كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي

مِنْهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ قِيمَتَهُ أَلْفَانِ وَقَدْ بَقِيَ مِثْلُ ذَلِكَ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَمْ يَسْتَقْضِ شَيْئًا مِنْ الْمَالِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَصْلٌ فِي ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ وَإِنَّمَا ضَمِنَ الْغَاصِبُ ثُلُثَ قِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالسَّبَبِ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ ثُلُثُ بَدَلِ الْعَبْدِ ، وَلَوْ اسْتَحَقَّ جَمِيعَ الْبَدَلِ مَا كَانَ يَرْجِعُ عَلَيْهِ إلَّا بِقِيمَتِهِ ، فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَحَقَّ ثُلُثَ بَدَلِهِ ، فَإِنَّمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِثُلُثِ الْقِيمَةِ ، وَلَوْ كَانُوا بَاعُوهُ بِأَلْفَيْنِ فَقَضَوْا غَرِيمَ الْعَبْدِ أَلْفَيْنِ رَجَعُوا عَلَى الْغَاصِبِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالسَّبَبِ الَّذِي كَانَ عِنْدَهُ نِصْفُ بَدَلِهِ وَكَانَتْ هَاتَانِ الْأَلْفَانِ رَهْنًا بِالْمَالِ مَكَانَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفُتْ شَيْءٌ مِنْ مَالِيَّةِ الرَّهْنِ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ قَبْضِ الْمُرْتَهِنِ ، وَلَوْ تَرَى مَا عَلَى الْغَاصِبِ كَانَتْ هَذِهِ الْأَلْفُ الَّتِي بَقِيَتْ رَهْنًا بِنِصْفِ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْمَالِيَّةِ تَلِفَ فِي ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ ، فَإِنَّ بِغَصْبِ الْغَاصِبِ لَا يَخْرُجُ الْعَبْدُ مِنْ ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ فِي حَقِّ الرَّاهِنِ .

وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِأَلْفٍ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ ، وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ فَبَاعَهُ الْعَدْلُ بِأَلْفَيْنِ ، وَكَانَ مُسَلَّطًا عَلَى الْبَيْعِ فَتَوَتْ إحْدَاهُمَا ، وَخَرَجَتْ الْأُخْرَى اسْتَوْفَاهَا الْمُرْتَهِنُ ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ الْأُخْرَى زِيَادَةٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا : أَنَّ مَا تَوَى كَانَ مِنْ الزِّيَادَةِ لَا مِنْ الْأَصْلِ ، وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا ، فَنِصْفُ هَذِهِ الْأَلْفِ الَّتِي خَرَجَتْ لِلْمُرْتَهِنِ وَنِصْفُهَا لِلرَّاهِنِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ نِصْفَ الْمَالِيَّةِ مَشْغُولٌ بِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ ، وَنِصْفُهَا بِحَقِّ الرَّاهِنِ فَمَا خَرَجَ مِنْ الْبَدَلِ يَكُونُ نِصْفَيْنِ وَمَا تَوَى عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ ، وَلَوْ بَاعَهُ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ ، فَخَرَجَتْ الْأَلْفُ ، وَتَوَى أَلْفَانِ كَانَ مَا يَخْرُجُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ الثَّالِثَةَ زِيَادَةٌ فَيُجْعَلُ التَّاوِي بَيْنَهُمَا ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مَا كَانَ أَصْلًا وَهُوَ أَلْفَانِ فَكَانَ هَذِهِ ، وَمَا لَوْ بِيعَ الْعَبْدُ بِأَلْفَيْنِ سَوَاءً ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِأَلْفٍ وَقِيمَتُهُ : أَلْفٌ ثُمَّ غَصَبَهُ رَجُلٌ فَحَفَرَ عِنْدَهُ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ وَوَضَعَ فِي الطَّرِيقِ حَجَرًا ثُمَّ رَدَّهُ الْغَاصِبُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فَافْتَكَّهُ الرَّاهِنُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ ثُمَّ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ إنْسَانٌ ، فَمَاتَ قِيلَ لِلرَّاهِنِ ادْفَعْ عَبْدَكَ أَوْ افْدِهِ بِالدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ صَارَ جَانِيًا عَلَى الْوَاقِعِ بِالْحَفْرِ السَّابِقِ عِنْدَ وُقُوعِهِ فِي الْبِئْرِ ، فَإِنَّهُ بِالْحَفْرِ مُتَسَبِّبٌ لِإِتْلَافِهِ بِإِزَالَةِ مَا بِهِ كَانَ يَسْتَمْسِكُ عَلَى الْأَرْضِ ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا التَّسْبِيبِ ، وَحِينَ صَنَعَ هَذَا كَانَ مِلْكًا لِلرَّاهِنِ وَهُوَ عَلَى مِلْكِهِ عِنْدَ الْوُقُوعِ أَيْضًا ، فَيُخَاطَبُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ ، كَمَا لَوْ قَتَلَهُ بِيَدِهِ ، وَأَيُّ ذَلِكَ فَعَلَ يَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِقِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الرَّدِّ لَمْ يُسَلَّمْ ، وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ قَاصِرًا حِينَ اسْتَحَقَّ بِسَبَبِ فِعْلٍ كَانَ بَاشَرَهُ عِنْدَهُ ، وَقِيلَ : بَلْ الْمُرْتَهِنُ هُوَ الَّذِي يَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِقِيمَتِهِ فَيَدْفَعُهُ إلَى الرَّاهِنِ ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ فَوَّتَ يَدَ الْمَرْهُونِ بِغَصْبِهِ ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ ، فَإِنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ فِي الْيَدِ مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ دَيْنُهُ وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ حَقُّهُ فَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ الْآنَ حَقُّ الْمَالِكِ ، فَهُوَ الَّذِي يَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِالْقِيمَةِ فَإِنْ كَانَ الْغَاصِبُ مُفْلِسًا أَوْ غَائِبًا رَجَعَ الرَّاهِنُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِاَلَّذِي قَضَاهُ إذَا كَانَ الرَّهْنُ وَالدَّيْنُ سَوَاءً حَتَّى يَكُونَ الْفِدَاءُ مِنْ مَالِ الْمُرْتَهِنِ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ حَفَرَ كَانَ فِي ضَمَانِ الْمُرْتَهِنِ فِيمَا بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ الرَّاهِنِ .
( أَلَا تَرَى ) : أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ، وَتَوَتْ عَلَيْهِ الْقِيمَةُ سَقَطَ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ بِالْفِكَاكِ لَمْ يُسَلِّمْ لِلرَّاهِنِ حِينَ اسْتَحَقَّ مِنْ يَدِهِ بِسَبَبٍ كَانَ قَبْلَ الْفِكَاكِ ، فَيُجْعَلُ كَالْهَالِكِ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ

بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ وَفِي هَذَا مَا يَلْزَمُهُ رَدُّ الْمُسْتَوْفَى ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ بِالْفِكَاكِ فِي يَدِهِ صَارَ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ فَإِنْ عَطِبَ بِالْحَفْرِ آخَرُ فَمَاتَ وَقَدْ دُفِعَ الْعَبْدُ إلَى صَاحِبِ الْبِئْرِ فَإِنَّهُ يُقَالُ لِصَاحِبِ الْبِئْرِ : ادْفَعْ نِصْفَهُ أَوْ افْدِهِ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَتَيْنِ قَدْ حَصَلَتَا فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، وَهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ ، فَيَكُونُ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ الْعَبْدِ إلَّا أَنَّ صَاحِبَ الْبِئْرِ قَدْ مَلَكَ جَمِيعَ الْعَبْدِ حِينَ دُفِعَ إلَيْهِ فَقَامَ هُوَ فِي نَصِيبِ صَاحِبِ الْحَفْرِ مَقَامَ الْمَوْلَى ، فَيُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ نِصْفَهُ أَوْ يَفْدِيَهُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ ، وَلَا يَتْبَعُ الْمُرْتَهِنُ وَلَا الْمَوْلَى مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ سِوَى الَّذِي تَبِعَهُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ؛ لِأَنَّ جِنَايَاتِ الْعَبْدِ ، وَإِنْ كَثُرَتْ لَا تُوجِبُ عَلَى الْمَوْلَى إلَّا دَفْعَ الْعَبْدِ ، وَقَدْ دُفِعَ الْعَبْدُ ، وَاَلَّذِي عَطِبَ بِالْحَفْرِ مِثْلُ آخَرَ لَوْ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ وَاحِدٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ .

وَإِذَا حَفَرَ الْعَبْدُ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ ، وَهُوَ رَهْنٌ بِأَلْفٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ فَوَقَعَ فِيهَا عَبْدٌ فَذَهَبَتْ عَيْنَاهُ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ الْعَبْدَ - الرَّهْنَ - أَوْ يَفْدِيهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ فَقَأَ عَيْنَيَّ الْعَبْدِ بِيَدِهِ ، وَالْفِدَاءُ كُلُّهُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ كُلَّهُ مَضْمُونٌ بِالدَّيْنِ ، فَإِنْ فِدَاهُ ، فَهُوَ رَهْنٌ عَلَى حَالِهِ ، وَأَخَذَ الْمُرْتَهِنُ الْعَبْدَ الْأَعْمَى ، فَكَانَ لَهُ مَكَانَ مَا أَدَّى مِنْ الْفِدَاءِ وَإِنْ دَفَعَ الْعَبْدَ - الرَّهْنَ - وَأَخَذَ الْأَعْمَى كَانَ رَهْنًا مَكَانَهُ بِالْأَلْفِ ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فِي حُكْمِ الرَّهْنِ وَإِنْ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ آخَرُ اشْتَرَكُوا فِي الْعَبْدِ الْحَافِرِ بِحِصَّةِ ذَلِكَ أَوْ يَفْدِيهِ مَوْلَاهُ الَّذِي عِنْدَهُ بِالْأَلْفِ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَتَيْنِ اسْتَنَدَتَا إلَى سَبَبٍ وَاحِدٍ ، فَكَأَنَّهُمَا وُجِدَتَا مَعًا فَيَكُونُ حَقُّ الْوَلِيَّيْنِ فِي الْعَبْدِ وَلَا يَلْحَقُ الْأَعْمَى مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْجَانِي فِي حُكْمِ الرَّهْنِ لَا فِي حُكْمِ الْجِنَايَةِ ، فَإِنَّهُ بِالدَّفْعِ خَرَجَ مِنْ حُكْمِ الرَّهْنِ وَتَقَرَّرَ حُكْمُ الْجِنَايَةِ فِيهِ فَلِهَذَا لَا يَلْحَقُ الْأَعْمَى مِنْ جِنَايَتِهِ وَإِنْ وَقَعَتْ فِي الْبِئْرِ دَابَّةٌ وَعَطِبَتْ أَخَذَ عَنْهَا الْعَبْدَ فِي يَدَيْ أَصْحَابِهِ حَتَّى يُبَاعَ لَهُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَتْ الْجِنَايَتَانِ مِنْ الْعَبْدِ بِيَدِهِ ، فَإِنْ قَتَلَ إنْسَانًا وَأَتْلَفَ مَالَ آخَرَ فَهُنَاكَ يُدْفَعُ بِالْجِنَايَةِ أَوَّلًا ، ثُمَّ يُبَاعُ بِالدَّيْنِ إلَّا أَنْ يَقْضِيَ وَلِيُّ الْجِنَايَةِ الدَّيْنَ .
وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَا مُجَانَسَةَ فِي مُوجَبِ الْفِعْلَيْنِ هُنَا فَالْمُسْتَحَقُّ بِالْجِنَايَةِ نَفْسُهُ ، وَالْمُسْتَحَقُّ بِالِاسْتِهْلَاكِ بَيْعُهُ فِي الدَّيْنِ ، فَلَا تَثْبُتُ الْمُشَارَكَةُ بَيْنَهُمَا ، وَلَكِنَّ إيفَاءَ الْحَقَّيْنِ مُمْكِنٌ بِأَنْ يُدْفَعَ بِالْجِنَايَةِ ثُمَّ يُبَاعُ فِي الدَّيْنِ فَلَا يَلْحَقُ الْأَعْمَى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِمَا قُلْنَا .
فَإِنْ بِيعَ الْعَبْدُ فِي ثَمَنِ الدَّابَّةِ ثُمَّ وَقَعَ فِي

الْبِئْرِ آخَرُ فَمَاتَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَرْشٌ ، وَدَمُهُ هَدَرٌ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ الَّذِي كَانَ فِيهِ حِينَ حَفَرَ قَدْ فَاتَ وَتَجَدَّدَ لِلْمُشْتَرِي مِلْكٌ بِسَبَبٍ مُبْتَدَأٍ فَلَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ هَذَا الْمِلْكُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْفِعْلِ ، وَذَلِكَ الْمِلْكُ الَّذِي كَانَ قَدْ فَاتَ ، فَكَأَنَّهُ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَمْدًا بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْبَيْعِ فِي الدَّيْنِ فَإِنَّ مِلْكَ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ خَلْفٌ عَنْ مِلْكِ الْمَوْلَى فَيَبْقَى حُكْمُ ذَلِكَ الْفِعْلِ حَتَّى إذَا وَقَعَ فِيهِ آخَرُ شَارَكَ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ فِي رَقَبَتِهِ فَإِنْ وَقَعَتْ فِي الْبِئْرِ دَابَّةٌ أُخْرَى شُرِكُوا أَصْحَابَ الدَّابَّةِ الْأَوْلَى فِي الثَّمَنِ بِقَدْرِ قِيمَتِهَا ؛ لِأَنَّ إتْلَافَ الدَّابَّتَيْنِ مِنْ الْعَبْدِ أُسْنِدَ إلَى سَبَبٍ وَاحِدٍ وَبَيْنَهُمَا مُجَانِسَةٌ فِي الْمُوجَبِ فَكَانَ حَقُّهَا فِي الثَّمَنِ وَهُوَ قَائِمٌ فِي يَدِ مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ ، وَهُوَ رَهْنٌ بِأَلْفِ وَقِيمَتُهَا أَلْفَانِ ثُمَّ جَنَى بَعْدَ الْحَفْرِ عَلَى عَبْدٍ فَفَقَأَ عَيْنَهُ فَدَفَعَ وَاحِدٌ الْعَبْدَ ، فَهُوَ رَهْنٌ مَكَانَهُ ، فَإِنْ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ عَبْدٌ آخَرُ فَذَهَبَتْ عَيْنَاهُ قِيلَ لِمَوْلَاهُ الَّذِي هُوَ عِنْدَهُ : ادْفَعْ نِصْفَهُ وَخُذْ هَذَا الْعَبْدَ الْأَعْمَى أَوْ افْدِهِ بِقِيمَةِ الْأَعْمَى لِمَا بَيَّنَّا : أَنَّ مِلْكَهُ فِي الْعَبْدِ الْمَدْفُوعِ خَلْفٌ عَنْ مِلْكِ الْمَوْلَى ، فَيَبْقَى فِعْلُهُ بِاعْتِبَارِهِ وَمُوجَبُ الْجِنَايَتَيْنِ وَاحِدٌ فَثَبَتَتْ الْمُشَارَكَةُ بَيْنَهُمَا وَيَكُونُ حَقُّ مَوْلَى الْعَبْدِ الْوَاقِعِ فِي الْبِئْرِ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ الْمَدْفُوعِ إلَّا أَنَّهُ الْآنَ فِي مِلْكِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ ، فَيَقُومُ هُوَ فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ لَهُ مَقَامَ الْمَوْلَى إنْ شَاءَ دَفَعَ النِّصْفَ إلَيْهِ ، وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ بِقِيمَةِ هَذَا الْأَعْمَى ، وَأَخَذَ الْأَعْمَى ، فَكَانَ لَهُ بِمُقَابَلَةِ مَا أَدَّى ، وَالْعَبْدُ الْأَعْمَى ، وَالْأَوَّلُ رَهْنٌ بِأَلْفٍ عَلَى حَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَدْفُوعِ فِي حُكْمِ الرَّهْنِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَعْمَى الْأَوَّلُ أَمَةً

فَوَلَدَتْ وَلَدًا ثُمَّ مَاتَتْ هِيَ ، قُسِّمَ الْأَلْفُ عَلَى قِيمَتِهَا ، وَقِيمَةِ وَلَدِهَا فَيَبْطُلُ مَا أَصَابَ قِيمَتَهَا ؛ لِأَنَّهَا مَرْهُونَةٌ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ فَكَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي رُهِنَتْ فِي الِابْتِدَاءِ فَوَلَدَتْ فَيُقَسَّمُ الدَّيْنُ عَلَى قِيمَتِهَا وَقِيمَةِ وَلَدِهَا إلَّا أَنَّهُ تُعْتَبَرُ فِي الْقِسْمَةِ قِيمَتُهَا عَمْيَاءُ ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُقَوَّمُ حِينَ ثَبَتَ حُكْمُ الرَّهْنِ فِيهَا وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُ الرَّهْنِ فِيهَا وَهِيَ عَمْيَاءُ .

وَإِذَا احْتَفَرَ الْعَبْدُ - الرَّهْنُ - بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ أَوْ وَضَعَ فِيهَا شَيْئًا فَعَطِبَ بِهِ الرَّاهِنُ ، أَوْ أَحَدٌ مِنْ رَقِيقِهِ لَمْ يَلْحَقْهُ مِنْ ذَلِكَ ضَمَانٌ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ جَنَى بِيَدِهِ عَلَى الرَّاهِنِ أَوْ عَلَى رَقِيقِهِ ، وَإِنْ وَقَعَ فِيهَا الْمُرْتَهِنُ ، أَوْ أَحَدٌ مِنْ رَقِيقِهِ فَهَذَا وَمَا لَوْ جَنَى عَلَيْهِ بِيَدِهِ سَوَاءٌ ، فِيمَا اخْتَلَفُوا وَفِيمَا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ الدَّيْنِ أَوْ كَانَ فِي قِيمَتِهِ فَضْلٌ عَنْ الدَّيْنِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْفُصُولَ فِي جِنَايَتِهِ بِيَدِهِ ، فَكَذَلِكَ فِي جِنَايَتِهِ بِحَفْرِ الْبِئْرِ .

وَإِذَا أَمَرَهُ الْمُرْتَهِنُ أَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فِي فِنَائِهِ فَعَطِبَ فِيهَا الرَّاهِنُ أَوْ غَيْرُهُ فَهُوَ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُرْتَهِنِ ؛ لِأَنَّ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَحْفِرَ فِي فِنَائِهِ ، فَإِنَّ الْفِنَاءَ اسْمٌ لِمَوْضِعٍ يَتَّصِلُ بِمِلْكِهِ غَيْرِ مَمْلُوكٍ لَهُ مُعَدٍّ لِمَنَافِعِهِ ، وَهُوَ أَحَقُّ النَّاسِ بِرَبْطِ الدَّوَابِّ ، وَكَسْرِ الْحَطَبِ فِيهِ فَيَكُونُ التَّدْبِيرُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إلَيْهِ وَإِذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَحْفِرَ فِيهِ بِنَفْسِهِ فَلَهُ أَنْ يَأْمُرَ غَيْرَهُ بِهِ وَفِعْلُ الْعَبْدِ كَفِعْلِ الْمُرْتَهِنِ بِنَفْسِهِ ، وَلَوْ فَعَلَهُ هُوَ بِنَفْسِهِ فَعَطِبَ فِيهِ الرَّاهِنُ كَانَ عَلَى عَاقِلَتِهِ ، فَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَهُ الْعَبْدُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْمَوْضِعُ مَمْلُوكًا لَهُ تَقَيَّدَ فِعْلُهُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَالْمَشْيِ فِي الطَّرِيقِ فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ كَانَ هُوَ ضَامِنًا لِمَا يَعْطَبُ بِسَبَبِ فِعْلِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الرَّاهِنُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ فِي فَنَاءِ نَفْسِهِ كَانَ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّاهِنِ .

وَلَوْ أَمَرَهُ الرَّاهِنُ أَوْ الْمُرْتَهِنُ أَنْ يَقْتُلَ رَجُلًا فَقَتَلَهُ فَدُفِعَ بِهِ كَانَ عَلَى الَّذِي أَمَرَهُ بِذَلِكَ ، قِيمَتُهُ فَيَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهُ أَمَّا مُوجَبُ الْجِنَايَةِ هُنَا فَيَتَعَلَّقُ بِرَقَبَتِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ أَوْ الْمُرْتَهِنَ لَا يَمْلِكَانِ مُبَاشَرَةَ الْقَتْلِ بِأَيْدِيهِمَا ، فَلَا يُعْتَبَرُ أَمْرُهُمَا فِي نَقْلِ فِعْلِ الْعَبْدِ إلَيْهِمَا ، وَإِذَا بَقِيَ الْعَبْدُ جَانِيًا كَانَ مُؤَاخَذًا بِمُوجَبِ الْجِنَايَةِ فِي الْأَوَّلِ ، وَاعْتُبِرَ أَمْرُهُمَا فِي الْحَفْرِ فِي الْفِنَاءِ لِمَا قُلْنَا فَيُنْقَلُ فِعْلُ الْعَبْدِ إلَى الْآمِرِ ، فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ ثُمَّ الْآمِرُ فِي مَسْأَلَةِ الْقَتْلِ صَارَ مُسْتَعْمِلًا لِلْعَبْدِ غَاصِبًا ، فَإِذَا اسْتَحَقَّ بِذَلِكَ السَّبَبِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ وَالْقِيمَةُ قَائِمَةٌ مَقَامَهُ ، فَيَكُونُ رَهْنًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَعَثَهُ لِيَسْتَقِيَ دَابَّتَهُ فَوَطِئَتْ إنْسَانًا ؛ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِعْمَالِ صَارَ غَاصِبًا لَهُ ، وَإِنْ كَانَ بَعَثَهُ الرَّاهِنُ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِن دُفِعَ بِالْجِنَايَةِ ، وَكَانَ الدَّيْنُ عَلَى الرَّاهِنِ ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ ضَمَانِ الدَّيْنِ حِينَ بَعَثَهُ الرَّاهِنُ فِي حَاجَتِهِ بِإِذْنِ الْمُرْتَهِنِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَعَارَهُ الْمُرْتَهِنُ مِنْ الرَّاهِنِ ، وَلَوْ مَاتَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ يَسْقُطْ مِنْ الدَّيْنِ شَيْءٌ ، فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَحَقَّ بِجِنَايَةٍ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ بَعَثَهُ الْمُرْتَهِنُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ لَوْ اسْتَعَارَهُ مِنْ الرَّاهِنِ فَمَا دَامَ يَعْمَلُ لَهُ بِحُكْمِ الْعَارِيَّةِ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِالدَّيْنِ لَوْ هَلَكَ ، فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَحَقَّ بِجِنَايَةٍ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ .

وَإِذَا أَقَرَّ الرَّاهِنُ بِالْأَمَةِ - الرَّهْنِ - لِرَجُلٍ فَزَوَّجَهَا ذَلِكَ الرَّجُلَ جَازَ النِّكَاحُ ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِقْرَارِ سَلَّطَ الْمُقَرَّ لَهُ عَلَى تَزَوُّجِهَا ، وَلَوْ زَوَّجَهُ بِنَفْسِهِ جَازَ النِّكَاحُ ، فَكَذَلِكَ إذَا زَوَّجَهَا ذَلِكَ الرَّجُلَ جَازَ النِّكَاحُ ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِقْرَارِ سَلَّطَ الْمُقَرَّ لَهُ عَلَى تَزْوِيجِهَا وَلَوْ زَوَّجَهُ بِنَفْسِهِ جَازَ النِّكَاحُ فَكَذَلِكَ إذَا زَوَّجَهَا غَيْرَهُ بِتَسْلِيطِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الْعِتْقِ فَالتَّزْوِيجُ بِمَنْزِلَةِ الْعِتْقِ فِي أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ صِحَّةُ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ ، وَلَكِنْ لَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يُقِرَّ بِهَا ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ مَمْنُوعٌ مِنْ غَشَيَانِهَا بِنَفْسِهِ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ ، فَكَذَلِكَ يُمْنَعُ مِنْهُ الْمُقِرُّ لَهُ ، أَوْ مَنْ زَوَّجَهَا مِنْهُ الْمُقِرُّ لَهُ وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ غَشِيَهَا الزَّوْجُ رُبَّمَا تَحْمِلُ فَتَنْقُصُ مَالِيَّتُهَا بِسَبَبِ الْحَبَلِ ، وَرُبَّمَا تَتَعَسَّرُ عَلَيْهَا الْوِلَادَةُ فَتَمُوتُ مِنْهَا وَفِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ مَا لَا يَخْفَى .

وَلَوْ رَهَنَ رَجُلٌ أَمَةً لَهَا زَوْجٌ كَانَ الرَّهْنُ جَائِزًا ؛ لِأَنَّ الْمَنْكُوحَةَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ مَالِيَّتِهَا بِالْبَيْعِ فَيَكُونُ رَهْنًا جَائِزًا ، فَإِنْ غَشِيَهَا الزَّوْجُ ، فَهَلَكَتْ مِنْ ذَلِكَ فَفِي الْقِيَاسِ : تَهْلِكُ مِنْ مَالِ الرَّاهِنِ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ إنَّمَا غَشِيَهَا بِتَسْلِيطِ الرَّاهِنِ حِينَ زَوَّجَهَا مِنْهُ ، فَيُجْعَلُ فِعْلُهُ كَفِعْلِ الرَّاهِنِ بِنَفْسِهِ ( أَلَا تَرَى ) : أَنَّهُ لَوْ زَوَّجَهَا بَعْدَ الرَّهْنِ فَوَطِئَهَا الزَّوْجُ ، فَمَاتَتْ مِنْ ذَلِكَ كَانَتْ مِنْ مَالِ الرَّاهِنِ ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ التَّزْوِيجُ قَبْلَ الرَّهْنِ ؛ لِأَنَّ مَوْتَهَا مِنْ الْوَطْءِ لَا مِنْ التَّزْوِيجِ وَالْوَطْءُ فِي الْفَصْلَيْنِ ابْتِدَاءً فِعْلٌ مِنْ الْوَاطِئِ بَعْدَ الرَّهْنِ ، وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ أَنْ يَجْعَلَهَا هَالِكَةً مِنْ الرَّهْنِ حَتَّى يَسْقُطُ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الرَّاهِنِ بَعْدَ عَقْدِ الرَّهْنِ فِعْلٌ يَصِيرُ بِهِ مُسَلَّطًا عَلَى إتْلَافِهَا بَلْ الْمُرْتَهِنُ حِينَ قَبِلَ الرَّهْنَ فِيهَا مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهَا مَنْكُوحَةٌ فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِهَا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ ، وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِوَطْءِ الزَّوْجِ إيَّاهَا ، وَلَكِنْ لَا مُعْتَبَرَ بِرِضَاهُ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الزَّوْجِ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّهِ وَالْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّ الزَّوْجِ بِالرَّهْنِ هُنَا ، فَلِهَذَا يُجْعَلُ كَأَنَّهَا مَاتَتْ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ فَسَقَطَ الدَّيْنُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ التَّزْوِيجُ بَعْد الرَّهْنِ ، فَقَدْ وُجِدَ هُنَاكَ مِنْ الرَّاهِنِ بَعْدَ الرَّهْنِ تَسْلِيطُ الزَّوْجِ عَلَى وَطْئِهَا ، وَلَمْ يُوجَدْ الرِّضَا مِنْ الْمُرْتَهِنِ بِذَلِكَ وَالزَّوْجُ مَمْنُوعٌ مِنْ وَطْئِهَا لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ هُنَا فَإِنْ حَقَّهُ سَابِقٌ عَلَى حَقِّ الزَّوْجِ ، فَلِهَذَا إذَا هَلَكَتْ مِنْ الْوَطْءِ يُجْعَلُ كَأَنَّهَا هَلَكَتْ بِفِعْلِ الرَّاهِنِ فَلَا يَسْقُطُ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ .

وَإِذَا أَشْهَدَ الرَّاهِنَانِ بِالرَّهْنِ لِإِنْسَانٍ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ لَازِمٌ مِنْ جِهَةِ الرَّاهِنَيْنِ فَهُمَا بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ يُرِيدَانِ السَّعْيَ فِي نَقْضِ مَا قَدْ تَمَّ بِهِمَا ، وَإِبْطَالِ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ الْمُسْتَحَقَّةِ لِلْمُرْتَهِنِ عَلَيْهِمَا ، وَلَوْ شَهِدَ بِهِ الْمُرْتَهِنَانِ جَازَ ؛ لِأَنَّهُمَا مُمَكَّنَانِ مِنْ رَدِّ الرَّهْنِ مَتَى شَاءَا ، فَلَيْسَ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ إبْطَالُ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِمَا بَلْ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ ضَرَرٌ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّ حَقَّ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْ مَالِيَّةِ الرَّهْنِ كَانَ ثَابِتًا لَهُمَا وَيَبْطُلُ ذَلِكَ بِشَهَادَتِهِمَا فَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ وَلَوْ شَهِدَ بِهِ كَفِيلَانِ بِالْمَالِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ الرَّاهِنَيْنِ ، وَلَوْ شَهِدَ بِهِ ابْنَا الرَّاهِنِ ، أَوْ ابْنَا الْكَفِيلِ ، وَالْأَبُ مُنْكِرٌ جَازَتْ الشَّهَادَةُ ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى أَبِيهِمَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ بِهِ ابْنَا الْمُرْتَهِنِ ؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى أَبِيهِمَا بِبُطْلَانِ حَقِّهِ فِي ثُبُوتِ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ .

وَلَوْ كَانَ الرَّاهِنُ مُكَاتَبًا أَوْ عَبْدًا تَاجِرًا ، فَشَهِدَ مَوْلَيَاهُ بِذَلِكَ وَهُوَ مُنْكِرٌ جَازَتْ الشَّهَادَةُ ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى مُكَاتَبِهِمَا أَوْ عَبْدِهِمَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِلْكِ وَالْكَسْبِ عَلَيْهِ ، وَبِبُطْلَانِ الْعَقْدِ الَّذِي بَاشَرَهُ .

وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى الرَّهْنِ أَنَّهُ لَهُ وَأَنَّ رَاهِنَهُ سَرَقَهُ مِنْهُ وَسَأَلَ الْمُرْتَهِنَ أَنْ يُخْرِجَهُ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ فَأَبَى ذَلِكَ الْمُرْتَهِنُ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى إخْرَاجِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي إخْرَاجِهِ عَلَى الْمُرْتَهِنِ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إثْبَاتِ دَعْوَاهُ بِالْبَيِّنَةِ إلَّا بَعْدَ إحْضَارِ الْعَيْنِ لِيُشِيرَ إلَيْهِ فِي الدَّعْوَى ، وَيُشِيرَ إلَيْهِ الشُّهُودُ فِي الشَّهَادَةِ ، وَالْمُرْتَهِنُ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ الْإِحْضَارِ مُتَعَنِّتٌ قَاصِدٌ الْإِضْرَارَ بِهِ فَيَمْنَعُهُ الْقَاضِي مِنْ ذَلِكَ .

وَإِذَا ارْتَهَنَ الرَّجُلُ رَهْنًا وَأَقَرَّ أَنَّ قِيمَتَهُ أَلْفٌ ثُمَّ جَاءَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَقِيمَتُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ فَقَالَ الرَّاهِنُ : لَيْسَ هَذَا مَتَاعِي ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى صِفَةِ مَتَاعِهِ أَنَّهُ يُسَاوِي أَلْفًا ، وَاَلَّذِي أَحْضَرَهُ لَيْسَ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ فَالظَّاهِرُ شَاهِدٌ لِلرَّاهِنِ فَيُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي ذَلِكَ ، وَإِذَا قَبِلْنَا قَوْلَهُ كَانَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ أَنْ يَجِيءَ بِمَتَاعٍ يُسَاوِي أَلْفًا أَوْ يَحْكُمَ بِأَنَّ الرَّهْنَ هَلَكَ فِي يَدِهِ فَيَسْقُطَ دَيْنُهُ .

وَإِذَا بَاعَ رَجُلَانِ شَيْئًا مِنْ رَجُلٍ إلَى رَجُلٍ عَلَى أَنْ يَرْهَنَهُمَا هَذَا الْعَبْدَ فَفَعَلَ ثُمَّ شَهِدَا أَنَّ الرَّهْنَ لِفُلَانٍ فَإِنْ قَالَا فَنَحْنُ نَرْضَى أَنْ يَكُونَ دَيْنًا إلَى أَجَلٍ بِغَيْرِ رَهْنٍ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا لِخُلُوِّهَا عَنْ التُّهْمَةِ فَإِنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لَهُمَا فِي قَبُولِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ حِينَ أَسْقَطَا حَقَّهُمَا فِي الْمُطَالَبَةِ بِرَهْنٍ آخَرَ بَلْ عَلَيْهِمَا فِيهِ ضَرَرٌ ، وَإِنْ قَالَا لَا نَزِيدُ رَهْنًا غَيْرَهُ أَوْ يُرَدُّ عَلَيْنَا مَتَاعُنَا أُبْطِلَتْ شَهَادَتُهُمَا لِتَمَكُّنِ التُّهْمَةِ فِيهَا ، فَإِنَّهُمَا يَشْهَدَانِ لِأَنْفُسِهِمَا بِثُبُوتِ حَقِّ مُطَالَبَةِ الرَّاهِنِ بِرَهْنٍ آخَرَ ، أَوْ رَدِّ الْمَتَاعِ عَلَيْهِمَا .

وَإِذَا بَاعَ مَتَاعًا مِنْ رَجُلٍ عَلَى أَنْ يَرْهَنَهُ رَهْنًا بِعَيْنِهِ فَاسْتَحَقَّ أَوْ هَلَكَ قَبْلَ الرَّهْنِ أَوْ رَهَنَهُ رَهْنًا يَرْضَى بِهِ أَوْ أَعْطَاهُ قِيمَةَ ذَلِكَ الرَّهْنِ فَيَكُونُ رَهْنًا عِنْدَهُ ، أَوْ رَدَّ عَلَيْهِ مَالَهُ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْفَصْلَ فِيمَا تَقَدَّمَ .

وَإِذَا زَادَ الرَّاهِنُ مَعَ الرَّهْنِ رَهْنًا آخَرَ نَظَرَ إلَى قِيمَةِ الْأَوَّلِ يَوْمَ رَهَنَهُ ، وَإِلَى قِيمَةِ الزِّيَادَةِ يَوْمَ قَبَضَهَا الْمُرْتَهِنُ فِي قِسْمَةِ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الرَّهْنِ فِي الزِّيَادَةِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِقَبْضِ الْمُرْتَهِنِ ، فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا حِينَ ثَبَتَ حُكْمُ الرَّهْنِ فِيهَا ، كَمَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي قِيمَةِ الْأَصْلِ .

وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ عِشْرُونَ دِرْهَمًا فَرَهَنَهُ بِعَشَرَةٍ مِنْهَا مَا يُسَاوِي عَشَرَةً ، ثُمَّ قَضَاهُ عَشَرَةً فَلَهُ أَنْ يَجْعَلَهَا بِمَا فِي الرَّهْنِ وَيَقْبِضَ الرَّهْنَ ، أَمَّا جَوَازُ هَذَا الرَّهْنِ فَلِلشُّيُوعِ فِي الدَّيْنِ وَلَا شُيُوعَ فِي الرَّهْنِ وَالشُّيُوعُ فِي الدَّيْنِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الْعَقْدِ ، ثُمَّ الْقَاضِي هُوَ الَّذِي مَلَّكَ الْمُسْتَوْفِيَ هَذِهِ الْعَشَرَةَ ، وَإِلَيْهِ بَيَانُ الْجِهَةِ الَّتِي أَوْفَاهَا فَإِذَا قَالَ : إنَّمَا أَوْفَيْتُهَا مِمَّا كَانَ فِي الرَّهْنِ ، وَلَوْ كَانَ رَهَنَهُ الثَّوْبَ لِجَمِيعِ الْمَالِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهُ حَتَّى يُؤَدِّيَ جَمِيعَ الْمَالِ قَلَّتْ قِيمَتُهُ ، أَوْ كَثُرَتْ ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ مَحْبُوسٌ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ الدَّيْنِ لِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ ، وَلَوْ رَهَنَهُ بِعَشَرَةٍ مِنْهَا ثَوْبًا يُسَاوِي عِشْرِينَ ثُمَّ زَادَهُ ثَوْبًا آخَرَ رَهْنًا بِالْعَشَرَةِ الْأُخْرَى فَهُوَ جَائِزٌ لِمَا قُلْنَا وَإِنْ جَعَلَهُ رَهْنًا بِالْعِشْرِينَ جَمِيعًا فَهُوَ جَائِزٌ فَإِنْ هَلَكَ الثَّوْبُ الْأَوَّلُ ذَهَبَ بِثُلُثَيْ الْعَشَرَةِ ، وَإِنْ هَلَكَ الثَّوْبُ الْآخَرُ ذَهَبَ بِثُلُثِ الْعَشَرَةِ الَّتِي بِهَا الرَّهْنُ الْأَوَّلُ ، وَبِجَمِيعِ الْعَشَرَةِ الْأُخْرَى ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا رَهَنَهُ الثَّوْبَ الْأُخْرَى ، بِجَمِيعِ الْعِشْرِينَ كَانَ نِصْفُهُ بِالْعَشَرَةِ الَّتِي لَا رَهْنَ بِهَا ، وَنِصْفُهُ زِيَادَةً فِي الرَّهْنِ الْأَوَّلِ بِالْعَشَرَةِ الْأُخْرَى ، فَيَقْسِمُ مِلْكَ الْعَشَرَةِ عَلَى قِيمَةِ الثَّوْبِ الْأَوَّلِ يَوْمَ رَهَنَهُ ، وَذَلِكَ عِشْرُونَ ، وَعَلَى قِيمَةِ نِصْفِ الثَّوْبِ الثَّانِي ، وَذَلِكَ عَشَرَةٌ فَيُقَسَّمُ أَثْلَاثًا ثُلُثَاهَا فِي الثَّوْبِ الْأَوَّلِ فَإِذَا هَلَكَ هَلَكَ بِهِ ، وَثُلُثُهَا مَعَ الْعَشَرَةِ الْأُخْرَى فِي الثَّوْبِ الثَّانِي فَإِذَا هَلَكَ هَلَكَ بِهِ ؛ لِأَنَّ فِي قِيمَتِهِ وَفَاءً بِالدَّيْنِ ، وَزِيَادَةً .

وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلَيْنِ مَالٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ ، فَأَعْطَاهُ أَحَدُهُمَا رَهْنًا بِجَمِيعِ الْمَالِ يُسَاوِيهِ ثُمَّ أَعْطَاهُ الْآخَرُ رَهْنًا بِجَمِيعِ الْمَالِ يُسَاوِيهِ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَأَيُّهُمَا هَلَكَ هَلَكَ بِنِصْفِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُطَالَبٌ بِجَمِيعِ الْمَالِ هُنَا فَهُمَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ فِي إيفَاءِ هَذَا الدَّيْنِ حَتَّى لَوْ أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِهِ فَيُجْعَلُ الرَّهْنُ مِنْ الثَّانِي زِيَادَةً فِي الرَّهْنِ الْأَوَّلِ فَيُقَسَّمُ الدَّيْنُ عَلَى قِيمَةِ الرَّهْنَيْنِ وَقِيمَتُهُمَا سَوَاءٌ ، فَأَيُّهُمَا هَلَكَ ذَهَبَ بِنِصْفِ الْمَالِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَا مُكَاتَبَيْنِ مُكَاتَبَةً وَاحِدَةً ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَالُ عَلَى أَحَدِهِمَا ، وَالْآخَرُ بِهِ كَفِيلٌ ، وَذَكَرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ ( رَحِمَهُمَا اللَّهُ ) هَذَا الْفَصْلَ ، وَقَالَ عِنْدَ زُفَرَ ( رَحِمَهُ اللَّهُ ) إذَا هَلَكَ أَحَدُهُمَا يَهْلَكُ جَمِيعُ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا رَضِيَ بِالرَّهْنِ فِي مَتَاعِهِ إلَّا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ذَلِكَ غَرَضٌ صَحِيحٌ ، فَغَرَضُ الْكَفِيلِ فِي ذَلِكَ أَنْ يَصِيرَ مُوفِيًا جَمِيعَ الدَّيْنِ بِهَلَاكِهِ ؛ لِيَرْجِعَ بِالْكُلِّ عَلَى الْأَصِيلِ ، وَغَرَضُ الْأَصِيلِ أَنْ يَصِيرَ مُوفِيًا جَمِيعَ الدَّيْنِ بِهَلَاكِهِ حَتَّى لَا يَرْجِعَ الْكَفِيلُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ( رَحِمَهُ اللَّهُ ) إنْ لَمْ يَعْلَمْ الثَّانِي بِالرَّهْنِ الْأَوَّلِ ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ وَإِنْ عَلِمَ بِهِ فَالثَّانِي : رَهْنٌ بِنِصْفِ الْمَالِ وَالْأَوَّلُ : رَهْنٌ بِجَمِيعِ الْمَالِ ؛ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْ الثَّانِي بِأَنْ يَكُونَ رَهْنُهُ زِيَادَةً فِي الرَّهْنِ الْأَوَّلِ حِينَ عَلِمَ بِهِ ، وَلَوْ أَنَّ الْمَدْيُونَ رَهَنَ مَتَاعَهُ بِالدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ وَتَبَرَّعَ إنْسَانٌ بِأَنْ رَهَنَ بِهِ مَتَاعًا آخَرِ لَهُ فَقَدْ رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ ( رَحِمَهُمَا اللَّهُ ) قَالَ : إنْ هَلَكَ رَهْنُ الْمَطْلُوبِ هَلَكَ جَمِيعُ الدَّيْنِ ، وَإِنْ هَلَكَ

رَهْنُ الْمُتَبَرِّعِ هَلَكَ نِصْفُ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ رَهْنَ الْمَطْلُوبِ صَارَ مَضْمُونًا بِجَمِيعِ الدَّيْنِ فَالْمُتَبَرِّعُ لَا يَمْلِكُ فَيُعْتَبَرُ مُوجَبُ عَقْدِهِ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا رَهْنُ الْمُتَبَرِّعِ ، فَهُوَ زِيَادَةٌ فِي رَهْنِ الْمَطْلُوبِ ، فَيَكُونُ بِنِصْفِ الدَّيْنِ .

وَلَوْ رَهَنَهُ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا دِينَارًا يُسَاوِي عَشَرَةً ثُمَّ رَخُصَ الْوَرِقُ ، فَصَارَتْ عِشْرُونَ دِرْهَمًا بِدِينَارٍ ، فَهَلَكَ الدِّينَارُ فَإِنَّمَا يَهْلَكُ بِالْعَشَرَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَةَ قِيمَةُ الرَّهْنِ حِينَ قَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ .

وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَرَهَنَ لَهُ دِينَارًا يُسَاوِي عَشَرَةً ثُمَّ غَلَا الْوَرِقُ فَصَارَتْ خَمْسَةً بِدِينَارٍ ، ثُمَّ رَهَنَهُ دِينَارًا آخَرَ جَمِيعًا رُهِنَ بِالْعَشَرَةِ فَإِنْ هَلَكَ الدِّينَارُ الْأَوَّلُ ذَهَبَ بِثُلُثَيْ الْعَشَرَةِ ، وَإِنْ هَلَكَ الْآخَرُ ذَهَبَ بِثُلُثِهَا ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الِانْقِسَامِ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حِينَ ثَبَتَ حُكْمُ الرَّهْنِ فِيهِ .

وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَرَهَنَهُ بِخَمْسِمِائَةٍ مِنْهَا عَبْدًا يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ ثُمَّ زَادَهُ أَمَةً رَهْنًا بِالْأَلْفِ كُلَّهَا تُسَاوِي أَلْفًا فَوَلَدَتْ بِنْتًا تُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ ، وَالْأُمَّةُ بَقِيَ الْوَلَدُ بِسُدُسِ الْخَمْسِمِائَةِ الَّتِي كَانَ الْعَبْدُ رَهْنًا بِهَا ، وَبِثُلُثِ الْخَمْسِمِائَةِ الْأُخْرَى ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْأَمَةِ رَهْنٌ بِخَمْسِمِائَةٍ وَنِصْفَهَا زِيَادَةٌ فِي رَهْنِ الْعَبْدِ بِالْخَمْسِمِائَةِ الْأُخْرَى فَتُقَسَّمُ تِلْكَ الْخَمْسُمِائَةِ عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ ، وَقِيمَةِ نِصْفِ الْأَمَةِ ، وَهُمَا سَوَاءٌ فَانْقَسَمَ نِصْفَيْنِ وَصَارَ فِي الْأَمَةِ نِصْفُ الْخَمْسُمِائَةِ الْأُولَى مَعَ الْخَمْسمِائَةِ الْأُخْرَى ، فَلَمَّا وَلَدَتْ وَلَدًا يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ انْقَسَمَ مَا فِيهَا عَلَى قِيمَتِهَا ، وَعَلَى قِيمَةِ وَلَدِهَا أَثْلَاثًا ؛ لِأَنَّ قِيمَتَهَا حِينَ رُهِنَتْ : أَلْفٌ ، وَقِيمَةَ وَلَدِهَا : خَمْسُمِائَةٍ فَصَارَ فِي الْوَلَدِ ثُلُثُ الْخَمْسِمِائَةِ الْأُخْرَى وَسُدُسُ الْخَمْسِمِائَةِ الْأَوْلَى ، فَيَبْقَى ذَلِكَ الْقَدْرُ بِبَقَاءِ الْوَلَدِ ، وَيَسْقُطُ مَا سِوَى ذَلِكَ بِمَوْتِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ .

وَإِذَا ارْتَهَنَ عَبْدًا بِخَمْسِمِائَةِ وَهُوَ يُسَاوَى أَلْفًا ثُمَّ زَادَهُ الْمُرْتَهِنُ خَمْسَمِائَةٍ عَلَى أَنْ زَادَهُ الْآخَرُ أَمَةً رَهْنًا بِجَمِيعِ الْمَالِ فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ( رَحِمَهُمَا اللَّهُ ) تَكُونُ الْأَمَةُ رَهْنًا بِجَمِيعِ الْمَالِ نِصْفُهَا مَعَ الْعَبْدِ فِي الْخَمْسِمِائَةِ الْأَوْلَى وَنِصْفُهَا بِالْخَمْسِمِائَةِ الْأُخْرَى وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ( رَحِمَهُ اللَّهُ ) هُمَا جَمِيعًا يَكُونَانِ رَهْنًا بِالْأَلْفِ كُلِّهَا ؛ لِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ ( رَحِمَهُ اللَّهُ ) يُجَوِّزُ الزِّيَادَةَ فِي الرَّهْنِ ، وَالدَّيْنِ وَهُمَا يُجَوِّزَانِ الزِّيَادَةَ فِي الرَّهْنِ دُونَ الدَّيْنِ ، فَلِهَذَا كَانَ الْعَبْدُ مَعَ نِصْفِ الْأَمَةِ رَهْنًا بِالْخَمْسِمِائَةِ الْأُولَى ، وَنِصْفُ الْأَمَةِ رَهْنًا بِالْخَمْسِمِائَةِ الْأُخْرَى ، وَلَيْسَ فِي الْعَبْدِ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ الْأُخْرَى شَيْءٌ .

وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَرَهَنَهُ بِخَمْسِمِائَةٍ مِنْهَا جَارِيَةً تُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ ، فَوَلَدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ابْنًا قِيمَتِهِ مِثْلُ قِيمَةِ أُمِّهِ فَالْأُولَى ، وَابْنُهَا ، وَنِصْفُ الْآخَرِ ، وَنِصْفُ ابْنِهَا رَهْنٌ بِالْخَمْسِمِائَةِ الْأُولَى ، وَنِصْفُ الْآخَرِ وَنِصْفُ ابْنِهَا رَهْنٌ بِالْخَمْسِمِائَةِ الْأُخْرَى ، فَإِنْ مَاتَتْ الْأُمُّ الْأُخْرَى ذَهَبَ رُبُعُ هَذِهِ الْخَمْسِمِائَةِ الَّتِي فِيهَا خَاصَّةً ، وَيَبْقَى نِصْفُ ابْنِهَا بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعٍ ، وَيَذْهَبُ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ الْأُولَى خَمْسُونَ دِرْهَمًا ؛ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ الْأُخْرَى ثَمَنُهَا خَمْسُمِائَةٍ ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَلَدَيْنِ تَبَعٌ لِأُمِّهِ ، فَنِصْفُ الْجَارِيَةِ الْأُخْرَى زِيَادَةٌ فِي رَهْنِ الْخَمْسِمِائَةِ الْأُولَى وَنِصْفُهَا رَهْنٌ بِالْخَمْسِمِائَةِ الْأُخْرَى وَقِيمَةُ هَذَا النِّصْفِ : مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ وَالرَّهْنُ مَضْمُونٌ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ وَمِنْ الدَّيْنِ فَصَارَ ثُلُثُ الْمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ مِنْ هَذِهِ الْخَمْسِمِائَةِ مَقْسُومًا عَلَى نِصْفِ قِيمَتِهَا ، وَوَلَدُهَا وَهُمَا سَوَاءٌ ، وَاَلَّذِي فِيهَا مِنْ هَذِهِ الْخَمْسِمِائَةِ رُبُعُهَا : مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ ؛ فَلِهَذَا يَسْقُطُ بِهَلَاكِهَا هَذِهِ الْخَمْسُمِائَةِ ، وَبَقِيَ نِصْفُ ابْنِهَا بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهَا ، فَأَمَّا الْخَمْسُمِائَةِ الْأُولَى فَانْقَسَمَتْ عَلَى قِيمَةِ الْجَارِيَةِ الْأَوْلَى ، وَهِيَ : أَلْفٌ وَعَلَى قِيمَةِ نِصْفِ الْجَارِيَةِ الثَّانِيَةِ ، وَهُوَ : مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ ، فَإِذَا جُعِلَ كُلُّ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ بَيْنَهُمَا انْقَسَمَ أَخْمَاسًا : خُمُسُ ذَلِكَ وَهُوَ : مِائَةٌ ، فِي نِصْفِ الْجَارِيَةِ الْأُخْرَى ، ثُمَّ انْقَسَمَ ذَلِكَ عَلَى نِصْفِ قِيمَتِهَا ، وَنِصْفِ قِيمَةِ وَلَدِهَا نِصْفَيْنِ ، فَكَانَ الَّذِي فِيهَا مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ الْأَوْلَى : خَمْسُونَ دِرْهَمًا فَيَذْهَبُ ذَلِكَ الْقَدْرُ بِهَلَاكِهَا .

وَلَوْ كَانَ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَزْنُ سَبْعَةٍ فَرَهَنَهُ بِخَمْسِمِائَةٍ مِنْهَا أَمَةً تُسَاوِي ثَمَانِمِائَةٍ رَهْنًا بِالْمَالِ كُلِّهِ فَوَلَدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ابْنًا قِيمَتِهِ مِثْلُ قِيمَةِ أُمِّهِ ثُمَّ مَاتَتْ الْأَوْلَى ذَهَبَ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ الْأَوْلَى السُّدُسُ ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْأَمَةِ الثَّانِيَةِ زِيَادَةٌ فِي الرَّهْنِ بِالْخَمْسِمِائَةِ الْأَوْلَى ، وَنِصْفُهَا رَهْنٌ بِالْخَمْسِمِائَةِ الْأُخْرَى فَالْخَمْسُمِائَةِ الْأَوْلَى انْقَسَمَتْ عَلَى قِيمَةِ الْجَارِيَةِ الْأَوْلَى ، وَهُوَ مِائَتَانِ وَعَلَى نِصْفِ قِيمَةِ الْأُخْرَى وَهُوَ أَرْبَعُمِائَةٍ فَيُقْسَمُ أَثْلَاثًا ثُلُثُهَا فِي الْجَارِيَةِ الْأَوْلَى ، وَثُلُثَاهَا فِي نِصْفِ الْجَارِيَةِ الْأُخْرَى ، ثُمَّ انْقَسَمَ مَا فِي الْأَوْلَى وَهُوَ ثُلُثُ الْخَمْسِمِائَةِ عَلَى قِيمَتِهَا وَقِيمَةِ وَلَدِهَا نِصْفَيْنِ ، فَحَاصِلُ مَا بَقِيَ فِيهَا سُدُسُ الْخَمْسِمِائَةِ ، وَذَلِكَ ثَلَاثَةٌ وَثَمَانُونَ ، وَثُلُثٌ ، فَإِذَا هَلَكَتْ هَلَكَتْ ، وَلَوْ لَمْ تَمُتْ الْأَوْلَى ، وَمَاتَتْ الْأُخْرَى ذَهَبَ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ الْأَوْلَى ثُلُثُهَا وَمِنْ الْخَمْسِمِائَةِ الْأُخْرَى خُمُسَاهَا ؛ لِأَنَّ ثُلُثَيْ الْخَمْسِمِائَةِ الْأَوْلَى كَانَ فِي نِصْفِهَا ، وَقَدْ انْقَسَمَ ذَلِكَ عَلَيْهَا ، وَعَلَى نِصْفِ وَلَدِهَا نِصْفَيْنِ فَإِنَّمَا بَقِيَ فِيهَا مِنْ تِلْكَ الْخَمْسِمِائَةِ ثُلُثُهَا فَيَهْلِكُ بِذَلِكَ وَقَدْ كَانَ نِصْفُهَا مَرْهُونًا بِالْخَمْسِمِائَةِ الْأُخْرَى إلَّا أَنَّ قِيمَةَ نِصْفِهَا : أَرْبَعُمِائَةٍ ، فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ مِنْ الضَّمَانِ إلَّا قَدْرَ قِيمَتِهَا ثُمَّ نِصْفُ ذَلِكَ قَدْ تَحَوَّلَ إلَى نِصْفِ وَلَدِهَا فَإِنَّمَا بَقِيَ فِيهَا مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ الْأُخْرَى مِائَتَانِ ، وَذَلِكَ خُمُسَاهَا ؛ فَلِهَذَا هَلَكَ بِذَلِكَ .

وَلَوْ كَانَ رَهَنَهُ بِخَمْسِمِائَةٍ مِنْ الْأَلْفِ أَمَةً تُسَاوِي أَلْفًا ، وَرَهَنَهُ بِالْخَمْسِمِائَةِ الْبَاقِيَةِ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا ثُمَّ زَادَهُ أَمَةً رَهْنًا ، فَالْمَالُ كُلُّهُ يُسَاوِي أَلْفًا ثُمَّ وَلَدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْأَمَتَيْنِ أَمَةً تُسَاوِي أَلْفًا ثُمَّ مَاتَتْ الْأُخْرَى ذَهَبَ سُدُسُ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ زِيَادَةً فِي الْكُلِّ فَنِصْفُهَا مَعَ الْأَمَةِ رَهْنٌ بِالْخَمْسِمِائَةِ الْأَوْلَى ، وَنِصْفُهَا مَعَ الْعَبْدِ رَهْنٌ بِالْخَمْسِمِائَةِ الْأُخْرَى ثُمَّ كُلُّ خَمْسِمِائَةٍ تَنْقَسِمُ أَثْلَاثًا عَلَى نِصْفِهَا ، وَعَلَى جَمِيعِ قِيمَةِ مَا هُوَ مَرْهُونٌ بِهَا خَاصَّةً ، وَهُوَ أَلْفٌ فَحَاصِلُ مَا ثَبَتَ فِيهَا بِالِانْقِسَامِ ثُلُثِ الْأَلْفِ ثُمَّ انْقَسَمَ هَذَا الْقَدْرُ عَلَيْهَا وَعَلَى وَلَدِهَا نِصْفَيْنِ فَإِنَّمَا بَقِيَ فِيهَا سُدُسُ الْمَالِ فَيَهْلِكُ بِذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَتْ الْأَوْلَى ذَهَبَتْ بِسُدُسِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الَّذِي كَانَ فِيهَا ثُلُثَا الْخَمْسِمِائَةِ الْأَوْلَى ، وَهُوَ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ ، وَقَدْ تَحَوَّلَ نِصْفُ ذَلِكَ إلَى أَوْلَادِهَا فَإِنَّمَا بَقِيَ فِيهَا سُدُسُ الْمَالِ ، وَهُوَ أَنَّ بِالْعَبْدِ ذَهَبَ ثُلُثُ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَصَابَ الْعَبْدُ بِالْقِسْمَةِ ثُلُثَا الْخَمْسِمِائَةِ الثَّانِيَةِ ، وَذَلِكَ ثُلُثُ جَمِيعِ الدَّيْنِ فَبِمَوْتِهِ يَسْقُطُ ذَلِكَ الْعَدَدُ .
وَلَوْ لَمْ يَمُتْ الْعَبْدُ فَقَضَى الْمَطْلُوبُ الطَّالِبَ خَمْسَمِائَةٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ إنْ شَاءَ الْعَبْدَ الْأَوَّلَ ، وَإِنْ شَاءَ الْأَمَةَ الْأَوْلَى وَابْنَهَا ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَصْرِفَ ذَلِكَ إلَى أَيِّ الرَّهْنَيْنِ شَاءَ فَيَسْتَرِدَّ ذَلِكَ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ الْأَمَةَ الْآخِرَةَ ، وَلَا وَلَدَهَا حَتَّى يُؤَدِّيَ جَمِيعَ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْأَمَةَ الْآخِرَةَ رَهْنٌ بِجَمِيعِ الْمَالِ فَتُحْبَسُ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَالِ ، وَوَلَدُهَا بِمَنْزِلَتِهَا ، وَذُكِرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ ( رَحِمَهُمَا اللَّهُ ) أَنَّهُ لَوْ رَهَنَ جَارِيَتَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَاسْتَحَقَّتْ إحْدَاهُمَا

فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ( رَحِمَهُ اللَّهُ ) : الْأُخْرَى رَهْنٌ بِحِصَّتِهَا مِنْ الْأَلْفِ ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ ( رَحِمَهُ اللَّهُ ) : الْأُخْرَى رَهْنٌ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ إنْ هَلَكَتْ ، وَذَلِكَ قِيمَتُهَا يَمْلِكُهَا بِهِ وَلَا يَفْتَكُّهَا إلَّا بِجَمِيعِ الْمَالِ ، وَلَوْ ظَهَرَ أَنَّ إحْدَاهُمَا مُدَبَّرَةٌ ، أَوْ أُمُّ وَلَدٍ فَالْأُخْرَى رَهْنٌ بِجَمِيعِ الْمَالِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ هَلَكَتْ هَلَكَتْ بِهِ فَزُفَرُ ( رَحِمَهُ اللَّهُ ) : قَاسَ اسْتِحْقَاقَ الْغَيْرِ إحْدَاهُمَا بِاسْتِحْقَاقِهَا نَفْسِهَا وَأَبُو يُوسُفَ ( رَحِمَهُ اللَّهُ ) : فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ : الْمُسْتَحِقُّ مَحِلٌّ لِلرَّهْنِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ رَهَنَهَا بِرِضَا صَاحِبِهَا جَازَ فَيَنْقَسِمُ الدَّيْنُ عَلَى قِيمَتِهَا فَإِنَّمَا صَارَتْ الْأُخْرَى رَهَنَهَا بِحِصَّتِهَا ، فَإِذَا هَلَكَتْ هَلَكَتْ بِهِ ، وَالْمُدَبَّرَةُ ، وَأُمُّ الْوَلَدِ لَيْسَتْ بِمَحِلٍّ لِلرَّهْنِ ، فَيَكُونُ جَمِيعُ الدَّيْنِ فِي الْأُخْرَى ، فَإِذَا هَلَكَتْ ، وَفِي قِيمَتِهَا وَفَاءٌ بِذَلِكَ صَارَ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا جَمِيعَ دَيْنِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ) قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إمْلَاءً : الْمُضَارَبَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِسَعْيِهِ وَعَمَلِهِ فَهُوَ شَرِيكُهُ فِي الرِّبْحِ ، وَرَأْسِ مَالِ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ وَالتَّصَرُّفِ .
وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يُسَمُّونَ هَذَا الْعَقْدَ مُقَارَضَةً وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا مُقَارَضَةً ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْقَرْضِ وَهُوَ الْقَطْعُ فَصَاحِبُ الْمَالِ قَطَعَ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْمَالِ عَنْ تَصَرُّفِهِ وَجَعَلَ التَّصَرُّفَ فِيهِ إلَى الْعَامِلِ بِهَذَا الْعَقْدِ فَسُمِّيَ بِهِ ، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا اللَّفْظَ الْأَوَّلَ ؛ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ } يَعْنِي السَّفَرَ لِلتِّجَارَةِ ، وَجَوَازُ هَذَا الْعَقْدِ عُرِفَ بِالسُّنَّةِ ، وَالْإِجْمَاعِ فَمِنْ السُّنَّةِ مَا رُوِيَ : أَنَّ { الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ إذَا دَفَعَ مَالًا مُضَارَبَةً شَرَطَ عَلَى الْمُضَارِبِ أَنْ لَا يَسْلُكَ بِهِ بَحْرًا ، وَأَنْ لَا يَنْزِلَ وَادِيًا ، وَلَا يَشْتَرِيَ بِهِ ذَاتَ كَبِدٍ رَطْبٍ ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ ضَمِنَ .
فَبَلَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ فَاسْتَحْسَنَهُ .
} وَكَانَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا دَفَعَ مَالًا مُضَارَبَةً شَرَطَ مِثْلَ هَذَا .
وَرُوِيَ : أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ وَعُبَيْدَ اللَّهِ ابْنَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَدِمَا الْعِرَاقَ وَنَزَلَا عَلَى أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لَوْ كَانَ عِنْدِي فَضْلُ مَالٍ لَأَكْرَمْتُكُمَا وَلَكِنْ عِنْدِي مَالٌ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ فَابْتَاعَا بِهِ ، فَإِذَا قَدِمْتُمَا الْمَدِينَةَ فَادْفَعَاهُ إلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلَكُمَا

رِبْحُهُ ، فَفَعَلَا ذَلِكَ ، فَلَمَّا قَدِمَا عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخْبَرَاهُ بِذَلِكَ ، فَقَالَ : " هَذَا مَالُ الْمُسْلِمِينَ فَرِبْحُهُ لِلْمُسْلِمِينَ " فَسَكَتَ عَبْدُ اللَّهِ وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ : " لَا سَبِيلَ لَك إلَى هَذَا فَإِنَّ الْمَالَ لَوْ هَلَكَ كُنْت تُضَمِّنُنَا .
قَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ - : " اجْعَلْهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْمُضَارِبَيْنِ ، لَهُمَا نِصْفُ الرِّبْحِ وَلِلْمُسْلِمِينَ نِصْفُهُ فَاسْتَصْوَبَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ : " قَالَ كَانَ لَنَا مَالٌ فِي يَدِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَكَانَتْ تَدْفَعُهُ مُضَارَبَةً فَبَارَكَ اللَّهُ لَنَا فِيهِ لِسَعْيِهَا .
وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدْفَعُ مَالَ الْيَتِيمِ مُضَارَبَةً عَلَى مَا رَوَى مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَبَدَأَ بِهِ الْكِتَابَ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ : " أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعْطَاهُ مَالَ يَتِيمٍ مُضَارَبَةً وَقَالَ لَا أَدْرِي كَيْفَ كَانَ الشَّرْطُ بَيْنَهُمَا ؟ فَعَمِلَ بِهِ بِالْعِرَاقِ وَكَانَ بِالْحِجَازِ ، الْيَتِيمُ كَانَ يُقَاسِمُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالرِّبْحِ ، وَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ الْمُضَارَبَةِ بِمَالِ الْيَتِيمِ ، وَأَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةَ النَّظَرِ فِي مَالِ الْيَتَامَى ، وَأَنَّ لِلْمُضَارِبِ وَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ الْمُسَافَرَةَ بِمَالٍ الْيَتِيمِ فِي طَرِيقٍ آمِنٍ أَوْ مَخُوفٍ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ الْقَوَافِلُ مُتَّصِلَةً ، فَقَدْ كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعْطَى زَيْدَ بْنَ خُلَيْدَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَالًا مُضَارَبَةً فَأَسْلَمَهُ إلَى عِتْرِيسِ بْنِ عُرْقُوبٍ فِي حَيَوَانٍ مَعْلُومٍ بِأَثْمَانٍ مَعْلُومَةٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ فَحَلَّ الْأَجَلُ فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ فَأَتَى عِتْرِيسٌ عَبْدَ اللَّهِ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَيْهِ فَذَكَرَ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " خُذْ رَأْسَ مَالِك وَلَا تُسَلِّمْهُ شَيْئًا مِمَّا لَنَا فِي الْحَيَوَانِ " .
وَفِيهِ دَلِيلُ

جَوَازِ الْمُضَارَبَةِ وَفَسَادِ السَّلَمِ ، وَإِنَّمَا اشْتَدَّ عَلَى عِتْرِيسِ بْنِ عُرْقُوبٍ ؛ لِفَسَادِ الْعَقْدِ أَيْضًا ، فَلَا يَظُنُّ بِهِ الْمُمَاطَلَةَ فِي قَضَاءِ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ مَعَ قَوْلِهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَيْرُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً .
} { وَبُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ يَتَعَامَلُونَ بِالْمُضَارَبَةِ بَيْنَهُمْ فَأَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَنَدَبَهُمْ أَيْضًا إلَيْهِ عَلَى مَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ عَالَ ثَلَاثَ بَنَاتٍ فَهُوَ أَسِيرٌ فَأَعِينُوهُ يَا عِبَادَ اللَّهِ ضَارِبُوهُ دَايِنُوهُ } ؛ وَلِأَنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً إلَى هَذَا الْعَقْدِ فَصَاحِبُ الْمَالِ قَدْ لَا يَهْتَدِي إلَى التَّصَرُّفِ الْمُرْبِحِ ، وَالْمُهْتَدِي إلَى التَّصَرُّفِ قَدْ لَا يَكُونُ لَهُ مَالٌ ، وَالرِّبْحُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِهِمَا يَعْنِي : الْمَالَ وَالتَّصَرُّفَ .
فَفِي جَوَازِ هَذَا الْعَقْدِ يَحْصُلُ مَقْصُودُهُمَا .
وَجَوَازُ عَقْدِ الشَّرِكَةِ بَيْنَ اثْنَيْنِ بِالْمَالِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ هَذَا الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ مِنْ جَانِبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُنَاكَ مَا يَحْصُلُ بِهِ الرِّبْحُ ؛ فَيَنْعَقِدُ بَيْنَهُمَا شَرِكَةً فِي الرِّبْحِ ؛ وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ التَّوْقِيتُ فِي هَذَا الْعَقْدِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِفَسْخِهِ ؛ لِأَنَّ انْعِقَادَهُ بِطَرِيقِ الشَّرِكَةِ دُونَ الْإِجَارَةِ .

وَلِهَذَا الْعَقْدِ أَحْكَامٌ شَتَّى مِنْ عُقُودٍ مُخْتَلِفَةٍ ، فَإِنَّهُ إذَا أَسْلَمَ رَأْسَ الْمَالِ لِلْمُضَارِبِ فَهُوَ أَمِينٌ فِيهِ ، كَالْمُودَعِ وَإِذَا تَصَرَّفَ فِيهِ فَهُوَ وَكِيلٌ فِي ذَلِكَ يَرْجِعُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ كَالْوَكِيلِ ، فَإِذَا حَصَلَ الرِّبْحُ كَانَ شَرِيكَهُ فِي الرِّبْحِ وَإِذَا فَسَدَ الْعَقْدُ كَانَتْ إجَارَةً فَاسِدَةً حَتَّى يَكُونَ لِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ ، وَإِذَا خَالَفَ الْمُضَارِبُ كَانَ غَاصِبًا ضَامِنًا لِلْمَالِ وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا الْعَقْدِ الشَّرِكَةُ فِي الرِّبْحِ وَكُلُّ شَرْطٍ يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ فِي الرِّبْحِ بَيْنَهُمَا مَعَ حُصُولِهِ فَهُوَ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُ مُفَوِّتٌ لِمُوجَبِ الْعَقْدِ وَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الْمُضَارَبَةَ بِالنِّصْفِ أَوْ الثُّلُثِ وَزِيَادَةِ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ قَالَ أَرَأَيْت إنْ لَمْ يَرْبَحْ إلَّا تِلْكَ الْعَشَرَةَ وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ قَطْعِ الشَّرِكَةِ فِي الرِّبْحِ مَعَ حُصُولِهِ بِأَنْ لَمْ يَرْبَحْ إلَّا تِلْكَ الْعَشَرَةُ وَعَنْ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمُضَارَبَةِ الْوَدِيعَةِ وَالدَّيْنِ سَوَاءٌ يَتَحَاصُّونَ ذَلِكَ فِي مَالِ الْمَيِّتِ وَبِهِ نَأْخُذُ ، وَالْمُرَادُ مُضَارَبَةٌ أَوْ وَدِيعَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ فَالْأَمِينُ بِالتَّجْهِيلِ يَصِيرُ ضَامِنًا فَهُوَ وَالدَّيْنُ سَوَاءٌ فَأَمَّا مَا كَانَ مُعَيَّنًا مَعْلُومًا فَصَاحِبُهُ أَوْلَى بِهِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغَرِيمِ بِمَوْتِ الْمَدْيُونِ يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ إلَّا بِمَا كَانَ أَمَانَةً فِي يَدِهِ لِغَيْرِهِ

وَعَنْ إبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ فِي الْوَصِيِّ يُعْطِي مَالَ الْيَتِيمِ مُضَارَبَةً وَإِنْ شَاءَ أَبْضَعَهُ وَإِنْ شَاءَ اتَّجَرَ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ وَكَانَ خَيْرًا لِلْيَتِيمِ فِعْلُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { : قُلْ إصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } وَالْأَحْسَنُ وَالْأَصْلَحُ فِي حَقِّهِ أَنْ يَتَّجِرَ بِمَالِهِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - { : ابْتَغُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى خَيْرًا كَيْ لَا تَأْكُلَهَا الصَّدَقَةُ } يَعْنِي : النَّفَقَةَ فَإِنْ احْتَسَبَ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ ، أَوْ وَجَدَ أَمِينًا يَحْتَسِبُ ذَلِكَ .
وَالْأَنْفَعُ لِلْيَتِيمِ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَيْهِ بِضَاعَةً وَإِنْ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ وَرُبَّمَا لَا يَرْغَبُ فِي أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ مَجَّانًا فَلَا بَأْسَ يَتَصَرَّفُ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الْمُضَارَبَةِ وَهُوَ أَنْفَعُ لِلْيَتِيمِ لِمَا يَحْصُلُ لَهُ مِنْ بَعْضِ الرِّبْحِ وَبِمَا لَا يَتَفَرَّغُ الْوَصِيُّ لِذَلِكَ فَيَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَدْفَعَهُ مُضَارَبَةً إلَى غَيْرِهِ وَإِذَا جَازَ مِنْهُ هَذَا التَّصَرُّفُ مَعَ نَفْسِهِ فَمَعَ غَيْرِهِ أَوْلَى وَذُكِرَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : " لَيْسَ عَلَى مَنْ قَاسَمَ الرِّبْحَ ضَمَانٌ " وَتَفْسِيرُهُ أَنَّهُ الْمُوَاضَعَةُ عَلَى الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ : " الْمُوَاضَعَةُ عَلَى الْمَالِ وَالرِّبْحُ عَلَى مَا اشْتَرَطَا عَلَيْهِ " وَبِهِ أَخَذْنَا فَقُلْنَا : " رَأْسُ الْمَالِ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِإِذْنِهِ لِيَتَصَرَّفَ فِيهِ لَهُ وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُعْطِي مَالَ الْيَتِيمِ مُضَارَبَةً " ، وَيَقُولُ { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ عَنْ : الْغُلَامِ حَتَّى يَحْتَلِمَ ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَصِحَّ ، وَعَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ } وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ وِلَايَةَ النَّظَرِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ لِلْقَاضِي إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَصِيٌّ لِعَجْزِ الْيَتِيمِ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ

وَإِلَيْهِ أَشَارَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا اسْتَدَلَّ بِهِ مِنْ الْحَدِيثِ

، وَعَنْ الشَّعْبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ أَخَذَ مَالًا مُضَارَبَةً أَنْفَقَ فِي مُضَارَبَتِهِ خَمْسَمِائَةٍ ثُمَّ رَبِحَ قَالَ يُتِمُّ رَأْسَ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ وَبِهِ أَخَذْنَا فَقُلْنَا لِلْمُضَارِبِ أَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ إذَا سَافَرَ بِهِ ؛ لِأَنَّ سَفَرَهُ كَانَ لِأَجْلِ الْعَمَلِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَيَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ فِيهِ كَالْمَرْأَةِ تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ عَلَى زَوْجِهَا إذَا زُفَّتْ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهَا فَرَّغَتْ نَفْسَهَا لَهُ ، فَقُلْنَا : الرِّبْحُ لَا يَظْهَرُ مَا لَمْ يُسَلِّمْ جَمِيعَ رَأْسِ الْمَالِ لِرَبِّهِ ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ اسْمٌ لِلْفَضْلِ فَمَا لَمْ يَحْصُلْ مَا هُوَ الْأَصْلُ لِرَبِّ الْمَالِ لَا يَظْهَرُ الْفَضْلُ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - { : مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ التَّاجِرِ لَا تَخْلُصُ لَهُ نَوَافِلُهُ مَا لَمْ تَخْلُصْ لَهُ فَرَائِضُهُ } فَالتَّاجِرُ لَا يَسْلَمُ لَهُ رِبْحُهُ حَتَّى يَسْلَمَ لَهُ رَأْسُ مَالِهِ وَعَنْ الشَّعْبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً فَخَرَجَ بِهَا إلَى خُرَاسَانَ وَأَشْهَدَ عِنْدَ خُرُوجِهِ أَنَّ هَذَا الْمَالَ مَالُ صَاحِبِ الْأَرْبَعَةِ الْآلَافِ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا حَقٌّ ثُمَّ أَقْبَلَ فَتُوُفِّيَ فِي الطَّرِيقِ فَأَشْهَدَ عِنْدَ مَوْتِهِ أَيْضًا بِذَلِكَ ، ثُمَّ إنَّ رَجُلًا جَاءَ بِصَكٍّ فِيهِ أَلْفُ مِثْقَالٍ مُضَارَبَةً مَعَ هَذَا الرَّجُلِ لَهُ بِهَا بَيِّنَةٌ وَهِيَ قَبْلَ الْأَرْبَعَةِ الْآلَافِ بِأَحَدٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً فَقَالَ عَامِرٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَشْهَدُ فِي حَيَاتِهِ وَعِنْدَ مَوْتِهِ أَنَّ الْمَالَ لِصَاحِبِ الْأَرْبَعَةِ الْآلَافِ وَبِهِ نَأْخُذُ فَإِنَّ حَقَّ الْآخَرِ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ بِتَجْهِيلِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حَقَّ الْغَرِيمِ يَتَعَلَّقُ بِشَرِكَةِ الْمَيِّتِ لَا بِمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْأَمَانَةِ وَإِنَّمَا أَفْتَى الشَّعْبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِهَذَا لِإِقْرَارِهِ بِالْعَيْنِ لِصَاحِبِ الْأَرْبَعَةِ الْآلَافِ فِي حَالِ صِحَّتِهِ لَا لِإِقْرَارِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ

فَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ بِالدَّيْنِ أَوْ الْعَيْنِ لَا يَكُونُ صَحِيحًا فِي حَقِّ مَنْ ثَبَتَ دَيْنُهُ بِالْبَيِّنَةِ لِكَوْنِهِ مُتَّهَمًا فِي ذَلِكَ وَإِقْرَارُهُ فِي الصِّحَّةِ بِذَلِكَ مَقْبُولٌ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِيهِ

وَعَنْ الْحَسَنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ الْمُضَارَبَةَ وَالشَّرِكَةَ بِالْعُرُوضِ وَبِهِ نَأْخُذُ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تَكُونُ الْمُضَارَبَةُ إلَّا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : " أَسْتَحْسِنُ أَنْ تَكُونَ الْمُضَارَبَةُ بِالْفُلُوسِ كَمَا تَكُونُ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ؛ لِأَنَّهَا ثَمَنٌ مِثْلَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ " وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي الْمُضَارَبَةِ بِالْفُلُوسِ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رِوَايَةً وَاحِدَةً أَنَّهَا تَجُوزُ ؛ لِأَنَّهَا مَا دَامَتْ رَائِجَةً فَهِيَ ثَمَنٌ لَا يَتَعَيَّنُ فِي الْعَقْدِ مُقَابَلَتُهَا بِجِنْسِهَا وَبِخِلَافِ جِنْسِهَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَالْعَقْدُ بِهَا يَكُونُ بِثَمَنٍ فِي الذِّمَّةِ لَا بَيْعًا فَيَكُونُ الرِّبْحُ لِلْمُضَارِبِ عَلَى ضَمَانِ الثَّمَنِ فَهُوَ وَالْمُضَارَبَةُ بِالدَّرَاهِمِ سَوَاءٌ وَهَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ بِالْفُلُوسِ جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّهَا ثَمَنٌ لَا يَتَعَيَّنُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِخِلَافِ جِنْسِهَا وَهَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَفِي الْأَصْلِ رُوِيَ عَنْهُمَا أَنَّ الْمُضَارَبَةَ بِالْفُلُوسِ لَا تَجُوزُ ؛ لِأَنَّهَا إذَا كَسَدَتْ فَهِيَ كَالْعُرُوضِ فَهِيَ ثَمَنٌ مِنْ وَجْهٍ مَبِيعٍ مِنْ وَجْهٍ وَهِيَ ثَمَنٌ لِبَعْضِ الْأَشْيَاءِ فِي عَادَةِ التُّجَّارِ دُونَ الْبَعْضِ فَكَانَتْ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَإِنَّهَا ثَمَنٌ دَيْنًا وَمَبِيعٌ عَيْنُهَا فَلَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ بِهَا ، وَهَذَا الِاسْتِدْلَال مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمُضَارَبَةِ بِالدَّرَاهِمِ التِّجَارِيَّةِ فَقَالَ : " لَوْ جَوَّزْتُ ذَلِكَ جَازَتْ الْمُضَارَبَةُ بِالطَّعَامِ بِمَكَّةَ " يَعْنِي أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَتَبَايَعُونَ بِالطَّعَامِ كَمَا أَنَّ أَهْلَ بُخَارَى يَتَبَايَعُونَ بِالْبُرِّ بِعَيْنِهِ .
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ - رَحِمَهُ

اللَّهُ - : " وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ : الصَّحِيحُ جَوَازُ الْمُضَارَبَةِ بِهَا عِنْدِي ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَعَزِّ النُّقُودِ عِنْدَنَا كَالدَّنَانِيرِ فِي سَائِرِ الْبُلْدَانِ " .
وَظَاهِرُ مَا ذُكِرَ هُنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُضَارَبَةَ بِالتِّبْرِ لَا تَجُوزُ ، وَالدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ اسْمٌ لِلْمَضْرُوبِ دُونَ التِّبْرِ ، وَذُكِرَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ التِّبْرَ لَا يُتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ وَلَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِهَلَاكِهِ فَذَلِكَ دَلِيلُ جَوَازِ الْمُضَارَبَةِ بِهِ ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ فِي الرَّوَاجِ فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ يُرَوَّجُ التِّبْرُ رَوَاجَ الْأَثْمَانِ وَتَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِهِ وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ هُوَ بِمَنْزِلَةِ السِّلَعِ لَا تَجُوزُ الْمُضَارَبَةُ بِهِ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ

وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ، أَوْ قَالَ : مَا كَانَ فِي ذَلِكَ مِنْ رِبْحٍ ، أَوْ قَالَ مَا رَزَقَك اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ رِبْحٍ ، أَوْ مَا رَبِحْت فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ كُلُّهُ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يُبْنَى عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَلَا يُنْظَرُ إلَى اخْتِلَافِ الْعِبَارَةِ بَعْدَ اتِّحَادِ الْمَقْصُودِ .
وَالْمَقْصُودُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ اشْتِرَاطُ التَّنَاصُفِ فِي الرِّبْحِ وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ لِلْمُضَارِبِ عُشْرَ الرِّبْحِ وَالْبَاقِي لِرَبِّ الْمَالِ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ لِلْمُضَارِبِ جُزْءٌ شَائِعٌ مَعْلُومٌ وَهَذَا الشَّرْطُ لَا يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِي الرِّبْحِ مَعَ حُصُولِهِ فَمَا مِنْ شَيْءٍ يَحْصُلُ مِنْ الرِّبْحِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ إلَّا وَلَهُ عُشْرٌ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَتْ الْأَلْفُ الْمَدْفُوعَةُ جَيِّدَةً أَوْ زُيُوفًا أَوْ نَبَهْرَجَةً ؛ لِأَنَّ الْفِضَّةَ تَغْلِبُ عَلَى الْعُشْرِ فِي هَذِهِ الْأَنْوَاعِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الدَّرَاهِمِ الْمَضْرُوبَةِ مِنْ النَّقْرَةِ فِيهَا

وَلَوْ قَالَ : عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَلِلْمُضَارِبِ مِنْ ذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَهَذِهِ مُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يُوجِبُ قَطْعَ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِي الرِّبْحِ مَعَ حُصُولِهِ فَرُبَّمَا لَا يَرْبَحُ إلَّا مِقْدَارَ الْمِائَةِ فَيَأْخُذُهُ مِنْ شَرْطٍ لَهُ وَيُجِيبُ الْآخَرُ وَفِي هَذَا الشَّرْطِ عَيْبٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ أَيْضًا وَرُبَّمَا يَرْبَحُ أَقَلَّ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ فَلَا يُسَلِّمُ جَمِيعَ الْمِائَةِ لِمَنْ شَرَطَ لَهُ مَعَ حُصُولِ الرِّبْحِ ؛ فَلِهَذَا فَسَدَ الْعَقْدُ .
فَإِنْ عَمِلَ ذَلِكَ فَرَبِحَ مَالًا أَوْ لَمْ يَرْبَحْ شَيْئًا فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ الرِّبْحِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الشَّرِكَةِ فِي الرِّبْحِ بِعَقْدِ الْمُضَارَبَةِ ، وَالْعَقْدُ الْفَاسِدُ لَا يَكُونُ بِنَفْسِهِ سَبَبًا لِلِاسْتِحْقَاقِ وَإِنَّمَا يَسْتَوْجِبُ أَجْرَ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّهُ عَمِلَ لِرَبِّ الْمَالِ وَابْتَغَى عَنْ عَمَلِهِ عِوَضًا فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ ذَلِكَ اسْتَحَقَّ أَجْرَ الْمِثْلِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ ، ثُمَّ إنْ كَانَ حَصَلَ الرِّبْحُ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُجَاوِزُ بِأَجْرِ مَا سُمِّيَ لَهُ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ مِنْ اخْتِلَافِهِمَا فِي شَرِكَةِ الِاحْتِطَابِ وَالِاحْتِشَاشِ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ الرِّبْحُ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ : " أَسْتَحْسِنُ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمُضَارِبِ شَيْءٌ " ؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ مِنْ الْعَقْدِ مُعْتَبَرٌ بِالصَّحِيحِ فِي الْحُكْمِ وَلَا طَرِيقَ لِمَعْرِفَةِ حُكْمِ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ إلَّا هَذَا فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ إذَا لَمْ يَرْبَحْ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا فَكَذَلِكَ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ .
وَجْهُ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِهَذَا الْعَقْدِ شَيْئًا مِنْ الرِّبْحِ بِحَالٍ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ حُصُولُ الرِّبْحِ فِي حَقِّ مَنْ يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ ، ثُمَّ

الْفَاسِدُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ بِالْجَائِزِ إذَا كَانَ انْعِقَادُ الْفَاسِدِ مِثْلَ انْعِقَادِ الْجَائِزِ كَالْبَيْعِ وَهُنَا الْمُضَارَبَةُ الصَّحِيحَةُ تَنْعَقِدُ شَرِكَةَ إجَارَةٍ ، وَالْمُضَارَبَةُ الْفَاسِدَةُ تَنْعَقِدُ إجَارَةً فَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ بِالْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْأَجْرِ عِنْدَ إيفَاءِ الْعَمَلِ ، وَلَوْ تَلِفَ الْمَالُ فِي يَدِهِ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ ضَامِنٌ لِلْمَالِ ، فَقِيلَ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي الْأَجِيرِ الْمُشْتَرِكِ إذَا تَلِفَ الْمَالُ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ ، فَإِنَّ هَذَا الْعَقْدَ انْعَقَدَ إجَارَةً وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ بِهَذَا الطَّرِيقِ مِنْ غَيْرِ وَاحِدٍ وَالْأَجِيرُ الْمُشْتَرِكُ لَا يُضَمَّنُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا هَلَكَ الْمَالُ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ وَعِنْدَهُمَا هُوَ ضَامِنٌ إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ فَمَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي كُلِّ مُضَارَبَةٍ فَاسِدَةٍ

وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَلِلْمُضَارِبِ رِبْحُ نِصْفِ الْمَالِ أَوْ قَالَ رِبْحُ عُشْرِ الْمَالِ ، أَوْ قَالَ : رِبْحُ مِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ فَهَذِهِ مُضَارَبَةٌ جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا الْمَعْنَى اشْتِرَاطَ جُزْءٍ شَائِعٍ مِنْ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَشْتَرِطَ لَهُ عُشْرُ الرِّبْحِ وَبَيْنَ أَنْ يَشْتَرِطَ لَهُ رِبْحَ عُشْرِ الْمَالِ وَلَا أَجْرَ لِلْمُضَارِبِ فِي عَمَلِهِ هُنَا إنْ لَمْ يَحْصُلْ الرِّبْحُ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ صِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ هُوَ شَرِيكٌ فِي الرِّبْحِ فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ الرِّبْحُ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا لِانْعِدَامِ مَحَلِّ حَقِّهِ

لَوْ قَالَ : عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَلِلْمُضَارِبِ رِبْحُ هَذِهِ الْمِائَةِ بِعَيْنِهَا أَوْ رِبْحُ هَذَا الصِّنْفِ بِعَيْنِهِ مِنْ الْمَالِ فَهِيَ مُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ فِي الرِّبْحِ مَعَ حُصُولِهِ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ لَا يَرْبَحَ فِيمَا يَشْتَرِي بِتِلْكَ الْمِائَةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمُزَارَعَةِ بِمَا سَقَتْ السَّوَانِي وَالْمَاذِيَانَاتُ فَأَفْسَدَهَا } وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ ذَلِكَ الشَّرْطَ يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْخَارِجِ مَعَ حُصُولِهِ فَيَتَعَدَّى ذَلِكَ الْحُكْمُ إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ بِهَذَا الْمَعْنَى ، فَإِنْ عَمِلَ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَوْفَى الْعَمَلَ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ

وَإِذَا دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَقَالَ : خُذْ هَذِهِ الْأَلْفَ مُضَارَبَةً بِالثُّلُثِ ، أَوْ قَالَ : بِالْخُمُسِ ، أَوْ قَالَ : بِالثُّلُثَيْنِ ، فَأَخَذَهَا وَعَمِلَ بِهَا فَهِيَ مُضَارَبَةٌ جَائِزَةٌ وَمَا شَرَطَهُ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ لِلْمُضَارِبِ وَمَا بَقِيَ لِرَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِالشَّرْطِ فَأَمَّا رَبُّ الْمَالِ فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ بِمَا مَلَكَهُ فَمُطْلَقُ الشَّرْطِ يَنْصَرِفُ إلَى جَانِبِ مَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَعُرْفُ النَّاسِ يَشْهَدُ بِذَلِكَ وَالثَّابِتُ بِالْعُرْفِ مِنْ التَّعْيِينِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ فَكَأَنَّهُ قَالَ : الثُّلُثَانِ مِنْ الرِّبْحِ لَك حَتَّى إذَا قَالَ : إنَّمَا عَنَيْتُ أَنَّ الثُّلُثَيْنِ لِي لَمْ يُصَدَّقْ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي خِلَافَ مَا هُوَ الظَّاهِرُ الْمُتَعَارَفُ وَالْقَوْلُ فِي الْمُنَازَعَاتِ قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ وَحَرْفُ الْبَاءِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصْحَبُ الْأَعْوَاضَ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بِالثُّلُثَيْنِ لَمْ يَسْتَحِقَّ الرِّبْحَ عِوَضًا وَهُوَ الْمُضَارِبُ وَأَنَّهُ فِي الْمَعْنَى يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ عِوَضًا عَنْ عَمَلِهِ فَلِهَذَا كَانَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ لِلْمُضَارِبِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ خُذْهَا مُعَاوَضَةً بِالنِّصْفِ أَوْ مُعَامَلَةً بِالنِّصْفِ ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْعُقُودِ لِلْمَعَانِي دُونَ الْأَلْفَاظِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ : بِعْتُكَ هَذَا الثَّوْبَ بِأَلْفٍ أَوْ الْمَكِيلَ بِأَلْفٍ ؟ وَلَوْ قَالَ : خُذْهَا عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَنَا وَلَمْ تَزِدْ عَلَى هَذَا فَهُوَ مُضَارَبَةٌ جَائِزَةٌ بِالنِّصْفِ ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ بَيْنَ تَنْصِيصٌ عَلَى الِاشْتِرَاكِ وَمُطْلَقُ الِاشْتِرَاكِ يَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْإِقْرَارِ إذَا قَالَ ثُلُثُ مَالِي بَيْنَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ أَوْ هَذَا الْمَالُ بَيْنَ فُلَانٍ وَفُلَانٍ كَانَ مُنَاصَفَةً بَيْنَهُمَا ؟ فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ الرِّبْحُ : بَيْنَنَا مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ اشْتِرَاطِ الْمُنَاصَفَةِ فِي

الرِّبْحِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ كَلِمَةِ بَيْنَ تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ قَوْله تَعَالَى { وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ } وَالْمُرَادُ التَّسْوِيَةُ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى { لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ }

وَلَوْ قَالَ خُذْهَا فَاعْمَلْ بِهَا عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَنَا نِصْفَيْنِ وَلَمْ يَقُلْ مُضَارَبَةً فَهِيَ مُضَارَبَةٌ جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ بِمَعْنَى الْمُضَارَبَةِ وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَى لَفْظِ الْمُضَارَبَةِ وَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِالتَّصْرِيحِ بِالْمَعْنَى ، وَلَيْسَ لِهَذَا الْعَقْدِ حُكْمٌ يَدُلُّ لَفْظُ الْمُضَارَبَةِ خَاصَّةً عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ بِخِلَافِ لَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : اعْمَلْ بِهَذِهِ الْأَلْفِ عَلَى أَنَّ لَك نِصْفَ رِبْحِهَا أَوْ جُزْءًا مِنْ عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ مِنْ رِبْحِهَا فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِالشَّرْطِ وَقَدْ نَصَّ عَلَى شَرْطِ نَصِيبِهِ مِنْ الرِّبْحِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : خُذْ هَذِهِ الْأَلْفَ فَاعْمَلْ بِهَا بِالنِّصْفِ ، أَوْ قَالَ : بِالثُّلُثِ فَهِيَ مُضَارَبَةٌ جَائِزَةٌ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ لِانْعِدَامِ التَّنْصِيصِ عَلَى مَا شَرَطَهُ لَهُ الثُّلُثُ وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْقَاقِ قَالَ : إنَّمَا يُرَادُ بِهَذَا فِي الْعُرْفِ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ لِلْمُضَارِبِ وَحَرْفُ الْبَاءِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ فَكَأَنَّهُ صَرَّحَ بِذَلِكَ وَلِلْقِيَاسِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَنُصَّ عَلَى الْمُضَارَبَةِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ إيجَابَ الثُّلُثِ لَهُ مِنْ أَصْلِ الْأَلْفِ بِمُقَابَلَةِ عَمَلِهِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إيجَابَ الثُّلُثِ لَهُ مِنْ الرِّبْحِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ : فِي عُرْفِ النَّاسِ الْمُرَادُ بِهَذَا اللَّفْظِ اشْتِرَاطُ الثُّلُثِ لَهُ مِنْ الرِّبْحِ فَهُوَ وَمَا لَوْ أَتَى بِلَفْظِ الْمُضَارَبَةِ سَوَاءٌ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ قَالَ : فِي وَصِيَّتِهِ أَوْصَيْتُ لَكَ بِثُلُثِي بَعْدَ مَوْتِي جَازَ اسْتِحْسَانًا وَكَانَ وَصِيَّةً لَهُ بِثُلُثِ الْمَالِ لِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ ؟ فَهَذَا مِثْلُهُ

وَلَوْ دَفَعَ الْأَلْفَ إلَيْهِ عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ كُلُّهُ لِلْمُضَارِبِ فَقَبَضَ الْمَالَ عَلَى هَذِهِ فَرَبِحَ أَوْ وَضَعَ أَوْ هَلَكَ الْمَالُ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ فَهُوَ قَرْضٌ عَلَيْهِ وَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ وَالرِّبْحُ كُلُّهُ لَهُ ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ جَمِيعِ التَّرِكَةِ لَهُ يَكُونُ تَنْصِيصًا عَلَى تَمْلِيكِ أَصْلِ الْمَالِ مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ جَمِيعَ الرِّبْحِ مَا لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِلْمَالِ .
وَلِلتَّمْلِيكِ طَرِيقَانِ الْهِبَةُ وَالْإِقْرَاضُ فَعِنْدَ التَّرَدُّدِ لَا يَثْبُتُ إلَّا أَدْنَى الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقِّنٌ بِهِ وَأَدْنَى الْوَجْهَيْنِ الْقَرْضُ فَلِهَذَا جُعِلَ مُقْرِضًا الْمَالَ مِنْهُ وَلَوْ كَانَ قَالَ : عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ ، فَهَذِهِ بِضَاعَةٌ مَعَ الْمُضَارِبِ وَلَيْسَ لَهُ فِيهَا رِبْحٌ ، وَلَا أَجْرٌ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْمَالِ إنْ هَلَكَ ؛ لِأَنَّهُ مَا ابْتَغَى عَنْ عَمَلِهِ عِوَضًا فَيَكُونُ هُوَ فِي الْعَمَلِ مُعَيِّنًا لِصَاحِبِ الْمَالِ ، وَالْمُعَيِّنُ فِي التِّجَارَةِ مُسْتَصْنِعٌ فَيَكُونُ الْمَالُ فِي يَدِهِ أَمَانَةً ، وَرَبُّ الْمَالِ لَمْ يَعْنِهِ فِي شَيْءٍ حِينَ شَرَطَ جَمِيعَ الرِّبْحِ لِنَفْسِهِ وَهَذَا الْأَصْلُ الَّذِي قُلْنَا ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ لِلْمَقْصُودِ فِي كُلِّ عَقْدٍ دُونَ اللَّفْظِ .

