَةِ كَانَ لِخَاصِّ فَلَا يَتَعَدَّى حُكْمُهُ إلَى غَيْرِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ، فَالْأَمْرُ بِالْمُبَايَعَةِ هُنَاكَ عَامٌّ مُنْتَشِرٌ ، وَهَذَا نَظِيرُ الْحَجْرِ بَعْدَ الْإِذْنِ الْعَامِّ فَإِنَّهُ إذَا نَهَى وَاحِدًا أَوْ اثْنَيْنِ عَنْ مُبَايَعَتِهِ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ ذَلِكَ النَّهْيِ فِي حَقِّ سَائِرِ النَّاسِ ، وَإِذَا كَانَ النَّهْيُ عَامًّا مُنْتَشِرًا يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ عَلِمَ بِهِ ، وَفِي حَقِّ كُلِّ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ إنَّمَا يَغْرَمُ الَّذِينَ أَمَرَهُمْ بِمُبَايَعَتِهِ مِقْدَارَ مَا كَانَ يُسَلِّمُ لَهُمْ لَوْ كَانَ مَا أَخْبَرَ بِهِ حَقًّا ، وَذَلِكَ الْأَقَلُّ مِنْ حِصَّتِهِمْ مِنْ الْقِيمَةِ وَمِنْ دُيُونِهِمْ فَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْغُرُورُ فِي حَقِّهِمْ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ ، وَلَوْ كَانَ أَمَرَ قَوْمًا بِأَعْيَانِهِمْ بِمُبَايَعَتِهِ فِي الْبَزِّ فَبَايَعُوهُ فِي غَيْرِهِ وَفِيهِ فَهُوَ سَوَاءٌ وَالضَّمَانُ وَاجِبٌ لَهُمْ عَلَى الْغَارِّ ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ فِي حَقِّهِمْ فِي الْبَزِّ لَغْوٌ فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْمُبَايَعَةِ فِي حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْأَمْرِ الْعَامِّ فِي حَقِّ الْجَمَاعَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هُنَاكَ لَا يُعْتَبَرُ التَّقْيِيدُ فَهَذَا مِثْلُهُ .

وَإِنْ أَتَى بِهِ إلَى السُّوقِ فَقَالَ : بَايِعُوهُ ، وَلَمْ يَقُلْ هُوَ عَبْدِي فَلَحِقَهُ دَيْنٌ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ أَوْ وُجِدَ حُرًّا أَوْ مُدَبَّرًا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْآمِرِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ مَشُورَةٌ أَشَارَ بِهَا عَلَيْهِمْ فَلَا يَثْبُتُ بِهَا الْغُرُورُ ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمْ يُضِفْهُ إلَى نَفْسِهِ بِالْمِلْكِ ، وَالْغُرُورُ وَالْكَفَالَةُ تَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ بِالْأَمْرِ بِالْمُبَايَعَةِ إنَّمَا يَصِيرُ ضَامِنًا لَهُمْ مَالِيَّةَ مَمْلُوكِهِ لَهُمْ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مَطْمَعًا لَهُمْ فِي سَلَامَةِ مَالِيَّةِ مَمْلُوكِهِ لَهُ ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِإِضَافَتِهِ إلَى نَفْسِهِ بِالْمِلْكِيَّةِ .

وَلَوْ كَانَ أَتَى بِهِ إلَى السُّوقِ ، وَقَالَ : هَذَا عَبْدِي فَبَايِعُوهُ ثُمَّ دَبَّرَهُ ثُمَّ لَحِقَهُ دَيْنٌ لَمْ يَضْمَنْ الْمَوْلَى شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَغُرَّهُمْ فِي شَيْءٍ فَإِنَّهُ كَانَ عَبْدًا لَهُ قِنًّا كَمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ وَبِمُجَرَّدِ الْإِذْنِ لَا يَتَعَلَّقُ حَقُّ أَحَدٍ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ مَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، فَيَكُونُ هُوَ بِالتَّدْبِيرِ مُتَصَرِّفًا فِي خَالِصِ مِلْكِهِ لَا حَقَّ لِغَيْرِهِ فِيهِ فَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا ، وَلَكِنَّ الْغُلَامَ يَسْعَى فِي الدَّيْنِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَعْتَقَهُ بَعْدَ الْإِذْنِ ثُمَّ لَحِقَهُ الدَّيْنُ ؛ لِأَنَّ إعْتَاقَهُ لَاقَى خَالِصَ مِلْكِهِ ، وَلَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ ، وَلَوْ بَاعَهُ بَعْدَ الْإِذْنِ ثُمَّ بَايَعُوهُ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْآمِرِ مِنْهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَغُرَّهُمْ فِي شَيْءٍ ، وَلَكِنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ كَانَ حَقًّا فَلَا يَضْمَنُ ؛ لِأَجْلِ الْغُرُورِ ، وَلَا يَضْمَنُ لِلتَّصَرُّفِ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ تَصَرَّفَ لَمْ يَكُنْ حَقُّهُمْ مُتَعَلِّقًا بِمَالِيَّتِهِ .

وَلَوْ جَاءَ بِهِ إلَى السُّوقِ فَقَالَ : هَذَا عَبْدِي فَبَايِعُوهُ ، وَقَدْ أَذِنْتُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَبَايَعُوهُ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ أَوْ وُجِدَ حُرًّا ، وَاَلَّذِي أَمَرَهُمْ بِمُبَايَعَتِهِ عَبْدٌ مَأْذُونٌ أَوْ مُكَاتَبٌ أَوْ صَبِيٌّ مَأْذُونٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْآمِرِ فِي ذَلِكَ عَلِمَ الَّذِينَ بَايَعُوهُ بِحَالِ الْآمِرِ أَوْ لَمْ يَعْلَمُوا ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْغُرُورِ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الْكَفَالَةِ ، وَهُوَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَمِينٌ فَالْآمِرُ يَصِيرُ كَالْكَفِيلِ لِلْغُرَمَاءِ عَنْهُ بِقَدْرِ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ ، وَكَفَالَةُ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِحَالٍ عَلِمَ الْمَكْفُولُ لَهُ بِحَالِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ، وَكَفَالَةُ الْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ لَا تُلْزِمُهُمَا شَيْئًا حَتَّى يَعْتِقَا فَإِذَا عَتَقَا رَجَعَ عَلَيْهِمَا غُرَمَاءُ الْعَبْدِ بِالْأَقَلِّ مِنْ دَيْنِهِمْ ، وَمِنْ قِيمَةِ الَّذِي بَايَعَهُمْ ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَهُمَا بِالْكَفَالَةِ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِمَا .
قَالَ : ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الَّذِي اشْتَرَى الْمَغْرُورُ مِنْهُ لَوْ كَانَ فِيهِ رِبْحٌ لَمْ يَكُنْ لِلْآمِرِ مِنْ ذَلِكَ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ ، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ فِي حَقِّهِ لَا بِمَنْزِلَةِ الْوَكَالَةِ بِالشِّرَاءِ ، فَإِنْ كَانَ الْآمِرُ مُكَاتِبًا جَاءَ بِأَمَتِهِ إلَى السُّوقِ فَقَالَ : هَذِهِ أَمَتِي فَبَايِعُوهَا فَقَدْ أَذِنْت لَهَا فِي التِّجَارَةِ فَلَحِقَهَا دَيْنٌ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهَا قَدْ وَلَدَتْ فِي مُكَاتَبَتِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا فَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يُضَمِّنُوا الْمَكَاتِبَ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهَا أَمَةً ، وَمِنْ دَيْنِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ غَارًّا لَهُمْ بِمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ فَصَارَ ضَامِنًا لَهُمْ عَنْهَا بِمِقْدَارِ مَالِيَّةِ رَقَبَتِهَا ، وَضَمَانُ الْمُكَاتِبِ عَنْ أُمِّ وَلَدِهِ مَالًا يَكُونُ صَحِيحًا ؛ لِأَنَّ كَسْبَهَا لِلْمَكَاتِبِ ، فَيَجُوزُ ضَمَانُهُ عَنْهَا بِخِلَافِ مَا إذَا اُسْتُحِقَّتْ أَوْ وُجِدَتْ حُرَّةً ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتِبَ لَا يَكُونُ مَالِكًا لِكَسْبِهَا ، وَلَا يَجُوزُ ضَمَانُهُ عَنْهَا ، وَقَدْ

بَيَّنَّا أَنَّ ضَمَانَ الْغُرُورِ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الْكَفَالَةِ .

وَإِذَا أَتَى الرَّجُلُ بِالْعَبْدِ إلَى السُّوقِ فَقَالَ : هَذَا عَبْدِي فَبَايِعُوهُ فَقَدْ أَذِنْت لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَبَايَعُوهُ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ ثُمَّ اسْتَحَقَّهُ رَجُلٌ ، وَقَدْ كَانَ الْمُسْتَحِقُّ أُذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ الْآخَرُ إلَى السُّوقِ فَإِنَّهُ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الَّذِي أَمَرَهُمْ بِمُبَايَعَتِهِ ؛ لِأَنَّ بِمَا ظَهَرَ مِنْ الِاسْتِحْقَاقِ لَمْ يَمْتَنِعْ سَلَامَةُ شَيْءٍ مِمَّا ضَمِنَ سَلَامَتَهُ لَهُمْ ، فَإِنَّهُ إنَّمَا ضَمِنَ لَهُمْ سَلَامَةَ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ ، وَذَلِكَ سَالِمٌ لَهُمْ سَوَاءٌ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ مِنْ جِهَةِ الْمُسْتَحِقِّ أَوْ مِنْ جِهَةِ الْآمِرِ ، وَلَوْ كَانَ مُدَبَّرًا لِلْمُسْتَحِقِّ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ ضَمِنَ لَهُ الْغَارُّ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ غَيْرَ مُدَبَّرٍ ، وَمِنْ دَيْنِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُمْ مَا ضَمِنَ الْآمِرُ سَلَامَتَهُ لَهُمْ ، وَهُوَ مَالِيَّةُ الرَّقَبَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مُدَبَّرًا لِلْآمِرِ يَضْمَنُ لَهُمْ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ غَيْرَ مُدَبَّرٍ وَمِنْ دَيْنهمْ فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مُدَبَّرًا لِغَيْرِهِ أَوْلَى .

وَلَوْ كَانَ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ لِغَيْرِهِ فَأَتَى بِهِ هَذَا إلَى السُّوقِ ، وَقَالَ : هَذَا عَبْدِي فَبَايِعُوهُ ثُمَّ أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ فِي التِّجَارَةِ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْغَارِّ ضَمَانٌ ؛ لِأَنَّ مَالِيَّةَ الرَّقَبَةِ سُلِّمَتْ لَهُمْ بِالْإِذْنِ الصَّادِرِ مِنْ الْمَالِكِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالْمُبَايَعَةِ كَمَا سَلَّمَ لَهُمْ بِالْإِذْنِ الْمَوْجُودِ مِنْهُ وَقْتَ الْأَمْرِ بِالْمُبَايَعَةِ ، وَلَوْ كَانَ لَحِقَهُ دَيْنُ أَلْفِ دِرْهَمٍ قَبْلَ إذْنِ مَوْلَاهُ فِي التِّجَارَةِ وَأَلْفِ دِرْهَمٍ بَعْدَ إذْنِهِ فَإِنَّ عَلَى الْغَارِّ الْأَقَلَّ مِنْ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ وَمِنْ نِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ لَا يُسَلِّمُ لَهُ شَيْءٌ مِنْ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ بِالْإِذْنِ الصَّادِرِ مِنْ الْمَوْلَى بَعْدَ وُجُوبِ دَيْنِهِ ، وَلَوْ كَانَ مَا أَخْبَرَ بِهِ الْغَارُّ حَقًّا كَأَنْ سَلَّمَ لَهُ نِصْفَ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ فَلِهَذَا كَانَ عَلَى الْغَارِّ لَهُ الْأَقَلُّ مِنْ دَيْنِهِ وَمِنْ نِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ .

فَإِذَا أَتَى الرَّجُلُ بِعَبْدِ إلَى السُّوقِ فَقَالَ : هَذَا عَبْدُ فُلَانٍ قَدْ وَكَّلَنِي بِأَنْ آذَنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَأَنْ آمُرَكُمْ بِمُبَايَعَتِهِ ، وَقَدْ أَذِنْت لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَبَايِعُوهُ فَاشْتَرَى وَبَاعَ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ ثُمَّ حَضَرَ مَوْلَاهُ ، وَأَنْكَرَ التَّوْكِيلَ فَالْوَكِيلُ ضَامِنُ الْأَقَلِّ مِنْ الدَّيْنِ وَمِنْ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ الْغُرُورَ تَحَقَّقَ مِنْهُ بِمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ فَإِنَّ فِي مَعْنَى الْغُرُورِ عَبْدِهِ وَعَبْدِ غَيْرِهِ سَوَاءً ؛ لِأَنَّ مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ لَوْ كَانَ حَقًّا كَانَ يُسَلِّمُ لَهُمْ مَالِيَّةَ الرَّقَبَةِ ، فَيَصِيرُ هُوَ بِالْأَخْبَارِ ضَامِنًا لَهُمْ سَلَامَةَ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ ، وَلَمْ يُسَلِّمْ حِينَ أَنْكَرَ الْمَوْلَى التَّوْكِيلَ وَحَلَفَ ، وَكَانَ لَهُمْ أَنْ يُضَمِّنُوا الْمُخْبِرَ قِيمَتَهُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مُشْتَرِيَ الْأَرْضِ إذَا بَنِي فِيهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ رَجَعَ عَلَى الْبَائِعِ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ لِلْغُرُورِ سَوَاءٌ بَاعَهُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ بِوَكَالَتِهِ إذَا أَنْكَرَ الْمَالِكَ التَّوْكِيلَ ، وَلَوْ وُجِدَ الْعَبْدُ حُرًّا أَوْ اسْتَحَقَّهُ رَجُلٌ أَوْ كَانَ مُدَبَّرًا لِمَوْلَاهُ فَالْوَكِيلُ ضَامِنٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ لَهُمْ سَلَامَةَ مَالِيَّتِهِ ، وَلَمْ تَسْلَمْ ، وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ إنْ كَانَ أَقَرَّ بِالتَّوْكِيلِ الَّذِي ادَّعَاهُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَامِلًا لِلْمُوَكَّلِ فِيمَا بَاشَرَهُ ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ ، وَإِنْ أَنْكَرَ التَّوْكِيلَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ إلَّا أَنْ يُثْبِتَهَا بِالْبَيِّنَةِ .

وَإِنْ قَالَ : هَذَا عَبْدُ ابْنِي وَهُوَ صَغِيرٌ فِي عِيَالِي فَبَايِعُوهُ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ أَوْ وُجِدَ حُرًّا ضَمِنَ الْأَبُ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَمِنْ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ صَارَ ضَامِنًا لَهُمْ سَلَامَةَ مَالِيَّتِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ لَوْ كَانَ حَقًّا كَانَ يُسَلِّمُ لَهُمْ مَالِيَّةَ الرَّقَبَةِ بِاعْتِبَارِ كَلَامِهِ ، وَكَذَلِكَ وَصِيُّ الْأَبُ وَالْجَدِّ فَأَمَّا الْأُمُّ وَالْأَخُ ، وَمَا أَشْبَهَهُمَا فَإِنْ فَعَلُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ غُرُورًا ، وَلَمْ يَلْحَقْهُ ضَمَانٌ ؛ لِأَنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ لَوْ كَانَ حَقًّا لَمْ تَسْلَمْ لَهُمْ مَالِيَّةُ الرَّقَبَةِ بِاعْتِبَارِ كَلَامِهِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَمْلِكُونَ الْإِذْنَ لِعَبْدِ الْيَتِيمِ فَكَذَلِكَ هُوَ بِالْإِخْبَارِ لَا يَصِيرُ ضَامِنًا لَهُمْ شَيْئًا .

وَإِذَا أَتَى الرَّجُلُ بِصَبِيٍّ إلَى السُّوقِ فَقَالَ : هَذَا ابْنِ ابْنِي فَبَايِعُوهُ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ ثُمَّ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ فَإِنَّ الدَّيْنَ يَبْطُلُ عَنْ الصَّبِيِّ أَبَدًا ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ صَبِيًّا مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَلَا يَلْزَمُهُ دَيْنٌ بِالْمُبَايَعَةِ أَبَدًا ، وَيَرْجِعُ الْغُرَمَاءُ عَلَى الَّذِي غَرَّهُمْ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ لَوْ كَانَ حَقًّا كَانَ لَهُمْ حَقُّ مُطَالَبَةِ الصَّبِيِّ بِجَمِيعِ دَيْنِهِمْ فِي الْحَالِ أَوْ بَعْدَ الْبُلُوغِ ، وَكَانَ عَلَى الصَّبِيِّ أَنْ يَقْضِيَ ذَلِكَ مِنْ مِلْكِهِ ، فَيَصِيرَ الْآمِرُ بِمُبَايَعَتِهِ ضَامِنًا لَهُمْ سَلَامَةَ دُيُونِهِمْ ، وَإِنْ أَخْبَرَهُمْ بِحُرِّيَّتِهِ فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمُوا رَجَعُوا عَلَيْهِ بِذَلِكَ كَمَا لَوْ زَوَّجَ رَجُلًا امْرَأَةً عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ ، وَكَذَلِكَ وَصِيُّ الْأَبِ وَالْجَدُّ أَبُ الْأَبِ ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ أَبٌ ، وَلَا وَصِيُّ أَبٍ .

وَلَوْ أَتَى بِعَبْدِهِ إلَى السُّوقِ فَقَالَ : هَذَا عَبْدِي وَهُوَ مُدَبَّرٌ فَبَايِعُوهُ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ ثُمَّ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ مُدَبَّرٌ لَهُ بَطَلَ عَنْ الْمُدَبَّرِ الدَّيْنُ حَتَّى يَعْتِقَ ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْغَارِّ مِنْ قِيمَةِ رَقَبَتِهِ ، وَلَا مِنْ كَسْبِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَا ضَمِنَ لَهُمْ سَلَامَةَ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ حِينَ أَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ مُدَبَّرٌ ، وَالْغُرُورُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْكَسْبِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا حِينَ أَخْبَرَهُمْ بِهِ ، وَلَمْ يَدْرِ أَيَحْصُلُ أَوْ لَا يَحْصُلُ ، وَلَوْ قُتِلَ الْمُدَبَّرُ فِي يَدِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ ضَمِنَ الْغَارُّ قِيمَتَهُ مُدَبَّرًا لِلْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ بِإِضَافَتِهِ إلَى نَفْسِهِ بِالْمِلْكِيَّةِ ضَمِنَ لَهُمْ سَلَامَةَ بَدَلِ نَفْسِهِ مُدَبَّرًا إذَا قُتِلَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ لَوْ كَانَ حَقًّا كَانَ يُسَلِّمُ لَهُمْ ذَلِكَ وَحُكْمُ الْبَدَلِ حُكْمُ الْأَصْلِ فَوُجُودُ الْأَصْلِ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْمُبَايَعَةِ كَوُجُودِ الْبَدَلِ فَلِهَذَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْغُرُورِ فِيهِ بِخِلَافِ الْكَسْبِ .

وَلَوْ أَتَى بِجَارِيَةٍ إلَى السُّوقِ فَقَالَ : هَذِهِ أَمَتِي فَبَايِعُوهَا فَلَحِقَهَا دَيْنٌ يُحِيطُ بِرَقَبَتِهَا ثُمَّ وَلَدَتْ وَلَدًا فَاسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ وَأَخَذَهَا وَوَلَدَهَا ضَمِنَ الْغَارُّ قِيمَتَهَا ، وَقِيمَةَ وَلَدِهَا ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مُتَوَلِّدٌ مِنْ عَيْنِهَا وَهُوَ يُسَلِّمُ لِلْغُرَمَاءِ لَوْ كَانَ مَا أَخْبَرَ بِهِ حَقًّا كَنَفْسِهَا ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْكَسْبِ غَيْرَ مُتَوَلِّدٍ مِنْ عَيْنهَا فَلَا يُجْعَلُ وُجُودُهَا كَوُجُودِ الْكَسْبِ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْمُبَايَعَةِ كَوُجُودِ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهَا فِي ثُبُوتِ حُكْمِ الْغُرُورِ فِي ذَلِكَ فَأَمَّا الْوَلَدُ فَمُتَوَلِّدٌ مِنْ عَيْنِهَا فَوُجُودُهَا عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْمُبَايَعَةِ كَوُجُودِ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهَا فِي ثُبُوتِ حُكْمِ الْغُرُورِ فِي ذَلِكَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُدَبَّرَةً كَانَ وَلَدُهَا كَنَفْسِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ بِمَالِيَّتِهِ بِخِلَافِ كَسْبِهَا فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا يَوْمَ اُسْتُحِقَّتْ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا يَوْمَ أَمَرَهُمْ بِمُبَايَعَتِهَا أَوْ أَقَلَّ ضَمِنَ قِيمَتَهَا يَوْمَ اُسْتُحِقَّتْ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا امْتَنَعَ سَلَامَةُ الْمَالِيَّةِ لَهُمْ حِينَ اُسْتُحِقَّتْ ، وَقَدْ صَارَ الْغَارُّ بِالْأَمْرِ بِالْمُبَايَعَةِ ضَامِنًا لَهُمْ سَلَامَةَ ذَلِكَ ، وَلَوْ أَقَامَ الْغَارُّ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ أَذِنَ لَهَا فِي التِّجَارَةِ قَبْلَ أَنْ يَغُرَّهُمْ أَوْ بَعْدَ مَا غَرَّهُمْ قَبْلَ أَنْ يَلْحَقَهُ دَيْنٌ بَرِئَ مِنْ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مَالِيَّةَ الرَّقَبَةِ تُسَلَّمُ لِلْغُرَمَاءِ فِي الْوَجْهَيْنِ ، فَكَذَلِكَ الضَّمَانُ يُنْفَى عَنْ الْغَارِّ فِي الْوَجْهَيْنِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَشَهَادَةُ الشُّهُودِ عَلَى الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ الْمَأْذُونِ بِغَصْبٍ أَوْ بِبِضَاعَةٍ مُسْتَهْلَكَةٍ أَوْ بِإِقْرَارِهِ بِذَلِكَ أَوْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ جَائِزٌ ، وَإِنْ كَانَ مَوْلَاهُ غَائِبًا وَيَقْضِي الْقَاضِي عَلَيْهِ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِذْنِ صَارَ مُنْفَكَّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي التِّجَارَةِ وَتَوَابِعِهَا فَالْتَحَقَ فِي ذَلِكَ بِالْحُرِّ الْعَاقِلِ الْبَالِغِ ، فَيَكُونُ الْخَصْمُ فِيمَا يَدَّعِي أَوْ يَدَّعِي قِبَلَهُ هُوَ ، وَلَا حَاجَةَ إلَى حُضُورِ مَوْلَاهُ إلَى الْقَضَاءِ بِذَلِكَ اسْتِدْلَالًا بِالْمَكَاتِبِ .

وَلَوْ شَهِدُوا عَلَى الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِغَصْبٍ أَوْ وَدِيعَةٍ مُسْتَهْلَكَةٍ وَالْمَوْلَى غَائِبٌ لَمْ يَقْضِ عَلَى الْعَبْدِ بِذَلِكَ حَتَّى يَحْضُرَ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِهِ مَالِيَّةُ رَقَبَتِهِ ، وَالْمَوْلَى هُوَ الْخَصْمُ فِي اسْتِحْقَاقِ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ عَلَيْهِ فَلَا يَقْضِي مَا لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا فِي الْأَوَّلِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَحَقُّ مَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ أَيْضًا ، وَلَكِنَّ الْمَوْلَى بِالْإِذْنِ قَدْ صَارَ رَاضِيًا بِكَوْنِهِ خَصْمًا فِي اسْتِحْقَاقِ مَالِيَّةِ رَقَبَته بِجِهَةِ التِّجَارَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ بِإِقْرَارِهِ وَبِمُبَاشَرَتِهِ التِّجَارَةَ ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى غَائِبًا فَكَذَلِكَ يُسْتَحَقُّ بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ وَكَمَا يُشْتَرَطُ حَضْرَةُ الْمَوْلَى هَاهُنَا يُشْتَرَطُ حَضْرَةُ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ قِبَلَهُ وَالْمُسْتَحَقُّ بِهِ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ ، وَكَانَ يَتَعَلَّقُ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ حُضُورِهِ فَإِذَا حَضَرَ قُضِيَ عَلَى الْعَبْدِ بِالْقِيمَةِ ، فَيُبَاعُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْأَفْعَالِ الْمُوجِبَةِ لِلضَّمَانِ ، وَأَمَّا الْوَدِيعَةُ ، وَمَا أَشْبَهَهَا فَلَا يَقْضِي عَلَيْهِ بِهَا حَتَّى يَعْتِقَ ، وَهَذَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَقْضِي عَلَيْهِ بِمَا اسْتَهْلَكَ مِنْ الْأَمَانَاتِ فِي الْحَالِ فَإِنْ كَانُوا شَهِدُوا عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ بِذَلِكَ ، وَمَوْلَاهُ حَاضِرٌ أَوْ غَائِبٌ لَمْ يَقْضِ عَلَى الْعَبْدِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَعْتِقَ فَإِذَا عَتَقَ لَزِمَهُ مَا شَهِدُوا بِهِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَنْ الْتِزَامِ الدَّيْنِ بِالْقَوْلِ لَحِقَ مَوْلَاهُ ، وَالْإِقْرَارُ الثَّابِتُ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ فَلَا نُلْزِمُهُ شَيْئًا مَا لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الْمَوْلَى عَنْهُ بِقَبْضِهِ .

وَلَوْ شَهِدُوا عَلَيْهِ بِقَتْلِ رَجُلٍ عَمْدًا أَوْ قَذْفٍ أَوْ شُرْبِ خَمْرٍ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ حَدٌّ حَتَّى يَحْضُرَ مَوْلَاهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : يَقْضِي عَلَيْهِ بِذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ مَوْلَاهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ بِذَلِكَ ، وَمَوْلَاهُ غَائِبٌ فَفِيمَا يَعْمَلُ فِيهِ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ لَا تُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ ، وَفِيمَا لَا يَعْمَلُ فِيهِ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ لَا تُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ ، وَفِيمَا لَا يَعْمَلُ فِيهِ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ كَالْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِهِ قَضَى الْقَاضِي بِهِ عَلَيْهِ فَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ : الْمُسْتَحَقُّ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ وَهُوَ دَمُهُ فَإِنَّ وُجُوبَ الْعُقُوبَاتِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى النَّفْسِيَّةِ دُونَ الْمَالِيَّةِ ، وَهُوَ فِي حُكْمِ النَّفْسِيَّةِ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ ، وَلِهَذَا تُقَامُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْعُقُوبَاتِ بِإِقْرَارِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى غَائِبًا أَوْ مُكَذِّبًا لَهُ ، وَلَا يُقْبَلُ إقْرَارُ الْمَوْلَى بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْمَوْلَى ؛ لِقَبُولِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ ، وَهُمَا يَقُولَانِ فِي الْقَضَاءِ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ مَعَ غَيْبَةِ الْمَوْلَى إبْطَالُ حَقِّهِ مِنْ أَوْجُهٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ يَسْتَوْفِي هَذِهِ الْعُقُوبَةَ فَتَفُوتُ بِهِ مَالِيَّةُ الْمَوْلَى أَوْ تُنْتَقَصُ ، وَالثَّانِي أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ يَدِ الْمَوْلَى إذَا حَضَرَ مَجْلِسَ الْحُكْمِ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ ، وَالْيَدُ مُسْتَحَقَّةٌ لِلْمَوْلَى .
وَالثَّالِثُ : أَنَّ لَهُ حَقَّ الطَّعْنِ فِي الشُّهُودِ لَوْ كَانَ حَاضِرًا فَبِالْقَضَاءِ عَلَيْهِ قَبْلَ حُضُورِهِ يَبْطُلُ حَقُّ الطَّعْنِ الثَّابِتِ لَهُ ، وَإِبْطَالُ حَقِّهِ بِالْقَضَاءِ حَالَ غَيْبَتِهِ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ لِلْحَقِّ بِنَفْسِهِ ، وَلَيْسَ لِلْمَوْلَى حَقُّ الطَّعْنِ فِي إقْرَارِهِ فَلَا تَفُوتُ بِهِ

يَدُهُ ، وَلَا حَقُّهُ فِي الطَّعْنِ ثُمَّ لَا تُهْمَةَ فِي إقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ مَا يَلْحَقُهُ بِالضَّرَرِ بِذَلِكَ فَوْقَ مَا يَلْحَقُ مَوْلَاهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَعَانِي فِي كِتَابِ الْآبِقِ .
وَأَمَّا الصَّبِيُّ وَالْمَعْتُوهُ الْمَأْذُونُ لَهُمَا فَلَا يَلْزَمُهُمَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ ، وَلَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْفِعْلِ ؛ لِأَنَّهُمَا غَيْرُ مُخَاطَبِينَ ، وَالْأَهْلِيَّةُ لِلْعُقُوبَةِ تَنْبَنِي عَلَى كَوْنِ الْمُبَاشِرِ مُخَاطَبًا لَا فِي الْقَتْلِ خَاصَّةً إذَا كَانَ أَبُ الصَّبِيِّ أَوْ الْمَعْتُوهِ أَوْ وَصِيُّهُمْ حَاضِرًا فَإِنَّهُ يَقْضِي بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِمَا .
وَفِي حَالَةِ غَيْبَةِ الْوَلِيِّ لَا يَقْضِي بِذَلِكَ ، وَلَوْ شَهِدُوا عَلَيْهِمَا بِالْإِقْرَارِ بِالْقَتْلِ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ ، وَفِيمَا لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ الْمَأْذُونُ وَالْمَحْجُورُ سَوَاءٌ ، وَلَا قَوْلَ لَهُ فِي ذَلِكَ ، وَالْخَصْمُ فِي إثْبَاتِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ الْوَلِيُّ فَبِدُونِ حَضْرَةِ الْمَوْلَى لَا يَقْضِي بِشَيْءٍ ، وَبَعْدَ حُضُورِهِ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ ، وَإِنَّهُ مِمَّا يُوجِبُ الدِّيَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ .

وَلَوْ شَهِدُوا عَلَى الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بِسَرِقَةِ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ أَكْثَرَ فَإِنْ كَانَ مَوْلَاهُ حَاضِرًا قُطِعَ ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يُقْطَعُ ، وَلَكِنْ يَضْمَنُ السَّرِقَةَ ؛ لِأَنَّ الْمَسْرُوقَ مِنْهُ يَدَّعِي الْمَالَ ، وَلَكِنَّهُ مَتَى ثَبَتَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْعُقُوبَةِ عِنْدَ الْقَاضِي اسْتَوْفَى الْعُقُوبَةَ فِي حَالِ غَيْبَةِ الْمَوْلَى ، وَلَا يَثْبُتُ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ فَتَبْقَى دَعْوَى الْمَالِ ، وَالْعَبْدُ خَصْمٌ فِيمَا يُدَّعَى قِبَلَهُ مِنْ الْمَالِ كَمَا لَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى بِسَبَبِ الْغَصْبِ ، وَشَهِدُوا عَلَيْهِ بِسَرِقَةِ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ ضَمِنَ السَّرِقَةَ ؛ لِأَنَّ فِيمَا دُونَ النِّصَابِ الْأَخْذُ بِجِهَةِ السَّرِقَةِ كَالْأَخْذِ بِجِهَةِ الْغَصْبِ .

وَلَوْ شَهِدُوا عَلَى صَبِيٍّ أَوْ مَعْتُوهٍ مَأْذُونٍ لَهُمَا بِسَرِقَةِ عَشَرَةِ دَرَاهِمِ أَوْ أَكْثَرَ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ ، وَإِنْ كَانَ وَلِيُّهُ غَائِبًا ؛ لِأَنَّ جِهَةَ السَّرِقَةِ كَجِهَةِ الْغَصْبِ فِي حَقِّهِمَا إذْ لَا عُقُوبَةَ عَلَيْهِمَا بِسَبَبِ السَّرِقَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَأْذُونَ خَصْمٌ فِيمَا يُتَّهَمُ بِذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ الْأَخْذِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ ، وَإِنْ كَانَ وَلِيُّهُ غَائِبًا ، وَإِنْ شَهِدُوا عَلَى إقْرَارٍ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِذَلِكَ قَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ حَضَرَ مَوْلَاهُ أَوْ وَلِيُّهُ أَوْ لَمْ يَحْضُرْ ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَامِلٌ فِي حَقِّ الْعُقُوبَةِ ، فَإِذَا كَانَ هُوَ جَاحِدًا وَالشُّهُودُ يَشْهَدُونَ عَلَى إقْرَارِهِ بِذَلِكَ كَانَتْ هَذِهِ شَهَادَةً عَلَى مَا يُوجِبُ ضَمَانَ الْمَالِ .

وَلَوْ شَهِدُوا عَلَى عَبْدٍ مَحْجُورٍ بِسَرِقَةِ عَشَرَةٍ أَوْ أَكْثَرَ ، وَمَوْلَاهُ غَائِبٌ لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ حَتَّى يَحْضُرَ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ دَعْوَى السَّرِقَةِ عَلَيْهِ كَدَعْوَى الْغَصْبِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ حَضْرَةُ الْمَوْلَى فِيمَا يَدَّعِي عَلَى الْمَحْجُورِ مِنْ الْغَصْبِ فَكَذَلِكَ فِيمَا يَدَّعِي قِبَلَهُ مِنْ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْعُقُوبَةِ فَإِنْ كَانَ مَوْلَاهُ حَاضِرًا قُطِعَتْ يَدُهُ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْعُقُوبَةِ ظَهَرَ بِشَهَادَتِهِ ، وَهُوَ مُخَاطَبٌ ، وَإِنْ شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِ الْعَبْدِ بِذَلِكَ ، وَهُوَ يَجْحَدُ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْمَالِ بَاطِلٌ حَتَّى يَعْتِقَ ، وَفِي حَقِّ الْقَطْعِ الْإِقْرَارُ يَبْطُلُ بِالرُّجُوعِ عَنْهُ ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إقْرَارَ الْمَحْجُورِ بِسَرِقَةِ مَالٍ مُسْتَهْلَكٍ أَوْ قَائِمٍ بِعَيْنِهِ فِي يَدِهِ ، وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الِاخْتِلَافِ بَيَّنَهُ أَصْحَابُنَا فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ .

قَالَ : وَإِذَا أَذِنَ الْمُسْلِمُ لِعَبْدِهِ الْكَافِرِ فِي التِّجَارَةِ فَاشْتَرَى خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا فَهُوَ جَائِزٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ بِفَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ ، فَيُرَاعَى حَالُهُ فِي ذَلِكَ ثُمَّ الْمَوْلَى إنَّمَا يَتَمَلَّكُهُ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ كَمَا يَتَمَلَّكُ الْوَارِثُ مَالَ مُوَرِّثِهِ ، وَالْمُسْلِمُ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَتَمَلَّكَ الْخَمْرَ بِالْمِيرَاثِ ، وَلَوْ اشْتَرَى مَيْتَةً أَوْ دَمًا أَوْ بَايَعَ كَافِرًا بِرِبًا فَهُوَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ انْفِكَاكَ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْإِذْنِ كَانْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْعِتْقِ ، وَتَصَرُّفُ الْحُرِّ الْكَافِرِ فِي الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ بَاطِلٌ وَهُوَ فِي جَمِيعِ بِيَاعَاتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِ إلَّا فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ، فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ ، وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ كَافِرَانِ بِغَصْبٍ أَوْ وَدِيعَةٍ مُسْتَهْلَكَةٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِهِ بِذَلِكَ ، وَهُوَ وَمَوْلَاهُ يُنْكِرَانِ ذَلِكَ فَشَهَادَتُهُمَا جَائِزَةٌ اسْتِحْسَانًا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ الصَّغِيرِ ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا تُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يَتَضَرَّرُ بِهَا فَإِنَّ الْكَسْبَ ، وَمَالِيَّةَ الرَّقَبَةِ إنَّمَا يُسْتَحَقُّ عَلَى الْمَوْلَى بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ وَالْمَوْلَى مُسْلِمٌ ، وَشَهَادَةُ الْكَافِرِ فِيمَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُسْلِمُ لَا تَكُونُ حُجَّةً .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَوْلَى فَكَّ الْحَجْرَ عَنْهُ بِالْإِذْنِ ، فَيُجْعَلُ ذَلِكَ فِي إقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْعِتْقِ وَالْمَوْلَى ، وَإِنْ كَانَ يَتَضَرَّرُ بِهِ ، وَلَكِنَّهُ قَدْ صَارَ رَاضِيًا بِالْتِزَامِ هَذَا الضَّرَرِ حِينَ أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ شَهَادَةَ الْكُفَّارِ حُجَّةٌ عَلَى الْكَافِرِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ صَحَّ إقْرَارُهُ ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى يَتَضَرَّرُ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهُ بِذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ

الْكَافِرُ يَأْذَنُ لَهُ وَصِيُّهُ الْمُسْلِمُ أَوْ جَدُّهُ أَبُ أَبِيهِ فِي التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّ انْفِكَاكَ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْإِذْنِ كَانْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْبُلُوغِ فَشَهَادَةُ الْكَافِرِ تَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ مُسْلِمًا ، وَمَوْلَاهُ كَافِرًا لَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ الْكَافِرَيْنِ عَلَى الْعَبْدِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ هُوَ الْخَصْمُ فِيمَا يَشْهَدُ بِهِ الشُّهُودُ عَلَيْهِ وَهُوَ مُسْلِمٌ جَاحِدٌ لِذَلِكَ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ شَهِدَ الْكَافِرَانِ عَلَى الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ الْكَافِرِ بِغَصْبٍ ، وَمَوْلَاهُ مُسْلِمٌ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ لِأَنَّ الْخَصْمَ فِيمَا يَدَّعِي عَلَى الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ مَوْلَاهُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ لَا تُقْبَلُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ مَوْلَاهُ فَإِذَا كَانَ الْمَوْلَى مُسْلِمًا لَمْ تَكُنْ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ حُجَّةً عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ فَإِنْ كَانَ مَوْلَاهُ كَافِرًا فَشَهَادَتُهُمَا جَائِزَةٌ .

قَالَ : وَإِذَا أَذِنَ الْمُسْلِمُ لِعَبْدِهِ الْكَافِرِ فِي التِّجَارَةِ فَشَهِدَ عَلَيْهِ كَافِرَانِ بِجِنَايَةٍ خَطَأً أَوْ بِقَتْلٍ عَمْدًا أَوْ بِشُرْبِ خَمْرٍ أَوْ بِقَذْفٍ أَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ مِنْ الْكُفَّارِ بِالزِّنَا وَهُوَ وَمَوْلَاهُ مُنْكِرَانِ لِذَلِكَ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ هَاهُنَا الْمَوْلَى .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْبَيِّنَةَ لَا تُقْبَلُ عَلَى الْعَبْدِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمَوْلَى أَمَّا فِي جِنَايَةِ الْخَطَأِ فَغَيْرِ مُشْكِلٍ ، وَفِي الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْمَوْلَى يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الرِّضَا بِالْتِزَامِ هَذَا الضَّرَرِ بِالْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ مُسْلِمًا وَمَوْلَاهُ كَافِرًا ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ فِعْلُ الْعَبْدِ ، وَشَهَادَةُ الْكُفَّارِ لَا تَكُونُ حُجَّةً فِي إثْبَاتِ فِعْلِ الْمُسْلِمِينَ .

