كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي

بِخِلَافِ مَا لَا مِثْلَ لَهُ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ بِالْقِيمَةِ وَذَلِكَ يَكُونُ مُفِيدًا لِمَا فِي الْعَيْنِ مِنْ الْغَرَضِ الصَّحِيحِ لِلنَّاسِ .

وَإِنْ وَجَدَ عَبْدًا كَانَ لَهُ فَأَبَقَ إلَيْهِمْ وَقَدْ وَقَعَ فِي سَهْمِ رَجُلٍ مِنْ الْجُنْدِ أَخَذَهُ مِنْهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَأْخُذُهُ بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءَ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ عَبْدًا لِمُسْلِمٍ أَبَقَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ وَقَعَ فِي الْغَنِيَّةِ فَخَاصَمَ فِيهِ الْمَالِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَقَالَ : إنْ وَجَدْتَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذْتَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَإِنْ وَجَدْتَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذْتَهُ بِالْقِيمَةِ إنْ شِئْت } وَعَنْ الْأَزْهَرِ بْنِ يَزِيدَ أَنَّ أَمَةً لِقَوْمٍ أُبْقِيَتْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ وَقَعَتْ فِي الْغَنِيمَةِ فَخَاصَمَ فِيهَا مَوْلَاهَا فَكَتَبَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَرَدَّ جَوَابَهُ إنْ وَجَدَهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهَا وَإِنْ وَجَدَهَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَقَدْ مَضَتْ الْقِسْمَةُ وَلِأَنَّ الْآبِقَ يَمْلِكُ بِسَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ فَيَمْلِكُ بِالِاسْتِيلَاءِ كَمَا لَوْ كَانَ مُتَرَدِّدًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَأَحْرَزُوهُ بِدَارِهِمْ أَوْ كَالدَّابَّةِ إذَا نَدَتْ إلَيْهِمْ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّهُ يَمْلِكُ بِالْإِرْثِ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَهُ الْوَارِثُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُورِثِ يَنْفُذُ عِتْقُهُ وَيَمْلِكُ بِالضَّمَانِ حَتَّى إذَا كَانَ مَغْصُوبًا فَضَمِنَ الْغَاصِبُ قِيمَتَهُ يَمْلِكُهُ بِالضَّمَانِ وَيَمْلِكُ بِالْهِبَةِ مِنْ ابْنِهِ الصَّغِيرِ وَبِالْبَيْعِ مِمَّنْ فِي يَدِهِ وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِهِ لِلْعَجْزِ عَنْ التَّسْلِيمِ لَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلتَّمْلِيكِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ آبِقُهُمْ إلَيْنَا فَإِنَّمَا نَمْلِكُهُ بِالِاسْتِيلَاءِ فَكَذَا آبِقُنَا إلَيْهِمْ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ تَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي أَسْبَابِ إصَابَةِ الدُّنْيَا وَعَلَّلَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْكِتَابِ وَقَالَ : لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَمْ يُحْرِزُوهُ وَيَعْنِي أَنَّهُ صَارَ فِي يَدِ نَفْسِهِ وَهِيَ يَدٌ مُحْتَرَمَةٌ فَتَكُونُ دَافِعَةً لِإِحْرَازِ

الْمُشْرِكِينَ إيَّاهُ كَيَدِ الْمُكَاتَبِ فِي نَفْسِهِ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ يَدَ الْمَوْلَى زَالَتْ عَنْهُ حَقِيقَةً بِالْإِبَاقِ وَحُكْمًا بِدُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ لِلْمُسْلِمِ يَدٌ عَلَى مَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ حُكْمًا كَمَا لَا يَثْبُتُ لِإِمَامِ الْمُسْلِمِينَ الْيَدُ عَلَى مَنْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَمْ يَخْلُفْهُ الْآخَرُ إمَّا لِأَنَّهُ حِينَ انْتَهَى إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَأْتِي فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَأَهْلُ الْحَرْبِ فَقَدْ زَالَتْ يَدُ الْمَوْلَى وَلَا تَثْبُتُ يَدُ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَوْ لِأَنَّ يَدَ أَهْلِ الْحَرْبِ إنَّمَا تَثْبُتُ عَلَيْهِ حِسًّا لَا حُكْمًا فَمَا لَمْ يَأْخُذُوهُ لَا تَثْبُتُ يَدُهُمْ عَلَيْهِ فَصَارَ فِي يَدِ نَفْسِهِ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ مِنْ أَهْلِ أَنْ تَثْبُتَ لَهُ الْيَدُ عَلَى نَفْسِهِ وَإِنْ كَانَ مَمْلُوكًا .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ إذَا تَوَكَّلَ بِشِرَاءِ نَفْسِهِ مِنْ مَوْلَاهُ لَا يَمْلِكُ الْبَائِعُ حَبْسَهُ بِالثَّمَنِ لِثُبُوتِ الْيَدِ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ ثُبُوتِ يَدِهِ عَلَى نَفْسِهِ يَدُ الْمَوْلَى فَإِذَا زَالَتْ تِلْكَ الْيَدُ لَا إلَى مَنْ يَخْلُفُهُ تَثْبُتُ الْيَدُ لَهُ فِي نَفْسِهِ لِزَوَالِ الْمَانِعِ كَمَا فِي الْمُكَاتَبِ وَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْيَدِ الْمُحْتَرَمَةِ يَبْقَى هُوَ مُحْرِزًا بِدَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَا طَرِيقَ لَهُمْ إلَى الْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذِهِ الْيَدِ .

وَمَا بَقِيَ الْمَالُ مُحْرِزًا بِدَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَتِمُّ إحْرَازُ الْمُشْرِكِينَ إيَّاهُ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ أَنَّ الْكُفَّارَ لَمْ يُحْرِزُوهُ بِخِلَافِ الْمُتَرَدِّدِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ فِي يَدِ مَوْلَاهُ حُكْمًا وَلِهَذَا لَوْ وَهَبَهُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ صَارَ قَابِضًا لَهُ فَبَقَاءُ الْمَانِعِ حُكْمًا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْيَدِ لَهُ فِي نَفْسِهِ فَيُتِمُّ إحْرَازُ الْمُشْرِكِينَ إيَّاهُ فَأَمَّا الْآبِقُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ لَا يَكُونُ فِي يَدِ مَوْلَاهُ حُكْمًا حَتَّى لَوْ وَهَبَهُ مِنْ ابْنِهِ الصَّغِيرِ لَا يَجُوزُ هَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو الْحُسَيْنِ قَاضِي الْحَرَمَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بِخِلَافِ الدَّابَّةِ إذَا نَدَتْ إلَيْهِمْ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ أَنْ تَثْبُتَ لَهَا الْيَدُ فِي نَفْسِهَا وَبِخِلَافِ آبِقُهُمْ إلَيْنَا لِأَنَّ يَدَهُ فِي نَفْسِهِ لَيْسَتْ بِمُحْتَرَمَةٍ فَيُتِمُّ إحْرَازُ الْمُسْلِمِينَ إيَّاهُ وَبِخِلَافِ التَّمَلُّكِ بِالْإِرْثِ وَالضَّمَانِ فَإِنَّهُ تَمَلُّكٌ حُكْمِيٌّ يَثْبُتُ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْمِلْكَ قَصْدًا بِسَبَبِهِ كَالْخَمْرِ وَالْقِصَاصِ يُمْلَكُ بِالْإِرْثِ وَالدَّيْنُ يُمْلَكُ بِالْإِرْثِ وَالضَّمَانِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا لِلتَّمْلِيكِ بِالْقَهْرِ وَهَذَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مَعَ بَقَاءِ الْعِصْمَةِ وَالْإِحْرَازُ قَدْ يُمْلَكُ بِالْإِرْثِ وَالضَّمَانِ وَلَا يُمْلَكُ بِالْأَخْذِ وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثَيْنِ أَنَّ الْآبِقَ لَمْ يَكُنْ وَصَلَ إلَيْهِمْ حَتَّى خَرَجُوا إلَيْهِ فَأَخَذُوهُ وَأَحْرَزُوهُ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : لَمَّا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ فَالْإِمَامُ يُعَوِّضُ لِمَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ قِيمَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ نَصِيبَهُ اسْتَحَقَّ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى شُرَكَائِهِ فِي الْغَنِيمَةِ وَقَدْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ لِتَفَرُّقِهِمْ فِي الْقَبَائِلِ فَيُعَوِّضُهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ حَقَّهُ مِنْ نَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ وَمَالُ بَيْتِ الْمَالِ مُعَدٌّ لِذَلِكَ وَلِأَنَّهُ لَوْ فَضَلَ مِنْ

الْغَنِيمَةِ شَيْءٌ يَتَعَذَّرُ قَسْمُهُ كَالْجَوْهَرِ وَنَحْوِهِ يُوضَعُ ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْمَالِ فَكَذَلِكَ إذَا لَحِقَ غُرْمٌ يَجْعَلُ ذَلِكَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ الْغُرْمَ يُقَابَلُ بِالْغُنْمِ وَهَكَذَا يُقَالُ عَلَى أَصْلِ الْكُلِّ .

إذَا كَانَ الْمَأْسُورُ مُدَبَّرًا أَوْ أُمَّ مُكَاتِبًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ لِمُسْلِمٍ فَإِنَّ الْمَالِكَ الْقَدِيمَ يَأْخُذُهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَيُعَوِّضُ الْإِمَامُ مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ قِيمَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِمَا قُلْنَا .

فَإِنْ وَجَدَ الْعَبْدُ فِي يَدِ مُسْلِمٍ اشْتَرَاهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَأَخْرَجَهُ فَإِنْ كَانَ قَدْ أَبَقَ إلَيْهِمْ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ لِبَقَائِهِ عَلَى مِلْكِهِ وَلَا يَغْرَمُ لِلْمُشْتَرِي شَيْئًا مِمَّا أَدَّى لِأَنَّهُ فَدَى مِلْكَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ بِالْفِدَاءِ فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا أَدَّى وَعِنْدَهُمَا يَأْخُذُهُ مِنْهُ بِالثَّمَنِ إنْ شَاءَ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْعَبْدُ مَأْسُورًا بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الْمُشْتَرِي دَفْعُ الظُّلْمِ عَنْهُ بِالْتِزَامِ الْخُسْرَانِ فِي مَالِ نَفْسِهِ وَلِأَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهِ هَذَا الْعَبْدُ بِعِوَضٍ وَهُوَ مَا أَدَّى مِنْ الثَّمَنِ فَيَبْقَى حَقُّهُ مَرْعِيًّا فِي ذَلِكَ الْعِوَضِ وَلِهَذَا يَأْخُذُهُ مِنْهُ بِالثَّمَنِ إنْ شَاءَ وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْحَرْبِ قَدْ وَهَبُوهُ لِرَجُلٍ أَخَذَهُ مِنْهُ مَوْلَاهُ بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءَ لِأَنَّهُ صَارَ مِلْكَ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَهُوَ مِلْكٌ مَرْعِيٌّ مُحْتَرَمٌ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ عَلَيْهِ مَجَّانًا لِدَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ الْمَأْسُورِ مِنْهُ وَلَكِنَّ فِي ذَلِكَ كَحَالِ مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ فَلِهَذَا يَأْخُذُهُ مِنْهُ بِالْقِيمَةِ .
( فَإِنْ قِيلَ ) : هَذَا الْمِلْكُ يَثْبُتُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ .
( قُلْنَا ) : لَا كَذَلِكَ فَالْعِوَضُ وَالْمُكَافَأَةُ فِي الْهِبَةِ مَقْصُودٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا وَلِهَذَا يَثْبُتُ حَقُّ الرُّجُوعِ لِلْوَاهِبِ إذَا لَمْ يَنَلْ الْعِوَضَ فَجُعِلَ ذَلِكَ الْمَعْنَى مُعْتَبَرًا فِي إثْبَاتِ حَقِّهِ فِي الْقِيمَةِ .

وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي لِلْعَبْدِ مِنْ الْعَدُوِّ بَاعَهُ مِنْ غَيْرِهِ أَخَذَهُ الْمَوْلَى مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي بِالثَّمَنِ الَّذِي اشْتَرَاهُ بِهِ إنْ كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَبِمِثْلِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبِقِيمَتِهِ وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ الثَّانِيَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ وَمِلْكُهُ مَرْعِيٌّ كَمِلْكِ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ وَلَيْسَ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ أَنْ يُبْطِلَ الْعَقْدَ الثَّانِي لِيَأْخُذَهُ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ حَقَّ الْمَوْلَى الْقَدِيمِ فِي الْعَيْنِ سَابِقٌ عَلَى حَقِّ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ وَلَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ بِتَصَرُّفِهِ فَيَكُونُ مُتَمَكِّنًا مِنْ نَقْضِ تَصَرُّفِهِ كَمَا يَتَمَكَّنُ الشَّفِيعُ مِنْ نَقْضِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي وَهَذَا لِأَنَّ لَهُ فِي نَقْضِ هَذَا التَّصَرُّفِ فَائِدَةً لِمَا بَيْنَ الثَّمَنَيْنِ مِنْ التَّفَاوُتِ ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ حَقُّ الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ نَقْضِ التَّصَرُّفِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ حَقَّ نَقْضِ الْقِسْمَةِ لِيَأْخُذَهُ مَجَّانًا وَفَائِدَتُهُ فِي ذَلِكَ أَظْهَرُ وَهَذَا بِخِلَافِ الشَّفِيعِ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمُشْتَرِي قَدْ يَكُونُ مُبْطِلًا لِحَقِّ الشَّفِيعِ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ النَّقْضِ وَرُبَّمَا يَهَبَهُ مِنْ إنْسَانٍ وَالشُّفْعَةُ تَثْبُتُ فِي الشِّرَاءِ دُونَ الْهِبَةِ فَلِإِبْقَاءِ حَقِّ الشَّفِيعِ فِي الْعَيْنِ مَكَّنَاهُ مِنْ نَقْضِ التَّصَرُّفِ فَأَمَّا هَهُنَا لَيْسَ فِي تَنْفِيذِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي إبْطَالُ حَقِّ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ فَإِنَّ حَقَّ الْآخِذِ يَبْقَى سَوَاءٌ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي أَوْ وَهَبَهُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ وَلِهَذَا تَمَكَّنَ مِنْ الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ نَقْضِ التَّصَرُّفِ ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ يَثْبُتُ قَبْلَ مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَى بِشَرْطِ الْخِيَارِ يَثْبُتُ حَقُّ الشَّفِيعِ وَتَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي بِحُكْمِ مِلْكِهِ فَيُنْتَقَضُ تَصَرُّفُهُ بِحَقِّ مَنْ سَبَقَ حَقَّهُ فِي مِلْكِهِ فَأَمَّا حَقُّ

الْمَوْلَى الْقَدِيمِ لَمْ يَثْبُتْ بَعْدَ مِلْكِ الْمُشْتَرِي .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْكُفَّارَ لَوْ أَسْلَمُوا قَبْلَ أَنْ يَبِيعُوهُ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَهُ وَلِهَذَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي فَإِنْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَمَلَّكُ عَلَيْهِ مَا لَهُ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ إلَّا بِمَا يُقِرُّ هُوَ لَهُ كَالْمُشْتَرِي مَعَ الشَّفِيعِ إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمَالِكُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ .

وَإِنْ اشْتَرَاهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَيَعْلَمُ بِهِ مَوْلَاهُ فَلَمْ يُخَاصِمْ فِيهِ زَمَانًا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالثَّمَنِ فَلَهُ ذَلِكَ وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ لَيْسَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الشَّفِيعِ إذَا لَمْ يَطْلُبْ الشُّفْعَةُ بَعْدَ عِلْمِهِ بِالْبَيْعِ ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ سُكُوتَ الشَّفِيعِ جُعِلَ مُبْطِلًا حَقَّهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ وَالْغَرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ الشَّفِيعُ مِنْ نَقْضِ تَصَرُّفِهِ فَلَوْ لَمْ يَبْطُلْ حَقُّهُ بِالسُّكُوتِ كَانَ يَتَعَذَّرُ عَلَى الْمُشْتَرِي تَنْفِيذُ التَّصَرُّفِ فِيهِ مَخَافَةَ أَنْ يُبْطِلَ الشَّفِيعُ تَصَرُّفَهُ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ هَهُنَا فَإِنَّ الْمَالِكَ الْقَدِيمَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي عَلَى مَا بَيَّنَّا فَلِهَذَا لَا يَكُونُ سُكُوتُهُ مُبْطِلًا لِحَقِّهِ فَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهُ حَتَّى أَسَرُوهُ ثَانِيًا ثُمَّ اشْتَرَاهُ رَجُلٌ آخَرَ مِنْهُمْ ثُمَّ حَضَرَ مَوْلَاهُ الْأَوَّلُ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي الثَّانِي لِأَنَّ حَقَّ الْآخِذِ إنَّمَا يَثْبُتُ لِلْمَأْسُورِ مِنْهُ فِي هَذِهِ الْمَرَّةِ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ دُونَ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ فَلِهَذَا كَانَ حَقُّ الْآخِذِ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ فَإِذَا أَخَذَهُ حِينَئِذٍ يَثْبُتُ لِلْمَالِكِ الْأَخْذُ مِنْ يَدِهِ بِالثَّمَنَيْنِ جَمِيعًا إنْ شَاءَ وَإِنْ أَبَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلُ أَنْ يَأْخُذَهُ فَلَا سَبِيلَ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ عَلَيْهِ لِأَنَّ حَقَّهُ كَانَ ثَابِتًا فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ فَإِذَا أَخَذَهُ فَقَدْ ظَهَرَ مَحَلُّ حَقِّهِ وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْهُ لَمْ يَظْهَرْ مَحَلُّ حَقِّهِ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهِ كَالْمَوْهُوبِ لَهُ إذَا وَهَبَهُ لِغَيْرِهِ فَلَا سَبِيلَ لِلْوَاهِبِ الْأَوَّلِ عَلَيْهِ بِالرُّجُوعِ إلَّا أَنْ يَرْجِعَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْأَوَّلُ فِيهِ فَحِينَئِذٍ يَثْبُتُ لِلْوَاهِبِ الْأَوَّلِ حَقُّ الرُّجُوعِ لِهَذَا الْمَعْنَى .
( فَإِنْ قِيلَ ) : إنَّمَا كَانَ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ حَقُّ الْأَخْذِ فِي الْمِلْكِ الَّذِي اسْتَفَادَهُ الْمُشْتَرِي مِنْ

الْعَدُوِّ وَهَذَا مِلْكٌ آخَرَ اسْتَفَادَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّانِي فَكَيْف يَثْبُتُ حَقُّهُ فِيهِ .
( قُلْنَا ) : لَا كَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَأْسُورَ مِنْهُ بِالْأَخْذِ يُعِيدُهُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ مَوْهُوبًا كَانَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ وَمَا يَغْرَمُ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ فِدَاءٌ وَلَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ الْمِلْكِ كَالْمَوْلَى يَفْدِي عَبْدَهُ مِنْ الْجِنَايَةِ فَيَبْقَى عَلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ لَا أَنْ يَتَمَلَّكهُ بِالْفِدَاءِ وَإِنَّمَا يَأْخُذُهُ بِالثَّمَنَيْنِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْعِوَضُ الَّذِي أَدَّى مِنْ مَالِهِ فِيهِ مَرَّتَيْنِ وَلَوْ أَدَّاهُ مَرَّةً وَاحِدَةً لَمْ يَمْلِكْ الْمَوْلَى أَخْذَهُ مَا لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ جَمِيعَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا غَرِمَهُ مَرَّتَيْنِ .

وَإِذَا أَسَرَ الْعَدُوُّ عَبْدًا وَفِي عُنُقِهِ جِنَايَةُ عَمْدٍ أَوْ خَطَأٍ أَوْ دَيْنِ إنْسَانٍ فَإِنْ رَجَعَ إلَى مَوْلَاهُ الْأَوَّلِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوَجْهَيْنِ بِحَقِّ الْمِلْكِ الْأَوَّلِ فَذَلِكَ كُلُّهُ فِي عُنُقِهِ كَمَا كَانَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ بِالْأَخْذِ أَعَادَهُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ فَالْتَحَقَ بِمَا لَمْ يَزُلْ عَنْ مِلْكِهِ أَصْلًا وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ إلَيْهِ أَوْ رَجَعَ إلَيْهِ بِمِلْكٍ مُسْتَأْنَفٍ بَطَلَتْ جِنَايَةُ الْخَطَأِ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالْجِنَايَةِ الْخَطَأِ عَلَى الْمِلْكِ الَّذِي كَانَ لَهُ فِي وَقْتِهَا وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ وَلَمْ يَعُدْ وَالْحَقُّ لَا يَبْقَى بَعْدَ فَوَاتِ مَحِلِّهِ كَمَا لَوْ زَالَ الْعَبْدُ الْجَانِي عَنْ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ أَوْ بِالْعِتْقِ وَأَمَّا جِنَايَةُ الْعَمْدِ وَالدَّيْنِ فَهُمَا عَلَيْهِ كَمَا كَانَ يُؤْخَذُ بِهِمَا لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِجِنَايَةِ الْعَمْدِ ذِمَّتُهُ وَذَلِكَ بَاقٍ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِ الْمَوْلَى .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ زَالَ مِلْكُهُ بِالْبَيْعِ أَوْ الْهِبَةِ لَا يَبْطُلُ الْقِصَاصُ عَنْهُ وَكَذَلِكَ الدَّيْنُ الْمُسْتَحَقُّ فِي ذِمَّتِهِ وَذِمَّتُهُ بَاقِيَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّ بِالْبَيْعِ وَالْعِتْقِ لَا يَبْطُلُ الدَّيْنُ عَنْهُ وَالدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ يَكُونُ شَاغِلًا لِمَالِيَّتِهِ إذَا كَانَ ظَاهِرًا فِي حَقِّ مَوْلَاهُ فَلِهَذَا أُخِذَ بِهِ وَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي تَلْحَقُهُ الْجِنَايَةُ وَالدَّيْنُ يَبْدَأُ بِالدَّفْعِ بِالْجِنَايَةِ ثُمَّ بِالْبَيْعِ ثُمَّ بِالدَّيْنِ لِأَنَّهُ لَوْ بَدَأَ بِالْبَيْعِ بَطَلَ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ وَلَوْ دَفَعَ بِالْجِنَايَةِ أَوَّلًا لَمْ يَبْطُلْ حَقُّ صَاحِبِ الدَّيْنِ فَلِهَذَا كَانَتْ الْبِدَايَةُ بِالدَّفْعِ بِالْجِنَايَةِ .

فَإِنْ وَقَعَ الْمَأْسُورُ فِي سَهْمِ رَجُلٍ فَلَمْ يَحْضُرْ مَوْلَاهُ حَتَّى أَعْتَقَهُ هَذَا الرَّجُلُ أَوْ دَبَّرَهُ جَازَ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ بِحُكْمِ مِلْكِهِ وَمِلْكُهُ تَامٌّ مَعَ قِيَامِ حَقِّ الْمَأْسُورِ مِنْهُ فَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ ثُمَّ لَا يَكُونُ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ سَبِيلٌ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لِلنَّقْلِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ لِمَا ثَبَتَ فِيهِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ أَوْ حَقِّهَا وَلِأَنَّ الْوَلَاءَ عَلَيْهِ قَدْ لَزِمَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلَ عَلَى وَجْهٍ لَا سَبِيلَ إلَى إبْطَالِهِ وَحَقُّ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ بِعَرْضِ الْإِبْطَالِ وَهُوَ نَظِيرُ الْمَوْهُوبِ لَهُ إذَا أُعْتِقَ أَوْ دُبِّرَ يَبْطُلُ حَقُّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ لِمَا قُلْنَا .

وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَزَوَّجَهَا فَوَلَدَتْ مِنْ الزَّوْجِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا وَوَلَدُهَا لِأَنَّهَا بِالْوِلَادَةِ مِنْ الزَّوْجِ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ أَنْ تَكُونَ قَابِلَةً لِلنَّقْلِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ وَالْوَلَدُ جُزْءٌ مِنْ عَيْنِهَا فَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ فِيهِ كَمَا فِي سَائِرِ أَجْزَائِهَا بِخِلَافِ حَقِّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي الْوَلَدِ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ ضَعِيفُ الْعَيْنِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَبْقَى بَعْدَ تَصَرُّفِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَالْحَقُّ الضَّعِيفُ لَا يُعَدُّ وَمَحَلُّهُ وَالْوَلَدُ وَإِنْ كَانَ جُزْءًا مِنْ - الْعَيْنِ فَفِي الْمَالِ هُوَ مَحَلٌّ آخَرَ فَأَمَّا حَقُّ الْمَوْلَى هَهُنَا قَوِيٌّ يَتَأَكَّدُ فِي الْعَيْنِ حَتَّى لَا يَبْطُلُ بِتَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي فَلِهَذَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ الَّذِي هُوَ جُزْءٌ مِنْ الْعَيْنِ وَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ النِّكَاحَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُضَ تَصَرُّفَ الْمُشْتَرِي وَالنِّكَاحُ أَلْزَمُ مِنْ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِهِ وَإِنْ كَانَ أَخَذَ عَقْرَهَا أَوْ أَرْشَ جِنَايَةٍ جَنَى عَلَيْهَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى عَلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْعَيْنِ وَالْأَرْشِ وَالْعَقْرِ غَيْرُ مُتَوَلِّدٍ مِنْ الْعَيْنِ وَلَمْ يُوجَدْ فِيهِ السَّبَبُ وَهُوَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَالِ وَلِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَ الْعَقْرَ وَالْأَرْشَ أَخَذَهُمَا بِمِثْلِهِمَا فَلَا يَكُونُ مُفِيدًا شَيْئًا ثُمَّ لَا يُنْتَقَصُ عَنْ الْمَوْلَى الْقَدِيمِ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ بِسَبَبِ احْتِبَاسِ الْعَقْرِ وَالْأَرْشِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي .
أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ تَعَيَّبَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ يَسِيرٍ أَوْ فَاحِشٍ لَمْ يُنْتَقَصْ عَنْ الْمَوْلَى شَيْءٌ وَهَذَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَا يُعْطَى فِدَاءً وَلَيْسَ بِبَدَلٍ فِي حَقِّهِ وَالْفِدَاءُ لَا يُقَابَلُ بِشَيْءٍ مِنْ أَوْصَافٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ زَوَّجَهَا الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ قِصَّتَهَا لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةً مِلْكًا صَحِيحًا وَقِيَامُ حَقِّ

الْمَوْلَى فِي الْأَخْذِ لَا يُنَافِي مِلْكَهُ كَالْجَارِيَةِ الْمَوْهُوبَةِ يَحِلُّ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ وَطْؤُهَا وَإِنْ كَانَ لِلْوَاهِبِ فِيهَا حَقُّ الرُّجُوعِ .

( قَالَ ) فَإِنْ كَانَ الْمَأْسُورُ مِنْهُ يَتِيمًا كَانَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ مُشْتَرِيهِ بِالثَّمَنِ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الصَّبِيِّ فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِهِ نَظَرًا لَهُ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَخْذُهُ لِنَفْسِهِ لِأَنَّ الْأَسْرَ لَمْ يَقَعْ عَلَى مِلْكِهِ وَهُوَ السَّبَبُ الْمُثْبِتُ لِحَقِّ الْأَخْذِ لَهُ .

فَإِذَا كَانَتْ الْجَارِيَةُ رَهْنًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَهِيَ قِيمَتُهَا فَأَسَرَهَا الْعَدُوُّ ثُمَّ اشْتَرَاهَا مِنْهُمْ رَجُلٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ كَانَ مَوْلَاهَا أَحَقَّ بِهَا بِالثَّمَنِ لِأَنَّهَا أُسِرَتْ عَلَى مِلْكِهِ وَحَقُّ الْأَخْذِ بِالثَّمَنِ لِلْمَأْسُورِ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ الْقَدِيمِ وَذَلِكَ لِلرَّاهِنِ دُونَ الْمُرْتَهِنِ فَإِنْ أَخَذَهَا لَمْ تَكُنْ رَهْنًا لِأَنَّهَا فِي حَقِّ الْمُرْتَهِنِ تَاوِيَةً وَلِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لِلْمُرْتَهِنِ فِي أَخْذِهَا لِأَنَّ الرَّاهِنَ لَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا فِيمَا أُعْطِي مِنْ الْأَلْفِ فَإِنَّهُ مَا كَانَ يَتَوَصَّلُ إلَى إحْيَاءِ مِلْكِهِ إلَّا بِأَدَاءِ الْأَلْفِ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْمُرْتَهِنُ مِنْ أَخْذِهَا إلَّا بِرَدِّ الْأَلْفِ عَلَى الرَّاهِنِ وَإِنَّمَا يَأْخُذُهَا لِيَسْتَوْفِيَ أَلْفًا مِنْ مَالِيَّتِهَا فَلَا يُفِيدُهُ إعْطَاءُ الْأَلْفِ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْهُ أَلْفًا وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ جَنَتْ جِنَايَةً يَبْلُغُ أَرْشَهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَبَى الْمُرْتَهِنُ أَنْ يَفْدِيَهَا فَفَدَاهَا الرَّاهِنُ وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ أَقَلَّ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يُؤَدِّيَ ذَلِكَ الثَّمَنِ الَّذِي أَدَّاهُ الْمَوْلَى فَيَكُونَ رَهْنًا عِنْدَهُ عَلَى حَالِهِ إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا لِأَنَّ أَخْذَهُ إيَّاهَا مُفِيدٌ لَهُ فَإِنَّهُ يَغْرَمُ الْخَمْسَمِائَةِ لِيُحْيِيَ بِهِ حَقَّهُ فِي الْأَلْفِ وَهُوَ نَظِيرُ الْجِنَايَةِ إذَا كَانَ أَرْشُهَا أَقَلَّ مِنْ الْأَلْف فَفَدَاهَا الرَّاهِنُ كَانَ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الْفِدَاءَ وَتَكُونُ رَهْنًا عِنْدَهُ عَلَى حَالِهَا وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا فَكَانَتْ تَاوِيَةً فِي حَقِّهِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الثَّمَنَ الَّذِي يُعْطِيهِ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ لِلْمُشْتَرِي فِدَاءً وَلَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ الْمِلْكِ بِمَنْزِلَةِ الْفِدَاءِ مِنْ الْجِنَايَةِ .

وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِهِ وَدِيعَةٌ أَوْ عَارِيَّةٌ أَوْ إجَارَةُ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَى أَخْذِهَا سَبِيلٌ وَكَانَ الْحَقُّ فِي أَخْذِهَا لِمَوْلَاهَا لِأَنَّ ثُبُوتَ الْأَخْذِ بِاعْتِبَارِ قَدِيمِ الْمِلْكِ وَذَلِكَ لِلْمَوْلَى دُونَ ذِي الْيَدِ وَهَذَا بِخِلَافِ الِاسْتِرْدَادِ مِنْ الْغَاصِبِ فَالْغَصْبُ لَا يُزِيلُ مِلْكَ الْمَوْلَى وَالْمُودِعَ وَالْمُسْتَعِيرُ قَائِمٌ مَقَامَهُ فِي حِفْظِ مِلْكِهِ فَيُمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ لِيَتَوَصَّلَ إلَى الْحِفْظِ فَأَمَّا الْإِحْرَازُ يُزِيلُ مِلْكَ الْمَوْلَى فَيَخْرُجُ بِهِ الْمُسْتَعِيرُ وَالْمُسْتَوْدِعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَامِلًا لَهُ وَلَوْ أَثْبَتْنَا لَهُ حَقَّ الْأَخْذِ بِالثَّمَنِ كَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فِي التَّمَلُّكِ ابْتِدَاءً فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا حَقُّ الْأَخْذِ بِالثَّمَنِ وَبِهِ فَارَقَ الْفِدَاءَ مِنْ الْجِنَايَةِ فَإِنَّ الْمُودِعَ وَالْمُسْتَعِيرَ لَوْ فَدَاهَا مِنْ الْجِنَايَةِ صَحَّ وَكَانَ مُتَبَرِّعًا فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الْجِنَايَةَ لَا تُزِيلُ مِلْكَ الْمَوْلَى وَنَظِيرُهَا بِالْفِدَاءِ يُقَرِّرُ حِفْظَ الْمِلْكِ عَلَيْهِ وَأَمَّا الْإِحْرَازُ يُزِيلُ مِلْكَ الْمَوْلَى فَإِنْ أُخِذَ بِالثَّمَنِ يَكُونُ إعَادَةً لِلْمِلْكِ لَا أَنْ يَكُونَ حِفْظًا لِلْمَلَكِ وَهُوَ مَا أَقَامَهُمَا فِي ذَلِكَ مَقَامَ نَفْسِهِ .

فَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ قَبْلَ أَنْ تُؤْسَرَ فَالنِّكَاحُ بِحَالِهِ لِأَنَّهُ لَمْ تَتَبَايَنْ بِهِمَا الدَّارُ حُكْمًا فَإِنَّهَا مُسْلِمَةٌ وَإِنْ كَانَتْ مَأْسُورَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ فَالْمُسْلِمُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ حُكْمًا وَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ صُورَةً وَتَبَايُنُ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً لَا حُكْمًا لَا يَقْطَعُ عِصْمَةَ النِّكَاحِ وَبِالْإِحْرَازِ تَصِيرُ مَمْلُوكَةً لِأَهْلِ الْحَرْبِ فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي حُكْمِ النِّكَاحِ كَبَيْعِ الْمَوْلَى إيَّاهَا وَذَلِكَ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلنِّكَاحِ .

فَإِنْ غَلَبَ الْعَدُوُّ عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِينَ فَأَحْرَزُوهُ وَهُنَاكَ مُسْلِمٌ تَاجِرٌ مُسْتَأْمَنٌ حَلَّ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ مِنْهُمْ فَيَأْكُلُ الطَّعَامَ مِنْ ذَلِكَ وَيَطَأُ الْجَارِيَةَ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا بِالْإِحْرَازِ فَالْتَحَقَتْ بِسَائِرِ أَمْلَاكِهِمْ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ دَخَلَ إلَيْهِمْ تَاجِرٌ بِأَمَانٍ فَسَرَقَ مِنْهُمْ جَارِيَةً وَأَخْرَجَهَا لَمْ يَحِلَّ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ لِأَنَّهُ أَحْرَزَهَا عَلَى سَبِيلِ الْغَدْرِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِرَدِّهَا عَلَيْهِمْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ وَإِنْ كَانَ لَا يُجْبِرُهُ الْإِمَامُ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ غَدْرٌ بِأَمَانِ نَفْسِهِ لَا بِأَمَانِ الْإِمَامِ فَأَمَّا هَهُنَا هَذَا الْمِلْكُ تَامٌّ لِلَّذِي أَحْرَزَهَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ أَوْ صَارَ ذِمِّيًّا كَانَتْ سَالِمَةً لَهُ وَلَا يُفْتِي بِرَدِّهَا فَلِهَذَا حَلَّ لِلْمُشْتَرِي مِنْهُ وَطْؤُهَا وَهَذَا لِلْفِقْهِ الَّذِي قُلْنَا أَنَّ الْعِصْمَةَ الثَّابِتَةَ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ تَنْعَدِمُ عِنْدَ تَمَامِ إحْرَازِ الْمُشْرِكِينَ إيَّاهَا وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ مُدَبَّرَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ مُكَاتَبَةً فَإِنَّهَا لَمْ تَصِرْ مَمْلُوكَةً بِالْإِحْرَازِ فَلَا يَحِلُّ لِلتَّاجِرِ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُمْ وَلَا أَنْ يَطَأَهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ أَسْلَمُوا أَوْ صَارُوا ذِمَّةً وَجَبَ عَلَيْهِمْ رَدُّهَا عَلَى الْمَالِكِ الْقَدِيمِ فَتَكُونُ عَلَى مِلْكِهِ كَمَا كَانَتْ ،

وَإِنْ اشْتَرَى التَّاجِرُ مُكَاتَبًا أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ حُرًّا أَسَرَهُ أَهْلُ الْحَرْبِ فَأَخْرَجَهُ فَالْحُرُّ عَلَى حَالِهِ وَالْمُكَاتَبُ وَالْمُدَبَّرُ كَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا لَا يُمْلَكَانِ بِشَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي فَدَاهُمَا بِغَيْرِ أَمْرِهِمَا فَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بِمَا فَدَاهُمَا بِهِ وَإِنْ كَانَ بِأَمْرِهِمَا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِمَا بِمَا فَدَاهُمَا بِهِ لِأَنَّهُ أَدَّى مَالَ نَفْسِهِ فِي تَخْلِيصِهِمَا وَتَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِمَا بِأَمْرِهِمَا وَهَذَا فِي الْحُرِّ غَيْرُ مُشْكِلٍ وَكَذَلِكَ فِي الْمُكَاتَبِ فَإِنَّ مُوجِبَ جِنَايَةَ الْمُكَاتَبِ عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فِي مِلْكِ الْيَدِ وَالْمَكَاتِبِ

وَإِنْ كَانَ الْمَأْسُورُ عَبْدًا لِمُسْلِمٍ فَبَاعَهُ مِلْكَهُ مِنْ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَأَعْتَقَهُ فَهُوَ حُرٌّ كَمَا لَوْ بَاعَهُ مِنْ مُسْلِمٍ فَأَعْتَقَهُ وَقِيلَ عَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَنْبَغِي أَنْ يُعْتِقَ بِنَفْسِ الْبَيْعِ لَا بِإِعْتَاقِهِ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ عَبْدَ الْحَرْبِيِّ إذَا أَسْلَمَ فَبَاعَهُ مَوْلَاهُ يُعْتِقُ فَهَذَا أَيْضًا عَبْدٌ مُسْلِمٌ لِحَرْبِيٍّ فَإِذَا زَالَ مِلْكُهُ وَيَدُهُ بِبَيْعِهِ يَزُولُ إلَى الْعِتْقِ وَعِنْدَهُمَا بِالْبَيْعِ لَا يُعْتِقُ وَإِنَّمَا يُعْتِقُ بِالْإِعْتَاقِ أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَالْإِعْتَاقُ مِنْ الْحَرْبِيِّ صَحِيحٌ وَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ إذَا كَانَ مِنْ حُكْمِ مِلْكِهِمْ مُنِعَ الْمُعْتِقُ مِنْ اسْتِرْقَاقِ الْمُعْتِقِ مَعَ أَنَّ الْعَبْدَ هَهُنَا مُسْلِمٌ فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلِاسْتِرْقَاقِ بَعْدَ الْإِعْتَاقِ فَلِهَذَا يُعْتَقُ بِإِعْتَاقِهِ وَقِيلَ بَلْ هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ إنَّمَا يَقُولُ يُعْتِقُ بِالْبَيْعِ فِي عَبْدٍ لَيْسَ لِمُسْلِمٍ فِيهِ حَقٌّ وَفِي هَذَا الْعَبْدِ لِلْمَوْلَى الْقَدِيمِ حَقُّ الْإِعَادَةِ إلَى مِلْكِهِ مَجَّانًا أَوْ بِفِدَاءٍ فَلَا يُعْتَقُ بِالْبَيْعِ مَا لَمْ يُعْتِقْهُ مَالِكُهُ .

وَإِذَا أَسْلَمَ أَهْلُ الْحَرْبِ عَلَى مَالِ أَخَذُوهُ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَصَارُوا ذِمَّةً فَهُوَ لَهُمْ وَلَا سَبِيلَ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَكُونَ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ حَقُّ الْأَخْذِ بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِهِ بِتَمَامِ الْإِحْرَازِ وَبِهِ كَانَ يَقُولُ الزُّهْرِيُّ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَإِنَّمَا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالسُّنَّةِ فِي الَّذِي وَقَعَ فِي الْغَنِيمَةِ أَوْ اشْتَرَاهُ مِنْهُمْ مُسْلِمٌ وَالسُّنَّةُ هَهُنَا جَاءَتْ بِتَقَرُّرِ الْمِلْكِ لِلَّذِي أَسْلَمَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ } وَالْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ ثَبَتَ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ حَقُّ الْأَخْذِ هُنَاكَ وُجُوبُ نُصْرَتِهِ وَالْقِيَامُ بِدَفْعِ الظُّلْمِ عَنْهُ عَلَى الْمُسْلِمِ الَّذِي وَقَعَ فِي سَهْمِهِ كَمَا بَيَّنَّا وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ هَهُنَا فَإِنَّهُ مَا كَانَ عَلَى هَذَا الْحَرْبِيِّ الْقِيَامُ بِنُصْرَتِهِ حِينَ أَحْرَزُوهُ لِأَنَّ ذَلِكَ ثَابِتٌ شَرْعًا وَهُمْ لَا يُخَاطَبُونَ بِذَلِكَ وَلِأَنَّ الْقِيَامَ بِالنُّصْرَةِ عَلَى مَنْ هُوَ أَهْلُ دَارِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ مَا كَانَ يَوْمئِذٍ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَمْ يَثْبُتُ حَقُّهُ فِي مِلْكِهِ وَإِذَا أَسْلَمَ أَوْ صَارَ ذِمَّةً فَقَدْ تَقَرَّرَ مِلْكُهُ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ ذَلِكَ الْحَرْبِيُّ بَاعَهُ مِنْ حَرْبِيٍّ آخَرَ ثُمَّ أَسْلَمَ الْمُشْتَرِي أَوْ صَارَ ذِمَّةً فَالْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ فِي الْمَعْنَى الَّذِي قَرَّرْنَا وَكَذَلِكَ لَوْ خَرَجَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ وَمَعَهُ ذَلِكَ الْمَالُ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُ فِيهِ وَهَذَا أَظْهَرُ لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ وَإِنْ كَانَ مُسْتَأْمَنًا فِي دَارِنَا وَلَمْ يَكُنْ حَقُّ الْمَوْلَى ثَابِتًا فِي مِلْكِهِ فَلَوْ مَكَّنَاهُ مِنْ الْأَخْذِ مِنْهُ كَانَ غَدْرًا بِالْأَمَانِ وَذَلِكَ حَرَامٌ إلَّا أَنَّهُ يُجْبَرُ الْمُسْتَأْمَنُ عَلَى بَيْعِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مُسْلِمٌ فَلَا يُمَكَّنُ الْحَرْبِيُّ مِنْ اسْتِذْلَالِهِ بِاسْتِدَامَةِ الْمِلْكِ وَإِعَادَتِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ .

