كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي

كَمَا فِي الصَّدَاقِ .

( قَالَ ) : وَإِذَا اخْتَلَعَتْ بِمَا فِي بَيْتِهَا مِنْ شَيْءٍ ، فَهُوَ جَائِزٌ ، وَكُلَّمَا يَكُونُ فِي بَيْتِهَا فِي تِلْكَ السَّاعَةِ ، فَهُوَ لَهُ ؛ لِأَنَّ بِالْإِشَارَةِ إلَى الْمَحَلِّ تَنْقَطِعُ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ الْجَهَالَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ ، فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَغُرَّ الزَّوْجَ بِتَسْمِيَةِ الشَّيْءِ ، فَإِنَّهُ يَنْطَلِقُ عَلَى مَا لَا قِيمَةَ لَهُ ؛ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهَا شَيْءٌ .
وَفِي هَذَا الْفَصْلِ فِي النِّكَاحِ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ ، وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ تَسْمِيَةَ الشَّيْءِ لَغْوٌ مِنْ الزَّوْجِ ، فَكَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى غَيْرِ مَهْرٍ ، فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ، وَهُنَا يَصِيرُ كَأَنَّهُ خَلَعَهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْبُضْعَ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ مُتَقَوِّمٌ بِمَهْرِ الْمِثْلِ ، وَلَا قِيمَةَ لِلْبُضْعِ عِنْدَ خُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ .

( قَالَ ) : وَإِذَا اخْتَلَعَتْ عَلَى مَا فِي بَيْتهَا مِنْ مَتَاعٍ ، فَلَهُ مَا فِيهِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَيْءٌ رَجَعَ عَلَيْهَا بِالْمَهْرِ الَّذِي أَخَذَتْ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهَا غَرَّتْهُ بِتَسْمِيَةِ الْمَتَاعِ ، فَإِنَّهُ اسْمٌ لِمَا يَكُونُ مُتَقَوِّمًا مُنْتَفَعًا ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ فِي الْبَيْتِ شَيْءٌ كَانَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهَا ، وَلِلْمَغْرُورِ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ بِالرُّجُوعِ عَلَى الْغَارِّ ، وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الرُّجُوعِ بِقِيمَةِ الْمَتَاعِ ؛ لِكَوْنِهِ مَجْهُولَ الْجِنْسِ ، وَالْقَدْرِ ، وَلَا بِقِيمَةِ الْبُضْعِ ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ ، فَإِنَّهُ لَا يُمَلِّكُهَا شَيْئًا ، إنَّمَا يَسْقُطُ حَقُّهُ عَنْهَا ، فَكَانَ ، أَوْلَى الْأَشْيَاءِ مَا سَاقَ إلَيْهَا مِنْ الصَّدَاقِ ، فَإِنَّ الْغَرَرَ يَنْدَفِعُ عَنْهُ بِالرُّجُوعِ بِذَلِكَ .

( قَالَ ) : وَإِنْ قَالَتْ اخْلَعْنِي عَلَى مَا فِي يَدِي مِنْ دَرَاهِمَ ، فَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ ، أَوْ أَكْثَرُ فَلَهُ ذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهَا شَيْءٌ ، فَلَهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ ؛ لِأَنَّهَا سَمَّتْ جَمِيعَ الدَّرَاهِمِ ، وَأَدْنَى الْجَمْعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ ، وَلَيْسَ لِأَقْصَاهُ نِهَايَةٌ ، فَأَوْجَبْنَا الْأَدْنَى وَفِي الصَّدَاقِ فِي هَذَا الْفَصْلِ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الزَّوْجَ يَمْلِكُ عَلَيْهَا مَا هُوَ مُتَقَوِّمٌ ، فَلَهَا أَنْ لَا تَرْضَى بِالْأَدْنَى ، وَفِي مُعَاوَضَةِ الْمُتَقَوِّمِ بِالْمُتَقَوِّمِ يَجِبُ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، وَفِي تَعْيِينِ الْأَدْنَى تَرْكُ النَّظَرِ لَهَا ؛ فَلِهَذَا ، أَوْجَبْنَا مَهْرَ الْمِثْلِ ، وَهُنَا الزَّوْجُ لَا يُمَلِّكُهَا شَيْئًا مُتَقَوِّمًا فَيَتَعَيَّنُ أَدْنَى الْجَمْعِ ؛ لِكَوْنِهِ مُتَيَقَّنًا ؛ وَلِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ تَلْتَزِمُ لَا بِعِوَضٍ مُتَقَوِّمٍ ، كَانَ هَذَا فِي حَقِّهَا قِيَاسُ الْإِقْرَارِ ، وَالْوَصِيَّةِ ، وَمَنْ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِدَرَاهِمَ ، أَوْ أَوْصَى لَهُ بِدَرَاهِمَ يَلْزَمُهُ ثَلَاثَةٌ ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِهَا دِرْهَمَانِ تُؤْمَرُ بِإِتْمَامِ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ لَهُ ؛ لِأَنَّهَا فِيمَا الْتَزَمَتْ ذَكَرَتْ لَفْظَ الْجَمْعِ ، وَفِي الْمَثْنَى مَعْنَى الْجَمْعِ ، وَلَيْسَ بِجَمْعٍ مُطْلَقٍ ، فَإِنَّ التَّثْنِيَةَ غَيْرُ الْجَمْعِ .
( فَإِنْ قِيلَ ) : قَدْ ذَكَرَتْ فِي كَلَامِهَا حَرْفَ " مِنْ " ، وَهُوَ لِلتَّبْعِيضِ ، وَالدِّرْهَمَانِ بَعْضُ الْجَمْعِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُلْزِمَهَا إلَّا مَا فِي يَدِهَا كَمَا قَالَ فِي الْجَامِعِ : إذَا قَالَ : إنْ كَانَ مَا فِي يَدِي مِنْ الدَّرَاهِمِ إلَّا ثَلَاثَةً ، فَعَبْدُهُ حُرٌّ ، وَفِي يَدِهِ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ كَانَ حَانِثًا .
( قُلْنَا ) : نَعَمْ حَرْفُ " مِنْ " قَدْ يَكُونُ لِلتَّبْعِيضِ ، وَقَدْ يَكُونُ صِلَةً كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ } ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ } ، فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَصِحُّ الْكَلَامُ بِدُونِ حَرْفِ " مِنْ " كَانَ حَرْفُ مِنْ فِيهِ صِلَةً

لِتَصْحِيحِ الْكَلَامِ ، كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْخُلْعِ ، فَإِنَّهَا لَوْ قَالَتْ : اخْلَعْنِي عَلَى مَا فِي يَدِي دَرَاهِمَ كَانَ الْكَلَامُ مُخْتَلًّا ، وَحَرْفُ مِنْ صِلَةٌ ؛ لِتَصْحِيحِ الْكَلَامِ ، وَيَبْقَى مِنْهَا لَفْظُ الْجَمْعِ ، فَلِهَذَا يَلْزَمُهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ ، وَالدَّنَانِيرُ ، وَالْفُلُوسُ فِي هَذَا قِيَاسُ الدَّرَاهِمِ .

( قَالَ ) : وَإِنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِمَا فِي نَخْلِهَا مِنْ ثَمَرَةٍ ، وَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ ، فَلَهُ الْمَهْرُ الَّذِي أَعْطَاهَا ؛ لِأَنَّهَا غَرَّتْهُ بِتَسْمِيَةِ الثَّمَرَةِ ، وَهُوَ اسْمٌ لِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ ، وَإِنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِمَا يُثْمِرُ نَخْلَهَا الْعَامَ ، فَهُوَ جَائِزٌ ، فَإِنْ أَثْمَرَتْ ، فَلَهُ ذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ تُثْمِرْ شَيْئًا ، فَلَا شَيْءَ لَهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، ثُمَّ رَجَعَ ، فَقَالَ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَا أَعْطَاهَا مِنْ الْمَهْرِ أَثْمَرَتْ ، أَوْ لَمْ تُثْمِرْ ، وَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ الثَّمَرَةِ ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّهَا لَمْ تَغُرَّهُ بِشَيْءٍ ، وَلَكِنَّهَا ، أَوْجَبَتْ لَهُ مَا يُثْمِرُ نَخْلُهَا الْعَامَ ، فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْإِيجَابِ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ ، وَمَنْ ، أَوْصَى بِمَا تُثْمِرُ نَخِيلُهُ الْعَامَ ، فَإِنْ أَثْمَرَتْ ، فَهِيَ لِلْمُوصَى لَهُ وَإِنْ لَمْ تُثْمِرْ ، فَلَا شَيْءَ لَهُ ، فَهَذَا مِثْلُهُ .
وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّهَا تَلْتَزِمُ بَدَلَ الْخُلْعِ عِوَضًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِمُقَابَلَتِهِ مَا هُوَ مُتَقَوِّمٌ ، وَالثِّمَارُ الْمَعْدُومَةَ لَا تَصْلُحُ عِوَضًا فِي شَيْءٍ مِنْ الْعُقُودِ ، فَيَبْقَى مُجَرَّدَ تَسْمِيَةِ مَا هُوَ مُتَقَوِّمٌ بِهِ ، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْغُرُورِ مِنْهَا ، وَذَلِكَ يُثْبِتُ حَقَّ الرُّجُوعِ بِمَا أَعْطَاهَا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْغُرُورَ ثَابِتٌ هُنَا مَعْنًى لَمَّا تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْمُسَمَّى لَهُ شَرْعًا ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وُجِدَ الْغُرُورُ مِنْهَا صُورَةً ؛ بِأَنْ سَمَّتْ الْمَتَاعَ الَّذِي فِي يَدِهَا ، وَلَيْسَ فِي يَدِهَا مَتَاعٌ فَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَا أَعْطَاهَا .