وَإِذَا أَذِنَ الْمُسْلِمُ لِعَبْدِهِ الْكَافِرِ فِي التِّجَارَةِ فَشَهِدَ عَلَيْهِ كَافِرَانِ بِسَرِقَةِ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ أَوْ أَقَلَّ قُضِيَ عَلَيْهِ بِضَمَانِ السَّرِقَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا لَمْ يُقْطَعْ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ لَا تَكُونُ حُجَّةً فِي إثْبَاتِ الْعُقُوبَةِ لِإِسْلَامِ الْمَوْلَى فَكَانَتْ شَهَادَتُهُمَا عَلَيْهِ بِالْأَخْذِ بِجِهَةِ السَّرِقَةِ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ بِجِهَةِ الْغَصْبِ ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مُسْلِمًا وَالْمَوْلَى كَافِرًا كَانَتْ شَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةً ؛ لِأَنَّهَا تَقُومُ لِإِثْبَاتِ فِعْلِ الْمُسْلِمِ .

فَإِذَا أَذِنَ الْمُسْلِمُ لِعَبْدِهِ الْكَافِرِ فِي التِّجَارَةِ فَشَهِدَ عَلَيْهِ كَافِرَانِ لِكَافِرٍ أَوْ لِمُسْلِمٍ بِدَيْنِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَالْعَبْدُ يَجْحَدُ ، وَعَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنٌ لِمُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ فَشَهَادَتُهُمَا عَلَيْهِ جَائِزَةٌ ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ مُسْلِمًا ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ تَقُومُ لِإِثْبَاتِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْكَافِرِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ انْفِكَاكَ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْإِذْنِ كَهُوَ بِالْعِتْقِ ، وَالْحُرُّ الْكَافِرُ يَثْبُتُ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِشَهَادَةِ الْكَافِرِ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ مُسْلِمٌ فَهَذَا مِثْلُهُ فَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ كَافِرًا بِيعَ فِي الدَّيْنَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا بِيعَ الْعَبْدُ ، وَمَا فِي يَدِهِ فِي الدَّيْنِ الْأَوَّلِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ جَمِيعَ دَيْنِهِ فَإِنْ فَضَلَ فَهُوَ لِلَّذِي شَهِدَ لَهُ الْكَافِرَانِ الْآن ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ اُسْتُحِقَّ كَسْبُهُ ، وَمَالِيَّةُ رَقَبَتِهِ فَلَوْ قَبِلْنَا شَهَادَةَ الْكَافِرِ فِي إثْبَاتِ الْمُزَاحَمَةِ لِلثَّانِي مَعَهُ تَضَرَّرَ الْمُسْلِمُ بِشَهَادَةِ الْكَافِرِ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ .
فَإِنْ قِيلَ : حَقُّ الْغَرِيمِ الْمُسْلِمِ فِي رَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْمَوْلَى الْمُسْلِمِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ شَهَادَةَ الْكُفَّارِ عَلَيْهِ مَقْبُولَةٌ فِي حَقِّ مَوْلَى الْمُسْلِمِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْغَرِيمِ الْمُسْلِمِ قُلْنَا : الْمَوْلَى الْمُسْلِمُ رَضِيَ بِالْتِزَامِ هَذَا الضَّرَرَ حِينَ أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَة فَأَمَّا الْغَرِيمُ الْمُسْلِمُ فَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الرِّضَا بِالْتِزَامِ هَذَا الضَّرَرِ ، وَفِي إثْبَاتِ هَذِهِ الْمُزَاحَمَةِ عَلَيْهِ ضَرَرٌ ، وَلَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ مُسْلِمَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفَ دِرْهَمٍ فَشَهِدَ لِأَحَدِهِمَا مُسْلِمَانِ وَشَهِدَ لِلْآخَرِ بِدَيْنِهِ كَافِرَانِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِالدَّيْنِ كُلِّهِ عَلَيْهِ ، فَيَبْدَأُ بِاَلَّذِي شَهِدَ لَهُ الْمُسْلِمَانِ ، فَيَقْضِي دَيْنَهُ فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ كَانَ لِلَّذِي شَهِدَ لَهُ الْكَافِرَانِ ؛ لِأَنَّ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْمُسْلِمَانِ

أَثْبَتَ دَيْنَهُ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْعَبْدِ خَاصَّةً ، وَثُبُوتُ الْحَقِّ بِحَسَبِ السَّبَبِ فَكَانَ دَيْنُ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْمُسْلِمَانِ ثَابِتًا فِي حَقِّ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْكَافِرَانِ ، وَدَيْنُ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْكَافِرَانِ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي حَقِّ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْمُسْلِمَانِ فَلِهَذَا يَبْدَأُ مِنْ كَسْبِهِ وَثَمَنِهِ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْمُسْلِمَانِ فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ فَهُوَ لِلَّذِي شَهِدَ لَهُ الْكَافِرَانِ ، وَلَوْ صَدَّقَ الْعَبْدُ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْكَافِرَانِ اشْتَرَكَا فِي كَسْبِهِ وَثَمَنِ رَقَبَتِهِ ؛ لِأَنَّ دَيْنَهُ ثَبَتَ بِإِقْرَارِ الْعَبْدِ ، وَالثَّابِتُ بِإِقْرَارِ الْمَأْذُونِ مِنْ الدَّيْنِ كَالثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ ، فَيَظْهَرُ وُجُوبُهُ فِي حَقِّ الْغَرِيمِ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْمُسْلِمَانِ وَيَتَحَاصَّانِ فِيهِ ، وَلَوْ كَانَ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْكَافِرَانِ مُسْلِمًا وَاَلَّذِي شَهِدَ لَهُ الْمُسْلِمَانِ كَافِرًا وَالْعَبْدُ يَجْحَدُ ذَلِكَ كُلِّهِ بِيعَ الْعَبْدُ وَاقْتَسَمَا ثَمَنَهُ نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثْبَتَ دَيْنَهُ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْعَبْدِ وَعَلَى خَصْمِهِ فَاسْتَوَى الدَّيْنَانِ فِي الْقُوَّةِ .
وَلَوْ كَانَ الْغُرَمَاءُ ثَلَاثَةً كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَدَّعِي أَلْفَ دِرْهَمٍ أَحَدُهُمْ مُسْلِمٌ شَهِدَ لَهُ كَافِرَانِ ، وَالثَّانِي مُسْلِمٌ شَهِدَ لَهُ مُسْلِمَانِ فَإِنَّهُ يَقْضِي عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الدَّيْنِ وَيُبَاعُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَاتِ كُلَّهَا حُجَّةٌ عَلَيْهِ ثُمَّ يُقَسَّمُ ثَمَنُهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْمُسْلِمَانِ ، وَالْكَافِرِ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْمُسْلِمَانِ نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثْبَتَ دَيْنَهُ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْعَبْد ، وَعَلَى الْخَصْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ فَأَمَّا الثَّالِثُ الَّذِي شَهِدَ لَهُ كَافِرَانِ فَقَدْ أَثْبَتَ دَيْنَهُ بِمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْمُسْلِم الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْمُسْلِمَانِ فَلَا يَسْتَحِقُّ الْمُزَاحَمَةُ مَعَهُ فِي ثَمَنِهِ .
وَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ الْمُزَاحَمَةُ صَارَ كَالْمَعْدُومِ وَاسْتَوَى دَيْنُ الْآخَرَيْنِ فِي

الْقُوَّةِ فَالثَّمَنُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ سُلِّمَ لِلْمُسْلِمِ نِصْفُهُ ، وَالنِّصْفُ الَّذِي صَارَ لِلْكَافِرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْكَافِرَانِ نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ دَيْنَهُ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى هَذَا الْكَافِر ، وَإِنَّمَا كَانَ مَحْجُورًا لِحَقِّ الْمُسْلِمِ ، وَلَمْ يَبْقَ فِي هَذَا النِّصْفِ لِلْمُسْلِمِ حَقٌّ ، وَبَيْنَهُمَا مُسَاوَاةٌ فِي قُوَّةِ دَيْنٍ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَقِّ صَاحِبِهِ ، فَيُقَسَّمُ هَذَا النِّصْفُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ثُمَّ لَا يَكُونُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ يَدِ هَذَا الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْكَافِرَانِ مَا يَأْخُذُهُ مِنْ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُفِيدُ شَيْئًا إذَا أَخَذَ ذَلِكَ أَتَاهُ الْكَافِرُ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْمُسْلِمَانِ فَاسْتَرَدَّ ذَلِكَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ يُسَاوِيهِ فِي الثَّمَنِ فَلِهَذَا لَا يَشْغَلُ بِذَلِكَ ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُ الْغُرَمَاءِ مُسْلِمًا شَهِدَ كَافِرَانِ ، وَالْآخَرَانِ كَافِرَانِ شَهِدَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَافِرَانِ بُدِئَ بِالْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّ دَيْنَهُ ثَبَتَ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى خَصْمِهِ ، وَدَيْنُهُمَا ثَبَتَ بِمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَيْهِ فَإِنْ بَقِيَ بَعْدَ دَيْنِهِ كَانَ بَيْنَ الْكَافِرَيْنِ ؛ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي ثُبُوتِ دَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَقِّ صَاحِبِهِ ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مُسْلِمًا وَالْمَوْلَى كَافِرًا وَالْغُرَمَاءُ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا مُسْلِمٌ شَهِدَ لَهُ كَافِرَانِ وَالْآخَرُ كَافِرٌ شَهِدَ لَهُ مُسْلِمَانِ ، وَالْعَبْدُ يَجْحَدُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُبْطِلُ دَعْوَى الْمُسْلِمِ الَّذِي شَهِدَ لَهُ كَافِرَانِ ، وَيُبَاعُ الْعَبْدُ الْآخَرُ فِي دَيْنِهِ ، فَيُوَفِّيهِ حَقَّهُ فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ ثَمَنِهِ فَهُوَ لِلْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ إنَّمَا أَقَامَ شُهُودًا كُفَّارًا عَلَى دَيْنِهِ ، وَشَهَادَةُ الْكُفَّارِ لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ فَمَا لَمْ يَثْبُتْ دَيْنُهُ عَلَى الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ فَمَا لَمْ يَثْبُتْ دَيْنُهُ عَلَى الْعَبْدِ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ ثَمَنِهِ فَلَا يَكُونُ لِهَذَا الْمُسْلِمِ أَنْ يُزَاحِمَ الْغَرِيمَ

الْكَافِرَ فِيمَا يَأْخُذُهُ ، وَلَا أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْمَوْلَى شَيْئًا مِمَّا بَقِيَ مِنْ ثَمَنِهِ فِي يَدِهِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَهُنَاكَ الدُّيُونُ كُلُّهَا تَثْبُتُ عَلَى الْعَبْدِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فِي هَذَا الْفَصْلِ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الدَّيْنِ لَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ بِشَهَادَةِ الْكُفَّارِ ، وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ ، وَمَا لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ أَصْلُ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ .

وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ كَافِرًا مَحْجُورًا ، وَمَوْلَاهُ مُسْلِمًا وَالْغُرَمَاءُ رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمْ مُسْلِمٌ شَهِدَ لَهُ كَافِرَانِ وَالْآخَرُ كَافِرًا شَهِدَ لَهُ مُسْلِمَانِ بِأَنَّهُ غَصَبَ مِنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ يَقْضِي عَلَيْهِ بِدَيْنِ الْكَافِرِ ، وَلَا يَقْضِي عَلَيْهِ بِدَيْنِ الْمُسْلِمِ حَتَّى يَعْتِقَ ؛ لِأَنَّ مَوْلَاهُ مُسْلِمٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنْ شَهَادَةَ الْكُفَّارِ عَلَى الْعَبْدِ الْكَافِرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بِالْغَضَبِ لَا تَكُونُ حُجَّةً فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَمَا لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ بِالْعِتْقِ لَا يَقْضِي عَلَيْهِ بِدَيْنِ الْمُسْلِمِ ، وَلَكِنْ إذَا أَخَذَ الْكَافِرُ دَيْنَهُ مِنْ ثَمَنِهِ شَارَكَهُ الْمُسْلِمُ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ دَيْنِ الْمُسْلِمِ ثَابِتٌ عَلَى الْعَبْدِ بِشَهَادَةِ الْكُفَّارِ هَاهُنَا .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ يُؤْخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ ، وَإِنَّمَا لَا يَظْهَرُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى ، وَقَدْ سَقَطَ حَقُّ الْمَوْلَى عَمَّا أَخَذَهُ الْكَافِرُ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ ، وَإِنَّمَا بَقِيَ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ حَقُّ الْكَافِرِ وَدَيْنُ الْمُسْلِمِ ثَابِتٌ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْكَافِرِ ، وَعَلَى الْعَبْدِ كَدَيْنِ الْكَافِرِ ، وَلِهَذَا شَارَكَهُ فِيمَا أَخَذَهُ

وَإِذَا أَذِنَ الْمُسْلِمُ لِعَبْدِهِ الْكَافِرِ فَشَهِدَ عَلَيْهِ كَافِرَانِ بِدَيْنِ أَلْفُ دِرْهَمٍ لِمُسْلِمِ أَوْ كَافِرٍ بِإِقْرَارٍ أَوْ غَصْبٍ ، وَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ فَبَاعَ الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَضَاهَا الْغَرِيمَ ثُمَّ ادَّعَى عَلَى الْعَبْدِ دَيْنًا أَلْفَ دِرْهَمٍ كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُبَاعَ فَإِنْ أَقَامَ عَلَى ذَلِكَ شَاهِدَيْنِ مُسْلِمَيْنِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَأْخُذُ الْأَلْفَ مِنْ الْغَرِيمِ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْكَافِرَانِ ، فَيَدْفَعُهَا إلَى هَذَا الْغَرِيمِ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْمُسْلِمَانِ ، وَلَوْ كَانَ الثَّانِي كَافِرًا أَخَذَ مِنْهُ نِصْفَ مَا أَخَذَهُ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ دَيْنَهُ بِتَارِيخٍ سَابِقٍ عَلَى الْبَيْعِ ، فَيَلْتَحِقُ بِالدَّيْنِ الظَّاهِرِ عَلَيْهِ بِشَهَادَةِ الْمُسْلِمَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُبَاعَ ، وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ قَبْلَ الْبَيْعِ كَانَ الْحُكْمُ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا فَكَذَلِكَ هَاهُنَا .
قَالَ : وَلَوْ كَانَ الْأَوَّلُ كَافِرًا وَشَاهِدَاهُ مُسْلِمَيْنِ وَالثَّانِي مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا وَشَاهِدَاهُ كَافِرَيْنِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ الْأَوَّلِ نِصْفَ مَا أَخَذَهُ ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الثَّانِي ثَبَتَ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْعَبْدِ وَعَلَى الْغَرِيمِ الْأَوَّلِ وَدَيْنُ الْأَوَّلِ كَذَلِكَ فَلِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْقُوَّةِ يُجْعَلُ ثَمَنُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْكَافِرَ لَوْ هَلَكَ وَتَرَكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَسْلَمَ وَارِثُهُ ، وَأَقَامَ كَافِرٌ شَاهِدَيْنِ مُسْلِمَيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَضَى لَهُ الْقَاضِي ثُمَّ إنَّ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا أَقَامَ عَلَى الْمَيِّتِ شَاهِدَيْنِ كَافِرَيْنِ بِدَيْنِ أَلْفٍ أَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ الْأَوَّلِ نِصْفَ مَا أَخَذَ لِلْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَّا وَاسْتِحْقَاقُ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ بِدَيْنِهِ كَاسْتِحْقَاقِ كَسْبِ الْعَبْدِ وَثَمَنِ رَقَبَتِهِ بِدَيْنِهِ .

قَالَ : وَإِذَا أَذِنَ الرَّجُلُ لِعَبْدِ الْكَافِرِ فِي التِّجَارَةِ فَبَاعَ وَاشْتَرَى ثُمَّ أَسْلَمَ فَادَّعَى عَلَيْهِ رَجُلَانِ دَيْنًا فَجَاءَ أَحَدُهُمَا بِشَاهِدَيْنِ كَافِرَيْنِ عَلَيْهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ دَيْنًا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي حَالَةِ كُفْرِهِ ، وَجَاءَ الْآخَرُ بِشَاهِدَيْنِ مُسْلِمَيْنِ عَلَيْهِ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَالْمُدَّعِيَانِ مُسْلِمَانِ أَوْ كَافِرَانِ وَالْمَوْلَى مُسْلِمٌ أَوْ كَافِرٌ فَشَهَادَةُ الْمُسْلِمَيْنِ جَائِزَةٌ ، وَلَا شَيْءَ لِلَّذِي شَهِدَ لَهُ الْكَافِرَانِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مُسْلِمٌ حِينَ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ ، وَشَهَادَةُ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ لَا تُقْبَلُ سَوَاءٌ أَطْلَقَ الشَّهَادَةَ أَوْ أَرَّخَ بِتَارِيخٍ سَابِقٍ عَلَى إسْلَامِهِ .

وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مُسْلِمًا وَمَوْلَاهُ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا فَارْتَدَّ الْعَبْدُ عَنْ الْإِسْلَامِ ، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ فَشَهِدَ عَلَيْهِ مُسْلِمَانِ لِكَافِرٍ أَوْ لِمُسْلِمٍ بِمَالٍ وَشَهِدَ عَلَيْهِ كَافِرَانِ لِمُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ بِمَالٍ فَشَهَادَةُ الْمُسْلِمَيْنِ جَائِزَةٌ وَشَهَادَةُ الْكَافِرَيْنِ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ مُجْبَرٌ عَلَى الْعَوْدِ إلَى الْإِسْلَامِ ، وَحُكْمُ الْإِسْلَامِ بَاقٍ فِي حَقِّهِ ، وَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَشَهَادَةُ الْكَافِرِ لَا تَكُونُ حُجَّةً أَصْلًا .

وَإِذَا أَذِنَ الرَّجُلُ لِعَبْدِهِ الْكَافِرِ فِي التِّجَارَةِ ، وَمَوْلَاهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ فَشَهِدَ عَلَيْهِ مُسْلِمَانِ لِمُسْلِمٍ بِدَيْنٍ وَشَهِدَ عَلَيْهِ ذِمِّيَّانِ لِمُسْلِمٍ بِدَيْنٍ ، وَشَهِدَ عَلَيْهِ مُسْتَأْمَنَانِ لِمُسْلِمٍ بِدَيْنٍ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُبْطِلُ شَهَادَةَ الْمُسْتَأْمِنِينَ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ ذِمِّيٌّ وَشَهَادَةُ الْمُسْتَأْمَنِ لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى الذِّمِّيِّ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الذِّمِّيَّ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَيُقْضَى بِشَهَادَةِ الذِّمِّيَّيْنِ وَالْمُسْلِمَيْنِ ؛ لِأَنَّهَا حُجَّةٌ عَلَيْهِ ثُمَّ يَبِيعُ الْعَبْدَ ، فَيَبْدَأُ بِدَيْنِ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْمُسْلِمَانِ ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ دَيْنَهُ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْعَبْدِ ، وَعَلَى خَصْمِهِ الْآخَرِ إنَّمَا أَثْبَتَ دَيْنَهُ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْعَبْدِ لَا عَلَى خَصْمِهِ فَإِذَا أَخَذَ الْمُسْلِمُ حَقَّهُ ، وَبَقِيَ شَيْءٌ كَانَ لِلَّذِي شَهِدَ لَهُ الذِّمِّيَّانِ ؛ لِأَنَّ دَيْنَهُ كَانَ ثَابِتًا عَلَى الْعَبْدِ ، وَلَكِنْ كَانَ مَحْجُورًا لِحَقِّ الْمُسْلِمِ ، وَقَدْ زَالَ الْحَجْرُ حِينَ اسْتَوْفَى الْمُسْلِمُ حَقَّهُ فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ بَعْدَ دَيْنِهِ كَانَ لِلْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْمُسْتَأْمَنَانِ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي حَقِّ الْعَبْدِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَوْلَى حَرْبِيًّا ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ بِشَهَادَةِ الْحَرْبِيَّيْنِ لَا يَثْبُتُ عَلَى الْعَبْدِ الذِّمِّيِّ ، وَمَا لَمْ يَثْبُتْ الدَّيْنُ عَلَى الْعَبْدِ لَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِيَّتِهِ الَّتِي هِيَ حَقُّ مَوْلَاهُ فَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى وَعَبْدُهُ حَرْبِيَّيْنِ ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا قُضِيَ بِالدَّيْنِ كُلِّهِ عَلَى الْعَبْدِ وَبِيعَ فِيهِ ، فَيَبْدَأُ بِاَلَّذِي شَهِدَ لَهُ الْمُسْلِمَانِ ثُمَّ بِاَلَّذِي شَهِدَ لَهُ الذِّمِّيَّانِ لِمَا قُلْنَا ثُمَّ مَا فَضَلَ يَكُونُ لِلَّذِي شَهِدَ لَهُ الْحَرْبِيَّانِ ؛ لِأَنَّ دَيْنَهُ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْعَبْدِ هَهُنَا ، وَإِنَّمَا كَانَ مَحْجُورًا بِحَقِّ الْآخَرَيْنِ فَإِذَا زَالَ الْحَجْرُ كَانَ الْبَاقِي لَهُ فَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الدَّيْنِ كُلُّهُمْ أَهْلَ الذِّمَّةِ ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا

يُحَاصُّ فِي ثَمَنِهِ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْمُسْلِمَانِ ، وَاَلَّذِي شَهِدَ لَهُ الذِّمِّيَّانِ ؛ لِأَنَّ دَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَبَتَ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْعَبْدِ وَعَلَى الْخَصْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ ، وَدَيْنُ الثَّالِثِ إنَّمَا ثَبَتَ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْعَبْد خَاصَّةً ، فَلَا يُزَاحِمُهُمَا فِي ثَمَنِهِ ، وَلَكِنْ يُقَدَّمَانِ عَلَيْهِ وَيَتَحَاصَّانِ لِلْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي الْقُوَّةِ فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَهُوَ لِلَّذِي شَهِدَ لَهُ الْحَرْبِيَّانِ ، وَلَوْ كَانَ أَصْحَابُ الدَّيْنِ كُلُّهُمْ مُسْتَأْمَنِينَ تَحَاصُّوا جَمِيعًا فِي دَيْنِهِمْ ؛ لِأَنَّ دَيْنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَبَتَ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْعَبْدِ ، وَعَلَى الْخَصْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ ، وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا وَالْعَبْدُ حَرْبِيًّا دَخَلَ بِأَمَانٍ فَاشْتَرَاهُ هَذَا الْمَوْلَى ، وَأَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا لَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ الْحَرْبِيَّيْنِ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ قَدْ صَارَ ذِمِّيًّا حِينَ دَخَلَ فِي مِلْكِ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فَلَا تَكُونُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ بِالدَّيْنِ عَلَيْهِ حُجَّةً .

وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَنَا بِأَمَانٍ ، وَمَعَهُ عَبْدٌ لَهُ فَأَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ جَازَتْ شَهَادَةُ الْمُسْتَأْمِنِينَ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ كَمَا تَجُوزُ عَلَى مَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ مُسْتَأْمَنٌ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ لِمَوْلَاهُ أَنْ يُعِيدَهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ، وَلَوْ كَانَ الْغُرَمَاءُ ثَلَاثَةً مُسْلِمٌ شَهِدَ لَهُ حَرْبِيَّانِ بِدَيْنٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَذِمِّيٌّ شَهِدَ لَهُ ذِمِّيَّانِ بِدَيْنٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَحَرْبِيٌّ شَهِدَ لَهُ مُسْلِمَانِ بِدَيْنٍ أَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ بِيعَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنَّهُ يُقَسِّمُ الْأَلْفُ بَيْنَ الذِّمِّيِّ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الذِّمِّيَّانِ وَالْحَرْبِيِّ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْمُسْلِمَانِ نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ دَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَبَتَ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْعَبْدِ وَعَلَى صَاحِبِهِ ، فَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ دَيْنُهُ بِمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الذِّمِّيِّ ، وَهُوَ شَهَادَةُ الْحَرْبِيَّيْنِ فَلِهَذَا لَا يُزَاحِمُهُمَا ، وَإِذَا اقْتَسَمَا ثَمَنَهُ نِصْفَيْنِ أَخَذَ الْمُسْلِمُ مِنْ الْحَرْبِيِّ نِصْفَ مَا صَارَ لَهُ ؛ لِأَنَّ دَيْنَهُ ثَابِتٌ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْحَرْبِيِّ ، وَإِنَّمَا كَانَ مَمْنُوعًا لِحَقِّ الذِّمِّيِّ ، وَقَدْ سَقَطَ حَقُّ الذِّمِّيِّ عَنْ هَذَا النِّصْفِ فَكَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَقَالَ : عِيسَى بْنُ أَبَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا خَطَأٌ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَلْفُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْحَرْبِيَّانِ وَالذِّمِّيَّ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الذِّمِّيَّانِ اسْتَوَيَا مِنْ حَيْثُ إنَّ دَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَبَتَ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْعَبْدِ دُونَ صَاحِبِهِ فَلَيْسَ جَعْلُ الْمُسْلِمِ مَحْجُوبًا عَنْ الْمُزَاحَمَةِ ؛ لِأَجْلِ الذِّمِّيِّ بِأَوْلَى مَنْ جَعْلِ الذِّمِّيِّ مَحْجُوبًا عَنْ الْمُزَاحَمَةِ لِأَجْلِ الْمُسْلِمِ ، وَقَدْ ثَبَتَ دَيْنُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْحَرْبِيِّ وَدَيْنُ الْحَرْبِيِّ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمَا ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا ، وَهَذَا ذَكَرَهُ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ

أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقِيلَ فِي تَصْحِيحُ جَوَابِ الْكِتَابِ : إنَّهُ وَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَشَهَادَةُ الذِّمِّيِّ أَقْوَى مِنْ شَهَادَةِ الْحَرْبِيِّ ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الْحَرْبِ إنَّمَا تُقْبَلُ بِعَقْدِ الْأَمَانِ ، وَالْأَمَانُ يَثْبُتُ لِلْحَرْبِيِّ بِهَذَا الْمُسْلِمِ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَمَّا عَقْدُ الذِّمَّةِ فَلَيْسَ يَثْبُتُ مِنْ جِهَةِ الذِّمِّيِّ فَكَانَتْ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِلذِّمِّيِّ أَقْوَى وَأَبْعَدَ عَنْ التُّهْمَةِ مِنْ شَهَادَةِ الْمُسْتَأْمِنِينَ لِلْمُسْلِمِ فَتَرَجَّحَ جَانِبُهُ لِهَذَا .
وَلَوْ كَانَتْ شُهُودُ الذِّمِّيِّ حَرْبِيَّيْنِ ، وَشُهُودُ الْمُسْلِمِ ذِمِّيَّيْنِ ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا كَانَ الثَّمَنُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ إنَّمَا أَثْبَتَ دَيْنَهُ بِمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْمُسْلِمِ ، وَالْمُسْلِمُ أَثْبَتَ دَيْنَهُ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِ فَكَانَ الذِّمِّيُّ مَحْجُوبًا بِهِ بَقِيَ الْمُسْلِمُ وَالْحَرْبِيُّ ، وَقَدْ أَثْبَتَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَيْنَهُ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْعَبْدِ وَعَلَى صَاحِبِهِ فَكَانَ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ثُمَّ يَأْخُذُ الذِّمِّيُّ نِصْفَ مَا أَصَابَ الْحَرْبِيَّ ؛ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ مَحْجُوبًا عَنْ الْمُسْلِمِ ، وَقَدْ سَقَطَ حَقُّ الْمُسْلِمِ عَنْ هَذَا النِّصْفِ ، وَلَوْ كَانَ الَّذِي شَهِدَ لَهُ الْمُسْلِمَانِ ذِمِّيًّا ، وَاَلَّذِي شَهِدَ لَهُ الذِّمِّيَّانِ حَرْبِيًّا وَاَلَّذِي شَهِدَ لَهُ الْحَرْبِيَّانِ مُسْلِمًا فَإِنَّ الثَّمَنَ بَيْنَ الْحَرْبِيِّ وَالذِّمِّيِّ نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ دَيْنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَبَتَ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى صَاحِبِهِ وَدَيْنُ الْمُسْلِمِ ثَبَتَ بِمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الذِّمِّيِّ فَكَانَ هُوَ مَحْجُوبًا ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْفَصْلِ طَعْنٌ ، فَإِنَّ الدَّيْنَ ثَبَتَ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّ شُهُودَ الذِّمِّيِّ مُسْلِمُونَ فَلِهَذَا كَانَ الثَّمَنُ بَيْنَ الْحَرْبِيِّ وَالذِّمِّيِّ نِصْفَيْنِ ثُمَّ يَأْخُذُ الْمُسْلِمُ نِصْفَ مَا أَخَذَ

الْحَرْبِيِّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ مَحْجُوبًا بِالذِّمِّيِّ ، وَقَدْ زَالَتْ مُزَاحَمَتُهُ .

قَالَ : فَإِذَا لَحِقَ الْعَبْدَ دَيْنٌ فَقَالَ مَوْلَاهُ : هُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ ، وَقَالَ الْغُرَمَاءُ : هُوَ مَأْذُونٌ لَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ ، وَهُوَ الْحَجْرُ بِسَبَبِ الرِّقِّ ؛ وَلِأَنَّ الْغُرَمَاءَ يَدَّعُونَ عَلَيْهِ بِسَبَبِ اسْتِحْقَاقِ كَسْبِهِ ، وَمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ ، وَالْمَوْلَى يُنْكِرُ ذَلِكَ فَعَلَيْهِمْ إثْبَاتُ هَذَا السَّبَبِ بِالْبَيِّنَةِ فَإِنْ جَاءُوا بِشَاهِدَيْنِ عَلَى الْإِذْنِ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّ مَوْلَاهُ أَذِنَ لَهُ فِي شِرَاءِ الْبَزِّ ، وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي شِرَاءِ الطَّعَامِ فَشَهَادَتُهُمَا جَائِزَةٌ وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مِنْ غَيْرِ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ إنَّمَا هُوَ أَصْلُ الْإِذْنِ فَأَمَّا هَذَا التَّقَيُّدُ بِالْبَزِّ وَالطَّعَامِ فَلَغْوٌ ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ فِي التِّجَارَةِ لَا يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ ، وَقَدْ اتَّفَقْنَا عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَالْمَشْهُودُ بِهِ فَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي شِرَاءِ الْبَزِّ وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّهُ رَآهُ يَشْتَرِي الْبَزَّ فَلَمْ يَنْهَهُ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا شَهِدَ بِمُعَايَنَةِ فِعْلٍ وَالْآخَرُ شَهِدَ بِقَوْلٍ .
وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ رَآهُ يَشْتَرِي الْبَزَّ فَلَمْ يَنْهَهُ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ رَآهُ يَشْتَرِي الطَّعَامَ فَلَمْ يَنْهَهُ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَهِدَ بِمُعَايَنَةِ فِعْلٍ غَيْرِ الْفِعْلِ الَّذِي شَهِدَ الْآخَرُ بِمُعَايَنَتِهِ فَلَمْ يَثْبُتْ بِمَا شَهِدَ بِمُعَايَنَةِ كُلِّ فِعْلٍ إلَّا شَاهِدٍ وَاحِدٍ ، وَلَوْ شَهِدَ أَنَّهُ رَآهُ يَشْتَرِي الْبَزَّ فَلَمْ يَنْهَهُ كَانَ الشِّرَاءُ جَائِزًا ، وَكَانَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الشَّهَادَةِ بِمُعَايَنَةِ فِعْلٍ وَاحِدٍ وَالثَّابِتُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ ، وَلَوْ عَايَنَا الْمَوْلَى رَآهُ يَبِيعُ الْبَزَّ فَلَمْ يَنْهَهُ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ فِي الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا

فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَ عَلَيْهِ الشَّاهِدَانِ بِذَلِكَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ فِي يَدِهِ مَالٌ ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَقَالَ : هُوَ مَالِي وَقَالَ مَوْلَاهُ : بَلْ هُوَ مَالِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ يَدَهُ فِي كَسْبِهِ مُعْتَبَرَةٌ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ ، وَالْمَوْلَى مَمْنُوعٌ مِنْ أَخْذِ مَا فِي يَدِهِ لِحَقِّهِمْ .
فَيَكُونُ الْمَالُ فِي يَدِهِ كَكَوْنِهِ فِي يَدِ غُرَمَائِهِ ؛ لِأَنَّ انْفِكَاكَ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْإِذْنِ بِمَنْزِلَةِ انْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْعِتْقِ أَوْ بِالْكِتَابَةِ إلَّا أَنَّ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يَلْحَقَهُ الدَّيْنُ مَا كَانَتْ لَازِمَةً وَبِلُحُوقِ الدَّيْنِ إيَّاهُ صَارَتْ لَازِمَةً فَالْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ الْمَوْلَى فِيمَا فِي يَدِهِ كَالْمُنَازَعَةِ بَيْنَ الْمَوْلَى وَمُكَاتَبِهِ فِيمَا فِي يَدِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِ الْمَوْلَى ، وَفِي يَدِ الْعَبْدِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مِنْ كَسْبِ عَبْدِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ ، وَقَدْ اسْتَوَيَا فِي دَعْوَى الْيَدِ ، وَالْعَيْنُ ظَهَرَتْ فِي يَدَيْهِمَا فَكَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الْمَوْلَى وَيَدِ الْعَبْدِ وَيَدِ أَجْنَبِيٍّ فَادَّعَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَهُوَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا ؛ لِأَنَّ يَدَ الْعَبْدِ فِيهِ كَيَدِ غَرِيمِهِ فَتَكُونُ مُعَارِضَةً لِيَدِ الْمَوْلَى وَيَدِ الْأَجْنَبِيِّ فِي الْمُزَاحَمَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَالْمَالُ بَيْنَ الْمَوْلَى وَالْأَجْنَبِيِّ نِصْفَانِ ، وَلَا شَيْءَ لِلْعَبْدِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ مَا فِي يَدِ الْعَبْدِ وَيَدِ مَوْلَاهُ وَاحِدٌ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنَّ كَسْبَهُ خَالِصُ مِلْكِ مَوْلَاهُ ، وَيَدُهُ فِيهِ كَيَدِ مَوْلَاهُ ، وَفِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَعْدُوهُمَا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَنَازَعَ اثْنَانِ فِي شَيْءٍ ، وَأَحَدُهُمَا مُمْسِكٌ لَهُ بِيَدَيْهِ ، وَالْآخَرُ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِذَلِكَ نِصْفَانِ هَذَا ، وَلَوْ كَانَ ثَوْبٌ فِي يَدِ حُرٍّ ، وَعَبْدٍ مَأْذُونٍ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِيهِ وَمُعْظَمُهُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا ، وَالْآخَرُ

مُتَعَلِّقٌ بِطَرَفِهِ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِاعْتِبَارِ الْيَدِ وَيَدُهُ عَلَى جُزْءٍ مِنْ الثَّوْبِ كَيَدِهِ عَلَى جَمِيعِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي يَدِهِ طَرَفٌ مِنْ الثَّوْبِ ، وَلَيْسَ فِي يَدِ الْآخَرِ مِنْهُ شَيْءٌ فَتَنَازَعَا فِيهِ كَانَ ذُو الْيَدِ أَوْلَى بِجَمِيعِهِ ، سَوَاءٌ كَانَ الطَّرَفُ الَّذِي فِي يَدِهِ مُعْظَمَ الثَّوْبِ أَوْ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْهُ ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُئْتَزِرًا بِهِ مُرْتَدِّيًّا أَوْ لَابِسًا ، وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقًا بِهِ أَوْ كَانَتْ دَابَّةً أَحَدُهُمَا رَاكِبٌ عَلَيْهَا ، وَالْآخَرُ مُتَمَسِّكٌ بِاللِّجَامِ فَهِيَ لِلرَّاكِبِ وَاللَّابِسِ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمِلٌ لِلْعَيْنِ ، وَالْيَدُ بِالِاسْتِعْمَالِ تَثْبُتُ حَقِيقَةً دُونَ التَّعْلِيقِ بِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الرُّكُوبِ وَاللُّبْسِ فِي الْعَادَةِ إلَّا صَاحِبُ الْيَدِ ، وَيَتَمَكَّنُ الْخَارِجُ مِنْ التَّعَلُّقِ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَلْبُوسَ تَبَعٌ لِلَّابِسِ ، وَالْمَرْكُوبُ تَبَعٌ لِلرَّاكِبِ ؛ لِأَنَّ قِيَامَهُ بِهِ ، وَكَانَتْ يَدُهُ فِيمَا هُوَ تَبَعٌ لَهُ مِنْ وَجْهٍ أَقْوَى مِنْ يَدِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ ، وَالضَّعِيفُ لَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَةِ الْقَوِيِّ .
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذَا رَاكِبُهَا ، وَكَانَ الْآخَرُ مُتَعَلِّقًا بِهَا لَا يَسْتَحِقُّ التَّرْجِيحَ بِتَعَلُّقِهِ بِهَا ، وَلَوْ كَانَ هَذَا رَاكِبُهَا ، وَلَمْ يَكُنْ الْآخَرُ مُتَعَلِّقًا بِهَا كَانَ الرَّاكِبُ أَوْلَى ، فَإِذَا كَانَ لِأَحَدِهِمَا سَبَبٌ يَسْتَحِقُّ بِهِ عِنْدَ الِانْفِرَادِ ، وَلَيْسَ لِلْآخَرِ مِثْلُهُ كَانَ هُوَ أَوْلَى .

وَلَوْ أَنَّ حُرًّا أَوْ مَأْذُونًا آجَرَ نَفْسَهُ مِنْ رَجُلٍ يَبِيعُ مَعَهُ الْبَزَّ أَوْ يَخِيطُ مَعَهُ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي ثَوْبٍ فِي يَدِ الْأَجِيرِ فَإِنْ كَانَ فِي حَانُوتِ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ فَهُوَ لِلْمُسْتَأْجِرِ ؛ لِأَنَّ الْآخَرَ مَعَ مَا فِي يَدِهِ فِي يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ فَإِنَّ حَانُوتَ الْمُسْتَأْجِرِ وَيَدَهُ ثَابِتَةٌ عَلَيْهِ فَمَا فِي الْحَانُوتِ يَكُونُ فِي يَدِهِ فَالظَّاهِرُ شَاهِدٌ لِلْمُسْتَأْجِرِ فَإِنَّ الْأَجِيرَ لَا يَنْقُلُ أَمْتِعَتَهُ إلَى حَانُوتِ الْمُسْتَأْجِرِ عَادَةً خُصُوصًا مَا لَيْسَ مِنْ أَدَاةِ عَمَلِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي السِّكَّةِ أَوْ فِي مَنْزِلِ الْأَجِيرِ فَهُوَ لِلْأَجِيرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لِلْمُسْتَأْجِرِ عَلَى هَذَا الْمَوْضِعِ حَقِيقَةً ، وَلَا حُكْمًا وَيَدُ الْأَجِيرِ ثَابِتَةٌ عَلَى الثَّوْبِ حَقِيقَةً ، وَبِعَقْدِ الْإِجَارَةِ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي أَمْتِعَتِهِ ، وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ فِي هَذَا سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ دَافِعَةٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْغَيْرِ .

وَلَوْ أَنَّ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ آجَرَهُ مَوْلَاهُ لِرَجُلٍ ، وَكَانَ مَعَ الْعَبْدِ ثَوْبٌ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ : هُوَ لِي وَقَالَ مَوْلَاهُ : هُوَ لِي كَانَ لِلْمُسْتَأْجِرِ سَوَاءٌ كَانَ فِي السِّكَّةِ أَوْ فِي السُّوقِ أَوْ فِي حَانُوتِ الْمُسْتَأْجِرِ أَوْ كَانَتْ الْمُنَازَعَةُ فِي دَابَّةٍ ، وَالْعَبْدُ رَاكِبُهَا ؛ لِأَنَّ مَوْلَاهُ حِينَ آجَرَهُ فَقَدْ حَوَّلَ يَدَهُ فِيهِ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ ، وَصَارَ الْمُسْتَأْجِرُ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِكِ فِي ثُبُوتِ يَدِهِ ، وَعَلَى مَا مَعَهُ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ أَحَقَّ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِي جَمِيعِ مَا فِي يَدِهِ قَوْلَهُ بِخِلَافِ الْحُرِّ ، فَإِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ وَإِنْ صَارَ أَحَقَّ بِمَنَافِعِهِ فَقَدْ بَقِيَتْ لَهُ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي أَمْتِعَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِلْأَمْتِعَةِ بَعْدَ الْإِجَارَةِ كَمَا كَانَ قَبْلَهُ ، وَالْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ مَمْلُوكٌ لَيْسَتْ لَهُ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ فَكَانَ هُوَ ، وَمَا فِي يَدِهِ لِمَوْلَاهُ قَبْلَ الْإِجَارَةِ ، وَقَدْ حَوَّلَهُ بِالْإِجَارَةِ إلَى يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ قَمِيصٌ أَوْ قَبَاءٌ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ : هُوَ لِي وَقَالَ الْمَوْلَى : هُوَ لِعَبِدِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ لَهُ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُنْقَلُ إلَى يَدِ الْمُسْتَأْجِرِ عُرْيَانًا .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ مِنْ إنْسَانٍ دَخَلَ فِي الْبَيْعِ مَا عَلَيْهِ مِنْ لِبَاسِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ وَالْعَادَةِ ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ مَتَاعٌ آخَرُ فِي يَدِهِ إلَّا مَا يُذْكَرُ فَلَا يُنْظَرُ إلَى قَوْلِ الْعَبْدِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ لِلْمَحْجُورِ عَلَيْهِ قَوْلٌ ، وَلَا يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ فِيمَا مَعَهُ ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ فِي مَنْزِلِ الْمَوْلَى ، وَفِي يَدِهِ ثَوْبٌ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ : هُوَ لِي ، وَقَالَ الْمَوْلَى : هُوَ لِي فَهُوَ لِلْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْمَنْزِلَ فِي يَدِ الْمَوْلَى فَمَا فِيهِ يَكُونُ فِي يَدِهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَبْدِ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي

مُعَارَضَةِ يَدِ الْمَوْلَى ، وَالْمُسْتَأْجِرُ إذَا كَانَتْ يَدُهُ لَا تَظْهَرُ فِي مَنْزِلِ الْمَوْلَى كَانَ الْمَتَاعُ لِلْمَوْلَى ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا لَهُ ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فِي مَنْزِلِ الْمَوْلَى ، وَفِي يَدِهِ ثَوْبٌ فَقَالَ الْمَوْلَى : هُوَ لِي ، وَقَالَ الْعَبْدُ : هُوَ لِي فَإِنْ كَانَ الثَّوْبُ مِنْ تِجَارَةِ الْعَبْدِ فَهُوَ لَهُ ؛ لِأَنَّ مَا يَكُونُ مِنْ تِجَارَتِهِ فَهُوَ كَسْبُهُ .
وَالْحَقُّ فِي كَسْبِهِ لِغُرَمَائِهِ فَيَدُهُ فِيهِ كَيَدِ الْغَرِيمِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ تِجَارَتِهِ فَهُوَ لِلْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ فِي مِلْكِ الْمَوْلَى ، وَيَدُهُ ثَابِتَةٌ عَلَى مَا فِي مِلْكِهِ ، وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ لَا يَثْبُتُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُهُ كَسْبًا لِلْعَبْدِ .
وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ رَاكِبًا عَلَى دَابَّةٍ أَوْ لَابِسًا ثَوْبًا فَقَالَ الْعَبْدُ : هُوَ لِي ، وَقَالَ الْمَوْلَى : هُوَ لِي فَهُوَ لِلْعَبْدِ يَقْضِي بِهِ دَيْنَهُ كَانَ ذَلِكَ مِنْ تِجَارَتِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ لِأَنَّ الْمَلْبُوسَ تَبَعٌ لِلَّابِسِ وَالْمَرْكُوبَ تَبَعٌ لِلرَّاكِبِ ، وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ يَتَعَلَّقُ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ فَيَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِمَا هُوَ تَبَعٌ لَهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : قَدْ بَيَّنَّا فِي السِّيَرِ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا أَسَرَهُ الْعَدُوُّ فَأَحْرَزُوهُ بِدَارِهِمْ ثُمَّ عَادَ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْمَوْلَى فَإِنَّهُ يَعُودُ مَا كَانَ فِيهِ مِنْ الدَّيْنِ وَالْجِنَايَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَعُدْ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْمَوْلَى ، فَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهُ مِنْ يَدِ مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ أَوْ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي أَوْ أَسْلَمَ أَهْلُ الْحَرْبِ عَلَيْهِ فَإِنَّ الدَّيْنَ يَعُودُ عَلَيْهِ كَمَا كَانَ ، وَالْجِنَايَةُ لَا تَعُودُ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالْجِنَايَةِ الْمِلْكُ الْقَائِمُ وَقْتَ الْجِنَايَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمَوْلَى لَوْ أَعْتَقَهُ بَعْدَ الْجِنَايَةِ لَا يَبْقَى حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ فَكَذَلِكَ إذَا زَالَ ذَلِكَ الْمِلْكُ ، وَلَمْ يَعُدْ إلَيْهِ بِخِلَافِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ ثَابِتٌ فِي ذِمَّتِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ يَبْقَى عَلَيْهِ بَعْدَ الْعِتْقِ فَسَوَاءٌ عَادَ ذَلِكَ الْمِلْكُ أَوْ لَمْ يَعُدْ بَقِيَ الدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ كَمَا كَانَ ، وَالدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ لَا يَجِبُ إلَّا شَاغِلًا مَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ فَلِهَذَا بِيعَ فِي الدَّيْنِ فِي مِلْكِ مَنْ كَانَ ، وَإِنْ ارْتَدَّ الْمَأْذُونُ ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ جِنَايَةٌ خَطَأً ، وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ أَسَرَهُ الْمُسْلِمُونَ فَمَوْلَاهُ أَحَقُّ بِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَبَعْدَهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُحْرِزْهُ الْمُشْرِكُونَ إنَّمَا هُوَ أَبِقَ إلَيْهِ ، فَإِذَا بَقِيَ عَلَى مِلْكِ مَوْلَاهُ بَقِيَ الدَّيْنُ وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِ بِحَالِهِمَا يُدْفَعُ بِالْجِنَايَةِ ثُمَّ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ قَالَ : وَإِذَا أَدَانَ الْمُسْلِمُ دِينًا ثُمَّ ارْتَدَّ ، وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ أُسِرَ فَإِنْ أَبَى أَنْ يُسْلِمَ فَقُتِلَ بَطَلَ الدَّيْنُ إلَّا أَنْ يُؤْخَذَ مَالُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَيُقْضَى بِهِ دَيْنُهُ ؛ لِأَنَّ مَالَهُ الَّذِي خَلَفَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مَصْرُوفٌ إلَى حَاجَتِهِ ، وَهُوَ خَلَفٌ عَنْ ذِمَّتِهِ فِي وُجُوبِ - قَضَاءِ الدَّيْنِ كَمَا بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَقَدْ فَاتَ

مَحَلُّ الدَّيْنِ حِينَ قُتِلَ فَبَطَلَ دَيْنُهُ ، وَلَيْسَ هَذَا بِأَوَّلِ مَدْيُونٍ يَمْلِكُ مُفْلِسًا .
وَلَوْ كَانَتْ مُرْتَدَّةً فَسُبِيَتْ وَأَسْلَمَتْ فَهِيَ أَمَةٌ لِلَّذِي اسْتَوْلَدَهَا ، وَقَدْ بَطَلَ الدَّيْنُ عَنْهَا ؛ لِأَنَّ نَفْسَهَا تَبَدَّلَتْ بِالْأَسْرِ فَصَارَتْ كَالْهَالِكَةِ لَا إلَى خَلَفٍ ، فَإِنَّ الْحُرِّيَّةَ حَيَاةٌ ، وَالرِّقُّ تَلَفٌ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ حُكْمَ الدَّيْنِ تَغَيَّرَ بِحُدُوثِ الرِّقِّ فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ حِينَ وَجَبَ الدَّيْنُ كَانَ فِي ذِمَّتِهَا ، وَلَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمَحَلٍّ آخَرَ ، وَبَعْدَ مَا صَارَتْ أَمَةً فَالدَّيْنُ عَلَيْهَا يَكُونُ شَاغِلًا مَالِيَّةَ رَقَبَتِهَا أَنْ لَوْ بَقِيَ وَهَذِهِ مَالِيَّةٌ حَادِثَةٌ لَا يُمْكِنُ شَغْلُهَا بِالدَّيْنِ ، وَالدَّيْنُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَمْلُوكِ إلَّا شَاغِلًا مَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ فَيَسْقُطُ بِهَذِهِ الْمُنَافَاةِ .
وَكَذَلِكَ كُلُّ حَدٍّ وَقِصَاصٍ كَانَ عَلَيْهَا فِيمَا دُونَ النَّفْسِ قَبْلَ الرِّدَّةِ ؛ لِتَغْيِيرِ حُكْمِهِ بِرِقِّهَا فَالرِّقُّ يُنَصِّفُ الْحُدُودَ وَيُنَافِي وُجُوبَ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ، فَأَمَّا الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ فَهُوَ عَلَى حَالِهِ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَتَغَيَّرُ بِالرِّقِّ ، وَالْأَمَةُ وَالْحُرَّةُ فِيهِ سَوَاءٌ ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ الذِّمِّيُّ أَوْ الْمَرْأَةُ الذِّمِّيَّةُ يَنْقُضُ الْعَهْدَ وَيَلْتَحِقُ بِدَارِ الْحَرْبِ ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يَوْمَ يُؤْسَرُ فَهُوَ رَقِيقٌ ، وَقَدْ بَطَلَ الدَّيْنُ ، وَكُلُّ حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ دُونَ النَّفْسِ كَانَ عَلَيْهِ يَتَغَيَّرُ حُكْمُهُ بِرِقِّهِ ، وَيُؤْخَذُ بِالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ وَالرَّقِيقَ فِيهِ سَوَاءٌ .
وَإِذَا اسْتَدَانَ الْحُرُّ الْمُسْتَأْمَنَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى بِلَادِهِ ثُمَّ عَادَ إلَيْنَا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ مُسْتَأْمَنًا أُخِذَ بِذَلِكَ الدَّيْنِ ؛ لِبَقَاءِ دَيْنِهِ عَلَى رُجُوعِهِ إلَى بِلَادِهِ ، وَبَعْدَ عَوْدِهِ إلَيْنَا ، وَلَمْ يَصِرْ مَحْجُورًا مُتَمَكِّنًا ؛ لِمَا فِي ذِمَّتِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَازَ فِي الدَّيْنِ لَا يَتَحَقَّقُ ، وَلَوْ لَمْ يَرْجِعْ إلَيْنَا حَتَّى أُسِرَ فَصَارَ

عَبْدًا بَطَلَ الدَّيْنُ لِتَبَدُّلِ نَفْسِهِ بِالرِّقِّ ، وَلَوْ دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَأَدَانَ حَرْبِيًّا ثُمَّ أَسَرَ الْمُسْلِمُونَ الْحَرْبِيَّ فَصَارَ عَبْدًا بَطَلَ الدَّيْنُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ تَبَدَّلَتْ بِمَا حَدَثَ فِيهِ مِنْ الرِّقِّ وَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلْمَالِكِيَّةِ .
وَالْأَسْرُ لَمْ يَخْلُفْهُ فِي مِلْكِ الدَّيْنِ فَسَقَطَ عَمَّنْ عَلَيْهِ ؛ لِانْعِدَامِ الْمُطَالَبَةِ وَالْمُسْتَوْفِي لَهُ ، فَإِنَّ الدَّيْنَ لَيْسَ إلَّا مُجَرَّدُ الْمُطَالَبَةِ هَذَا إذَا كَانَ الدَّيْنُ لَهُ عَلَى الْمُسْلِمِ ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُسْلِمِ عَلَيْهِ فَقَدْ سَقَطَ بِفَوَاتِ مَحَلِّهِ بِتَبَدُّلِ نَفْسِهِ بِالرِّقِّ فَإِنْ جَاءَ مُسْتَأْمَنًا لَمْ يُؤْخَذْ بِهِ إنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يُؤْخَذْ بِهِ الْمُسْلِمُ إنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُعَامَلَةَ جَرَتْ بَيْنَهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَهُوَ بِالْخُرُوجِ إلَيْنَا بِأَمَانٍ لَمْ يَصِرْ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا تُسْمَعُ الْخُصُومَةُ فِي ذَلِكَ الدَّيْنِ بَيْنَهُمَا إلَّا أَنْ يُسْلِمَ أَوْ يَصِيرَ ذِمِّيًّا فَحِينَئِذٍ يُؤْخَذُ بِذَلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ وَصَارَ مِنَّا دَارًا وَدِينًا ، وَالدَّيْنُ بِبَقَاءِ ذِمَّتِهِ عَلَى حَالِهِ ، وَبَقَاءُ الطَّلَبِ أَهْلًا لِلْمَالِكِيَّةِ فَيُؤْخَذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا مَا فِي هَذِهِ الْفُصُولِ مِنْ الْخِلَافِ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : وَإِذَا أَقَرَّ الْمَأْذُونُ فِي مَرَضِ مَوْلَاهُ بِدَيْنٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ وَدِيعَةٍ قَائِمَةٍ أَوْ مُسْتَهْلَكَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ دُيُونِ التِّجَارَاتِ فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى لَا دَيْنَ عَلَيْهِ ، وَمَاتَ مِنْ مَرَضِهِ ذَلِكَ فَإِقْرَارُ الْعَبْدِ جَائِزٌ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِ الْمَوْلَى بِهِ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ عَلَى الْعَبْدِ يَشْغَلُ كَسْبَهُ وَمَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ ، وَذَلِكَ حَقُّ مَوْلَاهُ وَصِحَّةُ إقْرَارِهِ اعْتِبَارُ إذْنِ الْمَوْلَى بِهِ ، وَاسْتِدَامَةُ الْإِذْنِ بَعْدَ مَرَضِهِ بِمَنْزِلَةِ إنْشَائِهِ ، وَإِذَا كَانَ صِحَّةُ إقْرَارِهِ بِسَبَبٍ يُضَافُ إلَى الْمَوْلَى صَارَ إقْرَارُهُ كَإِقْرَارِ الْمَوْلَى ، وَإِقْرَارُ الْمَوْلَى فِي مَرَضِهِ بِدَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ لِلْأَجْنَبِيِّ صَحِيحٌ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فِي صِحَّتِهِ بُدِئَ بِدَيْنِ الصِّحَّةِ مِنْ تَرِكَتِهِ ، وَمِنْ رَقَبَةِ الْعَبْدِ ، وَكَسْبِهِ فَإِنْ فَضَلَ مِنْ رَقَبَتِهِ ، وَكَسْبِهِ شَيْءٌ فَهُوَ لِلَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْعَبْدُ ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ وَرَقَبَتَهُ مِلْكُ مَوْلَاهُ ، فَإِقْرَارُهُ فِيهِ كَإِقْرَارِ الْمَوْلَى ، وَلَوْ أَقَرَّ الْمَوْلَى بِذَلِكَ كَانَ دَيْنُ الصِّحَّةِ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ ، وَكَانَ الْبَاقِي بَعْدَ قَضَاءِ دَيْنِ الصِّحَّةِ مَصْرُوفًا إلَيْهِ فَهَذَا مِثْلُهُ ، وَإِنْ كَانَ مَالُ الْمَوْلَى غَائِبًا فَقَضَى الْقَاضِي دَيْنَ الْمَوْلَى مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ ، وَمَا فِي يَدِهِ ثُمَّ حَضَرَ مَالُ الْمَوْلَى فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَأْخُذُ مِنْهُ ثَمَنَ الْعَبْدِ ، وَمَا كَانَ فِي يَدِهِ فَيَقْضِي بِهِ دَيْنَ الْعَبْدِ ، وَمَا أَقَرَّ بِهِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ غَرِيمِ الْعَبْدِ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِهِ ، وَقَدْ قَضَى بِهِ دَيْنَ الْمَوْلَى فَيَقُومُ غَرِيمُ الْعَبْدِ مَقَامَ غَرِيمِ الْمَوْلَى فِي الرُّجُوعِ بِهِ فِي تَرِكَتِهِ إذَا ظَهَرَ مَالُهُ ؛ لِيَأْخُذَهُ قَضَاءً مِنْ دَيْنِهِ ، وَإِنْ كَانَ دَيْنُ الْعَبْدِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَمَا زَادَ عَلَى ثَمَنِ الْعَبْدِ ، وَمَالِيَّةِ كَسْبِهِ مِنْ تَرِكَةِ الْمَوْلَى لِوَارِثِهِ لَا حَقَّ فِيهِ لِغَرِيمِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ دَيْنَهُ مَا

كَانَ ثَابِتًا فِي ذِمَّةِ الْمَوْلَى ، وَإِنَّمَا كَانَ فِي .
كَسْبِ الْعَبْدِ ، وَمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنُ الصِّحَّةِ ، وَعَلَى الْعَبْدِ دَيْنُ الصِّحَّةِ وَأَقَرَّ الْعَبْدُ فِي مَرَضِ الْمَوْلَى كَمَا وَصَفْنَا بُدِئَ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ ، وَمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ بِدَيْنِ الْعَبْدِ الَّذِي كَانَ فِي صِحَّةِ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْبَقُ تَعَلُّقًا بِهِ فِي حَقِّ غَرِيمِ الْمَوْلَى ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى ، وَقَدْ كَانَ حَقُّ غَرِيمِ الْعَبْدِ فِيهِ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى فَكَذَلِكَ يَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ غَرِيمِ الْمَوْلَى ثُمَّ يَقْضِي مِنْهُ دَيْنَ الْمَوْلَى الَّذِي كَانَ فِي الصِّحَّةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَسْبَقُ تَعَلُّقًا بِهِ مِمَّا أَقَرَّ الْعَبْدُ بِهِ فِي مَرَضِ الْمَوْلَى ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ إقْرَارَ الْعَبْدِ فِيهِ كَإِقْرَارِ الْمَوْلَى فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَهُوَ لِلَّذِي أَقَرَّ لَهُ الْعَبْدُ فِي مَرَضِ مَوْلَاهُ ، وَلَا يَكُونُ لِلَّذِي أَقَرَّ لَهُ الْعَبْدُ فِي مَرَضِ الْمَوْلَى مُزَاحَمَةُ غَرِيمِ الْعَبْدِ فِي صِحَّةِ الْمَوْلَى فِيمَا يَسْتَوْفِيهِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ يَتَأَخَّرُ عَنْ حَقِّ غَرِيمِ الْمَوْلَى وَغَرِيمُ الْعَبْدِ فِي صِحَّةِ الْمَوْلَى حَقُّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ غَرِيمِ الْمَوْلَى فَكَيْفَ يُزَاحِمُهُ مَنْ كَانَ حَقُّهُ مُتَأَخِّرًا عَنْ حَقِّ غَرِيمِ الْمَوْلَى .
؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ زَاحَمَهُ فَاسْتَوْفَى مِنْهُ شَيْئًا لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ ذَلِكَ بَلْ يَأْخُذُهُ غَرِيمُ الْمَوْلَى مِنْهُ ؛ لِكَوْنِهِ مُقَدَّمًا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ثُمَّ يَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْهُ غَرِيمُ الْعَبْدِ فِي صِحَّةِ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّهِ فَلِخُلُوِّهِ مِنْ الْفَائِدَةِ لَا يُشْتَغَلُ بِهِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ يُحَاصُّ غُرَمَاءُ الْعَبْدِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ فِيمَا فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِ الْعَبْدِ فِي حَقِّ غُرَمَائِهِ بِكَوْنِهِ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ ، وَقَدْ جَمَعَ الْإِقْرَارَيْنِ حَالَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ حَالَةُ الْإِذْنِ فَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا

مُزَاحِمًا لِصَاحِبِهِ فِي كَسْبِ الْعَبْدِ وَرَقَبَتِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ لَهُمَا بِالدَّيْنِ مَعًا إلَّا أَنْ يَكُونَ أَقَرَّ بِشَيْءٍ بِعَيْنِهِ لِإِنْسَانٍ فَإِنَّهُ يَبْدَأُ فَيُسَلَّمُ لِلْمُقَرِّ لَهُ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِذَلِكَ صَحِيحٌ مَا دَامَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَتَبَيَّنَ بِإِقْرَارِهِ أَنَّ تِلْكَ الْعَيْنَ لَيْسَتْ مِنْ كَسْبِهِ ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ حَقُّ غُرَمَائِهِ بِكَسْبِهِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ ، فَحَالُ مَرَضِهِ فِي أَقَارِيرِ الْعَبْدِ كَحَالِ صِحَّتِهِ ، وَلَوْ لَمْ يُقِرَّ الْعَبْدُ بِذَلِكَ فِي مَرَضِ مَوْلَاهُ ، وَلَكِنَّهُ الْتَزَمَهُ بِسَبَبٍ عَايَنَهُ الشُّهُودُ لَزِمَهُ ذَلِكَ مِثْلُ مَا يَلْزَمُهُ فِي صِحَّةِ مَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ عَلَى حَالَةٍ ، وَلَا تُهْمَةَ فِي السَّبَبِ الَّذِي وَجَبَ بِهِ الدَّيْنُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمَوْلَى لَوْ بَاشَرَ هَذَا الدَّيْنَ كَانَ الدَّيْنُ الْوَاجِبُ بِهِ مُسَاوِيًا لِدَيْنِ الصِّحَّةِ فَكَذَلِكَ إذَا بَاشَرَهُ الْعَبْدُ ، وَدَيْنُ الْعَبْدِ فِي كَسْبِهِ ، وَمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى دَيْنِ الْمَوْلَى فَمَا لَمْ يَقْضِ دُيُونَهُ لَا يُسَلَّمُ لِغَرِيمِ الْمَوْلَى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ .

وَلَوْ مَرِضَ الْمَوْلَى ، وَلَا دَيْنَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَقِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَقَرَّ الْمَوْلَى عَلَى نَفْسِهِ بِدَيْنِ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى فَإِنَّ الْعَبْدَ يُبَاعُ فَيَتَحَاصَّ الْغَرِيمَانِ فِي ثَمَنِهِ ؛ لِأَنَّ مَا أَقَرَّ بِهِ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ الْمَوْلَى عَلَى نَفْسِهِ .

وَلَوْ أَقَرَّ الْمَوْلَى فِي مَرَضِهِ بِدَيْنٍ ثُمَّ بِدَيْنٍ يُحَاصُّ الْغَرِيمَانِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَيْنِ جَمِيعَهُمَا حَالَةٌ وَاحِدَةٌ فَهَذَا مِثْلُهُ ، وَلَوْ كَانَ إقْرَارُ الْعَبْدِ أَوْ لَا بُدِئَ بِهِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُقَرِّ لَهُ بِنَفْسِ الْإِقْرَارِ تَعَلَّقَ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ فَكَانَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِالْعَيْنِ .
وَلَوْ أَقَرَّ الْمَوْلَى فِي مَرَضِهِ بِعَيْنٍ ثُمَّ بِدَيْنٍ كَانَ الْمُقَرُّ لَهُ أَوْلَى بِالْعَيْنِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ ثُمَّ بِعَيْنٍ يَتَحَاصَّانِ فِيهِ ، فَإِقْرَارُ الْعَبْدِ مَعَ إقْرَارِ الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ ذَلِكَ فِي الْمَعْنَى ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ إذَا سَبَقَ إقْرَارُ الْمَوْلَى فَقَدْ تَعَلَّقَ حَقُّ الْمُقَرِّ لَهُ بِمَالِ الْمَوْلَى فَلَا يُصَدَّقُ الْعَبْدُ عَلَى إبْطَالِ حَقِّ غَرِيمِ الْمَوْلَى عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِهِ نَادِرٌ فَكَمَا لَا يَبْطُلُ حَقُّ غَرِيمِ الْمَوْلَى بِإِقْرَارِ الْمَوْلَى بِرَقَبَتِهِ لِإِنْسَانٍ فَكَذَلِكَ لَا يَبْطُلُ بِإِقْرَارِ الْعَبْدِ بِخِلَافِ مَا إذَا سَبَقَ إقْرَارُ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَقَرَّ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ حَقٌّ فِي مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ ، وَثَبَتَ فِيهِ حَقُّ الْمُقَرِّ لَهُ فَلَا يُصَدَّقُ الْمَوْلَى بَعْدَ ذَلِكَ فِي إثْبَاتِ الْمُزَاحَمَةِ لِمَنْ يُقِرُّ لَهُ مَعَ غَرِيمِ الْعَبْدِ .

وَلَوْ بَدَأَ الْمَوْلَى فَأَقَرَّ بِدَيْنِ أَلْفٍ ثُمَّ بِأَلْفٍ إقْرَارًا مُتَّصِلًا أَوْ مُنْقَطِعًا ثُمَّ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِدَيْنِ أَلْفٍ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى فَإِنَّ الْغُرَمَاءَ الثَّلَاثَةَ يَتَحَاصُّونَ فِي ثَمَنِهِ فَيَكُونُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَوْلَى لَمَّا جَمَعَهُمَا حَالَةٌ وَاحِدَةٌ جُعِلَا كَأَنَّهُمَا وَاحِدٌ مَعًا ، وَلَا حَقَّ لِغَرِيمِ الْعَبْدِ حِينَ وَجَدَ الْإِقْرَارَ مِنْ الْمَوْلَى ثُمَّ أَقَرَّ الْعَبْدُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَهُوَ مَأْذُونٌ فَيَكُونُ إقْرَارُهُ كَإِقْرَارِ الْمَوْلَى بِأَلْفٍ قَدْرَ مَالِيَّتِهِ فَيَتَحَاصُّونَ فِي ثَمَنِهِ .
فَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ أَقَرَّ بِأَلْفٍ ثُمَّ بِأَلْفٍ إقْرَارًا مُتَّصِلًا أَوْ مُنْقَطِعًا ضَرَبُوا بِجَمِيعِ ذَلِكَ مَعَ غُرَمَاءِ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ أَقَارِيرَ الْعَبْدِ حَصَلَتْ ، وَهُوَ مَأْذُونٌ لَهُ فَجُعِلَ فِي الْحُكْمِ كَأَقَارِيرِ الْمَوْلَى ، وَقَدْ جَمَعَ الْكُلَّ حَالَةٌ وَاحِدَةٌ .
وَلَوْ أَقَرَّ الْمَوْلَى بِدَيْنِ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِدَيْنِ أَلْفٍ ثُمَّ أَقَرَّ الْمَوْلَى بِدَيْنِ أَلْفٍ يَتَحَاصُّونَ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَوْلَى لَمَّا سَبَقَ كَانَ مَانِعًا مِنْ سَلَامَةِ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ لِلَّذِي أَقَرَّ لَهُ الْعَبْدُ فَنَزَلَ إقْرَارُهُ بَعْدَ إقْرَارِ الْمَوْلَى بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِ الْمَوْلَى ، وَقَدْ جَمَعَ الْأَقَارِيرَ حَالَةٌ وَاحِدَةٌ فَيَتَحَاصُّونَ فِي ثَمَنِهِ .

وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ أَقَرَّ بِدَيْنِ أَلْفٍ قَبْلَ إقْرَارِ الْمَوْلَى ثُمَّ أَقَرَّ الْمَوْلَى عَلَى نَفْسِهِ بِدَيْنٍ ثُمَّ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِدَيْنِ أَلْفٍ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى فَإِنَّ ثَمَنَ الْعَبْدِ لِغَرِيمِهِ دُونَ غَرِيمِ الْمَوْلَى فِي حَقِّ الْغَرِيمِ الْأَوَّلِ لِلْعَبْدِ لَمَّا تَعَلَّقَ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ كَانَ ذَلِكَ مَانِعًا صِحَّةَ إقْرَارِ الْمَوْلَى فِي حَقِّ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا فَضْلَ فِي قِيمَتِهِ عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ الْعَبْدُ أَوَّلًا ، فَكَانَ إقْرَارُ الْمَوْلَى فِي حَقِّ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ وُجُودَهُ كَعَدَمِهِ ، وَإِنَّمَا بَقِيَ الْإِقْرَارُ مِنْ الْعَبْدِ ، وَقَدْ جَمَعَهُمَا حَالَةٌ وَاحِدَةٌ فَكَانَ ثَمَنُ الْعَبْدِ بَيْنَهُمَا ، وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَأَقَرَّ الْعَبْدُ بِدَيْنِ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَقَرَّ الْمَوْلَى بِدَيْنِ أَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ مَاتَ فَإِنَّهُ يُبَاعُ فَيُوَفَّى غَرِيمُ الْعَبْدِ حَقَّهُ وَغَرِيمُ الْمَوْلَى حَقَّهُ ؛ لِأَنَّ فِي الثَّمَنِ الْمَقْبُوضِ وَفَاءً بِالدَّيْنِ ، وَإِنْ نَقَصَتْ قِيمَتُهُ فَبِيعَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَهِيَ لِغَرِيمِ الْعَبْدِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي مَالِيَّتِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ غَرِيمِ الْمَوْلَى ؛ لِتَقَدُّمِ إقْرَارِهِ ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ حَقُّ غَرِيمِ الْمَوْلَى فِي الْفَضْلِ .
وَلَمْ يَفْضُلْ شَيْءٌ ، وَإِنْ بِيعَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ كَانَتْ أَلْفٌ مِنْهَا لِغَرِيمِ الْعَبْدِ وَالْبَاقِي لِغَرِيمِ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْفَاضِلِ ، وَصَارَ هَذَا نَظِيرَ حَقِّ رَبِّ الْمَالِ مَعَ حَقِّ الْمُضَارِبِ فَإِنَّ حَقَّ رَبِّ الْمَالِ فِي رَأْسِ الْمَالِ أَصْلٌ ، وَحَقَّ الْمُضَارِبِ فِي الرِّبْحِ تَبَعٌ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْفَضْلِ فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ الْفَضْلُ فَلَا شَيْءَ لَهُ فَإِنْ قَلَّ الْفَضْلُ كَانَ حَقُّهُ بِقَدْرِ ذَلِكَ ، وَلَوْ كَانَ أَقَرَّ بِدَيْنِ أَلْفٍ ، وَقِيمَتُهُ أَلْفَانِ ثُمَّ أَقَرَّ الْمَوْلَى بِدَيْنِ أَلْفٍ ثُمَّ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِدَيْنِ أَلْفٍ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى فَبِيعَ الْعَبْدُ بِالدَّيْنِ اقْتَسَمَهُ الْغُرَمَاءُ أَثْلَاثًا ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي

مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ عِنْدَ إقْرَارِ الْمَوْلَى فَضْلًا عَنْ دَيْنِ الْعَبْدِ بِقَدْرِ أَلْفٍ فَيَثْبُتُ حَقُّ الْغَرِيمِ فِيهِ ثُمَّ الْإِقْرَارُ مِنْ الْعَبْدِ صَحِيحٌ ؛ لِبَقَاءِ الْإِذْنِ ، وَإِنْ اشْتَغَلَ جَمِيعُ مَالِيَّتِهِ بِالدَّيْنِ فَإِذَا كَانَتْ الدُّيُونُ كُلُّهَا ثَابِتَةً عَلَيْهِ اقْتَسَمَ الْغُرَمَاءُ ثَمَنَهُ أَثْلَاثًا وَإِنْ بِيعَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ اقْتَسَمُوهُ أَخْمَاسًا ؛ لِأَنَّ حَقَّ غَرِيمِ الْمَوْلَى إنَّمَا ثَبَتَ فِيهِ بِقَدْرِ الْفَضْلِ ، وَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْفَضْلَ كَانَ بِقَدْرِ خَمْسِمِائَةٍ حِينَ أَقَرَّ الْمَوْلَى بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ مِنْ دَيْنِ غَرِيمِهِ فِي حَقِّ مُزَاحَمَةِ غَرِيمَيْ الْعَبْدِ مِقْدَارُ خَمْسِمِائَةٍ ، فَإِذَا ضَرَبَ هُوَ بِخَمْسِمِائَةٍ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ غَرِيمَيْ الْعَبْدِ بِأَلْفٍ كَانَ الثَّمَنُ بَيْنَهُمْ أَخْمَاسًا ؛ لِأَنَّك تَجْعَلُ كُلَّ خَمْسِمِائَةٍ سَهْمًا ، وَإِنْ بِيعَ بِأَلْفٍ كَانَتْ لِغَرِيمَيْ الْعَبْدِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ حَقَّ غَرِيمِ الْمَوْلَى ثَبَتَ بِاعْتِبَارِ الْفَاضِلِ ، وَلَمْ يَفْضُلْ مِنْ مَالِيَّتِهِ شَيْءٌ عَلَى الدَّيْنِ الْأَوَّلِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْعَبْدُ حِينَ بِيعَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ ، وَلَوْ بَدَأَ الْمَوْلَى فَأَقَرَّ عَلَيْهِ بِدَيْنِ أَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَقِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفَانِ ثُمَّ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِدَيْنِ أَلْفٍ ثُمَّ أَقَرَّ الْمَوْلَى بِدَيْنِ أَلْفٍ ، فَإِنَّ الثَّمَنَ يُقْسَمُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ أَثْلَاثًا ؛ لِأَنَّ حَقَّ غَرِيمِ الْمَوْلَى الْأَوَّلِ ثَبَتَ فِي مَالِيَّتِهِ ، وَكَذَلِكَ حَقُّ غَرِيمِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بَعْدَ إقْرَارِ الْمَوْلَى كَإِقْرَارِ الْمَوْلَى .
وَكَذَلِكَ حَقُّ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ الْمَوْلَى آخِرًا قَدْ ثَبَتَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَيْنِ جَمِيعًا مِنْ الْمَوْلَى جَمِيعُهُمَا حَالَةٌ وَاحِدَةٌ فَيَتَحَاصُّونَ فِي ثَمَنِهِ .
وَلَوْ بَدَأَ الْعَبْدُ فَأَقَرَّ بِدَيْنِ أَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَقَرَّ الْمَوْلَى بِدَيْنِ أَلْفٍ ثُمَّ بِأَلْفٍ ثُمَّ بِأَلْفٍ إقْرَارًا مُتَّصِلًا أَوْ مُنْقَطِعًا ثُمَّ أَقَرَّ الْعَبْدُ بِدَيْنِ أَلْفٍ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى فَبِيعَ

بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ ضَرَبَ فِيهِ غُرَمَاءُ الْعَبْدِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ دَيْنِهِ ، وَضَرَبَ فِيهِ غُرَمَاءُ الْمَوْلَى كُلُّهُمْ بِأَلْفٍ فَقَطْ ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ الْأَلْفِ مِنْ مَالِيَّتِهِ قَدْ اشْتَغَلَ بِدَيْنِ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ الْعَبْدُ أَوَّلًا ثُمَّ الْإِقْرَارَانِ مِنْ الْمَوْلَى جَمَعَهُمَا حَالَةٌ وَاحِدَةٌ فَكَأَنَّهُمَا وُجِدَا مَعًا ، وَالْفَاضِلُ مِنْ الْمَالِيَّةِ عِنْدَ إقْرَارِ الْمَوْلَى مِقْدَارُ أَلْفٍ فَيَثْبُتُ حَقُّ غُرَمَاءِ الْمَوْلَى فِي ذَلِكَ الْمِقْدَارِ خَاصَّةً فَلِهَذَا ضَرَبَ غُرَمَاءُ الْمَوْلَى بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ غَرِيمَيْ الْعَبْدِ بِجَمِيعِ دَيْنِهِ ، وَلَوْ بِيعَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ ضَرَبَ فِيهِ غُرَمَاءُ الْعَبْدِ بِجَمِيعِ دَيْنِهِمْ ، وَغُرَمَاءُ الْمَوْلَى كُلُّهُمْ بِخَمْسِمِائَةٍ ؛ لِأَنَّ الْفَاضِلَ عَنْ أَقَارِيرِ الْمَوْلَى بِقَدْرِ خَمْسِمِائَةٍ فَيَكُونُ الثَّمَنُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمْ أَخْمَاسًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ غَرِيمَيْ الْعَبْدِ خُمُسَاهُ سِتُّمِائَةٍ ، وَلِغَرِيمِ الْمَوْلَى خُمُسُهُ ثَلَثُمِائَةٍ فَإِنْ اقْتَسَمُوهُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ دَيْنٌ كَانَ لِلسَّيِّدِ عَلَى النَّاسِ فَخَرَجَ مِنْهُ أَلْفٌ أَوْ أَلْفَانِ وَخَمْسُمِائَةٍ ، فَغُرَمَاءُ الْمَوْلَى أَحَقُّ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ مِنْ دَيْنِهِمْ ذَلِكَ الْقَدْرُ وَزِيَادَةٌ ، وَلَا حَقَّ لِغُرَمَاءِ الْعَبْدِ فِي تَرِكَةِ الْمَوْلَى ، وَهُمْ مَا ضَرَبُوا مَعَ غُرَمَاءِ الْعَبْدِ فِي ثَمَنِهِ بِقَدْرِ أَلْفَيْنِ وَخَمْسِمِائَةٍ ، فَلِهَذَا كَانُوا أَحَقَّ بِجَمِيعِ مَا خَرَجَ مِنْهُ فَإِنْ خَرَجَ مِنْهُ ثَلَاثَةُ آلَافٍ أَخَذَ غُرَمَاءُ الْمَوْلَى مِنْ ذَلِكَ أَلْفَيْنِ وَسَبْعَمِائَةٍ ، وَأَخَذَ غُرَمَاءُ الْعَبْدِ مِنْ ذَلِكَ ثَلَثَمِائَةٍ ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ مِنْ حَقِّ غُرَمَاءِ الْمَوْلَى أَلْفَانِ وَسَبْعُمِائَةٍ فَيَأْخُذُونَ ذَلِكَ .
وَقَدْ كَانَ يَقْضِي بِقَدْرِ ثَلَثِمِائَةٍ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ دَيْنَ الْمَوْلَى فَيَكُونُ ذَلِكَ دَيْنًا لِغُرَمَاءِ الْعَبْدِ فِي تَرِكَةِ الْمَوْلَى فَيَأْخُذُونَ هَذِهِ الثَّلَثَمِائَةِ بِحِسَابِ ذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي خَرَجَ

