كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
يُرَاعِي فِي الْعَقْدِ مَا يَكُونُ مُفِيدًا ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَصْلَ الْعَقْدِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُقَيَّدًا لَا يُعْتَبَرُ فَكَذَلِكَ الشَّرْطُ فِي الْعَقْدِ ، وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ التَّعْيِينَ لَا يُفِيدُ جَوَازَ الْعَقْدِ فَإِنَّ الْعَقْدَ جَائِزٌ بِتَسْمِيَةِ الدَّرَاهِمِ الْمُطْلَقَةِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ ، وَالْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ الرِّبْحُ ، وَذَلِكَ بِقَدْرِ الدَّرَاهِمِ لَا بِعَيْنِهَا ، وَلَيْسَ فِي غَيْرِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ مَقْصُودٌ ، إنَّمَا الْمَقْصُودُ الْمَالِيَّةُ ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ هِيَ وَالْأَحْجَارُ سَوَاءٌ ، وَالْمَالِيَّةُ بِاعْتِبَارِ الرَّوَاجِ فِي الْأَسْوَاقِ ، وَمِثْلُهَا وَعَيْنُهَا لَا يَخْتَلِفُ فِي هَذَا الْمَعْنَى فَعَرَفْنَا أَنَّ التَّعْيِينَ غَيْرُ مُفِيدٍ فِيمَا هُوَ الْمَطْلُوبُ بِالْعَقْدِ ، وَبِهِ فَارَقَ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ فَالتَّعْيِينُ هُنَاكَ مُفِيدٌ لِجَوَازِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ بِدُونِ التَّعْيِينِ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ إلَّا بِذِكْرِ الْوَصْفِ ، وَرُبَّمَا يَعْجِزُ عَنْ إعْلَامِ الْوَصْفِ فَيُسْقِطُ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ بِالتَّعْيِينِ ، وَلِأَنَّ أَعْيَانَهَا مَقْصُودَةٌ ، وَهِيَ تَتَفَاوَتُ فِي الرِّبْحِ فَكَانَ تَعْيِينُهَا مُفِيدًا فِي الْجُمْلَةِ أَمَّا مَا ذُكِرَ مِنْ الْفَوَائِدِ فَلَيْسَ مِنْ مَقَاصِدِ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا يَطْلُبُ فَائِدَةَ التَّعْيِينِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ ، وَفِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ ؛ وَهُوَ مِلْكُ الْمَالِ ، الدَّيْنُ أَكْمَلُ مِنْ الْعَيْنِ ؛ لِأَنَّ بِدُونِ التَّعْيِينِ لَا يَنْتَقِضُ الْعَقْدُ ، وَبِالتَّعْيِينِ يَنْتَقِضُ فَإِنَّهُ إذَا اسْتَحَقَّ الْمَعْنَى أَوْ هَلَكَ بَطَلَ مِلْكُهُ فِيهِ ، وَإِذَا ثَبَتَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ لَا يُتَصَوَّرُ هَلَاكُهُ ، وَلَا بُطْلَانُ الْمِلْكِ فِيهِ بِالِاسْتِحْقَاقِ ، وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ ، وَهُوَ أَنَّ التَّعْيِينَ لَوْ اُعْتُبِرَ فِي النَّقْدِ يَبْطُلُ بِهِ الْعَقْدُ ، وَبِالْإِجْمَاعِ الْعَقْدُ صَحِيحٌ فَعَرَفْنَا أَنَّ التَّعْيِينَ لَغْوٌ ، وَبَيَانُ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : وَهُوَ أَنَّ النُّقُودَ لَا تُسْتَحَقُّ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ إلَّا ثَمَنًا ، وَالثَّمَنُ مَا يَكُونُ
فِي الذِّمَّةِ كَمَا قَالَهُ الْفَرَّاءُ فَإِذَا اُعْتُبِرَ ثُبُوتُ التَّعْيِينِ امْتَنَعَ ثُبُوتُ الْمُسَمَّى فِي الذِّمَّةِ ثَمَنًا ، وَذَلِكَ يُنَافِي مُوجَبَ الْعَقْدِ فَيَكُونُ مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ ، وَالثَّانِي : هُوَ أَنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ فِي الثَّمَنِ وُجُوبُهُ وَوُجُودُهُ مَعًا بِالْعَقْدِ بِخِلَافِ السِّلَعِ فَحُكْمُ الْعَقْدِ فِيهَا وُجُوبُ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي فِيمَا كَانَ مَمْلُوكًا لِلْبَائِعِ ، وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ لِلْعَقْدِ عَلَى السِّلَعِ قِيَامُهَا فِي مِلْكِ الْبَائِعِ إلَّا فِي مَوْضِعِ الرُّخْصَةِ ؛ وَهُوَ السَّلَمُ ، فَلَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي السَّلَمِ حَتَّى يَجُوزَ الشِّرَاءُ بِثَمَنٍ لَيْسَ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَا يَتَعَيَّنُ إلَّا فِي مَوْضِعِ الرُّخْصَةِ ؛ وَهُوَ السَّلَمُ ، فَهُنَاكَ يَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ دُونَ التَّعْيِينِ حَتَّى لَوْ افْتَرَقَا بَعْدَ تَعْيِينِ رَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ وَلَا يَنْجَبِرُ ذَلِكَ النَّقْصُ بِقَبْضِ مَا يُقَابِلُهُ فِي الْمَجْلِسِ ، وَهُوَ الْمُسْلَمُ فِيهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ تَعْيِينَ الدَّرَاهِمِ هُنَاكَ بِالْقَبْضِ بِاعْتِبَارِ الضَّرُورَةِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِالتَّعْيِينِ فَكَذَلِكَ فِي بَابِ الصَّرْفِ بَعْدَ التَّعْيِينِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ يَبْطُلُ بِالِافْتِرَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَأَظْهَرُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ جَوَازُ الِاسْتِبْدَالِ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِخِلَافِ الْمَبِيعِ ، عَيْنًا كَانَ أَوْ دَيْنًا فَكَانَ التَّعْيِينُ فِي الثَّمَنِ إبْطَالًا لِحُكْمِهِ ، وَجَعْلًا لِمَا هُوَ الْحُكْمُ شَرْطًا ، وَهَذَا تَغْيِيرٌ مَحْضٌ فَيَكُونُ مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ ، وَبِالْإِجْمَاعِ الْعَقْدُ صَحِيحٌ فَعَرَفْنَا أَنَّ التَّعْيِينَ لَغْوٌ ، وَبِهَذَا ظَهَرَ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ : إنَّ التَّعْيِينَ يُصْرَفُ فِي مَحَلِّهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الثَّمَنِ وَالسِّلْعَةِ ، وَاعْتِبَارُ الْعَقْدِ بِالْقَبْضِ سَاقِطٌ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ لَا يَرِدُ إلَّا عَلَى الْعَيْنِ فَكَانَ التَّعْيِينُ رُكْنًا فِيهِ ، وَالْعَقْدُ لَا يَرِدُ عَلَى الثَّمَنِ إنَّمَا يَجِبُ الثَّمَنُ بِالْعَقْدِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا إذَا كَانَ دَيْنًا فِي
الذِّمَّةِ ، وَفِي الْوَكَالَةِ عِنْدَنَا لَا يَتَعَيَّنُ حَتَّى لَوْ اشْتَرَى الْوَكِيلُ بِمِثْلِ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ فِي ذِمَّتِهِ كَانَ مُشْتَرِيًا لِلْمُوَكِّلِ ، وَلَوْ هَلَكَ بَعْدَ الشِّرَاءِ رَجَعَ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِمِثْلِهَا أَمَّا قَبْلَ الشِّرَاءِ إذَا هَلَكَتْ فَإِنَّمَا بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ عِنْدَنَا لِأَنَّهَا غَيْرُ لَازِمَةٍ فِي نَفْسِهَا ، وَالْمُوَكِّلُ لَمْ يَرْضَ بِكَوْنِ الثَّمَنِ فِي ذِمَّتِهِ عِنْدَ الشِّرَاءِ فَلَوْ بَقِيَتْ الْوَكَالَةُ لَاسْتَوْجَبَ الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ الدَّيْنَ فِي ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ ، وَهُوَ لَمْ يَرْضَ بِهِ ، وَفِي مَسْأَلَةِ الشِّرَاءِ بِالدَّرَاهِمِ الْمَغْصُوبَةِ لَا تَتَعَيَّنُ تِلْكَ الدَّرَاهِمُ حَتَّى لَوْ أَخَذَهَا الْمَغْصُوبُ مِنْهُ كَانَ عَلَى الْغَاصِبِ مِثْلُهَا دَيْنًا ، وَلَكِنَّهُ اسْتَعَانَ فِي الْعَقْدِ وَالنَّقْدِ بِمَا هُوَ حَرَامٌ فَيَتَمَكَّنُ فِيهِ الْخُبْثُ فَلِهَذَا لَا يَحِلُّ لَهُ تَنَاوُلُهُ ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ لَمْ تَتَعَيَّنْ الدَّرَاهِمُ أَيْضًا بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِهَا ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا أَضَافَ النَّذْرَ إلَيْهِمَا مَعَ أَنَّ الدَّرَاهِمَ لَا تَتَعَيَّنُ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ صَارَ تَقْدِيرُ كَلَامِهِ كَأَنَّهُ قَالَ : إنْ سَمَّيْتَ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ ، وَهَذَا الْكُرَّ فِي بَيْعِ هَذَا الْعَبْدِ فَهُمَا صَدَقَةٌ ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ ، وَمِلْكُ الْكُرِّ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، وَالشُّرُوطُ فِي الْأَثْمَانِ تُعْتَبَرُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ .
قَالَ : وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ أَلْفَ دِرْهَمٍ بِعَيْنِهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ ، وَالدَّرَاهِمُ بِيضٌ فَأَعْطَاهُ مَكَانَهَا سُودًا ، وَرَضِيَ بِهَا الْبَائِعُ جَازَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِاسْتِبْدَالٍ ، وَالسُّودُ وَالْبِيضُ مِنْ الدَّرَاهِمِ جِنْسٌ وَاحِدٌ ، وَإِنَّمَا أَبْرَأَهُ عَنْ الصِّفَةِ حَتَّى يَجُوزَ بِالسُّودِ فَكَانَ مُسْتَوْفِيًا بِهَذَا الطَّرِيقِ لَا مُسْتَبْدِلًا ، وَمُرَادُهُ مِنْ السُّودِ : الْمَضْرُوبُ مِنْ النُّقْرَةِ السَّوْدَاءِ إلَّا الدَّرَاهِمَ التِّجَارِيَّةَ حَتَّى إنَّهُ لَوْ بَاعَ دِينَارًا بِدَرَاهِمَ بِيضٍ ، وَقَبَضَ مَكَانَ الدَّرَاهِمِ الْبِيضِ التِّجَارِيَّةَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ اسْتِبْدَالًا لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَبَضَ الدَّرَاهِمَ فَأَرَادَ أَنْ يُعْطِيَهُ ضَرْبًا آخَرَ مِنْ الدَّنَانِيرِ سِوَى مَا عَيَّنَهُ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ إلَّا بِرِضَاهُ فَإِنْ رَضِيَ بِهِ كَانَ مُسْتَوْفِيًا لَا مُسْتَبْدِلًا لِكَوْنِ الْجِنْسِ وَاحِدًا ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا عَيَّنَهُ لَمْ يَتَعَيَّنْ ، وَإِنَّمَا اسْتَوْجَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ذِمَّةِ صَاحِبِهِ مِثْلَ الْمُسَمَّى ، وَقِيلَ هَذَا إذَا أَعْطَاهُ ضَرْبًا هُوَ دُونَ الْمُسَمَّى فَإِنْ أَعْطَاهُ ضَرْبًا هُوَ فَوْقَ الْمُسَمَّى فَلَا حَاجَةَ إلَى رِضَا مُشْتَرِي الدَّنَانِيرِ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَوْفَاهُ حَقَّهُ ، وَزِيَادَةً إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ فَإِنَّهُ يَقُولُ هُوَ مُتَبَرِّعٌ عَلَيْهِ بِزِيَادَةِ صِفَةٍ فَلَهُ أَنْ لَا يَقْبَلَ تَبَرُّعَهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي السَّلَمِ .
وَلَوْ اشْتَرَى أَلْفَ دِرْهَمٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ ، وَلَمْ يُسَمِّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا شَيْئًا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَقْدُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَارَفَ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ هِيَ الْمُعَامَلَةُ بِالنَّقْدِ الْغَالِبِ ، وَإِلَيْهِ يَنْصَرِفُ مُطْلَقُ التَّسْمِيَةِ ، وَالتَّعْيِينُ بِالْعُرْفِ كَالتَّعْيِينِ بِالنَّصِّ يَقُولُ : وَإِذَا كَانَ بِالْكُوفَةِ فَهُوَ عَلَى دَنَانِيرَ كُوفِيَّةٍ ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ فِي الْبُلْدَانِ تَخْتَلِفُ وَتَتَفَاوَتُ فِي الْعِيَارِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ إنَّمَا يَتَصَرَّفُ الْإِنْسَانُ بِمَا هُوَ النَّقْدُ الْمَعْرُوفُ فِيهَا فَإِذَا كَانَ بِبَلَدٍ نَقْدٌ مُخْتَلِفٌ مُتَفَاضِلٌ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ إلَّا أَنْ يُسَمِّيَ ضَرْبًا مِنْ ذَلِكَ مَعْلُومًا ، وَالضَّرْبُ الْمَعْلُومُ أَنْ يَذْكُرَ مِنْ الدِّينَارِ نَيْسَابُورِيًّا ، أَوْ كُوفِيًّا وَنَحْوَهُ ، وَمِنْ الدَّرَاهِمِ عِطْرَبَعْثِيًّا ، أَوْ مُؤَيَّدِيًّا ، وَنَحْوَهُ إذَا كَانَتْ النُّقُودُ فِي الرَّوَاجِ سَوَاءً ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَرْجِيحُ بَعْضِهِ عِنْدَ إطْلَاقِ التَّسْمِيَةِ فَيَبْقَى الْمُسَمَّى مَجْهُولًا ، وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَالْمُطَالِبُ يُطَالِبُ بِأَعْلَى النُّقُودِ ، وَالْمَطْلُوبُ بِأَدْنَى النُّقُودِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْتَجُّ بِمُطْلَقِ التَّسْمِيَةِ فَلِهَذَا فَسَدَ الْعَقْدُ إذَا لَمْ يُسَمِّيَا ضَرْبًا مَعْلُومًا ، وَإِنْ كَانَ نَقْدًا مِنْ ذَلِكَ مَعْرُوفًا ، وَشَرَطَا فِي الْعَقْدِ نَقْدًا آخَرَ فَالْعَقْدُ يَنْعَقِدُ عَلَى النَّقْدِ الْمَشْرُوطِ ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ النَّقْدِ الْغَالِبُ بِالْعُرْفِ ، وَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْعُرْفِ عِنْدَ التَّنْصِيصِ بِخِلَافِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَائِدَةِ بَيْنَ يَدَيْ الْإِنْسَانِ إذْنٌ بِالتَّنَاوُلِ لِلْعُرْفِ ، ثُمَّ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ إذَا قَالَ لَا تَأْكُلْ فَإِنْ اخْتَلَفَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا : شَرَطْتَ لِي كَذَا ؛ لِشَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ النَّقْدِ الْمَعْرُوفِ ، وَقَالَ الْآخَرُ : لَمْ أَشْتَرِطْ لَك ذَلِكَ فَعَلَيْهِمَا الثَّمَنُ لِأَنَّ اخْتِلَافَهُمَا فِي صِفَةِ الثَّمَنِ
كَاخْتِلَافِهِمَا فِي مِقْدَارِهِ لِأَنَّ الثَّمَنَ دَيْنٌ ، وَالدَّيْنُ يُعْرَفُ بِصِفَتِهِ ، وَالْجَيِّدُ مِنْهُ غَيْرُ الرَّدِيءِ حَتَّى إذَا حَضَرَا كَانَ أَحَدُهُمَا غَيْرَ الْآخَرِ ، وَاخْتِلَافُ الْمُتَبَايِعَيْنِ فِي الثَّمَنِ يُوجِبُ التَّحَالُفَ بِالنَّصِّ فَأَيُّهُمَا نَكَلَ لَزِمَهُ دَعْوَى صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّ نُكُولَهُ كَإِقْرَارِهِ ، وَإِنْ تَحَالَفَا تَرَادَّا ، وَإِنْ قَامَتْ لَهُمَا الْبَيِّنَةُ أُخِذَتْ بَيِّنَةُ الَّذِي يَدَّعِي الْفَضْلَ مِنْهُمَا لِإِثْبَاتِ الزِّيَادَةِ فِيهَا .
قَالَ : وَإِذَا ابْتَاعَ الرَّجُلُ سَيْفًا مُحَلَّى بِفِضَّةٍ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ فَقَبَضَ السَّيْفَ وَلَمْ يَنْقُدْ الدَّنَانِيرَ لَمْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى بَاعَ الْمُشْتَرِي السَّيْفَ مِنْ آخَرَ ، وَقَبَضَهُ الْمُشْتَرِي الْآخَرُ ، وَلَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ حَتَّى افْتَرَقُوا فَإِنَّهُ يَرُدُّ السَّيْفَ إلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَقْدَيْنِ صَرْفٌ فَيَبْطُلُ بِالِافْتِرَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَإِذَا بَطَلَ الْعَقْدُ الثَّانِي رَجَعَ السَّيْفُ إلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ عَلَى الْمِلْكِ الَّذِي كَانَ لَهُ قَبْلَ الْبَيْعِ ، وَقَدْ فَسَدَ شِرَاؤُهُ أَيْضًا فَلَزِمَهُ رَدُّ الْمَقْبُوضِ إلَى الْبَائِعِ ، وَلَوْ لَمْ يُفَارِقْ الْآخِرُ الْأَوْسَطَ حَتَّى فَارَقَ الْأَوَّلَ نَقَدَهُ الْآخِرُ جَازَ بَيْعُ الْأَوْسَطِ فِي السَّيْفِ ؛ لِأَنَّهُ بَاعَهُ بِعَدَمِ تَمَامِ مِلْكِهِ بَعْدَ الْقَبْضِ ، وَقَدْ تَمَّ الْعَقْدُ الثَّانِي بِالتَّقَابُضِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ ، وَفَسَدَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ فَوَجَبَ عَلَى الْأَوْسَطِ رَدُّ السَّيْفِ ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ رَدِّهِ بِإِخْرَاجِهِ عَنْ مِلْكِهِ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِلْبَائِعِ ، وَإِنْ فَارَقَهُ الْأَوَّلُ ، ثُمَّ إنَّ الْأَوْسَطَ بَاعَ السَّيْفَ مِنْ الْآخِرِ جَازَ بَيْعُهُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَإِنْ فَسَدَ بِالِافْتِرَاقِ فَقَدْ بَقِيَ مِلْكُهُ بِبَقَاءِ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ فَسَادَ السَّبَبِ لَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْمِلْكِ عِنْدَ الْقَبْضِ فَلَا يُمْنَعُ بَقَاؤُهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ، ثُمَّ بِتَقَرُّرِ بَيْعِهِ عَجَزَ عَنْ رَدِّهِ فَيَكُونُ ضَامِنًا قِيمَةَ السَّيْفِ لِصَاحِبِهِ ، وَإِنْ بَاعَ الْأَوْسَطُ نِصْفَ السَّيْفِ ثُمَّ فَارَقَهُ الْأَوَّلُ ثُمَّ قَبَضَ مِنْ الْآخِرِ الثَّمَنَ ، وَدَفَعَ إلَيْهِ نِصْفَ السَّيْفِ ، أَوْ لَمْ يَدْفَعْ حَتَّى جَاءَ الْأَوَّلُ وَخَاصَمَهُمْ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ إلَى الْأَوَّلِ نِصْفَهُ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ بَاقٍ فِي نِصْفِ السَّيْفِ ، وَقَدْ فَسَدَ السَّبَبُ فِيهِ فَعَلَيْهِ رَدُّهُ ، وَقَدْ جَازَ الْبَيْعُ فِي نِصْفِهِ فَيَضْمَنُ الْأَوْسَطُ نِصْفَ قِيمَةِ السَّيْفِ لِلْأَوَّلِ مِنْ الذَّهَبِ كَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى الرِّبَا إذَا ضَمِنَ
قِيمَتَهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ .
قَالَ : وَإِذَا اشْتَرَى أَلْفَ دِرْهَمٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ فَنَقَدَ الدَّنَانِيرَ وَقَالَ الْآخِرُ : اجْعَلْ الدَّرَاهِمَ قِصَاصًا بِالدَّرَاهِمِ الَّتِي لِي عَلَيْك فَهُوَ جَائِزٌ ، وَإِنْ أَبَى لَمْ يُجْبَرْ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَمْ يَكُنْ قِصَاصًا ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُقَاصَّةَ بَدَلَ الصَّرْفِ بِدَيْنٍ سَبَقَ وُجُوبُهُ عَلَى عَقْدِ الصَّرْفِ يَجُوزُ عِنْدَنَا - اسْتِحْسَانًا - إذَا اتَّفَقْنَا عَلَيْهِ ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا تَجُوزُ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ؛ لِأَنَّ بِالْعَقْدِ الْمُطْلَقِ يَصِيرُ قَبْضُ الْبَدَلَيْنِ فِي الْمَجْلِسِ مُسْتَحَقًّا ، وَفِي الْمُقَاصَّةِ تَفْوِيتُ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ ، فَلَا يَجُوزُ بِتَرَاضِيهِمَا كَمَا لَا يَجُوزُ الْإِبْرَاءُ عَنْ بَدَلِ الصَّرْفِ ، وَالِاسْتِبْدَالُ بِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي الْمُقَاصَّةِ يَكُونُ آخِرُ الدَّيْنَيْنِ قَضَاءً عَنْ أَوَّلِهِمَا ، وَلَا يَكُونُ أَوَّلُهُمَا قَضَاءً عَنْ آخِرِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَتْلُو الْوُجُوبَ وَلَا يَسْبِقُهُ فَلَوْ جَوَّزْنَا هَذِهِ الْمُقَاصَّةَ صَارَ قَاضِيًا بِبَدَلِ الصَّرْفِ الدَّيْنَ الَّذِي كَانَ وَاجِبًا ، وَبَدَلُ الصَّرْفِ يَجِبُ قَبْضُهُ وَلَا يَجُوزُ قَضَاءُ دَيْنٍ آخَرَ بِهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ رَأْسُ مَالِ السَّلَمِ فَإِنَّهُمَا لَوْ جَعَلَاهُ قِصَاصًا بِدَيْنٍ سَبَقَ وُجُوبُهُ لَمْ يَجُزْ فَكَذَلِكَ بَدَلُ الصَّرْفِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَيْنٌ مُسْتَحَقٌّ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ ، وَوَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُمَا لَمَّا اتَّفَقَا فَقَدْ حَوَّلَا عَقْدَ الصَّرْفِ إلَى ذَلِكَ الدَّيْنِ ، وَلَوْ أَضَافَا الْعَقْدَ إلَيْهِ فِي الِابْتِدَاءِ جَازَ بِأَنْ يَشْتَرِيَ بِالْعَشَرَةِ الَّتِي عَلَيْهِ دِينَارًا وَيَقْبِضَ الدِّينَارَ فِي الْمَجْلِسِ فَكَذَلِكَ إذَا حَوَّلَا الْعَقْدَ إلَيْهِ فِي الِانْتِهَاءِ ؛ لِأَنَّهُمَا قَصَدَا تَصْحِيحَ هَذِهِ الْمُقَاصَّةِ ، فَلَا طَرِيقَ لَهُ سِوَى هَذَا ، وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْمَقْصُودِ إلَّا بِهِ يَكُونُ مَقْصُودُ الْكُلِّ وَاحِدًا ، وَلِهَذَا شَرَطْنَا تَرَاضِيهِمَا عَلَى الْمُقَاصَّةِ ، وَإِنْ كَانَ فِي سَائِرِ الدُّيُونِ الْمُقَاصَّةُ تَقَعُ بِدُونِ التَّرَاضِي ؛ لِأَنَّ
هَذَا تَحْوِيلُ الْعَقْدِ إلَى ذَلِكَ الدَّيْنِ ، وَالْعَقْدُ قَدْ تَمَّ بِهِمَا فَالتَّصَرُّفُ بِهِ بِالتَّحْوِيلِ لَا يَكُونُ إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا ، وَعِنْدَ التَّرَاضِي الْعَقْدُ الْقَائِمُ بَيْنَهُمَا حَقُّهُمَا ، وَيَمْلِكَانِ اسْتِدَامَتَهُ وَرَفْعَهُ فَيَمْلِكَانِ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِالتَّحْوِيلِ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ وَهَذَا خَيْرٌ مِمَّا يَقُولُهُ الْعِرَاقِيُّونَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إنَّ عِنْدَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْمُقَاصَّةِ يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا فَسَخَا الْعَقْدَ الْأَوَّلَ ، ثُمَّ جَدَّدَاهُ مُضَافًا إلَى ذَلِكَ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الطَّرِيقُ هَذَا لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِقَالَةِ يَصِيرُ رَدُّ الْمَقْبُوضِ مُسْتَحَقًّا فِي الْمَجْلِسِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُمَا لَوْ جَعَلَا بَدَلَ الصَّرْفِ قِصَاصًا بِدَيْنٍ تَأَخَّرَ وُجُوبُهُ عَنْ عَقْدِ الصَّرْفِ لَا يَجُوزُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَلَوْ كَانَ التَّصْحِيحُ بِطَرِيقِ الْفَسْخِ لِلْعَقْدِ الْأَوَّلِ لَجَازَ ، وَالدَّيْنُ الْمُتَقَدِّمُ وَالْمُتَأَخِّرُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ، وَإِنَّمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ أَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ تَحْوِيلَ الْعَقْدِ إلَى مَا كَانَ يَصْلُحُ مِنْهُمَا إضَافَةُ الْعَقْدِ إلَيْهِ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَذَلِكَ فِي الدَّيْنِ الَّذِي سَبَقَ وُجُوبُهُ عَلَى عَقْدِ الصَّرْفِ دُونَ مَا تَأَخَّرَ وُجُوبُهُ عَنْهُ .
وَأَشَارَ فِي الزِّيَادَاتِ إلَى أَنَّ الْمُقَاصَّةَ أَيْضًا تَقَعُ بِالدَّيْنِ الْمُتَأَخِّرِ عَنْ عَقْدِ الصَّرْفِ ، وَذَكَرَ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ مِثْلَ مَا ذَكَرَ فِي الزِّيَادَاتِ ، وَلَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ هُوَ الْأَوَّلُ ، وَبِهَذَا فَارَقَ رَأْسُ الْمَالِ السَّلَمَ فَإِنَّهُمَا لَوْ أَضَافَا عَقْدَ السَّلَمِ إلَى رَأْسِ مَالٍ هُوَ دَيْنٌ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ إذَا افْتَرَقَا قَبْلَ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ فَكَذَلِكَ إذَا حَوَّلَا الْعَقْدَ إلَيْهِ فِي الِانْتِهَاءِ بِخِلَافِ عَقْدِ الصَّرْفِ ، وَهَذَا لِأَنَّ مَا يُقَابِلُ رَأْسَ الْمَالِ هُنَاكَ دَيْنٌ ، وَبِالْمُقَاصَّةِ لَا يَتَعَيَّنُ رَأْسُ الْمَالِ فَيَكُونُ دَيْنًا بِدَيْنٍ ، وَهُنَا مَا يُقَابِلُ الدَّيْنَ غَيْرُ مَقْبُوضٍ فِي الْمَجْلِسِ ، وَالِافْتِرَاقُ عَنْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ جَائِزٌ فَإِنْ أَدَّى بَعْضَ الدَّرَاهِمِ ، ثُمَّ فَارَقَهُ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ الْبَقِيَّةَ انْتَقَصَ مِنْ الصَّرْفِ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَالْفَسَادُ لِمَعْنًى طَارِئٍ فِي بَعْضِ الْعَقْدِ لَا يَتَعَدَّى إلَى مَا بَقِيَ ، وَلَوْ وَكَّلَ أَحَدُهُمَا وَكِيلًا بِالدَّفْعِ وَالْقَبْضِ جَازَ بَعْدَ أَنْ يَقْبِضَ الْوَكِيلُ قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَ الْمُتَعَاقِدَانِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِذَهَابِ الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ فَيَتَعَلَّقُ بِالْمُتَعَاقِدِينَ ، وَفِعْلُ وَكِيلِ أَحَدِهِمَا لَهُ كَفِعْلِهِ بِنَفْسِهِ ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ صَاحِبِهِ شَيْئًا بِثَمَنِ الصَّرْفِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ لِمَا فِي الِاسْتِبْدَالِ مِنْ تَفْوِيتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ فِي الْمَجْلِسِ ، وَلِأَنَّ الْقَبْضَ مُعْتَبَرُ التَّعْيِينِ ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ فِيمَا يَتَنَاوَلُهُ عَقْدُ الصَّرْفِ بِطَرِيقِ الِاسْتِبْدَالِ وَكَذَلِكَ لَا يَشْتَرِي بِهِ مِنْ غَيْرِهِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ فِي الدَّيْنِ مَعَ مَنْ عَلَيْهِ أَقْرَبُ إلَى النُّقُودِ مِنْهُ مَعَ غَيْرِهِ فَإِذَا لَمْ يَجُزْ الِاسْتِبْدَالُ بِبَدَلِ الصَّرْفِ مَعَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَمَعَ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ
وَإِذَا اشْتَرَى إبْرِيقَ فِضَّةٍ وَزْنُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَنَقَدَ خَمْسَمِائَةٍ وَقَبَضَ الْإِبْرِيقَ ثُمَّ افْتَرَقَا فَإِنَّهُ يَلْزَمُ نِصْفُ الْإِبْرِيقِ ، وَيَبْطُلُ نِصْفُهُ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَلَا يَتَخَيَّرُ فِي الرَّدِّ بِسَبَبِ عَيْبِ التَّبْعِيضِ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِفِعْلِهِ حِينَ لَمْ يَنْقُدْ بَعْضَ الْبَدَلِ بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْإِبْرِيقِ فَإِنَّهُ يَتَخَيَّرُ فِيمَا بَقِيَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ التَّبْعِيضَ فِي الْأَمْلَاكِ الْمُجْتَمَعَةِ عَيْبٌ فَإِنْ تَقَاصَّا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ ثُمَّ وَجَدَ بِالْإِبْرِيقِ عَيْبًا كَثِيرًا أَوْ هَشِيمًا غَيْرَ نَافِذٍ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ ؛ لِأَنَّهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ اسْتَحَقَّ صِفَةَ السَّلَامَةِ ، وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ بِوُجُودِ الْعَيْبِ .
وَالْقَلْبُ وَالطَّوْقُ وَالْمِنْطَقَةُ وَالسَّيْفُ الْمُحَلَّى بِمَنْزِلَةِ الْإِبْرِيقِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا ، وَإِنْ كَانَ حِينَ وَجَدَ الْعَيْبَ بِالْإِبْرِيقِ لَمْ يَرُدَّهُ حَتَّى انْكَسَرَ عِنْدَهُ لَمْ يَسْتَطِعْ رَدَّهُ ؛ لِأَنَّهُ بِالرَّدِّ يَدْفَعُ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْحِقَ الضَّرَرَ بِالْبَائِعِ ، وَفِي الرَّدِّ بَعْدَ حُدُوثِ الْعَيْبِ إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِهِ ، وَلَا يَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ الْعَيْبِ مِنْ الثَّمَنِ ، فَإِذَا رَجَعَ بِهِ يَصِيرُ الْعَقْدُ رِبًا ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى بِمُقَابَلَةِ الْإِبْرِيقِ أَقَلُّ مِنْ وَزْنِهِ مِنْ الْفِضَّةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ دَنَانِيرَ فَيَرْجِعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ ؛ لِأَنَّهُ لَا رِبَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ بِهِ عَيْبًا وَلَكِنَّهُ اسْتَحَقَّ نِصْفَهُ وَلَمْ يَرُدَّ النِّصْفَ الْبَاقِيَ عَلَى الْبَائِعِ حَتَّى انْكَسَرَ الْإِبْرِيقُ لَزِمَهُ النِّصْفُ الْبَاقِي بِالْعَيْبِ الْحَادِثِ عِنْدَهُ فِيهِ ، وَرَجَعَ بِنِصْفِ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي النِّصْفِ الْمُسْتَحَقِّ قَدْ بَطَلَ .
وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِدِينَارٍ ، وَنَقَدَهُ الدِّينَارَ ، ثُمَّ اشْتَرَى مِنْهُ ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَتَرَاضَيَا عَلَى أَنْ تَكُونَ الْعَشَرَةُ قِصَاصًا بِبَدَلِ الصَّرْفِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ هَذَا دَيْنٌ تَأَخَّرَ وُجُوبُهُ عَنْ عَقْدِ الصَّرْفِ ، وَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الِاسْتِبْدَالِ .
وَإِنْ اسْتَقْرَضَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ مِنْ بَائِعِ الدِّينَارِ ، ثُمَّ قَضَاهَا إيَّاهُ بَعْدَ مَا قَبَضَهَا جَازَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُقْرَضَ صَارَ مَمْلُوكًا لَهُ بِالْقَبْضِ ، وَصَارَ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ اسْتَقْرَضَ مِنْ غَيْرِهِ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الِافْتِرَاقَ عَنْ مَجْلِسِ عَقْدِ الصَّرْفِ قَدْ حَصَلَ بَعْدَ قَبْضِ الْبَدَلَيْنِ ، وَإِنَّمَا الْبَاقِي لِأَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ بَدَلُ الْقَرْضِ .
وَإِذَا اشْتَرَى عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِدِينَارٍ وَتَقَابَضَا إلَّا دِرْهَمًا وَاحِدًا بَقِيَ مِنْ الْعَشَرَةِ فَأَرَادَ الَّذِي اشْتَرَى مِنْهُ الدَّرَاهِمَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ عُشْرَ الدِّينَارِ حِينَ لَمْ يَكُنْ عِنْدَ الْآخَرِ الدِّرْهَمُ فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فَسَدَ فِي عُشْرِ الدِّينَارِ بِالِافْتِرَاقِ قَبْل قَبْضِ الدِّرْهَمِ ، وَهَذِهِ مَطْعُونَةُ عِيسَى وَقَدْ بَيَّنَّاهَا ، فَإِنْ اشْتَرَى مِنْهُ بِعُشْرِ الدِّينَارِ فُلُوسًا أَوْ عَرَضًا مُسَمًّى جَازَ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الصَّرْفِ لَمَّا فَسَدَ فِيهِ بَقِيَ مِلْكًا لَهُ فِي يَدِ صَاحِبِهِ أَوْ دَيْنًا لَهُ عَلَى صَاحِبِهِ وَاجِبًا بِسَبَبِ الْقَبْضِ دُونَ عَقْدِ الصَّرْفِ فَيَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ كَبَدَلِ الْقَرْضِ ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ فَالدَّرَاهِمُ مُسْتَحَقَّةٌ لَهُ بِعَقْدِ الصَّرْفِ ، وَالِاسْتِبْدَالُ بِبَدَلِ الصَّرْفِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ .
وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ قَرْضٍ أَوْ غَيْرِهِ فَبَاعَ دَيْنَهُ مِنْ رَجُلٍ آخَرَ بِمِائَةِ دِينَارٍ وَقَبَضَ الدَّنَانِيرَ لَمْ يَجُزْ وَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ الدَّنَانِيرَ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يُرَدُّ إلَّا عَلَى مَالٍ مُتَقَوِّمٍ ، وَمَا فِي ذِمَّةِ زَيْدٍ لَا يَكُونُ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَقِّ عَمْرٍو فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْهُ ، وَلِأَنَّ الْبَائِعَ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ ، وَلَا يَدْرِي مَتَى يَسْتَوْفِي ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ النَّقْدُ الْمُضَافُ إلَيْهِ يَتَعَيَّنُ فِي الْعَقْدِ ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ ، وَالشِّرَاءُ بِالدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ سَوَاءٌ كُلُّ ذَلِكَ بَاطِلٌ ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ الشِّرَاءُ بِالدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ صَحِيحٌ كَمَا يَصِحُّ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالدَّيْنِ الْمُضَافِ إلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى بِالدَّيْنِ الْمَظْنُونِ شَيْئًا ثُمَّ تَصَادَقَا عَلَى أَنْ لَا دَيْنَ كَانَ الشِّرَاءُ صَحِيحًا بِمِثْلِ ذَلِكَ الثَّمَنِ فِي ذِمَّتِهِ فَكَذَلِكَ هُنَا يَصِحُّ الشِّرَاءُ بِمِثْلِ ذَلِكَ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي ، وَهَذَا لِأَنَّهُ إذَا أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى عَيْنٍ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ لِتَتْمِيمِ الْمِلْكِ فِيهِ ، وَلَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ عِنْدَ إضَافَةِ الشِّرَاءِ إلَى الدَّيْنِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : مِلْكُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِالْبَدَلِ ، وَإِذَا مَلَكَ بِغَيْرِ بَدَلٍ لَمْ يَجُزْ فَإِذَا مَلَكَهُ بِبَدَلٍ أَوْلَى ثُمَّ لِلْفَسَادِ هُنَا طَرِيقَتَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ بِإِضَافَةِ الشِّرَاءِ إلَى ذَلِكَ الدَّيْنِ يَصِيرُ كَأَنَّهُ شَرَطَ لِنَفْسِهِ الْأَجَلَ إلَى أَنْ يَخْرُجَ ذَلِكَ الدَّيْنُ فَيَتَمَكَّنَ مِنْ أَدَاءِ الثَّمَنِ ، وَلَا يَدْرِي مَتَى يَخْرُجُ ، وَشَرْطُ الْأَجَلِ الْمَجْهُولِ مُفْسِدٌ لِلْبَيْعِ ، وَالثَّانِي : أَنَّهُ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ ثَمَنُ الْمُشْتَرِي فِي ذِمَّةِ غَيْرِ الْمُشْتَرِي مُسْتَحَقًّا بِالشِّرَاءِ ، وَذَلِكَ
لَا يَجُوزُ ، وَبِهِ فَارَقَ مَا إذَا اشْتَرَى بِالدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ أَوْ اشْتَرَى بِالدَّيْنِ الْمَظْنُونِ شَيْئًا .
وَإِذَا كَانَتْ الدَّرَاهِمُ أَوْ الدَّنَانِيرُ وَدِيعَةً عِنْدَ رَجُلٍ فَبَاعَ الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ ، أَوْ الدَّنَانِيرَ بِالدَّرَاهِمِ ، وَتَقَابَضَا فَجَاءَ صَاحِبُهَا فَأَخَذَهَا مِنْ الْبَائِعِ فَإِنْ كَانَا لَمْ يَتَفَرَّقَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ مِثْلُهَا ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ اُسْتُحِقَّ فَكَأَنَّهُمَا لَمْ يَتَقَابَضَا إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ ، وَإِنَّمَا انْعَقَدَ الْعَقْدُ بِمِثْلِ مَا عَيَّنَهُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ ، وَإِنْ كَانَا قَدْ افْتَرَقَا يَبْطُلُ الصَّرْفُ إذَا أَخَذَهَا الْمُسْتَحِقُّ لِانْتِقَاضِ الْقَبْضِ بِالِاسْتِحْقَاقِ مِنْ الْأَصْلِ ، وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهَا الْمُسْتَحِقُّ وَلَكِنَّهُ أَجَازَ الْبَيْعَ جَازَ ذَلِكَ عِنْدَنَا ، وَكَانَ لَهُ مِثْلُهَا عَلَى الْمُودَعِ ، وَقَالَ زُفَرُ : الصَّرْفُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الِافْتِرَاقَ حَصَلَ قَبْلَ الْمِلْكِ فَإِنَّ الْمُسْتَحِقَّ لَا يَمْلِكُ قَبْلَ الْإِجَازَةِ وَقَبْلَ تَمَامِ الْقَبْضِ فَإِنَّ الْمَوْقُوفَ لَا يَكُونُ تَامًّا ، فَلَا يَنْفُذُ الْعَقْدُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْإِجَازَةِ ، كَمَا لَوْ افْتَرَقَا وَلِأَحَدِهِمَا شَرْطُ خِيَارٍ ، ثُمَّ أُسْقِطَ الْخِيَارُ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : افْتَرَقَا بَعْدَ تَمَامِ السَّبَبِ وَبَعْدَ تَمَامِ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْمَوْقُوفَ سَبَبُ مِلْكٍ تَامٍّ فَالْقَبْضُ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ يَكُونُ تَامًّا أَيْضًا ، وَإِنَّمَا فِيهِ خِيَارٌ حُكْمِيٌّ لِلْمُسْتَحِقِّ ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الْعَقْدِ وَالْقَبْضِ كَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ وَالْعَيْبِ فَإِذَا أُسْقِطَ هَذَا الْخِيَارُ بِالْإِجَازَةِ تَبَيَّنَ أَنَّ الِافْتِرَاقَ حَصَلَ عَنْ قَبْضٍ تَامٍّ فَالْإِجَازَةُ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ بِخِلَافِ شَرْطِ الْخِيَارِ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الْعَقْدَ فِي حَقِّ الْحُكْمِ كَالْمُتَعَلِّقِ بِالشَّرْطِ عَلَى مَا بَيَّنَهُ فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَإِنْ كَانَتْ الْوَدِيعَةُ إبْرِيقَ فِضَّةٍ فَبَاعَهُ بِمِائَةِ دِينَارٍ ، وَتَقَابَضَا فَأَجَازَ صَاحِبُهُ الْبَيْعَ كَانَ الثَّمَنُ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْمُودِعَ هُنَا بَائِعُ الْإِبْرِيقِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعُرُوضِ ، وَمَنْ بَاعَ مِلْكَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَأَجَازَ صَاحِبُهُ كَانَ الثَّمَنُ لَهُ ، وَفِي الْأَوَّلِ الْمُودِعُ مُشْتَرِي الدَّنَانِيرِ لِنَفْسِهِ بِالدَّرَاهِمِ ، ثُمَّ نَقَدَ دَرَاهِمَ الْوَدِيعَةِ دَيْنًا عَلَيْهِ فَكَانَ مُسْتَقْرِضًا فَإِذَا أَجَازَهُ صَاحِبُهُ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ مِثْلُ دَرَاهِمِهِ .
وَإِنْ اشْتَرَى رَجُلٌ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَدِينَارًا بِاثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَنَا عَلَى أَنْ تَكُونَ الْعَشَرَةُ بِالْعَشَرَةِ ، وَالْفَضْلُ بِالدِّينَارِ .
وَلَوْ اشْتَرَى دِينَارًا أَوْ دِرْهَمًا بِدِينَارَيْنِ أَوْ دِرْهَمَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَنَا - اسْتِحْسَانًا - عَلَى أَنْ يُصْرَفَ الْجِنْسُ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي السَّلَمِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الْخِيَارِ فِي الصَّرْفِ قَالَ : وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ أَلْفَ دِرْهَمٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ ، وَاشْتَرَطَ الْخِيَارَ فِيهِ يَوْمًا فَإِنْ بَطَلَ الْخِيَارُ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا جَازَ الْبَيْعُ ، وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ أَنْ يُبْطِلَهُ ، وَقَدْ تَقَابَضَا فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُمَا تَفَرَّقَا قَبْلَ تَمَامِ الْقَبْضِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْخِيَارَ يَدْخُلُ عَلَى حُكْمِ الْعَقْدِ فَيَجْعَلُهُ مُتَعَلِّقًا بِالشَّرْطِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : " عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ " شَرْطٌ ، وَلَا يُمْكِنُ إدْخَالُهُ عَلَى نَفْسِ السَّبَبِ فَالْبَيْعُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَيُجْعَلُ دَاخِلًا عَلَى الْحُكْمِ ، وَلَوْ دَخَلَ عَلَى السَّبَبِ كَانَ دَاخِلًا عَلَى الْحُكْمِ أَيْضًا ، وَمَعْنَى الْغَرَرِ أَنَّ إدْخَالَهُ عَلَى الْحُكْمِ دُونَ السَّبَبِ أَقَلُّ ، وَالْقَبْضُ مِنْ حُكْمِ الْعَقْدِ ، وَالْحُكْمُ الْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَهُ فَإِذَا سَقَطَ الْخِيَارُ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا فَإِنَّمَا افْتَرَقَا بَعْدَ قَبْضٍ تَامٍّ ، وَإِذَا افْتَرَقَا قَبْلَ إسْقَاطِ الْخِيَارِ فَإِنَّمَا افْتَرَقَا قَبْلَ تَمَامِ الْقَبْضِ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِنَا أَنَّ الْمُفْسِدَ إذَا زَالَ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ يَصِيرُ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ ، خِلَافًا لِزُفَرَ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ أَوْ لَهُمَا طَالَتْ الْمُدَّةُ أَوْ قَصُرَتْ ، وَكَذَلِكَ الْإِنَاءُ بِالْمَصُوغِ ، وَالسَّيْفُ الْمُحَلَّى وَالطَّوْقُ مِنْ الذَّهَبِ فِيهِ لُؤْلُؤٌ ، وَجَوْهَرٌ لَا يَتَخَلَّصُ إلَّا بِكَسْرِ الطَّوْقِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي حِصَّةِ الطَّوْقِ يَفْسُدُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فَيَفْسُدُ فِي الْكُلِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَصِلُ الْبَعْضُ عَنْ الْبَعْضِ فِي التَّسْلِيمِ إلَّا بِضَرَرٍ فَأَمَّا اللِّجَامُ الْمُمَوَّهُ وَمَا أَشْبَهَهُ فَإِنَّ شَرْطَ الْخِيَارِ فِي بَيْعِهِ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ التَّمْوِيهَ لَا يَتَخَلَّصُ ، وَلَا يَكُونُ الْعَقْدُ بِاعْتِبَارِهِ صَرْفًا ، وَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيمَا سِوَى الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ مِنْ الْبُيُوعِ صَحِيحٌ .
