كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي

الْفَرْقِ أَنَّ مَا يَسْتَفِيدُ مِنْ الْعِلْمِ بِمُعَايَنَةِ السَّبَبِ وَمَا يَسْتَفِيدُهُ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ عِنْدَهُ فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ ، ثُمَّ شَهَادَةُ الشُّهُودِ عِنْدَهُ بَعْدَ مَا اسْتَقْصَى تُفِيدُهُ عِلْمَ الْقَضَاءِ وَقَبْلَ أَنْ يَسْتَقْصِيَ لَا تُفِيدُ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى لَوْ اسْتَقْصَى شَاهِدُ الْفَرْعِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِمَا كَانَ مِنْ شَهَادَةِ الْأُصُولِ عِنْدَهُ مَا لَمْ يَشْهَدُوا بِذَلِكَ بَعْدَ مَا اسْتَقْصَى .
فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ السَّبَبِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ عَايَنَ السَّبَبَ بَعْدَ مَا اسْتَقْصَى ، وَلَكِنْ فِي غَيْرِ مِصْرِهِ ، ثُمَّ لَمَّا انْتَهَى إلَى مِصْرِهِ خُوصِمَ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ عَايَنَ السَّبَبَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَهُوَ ، وَمَا لَوْ عَلِمَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقْصِيَ سَوَاءٌ ، وَلَوْ عَايَنَ ذَلِكَ فِي مِصْرِهِ وَهُوَ قَاضٍ ، ثُمَّ عُزِلَ ، ثُمَّ أُعِيدَ عَلَى الْقَضَاءِ فَلَا شَكَّ أَنَّ عِنْدَهُمَا لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مِنْ قَالَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْضًا لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَفَادَ عِلْمَ الْقَضَاءِ بِمُعَايَنَةِ السَّبَبِ حَتَّى لَوْ قَضَى بِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ جَازَ ذَلِكَ .
فَكَذَلِكَ إذَا قَضَى بِهِ بَعْدَ مَا قُلِّدَ ثَانِيًا وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ مَا عُزِلَ لَمْ يَبْقَ لَهُ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ إلَّا عِلْمُ الشَّهَادَةِ فَهُوَ ، وَمَا لَوْ عَلِمَ بِهِ بَعْدَ مَا عُزِلَ سَوَاءٌ .
تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ لَوْ سَمِعَ شَهَادَةَ الشُّهُودِ فَلَمْ يَقْضِ بِهَا حَتَّى عُزِلَ ، ثُمَّ أُعِيدَ عَلَى الْقَضَاءِ لَمْ يَقْضِ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْعَزْلِ .
فَكَذَلِكَ إذَا عَايَنَ السَّبَبَ وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ إذَا عَلِمَ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقْصِيَ ، ثُمَّ اسْتَقْصَى فَشَهِدَ عِنْدَهُ رَجُلٌ وَأَخَذَ بِذَلِكَ قَضَى بِهِ ، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَضَى بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، وَقَدْ كَانَ عَلِمَ مِنْهَا عِلْمًا ، وَلَكِنَّا

نَقُولُ عِلْمُهُ بِمُعَايَنَةِ السَّبَبِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ مَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ الْعِلْمِ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ عِنْدَهُ وَإِكْمَالُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ لَا يُمْكِنُ وَالْقَاضِي لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَضَاءِ إلَّا بِحُجَّةٍ فَالطَّرِيقُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَشْهَدَ مَعَ الرَّجُلِ الْآخَرِ لِصَاحِبِ الْحَقِّ عِنْدَ الْإِمَامِ الَّذِي فَوْقَهُ حَتَّى يَقْضِيَ هُوَ بِذَلِكَ .

وَإِذَا دَفَعَ الْقَاضِي مَالَ الْيَتِيمِ إلَى تَاجِرٍ فَجَحَدَهُ التَّاجِرِ فَالْقَاضِي مُصَدَّقٌ فِي ذَلِكَ عَلَى التَّاجِرِ يَقْضِي عَلَيْهِ بِالْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ قَاضٍ فِيمَا يَفْعَلُهُ فِي مَالِ الْيَتِيمِ ، وَفِيمَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ الْقَضَاءِ هُوَ مُصَدَّقٌ ؛ لِأَنَّهُ يُخْبِرُ بِمَا يَمْلِكُ الْإِنْسَانُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ مَالَ مَيِّتٍ فِي دَيْنِهِ فَلَا عُهْدَةَ عَلَى الْقَاضِي فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ ذَلِكَ مِنْ الْقَضَاءِ وَهُوَ فِيمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ يَكُونُ خَصْمًا لَا قَاضِيًا .
وَإِذَا انْتَفَتْ التُّهْمَةُ عَنْهُ كَانَتْ الْعُهْدَةُ عَلَى مَنْ وَقَعَ عَمَلُهُ لَهُمْ فَإِنْ جَحَدَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ الْبَيْعَ قَاضَاهُ عَلَيْهِ وَأَخَذَ مِنْهُ الْيَمِينَ ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ فَهُوَ الَّذِي بَاشَرَ السَّبَبَ ، وَكَذَلِكَ هُوَ مُصَدَّقٌ فِيمَا ذَكَرَ أَنَّهُ قَضَى بِهِ مِنْ قِصَاصٍ ، أَوْ مَالٍ ، أَوْ طَلَاقٍ ، أَوْ عَتَاقٍ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ سَوَاءٌ أَقَرَّ بِذَلِكَ عِنْدِي ، أَوْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ وَيَسَعُ لِلَّذِي سَمِعَ مِنْ الْقَاضِي ذَلِكَ أَنْ يَعْتَمِدَ قَوْلَهُ حَتَّى فِي الرَّجْمِ وَالنَّفْسِ وَمَا دُونَهَا ، وَمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَمَا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ رَجَعَ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ .
وَقَالَ فِي الْحُدُودِ الَّتِي تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ لَا يَسَعُ السَّامِعَ إقَامَةُ ذَلِكَ بِمُجَرِّدِ قَوْلِ الْقَاضِي مَا لَمْ يُخْبِرْهُ بِذَلِكَ غَيْرُهُ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ غَيْرُ مَعْصُومٍ عَنْ الْكَذِبِ فَإِنَّ ذَلِكَ دَرَجَةُ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَلَا تَبْلُغُ دَرَجَةُ الْقَاضِي دَرَجَةَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَحُرْمَةُ النَّفْسِ عَظِيمَةٌ وَالْغَلَطُ فِيهَا لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ فَلَا يَسَعُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ الْقَاضِي وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِ الْقَاضِي مُلْزِمٌ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مُبَاشَرَتَهُ الْقَضَاءَ قَوْلٌ مُلْزِمٌ .
فَكَذَلِكَ إخْبَارُهُ

بِالْقَضَاءِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يَسْتَقْصِي فِي كُلِّ بَلْدَةٍ أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ فَلَوْ كَانَتْ الْحُجَّةُ لَا تَتِمُّ بِمُجَرَّدِ خَبَرِ الْقَاضِي بِهِ لَجَرَى الرَّسْمُ بِإِيجَادِ الْقَاضِينَ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ لِصِيَانَةِ الْحُقُوقِ كَمَا جَرَى الرَّسْمُ بِهِ فِي الشُّهُودِ ، وَفِي الِاكْتِفَاءِ بِقَاضٍ وَاحِدٍ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ دَلِيلُ الْإِجْمَاعِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِ الْقَاضِي حُجَّةٌ تَامَّةٌ .

وَلَوْ عُزِلَ عَنْ الْقَضَاءِ فَخَاصَمَهُ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ فَقَالَ إنَّمَا قَضَيْتُ بِهِ عَلَيْك كَانَ مُصَدَّقًا فِي ذَلِكَ غَيْرَ مَسْئُولٍ بِبَيِّنَةٍ وَلَا مُسْتَحْلَفٍ يَمِينًا ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ تُنَافِي فِي تِلْكَ الْحَالَةِ الْخُصُومَةَ وَالضَّمَانَ عَنْهُ فَيَجِبُ قَبُولُ قَوْلِهِ فِي ذَلِكَ كَمَا لَوْ أَخْبَرَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يُعْزَلَ قَالَ مَشَايِخُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ اعْتِمَادُ قَوْلِ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْتَفْسَرَ إذَا كَانَ فَقِيهًا وَرِعًا فَالْوَرَعُ يُؤَمِّنُنَا مِنْ جَوْرِهِ وَمَيْلِهِ إلَى الرِّشْوَةِ وَفِقْهُهُ يُؤَمِّنُنَا مِنْ أَنْ يَغْلَطَ فِي ذَلِكَ .
فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُسْتَفْسَرَ ، وَإِنْ كَانَ وَرِعًا ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَغْلَطُ لِقِلَّةِ فَهْمِهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فَقِيهًا وَلَمْ يَكُنْ وَرِعًا فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُسْتَفْسَرَ ؛ لِأَنَّهُ لِقِلَّةِ وَرَعِهِ رُبَّمَا جَارَ فِي ذَلِكَ

وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَضْرِبَ فِي الْمَسْجِدِ حَدًّا وَلَا تَعْزِيرًا وَلَا يَقْتَصُّ لِأَحَدٍ مِنْ أَحَدٍ عِنْدَنَا ( وَقَالَ ) الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُلَوِّثَ الْمَسْجِدَ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْإِقَامَةِ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ وَالْمَسَاجِدُ أُعِدَّتْ لِذَلِكَ ، ثُمَّ هُوَ مِنْ تَتِمَّةِ قَضَائِهِ .
وَإِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَجْلِسَ فِي الْمَسْجِدِ لِلْقَضَاءِ كَانَ لَهُ أَنْ يُتِمَّ الْقَضَاءَ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ فِيهَا وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا تُقَامُ الْحُدُودُ فِي الْمَسَاجِدِ } ، وَفِي حَدِيثِ مَكْحُولٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { جَنِّبُوا مَسَاجِدَكُمْ صِبْيَانَكُمْ وَمَجَانِينَكُمْ وَرَفْعَ أَصْوَاتِكُمْ وَخُصُومَاتِكُمْ وَإِقَامَةَ حُدُودِكُمْ وَسَلَّ سُيُوفِكُمْ وَبَيْعَكُمْ وَشِرَاءَكُمْ وَطَهِّرُوهَا فِي الْجُمَعِ وَاجْعَلُوا عَلَى أَبْوَابِهَا الْمَطَاهِرَ } وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ أَمَرَ بِأَنْ يُعَذَّرَ رَجُلٌ .
وَقَالَ لِلَّذِي أَمَرَهُ بِذَلِكَ أَخْرِجْهُ مِنْ الْمَسْجِدِ ، ثُمَّ اضْرِبْهُ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِإِقَامَةِ حَدٍّ عَلَى أَحَدٍ فِي الْمَسْجِدِ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ تَلْوِيثُ الْمَسْجِدِ وَرَفْعُ صَوْتِ الْمَضْرُوبِ بِالْأَنِينِ عِنْدَ الضَّرْبِ وَالْمَسْجِدُ يُتَنَحَّى عَنْ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يَخْرُجَ الْقَاضِي لِيُقَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ ، أَوْ يَبْعَثَ نَائِبًا ، أَوْ يَجْلِسَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ وَيَأْمُرَ بِالْإِقَامَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ خَارِجًا مِنْ الْمَسْجِدِ وَهُوَ يَرَى ذَلِكَ

وَلَوْ أَنَّ قَاضِيًا بَاعَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا ، أَوْ اشْتَرَى لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ عَلَى خَصْمِهِ وَهُوَ كَغَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ فِي هَذَا ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ لَا يَكُونُ قَاضِيًا ، وَفِيمَا يَفْعَلُهُ عَلَى غَيْرِ سَبِيلِ الْحُكْمِ هُوَ كَسَائِرِ الرَّعَايَا .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَنْكَرَ الْأَعْرَابِيُّ اسْتِيفَاءَ ثَمَنِ النَّاقَةِ مِنْهُ .
وَقَالَ هَلُمَّ شَاهِدًا قَالَ لَمْ يَشْهَدْ لِي حَتَّى شَهِدَ خُزَيْمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ } الْحَدِيثَ إذَا كَانَ هَذَا فِي حَقِّ مَنْ هُوَ مَعْصُومٌ عَنْ الْكَذِبِ فَمَا ظَنُّك فِي الْقَاضِي وَلَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ بِشَيْءٍ لِنَفْسِهِ وَلَا لِوَلَدِهِ وَنَوَافِلِهِ مِنْ قِبَلِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَلَا لِأَبَوَيْهِ وَأَجْدَادِهِ مِنْ قِبَلِهِمَا وَلَا لِزَوْجَتِهِ وَلَا لِمُكَاتَبِهِ وَمَمَالِيكِهِ ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْقَضَاءِ فَوْقَ وِلَايَةِ الشَّهَادَةِ .
وَإِذَا لَمْ يَجُزْ شَهَادَتُهُ لِهَؤُلَاءِ فَلِئَلَّا يَجُوزَ قَضَاؤُهُ لَهُمْ أَوْلَى وَأَمَّا مَنْ سِوَى هَؤُلَاءِ مِنْ الْقَرَابَةِ وَغَيْرِهِمْ فَقَضَاؤُهُ لَهُمْ جَائِزٌ كَمَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُمْ

وَإِذَا عُزِلَ عَنْ الْقَضَاءِ ، ثُمَّ قَالَ كُنْتُ قَضَيْتُ لِهَذَا عَلَى هَذَا بِكَذَا وَكَذَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِمَا لَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَاءَهُ ، وَهَذَا قَوْلٌ مُلْزِمٌ وَهُوَ بَعْدَ الْعَزْلِ كَغَيْرِهِ مِنْ الرَّعَايَا فَلَا يَكُونُ قَوْلًا مُلْزِمًا ، وَإِنْ شَهِدَ مَعَ آخَرَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَشْهَدُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ وَلَا شَهَادَةَ لِلْإِنْسَانِ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ فِعْلِ نَفْسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى قَضَائِهِ شَاهِدَانِ سِوَاهُ لِيَتَمَكَّنَ الْمَوْلَى بَعْدَهُ مِنْ إمْضَائِهِ

وَإِذَا رُفِعَ قَضَاءُ الْقَاضِي بَعْدَ مَوْتِهِ ، أَوْ عَزْلِهِ إلَى قَاضٍ يَرَى خِلَافَ رَأْيِهِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْفُقَهَاءُ أَمْضَاهُ لِإِجْمَاعِ النَّاسِ عَلَى نُفُوذِ قَضَاءِ الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهَدَاتِ فَلَوْ أَبْطَلَهُ الْقَاضِي الثَّانِي كَانَ هَذَا مِنْهُ قَضَاءً بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ ، وَإِنْ كَانَ الْقَضَاءُ الْأَوَّلُ خَطَأً لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْفُقَهَاءُ أَبْطَلَهُ ؛ لِأَنَّهُ بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ ، أَوْ النَّصِّ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْأَوَّلَ لَوْ وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قَضَاءِ نَفْسِهِ أَبْطَلَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا تَحَوَّلَ رَأْيُهُ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ .
فَكَذَلِكَ يَفْعَلُهُ الْمَوْلَى بَعْدَ مَوْتِهِ .

وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَكُونَ فَظًّا غَلِيظًا جَبَّارًا عَنِيدًا ؛ لِأَنَّهُ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقَضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ مَا هُوَ مُنْتَفٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَدْ { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا عَنِيدًا } ، وَفِي صِفَتِهِ فِي التَّوْرَاةِ لَيْسَ بِفَظٍّ وَلَا غَلِيظٍ وَلَا صَخَّابٍ فِي الْأَسْوَاقِ فَصَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ هَذِهِ أَوْصَافٌ مَذْمُومَةٌ فَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْهَا وَهُوَ سَبَبٌ لِنَفْرَةِ النَّاسِ عَنْهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { ، وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ } الْآيَةَ وَالْقَاضِي مَنْدُوبٌ إلَى اكْتِسَابِ مَا هُوَ سَبَبٌ لِمَيْلِ الْقُلُوبِ إلَيْهِ وَالِاجْتِمَاعِ إلَيْهِ فِي حَوَائِجِهِمْ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتَدَّ حَتَّى يَسْتَنْطِقَ الْحَقَّ فَلَا يَدَعُ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى شَيْئًا مِنْ غَيْرِ جَبْرٍ بِهِ ، وَأَنْ يَلِينَ حَيْثُ يَنْبَغِي ذَلِكَ فِي غَيْرِ ضَعْفٍ وَلَا يَتْرُكَ شَيْئًا مِنْ الْحَقِّ لِمَا رَوَيْنَا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَا يَصْلُحُ لِهَذَا الْأَمْرِ إلَّا اللَّيِّنُ مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ الْقَوِيُّ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَلِينُ فِي الْأُمُورِ وَيَرْفُقُ حَتَّى يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ فَيَكُونَ مِنْ أَشَدِّهِمْ فِي ذَلِكَ وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَعَذَّرَ إلَى كُلِّ مَنْ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ فِي نَفْسِهِ عَلَيْهِ شَيْءٌ إذَا قَضَى عَلَيْهِ ، وَأَنْ يُفَسِّرَ لِلْخَصْمِ وَيُبَيِّنَ لَهُ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ قَدْ فَهِمَ عَنْهُ حُجَّتَهُ وَقَضَى عَلَيْهِ بَعْدَ مَا فَهِمَ وَبِذَلِكَ تَنْتَفِي عَنْهُ تُهْمَةُ الْمَيْلِ وَيَنْقَطِعُ عَنْهُ طَمَعُ الْخَصْمِ وَالْعَالَةِ فِيهِ ، وَلِأَنَّهُ يَصُونُ بِذَلِكَ الْخُصُومَ عَنْ الْفِتْنَةِ وَالشِّكَايَةِ مِنْهُ وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَّا أَنْ لَا يَتْرُكَ جَهْدَهُ فِي ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَطْمَعُ فِي أَمَانَتِهِ إلَّا نَادِرًا فَيَتَقَدَّمُ

الْقَاضِي إلَى أَعْوَانِهِ وَالْقُوَّامِ عَلَيْهِ فِي تَرْكِ الْحَقِّ وَالشِّدَّةِ عَلَى النَّاسِ وَيَأْمُرُهُمْ بِالرِّفْقِ وَاللِّينِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَضَعُوا فَيُقَصِّرُوا عَنْ شَيْءٍ مِمَّا يَنْبَغِي ؛ لِأَنَّهُمْ يَنُوبُونَ عَنْهُ فِيمَا فَوَّضَ إلَيْهِمْ فَكَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ يَأْمُرُ بِهِ أَعْوَانَهُ لِيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبُ تَأْلِيفِ الْقُلُوبِ وَاجْتِمَاعِ الْكَلِمَةِ عَلَيْهِ .

وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُسْتَعْمَلَ عَلَى الْقَضَاءِ إلَّا الْمَوْثُوقُ بِهِ فِي عَفَافِهِ وَصَلَاحِهِ وَعَقْلِهِ وَفَهْمِهِ وَعِلْمِهِ بِالسُّنَّةِ وَالْآثَارِ وَوُجُوهِ الْفِقْهِ الَّتِي يَأْخُذُ مِنْهَا الْكَلَامَ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ رَأْيٍ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ بِالسُّنَّةِ وَالْأَحَادِيثِ فَمِثْلُهُ يَضِلُّ النَّاسَ كَمَا وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ إيَّاكُمْ وَأَصْحَابَ الرَّأْيِ أَعْيَتْهُمْ أَنْ يَحْفَظُوهَا فَيُسْأَلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا وَلَا صَاحِبَ حَدِيثٍ لَيْسَ لَهُ عِلْمٌ بِالْفِقْهِ فَقَدْ شَرَطَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صَاحِبِ الْحَدِيثِ أَنْ يَعِيَ مَا سَمِعَهُ ، أَوْ لَا يَقُولَهُ قَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ { نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا مَقَالَةً فَوَعَاهَا كَمَا سَمِعَهَا ، ثُمَّ أَدَّاهَا إلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى غَيْرِ فَقِيهٍ وَرَبُّ حَامِلِ فِقْهٍ إلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ } فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَّا بِصَاحِبِهِ وَالْإِمَامُ مَأْمُورٌ بِأَنْ لَا يُقَلِّدَ أَحَدًا شَيْئًا مِنْ عَمَلِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا إذَا عَلِمَ صَلَاحَهُ لِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قَلَّدَ غَيْرَهُ عَمَلًا ، وَفِي رَعِيَّتِهِ مَنْ هُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْهُ فَقَدْ خَانَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَخَانَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ } وَعَمَلُ الْقَضَاءِ مِنْ أَهَمِّ أُمُورِ الدِّينِ وَأَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُخْتَارُ لَهُ إلَّا مَنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ صَالِحٌ لِذَلِكَ مُؤَدِّي الْأَمَانَةَ فِيهِ ، وَذَلِكَ عِنْدَ اجْتِمَاعِ الْخِصَالِ الْمَذْكُورَةِ فِيهِ .
وَإِذَا كَانَ لَا يُؤْتَمَنُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَالِ مَنْ لَا يُعْرَفُ بِالْأَمَانَةِ أَوْ يَعْجَزُ عَنْ أَدَائِهَا فَلِئَلَّا يُؤْتَمَنَ عَلَى أَمْرِ الدِّينِ أَوْلَى فَكَمَا لَا يُخْتَارُ لِلْقَضَاءِ إلَّا مَنْ يَجْتَمِعُ فِيهِ هَذِهِ الشَّرَائِطُ .
فَكَذَلِكَ لِلْفَتْوَى فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُفْتِي ، وَقَدْ كَانَ الْقَاضِي فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ يُسَمَّى مُفْتِيًا فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُفْتِيَ إلَّا مَنْ

كَانَ هَكَذَا إلَّا أَنْ يُفْتِيَ شَيْئًا قَدْ سَمِعَهُ فَيَكُونَ حَاكِيًا مَا سَمِعَ مِنْ غَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ الرَّاوِي لِحَدِيثٍ سَمِعَهُ يُشْتَرَطُ فِيهِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الرَّاوِي مِنْ الْعَقْلِ وَالضَّبْطِ وَالْعَدَالَةِ وَالْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ كَلَامٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ بِصُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ فِي الرَّاوِي مِنْ غَيْرِ الْعَاقِلِ ، وَمَا مِنْ مَوْجُودٍ فِي الدُّنْيَا إلَّا وَهُوَ مُعْتَبَرٌ لِصُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ .
فَإِذَا كَانَ الْمَعْنَى الْمَطْلُوبُ مِنْ الْكَلَامِ الْبَيَانَ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِالْعَقْلِ عَرَفْنَا أَنَّ الْعَقْلَ فِي الْمُخْبِرِ شَرْطٌ وَالضَّبْطُ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الْخَبَرِ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ رُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِيهِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ الضَّبْطُ وَالْفَهْمُ وَالْعَدَالَةُ إلَّا بِذَلِكَ فَرُجْحَانُ جَانِبِ الصِّدْقِ بِالْعَدَالَةِ يَكُونُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَنْزَجِرْ عَمَّا يَعْتَقِدُهُ حَرَامًا فِي دِينِهِ لَا يَنْزَجِرُ عَنْ الْكَذِبِ أَيْضًا وَاشْتِرَاطُ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ يُنَافِي رُجْحَانَ جَانِبِ الصِّدْقِ فِي خَبَرِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الدِّينِ وَهُمْ يُعَادُونَ الدِّينَ الْحَقَّ وَيَسْعَوْنَ فِي هَدْمِهِ بِمَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ فَشَرَطْنَا الْإِسْلَامَ لِذَلِكَ ، وَبَعْدَ مَا اُسْتُجْمِعَ فِي الْقَاضِي هَذِهِ الشَّرَائِطُ لَا يُوَلَّى الْقَضَاءَ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عِلْمٌ بِالْقَضَاءِ وَالْمُرَادُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ الْعِلْمُ الْمُتَعَارَفُ بَيْنَ النَّاسِ وَلِسَانِهِمْ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فَالْقَاضِي لَا يَسْتَغْنِي عَنْ ذَلِكَ وَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ تَنْفِيذُ بَعْضِ الْقَضَاءِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِذَلِكَ

وَلَا يُوَلَّى الْقَضَاءُ أَعْمَى وَلَا مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ وَلَا مُكَاتَبٌ وَلَا عَبْدٌ يَسْعَى فِي شَيْءٍ مِنْ قِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ هَؤُلَاءِ لَا تُقْبَلُ وَالْقَضَاءُ أَعْظَمُ مِنْ الشَّهَادَةِ وَلَا يُوَلَّى أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ شَيْئًا مِنْ أَمْرِ الْقَضَاءِ كِتَابَةً وَلَا مَسَائِلِهِ لِظُهُورِ الْخِيَانَةِ مِنْهُمْ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَالسَّعْيِ فِي إفْسَادِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ .

وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي إذَا سَافَرَ ، أَوْ مَرِضَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ إلَّا بِأَمْرِ الْإِمَامِ الَّذِي هُوَ فَوْقَهُ ؛ لِأَنَّ مَنْ قَلَّدَهُ إنَّمَا رَضِيَ بِرَأْيِهِ وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي الرَّأْيِ وَالْقَضَاءُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الرَّأْيِ فَلَا يَسْتَخْلِفُ إلَّا بِأَمْرِ مَنْ قَلَّدَهُ كَالْوَكِيلِ لَا يُوَكِّلُ غَيْرَهُ إلَّا بِأَمْرِ الْمُوَكِّلِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْقَاضِي وَالْمَأْمُورِ بِإِقَامَةِ الْجُمُعَةِ فِي الِاسْتِخْلَافِ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ .
فَإِذَا اسْتَخْلَفَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْإِمَامِ لَمْ يَجُزْ قَضَاءُ خَلِيفَتِهِ إلَّا أَنْ يُنْفِذَ هُوَ قَضَاءَ خَلِيفَتِهِ فَحِينَئِذٍ يُنْفِذُهُ كَمَا لَوْ قَضَى بِهِ بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ نُفُوذَهُ بِرَأْيِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْوَكِيلَ إذَا وَكَّلَ غَيْرَهُ حَتَّى بَاشَرَ التَّصَرُّفَ ، ثُمَّ أَجَازَ الْوَكِيلُ الْأَوَّلُ نَفَذَ ذَلِكَ مِنْهُ وَجَعَلَ إجَازَتَهُ كَإِنْشَائِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ حُكِّمَ حَكَمًا بَيْنَ خَصْمَيْنِ فَهَذَا وَالِاسْتِخْلَافُ سَوَاءٌ وَقِيلَ هَذَا كُلُّهُ إذَا فَعَلَهُ خَلِيفَتُهُ لَا بِحَضْرَتِهِ فَإِنْ فَعَلَهُ بِحَضْرَتِهِ جَازَ اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّ تَمَامَهُ بِرَأْيِهِ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ إذَا وَكَّلَ غَيْرَهُ حَتَّى بَاعَ بِحَضْرَتِهِ ، وَإِنْ الْتَبَسَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَاسْتَشَارَ فِيهِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْعِفَّةِ وَأَخَذَ بِقَوْلِهِ فَأَنْفَذَهُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْقَاضِيَ فِيمَا يَعْجَزُ عَنْهُ يَسْتَعِينُ بِغَيْرِهِ مِمَّنْ عَلِمَ ذَلِكَ .

وَإِنْ طَمِعَ الْقَاضِي فِي أَنْ يُصْلِحَ الْخَصْمَيْنِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَرُدَّهُمَا وَيُؤَخِّرَ تَنْفِيذَ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا لَعَلَّهُمَا أَنْ يَصْطَلِحَا لِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رُدُّوا الْخُصُومَ حَتَّى يَصْطَلِحُوا فَإِنَّ فَصْلَ الْقَضَاءِ يُورَثُ بَيْنَ الْقَوْمِ الضَّغَائِنَ ، وَفِي رِوَايَةٍ رُدُّوا الْخُصُومَ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرُدَّهُمْ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ ، أَوْ مَرَّتَيْنِ إنْ طَمِعَ فِي الصُّلْحِ ؛ لِأَنَّ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ إضْرَارٌ بِصَاحِبِ الْحَقِّ ، وَإِنْ لَمْ يَطْمَعْ فِي الصُّلْحِ أَنْفَذَ الْقَضَاءَ بَيْنَهُمْ ؛ لِأَنَّهُ انْتَصَبَ لِذَلِكَ ، وَإِنْ أَنْفَذَ الْقَضَاءَ بَيْنَهُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَرُدَّهُمْ فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ رَدُّهُمْ إنَّمَا الْوَاجِبُ عَلَيْهِ مَا قُلِّدَ مِنْ الْعَمَلِ وَهُوَ الْقَضَاءُ بِالْحُجَّةِ ، وَقَدْ أَتَى بِذَلِكَ

وَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَسْمَعَ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ حُجَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ حُجَّتَيْنِ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بَيْنَ النَّاسِ بِالتَّسْوِيَةِ .
وَإِذَا سَمِعَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ حُجَّتَيْنِ ، أَوْ ثَلَاثًا أَضَرَّ بِذَلِكَ بِسَائِرِ النَّاسِ إلَّا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ قَلِيلًا وَلَا يَشْغَلَهُ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَكَانَ يَفْرُغُ مِنْ حَوَائِجِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ فَلَا بَأْسَ بِهِ حِينَئِذٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ مِمَّنْ حَضَرَ مَجْلِسَهُ

وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُقَدِّمَ رَجُلًا قَدْ جَاءَ رَجُلٌ غَيْرُهُ قَبْلَهُ لِفَضْلِ مَنْزِلَتِهِ وَسُلْطَانِهِ ، وَلَكِنْ يُقَدِّمُهُمْ عَلَى مَنَازِلِهِمْ ؛ لِأَنَّ الَّذِي سَبَقَ بِالْحُضُورِ قَدْ اسْتَحَقَّ النَّظَرَ فِي حَاجَتِهِ فَلَا يَبْطُلُ حَقُّهُ بِحُضُورِ غَيْرِهِ كَيْفَ ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ تَوَاضَعَ لِغَنِيٍّ لِغِنَاهُ ذَهَبَ ثُلُثَا دِينِهِ } ، وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَمَرَ رَسُولَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِمَا قَالَ { وَاصْبِرْ نَفْسَك مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } الْآيَةَ وَنَظَرُ الْقَاضِي لَهُمْ بِسَبَبِ الدِّينِ ، وَفِي ذَلِكَ السُّلْطَانُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ فَإِنَّمَا يُقَدِّمُهُمْ عَلَى مَنَازِلِهِمْ بِمَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ أَصْلِ بَعْضِ مَسَائِلِ التَّحْكِيمِ وَتَمَامُ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ فَنَذْكُرُ هُنَا مِقْدَارَ مَا ذُكِرَ فَنَقُولُ الْحَكَمُ فِيمَا بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْحَاكِمِ الْمُوَلَّى حَتَّى يُشْتَرَطَ فِيهِ الْأَهْلِيَّةُ لِلشَّهَادَةِ .
فَإِذَا كَانَ أَعْمَى ، أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ ، أَوْ عَبْدًا ، أَوْ مُكَاتَبًا لَمْ يَجُزْ حُكْمُهُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَمَا يَحْكُمُ بِهِ بِمَنْزِلَةِ اصْطِلَاحِ الْخَصْمَيْنِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ بِتَرَاضِيهِمَا صَارَ حَكَمًا حَتَّى أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا مَا لَمْ يَمْضِ فِيهِ الْحُكْمُ وَالْحُكُومَةُ .
فَإِذَا أَمْضَاهَا فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا كَمَا فِي الصُّلْحِ .

وَلَوْ دُفِعَ حُكْمُ الْحَاكِمِ إلَى الْقَاضِي فَإِنْ وَافَقَ الْحَقَّ وَوَافَقَ رَأْيَهُ أَمْضَاهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَقَضَهُ احْتَاجَ إلَى إعَادَتِهِ فِي الْحَالِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُوَافِقُ الْحَقَّ أُبْطِلَ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ رَأْيُهُ لَا يُوَافِقُ رَأْيَهُ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ فَإِنَّهُ يُبْطِلُهُ بِمَنْزِلَةِ إصْلَاحِ الْخَصْمَيْنِ ؛ لِأَنَّ رِضَاهُمَا بِحُكْمِهِ لَا يَكُونُ حُجَّةَ الْإِلْزَامِ فِي حَقِّ الْقَاضِي .

وَإِنْ حَكَّمَا رَجُلَيْنِ فَحَكَمَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُمَا رَضِيَا بِرَأْيِهِمَا وَرَأْيُ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ كَرَأْيِ الْمَثْنَى وَلَا يُصَدَّقَانِ عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ بَعْدَ الْقِيَامِ مِنْ مَجْلِسِ الْحُكُومَةِ حَتَّى يَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا كَسَائِرِ الرَّعَايَا بَعْدَ الْقِيَامِ مِنْ مَجْلِسِ الْحُكُومَةِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى فِعْلٍ بَاشَرَاهُ .

وَلَيْسَ يَنْبَغِي لِلْحَكَمِ أَنْ يَقْضِيَ فِي إقَامَةِ حَدٍّ ، أَوْ تَلَاعُنٍ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ ؛ لِأَنَّ اصْطِلَاحَ الْخَصْمَيْنِ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ، وَمَا يَحْكُمُ بِهِ بِمَنْزِلَةِ اصْطِلَاحِ الْخَصْمَيْنِ عَلَيْهِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ إقَامَةَ الْحُدُودِ وَاللِّعَانَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي حَقِّ الشَّرْعِ فَلَا يُسْتَحَقُّ فِيهِ إلَّا مَنْ يُعَيَّنُ ثَانِيًا وَعَلَيْهِ اسْتِيفَاءُ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَهُمْ الْقُضَاةُ وَالْأَئِمَّةُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الْحَدُّ لَا يُقِيمُهُ عَلَى نَفْسِهِ .
فَكَذَلِكَ لَيْسَ لِلْحَكَمِ أَنْ يُقِيمَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مَا تَعَيَّنَ نَائِبًا فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

كِتَابُ الشَّهَادَاتِ ( قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إمْلَاءً : اعْلَمْ بِأَنَّ اشْتِقَاقَ الشَّهَادَةِ مِنْ الْمُشَاهَدَةِ وَهِيَ الْمُعَايَنَةُ فَمِنْ حَيْثُ إنَّ السَّبَبَ الْمُطْلَقَ لِلْأَدَاءِ الْمُعَايَنَةُ سُمِّيَ الْأَدَاءُ شَهَادَةً وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ لِلشَّاهِدِ { إذَا رَأَيْت مِثْلَ هَذِهِ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا فَدَعْ } وَقِيلَ هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ مَعْنَى الْحُضُورِ يَقُولُ الرَّجُلُ شَهِدْت مَجْلِسَ فُلَانٍ أَيْ حَضَرْت قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ } وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَحْضُرُ مَجْلِسَ الْقَاضِي لِلْأَدَاءِ يُسَمَّى شَاهِدًا وَتُسَمَّى أَدَاءَ شَهَادَةٍ ، ثُمَّ الْقِيَاسُ يَأْبَى كَوْنَ الشَّهَادَةِ حُجَّةً فِي الْأَحْكَامِ ) ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَالْمُحْتَمِلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً مُلْزِمَةً ، وَلِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ الْعِلْمَ وَالْقَضَاءُ مُلْزِمٌ فَيَسْتَدْعِي سَبَبًا مُوجِبًا لِلْعِلْمِ وَهُوَ الْمُعَايَنَةُ فَالْقَضَاءُ أَوْلَى .
وَلَكِنَّا تَرَكْنَا ذَلِكَ بِالنُّصُوصِ الَّتِي فِيهَا أَمْرٌ لِلْأَحْكَامِ بِالْعَمَلِ بِالشَّهَادَةِ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ } .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } { .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي } ، وَفِيهِ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا حَاجَةُ النَّاسِ إلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُنَازَعَاتِ وَالْخُصُومَاتِ تَكْثُرُ بَيْنَ النَّاسِ وَتَتَعَذَّرُ إقَامَةُ الْحُجَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْعِلْمِ فِي كُلِّ خُصُومَةٍ وَالتَّكْلِيفُ بِحَسَبِ الْوُسْعِ وَالثَّانِي مَعْنَى إلْزَامِ الشُّهُودِ حَيْثُ جَعَلَ الشَّرْعُ شَهَادَتَهُمْ حُجَّةً لِإِيجَابِ الْقَضَاءِ مَعَ احْتِمَالِ الْكَذِبِ إذَا ظَهَرَ رُجْحَانُ جَانِبِ الصِّدْقِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْله { أَكْرِمُوا

الشُّهُودَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْيِي الْحُقُوقَ بِهِمْ } وَلَمَّا خَصَّ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْأُمَّةَ بِالْكَرَامَاتِ وَصَفَهُمْ بِكَوْنِهِمْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فِي الْقِيَامَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { ، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } ، وَقَدْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِمَا لَا يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ كَالْقِيَاسِ فِي الْأَحْكَامِ بِغَالِبِ الرَّأْيِ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ .
ثُمَّ الْقِيَاسُ بَعْدَ هَذَا أَنْ يُكْتَفَى بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ ؛ لِأَنَّ رُجْحَانَ جَانِبِ الصِّدْقِ يَظْهَرُ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ بِصِفَةِ الْعَدَالَةِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ خَبَرُ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ مُوجِبًا لِلْعَمَلِ وَكَمَا لَا يَثْبُتُ عِلْمُ الْيَقِينِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْعَدَدِ مَا لَمْ يَبْلُغُوا حَدَّ التَّوَاتُرِ فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ الْعَدَدِ ، وَلَكِنْ تَرَكْنَا ذَلِكَ بِالنُّصُوصِ فَفِيهَا بَيَانُ الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَاتِ الْمُطْلَقَةِ كَمَا لَوْ تَلَوْنَا مِنْ الْآيَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لِلْمُدَّعِي لَيْسَ لَك إلَّا شَاهِدٌ شَاهِدَاك أَوْ يَمِينُهُ } فَإِنْ ( قِيلَ ) هَذِهِ النُّصُوصُ بَيَانُ جَوَازِ الْعَمَلِ بِشَهَادَةِ الْعَدَدِ ، وَلَيْسَ فِيهَا بَيَانُ نَفْيِ ذَلِكَ بِدُونِ الْعَدَدِ ( قُلْنَا ) لَا كَذَلِكَ فَالْمَقَادِيرُ فِي الشَّرْعِ إمَّا لِمَنْعِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ دُونَ الزِّيَادَةِ كَأَقَلِّ مُدَّةِ الْحَيْضِ وَالسَّفَرِ ، أَوْ لِمَنْعِ الزِّيَادَةِ دُونَ النُّقْصَانِ كَأَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَيْضِ وَهُنَا التَّقْدِيرُ لَيْسَ لِمَنْعِ الزِّيَادَةِ فَلَوْ لَمْ يُفِدْ مَنْعُ النُّقْصَانِ لَمْ يَبْقَ لِهَذَا التَّقْدِيرِ فَائِدَةٌ وَحَاشَا أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ الْمَنْصُوصُ خَالِيًا عَنْ الْفَائِدَةِ ، ثُمَّ فِيهِ مَعْنَى طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ ، وَذَلِكَ عِنْدَ إخْبَارِ الْعَدَدِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ .
وَفِي الشَّهَادَةِ مَحْضُ الْإِلْزَامِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ لَا

يَكْفِي لِذَلِكَ بِخِلَافِ الدِّيَانَاتِ فَإِنَّ فِي الدِّيَانَاتِ الْتِزَامَ السَّامِعِ بِاعْتِقَادِهِ وَالْمُخْبِرُ يُلْزِمُ نَفْسَهُ ، ثُمَّ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلْزَامًا مَحْضًا ؛ فَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ ، وَفِيهِ مَعْنَى التَّوْكِيدِ فَالتَّزْوِيرُ وَالتَّلْبِيسُ فِي الْخُصُومَاتِ يَكْثُرُ فَيُشْتَرَطُ الْعَدَدُ فِي الشَّهَادَاتِ صِيَانَةً لِلْحُقُوقِ الْمَعْصُومَةِ ، ثُمَّ يُشْتَرَطُ فِيهَا مَا يُشْتَرَطُ فِي الْخَبَرِ مِنْ الْعَقْلِ وَالضَّبْطِ وَالْعَدَالَةِ ؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِاعْتِبَارِ عَقْلِ الْمُتَكَلِّمِ وَالشَّهَادَةُ بَيِّنَةٌ .
وَمَعْرِفَةُ عَقْلِ الْمَرْءِ بِاخْتِيَارِهِ فِيمَا يَأْتِي .
وَيَذَرُ وَحُسْنُ نَظَرِهِ فِي عَاقِبَةِ أَمْرِهِ وَالْمُطْلَقُ مِنْ الشَّيْءِ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ مِنْهُ إلَّا أَنَّهُ لَا حَدَّ يُرْجَعُ إلَيْهِ فِي كَمَالِ مَعْرِفَةِ الْعَقْلِ سِوَى مَا جَعَلَهُ الشَّرْعُ حَدًّا وَهُوَ الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ تَيْسِيرًا لِلْأَمْرِ عَلَى النَّاسِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ الصَّبِيُّ وَالْمَعْتُوهُ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ وَمَعْنَى الضَّبْطِ حُسْنُ السَّمَاعِ وَالْفَهْمِ وَالْحِفْظِ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ وَتُعْتَبَرُ صِفَةُ الْكَمَالِ فِيهِ أَيْضًا لِمَا فِي النُّقْصَانِ مِنْ شُبْهَةِ الْعَدَمِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُجْعَلْ مَنْ اشْتَدَّتْ غَفْلَتُهُ ، أَوْ مُجَازَفَتُهُ فِيمَا يَقُولُ وَيَسْمَعُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ إذَا كَانَ ذَلِكَ ظَاهِرًا عِنْدَ النَّاسِ وَأَمَّا مَعْرِفَةُ الْعَدَالَةِ فَلِرُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ .
فَالْحُجَّةُ الْخَبَرُ الَّذِي هُوَ صِدْقٌ وَلَا طَرِيقَ لِمَعْرِفَةِ الصِّدْقِ فِي خَبَرِ مَنْ هُوَ غَيْرُ مَعْصُومٍ عَنْ الْكَذِبِ إلَّا الْعَدَالَةَ .
وَالْعَدَالَةُ هِيَ الِاسْتِقَامَةُ ، وَلَيْسَ لِكَمَالِهَا نِهَايَةٌ فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْهُ الْقَدْرُ الْمُمْكِنُ وَهُوَ انْزِجَارُهُ عَمَّا يَعْتَقِدُهُ حَرَامًا فِي دِينِهِ ، وَلَكِنَّ هَذَا شَرْطُ الْعَمَلِ بِالشَّهَادَةِ لَا شَرْطُ الْأَهْلِيَّةِ لِلشَّهَادَةِ وَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى لَا يُجْعَلُ الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ أَهْلًا لِأَدَاءِ

الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِكَذِبِهِ شَرْعًا فَلَا يَظْهَرُ رُجْحَانُ جَانِبِ الصِّدْقِ فِي خَبَرِهِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِكَذِبِهِ شَرْعًا وَلَمْ يُشْتَرَطْ الْإِسْلَامُ فِي الْأَهْلِيَّةِ لِلشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّ رُجْحَانَ جَانِبِ الصِّدْقِ يَظْهَرُ فِي خَبَرِهِ مَعَ كُفْرِهِ إذَا كَانَ مُنْزَجِرًا عَمَّا يَعْتَقِدُهُ حَرَامًا فِي دِينِهِ غَيْرَ أَنَّ خَبَرَهُ لَا يُقْبَلُ فِي أَمْرِ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَعْتَقِدُ السَّعْيَ فِي هَدْمِهِ ؛ وَلِهَذَا لَا يُجْعَلُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ عَدَاوَةَ الْمُسْلِمِينَ وَيَنْعَدِمُ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَيَكُونُ بَعْضُهُمْ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ فِي حَقِّ الْبَعْضِ وَسِوَى هَذَا .

يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ أَهْلِيَّةٌ لِلْوِلَايَةِ حَتَّى لَا يَكُونَ الْمَمْلُوكُ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ ، وَإِنْ كَانَ خَبَرُهُ فِي الدِّيَانَات مَقْبُولًا لِمَا فِي الشَّهَادَاتِ مِنْ مَحْضِ الْإِلْزَامِ وَإِلْزَامُ الْغَيْرِ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ وِلَايَةٍ فَشَرَطْنَا الْأَهْلِيَّةَ لِلْوِلَايَةِ فِي الشَّهَادَةِ كَمَا شَرَطْنَا الْعَدَدَ وَجَعَلْنَا النِّسَاءَ أَحَطَّ رُتْبَةً فِي الشَّهَادَةِ مِنْ الرِّجَالِ لِنُقْصَانِ الْوِلَايَةِ بِسَبَبِ الْأُنُوثَةِ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي بَدَأَ بِهِ الْكِتَابُ وَرَوَاهُ عَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ { مَضَتْ السُّنَّةُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ أَنْ لَا تَجُوزَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ } ، وَبِهِ نَأْخُذُ ؛ لِأَنَّ فِي شَهَادَةِ النِّسَاءِ ضَرْبًا مِنْ الشُّبْهَةِ فَإِنَّ الضَّلَالَ وَالنِّسْيَانَ يَغْلِبُ عَلَيْهِنَّ وَيَقِلُّ مَعَهُنَّ مَعْنَى الضَّبْطِ وَالْفَهْمِ بِالْأُنُوثَةِ إلَى ذَلِكَ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى } وَوَصَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّسَاءَ بِنُقْصَانِ الْعَقْلِ وَالدِّينِ .
وَالْحُدُودُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ لَا يَثْبُتُ بِحُجَّةٍ فِيهَا شُبْهَةٌ تَيْسِيرًا لِلتَّحَرُّزِ عَنْهَا وَلَا يُقَالُ فَالشُّبْهَةُ فِي شَهَادَةِ الرِّجَالِ قَائِمَةٌ مَا لَمْ يَبْلُغُوا حَدَّ التَّوَاتُرِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ عِلْمُ الْيَقِينِ بِخَبَرِهِمْ ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الشُّبْهَةَ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزَ عَنْهَا بِجِنْسِ الشُّهُودِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهَا

وَلَا يَجُوزُ أَقَلُّ مِنْ شَاهِدَيْنِ فِي الْحُقُوقِ بَيْنَ النَّاسِ وَلَا فِي الْجِرَاحَاتِ يَعْنِي عِنْدَ إمْكَانِ اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ مِنْ غَيْرِ جُرْحٍ ، وَذَلِكَ فِيمَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ لِلْإِنَاثِ الَّتِي بَلَوْنَا فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ فِي الشُّهُودِ قَالَ ، وَلَوْ كَانَ يَجُوزُ شَهَادَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ لَمْ يَكُنْ لِخُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَضْلٌ فِي شَهَادَتِهِ ، وَقَدْ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهَادَتَهُ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ خَصَّهُ بِذَلِكَ وَقِصَّةُ هَذَا الْحَدِيثِ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى نَاقَةً مِنْ أَعْرَابِيٍّ وَأَوْفَاهُ الثَّمَنَ ، ثُمَّ جَحَدَ الْأَعْرَابِيُّ اسْتِيفَاءَ الثَّمَنِ وَجَعَلَ يَقُولُ وَاغَدْرَاهُ هَلُمَّ بِهِ شَهِيدًا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يَشْهَدُ لِي فَقَالَ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَا أَشْهَدُ لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَّكَ أَوْفَيْت الْأَعْرَابِيَّ ثَمَنَ النَّاقَةِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ تَشْهَدُ لِي وَلَمْ تَحْضُرْنَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نُصَدِّقُك فِيمَا تَأْتِينَا بِهِ مِنْ خَبَرِ السَّمَاءِ أَفَلَا نُصَدِّقُك فِيمَا تُخْبِرُ بِهِ مِنْ أَدَاءِ ثَمَنِ النَّاقَةِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ شَهِدَ لَهُ خُزَيْمَةُ فَحَسْبُهُ } ثُمَّ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الشَّهَادَةِ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ فِي اشْتِرَاطِ الْعَدَدِ فَقِسْمٌ يُشْتَرَطُ فِيهِ عَدَدُ الْأَرْبَعَةِ فِي الشُّهُودِ وَهُوَ الزِّنَا الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ } وقَوْله تَعَالَى ، { ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } وَلَا يُشْتَرَطُ عَدَدُ الْأَرْبَعَةِ فِيمَا سِوَى الزِّنَا الْعُقُوبَاتُ وَغَيْرُ الْعُقُوبَاتِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ مَعْنًى سِوَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ السِّتْرَ عَلَى الْعِبَادِ وَلَا يَرْضَى بِإِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ فَلِذَلِكَ شُرِطَ فِي الزِّنَى زِيَادَةُ الْعَدَدِ فِي الشُّهُودِ ؛ وَلِهَذَا جَعَلَ

النِّسْبَةَ إلَى هَذِهِ الْفَاحِشَةِ فِي الْأَجَانِبِ مُوجِبًا لِلْحَدِّ ، وَفِي الزَّوْجَاتِ مُوجِبًا لِلِّعَانِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْفَوَاحِشِ لِسِتْرِ الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ مَاعِزٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَمِّهِ هَلَّا سَتَرْته بِثَوْبِك ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ شَيْنُ وَالِي الْيَتِيمِ أَنْتَ ، وَفِي قِسْمٍ يُشْتَرَطُ فِيهِ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ وَهُوَ الْقِصَاصُ وَالْعُقُوبَاتُ الَّتِي تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ .
وَقِسْمٌ يُشْتَرَطُ فِيهِ شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ ، وَذَلِكَ فِيمَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ بَيَانُهُ فِي قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } مَعْنَاهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنِ الشَّهِيدَانِ رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ شَهِيدَانِ لِيَكُونَ تَفْسِيرُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ } وَالْآيَةُ فِي الْمُدَايَنَاتِ ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِيمَا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَالنِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَالنَّسَبُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْمَعْنَى فِي الْمُدَايَنَاتِ كَثْرَةُ الْمُعَامَلَاتِ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ فَإِنَّمَا يُجْعَلُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ حُجَّةً فِي ذَلِكَ خَاصَّةً وَهِيَ الْأَمْوَالُ وَحُقُوقُهَا .
فَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ .

وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ جَائِزَةٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مَا خَلَا الْقِصَاصَ وَالْحُدُودَ ، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ فِيهَا ضَرَرُ شُبْهَةٍ يَنْعَدِمُ ذَلِكَ بِجِنْسِ الشُّهُودِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْخَبَرَ إذَا تَدَاوَلَتْهُ الْأَلْسِنَةُ يُمْكِنُ فِيهِ زِيَادَةٌ وَنُقْصَانٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ تَكُونُ حُجَّةً فِيمَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ دُونَ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ بَلْ أَوْلَى فَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ حَلِفٌ حَقِيقَةً حَتَّى لَا يُصَارَ إلَيْهَا إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ شَهَادَةِ الْأُصُولِ وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ فِي صُورَةِ الْحَلِفِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ } ، وَلَيْسَ بِحَلِفٍ حَقِيقَةً حَتَّى يَجُوزَ الْعَمَلُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِشْهَادِ رَجُلَيْنِ عَرَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ أَقْوَى مِنْ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ ، وَلِأَنَّا نَتَيَقَّنُ أَنَّ شَاهِدَ الْفَرْعِ لَمْ يُعَايِنْ السَّبَبَ وَلَا يَتَيَقَّنُ فِي ذَلِكَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ إنَّمَا فِيهِ تُهْمَةُ الضَّلَالِ وَالنِّسْيَانِ .
فَإِذَا لَمْ تَكُنْ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ حُجَّةً فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ أَوْلَى وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجْعَلُ الشَّهَادَةَ عَلَى الشَّهَادَةِ حُجَّةً فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ أَجْمَعَ .
الْعُقُوبَاتُ وَغَيْرُ الْعُقُوبَاتِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ أَصْلِيَّةٌ فِيمَا هُوَ الْمَشْهُورُ بِهِ وَهُوَ شَهَادَةُ الْأُصُولِ فَإِثْبَاتُ ذَلِكَ بِشَهَادَتِهِمْ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ كَثُبُوتِهِ بِأَدَائِهِمْ لَوْ حَضَرُوا بِأَنْفُسِهِمْ بِخِلَافِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ فَشَهَادَةُ النِّسَاءِ حُجَّةٌ ضَرُورِيَّةٌ ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ لَا يَحْضُرْنَ مَحَافِلَ الرِّجَالِ عَادَةً فَلَا تُجْعَلُ حُجَّةً إلَّا فِيمَا تَكْثُرُ فِيهِ الْمُعَامَلَةُ ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تَتَحَقَّقُ فِي ذَلِكَ ، وَفِي الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ

تَعَالَى لَهُ قَوْلَانِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ يَقُولُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ لَا تَكُونُ حُجَّةً فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ عَلَى شَهَادَةِ الْأُصُولِ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى إقْرَارِ الْمُقِرِّ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى وَمَقْبُولٌ فِي حُقُوقِ الْعِبَادِ .
فَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ ، وَهَذَا لِتَحْقِيقِ الْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ لِلْعِبَادِ ، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ فِيمَا هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ يَقُولُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ حُجَّةٌ فِي ذَلِكَ إلَّا فِي الرَّجْمِ فَالشَّاهِدُ عَلَى الزِّنَا فِي جُمْلَةِ مَنْ يُرْجَمُ يُشْتَرَطُ حُضُورُهُ لَا مَحَالَةَ ، وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْحُدُودِ الْإِمَامُ هُوَ الَّذِي يُقِيمُ إذَا ظَهَرَ السَّبَبُ عِنْدَهُ وَظَهَرَ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّهَا حُجَّةٌ أَصْلِيَّةٌ ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا جَوَابٌ عَنْ كَلَامِهِ إذَا تَأَمَّلْت .
وَلَا يَجُوزُ فِي شَيْءٍ شَهَادَةُ مَنْ لَمْ يُعَايِنْ وَلَمْ يَسْمَعْ ؛ لِأَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ بِالشُّهُودِ بِهِ وَبِدُونِ الْعِلْمِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَا شَهِدْنَا إلَّا بِمَا عَلِمْنَا } وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ يُعْلِمُ الْقَاضِيَ حَقِيقَةَ الْحَالِ وَيُمَيِّزُ الصَّادِقَ الْمُخْبِرَ مِنْ الْكَاذِبِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ مِنْهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ وَطَرِيقُ الْعَمَلِ الْمُعَايَنَةُ إذَا كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ مِمَّا يُعَايَنُ وَالسَّمَاعُ إذَا كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُسْمَعُ كَإِقْرَارِ الْمُقِرِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ الِاسْتِحْلَافِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ اعْلَمْ بِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُسْتَحْلَفُ فِي الْخُصُومَاتِ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَالْيَمِينُ عَلَى مَا أَنْكَرَ } إلَّا أَنَّهُ لَا يُسْتَحْلَفُ إلَّا بِطَلَبِ الْمُدَّعِي ) ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّهُ { قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُدَّعِي لَك يَمِينُهُ } وَكَمَا لَا يَسْتَحْضِرُ وَلَا يَطْلُبُ الْجَوَابَ إلَّا بِطَلَبِ الْمُدَّعِي .
فَكَذَلِكَ لَا يُسْتَحْلَفُ إلَّا بِطَلَبِهِ وَمَعْنَى جَعْلِ الشَّرْعِ الْيَمِينَ حَقًّا لِلْمُدَّعِي قِبَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَّ الْغَمُوسَ مِنْ الْيَمِينِ مُهْلِكَةٌ عَلَى مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ اقْتَطَعَ بِيَمِينِهِ وَجَدَلِهِ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ الْجَنَّةَ قِيلَ فَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ قَضِيبًا مِنْ أَرَاكٍ } وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ مَنْ حَلَفَ يَمِينًا فَاجِرَةً لِيَقْتَطِعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللَّهَ تَعَالَى وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ } فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يَمِينٌ مُهْلِكَةٌ وَالْمُدَّعِي يَزْعُمُ أَنَّ الْمُنْكِرَ أَتْلَفَ حَقَّهُ بِجُحُودِهِ فَجَعَلَ لَهُ الشَّرْعُ يَمِينَهُ حَتَّى تَكُونَ مُهْلِكَةً لَهُ إنْ كَانَ كَمَا زَعَمَ الْمُدَّعِي فَالْإِهْلَاكُ بِمُقَابَلَةِ الْإِهْلَاكِ جَزَاءٌ مَشْرُوعٌ كَالْقِصَاصِ ، وَإِنْ كَانَ كَمَا زَعَمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَا يَضُرُّهُ الْيَمِينُ الصَّادِقَةُ فَهَذَا تَحْقِيقُ مَعْنَى الْعَدْلِ فِي شَرْعِ الْيَمِينِ حَقًّا لِلْمُدَّعِي قِبَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، ثُمَّ لَهُ رَأْيٌ فِي تَأْخِيرِ الِاسْتِحْلَافِ فَرُبَّمَا يَرْجُو أَنْ يَحْضُرَ شُهُودُهُ وَلَا يَأْمَنُ أَنْ تَكُونَ خُصُومَتُهُ عِنْدَ قَاضٍ لَا يَرَى قَبُولَ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ الِاسْتِحْلَافِ فَيُؤَخَّرُ اسْتِحْلَافُهُ لِذَلِكَ ؛ فَلِهَذَا لَا يَحْلِفُ إلَّا بِطَلَبِ الْمُدَّعِي .

وَلِأَنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَحْلِفُ الْخَصْمُ إذَا زَعَمَ الْمُدَّعِي أَنَّ شُهُودَهُ حُضُورٌ وَعِنْدَهُمَا إذَا كَانَ الشُّهُودُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَالْمُدَّعِي هُوَ الَّذِي يَعْرِفُ ذَلِكَ ؛ فَلِهَذَا لَا يُسْتَحْلَفُ إلَّا بِطَلَبِهِ ، ثُمَّ شَرَطَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِلِاسْتِحْلَافِ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُدَّعِي شُهُودٌ حُضُورٌ لِظَاهِرِ { قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُدَّعِي أَلَك بَيِّنَةٌ فَقَالَ لَا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَنْ لَك يَمِينُهُ } ، وَلِأَنَّ الْمُنْكِرَ إنَّمَا يَكُونُ مُتْلِفًا حَقَّ الْمُدَّعِي بِإِنْكَارِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ شُهُودٌ حُضُورٌ

وَلَوْ اسْتَحْلَفَ الْقَاضِي الْخَصْمَ مَعَ حُضُورِ الشُّهُودِ لَكَانَ فِي ذَلِكَ افْتِضَاحُ الْمُسْلِمِ إذَا أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا إذَا كَانَ الشُّهُودُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ .
فَكَذَلِكَ يَتَمَكَّنُ الْمُدَّعِي مِنْ إثْبَاتِ حَقِّهِ بِالشَّهَادَةِ فِي الْحَالِ .
فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُونُوا فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ فَلَهُ غَرَضٌ صَحِيحٌ فِي الِاسْتِحْلَافِ وَهُوَ أَنْ يَقْتَصِرَ الْمُؤْنَةَ وَالْمَسَافَةَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ نُكُولِهِ عَنْ الْيَمِينِ فَيَتَوَصَّلُ إلَى حَقِّهِ فِي الْحَالِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ يَمِينَهُ ، ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى أَنَّ الْمَقْصُودَ نُكُولُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ فِي كُلِّ مَا يَجُوزُ فِيهِ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ ؛ وَلِهَذَا لَا يُسْتَحْلَفُ فِي الْحُدُودِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْضَى فِيهَا بِالنُّكُولِ وَالنُّكُولُ قَائِمٌ مَقَامَ الْإِقْرَارِ ، وَفِي الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا لَا يَجُوزُ إقَامَتُهَا بِالْإِقْرَارِ بَعْدَ الرُّجُوعِ فَكَيْفَ يُقَامُ بِالنُّكُولِ وَالنُّكُولُ قَائِمٌ مَقَامَ الْإِقْرَارِ ، وَفِي حَدِّ الْقَذْفِ النُّكُولُ قَائِمٌ مَقَامَ الْإِقْرَارِ وَلَا يَجُوزُ إقَامَتُهُ بِمَا هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ الْغَيْرِ كَمَا لَا يُقَامُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَكِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي إلَّا أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ فِي السَّرِقَةِ لِيَقْضِيَ عِنْدَ النُّكُولِ بِالْمَالِ دُونَ الْقَطْعِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَدَّعِي أَخْذَ الْمَالِ بِجِهَةِ السَّرِقَةِ فَيُسْتَحْلَفُ الْخَصْمُ فِي الْأَخْذِ ، وَعِنْدَ نُكُولِهِ يَقْضِي بِذَلِكَ لَا بِجِهَةِ السَّرِقَةِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ ، ثُمَّ رَجَعَ وَكَمَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَشَهَادَةُ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ فِي السَّرِقَةِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِهَا الْأَخْذُ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ دُونَ السَّرِقَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَطْعِ .
فَكَذَلِكَ فِي النُّكُولِ ؛ وَلِهَذَا لَا يُسْتَحْلَفُ فِي النِّكَاحِ وَالرَّجْعَةِ وَالْفَيْءِ فِي الْإِتْلَافِ وَالرِّقِّ

وَالنَّسَبِ وَالْوَلَاءِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ فِيهَا بِالنُّكُولِ وَالنُّكُولُ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَدَلِ وَهُمَا يَقُولَانِ يُسْتَحْلَفُ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَيُقْضَى بِالنُّكُولِ فَالنُّكُولُ عِنْدَهُمَا قَائِمٌ مَقَامَ الْإِقْرَارِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الدَّعْوَى ، وَفِي دَعْوَى الْقِصَاصِ يُسْتَحْلَفُ لَا لِلْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ بَلْ لِتَعْظِيمِ حُرْمَةِ النُّفُوسِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْأَيْمَانَ فِي الْقَسَامَةِ شُرِعَتْ مُكَرَّرَةً لِذَلِكَ ، وَإِنَّ كَلِمَاتِ اللِّعَانِ أَيْمَانٌ مَشْرُوعَةٌ لِتَعْظِيمِ حُرْمَةِ النِّسْبَةِ إلَى الْفَاحِشَةِ .

وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا امْتَنَعَ عَنْ الْيَمِينِ فِي دَعْوَى النَّفْسِ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ أَوْ يُقِرَّ ، وَفِيمَا دُونَ النَّفْسِ يُسْتَحْلَفُ لِلْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ عَامِلٌ فِي الْأَطْرَافِ كَهُوَ فِي الْأَمْوَالِ .
فَإِذَا كَانَ مُفِيدًا يَعْمَلُ فِي الْإِبَاحَةِ .
وَإِذَا كَانَ غَيْرَ مُفِيدٍ يَعْمَلُ فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ فَعِنْدَ النُّكُولِ يُقْضَى بِالْقِصَاصِ الَّذِي هُوَ عَيْنُ الْمُدَّعَى كَمَا يُقْضَى بِالْمَالِ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَ النَّفْسُ ، وَمَا دُونَهَا سَوَاءٌ إذَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ قَضَيْنَا عَلَيْهِ بِالْأَرْشِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلُ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى أَيْضًا .

( قَالَ ) وَلَا يُسْتَحْلَفُ الرَّجُلُ مَعَ شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْجِنْسِ فَقَدْ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِنْسَ الْيَمِينِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَمْ يَبْقَ يَمِينٌ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي ، وَلِأَنَّ شَرْعَ الْيَمِينِ فِي جَانِبِ الْمُنْكِرِ لِمَعْنَى الْإِهْلَاكِ كَمَا بَيَّنَّا وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي ، وَلِأَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ لِلْحَاجَةِ إلَى قَطْعِ الْمُنَازَعَةِ وَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ بَعْدَ إقَامَةِ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ ، وَلِأَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ فِي جَانِبِ الْمُنْكِرِ لِلنَّفْيِ وَالْمُدَّعِي مُحْتَاجٌ إلَى الْإِثْبَاتِ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فِي الْأَصْلِ فَقَالَ لَا نَرُدُّ الْيَمِينَ وَلَا نُحَوِّلُهَا عَنْ مَوْضِعِهَا ، وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا الْمَعْنَى فِي كِتَابِ الدَّعْوَى فِي مَسْأَلَةِ رَدِّ الْيَمِينِ وَمَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ وَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَرَى اسْتِحْلَافَ الْمُدَّعِي مَعَ شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ وَيَرَى اسْتِحْلَافَ الشَّاهِدِ وَاسْتِحْلَافَ الرَّاوِي إذَا رَوَى حَدِيثًا كَمَا رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ مَا رَوَى لِي أَحَدٌ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا حَلَّفْته غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ أُحَلِّفْهُ وَلَمْ نَأْخُذْ بِقَوْلِهِ فِي هَذَا لِمَا فِيهِ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى النَّصِّ فَفِي النُّصُوصِ أَمْرُ الْحُكَّامِ بِالْتِمَاسِ شَاهِدَيْنِ مِنْ الْمُدَّعِي فَالْيَمِينُ بَعْدَ ذَلِكَ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ ، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ النَّسْخِ ، ثُمَّ الْحَقُّ قَدْ ثَبَتَ بِمَا أَقَامَ مِنْ الْحُجَّةِ فَالْبَيِّنَةُ سُمِّيَتْ بَيِّنَةً ؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ يَحْصُلُ بِهَا ، وَلَوْ ثَبَتَ حَقُّهُ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ لَمْ يَجُزْ اسْتِحْلَافُهُ مَعَ ذَلِكَ .
فَإِذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ فَهُوَ مِثْلُ ذَلِكَ ، أَوْ أَقْوَى .

فَإِنْ كَانَتْ الْيَمِينُ عَلَى الرَّجُلِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُحَلِّفُهُ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَعْلَمُ مِنْ السِّرِّ مَا يَعْلَمُ مِنْ الْعَلَانِيَةِ ، وَإِنْ اكْتَفَى بِالْأَوَّلِ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوعَ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ } .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ مَا قَالُوا } فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَشْرُوعَ فِي بَيْعِهِ نُصْرَةُ الْحَقِّ وَالْإِنْكَارَاتُ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْمَظَالِمِ وَالْخُصُومَاتِ هُوَ النُّكُولُ وَأَحْوَالُ النَّاسِ تَخْتَلِفُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْتَنِعُ إذَا غُلِّظَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ وَيَتَجَاسَرُ إذَا حَلَفَ بِاَللَّهِ فَقَطْ .
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالرَّأْيُ فِي ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي إنْ شَاءَ اكْتَفَى بِالْيَمِينِ بِاَللَّهِ ، وَإِنْ شَاءَ غَلَّظَ بِذِكْرِ الصِّفَاتِ وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ الَّذِي حَلَفَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْك الْكِتَابَ } ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي آدَابِ الْقَاضِي وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَفْنَا أَنَّ تَغْلِيظَ الْيَمِينِ بِذِكْرِ الصِّفَاتِ حَسَنٌ بَعْدَ أَنْ لَا يُحَلِّفَهُ أَكْثَرَ مِنْ يَمِينٍ وَاحِدَةٍ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ حَرْفَ الْعَطْفِ عِنْدَ ذِكْرِ الصِّفَاتِ .

وَلَا يُحَلِّفُهُ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ } وَلَا يَسْتَقْبِلُ بِهِ الْقِبْلَةَ وَلَا يُدْخِلْهُ الْمَسْجِدَ وَحَيْثُمَا يُحَلِّفُهُ فَهُوَ مُسْتَقِيمٌ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْظِيمُ الْمُقْسَمِ بِهِ ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ سَوَاءٌ حَلَّفَهُ فِي الْمَسْجِدِ ، أَوْ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ اسْتَقْبَلَ بِهِ الْقِبْلَةَ ، أَوْ لَمْ يَسْتَقْبِلْ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ فِي الْمَالِ الْعَظِيمِ يَسْتَحْلِفُ بِمَكَّةَ عِنْدَ الْبَيْتِ وَبِالْمَدِينَةِ بَيْنَ الرَّوْضَةِ وَالْمِنْبَرِ ، وَفِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ عِنْدَ الصَّخْرَةِ ، وَفِي سَائِرِ الْبِلَادِ فِي الْجَوَامِعِ لِحَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ رَأَى قَوْمًا يَسْتَحْلِفُونَ عِنْدَ الْبَيْتِ قَالَ أَعَلَى دَمٍ أَمْ أَمْرٍ عَظِيمٍ مِنْ الْمَالِ لَقَدْ خِفْت أَنْ يَتَهَيَّأَ النَّاسُ لِهَذَا الْبَيْتِ ، وَهَذَا نَوْعُ مُبَالَغَةٍ لِلِاحْتِيَاطِ فَقَدْ يَمْتَنِعُ الْإِنْسَانُ مِنْ الْيَمِينِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَا لَا يُمْتَنَعُ مِنْهَا فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا لِمَا فِيهِ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَى النُّصُوصِ الظَّاهِرَةِ وَهِيَ تَعْدِلُ النَّسْخَ عِنْدَنَا ، وَقَدْ ظَهَرَ عَمَلُ النَّاسِ بِخِلَافِهِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا ، وَفِيهِ أَيْضًا بَعْضُ الْحَرَجِ عَلَى الْقَاضِي

فَإِنْ حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَقَدْ انْقَطَعَتْ الْمُنَازَعَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ لِلْمُدَّعِي فَحُجَّتُهُ الْبَيِّنَةُ أَوْ إقْرَارُ الْخَصْمِ أَوْ نُكُولُهُ ، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ كُلُّهُ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ يَقُولُ فَإِنْ أَبْرَأَهُ الْقَاضِي أَيْ مَنَعَهُ مِنْ أَنْ يُخَاصِمَهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ لَا أَنْ يُسْقِطَ حَقَّ الطَّالِبِ عَنْهُ بِقَضَائِهِ ، ثُمَّ إنْ أَقَامَ الطَّالِبُ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ بِالْحَقِّ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ مِنْهُ وَبَعْضُ الْقُضَاةِ مِنْ السَّلَفِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ كَانَ لَا يَسْمَعُونَ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ يَمِينِ الْخَصْمِ وَكَانُوا يَقُولُونَ كَمَا يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الصِّدْقِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي بِالْبَيِّنَةِ وَيَتَعَيَّنُ ذَلِكَ حَتَّى لَا يَنْظُرَ إلَى يَمِينِ الْمُنْكِرِ بَعْدَهُ .
فَكَذَلِكَ يَتَعَيَّنُ الصِّدْقُ فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا حَلَفَ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي بَعْدَ ذَلِكَ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِذَلِكَ ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُ فِيهِ بِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ جَوَّزَ قَبُولَ الْبَيِّنَةِ مِنْ الْمُدَّعِي بَعْدَ يَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيَقُولُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ الْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ أَحَقُّ أَنْ يُرَدَّ مِنْ الْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ وَلَسْنَا نَقُولُ بِيَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَتَعَيَّنُ مَعْنَى الصِّدْقِ فِي إنْكَارِهِ ، وَلَكِنَّ الْمُدَّعِيَ لَا يُخَاصِمُهُ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا حُجَّةَ لَهُ .
فَإِذَا وَجَدَ الْحُجَّةَ كَانَ لَهُ أَنْ يُثْبِتَ حَقَّهُ بِهَا وَلَا يَحْلِفُ الشَّاهِدُ إلَّا بِأَمْرِنَا لِإِكْرَامِ الشُّهُودِ ، وَلَيْسَ مِنْ إكْرَامِهِ اسْتِحْلَافُهُ ، ثُمَّ الِاسْتِحْلَافُ يَنْبَنِي عَلَى الْخُصُومَةِ وَلَا خَصْمَ لِلشَّاهِدِ وَكَمَا يُسْتَحْلَفُ الْمُسْلِمُ فِي الْخُصُومَاتِ تُسْتَحْلَفُ أَهْلُ الذِّمَّةِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ النُّكُولُ وَهُمْ يَمْتَنِعُونَ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ وَيَعْتَقِدُونَ حُرْمَةَ ذَلِكَ كَالْمُسْلِمِينَ .

( قَالَ ) وَيَحْلِفُ النَّصْرَانِيُّ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ الْأَنْجِيلَ عَلَى عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْيَهُودُ بِاَللَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِصَّةِ الرَّجْمِ حَيْثُ { قَالَ لِابْنِ صُورِيَّا الْأَعْوَرِ أُنْشِدُك اللَّهَ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى أَنَّ حُكْمَ الزِّنَا فِي كِتَابِكُمْ هَذَا ، وَهَذَا } ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُمْتَنَعُ مِنْ الْيَمِينِ عِنْدَ التَّغْلِيظِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مَا لَا يُمْتَنَعُ بِدُونِهِ .

وَذُكِرَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَسْتَحْلِفُ الْمَجُوسِيُّ بِاَللَّهِ الَّذِي خَلَقَ النَّارَ ؛ لِأَنَّهُمْ يُعَظِّمُونَ النَّارَ ، وَلَيْسَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ خِلَافُ ذَلِكَ فِي الظَّاهِرِ إلَّا أَنَّهُ رَوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي النَّوَادِرِ قَالَ لَا يُسْتَحْلَفُ أَحَدٌ إلَّا بِاَللَّهِ خَالِصًا ؛ فَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ النَّارَ عِنْدَ الْيَمِينِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْظِيمُ الْمَقْسَمِ بِهِ وَالنَّارُ كَغَيْرِهَا مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ فَكَمَا لَا يُسْتَحْلَفُ الْمُسْلِمُ بِاَللَّهِ الَّذِي خَلَقَ الشَّمْسَ .
فَكَذَلِكَ لَا يُسْتَحْلَفُ الْمَجُوسِيُّ بِاَللَّهِ الَّذِي خَلَقَ النَّارَ وَكَأَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُمْ يُعَظِّمُونَ النَّارَ تَعْظِيمَ الْعِبَادَةِ فَالْمَقْصُودُ النُّكُولُ قَالَ بِذِكْرِ ذَلِكَ فِي الْيَمِينِ .
فَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ لَا يُعَظِّمُونَ شَيْئًا مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ تَعْظِيمَ الْعِبَادَةِ ؛ فَلِهَذَا لَا يُذْكَرُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي اسْتِحْلَافِ الْمُسْلِمِ وَغَيْرُ هَؤُلَاءِ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ فَإِنَّهُمْ يُعَظِّمُونَ اللَّهَ تَعَالَى كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ { وَلَئِنْ سَأَلْتهمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ } ، وَإِنَّمَا يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ تَقَرُّبًا إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِزَعْمِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { مَا نَعْبُدُهُمْ إلَّا لِيُقَرِّبُونَا إلَى اللَّهِ زُلْفَى } فَيَمْتَنِعُونِ مِنْ الْحَلِفِ بِاَللَّهِ كَاذِبًا وَيَحْصُلُ بِهِ الْمَقْصُودُ وَهُوَ النُّكُولُ وَلَا يُسْتَحْلَفُ الْمَجُوسِيُّ فِي بَيْتِ النَّارِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ عِنْدَ الْقَاضِي وَالْقَاضِي مَمْنُوعٌ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ ، وَفِي ذَلِكَ مَعْنَى تَعْظِيمِ النَّارِ .
وَإِذَا كَانَ لَا يُدْخِلُهُ الْمَسْجِدَ مَعَ أَنَّا أُمِرْنَا بِتَعْظِيمِ هَذِهِ الْبُقْعَةِ فَلِئَلَّا يَدْخُلَ الْمَجُوسِيُّ بَيْتَ النَّارِ عِنْدَ الِاسْتِحْلَافِ ، وَقَدْ نُهِينَا عَنْ تَعْظِيمِهَا أَوْلَى وَالْحُرُّ

وَالْمَمْلُوكُ وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ فِي الْيَمِينِ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ وَهَؤُلَاءِ فِي اعْتِقَادِ الْحُرْمَةِ فِي الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ سَوَاءٌ .

وَإِذَا أَرَادَتْ الْمَرْأَةُ أَنْ تُحَلِّفَ زَوْجَهَا عَلَى الدُّخُولِ بِهَا لِتُؤَاخِذَهُ بِالْمَهْرِ .
وَقَالَتْ تَزَوَّجَنِي وَطَلَّقَنِي بَعْدَ الدُّخُولِ ، أَوْ قَالَتْ تَزَوَّجَنِي وَطَلَّقَنِي قَبْلَ الدُّخُولِ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ أَسْتَحْلِفُهُ بِاَللَّهِ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ الْمَالُ وَلَا يَثْبُتُ النِّكَاحُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهَا تَدَّعِي الْمَالَ وَالْعَقْدَ وَالْبَدَلَ يَعْمَلُ فِي الْمَالِ وَلَا يَعْمَلُ فِي النِّكَاحِ فَيُسْتَحْلَفُ لِدَعْوَى الْمَالِ ، وَعِنْدَ النُّكُولِ يُقْضَى بِذَلِكَ دُونَ النِّكَاحِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي دَعْوَى السَّرِقَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ مَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ الْأَصْلُ أَنَّ الشَّهَادَةَ تُرَدُّ بِالتُّهْمَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا شَهَادَةَ لِمُتَّهَمٍ } ، وَلِأَنَّهُ خَبَرٌ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً إذَا تَرَجَّحَ جَانِبُ الصِّدْقِ فِيهِ ، وَعِنْدَ ظُهُورِ سَبَبِ التُّهْمَةِ لَا يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الصِّدْقِ ، ثُمَّ التُّهْمَةُ تَارَةً تَكُونُ لِمَعْنًى فِي الشَّاهِدِ وَهُوَ الْفِسْقُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَنْزَجِرْ عَنْ ارْتِكَابِ مَحْظُورِ دِينِهِ مَعَ اعْتِقَادِهِ حُرْمَتَهُ مُتَّهَمٌ بِأَنَّهُ لَا يَنْزَجِرُ عَنْ شَهَادَةِ الزُّورِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ لِلْعَمَلِ بِالشَّهَادَةِ وَالْعَدَالَةُ هِيَ الِاسْتِقَامَةُ ، وَذَلِكَ بِالْإِسْلَامِ وَاعْتِدَالِ الْعَقْلِ ، وَلَكِنْ يُعَارِضُهُمَا هَوًى يُضِلُّهُ ، أَوْ يَصُدُّهُ ، وَلَيْسَ لِهَذِهِ الِاسْتِقَامَةِ حَدٌّ يُوقَفُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى تَتَفَاوَتُ أَحْوَالُ النَّاسِ فِيهَا فَجُعِلَ الْحَدُّ فِي ذَلِكَ مَا لَا يُلْحِقُ الْحَرَجَ فِي الْوُقُوفِ عَلَيْهِ وَقِيلَ كُلُّ مَنْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً يَسْتَوْجِبُ بِهَا عُقُوبَةً مُقَدَّرَةً فَهُوَ لَا يَكُونُ عَدْلًا فِي شَهَادَتِهِ فَفِي غَيْرِ الْكَبَائِرِ إذَا أَصَرَّ عَلَى ارْتِكَابِ شَيْءٍ مِمَّا هُوَ حَرَامٌ فِي دِينِهِ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا ، وَإِنْ ابْتَلَى بِشَيْءٍ مِنْ غَيْرِ الْكَبَائِرِ وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ الْإِصْرَارُ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ عَدْلٌ فِي الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَصَرَّ عَلَى ذَلِكَ فَقَدْ أَظْهَرَ رُجْحَانَ الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ عَلَى مَا هُوَ الْمَانِعُ وَهُوَ عَقْلُهُ وَدِينُهُ .
وَإِذَا ابْتَلَى بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِ إصْرَارٍ عَلَيْهِ فَإِنَّمَا ظَهَرَ رُجْحَانُ دِينِهِ وَعَقْلِهِ عَلَى الْهَوَى وَالشَّهْوَةِ ، وَقَدْ تَكُونُ التُّهْمَةُ لِمَعْنًى فِي الْمَشْهُودِ لَهُ وَهُوَ وَصْلُهُ خَاصَّةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّاهِدِ يَدُلُّ عَلَى إيثَارِهِ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ شَيْءٌ يُعْرَفُ بِالْعَادَةِ فَقَدْ ظَهَرَ مِنْ عَادَةِ النَّاسِ الْعُدُولُ مِنْهُمْ

وَغَيْرُ الْعُدُولِ الْمَيْلُ إلَى الْأَقَارِبِ وَأَبْنَائِهِمْ عَلَى الْأَجَانِبِ فَتَتَمَكَّنُ تُهْمَةُ الْكَذِبِ بِهَذَا الطَّرِيقِ فِي الشَّهَادَةِ ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ فِي الشَّاهِدِ لَا يَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِ وَوِلَايَتِهِ وَهُوَ الْعَمَى فَلَيْسَ لِلْأَعْمَى آلَةُ التَّمْيِيزِ بَيْنَ النَّاسِ حَقِيقَةً ، وَذَلِكَ تُمْكِنُ تُهْمَةُ الْغَلَطِ فِي الشَّهَادَةِ وَتُهْمَةُ الْغَلَطِ وَتُهْمَةُ الْكَذِبِ سَوَاءٌ ، وَقَدْ تَكُونُ تُهْمَةُ الْكَذِبِ مَعَ قِيَامِ الْعَدَالَةِ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وَهُوَ فِي حَقِّ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ بَعْدَ التَّوْبَةِ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى عَجْزَهُ عَنْ الْإِتْيَانِ بِأَرْبَعَةٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ دَلِيلَ كَذِبِهِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ .
}

إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ ذُكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَالْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَلَا الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا وَلَا الزَّوْجِ لِلْمَرْأَةِ وَلَا الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ وَبِذَلِكَ نَأْخُذُ وَيُخَالِفُنَا فِي الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فَهُوَ يَجُوزُ شَهَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ بِالْقِيَاسِ عَلَى شَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ رُجْحَانِ الصِّدْقِ فِي خَبَرِهِ انْزِجَارُهُ عَمَّا يَعْتَقِدُ حُرْمَتَهُ وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ الْأَجَانِبِ وَالْأَقَارِبِ وَحُرْمَةُ شَهَادَةِ الزُّورِ بِسَبَبِ الدِّينِ يَتَنَاوَلُ الْمَوْضِعَيْنِ ؛ وَلِهَذَا قُبِلَتْ شَهَادَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ .
فَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْمَيْلِ إلَيْهِ طَبْعًا بَعْدَمَا قَامَ دَلِيلُ الزَّجْرِ شَرْعًا ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أُبَيٍّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ خَائِنٍ وَلَا خَائِنَةٍ وَلَا ذِي غَمْرَةٍ عَلَى أَخِيهِ الْمُسْلِمِ وَلَا شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَلَا شَهَادَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ } ، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عُمُرُ بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَخِيهِ عَنْ جَدِّهِ زَادَ فِيهِ { وَلَا شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا وَلَا شَهَادَةُ الزَّوْجِ لِامْرَأَتِهِ } ، وَفِي الْحَدِيثَيْنِ ذُكِرَ { وَلَا مَجْلُودَ حَدٍّ يَعْنِي فِي الْقَذْفِ } وَرُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ شَهِدَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَعَ قَنْبَرٍ عِنْدَ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بِدِرْعٍ لَهُ قَالَ شُرَيْحٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ائْتِ بِشَاهِدٍ آخَرَ فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَكَانَ الْحَسَنِ ، أَوْ مَكَانَ قَنْبَرٍ قَالَ لَا بَلْ مَكَانَ الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَا { سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِلْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ هُمَا سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ } فَقَالَ قَدْ سَمِعْت ، وَلَكِنْ ائْتِ بِشَاهِدٍ آخَرَ

فَعَزَلَهُ عَنْ الْقَضَاءِ ، ثُمَّ أَعَادَهُ عَلَيْهِ وَزَادَ فِي رِزْقِهِ فَدَلَّ أَنَّهُ كَانَ ظَاهِرًا فِيمَا بَيْنَهُمْ أَنَّ شَهَادَةَ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ لَا تُقْبَلُ إلَّا أَنَّهُ وَقَعَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الِابْتِدَاءِ أَنَّ لِلْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خُصُوصِيَّةً فِي ذَلِكَ لِمَا خَصَّهُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ السِّيَادَةِ وَوَقَعَ عِنْدَ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ السَّبَبَ الْمَانِعَ وَهُوَ الْوِلَادُ قَائِمٌ فِي حَقِّهِ وَلَا طَرِيقَ لِمَعْرِفَةِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ حَقِيقَةً فِي حَقِّ مَنْ هُوَ غَيْرُ مَعْصُومٍ عَنْ الْكَذِبِ فَيَبْنِي الْحُكْمَ عَلَى السَّبَبِ الظَّاهِرِ وَهُوَ كَمَا وَقَعَ عِنْدَ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِلَيْهِ رَجَعَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْمَعْنَى فِيهِ تَمَكُّنُ تُهْمَةِ الْكَذِبِ فَإِنَّ الْعَدَالَةَ تَدُلُّ عَلَى رُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ عِنْدَ اسْتِوَاءِ الْخَصْمَيْنِ فِي حَقِّهِ وَلَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ الِاسْتِوَاءِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ فِي شَهَادَةِ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ ، أَوْ فِيمَا لَهُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لَا يَظْهَرُ رُجْحَانُ جَانِبِ الصِّدْقِ بِاعْتِبَارِ الْعَدَالَةِ لِظُهُورِ مَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْعَادَةِ .
فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ إمَّا لِشُبْهَةِ الْبَعْضِيَّةِ بَيْنَهُمَا ، أَوْ لِمَنْفَعَةِ الشَّاهِدِ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ وَالْمَنَافِعُ بَيْنَ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ مُتَّصِلَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا } بِخِلَافِ الْإِخْوَةِ وَسَائِرِ الْقَرَابَاتِ فَدَلِيلُ الْعَادَةِ هُنَاكَ مُشْتَرَكٌ مُتَعَارِضٌ فَقَدْ تَكُونُ الْقَرَابَةُ سَبَبًا لِلتَّحَاسُدِ وَالْعَدَاوَةِ وَأَوَّلُ مَا يَقَعُ مِنْ ذَلِكَ إنَّمَا يَقَعُ بَيْنَ الْإِخْوَة بَيَانُهُ فِي قَوْله تَعَالَى { قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ } وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي حَالِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِخْوَتِهِ فَمَكَانُ التَّعَارُضِ يُظْهِرُ رُجْحَانَ جَانِبِ الصِّدْقِ فِي الشَّهَادَةِ لَهُ بِظُهُورِ عَدَالَتِهِ وَمِثْلُ هَذِهِ الْمُعَارَضَةِ لَا تُوجَدُ

فِي الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ وَلَا يُشْكَلُ هَذَا عَلَى مَنْ نَظَرَ فِي أَحْوَالِ النَّاسِ عَنْ إنْصَافٍ .