مِنْ ذَلِكَ أَلْفَانِ وَسِتَّمِائَةٍ يَأْخُذُ غُرَمَاءُ الْمَوْلَى مِنْ ذَلِكَ أَلْفَيْنِ وَخَمْسَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ ، وَأَخَذَ غُرَمَاءُ الْعَبْدِ مِنْ ذَلِكَ خَمْسِينَ ؛ لِأَنَّ مَا تَأَخَّرَ خُرُوجُهُ مِنْ دَيْنِ الْمَوْلَى مُعْتَبَرٌ بِمَا لَوْ تَقَدَّمَ خُرُوجُهُ عَلَى قِسْمَةِ ثَمَنِ الْعَبْدِ ، وَلَوْ تَقَدَّمَ خُرُوجُ هَذَا الْمِقْدَارِ كَانَ كُلُّهُ لِغُرَمَاءِ السَّيِّدِ ثُمَّ بَقِيَ مِنْ دَيْنِهِمْ أَرْبَعُمِائَةٍ ، وَدَيْنُ غَرِيمَيْ الْعَبْدِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَيَضْرِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي ثَمَنِ الْعَبْدِ ، وَهُوَ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ بِمِقْدَارِ دَيْنِهِ ، وَإِذَا ضَرَبَ غُرَمَاءُ الْعَبْدِ بِأَلْفَيْنِ ، وَغُرَمَاءُ الْمَوْلَى بِمَا بَقِيَ مِنْ دَيْنِهِمْ ، وَهُوَ أَرْبَعُمِائَةٍ كَانَ السَّبِيلُ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ أَرْبَعِمِائَةٍ سَهْمًا فَيَصِيرُ حَقُّ غَرِيمَيْ الْعَبْدِ خَمْسَةً وَحَقُّ غُرَمَاءِ الْمَوْلَى سَهْمًا .
فَتَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِي سَلَّمَ لَهُمْ سُدُسَ ثَمَنِ الْعَبْدِ ، وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ ، وَقَدْ اسْتَوْفُوا ثَلَثَمِائَةٍ فَعَلَيْهِمْ رَدُّ مَا أَخَذُوهُ زِيَادَةً عَلَى حَقِّهِمْ ، وَذَلِكَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ لَمْ يُقِرَّ بِالدَّيْنِ الْأَوَّلِ ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا أَخَذَ غُرَمَاءُ السَّيِّدِ مَا خَرَجَ مِنْ دَيْنِ السَّيِّدِ ، وَهُوَ أَلْفَانِ وَسِتُّمِائَةٍ ثُمَّ يُبَاعُ الْعَبْدُ فَإِنْ بِيعَ بِأَلْفٍ ضَرَبَ فِيهِ غُرَمَاءُ الْمَوْلَى بِمَا بَقِيَ لَهُمْ ، وَغَرِيمُ الْعَبْدِ بِجَمِيعِ دَيْنِهِ ، وَهُوَ أَلْفٌ فَكَانَ الثَّمَنُ بَيْنَهُمْ أَسْبَاعًا خَمْسَةُ أَسْبَاعِهِ لِغَرِيمِ الْعَبْدِ ، وَسُبُعَاهُ لِغُرَمَاءِ الْمَوْلَى .
وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَأَقَرَّ الْعَبْدُ فِي مَرَضِ الْمَوْلَى بِدَيْنِ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَقَرَّ الْمَوْلَى بِدَيْنِ أَلْفٍ ثُمَّ اشْتَرَى الْعَبْدُ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا بِأَلْفٍ ، وَقَبَضَهُ بِمُعَايَنَةِ الشُّهُودِ فَمَاتَ فِي يَدَيْهِ ثُمَّ مَاتَ السَّيِّدُ ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَ الْعَبْدِ فَبِيعَ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ اقْتَسَمَهُ غُرَمَاءُ الْعَبْدِ بَيْنَهُمْ ، وَلَا شَيْءَ فِيهِ لِغَرِيمِ الْمَوْلَى ؛

لِأَنَّ الَّذِي وَجَبَ عَلَى الْعَبْدِ بِمُعَايَنَةِ الشُّهُودِ بِمَنْزِلَةِ دَيْنِ الصِّحَّةِ ، وَصَاحِبُهُ أَحَقُّ بِمَالِيَّةِ الْعَبْدِ مِمَّنْ أَقَرَّ لَهُ الْمَوْلَى فِي مَرَضِهِ ، وَقَدْ أَقَرَّ لَهُ الْعَبْدُ أَوَّلًا بِدَيْنِ أَلْفٍ فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا فَضْلَ فِي ثَمَنِهِ عَلَى دَيْنِ الْمُعَايَنَةِ ، وَعَلَى الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الْعَبْدُ أَوَّلًا .
وَصِحَّةُ إقْرَارِ الْمَوْلَى بِاعْتِبَارِ الْفَضْلِ فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ بَطَلَ دَيْنُ الْمَوْلَى فَصَارَ كَالْمَعْدُومِ وَكَانَ ثَمَنُ الْعَبْدِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ ، وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ ، وَلَكِنَّ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي اشْتَرَى عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا ، وَقَبَضَهُ بِمُعَايَنَةِ الشُّهُودِ فَمَاتَ فِي يَدِهِ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى مِنْ مَرَضِهِ ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا ، وَبِيعَ الْعَبْدُ بِأَلْفٍ فَإِنَّهُ يُبْدَأُ بِدَيْنِ الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ عَلَى الْمَوْلَى بِمُعَايَنَةِ الشُّهُودِ فِي مَرَضِهِ بِمَنْزِلَةِ دَيْنِ الصِّحَّةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ دَيْنَ الصِّحَّةِ عَلَى الْمَوْلَى مُقَدَّمٌ عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ الْعَبْدُ فِي مَرَضِ مَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِ الْعَبْدِ بِاسْتِدَامَةِ الْمَوْلَى الْإِذْنِ لَهُ فَلِهَذَا بُدِئَ بِدَيْنِ الْبَائِعِ ، وَمَا بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بَيْنَ غُرَمَاءِ الْعَبْدِ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الْإِذْنُ فِي صِحَّةِ الْمَوْلَى أَوْ فِي مَرَضِهِ ؛ لِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْإِذْنِ بَعْدَ الْمَرَضِ كَاكْتِسَابِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فِي صِحَّتِهِ ثُمَّ مَرِضَ فَأَقَرَّ الْعَبْدُ لِبَعْضِ وَرَثَةِ الْمَوْلَى بِدَيْنٍ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى أَنَّ إقْرَارَهُ بَاطِلٌ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ مُحِيطٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ لِإِقْرَارِ الْعَبْدِ بِقَدْرِ مَا أَذِنَ لَهُ فِي مَرَضِهِ ، وَاسْتِدَامَةُ إذْنِهِ فِي مَرَضِهِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِ الْمَوْلَى بِهِ ثُمَّ إقْرَارُ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ بَاطِلٌ ، وَلَوْ مَاتَ الْمَوْلَى فَصَارَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِمَوْتِهِ ، ثُمَّ أَقَرَّ بِدَيْنٍ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِ انْتَقَلَ

إلَى الْوَارِثِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ انْتَقَلَ الْمِلْكُ فِيهِ إلَى غَيْرِهِ فِي حَيَاتِهِ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْوَارِثُ فِي التِّجَارَةِ جَازَ إذْنُهُ ؛ لِأَنَّهُ عَلَى مِلْكِهِ فَإِنْ أَقَرَّ الْعَبْدُ بَعْدَ إذْنِهِ بِدَيْنٍ جَازَ إقْرَارُهُ وَشَارَكَ الْمُقَرُّ لَهُ أَصْحَابَ الدَّيْنِ الْأَوَّلِينَ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْوَارِثِ خَلَفٌ عَنْ مِلْكِ الْمُوَرِّثِ ، فَيُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ مِلْكِ الْمُوَرِّثِ فِي حَيَاتِهِ ، وَلَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ بَعْد مَا لَحِقَهُ دُيُونٌ ثُمَّ أَذِنَ لَهُ فَأَقَرَّ بِدَيْنٍ آخَرَ شَارَكَ الْمُقَرُّ لَهُ أَصْحَابَ الدَّيْنِ الْأَوَّلِينَ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لَهُ حَصَلَ فِي حَالِ انْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِخِلَافِ مَنْ أَقَرَّ لَهُ فِي حَالَةِ الْحَجْرِ فَهَذَا مِثْلُهُ .
، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ لَمْ يَجُزْ إذْنُ الْوَارِثِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ ، وَلَا إقْرَارُ الْعَبْدِ بِالدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الْمَوْلَى يَمْنَعُ مِلْكَ الْوَارِثِ وَتَصَرُّفَهُ ، فَإِنْ قِيلَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ : مَالِيَّةُ الْعَبْدِ مُسْتَحَقَّةٌ لِغُرَمَاءِ الْعَبْدِ ، وَلَا حَقَّ فِيهِ لِغُرَمَاءِ الْمَوْلَى فَيُجْعَلُ دَيْنُ الْمَوْلَى كَالْمَعْدُومِ ، وَدَيْنُ الْعَبْدِ لَا يَمْنَعُ مِلْكَ الْوَارِثِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَصِحَّ إذْنُهُ فِي التِّجَارَةِ قُلْنَا : دَيْنُ الْمَوْلَى لَا يَظْهَرُ فِي مُزَاحَمَةِ غُرَمَاءِ الْعَبْدِ فَأَمَّا فِي حَقِّ وَارِثِ الْمَوْلَى فَهَذَا ظَاهِرٌ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ سَقَطَ دَيْنُ الْعَبْدِ كَانَ مَالِيَّةُ الْعَبْدِ لِغُرَمَاءِ الْمَوْلَى دُونَ وَرَثَتِهِ فَلِهَذَا لَا يَصِحُّ تَصَرُّفُ الْوَارِثِ بِالْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : وَإِذَا أَذِنَ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ ثُمَّ مَرِضَ الْمَوْلَى فَبَاعَ الْعَبْدُ بَعْضَ مَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ تِجَارَتِهِ ، وَاشْتَرَى شَيْئًا فَحَابَى فِي ذَلِكَ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَ الْعَبْدِ ، وَمَا فِي يَدِهِ فَجَمِيعُ مَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ أَوْ مَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ فَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ بِانْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْإِذْنِ صَارَ مَالِكًا لِلْمُحَابَاةِ مُطْلَقًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى لَوْ بَاشَرَهُ فِي صِحَّةِ الْمَوْلَى كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا مِنْهُ وَالْمَوْلَى حِينَ اسْتَدَامَ الْإِذْنَ بَعْدَ مَرَضِهِ جَعَلَ تَصَرُّفَ الْعَبْدِ بِإِذْنِهِ كَتَصَرُّفِهِ بِنَفْسِهِ ، وَلَوْ بَاعَ الْمَوْلَى بِنَفْسِهِ وَحَابَى يُعْتَبَرُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ الْمُحَابَاةُ الْيَسِيرَةُ وَالْفَاحِشَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ، فَكَذَلِكَ إذَا بَاشَرَهُ الْعَبْدُ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ مُحَابَاتُهُ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ كَذَلِكَ فَأَمَّا مُحَابَاتُهُ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ فَبَاطِلَةٌ ، وَإِنْ كَانَ يُخْرِجُ مِنْ ثُلُثِ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ عِنْدَهُمَا لَا يَمْلِكُ هَذِهِ الْمُحَابَاةَ فِي الْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ حَتَّى لَوْ بَاشَرَهُ فِي صِحَّةِ الْمَوْلَى كَانَ بَاطِلًا ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ لَا يُحِيطُ بِرَقَبَتِهِ وَبِجَمِيعِ مَا فِي يَدِهِ كَانَ قَوْلُهُمْ فِي إمْضَاءِ مُحَابَاةِ الْعَبْدِ بَعْدَ الدَّيْنِ مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَوْلَى عَلَى مَا بَيَّنَّا ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الدَّيْنِ عَلَى الْعَبْدِ لَا يُغَيِّرُ حُكْمَ انْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْإِذْنِ .
وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ مُحِيطٌ بِرَقَبَةِ الْعَبْدِ ، وَبِمَا فِي يَدِهِ ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَهُ لَمْ يَجُزْ مُحَابَاةُ الْعَبْدِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ مُبَاشَرَتَهُ كَمُبَاشَرَةِ الْمَوْلَى وَقِيلَ : لِلْمُشْتَرِي إنْ شِئْت فَانْقُضْ الْبَيْعَ ، وَإِنْ شِئْت فَأَدِّ الْمُحَابَاةَ كُلَّهَا ؛ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ زِيَادَةٌ فِي

الثَّمَنِ لَمْ يَرْضَ هُوَ بِالْتِزَامِهَا فَيَتَخَيَّرُ لِذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ ، وَكَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِرَقَبَتِهِ وَبِجَمِيعِ مَا فِي يَدِهِ فَمُحَابَاةُ الْعَبْدِ جَائِزَةٌ عَلَى غُرَمَائِهِ مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِذْنَ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِلُحُوقِ الدَّيْنِ إيَّاهُ .
وَالْمُحَابَاةُ ، وَإِنْ جَازَتْ عَلَى الْغُرَمَاءِ فَإِنَّمَا هِيَ مِنْ مَالِ الْمَوْلَى ، وَلَوْ كَانَ الَّذِي حَابَاهُ الْعَبْدُ بَعْضَ وَرَثَةِ الْمَوْلَى كَانَتْ الْمُحَابَاةُ بَاطِلَةً فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ ؛ لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ الْعَبْدِ كَمُبَاشَرَةِ الْمَوْلَى ، وَالْمَرِيضُ لَا يَمْلِكُ الْمُحَابَاةَ فِي شَيْءٍ مَعَ وَارِثِهِ ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا دَفَعَ إلَى هَذَا الْعَبْدِ جَارِيَةً يَبِيعُهَا لَهُ فِي مَرَضِ الْمَوْلَى فَبَاعَهَا مِنْ وَارِثِ الْمَوْلَى وَحَابَاهُ فِيهَا جَازَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمُحَابَاةَ لَيْسَتْ مِنْ مَالِ الْمَوْلَى ، وَلَا شَيْءَ عَلَى وَرَثَةِ الْمَوْلَى ، وَهَذَا التَّصَرُّفُ مِنْ الْعَبْدِ لَمْ يَكُنْ نُفُوذُهُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى بَلْ هُوَ ثَابِتٌ عَنْ الْمُوَكِّلِ ، وَإِنَّمَا يَنْفُذُ بِوَكَالَتِهِ ، وَكَأَنَّهُ بَاشَرَهُ بِنَفْسِهِ ، وَلَوْ بَاعَ الْعَبْدُ فِي مَرَضِ مَوْلَاهُ شَيْئًا ، وَلَمْ يُحَابِ فِيهِ ، وَلَا دَيْنَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ اشْتَرَى ، وَلَمْ يُحَابِ فِيهِ ثُمَّ أَقَرَّ بِقَبْضِ مَا اشْتَرَى أَوْ بِقَبْضِ ثَمَنِ مَا بَاعَ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى ، فَإِقْرَارُهُ جَائِزٌ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي بَاشَرَ هَذَا التَّصَرُّفَ ، وَأَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ كَبِيرٌ ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ كَثِيرٌ يُحِيطُ بِرَقَبَتِهِ ، وَمَا فِي يَدِهِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى الْقَبْضِ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْقَبْضِ فِي الْمَعْنَى إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ .
فَإِنَّهُ يَقُولُ : وُجُوبُهُ عَلَيَّ بِالْقَبْضِ مِثْلَ مَا كَانَ لِي عَلَيْهِ ثُمَّ صَارَ قِصَاصًا وَدَيْنُ الْعَبْدِ يَمْنَعُ صِحَّةَ إقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِالدَّيْنِ فِي مَرَضِهِ ، فَكَذَلِكَ يَمْنَعُ

صِحَّةَ إقْرَارِهِ بِالْقَبْضِ ، وَأَمَّا دَيْنُ الْمَوْلَى فِي صِحَّتِهِ فَيَمْنَعُ إقْرَارَ الْعَبْدِ عَلَى نَفْسِهِ بِالدَّيْنِ فِي مَرَضِهِ ، فَكَذَلِكَ يَمْنَعُ صِحَّةَ إقْرَارِهِ بِالْقَبْضِ ، وَيُقَالُ لِلْمُشْتَرِي : إنْ شِئْت فَأَدِّ الثَّمَنَ مَرَّةً أُخْرَى ، وَإِنْ شِئْت فَانْقُضْ الْبَيْعَ ؛ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ زِيَادَةٌ فِي الثَّمَنِ لَمْ يَرْضَ بِالْتِزَامِهِمَا .
وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي زِيَادَةٌ فِي الثَّمَنِ صَحِيحٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا فِي وُصُولِ الثَّمَنِ إلَيْهِ ؛ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ إقَالَةِ الْعَقْدِ مَعَهُ ، وَلَوْ كَانَ الَّذِي بَايَعَهُ بَعْضُ وَرَثَةِ الْمَوْلَى لَمْ يَجُزْ إقْرَارُ الْعَبْدِ بِالْقَبْضِ مِنْهُ كَانَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى الْمَوْلَى دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ كَمَا لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ لَهُ بِالدَّيْنِ ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ إقْرَارُ الْمَوْلَى بِالْقَبْضِ مِنْهُ فِي مَرَضِهِ لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي عَامَلَهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : وَإِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ فَأَقَرَّ بِوَدِيعَةٍ أَوْ بِدَيْنٍ أَوْ بِشِرَاءِ شَيْءٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ وُجُوهِ التِّجَارَاتِ ثُمَّ مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ ، وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ فِي الصِّحَّةِ فَإِقْرَارُهُ جَائِزٌ ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ انْفِكَاكَ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْإِذْنِ كَانْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْعِتْقِ ، وَالْمَرَضُ لَا يُنَافِيهِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ بُدِئَ بِدَيْنِ الصِّحَّةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ انْفِكَاكُ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْإِذْنِ فَوْقَ انْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْعِتْقِ ، وَفِي حَقِّ الْحُرِّ دَيْنُ الصِّحَّةِ مُقَدَّمٌ عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ فِي مَرَضِهِ مِنْ دَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْعَبْدِ فَإِنْ قِيلَ : فِي حَقِّ الْحُرِّ الْحُكْمُ يَتَغَيَّرُ بِمَرَضِهِ مِنْ حَيْثُ تَعَلُّقُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ بِمَالِهِ ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ فَإِنَّ الدَّيْنَ الَّذِي فِي صِحَّتِهِ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِكَسْبِهِ ، وَمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ قَبْلَ مَرَضِهِ ، وَالْحَقُّ فِي كَسْبِهِ ، وَمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ بَعْدَ الدَّيْنِ لِمَوْلَاهُ ، وَهُوَ الْمُسَلَّطُ لَهُ عَلَى الْإِقْرَارِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ مَا أَقَرَّ بِهِ فِي الصِّحَّةِ ، وَبَيْنَ مَا أَقَرَّ بِهِ فِي الْمَرَضِ قُلْنَا نَعَمْ ، وَلَكِنَّ انْفِكَاكَ الْحَجْرِ بِالْإِذْنِ فَرْعُ انْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْعِتْقِ ، وَالْفَرْعُ يَلْتَحِقُ بِالْأَصْلِ فِي حُكْمِهِ ، وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ فِيهِ عِلَّتُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي الْبَيْعِ بِثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ ثُمَّ لَوْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى بَعْدَ مَا مَرِضَ ثُمَّ أَقَرَّ بِدَيْنٍ كَانَ حَقُّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ مُقَدَّمًا فِي مَالِهِ عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ فِي مَرَضِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ فَلَا يَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ فِي مَرَضِهِ قَبْلَ الْعِتْقِ كَانَ أَوْلَى .
وَلَوْ كَانَ الَّذِي لَحِقَهُ مِنْ الدَّيْنِ بِبَيِّنَةٍ شَارَكُوا أَصْحَابَ دَيْنِ الصِّحَّةِ ؛ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ فِيمَا ثَبَتَ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ

فِي الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ جَمِيعًا ، وَكَذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ الْوَدِيعَةِ فِي تَقْدِيمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَفِيمَا يَلْحَقُهُ مِنْ ذَلِكَ بَيِّنَةٌ ، وَعَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ هُوَ كَالْحُرِّ .
وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْفُصُولَ فِي الْحُرِّ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ فَكَذَلِكَ فِي الْعَبْدِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فِي الصِّحَّةِ فَأَقَرَّ فِي مَرَضِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِدَيْنِ أَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَأَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ أَلْفِ دِرْهَمٍ ثَمَنَ مَبِيعٍ وَجَبَ لَهُ فِي مَرَضِهِ عَلَى رَجُلٍ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى قَبْضِهِ ، وَلَكِنْ يُقْسَمُ مَا كَانَ عَلَيْهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَرِيمِ الْآخَرِ نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْقَبْضِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ لَهُ بِالدَّيْنِ ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ إلَّا أَنَّهُ قَضَاهُ ذَلِكَ الدَّيْنَ بِمَالِهِ فِي ذِمَّتِهِ فَكَأَنَّهُ قَضَاهُ ذَلِكَ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ ، وَالْمَرِيضُ الْمَأْذُونُ لَا يَمْلِكُ تَخْصِيصَ أَحَدِ الْغَرِيمَيْنِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ ، فَلِهَذَا كَانَ مَا عَلَى الْغَرِيمِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْآخَرِ نِصْفَيْنِ .
وَإِذَا مَرِضَ الْمَأْذُونُ ، وَعَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ فَقَضَى بَعْضَ غُرَمَائِهِ دُونَ بَعْضٍ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَضَى بَعْضَهُمْ فِي صِحَّتِهِ لَمْ يَجُزْ ، وَكَانَ لِلْآخَرِينَ حَقُّ الْمُشَارَكَةِ مَعَهُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْكُلِّ بِكَسْبِهِ فَإِذَا قَضَاهُ فِي مَرَضِهِ أَوْلَى ؛ وَهَذَا لِأَنَّ فِي إيثَارِهِ بَعْضَ الْغُرَمَاءِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ إسْقَاطَ حَقِّ الْبَاقِينَ عَنْ ذَلِكَ الْمَالِ ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ إسْقَاطَ حَقِّ الْغُرَمَاءِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ كَسْبِهِ .
وَلَوْ اشْتَرَى فِي مَرَضِهِ شَيْئًا بِمُعَايَنَةِ الشُّهُودِ ، وَقَبَضَهُ ثُمَّ نَقَدَ ثَمَنَهُ ، وَهَلَكَ الشَّيْءُ فِي - يَدِهِ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ لَمْ يَكُنْ لِغُرَمَائِهِ عَلَى الْبَائِعِ سَبِيلٌ فِيمَا قَبَضَ مِنْ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْلَى ، وَهَذَا التَّصَرُّفُ مِنْ الْحُرِّ صَحِيحٌ مُطْلَقًا فَمِنْ الْعَبْدِ كَذَلِكَ .
( أَرَأَيْت ) لَوْ اسْتَقْرَضَ مِنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ ثُمَّ

رَدَّهَا عَلَيْهِ بِعَيْنِهَا أَكَانَ لِلْغُرَمَاءِ عَلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ فَكَذَلِكَ إذَا رَدَّ مِثْلَهَا ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِيمَا إذَا فَعَلَهُ الْعَبْدُ فِي مَرَضِهِ فَهُوَ أَوْلَى فِيمَا إذَا فَعَلَهُ فِي صِحَّتِهِ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا أَجْرَ أَجِيرٍ أَوْ مَهْرَ امْرَأَةٍ فِي صِحَّةٍ أَوْ مَرَضٍ كَانَ لِلْغُرَمَاءِ أَنْ يُشَارِكُوا الْمَرْأَةَ وَالْأَجِيرَ فِيمَا قَبَضَ ، وَهَذَا فَرْقٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْحُرِّ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ ظَاهِرًا أَمَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلًا لِمَالٍ أَخْرَجَهُ مِنْ مِلْكِهِ فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ فَلَا يُسَلَّمُ لِلْقَابِضِ مَا قَبَضَ ؛ لِتَحَقُّقِ مَعْنَى إيثَارِ بَعْضِ الْغُرَمَاءِ فِيهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا دَخَلَ فِي مِلْكِهِ مِثْلَ مَا أَخْرَجَ مِنْ مِلْكِهِ فِيمَا قَبَضَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ .
قَالَ : وَإِذَا حَابَى الْعَبْدُ فِي مَرَضِهِ ، وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ ثُمَّ مَاتَ فَالْمُحَابَاةُ جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ لِمَوْلَاهُ ، وَالْمَوْلَى رَاضٍ بِتَصَرُّفِهِ ، وَهُوَ الَّذِي سَلَّطَهُ عَلَى هَذِهِ الْمُحَابَاةِ بِخِلَافِ الْحُرِّ فَإِنَّ مَالَهُ لِوَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ الرِّضَا بِمُحَابَاتِهِ ، وَكَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَوَفَّى مَالَهُ فِي الدَّيْنِ ، وَلَمْ يَفِ مَالُهُ بِالدَّيْنِ لَمْ تَجُزْ الْمُحَابَاةُ ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ حَقُّ غُرَمَائِهِ ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ الرِّضَا بِتَصَرُّفِهِ وَمُحَابَاتِهِ ، فَهُوَ فِي حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ الْمَرِيضِ ، وَإِذَا مَرِضَ الْمَأْذُونُ فَوَجَبَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ ، فَأَقَرَّ بِاسْتِيفَائِهَا لَهُ لَزِمَتْهُ ، وَلَا دَيْنَ عَلَى الْمَأْذُونِ ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَ ذَلِكَ الدَّيْنِ ثُمَّ أَقَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ بِدَيْنِ أَلْفٍ ثُمَّ مَاتَ فَإِقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَقَرَّ بِالِاسْتِيفَاءِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ فِي تَرِكَتِهِ حَقٌّ سِوَى مَوْلَاهُ ، وَالْمَوْلَى هُوَ الْمُسَلِّطُ لَهُ عَلَى هَذَا الْإِقْرَارِ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّهِ

وَتَرْكُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ ثُمَّ قَضَاهُ وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ .
وَإِنْ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَا قَضَاهُ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَسْبًا لَهُ ، وَدَيْنُهُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِكَسْبِهِ ، وَلَوْ لَمْ يُقِرَّ بِالدَّيْنِ ، وَلَكِنَّهُ لَحِقَهُ دَيْنٌ بِمُعَايَنَةِ الشُّهُودِ بَطَلَ إقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بِالْمُعَايَنَةِ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ الظَّاهِرِ عَلَيْهِ حِينَ أَقَرَّ بِالِاسْتِيفَاءِ إذْ لَا تُهْمَةَ فِي شَهَادَةِ الشُّهُودِ فَلِهَذَا يَبْطُلُ إقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

وَمِنْ كِتَابِ الْمَأْذُونِ الصَّغِيرِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : وَلَوْ أَنَّ عَبْدَيْنِ تَاجِرَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِرَجُلٍ اشْتَرَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ مِنْ مَوْلَاهُ فَإِنْ عُلِمَ أَيُّهُمَا أَوَّلُ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَشِرَاءُ الْأَوَّلِ لِصَاحِبِهِ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مَالِكٌ لِبَيْعِهِ ، وَلَوْ بَاعَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ جَازَ بَيْعُهُ فَكَذَلِكَ إذَا بَاعَهُ مِنْ عَبْدٍ مَأْذُونٍ لِغَيْرِهِ ثُمَّ قَدْ صَارَ هَذَا الْمُشْتَرَى مِلْكًا لِمَوْلَى الْمُشْتَرِي ، وَصَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَشِرَاؤُهُ الثَّانِيَ مِنْ مَوْلَاهُ بَاطِلٌ ؛ لِكَوْنِهِ مَحْجُورًا عَلَيْهِ ؛ وَلِأَنَّهُ يَشْتَرِي عَبْدَ مَوْلَاهُ مِنْ مَوْلَاهُ ، وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ ، وَهَذَا الشِّرَاءُ مِنْ الْمَأْذُونِ لَا يَصِحُّ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مُفِيدٍ ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمُ أَيُّ الْبَيْعَيْنِ أَوَّلُ ؛ فَالْبَيْعُ مَرْدُودٌ كُلُّهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ حَصَلَا مَعًا ؛ وَلِأَنَّ الصَّحِيحَ أَحَدُهُمَا ، وَهُوَ مَجْهُولٌ ، وَالْبَيْعُ فِي الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ أَبَدًا ، وَإِنْ كَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَيْنٌ لَمْ يَجُزْ شِرَاءُ الْأَوَّلِ إلَّا أَنْ يُجِيزَ ذَلِكَ غُرَمَاؤُهُ ؛ لِأَنَّ بَيْعَ مَوْلَاهُ إيَّاهُ مِنْ عَبْدٍ مَأْذُونٍ كَبَيْعِهِ مِنْ حُرٍّ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِدُونِ إجَازَةِ الْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ حَقُّهُمْ ، وَلَوْ اشْتَرَى الْمَأْذُونُ أَمَةً فَوَطِئَهَا فَوَلَدَتْ لَهُ فَادَّعَى الْوَلَدَ ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ مَوْلَاهُ صَحَّتْ دَعْوَاهُ ، وَثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى تَصَرُّفٌ مِنْهُ ، وَهُوَ فِي التَّصَرُّفِ فِي كَسْبِهِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ ، وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الدَّعْوَى وَثُبُوتِ النَّسَبِ كَوْنُ الْأَمَةِ حَلَالًا لَهُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمُكَاتَبَ لَوْ ادَّعَى نَسَبَ وَلَدِ جَارِيَتِهِ ثَبَتَ النَّسَبُ ، وَكَذَلِكَ الْحُرُّ لَوْ ادَّعَى نَسَبَ وَلَدِ جَارِيَتِهِ ، وَهِيَ مِمَّنْ لَا تَحِلُّ لَهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ فَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً لِمَوْلَاهُ مِنْ غَيْرِ تِجَارَةِ الْعَبْدِ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْهُ بِالدَّعْوَى ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ

لَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِيهَا ، وَدَعْوَاهُ تَصَرُّفٌ مِنْهُ ، وَهُوَ فِي سَائِرِ أَمْوَالِ الْمَوْلَى كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَلَا تَصِحُّ دَعْوَاهُ مَا لَمْ يُصَدِّقْهُ الْمَوْلَى فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ وَطِئَهَا ، وَلَمْ تَلِدْ ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ فَلَا مَهْرَ لَهُ عَلَى الْعَبْدِ حَتَّى يُعْتَقَ أَمَّا فِي جَارِيَةِ الْمَوْلَى فَلِأَنَّهُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي جِمَاعِهَا فَفِعْلُهُ بِهَا يَكُونُ زِنًا ، وَالزِّنَا لَا يُوجِبُ الْمَهْرَ وَبِالِاسْتِحْقَاقِ يَتَقَرَّرُ مَعْنَى الزِّنَا .
، وَأَمَّا فِي الْجَارِيَةِ الَّتِي هِيَ مِنْ كَسْبِهِ فَإِقْرَارُهُ بِوَطْئِهَا صَحِيحٌ ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِزِنًا يُوجِبُ الْحَدَّ حَتَّى يَتَعَلَّقَ بِهِ ثُبُوتُ النَّسَبِ إذَا ادَّعَاهُ فَإِذَا اُسْتُحِقَّتْ أَخَذَهُ بِالْعُقْرِ فِي الْحَالِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاشَرَ وَطْأَهَا بِمُعَايَنَةِ الشُّهُودِ ؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْمَهْرِ هَاهُنَا بِاعْتِبَارِ سَبَبٍ هُوَ تِجَارَةٌ فَيُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النِّكَاحِ .

وَإِذَا أَذِنَ الرَّاهِنُ لِلْعَبْدِ الْمَرْهُونِ فِي التِّجَارَةِ فَتَصَرَّفَ ، وَلَحِقَهُ دَيْنٌ فَهُوَ مَرْهُونٌ عَلَى حَالِهِ ؛ لِأَنَّ قِيَامَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ يَمْنَعُ الْمَوْلَى مِنْ اكْتِسَابِ سَبَبٍ يُثْبِتُ الدَّيْنَ بِهِ عَلَيْهِ فِي مُزَاحَمَةِ الْمُرْتَهِنِ ، فَكَذَلِكَ إذَا أَذِنَ لَهُ فِي التَّصَرُّفِ فَلَحِقَهُ دَيْنٌ فَإِذَا اسْتَوْفَى الْمُرْتَهِنُ مَالَهُ بِيعَ فِي الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ ، وَقَدْ سَقَطَ فَإِنْ فَضَلَ مِنْ دَيْنِهِ شَيْءٌ فَلَا سَبِيلَ لِلْغُرَمَاءِ حَتَّى يُعْتَقَ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ الْعَبْدُ مَرْهُونًا ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ تَاجِرًا ، وَلَهُ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُمَّ إنَّ مَوْلَى الْعَبْدِ وَهَبَ الْعَبْدَ ، وَقَبَضَهُ جَازَتْ الْهِبَةُ ، وَالدَّيْنُ لَازِمٌ عَلَيْهِ لِمَوْلَى الْعَبْدِ عَلَى حَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ وَهَبَ الْعَبْدَ دُونَ الْمَالِ ، وَالْمَالُ كَسْبُ الْعَبْدِ فِي ذِمَّةِ الْمَدْيُونِ فَهُوَ نَظِيرُ مَالٍ هُوَ عَيْنٌ فِي يَدِهِ فَلَا تَتَنَاوَلُهُ الْهِبَةُ ، وَلَكِنَّهُ سَالِمٌ لِمَوْلَاهُ بَعْدَ إخْرَاجِهِ الْعَبْدَ مِنْ مِلْكِهِ بِالْهِبَةِ .

وَلَوْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ دَيْنُ خَمْسِمِائَةٍ ، وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ فَكَفَلَ لِرَجُلٍ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ ثُمَّ اسْتَدَانَ أَلْفًا أُخْرَى ثُمَّ كَفَلَ بِأَلْفٍ أُخْرَى ثُمَّ بِيعَ الْعَبْدُ بِأَلْفٍ فَيَقُولُ أَمَّا الْكَفَالَةُ الْأُولَى فَيَبْطُلُ نِصْفُهَا ، وَيَضْرِبُ صَاحِبُهَا بِنِصْفِهَا فِي ذِمَّتِهِ ؛ لِأَنَّ الْفَارِغَ عَنْ مَالِيَّتِهِ عِنْدَ الْكَفَالَةِ الْأُولَى كَانَ بِقَدْرِ خَمْسِمِائَةٍ ، وَكَفَالَتُهُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى إنَّمَا تَصِحُّ فِيمَا هُوَ فَارِغٌ عَنْ مَالِيَّتِهِ عَنْ حَقِّ غَرِيمِهِ وَقْتَ الْكَفَالَةِ فَيَثْبُتُ مِنْ دَيْنِ الْمَكْفُولِ لَهُ الْأَوَّلِ مِقْدَارُ خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَالْكَفَالَةُ الثَّانِيَةُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ كَفَلَ بِهَا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ مَالِيَّتِهِ فَارِغًا فَيَضْرِبُ صَاحِبُ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ بِخَمْسِمِائَةٍ ، وَصَاحِبُ الدَّيْنِ الثَّانِي بِجَمِيعِ دَيْنِهِ ، وَهُوَ أَلْفٌ وَصَاحِبُ الْكَفَالَةِ الْأُولَى بِخَمْسِمِائَةٍ فَيَصِيرُ ثَمَنُ الْعَبْدِ ، وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ بَيْنَهُمْ أَرْبَاعًا غَيْرَ أَنَّك تَجْعَلُ كُلَّ خَمْسِمِائَةٍ سَهْمًا بِقَدْرِ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ يُسَلَّمُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ ، وَمِثْلُهُ لِصَاحِبِ الْكَفَالَةِ الْأُولَى ، وَمِقْدَارُ خَمْسِمِائَةٍ لِغَرِيمِ الْعَبْدِ الْآخَرِ ، وَعَلَى هَذَا جَمِيعُ الْأَوْجُهِ وَقِيَاسُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامِ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ) اعْلَمْ بِأَنَّ الْقَتْلَ بِغَيْرِ حَقٍّ مِنْ أَعْظَمِ الْجِنَايَاتِ بَعْدَ الْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا } وَقَالَ النَّبِيُّ : عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَلَا إنَّ أَعْتَى النَّاسِ ثَلَاثَةٌ : رَجُلٌ قَتَلَ غَيْرَ قَاتِلِ أَبِيهِ وَرَجُلٌ قَتَلَ قَبْل أَنْ يَدْخُل الْجَاهِلِيَّةَ وَرَجُلٌ قَتَلَ فِي الْحَرَمِ } ، وَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ بِعَرَفَاتٍ { أَلَا إنَّ دِمَاءَكُمْ وَنُفُوسَكُمْ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِي هَذَا فِي شَهْرِي هَذَا فِي مَقَامِي هَذَا } { وَلَمَّا قَتَلَ مُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَةَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ : لَا يُرْحَمُ فَدُفِنَ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلَفَظَتْهُ الْأَرْضُ ثُمَّ دُفِنَ فَلَفَظَتْهُ الْأَرْضُ فَقَالَ : أَمَا إنَّهَا تَقْبَلُ مَنْ هُوَ أَعْظَمُ جُرْمًا مِنْهُ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَرَاكُمْ حُرْمَةَ الْقَتْلِ } وَفِي قَتْلِ النَّفْسِ إفْسَادُ الْعَالَمِ وَنَقْضُ الْبِنْيَةِ .
وَمِثْلُ هَذَا الْفَسَادِ مِنْ أَعْظَمِ الْجِنَايَاتِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجَانِيَ مَأْخُوذٌ عَنْ الْجِنَايَةِ إلَّا أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الزَّجْرِ بِالْوَعِيدِ فِي الْآخِرَةِ مَا انْزَجَرَ إلَّا أَقَلَّ الْقَلِيلِ ، فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ إنَّمَا يَنْزَجِرُونَ مَخَافَةَ الْعَاجِلَةِ بِالْعُقُوبَةِ ، وَذَلِكَ بِمَا يَكُونُ مُتْلِفًا لِلْجَانِي أَوْ مُجْحِفًا بِهِ فَشَرَعَ اللَّهُ الْقِصَاصَ وَالدِّيَةَ لِتُحَقِّقَ مَعْنَى الزَّجْرِ .
وَهَذَا الْكِتَابُ لِبَيَانِ ذَلِكَ وَقَدْ سَمَّاهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ كِتَابَ الدِّيَاتِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ بِالْقَتْلِ أَعَمُّ مِنْ وُجُوبِ الْقِصَاصِ فَإِنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ فِي الْخَطَأِ ، وَفِي شَبَهِ الْعَمْدِ ، وَفِي الْعَمْدِ عِنْدَ تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ ، وَكَذَلِكَ الدِّيَةُ تَتَنَوَّعُ أَنْوَاعًا

، وَالْقِصَاصُ لَا يَتَنَوَّعُ فَلِهَذَا رَجَحَ جَانِبُ الدِّيَةِ فِي نِسْبَةِ الْكِتَابِ إلَيْهَا وَاشْتِقَاقُ الدِّيَةِ مِنْ الْأَدَاءِ ؛ لِأَنَّهَا مَالٌ مُودَى فِي مُقَابِلَةِ مُتْلَفٍ لَيْسَ بِمَالٍ وَهُوَ النَّفْسُ ، وَالْأَرْشُ الْوَاجِبُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى مَا دُونَ النَّفْسِ مُؤَدًّى أَيْضًا .
وَكَذَلِكَ الْقِيمَةُ الْوَاجِبَةُ فِي سَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ إلَّا أَنَّ الدِّيَةَ اسْمٌ خَاصٌّ فِي بَدَلِ النَّفْسِ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَا يَطْرُدُونَ الِاشْتِقَاقَ فِي جَمِيعِ مَوَاضِعِهِ ؛ لِقَصْدِ التَّخْصِيصِ بِالتَّعْرِيفِ ، وَسُمِّيَ بَدَلُ النَّفْسِ عَقْلًا أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا اعْتَادُوا ذَلِكَ مِنْ الْإِبِلِ فَكَانُوا يَأْتُونَ بِالْإِبِلِ لَيْلًا إلَى فِنَاءِ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ فَتُصْبِحُ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ ، وَالْإِبِلُ مَعْقُولَةٌ بِفِنَائِهِمْ فَلِهَذَا سَمَّوْهُ عَقْلًا .