وَإِذَا اشْتَرَى جَارِيَةً وَطَوْقَ ذَهَبٍ فِيهِ خَمْسُونَ دِينَارًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَاشْتَرَطَ الْخِيَارَ فِيهِمَا يَوْمًا فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ كُلُّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ فِي الْجَارِيَةِ بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ عِنْدَهُمَا فِي بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ لَا يَتَعَدَّى إلَى مَا بَقِيَ بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى مَا وُجِدَ فِيهِ الْعِلَّةُ الْمُفْسِدَةُ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَتَعَدَّى إلَى مَا بَقِيَ ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الْعَقْدِ فِيمَا فَسَدَ فِيهِ الْعَقْدُ شَرْطٌ لِقَبُولِهِ فِيمَا بَقِيَ ، وَهَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْأَصْلَ فِي الْبُيُوعِ ، وَهُمَا يُفَرِّقَانِ بَيْنَ هَذَا وَالْأَوَّلِ فَيَقُولَانِ هُنَاكَ يَتَعَذَّرُ تَصْحِيحُ الْعَقْدِ فِي حِصَّةِ الْمَبِيعِ لِمَا فِي تَمَيُّزِ الْبَعْضِ مِنْ الْبَعْضِ مِنْ الضَّرَرِ ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ هُنَا ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي تَمْيِيزِ الْجَارِيَةِ مِنْ الطَّوْقِ فِي التَّسْلِيمِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَاهُمَا بِمِائَةِ دِينَارٍ وَشَرَطَ الْأَجَلَ فَاشْتِرَاطُ الْأَجَلِ هُنَا كَاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ وَأَبُو حَنِيفَةَ فَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا تَرَكَ التَّقَابُضَ حَتَّى افْتَرَقَا فَإِنَّهُ يَبْطُلُ الْعَقْدُ فِي حِصَّةِ الطَّوْقِ دُونَ الْجَارِيَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُقَيَّدِ هُنَاكَ طَارِئٌ ، وَقَدْ وُجِدَ فِي الْبَعْضِ ؛ وَهُوَ حِصَّةُ الصَّرْفِ فَلَا يَتَعَدَّى إلَى مَا بَقِيَ ، وَعِنْدَ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ ، أَوْ الْأَجَلُ الْمُفْسِدُ مُقَارِنٌ لِلْعَقْدِ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْكُلِّ مَعْنَى " مِنْ " حَيْثُ إنَّ قَبُولَ الْعَقْدِ فِي الْبَعْضِ يَكُونُ شَرْطًا لِقَبُولِهِ فِي الْبَاقِي ، وَإِنْ اشْتَرَاهُمَا بِحِنْطَةٍ أَوْ عَرَضٍ وَاشْتَرَطَ الْخِيَارَ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا بَيْعٌ ، وَلَيْسَ بِصَرْفٍ .
وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى رَطْلًا مِنْ نُحَاسٍ بِدِرْهَمٍ وَاشْتَرَطَ الْخِيَارَ فِيهِ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَرْفٍ ، وَالْخِيَارُ جَائِزٌ فِي كُلِّ مَا لَيْسَ بِصَرْفٍ يَعْنِي : كُلُّ بَيْعٍ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ ، فَالصَّرْفُ مُبَادَلَةُ الْأَثْمَانِ بَعْضِهَا بِبَعْضِ ، اتَّفَقَ الْجِنْسُ أَوْ اخْتَلَفَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الْبَيْعِ بِالْفُلُوسِ وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ فُلُوسًا بِدَرَاهِمَ وَنَقَدَ الثَّمَنَ ، وَلَمْ تَكُنْ الْفُلُوسُ عِنْدَ الْبَائِعِ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْفُلُوسَ الرَّابِحَةَ ثَمَنٌ كَالنُّقُودِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ فِي الثَّمَنِ وُجُوبُهَا وَوُجُودُهَا مَعًا ، وَلَا يُشْتَرَطُ قِيَامُهَا فِي مِلْكِ بَائِعِهَا لِصِحَّةِ الْعَقْدِ كَمَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ .
وَإِنْ اسْتَقْرَضَ الْفُلُوسَ مِنْ رَجُلٍ وَدَفَعَ إلَيْهِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ أَوْ بَعْدَهُ فَهُوَ جَائِزٌ إذَا كَانَ قَدْ قَبَضَ الدَّرَاهِمَ فِي الْمَجْلِسِ لِأَنَّهُمَا قَدْ افْتَرَقَا عَنْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ ، وَذَلِكَ جَائِزٌ فِي عَيْنِ الصَّرْفِ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ التَّقَابُضُ فِي الصَّرْفِ بِمُقْتَضَى اسْمِ الْعَقْدِ ، وَبَيْعُ الْفُلُوسِ بِالدَّرَاهِمِ لَيْسَ بِصَرْفٍ ، وَكَذَلِكَ لَوْ افْتَرَقَا بَعْدَ قَبْضِ الْفُلُوسِ قَبْلَ قَبْضِ الدَّرَاهِمِ ، وَعَلَى مَا ذَكَرَ ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ زُفَرَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لَا يَجُوزُ هَذَا الْعَقْدُ أَصْلًا ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِ زُفَرَ أَنَّ الْفُلُوسَ الرَّائِجَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ تَتَعَيَّنُ فِي الْعَقْدِ إذَا عُيِّنَتْ ، وَإِذَا كَانَتْ بِغَيْرِ عَيْنِهَا فَإِنْ لَمْ يَصْحَبْهَا حَرْفُ الْبَاءِ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ ، وَإِنْ صَحِبَهَا حَرْفُ الْبَاءِ ، وَبِمُقَابَلَتِهَا عِوَضٌ يَجُوزُ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّهَا ثَمَنٌ ، وَإِنْ كَانَ بِمُقَابَلَتِهَا النَّقْدُ - لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ مَبِيعَةً إذَا قَابَلَهَا مَا لَا يَكُونُ إلَّا ثَمَنًا أَمَّا عِنْدَنَا فَالْفُلُوسُ الرَّائِجَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأَثْمَانِ ؛ لِاصْطِلَاحِ النَّاسِ عَلَى كَوْنِهَا ثَمَنًا لِلْأَشْيَاءِ فَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْقَدْرِ الْمُسَمَّى مِنْهَا فِي الذِّمَّةِ ، وَيَكُونُ ثَمَنًا ، عُيِّنَ أَوْ لَمْ يُعَيَّنْ كَمَا فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَابَضَا حَتَّى افْتَرَقَا بَطَلَ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ بِدَيْنٍ ، وَالدَّيْنُ بِالدَّيْنِ لَا يَكُونُ عَقْدًا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ .
وَذَكَرَ فِي الْإِمْلَاءِ عَنْ مُحَمَّدٍ لَوْ اشْتَرَى مِائَةَ فَلْسٍ بِدِرْهَمٍ عَلَى أَنَّهُمَا بِالْخِيَارِ ، وَتَفَرَّقَا بَعْدَ الْقَبْضِ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَتِمُّ مَعَ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فَكَأَنَّهُمَا تَفَرَّقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ .
وَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ مَشْرُوطًا لِأَحَدِهِمَا فَتَفَرَّقَا بَعْدَ التَّقَابُضِ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ يَتِمُّ مِمَّنْ لَمْ يَشْتَرِطْ الْخِيَارَ فِي الْبَدَلِ الَّذِي مِنْ جَانِبِهِ ، وَقَبْضُ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ هُنَا يَكْفِي بِخِلَافِ الصَّرْفِ ، وَلَكِنَّ هَذَا التَّفْرِيعَ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ : الْمَشْرُوطُ لَهُ الْخِيَارُ يَمْلِكُ عَرَضَ صَاحِبِهِ ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَالْمَشْرُوطُ لَهُ الْخِيَارُ كَمَا لَا يَمْلِكُ عَلَيْهِ الْبَدَلَ الَّذِي مِنْ جَانِبِهِ لَا يَمْلِكُ الْبَدَلَ مِنْ جَانِبِ صَاحِبِهِ ، فَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ لِأَحَدِهِمَا يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْضِ فِيهِمَا جَمِيعًا .
وَإِنْ اشْتَرَى خَاتَمَ فِضَّةٍ أَوْ خَاتَمَ ذَهَبٍ فِيهِ فَصٌّ ، أَوْ لَيْسَ فِيهِ فَصٌّ بِكَذَا فَلْسًا ، وَلَيْسَتْ الْفُلُوسُ عِنْدَهُ فَهُوَ جَائِزٌ إنْ تَقَابَضَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ أَوْ لَمْ يَتَقَابَضَا ؛ لِأَنَّ هَذَا بَيْعٌ ، وَلَيْسَ بِصَرْفٍ فَإِنَّمَا افْتَرَقَا عَنْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ ؛ لِأَنَّ الْخَاتَمَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعَيُّنِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَإِنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ ؛ فَلِهَذَا شُرِطَ هُنَاكَ قَبْضُ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ فِي الْمَجْلِسِ ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ هُنَا ، وَكَذَلِكَ مَا اشْتَرَى مِنْ الْعُرُوضِ بِالْفُلُوسِ لَوْ اشْتَرَى بِهَا فَاكِهَةً أَوْ لَحْمًا أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ بِعَيْنِهِ ؛ لِأَنَّ الْفُلُوسَ ثَمَنٌ كَالدَّرَاهِمِ .
وَلَوْ اشْتَرَى عَيْنًا بِدِرْهَمٍ جَازَ الْعَقْدُ ، وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَسَوَاءٌ قَالَ اشْتَرَيْت مِثْلَ كَذَا فَلْسًا بِدِرْهَمٍ ، أَوْ دِرْهَمًا بِكَذَا فَلْسًا ؛ لِأَنَّ الْفُلُوسَ الرَّائِجَةَ ثَمَنٌ كَالنَّقْدِ عِنْدَنَا ، صَحِبَهَا حَرْفُ الْبَاءِ أَوْ لَمْ يَصْحَبْهَا ، وَقِيَامُ الْمِلْكِ فِي الثَّمَنِ عِنْدَ الْعَقْدِ لَيْسَ بِشَرْطٍ .
وَإِنْ اشْتَرَى مَتَاعًا بِعَشَرَةِ أَفْلُسٍ بِعَيْنِهَا فَلَهُ أَنْ يُعْطِيَ غَيْرَهَا مِمَّا يَجُوزُ بَيْنَ النَّاسِ ، وَإِنْ أَعْطَاهَا بِعَيْنِهَا فَوَجَدَ فِيهَا فَلْسًا لَا يُنْفَقُ اسْتَبْدَلَهُ كَمَا يَسْتَبْدِلُ الزَّيْفَ فِي الدَّرَاهِمِ ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ ثَمَنًا فَإِنَّمَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ، فَلَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ ، ثُمَّ ذَكَرَ بَيْعَ فَلْسٍ بِعَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ الْفُصُولِ فِي الْبُيُوعِ إلَّا أَنَّهُ هُنَاكَ ذَكَرَ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُنَا ذَكَرَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَوْلَ أَبِي يُوسُفَ ، وَعَلَّلَ لَهُمَا فَقَالَ : لَا يُوزَنُ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَصْنُوعٌ مِنْ النُّحَاسِ لَا يُعْتَادُ وَزْنُهُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْأَوَانِي الَّتِي لَا تُبَاعُ وَزْنًا ، وَبَيْعُ قَمْقَمَةٍ بِعَيْنِهَا بِقَمْقَمَتَيْنِ بِأَعْيَانِهِمَا يَجُوزُ فَكَذَلِكَ الْفُلُوسُ .
وَإِذَا اشْتَرَى مِائَةَ فَلْسٍ بِدِرْهَمٍ فَنَقَدَ الدِّرْهَمَ ، وَقَبَضَ مِنْ الْفُلُوسِ خَمْسِينَ ، وَكَسَدَتْ الْفُلُوسُ بَطَلَ الْبَيْعُ فِي الْخَمْسِينَ النَّافِقَةِ ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَسَدَتْ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ مِنْهَا شَيْئًا بَطَلَ الْعَقْدُ فِي الْكُلِّ فَكَذَلِكَ إذَا كَسَدَتْ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ بَعْضَهَا اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ إذَا كَانَتْ مُعَيَّنَةً حَتَّى جَازَ الْعَقْدُ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِالْكَسَادِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَتَنَاوَلُ عَيْنَهَا ، وَالْعَيْنُ بَاقِيَةٌ بَعْدَ الْكَسَادِ ، وَهُوَ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْعَقْدُ تَنَاوَلَهَا بِصِفَةِ الثَّمَنِيَّةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهَا مَا دَامَتْ رَائِجَةً فَهِيَ تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ثَمَنًا ، وَبِالْكَسَادِ تَنْعَدِمُ مِنْهَا صِفَةُ الثَّمَنِيَّةِ فَفِي حِصَّةِ مَا لَمْ يَقْبِضْ انْعِدَامُ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَكَانَ صِفَةُ الثَّمَنِيَّةِ فِي الْفُلُوسِ كَصِفَةِ الْمَالِيَّةِ فِي الْأَعْيَانِ ، وَلَوْ انْعَدَمَتْ الْمَالِيَّةُ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، أَوْ بِتَخْمِيرِ الْعَصِيرِ فَسَدَ الْعَقْدُ فَهَذَا مِثْلُهُ ، ثُمَّ يَرُدُّ الْبَائِعُ النِّصْفَ دِرْهَمٍ الَّذِي قَبْضَهُ لِفَسَادِ الْعَقْدِ فِيهِ ، وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ بِذَلِكَ النِّصْفِ الدِّرْهَمِ مَا أَحَبَّ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ ، وَجَبَ بِسَبَبِ الْقَبْضِ فَكَانَ مِثْلَ بَدَلِ الْقَرْضِ ، وَلَوْ لَمْ تَكْسُدْ ، وَلَكِنَّهَا رَخُصَتْ ، أَوْ غَلَتْ لَمْ يَفْسُدْ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الثَّمَنِيَّةِ فِي الْفُلُوسِ ، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ رَغَائِبُ النَّاسِ فِيهَا ، وَبِذَلِكَ لَا يُفَوَّتُ الْبَدَلُ ، وَلَا يَتَعَيَّبُ ، وَلِلْمُشْتَرِي مَا بَقِيَ مِنْ الْفُلُوسِ ، وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي ذَلِكَ .
وَلَوْ اشْتَرَى مِائَةَ فَلْسٍ بِدِرْهَمٍ فَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى بَاعَهَا مِنْ آخَرَ بِدِرْهَمٍ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ الْفُلُوسَ دَيْنًا فَإِنَّمَا بَاعَ الدَّيْنَ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُبَادَلَةَ بِالدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ ، وَكَذَا لَوْ بَاعَ الْآخَرُ الدِّرْهَمَ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ مِنْ رَجُلٍ بِفُلُوسٍ ، أَوْ غَيْرِهَا لَمْ يَجُزْ لِهَذَا الْمَعْنَى .
قَالَ : وَإِذَا اشْتَرَى مِائَةَ فَلْسٍ بِدِرْهَمٍ فَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى بَاعَ مِنْ رَجُلٍ تِسْعِينَ فَلْسًا بِدِرْهَمٍ ، ثُمَّ قَبَضَ تِلْكَ الْفُلُوسَ ، وَنَقَدَ مِنْهَا تِسْعِينَ ، وَاسْتَفْصَلَ عَشَرَةَ فَهُوَ جَائِزٌ مُسْتَقِيمٌ كَمَا لَوْ قَبَضَ الْمِائَةَ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ بِالْعَقْدِ الثَّانِي يَلْتَزِمُ الْفُلُوسَ فِي ذِمَّتِهِ ، وَلَا يُضِيفُ الْعَقْدَ إلَى دَيْنٍ فِي ذِمَّةِ غَيْرِهِ فَيَكُونُ صَحِيحًا ، وَالرِّبْحُ إنَّمَا يَحْصُلُ لَهُ عَلَى مِلْكِهِ ، وَضَمَانِهِ فَيَكُونُ طَيِّبًا لَهُ .
.
وَإِنْ اشْتَرَى فَاكِهَةً ، أَوْ غَيْرَهَا بِدَانِقِ فُلُوسٍ ، أَوْ بِقِيرَاطِ فُلُوسٍ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ ، وَلَوْ اشْتَرَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِدِرْهَمِ فُلُوسٍ ، كَانَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ ، وَهُوَ فِي الدِّرْهَمِ أَفْحَشُ ، وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى حُكْمِ الْجَوَازِ ، وَالْفَسَادِ هُنَا ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ فِيمَا دُونَ الدِّرْهَمِ أَنَّهُ يَجُوزُ ، وَإِنْ قَالَ بِدِرْهَمِ فُلُوسٍ ، أَوْ بِدِرْهَمَيْنِ لَا يَجُوزُ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْبُخَارِيِّ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْكُلِّ وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ مَا لَمْ يُبَيِّنْ عَدَدَ الْفُلُوسِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالدَّانَقِ ، وَلَا بِالدَّرَاهِمِ ، وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْفُلُوسِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةَ الْعَدَدِ ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِتَسْمِيَةِ الدَّانَقِ ، وَالدَّرَاهِمِ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ قَدْ يَسْتَقْصُونَ فِي بَيْعِ الْفُلُوسِ ، وَقَدْ يَتَسَامَحُونَ ؛ وَلِأَنَّ الدَّانَقَ ، وَالدِّرْهَمَ ذِكْرٌ لِلْوَزْنِ ، وَالْفُلُوسُ عَدَدِيٌّ فَيَلْغُو اعْتِبَارُ ذِكْرِ الْوَزْنِ فِيهِ بِنَفْيِ ذِكْرِ الْفُلُوسِ ، فَلَا يَجُوزُ الْعَقْدُ إلَّا بِبَيَانِ الْعَدَدِ ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِتَسْمِيَةِ الدَّانَقِ ، وَالدَّرَاهِمِ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ بِذِكْرِ الدَّانَقِ وَالدِّرْهَمِ يَصِيرُ عَدَدُ الْفُلُوسِ مَعْلُومًا ؛ لِأَنَّ قَدْرَ مَا يُوجَدُ بِالدِّرْهَمِ مِنْ الْفُلُوسِ مَعْلُومٌ فِي السُّوقِ فَتَسْمِيَةُ الدِّرْهَمِ كَتَسْمِيَةِ ذَلِكَ الْعَدَدِ فِي الْإِعْلَامِ عَلَى وَجْهٍ لَا تُمْكِنُ الْمُنَازَعَةُ فِيهِ بَيْنَهُمَا وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ : فِيمَا دُونَ الدِّرْهَمِ يَكْثُرُ الِاسْتِعْمَالُ بَيْنَ النَّاسِ لِلْعِبَارَةِ عَمَّا يُوجَدُ بِهِ مِنْ عَدَدِ الْفُلُوسِ فَيُقَامُ مَقَامَ تَسْمِيَةِ ذَلِكَ الْعَدَدِ ، وَفِي الدِّرْهَمِ ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ قَلَّمَا يُسْتَعْمَلُ هَذَا اللَّفْظُ - يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ الدَّانَقِ ، وَالدَّانَقَيْنِ لَا يَكُونُ مَعْلُومَ الْجِنْسِ - إلَّا بِالْإِضَافَةِ ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الذَّهَبِ ،
وَالْفِضَّةِ ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْمَوْزُونَاتِ فَإِنَّمَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِذِكْرِ الْفُلُوسِ فَأَقَمْنَا ذَلِكَ مَقَامَ تَسْمِيَةِ الْعَدَدِ ، وَأَمَّا الدِّرْهَمُ فَمَعْلُومٌ بِنَفْسِهِ غَيْرُ مُضَافٍ إلَى شَيْءٍ ، فَلَا يُجْعَلُ عِبَارَةً عَنْ الْعَدَدِ مِنْ الْفُلُوسِ ؛ فَلِهَذَا قَالَ : هُوَ فِي الدِّرْهَمِ أَفْحَشُ .
رَجُلٌ أَعْطَى لِرَجُلٍ دِرْهَمًا فَقَالَ : أَعْطِنِي بِنِصْفِهِ كَذَا فَلْسًا ، وَأَعْطِنِي بِنِصْفِهِ دِرْهَمًا صَغِيرًا ، وَزْنُهُ نِصْفُ دِرْهَمٍ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ عَقْدَيْنِ يَصِحُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالِانْفِرَادِ ، قَالَ : فَإِنْ افْتَرَقَا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الْفُلُوسَ ، وَالدِّرْهَمَ الصَّغِيرَ بَطَلَ فِي الدِّرْهَمِ الصَّغِيرِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِيهِ صَرْفٌ ، وَقَدْ افْتَرَقَا قَبْلَ قَبْضِ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ ، وَلَمْ يَبْطُلْ الْعَقْدُ فِي الْفُلُوسِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِيهِ بَيْعٌ ، وَإِنْ افْتَرَقَا قَبْلَ قَبْضِ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ ، وَلَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ حَتَّى افْتَرَقَا بَطَلَ الْكُلُّ ؛ لِأَنَّهُمَا افْتَرَقَا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ ، وَإِنْ كَانَ دَفَعَ إلَيْهِ الدِّرْهَمَ ، وَقَالَ : أَعْطِنِي بِنِصْفِهِ كَذَا فَلْسًا ، وَأَعْطِنِي دِرْهَمًا صَغِيرًا يَكُونُ فِيهِ نِصْفُ دِرْهَمٍ إلَّا حَبَّةً فَفِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ : يَفْسُدُ الْبَيْعُ كُلُّهُ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - : يَجُوزُ فِي الْفُلُوسِ وَيَبْطُلُ فِي حِصَّةِ الصَّرْفِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي الدِّرْهَمِ الصَّغِيرِ يَفْسُدُ لِمَعْنَى الرِّبَا ، فَإِنَّ مُقَابَلَةَ نِصْفِ الدِّرْهَمِ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ إلَّا حَبَّةً يَكُونُ رِبًا ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا فَسَدَ الْعَقْدُ فِي الْبَعْضِ لِمَعْنَى الرِّبَا يَفْسُدُ فِي الْكُلِّ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ قَالَ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ الْعَقْدَ يَجُوزُ فِي حِصَّةِ الْفُلُوسِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا عَلَى مَا وَضَعَ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ فِي الْأَصْلِ فَإِنَّهُ قَالَ : وَأَعْطِنِي بِنِصْفِهِ الْبَاقِي دِرْهَمًا ، وَإِذَا تَكَرَّرَ الْإِعْطَاءُ يَتَفَرَّقُ الْعَقْدُ بِهِ ، وَفَسَادُ أَحَدِ الْعَقْدَيْنِ لَا يُوجِبُ فَسَادِ الْآخَرِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ عَلَى هَذَا الْوَضْعِ لَا يَكُونُ قَبُولُ الْعَقْدِ فِي أَحَدِهِمَا شَرْطًا لِلْقَبُولِ فِي الْآخَرِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ وَضْعُ الْمَسْأَلَةَ عَلَى مَا ذَكَرَ الْحَاكِمُ فِي الْمُخْتَصَرِ ، وَفِي النِّصْفِ الْبَاقِي دِرْهَمٌ صَغِيرٌ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْعَقْدُ وَاحِدًا ؛
لِأَنَّهُ لَمْ يَتَكَرَّرْ مَا بِهِ يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : أَعْطِنِي .
وَلَوْ قَالَ : أَعْطِنِي كَذَا فَلْسًا ، وَدِرْهَمًا صَغِيرًا وَزْنُهُ نِصْفُ دِرْهَمٍ إلَّا قِيرَاطًا كَانَ جَائِزًا كُلُّهُ إذَا تَقَابَضَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا ؛ لِأَنَّهُ قَابَلَ الدِّرْهَمَ هُنَا بِمَا سَمَّى مِنْ الْفُلُوسِ ، وَنِصْفِ دِرْهَمٍ إلَّا قِيرَاطًا فَيَكُونُ مِثْلَ وَزْنِ الدِّرْهَمِ الصَّغِيرِ مِنْ الدِّرْهَمِ بِمُقَابَلَتِهِ ، وَالْبَاقِي كُلُّهُ بِإِزَاءِ الْفُلُوسِ .
رَجُلٌ بَاعَ دِرْهَمًا زَائِفًا لَا يُنْفَقُ مِنْ رَجُلٍ قَدْ عَلِمَ عَيْبَهُ بِخَمْسَةِ دَوَانِيقِ فَلْسٍ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ خَمْسَةَ دَوَانِيقِ فَلْسٍ اسْمٌ لِمِائَةِ فَلْسٍ ؛ إذْ كَانَ كُلُّ عِشْرِينَ بِدَانَقٍ ، وَبَيْعُ الدِّرْهَمِ بِمِائَةِ فَلْسٍ صَحِيحٌ ، وَكَذَلِكَ إنْ بَاعَهُ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ فُلُوسٍ ، وَدِرْهَمٍ صَغِيرٍ ، وَزْنُهُ دَانَقَانِ إذَا تَقَابَضَا قَبْلَ التَّفَرُّقِ ؛ لِأَنَّهُ يُقَابِلُ الدِّرْهَمَ الصَّغِيرَ مِنْ الدِّرْهَمِ الزَّيْفِ مِثْلَ وَزْنِهِ ، وَالْبَاقِي كُلُّهُ بِإِزَاءِ الْفُلُوسِ ، وَإِنْ بَاعَهُ إيَّاهُ بِخَمْسَةِ دَوَانِقِ فِضَّةٍ ، أَوْ بِدِرْهَمٍ غَيْرِ قِيرَاطٍ فِضَّةٍ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ الْفِضَّةَ بِالْفِضَّةِ مُتَفَاضِلًا فِي النَّبَهْرَجَةِ ، وَالزُّيُوفُ مِنْ جِنْسِ الْفِضَّةِ بِخِلَافِ السَّتُّوقِ .
.
وَلَوْ قَالَ : بِعْنِي بِهَذِهِ الْفِضَّةِ كَذَا فَلْسًا فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُمَا نَوْعَانِ مُخْتَلِفَانِ ، وَإِنْ بَاعَهُ إيَّاهُ بِخَمْسَةِ أَسْدَاسِ دِرْهَمٍ أَوْ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ مَا سُمِّيَ يَقَعُ عَلَى الْفِضَّةِ دُونَ الْفُلُوسِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْفُلُوسُ مَجَازًا ، وَلَكِنَّ ذَاكَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ عَلَى الْفُلُوسِ ؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ لَا يُعَارِضُ الْحَقِيقَةَ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِدَانَقٍ ، أَوْ بِدَانَقَيْنِ ، أَوْ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ فَهَذَا كُلُّهُ يَقَعُ عَلَى الْفِضَّةِ إلَّا أَنْ يَقْرِنَ بِكَلَامِهِ ذِكْرَ الْفُلُوسِ فَحِينَئِذٍ تَكُونُ عِبَارَةً عَنْ عَدَدٍ مِنْ الْفُلُوسِ مَجَازًا .
وَإِنْ اشْتَرَى بِدِرْهَمٍ فُلُوسًا وَقَبَضَهَا ، وَلَمْ يَنْقُدْ الدِّرْهَمَ حَتَّى كَسَدَتْ الْفُلُوسُ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ ، وَالدِّرْهَمُ دَيْنٌ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي الْفُلُوسِ قَدْ انْتَهَى بِالْقَبْضِ ، وَصِفَةُ الدِّرْهَمِ لَمْ تَتَغَيَّرْ بِكَسَادِ الْفُلُوسِ فَبَقِيَ دَيْنًا عَلَى حَالِهِ ، وَإِنْ نَقَدَ الدِّرْهَمَ وَلَمْ يَقْبِضْ الْفُلُوسَ حَتَّى كَسَدَتْ فِي الْقِيَاسِ هُوَ جَائِزٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ بِالْكَسَادِ لَا تَتَغَيَّرُ عَيْنُهَا ، وَلَا يَتَعَذَّرُ تَسْلِيمُهَا إلَّا بِالْعَقْدِ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ بَطَلَ الْعَقْدُ لِفَوَاتِ صِفَةِ الثَّمَنِيَّةِ فِي الْفُلُوسِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ الدِّرْهَمَ ؛ لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ فِي يَدِهِ بِسَبَبٍ فَاسِدٍ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى فَاكِهَةً بِالْفُلُوسِ ، وَقَبَضَ مَا اشْتَرَى ، ثُمَّ كَسَدَتْ الْفُلُوسُ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَهَا فَالْبَيْعُ يُنْتَقَضُ - اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّهَا تَبَدَّلَتْ مَعْنًى حِينَ خَرَجَتْ عَنْ أَنْ تَكُونَ ثَمَنًا وَمَالِيَّتُهَا كَانَتْ بِصِفَةِ الثَّمَنِيَّةِ مَا دَامَتْ رَائِجَةً فَبِفَوْتِهَا تَفُوتُ الْمَالِيَّةُ ؛ فَلِهَذَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ ، وَيَرُدُّ مَا قَبَضَهُ إنْ كَانَ قَائِمًا ، أَوْ قِيمَتَهُ إنْ كَانَ هَالِكًا ، وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَقُولُ : مَعْنَى قَوْلِهِ : الْبَيْعُ يُنْتَقَضُ أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا ، وَيَتَخَيَّرُ الْبَائِعُ فِي نَقْضِهِ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ الضَّرَرِ عِنْدَ كَسَادِ الْفُلُوسِ ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ قَبْلَ قَبْضِهِ فَيُخَيَّرُ ، أَمَّا أَصْلُ الْمَالِيَّةِ فَلَا يَنْعَدِمُ بِالْكَسَادِ ، فَيَبْقَى الْعَقْدُ كَذَلِكَ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ انْعِقَادَ هَذَا الْعَقْدِ لَمْ يَكُنْ بِاعْتِبَارِ مَالِيَّةٍ قَائِمَةٍ بِعَيْنِ الْفُلُوسِ ، وَإِنَّمَا كَانَ بِاعْتِبَارِ مَالِيَّةٍ قَائِمَةٍ بِصِفَةِ الثَّمَنِيَّةِ فِيهَا ، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ : أَنَّ هُنَا الْبَيْعَ لَا يُنْتَقَضُ بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى بِدِرْهَمٍ فُلُوسًا ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ بَعْدَ الْكَسَادِ لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءُ ذَلِكَ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهَا بِالْكَسَادِ
تَصِيرُ مَبِيعَةً ، وَبَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ لَا يَجُوزُ ، وَهُنَا ابْتِدَاءُ الْبَيْعِ بَعْدَ الْكَسَادِ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ مَا يُقَابِلُهَا مِنْ الْفَاكِهَةِ مَبِيعٌ ، فَالْفُلُوسُ الْكَاسِدَةُ بِمُقَابَلَةِ الْمَبِيعِ يَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ ثَمَنًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ عَدَدِيٌّ مُتَقَارِبٌ كَالْجَوْزِ ، وَغَيْرِهِ .
وَإِنْ اشْتَرَى فَاكِهَةً بِدَانَقِ فَلْسٍ ، وَالدَّانَقُ عِشْرُونَ فَلْسًا فَلَمْ يَرُدَّ الْفُلُوسَ حَتَّى غَلَتْ ، أَوْ رَخُصَتْ فَعَلَيْهِ عِشْرُونَ فَلْسًا ؛ لِأَنَّ بِالْغَلَاءِ ، وَالرُّخْصِ لَا يَنْعَدِمُ صِفَةَ الثَّمَنِيَّةِ ، وَصَارَ هُوَ عِنْدَ الْعَقْدِ بِتَسْمِيَةِ الدَّوَانِقِ مُسَمِّيًا مَا يُوجَدُ بِهِ مِنْ الْفُلُوسِ ، وَذَلِكَ عِشْرُونَ ، وَلَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ لَمْ يَتَغَيَّرْ الْعَدَدُ بَعْدَ ذَلِكَ بِغَلَاءِ السِّعْرِ ، وَرُخْصِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ .
وَإِنْ اشْتَرَى فُلُوسًا بِدِرْهَمٍ ، فَوَجَدَ فِيهَا فَلْسًا لَا يُنْفَقُ ، وَقَدْ نَقَدَ الدِّرْهَمَ فَإِنَّهُ يَسْتَبْدِلُهُ ؛ لِأَنَّهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ اسْتَحَقَّ فُلُوسًا نَافِقَةً ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَبْدِلْهُ حَتَّى افْتَرَقَا لَمْ يَبْطُلْ الْعَقْدُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ مَا بِإِزَائِهِ مِنْ الدِّرْهَمِ مَقْبُوضٌ كَمَا فِي الصَّرْفِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، ثُمَّ وَجَدَ بَعْضَ الدَّرَاهِمِ زُيُوفًا قَبْلَ الِافْتِرَاقِ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَبْدِلَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَبْدِلْهُ حَتَّى تَفَرَّقَا لَمْ يَبْطُلْ الْعَقْدُ ، فَهَذَا قِيَاسُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَقَدَ الدَّرَاهِمَ اسْتَبْدَلَهُ أَيْضًا مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا ؛ لِأَنَّ الدَّيْنِيَّةَ إلَى آخِرِ الْمَجْلِسِ فِي الْبَدَلَيْنِ عَفْوٌ ، وَإِنْ كَانَا قَدْ تَفَرَّقَا - وَهُوَ فَلْسٌ لَا يَجُوزُ مَعَ الْفُلُوسِ - رَجَعَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الدَّرَاهِمِ كَمَا فِي الصَّرْفِ ، وَإِذَا ، وَجَدَ بَعْضَ الْبَدَلِ سُتُّوقًا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ يُنْتَقَضُ الْقَبْضُ فِيهِ مِنْ الْأَصْلِ ، وَمَا بِإِزَائِهِ غَيْرُ مَقْبُوضٍ فَكَانَ دَيْنًا بِدَيْنٍ بَعْدَ الْمَجْلِسِ ، وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ مَعَهَا فِي حَالٍ ، وَلَا يَجُوزُ فِي حَالِ اسْتِبْدَالِهِ فِي الْمَجْلِسِ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الزُّيُوفِ فِي الدَّرَاهِمِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الصَّرْفِ ، وَالسَّلَمِ أَنَّهُ إذَا وَجَدَ الْقَلِيلَ زُيُوفًا فَاسْتَبْدَلَ بِهِ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ جَازَ الْعَقْدُ فَجُعِلَ اجْتِمَاعُهُمَا فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ كَاجْتِمَاعِهِمَا فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ ، فَهَذَا قِيَاسُهُ ، وَإِنْ اُسْتُحِقَّ مِنْهَا شَيْءٌ رَجَعَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الدِّرْهَمِ يَعْنِي ؛ إذَا كَانَ نَقَدَ الدِّرْهَمَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ ؛ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ يَنْتَقِضُ الْقَبْضُ فِيهِ مِنْ الْأَصْلِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الِافْتِرَاقَ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ كَانَ عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ .
وَإِنْ اسْتَقْرَضَ عَشَرَةَ أَفْلُسٍ ثُمَّ كَسَدَتْ تِلْكَ الْفُلُوسُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا مِثْلُهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ قِيَاسًا ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - : قِيمَتُهَا مِنْ الْفِضَّةِ - اسْتِحْسَانًا - ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ بِالِاسْتِقْرَاضِ مِثْلُ الْمَقْبُوضِ ، وَالْمَقْبُوضُ فُلُوسٌ هِيَ ثَمَنٌ ، وَبَعْدَ الْكَسَادِ يَفُوتُ صِفَةُ الثَّمَنِيَّةِ بِدَلِيلِ مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ فَيَتَحَقَّقُ عَجْزُهُ عَنْ رَدِّ مِثْلِ مَا الْتَزَمَ فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ كَمَا لَوْ اسْتَقْرَضَ شَيْئًا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، فَانْقَطَعَ الْمِثْلُ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا غَلَتْ ، أَوْ رَخُصَتْ ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الثَّمَنِيَّةِ لَا تَنْعَدِمُ بِذَلِكَ ، وَلَكِنْ تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ رَغَائِبِ النَّاسِ فِيهَا ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ، كَمَا فِي الْبَيْعِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ : الْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ مِثْلُ مَا قَبَضَ مِنْ الْفُلُوسِ ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى تَسْلِيمِهِ ، فَلَا يَلْزَمُهُ رَدُّ شَيْءٍ كَمَا إذَا غَلَتْ ، أَوْ رَخُصَتْ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الِاسْتِقْرَاضِ فِي الْفُلُوسِ لَمْ يَكُنْ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الثَّمَنِيَّةِ بَلْ لِكَوْنِهَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الِاسْتِقْرَاضَ جَائِزٌ فِي كُلِّ مَكِيلٍ ، أَوْ مَوْزُونٍ أَوْ عَدَدِيٍّ مُتَقَارِبٍ كَالْجَوْزِ ، وَالْبَيْضِ ، وَبِالْكَسَادِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَقَدْ بَيَّنَّا ، أَنَّ دُخُولَهَا فِي الْعَقْدِ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الثَّمَنِيَّةِ ، وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ بِالْكَسَادِ .
يُوَضِّحُهُ : أَنَّ بَدَلَ الْقَرْضِ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ عَيْنُ الْمَقْبُوضِ ؛ إذْ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ كَذَلِكَ كَانَ مُبَادَلَةُ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ نَسِيئَةً ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، فَيَصِيرُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ غَصَبَ مِنْهُ فُلُوسًا فَكَسَدَتْ ، وَهُنَاكَ بَرِئَ بِرَدِّ عَيْنِهَا ، فَهُنَا أَيْضًا يَبْرَأُ بِرَدِّ مِثْلِهَا ، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ : إذَا وَجَبَتْ الْقِيمَةُ فَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا مِنْ الْفِضَّةِ مِنْ وَقْتِ الْقَبْضِ ،
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ ، إذَا وَجَبَتْ الْقِيمَةُ فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا بِآخِرِ يَوْمٍ كَانَتْ فِيهِ رَائِجَةً فَكَسَدَتْ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا إذَا أَتْلَفَ شَيْئًا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، فَانْقَطَعَ الْمِثْلُ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ فَهُنَاكَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْإِتْلَافِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ بِآخِرِ يَوْمٍ كَانَ مَوْجُودًا فِيهِ فَانْقَطَعَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الْغَصْبِ .
وَإِنْ اسْتَقْرَضَ دَانَقًا فُلُوسًا ، أَوْ نِصْفَ دِرْهَمٍ فُلُوسٍ فَرَخُصَتْ ، أَوْ غَلَتْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا مِثْلُ عَدَدِ الَّذِي أَخَذَ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَلْزَمُهُ بِالْقَبْضِ ، وَالْمَقْبُوضُ عَلَى وَجْهِ الْقَرْضِ مَضْمُونٌ بِمِثْلِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : أَقْرِضْنِي دَانَقَ حِنْطَةٍ فَأَقْرَضَهُ رُبْعَ حِنْطَةٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ مِثْلَهُ بِاعْتِبَارِ الْقَبْضِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِتَسْمِيَةِ الدَّانَقِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : أَقْرِضْنِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِدِينَارٍ ، فَأَعْطَاهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَعَلَيْهِ مِثْلُهَا ، وَلَا يُنْظَرُ إلَى غَلَاءِ الدَّرَاهِمِ ، وَلَا إلَى رُخْصِهَا ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُكَالُ ، أَوْ يُوزَنُ فَالْحَاصِلُ ، وَهُوَ أَنَّ الْمَقْبُوضَ عَلَى وَجْهِ الْقَرْضِ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ ، وَكُلُّ مَا كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ يَجُوزُ فِيهِ الِاسْتِقْرَاضُ ، وَالْقَرْضُ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَائِزِ مِنْ الشُّرُوطِ فَالْفَاسِدُ مِنْ الشُّرُوطِ لَا يُبْطِلُهُ ، وَلَكِنْ يَلْغُو شَرْطُ رَدِّ شَيْءٍ آخَرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ مِثْلَ الْمَقْبُوضِ ، وَكَذَلِكَ مَا يُعَدُّ مِنْ الْجَوْزِ ، وَالْبَيْضِ ، وَإِنْ اقْتَرَضَ الْجَوْزَ بِالْكَيْلِ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ يُكَالُ تَارَةً ، وَيُعَدُّ أُخْرَى ، وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَ السَّلَمِ فِي الْجَوْزِ كَيْلًا وَعَدَدًا ، وَمَا فِيهِ مِنْ خِلَافِ زُفَرَ فَكَذَلِكَ حُكْمُ الْقَرْضِ فِيهِ ، وَالْإِقْرَاضُ جَائِزٌ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ ؛ لِقَوْلِهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْقَرْضُ مَرَّتَيْنِ ، وَالصَّدَقَةُ مَرَّةً } ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الصَّدَقَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا ، وَالْقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ } ، وَقِيلَ : مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَسْتَقْرِضُ إلَّا الْمُحْتَاجُ ، وَقَدْ يُتَصَدَّقُ عَلَى غَيْرِ الْمُحْتَاجِ ، ثُمَّ الْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ مَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ عَلَى الْغَاصِبِ ، وَالْمُسْتَهْلِكِ لَهُ يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ بِحُكْمِ الْقَرْضِ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ مِنْ غَيْرِ احْتِمَالِ الزِّيَادَةِ ، وَالنُّقْصَانِ ، وَمَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ لَا يَجُوزُ الِاسْتِقْرَاضُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ مَعْرِفَةِ الْقِيمَةِ الْحَزْرُ وَالظَّنُّ ، فَلَا تَثْبُتُ بِهِ الْمُمَاثَلَةُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْقَرْضِ كَمَا لَا تَثْبُتُ بِهِ الْمُمَاثَلَةُ الْمَشْرُوطَةُ فِي مَالِ الرِّبَا ، وَأَصْلٌ آخَرُ ، وَهُوَ أَنَّ الْقَرْضَ فِي مَعْنَى الْعَارِيَّةِ ؛ لِأَنَّ مَا يَسْتَرِدُّهُ الْمُقْرِضُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ عَيْنُ مَا دَفَعَ ؛ إذْ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ كَذَلِكَ كَانَ مُبَادَلَةُ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ
نَسِيئَةً ، وَذَلِكَ حَرَامٌ فَكُلُّ مَا يَحْتَمِلُ حَقِيقَةَ الْإِعَارَةِ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ لَا يَجُوزُ إقْرَاضُهُ ؛ لِأَنَّ إعَارَتَهُ لَا تُؤَثِّرُ فِي عَيْنِهِ حَتَّى لَا تُمْلَكَ بِهِ الْعَيْنُ ، وَلَا يَسْتَحِقُّ اسْتِدَامَةَ الْيَدِ فِيهِ ، فَكَذَلِكَ إقْرَاضُهُ لَا يُثْبِتُ مِلْكًا صَحِيحًا فِي عَيْنِهِ ، وَكُلُّ مَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْإِعَارَةُ حَقِيقَةً مِمَّا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ ، فَإِقْرَاضُهُ وَإِعَارَتُهُ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهُ لَا تَنْفَصِلُ عَنْ عَيْنِهِ فَإِقْرَاضُهُ وَإِعَارَتُهُ تَمْلِيكٌ لِعَيْنِهِ .
وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ : الْإِقْرَاضُ جَائِزٌ فِي كُلِّ مَكِيلٍ ، أَوْ مَوْزُونٍ ، وَكَذَلِكَ فِي الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ كَالْجَوْزِ ، وَالْبَيْضِ ؛ لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالْمِثْلِ ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُونَ فِي إقْرَاضِ الْخُبْزِ فَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَزْنًا ، وَلَا عَدَدًا ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ : يَجُوزُ وَزْنًا ، وَلَا يَجُوزُ عَدَدًا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ عَدَدًا قَالَ هِشَامُ : فَقُلْتُ لَهُ وَزْنًا فَرَأَيْتُهُ نَفَرَ مِنْ ذَلِكَ ، وَاسْتَعْظَمَهُ ، وَقَالَ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ ؟ وَأَمَّا السَّلَمُ فِي الْخُبْزِ ، فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلَا يُحْفَظُ عَنْهُمَا خِلَافُ ذَلِكَ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ : يَجُوزُ عِنْدَهُمَا عَلَى قِيَاسَ السَّلَمِ فِي اللَّحْمِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَا يَجُوزُ لِمَا عَلَّلَ بِهِ فِي النَّوَادِرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ : لِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ عَلَى حَدِّهِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَتَفَاوَتُ بِالْعَجْنِ وَالنُّضْجِ عِنْدَ الْخَبْزِ ، وَيَكُونُ مِنْهُ الْخَفِيفُ ، وَالثَّقِيلُ ، وَفِي كُلِّ نَوْعٍ عُرْفٌ .
لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْآخَرِ ، وَمَا لَا يُوقَفُ عَلَى حَدِّهِ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ ، ثُمَّ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ أَفْسَدَ أَبُو حَنِيفَةَ الِاسْتِقْرَاضَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ أَوْسَعُ مِنْ الْقَرْضِ حَتَّى يَجُوزَ السَّلَمُ فِي الثِّيَابِ ، وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِقْرَاضُ فَإِذَا لَمْ يَجُزْ السَّلَمُ فِي الْخُبْزِ لِهَذَا الْمَعْنَى ؛ فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ الِاسْتِقْرَاضُ أَوْلَى وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ : الْخُبْزُ مَوْزُونٌ عَادَةً ، وَالِاسْتِقْرَاضُ فِي الْمَوْزُونَاتِ ، وَزْنًا يَجُوزُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْبُيُوعِ أَنَّ اسْتِقْرَاضَ اللَّحْمِ وَزْنًا يَجُوزُ فَكَذَلِكَ الْخُبْزُ ، وَلَا يَجُوزُ عَدَدًا ؛ لِأَنَّهُ مُتَفَاوِتٌ ، فِيهِ الْكَبِيرُ ، وَالصَّغِيرُ وَمُحَمَّدٌ جَوَّزَ اسْتِقْرَاضَهُ عَدَدًا ؛ لِأَنَّهُ صُنْعُ النَّاسِ ، وَقَدْ اعْتَادُوهُ ، وَقَدْ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ اسْتَقْرَضَ رَغِيفًا فَرَدَّ أَصْغَرَ مِنْهُ ، أَوْ أَكْبَرَ
قَالَ : لَا بَأْسَ بِهِ ، وَهُوَ عَمَلُ النَّاسِ قَالَ الْكَرْخِيُّ : وَإِنَّمَا اسْتَعْظَمَ مُحَمَّدٌ قَوْلَ مَنْ يَقُولُ : لَا يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ إلَّا وَزْنًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاسْتِقْرَاضُ فِيهِ ، وَزْنًا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ إعْلَامَهُ بِالْوَزْنِ أَبْلُغُ مِنْ إعْلَامِهِ بِذِكْرِ الْعَدَدِ فَإِذَا جَازَ عِنْدَهُ الِاسْتِقْرَاضُ فِيهِ عَدَدًا فَلَأَنْ يَجُوزَ وَزْنًا أَوْلَى ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ قَالَ : بَلْ أَسْتَعْظِمُ جَوَازَ اسْتِقْرَاضِهِ وَزْنًا ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ فِيهِ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ إنَّهُ لَا يُوقَفُ عَلَى حَدِّهِ ، وَإِنَّمَا تَرَكَ هَذَا الْقِيَاسَ مُحَمَّدٌ لِتَعَارُفِ النَّاسِ وَذَلِكَ فِي اسْتِقْرَاضِهِ عَدَدًا فَبَقِيَ اسْتِقْرَاضُهُ وَزْنًا عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ .
، وَأَمَّا الْحَيَوَانُ ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُ شَيْءٍ مِنْهُ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَجُوزُ ذَلِكَ إلَّا فِي الْجَوَارِي ؛ لِمَا رُوِيَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ اسْتَقْرَضَ بِكْرًا ، وَرَدَّ رُبَاعِيًّا وَقَالَ : خَيْرُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً } ؛ وَلِأَنَّ الْحَيَوَانَ مِمَّا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ ، أَمَّا عِنْدِي فِي السَّلَمِ ، وَعِنْدَ الْكُلِّ فِي النِّكَاحِ ، وَالْخُلْعِ ، وَالصُّلْحِ فِي دَمِ الْعَمْدِ فَيَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ كَالْمَكِيلِ ، وَالْمَوْزُونِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ مُوجِبُهُ مِلْكُ الْمَقْبُوضِ بِعَيْنِهِ وَثُبُوتُ مِثْلِهِ فِي الذِّمَّةِ ، وَالْحَيَوَانُ مُحْتَمَلٌ فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مَحَلًّا لِمُوجِبِ الْقَرْضِ كَانَ الِاسْتِقْرَاضُ جَائِزً ، إلَّا أَنَّ الْجَوَارِيَ لَا أُجَوِّزُ الِاسْتِقْرَاضَ كَمَا لَا أُجَوِّزُ السَّلَمَ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ ، وَعَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يُجَوِّزُ السَّلَمَ فِيهِ الْفَرْقُ ، أَنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْجَوَارِي مِلْكُ الْمُتْعَةِ ، وَعَقْدُ الْمُعَاوَضَةِ مَشْرُوعٌ لِإِثْبَاتِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ ، وَأَمَّا الْقَرْضُ فَبَذْلٌ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ ، وَمِلْكُ الْمُتْعَةِ لَا يَثْبُتُ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ ، وَلَا مَدْخَلَ لِلتَّبَرُّعِ فِيهِ ؛ فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ فِيهِ الِاسْتِقْرَاضُ ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ ، فَإِنَّمَا هُوَ الْمَقْصُودُ لِمَا يَعْمَلُ فِيهِ الْبَدَلُ ، وَيَثْبُتُ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ فَيَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذَا غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْقِيمَةِ عَلَى مُسْتَهْلِكِهِ ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ كَالْجَوَارِي ، وَلِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْحَيَوَانِ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بِمُقَابَلَةِ مَا هُوَ مَالٌ ، مَعَ اعْتِبَارِ الْمُعَادَلَةِ فِي الْمَالِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُصَارُ فِي الْمُسْتَهْلَكَاتِ إلَى الْقِيمَةِ إلَّا عِنْدَ تَعَذُّرِ إيجَابِ الْمِثْلِ ، وَمُوجِبُ الْقَرْضِ ثُبُوتُ الْمِثْلِ فِي الذِّمَّةِ بِشَرْطِ الْمُعَادَلَةِ فِي الْمُمَاثَلَةِ ، فَإِذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ فِي الْحَيَوَانِ لَمْ يَجُزْ اسْتِقْرَاضُهُ ، وَبِهِ فَارَقَ ثُبُوتُ
الْحَيَوَانِ فِي الذِّمَّةِ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ شَرْطَ الْمُعَادَلَةِ فِي الْمُمَاثَلَةِ ، مَعَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ثُبُوتًا صَحِيحًا حَتَّى لَوْ أَتَاهَا بِالْقِيمَةِ أُجْبِرَتْ عَلَى قَبُولِهِ ، وَلَا مَدْخَلَ لِذَلِكَ فِي الْقَرْضِ ابْتِدَاءً وَعُذْرُهُ فِي الْجَوَارِي فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِلْكُ الْعَيْنِ وَالْمَالِيَّةِ ، وَذَلِكَ يَعْمَلُ فِيهِ الْبَدَلُ ، وَيَثْبُتُ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ ، أَلَا تَرَى أَنْ مِلْكَ الْعَيْنِ وَالْمَالِيَّةِ يَثْبُتُ فِيهَا بِدُونِ مِلْكِ الْمَنْفَعَةِ ، وَهُوَ مَا إذَا كَانَتْ أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ ، أَوْ مَنْكُوحَةَ الْغَيْرِ ؛ وَلِأَنَّ الْحَيَوَانَ تَنْفَصِلُ مَنْفَعَتُهُ عَنْ عَيْنِهِ ، وَالِاسْتِقْرَاضُ لَا يَجُوزُ فِي مِثْلِهِ كَالْحُرِّ ، وَتَحْقِيقُهُ مَا قُلْنَا : إنَّ الْإِقْرَاضَ بِمَنْزِلَةِ الْإِعَارَةِ ، فَفِيمَا تَنْفَصِلُ الْمَنْفَعَةُ فِيهِ عَنْ الْعَيْنِ تَتَأَتَّى حَقِيقَةٌ الْإِعَارَةِ ، فَلَا حَاجَةَ إلَى تَصْحِيحِ الْإِقْرَاضِ فِيهِ ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَإِنَّمَا اسْتَقْرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَيْتِ الْمَالِ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ قَضَاهُ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ ، وَمَا كَانَ يَقْضِي مَا اسْتَقْرَضَهُ لِنَفْسِهِ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ ، وَبَيْتُ الْمَالِ يَثْبُتُ لَهُ ، وَعَلَيْهِ حُقُوقٌ مَجْهُولَةٌ ، وَقِيلَ : كَانَ اسْتَسْلَفَ فِي الصَّدَقَةِ بِكْرًا فَإِنَّ الِاسْتِسْلَافَ ، وَالِاسْتِقْرَاضَ يَتَفَاوَتُ ، ثُمَّ لَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ فَرَدَّهُ بَعْدَ مَا صَارَ رُبَاعِيًّا ، وَقِيلَ : هَذَا كَانَ وَقْتَ كَانَ الْحَيَوَانُ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ ، ثُمَّ انْتَسَخَ ذَلِكَ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي أَوَّلِ الْغَصْبِ فَإِنْ قَبَضَ الْحَيَوَانَ بِحُكْمِ الْقَرْضِ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّهُ ، وَلَوْ بَاعَهُ نَفَذَ بَيْعُهُ ، وَعَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ بِحُكْمِ قَرْضٍ فَاسِدٍ بِمَنْزِلَةِ الْمَقْبُوضِ بِحُكْمِ بَيْعٍ فَاسِدٍ ؛ إذْ الْفَاسِدُ مُعْتَبَرٌ بِالْجَائِزِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَجْعَلَ الْفَاسِدَ أَصْلًا فِي مَعْرِفَةِ حِلِّهِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَا
يَرِدُ بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ بِالْجَائِزِ ، وَكَذَلِكَ الْعَقَارُ ، وَالثِّيَابُ الِاسْتِقْرَاضُ فِيهَا كَالِاسْتِقْرَاضِ فِي الْحَيَوَانِ ، وَفَرَّقَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - بَيْنَ السَّلَمِ ، وَالْقَرْضِ فِي الثِّيَابِ فَقَالُوا : الثِّيَابُ لَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ثُبُوتًا صَحِيحًا إلَّا مُؤَجَّلًا ، وَالْقَرْضُ لَا يَكُونُ إلَّا حَالًّا ، وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ إعْلَامُ الْمَالِيَّةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى فِيهِ تَفَاوُتٌ إلَّا يَسِيرًا لِيَكُونَ الْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ مَعْلُومًا لِلْعَاقِدِ ، وَذَلِكَ فِي الثِّيَابِ بِذِكْرِ الْوَصْفِ مُمْكِنٌ أَمَّا فِي بَابِ الْقَرْضِ فَالشَّرْطُ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْعَيْنِ الْمَقْبُوضَةِ وَصِفَةِ الْمَالِيَّةِ ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الثِّيَابِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَا تُضْمَنُ بِالْمِثْلِ عِنْدَ الِاسْتِهْلَاكِ ؛ فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِقْرَاضُ فِيهَا .
.
وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إقْرَاضُ الْخَشَبِ ، وَالْحَطَبِ ، وَالْقَصَبِ وَالرَّيَاحِينِ الرَّطْبَةِ ، وَالْبُقُولِ ؛ لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالْقِيمَةِ عِنْدَ الِاسْتِهْلَاكِ فَأَمَّا الْحِنَّاءُ ، وَالْوَسْمَةُ ، وَالرَّيَاحِينُ الْيَابِسَةُ الَّتِي تُكَالُ لَا بَأْسَ بِاسْتِقْرَاضِهَا ؛ لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالْمِثْلِ عِنْدَ الِاسْتِهْلَاكِ .
وَلَا يَجُوزُ الْأَجَلُ فِي الْقَرْضِ مَعْنَاهُ : أَنَّهُ لَوْ أَجَّلَهُ عِنْدَ الْإِقْرَاضِ مُدَّةً مَعْلُومَةً ، أَوْ بَعْدَ الْإِقْرَاضِ لَا يَثْبُتُ الْأَجَلُ ، وَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِهِ فِي الْحَالِ ، وَعِنْدَ مَالِكٍ يَثْبُتُ الْأَجَلُ فِي الْقَرْضِ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ لَا يَسْتَحِقُّ قَبْضَهُ فِي الْمَجْلِسِ فَيَجُوزُ التَّأْجِيلُ فِيهِ كَالثَّمَنِ وَالْأُجْرَةِ ، يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ التَّأْجِيلَ إسْقَاطُ الْمُطَالَبَةِ إلَى مُدَّةٍ ، وَإِسْقَاطُ الْمُطَالَبَةِ بِبَدَلِ الْقَرْضِ لَا إلَى غَايَةٍ بِالْإِبْرَاءِ صَحِيحٌ ، فَالتَّأْجِيلُ فِيهِ أَوْلَى أَنْ يَصِحَّ ، وَلَنَا فِيهِ طَرِيقَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْمُقْرِضَ مُتَبَرِّعٌ ؛ وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ الْإِقْرَاضُ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ كَالْعَبْدِ ، وَالْمُكَاتَبِ فَلَوْ لَزِمَ الْأَجَلُ فِيهِ لَصَارَ التَّبَرُّعُ مُلْزِمًا الْمُتَبَرِّعَ شَيْئًا ، وَهُوَ الْكَفُّ عَنْ الْمُطَالَبَةِ إلَى مُضِيِّ الْأَجَلِ ، وَذَلِكَ يُنَاقِضُ مَوْضُوعَ التَّبَرُّعِ ، وَشَرْطُ مَا يُنَاقِضُ مَوْضُوعَ الْعَقْدِ بِهِ لَا يَصِحُّ ، وَكَذَلِكَ إلْحَاقُهُ بِهِ لَا يَصِحُّ ؛ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُ الْأَجَلُ ، وَإِنْ ذُكِرَ بَعْدَ الْعَقْدِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ الْقَرْضَ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا ، وَالتَّوْقِيتُ فِي الْعَارِيَّةِ لَا يَلْزَمُ حَتَّى إنَّ الْمُعِيرَ ، وَإِنْ وَقَّتَهُ سَنَةً فَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْ سَاعَتِهِ ، فَكَذَلِكَ الْأَجَلُ فِي الْقَرْضِ ، وَبِهِ يَتَبَيَّنُ الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ هُوَ دَيْنٌ ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الْقَرْضِ فِي الْحُكْمِ عَيْنُ الْمَقْبُوضِ ؛ إذْ لَوْ جُعِلَ دَيْنًا عَلَى الْحَقِيقَةِ كَانَ بَدَلًا عَنْ الْمَقْبُوضِ فِي الْحُكْمِ ، فَيَكُونُ مُبَادَلَةُ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ نَسِيئَةً ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِبْرَاءِ يُزِيلُ مِلْكَهُ ، وَإِزَالَةُ الْمِلْكِ بِالتَّبَرُّعِ صَحِيحٌ .
فَأَمَّا بِالْقَرْضِ فَلَا يُزِيلُ مِلْكَهُ فَلَوْ لَزِمَ الْأَجَلُ فِيهِ لَكَانَ يَلْزَمُهُ الْكَفُّ عَنْ الْمُطَالَبَةِ بِمِلْكِهِ إلَى مُضِيِّ الْأَجَلِ ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَوْضُوعِ التَّبَرُّعِ .
فَأَمَّا التَّأْجِيلُ فِي بَدَلِ الْغَصْبِ وَالْمُسْتَهْلَكِ فَيَجُوزُ عِنْدَنَا ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَمَّا مَعَ الشَّافِعِيِّ فَالْكَلَامُ يَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ ، وَهُوَ أَنَّ عِنْدَهُ الْأَجَلَ لَا يَثْبُتُ فِي شَيْءٍ مِنْ الدُّيُونِ إلَّا بِالشَّرْطِ فِي عَقْدِ الْمُعَارَضَةِ ، حَتَّى قَالَ : لَوْ أَجَّلَهُ فِي الثَّمَنِ بَعْدَ الْبَيْعِ لَا يَثْبُتُ الْأَجَلُ لِأَنَّ الشَّرْطَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي ضِمْنِ الْعَقْدِ اللَّازِمِ أَمَّا مُنْفَرِدًا عَنْ الْعَقْدِ ، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : مَا كَانَ دَيْنًا عَلَى الْحَقِيقَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقَّ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ فَإِسْقَاطُ الْقَبْضِ فِيهِ بِالْإِبْرَاءِ صَحِيحٌ فَكَذَلِكَ بِالتَّأْجِيلِ أَمَّا زُفَرُ فَهُوَ يَقُولُ : الْمُسْتَهْلَكُ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ كَالْمُسْتَقْرَضِ ، فَكَمَا لَا يَلْزَمُ الْأَجَلُ فِي الْقَرْضِ فَكَذَلِكَ فِي بَدَلِ الْغَصْبِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِمَا الْمُعَادَلَةُ فِي صِفَةِ الْمَالِيَّةِ ، وَبَيْنَ الْحَالِّ وَالْمُؤَجَّلِ تَفَاوُتٌ فِي الْمَالِيَّةِ مَعْنًى ، فَالتَّأْجِيلُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْتِزَامِ رَدٍّ أَجْوَدَ مِمَّا قَبَضَ ، أَوْ أَزْيَفَ ، أَوْ أَرْدَأَ مِنْهُ ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ مُلْزِمًا وَجْهُ قَوْلِنَا : إنَّ بَدَلَ الْمُسْتَهْلَكِ دَيْنٌ فِي الذِّمَّةِ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، فَاشْتِرَاطُ الْأَجَلِ فِيهِ يَلْزَمُ كَسَائِرِ الدُّيُونِ ، بِخِلَافِ الْمُسْتَقْرَضِ فَإِنَّهُ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ ، وَالْقَرْضُ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ كَمَا بَيَّنَّا ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ : إنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ لِلْمُسْتَقْرِضِ فِي الْعَيْنِ بِنَفْسِ الْقَبْضِ ، وَالْمُقْرِضُ أَحَقُّ بِاسْتِرْدَادِهِ مَا لَمْ يُخْرِجْهُ الْمُسْتَقْرِضُ عَنْ مِلْكِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْمُسْتَقْرِضُ يَمْلِكُ الْعَيْنَ بِالْقَبْضِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْمَنْفَعَةَ ، وَمَنْفَعَةُ الْمَكِيلِ ، وَالْمَوْزُونِ لَا تَنْفَصِلُ عَنْ الْعَيْنِ ؛ فَإِذَا يَمْلِكُ الْعَيْنَ الْتَحَقَ بِسَائِرِ أَمْلَاكِهِ ، وَكَانَ الْخِيَارُ فِي تَعْيِينِ مَا يَرُدُّهُ إلَى الْمُسْتَقْرِضِ ،
وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ صُورَةً ، وَقَدْ جُعِلَ كَالْعَيْنِ حُكْمًا ؛ فَلِاعْتِبَارِ أَنَّهُ دَيْنٌ صُورَةً جَعَلْنَا اخْتِيَارَ مَحَلِّ الْقَضَاءِ إلَى مَنْ فِي ذِمَّتِهِ ؛ وَلِاعْتِبَارِ أَنَّهُ عَيْنٌ حُكْمًا قُلْنَا : لَا يَلْزَمُ فِيهِ الْأَجَلُ ، وَعَارِيَّةُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ قَرْضٌ لِلْأَصْلِ الَّذِي قُلْنَا : إنَّ الْقَرْضَ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ ، وَالْعَارِيَّةُ فِي كُلِّ مَا لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِاسْتِهْلَاكٍ لِعَيْنِهِ يَكُونُ قَرْضًا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمُعِيرَ مُسَلِّطٌ الْمُسْتَعِيرَ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِالْمُسْتَعَارِ عَلَى أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ ، وَفِيمَا يَجُوزُ فِيهِ الْقَرْضُ الْمَنْفَعَةُ لَا تَنْفَصِلُ عَنْ الْعَيْنِ فَيَكُونُ بِالْإِعَارَةِ مُسَلِّطًا لَهُ عَلَى اسْتِهْلَاكِ الْعَيْنِ فِي حَاجَتِهِ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ مِثْلَهُ ، وَذَلِكَ إقْرَاضٌ .
قَالَ : أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لِلدَّرَاهِمِ لَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً كَانَتْ لَهُ وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا ، وَهُوَ إشَارَةٌ لِمَا بَيَّنَّا ، فَإِنَّهُ إذَا اشْتَرَى جَارِيَةً وَجَبَ ثَمَنُهَا فِي ذِمَّتِهِ ، وَقَدْ جَوَّزَ لَهُ الْمُعِيرُ الِانْتِفَاعَ بِتِلْكَ الدَّرَاهِمِ فِي حَاجَتِهِ ، وَقَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ حَاجَتِهِ ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ الدَّيْنَ بِهَا ، عَلَى أَنْ يَضْمَنَ مِثْلَهَا .
.
فَأَمَّا الْأَوَانِي مِنْ الذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ ، وَالْجَوَاهِرِ وَغَيْرِهَا فَلَيْسَتْ بِقَرْضٍ ، وَلَكِنَّهَا عَوَارٍ ؛ لِأَنَّ مَنَافِعَهَا تَنْفَصِلُ عَنْ عَيْنِهَا ، وَلَا يَتَعَذَّرُ حُكْمُ الْإِعَارَةِ فِيهَا حَتَّى لَوْ بَاعَهَا الْمُسْتَعِيرُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ فِيهَا .
وَكَذَلِكَ اللَّآلِئُ ، وَالْأَكَارِعُ ، وَالرُّءُوسُ لَا يَجُوزُ إقْرَاضُهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الْقَرْضِ ، وَالصَّرْفُ فِيهِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رُوِيَ : { عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ : أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحَدًا وَخَمْسِينَ وَسْقًا مِنْ تَمْرِ خَيْبَرَ وَعِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ شَعِيرٍ } فَقَالَ لِي عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ : أُعْطِيكِ تَمْرًا هُنَا وَآخُذُ تَمْرَكِ بِخَيْبَرَ فَقُلْتُ : لَا حَتَّى أَسْأَلَ عَنْ ذَلِكَ فَسَأَلْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَنَهَانِي عَنْهُ وَقَالَ : كَيْفَ بِالضَّمَانِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ ؟ وَبِهِ نَأْخُذُ فَإِنَّ هَذَا إنْ كَانَ بِطَرِيقِ الْبَيْعِ فَاشْتِرَاطُ إيفَاءِ بَدَلٍ لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ فِي مَكَان آخَرَ مُبْطِلٌ لِلْبَيْعِ وَهُوَ مُبَادَلَةُ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ نَسِيئَةً وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ بِطَرِيقِ الِاسْتِقْرَاضِ فَهَذَا قَرْضٌ جَرَّ مَنْفَعَةً وَهُوَ إسْقَاطُ خَطَرِ الطَّرِيقِ عَنْ نَفْسِهِ وَمُؤْنَةِ الْحَمْلِ .
{ وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً } وَسَمَّاهُ رِبًا وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ : أَقْرَضَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ وَكَانَتْ لِأُبَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَخْلٌ بِعِجْلٍ فَأَهْدَى أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رُطَبًا لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ فَلَقِيَهُ أُبَيٌّ فَقَالَ : أَظَنَنْتَ أَنِّي أَهْدَيْتُ إلَيْك لِأَجْلِ مَالِكَ ؟ ابْعَثْ إلَى مَالِكَ فَخُذْهُ فَقَالَ عُمَرُ لِأُبَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رُدَّ عَلَيْنَا هَدِيَّتَنَا .
وَبِهِ نَأْخُذُ فَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّمَا رَدَّ الْهَدِيَّةَ مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَقْبَلُ الْهَدَايَا لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ أَهْدَى إلَيْهِ لِأَجْلِ مَالِهِ فَكَانَ ذَلِكَ مَنْفَعَةَ الْقَرْضِ فَلَمَّا أَعْلَمَهُ أُبَيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَا أَهْدَى إلَيْهِ لِأَجْلِ مَالِهِ قَبِلَ الْهَدِيَّةَ مِنْهُ وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا : إنَّ الْمَنْفَعَةَ إذَا كَانَتْ مَشْرُوطَةً فِي الْإِقْرَاضِ
فَهُوَ قَرْضٌ جَرَّ مَنْفَعَةً وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَشْرُوطَةً فَلَا بَأْسَ بِهِ حَتَّى لَوْ رَدَّ الْمُسْتَقْرِضُ أَجْوَدَ مِمَّا قَبَضَهُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَنْ شَرْطٍ لَمْ يَحِلَّ ؛ لِأَنَّهُ مَنْفَعَةُ الْقَرْضِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَنْ شَرْطٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَحْسَنَ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ .
بَيَانُهُ فِي حَدِيثِ عَطَاءٍ قَالَ : { اسْتَقْرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رَجُلٍ دَرَاهِمَ فَقَضَاهُ وَأَرْجَحَ لَهُ فَقَالُوا : أَرَجَحْتَ فَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّا كَذَلِكَ نَزِنُ .
} فَإِذَا جَازَ الرُّجْحَانُ لَهُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَكَذَلِكَ صِفَةُ الْجَوْدَةِ قَالُوا : وَإِنَّمَا يَحِلُّ ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ ؛ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ عُرْفٌ ظَاهِرٌ أَمَّا إذَا كَانَ يُعْرَفُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْقَرْضِ فَالتَّحَرُّزُ عَنْهُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ كَالْمَشْرُوطِ وَاَلَّذِي يُحْكَى أَنَّهُ كَانَ لِأَبِي حَنِيفَةَ عَلَى رَجُلٍ مَالٌ فَأَتَاهُ لِيُطَالِبَهُ فَلَمْ يَقِفْ فِي ظِلِّ جِدَارِهِ وَوَقَفَ فِي الشَّمْسِ لَا أَصْلَ لَهُ ؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ كَانَ أَفْقَهُ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ الْوُقُوفَ فِي ظِلِّ جِدَارِ الْغَيْرِ لَا يَكُونُ انْتِفَاعًا بِمِلْكِهِ كَيْفَ ؟ وَلَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا ، وَلَا مَطْلُوبًا ، وَذُكِرَ عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ : أَقْرِضْنِي فَيَقُولُ : لَا حَتَّى أَبِيعَكَ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا إثْبَاتَ كَرَاهَةِ الْعِينَةِ وَهُوَ أَنْ يَبِيعَهُ مَا يُسَاوِي عَشَرَةً بِخَمْسَةَ عَشَرَ لِيَبِيعَهُ الْمُسْتَقْرِضُ بِعَشَرَةٍ فَيَحْصُلَ لِلْمُقْرِضِ زِيَادَةٌ وَهَذَا فِي مَعْنَى قَرْضٍ جَرَّ مَنْفَعَةً .
.
وَالْإِقْرَاضُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فِي الشَّرْعِ وَالْغَرَرُ حَرَامٌ إلَّا أَنَّ الْبُخَلَاءَ مِنْ النَّاسِ تَطَرَّقُوا بِهَذَا إلَى الِامْتِنَاعِ مِمَّا يَدْنُوا إلَيْهِ وَالْإِقْدَامِ عَلَى مَا نُهُوا عَنْهُ مِنْ الْغُرُورِ وَبِنَحْوِهِ وَرَدَ الْأَثَرُ { إذَا تَبَايَعْتُمْ بِالْعَيْنِ وَاتَّبَعْتُمْ أَذْنَابَ الْبَقَرِ ذَلَلْتُمْ حَتَّى يُطْمَعَ فِيكُمْ .
} .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ وَالْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : فِي الرَّجُلِ يَكُونُ لَهُ عَلَى الرَّجُلِ دَرَاهِمَ فَيُعْطِيهِ دَنَانِيرَ يَأْخُذُهَا بِقِيمَتِهَا فِي السُّوقِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ لَا يَظْهَرُ الرِّبَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْجِنْسُ وَاحِدًا كَمَا ذُكِرَ ذَلِكَ عَنْ الشَّعْبِيِّ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى مَكَّةَ وَقَالَ : انْهَهُمْ عَنْ شَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ وَعَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ وَعَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يُقْبَضْ وَعَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ } وَبِهِ نَأْخُذُ ، وَصِفَةُ الشَّرْطَيْنِ فِي الْبَيْعِ أَنْ يَقُولَ بِالنَّقْدِ بِكَذَا وَبِالنَّسِيئَةِ بِكَذَا وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ وَالْبَيْعُ مَعَ السَّلَفِ أَنْ يَبِيعَ مِنْهُ شَيْئًا لِيُقْرِضَهُ أَوْ يُؤَجِّلَهُ فِي الثَّمَنِ لِيُعْطِيَهُ عَلَى ذَلِكَ رِبْحًا وَبَيْعُ مَا لَمْ يُقْبَضْ عَامٌّ دَخَلَهُ الْخُصُوصُ فِي غَيْرِ الْمَبِيعِ مِنْ الصَّدَاقِ وَغَيْرِهِ وَظَهَرَ أَنَّ الْمُرَادَ : النَّهْيُ عَنْ الْبَيْعِ مَعَ بَقَاءِ الْغُرُورِ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لِلتَّصَرُّفِ وَذَلِكَ فِي الْمَنْقُولِ دُونَ الْعَقَارِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْبَيْعِ وَعَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يُضْمَنْ هُوَ فِي مَعْنَى هَذَا فَإِنَّ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَيْسَ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي فَمَا يَحْصُلُ فِيهِ مِنْ الرِّبْحِ لَا يَطِيبُ لَهُ وَزَادَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَهُ يَعْنِي مَا لَيْسَ فِي مِلْكِهِ بَيَانُهُ فِي حَدِيثِ { حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنِّي رُبَّمَا أَدْخُلُ السُّوقَ فَأَسْتَجِيدُ السِّلْعَةَ ثُمَّ أَذْهَبُ فَأَبِيعُهَا ثُمَّ أَبْتَاعُهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَكَ .
} وَعَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ : أَقْرَضَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلًا دَرَاهِمَ فَقَضَاهُ الرَّجُلُ مِنْ جَيِّدِ عَطَائِهِ فَكَرِهَ ذَلِكَ ابْنُ
مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : لَا إلَّا مَنْ عَرَضُهُ مِثْلُ دَرَاهِمِي وَعَنْ عَامِرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْضِيَ أَجْوَدَ مِنْ دَرَاهِمِهِ إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يَفْعَلُهُ وَبِهِ نَأْخُذُ وَتَأْوِيلُ كَرَاهَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الرَّجُلَ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِأَجْلِ الْقَرْضِ ؛ فَلِهَذَا كَرِهَهُ وَقَدْ رَدَّ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْهَدِيَّةَ بِمِثْلِ هَذَا .
وَعَنْ صِلَةَ بْنِ زُفَرَ قَالَ : جَاءَ إلَيَّ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى فَرَسٍ بَلْقَاءَ فَقَالَ : إنَّهُ أُوصِي إلَيَّ فِي يَتِيمٍ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا تَشْتَرِ مِنْ مَالِهِ شَيْئًا وَلَا تَسْتَقْرِضْ مِنْهُ شَيْئًا ، وَبِهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ : لَيْسَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَسْتَقْرِضَ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقْرِضُ غَيْرَهُ فَكَيْفَ يَسْتَقْرِضُهُ لِنَفْسِهِ ؟ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَاضَ تَبَرُّعٌ فَلَا يَحْتَمِلُهُ مَالُ الْيَتِيمِ ، وَبِظَاهِرِ الْحَدِيثِ يَأْخُذُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَيَقُولُ : إذَا اشْتَرَى الْوَصِيُّ مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ لِنَفْسِهِ شَيْئًا لَا يَجُوزُ وَلَكِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَقُولُ : مُرَادُهُ ؛ إذَا اشْتَرَى بِمِثْلِ الْقِيمَةِ أَوْ بِأَقَلَّ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ ظَاهِرَةٌ لِلْيَتِيمِ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ أَنْ يَنْفِيَ التُّهْمَةَ عَنْ نَفْسِهِ .
وَعَنْ عَطَاءٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ ابْنَ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَأْخُذُ بِمَكَّةَ الْوَرِقَ مِنْ التُّجَّارِ فَيَكْتُبُ لَهُمْ إلَى الْبَصْرَةِ وَإِلَى الْكُوفَةِ فَيَأْخُذُونَ أَجْوَدَ مِنْ وَرِقِهِمْ .
قَالَ عَطَاءٌ : فَسَأَلْت ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ أَخْذِهِمْ أَجْوَدَ مِنْ وَرِقِهِمْ فَقَالَ : لَا بَأْسَ بِذَلِكَ مَا لَمْ يَكُنْ شَرْطًا ، وَبِهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ : الْمَنْهِيُّ عَنْهُ هِيَ الْمَنْفَعَةُ الْمَشْرُوطَةُ أَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ مَشْرُوطَةً فَذَلِكَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ مُقَابَلَةُ الْإِحْسَانِ بِالْإِحْسَانِ وَإِنَّمَا جَزَاءُ الْإِحْسَانِ الْإِحْسَانُ ، وَكَذَلِكَ قَبُولُ هَدِيَّتِهِ وَإِجَابَةُ دَعْوَتِهِ لَا بَأْسَ بِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ الْوَرِقَ بِمَكَّةَ عَلَى أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ إلَى الْكُوفَةِ بِهَا وَتَأْوِيلُ هَذَا عِنْدِنَا أَنَّهُ كَانَ عَنْ غَيْرِ الشَّرْطِ فَأَمَّا إذَا كَانَ مَشْرُوطًا فَذَلِكَ مَكْرُوهٌ وَالسَّفَاتِجُ الَّتِي تَتَعَامَلُهُ النَّاسُ عَلَى هَذَا إنْ أَقْرَضَهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ وَكَتَبَ لَهُ سَفْتَجَةً بِذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَإِنْ شَرَطَ فِي الْقَرْضِ ذَلِكَ فَهُوَ مَكْرُوهٌ ؛ لِأَنَّهُ يُسْقِطُ بِذَلِكَ خَطَرَ الطَّرِيقِ عَنْ نَفْسِهِ فَهُوَ قَرْضٌ جَرَّ مَنْفَعَةً .
رَجُلٌ بَاعَ مِنْ رَجُلٍ عَبْدًا بِثَمَنٍ مُسَمًّى إلَى شَهْرٍ عَلَى أَنْ يُوفِيَهُ إيَّاهُ بِمِصْرٍ آخَرَ عَيَّنَهُ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَعْلُومٌ وَالْأَجَلُ مَعْلُومٌ بِالْمُدَّةِ إلَّا أَنَّ فِيمَا لَا حِمْلَ لَهُ وَلَا مُؤْنَةَ يُطَالِبُهُ بِالتَّسْلِيمِ حَيْثُ يَجِدُهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْأَجَلِ وَفِيمَا لَهُ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ لَا يُطَالِبُهُ بِهِ إلَّا فِي الْمَوْضِعِ الْمَشْرُوطِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ مُعْتَبَرٌ إذَا كَانَ مُقَيَّدًا غَيْرَ مُعْتَبَرٍ ؛ إذَا لَمْ يَكُنْ مُقَيَّدًا وَهَذَا بِخِلَافِ الْقَرْضِ فَإِنَّ الْمُسْتَقْرِضَ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ فَلَا يَجُوزُ فِيهِ شَرْطُ الْإِيفَاءِ فِي مَكَان آخَرَ ؛ وَلِأَنَّ اشْتِرَاطَ مَكَانِ التَّسْلِيمِ كَاشْتِرَاطِ زَمَانِ التَّسْلِيمِ ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِمَكَانٍ وَزَمَانٍ ، وَشَرْطُ الزَّمَانِ فِي الْقَرْضِ لِلتَّسْلِيمِ لَا يَلْزَمُ ، وَهُوَ الْأَجَلُ فَكَذَلِكَ شَرْطُ الْمَكَانِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ فِي الْبَيْعِ مُدَّةَ الْأَجَلِ وَالْمَسْأَلَةَ بِحَالِهَا فَفِيمَا لَهُ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ الْعَقْدُ فَاسِدٌ ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَبِيعَهُ الْعَبْدَ بِحِنْطَةٍ مَوْصُوفَةٍ بِالْكُوفَةِ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَهَا بِالْبَصْرَةِ فَهَذَا شَرْطُ أَجَلٍ مَجْهُولٍ ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ مَكَانِ التَّسْلِيمِ فِيمَا لَهُ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ مُعْتَبَرٌ ، وَلَا يَلْزَمُهُ التَّسْلِيمُ مَا لَمْ يَأْتِيَا ذَلِكَ الْمَكَانَ ، وَأَمَّا مَا لَا حِمْلَ لَهُ ، وَلَا مُؤْنَةَ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِاشْتِرَاطِهِ الْأَجَلَ الْمَجْهُولَ لِنَفْسِهِ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ ذَلِكَ الْمَكَانَ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ : أَنَّهُ يَجُوزُ الْعَقْدُ وَيُطَالِبُهُ بِالتَّسْلِيمِ فِي الْحَالِ لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ فِيمَا لَا حِمْلَ لَهُ ، وَلَا مُؤْنَةَ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَكَانِ الْمَذْكُورِ ، وَمَعْنَى الْأَجَلِ فِي ضِمْنِهِ فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ كَانَ الثَّمَنُ حَالًّا .
وَإِذَا أَقْرَضَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ الدَّرَاهِمَ ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى أَقَلَّ مِنْ وَزْنِهَا فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ الْبَعْضَ وَأَبْرَأَهُ عَنْ الْبَعْضِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَحِيحٌ فِي الْكُلِّ فَكَذَلِكَ فِي الْبَعْضِ فَإِنْ فَارَقَهُ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهَا لَمْ يَبْطُلْ الصُّلْحُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ فِي هَذَا التَّصَرُّفِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ وَصِحَّةُ الْإِبْرَاءِ لَا تَسْتَدْعِي الْقَبْضَ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ صَالَحَهُ عَلَى أَنْ أَجَّلَهُ فِيهَا شَهْرًا ؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ بَعْدِ الْإِقْرَاضِ كَالْمَقْرُونِ بِالْإِقْرَاضِ وَالْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ لَا يَلْزَمُ الْأَجَلُ إذَا اُقْتُرِنَ بِالْإِقْرَاضِ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ فَهُوَ مَوْجُودٌ فِي التَّأْجِيلِ بَعْدَ الْإِقْرَاضِ وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى عَشَرَةِ دَنَانِيرَ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ لِتَمَكُّنِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فِي هَذَا الصُّلْحِ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ فَإِنْ افْتَرَقَا قَبْلَ قَبْضِ الدَّنَانِيرِ بَطَلَ الصُّلْحُ ، وَإِنْ افْتَرَقَا بَعْدَ مَا قَبَضَ بَعْضَهَا يَبْرَأُ مِنْ حِصَّةِ الْمَقْبُوضِ ، وَعَلَيْهِ رَدُّ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّرَاهِمِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَإِنْ صَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى ذَهَبٍ تِبْرٍ أَوْ مَصُوغٍ لَا يَعْلَمُ وَزْنَهُ جَازَ إنْ قَبَضَهُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ ؛ لِأَنَّ رِبَا الْفَضْلِ يَنْعَدِمُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَهُ عَلَى فِضَّةٍ لَا يَعْلَمُ وَزْنَهَا ؛ فَهُنَاكَ لِاتِّحَادِ الْجِنْسِ رِبَا الْفَضْلِ يَجْرِي وَتَوَهُّمُ الْفَضْلِ كَتَحَقُّقِهِ فِيمَا يَنْبَنِي أَمْرُهُ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَوَقَعَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْأَصْلِ : لَوْ صَالَحَهُ عَلَى ذَهَبٍ تِبْرٍ جُزَافًا بِعَيْنِهِ أَوْ وَرِقٍ قِيلَ : قَوْلُهُ : أَوْ وَرِقٍ زِيَادَةٌ مِنْ الْكَاتِبِ وَقِيلَ : بَلْ هُوَ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ فِي لَفْظِ الصُّلْحِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ مِنْ الْوَرِقِ أَقَلُّ مِنْ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الصُّلْحِ عَلَى التَّجَوُّزِ بِدَوْرِ الْحَقِّ فَيَجُوزُ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ أَكْثَرُ مِنْ حَقِّهِ وَزْنًا .
وَإِنْ أَقْرَضَهُ دِرْهَمًا ثُمَّ اشْتَرَى بِهِ فُلُوسًا بِعَيْنِهَا أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهَا فَهُوَ جَائِزٌ إنْ قَبَضَهَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا ؛ لِأَنَّ الْفُلُوسَ الرَّائِجَةَ لَا تَتَعَيَّنُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِخِلَافِ جِنْسِهَا فَإِنْ فَارَقَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ بِدَيْنٍ فَإِنْ قِيلَ : لَيْسَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ قَابِضٌ لِلدِّرْهَمِ بِذِمَّتِهِ ؛ وَلِهَذَا يَسْقُطُ عَنْهُ فَكَانَ هَذَا عَيْنًا بِدَيْنٍ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي بَيْعِ الْفُلُوسِ بِالدَّرَاهِمِ أَنَّ قَبْضَ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ يَكْفِي قُلْنَا : نَعَمْ صَارَ قَابِضًا لَهُ بِذِمَّتِهِ وَلَكِنْ دَيْنًا لَا عَيْنًا لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِقَبْضِ مَالِ عَيْنٍ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالْقَبْضِ بِالذِّمَّةِ فَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا بِدَيْنٍ فَيَكُونُ هَذَا افْتِرَاقًا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ .
وَإِنْ أَقْرَضَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَخَذَ بِهَا كَفِيلًا ثُمَّ صَالَحَ الْكَفِيلُ الطَّالِبَ عَلَى عَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَقَبَضَهَا جَازَ ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَصْلِ وَيَثْبُتُ فِي ذِمَّتِهِ مَا هُوَ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ وَصُلْحُهُ مَعَ الْأَصِيلِ جَائِزٌ عَلَى الدَّنَانِيرِ بِشَرْطِ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ فَكَذَلِكَ مَعَ الْكَفِيلِ ثُمَّ الْكَفِيلُ يَرْجِعُ عَلَى الْأَصِيلِ بِالدَّرَاهِمِ ؛ لِأَنَّهُ بِالصُّلْحِ مَلَكَ مَا فِي ذِمَّتِهِ وَلَوْ مَلَكَهُ بِالْأَدَاءِ أَوْ بِالْهِبَةِ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْأَصْلِ فَكَذَلِكَ إذَا مَلَكَهُ بِالصُّلْحِ ، وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ إلَّا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ هُنَا يَتَبَرَّأُ عَمَّا زَادَ عَلَى مِائَةٍ وَالْكَفِيلُ لَا يَتَمَلَّكُ الْمَكْفُولَ بِهِ بِالْإِبْرَاءِ فَلَا يَرْجِعُ إلَّا بِقَدْرِ مَا أَدَّى ، وَالطَّالِبُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِتِسْعِمِائَةٍ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ .
( قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ ) : لَمْ يَذْكُرْ فَضْلَ رُجُوعِ الطَّالِبِ عَلَى الْمَطْلُوبِ هُنَا وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ وَوَجْهُ ذَلِكَ : أَنَّ الصُّلْحَ مَعَ الْكَفِيلِ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ بِمَنْزِلَةِ إبْرَاءِ الطَّالِبِ عَنْ الْبَاقِي ، وَبَرَاءَةُ الْكَفِيلِ لَا تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ فَكَانَ لِلطَّالِبِ أَنْ يَرْجِعَ بِالتِّسْعِمِائَةِ الْبَاقِيَةِ لِهَذَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَفِي الصُّلْحِ هُنَاكَ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ فَيَصِيرُ بِهِ مُتَمَلِّكًا جَمِيعَ الْأَلْفِ وَلَا مُبَادَلَةَ هُنَا فَإِنَّ مُبَادَلَةَ الْمِائَةِ بِالْأَلْفِ رِبًا قَالَ : وَلَوْ أَنَّ الْمَكْفُولَ عَنْهُ صَالَحَ الْكَفِيلَ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ الْكَفِيلُ الْمَالَ إلَى الطَّالِبِ عَلَى عَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَدَفَعَهَا إلَيْهِ كَانَ جَائِزًا ؛ وَلِأَنَّ بِالْكَفَالَةِ كَمَا وَجَبَ الْمَالُ لِلطَّالِبِ عَلَى الْكَفِيلِ وَجَبَ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ ، وَلَكِنَّهُ مُؤَجَّلٌ إلَى أَنْ يُؤَدَّى .
وَالصُّلْحُ عَنْ الدَّرَاهِمِ الْمُؤَجَّلَةِ عَلَى دَنَانِيرَ صَحِيحٌ بِشَرْطِ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ فَإِنْ أَدَّى الْمَكْفُولُ عَنْهُ الدَّرَاهِمَ بَعْدَ ذَلِكَ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْكَفِيلِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْكَفِيلُ أَنْ يَرُدَّ الدَّنَانِيرَ الَّتِي أَخَذَ .
لِأَنَّهُ إنَّمَا أَعْطَاهُ لِيُسْقِطَ مُطَالَبَةَ الطَّالِبِ عَنْهُ وَلَمْ تَسْقُطْ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أَعْطَاهُ جِنْسَ الْمَالِ ثُمَّ الْكَفِيلُ صَارَ مُسْتَوْفِيًا مِنْهُ الدَّرَاهِمَ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ ، وَمَبْنَى الصُّلْحِ عَلَى الْإِغْمَاضِ وَالتَّجَوُّزِ بِدُونِ الْحَقِّ ؛ فَإِذَا مَنْ لَزِمَهُ الرَّدُّ تَخَيَّرَ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّ الْمَقْبُوضَ بِعَيْنِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَرُدَّ مَا صَارَ مُسْتَوْفِيًا بِالْمُقَاصَّةِ مِنْ الدَّرَاهِمِ ، وَلَوْ كَانَ صَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ ؛ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ إلَّا بِهَا ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ الْكَفِيلُ مُبَرِّئٌ لِلْأَصِيلِ ، وَفِي الْمِائَةِ مُسْتَوْفٍ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا رَدُّ مَا اسْتَوْفَى .
وَإِذَا أَقْرَضَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقَبَضَهَا مِنْهُ وَأَمْرُهُ أَنْ يَصْرِفَهَا لَهُ فَصَرَفَهَا لَهُ بِالدَّنَانِيرِ فَلَا يَجُوزُ عَلَى الطَّالِبِ ؛ لِأَنَّهُ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَإِنْ رَضِيَ الطَّالِبُ أَنْ يَأْخُذَ الدَّنَانِيرَ فَفَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ كَمَا لَوْ اسْتَبْدَلَ مَعَهُ دَرَاهِمَ الْقَرْضِ بِالدَّنَانِيرِ هَكَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ مِنْ غَيْرِ تَنْصِيصٍ عَلَى الْخِلَافِ فِيهِ ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ قَالَ : هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ : أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الطَّالِبِ سَوَاءٌ صَرَفَ الدَّرَاهِمَ بِالدَّنَانِيرِ أَوْ الدَّنَانِيرَ بِالدَّرَاهِمِ وَسَوَاءٌ قَبَضَهُ الطَّالِبُ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ بَعْدَهُ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ وَالْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ وَإِذَا قَالَ الطَّالِبُ لِلْمَطْلُوبِ : أَسْلِمْ مَالِي عَلَيْك فِي كُرِّ حِنْطَةٍ ، وَقَدْ قَرَّرْنَا الْخِلَافَ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ ؛ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِالصَّرْفِ مَعَ غَيْرِ الْمُعَيَّنِ ، أَوْ السَّلَمُ عِنْدَهُمَا يَصِحُّ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَضَافَ الْوَكَالَةَ إلَى مِلْكِهِ فَالدَّيْنُ فِي ذِمَّةِ الْمَدْيُونِ مِلْكُ الطَّالِبِ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةِ لَا يَجُوزُ فِي الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ أَمْرَهُ بِدَفْعِ الدَّيْنِ إلَى مَنْ يَخْتَارُهُ لِنَفْسِهِ .
وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَدَفَعَ الْمَطْلُوبُ إلَى الطَّالِبِ دَنَانِيرَ وَقَالَ : اصْرِفْهَا وَخُذْ مِنْهَا فَقَبَضَهَا فَهَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَصْرِفَهَا هَلَكَتْ مِنْ مَالِ الدَّافِعِ ، وَالْمَدْفُوعُ إلَيْهِ مُؤْتَمَنٌ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ الدَّنَانِيرَ بِحُكْمِ الْوَكَالَةِ ، وَالْوَكِيلُ أَمِينٌ فِيمَا دَفَعَهُ الْمُوَكِّلُ إلَيْهِ مِنْ مَالِهِ فَإِنْ صَرَفَهَا ، وَقَبَضَ الدَّرَاهِمَ فَهَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا حَقَّهُ هَلَكَتْ مِنْ مَالِ الدَّافِعِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ فِي الْقَبْضِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ عَامِلٌ لِلْآمِرِ فَهَلَاكُهُ فِي يَدِهِ كَهَلَاكِهِ فِي يَدِ الْآمِرِ حَتَّى يَأْخُذَ حَقَّهُ فَإِذَا أَخَذَ حَقَّهُ وَضَاعَ مَا أَخْذَهُ فَهُوَ مِنْ مَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي هَذَا عَامِلٌ لِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ آخِذًا حَقَّهُ بِإِحْدَاثِ الْقَبْضِ فِيهِ لِأَجْلِ نَفْسِهِ ، وَلَوْ دَفَعَهُ إلَيْهِ الْمَطْلُوبُ قَضَاءً كَانَ دَاخِلًا فِي ضَمَانِهِ فَكَذَلِكَ إذَا قَبَضَهُ بِأَمْرِهِ ، وَإِنْ قَالَ : بِعْهَا بِحَقِّكَ فَبَاعَهَا بِدَرَاهِمَ مِثْلَ حَقِّهِ ، وَأَخَذَهَا فَهُوَ مِنْ مَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْبَيْعِ مُمْتَثِلٌ أَمْرَهُ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ ؛ إذَا كَانَ فِي الْقَبْضِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ كَوْنُهُ تَابِعًا بِحَقِّهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ هُنَاكَ أَمْرَهُ بِالْبَيْعِ لِلْأَمْرِ ، فَكَانَ فِي الْقَبْضِ عَامِلًا لِلْآمِرِ مَا لَمْ يَسْتَوْفِ حَقَّهُ مِنْ الْمَقْبُوضِ .