وَإِذَا سُبِيَ الصَّبِيُّ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ وَأُخْرِجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَمَاتَ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَبَوَاهُ كَافِرَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا فَإِنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الْوَلَدَ تَابِعٌ لِلْأَبَوَيْنِ فِي الدِّينِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ وَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهُ لِسَانُهُ إمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } وَلَا تَظْهَرُ تَبَعِيَّةُ الدَّارِ عِنْدَ تَبَعِيَّةِ الْأَبَوَيْنِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ أَوْلَادَ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَكُونُونَ عَلَى دِينِ آبَائِهِمْ وَهَذَا لِأَنَّ الْوَلَدَ مِنْ الْأَبَوَيْنِ وَلَكِنَّهُ فِي الدَّارِ لَا مِنْ الدَّارِ فَكَانَ اتِّبَاعُهُ لِلْأَبَوَيْنِ أَصْلًا وَالدَّارُ فِي حُكْمِ الْخَلْفِ فَلَا يَظْهَرُ الْخَلْفُ مَعَ قِيَامِ الْأَصْلِ وَكَذَلِكَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِمَنْزِلَتِهِمَا .
أَلَا تَرَى أَنَّ الذِّمِّيَّةَ إذَا وَلَدَتْ مِنْ زِنًا فَإِنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُهَا فِي الدِّينِ وَلَا أَبَا هُنَا فَعَرَفْنَا أَنَّ أَحَدَ الْأَبَوَيْنِ يَكْفِي فِي الِاتِّبَاعِ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَبَوَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا فَهُوَ دِينُهُ فَإِذَا مَاتَ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً لَمْ يَحِلَّ لِلسَّابِي وَطْؤُهَا إذَا لَمْ يَكُنْ أَبَوَاهَا أَوْ أَحَدُهُمَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنْ أَسْلَمَ أَبَوَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا فَقَدْ صَارَ الصَّبِيُّ مُسْلِمًا تَبَعًا لِمَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمَا فَإِنَّهُ يَتْبَعُ خَيْرَ الْأَبَوَيْنِ دِينًا لِأَنَّهُ يَقْرَبُ مِنْ التَّابِعِ فَإِذَا مَاتَ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَإِنْ خَرَجَ وَلَيْسَ مَعَهُ أَبَوَاهُ أَوْ أَحَدٌ مِنْ الْأَبَوَيْنِ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَعْقِلَ الْإِسْلَامَ صَلَّى عَلَيْهِ لِأَنَّ التَّبَعِيَّةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَبَوَيْنِ انْقَطَعَتْ بِتَبَايُنِ الدَّارِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَيَظْهَرُ تَبَعِيَّةُ الدَّارِ وَيَصِيرُ مَحْكُومًا بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِلدَّارِ كَاللَّقِيطِ فَإِذَا مَاتَ يُصَلَّى عَلَيْهِ وَإِنْ خَرَجَ الْأَبُ مِنْ نَاحِيَةٍ وَالِابْنُ

مِنْ نَاحِيَةٍ مَعًا فَمَاتَ الصَّبِيُّ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مَا حَصَلَ فِي دَارِنَا إلَّا وَلَهُ أَبٌ كَافِرٌ فَيَكُونُ تَبَعًا لَهُ دُونَ الدَّارِ وَكَذَلِكَ إنْ خَرَجَ الْأَبُ أَوَّلًا ثُمَّ الصَّبِيُّ بِخِلَافِ مَا لَوْ خَرَجَ الصَّبِيُّ أَوَّلًا ثُمَّ الْأَبُ فَإِنَّهُ حِينَ خَرَجَ أَوَّلًا حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِلدَّارِ فَلَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ خَرَجَ أَبَوَاهُ .
( فَإِنْ قِيلَ ) : إذَا خَرَجَ مَعَهُ أَحَدُ أَبَوَيْهِ فَاعْتِبَارُ جَانِبِ الْأَبِ يُوجِبُ كُفْرَهُ وَاعْتِبَارُ جَانِبِ الدَّارِ يُوجِبُ إسْلَامَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُرَجَّحَ الْمُوجِبُ لِإِسْلَامِهِ كَمَا لَوْ أَسْلَمَتْ أُمُّهُ قُلْنَا : الِاشْتِغَالُ بِالتَّرْجِيحِ عِنْدَ الْمُسَاوَاةِ وَذَلِكَ فِي حَقِّ الْأَبَوَيْنِ فَأَمَّا الدَّارُ خَلَفٌ عَنْ الْأَبَوَيْنِ فِي حَقِّهِ كَمَا بَيَّنَّا وَلَا يَظْهَرُ الْخُلْفُ فِي حَالِ بَقَاءِ الْأَصْلِ فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِالتَّرْجِيحِ وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ أَبُوهُ كَافِرًا فِي دَارِنَا لِأَنَّ بِمَوْتِهِ لَا يَنْقَطِعُ حُكْمُ التَّبَعِيَّةِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ أَوْلَادَ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِمْ وَإِنْ مَاتَتْ آبَاؤُهُمْ وَفِي هَذَا نَوْعُ إشْكَالٍ فَإِنَّ مَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْمَيِّتِ ثُمَّ جَعَلْنَا الْوَلَدَ تَبَعًا لِلدَّارِ إذَا بَقِيَ أَبَوَاهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَا نَجْمُلُهُ تَبَعًا لِلدَّارِ إذَا مَاتَ أَبَوَاهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَكِنْ نَقُولُ : الْمَوْتُ لَا يَقْطَعُ الْعِصْمَةَ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا يَبْقَى حِلُّ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَهُ فِي حَقِّ الْغُسْلِ وَتَبَايُنُ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا يُنَافِي الْعِصْمَةَ وَالتَّبَعِيَّةَ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَفْتَرِقَانِ .

وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ السَّبْيِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ مَا لَمْ يُسْلِمُوا لِأَنَّهُمْ صَارُوا مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَلَكِنَّهُمْ كُفَّارٌ فَلَا بَأْسَ بِبَيْعِهِمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ لَا يَفْعَلَ الْإِمَامُ ذَلِكَ وَلَكِنْ يَبِيعَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِيُسْلِمُوا عَسَى وَيُكْرَهُ بَيْعُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لِأَنَّهُمْ صَارُوا مِنْ أَهْلِ دَارِنَا فَلَا يُبَاعُونَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لِيُعِيدُوهُمْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَيَتَقَوَّوْا بِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَمَنْ صَارَ مَحْكُومًا بِإِسْلَامِهِ مِنْ صِغَارِهِمْ يُكْرَهُ بَيْعُهُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْعَبِيدِ الْمُسْلِمِينَ .

وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَ الرِّجَالَ مِنْ الْأَسَارَى وَلَهُ أَنْ يَسْتَبْقِيَهُمْ وَيُقَسِّمَهُمْ بَيْنَ الْجُنْدِ يَنْظُرُ أَيُّ ذَلِكَ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ فَعَلَهُ { لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَ سَبْيَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَقَسَّمَ سَبَايَا أَوْطَاسٍ } فَعَرَفْنَا أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَالْإِمَامُ نَصَّبَ نَاظِرًا فَرُبَّمَا يَكُونُ النَّظَرُ فِي قَتْلِهِمْ لِمَعْنَى الْكَبْتِ وَالْغَيْظِ لِلْعَدُوِّ وَلِيَأْمَنَ الْمُسْلِمُونَ فِتْنَتَهُمْ وَرُبَّمَا يَكُونُ النَّظَرُ فِي قِسْمَتِهِمْ لِيَنْتَفِعَ بِهِمْ الْمُسْلِمُونَ فَيَخْتَارُ مِنْ ذَلِكَ مَا هُوَ الْأَنْفَعُ وَلِهَذَا لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ قَتْلُهُمْ بِدُونِ رَأْي الْإِمَامِ لِأَنَّ فِيهِ افْتِيَاتًا عَلَى رَأْيِهِ إلَّا أَنْ يَخَافَ الْآسِرُ فِتْنَةً فَحِينَئِذٍ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ إلَى الْإِمَامِ وَلَيْسَ لِغَيْرِ مَنْ أَسَرَهُ ذَلِكَ لِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : لَا يَتَعَاطَى أَحَدُكُمْ أَسِيرَ صَاحِبِهِ فَيَقْتُلُهُ } وَإِنْ كَانَ لَوْ قَتَلَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ لِأَنَّ الْأَسِيرَ مَا لَمْ يُقَسِّمُ الْإِمَامُ مُبَاحُ الدَّمِ بِدَلِيلِ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ وَقَتْلُ مُبَاحِ الدَّمِ لَا يُوجِبُ ضَمَانَهُ فَإِنْ أَسْلَمُوا لَمْ يَقْتُلْهُمْ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : فَإِذَا قَالُوهَا فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } وَلِأَنَّ الْقَتْلَ لِدَفْعِ فِتْنَةِ الْكُفْرِ وَقَدْ انْدَفَعَتْ بِالْإِسْلَامِ وَلَكِنَّهُ يُقَسِّمُهُمْ لِأَنَّهُ كَانَ مُخَيَّرًا فِيهِمْ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْقِسْمَةِ فَإِذَا تَعَذَّرَ أَحَدُهُمَا تَعَيَّنَ الْآخَرُ وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ ثَبَتَ فِيهِمْ بِالْأَخْذِ وَصَارُوا بِمَنْزِلَةِ الْأَرِقَّاءِ وَالْإِسْلَامُ لَا يُنَافِي بَقَاءَ الرِّقِّ وَالْقِسْمَةُ لِتَعْيِينِ الْمِلْكِ لَا أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الِاسْتِرْقَاقِ فَإِسْلَامُهُمْ لَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يُسْلِمُوا وَلَكِنَّهُمْ ادَّعَوْا أَمَانًا فَقَالَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ : قَدْ

كُنَّا أَمِنَّاهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يُصَدَّقُونَ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ حَقَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ ثَبَتَ فِيهِمْ فَلَا يُصَدَّقُونَ فِي إبْطَالِ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ وَقَوْلُهُمْ هَذَا إقْرَارٌ لَا شَهَادَةَ فَإِنَّهُمْ أُخْبِرُوا بِهِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَمَنْ أُخْبِرَ بِمَا لَا يَمْلِكُ اسْتِئْنَافَهُ كَانَ مُتَّهَمًا فِي خَبَرِهِ فَلَا يُصَدَّقُ وَإِنْ شَهِدَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عُدُولٌ عَلَى طَائِفَةٍ أُخْرَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ أَسَرُوهُمْ وَهُمْ مُمْتَنِعُونَ جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي شَهَادَتِهِمْ فَإِنَّهُمْ إنْ كَانُوا مِنْ الْجُنْدِ فَفِي شَهَادَتِهِمْ ضَرَرٌ عَلَيْهِمْ وَإِنْ كَانُوا مِنْ غَيْرِ الْجُنْدِ فَلَيْسَ فِي شَهَادَتِهِمْ مَنْفَعَةٌ لَهُمْ وَإِذَا انْتَفَتْ التُّهْمَةُ فَالثَّابِتُ بِالشَّهَادَةِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً .

وَلَا يُقْتَلُ الْأَعْمَى وَلَا الْمُقْعَدُ وَالْمَعْتُوهُ مِنْ الْأَسَارَى لِأَنَّهُ إنَّمَا يُقْتَلُ مَنْ يُقَاتِلُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَقَاتِلُوهُمْ } وَالْمُفَاعَلَةُ تَكُونُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَلَمَّا { رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةً مَقْتُولَةً قَالَ : هاه مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ } فَعَرَفْنَا أَنَّهُ إنَّمَا يُقْتَلُ مِنْ الْأَسَارَى مَنْ يُقَاتِلُ وَالْأَعْمَى وَالْمُقْعَدُ وَالْمَعْتُوهُ لَا يُقَاتِلُونَ أَحَدًا وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ عَارِضًا فَقَدْ انْدَفَعَ بِالْأَسْرِ فَلَا يُقْتَلُونَ بَعْدَ ذَلِكَ كَالْمَرْأَةِ مِنْهُمْ إذَا قَاتَلَتْ فَأُسِرَتْ لَا تُقْتَلُ بَعْدَ ذَلِكَ .

وَلَا بَأْسَ بِإِرْسَالِهِ الْمَاءَ إلَى مَدِينَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَإِحْرَاقِهِمْ بِالنَّارِ وَرَمْيِهِمْ بِالْمَنْجَنِيقِ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ أَطْفَالٌ أَوْ نَاسٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَسْرَى أَوْ تُجَّارٌ وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : إذَا عَلِمَ أَنَّ فِيهِمْ مُسْلِمًا وَأَنَّهُ يَتْلَفُ بِهَذَا الصُّنْعِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى قَتْلِ الْمُسْلِمِ حَرَامٌ وَتَرْكَ قَتْلِ الْكَافِرِ جَائِزٌ .
أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ لَا يَقْتُلَ الْأَسَارَى لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ مُرَاعَاةَ جَانِبِ الْمُسْلِمِ أَوْلَى مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ : أُمِرْنَا بِقِتَالِهِمْ فَلَوْ اعْتَبِرْنَا هَذَا الْمَعْنَى أَدَّى إلَى سَدِّ بَابِ الْقِتَالِ مَعَهُمْ فَإِنَّ حُصُونَهُمْ وَمَدَائِنَهُمْ قَلَّ مَا تَخْلُو مِنْ مُسْلِمٍ عَادَةً وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ نِسَاؤُهُمْ وَصِبْيَانُهُمْ وَكَمَا لَا يَحِلُّ قَتْلُ الْمُسْلِمِ لَا يَحِلُّ قَتْلُ نِسَائِهِمْ وَصِبْيَانِهِمْ ثُمَّ لَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ لِمَكَانِ نِسَائِهِمْ وَصِبْيَانِهِمْ فَكَذَلِكَ لِمَكَانِ الْمُسْلِمِ فَلَا يَسْتَقِيمُ مَنْعُ هَذَا وَقَدْ رَوَيْنَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى الطَّائِفِ وَأَمَرَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأَنْ يُحَرِّقَ وَحَرَّقَ حِصْنَ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ } وَكَذَلِكَ إنْ تَتَرَّسُوا بِأَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا بَأْسَ بِالرَّمْيِ إلَيْهِمْ وَإِنْ كَانَ الرَّامِي يَعْلَمُ أَنَّهُ يُصِيبُ الْمُسْلِمَ وَعَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ فَرْضٌ وَتَرْكُ الرَّمْيِ إلَيْهِمْ جَائِزٌ وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْقِتَالُ مَعَهُمْ فَرْضٌ وَإِذَا تَرَكْنَا ذَلِكَ لِمَا فَعَلُوا أَدَّى إلَى سَدِّ بَابِ الْقِتَالِ مَعَهُمْ وَلِأَنَّهُ يَتَضَرَّرُ الْمُسْلِمُونَ بِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ يَمْتَنِعُونَ مِنْ الرَّمْيِ لِمَا أَنَّهُمْ تَتَرَّسُوا بِأَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ فَيَجْتَرِئُونَ

بِذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَرُبَّمَا يُصِيبُونَ مِنْهُمْ إذَا تَمَكَّنُوا مِنْ الدُّنُوِّ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالضَّرَرُ مَدْفُوعٌ إلَّا أَنَّ عَلَى الْمُسْلِمِ الرَّامِي أَنْ يَقْصِدَ بِهِ الْحَرْبِيَّ لِأَنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَى التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَرْبِيِّ وَالْمُسْلِمِ فِعْلًا كَانَ ذَلِكَ مُسْتَحِقًّا عَلَيْهِ فَإِذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُمَيِّزَ بِقَصْدِهِ لِأَنَّهُ وَسِعَ مِثْلَهُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَلَا دِيَةَ فِيمَا أَصَابَ مُسْلِمًا مِنْهُمْ لِأَنَّهُ إصَابَةٌ بِفِعْلٍ مُبَاحٍ مَعَ الْعِلْمِ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ وَالْمُبَاحُ مُطْلَقًا لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةً وَلَا دِيَةً وَالشَّافِعِيُّ يُوجِبُ ذَلِكَ وَيَقُولُ هَذَا قَتْلُ خَطَأٍ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِالرَّمْيِ الْكَافِرَ فَيُصِيبُ الْمُسْلِمَ وَهَذَا هُوَ صُورَةُ الْخَطَأِ وَلَكِنَّا نَقُولُ إذَا كَانَ عَالِمًا بِحَقِيقَةِ حَالِ مَنْ يُصِيبُهُ عِنْدَ الرَّمْي لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ خَطَأً بَلْ كَانَ مُبَاحًا مُطْلَقًا .

وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ وَلَهُ فِي أَيْدِيهِمْ جَارِيَةٌ مَأْسُورَةٌ كَرِهْتُ لَهُ غَصَبَهَا وَوَطْأَهَا لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا عَلَيْهِ وَالْتَحَقَتْ بِسَائِرِ أَمْلَاكِهِمْ فَلَوْ غَصْبَهَا مِنْهُمْ أَوْ سَرَقَهَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ غَدْرًا لِلْأَمَانِ وَقَدْ ضَمِنَ أَنْ لَا يَغْدِرَ بِهِمْ وَلَا يَأْخُذَ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ إلَّا بِطِيبِ أَنْفُسِهِمْ وَإِنْ كَانَتْ مُدَبَّرَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ لَمْ يُكْرَهْ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوهَا عَلَيْهِ فَهُوَ إنَّمَا يُعِيدُ مِلْكَهُ إلَى يَدِهِ وَلَا يَتَعَرَّضُ لِمِلْكِهِمْ بِشَيْءٍ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ غَدْرًا لِلْأَمَانِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ أَسْلَمُوا كَانَ عَلَيْهِمْ رَدُّهَا بِخِلَافِ الْأَمَةِ وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مَأْسُورًا فِيهِمْ لِمَ أُكْرِهْ لَهُ أَنْ يَغْصِبَ أَمَتَهُ أَوْ يَسْرِقَهَا لِأَنَّهُ مَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ أَمَانٌ وَلَكِنَّهُ مَقْهُورٌ فِيهِمْ مَظْلُومٌ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ الظُّلْمَ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ وَأَنْ يَسْرِقَ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ بِخِلَافِ الَّذِي دَخَلَ إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ .

وَإِذَا أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تِلْكَ الدَّارِ تُرِكَ لَهُ مَا فِي يَدِهِ مِنْ مَالِهِ وَرَقِيقِهِ وَوَلَدِهِ الصِّغَارِ لِأَنَّ أَوْلَادَهُ الصِّغَارَ صَارُوا مُسْلِمِينَ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا فَلَا يُسْتَرَقُّونَ وَالْمَنْقُولَاتُ فِي يَدِهِ حَقِيقَةً وَهِيَ يَدٌ مُحْتَرَمَةٌ لِإِسْلَامِ صَاحِبِهَا فَلَا يَتَمَلَّكُ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِالِاسْتِيلَاءِ وَلِأَنَّهُ صَارَ مُحْرِزًا مَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَذَلِكَ سَبَبٌ لِتَقْرِيرِ مِلْكِ الْمُسْلِمِ لَا إبْطَالَ مِلْكِهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ يَدَهُ إلَى أَمْتِعَتِهِ أَسْبَقُ مِنْ يَدِ الْمُسْلِمِينَ فَأَمَّا عَقَارُهُ فَإِنَّهَا تَصِيرُ غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : أَسْتَحْسِنُ فَأَجْعَلُ عَقَارَهُ لَهُ لِأَنَّهُ مِلْكٌ مُحْتَرَمٌ لَهُ كَالْمَنْقُولِ وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ الْكَلْبِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى { أَنَّ نَفَرًا مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ أَسْلَمُوا حِينَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَاصِرًا لَهُمْ فَأَحْرَزُوا بِذَلِكَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } قَالَ : وَعَامَّةُ أَمْوَالِهِمْ الدُّورُ وَالْأَرَاضِي وَلَكِنَّا نَقُولُ : هَذِهِ بُقْعَةٌ مِنْ بِقَاعِ دَارِ الْحَرْبِ فَتَصِيرُ غَنِيمَةً لِلْمُسْلِمِينَ كَسَائِرِ الْبِقَاعِ وَهَذَا لِأَنَّ الْيَدَ عَلَى الْعَقَارِ إنَّمَا تَثْبُتُ حُكْمًا وَدَارُ الْحَرْبِ لَيْسَتْ بِدَارِ الْأَحْكَامِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِيَدِهِ فِيهَا قَبْلَ ظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا وَبَعْدَ الظُّهُورِ يَدُ الْغَانِمِينَ فِيهَا أَقْوَى مِنْ يَدِهِ فَلِهَذَا كَانَتْ غَنِيمَةً بِخِلَافِ الْمَنْقُولَاتِ وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ إنْ صَحَّ فِي الْمَنْقُولِ دُونَ الْعَقَارِ وَكَذَلِكَ أَوْلَادُهُ الْكِبَارُ فَيْءٌ لِأَنَّهُمْ مَا صَارُوا مُسْلِمِينَ بِإِسْلَامِهِ وَلَا كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِمْ يَدٌ فَهُمْ كَسَائِرِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَكَذَلِكَ زَوْجَتُهُ الْحُبْلَى لِأَنَّهَا لَا تَصِيرُ مُسْلِمَةً بِإِسْلَامِ زَوْجِهَا فَتَكُونُ فَيْئًا

وَيَدُهُ عَلَيْهَا يَدٌ حُكْمِيَّةٌ بِسَبَبِ النِّكَاحِ وَمِثْلُهُ لَا يَمْنَعُ الِاغْتِنَامَ كَالْيَدِ عَلَى الْعَقَارِ وَكَذَلِكَ مَا فِي بَطْنِهَا فَيْءٌ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : لَا يَكُونُ فَيْئًا لِأَنَّ مَا فِي بَطْنِهَا مُسْلِمٌ بِإِسْلَامِ أَبِيهِ وَالْمُسْلِمُ لَا يُسْتَرَقُّ أَبَدًا كَالْوَلَدِ الْمُنْفَصِلِ وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْجَنِينُ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْأُمِّ وَهِيَ قَدْ صَارَتْ فَيْئًا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَثْنَى الْجَنِينُ فِي إعْتَاقِ الْأُمِّ كَمَا لَا يُسْتَثْنَى سَائِرُ أَجْزَائِهَا وَكَمَا أَنَّ فِي الْإِعْتَاقِ لَا يَصِيرُ الْجَنِينُ مُسْتَثْنًى بَعْدَ مَا ثَبَتَ الرِّقُّ فِي الْأُمِّ وَهَذَا لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي التَّبَعِ لَا يَثْبُتُ ابْتِدَاءً بَلْ بِثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ يَظْهَرُ فِي التَّبَعِ فَيَكُونُ هَذَا فِي حَقِّ التَّبَعِ بِمَنْزِلَةِ بَقَاءِ الْحُكْمِ وَالْإِسْلَامُ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الرِّقِّ .

وَإِنْ كَانَ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَأَهْلُهُ وَمَالُهُ وَأَوْلَادُهُ أَجْمَعُونَ فَيْءٌ لِأَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ فِي دَارِنَا فَوَلَدُهُ الَّذِي فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ تَبَايُنَ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا مُنَافٍ لِلتَّبَعِيَّةِ وَلِأَنَّهُ لَا يَدَ لَهُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا خَلَفَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ أَمْوَالِهِ فَلِهَذَا كَانَ جَمِيعُ ذَلِكَ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُمْ أَحْرَزُوهُ دُونَهُ .

وَلَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَجَمِيعُ مَالِهِ فَيْءٌ إلَّا أَوْلَادَهُ الصِّغَارَ لِأَنَّهُمْ صَارُوا مُسْلِمِينَ بِإِسْلَامِهِ لِأَنَّهُ حِينَ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَانَتْ التَّبَعِيَّةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ قَائِمَةً وَبَعْدَ مَا صَارُوا مُسْلِمِينَ لَا يُسْتَرَقُّونَ فَأَمَّا الْأَمْوَالُ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ يَدٌ فِيهَا بَعْدَ مَا خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَتَرَكَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ وَإِنْ كَانَ أَوْدَعَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا فَذَلِكَ الْمَالُ لَا يَكُونُ فَيْئًا لِأَنَّ يَدَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ يَدٌ صَحِيحَةٌ عَلَى هَذَا الْمَالِ فَتَكُونَ مَانِعَةً إحْرَازَ الْمُسْلِمِينَ إيَّاهَا كَمَا فِي سَائِرِ أَمْوَالِ الْمُودِعِ وَإِذَا لَمْ تَصِرْ غَنِيمَةً كَانَتْ يَدُ الْمُودِعِ فِيهَا كَيَدِ الْمُودَعِ فَيَصِيرُ هُوَ الْمُحْرِزُ لَهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَتُرَدُّ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ أَوْدَعَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ حَرْبِيًّا فَذَلِكَ الْمَالُ فَيْءٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَكُونُ فَيْئًا لِأَنَّ يَدَ الْمُودِعِ كَيَدِ الْمُودَعِ فَجُعِلَتْ يَدُهُ بَاقِيَةً عَلَى هَذَا الْمَالِ حُكْمًا بِيَدِ مَنْ يَخْلُفُهُ ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنْ يَدَ الْمُودِعِ فِي هَذَا الْمَالِ لَيْسَتْ بِيَدٍ صَحِيحَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَكُونُ دَافِعَةً لِاغْتِنَامِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ سَائِرِ أَمْوَالِهِ فَكَذَلِكَ عَنْ هَذِهِ الْوَدِيعَةِ وَإِذَا لَمْ تَكُنْ يَدُهُ مُعْتَبَرَةً كَانَ هَذَا وَالْمَالُ الَّذِي لَمْ يُودِعْهُ أَحَدًا سَوَاءً .

وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ أَوْ الذِّمِّيُّ دَارَ الْحَرْبِ تَاجِرًا بِأَمَانٍ فَأَصَابَ هُنَاكَ مَالًا وَدُورًا ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فَهُوَ لَهُ كُلُّهُ إلَّا الدُّورَ وَالْأَرَضِينَ فَإِنَّهَا فَيْءٌ لِأَنَّ يَدَهُ يَدٌ صَحِيحَةٌ فَإِنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَيَكُونُ هُوَ الْمُحْرِزُ بِيَدِهِ لِأَمْوَالِهِ وَتَكُونُ يَدُهُ دَافِعَةً لِإِحْرَازِ الْمُسْلِمِينَ تِلْكَ الْأَمْوَالِ فَأَمَّا الدُّورُ وَالْأَرَضِينَ فَهِيَ بُقْعَةٌ مِنْ بِقَاعِ دَارِ الْحَرْبِ فَتَصِيرُ مَغْنُومَةً كَسَائِرِ الْبِقَاعِ وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْيَدَ عَلَى هَذِهِ الْبُقْعَةِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ لَا تَقْوَى مَقْصُودَةً بِنَفْسِهَا وَإِنَّمَا تَقْوَى إذَا ثَبَتَتْ عَلَى جَمِيعِ الدَّارِ فَكَانَتْ هَذِهِ الْبُقْعَةُ فِي حُكْمِ التَّبَعِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي التَّبَعِ كَثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ بِخِلَافِ الْمَنْقُولَاتِ فَالْيَدُ عَلَيْهَا تَبْقَى مَقْصُودَةً بِنَفْسِهَا وَقَدْ سَبَقَ ذَلِكَ مِنْ الْمُسْلِمِ فَكَانَ هُوَ الْمُحْرِزُ لَهَا يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُسْلِمَ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْإِحْرَازُ فِي الْمَنْقُولَاتِ بِأَنْ يَخْرُجَهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَيُجْعَلُ أَيْضًا مُحْرِزًا لَهَا بِظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الدَّارِ فَأَمَّا الْعَقَارُ لَا يَتَحَوَّلُ وَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْمُسْلِمِ إحْرَازُهُ بِالْإِخْرَاجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّمَا تَصِيرُ مُحْرِزَةً بِالْغَانِمِينَ وَمَنْ قَاتَلَ مِنْ كِبَارِ عَبِيدِهِ فَهُوَ فَيْءٌ لِأَنَّهُ نَزَعَ نَفْسَهُ مِنْ يَدِهِ حِينَ قَاتَلَ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ يَمْنَعُ عَبْدَهُ مِنْ قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ لَمْ يَبْقَ لَهُ عَلَيْهِ يَدٌ حَقِيقَةً كَانَ فَيْئًا كَسَائِرِ عَبِيدِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَإِنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ حُبْلَى فَهِيَ وَمَا فِي بَطْنِهَا فَيْءٌ كَمَا بَيَّنَّا وَمَا كَانَ لَهُ مِنْ وَدِيعَةٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ حَرْبِيٍّ فَهُوَ لَهُ وَلَيْسَتْ بِفَيْءٍ أَمَّا مَا كَانَ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فَلَا إشْكَالَ فِيهِ وَأَمَّا مَا كَانَ عِنْدَ حَرْبِيٍّ فَلِأَنَّهُ مَا دَامَ فِي دَارِ الْحَرْبِ

فَيَدُهُ ثَابِتَةٌ عَلَى تِلْكَ الْوَدِيعَةِ بِاعْتِبَارِ يَدِ مُودِعِهِ وَكَوْنُهُ حَافِظًا لَهُ فَتَكُونُ يَدُهُ دَافِعَةً لِإِحْرَازِ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ الْمَالِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ فِي مَا إذَا خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ .
( قَالَ ) : وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ مِنْ هَذَا الْعَطْفُ مَا أَوْدَعَهُ عِنْدَ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فَهُوَ ظَاهِرٌ وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ مَا أَوْدَعَهُ عِنْدَ حَرْبِيٍّ فَهُوَ يُقَوِّي قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَيَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا سَبَقَ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَوَجْهُ الْفَرْقُ أَنَّ التَّاجِرَ الَّذِي دَخَلَ إلَيْهِمْ مَالُهُ كَانَ مُحْرَزًا بِدَارِ الْإِسْلَامِ وَلَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ الْإِحْرَازُ إلَّا بِإِحْرَازِ الْمُشْرِكِينَ إيَّاهُ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِيمَا إذَا أَوْدَعَهُ مِنْ الْحَرْبِيِّ إذَا كَانَ الْحَرْبِيُّ جَارِيًا عَلَى وِفَاقِ مَا أَمَرَ بِهِ فَإِذَا بَقِيَ الْمَالُ مُحْرَزًا بِدَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَمْلِكُهُ الْمُسْلِمُونَ بِالِاسْتِغْنَامِ فَأَمَّا الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَمَالُهُ لَمْ يَصِرْ مُحْرَزًا بِدَارِ الْإِسْلَامِ فَكَانَ مَحَلًّا لِلِاسْتِغْنَامِ إلَّا مَا ثَبَتَتْ عَلَيْهِ يَدٌ صَحِيحَةٌ دَافِعَةٌ لِلِاسْتِغْنَامِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيمَا إذَا أَوْدَعَهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَإِنْ أَخَذَ الْمُسْلِمُونَ تِلْكَ الْوَدِيعَةَ فَاقْتَسَمُوهَا فِي الْغَنِيمَةِ ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهَا أَخَذَهَا بِغَيْرِ قِيمَةٍ لِأَنَّهُ مَالُ مُسْلِمٍ لَمْ يُحْرِزْهُ الْمُشْرِكُونَ وَإِنْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ قَتَلُوا هَذَا الْمُسْلِمَ فِي دَارِهِمْ وَأَخَذُوا مَالَهُ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ رَدُّوهُ عَلَى وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ لِأَنَّهُمْ لَمَّا قَتَلُوهُ وَأَخَذُوا مَالَهُ فَقَدْ صَارُوا مُحْرِزِينَ لَهُ فَيَمْلِكُونَهُ ثُمَّ الْمُسْلِمُونَ يَمْلِكُونَهُ عَلَيْهِمْ بِالِاغْتِنَامِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَالِ الْمُسْلِمِ اسْتَوْلَى عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَرْبِ وَأَحْرَزُوهُ ثُمَّ وَقَعَ فِي الْغَنِيمَةِ وَقَدْ مَاتَ

صَاحِبُهُ فَكَانَ لِوَارِثِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ مُوَرِّثِهِ فِي مِلْكِهِ وَحُقُوقُ مِلْكِهِ وَتَمَكُّنِهِ مِنْ الْأَخْذِ كَانَ لِحَقِّ مِلْكِهِ الْقَدِيمِ فَيَقُومُ فِيهِ وَارِثُهُ مَقَامَهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِوَارِثِهِ حَقُّ الْأَخْذِ وَاعْتُبِرَ هَذَا بِحَقِّ الشُّفْعَةِ وَحَقِّ الْخِيَارِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَصِيرُ مِيرَاثًا عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَأْسُورِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ هَذَا الْحَقَّ دُونَ ذَلِكَ الْحَقِّ فَإِنَّ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَنْقُضَ تَصَرُّفَ الْمُشْتَرِي وَلَيْسَ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانُوا اقْتَسَمُوهُ ثُمَّ حَضَرَ وَرَثَةُ الْمَقْتُولِ أَخَذُوا الْأَمْتِعَةَ بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءُوا وَلَمْ يَأْخُذُوا الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ كَمَا لَوْ كَانَ الْمُوَرِّثُ حَيًّا وَإِنْ كَانَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ أَسْلَمُوا عَلَى دَرَاهِمِ وَصَالَحُوا لَمْ يُؤْخَذُوا بِشَيْءٍ مِنْ مَالِ الْمَقْتُولِ لِأَنَّ إسْلَامَهُمْ يُقَرِّرُ مِلْكَهُمْ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ فِي دَمِهِ لِأَنَّهُمْ قَتَلُوهُ حِينَ كَانُوا حَرْبًا لِلْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ ضَمَانُ دَمِهِ يَوْمئِذٍ ثُمَّ لَا يَجِبُ بَعْدَ ذَلِكَ بِإِسْلَامِهِمْ .

وَلَوْ كَانَ مُسْلِمٌ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ وَاشْتَرَى صَبِيًّا وَصَبِيَّةً فَأَعْتَقَهُمَا ثُمَّ خَرَجَ وَتَرَكَهُمَا هُنَاكَ فَكَبِرَا هُنَاكَ كَافِرَيْنِ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَهُمَا فَيْءٌ لِأَنَّ إعْتَاقَهُ إيَّاهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ لَيْسَ بِشَيْءٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَلَا يَصِيرُ مُحْرِزًا لَهُمَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إنْ كَانَ ذَلِكَ إعْتَاقًا صَحِيحًا فَهُمْ كَسَائِرِ أَحْرَارِ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ الْكُفَّارِ فَيَكُونُونَ فَيْئًا وَمَقْصُودُهُ أَنَّ الْوَلَاءَ لَيْسَ نَظِيرَ الْوِلَادِ فَإِنَّ الْوَلَدَ يَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ أَبِيهِ وَالْمُعْتَقُ لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِ مُعْتِقِهِ إنْ كَانَ صَغِيرًا لِأَنَّ الْوَلَاءَ أَثَرُ الْمِلْكِ وَهُوَ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْمِلْكِ لَا يَتْبَعُ مَوْلَاهُ فِي الدِّينِ فَبِاعْتِبَارِ أَثَرِ الْمِلْكِ أَوْلَى .

وَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ تَاجِرًا أَوْ أَسِيرًا أَوْ أَسْلَمَ هُنَاكَ فَأَمِنَهُمْ فَأَمَانُهُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ مَقْهُورٌ فِي أَيْدِيهِمْ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُكْرَهٌ عَلَى الْأَمَانِ مِنْ جِهَتِهِمْ وَلِأَنَّهُ لَا يُقْصَدُ بِالْأَمَانِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَإِنَّمَا قَصْدُهُ أَنْ يُؤَمِّنَ نَفْسَهُ وَلِأَنَّ الْأَمَانَ يَكُونُ عَنْ خَوْفٍ وَلَا خَوْفَ لَهُمْ مِنْ جِهَتِهِ فَيَكُونُ عَقْدُهُ عَلَى الْغَيْرِ ابْتِدَاءً لَا عَلَى نَفْسِهِ وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْعَقْدِ عَلَى الْغَيْرِ ابْتِدَاءً فَإِنَّ مَنْ أَمِنَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْجَيْشِ جَازَ أَمَانُهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ } أَيْ أَقَلُّهُمْ وَهُوَ الْوَاحِدُ وَقَالَ : يَعْقِدُ عَلَيْهِمْ أُولَاهُمْ وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ قِيلَ : مَعْنَاهُ أَنَّ السَّرِيَّةَ الْأُولَى تَعْقِدُ الْأَمَانَ فَيَنْفُذُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ السَّرِيَّةُ الْأُخْرَى تُنْبَذُ إلَيْهِمْ فَيَنْفُذُ ذَلِكَ أَيْضًا وَلِأَنَّ مَنْ فِي الْجَيْشِ إنَّمَا يُؤَمِّنُهُمْ مِنْ نَفْسِهِ لِأَنَّهُمْ يَخَافُونَهُ فَيَنْفُذُ عَقْدُهُ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَمَانَ لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي وَسَبَبُهُ وَهُوَ الْإِيمَانُ لَا يَتَجَزَّى أَيْضًا فَيَنْفَرِدُ بِهِ كُلُّ مُسْلِمٍ لِتَكَامُلِ السَّبَبِ فِي حَقِّهِ كَالتَّزْوِيجِ بِوِلَايَةِ الْقَرَابَةِ .

وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَّنَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ أَهْلَ الْحَرْبِ جَازَ أَمَانُهَا لِمَا رُوِيَ { أَنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَمَّنَتْ زَوْجَهَا أَبَا الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَانَهَا } وَعَنْ أُمِّ هَانِئٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ { : أَجَرْت حَمَوَيْنِ لِي يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فَدَخَلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُرِيدُ قَتْلَهُمَا وَقَالَ : أَتُجِيرِينَ الْمُشْرِكِينَ ؟ فَقُلْت : لَا إلَّا أَنْ تَبْدَأَ بِي قَبْلَهُمَا وَأَخْرَجْتُهُ مِنْ الْبَيْتِ وَأَغْلَقْتُ الْبَابَ عَلَيْهِمَا ثُمَّ أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا رَآنِي قَالَ : مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ فَاخِتَةً : قُلْت : مَاذَا لَقِيت مِنْ ابْنِ أُمِّي أَجَرْت حَمَوَيْنِ لِي وَأَرَادَ قَتْلَهُمَا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَقَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْت وَأَمَّنَّا مَنْ أَمَّنْت } وَلِأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ فَإِنَّهَا تُجَاهِدُ بِمَالِهَا وَكَذَلِكَ بِنَفْسِهَا فَإِنَّهَا تَخْرُجُ لِمُدَاوَاةِ الْمَرْضَى وَالْخُبْزِ وَذَلِكَ جِهَادٌ مِنْهَا .

فَأَمَّا الْعَبْدُ إذَا أَمِنَ أَهْلَ الْحَرْبِ فَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْقِتَالِ فَأَمَانُهُ صَحِيحٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدًا كَتَبَ عَلَى سَهْمٍ بِالْفَارِسِيَّةِ مترسيت وَرَمَى بِذَلِكَ إلَى قَوْمٍ مَحْصُورِينَ فَرَفَعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَجَازَ أَمَانَهُ وَقَالَ : إنَّهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا الْعَبْدُ كَانَ مُقَاتِلًا لِأَنَّ الرَّمْيَ فِعْلُ الْمُقَاتِلِ وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْقِتَالِ لِوُجُودِ الْإِذْنِ مِنْ مَوْلَاهُ فَهُمْ يَخَافُونَهُ فَعَقْدُهُ يَكُونُ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ يَتَعَدَّى حُكْمُهُ إلَى الْغَيْرِ وَقَوْلُ الْعَبْدِ فِي مِثْلِهِ صَحِيحٌ كَمَا فِي شَهَادَتِهِ عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ وَإِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقَوَدِ وَلَا يُقَالُ قَرَابَتُهُ فِيهِمْ فَهُوَ مُتَّهَمٌ بِإِيصَالِ الْمَنْفَعَةِ إلَيْهِمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ أَمَانُهُ كَالذِّمِّيِّ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِالْمُسْلِمِ إيثَارُ الْقَرَابَةِ عَلَى الدِّينِ وَلَوْ اعْتَبَرْنَا هَذَا لَمْ يَصِحَّ أَمَانُهُ بَعْدَ الْعِتْقِ أَيْضًا وَلَا وَجْهَ لِلْقَوْلِ بِهِ فَأَمَّا الذِّمِّيُّ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهِ سَبَبُ وِلَايَةِ الْأَمَانِ وَهُوَ مُوَافِقٌ لَهُمْ فِي الِاعْتِقَادِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَمِيلُ إلَيْهِمْ وَأَنَّهُمْ لَا يَخَافُونَهُ .