ثُمَّ بَدَأَ الْكِتَابَ فَقَالَ : قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْقَتْلُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ عَمْدٌ وَخَطَأٌ وَشِبْهُ الْعَمْدِ ، وَالْمُرَادُ بِهِ بَيَانُ أَنْوَاعِ الْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ كَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ يَقُولُ : الْقَتْلُ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ : عَمْدٌ وَشِبْهُ عَمْدٍ ، وَخَطَأٌ وَمَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَأِ وَمَا لَيْسَ بِعَمْدٍ وَلَا خَطَأٍ وَلَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَأِ أَمَّا الْعَمْدُ فَهُوَ مَا تَعَمَّدْتَ ضَرْبَهُ بِسِلَاحٍ ؛ لِأَنَّ الْعَمْدَ هُوَ الْقَتْلُ ، وَقَصْدُ إزْهَاقِ الْحَيَاةِ ، وَهِيَ غَيْرُ مَحْسُوسَةٍ لِقَصْدِ أَخْذِهَا فَيَكُونُ الْقَصْدُ إلَى إزْهَاقِ الْحَيَاةِ بِالضَّرْبِ بِالسِّلَاحِ الَّذِي هُوَ جَارِحٌ عَامِلٌ فِي الظَّاهِرِ ، وَالْبَاطِنِ جَمِيعًا ثُمَّ الْمُتَعَلِّقُ بِهَذَا الْفِعْلِ أَحْكَامٌ مِنْهَا : الْمَأْثَمُ وَذَلِكَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا } الْآيَةَ .
وَمِنْهَا الْقِصَاصُ وَهُوَ ثَابِتٌ فِي قَوْله تَعَالَى { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } وَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَتَبَهُ عَلَى مَنْ قَبْلَنَا فَهُوَ مَكْتُوبٌ عَلَيْنَا مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ النَّسْخِ فِيهِ ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ مَكْتُوبٌ عَلَيْنَا فَقَالَ : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } ثُمَّ بَيَّنَ وَجْهَ الْحِكْمَةِ فِيهِ بِقَوْلِهِ : { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } ، وَفِيهِ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ حَيَاةٌ بِطَرِيقِ الزَّجْرِ ؛ لِأَنَّ مَنْ قَصَدَ قَتْلَ عَدُوِّهِ فَإِذَا تَفَكَّرَ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِ أَنَّهُ إذَا قَتَلَهُ قُتِلَ بِهِ انْزَجَرَ عَنْ قَتْلِهِ فَكَانَ حَيَاةً لَهُمَا .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ حَيَاةٌ بِطَرِيقِ دَفْعِ سَبَبِ الْهَلَاكِ فَإِنَّ الْقَاتِلَ بِغَيْرِ حَقٍّ يَصِيرُ حَرْبًا عَلَى أَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ خَوْفًا عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُمْ فَهُوَ يَقْصِدُ إفْنَاءَهُمْ ؛ لِإِزَالَةِ الْخَوْفِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَالشَّرْعُ مَكَّنَهُمْ مِنْ قَتْلِهِ قِصَاصًا لِدَفْعِ شَرِّهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ ،

وَإِحْيَاءُ الْحَيِّ فِي دَفْعِ سَبَبِ الْهَلَاكِ عَنْهُ ، وَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْعَمْدُ قَوَدٌ } أَيْ مُوجِبُهُ الْقَوَدُ فَإِنَّ نَفْسَ الْعَمْدِ لَا يَكُونُ قَوَدًا ، وَقَالَ : صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ { كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ } أَيْ حُكْمُ اللَّهِ ، وَالْقِصَاصُ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُسَاوَاةِ ، وَفِي حَقِيقَةِ اللُّغَةِ هُوَ اتِّبَاعُ الْأَثَرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ } وَاتِّبَاعُ أَثَرِ الشَّيْءِ فِي الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ ، فَجُعِلَ عِبَارَةً عَنْ الْمُسَاوَاةِ لِذَلِكَ .
وَمِنْ حُكْمِهِ : حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا مِيرَاثَ لِقَاتِلٍ بَعْدَ صَاحِبِ الْبَقَرَةِ } ، وَفِي رِوَايَةٍ { لَا شَيْءَ لِلْقَاتِلِ } أَيْ مِنْ الْمِيرَاثِ .

وَمِنْ حُكْمِهِ : وُجُوبُ الْمَالِ بِهِ عِنْدَ التَّرَاضِي أَوْ عِنْدَ تَعَذُّرِ إيجَابِ الْقِصَاصِ لِلشُّبْهَةِ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } أَيْ فَمَنْ أُعْطِيَ لَهُ مِنْ دَمِ أَخِيهِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ بِمَعْنَى الْفَضْلِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ } ، وَالْمُرَادُ بِهِ إذَا رَغِبَ الْقَاتِلُ فِي أَدَاءِ الدِّيَةِ فَالْمَوْلَى مَنْدُوبٌ إلَى مُسَاعَدَتِهِ عَلَى ذَلِكَ ، وَعَلَى الْقَاتِلِ أَدَاؤُهُ إلَيْهِ بِإِحْسَانٍ إذَا سَاعَدَهُ الْوَلِيُّ ، وَهَذِهِ الدِّيَةُ تَجِبُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ إذَا كَانَ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ وَالتَّرَاضِي فَكَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي الْتَزَمَهُ بِالْعَقْدِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ عِنْدَ تَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فَلِأَنَّ فِي الدِّيَةِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِ مَعْنَى الزَّجْرِ ، وَمَعْنَى الزَّجْرِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا يَكُونُ أَدَاؤُهُ مُجْحِفًا بِهِ ، وَهُوَ الْكَثِيرُ مِنْ مَالِهِ ، وَيَخْتَلِفُونَ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ بِهَذَا الْفَصْلِ عِنْدَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ بِهِ فَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَمْ تَجِبْ الدِّيَةُ بِالْعَمْدِ الْمُوجِبِ لِلْقِصَاصِ إلَّا أَنْ يُصَالِحَ الْوَلِيُّ الْقَاتِلَ عَلَى الدِّيَةِ وَلِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ قَوْلَانِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ : مُوجِبُ الْعَمْدِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ الْقِصَاصُ أَوْ الدِّيَةُ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِ الْمَوْلَى ، وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ : مُوجِبُهُ الْقِصَاصُ إلَّا أَنَّ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَخْتَارَ أَخْذَ الدِّيَةِ مِنْ غَيْرِ رِضَا الْقَاتِلِ ، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ إنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ } فَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوجِبُ الْقَتْلِ ، وَأَنَّ الْوَلِيَّ مُخَيَّرٌ بَيْنَهُمَا { ، وَلَمَّا أُتِيَ بِالْقَاتِلِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِلْوَلِيِّ أَتَعْفُو

فَقَالَ : لَا فَقَالَ أَتَأْخُذُ الدِّيَةَ فَقَالَ : لَا فَقَالَ الْقَتْلَ فَقَالَ نَعَمْ } فَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ الْوَلِيَّ يَسْتَبِدُّ بِأَخْذِ الدِّيَةِ كَمَا يَسْتَبِدُّ بِالْعَفْوِ ، وَالْقَتْلِ .
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا إتْلَافُ حَيَوَانٍ مُتَقَوِّمٍ فَيَكُونُ مُوجِبًا ضَمَانَ الْقِيمَةِ كَإِتْلَافِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ ، وَقِيمَةُ النَّفْسِ الدِّيَةُ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْحَيَوَانَ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، وَإِتْلَافُ الْمُقَوَّمِ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ يُوجِبُ الْقِيمَةَ ، وَقِيمَةُ النَّفْسِ الدِّيَةُ بِدَلِيلِ حَالَةِ الْخَطَأِ فَإِنَّ الدِّيَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِالْإِتْلَافِ لَا بِصِفَةِ الْخَطَأِ ؛ لِأَنَّهُ عُذْرٌ مُسْقِطٌ ، وَالْمُتْلِفُ فِي حَالَةِ الْعَمْدِ مَا هُوَ الْمُتْلِفُ فِي حَالَةِ الْخَطَأِ ، إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ الْقِصَاصَ بِمَعْنَى الِانْتِقَامِ وَشِفَاءِ الصَّدْرِ لِلْوَلِيِّ ، وَدَفْعِ الْغَيْظِ عَنْهُ فَكَانَ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّهُ إتْلَافٌ ، وَالْإِتْلَافُ لَا يَكُونُ وَاجِبًا بِمُقَابَلَةِ الْإِتْلَافِ وَهُوَ لَيْسَ بِمِثْلٍ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْجَمَاعَةَ يُقْتَلُونَ بِالْوَاحِدِ وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْعَشَرَةِ وَالْوَاحِدِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مَمْنُوعٌ بِمَعْنَى زِيَادَةِ النَّظَرِ لِلْوَلِيِّ ، وَذَلِكَ فِي أَنْ لَا يَسْقُطَ حَقُّهُ فِي الْوَاجِبِ الْأَصْلِيِّ بَلْ يَكُونُ مُتَمَكِّنًا فِيهِ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ وَيَدُ الْقَاطِعِ شَلَّاءُ أَوْ نَاقِصَةٌ بِأُصْبُعٍ فَإِنَّ الْقِصَاصَ وَاجِبٌ ، وَلِصَاحِبِ الْحَقِّ أَنْ يَأْخُذَ الْأَرْشَ بِغَيْرِ رِضَا الْجَانِي لِهَذَا الْمَعْنَى ؛ وَلِأَنَّ النَّفْسَ مُحْتَرَمَةٌ بِحُرْمَتَيْنِ ، وَفِي إتْلَافِهَا هَتْكُ الْحُرْمَتَيْنِ جَمِيعًا حُرْمَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَحُرْمَةِ حَقِّ صَاحِبِ النَّفْسِ وَجَزَاءُ حُرْمَةِ اللَّهِ الْعُقُوبَةُ زَجْرًا وَجَزَاءُ هَتْكِ حُرْمَةِ الْعَبْدِ الْغَرَامَةُ جَبْرًا .
وَلَكِنْ تَعَذَّرَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا هَاهُنَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُوجِبُ حَقًّا لِلْعَبْدِ حَتَّى يَعْمَلَ فِيهِ إسْقَاطُهُ وَيُورَثُ عَنْهُ وَيَسْقُطُ بِإِذْنِهِ ، وَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَ

الْحَقَّيْنِ لِمُسْتَحِقٍّ وَاحِدٍ بِمُقَابَلَةِ مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَأَثْبَتْنَا الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبِيلِ التَّخْيِيرِ ، وَقُلْنَا : إنْ شَاءَ مَالَ إلَى جَانِبِ هَتْكِ حُرْمَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتَوْفَى الْعُقُوبَةَ ، وَإِنْ شَاءَ مَالَ إلَى جِهَةِ حُرْمَةِ حَقِّ الْعِبَادِ فَاسْتَوْفَى الدِّيَةَ .

وَلَا خِلَافَ أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ فِي الدَّمِ إذَا عَفَا أَنَّ لِلْآخَرِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْمَالَ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَالُ وَاجِبًا لَهُ بِنَفْسِ الْقَتْلِ لَمَا وَجَبَ بِالْعَفْوِ ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ مُسْقِطٌ ، وَلَوْ وَجَبَ بِالْعَفْوِ لَوَجَبَ عَلَى الْعَافِي ، وَإِنْ كَانَ مُحْسِنًا كَضَمَانِ الْإِعْتَاقِ يَجِبُ عَلَى الْمُعْتِقِ إذَا كَانَ مُوسِرًا ، وَلَمَّا وَجَبَ الْمَالُ لِلْآخَرِ عَلَى الْقَتْلِ عَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا بِنَفْسِ الْقَتْلِ ، وَلَمَّا ظَهَرَ ذَلِكَ عِنْدَ الْعَفْوِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَعْفُ فَكَذَلِكَ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْعَافِي إذَا عَفَا عَنْ الْقِصَاصِ فَقُلْنَا : يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِ الْمَالِ ؛ وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ أَدَاءِ الدِّيَةِ بَعْدَمَا اسْتَحَقَّتْ نَفْسُهُ قِصَاصًا مُلْقٍ نَفْسَهُ فِي التَّهْلُكَةِ ، فَيَكُونُ مَمْنُوعًا شَرْعًا كَالْمُضْطَرِّ إذَا وَجَدَ طَعَامًا يَشْتَرِيهِ ، وَمَعَهُ ثَمَنُهُ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ شِرَاؤُهُ شَرْعًا لِهَذَا الْمَعْنَى فَكَذَا هَاهُنَا .
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْعَمْدُ قَوَدٌ } فَقَدْ أَدْخَلَ الْأَلِفَ ، وَاللَّامَ فِي الْعَمْدِ ، وَذَلِكَ لِلْمَعْهُودِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلِلْجِنْسِ ، وَلَيْسَ هَاهُنَا مَعْهُودٌ فَكَانَ لِلْجِنْسِ ، وَفِيهِ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ جِنْسَ الْعَمْدِ مُوجِبٌ لِلْقَوَدِ فَمَنْ جَعَلَ الْمَالَ وَاجِبًا بِالْعَمْدِ مَعَ الْقَوَدِ فَقَدْ زَادَ عَلَى النَّصِّ ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ الْعَمْدُ قَوَدٌ ، وَلَا مَالَ لَهُ فِيهِ وَعَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا : فِي دَمٍ عَمْدٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ عَفَا أَحَدُهُمَا انْقَلَبَ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا فَتَخْصِيصُهُمَا غَيْرَ الْعَافِي بِوُجُوبِ الْمَالِ لَهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعَافِيَ لَا شَيْءَ لَهُ فَأَمَّا مَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ { فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ } فَقَدْ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِيهِ فَإِنَّ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ { إنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا ، وَإِنْ أَحَبُّوا فَادَوْا .
} ، وَالْمُفَادَاةُ عَلَى مِيزَانِ الْمُفَاعَلَةِ

يَقْتَضِي وُجُودَ الْقَتْلِ بَيْنَ اثْنَيْنِ بِالتَّرَاضِي ، وَذَلِكَ أَخْذُ الدِّيَةِ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ ، وَتَأْوِيلُ الرِّوَايَةِ الَّتِي قَالَ : وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ مِنْ جِهَتَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ رِضَا الْقَاتِلِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِبَدِيهَةِ الْعَقْلِ فَإِنَّ مَنْ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ دَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ بِأَدَاءِ الْمَالِ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا مَنْ سَفِهَتْ نَفْسُهُ ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَهُ لِإِبْقَاءِ مَنْفَعَةِ الْمَالِ سَفَهٌ ، وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ بَعْدَمَا تَلِفَتْ نَفْسُهُ ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { خُذْ سَلَمَك أَوْ رَأْسَ مَالِك } ، وَهُوَ فِي أَخْذِ رَأْسِ الْمَالِ يَحْتَاجُ إلَى رِضَا الْمُسَلِّمِ إلَيْهِ ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ لَا لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ بَلْ ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ لَا يُجْبَرَ الْوَلِيُّ عَلَى أَخْذِ الدِّيَةِ شَاءَ أَوْ أَبَى لَا أَنَّ لَهُ أَنْ يُجْبِرَ غَيْرَهُ عَلَى أَدَاءِ الدِّيَةِ بِدَلِيلِ قِصَّةِ الْحَدِيثِ فَإِنَّهُ رُوِيَ { أَنَّ رَجُلًا مِنْ خُزَاعَةَ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٍ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ بَعْدَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكَفِّ عَنْ الْقَتْلِ فَخَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ أَمَّا أَنْتُمْ يَا مَعَاشِرَ خُزَاعَةَ فَقَدْ قَتَلْتُمْ هَذَا الْقَتِيلَ مِنْ هُذَيْلٍ ، وَأَنَا وَاَللَّهِ عَاقِلَتُهُ فَوَدَاهُ بِمِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ ثُمَّ قَالَ فَمَنْ قُتِلَ لَهُ بَعْدَ الْيَوْمِ قَتِيلٌ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ } فَقَدْ أَجْبَرَ الْوَلِيَّ عَلَى أَخْذِ الدِّيَةِ ثُمَّ تَبَيَّنَ بِهَذَا اللَّفْظِ أَنَّ الْحُكْمَ قَدْ انْتَسَخَ ، وَأَنَّ الْوَلِيَّ لَا يُجْبَرُ عَلَى أَخْذِ الدِّيَةِ بَعْدَهُ ، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ عَرَضَ الدِّيَةَ عَلَى الْوَلِيِّ ، وَهَذَا لَا يَنْفِي كَوْنَ رِضَا الْقَاتِلِ مَشْرُوطًا فِيهِ ، وَلَكِنَّهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَصَدَ التَّبَرُّعَ بِأَدَاءِ الدِّيَةِ مِنْ عِنْدِهِ ، وَلَمْ

يَعْتَبِرْ رِضَا الْقَاتِلِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ، أَوْ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ رَغْبَةَ الْمَوْلَى فِي أَخْذِ الدِّيَةِ ثُمَّ يَشْتَغِلُ بِاسْتِرْضَاءِ الْقَاتِلِ كَمَنْ سَعَى بِالصُّلْحِ بَيْنَ اثْنَيْنِ يَسْتَرْضِي أَحَدَهُمَا فَإِذَا تَمَّ لَهُ ذَلِكَ حِينَئِذٍ اسْتَرْضَى الْآخَرَ .
وَالْمَعْنَى فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ أَتْلَفَ شَيْئًا مَضْمُونًا فَيَتَقَدَّرُ ضَمَانُهُ بِالْمِثْلِ مَا أَمْكَنَ كَإِتْلَافِ الْمَالِ وَتَفْوِيتُ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ الصَّوْمِ ، وَالصَّلَاةِ ، وَالزَّكَاةِ يَكُونُ الْوَاجِبُ فِيهَا الْمِثْلُ إذَا أَمْكَنَ .
وَهَذَا لِأَنَّ ضَمَانَ الْمُتْلَفَاتِ مُقَدَّرٌ بِالْمِثْلِ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } ؛ وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمِثْلِ ظُلْمٌ عَلَى الْمُتَعَدِّي ، وَفِي النُّقْصَانِ يَحْسُنُ بِالْمُتَعَدَّى عَلَيْهِ ، وَالشَّرْعُ إنَّمَا يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ، وَذَلِكَ بِالْمِثْلِ ، إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ : الدِّيَةُ لَيْسَتْ بِمَالٍ لِلْمُتْلِفِ ، وَالْقِصَاصُ مِثْلٌ أَمَّا بَيَانُ أَنَّ الدِّيَةَ لَيْسَتْ بِمِثْلٍ ؛ فَلِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ تُعْرَفُ صُورَةً أَوْ مَعْنًى ، وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْمَالِ ، وَالْآدَمِيِّ صُورَةً ، وَلَا مَعْنًى ، وَالنَّفْسُ مَخْلُوقَةٌ لِأَمَانَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالِاشْتِغَالِ بِطَاعَتِهِ ؛ لِيَكُونَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ ، وَالْمَالُ مَخْلُوقٌ لِإِقَامَةِ مَصَالِحِ الْآدَمِيِّ بِهِ لِيَكُونَ مُبْتَذَلًا فِي حَوَائِجِهِ .
فَأَمَّا الْقِصَاصُ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ ؛ فَلِأَنَّهُ قَتْلٌ بِإِزَاءِ قَتْلٍ وَإِزْهَاقُ حَيَاةٍ بِإِزْهَاقِ حَيَاةٍ ، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فَالْمَقْصُودُ بِالْقَتْلِ لَيْسَ إلَّا الِانْتِقَامُ ، وَالثَّانِي فِي مَعْنَى الِانْتِقَامِ كَالْأَوَّلِ ، وَبِهَذَا سُمِّيَ قِصَاصًا ثُمَّ الْمِثْلُ وَاجِبٌ بِطَرِيقِ الْجَبْرِ ، وَلَا يُجْعَلُ جُبْرَانُ الْحَيَاةِ بِالْمَالِ ، وَإِنَّمَا جُبْرَانُ الْحَيَاةِ بِحَيَاةٍ مِثْلِهَا ، وَذَلِكَ فِي الْقِصَاصِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى أَنَّ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةً فَعَلَيْنَا أَنْ نَعْقِدَ

هَذَا الْمَعْنَى فِي الْقِصَاصِ عَقَلْنَاهُ أَوْ لَمْ نَعْقِلْهُ ، ثُمَّ هُوَ مَعْقُولٌ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ حَيَاةٌ بِطَرِيقِ دَفْعِ سَبَبِ الْهَلَاكِ ، وَلَكِنْ لِلْوَلِيِّ الَّذِي هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَقْتُولِ كَمَا أَنَّ الْمَالَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجِبُ إنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهِ الَّذِي هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَقْتُولِ ، وَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى إثْبَاتِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ بِالْقِصَاصِ ، وَهُوَ مَحْضُ حَقِّ الْعَبْدِ ، وَلَا حَقَّ لِلْعَبْدِ إلَّا فِي الْمِثْلِ ، فَأَمَّا أَجْزِيَةُ الْأَفْعَالِ الْمُحَرَّمَةِ فَتَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا حَاجَتُنَا إلَى أَنْ يَثْبُتَ أَنَّ الْمَالَ لَيْسَ بِمِثْلٍ لِلنَّفْسِ وَقَدْ أَثْبَتنَا ذَلِكَ فَقُلْنَا : لَا يَجِبُ بِمُقَابَلَةِ النَّفْسِ الْمُتْلَفَةِ قَتْلًا إلَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَجِبُ بِتَعَذُّرِ إيجَابِ الْمِثْلِ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ الْمَالُ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ ، وَهُوَ فِي حَالَةِ الْخَطَأِ ؛ لِأَنَّ الْمِثْلَ نِهَايَةٌ فِي الْعُقُوبَاتِ الْمُعَجَّلَةِ فِي الدُّنْيَا ، وَالْخَاطِئُ مَعْذُورٌ فَتَعَذَّرَ إيجَابُ الْمِثْلِ عَلَيْهِ ، وَنَفْسُ الْمَقْتُولِ مُحَرَّمَةٌ لَا يَسْقُطُ جُزْءٌ مِنْهَا بِعُذْرِ الْخَاطِئِ فَوَجَبَ صِيَانَتُهَا عَنْ الْهَدَرِ فَأَوْجَبَ الشَّرْعُ الْمَالَ فِي حَالَةِ الْخَطَأِ لِصِيَانَةِ النَّفْسِ الْمُحَرَّمَةِ عَنْ الْإِهْدَارِ لَا بِطَرِيقِ أَنَّهُ مِثْلٌ كَمَا أَوْجَبَ الْفِدْيَةَ عَلَى الشَّيْخِ الْفَانِي عِنْدَ وُقُوعِ الْيَأْسِ بِهِ عَنْ الصَّوْمِ وَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِطْعَامَ مِثْلُ الصَّوْمِ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنْ اسْتِيفَاءِ مِثْلِ حَقِّهِ لَا مَعْنَى لِإِيجَابِ الْمَالِ وَكَمَا ثَبَتَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْخَطَأِ قُلْنَا : فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْ مَوَاضِعِ الْعَمْدِ بِتَحَقُّقِ هَذَا الْمَعْنَى نُوجِبُ هَذَا الْمَالَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْمَخْصُوصَ مِنْ الْقِيَاسِ بِالنَّصِّ يَلْحَقُ بِهِ مَا يَكُونُ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَالْأَبُ إذَا قَتَلَ ابْنَهُ عَمْدًا يَجِبُ

الْمَالُ لِتَعَذُّرِ إيجَابِ الْقِصَاصِ لِحُرْمَةِ الْأُبُوَّةِ .
وَإِذَا عَفَا أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ يَجِبُ لِلْآخَرِ الْمَالُ ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لِمَعْنًى فِي الْقَاتِلِ ، وَهُوَ أَنَّهُ حَتَّى يَقُصَّ نَفْسَهُ بِعَفْوِ الشَّرِيكِ فَكَانَ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْخَطَأِ فَوَجَبَ الْمَالُ لِلْآخَرِ ، وَلَا يَجِبُ لِلْعَافِي ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ عَلَى الْعَافِي بِإِسْقَاطِهِ مِنْ جِهَتِهِ لَا بِمَعْنًى فِي الْقَاتِلِ ، ثُمَّ إقْدَامُ الْعَافِي عَلَى الْعَفْوِ يَكُونُ تَعْيِينًا مِنْهُ لِحَقِّهِ فِي الْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ يُعْتَرَفُ فِيهِ بِالْإِسْقَاطِ ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ تَعْيِينِ حَقِّهِ فِيهِ ، وَمَعَ تَعْيِينِ حَقِّهِ فِي الْقِصَاصِ لَا يَجِبُ لَهُ الْمَالُ .
وَإِذَا مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ إنَّمَا لَا نُوجِبُ الْمَالَ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى الْخَاطِئِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَإِنْ تَعَذَّرَ إيجَابُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَانَ لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ فَلَوْ أَلْحَقْنَا هَذَا بِالْخَاطِئِ لِمَعْنَى التَّعَذُّرِ كَانَ قِيَاسًا ، وَالْمَخْصُوصُ مِنْ الْقِيَاسِ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ ، وَإِذَا كَانَتْ يَدُ الْقَاطِعِ شَلَّاءَ فَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ هَاهُنَا عَاجِزٌ عَنْ اسْتِيفَاءِ مِثْلِ حَقِّهِ بِصِفَتِهِ لَا لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ بَلْ لِمَعْنًى فِي الْجَانِي فَإِنْ شَاءَ تَجَوَّزَ بِدُونِ حَقِّهِ ، وَإِنْ شَاءَ مَالَ إلَى اسْتِيفَاءِ الْأَرْشِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَتْلَفَ عَلَى آخَرَ كُرَّ حِنْطَةٍ ، وَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُ إلَّا كُرًّا رَدِيئًا فَإِنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَتَجَوَّزَ بِدُونِ حَقِّهِ ، وَبَيْنَ أَنْ يُطَالِبَ بِالْقِيمَةِ ؛ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمِثْلِ بِصِفَتِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا قُطِعَتْ يَدُ الْقَاطِعِ ظُلْمًا ؛ لِأَنَّ تَعَذُّرَ الِاسْتِيفَاءِ هَاهُنَا لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ فَلَمْ يَكُنْ فِي الْمَعْنَى الْأَوَّلِ ، وَهُوَ بِخِلَافِ مَا إذَا قُطِعَتْ يَدُهُ فِي سَرِقَةٍ أَوْ قِصَاصٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْأَرْشُ ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ هُنَاكَ فِي مَعْنَى الْقَائِمِ حُكْمًا حِينَ قَضَى بِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ

فَيَكُونُ كَالسَّالِمِ لَهُ حُكْمًا فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ هُوَ فِي مَعْنَى الْخَطَأِ ، وَمَا قَالَ أَنَّ فِي النَّفْسِ حُرْمَتَيْنِ فَنَقُولُ فِي نَفْسِ الْقَاتِلِ حُرْمَتَانِ كَمَا فِي نَفْسِ الْمَقْتُولِ فَإِذَا أَوْجَبْنَا الْقِصَاصَ يَحْصُلُ بِهِ مُرَاعَاةُ الْحُرْمَتَيْنِ جَمِيعًا ، ثُمَّ الْقِصَاصُ لَا يَجِبُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْحُرْمَتَيْنِ جَمِيعًا ، وَإِذَا اعْتَبَرْنَاهُمَا لِإِيجَابِ الْقِصَاصِ لَا يَبْقَى حُرْمَةٌ أُخْرَى تُعْتَبَرُ لِإِيجَابِ الْمَالِ ، وَلَوْ كَانَ الْمَعْنَى الَّذِي قَالَهُ صَحِيحًا لَوَجَبَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا اسْتِيفَاءً كَمَنْ قَتَلَ صَيْدًا مَمْلُوكًا فِي الْحَرَمِ يَجْمَعُ بَيْنَ وُجُوبِ الْكَفَالَةِ ؛ لِحُرْمَةِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَوُجُوبِ الضَّمَانِ لِحَقِّ الْمَالِكِ .
وَفِيمَا قَرَّرْنَا جَوَابٌ عَمَّا قَالَ : إنَّ الْقِصَاصَ وَاجِبٌ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ الْمِثْلُ صُورَةً وَمَعْنًى هُوَ الْقِصَاصُ عُلِمَ أَنَّهُ هُوَ الْمُوجِبُ الْأَصْلِيُّ ، وَاَلَّذِي قَالَ : إنَّهُ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ أَدَاءِ الدِّيَةِ يُسَلِّمُ نَفْسَهُ فِي التَّهْلُكَةِ ضَعِيفٌ ، فَإِنَّ إلْقَاءَ النَّفْسِ فِي التَّهْلُكَةِ إنَّمَا كَانَ بِالْقَبِيلِ السَّابِقِ فَأَمَّا بِالِامْتِنَاعِ مِنْ أَدَاءِ الدِّيَةِ يُسَلِّمُ نَفْسَهُ لِإِيفَاءِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ ، وَيَمْتَنِعُ مِنْ أَدَاءِ مَا لَيْسَ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ بِهِ مُلْقِيًا نَفْسَهُ فِي التَّهْلُكَةِ .

وَأَمَّا شِبْهُ الْعَمْدِ : فَهُوَ مَا تَعَمَّدْت ضَرْبَهُ بِالْعَصَا أَوْ السَّوْطِ أَوْ الْحَجَرِ أَوْ الْيَدِ فَإِنَّ فِي هَذَا الْفِعْلَ مَعْنَيَيْنِ : الْعَمْدِ بِاعْتِبَارِ قَصْدِ الْفَاعِلِ إلَى الضَّرْبِ ، وَمَعْنَى الْخَطَأِ بِاعْتِبَارِ انْعِدَامِ الْقَصْدِ مِنْهُ إلَى الْقَتْلِ ؛ لِأَنَّ الْآلَةَ الَّتِي اسْتَعْمَلَهَا آلَةُ الضَّرْبِ لِلتَّأْدِيبِ دُونَ الْقَتْلِ ، وَالْعَاقِلُ إنَّمَا يَقْصِدُ كُلَّ فِعْلٍ بِآلَتِهِ فَاسْتِعْمَالُهُ آلَةَ التَّأْدِيبِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ قَاصِدٍ إلَى الْقَتْلِ فَكَانَ فِي ذَلِكَ خَطَأٌ لِشِبْهِ الْعَمْدِ صُورَةً مِنْ حَيْثُ إنَّهُ كَانَ قَاصِدًا إلَى الضَّرْبِ ، وَإِلَى ارْتِكَابِ مَا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ .
وَكَانَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ لَا أَدْرِي مَا شِبْهُ الْعَمْدِ ، وَإِنَّمَا الْقَتْلُ نَوْعَانِ عَمْدٌ وَخَطَأٌ ، وَهَذَا فَاسِدٌ فَإِنَّ شِبْهَ الْعَمْدِ وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ عَلَى مَا رَوَاهُ النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَأِ الْعَمْدِ قَتِيلَ السَّوْطِ وَالْعَصَا وَفِيهِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَعُونَ مِنْهَا خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا } ، وَالصَّحَابَةُ اتَّفَقُوا عَلَى شِبْهِ الْعَمْدِ حَيْثُ أَوْجَبُوا الدِّيَةَ فِيهِ مُغَلَّظَةً مَعَ اخْتِلَافِهِمْ فِي صِفَةِ التَّغْلِيظِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شِبْهُ الْعَمْدِ الضَّرْبَةُ بِالْعَصَا وَالْعَزْقَةُ بِالْحَجَرِ الْعَظِيمِ .
فَأَمَّا بَيَانُ أَحْكَامِ شِبْهُ الْعَمْدِ فَنَقُولُ : إنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيهِ ؛ لِتَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ ، وَالْخَطَأِ مِنْ حَيْثُ انْعِدَامُ الْقَصْدِ إلَى الْقَتْلِ ، وَالْقِصَاصُ عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَهِيَ تَعَمُّدُ الْمُسَاوَاةِ ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ قَتْلٍ مَقْصُودٍ وَقَتْلٍ غَيْرِ مَقْصُودٍ ، ثُمَّ هَذَا الْقَتْلُ لَمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ ، وَالْآخَرُ يَمْنَعُ تَرَجَّحَ الْمَانِعُ عَلَى الْمُوجِبِ ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ فِي إبْقَاءِ النَّفْسِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ ، فَإِنَّ الْإِبْقَاءَ حَيَاةٌ حَقِيقَةً

، وَفِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ حُكْمًا فَلِهَذَا لَا يُوجِبُ الْقَوَدَ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ ، وَإِذَا تَعَذَّرَ إيجَابُ الْقَوَدِ وَجَبَتْ الدِّيَةُ ، وَهِيَ مُغَلَّظَةٌ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ { أَرْبَعُونَ خَلِفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا } وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا الدِّيَةَ مُغَلَّظَةً فِي شِبْهِ الْعَمْدِ ، وَهَذَا التَّغْلِيظُ إنَّمَا يَظْهَرُ فِي أَسْنَانِ الْإِبِلِ إذَا وَجَبَتْ الدِّيَةُ مِنْهَا لَا فِي شَيْءٍ آخَرَ ، وَهَذِهِ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ بِمَنْزِلَةِ الدِّيَةِ فِي الْخَطَأِ ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الْأَصَمِّ يَقُولُ : لَا تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِحَالٍ ؛ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ : { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } { ؛ وَلِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي رِمْثَةَ حِينَ دَخَلَ عَلَيْهِ مَعَ ابْنِهِ أَمَّا أَنَّهُ لَا يَجْنِي عَلَيْك ، وَلَا تَجْنِي عَلَيْهِ } أَيْ لَا يُؤْخَذُ بِجِنَايَتِك ، وَلَا تُؤْخَذُ بِجِنَايَتِهِ .
وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْإِتْلَافِ يَجِبُ عَلَى الْمُتْلِفِ دُونَ غَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ غَرَامَاتِ الْأَمْوَالِ ، وَهَذَا أَوْلَى ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْمُتْلِفِ فِي إتْلَافِ النَّفْسِ أَعْظَمُ مِنْ جِنَايَتِهِ فِي إتْلَافِ الْأَمْوَالِ ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ عَقْلَ جِنَايَةِ كُلِّ بَطْنٍ مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَيْهِمْ } ، وَفِي حَدِيثِ { حَمْدَانَ بْنِ مَالِكِ بْنِ نَابِغَةَ قَالَ : كُنْت بَيْنَ جَارِيَتَيْنِ لِي فَضَرَبَتْ أَحَدُهُمَا بَطْنَ صَاحِبَتِهَا بِعَمُودِ فُسْطَاطٍ أَوْ بِمِسْطَحِ خَيْمَةٍ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا فَاخْتَصَمَ أَوْلِيَاؤُهَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِأَوْلِيَاءِ الضَّارِبَةِ دُوهُ فَقَالَ أَخُوهَا عِمْرَانُ بْنُ عُوَيْمِرٌ الْأَسْلَمِيُّ أَنَدِي مَنْ لَا صَاحَ ، وَلَا اسْتَهَلَّ ، وَلَا

شَرِبَ ، وَلَا أَكَلَ وَمِثْلُ دَمِهِ بَطَلَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَسَجْعٌ كَسَجْعِ الْكُهَّانِ } ، وَفِي رِوَايَةٍ { دَعْنِي ، وَأَرَاجِيزَ الْعَرَبِ قُومُوا فَدُوهُ } الْحَدِيثَ .
فَفِيهِ تَنْصِيصٌ عَلَى إيجَابِ الدِّيَةِ عَلَى الْقَاتِلِ ثُمَّ هُوَ مَعْقُولُ الْمَعْنَى مِنْ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ إنَّمَا يَقْصِدُهُ الْقَاتِلُ بِزِيَادَةِ قُوَّةٍ لَهُ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالتَّنَاصُرِ الظَّاهِرِ بَيْنَ النَّاسِ ، وَلِهَذَا التَّنَاصُرِ أَسْبَابٌ مِنْهَا مَا يَكُونُ بَيْنَ أَهْلِ الدِّيوَانِ بِاجْتِمَاعِهِمْ فِي الدِّيوَانِ ، وَمِنْهَا مَا يَكُونُ بَيْنَ الْعَشَائِرِ ، وَأَهْلِ الْمَحَالِّ ، وَأَهْلِ الْحِرَفِ فَإِنَّمَا يَكُونُ تَمَكُّنُ الْفَاعِلِ مِنْ مُبَاشَرَتِهِمْ بِنُصْرَتِهِمْ فَيُوجِبُ الْمَالَ عَلَيْهِمْ ؛ لِيَكُونَ زَجْرًا لَهُمْ عَنْ غَلَبَةِ سُفَهَائِهِمْ ؛ وَبَعْثًا لَهُمْ عَلَى الْأَخْذِ عَلَى أَيْدِي سُفَهَائِهِمْ لِكَيْ لَا تَقَعَ مِثْلُ هَذِهِ الْحَادِثَةِ هَذَا فِي شِبْهِ الْعَمْدِ ، وَكَذَلِكَ فِي الْخَطَأِ ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ قَلَّمَا يُبْتَلَى بِهِ الْمَرْءُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ إلَّا لِضَرْبِ اسْتِهَانَةٍ وَقِلَّةِ مُبَالَاةٍ تَكُونُ مِنْهُ ، وَذَلِكَ بِنَصْرِهِ مَنْ يَنْصُرُهُ ثُمَّ الدِّيَةُ مَالٌ عَظِيمٌ ، وَفِي إيجَابِ الْكُلِّ عَلَى الْقَاتِلِ إجْحَافٌ بِهِ فَأَوْجَبَ الشَّرْعُ ذَلِكَ عَلَى الْعَاقِلَةِ ؛ دَفْعًا لِضَرَرِ الْإِجْحَافِ عَنْ الْقَاتِلِ كَمَا أَوْجَبَ النَّفَقَةَ عَلَى الْأَقَارِبِ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ ؛ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْحَاجَةِ .
وَلِهَذَا أَوْجَبَ عَلَيْهِمْ مُؤَجَّلًا عَلَى وَجْهٍ يَقِلُّ مَا يُؤَدِّيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي كُلِّ نَجْمٍ لِيَكُونَ الِاسْتِيفَاءُ فِي نِهَايَةٍ مِنْ التَّيْسِيرِ عَلَيْهِمْ وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُبْتَلَى بِمِثْلِ ذَلِكَ فَهَذَا يُوَاسِي ذَلِكَ إذَا اُبْتُلِيَ بِهِ ، وَذَلِكَ يُوَاسِي هَذَا فَيُدْفَعُ ضَرَرُ الْإِجْحَافِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَيَحْصُلُ مَعْنَى صِيَانَةِ دَمِ الْمَقْتُولِ عَنْ الْهَدَرِ ، وَمَعْنَى الْإِعْسَارِ لِوَرَثَتِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ

، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّا لَا نَجْعَلُ وِزْرَ أَحَدٍ عَلَى غَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا نُوجِبُ مَا نُوجِبُهُ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ فِي الْمُوَاسَاةِ ، وَبِهَذَا لَا نُوجِبُ ذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُتْلَفُ مَالًا ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ قَلَّ مَا يَعْظُمُ هُنَاكَ بَلْ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِ الْمُتْلَفِ فَلَا يُؤَدِّي إلَى الْإِجْحَافِ بِالْمُتْلِفِ أَنْ لَوْ ضَمِنَ بِهِ ، وَهَذَا لَا نُوجِبُ الْقَلِيلَ مِنْ الْأَرْشِ ، وَهُوَ مَا دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ .
وَمِنْ مُوجِبِ شِبْهِ الْعَمْدِ أَيْضًا حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ ؛ لِأَنَّهُ جَزَاءُ أَصْلِ الْفِعْلِ ، وَهُوَ مَا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَمِنْ مُوجِبِهِ الْكَفَّارَةُ أَيْضًا بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّهُ جَزَاءُ أَصْلِ الْفِعْلِ ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَبِهَذَا ثَبَتَ فِي الْخَطَأِ الْمَحْضِ فَفِي شِبْهِ الْعَمْدِ أَوْلَى ، وَأَمَّا الْخَطَأُ فَهُوَ مَا أَصَبْت مِمَّا كُنْت تَعَمَّدْت غَيْرَهُ .