فَأَمَّا فِي شَهَادَةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ يُخَالِفُنَا الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَيَقُولُ تُقْبَلُ شَهَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا بَعْضِيَّةٌ وَالزَّوْجِيَّةُ قَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِلتَّنَافُرِ وَالْعَدَاوَةِ ، وَقَدْ تَكُونُ سَبَبًا لِلْمَيْلِ وَالْإِيثَارِ فَهِيَ نَظِيرُ الْإِخْوَةِ أَوْ دُونَ الْأُخُوَّةِ فَإِنَّهَا تَحْتَمِلُ الْقَطْعَ وَالْأُخُوَّةُ لَا تَحْتَمِلُ وَدَلِيلُ هَذَا الْوَصْفِ جَرَيَانُ الْقِصَاصِ بَيْنَهُمَا فِي الطَّرِيقَيْنِ فِي النَّفْسِ ، وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يُعْتَقُ عَلَى صَاحِبِهِ إذَا مَلَكَهُ ، وَلِأَنَّ هَذِهِ وَصِلَةٌ بَيْنَهُمَا بِاعْتِبَارِ عَقْدٍ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَنْعِ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ كَالصَّدَاقِ وَالْإِظْهَارِ وَالْأُخْتَانِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ يُثْبِتُ أَحْكَامًا مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا فَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ يَنْزِلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ مَنْزِلَةَ الْأَجْنَبِيِّ كَشَرِيكَيْ الْعَنَانِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ وَصْلَةِ الزَّوْجِيَّةِ يُمْكِنُ تُهْمَةٌ فِي شَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ .
وَبَيَانُ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدِهَا أَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ مَشْرُوعٌ لِهَذَا وَهُوَ أَنْ يَأْلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِصَاحِبِهِ وَيَمِيلَ إلَيْهِ وَيُؤْثِرَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ { خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إلَيْهَا } وَهُوَ مَشْرُوعٌ لِمَعْنَى الِاتِّحَادِ فِي الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْمَعِيشَةِ ؛ وَلِهَذَا { جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمُورَ دَاخِلِ الْبَيْتِ عَلَى فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَأُمُورَ خَارِجِ الْبَيْتِ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ } ، وَبِهِمَا تَقُومُ مَصَالِحُ الْمَعِيشَةِ فَكَانَ فِي ذَلِكَ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ وَلَا يُقَالُ هَذَا الِاتِّحَادُ بَيْنَهُمَا فِي حُقُوقِ النِّكَاحِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الِاتِّحَادِ فِي حُقُوقِ النِّكَاحِ مُسْتَحَقٌّ شَرْعًا ، وَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ ثَابِتٌ عُرْفًا فَالظَّاهِرُ مَيْلُ كُلِّ

وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ وَإِيثَارُهُ عَلَى غَيْرِهِ كَمَا فِي الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ بَلْ أَظْهَرُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُعَادِي وَالِدَيْهِ لِتَرْضَى زَوْجَتُهُ ، وَقَدْ تَأْخُذُ الْمَرْأَةُ مِنْ مَالِ أَبِيهَا فَتَدْفَعُهُ إلَى زَوْجِهَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَعُدُّ مَنْفَعَةَ صَاحِبِهِ مَنْفَعَتَهُ وَيُعَدُّ الزَّوْجُ غَنِيًّا بِمَالِ الزَّوْجَةِ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى { وَوَجَدَك عَائِلًا فَأَغْنَى } أَيْ غِنًى بِمَالِ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَلَمَّا جَاءَ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلٌ فَقَالَ إنَّ عَبْدِي سَرَقَ مِرْآةَ امْرَأَتِي فَقَالَ مَالُك سَرَقَ بَعْضُهُ بَعْضًا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَةَ بِمَنْزِلَةِ الْأَوْلَادِ حُكْمًا اسْتِحْقَاقُ الْإِرْثِ بِهَا مِنْ غَيْرِ حَجْبٍ بِمَنْ هُوَ أَقْرَبُ .
تَوْضِيحُ الْفَرْقِ مَا قُلْنَا إنَّ الزَّوْجَةَ بِمَنْزِلَةِ الْأَصْلِ لِلْوِلَادِ فَإِنَّ الْوِلَادَ تَنْشَأُ مِنْ الزَّوْجِيَّةِ وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ لِلْفَرْعِ يَثْبُتُ فِي الْأَصْلِ ، وَإِنْ انْعَدَمَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِيهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا كَسَرَ بَيْضَ الصَّيْدِ يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ ، وَلَيْسَ فِي الْبَيْضِ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ ، وَلَكِنَّهُ أَصْلُ الصَّيْدِ فَيَثْبُتُ فِيهِ مِنْ الْحُكْمِ مَا يَثْبُتُ فِي الصَّيْدِ إلَّا أَنَّ هَذَا الْأَصْلَ إنَّمَا يُلْحَقُ بِالْوِلَادِ فِي حُكْمٍ يُتَصَوَّرُ قِيَامُ الزَّوْجِيَّةِ عِنْدَ ثُبُوتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ دُونَ مَا لَا يُتَصَوَّرُ كَالْقِصَاصِ فَإِنَّهُ يَجِبُ بَعْدَ الْقَتْلِ وَلَا زَوْجِيَّةَ بَعْدَ قَتْلِ أَحَدِهِمَا صَاحِبَهُ وَالْعِتْقُ إنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْمِلْكِ وَلَا زَوْجِيَّةَ بَعْدَ الْمِلْكِ .
فَأَمَّا حُكْمُ الشَّهَادَةِ يَكُونُ فِي حَالِ قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ فَيُلْحَقُ الزَّوْجِيَّةُ فِيهِ بِالْوِلَادِ وَكَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ شَهَادَةُ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ تُقْبَلُ وَشَهَادَةُ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا لَا تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ الْمَمْلُوكِ لَهُ الْمَقْهُورِ تَحْتَ يَدِهِ فَيَتَمَكَّنُ تُهْمَةُ الْكَذِبِ فِي شَهَادَتِهَا لَهُ ،

وَذَلِكَ تَنْعَدِمُ فِي شَهَادَتِهِ لَهَا وَاعْتَمَدَ فِيهِ حَدِيثَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ شَهِدَ لِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي دَعْوَى فَدَكَ مَعَ امْرَأَةٍ بَيْنَ يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ضُمِّي إلَى الرَّجُلِ رَجُلًا أَوْ إلَى الْمَرْأَةِ امْرَأَةً فَهَذَا اتِّفَاقٌ مِنْهُمَا عَلَى جَوَازِ شَهَادَةِ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ .
وَلَكِنَّا نَقُولُ دَلِيلَ التُّهْمَةِ تَعُمُّ الْجَانِبَيْنِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَا فَرُبَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي جَانِبِ الزَّوْجِ أَظْهَرُ ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ فِي يَدِهِ فَمَا لَهَا فِي يَدِهِ مِنْ وَجْهٍ أَيْضًا فَهُوَ يُثْبِتُ الْيَدَ لِنَفْسِهِ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ ، وَكَذَلِكَ بِكَثْرَةِ مَالِهَا تَزْدَادُ قِيمَةُ مِلْكِهِ فَإِنَّ قِيمَةَ الْمَمْلُوكِ بِالنِّكَاحِ تَخْتَلِفُ بِقِلَّةِ مَالِهَا وَكَثْرَةِ مَالِهَا .
بَيَانُ ذَلِكَ فِي مَهْرِ الْمِثْلِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ الزَّوْجُ شَاهِدًا لِنَفْسِهِ وَلَا حُجَّةَ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَعْمَلْ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ بَلْ رَدَّهَا وَكَانَ لِلرَّدِّ طَرِيقَانِ الزَّوْجِيَّةُ وَنُقْصَانُ الْعَدَدِ فَأَشَارَ إلَى أَبْعَدِ الْوَجْهَيْنِ تَحَرُّزًا عَنْ الْوَحْشَةِ ، وَكَذَلِكَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلِمَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَعْمَلُ بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ لِنُقْصَانِ الْعَدَدِ وَكَرِهَ انْحِسَامَهَا بِالِامْتِنَاعِ مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ ؛ فَلِهَذَا شَهِدَ لَهَا ، وَقَدْ قِيلَ إنَّ شَهَادَةَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَهَا لَمْ تُشْتَهَرْ ، وَإِنَّمَا الْمَشْهُورُ أَنَّهُ شَهِدَ لَهَا رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ .

وَأَمَّا قَوْلُ شُرَيْحٍ وَلَا الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ فَهُوَ مَجْمَعٌ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْعَبْدِ لَا تُقْبَلُ لِسَيِّدِهِ وَلَا لِغَيْرِ سَيِّدِهِ وَحُكِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَعْلَمَ النَّاسِ بِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ إذَا قَالَ فِي شَيْءٍ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ عَلَى كَذَا نَزَلَ أَهْلُ الْعِرَاقِ عَلَى قَوْلِهِ ، وَقَدْ قَالَ اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا شَهَادَةَ لَهُ ، وَقَدْ يُرْوَى أَنَّ عَلِيًّا وَزَيْدًا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا اخْتَلَفَا فِي الْمُكَاتَبِ إذَا أَدَّى بَعْضَ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُعْتَقُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى مِنْهُ .
وَقَالَ زَيْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يُعْتَقُ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ فَقَالَ زَيْدٌ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَرَأَيْت لَوْ شَهِدَ أَكَانَ تُقْبَلُ بَعْضُ شَهَادَتِهِ دُونَ الْبَعْضِ فَهَذَا دَلِيلُ الِاتِّفَاقِ مِنْهُمَا عَلَى أَنْ لَا شَهَادَةَ لِلْعَبْدِ وَاخْتَلَفَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا فِي الْعَبْدِ إذَا شَهِدَ فِي حَادِثَةٍ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ ، ثُمَّ أَعْتَقَ فَأَعَادَهَا فَقَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا تُقْبَلُ .
وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تُقْبَلُ فَذَلِكَ اتِّفَاقٌ مِنْهُمَا عَلَى أَنَّهُ لَا شَهَادَةَ لِلْعَبْدِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ لَا شَهَادَةَ لِلْعَبْدِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ فِي الشَّهَادَةِ مَعْنَى الْوِلَايَةِ فَإِنَّهُ قَوْلٌ مُلْزِمٌ عَلَى الْغَيْرِ ابْتِدَاءً ، وَلَيْسَ مَعْنَى الْوِلَايَةِ إلَّا هَذَا وَالرِّقُّ يُبْقِي الْوِلَايَةَ فَالْأَصْلُ وِلَايَةُ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ .
فَإِذَا كَانَ الرِّقُّ يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ فَعَلَى غَيْرِهِ أَوْلَى ، وَقَدْ اسْتَدَلُّوا فِي الْكِتَابِ عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } وَالْعَبْدُ لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا

الْخِطَابِ ؛ لِأَنَّ خِدْمَتَهُ وَمَنْفَعَتَهُ لِمَوْلَاهُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحُضُورُ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ ، وَإِنْ دُعِيَ إلَى ذَلِكَ بَلْ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ غَيْرُ مُسْتَثْنًى مِنْ حَقِّ الْمَوْلَى .

وَذُكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَبِلَ شَهَادَةِ الْأَخِ لِأَخِيهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ شَهَادَةِ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ وَاسْتَدَلَّ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك } فَمُطْلَقُ هَذِهِ الْإِضَافَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَلَدَ كَالْمَمْلُوكِ لِوَالِدِهِ ، وَإِنَّ مَالَ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ أَطْيَبَ مَا يَأْكُلُ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ } وَمِثْلُ ذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْإِخْوَةِ وَسَائِرِ الْقَرَابَاتِ

وَيَجُوزُ شَهَادَةُ الرَّجُلِ لِوَالِدِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَوَالِدَتِهِ ؛ لِأَنَّ الرَّضَاعَ تَأْثِيرُهُ فِي الْحُرْمَةِ خَاصَّةً ، وَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اسْتِحْقَاقُ الْإِرْثِ وَاسْتِحْقَاقُ النَّفَقَةِ حَالَةَ الْيَسَارِ وَالْعُسْرَةِ ، وَبِهِ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْإِخْوَةِ وَالْوِلَادِ فَالْإِخْوَةُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اسْتِحْقَاقُ النَّفَقَةِ عِنْدَ عَدَمِ الْيَسَارِ بِخِلَافِ الْوِلَادَةِ وَالزَّوْجِيَّةِ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِمَا اسْتِحْقَاقُ حَالَتَيْ الْيَسَارِ وَالْعُسْرَةِ

وَيَجُوزُ شَهَادَةُ الرَّجُلِ لِأُمِّ امْرَأَتِهِ وَلِزَوْجِ ابْنَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُصَاهَرَةَ الَّتِي بَيْنَهُمَا تَأْثِيرُهَا فِي حُرْمَةِ النِّكَاحِ فَقَطْ .
فَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ لَا تَأْثِيرَ لِلْمُصَاهَرَةِ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الرَّضَاعِ أَوْ دُونَهُ .

وَعَنْ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ ، وَإِنْ تَابَ إنَّمَا تَوْبَتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مِثْلُهُ وَبِذَلِكَ يَأْخُذُ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ إنَّمَا يُؤْتِيهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى .
فَأَمَّا نَحْنُ فَلَا نَقْبَلُ شَهَادَتَهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَقَدْ كَانَ يَقُولُ لِأَبِي بَكْرَةَ تُبْ تُقْبَلْ شَهَادَتُك وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا } وَالِاسْتِثْنَاءُ مَتَى يَعْقُبُ كَلِمَاتٍ مَنْسُوقَةً بَعْضَهَا عَلَى الْبَعْضِ يَنْصَرِفُ إلَى جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ إلَّا مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ كَقَوْلِ الْقَائِلِ امْرَأَتُهُ طَالِقٌ وَعَبْدُهُ حُرٌّ وَعَلَيْهِ حُجَّةٌ إلَّا أَنْ يَدْخُلَ الدَّارَ ، ثُمَّ قَامَ الدَّلِيلُ مِنْ حَيْثُ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا يَنْصَرِفُ إلَى الْجَلْدِ فَيَبْقَى مَا سِوَاهُ عَلَى هَذَا الظَّاهِرِ مَعَ أَنَّ عِنْدَنَا الِاسْتِثْنَاءَ يَنْصَرِفُ إلَى الْجَلْدِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ الْجَلْدَ حَقُّ الْمَقْذُوفِ فَتَوْبَتُهُ فِي ذَلِكَ أَنْ يَسْتَعْفِيَهُ فَلَا جُرْمَ إذَا اسْتَعْفَاهُ فَعُفِيَ عَنْهُ سَقَطَ الْجَلْدُ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْمُوجِبَ لِرَدِّ الشَّهَادَةِ فِسْقُهُ ، وَقَدْ ارْتَفَعَ بِالتَّوْبَةِ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِرَدِّ شَهَادَتِهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْسُ الْقَذْفِ ، أَوْ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ ، أَوْ سِمَةُ الْفِسْقِ لَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ الْمُوجِبُ لِرَدِّ شَهَادَتِهِ نَفْسُ الْقَذْفِ ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَبِاعْتِبَارِ الصِّدْقِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا رَدَّ الشَّهَادَةِ وَلَا تُرَدُّ الشَّهَادَةُ عَلَى التَّأْبِيدِ وَكَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْكَذِبِ فَلَا تَأْثِيرَ لِلْكَذِبِ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ عَلَى التَّأْبِيدِ ،

وَلِأَنَّ هَذَا افْتِرَاءٌ مِنْهُ عَلَى عَبْدٍ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ فَلَا يَكُونُ أَعْظَمَ مِنْ افْتِرَائِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ الْكُفْرُ ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ رَدَّ الشَّهَادَةِ عَلَى التَّأْبِيدِ ، وَلِأَنَّهُ نِسْبَةُ الْغَيْرِ إلَى الزِّنَا فَلَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ مُبَاشَرَةِ فِعْلِ الزِّنَا ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ رَدَّ الشَّهَادَةِ عَلَى التَّأْبِيدِ ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِكُمْ أَظْهَرُ فَإِنَّكُمْ تَقُولُونَ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ وَبِالِاتِّفَاقِ إذَا تَابَ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَلَا جَائِزَةَ أَنْ يَكُونَ الْمُوجِبُ لِرَدِّ الشَّهَادَةِ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ فِعْلُ الْغَيْرِ بِهِ وَتُعْتَبَرُ إقَامَةُ هَذَا الْحَدِّ بِإِقَامَةِ سَائِرِ الْحُدُودِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ مِنْ وَجْهٍ يُقَامُ تَطْهِيرًا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحُدُودُ كَفَّارَاتٌ لِأَهْلِهَا فَلَا يَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ سَبَبًا لِرَدِّ شَهَادَتِهِ عَلَى التَّأْبِيدِ وَحَالُهُ إذَا تَابَ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ أَحْسَنُ مِنْ حَالِهِ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ .
فَإِذَا بَطَلَ الْوَجْهَانِ صَحَّ أَنَّ الْمُوجِبَ لِرَدِّ شَهَادَتِهِ سِمَةُ الْفِسْقِ ، وَقَدْ ارْتَفَعَ ذَلِكَ بِالتَّوْبَةِ بِدَلِيلِ قَبُولِ خَبَرِهِ فِي الدِّيَانَاتِ ؛ وَلِهَذَا قُلْت قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَتُبْ ؛ لِأَنَّ الْفِسْقَ ثَبَتَ بِنَفْسِ الْقَذْفِ لِمَا فِيهِ مِنْ هَتْكِ سِتْرِ الْعِفَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِ ؛ وَلِهَذَا لَزِمَهُ الْحَدُّ بِهِ وَالْحَدُّ لَا يَجِبُ إلَّا بِارْتِكَابِ جَرِيمَةٍ مُوجِبَةٍ لِلْفِسْقِ ، وَلِأَنَّ هَذَا مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ حَسُنَتْ تَوْبَتُهُ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ كَالذِّمِّيِّ إذَا أَسْلَمَ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا } وَالْأَبَدُ مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ فَالتَّنْصِيصُ عَلَيْهِ فِي بَيَانِ رَدِّ شَهَادَتِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الشَّهَادَةَ عَلَى

التَّأْبِيدِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ لَهُمْ أَيْ لِلْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ وَبِالتَّوْبَةِ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ بِخِلَافِ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا } وَمَعْنَاهُ مِنْ الْمُنَافِقِينَ وَبِالتَّوْبَةِ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنَافِقًا وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ شَهَادَتُهُ فِي الْحَوَادِثِ لَا مَا يَأْتِي بِهِ مِنْ الشُّهُودِ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِ فَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا أَنَّهُ إذَا أَقَامَ الْمَحْدُودُ أَرْبَعَةً مِنْ الشُّهَدَاءِ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ تُقْبَلُ وَيَصِيرُ هُوَ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ وقَوْله تَعَالَى لَهُمْ شَهَادَةٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ شَهَادَتُهُمْ كَمَا يُقَالُ هَذِهِ دَارُكَ وَهَذِهِ دَارٌ لَك ، وَفِي التَّنْكِيرِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا قُلْنَا دُونَ أَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ لَهُ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ ذَاكَ لَقَالَ وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ الشَّهَادَةَ فَإِنَّ الْمُنَكَّرَ إذَا أُعِيدَ يُعَادُ مُعَرَّفًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { كَمَا أَرْسَلْنَا إلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } وَلَا كَلَامَ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ طَرِيقِ الْقِيَاسِ فَإِنَّ مَقَادِيرَ الْحُدُودِ لَا تُعْرَفُ بِالْقِيَاسِ ، وَلَكِنَّ الْكَلَامَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْمَنْصُوصِ فَنَقُولُ إنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ مِنْ تَمَامِ حَدِّهِ وَأَصْلُ الْحَدِّ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ فَمَا هُوَ مُتَمِّمٌ لَهُ لَا يَسْقُطُ أَيْضًا وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ نَفْسَ الْقَذْفِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْحَدِّ كَمَا قَالَهُ الْخَصْمُ ، وَلِأَنَّ الْقَذْفَ مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَرُبَّمَا يَكُونُ حَسَبَهُ مِنْ الْقَاذِفِ إذَا عَلِمَ إضْرَارَهُ وَوَجَدَ أَرْبَعَةً مِنْ الشُّهَدَاءِ لِيُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ ؛ وَلِهَذَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إثْبَاتِهِ بِالْبَيِّنَةِ ، وَلَكِنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ عَلَيْهِ بِالْقَذْفِ مَعَ عَجْزِهِ عَنْ الْإِتْيَانِ بِأَرْبَعَةٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { ، ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ }

فَالْمَعْطُوفُ عَلَى الشَّرْطِ شَرْطٌ ، ثُمَّ الْعَجْزُ عَنْ ذَلِكَ يَظْهَرُ بِمَا يَظْهَرُ بِهِ الْعَجْزُ عَنْ الدَّفْعِ فِي سَائِرِ الْحَوَادِثِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَصِيرُ الْقَذْفُ مُوجِبًا جَلْدًا مُؤْلِمًا مُحَرِّمًا لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ ، وَذَلِكَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى { فَاجْلِدُوهُمْ } وَالْفَاءُ لِلتَّعْقِيبِ وقَوْله تَعَالَى { وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ } مَعْطُوفٌ عَلَى الْجَلْدِ وَالْعَطْفُ لِلِاشْتِرَاكِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ .
فَإِذَا كَانَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ حَدًّا كَانَ الْمَعْطُوفُ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَغْرِيبُ عَامٍ إنَّهُ مِنْ تَمَامِ حَدِّ الْبِكْرِ ، وَلَكِنْ نَقُولُ هُنَاكَ التَّغْرِيبُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ حَدًّا لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِغْرَاءِ عَلَى ارْتِكَابِ الْفَاحِشَةِ دُونَ الزَّجْرِ وَهُنَا رَدُّ الشَّهَادَةِ صَالِحٌ لِتَتْمِيمِ الْحَدِّ ؛ لِأَنَّهُ مُؤْلِمٌ قَلْبَهُ كَمَا أَنَّ الْجَلْدَ مُؤْلِمٌ بَدَنَهُ فَفِيهِ مَعْنَى الزَّجْرِ ، ثُمَّ حُرْمَةُ الْقَاذِفِ بِاللِّسَانِ وَرَدُّ شَهَادَتِهِ حَدٌّ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي حَصَلَ بِهِ الْجَرِيمَةُ ، وَذَلِكَ مَشْرُوعٌ كَحَدِّ السَّرِقَةِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْحَدِّ دَفْعُ الشَّيْنِ عَنْ الْمَقْذُوفِ ، وَذَلِكَ فِي إهْدَارِ قَوْلِهِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ ؛ فَلِهَذَا جَعَلْنَا رَدَّ الشَّهَادَةِ مُتَمِّمًا لِلْحَدِّ ، وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلسَّارِقِ { اقْطَعُوهُ ، ثُمَّ احْسِمُوا } فَإِنَّ الْحَسْمَ لَا يَكُونُ مُتَمِّمًا لِلْحَدِّ ؛ لِأَنَّهُ دَوَاءٌ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُتَمِّمًا لِلْحَدِّ ، ثُمَّ حَرْفُ النَّفْيِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً } لَا يَمْنَعُ الْعَطْفَ فَقَدْ يُعْطَفُ النَّهْيُ عَلَى الْأَمْرِ كَمَا يَقُولُ لِغَيْرِهِ اجْلِسْ وَلَا تَتَكَلَّمْ وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى { وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ } لَيْسَ بِعَطْفٍ بَلْ هُوَ ابْتِدَاءٌ بِحَرْفِ الْوَاوِ ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِحُسْنِ نَظْمِ الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {

وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ } وقَوْله تَعَالَى { وَلِبَاسُ التَّقْوَى } وقَوْله تَعَالَى { وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ } وَبَيَانُ أَنَّهُ لَيْسَ بِعَطْفٍ أَنَّ قَوْله تَعَالَى { فَاجْلِدُوهُمْ } أَمْرٌ بِفِعْلٍ وَهُوَ خِطَابُ الْأُمَّةِ وقَوْله تَعَالَى { وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ } نَهْيٌ عَنْ فِعْلٍ وَهُوَ خِطَابُ الْأُمَّةِ أَيْضًا وقَوْله تَعَالَى { وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ } إثْبَاتُ وَصْفٍ لَهُمْ فَكَيْفَ تَتَحَقَّقُ الْمُشَارَكَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ لِيَكُونَ عَطْفًا ، وَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { وَأُولَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ } بَيَانٌ لِجَرِيمَتِهِمْ وَإِزَالَةُ الْإِشْكَالِ أَنَّهُمْ لَمَّا أَدَّى اسْتَوْجَبُوا هَذِهِ الْعُقُوبَةَ ، وَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ الْوَاجِبِ بِالْجَرِيمَةِ وَلَا يَتَحَقَّقُ عَطْفُ الْجَرِيمَةِ عَلَى الْوَاجِبِ بِهَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا عَطْفًا لَكَانَ مِنْ الْحَدِّ أَيْضًا فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَرْتَفِعَ بِالتَّوْبَةِ كَمَا لَا يَرْتَفِعَ بِالْحَدِّ فَلَا تَأْثِيرَ لِلتَّوْبَةِ فِي الْحَدِّ وَإِنَّمَا يَسْقُطُ عِنْدَهُ بِعَفْوِ الْمَقْذُوفِ وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ إنْ تَابَ الْقَاذِفُ ، أَوْ لَمْ يَتُبْ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ إذَا تَابَ حَتَّى حَرُمَ بِفِسْقِهِ أَنْ لَا يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّحَرِّي وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ مَا قُلْنَا أَنَّ الثَّابِتَ بِالنَّصِّ هُوَ التَّوَقُّفُ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَتَبَيَّنُوا } وَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ هُنَا حُكْمٌ آخَرُ وَهُوَ الرَّدُّ دُونَ التَّوَقُّفِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبِ الْفِسْقِ بَلْ هُوَ مُتَمِّمٌ لِلْحَدِّ كَمَا قَرَّرْنَا ، وَلَوْ كَانَ رَدُّ الشَّهَادَةِ بِسَبَبِ الْفِسْقِ لَكَانَ فِي الْآيَةِ عَطْفُ الْعِلَّةِ عَلَى الْحُكْمِ ، وَذَلِكَ لَا يَحْسُنُ فِي الْبَيَانِ ؛ وَلِهَذَا الْأَصْلِ قُلْنَا بِقَبُولِ شَهَادَتِهِ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَتُبْ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ حَدِّهِ ، أَوْ أَنَّهُ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ بِإِقَامَةِ الْحَدِّ يَصِيرُ مَحْكُومًا بِكَذِبِهِ وَالْمُتَّهَمُ

بِالْكَذِبِ لَا شَهَادَةَ لَهُ فَالْمَحْكُومُ بِالْكَذِبِ أَوْلَى وَيُسْتَدَلُّ بِهَذَا فِي تَعْيِينِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّهُ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْحَوَادِثِ بِمَنْزِلَةِ الْفَاسِقِ إذَا شَهِدَ فِي حَادِثَةٍ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ فَتِلْكَ الشَّهَادَةُ لَا تُقْبَلُ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَإِنْ تَابَ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَحْكُومًا بِكَذِبِهِ فِيهَا .
فَكَذَلِكَ الْمَحْدُودُ فِي جَمِيعِ الشَّهَادَةِ وَبَيَانُ مَا قُلْنَا فِيمَا رُوِيَ أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ لَمَّا قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ قَالَ الْمُسْلِمُونَ الْآنَ يُجْلَدُ هِلَالٌ فَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا تَبْطُلُ شَهَادَتُهُ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ ، وَأَنَّ بُطْلَانَ الشَّهَادَةِ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ وَتَأْوِيلُ قَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَبِي بَكْرَةَ تُقْبَلُ شَهَادَتُك فِي الدِّيَانَاتِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرَةَ كَانَ إذَا اُسْتُشْهِدَ فِي شَيْءٍ قَالَ وَكَيْفَ تُشْهِدُنِي ، وَقَدْ أَبْطَلَ الْمُسْلِمُونَ شَهَادَتِي وَهُوَ أَعْلَمُ بِحَالِهِ مِنْ غَيْرِهِ .
فَأَمَّا الذِّمِّيُّ إذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ سَقَطَتْ شَهَادَتُهُ وَتَمَّ بِهِ حَدُّهُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ ، ثُمَّ بِالْإِسْلَامِ اسْتَفَادَ شَهَادَةً لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً عِنْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ لَمْ تَصِرْ مَرْدُودَةً ، وَبِهِ فَارَقَ الْعَبْدَ إذَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، ثُمَّ عَتَقَ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ وَتَمَامُ الْحَدِّ يَرُدُّ الشَّهَادَةَ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ فَإِنْ عَتَقَ الْآنَ ، ثُمَّ حَدَّهُ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ ، وَهَذَا الْفَرْقُ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي يَقُولُ إنَّ خَبَرَ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ فِي الدِّيَانَاتِ تُقْبَلُ وَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي يَقُولُ لَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ فِي الدِّيَانَاتِ وَهُوَ رِوَايَةُ الْمُنْتَقَى فَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْكَافِرَ بِالْإِسْلَامِ اسْتَفَادَ عَدَالَةً لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً عِنْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ وَهَذِهِ

الْعَدَالَةُ لَمْ تَصِرْ مَجْرُوحَةً بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَهُوَ بِالْعِتْقِ لَا يَسْتَفِيدُ عَدَالَةً لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً مِنْ قَبْلُ ، وَقَدْ صَارَتْ عَدَالَتُهُ مَجْرُوحَةً بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بِحَالٍ فَإِنْ ( قَالَ ) الْقَاذِفُ عِنْدِي لَا يَكُونُ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ عِنْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ فَاسِقٌ ، وَإِنَّمَا يَسْتَفِيدُ الْأَهْلِيَّةَ بَعْدَ ذَلِكَ بِالتَّوْبَةِ ( قُلْنَا ) لَا كَذَلِكَ فَقَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ لَنَا عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ ، وَفِي قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً } مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ، ثُمَّ مَذْهَبُهُ هَذَا مِنْ أَقْوَى دَلِيلٍ لَنَا عَلَيْهِ فَإِنَّ عِنْدَهُ قَبْلَ التَّوْبَةِ لَا شَهَادَةً لَهُ فَلَا تُتَصَوَّرُ رَدُّ شَهَادَتِهِ وَيَتَبَيَّنُ بِهَذَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً } رَدٌّ لِشَهَادَتِهِ بَعْدَ وُجُودِهَا بِالْأَهْلِيَّةِ ، وَذَلِكَ بَعْدَ التَّوْبَةِ .

وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ شَهِدَ عِنْدَهُ أَعْمَى فَقَالَتْ أُخْتُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ إنَّهُ أَعْمَى فَذُكِرَ ذَلِكَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَدَّ شَهَادَتَهُ ، وَبِهِ نَأْخُذُ وَكَانَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ إنَّ شَهَادَةَ الْأَعْمَى مَقْبُولَةٌ ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَى لَا يَقْدَحُ فِي الْوِلَايَةِ وَالْعَدَالَةِ فَبِاعْتِبَارِهِمَا يَجِبُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ بَيَانُهُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ فَتَتَعَدَّى وِلَايَتُهُ إلَى غَيْرِهِ عِنْدَ وُجُودِ سَبَبِ التَّعَدِّي وَهُوَ أَهْلٌ لِلْعَدَالَةِ لِانْزِجَارِهِ عَمَّا يَعْتَقِدُهُ حَرَامًا فِي دِينِهِ ؛ وَلِهَذَا قُبِلَتْ رِوَايَةُ الْأَعْمَى فَقَدْ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مَنْ هُوَ أَعْمَى ، وَقَدْ كَانَ فِي الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ مَنْ ابْتَلَى بِذَلِكَ فَدَلَّ أَنَّ الْأَعْمَى لَا يُقْدَحُ فِي الْعَدَالَةِ وَفَوَاتُ الْعَيْنَيْنِ كَفَوَاتِ الرِّجْلَيْنِ وَالْيَدَيْنِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَنْعِ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ وَنَحْنُ نُسَلِّمُ هَذَا كُلَّهُ ، وَلَكِنْ نَقُولُ يُحْتَاجُ فِي تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَأَدَائِهَا إلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ مَنْ لَهُ الْحَقُّ وَبَيْنَ مَنْ عَلَيْهِ ، وَقَدْ عَدِمَ آلَةَ التَّمْيِيزِ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَى لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ النَّاسِ إلَّا بِالصَّوْتِ وَالنَّغْمَةِ فَتَتَمَكَّنُ مِنْ شَهَادَتِهِ شُبْهَةٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا بِجِنْسِ الْمَشْهُودِ ، وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ .
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا لَا يَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ إلَّا بِالْمُعَايَنَةِ لَا شَهَادَةَ لِلْأَعْمَى .
فَأَمَّا فِيمَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ فِيهِ بِالتَّسَامُعِ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْأَعْمَى ؛ لِأَنَّهُ فِي السَّمَاعِ كَالْبَصِيرِ ، وَإِنَّمَا عَدَمُ آلَةِ الْعَيْنَيْنِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْإِشَارَةِ إلَى الْمَشْهُودِ لَهُ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِدَلِيلٍ مُشْتَبَهٍ وَهُوَ الصَّوْتُ وَالنَّغْمَةُ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ

وَالشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إذَا تَحَمَّلَ الشَّهَادَةَ وَهُوَ بَصِيرٌ ، ثُمَّ أَدَّاهَا وَهُوَ أَعْمَى تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ؛ لِأَنَّ تَحَمُّلَهُ قَدْ صَحَّ بِطَرِيقٍ ثَبَتَ لَهُ الْعِلْمُ بِهِ ، وَبَعْدَ صِحَّةِ الْعِلْمِ إنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى الْحِفْظِ وَالْأَعْمَى فِي ذَلِكَ كَالْبَصِيرِ وَيَحْتَاجُ إلَى الْأَدَاءِ بِاللِّسَانِ وَالْأَعْمَى فِي ذَلِكَ كَالْبَصِيرِ فَتَعْرِيفُ الْمَشْهُودِ لَهُ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِذِكْرِ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ وَالْإِشَارَةِ إلَيْهِمَا بِالطَّرِيقِ الَّذِي يُعْلَمُ أَنَّهُ مُصِيبٌ فِي ذَلِكَ يَكْفِي لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْأَعْمَى يُبَاحُ لَهُ وَطْءُ زَوْجَتِهِ وَجَارِيَتِهِ وَلَا يُمَيِّزُهُمَا مِنْ غَيْرِهِمَا إلَّا بِالصَّوْتِ وَالنَّغْمَةِ ، وَأَنَّ الْبَصِيرَ إذَا شَهِدَ عَلَى مَيِّتٍ أَوْ غَائِبٍ يُقَامُ ذِكْرُ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ مَقَامَ الْإِشَارَةِ إلَى الْعَيْنِ فِي صِحَّةِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَفْسِرُ أَنَّهُ وَقْتَ التَّحَمُّلِ كَانَ بَصِيرًا ، أَوْ أَعْمَى ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ أَنَّ ذَلِكَ مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ حَتَّى لَمْ يَخْفَ عَلَى النِّسَاءِ ، وَلَكِنْ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ يُحْتَمَلُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي الْحَدِّ ، وَأَنَا أَقُولُ فِي الْحُدُودِ إذَا عَمَى قَبْلَ الْأَدَاءِ ، أَوْ بَعْدَ الْأَدَاءِ قَبْلَ الْإِمْضَاءِ فَإِنَّهُ لَا تُعْمَلُ بِشَهَادَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَالصَّوْتُ وَالنَّغْمَةُ فِي حَقِّ الْأَعْمَى تُقَامُ مَقَامَ الْمُعَايَنَةِ فِي حَقِّ الْبَصِيرِ وَالْحُدُودُ لَا تُقَامُ بِمَا يَقُومُ مَقَامَ الْغَيْرِ بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ فِي شَهَادَةِ الْأَعْمَى تُهْمَةً يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا بِجِنْسِ الشُّهُودِ ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ كَمَا فِي شَهَادَةِ الْأَبِ لِوَلَدِهِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّهُ يَحْتَاجُ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ إلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْمَشْهُودِ لَهُ

وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَالْإِشَارَةُ إلَيْهِمَا وَإِلَى الْمَشْهُودِ بِهِ فِيمَا يَجِبُ إحْضَارُهُ وَآلَةُ هَذَا التَّمْيِيزِ الْبَصِيرُ ، وَقَدْ عَدِمَ الْأَعْمَى ذَلِكَ الْمَعْنَى ، وَإِنَّمَا يُمَيِّزُ بِالصَّوْتِ وَالنَّغْمَةِ ، أَوْ بِخَبَرِ الْغَيْرِ فَكَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ وَلَا لِلْبَصِيرِ أَنْ يَشْهَدَ بِخَبَرِ الْغَيْرِ .
فَكَذَلِكَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إذَا كَانَ تَمْيِيزُهُ بِخَبَرِ الْغَيْرِ وَالْأَعْمَى فِي أَدَاءِ الشَّهَادَةِ كَالْبَصِيرِ إذَا شَهِدَ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَطْءِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعْتَمَدَ فِيهِ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ إذَا أَخْبَرَهُ أَنَّ هَذِهِ امْرَأَتَهُ ، وَقَدْ زُفِّتَ إلَيْهِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تَتَحَقَّقُ فِيهِ فَالْأَعْمَى يَحْتَاجُ إلَى قَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَالنَّسْلِ كَالْبَصِيرِ وَلَا ضَرُورَةَ هُنَا فَفِي الشُّهُودِ كَثْرَةٌ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَوْتِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِجِنْسِ الشُّهُودِ فَالْمُدَّعِي ، وَإِنْ اسْتَكْثَرَ مِنْ الشُّهُودِ يَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الِاسْمِ وَالنِّسْبَةِ مَقَامَ الْإِشَارَةِ عِنْدَ مَوْتِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ أَوْ غَيْبَتِهِ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ الْإِشَارَةَ تَقَعُ إلَى وَكِيلِ الْغَائِبِ وَوَصِيِّ الْمَيِّتِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ قَائِمٌ مَقَامَهُ وَلَا يُقَالُ بِأَنَّهُ مَا كَانَ يَعْلَمُ عِنْدَ الِاسْتِشْهَادِ أَنَّ الشَّاهِدَ يُبْتَلَى بِالْعَمَى ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى يَضْعُفُ بِمَا إذَا فَسَقَ الشَّاهِدُ بَعْدَ التَّحَمُّلِ فَإِنَّ شَهَادَتَهُ لَا تُقْبَلُ وَالْمُدَّعِي مَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الشَّاهِدَ يَفْسُقُ بَعْدَ التَّحَمُّلِ ، ثُمَّ هَذَا فِي الْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ الَّتِي فِيهَا حَقُّ الْعِبَادِ مَوْجُودٌ وَكَمْ يُعْتَبَرُ مَعَ عِظَمِ حُرْمَتِهَا فَلَأَنْ لَا يَعْتَبِرَ فِي الْأَمْوَالِ مَعَ خِفَّةِ حُرْمَتِهَا أَوْلَى ، ثُمَّ بِمَاذَا يُعْرَفُ أَنَّهُ كَانَ بَصِيرًا وَقْتَ التَّحَمُّلِ فَإِنَّ قَوْلَ الشَّاهِدِ فِي ذَلِكَ غَيْرُ مَقْبُولٍ وَقَوْلَ الْمُدَّعِي كَذَلِكَ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُنْكِرٌ لِلْمَشْهُودِ بِهِ أَصْلًا ( قَالَ ) وَيُتَصَوَّرُ هَذَا فِيمَا إذَا جَاءَ وَهُوَ

بَصِيرٌ لِيُؤَدِّيَ الشَّهَادَةَ فَلَمْ يَتَفَرَّغْ الْقَاضِي لِسَمَاعِ شَهَادَتِهِ حَتَّى عَمَى ، أَوْ كَانَ الْقَاضِي يَعْرِفُ الْوَقْتَ الَّذِي عَمَى هُوَ فِيهِ وَتَارِيخُ الْمُدَّعِي سَابِقٌ عَلَى ذَلِكَ .

وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَخْرَسِ ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ يَخْتَصُّ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ حَتَّى إذَا قَالَ الشَّاهِدُ أُخْبِرُ وَأَعْلَمُ لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ وَلَفْظُ الشَّهَادَةِ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْأَخْرَسِ ، ثُمَّ شَهَادَةُ الْأَخْرَسِ مُشْتَبَهٌ فَإِنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِإِشَارَتِهِ عَلَى مُرَادِهِ بِطَرِيقٍ غَيْرِ مُوجِبٍ لِلْعِلْمِ فَتَتَمَكَّنُ فِي شَهَادَتِهِ تُهْمَةٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا بِجِنْسِ الشُّهُودِ وَلَا تَكُونُ إشَارَتُهُ أَقْوَى مِنْ عِبَارَةِ النَّاطِقِ لَوْ قَالَ أُخْبِرُ .

وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفَاسِقِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالتَّوَقُّفِ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا } وَالْأَمْرُ بِالتَّوَقُّفِ يَمْنَعُ الْعَمَلَ بِالشَّهَادَةِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ رُجْحَانَ جَانِبِ الصِّدْقِ لَا يَظْهَرُ فِي شَهَادَةِ الْفَاسِقِ ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ اعْتِقَادِهِ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ وَاعْتِبَارَ تَعَاطِيهِ يَدُلُّ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي شَهَادَتِهِ فَلِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ يَجِبُ التَّوَقُّفُ ، ثُمَّ لَمَّا لَمْ يَنْزَجِرْ عَنْ ارْتِكَابِ مَحْظُورِ دِينِهِ مَعَ اعْتِقَادِهِ حُرْمَتِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَنْزَجِرُ عَنْ شَهَادَةِ الزُّورِ مَعَ اعْتِقَادِهِ حُرْمَتَهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ إذَا كَانَ وَجِيهًا فِي النَّاسِ ذَا مُرُوءَةٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَتَمَكَّنُ تُهْمَةُ الْكَذِبِ فِي شَهَادَتِهِ فَلِوَجَاهَتِهِ لَا يَتَجَاسَرُ أَحَدٌ مِنْ اسْتِئْجَارِهِ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَلِمُرُوءَتِهِ يَمْتَنِعُ مِنْ الْكَذِبِ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ لَهُ فِي ذَلِكَ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّ شَهَادَتَهُ لَا تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الشَّهَادَةِ فِي الْعَمَلِ بِهَا لِإِكْرَامِ الشُّهُودِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَكْرِمُوا الشُّهُودَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْيِي الْحُقُوقَ بِهِمْ } ، وَفِي حَقِّ الْفَاسِقِ أَمْرٌ بِخِلَافِ ذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا لَقِيت الْفَاسِقَ فَأَلْقَهُ بِوَجْهٍ مُكْفَهِرٍّ وَمَنْ يَكُونُ مُعْلِنًا لِلْفِسْقِ فَلَا مُرُوءَةَ لَهُ شَرْعًا ؛ فَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَلَا شَهَادَةُ آكِلِ الرِّبَا الْمَشْهُورِ بِذَلِكَ وَالْمَعْرُوفِ بِهِ الْمُقِيمِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ فَاسِقٌ مُحَارِبٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } ، وَلَكِنَّهُ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ مَشْهُورًا بِهِ مُقِيمًا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ الْفَاسِدَةَ كُلَّهَا رِبًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } وَالْإِنْسَانُ فِي الْعَادَةِ لَا

يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ الْأَسْبَابِ الْمُفْسِدَةِ لِلْعَقْدِ فِي جَمِيعِ مُعَامَلَاتِهِ فَقَدْ لَا يَهْتَدِي إلَى بَعْضِ ذَلِكَ ؛ فَلِهَذَا لَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا بِأَكْلِ الرِّبَا مُصِرًّا عَلَيْهِ وَلَا شَهَادَةُ مُدْمِنِ الْخَمْرِ وَلَا مُدْمِنِ السُّكْرِ ؛ لِأَنَّهُ مُرْتَكِبٌ لِلْكَبِيرَةِ مُسْتَوْجِبٌ لِلْحَدِّ عَلَى ذَلِكَ .
وَذَلِكَ تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ ، وَإِنَّمَا شَرَطَ الْإِدْمَانَ لِيَكُونَ ذَلِكَ ظَاهِرًا مِنْهُ فَإِنَّ مَنْ يُتَّهَمُ بِالشُّرْبِ ، وَلَكِنْ لَا يُظْهِرُ ذَلِكَ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا ، وَإِنَّمَا تَسْقُطُ عَدَالَتُهُ إذَا كَانَ يُظْهِرُ ذَلِكَ أَوْ يَخْرُجُ سَكْرَانَ يَسْخَرُ مِنْهُ الصِّبْيَانُ فَلَا مُرُوءَةَ لِمِثْلِهِ وَلَا يُبَالِي مِنْ الْكَذِبِ عَادَةً وَلَا شَهَادَةُ الْمُخَنَّثِ ؛ لِأَنَّهُ فَاسِقٌ وَمُرَادُهُ إذَا كَانَ مُخَنَّثًا فِي الرَّدِيِّ مِنْ أَفْعَالِهِ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي كَلَامِهِ لِينٌ ، وَفِي أَعْضَائِهِ تَكَسُّرٌ وَلَمْ يَشْتَهِرْ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَفْعَالِ الرَّدِيَّةِ فَهَذَا عَدْلٌ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ { هبت الْمُخَنَّثَ كَانَ يَدْخُلُ بُيُوتَ أَزْوَاجِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُنَّ حَتَّى سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ كَلِمَةً شَنِيعَةً أَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ } وَلَا شَهَادَةُ مَنْ يَلْعَبُ بِالْحَمَامِ يُطِيرُهُنَّ لِشِدَّةِ غَفْلَتِهِ فَالظَّاهِرُ أَنْ يَكُونَ قَلْبُهُ مَعَ ذَلِكَ فِي عَامَّةِ أَحْوَالِهِ ، وَأَنَّهُ يَقِلُّ نَظَرُهُ فِي سَائِرِ الْأُمُورِ ، ثُمَّ هُوَ مُصِرٌّ عَلَى نَوْعِ لَعِبٍ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا أَنَا مِنْ دُرٍّ وَلَا الدُّرُّ مِنِّي } وَالْغَالِبُ أَنَّهُ يَنْظُرُ إلَى الْعَوْرَاتِ فِي السُّطُوحِ وَغَيْرِهَا ، وَذَلِكَ فِسْقٌ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ يُمْسِكُ الْحَمَامَ فِي بَيْتِهِ يَسْتَأْنِسُ بِهَا وَلَا يُطَيِّرُهَا عَادَةً فَهُوَ عَدْلٌ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّ إمْسَاكَ الْحَمَامِ فِي الْبُيُوتِ مُبَاحٌ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ النَّاسَ يَتَّخِذُونَ بُرُوجَ الْحَمَامَاتِ وَلَمْ يَمْنَعْ

مِنْ ذَلِكَ أَحَدٌ وَلَا شَهَادَةُ صَاحِبِ الْغِنَاءِ الَّذِي يُخَادِنُ عَلَيْهِ وَيَجْمَعُهُمْ وَالنَّائِحَةُ ؛ لِأَنَّهُ مُصِرٌّ عَلَى نَوْعِ فِسْقٍ وَيُسْتَخَفُّ بِهِ عِنْدَ الصُّلَحَاءِ مِنْ النَّاسِ وَلَا يُمْتَنَعُ مِنْ الْمُحَازَقَةِ وَالْإِقْدَامِ عَلَى الْكَذِبِ عَادَةً ؛ فَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ .

وَأَمَّا الْمَحْدُودُ فِي الْخَمْرِ وَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ إذَا تَابُوا فَإِنَّ شَهَادَتَهُمْ مَقْبُولَةٌ لِحَدِيثِ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ أَقْطَعَ مِنْ بَنِي أَسَدٍ فَقَالَ أَتُجِيزُ شَهَادَتِي فَقَالَ نَعَمْ وَأَرَاك لِذَلِكَ أَهْلًا وَكَانَ أَقْطَعَ فِي سَرِقَةٍ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ التَّوَقُّفَ فِي شَهَادَتِهِ كَانَ لِفِسْقِهِ ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالتَّوْبَةِ وَالتَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ ، وَلَيْسَ هَذَا كَالْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ ؛ لِأَنَّ رَدَّ الشَّهَادَةِ هُنَاكَ مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ فَلَوْ جَعَلْنَا رَدَّ الشَّهَادَةِ هُنَا مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ كَانَ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي مَقَادِيرِ الْحُدُودِ وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ بِالْقِيَاسِ لَا تَجُوزُ مَعَ أَنَّ هَذَا الْحَدَّ لَيْسَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ الْحَدِّ ؛ لِأَنَّ بِإِقَامَةِ حَدِّ الْقَذْفِ تَتَحَقَّقُ جَرِيمَتُهُ وَجَرِيمَةُ هَؤُلَاءِ تَتَحَقَّقُ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ فَإِقَامَةُ الْحَدِّ فِي حَقِّهِمْ تَكُونُ تَطْهِيرًا إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ التَّوْبَةُ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ } الْآيَةُ ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { التَّائِبُ مِنْ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ .
}

وَإِذَا أَعْمَى الشَّاهِدُ ، أَوْ خَرِسَ ، أَوْ ذَهَبَ عَقْلُهُ ، أَوْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ بَعْدَ مَا شَهِدَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي بِشَهَادَتِهِ ؛ لِأَنَّ اقْتِرَانَ هَذِهِ الْحَوَادِثِ بِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ تَمْنَعُ الْعَمَلَ بِهَا .
فَكَذَلِكَ اعْتِرَاضُهَا بَعْدَ الْأَدَاءِ قَبْلَ الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُوجِبُ شَيْئًا بِدُونِ الْقَضَاءِ وَالْقَاضِي لَا يَقْضِي إلَّا بِحُجَّةٍ فَاعْتِرَاضُ هَذِهِ الْمَعَانِي قَبْلَ الْقَضَاءِ يُخْرِجُ شَهَادَتَهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ حُجَّةً بِخِلَافِ الْمَوْتِ فَإِنَّ اقْتِرَانَهُ بِالْأَدَاءِ لَا يَمْنَعُ الْعَمَلَ بِشَهَادَتِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ شَاهِدَ الْفَرْعِ إذَا شَهِدَ بَعْدَ مَوْتِ الْأُصُولِ يُقْبَلُ وَالْقَضَاءُ يَكُونُ بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ .
فَكَذَلِكَ اعْتِرَاضُ الْمَوْتِ لَا يَمْنَعُ الْقَضَاءَ بِشَهَادَتِهِ .

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُمَا اللَّهُ شَهَادَةُ أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ جَائِزَةٌ وَهُوَ مَذْهَبُ جَمِيعِ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَ مَنْ يَكْفُرُ فِي هَوَاهُ وَبَيْنَ مَنْ لَا يَكْفُرُ فِي هَوَاهُ ؛ لِأَنَّهُمْ فَسَقَةٌ وَلَا شَهَادَةَ لِلْفَاسِقِ وَالْفِسْقُ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادِ أَغْلَظُ مِنْ الْفِسْقِ مِنْ حَيْثُ التَّعَاطِي .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ أَخْبَارَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فِي الدِّيَانَاتِ لَا يُقْبَلُ وَهُوَ أَوْسَعُ مِنْ الشَّهَادَةِ فَلَأَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَتُهُمْ أَوْلَى ، وَفِي الْكِتَابِ اسْتَدَلَّ بِمَا كَانَ مِنْ الْفِتْنَةِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَإِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا وَاقْتَتَلُوا وَقَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَلَا شَكَّ أَنَّ شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ كَانَتْ جَائِزَةً مَقْبُولَةً ، وَلَيْسَ بَيْنَ أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ مِنْ الِاخْتِلَافِ أَشَدُّ مِمَّا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنْ الْقِتَالِ ، وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ عَلَّلَ فَقَالَ إنَّهُمْ لِلتَّعَمُّقِ فِي الَّذِينَ ضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ وَوَقَعُوا فِي الْهَوَى ، وَذَلِكَ لَا يَلْحَقُ تُهْمَةً الْكَذِبِ بِهِمْ فِي الشَّهَادَةِ فَمِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ مَنْ يُعَظِّمُ الذَّنْبَ حَتَّى يَجْعَلَهُ كُفْرًا فَلَا يُتَّهَمُ بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الِاعْتِقَادِ أَنْ يَشْهَدَ بِالْكَذِبِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بِالْفِسْقِ يَخْرُجُ مِنْ الْإِيمَانِ فَاعْتِقَادُهُ هَذَا يَحْمِلُهُ عَلَى التَّحَرُّزِ عَنْ الْكَذِبِ الْمُوجِبِ لِفِسْقِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ شَهَادَةَ الْفَاسِقِ إنَّمَا لَا تُقْبَلُ لِتُهْمَةِ الْكَذِبِ وَالْفِسْقِ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ لَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ نَظِيرُ شُرْبِ الْمُثَلَّثِ مُعْتَقِدًا إبَاحَتَهُ أَوْ يَتَنَاوَلُ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا مُعْتَقِدًا إبَاحَةَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ بِهِ مَرْدُودَ الشَّهَادَةِ إلَّا الْخَطَّابِيَّةَ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَهُمْ صِنْفٌ مِنْ الرَّوَافِضِ يَسْتَجْبِرُونَ أَنْ يَشْهَدُوا لِلْمُدَّعِي إذَا حَلَفَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ

مُحِقٌّ وَيَقُولُونَ الْمُسْلِمُ لَا يَحْلِفُ كَاذِبًا فَاعْتِقَادُهُ هَذَا يُمْكِنُ تُهْمَةُ الْكَذِبِ فِي شَهَادَتِهِ .

قَالُوا ، وَكَذَلِكَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْإِلْهَامَ حُجَّةٌ مُوجِبَةٌ لِلْعِلْمِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ؛ لِأَنَّ اعْتِقَادَهُ ذَلِكَ يُمْكِنُ تُهْمَةَ الْكَذِبِ فَرُبَّمَا أَقْدَمَ عَلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ بِهَذَا الطَّرِيقِ .
فَأَمَّا رِوَايَةُ الْأَخْبَارِ عَنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فَقَدْ اخْتَلَفَ فِيهِ مَشَايِخُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَقِدَ لِلْهَوَى يَدْعُو النَّاسَ إلَى اعْتِقَادِهِ وَمُتَّهَمٌ بِالنُّقُولِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِتْمَامِ مُرَادِهِ فَلَا تُقْبَلُ رِوَايَتُهُ لِهَذَا وَلَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ مِنْهُ فِي الشَّهَادَةِ فِي الْمُعَامَلَاتِ .

وَعَلَى هَذَا شَهَادَةُ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ لَا تُقْبَلُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ بَيْنَهُمَا تَحْمِلُهُ عَلَى التَّقَوُّلِ عَلَيْهِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُجَوِّزْ شَهَادَةَ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ عَلَى أَهْلِ الْحَقِّ .
فَأَمَّا عِنْدَنَا إذَا كَانَتْ الْعَدَاوَةُ بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ فَشَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ تُقْبَلُ لِخُلُوِّهَا عَنْ تُهْمَةِ الْكَذِبِ .
فَأَمَّا الْكَذِبُ .
فَأَمَّا مَنْ يُعَادِي غَيْرَهُ لِمُجَاوَزَتِهِ حَدَّ الدِّينِ يَمْتَنِعُ مِنْ الشَّهَادَةِ بِالزُّورِ ، وَإِنْ كَانَ يُعَادِيهِ بِسَبَبِ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا أَمْرٌ مُوجِبٌ فِسْقَهُ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ إذَا ظَهَرَ ذَلِكَ مِنْهُ

وَشَهَادَةُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ جَائِزَةٌ عَلَى أَهْلِ الشِّرْكِ كُلِّهِمْ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ لِلْمُؤْمِنِينَ شَهَادَةً عَلَى النَّاسِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ } وَلَمَّا قُبِلَتْ شَهَادَةُ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ فَعَلَى الْكَافِرِ أَوْلَى وَمَنْ عُرِفَ مِنْهُمْ بِالْخِيَانَةِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَغَيْرُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ فَالْمُجُونُ نَوْعَ جُنُونٍ قَالَ الْقَائِلُ فِي هَذَا الْمَعْنَى إنَّ شَرْخَ الشَّبَابِ وَالشَّعْرِ الْأَسْوَدِ مَا لَمْ يُعَاصَ كَانَ جُنُونًا ، ثُمَّ لَمَّا جُنَّ تَشْتَدُّ غَفْلَتُهُ عَلَى وَجْهٍ يَنْعَدِمُ بِهِ الضَّبْطُ ، أَوْ يَقِلُّ وَتَظْهَرُ مِنْهُ الْمُجَازَفَةُ فِيمَا يَقُولُ وَيَفْعَلُ فَيُتَّهَمُ بِالْمُجَازَفَةِ فِي الشَّهَادَةِ أَيْضًا .

وَشَهَادَةُ أَهْلِ الشِّرْكِ بَيْنَهُمْ جَائِزَةٌ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ عِنْدَنَا .
وَقَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا شَهَادَةَ لَهُمْ عَلَى أَحَدٍ وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ إذَا اتَّفَقَتْ مِلَلُهُمْ تُقْبَلُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ لَا تُقْبَلُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا شَهَادَةَ لِأَهْلِ مِلَّةٍ عَلَى مِلَّةٍ أُخْرَى إلَّا الْمُسْلِمِينَ فَشَهَادَتُهُمْ مَقْبُولَةٌ عَلَى أَهْلِ الْمِلَلِ كُلِّهَا } ، وَلِأَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمِلَّةِ يُعَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ كَمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَعَلَى هَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُقْبَلَ شَهَادَةُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا ذَلِكَ لِعُلُوِّ حَالِ الْإِسْلَامِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى عَلَيْهِ } ، وَلِأَنَّهُمْ يُعَادُونَ أَهْلِ الشِّرْكِ بِسَبَبِ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ مُحِقُّونَ وَهُوَ إصْرَارُهُمْ عَلَى الشِّرْكِ فَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي شَهَادَتِهِمْ بِخِلَافِ أَهْلِ الْمِلَلِ فَالْيَهُودُ يُعَادُونَ النَّصَارَى وَالنَّصَارَى يُعَادُونَ الْيَهُودَ بِسَبَبِ هُمْ فِيهِ غَيْرُ مُحِقِّينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { .
وَقَالَتْ الْيَهُودُ لَيْسَتْ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ .
وَقَالَتْ النَّصَارَى لَيْسَتْ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ .
}

وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْكَافِرُ فَاسِقٌ وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ كَالْفَاسِقِ الْمُسْلِمِ وَبَيَانُ قَوْله تَعَالَى { أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا } .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْكَافِرُونَ هُمْ الْفَاسِقُونَ وَالْفِسْقُ عِبَارَةٌ عَنْ الْخُرُوجِ يُقَالُ فَسَقَتْ الرُّطَبَةُ إذَا خَرَجَتْ مِنْ قِشْرِهَا وَسُمِّيَتْ الْفَأْرَةُ فُوَيْسِقَةً لِخُرُوجِهَا مِنْ جُحْرِهَا وَسُمِّيَ الْمُسْلِمُ بِذَلِكَ لِخُرُوجِهِ عَنْ حَدِّ الدِّينِ تَعَاطِيًا وَالْكَافِرُ لِخُرُوجِهِ عَنْ حَدِّ الدِّينِ اعْتِقَادًا .
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ فَاسِقٌ وَجَبَ التَّوَقُّفُ فِي خَبَرِهِ بِالنَّصِّ وَالشَّرْطُ فِي الشَّاهِدِ بِالنَّصِّ أَنْ يَكُونَ مَرَضِيًّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ } وَالْكَافِرُ لَا يَكُونُ مَرَضِيًّا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ شَهَادَتَهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لَا تُقْبَلُ وَكُلُّ مَنْ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عَلَى أَحَدٍ كَالْعَبِيدِ وَالصِّبْيَانِ بَلْ أَوْلَى فَالْعَبْدُ الْمُسْلِمُ أَحْسَنُ حَالًا مِنْ الْكَافِرِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ خَبَرَهُ فِي الدِّيَانَاتِ يُقْبَلُ وَلَا يُقْبَلُ خَبَرُ الْكَافِرِ .
وَلِأَنَّ الرِّقَّ مِنْ آثَارِ الْكُفْرِ .
فَإِذَا كَانَ أَثَرُ الْكُفْرِ يُخْرِجُهُ مِنْ الْأَهْلِيَّةِ لِلشَّهَادَةِ فَأَصْلُ الْكُفْرِ أَوْلَى وَقَاسَ بِالْمُرْتَدِّ وَاسْتَدَلَّ بِبُطْلَانِ شَهَادَتِهِ عَلَى قَضَاءِ قَاضِي الْمُسْلِمِينَ وَعَلَى شَهَادَةِ الْمُسْلِمِ فَلَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ لَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ فِي هَذَا إذَا كَانَ الْخَصْمُ كَافِرًا وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { ، أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } أَيْ مِنْ غَيْرِ دِينِكُمْ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ } إلَى قَوْلِهِ { ، أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } فَفِيهِ تَنْصِيصٌ عَلَى جَوَازِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ وَمِنْ ضَرُورَةِ جَوَازِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ جَوَازُهَا عَلَى وَصِيَّةِ الْكَافِرِ ، وَمَا

يَثْبُتُ بِضَرُورَةِ النَّصِّ فَهُوَ كَالْمَنْصُوصِ ، ثُمَّ انْتَسَخَ فِي لَك فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ بِانْتِسَاخِ حُكْمِ وِلَايَتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَبَقِيَ حُكْمُ الشَّهَادَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى مَا ثَبَتَ بِضَرُورَةِ النَّصِّ فَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ انْتِسَاخِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ انْتِسَاخُ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ كَالْوِلَايَةِ { وَرَجْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَهُودِيَّيْنِ دِينًا بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ مِنْهُمْ } .
وَعَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ شَهَادَةَ النَّصَارَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } وَعَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي ذِمِّيَّيْنِ دِينًا قَالَا يُدْفَعَانِ إلَى أَهْلِ دِينِهِمَا لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمَا وَمِنْ ضَرُورَةِ جَوَازِ حُكْمِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَالسَّلَفُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ كَانُوا مُجْمِعِينَ عَلَى هَذَا حَتَّى قَالَ يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَتَبَّعْت أَقَاوِيلَ السَّلَفِ فَلَمْ أَجِدْ أَحَدًا مِنْهُمْ لَمْ يُجَوِّزْ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ إلَّا أَنِّي رَأَيْت لِرَبِيعَةَ فِيهِ قَوْلَيْنِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْكَافِرَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ كَالْمُسْلِمِ وَبَيَانِ الْوَصْفِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْوِلَايَةُ دُونَ الْمُوَالَاةِ فَإِنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْله تَعَالَى { مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ } وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا تَصِحُّ الْأَنْكِحَةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَلَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَالْمُسْلِمُ إذَا خَطَبَ إلَى كِتَابِيٍّ ابْنَتِهِ الصَّغِيرَةِ فَزَوَّجَهَا مِنْهُ جَازَ النِّكَاحُ .
وَلِأَنَّ الْكَافِرَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَى غَيْرِهِ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِ تَعْدِي وِلَايَتِهِ إلَى الْغَيْرِ وَالشَّهَادَةُ نَوْعُ وِلَايَةٍ .
فَإِذَا ثَبَتَتْ الْأَهْلِيَّةُ لِلْوِلَايَةِ تَثَبَّتَتْ الْأَهْلِيَّةُ لِلشَّهَادَةِ

، ثُمَّ الْمَقْبُولُ يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الصِّدْقِ ، وَذَلِكَ فِي انْزِجَارِهِ عَمَّا يَعْتَقِدُهُ حَرَامًا فِي دِينِهِ وَالْكَافِرُ مُنْزَجِرٌ عَنْ ذَلِكَ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَاسْمُ الْعَدَالَةِ وَالرِّضَاءُ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْكَافِرِ فِي الْمُعْمِلَاتِ بِصِفَةِ الْأَمَانَةِ فَقَدْ وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ } وَلَا يُقَالُ إنَّهُمْ أَظْهَرُوا الْكُفْرَ عِنَادًا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا } ؛ لِأَنَّ هَذَا كَانَ فِي الْأَحْبَارِ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى تَوَاطَئُوا عَلَى كِتْمَانِ بَعْثِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُبُوَّتِهِ فَلَا شَهَادَةَ لِأُولَئِكَ عِنْدَنَا .
فَأَمَّا مَنْ سِوَاهُمْ يَعْتَقِدُونَ الْكُفْرَ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمْ أَنَّ الْحَقَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إلَّا أَمَانِيَّ } .
وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ { ، وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ } وَبِهَذَا التَّحْقِيقِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ فِسْقَهُمْ فِسْقُ اعْتِقَادٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ تُهْمَةُ الْكَذِبِ فِي الشَّهَادَةِ ، وَإِنَّمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ لِانْقِطَاعِ وِلَايَتِهِمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ .

وَإِنَّمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ وَالْوِلَايَةِ ، وَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ أَثَرَ الرِّقِّ فَوْقَ تَأْثِيرِ الْكُفْرِ فِي حُكْمِ الْوِلَايَةِ ، ثُمَّ هُمْ يُعَادُونَ الْمُسْلِمِينَ بِسَبَبٍ بَاطِلٍ فَيَحْمِلُهُمْ ذَلِكَ عَلَى التَّقَوِّي عَلَى الْمُسْلِمِينَ ؛ فَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى أَحَدٍ وَمِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ يَقُولُ فِي قَبُولِ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى الْبَعْضِ ضَرُورَةٌ ، وَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَلَّ مَا يَحْضُرُونَ مُعَامَلَاتِ أَهْلِ الذِّمَّةِ خُصُوصًا الْأَنْكِحَةُ وَالْوَصَايَا فَلَوْ لَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى الْبَعْضِ فِي ذَلِكَ أَدَّى إلَى إبْطَالِ حُقُوقِهِمْ ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِمُرَاعَاتِ حُقُوقِهِمْ وَدَفْعِ ظُلْمِ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ فَلِهَذِهِ الضَّرُورَةِ قَبِلْنَا شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ كَمَا قَبِلْنَا شَهَادَةَ النِّسَاءِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ وَلَا تَتَحَقَّقُ هَذِهِ الضَّرُورَةُ فِي شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلَا فِي شَهَادَتِهِمْ عَلَى شَهَادَةِ الْمُسْلِمِ ، أَوْ عَلَى قَضَاءِ قَاضٍ مُسْلِمٍ ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَظْهَرُ فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ شَهَادَةَ الصِّبْيَانِ فِي الْجِرَاحَاتِ وَتَمْزِيقِ الثِّيَابِ الَّتِي بَيْنَهُمْ فِي الْمَلَاعِبِ فَقَلَّ أَنْ يَتَفَرَّقُوا ( قَالَ ) ؛ لِأَنَّ الْعُدُولَ لَا يَحْضُرُونَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ ، وَبَعْدَ التَّفَرُّقِ لَا تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمْ يُلَقَّنُونَ الْكَذِبَ ، وَقَدْ أُمِرْنَا أَنْ لَا نُمَكِّنَهُمْ مِنْ الِاجْتِمَاعِ لِلَعِبِ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِالزَّجْرِ عَنْ ذَلِكَ فَلَا حَاجَةَ إلَى قَبُولِ شَهَادَةِ الصِّبْيَانِ فِي ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ جِرَاحَاتُ النِّسَاءِ فِي الْحَمَّامَاتِ ؛ لِأَنَّا أُمِرْنَا بِمَنْعِهِنَّ مِنْ الِاجْتِمَاعِ لِمَا فِي اجْتِمَاعِ النِّسَاءِ مِنْ الْفِتْنَةِ ، وَكَذَلِكَ الْفَسَقَةُ مِنْ أَصْحَابِ السُّجُونِ ؛ لِأَنَّهُمْ حُبِسُوا بِأَسْبَابِ مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْ ذَلِكَ فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِالْمَنْعِ .

فَأَمَّا هُنَا فَقَدْ أُمِرْنَا بِمُرَاعَاةِ حُقُوقِ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَأَنْ نَجْعَلَ دِمَاءَهُمْ كَدِمَائِنَا وَأَمْوَالَهُمْ كَأَمْوَالِنَا مَعَ أَنَّ أَصْحَابَ السُّجُونِ لَا يَخْلُونَ عَنْ أُمَنَاءِ السُّلْطَانِ عَادَةً وَبِنَاءُ الْأَحْكَامِ مُعَلًّى عُرْفُ الشَّرِيعَةِ دُونَ عَادَةِ الظَّلَمَةِ وَلَا حُجَّةَ لِابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْحَدِيثِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَنَا الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ } .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } فَعَابِدُ الْحَجَرِ وَعَابِدُ الْوَثَنِ أَهْلُ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ نِحَلُهُمْ كَالْمُسْلِمِينَ هُمْ أَهْلُ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مَذَاهِبُهُمْ ، ثُمَّ الْيَهُودُ يُعَادُونَ النَّصَارَى بِسَبَبٍ هُمْ فِيهِ مُحِقُّونَ وَهُوَ دَعْوَاهُمْ الْوَلَدَ لِلَّهِ تَعَالَى وَالنَّصَارَى يُعَادُونَ الْيَهُودَ بِسَبَبٍ هُمْ فِيهِ مُحِقُّونَ وَهُوَ إنْكَارُهُمْ نُبُوَّةَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالْفَرِيقَانِ يُعَادُونَ الْمَجُوسَ بِسَبَبٍ هُمْ فِيهِ مُحِقُّونَ وَهُوَ إنْكَارُهُمْ التَّوْحِيدَ ظَاهِرًا وَدَعْوَاهُمْ الِاثْنَيْنِ فَشَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى الْبَعْضِ كَشَهَادَةِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْكُفَّارِ وَلَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ يُعَادِي الْبَعْضَ بِسَبَبٍ بَاطِلٍ فَلَمْ يَصِرْ بَعْضُهُمْ مَقْهُورَ بَعْضٍ لِيَحْمِلَهُمْ ذَلِكَ عَلَى التَّقَوُّلِ بِخِلَافِ الْكُفَّارِ فَقَدْ صَارُوا مَقْهُورِينَ مِنْ جِهَةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَذَلِكَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى التَّقَوُّلِ عَلَيْهِمْ ؛ فَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ .
فَأَمَّا شَهَادَةُ الْعَبِيدِ فَقَدْ بَيَّنَّا الْإِجْمَاعَ فِيهَا بَيْنَ الْفُقَهَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَأَمَّا شَهَادَةُ الْمُكَاتَبِ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ لِقِيَامِ الرِّقِّ فِيهِمْ وَمُعْتَقُ الْبَعْضِ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ

وَلَا يَجُوزُ شَهَادَةُ الْمَوْلَى لِأَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُ لِمِلْكِهِ كَشَهَادَتِهِ لِنَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ قِيَامِ الْمِلْكِ وَالْحَقِّ لَهُ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ ، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ أَبِي الْمَوْلَى وَابْنِهِ وَامْرَأَتِهِ لِهَؤُلَاءِ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَتِهِ لِلْمَوْلَى .

وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الزَّوْجِ لِامْرَأَتِهِ الْأَمَةِ وَشَهَادَةُ الْمَرْأَةِ لِزَوْجِهَا الْمَمْلُوكِ ؛ لِأَنَّ وَصْلَةَ الزَّوْجَةِ كَوَصْلَةِ الْوِلَادِ فِي الْمَنْعِ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ .
وَإِذَا شَهِدَ الْمُكَاتَبُ أَوْ الْعَبْدُ ، أَوْ الصَّبِيُّ عِنْدَ الْقَاضِي بِشَهَادَةٍ فَرَدَّهَا ، ثُمَّ شَهِدَ بِهَا بَعْدَ الْعِتْقِ وَالْكِبَرِ جَازَتْ شَهَادَتُهُ ؛ لِأَنَّ الْمَرْدُودَ لَمْ يَكُنْ شَهَادَةً فَالشَّهَادَةُ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ بِخِلَافِ الْفَاسِقِ إذَا شَهِدَ فِي حَادِثَةٍ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ ، ثُمَّ أَعَادَهَا بَعْدَ التَّوْبَةِ فَإِنَّهَا لَا تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّ الْمَرْدُودَ كَانَ شَهَادَةً وَالْفِسْقُ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ فَلَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ ، وَإِنَّمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِتُهْمَةِ الْكَذِبِ .
فَإِذَا كَانَ الْمَرْدُودُ شَهَادَةً فَهِيَ شَهَادَةٌ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِبُطْلَانِهَا بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُصِحَّهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَبَعْضُهُمْ يُشِيرُ إلَى فَرْقٍ آخَرَ فَيَقُولُ لَعَلَّ الْفَاسِقَ قَصَدَ بِالتَّوْبَةِ تَرْوِيجَ شَهَادَتِهِ فَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الرَّقِيقِ وَالصَّغِيرِ فَإِنَّهُ لَيْسَ إلَيْهِ إزَالَةُ الرِّقِّ وَالصِّغَرِ ، وَلَكِنْ هَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ فَالْكَافِرُ إذَا شَهِدَ عَلَى مُسْلِمٍ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ ، ثُمَّ ادَّعَاهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ تُقْبَلُ ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى كَوْنِ الْمُؤَدَّى شَهَادَةٌ كَمَا قَرَّرْنَا .
وَإِذَا تَحَمَّلَ الْمَمْلُوكُ شَهَادَةً لِمَوْلَاهُ فَلَمْ يُؤَدِّهَا حَتَّى عَتَقَ ، ثُمَّ شَهِدَ بِهَا جَازَ ؛ لِأَنَّ التَّحَمُّلَ بِالْمُعَايَنَةِ وَالسَّمَاعِ وَالرِّقِّ لَا يُنَافِي ذَلِكَ ، وَعِنْدَ الْأَدَاءِ هُوَ أَهْلٌ لِشَهَادَتِهِ وَلَا تُهْمَةَ فِي شَهَادَتِهِ فَهُوَ نَظِيرُ الصَّبِيِّ إذَا تَحَمَّلَ وَشَهِدَ بَعْدَ الْبُلُوغِ ، وَكَذَلِكَ الزَّوْجُ إذَا أَبَانَ امْرَأَتَهُ ، ثُمَّ أَدَّى الشَّهَادَةَ لَهَا جَازَتْ شَهَادَتُهُ ؛ لِأَنَّ التَّحَمُّلَ كَانَ صَحِيحًا مَعَ قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ ، وَعِنْدَ الْأَدَاءِ لَيْسَ

بَيْنَهُمَا سَبَبُ التُّهْمَةِ .

وَلَوْ شَهِدَ الْحُرُّ لِامْرَأَتِهِ بِشَهَادَةٍ فَرَدَّهَا الْقَاضِي ، ثُمَّ أَبَانَهَا وَنَكَحَتْ غَيْرَهُ ، ثُمَّ شَهِدَ لَهَا تِلْكَ الشَّهَادَةَ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْمَرْدُودَ شَهَادَةٌ فَالزَّوْجُ أَهْلٌ لِلشَّهَادَةِ فِي حَقِّ زَوْجَتِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا ، وَلَوْ شَهِدَ الْعَبْدُ لِمَوْلَاهُ فَرَدَّهُ الْقَاضِي ، ثُمَّ شَهِدَ لَهُ بِهَا بَعْدَ الْعِتْقِ جَازَتْ شَهَادَتُهُ ؛ لِأَنَّ الْمَرْدُودَ لَمْ يَكُنْ شَهَادَةً فَالْعَبْدُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلشَّهَادَةِ فِي حَقِّ أَحَدٍ .
وَإِذَا شَهِدَ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ بِنِكَاحٍ فَرُدَّتْ شَهَادَتُهُ ، ثُمَّ شَهِدَ لَهُ بِهَا بَعْدَ الْعِتْقِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْمَرْدُودَ كَانَ شَهَادَةً فَالْمَوْلَى مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ ، وَلَوْ شَهِدَ كَافِرٌ عَلَى مُسْلِمٍ فَرَدَّهَا الْقَاضِي بِهَا ، ثُمَّ أَسْلَمَ فَشَهِدَ بِهَا جَازَتْ شَهَادَتُهُ ؛ لِأَنَّ الْمَرْدُودَ لَمْ يَكُنْ شَهَادَةً بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَ كَافِرٌ لِكَافِرِ فَرَدَّهَا الْقَاضِي لِتُهْمَةٍ ، ثُمَّ ادَّعَاهَا بَعْدَ مَا أَسْلَمَ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمَرْدُودَ شَهَادَةٌ ، وَإِنَّمَا رَدَّهَا لِتُهْمَةِ الْكَذِبِ فَبَعْدَ مَا تَرَجَّحَ جَانِبَ الْكَذِبِ فِي تِلْكَ الشَّهَادَةِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهَا قَطُّ كَمَا فِي شَهَادَةِ الْفَاسِقِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا يَجُوزُ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلٍ ، أَوْ امْرَأَةٍ أَقَلُّ مِنْ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ ، أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ عِنْدَنَا .
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَاحِدِ عَلَى شَهَادَةِ الْوَاحِدِ ) ؛ لِأَنَّ الْفَرْعَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَصْلِيِّ مُعَبَّرٌ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ رَسُولٍ فِي اتِّصَالِ شَهَادَتِهِ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي وَكَأَنَّهُ حَضَرَ وَشَهِدَ بِنَفْسِهِ وَاعْتَبَرَ هَذَا بِرِوَايَةِ الْأَخْبَارِ فَإِنَّ رِوَايَةَ الْوَاحِدِ عَلَى الْوَاحِدِ مَقْبُولَةٌ وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ شَهَادَةَ الْأَصْلِيِّ غَابَتْ عَنْ مَجْلِسِ الْقَاضِي فَلَا يَثْبُتُ عِنْدَهُ إلَّا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ كَإِقْرَارِ الْمُقِرِّ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ مُلْزِمَةٌ فِيمَا يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي الْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ وَالْعَدَدِ شَرْطٌ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ إذَا كَانَ مُتَمَكِّنًا بِخِلَافِ رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ .

وَإِنْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ جَازَ عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ رَجُلَانِ عَلَى شَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ الْفَرْعَيْنِ يَقُومَانِ مَقَامَ أَصْلٍ وَاحِدٍ فَلَا تَتِمُّ حُجَّةُ الْقَضَاءِ بِهِمَا كَالْمَرْأَتَيْنِ لَمَّا قَامَتَا مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ لَمْ تَتِمَّ حُجَّةُ الْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِمَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ أَحَدَ الْفَرْعَيْنِ لَوْ كَانَ أَصْلِيًّا فَشَهِدَ عَلَى شَهَادَةِ نَفْسِهِ وَعَلَى شَهَادَةِ صَاحِبِهِ مَعَ غَيْرِهِ لَا تَتِمُّ الْحُجَّةُ بِالِاتِّفَاقِ .
فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَا جَمِيعًا عَلَى شَهَادَةِ الْأَصْلَيْنِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ جَمِيعًا عَلَى شَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكَمَا يَثْبُتُ قَوْلُ الْوَاحِدِ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ يَثْبُتُ قَوْلُ الْجَمَاعَةِ كَالْإِقْرَارِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْفَرْعَيْنِ عَدَدٌ تَامًّ لِنِصَابِ الشَّهَادَةِ وَهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى شَهَادَةِ الْأُصُولِ إلَّا عَلَى أَصْلِ الْحَقِّ .
فَإِذَا شَهِدَا عَلَى شَهَادَةِ أَحَدِهِمَا تَثْبُتُ شَهَادَتُهُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ كَمَا لَوْ حَضَرَ فَشَهِدَ بِنَفْسِهِ ، ثُمَّ إذَا شَهِدَ عَلَى شَهَادَةِ الْآخَرِ تَثْبُتُ شَهَادَتُهُ أَيْضًا فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ شَهَادَتِهِمَا عَلَى شَهَادَتِهِ وَبَيْنَ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ آخَرَيْنِ بِذَلِكَ بِخِلَافِ شَهَادَةِ الْمَرْأَتَيْنِ فَذَاكَ لَيْسَ بِنِصَابٍ تَامٍّ لِلشَّهَادَةِ ، وَلَكِنَّ كُلَّ امْرَأَةٍ بِمَنْزِلَةِ شَطْرِ الْعِلَّةِ وَالْمَرْأَتَانِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ وَبِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ لَا يَتِمُّ نِصَابُ الشَّهَادَةِ ، وَلَيْسَ هَذَا كَمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى شَهَادَةِ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ عَلَى شَهَادَةِ نَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ شَاهِدَ الْفَرْعِ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ لِمَعْنَيَيْنِ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ عِنْدَهُ عِلْمُ الْمُعَايَنَةِ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ فَلَا يَسْتَفِيدُ شَيْئًا بِإِشْهَادِ الْآخَرِ إيَّاهُ عَلَى شَهَادَتِهِ فِي الثَّانِي أَنَّ شَهَادَةَ الْفَرْعِ فِي حُكْمِ الْبَدَلِ ؛ وَلِهَذَا

لَا يُصَارُ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ حُضُورِ الْأَصْلِ بِمَوْتِهِ أَوْ مَرَضِهِ ، أَوْ غَيْبَتِهِ وَالشَّخْصُ الْوَاحِدُ فِي الشَّهَادَةِ لَا يَكُونُ أَصْلًا وَبَدَلًا فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ تَوْضِيحُهُ أَنَّ شَهَادَةَ الْأَصْلِيِّ تُثْبِتُ نِصْفَ الْحَقِّ فَلَوْ جَوَّزْنَا مَعَ ذَلِكَ شَهَادَتَهُ وَشَهَادَةَ الْآخَرِ لَكَانَ فِيهِ إثْبَاتُ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْحَقِّ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ .
فَأَمَّا إذَا شَهِدَا جَمِيعًا عَلَى شَهَادَةِ الْأَصْلَيْنِ فَلَا يَثْبُتُ فِي الْحَاصِلِ بِشَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا نِصْفُ الْحَقِّ ، وَذَلِكَ جَائِزٌ وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي كُتُبِ الْقُضَاةِ جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ وَتُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ .
فَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ .

وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ أَنَّ قَاضِيَ كَذَا ضَرَبَ فُلَانًا حَدًّا فِي قَذْفٍ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ فِعْلُ الْقَاضِي لَا نَفْسُ الْحَدِّ وَفِعْلُ الْقَاضِي مِمَّا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ الْأَسْبَابُ الْمُوجِبَةُ لِلْعُقُوبَةِ وَإِقَامَةُ الْقَاضِي حَدَّ الْقَذْفِ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ مُوجِبٍ لِلْعُقُوبَةِ فَإِنْ ( قِيلَ ) أَلَيْسَ إنَّ إقَامَةَ الْحَدِّ مُسْقِطَةٌ لِشَهَادَتِهِ عِنْدَكُمْ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ ( قُلْنَا ) ، وَلَكِنْ رَدُّ شَهَادَتِهِ مِنْ تَمَامِ حَدِّهِ فَيَكُونُ سَبَبُهُ هُوَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ وَهُوَ الْقَذْفُ إلَّا أَنَّهُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ لِيَكُونَ مُتَمِّمًا لَهُ فَلَا يَظْهَرُ قَبْلَهُ .
فَأَمَّا فِي الْحَقِيقَةِ الْقَذْفُ مَعَ الْعَجْزِ عَنْ أَرْبَعَةٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ يُوجِبُ جَلْدًا مُؤْلِمًا وَيُبْطِلُ شَهَادَتَهُ بِنَاءً عَلَيْهِ

وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدٍ ، وَقَدْ خَرِسَ الْمَشْهُودُ عَلَى شَهَادَتِهِ أَوْ عَمَى ، أَوْ ارْتَدَّ أَوْ فَسَقَ ، أَوْ ذَهَبَ عَقْلُهُ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ عَلَى شَهَادَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْفَرْعِيَّانِ عَدْلَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ إنَّمَا يَكُونُ بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ .
فَأَمَّا الْفَرْعِيُّ يَنْقُلُ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي بِعِبَارَتِهِ شَهَادَةَ الْأُصُولِ فَكَأَنَّ الْأَصْلِيَّ حَضَرَ بِنَفْسِهِ وَشَهِدَ ، ثُمَّ ابْتَلَى بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي فَكَمَا لَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِشَهَادَتِهِ هُنَاكَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَضَى بِهَا كَانَ قَضَاءً بِغَيْرِ حُجَّةٍ .
فَكَذَلِكَ هُنَا وَشَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِينَ جَائِزَةٌ بِخِلَافِ شَهَادَةِ الْمُسْتَأْمَنِينَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ ؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ بِخِلَافِ الْمُسْتَأْمَنِ فَشَهَادَةُ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ كَشَهَادَةِ الْمُسْلِمِ عَلَى الذِّمِّيِّ وَشَهَادَةُ الْمُسْتَأْمَنِ عَلَى الذِّمِّيِّ كَشَهَادَةِ الذِّمِّيِّ عَلَى الْمُسْلِمِ وَشَهَادَةُ الْمُسْتَأْمَنِينَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ تُقْبَلُ إذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ دَارٍ وَاحِدَةٍ ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ دَارَيْنِ كَالرُّومِيِّ وَالتُّرْكِيِّ لَا تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ فِيمَا بَيْنَهُمْ تَنْقَطِعُ بِخِلَافِ الْمَنَعَتَيْنِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَجْرِي التَّوَارُثُ بَيْنَهُمْ بِخِلَافِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهَا دَارُ حُكْمٍ فِيهِ اخْتِلَافُ الْمَنَعَةِ لَا يَخْتَلِفُ بِالدَّارِ .
فَأَمَّا دَارُ الْحَرْبِ لَيْسَ بِدَارِ أَحْكَامٍ فِيهِ اخْتِلَافُ الْمُنْعِتِ تَخْتَلِفُ بِالدَّارِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَإِنَّهُمْ صَارُوا مِنْ أَهْلِ دَارِنَا فَتُقْبَلُ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ مَنْعَاةٍ مُخْتَلِفَةٍ .
فَأَمَّا الْمُسْتَأْمَنُونَ مَا صَارُوا مِنْ أَهْلِ دَارِنَا ؛ وَلِهَذَا يُمَكَّنُونَ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ إطَالَةِ الْمُقَامِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .

( قَالَ ) وَمَنْ تَرَكَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الصَّلَوَاتِ فِي الْجَمَاعَةِ وَالْجُمَعَ مَجَانَةً لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ مُرْتَكِبٌ لِمَا يَفْسُقُ بِهِ ، وَلِأَنَّ الْجَمَاعَةَ مِنْ أَعْلَامِ الدِّينِ فَتَرْكُهَا ضَلَالَةً ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ يَوْمًا لِأَصْحَابِهِ قَدْ خَرَجَ مِنْ بَيْنِنَا مَنْ كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَخَلَفَ فِيمَا بَيْنَنَا عَلَامَةٌ يُمَيَّزُ بِهَا الْمُخْلِصُ مِنْ الْمُنَافِقِ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ فَكُلُّ مَنْ لَقَيْنَاهُ فِي جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ شَهِدْنَا بِإِيمَانِهِ وَمَنْ لَقَيْنَاهُ يَتَخَلَّفُ عَنْ الْجَمَاعَةِ شَهِدْنَا بِأَنَّهُ مُنَافِقٌ ، وَإِنْ كَانَ تَرَكَ ذَلِكَ سَهْوًا وَهِيَ لَا تَتِمُّ شَهَادَتُهُ أَجَزْت شَهَادَتَهُ ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْجَمَاعَةِ سَهْوًا لَا يُوجِبُ فِسْقَهُ ؛ لِأَنَّ السَّاهِيَ مَعْذُورٌ فِي بَعْضِ الْفَرَائِضِ دُونَهُ أَوْلَى .

وَإِذَا شَهِدَ كَافِرَانِ عَلَى شَهَادَةِ مُسْلِمَيْنِ لِكَافِرٍ عَلَى كَافِرٍ بِحَقٍّ ، أَوْ عَلَى قَضَاءِ قَاضِي الْمُسْلِمِينَ عَلَى كَافِرٍ لِمُسْلِمٍ ، أَوْ كَافِرٍ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ فِعْلُ الْمُسْلِمِ وَلَا حَاجَةَ إلَى فِعْلِ بَيَانِ الْمُسْلِمِ بِشَهَادَةِ الْكَافِرِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُسْلِمِ يَتَيَسَّرُ إثْبَاتُهُ بِشَهَادَةِ الْمُسْلِمِينَ .

وَشَهَادَةُ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَحُجَّتُنَا فِيهِ حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا اُعْتُبِرَ فِي ذَلِكَ إلَّا الْإِيمَانُ حَيْثُ قَالَ { أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } الْحَدِيثُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الصَّوْمِ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الشَّهَادَةِ عَلَى هِلَالِ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى ، وَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى هِلَالِ رَمَضَانَ لَيْسَتْ بِإِلْزَامٍ لِلْغَيْرِ ابْتِدَاءً بَلْ هُوَ الْتِزَامٌ وَالْتِزَامُ الْمُسْلِمِ الصَّوْمَ فِي رَمَضَانَ بِإِيمَانِهِ فَبِهَذِهِ الشَّهَادَةِ تَبَيَّنَ الْوَقْتُ وَلَا يَكُونُ الِالْتِزَامُ فِيهَا ابْتِدَاءً .

وَلَوْ شَهِدَ مُسْلِمَانِ عَلَى شَهَادَةِ كَافِرٍ جَازَتْ الشَّهَادَةُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْمُسْلِمِينَ شَهَادَةُ الْمُسْلِمِ فَلَأَنْ يَثْبُتَ بِشَهَادَتِهِمَا شَهَادَةُ الْكَافِرِ وَهِيَ دُونَ شَهَادَةِ الْمُسْلِمِ أَوْلَى ، وَإِنْ كَانَ كَافِرًا فِي يَدِهِ أَمَةٌ اشْتَرَاهَا مِنْ مُسْلِمٍ فَشَهِدَ عَلَيْهِ كَافِرَانِ أَنَّهَا لِكَافِرٍ أَوْ مُسْلِمٌ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ فِي يَدِهِ بَهِيمَةٌ مِنْ مُسْلِمٍ ، أَوْ صَدَقَةٌ ، وَهَذَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ أَقْضِي بِهَا عَلَى الْكَافِرِ خَاصَّةً وَلَا أَقْضِي بِهَا عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي هَذَا لِلْكَافِرِ فِي الْحَالِ وَشَهَادَةُ الْكَافِرِ حُجَّةٌ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ اسْتِحْقَاقِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ الِاسْتِحْقَاقُ عَلَى الْبَائِعِ ، أَوْ بُطْلَانُ الْبَيْعِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ الْمُشْتَرِي بِهَا لِإِنْسَانٍ فَإِنَّ الْمِلْكَ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ بِقَرَارِهِ وَلَا يَبْطُلُ بِهِ الْبَيْعُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ الْقَضَاءَ بِحَسَبِ الْحُجَّةِ وَالْإِقْرَارُ حُجَّةٌ عَلَى الْمُقِرِّ دُونَ غَيْرِهِ .
فَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الْكَافِرِ حُجَّةٌ عَلَى الْكَافِرِ دُونَ الْمُسْلِمِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمِلْكَ بِحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ يُسْتَحَقُّ مِنْ الْأَصْلِ ؛ فَلِهَذَا يُسْتَحَقُّ بِزَوَائِدِهِ وَيَرْجِعُ الْبَاعَةُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْيَمِينِ .
وَإِذَا كَانَ أَصْلُ الْمِلْكِ لِلْمُسْلِمِ فَهَذِهِ الشَّهَادَةُ إنَّمَا تَقُومُ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْمِلْكِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَشَهَادَةُ الْكَافِرِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فِي ذَلِكَ كَمَا قِيلَ التَّمْلِيكُ مِنْ غَيْرِهِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَضَاءِ بِمِلْكٍ حَادِثٍ بَعْدَ شِرَاءِ الْكَافِرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْمِلْكِ الْحَادِثِ مِنْ سَبَبٍ حَادِثٍ وَلَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَضَاءِ

بِالْمِلْكِ مِنْ الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فِيهِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ يُجْعَلُ فِي الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ إيجَابِ الْمِلْكِ لِلْمُقِرِّ لَهُ ابْتِدَاءً ؛ وَلِهَذَا لَا تُسْتَحَقُّ بِهِ الزَّوَائِدُ الْمُنْفَصِلَةُ فَيَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِمِلْكٍ حَادِثٍ بَعْدَ الشِّرَاءِ .
وَالثَّانِي أَنَّ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ تَقُومُ عَلَى إبْطَالِ تَصَرُّفِ الْمُسْلِمِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الشُّهُودَ لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ بَطَلَ بِهَا تَصَرُّفُ الْبَائِعِ وَالْوَاهِبِ

وَشَهَادَةُ الْكُفَّارِ عَلَى إبْطَالِ تَصَرُّفِ الْمُسْلِمِ لَا تُقْبَلُ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ فَإِنَّهُ لَا يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ تَصَرُّفِ الْمَالِكِ ، وَلَكِنَّ الْمُقِرَّ يَصِيرُ مُبَلِّغًا بِإِقْرَارِهِ وَإِتْلَافُهُ لَا يَتَضَمَّنُ انْتِقَاضَ قَبْضِهِ وَبُطْلَانَ تَصَرُّفِ الْبَائِعِ .
فَأَمَّا هُنَا بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ تَصِيرُ يَدُ الْكَافِرِ مُسْتَحَقَّةً مِنْ الْأَصْلِ وَبِهَذَا الِاسْتِحْقَاقِ يَفُوتُ قَبْضُهُ ضَرُورَةً وَفَوَاتُ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ يُبْطِلُ التَّصَرُّفَ .

وَلَوْ مَاتَ كَافِرٌ وَتَرَكَ اثْنَيْنِ وَأَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَاقْتَسَمَاهَا ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فَشَهِدَ كَافِرَانِ عَلَى أَبِيهِمَا بِدَيْنٍ أُخِّرَتْ ذَلِكَ فِي حِصَّةِ الْكَافِرِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْكَافِرِ حُجَّةٌ عَلَى الْكَافِرِ دُونَ الْمُسْلِمِ وَبِثُبُوتِ الدَّيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ يَسْتَحِقُّ تَرِكَتُهُ وَتَرِكَتُهُ مَالٌ الِاثْنَيْنِ فِي الْحَالِ فَيَثْبُتُ الدَّيْنُ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ فِي اسْتِحْقَاقِ نَصِيبِ الْكَافِرِ مِنْ التَّرِكَةِ دُونَ نَصِيبِ الْمُسْلِمِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ أَحَدُ الِاثْنَيْنِ بِالدَّيْنِ عَلَى الْأَبِ وَجَحَدَ الْآخَرُ .

وَلَوْ مَاتَ كَافِرٌ فَادَّعَى مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ دَيْنًا عَلَيْهِ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةَ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ أَخَذْت بِبَيِّنَةِ الْمُسْلِمِ وَأَعْطَيْته حَقَّهُ فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ كَانَ لِلْكَافِرِ وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ التَّرِكَةَ تُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى مِقْدَارِ دَيْنِهِمَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُثْبِتُ بِبَيِّنَتِهِ دَيْنَهُ عَلَى الْمَيِّتِ فَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُجَّةً عَلَى الْمَيِّتِ فَكَأَنَّ الدَّيْنَيْنِ يَثْبُتُ بِإِقْرَارِ الْمَيِّتِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ الْوَارِثَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْحَالِ .
فَأَمَّا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرْعَيْنِ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى صَاحِبِهِ شَيْئًا ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْمَيِّتِ وَعَلَى وَرَثَتِهِ وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ دَيْنَ الْمُسْلِمِ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ ، وَفِي حَقِّ غَرِيمِ الْكَافِرِ وَدَيْنَ الْكَافِرِ ثَبَتَ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ وَلَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّ الْغَرِيمِ الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّهِ وَالْمُزَاحَمَةُ بَيْنَهُمَا لَا تَكُونُ إلَّا عِنْدَ الْمُسَاوَاةِ وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا إذَا كَانَ دَيْنُ أَحَدِهِمَا ثَابِتًا فِي حَقِّ الْآخَرِ وَدَيْنُ الْآخَرِ لَيْسَ بِثَابِتٍ فِي حَقِّهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ الْمُقِرِّ بِهِ فِي الصِّحَّةِ مَعَ الدَّيْنِ الْمُقِرِّ بِهِ فِي الْمَرَضِ تَقَدَّمَ دَيْنُ الصِّحَّةِ فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ فَهُوَ لِلْمُقِرِّ لَهُ فِي الْمَرَضِ فَهَذَا مِثْلُهُ .

وَلَوْ مَاتَ الْكَافِرُ فَأَوْصَى إلَى رَجُلٍ مُسْلِمٍ فَادَّعَى رَجُلٌ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنًا وَأَقَامَ شُهُودًا مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ اسْتِحْسَانًا ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقُومُ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي إلْزَامِ قَضَاءِ الدَّيْنِ فَالْوَصِيُّ يَلْزَمُهُ قَضَاءُ الدَّيْنِ وَالتَّرِكَةُ فِي يَدِهِ فِي الْحَالِ فَبِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ تَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ يَدُهُ وَشَهَادَةُ الْكُفَّارِ فِي ذَلِكَ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ كَمَا لَوْ كَانَ الْوَارِثُ مُسْلِمًا وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الثَّابِتَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ تَصَرُّفُ وَلِيِّهِ الْكَافِرِ وَشَهَادَةُ الْكُفَّارِ حُجَّةٌ فِي ذَلِكَ وَالْوَصِيُّ نَائِبٌ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ فِي حَيَاتِهِ .

وَلَوْ وَكَّلَ كَافِرٌ مُسْلِمًا بِخُصُومَةٍ فَشَهِدَ عَلَيْهِ كَافِرَانِ بِالدَّيْنِ قُبِلَتْ الْبَيِّنَةُ يُوَضِّحُهُ أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ حَقِّ الْمَيِّتِ وَهُوَ إنَّمَا نَصَبَ الصَّبِيَّ لَيَتَدَارَكَ بِهِ مَا فَرَّطَ فِي حَيَاتِهِ ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ لَهُ هَذَا الْمَقْصُودُ إذَا اعْتَبَرْنَا فِيمَا يُقَامُ عَلَيْهِ مِنْ الْحُجَّةِ لَا حَالُ الْوَصِيِّ .

فَكَذَلِكَ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْكَافِرِ عَلَى الْمُكَاتَبِ الْكَافِرِ وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ الْكَافِرُ ، وَإِنْ كَانَ مَوْلَاهُ مُسْلِمًا يَتَصَرَّفَانِ لِأَنْفُسِهِمَا ؛ وَلِهَذَا لَا يَرْجِعَانِ بِعُهْدَةِ التَّصَرُّفِ عَلَى أَحَدٍ فَالِاسْتِحْقَاقُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ يُقْتَصَرُ عَلَيْهِمَا ، ثُمَّ الْمَوْلَى بِالْإِذْنِ وَإِيجَابُ الْكِتَابَةِ فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِالِاسْتِحْقَاقِ عَلَيْهِمَا بِشَهَادَةِ الْكُفَّارِ لَمَّا بَاشَرَ الْعَقْدَ مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِهِمَا كَمَا صَارَ رَاضِيًا بِاسْتِحْقَاقِ الْكَسْبِ بِإِقْرَارِهِمَا .

وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ مُسْلِمًا وَمَوْلَاهُ كَافِرًا لَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ عَلَى الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُ يَقُومُ الِاسْتِحْقَاقُ عَلَى الْمُسْلِمِ

وَلَوْ وَكَّلَ كَافِرٌ مُسْلِمًا بِشِرَاءٍ ، أَوْ بَيْعٍ لَمْ يَجُزْ عَلَى الْوَكِيلِ فِي ذَلِكَ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ فِي حُقُوقِ الْعَقْدِ كَالْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ فَإِنَّمَا تَقُومُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُسْلِمِ ، وَلَوْ وَكَّلَ مُسْلِمٌ كَافِرًا بِذَلِكَ جَازَتْ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ عَلَى الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ بِنَفْسِهِ ، ثُمَّ إيجَابُهُ الْعَقْدَ كَلَامُهُ فَيَثْبُتُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ كَإِقْرَارِهِ ، وَلَوْ شَهِدَ عَلَى إقْرَارِهِ بِذَلِكَ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ وَجُعِلَتْ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ ثَبَتَ إقْرَارُهُ بِالْمُعَايَنَةِ .
فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَ عَلَى الْعَقْدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ شَهَادَةِ النِّسَاءِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ إلَّا فِيمَا يَنْظُرُ إلَيْهِ الرِّجَالُ الْوِلَادَةُ وَالْعَيْبُ يَكُونُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَنْظُرُ إلَيْهِ إلَّا النِّسَاءُ ) ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ لَا شَهَادَةَ لَهُ لِلنِّسَاءِ فَإِنَّهُنَّ نَاقِصَاتُ الْعَقْلِ وَالدِّينِ كَمَا وَصَفَهُنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالنُّقْصَانِ يَثْبُتُ شُبْهَةُ الْعَدَمِ ، ثُمَّ الضَّلَالُ وَالنِّسْيَانُ غَلَبَ عَلَيْهِنَّ وَسُرْعَةُ الِانْخِدَاعِ وَالْمَيْلُ إلَى الْهَوَى ظَاهِرٌ فِيهِنَّ ، وَذَلِكَ يُمْكِنُ تُهْمَةٌ فِي الشَّهَادَةِ وَهِيَ تُهْمَةٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا بِجِنْسِ الشُّهُودِ فَلَا تَكُونُ شَهَادَتُهُنَّ عَلَى الِانْفِرَادِ حُجَّةً تَامَّةً لِذَلِكَ ، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ بِالْأَثَرِ وَهُوَ حَدِيثُ مُجَاهِدٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَطَاوُسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالُوا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { شَهَادَةُ النِّسَاءِ جَائِزَةٌ فِيمَا لَا يَسْتَطِيعُ الرِّجَالُ النَّظَرَ إلَيْهِ } ، وَلِأَنَّ الضَّرُورَةَ تَتَحَقَّقُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ يَحْتَاجُ إلَى بَيَانِهِ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي وَيَتَعَذَّرُ إثْبَاتُهُ بِشَهَادَةِ الرِّجَالِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَطَّلِعُونَ عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ قَبُولِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ لِإِثْبَاتِ الْحُقُوقِ مَشْرُوعَةٌ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ .
ثُمَّ يَثْبُتُ ذَلِكَ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ إذَا كَانَتْ حُرَّةً مُسْلِمَةً عَدْلًا عِنْدَنَا وَالْمَثْنَى وَالثُّلَاثُ أَحْوَطُ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ ، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى شَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ فَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ كُلُّ امْرَأَتَيْنِ يَقُومَانِ مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فِي الشَّهَادَةِ كَمَا فِي الْمَذْكُورَاتِ فَشَهَادَةُ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ فِيمَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ تَوْضِيحُهُ أَنَّ

حَالَ الرِّجَالِ فِي الشَّهَادَةِ أَقْوَى مِنْ حَالِ النِّسَاءِ .
وَإِذَا كَانَ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ شَيْءٍ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ لِمَعْنَى الْإِلْزَامِ فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ إثْبَاتُهُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْلَى وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ أَنَّ هَذَا خَبَرٌ ، وَلَيْسَ بِشَهَادَةٍ .
فَإِنَّ الْحُرِّيَّةَ فِيهِ شَرْطٌ بِالِاتِّفَاقِ قَالَ فِي الْكِتَابِ لَوْ شَهِدَتْ أَمَةٌ أَوْ كَافِرَةٌ لَا تُقْبَلُ ، وَكَذَلِكَ لَفْظُ الشَّهَادَةِ لَا بُدَّ مِنْهُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ فِي الْحُقُوقِ وَبِهَذَا يَسْتَدِلُّ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ الْمُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَاتِ شَيْئَانِ الْعَدَدُ وَالذُّكُورَةُ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ اعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا وَهُوَ الذُّكُورَةُ هُنَا وَلَوْ لَمْ يَتَعَذَّرْ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ فَيَبْقَى مُعْتَبَرًا كَافِي سَائِرِ الشَّهَادَاتِ وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ إنَّ نَظَرَ الْوَاحِدَةِ أَحَقُّ مِنْ نَظَرِ الْمَثْنَى ؛ لِأَنَّهُ بِالِاتِّفَاقِ الْمَثْنَى وَالثُّلَاثُ أَحْوَطُ فَلَوْ كَانَ مُعْتَبَرًا لَمَا جَازَ النَّظَرُ إلَّا لِامْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ { رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجَازَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ .
وَقَالَ شَهَادَةُ النِّسَاءِ جَائِزَةٌ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ } وَالنِّسَاءُ اسْمُ جِنْسٍ فَيَدْخُلُ فِيهِ أَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا خَبَرٌ لَا يُشْتَرَطُ فِي قَبُولِهِ الذُّكُورَةُ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ كَرِوَايَةِ الْأَخْبَارِ .
وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ نَظَرَ الرِّجَالِ إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ غَيْرُ مُتَعَذَّرٍ وَلَا مُمْتَنَعٍ ، وَلَكِنَّ نَظَرَ الْجِنْسِ إلَى الْجِنْسِ أَحَقُّ .
فَإِذَا أَمْكَنَ تَحْصِيلُ الْمَقْصُودِ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ سَقَطَ اعْتِبَارُ صِفَةِ الذُّكُورِيَّةِ لِهَذَا الْمَعْنَى ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْعَدَدِ فَإِنَّ نَظَرَ الْوَاحِدَةِ أَحَقُّ مِنْ نَظَرِ الْجَمَاعَةِ فَسَقَطَ

اعْتِبَارُ الْعَدَدِ بِالْمَعْنَى الَّذِي يُسْقِطُ اعْتِبَارَ الذُّكُورَةِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْحُرِّيَّةِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ نَظَرَ الْمَمْلُوكَةِ لَيْسَ بِأَخَفَّ مِنْ نَظَرِ الْحُرَّةِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْإِسْلَامِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ نَظَرَ الْكَافِرَةِ لَيْسَ بِأَخَفَّ مِنْ نَظَرِ الْمُسْلِمَةِ فَيَنْعَدِمُ مِنْ الشَّرَائِطِ مَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ وَلَا يُعْتَبَرُ مَا لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ فَعَلَى هَذَا الْحَرْفِ نُسَلِّمُ أَنَّهُ شَهَادَةٌ ، وَلَكِنْ يَدَّعِي أَنَّهُ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ فِيهِ بِالْمَعْنَى الَّذِي يُسْقِطُ اعْتِبَارُ الذُّكُورَةِ .
وَفِي الْحَاصِلِ هَذَا أَحَدُ شِبْهِهَا مِنْ الْأَصْلَيْنِ مِنْ الشَّهَادَةِ لِمَعْنَى الْإِلْزَامِ وَمَعْنَى الْإِخْبَارِ ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الذُّكُورَةِ فِيهِ لَا تُشْتَرَطُ فَوَفَّرْنَا خَطَّهُ عَلَى الشَّبَهَيْنِ وَقُلْنَا لِشَبَهِهِ بِالْإِخْبَارِ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ فِيهِ شَرْطًا وَيَبْقَى مُعْتَبَرًا احْتِيَاطًا كَمَا فِي رِوَايَةِ الْإِخْبَارِ الْوَاحِدُ يَكْفِي وَالْمَثْنَى وَالثُّلَاثُ أَحْوَطُ لِزِيَادَةِ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ وَلِاعْتِبَارِهِ بِالشَّهَادَاتِ فِيهِ شَرَطْنَا الْحُرِّيَّةَ وَالْإِسْلَامَ وَلَفْظُ الشَّهَادَةِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِمَجْلِسِ الْقَاضِي .
فَلِهَذَا يُشْتَرَطُ فِيهِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ بِذَلِكَ رَجُلٌ بِأَنْ قَالَ فَأَجَأْتهَا فَاتَّفَقَ نَظَرِي إلَيْهَا وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ قَبُولِ الشَّهَادَةِ إذَا كَانَ عَدْلًا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، ثُمَّ الصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْعَدَدُ ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الرَّجُلِ أَقْوَى مِنْ شَهَادَةِ الْمَرْأَةِ .
فَإِذَا كَانَ ثَبَتَ الْمَشْهُودُ بِهِ هُنَا بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فَشَهَادَةُ رَجُلٍ وَاحِدٍ أَوْلَى ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ ، وَإِنْ قَالَ تَعَمَّدْت النَّظَرَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي ذَلِكَ كَمَا فِي الزِّنَا وَاسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ النَّسَبَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ

وَامْرَأَتَيْنِ عَلَى الْوِلَادَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ حَبَلٌ ظَاهِرٌ وَلَا فِرَاشٌ قَائِمٌ وَلَا إقْرَارُ الزَّوْجِ بِالْحَبَلِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ .
فَأَمَّا الِاسْتِهْلَاكُ فَإِنِّي لَا أَقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةَ النِّسَاءِ عَلَيْهِ إلَّا فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ .
فَأَمَّا فِي الْمِيرَاثِ فَلَا أَقْبَلُ فِي ذَلِكَ أَقَلَّ مِنْ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تُقْبَلُ فِي ذَلِكَ شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ حُرَّةٍ مُسْلِمَةٍ عَدْلٍ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَجَازَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ فِي الِاسْتِهْلَالِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ اسْتِهْلَالَ الصَّبِيِّ يَكُونُ عِنْدَ الْوِلَادَةِ وَتِلْكَ حَالَةٌ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ ، وَفِي صَوْتِهِ عِنْدَ ذَلِكَ مِنْ الضَّعْفِ مَا لَا يَسْمَعُهُ إلَّا مَنْ شَهِدَ تِلْكَ الْحَالَةَ وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرَّجُلُ كَشَهَادَةِ الرِّجَالِ فِيمَا يَطَّلِعُونَ عَلَيْهِ ؛ وَلِهَذَا يُصَلَّى عَلَيْهِ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ .
فَكَذَلِكَ يَرِثُ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ الِاسْتِهْلَالُ صَوْتٌ مَسْمُوعٌ ، وَفِي السَّمَاعِ مِنْ رِجَالٍ يُشَارِكُونَ النِّسَاءَ .

فَإِذَا كَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ لَا تَكُونُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيهِ حُجَّةٌ تَامَّةٌ ، وَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي حَالَةٍ لَا يَحْضُرُهَا الرِّجَالُ كَالشَّهَادَةِ عَلَى جِرَاحَاتِ النِّسَاءِ فِي الْحَمَّامَاتِ بِخِلَافِ الْوِلَادَةِ فَهُوَ انْفِصَالُ الْوَلَدِ مِنْ الْأُمِّ وَالرِّجَالِ لَا يُشَارِكُونَ النِّسَاءَ فِي الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ وَحَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَحْمُولٌ عَلَى قَبُولِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي الصَّلَاةِ ، وَإِنَّمَا قَبِلْنَا ذَلِكَ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَخَبَرُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ حُجَّةٌ تَامَّةٌ فِي ذَلِكَ كَشَهَادَتِهِمَا عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ فَإِنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَلَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ فِي مَوْضِعٍ يَكُونُ الْمَشْهُودُ بِهِ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ شَهَادَةِ الزُّورِ وَغَيْرِهَا ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ذُكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ إذَا أَخَذَ شَاهِدُ الزُّورِ بَعَثَ بِهِ إلَى أَهْلِ سُوقِهِ إنْ كَانَ سُوقِيًّا وَإِلَى قَوْمِهِ إنْ كَانَ غَيْرَ سُوقِيٍّ بَعْدَ الْعَصْرِ أَجْمَعَ مَا كَانُوا فَيَقُولُ إنَّ شُرَيْحًا رَحِمَهُ اللَّهُ يُقْرِئُكُمْ السَّلَامَ وَيَقُولُ أَنَا وَجَدْنَا هَذَا شَاهِدُ زُورٍ فَاحْذَرُوهُ وَحَذِّرُوهُ النَّاسَ ) وَبِهَذَا أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ الْقَاضِي يُكْتَفَى فِي شَهَادَةِ الزُّورِ بِالتَّشْهِيرِ وَلَا يُعَزِّرُهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُعَاقِبُهُ بِالتَّعْزِيرِ وَالْحَبْسُ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى حَتَّى يُظْهِرَ تَوْبَتَهُ وَلَا يَبْلُغَ بِالتَّعْزِيرَاتِ سَبْعِينَ سَوْطًا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ بَعْدَ ذَلِكَ يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ سَوْطًا ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْكَلَامَ فِي مِقْدَارِ التَّعْزِيرِ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ .
فَأَمَّا الْكَلَامُ فِي التَّعْزِيرِ فِي حَقِّ شَاهِدِ الزُّورِ فَهُمَا اسْتَدَلَّا بِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ فِي شَاهِدِ الزُّورِ يُضْرَبُ أَرْبَعِينَ سَوْطًا وَيُسَخَّمُ وَجْهُهُ وَيُطَافُ بِهِ إلَّا أَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ قَامَ عَلَى انْتِسَاخِ حُكْمِ التَّسْخِيمِ لِلْوَجْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ مُثْلَةٌ { وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُثْلَةِ ، وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ } .
فَبَقِيَ حُكْمُ التَّعْزِيرِ وَالتَّشْهِيرِ بِأَنْ يُطَافَ بِهِ ، ثُمَّ التَّشْهِيرُ لِإِعْلَامِ النَّاسِ حَتَّى لَا يَعْتَمِدَ وَإِشْهَادُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَالتَّعْزِيرُ لِارْتِكَابِهِ كَبِيرَةً فَشَهَادَةُ الزُّورِ مِنْ أَعْظَمِ الْكَبَائِرِ فَإِنَّهَا عُدِلَتْ بِالشِّرْكِ بِاَللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } ، وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى عِظَمِ حُرْمَةِ الْمُسْلِمِ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ بِالزُّورِ كَالشَّهَادَةِ عَلَى نَفْسِهِ بِالزُّورِ .
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُرْتَكِبٌ لِلْكَبِيرَةِ قُلْنَا يُعَزَّرُ عَلَى

ذَلِكَ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَخَذَ بِقَوْلِ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ كَانَ قَاضِيًا فِي زَمَنِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَمَا يُشْتَهَرُ مِنْ قَضَايَاهُ كَالْمَرْوِيِّ عَنْهُمَا ، ثُمَّ التَّشْهِيرُ لِمَعْنَى النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَذَلِكَ مِنْ حَقِّهِمْ .
فَأَمَّا التَّعْزِيرُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَذَلِكَ يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ وَشَاهِدُ الزُّورِ مَنْ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ وَإِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ دَلِيلُ تَوْبَتِهِ ؛ فَلِهَذَا لَا يُعَزَّرُ وَيُكْتَفَى بِالتَّشْهِيرِ .
ثُمَّ فِي التَّشْهِيرِ نَوْعُ تَعْزِيرٍ وَهُوَ تَعْزِيرٌ لَائِقٌ بِجَرِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّ بِالشَّهَادَةِ لَا يَحْصُلُ لَهُ سِوَى مَاءِ الْوَجْهِ وَبِالتَّشْهِيرِ يَذْهَبُ مَاءُ وَجْهِهِ عِنْدَ النَّاسِ فَكَانَ هَذَا تَعْزِيرًا لَائِقًا بِجَرِيمَتِهِ فَيُكْتَفَى بِهِ ، وَمَا نُقِلَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَعْنَى السِّيَاسَةِ إذَا عَلِمَ الْإِمَامُ أَنَّهُ لَا يَنْزَجِرُ إلَّا بِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ ذَكَرَ تَسْخِيمَ الْوَجْهِ ، وَذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ بِطَرِيقِ السِّيَاسَةِ إذَا عَلِمَ الْمَصْلَحَةَ فِيهِ .
فَكَذَلِكَ التَّقْرِيرُ ( قَالَ ) وَشَاهِدُ الزُّورِ عِنْدَنَا الْمُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَتَمَكَّنُ تُهْمَةُ الْكَذِبِ فِي إقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا طَرِيقَ إلَى ثَبَاتِ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ نَفْيٌ لِشَهَادَتِهِ وَالْبَيِّنَةُ حُجَّةٌ لِلْإِثْبَاتِ دُونَ النَّفْيِ ، وَكَذَلِكَ مَنْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِتُهْمَةٍ أَوْ لِلدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ بِالِاخْتِلَافِ فِي الشَّهَادَةِ ، أَوْ بِتَكْذِيبِ الَّذِي شَهِدَ لَهُ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ شَاهِدَ الزُّورِ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحُكْمِ ؛ لِأَنِّي لَا أَدْرِي أَيُّهُمَا الصَّادِقُ الْمَشْهُودُ لَهُ أَوْ الشَّاهِدُ فَلَعَلَّ الْمَشْهُودَ لَهُ أَرَادَ بِالشَّاهِدِ الْعُقُوبَةَ وَالتُّهْمَةَ فَقَصَّرَ فِي دَعْوَاهُ عَمَّا شَهِدَ بِهِ شَاهِدُهُ ، وَكَذَلِكَ مَنْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُ لِلتُّهْمَةِ فَلَعَلَّهُ صَادِقٌ فِي شَهَادَتِهِ .

وَإِذَا اخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ فِي الشَّهَادَةِ فَلَا يُعْرَفُ الْكَاذِبُ مِنْهُمَا ؛ فَلِهَذَا لَا يُعَزَّرُ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فِي شَهَادَةِ الزُّورِ سَوَاءٌ لِقِيَامِ الْأَهْلِيَّةِ فِي حَقِّهِمْ جَمِيعًا فِيمَا تَعَلَّقَ بِشَهَادَةِ الزُّورِ

وَإِذَا شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى قَتْلٍ ، أَوْ جِرَاحَةٍ عَمْدًا أَوْ خَطَأً وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِذَلِكَ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا لِاخْتِلَافِ الْمَشْهُودِ بِهِ فَأَحَدُهُمَا يَشْهَدُ بِفِعْلٍ مُعَايِنٍ وَالْآخَرُ بِقَوْلٍ مَسْمُوعٍ وَالْقَوْلُ غَيْرُ الْفِعْلِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَلَفَا فِي الْوَقْتِ ، أَوْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي كَانَ بِهِ الْقَتْلُ .
فَأَمَّا فِي الْبَيْعِ اخْتِلَافُ الشُّهُودِ فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَالْإِنْشَاءِ وَالْإِقْرَارِ لَا يُمْنَعُ قَبُولُ الشَّهَادَةِ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ يَقُولُ لَا تُقْبَلُ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ فَالْمَوْجُودُ فِي مَكَانِ غَيْرِ الْمَوْجُودِ فِي مَكَان آخَرَ كَالْأَفْعَالِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْقَوْلُ يُعَادُ وَيُكَرَّرُ ، وَيَكُونُ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ فِي الْحُكْمِ فَبِهَذَا الِاخْتِلَافِ لَا يَتَحَقَّقُ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافٌ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ .
وَكَذَلِكَ صِيغَةُ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءِ فِي الْبَيْعِ وَاحِدَةٌ بِخِلَافِ الْأَفْعَالِ فَإِنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ .

وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا فِي قَرْضِ مِائَةِ دِرْهَمٍ وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِذَلِكَ جَازَ كَمَا فِي الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَالْقَرْضَ كَلَامٌ كُلُّهُ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ هُنَا الْجَوَابُ فِي الْقَرْضِ غَلَطٌ فَإِنَّ الْإِقْرَاضَ فِعْلٌ فَإِنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِتَسْلِيمِ الْمَالِ وَالْقَبْضُ بِحُكْمِ الْقَرْضِ مُوجِبٌ ضَمَانَ الْمِثْلِ كَالْغَصْبِ وَكَمَا أَنَّ اخْتِلَافَ الشُّهُودِ فِي الْغَصْبِ فِي الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءُ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ .
فَكَذَلِكَ فِي الْقَرْضِ ، وَلَكِنْ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْقَرْضِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِقَوْلِهِ أَقْرَضْتُك لَا بِتَسْلِيمِ الْمَالِ إلَيْهِ فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْمَالِ إلَيْهِ بِدُونِ هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ إيدَاعًا وَقَوْلُهُ أَقْرَضْتُك صِيغَةُ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءُ فِيهِ وَاحِدٌ كَمَا فِي الْبَيْعِ

وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى مِائَةٍ وَالْآخَرُ عَلَى خَمْسِينَ لَمْ تُقْبَلْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِاخْتِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ لَفْظًا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تُقْبَلُ عَلَى الْأَقَلِّ إذَا كَانَ الْمُدَّعِي يَدَّعِي الْأَكْثَرَ حَتَّى لَا يَصِيرَ مُكَذِّبًا أَحَدَ شَاهِدَيْهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ فِي التَّطْلِيقَةِ وَالتَّطْلِيقَتَيْنِ .

وَلَا يَجُوزُ شَهَادَةُ دَافِعٍ عَنْ نَفْسِهِ مَغْرَمًا ، أَوْ جَارٍّ إلَيْهَا مَغْنَمًا ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي شَهَادَتِهِ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا شَهَادَةَ لِمُتَّهَمٍ } ، وَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الشَّاهِدِ لِنَفْسِهِ وَشَهَادَةُ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ دَعْوَى .

وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْمُفَاوِضِ لِشَرِيكِهِ فِي شَيْءٍ مَا خَلَا الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ وَالنِّكَاحَ فَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شَرِكَةِ مَا بَيْنَهُمَا فَنَزَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ مِنْ صَاحِبِهِ مَنْزِلَةَ الْأَجْنَبِيِّ وَأَمَّا فِي الْأَمْوَالِ هُمَا بِعَقْدِ الْمُفَاوَضَةِ صَارَ فِي ذَلِكَ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا يَشْهَدُ بِهِ لِصَاحِبِهِ بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِ لِنَفْسِهِ .

وَشَهَادَةُ الشَّرِيكِ لِشَرِيكِهِ ، وَإِنْ كَانَا غَيْرَ مُتَفَاوِضَيْنِ لَا تَجُوزُ فِي تِجَارَتِهِمَا لِلتُّهْمَةِ ؛ لِأَنَّ فِيمَا يَكُونُ مِنْ تِجَارَتِهِمَا الشَّاهِدُ يُثْبِتُ الْحَقَّ لِنَفْسِهِ وَصَاحِبُهُ كَالْوَكِيلِ عَنْهُ فَهُوَ كَشَهَادَةِ الْمُوَكِّلِ لِوَكِيلِهِ فِيمَا وَكَّلَهُ بِهِ .
فَأَمَّا فِيمَا لَيْسَ مِنْ تِجَارَتِهِمَا فَهُوَ كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ ؛ لِأَنَّ تُهْمَةَ الْمَيْلِ بِسَبَبِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ لَا تَتَمَكَّنُ عِنْدَ ظُهُورِ الْعَدَالَةِ فَإِنَّ بِسَبَبِ الشَّرِكَةِ يَحْصُلُ بَيْنَهُمَا الصَّدَاقَةُ وَالصَّدِيقُ إذَا كَانَ عَدْلًا عَاقِلًا يَمْنَعُ صَدِيقَهُ مِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ وَلَا يَحْمِلُهُ عَلَى ذَلِكَ بِالشَّهَادَةِ ، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ أَجِيرِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لَلشَّرِيك الْآخَرِ وَشَهَادَةُ الْأَجِيرِ لِأُسْتَاذِهِ لَا تَجُوزُ فِي شَيْءٍ ، وَإِنْ كَانَ عَدْلًا أَخَذَ فِي ذَلِكَ بِالثِّقَةِ وَاسْتَحْسَنَ لِمَا بَلَغَنَا فِي ذَلِكَ عَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلِحَالَةِ النَّاسِ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا الْيَوْمَ وَالْمُرَادُ الْإِشَارَةُ إلَى التُّهْمَةِ فَالْأَجِيرُ هُنَا هُوَ التِّلْمِيذُ الْخَاصُّ ، وَقَدْ ظَهَرَ مِثْلُهُ إلَى أُسْتَاذِهِ وَإِيثَارُهُ عَلَى غَيْرِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الزَّوْجِيَّةِ فِي الْمَنْعِ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ ، وَلِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَقْبِضُ مَا يَجِبُ لِأُسْتَاذِهِ فَكَأَنَّهُ يُثْبِتُ حَقَّ الْقَبْضِ لِنَفْسِهِ بِشَهَادَتِهِ ، وَقَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ بِأَنْ لَا شَهَادَةَ لِلْقَانِعِ بِأَهْلِ بَيْتِهِ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ يُعِدُّ خَيْرَهُمْ خَيْرَ نَفْسِهِ وَشَرَّهُمْ شَرَّ نَفْسِهِ وَالْأَجِيرُ فِي حَقِّ أُسْتَاذِهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَقِيلَ مُرَادُهُ أَجِيرًا اسْتَأْجَرَهُ مُسَانَهَةً ، أَوْ مُشَاهَرَةً فَإِنَّمَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِتَسْلِيمِ نَفْسِهِ ، وَفِي الزَّمَانِ الَّذِي يُسَلِّمُ نَفْسَهُ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ لَهُ يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ اُسْتُؤْجِرَ عَلَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ ؛ فَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأُسْتَاذِهِ فِي شَيْءٍ .

وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا كَانَ عَلَيْهِ مَالٌ فَشَهِدَ ابْنَاهُ أَنَّ الطَّالِبَ أَبْرَأَ أَبَاهُمَا وَاحْتَالَ بِهِ عَلَى فُلَانٍ وَالطَّالِبُ مُنْكِرٌ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا يُسْقِطَانِ بِشَهَادَتِهِمَا مُطَالَبَةَ الطَّالِبِ عَنْ أَبِيهِمَا فَدَفَعَهُمَا عَنْ أَبِيهِمَا كَدَفْعِهِمَا عَنْ أَنْفُسِهِمَا ، وَلَوْ كَانَ الْمَالُ عَلَى غَيْرِ أَبِيهِمَا فَشَهِدَا أَنَّ الطَّالِبَ احْتَالَ بِهِ عَلَى أَبِيهِمَا وَالطَّالِبُ يُنْكِرُ وَالْمَطْلُوبُ يَدَّعِي الْحَوَالَةَ وَالْبَرَاءَةَ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى أَبِيهِمَا بِالْمَالِ وَيُلْزِمَانِهِ الْمُطَالَبَةَ بِشَهَادَتِهِمَا ، وَإِنَّمَا يُسْقِطَانِ بِهَا مُطَالَبَةُ الطَّالِبِ عَنْ الْمَطْلُوبِ وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُمَا ؛ فَلِهَذَا قَبِلْنَا شَهَادَتَهُمَا .

وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ أَنَّ لَهُمَا وَلِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ كَذَا لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا شَاهِدَانِ لِأَنْفُسِهِمَا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ بِدَيْنٍ مُشْتَرَكٍ أَوْ يَنْصَرِفُ وَاحِدٌ يَثْبُتُ بِهِ الْمَالُ لَهُمَا وَلِفُلَانٍ .
فَإِذَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمَا وَكَانَ مُدَّعِيَيْنِ فِي ذَلِكَ .
فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الثَّالِثِ كَمَا لَوْ شَهِدَا أَنَّهُ قَذَفَ هَذَا وَأُمَّنَا فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا أَنَّ فُلَانًا أَبْرَأهُمَا وَفُلَانًا مِنْ مَالٍ كَانَ لَهُ عَلَيْهِمَا وَعَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ كَلَامٌ وَاحِدٌ وَهُوَ فِي حَقِّهِمَا دَعْوَى لَا شَهَادَةٌ وَبَيْنَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ مُغَايَرَةٌ .
فَإِذَا كَانَ كَلَامُهُمَا دَعْوَى فِي الْبَعْضِ لَا تَكُونُ شَهَادَةً مُعْتَبَرَةً فِي الْبَاقِي ، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ وَلَدِهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا فِي الْبَعْضِ يَشْهَدَانِ لِوَالِدَيْهِمَا وَلَا يَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَجِيرِ لِمُعَلِّمِهِ يُرِيدُ بِهِ التِّلْمِيذُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَعْنَى فِيهِ .

وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ دَابَّةً فِي يَدِ رَجُلٍ فَقَالَ هِيَ دَابَّةُ فُلَانٍ دَفَعَهَا إلَيَّ وَدِيعَةً فَرَدَّهَا عَلَيْهِ وَجَاءَ أَحَدُ الْوَرَثَةِ فَخَاصَمَهُ فِي ذَلِكَ .
وَقَالَ هِيَ دَابَّتِي تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيَّ أَبِي فَجَاءَ الَّذِي كَانَتْ فِي يَدِهِ أَوَّلًا وَشَهِدَ أَنَّهَا دَابَّتُهُ ( قَالَ ) إنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا أَوْدَعَهَا أَبَاهُ ، ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ فَشَهَادَتُهُ جَائِزَةٌ وَإِلَّا فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا دَافِعُ مَغْرَمٍ ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْدَعَهَا إيَّاهُ ، وَأَنَّهُ قَدْ رَدَّهَا عَلَيْهِ فَقَدْ خَرَجَ مِنْ ضَمَانِهَا بِيَقِينٍ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْدِعَ يَسْتَفِيدُ الْبَرَاءَةَ بِالرَّدِّ عَلَى مَنْ أَوْدَعَهُ غَاصِبًا كَانَ ، أَوْ مَالِكًا فَلَا تَتَمَكَّنُ تُهْمَةٌ فِي شَهَادَتِهِ بِالْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي بَعْدَ ذَلِكَ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ فَقَدْ صَارَ هُوَ مُقِرًّا عَلَى نَفْسِهِ بِثُبُوتِ يَدِهِ عَلَيْهَا ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ لِمَالِكِهَا مَا لَمْ تَصِلْ يَدُهُ إلَيْهَا فَهُوَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ يُرِيدُ اتِّصَالَهَا إلَى يَدِهِ لِيُبَرِّئَ نَفْسَهُ عَنْ ضَمَانِهَا فَتَتَمَكَّنُ تُهْمَةٌ فِي شَهَادَتِهِ ( قَالَ ) وَكَذَلِكَ الدَّارُ قِيلَ هَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ الْعَقَارُ يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ وَقِيلَ بَلْ هُوَ قَوْلُ الْكُلِّ ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ أَنْ يُرْفَعَ إلَى قَاضٍ يَرَى الْعَقَارَ كَالْمَنْقُولِ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى مُثْبِتِ الْيَدِ عَلَيْهَا فَيَقْضِي عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ فَهُوَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ يَدْفَعُ الْمَغْرَمَ عَلَى نَفْسِهِ أَيْضًا .

رَجُلٌ مَعَهُ شَاةٌ فَمَرَّ رَجُلٌ فَقَالَ اذْبَحْهَا فَذَبَحَهَا ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ هَذَا أَغَصَبَهَا مِنْهُ وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ أَحَدُهُمَا الذَّابِحُ لَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ الذَّابِحِ ؛ لِأَنَّهُ دَافِعُ الْمَغْرَمِ عَنْ نَفْسِهِ فَالْمُدَّعِي إذَا ثَبَتَ مِلْكُهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ تَضْمِينِ الذَّابِحِ وَالذَّابِحُ بِشَهَادَتِهِ يَصِيرُ مُقِرًّا بِالضَّمَانِ لَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّمَا يَقْصِدُ بِإِخْرَاجِ الْكَلَامِ مَخْرَجَ الشَّهَادَةِ دَفْعَ الْمَغْرَمِ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنْ يَتَوَصَّلَ صَاحِبُهَا إلَى حَقِّهِ فِي تَضْمِينِ الْغَاصِبِ ، وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ إذَا تَقَرَّرَ أَوْجَبَ الْمِلْكَ لِلْغَاصِبِ فَهُوَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ يُرِيدُ أَنْ يُقَرِّرَ الضَّمَانَ عَلَى مَنْ أَمَرَهُ بِالذَّبْحِ لِيَثْبُتَ الْمِلْكُ لَهُ فَيُعْتَبَرُ عِنْدَ ذَلِكَ أَمْرُهُ فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ عَنْ الذَّابِحِ فَكَانَ دَافِعَ الْمَغْرَمِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَالثَّانِي يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَالِكَ غَيْرُهُ وَغَيْرُهُ يَضْمَنُهُ وَهُوَ لَا يَضْمَنُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ بَيْنَهُمَا مَحَبَّةً وَمَوَدَّةً فَقَدْ تَمَكَّنَتْ التُّهْمَةُ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ .
( قَالَ ) وَمِنْ التَّهَاتُرِ أَنْ يَشْهَدَ الشَّاهِدَانِ أَنَّ هَذَا الشَّيْءَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا نَفْيٌ وَالشَّهَادَةُ لِلْإِثْبَاتِ دُونَ النَّفْيِ فَإِنَّ النَّفْيَ مِمَّا لَا يُعْرَفُ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَصْحَبْ غَيْرَهُ أَنَاءَ اللَّيْلِ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَا يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الشَّيْءَ لَيْسَ لَهُ وَهُوَ ، وَإِنْ صَحِبَهُ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ أَيْضًا فَقَدْ لَا يَعْرِفُ الْإِنْسَانُ ذَلِكَ مِنْ نَفْسِهِ بِأَنْ يَكُونَ وَرِثَ شَيْئًا فَيَكُونَ مَمْلُوكًا لَهُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ .
فَإِذَا كَانَ لَا يَعْرِفُ هَذَا مِنْ نَفْسِهِ فَكَيْفَ يَعْرِفُ غَيْرَهُ مِنْهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ دَيْنٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَةِ مَا شَهِدَ بِهِ مِنْ نَفْيِ الدَّيْنِ عَنْ ذِمَّتِهِ ، وَكَذَلِكَ كُلّ شَهَادَةٌ هَكَذَا أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ ، وَإِنْ فُلَانًا لَمْ يَصْنَعْ كَذَا ، وَأَنَّهُ

لَمْ يَحْضُرْ مَكَانَ كَذَا ، وَإِنْ كَانَ بِمَكَانِ كَذَا فَهُوَ كُلُّهُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُجَازِفٌ فِي شَهَادَتِهِ إذْ لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ حَقِيقَةً .
فَإِذَا عَلِمَ الْحَاكِمُ أَنَّ الشَّاهِدَ كَاذِبٌ أَوْ مُجَازِفٌ فِي شَهَادَتِهِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ أَنَّهُ لَمْ يَحْضُرْ يَوْمئِذٍ ذَلِكَ الْمَكَانَ فَهَذَا نَفْيٌ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُمْ إنَّهُ كَانَ يَوْمئِذٍ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَيْسَ هُوَ إثْبَاتُ كَوْنِهِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ نَفْيُ كَوْنِهِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْمُدَّعِي يَوْمئِذٍ وَالْمُعْتَبَرُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ ، أَوْ مِنْ التَّهَاتُرِ أَنْ يُقِيمَ الرَّجُلُ الْبَيِّنَةَ عَلَى حَقٍّ فَيُقْضَى لَهُ بِهِ فَيَقُولُ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ أَنَا أُقِيمُ بَيِّنَةً أَنَّهُ لِي فَهَذَا لَا يُقْبَلُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ لِإِبْطَالِ قَضَاءِ الْقَاضِي عَلَيْهِ وَدَعْوَاهُ ذَلِكَ غَيْرُ مَسْمُوعٍ فَكَيْفَ تُقْبَلُ بَيِّنَةٌ عَلَيْهِ وَهَذِهِ الْبَيِّنَةُ لَوْ كَانَتْ قَائِمَةً لَهُ عِنْدَ الْقَضَاءِ يَمْتَنِعُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ لِلْمُدَّعِي فَلَأَنْ لَا يَبْطُلَ الْقَضَاءُ بِهَا أَوْلَى .
( قَالَ ) وَلَوْ قَبِلْت مِثْلَ هَذَا لَقَبِلْت مِنْ الْآخَرِ مِثْلَهَا فَيُؤَدِّي إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ الْحُدُودِ إذَا شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى شُهُودِ الزِّنَا أَنَّهُمْ الْتَزَمَاهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا ثَمَّةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الشَّهَادَةِ فِي النَّسَبِ وَغَيْرِهِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ ، وَإِنَّ الْمَيِّتَ فُلَانُ ابْنُ فُلَانِ ابْنِ عَمِّهِ وَوَرَثَتُهُ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ وَلِفُلَانٍ ذَلِكَ الْمَيِّتِ دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ وَهُوَ مُقِرٌّ أَنَّهَا لَهُ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ لَهُ وَارِثًا فَأَنَا أُجِيزُ شَهَادَةَ هَؤُلَاءِ عَلَى النَّسَبِ وَأَدْفَعُ إلَيْهِ الدَّارَ ، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَذْكُرُوا أَبَاهُ اسْتِحْسَانًا ) وَهَذِهِ فُصُولٌ أَرْبَعَةٌ النَّسَبُ وَالنِّكَاحُ وَالْقَضَاءُ وَالْمَوْتُ ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا بِالتَّسَامُعِ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَجُوزُ إلَّا بِعِلْمٍ ، وَإِنَّمَا يَسْتَفِيدُ الْعِلْمَ بِمُعَايَنَةِ السَّبَبِ ، أَوْ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ .
فَأَمَّا بِالتَّسَامُعِ لَا يَسْتَفِيدُ الْعِلْمَ .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ } وَحُكْمُ الْمَالِ أَخَفُّ مِنْ حُكْمِ النِّكَاحِ .
فَإِذَا كَانَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْمَالِ بِالتَّسَامُعِ لَا تَجُوزُ فَفِي النِّكَاحِ أَوْلَى ، وَفِي التَّسَامُعِ الْقَاضِي وَالشَّاهِدُ سَوَاءٌ ، ثُمَّ لَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِالتَّسَامُعِ .
فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِلشَّاهِدِ إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا جَوَازَ الشَّهَادَةِ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ لِتَعَامُلِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ وَاسْتِحْسَانِهِمْ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّا نَشْهَدُ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ وَعَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَاتَا وَلَمْ نُدْرِكْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَنَشْهَدُ أَنَّ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَةُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَأَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَنَشْهَدُ أَنَّ شُرَيْحًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ قَاضِيًا وَنَشْهَدُ أَنَّهُمْ قَدْ مَاتُوا وَلَمْ نُدْرِكْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ، ثُمَّ هَذِهِ أَسْبَابٌ يَقْضُونَ بِهَا عَلَى مَا يُشْتَهَرُ فَإِنَّ النَّسَبَ يُشْتَهَرُ فِيهَا بِالتَّهْنِئَةِ وَالْمَوْتَ بِالتَّعْزِيَةِ وَالنِّكَاحَ بِالشُّهُودِ

وَالْوَلِيمَةَ وَالْقَضَاءَ بِقِرَاءَةِ الْمَنْشُورِ فَنَزَلَتْ الشُّهْرَةُ مَنْزِلَةَ الْعِيَانِ فِي إفَادَةِ الْعِلْمِ بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِهَا .
يُوَضِّحُهُ أَنَّ هَذِهِ الْأُمُورَ قَلَّ مَا يُعَايَنُ سَبَبُهَا حَقِيقَةً فَسَبَبُ النَّسَبِ الْوُلَاةُ وَلَا يَحْضُرُهَا إلَّا الْقَابِلَةُ وَسَبَبُ الْقَضَاءِ تَقْلِيدُ السُّلْطَانِ وَلَا يُعَايِنُ ذَلِكَ إلَّا الْخَوَاصُّ مِنْ النَّاسِ وَالْمَيِّتُ أَيْضًا قَلَّ مَا يُعَايِنُهُ كُلُّ أَحَدٍ وَالنِّكَاحُ كَذَلِكَ إنَّمَا يَحْضُرُهُ الْخَوَاصُّ مِنْ النَّاسِ فَلَوْ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ عَلَيْهَا بِالتَّسَامُعِ أَدَّى إلَى الْحَرَجِ بِخِلَافِ الْبُيُوعِ وَغَيْرِهَا فَإِنَّهُ كَلَامٌ يَسْمَعُهُ كُلُّ وَاحِدٍ وَسَبَبُ الْمِلْكِ هُوَ الْيَدُ وَهُوَ مَا يُعَايِنُهُ كُلُّ أَحَدٍ وَالنِّكَاحُ كَذَلِكَ إنَّمَا يَحْضُرُهُ الْخَوَاصُّ ؛ فَلِهَذَا لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهَا بِالتَّسَامُعِ ، ثُمَّ الْأَحْكَامُ الَّتِي تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءُ الْأَرْبَعَةُ تَبْقَى بَعْدَ انْقِضَاءِ قُرُونٍ فَلَوْ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ عَلَيْهَا بِالتَّسَامُعِ لَتَعَطَّلَتْ تِلْكَ الْأَحْكَامُ بِانْقِضَاءِ تِلْكَ الْقُرُونِ ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْجَوَابِ إنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى أَصْلِ الْوَقْفِ بِالتَّسَامُعِ جَائِزَةٌ ، وَلَكِنْ عَلَى شَرَائِطِ الْوَقْفِ لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ بِالتَّسَامُعِ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْوَقْفِ يُشْتَهَرُ .
فَأَمَّا شَرَائِطُهُ لَا تُشْتَهَرُ وَلَا بُدَّ لِلشَّاهِدِ مِنْ نَوْعِ عِلْمٍ لِيَشْهَدَ فَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ لَا يَعْرِفُ الرَّجُلَ إلَّا أَنَّ الْمُدَّعِيَ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ ، أَوْ شَهِدَ بِهِ عِنْدَهُ رَجُلٌ مَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْهَدَ حَتَّى يَكُونَ النَّسَبُ مَشْهُورًا ، أَوْ شَهِدَ بِهِ عِنْدَهُ رَجُلَانِ عَدْلَانِ لِئَلَّا يَقُولَ الْمُدَّعِي بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ عِنْدَهُ لَا يَحْصُلُ الِاشْتِهَارُ وَلَا يَتِمُّ شَرْعًا ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ لَهُ الْعِلْمُ هُنَا بِالِاشْتِهَارِ عُرْفًا أَوْ شَرْعًا فَالِاشْتِهَارُ عُرْفًا بِأَنْ يَعْلَمَهُ أَكْثَرُ النَّاسِ وَالِاشْتِهَارُ شَرْعًا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْإِعْلَانَ فِي

النِّكَاحِ شَرْطٌ ، وَيَكُونَ ذَلِكَ شَرْعًا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ إلَّا أَنَّ فِيمَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ لَا بُدَّ مِنْ عَدَالَةِ الرَّجُلَيْنِ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْقَاضِي .
فَإِذَا شَهِدَ بِذَلِكَ عِنْدَهُ رَجُلَانِ فَقَدْ وُجِدَ الْإِشْهَادُ عِنْدَهُ شَرْعًا وَوِلَايَةُ الشَّهَادَةِ دُونَ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ .
فَإِذَا كَانَ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ عِنْدَهُ فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ إذَا شَهِدَ عِنْدَهُ بِهِ رَجُلَانِ عَدْلَانِ أَوْلَى وَلَوْ قَدِمَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ بَلَدٍ آخَرَ وَانْتَسَبَ لَهُ وَأَقَامَ مَعَهُ دَهْرًا لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى نَسَبِهِ حَتَّى يَلْقَى مِنْ أَهْلِ بَلَدِهِ رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ مِمَّنْ يَعْرِفُهُ يَشْهَدَانِ لَهُ عَلَى ذَلِكَ ، ثُمَّ يَسَعُهُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ لَهُ بِذَلِكَ نَوْعُ عِلْمٍ ، وَذَلِكَ كَافٍ فِيمَا لَا يُشْتَرَطُ عَلَيْهِ مُعَايَنَةُ السَّبَبِ وَلَوْ نَظَرَ إلَى رَجُلٍ مَشْهُودٍ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُخَالِطْهُ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ مَعَهُ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ أَنَّهُ فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ لِحُصُولِ نَوْعِ عِلْمٍ لَهُ بِالِاشْتِهَارِ ، وَكَذَلِكَ إذَا رَأَى إنْسَانًا فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ يَقْضِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ الشَّهَادَةِ عَلَى أَنَّهُ قَاضِيًا لِحُصُولِ الْعِلْمِ لَهُ بِذَلِكَ الْإِشْهَادِ وَالشَّهَادَةُ إنَّمَا تَجِبُ عَلَيْهِ بِالْعِلْمِ لَا بِالتَّكَلُّمِ وَالْمُخَالَطَةِ .
فَإِذَا حَصَلَ الْعِلْمُ لَهُ بِالْإِشْهَادِ حَلَّ لَهُ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ .

وَلَوْ مَاتَ رَجُلٌ فَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمَيِّتَ فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ ، وَأَنَّهُ فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ حَتَّى يَلْتَقُوا إلَى أَبِ وَاحِدٍ وَهُوَ عَصَبَتُهُ وَأَقَارِبُهُ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ قَضَيْت لَهُ بِالْمِيرَاثِ ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ سَبَبَ الْوِرَاثَةِ مُفَسَّرًا بِالْحُجَّةِ فَإِنْ جَاءَ آخَرُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمَيِّتَ ابْنُهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ ، وَإِنَّ هَذَا أَبُوهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرَهُ جَعَلْت الْمِيرَاثَ لِهَذَا وَأَبْطَلْت الْقَضَاءَ لِلْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الثَّابِتَةَ طَاعِنَةٌ فِي الْبَيِّنَةِ الْأُولَى دَافِعَةٌ لَهَا فَإِنَّهُ يَتَبَيَّنُ بِهَا أَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَكُنْ خَصْمًا فِي إثْبَاتِ نَسَبِ الْمَيِّتِ ، وَأَنَّهُ كَانَ مَحْجُوبًا عَنْ الْمِيرَاثِ بِمَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ وَلَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ ؛ فَلِهَذَا يَبْطُلُ الْقَضَاءُ الْأَوَّلُ .
وَإِنْ أَقَامَ الثَّانِي الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمَيِّتَ فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ وَنَسَبَهُ إلَى أب آخَرَ وَقَبِيلَةٍ أُخْرَى ، وَأَنَّهُ فُلَانُ ابْنُ فُلَانٍ عَمُّهُ إلَى أب وَاحِدٍ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ لَمْ أُحَوِّلْ النَّسَبَ بَعْدَ أَنْ يَثْبُتَ مِنْ فَخِذٍ وَمِنْ أب إلَى أَنْ يَجِيءَ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْ الَّذِي جَعَلْت لَهُ الْمِيرَاثَ ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الثَّانِيَةَ لَيْسَتْ بِطَاعِنَةٍ فِي الْأُولَى ، وَلَكِنَّهَا مُعَارِضَةٌ لِلْأُولَى ، وَعِنْدَ الْمُعَارَضَةِ الْأُولَى تُرَجَّحُ الْأُولَى لِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا فَلَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ الثَّانِيَةُ ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مُتَعَذَّرٌ وَالْقَضَاءُ النَّافِذُ لَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ بِدَلِيلٍ مُشْتَبَهٍ وَهُوَ كَمَنْ ادَّعَى دَابَّةً فِي يَدِ إنْسَانٍ أَنَّهَا لَهُ ، ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَقَضَى الْقَاضِي بِهَا لَهُ ، ثُمَّ أَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ وَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ طَاعِنَةٌ فِي الْبَيِّنَةِ الْأُولَى دَافِعَةٌ لَهَا ، وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ عَلَى نِكَاحِ امْرَأَةٍ

بِتَارِيخٍ وَقَضَى الْقَاضِي لَهُ بِذَلِكَ ، ثُمَّ أَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ عَلَى نِكَاحِهِ بِذَلِكَ التَّارِيخِ أَيْضًا لَمْ تُقْبَلْ وَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّكَاحِ بِتَارِيخٍ سَابِقٍ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ ؛ لِأَنَّهَا طَاعِنَةٌ فِي الْبَيِّنَةِ الْأُولَى

وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ أَنَّ هَذَا أَعْتَقَ فُلَانًا ، وَأَنَّهُ مَوْلَاهُ وَعَصَبَتُهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فَإِنْ كَانَ قَدْ أَدْرَكَ الْمُعْتَقَ وَسَمِعَ الْعِتْقَ مِنْهُ فَشَهَادَتُهُمَا جَائِزَةٌ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُدْرِكَاهُ وَلَمْ يَسْمَعَا الْعِتْقَ مِنْهُ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلَا ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ إذَا شَهِدُوا عَلَى وَلَاءٍ مَشْهُورٍ فَهُوَ كَشَهَادَتِهِمْ بِالنَّسَبِ ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعُوا ذَلِكَ مِنْهُ وَلَمْ يُدْرِكُوهُ ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ ، ثُمَّ الشَّهَادَةُ عَلَى النَّسَبِ بِطَرِيقِ التَّسَامُعِ وَالشُّهْرَةِ جَائِزَةٌ .
فَكَذَلِكَ عَلَى الْوَلَاءِ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَنَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ { الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ } ( أَلَا تَرَى ) أَنَّا نَشْهَدُ أَنَّ قَنْبَرًا مَوْلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَإِنْ لَمْ نُدْرِكْ ذَلِكَ .
ثُمَّ الْحُكْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْوَلَاءِ يَبْقَى بَعْدَ مُضِيِّ قَرْنٍ كَالْحُكْمِ الْمُتَعَلِّقِ بِالنَّسَبِ فَلَوْ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِالتَّسَامُعِ تَعَطَّلَتْ الْأَحْكَامُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْوَلَاءِ وَالشَّرْعُ جَعَلَ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الِانْتِمَاءِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ انْتَسَبَ إلَى غَيْرِ أَبِيهِ ، أَوْ انْتَمَى إلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا } وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْعِتْقَ إزَالَةُ مِلْكِ الْيَمِينِ بِالْقَوْلِ فَلَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ بِالتَّسَامُعِ كَالْبَيْعِ وَبَيَانُهُ فِيمَا قَرَّرْنَا أَنَّ الْعِتْقَ كَلَامٌ يَسْمَعُهُ النَّاسُ كَالْبَيْعِ ، وَلَيْسَ كَالْوِلَادَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إقَامَةِ التَّسَامُعِ فِيهِ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ ،

ثُمَّ لَا يَقْتَرِنُ لِسَبَبِ الْوَلَاءِ مَا يُشْتَهَرُ بِهِ فَالْإِنْسَانُ يُعْتِقُ عَبْدَهُ وَلَا يَعْلَمُ بِهِ غَيْرَهُ فَكَانَ هَذَا دُونَ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَنْعَقِدُ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمُشْتَرِي وَالْعِتْقُ نَافِذٌ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُعْتِقُ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ وَمَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّهُ مُقْتَرِنٌ بِأَسْبَابِهَا مَا يُشْتَهَرُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَا .

وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا أَنَّ فُلَانًا أَعْتَقَ أَبَا فُلَانٍ ، وَأَنَّ فُلَانَ ابْنَ فُلَانٍ عَصَبَةَ فُلَانٍ الَّذِي أَعْتَقَ وَعَصَبَةَ فُلَانٍ الْمُعْتَقِ فَإِنِّي لَا أُجِيزَ شَهَادَتَهُمَا حَتَّى يَنْسُبَا الَّذِي أَعْتَقَ وَعَصَبَتُهُ إلَى أب وَاحِدٍ يَلْتَقِيَانِ إلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكَا ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُمَا بَعْدَ أَنْ يَشْهَدَا عَلَى سَمَاعِ الْعِتْقِ مِنْ الْمُعْتَقِ ، ثُمَّ أَنَّ الْمُعْتَقَ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَهُ ، ثُمَّ مَاتَ ابْنُهُ وَلَا يَعْلَمَانِ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ ، وَأَنَّهُ لَا يُنْسَبُ لَهُ وَلَا وَلَاءَ سِوَاهُ فَحِينَئِذٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي بِالْمِيرَاثِ مَا لَمْ يُفَسِّرُوا بِنَسَبِ الْوِرَاثَةِ ، وَإِنَّمَا يَسِيرُ مُفَسَّرًا مَعْلُومًا عِنْدَهُ بِمَا ذُكِرَ غَيْرَ أَنَّ فِي النَّسَبُ شَهَادَتُهُمْ بِالتَّسَامُعِ مَقْبُولَةٌ ، وَفِي الْوَلَاءِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ مَا لَمْ يَسْمَعُوا الْعِتْقَ مِنْ الْمُعْتَقِ إلَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا بَيَّنَّا قَالَ وَلَسْت أُكَلِّفُهُمْ فِي الْمَوَارِيثِ أَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرَهُ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ مَا لَمْ يَشْهَدُوا بِذَلِكَ لَا يَقْضِي الْقَاضِي بِالْمِيرَاثِ لَهُ ؛ لِأَنَّ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهِ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا لِلْقَاضِي إلَّا بِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَنْ يُزَاحِمُ أَوْ يَتَرَجَّحُ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ هُوَ وَارِثًا مَعَ ثُبُوتِ مَا فَسَّرَ الشُّهُودُ مِنْ السَّبَبِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ قَوْلُهُمْ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرَهُ نَفْيٌ لَا طَرِيقَ لَهُمْ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ فَلَوْ كَلَّفَهُمْ الْقَاضِي أَنْ يَشْهَدُوا بِذَلِكَ لَكَلَّفَهُمْ عَلَى ذَلِكَ شَطَطًا وَحَمَلَهُمْ عَلَى الْكَذِبِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي الْكِتَابِ ( فَقَالَ ) مِنْ قِبَلِ أَنَّ هَذَا عَيْبٌ يَحْمِلُهُمْ الْقَاضِي عَلَيْهِ ، أَوْ قَالَ عَنَتٌ يَحْمِلُهُمْ الْقَاضِي عَلَيْهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ بِمَا لَا يَعْلَمُونَ ، وَإِنْ قَالُوا لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ فَهَذَا يَكْفِي وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَكْفِي ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ

الشَّهَادَةِ فِي شَيْءٍ فَإِنَّهُمْ يَشْهَدُونَ بِمَا يَعْلَمُونَ لَا بِمَا لَا يَعْلَمُونَ وَكَمَا أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ فَالْقَاضِي لَا يَعْلَمُ وَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ لَا يَثْبُتُ بِهِ بِهَذَا اللَّفْظِ ، وَلَكِنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمِيرَاثِ لَهُ بِالسَّبَبِ الَّذِي أَثْبَتَهُ الشُّهُودُ مُفَسَّرًا إلَّا أَنَّهُمْ إذَا لَمْ يَذْكُرُوا هَذِهِ الزِّيَادَةَ كَانَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَتَلَوَّمَ فَرُبَّمَا يَظْهَرُ وَارِثٌ آخَرُ مُزَاحِمٌ لَهُ أَوْ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ فَهُمْ بِهَذَا اللَّفْظِ كَفَوْا الْقَاضِيَ مُؤْنَةَ التَّلَوُّمِ .
وَنَظَرُوا فِي ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِمْ فَتَحَرَّزُوا عَنْ الْكَذِبِ وَالْمُجَازَفَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ قَالُوا لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرَهُ كَانُوا مُجَازِفِينَ فِي ذَلِكَ فَتَحَرَّزُوا بِقَوْلِهِمْ لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ ، وَفِي الْحَقِيقَةِ مُرَادُهُمْ هُوَ الْأَوَّلُ فَمَا يَكُونُ مِنْ سِبَابِ التَّحَرُّزِ عَنْ الْكَذِبِ لَا يَكُونُ قَدْحًا فِي شَهَادَتِهِمْ ، وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا بِأَرْضِ كَذَا وَكَذَا غَيْرُ فُلَانٍ جَازَ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ حَتَّى يَقُولُوا مُبْهَمَةً لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّ فِي تَخْصِيصِهِمْ مَكَانًا إيهَامًا أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ أَرَأَيْت لَوْ قَالُوا لَا نَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا سِوَاهُ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ أَكَانَ يَقْتَضِي بِالْمِيرَاثِ لَهُمْ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ هَذَا اللَّفْظُ مُبْهَمٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي بَيَانِ أَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ وَمَعْنَاهُ أَنَّ بَلَدَهُ كَذَا وَمَوْلِدَهُ كَذَا وَمَسْقَطَ رَأْسِهِ كَذَا وَلَا نَعْلَمُ لَهُ بِهَا وَارِثًا غَيْرَهُ فَأَحْرَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ وَارِثًا آخَرَ فِي مَكَان آخَرَ ، ثُمَّ تَخْصِيصُهُمْ هَذَا الْمَكَانَ بِالذِّكْرِ فِي هَذَا اللَّفْظِ لَغْوٌ ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَعْلَمُ الْمَرْءَ لَا يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَان فَهُوَ ، وَمَا لَوْ أَطْلَقُوا سَوَاءٌ .
وَقَوْلُهُمَا أَنَّ هَذَا إيهَامُ

فُلَانٍ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مَفْهُومٌ وَالْمَفْهُومُ لَا يُقَابِلُ الْمَنْطُوقَ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ { أَنَّ ثَابِتَ بْنَ الدَّحْدَاحِ لَمَّا مَاتَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَهْلِ قَبِيلَتِهِ هَلْ تَعْرِفُونَ لَهُ فِيكُمْ نَسَبًا قَالُوا لَا إلَّا أَنَّ ابْنَ أُخْتٍ لَهُ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِيرَاثَهُ لِأَبْنِ أُخْتِهِ ابْنِ لُبَانَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُنْذِرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ } فَقَدْ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ لَهُ فِيهِمْ وَارِثًا وَنَسَبًا وَلَمْ يُكَلِّفْهُمْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ .

وَلَوْ ادَّعَى رَجُلَانِ وَلَاءَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً أَنَّهُ أَعْتَقَهُ وَهُوَ يَمْلِكُهُ وَلَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ جَعَلْت الْوَلَاءَ بَيْنَهُمَا وَالْمِيرَاثَ ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْوَلَاءُ إمَّا أَنْ يُعْتَبَرَ بِالنَّسَبِ وَلَوْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ عَلَى نَسَبِهِ كَانَ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي النَّسَبِ ، أَوْ يُجْعَلَ الْوَلَاءُ كَالْمِلْكِ ؛ لِأَنَّهُ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْمِلْكِ .
وَإِذَا اسْتَوَيَا فِي إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْمِلْكِ يُقْضَى بِالْمِلْكِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا بَيِّنَةً قَبْلَ صَاحِبِهِ وَقَضَيْت لَهُ ، ثُمَّ أَقَامَ الْآخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ بَيِّنَةً لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ وَلَمْ يُشَارِكْ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْضَ وَالْفَسْخَ وَلَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ مِنْ شَخْصٍ إلَى شَخْصٍ ، ثُمَّ فِي النَّسَبِ إذَا تَرَجَّحَتْ الْبَيِّنَةُ الْأُولَى بِالْقَضَاءِ لَمْ تُقْبَلْ الثَّانِيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ .
فَكَذَلِكَ فِي الْوَلَاءِ .

وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَ أُمَّهُ ، ثُمَّ وَلَدَتْ بَعْدَ الْعِتْقِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ فُلَانٍ وَهُوَ عَبْدٌ لِفُلَانٍ فَقَضَى الْقَاضِي لَهُ بِالْوَلَاءِ ، ثُمَّ جَاءَ مَوْلَى الْعَبْدِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ أَعْتَقَ أَبَاهُ فُلَانًا قَبْلَ مَوْتِهِ وَهُوَ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرَهُ جَعَلْت لَهُ الْمِيرَاثَ وَالْوَلَاءَ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَلَوْ عَايَنَا ذَلِكَ حَكَمْنَا بِجَرِّ الْوَلَاءِ إلَى قَوْمِ الْأَبِ .
فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الْبَيِّنَةِ إبْطَالُ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ الْقَضَاءَ الْأَوَّلَ كَانَ قَضَاءً بِالْوَلَاءِ لِمُعْتَقِ الْأُمِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا وَلَاءَ لَهُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ وَهُوَ صَحِيحٌ ، ثُمَّ بَقِيَ ذَلِكَ الْوَلَاءُ عِنْدَ الْمَوْتِ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ الْمُحَوَّلِ لَا لِوُجُودِ الدَّلِيلِ الْمَنْفِيِّ .
فَإِذَا أَثْبَتَ الثَّانِي الدَّلِيلَ الْمُحَوَّلَ بِبَيِّنَتِهِ وَجَبَ الْقَضَاءُ بِالْوَلَاءِ وَالْمِيرَاثِ لَهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ الْبَيِّنَةُ الثَّانِيَةُ تَقُومُ لِإِبْطَالِ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ الْأُولَى يَتَرَجَّحُ بِالْقَضَاءِ فَإِنَّ نَقْضَ الْقَضَاءُ بِدَلِيلٍ مُحْتَمَلٍ لَا يَجُوزُ

وَإِذَا شَهِدَا عَلَى مَوْتِ رَجُلٍ وَأَقَرَّ أَنَّهُمَا لَمْ يُعَايِنَا ذَلِكَ لَمْ تَجُزْ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَشْهُورَ الْمَوْتِ ؛ لِأَنَّهُ إذْ لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا وَأَقَرَّ أَنَّهُمَا لَمْ يُعَانِيَا فَقَدْ أَقَرَّ أَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ بِغَيْرِ عِلْمٍ .
وَإِذَا كَانَ مَشْهُورَ الْمَوْتِ فَإِنَّمَا يَشْهَدَانِ بِمَا يَعْلَمَانِهِ بِالشُّهْرَةِ ، وَإِنْ قَالَا نَشْهَدُ بِأَنَّهُ مَاتَ أَجَزْت ذَلِكَ وَإِلَّا اسْتَفْسَرَهُمَا ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الشَّهَادَةِ يَجِبُ حَمْلُهَا عَلَى سَبَبٍ صَحِيحٍ كَمَا لَوْ شَهِدَ بِمُطْلَقِ الْمِلْكِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا وَلَا يَسْتَفْسِرَانِ أَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ بِذَلِكَ بِظَاهِرِ الْيَدِ ، أَوْ غَيْرِهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ نَحْنُ دَفَنَّاهُ ، أَوْ شَهِدْنَا جِنَازَتَهُ فَهَذَا مِنْهُمَا شَهَادَةٌ بِمَوْتِهِ ؛ لِأَنَّ الْحَيَّ لَا يُدْفَنُ وَلَا يُصَلَّى عَلَى جِنَازَتِهِ .
وَإِذَا أَخْبَرَ الرَّجُلُ الْمَدْيُونُ بِهِ ، أَوْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ عَايَنَ مَوْتَ فُلَانٍ فَاَلَّذِي انْتَهَى إلَيْهِ الْخَبَرُ فِي سَعَةِ مَنْ يَشْهَدُ عَلَى مَوْتِهِ قِيلَ مَعْنَى هَذَا إذَا اشْتَهَرَ عِنْدَ النَّاسِ حَتَّى سَمِعَهُ الشَّاهِدُ مِنْ وَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ .
فَأَمَّا إذَا لَمْ يَسْمَعْهُ إلَّا مِنْ هَذَا الْوَاحِدِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْهَدَ بِمَوْتِهِ كَمَا فِي النَّسَبِ وَالنِّكَاحِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَقِيلَ بَلْ فِي الْمَوْتِ يَسَعُهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْمُخْبِرُ ثِقَةً مَوْثُوقًا بِهِ ؛ لِأَنَّ أَمْرَ النَّاسِ هَكَذَا يَكُونُ فَالْمَيِّتُ إنَّمَا يُعَايِنُهُ مَنْ يُغَسِّلُهُ ، ثُمَّ يُخْبِرُ النَّاسَ بِذَلِكَ فَيَعْتَمِدُونَ خَبَرَهُ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ صَادِقٌ فِي مَقَالَتِهِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ هَذَا الْخَبَرَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى مَوْتِهِ .
وَإِذَا جَاءَ مَوْتُ الرَّجُلِ مِنْ أَرْضٍ أُخْرَى فَصَنَعَ أَهْلُهُ مَا يَصْنَعُونَ عَلَى الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ لَا يَسَعُ أَحَدٌ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى مَوْتِهِ حَتَّى يُخْبِرَ بِهِ مَنْ شَهِدَهُ مِمَّنْ يَثِقُ بِهِ ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الْخَبَرِ قَدْ يَكُونُ حَقًّا ، وَقَدْ يَكُونُ بَاطِلًا وَالْغَالِبُ عِنْدَ بُعْدِ الْمَسَافَةِ أَنَّهُ بَاطِلٌ فَلَا

يَعْتَمِدُهُ حَتَّى يُخْبِرَهُ مَنْ يَثِقُ بِهِ عَنْ مُعَايَنَةٍ .
فَإِذَا أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ مَاتَ مَيِّتٌ فَأُخْرِجَتْ جِنَازَتُهُ حَتَّى يُدْفَنَ وَسِعَ الْجِيرَانُ أَنْ يَشْهَدُوا بِمَوْتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُعَايِنُوا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمْ سَمِعُوا ذَلِكَ مِمَّا عَايَنَ .
وَإِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً نِكَاحًا ظَاهِرًا وَدَخَلَ بِهَا عَلَانِيَةً وَأَقَامَ مَعَهَا أَيَّامًا ، ثُمَّ مَاتَتْ فَإِنَّهُ يَسَعُ الْجِيرَانَ أَنْ يَشْهَدُوا عَلَى أَنَّهَا امْرَأَتُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا النِّكَاحَ ؛ لِأَنَّهُ اقْتَرَنَ بِالنِّكَاحِ مَا أَوْجَبَ تَشْهِيرَهُ أَرَأَيْت لَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ أَمَا كَانَ يَسَعُهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ وَلَدُهُمَا ، وَإِنْ لَمْ يُعَايِنُوا الْوِلَادَةَ .
فَإِذَا كَانَ يَجُوزُ هَذَا فِيمَا يَنْبَنِي عَلَى النِّكَاحِ .
فَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ .

وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ فُلَانًا مَاتَ وَتَرَكَ هَذِهِ الدَّارَ مِيرَاثًا لِفُلَانٍ ابْنِهِ هَذَا لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ وَلَمْ يُدْرِكُوا فُلَانًا الْمَيِّتَ فَشَهَادَتُهُمْ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ بِالْمِلْكِ لِلْمَيِّتِ فَإِنَّ الْوِرَاثَةَ خِلَافَةٌ فَمَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لِلْمَيِّتِ لَا يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِيهِ وَلَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْمِلْكِ بِالتَّسَامُعِ .
وَإِذَا كَانَ الْقَاضِي يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَمْ يُدْرِكُوا فُلَانًا الْمَيِّتَ فَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُمْ جَازَفُوا فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ وَبِهَذَا يَسْتَدِلُّ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي مَسْأَلَةِ الْوَلَاءِ فَيَقُولَانِ إنَّ الْوَلَاءَ بِالْعِتْقِ لَا يَثْبُتُ لِلْعِتْقِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَالِكًا فَهُمْ يَشْهَدُونَ بِالْمِلْكِ لَهُ أَوَّلًا وَلَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْمِلْكِ بِالتَّسَامُعِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ كَثِيرٌ مِنْ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي الْوَقْفِ إنَّ الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ بِالتَّسَامُعِ مِمَّنْ لَا يُدْرِكُ الْوَاقِفَ لَا تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لِلْوَاقِفِ لَا يَثْبُتُ الْوَقْفُ مِنْ جِهَتِهِ وَالشَّهَادَةُ عَلَى الْمِلْكِ بِالتَّسَامُعِ لَا تَجُوزُ إلَّا أَنَّ أَكْثَرَهُمْ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ فِي الْوَقْفِ اسْتِحْسَانًا لِلضَّرُورَةِ الدَّاعِيَةِ إلَى ذَلِكَ وَتَحْقِيقِ مَقْصُودِ الْوَاقِفِ وَهُوَ التَّأْبِيدُ فِي صَدَقَتِهِ .

وَلَوْ شَهِدُوا عَلَى دَارٍ فِي يَدَيْ رَجُلٍ أَنَّهَا دَارُ جَدِّ هَذَا الْمُدَّعِي وَخِطَّتُهُ ، وَقَدْ أَدْرَكُوا الْحَدَّ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا حَتَّى يُجِيزُوا الْمَوَارِيثَ ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ سَبَبِ انْتِقَالِ الْمِلْكِ إلَيْهِ مِنْ الْجَدِّ وَبِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْجَدِّ لَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ وَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ لَهُ حَتَّى يُجِيزُوا الْمَوَارِيثَ ، وَلَوْ شَهِدَ عَلَى إقْرَارِ الَّذِي فِي يَدَيْهِ أَنَّهَا دَارُ جَدِّ هَذَا أَجَزْت ذَلِكَ وَجَعَلْتهَا لَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ مِنْ إقْرَارِهِ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ الْقَضَاءُ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّهَا لَا تُوجِبُ شَيْئًا إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ إلَّا بِسَبَبٍ ثَابِتٍ عِنْدَهُ .
وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى أَنَّهُمْ إذَا شَهِدُوا أَنَّهَا كَانَتْ لِابْنِهِ ، وَقَدْ مَاتَ أَبُوهُ لَا يُقْضَى لَهُ بِشَيْءٍ إلَّا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِ ذِي الْيَدِ بِأَنَّهَا كَانَتْ لِابْنِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا أَنَّهَا كَانَتْ مِنْ يَدِ الْمُدَّعِي لَا يَسْتَحِقُّ بِهَذَا شَيْئًا بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِ ذِي الْيَدِ أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ الْمُدَّعِي ، وَفِي الْكِتَابِ أَشَارَ إلَى الْفَرْقِ .
وَقَالَ إذَا أَقَرَّ ذُو الْيَدِ بِهَذَا فَقَدْ أَخْرَجَهَا مِنْ نَصِيبِهِ فَيُخْرِجُهَا مِنْ يَدِهِ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِبَيِّنَةٍ بِحَقٍّ لَهُ فِيهَا .
وَإِذَا أَخْرَجْنَاهَا مِنْ يَدِهِ فَلَا مُسْتَحَقَّ لَهَا سِوَى الْمُدَّعِي فَتُدْفَعَ إلَيْهِ .
وَإِذَا شَهِدَ الشُّهُودُ بِغَيْرِ إقْرَارٍ فَهُمْ لَمْ يُثْبِتُوا لِلْمُدَّعِي شَيْئًا إذَا لَمْ يُجِيزُوا الْمَوَارِيثَ إلَيْهِ ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ وَالشَّهَادَةُ لَا تُوجِبُ شَيْئًا بِدُونِ قَضَاءِ الْقَاضِي

وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ ابْنُ أَخِيهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا دَارُ جَدِّهِ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لِابْنِ الِابْنِ وَعَمِّهِ وَلَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُمَا ، وَإِنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَتَرَكَ نَصِيبَهُ مِنْهَا مِيرَاثًا لَهُ لَا يَعْلَمُونَ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ ، وَإِنْ أَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَخَاهُ مَاتَ قَبْلَ أَبِيهِ ، وَإِنَّ أَبَاهُ قَدْ وَرِثَ مِنْهُ السُّدُسَ ، ثُمَّ مَاتَ أَبُوهُ فَوَرِثَهُ هَذَا فَإِنِّي أَقْبَلُ شَهَادَةَ شُهُودِ ابْنِ الْأَخِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُدَّعِي وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ هُوَ يُثْبِتُ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ فِي نِصْفِ الدَّارِ بِبَيِّنَتِهِ وَذُو الْيَدِ لَا يُثْبِتُ لِنَفْسِهِ شَيْئًا عَلَيْهِ ، وَلَكِنْ يَبْقَى بِبَيِّنَتِهِ مَا أَثْبَتَ هُوَ مِنْ نِصْفِ الدَّارِ لِنَفْسِهِ وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِثْبَاتِ لَا لِلنَّفْيِ .
يُوَضِّحُهُ أَنَّا إذَا قَبِلْنَا بَيِّنَةَ ابْنِ الْأَخِ صَارَ ذُو الْيَدِ بِهَا مَقْضِيًّا عَلَيْهِ فِي نِصْفِ الدَّارِ .
وَإِذَا قَبِلْنَا بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ لَا يَصِيرُ ابْنُ الْأَخِ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ وَالْقَضَاءُ يَسْتَدْعِي مَقْضِيًّا عَلَيْهِ وَكَانَتْ بَيِّنَةُ ابْنِ الْأَخِ أَوْلَى بِذَلِكَ فَإِنْ كَانَ لِأَبٍ الْغُلَامِ مِيرَاثٌ مِنْ تَرِكَةٍ سِوَى الدَّارِ لَمْ أَقْبَلْ بَيِّنَةَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُنَا يُثْبِتُ لِنَفْسِهِ بِبَيِّنَتِهِ شَيْئًا فِي يَدِ ابْنِ الْأَخِ وَهُوَ نِصْفُ الدَّارِ وَالْآخَرُ سُدُسُ تَرِكَةِ أَخِيهِ الَّتِي كَانَتْ فِي يَدِ أَبِيهِ بِطَرِيقِ الْمِيرَاثِ لَهُ مِنْ أَبِيهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِيرُ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ لَوْ قَبِلْنَا بَيِّنَةَ صَاحِبِهِ عَلَيْهِ فَاسْتَوَيَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَالْأَصْلُ أَنَّ كُلَّ أَمْرَيْنِ ظَهَرَا وَلَا يُعْرَفُ التَّارِيخُ بَيْنَهُمَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا وَقَعَا مَعًا .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْأَبَ وَالِابْنَ إذَا غَرِقَا جَمِيعًا فِي سَفِينَةٍ أَوْ وَقَعَ عَلَيْهِمَا بَيْتٌ وَلَا يُعْلَمُ أَيُّهُمَا مَاتَ أَوَّلًا لَمْ يَرِثْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ .
فَكَذَلِكَ هُنَا لَمَّا تَحَقَّقَتْ الْمُسَاوَاةُ

بَيْنَهُمَا فِي التَّارِيخِ جُعِلَا كَأَنَّهُمَا مَاتَا مَعًا فَيَكُونُ مِيرَاثُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِابْنِهِ فَلَا يَرِثُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ .

وَلَوْ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِيرَاثِ رَجُلٍ أَنَّهُ مَاتَ يَوْمَ كَذَا وَهُوَ ابْنُهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرَهُ وَأَقَامَتْ امْرَأَةٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا يَوْمَ كَذَا بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ ، ثُمَّ مَاتَ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنِّي آخُذُ بِبَيِّنَةِ الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْمَهْرَ وَالْمِيرَاثَ فَلَا بُدَّ مِنْ قَبُولِ بَيِّنَتِهَا عَلَى ذَلِكَ طَاعِنَةً فِي بَيِّنَةِ الِابْنِ عَلَى تَارِيخِ الْمَوْتِ فَمِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِحَيَاتِهِ ، وَلَوْ أَقَامَتْ امْرَأَةٌ أُخْرَى الْبَيِّنَةَ بَعْد مَا قَضَيْت بِمَوْتِهِ فِي يَوْمٍ وَوَرِثَتْ امْرَأَتُهُ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي ذَكَرُوا فِيهِ مَوْتَهُ قَبِلْت ذَلِكَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأُخْرَى مُدَّعِيَةٌ مُثْبِتَةٌ الْمَهْرَ وَالْمِيرَاثَ لِنَفْسِهَا ، ثُمَّ بَيَّنَتْهَا طَاعِنَةً فِي الْبَيِّنَةِ الْأُخْرَى عَلَى تَارِيخِ الْمَوْتِ وَلَوْ كَانَ الْوَارِثُ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ فُلَانًا قَتَلَ أَبَاهُ يَوْمَ كَذَا قَضَيْت بِذَلِكَ ، ثُمَّ أَقَامَتْ الْمَرْأَةُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ ، ثُمَّ الْتَفَتَ إلَى بَيِّنَتِهَا قَالَ ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ حَقٌّ لَازِمٌ وَالْمَوْتَ لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ لَازِمٌ .
وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الِابْنَ بِإِثْبَاتِ فِعْلِ الْقَتْلِ عَلَى الْقَاتِلِ يَثْبُتُ لِنَفْسِهِ مُوجِبُهُ مِنْ قِصَاصٍ ، أَوْ دِيَةٍ فَكَانَتْ بَيِّنَتُهُ مُثْبِتَةً وَبَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّكَاحِ أَيْضًا مُثْبِتَةٌ لِلْمَهْرِ وَالْمِيرَاثِ لَهَا فَلَمَّا اسْتَوَيَا فِي الْإِثْبَاتِ وَتَرَجَّحَتْ بَيِّنَةُ الِابْنِ بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ النَّافِذَ لَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ .
فَأَمَّا فِي الْمَوْتِ الِابْنُ لَا يُثْبِتُ لِنَفْسِهِ فِي إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى تَارِيخِ الْمَوْتِ حَقًّا فَإِنَّ الْمِيرَاثَ مُسْتَحَقٌّ لَهُ بِالْمَوْتِ لَا بِالتَّارِيخِ فَإِنَّمَا بَقِيَ هُوَ بِتِلْكَ الْبَيِّنَةِ النِّكَاحُ بَعْدَهُ وَبَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ

تَثْبُتُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ النَّافِيَ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ لَا يُعَارِضُ الْمُثْبَتَ فَيَتَرَجَّحُ بَيِّنَتُهَا وَيَتَبَيَّنُ بِهِ بُطْلَانُ الطَّلَاقِ الْأَوَّلِ كَمَا إذَا أَثْبَتَتْ سَبَبَ إرْثٍ مُقَدَّمٍ عَلَى مَا قَضَى الْقَاضِي بِهِ .
يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ الْقَتْلَ فِعْلٌ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ شَرْعًا وَالْفِعْلُ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْعَبْدِ إلَّا فِي زَمَانٍ فَكَانَ الِابْنُ مُتَمَكِّنًا مِنْ إثْبَاتِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ بِالْبَيِّنَةِ لِإِثْبَاتِ حُكْمِهِ .
فَأَمَّا الْمَوْتُ لَيْسَ بِفِعْلٍ مِنْ الْعَبْدِ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ لِيَتَمَكَّنَ الِابْنُ مِنْ إثْبَاتِهِ فِي زَمَانٍ بِالْبَيِّنَةِ ، وَإِنَّمَا يُمَكِّنُهُ مِنْ إثْبَاتِ الْخِلَافَةِ لِنَفْسِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَفِي ذَلِكَ لَا فَرْقَ بَيْنَ مَوْتِهِ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ ، ثُمَّ الْأَصْلُ أَنَّ بَعْدَ الْمُسَاوَاةِ فِي الْإِثْبَاتِ إذَا تَيَقَّنَ الْقَاضِي بِالْكَذِبِ فِي إحْدَى الْبَيِّنَتَيْنِ ، وَقَدْ اتَّصَلَ الْقَضَاءُ بِأَحَدِهِمَا فَإِنَّهُ يُعَيِّنُ الْكَذِبَ فِي الْأُخْرَى .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ تَزَوَّجَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِلْكِهِ فَقَضَى الْقَاضِي بِهَا ، ثُمَّ شَهِدَ شَاهِدَانِ آخَرَانِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ هَذِهِ الْأُخْرَى يَوْمَ النَّحْرِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِخُرَاسَانَ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ الثَّانِيَةُ ؛ لِأَنَّا نَتَيَقَّنُ بِكَذِبِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ ، وَقَدْ تَرَجَّحَ جَانِبُ الصِّدْقِ فِي الْبَيِّنَةِ الْأُولَى بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا فَيَتَعَيَّنُ الْكَذِبُ فِي الْبَيِّنَةِ الثَّانِيَةِ .
فَكَذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ مَسْأَلَةِ الْقَتْلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ طَعْنِ الْخَصْمِ فِي الشَّاهِدِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ أَنَّ لِرَجُلٍ حَقًّا مِنْ الْحُقُوقِ فَقَالَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ هُمَا عَبْدَانِ فَإِنِّي لَا أَقْبَلُ شَهَادَتَهُمَا حَتَّى أَعْلَمَ أَنَّهُمَا حُرَّانِ ) ؛ لِأَنَّ النَّاسَ أَحْرَارٌ إلَّا فِي أَرْبَعَةٍ الشَّهَادَةِ وَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَالْعَقْلِ كَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَتَفْسِيرُهُ فِي الشَّهَادَةِ هَذَا ، وَفِي الْحَيِّ إذَا قَذَفَ إنْسَانٌ ، ثُمَّ زَعَمَ الْقَاذِفُ أَنَّ الْمَقْذُوفَ عَبْدٌ فَإِنَّهُ لَا يُحَدُّ الْقَاذِفُ حَتَّى يُثْبِتَ الْمَقْذُوفُ حُرِّيَّتَهُ بِالْحُجَّةِ ، وَفِي الْقِصَاصِ إذَا قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ ، ثُمَّ زَعَمَ الْقَاطِعُ أَنَّ الْمَقْطُوعَةَ يَدُ عَبْدٍ فَإِنَّهُ لَا يُقْضَى بِالْقِصَاصِ حَتَّى يُثْبِتَ حُرِّيَّتَهُ بِالْحُجَّةِ ، وَفِي الْقَتْلِ إذَا قَتَلَ إنْسَانٌ خَطَأً وَزَعَمَتْ الْعَاقِلَةُ أَنَّهُ عَبْدُ فُلَانٍ فَإِنَّهُ لَا يَقْضِي عَلَيْهِمْ بِالدِّيَةِ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى حُرِّيَّتِهِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُرِّيَّةِ لِكُلِّ أَحَدٍ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ إمَّا ؛ لِأَنَّ الدَّارَ دَارُ حُرِّيَّةٍ أَوْ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّاسِ الْحُرِّيَّةُ فَإِنَّهُمْ أَوْلَادُ آدَمَ وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ، وَقَدْ كَانَ حُرَّيْنِ إلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ يَدْفَعُ بِهِ الِاسْتِحْقَاقَ ، وَلَكِنْ لَا يَثْبُتُ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ لَهُ وَيُقَالُ مَا عُرِفَ ثُبُوتُهُ لَيْسَ بِدَلِيلٍ مَنْفِيٍّ بَلْ لِعَدَمِ الدَّلِيلِ الْمُزِيلِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ ظَاهِرَ الْيَد يُدْفَعُ بِهِ اسْتِحْقَاقَ الْمُدَّعِي وَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ حَتَّى إذَا كَانَتْ فِي يَدِهِ جَارِيَةٌ وَلَهَا وَلَدٌ فِي يَدِ غَيْرِهِ لَا يَسْتَحِقُّ وَلَدَهَا بِاعْتِبَارِ يَدِهِ فِيهَا إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ فِي الشَّهَادَةِ إثْبَاتُ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِقَوْلِ الشَّاهِدِ الظَّاهِرِ وَلَا يَكْفِي لِذَلِكَ .
وَكَذَلِكَ فِي الْقَذْفِ إلْزَامُ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ فِي الْقِصَاصِ وَإِيجَابُ الْعُقُوبَةِ عَلَى

الْقَاطِعِ ، وَفِي الْعَقْلِ إيجَابُ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْحُرِّيَّةِ فَمَا لَمْ تَثْبُتْ الْحُرِّيَّةُ بِالْحُجَّةِ لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ قَالَ الشُّهُودُ نَحْنُ أَحْرَارٌ لَمْ نُمَلَّكْ قَطُّ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُمَا حَتَّى يَأْتِيَا بِالْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا .
فَأَمَّا فِي قَوْلِهِمَا إنَّا أَحْرَارٌ لَمْ نُمَلَّكْ مُصَدَّقَانِ فِي حَقِّهِمَا بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ ، وَلَكِنْ لَا نَقْضِي بِشَهَادَتِهِمَا حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى حُرِّيَّتِهِمَا ، وَإِنْ سَأَلَ الْقَاضِي عَنْهُمَا فَأَخْبَرَ أَنَّهُمَا حُرَّانِ فَقَبِلَ ذَلِكَ وَأَجَازَ شَهَادَتَهُمَا كَانَ حَسَنًا ؛ لِأَنَّ حُرِّيَّتَهُمَا مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَعْمَلُ شَهَادَتُهُمَا إلَّا بِهَا بِمَنْزِلَةِ الْعَدَالَةِ فَكَمَا أَنَّ الْعَدَالَةَ تَصِيرُ مَعْلُومَةً عِنْدَ الْقَاضِي بِهَذَا الطَّرِيقِ .
فَكَذَلِكَ الْحُرِّيَّةُ قَالَ وَالْبَابُ الْأَوَّلُ أَحَبُّ إلَيَّ وَأَحْسَنُ يَعْنِي الْإِثْبَاتُ بِالْبَيِّنَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَهْلِيَّةَ لِلشَّهَادَةِ لَا تَثْبُتُ بِدُونِ الْحُرِّيَّةِ وَتَثْبُتُ بِدُونِ الْعَدَالَةِ ، وَلِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ وَالرِّقَّ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ تَجْرِي فِيهِمَا الْخُصُومَةُ وَطَرِيقُ الْإِثْبَاتِ فِي مِثْلِهِ الْبَيِّنَةُ .
.
فَأَمَّا الْعَدَالَةُ لَا تَجْرِي فِيهَا الْخُصُومَةُ فَيُمْكِنُ مَعْرِفَتُهَا بِالسُّؤَالِ عَنْ حَالِهِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحُرِّيَّةَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ أَخَذَتْ شَبَهَيْنِ مِنْ أَصْلَيْنِ مِنْ الْعَدَالَةِ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَسْبَابِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ وَمِنْ الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَجْرِي فِيهَا الْخُصُومَةُ ، وَفِيهَا حَقُّ الْعِبَادِ فَيُوَفَّرُ حَظُّهُ عَلَيْهِمَا فَلِشَبَهِهَا بِالْعَدَالَةِ تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالسُّؤَالِ وَلِشَبَهِهَا بِالْمِلْكِ تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِالْبَيِّنَةِ ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَقْوَى وَأَحْسَنُ ؛ لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ تَصِيرُ مَقْضِيًّا بِهَا ، وَلَوْ قَالَا قَدْ كُنَّا عَبْدَيْنِ فَأَعْتَقَنَا الْمَوْلَى لَمْ نُصَدِّقْهُمَا إلَّا بِبَيِّنَةٍ ؛ لِأَنَّ

الْمِلْكَ يَثْبُتُ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِمَا بِإِقْرَارِهِمَا وَإِزَالَةُ الْمِلْكِ الثَّابِتِ لَا يَكُونُ إلَّا بِحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ فَإِنْ جَاءَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ قَبِلْت ذَلِكَ وَأَعْتَقَهُمَا ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى غَائِبًا ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ انْتَصَبَ خَصْمًا عَنْ الْمَوْلَى فَإِنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِ الْمَشْهُودِ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ إلَّا بِإِنْكَارِ حُرِّيَّتِهِمَا .
وَالْأَصْلُ أَنَّ حَقَّ الْحَاضِرِ مَتَى كَانَ مُتَّصِلًا بِحَقِّ الْغَائِبِ فَإِنَّ الْحَاضِرَ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ وَمَتَى قَضَى الْقَاضِي بِالْبَيِّنَةِ عَلَى خَصْمٍ حَاضِرٍ فَذَلِكَ قَضَاءٌ عَلَى مَنْ انْتَصَبَ لِهَذَا الْحَاضِرِ خَصْمًا عَنْهُ .
فَإِذَا جَاءَ الْمَوْلَى ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى إنْكَارِهِ وَكَانَ مِنْ الْقَضَاءِ بِالْعِتْقِ مَاضِيًا ؛ لِأَنَّ الْحَاضِرَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ عَنْ الْغَائِبِ ، وَهَذَا عِنْدَنَا .
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَقْضِي بِالْعِتْقِ حَتَّى يَحْضُرَ الْمَوْلَى وَيُقَامَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَقَ مُدَّعًى عَلَيْهِ وَاسْتَدَلَّ عَلَى زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِمَا قَالَ أَرَأَيْت لَوْ ادَّعَى قَتْلَ رَجُلٍ أَنَّهُ قَطَعَ يَدَهُ عَمْدًا ، أَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ قَذْفًا وَمِيرَاثًا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ ، وَأَنَّ هَذَا قَطَعَ يَدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، أَوْ قَدَمَهُ أَلَمْ أَحْكُمْ عَلَيْهِ بِمَا حَكَمَ بِهِ الْحُرُّ عَلَى الْحُرِّ فَيَكُونُ ذَلِكَ قَضَاءٌ عَلَى مَوْلَاهُ ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ عَلَى عَبْدٍ أَنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ ، وَأَنَّهُ قَطَعَ يَدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَوْ اسْتَدَانَ مِنْهُ دَيْنًا ، أَوْ بَاعَهُ أَجَزْت ذَلِكَ ، وَإِنْ جَاءَ الْمَوْلَى فَأَنْكَرَ عِتْقَهُ لَمْ أُكَلِّفْهُ إعَادَةَ الْبَيِّنَةِ وَزُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَا كُلِّهِ مُخَالِفٌ إلَّا أَنَّ مِنْ عَادَةِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الِاسْتِشْهَادَ بِالْمُخْتَلِفِ عَلَى الْمُخْتَلِفِ لِإِيضَاحِ الْكَلَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ الشَّهَادَةِ فِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ شِرَاءَ دَارٍ فِي يَدِ رَجُلٍ وَشَهِدَ شَاهِدَانِ ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّيَا الثَّمَنَ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُ ذَلِكَ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ ) ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى إنْ كَانَتْ بِصِفَةِ الشَّهَادَةِ فَهِيَ فَاسِدَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ مَعَ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ فَالشُّهُودُ لَمْ تَشْهَدْ بِمَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي ، ثُمَّ الْقَاضِي يَحْتَاجُ إلَى الْقَضَاءِ بِالْعَقْدِ وَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِالْعَقْدِ إذَا لَمْ يَكُنْ الثَّمَنُ مُسَمًّى ؛ لِأَنَّهُ كَمَا لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ ابْتِدَاءً بِدُونِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ .
فَكَذَلِكَ لَا يَظْهَرُ بِالْقَضَاءِ بِدُونِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْضِيَ بِالثَّمَنِ حِينَ لَمْ تَشْهَدْ بِهِ الشُّهُودُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ سَمَّى الثَّمَنَ وَاخْتَلَفَا فِي جِنْسِهِ ، أَوْ فِي مِقْدَارِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يُكَذِّبَ أَحَدَهُمَا لَا مَحَالَةَ ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَشْهَدُ بِعَقْدٍ غَيْرِ مَا يَشْهَدُ بِهِ صَاحِبُهُ فَالْبَيْعُ بِالدَّنَانِيرِ غَيْرُ الْبَيْعِ بِالدَّرَاهِمِ وَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِوَاحِدٍ مِنْ الْعَقْدَيْنِ لِانْعِدَامِ شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْبَيْعِ بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِالْبَيْعِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الْبَائِعُ هُوَ الْمُدَّعِي لِلْبَيْعِ ، أَوْ الشِّرَاءِ ، وَفِي الْخُلْعِ إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي تَدَّعِي .
فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ ؛ لِأَنَّهَا تُكَذِّبُ أَحَدَ الشَّاهِدَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُنَا الْمُدَّعِي فِي الْخُلْعِ فَشَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى أَلْفٍ وَالْآخِرُ عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فَشَهَادَتُهُمَا مَقْبُولَةٌ فِي مِقْدَارِ الْأَلْفِ ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بِإِقْرَارِ الزَّوْجِ ، وَهَذَا مِنْهُ دَعْوَى الدَّيْنِ عَلَيْهَا فِي الْحَاصِلِ ، وَقَدْ اتَّفَقَ الشَّاهِدَانِ عَلَى الْأَلْفِ لَفْظًا وَمَعْنًى .

وَفِي النِّكَاحِ لَوْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُدَّعِي لِلْعَقْدِ فَالشَّهَادَةُ لَا تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ بِأَلْفٍ غَيْرُ النِّكَاحِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ وَالزَّوْجُ يُكَذِّبُ أَحَدَ شَاهِدَيْهِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي تَدَّعِي النِّكَاحَ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى مِقْدَارِ الْأَلْفِ ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهَا دَعْوَى الْمَالِ ، وَقَدْ اتَّفَقَ الشَّاهِدَانِ إلَى الْأَلْفِ لَفْظًا وَمَعْنًى كَمَا فِي الْخُلْعِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ مُعَاوَضَةُ الْمَرْأَةِ بِالْمَالِ كَالْبَيْعِ فَكَمَا أَنَّ اخْتِلَافَ الشَّاهِدَيْنِ فِي مِقْدَارِ الْبَدَلِ فِي الْبَيْعِ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ .
فَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَهُمَا وَهُوَ أَنَّ صِحَّةَ النِّكَاحِ تَسْتَغْنِي عَنْ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ الْمَالُ كَالزَّائِدِ فِي النِّكَاحِ وَدَعْوَاهَا فِيهِ دَعْوَى الدَّيْنِ وَتَمَامُ بَيَانِ هَذَا الْفَصْلِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ، وَإِنْ اتَّفَقَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ غَيْرَ أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي الْمَكَانِ وَالْوَقْتِ فِي الْبَيْعِ ، أَوْ فِي الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءِ فَشَهَادَتُهُمَا جَائِزَةٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا .

وَإِنْ شَهِدَا عَلَى إقْرَارِ الْبَائِعِ بِالْبَيْعِ وَلَمْ يُسَمِّيَا ثَمَنًا وَلَمْ يُشْهِدَا بِقَبْضِ الثَّمَنِ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ حَاجَةَ الْقَاضِي إلَى الْقَضَاءِ بِالْعَقْدِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ الثَّمَنُ مُسَمًّى ، وَإِنْ قَالَ أَقَرَّ عِنْدَنَا أَنَّهُ بَاعَهَا مِنْهُ وَاسْتَوْفَى الثَّمَنَ وَلَمْ يُسَمِّ الثَّمَنَ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْقَضَاءِ بِالْعَقْدِ بِالْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي دُونَ الْقَضَاءِ فَقَدْ انْتَهَى حُكْمُ الْعَقْدِ بِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ ، وَلِأَنَّ الْجَهَالَةَ إنَّمَا تُؤَثِّرُ ؛ لِأَنَّهَا تَقْضِي إلَى مُنَازَعَةٍ مَانِعَةٍ عَنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَى قَبْضِهِ فَجَهَالَتُهُ لَا تَضُرُّ وَهُوَ الْمُصَالَحُ عَنْهُ بِخِلَافِ مَا يَحْتَاجُ إلَى قَبْضِهِ وَهُوَ الْمُصَالَحُ عَلَيْهِ .
فَإِذَا أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ فَلَا حَاجَةَ هُنَا إلَى تَسْلِيمِ الثَّمَنِ فَجَهَالَتُهُ لَا تَمْنَعُ الْقَاضِيَ مِنْ الْقَضَاءِ بِحُكْمِ الْإِقْرَارِ .
وَإِذَا لَمْ يَقْبِضْ الثَّمَنَ لَا يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ تَسْلِيمُ الْبَيْعِ مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ الثَّمَنُ فَجَهَالَةُ الثَّمَنِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ تَمْنَعُ الْقَضَاءَ بِمُوجِبِ إقْرَارِهِ ، وَفِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا الثَّابِتُ مِنْ الْإِقْرَارِ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ ، وَلَوْ قَالَ بِعْتهَا مِنْهُ وَلَمْ اسْتَوْفِ الثَّمَنَ لَمْ يُؤْمَرْ بِتَسْلِيمِهَا إلَيْهِ ، وَلَوْ قَالَ بِعْتهَا مِنْهُ وَاسْتَوْفَيْت الثَّمَنَ أُمِرَ بِتَسْلِيمِهَا إلَيْهِ .
فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ .

وَإِذَا ادَّعَى شِرَاءَ دَارٍ وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ عَلَيْهَا غَيْرَ أَنَّهُمَا لَا يَعْرِفَانِ الدَّارَ وَالْحُدُودَ وَلَمْ يُسَمِّيَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ مَجْهُولٌ ، وَلِأَنَّ الْمُدَّعِيَ غَيْرُ الْمَشْهُودِ بِهِ فَالْمُدَّعَى شِرَاءُ دَارٍ مُعَيَّنَةٍ مَعْلُومَةٍ وَالْمَشْهُودُ بِهِ شِرَاءُ دَارٍ مَجْهُولَةٍ فَإِنْ قَالَا قَدْ سَمَّى الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي مَوْضِعَ الدَّارِ وَحَدَّدُوهَا ، ثُمَّ وَصَفُوا ذَلِكَ وَسَمَّوْهُ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِمَعْلُومٍ وَهُوَ الشِّرَاءُ فِي دَارٍ مَعْلُومَةٍ بِذِكْرِ الْحُدُودِ وَالْمَوْضِعُ غَيْر أَنِّي أَسْأَلُ الْمُدَّعِيَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا سَمَّى الشُّهُودُ مِنْ مَوْضِعِ الدَّارِ وَالْحُدُودِ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَقُولُ لِلْمُدَّعِي قَدْ يَثْبُتُ عِنْدِي أَنَّك اشْتَرَيْت مِنْهُ دَارًا حُدُودُهَا مَا سَمَّى الشُّهُودُ ، وَلَكِنْ لَا أَدْرِي أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ الْمُعَيَّنَةَ الَّتِي يَدَّعِيهَا هِيَ تِلْكَ الدَّارُ ، وَإِنَّ حُدُودَهَا مَا سَمَّى الشُّهُودُ فَثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدِي بِالْبَيِّنَةِ .
فَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ حِينَئِذٍ يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ لَهُ بِالْمُدَّعِي لَهُ بِالْبَيِّنَةِ السَّابِقَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَدَّدُوهَا بِثَلَاثَةِ حُدُودٍ فَقَدْ بَيَّنَّا فِي أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّ ذِكْرَ أَكْثَرِ الْحُدُودِ وَذِكْرَ الْجَمِيعِ عِنْدَنَا سَوَاءٌ اسْتِحْسَانًا ، وَإِنَّ الشُّهْرَةَ لَا تَقُومُ مَقَامَ ذِكْرِ الْحُدُودِ فِي الْعَقَارِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى الْبَائِعُ وَجَحَدَ الْمُشْتَرِي فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْقَضَاءِ بِالْعَقْدِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي هُوَ الْبَائِعُ ، أَوْ الْمُشْتَرِي .

دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ رَجُلٌ عَلَيْهَا شَاهِدَيْنِ أَنَّهَا دَارُهُ اشْتَرَاهَا مِنْ فُلَانٍ وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا دَارُهُ اشْتَرَاهَا مِنْ فُلَانٍ ذَلِكَ أَيْضًا فَهِيَ لِلَّذِي فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْمِلْكِ فِيهِمَا كَانَ لِلْبَائِعِ وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبَ انْتِقَالِ الْمِلْكِ إلَيْهِ وَسَبَبُ ذِي الْيَدِ أَقْوَى ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ مَعَ الْقَبْضِ أَقْوَى مِنْ الشِّرَاءِ بِدُونِ الْقَبْضِ ، وَلِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الْقَبْضِ دَلِيلٌ سَبَقَ عَقْدَهُ فَهُوَ أَوْلَى إلَّا أَنْ يُؤَرِّخَا وَتَارِيخُ الْخَارِجِ أَسْبَقُ فَحِينَئِذٍ يَقْضِي بِهَا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الشِّرَاءَ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ الْآخَرُ فِيهِ ، وَلَوْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ مِنْ رَجُلٍ آخَرَ قَضَيْت بِهَا لِلْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُنَا يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِبَائِعِهِ أَوَّلًا فَكَأَنَّ الْبَائِعَيْنِ حَضَرَا وَادَّعَيَا الْمِلْكَ الْمُطْلَقَ وَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ فِي ذَلِكَ أَوْلَى عِنْدَنَا .
فَأَمَّا فِي الْأَوَّلِ الْمِلْكُ ثَابِتٌ لِلْبَائِعِ بِتَصَادُقِهِمَا ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى إثْبَاتِ سَبَبِ الِانْتِقَالِ إلَيْهِ يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ هُنَاكَ الْخَارِجُ مُحْتَاجٌ إلَى إثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْبَائِعِ وَعَلَى ذِي الْيَدِ فِي تَثَبُّتِهِ مَا يَثْبُتُ لَهُ الِاسْتِحْقَاقُ عَلَى الْبَائِعِ ، وَلَيْسَ فِيهَا مَالٌ يُثْبِتُ الِاسْتِحْقَاقَ عَلَى ذِي الْيَدِ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ حَادِثٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ شِرَاءُ ذِي الْيَدِ سَابِقًا وَحَاجَةُ ذِي الْيَدِ إلَى إثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْبَائِعِ خَاصَّةً وَلَا حَاجَةَ لَهُ إلَى إثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لَهَا بِيَدٍ لَهُ فِيهَا ، وَفِي بَيِّنَتِهِ مَا يُثْبِتُ لَهُ ذَلِكَ .
فَأَمَّا هُنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ لِبَائِعِهِ أَوَّلًا لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ اسْتِحْقَاقُهُ بِالشِّرَاءِ ، وَفِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بَيِّنَةُ

الْخَارِجِ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ .

دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ ادَّعَاهَا رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَإِنْ وَقَّتَ أُخِذَ بِأَوَّلِ الْوَقْتَيْنِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ أَسْبَقِ التَّارِيخَيْنِ أَثْبَتَ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ بِالشِّرَاءِ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَالْآخَرُ بَيِّنَةٌ إنَّمَا أَثْبَتَ الشِّرَاءَ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ ، وَإِنْ وَقَّتَ أَحَدَ الْبَيِّنَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى فَهِيَ لِصَاحِبِ الْوَقْتِ ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ حَادِثٌ فَيُحَالُ بِحُدُوثِهِ عَلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ حَتَّى يُثْبِتَ سَبْقَ التَّارِيخِ فَاَلَّذِي لَمْ تُوَقِّتْ شُهُودُهُ إنَّمَا أَثْبَتَ شِرَاءَهُ فِي الْحَالِ وَصَاحِبُهُ أَثْبَتَ الشِّرَاءَ مِنْ حِينِ أَرَّخَتْ شُهُودُهُ فَهُوَ أَوْلَى إلَّا أَنْ تَكُونَ الدَّارُ فِي يَدِ الْآخَرِ فَهِيَ لِصَاحِبِ الْيَدِ حِينَئِذٍ ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَ ذِي الْيَدِ مِنْ الْقَبْضِ دَلِيلُ سَبْقِ عَقْدِهِ ، وَهَذَا دَلِيلٌ مُعَايِنٌ ، وَفِي حَقِّ الْآخَرِ التَّارِيخُ مُخْبَرٌ بِهِ ، وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ ، وَلِأَنَّ حَاجَةَ الْخَارِجِ إلَى إثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى ذِي الْيَدِ ، وَلَيْسَ فِي بَيِّنَتِهِ مَا يُوجِبُ ذَلِكَ ، وَإِنْ أَرَّخَتْ شُهُودُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ شِرَاءُ ذِي الْيَدِ سَابِقًا فَإِنْ لَمْ يُوَقِّتَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَهَا بِنِصْفِ الثَّمَنِ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ؛ لِأَنَّ اسْتِوَاءَ الْحُجَّتَيْنِ الْحُكْمُ هُوَ الْقَضَاءُ بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَقَدْ تَفَرَّقَتْ الصَّفْقَةُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَبِبَعْضِ الْمِلْكِ قَبْلَ الْبَعْضِ وَالتَّبْعِيضِ فِي الْأَمْلَاكِ الْمُجْتَمَعَةِ عِيبَ فَيُخَيَّرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنْ شَاءَ أَخَذَ نِصْفَهَا بِنِصْفِ الثَّمَنِ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا ابْنَ الْبَائِعِ ، أَوْ مُكَاتَبَهُ ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الشِّرَاءِ مِنْهُ هُوَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ .
فَكَذَلِكَ فِي دَعْوَى الشِّرَاءِ عَلَيْهِ .

دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ رَجُلُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ ذِي الْيَدِ وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ الْمُدَّعِي وَلَا يَدْرِي أَيُّ ذَلِكَ أَوَّلُ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِهَا لِذِي الْيَدِ وَتَبْطُلُ الْبَيِّنَتَانِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثْبَتَ إقْرَارَ صَاحِبِهِ بِالْمِلْكِ لَهُ فَكُلُّ مُشْتَرٍ مُقِرٌّ بِالْمِلْكِ لِبَائِعِهِ وَكُلُّ بَائِعٍ مُقِرٌّ بِوُقُوعِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي فَيُجْعَلُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ إقَامَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى إقْرَارِ صَاحِبِهِ بِالْمِلْكِ لَهُ وَهُنَا تَتَهَاتَرُ الْبَيِّنَتَانِ كَمَا لَوْ سَمِعْنَا الْإِقْرَارَ مِنْهُمَا مَعًا وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْمَسْأَلَةِ اخْتِلَافًا هُنَا ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ أَنَّ هَذَا قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فَإِنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقْضِي بِالْبَيِّنَتَيْنِ جَمِيعًا كَأَنَّ ذِي الْيَدِ اشْتَرَاهَا أَوَّلًا وَقَبَضَهَا ، ثُمَّ بَاعَهَا فَيُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِهَا إلَى الْخَارِجِ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْعَقْدَيْنِ مُمْكِنٌ بِهَذَا الطَّرِيقِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ بِفُرُوعِهَا فِي الْجَامِعِ قَالَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْقَاضِيَ قَضَى لَهُ بِهَذِهِ الدَّارِ عَلَى صَاحِبِهِ أَنَّهُ يَتْرُكُ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ وَتَتَهَاتَرُ الْبَيِّنَتَانِ إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فَيَقُولُ فِي الشِّرَاءِ إثْبَاتُ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْعَقْدَيْنِ مُمْكِنٌ بِاعْتِبَارِ الْيَدِ ؛ لِأَنِّي إنْ جَعَلْت شِرَاءَ ذِي الْيَدِ سَابِقًا جَازَ بَيْعُهُ بَعْدَ الْقَبْضِ ، وَإِنْ جَعَلْت شِرَاءَ الْخَارِجِ سَابِقًا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ مِنْ الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَمِثْلُ هَذَا التَّرْتِيبِ فِي الْقَضَاءِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ، وَلِأَنَّ الشِّرَاءَ يَتَأَكَّدُ بِالْقَبْضِ ؛ وَلِهَذَا يُسْتَفَادُ بِهِ مِلْكُ التَّصَرُّفِ الْعَقَارُ فِي ذَلِكَ وَالْمَنْقُولُ عِنْدِي سَوَاءٌ فَيَسْتَقِيمُ أَنْ يُجْعَلَ قَبْضُ ذِي الْيَدِ صَادِرًا عِنْدَ عَقْدِهِ ، أَوْ يَجْعَلَ ذَلِكَ دَلِيل سَبْقِ

عَقْدِهِ .
فَأَمَّا الْقَضَاءُ لَا يَتَأَكَّدُ بِالْقَبْضِ بَلْ مُتَأَكِّدٌ بِنَفْسِهِ فَتَتَحَقَّقُ فِيهِ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ .

دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ بَاعَهَا مِنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فِي رَمَضَانَ وَأَقَامَ فُلَانٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْهُ فِي شَوَّالٍ بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْعَقْدَيْنِ مُمْكِنٌ وَالْبَيِّنَاتُ حُجَجٌ فَعِنْدَ إمْكَانِ الْعَمَلِ بِهِمَا لَا يَجُوزُ إلْغَاءُ أَحَدِهِمَا فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ بَاعَهَا فِي رَمَضَانَ بِأَلْفٍ ، ثُمَّ بَاعَهَا فِي شَوَّالٍ بِخَمْسِمِائَةٍ فَيَكُونُ الْعَقْدُ الثَّانِي فَاسِخًا لِلْعَقْدِ الْأَوَّلِ وَلَوْ عَايَنَا الشِّرَاءَيْنِ كَانَ الشِّرَاءُ الثَّانِي فَاسِخًا لِلْأَوَّلِ وَالدَّارُ لَهُ بِالثَّمَنِ الثَّانِي وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ فُلَانٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ وَهَبَهَا لَهُ فِي شَوَّالٍ عَلَى أَنْ يُعَوِّضَهُ خَمْسَمِائَةٍ وَقَبَضَهَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ بَعْدَ التَّقَاضِي بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ فَهَذَا وَإِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ عَلَى الشِّرَاءِ فِي شَوَّالٍ بِخَمْسِمِائَةٍ سَوَاءٌ ، وَيَكُونُ الْعَقْدُ الثَّانِي فَاسِخًا لِلْأَوَّلِ ، وَلَوْ كَانَ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ارْتَهَنَهَا مِنْهُ فِي شَوَّالٍ بِخَمْسِمِائَةٍ أَمْضَيْت الْبَيْعَ بِأَلْفٍ فِي رَمَضَانَ وَقَضَيْت لَهُ مِنْ ذَلِكَ بِخَمْسِمِائَةٍ سَوَاءٌ الَّذِي أَثْبَتَ أَنَّهُ أَعْطَاهُ فِي شَوَّالٍ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيِّنَةُ الْمُرْتَهِنِ أَوْلَى وَالرَّهْنُ فِي شَوَّالٍ يَنْقُضُ دَعْوَى الْبَائِعِ الْبَيْعَ فِي رَمَضَانَ وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْمُرْتَهِنَ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ إقْرَارَ الرَّاهِنِ بِالرَّهْنِ مِنْهُ فِي شَوَّالٍ فَكَأَنَّا سَمِعْنَا مِنْهُ هَذَا الْإِقْرَارَ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ ، وَلَوْ أَقَرَّ هُوَ بِذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ دَعْوَى الْبَيْعِ فِي رَمَضَانَ لِلتَّنَاقُضِ فَالْبَائِعُ لَا يَرْهَنُ الْمَبِيعَ مِنْ الْمُشْتَرِي وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا الْبَيْعُ أَقْوَى مِنْ الرَّهْنِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي الْبَدَلَيْنِ وَالرَّهْنُ لَا

يُوجِبُ ذَلِكَ فَعِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِالْبَيِّنَتَيْنِ يَتَرَجَّحُ الْأَقْوَى وَهُوَ الْبَيْعُ وَكَمَا أَنَّ الْمُرْتَهِنَ أَثْبَتَ إقْرَارَ الرَّهْنِ بِالرَّهْنِ فَالْبَائِعُ أَثْبَتَ إقْرَارَ الْمُشْتَرِي بِالشِّرَاءِ مِنْهُ فِي رَمَضَانَ ، وَذَلِكَ يَمْنَعُهُ مِنْ دَعْوَى الرَّهْنِ فِي شَوَّالٍ فَلَمَّا وَقَعَ التَّعَارُضُ فِي هَذَا رَجَّحْنَا أَقْوَى الْحُجَّتَيْنِ وَهُوَ حُجَّةُ الْبَيْعِ ، وَفِي الْكِتَابِ ( قَالَ ) لَيْسَ الرَّهْنُ كَالْهِبَةِ بِالْعِوَضِ ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ بِالْعِوَضِ بَيْعٌ وَالرَّهْنَ لَيْسَ بِبَيْعٍ فَقَدْ يَرْهَنُك الرَّجُلُ دَارَك وَلَا يَبِيعُك دَارَك وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الرَّهْنَ دُونَ الْبَيْعِ فَلَا يَكُونُ نَاقِضًا لِلْبَيْعِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّا لَوْ عَايَنَّا الْعَقْدَيْنِ لَمْ يُنْتَقَضْ الْبَيْعُ بِالرَّهْنِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ قَدْ يَرْهَنُك دَارَك وَلَوْ عَايَنَّا الْبَيْعَيْنِ انْتَقَضَ الْأَوَّلُ بِالثَّانِي فَبِانْتِقَاضِ الْأَوَّلِ الدَّارُ تَعُودُ إلَى الْبَائِعِ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ لَا يَبِيعُك دَارَك .

دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ فَادَّعَاهَا رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا بِأَلْفٍ وَكَفَلَ عَنْهُ صَاحِبُهُ الْمُدَّعِي مَعَهُ فَإِنْ عَلِمَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا قَضَى لَهُ بِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَهَا بِنِصْفِ الْأَلْفِ إنْ شَاءَ لِاسْتِوَاءِ الْحُجَّتَيْنِ فَإِنْ أَخَذَاهَا فَالْكَفَالَةُ لَازِمَةٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُمَا لَيْسَا بِشَرِيكَيْنِ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ يَقْضِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ الدَّارِ بِشِرَاءٍ يُفْرَدُ هُوَ بِهِ بِلَا شَرِكَةٍ بَيْنَهُمَا فِي الْعَقْدِ ، وَلَوْ عَايَنَّا الشِّرَاءَيْنِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ بِشَرْطِ الْكَفَالَةِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ وَكَفَالَةُ صَاحِبِهِ لَهُ بِذَلِكَ كَانَتْ الْكَفَالَةُ لَازِمَةً .
فَكَذَلِكَ إذَا قَضَى بِذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ .

وَإِذَا أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ .
وَقَالَ ذُو الْيَدِ لَمْ أَبِعْ ، ثُمَّ أَقَامَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ قَدْ رَدَّ عَلَيْهِ الدَّارَ فَإِنِّي أَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ ، وَأَنْقُضُ الْبَيْعَ وَلَا يُبْطِلُ إنْكَارُهُ الْبَيْعَ بِبَيِّنَةٍ ؛ لِأَنَّ إنْكَارَهُ لَيْسَ بِإِكْذَابٍ مِنْهُ لِشُهُودِهِ ، وَأَنَّهُ فِي الْإِنْكَارِ يَقُولُ لَا بَيْعَ بَيْنَنَا فِيهَا ، وَبَعْدَ مَا رَدَّ عَلَيْهِ الدَّارَ لَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا فِيهَا وَلَوْ قَالَ لَمْ يَجْرِ بَيْنَنَا بَيْعٌ فَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ دَعْوَى الدَّارِ مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى الْكَلَامِ الْأَوَّلِ بِأَنْ يَقُولَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَنَا بَيْعٌ ، وَلَكِنَّهُ ادَّعَى هَذِهِ الدَّعْوَى مَرَّةً ، ثُمَّ بَدَا لَهُ فِيهَا فَرَدَّ الدَّارَ عَلَيَّ فَعَرَفْنَا أَنَّ هَذَا الْإِنْكَارَ لَيْسَ بِإِكْذَابٍ مِنْهُ لِشُهُودِهِ .

وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُ اشْتَرَاهَا مِنْهُ بِأَلْفٍ ، وَقَدْ مَاتَ أَبُوهُ وَالْبَائِعُ يُنْكِرُ فَإِنِّي لَا أُكَلِّفُهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا ، وَلَكِنْ أَسْأَلُهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ لِابْنِهِ وَارِثًا غَيْرَهُ .
فَإِذَا أَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً أَمَرْته أَنْ يَنْقُدَ الْأَلْفَ وَيَقْبِضَ الدَّارَ ؛ لِأَنَّ الِابْنَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَبِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَلَوْ حَضَرَ الْأَبُ فِي حَيَاتِهِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ أُمِرَ بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ وَقَبْضِ الدَّارِ ، وَكَذَلِكَ الِابْنُ إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ إلَّا أَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ مَعَهُ مَنْ يُزَاحِمُهُ فِي الْمِيرَاثِ فَيُؤْمَرُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ لَهُ وَارِثًا غَيْرَهُ ، وَإِنْ لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ تَلَوَّمَ الْقَاضِي فِيهِ زَمَانًا فَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى ، وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ رَجُلٍ غَيْرِ الْبَائِعِ سَأَلَهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ وَتَرَكَهَا مِيرَاثًا لَهُ ؛ لِأَنَّ هُنَا لَوْ حَضَرَ الْأَبُ فِي حَيَاتِهِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذِي الْيَدِ أَنَّهُ اشْتَرَى هَذِهِ الدَّارَ مِنْ فُلَانٍ بِأَلْفٍ وَذُو الْيَدِ غَيْرِ الْبَائِعِ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ شَيْئًا مَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لِمُوَرِّثِهِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ أَنَّهُ تَرَكَهَا مِيرَاثًا كَمَا لَوْ أَقَامَ الْأَبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا مِلْكُهُ اشْتَرَاهَا مِنْ فُلَانٍ ( قَالَ ) فِي الْكِتَابِ ، وَلَيْسَ هَذَا كَالْأُولَى ؛ لِأَنَّ الْأُولَى هِيَ فِي يَدِهِ رَهْنٌ بِالثَّمَنِ بِمَنْزِلَةِ رَجُلٍ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُ رَهَنَ هَذِهِ الدَّارَ عِنْدَ هَذَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَقَدْ مَاتَ الْأَبُ وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرَهُ وَجَاءَ بِالْأَلْفِ يَنْقُدُهَا وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الدَّارَ إذَا كَانَتْ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَالْوَارِثُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الشِّرَاءِ أَثْبَتَ إقْرَارَ ذِي الْيَدِ بِالْمِلْكِ لِمُورِثِهِ ، وَلَكِنَّهَا مَحْبُوسَةٌ

فِي يَدِهِ بِالثَّمَنِ كَالْمَرْهُونَةِ فَيُؤْمَرُ بِأَدَاءِ الثَّمَنِ وَقَبْضِهَا .
وَإِذَا كَانَتْ فِي يَدِ غَيْرِ الْبَائِعِ فَالْوَارِثُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الشِّرَاءِ مَا أَثْبَتَ إقْرَارَ ذِي الْيَدِ بِالْمِلْكِ لِمُورِثِهِ إنَّمَا أَثْبَتَ إقْرَارَ الْبَائِعِ بِذَلِكَ وَالْمِلْكُ لِلْبَائِعِ غَيْرُ ثَابِتٍ فِيهَا حَتَّى يَثْبُتَ بِإِقْرَارِهِ الْمِلْكِ لِمُورِثِهِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى مِلْكِ مُورِثِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَشْهَدَ الشُّهُودُ أَنَّهُ تَرَكَهَا مِيرَاثًا .

وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ دَارًا فِي يَدِ رَجُلَيْنِ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَحَدَهُمَا بَاعَهُ الدَّارَ وَسَلَّمَ الْآخَرَ وَلَا يَعْرِفُ الشُّهُودُ الَّذِي بَاعَ مِنْ الَّذِي سَلَّمَ فَشَهَادَتُهُمْ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بِالْبَيْعِ مَجْهُولٌ وَالْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بِالتَّسْلِيمِ كَذَلِكَ ، وَمَا لَمْ يُبَيِّنْ الشَّاهِدُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بِالْبَيْعِ فَهُوَ مَجْهُولٌ وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالتَّسْلِيمِ كَذَلِكَ وَمَا لَمْ يُبَيِّنْ الشَّاهِدُ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ فِي شَهَادَتِهِ لَا تَكُونُ شَهَادَتُهُ حُجَّةً ، وَلِأَنَّهُمْ تَحَمَّلُوا الشَّهَادَةَ عَلَى مُعَيَّنٍ مِنْهُمَا ، ثُمَّ مَنَعُوا تِلْكَ الشَّهَادَةَ حِينَ لَمْ يَعْرِفُوا الْبَائِعَ بِعَيْنِهِ ، وَكَذَلِكَ دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ بَاعَهَا مِنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ وَلَا يَعْرِفُونَهُ بِعَيْنِهِ فَشَهَادَتُهُمْ بَاطِلَةٌ لِجَهَالَةِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ .

دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا كُلَّهَا بِأَلْفٍ وَادَّعَى آخَرُ أَنَّهُ اشْتَرَى نِصْفَهَا بِخَمْسِمِائَةٍ وَادَّعَى آخَرُ أَنَّهُ اشْتَرَى ثُلُثَهَا بِسِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ فَهُمْ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا أَخَذُوهَا ، وَإِنْ شَاءُوا تَرَكُوهَا ؛ لِأَنَّ عِنْدَ تَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَتَفَرَّقَ الصَّفْقَةُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِيمَا أَثْبَتَ شِرَاءَهُمْ فِيهِ فَالْخِيَارُ كَذَلِكَ فَإِنْ أَخَذُوهَا كَانَ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ الْمُثَلَّثِ خَاصَّةً وَكَانَ السُّدُسُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ نِصْفَيْنِ وَكَانَ النِّصْفُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا وَلَزِمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حِصَّةَ مَا أَخَذَ مِنْ الثَّمَنِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْقِسْمَةَ فِي هَذَا الْفَصْلِ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْفَصْلَ فِي شَرْحِ كِتَابِ الدَّعْوَى وَجَمَعْنَا فِيهَا نَظَائِرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَضْدَادَهَا فَنَقُولُ فِي تَخْرِيجِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا مُنَازَعَةَ فِي الثُّلُثِ لِمُدَّعِي النِّصْفِ وَمُدَّعِي الثُّلُثَيْنِ وَمُدَّعِي الْجَمِيعِ يَدَّعِي ذَلِكَ فَيُسَلَّمُ لَهُ الثُّلُثُ ، ثُمَّ مَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ إلَى تَمَامِ الثُّلُثَيْنِ وَهُوَ السُّدُسُ لَا مُنَازَعَةَ فِيهِ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ ، وَقَدْ اسْتَوَى فِيهِ حُجَّةُ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ وَصَاحِبِ الْجَمِيعِ فَيَقْضِي بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ، وَفِي النِّصْفِ اسْتَوَى حُجَّةُ صَاحِبِ الْكُلِّ وَالثُّلُثَيْنِ وَالنِّصْفُ فَيَقْضِي بِهِ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا وَسِهَامُ الدَّارِ فِي الْحَاصِلِ اثْنَيْ عَشَرَ لِحَاجَتِنَا إلَى سُدُسِ يُقْسَمُ نِصْفَيْنِ فَصَاحِبُ الْجَمِيعِ أَخَذَ مَرَّةً أَرْبَعَةً وَمَرَّةً سَهْمًا وَمَرَّةً سَهْمَيْنِ فَإِنَّهُ مَا يُسَلَّمُ لَهُ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا ، وَذَلِكَ نِصْفُ الدَّارِ وَنِصْفُ سُدُسِهَا فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ

الثَّمَنِ وَصَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ أَخَذَ مَرَّةً سَهْمًا وَمَرَّةً سَهْمَيْنِ ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَهُوَ رُبْعُ الدَّارِ وَصَاحِبُ النِّصْفِ مَا أَخَذَ إلَّا سَهْمَيْنِ وَهُوَ سُدُسُ الدَّارِ .
فَأَمَّا عِنْدَهُمَا الْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ وَأَصْلُ سِهَامِ الدَّارِ سِتَّةٌ فَصَاحِبُ الْجَمِيعِ يَضْرِبُ بِسِتَّةٍ وَصَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ بِأَرْبَعَةٍ وَصَاحِبُ النِّصْفِ بِثَلَاثَةٍ فَتَكُونُ جُمْلَةُ هَذِهِ السِّهَامِ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَيَقْسِمُ الدَّارَ بَيْنَهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ ادَّعَاهَا رَجُلَانِ وَأَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى شِرَاءِ الْجَمِيعِ وَالْآخَرُ الْبَيِّنَةَ عَلَى شِرَاءِ النِّصْفِ وَلِصَاحِبِ الْجَمِيعِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الدَّارِ ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ سَالِمٌ لَهُ بِلَا مُنَازَعَةٍ وَنِصْفَ النِّصْفِ الْآخَرِ بِالْمُنَازَعَةِ وَلِصَاحِبِ النِّصْفِ رُبْعُهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَفِي قَوْلِهِمَا الْقِسْمَةُ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ فَتَكُونُ الدَّارُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا ، وَإِنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الرَّهْنَ وَالْقَبْضَ وَالْآخَرُ الشِّرَاءَ بِأَلْفٍ وَالْقَبْضَ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَإِنْ عَرَفَ الْأَوَّلُ فَهِيَ لِلْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ مُدَّعِيَ الرَّهْنِ إذَا أَثْبَتَ حَقَّهُ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ الْآخَرُ فِيهِ فَشِرَاءُ الْآخَرِ بَعْدُ لَا يَجُوزُ بِدُونِ إجَازَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَصَاحِبُ الشِّرَاءِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ أَقْوَى مِنْ الرَّهْنِ ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ مُوجِبُ الْمِلْكِ فِي الْبَدَلَيْنِ وَالرَّهْنَ لَا يُوجِبُ ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ يَلْزَمُ بِنَفْسِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْقَبْضُ وَالرَّهْنُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ وَالشِّرَاءُ يَلْزَمُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَالرَّهْنُ لَا يَلْزَمُ فِي جَانِبِ الْمُرْتَهِنِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الرَّدِّ مَتَى شَاءَ وَالضَّعِيفُ لَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَةِ الْقَوِيِّ فَإِنْ أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ وَالْآخَرُ عَلَى الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ فَصَاحِبُ الشِّرَاءِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَلْزَمُ بِنَفْسِهِ وَمُوجِبُ الْمِلْكِ فِي الْبَدَلَيْنِ فَيَكُونُ أَقْوَى مِنْ

التَّبَرُّعِ الَّذِي لَا يَتِمُّ بِالْقَبْضِ فَإِنْ أَثْبَتَ صَاحِبُ التَّبَرُّعِ قَبْضَهُ سَابِقًا فَهُوَ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ مِلْكَهُ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ الْآخَرُ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ صَاحِبِ الصَّدَقَةِ وَلَا يَدْرِي أَيُّهُمَا أَوَّلُ فَصَاحِبُ الصَّدَقَةِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الْقَبْضِ دَلِيلَ سَبْقِ عَقْدِهِ فَيَكُونُ هُوَ أَوْلَى إلَّا أَنْ يُقِيمَ صَاحِبُ الشِّرَاءِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَوْلَى ، وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ارْتَهَنَهَا بِأَلْفٍ فَفِي الْقِيَاسِ لَا يَكُونُ رَهْنًا لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَبِهَذَا نَأْخُذُ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهَا رَهْنًا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثْبَتَ الرَّهْنَ مِنْهُ بِالْبَيِّنَةِ وَالْقَضَاءُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ مُمْكِنٌ فَإِنَّ رَهْنَ الدَّارَ الْوَاحِدَةَ مِنْ رَجُلَيْنِ بِدَيْنٍ لَهُمَا عَلَيْهِ صَحِيحٍ وَوَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْحُجَّتَيْنِ لِمَا اسْتَوَتَا فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَضَاءِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ وَإِثْبَاتُ حُكْمِ الرَّهْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ شَائِعًا غَيْرُ مُمْكِنٍ فَتَبْطُلُ الْبَيِّنَتَانِ كَمَا لَوْ أَقَامَ رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى نِكَاحِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَخَذْنَا بِالْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّ وَجْهَ الْقِيَاسِ أَقْوَى فَإِنَّ فِي الرَّهْنِ مِنْ رَجُلَيْنِ الْعَقْدُ وَاحِدٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَاضٍ بِثُبُوتِ حَقِّ صَاحِبِهِ فِي الْحَبْسِ فَأَمْكَنَ إثْبَاتُ مِلْكِ الْيَدِ الَّذِي هُوَ مُوجِبُ الرَّهْنِ لَهُمَا فِي الْمَحَلِّ مِنْ غَيْرِ شُيُوعٍ بِأَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّ الْعَيْنَ كُلَّهَا مَحْبُوسَةٌ بِدَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ هُنَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثْبَتَ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ وَلَا يَرْضَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِثُبُوتِ حَقِّ صَاحِبِهِ مَعَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَضَاءِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ ، وَإِنْ رَهَنَهَا مِنْ رَجُلَيْنِ النِّصْفُ مِنْ هَذَا بِدَيْنِهِ وَالنِّصْفُ مِنْ هَذَا بِدَيْنِهِ لَمْ

يَجُزْ ؛ فَلِهَذَا نَأْخُذُ بِالْقِيَاسِ فَإِنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الرَّهْنَ وَالْقَبْضَ وَادَّعَى الْآخَرُ الْهِبَةَ عَلَى عِوَضٍ وَالتَّقَابُضَ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِهَذَا لِلَّذِي يَدَّعِي الْهِبَةَ عَلَى عِوَضٍ ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ بَعْدَ التَّقَابُضِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَتَرَجَّحُ دَعْوَى الشِّرَاءِ عَلَى دَعْوَى الرَّهْنِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْحُجَجِ ، وَلَوْ كَانَتْ هِبَةً بِغَيْرِ عِوَضٍ قَضَيْت بِهَا لِصَاحِبِ الرَّهْنِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ قَدْ نَفَذَ مَالُهُ فِيهِ ، وَقَدْ كَانَ يَنْبَغِي فِي قِيَاسِ الْقَوْلِ الَّذِي قُلْنَا قَبْلَ هَذَا أَنْ يَكُونَ لِصَاحِبِ الْهِبَةِ وَمَعْنَى أَنَّ صَاحِبَ الْهِبَةِ فِي الْقِيَاسِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ بِبَيِّنَتِهِ مَالُك الْعَيْنِ لِنَفْسِهِ وَالْمُرْتَهِنُ لَا يُثْبِتُ ذَلِكَ بِبَيِّنَتِهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَقْدَيْنِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ فَيَتَرَجَّحُ الْمُوجِبُ لِلْمِلْكِ فِي الْعَيْنِ مِنْهُمَا وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الرَّهْنُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ ضَمَانٍ فَالْمَقْبُوضُ بِحُكْمِ الرَّهْنِ بِمَا يُقَابِلُهُ مِنْ الدَّيْنِ وَالْمَقْبُوضُ بِحُكْمِ الْهِبَةِ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا أَقْوَى مِنْ عَقْدِ التَّبَرُّعِ ؛ فَلِهَذَا كَانَتْ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الرَّهْنِ أَوْلَى وَلِلْقِيَاسِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الرَّهْنَ لَا يُرَدُّ عَلَى الْهِبَةِ وَالْهِبَةُ تُرَدُّ عَلَى الرَّهْنِ فَإِنَّهُ بَعْدَ الْهِبَةِ مِنْهُ لَوْ رَهَنَهُ كَانَ بِإِطْلَاقٍ ، وَبَعْدَ الرَّهْنِ لَوْ وَهَبَهُ مِنْ الْمُرْتَهِنِ كَانَ صَحِيحًا فَعِنْدَ التَّعَارُضِ يَتَرَجَّحُ الْوَارِدُ لَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ قَالَ لَا بُدَّ مِنْ إثْبَاتِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَثُبُوتُ الْمِلْكِ لِلْمَرْهُونِ لَهُ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِيهَا فَإِنَّ الْوَاهِبَ إذَا رَهَنَ الْمَوْهُوبَ بِدَيْنِهِ بِرِضَاءِ الْمَوْهُوبِ لَهُ جَازَ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْهِبَةِ مَعَ ثُبُوتِ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فَإِنَّهُ بَعْدَ الرَّهْنِ لَوْ وَهَبَ بِرِضَاءِ الْمُرْتَهِنَ وَسَلَّمَ يَبْطُلُ حَقّ الْمُرْتَهِنُ ؛ فَلِهَذَا جَعَلْنَا الرَّهْنَ أَوْلَى مِنْ

الْهِبَةِ وَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ وَقَبَضَهَا لَمْ يَقْضِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَقْضِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِهَا وَالْهِبَةُ لَا تَتِمُّ فِي الْمُشَاعِ الَّذِي يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ وَزَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
فَأَمَّا عِنْدَهُمَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْضِيَ بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ بِمَنْزِلَةِ هِبَةِ الدَّارِ مِنْ رَجُلَيْنِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُمَا يُجَوِّزَانِ ذَلِكَ عِنْدَ اتِّحَادِ الْعَقْدِ وَالِاتِّحَادُ فِي جَانِبِ الْوَاهِبِ .
فَأَمَّا إذَا وَهَبَ النِّصْفَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي عَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ لَا يَجُوزُ وَهُنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ الْهِبَةَ مِنْهُ فِي عَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ ؛ فَلِهَذَا لَا يَقْضِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِهَا فَإِنْ شَهِدَتْ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَوَّلُ فَهِيَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ مِلْكَهُ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ الْآخَرُ فِيهِ ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا بِذَلِكَ وَهِيَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَهِيَ لِذِي الْيَدِ ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الْقَبْضِ دَلِيلُ سَبْقِ عَقْدِهِ .

وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ ثَلَاثَةِ رَهْطٍ فَادَّعَى أَحَدُهُمْ الْجَمِيعَ وَالْآخَرُ النِّصْفَ وَادَّعَى الثَّالِثُ الثُّلُثَيْنِ ، وَلَيْسَتْ لَهُمْ بَيِّنَةٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثَ الدَّارِ فَدَعْوَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَنْصَرِفُ إلَى مَا فِي يَدِهِ ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ مُقَدَّمٌ فِيهِ عَلَى قَوْلِ الْخَارِجِ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِمَا فِي يَدِهِ بِاعْتِبَارِ ظَاهِرِ الْيَدِ وَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْجَمِيعِ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ جَمِيعَ مَا فِي يَدِ صَاحِبَيْهِ وَهُمَا يُنْكِرَانِ ذَلِكَ وَصَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ يَدَّعِي نِصْفَ مَا فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبَيْهِ وَهُمَا يُنْكِرَانِ ذَلِكَ فَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبَيْهِ فَإِنْ حَلَفُوا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الثُّلُثُ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ ، وَإِنْ نَكَلُوا عَنْ الْيَمِينِ فِي دَعْوَى صَاحِبِ الْجَمِيعِ وَحَلَفَ صَاحِبُ الْجَمِيعِ لَهُمَا فَالدَّارُ كُلُّهَا لَهُ ؛ لِأَنَّ نُكُولَهُمَا كَإِقْرَارِهِمَا لَهُ بِذَلِكَ ، أَوْ كَبَدَلِهِمَا لَهُ مَا فِي أَيْدِيهِمَا ، وَلَكِنْ هَذَا إذَا حَلَفَ صَاحِبُ الْجَمِيعِ لَهُمَا وَحَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ أَيْضًا ، وَإِنْ نَكَلُوا عَنْ الْيَمِينِ لِصَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ وَحَلَفُوا لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ وَالنِّصْفُ كَانَ لِصَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ الَّذِي فِي يَدِهِ وَيَأْخُذُ نِصْفَ مَا فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي ثُلُثَيْ الدَّارِ وَنِصْفُ ذَلِكَ وَهُوَ الثُّلُثُ فِي يَدِهِ وَنِصْفُهُ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سُدُسُ الْجَمِيعِ ، وَذَلِكَ نِصْفُ مَا فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَنُكُولُهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ وَإِنْ نَكَلُوا عَنْ الْيَمِينِ لِصَاحِبِ النِّصْفِ وَحَلَفُوا لِصَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ وَصَاحِبُ الْجَمِيعِ فَصَاحِبُ النِّصْفِ يَأْخُذُ رُبْعَ مَا فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي نِصْفَ الدَّارِ فَثُلُثَا ذَلِكَ النِّصْفِ فِي يَدِهِ وَالثُّلُثُ فِي يَدِ صَاحِبَيْهِ ، وَذَلِكَ السُّدُسُ فِي يَدِ كُلِّ

وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ سُدُسِ الْجَمِيعِ وَهُوَ رُبْعُ الثُّلُثِ الَّذِي فِي يَدِهِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنُّكُولِ صَارَ مُقِرًّا لَهُ بِذَلِكَ ، وَإِنْ نَكَلَ صَاحِبُ الْجَمِيعِ عَنْ الْيَمِينِ لِصَاحِبِ النِّصْفِ وَحْدَهُ وَحَلَفَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ فَصَاحِبُ النِّصْفِ يَأْخُذُ مِمَّا فِي يَدِ صَاحِبِ الْجَمِيعِ رُبْعُ مَا فِي يَدِهِ وَهُوَ نِصْفُ سُدُسِ جَمِيعِ الدَّارِ ؛ لِأَنَّهُ بِالنُّكُولِ صَارَ مُقِرًّا لَهُ بِالْقَدْرِ الَّذِي ادَّعَاهُ فِي يَدِهِ نِصْفُ سُدُسِ جَمِيعِ الدَّارِ ، وَإِنْ قَامَتْ لَهُمْ جَمِيعًا الْبَيِّنَةُ فَلِصَاحِبِ النِّصْفِ الثُّمْنُ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ الرُّبْعُ وَلِصَاحِبِ الْجَمِيعِ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسَهْمًا مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ سَهْمًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَمْ تُقْبَلْ فِيمَا فِي يَدِهِ وَتُقْبَلْ فِيهِ بَيِّنَةُ الْآخَرِ ، ثُمَّ الْقِسْمَةُ عِنْدَهُ عَلَى طَرِيقِ الْمُنَازَعَةِ فِي الثُّلُثِ الَّذِي فِي يَدِ صَاحِبِ النِّصْفِ تُقْبَلُ فِيهِ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْجَمِيعِ وَصَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ ، ثُمَّ نِصْفُ ذَلِكَ الثُّلُثِ يُسَلَّمُ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ بِلَا مُنَازَعَةٍ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِلْمُنَازَعَةِ فَيَحْتَاجُ إلَى حِسَابٍ يَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعٍ ، وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ فَصَارَتْ سِهَامُ الدَّارِ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا فَفِي يَدِ صَاحِبِ الْجَمِيعِ ثُلُثُ الدَّارِ وَصَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ يَدَّعِي نِصْفَ ذَلِكَ وَصَاحِبُ النِّصْفِ يَدَّعِي رُبْعَ ذَلِكَ فَيَقْضِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمِقْدَارِ مَا ادَّعَى مِنْ ذَلِكَ ، وَفِي يَدِ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ أَرْبَعَةٌ صَاحِبُ الْجَمِيعِ يَدَّعِي جَمِيعَ ذَلِكَ وَصَاحِبُ النِّصْفِ رُبْعَ ذَلِكَ وَثَلَاثَةَ أَرْبَاعِهِ يُسَلَّمُ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ وَالرُّبْعِ وَهُوَ سَهْمٌ وَاحِدٌ اسْتَوَتْ مُنَازَعَتُهُمَا فِيهِ فَكَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَانْكَسَرَ بِالْإِنْصَافِ فَأَضْعَفَ السِّهَامَ ؛ فَلِهَذَا صَارَتْ الدَّارُ سِهَامَ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثَمَانِيَةٌ ، ثُمَّ سَلَّمَ لِصَاحِبِ الْجَمِيعِ مَا فِي يَدِ

صَاحِبِ النِّصْفِ سِتَّةً ، وَمَا فِي يَدِ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ سَبْعَةً وَبَقِيَ لَهُ مِمَّا كَانَ فِي يَدِهِ سَهْمَانِ فَجُمْلَةُ ذَلِكَ خَمْسَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَصَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ أَخَذَ مِنْ يَدِ صَاحِبِ النِّصْفِ سَهْمَيْنِ وَمِنْ يَدِ صَاحِبِ الْجَمِيعِ أَرْبَعَةً فَذَلِكَ سِتَّةٌ وَهُوَ رُبْعُ جَمِيعِ الدَّارِ وَصَاحِبُ النِّصْفِ أَخَذَ مِنْ يَدِ صَاحِبِ الْجَمِيعِ سَهْمَيْنِ وَمِنْ يَدِ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ سَهْمًا فَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَهُوَ ثَمَنُ الدَّارِ وَقَدْ بَيَّنَّا تَخْرِيجَ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى فِي اعْتِبَارِ الْقِسْمَةِ عَلَى طَرِيقِ الْعَوْلِ فَإِنَّ السِّهَامَ عِنْدَهُمَا تَرْتَفِعُ إلَى مِائَةٍ وَثَمَانِينَ فَلَمْ يَعُدْ هُنَا كَرَاهَةَ التَّطْوِيلِ ، وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ بَيِّنَةٌ وَنَكَلُوا عَنْ الْيَمِينِ فَهُوَ وَمَا لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فِي حُكْمِ الِاسْتِحْقَاقِ وَالتَّخْرِيجِ سَوَاءٌ .

وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ رَجُلَيْنِ وَعَبْدِ أَحَدِهِمَا وَالْعَبْدُ مَأْذُونٌ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَدَّعِي الدَّارَ كُلَّهَا فَهِيَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مِنْ كَسْبِ عَبْدِهِ الْمَدْيُونِ كَالْأَجْنَبِيِّ فَإِنَّ حَقَّ غُرَمَائِهِ فِي كَسْبِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى فَتَظْهَرُ يَدُهُ فِي مُعَارَضَةِ يَدِ الْمَوْلَى كَيَدِ الْمُكَاتَبِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَالدَّارُ بَيْنَ الْحُرَّيْنِ نِصْفَانِ ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ هُنَا حَقُّ مَوْلَاهُ وَيَدُهُ مِنْ وَجْهٍ كَيَدِ مَوْلَاهُ فَلَا مُعْتَبَرَ بِيَدِهِ فِي مُعَارَضَةِ يَدِ الْمَوْلَى ، وَإِنَّمَا يَبْقَى الْمُعْتَبَرُ فِي الدَّارِ يَدُ الْمَوْلَى وَيَدُ الْأَجْنَبِيِّ فَهِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ بِمَنْزِلَةِ ثَوْبٍ يُنَازِعُ فِيهِ رَجُلَانِ ، وَفِي يَدِ أَحَدِهِمَا عَامَّةُ الثَّوْبِ ، وَفِي يَدِ الْآخَرِ طَرَفُ الثَّوْبِ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ .

دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ يَدَّعِي رَجُلٌ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ آخَرَ وَهُوَ يَمْلِكُهَا يَوْمَ بَاعَهَا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَذُو الْيَدِ يَقُولُ لَيْسَتْ لِي فَإِنِّي أَقْضِي بِالدَّارِ لِلْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ لِنَفْسِهِ بِإِثْبَاتِهِ الشِّرَاءَ مِمَّنْ كَانَ مَالِكُهَا وَذُو الْيَدِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ خُصُومَتِهِ بِقَوْلِهِ لَيْسَتْ لِي فَإِنَّهُ كَانَ خَصْمًا لَهُ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ فِيهَا وَبِهَذَا اللَّفْظِ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ يَدَهُ فِيهَا لَيْسَتْ بِيَدِ خُصُومَةٍ فَقَضَى بِالدَّارِ لِلْمُدَّعِي إلَّا أَنْ يُقِيمَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا عَارِيَّةٌ فِي يَدِهِ ، أَوْ بِإِجَارَةٍ ، أَوْ بِوَكَالَةٍ بِالْقِيَامِ عَلَيْهَا مِنْ رَجُلٍ غَيْرِ الْبَائِعِ فَإِنْ أَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِأَنَّ يَدَهُ فِيهَا يَدُ حِفْظٍ لَا يَدَ خُصُومَةٍ وَهَذِهِ مُخَمَّسَةٌ كِتَابِ الدَّعْوَى فَإِنْ جَاءَ الْمُشْتَرِي بِبَيِّنَةٍ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ سَلَّطَهُ عَلَى قَبْضِهَا مِنْ هَذَا السَّاكِنِ قَبَضَهَا وَقَضَى لَهُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ أَنَّهُ أَحَقُّ بِحِفْظِهَا مِنْهُ ، وَأَنَّهُ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ نَقْلِهَا مِنْ يَدِ ذِي الْيَدِ إلَى يَدِ نَفْسِهِ بِأَمْرِ صَاحِبِهَا إيَّاهُ بِذَلِكَ ، وَلَوْ عَايَنَ مَا أَثْبَتَهُ الْبَيِّنَةَ كَانَ لَهُ حَقُّ قَبْضِهَا .
فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96