فَأَمَّا أَمَانُ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ عَنْ الْقِتَالِ فَهُوَ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ صَحِيحٌ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَذَكَرَ الطَّحْطَاوِيُّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ قَوْلَهُ مَعَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى حُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ } وَأَدْنَى الْمُسْلِمِينَ الْعَبْدُ وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : أَمَانُ الْعَبْدِ وَالصَّبِيِّ وَالْمَرْأَةِ سَوَاءٌ } وَفِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : أَمَانُ الْعَبْدِ أَمَانٌ } وَلِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ وَلَا تُهْمَةَ فِي أَمْرِهِ فَيَصِحُّ أَمَانُهُ كَالْحُرِّ وَبَيَانُ الْأَهْلِيَّةِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالْجِهَادِ إعْزَازُ الدِّينِ وَدَفْعُ فِتْنَةِ الْكُفْرِ فَكُلُّ مُسْلِمٍ يَكُونُ أَهْلًا لَهُ ثُمَّ الْجِهَادُ يَكُونُ بِالنَّفْسِ تَارَةً وَبِالْمَالِ أُخْرَى فَالْعَبْدُ لَا مَالَ لَهُ وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ الْجِهَادِ بِالنَّفْسِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الْمَوْلَى عَنْ مَنَافِعِهِ وَتَعْرِيضُ مَالِيَّتِهِ لِلْهَلَاكِ فَأَمَّا الْأَمَانُ جِهَادٌ بِالْقَوْلِ وَلَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْمَوْلَى عَنْ شَيْءٍ فَكَانَ الْعَبْدُ فِيهِ كَالْحُرِّ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ صِحَّةُ أَمَانِهِ إذَا كَانَ مَأْذُونًا فِي الْقَتْلِ وَتَأْثِيرُ الْإِذْنِ فِي رَفْعِ الْمَانِعِ لَا فِي إثْبَاتِ الْأَهْلِيَّةِ لِمَنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ .
أَلَا تَرَى أَنَّ بِالْإِذْنِ لَا يَصِيرُ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ وَنُزُولُ الْمَانِعِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ لِوُجُودِ الْأَهْلِيَّةِ ثُمَّ الْأَمَانُ تَرْكُ الْقِتَالِ وَلَا يُسْتَفَادُ بِالْإِذْنِ فِي الْقِتَالِ لِأَنَّهُ ضِدُّهُ وَبَعْدَ الْإِذْنِ هُوَ فِي الْأَمَانِ لَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْ الْمَوْلَى بِدَلِيلِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ دِينُهُ لَا دِينَ الْمَوْلَى فَعَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ أَهْلًا لِكَوْنِهِ مُسْلِمًا

وَلِأَنَّ الْأَمَانَ مِنْ فُرُوعِ الدِّينِ وَقَوْلُهُ فِي أَصْلِ الدِّينِ مُعْتَبَرٌ مُلْزِمٌ فَكَذَلِكَ فِي فُرُوعِهِ وَلِهَذَا صَحَّ إحْرَامُهُ وَصَحَّ مِنْهُ عَقْدُ الذِّمَّةِ مَعَ قَوْمٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَالذِّمَّةُ أَقْوَى مِنْ الْأَمَانِ فَيُسْتَدَلُّ بِصِحَّةِ مَا هُوَ أَقْوَى مِنْهُ عَلَى صِحَّةِ الْأَدْنَى بِطَرِيقِ الْأَوْلَى .
( وَحُجَّتُنَا ) قَوْله تَعَالَى { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ } وَالْأَمَانُ شَيْءٌ وَهَذَا عَامٌّ لَا يَجُوزُ دَعْوَى التَّخْصِيصِ فِيهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ هَذَا الْمَثَلَ لِلْأَصْنَامِ وَاحِدُهَا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْجِهَادِ فَلَا يَصِحُّ أَمَانُهُ بِنَفْسِهِ كَالذِّمِّيِّ وَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْجِهَادَ يَكُونُ بِالنَّفْسِ أَوْ بِالْمَالِ وَنَفْسُهُ مَمْلُوكَةٌ لِغَيْرِهِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ مِلْكِ الْمَالِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ صِحَّةَ الْأَمَان مِنْ الْوَاحِدِ بِاعْتِبَارِ مَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَرُبَّمَا يَكُونُ الْأَمَانُ خَيْرًا لَهُمْ لِحِفْظِ قُوَّةِ أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّ الْقِتَالَ حِفْظُ قُوَّةِ النَّفْسِ أَوَّلًا ثُمَّ الْعُلُوُّ وَالْغَلَبَةُ وَلَكِنَّ الْخِيرَةَ فِي الْأَمَانِ مَسْتُورَةٌ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا مَنْ يَكُونُ مُجَاهِدًا فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ لَا يَمْلِكُ الْقِتَالَ لَا يَعْرِفُ الْخِيرَةَ فِي الْأَمَانِ فَلَا يَكُونُ أَمَانُهُ جِهَادًا بِالْقَوْلِ بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ فِي الْقِتَالِ فَإِنَّهُ لَمَّا تَمَكَّنَ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْقِتَالِ عَرَفَ الْخِيرَةَ فِي الْأَمَانِ فَحَكَمْنَا بِصِحَّةِ أَمَانِهِ وَلِهَذَا لَا يَحْكُمُ بِصِحَّةِ أَمَانِ الْأَسِيرِ لِأَنَّ الْخِيرَةَ فِي الْأَمَانِ مَسْتُورَةٌ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا مَنْ يَكُونُ آمِنًا عَلَى نَفْسِهِ وَالْأَسِيرُ خَائِفٌ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فِي الْمُقَيَّدِ بِالْأَسْرِ فَفِي الْمُقَيَّدِ بِالرِّقِّ أَوْلَى لِأَنَّ الْأَسِيرَ مَالِكٌ لِلْقِتَالِ وَإِنَّمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ حِسًّا وَالْعَبْدُ غَيْرُ مَالِكٍ لِلْقِتَالِ أَصْلًا وَلِأَنَّ عَقْدَ

الْعَبْدِ عَلَى الْغَيْرِ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُمْ لَا يَخَافُونَهُ حِينَ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِلْقِتَالِ بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي الْقِتَالِ فَإِنَّهُمْ يَخَافُونَهُ فَإِنَّمَا يَعْقِدُ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ : الْعَبْدُ يُؤَمِّنُ نَفْسَهُ وَهُوَ يَخَافُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَقُولُ : أَمِنْتُكُمْ وَلَا يَقُولُ : أَمِنْت نَفْسِي وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ أَمَانًا وَلِأَنَّهُ نَوْعُ وِلَايَةٍ حَيْثُ إنَّهُ يَتَقَيَّدُ الْقَوْلُ عَلَى الْغَيْرِ بِشَرْطِ التَّكْلِيفِ فَيَكُونُ نَظِيرَ وِلَايَةِ النِّكَاحِ وَالْعَبْدُ لَا يَمْلِكُ النِّكَاحَ بِنَفْسِهِ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ مَوْلَاهُ فِيهِ فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ الْأَمَانَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا فِي الْقِتَالِ لِأَنَّ الْأَمَانَ تَرْكُ الْقِتَالِ ضَرُورَةً وَلَكِنَّهُ مِنْ الْقِتَالِ مَعْنَى فَيَمْلِكُهُ مَنْ يَكُونُ مَالِكًا لِلْقِتَالِ وَالْآثَارُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمَأْذُونِ فِي الْقِتَالِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ تَأْوِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ } فَأَمَّا عَقْدُ الذِّمَّةِ فَنَقُولُ : إنَّهُ يَتَمَحَّضُ مَنْفَعَةً لِلْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الْكُفَّارَ إذَا طَلَبُوا ذَلِكَ افْتَرَضَ عَلَى الْإِمَامِ إجَابَتُهُمْ إلَيْهِ فَلَوْ اعْتَبَرَ مَا سَبَقَ مِنْ الْعَبْدِ احْتَسَبَ عَلَيْهِمْ تِلْكَ الْمُدَّةَ لِأَخْذِ الْجِزْيَةِ وَلَوْ لَمْ يَعْتَبِرْ كَانَ ابْتِدَاءَ تِلْكَ الْمُدَّةِ مِنْ الْحَالِ فَلِكَوْنِهِ مَحْضَ مَنْفَعَةٍ حَكَمْنَا بِصِحَّتِهِ مِنْ الْعَبْدِ كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ فَأَمَّا الْأَمَانُ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْمَضَرَّةِ وَالْمَنْفَعَةِ وَلِهَذَا لَا يُفْتَرَضُ إجَابَةُ الْكُفَّارِ إلَيْهِ وَفِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فِي الِاسْتِغْنَامِ وَالِاسْتِرْقَاقِ وَالتَّصَرُّفُ الَّذِي فِيهِ تَوَهُّمُ الضَّرَرِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى خَاصَّةً كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لَا يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ بِنَفْسِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالْمَوْلَى فَالتَّصَرُّفُ الَّذِي فِيهِ إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِالْمُسْلِمِينَ أَوْلَى .

فَأَمَّا الصَّبِيُّ إذَا كَانَ لَا يَعْقِلُ فَلَا إشْكَالَ أَنَّ أَمَانَهُ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ يَعْقِلُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَمَانُهُ بَاطِلٌ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إيمَانُهُ وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ بِصِحَّةِ أَمَانِهِ كَمَا يَقُولُ بِصِحَّةِ إيمَانِهِ فَإِنْ كَانَ هَذَا الصَّبِيُّ مَأْذُونًا فِي الْقِتَالِ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا لَا يَصِحُّ أَمَانُهُ أَيْضًا لِأَنَّ قَوْلَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِيمَا يَضُرُّ بِهِ وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَفِيمَا يَضُرُّ بِالْمُسْلِمِينَ أَوْلَى وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَمَانُهُ إذَا كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي الْقِتَالِ لِأَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْمَضَرَّةِ وَالْمَنْفَعَةِ فَهُوَ نَظِيرُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ يَمْلِكُهُ الصَّبِيُّ بَعْدَ الْإِذْنِ .

وَإِذَا قَالَ الْإِمَامُ : مَنْ أَصَابَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ فَأَصَابَ رَجُلٌ جَارِيَةً فَاسْتَبْرَأَهَا فَإِنَّهُ لَا يَطَأَهَا وَلَا يَبِيعَهَا حَتَّى يُخْرِجَهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ اخْتَصَّ بِمِلْكِهَا فَيَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ كَالْمُسْلِمِ يَشْتَرِي جَارِيَةً فِي دَارِ الْحَرْبِ يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ وَهَذَا لِأَنَّ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ سَبَبُهُ مِلْكُ الرَّقَبَةِ وَقَدْ تَحَقَّقَ هَذَا السَّبَبُ فِي حَقِّهِ حِينَ اخْتَصَّ بِمِلْكِهَا بِتَنْفِيلِ الْإِمَامِ وَهَذَا بِخِلَافِ اللِّصِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا أَخَذَ جَارِيَةً وَاسْتَبْرَأَهَا فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا لِأَنَّهُ مَا اخْتَصَّ بِمِلْكِهَا .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ الْتَحَقَ بِجَيْشِ الْمُسْلِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ شَارَكُوهُ فِيهَا وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا : سَبَبُ الْمِلْكِ فِي الْمُنَفَّلِ الْقَهْرُ فَلَا يَتِمُّ إلَّا بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ كَمَا فِي الْغَنِيمَةِ فِي حَقِّ الْجَيْشِ وَهَذَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ قَاهِرٌ يَدًا مَقْهُورٌ دَارًا فَيَكُونُ السَّبَبُ ثَابِتًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ وَلَا أَثَرَ لِلتَّنْفِيلِ فِي إتْمَامِ الْقَهْرِ إنَّمَا تَأْثِيرُ التَّنْفِيلِ فِي قَطْعِ شَرِكَةِ الْجَيْشِ مَعَ الْمُنَفَّلِ لَهُ فَأَمَّا سَبَبُ الْمِلْكِ لِلْمُنَفَّلِ لَهُ مَا هُوَ السَّبَبُ لَوْلَا التَّنْفِيلُ وَهُوَ الْقَهْرُ فَأَشْبَهَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مَا أَخَذَهُ اللِّصُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَهَذَا لِأَنَّ لُحُوقَ الْجَيْشِ بِهِ مَوْهُومٌ وَالْمَوْهُومُ لَا يُعَارِضُ الْحَقِيقَةَ فَعَرَفْنَا أَنَّ امْتِنَاعَ ثُبُوتِ الْحِلِّ لِعَدَمِ تَمَامِ الْقَهْرِ بِخِلَافِ الْمُشْتَرَاةِ فَسَبَبُ الْمِلْكِ فِيهَا تَمَّ بِالْعَقْدِ وَالْقَبْضِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ قَسَّمَ الْإِمَامُ الْغَنَائِمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَأَصَابَ رَجُلٌ جَارِيَةً فَاسْتَبْرَأَهَا لِأَنَّ بِقِسْمَةِ الْإِمَامِ لَا يَنْعَدِمُ

الْمَانِعُ مِنْ تَمَامِ الْقَهْرِ وَهُوَ كَوْنُهُمْ مَقْهُورِينَ دَارًا وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ : لَمَّا نَفَذَتْ الْقِسْمَةُ مِنْ الْإِمَامِ تَصِيرُ هِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرَاةِ لِأَنَّ مَنْ وَقَعَتْ فِي سَهْمِهِ يَمْلِكُ عَيْنَهَا بِالْقِسْمَةِ وَقَدْ تَمَّ فَيَنْبَغِي أَنْ يَحِلَّ الْوَطْءُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ .

وَإِذَا خَرَجَ الْقَوْمُ مِنْ مُسَلَّحَةٍ أَوْ عَسْكَرٍ فَأَصَابُوا غَنَائِمَ فَإِنَّهَا تُخَمَّسُ وَمَا بَقِيَ فَهُوَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الْعَسْكَرِ سَوَاءٌ كَانَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ وَسَوَاءٌ كَانَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ أَوْ لَمْ تَكُنْ لِأَنَّ أَهْلَ الْعَسْكَرِ بِمَنْزِلَةِ الْمَدَدِ لِلْخَارِجِينَ فَإِنَّ الْمُصَابَ صَارَ مُحْرِزًا بِالدَّارِ بِقُوَّتِهِمْ جَمِيعًا إذْ هُمْ الرِّدْءُ لَهُمْ يَسْتَنْصِرُونَهُمْ إذَا حَزَبَهُمْ أَمْرٌ لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ لِيَنْصُرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَالْإِمَامُ أَذِنَ لَهُمْ فِي أَنْ يَأْخُذُوا مَا يَقْدِرُونَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُ أَدْخَلَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِهَذَا فَلَا حَاجَةَ إلَى إذْنٍ جَدِيدٍ بَعْدَ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ إنْ بَعَثَ الْإِمَامُ رَجُلًا طَلِيعَةً فَأَصَابَ ذَلِكَ لِأَنَّ أَهْلَ الْعَسْكَرِ رِدْءٌ لَهُ وَإِنْ كَانُوا خَرَجُوا مِنْ مَدِينَةٍ عَظِيمَةٍ مِثْلَ الْمِصِّيصَةِ وَمَلَطْيَةَ بَعَثَهُمْ الْإِمَامُ سَرِيَّةً مِنْهَا فَأَصَابُوا غَنَائِمَ لَمْ يُشْرِكْهُمْ فِيهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ لِأَنَّهُمْ سَاكِنُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَكُونُونَ رِدْءًا لِلْمُقَاتِلِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَهَذَا لِأَنَّ تَوَطُّنَهُمْ عَلَى قَصْدِ الْمَقَامِ فِي أَهَالِيِهِمْ بِخِلَافِ أَهْلِ الْعَسْكَرِ فَإِنَّ تَوَطُّنَهُمْ فِي الْعَسْكَرِ لِلْقِتَالِ فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ الرِّدْءِ لِلسَّرِيَّةِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ نَوَى مِنْهُمْ الْإِقَامَةَ فِي الْعَسْكَرِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ بِخِلَافِ سَاكِنِ الْمَدِينَةِ وَلِأَنَّ الْإِحْرَازَ هَهُنَا حَصَلَ بِالسَّرِيَّةِ خَاصَّةً وَهُنَاكَ الْإِحْرَازُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ حَصَلَ بِالسَّرِيَّةِ وَالْجَيْشِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَقَعُ الْفَرْقُ ثُمَّ الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ مِصْرَ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ إمَّا أَنْ يَكُونُوا قَوْمًا لَهُمْ مَنْعَةٌ أَوْ لَا مَنْعَةَ لَهُمْ خَرَجُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ مَنْعَةٌ فَسَوَاءٌ خَرَجُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَإِنَّ مَا أَصَابُوهُ غَنِيمَةً حَتَّى يُخَمَّسَ

وَيَقْسِمَ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمْ عَلَى سِهَامِ الْفُرْسَانِ وَالرَّجَّالَةِ الْمُصِيبُ وَغَيْرُ الْمُصِيبِ فِيهِ سَوَاءٌ لِأَنَّ دُخُولَهُمْ لَا يَخْفَى عَلَى الْإِمَامِ عَادَةً وَعَلَيْهِ أَنْ يَنْصُرَهُمْ وَيَمُدَّهُمْ فَإِنَّهُمْ لَوْ أُصِيبُوا مَعَ مَنْعَتِهِمْ كَانَ فِيهِ وَهْنًا بِالْمُسْلِمِينَ وَيَجْتَرِئُ عَلَيْهِمْ الْمُشْرِكُونَ فَإِذَا كَانَ عَلَى الْإِمَامِ نُصْرَتُهُمْ كَانُوا بِمَنْزِلَةِ الدَّاخِلِينَ بِإِذْنِهِ وَلِأَنَّ الْغَنِيمَةَ اسْمٌ لِمَا أُصِيبَ بِطَرِيقٍ فِيهِ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِعْزَازُ دِينِهِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ هَهُنَا لِأَنَّ الْمُصِيبِينَ أَهْلُ مَنْعَةٍ يَفْعَلُونَ مَا يَفْعَلُونَ جَهَارًا فَأَمَّا إذَا كَانُوا قَوْمًا لَا مَنْعَةَ لَهُمْ كَالْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ فَإِنْ كَانَ دُخُولُهُمَا بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ لِأَنَّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَنْصُرَهُ وَيَمُدَّهُ إذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ وَلِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَأْذَنُ لِلْوَاحِدِ فِي الدُّخُولِ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ قُوَّتَهُ عَلَى مَا بَعَثَهُ لِأَجْلِهِ وَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ الْوَاحِدُ سَرِيَّةً عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بَعَثَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَرِيَّةً وَحْدَهُ } { وَبَعَثَ دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ طَلِيعَةً } وَقَدْ ذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ لَا يُخَمَّسُ مَا أَصَابَ هَذَا الْوَاحِدُ لِأَنَّ أَخْذَهُ لَيْسَ عَلَى طَرِيقِ إعْزَازِ الدِّينِ فَإِنَّهُ لَا يُجَاهِرُ بِمَا يَأْخُذُ وَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ سِرًّا إذْ هُوَ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَهُوَ كَالدَّاخِلِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَإِنْ كَانَ دُخُولُ الْقَوْمِ الَّذِينَ لَا مَنْعَةَ لَهُمْ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ عَلَى سَبِيلِ التَّلَصُّصِ فَلَا خُمْسَ فِيمَا أَصَابُوا عِنْدَنَا وَلَكِنْ مَنْ أَصَابَ مِنْهُمْ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً وَإِنْ أَصَابُوا جَمِيعًا قَسَّمَ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ وَلَا يَفْضُلُ الْفَارِسَ عَلَى الرَّاجِلِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : يُخَمَّسُ مَا أَصَابُوا وَيَقْسِمُ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمْ

قِسْمَةَ الْغَنِيمَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } وَالْغَنِيمَةُ اسْمُ مَالٍ يَأْخُذُهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْكَفَرَةِ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ هَهُنَا فَإِنَّهُمْ دَخَلُوا لِلْمُحَارَبَةِ وَالْقَهْرِ لِأَنَّ الْقَهْرَ تَارَةً يَكُونُ بِالْقُوَّةِ جِهَارًا وَتَارَةً يَكُون بِالْمَكْرِ وَالْحِيلَةِ سِرًّا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : الْحَرْبُ خُدْعَةٌ } .
أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ دَخَلُوا بِإِذْنِ الْإِمَامِ كَانَ مَا يَأْخُذُونَ غَنِيمَةً وَصِفَةُ أَحَدِهِمْ لَا تَخْتَلِفُ بِوُجُودِ إذْنِ الْإِمَامِ وَعَدَمِهِ .
( وَحُجَّتُنَا ) مَا رُوِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَسَرُوا ابْنًا لِرَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَجَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْكُو مَا يَلْقَى مِنْ الْوَحْشَةِ { فَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَكْثِرَ مِنْ قَوْلِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ فَفَعَلَ ذَلِكَ فَخَرَجَ الِابْنُ عَنْ قَلِيلٍ بِقَطِيعٍ مِنْ الْغَنَمِ فَسَلَّمَ ذَلِكَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا } وَالْمَعْنَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْغَنِيمَةَ اسْمٌ لِمَالٍ مُصَابٍ بِأَشْرَفِ الْجِهَاتِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِعْزَازُ الدِّينِ وَلِهَذَا جُعِلَ الْخُمُسُ مِنْهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَحْصُلُ فِيمَا يَأْخُذُهُ الْوَاحِدُ عَلَى سَبِيلِ التَّلَصُّصِ فَيَتَمَحَّضُ فِعْلُهُ اكْتِسَابًا لِلْمَالِ بِمَنْزِلَةِ الِاصْطِيَادِ وَالِاحْتِطَابِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانُوا أَهْلَ مَنْعَةٍ وَشَوْكَةٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ الَّذِينَ لَهُمْ مَنْعَةٌ لَوْ أَمِنَهُمْ صَحَّ أَمَانُهُ وَاللِّصُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَوْ أَمِنَهُمْ لَمْ يَصِحَّ أَمَانُهُ وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ فِيمَا إذَا كَانَ دُخُولُ الْوَاحِدِ بِإِذْنِ الْإِمَامِ وَوَجْهُ الْفَرْقِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .

وَإِنْ دَخَلَ مُسْلِمٌ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَاشْتَرَى جَارِيَةً كِتَابِيَّةً وَاسْتَبْرَأَهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا هُنَاكَ لِأَنَّ مِلْكَهُ فِيهَا تَمَّ بِتَمَامِ سَبَبِهِ فَإِنَّ الشِّرَاءَ فِي كَوْنِهِ سَبَبَ الْمِلْكِ تَامٌّ لَا يَخْتَلِفُ بِدَارِ الْحَرْبِ وَدَارِ الْإِسْلَامِ بِخِلَافِ الْمُتَلَصِّصِ إذَا أَصَابَ جَارِيَةً فَإِنَّ سَبَبَ مِلْكِهِ هُنَاكَ لَمْ يَتِمَّ قَبْلَ الْإِحْرَازِ لِكَوْنِهِ مَقْهُورًا فِي دَارِهِمْ وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا يَتَّصِلُ بِجَيْشٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيُشَارِكُونَهُ فِيهَا إذَا شَارَكُوهُ فِي الْإِحْرَازِ .

( قَالَ ) : وَأَكْرَهُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَطَأَ أُمَّتَهُ أَوْ امْرَأَتَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهَا نَسْلٌ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ التَّوَطُّنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ } وَإِذَا خَرَجَ رُبَّمَا يَبْقَى لَهُ نَسْلٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيَتَخَلَّقُ وَلَدُهُ بِأَخْلَاقِ الْمُشْرِكِينَ وَلِأَنَّ مَوْطُوءَتَهُ إذَا كَانَتْ حَرْبِيَّةً فَإِذَا عَلِقَتْ مِنْهُ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ مَلَكُوهَا مَعَ مَا فِي بَطْنِهَا فَفِي هَذَا تَعْرِيضُ وَلَدِهِ لِلرِّقِّ وَذَلِكَ مَكْرُوهٌ .

وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُعْطِي الْإِمَامُ أَبَا الْغَازِي شَيْئًا مِنْ الْخُمُسِ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا لِأَنَّهُ لَوْ عَرَفَ حَاجَةَ الْغَازِي إلَى ذَلِكَ جَازَ لَهُ أَنْ يَضَعَهُ فِيهِ فَفِي أَبِيهِ أَوْلَى وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ سَدُّ خَلَّةِ الْمُحْتَاجِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهَا تَجِبُ عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ وَالْوَاجِبُ فِعْلُ الْإِيتَاءِ فَإِنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ إذَا جَعَلَهُ لِلَّهِ خَالِصًا بِقَطْعِ مَنْفَعَتِهِ مِنْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَهَهُنَا الْخُمُسُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَى الْغُزَاةِ بَلْ خُمُسُ مَا أَصَابُوهُ لِلَّهِ تَعَالَى يُصْرَفُ إلَى الْمُحْتَاجِينَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْغَازِي وَأَبُوهُ فِي ذَلِكَ كَغَيْرِهِ .

وَإِذَا غَزَا أَمِيرُ الشَّامَ فِي جَيْشٍ عَظِيمٍ فَإِنَّهُ يُقِيمُ الْحُدُودَ فِي الْعَسْكَرِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الْحُدُودِ وَفَرَّقْنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَمِيرِ الْجَيْشِ الَّذِي فَوَّضَ إلَيْهِ الْحَرْبَ خَاصَّةً .

فَإِنْ حَاصَرَ أَمِيرُ الشَّامِ مَدِينَةً مُدَّةً طَوِيلَةً لَمْ يُتِمَّ الصَّلَاةَ وَلَمْ يَجْمَعْ لِأَنَّهُ مُسَافِرٌ أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَقَامَ بِتَبُوكَ عِشْرِينَ لَيْلَةً وَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ } وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَقَامَ بِأَذْرَبِيجَانَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَكَانَ يَقْصُرُ الصَّلَاةَ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ نِيَّةَ الْمُحَارِبِ فِي دَارِ الْحَرْبِ الْإِقَامَةُ لَا تَصِحُّ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّوَطُّنِ فَإِنَّهُ بَيْنَ أَنْ يَهْزِمَ عَدُوَّهُ فَيُقِرُّ أَوْ يَنْهَزِمُ فَيَفِرُّ .

وَإِذَا أَرَادَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَغْزُوَا أَرْضَ الْحَرْبِ وَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ قُوَّةٌ وَلَا مَالٌ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُجَهِّزَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيُجْعَلَ الْقَاعِدُ لِلشَّاخِصِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْجِهَادَ بِالنَّفْسِ تَارَةً وَبِالْمَالِ أُخْرَى وَالْقَادِرُ عَلَى الْخُرُوجِ بِنَفْسِهِ يَحْتَاجُ إلَى مَالٍ كَثِيرٍ لِيَتَمَكَّنَ بِهِ مِنْ الْخُرُوجِ وَصَاحِبُ الْمَالِ يَحْتَاجُ إلَى مُجَاهِدٍ يَقُومُ بِدَفْعِ أَذَى الْمُشْرِكِينَ عَنْهُ وَعَنْ مَالِهِ فَلَا بَأْسَ بِالتَّعَاوُنِ بَيْنَهُمَا وَالتَّنَاصُرِ لِيَكُونَ الْقَاعِدُ مُجَاهِدًا بِمَا لَهُ وَالْخَارِجُ بِنَفْسِهِ { وَالْمُؤْمِنُونَ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا } ثُمَّ دَافِعُ الْمَالِ إلَى الْخَارِجِ لِيَغْزُوَ بِمَا لَهُ يُعِينُهُ عَلَى إقَامَةِ الْفَرْضِ وَذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فِي الشَّرْعِ وَإِنْ كَانَتْ عِنْدَهُمْ قُوَّةٌ أَوْ عِنْدَ الْإِمَامِ كَرِهْتُ ذَلِكَ أَمَّا إذَا كَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ فَذَلِكَ الْمَالُ فِي يَدِ الْإِمَامِ مُعَدٌّ لِمِثْلِ هَذِهِ الْحَاجَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَيْهَا وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْ ذَلِكَ بِمَا فِي يَدِهِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْغَازِي صَاحِبَ مَالٍ فَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِهِ وَتَمَامُ الْجِهَادِ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ وَلِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَ مِنْ غَيْرِهِ مَالًا فَعَمَلُهُ فِي الصُّورَةِ كَعَمَلِ مَنْ يَعْمَلُ بِالْأُجْرَةِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا .
أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِذَلِكَ الْأَجِيرِ بِكَمْ اُسْتُؤْجِرْت ؟ قَالَ : بِدِينَارَيْنِ قَالَ { : إنَّمَا لَك دِينَارُك فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } وَلِأَنَّ الِاشْتِرَاكَ يَنْفِي مَعْنَى الْعِبَادَةِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يُؤْثِرُ عَنْ رَبِّهِ { مَنْ عَمِلَ لِي عَمَلًا وَأَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَهُوَ كُلُّهُ لِذَلِكَ الشَّرِيكِ وَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ } فَلِهَذَا يُكْرَهُ لَهُ الْإِشْرَاكُ بِأَخْذِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِهِ إذَا

كَانَ مُسْتَغْنِيًا عَنْهُ وَإِذَا وَجَدَ مَنْ يَكْفِيهِ الْحَرَسُ فَالصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ أَفْضَلُ لَهُ مِنْ الْحَرَسِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَاعَةٌ أَمَّا الصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا الْحَرَسُ فَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ثَلَاثُ أَعْيُنٍ لَا تَمَسُّهَا نَارُ جَهَنَّمَ عَيْنٌ غَضَّتْ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ مَنْ يَكْفِيهِ الْحَرَسُ فَالصَّلَاةُ أَوْلَى لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ بِجَمِيعِ الْبَدَنِ فَهِيَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَتَدْفَعُ الْخَوَاطِرَ الرِّدْيَةَ وَتَمْنَعُ اللَّغْوَ فَالِاشْتِغَالُ بِهَا أَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَكْفِيهِ الْحَرَسُ فَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالْحَرَسِ فَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَفْضَلُ وَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَنَّهُ كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَإِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَالْحَرَسُ أَفْضَلُ لِأَنَّهُ أَعَمُّ نَفْعًا وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : خَيْرُ النَّاسِ مَنْ يَنْفَعُ النَّاسَ } وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ بِاللَّيْلِ مُمْكِنٌ إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْحَرَسِ إلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَالِاشْتِغَالُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِمَا هُوَ مُتَعَيَّنٌ أَوْلَى وَهُوَ كَالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ لِلْغُرَبَاءِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ بِخِلَافِ أَهْلِ مَكَّةَ .

وَإِذَا طُعِنَ الْمُسْلِمُ بِالرُّمْحِ فِي جَوْفِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَمْشِيَ إلَى صَاحِبِهِ وَالرُّمْحُ فِي جَوْفِهِ حَتَّى يَضْرِبَهُ بِالسَّيْفِ وَلَا يَكُونُ بِهِ مُعِينًا عَلَى نَفْسِهِ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَنْدُوبٌ إلَى بَذْلِ نَفْسِهِ فِي قَهْرِ الْمُشْرِكِينَ وَإِعْزَازِ الدِّينِ وَلَيْسَ فِي هَذَا أَكْبَرُ مِنْ بَذْلِ النَّفْسِ لِهَذَا الْمَقْصُودِ وَلَكِنْ هَذَا إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُصِيبُ مِنْ قَرْنِهِ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ حَمَلَ الْوَاحِدُ عَلَى جَمْعٍ عَظِيمٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُصِيبُ بَعْضَهُمْ أَوْ يَنْكِي فِيهِمْ نِكَايَةً فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَنْكِي فِيهِمْ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } { وَلَا تَلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ } وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رَأَى يَوْمَ أُحُدٍ كَتِيبَةً مِنْ الْيَهُودِ فَقَالَ : مَنْ لِهَذِهِ الْكَتِيبَةِ فَقَالَ وَهْبُ بْنُ قَابُوسَ : أَنَا لَهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ حَتَّى فَرَّقَهُمْ ثُمَّ رَأَى كَتِيبَةً أُخْرَى فَقَالَ : مَنْ لِهَذِهِ الْكَتِيبَةِ ؟ فَقَالَ وَهْبٌ : أَنَا لَهَا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَنْتَ لَهَا وَأَبْشِرْ بِالشَّهَادَةِ فَحَمَلَ عَلَيْهِمْ حَتَّى فَرَّقَهُمْ وَقُتِلَ هُوَ } فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا كَانَ يَنْكِي فِعْلُهُ فِيهِمْ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِمْ .

وَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي سَفِينَةٍ فَأُلْقِيَتْ إلَيْهِمْ النَّارُ لَمْ يُضَيَّقْ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَصْبِرَ عَلَى النَّارِ أَوْ يُلْقِيَ نَفْسَهُ فِي الْبَحْرِ أَمَّا إذَا كَانَ يَرْجُو النَّجَاةَ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِدَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَذَلِكَ فِي الْمَيْلِ إلَى الطَّرِيقِ الَّذِي يَرْجُو النَّجَاةَ فِيهِ وَإِنْ كَانَ يَرْجُو النَّجَاةَ فِي الْجَانِبَيْنِ يُخَيَّرُ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَصْبِرُ عَلَى الْمَاءِ فَوْقَ مَا يَصْبِرُ عَلَى النَّارِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ صَبْرُهُ عَلَى الدُّخَانِ وَالنَّارِ أَكْثَرُ عَلَى غَمِّ الْمَاءِ وَإِنْ كَانَ لَا يَرْجُو النَّجَاةَ فِي وَاحِدٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَتَخَيَّرُ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْقِيَ نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ لِأَنَّهُ لَوْ صَبَرَ عَلَى النَّارِ كَانَ هَلَاكُهُ بِفِعْلِ الْعَدُوِّ وَلَوْ أَلْقَى نَفْسَهُ كَانَ هَلَاكُهُ بِفِعْلِ نَفْسِهِ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الصَّبْرُ لِذَلِكَ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُلْقِيَ فِي نَفْسِهِ الْمَاءَ لِدَفْعِ الْهَلَاكِ وَذَلِكَ عِنْدَ رَجَاءِ النَّجَاةِ فِيهِ فَإِذَا كَانَ لَا يَرْجُو النَّجَاةَ لَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ دَفْعًا لِلْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ وَهُمَا يَقُولَانِ أَنَّ طَبَائِعَ النَّاسِ تَخْتَلِفُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَخْتَارُ غَمَّ الْمَاءِ عَلَى أَلَمِ النَّارِ فَهُوَ بِالْإِلْقَاءِ يَدْفَعُ أَلَمَ النَّارِ عَنْ نَفْسِهِ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَجِدُ الصَّبْرَ عَلَيْهِ فَكَانَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ وَمَنْ اُبْتُلِيَ بِبَلِيَّتَيْنِ يَخْتَارُ أَهْوَنَهُمَا عَلَيْهِ ثُمَّ هُوَ وَإِنْ أَلْقَى نَفْسَهُ مَدْفُوعٌ بِفِعْلِ الْمُشْرِكِينَ فَقَدْ أَلْجَئُوهُ إلَى ذَلِكَ وَأَفْسَدُوا عَلَيْهِ اخْتِيَارَهُ فَلَا يَبْقَى فِعْلُهُ مُعْتَبَرًا بَعْدَ ذَلِكَ فِي إضَافَةِ الْفِعْلِ إلَيْهِ فَلِهَذَا يُخَيَّرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابٌ فِي تَوْظِيفِ الْخَرَاجِ ( قَالَ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَإِذَا جَعَلَ الْإِمَامُ قَوْمًا مِنْ الْكُفَّارِ أَهْلَ ذِمَّةٍ وَضَعَ الْخَرَاجَ عَلَى رُءُوسِ الرِّجَالِ وَعَلَى الْأَرَضِينَ بِقَدْرِ الِاحْتِمَالِ أَمَّا خَرَاجُ الرُّءُوسِ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } وَأَمَّا السُّنَّةُ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ وَأَخَذَ الْحُلَلَ مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ } وَكَانَتْ جِزْيَةً وَقَالَ { : سُنُّوا بِالْمَجُوسِ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ } يَعْنِي فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ وَقَدْ طَعَنَ بَعْضُ الْمُلْحِدِينَ قَالَ : كَيْفَ يَجُوزُ تَقْرِيرُ الْكَافِرِ عَلَى الشِّرْكِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْجَرَائِمِ بِمَالٍ يُؤْخَذُ مِنْهُ وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ جَازَ تَقْرِيرُ الزَّانِي عَلَى الزِّنَا يُؤْخَذُ مِنْهُ ؟ وَالْكَلَامُ فِي هَذَا يَرْجِعُ إلَى الْكَلَامِ فِي إثْبَاتِ الصَّانِعِ وَأَنَّهُ حَكِيمٌ وَإِثْبَاتُ النُّبُوَّةِ ثُمَّ نَقُولُ : الْمَقْصُودُ لَيْسَ هُوَ الْمَالُ بَلْ الدُّعَاءُ إلَى الدِّينِ بِأَحْسَنِ الْوُجُوهِ لِأَنَّهُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ يُتْرَكُ الْقِتَالُ أَصْلًا وَلَا يُقَاتَلُ مَنْ لَا يُقَاتِلُ ثُمَّ يَسْكُنُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَيَرَى مَحَاسِنَ الدِّينِ وَيَعِظُهُ وَاعِظٌ فَرُبَّمَا يُسْلِمُ إلَّا أَنَّهُ إذَا سَكَنَ دَارَ الْإِسْلَامِ فَمَا دَامَ مُصِرًّا عَلَى كُفْرِهِ لَا يُخَلَّا عَنْ صَغَارٍ وَعُقُوبَةٍ وَذَلِكَ بِالْجِزْيَةِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنْهُ لِيَكُونَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى ذُلِّ الْكَافِرِ وَعِزِّ الْمُؤْمِنِ ثُمَّ يَأْخُذُ الْمُسْلِمُونَ الْجِزْيَةَ مِنْهُ خَلَفًا عَنْ النُّصْرَةِ الَّتِي فَاتَتْ بِإِصْرَارِهِ عَلَى الْكُفْرِ لِأَنَّ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَعَلَيْهِ الْقِيَامُ بِنُصْرَةِ الدَّارِ وَأَبْدَانُهُمْ لَا تَصْلُحُ لِهَذِهِ النُّصْرَةِ لِأَنَّهُمْ يَمِيلُونَ إلَى أَهْلِ الدَّارِ الْمُعَادِيَةِ فَيُشَوِّشُونَ عَلَيْنَا أَهْلَ الْحَرْبِ فَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْمَالُ لِيُصْرَفَ إلَى الْغُزَاةِ الَّذِينَ يَقُومُونَ

بِنُصْرَةِ الدَّارِ .
وَلِهَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِهِ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ فَإِنَّهُ مُعْتَبَرٌ بِأَصْلِ النُّصْرَةِ وَالْفَقِيرُ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا كَأَنْ يَنْصُرَ الدَّارَ رَاجِلًا وَوَسَطُ الْحَالِ كَأَنْ يَنْصُرَ الدَّارَ رَاكِبًا وَالْفَائِقُ فِي الْغِنَى يَرْكَبُ وَيَرْكَبُ غُلَامًا فَمَا كَانَ خَلَفًا عَنْ النُّصْرَةِ يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ الْحَالِ أَيْضًا وَالْأَصْلُ فِي مَعْرِفَةِ الْمِقْدَارِ حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ وَضَعَ الْجِزْيَةَ عَلَى رُءُوسِ الرِّجَالِ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا وَأَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ وَثَمَانِيَةً وَأَرْبَعِينَ وَنَصْبُ الْمَقَادِيرَ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ اعْتَمَدَ السَّمَاعَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذْنَا بِهِ وَقُلْنَا : الْمُعْتَمِلُ الَّذِي يَكْتَسِبُ أَكْثَرَ مِنْ حَاجَتِهِ وَلَا مَالَ لَهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ كُلُّ سَنَةٍ اثْنَيْ عَشَرَ دِرْهَمًا وَالْمُعْتَمِلُ الَّذِي لَهُ مَالٌ وَلَكِنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي بِمَالِهِ عَنْ الْعَمَلِ يُؤْخَذُ مِنْهُ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا فِي كُلِّ سَنَةٍ وَالْفَائِقُ فِي الْغِنَى وَهُوَ صَاحِبُ الْمَالِ الْكَثِيرِ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إلَى الْعَمَلِ يُؤْخَذُ مِنْهُ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقْدِرَ فِي الْمَالِ بِتَقْدِيرٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ فَبِالْعِرَاقِ مَنْ يَمْلِكُ خَمْسِينَ أَلْفًا يُعَدُّ وَسَطَ الْحَالِ وَفِي دِيَارِنَا مَنْ يَمْلِكُ عَشَرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ يُعَدُّ غَنِيًّا فَيُجْعَلُ ذَلِكَ مَوْكُولًا إلَى رَأْيِ الْإِمَامِ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ كَانَ يَقُولُ : إنَّمَا يُؤْخَذُ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِمَّنْ يَرْكَبُ الْبَغْلَةَ الشَّهْبَاءَ وَيَتَخَتَّمُ بِخَاتَمِ الذَّهَبِ وَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ بَدَلٌ عَنْ السُّكْنَى لِأَنَّهُ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ أَصْلًا وَلَا يُمَكَّنُ مِنْ السُّكْنَى فِي دَارِ الْغَيْرِ إلَّا بِكِرَاءٍ فَالْفَقِيرُ يَكْفِيهِ لِمُؤْنَةِ السُّكْنَى فِي كُلِّ شَهْرٍ دِرْهَمٌ وَوَسَطُ الْحَالِ يَحْتَاجُ إلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ

فَيُضَعَّفُ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْفَائِقُ فِي الْغِنَى وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ أَنَّهُ خَلَفٌ عَنْ النُّصْرَةِ كَمَا بَيَّنَّا وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَتَقَدَّرُ الْجِزْيَةُ بِدِينَارٍ وَلَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِهِ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ وُجُوبَ هَذَا الْمَالِ بِحَقْنِ الدَّمِ وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِفَقْرِهِ وَغِنَاهُ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { : خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ وَحَالِمَةٍ دِينَارًا } وَلَكِنَّا نَقُولُ : ثُبُوتُ الْحَقْنِ لَيْسَ بِالْمَالِ بَلْ بِانْعِدَامِ عِلَّةِ الْإِبَاحَةِ وَهُوَ الْقِتَالُ وَلِصِحَّةِ إحْرَازِهِ نَفْسَهُ وَمَالَهُ فِي دَارِنَا لِأَنَّهُ بِقَبُولِ عَقْدِ الذِّمَّةِ يَصِيرُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا حَتَّى لَا يُمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ بِحَالٍ وَحَدِيثُ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَالٍ كَانَ وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ دُونَ الْجِزْيَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَمَرَ بِالْأَخْذِ مِنْ النِّسَاءِ وَالْجِزْيَةُ لَا تَجِبُ عَلَى النِّسَاءِ .

وَأَمَّا خَرَاجُ الْأَرْضِ فَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ وَضَعَ عَلَى كُلِّ أَرْضٍ تَصْلُحُ لِلزَّرْعِ عَلَى الْجَرِيبِ دِرْهَمًا وَقَفِيزًا وَعَلَى جَرِيبِ الْكَرْمِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ وَعَلَى جَرِيبِ الرُّطَبَةِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ وَاعْتَمَدَ فِي مَا صَنَعَ السُّنَّةَ أَيْضًا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : مَنَعْت الْعِرَاقَ قَفِيزَهَا وَدِرْهَمَهَا } فِيمَا ذَكَرَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ بَعْدَهُ ثُمَّ تَفَاوَتَ الْوَاجِبُ بِتَفَاوُتِ رَيْعِ الْأَرَاضِي وَلِأَنَّ أَصْلَ الْوُجُوبِ بِاعْتِبَارِ الرَّيْعِ فَإِنَّ الْخَرَاجَ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ فَيَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ الرَّيْعِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ بَعَثَ لِذَلِكَ عُثْمَانَ بْنَ حُنَيْفٍ وَحُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَلَمَّا رَجَعَا إلَيْهِ قَالَ : لَعَلَّكُمَا حَمَّلْتُمَا الْأَرْضَ مَا لَا تُطِيقُ فَقَالَا : لَا بَلْ حَمَّلْنَاهَا مَا تُطِيقُ وَلَوْ زِدْنَا لَأَطَاقَتْ وَبِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ يَسْتَدِلُّ أَبُو يُوسُفَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَقُولُ : لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَى وَظِيفَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَتْ الْأَرْضُ تُطِيقُ الزِّيَادَةَ لِأَنَّهُمَا قَالَا : لَوْ زِدْنَا لَأَطَاقَتْ فَلَمْ يَأْمُرْهُمَا بِالزِّيَادَةِ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : إنَّهُ فِيمَا وَظَّفَ اعْتَبَرَ الطَّاقَةَ حَيْثُ قَالَ : لَعَلَّكُمَا حَمَّلْتُمَا الْأَرْضَ مَا لَا تُطِيقُ فَإِذَا كَانَتْ تُطِيقُ الزِّيَادَةَ يُزَادُ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهَا إذَا كَانَتْ لَا تُطِيقُ تِلْكَ الْوَظِيفَةَ لِقِلَّةِ رَيْعِهَا تَنْقُصُ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ تُطِيقُ الزِّيَادَةَ لِكَثْرَةِ رَيْعِهَا ؛ يُزَادُ وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِي شَرْحِ الزِّيَادَاتِ ثُمَّ فِي خَرَاجِ الْأَرَاضِيِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ سَوَاءٌ لِأَنَّهَا مُؤْنَةُ الْأَرَاضِي النَّامِيَةِ وَهُمْ فِي حُصُولِ النَّمَاءِ لَهُمْ سَوَاءٌ .