( قَالَ ) : وَإِنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِمَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهَا أَوْ عَلَى مَا فِي بُطُونِ غَنَمِهَا ، فَهُوَ جَائِزٌ ، وَلَهُ مَا فِي بُطُونِهَا بِخِلَافِ الصَّدَاقِ ، فَإِنَّ فِي مَسْأَلَتِهِ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ لَهَا ؛ لِأَنَّ مَا فِي الْبَطْنِ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي الْحَالِ ، وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ الْمَآلِ هُوَ مَالٌ بَعْدَ الِانْفِصَالِ إلَّا أَنَّ أَحَدَ الْعِوَضَيْنِ فِي بَابِ النِّكَاحِ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ ، فَكَذَلِكَ الْعِوَضُ الْآخَرُ ، وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ التَّسْمِيَةِ فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى لَيْسَ بِمَالٍ ، وَلَا بِاعْتِبَارِ الْمَآلِ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْإِضَافَةِ ، أَوْ التَّعْلِيقِ بِالِانْفِصَالِ ، فَكَانَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ، وَأَمَّا فِي الْخُلْعِ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ ، وَهُوَ الطَّلَاقُ يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ وَالتَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ ، فَكَذَلِكَ الْعِوَضُ الْآخَرُ ، وَأَمْكَنَ تَصْحِيحُ تَسْمِيَةِ مَا فِي الْبَطْنِ بِاعْتِبَارِ الْمَآلِ ، وَهُوَ مَا بَعْدَ الِانْفِصَالِ ، وَإِذَا صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ ، فَلَهُ الْمُسَمَّى ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بُطُونِهَا شَيْءٌ ، فَلَا شَيْءَ لَهُ ؛ لِأَنَّهَا مَا غَرَّتْهُ ، فَمَا فِي الْبَطْنِ قَدْ يَكُونُ مَالًا مُتَقَوِّمًا ، وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ رِيحٍ ، أَوْ وَلَدٍ مَيِّتٍ ، وَالرُّجُوعُ عَلَيْهَا بِمَا أَعْطَى بِحُكْمِ الْغُرُورِ ، وَمَا وُجِدَ فِي بُطُونِهَا بَعْدَ الْخُلْعِ ، فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّهَا سَمَّتْ الْمَوْجُودَ فِي الْبَطْنِ عِنْدَ الْخُلْعِ ، فَلَا يَتَنَاوَلُ مَا يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ ، بَلْ الْحَادِثُ نَمَاءُ مِلْكِهَا فَيَكُونُ لَهَا .
.

( قَالَ ) : وَإِنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِحُكْمِهِ ، أَوْ بِحُكْمِهَا ، أَوْ بِحُكْمِ أَجْنَبِيٍّ ، فَهُوَ جَائِزٌ كَمَا فِي الصَّدَاقِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ الْمِعْيَارُ مَهْرُ الْمِثْلِ ، وَهُنَا الْمِعْيَارُ مَا أَعْطَاهَا ، فَإِنْ اخْتَلَعَتْ بِحُكْمِهِ ، فَحَكَمَ الزَّوْجُ عَلَيْهَا بِمِقْدَارِ مَا أَعْطَاهَا ، أَوْ بِأَقَلَّ ، فَذَلِكَ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ مُسْقِطٌ بَعْضَ حَقِّهِ ، وَإِنْ حَكَمَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهَا الزِّيَادَةُ إلَّا أَنْ تَرْضَى بِهِ ، وَإِنْ كَانَ بِحُكْمِهَا ، فَإِنْ حَكَمَتْ بِمَا أَعْطَاهَا الزَّوْجُ ، أَوْ أَكْثَرَ جَازَ ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهَا عَلَى نَفْسِهَا بِالْتِزَامِ الزِّيَادَةِ صَحِيحٌ ، وَإِنْ حَكَمَتْ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ النُّقْصَانُ إلَّا أَنْ يَرْضَى الزَّوْجُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ حُكْمَهَا بِذَلِكَ عَلَى الزَّوْجِ ، وَإِنْ كَانَ بِحُكْمِ أَجْنَبِيٍّ ، فَلَهُ مَا أَعْطَاهَا ؛ لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّ إنْ حَكَمَ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ ، فَهُوَ مُتَصَرِّفٌ عَلَى الزَّوْجِ بِإِسْقَاطِ بَعْضِ حَقِّهِ ، وَإِنْ حَكَمَ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، فَهُوَ مُتَصَرِّفٌ عَلَيْهَا بِإِلْزَامِ الزِّيَادَةِ ، فَلَا يَنْفُذُ بِدُونِ رِضَاهَا .

( قَالَ ) : وَإِنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ عَلَى خَادِمٍ بِغَيْرِ عَيْنِهَا ، فَهُوَ جَائِزٌ ، وَلَهُ خَادِمٌ وَسَطٌ ، أَوْ قِيمَتُهُ ، أَيُّهُمَا أَتَتْ بِهِ أُجْبِرَ عَلَى الْقَبُولِ كَمَا فِي الصَّدَاقِ .

( قَالَ ) : وَإِنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِمَا تَكْتَسِبُ الْعَامَ مِنْ مَالٍ ، أَوْ بِمَا تَرِثُهُ ، أَوْ بِمَا تَتَزَوَّجُ عَلَيْهِ ، أَوْ بِمَا تَحْمِلُ جَارِيَتَهَا ، أَوْ غَنَمَهَا فِيمَا يُسْتَقْبَلُ كَانَ لَهُ الْمَهْرُ الَّذِي أَعْطَاهَا فِي جَمِيعِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى لَا يَصْلُحُ عِوَضًا فِي شَيْءٍ مِنْ النُّقُودِ : إمَّا لِأَنَّهُ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ لَا يَدْرِي أَيَكُونُ أَمْ لَا ، أَوْ لِأَنَّهُ مَجْهُولُ الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ ، وَالْقَدْرِ ، فَلَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ فِي الْخُلْعِ أَيْضًا ، وَلَكِنَّهَا غَرَّتْهُ بِتَسْمِيَةِ الْمَالِ ، فَيَلْزَمُهَا رَدُّ مَا سَاقَ إلَيْهَا بِسَبَبِ الْغُرُورِ ، وَكَذَلِكَ مَا تَحْمِلُ جَارِيَتُهَا ، أَوْ نَعَمُهَا مِنْ وَلَدٍ لَا يَصِحُّ تَمْلِيكُهُ مِنْ الْغَيْرِ بِشَيْءٍ مِنْ أَسْبَابِ التَّمْلِيكِ ، الْوَصِيَّةُ وَغَيْرُهَا فِيهِ سَوَاءٌ ، فَيَلْزَمُهَا رَدُّ الْمَقْبُوضِ بِسَبَبِ الْغُرُورِ .

( قَالَ ) : وَكَذَلِكَ إنْ اخْتَلَعَتْ عَلَى أَنْ تُزَوِّجَهُ امْرَأَةً وَتُمْهِرَ عَنْهُ ، فَالْخُلْعُ جَائِزٌ ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ ؛ لِلْجَهَالَةِ الْمُسْتَتِمَّةِ فِي الْمُسَمَّى ، وَلَكِنَّ الْغُرُورَ يَتَمَكَّنُ لِتَسْمِيَةِ الْإِمْهَارِ ، فَعَلَيْهَا رَدُّ الْعِوَضِ ، وَإِنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ عَلَى مَوْصُوفٍ مِنْ الْمَكِيلِ ، أَوْ الْمَوْزُونِ ، أَوْ النَّبَاتِ ، فَهُوَ جَائِزٌ كَمَا فِي الصَّدَاقِ ، وَإِنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ عَلَى ثَوْبٍ أَوْ عَلَى دَارٍ ، فَالتَّسْمِيَةُ فَاسِدَةٌ لِلْجَهَالَةِ الْمُسْتَتِمَّةِ كَمَا فِي الصَّدَاقِ ، وَلَهُ الْمَهْرُ الَّذِي أَعْطَاهَا بِسَبَبِ الْغُرُورِ ، وَكَذَلِكَ إنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِدَابَّةٍ لِلْجَهَالَةِ الْمُسْتَتِمَّةِ ، فَإِنَّ اسْمَ الدَّابَّةِ يَتَنَاوَلُ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً ، فَلَهُ الْمَهْرُ الَّذِي أَعْطَاهَا ، وَإِنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِشَيْءٍ مَعْرُوفٍ مُسَمًّى ، وَلَهَا عَلَيْهِ مَهْرٌ ، وَقَدْ دَخَلَ بِهَا ، أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا لَزِمَهَا مَا سَمَّتْ لَهُ ، وَلَا شَيْءَ لَهَا مِمَّا سُمِّيَ عَلَى الزَّوْجِ مِنْ الْمَهْرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالْمَهْرِ ، إنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا ، وَيُنَصَّفُ الْمَهْرُ إنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ أَخَذَتْ الْمَهْرَ ، ثُمَّ خَلَعَهَا قَبْلَ الدُّخُول عَلَى شَيْءٍ مُسَمًّى ، فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ مِنْ الْمَهْرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْمَهْرِ .
وَإِنْ كَانَ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا بِلَفْظَةِ الْمُبَارَأَةِ ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمُبَارَأَةِ : الْجَوَابُ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْخُلْعَ ، وَالْمُبَارَأَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تُوجِبَانِ بَرَاءَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ مِنْ

الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ بِالنِّكَاحِ حَتَّى لَا يَرْجِعَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يُوجِبَانِ إلَّا الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ ، وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ يُجْعَلُ كَالْفُرْقَةِ بِغَيْرِ جُعْلٍ بِالطَّلَاقِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْخُلْعِ الْجَوَابُ كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَفِي الْمُبَارَأَةِ الْجَوَابُ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ هَذَا طَلَاقٌ بِعِوَضٍ فَيَجِبُ بِهِ الْعِوَضُ الْمُسَمَّى ، وَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ كَمَا لَوْ كَانَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ إلَّا فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِوَضِ الْمُسَمَّى بِهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ دَيْنٌ وَاجِبٌ بِسَبَبٍ آخَرَ ، أَوْ عَيْنٌ فِي يَدِهِ ، لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِالْخُلْعِ وَالْمُبَارَأَةِ ، فَكَذَلِكَ الْحُقُوقُ الْوَاجِبَةُ عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ نَفَقَةَ عِدَّتِهَا لَا تَسْقُطُ ، وَهِيَ مِنْ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ بِالنِّكَاحِ ، فَكَذَلِكَ الْمَهْرُ ، بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ أَضْعَفُ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : الْمَقْصُودُ بِهَذَا الْعَقْدِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِإِسْقَاطِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ بِالنِّكَاحِ ، فَلِإِتْمَامِ هَذَا الْمَقْصُودِ يَتَعَدَّى حُكْمُ هَذَا الْعَقْدِ إلَى الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ بِالنِّكَاحِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَهَذَا لِأَنَّ الْخُلْعَ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ النُّشُوزِ ، وَسَبَبُ النُّشُوزِ الْوَصْلَةُ الَّتِي بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ النِّكَاحِ ، فَتَمَامُ انْقِطَاعِ الْمُنَازَعَةِ وَالنُّشُوزِ ، إنَّمَا يَكُونُ بِإِسْقَاطِ مَا وَجَبَ بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْوَصْلَةِ .
وَفِي لَفْظِهِمَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ الْمُبَارَأَةَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْبَرَاءَةِ ، وَالْخُلْعُ مِنْ الْخَلْعِ ، وَهُوَ الِانْتِزَاعُ ، يَقُولُ الرَّجُلُ : خَلَعْت الْخُفَّ مِنْ الرِّجْلِ إذَا قَطَعْت مَا

بَيْنَهُمَا مِنْ الْوَصْلِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْعَقْدُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ ، فَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُسْقِطُ الْحُقُوقَ الْوَاجِبَةَ أَيْضًا بِالنِّكَاحِ ؛ لِإِتْمَامِ الْمَقْصُودِ ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَيْسَ فِي لَفْظِ الطَّلَاقِ مَا يَدُلُّ عَلَى إسْقَاطِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ بِالنِّكَاحِ ؛ فَلِهَذَا لَا تَسْقُطُ ، فَأَمَّا سَائِرُ الدُّيُونِ فَوُجُوبُهَا مَا كَانَ بِسَبَبِ وَصْلَةِ النِّكَاحِ وَالنُّشُوزُ ، وَالْمُنَازَعَةُ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِيهِ ؛ فَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ ، وَأَمَّا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ فَهِيَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عِنْدَ الْخُلْعِ ، إنَّمَا تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا ، وَالْخُلْعُ ، وَالْمُبَارَأَةُ إسْقَاطُ مَا هُوَ وَاجِبٌ بِحُكْمِ النِّكَاحِ فِي الْحَالِ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَخَذَ فِي الْمُبَارَأَةِ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الْبَرَاءَةِ .
وَفِي الْخُلْعِ أَخَذَ بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْبَرَاءَةِ عَنْ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ ، فَجَعَلَ لَفْظَ الْخُلْعِ بِمَنْزِلَةِ لَفْظِ الطَّلَاقِ ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَوْ كَانَ مَهْرُهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ فَاخْتَلَعَتْ مِنْهُ قَبْلَ الدُّخُولِ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ مَهْرِهَا ، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَلَى الزَّوْجِ بِشَيْءٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَفِي قَوْلِهِمَا تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعِمِائَةٍ ، وَلَوْ كَانَتْ قَبَضَتْ الْأَلْفَ ، ثُمَّ اخْتَلَعَتْ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْهَا ، لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ غَيْرُ الْمِائَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا إلَى تَمَامِ النِّصْفِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَهْرُ عَبْدًا بِعَيْنِهِ فِي يَدِهَا ، فَاخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ مِنْ الْعَبْدِ ، وَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْعَبْدِ ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ دِرْهَمٍ ، فَوَهَبَتْ لَهُ النِّصْفَ

، وَقَبَضَتْ النِّصْفَ ، ثُمَّ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِشَيْءٍ مَجْهُولٍ كَالثَّوْبِ وَنَحْوِهِ ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَا دَفَعَ إلَيْهَا مِنْ الْمَهْرِ لَا بِالْأَلْفِ الَّتِي كَانَ أَصْلُ الْعَقْدِ بِهَا ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ حَقِّ الرُّجُوعِ عِنْدَ الْغُرُورِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الزَّوْجِ ، وَذَلِكَ يَتِمُّ إذَا رَجَعَ بِمَا سَاقَ إلَيْهَا ، وَلَوْ كَانَتْ وَهَبَتْ جَمِيعَ الْمَهْرِ لِزَوْجِهَا لَمْ يَرْجِعْ الزَّوْجُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِحُكْمِ قَبْضِهَا ، وَلَمْ يَقْبِضْ شَيْئًا ، وَالرُّجُوعُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الزَّوْجِ ، وَالضَّرَرُ مُنْدَفِعٌ هُنَا حِينَ سُلِّمَ لَهُ جَمِيعُ الْمَهْرِ بِالْهِبَةِ .

( قَالَ ) : وَإِذَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِعَبْدٍ بِعَيْنِهِ فَمَاتَ قَبْل أَنْ تُسَلِّمَهُ فَعَلَيْهَا قِيمَتُهُ لَهُ كَمَا فِي الصَّدَاقِ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلتَّسْلِيمِ لَمْ يَنْفَسِخْ بِهَلَاكِهِ ، فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْعَبْدَ كَانَ مَاتَ قَبْلَ الْخُلْعِ ، فَإِنَّمَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِالْمَهْرِ الَّذِي أَخَذَتْ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهَا غَرَّتْهُ بِتَسْمِيَةِ الْعَبْدِ ، وَإِنْ كَانَ حَيًّا فَاسْتُحِقَّ ، فَعَلَيْهَا قِيمَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُهُ مَعَ بَقَاءِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلتَّسْلِيمِ لَهُ ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ حُرًّا ، فَعَلَيْهَا الْمَهْرُ الَّذِي أَخَذَتْ مِنْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْهَا قِيمَتُهُ أَنْ لَوْ كَانَ عَبْدًا وَهَذَا وَالصَّدَاقُ سَوَاءٌ .

( قَالَ ) : وَإِنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِمَا لَا يَحِلُّ كَالْخَمْرِ ، وَالْخِنْزِيرِ ، وَالْمَيْتَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهَا شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ ، فَلَا يَتَمَكَّنُ الْغُرُورُ مِنْهَا بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ ، فَصَارَتْ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ ، وُجُودُهَا كَعَدَمِهَا ، وَبِهَذَا فَارَقَ الصَّدَاقَ ، فَإِنَّ تَسْمِيَةَ الْخَمْرِ هُنَاكَ ، وُجُودُهَا كَعَدَمِهَا ، وَلَكِنْ بِدُونِ التَّسْمِيَةِ يَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ هُنَاكَ ، وَلَا يَجِبُ هُنَا شَيْءٌ ، وَإِنْ غَرَّتْهُ ، فَقَالَتْ : أَخْتَلِعُ مِنْك بِهَذَا الْخَلِّ ، فَإِذَا هُوَ خَمْرٌ ، فَعَلَيْهَا أَنْ تَرُدَّ الْمَهْرَ الْمَأْخُوذَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا مِثْلُ ذَلِكَ الْكَيْلِ مِنْ خَلٍّ وَسَطٍ ، وَهَذَا وَالصَّدَاقُ سَوَاءٌ .