وَالْخَطَأُ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَقْصِدَ الرَّمْيَ إلَى صَيْدٍ أَوْ هَدَفٍ أَوْ كَافِرٍ فَيُصِيبُ مُسْلِمًا فَهَذَا خَطَأٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ انْعَدَمَ مِنْهُ الْقَصْدُ إلَى الْمَحَلِّ الَّذِي أَصَابَ وَالثَّانِي : أَنْ يَرْمِيَ شَخْصًا يَظُنُّهُ حَرْبِيًّا فَإِذَا هُوَ مُسْلِمٌ أَوْ يَظُنُّهُ صَيْدًا فَإِذَا هُوَ مُسْلِمٌ فَهَذَا خَطَأٌ بِاعْتِبَارِ مَا فِي قَصْدِهِ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ قَاصِدًا إلَى الْمَحَلِّ الَّذِي أَصَابَهُ وَحُكْمُ الْخَطَأِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِيهِ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ مَوْضُوعٌ عَنَّا رَحْمَةً مِنْ الشَّرْعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ } وَقَالَ : { رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا } وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ ، وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ .
} فَإِذَا تَعَذَّرَ إيجَابُ الْقِصَاصِ وَجَبَتْ الدِّيَةُ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } وَبَيَّنَّا الْمَعْنَى فِيهِ ؛ لِصِيَانَةِ دَمِ الْمَقْتُولِ عَنْ الْهَدَرِ فَاسْتِحْقَاقُ صِيَانَةِ نَفْسِهِ لَا يَسْقُطُ بِعُذْرِ الْخَاطِئِ ، وَمِنْ مُوجِبِهِ الْكَفَّارَةُ فَإِنَّهَا تَثْبُتُ بِهَذَا النَّصِّ أَيْضًا ، وَالْمَعْنَى فِيهِ مَعْقُولٌ فَإِنَّ الْقَتْلَ أَمْرٌ عَظِيمٌ قَلَّ مَا يُبْتَلَى بِهِ الْمَرْءُ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ مَا لَمْ يَكُنْ بِهِ تَهَاوُنٌ فِي التَّحَرُّزِ ، وَعَلَى كُلِّ أَحَدٍ الْمُبَالَغَةُ فِي التَّحَرُّزِ لِكَيْ لَا يُبْتَلَى بِمِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ ، فَإِذَا تَرَكَ ذَلِكَ كَانَ هُوَ مُلْتَزِمًا بِتَرْكِ التَّحَرُّزِ فَنُوجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ جَزَاءً عَلَى ذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ لَا يُبْتَلَى بِهِ الْمَرْءُ إلَّا بِنَوْعِ خِذْلَانٍ ، وَهَذَا الْخِذْلَانُ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ ذُنُوبٍ سَبَقَتْ مِنْهُ ، وَالْحَسَنَةُ تُذْهِبُ السَّيِّئَةَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } فَنُوجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ ؛ لِتَكُونَ مَاحِيَةً لِلذُّنُوبِ السَّابِقَةِ

، فَلَا يُبْتَلَى بِمِثْلِ هَذَا الْأَمْرِ الْعَظِيمِ بَعْدَهَا ، وَفِي سَيِّئَةِ الْعَمْدِ مَعْنَى إيجَابِ الْكَفَّارَةِ أَظْهَرُ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْمَأْثَمِ بِالْقَصْدِ إلَى أَصْلِ الْفِعْلِ .
وَفِيهِ حَدِيثُ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ حَيْثُ قَالَ : { أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِصَاحِبٍ لَنَا قَدْ أَوْجَبَ النَّارَ بِالْقَتْلِ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعْتِقُوا عَنْهُ رَقَبَةً يَعْتِقْ اللَّهُ تَعَالَى بِكُلِّ عُضْوٍ عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ } ، وَإِيجَابُ النَّارِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْإِقْدَامِ عَلَى قَتْلٍ مُحَرَّمٍ ، وَقَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ فِي الْعَمْدِ الْمَحْضِ فَعَرَفْنَا : أَنَّ الْمُرَادَ شِبْهُ الْعَمْدِ ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ : الْمَعْنَى فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِالْقَتْلِ أَنَّهُ نَقَّصَ مِنْ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ أَحَدَهُمْ مِمَّنْ كَانَ يَحْضُرُ الْجُمَعَ ، وَالْجَمَاعَاتِ فَعَلَيْهِ إقَامَةُ نَفْسٍ مَقَامَ مَا أَتْلَفَ ، وَلَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ إحْيَاءً فَعَلَيْهِ إقَامَةُ مَقَامِ النَّفْسِ الْمُتْلَفَةِ تَحْرِيرًا ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ حَيَاةٌ ، وَالرِّقُّ تَلَفٌ .
وَبِهَذَا أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْعَامِدِ ، وَقُلْنَا نَحْنُ : إنَّمَا أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ سَلَّمَ لَهُ نَفْسَهُ شُكْرًا لِلَّهِ حِين أَسْقَطَ عَنْهُ الْقَوَدَ بِعُذْرِ الْخَطَأِ مَعَ تَحَقُّقِ إتْلَافِ النَّفْسِ مِنْهُ فَعَلَيْهِ إقَامَةُ نَفْسٍ مَقَامَ نَفْسِهِ شُكْرًا لِلَّهِ ، وَذَلِكَ فِي أَنَّ تَحَرُّرَ نَفْسٍ مِنْهُ ؛ لِتَشْتَغِلَ بِعِبَادَةِ اللَّهِ ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ شُكْرًا لِلَّهِ حَيْثُ سَلَّمَ لَهُ نَفْسَهُ ، وَبِهَذَا لَا نُوجِبُ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْعَامِدِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصَ وَنُوجِبُهَا فِي شِبْهِ الْعَمْدِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ سَلَّمَ لَهُ نَفْسَهُ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ .
وَتَرْجِيحُ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ عَلَى الْآخَرِ يُبَيَّنُ فِي مَسْأَلَةِ كَفَّارَةِ الْعَمْدِ إذَا انْتَهَيْنَا إلَيْهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَيْسَ فِي هَذِهِ

الْكَفَّارَةِ إطْعَامٌ عِنْدَنَا ، وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ إذَا عَجَزَ عَنْ الصَّوْمِ يُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا بِالْقِيَاسِ عَلَى كَفَّارَةِ الظِّهَارِ ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ قِيَاسَ الْمَنْصُوصِ عَلَى الْمَنْصُوصِ يَجُوزُ فَإِنَّ الْمُطْلَقَ وَالْمُقَيَّدَ فِي حَادِثَيْنِ يُحْمَلُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عِنْدَنَا ، وَمَوْضِعُ بَيَانِهِ أُصُولُ الْفِقْهِ .
فَأَمَّا مَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَأِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الرَّازِيّ فَهُوَ النَّائِمُ إذَا انْقَلَبَ عَلَى إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ ، وَهَذَا لَيْسَ بِعَمْدٍ ، وَلَا خَطَأٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَصَوُّرَ لِلْقَصْدِ مِنْ النَّائِمِ حَتَّى يُتَصَوَّرَ مِنْهُ تَرْكُ الْقَصْدِ أَوْ تَرْكُ التَّحَرُّزِ ، وَلَكِنَّ الِانْقِلَابَ الْمُوجِبَ لِتَلَفِ مَا انْقَلَبَ عَلَيْهِ يَتَحَقَّقُ مِنْ النَّائِمِ فَيَجْرِي هَذَا مَجْرَى الْخَطَأِ حَتَّى تَجِبَ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَالْكَفَّارَةُ وَيَثْبُتُ بِهِ حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ ؛ لِيُوهِمَ أَنْ يَكُونَ مُتَهَاوِنًا ، وَلَمْ يَكُنْ نَائِمًا قَصْدًا مِنْهُ إلَى اسْتِعْجَالِ الْمِيرَاثِ ، وَأَظْهَرَ مِنْ نَفْسِهِ الْقَصْدَ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ .

فَأَمَّا مَا لَيْسَ بِعَمْدٍ ، وَلَا خَطَأٍ ، وَلَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَأِ فَهُوَ حَافِرُ الْبِئْرِ وَوَاضِعُ الْحَجَرِ فِي الطَّرِيقِ فَلَيْسَ بِمُبَاشِرٍ لِلْقَتْلِ ؛ لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ الْقَتْلِ بِإِيصَالِ فِعْلٍ مِنْ الْقَاتِلِ بِالْمَقْتُولِ وَلَمْ يُوجَدْ ، وَإِنَّمَا اتَّصَلَ فِعْلُهُ بِالْأَرْضِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِقَاتِلِ عَمْدٍ ، وَلَا شِبْهِ عَمْدٍ ، وَلَا خَطَأٍ ، وَلَا مَا أُجْرِيَ مَجْرَى الْخَطَأِ بَلْ هُوَ بِسَبَبٍ مُتَعَدٍّ فَنُوجِبُ الدِّيَةَ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِلْحَاجَةِ إلَى صِيَانَةِ النَّفْسِ الْمُتْلَفَةِ عَنْ الْهَدَرِ ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ، وَلَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ عَلَى مَا يَأْتِيك بَيَانُهُ فِي بَابِهِ قَالَ : وَفِي النَّفْسِ الدِّيَةُ ، مَعْنَاهُ بِسَبَبِ إتْلَافِ النَّفْسِ فَإِنَّ حَرْفَ فِي لِلظَّرْفِ حَقِيقَةً ، وَالنَّفْسُ لَا تَكُونُ ظَرْفًا لِلدِّيَةِ بَلْ قَتْلُهَا سَبَبٌ لِوُجُوبِ الدِّيَةِ كَمَا يُقَالُ فِي النِّكَاحِ حَلَّ ، وَفِي الشِّرَاءِ مَلَكَ .
وَهَذَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } وَقَالَ : عَلَيْهِ السَّلَامُ { فِي النَّفْسِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ } وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي النَّفْسِ الدِّيَةُ ، وَمَا لَا يُعْرَفُ بِالرَّأْيِ ، وَالْمَنْقُولُ عَنْهُ فِيهِ كَالْمَرْفُوعِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

وَفِي الْأَنْفِ الدِّيَةُ ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا لَا ثَانِيَ لَهُ فِي الْبَدَنِ مِنْ أَعْضَاءٍ أَوْ مَعَانٍ مَقْصُودَةٍ فَإِتْلَافُهَا كَإِتْلَافِ النَّفْسِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ بِهَا كَمَالُ الدِّيَةِ ، وَالْأَعْضَاءُ الَّتِي هِيَ أَفْرَادٌ ثَلَاثَةٌ الْأَنْفُ ، وَاللِّسَانُ ، وَالذَّكَرُ وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ فِي حَدِيثِ سَعِيدِ ابْنِ الْمُسَيِّبِ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ : فِي الْأَنْفِ الدِّيَةُ وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ } ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ثُمَّ قَطْعُ الْأَنْفِ تَفْوِيتُ جَمَالٍ كَامِلٍ وَمَنْفَعَةٍ كَامِلَةٍ وَامْتِيَازُ الْآدَمِيِّ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ فَاتَ بِهِمَا فَتَفْوِيتُهُمَا فِي مَعْنَى تَفْوِيتِ النَّفْسِ فَكَمَا تَجِبُ الدِّيَةُ بِقَطْعِ جَمِيعِ الْأَنْفِ بِحَيْثُ يُقْطَعُ الْمَارِنُ ؛ لِأَنَّ تَفْوِيتَ الْجَمَالِ بِهِ يَحْصُلُ ، وَكَذَلِكَ تَفْوِيتُ الْمَنْفَعَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِي الْأَنْفِ اجْتِمَاعُ الرَّوَائِحِ فِي قَصَبَةِ الْأَنْفِ ؛ لِنَقْلِهِ مِنْهَا إلَى الدِّمَاغِ ، وَذَلِكَ تَفْوِيتٌ بِقَطْعِ الْمَارِنِ وَالْمَارِنُ : مَا دُونَ قَصَبَةِ الْأَنْفِ ، وَهُوَ مَا لَانَ مِنْهُ وَكَذَلِكَ فِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ ؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ قَدْ امْتَازَ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ بِاللِّسَانِ وَقَدْ مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ عَلَى عِبَادِهِ فَقَالَ تَعَالَى : { خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ } وَذَلِكَ يَفُوتُ بِقَطْعِ اللِّسَانِ فَفِيهِ تَفْوِيتُ أَعْظَمِ الْمَقَاصِدِ فِي الْآدَمِيِّ .
وَكَذَلِكَ فِي قَطْعِ بَعْضِ اللِّسَانِ إذَا مَنَعَ الْكَلَامَ ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَمْنَعُ بَعْضَ الْكَلَامِ دُونَ الْبَعْضِ فَالْجَوَابُ الظَّاهِرُ أَنَّ فِيهِ حُكُومَةَ عَدْلٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ تَفْوِيتُ الْمَقْصُودِ بِهَذَا الْقَدْرِ ، وَإِنَّمَا تَمَكَّنَ فِيهِ نُقْصَانٌ فَيَجِبُ بِاعْتِبَارِهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا : رَحِمَهُمُ اللَّهُ إنَّ الدِّيَةَ تُقَسَّمُ عَلَى الْحُرُوفِ فَحِصَّةُ مَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَحِّحَهُ مِنْ الْحُرُوفِ تَسْقُطُ عَنْهُ ، وَحِصَّةُ مَا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُصَحِّحَهُ

مِنْ الْحُرُوفِ تَجِبُ عَلَيْهِ ، وَلَكِنْ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يُعْتَبَرُ فِي الْقِسْمَةِ إلَّا الْحُرُوفُ الَّتِي تَكُونُ بِاللِّسَانِ فَأَمَّا الْهَاءُ ، وَالْحَاءُ ، وَالْعَيْنُ لَا عَمَلَ لِلِّسَانِ فِيهَا فَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي الْقِسْمَةِ .
وَفِي الْكِتَابِ رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي اللِّسَانِ بِالدِّيَةِ ، وَفِي الْأَنْفِ بِالدِّيَةِ قَالَ : وَفِي الذَّكَرِ دِيَةٌ } ؛ لِأَنَّ فِي الذَّكَرِ تَفْوِيتَ مَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةِ مِنْ الْآدَمِيِّ ، وَهِيَ مَنْفَعَةُ النَّسْلِ ، وَمَنْفَعَةُ اسْتِمْسَاكِ الْبَوْلِ ، وَالرَّمْيِ بِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ ، وَكَذَلِكَ فِي الْحَشَفَةِ الدِّيَةُ كَامِلَةً ؛ لِأَنَّ تَفْوِيتَ الْمَقْصُودِ يَحْصُلُ بِقَطْعِ الْحَشَفَةِ كَمَا يَحْصُلُ بِقَطْعِ جَمِيعِ الذَّكَرِ ، وَوُجُوبُ الدِّيَةِ الْكَامِلَةِ بِاعْتِبَارِهِ .
وَالْمَعَانِي الَّتِي هِيَ أَفْرَادٌ فِي الْبَدَنِ الْعَقْلُ ، وَالسَّمْعُ ، وَالْبَصَرُ ، وَالذَّوْقُ ، وَالشَّمُّ فَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا دِيَةٌ كَامِلَةٌ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ كَانَ ضَرَبَ عَلَى رَأْسِهِ فَأَذْهَبَ عَقْلَهُ وَسَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَمَنْفَعَةَ ذَكَرِهِ ، وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْعَقْلَ مِنْ أَعْظَمِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْآدَمِيُّ ، وَبِهِ يَنْتَفِعُ بِنَفْسِهِ فِي الدُّنْيَا ، وَالْآخِرَةِ ، وَبِهِ يَمْتَازُ مِنْ الْبَهَائِمِ ، فَالْمُفَوِّتُ لَهُ كَالْمُبْدِلِ لِنَفْسِهِ الْمُلْحِقِ لَهُ بِالْبَهَائِمِ ، وَكَذَلِكَ مَنْفَعَةُ السَّمْعِ فَإِنَّهَا مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ بِهَا يَنْتَفِعُ الْمَرْءُ بِنَفْسِهِ ، وَكَذَلِكَ مَنْفَعَةُ الْبَصَرِ فَإِنَّهَا مَقْصُودَةٌ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ لِلَّذِي لَا بَصَرَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَيِّتِ الَّذِي لَمْ يُدْفَنْ ، وَكَذَلِكَ مَنْفَعَةُ الشَّمِّ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ فِي الْبَدَنِ وَمَنْفَعَةُ الذَّوْقِ كَذَلِكَ فَتَفْوِيتُهَا مِنْ وَجْهٍ اسْتِهْلَاكٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً مَقْصُودَةً فَيُوجِبُ كَمَالَ الدِّيَةِ ، وَكَذَلِكَ فِي الصُّلْبِ الدِّيَةُ

كَامِلَةً إذَا مَنَعَ الْجِمَاعَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ مَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ ، وَهِيَ مَنْفَعَةُ النَّسْلِ ، وَكَذَلِكَ إذَا حَدِبَ فَإِنَّ فِيهِ تَفْوِيتَ جَمَالٍ كَامِلٍ ؛ لِأَنَّ الْجَمَالَ لِلْآدَمِيِّ فِي كَوْنِهِ مُنْتَصِبَ الْقَامَةِ ، قِيلَ فِي مَعْنَى : قَوْله تَعَالَى { لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } : مُنْتَصِبُ الْقَامَةِ ، وَذَلِكَ يَفُوتُ إذَا حَدِبَ ، وَالْجَمَالُ لِلْآدَمِيِّ مَطْلُوبٌ كَالْمَنْفَعَةِ فَتَفْوِيتُ الْجَمَالِ الْكَامِلِ يُوجِبُ دِيَةً كَامِلَةً فَإِنْ عَادَ إلَى حَالِهِ ، وَلَمْ يَنْقُصْهُ ذَلِكَ شَيْئًا إلَّا أَنَّ فِيهِ أَثَرَ الضَّرْبَةِ فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ ؛ لِأَنَّهُ نَفَى بَعْضَ الشَّيْئَيْنِ بِبَقَاءِ أَثَرِ الضَّرْبَةِ فَيَجِبُ بِاعْتِبَارِهِ حُكْمَ عَدْلٍ .
وَمِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْإِفْضَاءُ فِي الْمَرْأَةِ إذَا كَانَتْ بِحَيْثُ لَا تَسْتَمْسِكُ الْبَوْلَ فَإِنَّهُ يُوجِبَ كَمَالَ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتَ مَنْفَعَةٍ كَامِلَةٍ لَا ثَانِيَ لَهَا فِي الْبَدَنِ ، وَهِيَ مَنْفَعَةُ اسْتِمْسَاكِ الْبَوْلِ .
وَذَكَر الْمُبَرِّدُ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ : فِي الصَّعْرِ الدِّيَةُ } وَفَسَّرَ الْمُبَرِّدُ ذَلِكَ بِتَعْوِيجِ الْوَجْهِ ، وَفِيهِ تَفْوِيتُ جَمَالٍ كَامِلٍ .

وَأَمَّا مَا يَكُونُ زَوْجًا فِي الْبَدَنِ فَفِي قَطْعِهِمَا كَمَالُ الدِّيَةِ ، وَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَأَصْلُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ فِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ } ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : الْأَعْضَاءُ الَّتِي هِيَ أَزْوَاجٌ فِي الْبَدَنِ الْعَيْنَانِ ، وَالْأُذُنَانِ الشَّاخِصَتَانِ ، وَالْحَاجِبَانِ ، وَالشَّفَتَانِ ، وَالْيَدَانِ وَثَدْيَا الْمَرْأَةِ ، وَالْأُنْثَيَانِ ، وَالرِّجْلَانِ أَمَّا فِي الْعَيْنَيْنِ إذَا فُقِئَا الدِّيَةُ كَامِلَةً بِتَفْوِيتِ الْجَمَالِ ، وَالْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ ، وَأَمَّا فِي الْأُذُنَيْنِ الشَّاخِصَتَيْنِ فَالدِّيَةُ كَامِلَةٌ ؛ لِأَنَّ فِي قَطْعِهِمَا تَفْوِيتَ الْجَمَالِ الْكَامِلِ ، وَتَفْوِيتَ الْمَنْفَعَةِ أَيْضًا فَإِنَّ الْأَصْوَاتَ تَجْتَمِعُ فِيهَا ، وَتَنْفُذُ إلَى الدِّمَاغِ ، وَبِهِمَا تُقَى الْأَذَى عَنْ الدِّمَاغِ فَفِيهِمَا الدِّيَةُ ، وَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَكَذَلِكَ فِي الْحَاجِبَيْنِ إذَا حَلَقَهُمَا عَلَى وَجْهٍ أَفْسَدَ الْمَنْبَتَ أَوْ نَتَفَهُمَا فَأَفْسَدَ الْمَنْبَتَ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَفْوِيتَ جَمَالٍ كَامِلٍ فَيَجِبُ فِيهِمَا الدِّيَةُ ، وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي فُصُولِ الشَّعْرِ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَفِي الشَّفَتَيْنِ مَعْنَى الْجَمَالِ الْكَامِلِ ، وَالْمَنْفَعَةِ الْكَامِلَةِ فَبِقَطْعِهَا تَجِبُ الدِّيَةُ كَامِلَةً وَبِقَطْعِ إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَالْعُلْيَا ، وَالسُّفْلَى فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : فِي السُّفْلَى ثُلُثَا دِيَةٍ ، وَفِي الْعُلْيَا ثُلُثُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ فِي الْعُلْيَا جَمَالًا فَقَطْ ، وَفِي السُّفْلَى جَمَالًا وَمَنْفَعَةً ، وَهِيَ اسْتِمْسَاكُ الرِّيقِ بِهَا ، وَكَذَلِكَ فِي الْيَدَيْنِ فَإِنَّ مَنْفَعَةَ الْبَطْشِ فِي الْآدَمِيِّ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ فَفِي قَطْعِهِمَا

تَفْوِيتُ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ ، وَفِي قَطْعِ إحْدَاهُمَا تَنْقِيصُهُ ، وَكَذَلِكَ فِي ثَدْيَيْ الْمَرْأَةِ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ كَامِلَةٌ ، وَهِيَ مَنْفَعَةُ رَضَاعِ الْوَلَدِ ، وَكَمَا تَجِبُ الدِّيَةُ بِقَطْعِ ثَدْيَيْهَا تَجِبُ بِقَطْعِ حَلَمَتَيْهَا ؛ لِأَنَّ تَفْوِيتَ الْمَنْفَعَةِ يَحْصُلُ بِقَطْعِ الْحَلَمَةِ كَمَا يَحْصُلُ بِقَطْعِ جَمِيعِ الثَّدْيِ فَهُوَ نَظِيرُ مَا ذَكَرْنَا فِي الْحَشَفَةِ مَعَ الذَّكَرِ ، وَالْمَارِنِ مَعَ الْأَنْفِ ، وَفِي الْأُنْثَيَيْنِ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ ، وَهِيَ مَنْفَعَةُ الْإِمْنَاءِ ، وَالنَّسْلِ فَفِيهِمَا الدِّيَةُ ، وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَفِي الرِّجْلَيْنِ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ ، وَهِيَ مَنْفَعَةُ الْمَشْيِ ، وَانْتِفَاعُ الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ إنَّمَا يَكُونُ إذَا تَمَكَّنَ الْمَرْءِ مِنْ الْمَشْيِ فَقَطْعُ الرِّجْلَيْنِ بِمَنْزِلَةِ اسْتِهْلَاكِهِ حُكْمًا .

وَأَمَّا مَا يَكُونُ أَرْبَاعًا فِي الْبَدَنِ فَهُوَ أَشْفَارُ الْعَيْنَيْنِ يَجِبُ فِي كُلِّ شَفْرٍ رُبُعُ الدِّيَةِ ، وَيَسْتَوِي إنْ نَتَفَ الْأَهْدَابَ فَأَفْسَدَ الْمَنْبَتَ أَوْ قَطَعَ الْجُفُونَ كُلَّهَا بِالْأَشْفَارِ ؛ لِأَنَّ تَفْوِيتَ الْجَمَالِ يَتِمُّ بِذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ تَفْوِيتُ الْمَنْفَعَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَهْدَابَ ، وَالْجُفُونَ تَقِي الْأَذَى عَنْ الْعَيْنَيْنِ وَتَفْوِيتُ ذَلِكَ بِنَقْصٍ مِنْ الْبَصَرِ ، وَيَكُونُ آخِرُهُ الْعَمَى فَيَجِبُ فِيهَا كَمَالُ الدِّيَةِ ، وَهِيَ أَرْبَاعٌ فِي الْبَدَنِ فَتُوَزَّعُ الدِّيَةُ عَلَيْهَا فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا رُبُعُ الدِّيَةِ .

فَأَمَّا مَا يَكُونُ أَعْشَارًا فِي الْبَدَنِ كَالْأَصَابِعِ يَعْنِي أَصَابِعَ الْيَدَيْنِ أَوْ الرِّجْلَيْنِ فَإِنَّ قَطْعَ أَصَابِعِ الْيَدِ يُوجِبُ كَمَالَ الدِّيَةِ ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ تَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الْبَطْشِ ، وَالْبَطْشُ بِدُونِ الْأَصَابِعِ لَا يَتَحَقَّقُ ، وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ عُشْرُ الدِّيَةِ هَكَذَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ } ، وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا مَذْكُورٌ فِيمَا { كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ، وَفِيهَا : وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ وَفِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ } ، وَهَكَذَا رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الِابْتِدَاءِ يَقُولُ فِي الْخِنْصَرِ سِتٌّ مِنْ الْإِبِلِ ، وَفِي الْبِنْصِرِ تِسْعٌ مِنْ الْإِبِلِ ، وَفِي الْوُسْطَى عَشْرٌ ، وَفِي السَّبَّابَةِ ، وَالْإِبْهَامِ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ ثُمَّ لَمَّا بَلَغَهُ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَعَ إلَى الْحَدِيثِ فَقَالَ : الْأَصَابِعُ كُلُّهَا سَوَاءٌ .
وَاَلَّذِي تَبَيَّنَّاهُ فِي أَصَابِعِ الْيَدِ كَذَلِكَ فِي أَصَابِعِ الرِّجْلِ ؛ لِأَنَّ فِي قَطْعِهَا تَفْوِيتَ مَنْفَعَةِ الْمَشْيِ ، وَمَنْفَعَةُ الْمَشْيِ كَمَنْفَعَةِ الْبَطْشِ ، وَالصَّغِيرُ ، وَالْكَبِيرُ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ فِي أَعْضَائِهِ عُرْضَةً لِهَذِهِ الْمَنَافِعِ مَا لَمْ يُصِبْهَا آفَةٌ فَفِي تَفْوِيتِهَا تَفْوِيتُ الْمَنْفَعَةِ كَمَا فِي حَقِّ الْكَبِيرِ .

وَأَمَّا مَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ فِي الْبَدَنِ فَهِيَ الْأَسْنَانُ يَجِبُ فِي كُلِّ سِنٍّ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْأَنْيَابُ ، وَالنَّوَاجِذُ ، وَالضَّوَاحِكُ ، وَالطَّوَاحِينُ وَمِنْ النَّاسِ مِنْ فَضَّلَ الطَّوَاحِينَ عَلَى الضَّوَاحِكِ لِمَا فِيهَا مِنْ زِيَادَةِ الْمَنْفَعَةِ ، وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ : { فِي كُلِّ سِنٍّ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ } مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ ثُمَّ إنْ كَانَ فِي بَعْضِهَا زِيَادَةُ مَنْفَعَةٍ فَفِي بَعْضِهَا زِيَادَةُ جَمَالٍ ، وَالْجَمَالُ فِي الْآدَمِيِّ كَالْمَنْفَعَةِ حَتَّى قِيلَ : إذَا قَلَعَ جَمِيعَ أَسْنَانِهِ فَعَلَيْهِ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا ؛ لِأَنَّ الْأَسْنَانَ اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ سِنًّا فَإِذًا الْوَاجِبُ فِي كُلٍّ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ خَمْسُمِائَةٍ بَلَغَتْ الْجُمْلَةُ سِتَّةَ عَشَرَ أَلْفًا ، وَلَيْسَ فِي الْبَدَنِ جِنْسٌ يَجِبُ بِتَفْوِيتِهِ أَكْثَرُ مِنْ مِقْدَارِ الدِّيَةِ سِوَى الْأَسْنَانِ فَإِنْ قَلَعَ جَمِيعَ أَسْنَانِ الْكَوْسَجِ فَعَلَيْهِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفًا ؛ لِأَنَّ أَسْنَانَهُ ثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ ، هَكَذَا حُكِيَ أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِزَوْجِهَا : يَا كَوْسَجُ : فَقَالَ إنْ كُنْت كَوْسَجًا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَسُئِلَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ تُعَدُّ أَسْنَانُهُ فَإِنْ كَانَتْ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ فَلَيْسَ بِكَوْسَجٍ ، وَإِنْ كَانَتْ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ فَهُوَ كَوْسَجٌ .
قَالَ : وَبَلَغَنَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : فِي الرَّأْسِ إذَا حُلِقَ وَلَمْ يَنْبُتْ الدِّيَةُ كَامِلَةً ، وَبِهَذَا أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَقَالَ إذَا حَلَقَ شَعْرَ رَأْسِ إنْسَانٍ حَتَّى أَفْسَدَ الْمَنْبَتَ فَعَلَيْهِ كَمَالُ الدِّيَةِ الرَّجُلُ ، وَالْمَرْأَةُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ حُكُومَةُ عَدْلٍ ، وَكَذَلِكَ فِي اللِّحْيَةِ إذَا حُلِقَتْ فَلَمْ تَنْبُتْ كَمَالُ الدِّيَةِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حُكُومَةُ عَدْلٍ ؛ لِأَنَّهُ شَعْرٌ مُسْتَمَدٌّ مِنْ الْبَدَنِ

بَعْدَ كَمَالِ الْخِلْقَةِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِحَلْقِهِ كَمَالُ الدِّيَةِ كَشَعْرِ الصَّدْرِ وَالسَّاقِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي حَلْقِ الشَّعْرِ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةٍ كَامِلَةٍ إنَّمَا فِيهِ فَقَطْ تَفْوِيتُ بَعْضِ الْجَمَالِ فَإِنَّهُ يَلْحَقُهُ نَوْعُ شَيْنٍ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي لِغَيْرِ الْكَوْسَجِ بِقِلَّةِ شَعْرِهِ ، وَوُجُوبِ كَمَالِ الدِّيَةِ يُعْتَبَرُ بِتَفْوِيتِ مَنْفَعَةٍ كَامِلَةٍ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَا يُوجِبُ فِي الْحُرِّ كَمَالَ الدِّيَةِ يُوجِبُ فِي الْعَبْدِ كَمَالَ الْقِيمَةِ ، وَبِالِاتِّفَاقِ لَوْ حَلَقَ لِحْيَةَ عَبْدِ إنْسَانٍ لَا يَلْزَمُهُ كَمَالُ الْقِيمَةِ ، وَإِنْ أَفْسَدَ الْمَنْبَتَ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ النُّقْصَانُ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْحُرِّ .
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّ مَا نُقِلَ عَنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ كَالْمَرْفُوعِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُسْتَدْرَكُ بِالرَّأْيِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ فَوَّتَ عَلَيْهِ جَمَالًا كَامِلًا فَيَلْزَمُهُ كَمَالُ الدِّيَةِ كَمَا لَوْ قَطَعَ الْأُذُنَيْنِ الشَّاخِصَتَيْنِ ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ فِي اللِّحْيَةِ جَمَالًا كَامِلًا فِي أَوَانِهِ ، وَكَذَلِكَ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ جَمَالٌ كَامِلٌ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مَنْ عَدِمَ ذَلِكَ خِلْقَةً تَكَلَّفَ لِسَتْرِهِ ، وَإِخْفَائِهِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ جَمَالًا كَامِلًا ، وَبَعْضَ الْمَنْفَعَةِ أَيْضًا فَمَا يَحْصُلُ لَهَا بِالْجَمَالِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ أَعْظَمُ وُجُوهِ الْمَنْفَعَةِ ، وَكَذَلِكَ فِي اللِّحْيَةِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : إنَّ لِلَّهِ تَعَالَى مَلَائِكَةً تَسْبِيحُهُمْ سُبْحَانَ مَنْ زَيَّنَ الرِّجَالَ بِاللُّحَى وَالنِّسَاءَ بِالْقُرُونِ وَالذَّوَائِبِ } ثُمَّ تَفْوِيتُ الْمَنْفَعَةِ يُوجِبُ كَمَالَ الدِّيَةِ كَمَا إذَا ضُرِبَ عَلَى ظَهْرِهِ حَتَّى انْقَطَعَ مَاؤُهُ فَكَذَلِكَ تَفْوِيتُ الْجَمَالِ الْكَامِلِ يُوجِبُ كَمَالَ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ لِلْعُقَلَاءِ فِي الْجَمَالِ أَكْثَرَ مِمَّا هُوَ فِي الْمَنْفَعَةِ

بِخِلَافِ شَعْرِ الصَّدْرِ ، وَالسَّاقِ فَلَيْسَ فِي حَلْقِهِ تَفْوِيتُ جَمَالٍ كَامِلٍ فَلِهَذَا لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي النُّقْصَانِ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ .
فَأَمَّا فِي لِحْيَةِ الْعَبْدِ فَرِوَايَتَانِ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يَجِبُ كَمَالُ الْقِيمَةِ ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَجِبُ نُقْصَانُ الْقِيمَةِ ، وَهُوَ نَظِيرُ الرِّوَايَتَيْنِ فِي قَطْعِ الْأُذُنَيْنِ الشَّاخِصَتَيْنِ مِنْ الْعَبْدِ فَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ قَالَ : الْقِيمَةُ فِي الْعَبْدِ كَالدِّيَةِ فِي الْحُرِّ فَمَا يَجِبُ بِتَفْوِيتِهِ كَمَالُ الدِّيَةِ فِي الْحُرِّ يَجِبُ بِتَفْوِيتِهِ كَمَالُ الْقِيمَةِ فِي الْعَبْدِ ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَالَ : الْجَمَالُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِلْمَوْلَى مِنْ عَبْدِهِ ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ مَنْفَعَةُ الِاسْتِخْدَامِ وَبِحَلْقِ لِحْيَتِهِ أَوْ قَطْعِ الْأُذُنَيْنِ الشَّاخِصَتَيْنِ مِنْهُ لَا يَفُوتُ هَذَا الْمَقْصُودُ ؛ فَلِهَذَا لَا يَجِبُ بِهِ كَمَالُ الْقِيمَةِ فَأَمَّا الْجَمَالُ فَمَقْصُودٌ فِي الْأَحْرَارِ وَبِتَفْوِيتِهِ يَجِبُ كَمَالُ الدِّيَةِ ، وَتَكَلَّمُوا فِي حَلْقِ لِحْيَةِ الْكَوْسَجِ ، وَالْأَصَحُّ فِي ذَلِكَ مَا فَصَّلَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ كَانَ الثَّابِتُ عَلَى ذَقَنِهِ شَعَرَاتٌ مَعْدُودَةُ فَلَيْسَ فِي حَلْقِ ذَلِكَ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ وُجُودَ ذَلِكَ لَا يُزَيِّنُهُ ، وَرُبَّمَا يَشِينُهُ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَكَانَ عَلَى الذَّقَنِ ، وَالْخَدِّ جَمِيعًا ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُتَّصِلٍ فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا بَعْضَ الْجَمَالِ ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِكَامِلٍ فَيَجِبُ بِتَفْوِيتِهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ ، وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا فَفِيهِ كَمَالُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِكَوْسَجٍ ، وَفِي لِحْيَتِهِ مَعْنَى الْجَمَالِ الْكَامِلِ ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا فَسَدَ الْمَنْبَتُ فَإِنْ نَبَتَ حَتَّى اسْتَوَى كَمَا كَانَ لَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِفِعْلِ الْجَانِي أَثَرٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الضَّرْبَةِ الَّتِي لَا يَبْقَى أَثَرُهَا فِي الْبَدَنِ ، وَلَكِنَّهُ يُؤَدَّبُ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِارْتِكَابِ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ ، وَإِنْ

نَبَتَتْ بَيْضَاءَ فَقَدْ ذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْجَمَالَ يَزْدَادُ بِبَيَاضِ شَعْرِ اللِّحْيَةِ ، وَعِنْدَهُمَا يَجِبُ حُكُومَةُ عَدْلٍ ؛ لِأَنَّ بَيَاضَ الشَّعْرِ جَمَالٌ فِي أَوَانِهِ ، فَأَمَّا فِي غَيْرِ أَوَانِهِ فَيَشِينُهُ فَيَجِبُ حُكُومَةُ الْعَدْلِ بِاعْتِبَارِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِي أَحَدِ الْعَيْنَيْنِ نِصْفَ الدِّيَةِ ، وَيَسْتَوِي الْجَوَابُ إنْ انْخَسَفَتْ أَوْ ذَهَبَ بَصَرُهَا ، وَهِيَ قَائِمَةٌ أَوْ ابْيَضَّتْ حَتَّى ذَهَبَ الْبَصَرُ ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَقْصُودَةَ مِنْ الْعَيْنِ تَفُوتُ فِي هَذَا كُلِّهِ ، وَقِيلَ : ذَهَابُ الْبَصَرِ بِمَنْزِلَةِ فَوَاتِ الْعَيْنِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِبَقَائِهَا بَعْدَمَا ذَهَبَ الْبَصَرُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مَنْ خَنَقَ إنْسَانًا حَتَّى مَاتَ عَلَيْهِ كَمَالُ الدِّيَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ النَّفْسُ بَاقِيَةً عَلَى حَالِهَا ، وَكَذَلِكَ الْيَدُ إذَا شُلَّتْ حَتَّى لَا يَنْتَفِعَ بِهَا فَفِيهَا أَرْشُهَا كَامِلًا إمَّا ؛ لِأَنَّ الشَّلَلَ دَلِيلُ مَوْتِهَا أَوْ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ ، وَهُوَ مَنْفَعَةُ الْبَطْشِ تَحَقَّقَ فَوَاتُهُ بِصِفَةِ الْكَمَالِ فَهُوَ ، وَمَا لَوْ قُطِعَتْ الْيَدُ سَوَاءٌ فِي إيجَابِ الْأَرْشِ .