وَإِذَا اشْتَرَى بَيْعًا عَلَى أَنْ يُقْرِضَهُ فَهَذَا فَاسِدٌ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ وَلِنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ .
وَالْمُرَادُ شَرْطٌ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ .
وَإِذَا أَقْرَضَ الْمُرْتَدُّ أَوْ اسْتَقْرَضَ فَقُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ فَقَرْضُهُ الَّذِي عَلَيْهِ دَيْنٌ فِي مَالِهِ إمَّا ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ قَدْ بَطَلَ فَبَقِيَ هُوَ قَابِضًا مَالَ الْغَيْرِ عَلَى وَجْهِ التَّمَلُّكِ وَذَلِكَ مُوجِبٌ الضَّمَانَ عَلَيْهِ أَوْ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِقْرَاضُ صَحِيحٌ فَإِنَّ تَوَقُّفَ تَصَرُّفِهِ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ وَاسْتِقْرَاضِهِ لَا يُلَاقِي مَحَلًّا فِيهِ حَقُّ الْوَرَثَةِ فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ إذَا اسْتَقْرَضَ وَاسْتَهْلَكَ لَمْ يَلْزَمْهُ ضَمَانُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - مَا لَمْ يُعْتَقْ ؟ فَكَذَلِكَ الْمَحْجُورُ بِسَبَبِ الرِّدَّةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَكُونَ ضَامِنًا مَا اسْتَقْرَضَ فِي مَالِهِ الَّذِي هُوَ حَقُّ الْوَرَثَةِ .
قُلْنَا : الْعَبْدُ يَصِحُّ مِنْهُ الْتِزَامُ الضَّمَانِ بِالِاسْتِقْرَاضِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ حَتَّى يُؤَاخَذَ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ فَكَذَلِكَ مِنْ الْمُرْتَدِّ يَصِحُّ الِالْتِزَامُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ثُمَّ حَقُّهُ فِي الْمَالِ يُقَدَّمُ عَلَى حَقِّ الْوَرَثَةِ ؛ وَلِهَذَا يَقْضِي سَائِرَ الدُّيُونِ مِنْ مَالِهِ فَكَذَلِكَ هَذَا الدَّيْنُ وَمَا أَقْرَضَهُ الْمُرْتَدُّ فَهُوَ دَيْنٌ عَلَى صَاحِبه ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِشَرْطِ الضَّمَانِ وَذَلِكَ مُوجَبٌ عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْمُرْتَدِّ وَفِي حَقِّ وَرَثَتِهِ .
وَإِقْرَاضُ الْمُرْتَدَّةِ وَاسْتِقْرَاضُهَا جَائِزٌ كَمَا يَجُوزُ سَائِرُ تَصَرُّفَاتِهَا .
وَلَا يَجُوزُ إقْرَاضُ الْعَبْدِ التَّاجِرِ وَالْمُكَاتَبِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ وَهَؤُلَاءِ لَا يَمْلِكُونَ التَّبَرُّعَ .
وَإِذَا أَقْرَضَ الرَّجُلُ صَبِيًّا أَوْ مَعْتُوهًا فَاسْتَهْلَكَهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ هَكَذَا أَطْلَقَ فِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ وَفِي نُسَخِ أَبِي سُلَيْمَانَ قَالَ : وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَمَّا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا اسْتَهْلَكَ وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَدِيعَةِ ؛ لِأَنَّهُ سَلَّطَهُ عَلَى الِاسْتِهْلَاكِ بِشَرْطِ الضَّمَانِ ، وَتَسْلِيطُ الصَّبِيِّ عَلَى الِاسْتِهْلَاكِ صَحِيحٌ ، وَشَرْطُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بَاطِلٌ وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذِهِ الطَّرِيقَةَ فِي كِتَابِ الْوَدِيعَةِ فَهِيَ فِي الْقَرْضِ أَظْهَرُ ، وَإِنْ أَقْرَضَ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَاسْتَهْلَكَهُ لَمْ يَأْخُذْهُ بِهِ حَتَّى يُعْتَقَ وَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا - وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ - وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ كَمَا فِي الْوَدِيعَةِ وَإِنْ وَجَدَ الْمُقْرِضُ مَالَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ وَاحِدِ مِنْ هَؤُلَاءِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مِلْكِهِ .
وَإِذَا بَاعَ الرَّجُلُ دَرَاهِمَ بِدَرَاهِمَ إلَى أَجَلٍ وَقَبَضَ فَهُوَ فَاسِدٌ لِوُجُودِ الْمُجَانَسَةِ وَالْقَدْرِ ، وَالنَّسَا حَرَامٌ عِنْدَ وُجُودِ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ فَعِنْدَ وُجُودِهِمَا أَوْلَى ، وَالْمَقْبُوضُ بِمَنْزِلَةِ الْقَرْضِ حَالٌّ عَلَيْهِ فَإِنْ وَجَدَ دَرَاهِمَهُ بِعَيْنِهَا فَلِلْآخَرِ أَنْ يُعْطِيَهُ غَيْرَهَا ؛ لِأَنَّهُ قَرْضٌ عَلَيْهِ وَاخْتِيَارُ مَحَلِّ قَضَاءِ بَدَلِ الْقَرْضِ إلَى مَنْ عَلَيْهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيهِ خِلَافَ أَبِي يُوسُفَ وَفِي نُسْخَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ لَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يُعْطِيَهُ غَيْرَهَا وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ ؛ لِأَنَّهَا مَقْبُوضَةٌ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ فَيَجِبُ رَدُّهَا بِعَيْنِهَا عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الدَّرَاهِمِ تَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَتَعَيَّنُ بِالْعَقْدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ الرَّهْنِ فِي الصَّرْفِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَإِذَا اشْتَرَى عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ وَنَقَدَهُ الدَّنَانِيرَ وَأَخَذَ بِالْعَشَرَةِ رَهْنًا يُسَاوِيهَا فَهَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا فَهُوَ بِمَا فِيهِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْبُيُوعِ حُكْمَ الرَّهْنِ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ فَبَدَلُ الصَّرْفِ فِيهِ مِثْلُهُ ثُمَّ بِقَبْضِ الرَّهْنِ تَثْبُتُ لَهُ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ وَيَتِمُّ ذَلِكَ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ وَيَصِيرُ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ مُسْتَوْفِيًا عَيْنَ حَقِّهِ مِنْ مَالِيَّةِ الرَّهْنِ لَا مُسْتَبْدِلًا ؛ فَلِهَذَا بَقِيَ عَقْدُ الصَّرْفِ كَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى سَيْفًا مُحَلَّى بِدَنَانِيرَ أَوْ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَقَبَضَ السَّيْفَ وَأَخَذَ ثَمَنَهُ رَهْنًا ، فِيهِ وَفَاءٌ فَهَلَكَ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا وَلَوْ نَقَدَهُ الثَّمَنَ وَأَخَذَ رَهْنًا بِالسَّيْفِ ، وَفِيهِ وَفَاءٌ فَهَلَكَ الرَّهْنُ عِنْدَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا ؛ فَإِنَّهُ يُقْضَى لَهُ بِالسَّيْفِ ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الرَّهْنِ بِالْأَعْيَانِ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ عَقْدِ الرَّهْنِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ ، وَاسْتِيفَاءُ الْعَيْنِ مِنْ الْعَيْنِ غَيْرُ مُمْكِنٌ فَيَبْقَى السَّيْفُ عَلَى مِلْكِهِ بَعْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ وَيُقْضَى عَلَيْهِ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَةِ السَّيْفِ وَمِنْ قِيمَةِ الرَّهْنِ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ الرَّهْنَ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِيفَاءِ ، وَالْمَقْبُوضُ عَلَى جِهَةِ الشَّيْءِ كَالْمَقْبُوضِ عَلَى حَقِيقَتِهِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَكَانَ السَّيْفِ مِنْطَقَةٌ أَوْ سَرْجٌ مُفَضَّضٌ أَوْ إنَاءٌ مَصُوغٌ أَوْ فِضَّةُ تِبْرٍ ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التِّبْرَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي الْعَقْدِ فِي أَنَّهُ جَعَلَهُ كَالسَّيْفِ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الرَّهْنِ بِعَيْنِهِ فَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ بَعْدَ مَا تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ فَقَدْ بَطَلَ عَقْدُ الصَّرْفِ بِالِافْتِرَاقِ ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الِاسْتِيفَاءِ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ فَالِافْتِرَاقُ قَبْلَهُ مُبْطِلٌ لِعَقْدِ الصَّرْفِ وَلَكِنَّ الْمُرْتَهِنَ ضَامِنُ الْأَقَلِّ مِنْ قِيمَةِ الرَّهْنِ وَمِمَّا رَهَنَ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ رَهْنًا
بِالثَّمَنِ أَوْ بِالْمُثَمَّنِ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ حُكْمٌ يَثْبُتُ بِالْقَبْضِ ، وَالْقَبْضُ بَاقٍ بَعْدَ مَا بَطَلَ عَقْدُ الصَّرْفِ بِالِافْتِرَاقِ فَعِنْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ يَتِمُّ الِاسْتِيفَاءُ فِيمَا انْعَقَدَ ضَمَانُهُ بِالْقَبْضِ ، وَقَدْ بَطَلَ الْعَقْدُ الْمُوجِبُ لِلِاسْتِيفَاءِ فَيَلْزَمُهُ رَدُّ الْمُسْتَوْفَى كَمَا لَوْ اسْتَوْفَاهُ حَقِيقَةً ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الصَّرْفِ فِي الْمَعَادِنِ وَتُرَابِ الصَّوَّاغِينَ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : ذَكَرَ حَدِيثَ { أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إذَا هَلَكَ الرَّجُلُ فِي الْبِئْرِ جَعَلُوهَا عَقْلَهُ وَإِذَا جَرَحَتْهُ دَابَّةٌ جَعَلُوهَا عَقْلَهُ وَإِذَا وَقَعَ عَلَيْهِ مَعْدِنٌ جَعَلُوهُ عَقْلَهُ فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : الْعَجْمَاءُ جُرْحُهَا جُبَارٌ وَالْبِئْرُ جُبَارٌ وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ قَالُوا : وَمَا الرِّكَازُ قَالَ : الذَّهَبَ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي الْأَرْضِ يَوْمَ خَلَقَهَا } وَالْمُرَادُ بِالْعَجْمَاءِ الدَّابَّةُ لِأَنَّهَا بَهِيمَةٌ لَا تَنْطِقُ أَلَا تَرَى أَنَّ الَّذِي لَا يُفْصِحُ يُسَمَّى أَعْجَمِيًّا ، وَالْجُبَارُ الْهَدَرُ وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ فِعْلَ الدَّابَّةِ هَدَرٌ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ صَالِحٍ بِأَنْ يَكُونَ مُوجِبًا عَلَى صَاحِبِهَا ، وَلَا ذِمَّةَ لَهَا فِي نَفْسِهَا وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ : وَالرِّجْلُ جُبَارُ وَالْمُرَادُ أَنَّ الدَّابَّةَ إذَا رَمَحَتْ بِرِجْلِهَا فَلَا ضَمَانَ فِيهِ عَلَى السَّائِقِ وَالْقَائِدِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ .
بِخِلَافِ مَا لَوْ كَدَمَتْ الدَّابَّةُ أَوْ ضَرَبَتْ بِالْيَدِ حَيْثُ يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّ فِي وُسْعِ الرَّاكِبِ أَنْ يَمْنَعَهُ بِأَنْ يَرُدَّ لِجَامَهُ .
وَأَمَّا الْبِئْرُ وَالْمَعْدِنُ فَجُبَارٌ ؛ لِأَنَّ سُقُوطَهُ بِعَمَلِ مَنْ يُعَالِجُهُ فَيَكُونُ كَالْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ وَفِيهِ دَلِيلٌ لَنَا عَلَى وُجُوبِ الْخُمُسِ فِي الْمَعْدِنِ .
فَقَدْ أَوْجَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُمُسَ فِي الرِّكَازِ ثُمَّ فَسَّرَ الرِّكَازَ بِالْمَعْدِنِ ، وَهُوَ الذَّهَبُ الْمَخْلُوقُ فِي الْأَرْضِ حِينَ خُلِقَتْ ؛ فَإِنَّ الْكَنْزَ مَوْضُوعٌ لِلْعِبَادِ .
وَاسْمُ الرِّكَازِ يَتَنَاوَلهُمَا ؛ لِأَنَّ الرِّكْزَ هُوَ الْإِثْبَاتُ يُقَالُ : رَكَّزَ رُمْحَهُ فِي الْأَرْضِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُثَبَّتٌ فِي الْأَرْضِ خِلْقَةً أَوْ وَضْعًا .
.
وَعَنْ عَامِرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ : وَجَدَ رَجُلٌ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَخَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ فِي قَرْيَةٍ خَرِبَةٍ فَقَالَ عَلِيٌّ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَقْضِي فِيهَا قَضَاءً بَيِّنًا ، إنْ كُنْتَ وَجَدْتَهَا فِي قَرْيَةٍ يُؤَدِّي خَرَاجَهَا قَوْمٌ فَهُمْ أَحَقُّ بِهَا مِنْك ، وَإِنْ كُنْتَ وَجَدْتَهَا فِي قَرْيَةٍ لَيْسَ يُؤَدِّي خَرَاجَهَا أَحَدٌ فَخُمُسُهَا لِبَيْتِ الْمَالِ وَبَقِيَّتُهَا لَكَ ، وَسَنُتِمُّهَا لَك فَجَعَلَ الْكُلَّ لَهُ وَفِيهِ دَلِيلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - عَلَى أَنَّ وَاجِدَ الْكَنْزِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لَا يَمْلِكُهُ ، وَلَكِنْ يَرُدُّهَا عَلَى صَاحِبِ الْخُطَّةِ ، وَهُوَ أَوَّلُ مَالِكٍ كَانَ لِهَذِهِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَا اُفْتُتِحَتْ ، وَفِيهِ دَلِيلُ وُجُوبِ الْخُمُسِ فِي الْكَنْزِ وَأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَضَعَ ذَلِكَ فِي الْوَاجِدِ إذَا رَآهُ مُحْتَاجًا إلَيْهِ وَلَهُ أَنْ يَضَعَ ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْمَالِ كَمَا رَوَاهُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ قَالَ : إنْ كَانَتْ قَرْيَةً خَرِبَتْ عَلَى عَهْدِ فَارِسَ فَهُمْ أَحَقُّ بِهِ وَإِنْ كَانَتْ عَادِيَةً خَرِبَتْ قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ لِلَّذِي وَجَدَهُ فَوَجَدُوهَا كَذَلِكَ فَأَدْخَلَ خُمُسَهُ بَيْتَ الْمَالِ وَأَعْطَى الرَّجُلَ بَقِيَّتَهُ وَعَنْ مَسْرُوقٍ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ كَنْزًا بِالْمَدَائِنِ فَدَفَعَهُ إلَى عَامِلِهِ فَأَخَذَهُ كُلَّهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ : بِفِيهِ الْكَثْكَثُ - يَعْنِي التُّرَابَ - فَهَلَّا أَخَذَ أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ الْمَالِ ، وَدَفَعَ إلَيْهِ خُمُسَهُ .
وَهَذَا مَثَلٌ فِي الْعَرَبِ مَعْرُوفٌ لِلْجَانِبِ الْمُخْطِئِ فِي عَمَلِهِ ، وَهُوَ مُرَادُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِمَا قَالَتْ - يَعْنِي أَنَّهُ خَابَ وَخَسِرَ لِخَطَئِهِ فِيمَا صَنَعَ فِي دَفْعِهِ الْكُلَّ إلَى الْعَامِلِ فَقَدْ كَانَ لَهُ أَنْ يُخْفِيَ مِقْدَارَ حَقِّهِ فِي ذَلِكَ ، وَلَا يَدْفَعَ إلَى الْعَامِلِ الْأَقْدَرِ الْخُمُسَ .
.
وَعَنْ جَبَلَةَ بْنِ حُمَيْدٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْهُمْ خَرَجَ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ إلَى دَيْرٍ خَرِبَةٍ فَوَقَعَتْ فِيهِ ثُلْمَةٌ فَإِذَا سَتُّوقَةٌ أَوْ جَرَّةٌ فِيهَا أَرْبَعَةُ آلَافِ مِثْقَالٍ ذَهَبٍ قَالَ : فَأَتَيْتُ بِهَا عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا لَكَ ، وَالْخُمُسُ الْبَاقِي مِنْهُ اقْسِمْهُ فِي فُقَرَاءِ أَهْلِكَ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ وَضْعِ الْخُمُسِ فِي قَرَابَةِ الْوَاحِدِ وَأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُفَوِّضَ ذَلِكَ إلَيْهِ كَمَا لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ خُمُسَ الرِّكَازِ فِي مَعْنَى خَمْسِ الْغَنِيمَةِ ، وَوَضْعُ ذَلِكَ فِي قَرَابَةِ الْغَانِمِينَ جَائِزٌ إذَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ إلَيْهِ .
وَعَنْ الْحَارِثِ الْأَزْدِيِّ قَالَ : وَجَدَ رَجُلٌ رِكَازًا فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ أَبِي بِمِائَةِ شَاةٍ تَبِيعٍ فَلَامَتْهُ أُمِّي ، وَقَالَتْ : اشْتَرَيْتَهُ بِثَلَاثِمِائَةٍ أَنْفُسُهَا مِائَةٌ ، وَأَوْلَادُهَا مِائَةٌ وَكِفَايَتُهَا مِائَةٌ فَنَدِمَ الرَّجُلُ فَاسْتَقَالَهُ فَأَبَى أَنْ يُقِيلَهُ فَقَالَ : لَك عَشْرُ شِيَاهٍ فَأَبَى فَقَالَ : لَكَ عَشَرَةٌ أُخْرَى فَأَبَى فَعَالَجَ الرِّكَازَ فَخَرَجَ مِنْهُ قِيمَةُ أَلْفِ شَاةٍ فَأَتَاهُ الْآخَرُ فَقَالَ خُذْ غَنَمَك وَأَعْطِنِي مَالِي فَأَبَى عَلَيْهِ فَقَالَ : لَأَضُرَّنَّكَ فَأَتَى عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَذَكَرَ ذَلِكَ فَقَالَ : عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَدِّ خُمُسَ مَا وَجَدْت لِلَّذِي وَجَدَ الرِّكَازَ ، فَأَمَّا هَذَا فَإِنَّمَا أَخَذَ ثَمَنَ غَنَمِهِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بَيْعَ الْمَعْدِنِ بِالْعُرُوضِ جَائِزٌ وَقَوْلُهُ بِمِائَةِ شَاةٍ تَبِيعٍ أَيْ : كُلُّ شَاةٍ يَتْبَعُهَا وَلَدُهَا ، وَهِيَ حَامِلٌ بِأُخْرَى ، وَهَذَا مَعْنَى مَلَامِهَا إيَّاهُ حَيْثُ قَالَتْ : اشْتَرَيْتَهَا بِثَلَاثِمِائَةٍ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهَا : وَكِفَايَتُهَا : حَمْلُهَا ، وَقِيلَ : الْمُرَادُ لَبَنُهَا ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَصَرِّفَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَبْنِيَ تَصَرُّفَهُ عَلَى رَأْيِ زَوْجَتِهِ فَإِنَّهُ نَدِمَ بِنَاءً عَلَى رَأْيِهَا ثُمَّ خَرَجَ لَهُ مِنْهُ قِيمَةُ أَلْفِ شَاةٍ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { شَاوِرُوهُنَّ وَخَالِفُوهُنَّ } ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ خُمُسَ الرِّكَازِ عَلَى الْوَاجِدِ دُونَ الْمُشْتَرِي وَأَنَّ بَيْعَ الْوَاجِدِ قَبْلَ أَدَاءِ الْخُمُسِ جَائِزٌ فِي الْكُلِّ فَيَكُونُ دَلِيلًا لَنَا عَلَى جَوَازِ بَيْعِ مَالِ الزَّكَاةِ بَعْدَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِيهِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يَقْصِدَ الْإِضْرَارَ بِالْغَيْرِ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلُحُوقِ الضَّرَرِ بِهِ كَمَا اُبْتُلِيَ بِهِ هَذَا الرَّجُلُ ، وَهَذَا مَعْنَى مَا يُقَالُ مَنْ حَفَرَ مَهْوَاةً وَقَعَ فِيهَا وَيُقَالُ : الْمُحْسِنُ يُجْزَى بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءُ سَتُلْقِيهِ مَسَاوِيهِ .
.
وَعَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ : لَا خَيْرَ فِي بَيْعِ تُرَابِ الصَّوَّاغِينَ وَهُوَ غَرَرٌ مِثْلُ السَّمَكِ فِي الْمَاءِ وَبِهِ نَأْخُذُ فَالْمَقْصُودُ مَا فِي التُّرَابِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا عَيْنُ التُّرَابِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ وَمَا فِيهِ لَيْسَ بِمَعْلُومِ الْوُجُودِ وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ فَكَانَ هَذَا بَيْعَ الْغَرَرِ .
{ وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعٍ فِيهِ غَرَرٌ } وَلَكِنْ هَذَا إذَا لَمْ يُعْلَمْ هَلْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ عُلِمَ وُجُودُ ذَلِكَ فَبَيْعُ شَيْءٍ مِنْهُ مُعَيَّنٍ بِالْعُرُوضِ جَائِزٌ عَلَى مَا بَيَّنَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ .
وَعَنْ { عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَمِعْتُ رَجُلًا مِنْ مُزَيْنَةَ يَسْأَلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّا يُوجَدُ فِي الطَّرِيقِ الْعَامِّ فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : عَرِّفْهَا حَوْلًا فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَهِيَ لَكَ } وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُلْتَقِطَ عَلَيْهِ التَّعْرِيفُ فِي اللُّقْطَةِ .
وَبِظَاهِرِهِ يَسْتَدِلُّ الشَّافِعِيُّ وَيَقُولُ : لَهُ أَنْ يَتَمَلَّكهَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا وَلَكِنَّا نَقُولُ : مُرَادَهُ فَاصْرِفْهَا إلَى حَاجَتِكَ ؛ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِمَهُ مُحْتَاجًا .
وَعِنْدَنَا لِلْفَقِيرِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِاللُّقَطَةِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ .
قَالَ فَإِنْ وَجَدَهَا فِي الْخَرِبِ الْعَادِيَّ فَفِيهَا وَفِي الرِّكَازِ الْخُمُسُ ، وَالْمُرَادُ بِالرِّكَازِ الْمَعْدِنُ ؛ لِأَنَّهُ عَطَفَهُ عَلَى الْكَنْزِ ، وَإِنَّمَا يُعْطَفُ الشَّيْءُ عَلَى غَيْرِهِ لَا عَلَى نَفْسِهِ ، وَكُلُّ مَنْ احْتَفَرَ مِنْ الْمَعْدِنِ ، فَعَلَيْهِ خُمُسُ مَا وَجَدَ ، وَلَهُ أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ ؛ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَثَرِ قَالَ : وَأَكْرَهُ أَنْ تَتَقَاسَمُونَهُ التُّرَابَ ، وَلَا أُجِيزُهُ ، وَإِنْ فَعَلُوا حَتَّى تَخَلَّصَ ، تَقَاسَمُوهُ عَلَى مَا يَخْلُصُ مِنْ ذَلِكَ ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ مَا فِي التُّرَابِ ، وَحَقُّهُمْ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ، وَعِنْدَ قِسْمَةِ التُّرَابِ لَا يُعْلَمُ مِقْدَارُ مَا يَصِلُ مِنْ الْمَقْصُودِ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَهُمْ فِي مَعْنَى قِسْمَةِ الذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ مُجَازَفَةً ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ كَمَا لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ فِيهِ مُجَازَفَةً بِجِنْسِهِ .
وَلَوْ اشْتَرَى مَعْدِنَ فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّ مَا فِي تُرَابِ الْمَعْدِنِ مِنْ الْفِضَّةِ مِثْلُ الْفِضَّةِ الْأُخْرَى ، أَوْ أَقَلُّ ، أَوْ أَكْثَرُ ، وَالْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ فِي بَابِ الرِّبَا وَاجِبٌ .
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كُنَّا نَدْعُ تِسْعَةَ أَعْشَارِ الْحَلَالِ مَخَافَةَ الْحَرَامِ ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ فِي شَيْءٍ إلَّا وَقَدْ غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ } ، وَقَالَ : فِي الرِّبَا { مَنْ لَمْ يَأْكُلْهُ أَصَابَهُ مِنْ غُبَارِهِ ، } وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَاهُ بِذَهَبٍ ، أَوْ فِضَّةٍ فَلَعَلَّ مَا فِي التُّرَابِ مِنْ الْفِضَّةِ مِثْلُ الْمُنْفَصِلِ فَيَكُونُ الذَّهَبُ رِبًا ؛ لِأَنَّهُ فَضْلٌ خَالٍ عَنْ الْعِوَضِ فَالتُّرَابُ لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ إنْ اشْتَرَاهُ بِذَهَبٍ جَازَ ؛ لِأَنَّ رِبَا الْفَضْلِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ ، وَكَانَ بِالْخِيَارِ إذَا خَلَصَ ذَلِكَ مِنْهُ ، وَرَأَى مَا فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا كَشَفَ لَهُ الْحَالَ الْآنَ ، وَلَا يَتِمُّ رِضَاهُ بِذَلِكَ ، فَكَانَ الْخِيَارُ إلَيْهِ ، كَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَاهُ بِعَرَضٍ .
وَكَذَلِكَ تُرَابُ مَعْدِنٍ مِنْ الذَّهَبِ إذَا اشْتَرَاهُ بِذَهَبٍ لَمْ يَجُزْ .
وَإِنْ اشْتَرَاهُ بِفِضَّةٍ ، أَوْ عَرَضٍ جَازَ لِانْعِدَامِ الرِّبَا بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ
وَإِذَا احْتَفَرَ مَوْضِعًا مِنْ الْمَعْدِنِ ، ثُمَّ بَاعَ تِلْكَ الْحُفْرَةَ ، فَإِنَّ بَيْعَهُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ مَا لَا يَمْلِكُ ، فَإِنَّ تِلْكَ الْحُفْرَةَ لَمْ يَمْلِكْهَا بِمُجَرَّدِ الْحَفْر ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْإِحْرَازِ ، وَهُوَ لَمْ يُحْرِزْهُ ، فَإِنَّ إحْرَازَهُ فِيمَا رَفَعَ مِنْ التُّرَابِ ، دُونَ الْبَاقِي فِي مَكَانِهِ ، فَهُوَ كَبَيْعِ صَخْرَةٍ مِنْ الْجَبَلِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِزَهَا ، وَيُخْرِجَهَا ، وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ أَحْرَزَ بَعْضَهَا ، فَبَاعَ ذَلِكَ الْمُحْرَزَ بِمِائَةِ شَاةٍ ، وَبَاعَ لَهُ الْبَاقِي ، وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَدِّ خُمُسَ مَا وَجَدْتَ مِنْ الرِّكَازِ ، يَعْنِي مَا أَحْرَزْتَهُ ، وَكَذَلِكَ إنْ أَعْطَاهَا رَجُلًا عَلَى أَنْ يُعَوِّضَهُ مِنْهَا عِوَضًا ، فَهُوَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ مَا لَا يَمْلِكُ ، وَاشْتَرَطَ الْعِوَضَ عَلَيْهِ فِي إخْرَاجِ الْمُبَاحِ ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ ، فَرَجَعَ فِي عِوَضِهِ
وَمَا احْتَفَرَ الرَّجُلُ مِنْ الْحُفْرَةِ فَأَحْرَزَهُ ، فَهُوَ لَهُ بِالْإِحْرَازِ ، وَعَلَيْهِ الْخُمُسُ فِي ذَلِكَ ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ الْأَجِيرَ يَعْمَلُ مَعَهُ بِتُرَابِ مَعْدِنٍ مَعْرُوفٍ فَهُوَ جَائِزُ ؛ إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ فِيهِ شَيْئًا مِنْ الذَّهَبِ ، أَوْ الْفِضَّةِ ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ مِقْدَارِهِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لَمَّا كَانَ التُّرَابُ مُعَيَّنًا مَعْرُوفًا ، وَلَهُ الْخِيَارُ إذَا رَأَى مَا فِيهِ ، كَمَنْ أَجَّرَ نَفْسَهُ بِعِوَضٍ لَمْ يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ .
وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ بِوَزْنٍ مِنْ التُّرَابِ مُسَمًّى بِغَيْرِ عَيْنِهِ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَا فِي التُّرَابِ ، وَذَلِكَ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِذِكْرِ وَزْنِ التُّرَابِ فَقَدْ يَكْثُر ذَلِكَ فِي الْبَعْضِ ، وَيَقِلُّ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ ، وَيَنْعَدِمُ فِي الْبَعْضِ ، وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى عَرَضًا بِوَزْنٍ مِنْ التُّرَابِ بِغَيْرِ عَيْنِهِ ، فَهُوَ بَاطِلٌ لِمَا قُلْنَا
وَإِنْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ ، فَأَعْطَاهُ بِهِ تُرَابًا بِعَيْنِهِ يَدًا بِيَدٍ ، فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ فِضَّةً ، فَأَعْطَاهُ تُرَابَ فِضَّةٍ لَمْ يَجُزْ ؛ لِتَوَهُّمِ الْفَضْلِ فِيمَا أَعْطَاهُ ، وَإِنْ أَعْطَاهُ تُرَابَ ذَهَبٍ ، جَازَ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَأَى مَا فِيهِ
وَإِذَا اسْتَقْرَضَ الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ تُرَابَ ذَهَبٍ أَوْ تُرَابَ فِضَّةٍ ، فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مِثْلُ مَا يَخْرُجُ مِنْ ذَلِكَ التُّرَابِ مِنْ الذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ بِوَزْنِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مَا فِيهِ ، وَاسْتِقْرَاضُهُ جَائِزٌ فَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ وَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُسْتَقْرِضِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ الَّتِي يَدَّعِيهَا الْمُقْرِضُ ، وَإِنْ كَانَ اسْتِقْرَاضُ التُّرَابِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ تُرَابًا مِثْلَهُ لَمْ يَجُزْ ، مَعْنَاهُ أَنَّ الشَّرْطَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا الشَّرْطِ زِيَادَةً ، أَوْ نُقْصَانًا فِيمَا اسْتَقْرَضَهُ مِمَّا هُوَ الْمَقْصُودُ ، وَمِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ فِي الْقَرْضِ بَاطِلٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَاهُ شِرَاءً فَاسِدًا وَاسْتَهْلَكَ التُّرَابَ ، فَعَلَيْهِ مِثْلُ مَا فِيهِ مِنْ ذَهَبٍ ، أَوْ فِضَّةٍ ، وَالْقَوْلُ فِي مِقْدَارِهِ قَوْلُ الضَّامِنِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَتَنَاوَلُ عَيْنَ التُّرَابِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ ، وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَا فِيهِ
وَإِنْ اشْتَرَى تُرَابَ فِضَّةٍ بِتُرَابِ فِضَّةٍ ، أَوْ تُرَابِ ذَهَبٍ بِتُرَابِ ذَهَبٍ لَمْ يَجُزْ تَسَاوِيًا ، أَوْ تَفَاضُلًا ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَا فِي التُّرَابِ وَبِالْمُسَاوَاةِ فِي وَزْنِ التُّرَابِ لَا تَحْصُل الْمُمَاثَلَةُ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ ، وَهُوَ شَرْطُ جَوَازِ الْعَقْدِ
وَإِنْ اشْتَرَى تُرَابَ ذَهَبٍ بِتُرَابِ فِضَّةٍ جَازَ كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ مُجَازَفَةً وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ إذَا رَأَى مَا فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ صَارَ مَعْلُومًا لَهُ الْآنَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ صَرْفِ الْقَاضِي قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَحُكْمُ الْقَاضِي فِي الصَّرْفِ ، وَحُكْمُ وَكِيلِهِ وَأَمِينِهِ كَحُكْمِ سَائِرِ النَّاسِ ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا يُبَاشِرُ مِنْ الْعُقُودِ لَيْسَ بِقَاضٍ ، وَإِنْ كَانَ قَاضِيًا فَمُبَاشَرَةُ الْعَقْدِ عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ ، تَسْتَدْعِي مِنْ الشَّرَائِطِ مَا تَسْتَدْعِيهِ مُبَاشَرَتُهُ لَا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ
وَإِنْ كَانَ لِلْيَتِيمِ دَرَاهِمُ فَصَرْفَهَا الْوَصِيُّ بِدَنَانِيرَ مِنْ نَفْسِهِ بِسِعْرِ السُّوقِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الصَّرْفِ مَنْفَعَةٌ ظَاهِرَةٌ لِلْيَتِيمِ ، وَهُوَ شَرْطُ نُفُوذِ تَصَرُّفِ الْوَصِيِّ فِيمَا يُعَامِلُ نَفْسَهُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي حِجْرِهِ يَتِيمَانِ لِأَحَدِهِمَا دَرَاهِمُ ، وَلِلْآخَرِ دَنَانِيرُ فَصَرَفَهَا الْوَصِيُّ بَيْنَهُمَا لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ إنْ نَفَعَ أَحَدَهُمَا فَقَدْ أَضَرَّ بِالْآخَرِ ، وَهُوَ لَا يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ إلَّا بِشَرْطِ مَنْفَعَةٍ ظَاهِرَةٍ
، وَإِذَا اشْتَرَى مِنْ مَالِ الْيَتِيمِ شَيْئًا لِنَفْسِهِ نَظَرْتُ فِيهِ فَإِذَا كَانَ خَيْرًا لِلْيَتِيمِ أَمْضَيْتُ الْبَيْعَ فِيهِ ، وَإِلَّا فَهُوَ بَاطِلٌ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ أَصْلًا لِلْأَثَرِ الَّذِي رَوَيْنَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَالْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةُ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا ، أَمَّا أَبُو الصَّبِيِّ ، أَوْ جَدُّهُ أَبُو أَبِيهِ بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ ، فَلَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ مَعَ نَفْسِهِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ شَفَقَتَهُ تَحْمِلُهُ عَلَى أَنْ لَا يَتْرُكَ النَّظَرَ لَهُ ، فَلَا حَاجَةَ فِيهِ إلَى الْمَنْفَعَةِ الظَّاهِرَةِ لِلْيَتِيمِ بِخِلَافِ الْوَصِيِّ
وَإِنْ اشْتَرَى تُرَابَ الصَّوَّاغِينَ بِذَهَبٍ ، أَوْ فِضَّةٍ ، أَوْ بِذَهَبٍ وَفِضَّةٍ ، فَلَا خَيْرَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّ فِيهِ مِنْ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ خَاصَّةً مِثْلَ الَّذِي بِمُقَابِلَتِهِ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ ، فَيَكُونُ النَّوْعُ الْآخَرُ رِبًا ، وَإِنْ اشْتَرَاهُ بِغَيْرِ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ جَازَ ، وَلَهُ الْخِيَارُ إذَا رَآهُ ، وَعَلِمَ مَا فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْآنَ صَارَ مَعْلُومًا لَهُ ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ فِيهِ ذَهَبًا وَفِضَّةً فَاشْتَرَاهُ بِذَهَبٍ ، وَفِضَّةٍ ، يَجُوزُ عَلَى أَنْ يُصْرَفَ الْجِنْسُ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي بَيْعِ الْجِنْسَيْنِ بِجِنْسَيْنِ ، وَإِنْ اشْتَرَاهُ بِسَيْفٍ مُحَلًّى ، أَوْ مِنْطَقَةٍ مُفَضَّضَةٍ ، أَوْ قِلَادَةٍ فِيهَا ذَهَبٌ ، وَلُؤْلُؤٌ ، وَجَوْهَرٌ ، فَلَا خَيْرَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ مَا فِي التُّرَابِ مِثْلُ الْحِلْيَةِ فَيَبْقَى السَّيْفُ رِبًا ، وَإِنْ عُلِمَ أَنَّ فِيهِ ذَهَبًا وَفِضَّةً ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَشْتَرِيَهُ بِفِضَّةٍ ، وَجَوْهَرٍ أَوْ بِذَهَبٍ ، وَعَرَضٍ مِنْ الْعُرُوضِ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ تَصْحِيحَ الْعَقْدِ هُنَا مُمْكِنٌ ، بِأَنْ يُصْرَفَ الْمِثْلُ إلَى الْمِثْلِ ، وَالْبَاقِي بِإِزَاءِ الْعُرُوضِ ، وَالْحُكْمُ فِي تُرَابِ مَعْدِنِ فِضَّةٍ ، وَمَعْدِنِ ذَهَبٍ يَشْتَرِيهِمَا رَجُلٌ جَمِيعًا عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي تُرَابِ الصَّوَّاغِينَ ؛ لِاشْتِمَالِ التُّرَابِ عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ جَمِيعًا ، وَشَرْطُ الْخِيَارِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مُفْسِدٌ لِلْبَيْعِ ، وَكَذَلِكَ التَّفَرُّقُ قَبْلَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ صَرْفٌ بِاعْتِبَارِ الْمَقْصُودِ ، وَهُوَ مَا فِي التُّرَابِ لَوْ اشْتَرَى ذَهَبًا ، وَفِضَّةً لَا يَعْلَمُ وَزْنَهُمَا بِفِضَّةٍ ، وَذَهَبٍ لَا يَعْلَمُ وَزْنَهُمَا جَازَ بِطَرِيقِ صَرْفِ الْجِنْسِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ
، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعَطَاءِ وَالرِّزْقِ ، فَالرِّزْقُ اسْمٌ لِمَا يَخْرُجُ لِلْجُنْدِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عِنْدَ رَأْسِ كُلِّ شَهْرٍ ، وَالَعْطَاءُ اسْمٌ لِمَا يَخْرُجُ لَهُ فِي السَّنَةِ مَرَّةً ، أَوْ مَرَّتَيْنِ ، وَكُلٌّ صِلَةٌ يَخْرُجُ لَهُ ، فَلَا يَمْلِكُهَا قَبْلَ الْوُصُولِ إلَيْهِ ، وَبَيْعُ مَا لَا يَمْلِكُ الْمَرْءُ لَا يَجُوزُ ، وَكَذَلِكَ إنْ زِيدَ فِي عَطَائِهِ ، فَبَاعَ تِلْكَ الزِّيَادَةَ بِالْعُرُوضِ ، أَوْ غَيْرِهَا فَهُوَ بَاطِلٌ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّعْبِيِّ ، وَبِهِ نَأْخُذُ ، وَكَانَ شُرَيْحٌ يُجَوِّزُ بِيعَ زِيَادَةِ الْعَطَاءِ بِالْعُرُوضِ ، وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْعَطَاءِ كَأَصْلِهِ فِي أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَلَوْ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ كَانَ دَيْنًا ، وَبَيْعُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يَجُوزُ ، فَإِذَا لَمْ يَجُزْ هَذَا فِيمَا هُوَ دَيْنٌ حَقِيقَةً ، فَكَيْفَ يَجُوزُ فِي الْعَطَاءِ ، وَلَكِنْ ذُكِرَ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَشُرَيْحٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّهُمَا كَانَا يُجَوِّزَانِ الشِّرَاءَ بِالدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ زُفَرَ أَخَذَ بِقَوْلِهِمَا فِي ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
بَابُ الْإِجَارَةِ فِي الصِّيَاغَةِ قَالَ : - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا بِذَهَبٍ ، أَوْ فِضَّةٍ يَعْمَلُ لَهُ فِي فِضَّةٍ مَعْلُومَةٍ يَصُوغُهَا صِيَاغَةً مَعْلُومَةً ، فَهُوَ جَائِزٌ ، وَكَذَلِكَ الْحُلِيُّ ، وَالْآنِيَةُ ، وَحِلْيَةُ السَّيْفِ وَالْمَنَاطِقُ وَغَيْرُهَا ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِعَمَلٍ مَعْلُومٍ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ ، فَلَا تُشْتَرَطُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الْأُجْرَةِ ، وَبَيْنَ مَا يَعْمَلُ فِيهِ مِنْ الْفِضَّةِ فِي الْوَزْنِ ؛ لِأَنَّ مَا يُشْتَرَطُ لَهُ مِنْ الْأُجْرَةِ بِمُقَابَلَةِ الْعَمَلِ لَا بِمُقَابَلَةِ مَحَلِّ الْعَمَلِ ، وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَهُ لِيُخَلِّصَ لَهُ ذَهَبًا ، أَوْ فِضَّةً مِنْ تُرَابِ الصَّوَّاغِينَ ، أَوْ تُرَابَ الْمَعَادِنِ ؛ إذَا اشْتَرَطَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا مَعْلُومًا ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ عَمَلِهِ بَعْدَ تَعْيِينِ الْمَحَلِّ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ ، عَلَى وَجْهٍ لَا تُمْكِنُ فِيهِ مُنَازَعَةٌ .
وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيُفَضِّضَ لَهُ حُلِيًّا ، أَوْ يَنْقُشَ بِنَقْشٍ مَعْرُوفٍ فَذَلِكَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ مَعْلُومٌ ، وَالْبَدَلُ بِمُقَابَلَتِهِ مَعْلُومٌ ، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيُمَوِّهَ لَهُ لِجَامًا ، فَإِنْ اُشْتُرِطَ ذَهَبُ التَّمْوِيهِ عَلَى الَّذِي يَأْخُذُ الْأَجْرَ ، فَلَا خَيْرَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الذَّهَبِ لِلتَّمْوِيهِ غَيْرُ مَعْلُومٍ ؛ وَلِأَنَّ الْعَقْدَ فِي ذَلِكَ صَرْفٌ ، فَلَا بُدَّ مِنْ التَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ ، وَلَمْ يُوجَدْ .
وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ بِدَرَاهِمَ لِيُمَوِّهَ لَهُ حِرْزًا بِقِيرَاطِ ذَهَبٍ ؛ فَهَذَا بَاطِلٌ إلَّا أَنْ يَقْبِضَ الدَّرَاهِمَ ، وَيَقْبِضَ ذَلِكَ الْقِيرَاطَ ، ثُمَّ يَرُدَّهُ إلَيْهِ ، وَيَقُولَ : مَوِّهْ بِهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرَهُ بِذَهَبٍ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَتَقَابَضَا ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي الذَّهَبِ صَرْفٌ
وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ بِعَرَضٍ ، أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَكِيلِ أَوْ الْمَوْزُونِ بِعَيْنِهِ عَلَى أَنْ يُمَوِّهَ لَهُ ذَلِكَ بِذَهَبٍ ، أَوْ فِضَّةٍ مُسَمًّى فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْعَرَضِ بِمُقَابَلَةِ الذَّهَبِ الْمُسَمَّى يَكُونُ تَبَعًا ، وَالْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ بِالدَّيْنِ ، وَبَعْضُهُ بِمُقَابَلَةِ الْعَمَلِ ، وَهِيَ إجَارَةٌ صَحِيحَةٌ ، فَإِنْ عَمِلَهُ فَقَالَ الْمُسْتَأْجِرُ : لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ مَا شَرَطْتَ لِي ، وَقَالَ الْآخَرُ : قَدْ فَعَلْتُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِإِنْكَارِهِ الْقَبْضَ فِي بَعْضِ مَا اسْتَحَقَّهُ بِالْبَيْعِ ، ثُمَّ يُعْطِي الْمُمَوَّهَ قِيمَةَ مَا زَادَ التَّمْوِيهُ فِي مَتَاعِهِ ، إلَّا أَنْ يَرْضَى أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَ أَصْلَ الْعَمَلِ ، وَلَكِنَّهُ غَيَّرَهُ عَنْ الصِّفَةِ الْمَشْرُوطَةِ ، عَلَيْهِ فَإِنْ رَضِيَ بِأَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِهِ فَقَدْ وَجَدَ إبْقَاءَ الْمَشْرُوطِ ، وَإِلَّا فَعَلَيْهِ قِيمَةُ مَا زَادَ التَّمْوِيهُ فِي مَتَاعِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظَائِرَهُ فِي بَابِ الِاسْتِصْنَاعِ مِنْ كِتَابِ الْإِجَارَاتِ فِي مَسْأَلَةِ الصُّيَّاغِ
وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ يَحْمِلُ لَهُ مَالًا مِنْ أَرْضٍ إلَى أَرْضٍ ، أَوْ ذَهَبًا ، أَوْ فِضَّةً مُسَمَّاةً ، فَهُوَ جَائِزٌ ، وَكَذَلِكَ تُرَابَ الْمَعَادِنِ أَوْ تُرَابَ الصِّيَاغَةِ ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ مَعْلُومٌ بِبَيَانِ الْمَسَافَةِ ، وَالْمَحْمُولِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ يَبِيعُ لَهُ شَهْرًا فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَنَافِعُهُ ، وَهِيَ مَعْلُومَةٌ بِبَيَانِ الْمُدَّةِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَبِيعَ هَذَا الْعَبْدَ بِعَيْنِهِ ، حَيْثُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ ، وَرَدَتْ عَلَى الْبَيْعِ ، وَالْبَيْعُ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَ إنْسَانًا لِلتَّذْرِيَةِ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ الْمُدَّةَ حَيْثُ لَا يَجُوزُ .
وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ يَحْفِرُ لَهُ فِي هَذَا الْمَعْدِنِ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ بِكَذَا فَهُوَ جَائِزٌ .
وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيُنَقِّيَ تُرَابَ الْمَعْدِنِ أَوْ تُرَابَ الصِّيَاغَةِ بِنِصْفِ مَا يُخْرِجُ مِنْهُ ، كَانَ فَاسِدًا ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ مَجْهُولٌ ، وَوُجُودُهُ عَلَى خَطَرٍ ، وَهُوَ اسْتِئْجَارُ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْ عَمَلِهِ ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ ، فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَوْفَى الْمَنْفَعَةَ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ .
وَإِنْ اسْتَأْجَرَ إنَاءَ فِضَّةٍ أَوْ حُلِيَّ ذَهَبٍ يَوْمًا بِذَهَبٍ ، أَوْ فِضَّةٍ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجَرَ مُنْتَفِعٌ بِهِ ، لُبْسًا أَوْ اسْتِعْمَالًا ، وَالْبَدَلَ بِمُقَابَلَةِ الْمَنْفَعَةِ دُونَ الْعَيْنِ ، فَلَا يَتَحَقَّقُ الرِّبَا فِيهِ .