فَأَمَّا خَرَاجُ الرُّءُوسِ لَا يُؤْخَذُ مِنْ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ خَلَفٌ عَنْ النُّصْرَةِ الَّتِي فَاتَتْ بِإِصْرَارِهِمْ عَلَى الْكُفْرِ وَنُصْرَةُ الْقِتَالِ لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَلِأَنَّ فِي حَقِّهِمْ الْوُجُوبُ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ كَالْقَتْلِ وَإِنَّمَا يُقْتَلُ الرِّجَالُ مِنْهُمْ دُونَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ حِينَ كَانُوا حَرْبِيِّينَ فَكَذَلِكَ حُكْمُ الْجِزْيَةِ بَعْدَ عَقْدِ الذِّمَّةِ وَلَئِنْ كَانَ مُؤْنَةَ السُّكْنَى فَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ فِي السُّكْنَى تَبَعٌ وَأُجْرَةُ السُّكْنَى عَلَى مَنْ هُوَ الْأَصْلُ دُونَ التَّبَعِ وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ فَإِنَّهُ لَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ الْأَعْمَى وَالشَّيْخِ الْفَانِي وَالْمَعْتُوهِ وَالْمُقْعَدِ مَعَ أَنَّهُمْ فِي السُّكْنَى أَصْلٌ وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُهُ أَصْلُ النُّصْرَةِ بِبَدَنِهِ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا فَكَذَلِكَ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ مَا هُوَ خَلَفٌ عَنْ النُّصْرَةِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْأَعْمَى وَالْمُقْعَدَ إذَا كَانَ صَاحِبَ مَالٍ وَرَأْيٍ يُؤْخَذُ مِنْهُ لِأَنَّهُ يُقَاتَلُ بِرَأْيِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يُقَاتِلُ بِبَدَنِهِ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا وَعَجْزُهُ لِنُقْصَانٍ فِي بَدَنِهِ وَلَا نُقْصَانَ فِي مَالِهِ فَيُؤْخَذَ مِنْهُ مَا هُوَ خَلَفٌ عَنْ النُّصْرَةِ وَالْفَقِيرُ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعْمَلَ لَا تُؤْخَذُ مِنْهُ الْجِزْيَةُ لِأَنَّ الْجِزْيَةَ مَالٌ يُؤْخَذُ مِنْهُ وَلَا مَالَ لَهُ وَالْعَاجِزُ عَنْ الْأَدَاءِ مَعْذُورٌ شَرْعًا فِيمَا هُوَ حَقُّ الْعِبَادِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ } فَفِي الْجِزْيَةِ أَوْلَى وَهَذَا لِأَنَّ الْجِزْيَةَ صِلَةٌ مَالِيَّةٌ وَلَيْسَتْ بِدَيْنٍ وَاجِبٍ .
أَلَا تَرَى أَنَّهَا سُمِّيَتْ خَرَاجًا فِي الشَّرْعِ وَالْخَرَاجُ اسْمٌ لِمَا هُوَ صِلَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَهَلْ نَجْعَلُ لَك خَرْجًا } { أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ } وَالصِّلَةُ الْمَالِيَّةُ لَا تَكُونُ إلَّا مِمَّنْ يَجِدُ لِلْمَالِ فَأَمَّا مَنْ لَا يَجِدُ يُعَانُ بِالْمَالِ فَكَيْفَ يُؤْخَذُ مِنْهُ وَلَا

خَرَاجَ عَلَى رُءُوسِ الْمَمَالِيكِ لِأَنَّهُ خَلْفٌ عَنْ النُّصْرَةِ وَالْمَمْلُوكُ لَا يَمْلِكُ نُصْرَةَ الْقِتَالِ فِي نَفْسِهِ أَنْ لَوْ كَانَ مُسْلِمًا فَلَا يَلْزَمُهُ مَا هُوَ خَلَفٌ عَنْ النُّصْرَةِ ثُمَّ هُوَ أَعْسَرُ مِنْ الْحُرِّ الَّذِي لَا يَجِدُ شَيْئًا لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ أَصْلًا ثُمَّ الْمَمْلُوكُ فِي السُّكْنَى تَبَعٌ لِمَوْلَاهُ وَلَا خَرَاجَ فِي الِاتِّبَاعِ كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَلَا صَدَقَةَ فِي أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ مِنْ السَّوَائِمِ وَمَالُ التِّجَارَةِ فِي أَوْطَانِهِمْ لِأَنَّ الْإِمَامَ فِي الْبَابِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِأَمْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ بِشَيْءٍ لَا أَنْ يَمُرُّوا عَلَى الْعَاشِرِ فَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الزَّكَاةِ وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْأَخْذَ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ بِطَرِيقِ الْعِبَادَةِ الْمَحْضَةِ دُونَ الْمُؤْنَةِ فَإِنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الزَّكَاةَ أَحَدَ أَرْكَانِ الدِّينِ وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَلِكَ بِخِلَافِ الْخَرَاجِ وَالْعُشْرِ فَالْأَخْذُ مِنْ الْمُسْلِمِ بِطَرِيقِ مُؤْنَةِ الْأَرْضِ وَلِهَذَا جَازَ أَخْذُهُ مِنْ الْكَافِرِ وَلَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ الْكَافِرِ مَا هُوَ أَبْعَدُ عَنْ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَأَقْرَبُ إلَى مَعْنَى الصَّغَارِ وَهُوَ الْخَرَاجُ .

وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ قَبْلَ اسْتِكْمَالِ السَّنَةِ أَوْ بَعْدَهَا قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ خَرَاجُ رَأْسِهِ سَقَطَ عَنْهُ ذَلِكَ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنْ أَسْلَمَ بَعْدَ كَمَالِ السَّنَةِ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ وَإِنْ أَسْلَمَ قَبْلَ كَمَالِ السَّنَةِ فَلَهُ فِيهِ وَجْهَانِ وَحَجَّتُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ دَيْنٌ اسْتَقَرَّ وُجُوبُهُ فِي ذِمَّتِهِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِإِسْلَامِهِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ وَهُوَ أَنَّهُ مُطَالَبٌ بِأَدَائِهِ مُجْبَرٌ عَلَى ذَلِكَ مَحْبُوسٌ فِيهِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ أَوْ أَقْوَى حَتَّى إذَا بَعَثَ بِالْجِزْيَةِ عَلَى يَدِ نَائِبِهِ لَا تُقْبَلُ بِخِلَافِ سَائِرِ الدُّيُونِ وَبِأَنْ كَانَ لَا تَجِبُ ابْتِدَاءً عَلَى الْمُسْلِمِ فَلِهَذَا لَا يَمْنَعُ بَقَاءَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَخَرَاجِ الْأَرَاضِي فَالْمُسْلِمُ لَا يُبْتَدَأُ بِتَوْظِيفِ الْخَرَاجِ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يُبْقِي وَكَذَلِكَ الرِّقُّ لَا يُبْتَدَأُ بِهِ الْمُسْلِمُ ثُمَّ يَبْقَى رَقِيقًا بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَكَذَلِكَ الْفَقِيرُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ ابْتِدَاءً ثُمَّ تَبْقَى إذَا اسْتَهْلَكَ النِّصَابَ بَعْدَ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ وَهَذَا لِأَنَّهُ مُؤْنَةُ السُّكْنَى فَالْإِسْلَامُ لَا يُنَافِي اسْتِيفَاءَهُ كَالْأُجْرَةِ وَإِنَّمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُ صَارَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ أَصْلًا وَهَذَا بَدَلُ حَقْنِ الدَّمِ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ الْوَاجِبِ بِالصُّلْحِ عَنْ الْقِصَاصِ فَالْإِسْلَامُ لَا يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَهُ إذَا حَصَلَ لَهُ الْحَقْنُ بِهِ فِيمَا مَضَى وَلَكِنْ لَا يَجِبُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ ابْتِدَاءً لِأَنَّهُ حَقَنَ دَمَهُ بِالْإِسْلَامِ .
( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : لَيْسَ عَلَى مُسْلِمٍ جِزْيَةٌ } وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ ذِمِّيًّا طُولِبَ بِالْجِزْيَةِ فَأَسْلَمَ فَقِيلَ لَهُ : إنَّك أَسْلَمْت تَعَوُّذًا فَقَالَ : إنْ أَسْلَمْت تَعَوُّذًا فَفِي الْإِسْلَامِ لَمُتَعَوَّذٍ فَرَفَعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ رَضِيَ

اللَّهُ عَنْهُ عَنْهُ فَقَالَ : صَدَقَ فَأَمَرَ بِتَخْلِيَةِ سَبِيلِهِ وَالْمَعْنَى فِيهِ مَا قَرَرْنَا أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِمْ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ لَا بِطَرِيقِ الدُّيُونِ وَعُقُوبَاتُ الْكُفْرِ تَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ كَالْقَتْلِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ نَظِيرُ الْقَتْلِ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْوُجُوبِ عَلَيْهِ مَنْ يَقْتُلُ عَلَى كُفْرِهِ حَتَّى لَا يُوجِبُ عَلَى النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَبِهِ فَارَقَ خَرَاجَ الْأَرَاضِي وَالِاسْتِرْقَاقِ مَعَ أَنَّ الِاسْتِرْقَاقَ عُقُوبَةٌ مِنْ حَيْثُ تَبْدِيلُ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ بِالْمَمْلُوكِيَّةِ وَقَدْ تَمَّ ذَلِكَ حِينَ اُسْتُرِقَّ فَهُوَ عُقُوبَةٌ مُسْتَوْفَاةٌ وَوِزَانُهَا جِزْيَةٌ اُسْتُوْفِيَتْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ ثُمَّ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ هَذَا الْمَالُ خَلَفٌ عَنْ النُّصْرَةِ كَمَا بَيَّنَّا وَإِذَا أَسْلَمَ فَقَدْ صَارَ مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ فَيَسْقُطُ مَا هُوَ خَلَفٌ لِأَنَّهُ لَا بَقَاءَ لِلْخَلَفِ بَعْدَ وُجُودِ الْأَصْلِ وَلِأَنَّ أَخْذَ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ بِطَرِيقِ الصَّغَارِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَهُمْ صَاغِرُونَ } وَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ مِنْهُ لَوْ بَعَثَهَا عَلَى يَدِ نَائِبِهِ بَلْ يُكَلَّفُ بِأَنْ يَأْتِيَ بِهِ بِنَفْسِهِ فَيُعْطِي قَائِمًا وَالْقَابِضُ مِنْهُ قَاعِدٌ وَفِي رِوَايَةٍ يَأْخُذُ بِتَلْبِيبِهِ فَيَهُزُّهُ هَزًّا وَيَقُولُ : أَعْطِ الْجِزْيَةَ يَا ذِمِّيُّ وَبَعْدَ الْإِسْلَامِ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ بِطَرِيقِ الصَّغَارِ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ يُوَقَّرُ لِإِيمَانِهِ وَإِذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي وَجَبَ امْتَنَعَ الِاسْتِيفَاءُ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ غَيْرَ الْوَاجِبِ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ اسْتِيفَاءُ الْوَاجِبِ إذَا اُسْتُوْفِيَ بِالصِّفَةِ الَّتِي وَجَبَ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَهْلَكَ النِّصَابَ فِي مَالِ الزَّكَاةِ بَعْدَ وُجُوبِهَا لِأَنَّ وُجُوبَ الزَّكَاةِ عَلَى الْمُسْلِمِ بِطَرِيقِ الْعِبَادَةِ وَبَعْدَمَا افْتَقَرَ يَسْتَوْفِي بِطَرِيقِ الْعِبَادَةِ أَيْضًا حَتَّى لَوْ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلْعِبَادَةِ بِأَنْ ارْتَدَّ نَقُولُ بِأَنَّهُ لَا يُبْقِي وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْجِزْيَةَ لَيْسَتْ

بِدَيْنٍ وَلَا بَدَلٍ عَنْ السُّكْنَى وَلَا بَدَلٍ عَنْ حَقْنِ الدَّمِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا لَهُ ذَلِكَ فَإِنَّمَا هُوَ بَدَلٌ عَنْ الْحَقْنِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا فِيمَا مَضَى وَقَدْ اسْتَفَادَ الْحَقْنَ بِالْإِسْلَامِ فَلَا مَعْنَى لِأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ مَاتَ بَعْدَ مُضِيِّ السَّنَةِ عِنْدَنَا لَا يَسْتَوْفِي الْجِزْيَةَ مِنْ تَرِكَتِهِ وَعِنْدَهُ يَسْتَوْفِي اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الدُّيُونِ .
وَطَرِيقُنَا مَا قَرَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَلِأَنَّ هَذِهِ صِلَةٌ وَالصِّلَاتُ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ وَتَبْطُلُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ كَالنَّفَقَاتِ وَدَلِيلُ أَنَّهَا صِلَةً مَا بَيَّنَّا أَنَّهَا لَيْسَتْ بِبَدَلٍ عَنْ السُّكْنَى لِأَنَّهُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ صَارَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا فَإِنَّمَا يَسْكُنُ دَارَ نَفْسِهِ وَلَا يَسْكُنُ مِلْكَ نَفْسِهِ حَقِيقَةً وَقَوْلُنَا دَارُ الْإِسْلَامِ نِسْبَةٌ لِلْوِلَايَةِ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِاعْتِبَارِهِ الْأُجْرَةَ وَلَا هُوَ بَدَلٌ عَنْ حَقْنِ الدَّمِ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ فِي الْأَصْلِ مَحْقُونُ الدَّمِ وَالْإِبَاحَةُ بِعَارِضِ الْقِتَالِ فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ عَادَ الْحَقْنُ الْأَصْلِيُّ وَلِأَنَّ قَتَلَ الْكَافِرِ جَزَاءٌ مُسْتَحَقٌّ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُهُ بِمَالٍ أَصْلًا فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِعِوَضٍ عَنْ شَيْءٍ عَرَفْنَا أَنَّهُ صِلَةٌ وَفِي الصِّلَاتِ الْمُعْتَبَرُ الْفِعْلُ دُونَ الْمَالِ وَالْأَفْعَالُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهَا مِنْ التَّرِكَةِ فَإِنَّمَا يَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ مَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَ خَيَّاطًا لِيَخِيطَ ثَوْبَهُ بِيَدِهِ فَمَاتَ الْخَيَّاطُ بَطَلَ الْعَقْدُ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ الْفِعْلُ وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ التَّرِكَةِ .

وَإِنْ لَمْ يَمُتْ وَمَرَّتْ عَلَيْهِ سُنُونَ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ خَرَاجُ رَأْسِهِ لَمْ يُؤْخَذْ بِذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا بِاعْتِبَارِ السَّنَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا وَيُؤْخَذُ فِي قَوْلِهِمَا بِجَمِيعِ مَا مَضَى إذَا لَمْ يَكُنْ تَرْكُ ذَلِكَ لِعُذْرٍ وَتُلَقَّبُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِالْمَوانِيذِ وَهُمَا يَقُولَانِ الْمَوَانِيذُ فِي خَرَاجِ الرَّأْسِ كَالْمَوَانِيذِ فِي خَرَاجِ الْأَرْضِ ثُمَّ يَسْتَوْفِي جَمِيعَ ذَلِكَ وَإِنْ طَالَتْ الْمُدَّةُ فَكَذَلِكَ هُنَا وَهَذَا لِأَنَّهُ مَا بَقِيَ حَيًّا مُصِرًّا عَلَى كُفْرِهِ فَاسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي وَجَبَ مُمْكِنٌ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ إسْلَامِهِ وَمَوْتِهِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَرْفَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ وَالْعُقُوبَاتُ الَّتِي تَجِبُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى إذَا اجْتَمَعَتْ تَدَاخَلَتْ كَالْحُدُودِ وَفِي حَقِّنَا خَلَفٌ عَنْ النُّصْرَةِ وَهَذَا الْمَعْنَى يَتِمُّ بِاسْتِيفَاءِ جِزْيَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى اسْتِيفَاءِ مَا مَضَى وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَيْسَ هُوَ الْمَالُ بَلْ الْمَقْصُودُ اسْتِذْلَالُ الْكَافِرِ وَاسْتِصْغَارُهُ لِأَنَّ إصْرَارَهُ عَلَى الشِّرْكِ فِي دَارِ التَّوْحِيدِ جِنَايَةٌ فَلَا يَنْفَكُّ عَنْ صَغَارٍ يَجْرِي عَلَيْهِ وَهَذَا الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِاسْتِيفَاءِ جِزْيَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَوْ أَخَذْنَاهُ بِالْمَوانِيذِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلَّا لِمَقْصُودِ الْمَالِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَالَ غَيْرُ مَقْصُودٍ وَلِهَذَا لَا يَبْقَى بَعْدَ مَوْتِهِ وَإِسْلَامِهِ .

ثُمَّ أَوَانُ أَخْذِ خَرَاجِ الرَّأْسِ مِنْهُ آخِرَ السَّنَةِ قَبْلَ أَنْ يَتَحَوَّلَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُ فِي كُلِّ شَهْرَيْنِ بِقِسْطِ ذَلِكَ وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُؤْخَذُ شَهْرًا فَشَهْرًا لِيَكُونَ أَشَدَّ عَلَيْهِ وَأَقْرَبَ إلَى تَحْصِيلِ الْمَنْفَعَةِ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ مِنْ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ الْحَوْلُ كَمَا فِي زَكَاةِ الْمَالِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَخَرَاجِ الْأَرَاضِيِ .

وَلَا يُؤْخَذُ بِخَرَاجِ الْأَرْضِ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَإِنْ اسْتَغَلَّهَا صَاحِبُهَا مَرَّاتٍ لِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ مَا أَخَذَ الْخَرَاجَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي السَّنَةِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً وَلِأَنَّ رَيْعَ عَامَّةِ الْأَرَاضِيِ فِي السَّنَةِ يَكُونُ مَرَّةً وَاحِدَةً وَإِنَّمَا يُبْنَى الْحُكْمُ عَلَى الْعَامِ الْغَالِبِ وَالْأَرَاضِي يَكُونُ فِيهَا الشَّجَرُ الْكَبِيرُ يُوضَعُ عَلَيْهَا مِنْ الْخَرَاجِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا وَظَّفَهُ اعْتَبَرَ الطَّاقَةَ فَعَرَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْأَصْلُ فَإِذَا عَطَّلَ أَرْضَهُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ خَرَاجُهَا لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي اخْتَارَ تَرْكَ الِاسْتِغْلَالِ وَالِانْتِفَاعِ بِهَا وَقَصَدَ بِذَلِكَ إسْقَاطَ حَقِّ مَصَارِفِ الْخَرَاجِ فُرِّدَ عَلَيْهِ قَصْدُهُ بِخِلَافِ الْعُشْرِ فَالْوَاجِبُ هُنَاكَ جُزْءٌ مِنْ الْخَرَاجِ وَالْإِيجَابُ بِدُونِ الْمَحَلِّ لَا يَتَحَقَّقُ وَهَهُنَا الْوَاجِبُ مَالٌ فِي ذِمَّتِهِ بِاعْتِبَارِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ فَلَمْ يَنْعَدِمْ ذَلِكَ بِتَعْطِيلِهِ الْأَرْضَ .

وَإِنْ زَرَعَهَا فَأَصَابَ الزَّرْعَ آفَةٌ فَذَهَبَ لَمْ يُؤْخَذْ الْخَرَاجُ لِأَنَّهُ مُصَابٌ فَيَسْتَحِقُّ الْمَعُونَةَ وَلَوْ أَخَذْنَاهُ بِالْخَرَاجِ كَانَ فِيهِ اسْتِئْصَالٌ وَمِمَّا حُمِدَ مِنْ سَيْرِ الْأَكَاسِرَةِ إذَا اصْطَلَمَ الْأَرْضَ آفَةٌ يَرُدُّونَ عَلَى الدَّهَاقِينِ مِنْ خَزَائِنِهِمْ مَا أَنْفَقُوا فِي الْأَرْضِ وَيَقُولُونَ : التَّاجِرُ شَرِيكٌ فِي الْخُسْرَانِ كَمَا هُوَ شَرِيكٌ فِي الرِّبْحِ فَإِنْ لَمْ يُرَدَّ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ الْخَرَاجُ وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَجْرِ فَإِنَّهُ يَجِبُ بِقَدْرِ مَا كَانَ الْأَرْضُ مَشْغُولًا بِالزَّرْعِ لِأَنَّ الْأَجْرَ عِوَضُ الْمَنْفَعَةِ فَبِقَدْرِ مَا اسْتَوْفَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ يَصِيرُ الْأَجْرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَأَمَّا الْخَرَاجُ صِلَةٌ وَاجِبَةٌ بِاعْتِبَارِ الْأَرَاضِي فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهَا بَعْدَمَا اصْطَلَمَ الزَّرْعَ آفَةٌ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ اسْتِغْلَالِ الْأَرْضِ بِخِلَافِ مَا إذَا عَطَّلَهَا .

وَإِذَا أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ عَلَى أَرْضِهِ كَانَ عَلَيْهِ خَرَاجُهَا كَمَا كَانَ عِنْدَنَا وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : يَسْقُطُ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ إذَا بَاعَهَا مِنْ مُسْلِمٍ وَاعْتَبَرَ خَرَاجَ الْأَرْضِ بِخَرَاجِ الرَّأْسِ فَكَمَا لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ بَعْدَ إسْلَامِهِ خَرَاجُ الرَّأْسِ فَكَذَلِكَ خَرَاجُ الْأَرْضِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْخَرَاجُ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ كَالْعُشْرِ وَالْمُسْلِمُ مِنْ أَهْلِ الْتِزَامِ الْمُؤْنَةَ وَهَذَا لِأَنَّهُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لَا يُخْلِي أَرْضَهُ عَنْ مُؤْنَةٍ فَإِبْقَاءُ مَا تَقَرَّرَ وَاجِبًا أَوْلَى لِأَنَّا إنْ أَسْقَطْنَا ذَلِكَ احْتَجْنَا إلَى إيجَابِ الْعُشْرِ بِخِلَافِ خَرَاجِ الرَّأْسِ فَإِنَّا لَوْ أَسْقَطْنَا ذَلِكَ عَنْهُ بَعْدَ إسْلَامِهِ لَا نَحْتَاجُ إلَى إيجَابِ مُؤْنَةٍ أُخْرَى عَلَيْهِ وَلَا يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَدَاءُ خَرَاجِ الْأَرْضِ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَشُرَيْحٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ كَانَتْ لَهُمْ أَرْضُونَ بِالسَّوَادِ يُؤَدُّونَ خَرَاجَهَا فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ خَرَاجَ الْأَرْضِ لَا يُعَدُّ مِنْ الصَّغَارِ وَإِنَّمَا الصَّغَارُ خَرَاجُ الْإِعْتَاقِ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ الْمُتَقَشِّفَةُ وَيَسْتَدِلُّونَ بِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى شَيْئًا مِنْ آلَاتِ الْحِرَاثَةِ فَقَالَ : مَا دَخَلَ هَذَا بَيْتَ قَوْمٍ إلَّا ذَلُّوا } ظَنُّوا أَنَّ الْمُرَادَ الذُّلُّ بِالْتِزَامِ الْخَرَاجِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ إذَا اشْتَغَلُوا بِالزِّرَاعَةِ وَاتَّبَعُوا أَذْنَابَ الْبَقَرِ وَقَعَدُوا عَنْ الْجِهَادِ كَرَّ عَلَيْهِمْ عَدُوُّهُمْ فَجَعَلُوهُمْ أَذِلَّةً .

تَغْلِبِيٌ اشْتَرَى أَرْضًا مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ فَعَلَيْهِ الْخَرَاجُ كَمَا كَانَ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُضَعَّفُ عَلَيْهِ مَا يُبْتَدَأُ الْمُسْلِمُ بِالْإِيجَابِ عَلَيْهِ هَكَذَا جَرَى الصُّلْحُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ وَلَا يُبْتَدَأُ الْمُسْلِمُ بِتَوْظِيفِ الْخَرَاجِ عَلَى أَرْضِهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ أَهْلَ بَلْدَةٍ لَوْ أَسْلَمُوا طَوْعًا يُجْعَلُ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ الْعُشْرُ دُونَ الْخَرَاجِ فَلِهَذَا لَا يُضَعَّفُ الْخَرَاجُ عَلَى التَّغْلِبِيِّ وَإِنْ اشْتَرَى أَرْضًا مِنْ أَرْضِ الْعُشْرِ ضُوعِفَ عَلَيْهِ الْعُشْرُ لِأَنَّ الْعُشْرَ يُبْتَدَأُ بِهِ الْمُسْلِمُ فَيُضَعَّفُ عَلَى التَّغْلِبِيِّ كَالزَّكَاةِ وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَقَدْ بَيَّنَّا تَمَامَ هَذِهِ الْفُصُولِ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ وَذَكَرْنَا قَوْلَ مُحَمَّدٍ أَنَّ التَّضْعِيفَ عَلَيْهِمْ فِي الْأَرَاضِيِ الَّتِي وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهَا فَأَمَّا فِيمَا اشْتَرَاهَا مِنْ مُسْلِمٍ لَا تَتَغَيَّرُ الْوَظِيفَةُ بِتَغَيُّرِ الْمَالِكِ كَمَا لَا تَتَغَيَّرُ وَظِيفَةُ الْخَرَاجِ إذَا اشْتَرَى مُسْلِمٌ أَرْضًا خَرَاجِيَّةً وَكَمَا لَا تَتَغَيَّرُ وَظِيفَةُ الْعُشْرِ إذَا اشْتَرَاهَا مُكَاتَبٌ أَوْ صَبِيٌّ .

( قَالَ ) : أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ أَرْضًا بِمَكَّةَ فِي الْحَرَمِ اشْتَرَاهَا ذِمِّيٌّ أَوْ تَغْلِبِيُّ كَانَتْ تَصِيرُ خَرَاجِيَّةً أَوْ تَتَحَوَّلُ عَنْ الْعُشْرِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهَا قَبْلَ ذَلِكَ .

وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ دَارَ الْإِسْلَامِ مُسْتَأْمَنًا فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً ذِمِّيَّةً لَمْ يَصِرْ ذِمِّيًّا لِأَنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ بِتَابِعٍ لِامْرَأَتِهِ فِي السُّكْنَى فَهُوَ بِالنِّكَاحِ لَمْ يَصِرْ رَاضِيًا بِالْمُقَامِ فِي دَارِنَا عَلَى التَّأْبِيدِ وَإِنَّمَا اسْتَأْمَنَ إلَيْنَا لِلتِّجَارَةِ وَالتَّاجِرُ قَدْ يَتَزَوَّجُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَقْصِدُ التَّوَطُّنَ فِيهِ فَلِهَذَا لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا فَإِنْ أَطَالَ الْمُقَامِ وَأَوْطَنَ فَحِينَئِذٍ تُوضَعُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ وَيَأْمُرَهُ بِالْخُرُوجِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْذَارِ وَالْإِعْذَارِ وَفِي التَّقَدُّمِ إلَيْهِ إنْ بَيَّنَ مُدَّةً فَقَالَ : إنْ خَرَجْت إلَى وَقْتِ كَذَا وَإِلَّا جَعَلْتُك ذِمِّيًّا فَإِنْ خَرَجَ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ تَرَكَهُ لِيَذْهَبَ وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ لَمْ يُمَكِّنْهُ مِنْ الْخُرُوجِ بَعْدَ ذَلِكَ وَجَعَلَهُ ذِمِّيًّا لِأَنَّ مُقَامَهُ بَعْدَ التَّقَدُّمِ إلَيْهِ حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ رِضًا مِنْهُ بِالْمُقَامِ فِي دَارِنَا عَلَى التَّأْبِيدِ وَإِنْ لَمْ يُقَدِّرْ لَهُ مُدَّةً فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الْحَوْلُ فَإِذَا أَقَامَ فِي دَارِنَا بَعْدَ ذَلِكَ حَوْلًا لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ الْخُرُوجِ لِأَنَّ هَذَا لَإِبْلَاءِ الْعُذْرِ وَالْحَوْلُ لِذَلِكَ حَسَنٌ كَمَا فِي أَجَلِ الْعِنِّينِ وَنَحْوِهِ وَإِنْ اشْتَرَى أَرْضَ خَرَاجٍ فَزَرَعَهَا يُوضَعُ عَلَيْهِ خَرَاجُ الْأَرْضِ وَالرَّأْسِ أَمَّا خَرَاجُ الْأَرْضِ فَلِأَنَّهُ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ وَقَدْ تَقَرَّرَ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ حِينَ اسْتَغَلَّ الْأَرْضَ ثُمَّ بِالْتِزَامِ خَرَاجِ الْأَرْضِ صَارَ رَاضِيًا بِالْتِزَامِ أَحْكَامِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ مُلْتَزِمٌ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ وَالِالْتِزَامُ تَارَةً يَكُونُ نَصًّا وَتَارَةً يَكُونُ دَلَالَةً .

وَالْحَرْبِيَّةُ الْمُسْتَأْمَنَةُ إذَا تَزَوَّجَتْ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا فَقَدْ تَوَطَّنَتْ وَصَارَتْ ذِمِّيَّةً لِأَنَّ الْمَرْأَةَ فِي السُّكْنَى تَابِعَةٌ لِلزَّوْجِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الْخُرُوجَ إلَّا بِإِذْنِهِ فَجَعْلُهَا نَفْسَهَا تَابِعَةً لِمَنْ هُوَ مِنْ دَارِنَا رَضِيَ بِالتَّوَطُّنِ فِي دَارِنَا عَلَى التَّأْبِيدِ فَرِضَاهَا بِذَلِكَ دَلَالَةٌ كَالرِّضَا بِطَرِيقِ الْإِفْصَاحِ فَلِهَذَا صَارَتْ ذِمِّيَّةً وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .

بَابُ صُلْحِ الْمُلُوكِ وَالْمُوَادَعَةِ ( قَالَ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَلِكٌ مِنْ مُلُوكِ أَهْلِ الْحَرْبِ لَهُ أَرْضٌ وَاسِعَةٌ فِيهَا قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ هُمْ عَبِيدٌ لَهُ يَبِيعُ مِنْهُمْ مَا شَاءَ صَالَحَ الْمُسْلِمِينَ ، وَصَارَ ذِمَّةً لَهُمْ ، فَإِنَّ أَهْلَ مَمْلَكَتِهِ عَبِيدٌ لَهُ كَمَا كَانُوا يَبِيعُهُمْ أَنَّى شَاءَ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ خَلَفٌ عَنْ الْإِسْلَامِ فِي حُكْمِ الْإِحْرَازِ ، وَلَوْ أَسْلَمَ كَانُوا عَبِيدًا لَهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ } فَكَذَلِكَ إذَا صَارَ ذِمِّيًّا ، وَهَذَا لِأَنَّهُ كَانَ مَالِكًا لَهُمْ بِيَدِهِ الْقَاهِرَةِ ، وَقَدْ اسْتَقَرَّتْ يَدُهُ ، وَازْدَادَتْ وَكَادَةً بِعَقْدِ الذِّمَّةِ ، فَإِنْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ عَدُوٌّ غَيْرُهُمْ ثُمَّ اسْتَنْقَذَهُمْ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَيْدِي أُولَئِكَ ، فَإِنَّهُمْ يُرَدُّونَ عَلَى هَذَا الْمَلِكِ بِغَيْرِ شَيْءٍ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ، وَبِالْقِيمَةِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ أَمْوَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْقِيَامَ بِدَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ كَمَا عَلَيْهِمْ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ .

وَعَلَى هَذَا لَوْ أَسْلَمَ الْمَلِكُ وَأَهْلُ أَرْضِهِ ، أَوْ أَسْلَمَ أَهْلُ أَرْضِهِ دُونَهُ فَهُمْ عَبِيدٌ لَهُ كَمَا كَانُوا ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُحْرِزًا لَهُمْ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ فَيَزْدَادُ ذَلِكَ قُوَّةً بِإِسْلَامِهِ ، وَإِسْلَامُ مَمْلُوكِهِ الذِّمِّيِّ لَا يُبْطِلُ مِلْكَهُ عَنْهُ .

وَإِنْ كَانَ طَلَب الذِّمَّةَ عَلَى أَنْ يُتْرَكَ يَحْكُمُ فِي أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ بِمَا شَاءَ مِنْ قَتْلٍ أَوْ صَلْبٍ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا لَا يَصْلُحُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يُجَبْ إلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ التَّقْرِيرَ عَلَى الظُّلْمِ مَعَ إمْكَانِ الْمَنْعِ مِنْهُ حَرَامٌ ، وَلِأَنَّ الذِّمِّيَّ مَنْ يَلْتَزِمُ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ فَشَرْطُهُ بِخِلَافِ مُوجِبِ الْعَقْدِ بَاطِلٌ ، كَمَا لَوْ أَسْلَمَ بِشَرْطِ أَنْ يَرْتَكِبَ شَيْئًا مِنْ الْفَوَاحِشِ كَانَ الشَّرْطُ بَاطِلًا ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ وَفْدَ ثَقِيفٍ جَاءُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا : نُؤْمِنُ بِشَرْطِ أَنْ لَا نَنْحَنِيَ لِلرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَإِنَّا نَكْرَهُ أَنْ تَعْلُونَا أَسْتَاهُنَا ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا خَيْرَ فِي دِينٍ لَا صَلَاةَ فِيهِ ، وَلَا خَيْرَ فِي صَلَاةٍ لَا رُكُوعَ فِيهَا وَلَا سُجُودَ } ، فَإِنْ أُعْطِيَ الصُّلْحَ ، وَالذِّمَّةَ عَلَى هَذَا بَطَلَ مِنْ شُرُوطِهِ مَا لَا يَصْلُحُ فِي الْإِسْلَامِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ } ، فَإِنْ رَضِيَ بِمَا يُوَافِقُ حُكْمَ الْإِسْلَامِ ، فَإِنَّهُ أُبْلِغَ مَأْمَنَهُ هُوَ ، وَأَصْحَابُهُ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ يَعْتَمِدُ الرِّضَى ، وَمَا تَمَّ رِضَاهُ بِدُونِ هَذَا الشَّرْطِ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ الْوَفَاءُ بِهَذَا الشَّرْطِ فَإِذَا أَبَى أَنْ يَرْضَى بِدُونِ هَذَا الشَّرْطِ يُبَلَّغُ مَأْمَنَهُ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمُسْتَأْمَنِينَ ، فَإِنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ الْغَدْرِ وَاجِبٌ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : فِي الْعُهُودِ ، وَفَاءٌ لَا غَدْرٌ فِيهِ } بِخِلَافِ مَا لَوْ أَسْلَمَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُصَلِّيَ ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ صَحِيحٌ بِدُونِ تَمَامِ الرِّضَى كَمَا لَوْ أَسْلَمَ مُكْرَهًا ، وَلَا يُتْرَكُ بَعْدَ صِحَّةِ إسْلَامِهِ لِيَرْتَدَّ فَيَرْجِعَ إلَى الْكُفْرِ .

فَإِنْ صَارَ ذِمَّةً ثُمَّ وُقِفَتْ مِنْهُ عَلَى أَنَّهُ يُخْبِرُ الْمُشْرِكِينَ بِعَوْرَةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَيُقْرِي عُيُونَهُمْ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْهُ نَقْضًا لِلْعَهْدِ ، وَلَكِنْ يُعَاقَبُ عَلَى هَذَا وَيُحْبَسُ ، وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ نَاقِضٌ لِلْعَهْدِ بِمَا صَنَعَ فَيُقْتَلُ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لَا يَزَالُ يَغْتَالُ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَقْتُلُهُ أَوْ يَفْعَلُ ذَلِكَ أَهْلُ أَرْضِهِ لَمْ يَكُنْ هَذَا نَقْضًا لِلْعَهْدِ عِنْدَنَا ، وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ نَقْضٌ ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ مُوجَبِ الْعَقْدِ ، فَإِنَّ الذِّمِّيَّ مَنْ يَنْقَادُ لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ فِي الْمُعَامَلَاتِ ، وَيَكُونُ مَقْهُورًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ تَحْتَ يَدِ الْمُسْلِمِينَ ، وَمُبَاشَرَةُ مَا كَانَ يُخَالِفُ مُوجَبَ الْعَقْدِ يَكُونُ نَقْضًا لِلْعَهْدِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لَوْ فَعَلَ هَذَا مُسْلِمٌ لَمْ يَكُنْ بِهِ نَاقِضًا لِإِيمَانِهِ فَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَهُ ذِمِّيٌّ لَا يَكُونُ نَاقِضًا لِأَمَانِهِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ ، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي ، وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ } ، وَقِصَّتُهُ فِيمَا صَنَعَ مَعْرُوفَةٌ فِي الْمَغَازِي ، وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى مُؤْمِنًا مَعَ ذَلِكَ ، وَحَدِيثُ أَبِي لُبَابَةَ بْنِ الْمُنْذِرِ ، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ ، وَالرَّسُولَ } ، وَقِصَّتُهُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ بَنِي قُرَيْظَةَ مَعْرُوفَةٌ ، وَقَدْ سَمَّاهُ اللَّهُ مُؤْمِنًا فَعَرَفْنَا أَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَكُونُ نَقْضًا لِلْإِيمَانِ ، وَلَا لِلذِّمَّةِ ، وَلَكِنْ مَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْقَتْلُ بِالْبَيِّنَةِ يُقْتَصُّ مِنْهُ ، فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ الْقَاتِلُ ، وَوُجِدَ الْقَتِيلُ فِي قَرْيَةٍ مِنْ قُرَاهُمْ فَفِيهِ الْقَسَامَةُ ، وَالدِّيَةُ كَمَا { قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ بِخَيْبَرَ } فَيَحْلِفُ الْمَلِكُ خَمْسِينَ يَمِينًا بِاَللَّهِ مَا قَتَلْت ، وَلَا عَرَفْت قَاتِلَهُ ثُمَّ يَغْرَمُ

الدِّيَةَ ، وَلَا يَحْلِفُ بَقِيَّةُ أَهْلِ مَمْلَكَتِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ عَبِيدُهُ ، وَالْعَبِيدُ لَا يُزَاحِمُونَ الْأَحْرَارَ فِي الْقَسَامَةِ ، وَالدِّيَةِ ، فَإِنْ كَانُوا أَحْرَارًا فَعَلَيْهِمْ الْقَسَامَةُ ، وَالدِّيَةُ ؛ لِأَنَّهُمْ يُسَاوُونَهُ فِي الْحُرِّيَّةِ ، وَالسُّكْنَى فِي الْقَرْيَةِ فَيُشَارِكُونَهُ فِي الْقَسَامَةِ ، وَالدِّيَةِ .

وَإِذَا طَلَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ الْمُوَادَعَةَ سِنِينَ بِغَيْرِ شَيْءٍ نَظَرَ الْإِمَامُ فِي ذَلِكَ ، فَإِنْ رَآهُ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ لِشِدَّةِ شَوْكَتِهِمْ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ فَعَلَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { ، وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا } { ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ أَهْلَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ وَضَعَ الْحَرْبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ } فَكَانَ ذَلِكَ نَظَرًا لِلْمُسْلِمِينَ لِمُوَاطِئَةٍ كَانَتْ بَيْنَ أَهْلِ مَكَّةَ ، وَأَهْلِ خَيْبَرَ ، وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ نُصِّبَ نَاظِرًا ، وَمِنْ النَّظَرِ حِفْظُ قُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ أَوَّلًا ، فَرُبَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْمُوَادَعَةِ إذَا كَانَتْ لِلْمُشْرِكَيْنِ شَوْكَةٌ أَوْ احْتَاجَ إلَى أَنْ يُمْعِنَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِيَتَوَصَّلَ إلَى قَوْمٍ لَهُمْ بَأْسٌ شَدِيدٌ فَلَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ أَنْ يُوَادِعَ مَنْ عَلَى طَرِيقِهِ .

وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْمُوَادَعَةُ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُوَادِعَهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الْأَعْلَوْنَ } ، وَلِأَنَّ قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ فَرْضٌ ، وَتَرْكُ مَا هُوَ الْفَرْضُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَا يَجُوزُ ، فَإِنْ رَأَى الْمُوَادَعَةَ خَيْرًا فَوَادَعَهُمْ ثُمَّ نَظَرَ فَوَجَدَ مُوَادَعَتَهُمْ شَرًّا لِلْمُسْلِمِينَ نَبَذَ إلَيْهِمْ الْمُوَادَعَةَ وَقَاتَلَهُمْ ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ فِي الِانْتِهَاءِ مَا لَوْ كَانَ مَوْجُودًا فِي الِابْتِدَاءِ مَنَعَهُ ذَلِكَ مِنْ الْمُوَادَعَةِ فَإِذَا ظَهَرَ ذَلِكَ فِي الِانْتِهَاءِ مَنَعَ ذَلِكَ مِنْ اسْتِدَامَةِ الْمُوَادَعَةِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ نَقْضَ الْمُوَادَعَةِ بِالنَّبْذِ جَائِزٌ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَعْقِدُ عَلَيْهِمْ أُولَاهُمْ ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ } ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَنْبِذَ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ قَالَ تَعَالَى { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ } أَيْ عَلَى سَوَاءٍ مِنْكُمْ ، وَمِنْهُمْ فِي الْعِلْمِ بِذَلِكَ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يَحِلُّ قِتَالُهُمْ قَبْلَ النَّبْذِ ، وَقَبْلَ أَنْ يَعْلَمُوا بِذَلِكَ لِيَعُودُوا إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِنْ التَّحَصُّنِ ، وَكَانَ ذَلِكَ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْغَدْرِ .

فَإِنْ حَاصَرَ الْعَدُوُّ الْمُسْلِمِينَ ، وَطَلَبُوا الْمُوَادَعَةَ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ إلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ شَيْئًا مَعْلُومًا كُلَّ سَنَةٍ فَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُجِيبَهُمْ إلَى ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الدِّينَةِ وَالذِّلَّةِ بِالْمُسْلِمِينَ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ ، وَهُوَ أَنْ يَخَافَ الْمُسْلِمُونَ الْهَلَاكَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ، وَيَرَى الْإِمَامُ أَنَّ هَذَا الصُّلْحَ خَيْرٌ لَهُمْ فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَفْعَلَهُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَحَاطُوا بِالْخَنْدَقِ ، وَصَارَ الْمُسْلِمُونَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { هُنَالِكَ اُبْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا } { بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى عُبَيْدَةَ بْنِ حِصْنٍ ، وَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمَنْ مَعَهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ كُلَّ سَنَةٍ ثُلُثَ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ فَأَبِي إلَّا النِّصْفَ فَلَمَّا حَضَرَ رُسُلُهُ لِيَكْتُبُوا الصُّلْحَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ سَيِّدَا الْأَنْصَارِ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ ، وَسَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَقَالَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ كَانَ هَذَا عَنْ وَحْيٍ فَامْضِ لِمَا أُمِرْت بِهِ ، وَإِنْ كَانَ رَأْيًا رَأَيْته فَقَدْ كُنَّا نَحْنُ وَهُوَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَكُنْ لَنَا وَلَا لَهُمْ دِينٌ فَكَانُوا لَا يَطْمَعُونَ فِي ثِمَارِ الْمَدِينَةِ إلَّا بِشِرَاءٍ أَوْ قِرًى ، فَإِذَا أَعَزَّنَا اللَّهُ بِالدِّينِ وَبَعَثَ فِينَا رَسُولَهُ نُعْطِيهِمْ الدَّنِيَّةَ لَا نُعْطِيهِمْ إلَّا السَّيْفَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي رَأَيْت الْعَرَبَ رَمَتْكُمْ عَنْ قَوْسٍ وَاحِدَةٍ فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَصْرِفَهُمْ عَنْكُمْ فَإِذَا أَبَيْتُمْ ذَلِكَ فَأَنْتُمْ وَأُولَئِكَ اذْهَبُوا فَلَا نُعْطِيكُمْ إلَّا السَّيْفَ } فَقَدْ مَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الصُّلْحِ فِي الِابْتِدَاءِ لَمَّا أَحَسَّ الضَّعْفَ بِالْمُسْلِمِينَ فَحِينَ رَأَى الْقُوَّةَ فِيهِمْ بِمَا قَالَهُ السَّعْدَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ وَقَدْ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي الْمُؤَلَّفَةَ قُلُوبُهُمْ مِنْ الصَّدَقَةِ لِدَفْعِ ضَرَرِهِمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ عِنْد خَوْفِ الضَّرَرِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُمْ إنْ ظَهَرُوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَخَذُوا جَمِيعَ الْأَمْوَالِ ، وَسَبَوْا الذَّرَارِيَّ ، فَدَفْعُ بَعْضِ الْمَالِ لِيَسْلَمَ الْمُسْلِمُونَ فِي ذَرَارِيِّهِمْ ، وَسَائِرِ أَمْوَالِهِمْ أَهْوَنُ وَأَنْفَعُ .