وَلَوْ قَالَ : خُذْ هَذِهِ الْأَلْفَ مُضَارَبَةً أَوْ مُقَارَضَةً وَلَمْ يَذْكُرْ رِبْحًا فَهِيَ مُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ شَرِيكٌ فِي الرِّبْحِ ، وَالتَّنْصِيصُ عَلَى لَفْظِ الْمُضَارَبَةِ يَكُونُ اسْتِرْدَادًا لِجُزْءٍ مِنْ رِبْحِ الْمُضَارِبِ وَذَلِكَ الْجُزْءُ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَجَهَالَتُهُ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا ، وَمِثْلُهُ إذَا كَانَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ يَكُونُ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ فَيَكُونُ الرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ ، وَلِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِهِ رَبِحَ أَوْ لَمْ يَرْبَحْ .
وَلَوْ قَالَ : عَلَى أَنَّ لِرَبِّ الْمَالِ ثُلُثَ الرِّبْحِ وَلَمْ يُسَمِّ لِلْمُضَارِبِ شَيْئًا فَهَذِهِ مُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ فِي الْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُبَيِّنَا مَا هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ وَهُوَ نَصِيبُ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ وَإِنَّمَا ذَكَرَا مَا لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ وَهُوَ نَصِيبُ رَبِّ الْمَالِ وَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى ذَلِكَ فَرَبُّ الْمَالِ لَا يَسْتَحِقُّ بِالشَّرْطِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ اشْتِرَاطِ الثُّلُثِ لِرَبِّ الْمَالِ اشْتِرَاطُ مَا بَقِيَ لِلْمُضَارِبِ فَإِنَّ ذَلِكَ مَفْهُومٌ وَالْمَفْهُومُ لَا يَكُونُ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ وَمِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ اشْتِرَاطَ بَعْضِ الرِّبْحِ لِعَامِلٍ آخَرَ يَعْمَلُ مَعَهُ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا بَيَّنَ نَصِيبَ الْمُضَارِبِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ هُنَا مَا يُحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ وَهُوَ بَيَانُ نَصِيبِ مَنْ يَسْتَحِقُّ بِالشَّرْطِ ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ عَقْدُ شَرِكَةٍ فِي الرِّبْحِ وَالْأَصْلُ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ أَنَّهُ إذَا بَيَّنَ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا كَانَ ذَلِكَ بَيَانًا فِي حَقِّ الْآخَرِ إنَّ لَهُ مَا بَقِيَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ } مَعْنَاهُ وَلِلْأَبِ مَا بَقِيَ وَهُنَا إلَيْهِ الْمَالُ مُضَارَبَةً فَذَلِكَ تَنْصِيصٌ عَلَى الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِي الرِّبْحِ ، فَإِذَا قَالَ : عَلَى أَنَّ لِي ثُلُثَ الرِّبْحِ ، يَصِيرُ كَأَنْ قَالَ : وَلَكَ مَا بَقِيَ كَمَا لَوْ قَالَ عَلَى أَنَّ لَكَ ثُلُثَ الرِّبْحِ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ : وَلِي مَا بَقِيَ

وَلَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ لَكَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا عَلَى مَا اشْتَرَطَا ، فَهَذَا مِثْلُهُ وَهَذَا عَمَلٌ بِالْمَنْصُوصِ لَا بِالْمَفْهُومِ وَلَوْ قَالَ : عَلَى أَنَّ لِلْمُضَارِبِ ثُلُثَ الرِّبْحِ أَوْ سُدُسَهُ كَانَتْ الْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةً ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنُصَّ فِي نَصِيبِ الْمُضَارِبِ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ وَلَكِنْ رَدَّدَهُ بَيْنَ الثُّلُثِ وَالسُّدُسِ وَبِهَذَا اللَّفْظِ تُمْكِنُ فِيمَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُضَارِبُ جَهَالَةٌ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : عَلَى أَنَّ لِي نِصْفَ الرِّبْحِ أَوْ ثُلُثَهُ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ وَلَك مَا بَقِيَ النِّصْفُ أَوْ الثُّلُثُ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ لِجَهَالَةٍ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فِيمَا شُرِطَ لِلْمُضَارِبِ

وَلَوْ شُرِطَ لِلْمُضَارِبِ ثُلُثُ الرِّبْحِ وَلِرَبِّ الْمَالِ نِصْفُ الرِّبْحِ فَالثُّلُثُ لِلْمُضَارِبِ كَمَا شُرِطَ إلَيْهِ وَالْبَاقِي كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمُضَارِبِ بِالشَّرْطِ وَمَا شُرِطَ لَهُ إلَّا الثُّلُثُ ، وَرَبُّ الْمَالِ يَسْتَحِقُّ مَا بَقِيَ لِكَوْنِهِ بِمَا مَلَكَهُ وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الْمَسْكُوتِ عَنْهُ فَيَكُونُ لَهُ

وَلَوْ قَالَ : خُذْ هَذِهِ الْأَلْفَ لِتَشْتَرِيَ بِهَا هَرَوِيًّا بِالنِّصْفِ أَوْ قَالَ : لِتَشْتَرِيَ بِهَا رَقِيقًا بِالنِّصْفِ فَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ بِبَعْضِ مَا يَحْصُلُ بِعَمَلِهِ وَهُوَ نِصْفُ الْمُشْتَرَى وَذَلِكَ فَاسِدٌ ثُمَّ هَذَا اسْتِئْجَارٌ بِأُجْرَةٍ مَجْهُولَةٍ وَإِنَّمَا جَعَلْنَاهُ اسْتِئْجَارًا ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالشِّرَاءِ خَاصَّةً وَالرِّبْحُ لَا يَحْصُلُ بِالشِّرَاءِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِهِ وَبِالْبَيْعِ وَهُوَ بِالْأَمْرِ بِالشِّرَاءِ لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ .
عَرَفْنَا أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ لَيْسَ شَرِكَةً بَيْنَهُمَا فِي الرِّبْحِ فَبَقِيَ اسْتِئْجَارًا عَلَى الشِّرَاءِ بِأُجْرَةٍ مَجْهُولَةٍ وَهَذَا فَاسِدٌ يَعْنِي بِهِ الْإِجَارَةَ فَأَمَّا الْوَكَالَةُ بِالشِّرَاءِ فَجَائِزَةٌ وَمَا اُشْتُرِيَ بِهَا يَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ .
وَلِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا اُشْتُرِيَ ؛ لِأَنَّهُ ابْتَغَى فِي عَمَلِهِ عِوَضًا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ مَا اشْتَرَى إلَّا بِأَمْرِ رَبِّ الْمَالِ فَإِنْ بَاعَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِجَازَةِ الْمَالِكِ .
فَإِنْ تَلِفَ مَا بَاعَ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْمُشْتَرِي مِنْهُ فَالْمُضَارِبُ ضَامِنٌ لَقِيمَتِهِ حِينَ بَاعَ ؛ لِأَنَّهُ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ غَاصِبٌ وَالثَّمَنُ الَّذِي بَاعَ بِهِ الْمُضَارِبُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ فَيَنْفُذُ بَيْعُهُ مِنْ جِهَتِهِ فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ عَلَى الْقِيمَةِ الَّتِي غَرِمَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ إلَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَأَصْلُهُ فِي الْمُودِعِ إذَا تَصَرَّفَ فِي الْوَدِيعَةِ وَرَبِحَ وَإِذَا أَجَازَ رَبُّ الْمَالِ بَيْعَ الْمُضَارِبِ فَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ نَفَذَ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لَا يَدْرِي أَنَّهُ قَائِمٌ أَمْ هَالِكٌ ؛ لِأَنَّ التَّمَسُّكَ بِالْأَصْلِ الْمَعْلُومِ وَاجِبٌ حَتَّى يُعْلَمَ غَيْرُهُ وَقَدْ عَلِمْنَا قِيَامَهُ فَجَازَ الْبَيْعُ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ ، وَالثَّمَنُ لِرَبِّ الْمَالِ لَا يَتَصَدَّقُ مِنْهُ بِشَيْءٍ

كَمَا لَوْ كَانَ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَإِنْ عَلِمَ هَلَاكَهُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ فَإِجَارَتُهُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمُلْكَ يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي بِالْعَقْدِ عِنْدَ الْإِجَارَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ يَقْبَلُ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ حَتَّى يَنْفُذَ الْعَقْدُ فِيهِ بِالْإِجَارَةِ فَإِذَا بَطَلَتْ الْإِجَارَةُ كَانَ الْمُضَارِبُ ضَامِنًا لِلْقِيمَةِ يَوْمَ بَاعَهُ وَالثَّمَنُ لَهُ يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ إذَا كَانَ فِيهِ

وَلَوْ قَالَ : خُذْ هَذِهِ الْأَلْفَ فَابْتَعْ بِهَا مَتَاعًا فَمَا كَانَ مِنْ فَضْلٍ فَلَكَ النِّصْفُ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذِهِ فَهُوَ فَاسِدٌ فِي الْقِيَاسِ أَيْضًا لِأَنَّ الِابْتِيَاعَ عِبَارَةٌ عَنْ الشِّرَاءِ فَهَذَا وَقَوْلُهُ اشْتَرِ بِهَا بِالنِّصْفِ سَوَاءٌ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ هَذِهِ مُضَارَبَةٌ جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الِابْتِيَاعِ عَامٌّ يَقَعُ عَلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ جَمِيعًا وَبِقَوْلِهِ فَمَا كَانَ مِنْ فَضْلٍ .
تَبَيَّنَ أَنَّ مُرَادَهُ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْفَضْلَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِهِمَا فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مَا بَدَا لَهُ وَيَبِيعَهُ وَإِنَّمَا شَرَطَ لَهُ نِصْفَ الرِّبْحِ فَكَانَتْ مُضَارَبَةً جَائِزَةً وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ خُذْهَا بِالنِّصْفِ فَهُوَ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ هَذِهِ أَفْسَدُ مِنْ قَوْلِهِ اشْتَرِ بِهَا هَرَوِيًّا بِالنِّصْفِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هُنَا لَمْ يَنُصَّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْعَمَلِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ حَرْفًا يَدُلُّ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ وَهُوَ حَرْفُ الْبَاءِ وَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى الْعِوَضِ لَهُ وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْعِوَضَ بِاعْتِبَارِ عَمَلِهِ ، وَعَمَلُهُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِاعْتِبَارِهِ عِوَضًا مُسَمًّى هُوَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ جَمِيعًا فَكَأَنَّهُ نَصَّ عَلَيْهِمَا .
وَبِهَذِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ مُرَادَهُ اشْتِرَاطُ نِصْفِ الرِّبْحِ لَهُ فَأَمَّا هُنَاكَ فَنَصَّ عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي أَوْجَبَ لَهُ الْعِوَضَ بِمُقَابِلَتِهِ وَهُوَ الشِّرَاءُ فَيَكُونُ اسْتِئْجَارًا بِأُجْرَةٍ مَجْهُولَةٍ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : خُذْهَا عَلَى النِّصْفِ ؛ لِأَنَّ حَرْفَ عَلَى وَحَرْفَ الْبَاءِ مُسْتَعْمَلَانِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَحَلِّ اسْتِعْمَالًا وَاحِدًا وَيَكُونُ دَلِيلًا عَلَى الْمُعَاوَضَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ اعْمَلْ بِهَذِهِ عَلَى النِّصْفِ ؛ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى الْعَمَلِ هُنَا وَإِنَّمَا يَتَصَرَّفُ لِلْعَمَلِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الرِّبْحُ وَذَلِكَ الشِّرَاءُ وَالْبَيْعُ جَمِيعًا

وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ مُضَارَبَةً عَلَى أَنْ يُعْطِيَ الْمُضَارِبُ رَبَّ الْمَالِ مَا شَاءَ مِنْ الرِّبْحِ أَوْ عَلَى أَنْ يُعْطِيَ رَبُّ الْمَالِ الْمُضَارِبَ مَا شَاءَ مِنْ الرِّبْحِ فَهَذِهِ مُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ لِجَهَالَةِ حِصَّةِ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ فِي الْفَصْلَيْنِ فَإِنَّ الْمَشِيئَةَ الْمَشْرُوطَةَ لِأَحَدِهِمَا لَا تَكُونُ لَازِمَةً فِي حَقِّ الْآخَرِ وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْ ذَلِكَ مَتَى شَاءَ وَعِنْدَ رُجُوعِهِ تَتَمَكَّنُ مِنْهُمَا الْمُنَازَعَةُ بِاعْتِبَارِ جَهَالَةِ نَصِيبِ الْمُضَارِبِ وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَ لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ مَا شَاءَ مِنْ الرِّبْحِ وَلِلْآخَرِ مَا بَقِيَ فَهَذِهِ مُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ لِجَهَالَةِ نَصِيبِ الْمُضَارِبِ سَوَاءٌ كَانَ صَاحِبَ الشَّرْطِ أَوْ صَاحِبَ مَا بَقِيَ

وَلَوْ اشْتَرَطَا لِرَبِّ الْمَالِ مِنْ الرِّبْحِ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَالْبَاقِي لِلْمُضَارِبِ فَهَذِهِ مُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ فِي الرِّبْحِ مَعَ حُصُولِهِ فَرُبَّمَا لَا يَحْصُلُ إلَّا قَدْرُ الْمِائَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَطَا لِلْمُضَارِبِ نِصْفَ الرِّبْحِ إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ نِصْفَ الرِّبْحِ وَزِيَادَةَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَهَذِهِ فَاسِدَةٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يُؤَدِّي إلَى قَطْعِ الشَّرِكَةِ ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ مُخَاطَرَةٌ لَا مُضَارَبَةٌ فَرُبَّمَا يَكُونُ الْحَاصِلُ مِنْ الرِّبْحِ دُونَ الْعَشَرَةِ فَيَتَعَذَّرُ مُرَاعَاةُ الشَّرْطِ عَلَيْهِمَا مَعَ حُصُولِ الرِّبْحِ

وَلَوْ دَفَعَهَا إلَيْهِ مُضَارَبَةً عَلَى مِثْلِ مَا شَرَطَ فُلَانٌ لِفُلَانٍ مِنْ الرِّبْحِ فَإِنْ كَانَا قَدْ عَلِمَا جَمِيعًا مَا شَرَطَهُ فُلَانٌ لِفُلَانٍ فَهُوَ مُضَارَبَةٌ لِأَنَّهُمَا جَعَلَا الْمَشْرُوطَ لِفُلَانٍ عِيَارًا فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا عِنْدَهُمَا ضَارِبًا بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَهُمَا أَوْ لَمْ يَعْلَمْهُ أَحَدُهُمَا فَهِيَ مُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ ؛ لِأَنَّ حِصَّةَ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَعْلُومَةً لَهُمَا بِمَا ذَكَرَا فِي الْعَقْدِ لَمْ يَصِرْ ذَلِكَ مَعْلُومًا لَهُمَا فَفَسَدَ الْعَقْدُ لِجَهَالَةِ نَصِيبِ الْمُضَارِبِ عِنْدَهُمَا أَوْ عِنْدَ أَحَدِهِمَا وَقْتَ الْعَقْدِ

وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلٍ دَرَاهِمَ مُضَارَبَةً وَلَا يَدْرِي وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَا وَزْنُهَا فَهِيَ مُضَارَبَةٌ جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّ الْإِعْلَامَ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ أَبْلَغُ مِنْ الْإِعْلَامِ بِالتَّسْمِيَةِ وَرَأْسُ الْمَالِ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ كَالْوَدِيعَةِ ، وَالدَّرَاهِمُ تَتَعَيَّنُ فِي الْأَمَانَةِ وَعِنْدَ الشِّرَاءِ بِهَا يُعْلَمُ مِقْدَارُهَا بِالْوَزْنِ وَيُقْبَلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ فِيهِ لِكَوْنِهِ أَمِينًا فَجَهَالَةُ الْمِقْدَارِ عِنْدَ الْعَقْدِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ عِنْدَ قِسْمَةِ الرِّبْحِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْقَابِضُ وَالْقَوْلُ فِي مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ قَوْلُ الْقَابِضِ ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَلِلْمُضَارِبِ ثُلُثُهُ وَلِرَبِّ الْمَالِ ثُلُثُهُ وَلِعَبْدِ الْمُضَارِبِ ثُلُثُهُ فَهُوَ جَائِزٌ وَثُلُثَا الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ لِلْعَبْدِ الَّذِي دِينَ عَلَيْهِ كَالْمَشْرُوطِ لِمَوْلَاهُ فَإِنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ مَمْلُوكٌ لِمَوْلَاهُ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ الْمُضَارِبِ ثُلُثَيْ الرِّبْحِ لِنَفْسِهِ فَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ لِلْعَبْدِ الْمُضَارِبِ وَلَكِنَّهُ شَرَطَ لِعَبْدِ رَبِّ الْمَالِ فَقُلْنَا الرِّبْحُ لِرَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْمَشْرُوطَ لِعَبْدِهِ كَالْمَشْرُوطِ لَهُ أَوْ يُجْعَلُ هَذَا فِي حَقِّهِ كَالْمَسْكُوتِ عَنْهُ وَلَوْ كَانَ اشْتِرَاطُ الثُّلُثِ لِعَبْدِ الْمُضَارِبِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِكَسْبِهِ فَالثُّلُثَانِ مِنْ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ اسْتِغْرَاقَ كَسْبِ الْعَبْدِ بِالدَّيْنِ يَمْنَعُ مُلْكَ الْمَوْلَى فِي كَسْبِهِ وَيَكُونُ الْمَوْلَى مِنْ كَسْبِهِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَالْمَشْرُوطُ لِلْعَبْدِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالْمَشْرُوطِ لِأَجْنَبِيٍّ آخَرَ

وَلَوْ شَرَطَ ثُلُثَ الرِّبْحِ لِأَجْنَبِيٍّ كَانَ ذَلِكَ لِرَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِعَمَلٍ أَوْ مَالٍ وَلَيْسَ لِلْمَشْرُوطِ لَهُ عَمَلٌ وَلَا مَالٌ فِي هَذَا الْعَقْدِ فَيَلْغُو مَا شُرِطَ لَهُ وَيُجْعَلُ ذَلِكَ كَالْمَسْكُوتِ عَنْهُ فَيَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ ، وَلَا تَفْسُدُ الْمُضَارَبَةُ بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَرَبِّ الْمَالِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ لَيْسَ مِنْ صُلْبِ الْعَقْدِ وَإِنَّمَا صُلْبُ الْعَقْدِ بَيَانُ حِصَّةِ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ بِالشَّرْطِ وَلَا فَسَادَ فِي ذَلِكَ ، وَعَقْدُ الْمُضَارَبَةِ نَظِيرُ عَقْدِ الشَّرِكَةِ لَا يَفْسُدُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا فِي صُلْبِ الْعَقْدِ بِخِلَافِ مَا إذَا شُرِطَ لِلْمُضَارِبِ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَالشَّرْطُ الْفَاسِدُ هُنَاكَ فِيمَا هُوَ مِنْ صُلْبِ الْعَقْدِ وَلَكِنْ مَا نَحْنُ فِيهِ نَظِيرُ مَا لَوْ شُرِطَ أَنْ تَكُونَ الْوَضِيعَةُ عَلَيْهِمَا فَإِنَّ هَذَا الشَّرْطَ فَاسِدٌ وَالْوَضِيعَةُ عَلَى الْمَالِ وَلَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ صُلْبِ الْعَقْدِ وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فَثُلُثَا الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا الْوَلِيُّ يَمْلِكُ كَسْبَ عَبْدِهِ وَإِنْ كَانَ مُسْتَغْرَقًا بِالدَّيْنِ فَالْمَشْرُوطُ لِعَبْدِ الْمُضَارِبِ كَالشَّرْطِ لِلْمُضَارِبِ عِنْدَهُمَا

وَلَوْ كَانَ اشْتَرَطَ ثُلُثَ الرِّبْحِ لِامْرَأَةِ الْمُضَارِبِ أَوْ لِابْنِهِ أَوْ لِمُكَاتَبِهِ كَانَ ذَلِكَ الشُّرْطُ بَاطِلًا وَلَا يَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ صُلْبِ الْعَقْدِ وَالْمُضَارَبَةُ جَائِزَةٌ وَثُلُثَا الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمَرْأَةِ وَالِابْنِ فِي هَذَا الْعَقْدِ مَالٌ وَلَا عَمَلٌ فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ الرِّبْحِ وَلَكِنْ مَا شُرِطَ لَهُ كَالْمَسْكُوتِ عَنْهُ فَيَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ اشْتَرَطَ الثُّلُثَ لِامْرَأَةِ رَبِّ الْمَالِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ آخَرَ وَلَوْ كَانَ الثُّلُثُ لِلْمَسَاكِينِ أَوْ لِلْحَجِّ أَوْ فِي الرِّقَابِ فَهُوَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَا سُمِّيَ لَهُ ثُلُثُ الرِّبْحِ لَيْسَ مِنْ جَانِبِهِ رَأْسُ مَالٍ وَلَا عَمَلٌ فَالشَّرْطُ لَهُ يَلْغُو وَاشْتِرَاطُهُ لِلْمَسَاكِينِ تَصَدُّقٌ بِمَا لَمْ يَمْلِكْهُ بَعْدُ فَكَانَ بَاطِلًا وَيُجْعَلُ ذَلِكَ كَالْمَسْكُوتِ عَنْهُ فَيَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَسَدَ جَمِيعُ الْمُضَارَبَةِ كَانَ جَمِيعُ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ فَكَذَلِكَ إذَا فَسَدَ بَعْضُ الشَّرْطِ كَانَ ذَلِكَ لِرَبِّ الْمَالِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ إنَّمَا يَمْلِكُ بِالشَّرْطِ أَمِينًا كَانَ أَوْ ضَمِينًا وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ لِإِثْبَاتِهِ الزِّيَادَةَ بِبَيِّنَةٍ

وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عِنْدَ رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٌ وَدِيعَةً فَأَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى رَأْسِ مَالٍ هُوَ عَيْنٌ وَهُوَ شَرْطُ صِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ رَبِّ الْمَالِ أَوْ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَسْلِيمِهِ إلَى الْمُضَارِبِ عَقِيبَ الْعَقْدِ وَلَمْ يُذْكَرْ مَا لَوْ كَانَتْ الدَّرَاهِمُ مَغْصُوبَةً فِي يَدِ ذِي الْيَدِ فَقَالَ : اعْمَلْ بِهَا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ وَفِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - قَالَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا الْوَدِيعَةُ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى رَأْسِ مَالِ عَيْنٍ وَذَلِكَ مِنْهُ رِضَاءً بِقَبْضِ الْمُضَارِبِ وَإِسْقَاطِهِ لِحَقِّهِ فِي الضَّمَانِ فَيَلْحَقُ بِالْأَمَانَةِ ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَذَا لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُضَارِبِ وَهَذَا الشَّرْطُ لَا يَحْصُلُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ لَا يَصْلُحُ قَابِضًا مِنْ نَفْسِهِ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ حَتَّى يَنْسَخَ بِهِ حُكْمَ الْغَصْبِ وَلِهَذَا لَوْ وُكِّلَ الْغَاصِبُ بِبَيْعِ الْمَغْصُوبِ لَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ حَتَّى يَبِيعَهُ وَيُسَلِّمَهُ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ هُنَا لَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ

وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنٌ فَأَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا مُضَارَبَةً وَيَشْتَرِيَ بِهَا مَا بَدَا لَهُ مِنْ الْمَتَاعِ ثُمَّ يَبِيعُهُ بِالنِّصْفِ فَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ كَوْنُ رَأْسِ الْمَالِ عَيْنًا وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ عِنْدَ الْعَقْدِ وَلَا بَعْدَهُ .
فَالْمَدْيُونُ لَا يَكُونُ قَابِضًا لِلدَّيْنِ مِنْ نَفْسِهِ لِصَاحِبِهِ ، وَصَاحِبُ الدَّيْنِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُبْرِئَهُ عَنْ الضَّمَانِ مَعَ بَقَائِهِ بِدُونِ الْقَبْضِ فَإِذَا لَمْ تَصْلُحْ الْمُضَارَبَةُ فَمَا اشْتَرَاهُ الْمَدْيُونُ فَهُوَ لَهُ لَا شَيْءَ لِرَبِّ الْمَالِ مِنْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَدَيْنُهُ عَلَيْهِ بِحَالِهِ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ مَا اشْتَرَى فَهُوَ لِرَبِّ الْمَالِ ، وَالْمُضَارِبُ بَرِيءٌ مِنْ دَيْنِهِ وَلَهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ كِتَابِ الْبُيُوعِ إذَا قَالَ لِمَدْيُونِهِ : اشْتَرِ بِمَالِي عَلَيْك ثَوْبًا هَرَوِيًّا وَقَدْ بَيَّنَّاهَا ثَمَّةَ ، ثُمَّ عِنْدَهُمَا الْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ فَلِهَذَا كَانَ الرِّبْحُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْمَالِ وَلِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِهِ وَلَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ لِرَجُلٍ آخَرَ اقْبِضْ مَا لِي عَلَى فُلَانٍ ثُمَّ اعْمَلْ بِهِ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلُ رَبِّ الْمَالِ فِي قَبْضِ الدَّيْنِ مِنْهُ ، فَإِذَا قَبَضَهُ كَانَ الْمَقْبُوضُ بِمَنْزِلَةِ الْوَدِيعَةِ فِي يَدِهِ فَتَنْعَقِدُ الْمُضَارَبَةُ بَيْنَهُمَا بِرَأْسِ مَالٍ هُوَ عَيْنٌ فِي يَدِهِ وَذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّ هَذَا يُكْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ لِنَفْسِهِ مَنْفَعَةً قَبْلَ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ لَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا حَصَلَ بِهِ الرِّبْحُ وَهُوَ تَقَاضَى الدَّيْنَ وَقَبَضَهُ فَالْكَرَاهَةُ لِهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : " وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي بِفَسَادِ الشَّرْطِ فِي الْبَعْضِ لَا يَزْدَادُ الشَّرْطُ فِي جَانِبِ الْمُضَارِبِ فَلَا يَزْدَادُ حَقُّهُ ، وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ ثُلُثَ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ وَثُلُثَهُ يَقْضِي بِهِ دَيْنَ الْمُضَارِبِ الَّذِي لِلنَّاسِ عَلَيْهِ أَوْ مَالِي الَّذِي لِفُلَانٍ عَلَيْهِ فَثُلُثُ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ ، وَالْمُضَارَبَةُ جَائِزَةٌ وَثُلُثَا الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ ؛ لِأَنَّ الْمَدْيُونَ إنَّمَا يَقْضِي الدَّيْنَ بِمُلْكِ نَفْسِهِ فَمَا شَرَطَ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى الْمُضَارِبِ يَكُونُ مَشْرُوطًا لِلْمُضَارِبِ وَلَا يُجْبَرُ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ إلَى الْمَدْيُونِ فِي تَعْيِينِ الْمَحَلِّ الَّذِي يَقْضِي بِهِ الدَّيْنَ مِنْ مَالِهِ وَاَلَّذِي سَبَقَ مِنْهُ وَعْدٌ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ بَعْضِ الرِّبْحِ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ ، وَالْمَوَاعِيدُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ .

وَلَوْ دَفَعَ رَجُلَانِ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ لِلْمُضَارِبِ ثُلُثَ رِبْحِ جَمِيعِ الْمَالِ وَمَا بَقِيَ مِنْ الرِّبْحِ فَثُلُثُهُ لِأَحَدِ صَاحِبَيْ الْمَالِ بِعَيْنِهِ وَالثُّلُثَانِ لِلْآخَرِ فَعَمِلَ الْمُضَارِبُ عَلَى هَذَا وَرَبِحَ فَثُلُثُ جَمِيعِ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ كَمَا شُرِطَ وَالْبَاقِي بَيْنَ صَاحِبِ الْمَالِ نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي رَأْسِ الْمَالِ وَذَلِكَ يُوجِبُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا فِي اسْتِحْقَاقِ الرِّبْحِ وَاَلَّذِي شَرَطَ لِنَفْسِهِ ثُلُثَيْ مَا بَقِيَ يَكُونُ شَارِطًا لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنْ رِبْحِ مَالِ صَاحِبِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ رَأْسُ مَالٍ أَوْ عَمَلٌ وَهَذَا الشَّرْطُ بَاطِلٌ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْمُضَارِبِ فَبَقِيَ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَهُ صَحِيحًا .
وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ اشْتَرَطَ أَنَّ لَهُ ثُلُثَ الرِّبْحِ ثُلُثَا ذَلِكَ مِنْ حِصَّةِ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ وَالثُّلُثُ مِنْ حِصَّةِ الْآخَرِ عَلَى أَنَّ مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبْحِ فَهُوَ بَيْنَ صَاحِبَيْ الْمَالِ نِصْفَانِ فَلِلْمُضَارِبِ ثُلُثُ الرِّبْحِ عَلَى مَا اشْتَرَطَا ثُلُثَا ذَلِكَ مِنْ حِصَّةِ الَّذِي اشْتَرَطَ ذَلِكَ وَالثُّلُثُ مِنْ حِصَّةِ الْآخَرِ وَمَا بَقِيَ مِنْ الرِّبْحِ فَهُوَ بَيْنَ صَاحِبَيْ الْمَالِ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا خَمْسَةٌ لِلَّذِي شُرِطَ لِلْمُضَارِبِ مِنْ حِصَّتِهِ ثُلُثَيْ ثُلُثِ الرِّبْحِ وَسَبْعَةٌ لِلْآخَرِ ؛ لِأَنَّك تَحْتَاجُ إلَى حِسَابٍ لَهُ نِصْفٌ وَثُلُثٌ يَنْقَسِمُ ثُلُثُهُ أَثْلَاثًا وَأَقَلُّ ذَلِكَ ثَمَانِيَةُ عَشَرَ فَقَدْ شُرِطَ لِلْمُضَارِبِ ثُلُثُ ذَلِكَ سِتَّةُ أَسْهُمٍ ثُلُثَا ذَلِكَ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ مِنْ نَصِيبِ الَّذِي شُرِطَ لِثُلُثَيْ الثُّلُثِ وَثُلُثُهُ وَهُوَ سَهْمَانِ مِنْ نَصِيبِ الْآخَرِ وَذَلِكَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ مَالٍ عَلَى حِدَةٍ دَفَعَهُ إلَيْهِ مُضَارَبَةً ، وَالْمُضَارِبُ قَدْ يَسْتَقْصِي فِيمَا يَشْتَرِطهُ لِنَفْسِهِ بِعَمَلِهِ فِيمَا لِزَيْدٍ وَيُسَامِحُ فِيمَا يَشْتَرِطُهُ لِنَفْسِهِ مِنْ مَالِ عَمْرٍو فَإِذَا صَحَّ هَذَا الشَّرْطُ قُلْنَا رَبِحَ

كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبْعَةَ أَسْهُمٍ فَاَلَّذِي شَرَطَ لِلْمُضَارِبِ أَرْبَعَةً مِنْ نَصِيبِهِ يَبْقَى لَهُ خَمْسَةٌ وَاَلَّذِي شَرَطَ لِلْمُضَارِبِ سَهْمَيْنِ مِنْ نَصِيبِهِ يَبْقَى لَهُ سَبْعَةٌ فَكَانَ الْبَاقِي مُقِيمًا بَيْنَهُمَا عَلَى مِقْدَارِ مَا بَقِيَ مِنْ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَكُونُ عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا ، وَاشْتِرَاطُ الْمُنَاصَفَةِ بَيْنَهُمَا بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ مَنْ بَقِيَ لَهُ خَمْسَةٌ اشْتَرَطَ لِنَفْسِهِ سَهْمًا مِنْ رِبْحِ مَالِ صَاحِبِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ رَأْسُ مَالٍ أَوْ عَمَلٌ وَذَلِكَ بَاطِلٌ

وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ ثُلُثَ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ وَثُلُثَهُ لِرَبِّ الْمَالِ وَثُلُثَهُ لِمَنْ شَاءَ الْمُضَارِبُ فَالثُّلُثَانِ مِنْ الرِّبْحِ لِرَبِّ الْمَالِ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي شَرْطِ الْمَشِيئَةِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُضَارِبِ فَلَا يُجْعَلُ ذَلِكَ الْقَدْرُ كَالْمَشْرُوطِ فَيَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ بِخِلَافِ الْمَشْرُوطِ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ فَعَلَى الْمُضَارِبِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً ظَاهِرَةً لَهُ وَهِيَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ كَالْمَشْرُوطِ لِلْمُضَارِبِ وَلَوْ قَالَا ثُلُثُ الرِّبْحِ لِمَنْ شَاءَ رَبُّ الْمَالِ فَهُوَ وَالْمَسْكُوتُ عَنْهُ سَوَاءٌ فَيَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ

وَإِذَا دَفَعَ رَجُلٌ إلَى رَجُلَيْنِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَلِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ نُصَفُّ الرِّبْحِ وَلِلْآخِرِ سُدُسُ الرِّبْحِ وَلِرَبِّ الْمَالِ ثُلُثُ الرِّبْحِ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا اشْتَرَطَا ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ شَرَطَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُضَارِبَيْنِ جُزْءًا مَعْلُومًا مِنْ الرِّبْحِ وَفَاوَتَ بَيْنَهُمَا فِي الشَّرْطِ لِتَفَاوُتِهِمَا فِي الْهِدَايَةِ فِي التِّجَارَةِ الْمُرْبِحَةِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ

وَلَوْ دَفَعَ رَجُلَانِ إلَى رَجُلَيْنِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ لِأَحَدِ الْمُضَارِبَيْنِ بِعَيْنِهِ مِنْ الرِّبْحِ الثُّلُثَ وَلِلْآخَرِ السُّدُسَ ، وَمَا بَقِيَ مِنْ صَاحِبَيْ الْمَالِ لِأَحَدِهِمَا ثُلُثُهُ وَلِلْآخَرِ ثُلُثَاهُ فَعَمِلَا وَرَبِحَا فَنِصْفُ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبَيْنِ عَلَى مَا اشْتَرَطَا ثُلُثَاهُ لِأَحَدِهِمَا وَلِلْآخَرِ ثُلُثُهُ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لَهُمَا بِالشَّرْطِ وَهَكَذَا شَرَطَ لَهُمَا وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَ صَاحِبَيْ الْمَالِ نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُمَا بِاعْتِبَارِ رَأْسِ الْمَالِ ، وَقَدْ تَفَاوَتَا فِي ذَلِكَ .
فَاشْتِرَاطُ الْفَضْلِ لِأَحَدِهِمَا فِيمَا بَقِيَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ مَالٌ أَوْ عَمَلٌ يَكُونُ شَرْطًا فَاسِدًا وَلَوْ قَالَ لِلْمُضَارِبَيْنِ نِصْفُ الرِّبْحِ بَيْنَكُمَا لِفُلَانٍ مِنْهُ الثُّلُثَانِ مِنْ نَصِيبِ أَحَدِ صَاحِبَيْ الْمَالِ ثُلُثَاهُ وَمِنْ نَصِيبِ الْآخَرِ الثُّلُثُ وَلِفُلَانٍ الْآخَرُ مِنْهُ الثُّلُثُ ثُلُثَا ذَلِكَ مِنْ نَصِيبِ صَاحِبَيْ الْمَالِ وَهُوَ الَّذِي أَعْطَى لَهُ نَصِيبَهُ وَثُلُثُ ذَلِكَ مِنْ نَصِيبِ الْآخَرِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَ صَاحِبَيْ الْمَالِ نِصْفَيْنِ فَعَمِلَا فَرَبِحَا فَنِصْفُ الرِّبْحِ بَيْنَ الْمُضَارِبَيْنِ عَلَى مَا اشْتَرَطَا وَالنِّصْفُ الْآخَرُ بَيْنَ صَاحِبَيْ الْمَالِ عَلَى تِسْعَةِ أَسْهُمٍ لِلَّذِي شَرَطَ لِلْمُضَارِبِ ثُلُثَيْ النِّصْفِ مِنْ نَصِيبِهِ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَلِلْآخَرِ خَمْسَةٌ وَتَخْرُجُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى نَحْوِ تَخْرِيجِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى بِأَنْ يَجْعَلَ الرِّبْحَ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تِسْعَةٌ وَالْمَشْرُوطُ لِأَحَدِ الْمُضَارِبَيْنِ ثُلُثَا الرِّبْحِ وَهُوَ سِتَّةٌ مِنْ تِسْعَةٍ ثُلُثَا ذَلِكَ وَهُوَ أَرْبَعَةٌ مِنْ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا وَثُلُثُهُ وَهُوَ سَهْمَانِ مِنْ نَصِيبِ الْآخَرِ وَاَلَّذِي شُرِطَ لَهُ ثُلُثُ النِّصْفِ ثُلُثُهُ ثُلُثُ ذَلِكَ وَهُوَ سَهْمٌ مِمَّنْ أَعْطَى الْآخَرُ أَرْبَعَةً وَثُلُثَاهُ وَهُوَ سَهْمَانِ مِمَّنْ أَعْطَى الْآخَرُ سَهْمَيْنِ فَاَلَّذِي شَرَطَ ثُلُثَيْ الرِّبْحِ لِأَحَدِهِمَا اسْتَحَقَّ

عَلَيْهِ أَحَدُ الْمُضَارِبَيْنِ مِنْ نَصِيبِهِ أَرْبَعَةً وَالْآخَرُ سَهْمًا وَاحِدًا فَإِذَا دَفَعْتَ ذَلِكَ مِنْ تِسْعَةٍ بَقِيَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَالْآخَرُ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُضَارِبَيْنِ سَهْمَيْنِ بَقِيَ لَهُ خَمْسَةُ أَسْهُمٍ فَيُقَسَّمُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا عَلَى مِقْدَارِ مَا بَقِيَ مِنْ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَكُونُ عَلَى تِسْعَةٍ لِأَحَدِهِمَا خَمْسَةٌ وَلِلْآخَرِ أَرْبَعَةٌ وَاشْتِرَاطُهُمَا الْمُنَاصَفَةَ فِيمَا بَقِيَ بَاطِلٌ لِمَا قُلْنَا