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ مِنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، أَوْ مِائَةَ دِينَارٍ بِدِرْهَمٍ أَوْ ثَوْبٍ لَمْ يَجُزْ ، قَالَ : لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِنَاءٍ يُرِيدُ أَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهِ ، وَمِثْلُهُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْإِجَارَةِ ، وَإِنَّمَا يَرِدُ عَقْدُ الْإِجَارَةِ عَلَى مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ بَقَاءُ عَيْنِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِعَارَةَ فِي الدَّرَاهِمِ ، وَالدَّنَانِيرِ لَا تَتَحَقَّقُ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ قَرْضًا ، فَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ .
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ سَيْفًا مُحَلَّى أَوْ مِنْطَقَةً ، أَوْ سَرْجًا مُدَّةً مَعْلُومَةً بِدَرَاهِمَ أَكْثَرَ مِمَّا فِيهِ ، أَوْ أَقَلَّ ؛ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَذِهِ الْأَعْيَانِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ مُمْكِنٌ ، وَالْبَدَلُ بِمُقَابَلَةِ الْمَنْفَعَةِ دُونَ الْحِلْيَةِ .
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ صَائِغًا يَصُوغُ لَهُ طَوْقَ ذَهَبٍ بِقَدْرٍ مَعْلُومٍ ، وَقَالَ : زِدْ فِي هَذَا الذَّهَبِ عَشَرَةَ مَثَاقِيلَ ؛ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَقْرَضَ مِنْهُ تِلْكَ الزِّيَادَةَ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَخْلِطَهُ بِمِلْكِهِ فَيَصِيرُ قَابِضًا كَذَلِكَ ، ثُمَّ اسْتَأْجَرَهُ فِي إقَامَةِ عَمَلٍ مَعْلُومٍ فِي ذَهَبٍ لَهُ ؛ وَلِأَنَّ هَذَا مُعْتَادٌ فَقَدْ يَقُولُ الصَّائِغُ لِمَنْ يَسْتَعْمِلُهُ : إنَّ ذَهَبَك لَا يَكْفِي لِمَنْ تَطْلُبُهُ ، فَيَأْمُرُهُ أَنْ يَزِيدَ مِنْ عِنْدِهِ ، وَإِذَا كَانَ أَصْلُ الِاسْتِصْنَاعِ يَجُوزُ فِيمَا فِيهِ التَّعَامُلُ ، فَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ ، فَإِنْ قَالَ : قَدْ زِدْتُ فِيهِ عَشَرَةَ مَثَاقِيلَ ، وَقَالَ رَبُّ الطَّوْقِ : إنَّمَا زِدْتَ فِيهِ خَمْسَةً ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحْشُوًّا بِوَزْنِ الطَّوْقِ لِيَظْهَرَ بِهِ الصَّادِقُ مِنْهُمَا فَإِنْ كَانَ مَحْشُوًّا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الطَّوْقِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِإِنْكَارِهِ الْقَبْضَ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى خَمْسِ مَثَاقِيلَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الصَّائِغُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ ذَهَبِهِ ، وَيَكُونُ الطَّوْقُ لِلصَّائِغِ ؛ لِأَنَّ الطَّوْقَ فِي يَدِهِ ، وَهُوَ غَيْرُ رَاضٍ بِإِزَالَةِ يَدِهِ عَنْهُ ؛ مَا لَمْ يُعْطِهِ عَشَرَةَ مَثَاقِيلَ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ بِيَمِينِ رَبِّ الطَّوْقِ ، فَكَانَ لِلصَّائِغِ أَنْ يُمْسِكَ الطَّوْقَ ، وَيَرُدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ ذَهَبِهِ ، قَالَ : وَهَذَا لَا يُشْبِهُ الْأَوَّلَ ، يُرِيدُ بِهِ مَسْأَلَةَ الْحِرْزِ ، فَقَدْ بَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ الْخِيَارَ لِصَاحِبِ الْحِرْزِ ؛ لِأَنَّ ذَهَبَ التَّمْوِيهِ صَارَ مُسْتَهْلَكًا لَا يَتَخَلَّصُ مِنْ الْحِرْزِ بِمَنْزِلَةِ الصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ ، فَكَانَ الْخِيَارُ لِصَاحِبِ الْحِرْزِ ، وَهُنَا عَيْنُ مَا زَادَ مِنْ الذَّهَبِ قَائِمٌ فِي الطَّوْقِ ، فَالصَّائِغُ فِيهِ كَالْبَائِعِ ، فَيَكُون لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ تَسْلِيمِهِ مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ كَمَالُ الْعِوَضِ .
وَإِنْ أَمَرَ الصَّائِغَ أَنْ يَصُوغَ لَهُ خَاتَمَ فِضَّةٍ فِيهِ دِرْهَمٌ بِنِصْفِ دِرْهَمٍ وَأَرَاهُ الْقَدْرَ وَقَالَ : لِتَكُونَ الْفِضَّةُ عَلَيَّ قَرْضًا مِنْ عِنْدِك .
لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْفِضَّةَ لِلصَّائِغِ كُلَّهَا ، وَالْمُسْتَقْرِضُ لَا يَصِيرُ قَابِضًا لَهَا فَيَبْقَى الصَّائِغُ عَامِلًا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ ، ثُمَّ بَائِعًا مِنْهُ الْفِضَّةَ بِأَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهَا ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ، فَهُنَاكَ الْمُسْتَقْرِضُ يَصِيرُ قَابِضًا لِلذَّهَبِ يَخْلِطُهُ بِمِلْكِهِ ، فَإِنَّمَا يَكُونُ الصَّائِغُ عَامِلًا لَهُ فِي مِلْكِهِ ؛ فَلِهَذَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ عَلَيْهِ ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْخَاتَمِ يَفْسُدُ أَيْضًا لِعِلَّةٍ أُخْرَى ، وَهُوَ أَنَّهُ صَرْفٌ بِالنَّسِيئَةِ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ سَوَاءٌ كَانَ بِمِثْلِ وَزْنِهِ ، أَوْ أَكْثَرَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابٌ الْغَصْبِ فِي ذَلِكَ قَالَ : - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَجُلٌ غَصَبَ رَجُلًا قَلْبَ فِضَّةٍ ، أَوْ ذَهَبٍ فَاسْتَهْلَكَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ مَصُوغًا مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ مِنْ جِنْسِهِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ لِلْجُودَةِ ، وَالصَّنْعَةِ فِي الذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ قِيمَةً ، وَإِنْ قُوبِلَتْ بِجِنْسِهَا ، وَعِنْدَنَا لَا قِيمَةَ لِلْجَوْدَةِ ، وَالصَّنْعَةِ عِنْدَ مُقَابَلَتِهَا بِجِنْسِهَا ، فَلَوْ ضَمِنَ قِيمَتَهَا مِنْ جِنْسِهَا بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ أَدَّى إلَى الرِّبَا ، وَإِنْ ضَمِنَ مِثْلَ وَزْنِهَا فَفِيهِ إبْطَالُ حَقِّهِ فِي الصَّنْعَةِ ، فَلِمُرَاعَاةِ الْجَانِبَيْنِ قُلْنَا : يُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا مِنْ خِلَافِ جِنْسِهَا ، وَعِنْدِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَضْمَنُ قِيمَتَهَا مِنْ جِنْسِهَا بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ ؛ لِأَنَّ لِلصَّنْعَةِ عِنْدَهُ قِيمَةً ، وَإِنْ قُوبِلَتْ بِجِنْسِهَا ، وَالرِّبَا إنَّمَا يَكُونُ شَرْطًا فِي الْعَقْدِ ، فَأَمَّا فِي ضَمَانِ الْمَغْصُوبِ ، وَالْمُسْتَهْلِكَات ، فَلَا يَتَمَكَّنُ الرِّبَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ ، أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ لَا يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي الْمَضْمُونِ ، وَعِنْدَنَا يُوجِبُ الْمِلْكَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْأَصْلَيْنِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ ، وَالْغَصْبِ ، وَالْقَوْلُ فِي الْوَزْنِ ، وَالْقِيمَةِ قَوْلُ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ ، وَالطَّالِبُ مُدَّعٍ لِذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يَكْسِرُ إنَاءَ فِضَّةٍ ، أَوْ ذَهَبٍ لِرَجُلٍ فَعَلَيْهِ قِيمَتَهُ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ سَوَاءٌ قَلَّ النُّقْصَانُ بِالْكَسْرِ ، أَوْ كَثُرَ ؛ لِأَنَّ إيجَابَ ضَمَانِ النُّقْصَانِ عَلَيْهِ مُتَعَذِّرٌ فَإِنَّ الْوَزْنَ بَاقٍ بَعْدَ الْكَسْرِ ، وَلَا قِيمَةَ لِلصَّنْعَةِ بِانْفِرَادِهَا ، وَلَوْ رَجَعَ بِضَمَانِ النُّقْصَانِ ، كَانَ آخِذًا عَيْنَ مَالِهِ وَزْنًا ، وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ رِبًا ، فَلِمُرَاعَاةِ حَقِّهِ فِي الصَّنْعَةِ قُلْنَا : يُضَمِّنُهُ الْقِيمَةَ مِنْ خِلَافِ جِنْسِهِ ، وَيَدْفَعُ الْمَكْسُورَ إلَيْهِ بِالضَّمَانِ ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ
الْمَكْسُورَ ، وَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ التَّضْمِينِ تَضْمِينُ الْمَكْسُورِ إلَيْهِ ، فَإِذَا أَتَى ذَلِكَ كَانَ مُبَرِّئًا لَهُ ، بِخِلَافِ الثَّوْبِ إذَا أَحْرَقَهُ فَهُنَاكَ بِالْحَرْقِ الْيَسِيرِ يُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ فَقَطْ وَفِي الْحَرْقِ الْفَاحِشِ لَهُ أَنْ يُمْسِكَ الثَّوْبَ ، وَيُضَمِّنَهُ النُّقْصَانَ ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ لَيْسَ بِمَالِ الرِّبَا ، فَكَانَتْ الصَّنْعَةُ فِيهِ مُتَقَوِّمَةً ، فَإِيجَابُ ضَمَانِ النُّقْصَانِ فِيهِ لَا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا ، فَإِنْ قَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ ، وَافْتَرَقَا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا فَذَلِكَ لَا يَضُرُّ عِنْدَنَا ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَبْطُلُ قَضَاءُ الْقَاضِي بِافْتِرَاقِهِمَا قَبْلَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ مَا جَرَى بَيْنَهُمَا صَرْفٌ ؛ فَإِنَّ تَمْلِيكَ الْفِضَّةِ الْمَكْسُوَّةِ بِالذَّهَبِ ، وَالتَّقَابُضَ فِي الْمَجْلِسِ شَرْطٌ فِي الصَّرْفِ ، وَلِأَجَلِهِ يَثْبُتُ حُكْمُ الرِّبَا فِيهِ ، حَتَّى لَا يَقُومَ بِجِنْسِهِ فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ حُكْمُ التَّقَابُضِ ، وَبِأَنْ كَانَ يُجْبَرُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ لَا يَنْعَدِمُ مَعْنَى الصَّرْفِ فِيهِ فِي حُكْمِ التَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ ، كَمَنْ اشْتَرَى دَارًا بِعَبْدٍ ، وَفِي الدَّارِ صَفَائِحُ مِنْ ذَهَبٍ ، ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ ، وَقَضَى الْقَاضِي لَهُ بِالشُّفْعَةِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ ، يُشْتَرَطُ قَبْضُ حِصَّةِ الصَّفَائِحِ فِي الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِيهِ صَرْفٌ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ اسْتِرْدَادَ الْقِيمَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ ، كَاسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ ، فَإِنَّ الْقِيمَةَ سُمِّيَتْ قِيمَةً لِقِيَامِهَا مَقَامَ الْعَيْنِ ، وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي عَلَى الْغَاصِبِ بِرَدِّ عَيْنِ الْقَلْبِ ، لَا يُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ ، فَكَذَلِكَ إذَا قَضَى بِرَدِّ الْقِيمَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ لَيْسَ بِسَبَبٍ مُوجِبٍ لِلْمِلْكِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ ، ثُمَّ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْمَضْمُونِ شَرْطًا لِتَقَرُّرِ حَقِّهِ فِي الْقِيمَةِ ، وَشَرْطُ الشَّيْءِ يَتْبَعُهُ ، وَإِذَا كَانَ بِاعْتِبَارِ مَا هُوَ الْأَصْلُ
لَا يَجِبُ التَّقَابُضُ ، فَكَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْبَيْعِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ سَبَبُ الْمِلْكِ فِي الْبَدَلَيْنِ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ : أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَالَ : أَعْتَقْتُ ، لَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي الْبَيْعِ - إنْ كَانَ مَقْصُودًا - ؛ لِأَنَّ انْدِرَاجَ الْبَيْعِ هُنَا بِطَرِيقِ أَنَّهُ شَرْطٌ لِلْعِتْقِ ، وَبِهِ فَارَقَ الشُّفْعَةَ ، فَالشَّفِيعُ يَتَمَلَّكُ الدَّارَ ابْتِدَاءً بِمَا يُعْطِي مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ بَدَلَ الدَّارِ ، فِي حَقِّهِ فَلِوُجُودِ الْمُبَادَلَةِ مَقْصُودًا شَرَطْنَا قَبْضَ حِصَّةِ الصَّفَائِحِ فِي الْمَجْلِسِ ، يُوَضِّحُ مَا قُلْنَا : أَنَّ اشْتِرَاطَ الْقَبْضِ فِي الصَّرْفِ ، لِلتَّعْيِينِ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلّ وَاحِدٍ مِنْ الْعِوَضَيْنِ فِيهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُعَيَّنٍ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْغَصْبِ فَالْغَصْبُ ، وَالِاسْتِهْلَاكُ لَا يَرِدَانِ إلَّا عَلَى مُعَيَّنٍ ، فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ الْقَبْضِ هُنَا لِلتَّعْيِينِ ، وَمَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فِيهِ غَيْرُ مَقْصُودٍ ، يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ اُنْتُقِضَ الْقَضَاءُ بِالِافْتِرَاقِ عَنْ الْمَجْلِسِ ، احْتَاجَ الْقَاضِي إلَى إعَادَتِهِ بِعَيْنِهِ مِنْ سَاعَتِهِ ، فَيَكُونُ اشْتِغَالًا بِمَا لَا يُفِيدُ ، وَكَذَلِكَ إنْ اصْطَلَحَا عَلَى الْقِيمَةِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ ؛ لِأَنَّهُمَا فَعَلَا بِدُونِ الْقَاضِي عَيْنَ مَا يَأْمُرُ بِهِ الْقَاضِي ، أَوْ رَفَعَا الْأَمْرَ إلَيْهِ وَلَوْ أَجَّلَ الْقِيمَةَ عَنْهُ شَهْرًا ، جَازَ ذَلِكَ أَيْضًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْخِلَافَ فِي التَّأْجِيلِ فِي الْغُصُوبِ ، وَالْمُسْتَهْلِكَات ، أَنَّهُ يَلْزَمُهُ عَنَدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ فَعَنَدَهُ هَذَا التَّأْجِيلُ بَاطِلٌ لِمَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ قَبْضَ الْقِيمَةِ فِي الْمَجْلِسِ عِنْدَهُ وَاجِبٌ .
وَالثَّانِي : أَنَّ بَدَلَ الْمَغْصُوبِ ، وَالْمُسْتَهْلَكِ عِنْدَهُ كَبَدَلِ الْقَرْضِ ، فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ الْأَجَلُ ، وَعِنْدَنَا قَبْضُ الْقِيمَةِ فِي الْمَجْلِسِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، وَالْقِيمَةُ دَيْنٌ حَقِيقَةً
وَحُكْمًا ، فَبِالتَّأْجِيلِ يَلْزَمُ كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ .
.
وَإِذَا اسْتَهْلَكَ إنَاءً مِنْ نُحَاسٍ ، أَوْ حَدِيدٍ ، أَوْ رَصَاصٍ كَانَ ضَامِنًا لِقِيمَتِهِ دَرَاهِمَ ، أَوْ دَنَانِيرَ ؛ لِأَنَّ الْإِنَاءَ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، بِخِلَافِ تِبْرِ الْحَدِيدِ ، وَالنُّحَاسِ ، فَهُوَ مَوْزُونٌ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، فَيَكُونُ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ عَلَى الْمُسْتَهْلِكِ ، وَفِي الْآنِيَةِ يَقْضِي الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءَ مِنْ الدَّرَاهِمِ ، وَإِنْ شَاءَ مِنْ الدَّنَانِيرِ ؛ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ بِهِمَا تُقَوَّمُ ، وَبِأَيِّهِمَا قُوِّمَ هُنَا لَا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا ، وَلَكِنَّهُ يَنْظُرُ إنْ كَانَ يُبَاعُ ذَلِكَ بِالدَّرَاهِمِ يَقْضِي بِقِيمَتِهِ دَرَاهِمَ ، وَإِنْ كَانَ بِالدَّنَانِيرِ فَبِالدَّنَانِيرِ ، وَكَذَلِكَ السَّيْفُ وَالسِّلَاحُ وَكَذَلِكَ لَوْ كَسَرَهُ ، أَوْ هَشَمَهُ هَشْمًا يُفْسِدُهُ ، فَإِنْ كَانَ هَشْمًا لَا يُفْسِدُهُ ضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ إنْ كَانَ لَا يُبَاعُ ، وَزْنًا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِ الرِّبَا ، حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُ الْوَاحِدِ مِنْهُ بِالِاثْنَيْنِ يَدًا بِيَدٍ فَكَانَ كَالثَّوْبِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا ، أَوْ الْأَوَانَيْ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ الذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ أَنَّ بِالصَّنْعَةِ هُنَاكَ لَا تَخْرُجُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَوْزُونَةً بِاعْتِبَارِ النَّصِّ فِيهِمَا ، وَالْمُعْتَبَرُ فِيمَا سِوَاهُمَا الْعُرْفُ .
وَإِذَا كُسِرَ إنَاءُ فِضَّةٍ لِرَجُلٍ ، وَاسْتَهْلَكَهُ صَاحِبُهُ قَبْلَ أَنْ يُعْطِيَهُ إيَّاهُ ، فَلَا شَيْءَ لِصَاحِبِهِ عَلَى الَّذِي كَسَرَهُ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ التَّضْمِينِ تَسْلِيمُ الْمَكْسُورِ إلَيْهِ ، وَقَدْ فَوَّتَهُ بِالِاسْتِهْلَاكِ .
وَلَوْ غَصَبَ إنَاءَ فِضَّةٍ فَكَسَرَهُ ، وَصَاغَهُ شَيْئًا آخَرَ فَلِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَأْخُذُهُ ، وَلَكِنْ يُضَمِّنُهُ قِيمَةَ الْأَوَّلِ مَصُوغًا ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ .
وَإِنْ غَصَبَهُ دَرَاهِمَ ، أَوْ دَنَانِيرَ فَأَذَابَهَا كَانَ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَأْخُذَهَا إنْ شَاءَ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ مِثْلَ مَا غَصَبَهُ ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِذَابَةِ مَا أَحْدَثَ فِيهَا صَنْعَةً ، وَإِنَّمَا فَوَّتَ الصَّنْعَةَ ، وَبِهِ لَا يَمْلِكُ الْمَغْصُوبَ كَمَا لَوْ قَطَعَ الثَّوْبَ ، وَلَمْ يَخِطْهُ .
وَإِذَا غَصَبَ دِرْهَمًا فَأَلْقَاهُ فِي دَرَاهِمَ لَهُ فَعَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ خَلَطَ الْمَغْصُوبَ بِمَالِهِ خَلْطًا يَتَعَذَّرُ عَلَى صَاحِبِهِ الْوُصُولُ إلَى عَيْنِهِ ، فَيَكُونُ مُسْتَهْلِكًا ضَامِنًا لِمِثْلِهِ ، وَالْمَخْلُوطُ يَصِيرُ مَمْلُوكًا لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا لِصَاحِبِهِ الْخِيَارُ بَيْنَ التَّضْمِينِ ، وَالشَّرِكَةِ ، وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِي كُلِّ مَا يُخْلَطُ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْغَصْبِ .
وَإِنْ غَصَبَ فِضَّةً ، وَسَبَكَهَا فِي فِضَّةٍ لَهُ حَتَّى اخْتَلَطَا فَعَلَيْهِ مِثْلُ مَا غَصَبَ .
وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ دَرَاهِمَ لِرَجُلٍ ، وَدَرَاهِمَ لِآخَرَ فَخَلَطَهُمَا خَلْطًا لَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُهُ ، أَوْ سَبَكَ ذَلِكَ كُلَّهُ ، فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَالِ كُلِّ وَاحِدِ مِنْهُمَا ، وَالْمَخْلُوطُ لَهُ بِالضَّمَانِ ، وَعِنْدَهُمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارُ بَيْنَ التَّضْمِينِ ، وَالشَّرِكَةِ .
وَلَوْ غَصَبَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ ، فَجَعَلَهَا عُرْوَةً فِي قِلَادَةٍ ، فَهَذَا اسْتِهْلَاكٌ ، وَعَلَى الْغَاصِبِ مِثْلُهَا ؛ لِأَنَّهُ صَيَّرَهَا وَصْفًا مِنْ أَوْصَافِ مِلْكِهِ حَتَّى يُدْخِلَ بَيْعَ مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ ، وَقَدْ غَصَبَهَا - مَقْصُودًا - بِنَفْسِهِ ، فَإِذَا صَارَ ذَلِكَ مُسْتَهْلَكًا بِفِعْلِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْمِثْلِ ، فَهُوَ نَظِيرُ السَّاحَةِ إذَا أَدْخَلَهَا الْغَاصِبُ فِي بِنَائِهِ .
وَإِذَا رَدّ الْغَاصِبُ أَجْوَدَ مِمَّا غَصَبَ ، أَوْ أَرْدَأَ مِنْهُ ، وَرَضِيَ بِهِ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ أَبْرَأَهُ مِنْ صِفَةِ الْجَوْدَةِ حِينَ رَضِيَ بِالْأَرْدَأِ ، وَلَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ بَعْضِ الْقَدْرِ جَازَ ؛ فَكَذَلِكَ عَنْ الصِّفَةِ ، وَفِي الْأَجْوَدِ أَحْسَنَ الْغَاصِبُ فِي قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ ، كَمَا لَوْ أَرْجَحَ ، وَلَا يُشْتَرَطُ رِضَا الْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِالْأَجْوَدِ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ .
وَإِنْ غَصَبَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ اشْتَرَاهَا مِنْهُ بِمِائَةٍ دِينَارٍ ، وَنَقَدَهُ الدَّنَانِيرَ ، وَالدَّرَاهِمَ قَائِمَةً فِي مَنْزِلِ الْغَاصِبِ ، أَوْ مُسْتَهْلَكَةً ، فَهُوَ سَوَاءٌ ، وَهُوَ جَائِزٌ ، أَمَّا بَعْدَ الِاسْتِهْلَاكِ فَلِأَنَّهُ قَابِضٌ لِبَدَلِ الدَّنَانِيرِ بِذِمَّتِهِ ، وَفِي حَالِ قِيَامِ الْعَيْنِ هُوَ قَابِضٌ لَهَا بِيَدِهِ ؛ لِأَنَّهَا مَضْمُونَةٌ فِي يَدِهِ بِنَفْسِهَا ، وَهَذَا الْقَبْضُ يَنُوبُ عَنْ قَبْضِ الشِّرَاءِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الَّذِي غَصَبَهُ إنَاءَ فِضَّةٍ ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ عَنْهُ عَلَى مِثْل وَزْنِهِ مِنْ جِنْسِهِ ، وَأَعْطَاهُ جَازَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْإِنَاءُ مُسْتَهْلَكًا ؛ لِأَنَّ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ مِنْ الْمَعْنَى يَعُمُّ الْمَفْصُولَ ، فَإِنْ صَالَحَهُ مِنْ الْفِضَّةِ عَلَى ذَهَبٍ بِتَأْخِيرٍ ، أَوْ عَلَى فِضَّةٍ مِثْلِهَا بِتَأْخِيرٍ كَانَ جَائِزًا عِنْدَنَا ، خِلَافًا لِزُفَرَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ ، قَضَاءِ الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ عَلَيْهِ ، وَبَيْنَ تَرَاضِيهِمَا عَلَيْهِ بِالصُّلْحِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلَكِ إذَا كَانَ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى عَيْنِهِ ، فَمَا يَقَعُ الصُّلْحُ عَلَيْهِ يَكُونُ بَدَلَ الْمَغْصُوبِ الْمُسْتَهْلَكِ ، وَلَيْسَ هَذَا كَالشَّيْءِ الْقَائِمِ بِعَيْنِهِ يَبِيعُهُ إيَّاهُ ، يَعْنِي لَوْ كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ قَدْ أَظْهَرَهُ فَبَاعَهُ مِنْهُ ، كَانَ هَذَا صَرْفًا ، وَلَا يَجُوزُ إلَّا يَدًا بِيَدٍ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي اسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ إذَا كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فَيَبِيعُهُ مِنْهُ ، بِخِلَافِ الْجِنْسِ يَكُونُ مُعَاوَضَةً مُبْتَدَأَةً ، وَإِنْ كَانَ الْإِنَاءُ غَائِبًا عَنْهُ فَقَالَ : اشْتَرَيْتُهُ مِنْكَ بِنَسِيئَةٍ فَإِنِّي أَكْرَهُ ذَلِكَ إذَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ الْبَيْعِ كَرِهْتُ مِنْهُ مَا أَكْرَهُ مِنْ الصَّرْفِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ : مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ قَائِمٍ ، فَلَفْظُهُمَا دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِ الْإِنَاءِ قَائِمًا ، فَلَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ بِكَوْنِهِ حَاضِرًا ، أَوْ غَائِبًا ، وَالْقِيَاسُ فِي الصُّلْحِ هَكَذَا ، إلَّا أَنِّي أَسْتَحْسِنُ فِي الصُّلْحِ إذَا كَانَ الْإِنَاءُ
مَغِيبًا عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي نَفْسِ الصُّلْحِ مَا يَدُلُّ عَلَى قِيَامِهِ ، وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى عَيْنِهِ فَهُوَ مُسْتَهْلَكٌ حُكْمًا أَمَّا إذَا كَانَ ظَاهِرًا ، أَوْ هُوَ مُقِرٌّ بِهِ فَإِنِّي أَكْرَهُ الصُّلْحَ ، وَالْبَيْعَ فِي ذَلِكَ إلَّا عَلَى مَا يَجُوزُ فِي الصَّرْفِ ، فَإِنَّ مَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا صَرْفٌ بِزَعْمِهِمَا فَيُؤَاخَذَانِ بِأَحْكَامِ الصَّرْفِ فِيهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابٌ الصَّرْفِ فِي الْوَدِيعَةِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَإِذَا اسْتَوْدَعَ رَجُلٌ رَجُلًا أَلْفَ دِرْهَمٍ فَوَضَعَهَا فِي بَيْتِهِ ، ثُمَّ الْتَقَيَا فِي السُّوقِ فَاشْتَرَاهَا مِنْهُ بِمِائَةِ دِينَارٍ ، وَنَقَدَ الدَّنَانِيرَ ، لَمْ يَجُزْ إنْ فَارَقَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الْوَدِيعَةَ مِنْ بَيْتِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَدِيعَةَ أَمَانَةٌ فِي بَيْتِهِ ، وَالْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ : قَبْضُ ضَمَانٍ .
فَقَبْضُ الْأَمَانَةِ لَا يَنُوبُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ دُونَهُ بِخِلَافِ قَبْضِ الْغَصْبِ ؛ وَلِأَنَّ يَدَ الْمُودِعِ كَيَدِ الْمُودَعِ أَلَا تَرَى أَنْ هَلَاكَهَا فِي يَدِ الْمُودِعِ كَهَلَاكِهَا فِي يَدِ الْمُودَعِ ، فَإِذَا لَمْ يُحَدِّدْ الْقَبْضَ فِيهَا لِنَفْسِهِ حَتَّى افْتَرَقَا ، فَإِنَّمَا افْتَرَقَا ، قَبْلَ قَبْضِ الْبَدَلَيْنِ .
وَإِنْ أَوْدَعَهُ سَيْفًا مُحَلَّى فَوَضَعَهُ فِي بَيْتِهِ ، ثُمَّ الْتَقَيَا فِي السُّوقِ فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ بِثَوْبٍ ، وَعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، وَدَفَعَ إلَيْهِ الْعَشَرَةَ ، وَالثَّوْبَ ، ثُمَّ افْتَرَقَا انْتَقَضَ الْبَيْعُ كُلُّهُ ؛ لِأَنَّ السَّيْفَ فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ ، وَقَدْ انْتَفَضَ الْعَقْدُ فِي حِصَّةِ الْحِلْيَةِ بِتَرْكِ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ فَيُنْتَقَضُ فِي الْكُلِّ ، لِمَا فِي تَمْيِيزِ الْبَعْضِ مِنْ الْبَعْضِ فِي التَّسْلِيمِ مِنْ الضَّرَرِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ ، اشْتَرَاهُ بِسَيْفٍ مُحَلَّى فَدَفَعَهُ إلَيْهِ وَلَمْ يَقْبِضْ الْوَدِيعَةَ مِنْ بَيْتِهِ حَتَّى افْتَرَقَا ، فَإِنَّ حِلْيَةَ السَّيْفِ بِحِلْيَةِ السَّيْفِ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ ، وَقَدْ انْتَقَضَ ذَلِكَ كُلُّهُ ؛ لِأَنَّهُ شَيْءٌ وَاحِدٌ قَالَ : وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ نَصْلُ السَّيْفِ ، وَحَمَائِلُهُ ، وَجَفْنُهُ بِنَصْلِ الْآخَرِ ، وَحَمَائِلِهِ ، وَجَفْنِهِ ، فَإِنْ كَانَ فِي حِلْيَةِ أَحَدِهِمَا فَضْلٌ أُضِيفَ ذَلِكَ إلَى النَّصْلِ ، وَالْحَمَائِلِ ، وَكَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ بِحَمَائِلَ هَذَا ، وَنَصْلِهِ ، وَلَكِنْ دَعْ هَذَا ، وَأَفْسِدْ الْبَيْعَ كُلَّهُ ، وَحَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ : الْحِلْيَةَ بِمِثْلِ وَزْنِهَا مِنْ الْحِلْيَةِ ، وَلَا تُجْعَلُ الْحِلْيَةُ بِمُقَابَلَةِ النَّصْلِ فِي الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي الْوَجْهَيْنِ صَحِيحٌ ، وَصَرْفُ الْجِنْسِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ ؛ لِتَرْجِيحِ جِهَةِ الْجَوَازِ عَلَى جِهَةِ الْفَسَادِ ، وَإِذَا جَازَ الْعَقْدُ فِي الْوَجْهَيْنِ فَإِنَّمَا يُقَابِلُ الْفِضَّةَ مِثْلُ وَزْنِهَا ، وَهُنَا الْعَقْدُ جَائِزٌ ، وَلَكِنْ بِالِافْتِرَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَفْسُدُ ، وَإِنَّمَا يَحْتَالُ لِتَصْحِيحِ الْعُقُودِ لَا لِإِلْغَائِهَا بَعْدَ صِحَّتِهَا ، وَإِذَا فَسَدَ الْعَقْدُ فِي حِصَّةِ الصَّرْفِ ، يَفْسُدُ فِيمَا بَقِيَ أَيْضًا ؛ لِمَا يَكُونُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الضَّرَرِ ، فِي تَمْيِيزِ الْبَعْضِ مِنْ الْبَعْضِ فِي التَّسْلِيمِ وَلَوْ قَبَضَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا ، كَانَ جَائِزًا ، وَتَكُونُ فِضَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِفِضَّةِ الْآخَرِ ،
وَحَمَائِلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَنَصْلُهُ بِحَمَائِلِ الْآخَرِ وَنَصْلِهِ ، فَإِنْ كَانَ فِي الْحِلْيَةِ فَضْلٌ أُضِيفَ الْفَضْلُ إلَى الْحَمَائِلِ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ ، وَالنَّصْلِ ، وَهَذَا مِثْلُ رَجُلٍ بَاعَ لِرَجُلٍ ثَوْبًا ، وَنُقْرَةَ فِضَّةٍ بِثَوْبٍ ، وَنَقْرَةِ فِضَّةٍ فَالثَّوْبُ بِالثَّوْبِ ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ ؛ لِأَنَّ الْفِضَّةَ يُقَابِلُهَا فِي الْعَقْدِ مِثْلُ وَزْنِهَا مِنْ الْفِضَّةِ ، وَذَلِكَ حُكْمٌ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ فَيَكُونُ أَقْوَى مِنْ شَرْطِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ مِنْ أَحَدٍ الْجَانِبَيْنِ فَهُوَ مَعَ الثَّوْبِ بِالثَّوْبِ الْآخَرِ ، كَرَجُلٍ اشْتَرَى نَقْرَةً وَزْنَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، وَثَوْبًا بِشَاةٍ ، وَأَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا فَعَشَرَةٌ بِعَشَرَةٍ وَدِرْهَمٍ ، وَمُسَاوَاةً بِالثَّوْبِ ، فَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ انْتَقَضَ مِنْ ذَلِكَ عَشَرَةً بِعَشَرَةٍ ، وَجَازَ فِي الشَّاةِ وَالدَّرَاهِمِ ، وَالثَّوْبِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي ذَلِكَ لَيْسَ بِصَرْفٍ ، وَتَمْيِيزُ الْبَعْضِ عَنْ الْبَعْضِ مُمْكِنٌ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ ، فَالْفَسَادُ لِمَعْنًى طَارِئٍ فِي الْبَعْضِ لَا يَتَعَدَّى إلَى مَا بَقِيَ .
وَلَوْ بَاعَ ثَوْبًا ، وَدِينَارًا بِثَوْبٍ ، وَدِرْهَمٍ فَالثَّوْبُ بِحِصَّةٍ مِنْ الثَّوْبِ ، وَالدِّرْهَمُ وَالثَّوْبُ الْآخَرُ بِحِصَّةٍ مِنْ الثَّوْبِ ، وَالدِّينَارِ ؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ قُوبِلَا بِجِنْسَيْنِ فَلَيْسَ صَرْفُ الْبَعْضِ إلَى الْبَعْضِ بِأَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ ، فَلِلْمُعَاوَضَةِ يَثْبُتُ الِانْقِسَامُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ ؛ فَإِذَا افْتَرَقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ بَطَلَتْ حِصَّةُ الذَّهَبِ مِنْ الْفِضَّةِ ، وَحِصَّةُ الْفِضَّةِ مِنْ الذَّهَبِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ صَرْفٌ ، وَجَازَ الْبَيْعُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الثَّوْبَيْنِ بِصَاحِبِهِ ، بِالْحِصَّةِ الَّتِي سُمِّيَتْ لَهُ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ عَيْبَ التَّبْعِيضِ بِفِعْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَهُوَ تَرْكُ الْقَبْضِ ، وَالتَّسْلِيمِ فِي بَدَلِ الصَّرْفِ فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَاضِيًا بِعَيْبٍ التَّبْعِيضِ ؛ فَلِهَذَا لَا خِيَارَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ الصَّرْفِ فِي الْوَزْنِيَّانِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : رَجُلٌ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ دِرْهَمًا مَعَهُ ، لَا يَعْلَمُ وَزْنَهُ بِدِرْهَمٍ مِثْلِ وَزْنِهِ أَجْوَدَ مِنْهُ أَوْ أَرْدَأِ مِنْهُ ، فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْجَوَازِ : الْمُسَاوَاةُ فِي الْوَزْنِ دُونَ الْعِلْمِ بِمِقْدَارِ الْوَزْنِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْجُودَةِ ، وَالرَّدَاءَةِ فِي الْمُسَاوَاةِ الْمَشْرُوطَةِ فِي الْعَقْدِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : بِعْنِي بِهَذَا الدِّرْهَمِ فِضَّةً مِثْلَ وَزْنِهِ ؛ لِأَنَّ الْفِضَّةَ تُثْبِتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ ، وَشَرْطُ جَوَازِ الْعَقْدِ ، وَهُوَ الْمُسَاوَاةُ وَزْنًا مَوْجُودٌ .
.
وَلَوْ اشْتَرَى مِثْقَالَيْ فِضَّةٍ ، وَمِثْقَالَيْ نُحَاسٍ بِمِثْقَالِ فِضَّةٍ ، وَثَلَاثَةِ مَثَاقِيلَ حَدِيدٍ ، كَانَ جَائِزًا بِطَرِيقِ أَنَّ الْفِضَّةَ بِمِثْلِهَا وَزْنًا ، وَمَا بَقِيَ مِنْ الْفِضَّةِ ، وَالنُّحَاسِ بِالْحَدِيدِ ، فَلَا يُمْكِنُ فِيهِ الرِّبَا ، وَكَذَلِكَ مِثْقَالُ صُفْرٍ وَمِثْقَالُ حَدِيدٍ بِمِثْقَالِ صُفْرٍ ، وَمِثْقَالِ رَصَاصٍ فَالصُّفْرُ بِمِثْلِهِ ، وَالرَّصَاصُ بِمَا بَقِيَ ؛ لِأَنَّ الصُّفْرَ مَوْزُونٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحُكْمَ فِي مَالِ الرِّبَا ، أَنَّهُ يُقَابِلُ الشَّيْءُ مِثْلَهُ مِنْ جِنْسِهِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ : حُكْمَ الرِّبَا فِي الْفُرُوعِ يَثْبُتُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَثْبُتُ فِي الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَعَدَّى إلَى الْفَرْع حُكْمُ الْأَصْلِ ، فَكَمَا أَنَّ فِي الذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ تَثْبُتُ الْمُقَابَلَةُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ عِنْدَ إطْلَاقِ الْعَقْدِ ، فَكَذَلِكَ فِي الْفُرُوعِ وَعَلَى هَذَا نَقُولُ : الْحَدِيدُ كُلُّهُ نَوْعٌ ، وَاحِدٌ ، مَا يَصْلُحُ أَنْ يُصْنَعَ مِنْهُ السَّيْفُ ، وَمَا لَا يَصْلُحُ كَذَلِكَ ، وَلَا يَجُوزُ إلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الْفَرْعِ يَثْبُتُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ثَبَتَ فِي الْأَصْلِ ، وَفِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ تُجْعَلُ أَنْوَاعُ النَّقْرَةِ جِنْسًا وَاحِدًا ، الْبَيْضَاءُ ، وَالسَّوْدَاءُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ، وَأَنْوَاعُ الذَّهَبِ كَذَلِكَ فَكَذَلِكَ الْحَدِيدُ ، وَإِنْ افْتَرَقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ لَمْ يَبْطُلْ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّ الْحَدِيدَ يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ بِخِلَافِ الذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْبُيُوعِ الْفَرْقَ بَيْنَ الصَّرْفِ وَغَيْرِهِ ، مِنْ الْبُيُوعِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ ، فِي اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ ، وَكَذَلِكَ الرَّصَاصُ الْقَلَعِيُّ بِالْأَسْرُبِّ ، فَهَذَا رَصَاصٌ كُلُّهُ يُوزَنُ ، وَلَكِنْ بَعْضُهُ أَجْوَدُ مِنْ بَعْضٍ ، وَبِالْجُودَةِ ، وَالرَّدَاءَةِ لَا يَخْتَلِفُ الْجِنْسُ ، وَلَا بَأْسَ بِالنُّحَاسِ الْأَحْمَرِ بِالشَّبَهِ ، وَالشَّبَهُ وَاحِدٌ ، وَالنُّحَاسُ اثْنَانِ يَدًا بِيَدٍ مِنْ قَبِيلِ ، أَنَّ الشَّبَهَ قَدْ زَادَ فِيهِ الصَّبْغَ ، فَيُجْعَلُ زِيَادَةُ النُّحَاسِ مِنْ
أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِزِيَادَةِ الصَّبْغِ الَّذِي فِي الشَّبَّةِ قَالَ : وَلَا خَيْرَ فِيهِ نَسِيئَةً ؛ لِأَنَّهُ نَوْعٌ وَاحِدٌ ، وَبِزِيَادَةِ الصَّبْغِ فِي الشَّبَهِ لَا يَتَبَدَّلُ الْجِنْسُ ؛ وَلِأَنَّهُ مَوْزُونٌ مُتَّفِقٌ فِي الْمَعْنَى ، وَالْوَزْنِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَحْرُمُ النَّسَاءُ ، ، وَلَا بَأْسِ بِالشَّبَهِ بِالصُّفْرِ الْأَبْيَضِ يَدًا بِيَدٍ ، الشَّبَهُ وَاحِدٌ ، وَالصُّفْرُ اثْنَانِ ، لِمَا فِي الشَّبَهِ مِنْ الصَّبْغِ ، وَلَا خَيْرَ فِيهِ نَسِيئَةً ؛ لِأَنَّهُ مَوْزُونٌ مُتَّفِقٌ فِي الْمَعْنَى ، وَكَذَلِكَ الصُّفْرُ الْأَبْيَضُ لَا بَأْسَ بِهِ ، وَاحِدًا مِنْهُ بِاثْنَيْنِ مِنْ النُّحَاسِ الْأَحْمَرِ ؛ لِأَنَّ الصُّفْرَ الْأَبْيَضَ فِيهِ رَصَاصٌ قَدْ اخْتَلَطَ بِهِ فَبِاعْتِبَارِهِ يَجُوزُ الْعَقْدُ ، وَلَا خَيْرَ فِيهِ نَسِيئَةً ؛ لِأَنَّهُ مَوْزُونٌ كُلُّهُ وَإِنْ افْتَرَقَا فِي جَمِيعِ ذَلِكَ ، وَهُوَ قَائِمٌ بِعَيْنِهِ ، وَلَمْ يَتَقَابَضَا لَمْ يَفْسُدْ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّهُمَا افْتَرَقَا عَنْ عَيْنٍ بِعَيْنٍ ، وَكُلُّ مَا لَا يَخْرُجُ بِالصَّنْعَةِ مِنْ الْوَزْنِ فِي الْمُعَامَلَاتِ ، لَمْ يُبَعْ بِجِنْسِهِ إلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ سَوَاءً ؛ لِأَنَّ الْمَصُوغَ الَّذِي يُبَاعُ وَزْنًا بِمَنْزِلَةِ التِّبْرِ .
وَإِنْ اشْتَرَى إنَاءً مِنْ نُحَاسٍ بِرِطْلٍ مِنْ حَدِيدٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ ، وَلَمْ يَضْرِبْ لَهُ أَجَلًا ، وَقَبَضَ الْإِنَاءَ فَهُوَ جَائِزٌ ، إنْ دَفْعَ إلَيْهِ الْحَدِيدَ قَبْل أَنْ يَتَفَرَّقَا ؛ لِأَنَّ الْحَدِيدَ مَوْزُونٌ فَإِذَا صَحِبَهُ حَرْفُ الْبَاءِ ، وَبِمُقَابَلَتِهِ عَيْنٌ كَانَ ثَمَنًا ، وَتَرْكُ التَّعْيِينِ فِي الثَّمَنِ عِنْدَ الْعَقْدِ لَا يَضُرُّ ، وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ الْحَدِيدَ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْإِنَاءُ لَا يُبَاعُ فِي الْعَادَةِ وَزْنًا ، فَلَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُمَا افْتَرَقَا عَنْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ ، وَإِنْ كَانَ الْإِنَاءُ بِوَزْنٍ ، فَلَا خَيْرَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَوْزُونٍ بِمَوْزُونٍ ، وَالدَّيْنِيَّةُ فِيهِ عَفْوٌ فِي الْمَجْلِسِ لَا بَعْدَهُ ، وَإِذَا افْتَرَقَا وَأَحَدُ الْعِوَضَيْنِ دَيْنٌ ، فَسَدَ الْعَقْدُ كَمَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُؤَجَّلًا ، فَلَوْ قَبَضَ الْحَدِيدَ فِي الْمَجْلِسِ ، وَلَمْ يَقْبِضْ الْإِنَاءَ حَتَّى افْتَرَقَا لَمْ يَفْسُدْ الْعَقْدَ ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ دَيْنًا قَدْ تَعَيَّنَ بِالْقَبْضِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ ، وَالْإِنَاءُ عَيْنٌ ، فَتَرْكُ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ فِيهِ لَا يَضُرُّ .
وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَى رِطْلًا مِنْ حَدِيدٍ بِعَيْنِهِ ، بِرِطْلَيْنِ مِنْ رَصَاصٍ جَيِّدٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ ، فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ تَقَابَضَا فِي الْمَجْلِسِ ، أَوْ لَمْ يَتَقَابَضَا ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْعِوَضَيْنِ مَبِيعٌ ، وَهُوَ مَا لَمْ يَصْحَبْهُ حَرْفُ الْبَاءِ ، فَيَكُونُ بَائِعًا مَا لَيْسَ عِنْدَهُ ، لَا عَلَى وَجْهِ السَّلَمِ { ، وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ } ، وَمُطْلَقُ النَّهْي يُوجِبُ الْفَسَادَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
" بَابٌ الصَّرْفِ فِي دَارِ الْحَرْبِ " قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : ذُكِرَ عَنْ مَكْحُولٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا رِبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَبَيْنَ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ فِي دَارِ الْحَرْبِ } ، وَهَذَا الْحَدِيثُ ، وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا فَمَكْحُولٌ فَقِيهٌ ثِقَةٌ ، وَالْمُرْسَلُ مِنْ مِثْلِهِ مَقْبُولٌ ، وَهُوَ دَلِيلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فِي جَوَازِ بَيْعِ الْمُسْلِمِ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ مِنْ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفِ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لَا يَجُوزُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُمْ مَيْتَةً ، أَوْ قَامَرَهُمْ ، وَأَخَذَ مِنْهُمْ مَالًا بِالْقِمَارِ ، فَذَلِكَ الْمَالُ طَيِّبٌ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - ، وَحُجَّتُهُمَا حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ وَقَعَ لِلْمُشْرِكِينَ جِيفَةٌ فِي الْخَنْدَقِ فَأَعْطَوْا بِذَلِكَ لِلْمُسْلِمِينَ مَالًا فَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ : كَانَ مَوْضِعُ الْخَنْدَقِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ : عِنْدَكُمْ هَذَا يَجُوزُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ ، وَالْحَرْبِيِّ الَّذِي لَا أَمَانَ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّ الْمُسْلِمَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ الرِّبَا بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ حَيْثُ كَانَ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ فِعْلُهُ عَلَى أَخْذِ مَالِ الْكَافِرِ بِطَيْبَةِ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَخَذَهُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ ؛ وَلِأَنَّ الْكَافِرَ غَيْرُ رَاضٍ بِأَخْذِ هَذَا الْمَالِ مِنْهُ إلَّا بِطَرِيقِ الْعَقْدِ مِنْهُ ، وَلَوْ جَازَ هَذَا فِي دَارِ الْحَرْبِ ، لَجَازَ مِثْلُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، عَلَى أَنْ يَجْعَلَ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمِ وَالدِّرْهَمَ الْآخَرَ هِبَةً ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رَوَيْنَا ، وَمَا ذُكِرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ وَغَيْرِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ : { كُلُّ رِبًا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ ، وَأَوَّلُ رِبًا يُوضَعُ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ } ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْعَبَّاسَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ رَجَعَ إلَى مَكَّةَ ، وَكَانَ يُرْبِي ، وَكَانَ يُخْفِي فِعْلَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا لَمْ يَنْهَهُ عَنْهُ دَلَّ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ ، وَإِنَّمَا جَعَلَ الْمَوْضُوعَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يَقْبِضْ حَتَّى جَاءَ الْفَتْحُ ، وَبِهِ نَقُولُ وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى : { ، وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا } قَالَ مُحَمَّدٌ : وَبَلَغَنَا { أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبْلَ الْهِجْرَةِ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { الم غُلِبَتْ الرُّومُ } قَالَ لَهُ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ : يَرَوْنَ أَنَّ الرُّومَ تَغْلِبُ فَارِسَ فَقَالَ نَعَمْ ، فَقَالُوا : هَلْ لَكَ أَنْ تُخَاطِرَنَا عَلَى أَنْ نَضَعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَك خَطْرًا ، فَإِنْ غَلَبَتْ الرُّومُ أَخَذْتَ خَطْرَنَا ، وَإِنْ غَلَبَتْ فَارِسُ أَخَذْنَا خَطْرَكَ فَخَاطَرَهُمْ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى ذَلِكَ ، ثُمَّ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَهُ فَقَالَ : اذْهَبْ إلَيْهِمْ فَزِدْ فِي الْخَطْرِ ، وَأَبْعِدْ فِي الْأَجَلِ ، فَفَعَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَظَهَرَتْ الرُّومُ عَلَى فَارِسَ ، فَبُعِثَ إلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ تَعَالَ فَخُذْ خَطْرَك ، فَذَهَبَ ، وَأَخَذَهُ فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ فَأَمَرَهُ بِأَكْلِهِ ، وَهَذَا الْقُمَارُ لَا يَحِلُّ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ ، وَقَدْ أَجَازَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَهُوَ مُسْلِمٌ ، وَبَيْنَ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ بِمَكَّةَ فِي دَارِ الشِّرْكِ ، حَيْثُ لَا يَجْرِي أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ ، } { وَلَقِيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُكَانَةَ بِأَعْلَى مَكَّةَ فَقَالَ لَهُ رُكَانَةُ : هَلْ لَكَ أَنْ
تُصَارِعَنِي عَلَى ثُلُثِ غَنَمِي فَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَمْ ، وَصَارَعَهُ فَصَرَعَهُ ، } الْحَدِيثُ .