( قَالَ ) : وَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِمَالٍ مُؤَجَّلٍ ، فَهُوَ جَائِزٌ إذَا كَانَ الْأَجَلُ مَعْلُومًا ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ، فَيَصِحُّ اشْتِرَاطُ الْأَجَلِ الْمَعْلُومِ فِي بَدَلِهِ كَسَائِرِ الْمُعَوَّضَاتِ ، وَإِنْ كَانَ الْأَجَلُ مَجْهُولًا جَهَالَةً مُسْتَتِمَّةً مِثْلُ الْمَيْسَرَةِ ، أَوْ مَوْتِ فُلَانٍ ، أَوْ قُدُومِ فُلَانٍ ، فَالْمَالُ عَلَيْهَا حَالٌّ ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ اسْمٌ لِزَمَانٍ مُنْتَظَرٍ ، وَلَمْ يَصِرْ مَذْكُورًا بِذِكْرِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَتَّصِلَ مَوْتُ فُلَانٍ ، أَوْ قُدُومُهُ ، وَالْمَيْسَرَةُ بِالْعَقْدِ ، فَبَقِيَ هَذَا شَرْطًا فَاسِدًا ، وَالْخُلْعُ لَا يَبْطُلُ بِهِ ، فَكَانَ الْمَالُ حَالًّا عَلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَ إلَى الْإِعْطَاءِ ، أَوْ إلَى الدِّيَاسِ ، أَوْ النَّيْرُوزِ ، أَوْ الْمِهْرَجَانِ فَالْمَالُ إلَى ذَلِكَ الْأَجَلِ ؛ لِأَنَّهُمَا ذَكَرَا فِي الْعَقْدِ مَا هُوَ أَجَلٌ ، وَهُوَ الزَّمَانُ الَّذِي هُوَ مُنْتَظَرٌ ، فَإِنَّ وَقْتَ الشِّتَاءِ لَيْسَ بِزَمَانِ الْحَصَادِ وَالدِّيَاسِ بِيَقِينٍ ، وَلَكِنْ فِي آخِرِهِ بَعْضُ الْجَهَالَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ قَدْ يَتَقَدَّمُ إذَا تَعَجَّلَ الْحَرَّ ، وَيَتَأَخَّرُ إذَا تَطَاوَلَ الْبَرْدُ ، وَلَكِنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْأَجَلِ خُصُوصًا فِي الْعَقْدِ الْمَبْنِيِّ عَلَى التَّوَسُّعِ كَالْكَفَالَةِ ، وَالْخُلْعُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّوَسُّعِ فَتَثْبُتُ فِيهِ هَذِهِ الْآجَالِ ، فَإِنْ ذَهَبَتْ الْغَلَّةُ فِي ذَلِكَ الْعَامِ ، فَلَمْ يَكُنْ حَصَادٌ وَلَا جَزَازٌ ، فَالْأَجَلُ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْوَقْتِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ فِي مِثْلِ الْبَلَدِ ، وَكَذَلِكَ الْعَطَاءُ ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْعَطَاءِ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ عَنْ وَقْتِهِ ، فَلَا مُعْتَبَرَ بِوُجُودِ حَقِيقَتِهِ ، وَوَقْتُهُ مَعْرُوفٌ عِنْدَ النَّاسِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ، فَإِذَا جَاءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ وَجَبَ تَسْلِيمُ الْمَالِ ، وَبَدَلُ الْخُلْعِ إذَا كَانَ دَيْنًا ، فَهُوَ فِي حُكْمِ أَخْذِ الرَّهْنِ ، وَالْكَفِيلِ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الصَّدَاقِ حَتَّى إذَا هَلَكَ هَلَكَ بِمَا فِيهِ ، وَكَانَ هُوَ أَمِينًا فِي

الْفَضْلِ .

( قَالَ ) : وَإِنْ خَلَعَهَا عَلَى وَصِيفٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ ، فَإِنْ جَاءَتْ بِقِيمَتِهِ أُجْبِرَ عَلَى قَبُولِهِ كَمَا فِي الصَّدَاقِ ، وَإِنْ صَالَحَهَا مِنْ الْوَصِيفِ عَلَى دَرَاهِمَ مِمَّا يُكَالُ ، أَوْ يُوزَنُ ، أَوْ الْعُرُوض ، أَوْ الْحَيَوَانُ مِنْ غَيْرِ صِفَتِهِ ، فَهُوَ جَائِزٌ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ كَمَا فِي الصَّدَاقِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا كَانَ دَيْنًا بِدَيْنٍ ، وَذَلِكَ حَرَامٌ .

( قَالَ ) : وَإِذَا اخْتَلَعَتْ فِي مَرَضِهَا بِمَهْرِهَا الَّذِي كَانَ لَهَا عَلَى زَوْجِهَا ، ثُمَّ مَاتَتْ فِي الْعِدَّةِ ، فَلَهُ الْأَقَلُّ مِنْ مِيرَاثِهِ ، وَمِنْ الْمَهْرِ إنْ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهَا مَهْرٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَالٌ سِوَى ذَلِكَ ، فَلَهُ الْأَقَلُّ مِنْ مِيرَاثِهِ مِنْهَا ، وَمِنْ الثُّلُثِ ، وَإِنْ مَاتَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، فَلَهُ الْمَهْرُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهَا ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا اخْتَلَعَتْ فِي مَرَضِهَا ، فَبَدَلُ الْخُلْعِ مُعْتَبَرٌ مِنْ ثُلُثِ مَالِهَا عِنْدَنَا ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ، وَاعْتُبِرَ الْخُلْعُ بِالنِّكَاحِ ، فَإِنَّ الْمَرِيضَ لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِصَدَاقِ مِثْلِهَا اُعْتُبِرَ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حَوَائِجِهِ ، وَكَذَلِكَ الْمَرِيضَةُ إذَا اخْتَلَعَتْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حَوَائِجِهَا لِتَتَخَلَّصَ بِهِ مِنْ أَذَى الزَّوْجِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْبُضْعُ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ مُتَقَوِّمٌ ، وَعِنْدَ الْخُرُوجِ لَا يَتَقَوَّمُ حَتَّى إنَّ لِلْأَبِ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَهُ امْرَأَةً بِمَالِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَالِعَ ابْنَتَهُ مِنْ زَوْجِهَا بِمَالِهَا ، وَالْخُلْعُ لَيْسَ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهَا ، فَكَانَ بَدَلُ الْخُلْعِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ مِنْهَا لِلزَّوْجِ فَيُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ ، وَمَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ إذَا صَالَحَ فِي مَرَضِهِ عَلَى الدِّيَةِ عِنْدَنَا يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِإِحْيَاءِ نَفْسِهِ ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِ بِخِلَافِ بَدَلِ الْخُلْعِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُعْتَبَرُ هُنَا مِنْ الثُّلُثِ بِخِلَافِ الْخُلْعِ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ ، فَلَا يُعْتَاضُ عَنْهُ بِالْمَالِ حَقِيقَةً ، فَيَكُونُ الْتِزَامُ الْمَالِ بِمَعْنَى الصِّلَةِ الْمُبْتَدَأَةِ ، وَالْمَمْلُوكُ بِالنِّكَاحِ مِمَّا يُعْتَاضُ عَنْهُ بِالْمَالِ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ ، وَمَا يُسَلَّمُ لِلزَّوْجِ هُنَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهَا ، إذَا عَرَفْنَا هَذَا ، فَنَقُولُ إذَا مَاتَتْ

قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، فَسَبَبُ مِيرَاثِهِ بَاقٍ بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَصْدُهَا بِهَذَا الْخُلْعِ إيصَالَ الْمَنْفَعَةِ الْمَالِيَّةِ إلَى الزَّوْجِ ، وَلَكِنَّ هَذِهِ التُّهْمَةَ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِ ، فَأَمَّا فِي الْأَقَلِّ ، فَلَا تُهْمَةَ ؛ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ الْأَقَلُّ مِنْ مِيرَاثِهِ وَمِمَّا سَمَّتْ لَهُ ، وَإِذَا مَاتَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، فَلَيْسَ بَيْنَهُمَا سَبَبُ التَّوَارُثِ عِنْدَ مَوْتِهَا ، فَيَكُونُ لَهُ جَمِيعُ الْمُسَمَّى مِنْ الثُّلُثِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ ، أَوْصَتْ لَهُ ، أَوْ أَقَرَّتْ بِشَيْءٍ بَعْدَ مَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا .
وَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ، فَاخْتَلَعَتْ مِنْهُ فِي مَرَضِهَا بِمَهْرِهَا ، فَنَقُولُ : أَمَّا نِصْفُ الْمَهْرِ ، فَقَدْ سَقَطَ عَنْ الزَّوْجِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا مِنْ جِهَتِهَا ، وَالنِّصْفُ الْبَاقِي لَهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ مِنْهَا لَهُ ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا سَبَبُ التَّوَارُثِ ، إذَا كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ ، فَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ الْأَقَلِّ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِهَا ، فَنِصْفُ الْمَهْرِ سَقَطَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَالنِّصْفُ الْبَاقِي مَعَ الزِّيَادَةِ لِلزَّوْجِ مِنْ ثُلُثِ مَالِهَا ، فَإِنْ بَرِئَتْ مِنْ مَرَضِهَا ، فَلَهُ جَمِيعُ الْمُسَمَّى بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ خَالَعَهَا فِي صِحَّتِهَا .

( قَالَ ) : وَإِنْ اخْتَلَعَتْ ، وَهِيَ صَحِيحَةٌ وَالزَّوْجُ مَرِيضٌ ، فَالْخُلْعُ جَائِزٌ بِالْمُسَمَّى قَلَّ ، أَوْ كَثُرَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ ، كَانَ صَحِيحًا ، فَبِالْعِوَضِ الْقَلِيلِ ، أَوْلَى ، وَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ إنَّمَا وَقَعَتْ بِقَبُولِهَا ، فَكَأَنَّهُ طَلَّقَهَا بِسُؤَالِهَا .