وَإِنْ أَرَادَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْمُوَادَعَةَ سِنِينَ مَعْلُومَةً عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ أَهْلُ الْحَرْبِ الْخَرَاجَ إلَيْهِمْ كُلَّ سَنَةٍ شَيْئًا مَعْلُومًا عَلَى أَنْ لَا تَجْرِيَ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِمْ فِي بِلَادِهِمْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي ذَلِكَ خَيْرٌ لِلْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهُمْ بِهَذِهِ الْمُوَادَعَةِ لَا يَلْتَزِمُونَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ ، وَلَا يَخْرُجُونَ مِنْ أَنْ يَكُونُوا أَهْلَ حَرْبٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تَرْكَ الْقِتَالِ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ لَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ ، فَإِذَا رَأَى الْإِمَامُ مَنْفَعَةً فِي ذَلِكَ فَصَالَحَهُمْ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ أَحَاطَ مَعَ الْجَيْشِ بِبِلَادِهِمْ فَمَا يَأْخُذُ مِنْهُمْ يَكُونُ غَنِيمَةً يُخَمِّسُهَا ، وَيُقَسِّمُ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمْ ؛ لِأَنَّهُ تَوَصَّلَ إلَيْهَا بِقُوَّةِ الْجَيْشِ فَهُوَ كَمَا لَوْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ بِالْفَتْحِ ، فَإِنْ لَمْ يَنْزِلْ مَعَ الْجَيْشِ بِسَاحَتِهِمْ ، وَلَكِنَّهُمْ أَرْسَلُوا إلَيْهِ ، وَادَعُوهُ عَلَى هَذَا فَمَا يَأْخُذُ مِنْهُمْ ، بِمَنْزِلَةِ الْجِزْيَةِ لَا خُمُسَ فِيهَا بَلْ يُصْرَفُ مَصَارِفَ الْجِزْيَةِ ، وَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى أَنْ يُؤَدُّوا إلَيْهِمْ كُلَّ سَنَةٍ مِائَةَ رَأْسٍ ، فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْمِائَةُ الرَّأْسُ يُؤَدُّونَهَا مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ لَمْ يَصِحَّ هَذَا لِأَنَّ الصُّلْحَ وَقَعَ عَلَى جَمَاعَتِهِمْ فَكَانُوا جَمِيعًا مُسْتَأْمَنِينَ ، وَاسْتِرْقَاقُ الْمُسْتَأْمَنِ لَا يَجُوزُ .
أَلَا تَرَى أَنَّ وَاحِدًا مِنْهُمْ لَوْ بَاعَ ابْنَهُ بَعْدَ هَذَا الصُّلْحِ لَمْ يَجُزْ ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَمْلِيكُ شَيْءٍ مِنْ نُفُوسِهِمْ وَأَوْلَادِهِمْ بِحُكْمِ تِلْكَ الْمُوَادَعَةِ ؛ لِأَنَّ حُرِّيَّتَهُمْ تَأَكَّدَتْ بِهَا .

وَإِنْ صَالَحُوهُمْ عَلَى مِائَةِ رَأْسٍ بِأَعْيَانِهِمْ أَوَّلَ السَّنَةِ ، وَقَالُوا أَمِّنُونَا عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ لَكُمْ ، وَنُصَالِحُكُمْ ثَلَاثَ سِنِينَ مُسْتَقْبَلَةً عَلَى أَنْ نُعْطِيَكُمْ كُلَّ سَنَةٍ مِائَةَ رَأْسٍ مِنْ رَقِيقِنَا فَهَذَا جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْمُعَيَّنِينَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى لَا تَتَنَاوَلُهُمْ الْمُوَادَعَةُ ، وَبِاعْتِبَارِهِ يَثْبُتُ الْأَمَانُ فَإِذَا جَعَلُوهُمْ مُسْتَثْنِينَ مِنْ الْمُوَادَعَةِ بِجَعْلِهِمْ إيَّاهُمْ عِوَضًا لِلْمُسْلِمِينَ صَارُوا مَمَالِيكَ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْمُوَادَعَةِ ثُمَّ شَرَطُوا فِي السِّنِينَ الْمُسْتَقْبَلَةِ مِائَةَ رَأْسٍ مِنْ رَقِيقِهِمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ ، وَرَقِيقُهُمْ قَابِلٌ لِلْمِلْكِ وَالتَّمَلُّكِ بِالْبَيْعِ فَكَذَا بِالْمُوَادَعَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُوَادَعَةَ لَيْسَتْ بِمَالٍ فِي نَفْسِهَا ، وَاشْتِرَاطُ الْحَيَوَانِ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ صَحِيحٌ إذَا كَانَ مَعْلُومَ الْجِنْسِ كَمَا فِي النِّكَاحِ ، وَالْخُلْعِ ، وَإِذَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى هَذَا ثُمَّ سَرَقَ مِنْهُ مُسْلِمٌ شَيْئًا لَمْ يَصِحَّ شِرَاءُ ذَلِكَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُمْ اسْتَفَادُوا الْأَمَانَ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ ، وَمَالُ الْمُسْتَأْمَنِ لَا يُمْلَكُ بِالسَّرِقَةِ ، وَإِذَا لَمْ يَمْلِكْهُ السَّارِقُ لَمْ يَحِلَّ شِرَاؤُهُ مِنْهُ ، وَلِأَنَّ مَا صَنَعَهُ غَدْرٌ يُؤَدِّبُهُ الْإِمَامُ عَلَى ذَلِكَ إذَا عَلِمَهُ مِنْهُ ، وَفِي الشِّرَاءِ مِنْهُ إغْرَاءٌ لَهُ هَذَا الْغَدْرُ ، وَتَقْرِيرُ ذَلِكَ لَا يَحِلُّ ، فَإِنَّ أَغَارَ عَلَيْهِمْ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ جَازَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُمْ مَا أَخَذُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَرَقِيقِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ تَمَلَّكُوهَا عَلَيْهِمْ بِالْإِحْرَازِ ، وَلَوْ تَمَلَّكُوا ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ جَازَ شِرَاؤُهَا مِنْهُمْ فَمِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْلَى ، ثُمَّ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ مَجَّانًا ، وَلَا بِالثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُمْ بِالْمُوَادَعَةِ مَا خَرَجُوا مِنْ أَنْ يَكُونُوا أَهْلَ حَرْبٍ حِينَ لَمْ يَنْقَادُوا لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الْقِيَامُ بِنُصْرَتِهِمْ

، وَبِهِ فَارَقَ مَالَ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَهْلَ الذِّمَّةِ ، وَلَا يَمْنَعُ التُّجَّارَ مِنْ حَمْلِ التِّجَارَاتِ إلَيْهِمْ إلَّا الْكُرَاعَ ، وَالسِّلَاحَ ، وَالْحَدِيدَ ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ حَرْبٍ وَإِنْ كَانُوا مُوَادِعِينَ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ يَعُودُونَ حَرْبًا لِلْمُسْلِمِينَ .

وَلَا يُمْنَعُ التُّجَّارُ مِنْ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ بِالتِّجَارَاتِ مَا خَلَا الْكُرَاعَ ، وَالسِّلَاحَ ، فَإِنَّهُمْ يَتَقَوَّوْنَ بِذَلِكَ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ فَيُمْنَعُونَ مِنْ حَمْلِهِ إلَيْهِمْ ، وَكَذَلِكَ الْحَدِيدَ ، فَإِنَّهُ أَصْلُ السِّلَاحِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } .

وَمَنْ دَخَلَ مِنْهُمْ دَارَ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ جَدِيدٍ سِوَى الْمُوَادَعَةِ لَمْ يُتَعَرَّضْ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ آمِنٌ بِتِلْكَ الْمُوَادَعَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ فِي دَارِهِ فَكَذَلِكَ إذَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ ، وَقَدْ دَخَلَ أَبُو سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمَدِينَةَ فِي زَمَنِ الْهُدْنَةِ ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ أَحَدٌ بِشَيْءٍ ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ رَجُلٌ مِنْهُمْ دَارَ حَرْبٍ أُخْرَى فَظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ فِي أَمَانِ الْمُسْلِمِينَ حَيْثُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ ذِمِّيٍّ يَدْخُلُ دَارَ الْحَرْبِ ثُمَّ يَظْهَرُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تِلْكَ الدَّارِ .

وَإِذَا اشْتَرَى الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عَبْدًا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ أَسْلَمَ بَعْضُ عَبِيدِهِ الَّذِينَ أَدْخَلَهُمْ لَمْ يُتْرَكْ لِيَرُدَّهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ ، وَلَا يُتْرَكُ فِي مِلْكِ الْكَافِرِ لِيَسْتَذِلَّهُ ، وَلَكِنْ يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ يُسْلِمُ عَبْدَهُ ( فَإِنْ قِيلَ ) الذِّمِّيُّ مُلْتَزِمٌ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ ، وَالْمُسْتَأْمَنُ غَيْرُ مُلْتَزِمٍ لِذَلِكَ ( قُلْنَا ) الْمُسْتَأْمَنُ مُلْتَزِمٌ تَرْكَ الِاسْتِخْفَافِ بِالْمُسْلِمِينَ ، إلَّا مَا أَعْطَيْنَاهُ الْأَمَانَ لِيَسْتَذِلَّ الْمُسْلِمَ إذْ لَا يَجُوزُ إعْطَاءُ الْأَمَانِ عَلَى هَذَا ، فَلِهَذَا يُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهِ .

وَإِنْ رَجَعَ الْمُسْتَأْمَنُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ، وَقَدْ أَدَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَأُودِعَ وَدُبِّرَ ثُمَّ أُسِرَ وَظَهَرَ عَلَى تِلْكَ الدَّارِ وَقُتِلَ ، فَنَقُولُ : أَمَّا مُدَبَّرُوهُ وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادِهِ فَهُمْ أَحْرَارٌ إنْ قُتِلَ فَغَيْرُ مُشْكِلٌ ، وَكَذَلِكَ إذَا اُسْتُرِقَّ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَمْلُوكًا ، وَالرِّقُّ إتْلَافٌ لَهُ حُكْمًا ، وَلِأَنَّهُمْ خَرَجُوا مِنْ مِلْكِهِ لِوُجُودِ الْمُنَافِي ، وَلَا يَصِيرُونَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ وَأُمَّ الْوَلَدِ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ فَلِهَذَا كَانَ حُرًّا ، وَأَمَّا الدَّيْنُ فَهُوَ يَسْقُطُ عَمَّنْ عَلَيْهِ لِخُرُوجِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلْمِلْكِ ، وَلِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَرُدُّ عَلَيْهِ الْقَهْرَ لِيَصِيرَ مَمْلُوكًا لِلسَّابِي إذْ هُوَ فِي ذِمَّةِ مَنْ عَلَيْهِ ، وَيَدُهُ إلَى مَا فِي ذِمَّتِهِ أَسْبَقُ مِنْ يَدِ غَيْرِهِ فَصَارَ مُحْرِزًا لَهُ ، وَالْوَدَائِعُ فَيْءٌ ؛ لِأَنَّهَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْقَهْرِ ، وَيَدُ الْمُودِعِ كَيَدِ الْمُودَعِ ، وَلَوْ كَانَتْ فِي يَدِهِ حِينَ سُبِيَ كَانَ ذَلِكَ فَيْئًا فَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي يَدِ مُودَعِهِ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِلْمُودِعِينَ ؛ لِأَنَّ أَيْدِيَهُمْ إلَيْهَا أَسْبَقُ حِينَ سَقَطَ عَنْهَا يَدُ الْحَرْبِيِّ بِالْأَسْرِ فَصَارُوا مُحْرِزِينَ لَهَا دُونَ الْغَانِمِينَ ، وَهَذَا كُلُّهُ ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ حُكْمِ الْأَمَانِ لَهُ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ مَا لَمْ يَتَقَرَّرْ الْمُنَافِي ، وَقَدْ تَقَرَّرَ ذَلِكَ حِينَ أُسِرَ ، وَظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ .

وَإِنْ دَخَلَ بِعَبْدِهِ الْمُسْلِمِ الَّذِي اشْتَرَاهُ أَوْ أَسْلَمَ فِي يَدِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَتَقَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَلَمْ يَعْتِقْ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ حَتَّى يَظْهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ أَوْ يَخْرُجَ مُرَاغِمًا لِمَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَاهِرًا لَهُ فِي دَارِنَا حُكْمًا بِعَقْدِ الْأَمَانِ ، وَفِي دَارِ الْحَرْبِ حِسًّا بِقُوَّتِهِ فَيَبْقَى مَمْلُوكًا لَهُ حَتَّى يَصِيرَ الْعَبْدُ قَاهِرًا لَهُ ، وَذَلِكَ بِخُرُوجِهِ مُرَاغِمًا أَوْ ظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ حِينَ أَسْلَمَ عَبْدُهُ لَمْ يَعْتِقْ إلَّا بِأَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَكَذَلِكَ إذَا أَدْخَلَهُ دَارَ الْحَرْبِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا طَرِيقَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ ، وَفِيهِ طَرِيقٌ آخَرُ نَذْكُرُهُ هَهُنَا ، وَهُوَ أَنَّهُ حِينَ انْتَهَى بِهِ إلَى آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَقَدْ ارْتَفَعَ حُكْمُ الْأَمَانِ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ ، وَبَقَاءُ مِلْكِهِ بَعْدَ إسْلَامِ الْعَبْدِ كَانَ بِحُكْمِ الْأَمَانِ ، فَإِذَا ارْتَفَعَ زَالَ ذَلِكَ الْمِلْكُ ، وَحَصَلَ الْعَبْدُ فِي يَدِ نَفْسِهِ فَيَعْتِقُ ، وَهِيَ يَدٌ مُحْتَرَمَةٌ فَتَكُونُ دَافِعَةً لِقَهْرِهِ ، وَإِنْ أَدْخَلَهُ دَارَ الْحَرْبِ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْقَهْرِ الْمِلْكُ فِي دَارِ الْحَرْبِ ( فَإِنْ قِيلَ ) بِارْتِفَاعِ الْأَمَانِ زَالَ صِفَةُ الْحَظْرِ لَا أَصْلُ الْمِلْكِ كَمَنْ أَبَاحَ لِغَيْرِهِ شَيْئًا لَا يَزُولُ أَصْلُ مِلْكِهِ بِهِ فَمِلْكُهُ الْمُبَاحُ فِي دَارِ الْحَرْبِ إبْقَاءُ مَا كَانَ مِنْ الْمِلْكِ لَا إثْبَاتَ مِلْكٍ لَهُ فِيهِ ابْتِدَاءً .
( قُلْنَا ) مَا كَانَ مِلْكُهُ بَعْدَ إسْلَامِ الْعَبْدِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إلَّا بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْحَظْرِ ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَأْمَنًا لَكَانَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ قَاهِرًا لَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَكَانَ حُرًّا ، فَإِذَا زَالَ الْحَظْرُ بِزَوَالِ الْأَمَانِ زَالَ أَصْلُ الْمِلْكِ ( قَالَ ) .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ فِي

دَارِ الْحَرْبِ لَوْ قَتَلَ مَوْلَاهُ ، وَأَخَذَ مَالَهُ ، وَخَرَجَ إلَيْنَا كَانَ حُرًّا ، وَكَانَ مَا خَرَجَ بِهِ مِنْ الْمَالِ لَهُ ، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّهُ ظَهَرَتْ يَدُهُ فِي نَفْسِهِ ، وَهِيَ يَدٌ مُحْتَرَمَةٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ هَذَا الْعَبْدُ الَّذِي اشْتَرَاهُ وَأَدْخَلَهُ ذِمِّيًّا ؛ لِأَنَّ لِلذِّمِّيِّ يَدًا مُحْتَرَمَةً فِي نَفْسِهِ كَمَا لِلْمُسْلِمِ .

وَلَوْ أَسْلَمَ عَبْدُ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى الدَّارِ فَالْعَبْدُ حُرٌّ لِإِحْرَازِهِ نَفْسَهُ بِمَنَعَةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنْ أَسْلَمَ مَوْلَاهُ قَبْلَ أَنْ يَظْهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ فَهُوَ عَبْدٌ لَهُ مَالُهُ ؛ لِأَنَّ بِإِسْلَامِ الْعَبْدِ لَمْ يَزُلْ مِلْكُهُ عَنْهُ ، وَمَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ .

وَلَوْ كَانَ حِينَ أَسْلَمَ عَبْدُهُ بَاعَهُ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ حَرْبِيٍّ فَهُوَ حُرٌّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمُسْلِمَ مَتَى زَالَ مِلْكُ الْحَرْبِيِّ عَنْهُ يَزُولُ إلَى الْعِتْقِ كَمَا لَوْ خَرَجَ مُرَاغِمًا ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ يَقُولُ بِمُجَرَّدِ الْبَيْعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَعْتِقُ مَا لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ يَدِهِ بِالتَّسْلِيمِ ، فَإِذَا أَخْرَجَهُ ثُمَّ زَالَ قَهْرُهُ عَنْهُ فَحِينَئِذٍ يَعْتِقُ ، وَلَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ قَهْرُ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ فِي يَدِ نَفْسِهِ ، وَيَدُهُ دَافِعَةٌ لِلْقَهْرِ عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَوْ حَرْبِيٍّ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يَعْتِقُ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي وَيَدَهُ كَمِلْكِ الْبَائِعِ وَيَدِهِ ، وَقَبْلَ الْبَيْعِ كَانَ مَمْلُوكًا لِلْبَائِعِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْبَيْعِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَعَ أَخَوَاتِهَا فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ .

وَإِذَا مَاتَ الْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عَنْ مَالِ ، وَوَرَثَتُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وُقِفَ مَالُهُ حَتَّى يَقْدُمَ وَرَثَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ فِي دَارِنَا صُورَةً فَهُوَ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَيَخْلُفُهُ وَرَثَتُهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي أَمْلَاكِهِ ، وَبِمَوْتِهِ فِي دَارِنَا لَا يَبْطُلُ حُكْمُ الْأَمَانِ الَّذِي كَانَ ثَبَتَ لَهُ بَلْ ذَلِكَ بَاقٍ فِي مَالِهِ فَيُوقَفُ لِحَقِّهِ حَتَّى يَقْدُمَ وَرَثَتُهُ ، وَإِذَا قَدِمُوا فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ لِيَأْخُذُوا الْمَالَ ؛ لِأَنَّهُمْ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى لَا يَسْتَحِقُّونَ شَيْئًا ، فَإِنْ أَقَامُوا بَيِّنَةً مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَفِي الْقِيَاسِ لَا تُقْبَلُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ فِي يَدِ إمَامِ الْمُسْلِمِينَ ، وَحَاجَتُهُمْ إلَى اسْتِحْقَاقِ الْيَدِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَشَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا تَكُونُ حُجَّةً فِي الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ ، وَيُدْفَعُ الْمَالُ إلَيْهِمْ إذَا شَهِدُوا أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ وَارِثًا غَيْرَهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الْمَالَ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ ، فَإِنَّ الْمَالَ مَوْقُوفٌ لِحَقِّهِ ، وَشَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ حُجَّةٌ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ ، وَلِأَنَّهُمْ لَا يَجِدُونَ شُهُودًا مُسْلِمِينَ عَلَى وِرَاثَتِهِمْ عَادَةً فَإِنَّ أَنْسَابَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَعْرِفُهَا الْمُسْلِمُونَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ كَفِيلٌ بِمَا أَدْرَكَ فِي الْمَالِ مِنْ دَرَكٍ ، قِيلَ : هُوَ قَوْلُهُمَا دُونَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَقِيلَ : بَلْ هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْمَالَ مَدْفُوعٌ إلَيْهِمْ بِحُجَّةٍ ضَعِيفَةٍ فَلَا يُدْفَعُ إلَّا بَعْدَ الِاحْتِيَاطِ بِكَفِيلٍ ، وَلَا يُقْبَلُ كِتَابُ مَلِكِهِمْ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَلِكَهُمْ كَافِرٌ لَا أَمَانَ لَهُ ، وَلَوْ شَهِدَ لَمْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فَكَيْفَ يُقْبَلُ كِتَابُهُ ، وَإِنْ شَهِدَ عَلَى كِتَابِهِ

وَخَتَمَهُ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ كَوَاحِدٍ مِنْ الْعَوَامّ أَوْ دُونَهُ ، وَكِتَابُهُ وَخَتْمُهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً .

وَإِذَا أَرَادَ الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ أَنْ يَرْجِعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يُتْرَكْ أَنْ يُخْرِجَ مَعَهُ كُرَاعًا وَسِلَاحًا أَوْ حَدِيدًا أَوْ رَقِيقًا اشْتَرَاهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمِينَ أَوْ كُفَّارًا كَمَا لَا يُتْرَكُ تُجَّارُ الْمُسْلِمِينَ لِيَحْمِلُوا إلَيْهِمْ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ ، وَهَذَا لِأَنَّهُمْ يَتَقَوَّوْنَ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا يَجُوزُ إعْطَاءُ الْأَمَانِ لَهُ لِيَكْتَسِبَ بِهِ مَا يَكُونُ قُوَّةً لِأَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ ، وَفِي الْعَبِيدِ لَا إشْكَالَ ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فَلَا يُتْرَكُ أَنْ يَدْخُلَ بِهِمْ لِيَعُودُوا حَرْبًا لِلْمُسْلِمِينَ ، وَلَا يُمْنَعُ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَعَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَبِإِعَادَتِهِ لَا يَزْدَادُونَ قُوَّةً لَمْ تَكُنْ لَهُمْ بِخِلَافِ مَا اشْتَرَاهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَلِأَنَّا أَمَّنَّاهُ عَلَى مَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ ، وَكَمَا لَا يُمْنَعُ هُوَ مِنْ الرُّجُوعِ لِلْوَفَاءِ بِذَلِكَ الْأَمَانِ فَكَذَلِكَ لَا يُمْنَعُ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا جَاءَ بِهِ .
فَإِنْ كَانَ جَاءَ بِسَيْفٍ فَبَاعَهُ ، وَاشْتَرَى مَكَانَهُ قَوْسًا أَوْ رُمْحًا أَوْ تُرْسًا لَمْ يُتْرَكْ أَنْ يَخْرُجَ بِهِ مَكَانَ سَيْفِهِ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُوَّةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَسْلِحَةِ ، فَإِنَّمَا قَصَدَ بِمَا صَنَعَ أَنْ يَزْدَادَ قُوَّةً عَلَيْنَا ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَكْثُرُ فِيهِمْ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَسْلِحَةِ ، وَيَعِزُّ نَوْعٌ آخَرُ خَيْرٌ فَيَقْصِدُونَ تَحْصِيلَ ذَلِكَ لَهُمْ بِهَذَا الطَّرِيقِ ، وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَبْدَلَ بِسَيْفِهِ سَيْفًا آخَرَ خَيْرًا مِنْهُ ؛ لِأَنَّ بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ يَزْدَادُونَ قُوَّةً ، وَلَمْ يَكُنْ اسْتَحَقَّ ذَلِكَ حِينَ أَمَّنَّاهُ فَيُمْنَعُ مِنْ تَحْصِيلِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ ، وَلَا يُمْكِنُ مَنْعُهُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِأَنْ يُمْنَعَ مِنْ إدْخَالِهِ هَذَا السَّيْفَ بِأَصْلِهِ دَارَهُمْ ، وَإِنْ كَانَ هَذَا السَّيْفُ مِثْلَ الْأَوَّلِ أَوْ شَرًّا مِنْهُ لَمْ يُمْنَعْ أَنْ يَدْخُلَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَوَّلِ إذْ لَيْسَ

فِيهِ زِيَادَةُ قُوَّةٍ لَهُمْ ، وَجِنْسُ الْمَنْفَعَةِ وَاحِدٌ فَكَمَا لَوْ أَعَادَ الْأَوَّلَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَعَادَ مِثْلَهُ ، وَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ بِمَا شَاءَ مِنْ الْأَمْتِعَةِ سِوَى مَا ذَكَرْنَا كَمَا لِلتَّاجِرِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَحْمِلَ إلَيْهِمْ مَا شَاءَ مِنْ سَائِرِ الْأَمْتِعَةِ لِلتِّجَارَةِ وَلِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلٌ أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُمْ يَزْدَادُونَ قُوَّةً بِمَا يَحْمِلُ طَعَامًا كَانَ أَوْ ثِيَابًا أَوْ سِلَاحًا ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْدَى إلَى أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَمْرَ عَجْوَةٍ حِينَ كَانَ بِمَكَّةَ حَرْبِيًّا ، وَاسْتَهْدَاهُ أَدَمًا } { ، وَبَعَثَ بِخَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ إلَى أَهْلِ مَكَّةَ حِينَ قَحَطُوا لِتُفَرَّقَ بَيْنَ الْمُحْتَاجِينَ مِنْهُمْ } ، وَلِأَنَّ بَعْضَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ مِنْ الْأَدْوِيَةِ وَغَيْرِهَا يُحْمَلُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ ، فَإِذَا مَنَعْنَا تُجَّارَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يَحْمِلُوا إلَيْهِمْ مَا سِوَى السِّلَاحِ فَهُمْ يَمْنَعُونَ ذَلِكَ أَيْضًا ، وَفِيهِ مِنْ الضَّرَرِ مَا لَا يَخْفَى .

وَإِذَا بَعَثَ الْحَرْبِيُّ عَبْدًا لَهُ تَاجِرًا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ فَأَسْلَمَ الْعَبْدُ فِيهَا بِيعَ ، وَكَانَ ثَمَنُهُ لِلْحَرْبِيِّ ؛ لِأَنَّ الْأَمَانَ يَثْبُتُ لَهُ فِي مَالِيَّةِ الْعَبْدِ حِينَ خَرَجَ الْعَبْدُ بِأَمَانٍ مُنْقَادًا لَهُ ، وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى مَعَهُ فَأَسْلَمَ أُجْبِرَ عَلَى بَيْعِهِ ، وَكَانَ ثَمَنُهُ لَهُ فَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَوْلَى مَعَهُ ، قُلْنَا : يُبَاعُ لِإِزَالَةِ ذُلِّ الْكُفْرِ عَنْ الْمُسْلِمِ ، وَيَكُونُ ثَمَنُهُ لِلْحَرْبِيِّ لِلْأَمَانِ لَهُ فِي هَذِهِ الْمَالِيَّةِ .

وَإِذَا وُجِدَ الْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ أَنَا رَسُولٌ ، فَإِنْ أَخْرَجَ كِتَابًا عُرِفَ أَنَّهُ كِتَابُ مَلِكِهِمْ كَانَ آمِنًا حَتَّى يُبَلِّغَ رِسَالَتَهُ وَيَرْجِعَ ؛ لِأَنَّ الرُّسُلَ لَمْ تَزَلْ آمِنَةً فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ ، وَهَذَا لِأَنَّ أَمْرَ الْقِتَالِ أَوْ الصُّلْحِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالرُّسُلِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَمَانِ الرُّسُلِ لِيُتَوَصَّلَ إلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ { ، وَلَمَّا تَكَلَّمَ رَسُولٌ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا كَرِهَهُ قَالَ لَوْلَا أَنَّكَ رَسُولٌ لَقَتَلْتُكَ } ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّ الرَّسُولَ آمِنٌ ثُمَّ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى أَنَّهُ رَسُولٌ فَلَوْ كَلَّفْنَاهُ ذَلِكَ أَدَّى إلَى الضِّيقِ وَالْحَرَجِ ، وَهَذَا مَدْفُوعٌ فَلِهَذَا يُكْتَفَى بِالْعَلَامَةِ ، وَالْعَلَامَةُ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ كِتَابٌ يُعْرَفُ أَنَّهُ كِتَابُ مَلِكِهِمْ فَإِذَا أَخْرَجَ ذَلِكَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ صَادِقٌ ، وَالْبِنَاءُ عَلَى الظَّاهِرِ وَاجِبٌ فِيمَا لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْ كِتَابًا أَوْ أَخْرَجَ ، وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ كِتَابُ مَلِكِهِمْ فَهُوَ وَمَا مَعَهُ فَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ قَدْ يُفْتَعَلُ ، وَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ كِتَابُ مَلِكِهِمْ بِخَتْمٍ وَتَوْقِيعٍ مَعْرُوفٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ افْتَعَلَ ذَلِكَ ، وَأَنَّهُ لِصٌّ مُغِيرٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَحِينَ أَخَذْنَاهُ احْتَالَ بِذَلِكَ لِيَتَخَلَّصَ مِنْ أَيْدِينَا ، وَلِهَذَا كَانَ فَيْئًا مَعَ مَا مَعَهُ ، وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ دَخَلَ بِأَمَانٍ لَمْ يُصَدَّقْ ، وَهُوَ فَيْءٌ لِأَنَّ حَقَّ الْمُسْلِمِينَ قَدْ ثَبَتَ فِيهِ حِينَ تَمَكَّنُوا مِنْهُ مِنْ غَيْرِ أَمَانٍ ظَاهِرٍ لَهُ فَلَا يُصَدَّقُ هُوَ فِي إبْطَالِ حَقِّهِمْ .

وَإِذَا خَرَجَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مُسْتَأْمَنِينَ لَمْ يَعْرِضْ لَهُمْ فِيمَا كَانَ جَرَى بَيْنَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ الْمُدَايَنَاتِ ؛ لِأَنَّهُمْ بِالدُّخُولِ بِأَمَانٍ مَا صَارُوا مِنْ أَهْلِ دَارِنَا ، وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْمُعَامَلَةُ بَيْنَهُمْ حِينَ لَمْ يَكُونُوا تَحْتَ يَدِ الْإِمَامِ فَلَا يَسْمَعُ الْإِمَامُ الْخُصُومَةَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَلْتَزِمُوا حُكْمَ الْإِسْلَامِ ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ ، فَإِنْ كَانَ جَرَى بَيْنَهُمْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أُخِذُوا بِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا تَحْتَ يَدِ الْإِمَامِ حِينَ جَرَتْ هَذِهِ الْمُعَامَلَةُ بَيْنَهُمْ ، وَمَا أَمَّنَّاهُمْ لِيَظْلِمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بَلْ الْتَزَمْنَا لَهُمْ أَنْ نَمْنَعَ الظُّلْمَ عَنْهُمْ فَلِهَذَا تُسْمَعُ الْخُصُومَةُ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَهُمْ فِي دَارِنَا كَمَا لَوْ جَرَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ .

وَلَوْ أَنَّ حَرْبِيًّا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ أَمَانٍ فَأَخَذَهُ وَاحِدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ فَيْءٌ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهِيَ رِوَايَةُ بِشْرٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لِمَنْ أَخَذَهُ خَاصَّةً ، وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ أَنَّ يَدَ الْآخِذِ سَبَقَتْ إلَيْهِ ، وَهُوَ مُبَاحٌ فِي دَارِنَا فَمَنْ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ صَارَ مُحْرَزًا لَهُ فَاخْتَصَّ بِمِلْكِهِ كَالصَّيْدِ وَالْحَطَبِ وَالرِّكَازِ الَّذِي يَجِدُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ وَإِنْ دَخَلَ دَارَنَا فَلَمْ يَصِرْ بِهِ مَأْخُوذًا مَقْهُورًا لِعَدَمِ عِلْمِ الْمُسْلِمِينَ بِهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَادَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَنْ يُعْلَمَ بِهِ كَانَ حُرًّا ، فَإِنَّمَا صَارَ مَقْهُورًا بِالْأَخْذِ فَكَانَ لِلْآخِذِ خَاصَّةً كَمَا لَوْ أَخَذَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَأَخْرَجَهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ طَرِيقَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ نَوَاحِيَ دَارِ الْإِسْلَامِ تَحْتَ يَدِ إمَامِ الْمُسْلِمِينَ ، وَيَدُهُ يَدُ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ كَمَا دَخَلَ دَارَ الْإِسْلَامِ صَارَ فِي يَدِ الْمُسْلِمِينَ حُكْمًا فَصَارَ مَأْخُوذًا ، وَثَبَتَ فِيهِ حَقُّ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَمَنْ أَخَذَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَإِنَّمَا اسْتَوْلَى عَلَى مَا ثَبَتَ فِيهِ حَقُّ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَخْتَصُّ بِهِ ، كَمَا إذَا اسْتَوْلَى عَلَى مَالِ بَيْتِ الْمَالِ ، وَلَكِنْ هَذِهِ الْيَدُ حُكْمِيَّةٌ فَتَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ أَهْلِ الْحَرْبِ ؛ فَلِهَذَا إذَا عَادَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَنْ يُعْلَمَ بِهِ كَانَ حُرًّا حَرْبِيًّا عَلَى حَالِهِ ، وَلِأَنَّ الْحَقَّ الثَّابِتَ فِيهِ ضَعِيفٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ حَقِّ الْغَانِمِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَهُنَاكَ مَنْ عَادَ مِنْ الْأَسْرَى إلَى مَنَعَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ يَكُونُ حُرًّا فَهُنَا مَنْ عَادَ قَبْلَ أَنْ يُعْلَمَ بِهِ يَكُونُ حُرًّا ، وَلَكِنَّهُ

لَا يَخْتَصُّ بِهِ الْآخِذُ لِثُبُوتِ الْحَقِّ لِلْجَمَاعَةِ فِيهِ ، وَالثَّانِي : أَنَّ الْآخِذَ إنَّمَا تَمَكَّنَ مِنْهُ بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهُ يَزْدَانُ مِثْلُهُ يَدْفَعُهُ عَنْ نَفْسِهِ ، فَإِنَّمَا صَارَ قَاهِرًا لَهُ بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَلِهَذَا لَا يَخْتَصُّ بِهِ ، وَهُوَ نَظِيرُ السَّرِيَّةِ مَعَ الْجَيْشِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّ السَّرِيَّةَ لَا تَخْتَصُّ بِمَا أَخَذَتْ ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُمْ بِقُوَّةِ الْجَيْشِ فَهَذَا مِثْلُهُ ، وَالْمُسْلِمُونَ بِمَنْزِلَةِ الْمَدَدِ لِلْآخِذِ ، وَتَأَكُّدُ الْحَقِّ بِالْأَخْذِ وَالْإِحْرَازِ ، وَقَدْ شَارَكُوهُ فِي الْإِحْرَازِ ، وَإِنَّ اخْتَصَّ هُوَ بِالْأَخْذِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَدَدَ يُشَارِكُونَ الْجَيْشَ إلَّا أَنَّ الْإِحْرَازَ هُنَاكَ بَعْدَ الْأَخْذِ ، وَهَهُنَا الْإِحْرَازُ سَبَقَ الْأَخْذَ ، فَإِذَا شَارَكُوهُ بِالْمُشَارَكَةِ فِي الْإِحْرَازِ بَعْدَ الْأَخْذِ ، فَلَأَنْ يُشَارِكُوهُ بِالْإِحْرَازِ مِنْهُمْ قَبْلَ أَخْذِهِ أَوْلَى ، وَبِهِ فَارَقَ الصَّيْدَ وَالْحَطَبَ ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَمْ يَكُنْ بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ إذْ لَا دَفْعَ فِي الْمَالِ ، وَلَكِنَّ الطَّرِيقَ الْأَوَّلَ أَصَحُّ ، فَإِنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ فَهُوَ رَقِيقٌ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَمَنْ أَسْلَمَ قَبْلَ الْأَخْذِ فَحُرِّيَّتُهُ تَتَأَكَّدُ بِإِسْلَامِهِ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، فَلَوْلَا أَنَّهُ صَارَ مَأْخُوذًا بِالدَّارِ لَكَانَ حُرًّا إذَا أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ وَعِنْدَهُمَا إذَا أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ فَهُوَ حُرٌّ لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الرِّقِّ فِيهِ الْأَخْذُ ، وَالْمُسْلِمُ لَا يُسْتَرَقُّ فَكَانَ حُرًّا .

وَلَوْ أَسْلَمَ ثُمَّ رَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ فَهُوَ حُرٌّ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا لَوْ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ ، ثُمَّ فِي وُجُوبِ الْخُمُسِ فِيهِ إذَا أُخِذَ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ قَالَ : الْمَأْخُوذُ بِمَنَعَةِ الدَّارِ كَالْمَأْخُوذِ بِمَنَعَةِ الْجَيْشِ يَكُونُ غَنِيمَةً يُخَمَّسُ ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى قَالَ : الْخُمُسُ فِيمَا أَوْجَفَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ هَهُنَا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْجِزْيَةِ وَالْخَرَاجِ لَا خُمُسَ فِيهَا ، وَلِأَنَّ الْحَقَّ فِيهِ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ يُصْرَفُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ فَلَا فَائِدَةَ فِي إيجَابِ الْخُمُسِ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى رِوَايَتَانِ فِي إيجَابِ الْخُمُسِ فِيهِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ جَعَلَهُ كَالْحَطَبِ وَالصَّيْدِ فَلَا خُمُسَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ مَا أُصِيبَ بِطَرِيقٍ فِيهِ إعْزَازُ الدِّينِ ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى قَالَ : فِيهِ الْخُمُسُ بِمَنْزِلَةِ الرِّكَازِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَاحِدَ إنَّمَا أَخَذَهُ بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَذِنَ الْإِمَامُ لَهُ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ الْإِمَامَ أَذِنَ فِي مِثْلِهِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ ، وَلَوْ أَخَذَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِهَذَا الطَّرِيقِ اخْتَصَّ بِهِ ، وَكَانَ فِيهِ الْخُمُسُ فَكَذَلِكَ إذَا أَخَذَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .

وَإِنْ دَخَلَ الْحَرَمَ قَبْلَ أَنْ يُؤْخَذَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُؤْخَذُ ، وَيَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ ثَبَتَ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ الْحَرَمَ فَهُوَ كَعَبْدٍ مِنْ عَبِيدِ بَيْتِ الْمَالِ دَخَلَ الْحَرَمَ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ الْحَرَمَ كَانَ يَجُوزُ قَتْلُهُ ، وَاسْتِرْقَاقُهُ فَبِدُخُولِهِ الْحَرَمَ اسْتَفَادَ الْأَمْنَ مِنْ الْقَتْلِ فَيَبْقَى حُكْمُ الرِّقِّ فِيهِ لِلْمُسْلِمِينَ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ ، فَأَمَّا عِنْدَهُمَا لَا يُتَعَرَّضُ لَهُ فِي الْحَرَمِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مَأْخُوذًا عِنْدَهُمَا فَهُوَ حُرٌّ مُبَاحُ الدَّمِ الْتَجَأَ إلَى الْحَرَمِ فَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ فِي الْحَرَمِ ، وَلَكِنْ لَا يُطْعَمُ وَلَا يُسْقَى وَلَا يُؤْوَى حَتَّى يَخْرُجَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْمَنَاسِكِ .

فَإِنْ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ فِي الْحَرَمِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ فَهُوَ حُرٌّ عِنْدَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مَأْخُوذًا بِالدَّارِ فَتَتَأَكَّدُ حُرِّيَّتُهُ بِالْإِسْلَامِ ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتَعَرَّضَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ .

وَإِذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَدَايَنَهُمْ أَوْ دَايَنُوهُ أَوْ غَصَبَهُمْ شَيْئًا أَوْ غَصَبُوهُ لَمْ يُحْكَمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ بِذَلِكَ ، فَإِنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ حَيْثُ لَا تَجْرِي عَلَيْهِمْ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ أَمَّا إذَا غَصَبَهُمْ ، فَلِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ فِي حَقِّنَا عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ ، وَإِنَّمَا ضَمِنَ الْمُسْتَأْمَنُ لَهُمْ أَنْ لَا يَخُونَهُمْ ، وَإِنَّمَا غَدَرَ بِأَمَانِ نَفْسِهِ دُونَ أَمَانِ الْإِمَامِ فَيُفْتَى بِالرَّدِّ ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ ، وَإِنْ غَصَبُوهُ فَقَدْ غَدَرُوا بِأَمَانِهِمْ حِينَ لَمْ يَكُونُوا مُلْتَزِمِينَ لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ ، وَلَوْ قَتَلُوهُ لَمْ يَضْمَنُوا فَإِذَا أَتْلَفُوا مَالَهُ أَوْ غَصَبُوهُ شَيْئًا أَوْلَى ، وَهَذَا لِأَنَّهُ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِذَلِكَ حِينَ فَارَقَ مَنَعَةَ الْمُسْلِمِينَ ، وَدَخَلَ إلَيْهِمْ فَأَمَّا فِي الْمُدَايَنَةِ فَهُمْ وَإِنْ خَرَجُوا بِأَمَانٍ لَمْ يَلْتَزِمُوا أَحْكَامَ الْمُسْلِمِينَ فَلَا تُسْمَعُ الْخُصُومَةُ عَلَيْهِمْ فِي مُدَايِنَةٍ كَانَتْ فِي دَارِهِمْ ، وَلَا تُسْمَعُ الْخُصُومَةُ عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْهُمْ أَيْضًا لِتَحْقِيقِ مَعْنَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ إلَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، فَإِنَّهُ يَقُولُ تُسْمَعُ الْخُصُومَةُ عَلَى الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّهُ مُلْتَزِمٌ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ حَيْثُ مَا يَكُونُ .

وَإِنَّ بَايَعَهُمْ الْمُسْتَأْمَنُ إلَيْهِمْ الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ نَقْدًا أَوْ نَسِيئَةً أَوْ بَايَعَهُمْ فِي الْخَمْرِ ، وَالْخِنْزِيرِ ، وَالْمَيْتَةِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَلَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مُلْتَزَمٌ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ حَيْثُمَا يَكُونُ ، وَمِنْ حُكْمِ - الْإِسْلَامِ حُرْمَةُ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمُعَامَلَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ فَعَلَهُ مَعَ الْمُسْتَأْمَنِينَ مِنْهُمْ فِي دَارِنَا لَمْ يَجُزْ فَكَذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَهُمَا يَقُولَانِ هَذَا أَخَذَ مَالَ الْكَافِرِ بِطِيبَةِ نَفْسِهِ ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ أَمْوَالَهُمْ عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ إلَّا أَنَّهُ ضَمِنَ أَنْ لَا يَخُونَهُمْ فَهُوَ يَسْتَرْضِيهِمْ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْغَدْرِ ثُمَّ يَأْخُذُ أَمْوَالَهُمْ بِأَصْلِ الْإِبَاحَةِ لَا بِاعْتِبَارِ الْعَقْدِ ، وَبِهِ فَارَقَ الْمُسْتَأْمَنِينَ فِي دَارِنَا ؛ لِأَنَّ أَمْوَالَهُمْ صَارَتْ مَعْصُومَةً بِعَقْدِ الْأَمَانِ فَلَا يُمْكِنُهُ أَخْذُهَا بِحُكْمِ الْإِبَاحَةِ ، وَالْأَخْذُ بِهَذِهِ الْعُقُودِ الْبَاطِلَةِ حَرَامٌ ، وَتَمَامُ هَذِهِ الْفُصُولِ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ .

وَإِنْ قَتَلَ الْمُسْلِمُ فِي دَارِنَا حَرْبِيًّا مُسْتَأْمَنًا عَمْدًا أَوْ خَطَأً أَوْ قَطَعَ يَدَهُ فَلَا قَوَدَ عَلَيْهِ لِبَقَاءِ شُبْهَةِ الْإِبَاحَةِ فِي دَمِ الْمُسْتَأْمَنِ ، فَإِنَّهُ حَرْبِيٌّ حُكْمًا فَلَا يُمْكِنُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا فِي الْعِصْمَةِ ، وَالْقِصَاصُ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ دِيَةُ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعِصْمَةِ تَثْبُتُ مُوجِبَةً لِلتَّقَوُّمِ فِي نَفْسِهِ حِينَ اسْتَأْمَنَ إلَيْنَا .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِصْمَةَ الْمُتَقَوِّمَةَ تَثْبُتُ فِي مَالِهِ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْإِحْرَازِ حَتَّى يَضْمَنَ بِالْإِتْلَافِ فَفِي نَفْسِهِ أَوْلَى ، وَصَارَ حَالُهُ فِي قِيمَةِ نَفْسِهِ كَحَالِ الذِّمِّيِّ فَكَمَا يُسَوَّى بَيْنَ دِيَةِ الذِّمِّيِّ وَالْمُسْلِمِ عِنْدَنَا فَكَذَلِكَ يُسَوَّى بَيْنَ دِيَةِ الْمُسْلِمِ وَالْمُسْتَأْمَنِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ نِكَاحِ أَهْلِ الْحَرْبِ ، وَدُخُولِ التُّجَّارِ إلَيْهِمْ بِأَمَانٍ ( قَالَ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَرْبِيٌّ تَزَوَّجَ امْرَأَةً حَرْبِيَّةً لَهَا زَوْجٌ ثُمَّ أَسْلَمَا ، وَخَرَجَا إلَى دَارِنَا لَمْ تَحِلَّ لَهُ إلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمَا فِي دَارِ الْحَرْبِ لَغْوٌ فَإِنَّهَا كَانَتْ مَنْكُوحَةَ الْغَيْرِ يَوْمَئِذٍ ، وَنِكَاحُ الْمَنْكُوحَةِ لَا يُحِلُّهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَدْيَانِ فَكَانَا أَجْنَبَيْنِ حِينَ أَسْلَمَا فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا إلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ كَمَا لَوْ لَمْ يَسْبِقْ بَيْنَهُمَا ذَلِكَ الْعَقْدُ فِي دَارِ الْحَرْبِ .