إلَى أَنْ أَخَذَ مِنْهُ جَمِيعَ غَنَمِهِ ، ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيْهِ تَكَرُّمًا ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ مِثْلِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ مَالَ الْحَرْبِيِّ مُبَاحٌ ، وَلَكِنَّ الْمُسْلِمَ بِالِاسْتِئْمَانِ ضَمِنَ لَهُمْ أَنْ لَا يَخُونَهُمْ ، وَأَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْهُمْ شَيْئًا إلَّا بِطَيْبَةِ أَنْفُسِهِمْ ، فَهُوَ يَتَحَرَّزُ عَنْ الْغَدْرِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ ، ثُمَّ يَتَمَلَّكُ الْمَالَ عَلَيْهِمْ بِالْأَخْذِ لَا بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُسْلِمِ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى أَحْسَنِ الْوُجُوهِ مَا أَمْكَنَ ، وَأَحْسَنُ الْوُجُوهِ مَا قُلْنَا .
وَالْعِرَاقِيُّونَ يُعَبِّرُونَ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ ، وَيَقُولُونَ حِلٌّ لَنَا دِمَاؤُهُمْ طِلْقٌ لَنَا أَمْوَالُهُمْ فَمَا عَدَا عُذْرَ الْأَمَانِ يَضْرِبُ سَبْعًا فِي ثَمَانِ ، وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ لَمَّا رَأَى فِيهِ مِنْ الْكَبْتِ ، وَالْغَيْظِ لِلْمُشْرِكَيْنِ ، وَلِئَلَّا يَظُنُّوا بِنَا أَنَّا نُقَاتِلُهُمْ لِطَمَعِ الْمَالِ .
وَأَمَّا التَّاجِرَانِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، فَلَا يَجُوزُ بَيْنَهُمَا إلَّا مَا يَجُوزُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ مَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْصُومٌ مُتَقَوِّمٌ ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَثْبُتُ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ ، وَلَا يَنْعَدِمُ مَعْنَى الْإِحْرَازِ بِالِاسْتِئْمَانِ إلَيْهِمْ ، وَلِهَذَا يَضْمَنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالَ صَاحِبِهِ إذَا أَتْلَفَهُ ، وَإِنَّمَا يَتَمَلَّكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِالْعَقْدِ الَّذِي بَاشَرَهُ ، وَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُ عَقْدٍ لَمْ يُبَاشِرَاهُ بَيْنَهُمَا مِنْ هِبَةٍ ، أَوْ غَيْرِهَا ، وَإِنْ كَانَ أَسْلَمَا ، وَلَمْ يَخْرُجَا حَتَّى تَبَايَعَا بِالرِّبَا ، كَرِهْتُهُ لَهُمَا ، وَلَمْ أُرِدْهُ لَهُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - يَرُدُّهُ ، وَالْحُكْمُ فِيهَا كَالْحُكْمِ فِي التَّاجِرَيْنِ أَمَّا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ فَقَطْ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ هَذَا الْعَقْدُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ ، وَالْحَرْبِيِّ فَكَيْفَ يَجُوزُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ : مَالُ كُلِّ ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْصُومٌ عَنْ التَّمَلُّكِ بِالْأَخْذِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَوْ ظَهَرُوا عَلَى الدَّارِ لَا يَمْلِكُونَ مَالَهُمَا بِطَرِيقِ الْغَنِيمَةِ ، وَإِنَّمَا يَتَمَلَّكُ أَحَدُهُمَا مَالَ صَاحِبِهِ بِالْعَقْدِ بِخِلَافِ مَالِ الْحَرْبِيِّ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ : بِالْإِسْلَامِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ تَثْبُتُ الْعِصْمَةُ فِي حَقِّ الْإِمَامِ دُونَ الْأَحْكَامِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدَهُمَا لَوْ أَتْلَفَ مَالَ صَاحِبِهِ ، أَوْ نَفْسِهِ لَمْ يَضْمَنْ ، وَهُوَ آثِمٌ فِي ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ الْعِصْمَةُ فِي حَقِّ الْأَحْكَامِ بِالْإِحْرَازِ ، وَالْإِحْرَازُ بِالدَّارِ لَا بِالدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مَانِعٌ لِمَنْ يَعْتَقِدَهُ حَقًّا لِلشَّرْعِ دُونَ مَنْ لَا يَعْتَقِدَهُ وَبِقُوَّةِ الدَّارِ يَمْنَعُ عَنْ مَالِهِ مَنْ يَعْتَقِدُ حُرْمَتَهُ ، وَمَنْ لَمْ يَعْتَقِدُهُ ؛ فَلِثُبُوتِ الْعِصْمَةِ فِي حَقِّ الْآثِمِ قُلْنَا : يُكْرَهُ لَهُمَا هَذَا الصَّنِيعُ ، وَلِعَدَمِ الْعِصْمَةِ فِي حَقِّ
الْحُكْمِ قُلْنَا : لَا يُؤْمَرُ أَنْ يَرُدَّ مَا أَخَذَهُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا يَمْلِكُ مَالَ صَاحِبِهِ بِالْأَخْذِ فَأَمَّا إذَا ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ ، فَإِنَّمَا لَا يَمْلِكُونَ مَالِ الَّذِي أَسْلَمَ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُحْرِزًا مَالَهُ بِيَدِهِ ، وَيَدُهُ أَسْبَقُ إلَيْهِ مِنْ يَدِ الْغَانِمِينَ .
فَإِنْ دَخَلَ تُجَّارُ أَهْلِ الْحَرْبِ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ فَاشْتَرَى أَحَدُهُمْ مِنْ صَاحِبِهِ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ ، لَمْ أُجِزْ ذَلِكَ إلَّا مَا أُجِيزُهُ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الذِّمَّةِ إذَا فَعَلُوا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَالَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَعْصُومٌ مُتَقَوِّمٌ وَلَا يَتَمَلَّكُهُ صَاحِبُهُ إلَّا بِجِهَةِ الْعَقْدِ ، وَحُرْمَةُ الرِّبَا ثَابِتَةٌ فِي حَقِّهِمْ ، وَهُوَ مُسْتَثْنَى مِنْ الْعَهْدِ ، فَإِنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إلَى نَصَارَى نَجْرَانَ مَنْ أَرْبَى فَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيَّنَهُ عَهْدٌ ، وَكَتَبَ إلَى مَجُوسِ هَجَرَ إمَّا أَنْ تَدَعُوا الرِّبَا أَوْ تَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ ، وَرَسُولِهِ ، } فَالتَّعَرُّضُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ بِالْمَنْعِ ، لَا يَكُونُ غَدْرًا بِالْأَمَانِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ عِنْدَنَا أَنَّهُمْ نُهُوا عَنْ الرِّبَا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ، وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ } فَمُبَاشَرَتُهُمْ ذَلِكَ لَا تَكُونُ عَنْ تَدَيُّنٍ ، بَلْ لِفِسْقٍ فِي الِاعْتِقَادِ ، وَالتَّعَاطِي فَيُمْنَعُونَ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يُمْنَعُ الْمُسْلِمُ .
وَإِذَا تَبَايَعَ أَهْلُ الْحَرْبِ بِالرِّبَا فِي دَارِ الْحَرْبِ ، ثُمَّ خَرَجُوا فَأَسْلَمُوا ، أَوْ صَارُوا ذِمَّة ، قَبْلَ أَنْ يَتَقَابَضُوا ، أَوْ يَقْبِضَ أَحَدُهُمَا ، ثُمَّ اخْتَصَمُوا فِي ذَلِكَ أَبْطَلْتُهُ ، لِأَنَّ الْعِصْمَةَ الثَّابِتَةَ بِالْإِحْرَازِ كَمَا تَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ ، تَمْنَعُ الْقَبْضَ بِحُكْمِ الْعَقْدِ ، وَفَوَاتُ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ ، ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { : وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا } ، وَسَبَبُهُ مَرْوِيٌّ عَنْ مَكْحُولٍ قَالَ { أَسْلَمَ ثَقِيفُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَدَعُوا الرِّبَا ، وَكَانَ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ يَأْخُذُوا الرِّبَا مِنْ بَنِي الْمُغِيرَةِ ، وَبَنُو الْمُغِيرَةِ يَرْبُونَ ذَلِكَ ، فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ الْفَتْحِ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَتَّابُ بْنَ أَسِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى مَكَّةِ أَمِيرًا فَطَلَبَ بَنُو عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ مَا بَقِيَ لَهُمْ مِنْ الرِّبَا ، وَأَبَى ذَلِكَ بَنُو الْمُغِيرَةِ فَاخْتَصَمُوا إلَى عَتَّابٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَكَتَبَ فِيهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ ، وَكَتَبَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى عَتَّابٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِأَنْ يَدَعُوا لَهُمْ مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا أَوْ يَسْتَعِدُّوا لِلْحَرْبِ ، } فَعَرَفْنَا أَنْ الْإِسْلَامَ يَمْنَعُ الْقَبْضَ ، كَمَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَصَمُوا بَعْدَ التَّقَابُضِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَإِنَّهُمْ يُؤْمَرُونَ بِرَدِّ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ التَّقَابُضَ بَعْدَ الْعِصْمَةِ بِالْإِحْرَازِ كَانَ بَاطِلًا شَرْعًا ، وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ يُبَايِعُ الْحَرْبِيَّ بِذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، ثُمَّ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ ، وَخَرَجَ إلَى دَارِنَا قَبْلَ التَّقَابُضِ فَإِنْ خَاصَمَهُ فِي ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي أَبْطَلَهُ ، وَإِنْ كَانَا تَقَابَضَا فِي دَارِ الْحَرْبِ ، ثُمَّ اخْتَصَمَا لَمْ أَنْظُرْ فِيهِ ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الْمُسْلِمُ أَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ بِالدِّرْهَمِ ، أَوْ
الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ طَيَّبَ نَفْسَ الْكَافِرِ بِمَا أَعْطَاهُ ، قَلَّ ذَلِكَ ، أَوْ كَثُرَ ، وَأَخَذَ مَالَهُ بِطَرِيقِ الْإِبَاحَةَ كَمَا قَرَّرَنَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الصَّرْفِ بَيْنَ الْمَوْلَى ، وَعَبْدِهِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَلَيْسَ بَيْن الْمَوْلَى وَعَبْدِهِ رِبًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا رِبًا بَيْنَ الْعَبْدِ وَسَيِّدِهِ ؛ } ، وَلِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِبَيْعٍ ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ ، وَالْبَيْعُ : مُبَادَلَةُ مِلْكٍ بِمِلْكٍ غَيْرِهِ فَأَمَّا جَعْلُ بَعْضِ مَالِهِ فِي بَعْضٍ فَلَا يَكُونُ بَيْعًا ، فَإِنْ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَلَيْسَ بَيْنَهُمَا رِبًا أَيْضًا ، وَلَكِنْ عَلَى الْمَوْلَى أَنْ يُرَدَّ مَا أَخَذَهُ عَلَى الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ مَشْغُولٌ بِحَقِّ غُرَمَائِهِ ، وَلَا يُسْلَمُ لَهُ مَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ دَيْنِهِ ، كَمَا لَوْ أَخْذَهُ لَا بِجِهَةِ الْعَقْدِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ اشْتَرَى مِنْهُ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ ، أَوْ دِرْهَمَيْنِ بِدِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّ مَا أَعْطَى لَيْسَ بِعِوَضٍ سَوَاءٌ كَانَ أَقَلَّ ، أَوْ أَكْثَرَ فَعَلَيْهِ رَدُّ مَا قَبَضَ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ ، وَكَذَلِكَ أُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرُ ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُمَا لِلْمَوْلَى ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ مُكَاتِبِهِ إلَّا مِثْلَ مَا يَجُوزُ لَهُ مَعَ مُكَاتِبِ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتِبَ أَحَقُّ بِمَكَاسِبِهِ ، وَقَدْ صَارَ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ كَالْحُرِّ يَدًا ، وَتَصَرُّفًا فِي كَسْبِهِ ، فَيَجْرِي الرِّبَا بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ مَوْلَاهُ كَمَا يَجْرِي بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ الْوَالِدَانِ ، وَالْوَلَدُ ، وَالزَّوْجَانِ ، وَالْقَرَابَةُ ، وَشَرِيكُ الْعَنَانِ فِيمَا لَيْسَ مِنْ تِجَارَتِهِمَا ، وَالْوَصِيُّ فِي الرِّبَا بِمَنْزِلَةِ الْأَجَانِبِ ؛ لِأَنَّ الْمُبَايَعَةَ تَتَحَقَّقُ بَيْنَ هَؤُلَاءِ ، وَالْمَمَالِيكُ بِمَنْزِلَةِ الْأَحْرَارِ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمْ يُخَاطَبُونَ بِذَلِكَ كَمَا يُخَاطَبُ الْأَحْرَارُ ، فَأَمَّا الْمُتَفَاوِضَانِ ، إذَا اشْتَرَى أَحَدُهُمَا دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ مِنْ صَاحِبِهِ ؛ فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْهُمَا بَيْعًا ، وَهُوَ مَالُهُمَا كَمَا كَانَ قَبْلَ هَذَا الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهُمَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ فِي التِّجَارَةِ ، كَمَا يَجْرِي بَيْنَهُمَا لَا يَكُونُ بَيْعًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الْوَكَالَةِ فِي الصَّرْفِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِذَا تَصَارَفَ الْوَكِيلَانِ لَمْ يَنْبَغِ لَهُمَا أَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَتَقَابَضَا كَمَا لَوْ بَاشَرَا الْعَقْدَ لِأَنْفُسِهِمَا ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ ، وَلَا يَخْتَلِفُ فِي ذَلِكَ مُبَاشَرَتُهُ لِغَيْرِهِ ، وَمُبَاشَرَتُهُ لِنَفْسِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَسْتَغْنِي عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى غَيْرِهِ ، وَلَا يَضُرُّهُمَا غَيْبَةُ الْمُوَكِّلِينَ ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ .
وَإِنْ ، وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلَيْنِ بِالصَّرْفِ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهِمَا مَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْي ، وَرَأْيُ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ كَرَأْيِ الْمُثَنَّى ، فَإِنْ عَقَدَا جَمِيعًا ، ثُمَّ ذَهَبَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ بَطَلَتْ حِصَّتُهُ ، وَحِصَّةُ الْبَاقِي جَائِزَةٌ كَمَا لَوْ بَاشَرَا الْعَقْدَ لِأَنْفُسِهِمَا .
وَإِنْ ، وَكَّلَا جَمِيعًا رَبَّ الْمَالِ بِالْقَبْضِ ، أَوْ الْأَدَاءِ ، وَذَهَبَا بَطَلَ الصَّرْفُ ؛ لِوُجُودِ الِافْتِرَاقِ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ قَبْلَ التَّقَابُضِ ، وَرَبُّ الْمَالِ فِي حُقُوقِ الْعَقْدِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ .
وَإِنْ وَكَّلَهُ فِي أَنْ يَصْرِفَ لَهُ دَرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ فَصَرَفَهَا ، وَتَقَابَضَا ، وَأَقَرَّ الَّذِي قَبَضَ الدَّرَاهِمَ بِالِاسْتِيفَاءِ ، ثُمَّ وَجَدَ فِيهَا دِرْهَمًا زَائِفًا فَقَبِلَهُ الْوَكِيلُ ، وَأَقَرَّ أَنَّهُ مِنْ دَرَاهِمِهِ ، وَجَحَدَهُ الْمُوَكِّلُ ، فَهُوَ لَازِمٌ لِلْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا قَوْلَ لِلْقَابِضِ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ الزِّيَافَةِ بَعْدَ مَا أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ ، وَإِنَّمَا يَرُدُّهُ عَلَى الْوَكِيلِ بِإِقْرَارِهِ ، وَإِقْرَارُهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُوَكِّلِ ؛ فَلِهَذَا كَانَ لَازِمًا لِلْوَكِيلِ ، قَالَ : وَإِنْ رَدَّهُ الْقَاضِي عَلَى الْوَكِيلِ بِبَيِّنَةٍ ، أَوْ بِأَدَاءِ يَمِينٍ ، وَلَمْ يَكُنْ الْقَابِضُ أَقَرَّ بِالِاسْتِيفَاءِ لَزِمَ الْآمِرَ ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ ، فَإِنَّ الْقَابِضَ إذَا لَمْ يُقِرَّ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ ، وَلَا بِاسْتِيفَاءِ الْجِيَادِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِيمَا يَدَّعِي ، أَنَّهُ زُيُوفٌ ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ قَبْضَ حَقِّهِ ، وَلَا حَاجَةَ لَهُ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ ، وَلَا يَمِينَ عَلَى الْوَكِيلِ الَّذِي عَاقَدَهُ إنَّمَا الْيَمِينُ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ مَنْ جُعِلَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ شَرْعًا ، يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ ، وَإِنَّمَا يَرُدُّ إذَا حَلَفَ لَا إذَا أَتَى الْيَمِينَ فَعَرَفْنَا أَنَّ هَذَا الْجَوَابَ مُخْتَلٌّ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إذَا حَلَفَ ، وَرَدَّهُ عَلَى الْوَكِيلِ فَهُوَ لَازِمٌ لِلْآمِرِ ؛ لِأَنَّهُ رَدَّهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ فِيمَا هُوَ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْآمِرِ ، وَإِذَا وَكَّلَهُ بِأَنْ يَصْرِفَ لَهُ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ فَصَرْفهَا ، فَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الدَّنَانِيرِ ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ قَدْ انْتَهَتْ ، وَالدَّنَانِيرُ الْمَقْبُوضَةُ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ لِلْمُوَكِّلِ ، فَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهَا بِغَيْرِ أَمْرٍ .
وَإِنْ ، وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ إبْرِيقَ فِضَّةٍ بِعَيْنِهِ مِنْ رَجُلٍ ، فَاشْتَرَاهُ بِدَرَاهِمَ ، أَوْ دَنَانِيرَ ، جَازَ عَلَى الْآمِرِ ، وَجَازَ إنْ نَوَاهُ لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ يَنْصَرِفُ إلَى الشِّرَاءِ بِالنَّقْدِ ، فَهُوَ بِنِيَّتِهِ قَصَدَ عَزْلَ نَفْسِهِ فِي مُوَافَقَةِ أَمِرِ الْآمِرِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَ نَفْسَهُ مِنْ الْوَكَالَةِ ، إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْآمِرِ ، وَإِنْ اشْتَرَاهُ بِشَيْءٍ مِمَّا يُكَالُ ، أَوْ يُوزَنُ بِعَيْنِهِ ، أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ عَلَى الْآمِرِ ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ يَتَقَيَّدُ بِالشِّرَاءِ بِالنَّقْدِ ، ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْبُيُوعِ فَإِذَا اشْتَرَاهُ بِشَيْءٍ آخَرَ كَانَ مُخَالِفًا ، وَكَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ .
فَإِنْ وَكَّلَهُ بِفِضَّةٍ لَهُ بَيْعُهَا ، وَلَمْ يُسَمِّ لَهُ الثَّمَنَ فَبَاعَهَا بِفِضَّةٍ أَكْثَرَ مِنْهَا ، لَمْ يَجُزْ كَمَا لَوْ بَاعَهَا الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ ، وَلَا يَضْمَنُ الْوَكِيلُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ ، وَالْوَكِيلُ إنَّمَا يَضْمَنُ بِالْخِلَافِ لَا بِفَسَادِ الْعَقْدِ ، وَالْمُوَكِّلُ أَحَقُّ بِهَذِهِ الْفِضَّةِ مِنْ الْوَكِيلِ يَقْبِضُ مِنْهَا وَزْنَ فِضَّتِهِ ؛ لِأَنَّ فِضَّتَهُ صَارَتْ دَيْنًا عَلَى الْقَابِضِ ، وَقَدْ ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ مِنْ مَالِ الْمَدْيُونِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ ذَلِكَ مِقْدَارَ حَقِّهِ ، وَالْبَاقِي فِي يَدِ الْوَكِيلِ حَتَّى يَرُدَّهُ إلَى صَاحِبِهِ .
وَإِذَا وَكَّلَ الرَّجُلُ رَجُلًا بِبَيْعِ تُرَابٍ فِضَّةٍ فَبَاعَهُ بِفِضَّةٍ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فِي ذَلِكَ ، فَبَيْعُهُ كَبَيْعِ الْمُوَكِّلِ فَإِنْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّ الْفِضَّةَ فِي التُّرَابِ مِثْلُ الثَّمَنِ وَزْنًا فَرَضِيَهُ قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا جَازَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلتُّرَابِ ، وَالْعِلْمُ بِالْمُسَاوَاةِ وَزْنًا فِي الْمَجْلِسِ كَالْعِلْمِ بِهِ عِنْدَ الْعَقْدِ ، وَلَهُ الْخِيَارُ فِي ذَلِكَ لِيَنْكَشِفَ الْحَالُ لَهُ كَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ ، ثُمَّ رَآهُ فَإِنْ رَدَّهُ بِغَيْرِ حُكْمٍ جَازَ عَلَى الْآمِرِ ، بِمَنْزِلَةِ الرَّدِّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ ، وَالرُّؤْيَةِ .
وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ ذَلِكَ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ بِالْمُسَاوَاةِ شَرْطُ هَذَا الْعَقْدِ كَالْقَبْضِ ، وَكَمَا أَنَّ الْقَبْضَ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ لَا يُصْلِحُ الْعَقْدَ فَكَذَلِكَ الْعِلْمُ بِالْمُسَاوَاةِ .
وَلَوْ وَكَّلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً عَلَى هَذَا التُّرَابِ ، وَهُوَ تُرَابُ مَعْدِنٍ فَزَوَّجَهُ بِهِ ، كَانَ جَائِزًا إنْ كَانَ فِيهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فِضَّةٍ ، أَوْ أَكْثَرُ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ تُرَابُ ذَهَبٍ ، وَفِيهِ قِيمَةُ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، أَوْ أَكْثَرُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ عَشَرَةٌ ، يُكْمَلْ لَهَا عَشَرَةٌ كَمَا لَوْ فَعَلَ الْمُوَكِّلُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ أَدْنَى الصَّدَاقِ عِنْدَنَا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ
وَإِنْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَبِيعَ لَهُ سَيْفًا مُحَلَّى ، فَبَاعَهُ بِنَسِيئَةٍ ، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ ؛ لِلْأَجَلِ الْمَشْرُوطِ فِي الصَّرْفِ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ ، فَالْبَيْعُ عَادَةً يَكُونُ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ ، وَإِنَّمَا يَضْمَنُ الْوَكِيلُ بِالْخِلَافِ لَا بِالْفَسَادِ ، وَكَذَلِكَ إنْ شَرَطَ فِيهِ الْخِيَارَ ، وَبَاعَهُ بِأَقَلَّ مِمَّا فِيهِ نَقْدًا فَهُوَ فَاسِدٌ كَمَا لَوْ بَاعَهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْهُ .
وَلَوْ وَكَّلَهُ بِحُلِّي ذَهَبٍ فِيهِ لُؤْلُؤٌ وَيَاقُوتٌ يَبِيعُهُ لَهُ فَبَاعَهُ بِدَرَاهِمَ ، ثُمَّ تَفَرَّقَا قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ ، فَإِنْ كَانَ اللُّؤْلُؤُ ، وَالْيَاقُوتُ يُنْزَعُ مِنْهُ بِغَيْرِ ضَرَرٍ ، يَبْطُلُ الْبَيْعُ فِي حِصَّةِ الصَّرْفِ ؛ لِعَدَمِ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ ، وَجَازَ فِي حِصَّةِ اللُّؤْلُؤِ ؛ لِتَمَكُّنِ التَّسْلِيمِ فِيهِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ وَالْبَيْعُ فِي حَقِّهِ بَيْعُ عَيْنٍ بِدَيْنٍ ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُنْزَعُ إلَّا بِضَرَرٍ لَمْ يَجُزْ شَيْءٌ مِنْهُ ؛ لِتَعَذُّرِ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ بِغَيْرِ ضَرَرٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّ بَيْعَهُ ابْتِدَاءً فِي هَذَا الْفَصْلِ لَا يَجُوزُ ، فَكَذَلِكَ لَا يَبْقَى بِخِلَافِ الْأَوَّلِ .
وَإِنْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ فُلُوسًا بِدِرْهَمٍ فَاشْتَرَاهَا ، وَقَبَضَهَا فَكَسَدَتْ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَهَا إلَى الْآمِرِ ، فَهِيَ لِلْآمِرِ ؛ لِأَنَّهُ بِقَبْضِ الْوَكِيلِ صَارَ قَابِضًا ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ فِي الْقَبْضِ عَامِلٌ لَهُ ، وَبِالْقَبْضِ يَنْتَهِي حُكْمُ الْعَقْدِ فِيهِ ، فَالْكَسَادُ بَعْدَهُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ ، وَلَوْ كَسَدَتْ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا الْوَكِيلُ كَانَ الْوَكِيلُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا ، وَقَدْ ذَكَرَ قَبْلَ هَذَا أَنَّ الْعَقْدِ يَفْسُدُ بِكَسَادِ الْفُلُوسِ قَبْلَ الْقَبْضِ - اسْتِحْسَانًا - فَقَبِلَ التَّفْرِيعَ الْمَذْكُورَ هُنَا عَلَى جَوَابِ الْقِيَاسِ ، وَقِيلَ مُرَادُهُ مِنْ قَوْلِهِ هُنَاكَ : إنَّ الْعَقْدَ يُفْسِدُ ، أَنَّهُ : لَا يُجْبَرُ عَلَى قَبْضِ الْفُلُوسِ الْكَاسِدَةِ ، فَأَمَّا إذَا اخْتَارَ الْأَخْذَ فَلَهُ ذَلِكَ كَمَا فَسَّرَهُ هُنَا فَقَالَ : الْوَكِيلُ بِالْخِيَارِ ، فَإِذَا أَخَذَهَا فَهِيَ لَازِمَةٌ لَهُ دُونَ الْآمِرِ ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْآمِرُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِفُلُوسٍ حَتَّى كَسَدَتْ ، إنَّمَا هِيَ الْآنَ صِفْرٌ ، مَعْنَاهُ : لَيْسَتْ بِفُلُوسٍ رَائِجَةٍ هِيَ ثَمَنٌ ، وَذَلِكَ مَقْصُودُ الْآمِرِ .
وَإِنْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ عَبْدًا بِعَيْنِهِ فَاشْتَرَاهُ ، ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْوَكِيلُ ، فَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَرُدَّهُ ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ ، وَالْوَكِيلُ فِيهِ كَالْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ فَمَا دَامَتْ الْعَيْنُ فِي يَدِهِ فَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ رَدِّهَا بِدُونِ اسْتِطْلَاعِ رَأْيِ الْمُوَكِّلِ ، فَإِنْ أَخَذَهُ وَرَضِيَهُ ، وَكَانَ الْعَيْبُ غَيْرَ مُسْتَهْلَكٍ لَهُ فَهُوَ لَازِمٌ لِلْآمِرِ ، وَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ فَاحِشًا يُسْتَهْلَكُ الْعَبْدُ فِيهِ ، لَزِمَ الْوَكِيلَ دُونَ الْآمِرِ اسْتَحْسَنَ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْآمِرُ ، وَذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْعَيْبُ الْيَسِيرُ ، وَالْفَاحِشُ فِيهِ سَوَاءٌ ، وَهُوَ لَازِمٌ لِلْآمِرِ إنْ اشْتَرَاهُ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّ أَخْذَهُ مَعَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ كَشِرَائِهِ ابْتِدَاءً مَعَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ ، وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْعَيْبَ الْمُسْتَهْلَكَ لَا يَمْنَعُ الْوَكِيلَ مِنْ الشِّرَاءِ لِلْآمِرِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ ، فَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْقَبْضِ ، وَالرِّضَا بِهِ عِنْدَ الْأَخْذِ ، وَمِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُ شِرَاءَهُ لِلْآمِرِ ابْتِدَاءً ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ ، وَهُوَ مَعْلُومٌ عُرْفًا فَكَذَلِكَ رِضَاهُ عِنْدَ الْأَخْذِ ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الْوَكَالَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هُنَاكَ ، وَلَئِنْ كَانَتْ الْمَسْأَلَةُ فِي قَوْلِهِمْ كَمَا أَطْلَقَ فِي الْكِتَابِ ، فَوَجْهُهُ : أَنَّ الرِّضَا بِالْعَيْبِ الْيَسِيرِ مِنْ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ ، مُلْزِمٌ لِلْآمِرِ بِخِلَافِ الْعَيْبِ الْفَاحِشِ ، فَكَذَلِكَ الرِّضَا بِالْعَيْبِ الْيَسِيرِ يَكُونُ مُلْزِمًا لِلْآمِرِ بِخِلَافِ الرِّضَا بِالْعَيْبِ الْفَاحِشِ ، إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْآمِرُ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ بِالْعَبْدِ عَيْبًا ، وَلَكِنَّهُ قُتِلَ عِنْدَ الْبَائِعِ ، فَالْوَكِيلُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ فَسْخَ الْبَيْعَ ، وَإِنْ شَاءَ أَجَازَهُ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ تَحَوَّلَ مِنْ
جِنْسٍ إلَى جِنْسٍ ، وَتَأْثِيرُ ذَلِكَ فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ فَوْقَ تَأْثِيرِ الْعَيْبِ ، فَإِنْ أَجَازَهُ كَانَتْ الْقِيمَةُ لَهُ دُونَ الْآمِرِ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْآمِرِ تَحْصِيلُ الْعَبْدِ لَهُ ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْقِيمَةِ فَرَضَا الْوَكِيلُ ، بِهَا لَا يَلْزَمُ الْآمِرَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ أَخَذَ ذَلِكَ فَيَكُونُ أَحَقُّ بِهِ مِنْ الْمُشْتَرِي لِأَنَّهَا بَدَلُ مِلْكِهِ فَالْمِلْكُ فِي الْعَبْدِ بِالشِّرَاءِ ، وَقَعَ لَهُ فَإِذَا رَضِيَ أَنْ يَأْخُذَهُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ .
وَإِذَا وَكَّلَهُ بِطَوْقِ ذَهَبٍ يَبِيعُهُ فَبَاعَهُ ، وَنَقَدَ الثَّمَنَ ، وَقَبَضَ الطَّوْقَ ، ثُمَّ قَالَ الْمُشْتَرِي ، وَجَدْته صَغِيرًا مُمَوَّهًا بِالذَّهَبِ ، فَأَقَرَّ بِهِ الْوَكِيلُ ، لَزِمَ الْوَكِيلَ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِي غَيْرُ مَقْبُولِ الْقَوْلِ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ ، فَإِنَّهُ قَبَضَ عَيْنَ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ ، ثُمَّ ادَّعَى بَعْد ذَلِكَ فَسَادَ الْعَقْدِ لِسَبَبٍ لَا يُعْرَفُ فِي مِثْلِهِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ ، وَإِقْرَارُ الْوَكِيلُ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ دُونَ الْآمِرِ ، غَيْرَ أَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْآمِرَ ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ لَزِمَهُ ، فَإِذَا أَنْكَرَ كَانَ لَهُ أَنْ يُحَلِّفَهُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَنْكَرَ الْوَكِيلُ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ الْقَاضِي بِالْبَيِّنَةِ لَزِمَ الْآمِرَ ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْآمِرِ ، وَكَذَلِكَ إنْ رَدَّ عَلَيْهِ بِإِبَاءِ الْيَمِينِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ إبَاءَ الْوَكِيلِ الْيَمِينَ كَإِقْرَارِهِ بِذَلِكَ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْوَكِيلُ مُضْطَرٌّ فِي هَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْلِفَ كَاذِبًا ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ لَهُ يَعْمَلُ بِهَا لِلْمُوَكِّلِ ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ بِهِ طَوْقَ ذَهَبٍ بِعَيْنِهِ فِيهِ مِائَةُ دِينَارٍ فَاشْتَرَاهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَنَقَدَ الثَّمَنَ ، وَلَمْ يَقْبِضْ الطَّوْقَ حَتَّى كَسَرَهُ رَجُلٌ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا ، فَإِجْبَارُ الْوَكِيلِ تَضْمِينُ الْكَاسِرِ قِيمَتَهُ مَصُوغًا مِنْ الْفِضَّةِ ؛ جَازَ ذَلِكَ عَلَى الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فَاتَ ، وَاخْتَلَفَ بَدَلًا ، وَالْوَكِيلُ فِي اخْتِيَارِ قَبْضِ الْبَدَلِ كَالْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ فِي حَقِّهِ ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ عَلَى الْآمِرِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لِلْآمِرِ تَحْصِيلُ الطَّوْقِ لَهُ ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْقِيمَةِ ، وَتَصَرُّفُ الْوَكِيلِ عَلَى الْآمِرِ إنَّمَا يَنْفُذُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ ، قَالَ : وَيَبْرَأُ مِنْهُ بَائِعُ الطَّوْقِ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّهُ تَعَيَّنَ فِي ضَمَانِ الْقِيمَةِ فِي
ذِمَّةِ الْكَاسِرِ ، فَإِذَا أَخَذَ الْوَكِيلُ الضَّمَانَ مِنْ الْكَاسِرِ يُصَدَّقُ بِالْفَضْلِ إنْ كَانَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ غَرِمَ فِي الثَّمَنِ حُسْنَ مَا عَادَ إلَيْهِ ، فَيَظْهَرُ الرِّبْحُ ، وَهُوَ رِبْحٌ حَصَلَ لَا عَلَى ضَمَانِهِ فَيَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِهِ .
وَأَكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ تَوْكِيلَ الذِّمِّيِّ أَوْ الْحَرْبِيِّ ، بِأَنْ يَصْرِفَ لَهُ دَرَاهِمَ ، أَوْ دَنَانِيرَ ، وَأُجِيزُهُ إنْ فَعَلَ ؛ لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ هَذَا الْعَقْدِ مِنْهُ تَصِحُّ لِنَفْسِهِ فَكَذَلِكَ لِغَيْرِهِ بِأَمْرِهِ ، وَلَكِنَّهُ لَا يُتَحَرَّزُ عَنْ الْحَرَامِ ، إمَّا لِاسْتِحْلَالِهِ ذَلِكَ ، أَوْ لِجَهْلِهِ بِهِ ، أَوْ قَصْدِهِ إلَى تَوْكِيلِ الْمُسْلِمِ حَرَامًا ؛ فَلِهَذَا أَكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ .
وَإِذَا وَكَّلَهُ أَنْ يَصْرِفَ لَهُ الدَّرَاهِمَ فَصَرَفَهَا مَعَ عَبْدِ الْمُوَكِّلِ ، وَالْوَكِيلُ يَعْلَمُ ، أَوْ لَا يَعْلَمُ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ لِأَنَّهُ مَالُ الْمُوَكِّلِ ، صَرَفَ بَعْضَهُ فِي بَعْضٍ ، وَلَا يَكُونُ الْوَكِيلُ بِتَصَرُّفِهِ مُفَوِّتًا عَلَى الْمُوَكِّلِ شَيْئًا .
وَإِذَا وَكَّلَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ يَصْرِفُهَا لَهُ ، فَبَاعَهَا بِدَنَانِيرَ ، وَحَطَّ عَنْهُ مَا لَا يَتَغَابَنُ فِي مِثْلِهِ ، لَمْ يَجُزْ عَلَى الْآمِرِ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَصَارِفَيْنِ فِي الْعِوَضِ الَّذِي مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ مُشْتَرٍ ، وَلِأَنَّ تَصَرُّفَ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ بِالْمُعَيَّنِ إنَّمَا لَا يَنْفُذُ عَلَى الْمُوَكِّلِ لِلتُّهْمَةِ ، فَإِنَّهُ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ عَقَدَ لِنَفْسِهِ ، فَلَمَّا عَلِمَ بِالْعَيْنِ أَرَادَ أَنْ يُلْزِمَ ذَلِكَ الْمُوَكَّلَ ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ هُنَا ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ يَمْلِكُ عَقْدَ الصَّرْفِ لِنَفْسِهِ ، وَإِنْ صَرَفَهَا بِسِعْرِهَا عِنْدَ مُفَاوِضٍ لِلْوَكِيلِ ، أَوْ شَرِيكٍ لَهُ فِي الصَّرْفِ ، أَوْ مُضَارِبٍ لَهُ مِنْ الْمُضَارَبَةِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِكَوْنِهِ مُتَّهَمًا فِي ذَلِكَ ، كَمَا لَوْ صَرَفَهَا مَعَ نَفْسِهِ ، فَإِنَّ مَنْ يَحْصُلُ بِتَصَرُّفٍ مِنْ عَامِلِهِ يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ صَرَفَهَا عِنْدِ تَفَاوُضِ الْآمِرِ لَمْ يَجُزْ ، كَمَا لَوْ صَرَفَهَا الْآمِرُ بِنَفْسِهِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي هَذَا الْعَقْدِ فَمَا يَقْبِضُ ، وَيُعْطِي يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ صَرَفَهَا عِنْدَ شَرِيكِ الْآمِرِ فِي الصَّرْفِ غَيْرَ مُفَاوِضٍ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَكَذَلِكَ مُضَارِبُهُ ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ جَازَ ؛ لِكَوْنِهِ مُفِيدًا ، وَهُوَ أَنَّهُ يَدْخُلُ بِهِ فِي الشَّرِكَةِ ، وَالْمُضَارَبَةِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ، وَيَخْرُجُ بِهِ مِنْهُ مَا كَانَ فِيهِ ، فَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ .
وَإِذَا وَكَّلَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ يَصْرِفُهَا لَهُ ، وَهُمَا فِي الْكُوفَةِ ، وَلَمْ يُسَمِّ لَهُ مَكَانًا ، فَفِي أَيِّ نَاحِيَةٍ مِنْ الْكُوفَةِ صَرَفَهَا ، فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ نَوَاحِيَ الْمِصْرِ فِي حُكْمِ مَكَان وَاحِدٍ ، وَمَقْصُودُهُ أَنَّ التَّوْكِيلَ لَا يَتَقَيَّدُ بِالسُّوقِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ سِعْرُ الْكُوفَةِ ، لَا سُوقُ الْكُوفَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ خَرَجَ بِهَا إلَى الْحِيرَةِ أَوْ إلَى الْبَصْرَةِ ، أَوْ إلَى الشَّامِ فَصَرَفَهَا هُنَاكَ جَازَ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ مُطْلَقٌ ، وَلَا يَتَقَيَّدُ بِمَكَانٍ إلَّا بِدَلِيلٍ يُفِيدُهُ بِهِ ، وَفِيمَا لَا حِمْلَ لَهُ ، وَلَا مُؤْنَةَ ، وَلَا يُوجَدُ دَلِيلٌ الْمُقَيَّدِ ؛ لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ ، فَفِي أَيِّ مَكَان صَرَفَهَا لَهُ كَانَ مُمْتَثِلًا أَمْرَهُ .
وَلَوْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدٍ لَهُ ، أَوْ عَرَضٍ لَهُ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ فَاسْتَأْجَرَ ، وَخَرَجَ بِهَا مِنْ الْكُوفَةِ إلَى مَكَّةَ ، فَبَاعَهَا هُنَاكَ ؛ أَجَزْتُ الْبَيْعَ ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ بِالْبَيْعِ مُطْلِقٌ ، فَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ بَاعَهُ فَهُوَ مُمْتَثِلٌ ، وَلَا أُلْزِمُ الْآمِرَ مِنْ الْآخَرِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ بِالِاسْتِئْجَارِ ، فَهُوَ مُتَبَرِّعٌ فِيمَا الْتَزَمَ مِنْ ذَلِكَ ، وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ : أَجَزْتُ الْبَيْعَ إذَا بَاعَهُ بِمِثْلِ ثَمَنِهِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَمَرَهُ بِبَيْعِهِ فِيهِ ، وَهَذَا مُسْتَقِيمٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا التَّوْكِيلَ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا ، يَتَقَيَّدُ بِالْبَيْعِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ ، لَوْ بَاعَهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، فَكَذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَتَقَيَّدُ بِذَلِكَ إذَا بَاعَهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، فَكَذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ ، وَأَعَادَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ ، وَقَالَ فِي جَوَابِهَا : لَمْ أُجِزْ الْبَيْعَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْخُرُوجِ بِهِ ، اتَّفَقَ عَلَى ذَلِكَ رِوَايَةُ أَبِي سُلَيْمَانَ ، وَرِوَايَةُ أَبِي حَفْصٍ وَهُوَ الْأَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اعْتَبَرَ مُطْلَقَ الْأَمْرِ حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُهُ فِي مَكَان آخَرَ ؛ لَكَانَتْ مُؤْنَةُ النَّقْلِ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ عَلَى الْمُوَكِّلِ ، كَمَا لَوْ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ إحْضَارَ السِّلْعَةِ عَلَى الْبَائِعِ ؛ لِيَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ ، وَيُسَلِّمَ الْمَبِيعَ ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ هَذِهِ الْمُؤْنَةِ عَلَيْهِ ، وَرُبَّمَا يَبْلُغُ ذَلِكَ ثَمَنَ السِّلْعَةِ ، أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ ، فَهَذَا دَلِيلٌ مُقَيِّدٌ لِمُطْلَقِ الْأَمْرِ بِالْمِصْرِ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ الْمَتَاعُ ؛ فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فِي مَكَان آخَرَ ، بِخِلَافِ مَا لَا حِمْلَ لَهُ ، وَلَا مُؤْنَةَ ، وَبِمِثْلِ هَذَا قَالَ فِي الْكِتَابَيْنِ : لَوْ ضَاعَ ، أَوْ سُرِقَ قَبْلَ أَنْ يَبِيعَهُ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ : لَا يَكُونُ مَأْذُونًا مِنْ جِهَتِهِ
فِي الْإِخْرَاجِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ خَرَجَ بِهِ ، وَلَمْ يَتَّفِقْ لَهُ بَيْعُهُ ، كَانَتْ مُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَيْهِ دُونَ الْآمِرِ ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ كَالْغَاصِبِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ .
وَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِ دَرَاهِمَ يَشْتَرِي بِهَا ثَوْبًا سَمَّاهُ ، وَلَمْ يُسَمِّ لَهُ الْمَكَانَ فَاشْتَرَاهُ بِغَيْرِ الْكُوفَةِ ؛ كَانَ جَائِزًا ؛ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ حِمْلٌ ، وَلَا مُؤْنَةٌ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشِّرَاءِ وُجِدَ طَلْقًا .