( قَالَ ) : وَإِنْ تَبَرَّعَ أَجْنَبِيٌّ فِي مَرَضِهِ بِاخْتِلَاعِهَا مِنْ الزَّوْجِ بِمَالٍ ضَمِنَهُ لِلزَّوْجِ ، فَهُوَ جَائِزٌ مِنْ ثُلُثِهِ إذَا مَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ ؛ لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّ الْتَزَمَ الْمَالَ فِي مَرَضِهِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ حَصَلَ لَهُ ، فَكَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ ثُلُثِهِ ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ مَرِيضًا حِينَ فَعَلَ الْأَجْنَبِيُّ هَذَا بِغَيْرِ رِضَاهَا ، فَلَهَا الْمِيرَاثُ إذَا مَاتَ الزَّوْجُ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بِغَيْرِ رِضَاهَا ، فَيَكُونُ الزَّوْجُ فَارًّا فِي حَقِّهَا .

( قَالَ ) : وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا أَنْ يَخْلَعَ امْرَأَتَهُ ، فَقَامَ الْوَكِيلُ مِنْ مَجْلِسِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلَعَهَا ، فَهُوَ عَلَى وَكَالَتْهُ ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ التَّوْكِيلِ لَا يَتَوَقَّتُ بِالْمَجْلِسِ كَمَا فِي سَائِرِ الْعُقُودِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ الْوَكِيلِ تَحْصِيلُ مَقْصُودِ الْمُوَكِّلِ ، وَالْمَجْلِسُ وَمَا بَعْدَهُ فِي هَذَا سَوَاءٌ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهَا : أَمْرُك بِيَدِك ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَمْلِيكُ الْأَمْرِ مِنْهَا ، وَجَوَابُ التَّمْلِيكِ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ ، وَهَذَا إنَابَةٌ لَهُ مَنَابَ نَفْسِهِ فِي عَقْدِ الْخُلْعِ ، فَيَصِيرُ نَائِبًا عَنْهُ مَا لَمْ يَعْزِلْهُ كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ : طَلِّقْهَا .

( قَالَ ) : وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلَيْنِ بِالْخُلْعِ فَخَلَعَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ ، وَهُوَ إنَّمَا رَضِيَ بِرَأْيِ الْمَثْنَى وَرَأْيُ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ كَرَأْيِ الْمَثْنَى ، فَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُهُ إذَا انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ طَلِّقَاهَا فَطَلَّقَهَا أَحَدُهُمَا ، جَازَ ؛ لِأَنَّ إيقَاعَ الطَّلَاقِ مُجَرَّدُ عِبَارَةٍ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ ، وَعِبَارَةُ الْوَاحِدِ وَعِبَارَةُ الْمَثْنَى سَوَاءٌ ، وَمَا هُوَ مَقْصُودُ الزَّوْجِ يَحْصُلُ بِإِيقَاعِ أَحَدِهِمَا .

( قَالَ ) : وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا عَلَى عَبْدِي هَذَا إنْ شِئْت ، فَقَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا قَبْلَ أَنْ تَشَاءَ ، فَهِيَ امْرَأَتُهُ ، وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ فِي هَذَا إلَّا بِقَبُولِهَا ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمُسَمَّى مِلْكُ الزَّوْجِ ، فَكَانَ ذِكْرُهُ وَالسُّكُوتُ عَنْهُ سَوَاءً ، فَيَبْقَى قَوْلُهُ : أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ شِئْت ، فَإِذَا قَامَتْ قَبْلَ أَنْ تَشَاءَ خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا فَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْمَشِيئَةَ مِنْهَا لَمْ تُوجَدْ ؛ وَلِأَنَّهُ ، أَوْقَعَ الطَّلَاقَ بِعِوَضٍ ، فَلَا يَقَعُ إلَّا بِوُجُودِ الْقَبُولِ ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ الْعِوَضُ ، وَلَا مَنْفَعَةَ فِيهِ لِأَحَدِهِمَا ، كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا عَلَى خَمْرٍ ، أَوْ مَيْتَةٍ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ إلَّا بِقَبُولِهَا ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا شَيْءٌ بَعْدَ الْقَبُولِ ، وَإِنْ قَبِلَتْ فِي الْمَجْلِسِ ، وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا لِوُجُودِ الْقَبُولِ ؛ وَلِأَنَّهَا لَمَّا قَبِلَتْ فَقَدْ شَاءَتْ ، وَالْعَبْدُ عَبْدُ الزَّوْجِ عَلَى حَالِهِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ لَا يَكُونُ عِوَضًا عَنْ مِلْكِهِ ، وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَغُرَّهُ ، وَإِنْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت عَلَى عَبْدِك الَّذِي فِي يَدِي ، فَإِنْ قَبِلَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا ، وَلَهُ الْعَبْدُ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهَا يَصْلُحُ عِوَضًا عَنْ الطَّلَاقِ سَوَاءٌ كَانَ فِي يَدِهَا ، أَوْ فِي يَدِ الزَّوْجِ ، فَإِنْ اسْتَحَقَّ الْعَبْدَ فَلَهُ قِيمَتُهُ ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ بِالْعَقْدِ صَارَ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهَا ، وَقَدْ بَطَلَ فَيَبْقَى الزَّوْجُ بِالِاسْتِحْقَاقِ مِنْ الْأَصْلِ وَالسَّبَبُ الْمُوجِبُ تَسْلِيمٌ قَائِمٌ ، فَعَلَيْهَا قِيمَتُهُ لَهُ .

( قَالَ ) : وَإِنْ طَلَّقَهَا عَلَى مَا فِي يَدِهِ فَقَبِلَتْ ، فَإِذَا فِي يَدِهِ جَوْهَرَةٌ لَهَا ، فَهِيَ لَهُ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَلِمَتْ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي أَضَرَّتْ بِنَفْسِهَا حِينَ قَبِلَتْ الْخُلْعَ قَبْلَ أَنْ تَعْلَمَ مَا فِي يَدِهِ ، وَلَوْ اشْتَرَى مِنْهَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَانَ جَائِزًا ، وَلَا خِيَارَ لَهَا فَالْخُلْعُ ، أَوْلَى ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ ، فَالطَّلَاقُ رَجْعِيٌّ ، وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَغُرَّهُ ، وَصَرِيحُ الطَّلَاقِ لَا يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ إلَّا بِعِوَضٍ .

( قَالَ ) : وَإِنْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِعَبْدٍ حَلَالِ الدَّمِ فَقُتِلَ عِنْدَهُ بِقِصَاصٍ رَجَعَ عَلَيْهَا بِقِيمَتِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ عِنْدَهُ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ وَجَبَ قَطْعُ يَدِهِ فَقُطِعَ ، عِنْدَ الزَّوْجِ رَدَّهُ ، وَأَخْذُ قِيمَتِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ الْفَاحِشِ يَكُونُ فِي يَدِهَا بِالْعَبْدِ وَعِنْدَهُمَا عَيْبُ الْقَطْعِ فِي حُكْمِ الْحَادِثِ عِنْدَ الزَّوْجِ فَيَمْنَعُهُ مِنْ رَدِّ الْعَبْدِ عَلَيْهَا ، وَمَوْضِعُ بَيَانِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ .

( قَالَ ) : وَلَوْ خَلَعَهَا عَلَى عَبْدٍ نَصْرَانِيٍّ ، أَوْ أَمَةٍ لَهَا زَوْجٌ ، أَوْ عَبْدٌ لَهُ امْرَأَةٌ ، وَلَمْ تُعْلِمْهُ ذَلِكَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ ، فَإِنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ الْيَسِيرِ ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ الْمَالِيَّةِ يَقِلُّ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ ، وَبَدَلُ الْخُلْعِ لَا يُرَدُّ بِالْعَيْبِ الْيَسِيرِ كَالصَّدَاقِ .

( قَالَ ) : وَإِنْ اخْتَلَعَتْ وَمَهْرُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ عَلَى عَبْدٍ عَلَى أَنْ زَادَهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ ، فَاسْتَحَقَّ الْعَبْدُ مِنْ يَدِهِ رَجَعَ عَلَيْهَا بِالْأَلْفِ وَبِنِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ بَذَلَتْ الْعَبْدَ بِإِزَاءِ شَيْئَيْنِ الْأَلْفِ الَّتِي قَبَضَتْ ، وَالْخُلْعِ ، وَهُمَا سَوَاءٌ فَانْقَسَمَ الْعَبْدُ نِصْفَيْنِ نِصْفُهُ بِيعَ مِنْ الزَّوْجِ بِالْأَلْفِ ، فَعِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ يَرْجِعُ بِثَمَنِهِ الْمَدْفُوعِ ، وَنِصْفُهُ بَدَلُ الْخُلْعِ ، فَعِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ يَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ ؛ فَلِهَذَا رَجَعَ عَلَيْهَا بِالْأَلْفِ وَبِنِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَعْطَاهَا مَكَانَ الْأَلْفِ خَادِمًا قِيمَتُهُ أَلْفٌ أَخَذَ الْخَادِمَ وَنِصْفَ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّ نِصْفَ الْعَبْدِ كَانَ بَيْعًا لَهُ بِالْخَادِمِ ، وَالِاسْتِحْقَاقُ يُبْطِلُ الْبَيْعَ فَيَرْجِعُ بِالْخَادِمِ وَالنِّصْفِ الْآخَرِ مِنْ الْعَبْدِ جُعْلًا فَيَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ .

( قَالَ ) : وَإِنْ خَلَعَهَا عَلَى أَنْ أَعْطَتْهُ دِرْهَمًا قَدْ نَظَرَ إلَيْهِ فِي يَدِهَا ، فَإِذَا هُوَ زَيْفٌ ، أَوْ سَتُّوقٌ ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا جَيِّدًا ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ تَسْمِيَةِ الدَّرَاهِمِ يَتَنَاوَلُ الْجِيَادَ ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّ الزَّيْفَ وَالسَّتُّوقَ وَيُطَالِبَهَا بِمَا اسْتَحَقَّ مِنْ الْعَقْدِ .
( قَالَ ) : وَلَيْسَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ فِي الْعَبْدِ يُرِيدُ بِهِ أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُرَدُّ بِالْعَيْبِ الْيَسِيرِ فِي الْخُلْعِ ، وَالدَّرَاهِمُ تُرَدُّ بِعَيْبِ الزِّيَافَةِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَيْبًا يَسِيرًا ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ مَا تَعَلَّقَ بِتِلْكَ الدَّرَاهِمِ بِعَيْنِهَا ، وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ بِدَرَاهِمَ جِيَادٍ فِي ذِمَّتِهَا حَتَّى إنَّ لَهَا أَنْ تَمْنَعَ ذَلِكَ الدِّرْهَمَ وَتُعْطِيَهُ آخَرَ ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهَا بِمَا اسْتَحَقَّ بِالْعَقْدِ ؛ وَلِأَنَّهُ بِالرَّدِّ هُنَا يَسْتَفِيدُ شَيْئًا ، وَهُوَ الرُّجُوعُ بِالْجَيِّدِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ ، فَإِنَّ الْعَبْدَ تَعَلَّقَ بِعَيْنِهِ ، فَلَا يَسْتَفِيدُ شَيْئًا بِرَدِّهِ بِعَيْبٍ يَسِيرٍ ؛ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ قِيمَتِهِ صَحِيحًا وَبَيْنَ عَيْنِهِ مَعَ الْعَيْبِ الْيَسِيرِ .

( قَالَ ) : وَلَوْ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ عَلَى ثَوْبٍ فِي يَدِهَا أَصْفَرَ ، فَقَالَتْ هُوَ هَرَوِيٌّ ، فَإِذَا هُوَ مَصْبُوغٌ كَانَ لَهُ ثَوْبٌ هَرَوِيٌّ وَسَطٌ ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ الْمُشَارِ إلَيْهِ ، فَالْعَقْدُ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسَمَّى ؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ فِي مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسَمَّى ، وَهُوَ مَعْدُومٌ ، فَكَذَلِكَ بِالْخُلْعِ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسَمَّى ، وَهُوَ ثَوْبٌ هَرَوِيٌّ ، وَالْخُلْعُ عَلَى مِثْلِهِ صَحِيحٌ وَيَنْصَرِفُ إلَى الْوَسَطِ كَمَا فِي الصَّدَاقِ .

( قَالَ ) : وَإِذَا تَزَوَّجَ الْمَرِيضُ امْرَأَةً مَرِيضَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَدَفَعَهَا إلَيْهَا ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهَا ، وَمَهْرُ مِثْلِهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ فَاخْتَلَعَتْ بِهَا مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا ، ثُمَّ مَاتَتْ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ ، وَلَا مَالَ لَهَا غَيْرُهَا ، ثُمَّ مَاتَ الزَّوْجُ بَعْدَهَا مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ ، فَلِوَرَثَةِ الْمَرْأَةِ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفِ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَخَمْسَةُ وَسَبْعُونَ دِرْهَمًا ، وَلِوَرَثَةِ الزَّوْجِ سَبْعُمِائَةٍ وَخَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى أُصُولٍ : أَحَدُهَا أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَكْثَرَ مِنْ صَدَاقِ مِثْلِهَا ، فَالزِّيَادَةُ عَلَى صَدَاقِ الْمِثْلِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ فِي الِاعْتِبَارِ مِنْ الثُّلُثِ ، وَمِقْدَارُ صَدَاقِ مِثْلِهَا لَا يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ ، وَالثَّانِي أَنَّ الْمَرِيضَةَ إذَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِمَالٍ يَكُونُ مُعْتَبَرًا مِنْ ثُلُثِ مَالِهَا ، وَالثَّالِثُ أَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ يُسْقِطُ نِصْفَ الصَّدَاقِ عَنْ الزَّوْجِ شَرْعًا ، ثُمَّ وَجْهُ تَخْرِيجِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ فِي مِقْدَارِ مَهْرِ مِثْلِهَا ، وَهُوَ الْمِائَةُ لَا وَصِيَّةَ مِنْ الزَّوْجِ لَهَا ، وَقَدْ عَادَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ نِصْفُهُ إلَيْهِ بَقِيَ لَهَا خَمْسُونَ ، وَقَدْ أَوْصَتْ بِذَلِكَ لِلزَّوْجِ حِينَ اخْتَلَعَتْ مِنْهُ بِهِ ، فَإِنَّمَا يُسَلَّمُ لِلزَّوْجِ ثُلُثُ ذَلِكَ ، وَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ وَثُلُثَانِ ، فَيَكُونُ حَاصِلُ مَالِ الزَّوْجِ تِسْعَمِائَةٍ وَسِتَّةً وَسِتِّينَ وَثُلُثَيْنِ ، وَقَدْ حَابَاهَا بِأَرْبَعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ فِي أَصْلِ النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ كَانَتْ تِسْعَمِائَةٍ ، وَلَكِنْ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ عَادَ إلَى الزَّوْجِ نِصْفُهَا فَبَقِيَتْ الْمُحَابَاةُ بِأَرْبَعِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ ، وَذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ ، فَتُعْتَبَرُ مُحَابَاتُهُ مِنْ الثُّلُثِ ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُسَلَّمَ لَهَا ثُلُثُ هَذَا الْمِقْدَارِ إلَّا أَنَّهُ قَالَ : إنَّهُ تَنْفُذُ وَصِيَّتُهُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْمَانِ هَذَا الْمِقْدَارِ ؛ لِأَنَّا لَوْ

نَفَّذْنَا فِي ثُلُثِهَا رَجَعَ ثُلُثُ ذَلِكَ إلَى وَرَثَةِ الزَّوْجِ بِالْخُلْعِ ، فَيَزْدَادُ مَالُهُمْ وَتَجِبُ الزِّيَادَةُ فِي تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ لَهَا بِحَسْبِهِ ، فَلَا يَزَالُ يَدُورُ هَكَذَا فَلِقَطْعِ الدَّوْرِ قَالَ : تَنْفُذُ وَصِيَّتُهُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْمَانِهِ .
وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ بِالسِّهَامِ أَنَّك تَحْتَاجُ إلَى مَالٍ يَنْقَسِمُ ثُلُثُهُ أَثْلَاثًا ، وَأَقَلُّ ذَلِكَ تِسْعَةٌ ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ مَالُ الزَّوْجِ عَلَى تِسْعَةِ أَسْهُمٍ ، وَتَنْفُذُ وَصِيَّتُهُ فِي ثُلُثِهِ إلَّا أَنَّ سَهْمًا مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ يَعُودُ إلَى الْوَرَثَةِ بِالْخُلْعِ وَصِيَّةً مِنْهَا لَهُ ، فَيَصِيرُ فِي يَدِ وَرَثَةِ الزَّوْجِ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ وَحَاجَتُهُمْ إلَى سِتَّةٍ ، وَهَذَا السَّهْمُ الزَّائِدُ هُوَ الدَّائِرُ الَّذِي يَسْعَى إلَى الْفَسَادِ ، فَالسَّبِيلُ طَرْحُ هَذَا السَّهْمِ مِنْ قِبَلِ مَنْ خَرَجَ الدَّوْرُ مِنْ قِبَلِهِ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ : سَهْمُ الدَّوْرِ سَاقِطٌ ، وَإِنَّمَا ظَهَرَ هَذَا الدَّوْرُ مِنْ جَانِبِ الْوَرَثَةِ بِزِيَادَةِ حَقِّهِمْ ، فَنَطْرَحُ مِنْ أَصْلِ حَقِّهِمْ سَهْمًا ، فَيَبْقَى حَقُّهُمْ فِي خَمْسَةٍ ، وَحَقُّ الْمَرْأَةِ فِي ثَلَاثَةٍ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةً ؛ فَلِهَذَا جَعَلْنَا مَالَ الزَّوْجِ عَلَى ثَمَانِيَةٍ ، ثُمَّ نَفَّذْنَا وَصِيَّتَهُ لَهَا فِي ثَلَاثَةٍ ، وَيَعُودُ سَهْمٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ إلَى وَرَثَتِهِ بِالْخُلْعِ فَيَصِلُ لِلْوَرَثَةِ سِتَّةٌ ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي ثُلُثِهِ ، فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ ، ثُمَّ وَجْهُ التَّخْرِيجِ مِنْ حَيْثُ الدَّرَاهِمِ أَنَّ مَالَ الزَّوْجِ تِسْعُمِائَةٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ ، فَإِذَا قَسَّمْتَ ذَلِكَ أَثْمَانًا ، فَكُلُّ ثُمُنٍ مِنْ ذَلِكَ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ وَخَمْسَةُ أَسْدَاسٍ ، فَثَلَاثَةُ أَثْمَانِهِ تَكُونُ ثَلَثَمِائَةٍ وَاثْنَيْنِ وَسِتِّينَ وَنِصْفًا تَنْفُذُ الْوَصِيَّةُ فِي الِابْتِدَاءِ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ يَبْقَى لِلْوَرَثَةِ سِتُّمِائَةٍ وَأَرْبَعَةٌ وَسُدُسٌ ، ثُمَّ يَعُودُ إلَيْهِمْ مِنْ جِهَتِهَا مِائَةٌ وَعِشْرُونَ وَخَمْسَةُ أَسْدَاسٍ ، فَيَكُونُ جُمْلَةُ ذَلِكَ