وَإِذَا تَزَوَّجَ الْحُرُّ الْحَرْبِيُّ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ ثُمَّ سُبِيَ وَسُبِينَ مَعَهُ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ سَوَاءٌ تَزَوَّجَهُنَّ فِي عُقْدَةٍ أَوْ فِي عُقَدٍ ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ الْمُعْتَرِضَ فِي الزَّوْجِ يُنَافِي نِكَاحَ الْأَرْبَعِ بَقَاءً وَابْتِدَاءً ، وَلَيْسَ بَعْضُهُنَّ بِأَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فَتَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ رَضِيعَتَيْنِ فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ فَأَرْضَعَتْهُمَا ، وَلَا فَرْقَ فَالْمُنَافِي هُنَاكَ عَارِضٌ فِي الْمَحَلِّ بَعْدَ صِحَّةِ نِكَاحِهِمَا ، وَهُوَ الْأُخْتِيَّةُ ، وَهَهُنَا عَارِضٌ فِي الزَّوْجِ بَعْدَ صِحَّةِ نِكَاحِهِنَّ ، فَإِنْ كَانَتْ قَدْ مَاتَتْ امْرَأَتَانِ مِنْهُنَّ فَنِكَاحُ الْبَاقِيَتَيْنِ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ اُسْتُرِقَّ فَلَيْسَ فِي نِكَاحِهِ إلَّا اثْنَتَيْنِ ، وَرِقُّهُ لَا يُنَافِي نِكَاحَ اثْنَتَيْنِ ابْتِدَاءً وَلَا بَقَاءً ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ الْفُصُولِ فِي النِّكَاحِ ، وَذَكَرْنَا أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ كِتَابِيَّةً فِي دَارِ الْحَرْبِ .
وَلَا بَأْسَ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ ذَبَائِحِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْهُمْ ، وَذَلِكَ مَنْقُولٌ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ كَرَاهَةُ النِّكَاحِ لِمَعْنَى كَرَاهَةِ التَّوَطُّنِ فِيهِمْ أَوْ مَخَافَةَ أَنْ يَبْقَى لَهُ نَسْلٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ مَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ وَلَدِهِ لِلرِّقِّ إذَا سُبِيَتْ ، وَالْوَلَدُ فِي بَطْنِهَا ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الذَّبَائِحِ .

وَإِذَا قَتَلَ الْمُسْلِمُ الْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِ الْحَرْبِ إنْسَانًا مِنْهُمْ أَوْ اسْتَهْلَكَ مَالِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ غُرْمُ ذَلِكَ إذَا خَرَجُوا ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ فَعَلُوا ذَلِكَ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُمْ غُرْمٌ فَكَذَلِكَ إذَا فُعِلَ بِهِمْ ، وَهَذَا لِأَنَّهُمْ غَيْرُ مُلْتَزِمِينَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَيْثُ جَرَى ذَلِكَ بَيْنَهُمْ ، وَأَكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ الْمُسْتَأْمَنِ إلَيْهِمْ فِي دِينِهِ أَنْ يَغْدِرَ بِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْغَدْرَ حَرَامٌ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُرْكَزُ عِنْدَ بَابِ اسْتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعْرَفُ بِهِ غَدْرَتُهُ } ، فَإِنَّ غَدَرَ بِهِمْ وَأَخَذَ مَالَهُمْ وَأَخْرَجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ كَرِهْتُ لِلْمُسْلِمِ شِرَاءَهُ مِنْهُ إذَا عَلِمَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ حَصَّلَهُ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ ، وَفِي الشِّرَاءِ مِنْهُ إغْرَاءٌ لَهُ عَلَى مِثْلِ هَذَا السَّبَبِ ، وَهُوَ مَكْرُوهٌ لِلْمُسْلِمِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِين قَتَلَ أَصْحَابَهُ ، وَجَاءَ بِمَالِهِمْ إلَى الْمَدِينَةِ فَأَسْلَمَ ، وَطَلَبَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُخَمِّسَ مَالَهُ فَقَالَ { أَمَّا إسْلَامُكَ فَمَقْبُولٌ ، وَأَمَّا مَالُكَ فَمَالُ غَدْرٍ فَلَا حَاجَةَ لَنَا فِيهِ ، فَإِنْ اشْتَرَاهُ أَجَزْتُهُ } ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَالِكًا لِلْمَالِ بِالْإِحْرَازِ .
وَالنَّهْيُ عَنْ الشِّرَاءِ مِنْهُ لَيْسَ لِمَعْنًى فِي عَيْنِ الشِّرَاءِ فَلَا يُمْنَعُ جَوَازُهُ ، وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً كَرِهْتُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَطَأَهَا ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ فِيهَا مَقَامَ الْبَائِعِ ، وَكَانَ يُكْرَهُ لِلْبَائِعِ وَطْؤُهَا فَكَذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُشْتَرَاةِ شِرَاءً فَاسِدًا إذَا بَاعَهَا الْمُشْتَرِي جَازَ لِلثَّانِي وَطْؤُهَا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ لِبَقَاءِ حَقِّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْبَيْعِ الثَّانِي ، وَهَهُنَا الْكَرَاهَةُ لِمَعْنَى الْغَدْرِ وَكَوْنِهِ مَأْمُورًا بِرَدِّهَا عَلَيْهِمْ دِينًا ، وَهَذَا الْمَعْنَى فِي حَقِّ

الثَّانِي كَهُوَ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ ، فَإِنْ أَصَابَ أَهْلُ هَذِهِ الدَّارِ سَبَايَا مِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ ، وَسِعَ هَذَا الْمُسْلِمُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوا ذَلِكَ بِالْإِحْرَازِ بِمَنَعَتِهِمْ ، فَإِنَّهُمْ نُهْبَةٌ يَمْلِكُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ نَفْسَهُ ، وَمَالَهُ بِالْإِحْرَازِ فَحَلَّ لِلْمُسْتَأْمَنِ إلَيْهِمْ شِرَاءُ ذَلِكَ مِنْهُمْ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِمْ ، وَكَذَلِكَ إنْ سُبِيَ أَهْلُ الدَّارِ الَّتِي هُوَ فِيهَا جَازَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهُمْ مِنْ السَّابِينَ ؛ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهُمْ بِالْإِحْرَازِ ، وَقَدْ كَانُوا عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ فِي حَقِّهِ إنَّمَا كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَغْدِرَ بِهِمْ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الْغَدْرِ فِي شَيْءٍ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ وَادَعُوا قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ ثُمَّ أَغَارَ عَلَيْهِمْ قَوْمٌ آخَرُونَ أَهْلُ حَرْبٍ لَهُمْ فَلِهَذَا الْمُسْلِمِ أَنْ يَشْتَرِيَ السَّبْيَ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ بِالْمُوَادَعَةِ مَا خَرَجُوا مِنْ أَنْ يَكُونُوا أَهْلَ حَرْبٍ ، وَلَكِنْ عَلَيْنَا أَنْ لَا نَغْدِرَ بِهِمْ ، وَقَدْ صَارُوا مَمْلُوكِينَ لِلسَّابِي بِالْإِحْرَازِ فَيَجُوزُ شِرَاؤُهُ مِنْهُمْ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ ، وَإِنْ كَانَ الَّذِينَ سَبَوْهُمْ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ غَدَرُوا بِأَهْلِ الْمُوَادَعَةِ لَمْ يَسَعْ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَشْتَرُوا مِنْ ذَلِكَ السَّبْيِ ، وَإِنْ اشْتَرَوْا رَدَدْت الْبَيْعَ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي أَمَانٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ أَمَانَ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ كَأَمَانِ الْجَمَاعَةِ ، وَلَا يَمْلِكُ الْمُسْلِمُونَ رِقَابَ الْمُسْتَأْمَنِينَ وَأَمْوَالَهُمْ بِالْإِحْرَازِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ دَخَلَ إلَيْهِمْ رَجُلٌ بِأَمَانٍ ثُمَّ اسْتَوْلَى عَلَيْهِمْ الْمُسْلِمُونَ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمُسْلِمُ مَا أَمَّنَهُمْ ، وَلَكِنَّهُمْ أَمَّنُوهُ ، وَكَيْفَ يُقَالُ قَدْ أَمَّنَهُمْ ، وَهُوَ مَقْهُورٌ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ مِنْهُمْ فَلِهَذَا حَلَّ لِلْمُسْلِمِينَ سَبْيُهُمْ ، وَهَهُنَا هُمْ فِي أَمَانٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهُ أَمَّنَهُمْ مَنْ لَهُ مَنَعَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ .

وَإِذَا كَانَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مُسْتَأْمَنِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَأَغَارَ عَلَى تِلْكَ الدَّارِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَمْ يَحِلَّ لِهَؤُلَاءِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ ؛ لِأَنَّ فِي الْقِتَالِ تَعْرِيضَ النَّفْسِ فَلَا يَحِلُّ ذَلِكَ إلَّا عَلَى ، وَجْهِ إعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَاعَزَازِ الدِّينِ ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هَهُنَا ؛ لِأَنَّ أَحْكَامَ أَهْلِ الشِّرْكِ غَالِبَةٌ فِيهِمْ فَلَا يَسْتَطِيعُ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَحْكُمُوا بِأَحْكَامِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فَكَانَ قِتَالُهُمْ فِي الصُّورَةِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ الشِّرْكِ ، وَذَلِكَ لَا يَحِلُّ إلَّا أَنْ يَخَافُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ أُولَئِكَ فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُقَاتِلُوهُمْ لِلدَّفْعِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ لَا لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ الشِّرْكِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَإِنَّهُ قَاتَلَ بِالْحَبَشَةِ مَعَ الْعَدُوِّ الَّذِي كَانَ قَصَدَ النَّجَاشِيَّ ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمئِذٍ آمِنًا عِنْدَ النَّجَاشِيِّ فَكَانَ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِهِ ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ عِنْدَ الْخَوْفِ .

وَإِنْ أَغَارَ أَهْلُ الْحَرْبِ الَّذِي فِيهِمْ الْمُسْلِمُونَ الْمُسْتَأْمَنُونَ عَلَى دَارٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَأَسَرُوا ذَرَارِيَّ الْمُسْلِمِينَ إذَا كَانُوا يُطِيقُونَ الْقِتَالَ ؛ لِأَنَّهُمْ مَا مَلَكُوا ذَرَارِيَّ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِحْرَازِ فَهُمْ ظَالِمُونَ فِي اسْتِرْقَاقِهِمْ ، وَالْمُسْتَأْمَنُونَ مَا ضَمِنُوا لَهُمْ التَّقْرِيرَ عَلَى الظُّلْمِ فَلَا يَسَعُهُمْ إلَّا قِتَالُهُمْ لِاسْتِنْفَاذِ ذَرَارِيِّ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَيْدِيهمْ بِخِلَافِ الْأَمْوَالِ ؛ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوهَا بِالْإِحْرَازِ ، وَقَدْ ضَمِنَ الْمُسْتَأْمَنُونَ أَنْ لَا يَتَعَرَّضُوا لَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانُوا أَغَارُوا عَلَى الْخَوَارِجِ ، وَسَبَوْا ذَرَارِيَّهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ فَلَا تُمْلَكُ ذَرَارِيُّهُمْ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْحَرْبِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي بِلَادِ الْخَوَارِجِ الَّذِينَ أَغَارَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْحَرْبِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ لَمْ يَسَعْهُمْ إلَّا أَنْ يُقَاتِلُوا عَنْ بَيْضَةِ الْمُسْلِمِينَ وَحَرِيمِهِمْ ؛ لِأَنَّ الْخَوَارِجَ مُسْلِمُونَ فَفِي الْقِتَالِ مَعَهُمْ إعْزَازُ الدِّينِ ، وَلِأَنَّهُمْ بِهَذَا الْقِتَالِ يَدْفَعُونَ أَهْلَ الْحَرْبِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَدَفْعُ أَهْلِ الْحَرْبِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، فَلِهَذَا لَا يَسَعُهُمْ إلَّا أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

بَابُ الْمُرْتَدِّينَ ( قَالَ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِذَا ارْتَدَّ الْمُسْلِمُ عُرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ ، فَإِنْ أَسْلَمَ ، وَإِلَّا قُتِلَ مَكَانَهُ إلَّا أَنْ يَطْلُبَ أَنْ يُؤَجَّلَ فَإِذَا طَلَبَ ذَلِكَ أُجِّلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّينَ قَوْله تَعَالَى { أَوْ يُسْلِمُونَ } قِيلَ : الْآيَةُ فِي الْمُرْتَدِّينَ ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } ، وَقَتْلُ الْمُرْتَدِّ عَلَى رِدَّتِهِ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَمُعَاذٍ ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ بِمَنْزِلَةِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ أَوْ أَغْلَظُ مِنْهُمْ جِنَايَةً ، فَإِنَّهُمْ قَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْقُرْآنُ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ ، وَلَمْ يُرَاعُوا حَقَّ ذَلِكَ حِينَ أَشْرَكُوا ، وَهَذَا الْمُرْتَدُّ كَانَ مِنْ أَهْلِ دِينِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَدْ عَرَفَ مَحَاسِنَ شَرِيعَتِهِ ثُمَّ لَمْ يُرَاعِ ذَلِكَ حِينَ ارْتَدَّ فَكَمَا لَا يُقْبَلُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ إلَّا السَّيْفَ أَوْ الْإِسْلَامَ فَكَذَلِكَ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ إلَّا أَنَّهُ إذَا طَلَبَ التَّأْجِيلَ أُجِّلَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ شُبْهَةٌ ارْتَدَّ لِأَجْلِهَا فَعَلَيْنَا إزَالَةُ تِلْكَ الشُّبْهَةِ ، أَوْ هُوَ يَحْتَاجُ إلَى التَّفَكُّرِ لِيَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِمُهْلَةٍ ، فَإِنْ اسْتَمْهَلَ كَانَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُمْهِلَهُ ، وَمُدَّةُ النَّظَرِ مُقَدَّرَةٌ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الشَّرْعِ كَمَا فِي الْخِيَارِ فَلِهَذَا يُمْهِلُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَزِيدُهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ التَّأْجِيلَ يُقْتَلُ مِنْ سَاعَتِهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
وَفِي النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُؤَجِّلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ طَلَبَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَطْلُبْ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ

يُؤَجِّلَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ قَبْلَ ذَلِكَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَدِمَ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لَهُ : هَلْ مِنْ مُغْرِبَةِ خَبَرٍ .
؟ فَقَالَ : نَعَمْ ، رَجُلٌ كَفَرَ بَعْدَ إيمَانِهِ فَقَالَ : مَاذَا صَنَعْتُمْ بِهِ .
؟ قَالَ : قَدَّمْنَاهُ فَضَرَبْنَا عُنُقَهُ ، فَقَالَ : هَلَّا طَيَّنْتُمْ عَلَيْهِ الْبَابَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَرَمَيْتُمْ إلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ بِرَغِيفٍ فَلَعَلَّهُ أَنْ يَتُوبَ وَيُرَاجِعَ الْحَقَّ ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ، وَقَالَ اللَّهُمَّ إنِّي لَمْ أَشْهَدْ ، وَلَمْ أَرْضَ إذْ بَلَغَنِي ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ بِطَرِيقٍ آخَرَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَوْ وُلِّيتُ مِنْهُ مِثْلَ الَّذِي وُلِّيتُمْ لَاسْتَتَبْتُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قَتَلْتُهُ ، فَهَذَا دَلِيلٌ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الْإِمْهَالُ ، وَتَأْوِيلُ اللَّفْظِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَعَلَّهُ كَانَ طَلَبَ التَّأْجِيلَ إذَا كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَقَدْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ حَدِيثُ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ ، فَرُبَّمَا يَظْهَرُ لَهُ شُبْهَةٌ وَيَتُوبُ إذَا رُفِعَتْ شُبْهَتُهُ ، فَلِهَذَا كُرِهَ تَرْكُ الْإِمْهَالِ وَالِاسْتِتَابَةِ ، فَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَقَدْ اسْتَقَرَّ حُكْمُ الدِّينِ ، وَتَبَيَّنَ الْحَقُّ فَالْإِشْرَاكُ بَعْدَ ذَلِكَ قَدْ يَكُونُ تَعَنُّتًا ، وَقَدْ يَكُونُ لِشُبْهَةٍ دَخَلَتْ عَلَيْهِ ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ طَلَبُ التَّأْجِيلِ ، وَإِذَا لَمْ يَطْلُبْ ذَلِكَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُتَعَنِّتٌ فِي ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِقَتْلِهِ إلَّا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْتَتَابَ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ كَافِرٍ قَدْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ ، وَتَجْدِيدُ الدَّعْوَةِ فِي حَقِّ مِثْلِهِ مُسْتَحَبٌّ ، وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ فَهَذَا كَذَلِكَ ، فَإِنْ اُسْتُتِيبَ فَتَابَ خُلِّيَ سَبِيلُهُ ، وَلَكِنَّ تَوْبَتَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ ، وَيَتَبَرَّأَ عَنْ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا سِوَى الْإِسْلَامِ أَوْ يَتَبَرَّى عَمَّا كَانَ انْتَقَلَ إلَيْهِ ، فَإِنَّ تَمَامَ الْإِسْلَامِ مِنْ الْيَهُودِيِّ التَّبَرِّي عَنْ الْيَهُودِيَّةِ ، وَمِنْ النَّصْرَانِيِّ التَّبَرِّي

عَنْ النَّصْرَانِيَّةِ ، وَمِنْ الْمُرْتَدِّ التَّبَرِّي عَنْ كُلِّ مِلَّةٍ سِوَى الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُرْتَدِّ مِلَّةُ مَنْفَعَةٍ ، وَإِنْ تَبَرَّأَ عَمَّا انْتَقَلَ إلَيْهِ فَقَدْ حَصَلَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ .

فَإِنَّ ارْتَدَّ ثَانِيًا وَثَالِثًا فَكَذَلِكَ يُفْعَلُ بِهِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ فَإِذَا أَسْلَمَ خُلِّيَ سَبِيلُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } ، وَكَانَ عَلِيٌّ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولَانِ إذَا ارْتَدَّ رَابِعًا لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَلَكِنْ يُقْتَلُ عَلَى كُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ مُسْتَخِفٌّ مُسْتَهْزِئٌ ، وَلَيْسَ بِتَائِبٍ ، وَاسْتَدَلَّا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنْ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ } ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْآيَةُ فِي حَقِّ مَنْ ازْدَادَ كُفْرًا لَا فِي حَقِّ مَنْ آمَنَ وَأَظْهَرَ التَّوْبَةَ وَالْخُشُوعَ فَحَالُهُ فِي الْمَرَّةِ الرَّابِعَةِ كَحَالِهِ قَبْلَ ذَلِكَ ، وَإِذَا أَسْلَمَ يَجِبُ قَبُولُ ذَلِكَ مِنْهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إلَيْكُمْ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا } .
وَرُوِيَ أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَمَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَقَتَلَهُ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ { أَقَتَلْتَ رَجُلًا قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مَنْ لَكَ بِلَا إلَهٍ إلَّا اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَقَالَ : إنَّمَا قَالَهَا تَعَوُّذًا ، فَقَالَ : هَلَّا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ ؟ ، فَقَالَ : لَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ مَا كَانَ يَتَبَيَّنُ لِي فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : فَإِنَّمَا يُعَبِّرُ عَنْ قَلْبِهِ لِسَانُهُ } إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ إذَا تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْهُ يُضْرَبُ ضَرْبًا مُبَرِّحًا لِجِنَايَتِهِ ثُمَّ يُحْبَسُ إلَى أَنْ يُظْهِرَ تَوْبَتَهُ وَخُشُوعَهُ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ مِرَارًا يُقْتَلُ غِيلَةً ، وَهُوَ أَنْ يَنْتَظِرَ فَإِذَا أَظْهَرَ كَلِمَةَ الشِّرْكِ قُتِلَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَتَابَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ظَهَرَ مِنْهُ الِاسْتِخْفَافُ .

وَقَتْلُ الْكَافِرِ الَّذِي بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ قَبْلَ الِاسْتِتَابَةِ جَائِزٌ .

فَإِنْ أَبَى الْمُرْتَدُّ أَنْ يُسْلِمَ فَقُتِلَ كَانَ مِيرَاثُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَالُهُ فَيْءٌ يُوضَعُ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ } ، وَالْمُرْتَدُّ كَافِرٌ فَلَا يَرِثُهُ الْمُسْلِمُ ، وَلِأَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَرِثُ أَحَدًا فَلَا يَرِثُهُ أَحَدٌ كَالرَّقِيقِ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَا يَرِثُهُ مَنْ يُوَاقِفُهُ فِي الْمِلَّةِ ، وَالْمُوَافَقَةُ فِي الْمِلَّةِ سَبَبُ التَّوْرِيثِ ، وَالْمُخَالَفَةُ فِي الْمِلَّةِ سَبَبُ الْحِرْمَانِ ، فَلَمَّا لَمْ يَرِثْهُ مَنْ يُوَافِقُهُ فِي الْمِلَّةِ مَعَ وُجُودِ سَبَبِ التَّوْرِيثِ فَلَأَنْ لَا يَرِثُهُ مَنْ يُخَالِفُهُ فِي الْمِلَّةِ أَوْلَى ، وَإِذَا انْتَفَى التَّوْرِيثُ عَنْ مَالِهِ فَهُوَ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ مَالُ حَرْبِيٍّ لَا أَمَانَ لَهُ فَيَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ ، وَفِي الْوَجْهِ الْآخَرِ هُوَ مَالٌ ضَائِعٌ فَمُصِيبُهُ بَيْتُ الْمَالِ كَالذِّمِّيِّ إذَا مَاتَ ، وَلَا وَارِثَ لَهُ مِنْ الْكُفَّارِ يُوضَعُ مَالُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ ظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى : { إنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ } وَالْمُرْتَدُّ هَالِكٌ ؛ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ جَرِيمَةً اسْتَحَقَّ بِهَا نَفْسَهُ فَيَكُونُ هَالِكًا { ، وَلَمَّا مَاتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالَهُ لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ } ، وَهُوَ كَانَ مُرْتَدًّا ، وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا فَقَدْ شَهِدَ اللَّهُ بِكُفْرِهِ بَعْدَ الْإِيمَانِ ، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا } ، وَإِنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَتَلَ الْمُسْتَوْرِدَ الْعِجْلِيَّ عَلَى الرِّدَّةِ ، وَقَسَّمَ مَالَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ ، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَمُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ كَانَ مُسْلِمًا مَالِكًا لِمَالِهِ

فَإِذَا تَمَّ هَلَاكُهُ يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِي مَالِهِ كَمَا لَوْ مَاتَ الْمُسْلِمُ ، وَتَحْقِيقُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الرِّدَّةَ هَلَاكٌ ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ بِهِ حَرْبًا ، وَأَهْلُ الْحَرْبِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ كَالْمَوْتَى إلَّا أَنَّ تَمَامَ هَلَاكِهِ حَقِيقَةٌ بِالْقَتْلِ أَوْ الْمَوْتِ ، فَإِذَا تَمَّ ذَلِكَ اسْتَنَدَ التَّوْرِيثُ إلَى أَوَّلِ الرِّدَّةِ ، وَقَدْ كَانَ مُسْلِمًا عِنْدَ ذَلِكَ فَيَخْلُفُهُ وَارِثُهُ الْمُسْلِمُ فِي مَالِهِ ، وَيَكُونُ هَذَا تَوْرِيثَ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَ تَمَامِ سَبَبِهِ يَثْبُتُ مِنْ أَوَّلِ السَّبَبِ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ إذَا أُجِيزَ يَثْبُتُ الْمِلْكُ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ حَتَّى يَسْتَحِقَّ الْمَبِيعَ بِزَوَائِدِهِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ جَمِيعًا ، فَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يَكُونُ فِيهِ تَوْرِيثُ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ .
( فَإِنْ قِيلَ : ) زَوَالُ مِلْكِهِ إمَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الرِّدَّةِ أَوْ مَعَهَا أَوْ بَعْدَهَا ، وَالْحُكْمُ لَا يَسْبِقُ السَّبَبَ وَلَا يَقْتَرِنُ بِهِ بَلْ يَعْقُبُهُ ، وَبَعْدَ الرِّدَّةِ هُوَ كَافِرٌ ( قُلْنَا ) نَعَمْ الْمُزِيلُ لِلْمِلْكِ رِدَّتُهُ كَمَا أَنَّ الْمُزِيلَ لِلْمِلْكِ مَوْتُ الْمُسْلِمِ ثُمَّ الْمَوْتُ يُزِيلُ الْمِلْكَ عَنْ الْحَيِّ لَا عَنْ الْمَيِّتِ فَكَذَلِكَ الرِّدَّةُ تُزِيلُ الْمِلْكَ عَنْ الْمُسْلِمِ ، وَكَمَا أَنَّ الرِّدَّةَ تُزِيلُ مِلْكَهُ فَكَذَلِكَ تُزِيلُ عِصْمَةَ نَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا تُزِيلُ الْعِصْمَةَ عَنْ مَعْصُومٍ لَا عَنْ غَيْرِ مَعْصُومٍ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ بِهَذَا الطَّرِيقِ تَوْرِيثُ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ ، وَلِهَذَا لَا يَرِثُهُ وَرَثَتُهُ الْكُفَّارُ ؛ لِأَنَّ التَّوْرِيثَ مِنْ الْمُسْلِمِ ، وَالْكَافِرُ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ ، وَهُوَ دَلِيلُنَا ، فَإِنَّهُ كَانَ تَعَلَّقَ بِإِسْلَامِهِ حُكْمَانِ : حِرْمَانُ وَرَثَتِهِ الْكُفَّارِ ، وَتَوْرِيثُ وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ ، ثُمَّ بَقِيَ أَحَدُ الْحُكْمَيْنِ بَعْدَ رِدَّتِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مُبْقِي عَلَى حُكْمِ الْإِسْلَامِ فَكَذَلِكَ الْحُكْمُ الْآخَرُ ، وَإِنَّمَا لَا يَرِثُ الْمُرْتَدُّ أَحَدًا

لِجِنَايَتِهِ ، فَهُوَ كَالْقَاتِلِ لَا يَرِثُ الْمَقْتُولَ لِجِنَايَتِهِ ، وَيَرِثُهُ الْمَقْتُولُ لَوْ مَاتَ الْقَاتِلُ قَبْلَهُ ، وَلِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِجَعْلِ مَالِهِ فَيْئًا ، فَإِنَّ هَذَا الْمَالَ كَانَ مُحْرَزًا بِدَارِ الْإِسْلَامِ ، وَلَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ الْإِحْرَازُ بِرِدَّتِهِ حَتَّى لَا يَغْنَمَ فِي حَيَاتِهِ ، وَالْمَالُ الْمُحْرَزُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَكُونُ فَيْئًا ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ ثُبُوتُ حَقِّ الْوَرَثَةِ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَا يَغْنَمُ فِي حَيَاتِهِ لَا لِحَقِّهِ ، فَإِنَّهُ لَا حُرْمَةَ لَهُ بَلْ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَإِنْ قَالَ : يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِيَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَالٌ ضَائِعٌ ( قُلْنَا ) الْمُسْلِمُونَ يَسْتَحِقُّونَ ذَلِكَ بِالْإِسْلَامِ ، وَوَرَثَتُهُ سَاوَوْا الْمُسْلِمِينَ فِي الْإِسْلَامِ ، وَتُرَجَّحُوا عَلَيْهِمْ بِالْقَرَابَةِ ، وَذُو السَّبَبَيْنِ مُقَدَّمٌ فِي الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى ذِي سَبَبٍ وَاحِدٍ ، فَكَانَ الصَّرْفُ إلَيْهِمْ أَوْلَى .

فَأَمَّا مَا اُكْتُسِبَ فِي حَالِ رِدَّتِهِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ فَيْءٌ يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَعِنْدَهُمَا هُوَ مِيرَاثٌ لِوَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ يُوقَفُ عَلَى أَنْ يُسْلَمَ لَهُ بِالْإِسْلَامِ فَيَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَكَسْبِ الْإِسْلَامِ ، وَمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَعَانِي بِجَمْعِ الْكَسْبَيْنِ ، وَلَيْسَ فِي الرِّدَّةِ أَكْثَرُ مِنْ أَنَّهُ صَارَ بِهِ مُشْرِفًا عَلَى الْهَلَاكِ فَيَكُونُ كَالْمَرِيضِ ، وَالْمُكْتَسَبُ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ كَالْمُكْتَسَبِ فِي الصِّحَّةِ فِي حُكْمِ الْإِرْثِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : الْوِرَاثَةُ خِلَافَةٌ فِي الْمِلْكِ ، وَالرِّدَّةُ تُنَافِي بَقَاءَ الْمِلْكِ فَتُنَافِي ابْتِدَاءَ الْمِلْكِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ، فَمَا اكْتَسَبَ فِي إسْلَامِهِ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ فَيَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِيهِ إذَا تَمَّ انْقِطَاعُ حَقِّهِ عَنْهُ ، وَكَسْبُ الرِّدَّةِ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لَهُ لِقِيَامِ الْمُنَافِي عِنْدَ الِاكْتِسَابِ ، وَإِنَّمَا كَانَ لَهُ حَقُّ أَنْ يَتَمَلَّكَ أَنْ لَوْ أَسْلَمَ ، وَالْوَارِثُ لَا يَخْلُفُهُ فِي مِثْلِ هَذَا الْحَقِّ فَبَقِيَ هَذَا مَالًا ضَائِعًا بَعْدَ مَوْتِهِ يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ، وَالْأَصَحُّ أَنْ نَقُولَ : إسْنَادُ التَّوْرِيثِ إلَى أَوَّلِ الرِّدَّةِ فِي كَسْبِ الْإِسْلَامِ مُمْكِنٌ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ يَعْمَلُ فِي الْمَحَلِّ ، وَالْمَحَلُّ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ أَوَّلِ الرِّدَّةِ ، فَأَمَّا إسْنَادُ التَّوْرِيثِ فِي كَسْبِ الرِّدَّةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِانْعِدَامِ الْمَحَلِّ عِنْدَ السَّبَبِ فِي هَذَا الْكَسْبِ ، فَلَوْ ثَبَتَ فِيهِ حُكْمُ التَّوْرِيثِ ثَبَتَ مَقْصُورًا عَلَى الْحَالِ ، وَهُوَ كَافِرٌ بَعْدً الِاكْتِسَابِ ، وَالْمُسْلِمُ لَا يَرِثُ الْكَافِرَ فَيَبْقَى مَوْقُوفًا عَلَى أَنْ يُسْلَمَ لَهُ بِالْإِسْلَامِ .
فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ بِأَنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ فَهَذَا كَسْبُ حَرْبِيٍّ لَا أَمَانَ لَهُ فَيَكُونُ فَيْئًا لِلْمُسْلِمِينَ يُوضَعُ فِي بَيْتِ مَالِهِمْ ، ثُمَّ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَنْ يَرِثُ

الْمُرْتَدَّ فَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مَنْ كَانَ وَارِثًا لَهُ وَقْتَ رِدَّتِهِ ، وَبَقِيَ إلَى مَوْتِ الْمُرْتَدِّ ، فَإِنَّهُ يَرِثُهُ ، وَمَنْ حَدَثَ لَهُ صِفَةُ الْوِرَاثَةِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَرِثُهُ حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ بَعْضُ قَرَابَتِهِ بَعْدَ رِدَّتِهِ ، أَوْ وُلِدَ لَهُ مِنْ عُلُوقٍ حَادِثٍ بَعْدَ رِدَّتِهِ ، فَإِنَّهُ لَا يَرِثُهُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ التَّوْرِيثِ الرِّدَّةُ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ ذَلِكَ السَّبَبِ لَمْ يَنْعَقِدْ لَهُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ ، ثُمَّ تَمَامُ الِاسْتِحْقَاقِ بِالْمَوْتِ ، فَإِنَّمَا يَتِمُّ فِي حَقِّ مَنْ انْعَقَدَ لَهُ السَّبَبُ لَا فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَنْعَقِدْ لَهُ السَّبَبُ ، ثُمَّ فِي حَقِّ مَنْ انْعَقَدَ لَهُ السَّبَبُ يُشْتَرَطُ بَقَاؤُهُ إلَى وَقْتِ تَمَامِ الِاسْتِحْقَاقِ ، فَإِذَا مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ يَبْطُلُ السَّبَبُ فِي حَقِّهِ كَمَا فِي بَيْعِ الْمَوْقُوفِ يَتِمُّ الْمِلْكُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ مِنْ وَقْتِ السَّبَبِ ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ قِيَامِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْإِجَازَةِ حَتَّى إذَا هَلَكَ قَبْلَ ذَلِكَ بَطَلَ السَّبَبُ ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْوَارِثِ ، وَقْتَ الرِّدَّةِ ثُمَّ لَا يَبْطُلُ اسْتِحْقَاقُهُ بِمَوْتِهِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُرْتَدِّ ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ فِي حُكْمِ التَّوْرِيثِ كَالْمَوْتِ ، وَمَنْ مَاتَ مِنْ الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ قَبْلَ قِسْمَةِ مِيرَاثِهِ لَا يَبْطُلُ اسْتِحْقَاقُهُ ، وَلَكِنْ يَخْلُفُهُ ، وَارِثُهُ فِيهِ فَهَذَا مِثْلُهُ ، وَأَمَّا رِوَايَةُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَهُوَ الْأَصَحُّ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ مَنْ يَكُونُ وَارِثًا لَهُ حِينَ مَاتَ أَوْ قُتِلَ ، سَوَاءٌ كَانَ مَوْجُودًا عِنْدَ الرِّدَّةِ أَوْ حَدَثَ بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّ الْحَادِثَ بَعْدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ قَبْلَ تَمَامِهِ يُجْعَلُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ السَّبَبِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الزِّيَادَةَ الَّتِي تَحْدُثُ مِنْ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ تُجْعَلُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ

ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ فِي أَنَّهُ يَصِيرُ مَعْقُودًا عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ ، وَيَكُونُ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ فَهَهُنَا أَيْضًا مَنْ يُحْدِثُ قَبْلَ انْعِقَادِ السَّبَبِ يُجْعَلُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ السَّبَبِ ، وَلَوْ تُصُوِّرَ بَعْدَ الْمَوْتِ الْحَقِيقِيِّ ، وَلَدٌ لَهُ مِنْ عُلُوقٍ حَادِثٍ لَكِنَّا نَجْعَلُهُ كَذَلِكَ أَيْضًا إلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ ، فَأَمَّا بَعْدَ الْهَلَاكِ بِالْحُكْمِ بِالرِّدَّةِ يُتَصَوَّرُ فَيُجْعَلُ الْحَادِثُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ ابْتِدَاءِ السَّبَبِ ، وَكَذَلِكَ إنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ قَسَّمَ الْإِمَامُ مَالَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ ، وَكَانَ لِحَاقُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَبْقَى مَالُهُ بَعْدَ لِحَاقِهِ مَوْقُوفًا كَمَا كَانَ قَبْلَ لِحَاقِهِ ؛ لِأَنَّ ذَهَابَهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ نَوْعُ غِيبَةٍ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ حُكْمُ مَالِهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ مُتَرَدِّدًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : إنَّهُ صَارَ حَرْبِيًّا حَقِيقَةً وَحُكْمًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَبْطَلَ حَيَاةَ نَفْسِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ حِينَ عَادَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ حَرْبًا لِلْمُسْلِمِينَ ، وَالْحَرْبِيُّ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَالْمَيِّتِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ } ، وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِي النِّكَاحِ فِي مَسْأَلَةِ تَبَايُنِ الدَّارَيْنِ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ خَرَجَ مِنْ يَدِ الْإِمَامِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ، وَلَوْ كَانَ فِي يَدِهِ لِمَوْتِهِ حَقِيقَةً بِأَنْ يَقْتُلَهُ وَيُقَسِّمَ مَالَهُ ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ بِخُرُوجِهِ عَنْ يَدِهِ مَوَّتَهُ حُكْمًا فَيُقَسِّمُ مَالَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ ، وَحَكَمَ بِعِتْقِ أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَمُدَبِّرِيهِ وَبِحُلُولِ آجَالِهِ ثُمَّ قَالَ أَبُو يُوسُفَ يُعْتَبَرُ مَنْ يَكُونُ وَارِثًا لَهُ وَقْتَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِلِحَاقِهِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَقْتَ لِحَاقِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ عِنْدَهُمَا مِلْكَهُ لَا يَزُولُ بِالرِّدَّةِ ، وَلِهَذَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْمُرْتَدِّ عِنْدَهُمَا عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ ، فَإِنَّمَا زَوَالُ مِلْكِهِ

بِسَبَبِ الرِّدَّةِ عِنْدَ لِحَاقِهِ فَيُعْتَبَرُ وَارِثُهُ عِنْدَ ذَلِكَ ، وَلِحَاقُهُ مَوْتٌ حُكْمِيٌّ فَهُوَ كَالْمَوْتِ الْحَقِيقِيِّ بِالْقَتْلِ ، وَلَكِنْ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ : اللِّحَاقُ فِي الْحَقِيقَةِ غِيبَةٌ ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ مَوْتًا حُكْمًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَيُعْتَبَرُ مَنْ يَكُونُ وَارِثًا لَهُ عِنْدَ الْقَضَاءِ بِاللِّحَاقِ فِي اسْتِحْقَاقِ مَالِهِ ، وَكَذَلِكَ تَرِثُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ إنْ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ ارْتَفَعَ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ لَكِنَّهُ فَارٌّ عَنْ مِيرَاثِهَا .
وَامْرَأَةُ الْفَارِّ تَرِثُ إذَا كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ عِنْدَ مَوْتِهِ ، وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ تَرِثُ ، وَإِنْ كَانَتْ مُنْقَضِيَةَ الْعِدَّةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ التَّوْرِيثُ كَانَ مَوْجُودًا فِي حَقِّهَا عِنْدَ رِدَّتِهِ ، وَعَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ قِيَامُ السَّبَبِ عِنْدَ أَوَّلِ الرِّدَّةِ ، وَتَبْطُلُ وَصَايَاهُ ؛ لِأَنَّ تَنْفِيذَ الْوَصَايَا لِحَقِّ الْمُوصِي ، وَلَمْ يَبْقَ لَهُ حَقٌّ بَعْدَ مَا قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ التَّدْبِيرِ ، فَإِنَّ حَقَّ الْعَبْدِ فِي الْعِتْقِ بِالتَّدْبِيرِ قَدْ ثَبَتَ لَلْمُدَبَّرِ فَيَكُونُ عِتْقُهُ كَعِتْقِ أُمِّ الْوَلَدِ أَوْ حَقُّهُ كَحَقِّ أَصْحَابِ الدُّيُونِ ، وَفِي الْكِتَابِ يَقُولُ : رِدَّتُهُ كَرُجُوعِهِ عَنْ الْوَصِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ بِالرِّدَّةِ يَبْطُلُ حَقُّهُ ، وَتَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ كَانَ لِحَقِّهِ فَرُجُوعُهُ يَعْمَلُ فِي إبْطَالِ وَصَايَاهُ ، وَلَا يَعْمَلُ فِي إبْطَالِ تَدْبِيرِهِ فَكَذَلِكَ رِدَّتُهُ ، وَهُوَ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ مَا دَامَ الْمُرْتَدُّ مُقِيمًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَبِمَوْتِهِ بِالْقَتْلِ حَقِيقَةً إنْ لَمْ يُسْلِمْ أَوَّلًا ثُمَّ يُقَسِّمُ مَالَهُ ، وَإِنَّ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ لِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ رَجَعَ تَائِبًا قَدْ مَضَى جَمِيعُ مَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ غَيْرَ أَنَّهُ إذَا وَجَدَ شَيْئًا مِنْ مِلْكِهِ بِعَيْنِهِ فِي يَدِ وَارِثِهِ أَخَذَهُ مِنْهُ

؛ لِأَنَّ الْوِرَاثَةَ خِلَافَةٌ ، وَالْخَلْفُ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ إذَا ظَهَرَ الْأَصْلُ ، وَلَمَّا جَاءَ تَائِبًا فَقَدْ صَارَ حَيًّا حُكْمًا ، وَإِنَّمَا كَانَتْ خِلَافَةُ الْوَارِثِ إيَّاهُ فِي هَذَا الْمِلْكِ كَمَوْتِهِ حُكْمًا ، فَإِذَا انْعَدَمَ ذَلِكَ ظَهَرَ حُكْمُ الْأَصْلِ ، وَلِهَذَا قُلْنَا : لَوْ كَانَ الْوَارِثُ كَاتَبَ عَبْدًا يُعَادُ إلَيْهِ ذَلِكَ الْعَبْدُ مُكَاتَبًا ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَكُونُ مُنْتَقِلًا مِنْ الْخَلْفِ إلَى الْأَصْلِ ، وَتَأْثِيرُ الْكِتَابَةِ فِي مَنْعِ النَّقْلِ ، وَلَكِنْ يَنْعَدِمُ الْخَلْفُ بِظُهُورِ الْأَصْلِ فَيَكُونُ الْمِلْكُ لِصَاحِبِ الْأَصْلِ بِطَرِيقِ الْبَقَاءِ ، وَلَا يُعَادُ إلَيْهِ شَيْءٌ مِمَّا بَاعَهُ وَارِثُهُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وَالْخَلْفَ فِي الْحُكْمِ فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِهِ عِنْدَ ظُهُورِ الْأَصْلِ لِيَكُونَ عَامِلًا ، وَمَا تَصَرَّفَ الْوَارِثُ مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ فَهُوَ نَافِذٌ مِنْهُ لِمُصَادِفَتِهِ مِلْكَهُ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِمَّا أَتْلَفَهُ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ كَانَ خَالِصًا لَهُ ، وَفِعْلُهُ فِيمَا خَلَصَ حَقًّا لَهُ لَا يَكُونُ سَبَبَ الضَّمَانِ فَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ الْإِمَامُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ حَتَّى رَجَعَ تَائِبًا فَجَمِيعُ ذَلِكَ لَهُ كَمَا كَانَ قَبْلَ رِدَّتِهِ ؛ لِأَنَّ اللِّحَاقَ قَبْلَ أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ الْقَضَاءُ بِمَنْزِلَةِ الْغِيبَةِ فَهُوَ وَالْمُتَرَدِّدُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ .

( قَالَ ) وَجَمِيعُ مَا فَعَلَ الْمُرْتَدُّ فِي حَالِ رِدَّتِهِ مِنْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءِ أَوْ عِتْقٍ أَوْ تَدْبِيرٍ أَوْ كِتَابَةٍ بَاطِلٌ إنْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ، وَقَسَّمَ الْإِمَامُ مَالَهُ ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ نَوْعٌ مِنْهَا نَافِذٌ بِالِاتِّفَاقِ ، وَهُوَ الِاسْتِيلَادُ حَتَّى إذَا جَاءَتْ جَارِيَتُهُ بِوَلَدٍ فَادَّعَى نَسَبَهُ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ ، وَوَرِثَ هَذَا الْوَلَدُ مَعَ وَرَثَتِهِ ، وَكَانَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي مِلْكِهِ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْأَبِ فِي جَارِيَةِ وَلَدِهِ ، وَاسْتِيلَادُ الْأَبِ صَحِيحٌ فَاسْتِيلَادُ الْمُرْتَدِّ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهَا مَوْقُوفَةٌ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ حَتَّى إذَا أَسْلَمَ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ ، وَحَقُّهُ فِيهَا أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْمَوْلَى فِي كَسْبِ الْمُكَاتَبِ ، وَهُنَاكَ يَصِحُّ مِنْهُ دَعْوَةُ النَّسَبِ فَهَهُنَا أَوْلَى إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يَحْتَاجُ إلَى تَصْدِيقِ الْمُكَاتَبِ لِاخْتِصَاصِهِ بِمِلْكِ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ ، وَهَهُنَا لَا يَحْتَاجُ إلَى تَصْدِيقِ الْوَرَثَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُمْ مِلْكُ الْيَدِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْحَالِ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ بِالِاتِّفَاقِ بَاطِلٌ فِي الْحَالِ كَالنِّكَاحِ وَالذَّبِيحَةِ ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ بِهِمَا يَعْتَمِدُ الْمِلَّةَ ، وَلَا مِلَّةَ لِلْمُرْتَدِّ فَقَدْ تَرَكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ غَيْرُ مُقِرٍّ عَلَى مَا اعْتَمَدَهُ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مَوْقُوفٌ بِالِاتِّفَاقِ ، وَهُوَ الْمُفَاوَضَةُ ، فَإِنَّهُ إذَا شَارَكَ غَيْرَهُ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ تُوقَفُ صِفَةُ الْمُفَاوَضَةِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي تَوَقُّفِ أَصْلِ الشَّرِكَةِ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، وَهُوَ سَائِرُ تَصَرُّفَاتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَتَوَقَّفُ بَيْنَ أَنْ يَنْفُذَ بِالْإِسْلَامِ أَوْ يَبْطُلَ إذَا مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَعِنْدَهُمَا نَافِذٌ إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ يَنْفُذُ كَمَا يَنْفُذُ مِنْ الصَّحِيحِ حَتَّى يُعْتَبَرَ تَبَرُّعَاتُهُ مِنْ جَمِيعِ

الْمَالِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَنْفُذُ كَمَا يَنْفُذُ مِنْ الْمَرِيضِ وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّصَرُّفِ لَاقَى تَصَرُّفُهُ مِلْكَهُ فَيَنْفُذُ ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ التَّصَرُّفَ قَوْلٌ ، وَالْأَهْلِيَّةُ لَهُ بِاعْتِبَارِ قَوْلِهِ شَرْعًا ، وَلَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ بِالرِّدَّةِ ، وَالْمَالِكِيَّةُ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْحُرِّيَّةِ ، وَلَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ بِالرِّدَّةِ إنَّمَا تَأْثِيرُ رِدَّتِهِ فِي إبَاحَةِ دَمِهِ ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالْمَالِكِيَّةِ كَالْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ بِالرَّجْمِ وَالْقِصَاصِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ تَصَرُّفَ الْمُكَاتَبِ بَعْدَ الرِّدَّةِ نَافِذٌ بِالِاتِّفَاقِ ، وَحَالُ الْحُرِّ فِي التَّصَرُّفِ فَوْقَ حَالِ الْمُكَاتَبِ ، فَإِذَا كَانَتْ الرِّدَّةُ لَا تُنَافِي مِلْكَ الْيَدِ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ تَصَرُّفُ الْمُكَاتَبِ حَتَّى يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُ ، فَلَأَنْ لَا يُنَافِي مِلْكَ الْحُرِّ وَتَصَرُّفَهُ أَوْلَى إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : هُوَ مُشْرِفٌ عَلَى الْهَلَاكِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ فِي التَّصَرُّفِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ زَوْجَتَهُ تَرِثُهُ بِحُكْمِ الْفِرَارِ ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي الْمَرِيضِ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : هُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ دَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ بِسَبَبٍ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ مَرْغُوبٍ فِيهِ فَلَا يَصِيرُ فِي حُكْمِ الْمَرِيضِ ، كَمَنْ قَصَدَ أَنْ يُلْقِيَ نَفْسَهُ مِنْ شَاهِقِ جَبَلٍ لَا يَصِيرُ بِهِ فِي حُكْمِ الْمَرِيضِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ بِالرَّجْمِ وَالْقِصَاصِ لَا يَصِيرُ كَالْمَرِيضِ مَا دَامَ فِي السِّجْنِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ دَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ بِادِّعَاءِ شُبْهَةٍ فَالْمُرْتَدُّ أَوْلَى ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ : بِالرِّدَّةِ يَزُولُ مِلْكُهُ عَنْ الْمَالِ ، وَكَانَ مَوْقُوفًا عَلَى الْعَوْدِ إلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ ، وَتَصَرُّفُهُ بِحُكْمِ الْمِلْكِ فَيَتَوَقَّفُ بِتَوَقُّفِ الْمِلْكِ ، وَدَلِيلُ الْوَصْفِ أَنَّ الْمَالِكِيَّةَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقُدْرَةِ وَالِاسْتِيلَاءِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ حُكْمًا

بِاعْتِبَارِ الْعِصْمَةِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ عِصْمَةَ النَّفْسِ وَالْمَالِ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ ثُمَّ عِصْمَةُ نَفْسِهِ تَزُولُ بِالرِّدَّةِ حَتَّى يُقْتَلَ ، فَكَذَلِكَ عِصْمَةُ مَالِهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ هَالِكٌ حُكْمًا ، وَإِذَا كَانَ الْهَلَاكُ حَقِيقَةً يُنَافِي مَالِكِيَّةَ الْمَالِ ، وَلَا يُنَافِي تَوَقُّفَ الْمَالِ عَلَى حَقِّهِ ، كَالتَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرَقَةِ بِالدَّيْنِ ، فَكَذَلِكَ الْهَلَاكُ الْحُكْمِيُّ ، وَلِأَنَّ تَأْثِيرَ الرِّدَّةِ فِي نَفْيِ الْمَالِكِيَّةِ فَوْقَ تَأْثِيرِ الرِّقِّ ، فَإِنَّ الرِّقَّ يُنَافِي مَالِكِيَّةَ الْمَالِ ، وَلَا يُنَافِي مَالِكِيَّةَ النِّكَاحِ ، وَالرِّدَّةُ تُنَافِيهِمَا ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ وَالرَّجْمِ ، فَهُنَاكَ لَمْ يَزُلْ مَا بِهِ عِصْمَةُ الْمَالِ وَالنَّفْسِ ، وَإِنَّمَا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ نَفْسَهُ بِمَا هُوَ مِنْ حُقُوقِ تِلْكَ الْعِصْمَةِ فَيَبْقَى مَالِكًا حَقِيقَةً لِبَقَاءِ عِصْمَةِ مَالِهِ ، وَقَدْ انْعَدَمَ هَهُنَا مَا بِهِ كَانَتْ الْعِصْمَةُ فِي حَقِّ النَّفْسِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ فِي الْعِصْمَةِ ، وَبِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ فَإِنَّ تَصَرُّفَهُ بِاعْتِبَارِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ ، وَالرِّدَّةِ لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْهَلَاكَ الْحَقِيقِيَّ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْكِتَابَةِ فَالْهَلَاكُ الْحُكْمِيُّ أَوْلَى ، وَلِهَذَا نَفَذَ تَصَرُّفُ الْمُكَاتَبِ بَعْدَ لِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ ، وَهَهُنَا بِالِاتِّفَاقِ لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ بَعْدَ لِحَاقِهِ بَلْ يَتَوَقَّفُ فَكَذَلِكَ قَبْلَ لِحَاقِهِ ؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ بِرِدَّتِهِ لَا بِلِحَاقِهِ ، وَكَذَلِكَ التَّوْرِيثُ بِاعْتِبَارِ رِدَّتِهِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا أَنَّهُ يَسْتَنِدُ التَّوْرِيثُ إلَى أَوَّلِ الرِّدَّةِ لِيَكُونَ فِيهِ تَوْرِيثُ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُسْلِمِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ بِالرِّدَّةِ صَارَ حَرْبِيًّا ، وَلِهَذَا يُقْتَلُ ، وَالْحَرْبِيُّ الْمَقْهُورُ فِي أَيْدِينَا يَتَوَقَّفُ تَصَرُّفُهُ كَالْمَأْسُورِينَ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ تَوَقُّفُ حَالِهِمْ بَيْنَ الِاسْتِرْقَاقِ وَالْقَتْلِ وَالْمَنِّ

، وَهَهُنَا بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْإِسْلَامِ ، ثُمَّ تَوَقُّفُ تَصَرُّفِهِمْ هُنَاكَ لِتَوَقُّفِ حَالِهِمْ فَكَذَلِكَ هَهُنَا .

وَإِذَا أَعْتَقَ الْمُرْتَدُّ عَبْدَهُ ثُمَّ أَعْتَقَهُ ابْنُهُ أَيْضًا ، وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ لَمْ يَجُزْ عِتْقُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَّا عِتْقُ الْمُرْتَدِّ فَكَانَ مَوْقُوفًا فَبِمَوْتِهِ يَبْطُلُ ، وَأَمَّا عِتْقُ الْوَارِثِ فَقَدْ سَبَقَ مِلْكَهُ ؛ لِأَنَّ قَبْلَ مَوْتِ الْمُرْتَدِّ لَا مِلْكَ لِلْوَارِثِ فِي مَالِهِ بَلْ الْمِلْكُ مَوْقُوفٌ عَلَى حَقِّ الْمُرْتَدِّ فَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْوَارِثِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ التَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرَقَةِ بِالدَّيْنِ إذَا أَعْتَقَ الْوَارِثُ عَبْدًا مِنْهَا ثُمَّ سَقَطَ الدَّيْنُ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ التَّوْرِيثِ هُنَاكَ قَدْ تَمَّ ، وَالتَّوَقُّفُ لَحِقَ الْغُرَمَاءَ ، وَالْعِتْقُ بَعْدَ تَمَامِ سَبَبِ الْمِلْكِ لَا يَتَوَقَّفُ ، وَهَهُنَا أَصْلُ السَّبَبِ انْعَقَدَ بِالرِّدَّةِ ، وَلَكِنْ لَا يَتِمُّ لِقِيَامِ الْأَصْلِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ، وَالْخِلَافَةُ تَكُونُ بَعْدَ فَوَاتِ الْأَصْلِ فَلِهَذَا لَا تَنْفُذُ تَصَرُّفَاتٌ لِوَارِثٍ ، وَإِنْ مَلَكَ بَعْدَ ذَلِكَ .

وَإِذَا مَاتَ الِابْنُ وَلَهُ مُعْتَقٌ وَالْأَبُ مُرْتَدٌّ ، ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ وَلَهُ مُعْتَقٌ كَانَ مِيرَاثُ الْأَبِ لِمُعْتَقِهِ دُونَ مُعْتَقِ الِابْنِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ أَصْلَ السَّبَبِ ، وَإِنْ انْعَقَدَ بِالرِّدَّةِ ، فَإِذَا مَاتَ الِابْنُ قَبْلَ وَقْتِ تَمَامِ السَّبَبِ بَطَلَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ بَقَاءَهُ إلَى وَقْتِ تَمَامِ السَّبَبِ شَرْطٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الرِّوَايَةِ فِي هَذَا الْفَصْلِ ، وَمَا اكْتَسَبَهُ فِي رِدَّتِهِ فَهُوَ فَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهُمَا يَسْتَدِلَّانِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِكَسْبِ الرِّدَّةِ أَنَّهُ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ حَتَّى لَوْ قَضَى دَيْنَهُ بِكَسْبِ رِدَّتِهِ أَوْ رَهْنَهُ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ كَانَ صَحِيحًا ، فَكَذَلِكَ كَسْبُ الْإِسْلَامِ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ سَلَّمَ وَاشْتَغَلَ بِالْفَرْقِ فَقَالَ : تَصَرُّفُهُ فِي كَسْبِ الرِّدَّةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ كَسْبُهُ لَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِلْكُهُ ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ تُنَافِي الْمِلْكَ ، فَأَمَّا فِي كَسْبِ الْإِسْلَامِ تَصَرُّفُهُ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا تَوَقُّفَ مِلْكِهِ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَتَوَقَّفُ تَصَرُّفُهُ فِي الْكَسْبَيْنِ جَمِيعًا ، وَيَبْطُلُ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ ، وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْهُ فِي قَضَاءِ دُيُونِهِ ، فَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَقْضِي دُيُونَهُ مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ ، فَإِنْ لَمْ يَفِ بِذَلِكَ فَحِينَئِذٍ مِنْ كَسْبِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْإِسْلَامِ حَقُّ وَرِيثِهِ ، وَلَا حَقَّ لِوَرَثَتِهِ فِي كَسْبِ رِدَّتِهِ بَلْ هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ ، فَلِهَذَا كَانَ فَيْئًا إذَا قُتِلَ فَكَانَ وَفَاءُ الدَّيْنِ مِنْ خَالِصِ حَقِّهِ أَوْلَى ، فَعَلَى هَذَا نَقُولُ : عَقْدُ الرَّهْنِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ .

وَإِذَا قَضَى دَيْنَهُ مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ أَوْ رَهْنَهُ بِالدَّيْنِ فَقَدْ فَعَلَ عَيْنَ مَا كَانَ يَحِقُّ فِعْلُهُ ؛ فَلِهَذَا كَانَ نَافِذًا ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَبْدَأُ بِكَسْبِ الْإِسْلَامِ فِي قَضَاءِ دُيُونِهِ ، فَإِنْ لَمْ تَفِ بِذَلِكَ فَحِينَئِذٍ مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ مِلْكِ الْمَدْيُونِ ، وَكَسْبُ الْإِسْلَامِ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ ، وَلِهَذَا يَخْلُفُهُ الْوَارِثُ فِيهِ ، وَخِلَافَةُ الْوَارِثِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ حَقِّهِ فَأَمَّا كَسْبُ الرِّدَّةِ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لَهُ فَلَا يَقْضِي دَيْنَهُ مِنْهُ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ قَضَاؤُهُ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ ، فَعَلَى هَذَا لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِي الرَّهْنِ ، وَقَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ إذَا كَانَ فِي كَسْبِ الْإِسْلَامِ وَفَاءٌ بِذَلِكَ ، وَرَوَى زُفَرُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ دُيُونَ إسْلَامِهِ تُقْضَى مِنْ كَسْبِ الْإِسْلَامِ ، وَمَا اسْتَدَانَ فِي الرِّدَّةِ يُقْضَى مِنْ كَسْبِ الرِّدَّةِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لِلْكَسْبَيْنِ مُخْتَلِفٌ ، وَحُصُولُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَسْبَيْنِ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ الَّذِي وَجَبَ بِهِ الدَّيْنُ فَيَقْضِي كُلَّ دَيْنٍ مِنْ الْكَسْبِ الْمُكْتَسَبِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِيَكُونَ الْغُرْمُ بِمُقَابَلَةِ الْغُنْمِ ، وَبِهِ أَخَذَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .

وَإِنَّ جَنَى الْمُرْتَدُّ جِنَايَةً لَمْ يَعْقِلْهُ الْعَاقِلَةُ ؛ لِأَنَّ تَحَمُّلَ الْعَقْلِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى النُّصْرَةِ ، وَهُوَ أَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الْجِنَايَةِ بِقُوَّةِ الْعَاقِلَةِ ، وَأَحَدٌ لَا يَنْصُرُ الْمُرْتَدَّ ، أَوْ ذَلِكَ لِلتَّخْفِيفِ عَلَى الْجَانِي لِعُذْرِ الْخَطَأِ ، وَالْمُرْتَدُّ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلتَّخْفِيفِ فَيَكُونُ الْأَرْشُ فِي مَالِهِ ، وَكَذَلِكَ مَا غَصَبَ وَأَتْلَفَ مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ فَذَلِكَ كُلُّهُ دَيْنٌ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ إلَّا مَا اكْتَسَبَهُ فِي رِدَّتِهِ كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُهُ فَيَكُونُ مَصْرُوفًا إلَى دَيْنِهِ كَكَسْبِ الْمُكَاتَبِ .

وَالْجِنَايَةُ عَلَى الْمُرْتَدِّ هَدَرٌ ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ لِعِصْمَةِ نَفْسِهِ ، وَقَدْ انْعَدَمَتْ الْعِصْمَةُ بِرِدَّتِهِ فَكَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَيْهِ هَدَرًا .

مُسْلِمٌ قَطَعَ يَدَ مُسْلِمٍ عَمْدًا أَوْ خَطَأً ثُمَّ ارْتَدَّ الْمَقْطُوعَةُ يَدُهُ عَنْ الْإِسْلَامِ فَمَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارُ الْحَرْبِ فَعَلَى الْقَاطِعِ دِيَةُ الْيَدِ فِي مَالِهِ إنْ كَانَ عَمْدًا ، وَعَلَى عَاقِلَتِهِ إنْ كَانَ خَطَأً ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْيَدِ كَانَتْ جِنَايَةً مُوجِبَةً لِلضَّمَانِ ، وَقَدْ انْقَطَعَتْ السِّرَايَةُ بِزَوَالِ عِصْمَةِ نَفْسِهِ بِالرِّدَّةِ فَصَارَ كَمَا لَوْ انْقَطَعَ بِالْبُرْءِ فَيَلْزَمُهُ دِيَةُ الْيَدِ فَقَطْ ، وَإِنَّ أَسْلَمَ قَبْلَ اللُّحُوقِ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ مَاتَ مِنْ تِلْكَ الْجِنَايَةِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَيْهِ دِيَةُ النَّفْسِ اسْتِحْسَانًا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا دِيَةُ الْيَدِ قِيَاسًا ؛ لِأَنَّ السِّرَايَةَ قَدْ انْقَطَعَتْ بِزَوَالِ عِصْمَةِ نَفْسِهِ بِالرِّدَّةِ ثُمَّ بِالْإِسْلَامِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْعِصْمَةَ لَمْ تَكُنْ زَائِلَةً ، فَحُكْمُ السِّرَايَةِ بَعْدَ مَا انْقَطَعَ لَا يَعُودُ ، وَكَانَ مَوْتُهُ مِنْ تِلْكَ الْجِنَايَةِ ، وَمَوْتُهُ بِسَبَبٍ آخَرَ سَوَاءٌ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَ ثَانِيًا فَمَاتَ مِنْ تِلْكَ الْجِنَايَةِ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْقَاطِعِ إلَّا دِيَةُ الْيَدِ فَكَذَلِكَ قَبْلَ اللُّحُوقِ ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ الْجِنَايَةِ وَالسِّرَايَةِ لَحِقَهُ بَعْدَ سُقُوطِ حَقِّهِ بِالرِّدَّةِ فَيَصِيرُ هُوَ كَالْمُبْرَإِ عَنْ سِرَايَةِ تِلْكَ الْجِنَايَةِ كَمَا لَوْ قُطِعَ يَدُ عَبْدٍ ثُمَّ أَعْتَقَهُ مَوْلَاهُ أَوْ بَاعَهُ صَارَ مُبْرِئًا عَنْ السِّرَايَةِ بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ ، وَبَعْدَ مَا صَحَّ الْإِبْرَاءُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ إعَادَةِ حَقِّهِ فِي السِّرَايَةِ فَكَانَ وُجُودُ إسْلَامِهِ فِي حُكْمِ السِّرَايَةِ كَعَدَمِهِ ، وَهُمَا يَقُولَانِ حَقُّهُ تَوَقَّفَ بِالرِّدَّةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا فَإِذَا أَسْلَمَ زَالَ التَّوَقُّفُ فَصَارَ مَا اعْتَرَضَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ إذَا بَاعَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ فَقَدْ تَمَّ زَوَالُ مِلْكِهِ هُنَاكَ ، وَاعْتِبَارُ الْجِنَايَةِ كَانَ لِمِلْكِهِ يُوَضِّحُ

الْفَرْقَ أَنَّ ضَمَانَ الْجِنَايَةِ فِي الْمَمَالِيكِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَمْلُوكِيَّةِ ، وَلِهَذَا يَجِبُ الضَّمَانُ لِتَمَكُّنِ النُّقْصَانِ فِي الْمَالِيَّةِ شَيْئًا فَشَيْئًا ، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ بِالْعِتْقِ أَصْلًا ، وَبِالْبَيْعِ فِي حَقِّ مَنْ كَانَ مُسْتَحِقًّا لَهُ ، فَأَمَّا وُجُوبُ ضَمَانِ الْجُزْءِ بِاعْتِبَارِ النَّفْسِيَّةِ ، وَلَا يَنْعَدِمُ بِالرِّدَّةِ ، وَلَكِنَّ الْعِصْمَةَ شَرْطٌ ، فَإِنَّمَا يُرَاعَى وُجُودُهُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ السَّبَبِ لِيَنْعَقِدَ مُوجِبًا ، وَعِنْدَ تَقَرُّرِهِ بِالْمَوْتِ لِتَقَرُّرِ الْحُكْمِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ بَقَاءُ الْعِصْمَةِ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ : إنْ دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ بَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ ثُمَّ دَخَلَ الدَّارَ يَعْتِقُ لِهَذَا الْمَعْنَى ، فَأَمَّا إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي قَضَى بِلِحَاقِهِ فَقَدْ صَارَ مَيِّتًا حُكْمًا ، وَبَقَاءُ حُكْمِ الْجِنَايَةِ بِاعْتِبَارِ بَقَاءِ النَّفْسِيَّةِ ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ مَوْتِهِ حُكْمًا إذْ لَا تَصَوُّرَ لِبَقَاءِ الْحُكْمِ بِدُونِ الْمَحَلِّ ، وَإِذَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِلِحَاقِهِ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ عَلَى الْخِلَافِ ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ سَلَّمَ وَقَالَ : بِنَفْسِ اللِّحَاقِ صَارَ حَرْبِيًّا ، وَالْحَرْبِيُّ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْمَيِّتِ ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَتْ امْرَأَةٌ تُسْتَرَقُّ كَسَائِرِ الْحَرْبِيَّاتِ فَيَتِمُّ بِهِ انْقِطَاعُ حُكْمِ السِّرَايَةِ ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ لِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ الرِّدَّةَ عَارِضٌ ، فَإِذَا زَالَ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ كَالْعَصِيرِ الْمُشْتَرَى إذَا تَخَمَّرَ قَبْلَ الْقَبْضِ ثُمَّ تَخَلَّلَ بَقِيَ الْعَقْدُ صَحِيحًا ، وَلَا يُعْتَبَرُ زَوَالُهُ بَعْدَ تَقَرُّرِهِ كَمَا فِي الْعَصِيرِ إذَا تَخَمَّرَ ، فَقَضَى الْقَاضِي بِفَسْخِ الْعَقْدِ ثُمَّ تَخَلَّلَ ، وَبِاللِّحَاقِ قَدْ تَقَرَّرَ خُصُوصًا إذَا قَضَى بِهِ الْقَاضِي فَلَا يُعْتَبَرُ زَوَالُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ اللِّحَاقِ .

وَإِنَّ كَانَ الْقَاطِعُ هُوَ الَّذِي ارْتَدَّ فَقُتِلَ ، وَمَاتَ الْمَقْطُوعَةُ يَدُهُ مِنْ ذَلِكَ مُسْلِمًا ، فَإِنْ كَانَ عَمْدًا فَلَا شَيْءَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْعَمْدِ الْقَوَدُ ، وَقَدْ فَاتَ مَحَلُّهُ حِينَ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ مَاتَ ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً فَعَلَى عَاقِلَةِ الْقَاطِعِ دِيَةُ النَّفْسِ ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْجِنَايَةِ كَانَ مُسْلِمًا ، وَجِنَايَةُ الْمُسْلِمِ إذَا كَانَتْ خَطَأً عَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَتَبَيَّنَ بِالسِّرَايَةِ أَنَّ جِنَايَتَهُ كَانَتْ قَتْلًا فَلِهَذَا كَانَ عَلَى عَاقِلَتِهِ دِيَةُ النَّفْسِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ مِنْهُ فِي حَالِ رِدَّتِهِ كَانَتْ الدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ فِي مَالِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَعْقِلُ جِنَايَتَهُ أَحَدٌ .

وَلَا تُقْتَلُ الْمُرْتَدَّةُ ، وَلَكِنَّهَا تُحْبَسُ ، وَتُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تُقْتَلُ إنْ لَمْ تُسْلِمْ ، وَهَكَذَا كَانَ يَقُولُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ رَجَعَ أَنَّهُ الْحَسَنُ ، عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا تَخْرُجُ فِي كُلِّ قَلِيلٍ ، وَتُعَذَّرُ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ سَوْطًا ثُمَّ تُعَادُ إلَى الْحَبْسِ إلَى أَنْ تَتُوبَ أَوْ تَمُوتَ ، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } ، وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ تَعُمُّ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْقَتْلِ تَبْدِيلُ الدِّينِ ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا فِي لِسَانِ صَاحِبِ الشَّرْعِ لِبَيَانِ الْعِلَّةِ ، وَقَدْ تَحَقَّقَ تَبْدِيلُ الدِّينِ مِنْهَا ، وَفِي الْحَدِيثِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَ مُرْتَدَّةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ مَرْوَانَ } ، وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَتَلَ مُرْتَدَّةً يُقَالُ لَهَا أُمُّ فُرْقَةَ ، وَلِأَنَّهَا اعْتَقَدَتْ دِينًا بَاطِلًا بَعْدَ مَا اعْتَرَفَتْ بِبُطْلَانِهِ فَتُقْتَلُ كَالرَّجُلِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقَتْلَ جَزَاءٌ عَلَى الرِّدَّةِ ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْحَقِّ مِنْ أَعْظَمِ الْجَرَائِمِ ، وَلِهَذَا كَانَ قَتْلُ الْمُرْتَدِّ مِنْ خَالِصِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَمَا يَكُونُ مِنْ خَالِصِ حَقِّ اللَّهِ فَهُوَ جَزَاءٌ ، وَفِي أَجْزِيَةِ الْجَرَائِمِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ سَوَاءٌ كَحَدِّ الزِّنَا ، وَالسَّرِقَةِ ، وَشُرْبِ الْخَمْرِ ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْجِنَايَةَ بِالرِّدَّةِ أَغْلَظُ مِنْ الْجِنَايَةِ بِالْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ ، فَإِنَّ الْإِنْكَارَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ أَغْلَظُ مِنْ الْإِصْرَارِ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى الْإِنْكَارِ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ ، وَبِأَنْ كَانَتْ لَا تُقْتَلُ إذَا لَمْ تَتَغَلَّظُ جِنَايَتُهَا فَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تُقْتَلُ إذَا تَغَلَّظَتْ جِنَايَتُهَا ثُمَّ

فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ إذَا تَغَلَّظَتْ جِنَايَتُهَا بِأَنْ كَانَتْ مُقَاتِلَةً أَوْ سَاحِرَةً أَوْ مَلِكَةً تُحَرِّضُ عَلَى الْقِتَالِ تُقْتَلُ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الرِّدَّةِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا تُحْبَسُ ، وَتُعَزَّرُ ، وَتُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ بَعْدَ الرِّدَّةِ ، وَلَا يُفْعَلُ ذَلِكَ بِهَا فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ ، وَكَذَلِكَ الشُّيُوخُ ، وَأَصْحَابُ الصَّوَامِعِ ، وَالرُّهْبَانُ يُقْتَلُونَ بَعْدَ الرِّدَّةِ ، وَلَا يُقْتَلُونَ فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ ، وَذَوُو الْأَعْذَارِ كَالْأَعْمَى وَالزَّمِنِ كَذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الرِّقُّ فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ يَمْنَعُ الْقَتْلَ ، وَهُوَ مَا إذَا اُسْتُرِقَّ الْأَسِيرُ ، وَفِي الرِّدَّةِ لَا يَمْنَعُ ثُمَّ فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ لَا تَسْلَمُ لَهَا نَفْسُهَا حَتَّى تَسْتَرِقَّ لِيَنْتَفِعَ الْمُسْلِمُونَ بِهَا فَكَذَلِكَ بَعْدَ الرِّدَّةِ ، وَبِالِاتِّفَاقِ لَا تُسْتَرَقُّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَقُلْنَا أَنَّهَا تُقْتَلُ .
( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ { نَهْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ } ، وَفِيهِ حَدِيثَانِ أَحَدُهُمَا مَا رَوَاهُ رَبَاحُ بْنُ رَبِيعَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ قَوْمًا مُجْتَمَعِينَ عَلَى شَيْءٍ فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالُوا يَنْظُرُونَ إلَى امْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ فَقَالَ لِوَاحِدٍ : أَدْرِكْ خَالِدًا وَقُلْ لَهُ : لَا يَقْتُلْنَ عَسِيفًا وَلَا ذُرِّيَّةً } ، وَالثَّانِي حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى امْرَأَةً مَقْتُولَةً فَقَالَ مَنْ قَتَلَ هَذِهِ قَالَ رَجُلٌ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرْدَفْتهَا خَلْفِي فَأَهْوَتْ إلَى سَيْفِي لِتَقْتُلَنِي فَقَتَلْتُهَا ، فَقَالَ : مَا شَأْنُ قَتْلِ النِّسَاءِ وَارِهَا وَلَا تَعُدْ } { وَلَمَّا رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ امْرَأَةً مَقْتُولَةً فَقَالَ : هَا مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ } فَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْقَتْلِ بِعِلَّةِ الْقِتَالِ ، وَأَنَّ

النِّسَاءَ لَا يُقْتَلْنَ ؛ لِأَنَّهُنَّ لَا يُقَاتِلْنَ ، وَفِي هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ ، وَبَيْنَ الْكُفْرِ الطَّارِئِ ، وَمَا رُوِيَ مِنْ الْحَدِيثِ غَيْرُ مُجْرَى عَلَى ظَاهِرِهِ ، فَالتَّبْدِيلُ يَتَحَقَّقُ مِنْ الْكَافِرِ إذَا أَسْلَمَ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ عَامٌّ لَحِقَهُ خُصُوصٌ فَنَخُصُّهُ وَنَحْمِلُهُ عَلَى الرِّجَالِ بِدَلِيلِ مَا ذَكَرْنَا ، وَالْمُرْتَدَّةُ الَّتِي قُتِلَتْ كَانَتْ مُقَاتِلَةً ، فَإِنَّ أُمَّ مَرْوَانَ كَانَتْ تُقَاتِلُ وَتُحَرِّضُ عَلَى الْقِتَالِ ، وَكَانَتْ مُطَاعَةً فِيهِمْ ، وَأُمُّ فُرْقَةَ كَانَ لَهَا ثَلَاثُونَ ابْنًا ، وَكَانَتْ تُحَرِّضُهُمْ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ ، فَفِي قَتْلِهَا كَسْرُ شَوْكَتِهِمْ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ مِنْ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِطَرِيقِ الْمَصْلَحَةِ وَالسِّيَاسَةِ كَمَا أَمَرَ بِقَطْعِ يَدِ النِّسَاءِ اللَّاتِي ضَرَبْنَ الدُّفَّ لِمَوْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِظْهَارِ الشَّمَاتَةِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهَا كَافِرَةٌ فَلَا تُقْتَلُ كَالْأَصْلِيَّةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقَتْلَ لَيْسَ بِجَزَاءٍ عَلَى الرِّدَّةِ بَلْ هُوَ مُسْتَحَقٌّ بِاعْتِبَارِ الْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ يَسْقُطُ لِانْعِدَامِ الْإِصْرَارِ ، وَمَا يَكُونُ مُسْتَحَقًّا جَزَاءً لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ كَالْحُدُودِ ، فَإِنَّهُ بَعْدَ مَا ظَهَرَ سَبَبُهَا عِنْدَ الْإِمَامِ لَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ ، وَحَدُّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ لَا يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ بَلْ تَوْبَتُهُ بِرَدِّ الْمَالِ قَبْلَ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ ، فَلَا يَظْهَرُ السَّبَبُ عِنْدَ الْإِمَامِ بَعْدَ ذَلِكَ يُقَرِّرُهُ أَنَّ تَبْدِيلَ الدِّينِ ، وَأَصْلُ الْكُفْرِ مِنْ أَعْظَمِ الْجِنَايَاتِ ، وَلَكِنَّهَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ فَالْجَزَاءُ عَلَيْهَا مُؤَخَّرٌ إلَى دَارِ الْجَزَاءِ ، وَمَا عُجِّلَ فِي الدُّنْيَا سِيَاسَاتٌ مَشْرُوعَةٌ لِمَصَالِحَ تَعُودُ إلَى الْعِبَادِ كَالْقِصَاصِ لِصِيَانَةِ النُّفُوسِ ، وَحَدِّ الزِّنَا لِصِيَانَةِ الْأَنْسَابِ وَالْفُرُشِ ، وَحَدِّ السَّرِقَةِ لِصِيَانَةِ الْأَمْوَالِ ، وَحَدِّ الْقَذْفِ

لِصِيَانَةِ الْأَعْرَاضِ ، وَحَدِّ الْخَمْرِ لِصِيَانَةِ الْعُقُولِ ، وَبِالْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ يَكُونُ مُحَارِبًا لِلْمُسْلِمِينَ فَيُقْتَلُ لِدَفْعِ الْمُحَارَبَةِ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى نَصَّ عَلَى الْعِلَّةِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ } ، وَعَلَى السَّبَبِ الدَّاعِي إلَى الْعِلَّةِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ وَهُوَ الشِّرْكُ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَتْلَ بِاعْتِبَارِ الْمُحَارَبَةِ ، وَلَيْسَ لِلْمَرْأَةِ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ لِلْمُحَارَبَةِ فَلَا تُقْتَلُ فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ ، وَلَا فِي الْكُفْرِ الطَّارِئِ ، وَلَكِنَّهَا تُحْبَسُ فَالْحَبْسُ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّهَا فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ ، فَإِنَّهَا تُسْتَرَقُّ ، وَالِاسْتِرْقَاقُ حَبْسُ نَفْسِهَا عَنْهَا ، ثُمَّ الْحَبْسُ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ كُلِّ مَنْ رَجَعَ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ كَمَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْكُفْرِ ، وَلَا بِاعْتِبَارِ الْمُحَارَبَةِ ، وَمَا يُدَّعَى مِنْ تَغْلِيظِ الْجِنَايَةِ لَا يَقْوَى ، فَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ ، وَالْإِصْرَارُ عَلَى الْإِنْكَارِ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ فِي الْجِنَايَةِ سَوَاءٌ مَعَ أَنَّ الْجِنَايَةَ فِي الْإِصْرَارِ أَغْلَظُ مِنْ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ لَا يُقِرُّ عَلَى مَا اعْتَقَدَهُ ، وَالشَّيْءُ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ يَكُونُ أَضْعَفَ مِنْهُ بَعْدَ تَقَرُّرِهِ .
وَلَوْ سَلَّمْنَا تَغَلُّظَ الْجِنَايَةِ ، فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ بِمَنْ يُغَلَّظُ جِنَايَتُهَا فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ الْمُشْرِكَةُ الْعَرَبِيَّةُ ، فَكَمَا لَا تُقْتَلُ تِلْكَ فَكَذَلِكَ لَا تُقْتَلُ هَذِهِ ، وَإِذَا كَانَتْ مُقَاتِلَةً أَوْ مَلِكَةً أَوْ سَاحِرَةً فَقَتْلُهَا الدَّفْعُ ، وَبِدُونِ الْقَتْلِ هَهُنَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ إذَا حُبِسَتْ وَأُجْبِرَتْ كَمَا بَيَّنَّا عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَأَمَّا الرِّقُّ لَا يَمْنَعُ الْقَتْلَ فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ ، فَإِنَّهُ تُقْتَلُ عَبِيدُهُمْ كَأَحْرَارِهِمْ ، وَإِنَّمَا الِاسْتِرْقَاقُ بِمَنْزِلَةِ إعْطَاءِ الْأَمَانِ ، وَبِعَقْدِ الذِّمَّةِ يَنْتَهِي الْقِتَالُ فِي حَقِّ مَنْ يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُ لَا

فِي حَقِّ مَنْ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُ كَمَا فِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ ، وَالْمُرْتَدُّونَ لَا تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ فَلِهَذَا لَا يَنْتَهِي الْقِتَالُ فِي حَقِّهِمْ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ ، وَالشَّيْخُ إذَا كَانَ لَهُ رَأْيٌ يُقْتَلُ فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ ، وَالرِّدَّةُ لَا تُتَصَوَّرُ إلَّا مِمَّنْ لَهُ رَأْيٌ ، وَالتَّرَهُّبُ لَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ بِنُصْرَةِ دِينِ الْحَقِّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا رَهْبَانِيَّةَ فِي الْإِسْلَامِ } وَبِدُونِ تَحَقُّقِ السَّبَبِ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ ، وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَوِي الْأَعْذَارِ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : يُقْتَلُونَ فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ ؛ لِأَنَّ حُلُولَ الْآفَةِ كَعَقْدِ الذِّمَّةِ ، فَإِنَّهُ يَنْعَدِمُ بِهِ الْقِتَالُ ، فَمَنْ لَا يَسْقُطُ الْقِتَالُ عَنْهُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ فَكَذَلِكَ بِحُلُولِ الْآفَةِ ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَوُو الْأَعْذَارِ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ يُقْتَلُونَ ، وَقِيلَ حُلُولُ الْآفَةِ بِمَنْزِلَةِ الْأُنُوثَةِ ؛ لِأَنَّهُ تَخْرُجُ بِهِ نِيَّتُهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ صَالِحَةً لِلْقِتَالِ ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا يُقْتَلُونَ بَعْدَ الرِّدَّةِ كَمَا لَا يُقْتَلُونَ فِي الْكُفْرِ الْأَصْلِيِّ .

وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ لَا تُقْتَلُ قُلْنَا تُسْتَرَقُّ إذَا لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ لِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَإِنَّ بَنِي حَنِيفَةَ لَمَّا ارْتَدُّوا اسْتَرَقَّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نِسَاءَهُمْ ، وَأَصَابَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَارِيَةً مِنْ ذَلِكَ السَّبْيِ فَوَلَدَتْ لَهُ مُحَمَّدَ بْنَ حَنَفِيَّةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَذَكَرَ عَاصِمٌ عَنْ أَبِي رَزِينٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي النِّسَاءِ إذَا ارْتَدَدْنَ يُسْبَيْنَ وَلَا يُقْتَلْنَ ، وَهَذَا لِأَنَّهَا كَالْحَرْبِيَّةِ ، وَالِاسْتِرْقَاقُ مَشْرُوعٌ فِي الْحَرْبِيَّاتِ ، وَمَا دَامَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا تُسْتَرَقُّ ؛ لِأَنَّ حُرِّيَّتَهَا الْمُتَأَكِّدَةَ بِالْإِحْرَازِ لَمْ تَبْطُلْ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ ، وَهِيَ دَافِعَةٌ لِلِاسْتِرْقَاقِ ، وَإِنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ لَيْسَتْ بِدَارِ الِاسْتِرْقَاقِ ، وَفِي النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهَا تُسْتَرَقُّ ؛ لِأَنَّا لَمَّا جَعَلْنَا الْمُرْتَدَّ بِمَنْزِلَةِ حَرْبِيٍّ مَقْهُورٍ لَا أَمَانَ لَهُ فَكَذَلِكَ الْمُرْتَدَّةُ بِمَنْزِلَةِ حَرْبِيَّةٍ مَقْهُورَةٍ لَا أَمَانَ لَهَا فَتُسْتَرَقُّ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي دَارِنَا .

فَإِنْ تَصَرَّفَتْ فِي مَالِهَا بَعْدَ الرِّدَّةِ نَفَذَ تَصَرُّفُهَا مَا دَامَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهَا تَصَرَّفَتْ فِي خَالِصِ مِلْكِهَا ، بِخِلَافِ الرَّجُلِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَأَشَارَ إلَى الْفَرْقِ قَالَ : الْمَرْأَةُ لَا تُقْتَلُ ، وَالرَّجُلُ يُقْتَلُ ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ عِصْمَةَ الْمَالِ تَبَعٌ لِعِصْمَةِ النَّفْسِ ، فَبِالرِّدَّةِ لَا تَزُولُ عِصْمَةُ نَفْسِهَا حَتَّى لَا تُقْتَلَ فَكَذَلِكَ عِصْمَةُ مَالِهَا بِخِلَافِ الرَّجُلِ ، وَلِهَذَا اسْتَوَتْ بِالرَّجُلِ فِي التَّصَرُّفِ بَعْدَ اللُّحُوقِ ؛ لِأَنَّ عِصْمَةَ نَفْسِهَا تَزُولُ بِلِحَاقِهَا حَتَّى تُسْتَرَقَّ ، وَالِاسْتِرْقَاقُ إتْلَافٌ حُكْمًا فَكَذَلِكَ عِصْمَةُ مَالِهَا .

فَإِنْ مَاتَتْ فِي الْحَبْسِ أَوْ لَحِقَتْ بِدَارُ الْحَرْبِ قُسِّمَ مَالُهَا بَيْنَ وَرَثَتِهَا ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ كَسْبُ إسْلَامِهَا وَكَسْبُ رِدَّتِهَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعِصْمَةَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ رِدَّتِهَا فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَسْبَيْنِ مِلْكَهَا فَيَكُونُ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهَا ، وَلَا مِيرَاثَ لِزَوْجِهَا مِنْهَا ؛ لِأَنَّهَا بِنَفْسِ الرِّدَّةِ قَدْ بَانَتْ مِنْهُ ، وَلَمْ تَصِرْ مُشْرِفَةً عَلَى الْهَلَاكِ فَلَا تَكُونُ فِي حُكْمِ الْفَارَّةِ الْمَرِيضَةِ ، وَلِزَوْجِهَا أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأُخْتِهَا بَعْدَ لِحَاقِهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ حَرْبِيَّةً فَكَانَتْ كَالْمَيِّتَةِ فِي حَقِّهِ ، وَبَعْدَ مَوْتِهَا لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا ، وَلِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَى الْحَرْبِيَّةِ مِنْ الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ فِيهَا حَقُّ الزَّوْجِ ، وَتَبَايُنُ الدَّارَيْنِ مُنَافٍ لَهُ ، فَإِنْ سُبِيَتْ أَوْ عَادَتْ مُسْلِمَةً لَمْ يَضُرَّ ذَلِكَ نِكَاحُ الْأُخْتِ ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ مَا سَقَطَتْ الْعِدَّةُ عَنْهَا لَا تَعُودُ مُعْتَدَّةً ، ثُمَّ إنْ جَاءَتْ مُسْلِمَةً فَلَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ مِنْ سَاعَتِهَا ؛ لِأَنَّهَا فَارِغَةً عَنْ النِّكَاحِ وَالْعِدَّةِ ، وَإِنْ سُبِيَتْ أُجْبِرَتْ عَلَى الْإِسْلَامِ كَمَا كَانَتْ تُجْبَرُ عَلَيْهِ قَبْلَ لِحَاقِهَا .