فَإِنْ وَكَّلَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ يَصْرِفُهَا لَهُ ، ثُمَّ إنَّ الْمُوَكِّلَ صَرْفَ تِلْكَ الْأَلْفَ فَجَاءَ الْوَكِيلُ إلَى بَيْتِ الْمُوَكِّلِ ، فَأَخَذَ أَلْفًا غَيْرَهَا فَصَرَفَهَا ، فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ إنَّمَا حَصَلَ بِالصَّرْفِ بِدَرَاهِمَ فِي الذِّمَّةِ ؛ إذْ النُّقُودُ لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْعُقُودِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ صَرَفَ تِلْكَ الدَّرَاهِمَ كَانَ لِلْمُوَكِّلِ أَنْ يَمْنَعَهَا ، وَيُعْطِيَ غَيْرَهَا ، فَصَرْفُ الْمُوَكِّلِ تِلْكَ الْأَلْفَ بِنَفْسِهِ ، لَا يَكُونُ تَصَرُّفًا مِنْهُ ، فِيمَا تَتَنَاوَلُهُ الْوَكَالَةُ ، فَلَا يُوجِبُ عَزْلَ الْوَكِيلِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ الْأُولَى بَاقِيَةً ، وَأَخَذَ الْوَكِيلُ غَيْرَهَا فَصَرَفَهَا ؛ لِأَنَّ الصَّرْفَ انْعَقَدَ بِدَرَاهِمَ فِي ذِمَّتِهِ سَوَاءٌ أَضَافَهُ إلَى تِلْكَ الْأَلْفِ ، أَوْ غَيْرِهَا فَيَكُونُ مُمْتَثِلًا أَمْرَهُ فِي ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الدَّنَانِيرُ ، وَالْفُلُوسُ ، فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ أَنَّ تِلْكَ الْأَلْفَ لَوْ هَلَكَتْ بَعْدَ التَّسْلِيمِ إلَى الْوَكِيلِ ، قَبْلَ أَنْ يَصْرِفَهَا بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ ؟ وَلَوْ لَمْ تَتَعَلَّقْ الْوَكَالَةُ بِهَا لَمَا بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ بِهَلَاكِهَا ، قُلْنَا : الْوَكَالَةُ لَا تَتَعَلَّقُ بِعَيْنِهَا حَتَّى لَوْ صَرَفَهَا ، ثُمَّ هَلَكَتْ قَبْلَ التَّسْلِيمِ ، كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْمُوَكِّلَ بِأَلْفٍ أُخْرَى ، فَأَمَّا إذَا هَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَصْرِفَهَا ، إنَّمَا بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ لِمَعْنَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُوَكِّلِ فَرُبَّمَا يَشُقُّ عَلَيْهِ أَدَاءُ أَلْفٍ أُخْرَى بَعْدِ هَلَاكِ تِلْكَ الْأَلْفِ ، وَلَا ضَرَر عَلَى الْوَكِيلِ فِي إبْطَالِ الْوَكَالَةِ ؛ إذَا هَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَصْرِفَهَا ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ إذَا كَانَتْ قَائِمَةً فِي يَدِ الْمُوَكِّلِ ، أَوْ صَارَفَ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي إبْقَاءِ الْوَكَالَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي انْعَقَدَتْ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَهُوَ الصَّرْفُ بِدَرَاهِمَ فِي الذِّمَّةِ ، وَلَوْ أَمَرَهُ بِبَيْعِ فِضَّةٍ بِعَيْنِهَا ، أَوْ ذَهَبٍ بِعَيْنِهِ ، أَوْ عَرَضٍ مِنْ عُرُوضٍ ، فَبَاعَ غَيْرَهُ ، لَمْ يَجُزْ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ
تَعَلَّقَتْ بِتِلْكَ الْعَيْنِ ، فَإِنَّهَا أُضِيفَتْ إلَيْهِ بِعَيْنِهِ ، وَهُوَ مِمَّا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فِي الْعَقْدِ .
وَإِذَا وَكَّلَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ يَصْرِفُهَا لَهُ بِدَنَانِيرَ فَصَرَفَهَا الْوَكِيلُ بِدَنَانِيرَ كُوفِيَّةٍ ، فَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ وَزْنَ الْكُوفِيَّةِ كُوفِيَّةٌ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - : أَمَّا الْيَوْمَ فَإِنْ صَرَفَهَا بِكُوفِيَّةٍ مُقَطَّعَةٍ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ وَزْنَ الْكُوفِيَّةِ الْيَوْمَ عَلَى الشَّامِيَّةِ الثِّقَالِ ، وَإِنَّمَا جَازَ قَبْلَ الْيَوْمِ ، فَإِنْ صَرَفَهَا بِكُوفِيَّةٍ مُقَطَّعَةٍ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ وَزْنَ الْكُوفِيَّةِ كَانَ عَلَى الْكُوفِيَّةِ الْمُقَطَّعَةِ النَّقْصِ ، وَهَذَا اخْتِلَافُ عَصْرِنَا ، فَأَبُو حَنِيفَةَ أَفْتَى بِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْمُعَامَلَةُ فِي عَصْرِهِ ، وَهُمَا كَذَلِكَ ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ : يُعْتَبَرُ فِي كُلِّ مَكَان وَزَمَانٍ مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ مَقْصُودَ الْمُوَكِّلِ ذَلِكَ بِغَالِبِ الرَّأْيَ .
وَلَوْ قَالَ اشْتَرِ لِي بِهَذِهِ الدَّنَانِيرِ غَلَّةً ، وَلَمْ يُسَمِّ لَهُ غَلَّةَ الْكُوفَةِ ، أَوْ بَغْدَادَ فَاشْتَرَى لَهُ غَلَّةَ الْكُوفَةِ جَازَ ، وَإِنْ اشْتَرَى لَهُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ غَلَّةِ الْبَصْرَةِ ، أَوْ بَغْدَادَ أَوْ دَرَاهِمَ غَيْرَ الْغَلَّةِ ، لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلَ غَلَّةِ الْكُوفَةِ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ إنَّمَا يَصِيرُ مُمْتَثِلًا إذَا حَصَلَ مَقْصُودُ الْمُوَكِّلِ ، وَمَقْصُودُهُ غَلَّةُ الْكُوفَةِ ، فَإِنْ كَانَ مَا اشْتَرَى مِثْلَ غَلَّةِ الْكُوفَةِ فَقَدْ حَصَلَ مَقْصُودُهُ .
وَإِنْ قَالَ لَهُ : بِعْ هَذِهِ الْأَلْفَ دِرْهَمٍ بِدَنَانِيرَ شَامِيَّةٍ فَبَاعَهَا بِالْكُوفِيَّةِ ، فَإِنْ كَانَتْ الْكُوفِيَّةُ غَيْرَ مُقَطَّعَةٍ ، وَكَانَ وَزْنُهَا شَامِيَّةً فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الْآمِرِ ؛ لِحُصُولِ مَقْصُودِهِ قَالَ : وَلَيْسَ الدَّنَانِيرُ فِي هَذَا كَالدَّرَاهِمِ فَإِنَّ مَقْصُودَهُ مِنْ شِرَاءِ الْغَلَّةِ الْإِنْفَاقُ فِي حَوَائِجِهِ ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بَغْلَةِ الْكُوفَةِ ، أَوْ مِثْلِهَا ، وَمَقْصُودُهُ مِنْ الدَّنَانِيرِ الرِّبْحُ ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْوَزْنِ فَإِنْ كَانَ وَزْنُ الْكُوفِيَّةِ مِثْلَ وَزْنِ الشَّامِيَّةِ ؛ فَقَدْ حَصَلَ مَقْصُودُهُ ، وَلَوْ قَالَ : بِعْهَا بِدَنَانِيرَ عِتْقٍ فَبَاعَهَا بِالشَّامِيَّةِ ، لَا يَجُوزُ عَلَى الْآمِرِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ بِهَذَا لِمَا لِلْعِتْقِ مِنْ الصَّرْفِ عَلَى الشَّامِيَّةِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
بَابُ الْعَيْبِ فِي الصَّرْفِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَإِذَا اشْتَرَى سَيْفًا مُحَلَّى بِدَرَاهِمَ أَكْثَرَ مِمَّا فِيهِ ، وَتَقَابَضَا ، وَتَفَرَّقَا ، ثُمَّ وَجَدَ بِالسَّيْفِ عَيْبًا فِي نَصْلِهِ ، أَوْ جَفْنِهِ ، أَوْ حَمَائِلِهِ ، أَوْ حِلْيَتِهِ ، فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ لِفَوَاتِ وَصْفِ السَّلَامَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ لَهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ ، فَإِنْ رَدَّهُ ، وَقَبِلَهُ مِنْهُ صَاحِبُهُ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ حَتَّى يَقْبِضَ الثَّمَنَ ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بَعْدَ الْقَبْضِ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ كَالْإِقَالَةِ ، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَعْتَمِدُ التَّرَاضِيَ ، وَالْإِقَالَةُ فِي الصَّرْفِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ الْجَدِيدِ ، فِي وُجُوبِ التَّقَابُضِ بِهِ فِي الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ : فَسْخٌ فِي حَقِّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَيْعٌ جَدِيدٌ فِي غَيْرِهِمَا ، فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ الْجَدِيدِ فِي حَقِّ الشَّرْعِ ، وَاسْتِحْقَاقُ الْقَبْضِ فِي الصَّرْفِ مِنْ حَقِّ الشَّرْعِ ، فَإِذَا فَارَقَهُ قَبْلَ التَّقَابُضِ اُنْتُقِضَ الرَّدُّ فِي حِصَّةِ الْحِلْيَةِ ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ ، وَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ فِي تَمْيِيزِ الْبَعْضِ مِنْ الْبَعْضِ ضَرَرًا ، وَلَهُ أَنْ يَرُدّهُ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ ، كَمَا لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ الرَّدِّ ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مِنْهُ لَيْسَ بِدَلِيلِ الرِّضَا بِالْعَيْبِ ، وَلَوْ رَدَّهُ بِقَضَاءِ قَاضٍ ، لَمْ يَضُرَّهُ أَنْ يُفَارِقَهُ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْقَضَاءِ فَسْخٌ مِنْ الْأَصْلِ ، فَإِنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةَ الْفَسْخِ بِسَبَبِ الْعَيْبِ ، وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْعَقْدِ الْمُبْتَدَأِ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الرَّدِّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ ، وَلَا يَضُرُّهُ أَنْ يُفَارِقَهُ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ ، أَلَا تَرَى : أَنَّ الْبَائِعَ لَوْ كَانَ اشْتَرَاهُ مِنْ غَيْرِهِ ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ فِي هَذَا الْفَصْلِ دُونَ الْأَوَّلِ ، قَالَ : وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ بِالثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ بِسَبَبِ الْقَبْضِ ، فَإِنَّ عَقْدَ الصَّرْفِ قَدْ انْفَسَخَ ، وَالتَّأْجِيلُ صَحِيحٌ فِي مِثْلِهِ كَبَدَلِ الْغَصْبِ ،
وَالْمُسْتَهْلَكِ بِخِلَافِ بَدَلِ الْقَرْضِ ، فَإِنَّهُ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ حُلِيَّ ذَهَبٍ فِيهِ جَوْهَرٌ مُفَضَّضٌ فَوَجَدَ بِالْجَوْهَرِ عَيْبًا ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرُدَّهُ دُونَ الْحُلِيِّ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَرُدَّهُ كُلَّهُ ، أَوْ يَأْخُذَهُ كُلَّهُ ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ لِمَا فِي تَمْيِيزِ الْبَعْضِ مِنْ الْبَعْضِ مِنْ الضَّرَرِ ؛ وَلِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالْبَعْضِ مُتَّصِلٌ بِالْبَعْضِ ، فَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ اشْتَرَى زَوْجَ خُفٍّ فَوَجَدَ بِإِحْدَاهُمَا عَيْبًا ، ، وَهُنَاكَ لَيْسَ لَهُ إلَّا أَنْ يَرُدَّهُمَا ، أَوْ يُمْسِكَهُمَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى خَاتَمَ فِضَّةٍ ، فِيهِ فَصُّ يَاقُوتٍ فَوَجَدَ بِالْفَصِّ ، أَوْ الْفِضَّةِ عَيْبًا .
وَلَوْ اشْتَرَى إبْرِيقَ فِضَّةٍ فِيهِ أَلْفِ دِرْهَمٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، أَوْ بِمِائَةِ دِينَارٍ ، وَتَقَابَضَا ، وَتَفَرَّقَا ، ثُمَّ وُجِدَتْ الدَّرَاهِمُ رَصَاصًا ، أَوْ سَتُّوقَةً .
فَرَدَّهَا عَلَيْهِ ، كَانَ لَهُ أَنْ يُفَارِقَهُ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ ، وَقَبْلَ اسْتِرْدَادِ الْإِبْرِيقِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ اُنْتُقِضَ مِنْ الْأَصْلِ ، حِينَ تَبَيَّنَ افْتِرَاقُهُمَا قَبْلَ قَبْضِ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ ، فَإِنَّ السَّتُّوقَةَ ، وَالرَّصَاصَ لَيْسَا مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ ، وَكَذَلِكَ الزُّيُوفُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ إذَا رَدَّ الْكَبِيرَ بِعَيْبِ الزِّيَافَةِ يُنْتَقَضُ الْقَبْضُ فِيهِ مِنْ الْأَصْلِ ، ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي السَّلَمِ ، وَعِنْدَهُمَا فِي الزُّيُوفِ يَسْتَبْدِلُهُ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا مِنْ مَجْلِسِ الرَّدِّ .
وَذُكِرَ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ : وَجَدْتُ فِي الْمَغْنَمِ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ طَشْتًا لَا أَدْرِي أَشَبَّةٌ هِيَ ، أَوْ ذَهَبٌ فَابْتَعْتُهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، فَأَعْطَانِي بِهَا تُجَّارُ الْحِيرَةِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ ، فَدَعَانِي سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : لَا تَلُمْنِي ، وَرُدَّ الطَّشْتَ ، فَقُلْت : لَوْ كَانَ سِهَامًا قَبِلْتَهَا مِنِّي ، فَقَالَ : إنِّي أَخَافُ أَنْ يَسْمَعَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنِّي بِعْتُكَ طَشْتًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأُعْطِيتَ بِهَا أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَيَرَى أَنِّي قَدْ صَانَعْتُكَ فِيهَا ، قَالَ : فَأَخَذَهَا مِنِّي فَأَتَيْتُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَذَكَرْتُ لَهُ فَرَفَعَ يَدَيْهِ ، وَقَالَ : الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَ رَعِيَّتِي تَخَافُنِي فِي آفَاقِ الْأَرْضِ ، وَمَا زَادَنِي عَلَى هَذَا ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ : لِصَاحِبِ الْجَيْشِ وِلَايَةَ بَيْعِ الْمَغَانِمِ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ ، وَأَنَّ تَصَرُّفَهُ فِيهِ كَتَصَرُّفِ الْأَبِ ، وَالْوَصِيِّ فِي مَالِ الصَّغِيرِ ، وَلِهَذَا اسْتَرَدَّهُ سَعْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا ظَهَرَ أَنَّهُ بَاعَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى ، أَنَّ الْإِمَامَ إذَا بَلَغَهُ عَنْ عَامِلِهِ مَا رَضِيَ بِهِ مِنْ عَدْلٍ ، أَوْ هَيْبَةِ فِعْلِهِ ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْكُرَ اللَّهَ - تَعَالَى - عَلَى ذَلِكَ ، فَإِنَّ ذَلِكَ نِعْمَةٌ لَهُ مِنْ اللَّهِ - تَعَالَى - وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ : تَهَابُهُ عُمَّالُهُ فِي آفَاقِ الْأَرْضِ ، وَذَلِكَ لِحُسْنِ سَرِيرَتِهِ عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ ، { مَنْ خَافَ اللَّهَ خَافَ مِنْهُ كُلُّ شَيْءٍ } .
وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ طَشْتًا أَوْ إنَاءً لَا يَدْرِي مَا هُوَ ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ لَهُ صَاحِبُهُ شَيْئًا ؛ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ تَنَاوَلَ الْعَيْنَ ، وَالْمُشَارُ إلَيْهِ : مَعْلُومُ الْعَيْنِ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ ، فَيَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا حَدِيثُ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ
وَإِذَا اشْتَرَى إنَاءَ فِضَّةٍ فَإِذَا هُوَ غَيْرُ فِضَّةٍ ، فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى ، وَالْعَقْدُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُسَمَّى ؛ لِأَنَّ انْعِقَادَهُ بِالتَّسْمِيَةِ ، وَالْمُسَمَّى مَعْدُومٌ ، فَلَا بَيْعَ بَيْنَهُمْ ، وَلَوْ كَانَتْ فِضَّةً سَوْدَاءَ ، أَوْ حَمْرَاءَ فِيهَا رَصَاصٌ ، أَوْ صُفْرٌ ، وَهُوَ الَّذِي أَفْسَدَهَا فَهُوَ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ أَخَذَهَا ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا ؛ لِأَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى ، فَإِنَّ مِثْلَهُ يُسَمَّى إنَاءَ فِضَّةٍ فِي النَّاسِ ، إلَّا أَنَّهُ مَعِيبٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْغِشِّ ، فَيَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَى الْمُشَارِ إلَيْهِ بِالتَّسْمِيَةِ ، وَيَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي لِلْعَيْبِ ، وَإِنْ كَانَتْ رَدِيئَةً مِنْ غَيْرِ غِشٍّ فِيهَا ؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا ؛ لِأَنَّ الرَّدَاءَةَ لَيْسَتْ بِعَيْبٍ ، فَالْعَيْبُ مَا يَخْلُو عَنْهُ أَصْلُ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ ، وَصِفَةُ الرَّدَاءَةِ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ بِالرَّدَاءَةِ تَنْعَدِمُ صِفَةُ الْجَوْدَةِ ، وَبِمُطْلَقِ الْعَقْدِ لَا يَسْتَحِقُّ صِفَةَ الْجَوْدَةِ ، وَإِنَّمَا تُسْتَحَقُّ السَّلَامَةُ .
وَلَوْ اشْتَرَى سَيْفًا مُحَلَّى عَلَى أَنَّ فِيهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَتَقَابَضَا ، وَتَفَرَّقَا ، فَإِذَا فِي السَّيْفِ مِائَتَا دِرْهَمٍ ، فَإِنَّهُ يَرُدُّ السَّيْفَ ؛ لِفَسَادِ الْعَقْدِ بِالْفَضْلِ الْخَالِي عَنْ الْمُقَابَلَةِ ، وَهُوَ الْجَفْنُ وَالْحَمَائِلُ .
وَإِنْ اشْتَرَى إبْرِيقَ فِضَّةٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّ فِيهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَتَقَابَضَا ، وَتَفَرَّقَا ، فَإِذَا فِيهِ أَلْفَا دِرْهَمٍ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي ، إنْ شَاءَ قَبَضَ نِصْفَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ مُشْتَرِيًا مِقْدَارَ مَا سُمِّيَ مِنْهُ ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ نِصْفُ الْإِبْرِيقِ ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُشْتَرِيًا لِلْكُلِّ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّهُ رِبًا ، وَلَا بِأَلْفَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ إلَّا أَلْفَ دِرْهَمٍ ، فَجَعَلْنَاهُ مُشْتَرِيًا نِصْفَهُ بِالْأَلْفِ ، وَأَثْبَتْنَا لَهُ الْخِيَارَ ؛ لِتَبْعِيضِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ فِيمَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ ، بِخِلَافِ السَّيْفِ ، فَهُنَاكَ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الْعَقْدِ فِي نِصْفِ الْحِلْيَةِ مَعَ السَّيْفِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّ الْحِلْيَةَ صِفَةٌ ، لَا يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهَا دُونَ الْبَعْضِ بِخِلَافِ الْإِبْرِيقِ ، وَلَوْ كَانَ اشْتَرَى الْإِبْرِيقَ بِمِائَةِ دِينَارٍ كَانَ جَائِزًا لَهُ كُلُّهُ بِالدَّنَانِيرِ ؛ لِأَنَّ الرِّبَا يَنْعَدِمُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ ، وَالْإِبْرِيقُ مِمَّا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ فَيَكُونُ الْوَزْنُ فِيهِ صِفَةً فَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِعَيْنِهِ ؛ إذَا أَمْكَنَ دُونَ الْوَزْنِ الْمَذْكُورِ .
وَإِنْ اشْتَرَى نُقْرَةَ فِضَّةٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّ فِيهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ ، وَتَقَابَضَا ، فَإِذَا فِيهَا مِائَتَا دِرْهَمٍ ، كَانَ لِلْمُشْتَرِي نِصْفُهَا ، لَا خِيَارَ لَهُ فِيهَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَاهَا بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ ؛ لِأَنَّ النُّقْرَة لَا يَضُرُّهَا التَّبْعِيضُ ، فَالْوَزْنُ فِيهَا يَكُونُ قَدْرًا لَا صِفَةً ، فَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ عَلَى الْقَدْرِ الْمُسَمَّى مِنْ وَزْنِهَا بِخِلَافِ الْإِبْرِيقِ ، فَإِنَّهُ يَضُرُّ التَّبْعِيضَ فَالْوَزْنُ يَكُونُ صِفَةً فِيهِ ، أَلَا تَرَى أَنْ بِاخْتِلَافِ الْوَزْنِ تَخْتَلِفُ صِفَتُهُ فَيَكُونُ أَثْقَلَ تَارَةً ، وَأَخَفَّ تَارَةً ، وَلَا يَتَبَدَّلُ اسْمُ الْعَيْنِ ، وَهُوَ الْإِبْرِيقُ ، فَكَانَ ذَلِكَ كَالذَّرْعِ فِي الثَّوْبِ ، يَكُونُ صِفَةً ، وَالْبَيْعُ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ دُونَ الذُّرْعَانِ الْمَذْكُورَةِ ، ، وَعَنْ أَبِي رَافِعٍ قَالَ : خَرَجْتُ بِخَلْخَالِ فِضَّةٍ لِامْرَأَتِي أَبِيعُهُ فَلَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَاشْتَرَاهُ مِنِّي فَوَضَعْتَهُ فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ ، وَوَضَعَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَرَاهِمَهُ فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ ، وَكَانَ الْخَلْخَالُ أَثْقَلَ مِنْهَا قَلِيلًا ، فَدَعَا بِمِقْرَاضٍ لِيَقْطَعَهُ ، فَقُلْت : يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ هُوَ لَكَ ، فَقَالَ : يَا أَبَا رَافِعٍ ، إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ ، وَزْنًا بِوَزْنٍ ، وَالزَّائِدُ ، وَالْمُسْتَزِيدُ فِي النَّارِ ، } ، وَفِيهِ دَلِيلُ تَحْرِيمِ الْفَضْلِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ ، وَأَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ الْفَضْلِ وَالْكَثِيرَ فِيمَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ ، أَوْ لَا يَضُرُّهُ سَوَاءٌ ، ، وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّ مُبَادَلَةَ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ الْكِفَّةُ بِالْكِفَّةِ تَجُوزُ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مِقْدَارُهُمَا ؛ لِوُجُودِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْوَزْنِ ، وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِضَّةٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، فَزَادَتْ عَلَيْهَا دَانَقًا فَوَهَبَهُ لَهُ هِبَةً ، وَلَمْ يُدْخِلْهُ فِي الْبَيْعِ ، فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ الْفَضْلُ الْخَالِي عَنْ
الْمُقَابَلَةِ ؛ إذَا كَانَ مُسْتَحَقًّا بِالْبَيْعِ ، وَهَذَا مُسْتَحَقٌّ بِعَقْدِ التَّبَرُّعِ ، وَهُوَ غَيْرُ مَشْرُوطٍ فِي الْبَيْعِ ، وَلَا يُؤَثِّرُ فِي الْبَيْعِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَلِمَاذَا لَمْ يَقْبَلْهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؟ قُلْنَا : كَأَنَّهُ احْتَاطَ فِي ذَلِكَ أَوْ عَلِمَ أَنْ أَبَا رَافِعٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ وَكِيلًا فِي بَيْعِ الْخَلْخَالِ ، وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ لَا يَمْلِكُ الْهِبَةَ .
وَإِنْ كَانَ السَّيْفُ الْمُحَلَّى بَيْنَ رَجُلَيْنِ ، فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ ، وَهُوَ النِّصْفُ بِدِينَارٍ مِنْ شَرِيكِهِ ، أَوْ غَيْرِهِ ، وَتَقَابَضَا فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْبَيْعِ عَلَى خَالِصِ مِلْكِهِ ، وَإِنْ كَانَ بَاعَهُ مِنْ شَرِيكِهِ ، وَنَقَدَهُ الدِّينَارَ ، وَالسَّيْفُ فِي الْبَيْتِ ثُمَّ افْتَرَقَا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ السَّيْفَ اُنْتُقِضَ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي حِصَّةِ الْحِلْيَةِ صَرْفٌ وَقَدْ افْتَرَقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ ؛ لِأَنَّ حِصَّةَ الْبَائِعِ مَا كَانَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ، فَلَا يَصِيرُ قَابِضًا لَهُ بِالشِّرَاءِ مَا لَمْ يُسَلِّمْهَا إلَيْهِ .
وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الْفِضَّةِ جُزَافًا بِالذَّهَبِ ، أَوْ بِالْفُلُوسِ ، أَوْ بِالْعُرُوضِ ؛ لِانْعِدَامِ الرِّبَا بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ .
وَإِذَا اشْتَرَى سَيْفًا مُحَلَّى فِضَّتُهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَقَبَضَ السَّيْفَ وَنَقَدَهُ مِنْ الثَّمَنِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا ثُمَّ افْتَرَقَا ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْمَنْقُودَ ثَمَنُ الْفِضَّةِ خَاصَّةً ، فَإِنَّ قَبْضَ حِصَّةِ الْحِلْيَةِ فِي الْمَجْلِسِ مُسْتَحَقٌّ ، وَقَبْضُ حِصَّةِ الْجَفْنِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ ، وَالْمُعَاوَضَةُ لَا تَقَعُ بَيْنَ الْمُسْتَحِقِّ وَغَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ ، بَلْ يَجْعَلُ النُّقُودَ ثَمَنَ الْمُسْتَحَقِّ خَاصَّةً ، فَالِافْتِرَاقُ وُجِدَ بَعْدَ التَّقَابُضِ فِي الْمَجْلِسِ فِي حِصَّةِ الصَّرْفِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَجَّلَهُ فِي الْخَمْسِينَ الْبَاقِيَةِ إلَى شَهْرٍ ؛ لِأَنَّهُ ثَمَنُ مَبِيعٍ لَوْ أَبْرَأَهُ عَنْهُ جَازَ ، فَكَذَلِكَ إذَا أَجَّلَهُ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الثَّمَنُ عَشَرَةَ دَنَانِيرَ ، فَنَقَدَ مِنْهَا حِصَّةَ الْحِلْيَةِ ، وَصَالَحَهُ مِنْ الْبَاقِي عَلَى دَرَاهِمَ ، أَوْ عَلَى ثَوْبٍ وَتَقَابَضَا ، فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ ثَمَنُ الْمَبِيعِ ، وَالِاسْتِبْدَالُ بِالثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الصُّلْحِ فِي الصَّرْفِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : رَجُلٌ اشْتَرَى عَبْدًا بِمِائَةِ دِينَارٍ ، وَتَقَابَضَا ، وَتَفَرَّقَا ، ثُمَّ وَجَدَ بِالْعَبْدِ عَيْبًا فَأَقَرَّ الْبَائِعُ بِهِ ، أَوْ أَنْكَرَهُ ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى دِينَارٍ ، وَتَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ ، فَالصُّلْحُ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ حِصَّةُ الْجُزْءِ الْفَائِتِ بِالْعَيْبِ ، وَإِنَّمَا اسْتَرَدَّهُ ؛ لِفَسَادِ الْعَقْدِ فِيهِ بِفَوَاتِ مَا يُقَابِلُهُ ، وَالْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي مِثْلِهِ ، وَإِنْ كَانَ الدِّينَارُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْعَيْبِ ، أَوْ أَقَلَّ فَهُوَ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُمَا قَدَّرَا حِصَّةَ الْعَيْبِ بِهِ ، وَإِلَيْهِمَا ذَلِكَ التَّقْدِيرُ ، كَمَا كَانَ التَّقْدِيرُ فِي أَصْلِ بَدَلِ الْعَبْدِ إلَيْهِمَا ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا صَالَحَهُ عَلَى دِينَارٍ فَكَانَ بَائِعُ الْعَبْدِ حَطَّ مِنْ ثَمَنِ الْعَبْدِ الدِّينَارَ ، فَإِنَّ الْفَائِتَ بِالْعَيْبِ وَصْفٌ وَالثَّمَنُ لَا يُقَابِلُ الْوَصْفَ ، وَالْحَطُّ تَارَةً يَكُونُ بِسَبَبِ الْعَيْبِ ، وَتَارَةً يَكُونُ لَا بِسَبَبِ الْعَيْبِ يَثْبُتُ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِحَاقِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ ، وَيَلْزَمُهُ رَدُّ قَدْرِ الْمَحْطُوطِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ ، وَلَا يَضُرّهُمَا تَرْكُ الْقَبْضِ فِيهِ فِي الْمَجْلِسِ ، وَيَصِحُّ التَّأْجِيلُ فِيهِ إنْ أَجَّلَهُ ، وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ ، وَقَبَضَهَا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا جَازَ وَإِنْ افْتَرَقَا قَبْلَ الْقَبْضِ ، انْتَقَضَ الصُّلْحُ ، أَمَّا عَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ فَمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ مِنْ الدَّرَاهِمِ ، يَكُونُ بَدَلًا عَنْ حِصَّةِ الْعَيْبِ ، وَذَلِكَ مِنْ الدَّنَانِيرِ وَمُبَادَلَةُ الدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ يَكُونُ صَرْفًا ، وَعَلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي إنَّمَا يَصِحُّ بِطَرِيقِ الْحَطِّ ، وَالْحَطِّ مِنْ الثَّمَنِ ، وَهُوَ الدَّنَانِيرُ ، فَالدَّرَاهِمُ بَدَلٌ عَنْهُ ، ثُمَّ مَا وَقَعَ عَنْهُ الصُّلْحُ كَانَ دَيْنًا ، فَإِذَا لَمْ يَقْبِضْ بَدَلَهُ حَتَّى افْتَرَقَا ، كَانَ دَيْنًا بِدَيْنٍ ، فَإِذَا بَطَلَ الصُّلْحُ اسْتَقْبَلَ الْخُصُومَةَ فِي الْعَيْبِ ، كَمَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ
الصُّلْحِ ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ مَعَ الْإِنْكَارِ لَا يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِالْعَيْبِ ، وَكَذَلِكَ إنْ ضَرَبَ لِلدَّرَاهِمِ أَجَلًا ، ثُمَّ فَارَقَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا ، أَوْ اشْتَرَطَا فِي الصُّلْحِ خِيَارًا ، ثُمَّ افْتَرَقَا قَبْلَ أَنْ يُبْطِلَ صَاحِبُ الْخِيَارِ خِيَارَهُ .
وَإِذَا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَأَنْكَرَهُ ، أَوْ أَقَرَّ بِهِ ، ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ حَالَّةٍ ، أَوْ إلَى أَجَلٍ أَوْ بِشَرْطِ خِيَارٍ ، ثُمَّ افْتَرَقَا ، فَالصُّلْحُ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ هَذَا الْعَقْدِ بِطَرِيقِ الْإِبْرَاءِ دُونَ الْمُبَادَلَةِ ، فَيَكُونُ فِي الْإِبْرَاءِ مُحْسِنًا مِنْ وَجْهَيْنِ بِتَرْكِ مَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ ، وَبِالتَّأْجِيلِ فِي الْعَشَرَةِ ، وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى خَمْسَةِ دَنَانِيرَ ، ثُمَّ افْتَرَقَا قَبِلَ أَنْ يَقْبِضَهَا اُنْتُقِضَ الصُّلْحُ ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ هَذَا الصُّلْحِ بِاعْتِبَارِ الْمُبَادَلَةِ ؛ لِأَنَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ ، وَمُبَادَلَةُ الدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ صَحِيحَةٌ بِشَرْطِ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ ، فَيَبْطُلُ بِالِافْتِرَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ إلَى أَجَلٍ ، أَوْ فِيهَا شَرْطُ خِيَارٍ ، وَافْتَرَقَا عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ صَرْفٌ أَمَّا عِنْدَ إقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَلَا إشْكَالَ ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ جُحُودِهِ ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الصُّلْحِ مَعَ الْإِنْكَارِ بِنَاءً عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي .
وَإِذَا مَاتَتْ الْمَرْأَةُ ، وَتَرَكَتْ مِيرَاثًا مِنْ رَقِيقٍ ، وَعُرُوضٍ ، وَحُلِيٍّ ، وَذَهَبٍ ، وَتَرَكَتْ أَبَاهَا ، وَزَوْجَهَا ، وَمِيرَاثَهَا عِنْدَ أَبِيهَا ، فَصَالَحَ زَوْجُهَا مِنْ ذَلِكَ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ ، وَلَا يَعْلَمُ مِقْدَارَ نَصِيبِهِ مِنْ الذَّهَبِ ؛ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ نَصِيبُهُ مِنْ الذَّهَبِ هَذَا الْمِقْدَارَ ، أَوْ أَكْثَرَ فَيَبْقَى نَصِيبُهُ مِنْ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ خَالِيًا عَنْ الْمُقَابَلَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَ عَلَى خَمْسمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَلَا يَعْلَمُ أَنَّ نَصِيبَهُ مِنْ الْفِضَّةِ أَكْثَرُ مِنْهَا ، أَوْ أَقَلُّ ، وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى خَمْسمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَخَمْسِينَ دِينَارًا ، وَتَقَابَضَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا جَازَ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ نُصِيبُهُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّقْدَيْنِ فَوْقَ هَذَا الْمِقْدَارِ فَتَصْحِيحُ الْعَقْدِ مُمْكِنٌ ، بِأَنْ يَجْعَلَ مَا أَخَذَ مِنْ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ ، وَحِصَّتُهُ مِنْ الْعُرُوضِ ، وَمَا أَخَذَ مِنْ الْفِضَّةِ بِالذَّهَبِ ، وَحِصَّتُهُ مِنْ الْعُرُوضِ ، وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضْ شَيْئًا انْتَفَضَ الصُّلْحُ لِوُجُودِ الِافْتِرَاقِ ، وَالْمِيرَاثُ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي عَقْدِ الصَّرْفِ ، فَإِنْ قَبَضَ الزَّوْجُ الدَّرَاهِمَ ، وَالدَّنَانِيرَ ، ثُمَّ افْتَرَقَا ، وَالْمِيرَاثُ فِي مَنْزِلِ الْأَبِ ، انْتَقَضَ مِنْ الصُّلْحِ حِصَّةُ الذَّهَبِ ؛ لِأَنَّ الْأَبَ بِيَدِهِ السَّابِقَةِ لَا يَصِيرُ قَابِضًا مَا كَانَ حِصَّةَ الزَّوْجِ مِنْ الذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ ؛ لِأَنَّ يَدَهُ كَانَتْ يَدَ أَمَانَةٍ ، وَالْعَقْدُ فِيهَا صَرْفٌ ، فَيَبْطُلُ بِالِافْتِرَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ الْعَقْدِ بَيْعٌ ، فَلَا يَبْطُلُ بِتَرْكِ قَبْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الْمَجْلِسِ بِقَدْرِ الْمَجْلِسِ ، وَإِنْ قَبَضَ الْأَبُ ذَلِكَ ، وَقَبَضَ الزَّوْجُ بَعْضَ الدَّرَاهِمِ ، وَالدَّنَانِيرِ ، فَإِنْ كَانَ مَا قَبَضَ بِقَدْرِ حِصَّةِ الذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ فَالصُّلْحُ مَاضٍ لِمَا بَيَّنَّا ، أَنَّ الْمَقْبُوضَ مِمَّا كَانَ قَبْضُهُ مُسْتَحَقًّا فِي الْمَجْلِسِ ، وَهُوَ حِصَّةُ الذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ ، وَإِنْ كَانَ النَّقْدُ
أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ بَطَلَ مِنْ الذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ حِصَّةُ مَا لَمْ يَنْقُدْ ، وَجَازَ فِي حِصَّةِ مَا اُنْتُقِضَ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ ، وَجَازَ مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ الْحُلِيِّ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِيهِ بَيْعٌ لَا صَرْفٌ .
وَإِذَا ادَّعَى الرَّجُلُ سَيْفًا مُحَلَّى بِفِضَّةٍ فِي يَدِ رَجُلٍ ، فَصَالَحَهُ مِنْهُ عَلَى عَشَرَةِ دَنَانِيرَ ، وَقَبَضَ مِنْهَا خَمْسَةَ دَنَانِيرَ ، ثُمَّ افْتَرَقَا ، أَوْ اشْتَرَى بِالْبَاقِي مِنْهُ ثَوْبًا قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا ، وَقَبَضَهُ فَإِنْ كَانَ نَقَدَ مِنْ الدَّنَانِيرِ بِقَدْرِ الْحِلْيَةِ ، وَحِصَّتِهَا ؛ فَالصُّلْحُ مَاضٍ ؛ لِأَنَّ النُّقُودَ حِصَّةُ الْحِلْيَةِ ، فَإِنَّ قَبْضَهُ مُسْتَحَقٌّ فِي الْمَجْلِسِ ، وَالْبَاقِي حِصَّةُ السَّيْفِ ، وَتَرْكُ الْقَبْضِ فِيهِ لَا يَضُرُّ ، وَالِاسْتِبْدَالُ بِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ صَحِيحٌ ، وَإِنْ كَانَ نَقَدَ أَقَلَّ مِنْ حِصَّةِ الْحِلْيَةِ ، فَالصُّلْحُ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ بِقَدْرِ مَا لَمْ يَنْقُدْ مِنْ ثَمَنِ الْحِلْيَةِ ، يَبْطُلُ فِيهِ ، وَالْكُلُّ فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ ، فَإِذَا بَطَلَ الْعَقْدُ فِي بَعْضِهِ بَطَلَ فِي كُلِّهِ ، وَشِرَاءُ الثَّوْبِ فَاسِدٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ بَعْضُ ثَمَنِ الْحِلْيَةِ فِيهِ ، وَالِاسْتِبْدَالُ بِبَدَلِ الصَّرْفِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ ، فَإِذَا بَطَلَ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ بَطَلَ فِي الْكُلِّ ، وَهَذَا عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي قُلْنَا : إنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي .
وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ إبْرِيقَ فِضَّةٍ فِيهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ بِمِائَةِ دِينَارٍ ، وَتَقَابَضَا ثُمَّ وَجَدَ بِالْإِبْرِيقِ عَيْبًا ، فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ ؛ لِفَوَاتِ مَا صَارَ لَهُ مُسْتَحَقًّا بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ ، وَهُوَ السَّلَامَةُ عَنْ الْعَيْبِ فَإِنْ صَالَحَهُ الْبَائِعُ عَلَى دِينَارٍ ، وَقَبَضَ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَإِنْ كَانَ الدِّينَارُ أَقَلَّ ، أَوْ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْعَيْبِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - : إذَا كَانَ الْفَضْلُ مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ ، فَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ كِتَابِ الصُّلْحِ عَنْ الْمَغْصُوبِ الْمُسْتَهْلَكِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ ، يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا الْحَقَّ فِي الْقِيمَةِ ، وَهِيَ مُقَدَّرَةٌ شَرْعًا ، فَالْفَضْلُ عَلَى ذَلِكَ يَكُونُ رِبًا ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَيَقَّنُ بِالْفَضْلِ فِيمَا يَتَغَابَنُ النَّاس فِي مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدْخُل مِنْ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ ، فَهُنَا أَيْضًا حَقُّهُ فِي بَدَلِ الْجُزْءِ الْفَائِتِ ، فَإِذَا صَالِحَهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ ، رُبَّمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ ، كَانَ الْفَضْلُ رِبًا ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَصِحُّ الصُّلْحُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَقْبُوضُ عِوَضًا عَنْ أَصْلِ مِلْكِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا ، فَكَذَلِكَ هُنَا يَصِحُّ الصُّلْحُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمَقْبُوضُ عِوَضًا عَنْ الْجُزْءِ الْفَائِتِ الَّذِي اسْتَحَقَّهُ بِالْعَقْدِ ، وَلَا رِبًا بَيْنَ الدَّرَاهِمِ ، وَالدَّنَانِيرِ ؛ وَلِأَنَّهُ يَصِحُّ الصُّلْحُ بِطَرِيقِ الْحَطِّ ، وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّهُ حَطَّ مِنْ ثَمَنِ الْإِبْرِيقِ هَذَا الْمِقْدَارَ ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الْمَجْلِسِ شَرْطٌ ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ إذَا جَعَلْنَا بَدَل الصُّلْحِ عِوَضًا عَنْ الْجُزْءِ الْفَائِتِ ، حَتَّى لَا يَكُونَ دَيْنًا بِدَيْنٍ ، وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَإِنْ كَانَتْ
الدَّرَاهِمُ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ الْعَيْبِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ حِصَّةَ الْعَيْبِ مِنْ الذَّهَبِ وَلَا رِبًا بَيْنَ الدَّرَاهِمِ ، وَالدَّنَانِيرِ ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِهِمَا ظَاهِرٌ ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ إنَّمَا يَجْعَلُ بَدَلَ الصُّلْحِ عِوَضًا عَنْ الْجُزْءِ الْفَائِتِ لِتَصْحِيحِ الْعَقْدِ ، وَتَصْحِيحُ الْعَقْدِ هُنَا فِي أَنْ يُجْعَلَ عِوَضًا عَمَّا يَخُصُّ الْجُزْءَ الْفَائِتَ مِنْ الذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ ، وَيُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِيهِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ ، فَإِنْ افْتَرَقَا قَبْلَ الْقَبْضِ ، أَوْ عَلَى شَرْطِ أَجَلٍ ، أَوْ خِيَارٍ بَطَلَ الصُّلْحُ لِكَوْنِ الْعَقْدِ صَرْفًا بَيْنهمَا .
وَإِنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ، وَعَشَرَةَ دَنَانِيرَ فَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، أَوْ أَقَرَّ ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى خَمْسَةِ دَرَاهِمَ نَقْدًا ، أَوْ نَسِيئَةً فَهُوَ جَائِزً ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ هَذَا الْعَقْدِ بِطَرِيقِ الْإِبْرَاءِ ، وَهُوَ أَنَّهُ أَبْرَأَهُ عَنْ جَمِيعِ الدَّنَانِيرِ وَنِصْفِ الدَّرَاهِمِ ، ثُمَّ أَجَّلَهُ فِي الْبَاقِي مِنْ الدَّرَاهِمِ ، فَيَكُونُ الْإِحْسَانُ كُلُّهُ مِنْ جَانِبِهِ ، وَذَلِكَ جَائِزٌ .
قَالَ وَإِنْ اشْتَرَى قَلْبَ ذَهَبٍ فِيهِ عَشَرَةُ دَنَانِيرَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَتَقَابَضَا ، وَاسْتَهْلَكَ الْقَلْبَ ، أَوْ لَمْ يَسْتَهْلِكْهُ ، وَوَجَدَ بِهِ ، عَيْبًا ، قَدْ كَانَ دَلَّسَهُ لَهُ ، فَصَالَحَهُ عَلَى عَشَرَةِ دَنَانِيرَ نَسِيئَةً ، فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ هَذَا الصُّلْحِ بِطَرِيقِ الْحَطِّ ، أَوْ بِطَرِيقِ أَنَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ حِصَّةُ الْعَيْبِ فَيَكُونُ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى الْبَائِعِ ، وَاجِبًا بِالْقَبْضِ دُونَ عَقْدِ الصَّرْفِ ، وَالتَّأْجِيلُ صَحِيحٌ فِي مِثْلِهِ ، وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى دِينَارٍ ؛ لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يَقْبِضَهُ قَبْلَ التَّفَرُّقِ ؛ لِأَنَّ الدِّينَارَ عِوَضٌ عَنْ حِصَّةِ الْعَيْبِ ، وَذَلِكَ مِنْ الدَّرَاهِمِ ، فَيَكُونُ صَرْفًا ، فَيُشْتَرَطُ الْقَبْضُ فِيهِ قَبْلَ التَّفَرُّقَ .
وَإِنْ اشْتَرَى قَلْبَ فِضَّةٍ فِيهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ بِدِينَارٍ ، وَتَقَابَضَا ، ثُمَّ وَجَدَ فِي الْقَلْبِ هَشْمًا يُنْقِصَهُ ، فَصَالَحَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى قِيرَاطَيْ ذَهَبٍ مِنْ الدِّينَارِ ، عَلَى أَنْ زَادَهُ مُشْتَرِي الْقَلْبِ رَبْعَ حِنْطَةٍ ، وَتَقَابَضَا فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ مُشْتَرِي الْقَلْبِ ، يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ ، وَمَا زَادَ الْآخَرُ مِنْ الْقِيرَاطَيْنِ يَكُونُ حَطَّ بَعْضِ الْبَدَلِ ، وَذَلِكَ جَائِزٌ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا ، وَيَجْعَلُ بَعْضَ الْقِيرَاطَيْنِ ثَمَنَ الْحِنْطَةِ وَبَعْضَهُ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ ، وَذَلِكَ جَائِزٌ ، وَإِنْ كَانَتْ الْحِنْطَةُ بِعَيْنِهَا ، وَتَفَرَّقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ ، فَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ فِي حِصَّةِ الْحِنْطَةِ افْتَرَقَا عَنْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ ، وَفِي حِصَّةِ الْعَيْبِ وُجُوبُ الرَّدِّ بِحُكْمِ الْقَبْضِ دُونَ الْعَقْدَ ، فَلَا يَضُرُّهُمَا تَرْكُ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ ، وَإِنْ تَقَابَضَا ، ثُمَّ وَجَدَ فِي الْحِنْطَةِ عَيْبًا رَدَّهَا ، وَرَجَعَ بِثَمَنِهَا ، وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ أَنْ يُقْسَمَ الْقِيرَاطَانِ عَلَى قِيمَةِ الْحِنْطَةِ ، وَقِيمَةِ الْعَيْبِ ، فَمَا يَخُصُّ قِيمَةَ الْحِنْطَةِ فَهُوَ ثَمَنُ الْحِنْطَةِ يَرْجِعُ بِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الصَّرْفِ فِي الْمَرَضِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : مَرِيضٌ بَاعَ مِنْ أَبِيهِ دِينَارًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَتَقَابَضَا ، قَالَ : لَا يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْبَيْعِ مِنْ وَارِثِهِ ، وَصِيَّةٌ لَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا وَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ ، وَعِنْدَهُمَا مُضِيُّ الْوَصِيَّةِ فِي الْحَطِّ ، لَا فِي نَفْسِ الْبَيْعِ كَمَا فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ ، فَإِذَا كَانَ الْبَيْعُ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ ، أَوْ أَكْثَرَ فَلَا وَصِيَّةَ فِيهِ ، وَلَا تُهْمَةَ ، وَبَيَانُ هَذَا يَأْتِي فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ - تَعَالَى .
وَلَوْ اشْتَرَى مِنْ أَبِيهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ بِمِائَتَيْ دِينَارٍ ، فَإِنْ أَجَازَ ذَلِكَ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ ، فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ حَقُّ الْوَرَثَةِ ، فَإِنْ أَجَازُوا ذَلِكَ جَازَ ، وَإِنْ رَدُّوا فَهُوَ مَرْدُودٌ كُلُّهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - إنْ شَاءَ الِابْنُ أَخَذَ مِثْلَ الدَّرَاهِمِ مِنْ الدَّنَانِيرِ وَإِنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ عِنْدَهُمَا بِالْمُحَابَاةِ ، فَيَبْطُلُ ذَلِكَ بِالرَّدِّ مِنْ جِهَةِ الْوَرَثَةِ ، وَيَتَخَيَّرُ الِابْنُ ؛ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِزَوَالِ مِلْكِهِ فِي الدَّرَاهِمِ ، حَتَّى يُسَلِّمَ لَهُ الدَّنَانِيرَ كُلَّهَا ، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ عَقْدُهُ ، فَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ وَإِنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ ، وَسِوَى هَذَا رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْهُمَا أَنَّ أَصْلَ الْعَقْدِ يَبْطُلُ إذَا حَابَى الْمَرِيضُ وَارِثَهُ بِشَيْءٍ ، وَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي الشُّفْعَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
.