قَالَ : وَفِي الْمُوضِحَةِ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ ، وَالْكَلَامُ فِي مَعْرِفَةِ الشِّجَاجِ أَنْ يَقُولَ : الشِّجَاجُ الْحَارِصَةُ ، وَهِيَ الَّتِي تَشُقُّ الْجِلْدَ وَمِنْهُ يُقَالُ : حَرَصَ الْقَصَّارُ الثَّوْبَ ثُمَّ الدَّامِعَةُ ، وَهِيَ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا قَدْرُ الدَّمْعِ مِنْ الدَّمِ ثُمَّ الدَّامِيَةُ ، وَهِيَ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا قَدْرُ الدَّمْعِ مِنْ الدَّمِ ثُمَّ الْبَاضِعَةُ ، وَهِيَ الَّتِي تُبْضِعُ بَعْضَ اللَّحْمِ ثُمَّ الْمُتَلَاحِمَةُ ، وَهِيَ الَّتِي تَقْطَعُ أَكْثَرَ اللَّحْمِ .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُتَلَاحِمَةَ قَبْلَ الْبَاضِعَةِ ، وَهُوَ اخْتِلَافٌ فِي مَأْخَذِ الْكَلِمِ لَا فِي الْحُكْمِ فَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْمُتَلَاحِمَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ قَوْلِك الْتَحَمَ الشَّيْئَانِ إذَا اتَّصَلَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ ، وَالْمُتَلَاحِمَةُ مَا تُظْهِرُ اللَّحْمَ ، وَلَا تَقْطَعُهُ ، وَالْبَاضِعَةُ بَعْدَهَا ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْمُتَلَاحِمَةُ : مَا تَعْمَلُ فِي قَطْعِ أَكْثَرِ اللَّحْمِ فَهِيَ بَعْدَ الْبَاضِعَةِ ثُمَّ السِّمْحَاقُ : وَهِيَ الَّتِي تَقْطَعُ اللَّحْمَ وَتُظْهِرُ الْجِلْدَةَ الرَّقِيقَةَ بَيْنَ اللَّحْمِ ، وَالْعَظْمِ فَتِلْكَ الْجِلْدَةُ تُسَمَّى سِمْحَاقًا ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْعَظْمُ الرَّقِيقُ سَمَاحِيقَ ثُمَّ الْمُوضِحَةُ ، وَهِيَ الَّتِي تُوضِحُ الْعَظْمَ حَتَّى يَبْدُوَ ثُمَّ الْهَاشِمَةُ : وَهِيَ الَّتِي تَكْسِرُ الْعَظْمَ ثُمَّ الْمُنَقِّلَةُ ، وَهِيَ الَّتِي يَخْرُجُ مِنْهَا الْعَظْمُ أَوْ تَجْعَلُ الْعَظْمَ كَالنَّقْلَةِ ، وَهِيَ كَالْحَصَى ثُمَّ الْآمَّةُ ، وَهِيَ الَّتِي تُظْهِرُ الْجِلْدَ بَيْنَ الْعَظْمِ ، وَالدِّمَاغِ ، وَتُسَمَّى تِلْكَ الْجِلْدَةُ أُمَّ الرَّأْسِ ثُمَّ الدَّامِغَةُ ، وَهِيَ الَّتِي تَجْرَحُ الدِّمَاغَ إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يَذْكُرْ الدَّامِغَةَ ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ لَا تَبْقَى بَعْدَهَا عَادَةً فَيَكُونُ ذَلِكَ قَتْلًا لَا شَجَّةً ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْحَارِصَةَ ، وَالدَّامِيَةَ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَبْقَى لَهُمَا أَثَرٌ ، وَبِدُونِ بَقَاءِ الْأَثَرِ لَا يَجِبُ شَيْءٌ .
فَأَمَّا بَيَانُ

الْأَحْكَامِ فَنَقُولُ : أَمَّا فِي الْمُوضِحَةِ : فَيَجِبُ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : فِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ ، وَهَكَذَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ ، وَفِيمَا يَرْوِيهِ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْمُوضِحَةُ خَطَأً فَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا فَفِيهَا الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْمُسَاوَاةِ فِيهَا مُمْكِنٌ فَإِنَّ عَمَلَهَا فِي اللَّحْمِ دُونَ الْعَظْمِ ، وَالْجِنَايَاتُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ تُوجِبُ الْقِصَاصَ إذَا أَمْكَنَ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ فِيهَا ، فَأَمَّا قَبْلَ الْمُوضِحَةِ مِنْ الشِّجَاجِ فَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ إذَا كَانَتْ خَطَأً ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ عَمْدًا فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ فِيهَا مِنْ حَيْثُ الْمِقْدَارُ فَرُبَّمَا يَبْقَى مِنْ أَثَرِ فِعْلِ الثَّانِي فَوْقَ مَا يَبْقَى مِنْ أَثَرِ فِعْلِ الْأَوَّلِ ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَقُولُ : فِيهَا الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّ عَمَلَهَا فِي الْجِلْدِ أَعْظَمُ ، وَالْمُسَاوَاةُ فِيهَا مُمْكِنَةٌ بِأَنْ يُسْبَرَ غَوْرَهَا بِالْمِسْبَارِ ثُمَّ يَتَّخِذُ حَدِيدَةً بِقَدْرِ ذَلِكَ فَيَقْطَعُ بِهَا مِقْدَارَ مَا قَطَعَ ، وَإِيجَابُ حُكُومَةِ الْعَدْلِ فِي هَذِهِ الشِّجَاجِ مَرْوِيٌّ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ مِنْ الشِّجَاجِ بِمَنْزِلَةِ الْخُدُوشِ فَفِيهَا حُكُومَةُ عَدْلٍ .
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَضَى فِي السِّمْحَاقِ بِأَرْبَعٍ مِنْ الْإِبِلِ ، وَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِقْدَارَ حُكُومَةِ عَدْلٍ ثُمَّ اخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي مَعْرِفَةِ حُكُومَةِ الْعَدْلِ فَقَالَ الطَّحَاوِيُّ السَّبِيلُ فِي ذَلِكَ أَنْ يُقَوَّمَ لَوْ كَانَ مَمْلُوكًا بِدُونِ هَذَا الْأَثَرِ وَيُقَوَّمَ مَعَ هَذَا الْأَثَرِ ثُمَّ يُنْظَرُ إلَى تَفَاوُتِ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ كَمْ هُوَ ؟ فَإِنْ

كَانَ بِقَدْرِ نِصْفِ الْعُشْرِ يَجِبُ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ ، وَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ رُبُعِ الْعُشْرِ يَجِبُ رُبُعُ عُشْرِ الدِّيَةِ ، وَكَانَ الْكَرْخِيُّ يَقُولُ : هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ فَرُبَّمَا يَكُونُ نُقْصَانُ الْقِيمَةِ بِالشِّجَاجِ الَّتِي قَبْلَ الْمُوضِحَةِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الْعُشْرِ ، فَيُؤَدِّي هَذَا الْقَوْلِ إلَى أَنْ يُوجِبَ فِي هَذِهِ الشِّجَاجِ مِنْ الدِّيَةِ فَوْقَ مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ فِي الْمُوضِحَةِ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ أَنْ يَنْظُرَ كَمْ مِقْدَارُ هَذِهِ الشَّجَّةِ مِنْ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ ؟ لِأَنَّ وُجُوبَ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَمَا لَا نَصَّ فِيهِ يُرَدُّ إلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى فِيهِ .
فَأَمَّا فِي الْهَاشِمَةِ عُشْرُ الدِّيَةِ ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ عُشْرُ وَنِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ ، وَفِي الْآمَّةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ وَتُسَمَّى الْمَأْمُومَةُ أَيْضًا ، وَذَلِكَ فِيمَا كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ قَالَ { فِي الْهَاشِمَةِ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ ، وَفِي الْآمَّةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ } ، وَالْجَائِفَةُ كَالْآمَّةِ يَجِبُ فِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ الْجَائِفَةَ وَاصِلَةٌ إلَى أَحَدِ الْجَوْفَيْنِ ، وَهُوَ جَوْفُ الْبَطْنِ فَتَكُونُ كَالْوَاصِلَةِ إلَى جَوْفِ الرَّأْسِ ، وَهِيَ الدِّمَاغُ ، وَإِنْ نَفَذَتْ الْجَائِفَةُ فَفِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْجَائِفَتَيْنِ أَحَدُهُمَا مِنْ جَانِبِ الْبَطْنِ ، وَالْأُخْرَى مِنْ جَانِبِ الظَّهْرِ فَيَجِبُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ثُلُثُ الدِّيَةِ ، وَفِي كُلِّ مَفْصِلٍ مِنْ الْأَصَابِعِ ثُلُثُ دِيَةِ الْأُصْبُعُ إذَا كَانَ فِيهَا ثَلَاثَةِ مَفَاصِل وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَفْصِلَانِ فَفِي كُلِّ مَفْصِلٍ نِصْفُ دِيَةِ الْأُصْبُعِ ؛ لِأَنَّ الْمَفَاصِلَ لِلْأُصْبُعِ كَالْأَصَابِعِ لِلْيَدِ فَكَمَا أَنَّ دِيَةَ الْيَدِ تَتَوَزَّعُ عَلَى الْأَصَابِعِ عَلَى التَّسَاوِي فَكَذَلِكَ دِيَةُ الْأُصْبُعِ تَتَوَزَّعُ عَلَى الْمَفَاصِلِ عَلَى التَّسَاوِي ، فَالْأُصْبُعُ إذَا كَانَتْ ذَاتَ مَفْصِلَيْنِ

كَالْإِبْهَامِ فَإِنَّهُ يَجِبُ فِي كُلِّ مَفْصِلٍ نِصْفُ دِيَةِ الْأُصْبُعِ ، وَإِذَا كَانَتْ ذَاتَ ثَلَاثَةِ مَفَاصِلَ فَفِي كُلِّ مَفْصِلٍ ثُلُثُ دِيَةِ الْأُصْبُعِ ، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ قَالَا لَا يُفَضَّلُ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى شَيْءٍ وَابْنُ مَسْعُودٍ قَالَ فِي دِيَةِ الْخَطَأِ أَخْمَاسًا عِشْرُونَ جَذَعَةً وَعِشْرُونَ حِقَّةً وَعِشْرُونَ بِنْتُ لَبُونٍ وَعِشْرُونَ بِنْتُ مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ ابْنُ مَخَاضٍ .

وَالْكَلَامُ هَاهُنَا فِي فُصُولٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ الدِّيَةَ مِنْ الْإِبِلِ مِائَةٌ عَلَى مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ } ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّ الدَّرَاهِمَ ، وَالدَّنَانِيرَ فِي الدِّيَةِ أَصْلٌ أَمْ بِاعْتِبَارِ قِيمَةِ الْإِبِلِ ، فَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّهُمَا أَصْلٌ ، وَفِي قَوْلِ الشَّافِعِيِّ يَدْخُلَانِ عَلَى وَجْهِ قِيمَةِ الْإِبِلِ وَتَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ قِيمَةِ الْإِبِلِ وَيُحْكَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ الرَّازِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : أَوَّلًا وُجُوبُهُمَا عَلَى سَبِيلِ قِيمَةِ الْإِبِلِ ، وَلَكِنَّهُمَا قِيمَةٌ مُقَدَّرَةٌ شَرْعًا بِالنَّصِّ فَلَا يُزَادُ عَلَيْهَا ، وَلَا يُنْقَصُ عَنْهَا ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ذَلِكَ ، وَقَالَ : هُمَا أَصْلَانِ فِي الدِّيَةِ ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِحَدِيثِ الزُّهْرِيِّ قَالَ : { كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ قِيمَةُ كُلِّ بَعِيرٍ أُوقِيَّةٌ ثُمَّ غَلَبَ الْإِبِلُ فَصَارَتْ قِيمَةُ كُلِّ بَعِيرٍ أُوقِيَّةً وَنِصْفًا ثُمَّ غَلَبَتْ فَصَارَتْ قِيمَةُ كُلِّ بَعِيرٍ أُوقِيَّتَيْنِ فَمَا زَالَتْ تَعْلُو حَتَّى جَعَلَهَا عُمَرُ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ أَوْ أَلْفَ دِينَارٍ } ، وَفِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ { النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَضَى فِي الدِّيَةِ بِمِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ قِيمَتُهَا أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ أَوْ أَرْبَعُمِائَةِ دِينَارٍ .
} وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ : { دِيَةُ كُلِّ ذِي عَمْدٍ فِي عَمْدِهِ أَلْفُ دِينَارٍ } وَذَكَرَ الشَّعْبِيُّ عَنْ عَبِيدَةَ السَّلْمَانِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَمَّا دَوَّنَ الدَّوَاوِينَ جَعَلَ الدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ الْإِبِلِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ ، وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ عَشَرَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ وَقَضَاؤُهُ ذَلِكَ كَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَحَلَّ مَحَلَّ الْإِجْمَاعِ مِنْهُمْ .

وَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِالدِّيَةِ مِنْ الدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ مُؤَجَّلًا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَلَوْ كَانَ الْأَصْلُ فِي الدِّيَةِ الْإِبِلَ ، وَهِيَ دَيْنٌ ، وَالدَّرَاهِمُ ، وَالدَّنَانِيرُ بَدَلٌ عَنْهَا كَانَ هَذَا دَيْنًا بِدَيْنٍ وَنَسِيئَةً بِنَسِيئَةٍ ، وَذَلِكَ حَرَامٌ شَرْعًا يُوَضِّحُهُ : أَنَّ الْآدَمِيَّ حَيَوَانٌ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ ، وَالْأَصْلُ فِي الْقِيمَةِ الدَّرَاهِمُ ، وَالدَّنَانِيرُ إلَّا أَنَّ الْقَضَاءَ بِالْإِبِلِ كَانَ بِطَرِيقِ التَّيْسِيرِ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَرْبَابَ الْإِبِلِ ، وَكَانَتْ النُّقُودُ تَتَعَسَّرُ مِنْهُمْ ؛ وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَوْفُونَ الدِّيَةَ عَلَى أَظْهَرِ الْوُجُوهِ ؛ لِيَنْدَفِعَ بِهَا بَعْضُ الشَّرِّ عَنْهُمْ ، وَذَلِكَ فِي الْإِبِلِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي النُّقُودِ فَكَانَتْ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِهَذَا الْمَعْنَى ، وَلَكِنْ لَا يَسْقُطُ بِهَا مَا هُوَ الْأَصْلُ فِي قِيمَةِ الْمُتْلَفَاتِ .

ثُمَّ لَا خِلَافَ أَنَّ الدِّيَةَ فِي الْخَطَأِ مِنْ الْإِبِلِ تَجِبُ أَخْمَاسًا كَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ ، وَالسِّنُّ الْخَامِسُ عِنْدَنَا ابْنُ مَخَاضٍ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ ابْنُ لَبُونٍ فَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَزَيْدٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَضَى فِي الدِّيَةِ بِمِائَةٍ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ } يَعْنِي مِنْ الْأَسْنَانِ الَّتِي تُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ ، وَابْنُ مَخَاضٍ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الصَّدَقَةِ ، وَلِابْنِ اللَّبُونِ مَدْخَلٌ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَابْنُ لَبُونٍ } .
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ بْنِ مَالِكٍ الطَّائِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { دِيَةُ الْخَطَأِ أَخْمَاسٌ عِشْرُونَ جَذَعَةً وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ ، عِشْرُونَ ابْنَ مَخَاضٍ } وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ } ، وَاسْمُ الْإِبِلِ مُطْلَقًا يَتَنَاوَلُ أَدْنَى مَا يَكُونُ مِنْهُ وَابْنُ الْمَخَاضِ أَدْنَى مِنْ ابْنِ اللَّبُونِ ؛ وَلِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ ابْنَ اللَّبُونِ بِمَنْزِلَةِ بِنْتِ الْمَخَاضِ فِي الزَّكَاةِ فَإِيجَابُ ابْنِ اللَّبُونِ هَاهُنَا فِي مَعْنَى إيجَابِ أَرْبَعِينَ مِنْ بِنْتِ الْمَخَاضِ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِالْإِجْمَاعِ فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ فَالْمُرَادُ إعْطَاءُ الدِّيَةِ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّعِ عَنْ عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ لِحَاجَتِهِمْ لَا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ الْأَسْنَانِ الَّتِي تُوجَدُ فِي الصَّدَقَةِ ثُمَّ ابْنُ الْمَخَاضِ يَدْخُلُ فِي الصَّدَقَةِ عِنْدَنَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَدْخُلُ ابْنُ اللَّبُونِ ؛ لِأَنَّ ابْنَ اللَّبُونِ عِنْدَنَا يُسْتَوْفَى بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فَكَذَلِكَ ابْنُ الْمَخَاضِ ، وَأَمَّا فِي شِبْهِ الْعَمْدِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ تَجِبُ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَاعًا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ ابْنَةَ مَخَاضٍ

وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ ابْنِ لَبُونٍ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَمُحَمَّدٌ : تَجِبُ أَثْلَاثًا ثَلَاثُونَ حِقَّةً وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً ، وَأَرْبَعُونَ مَا بَيْنَ ثَنِيَّةٍ إلَى بَازِلٍ وَكُلُّهَا خَلِفَةٌ ، وَالْخَلِفَةُ هِيَ الْحَامِلُ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : تَجِبُ أَثْلَاثًا ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ حِقَّةً وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ جَذَعَةً ، وَأَرْبَعَةٌ وَثَلَاثُونَ خَلِفَةً .
وَقَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَجِبُ أَثْلَاثًا مِنْ هَذِهِ الْأَسْنَانِ مِنْ كُلِّ سِنٍّ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَاحْتَجَّ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ لِحَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ فِي خُطْبَةِ عَامِ حِجَّةِ الْوَدَاعِ { أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَأِ الْعَمْدِ قَتِيلَ السَّوْطِ ، وَالْعَصَا فِيهِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَعُونَ مِنْهَا فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا } ، وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَضَى بِذَلِكَ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَقَضَاؤُهُ كَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَبُو يُوسُفَ احْتَجَّا بِحَدِيثِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَضَى فِي الدِّيَةِ بِمِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَاعًا } ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْخَطَأَ ؛ لِأَنَّهَا فِي الْخَطَأِ تَجِبُ أَخْمَاسًا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ شِبْهُ الْعَمْدِ ، وَقَالَ : { فِي النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ } ، وَالْمُرَادُ بِهِ أَدْنَى مَا يَكُونُ مِنْهُ وَمَا قُلْنَاهُ أَدْنَى ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ إنَّمَا تَجِبُ الدِّيَةُ عِوَضًا عَنْ الْمَقْتُولِ ، وَالْحَامِلُ لَا يَجُوزُ أَنْ تُسْتَحَقَّ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمُعَاوَضَاتِ فَكَذَلِكَ لَا تُسْتَحَقُّ فِي الدِّيَةِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا : أَنَّ صِفَةَ الْحَمْلِ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَتِهَا ، وَالثَّانِي : أَنَّ الْجَنِينَ مِنْ وَجْهٍ كَالْمُنْفَصِلِ فَيَكُونُ هَذَا فِي مَعْنَى إيجَابِ الزِّيَادَةِ عَلَى

الْمِائَةِ عَدَدًا ، وَبِالِاتِّفَاقِ صِفَةُ التَّغْلِيظِ لَيْسَتْ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ بَلْ مِنْ حَيْثُ السِّنُّ ثُمَّ الدِّيَاتُ تُعْتَبَرُ بِالصَّدَقَاتِ .
وَالشَّرْعُ نَهَى عَنْ أَخْذِ الْحَوَامِلِ فِي الصَّدَقَاتِ ؛ لِأَنَّهَا كَرَائِمُ أَمْوَالِ النَّاسِ فَكَذَلِكَ فِي الدِّيَاتِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ شِبْهَ الْعَمْدِ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ مِنْهُمْ لِلْقَاتِلِ بِمَنْزِلَةِ الصَّدَقَاتِ فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رُوِيَ فَلَا يَكَادُ يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ كَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ إلَّا النُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ وَهُوَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ فِي عِدَادِ الصِّبْيَانِ ، وَقَدْ خَفِيَ الْحَدِيثُ عَلَى كِبَارِ الصَّحَابَةِ حَتَّى اخْتَلَفُوا بَيْنَهُمْ عَلَى أَقَاوِيلَ كَمَا بَيَّنَّا ، وَلَمْ تَجْرِ الْمُحَاجَّةُ بَيْنَهُمْ بِالْحَدِيثِ فَلَوْ كَانَ صَحِيحًا لَمَا اخْتَلَفُوا مَعَ هَذَا النَّصِّ ، وَلَا احْتَجَّ بِهِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْعَامَّ الْمُتَّفَقَ عَلَى قَبُولِهِ أَوْلَى بِالْأَخْذِ بِهِ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْخَاصِّ ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ صِفَةَ التَّغْلِيظِ فِي الدِّيَةِ لَا تَثْبُتُ إلَّا فِي أَسْنَانِ الْإِبِلِ ، وَبِهِ يَسْتَدِلُّ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الدِّيَةِ الْإِبِلُ فَقَطْ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : مَا عَرَفْنَا صِفَةَ التَّغْلِيظِ إلَّا بِالنَّصِّ فَإِنَّ الدِّيَةَ بَدَلٌ عَنْ الْمُتْلَفِ ، وَلَا يَخْتَلِفُ التَّلَفُ بِالْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ صِفَةُ التَّغْلِيظِ بِمَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ خَاصَّةً قَالَ : وَبَلَغَنَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ الدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ الْإِبِلِ مِائَةً ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ ، وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفَ دِينَارٍ ، وَعَلَى أَهْلِ الشَّاةِ أَلْفَيْ شَاةٍ ، وَعَلَى أَهْلِ الْبَقَرِ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ ، وَعَلَى أَهْلِ الْحُلَلِ مِائَتَيْ حُلَّةً ، وَالْحُلَّةُ : اسْمٌ لِثَوْبَيْنِ ، وَبِهِ

نَأْخُذُ فَنَقُولُ : الدِّيَةُ مِنْ الدَّرَاهِمِ تَتَقَدَّرُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ مِمَّا تَكُونُ الْفِضَّةُ فِيهَا غَالِبَةً عَلَى الْغِشِّ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ : مِنْ الدَّرَاهِمِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ { : مَنْ سَبَّحَ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ مِثْلَ دِيَتِهِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ تَسْبِيحَةٍ فَكَأَنَّمَا حَرَّرَ رَقَبَةً مِنْ وَلَدِ إسْمَاعِيلَ .
} وَفِي كِتَابِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَعَلَ الدِّيَةَ مِنْ الدَّرَاهِمِ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا } وَلِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّهَا مِنْ الدَّنَانِيرِ أَلْفُ دِينَارٍ ، وَكَانَتْ قِيمَةُ كُلِّ دِينَارٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا بَيَانُهُ فِي حَدِيثِ السَّرِقَةِ فَإِنَّهُ قَطَعَ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ بَعْدَمَا قَالَ : الْقَطْعُ فِي رُبُعِ دِينَارٍ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ رُبُعَ دِينَارٍ إذَا كَانَتْ قِيمَةُ كُلِّ دِرْهَمٍ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا .
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ دُحَيْمٍ { أَنَّ رَجُلًا قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى عَلَيْهِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ خَمْسَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ } ، وَقَضَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي تَقْدِيرِ الدِّيَةِ بِعَشَرَةِ آلَافٍ وَقَدْ كَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَحْتَجَّ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِحَدِيثٍ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَلَوْ كَانَ فِيهِ حَدِيثٌ صَحِيحٌ خِلَافُ مَا قَضَى بِهِ عُمَرُ لَمَا خَفِيَ عَلَيْهِمْ ، وَلَمَا تَرَكُوا الْمُحَاجَّةَ بِهِ ثُمَّ الْمَقَادِيرُ لَا تُعْرَفُ بِالرَّأْيِ فَمَا نُقِلَ عَنْ عُمَرَ مِنْ التَّقْدِيرِ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ ، وَمُسَاعَدَةُ الصَّحَابَةِ مَعَهُ عَلَى ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اتِّفَاقِ جَمَاعَتِهِمْ عَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْمِقْدَارِ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ؛ وَلِأَنَّ الدِّيَةَ مِنْ الدَّنَانِيرِ أَلْفُ دِينَارٍ ، وَقَدْ كَانَتْ قِيمَةُ كُلِّ دِينَارٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ

اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِدَلِيلِ النَّصِّ الْمَرْوِيِّ فِي نِصَابِ السَّرِقَةِ حَيْثُ قَالَ : { لَا قَطْعَ إلَّا فِي دِينَارٍ أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ } وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ ضَجِرَ مِنْ أَصْحَابِهِ : لَيْتَ لِي بِكُلِّ عَشَرَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَاحِدًا مِنْ أَهْلِ الشَّامِ صَرْفَ الدَّنَانِيرِ بِالدَّرَاهِمِ ، وَنِصَابُ الزَّكَاةِ مِنْهُمَا عَلَى أَنَّ قِيمَةَ كُلِّ دِينَارٍ كَانَتْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ثُمَّ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَخَذَا بِظَاهِرِ حَدِيثِ عُمَرَ وَقَالَا : الدِّيَةُ مِنْ الْأَصْنَافِ السِّتَّةِ فَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَهَا مِنْ هَذِهِ الْأَصْنَافِ ، وَقَدَّرَ كُلَّ صِنْفٍ مِنْهُ بِمِقْدَارٍ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَا كَانَ يُتَّفَقُ الْقَضَاءُ بِذَلِكَ كُلِّهِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بَيَانُ الْمِقْدَارِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ .
وَأَبُو حَنِيفَةَ قَالَ : الدِّيَةُ مِنْ الْإِبِلِ ، وَالدَّرَاهِمِ ، وَالدَّنَانِيرِ وَقَدْ اُشْتُهِرَتْ الْآثَارُ بِذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَإِنَّمَا أَخَذَ عُمَرُ مِنْ الْبَقَرِ ، وَالْغَنَمِ ، وَالْحُلَلِ فِي الِابْتِدَاءِ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَمْوَالَهُمْ فَكَانَ الْأَدَاءُ مِنْهَا أَيْسَرَ عَلَيْهِمْ ، وَأَخْذُهَا بِطَرِيقِ التَّيْسِيرِ عَلَيْهِمْ فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْهُ عَلَى وَجْهِ بَيَانِ التَّقْدِيرِ لِلدِّيَةِ فِي هَذِهِ الْأَصْنَافِ فَلَمَّا صَارَتْ الدَّوَاوِينُ ، وَالْإِعْطَاءَاتُ جُلَّ أَمْوَالِهِمْ الدَّرَاهِمُ ، وَالدَّنَانِيرُ ، وَالْإِبِلُ فَقَضَى بِالدِّيَةِ مِنْهَا ثُمَّ لَا مَدْخَلَ لِلْبَقَرِ ، وَالْغَنَمِ فِي قِيمَةِ الْمُتْلَفَاتِ أَصْلًا فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الدُّورِ ، وَالْعَبِيدِ ، وَالْجَوَارِي ، وَهَكَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تَدْخُلَ الْإِبِلُ إلَّا أَنَّ الْآثَارَ اشْتَهَرَتْ فِيهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِذَلِكَ فِي الْإِبِلِ خَاصَّةً ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْمَعَاقِلِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ كَقَوْلِهِمَا فَإِنَّهُ قَالَ : لَوْ صَالَحَ الْوَلِيُّ

مِنْ الدِّيَةِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَلْفَيْ شَاةٍ أَوْ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ بَقَرَةٍ أَوْ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ مِائَتَيْ حُلَّةٍ لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَصْنَافَ فِي الدِّيَةِ أُصُولٌ مُقَدَّرَةٌ عِنْدَهُ كَمَا هِيَ عِنْدَهُمَا .

قَالَ وَبَلَغَنَا عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ فِي دِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ فِي النَّفْسِ ، وَمَا دُونَهَا وَبِهِ نَأْخُذُ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ هَكَذَا إلَّا فِي أَرْشِ الْمُوضِحَةِ ، وَأَرْشِ السِّنِّ فَإِنَّهَا تَسْتَوِي فِي ذَلِكَ بِالرَّجُلِ ، وَكَانَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ يَقُولُ : إنَّهَا تُعَادِلُ الرَّجُلَ إلَى ثُلُثِ دِيَتِهَا يَعْنِي إذَا كَانَ الْأَرْشُ بِقَدْرِ ثُلُثِ الدِّيَةِ أَوْ دُونَ ذَلِكَ فَالرَّجُلُ ، وَالْمَرْأَةُ فِيهِ سَوَاءٌ ، فَإِنْ زَادَ عَلَى الثُّلُثِ فَحِينَئِذٍ حَالُهَا فِيهِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَالِ الرَّجُلِ ، وَبَيَانُهُ فِيمَا حُكِيَ عَنْ رَبِيعَةَ قَالَ : قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ مَا تَقُولُ فِيمَنْ قَطَعَ أُصْبُعَ امْرَأَةٍ ؟ قَالَ عَلَيْهِ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ قُلْت فَإِنْ قَطَعَ أُصْبُعَيْنِ مِنْهَا ؟ قَالَ : عَلَيْهِ عِشْرُونَ مِنْ الْإِبِلِ قُلْت فَإِنْ قَطَعَ ثَلَاثَةَ أَصَابِعَ ؟ قَالَ : عَلَيْهِ ثَلَاثُونَ مِنْ الْإِبِلِ قُلْت فَإِنْ قَطَعَ أَرْبَعَةَ أَصَابِعَ مِنْهُ ؟ قَالَ : عَلَيْهِ عِشْرُونَ مِنْ الْإِبِلِ قُلْت سُبْحَانَ اللَّهِ لَمَّا كَثُرَ أَلَمُهَا وَاشْتَدَّ مُصَابُهَا قَلَّ أَرْشُهَا قَالَ : أَأَعْرَابِيٌّ أَنْتَ فَقُلْت لَا بَلْ جَاهِلٌ مُسْتَرْشِدٌ أَوْ عَاقِلٌ مُسْتَفْتٍ فَقَالَ : إنَّهُ السُّنَّةُ .
فَبِهَذَا أَخَذَ الشَّافِعِيُّ ، وَقَالَ : السُّنَّةُ إذَا أُطْلِقَتْ فَالْمُرَادُ بِهَا سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَرْوُونَ حَدِيثًا أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ { : تُعَادِلُ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ إلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ } وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ رَبِيعَةُ فَإِنَّهُ لَوْ وَجَبَ بِقَطْعِ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ مِنْهَا ثَلَاثُونَ مِنْ الْإِبِلِ مَا سَقَطَ بِقَطْعِ الْأُصْبُعِ الرَّابِعِ عَشْرٌ مِنْ الْوَاجِبِ ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْقَطْعِ فِي إيجَابِ الْأَرْشِ لَا فِي إسْقَاطِهِ فَهَذَا مَعْنًى يُحِيلُهُ الْعَقْلُ ثُمَّ بِالْإِجْمَاعِ بَدَلُ نِصْفِهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ بَدَلِ نَفْسِ الرَّجُلِ ، وَالْأَطْرَافُ تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ ، وَإِنَّمَا تَكُونُ تَابِعَةً إذَا أَخَذْنَا حُكْمَهَا مِنْ حُكْمِ النَّفْسِ

إلَّا إذَا أَفْرَدْنَاهَا بِحُكْمٍ آخَرَ ، وَقَوْلُ سَعِيدٍ : إنَّهُ السُّنَّةُ يَعْنِي سُنَّةَ زَيْدٍ ، وَقَدْ أَفْتَى كِبَارُ الصَّحَابَةِ بِخِلَافِهِ ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَوْا نَادِرٌ ، وَمِثْلُ هَذَا الْحُكْمِ الَّذِي يُحِيلُهُ عَقْلُ كُلِّ عَاقِلٍ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالشَّاذِّ النَّادِرِ .
وَأَمَّا ابْنُ مَسْعُودٍ فَكَانَ يَقُولُ : فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي أَرْشِ السِّنِّ ، وَالْمُوضِحَةِ اسْتِدْلَالًا بِمَا { قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَنِينِ فَإِنَّهُ قَضَى بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ قِيمَتُهَا خَمْسُمِائَةٍ } وَيُسَوِّي بَيْنَ الذَّكَرِ ، وَالْأُنْثَى فِي ذَلِكَ ، وَبَدَلُ الْجَنِينِ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ فَلِهَذَا سَوَّى بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ نِصْفِ عُشْرِ الدِّيَةِ ، وَذَلِكَ أَرْشُ السِّنِّ ، وَالْمُوضِحَةِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ فِي الْجَنِينِ : إنَّمَا قَضَى بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ الْوُقُوفُ عَلَى صِفَةِ الذُّكُورَةِ ، وَالْأُنُوثَةِ فِي الْجَنِينِ خُصُوصًا إذَا لَمْ يَتِمَّ خَلْقُهُ ؛ وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ قَطْعِ السُّرِّ فَقَطْ ، وَالذَّكَرُ ، وَالْأُنْثَى فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ، وَهَاهُنَا الْوُجُوبُ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ ، وَحَالُ الْأُنْثَى فِيهِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَالِ الذَّكَرِ فَالذَّكَرُ أَهْلٌ لِمَالِكِيَّةِ النِّكَاحِ ، وَالْمَالِ جَمِيعًا ، وَالْأُنْثَى أَهْلٌ لِمَالِكِيَّةِ الْمَالِ دُونَ النِّكَاحِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ ، وَفِي هَذَا أَرْشُ الْمُوضِحَةِ ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ سَوَاءٌ .

قَالَ : وَفِي ذَكَرِ الْخَصِيِّ وَلِسَانِ الْأَخْرَسِ ، وَالْيَدِ الشَّلَّاءِ ، وَالرِّجْلِ الْعَرْجَاءِ ، وَالْعَيْنِ الْقَائِمَةِ الْعَوَرِ ، وَالسِّنِّ السَّوْدَاءِ وَذَكَرِ الْعِنِّينِ حُكْمُ عَدْلٍ بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ إبْرَاهِيمَ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ إيجَابَ كَمَالِ الْأَرْشِ فِي هَذِهِ الْأَعْضَاءِ بِاعْتِبَارِ تَفْوِيتِ الْمَنْفَعَةِ الْكَامِلَةِ ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ كَانَتْ فَائِتَةً قَبْلَ جِنَايَتِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مَنْ ضَرَبَ عَلَى يَدِ إنْسَانٍ حَتَّى شُلَّتْ أَوْ عَلَى عَيْنِهِ حَتَّى ذَهَبَ بَصَرُهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْأَرْشُ فَلَوْلَا تَفْوِيتُ الْمَنْفَعَةِ لِمَا حَلَّ بِهَا لَمَا لَزِمَهُ كَمَالُ الْأَرْشِ ، فَلَوْ أَوْجَبْنَا بِالْقَطْعِ بَعْدَ ذَلِكَ أَرْشًا كَامِلًا مَرَّةً أُخْرَى أَدَّى إلَى إيجَابِ أَرْشَيْنِ كَامِلَيْنِ عَنْ عُضْوٍ وَاحِدٍ وَقَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَجِبُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ الْأَرْشُ كَامِلًا ، وَنَقُولُ : فِي قَطْعِهَا تَفْوِيتُ الْجَمَالِ الْكَامِلِ ، وَالْجَمَالُ مَطْلُوبٌ مِنْ الْآدَمِيِّ كَالْمَنْفَعَةِ بَلْ الْجَمَالُ يَرْغَبُ فِيهِ الْعُقَلَاءُ فَوْقَ رَغْبَتِهِمْ فِي الْمَنْفَعَةِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : فِي الْأَعْضَاءِ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الْمَقْصُودُ الْمَنْفَعَةَ ، وَالْجَمَالُ تَبَعٌ فَبِاعْتِبَارِهِ لَا تَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ فِي الْأَرْشِ .
ثُمَّ فِي الْعَيْنِ الْقَائِمَةِ الْعَوْرَاءِ جَمَالٌ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ الْحَالِ فَأَمَّا عِنْدَ مَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ فَلَا ، فَعَرَفْنَا أَنَّ مَعْنَى الْحَالِ فِي هَذِهِ الْأَعْضَاءِ غَيْرَ كَامِلَةٍ بَعْدَ فَوَاتِ الْمَنْفَعَةِ فَلِوُجُودِ بَعْضِ الْجَمَالِ فِيهَا أَوْجَبْنَا حُكْمَ عَدْلٍ فَلِانْعِدَامِ الْكَمَالِ فِيهَا لَا يُوجِبُ كَمَالَ الْأَرْشِ ، وَفِي الضِّلْعِ حُكْمُ عَدْلٍ ، وَفِي السَّاعِدِ إذَا كُسِرَ أَوْ كُسِرَ أَحَدُ الزَّنْدَيْنِ حُكْمُ عَدْلٍ ، وَفِي السَّاقِ إذَا انْكَسَرَتْ حُكْمُ عَدْلٍ ، وَفِي التَّرْقُوَةِ حُكْمُ عَدْلٍ عَلَى قَدْرِ الْجِرَاحَةِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعِظَامِ إذَا كُسِرَتْ إلَّا فِي السِّنِّ خَاصَّةً لِقَوْلِهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا قِصَاصَ فِي الْعَظْمِ } ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ يَنْبَنِي عَلَى الْمُسَاوَاةِ ، وَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ فِي كَسْرِ الْعَظْمِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْكَسِرُ مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي يُرَادُ كَسْرُهُ ، وَبِدُونِ اعْتِبَارِ الْمُمَاثَلَةِ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فَإِذَا تَعَذَّرَ إيجَابُ الْقِصَاصِ ، وَلَيْسَ فِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ كَانَ الْوَاجِبُ فِيهَا حُكْمَ عَدْلٍ فَأَمَّا فِي السِّنِّ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَضَى فِي الْقِصَاصِ فِي السِّنِّ وَبَيَّنَ الْأَطِبَّاءُ كَلَامًا فِي السِّنِّ أَنَّهُ عَظْمٌ أَوْ طَرَفُ عَصَبٍ يَابِسٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ كَوْنَ السِّنِّ عَظْمًا ؛ لِأَنَّهُ يَحْدُثُ وَيَنْمُو بَعْدَ تَمَامِ الْخِلْقَةِ وَيَلِينُ بِالْحِلِّ فَعَلَى هَذَا لَا حَاجَةَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْعِظَامِ مَتَى ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَظْمٍ وَلَئِنْ قُلْنَا : إنَّهُ عَظْمٌ ، وَفِي سَائِرِ الْعِظَامِ لِتَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَبْرُدَ بِالْمِبْرَدِ بِقَدْرِ مَا كُسِرَ مِنْهُ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ قَلَعَ السِّنَّ فَإِنَّهُ لَا يُقْلَعُ مِنْهُ قِصَاصًا لِتَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْمُمَاثَلَةِ فِيهِ فَرُبَّمَا تَفْسُدُ بِهِ لَهَاتُهُ وَلَكِنْ يَبْرُدُ بِالْمِبْرَدِ إلَى مَوْضِعِ أَصْلِ السِّنِّ فَأَمَّا إذَا كَانَ خَطَأً فَالْوَاجِبُ فِيهِ الْأَرْشُ كَمَا بَيَّنَّا ، وَهُوَ الْمَعْنَى فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْعِظَامِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِسَائِرِ الْعِظَامِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيمَا يَكُونُ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ شَرْعًا وَلِهَذَا قُلْنَا فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ شَرْعًا ثُمَّ إنْ - ضَرَبَ عَلَى سِنِّهِ حَتَّى اسْوَدَّتْ أَوْ احْمَرَّتْ أَوْ اخْضَرَّتْ فَعَلَيْهِ أَرْشُ السِّنِّ كَامِلًا ؛ لِأَنَّ الْجَمَالَ ، وَالْمَنْفَعَةَ

يَفُوتُ بِذَلِكَ .
وَقَالَ : السَّوَادُ فِي السِّنِّ دَلِيلُ مَوْتِهَا فَإِذَا اصْفَرَّتْ فَقَدْ رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ فِيهَا حُكْمَ عَدْلٍ وَذَكَرَ هِشَامٌ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ فِيهَا حُكْمَ عَدْلٍ ، وَفِي الْحُرِّ لَا شَيْءَ ، وَفِي الْمَمْلُوكِ حُكْمُ عَدْلٍ وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهَا حُكْمُ عَدْلٍ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ الْجَمَالَ عَلَى الْكَمَالِ فِي بَيَاضِ السِّنِّ فَبِالصُّفْرَةِ يَنْقُصُ مَعْنَى الْجَمَالِ فِيهَا ، وَلِهَذَا يَجِبُ فِي الْمَمْلُوكِ حُكْمُ عَدْلٍ فَكَذَلِكَ فِي الْحُرِّ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : الصُّفْرَةُ مِنْ أَلْوَانِ السِّنِّ فَلَا يَكُونُ دَلِيلَ مَوْتِ السِّنِّ ، وَالْمَطْلُوبُ بِالسِّنِّ فِي الْإِحْرَازِ الْمَنْفَعَةُ ، وَهِيَ قَائِمَةٌ بَعْدَمَا اصْفَرَّتْ فَأَمَّا حَقُّ الْمَوْلَى فِي الْمَمْلُوكِ فَالْمَالِيَّةُ وَقَدْ تُنْتَقَصُ بِاصْفِرَارِ السِّنِّ وَعَلَى هَذَا لَوْ قُلِعَ سِنٌّ فَنَبَتَتْ صَفْرَاءَ أَوْ نَبَتَتْ كَمَا كَانَتْ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْأَرْشِ بِاعْتِبَارِ فَسَادِ الْمَنْبَتِ ، وَحِينَ نَبَتَتْ كَمَا كَانَتْ عَرَفْنَا أَنَّهُ مَا فَسَدَ الْمَنْبَتُ ثُمَّ وُجُوبُ الْأَرْشِ بِاعْتِبَارِ بَقَاءِ الْأَثَرِ ، وَلَمْ يَبْقَ أَثَرٌ حِينَ نَبَتَتْ كَمَا كَانَتْ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْجِرَاحَاتِ الَّتِي تَنْدَمِلُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى لَهَا أَثَرٌ تَجِبُ حُكُومَةٌ بِقَدْرِ مَا لَحِقَهُ مِنْ الْأَلَمِ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَرْجِعُ عَلَى الْجَانِي بِقَدْرِ مَا احْتَاجَ إلَيْهِ مِنْ ثَمَنِ الدَّوَاءِ وَأُجْرَةِ الْأَطِبَّاءِ حَتَّى انْدَمَلَتْ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : لَا يَجِبُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِمُجَرَّدِ الْأَلَمِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مَنْ ضُرِبَ ضَرْبَةً تَأَلَّمَ بِهَا ، وَلَمْ يُؤَثِّرْ فِيهِ شَيْءٌ لَا يَجِبُ شَيْءٌ أَرَأَيْت لَوْ شَتَمَهُ شَتِيمَةً أَكَانَ عَلَيْهِ أَرْشٌ بِاعْتِبَارِ إيلَامٍ حَلَّ فِيهِ .