وَإِنْ وَلَدَتْ بِأَرْضِ الْحَرْبِ ثُمَّ سُبِيَتْ ، وَمَعَهَا وَلَدُهَا كَانَ وَلَدُهَا فَيْئًا مَعَهَا ؛ لِأَنَّ وَلَدَهَا بِمَنْزِلَتِهَا ، وَهِيَ حَرْبِيَّةٌ تُسْتَرَقُّ فَكَذَلِكَ وَلَدُهَا .

وَإِذَا رَفَعَتْ الْمُرْتَدَّةُ إلَى الْإِمَامِ فَقَالَتْ مَا ارْتَدَدْت ، وَأَنَا أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَهَذَا تَوْبَةٌ مِنْهَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ تَوْبَةَ الْمُرْتَدِّ بِالْإِقْرَارِ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَتَيْنِ ، وَالتَّبَرِّي عَمَّا كَانَ انْتَقَلَ إلَيْهِ ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ بِالْإِنْكَارِ يَحْصُلُ نِهَايَةُ التَّبَرِّي فَلِهَذَا كَانَ ذَلِكَ تَوْبَةً مِنْ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ جَمِيعًا .

وَيُقْتَلُ الْمَمْلُوكُ عَلَى الرِّدَّةِ ؛ لِأَنَّهُ مُحَارِبٌ كَالْحُرِّ ، وَكَسْبُهُ إذَا قُتِلَ لِمَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّهُ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ يَخْلُفُهُ فِي مِلْكِ الْكَسْبِ ، وَلَا تُقْتَلُ الْمَمْلُوكَةُ وَتُحْبَسُ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَ لَهَا بِنْيَةٌ صَالِحَةٌ لِلْقِتَالِ كَالْحُرَّةِ ، وَإِذَا كَانَ أَهْلُهَا يَحْتَاجُونَ إلَى خِدْمَتِهَا دَفَعْتُهَا إلَيْهِمْ ، وَأَمَرَتْهُمْ بِإِجْبَارِهَا عَلَى الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْعَبْدِ فِي الْمَحَلِّ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى لِحَاجَةِ الْعَبْدِ ، وَلِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَقَّيْنِ مُمْكِنٌ فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِي إجْبَارِهَا عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَمَوْلَاهَا يَنُوبُ فِي ذَلِكَ عَنْ الْإِمَامِ فَتُدْفَعُ إلَيْهِ لِيَسْتَخْدِمَهَا ، وَيُجْبِرُهَا عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَجِنَايَةُ الْأَمَةِ وَالْمُكَاتَبِ فِي الرِّدَّةِ كَجِنَايَتِهِمْ فِي غَيْرِ الرِّدَّةِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهِمْ بَاقٍ بَعْدَ الرِّدَّةِ ، وَالْمُكَاتَبُ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ بَعْدَ الرِّدَّةِ يَدًا وَتَصَرُّفًا كَمَا كَانَ قَبْلَهُ فَيَكُونُ مُوجَبُ جِنَايَتِهِ فِي كَسْبِهِ .

وَالْجِنَايَةُ عَلَى الْمَمَالِيكِ فِي الرِّدَّةِ هَدَرٌ أَمَّا فِي الذُّكُورِ مِنْهُمْ فَلِاسْتِحْقَاقِ قَتْلِهِمْ بِالرِّدَّةِ ، وَمَنْ اسْتَوْفَى قَتْلًا مُسْتَحَقًّا يَكُونُ مُحْسِنًا لَا جَانِيًا ، وَفِي الْإِنَاثِ قَتْلُ الْمَمْلُوكَةِ بَعْدَ الرِّدَّةِ كَقَتْلِ الْحُرَّةِ ، وَمَنْ قَتَلَ حُرَّةً مُرْتَدَّةً لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا ، وَإِنْ ارْتَكَبَ مَا لَا يَحِلُّ ، وَيُؤَدَّبُ عَلَى ذَلِكَ فَكَذَلِكَ الْأَمَةُ قَالَ : لِأَنَّ بَعْضَ الْفُقَهَاءِ يَرَى عَلَيْهَا الْقَتْلَ ، وَلِأَنَّهَا كَالْحَرْبِيَّةِ ، وَالْحَرْبِيَّةُ لَا تُقْتَلُ ، وَلَوْ قَتَلَهَا قَاتِلٌ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ الْمُرْتَدَّةُ .
( فَإِنْ قِيلَ ) فَلِمَاذَا لَا تُسْتَرَقُّ فِي دَارِنَا .
؟ قُلْنَا : لِبَقَاءِ الْإِحْرَازِ ، وَمِنْ ضَرُورَةِ تَأَكُّدِ الْحُرْمَةِ بِالْإِحْرَازِ مَنْعُ الِاسْتِرْقَاقِ ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ تَقَوُّمُ الدَّمِ كَمَا فِي الْمَقْضِيِّ عَلَيْهَا بِالرَّجْمِ ، وَإِذَا كَانَ هَدَرُ الدَّمِ مِمَّا يَثْبُتُ مَعَ الْإِحْرَازِ يَثْبُتُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُرْتَدَّةِ فَكَانَتْ فِيهِ كَالْحَرْبِيَّةِ .

وَإِذَا بَاعَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ الْمُرْتَدَّ أَوْ أُمَّتَهُ الْمُرْتَدَّةَ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ لِبَقَاءِ صِفَةِ الْمَمْلُوكِيَّةِ ، وَالرِّقُّ فِيهِ بَعْدَ الرِّدَّةِ .
( فَإِنْ قِيلَ ) جَوَازُ الْبَيْعِ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ ، وَلَا مَالِيَّةَ فِيهِمَا حَتَّى لَا يَضْمَنَ قَاتِلُهُمَا .
( قُلْنَا ) لَا كَذَلِكَ بَلْ الْمَالِيَّةُ فِي الْآدَمِيِّ بِسَبَبِ الْمَمْلُوكِيَّةِ ، وَهُوَ ثَابِتٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالتَّقَوُّمِ بِالْإِحْرَازِ وَهُوَ بَاقٍ فِيهِمَا ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُتْلِفِ الضَّمَانُ لِعَارِضٍ وَهُوَ الرِّدَّةُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ غَاصِبَهُمَا يَكُونُ ضَامِنًا وَأَنَّ الرِّدَّةَ عَيْبٌ فِيهِمَا ، وَالْعَيْبُ لَا يَعْدَمُ الْمَالِيَّةَ وَالتَّقَوُّمَ ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الْبَائِعُ أَعْلَمَ الْمُشْتَرِيَ فَالْبَيْعُ لَازِمٌ لِانْتِفَاءِ التَّدْلِيسِ حِينَ أَعْلَمَهُ الْعَيْبَ .

مُدَبَّرَةٌ أَوْ أُمُّ وَلَدٍ ارْتَدَّتْ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ فَمَاتَ مَوْلَاهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ أُخِذَتْ أَسِيرَةً فَهِيَ فَيْءٌ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أُسِرَتْ قَبْلَ مَوْتِ الْمَوْلَى فَإِنَّهَا تُرَدُّ عَلَيْهِ لِقِيَامِ مِلْكِهِ ، فَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى فَقَدْ عَتَقَتْ ؛ لِأَنَّ عِتْقَهَا كَانَ تَعَلَّقَ بِمَوْتٍ ، وَتَبَايُنُ الدَّارَيْنِ لَا يَمْنَعُ نُزُولَ الْعِتْقِ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِهِ ، وَإِذَا عَتَقَتْ فَهِيَ حُرَّةٌ مُرْتَدَّةٌ أُسِرَتْ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ فَتَكُونُ فَيْئًا .

عَبْدٌ ارْتَدَّ مَعَ مَوْلَاهُ ، وَلَحِقَا بِدَارِ الْحَرْبِ فَمَاتَ الْمَوْلَى هُنَاكَ وَأُسِرَ الْعَبْدُ فَهُوَ فَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ مَالُ حَرْبِيٍّ فَقَدْ أَحْرَزَهُ مَعَ نَفْسِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ ، وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ ثُبُوتِ حَقِّ وَرَثَتِهِ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ فَيَكُونُ فَيْئًا ، وَيُقْتَلُ إنْ لَمْ يُسْلِمْ لِرِدَّتِهِ .

وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا ذَهَبَ بِهِ الْمُرْتَدُّ مِنْ مَالِهِ مَعَ نَفْسِهِ فَهُوَ فَيْءٌ ، فَإِنْ كَانَ خَرَجَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ مُغِيرًا فَأَخَذَ مَالًا مِنْ مَالِهِ قَدْ قُسِّمَ بَيْنَ وَرَثَتِهِ ، وَذَهَبَ بِهِ ثُمَّ قُتِلَ مُرْتَدًّا ، وَأُصِيبَ ذَلِكَ الْمَالُ فَهُوَ لِوَرَثَتِهِ بِغَيْرِ قِيمَةِ قَبْلِ الْقِسْمَةِ ، وَبِالْقِيمَةِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوا ذَلِكَ الْمَالَ حِينَ قَسَّمَهُ الْقَاضِي بَيْنَهُمْ فَهَذَا حَرْبِيٌّ أَحْرَزَ مَالَ الْمُسْلِمِ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْحُكْمَ فِيهِ .

وَلَوْ ارْتَدَّ الْعَبْدُ وَأَخَذَ مَالَ مَوْلَاهُ فَذَهَبَ بِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ أَخَذَ مَعَ ذَلِكَ الْمَالِ لَمْ يَكُنْ فَيْئًا ، وَيُرَدُّ عَلَى مَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ فَلَا يَكُونُ مُحْرِزًا نَفْسَهُ بِدَارِ الْحَرْبِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَبَقَ مِنْهُ غَيْرَ مُرْتَدٍّ فَدَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ لَمْ يَكُنْ مُحْرِزًا نَفْسَهُ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا أَبَقَ مُرْتَدًّا ، وَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ مُحْرِزًا لِمَا مَعَهُ مِنْ الْمَالِ فَيُرَدُّ ذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى الْمَوْلَى ثُمَّ هَذَا لَا يُشْكِلُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ فِي الْآبِقِ ، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ لَمْ يَأْخُذُوهُ ، وَإِنَّمَا يَزُولُ مِلْكُ الْمَوْلَى عِنْدَهُمَا بِإِحْرَازِ الْمُشْرِكِينَ إيَّاهُ بِالْأَخْذِ ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ بَقِيَ عَلَى مِلْكِ مَوْلَاهُ .

قَوْمٌ ارْتَدُّوا عَنْ الْإِسْلَامِ وَحَارَبُوا الْمُسْلِمِينَ ، وَغَلَبُوا عَلَى مَدِينَةٍ مِنْ مَدَائِنِهِمْ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ ، وَمَعَهُمْ نِسَاؤُهُمْ وَذَرَارِيُّهُمْ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ ، فَإِنَّهُ تُقْتَلُ رِجَالُهُمْ ، وَتُسْبَى نِسَاؤُهُمْ وَذَرَارِيُّهُمْ ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا تَصِيرُ دَارُهُمْ دَارَ الْحَرْبِ بِثَلَاثِ شَرَائِطَ : أَحَدُهَا : أَنْ تَكُونَ مُتَاخِمَةً أَرْضَ التُّرْكِ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَرْضِ الْحَرْبِ دَارٌ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَالثَّانِي : أَنْ لَا يَبْقَى فِيهَا مُسْلِمٌ آمِنٌ بِإِيمَانِهِ ، وَلَا ذِمِّيٌّ آمِنٌ بِأَمَانِهِ ، وَالثَّالِثُ : أَنْ يُظْهِرُوا أَحْكَامَ الشِّرْكِ فِيهَا ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إذَا أَظْهَرُوا أَحْكَامَ الشِّرْكِ فِيهَا فَقَدْ صَارَتْ دَارُهُمْ دَارَ حَرْبٍ ؛ لِأَنَّ الْبُقْعَةَ إنَّمَا تُنْسَبُ إلَيْنَا أَوْ إلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ الْقُوَّةِ وَالْغَلَبَةِ ، فَكُلُّ مَوْضِعٍ ظَهَرَ فِيهِ حُكْمُ الشِّرْكِ فَالْقُوَّةُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِلْمُشْرِكِينَ فَكَانَتْ دَارَ حَرْبٍ ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ كَانَ الظَّاهِرُ فِيهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فَالْقُوَّةُ فِيهِ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَعْتَبِرُ تَمَامَ الْقَهْرِ وَالْقُوَّةِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْبَلْدَةَ كَانَتْ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ مُحْرَزَةً لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ الْإِحْرَازُ إلَّا بِتَمَامِ الْقَهْرِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ، وَذَلِكَ بِاسْتِجْمَاعِ الشَّرَائِطِ الثَّلَاثِ ؛ لِأَنَّهَا إذَا لَمْ تَكُنْ مُتَّصِلَةً بِالشِّرْكِ فَأَهْلُهَا مَقْهُورُونَ بِإِحَاطَةِ الْمُسْلِمِينَ بِهِمْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ، فَكَذَلِكَ إنْ بَقِيَ فِيهَا مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ آمِنٌ فَذَلِكَ دَلِيلُ عَدَمِ تَمَامِ الْقَهْرِ مِنْهُمْ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ أَخَذُوا مَالَ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَمْلِكُونَهُ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِهِمْ لِعَدَمِ تَمَامِ الْقَهْرِ ، ثُمَّ مَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ آثَارِ الْأَصْلِ فَالْحُكْمُ لَهُ دُونَ الْعَارِضِ كَالْمَحَلَّةِ إذَا بَقِيَ فِيهَا

وَاحِدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْخِطَّةِ فَالْحُكْمُ لَهُ دُونَ السُّكَّانِ وَالْمُشْتَرِينَ .
وَهَذِهِ الدَّارُ كَانَتْ دَارَ إسْلَامٍ فِي الْأَصْلِ فَإِذَا بَقِيَ فِيهَا مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ فَقَدْ بَقِيَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْأَصْلِ فَيَبْقَى ذَلِكَ الْحُكْمُ ، وَهَذَا أَصْلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى قَالَ : إذَا اشْتَدَّ الْعَصِيرُ ، وَلَمْ يَقْذِفْ بِالزَّبَدِ لَا يَصِيرُ خَمْرًا لِبَقَاءِ صِفَةِ السُّكُونِ ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ كُلِّ مَوْضِعٍ مُعْتَبَرٌ بِمَا حَوْلَهُ فَإِذَا كَانَ مَا حَوْلَ هَذِهِ الْبَلْدَةِ كُلُّهُ دَارَ إسْلَامٍ لَا يُعْطَى لَهَا حُكْمُ دَارِ الْحَرْبِ كَمَا لَوْ لَمْ يَظْهَرْ حُكْمُ الشِّرْكِ فِيهَا ، وَإِنَّمَا اسْتَوْلَى الْمُرْتَدُّونَ عَلَيْهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، ثُمَّ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَمْ تَصِرْ الدَّارُ دَارَ حَرْبٍ ، فَإِذَا ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا قَتَلُوا الرِّجَالَ ، وَأَجْبَرُوا النِّسَاءَ وَالذَّرَارِيَّ عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَلَمْ يُسَبّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ صَارَ دَارَ حَرْبٍ فَالنِّسَاءُ ، وَالذَّرَارِيُّ ، وَالْأَمْوَالُ فَيْءٌ فِيهِ الْخُمُسُ ، وَيُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ لِرِدَّتِهِمْ فَلَا يَحِلُّ لِمَنْ وَقَعَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ فِي سَهْمِهِ أَنْ يَطَأَهَا مَا دَامَتْ مُرْتَدَّةً ، وَإِنْ كَانَتْ مُتَهَوِّدَةً أَوْ مُتَنَصِّرَةً ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ تُنَافِي الْحِلَّ ، وَإِنَّمَا يَحِلُّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ مَنْ يَحِلُّ بِالنِّكَاحِ ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ فَقَدْ بَطَلَ بِالسَّبْيِ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أَمَةً ، وَمَا كَانَ مِنْ الدَّيْنِ عَلَى حُرَّةٍ لَا يَبْقَى بَعْدَ أَنْ تَصِيرَ أَمَةً ؛ لِأَنَّ بِالرِّقِّ تَتَبَدَّلُ نَفْسُهَا ، وَلِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَمْلُوكِ إلَّا شَاغِلًا مَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ وَهَذِهِ مَالِيَّةٌ حَادِثَةٌ بِالسَّبْيِ فَتَخْلُصُ لِلسَّابِي ؛ فَلِهَذَا لَا يَبْقَى الدَّيْنُ عَلَيْهَا .

وَإِذَا ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ ، وَذَهَبَا إلَى دَارِ الْحَرْبِ بِوَلَدِهِمَا الصَّغِيرِ ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمَا الْمُسْلِمُونَ فَالْوَلَدُ فَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا حِينَ لَحِقَا بِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّ ثُبُوتَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ لِلصَّغِيرِ بِاعْتِبَارِ تَبَعِيَّةِ الْأَبَوَيْنِ وَالدَّارِ فَقَدْ انْعَدَمَ كُلُّ ذَلِكَ حِينَ ارْتَدَّا وَلَحِقَا بِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْوَلَدُ فَيْئًا يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ إذَا بَلَغَ كَمَا تُجْبَرُ الْأُمُّ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ الْأَبُ ذَهَبَ بِهِ وَحْدَهُ ، وَالْأُمُّ مُسْلِمَةٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ الْوَلَدُ فَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ مُسْلِمًا تَبَعًا لِأُمِّهِ .
( فَإِنْ قِيلَ ) كَيْفَ يَتْبَعُهَا بَعْدَ تَبَايُنِ الدَّارَيْنِ ( قُلْنَا ) تَبَايُنُ الدَّارَيْنِ يَمْنَعُ الِاتِّبَاعَ فِي الْإِسْلَامِ ابْتِدَاءً لَا فِي إبْقَاءِ مَا كَانَ ثَابِتًا أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَرْبِيَّ لَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَلَهُ وَلَدٌ صَغِيرٌ ثُمَّ خَرَجَ إلَى دَارِنَا بَقِيَ الْوَلَدُ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِهِ حَتَّى إذَا وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ فَيْئًا ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِنَا وَلَهُ وَلَدٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهَهُنَا قَدْ كَانَ الْوَلَدُ مُسْلِمًا فَيَبْقَى كَذَلِكَ بِبَقَاءِ الْأُمِّ مُسْلِمَةً ، وَإِنْ كَانَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْأُمُّ مَاتَتْ مُسْلِمَةً ؛ لِأَنَّ إسْلَامَهَا يَتَأَكَّدُ بِمَوْتِهَا وَلَا يَبْطُلُ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْأُمُّ نَصْرَانِيَّةً ذِمِّيَّةً ؛ لِأَنَّهَا مِنْ أَهْلِ دَارِنَا ، وَكَمَا يَتْبَعُهَا الْوَلَدُ إذَا كَانَتْ مِنْ أَهْلِ دِينِنَا يَتْبَعُهَا إذَا كَانَتْ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا تَوْفِيرًا لِلْمَنْفَعَةِ عَلَى الْوَلَدِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ إحْرَازُ الْوَلَدِ بِدَارِ الْحَرْبِ ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ جَانِبِ الْأَبِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ حَرْبِيًّا ، وَاعْتِبَارُ جَانِبِ الْأُمِّ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَيَتَرَجَّحُ هَذَا الْجَانِبُ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ تَوْفِيرًا لِلْمَنْفَعَةِ عَلَى الْوَلَدِ ،

وَإِذَا بَقِيَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَكَأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا حَقِيقَةً فَلَا يُسْتَرَقُّ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْأَبُ ذِمِّيًّا نَقَضَ الْعَهْدَ فَهُوَ كَالْمُسْلِمِ يَرْتَدُّ فِي أَنَّهُ يَصِيرُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ إذَا الْتَحَقَ بِهِمْ .

وَإِذَا وُلِدَ لِلْمُرْتَدِّينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَدٌ ثُمَّ وُلِدَ لِوَلَدِهِمَا وَلَدٌ ثُمَّ وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِمْ ، أُجْبِرَ وَلَدُهُمَا عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَلَمْ يُجْبَرْ وَلَدُ وَلَدِهِمَا عَلَى الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِسْلَامِ قَدْ ثَبَتَ لِوَلَدِهِمَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْأَبَوَيْنِ كَانَا مُسْلِمَيْنِ فِي الْأَصْلِ ، وَالْوَلَدُ تَابِعٌ لَهُمَا فَكَذَلِكَ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ ، فَأَمَّا وَلَدُ الْوَلَدِ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حُكْمُ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِأَبِيهِ فِي الدِّينِ لَا لِجَدِّهِ ، وَأَبُوهُ مَا كَانَ مُسْلِمًا قَطُّ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ الْجَدُّ لَا يَصِيرُ وَلَدُ الْوَلَدِ مُسْلِمًا بِإِسْلَامِهِ فَكَذَلِكَ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ بِإِسْلَامِ جَدِّهِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ اُعْتُبِرَ إسْلَامُ جَدِّهِ فِي حَقِّ النَّافِلَةِ كَانَ الْجَدُّ الْأَعْلَى وَالْأَدْنَى فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ، فَيُؤَدِّي إلَى أَنْ يَكُونَ الْكُفَّارُ كُلُّهُمْ مُرْتَدِّينَ يُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ بِإِسْلَامِ جَدِّهِمْ آدَمَ أَوْ نُوحٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ، وَذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُمَا إذَا ارْتَدَّا أَوْ لَحِقَا بِوَلَدٍ صَغِيرٍ لَهُمَا بِدَارِ الْحَرْبِ فَوُلِدَ لِذَلِكَ الْوَلَدُ بَعْدَمَا كَبِرَ ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى وَلَدِ الْوَلَدِ فَهُوَ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ هَذَا الْوَلَدَ مَا كَانَ مُسْلِمًا بِنَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا ثَبَتَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي حَقِّهِ تَبَعًا فَهُوَ وَالْمَوْلُودُ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ رِدَّتِهِمَا سَوَاءٌ ، وَهُمَا يَقُولَانِ قَدْ كَانَ هَذَا الْوَلَدُ مَحْكُومًا بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ أَوْ لِدَارِ الْإِسْلَامِ ، وَالْوَلَدُ يَتْبَعُ أَبَاهُ فِي الدِّينِ فَإِذَا كَانَ الْأَبُ مُسْلِمًا فِي وَقْتٍ يَثْبُتُ لِوَلَدِهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ ، فَيُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا وُلِدَ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ رِدَّتِهِمَا ؛ لِأَنَّ هَذَا الْوَلَدَ لَمْ يَكُنْ

مُسْلِمًا قَطُّ .

وَإِذَا نَقَضَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْعَهْدَ ، وَغَلَبُوا عَلَى مَدِينَةٍ فَالْحُكْمُ فِيهَا كَالْحُكْمِ فِي الْمُرْتَدِّينَ إلَّا أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَرِقَّ رِجَالَهُمْ بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّينَ ؛ لِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ فِي الْأَصْلِ ، وَإِنَّمَا كَانُوا لَا يُسْتَرَقُّونَ لِكَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا ، وَقَدْ بَطَلَ ذَلِكَ حِينَ نَقَضُوا الْعَهْدَ ، وَصَارَتْ دَارُهُمْ دَارَ الْحَرْبِ ، فَأَمَّا الْمُرْتَدُّونَ كَانُوا مُسْلِمِينَ فِي الْأَصْلِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ إلَّا السَّيْفُ أَوْ الْإِسْلَامُ ، وَكَذَلِكَ إنْ رَجَعَ الَّذِينَ كَانَ نَقَضُوا الْعَهْدَ إلَى الصُّلْحِ وَالذِّمَّةِ قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّينَ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا نَقَضُوا الْعَهْدَ الْتَحَقُوا بِالْحَرْبِيِّينَ ، وَأَهْلُ الْحَرْبِ إذَا انْقَادُوا لِلذِّمَّةِ قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمْ بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّينَ ، وَالْأَصْلُ أَنَّ مَنْ جَازَ اسْتِرْقَاقُهُ جَازَ إبْقَاؤُهُ عَلَى الْكُفْرِ بِالْجِزْيَةِ ؛ لِأَنَّ الْقِتَالَ يَنْتَهِي بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الطَّرِيقِينَ ، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ ، ثُمَّ إذَا عَادُوا إلَى الذِّمَّةِ أَخَذُوا بِالْحُقُوقِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ نَقْضِ الذِّمَّةِ عَلَيْهِمْ مِنْ الْقِصَاصِ وَالْمَالِ لِبَقَاءِ نُفُوسِهِمْ وَذِمَمِهِمْ عَلَى مَا كَانَتْ قَبْلَ نَقْضِ الْعَهْدِ ، وَنَقْضُ الْعَهْدِ كَانَ عَارِضًا ، فَإِذَا انْعَدَمَ صَارَ كَأَنَّ لَمْ يَكُنْ ، وَلَمْ يُؤْخَذُوا بِمَا أَصَابُوا فِي الْمُحَارَبَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ حَرْبٍ حِينَ بَاشَرُوا السَّبَبَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ لَا يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوا مِنْ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ فِي حَالِ حَرْبِهِمْ إذَا تَرَكُوا الْمُحَارَبَةَ بِالْإِسْلَامِ أَوْ الذِّمَّةِ ، وَكَذَلِكَ الْمُرْتَدُّونَ فِي هَذَا هُمْ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ عُقُوبَةٌ ثَابِتَةٌ لِحَقِّ الْمُسْلِمِ وَالرِّدَّةِ ، وَنَقْضُ الْعَهْدِ لَا يُنَافِيهِمَا ، وَإِنْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهَا لِقُصُورِ يَدِ صَاحِبِ الْحَقِّ عَمَّنْ عَلَيْهِ ، وَالْمَالُ كَذَلِكَ ، فَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ كَانَ لَهُ أَنْ

يَسْتَوْفِيَ حَقَّهُ .

وَإِذَا نَقَضَ الذِّمِّيُّ الْعَهْدَ مَعَ امْرَأَتِهِ ، وَلَحِقَا بِأَرْضِ الْحَرْبِ ثُمَّ عَادَا عَلَى الذِّمَّةِ فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَبَايَنْ بِهِمَا دِينٌ وَلَا دَارٌ ، وَلَوْ ارْتَدَّ الْمُسْلِمَانِ ثُمَّ أَسْلَمَا كَانَا عَلَى نِكَاحِهِمَا فَالذِّمِّيَّانِ أَوْلَى بِذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ خَلَّفَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ امْرَأَةً ذِمِّيَّةً بَانَتْ مِنْهُ بِتَبَايُنِ الدَّارِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ، وَاَلَّتِي بَقِيَتْ فِي دَارِنَا مِنْ أَهْلِ دَارِنَا .

وَكَذَلِكَ الْمُرْتَدُّ إذَا لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ، وَخَلَّفَ امْرَأَتَهُ الْمُرْتَدَّةَ مَعَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ انْقَطَعَتْ الْعِصْمَةُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا ، وَإِنْ كَانَتْ مُرْتَدَّةً فَقَدْ تَبَايَنَتْ بَيْنَهُمَا الدَّارُ حَقِيقَةً ، وَذَلِكَ قَاطِعٌ لِلْعِصْمَةِ بَيْنَهُمَا .

وَإِذَا مَنَعَ الْمُرْتَدُّونَ دَارَهُمْ وَصَارَتْ دَارَ كُفْرٍ ثُمَّ لَحِقُوا بِدَارِ الْحَرْبِ فَأَصَابُوا سَبَايَا مِنْهُمْ ، وَأَصَابُوا مَالًا مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ ثُمَّ أَسْلَمُوا كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ لَهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ مَلَكُوا ذَلِكَ كُلَّهُ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِهِمْ ، وَمَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ إلَّا أَنْ يَكُونُوا أَخَذُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَهْلِ الذِّمَّةِ حُرًّا أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ فَعَلَيْهِمْ تَخْلِيَةُ سَبِيلِهِمْ ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُمْلَكُونَ بِالْإِحْرَازِ لِتَأَكُّدِ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ أَوْ حَقِّهَا فِيهِمْ بِالْإِسْلَامِ ، فَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ أَصَابُوا مِنْ هَؤُلَاءِ فِي حَرْبِهِمْ مَالًا أَوْ ذُرِّيَّةً فَاقْتَسَمُوهَا عَلَى الْغَنِيمَةِ لَمْ يَرُدُّوا عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمْ أَصَابُوا أَمْوَالَ أَهْلِ الْحَرْبِ وَذَرَارِيَّهُمْ ، وَمَلَكُوهَا بِالْإِحْرَازِ وَالْقِسْمَةِ فَلَا تُرَدُّ عَلَيْهِمْ ، وَإِنْ أَسْلَمُوا بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا لَوْ أَصَابُوا ذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ .

وَإِنْ طَلَبَ الْمُرْتَدُّونَ أَنْ يَجْعَلُوا ذِمَّةً لِلْمُسْلِمِينَ لَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ بِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا تُقْبَلُ الذِّمَّةُ مِمَّنْ يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ ، وَلِأَنَّ الْمُرْتَدِّينَ كَمُشْرِكِي الْعَرَبِ ، فَإِنَّ أُولَئِكَ جُنَاةٌ عَلَى قَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهَؤُلَاءِ عَلَى دِينِهِ ، وَكَمَا لَا تُقْبَلُ الذِّمَّةُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَجْتَمِعُ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ } فَكَذَلِكَ لَا يُقْبَلُ ذَلِكَ مِنْ الْمُرْتَدِّينَ ، وَإِنْ طَلَبُوا الْمُوَادَعَةَ مُدَّةً لِيَنْظُرُوا فِي أُمُورِهِمْ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ إنْ كَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِمْ طَاقَةٌ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا ارْتَدُّوا دَخَلَتْ عَلَيْهِمْ الشُّبْهَةُ ، وَيَزُولُ ذَلِكَ إذَا نَظَرُوا فِي أَمْرِهِمْ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرْتَدَّ إذَا طَلَبَ التَّأْجِيلَ يُؤَجَّلُ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ لَا يُزَادُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِتَمَكُّنِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَتْلِهِ ، وَهَهُنَا لَا طَاقَةَ بِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُمْهِلُوهُمْ مِقْدَارَ مَا طَلَبُوا مِنْ الْمُدَّةِ لِحِفْظِ قُوَّةِ أَنْفُسِهِمْ وَلِعَجْزِهِمْ عَنْ مُقَاوَمَتِهِمْ ، وَإِنْ كَانُوا يُطِيقُونَهُمْ ، وَكَانَ الْحَرْبُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ الْمُوَادَعَةِ حَارَبُوهُمْ ؛ لِأَنَّ الْقِتَالَ مَعَهُمْ فَرْضٌ إلَى أَنْ يُسْلِمُوا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } ، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ إقَامَةِ الْفَرْضِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ إقَامَتِهِ ، فَإِذَا وَادَعُوهُمْ لَمْ يَأْخُذْ الْإِمَامُ مِنْهُمْ فِي الْمُوَادَعَةِ خَرَاجًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حِينَئِذٍ يُشْبِهُ عَقْدَ الذِّمَّةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ الذِّمَّةُ فَكَذَلِكَ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَلَى الْمُوَادَعَةِ خَرَاجٌ بِخِلَافِ أَهْلِ الْحَرْبِ ، فَإِنْ أَخَذَ مِنْهُمْ مَالًا جَازَ ؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ زَالَتْ عَنْ مَالِهِمْ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ كَانَتْ أَمْوَالُهُمْ غَنِيمَةً ، وَكَذَلِكَ إنْ أَخَذُوا

شَيْئًا مِنْ مَالِهِمْ مَلَكُوا ذَلِكَ بِأَيِّ طَرِيقٍ أَخَذُوا مِنْهُمْ .

( قَالَ ) وَلَا يُقْبَلُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ الصُّلْحُ وَالذِّمَّةُ ، وَلَكِنْ يُدْعَوْنَ إلَى الْإِسْلَامِ ، فَإِنْ أَسْلَمُوا ، وَإِلَّا قُوتِلُوا ، وَتُسْتَرَقُّ نِسَاؤُهُمْ وَذَرَارِيُّهُمْ ، وَلَا يُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّينَ إلَّا فِي حُكْمِ الْإِجْبَارِ عَلَى الْإِسْلَامِ ، فَإِنَّ نِسَاءَ الْمُرْتَدِّينَ وَذَرَارِيَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ فِي الْأَصْلِ فَيُجْبَرُونَ عَلَى الْعَوْدِ ، وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالذَّرَارِيُّ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ مَا كَانُوا مُسْلِمِينَ فِي الْأَصْلِ فَلَا يُجْبَرُونَ عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَلَكِنَّهُمْ يُسْتَرَقُّونَ { ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَى النِّسَاءَ ، وَالذَّرَارِيَّ بِأَوْطَاسٍ ، وَقَسَّمَهُمْ } ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَبَى النِّسَاءَ وَالذَّرَارِيَّ مِنْ بَنِي حَنِيفَةَ ، فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ فِي الْمُرْتَدِّينَ فَفِي مُشْرِكِي الْعَرَبِ أَوْلَى ، وَأَمَّا الرِّجَالُ مِنْهُمْ لَا يُسْتَرَقُّونَ عِنْدَنَا ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُسْتَرَقُّونَ ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ جَازَ الِاسْتِرْقَاقُ فِي حَقِّ سَائِرِ الْكُفَّارِ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ ، وَهُوَ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ فِي عَمَلِهِمْ وَخِدْمَتِهِمْ ، وَلِأَنَّ الِاسْتِرْقَاقَ إتْلَافٌ حُكْمِيٌّ ، وَمَنْ جَازَ فِي حَقِّهِ الْإِتْلَافُ الْحَقِيقِيُّ مِنْ الْكُفَّارِ الْأَصْلِيِّينَ يَجُوزُ الْإِتْلَافُ الْحُكْمِيُّ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَحْقِيقَ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ بِتَبْدِيلِ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ بِالْمَمْلُوكِيَّةِ ، وَهُوَ الْأَلْيَقُ بِحَالِ كُلِّ كَافِرٍ ، فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَنْكَرُوا وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ تَعَالَى عَاقَبَهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ جَعَلَهُمْ عَبِيدَ عَبِيدِهِ ، وَهَكَذَا كَانَ يَنْبَغِي فِي الْمُرْتَدِّينَ إلَّا أَنَّ قَتْلَ الْمُرْتَدِّ عَلَى رِدَّتِهِ حَدٌّ فَقُلْنَا لَا يُتْرَكُ إقَامَةُ الْحَدِّ لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَلِأَنَّ حُرِّيَّتَهُ كَانَتْ مُتَأَكِّدَةً بِالْإِسْلَامِ فَلَا يُحْتَمَلُ النَّقْضُ بِالِاسْتِرْقَاقِ

، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ ( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } قِيلَ مَعْنَاهُ إلَى أَنْ يُسْلِمُوا ، وَالْآيَةُ فِيمَنْ كَانَ يُقَاتِلُهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ فَدَلَّ أَنَّهُمْ يُقْتَلُونَ إنْ لَمْ يُسْلِمُوا .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا رِقَّ عَلَى عَرَبِيٍّ } ، وَقَالَ يَوْمَ أَوْطَاسٍ { لَوْ جَرَى رِقٌّ عَلَى عَرَبِيٍّ لَكَانَ الْيَوْمَ ، وَإِنَّمَا هُوَ الْقَتْلُ أَوْ الْإِسْلَامُ } ، وَظَاهِرُ قَوْله تَعَالَى { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا } يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ الِاسْتِرْقَاقِ كَمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَنْعِ مِنْ الْمُفَادَاةِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ابْتِغَاءُ عَرَضِ الدُّنْيَا ، وَلِأَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ عَقْدُ الذِّمَّةِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَالِاسْتِرْقَاقُ وَالذِّمَّةُ يَتَقَارَبَانِ فِي الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ إبْقَاءَ الْكَافِرِ عَلَى كُفْرِهِ لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَلِكَ مِنْ مَالٍ أَوْ عَمَلٍ ، وَفِي الْجِزْيَةِ مَعْنَى الصِّغَارِ ، وَالْعُقُوبَةُ فِي حَقِّهِمْ كَمَا فِي الِاسْتِرْقَاقِ بَلْ أَظْهَرُ ، وَالِاسْتِرْقَاقُ ثَابِتٌ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَالصِّغَارِ ، وَالْجِزْيَةُ لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى الرِّجَالِ الْبَالِغِينَ ، فَإِذَا لَمْ يَجُزْ إبْقَاءُ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ عَلَى الشِّرْكِ بِالْجِزْيَةِ فَكَذَلِكَ بِالِاسْتِرْقَاقِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمْ فِي تَغَلُّظِ جِنَايَتِهِمْ كَالْمُرْتَدِّينَ ، فَكَمَا لَا يُسْتَرَقُّ الْمُرْتَدُّونَ فَكَذَلِكَ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْعَرَبِ حُكْمُهُمْ حُكْمُ غَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتَّى يَجُوزَ اسْتِرْقَاقُهُمْ ، وَأَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ الْعَرَبِ فِي الْأَصْلِ ، وَإِنْ تَوَطَّنُوا فِي أَرْضِ الْعَرَبِ بَلْ هُمْ فِي الْأَصْلِ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ

، وَلَئِنْ كَانُوا فِي الْأَصْلِ مِنْ الْعَرَبِ فَجِنَايَتُهُمْ فِي الْغِلَظِ لَيْسَتْ كَجِنَايَةِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ يَدَّعُونَ التَّوْحِيدَ ، وَلِهَذَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ ، وَتَجُوزُ مُنَاكَحَةُ نِسَائِهِمْ بِخِلَافِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ يَهُودَ تَيْمَاءَ ، وَوَادِي الْقُرَى ، وَكَذَلِكَ مِنْ بَهْزٍ ، وَتَنُوخِ ، وَطِيء وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرَادَ أَنْ يُوَظِّفَ الْجِزْيَةَ عَلَى نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ ثُمَّ صَالَحَهُمْ عَلَى الصَّدَقَةِ الْمُضَعَّفَةِ ، وَقَالَ هَذِهِ جِزْيَةٌ فَسَمُّوهَا مَا شِئْتُمْ ، وَكَانُوا مِنْ الْعَرَبِ .

فَأَمَّا عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَجَمِ فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ اسْتِرْقَاقِهِمْ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي جَوَازِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ فَعِنْدَنَا يَجُوزُ ذَلِكَ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ بِمَنْزِلَةِ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ أَهْلَ الْكِتَابِ بِحُكْمِ الْجِزْيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } وَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ الْمَجُوسَ أَهْلُ كِتَابٍ أَنَّهُ فِيهِ أَثَرًا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : كَانَ لَهُمْ كِتَابٌ يَقْرَءُونَ إلَى أَنْ وَاقَعَ مَلِكُهُمْ ابْنَتَهُ فَأَصْبَحُوا وَقَدْ أَسْرَى بِكِتَابِهِمْ .
حَدِيثٌ فِيهِ طُولٌ ( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْ الْمَجُوسِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَلَا كِتَابَ لَهُمْ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { سُنُّوا بِالْمَجُوسِ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ } فَفِي هَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّهُ لَا كِتَابَ لَهُمْ ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَنْ تَقُولُوا إنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا } ، وَلَوْ كَانَ لِلْمَجُوسِ كِتَابٌ لَكَانُوا ثَلَاثَ طَوَائِفَ ، وَالْأَثَرُ بِخِلَافِ نَصِّ الْقُرْآنِ لَا يَكَادُ يَصِحُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَثَبَتَ أَنْ لَا كِتَابَ لِلْمَجُوسِ ، وَمَعَ ذَلِكَ تُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ ، وَهُمْ مُشْرِكُونَ ، فَإِنَّهُمْ يَدَّعُونَ الِاثْنَيْنِ ، وَإِنَّ اخْتَلَفَتْ عِبَارَتُهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ النُّورِ وَالظُّلْمَةِ أَوْ يزدان واهر مِنْ ، وَلَيْسَ الشِّرْكُ إلَّا هَذَا ، فَإِذَا جَازَ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ فَكَذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ، وَقَدْ { أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ } ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ ذِكْرَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي الْآيَةِ لَيْسَ لِتَقْيِيدِ الْحُكْمِ بَلْ لِبَيَانِ جَوَازِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَمِنْ أَصْلِنَا أَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ

لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِيمَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ .

قَوْمٌ غَزَوْا أَرْضَ الْحَرْبِ فَارْتَدَّ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ ، وَاعْتَزَلُوا عَسْكَرَهُمْ ، وَحَارَبُوا ، وَنَابَذُوهُمْ فَأَصَابَ الْمُسْلِمُونَ غَنِيمَةً ، وَأَصَابَ أُولَئِكَ الْمُرْتَدُّونَ غَنِيمَةً مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ ثُمَّ تَابُوا قَبْلَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْ دَارٍ الْحَرْبِ لَمْ يُشَارِكْ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ الْآخَرَ فِيمَا أَصَابُوا ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ لَمْ يَكُنْ رِدْءًا لِلْبَعْضِ ، فَالْمُسْلِمُونَ لَا يَنْصُرُونَ الْمُرْتَدِّينَ ، وَلَا يَسْتَنْصِرُونَ بِالْمُرْتَدِّينَ إذَا حَزَبَهُمْ أَمْرٌ ، وَإِنَّ مُصَابَ الْمُرْتَدِّينَ لَيْسَ بِغَنِيمَةٍ إذَا لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُمْ عِنْدَ الْإِصَابَةِ إعْزَازَ الدِّينِ ، وَالْمُرْتَدُّونَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ كَأَهْلِ الْحَرْبِ ، فَإِنَّهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَأَهْلُ الْحَرْبِ إذَا أَسْلَمُوا وَالْتَحَقُوا بِالْجَيْشِ لَمْ يُشَارِكُوهُمْ فِيمَا أَصَابُوا قَبْلَ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الْمُرْتَدُّونَ إلَّا أَنْ يَلْقَوْا قِتَالًا فَيُقَاتِلُوا قَبْلَ أَنْ يَخْرُجُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَحِينَئِذٍ يُشَارِكُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ؛ لِأَنَّهُمْ قَاتَلُوا دَفْعًا عَنْ ذَلِكَ الْمَالِ فَكَأَنَّهُمْ أَصَابُوهُ بِهَذَا الْقِتَالِ ، وَاشْتَرَكُوا فِي إحْرَازِهِ بِالدَّارِ ، فَيُشَارِكُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي ذَلِكَ ، ثُمَّ هَذَا فِيمَا أَصَابَهُ الْمُسْلِمُونَ غَيْرَ مُشْكِلٍ بِمَنْزِلَةِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ ، وَالْتَحَقَ بِالْجَيْشِ إذَا لَقُوا قِتَالًا فَقَاتَلَ بَعْضُهُمْ ، وَمَا أَصَابَ الْمُرْتَدُّونَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حُكْمُ الْغَنِيمَةِ ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُ حُكْمَ الْغَنِيمَةِ بِهَذَا الْقِتَالِ كَالْمُتَلَصِّصِ إذَا أَصَابَ مَالًا ثُمَّ لَحِقَهُ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنَّ مُصَابَهُ يَأْخُذُ حُكْمَ الْغَنِيمَةِ حَتَّى يُخَمَّسَ ، وَلَا شَيْءَ عَلَى مَنْ قَتَلَ الْمُرْتَدِّينَ قَبْلَ أَنْ يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ كُفَّارٍ قَدْ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ ، فَإِنْ جَدَّدُوهَا فَحَسَنٌ ، وَإِنَّ قَاتَلُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَدْعُوهُمْ فَحَسَنٌ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96