وَإِذَا دَفَعَ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً عَلَى أَنْ يَخْلِطَهَا الْمُضَارِبُ بِأَلْفٍ مِنْ قِبَلِهِ ثُمَّ يَعْمَلُ بِهِمَا جَمِيعًا عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَلِلْمُضَارِبِ ثُلُثَاهُ وَلِلدَّافِعِ ثُلُثُهُ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا اشْتِرَاطًا لِأَنَّ الْعَامِلَ شَرَطَ لِنَفْسِهِ رِبْحَ مَالَ نَفْسِهِ وَثُلُثَ رِبْحِ مَالَ صَاحِبِهِ فَكَأَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ الْأَلْفَ مُضَارَبَةً بِثُلُثِ الرِّبْحِ وَذَلِكَ جَائِزٌ وَلَوْ كَانَ الدَّافِعُ اشْتَرَطَ لِنَفْسِهِ ثُلُثَيْ الرِّبْحِ وَلِلْعَامِلِ ثُلُثُهُ فَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ عَلَى قَدْرِ مَالِهِمَا ؛ لِأَنَّ الدَّافِعَ شَرَطَ لِنَفْسِهِ جَمِيعَ رِبْحَ مَالِهِ فَيَكُونُ دَافِعًا الْمَالَ مِنْ وَجْهِ الْبِضَاعَةَ وَشَرَطَ أَيْضًا لِنَفْسِهِ جُزْءًا مِنْ رِبْحِ مَالِ الْعَامِلِ وَهَذَا مِنْهُ طَمَعٌ فِي غَيْرِ مَطْمَعٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِي مَالِ الْعَامِلِ رَأْسُ مَالٍ وَلَا عَمَلٌ فَيَبْطُلُ هَذَا الشَّرْطُ وَيَكُونُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ رَأْسِ مَالِهِمَا نِصْفَيْنِ وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً عَلَى أَنْ يَخْلِطَهَا بِأَلْفٍ مِنْ قِبَلِهِ وَيَعْمَلَ بِهِمَا جَمِيعًا عَلَى أَنَّ لِلْمُضَارِبِ ثُلُثَيْ الرِّبْحِ نِصْفُ ذَلِكَ مِنْ رِبْحِ أَلْفِ صَاحِبِهِ وَنِصْفُهُ مِنْ رِبْحِ أَلْفِهِ خَاصَّةً وَعَلَى أَنَّ مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبْحِ لِلدَّافِعِ فَهُوَ جَائِزٌ لِلْمُضَارِبِ ثُلُثَا الرِّبْحِ عَلَى مَا اشْتَرَطَا وَالثُّلُثُ لِرَبِّ الْمَالِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ شَرَطَ الدَّافِعُ لِلْمُضَارِبِ جُزْءًا مِنْ رِبْحِ مَالِهِ بِعَمَلِهِ فِيهِ وَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ ، ثُمَّ يَقُولُ فِي بَيَانِ الْعِلَّةِ ؛ لِأَنَّ سُدُسَ الرِّبْحِ صَارَ لِلدَّافِعِ مِنْ رِبْحِ مَالِ الْمُضَارِبِ وَصَارَ لَهُ سُدُسُ مِثْلِهِ مِنْ رِبْحِ أَلْفِهِ الَّذِي صَارَ لِلْمُضَارِبِ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ : هَذَا التَّعْلِيلُ لَا يَصِحُّ فَمُبَادَلَةُ رِبْحٍ لَمْ يُوجَدْ بِرِبْحٍ لَمْ يُوجَدْ كَيْفَ يَكُونُ صِحِّيًّا وَإِنَّمَا مَعْنَى هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّهُ لَيْسَ

فِي هَذَا التَّفْصِيلِ فَائِدَةٌ لِأَحَدِهِمَا ؛ لِأَنَّ بَعْدَ خَلْطِ الْمَالَيْنِ لَا فَرْقَ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيْنَ سُدُسِ الرِّبْحِ الَّذِي يَكُونُ مِنْ أَلْفِهِ وَبَيْنَ مِثْلِهِ مِنْ أَلْفِ صَاحِبِهِ وَالشَّرْطُ إنَّمَا يُرَاعَى إذَا كَانَ مُفِيدًا لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا فَمَا لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا يَكُونُ لَغْوًا وَيَبْقَى اشْتِرَاطُ ثُلُثَيْ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ مُطْلَقًا فَيَكُونُ صَحِيحًا عَلَى مَا اشْتَرَطَا وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يَخْلِطَهُمَا بِأَلْفٍ مِنْ قِبَلِهِ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَهَذَا جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ شَرَطَ لِنَفْسِهِ رِبْحَ أَلْفِهِ وَرُبْعَ رِبْحِ مَالِ الدَّافِعِ ، وَدَفْعُ الْمَالِ مُضَارَبَةً بِرُبْعِ الرِّبْحِ صَحِيحٌ .
فَإِنْ كَانَ الدَّافِعُ شَرَطَ لِنَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الرِّبْحِ وَلِلْعَامِلِ رُبُعَهُ فَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا عَلَى قَدْرِ مَالِهِمَا ؛ لِأَنَّ الدَّافِعَ شَرَطَ الزِّيَادَةَ عَلَى الثُّلُثَيْنِ لِنَفْسِهِ وَطَمِعَ فِي جُزْءٍ مِنْ رِبْحِ مَالِ الْعَامِلِ وَلَيْسَ لَهُ فِيهِ رَأْسُ مَالٍ وَلَا عَمَلٍ فَكَانَ هَذَا الشَّرْطُ بَاطِلًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الْمُضَارَبَةِ بِالْعُرُوضِ ) ( قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ) : " ذُكِرَ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَالْحَسَنِ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - قَالَا لَا تَكُونُ الْمُضَارَبَةُ بِالْعُرُوضِ إنَّمَا تَكُونُ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَبِهِ نَأْخُذُ " وَقَالَ : مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - " الْمُضَارَبَةُ بِالْعُرُوضِ صَحِيحَةٌ ؛ لِأَنَّ الْعَرَضَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ يَسْتَرِيحُ عَلَيْهِ بِالتِّجَارَةِ عَادَةً فَيَكُونُ كَالنَّقْدِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْمُضَارَبَةِ وَكَمَا يَجُوزُ بَقَاءُ الْمُضَارَبَةِ بِالْعَرَضِ يَجُوزُ ابْتِدَاؤُهَا بِالْعُرُوضِ وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ { بِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ رِبْحِ مَالٍ يُضَمَّنُ } وَالْمُضَارَبَةُ بِالْعُرُوضِ تُؤُدِّيَ إلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ وَرُبَّمَا تَرْتَفِعُ قِيمَتُهَا بَعْدَ الْعَقْدِ فَإِذَا بَاعَهَا حَصَلَ الرِّبْحُ وَاسْتَحَقَّ الْمُضَارِبُ نَصِيبَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلَ شَيْءٌ فِي ضَمَانِهِ بِخِلَافِ النَّقْدِ فَإِنَّهُ يَشْتَرِي بِهَا وَإِنَّمَا يَقَعُ الشِّرَاءُ بِثَمَنٍ مَضْمُونٍ فِي ذِمَّتِهِ فَمَا يَحْصُل لَهُ يَكُونُ رِبْحُ مَا قَدْ ضَمِنَ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الرِّبْحَ هُنَا لَمَّا كَانَ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ يَصِيرُ فِي الْمَعْنَى كَأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِبَيْعِ هَذِهِ الْعُرُوضِ بِأُجْرَةٍ مَجْهُولَةٍ وَفِي النَّقْدِ الرِّبْحُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ جَمِيعًا فَتَكُونُ شَرِكَةً ؛ وَلِأَنَّ تَقْدِيرَ الْمُضَارَبَةِ بِالْعُرُوضِ كَأَنَّهُ قَالَ : بِعْ عَرَضِي هَذَا عَلَى أَنْ يَكُونَ بَعْضُ ثَمَنِهِ لَك وَلَوْ قَالَ : عَلَى أَنَّ جَمِيعَ ثَمَنِهِ لَك لَمْ يَجُزْ فَكَذَلِكَ الْبَعْضُ وَإِذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ نَقْدًا يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ : اشْتَرِ بِهَذِهِ الْأَلْفِ وَبِعْ عَلَى أَنْ يَكُونَ بَعْضُ ثَمَنِهِ لَك .
وَلَوْ قَالَ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ ثَمَنِهِ لَك صَحَّ فَكَذَلِكَ الْبَعْضُ .
تَوْضِيحُهُ أَنَّ الرِّبْحَ فِي الْمُضَارَبَةِ لَا يَظْهَرُ إلَّا بَعْدَ تَحْصِيلِ رَأْسِ الْمَالِ ، وَرَأْسُ الْمَالِ إذَا كَانَ عَرَضًا فَطَرِيقُ تَحْصِيلِهِ وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ قِيمَتِهِ الْحَزْرُ وَالظَّنُّ فَلَا

يَتَيَقَّنُ بِالرِّبْحِ فِي شَيْءٍ لِيَقْسِمَ بَيْنَهُمَا بِخِلَافِ النُّقُودِ

فَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا مِنْ غَيْرِ النُّقُودِ فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ أَيْضًا عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - هِيَ جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَيُمْكِنُ تَحْصِيلُ رَأْسِ الْمَالِ بِمِثْلِ الْمَقْبُوضِ ثُمَّ قِسْمَةُ الرِّبْحِ بَيْنَهُمَا ؛ وَلِأَنَّ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ يَجُوزُ الشِّرَاءُ بِهِمَا وَيَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ ثَمَنًا فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ النُّقُودِ فِي أَنَّ الْمُضَارِبَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِالضَّمَانِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ يَتَعَيَّنُ فِي الْعَقْدِ كَالْعُرُوضِ ، وَأَوَّلُ التَّصَرُّفِ بِهِمَا يَكُونُ بَيْعًا وَقَدْ يَحْصُلُ بِهَذَا الْبَيْعِ رِبْحٌ بِأَنْ يَبِيعَهُ ثُمَّ يُرَخِّصَ سِعْرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَظْهَرَ رِبْحُهُ بِدُونِ الشِّرَاءِ فَيَكُونَ هَذَا اسْتِئْجَارًا لِلْبَيْعِ بِأُجْرَةٍ مَجْهُولَةٍ وَذَلِكَ بَاطِلٌ كَمَا فِي الْعُرُوضِ فَإِنْ اشْتَرَى وَبَاعَ فَرَبِحَ أَوْ وَضَعَ فَالرِّبْحُ لِرَبِّ الْمَالِ ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارِبِ وَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ

وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ الْمُضَارَبَةِ بِالْفُلُوسِ وَالنَّبَهْرَجَةِ وَالسَّتُّوقَةِ وَالزُّيُوفِ وَالتِّبْرِ .
زَادَ هُنَا فَقَالَ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ رَجُلًا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِذَهَبِ تِبْرٍ بِعَيْنِهِ أَوْ بِفِضَّةِ تِبْرٍ بِعَيْنِهَا فَهَلَكَ التِّبْرُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ بَطَلَ الْبَيْعُ ؟ فَقَدْ أَشَارَ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ إلَى أَنَّ التِّبْرَ لَا يُتَعَيَّنُ فِي الشِّرَاءِ وَلَا يُنْتَقَضُ الْعَقْدُ بِهَلَاكِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا هُنَاكَ وَجْهَ الرِّوَايَتَيْنِ أَنَّ هَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ فِي رَوَاجِ التِّبْرِ نَقْدًا أَوْ عَرَضًا وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ فُلُوسًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَلَمْ يَشْتَرِ شَيْئًا حَتَّى كَسَدَتْ تِلْكَ الْفُلُوسُ وَأُحْدِثَتْ فُلُوسٌ غَيْرُهَا فَسَدَتْ الْمُضَارَبَةُ ؛ لِأَنَّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجِيزُ الْمُضَارَبَةَ بِالْفُلُوسِ إنَّمَا يُجِيزُ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الثَّمَنِيَّةِ وَهِيَ ثَمَنٌ مَا دَامَتْ رَائِجَةً فَإِذَا كَسَدَتْ فَهِيَ قِطَاعٌ صُفْرٌ كَسَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ .
وَلَوْ اقْتَرَنَ كَسَادُهَا بِعَقْدِ الْمُضَارَبَةِ لَمْ تَصِحَّ الْمُضَارَبَةُ فَكَذَلِكَ إذَا كَسَدَتْ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ أَنَّ الطَّارِئَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ كَالْمُقَارِنِ لِلْعَقْدِ فَهَذَا مِثْلُهُ فَإِنْ اشْتَرَى بِهَا الْمُضَارِبُ بَعْدَ ذَلِكَ فَرَبِحَ أَوْ وَضَعَ فَهُوَ لِرَبِّ الْمَالِ وَلِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ فِيمَا عَمِلَ هُوَ الْحُكْمُ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ وَلَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْفَسَادِ الطَّارِئِ وَالْفَسَادِ الْمُقَارِنِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى بِهَذِهِ الْفُلُوسِ الْكَاسِدَةِ شَيْئًا فَضَاعَتْ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَهَا انْتَقَضَ الْبَيْعُ ؟ فَعَرَفْنَا أَنَّهَا بِالْكَسَادِ صَارَتْ كَالْعُرُوضِ وَلَوْ لَمْ تَكْسُدْ حَتَّى اشْتَرَى بِهَا الْمُضَارِبُ ثَوْبًا وَدَفَعَهَا وَقَبَضَ الثَّوْبَ ثُمَّ كَسَدَتْ فَالْمُضَارَبَةُ جَائِزَةٌ عَلَى حَالِهَا ؛ لِأَنَّ بِالشِّرَاءِ حُكْمُ الْمُضَارَبَةِ تَحَوَّلَ إلَى الثَّوْبِ ، وَصَارَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ الثَّوْبَ دُونَ

الْفُلُوسِ فَلَا يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ بِكَسَادِ الْفُلُوسِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ قَدْ حَصَلَ بِالشِّرَاءِ وَمَا يَعْرِضُ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ لَا يُجْعَلُ كَالْمُقْتَرِنِ بِالسَّبَبِ فَإِذَا بَاعَ الثَّوْبَ بِدَرَاهِمَ أَوْ عَرَضٍ فَهُوَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ فَإِنْ رَبِحَ رِبْحًا وَأَرَادُوا الْقِسْمَةَ أَخَذَ رَبُّ الْمَالِ قِيمَةَ فُلُوسِهِ يَوْمَ كَسَدَتْ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ رَدِّ رَأْسِ الْمَالِ إلَيْهِ لِيَظْهَرَ الرِّبْحُ وَرَأْسُ الْمَالِ كَانَ فُلُوسًا رَائِجَةً وَهِيَ لِلْحَالِّ كَاسِدَةٌ فَقَدْ تَعَذَّرَ مِثْلُ رَأْسِ الْمَالِ وَهَذَا التَّعَذُّرُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ يَوْمَ الْكَسَادِ فَيُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَفَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ إذَا غَصَبَ شَيْئًا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَانْقَطَعَ الْمِثْلُ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ إنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْخُصُومَةِ ؛ لِأَنَّ الْمِثْلَ هُنَاكَ بَاقٍ فِي الذِّمَّةِ ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِهِ مُتَعَذَّرَةٌ أَوْ أَنَّهُ حَاصِلٌ وَإِنَّمَا يَتَحَوَّلُ الْحَقُّ إلَى الْقِيمَةِ عِنْدَ الْخُصُومَةِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَئِذٍ وَهُنَا الْوَقْتُ فِي تَحْصِيلِ الْمِثْلِ غَيْرُ مُنْتَظَرٍ ؛ لِأَنَّ مَا كَسَدَ مِنْ الْفُلُوسِ قَدْ لَا يُرَوَّجُ بَعْدَ ذَلِكَ قَطُّ وَلَا يُدْرَى مَتِّي يُرَوَّجُ فَإِنَّمَا يَتَحَوَّلُ الْحَقُّ إلَى الْقِيمَةِ عِنْدَ تَحَقُّقِ فَوَاتِ مِثْلِ تِلْكَ الْفُلُوسِ وَذَلِكَ وَقْتَ الْكَسَادِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ عِنْدَ ذَلِكَ ثُمَّ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا رِبْحٌ عَلَى الشَّرْطِ

وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ شَبَكَةً لِيَصِيدَ بِهَا السَّمَكَ عَلَى أَنَّ مَا صَادَ بِهَا مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا فَصَادَ بِهَا سَمَكًا كَثِيرًا فَجَمِيعُ ذَلِكَ لِلَّذِي صَادَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَ } ؛ وَلِأَنَّ الْآخِذَ هُوَ الْمُكْتَسِبُ دُونَ الْآلَةِ فَيَكُونُ الْكَسْبُ لَهُ وَقَدْ اُسْتُعْمِلَ فِيهِ آلَةُ الْغَيْرِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ لِصَاحِبِ الْآلَةِ وَهُوَ مَجْهُولٌ فَيَكُونُ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ عَلَى الصَّيَّادِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ دَابَّةً يَسْتَقِي عَلَيْهَا الْمَاءَ وَيَبِيعُ عَلَيْهَا أَوْ لِيَنْقُلَ عَلَيْهَا الطِّينَ لِيَبِيعَهُ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا أَمَرَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ الدَّابَّةَ فَالْغَلَّةُ هُنَاكَ لِصَاحِبِ الدَّابَّةِ وَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِهِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي الْإِجَارَةِ أَنَّهُ إذَا أَجَّرَ الدَّابَّةَ فَالْأَجْرُ بِمُقَابَلَةِ مَنَافِعِهَا وَالْعَامِلُ وَكِيلٌ لِصَاحِبِهَا وَإِذَا اسْتَعْمَلَهَا الْعَامِلُ فِي نَقْلِ شَيْءٍ عَلَيْهَا وَبَيْعِ ذَلِكَ فَهُوَ لِنَفْسِهِ

وَلَوْ دَفَعَ إلَى حَائِكٍ غَزْلًا عَلَى أَنْ يَحُوكَهُ سَبْعَةً فِي أَرْبَعَةٍ ثَوْبًا وَسَطًا عَلَى أَنَّ الثَّوْبَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَهَذَا فَاسِدٌ وَهُوَ فِي مَعْنَى قَفِيزِ الطَّحَّانِ وَقَدْ بَيَّنَّا مَا فِيهِ مِنْ اخْتِيَارِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ فِي ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْبُلْدَانِ فِي كِتَابِ الْإِجَارَةِ وَالثَّوْبُ لِصَاحِبِ الْغَزْلِ وَلِلِحَائِك أَجْرُ مِثْلِهِ

وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَرْضًا بَيْضَاءَ عَلَى أَنْ يَبْنِيَ فِيهَا كَذَا كَذَا بَيْتًا وَسَمَّى طُولَهَا وَعَرْضَهَا وَكَذَا كَذَا حُجْرَةً عَلَى أَنَّ مَا بُنِيَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَعَلَى أَنَّ أَصْلَ الدَّارِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَبَنَى فِيهَا كَمَا شَرَطَ فَهُوَ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِأَنْ يَجْعَلَ أَرْضَهُ مَسَاكِنَ بِآلَاتِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ مُشْتَرِيًا بِالْآلَاتِ وَهِيَ مَجْهُولَةٌ وَقَدْ جَعَلَ الْعِوَضَ نِصْفَ مَا يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ مِنْ الْمَسَاكِنِ وَذَلِكَ فَاسِدٌ وَقَدْ قَرَّرْنَا فِي الْإِجَارَاتِ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْأَرْضِ يَدْفَعُهَا إلَيْهِ لِيَغْرِسَهَا أَشْجَارًا عَلَى أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ وَالشَّجَرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَهُوَ فِي الْبِنَاءِ كَذَلِكَ ثُمَّ جَمِيعُ ذَلِكَ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَعَلَيْهِ لِلثَّانِي قِيمَةُ مَا بَنَى ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَابِضًا لَهُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ فَإِنَّ بِنَاءَ الْغَيْرِ بِأَمْرِهِ كَبِنَائِهِ بِنَفْسِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الْقِيمَةِ لِمَا تَعَذَّرَ رَدُّ الْعَيْنِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ صَارَ وَصْفًا مِنْ أَوْصَافِ مِلْكِهِ وَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَ الْعَمَلَ لَهُ وَقَدْ ابْتَغَى مِنْ عَمَلِهِ عِوَضًا فَإِذَا لَمْ يَنَلْ ذَلِكَ اسْتَوْجَبَ أَجْرَ الْمِثْلِ

وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَرْضًا عَلَى أَنْ يَبْنِيَ فِيهَا دَسْكَرَةً وَيُؤَاجِرَهَا عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَبَنَاهَا كَمَا أَمَرَهُ فَأَجَّرَهَا فَأَصَابَ مَالًا فَجَمِيعُ مَا أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ لِلْبِنَاءِ وَالْبِنَاءُ لَهُ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَرْضِ هُنَا شَرَطَ الْبِنَاءَ لِنَفْسِهِ فَيَكُونُ الثَّانِي عَامِلًا لِنَفْسِهِ فِي الْبِنَاءِ وَإِذَا كَانَ الْبِنَاءُ مِلْكًا لَهُ فَعَلَيْهِ الْبِنَاءُ أَيْضًا وَإِنَّمَا يَسْتَأْجِرُ الْبُيُوتَ لِلسُّكْنَى وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْبِنَاءِ وَلِهَذَا لَوْ انْهَدَمَ جَمِيعُ الْبِنَاءِ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُؤَاجِرِ لِلْمُسْتَأْجَرِ أَجْرٌ بَعْدَ ذَلِكَ فَلِهَذَا كَانَ الْأَجْرُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبِنَاءِ وَلِرَبِّ الْأَرْضِ أَجْرُ مِثْلِ أَرْضِهِ عَلَى الْبَانِي ؛ لِأَنَّهُ أَجَّرَ الْأَرْضَ بِنِصْفِ مَا يَحْصُلُ مِنْ غَلَّةِ الْبِنَاءِ وَهِيَ مَجْهُولَةٌ وَقَدْ اسْتَوْفِي مَنْفَعَةَ الْأَرْضِ بِهَذَا الْعَقْدِ الْفَاسِدِ فَيَلْزَمُهُ أَجْرُ مِثْلِهَا وَيَنْقُلُ الثَّانِي بِنَاءَهُ عَنْ أَرْضِ رَبِّ الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ بَاقِيَةٌ عَلَى مَلْكِ صَاحِبِهَا فَعَلَى الثَّانِي أَنْ يُفْرِغَهَا وَيَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا لِفَسَادِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْأَرْضِ وَلَوْ كَانَ اشْتَرَطَ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ الْأَرْضَ وَالْبِنَاءَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ مَعَ مَا أَجَّرَهَا بِهِ لِرَبِّ الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُشْتَرِيًا لِمَا بُنِيَ بِهِ هُنَا بِنِصْفِ الْأَرْضِ ، أَوْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَجْعَلَ أَرْضَهُ دَسْكَرَةً بِآلَاتِ نَفْسِهِ عَلَى أَنَّ لَهُ بَعْضَ مَا يَحْصُلُ بِعَمَلِهِ وَذَلِكَ فَاسِدٌ وَلَكِنَّهُ صَارَ قَابِضًا مُسْتَهْلِكًا بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ بَنَى الْبَانِي وَأَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ وَأَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا أَجَّرَ مِنْ الدَّسْكَرَةِ ؛ لِأَنَّهُ فِي كُلِّ ذَلِكَ عَامِلٌ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ بِأُجْرَةٍ مَجْهُولَةٍ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ صَاحِبُ الْأَرْضِ مَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنْ الْبِنَاءِ فَيَكُونُ الثَّانِي عَامِلًا لِنَفْسِهِ وَهُنَا أَضَافَ

الْبِنَاءَ إلَى نَفْسِهِ حِينَ شَرَطَ لِنَفْسِهِ نِصْفَ الْبِنَاءِ وَجَعَلَ النِّصْفَ الْآخَرَ أُجْرَةً لِلْبَانِي فَلِهَذَا كَانَ الْبِنَاءُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ هُنَا .

وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ بَيْتًا عَلَى أَنْ يَبِيعَ فِيهِ الْبُرَّ عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَقَبَضَ الْبَيْتَ فَبَاعَ فِيهِ وَأَصَابَ مَالًا فَالْمَالُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبُرِّ ؛ لِأَنَّهُ ثَمَنُ مُلْكِهِ وَهُوَ فِي الْبَيْعِ كَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ ، وَلِرَبِّ الْبَيْتِ أَجْرُ مِثْلِ بَيْتِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَجَّرَ الْبَيْتَ بِأُجْرَةٍ مَجْهُولَةٍ وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْبَيْتِ دَفَعَ إلَيْهِ الْبَيْتَ لِيُؤْجَرَهُ لِيُبَاعَ فِيهِ الْبُرُّ عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَهَذَا فَاسِدٌ فَإِنْ أَجَّرَ الْبَيْتَ فَالْأَجْرُ لِرَبِّ الْبَيْتِ ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ عِوَضُ مَنْفَعَةِ الْبَيْتِ هُنَا وَالْعَامِلُ كَالْوَكِيلِ لِصَاحِبِ الْبَيْتِ فِي إجَارَتِهِ وَلَكِنَّهُ ابْتَغَى عَنْ عَمَلِهِ لَهُ عِوَضًا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ فَيَسْتَوْجِبُ أَجْرَ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ .

وَإِذَا قَالَ خُذْ هَذَا الْعَبْدَ مُضَارَبَةً وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّ رَأْسَ مَالِي قِيمَتُهُ عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ وَيَشْتَرِيَ بِثَمَنِهِ وَيَبِيعَ فَمَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ أَخَذْت مِنْهُ رَأْسَ مَالِي قِيمَةَ الْعَلَامِ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَهَذِهِ مُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ فِيهَا الْعَبْدُ وَهُوَ مُتَعَيِّنٌ كَسَائِرِ الْعُرُوضِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ قِيمَةَ رَأْسِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُقَوِّمِينَ وَلَا يُمْكِن تَحْصِيلُهَا يَقِينًا لِيَظْهَرَ الرِّبْحُ بَعْدَهَا وَإِذَا فَسَدَ الْعَقْدُ فَجَمِيعُ ذَلِكَ مَا بَاعَ وَاشْتَرَى لِرَبِّ الْعَبْدِ ، وَلِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِهِ وَلَوْ قَالَ بِعْ عَبْدِي هَذَا وَاقْبِضْ ثَمَنَهُ وَاعْمَلْ فِيهِ مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ثَمَنِهِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا اشْتَرَطَا ؛ لِأَنَّهُ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ الْعَبْدِ أَوَّلًا فَكَانَ بَيْعُ الْوَكِيلِ لَهُ كَبَيْعِهِ لِنَفْسِهِ ، ثُمَّ عَقَدَ الْمُضَارَبَةَ عَلَى الثَّمَنِ الْمَقْبُوضِ مِنْ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ وَهُوَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْوَكِيلِ فَقَدْ وُجِدَ شَرْطُ صِحَّةِ الْمُضَارَبَةِ وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ أَضَافَ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ إلَى مَا بَعْدَ الْبَيْعِ وَقَبْضِ الثَّمَنِ وَذَلِكَ لَا يُفْسِدُ الْمُضَارَبَةَ غَيْرَ إنِّي أَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ بِعْهُ وَخُذْ الثَّمَنَ مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْعَبْدِ لَيْسَ مِنْ الْمُضَارَبَةِ وَقَدْ صَارَ كَأَنَّهُ شَرْطٌ فِيهَا فَلِهَذَا كُرِهَ فَإِنَّ شُبْهَةَ الشَّيْءِ كَحَقِيقَتِهِ فِي وُجُوبِ التَّحَرُّزِ عَنْهُ .
قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ سَلِمَ لَهُ دِينُهُ } وَلَوْ شَرَطَ عَلَى الْمُضَارِبِ فِي الْمُضَارَبَةِ مَنْفَعَةً لَهُ سِوَى مَا يَحْصُلُ بِهِ الرِّبْحُ كَانَ ذَلِكَ الشَّرْطُ فَاسِدًا فَكَذَلِكَ شَرْطُ بَيْعِ الْعَبْدِ لِمَا صَارَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَأْمُرَهُ بِبَيْعِهِ وَلَا يَذْكُرُ

الْمُضَارَبَةَ فَإِذَا قَبَضَ الثَّمَنَ أَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ مُضَارَبَةً وَكَذَلِكَ هُنَا الْحُكْمُ فِي جَمِيعِ الْعُرُوضِ مِنْ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَلَوْ بَاعَ الْمُضَارِبُ الْعَبْدَ بِعَشَرَةِ أَكْرَارِ حِنْطَةٍ وَعَمِلَ بِهَا فَهَذَا فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ يَمْلِكُ الْبَيْعَ بِالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَلَا يَصِيرُ هُوَ ضَامِنًا وَلَكِنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ دَفَعَ إلَيْهِ الْحِنْطَةَ مُضَارَبَةً فَتَكُونُ الْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةً وَجَمِيعُ مَا رَبِحَ لِرَبِّ الْمَالِ وَلِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ بِالثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ فِي بَيْعِ الْعَبْدِ مُعَيَّنٌ وَإِنَّمَا يَصِيرُ أَجِيرًا بِاعْتِبَارِ الْمُضَارَبَةِ ، وَأَوَانُ ذَلِكَ بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - الْمُضَارِبُ ضَامِنٌ لَقِيمَةِ الْعَبْدِ وَجَمِيعُ مَا رَبِحَ لَهُ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ إلَّا بِالنُّقُودِ فَإِذَا بَاعَ بِالْحِنْطَةِ كَانَ مُخَالِفًا ضَامِنًا لَقِيمَةِ الْعَبْدِ كَالْغَاصِبِ ، فَإِذَا ضَمِنَ الْقِيمَةَ بَعْدَ الْبَيْعِ مِنْ جِهَتِهِ وَالْحِنْطَةَ الَّتِي قَبَضَهَا لَهُ بِمُقَابَلَةِ الْعَبْدِ فَإِنَّمَا رَبِحَ عَلَى مَالِ نَفْسِهِ وَلَا يَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ ؛ لِأَنَّهُ رَبِحَ مَا قَدْ ضَمِنَ ، فَإِنْ قِيلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجَوَابُ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ اعْمَلْ بِثَمَنِهِ مُضَارَبَةً فَبِهَذَا اللَّفْظِ يَنْبَغِي أَنْ تَنْفُذَ الْوَكَالَةُ بِالْبَيْعِ بِمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ وَهُوَ النَّقْدُ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ فَكَوْنُ الْمُضَارَبَةِ بِالْعُرُوضِ وَالْمَكِيلِ فَاسِدَةً مِنْ الدَّقَائِقِ قَدْ خَفِيَ ذَلِكَ عَلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ فَلَعَلَّهُ خَفِيَ ذَلِكَ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ أَيْضًا أَوْ كَانَ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ جَوَازَ الْمُضَارَبَةِ بِهَا فَمُطْلَقُ الْوَكَالَةِ لَا يَتَقَيَّدُ بِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ الْمُحْتَمَلِ

وَلَوْ بَاعَهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَعَمِلَ بِهَا فَهِيَ مُضَارَبَةٌ جَائِزَةٌ فِي الْمِائَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعِنْدَهُمَا الْمُضَارِبُ ضَامِنٌ قِيمَةَ الْعَبْدِ لِرَبِّ الْمَالِ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا يَبِيعُ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ

وَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ دَرَاهِمُ وَدَنَانِيرُ ، وَأَكْرَارُ حِنْطَةٍ ، وَدَقِيقٌ فَقَالَ خُذْ أَيَّ أَصْنَافِ مَالِي شِئْت وَاعْمَلْ بِهِ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَأَخَذَ الْمُضَارِبُ أَحَدَ الْأَصْنَافِ فَعَمِلَ بِهِ فَإِنْ كَانَ أَخَذَ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ فَعَمِلَ بِهِمَا فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الشَّرْطِ وَإِنْ أَخَذَ غَيْرَهُمَا فَهُوَ فَاسِدٌ فَإِذَا اشْتَرَى وَبَاعَ فَهُوَ لِرَبِّ الْمَالِ وَعَلَيْهِ وَضِيعَتُهُ وَلِلْمُضَارِبِ أَجْرُ مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ الضَّارِبِ صِنْفًا بِأَمْرٍ مِنْ رَبِّ الْمَالِ كَتَعْيِينِ رَبِّ الْمَالِ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ الْمُعَيَّنُ مِنْ النُّقُودِ انْعَقَدَ الْعَقْدُ صَحِيحًا وَإِلَّا فَالْمُضَارَبَةُ فَاسِدَةٌ وَلَوْ قَالَ خُذْ أَيَّ مَالِي شِئْت فَبِعْهُ ثُمَّ اعْمَلْ بِثَمَنِهِ مُضَارَبَةً فَأَخَذَ عَبْدًا فَبَاعَهُ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ ثُمَّ عَمِلَ بِهِ مُضَارَبَةً فَهُوَ جَائِزٌ كَمَا لَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ دَفَعَ الْعَبْدَ إلَيْهِ وَأَمَرَهُ بِذَلِكَ

وَلَوْ قَالَ اشْتَرِ لِي عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ نَسِيئَةً سَنَةً ثُمَّ بِعْهُ وَاعْمَلْ بِثَمَنِهِ مُضَارَبَةً فَاشْتَرَى بِهِ كَمَا أَمَرَهُ وَقَبَضَهُ ثُمَّ بَاعَهُ بِدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ ثُمَّ عَمِلَ بِالثَّمَنِ فَهَذِهِ مُضَارَبَةٌ جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّهُ فِي شِرَاءِ الْعَبْدِ وَبَيْعِهِ وَكِيلٌ لِلْآمِرِ مُعَيَّنٌ فَكَأَنَّ الْآمِرَ فَعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ ثُمَّ إنَّمَا عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ بَعْدَ قَبْضِ الثَّمَنِ عَلَى الْمَقْبُوضِ وَهُوَ تَعَدٍّ فَكَانَتْ الْمُضَارَبَةُ جَائِزَةً ، وَرَأْسُ الْمَالِ ثَمَنَ الْعَبْدِ الَّذِي بَاعَهُ بِهِ الْمُضَارِبُ فَأَمَّا الثَّمَنُ الَّذِي اشْتَرَى بِهِ الْمُضَارِبُ فَلَيْسَ مِنْ الْمُضَارَبَةِ بَلْ هُوَ دَيْنٌ لَهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْوَكَالَةِ أَنَّ الْبَائِعَ يَسْتَوْجِبُ الثَّمَنَ عَلَى الْوَكِيلِ وَالْوَكِيلُ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ) : " وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا مُضَارَبَةً وَلَمْ يَقُلْ اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ فَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ مَا بَدَا لَهُ مِنْ أَصْنَافِ التِّجَارَةِ وَيَبِيعَ ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ صَاحِبِ الْمَالِ فِي التِّجَارَةِ " فَإِنَّ قَصْدَهُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ تَحْصِيلُ الرِّبْحِ وَذَلِكَ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ فَكَذَلِكَ مَا هُوَ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ يَمْلِكُهُ الْمُضَارِبُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ وَيَبِيعُ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِالنَّسِيئَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ يُوجِبُ قَصْرَ يَدِهِ عَنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ فَيَكُونُ ضِدًّا لِمَا هُوَ مَقْصُودُ رَبِّ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَاضِ " .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْبَيْعَ بِالنَّسِيئَةِ مِنْ الْمَرِيضِ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ ؟ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التَّبَرُّعِ وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْبَيْعُ بِالنَّسِيئَةِ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِ رَبِّ الْمَالِ وَهُوَ الرِّبْحُ فَالرِّبْحُ فِي الْغَالِبِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالْبَيْعِ بِالنَّسِيئَةِ دُونَ الْبَيْعِ بِالنَّقْدِ ؛ وَلِأَنَّ تَسْلِيطَ الْمُضَارِبِ عَلَى الْمَالِ لَيْسَ بِمَقْصُودِ رَبِّ الْمَالِ إنَّمَا مَقْصُودُهُ تَحْصِيلُ الرِّبْحِ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ وَذَلِكَ حَاصِلٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ بِالنَّسِيئَةِ تِجَارَةٌ مُطْلَقَةٌ قَوْله تَعَالَى { إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ } فَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ التِّجَارَةَ قَدْ تَكُونُ غَائِبَةً وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا بِالْبَيْعِ بِالنَّسِيئَةِ وَلَهُ أَنْ يُبْضِعَهُ ؛ لِأَنَّ الْإِبْضَاعَ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ وَيَحْتَاجُ الْمُضَارِبُ إلَيْهِ لِتَحْصِيلِ الرِّبْحِ .
فَالتِّجَارَةُ نَوْعَانِ حَاضِرَةٌ فِي بَلْدَةٍ ، وَغَائِبَةٌ فِي بَلْدَةٍ أُخْرَى ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ مُبَاشَرَتِهَا بِنَفْسِهِ وَلَوْ لَمْ يُجْزِئْهُ الْإِبْضَاعُ وَالتَّوْكِيلُ وَالْإِيدَاعُ لَفَاتَهُ أَحَدُ نَوْعَيْ التِّجَارَةِ لِاشْتِغَالِهِ بِالنَّوْعِ الْآخَرِ وَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ

مَعَهُ الْأُجَرَاءَ يَشْتَرُونَ وَيَبِيعُونَ وَيَسْتَأْجِرُ الْبُيُوتَ وَالدَّوَابَّ لِأَمْتِعَتِهِ الَّتِي يَشْتَرِيهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ .
فَالْمُضَارِبُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ ذَلِكَ فِي تَحْصِيلِ الرِّبْحِ ، وَلِلْمَنَافِعِ حُكْمُ الْمَالِ عِنْدَ الْعَقْدِ ، وَالْإِجَارَةُ وَالِاسْتِئْجَارُ تِجَارَةٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُبَادَلَةُ مَالٍ بِمَالٍ وَلَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ .
وَرَوَى أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ مَا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِيهِ صَاحِبُ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَعْرِيضُ الْمَالِ لِلْهَلَاكِ .
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ اشْتِقَاقَ الْمُضَارَبَةِ مِنْ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِالْمُسَافَرَةِ ؛ وَلِأَنَّ مَقْصُودَهُ تَحْصِيلُ الرِّبْحِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ فِي الْعَادَةِ بِالسَّفَرِ بِالْمَالِ فَيَمْلِكُهُ بِمُطْلَقِ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْوَدِيعَةِ أَنَّ الْمُودَعَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِمَالِ الْوَدِيعَةِ فَفِي الْمُضَارِبِ أَوْلَى وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ إنْ دَفَعَ الْمَالَ فِي مِصْرٍ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمِصْرِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ ، وَإِنْ دَفَعَ الْمَالَ إلَيْهِ فِي غَيْرِ مِصْرٍ فَلَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَامَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَرْجِعُ إلَى وَطَنِهِ وَلَا يَسْتَدِيمُ الْغُرْبَةَ مَعَ إمْكَانِ الرُّجُوعِ فَلَمَّا أَعْطَاهُ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ غَرِيبٌ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ دَلِيلُ الرِّضَا بِالْمُسَافَرَةِ بِالْمَالِ عِنْدَ رُجُوعِهِ إلَى وَطَنِهِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِيمَا إذَا دَفَعَ الْمَالَ إلَيْهِ وَهُوَ مُقِيمٌ فِي مِصْرِهِ .
وَلَكِنَّ هَذَا التَّفْصِيلَ فِيمَا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ بِنَاءً عَلَى مَا رَوَيْنَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمُودَعِ أَنَّهُ لَا يُسَافِرُ الْوَدِيعَةِ إذَا كَانَ لَهَا حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقْرِضَهُ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَاضَ تَبَرُّعٌ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَرْضُ

مَرَّتَيْنِ صَدَقَةُ مُرَّةٍ } ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْإِقْرَاضِ تَحْصِيلُ شَيْءٍ مِنْ مَقْصُودِ رَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ بِحُكْمِ الْقَرْضِ مَضْمُونٌ بِمِثْلِهِ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ زِيَادَةُ شَرْطٍ وَلَا غَيْرِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْلِطَهُ بِمَالِهِ ؛ لِأَنَّ فِي الْخَلْطِ بِمَالِهِ أَوْ بِمَالِ غَيْرِهِ إيجَابُ الشَّرِكَةِ فِي الْمَالِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَرْضَ بِهِ رَبُّ الْمَالِ وَكَذَلِكَ لَا يَدْفَعُهُ مُضَارَبَةً ؛ لِأَنَّ بِالدَّفْعِ مُضَارَبَةُ سِوَى غَيْرِهِ بِنَفْسِهِ فِي حَقِّ الْغَيْرِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا لَا يُوَكِّلُ بِهِ غَيْرَهُ ؟ ؛ وَلِأَنَّهُ مُوجِبٌ لِغَيْرِهِ شَرِكَةً فِي الرِّبْحِ وَرَبُّ الْمَالِ لَمْ يَرْضَ بِالشَّرِكَةِ لِغَيْرِهِ فِي رِبْحِ مَالِهِ وَلَا يُشَارِكُ بِهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ بِمَنْزِلَةِ الدَّفْعِ مُضَارَبَةً بَلْ أَقْوَى مِنْهُ فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّ الْمُضَارِبَ يَأْذَن لِعَبْدٍ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فِي التِّجَارَةِ وَيَصِحُّ ذَلِكَ مِنْهُ وَإِطْلَاق التَّصَرُّفِ بِالْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ بِمَنْزِلَةِ الدَّفْعِ مُضَارَبَةً أَوْ فَوْقَهُ ؟ قُلْنَا قَدْ رَوَى ابْنُ رُسْتُمِ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْإِذْنَ فِي التِّجَارَةِ بِمَنْزِلَةِ الدَّفْعِ مُضَارَبَةً وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمَأْذُونَ لَا يَصِيرُ شَرِيكًا فِي الرِّبْحِ فَيَكُونُ الْإِذْنُ فِي التِّجَارَةِ نَظِيرَ الْإِبْضَاعِ لَا نَظِيرَ الدَّفْعِ مُضَارَبَةً ، وَالشَّرِكَةَ بِهِ ، فَإِنْ كَانَ قَالَ لَهُ اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ ، فَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ جَمِيعَ ذَلِكَ إلَّا الْقَرْضَ ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ الْأَمْرَ فِي هَذَا الْمَالِ إلَى رَأْيِهِ عَلَى الْعُمُومِ وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ مُرَادَهُ التَّعْمِيمُ فِيمَا هُوَ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ عَادَةً فَيَمْلِكُ بِهِ الْمُضَارَبَةَ وَالشَّرِكَةَ وَالْخَلْطَ بِمَالِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ كَمَا يَمْلِكُ الْوَكِيلُ تَوْكِيلَ غَيْرِهِ بِمَا وُكِّلَ بِهِ إذَا قِيلَ لَهُ اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ وَلَا يَمْلِكُ

الْقَرْضَ ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ لَيْسَ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ عَادَةً فَلَا يَمْلِكُهُ بِهَذَا اللَّفْظِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ

وَإِذَا دَفَعَهُ إلَيْهِ مُضَارَبَةً عَلَى أَنْ يَعْمَلَ بِهِ فِي الْكُوفَةِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ فِي غَيْرِهَا ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ عَلَى لِلشَّرْطِ وَالشَّرْطُ فِي الْعَقْدِ مَتَى كَانَ مُفِيدًا يَجِبُ اعْتِبَارُهُ وَهَذَا شَرْطٌ مُفِيدٌ لِصَاحِبِ الْمَالِ لِيَكُونَ مَالُهُ مَحْفُوظًا فِي الْمِصْرِ يَتَمَكَّنُ مِنْهُ مَتَى شَاءَ فَيَتَقَيَّدُ الْأَمْرُ بِمَا قَيَّدَهُ بِهِ وَلِيَتَبَيَّنَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ بِضَاعَةً مِمَّنْ يَخْرُجُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَعِينُ فِي هَذَا الْمَالِ فِي غَيْرِ الْكُوفَةِ فَلَا يَمْلِكُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِغَيْرِهِ أَيْضًا وَيُقَاسُ التَّوْقِيتُ مِنْ حَيْثُ الْمَكَانِ بِالتَّوْقِيتِ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانِ فَإِنْ أَخْرَجَهُ مِنْ الْكُوفَةِ فَلَمْ يَشْتَرِ بِهِ شَيْئًا حَتَّى رَدَّهُ إلَيْهَا فَهُوَ ضَامِنٌ عَلَى حَالِهِ يَتَصَرَّفُ فِيهَا ؛ لِأَنَّ خِلَافَهُ لَا يَتَحَقَّقُ بِإِخْرَاجِ الْمَالِ مَا لَمْ يَعْمَلْ خَارِجًا مِنْ الْكُوفَةِ فَإِنَّهُ قَيَّدَ الْأَمْرَ بِالْعَمَلِ بِالْمَكَانِ وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ إخْرَاجُ الْمَالِ مِنْ الْكُوفَةِ عَلَى قَصْدِ التَّصَرُّفِ لِكَيْ لَا يَكُونَ مُخَالِفًا لِمَا شَرَطَ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ بِالْإِخْرَاجِ لَا يَتَحَقَّقُ خِلَافُهُ وَلَوْ تَحَقَّقَ فَهُوَ أَمِينٌ خَالَفَ ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ فَيَكُونُ أَمِينًا كَمَا كَانَ وَإِنْ اشْتَرَى بِبَعْضِهِ فِي غَيْرِ الْكُوفَةِ وَاشْتَرَى بِمَا بَقِيَ مِنْهُ فِي الْكُوفَةِ فَهُوَ مُخَالِفٌ فِيمَا اشْتَرَاهُ بِغَيْرِ الْكُوفَةِ ضَامِنٌ لِذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الْمَالِ فَلَهُ رِبْحُهُ وَعَلَيْهِ وَضِيعَتُهُ لِتَحَقُّقِ الْخِلَافِ مِنْهُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ وَفِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ فَهُوَ مُتَصَرِّفٌ عَلَى الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ صَيْرُورَتِهِ مُخَالِفًا ضَامِنًا لِبَعْضِ الْمَالِ لِبَقَاءِ حُكْمِ الْمُضَارَبَةِ فِيمَا بَقِيَ مَا لَمْ يَتَقَرَّرْ فِيهِ الْخِلَافُ وَالْبَعْضُ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ

وَلَوْ دَفَعَهُ إلَيْهِ مُضَارَبَةً عَلَى أَنْ يَعْمَلَ بِهِ فِي سُوقِ الْكُوفَةِ فَعَمِلَ بِهِ فِي الْكُوفَةِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ فَفِي الْقِيَاسِ هُوَ مُخَالِفٌ ضَامِنٌ ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ شَرْطًا نَصَّ عَلَيْهِ الدَّافِعُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ وَلَا يَكُونُ ضَامِنًا ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا وَلَا فَائِدَةَ فِي تَقْيِيدِ تَصَرُّفِهِ بِالسُّوقِ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ سِعْرُ الْكُوفَةِ لَا عَيْنَ السُّوقِ فَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ مِنْ الْكُوفَةِ تَصَرَّفَ كَانَ تَصَرُّفُهُ وَاقِعًا عَلَى مَا شَرَطَهُ الدَّافِعُ أَرَأَيْتَ لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا فِي الصَّيَارِفَةِ فَعَمَل بِهَا فِي سُوقٍ آخَرَ أَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِي بَيْتِ فُلَانٍ فَعَمِلَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ كَانَ ضَامِنًا وَلَا يَكُونُ ضَامِنًا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِسَبَبِ اتِّحَادِ الْمِصْرِ وَلَوْ دَفَعَهُ إلَيْهِ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ بِهِ فِي سُوقِ الْكُوفَةِ وَقَالَ لَهُ لَا تَعْمَلْ بِهِ إلَّا فِي السُّوقِ فَعَمِلَ بِهِ فِي غَيْرِ السُّوقِ فَهُوَ مُخَالِفٌ ضَامِنٌ ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ بِقَوْلِهِ : لَا تَعْمَلْ بِهِ وَاسْتَثْنَى تَصَرُّفَا مَخْصُوصًا وَهُوَ مَا يَكُون فِي السُّوق ، فَمَا يَكُون عَلَى الْوَجْهِ الْمُسْتَثْنَى يَنْفُذُ مِنْهُ وَمَا لَا فَلَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ مَا حَجَرَ عَلَيْهِ عَنْ التَّصَرُّفِ إنَّمَا أَمَرَهُ بِالتَّصَرُّفِ وَقَيَّدَ الْأَمْرَ بِشَرْطٍ غَيْر مُفِيدٍ فَلَا يُعْتَبَرُ تَقْيِيدُهُ وَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ بِاعْتِبَارِ صِحَّةِ الْأَمْرِ

وَلَوْ قَالَ : خُذْهُ مُضَارَبَةً تَعْمَلْ بِهِ فِي الْكُوفَةِ أَوْ قَالَ : فَاعْمَلْ بِهِ فِي الْكُوفَةِ فَعَمِلَ بِهِ فِي غَيْرِ الْكُوفَةِ فَهُوَ ضَامِنٌ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : تَعْمَلُ بِهِ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ : خُذْهُ مُضَارَبَةً وَالْكَلَامُ الْمُبْهَمُ إذَا تَعَقَّبَهُ تَفْسِيرُهُ فَالْحُكْمُ لِذَلِكَ التَّفْسِيرِ ، وَقَوْلُهُ : فَاعْمَلْ بِهِ فِي مَعْنَى التَّفْسِيرِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلْوَصْلِ وَالتَّعْقِيبِ وَاَلَّذِي يَتَّصِلُ بِالْكَلَامِ الْمُبْهَمِ وَيَتَعَقَّبُهُ تَفْسِيرٌ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ خُذْ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ بِالْكُوفَةِ ؛ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ فَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مُوجِبُ كَلَامِهِ مُلْصَقًا بِالْكُوفَةِ وَمُوجِبُ كَلَامِهِ الْعَمَلُ بِالْمَالِ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ إلْصَاقُهُ بِالْكُوفَةِ إذَا عَمِلَ بِهَا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ خُذْهُ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فِي الْكُوفَةِ ؛ لِأَنَّ حَرْفَ فِي لِلظَّرْفِ وَالْمَكَانِ إنَّمَا يَكُونُ ظَرْفًا لِلْعَمَلِ إذَا كَانَ حَاصِلًا فِيهِ فَهَذَا كُلُّهُ اشْتِرَاطُ الْعَمَلِ فِي الْكُوفَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا شَرْطٌ مُفِيدٌ .
وَلَوْ قَالَ : خُذْهُ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ وَاعْمَلْ بِهِ فِي الْكُوفَةِ فَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ حَيْثُ شَاءَ ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ وَالشَّيْءُ لَا يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنَّمَا يُعْطَفُ عَلَى غَيْرِهِ وَقَدْ تَكُونُ الْوَاوُ لِلِابْتِدَاءِ خُصُوصًا بَعْدَ الْجُمْلَةِ الْكَامِلَةِ وَقَوْلُهُ خُذْهُ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ جُمْلَةٌ تَامَّةٌ وَقَوْلُهُ : وَاعْمَلْ عَطْفٌ أَوْ ابْتِدَاءٌ فَيَكُونُ مَشُورَةً أَشَارَ بِهِ عَلَيْهِ لَا شَرْطًا فِي الْأَوَّلِ فَإِنْ قِيلَ لِمَاذَا لَمْ يُجْعَلْ بِمَعْنَى الْحَالِ كَمَا فِي قَوْلِهِ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا وَأَنْتَ حُرٌّ قُلْنَا ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ صَالِحٍ لِلْحَالِ هُنَا فَحَالُ الْعَمَلِ لَا يَكُونُ وَقْتَ الْأَخْذِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الْعَمَلُ بَعْدَ الْأَخْذِ مَعَ أَنَّ الْوَاوَ تُسْتَعَارُ لِلْحَالِ مَجَازًا وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ لِلْحَاجَةِ إلَى تَصْحِيحِ الْكَلَامِ وَالْكَلَامُ صَحِيحٌ هُنَا بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى حَمْلِ حَرْف الْوَاوِ عَلَى

الْمَجَازِ وَلَوْ قَالَ خُذْهُ مُضَارَبَةً عَلَى أَنْ تَشْتَرِيَ بِهِ الطَّعَامَ أَوْ قَالَ فَاشْتَرِ بِهِ الطَّعَامَ أَوْ قَالَ تَشْتَرِي بِهِ الطَّعَامَ أَوْ قَالَ خُذْهُ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فِي الطَّعَامِ فَهَذَا كُلُّهُ بِمَعْنَى الشَّرْطِ كَمَا فِي الْأَوَّلِ وَهُوَ شَرْطٌ مُفِيدٌ ، وَقَدْ يَكُونُ الْمَرْءُ مُهْتَدِيًا إلَى التَّصَرُّفِ فِي الطَّعَامِ دُونَ غَيْرِهِ فَيُعْتَبَرُ التَّقْيِيدُ ثُمَّ يُصْرَفُ لَفْظُ الطَّعَامِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ إلَى الْحِنْطَةِ وَالدَّقِيقِ خَاصَّةً لَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ غَيْرَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ لَفْظَ الطَّعَامِ عِنْدَ ذِكْرِ الشِّرَاءِ وَذَلِكَ يَنْصَرِفُ إلَى الْحِنْطَةِ وَالدَّقِيقِ خَاصَّةً بِاعْتِبَارِ عُرْفِ النَّاسِ فَإِنَّ بَائِعَ الطَّعَامِ فِي عُرْفِ النَّاسِ مَنْ يَبِيعُ الْحِنْطَةَ وَدَقِيقَهَا ، وَسُوقُ الطَّعَامِ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ الْحِنْطَةُ وَدَقِيقُهَا وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِي الْإِقْرَارِ وَالْأَيْمَانِ .
وَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ بِبَعْضِهِ شَيْئًا يَجُوزُ فِيهِ الطَّعَامُ أَوْ يَبِيعَهُ فِيهِ أَوْ سَفِينَةً لِيَحْمِلَ فِيهَا الطَّعَامَ مِنْ مِصْرٍ إلَى مِصْرٍ أَوْ دَوَابَّ ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ فِي الطَّعَامِ وَلَا يَجِدُ مِنْهُ بُدًّا فَلَمَّا أَمَرَهُ صَاحِبُ الْمَالِ بِذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ صَارَ إذْنًا لَهُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ كُلُّ صِنْفٍ سَمَّاهُ فَهُوَ عَلَيْهِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ تَقْيِيدٌ مُفِيدٌ فَإِنْ اشْتَرَى غَيْرَهُ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْخِلَافِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ خُذْهُ مُضَارَبَةً فِي الرَّقِيقِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ غَيْرَ الرَّقِيقِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حَرْفَ فِي لِلظَّرْفِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا مِنْ حَيْثُ الْعَمَلِ فِي الرَّقِيقِ وَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِبَعْضِهِ كِسْوَةً لِلرَّقِيقِ وَطَعَامًا لَهُمْ وَمَا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ ، وَيَسْتَأْجِرَ مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ التَّاجِرَ فِي الرَّقِيقِ يَحْتَاجُ إلَى هَذَا كُلِّهِ عَادَةً فَيَكُونُ هَذَا مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ فِي الرَّقِيقِ ، وَبِمُبَاشَرَةِ الْبَيْعِ لَا يَصِيرُ

مُخَالِفًا .

وَلَوْ قَالَ : خُذْهُ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ وَاشْتَرِ بِهِ الْبُرَّ وَبِعْ فَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ مَا بَدَا لَهُ مِنْ الْبُرِّ وَغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَاشْتَرِ بِهِ الْبُرَّ مَشُورَةٌ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : وَاشْتَرِ بِهِ مِنْ فُلَانٍ أَوْ قَالَ وَانْظُرْ فُلَانًا وَعَامِلْهُ فِيهِ وَاشْتَرِيهِ الْبُرَّ وَبِعْ ؛ لِأَنَّ هَذَا مَشُورَةٌ لَا شَرْطٌ فَيَبْقَى الْأَمْرُ الْأَوَّلُ بَعْدَهُ عَلَى إطْلَاقِهِ

وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ مُضَارَبَةً عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ فُلَانٍ وَيَبِيعَ مِنْهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ غَيْرِهِ وَلَا أَنْ يَبِيعَ مِنْ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا تَقْيِيدٌ بِشَرْطٍ مُفِيدٍ وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْمُعَامَلَةِ فِي الِاسْتِقْضَاءِ وَالْمُسَاهَلَةِ وَيَتَفَاوَتُونَ فِي مَلَاءَةِ الذِّمَّةِ وَقَضَاءِ الدُّيُونِ وَلَوْ دَفَعَهُ إلَيْهِ مُضَارَبَةً عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَيَبِيعَ فَاشْتَرَى وَبَاعَ بِالْكُوفَةِ مِنْ رَجُلٍ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ هُنَا تَقْيِيدُ الْعَمَلِ بِالْكُوفَةِ لَا تَعْيِينُ مَنْ يُعَامِلُهُ وَتَقْيِيدُ ذَلِكَ بِأَهْلِ الْكُوفَةِ ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ جَمِيعِ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِي الْمُعَامَلَةِ وَقَضَاءِ الدُّيُونِ لَا يَتَّفِقُ فَعَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ تَقْيِيدُ التَّصَرُّفِ بِالْكُوفَةِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ سَوَاءٌ تَصَرَّفَ بِالْكُوفَةِ مَعَ أَهْلِ الْكُوفَةِ أَوْ مَعَ الْغُرَبَاءِ بِهَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَفَعَهُ إلَيْهِ مُضَارَبَةً فِي الصَّرْفِ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ الصَّيَارِفَةِ وَيَبِيعَ كَانَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ غَيْرِ الصَّيَارِفَةِ وَمَا بَدَا لَهُ مِنْ الصَّرْفِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُعَيِّنْ شَخْصًا لِمُعَامَلَتِهِ عَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ مُرَادَهُ إلَّا التَّقْيِيدُ بِالْمَكَانِ

وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى بِهِ حِنْطَةً فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ دَفَعْتُهُ إلَيْكَ مُضَارَبَةً فِي الْبُرِّ ، وَقَالَ : الْمُضَارِبُ دَفَعْتُهُ إلَيَّ مُضَارَبَةً وَلَمْ تَقُلْ شَيْئًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ مَعَ يَمِينِهِ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ " ، وَلَوْ قَالَ الْمُضَارِبُ أَمَرْتنِي بِالْبُرِّ وَقَدْ خَالَفْتَ فَالرِّبْحُ لِي وَقَالَ : رَبُّ الْمَالِ لَمْ أُسَمِّ شَيْئًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ بِالْإِنْفَاقِ فَزَفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ : " الْإِذْنُ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَةِ رَبِّ الْمَالِ وَلَوْ أَنْكَرَ الْإِذْنَ أَصْلًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَذَلِكَ " إذَا أَقَرَّ بِهِ بِصِفَةٍ دُونَ صِفَةٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي الْإِجَارَاتِ إذَا قَالَ الْحَائِكُ : أَمَرْتنِي بِسِتَّةٍ فِي أَرْبَعَةٍ وَقَالَ : رَبُّ الْغَزْلِ أَمَرْتُكَ بِسَبْعَةٍ فِي خَمْسَةٍ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الْغَزْلِ ، وَكَذَلِكَ الْمُعِيرُ ، مَعَ الْمُسْتَعِيرِ إذَا اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ الْإِعَارَةِ كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ الْمُعِيرِ وَالْوَكِيلُ مَعَ الْمُوَكِّلِ إذَا اخْتَلَفَتَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُوَكِّلِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ مُطْلَقَ الْمُضَارَبَةِ يَقْتَضِي الْعُمُومَ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَحْصِيلُ الرِّبْحِ وَتَمَامُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْعُمُومِ فِي التَّفْوِيضِ لِلتَّصَرُّفِ إلَيْهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ خُذْ هَذَا الْمَالَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ يَصِحُّ وَيَمْلِكُ بِهِ جَمِيعَ التِّجَارَاتِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْعَقْدِ الْعُمُومُ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ عَلَى مَا يُوجِبُ التَّخْصِيصَ كَالْوَكَالَةِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْعَقْدِ الْعُمُومَ فَالْمُدَّعِي لِإِطْلَاقِ الْعَقْدِ مُتَمَسِّكٌ بِمَا هُوَ الْأَصْلُ وَالْآخَرُ يَدَّعِي تَخْصِيصًا زَائِدًا فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَتَمَسَّكُ بِالْأَصْلِ كَمَا فِي الْبَيْعِ إذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا شَرْطًا زَائِدًا مِنْ خِيَارٍ أَوْ مِنْ

أَجَلٍ .
وَبِهِ يَتَّضِحُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا اسْتَشْهَدَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَعَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فَإِنَّ هُنَاكَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي التَّخْصِيصَ بِشَيْءٍ آخَرَ .
وَفِي الْمُضَارَبَةِ لَوْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا التَّقْيِيدَ بِالْبُرِّ وَالْآخَرُ بِالْحِنْطَةِ كَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ رَبِّ الْمَالِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى تَغْيِيرِ مُطْلَقِ الْعَقْدِ فَبَعْدَ ذَلِكَ الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْإِذْنَ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَتِهِ فَأَمَّا هُنَا فَأَحَدُهُمَا مُتَمَسِّكٌ بِمَا هُوَ مُقْتَضَى الْعَقْدِ فَيَتَرَجَّحُ قَوْلُهُ لِذَلِكَ فَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَى مِنْ تِجَارَةٍ خَاصَّةٍ أُخِذَ بِبَيِّنَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِالْبَيِّنَةِ مَا يُعَيِّنُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى إثْبَاتِ ذَلِكَ

وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا ثُمَّ قَالَ لَهُ رَبُّ الْمَالِ بَعْدَ ذَلِكَ : لَا تَعْمَلْ بِالْمَالِ إلَّا فِي الْحِنْطَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِهِ إلَّا فِي الْحِنْطَةِ ؛ لِأَنَّ تَقْيِيدَهُ الْأَمْرَ بَعْدَ الدَّفْعِ مُضَارَبَةً لِتَقْيِيدِهِ بِذَلِكَ عِنْدَ الدَّفْعِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ مَا دَامَ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ نَقْدًا فَرَبُّ الْمَالِ يَمْلِكُ نَهْيَهُ عَنْ التَّصَرُّفِ فَيَمْلِكُ تَقْيِيدَ الْأَمْرِ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ ؛ لِأَنَّ مَنْ يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِ شَيْءٍ أَصْلًا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَغْيِيرِ وَصْفِهِ بِطَرِيقِ الْأُولَى ، وَبَعْدَ مَا صَارَ الْمَالُ عُرُوضًا لَوْ قَالَ لَا تَعْمَلْ بِهِ إلَّا فِي الْحِنْطَةِ لَا يُعْتَبَرُ تَقْيِيدُهُ هَذَا مَا لَمْ يَصِرْ الْمَالُ فِي يَدِهِ نَقْدًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ نَهْيَهُ عَنْ التَّصَرُّفِ بَعْدَ مَا صَارَ الْمَالُ عُرُوضًا وَلَوْ نَهَاهُ لَا يَعْمَلُ نَهْيُهُ مَا لَمْ يَصِرْ الْمَالُ فِي يَدِهِ نَقْدًا فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ تَغْيِيرَ صِفَةِ الْأَمْرِ بِالتَّقْيِيدِ وَإِنْ كَانَ اشْتَرَى بِبَعْضِ الْمَالِ ثِيَابًا ثُمَّ أَمَرَ بِأَنْ لَا يَعْمَل فِي الْمَالِ إلَّا فِي الْحِنْطَة فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِمَا بَقِيَ فِي يَده مِنْ الْمَال إلَّا فِي الْحِنْطَة اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ ، وَأَمَّا الثِّيَابُ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهَا بِمَا بَدَا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا رَجَعَ إلَيْهِ رَأْسُ الْمَالِ الَّذِي كَانَ نَقَدَ فِي الثِّيَابِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ إلَّا الْحِنْطَةَ وَذَلِكَ التَّقْيِيدُ بِعَمَلِ الْآن اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ

وَلَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلَيْنِ مَالًا مُضَارَبَةً وَأَمَرَهُمَا بِأَنْ يَعْمَلَا فِي ذَلِكَ بِرَأْيِهِمَا فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَشْتَرِيَ وَيَبِيعَ إلَّا بِأَمْرِ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ وَفَوَّضَ الْأَمْرَ فِي الْعَمَلِ إلَى رَأْيِهِمَا ، وَرَأْيُ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ كَرَأْيِ الْمُثَنَّى .
فَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُ أَحَدِهِمَا وَحْدَهُ ، وَفِي الْوَكِيلَيْنِ الْجَوَابُ كَذَلِكَ

وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ الْمَالَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ اشْتَرِ بِهِ الْبُرَّ وَبِعْ فَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ غَيْرَهُ وَلَيْسَ هَذَا بِنَهْيٍ إنَّمَا هُوَ مَشُورَةٌ كَمَا لَوْ قَالَ عِنْدَ الدَّفْعِ : خُذْهُ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ وَاشْتَرِ بِهِ الْبُرَّ ، وَإِنْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ دَفَعْتُهُ إلَيْكَ مُضَارَبَةً فِي الطَّعَامِ خَاصَّةً ، وَقَالَ الْمُضَارِبُ فِي الْبُرِّ خَاصَّةً فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى تَعْيِينِ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْعَقْدِ بِالتَّقْيِيدِ ، وَإِنْ أَقَامَ الْمُضَارِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ رَبَّ الْمَالِ دَفَعَ إلَيْهِ الْمَالَ وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مَا بَدَا لَهُ ، وَأَقَامَ رَبُّ الْمَالِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ نَهَاهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ شَيْئًا غَيْرَ الطَّعَامِ وَقَدْ وُقِّتَتْ الْبَيِّنَتَانِ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِبَيِّنَةِ الْوَقْتِ الْأَخِيرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ صَدَقَتَا ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ يَنْقُضُ الْأَوَّلَ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ بَعْدَ الْإِذْنِ صَحِيحٌ وَالْإِذْنُ بَعْدَ النَّهْيِ عَامِلٌ ، وَإِنْ لَمْ تُوَقَّتْ الْبَيِّنَتَانِ وَقْتًا أَوْ وُقِّتَتْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَيْهَا .
فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُضَارِبِ لِدَعْوَاهُ الْإِطْلَاقَ ؛ وَلِأَنَّ فِي بَيِّنَةِ رَبِّ الْمَالِ زِيَادَةَ إثْبَاتِ التَّقْيِيدِ ، وَلَوْ كَانَ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْئًا خَاصًّا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَإِنْ وُقِّتَتْ الْبَيِّنَتَانِ أُخِذَ بِالْوَقْتِ الْأَخِيرِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الثَّانِيَ يَنْقُضُ الْأَوَّلَ ، وَإِنْ وُقِّتَتْ إحْدَاهُمَا أَوْ لَمْ تُوَقَّتَا فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُضَارِبِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ مَا ادَّعَاهُ بِالْبَيِّنَةِ فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ فِي هَذَا الْفَصْلِ

وَلَوْ دَفَعَهُ إلَيْهِ مُضَارَبَةً عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِالنَّقْدِ وَيَبِيعَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ إلَّا بِالنَّقْدِ ؛ لِأَنَّ هَذَا تَقْيِيدٌ مُفِيدٌ فِي حَقِّ رَبِّ الْمَالِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِنْ مَالِهِ مُسْتَرِدًّا ، فَإِنْ قَالَ الْمُضَارِبُ : أَمَرْتنِي بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ : أَمَرْتُكَ بِالنَّقْدِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ مَعَ يَمِينِهِ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي مَا هُوَ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْعَقْدِ ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ الْمُعَيَّنِ بِالْبَيِّنَةِ ، وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَ بِالنَّسِيئَةِ وَلَا يَبِيعَ بِالنَّقْدِ فَبَاعَ بِالنَّقْدِ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا خَيْرٌ لِصَاحِبِ الْمَالِ وَالْخِلَافُ إلَى خَيْرٍ فِي جِنْسِ مَا أَمَرَ بِهِ لَا يَكُونُ خِلَافًا فِي الْمُضَارَبَةِ كَمَا لَوْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَبِيعَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَا يَبِيعَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ فَبَاعَهُ بِأَلْفَيْنِ لَا يَصِيرُ مُخَالِفًا وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ بَاشَرَ مَا بِهِ يَحْصُلُ مَقْصُودُ الْآمِرِ وَزِيَادَةُ خَيْرٍ ، فَكَذَلِكَ إذَا أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ نَسِيئَةً فَبَاعَهُ بِالنَّقْدِ .
قَالُوا : وَهَذَا إذَا بَاعَهُ بِالنَّقْدِ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ بِمِثْلِ مَا سُمِّيَ لَهُ مِنْ الثَّمَنِ ، فَإِنْ كَانَ بِدُونِ ذَلِكَ فَهُوَ مُخَالِفٌ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَحْصِيلُ مَقْصُودِ الْآمِرِ فِي الْقَدْرِ فَالشَّيْءُ يُشْتَرَى بِالنَّسِيئَةِ بِأَكْثَرَ مِمَّا يُشْتَرَى بِهِ بِالنَّقْدِ

وَإِذَا دَفَعَهُ إلَيْهِ مُضَارَبَةً عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ الطَّعَامَ خَاصَّةً فَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ لِنَفْسِهِ دَابَّةً وَإِذَا خَرَجَ لِلطَّعَامِ خَاصَّةً كَمَا يَسْتَأْجِرُ لِلطَّعَامِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ مِنْ تَوَابِعِ تِجَارَتِهِ فِي الطَّعَامِ ، وَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ دَابَّةً يَرْكَبُهَا إذَا سَافَرَ كَمَا يَشْتَرِي التُّجَّارُ ؛ لِأَنَّ رُكُوبَهُ إذَا سَافَرَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ كَنَفَقَتِهِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَرُبَّمَا يَكُونُ شِرَاءُ الدَّابَّةِ أَوْفَقَ مِنْ اسْتِئْجَارِهِ وَذَلِكَ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ عَادَةً وَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ أَيْضًا حَمُولَةً يُحْمَلُ عَلَيْهَا الطَّعَامُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ عَادَةً إذَا لَمْ يُوجَدْ الْكِرَاءُ أَوْ يَكُونُ الشِّرَاءُ أَوْفَقَ فِي ذَلِكَ مِنْ الْكِرَاءِ ، فَإِنْ اشْتَرَى سَفِينَةً يَحْمِلُ عَلَيْهَا الطَّعَامَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ عَادَةً وَلَا يُعَدُّ شِرَاءُ السَّفِينَةِ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ فِي الطَّعَامِ فَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ يَشْتَرِي لِلطَّعَامِ الْحَمُولَةِ فَيَحْمِلُ عَلَيْهَا فَاشْتَرَى شَيْئًا مِنْ الْحَمُولَةِ فَهُوَ جَائِزٌ اسْتِحْسَانًا فِي الْقِيَاسِ شِرَاءُ الْحَمُولَةِ لَيْسَ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الطَّعَامِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ مَا يَصْنَعُهُ التُّجَّارُ عَادَةً إذَا خَرَجُوا فِي حَمُولَةِ الطَّعَامِ فَذَلِكَ يَمْلِكُهُ الْمُضَارِبُ بِتَفْوِيضِ التَّصَرُّفِ إلَيْهِ فِي هَذَا الْمَالِ فِي الطَّعَامِ وَمَا لَيْسَ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ عَادَةً كَشِرَاءِ السَّفِينَةِ يُؤْخَذُ بِأَصْلِ الْقِيَاسِ فِيهِ وَيَكُونُ مُشْتَرِيًا ذَلِكَ لِنَفْسِهِ فَإِنْ نَقَدَ ثَمَنَهَا مِنْ الْمُضَارَبَةِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا نَقَدَ ؛ لِأَنَّهُ قَضَى بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ دَيْنَ نَفْسِهِ وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ دَفَعَ الْمَالَ إلَيْهِ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ وَلَمْ يُسَمِّ فَاشْتَرَى بِهَا طَعَامًا وَسَفِينَةً يَحْمِلُ عَلَيْهَا الطَّعَامَ أَوْ اشْتَرَى دَوَابَّ جَازَ ذَلِكَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّهُ

يَمْلِكُ التِّجَارَةَ فِي الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ هُنَا مُطْلَقًا وَجَمِيعُ مَا اشْتَرَى مِنْ عُقُودِ التِّجَارَةِ .

وَإِذَا اخْتَلَفَا بَعْدَ مَا اشْتَرَى بِهَا فِي غَيْرِ الْمِصْرِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا كَانَتْ الْمُضَارَبَةُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ وَالْبَيْعُ فِي الْمِصْرِ خَاصَّةً وَقَالَ الْآخَرُ لَمْ يُسَمِّ شَيْئًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي لَمْ يُسَمِّ شَيْئًا لِتَمَسُّكِهِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ فِي مُقْتَضَاهُ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُدَّعِي الْمُحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ مَا يَدَّعِيهِ بِالْبَيِّنَةِ

وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلَيْنِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي الْمَالِ إلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ مَا رَضِيَ بِرَأْيِ أَحَدِهِمَا فَلَيْسَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَرْضَى بِمَا لَمْ يَرْضَ رَبُّ الْمَالِ بِهِ وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَذِنَ لِصَاحِبِهِ فِي التَّصَرُّفِ يَكُونُ كَالْمُوَكِّلِ وَلِلْمُضَارِبِ أَنْ يُوَكِّلَ .
وَلَوْ وَكَّلَ إنْسَانًا وَاحِدًا بِالتَّصَرُّفِ نَفَذَ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ بَيْعًا وَشِرَاءً ، فَكَذَلِكَ إذَا وَكَّلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ .
وَإِنْ أَبْضَعَ أَحَدُهُمَا بَعْضَ الْمَالِ بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهِ فَاشْتَرَى الْمُسْتَبْضِعُ وَبَاعَ وَرَبِحَ أَوْ وَضَعَ فَرِبْحُ ذَلِكَ لِلْمُضَارِبِ الَّذِي أَبْضَعَ وَوَضِيعَتُهُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ إبْضَاعَهُ صَحِيحٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ وَلَا فِي حَقِّ رَبِّ الْمَالِ فَيُجْعَلُ تَصَرُّفُ الْمُسْتَبْضِعِ لَهُ كَتَصَرُّفِهِ بِنَفْسِهِ وَلِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَضْمَنَ إنْ شَاءَ الْمُسْتَبْضِعُ وَيَرْجِعُ بِهِ الْمُسْتَبْضِعُ عَلَى الْآمِرِ وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ الْمُضَارِبُ الْآمِرَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَقِّهِ غَاصِبٌ فَإِنْ ضَمِنَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُسْتَبْضِعِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْمَالَ بِالضَّمَانِ فَإِنَّمَا أَبْضَعَ مُلْكَ نَفْسِهِ ؛ وَلِأَنَّ الْمُسْتَبْضِعَ عَامِلٌ لَهُ لَوْ لَحِقَهُ ضَمَانٌ رَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ وَرُجُوعُ الْآمِرِ عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ لَا يُفِيدُهُ شَيْئًا .
فَإِنْ أَذِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُضَارِبَيْنِ لِصَاحِبِهِ فِي أَنْ يُبْضِعَ مَا شَاءَ مِنْ الْمَالِ فَأَبْضَعَ أَحَدُهُمَا رَجُلًا وَأَبْضَعَ الْآخَرُ رَجُلًا فَذَلِكَ جَائِزٌ عَلَيْهِمَا وَعَلَى رَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِهِمَا جَمِيعًا .
وَإِنْ بَاعَ الْمُضَارِبَانِ عَبْدًا مِنْ رَجُلٍ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَقْبِضَ نِصْفَ الثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي ،

وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ شَرِيكُهُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَائِعٌ لِلنِّصْفِ وَحَقُّ قَبْضِ الثَّمَنِ إلَى الْعَاقِدِ وَالْعَاقِدُ فِي ذَلِكَ لِغَيْرِهِ كَالْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ وَلَا يَقْبِضُ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ الثَّمَنِ إلَّا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ فَإِنْ أَذِنَ لَهُ شَرِيكُهُ فِي ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ كَمَا لَوْ وَكَّلَ بِهِ غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّ حَقَّ قَبْضِ النِّصْفِ الْآخَرِ لِلشَّرِيكِ .
وَلَوْ قَالَ لَهُمَا حِينَ دَفَعَ الْمَالَ إلَيْهِمَا مُضَارَبَةً لَا تُبْضِعَا الْمَالَ فَأَبْضَعَاهُ فَهُمَا ضَامِنَانِ لَهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا نَهْيٌ مُفِيدُ فَيَكُونُ عَامِلًا مَعَ الْعَقْدِ وَبَعْدَهُ ، وَإِنْ أَبْضَعَاهُ رَبَّ الْمَالِ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّ قَبُولَ رَبِّ الْمَالِ الْبِضَاعَةَ مِنْهُمَا وَالشِّرَاءَ لَهُمَا بِهِ فَسْخٌ مِنْهُ لِذَلِكَ النَّهْيِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَذِنَ لَهُمَا فِي الْإِبْضَاعِ أَوْ كَانَ الْعَقْدُ مُطْلَقًا ، وَفِي ذَلِكَ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُبْضِعَا رَبَّ الْمَالِ أَوْ غَيْرَهُ .

وَإِذَا أَبْضَعَ الْمُضَارِبُ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى رَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ يُعْتَبَرُ بِالْجَائِزِ فِي الْحُكْمِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَعَرُّفُ مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ الْفَاسِدِ إلَّا بِاعْتِبَارِهِ بِالْجَائِزِ فَكَمَا لَا يَصِيرُ مُخَالِفًا بِهِ فِي الْمُضَارَبَةِ الْجَائِزَةِ فَكَذَلِكَ لَا يَصِيرُ مُخَالِفًا فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ ، وَلِلْمُضَارِبِ أَجْرُ الْمِثْلِ فِيمَا عَمِلَ الْمُسْتَبْضِعُ ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْمُسْتَبْضِعِ لَهُ بِأَمْرِهِ كَعَمَلِهِ بِنَفْسِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لَهُ فِي الْمُضَارَبَةِ الْفَاسِدَةِ أَجْرُ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ قَالَ لَهُ : اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ ، فَإِنَّهُ يُنَفِّذُ بَعْدَ هَذَا مَا يُنَفِّذُ فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ فَلَا يَصِيرُ بِهِ ضَامِنًا .

وَلَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلَيْنِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّ لِأَحَدِهِمَا ثُلُثَ الرِّبْحِ وَلِلْآخَرِ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَثُلُثُ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ الَّذِي شَرَطَ لَهُ ثُلُثَ الرِّبْحِ وَمَا بَقِيَ مِنْ الرِّبْحِ فَهُوَ لِرَبِّ الْمَالِ وَعَلَيْهِ أَجْرُ الْمِثْلِ لِلْمُضَارِبِ الْآخَرِ فِيمَا عَمِلَ ؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فَاسِدَةٌ بِاشْتِرَاطِهِ لَهُ مِقْدَارًا مُسَمًّى مِنْ الْمَالِ ، وَهَذَا الْمُفْسِدُ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِيمَا هُوَ مِنْ صُلْبِ الْعَقْدِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الَّذِي شَرَطَ لَهُ ثُلُثَ الرِّبْحِ فَاسْتَحَقَّ هُوَ ثُلُثَ الرِّبْحِ بِالشَّرْطِ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا فَإِنْ لَمْ يَعْمَلَا بِهِ حَتَّى أَبْضَعَ أَحَدُهُمَا الْمَالَ مَعَ صَاحِبِهِ فَعَمِلَ بِهِ أَيُّهُمَا كَانَ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ ؛ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عَمَلَ أَحَدِهِمَا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ كَعَمَلِهِمَا إذَا كَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا فِي حَقِّهِمَا أَوْ فَاسِدًا ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ صَحِيحًا فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا فَاسِدًا فِي حَقِّ الْآخَرِ .
وَالْمُضَارِبُ الَّذِي شَرَطَ لَهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ أَجْرُ مِثْلِهِ فِي الْعَمَلِ بِنِصْفِ الْمَالِ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْعَامِلُ أَوْ صَاحِبُهُ ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ فِي النِّصْفِ لِصَاحِبِهِ وَعَمَلُ صَاحِبِهِ فِي النِّصْفِ لَهُ فَيَكُون كَعَمَلِهِ بِنَفْسِهِ .
.

وَإِذَا بَاعَ الْمُضَارِبُ مَتَاعَ الْمُضَارَبَةِ وَسَلَّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي ثُمَّ أَخَرَّ الثَّمَنَ عَنْ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ أَوْ غَيْرِ عَيْبٍ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الْمُضَارَبَةِ وَلَا يَضْمَنُ الْمُضَارِبُ بِهَذَا التَّأْخِيرِ شَيْئًا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ فَهُنَاكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَصِحُّ تَأْجِيلُهُ فِي الثَّمَنِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَجُوزُ وَيَصِيرُ ضَامِنًا لِلْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَ مَا بَاعَ بِمِثْلِ ذَلِكَ الثَّمَنِ ثُمَّ يَبِيعُهُ بِمِثْلِهِ مُؤَجَّلًا فَكَذَلِكَ يَمْلِكُ أَنْ يُؤَجِّلَهُ فِي ذَلِكَ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ وَهُوَ يَمْلِكُ مَا هُوَ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ فَأَمَّا الْوَكِيلُ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ وَالْبَيْعَ ثَانِيًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فَكَذَلِكَ تَأْجِيلُهُ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ لَا يَصِحُّ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَحَالَ بِهِ الْمُضَارِبُ عَلَى إنْسَانٍ أَيْسَرَ مِنْ الْمُشْتَرِي أَوْ أَعْسَرَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الْحَوَالَةِ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ وَلَوْ أَقَالَ الْعَقْدَ مَعَ الْأَوَّلِ ثُمَّ بَاعَهُ بِمِثْلِهِ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ جَازَ فَكَذَلِكَ إذَا قَبِلَ الْحَوَالَةَ بِالثَّمَنِ عَلَيْهِ ، وَبِهِ فَارَقَ الْوَكِيلَ وَالْمُضَارِبَ فِي هَذِهِ لَيْسَ نَظِيرَ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ فَإِنَّ قَبُولَهُمَا الْحَوَالَةَ عَلَى مَنْ هُوَ أَعَسْرُ مِنْ الْمُحِيلِ لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُمَا مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ الْأَحْسَنِ وَالْأَصْلَحِ لَهُ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي قَبُولِ الْحَوَالَةِ عَلَى مَنْ هُوَ أَفْلَسَ ، وَتَصَرُّفُ الْمُضَارِبِ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِمِثْلِهِ بَلْ هُوَ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ عَادَةً وَذَلِكَ يُوجَدُ هُنَا .
وَكَذَلِكَ لَوْ حَطَّ شَيْئًا بِعَيْبٍ مِثْلَ مَا يَحُطُّ التُّجَّارُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْعَيْبِ أَوْ يَتَغَابَنُ بِهِ النَّاسُ فَذَلِكَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ عَادَةً ، وَلَوْ قَبِلَهُ بِالْعَيْبِ ثُمَّ بَاعَهُ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ ثَانِيًا جَازَ فَكَذَلِكَ إذَا حَطَّ عَنْهُ هَذَا الْمِقْدَارَ وَإِنْ حَطَّ

عَنْهُ شَيْئًا فَاحِشًا أَوْ حَطَّ بِغَيْرِ عَيْبٍ جَازَ ذَلِكَ عَلَى الْمُضَارِبِ خَاصَّةً فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - : " وَهُوَ ضَامِنٌ ذَلِكَ لِرَبِّ الْمَالِ وَمَا قَبَضَهُ مِنْ الثَّمَنِ فَعَمِلَ بِهِ فَهُوَ عَلَى الْمُضَارِبِ خَاصَّةً وَرَأْسُ الْمَالِ فِي ذَلِكَ الَّذِي قَبَضَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي " وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " لَا يَجُوزُ هَذَا الْحَطُّ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْحَطَّ " لَيْسَ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ فَلَا يَمْلِكُهُ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ وَلَكِنَّهُ هُوَ الْعَاقِدُ فَيَكُونُ فِي هَذَا الْحَطِّ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ ، وَالْحَطُّ وَالْإِبْرَاءُ عَنْ الثَّمَنِ مِنْ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - صَحِيحٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَهُوَ ضَامِنٌ ذَلِكَ لِلْمُوَكِّلِ وَفِي مِقْدَارِ مَا صَارَ ضَامِنًا يَبْطُلُ حُكْمُ الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُضَارِبِ .

وَإِذَا قَالَ رَبُّ الْمَالِ لِلْمُضَارِبِ اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ فَخَلَطَهُ بِمَالِهِ ثُمَّ اشْتَرَى بِهِ جَازَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّهُ بِتَعْمِيمِ التَّفْوِيضِ إلَى رَأْيِهِ يَمْلِكُ الْخَلْطَ بِمَالِهِ فَلَا يَصِيرُ بِهِ مُخَالِفًا ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ لَهُ : اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِك كَانَ هُوَ بِالْخَلْطِ مُخَالِفًا ضَامِنًا لِلْمَالِ وَالرِّبْحُ لَهُ وَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِ لِبُطْلَانِ حُكْمِ الْمُضَارَبَةِ بِفَوَاتِ شَرْطِهَا ، فَإِنْ لَمْ يَخْلِطْهُ وَلَكِنَّهُ اشْتَرَى بِهِ وَبِأَلْفٍ مِنْ مَالِهِ عَبْدًا وَاحِدًا وَقَبَضَهُ وَنَقَدَ الثَّمَنَ قَبْلَ أَنْ يَخْلِطَ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الْمُضَارَبَةِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى نِصْفَ الْعَبْدِ بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ فِي صَفْقَةٍ وَنِصْفَهُ بِمَالِ نَفْسِهِ فِي صَفْقَةٍ أُخْرَى ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَاطَ إنَّمَا يَحْصُلُ حُكْمًا إمَّا لِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ أَوْ لِاتِّحَادِ الْمَحَلِّ مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ مِنْ الْمُضَارِبِ فِي الْخَلْطِ وَبِمِثْلِهِ لَمْ يَصِرْ مُخَالِفًا ضَامِنًا كَمَا لَوْ اشْتَرَى الْعَبْدَ بِأَلْفَيْنِ يَنْفُذُ شِرَاؤُهُ فِي النِّصْفِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ وَإِنْ بَاعَ الْعَبْدَ بِأَلْفَيْنِ وَقَبَضَهُ مُخْتَلَطًا فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الْمُضَارَبَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الِاخْتِلَاطَ بِمَعْنًى حُكْمِيٍّ لَا بِفِعْلٍ بَاشَرَهُ الْمُضَارِبُ قَصْدًا ، فَإِنْ عَزَلَ حِصَّةَ الْمُضَارِبِ ثُمَّ اشْتَرَى بِأَحَدِ الْمَالَيْنِ فَرَبِحَ أَوْ وَضَعَ فَالرِّبْحُ لَهُمَا ، نِصْفُهُ لِلْمُضَارِبِ ، وَنِصْفُهُ عَلَى مَا اشْتَرَطَا فِي الْمُضَارَبَةِ ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ وَقِسْمَتُهُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُقَاسِمًا لِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ أَمِينًا فِي الْمُقَاسَمَةِ مَعَ نَفْسِهِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ أَنَّ الْقِسْمَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِاثْنَيْنِ فَكَانَ هَذَا وَشِرَاؤُهُ بِبَعْضِ الْمَالِ قَبْلَ الْقَبْضِ سَوَاءً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ) : " وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلَيْنِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ وَقَالَ : لَهُمَا اعْمَلَا بِرَأْيِكُمَا أَوْ لَمْ يَقُلْ فَاشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِنِصْفِ الْمَالِ بِأَمْرِ صَاحِبِهِ وَبَاعَهُ حَتَّى أَصَابَ مَالًا وَعَمِلَ الْآخَرُ بِنِصْفِ الْمَالِ بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهِ حَتَّى أَصَابَ مَالًا فَالْعَامِلُ بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهِ مُخَالِفٌ ضَامِنٌ لِنِصْفِ رَأْسِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ فَوَّضَ التَّصَرُّفَ فِي الْمَالِ إلَى رَأْيِهِمَا وَلَمْ يَرْضَ بِرَأْيِ أَحَدِهِمَا فِيهِ وَالْعَامِلُ بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهِ يَنْفَرِدُ بِالرَّأْيِ فِيهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَيَكُونُ مُخَالِفًا ضَامِنًا ، وَمَا يُحَصِّلُ بِتَصَرُّفِهِ مِنْ الرِّبْحِ لَهُ وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ لِحُصُولِهِ لَهُ بِسَبَبٍ حَرَامٍ ، وَأَمَّا الَّذِي عَمِلَ بِأَمْرِ صَاحِبِهِ فَتَصَرُّفُهُ حَاصِلٌ بِرَأْيِهِمَا حُكْمًا فَيَكُونُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ ، وَيُؤْخَذُ مِمَّا فِي يَدِهِ نِصْفُ رَأْسِ الْمَالِ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْمُضَارِبَيْنِ وَرَبِّ الْمَالِ عَلَى الشَّرْطِ كَمَا لَوْ عَمِلَا فِيهِ ، فَإِنْ تَوِيَ مَا فِي يَدِ الْعَامِلِ بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهِ وَهُوَ مُعْسِرٌ فَإِنَّ رَبَّ الْمَالِ يَأْخُذُ جَمِيعَ رَأْسِ الْمَالِ مِمَّا فِي يَدِ الْمُضَارِبِ الَّذِي عَمِلَ بِأَمْرِ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يَظْهَرُ مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ جَمِيعُ رَأْسِ مَالِهِ وَمَا أَخَذَهُ الْعَامِلُ الْآخَرُ تَاوٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ غَصَبَ بَعْضَ رَأْسِ الْمَالِ إنْسَانٌ أَوْ اسْتَهْلَكَهُ وَتَوِيَ بَدَلُهُ عَلَيْهِ ، ثُمَّ عَمِلَا بِمَا بَقِيَ وَفِي هَذَا يَأْخُذُ رَبُّ الْمَالِ جَمِيعَ رَأْسِ مَالِهِ ثُمَّ قِسْمَةُ الرِّبْحِ بَيْنَهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ جَمِيعُ الْمَالِ إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَتَصَرَّفَا فِيهَا حَتَّى أَصَابَا مَالًا فَإِنَّهُ يَأْخُذُ رَبُّ الْمَالِ جَمِيعَ رَأْسِ مَالِهِ أَوَّلًا ؟ فَهَذَا مِثْلُهُ فَإِنْ بَقِيَ مِنْ الرِّبْحِ شَيْءٌ أَخَذَ رَبُّ الْمَالِ نَصِفَهُ وَأَخَذَ هَذَا الْمُضَارِبُ رُبْعَهُ ، وَالرُّبْعُ الْبَاقِي نَصِيبُ الْمُضَارِبِ الْمُخَالِفِ

مِنْ الرِّبْحِ فَلَا يُدْفَعُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ نِصْفَ رَأْسِ الْمَالِ دَيْنٌ عَلَيْهِ ، وَصَاحِبُ الدَّيْنِ إذَا ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ مِنْ مَالِ الْمَدْيُونِ يَأْخُذُهُ لِحَقِّهِ وَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ لَا يَدْفَعُ إلَيْهِ قُلْنَا : إنْ كَانَ هَذَا الرُّبْعُ مِثْلَ مَا تَوِيَ مِنْ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ أَخَذَ رَبُّ الْمَالِ وَالْمُوَافِقُ رُبْعَ الرِّبْحِ الَّذِي صَارَ لِلْمُخَالِفِ فَاقْتَسَمَاهُ أَثْلَاثًا عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِمَا فِي الرِّبْحِ .
وَإِنْ كَانَ مَا تَوِيَ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ أَوْ أَقَلَّ تَرَاجَعُوا بِالْفَضْلِ .
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْمَالَ الَّذِي كَانَ فِي يَدِ الْمُوَافِقِ إنْ كَانَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فَأَخَذَ رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ أَلْفًا بَقِيَ خَمْسُمِائَةٍ فَيُجْمَعُ إلَى نِصْفِ رَأْسِ الْمَالِ الَّذِي اسْتَهْلَكَهُ الْمُضَارِبُ الْآخَرُ فَيُقَسَّمُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ : لِرَبِّ الْمَالِ مِنْ ذَلِكَ النِّصْفُ ، وَلِلْمُضَارِبِ الْعَامِلِ بِأَمْرِ صَاحِبِهِ الرُّبْعُ وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ وَبَقِيَتْ حِصَّةُ الْمُضَارِبِ الْآخَرِ وَهُوَ الرُّبْعُ وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ يُحْسَبُ لَهُمَا عَلَيْهِ وَيُقَسِّمُ رَبُّ الْمَالِ وَالْمُضَارِبُ الْآخَرُ خَمْسَمِائَةِ الْعَيْنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ وَيَرْجِعَانِ عَلَى الْمُضَارِبِ الَّذِي اسْتَهْلَكَ نِصْفَ رَأْسِ الْمَالِ بِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا فَيَقْسِمَانِهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَصَلَ إلَى رَبِّ الْمَالِ خَمْسُمِائَةٍ وَإِلَى الْمُضَارِبِ الْمُوَافِقِ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ وَسُلِّمَ لِلْآخَرِ مِمَّا عَلَيْهِ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ فَاسْتَقَامَ الْحِسَابُ .
وَلَوْ لَمْ يَهْلِكْ مَا فِي يَدِهِ وَلَكِنْ هَلَكَ مَا فِي يَدِ الْعَامِلِ بِأَمْرِ صَاحِبِهِ فَإِنَّ رَبَّ الْمَالِ يُضَمِّنُ الْمُضَارِبَ الْمُخَالِفَ نِصْفَ رَأْسِ مَالِهِ لَيْسَ لَهُ غَيْرُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ نِصْفَ رَأْسِ الْمَالِ صَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ بِالْخِلَافِ ، وَتَصَرُّفُهُ كَانَ لِنَفْسِهِ .
وَلَوْ كَانَ حِينَ قَبَضَا الْأَلْفَ مُضَارَبَةً اقْتَسَمَاهَا نِصْفَيْنِ فَاشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِنِصْفِ الْمَالِ

عَبْدًا ثُمَّ أَجَازَ صَاحِبُهُ شِرَاءَهُ لَمْ يَكُنْ الْعَبْدُ مِنْ الْمُضَارَبَةِ بِإِجَازَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ إنَّمَا تَعْمَلُ فِي الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ ، وَالشِّرَاءُ هُنَا نَافِذٌ عَلَى الْمُشْتَرِي فَلَا يَكُونُ إجَازَةُ الْآخَرِ تَنْفِيذًا لِلْعَقْدِ فَيَكُونُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ .
وَلَوْ اشْتَرَيَا جَمِيعًا بِالْأَلْفِ عَبْدًا ثُمَّ بَاعَهُ أَحَدُهُمَا بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ فَأَجَازَهُ صَاحِبُهُ جَازَ لِأَنَّ الْبَيْعَ مِنْ أَحَدِهِمَا تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَةِ الْآخَرِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ تَعَذَّرَ تَنْفِيذُهُ عَلَى الْعَاقِدِ ؛ وَلِأَنَّ مِلْكَ الْعَيْنِ لِغَيْرِهِ فَتَكُونُ إجَازَتُهُ ، فِي الِانْتِهَاءِ كَإِذْنِهِ فِي الِابْتِدَاءِ وَهُوَ نَظِيرُ فُضُولِيٍّ بَاعَ مَالَ الْغَيْرِ فَأَجَازَهُ الْمَالِكُ يَنْفُذُ بِإِجَازَتِهِ وَلَوْ اشْتَرَى لِغَيْرِهِ يَنْفُذُ الشِّرَاءُ عَلَى الْعَاقِدِ وَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِإِجَازَةِ الْمُشْتَرِي لَهُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَجَازَهُ رَبُّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْعَيْنِ لِرَبِّ الْمَالِ ، وَالْمُضَارِبُ الْآخَرُ عَامِلٌ لَهُ فِي الْإِجَازَةِ فَإِذَا كَانَ الْعَقْدُ يَنْفُذُ بِإِجَازَةِ الْآخَرِ فَبِإِجَازَةِ رَبِّ الْمَالِ أَوْلَى ، وَالْبَائِعُ هُوَ الَّذِي يَلِي قَبْضَ الثَّمَنِ مِنْ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الثَّمَنِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ فَيَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ وَلَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ الْمُشْتَرِيَ بِشَيْءٍ مِنْ الثَّمَنِ إلَّا بِوَكَالَةٍ مِنْ الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يُعَامِلْهُ بِشَيْءٍ .
وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا بَاعَ الْعَبْدَ بِشَيْءٍ بِعَيْنِهِ فَأَجَازَهُ صَاحِبُهُ فَفِي الْقِيَاسِ لَا تَعْمَلُ إجَازَتُهُ ؛ لِأَنَّ فِي بَيْعِ الْمُقَابَضَةِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَاقِدَيْنِ يَكُونُ مُشْتَرِيًا عَرَضَ صَاحِبِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشِّرَاءَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِجَازَةِ كَمَا اشْتَرَاهُ بِالدَّرَاهِمِ وَإِذَا لَمْ تَعْمَلْ إجَازَتُهُ فِيمَا اشْتَرَاهُ صَاحِبُهُ فَكَذَلِكَ لَا تَعْمَلُ فِي الْبَدَلِ الْآخَرِ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَنْفُذُ الْعَقْدُ بِإِجَازَتِهِ وَيَكُونُ بَدَلَهُ مِنْ الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّ فِي الْعَرَضِ الَّذِي هُوَ مِنْ جِهَتِهِ

هُوَ بَائِعٌ وَبَيْعُهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ صَاحِبِهِ وَتُجْعَلُ إجَازَتُهُ فِي الِانْتِهَاءِ بِمَنْزِلَةِ إذْنِهِ فِي الِابْتِدَاءِ ، فَمِنْ ضَرُورَةِ أَعْمَالِ إجَازَتِهِ فِي نُفُوذِ الْعَقْدِ بِهِ فِي أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ أَعْمَالُهُ فِي الْبَدَلِ الْآخَرِ ، ثُمَّ هَذَا الْعَقْدُ فِي أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ شِرَاءٌ وَفِي الْبَدَلِ الْآخَرِ بَيْعٌ وَلَكِنَّا رَجَّحْنَا جَانِبَ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ الْآخَرَ مَذْكُورٌ فِي الْعَقْدِ عَلَى وَجْهِ الثَّمَنِ فَإِنَّهُمَا قَرَنَا بِهِ حَرْفَ الْبَاءِ وَحَرْفُ الْبَاءِ يَصْحَبُ الْأَبْدَالَ وَالْأَثْمَانَ .
وَفِي تَرْجِيحِ جَانِبِ الْبَيْعِ بِصَحِيحِ الْعَقْدِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَصَدَ الْعَاقِدُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ وَبَقِيَ الضَّمَانُ عَلَى التَّصَرُّفِ ، وَالضَّمَانُ لَا يَلْزَمُهُ بِالشَّكِّ فَلِهَذَا رَجَّحْنَا جَانِبَ الْبَيْعِ فَإِنْ لَمْ يُجِزْ الْآخَرُ حَتَّى قَبَضَ الْبَائِعُ مَا بَاعَ بِهِ الْعَبْدُ فَبَاعَهُ ، ثُمَّ إنَّ الْمُضَارِبَ الْآخَرَ أَجَازَ مَا صَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فَإِجَازَتُهُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّهُ أَجَازَ بَيْعَهُ قَبْلَ إجَازَتِهِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ مُشْتَرٍ لِلْعَرَضِ الْآخَرِ ، وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِبَدَلٍ يُسْتَحَقُّ فَيَمْلِكُهُ بِالْقَبْضِ وَيَنْفُذُ بَيْعُهُ مِنْ جِهَتِهِ وَبَعْدَ مَا نَفَذَ بَيْعُهُ مِنْ جِهَةٍ لَا يَصِيرُ لِلْمُضَارَبَةِ بِإِجَازَةِ الْآخَرِ فَإِذَا بَطَلَتْ الْإِجَازَةُ يُسْتَرَدُّ الْعَبْدُ مِنْ الْمُشْتَرِي فَيَكُونُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ وَعَلَى الْبَائِعِ ضَمَانُ الَّذِي قَبَضَهُ وَبَاعَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَقَّ مَا يُقَابِلُهُ ظَهَرَ أَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ بِسَبَبٍ فَاسِدٍ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ حِينَ بَاعَهُ فَعَلَيْهِ إنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ وَقِيمَتُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ ، وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ هُوَ الَّذِي أَجَازَ بَيْعَ الْعَبْدِ بِشَيْءٍ بِعَيْنِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْدِثَ الْعَامِلُ فِي ثَمَنِهِ شَيْئًا جَازَ بَيْعُ الْعَبْدِ لِلْعَامِلِ الْبَائِعِ وَلَهُ ثَمَنُهُ وَهُوَ ضَامِنٌ قِيمَةَ الْعَبْدِ لِرَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ اشْتَرَى الْعَرَضَ لِنَفْسِهِ وَأَعْطَى الْعَبْدَ بِمُقَابِلَتِهِ

قَرْضًا عَلَى نَفْسِهِ ، وَرَبُّ الْمَالِ مَالِكٌ لِلْإِقْرَاضِ فَيَصِيرُ بِالْإِجَازَةِ كَأَنَّهُ أَقْرَضَهُ الْعَبْدَ وَاسْتَقْرَضَ الْحَيَوَانَ وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا وَلَكِنَّهُ يَمْلِكُ بِالْقَبْضِ وَيَنْفُذُ فِيهِ تَصَرُّفُ الْمُسْتَقْرِضِ ، وَهُوَ ضَامِنٌ قِيمَتَهُ لِلْمُقْرِضِ وَقَدْ بَطَلَتْ الْمُضَارَبَةُ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ دَيْنًا عَلَى الْمُضَارِبِ الْبَائِعِ وَذَلِكَ يُنَافِي عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ وَلَمْ يَحْصُلْ الْحُكْمُ عِنْدَ إجَازَةِ الْمُضَارِبِ الْآخَرِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ الْآخَرَ لَا يَمْلِكُ الْإِقْرَاضَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَلَا يُمْكِنُ إعْمَالُ إجَازَتِهِ بِطَرِيقِ إقْرَاضِ الْعَبْدِ مِنْ صَاحِبِهِ فَاشْتَغَلْنَا بِتَرْجِيحِ جَانِبِ الْبَيْعِ لِإِعْمَالِ إجَازَتِهِ وَرَبُّ الْمَالِ يَمْلِكُ الْإِقْرَاضَ فَأَمْكَنَ أَنْ يَجْعَلَ إجَازَتَهُ إقْرَاضًا مِنْهُ فَلِهَذَا لَمْ يَشْتَغِلْ فِيهِ بِتَرْجِيحِ جَانِبِ الْبَيْعِ .

وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَمَّا قَبَضَهُ قَالَ : اشْتَرَيْتُهُ وَأَنَا أَنْوِي أَنْ يَكُونَ بِالْمُضَارَبَةِ وَكَذَّبَهُ رَبُّ الْمَالِ وَالْعَبْدُ قَائِمٌ أَوْ هَالِكٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمُضَارِبِ ؛ لِأَنَّ مَا فِي ضَمِيرِهِ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيهِ وَيَدْفَعُ مَالَ الْمُضَارَبَةِ فِي ثَمَنِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ فَيَكُونُ مَقْبُولَ الْقَوْلِ فِيهِ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا قَالَ : بِعْتُ وَقَبَضْتُ الثَّمَنَ وَهَلَكَ فِي يَدِي يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ ، فَإِنْ لَمْ يَدْفَعْهُ حَتَّى هَلَكَ الْمَالُ ثُمَّ قَالَ الْمُضَارِبُ : اشْتَرَيْتُهُ وَأَنَا أَنْوِي الْمُضَارَبَةَ وَقَدْ كَانَ الشِّرَاءُ قَبْلَ هَلَاكِ الْمَالِ وَالْعَبْدُ قَائِمٌ أَوْ هَالِكٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ وَالْعَبْدُ لِلْمُضَارِبِ ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ يُرِيدُ بِهَذَا الْبَيَانِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِأَلْفٍ أُخْرَى لِيَدْفَعَهُ فِي ثَمَنِ الْعَبْدِ وَهُوَ لَمْ يَكُنْ مُسَلَّطًا مِنْ جِهَةِ رَبِّ الْمَالِ عَلَى ذِمَّتِهِ لِالْتِزَامِ الْمَالِ فِيهَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ إنَّمَا يُرِيدُ دَفْعَ الْأَلْفِ الَّذِي فِي يَدِهِ فِي ثَمَنِهِ ، وَهُوَ مُسَلَّطٌ عَلَى ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ رَبِّ الْمَالِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ هُنَاكَ تَمَلُّكٌ هُوَ دَفْعُ مَا فِي يَدِهِ بِإِنْشَاءِ الشِّرَاءِ لِلْمُضَارَبَةِ فَيَمْلِكُ ذَلِكَ بِالْإِقْرَارِ بِهِ أَيْضًا ، وَفِي هَذَا الْفَصْلِ لَا يَمْلِكُ إلْزَامَ شَيْءٍ فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ بِإِنْشَاءِ الشِّرَاءِ لِلْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ اسْتِدَانَةٌ عَلَى رَبِّ الْمَالِ ، وَالْمُضَارِبُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ بِطَرِيقِ الْإِقْرَارِ وَإِنْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ الْمُضَارِبِ قَبْلَ هَلَاكِ الْمَالِ وَكَذَّبَهُ رَبُّ الْمَالِ ثُمَّ هَلَكَ الْمَالُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ قَائِمًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ دَفْعَ الْمَالِ بِمُقَابَلَةِ هَذَا الْعَبْدِ بِطَرِيقِ إنْشَاءِ الشِّرَاءِ فَكَذَلِكَ بِطَرِيقِ

الْإِقْرَارِ .
وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ هَالِكًا حِينَ قَالَ الْمُضَارِبُ هَذَا الْقَوْلُ ثُمَّ ضَاعَتْ الْأَلْفُ بَعْدَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَهَا الْمُضَارِبُ لِلْبَائِعِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَقَرَّ مَا كَانَ يَمْلِكُ إنْشَاءَ الشِّرَاءِ فِي هَذَا الْعَبْدِ لِكَوْنِهِ هَالِكًا فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ إقْرَارِهِ كَالْإِنْشَاءِ ، وَإِنَّمَا أَعْمَلْنَا إقْرَارَهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَمِينٌ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ ، وَذَلِكَ الْمَعْنَى يَنْعَدِمُ بِهَلَاكِ الْمَالِ فِي يَدِهِ قَبْلَ الدَّفْعِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ .
وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ كَانَ عِنْدَ الْإِقْرَارِ مُتَمَكِّنًا مِنْ إنْشَاءِ الشِّرَاءِ فِي هَذَا الْعَبْدِ الْقَائِمِ فَيُجْعَلُ إقْرَارُهُ كَإِنْشَائِهِ وَالْمُضَارِبُ ، إذَا اشْتَرَى شَيْئًا لِلْمُضَارَبَةِ ثُمَّ هَلَكَ الْمَالُ فِي يَدِهِ قَبْلَ دَفْعِ الثَّمَنِ رَجَعَ بِمِثْلِهِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ فِي الشِّرَاءِ كَانَ عَامِلًا لَهُ فَهَذَا مِثْلُهُ

وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ اشْتَرَى الْعَبْدَ بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ ثُمَّ نَقَدَ ثَمَنَهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ وَقَالَ : اشْتَرَيْتُهُ لِنَفْسِي وَكَذَّبَهُ رَبُّ الْمَالِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ وَيَأْخُذُ الْمُضَارِبُ أَلْفَ الْمُضَارَبَةِ قِصَاصًا بِمَا أَدَّاهُ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِرَبِّ الْمَالِ فَإِضَافَةُ الشِّرَاءِ إلَى الْأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ الشِّرَاءَ لِلْمُضَارَبَةِ ، ثُمَّ لَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِنَقْدِهِ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَقَدْ يَحْتَاجُ الْمُضَارِبُ إلَى ذَلِكَ لِتَعَذُّرِ وُصُولِهِ إلَى الْمُضَارَبَةِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُطَالِبُهُ الْبَائِعُ بِإِيفَاءِ الثَّمَنِ ، وَلَا يَكُونُ هُوَ مُتَبَرِّعًا فِيمَا نَقَدَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فِيمَا اشْتَرَاهُ لِلْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَضَى بِهِ عَلَيْهِ وَلَكِنْ يَأْخُذُ أَلْفَ الْمُضَارَبَةِ قِصَاصًا بِمَا أَدَّاهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ صَارَ دَيْنًا لَهُ عَلَى مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَلَوْ كَانَ اشْتَرَى الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَمْ يُسَمِّ مُضَارَبَةً وَلَا غَيْرَهَا ثُمَّ قَالَ : اشْتَرَيْتُهُ لِنَفْسِي فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ هُنَا يَنْبَنِي عَلَى قَصْدِهِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِلْمُضَارَبَةِ لِنَفْسِهِ بِالْأَلْفِ الْمُرْسَلَةِ عَلَى السَّوَاءِ وَمَا فِي ضَمِيرِهِ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ فَيَكُونُ هُوَ مَقْبُولَ الْقَوْلِ فِيهِ .

وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا ، ثُمَّ اشْتَرَى عَبْدًا آخَرَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا ، ثُمَّ قَالَ : نَوَيْتُهَا لِلْمُضَارَبَةِ وَلَمْ يَنْقُدْهَا فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَصَدَّقَهُ رَبُّ الْمَالِ أَوْ كَذَّبَهُ فِيهِمَا ، فَالْعَبْدُ الْأَوَّلُ مِنْ الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ اشْتَرَاهُ كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ مِثْلُ ثَمَنِهِ فَصَحَّ شِرَاؤُهُ لِلْمُضَارَبَةِ ، وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ ، وَحِينَ اشْتَرَى الْعَبْدَ الثَّانِيَ هُوَ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا شِرَاءَهُ لِلْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّ مَالَ الْمُضَارَبَةِ صَارَ مُسْتَحَقًّا فِي ثَمَنِ الْأَوَّلِ فَلَوْ نَفَّذَ الشِّرَاءَ الثَّانِي عَلَى الْمُضَارَبَةِ كَانَ اسْتِدَانَةً وَالْمُضَارِبُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ فَصَارَ مُشْتَرِيًا الْعَبْدَ الثَّانِيَ لِنَفْسِهِ وَإِنْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ إنَّمَا اشْتَرَيْتُ الثَّانِي لِلْمُضَارَبَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ اشْتَرَى الْعَبْدَ الثَّانِيَ لِلْمُضَارَبَةِ فَيَثْبُتُ ذَلِكَ بِتَصَادُقِهِمَا وَذَلِكَ كَالْإِقْرَارِ مِنْ الْمُضَارِبِ أَنَّهُ مَا اشْتَرَى الْأَوَّلَ لِلْمُضَارَبَةِ فَإِذَا ادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَى الْأَوَّلَ لِلْمُضَارَبَةِ كَانَ مُنَاقِضًا وَالْمُنَاقِضُ لَا قَوْلَ لَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا صَدَّقَهُ رَبُّ الْمَالِ فِيهِمَا أَوْ فِي الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ مُنَاقِضٌ صَدَّقَهُ خَصْمُهُ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَذَّبَهُ رَبُّ الْمَالُ فِيهِمَا ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ الشِّرَاءِ الْأَوَّلِ كَانَ هُوَ مَالِكًا الشِّرَاءَ لِلْمُضَارَبَةِ بِيَقِينٍ فَيَجِبُ قَبُولُ قَوْلِهِ فِيهِ وَإِنْ كَذَّبَهُ ، وَعِنْدَ الشِّرَاءِ الثَّانِي مَا كَانَ يَمْلِكُ ذَلِكَ بِيَقِينٍ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الثَّانِي مَعَ تَكْذِيبِ رَبِّ الْمَالِ إيَّاهُ .
وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ اشْتَرَى الْعَبْدَيْنِ صَفْقَةً وَاحِدَةً كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ قَالَ : نَوَيْت كُلَّ وَاحِدٍ بِالْأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ وَصَدَّقَهُ رَبُّ الْمَالِ فِي ذَلِكَ فَنِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ لِلْمُضَارِبِ وَنِصْفُهُمَا لِلْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّهُ

إنَّمَا اشْتَرَاهُمَا مَعًا فَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِجَعْلِهِ لِلْمُضَارَبَةِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ وَلَيْسَ قَبُولُ الْمُضَارَبَةِ فِي أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْهُ فِي الْآخَرِ وَلَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُ شِرَائِهِ لَهُمَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِدَانَة عَلَى الْمَالِ ، فَصَارَ مُشْتَرِيًا نِصْفَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلْمُضَارَبَةِ وَنِصْفَهُ لِنَفْسِهِ .
وَلَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ : اشْتَرَيْتُ هَذَا بِعَيْنِهِ لِلْمُضَارَبَةِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لِتَصَادُقِهِمَا أَنَّهُ اشْتَرَى ذَلِكَ الْعَبْدَ لِلْمُضَارَبَةِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ الْمُضَارِبَ مِنْ دَعْوِي الشِّرَاءِ لِلْمُضَارَبَةِ فِي الْعَبْدِ الْآخَرِ .
وَلَوْ قَالَ الْمُضَارِبُ اشْتَرَيْتهمَا بِأَلْفٍ مِنْ عِنْدِي وَبِأَلْفٍ مِنْ الْمُضَارَبَةِ فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ : اشْتَرَيْتُ هَذَا بِعَيْنِهِ بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُضَارِبِ ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَدَّعِي تَفَرُّقَ الصَّفْقَةِ وَالْمُضَارِبُ مُنْكَرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ، وَنِصْفُ الْعَبْدَيْنِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ ، وَنِصْفُهُمَا لِلْمُضَارِبِ .

وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ ثُمَّ نَهَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ فَإِنْ كَانَ الْمَالُ بِعَيْنِهِ فِي يَدِهِ فَنَهْيُ رَبِّ الْمَالِ جَائِزٌ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ بِنَفْسِهِ فَيَمْلِكُ رَبُّ الْمَالِ فَسْخَهُ بِنَهْيِهِ عَنْ التَّصَرُّفِ ، وَهَذَا فِي الِابْتِدَاءِ وَكَالَةٌ ، وَالْمُوَكِّلُ يَمْلِكُ عَزْلَ الْوَكِيلِ قَبْلَ تَصَرُّفِهِ فَإِنْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ مُشْتَرٍ لِنَفْسِهِ لِانْفِسَاخِ الْمُضَارَبَةِ بِنَهْيِ رَبِّ الْمَالِ .
وَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ نَهَاهُ بَعْدَ مَا اشْتَرَى بِالْمَالِ شَيْئًا فَنَهْيُهُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ بَعْدَ مَا صَارَ عُرُوضًا بِتَصَرُّفِ الْمُضَارِبِ قَدْ ثَبَتَ فِيهِ حَقُّهُ فِي الرِّبْحِ فَلَا يَمْلِكُ رَبُّ الْمَالِ إبْطَالَ حَقِّهِ عَلَيْهِ بِالنَّهْيِ عَنْ التَّصَرُّفِ ، وَبِخِلَافِ مَا قَبْلَ الشِّرَاءِ فَلَا حَقَّ هُنَاكَ لِلْمُضَارِبِ فِي الْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ ، ثُمَّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ مَا فِي يَدِهِ مِنْ الْعُرُوضِ بِمَا بَدَا لَهُ مِنْ الْعُرُوضِ وَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ ثُمَّ يَبِيعُ ذَلِكَ بِمَا بَدَا لَهُ كَمَا قَبْلَ نَهْيِ رَبِّ الْمَالِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ وَهُوَ الرِّبْحُ قَدْ لَا يَحْصُلُ بِالْبَيْعِ بِالنَّقْدِ فَقَدْ لَا يَجِدُ مَنْ يَشْتَرِي ذَلِكَ مِنْهُ بِالنَّقْدِ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ بِمَا شَاءَ لِيَحْصُلَ مَقْصُودُهُ مِنْ الرِّبْحِ الَّذِي هُوَ حَقُّهُ فَإِنْ بَاعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِدَرَاهِمَ بِمَا شَاءَ أَوْ دَنَانِيرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ صَارَ نَقْدًا فِي يَدِهِ فَيَعْمَلُ ذَلِكَ النَّهْيُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ نَقْدًا فِي الِابْتِدَاءِ حِينَ نَهَاهُ عَنْ التَّصَرُّفِ ، وَيَسْتَوِي إنْ صَارَ بَعْضُ الْمَالِ أَوْ جَمِيعُهُ نَقْدًا فِي أَنَّ النَّهْيَ يَعْمَلُ فِيمَا صَارَ مِنْهُ نَقْدًا ، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَبِيعَ الدَّنَانِيرَ بِالدَّرَاهِمِ حَتَّى يُوَفِّيَ رَبَّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ ؛ لِأَنَّ النُّقُودَ فِي حُكْمِ الْمُضَارَبَةِ جِنْسٌ وَاحِدٌ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ

فَيَعْمَلُ النَّهْيُ لِذَلِكَ ، وَلَكِنْ إنَّمَا يَرُدُّ رَأْسَ الْمَالِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ مِنْ جِنْسِ مَا قَبَضَ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ، وَلَا يَتَهَيَّأُ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِمُبَادَلَةِ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالْآخِرِ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ سُودًا وَالْحَاصِلُ فِي يَدِهِ بِيضٌ فَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا مِثْلَ رَأْسِ الْمَالِ وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ رَبُّ الْمَالِ فَإِنَّ مَوْتَهُ وَنَهْيَهُ سَوَاءٌ مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَعْمَلُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى إبْطَالِ الْحَقِّ الثَّابِتِ لِلْمُضَارِبِ .

وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ مَالًا مُضَارَبَةً وَأَجَازَ مَا صَنَعَ فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَاشْتَرَى بِهَا خَمْرًا ، أَوْ خِنْزِيرًا ، أَوْ مَيْتَةً ، أَوْ مُدَبَّرًا ، أَوْ مُكَاتَبًا وَهُوَ يَعْلَمُ أَوْ لَا يَعْلَمُ فَقَبَضَ ذَلِكَ وَدَفَعَ الدَّرَاهِمَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلدَّرَاهِمِ ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ إنَّمَا أَمَرَهُ بِشِرَاءِ مَا يَتَمَكَّنُ مِنْ بَيْعِهِ وَالرِّبْحُ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِذَلِكَ ، وَقَدْ اشْتَرَى بِهَا مَالًا يَجُوزُ بَيْعُهُ فِيهِ فَلَا يَنْفُذُ شِرَاؤُهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ وَإِنَّمَا يَكُونُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ سَوَاءٌ عَلِمَ بِذَلِكَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ، وَإِنْ نَفَذَ فِيهِ مَالُ الْمُضَارَبَةِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْخِلَافِ .
وَلَوْ اشْتَرَى بِالْمُضَارَبَةِ عَبْدًا شِرَاءً فَاسِدًا أَوْ اشْتَرَى بِهَا دَرَاهِمَ أَكْثَرَ مِنْهَا أَوْ أَقَلَّ وَدَفَعَ الْمَالَ وَقَبَضَ مَا اشْتَرَى فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا دَفَعَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا يَمْلِكُهُ بِالْقَبْضِ ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُ فِيهِ .
فَالْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا يَمْلِكُ بِالْقَبْضِ فَلَا يُمْكِنُ تَضْمِينُهُ بِالْخِلَافِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُخَالِفْ وَالْمُضَارِبُ لَا يَضْمَنُ بِالْفَسَادِ كَالْوَكِيلِ .

وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفًا مُضَارَبَةً ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِي ذَلِكَ بِرَأْيِهِ فَاشْتَرَى بِهَا عَبْدًا يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ فَهُوَ مُخَالِفٌ مُشْتَرٍ لِنَفْسِهِ ضَامِنٌ لِلْمَالِ إنْ دَفَعَهُ ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ ، وَالْمُضَارِبُ فِي الشِّرَاءِ كَالْوَكِيلِ وَالْوَكِيلُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ .
وَلَوْ اشْتَرَى الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَهُوَ يُسَاوِي تِسْعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ جَازَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْخَمْسِينَ فِي الْأَلْفِ مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ ، وَذَلِكَ عَفْوٌ فِي حَقِّ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ .
وَلَوْ اشْتَرَى بِهَا عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا ثُمَّ بَاعَهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ جَازَ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا يَبِيعُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ ، وَمِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ يَمْلِكُ الْبَيْعَ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْفَرْقَ لَهُ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ

وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا الثِّيَابَ وَيَقْطَعَهَا بِيَدِهِ وَيَخِيطَهَا عَلَى أَنَّ مَا رَزَقَ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا اشْتَرَطَا ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ الْمَشْرُوطَ عَلَيْهِ مِمَّا يَصْنَعُهُ التُّجَّارُ عَلَى قَصْدِ تَحْصِيلِ الرِّبْحِ فَهُوَ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا الْجُلُودَ وَالْأَدَمَ وَيَخْرُزَهَا خِفَافًا وَدِلَاءً وَرَوَايَا وَأَجْرِبَةً فَكُلُّ هَذَا مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ عَلَى قَصْدِ تَحْصِيلِ الرِّبْحِ فَيَجُوزُ شَرْطُهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ .

وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ مَالًا مُضَارَبَةً عَلَى أَنَّهُمَا شَرِيكَانِ فِي الرِّبْحِ وَلَمْ يُسَمِّ نِصْفًا وَلَا غَيْرَهُ فَهُوَ جَائِزٌ وَلِلْمُضَارِبِ نِصْفُ الرِّبْحِ ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الشَّرِكَةِ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ } وَلَوْ قَالَ عَلَى أَنَّ لِلْمُضَارِبِ شِرْكًا فِي الرِّبْحِ فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الشِّرْكِ وَالشَّرِكَةِ فِي اقْتِضَاءِ ظَاهِرِ اللَّفْظِ التَّسْوِيَةَ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : " هَذِهِ مُضَارَبَةٌ فَاسِدَةٌ " ؛ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى النَّصِيبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ } فَكَأَنَّهُ قَالَ عَلَى أَنَّ لِلْمُضَارِبِ نَصِيبًا وَذَلِكَ مَجْهُولٌ ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ الشَّرِكَةَ الَّتِي تَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ مَا يَكُونُ مُضَافًا إلَى الشَّرِيكَيْنِ كَمَا فِي قَوْلِهِ عَلَى أَنَّهُمَا شَرِيكَانِ وَهُنَا أَضَافَ الشَّرِكَةَ إلَى الْمُضَارِبِ خَاصَّةً عَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ النَّصِيبُ .

وَإِذَا دَفَعَ فِي مَرَضِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَعَمِلَ الْمُضَارِبُ فَرَبِحَ أَلْفًا ثُمَّ مَاتَ رَبُّ الْمَالِ مِنْ مَرَضِهِ ذَلِكَ وَأَجَّرَ مِثْلَ الْمُضَارِبِ أَقَلَّ مِمَّا شَرَطَ لَهُ مِنْ الرِّبْحِ فِيمَا عَمِلَ وَعَلَى رَبّ الْمَالِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَا بِهِ فَلِلْمُضَارِبِ نِصْفُ الرِّبْحِ يَبْدَأُ بِهِ قَبْلَ دَيْنِ الْمَرِيضِ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ قَدْ صَحَّ ، فَنَصِيبُ الْمُضَارِبِ مِنْ الرِّبْحِ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لِرَبِّ الْمَالِ قَطُّ حَتَّى يَكُونَ إيجَابُهُ لِلْمُضَارِبِ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ بِخِلَافِ الْأُجْرَةِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْأُجْرَةَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ، فَيَعْتَبِرُ مَا زَادَ عَلَى أَجْرِ مِثْلِهِ بَعْدَ الدَّيْنِ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُمَا شَرِيكَانِ فِي الرِّبْحِ وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لَا يَتَمَلَّكُ عَلَى صَاحِبِهِ شَيْئًا إنَّمَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ كَمَا حَدَثَ ابْتِدَاءً ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمَشْرُوطَ لَهُ بَعْضُ مَا يَحْدُثُ بِعَمَلِهِ ، وَهُوَ يَمْلِكُ أَنْ يَجْعَلَ جَمِيعَ ذَلِكَ لَهُ بِأَنْ يُقْرِضَهُ الْمَالَ لِيَتَصَرَّفَ فِيهِ لِنَفْسِهِ فَيَكُونُ رِبْحُهُ كُلُّهُ لَا سَبِيلَ لِلْغُرَمَاءِ وَوَرَثَةِ الْمَرِيضِ عَلَيْهِ ، فَلَأَنْ يَمْلِكَ جَعَلَ بَعْضَ الرِّبْحِ لَهُ بِطَرِيقِ الْمُضَارَبَةِ أَوْلَى ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ سَمَّى لِلْمُضَارِبِ رِبْحًا كَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِ عَمَلِهِ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى الْمَرِيضِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ فَيَضْرِبُ بِهِ مَعَ الْغُرَمَاءِ فِي تَرِكَتِهِ وَلَا حَقَّ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الرِّبْحِ لِيَسْتَحِقَّ التَّقْدِيمَ فِيهِ عَلَى سَائِرِ الْغُرَمَاءِ .

وَلَوْ دَفَعَ الصَّحِيحُ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً إلَى مَرِيضٍ عَلَى أَنَّ لِلْمُضَارِبِ عُشْرَ الرِّبْحِ ، وَأَجْرُ مِثْلِهِ خَمْسُمِائَةٍ فَرَبِحَ أَلْفًا ثُمَّ مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ كَثِيرٌ فَلِلْمُضَارِبِ عُشْرُ الرِّبْحِ ، لَا يُزَادَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الَّذِي مِنْ جِهَتِهِ مَا لَا حَقَّ فِيهِ لِلْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ وَهُوَ الْعَمَلُ بِمَنَافِعِهِ ، وَلَوْ تَبَرَّعَ بِهِ بِأَنْ عَمِلَ لَا عَلَى وَجْهِ الْمُضَارَبَةِ بَلْ عَلَى وَجْهِ الْبِضَاعَةِ لَمْ يَكُنْ لِلْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ سَبِيلٌ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ ، فَإِذَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ بِمُقَابَلَةِ عَمَلِهِ شَيْئًا كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى بِالْجَوَازِ ؛ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ دُونَ أَجْرِ مِثْلِهِ .

وَإِذَا أَرَادَ الْمُضَارِبُ أَنْ يَرُدَّ عَبْدًا اشْتَرَاهُ بِالْعَيْبِ فَطَلَبَ الْبَائِعُ يَمِينَ الْمُضَارِبِ مَا رَضِيَ بِالْعَيْبِ وَلَا عَرَضَهُ عَلَى بَيْعٍ مُنْذُ رَآهُ فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِهِ تَعَذَّرَ الرَّدُّ فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ بَقِيَ الْعَبْدُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى هَذَا النُّكُولِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْلِفَ كَاذِبًا ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْبُيُوعِ أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ مُلْزَمًا لِلْمُوَكِّلِ فَيَكُونُ الْمُضَارِبُ أَوْلَى .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ الْمُضَارِبُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ يَتَضَمَّنُ لُزُومَ الْبَيْعِ فِيهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ شِرَائِهِ ابْتِدَاءً وَهُوَ يَمْلِكُ ذَلِكَ بِأَنْ يُقِيلَهُ الْعَقْدَ ثُمَّ يَشْتَرِيَهُ ثَانِيًا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ .
وَلَوْ ادَّعَى الْبَائِعُ الرِّضَا عَلَى الْآمِرِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْمُضَارِبَ وَلَا رَبَّ الْمَالِ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ الْمُوَكِّلِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ أَنَّ دَعْوَى الرِّضَا عَلَى الْمُوَكِّلِ لَا يُوجِبُ الْيَمِينَ عَلَى الْوَكِيلِ وَلَا عَلَى الْمُوَكِّلِ فَكَذَلِكَ فِي الْمُضَارَبَةِ

وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ عَبْدًا لَمْ يَرَهُ وَقَدْ رَآهُ رَبُّ الْمَالِ فَلِلْمُضَارِبِ أَنْ يَرُدَّهُ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ ؛ لِأَنَّ رُؤْيَةَ رَبِّ الْمَالِ لَا تَكُونُ دَلِيلَ الرِّضَا مِنْهُ بِهِ فَإِنَّهُ مَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُضَارِبَ يَشْتَرِي ذَلِكَ الْعَبْدَ بِعَيْنِهِ لَا عِنْدَ رُؤْيَتِهِ وَلَا عِنْدَ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ ، وَبَعْدَ الرُّؤْيَةِ لَوْ اشْتَرَاهُ رَبُّ الْمَالِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ عِنْدَ الشِّرَاءِ أَنَّهُ ذَلِكَ الْعَبْدُ لَا يَسْقُطُ خِيَارُ رُؤْيَتِهِ فَإِذَا اشْتَرَاهُ مُضَارَبَةً أَوْلَى أَنْ لَا يَسْقُطَ الْخِيَارُ بِتِلْكَ الرُّؤْيَةِ .
وَلَوْ رَآهُ الْمُضَارِبُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا خِيَارٌ وَإِنْ لَمْ يَرَهُ رَبُّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ عَالِمٌ عِنْدَ الشِّرَاءِ بِأَنَّهُ يَشْتَرِي ذَلِكَ الَّذِي رَآهُ فَالرُّؤْيَةُ السَّابِقَةُ مِنْهُ دَلِيلُ الرِّضَا بِهِ ، وَفِيمَا يُبْنَى عَلَى الرِّضَا وَلُزُومِ الْعَقْدِ الْعَاقِدُ لِغَيْرِهِ كَالْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ .
وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ قَدْ عَلِمَ أَنَّهُ أَعْوَرُ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ الْمُضَارِبُ فَاشْتَرَاهُ الْمُضَارِبُ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِهِ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ مَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ مُضَارِبَهُ يَشْتَرِي ذَلِكَ الْعَبْدَ بِعَيْنِهِ ، فَعِلْمُهُ بِالْعَوَرِ لَا يَكُونُ دَلِيلَ الرِّضَا مِنْهُ بِعَيْبِهِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ ؛ وَلِأَنَّ الْمُضَارِبَ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَسْتَحِقُّ صِفَةَ السَّلَامَةِ فَإِنَّهُ مَا كَانَ يَعْلَمُ بِالْعَيْبِ عَلَى الْعَبْدِ وَلَا عِلْمَ لِرَبِّ الْمَالِ بِعَيْبِهِ ، فَبِفَوَاتِ صِفَةِ السَّلَامَةِ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ ، وَالْوَكِيلُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ بِمَنْزِلَةِ الْمُضَارِبِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا .

وَلَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا مُضَارَبَةً عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ عَبْدَ فُلَانٍ بِعَيْنِهِ ثُمَّ يَبِيعَهُ فَاشْتَرَاهُ الْمُضَارِبُ وَلَمْ يَرَهُ وَقَدْ رَآهُ رَبُّ الْمَالِ فَلَا خِيَارَ لِلْمُضَارِبِ فِيهِ ؛ وَلِأَنَّ الْمُضَارِبَ نَائِبٌ عَنْهُ فِي الشِّرَاءِ وَرُؤْيَةُ رَبِّ الْمَالِ هُنَا دَلِيلُ الرِّضَا مِنْهُ بِذَلِكَ الْعَيْبِ حِينَ أَمَرَ نَائِبَهُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ رَآهُ وَلَمْ يَرَهُ رَبُّ الْمَالِ فَهَذَا كَالْأَوَّلِ فِي هَذَا الْحُكْمِ .
وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ أَعْوَرَ وَقَدْ عَلِمَ بِهِ أَحَدُهُمَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَرُدَّهُ أَبَدًا ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُضَارِبُ عَالِمًا بِهِ فَهُوَ مَا اسْتَحَقَّ صِفَةَ السَّلَامَةِ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الشِّرَاءِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْعَيْبِ وَإِنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ هُوَ الَّذِي عَلِمَ لَهُ ، فَأَمْرُهُ إيَّاهُ بِالشِّرَاءِ بِعَيْنِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِعَيْبِهِ دَلِيلُ الرِّضَا مِنْهُ بِالْعَيْبِ ، وَرِضَا رَبِّ الْمَالِ مُعْتَبَرٌ فِي إسْقَاطِ خِيَارِ الْعَيْبِ لِلْمُضَارِبِ .
وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ إذَا اشْتَرَاهُ وَقَدْ كَانَ الْآمِرُ رَآهُ أَوْ عَلِمَ بِهِ فَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَرُدَّهُ لِمَا قُلْنَا .

وَإِذَا دَفَعَ إلَيْهِ مَالًا مُضَارَبَةً أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ الثِّيَابَ وَيَبِيعَ فَاسْمُ الثِّيَابِ اسْمُ جِنْسٍ لِلْمَلْبُوسِ فِي حَقِّ بَنِي آدَمَ فَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ مَا شَاءَ مِنْ ذَلِكَ كَالْخَزِّ ، وَالْحَرِيرِ ، وَالْقَزِّ ، وَثِيَابِ الْقُطْنِ ، وَالْكَتَّانِ ، وَالْأَكْسِيَةِ ، والْأنْبَجانِيَّات ، وَالطَّيَالِسَةِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ .
وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ الْمُسُوحَ ، وَالسُّتُورَ ، وَالْأَنْمَاطَ ، وَالْوَسَائِدَ ، وَالطَّنَافِسَ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ جِنْسِ الْفُرُشِ لَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الثِّيَابِ فِي الْعَادَةِ مُطْلَقًا ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ بَائِعَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يُسَمَّى ثَيَّابًا بَلْ الثِّيَابِيُّ فِي النَّاسِ مَنْ يَبِيعُ مَا يَلْبَسُهُ النَّاسُ ، وَمُطْلَقُ اللَّفْظِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَفْهُومِ عُرْفًا وَلَوْ دَفَعَهُ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ الْبَزَّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ مِنْ ثِيَابِ الْخَزِّ وَالْحَرِيرِ ، وَالطَّيَالِسَةِ ، وَالْأَكْسِيَةِ شَيْئًا ، وَإِنَّمَا يَشْتَرِي ثِيَابَ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ فَقَطْ ؛ لِأَنَّ الْبَزَّازَ فِي عُرْفِ النَّاسِ مَنْ يَبِيعُ ثِيَابَ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ لَا مَنْ يَبِيعُ الْخَزَّ وَالْحَرِيرَ ، وَهَذَا شَيْءٌ مَبْنَاهُ عَلَى عُرْفِ النَّاسِ لَيْسَ مِنْ فِقْهِ الشَّرِيعَةِ فِي شَيْءٍ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ مَا هُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ .

وَإِذَا بَاعَ الْمُضَارِبُ عَبْدًا مِنْ الْمُضَارَبَةِ ثُمَّ قَبِلَهُ بِعَيْبٍ يَحْدُثُ مِثْلُهُ بِإِقْرَارٍ أَوْ غَيْرِهِ بِحُكْمٍ أَوْ إقَالَةٍ فَهُوَ سَوَاءٌ ، وَهُوَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِلْمُوَكِّلِ ابْتِدَاءً ، وَالْمُضَارِبُ يَمْلِكُ الشِّرَاءَ كَمَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ فَقَبُولُهُ بِهَذِهِ الْوُجُوهِ لَا يَكُونُ فَوْقَ شِرَائِهِ ابْتِدَاءً فَيَجُوزُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ .
وَلَوْ أَنْكَرَ الْمُضَارِبُ الْعَيْبَ ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْهُ عَلَى إنْ زَادَهُ مَعَ الْعَبْدِ دِينَارًا أَوْ ثَوْبًا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِنْ الْمُضَارَبَةِ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى رَبِّ الْمَالِ إنْ كَانَ مِثْلَ ذَلِكَ الْعَيْبِ أَوْ أَكْثَرَ مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ .
وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ أَبْطَلْتُهُ ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَنْ الْعَيْبِ عَلَى مِثْلِ هَذَا مُتَعَارَفٌ بَيْنَ التُّجَّارِ وَالْمُضَارِبُ يَمْلِكُ مَا هُوَ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ فَأَمَّا الصُّلْحُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ حِصَّةِ الْعَيْبِ مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ فَلَيْسَ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ بَلْ هُوَ كَالْبُرِّ الْمُبْتَدَأِ ، ثُمَّ هُوَ مَأْمُورٌ بِالصُّلْحِ لِإِصْلَاحِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ لَا لِإِفْسَادِ الْمَالِ ، وَفِي الصُّلْحِ عَلَى مِثْلِ حِصَّةِ الْعَيْبِ أَوْ زِيَادَةٍ يَسِيرَةٍ إصْلَاحٌ فَأَمَّا فِي الصُّلْحِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهُ مِمَّا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ فَإِفْسَادٌ بِهِ

وَلَوْ اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ مِنْ وَلَدِهِ أَوْ وَالِدَيْهِ أَوْ مُكَاتَبِهِ أَوْ عَبْدِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الْمُضَارَبَةِ .
وَإِنْ كَانَ يُسَاوِي أَقَلَّ مِنْهُ مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ فَهُوَ مُشْتَرٍ لِنَفْسِهِ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - : " هُوَ جَائِزٌ عَلَى الْمُضَارَبَةِ " إلَّا مَا اشْتَرَى مِنْ عَبْدِهِ أَوْ مُكَاتَبِهِ فَإِنَّ قَوْلَهُمَا فِي ذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ، وَقَدْ أُطْلِقَ فِي الْوَكِيلِ جَوَابُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ وَلَمْ يُفْصَلْ بَيْنَ الشِّرَاءِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ وَبَيْنَ الشِّرَاءِ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ تَقْسِيمُهُ هُنَا تَقْسِيمٌ فِي الْوَكِيلِ ، وَالْخِلَافُ فِي الْفَصْلَيْنِ فِي الشِّرَاءِ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ ، فَأَمَّا الشِّرَاءُ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ فَجَائِزٌ ؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَعْتَبِرُ التُّهْمَةَ وَذَلِكَ إنَّمَا يَظْهَرُ عِنْدَ الشِّرَاءِ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ ، وَفِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ لَيْسَ بَيْنَهُمَا سَبَبٌ مُوجِبُ التُّهْمَةِ فَيُحْمَلُ شِرَاؤُهُ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ عَلَى أَنَّهُ خَفِيٌّ عَلَيْهِ ذَلِكَ ، وَفِي حَقِّ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ بَيْنَهُمَا سَبَبُ التُّهْمَةِ فَيُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى الْمَيْلِ إلَيْهِ وَإِيثَارِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ فَأَمَّا فِي الشِّرَاءِ فَلَا يَتَمَكَّنُ مَعْنَى التُّهْمَةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : بَلْ هَذَا التَّقْسِيمُ فِي الْمُضَارِبِ فَأَمَّا الْوَكِيلُ فَلَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ مِنْ هَؤُلَاءِ لِمُوَكِّلِهِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُضَارِبَ شَرِيكٌ فِي الرِّبْحِ فَيَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنْ تَرْكِ الِاسْتِقْصَاءِ وَالنَّظَرِ وَإِنْ كَانَ يُعَامِلُ أَبَاهُ أَوْ ابْنَهُ ؛ لِأَنَّهُ يُؤْثِرُ نَفْسَهُ عَلَيْهِمَا فَلِهَذَا جَازَتْ مُعَامَلَتُهُ مَعَهُمْ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ ، فَأَمَّا الْوَكِيلُ فَعَامِلٌ

لِلْمُوَكِّلِ وَلَا حَقَّ لَهُ فِيمَا يَشْتَرِيهِ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَتْرُكُ الِاسْتِقْصَاءَ فِي الْمُعَامَلَةِ مَعَ هَؤُلَاءِ فَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ مَعَهُمْ عَلَى الْمُوَكِّل ، يُوضِحُهُ أَنَّ الْمُضَارِبَ أَعَمُّ تَصَرُّفًا مِنْ الْوَكِيلِ وَقَدْ يُسْتَبَدُّ بِالتَّصَرُّفِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ رَبُّ الْمَالِ نَهْيَهُ وَهُوَ بَعْدَ مَا صَارَ الْمَالُ عُرُوضًا ، وَقَدْ يَكُونُ نَائِبًا مَحْضًا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَلِشَبَهِهِ بِالْمُسْتَبِدِّ بِالتَّصَرُّفِ قُلْنَا : يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ مَعَ هَؤُلَاءِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ ، وَلِشَبَهِهِ بِالنَّائِبِ قُلْنَا : لَا يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ مَعَهُمْ بِغَبْنٍ يَسِيرٍ ، فَأَمَّا الْوَكِيلُ فَنَائِبٌ مَحْضٌ وَهُوَ نَائِبٌ فِي تَصَرُّفٍ خَاصٍّ فَيَكُونُ مُتَّهَمًا فِي تَصَرُّفِهِ مَعَ هَؤُلَاءِ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ وَإِنْ كَانَ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ

وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ يُسَاوِي أَلْفًا فَأَرَادَ الْمُضَارِبُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً لَمْ يَبِعْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَتَّى يُبَيِّنَ وَعِنْدَهُمَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ إلَّا مَا اشْتَرَاهُ مِنْ مُكَاتَبِهِ وَعَبْدِهِ الْمَدْيُونِ فَإِنَّهُ لَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ

وَلَوْ اشْتَرَى بِأَلْفِ الْمُضَارَبَةِ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ أَوْ أَخَاهُ أَوْ وَلَدَهُ وَلَا فَضْلَ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبِ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْهُ ، إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ فَضْلٌ فَهُوَ يَتَمَكَّنُ مِنْ بَيْعِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَشْتَرِيَ لِلْمُضَارَبَةِ مَا يَمْلِكُ بَيْعَهُ وَإِنْ كَانَ فِي فَضْلِ يَوْمٍ اشْتَرَاهُ فَهُوَ مُشْتَرٍ لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَفَذَ شِرَاؤُهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ مَلَكَ مِنْهُ مِقْدَارَ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْجُزْءُ وَلَا يُمْكِنُهُ بَيْعُهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُضَارِبَ لَا يَشْتَرِي لِلْمُضَارَبَةِ مَالًا يُمْكِنُ بَيْعُهُ فَكَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ فَعَتَقَ عَلَيْهِ وَإِنْ نَقَدَ ثَمَنَهُ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ قَضَى بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ دَيْنَ نَفْسِهِ .
وَلَوْ اشْتَرَى أَبَا رَبِّ الْمَالِ أَوْ ابْنَهُ أَوْ أَخَاهُ وَفِيهِ فَضْلٌ أَوْ لَا فَضْلَ فِيهِ فَهُوَ مُشْتَرٍ لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَفَذَ شِرَاؤُهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ مَلَكَهُ رَبُّ الْمَالِ وَعَتَقَ عَلَيْهِ بِالْقَرَابَةِ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْمُضَارِبُ مِنْ بَيْعِهِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ مَا لَا يُمْكِنُهُ بَيْعُهُ فَكَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ

وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَقْبِضَ مِنْ الْمَدْيُونِ جَمِيعَ مَالِهِ عَلَيْهِ ، وَيَعْمَلَ بِهِ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَقَبَضَ الْمَأْمُورُ نِصْفَ مَا عَلَى الْمَدْيُونِ ثُمَّ عَمِلَ بِهِ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الْمُضَارَبَةِ ، وَرَأْسُ الْمَالِ فِيهِ مَا قَبَضَهُ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَقْتَضِيَ التَّرْتِيبَ فَكَانَ هُوَ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْمَالِ مَأْمُورًا بِالْقَبْضِ وَالْعَمَلِ بِهِ مُضَارَبَةً فَإِذَا قَبَضَ الْبَعْضَ وَعَمِلَ بِهِ كَانَ مُمْتَثِلًا أَمْرَ رَبِّ الْمَالِ وَلَوْ قَالَ لَهُ اقْبِضْ جَمِيعَ الْأَلْفِ الَّتِي لِي عَلَى فُلَانٍ ثُمَّ اعْمَلْ بِهَا مُضَارَبَةً كَانَ مُخَالِفًا فِيمَا صَنَعَ ضَامِنًا لِلْمَالِ ، وَالرِّبْحُ لَهُ وَالْوَضِيعَةُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ حَرْفَ ثُمَّ لِلتَّعْقِيبِ مَعَ التَّرَاخِي فَهُوَ أَخَّرَ الْأَمْرَ بِالْعَمَلِ مُضَارَبَةً عَنْ قَبْضِ جَمِيعِ الْمَالِ فَمَا لَمْ يَقْبِضْ جَمِيعَ الْأَلْفِ لَا يَأْتِي ، أَوْ أَنَّ الْعَمَلَ بِالْمَالِ مُضَارَبَةً فَإِذَا عَمِلَ بِالْبَعْضِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ الْكُلَّ كَانَ مُخَالِفًا .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ : اقْبِضِي جَمِيعَ الْمَالِ الَّذِي عَلَى فُلَانٍ ثُمَّ أَنْتِ طَالِقٌ فَقَبَضَتْ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ لَمْ تَطْلُقْ ؟ وَلَوْ قَالَ اقْبِضِي جَمِيعَ الْمَالِ الَّذِي عَلَى فُلَانٍ وَأَنْتِ طَالِقٌ طَلُقَتْ لِلْحَالِ قَبْلَ أَنْ تَقْبِضَ شَيْئًا إذَا لَمْ يَزِدْ الزَّوْجُ وَاوَ الْحَالِ .

وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى الصَّبِيِّ أَوْ إلَى الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ مَالًا مُضَارَبَةً فَاشْتَرَى بِهِ فَرَبِحَ أَوْ وَضَعَ بِغَيْرِ إذْنِ وَالِدِ الصَّبِيِّ وَمَوْلَى الْعَبْدِ جَازَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ لِكَوْنِهِ مُمَيَّزًا وَإِنَّمَا يُلَاقِي تَصَرُّفُهُ مَالَ رَبِّ الْمَالِ وَهُوَ رَاضٍ بِتَصَرُّفِهِ .
وَلَوْ اسْتَعَانَ بِهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ شَيْءٍ مِنْ الرِّبْحِ لَهُ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ فِي حَقِّهِ فَإِذَا شَرَطَ لَهُمَا نَصِيبًا مِنْ الرِّبْحِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَحْضُ مَنْفَعَةٍ لَهُمَا ، وَالْعَبْدُ وَالصَّبِيُّ لَا يَلْحَقُهُمَا الْحَجْرُ بِتَمَحُّضِ مَنْفَعَةٍ ، وَالْعُهْدَةُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَا وَكِيلَيْنِ لَهُ بِالْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ فِي إلْزَامِ الْعُهْدَةِ إيَّاهُمَا ضَرَرًا وَهُمَا مَحْجُورَانِ عَنْ اكْتِسَابِ سَبَبِ الضَّرَرِ ، فَإِذَا تَعَذَّرَ إيجَابُ الْعُهْدَةِ عَلَيْهِمَا لَزِمَتْ الْعُهْدَةُ مَنْ يَنْتَفِعُ بِهَذَا الْعَقْدِ بَعْدَهُمَا وَهُوَ رَبُّ الْمَالِ ، ثُمَّ لَا تَنْتَقِلُ الْعُهْدَةُ إلَى الصَّبِيِّ وَإِنْ كَبِرَ وَتَنْتَقِلُ إلَى الْعَبْدِ إذَا عَتَقَ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مُخَاطَبٌ مِنْ أَهْلِ إلْزَامِ الْعُهْدَةِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَلَكِنَّ حَقَّ الْمَوْلَى كَانَ مَانِعًا مِنْ إلْزَامِ الْعُهْدَةِ إيَّاهُ ، فَإِذَا زَالَ الْمَانِعُ لَزِمَتْهُ الْعُهْدَةُ وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ إلْزَامِ الْعُهْدَةِ أَصْلًا فَلَا يَلْحَقُهُ ذَلِكَ وَإِنْ بَلَغَ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ وَالْإِقْرَارِ .
وَلَوْ مَاتَ الْعَبْدُ فِي عَمَلِ الْمُضَارَبَةِ وَقُتِلَ الصَّبِيُّ وَهُوَ فِي عَمَلِ الْمُضَارَبَةِ بَعْدَ مَا رَبِحَا فَإِنَّ مَوْلَى الْعَبْدِ يُضَمِّنُ رَبَّ الْمَالِ قِيمَةَ عَبْدِهِ يَوْمَ عَمِلَ فِي مَالِهِ مُضَارَبَةً بِأَمْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا لَهُ بِاسْتِعْمَالِهِ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ ، وَإِذَا ضَمِنَ قِيمَتَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ فَجَمِيعُ مَا رَبِحَ الْعَبْدُ لِرَبِّ الْمَالِ دُونَ مَوْلَى الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَسْبٌ

اكْتَسَبَهُ الْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ وَالْكَسْبُ لِلْغَاصِبِ إذَا مَلَكَ الْعَبْدَ بِالضَّمَانِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمُضَارَبَةَ لَوْ كَانَتْ فَاسِدَةً كَانَ لِلْعَبْدِ أَجْرُ مِثْلِهِ فِي حَيَاتِهِ فَإِذَا مَاتَ غَرِمَ رَبُّ الْمَالِ قِيمَتَهُ وَبَطَلَ الْأَجْرُ عَنْهُ ؟ فَهَذَا مِثْلُهُ ، وَأَمَّا الصَّبِيُّ إذَا قُتِلَ فِي عَمَلِ رَبّ الْمَالِ بَعْدَ مَا رَبِحَ فَعَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ الدِّيَةُ وَإِنْ شَاءَ وَرَثَةُ الصَّبِيِّ ضَمَّنُوا عَاقِلَةَ رَبّ الْمَالِ لِأَنَّهُ بِاسْتِعْمَالِهِ صَارَ مُتَسَبِّبًا لِهَلَاكِهِ وَهَذَا سَبَبٌ هُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ جِنَايَتِهِ بِيَدِهِ فِي إيجَابِ الدِّيَةِ عَلَى قَاتِلِهِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ غَصَبَ صَبِيًّا حُرًّا وَقَرَّبَهُ إلَى مَسْبَعَةٍ حَتَّى افْتَرَسَهُ السَّبُعُ ، ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى عَاقِلَةِ رَبِّ الْمَالِ بِهَا عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ ؛ لِأَنَّهُمْ قَامُوا مَقَامَ وَرَثَةِ الصَّبِيِّ حِينَ ضَمِنُوا لَهُمْ دِيَتَهُ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ مُبَاشِرٌ ، وَالْمُتَسَبِّبُ يَرْجِعُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّمَانِ عَلَى الْمُبَاشِرِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَرَّرَ عَلَيْهِ بِمُبَاشَرَتِهِ فَكَأَنَّهُ أَلْزَمَهُ إيَّاهُ ابْتِدَاءً ثُمَّ يُسَلِّمُ لِوَرَثَةِ الصَّبِيِّ حِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ الْحُرَّ لَا يَمْلِكُ بِضَمَانِ الدِّيَةِ ؛ وَلِأَنَّ عَاقِلَةَ رَبِّ الْمَالِ إنَّمَا غَرِمُوا الدِّيَةَ بِهَلَاكِ الصَّبِيِّ فِي عَمَلِهِ لِرَبِّ الْمَالِ لَا لِاسْتِعْمَالِ رَبِّ الْمَالِ إيَّاهُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الصَّبِيَّ لَوْ مَاتَ وَلَمْ يُقْتَلْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ بَرِيئًا مِنْ دِيَتِهِ ؟ فَلِهَذَا يُسَلِّمُ حِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ لِوَرَثَتِهِ .

وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلَيْنِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً .
فَمَاتَ أَحَدُهُمَا ، فَقَالَ الْبَاقِي مِنْهُمَا : قَدْ هَلَكَ الْمَالُ فَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي نِصْفِ الْمَالِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ فِيمَا كَانَ فِي يَدِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ إذَا أَخْبَرَ بِهَلَاكِهِ مَعَ يَمِينِهِ .
وَأَمَّا الْمَيِّتُ ، فَإِنَّ نِصْفَ مَالِ الْمُضَارَبَةِ دَيْنٌ فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْمَالِ كَانَ أَمَانَةً فِي يَدِهِ وَقَدْ مَاتَ مُجَهَّلًا ، وَالْأَمِينُ بِالتَّجْهِيلِ ضَامِنٌ ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْمَوْتِ يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا فَيَكُونُ ضَامِنًا .

وَإِذَا دَفَعَ الْمُسْلِمُ إلَى النَّصْرَانِيِّ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ ، فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ ، وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فِي ذَلِكَ كَالْمُسْلِمِينَ ، إلَّا أَنَّهُ مَكْرُوهٌ ؛ لِأَنَّهُ جَاهِلٌ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ فَلَا نَأْمَنُ أَنْ يُؤَكِّلَهُ حَرَامًا ، إمَّا لِجَهْلِهِ ، أَوْ لِقَصْدِهِ ، فَإِنَّهُمْ لَا يُؤَدُّونَ الْأَمَانَةَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا } أَيْ لَا يُقَصِّرُونَ فِي فَسَادِ أَمْرِ دِينِكُمْ ؛ وَلِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَيَعْمَلُ بِالرِّبَا ، وَلَا يَتَحَرَّزُ فِي ذَلِكَ ، فَيُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَكْتَسِبَ الرِّبْحَ بِتَصَرُّفٍ مِثْلِهِ لَهُ ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا جَازَتْ الْمُضَارَبَةُ ؛ لِأَنَّ الَّذِي مِنْ جَانِبِ الْمُضَارِبِ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ ، وَالنَّصْرَانِيُّ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ ، فَإِنْ اتَّجَرَ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ فَرَبِحَ ، جَازَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ .
وَعِنْدَهُمَا ، تَصَرُّفُهُ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لَا يَجُوزُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ ، وَهُوَ فَرْعُ الِاخْتِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا فِي الْبُيُوعِ ، فِي الْمُسْلِمِ يُوَكِّلُ الذِّمِّيَّ بِشِرَاءِ الْخَمْرِ ، فَإِنْ اشْتَرَى مَيْتَةً فَنَقَدَ فِيهَا مَالَ الْمُضَارَبَةِ فَهُوَ مُخَالِفٌ ضَامِنٌ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَبِيعَهُ ، وَأَنَّ تَصَرُّفَهُمْ فِي الْمَيْتَةِ لَا يَكُونُ نَافِذًا ، وَالْمُضَارِبُ لَا يَشْتَرِي بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ مَالًا يُمْكِنُهُ أَنْ يَبِيعَهُ ، وَإِنْ أَرْبَى فَاشْتَرَى دِرْهَمَيْنِ بِدِرْهَمٍ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا ؛ لِأَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ الْمُعَامَلَةِ بِالرِّبَا لِأَنْفُسِهِمْ كَمَا يُمْنَعُ الْمُسْلِمُ مِنْهُ وَلَكِنْ لَا يَصِيرُ ضَامِنًا لِمَالِ الْمُضَارَبَةِ ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُضَارِبَ لَا يَصِيرُ مُخَالِفًا بِإِفْسَادِ الْعَقْدِ إذَا كَانَ هُوَ

يَتَمَكَّنُ مِنْ بَيْعِ مَا اشْتَرَاهُ .
وَالْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا يَمْلِكُ بِالْقَبْضِ ، فَيَنْفُذُ الْبَيْعُ فِيهِ ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ الْمُسْلِمُ مَالَ النَّصْرَانِيِّ مُضَارَبَةً ، وَلَا يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَلِي التَّصَرُّفَ فِي الْمَالِ هُنَا الْمُسْلِمُ ، وَهُوَ يَتَحَرَّزُ مِنْ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ فِي تَصَرُّفِهِ فِي مَالِ غَيْرِهِ ، كَمَا يَتَحَرَّزُ عَنْهُ فِي تَصَرُّفِهِ فِي مَالِ نَفْسِهِ ، فَإِنْ اشْتَرَى بِهِ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا أَوْ مَيْتَةً ، وَنَقَدَ الْمَالَ فَهُوَ مُخَالِفٌ ضَامِنٌ ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ مَا لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَبِيعَهُ ، فَيَكُونُ مُخَالِفًا كَمَا لَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ مُسْلِمًا ، فَإِنْ رَبِحَ فِي ذَلِكَ ، رَدَّ الرِّبْحَ عَلَى مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ يَعْرِفُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْهُ بِسَبَبٍ فَاسِدٍ ، فَيَسْتَحِقُّ رَدَّهُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُهُ تَصَدَّقَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ ، وَلَا يُعْطِي رَبُّ الْمَالِ النَّصْرَانِيَّ مِنْهُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ مَا وَقَعَ لَهُ حِينَ اشْتَرَى مَا لَا يُمْكِنُهُ بَيْعُهُ ، وَصَارَ بِهِ مُخَالِفًا

وَلَوْ دَفَعَ الْمُسْلِمُ مَالَهُ مُضَارَبَةً إلَى مُسْلِمٍ وَنَصْرَانِيٍّ ، جَازَ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ ؛ لِأَنَّ النَّصْرَانِيَّ هُنَا لَا يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ مَا لَمْ يُسَاعِدْهُ الْمُسْلِمُ عَلَيْهِ ، وَالْمُسْلِمُ لَا يُسَاعِدُهُ فِي الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ ، وَالتَّصَرُّفُ فِي الْخَمْرِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُضَارِبُ نَصْرَانِيًّا وَحْدَهُ ، فَإِنَّهُ يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ هُنَاكَ

وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ مَالَهُ مُضَارَبَةً إلَى عَبْدِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ ، أَوْ إلَى مُكَاتَبِهِ أَوْ إلَى وَلَدِهِ ، فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا اشْتَرَطَا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ كَسْبِ هَؤُلَاءِ ، كَالْأَجْنَبِيِّ فَكَسَبَ الْعَبْدُ الْمُسْتَغْرِقُ بِالدَّيْنِ حَقَّ الْغُرَمَاءِ .

وَإِذَا دَفَعَ رَجُلٌ إلَى رَجُلَيْنِ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ ، فَاشْتَرَيَا بِهَا عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفَيْ دِرْهَمٍ ، وَقَبَضَاهُ فَبَاعَهُ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهِ بِعَرَضٍ يُسَاوِي أَلْفًا ، وَأَجَازَ ذَلِكَ رَبُّ الْمَالِ ، فَذَلِكَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ مُشْتَرٍ ذَلِكَ الْعَرَضَ لِنَفْسِهِ ، مُسْتَقْرِضٌ عَبْدَ الْمُضَارَبَةِ حِينَ جَعَلَهُ عِوَضًا عَمَّا اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ ، وَرَبُّ الْمَالِ بِالْإِجَازَةِ صَارَ مُقْرِضًا الْعَبْدَ مِنْهُ ، فَتَعْمَلُ إجَازَتُهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ ، وَيَكُونُ عَلَى الْمُضَارِبِ الْعَامِلِ قِيمَةُ الْعَبْدِ ، أَلْفَيْ دِرْهَمٍ ، أَلْفٌ مِنْ ذَلِكَ يَأْخُذُهَا رَبُّ الْمَالِ بِرَأْسِ مَالِهِ ، وَأَلْفٌ أُخْرَى رِبْحُهُ يَأْخُذُ رَبُّ الْمَالِ نِصْفَهَا ، وَنِصْفُهَا بَيْنَ الْمُضَارِبَيْنِ ، فَيَطْرَحُ عَنْ الْعَامِلِ مِقْدَارَ نَصِيبِهِ مِنْ الرِّبْحِ ، وَذَلِكَ رُبْعُ الْأَلْفِ ، وَيَغْرَمُ مَا سِوَى ذَلِكَ ، وَحَقُّ الْمُضَارِبِ الْآخَرِ بَيْعٌ لِحَقِّ رَبِّ الْمَالِ فَلَا يَمْتَنِعُ لِأَجْلِهِ نُفُوذُ إجَازَةِ رَبِّ الْمَالِ فِي حِصَّتِهِ .
وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ بَاعَ الْعَبْدَ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ وَأَجَازَ ذَلِكَ رَبُّ الْمَالِ ، جَازَ عَلَى الْمُضَارِبَيْنِ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُشْتَرٍ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ شَيْئًا ، بَلْ هُوَ تَابِعٌ لِمَالِ الْمُضَارَبَةِ ، وَاسْتِقْرَاضُهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ كَانَ ضِمْنًا لِشِرَائِهِ لِنَفْسِهِ ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ هُنَا فَكَانَ فِعْلَهُ بَيْعًا مُطْلَقًا ، إنْ أَجَازَهُ صَاحِبُهُ نَفَذَ لِاجْتِمَاعِ رَأْيِهِمَا عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَجَازَهُ رَبُّ الْمَالِ نَفَذَ ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ نَائِبٌ عَنْهُ فِي التَّصَرُّفِ ، وَإِذَا كَانَ يَنْفُذُ الْعَقْدُ بِإِجَازَةِ النَّائِبِ فَبِإِجَازَةِ الْمَنُوبِ عَنْهُ أَوْلَى ، وَيُؤْخَذُ مِنْ الْمُشْتَرِي الْأَلْفَانِ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاعَاهُ جَمِيعًا .
وَلَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ بَاعَ الْعَبْدَ بِأَقَلَّ مِنْ أَلْفَيْنِ بِقَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ ، أَوْ لَا يُتَغَابَنُ فِيهِ ،

فَأَجَازَ ذَلِكَ رَبُّ الْمَالِ فَإِجَازَتُهُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ فِيهِ نُقْصَانًا يَدْخُلُ عَلَى الْمُضَارِبِ الْآخَرِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَا رِبْحَ فِي الْمُضَارَبَةِ حَتَّى يُسْتَوْفَى رَأْسُ الْمَالِ ، فَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ يَدْخُلُ عَلَيْهِ ، لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَرْضَى بِالْبَيْعِ ، فَإِذَا لَمْ يَرْضَ بِهِ رَبُّ الْعَبْدِ حَتَّى يَبِيعَهُ الْمُضَارِبَانِ جَازَ ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّ الْإِجَازَةَ إنَّمَا تَصِحُّ مِمَّنْ يَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ الْعَقْدِ ، وَرَبُّ الْمَالِ لَا يَمْلِكُ بَيْعَ مَالِ الْمُضَارَبَةِ بِغَبَنٍ يَسِيرٍ مُرَاعَاةً لِحَقِّ الْمُضَارِبِ فِي الرِّبْحِ ، فَكَذَلِكَ لَا يُمْلَكُ إجَازَةُ الْبَيْعِ بِغَبَنٍ يَسِيرٍ مِنْ أَحَدِ الْمُضَارِبَيْنِ ، أَوْ مِنْ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ ، وَهُوَ يَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ الْبَيْعِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ ، فَكَذَلِكَ يَمْلِكُ إجَازَةَ بَيْعِ أَحَدِهِمَا بِمِثْلِ الْقِيمَةِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ غَيْرُ مُسَلَّطٍ عَلَى هَذَا التَّصَرُّفِ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ ، وَهُوَ الْمُضَارِبُ ، فَيَسْتَوِي فِي حَقِّهِ الْغَبَنُ الْيَسِيرُ ، وَالْفَاحِشُ كَالْمَرِيضِ فِي حَقِّ وَرَثَتِهِ ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ ، فَإِنَّهُ مُسَلَّطٌ عَلَى التَّصَرُّفِ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ ، فَيُجْعَلُ الْغَبَنُ الْيَسِيرُ عَفْوًا فِي حَقِّهِ ، بِخِلَافِ الْوَصِيِّ فَهُوَ مُسَلَّطٌ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ شَرْعًا ، فَيُقَامُ ذَلِكَ مَقَامَ التَّسْلِيطِ مِنْ جِهَتِهِ أَنْ لَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ هُوَ الَّذِي بَاعَهُ ، وَأَجَازَهُ أَحَدُ الْمُضَارِبَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ بَاعَهُ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ ، فَهُوَ جَائِزٌ ، وَإِنْ بَاعَهُ بِدُونِ الْقِيمَةِ بِقَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ ، لَمْ يَجُزْ حَتَّى يُجِيزَاهُ جَمِيعًا .
وَلَوْ كَانَ أَحَدُ الْمُضَارِبَيْنِ بَاعَ بِبَعْضِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الثَّمَنِ فَأَجَازَهُ الْمُضَارِبُ الْآخَرُ وَلَمْ يُجِزْ رَبُّ الْمَالِ ، فَهُوَ جَائِزٌ إنْ كَانَ بَاعَهُ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ .
لَمْ يَجُزْ فِي

قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ بَاعَاهُ جَمِيعًا ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْوَكِيلَيْنِ بِالْبَيْعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : ) وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلٍ مَالًا مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ ، فَعَمِلَ بِهِ فِي مِصْرِهِ ، أَوْ فِي أَهْلِهِ ، فَلَا نَفَقَةَ لَهُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ ، وَلَا عَلَى رَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَسْتَحِقَّ الْمُضَارِبُ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ بِحَالٍ ، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ ، أَوْ الْمُسْتَبْضِعِ عَامِلٍ لِغَيْرِهِ بِأَمْرِهِ ، أَوْ بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ لَمَّا شَرَطَ لِنَفْسِهِ مِنْ بَعْضِ الرِّبْحِ ، وَوَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ لَا يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ فِي الْمَالِ الَّذِي يَعْمَلُ فِيهِ ، إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ فِيمَا إذَا سَافَرَ بِالْمَالِ لِأَجَلِ الصَّرْفِ ، فَبَقِيَ مَا قَبْلَ السَّفَرِ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ مَقَامَهُ فِي مِصْرِهِ أَوْ فِي أَهْلِهِ ؛ لِكَوْنِهِ مُتَوَطِّنًا فِيهِ لَا لِأَجَلِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ قَبْلَ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ كَانَ مُتَوَطِّنًا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ؟ وَكَانَتْ نَفَقَتُهُ فِي مَالِ نَفْسِهِ ؟ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمُضَارَبَةِ ، فَأَمَّا إذَا خَرَجَ بِالْمَالِ إلَى مِصْرٍ يَتَّجِرُ فِيهِ ، كَانَتْ نَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ فِي طَرِيقِهِ ، وَفِي الْمِصْرِ الَّذِي يَأْتِيهِ لِأَجَلِ الْعَادَةِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهُ وَسَفَرَهُ لِأَجَلِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَتَحَمَّلُ هَذِهِ الْمَشَقَّةَ ، ثُمَّ يُنْفِقُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لِأَجْلِ رِبْحٍ مَوْهُومٍ ، عَسَى يَحْصُلُ وَعَسَى لَا يَحْصُلُ ، بَلْ إنَّمَا رَضِيَ بِتَحَمُّلِ هَذِهِ الْمَشَقَّةِ ، بِاعْتِبَارِ مَنْفَعَةٍ تَحْصُلُ لَهُ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا بِالْإِنْفَاقِ مِنْ مَالِهِ الَّذِي فِي يَدِهِ ، فِيمَا يَرْجِعُ إلَى كِفَايَتِهِ ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ ، وَالْمُسْتَبْضِعِ ، فَإِنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فِي عَمَلِهِ لِغَيْرِهِ ، غَيْرُ طَامِعٍ فِي شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ لِأَجْلِهِ ، وَبِخِلَافِ الْأَجِيرِ ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ بِبَدَلٍ مَضْمُونٍ فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ لَهُ بِيَقِينٍ ، فَأَمَّا هَذَا فَغَيْرُ مُتَبَرِّعٍ ، وَلَا هُوَ مُسْتَوْجِبٌ بَدَلًا مَضْمُونًا ، بَلْ

حَقُّهُ فِي رِبْحٍ عَسَى يَحْصُلُ أَوْ لَا يَحْصُلُ ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ بِإِزَاءِ مَا تَحَمَّلَ مِنْ الْمَشَقَّةِ ، شَيْءٌ مَعْلُومٌ .
وَذَلِكَ نَفَقَتُهُ فِي الْمَالِ ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الشَّرِيكِ ، وَالشَّرِيكُ إذَا سَافَرَ بِمَالٍ الشَّرِكَةِ ، فَنَفَقَتُهُ فِي ذَلِكَ الْمَالِ .
وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَالْمُضَارِبُ كَذَلِكَ وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ فَرَّغَ نَفْسَهُ عَنْ أَشْغَالِهِ لِأَجْلِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ ، فَهُوَ كَالْمَرْأَةِ إذَا فَرَّغَتْ نَفْسَهَا لِزَوْجِهَا بِالْمُقَامِ فِي بَيْتِهِ ، فَأَمَّا فِي الْمِصْرِ فَمَا فَرَّغَ نَفْسَهُ لِمَالِ الْمُضَارَبَةِ ، فَلَا يَسْتَوْجِبُ نَفَقَتَهُ فِيهِ .

وَنَفَقَتُهُ ، طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ وَدَهْنُهُ ، وَغَسْلُ ثِيَابِهِ ، وَرُكُوبُهُ فِي سَفَرِهِ إلَى الْمِصْرِ الَّذِي أَتَاهُ بِالْمَعْرُوفِ عَلَى قَدْرِ نَفَقَةِ مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِمَّا لَا بُدَّ مِنْهُ فِي السَّفَرِ ، وَفِي النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّ دَهْنَهُ لَيْسَ مِنْ جُمْلَةِ النَّفَقَةِ وَكَأَنَّهُمَا أَرَادَا بِهِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى اسْتِعْمَالِ الدَّهْنِ عَادَةً ، فَتَكُونُ الْحَاجَةُ إلَيْهِ نَادِرَةً ، وَالثَّابِتُ عُرْفًا لَا يَثْبُتُ فِيمَا هُوَ نَادِرٌ .
وَمُرَادُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا سَافَرَ إلَى الْمَوَاضِعِ الَّتِي يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى اسْتِعْمَالِ الدَّهْنِ عَادَةً ، وَذَلِكَ فِي دِيَارِ الْحِجَازِ وَالْعِرَاقِ ، ثُمَّ الْمُسْتَحَقُّ نَفَقَةُ الْمِثْلِ ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ ، كَمَا فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ ، فَإِنْ أَنْفَقَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ حُسِبَ لَهُ مِنْ ذَلِكَ نَفَقَةُ مِثْلِهِ وَكَانَ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ ، فَإِذَا رَجَعَ إلَى مِثْلِهِ ، وَقَدْ بَقِيَ مَعَهُ ثِيَابٌ أَوْ طَعَامٌ أَوْ غَيْرُهُ ، رَدَّهُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ قَدْ انْتَهَى بِرُجُوعِهِ إلَى مِصْرِهِ فَعَلَيْهِ رَدُّ مَا بَقِيَ ، كَالْحَاجِّ عَنْ الْغَيْرِ إذَا بَقِيَ مَعَهُ شَيْءٌ مِنْ النَّفَقَةِ بَعْدَ رُجُوعِهِ ، وَكَالْمَوْلَى إذَا بَوَّأَ أُمَّتَهُ مَعَ زَوْجِهَا بَيْتًا ، ثُمَّ شَغَلَهَا بِخِدْمَتِهِ ، وَقَدْ بَقِيَ مَعَهَا شَيْءٌ مِنْ النَّفَقَةِ ، كَانَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَسْتَرِدَّ ذَلِكَ مِنْهَا ،

فَأَمَّا الدَّوَاءُ وَالْحِجَامَةُ وَالْكُحْلُ وَنَحْوُ ذَلِكَ ، فَفِي مَالِهِ خَاصَّةً دُونَ مَالِ الْمُضَارَبَةِ ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّ مَالَ الْمُضَارَبَةِ مُدَّةَ سَفَرِهِ فِي حَاجَتِهِ ، كَمَالِ نَفْسِهِ ، فَكَمَا أَنَّهُ يَصْرِفُ مَالَ نَفْسِهِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ، كَمَا يَصْرِفُ فِي النَّفَقَةِ ، فَكَذَلِكَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ .
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ .
وَثَمَنُ الدَّوَاءِ ، وَأُجْرَةُ الْحَجَّامِ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْعِلَاجِ لَيْسَ مِنْ النَّفَقَةِ ، أَلَا تَرَى ) أَنَّ الزَّوْجَةَ لَا تَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَلَى زَوْجِهَا بِخِلَافِ النَّفَقَةِ ؟ ثُمَّ الْحَاجَةُ إلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ غَيْرُ مُعْتَادَةٍ ، بَلْ هِيَ نَادِرَةٌ وَالنَّادِرُ لَا يُسْتَحَقُّ بِطَرِيقِ الْعَادَةِ .
وَكَذَلِكَ جَارِيَةُ الْوَطْءِ وَالْخِدْمَةِ ، لَا يُحْتَسَبُ بِثَمَنِهَا فِي الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِ بَلْ يَكُونُ لِلتَّرَفُّهِ وَقَضَاءِ الشَّهْوَةِ ؛ وَلِأَنَّ مَا قَصَدَ لِشِرَائِهَا ، لَا تَرْجِعُ مَنْفَعَتُهُ إلَى مَالِ الْمُضَارَبَةِ ،

وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا يَخْدُمُهُ فِي سَفَرِهِ وَفِي مِصْرِهِ الَّذِي أَتَاهُ لِيَخْبِزَ لَهُ وَيَطْبُخَ وَيَغْسِلَ ثِيَابَهُ وَيَعْمَلَ لَهُ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ ، اُحْتُسِبَ بِذَلِكَ عَلَى الْمُضَارِبِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْتَأْجِرْ احْتَاجَ إلَى إقَامَةِ هَذِهِ الْأَعْمَالِ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ ، وَإِذَا عَمِلَ لَهُ أَجِيرُهُ ، تَفَرَّغَ هُوَ لِلْعَمَلِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ ، فَكَانَ فِي هَذَا الِاسْتِئْجَارِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُضَارَبَةِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعَهُ غِلْمَانٌ لَهُ يَعْمَلُونَ فِي الْمَالِ ، كَانُوا بِمَنْزِلَتِهِ ، وَنَفَقَتُهُمْ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهُمْ كَنَفَقَتِهِ وَهُمْ يَعْمَلُونَ لَهُ فِي الْمَالِ كَمَا يَعْمَلُ هُوَ ، وَمَنْ يَسْتَحِقُّ نَفَقَتَهُ عَلَى إنْسَانٍ يَسْتَحِقُّ نَفَقَةَ خَادِمِهِ كَالْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا ، إلَّا أَنَّهَا لَا تَحْتَاجُ إلَى الزِّيَادَةِ عَلَى خَادِمٍ وَاحِدٍ فِي عَمَلِهَا لِلزَّوْجِ فِي بَيْتِهِ ، وَقَدْ يَحْتَاجُ الْمُضَارِبُ إلَى غِلْمَانٍ يَعْمَلُونَ فِي الْمَالِ مَعَهُ ، فَلِهَذَا كَانَتْ نَفَقَتُهُمْ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لِلْمُضَارِبِ دَوَابُّ يُحْمَلُ عَلَيْهَا مَتَاعُ الْمُضَارَبَةِ إلَى مِصْرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ ، كَانَ عَلَفُهَا عَلَى الْمُضَارَبَةِ مَادَامَ فِي عَمَلِهَا ؛ لِأَنَّهَا بِالْعَلَفِ تَتَقَوَّى عَلَى حَمْلِ الْمَتَاعِ ، وَمَنْفَعَةُ ذَلِكَ رَاجِعَةٌ إلَى مَالِ الْمُضَارَبَةِ ، وَإِذَا أَرَادَ الْقِسْمَةَ ، بَدَأَ بِرَأْسِ الْمَالِ ، فَأُخْرِجَ مِنْ الْمَالِ ، وَجُعِلَتْ النَّفَقَةُ مِمَّا بَقِيَ ، فَإِنْ بَقِيَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ ، فَهُوَ الرِّبْحُ يُقَسَّمُ بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَرَبِّ الْمَالِ عَلَى مَا اشْتَرَطَا .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَنْفَقَ فِي سَفَرِهِ مِنْ الْمَالِ بَعْضَهُ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ شَيْئًا ، ثُمَّ اشْتَرَى بِالْبَاقِي وَبَاعَ وَرَبِحَ ، اسْتَوْفَى رَبُّ الْمَالِ رَأْسَ مَالِهِ كَامِلًا ؛ لِأَنَّ مَا أَنْفَقَهُ الْمُضَارِبُ يُجْعَلُ كَالتَّاوِي وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعَقْدَ يَبْقَى فِي الْكُلِّ بَعْدَ هَلَاكِ بَعْضِ رَأْسِ الْمَالِ ، فَيُحَصِّلُ جَمِيعَ رَأْسِ

الْمَالِ ، وَمَا بَقِيَ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ .

وَلَوْ دَفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً إلَيْهِ ، فَخَرَجَ إلَى السَّوَادِ يَشْتَرِي بِهِ الطَّعَامَ وَذَلِكَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ فَأَقَامَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ يَشْتَرِي وَيَبِيعُ ، فَإِنَّهُ يُنْفِقُ فِي طَرِيقِهِ وَمُقَامُهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ ، وَهَذَا وَمَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْمَعْنَى سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا فَارَقَ وَطَنَهُ لِعَمَلِهِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَيْضًا ، فَيَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ ، وَلَوْ كَانَ فِي الْمِصْرِ الَّذِي فِيهِ أَهْلُهُ ، إلَّا أَنَّ الْمِصْرَ عِظَمُ أَهْلِهِ فِي أَقْصَاهُ ، وَالْمَقَامُ الَّذِي يَتَّجِرُ فِيهِ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ ، وَكَانَ يُقِيمُ هُنَاكَ لِيَتَّجِرَ وَلَا يَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ ، فَلَا نَفَقَةَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّ نَوَاحِيَ الْمِصْرِ فِي حُكْمِ نَاحِيَةٍ وَاحِدَةٍ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمُقِيمَ فِي نَاحِيَةٍ مِنْ الْمِصْرِ يَكُونُ مُقِيمًا فِي جَمِيعِ نَوَاحِيهِ ؟ وَإِذَا خَرَجَ مِنْ أَهْلِهِ عَلَى قَصْدِ السَّفَرِ لَا يَصِيرُ مُسَافِرًا مَا لَمْ يَنْفَصِلْ مِنْ عُمْرَانِ الْمِصْرِ ؟ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَقَامَهُ فِي الْمِصْرِ لَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ الْمُضَارَبَةِ ، وَعَلَى هَذَا قِيلَ لَوْ كَانَ يَخْرُجُ لِلْعَمَلِ إلَى مَوْضِعٍ قَرِيبٍ ، وَيَعُودُ إلَى أَهْلِهِ قَبْلَ اللَّيْلِ ، فَإِنَّهُ لَا يُنْفِقُ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّهُ مُقِيمٌ فِي أَهْلِهِ إذَا كَانَ خُرُوجُهُ إلَى مَوْضِعٍ لَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَبِيتَ فِي غَيْرِ أَهْلِهِ ،

وَلَوْ كَانَ لَهُ أَهْلٌ بِالْكُوفَةِ وَأَهْلٌ بِالْبَصْرَةِ ، وَوَطَنُهُ فِيهِمَا جَمِيعًا ، فَخَرَجَ بِالْمَالِ مِنْ الْكُوفَةِ لِيَتَّجِرَ فِيهِ بِالْبَصْرَةِ ، فَإِنَّهُ يُنْفِقُ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فِي طَرِيقِهِ ، فَإِذَا دَخَلَ الْبَصْرَةَ كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ مَا دَامَ بِهَا ، فَإِذَا خَرَجَ مِنْهَا رَاجِعًا إلَى الْكُوفَةِ أَنْفَقَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فِي سَفَرِهِ ؛ لِأَنَّ سَفَرَهُ فِي الذَّهَابِ وَالرُّجُوعِ لِأَجْلِ الْمُضَارَبَةِ ، أَمَّا فِي الْبَلْدَتَيْنِ فَهُوَ مُقِيمٌ فِي أَهْلِهِ ، وَإِقَامَتُهُ فِي أَهْلِهِ لَيْسَ لِأَجْلِ الْمُضَارَبَةِ ، فَفِي الْبَلْدَتَيْنِ يُنْفِقُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ .
وَلَوْ كَانَ أَهْلُ الْمُضَارِبِ بِالْكُوفَةِ ، وَأَهْلُ رَبّ الْمَالِ بِالْبَصْرَةِ ، فَخَرَجَ بِالْمَالِ إلَى الْبَصْرَةِ مَعَ رَبّ الْمَالِ لِيَتَّجِرَ فِيهِ ، فَنَفَقَتُهُ فِي طَرِيقِهِ بِالْبَصْرَةِ ، وَفِي رُجُوعِهِ إلَى الْكُوفَةِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّ مَقَامَهُ بِالْبَصْرَةِ لِأَجْلِ الْمُضَارَبَةِ ، إذْ لَيْسَ لَهُ أَهْلٌ بِالْبَصْرَةِ ؛ لِتَكُونَ الْبَصْرَةُ وَطَنُ الْإِقَامَةِ لَهُ ، وَيَسْتَوِي إنْ نَوَى الْإِقَامَةَ بِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ أَقَلَّ ؛ لِأَنَّ التَّاجِرَ فِي الْمَالِ الْعَظِيمِ قَدْ يَحْتَاجُ إلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْمَقَامِ فِي بَلَدِهِ لِأَجْلِ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ ، وَبِهَذِهِ النِّيَّةِ تَصِيرُ الْبَصْرَةُ وَطَنًا مُسْتَعَارًا لَهُ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ لَهُ بِهَا أَهْلٌ أَوْ تَأَهَّلَ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ تَصِيرُ الْبَصْرَةُ وَطَنُ إقَامَتِهِ ، وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ الْمَالَ مُضَارَبَةً وَهُمَا بِالْكُوفَةِ ، وَلَيْسَتْ الْكُوفَةُ بِوَطَنٍ لِلْمُضَارِبِ ، لَمْ يُنْفِقْ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْمَالِ مَا دَامَ بِالْكُوفَةِ ؛ لِأَنَّ إقَامَتَهُ بِالْكُوفَةِ - عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ - لَيْسَ لِأَجْلِ الْمُضَارَبَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ قَبْلَ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ كَانَ مُقِيمًا بِهَا ، فَلَا يَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا ، فَإِنْ خَرَجَ مِنْهَا إلَى وَطَنِهِ ثُمَّ عَادَ إلَيْهَا فِي تِجَارَتِهِ ، أَنْفَقَ

بِالْكُوفَةِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ سَافَرَ بَعْدَ عَقْدِ الْمُضَارَبَةِ اسْتَوْجَبَ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ ، وَصَارَتْ الْكُوفَةُ فِي حَقِّهِ كَسَائِرِ الْبُلْدَانِ ؛ لِأَنَّ وَطَنَهُ بِهَا كَانَ مُسْتَعَارًا ، وَقَدْ انْتَقَضَ بِالسَّفَرِ ، فَرُجُوعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الْكُوفَةِ وَذَهَابُهُ إلَى مِصْرٍ آخَرَ سَوَاءٌ ، فَإِنْ تَزَوَّجَ بِهَا امْرَأَةً وَاِتَّخَذَهَا وَطَنًا ، زَالَتْ نَفَقَتُهُ عَنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّ مَقَامَهُ بِهَا بَعْدَ مَا تَزَوَّجَ بِهَا وَاِتَّخَذَهَا دَارًا لِأَجْلِ أَهْلِهِ لَا لِأَجْلِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ ، فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ وَطَنِهِ الْأَصْلِيِّ .