قَالَ : وَفِي الْيَدِ إذَا قُطِعَتْ مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ دِيَةُ الْيَدِ وَحُكْمُ عَدْلٍ فِيمَا بَيْنَ الْكَفِّ إلَى السَّاعِدِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْمِرْفَقِ كَانَ فِي الذِّرَاعِ بَعْدَ دِيَةِ الْيَدِ حُكْمُ عَدْلٍ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ ، وَهَذَا قَوْل أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجِبُ فِيهِ إلَّا أَرْشُ الْيَدِ إذَا قَطَعَهَا مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ ، وَكَذَلِكَ رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا إذَا قَطَعَهَا مِنْ الْمَنْكِبِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا أَرْشُ الْيَدِ ، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي أَحَدِهِمَا نِصْفُ الدِّيَةِ } ، وَالْيَدُ : اسْمٌ لِلْجَارِحَةِ مِنْ رُءُوسِ الْأَصَابِعِ إلَى الْآبَاطِ وَقَدْ رَوَيْنَا فِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حَارِثَةَ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَضَى عَلَى قَاطِعِ الْيَدِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ خَمْسَةِ آلَافٍ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ } .
وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ قَطَعَهَا مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ ؛ وَلِأَنَّ السَّاعِدَ لَيْسَ لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَيَكُونُ تَبَعًا لِمَا لَهُ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ كَالْكَفِّ فَإِنَّ بِالْإِجْمَاعِ يَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ بِقَطْعِ الْأَصَابِعِ ثُمَّ لَوْ قَطَعَ الْكَفَّ مَعَ الْأَصَابِعِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَتُجْعَلُ الْكَفُّ تَبَعًا لِلْأَصَابِعِ لِهَذَا الْمَعْنَى فَكَذَلِكَ إذَا قَطَعَ مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ أَوْ الْمِرْفَقِ أَوْ الْمَنْكِبِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ بَدَلٌ مُقَدَّرٌ سِوَى الْأَصَابِعِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ الْمَارِنَ أَوْ الْحَشَفَةَ يَلْزَمُهُ الدِّيَةُ وَلَوْ قَطَعَ جَمِيعَ الْأَنْفِ أَوْ جَمِيعَ الذَّكَرِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ دِيَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ قَالَا : مَا زَادَ عَلَى الْكَفِّ مِنْ السَّاعِدِ إمَّا أَنْ يُجْعَلَ تَبَعًا لِلْأَصَابِعِ أَوْ الْكَفِّ ، وَلَمْ يُمْكِنْ جَعْلُهُ تَبَعًا لِلْأَصْلِ ؛ لِأَنَّ الْكَفَّ حَائِلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَصَابِعِ ، وَالتَّابِعُ مَا يَكُونُ مُتَّصِلًا بِالْأَصْلِ ، وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ تَبَعًا لِلْكَفِّ ؛ لِأَنَّ

الْكَفَّ فِي نَفْسِهِ تَبَعٌ لِلْأَصَابِعِ ، وَلَا تَبِعَ لِلتَّبَعِ فَإِذَا تَعَذَّرَ جَعْلُهُ تَبَعًا ، وَلَا يَجُوزُ إهْدَارُهُ عَرَفْنَا أَنَّهُ أَصْلٌ بِنَفْسِهِ وَلَيْسَ فِيهِ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَيَجِبُ حُكْمُ عَدْلٍ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَهُ مِنْ الْمِفْصَلِ أَوَّلًا فَبَرَأَتْ ثُمَّ عَادَ فَقَطَعَ السَّاعِدَ ، وَلَا حُجَّةَ فِي الْحَدِيثَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْيَدَ إذَا ذُكِرَتْ فِي مَوْضِعِ الْقَطْعِ فَالْمُرَادُ بِهِ مِنْ مَفْصِلِ الزَّنْدِ بِدَلِيلِ آيَةِ السَّرِقَةِ .
وَاَلَّذِي رُوِيَ أَنَّ الْقَطْعَ كَانَ مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ شَاذٌّ لَا يُعْتَمَدُ عَلَى مِثْلِهِ فِي الْأَحْكَامِ فَإِذَا كُسِرَ الْأَنْفُ فَفِيهِ حُكْمُ عَدْلٍ ؛ لِمَا أَنَّ كَسْرَ الْأَنْفِ جِنَايَةٌ لَيْسَ فِيهَا أَرْشٌ مُقَدَّرٌ فَيَجِبُ فِيهَا حُكْمُ عَدْلٍ كَكَسْرِ السَّاعِدِ ، وَالسَّاقِ فَإِنْ قَطَعَ الْيَدَ ، وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَصَابِعَ فَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ دِيَةِ الْيَدِ ، وَيَدْخُلُ أَرْشُ الْكَفِّ فِي أَرْشِ الْأَصَابِعِ هَاهُنَا بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَصَابِعِ لَمَّا كَانَتْ قَائِمَةً جُعِلَ كَقِيَامِ جَمِيعِهَا فَيَكُونُ الْكَفُّ تَابِعًا لَهَا ، وَإِقَامَةُ الْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ فَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَى الْكَفِّ أُصْبُعَانِ أَوْ أُصْبُعٌ فَقَطَعَ الْكَفَّ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَلْزَمُهُ أَرْشُ مَا كَانَ قَائِمًا مِنْ الْأَصَابِعِ وَيَدْخُلُ أَرْشُ الْكَفِّ فِي ذَلِكَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَنْظُرُ إلَى أَرْشِ مَا بَقِيَ مِنْ الْأَصَابِعِ ، وَإِلَى أَرْشِ الْكَفِّ ، وَهُوَ حُكُومَةُ عَدْلٍ فَأَيُّهُمَا كَانَ أَكْثَرَ يَدْخُلُ الْأَقَلُّ فِيهِ ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْأَصَابِعِ هَاهُنَا فَائِتَةٌ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ كَفَوَاتِ الْكُلِّ ، وَلَوْ قَطَعَ الْكَفَّ وَلَيْسَ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ الْأَصَابِعِ كَانَ عَلَيْهِ حُكْمُ عَدْلٍ ؛ فَهَذَا مِثْلُهُ وَهَذَا لِأَنَّ بِبَقَاءِ أَكْثَرِ الْأَصَابِعِ تَبْقَى مَنْفَعَةُ الْبَطْشِ ، وَإِنْ كَانَ يَتَمَكَّنُ فِيهَا نُقْصَانٌ فَيُعْتَبَرُ تَفْوِيتُ ذَلِكَ فِي إيجَابِ الْأَرْشِ ، وَأَمَّا بِبَقَاءِ أُصْبُعٍ وَاحِدٍ فَلَا يَبْقَى مَنْفَعَةُ الْبَطْشِ ،

وَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ ذَلِكَ فِي إيجَابِ الْأَرْشِ فَيَجِبُ حُكْمُ عَدْلٍ إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ أَرْشِ الْأُصْبُعِ الْمَقْطُوعَةِ بِالنَّصِّ وَمِنْ اعْتِبَارِ حُكُومَةِ الْعَدْلِ فِي الْكَفِّ لِمَا قُلْنَا ، وَلَا وَجْهَ إلَى الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا بِالْإِتْلَافِ فَاعْتَبَرْنَا الْأَكْثَرَ مِنْهُمَا فَجَعَلْنَا الْأَقَلَّ تَابِعًا لِلْأَكْثَرِ ، وَهُوَ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ فِي بَابِ الْأَرْشِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ : أَرْشُ الْأُصْبُعِ مُقَدَّرٌ شَرْعًا ، وَلَيْسَ لِلْكَفِّ أَرْشٌ مُقَدَّرٌ شَرْعًا ، وَمَا لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ شَرْعًا يُجْعَلُ تَبَعًا لِمَا هُوَ مُقَدَّرٌ شَرْعًا ، وَلِهَذَا جَعَلَ الْكَفَّ تَبَعًا لِجَمِيعِ الْأَصَابِعِ ، وَهَذَا لِمَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُقَدَّرَ شَرْعًا ثَابِتٌ بِالنَّصِّ ، وَمَا لَيْسَ فِيهِ تَقْدِيرٌ فَهُوَ ثَابِتٌ بِالرَّأْيِ ، وَالرَّأْيُ لَا يُعَارِضُ النَّصَّ ، وَالْمَصِيرُ إلَى التَّرْجِيحِ بِالْكَثْرَةِ عِنْدَ الْمُسَاوَاةِ فِي الْقُوَّةِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْمَصِيرَ إلَى الرَّأْيِ ، وَالتَّقْوِيمِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ لَا تَتَحَقَّقُ عِنْدَ إمْكَانِ إيجَابِ الْأَرْشِ الْمُقَدَّرِ بِالنَّصِّ وَسِوَى هَذَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ أَوَّلًا : عَلَيْهِ أَرْشُ الْأُصْبُعِ ، وَحُكُومَةُ الْعَدْلِ فِي الْكَفِّ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ جَعْلَ الْكَفِّ تَبَعًا لِلْأَصَابِعِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَعْنَى الْبَطْشِ يَكُونُ بِهِمَا ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْأُصْبُعِ الْوَاحِدِ ، وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْأُصْبُعِ تَبَعًا لِلْكَفِّ ؛ لِأَنَّ لِلْأُصْبُعِ أَرْشًا مُقَدَّرًا شَرْعًا فَلَا يَجُوزُ النُّقْصَانُ عَنْ ذَلِكَ بِالرَّأْيِ ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ اتِّبَاعُ أَحَدِهِمَا الْآخَرَ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلًا فَيَجِبُ أَرْشُهُمَا ، وَعَنْهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أَرْشُ الْأُصْبُعِ الْقَائِمَةِ ، وَمَوْضِعُهَا مِنْ الْكَفِّ يَكُونُ تَبَعًا لَهُ وَيَلْزَمُهُ حُكُومَةُ عَدْلٍ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْكَفِّ ؛ لِأَنَّ الْأَصَابِعَ لَوْ كَانَتْ قَائِمَةً كَانَ مَوْضِعُ كُلِّ أُصْبُعٍ مِنْ

الْكَفِّ تَبَعًا لِذَلِكَ الْأُصْبُعِ فَعِنْدَ قِيَامِ الْبَعْضِ يُعْتَبَرُ الْبَعْضُ بِالْكُلِّ ثُمَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِنْ لَمْ يَبْقَ إلَّا مَفْصِلٌ مِنْ أُصْبُعٍ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَرْشُ ذَلِكَ الْمَفْصِلِ وَيُجْعَلُ الْكَفُّ تَبَعًا لَهُ ؛ لِأَنَّ أَرْشَ ذَلِكَ الْمَفْصِلِ مُقَدَّرٌ شَرْعًا ، وَمَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الْأَصْلِ فَإِنْ قَلَّ فَلَا حُكْمَ لِلتَّبَعِ كَمَا إذَا بَقِيَ وَاحِدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْخُطَّةِ مِنْ الْمَحَلَّةِ لَا يُعْتَبَرُ السُّكَّانُ .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ : إذَا كَانَ الْبَاقِي دُونَ أُصْبُعٍ فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْأَقَلُّ ، وَالْأَكْثَرُ فَيَدْخُلُ الْأَقَلُّ فِي الْأَكْثَرِ ؛ لِأَنَّ أَرْشَ الْأُصْبُعِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فَأَمَّا أَرْشُ كُلِّ مَفْصِلٍ فَغَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا ذَلِكَ بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ بِنَوْعِ رَأْيٍ ، وَكَوْنُهُ أَصْلًا بِاعْتِبَارِ النَّصِّ فَإِذَا لَمْ يَرِدْ النَّصُّ فِي أَرْشِ مَفْصِلٍ وَاحِدٍ اعْتَبَرْنَا فِيهِ الْأَقَلَّ ، وَالْأَكْثَرَ لِمَا بَيَّنَّا وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ .

قَالَ : وَفِي ثَدْيِ الرَّجُلِ حُكْمُ عَدْلٍ وَيُسَمَّى الثَّنْدُوَةَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ ، وَلَا جَمَالٌ كَامِلٌ فَإِنَّهُ مَسْتُورٌ بِالثِّيَابِ عَادَةً لَكِنَّ فِيهِ بَعْضَ الْجَمَالِ ، وَفِيمَا يَبْقَى مِنْ أَثَرِهِ بَعْدَ الْقَطْعِ بَعْضُ الشَّيْنِ فَيَجِبُ بِحُكْمِ عَدْلٍ بِاعْتِبَارِهِ .

وَفِي الْأُذُنِ إذَا يَبِسَتْ أَوْ انْخَسَفَتْ وَرُبَّمَا تَقُولُ : انْخَنَسَتْ حُكْمُ عَدْلٍ ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ الْمَقْصُودَةَ لَا تَفُوتُ بِهِ وَهُوَ إيصَالُ الصَّوْتِ إلَى الصِّمَاخِ ، وَكَذَلِكَ لَا يَفُوتُ بِهِ الْجَمَالُ كُلُّهُ بَلْ يَتَمَكَّنُ فِيهِ النُّقْصَانُ ؛ لِأَجْلِهِ يَجِبُ حُكْمُ عَدْلٍ قَالَ : وَبَلَغَنَا عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ إلَّا خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَصَاعِدًا وَبِهِ نَأْخُذُ ، وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْخَطَأِ يَبْلُغُ نِصْفَ عُشْرِ دِيَةِ الرَّجُلِ خَمْسَمِائَةٍ أَوْ نِصْفَ عُشْرِ دِيَةِ الْمَرْأَةِ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ فَهَذَا عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي شِبْهِ الْعَمْدِ وَمَا دُونَ ذَلِكَ فِي مَالِ الْجَانِي حَالًّا لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا ، وَلَا عَبْدًا ، وَلَا صُلْحًا ، وَلَا اعْتِرَافًا ، وَلَا مَا دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ } وَلِأَنَّ مَا دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ فِي مَعْنَى ضَمَانِ الْمَالِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا بِاعْتِبَارِ التَّقْوِيمِ ، وَهُوَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ شَرْعًا ، وَضَمَانُ الْجِنَايَةِ إنَّمَا يُفَارِقُ ضَمَانَ الْمُتْلَفَاتِ فِي كَوْنِهِ مُقَدَّرًا شَرْعًا ، وَأَدْنَى ذَلِكَ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ فَمَا دُونَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ حَالًّا فِي مَالِهِ ، وَأَرْشُ الْمُوضِحَةِ فَمَا زَادَ عَلَيْهِ إلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ يَكُونُ عَلَى الْعَاقِلَةِ مُؤَجَّلًا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنْ زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَخَذَ الْفَضْلَ فِي سَنَةٍ أُخْرَى إلَى تَمَامِ الثُّلُثَيْنِ فَإِنْ زَادَ عَلَى الثُّلُثَيْنِ أَخَذَ ذَلِكَ الْفَضْلَ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ إلَى تَمَامِ الدِّيَةِ بَلَغَنَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ فَرَضَ الْعَطَاءَ ، وَجَعَلَ الدِّيَةَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ الثُّلُثَ فِي سَنَةٍ ، وَالنِّصْفَ فِي سَنَتَيْنِ ، وَالثُّلُثَيْنِ فِي سَنَتَيْنِ ، وَقَدْ ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ التَّأْجِيلُ فِي جَمِيعِ الدِّيَةِ إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ ، وَأَنَّهُ يَسْتَوْفِي كُلَّ ثُلُثٍ فِي

سَنَةٍ ، وَلَمَّا ثَبَتَ التَّأْجِيلُ فِي ثُلُثِ الدِّيَةِ سَنَةً وَاحِدَةً ثَبَتَ فِي أَبْعَاضِ ذَلِكَ الثُّلُثِ مِمَّا يَكُونُ فِي مَعْنَاهُ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ ، وَكَذَلِكَ الثُّلُثُ الثَّانِي لَمَّا ثَبَتَ التَّأْجِيلُ فِي جَمِيعِهِ السَّنَةَ الثَّانِيَةَ فَكَذَلِكَ فِي أَبْعَاضِهِ .

قَالَ : وَدِيَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَغَيْرِهِمْ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِينَ رِجَالُهُمْ كَرِجَالِهِمْ وَنِسَاؤُهُمْ كَنِسَائِهِمْ ، وَكَذَلِكَ جِرَاحَاتُهُمْ وَجِنَايَاتُهُمْ بَيْنَهُمْ وَمَا دُونَ النَّفْسِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ فَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ مَعَاقِلُ يَتَعَاقَلُونَ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مَعَاقِلُ فَفِي مَالِ الْجَانِي ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُمْ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ الْتَزَمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ فَيَثْبُتُ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنْ الْحِكْمَةِ مَا هُوَ ثَابِتٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَدِيَتُهُمْ مِثْلُ دِيَةِ أَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ عِنْدَنَا ، وَقَالَ مَالِكٌ : دِيَةُ الْكِتَابِيِّ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَقَالَ فِي قَوْلٍ آخَرَ : دِيَةُ الْكِتَابِيِّ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِينَ وَدِيَةُ الْمَجُوسِيِّ ثَمَانُمِائَةِ دِرْهَمٍ اسْتِدْلَالًا بِالْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَالْكُفَّارِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ } وَلِقَوْلِهِ { أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ } وَقَالَ : عَلَيْهِ السَّلَامُ { الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ } فَدَلَّ أَنَّ دِمَاءَ غَيْرِهِمْ لَا تُكَافِئُ دِمَاءَهُمْ ، وَفِي حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَضَى فِي دِيَةِ الْكِتَابِيِّ بِثُلُثِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ } ، وَفِي رِوَايَةٍ بِنِصْفِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وَعَنْ عُمَرَ أَنَّهُ قَضَى فِي دِيَةِ الْمَجُوسِيِّ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ ؛ وَلِأَنَّ نُقْصَانَ الْكُفْرِ فَوْقَ نُقْصَانِ الْأُنُوثَةِ ، وَإِذَا كَانَتْ الدِّيَةُ تَنْقُصُ بِصِفَةِ الْأُنُوثَةِ فَبِالْكُفْرِ أَوْلَى ، وَإِنَّمَا انْتَقَصَتْ بِصِفَةِ الْأُنُوثَةِ ؛ لِنُقْصَانِ دِينِ النِّسَاءِ كَمَا وَصَفَهُنَّ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ { : إنَّهُنَّ نَاقِصَاتُ عَقْلٍ وَدِينٍ } وَتَأْثِيرُ عَدَمِ الدَّيْنِ فَوْقَ تَأْثِيرِ نُقْصَانِ الدَّيْنِ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ

بَدَلَ النَّفْسِ يُنْتَقَصُ بِالرِّقِّ ، وَالرِّقُّ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْكُفْرِ ، وَأَثَرُ الشَّيْءِ دُونَ أَصْلِهِ فَلَأَنْ يُنْتَقَصَ بِأَصْلِ الْكُفْرِ كَانَ أَوْلَى ، وَيَتَفَاحَشُ النُّقْصَانُ إذَا انْضَمَّ إلَى كُفْرِهِ عَدَمُ الْكِتَابِ نِسْبَةً فَتَنَاهِي النُّقْصَانِ نِسْبَةً حَتَّى لَا يُوجِبَ إلَّا مَا قَضَى بِهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ ثَمَانُمِائَةِ دِرْهَمٍ .
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ مَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فِي قَتْلِ الْمُؤْمِنِ { وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَى الْعَامِرَ بَيْنَ اللَّذَيْنِ قَتَلَهُمَا عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ وَكَانَا مُسْتَأْمَنَيْنِ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدِيَةِ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : دِيَةُ كُلِّ ذِي عَمْدٍ فِي عَمْدِهِ أَلْفُ دِينَارٍ } وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَالَا : دِيَةُ الذِّمِّيِّ مِثْلُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنَّمَا أَعْطَيْنَاهُمْ الذِّمَّةَ وَبَذَلُوا الْجِزْيَةَ ؛ لِتَكُونَ دِمَاؤُهُمْ كَدِمَائِنَا ، وَأَمْوَالُهُمْ كَأَمْوَالِنَا وَمَا نَقَلُوا فِيهِ مِنْ الْآثَارِ بِخِلَافِ هَذَا لَا يَكَادُ يَصِحُّ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَعْمَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَأَلْتُ الزُّهْرِيَّ عَنْ دِيَةِ الذِّمِّيِّ فَقَالَ : مِثْلُ دِيَةِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ فَقُلْت : إنَّ سَعِيدًا يَرْوِي بِخِلَافِ ذَلِكَ قَالَ ارْجِعْ إلَى قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } فَهَذَا بَيَانُ أَنَّ الرِّوَايَةَ الشَّاذَّةَ لَا تُقْبَلُ فِيمَا يَدُلُّ عَلَى نَسْخِ الْكِتَابِ .
ثُمَّ تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ قَضَى بِثُلُثِ الدِّيَةِ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ فَظَنَّ الرَّاوِي أَنَّ ذَلِكَ جَمِيعُ مَا قَضَى بِهِ وَعِنْدَ تَعَارُضِ الْأَخْبَارِ يَتَرَجَّحُ الْمُثْبِتُ

لِلزِّيَادَةِ ، وَقَوْلُهُ : { الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ } لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ دِمَاءَ غَيْرِهِمْ لَا تُكَافِئُهُمْ فَتَخْصِيصُ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ ، وَالْمُرَادُ بِالْآثَارِ نَفْيُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ دُونَ أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَإِنَّا نَرَى الْمُسَاوَاةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي بَعْضِ أَحْكَامِ الدُّنْيَا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ الْخُلْفُ فِي خَبَرِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَالْكَلَامُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ يَسْتَوُونَ بِالْمُسْلِمِينَ فِي صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ فَيَسْتَوُونَ بِهِمْ فِي الدِّيَةِ كَالْفُسَّاقِ مَعَ الْعُدُولِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ نُقْصَانَ الدِّيَةِ بِاعْتِبَارِ نُقْصَانِ الْمَالِكِيَّةِ وَلِهَذَا تَنَصَّفَتْ بِالْأُنُوثَةِ لِتَنَصُّفِ الْمَالِكِيَّةِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ أَهْلُ مِلْكِ الْمَالِ دُونَ مِلْكِ النِّكَاحِ ، وَانْتَقَصَ عَنْ ذَلِكَ بِصِفَةِ الِاجْتِنَانِ فِي الْبَطْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْمَالِكِيَّةِ فِي الْحَالِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ عَرَضِيَّةٌ أَنْ يَصِيرَ أَهْلًا فِي الثَّانِي ، وَانْتَقَصَ بِنُقْصَانِ الرِّقِّ بِخُرُوجِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِمَالِكِيَّةِ الْمَالِ وَمَالِكِيَّةِ النِّكَاحِ بِنَفْسِهِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ لِإِظْهَارِ خَطَرِ الْمَحَلِّ وَصِيَانَتِهِ عَنْ الْهَدَرِ ، وَهَذَا الْخَطَرُ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ وَبِصِفَةِ الْمَمْلُوكِيَّةِ يَصِيرُ مُتَبَدِّلًا إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ : لَا تَأْثِيرَ لِلْكُفْرِ ، وَعَدَمِ الْكِتَابِ فِي نُقْصَانِ الْمَالِكِيَّةِ فَتَسْتَوِي دِيَةُ الْكَافِرِ بِدِيَةِ الْمُسْلِمِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْإِحْرَازِ وَالْإِحْرَازُ يَكُونُ بِالدَّارِ لَا بِالدَّيْنِ ، وَالْإِحْرَازُ بِالدَّيْنِ مِنْ حَيْثُ اعْتِقَادُ الْحُرْمَةِ ، وَإِنَّمَا ظَهَرَ ذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ نَعْتَقِدُهُ دُونَ مَا لَا نَعْتَقِدُ فَأَمَّا الْإِحْرَازُ بِقُوَّةِ أَهْلِ الدَّارِ فَيَظْهَرُ فِي حَقِّ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ سَاوَوْا الْمُسْلِمِينَ فِي

الْإِحْرَازِ بِالدَّارِ وَلِهَذَا يَسْتَوِي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي قِيمَةِ الْأَمْوَالِ فَكَذَلِكَ فِي قِيمَةِ النُّفُوسِ ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْإِنَاثُ فَإِنَّهُمْ فِي الْإِحْرَازِ يُسَاوِينَ الذُّكُورَ ، وَلَكِنْ تُنَصَّفُ الدِّيَةُ فِي حَقِّهِنَّ بِاعْتِبَارِ نُقْصَانِ الْمَالِكِيَّةِ وَلِأَنَّهُنَّ تِبَاعٌ فِي مَعْنَى الْإِحْرَازِ ؛ لِأَنَّ النُّصْرَةَ لَا تَقُومُ بِهِنَّ وَقَصْدُنَا بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَالْمُسْلِمِينَ وَقَدْ سَوَّيْنَا فِي حَقِّ الرِّجَالِ ، وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا ، وَجِنَايَاتُ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ ، وَالْمَجْنُونِ عَمْدُهَا وَخَطَؤُهَا كُلُّهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ إذَا بَلَغَتْ خَمْسَمِائَةٍ فَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ فَفِي أَمْوَالِهِمْ ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ الْخَمْسِمِائَةِ فِي مَعْنَى ضَمَانِ الْمَالِ ، وَالْإِتْلَافُ الْمُوجِبُ لِلْمَالِ يَتَحَقَّقُ مِنْ هَؤُلَاءِ كَمَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْعُقَلَاءِ الْبَالِغِينَ فَأَمَّا الْخَمْسُمِائَةِ فَصَاعِدًا فَهِيَ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ الْعَمْدُ ، وَالْخَطَأُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ .
بَلَغَنَا أَنَّ مَجْنُونًا سَعَى عَلَى رَجُلٍ بِسَيْفٍ فَضَرَبَهُ فَرُفِعَ ذَلِكَ إلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَجَعَلَهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَقَالَ : عَمْدُهُ وَخَطَؤُهُ سَوَاءٌ ، وَهُوَ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ، وَفِي قَوْلِهِ الثَّانِي قَالَ : عَمْدُهُ عَمْدٌ حَتَّى تَجِبَ الدِّيَةُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَمْدَ لُغَةً الْقَصْدُ ؛ لِأَنَّهُ ضِدُّ الْخَطَأِ فَمَنْ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْخَطَأُ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْعَمْدُ إلَّا أَنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْقَصْدِ حُكْمَانِ : أَحَدُهُمَا : الْقَوَدُ ، وَالْآخَرُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ حَالًّا ، وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ ، وَهُوَ الْعُقُوبَةُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَنْبَنِي عَلَى الْخِطَابِ ، وَهُوَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْحُكْمِ الْآخَرِ ، وَهُوَ وُجُوبُ الضَّمَانِ فِي مَالِهِ كَمَا فِي غَرَامَاتِ الْأَمْوَالِ فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ السَّرِقَةِ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمَانِ : أَحَدُهُمَا : عُقُوبَةٌ ، وَهِيَ الْقَطْعُ ،

وَالصَّبِيُّ لَيْسَ بِأَهْلٍ لَهُ ، وَالْآخَرُ : غَرَامَةٌ وَهُوَ الضَّمَانُ ، وَالصَّبِيُّ أَهْلٌ لِذَلِكَ فَيُسَوَّى بِالْبَالِغِ .
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ : أَنَّ الْعَمْدَ فِي بَابِ الْقَتْلِ مَا يَكُونُ مَحْظُورًا مَحْضًا وَلِهَذَا عَلَّقَ الشَّرْعُ بِهِ مَا هُوَ عُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ ؛ لِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ السَّلَامُ { الْعَمْدُ قَوَدٌ } ، وَفِعْلُ الصَّبِيِّ لَا يُوصَفُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى الْخِطَابِ فَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْعَمْدُ شَرْعًا فِي بَابِ الْقَتْلِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْعَمْدَ عِبَارَةٌ عَنْ قَصْدٍ مُعْتَبَرٍ فِي الْأَحْكَامِ شَرْعًا فَأَصْلُ الْقَصْدِ يَتَحَقَّقُ مِنْ الْبَهِيمَةِ ، وَلَا يُوصَفُ فِعْلُهَا بِالْعَمْدِيَّةِ ، وَقَصْدُ الصَّبِيِّ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ صَالِحٍ لِبِنَاءِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ عَلَيْهِ فَاعْتِبَارُ قَصْدِهِ شَرْعًا فِيمَا يَنْفَعُهُ لَا فِيمَا يَضُرُّهُ ، وَلِهَذَا كَانَ عَمْدُهُ بِمَنْزِلَةِ الْخَطَأِ دُونَ خَطَأِ الْبَالِغِ ؛ لِأَنَّ الْبَالِغَ انْعَدَمَ مِنْهُ الْقَصْدُ مَعَ قِيَامِ الْأَهْلِيَّةِ لِلْقَصْدِ الْمُعْتَبَرِ شَرْعًا ، وَفِي حَقِّ الصَّبِيِّ .
وَالْمَجْنُونِ انْعَدَمَتْ الْأَهْلِيَّةُ لِذَلِكَ ثُمَّ خَطَأُ الْبَالِغِ إنَّمَا كَانَ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِمَعْنَى النَّظَرِ ، وَالتَّخْفِيفِ عَلَى الْقَاتِلِ بِعُذْرِ الْخَطَأِ ، وَالصَّبِيُّ فِي ذَلِكَ أَقْوَى مِنْ صِفَةِ الْخَطَأِ ؛ وَلِكَوْنِ فِعْلِ الصَّبِيِّ دُونَ خَطَأِ الْبَالِغِ فِي الْحُكْمِ قُلْنَا : لَا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ بِالْقَتْلِ ، وَلَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ عَلَى مَا يَأْتِيك بَيَانُهُ .
وَإِذَا ضَرَبَ الرَّجُلُ بَطْنَ الْمَرْأَةِ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا فَفِيهِ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ يَعْدِلُ ذَلِكَ بِخَمْسِمِائَةٍ ، وَالْغُرَّةُ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ اللُّغَةِ الْمَمْلُوكُ الْأَبْيَضُ وَمِنْهُ غُرَّةُ الْفَرَسِ وَهُوَ الْبَيَاضُ الَّذِي عَلَى جَبِينِهِ ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { أُمَّتِي غُرٌّ مُحَجَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ الْغُرَّةُ الْجَيِّدُ يُقَالُ : هُوَ غُرَّةُ الْقَبِيلَةِ أَيْ كَبِيرُ أَهْلِهَا ثُمَّ الْقِيَاسُ فِي الْجَنِينِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ إمَّا أَنْ

لَا يَجِبَ فِيهِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُعْرَفْ حَيَاتُهُ وَفِعْلُ الْقَتْلِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي مَحَلٍّ هُوَ حَيٌّ ، وَالضَّمَانُ بِالشَّكِّ لَا يَجِبُ ، وَلَا يُقَالُ الظَّاهِرُ أَنَّهُ حَيٌّ أَوْ مُعَدٌّ لِلْحَيَاةِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ حُجَّةٌ لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ دُونَ الِاسْتِحْقَاقِ بِهِ وَبِهَذَا لَا يَجِبُ فِي جَنِينِ الْبَهِيمَةِ إلَّا نُقْصَانُ الْأُمِّ إنْ تَمَكَّنَ فِيهَا نُقْصَانٌ ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ لَا يَجِبُ شَيْءٌ .
وَالْقِيَاسُ أَنْ يَجِبُ كَمَالُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ الضَّارِبَ مَنَعَ حُدُوثَ مَنْفَعَةِ الْحَيَاةِ فِيهِ فَيَكُونُ كَالْمُزْهِقِ لِلْحَيَاةِ فِيمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْبَدَلِ كَوَلَدِ الْمَغْرُورِ فَإِنَّهُ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى ، وَهُوَ أَنَّهُ مَنَعَ حُدُوثَ الرِّقِّ فِيهِ ثُمَّ الْمَاءُ فِي الرَّحِمِ مَا لَمْ يَفْسُدْ فَهُوَ مُعَدٌّ لِلْحَيَاةِ فَيُجْعَلُ كَالْحَيِّ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ بِإِتْلَافِهِ كَمَا يُجْعَلُ بَيْضُ الصَّيْدِ فِي حَقِّ الْمُحْرِمِ كَالصَّيْدِ فِي إيجَابِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ بِكَسْرِهِ ، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالسُّنَّةِ وَهُوَ حَدِيثُ حَمَلِ بْنِ مَالِكٍ كَمَا رَوَيْنَا وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خُوصِمَ إلَيْهِ فِي إمْلَاصِ الْمَرْأَةِ فَقَالَ أَنْشُدُكُمْ بِاَللَّهِ هَلْ سَمِعَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا فَقَدِمَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَرَوَى حَدِيثَ الضَّرَّتَيْنِ فَقَالَ عُمَرُ مِنْ يَشْهَدُ مَعَك فَشَهِدَ مَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَقَدْ كِدْنَا أَنْ نَقْضِيَ مَا رَأَيْنَا فِيمَا فِيهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ قَضَى بِالْغُرَّةِ .
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ فُلَيْحٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { فِي الْجَنِينُ غُرَّةٌ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ } قِيمَتُهُ خَمْسُمِائَةٍ ثُمَّ هَذِهِ الْآثَارُ دَلِيلٌ لَنَا عَلَى أَنَّ الدِّيَةَ تَتَقَدَّرُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الْجَنِينِ بِالِاتِّفَاقِ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ ، وَقَدْ قُدِّرَ

ذَلِكَ بِخَمْسِمِائَةٍ فَعَرَفْنَا أَنَّ جَمِيعَ الدِّيَةِ عَشَرَةُ آلَافٍ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ ثُبُوتًا صَحِيحًا بَلْ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ كَمَا أَوْجَبَ فِي الْجَنِينِ عَبْدًا أَوْ أَمَةً نَصَّ عَلَى مِقْدَارِ الْمَالِيَّةِ ، وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ ، وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّ الْوَاجِبَ بَدَلُ نَفْسِ الْجَنِينِ ، وَأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَبْدَالِ الْمُقَدَّرَةِ النُّفُوسُ ، وَأَنَّ مَا يَجِبُ فِي بَدَلِ الْجَنِينِ بِمَنْزِلَةِ مَا يَجِبُ فِي بَدَلِ الْمُنْفَصِلِ حَيًّا ؛ لِأَنَّهُ قَضَى بِذَلِكَ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَلِهَذَا قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ : إنَّ بَدَلَ الْجَنِينِ يَكُونُ مَوْرُوثًا عَنْهُ لِوَرَثَتِهِ إلَّا أَنَّ الضَّارِبَ إنْ كَانَ أَبَاهُ لَمْ يَرِثْ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ قَاتِلٌ .
وَقَالَ اللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ يَكُونُ لِأُمِّهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَكُونُ مُؤَجَّلًا فِي سَنَةٍ ، وَبَدَلُ الطَّرَفِ هُوَ الَّذِي يَتَأَجَّلُ فِي سَنَةٍ ، وَأَمَّا بَدَلُ النَّفْسِ فَيَكُونُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ قَلَّ أَوْ كَثُرَ كَمَا لَوْ اشْتَرَكَ عِشْرُونَ رَجُلًا فِي قَتْلِ رَجُلٍ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ .
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { دُوهُ } أَيْ أَدُّوا دِيَتَهُ فَقَدْ جَعَلَهُ فِي حُكْمِ النُّفُوسِ وَسُمِّيَ الْوَاجِبُ فِي بَدَلِهِ دِيَةً ، وَهُوَ : اسْمٌ لِبَدَلِ النَّفْسِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ بَدَلَ الْجُزْءِ لَا يَجِبُ بِدُونِ بَقَاءِ النُّقْصَانِ حَتَّى لَوْ قَلَعَ سِنًّا فَنَبَتَ مَكَانَهُ سِنٌّ أُخْرَى لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ ، وَهَاهُنَا يَجِبُ بَدَلُ الْجَنِينِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُمِّ نُقْصَانٌ دَلَّ أَنَّ وُجُوبَهُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى النَّفْسِيَّةِ ، وَبَدَلُ النَّفْسِ يَكُونُ مَوْرُوثًا عَنْ صَاحِبِهَا ، وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ نَفْسٌ مُودَعَةٌ فِي الْأُمِّ حَتَّى تَنْفَصِلَ عَنْهَا حَيَّةً فَالْجِنَايَةُ عَلَيْهَا قَبْلَ الِانْفِصَالِ مُعْتَبَرَةٌ بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهَا بَعْدَ الِانْفِصَالِ إلَّا أَنَّهُ مِنْ وَجْهِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96