وَإِذَا بَاعَ الْمَرِيضُ أَلْفَ دِرْهَمٍ بِدِينَارٍ ، وَتَقَابَضَا ، ثُمَّ مَاتَ الْمَرِيضُ وَالدِّينَارُ عِنْدَهُ ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَ ذَلِكَ فَلِلْوَرَثَةِ أَنْ يَرُدُّوا مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ فِي الْمَرَضِ تَبَرُّعٌ بِمَالِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ ، فَإِنَّمَا يَجُوزُ مِنْ ثُلُثِهِ ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى الثُّلُثِ فَيَبْطُلُ ذَلِكَ إذَا لَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ ، ثُمَّ يَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ ثُلُثَ الْأَلْفِ كَامِلًا بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ ، وَمَا بَقِيَ قِيمَةُ الدِّينَارِ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ ؛ لِأَنَّ الدِّينَارَ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ مَا بَقِيَ مِنْ الْأَلْفِ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِينَارَهُ ، وَيَرُدُّ أَلْفًا ؛ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ أَنْ يَتَمَلَّكَ عَلَيْهِ دِينَارَهُ حَتَّى يُسَلِّمَ لَهُ جَمِيعِ الْأَلْفِ ، وَلَمْ يُسَلِّمْ ، وَإِذَا اخْتَارَ أَخْذَ دِينَارِهِ ، فَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ الْأَلْفِ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمُحَابَاةِ كَانَتْ فِي ضِمْنِ عَقْدِ الصَّرْفِ ، وَقَدْ بَطَلَ الْعَقْدُ فَيَبْطُلُ بِهِ مَا فِي قِيمَتِهِ أَيْضًا ، وَإِنْ كَانَ الْمَرِيضُ قَدْ اسْتَهْلَكَ الدِّينَارَ ، كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ قِيمَةَ الدِّينَارِ مِنْ الْأَلْفِ بِجِهَةِ الْمُعَاوَضَةِ ، وَثُلُثَ مَا بَقِيَ مِنْ الْأَلْفِ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ وَلَمْ يُجِزْهُ هُنَا ؛ لِأَنَّ الدِّينَارَ مُسْتَهْلَكٌ ، فَلَا فَائِدَةَ فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعُودُ إلَيْهِ مَا خَرَجَ مِنْ مِلْكِهِ بِعَيْنِهِ ، وَكَذَلِكَ لَمْ يُعْطِهِ بِالْوَصِيَّةِ ثُلُثَ الْأَلْفِ كَامِلًا ، هُنَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الدِّينَارَ مُسْتَهْلَكٌ فَلَوْ أَعْطَيْنَاهُ بِالْوَصِيَّةِ ثُلُثَ الْأَلْفِ كَامِلًا ، لَا يُسَلِّمْ لِلْوَرَثَةِ ضَعْفَ ذَلِكَ ، فَلِهَذَا قَالَ : يَأْخُذُ قِيمَةَ الدِّينَارِ مِنْ الْأَلْفِ أَوَّلًا ، ثُمَّ لَهُ بِالْوَصِيَّةِ ثُلُثُ مَا بَقِيَ وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَ الْمَرِيضُ سَيْفًا قِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ ، وَفِيهِ مِنْ الْفِضَّةِ مِائَةُ دِرْهَمٍ ، وَقِيمَةُ ذَلِكَ كُلِّهِ عِشْرُونَ دِينَارًا بِدِينَارٍ ، وَتَقَابَضَا
فَأَبَتْ الْوَرَثَةُ أَنْ يُجِيزُوا كَانَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ ، إنْ شَاءَ أَخَذَ قَدْرَ قِيمَةِ الدِّينَارِ مِنْ السَّيْفِ ، وَحِلْيَتِهِ ، وَثُلُثَ السَّيْفِ تَامًّا بَعْدَ ذَلِكَ ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ كُلَّهُ ، وَأَخَذَ دِينَارَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ حَابَاهُ بِأَكْثَرَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ ، وَهَذَا ، وَمَا سَبَقَ فِي التَّخْرِيجِ سَوَاءٌ ، وَمَا تَخْتَصُّ بِهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قِيمَةُ الدِّينَارِ لَهُ مِنْ السَّيْفِ ، وَالْحِلْيَةِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ ، لَا يَتَأَتَّى إثْبَاتُ الْمُعَاوَضَةِ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَرِيضُ قَدْ اسْتَهْلَكَ الدِّينَارَ كَانَ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ هُنَا ، إنْ شَاءَ أَخَذَ دِينَارًا مِثْلَ دِينَارِهِ وَرَدَّ الْبَيْعَ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ دَيْنًا فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ ، وَيُبَاعُ السَّيْفُ حَتَّى يَنْقُدَ الدِّينَارَ ، وَإِنْ شَاءَ كَانَ لَهُ مِنْ السَّيْفِ ، وَحِلْيَتِهِ قِيمَةُ الدِّينَارِ ، وَثُلُثُ مَا بَقِيَ ؛ لِأَنَّ السَّيْفَ مِمَّا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ ، فَيَثْبُتُ الْخِيَارُ لِمَا لَحِقَهُ مِنْ عَيْبِ التَّبْعِيضِ ، وَإِنْ كَانَ الدِّينَارُ مُسْتَهْلَكًا ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ السَّيْفُ قَائِمٌ ، يُمْكِنُ فَسْخُ الْعَقْدِ فِيهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ؛ فَالتَّبْعِيضُ فِي الْأَلْفِ الْأَوَّلِ لَيْسَ بِعَيْبٍ ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَجْعَلْ لَهُ الْخِيَارَ بَعْدَ مَا اسْتَهْلَكَ الدِّينَارَ ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَيْضًا قَدْ اسْتَهْلَكَ مَا قَبَضَهُ ، جَازَ لَهُ مِنْهُ قِيمَةُ الدِّينَارِ ، وَثُلُثُ الْبَاقِي ، وَغَرِمَ ثُلُثِي الْبَاقِي لِلْوَرَثَةِ ؛ لِأَنَّ فَسْخَ الْعَقْدِ تَعَذَّرَ بِاسْتِهْلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، فَعَلَيْهِ ضَمَانُ حِصَّةِ الْوَرَثَةِ مِنْ ذَلِكَ ، وَهُوَ قِيمَةُ ثُلُثَيْ ؛ الْبَاقِي وَغَرِمَ ثُلُثَيْ الْبَاقِي بَعْدَ قِيمَةِ الدِّينَارِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَائِمًا كَانَ لَهُمْ حَقُّ اسْتِرْدَادِ ذَلِكَ مِنْهُ ؛ فَإِذَا كَانَ مُسْتَهْلَكًا ، فَهُوَ غَارِمٌ قِيمَةَ ذَلِكَ لَهُمْ .
مَرِيضٌ لَهُ تِسْعُمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَهَا فَبَاعَهَا بِدِينَارٍ ، وَقَبَضَهُ ، وَقَبَضَ الْآخَرُ مِائَةَ دِرْهَمٍ ، وَتِسْعَمِائَةِ ، ثُمَّ افْتَرَقَا ، وَمَاتَ الْمَرِيضُ ، وَالْمَالُ قَائِمٌ ، وَالدِّينَارُ قِيمَتِهِ تِسْعَةٌ فَإِجَازَةُ الْوَرَثَةِ وَرَدُّهُمْ هُنَا سَوَاءٌ ، وَلَهُ الْمِائَةُ ، الدِّرْهَمُ بِتُسْعِ الدِّينَارِ ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ ثَمَانِيَةَ أَتْسَاعِ الدِّينَارِ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الصَّرْفِ قَدْ بَطَلَ فِي ثَمَانِيَةِ أَتْسَاعِ الدِّينَارِ بِتَرْكِ قَبْضِ مَا يُقَابِلُهُ فِي الْمَجْلِسِ ، وَإِنَّمَا بَقِيَ الْعَقْدُ فِي مِقْدَارِ الْمِائَةِ ، وَالْوَصِيَّةُ بِالْمُحَابَاةِ كَانَتْ فِي ضِمْنِ الْعَقْدِ ، فَإِنَّمَا يَبْقَى فِيمَا بَقِيَ فِيهِ الْعَقْدُ ، وَهُوَ الْمِائَةُ ، وَذَلِكَ دُونَ ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ ، فَلَا حَاجَةَ فِيهِ إلَى إجَازَةَ الْوَرَثَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَ شَيْئًا ؛ رَدَّ عَلَيْهِ دِينَارَهُ بِعَيْنِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ بَطَلَ بِالِافْتِرَاقِ قَبْلَ التَّقَابُضِ ، فَيَرُدُّ عَلَيْهِ دِينَارَهُ ، وَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ الْوَصِيَّةِ ؛ لِأَنَّهَا بَطَلَتْ بِبُطْلَانِ الْعَقْدِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا حَتَّى زَادَ الْمُشْتَرِي تِسْعَةَ وَخَمْسِينَ دِينَارًا ، وَتَقَابَضَا فَهُوَ جَائِزٌ كُلُّهُ ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ فِي الِابْتِدَاءِ إنَّمَا بَاعَهُ بِسِتِّينَ دِينَارًا فَتَكُونُ الْمُحَابَاةُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ مِنْ مَالِهِ ، وَذَلِكَ جَائِزٌ .
قَالَ الْحَاكِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَإِنَّمَا صَحَّ جَوَابُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، إذَا زِيدَ فِي سُؤَالِهَا ، أَنَّ قِيمَةَ الدِّينَارِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ، وَهُوَ كَمَا قَالَ ، فَإِنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ فِي سِتّمِائَةِ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّ جُمْلَةَ مَالِ الْمَرِيضِ تِسْعُمِائَةٍ ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْمُحَابَاةُ بِقَدْرِ الثُّلُثِ ؛ إذَا كَانَتْ قِيمَةُ كُلِّ دِينَارٍ عَشَرَةً .
وَإِنْ كَانَ الْمَرِيضُ وَكَّلَ وَكِيلًا فَبَاعَهَا مِنْ هَذَا الرَّجُلِ بِدِينَارٍ ، ثُمَّ مَاتَ الْمَرِيضُ قَبِلَ أَنْ يَتَقَابَضَا ، فَقَالَ الْمُشْتَرِي : أَنَا آخُذُ تِسْعَمِائَةٍ بِتِسْعِينَ دِينَارًا ، قَبْلَ
أَنْ يَتَفَرَّقَا فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ قَدْ وَجَبَ لَهُ قَبْلَ مَوْتِ الْمَيِّتِ ، وَلَمْ يَتَفَرَّقَا ، فَلَمْ يَبْطُلْ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَالْمُعْتَبَرُ بَقَاءُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي الْمَجْلِسِ ، فَإِذَا أَرَادَ الْمُشْتَرِي إلَى تَمَامِ تِسْعِينَ دِينَارًا لَلَحِقَ ذَلِكَ بِأَصْلِ الْعَقْدَ ، وَانْعَدَمَتْ الْمُحَابَاةُ ، وَكَانَ ذَلِكَ سَالِمًا لَهُ .
وَإِذَا اشْتَرَى مِنْ الْمَرِيضِ أَلْفَ دِرْهَمٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَتَقَابَضَا ، ثُمَّ مَاتَ الْمَرِيضُ مِنْ مَرَضِهِ ، فَهَذَا رِبًا ، وَهُوَ بَاطِلٌ مِنْ الصَّحِيحِ وَالْمَرِيضِ جَمِيعًا ، وَلِلَّذِي أَعْطَى الْمِائَةَ أَنْ يُمْسِكَ الْمِائَةَ مِنْ الْأَلْفِ بِمِائَةٍ ، وَيَرُدَّ الْفَضْلَ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْمِائَةِ الَّتِي أَعْطَى ، وَقَدْ صَارَ دَيْنًا ، وَاَلَّذِي فِي يَدِهِ مَالُ الْمَيِّتِ ، فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يُمْسِكَ مِنْ ذَلِكَ مِقْدَارَ حَقِّهِ ، وَيَرُدَّ الْفَضْلَ ، وَلَا وَصِيَّةَ لَهُ هُنَا ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِي ضِمْنِ الْعَقْدِ ، وَالْعَقْدُ بَاطِلٌ .
وَإِنْ كَانَ أَعْطَى مِنْ الْمِائَةِ ثَوْبًا ، أَوْ دِينَارًا كَانَ ذَلِكَ بَيْعًا صَحِيحًا ، عَلَى أَنْ تَكُونَ الْمِائَةُ بِمِائَةٍ ، وَالْبَاقِي بِإِزَاءِ الثَّوْبِ ، وَالدِّينَارِ ، وَإِنْ مَاتَ الْمَرِيضُ ، وَأَبَتْ الْوَرَثَةُ أَنْ يُجِيزُوا ، يُخَيَّرُ صَاحِبُ الدِّينَارِ ، وَالثَّوْبِ ، فَإِنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ لِتَغْيِيرِ شَرْطٍ عَلَيْهِ ، وَإِنْ شَاءَ كَانَ لَهُ مِنْ الْأَلْفِ مِائَةٌ مَكَانَ مِائَةٍ ، وَقِيمَةُ الدِّينَارِ ، أَوْ الْعَرَضِ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ ، وَثُلُثُ الْأَلْفِ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ ؛ إذَا كَانَ الدِّينَارُ ، وَالْأَلْفُ قَائِمَةً فِي يَدِ الْوَرَثَةِ كَمَا بَيَّنَّا .
وَإِذَا كَانَ لِلْمَرِيضِ إبْرِيقُ فِضَّةٍ فِيهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَقِيمَتُهُ عِشْرُونَ دِينَارًا ، فَبَاعَهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَقِيمَتُهَا عَشَرَةُ دَنَانِيرَ ، ثُمَّ مَاتَ ، وَأَبَتْ الْوَرَثَةُ أَنْ يُجِيزُوا ، فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَدَّهُ لِتَغَيُّرِ شَرْطِ عَقْدِهِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ ثُلُثَيْ الْإِبْرِيقِ بِثُلُثَيْ الْمِائَةِ ، وَثُلُثُهُ لِلْوَرَثَةِ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْمُحَابَاةِ إنَّمَا تَنْفُذُ فِي مِقْدَارِ الثُّلُثِ ، وَيَتَعَذَّرُ هُنَا جَعْلُ شَيْءٍ مِنْ الْإِبْرِيقِ لَهُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ ، وَاعْتِبَارِ الْمُفَاوَضَةِ فِيمَا بَقِيَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا ؛ لِأَنَّ مُبَادَلَةَ الدَّرَاهِمِ بِجِنْسِهَا لَا يَجُوزُ إلَّا وَزْنًا بِوَزْنٍ ، وَلَا قِيمَةَ لِلصَّنْعَةِ ، وَالْجَوْدَةِ فِي هَذِهِ الْمُبَادَلَةِ ، إلَّا أَنَّهَا مُتَقَوِّمَةٌ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ ؛ لِأَنَّ لَهَا قِيمَةٌ تَبَعًا لِلْأَصْلِ ، وَلَا يَمْلِكُ الْمَرِيضُ إسْقَاطَ حَقِّ الْوَرَثَةِ عَنْهَا مَجَّانًا فَإِذَا تَعَذَّرَ الْوَجْهَانِ كَانَ الطَّرِيقُ مَا قَالَ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ فِي ثُلُثَيْ مَالِ الْمَرِيضِ ، وَمَالُهُ عِشْرُونَ دِينَارًا ، وَثُلُثَاهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ وَثُلُثٌ ، فَإِذَا أَخَذَ الْوَرَثَةُ ثُلُثَ الْإِبْرِيقِ ، وَقِيمَةُ ذَلِكَ سِتَّةُ دَنَانِيرَ ، وَثُلُثَا دِينَارٍ ، وَأَخَذُوا ثُلُثَيْ الْمِائَةِ ، وَقِيمَةُ ذَلِكَ سِتَّةُ دَنَانِيرَ ، وَثُلُثَا دِينَارٍ ؛ حَصَلَ لَهُمْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ دِينَارًا ، وَثُلُثٌ كَمَالُ حَقِّهِمْ ، وَسُلِّمَ لِلْمُشْتَرِي ثُلُثَا الْإِبْرِيقِ ، وَقِيمَتَهُ ثَلَاثَةَ عَشَرَ دِينَارًا ، وَثُلُثٌ بِثُلُثَيْ الْمِائَةِ ، وَقِيمَتُهُ سِتَّةٌ وَثُلُثَانِ ، فَيُسَلَّمُ لَهُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ ثُلُثُ مَالِ الْمَرِيضِ ، سِتَّةُ دَنَانِيرَ وَثُلُثَا دِينَارٍ ، وَقَدْ سُلِّمَ لِلْوَرَثَةِ ضِعْفُ ذَلِكَ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ ، وَالثُّلُثَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الْإِجَارَةِ فِي عَمَلِ التَّمْوِيهِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَإِذَا دَفَعَ لِجَامًا ، أَوْ حِرْزًا إلَى رَجُلٍ لِيُمَوِّهَهُ لَهُ بِفِضَّةٍ وَزْنًا ، مَعْلُومًا ، يَكُونُ قَرْضًا عَلَى الدَّافِعِ ، وَيُعْطِيَهُ أَجْرًا مَعْلُومًا فَهُوَ جَائِزٌ ، وَيَلْزَمُهُ الْأَجْرُ ، وَالْقَرْضُ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَقْرَضَ مِنْهُ الْفِضَّةَ ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَصْرِفَهَا إلَى مِلْكِهِ ، فَيَصِيرُ قَابِضًا لَهَا بِإِبْطَالِهِ تَمَلُّكَهُ ، وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا ، ثُمَّ اسْتَأْجَرَهُ لِعَمَلٍ مَعْلُومٍ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ ، وَقَدْ أَوْفَى الْعَمَلَ فَلَهُ الْأَجْرُ ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ مَا صَنَعَ مِنْ الْفِضَّةِ ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ اللِّجَامِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الصَّانِعَ يَدَّعِي زِيَادَةً فِيمَا أَقْرَضَهُ ، وَهُوَ يُنْكِرُ ذَلِكَ ، وَيَحْلِفُ عَلَى عَمَلِهِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِحْلَافٌ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ .
فَإِنْ قَالَ مَوِّهْهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فِضَّةٍ عَلَى أَنْ أُعْطِيك مِنْهَا أَجْرَ عَمَلِكَ ذَهَبًا ، عَشَرَةَ دَنَانِيرَ بِذَلِكَ كُلِّهِ وَتَفَرَّقَا ، عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فَهُوَ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي حِصَّةِ الْفِضَّةِ صَرْفٌ ، وَلَمْ يُوجَدْ الْقَبْضُ فِي الْمَجْلِسِ ؛ فَكَانَ فَاسِدًا ، فَإِنْ عَمِلَهُ كَانَ لَهُ فِضَّةٌ مِثْلُ وَزْنِهَا ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا الْفِضَّةَ ، حِينَ اتَّصَلَتْ بِمِلْكِهِ بِإِذْنِهِ ؛ بِسَبَبِ عَقْدٍ فَاسِدٍ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّ عَيْنِهَا فَعَلَيْهِ رَدُّ مِثْلِهَا ، وَكَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ مِنْ الدَّنَانِيرِ ، لَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سُمِّيَ ، أَيْ تُقْسَمُ الدَّنَانِيرُ عَلَى أَجْرِ مِثْلِهِ ، وَعَلَى الْمِائَةِ الدِّرْهَمِ ، فَتُعْتَبَرُ حِصَّةُ أَجْرِ مِثْلِهِ مِنْ الدَّنَانِيرُ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَاحِدٌ ، وَلَمَّا فَسَدَ فِي حِصَّةِ الصَّرْفِ فَسَدَ فِي الْإِجَارَةِ أَيْضًا ، وَيَلْزَمُهُ أَجْرُ مِثْلِهِ ، وَعَلَى الْمِائَةِ الدِّرْهَمِ فَيُعْتَبَرُ حِصَّةُ أَجْرِ مِثْلِهِ ، هَكَذَا ذَكَرَ الْحَاكِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - .
وَهُوَ مُشْكِلٌ ؛ لِأَنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ فِي حِصَّةِ الصَّرْفِ طَارِئٌ بِالِافْتِرَاقِ قَبِلَ الْقَبْضِ ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ فَسَادَ الْإِجَارَةِ ، قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَقَدْ تَأَمَّلْتُ فِي الْأَصْلِ فَوَجَدْتُهُ يَعْتَبِرُ أَجْرَ الْمِثْلِ ؛ لِبَيَانِ الْحِصَّةِ فَإِنَّهُ يَقُولُ : وَكَانَ لَهُ مِقْدَارُ أَجْرِهِ مِنْ الدَّنَانِيرِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا قُسِمَتْ الدَّنَانِيرُ عَلَى أَجْرِ مِثْلِهِ ، وَعَلَى الْمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَعَلِمْتُ أَنَّهُ حُكْمٌ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ فِي حِصَّةِ الْإِجَارَةِ ، وَاعْتُبِرَ أَجْرُ الْمِثْلِ لِلِانْقِسَامِ ، ثُمَّ جُعِلَ لَهُ بِمُقَابَلَةِ الْعَمَلِ الْمُسَمَّى لِصِحَّةِ الْعَقْدِ .
وَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِ ثَوْبًا يَكْتُبُ عَلَيْهِ كِتَابًا بِذَهَبٍ مَعْلُومٍ ، بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ مِنْ الْفِضَّةِ فِي ذَلِكَ فَهُوَ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي حِصَّةِ الذَّهَبِ صَرْفٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ أُجْرَةً ، وَثَمَّنَهُ ذَهَبًا فَإِنَّ ذَهَبَ الْكِتَابَةِ يَكُونُ مَبِيعًا لَا مُسْتَقْرَضًا ؛ لِأَنَّهُ سَمَّى مَا يُقَابِلُهُ ثَمَنًا ، فَيَكُونُ الْعَقْدُ فِيهِ صَرْفًا أَيْضًا ، فَإِنْ قَالَ أَقْرِضْنِي مِثْقَالَ ذَهَبٍ ، وَاكْتُبْ بِهِ عَلَى هَذَا الثَّوْبِ كَذَا ، وَكَذَا عَلَى أَنْ أُعْطِيَكَ أَجْرَكَ نِصْفَ دِرْهَمٍ ، أَوْ قِيرَاطَ ذَهَبٍ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَقْرِضٌ لِلدِّينَارِ ، وَهُوَ قَابِضٌ لَهُ ؛ لِاتِّصَالِهِ بِمِلْكِهِ فَكَأَنَّهُ قَبَضَهُ بِيَدِهِ ، ثُمَّ اسْتَأْجَرَهُ لِعَمَلٍ مَعْلُومٍ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ .
.
وَإِذَا دَفَعَ إلَيْهِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِضَّةٍ ، وَقَالَ اخْلِطْ فِيهَا خَمْسَةَ دَرَاهِمَ فِضَّةٍ ثُمَّ صُغْهَا قَلْبًا ، وَلَك كَذَا فَفَعَلَ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَقْرَضَ مِنْهُ قَدْرَ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ فِضَّةٍ ، وَقَدْ صَارَ قَابِضًا لَهَا بِالِاخْتِلَاطِ بِمِلْكِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ هَلَكَتْ بَعْدَ الْخَلْطِ هَلَكَتْ مِنْ مَالِ الْآمِرِ ، ثُمَّ اسْتَأْجَرَهُ لِلْعَمَلِ فِي مِلْكِهِ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ فِضَّةً ، وَقَالَ : صُغْ لِي مِنْ عِنْدِكَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِضَّةٍ قَلْبًا ، عَلَى أَنْ أُعْطِيَكَ أَجْرَ كَذَا فَهُوَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ فِضَّةَ الْعَامِلِ فِي يَدِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ هَلَكَتْ تَكُونُ مِنْ مَالِهِ ، فَيَكُونُ فِيهِ عَامِلًا لِنَفْسِهِ ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فَقَالَ الدَّافِعُ : كَانَتْ فِضَّتِي اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا ، وَأَمَرْتُكَ أَنْ تَزِيدَ فِيهَا ثَلَاثَةً ، فَقَالَ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ : بَلْ كَانَتْ عَشَرَةً ، وَأَمَرَتْنِي فَزِدْت خَمْسَةً ، وَفِي الْقَلْبِ خَمْسَةَ عَشَرَ ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ ، أَنَّهُ زَادَ خَمْسَةً ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي مِقْدَارِ مَا دُفِعَ إلَيْهِ مِنْ الْفِضَّةِ ، فَالدَّافِعُ يَدَّعِي عَلَيْهِ الزِّيَادَةَ وَالْمَدْفُوعُ إلَيْهِ يُنْكِرُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ، ثُمَّ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ يَدَّعِي أَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَزِيدَ فِيهَا خَمْسَةً ، وَالدَّافِعُ يُنْكِرُ الْأَمْرَ فِيمَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثَةِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ زَادَ دِرْهَمَيْنِ فَوْقَ مَا أَمَرَهُ بِهِ ، فَكَانَ مُخَالِفًا لِأَمْرِهِ ، ضَامِنًا لِلدَّافِعِ مِثْلَ فِضَّتِهِ ، فَيَكُونُ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَ الْعَمَلَ الْمَشْرُوطَ عَلَيْهِ وَزَادَ ؛ فَإِذَا رَضِيَ بِالزِّيَادَةِ اسْتَوْجَبَ الْعَامِلُ كَمَالَ أَجْرِهِ ، وَلَوْ كَانَ الْقَلْبُ مَحْشُوًّا لَا يُعْلَمُ ، وَزْنَهُ ، وَلَا يُعْرَفُ ، وَاتَّفَقَا أَنَّهُ أَعْطَاهُ عَشَرَةً ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَزِيدَ فِيهِ خَمْسَةً ، فَقَالَ الدَّافِعُ : لَمْ تَزِدْ فِيهِ شَيْئًا ، وَقَالَ الْعَامِلُ : قَدْ زِدْتُ فِيهِ خَمْسَةً ؛
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الدَّافِعِ ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ الْقَبْضَ بِحُكْمِ الْقَرْضَ ، فَإِنْ شَاءَ الْعَامِلُ سَلَّمَ الْقَلْبَ لَهُ ، وَأَعْطَاهُ الْآمِرُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ ذَلِكَ ، وَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ فِضَّةً مِثْلَ فِضَّتِهِ ؛ لِأَنَّ الْيَدَ لَهُ فِيهِ فَلَهُ أَنْ لَا يُخْرِجَ الْقَلْبَ مِنْ يَدِهِ ؛ إذَا كَانَ مَا زَادَ فِيهِ ، وَهُوَ الْخَمْسَةُ بِزَعْمِهِ لَا تَصِلُ إلَيْهِ ؛ فَإِذَا احْتَبَسَ عِنْدَهُ ضَمِنَ لِلدَّافِعِ فِضَّةً مِثْلَ فِضَّتهِ ، بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ الْآخَرُ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ زَادَ فِيهِ خَمْسَةً ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ لَزِمَهُ ؛ فَإِذَا أَنْكَرَ فَيَسْتَحْلِفُ عَلَيْهِ وَلَوْ اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ زَادَ فِيهِ خَمْسَةً ، فَقَالَ الْآمِرُ : كَانَتْ فِضَّتِي بَيْضَاءَ ، وَأَمَرْتُكَ أَنْ تَزِيدَ فِيهَا فِضَّةً بَيْضَاءَ ، وَقَالَ الْعَامِلُ : كَانَتْ سَوْدَاءَ ، وَأَمَرْتنِي أَنْ أَزِيدَ فِيهَا فِضَّةً سَوْدَاءَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَامِلِ ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي صِفَةِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِهِ ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ، فَكَذَلِكَ فِي صِفَتِهِ ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْأَجْرِ : فِي الْمِقْدَارِ ، بِأَنْ قَالَ الدَّافِعُ : عَمِلْتَهُ بِغَيْرِ أَجْرٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الدَّافِعِ ؛ لِإِنْكَارِهِ وُجُوبَ الْأَجْرِ فِي ذِمَّتِهِ ، أَوْ الزِّيَادَةَ عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ .
رَجُلٌ اشْتَرَى مِنْ رَجُلٍ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِدِينَارٍ ، وَتَقَابَضَا ، ثُمَّ وَجَدَهَا زُيُوفًا بَعْدَ مَا تَفَرَّقَا ، فَاسْتَبْدَلَهَا مِنْهُ ، ثُمَّ اسْتَحَقَّ تِلْكَ الدَّرَاهِمَ الزُّيُوفَ ، لَمْ يَبْطُلْ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ اسْتَبْدَلَهَا بِالْجِيَادِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَحِقَّ ، فَإِنَّمَا اسْتَقَرَّ حُكْمُ الْعَقْدِ عَلَى الْجِيَادِ دُونَ الزُّيُوفِ الْمَرْدُودَةِ ، وَاسْتِحْقَاقُ مَا لَيْسَ فِيهِ حُكْمُ الْعَقْدِ ، لَا يُؤْثِرُ فِي الْعَقْدِ ، وَهَذَا إنَّمَا يَتَأَتَّى عَلَى قَوْلِهِمَا ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ كَانَ الرَّدُّ بِعَيْبِ الزِّيَافَةِ ، وَالِاسْتِبْدَالُ بِهِ قَبْلَ افْتِرَاقِهِمَا عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ ، وَالْمَرْدُودِ قَلِيلٌ .
رَجُلٌ اسْتَقْرَضَ مِنْ رَجُلٍ كُرَّ حِنْطَةٍ ، وَقَالَ : اطْحَنْهَا لِي بِدِرْهَمٍ ، فَطَحَنَهَا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا ؛ كَانَ هَذَا بَاطِلًا ، وَلَا أَجْرَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَقْرِضَ لَمْ يَصِرْ قَابِضًا ، وَإِنَّمَا طَحَنَ صَاحِبُ الْحِنْطَةِ حِنْطَةَ نَفْسِهِ ، فَلَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ عَلَى غَيْرِهِ ، وَلَكِنْ إنْ أَعْطَاهُ الدَّقِيقَ فَعَلَيْهِ دَقِيقٌ مِثْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَقْرَضَهُ الدَّقِيقَ ، وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ كُرَّ حِنْطَةٍ ، وَقَالَ : أَقْرِضْنِي نِصْفَ كُرٍّ ، وَاخْلِطْهُ بِهِ ثُمَّ اطْحَنْهَا لِي بِنِصْفِ دِرْهَمٍ ، كَانَ هَذَا جَائِزًا ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا لِمَا اسْتَقْرَضَهُ بِالِاخْتِلَاطِ يَمْلِكُهُ بِأَمْرِهِ ، فَيَكُونُ الطَّحَّانُ عَامِلًا فِي حِنْطَتِهِ ، فَيَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ .
وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ لِجَامًا ، وَذَهَبَا فَقَالَ : مَوِّهْهُ بِهِ ، وَمَا فَضَلَ فَهُوَ لَك أَجْرٌ ، لَمْ يَجُزْ ؛ لِجَهَالَةِ مِقْدَارِ الْأَجْرِ ، فَإِنْ عَمِلَهُ كَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ ، وَمَا بَقِيَ مِنْ الذَّهَبِ فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى صَاحِبِهِ .
.
وَلَوْ اشْتَرَى قَلْبَ فِضَّةٍ بِدِينَارٍ ، وَدَفَعَ الدِّينَارَ ، ثُمَّ إنَّ رَجُلًا أَحْرَقَ الْقَلْبَ فِي الْمَجْلِسِ ؛ فَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ لِتَغَيُّرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ اخْتَارَ إمْضَاءَ الْعَقْدِ ، وَاتِّبَاعَ الْمُحْرِقِ بِقِيمَةِ الْقَلْبِ مِنْ الذَّهَبِ ، فَإِنْ قَبَضَهُ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يُفَارِقَ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ قَبْضَ بَدَلِ الْقَلْبِ فِي الْمَجْلِسِ كَقَبْضِ عَيْنِهِ ، وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ عَلَى الدِّينَارِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ رِبْحٌ حَصَلَ لَا عَلَى ضَمَانِهِ ، وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الْقِيمَةَ بَطَلَ الصَّرْفُ ، وَعَلَى الْبَائِعِ رَدُّ الدِّينَارِ ، وَاتِّبَاعُ الْمُحْرِقِ بِقِيمَةِ الْقَلْبِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ : لَا يَبْطُلُ الصَّرْفُ بِافْتِرَاقِهِمَا ، بَعْدَ اخْتِيَارِ الْمُشْتَرِي تَضْمِينَ الْمُحْرِقِ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنْهُ ، وَهُوَ ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ هُنَا ، فَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي نَظِيرِهِ فِي الْجَامِعِ إذَا قُتِلَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ ، فَإِنْ اخْتَارَ الْمُشْتَرِي تَضْمِينَ الْقَاتِلِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - يَصِيرُ قَابِضًا بِنَفْسِ الِاخْتِيَارِ ، حَتَّى لَوْ نَوَى ذَلِكَ عَلَى الْقَاتِلِ ، يَكُونُ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - لَا يَصِيرُ قَابِضًا بِنَفْسِ الِاخْتِيَارِ وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ قَبْضَ بَدَلِ الصَّرْفِ لَا يَكُونُ إلَّا بِعَيْنٍ تَصِلُ إلَى يَدِهِ ، وَكَذَلِكَ قَبْضُ الْمَبِيعِ إذَا كَانَ عَيْنًا وَبِاخْتِيَارِهِ تَضْمِينَ الْمُحْرِقِ ، وَالْقَاتِلُ لَا تَصِلُ يَدُهُ إلَى شَيْءٍ ، فَلَا يَصِيرُ قَابِضًا ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الْقَلْبِ لَمْ تُقْبَضْ ، وَقِيمَتُهُ دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ الْمُحْرِقِ ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ قَابِضًا لِمَا فِي ذِمَّةِ غَيْرِهِ ، وَلَيْسَ فِي اخْتِيَارِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تَتَوَجَّهَ لَهُ الْمُطَالَبَةُ
عَلَى الْمُحْرِقِ بِبَدَلِ الصَّرْفِ ، وَهَذِهِ الْمُطَالَبَةُ نَظِيرَ الْمُطَالَبَةِ الَّتِي تَتَوَجَّهُ بِالْعَقْدِ عَلَى مَنْ عَامَلَهُ فَكَمَا لَا يَصِيرُ قَابِضًا هُنَاكَ بِتَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ لَهُ ، فَكَذَلِكَ هُنَا ، وَصَارَ هَذَا كَمَا لَوْ أَحَالَهُ بِبَدَلِ الصَّرْفِ ، عَلَى إنْسَانٍ فِي الْمَجْلِسِ فَقَبْلَ الْحَوَالَةِ لَا يَصِيرُ قَابِضًا ، وَإِنْ تَوَجَّهَتْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ ، وَتَحَوَّلَ بَدَلُ الصَّرْفِ إلَى ذِمَّتِهِ وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ : إنَّ الْمُحْرِقَ قَابِضٌ مُتْلِفٌ ، وَالْمُشْتَرِي حِين اخْتَارَ تَضْمِينَهُ قَدْ صَارَ رَاضِيًا بِقَبْضِهِ ، مُلْزِمًا إيَّاهُ الضَّمَانَ بِإِتْلَافِهِ ، وَلَوْ كَانَ أَمَرَهُ بِالْقَبْضِ فِي الِابْتِدَاءِ ، كَانَ يَتِمُّ عَقْدُ الصَّرْفِ بِقَبْضِهِ ، فَكَذَلِكَ إذَا رَضِيَ بِقَبْضِهِ فِي الِانْتِهَاءِ ، بِخِلَافِ الْحَوَّالَةِ ، فَالْمُحْتَالُ عَلَيْهِ هُنَاكَ لَمْ يَقْبِضْ شَيْئًا ، حَتَّى يُجْعَلَ قَبْضُهُ كَقَبْضِ الطَّالِبِ ، وَالْإِشْكَالُ عَلَى هَذَا الْحَرْفِ أَنَّ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ ، وَلَوْ كَانَتْ طَرِيقُ هَذَا ، لَمْ يَلْزَمْهُ التَّصَدُّقُ بِالْفَضْلِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ بِالْإِتْلَافِ بَعْدَ الْقَبْضِ ، فَيَكُونُ رِبْحًا عَلَى ضَمَانِهِ وَلَكِنْ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ : إنَّمَا يَصِيرُ قَبْضُهُ لَهُ بِاخْتِيَارِهِ تَضْمِينَهُ ، وَذَلِكَ بَعْدَ الْإِتْلَافِ ، وَبَعْدَ مَا وَجَبَ التَّصَدُّقُ بِالْفَضْلِ ، فَلَا يَظْهَرُ فِي إبْطَالِ حَقِّ الْفُقَرَاءِ مَعَ أَنَّ بَابَ التَّصَدُّقِ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ ، وَهَذَا شَيْءٌ يُقَدَّرُ اعْتِبَارًا لِإِتْمَامِ قَبْضِهِ ، فَيَظْهَرُ فِي حَقِّهِ لَا فِي حَقِّ الْفُقَرَاءِ ؛ وَلِأَنَّ قِيمَةَ الْمَبِيعِ صَارَتْ دَيْنًا عَلَى الْمُتْلِفِ ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ الْمَبِيعِ دَيْنًا لِلْمُشْتَرِي عَلَى الْأَجْنَبِيِّ إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ إدْرَاجِ الْقَبْضِ فِي هَذَا الِاخْتِيَارِ ، يُقَرِّرُهُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ ذِمَّةَ الْمُتْلِفِ قَائِمَةً مَقَامَ ذِمَّةِ الْبَائِعِ فِي إيجَابِ ضَمَانِ الْمَبِيعِ فِيهَا ، فَإِنَّ قِيمَةَ
الْمَبِيعِ لَا تَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِحَالٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَتْلَفَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ وَاجِبٌ لِلْمُشْتَرِي ابْتِدَاءً فِي ذِمَّةِ الْمُتْلِفِ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ بِخِلَافِ الْحَوَالَةِ ، فَذِمَّةُ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ هُنَاكَ تَقُومُ مَقَامَ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ فِيمَا كَانَ ثَابِتًا فِيهِ مِنْ بَدَلِ الصَّرْفِ .
وَإِنْ اشْتَرَى سَيْفًا مُحَلَّى فِيهِ خَمْسُونَ دِينَارًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، أَوْ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ فَنَقَدَ الثَّمَنَ ، وَلَمْ يَقْبِضْ السَّيْفَ حَتَّى أَفْسَدَ رَجُلٌ شَيْئًا مِنْ حَمَائِلِهِ ، أَوْ جَفْنِهِ ، فَاخْتَارَ الْمُشْتَرِي أَخْذَ السَّيْفِ ، وَتَضْمِينَ الْمُفْسِدِ قِيمَةَ مَا أَفْسَدَهُ فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ جُنِيَ عَلَى مِلْكِهِ ، فَإِنْ قَبَضَ السَّيْفَ ثُمَّ فَارَقَ الْبَائِعَ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ مِنْ الْمُفْسِدِ ضَمَانَ مَا أَفْسَدَهُ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُفْسِدِ بَدَلُ الْمَبِيعِ ، وَالْقَبْضُ فِيهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الْمَجْلِسِ ، إنَّمَا ذَلِكَ فِي الصَّرْفِ خَاصَّةً ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ ثَوْبٍ اشْتَرَاهُ فَأَحْرَقَهُ إنْسَانٌ قَبْلَ الْقَبْضِ ، فَاخْتَارَ الْمُشْتَرِي إمْضَاءَ الْعَقْدِ ، وَاتِّبَاعَ الْمُحْرِقِ ، لَا يُشْتَرَطُ قَبْضُ ذَلِكَ فِي الْمَجْلِسِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُفْسِدُ أَفْسَدَ السَّيْفَ كُلَّهُ ، وَاخْتَارَ الْمُشْتَرِي إمْضَاءَ الْعَقْدِ ، وَتَضْمِينَ الْمُفْسِدِ ، وَنَقَدَ الْبَائِعَ الثَّمَنَ ، ثُمَّ فَارَقَهُمْ الْمُفْسِدُ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّي الْقِيمَةَ لَمْ يَفْسُدْ الْبَيْعَ ؛ لِأَنَّ الْمُفْسِدَ لَيْسَ مِنْ الْعَقْدِ فِي شَيْءٍ لَا يَضُرُّهُمَا ذَهَابُهُ كَالْمُحْتَالِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ فَارَقَ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقِيمَةِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ آخِرًا لَا يَبْطُلُ الصَّرْفُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يُنْتَقَضُ الْبَيْعُ كُلُّهُ فِي حِصَّةِ الْحِلْيَةِ لِلِافْتِرَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَفِي حِصَّةِ السَّيْفِ ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ شَيْءٌ وَاحِدٌ .
وَلَوْ أَسْلَمَ ثَوْبًا فِي كُرِّ حِنْطَةٍ ، أَوْ بَاعَ قَلْبًا بِدِينَارٍ فَهَشَّمَ رَجُلٌ الْقَلْبَ ، وَشَقَّ الثَّوْبَ بِاثْنَيْنِ ، فَاخْتَارَ مُشْتَرِي الْقَلْبَ وَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ أَخَذَ الثَّوْبَ ، وَالْقَلْبِ ، وَقَالَ : يُتْبَعُ الْمُفْسِدُ بِضَمَانِ ذَلِكَ ، وَتَقَابَضَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا فَذَلِكَ جَائِزٌ ، وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ الْقِيمَةَ حَتَّى تَفَرَّقَا ، فَإِنَّهُ قَبَضَ الْقَلْبَ بِعَيْنِهِ ، وَقَبَضَ رَأْسَ الْمَالِ بِعَيْنِهِ ، فَلَا يَضُرُّهُمَا عَدَمُ قَبْضِ النُّقْصَانِ مِنْ الْهَاشِمِ فِي الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُقَابَلَةُ الْوَصْفِ ، وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْعَيْنُ ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ قَبْضُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي الْمَجْلِسِ .
رَجُل اشْتَرَى سَيْفًا مُحَلَّى فِيهِ خَمْسُونَ دِرْهَمًا فِضَّةً بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَأَحْرَقَ رَجُلٌ بَكَرَةً مِنْ حِلْيَتِهِ فَاخْتَارَ الْمُشْتَرِي إمْضَاءَ الْبَيْعِ ، وَتَضْمِينَ الْمُحْرِقِ فَنَقَدَ ، وَقَبَضَ السَّيْفَ ، ثُمَّ فَارَقَ الْبَائِعَ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ قِيمَةَ الْبَكَرَةِ ؛ فَالْبَيْعُ يُنْتَقَضُ فِي الْبَكَرَةِ خَاصَّةً دُونَ السَّيْفِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّهُ بِاخْتِيَارِ تَضْمِينِ الْمُحْرِقِ لَا يَصِيرُ قَابِضًا فَالْبَكَرَةُ قَدْ زَايَلَتْ السَّيْفَ ، فَانْتِقَاضُ الْعَقْدِ فِيهَا بِالِافْتِرَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، لَا يُوجِبُ الِانْتِقَاضَ فِيمَا بَقِيَ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ لَا يَنْتَقِضُ الْبَيْعُ فِي الْبَكَرَةِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا بِاخْتِيَارِهِ تَضْمِينَ الْمُحْرِقِ ، وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي السَّلَمِ إذَا اسْتَهْلَكَ الرَّجُلُ رَأْسَ الْمَالِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَاخْتَارَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ تَضْمِينَ الْمُسْتَهْلِكِ ، ثُمَّ فَارَقَ رَبَّ السَّلَمِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، بَطَلَ الْبَيْعُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٌ ، وَلَمْ يَبْطُلْ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا .
وَإِنْ اشْتَرَى سَيْفًا مُحَلَّى بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَحِلْيَتُهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا ، وَتَقَابَضَا ، ثُمَّ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي مُرَابَحَةً بِرِبْحِ عِشْرِينَ دِرْهَمًا ، أَوْ بِرِبْحِ ده يازده ، أَوْ بِرِبْحِ ثَوْبٍ بِعَيْنِهِ ، أَوْ بِوَصْفِهِ نَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ لِلْحِلْيَةِ فِي السَّيْفِ حِصَّةً مِنْ الرِّبْحِ ، وَالْخُسْرَانِ ، فَيَكُونُ بِمُقَابَلَتِهَا أَكْثَرَ مِنْ وَزْنِهَا مِنْ الْفِضَّةِ ، أَوْ أَقَلَّ ، وَذَلِكَ رِبًا ، وَبِفَسَادِ الْعَقْدِ فِي الْحِلْيَةِ يَفْسُدُ فِي جَمِيعِ السَّيْفِ ، فَإِنْ قِيلَ : كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ مِثْلَ وَزْنِ الْحِلْيَةِ مِنْ الثَّمَنِ بِمُقَابَلَتِهَا ، وَالْبَاقِي كُلُّهُ بِمُقَابَلَةِ السَّيْفِ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَذْكُرْ الْمُرَابَحَةَ ، قُلْنَا : لَا يَجُوزُ أَنْ يَصِحَّ الْعَقْدُ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْمُتَعَاقِدَانِ ، وَقَدْ صَرَّحَا بِأَنَّ الْعَقْدَ فِي حِصَّةِ الْحِلْيَةِ مُرَابَحَةٌ ، أَوْ وَضِيعَةٌ ، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ إذَا جَعَلَ بِمُقَابَلَتِهَا مِثْلَ وَزْنِهَا ؛ وَلِأَنَّهُمَا جَعَلَا الرِّبْحَ فِي ثَمَنِ السَّيْفِ ده دوازده ؛ فَإِذَا جَعَلْنَا جَمِيعَ الرِّبْحِ بِإِزَاءِ السَّيْفِ يَكُونُ الرِّبْحُ فِي ده دوازده ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ : تَثْبُتُ حِصَّةُ السَّيْفِ مِنْ الرِّبْحِ ، وَتَبْطُلُ حِصَّةُ الْحِلْيَةِ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَرْضَ أَنْ يَمْلِكَ عَلَيْهِ السَّيْفَ حَتَّى يُسَلِّمَ لَهُ جَمِيعَ مَا سُمِّيَ مِنْ الرِّبْحِ ، وَأَنَّ الْبَيْعَ حِينَئِذٍ يَكُونُ تَوْلِيَةً فِي الْحِلْيَةِ وَلَمْ يَقْصِدَا ذَلِكَ ، وَإِنْ رَابَحَهُ فِيمَا سِوَى الْفِضَّةِ جَازَ ؛ لِأَنَّهُمَا صَرَّحَا بِكَوْنِ الْعَقْدِ تَوْلِيَةً فِي حِصَّةِ الْحِلْيَةِ مُرَابَحَةً فِي حِصَّةِ السَّيْفِ ، وَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ فَأَمَّا اللِّجَامُ الْمُمَوَّهُ ، فَلَا بَأْسَ بِالْمُرَابَحَةِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ التَّمْوِيهَ لَا يَتَخَلَّصُ فَلَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ الرِّبَا بِاعْتِبَارِهِ .