وَإِذَا سَافَرَ الْمُضَارِبُ بِالْمَالِ ، فَأَعَانَهُ رَبُّ الْمَالِ بِغِلْمَانِهِ يَعْمَلُونَ مَعَهُ فِي الْمُضَارَبَةِ ، أَوْ أَعَانَهُ بِدَوَابِّهِ لِحَمْلِ الْمَتَاعِ الَّذِي يَشْتَرِي بِالْمُضَارَبَةِ عَلَيْهَا ، فَإِنَّ الْمُضَارَبَةَ لَا تَفْسُدُ بِهَذَا ، كَمَا لَوْ أَعَانَهُ بِنَفْسِهِ فِي بَعْضِ الْأَعْمَالِ ، وَنَفَقَةُ الْغِلْمَانِ وَالدَّوَابِّ عَلَى رَبِّ الْمَالِ دُونَ مَالِ الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ غِلْمَانِ رَبِّ الْمَالِ وَعَلَفَ دَوَابِّهِ كَنَفَقَةِ نَفْسِهِ ، وَرَبُّ الْمَالِ لَوْ سَافَرَ مَعَهُ لِيُعِينَهُ عَلَى الْعَمَلِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ ، لَمْ يَسْتَوْجِبْ نَفَقَةً فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ بِهَذَا السَّبَبِ ، فَكَذَلِكَ نَفَقَةُ غِلْمَانِهِ وَدَوَابِّهِ بِخِلَافِ غِلْمَانِ الْمُضَارِبِ وَدَوَابِّهِ فَإِنَّ نَفَقَتَهُمْ كَنَفَقَتِهِ ، وَهُوَ يَسْتَوْجِبُ نَفَقَةً فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ إذَا سَافَرَ لِأَجْلِهِ ، فَكَذَلِكَ نَفَقَةُ غِلْمَانِهِ وَدَوَابِّهِ ، فَإِنْ أَنْفَقَ عَلَى غِلْمَانِ رَبّ الْمَالِ وَدَوَابِّهِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ بِغَيْرِ أَمْرِ رَبّ الْمَالِ ، ضَمِنَهُ مِنْ مَالِهِ ، بِمَنْزِلَةِ مَا يُنْفِقُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ آخَرَ ؛ لِأَنَّهُ صَرَفَ مَالَ الْمُضَارَبَةِ إلَى وَجْهٍ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ صَرْفُهُ إلَيْهِ بِحُكْمِ الْمُضَارَبَةِ ، فَيَصِيرُ كَالْمُسْتَهْلِكِ لِذَلِكَ الْمَالِ .
وَإِنْ كَانَ أَنْفَقَهُ بِأَمْرِ رَبِّ الْمَالِ حُسِبَ ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ إلَى مِلْكِهِ بِأَمْرِهِ بِمَنْزِلَةِ صَرْفِهِ إلَيْهِ ، فَيُحْسَبُ ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ ، وَفِي الْأَصْلِ أَوْضَحَ هَذَا الْفَرْقَ فَقَالَ : لَوْ لَمْ أَجْعَلْ نَفَقَةَ غِلْمَانِ الْمُضَارِبِ فِي الْمُضَارَبَةِ جَعَلْتُهَا عَلَى الْمُضَارِبِ لَا مَحَالَةَ ، وَكُلُّ نَفَقَةٍ تَلْحَقُ الْمُضَارِبَ فِي سَفَرِهِ فِي الْمُضَارَبَةِ ، فَذَلِكَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ ، وَنَفَقَةُ غِلْمَانِ رَبِّ الْمَالِ لَوْ لَمْ أَجْعَلْهَا فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ ، كَانَ ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ ، وَهَذَا فِي الْمَعْنَى اعْتِبَارُ نَفَقَةِ هَؤُلَاءِ بِنَفَقَةِ نَفْسِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ،

وَلَوْ دَفَعَ الْمُضَارِبُ مَالَ الْمُضَارَبَةِ إلَى عَبْدِهِ لِيَخْرُجَ بِهِ إلَى مِصْرٍ فَيَشْتَرِيَ بِهِ وَيَبِيعَ ، فَخَرَجَ بِهِ ، كَانَتْ نَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ عَبْدِهِ كَنَفَقَتِهِ ، وَهُوَ لَوْ خَرَجَ بِنَفْسِهِ ، أَنْفَقَ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ ، فَكَذَلِكَ عَبْدُهُ إذَا خَرَجَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنِّي لَوْ لَمْ أَجْعَلْ نَفَقَتَهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ ، جَعَلْتُهَا عَلَى الْمُضَارِبِ ؟ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَبْدَ رَبِّ الْمَالِ بِإِعَانَتِهِ وَإِذْنِهِ ، فَنَفَقَتُهُ عَلَى مَوْلَاهُ ، وَلَا تَكُونُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ خَرَجَ رَبُّ الْمَالِ بِنَفْسِهِ عَلَى وَجْهِ الْإِعَانَةِ لِلْمُضَارِبِ فِي عَمَلِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ أَنْفَقَ نَفْسَهُ بِأَمْرِ رَبِّ الْمَالِ ، فَذَلِكَ مَحْسُوبٌ عَلَى رَبِّ الْمَالِ ، كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ .
وَلَوْ أَبْضَعَهُ الْمُضَارِبُ مَعَ رَجُلٍ لَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَبْضِعِ نَفَقَةٌ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَبْضِعَ مُتَبَرِّعٌ ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يُسَافِرُ عَادَةً لِأَجْلِ الْبِضَاعَةِ بِخِلَافِ الْمُضَارِبِ ، وَلَوْ أَبْضَعَهُ الْمُضَارِبُ مَعَ رَبّ الْمَالِ فَعَمِلَ بِهِ ، فَهُوَ عَلَى الْمُضَارَبَةِ ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ ؛ لِأَنَّهُ مُعَيَّنٌ لِلْمُضَارِبِ مُتَبَرِّعٌ فِيمَا أَقَامَ مِنْ الْعَمَلِ ، فَلَا يَفْسُدُ بِهِ عَقْدُ الْمُضَارَبَةِ بَيْنَهُمَا ؛ كَالشَّرِيكَيْنِ فِي الْمَالِ ، إذَا عَمِلَ أَحَدُهُمَا ، وَلَمْ يَعْمَلْ الْآخَرُ شَيْئًا ، وَلَا نَفَقَةَ لِرَبِّ الْمَالِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَبْضِعِ إذَا كَانَ أَجْنَبِيًّا .

وَإِذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ مَالًا مُضَارَبَةً ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ بِرَأْيِهِ ، فَدَفَعَهُ الْمُضَارِبُ إلَى آخَرَ مُضَارَبَةً ، فَسَافَرَ الْآخَرُ بِالْمَالِ إلَى مِصْرٍ لِيَشْتَرِيَ وَيَبِيعَ ، فَنَفَقَتُهُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ ، فَإِنَّ بَعْدَ قَوْلِ رَبِّ الْمَالِ : اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ .
لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَدْفَعَهُ مُضَارَبَةً ، وَيَقُومَ هُوَ فِي ذَلِكَ مَقَامَ رَبِّ الْمَالِ ، فَكَمَا أَنَّ نَفَقَةَ الْمُضَارِبِ الْأَوَّلِ فِي سَفَرِهِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ ، فَكَذَلِكَ نَفَقَةُ الْمُضَارِبِ الثَّانِي

وَإِذَا دَفَعَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً ، فَخَرَجَ الْمُضَارِبُ فِيهَا وَفِي عَشَرَةِ آلَافٍ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ إلَى مِصْرٍ لِيَشْتَرِيَ بِهَا وَيَبِيعَ ، فَإِنَّ نَفَقَتُهُ عَلَى أَحَدَ عَشَرَ سَهْمًا ، جُزْءٌ مِنْهَا فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ ، وَعَشَرَةُ أَجْزَاءٍ فِي مَالِ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ خُرُوجُهُ لِأَجَلِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خُرُوجُهُ لِأَجْلِ مَالِ نَفْسِهِ ، احْتِمَالًا عَلَى السَّوَاءِ ، فَيَنْظُرُ إلَى مَنْفَعَةِ خُرُوجِهِ وَعَمَلِهِ ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِقِلَّةِ الْمَالِ وَكَثْرَتِهِ ، فَيَقْسِمُ النَّفَقَةَ عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَغْرَمَ مُقَابِلٌ بِالْمَغْنَمِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ : اعْمَلْ فِيهِ بِرَأْيِكَ فَخَلَطَ مَالَهُ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ ، ثُمَّ خَرَجَ ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ لَا يَصِيرُ ضَامِنًا بِالْخَلْطِ ، فَكَانَ إخْرَاجُهُ الْمَالَيْنِ بَعْدَ الْخَلْطِ ؛ كَإِخْرَاجِهِ قَبْلَ الْخَلْطِ ،

وَكُلُّ مُضَارَبَةٍ فَاسِدَةٍ فَلَا نَفَقَةَ لِلْمُضَارِبِ فِيهَا عَلَى مَالِ الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّ بَعْدَ فَسَادِ الْمُضَارَبَةِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ يَسْتَوْجِبُ أَجْرَ الْمِثْلِ ، رَبِحَ أَوْ لَمْ يَرْبَحْ ؟ وَالْإِجَارَةُ الْفَاسِدَةُ مُعْتَبَرَةٌ بِالصَّحِيحَةِ ، فَكَمَا أَنَّ فِي الْإِجَارَةِ الصَّحِيحَةِ لَا يَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ عَلَى الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْجَبَ بَدَلًا مَضْمُونًا بِمُقَابَلَةِ عَمَلِهِ ، فَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ ، فَإِنْ أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْمَالِ حُسِبَ مِنْ أَجْرِ مِثْلِ عَمَلِهِ ، وَأُخِذَ بِمَا زَادَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ أَنْفَقَ أَكْثَرَ مِنْ أَجْرِ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ دَيْنٍ ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ مِنْ مَالِ مَدْيُونِهِ ، وَأَخَذَ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ ، وَفِي هَذَا يَلْزَمُهُ رَدُّ الزِّيَادَةِ .

وَإِذَا أَنْفَقَ فِي الْمُضَارَبَةِ الصَّحِيحَةِ فِي سَفَرِهِ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ ، فَلَمَّا انْتَهَى إلَى الْمِصْرِ الَّذِي قَصَدَهُ ، لَمْ يَشْتَرِ شَيْئًا حَتَّى رَجَعَ بِالْمَالِ إلَى مِصْرِهِ فَأَخَذَ رَبُّ الْمَالِ مَا بَقِيَ مِنْهُ ، لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُضَارِبِ ضَمَانُ مَا أَنْفَقَ ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَقَ بِحَقٍّ مُسْتَحَقٍّ لَهُ فَإِنَّ سَفَرَهُ كَانَ لِأَجْلِ الْمُضَارَبَةِ ، وَبِأَنْ لَمْ يَشْتَرِ شَيْئًا لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ سَفَرَهُ لَا يَكُونُ لِأَجْلِ الْمُضَارَبَةِ .
فَالتَّاجِرُ لَا يَشْتَرِي بِالْمَالِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَأْتِيهِ لِلتِّجَارَةِ لَا مَحَالَةَ ، وَلَكِنْ إنْ وَجَدَ مَا يَرْبَحُ عَلَيْهِ اشْتَرَى ، وَإِلَّا رَجَعَ بِالْمَالِ ، وَذَلِكَ أَرْفَقُ الْوَجْهَيْنِ لَهُ ، فَإِنْ كَانَ مَا فَعَلَهُ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ ، لَا يَخْرُجُ هُوَ بِهِ ، مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا لِلنَّفَقَةِ عَلَى الْمَالِ فَلَا يَضْمَنُ مَا أَنْفَقَ .

وَإِذَا مَرَّ الْمُضَارِبُ عَلَى الْعَاشِرِ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ ، وَأَخْبَرَهُ بِهِ وَأَخَذَ مِنْهُ الْعُشْرَ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارِبِ فِيمَا أَخَذَ مِنْهُ الْعَاشِرُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ ، أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْعَاشِرُ يَأْخُذُ مِنْهُ الزَّكَاةَ ، وَعَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا - لَا يَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا ، فَمَا أَخَذَهُ الْعَاشِرُ إمَّا أَنْ يَكُونَ تَاوِيًا أَوْ مَأْخُوذًا بِحَقٍّ ، فَلَا ضَمَانَ فِيهِ عَلَى الْمُضَارِبِ .
وَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي أَعْطَى الْعَاشِرَ بِغَيْرِ إلْزَامٍ مِنْ الْعَاشِرِ لَهُ ، فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَعْطَى .
وَكَذَلِكَ إنْ صَانَعَهُ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَالِ حَتَّى كَفَّ عَنْهُ ، فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَعْطَى ؛ لِأَنَّهُ أَعْطَى بِاخْتِيَارِهِ إلَى مَنْ لَا حَقَّ لَهُ فِي أَخْذِهِ مِنْهُ فَيَكُونُ هُوَ مُسْتَهْلِكًا لِمَا أَعْطَى ، كَمَا لَوْ وَهَبَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ .
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ : الْجَوَابُ فِي زَمَانِنَا بِخِلَافِ هَذَا .
وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُضَارِبِ فِيمَا يُعْطِي مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ إلَى سُلْطَانٍ طَمِعَ فِيهِ وَقَصَدَ أَخْذَهُ بِطَرِيقِ الْغَصْبِ .
وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ إذَا صَانَعَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ ؛ لِأَنَّهُمَا يَقْصِدَانِ الْإِصْلَاحَ بِهَذِهِ الْمُصَانَعَةِ ، فَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ ، أَخَذَ الطَّامِعُ جَمِيعَ الْمَالِ ، فَدَفَعَ الْبَعْضَ لِإِحْرَازِ مَا بَقِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْحِفْظِ فِي زَمَانِنَا ، وَالْأَمِينُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْحِفْظِ يَكُونُ ضَامِنًا ، كَمَا لَوْ وَقَعَ الْحَرِيقُ فِي بَيْتِ الْمُودَعِ فَنَاوَلَ الْوَدِيعَةَ أَجْنَبِيًّا .
فَأَمَّا فِي زَمَانِهِمْ فَكَانَتْ الْقُوَّةُ لِسَلَاطِينِ الْعَمَلِ ، فَكَانَ الْأَمِينُ مُتَمَكِّنًا مِنْ دَفْعِ الْأَمْرِ إلَيْهِمْ ؛ لِيَدْفَعُوا الظَّالِمَ عَنْ الْأَمَانَةِ ، فَلِهَذَا قَالَ : إذَا صَانَعَ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَالِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَعْطَى .

وَإِذَا اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِالْمَالِ مَتَاعًا ، أَوْ لَمْ يَشْتَرِ بِهِ شَيْئًا ، فَنَهَاهُ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْبَلْدَةِ ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ ذَلِكَ الْبَلَدِ ، أَمَّا قَبْلَ الشِّرَاءِ بِالْمَالِ فَالْجَوَابُ صَحِيحٌ وَاضِحٌ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ نَهْيَهُ عَنْ التَّصَرُّفِ أَصْلًا ، مَا بَقِيَ الْمَالُ نَقْدًا فِي يَدِهِ ، فَإِذَا قَيَّدَ الْأَمْرَ بِشَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ ، كَانَ أَقْرَبَ إلَى الصِّحَّةِ ، وَالْحَالُ قَبْلَ الشِّرَاءِ بَعْدَ الْعَقْدِ ؛ كَحَالِ الْعَقْدِ فِي انْتِفَاءِ صِفَةِ اللُّزُومِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَانْعِدَامِ حَقِّ الْمُضَارِبِ ، فَكَمَا أَنَّهُ يَمْلِكُ التَّقْيِيدَ عِنْدَ الْعَقْدِ ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ الشِّرَاءِ بِالْمَالِ .
فَأَمَّا بَعْدَ الشِّرَاءِ بِالْمَالِ ؛ فَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ الْجَوَابُ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي رُوِيَتْ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يُسَافِرَ بِالْمَالِ بِمُطْلَقِ الْمُضَارَبَةِ ، وَمَوْضُوعُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، فِيمَا إذَا قَالَ لَهُ : اعْمَلْ بِرَأْيِكَ .
فَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْمُسَافَرَةَ ، بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ ، وَهُوَ يَمْلِكُ رَفْعَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ بَعْدَ الشِّرَاءِ ، فَكَذَلِكَ يَمْلِكُ التَّقَيُّدَ فِيمَا هُوَ مُسْتَفَادٌ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ ، فَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي قُلْنَا بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ ؛ لَهُ حَقُّ الْمُسَافَرَةِ بِالْمَالِ لَا يَسْتَقِيمُ هَذَا الْجَوَابُ ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ صَيْرُورَةِ الْمَالِ عُرُوضًا ، لَا يَمْلِكُ نَهْيَهُ عَمَّا صَارَ مُسْتَفَادًا لَهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ ، وَهُوَ حَقُّ التَّصَرُّفِ فِيهِ ، فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ التَّقْيِيدَ فِيهِ بِالنَّهْيِ عَنْ الْمُسَافَرَةِ بِالْمَالِ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ نَهْيَهُ عَنْ الْمُسَافَرَةِ بِالْمَالِ ، عَامِلٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَإِنْ كَانَ بِمُطْلَقِ الْمُسَافَرَةِ لِدَلَالَةِ اسْمِ الْعَقْدِ ، فَالْمُضَارَبَةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ ، أَوْ لِمُرَاعَاةِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ رَبُّ الْمَالِ مِنْ حِفْظِهِ الْمَالَ بِنَفْسِهِ عِنْدَ خُرُوجِهِ مُسَافِرًا كَمَا فِي

الْوَدِيعَةِ .
وَهَذَا كُلُّهُ يَنْعَدِمُ بِالنَّهْيِ عَنْ الْمُسَافَرَةِ بِالْمَالِ بِخِلَافِ أَصْلِ التَّصَرُّفِ ، فَإِنَّ حَقَّ الْمُضَارِبِ يَثْبُتُ بِالتَّصَرُّفِ حِينَ صَارَ الْمَالُ عَرَضًا ؛ لِأَنَّ رِبْحَهُ لَا يَظْهَرُ إلَّا بِالتَّصَرُّفِ ، وَرَبُّ الْمَالِ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّهِ ، إمَّا بِالنَّهْيِ عَنْ الْمُسَافَرَةِ بِالْمَالِ ، فَلَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْمُضَارِبِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْبَلْدَةِ ، وَإِنَّمَا فِيهِ إيفَاءُ حَقِّ رَبِّ الْمَالِ فِي أَنْ يَكُونَ مَالُهُ مَصُونًا عَنْ أَسْبَابِ الْهَلَاكِ ، وَهَذَا مَمْلُوكٌ بَعْدَ مَا صَارَ الْمَالُ عُرُوضًا كَمَا كَانَ قَبْلَهُ ، فَإِنْ أَخْرَجَهُ ، ضَمِنَهُ لِلْخِلَافِ ، وَالْأَمِينُ مَتَى خَالَفَ مَا أُمِرَ بِهِ نَصًّا ، كَانَ ضَامِنًا ، وَمَا أَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ ، أَوْ عَلَى الْمَالِ ، بَعْدَ مَا صَارَ ضَامِنًا لَهُ ، فَهُوَ فِي مَالِهِ خَاصَّةً بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ ، فَإِنْ لَمْ يُحْدِثْ فِيهِ حَدَثًا حَتَّى رَدَّهُ إلَى الْبَلَدِ ، فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ضَمَانِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ بَعْدَ مَا خَالَفَ ، وَالْعَقْدُ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا ، فَيَعُودُ أَمِينًا كَمَا كَانَ .
وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَنْهَهُ ، وَلَكِنَّ رَبَّ الْمَالِ مَاتَ ، وَالْمُضَارَبَةُ فِي يَدِ الْمُضَارِبِ عَيْنٌ ، أَوْ مَتَاعٌ فَسَافَرَ بِهِ الْمُضَارِبُ بَعْدَ مَوْتِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ بِالْمَوْتِ انْتَقِلْ إلَى الْوَرَثَةِ ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُمْ الرِّضَا بِسَفَرِهِ بِهِ قَطُّ ، وَمَا كَانَ مِنْ رِضَا رَبِّ الْمَالِ بِهِ ، قَدْ انْقَطَعَ بِمَوْتِهِ ، بِمَنْزِلَةِ نَهْيِهِ عَنْ الْمُسَافَرَةِ بِالْمَالِ إذَا بَلَغَهُ ، فَالنَّهْيُ لَا يَعْمَلُ فِي حَقِّهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ ، وَلَا فَرْقَ فِي الْمَوْتِ بَيْنَ أَنْ يَعْلَمَ بِهِ أَوْ لَا يَعْلَمَ ؛ لِأَنَّهُ عَزْلٌ حُكْمِيٌّ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ بِهِ كَعَزْلِ الْوَكِيلِ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ .

وَإِذَا سَافَرَ الْمُضَارِبُ بِالْمَالِ ، فَاشْتَرَى بِهِ مَتَاعًا فِي بَلَدٍ آخَرَ ، فَمَاتَ رَبُّ الْمَالِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِمَوْتِهِ ، ثُمَّ سَافَرَ بِالْمَتَاعِ حَتَّى أَتَى مِصْرًا ، فَنَفَقَةُ الْمُضَارِبِ بَعْدَ مَوْتِ رَبِّ الْمَالِ عَلَى نَفْسِهِ دُونَ الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُضَارَبَةِ فِي حَقِّ الْمُسَافَرَةِ بِالْمَالِ قَدْ انْتَهَى بِمَوْتِ رَبِّ الْمَالِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمُضَارِبُ ، وَبِاعْتِبَارِهِ كَانَ يُنْفِقُ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ ، فَنَفَقَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي سَفَرِهِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا يَهْلِكُ مِنْ الْمَتَاعِ فِي الطَّرِيقِ ، فَإِنْ سَلِمَ حَتَّى يَبِيعَهُ جَازَ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّ بِالْمَوْتِ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ بَيْعُهُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ بَاعَهُ ؛ كَمَا لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِالنَّهْيِ عَنْ التَّصَرُّفِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِهِ ؛ لِمَا فِي التَّصَرُّفِ مِنْ حَقِّ الْمُضَارِبِ .
وَقَدْ سَبَقَ ثُبُوتُ حَقِّهِ بِثُبُوتِ حَقِّ الْوَرَثَةِ ، فَلَا يَبْطُلُ لِحَقِّهِمْ لَوْ كَانَ الْمُضَارِبُ خَرَجَ بِالْمَتَاعِ مِنْ ذَلِكَ الْمِصْرِ قَبْلَ مَوْتِ رَبِّ الْمَالِ ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانٌ ، وَكَانَتْ نَفَقَتُهُ فِي سَفَرِهِ ، حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى الْمِصْرِ ، وَيَبِيعَ الْمَتَاعَ عَلَى الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ مِنْ الْمَقَامِ فِي الْمَفَازَةِ ، أَوْ فِي مَوْضِعٍ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ بَيْعِ الْمَتَاعِ ؛ كَمَا هُوَ عَادَةُ التُّجَّارِ فَهُوَ فِي نَفَقَتِهِ عَلَى السَّفَرِ ، إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى الْمِصْرِ ، وَيَبِيعَ الْمَتَاعَ مُوَافِقٌ لَا مُخَالِفٌ فَتَكُونُ نَفَقَتُهُ فِي الْمَالِ .
وَلَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ مَاتَ وَالْمُضَارِبُ بِمِصْرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ غَيْرِ مِصْرِ رَبّ الْمَالِ ، وَالْمُضَارَبَةُ مَتَاعٌ فِي يَدِهِ فَخَرَجَ بِهَا إلَى مِصْرِ رَبّ الْمَالِ ، فَفِي الْقِيَاسِ هُوَ ضَامِنٌ ، وَلَا يَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ فِي الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ يُنْشِئُ سَفَرًا بِالْمَالِ بَعْدَ مَا انْعَزَلَ عَنْهُ بِمَوْتِ رَبِّ الْمَالِ ، وَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ فِي مَوْضِعٍ آمِنٍ ، وَيَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ ، وَهَذَا سَفَرُهُ إلَى

مِصْرٍ آخَرَ سَوَاءٌ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَنَفَقَتُهُ حَتَّى يَبْلُغَ مِصْرَ رَبِّ الْمَالِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّ هَذَا سَفَرٌ لَا يَجِدُ الْمُضَارِبُ مِنْهُ بُدًّا ، فَإِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُسَلِّمَ الْمَالَ إلَى الْوَرَثَةِ لِيُسَلَّمَ لَهُ نَصِيبُهُ مِنْ الرِّبْحِ ، وَلَا يَتَأَتَّى لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِالْعَوْدِ إلَى مِصْرِهِ ؛ لِأَنَّ وَرَثَتَهُ فِيهِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَمْصَارِ ، وَالْعَقْدُ يَبْقَى لِأَجْلِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ؛ كَمَا إذَا مَاتَ صَاحِبُ السَّفِينَةِ وَهِيَ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ ، أَوْ مَاتَ الْمُكَارِي لِلدَّابَّةِ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ .
بِخِلَافِ سَفَرِهِ إلَى مِصْرٍ آخَرَ ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى ذَلِكَ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ حَيًّا ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ رَسُولًا يَنْهَاهُ عَنْ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ ، وَفِي يَدِهِ مَتَاعٌ ، فَخَرَجَ بِهَا إلَى مِصْرِ رَبّ الْمَالِ ، فَإِنِّي لَا أُضَمِّنُهُ مَا هَلَكَ مِنْ الْمَتَاعِ فِي سَفَرِهِ ، وَأَجْعَلُ نَفَقَتَهُ فِي الْمَالِ اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ بِالْمَالِ إلَى مِصْرِ رَبِّ الْمَالِ ، كَمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَبِيعَهُ إذَا نَهَاهُ فِي الْمِصْرِ ، فَكَمَا أَنَّ نَهْيَهُ فِي ذَلِكَ لَا يَعْمَلُ إيفَاءً لِحَقِّ الْمُضَارِبِ فِي حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ ، فَكَذَلِكَ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ لَا يَعْمَلُ نَهْيُهُ .

وَلَوْ كَانَتْ الْمُضَارَبَةُ فِي يَدِهِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ ، فَمَاتَ رَبُّ الْمَالِ ، وَالْمُضَارِبُ فِي مِصْرٍ آخَرَ ، وَكَانَ رَبُّ الْمَالِ حَيًّا ، فَأَرْسَلَ إلَيْهِ يَنْهَاهُ عَنْ الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ ، فَأَقْبَلَ الْمُضَارِبُ بِالْمَالِ إلَى مِصْرِ رَبّ الْمَالِ ، فَهَلَكَ فِي الطَّرِيقِ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ رَدِّ الْمَالِ عَلَيْهِ ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ مَا لَمْ يَأْتِ بِهِ مِصْرَهُ ، فَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ أَوْ إلَى وَرَثَتِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ هُنَاكَ عِنْدَ غَيْرِهِ ، وَخَرَجَ إلَى مِصْرِ رَبِّ الْمَالِ ، كَانَ مُخَالِفًا ضَامِنًا ، وَهُوَ بِمَا صَنَعَ يَتَحَرَّزُ عَنْ الْخِلَافِ ، فَلَا يَضْمَنُهُ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ ، فَإِنْ سَلِمَ حَتَّى قَدِمَ ، وَقَدْ أَنْفَقَ مِنْهُ عَلَى سَفَرِهِ ، فَهُوَ ضَامِنٌ لِلنَّفَقَةِ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ لَا يَبْقَى بَعْدَ مَوْتِ رَبِّ الْمَالِ ، أَوْ نَهْيِهِ ، إذَا كَانَ الْمَالُ فِي يَدِهِ نَقْدًا ، فَإِنَّ بَقَاءَ الْعَقْدِ بِبَقَاءِ حَقِّ الْمُضَارِبِ فِي الْمَالِ ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْمَالِ هُنَا ، فَهَذَا الْمَالُ بِمَنْزِلَةِ الْوَدِيعَةِ فِي يَدِهِ ، وَالْمُودَعُ لَا يَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الْوَدِيعَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ شَيْئًا لِرَبِّ الْمَالِ ؟ وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ ضَامِنًا ؟ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَالُ عُرُوضًا ، فَقَدْ بَقِيَ الْعَقْدُ هُنَاكَ ؛ لِبَقَاءِ حَقِّ الْمُضَارِبِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ يَمْلِكُ الْبَيْعَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ ؟ فَكَذَلِكَ يَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ فِي سَفَرٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ ، وَإِذَا اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِالْمَالِ وَبَاعَ ، فَصَارَ الْمَالُ دَيْنًا عَلَى النَّاسِ ، ثُمَّ أَبَى أَنْ يَتَقَاضَاهُ ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ أُجْبِرَ عَلَى أَنْ يَتَقَاضَاهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ فَضْلٌ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى أَنْ يَتَقَاضَاهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِيهِ فَضْلٌ ، فَقَدْ اسْتَحَقَّ الْمُضَارِبُ نَصِيبَهُ مِنْ الرِّبْحِ بِعَمَلِهِ ، فَيُجْبَرُ عَلَى إكْمَالِ الْعَمَلِ كَالْأَجِيرِ ،

وَذَلِكَ بِالتَّقَاضِي حَتَّى يَقْبِضَ الْمَالَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَضْلٌ ، فَالْمُضَارِبُ كَالْوَكِيلِ فِي التَّصَرُّفِ ، إذَا لَمْ يَسْتَوْجِبْ بِإِزَاءِ تَصَرُّفِهِ شَيْئًا ، وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ لَا يُجْبَرُ عَلَى تَقَاضِي الثَّمَنِ ، وَلَكِنْ يُؤْمَرُ بِأَنْ يُحِيلَ بِهِ الْمُوَكِّلَ عَلَى الْمُشْتَرِي ، فَكَذَلِكَ هُنَا يُؤْمَرُ بِأَنْ يُحِيلَ بِهِ رَبَّ الْمَالِ عَلَى الْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ مُطَالَبَتِهِمْ إذَا لَمْ يُعَامِلْهُمْ ، وَلَيْسَ فِي امْتِنَاعِ الْمُضَارِبِ مِنْ أَنْ يُحِيلَهُ بِالْمَالِ عَلَيْهِمْ إلَّا التَّعَنُّتُ ، وَالْقَصْدُ إلَى إتْوَاءِ مَالِهِ ، فَيُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ .
تَوْضِيحُ الْفَرْقِ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي الْمَالِ فَضْلٌ ، فَلَا بُدَّ لِلْمُضَارِبِ مِنْ أَنْ يَتَقَاضَى نَصِيبَهُ مِنْ الرِّبْحِ وَيَقْبِضَ ، فَإِذَا قَبَضَ سَلَّمَ لَهُ ذَلِكَ ، وَلَكِنَّهُ يُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِهِ إلَى رَبِّ الْمَالِ ، بِحِسَابِ رَأْسِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَصِلْ رَأْسُ الْمَالِ رَبَّ الْمَالِ ، لَا يُسَلَّمُ شَيْءٌ مِنْ الرِّبْحِ لِلْمُضَارِبِ ، ثُمَّ يَقْبِضُ ثَانِيًا مِثْلَهُ فَيُسَلِّمُهُ إلَيْهِ ، فَلَا يَزَالُ هَكَذَا حَتَّى يَقْبِضَ جَمِيعَ الْمَالِ ، فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ فَضْلٌ ، فَلَا حَاجَةَ بِالْمُضَارِبِ إلَى تَقَاضِي شَيْءٍ مِنْهُ ؛ إذْ لَا نَصِيبَ لَهُ فِي الْمَالِ ، فَيُؤْمَرُ أَنْ يُحِيلَ بِهِ رَبَّ الْمَالِ عَلَى الْغُرَمَاءِ ، كَمَا يُؤْمَرُ بِهِ الْوَكِيلُ .
وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ وَهُوَ فِي مِصْرِهِ ، فَأَنْفَقَ فِي تَقَاضِيهِ ، وَخُصُومَةِ أَصْحَابِهِ ، وَطَعَامِهِ ، وَرُكُوبِهِ ، نَفَقَةً لَمْ يَرْجِعْ بِهَا فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ بِمَنْزِلَةِ تَصَرُّفِهِ فِي الْمَالِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مَا دَامَ يَتَصَرَّفُ فِي مِصْرِهِ ، لَا يَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ ؛ وَلِأَنَّهُ بِمَا صَنَعَ يُحْيِي حِصَّةً مِنْ الرِّبْحِ ، فَهُوَ كَبَيْعِهِ الْعُرُوضَ فِي مِصْرِهِ .
وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ غَائِبًا عَنْ مِصْرِ الْمُضَارِبِ ، فَأَنْفَقَ فِي سَفَرِهِ ، وَتَقَاضِيهِ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ ، حُسِبَ ذَلِكَ مِنْ مَالِ

الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّ سَفَرَهُ وَسَعْيَهُ كَانَ لِأَجْلِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ ، فَتَكُونُ نَفَقَتُهُ فِي الْمَالِ ؛ كَمَا لَوْ سَافَرَ لِلتَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُضَارِبَ إذَا أَنْفَقَ فِي السَّفَرِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ، اسْتَوْجَبَ الرُّجُوعَ بِهِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ ذَلِكَ ؛ بِأَنْ لَا تَصِلَ يَدُهُ إلَى مَالِ الْمُضَارَبَةِ عِنْدَ كُلِّ حَاجَةٍ إلَى نَفَقَةٍ ، فَلَا يَكُونُ مُتَبَرِّعًا فِيمَا يُنْفِقُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ؛ كَالْوَصِيِّ يَشْتَرِي لِلْيَتِيمِ وَيُؤَدِّي الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ، كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ ، إلَّا أَنْ تَزِيدَ نَفَقَةُ الْمُضَارِبِ عَلَى الدَّيْنِ ، فَلَا يَرْجِعُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ نَفَقَتَهُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ لَا فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ فَلَوْ اسْتَوْجَبَ الزِّيَادَةَ ، إنَّمَا يَسْتَوْجِبُهَا فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ ؛ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ ؛ لِأَنَّ سَعْيَهُ لِإِصْلَاحِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ وَلِمَنْفَعَةِ رَبِّ الْمَالِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَنْعَدِمُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْمَالِ .

وَإِذَا سَافَرَ الْمُضَارِبُ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ فَاشْتَرَى طَعَامَهُ وَكِسْوَتَهُ ، وَاسْتَأْجَرَ مَا يَرْكَبُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ ؛ لِيَرْجِعَ بِهِ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ .
فَلَمْ يَرْجِعْ بِهِ حَتَّى تَوِيَ مَالُ الْمُضَارَبَةِ ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِتِلْكَ النَّفَقَةِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ كَانَ فِي الْمَالِ لَا فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ ، وَبِهَلَاكِ الْمَالِ فَاتَ مَحَلُّ حَقِّهِ فَيَبْطُلُ حَقُّهُ ؛ كَالْعَبْدِ الْجَانِي ، أَوْ الْمَدْيُونِ إذَا مَاتَ .
وَمَالُ الزَّكَاةِ إذَا هَلَكَ ، لَا تَبْقَى الزَّكَاةُ وَاجِبَةً بَعْدَ هَلَاكِ الْمَالِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ نَقَدَ مَالَهُ فِي ذَلِكَ ، فَكَانَ ثَمَنُ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ ، وَأُجْرَةُ الدَّابَّةِ دَيْنًا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ بِمُبَاشَرَةِ سَبَبِ الِالْتِزَامِ ، فَلَا يَسْتَوْجِبُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً ؛ لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا مَتَاعَ الْمُضَارَبَةِ ، أَوْ اشْتَرَى طَعَامًا لِلْمُضَارَبَةِ ، فَضَاعَ الْمَالُ قَبْلَ أَنْ يَنْفُذَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا يَشْتَرِي لِلْمُضَارَبَةِ عَامِلٌ لِرَبِّ الْمَالِ بِأَمْرِهِ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُخَلِّصَهُ مِنْ عُهْدَةِ عَمَلِهِ ، وَذَلِكَ فِي رُجُوعِهِ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ فِي الْأُجْرَةِ فِيمَا تَعَذَّرَ إيفَاؤُهُ مِنْ الْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ .
فَأَمَّا فِيمَا يَشْتَرِي أَوْ يَسْتَأْجِرُ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ ، هُوَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ ، وَهُوَ فِيمَا هُوَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ لَا يَسْتَوْجِبُ الرُّجُوعَ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ ، وَإِنَّمَا كَانَ يَرْجِعُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّ سَعْيَهُ لِأَجْلِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي مَالٍ آخَرَ لِرَبِّ الْمَالِ ، فَلَا يَسْتَوْجِبُ الرُّجُوعَ فِي ذَلِكَ بَعْدَ هَلَاكِ مَالِ الْمُضَارَبَةِ .

وَإِذَا ادَّانَ الْمُضَارِبُ مَالَ الْمُضَارَبَةِ فِي غَيْرِ مِصْرِهِ ، وَرَبِحَ فِيهِ ، فَأَرَادَ أَنْ يَتَقَاضَاهُ وَتَكُونُ نَفَقَتُهُ مِنْهُ ، وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ : بَلْ أَتَقَاضَاهُ ، وَلَا أُرِيدُ أَنْ تَكُونَ أَنْتَ الْمُتَقَاضِي .
فَإِنَّ رَبَّ الْمَالِ يُجْبَرُ عَلَى تَرْكِ التَّقَاضِي لِلْمُضَارِبِ ، وَتَكُونُ نَفَقَتُهُ عَلَى الْمَالِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُضَارِبِ ثَابِتٌ فِي نَصِيبِهِ مِنْ الرِّبْحِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَتَقَاضَى حِصَّةً مِنْ الرِّبْحِ ، وَإِذَا أَخَذَ ذَلِكَ ، أَخَذَهُ رَبُّ الْمَالِ مِنْهُ بِحِسَابِ رَأْسِ الْمَالِ ثَانِيًا ، أَوْ ثَالِثًا ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُضَارِبَ مُتَقَاضٍ لِرَبِّ الْمَالِ ، وَأَنَّ نَفَقَتَهُ فِي الْمَالِ ، فَرَبُّ الْمَالِ فِيمَا يَسْأَلُ يَقْصِدُ إسْقَاطَ حَقِّ الْمُضَارِبِ ، وَهُوَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَضْلٌ .
فَقَالَ الْمُضَارِبُ : أَنَا أَتَقَاضَاهُ ، وَتَكُونُ نَفَقَتِي مِنْهُ حَتَّى أَقْبِضَهُ .
وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ : أَحِلْنِي بِهِ أُجْبِرَ الْمُضَارِبُ عَلَى أَنْ يُحِيلَ بِهِ رَبَّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَا حِصَّةَ لِلْمُضَارِبِ فِي الْمَالِ هُنَا وَلَا حَقَّ ، فَهُوَ بِمُطَالَبَتِهِ ، يُرِيدُ أَنْ يُلْزِمَهُ نَفَقَةَ نَفْسِهِ فِي مَالِ غَيْرِهِ ، فَلِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يَأْبَى ذَلِكَ ، وَيَتَقَاضَى بِنَفْسِهِ

وَإِذَا اشْتَرَى الْمُضَارِبُ بِمَالِ الْمُضَارَبَةِ مَتَاعًا ، وَفِيهِ فَضْلٌ أَوْ لَا فَضْلَ فِيهِ ، فَأَرَادَ الْمُضَارِبُ أَنْ يُمْسِكَهُ حَتَّى يَجِدَ بِهِ رِبْحًا كَثِيرًا ، وَأَرَادَ رَبُّ الْمَالِ أَنْ يَبِيعَهُ فَإِنْ كَانَ لَا فَضْلَ فِيهِ ، أُجْبِرَ الْمُضَارِبُ عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ ، أَوْ يُعْطِيَهُ رَبَّ الْمَالِ بِرَأْسِ مَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمُضَارِبِ فِي الْمَالِ فِي الْحَالِ ، فَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَحُولَ بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ ، وَبَيْنَ مَالِهِ بِحَقٍّ مَوْهُومٍ عَسَى يَحْصُلُ لَهُ وَعَسَى لَا يَحْصُلُ ، وَفِيهِ إضْرَارٌ بِرَبِّ الْمَالِ ، وَالضَّرَرُ مَدْفُوعٌ وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ ، وَكَانَ رَأْسُ الْمَالِ أَلْفًا ، وَالْمَتَاعُ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ ، فَالْمُضَارِبُ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ ؛ لِأَنَّ فِي تَأْخِيرِهِ حَيْلُولَةً بَيْنَ رَبِّ الْمَالِ ، وَبَيْنَ مَالِهِ ، وَهُوَ لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ حِينَ عَاقَدَهُ عَقْدَ الْمُضَارَبَةِ ، إلَّا أَنَّ لِلْمُضَارِبِ هُنَا أَنْ يُعْطِيَ رَبَّ الْمَالِ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْمَتَاعِ بِرَأْسِ مَالِهِ ، وَحِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ ، وَيُمْسِكُ رُبْعَ الْمَتَاعِ ، وَحِصَّتَهُ مِنْ الرِّبْحِ ، وَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَأْبَى ذَلِكَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ حَقٌّ ، وَالْإِنْسَانُ لَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِ مِلْكِ نَفْسِهِ لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِ شَرِيكِهِ ، وَكَمَا يَجِبُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ رَبِّ الْمَالِ ، يَجِبُ دَفْعُهُ عَنْ الْمُضَارِبِ فِي حِصَّتِهِ ، وَالطَّرِيقُ الَّذِي يَعْتَدِلُ فِيهِ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مَا ذَكَرْنَا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96