سَبْعَمِائَةٍ وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْوَصِيَّةَ فِي ثَلَثِمِائَةٍ وَاثْنَيْنِ وَسِتِّينَ وَنِصْفٍ ، فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ ، وَحَصَلَ لِوَرَثَةِ الْمَرْأَةِ فِي الِابْتِدَاءِ ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثٌ ، وَبِالْوَصِيَّةِ مِائَتَانِ وَاحِدٌ وَأَرْبَعُونَ وَثُلُثَانِ ، فَيَكُونُ جُمْلَةُ ذَلِكَ مِائَتَيْنِ وَخَمْسَةً وَسَبْعِينَ ، فَاسْتَقَامَ التَّخْرِيجُ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِأَخَوَاتِهَا تَعُودُ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ فِي الْمَرَضِ ، فَيُؤَخَّرُ تَخْرِيجُ سَائِرِ الطُّرُقِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ

بَابُ الْمَشِيئَةِ فِي الطَّلَاقِ ( قَالَ ) رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ شِئْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَذَلِكَ إلَيْهَا مَادَامَ فِي مَجْلِسِهَا لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْوُقُوعَ بِمَشِيئَتِهَا وَذَلِكَ مِنْ عَمَلِ قَلْبِهَا بِمَنْزِلَةِ اخْتِيَارِهَا وَقَدْ اتَّفَقَتْ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنَّ لِلْمُخَيَّرَةِ الْخِيَارَ مَادَامَ فِي مَجْلِسِهَا فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ هَذَا الْحُكْمُ فِيمَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ وَهُوَ الْمَشِيئَةُ وَهَذَا لِأَنَّ الرَّأْيَ الَّذِي يُوجِبُهُ الزَّوْجُ لَهَا مُعْتَبَرٌ بِمَا يَثْبُتُ لَهَا مِنْ الْخِيَارِ شَرْعًا وَهُوَ خِيَارُ الْمُعْتَقَةِ وَذَلِكَ يَتَوَقَّتُ بِمَجْلِسِهَا غَيْرَ أَنَّهَا إنْ شَاءَتْ هُنَا فَهِيَ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً لِأَنَّ الْوُقُوعَ بِلَفْظِ الزَّوْجِ وَقَدْ أَتَى بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ وَإِنْ قَامَتْ قَبْلَ أَنْ تَشَاءَ فَهِيَ امْرَأَتُهُ وَلَا مَشِيئَةَ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ لِانْقِطَاعِ مَجْلِسِهَا بِالْقِيَامِ أَوْ لِوُجُودِ دَلِيلِ الْإِعْرَاضِ عَمَّا فَوَّضَ إلَيْهَا مِنْ الْمَشِيئَةِ وَكَذَلِكَ إنْ أَخَذَتْ فِي عَمَلٍ آخَرَ يُعْرَفُ أَنَّهُ قَطْعٌ لِمَا كَانَا فِيهِ مِنْ ذِكْرِ الطَّلَاقِ لِأَنَّ الْإِعْرَاضَ عَنْ الْمَشِيئَةِ يَتَحَقَّقُ بِاشْتِغَالِهَا بِعَمَلٍ آخَرَ كَمَا يَتَحَقَّقُ بِقِيَامِهَا ، وَقِيَامُ الزَّوْجِ مِنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ لَا يُبْطِلُ مَشِيئَتَهَا ؛ لِأَنَّ قِيَامَهُ دَلِيلُ الرُّجُوعِ فَيَكُونُ كَصَرِيحِ الرُّجُوعِ وَلَوْ رَجَعَ عَمَّا قَالَ كَانَ رُجُوعُهُ بَاطِلًا بِخِلَافِ قِيَامِهَا فَإِنَّهُ دَلِيلُ الرَّدِّ وَلَوْ رَدَّتْ الْمَشِيئَةَ صَحَّ مِنْهَا وَبِهِ فَارَقَ الْبَيْعَ فَإِنَّ الْمُوجِبَ لَوْ قَامَ عَنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ قَبُولِ الْآخَرِ يَبْطُلُ إيجَابُهُ فَكَذَلِكَ يَبْطُلُ بِقِيَامِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ إنْ أَحْبَبْت أَوْ هَوَيْت أَوْ رَضِيت أَوْ أَرَدْت فَأَنْتِ طَالِقٌ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ فِي الْمَعْنَى تَتَقَارَبُ فَإِنَّهُ تَعْلِيقٌ لِلْوُقُوعِ بِاخْتِيَارِهَا وَلِأَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِي لَا تُفَارِقُهَا كَمَشِيئَتِهَا فَيَتَحَقَّقُ مِنْهَا فِي الْمَجْلِسِ وَلَوْ قَالَ طَلِّقِي نَفْسَك إنْ شِئْت أَوْ أَحْبَبْت أَوْ هَوَيْت أَوْ

رَضِيت أَوْ أَرَدْت فَهُوَ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّ هُنَا مَا لَمْ تَقُلْ طَلَّقْت نَفْسِي لَا يَقَعُ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ طَلِّقِي نَفْسَك تَمْلِيكُ الْأَمْرِ مِنْهَا وَقَدْ عَلَّقَهُ بِالْمَشِيئَةِ فَإِذَا قَالَتْ شِئْت صَارَ الْأَمْرُ فِي يَدِهَا لِوُجُودِ الشَّرْطِ فَلَا يَقَعُ مَا لَمْ تُوقِعْ ، وَهُنَاكَ قَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ إيقَاعٌ وَقَدْ عَلَّقَهُ بِالْمَشِيئَةِ فَإِذَا قَالَتْ شِئْت يَتَنَجَّزُ .
وَإِنْ قَالَ إنْ كُنْت تُحِبِّينَنِي أَوْ تَبْغُضِينَنِي فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا مِنْ الْكَلَامِ الَّذِي لَا يَطَّلِعُ عَلَى مَا فِي قَبْلِهَا غَيْرُهَا فَذَلِكَ إلَيْهَا فِي الْمَجْلِسِ وَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهَا اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا إذَا أَنْكَرَهُ الزَّوْجُ ؛ لِأَنَّهَا تَدَّعِي شَرْطَ الطَّلَاقِ وَذَلِكَ مِنْهَا كَدَعْوَى نَفْسِ الطَّلَاقِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ لَا طَرِيقَ لَنَا إلَى مَعْرِفَةِ هَذَا الشَّرْطِ إلَّا مِنْ جِهَتِهَا فَلَا بُدَّ مِنْ قَبُولِ قَوْلِهَا فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ بِحَسَبِ الْمُمَكِّنِ فِي كُلِّ فَصْلٍ وَلَمَّا عَلَّقَ الزَّوْجُ الطَّلَاقَ بِمَا فِي قَلْبِهَا مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ إلَّا بِقَوْلِهَا صَارَ الطَّلَاقُ مُعَلَّقًا بِإِخْبَارِهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ إنْ أَخْبَرْتنِي أَنَّك تُحِبِّينَنِي وَقَدْ أَخْبَرَتْ بِذَلِكَ فَإِنَّمَا أَقَمْنَا نَفْسَ الْخَبَرِ مُقَامَ حَقِيقَةِ مَا فِي قَلْبِهَا لِلتَّيْسِيرِ اسْتِحْسَانًا لِهَذَا وَإِنَّمَا تَوَقَّتَ بِالْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّ إخْبَارَهَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَجْلِسِ كَمَشِيئَتِهَا وَاخْتِيَارِهَا وَلَوْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ مَشِيئَةً فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَشِيئَةِ لَهَا ذَلِكَ مَادَامَ فِي الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ لِلْإِيقَاعِ مِنْهَا .
وَجَوَابُ التَّمْلِيكِ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيِّ طَلِّقْ امْرَأَتِي فَإِنَّ ذَلِكَ تَوْكِيلٌ وَالتَّوْكِيلُ لَا يَتَوَقَّفُ بِالْمَجْلِسِ وَفِي جَانِبِهَا لَيْسَ بِتَوْكِيلٍ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ وَكِيلًا وَلَا رَسُولًا فِي الْإِيقَاعِ عَلَى نَفْسِهَا فَبَقِيَ تَمْلِيكًا لِلْأَمْرِ مِنْهَا

فَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا وَقَالَ الزَّوْجُ أَرَدْت ثَلَاثًا فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ طَلِّقِي نَفْسَك تَفْوِيضٌ وَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ تَمْلِيكًا لِلْأَمْرِ مِنْهَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهَا مَا كَانَ إلَيْهِ وَالتَّفْوِيضُ يَحْتَمِلُ مَعْنَى الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ فَنِيَّةُ الثَّلَاثِ فِيهِ نِيَّةُ الْعُمُومِ وَبَعْدَ مَا صَارَتْ الثَّلَاثُ مُفَوَّضَةً إلَيْهَا يَكُونُ إيقَاعُهَا الثَّلَاثَ كَإِيقَاعِ الزَّوْجِ وَلَوْ قَالَ أَرَدْت وَاحِدَةً لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَقَعُ عَلَيْهَا وَاحِدَةٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ طَلِّقِي نَفْسَك وَاحِدَةً فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعِنْدَهُمَا يَقَعُ عَلَيْهَا وَاحِدَةٌ وَإِنْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ وَقَعَ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ هُمَا يَقُولَانِ أَوْقَعَتْ مَا فَوَّضَ إلَيْهَا وَزَادَتْ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ مَوْجُودَةٌ فِي الثَّلَاثِ فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَتْ طَلَّقْت نَفْسِي وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَكَمَا قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَضَرَّتَهَا وَكَمَا قَالَ لِعَبْدِهِ أَعْتِقْ نَفْسَك فَأَعْتَقَ نَفْسَهُ وَصَاحِبَهُ أَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيِّ بِعْ عَبْدِي هَذَا فَبَاعَهُ مَعَ عَبْدٍ آخَرَ وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُودِ الْوَاحِدَةِ فِي الثَّلَاثِ أَنَّ الثَّلَاثَ آحَادٌ مُجْتَمِعَةٌ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً يَقَعُ وَإِنَّمَا يَصِحُّ إيقَاعُهَا إذَا كَانَ مَا أَوْقَعَتْ مَوْجُودًا فِيمَا فَوَّضَ إلَيْهَا تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك فَقَالَتْ أَبَنْت نَفْسِي يَقَعُ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً وَبِمَا زَادَتْ مِنْ صِفَةِ الْبَيْنُونَةِ لَا تَنْعَدِمُ الْمُوَافَقَةُ فِي أَصْلِ الطَّلَاقِ فَكَذَلِكَ إذَا أَوْقَعَتْ الثَّلَاثُ ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الثَّلَاثِ الْبَيْنُونَةُ الْغَلِيظَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ أَتَتْ بِغَيْرِ مَا فَوَّضَ

إلَيْهَا فَكَانَتْ مُبْتَدِئَةً فَيَتَوَقَّفُ إيقَاعُهَا عَلَى إجَازَةِ الزَّوْجِ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك فَطَلَّقَتْ ضَرَّتَهَا وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الثَّلَاثَ غَيْرُ الْوَاحِدَةِ وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِي مَسْأَلَةِ الشَّهَادَةِ فِيمَا سَبَقَ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَتْ وَاحِدَةٌ وَوَاحِدَةٌ وَوَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّهَا بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ تَكُونُ مُمْتَثِلَةً لِمَا فَوَّضَ وَفِي الْكَلَامِ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ تَكُونُ مُبْتَدِئَةً وَكَذَلِكَ إنْ أَوْقَعَتْ عَلَى نَفْسِهَا وَضَرَّتِهَا .
( فَإِنْ قِيلَ ) فَكَذَلِكَ هُنَا بِقَوْلِهَا طَلَّقْت نَفْسِي تَكُونُ مُمْتَثِلَةً لَوْ اقْتَصَرَتْ عَلَيْهِ فَإِنَّمَا تَكُونُ مُبْتَدِئَةً فِي قَوْلِهَا ثَلَاثًا فَتَلْغُو هَذِهِ الزِّيَادَةُ .
( قُلْنَا ) الطَّلَاقُ مَتَى قُرِنَ بِالْعَدَدِ فَالْوُقُوعُ بِالْعَدَدِ لَا بِلَفْظِ الطَّلَاقِ وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا تَطْلُقُ ثَلَاثًا وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ قَوْلِهِ طَالِقٌ قَبْلَ قَوْلِهِ ثَلَاثًا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ فَإِذَا كَانَتْ مُبْتَدِئَةً فِي كَلِمَةِ الْإِيقَاعِ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ بِدُونِ إجَازَتِهِ وَبِهِ فَارَقَ صِفَةَ الْبَيْنُونَةِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا أَبَنْت نَفْسِي أَيْ طَلَّقْت نَفْسِي تَطْلِيقَةً بَائِنَةً وَأَصْلُ الطَّلَاقِ إنَّمَا يَقَعُ بِقَوْلِهَا طَلَّقْت نَفْسِي لَا بِذِكْرِ صِفَةِ الْبَيْنُونَةِ وَهِيَ فِي ذَلِكَ مُمْتَثِلَةٌ أَمْرُهُ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ غَيْرُ الْوَاحِدَةِ وَلَكِنَّ مِنْ ضَرُورَةِ صَيْرُورَةِ الْأَمْرِ فِي يَدِهَا فِي الثَّلَاثِ وُقُوعُ الْوَاحِدَةِ بِإِيقَاعِهَا فَإِنَّهَا بَعْضُ مَا صَارَ مَمْلُوكًا لَهَا فَإِنَّمَا يَنْفُذُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا تَصَرَّفَتْ فِيمَا مَلَكَتْ وَهُنَا إنَّمَا صَارَتْ الْوَاحِدَةُ فِي يَدِهَا وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ صَيْرُورَةُ الثَّلَاثِ فِي يَدِهَا فَهِيَ فِي إيقَاعِ الثَّلَاثِ غَيْرُ مُتَصَرِّفَةٍ فِيمَا تَمْلِكُ وَلَا مُمْتَثِلَةٍ أَمْرَهُ ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمُخَاطَبَ مَتَى زَادَ عَلَى حَرْفِ الْجَوَابِ كَانَ

مُبْتَدِئًا كَمَا لَوْ قَالَ تَعَالَ تَغَدَّ مَعِي فَقَالَ إنْ تَغَدَّيْت الْيَوْمَ فَعَبْدُهُ كَذَا كَانَ مُبْتَدِئًا حَتَّى لَوْ رَجَعَ إلَى بَيْتِهِ فَتَغَدَّى حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ زَادَ عَلَى حَرْفِ الْجَوَابِ وَمَتَى نَقَصَ لَا يَكُونُ مُبْتَدِئًا وَالْمُخَاطَبَةُ بِالْوَاحِدَةِ إذَا أَوْقَعَتْ الثَّلَاثَ فَقَدْ زَادَتْ عَلَى حَرْفِ الْجَوَابِ وَالْمُخَاطَبَةُ بِالثَّلَاثِ إذَا أَوْقَعَتْ الْوَاحِدَةَ لَمْ تَزِدْ عَلَى حَرْفِ الْجَوَابِ فَلِهَذَا افْتَرَقَا ، يُقَرِّرُهُ أَنَّهُ إذَا فَوَّضَ الثَّلَاثَ إلَيْهَا فَأَوْقَعَتْ وَاحِدَةً فَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى إيقَاعِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ فِي الْمَجْلِسِ وَلَوْ فَعَلَتْ كَانَتْ مُمْتَثِلَةً لَا مَحَالَةَ فَبِتَرْكِهَا إيقَاعَ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ لَا تَخْرُجُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُمْتَثِلَةً فِي الْأُولَى بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْقَعَتْ الثَّلَاثَ وَقَدْ أَمَرَهَا بِالْوَاحِدَةِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا تَقْدِرُ عَلَى الِامْتِثَالِ بَعْدَ هَذَا لِاشْتِغَالِهَا بِغَيْرِ مَا أَمَرَهَا بِهِ .

( قَالَ ) وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ شِئْت فَقَالَتْ قَدْ شِئْت وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ فَهَذَا بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ إنْ شِئْت أَيْ إنْ شِئْت الثَّلَاثَ فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ غَيْرُ مَفْهُومِ الْمَعْنَى بِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُجْعَلَ بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ وَإِذَا جَعَلْنَاهُ بِنَاءً يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ جَعَلَ الشَّرْطَ مَشِيئَتَهَا الثَّلَاثَ فَلَا يَتِمُّ الشَّرْطُ بِمَشِيئَتِهَا الْوَاحِدَةَ وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً إنْ شِئْت فَقَالَتْ شِئْت اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ لَمْ تُوجَدْ مَشِيئَتُهَا الْوَاحِدَةَ فَإِنَّ الثَّلَاثَةَ غَيْرُ الْوَاحِدَةِ وَعِنْدَهُمَا تَقَعُ وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ شَاءَتْ الْوَاحِدَةَ وَزِيَادَةً وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْفَصْلِ الْأَوَّلِ .

( قَالَ ) وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ شِئْت فَقَالَتْ قَدْ شِئْت وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَقَعَ عَلَيْهَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الشَّرْطِ بِآخِرِ كَلَامِهَا فَمَا لَمْ يَتِمَّ الشَّرْطُ لَا يَنْزِلُ الْجَزَاءُ فَلِهَذَا وَقَعَ الثَّلَاثُ عِنْدَ تَمَامِ الشَّرْطِ جُمْلَةً سَوَاء دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَلِأَنَّ الْكَلَامَ الْمَعْطُوفَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضِ يَتَوَقَّفُ أَوَّلُهُ عَلَى آخِرِهِ ، وَبِآخِرِهِ تَتَحَقَّقُ مِنْهَا مَشِيئَةُ الثَّلَاثِ فَكَأَنَّهَا قَالَتْ شِئْت ثَلَاثًا وَلَوْ قَالَتْ شِئْت وَاحِدَةً وَسَكَتَتْ ثُمَّ قَالَتْ شِئْت وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءُ ؛ لِأَنَّ كَلَامَهَا تَفَرَّقَ بِسُكُوتِهَا وَهِيَ فِي الْكَلَامِ الْأَوَّلِ شَاءَتْ غَيْرَ مَا جَعَلَهُ الزَّوْجُ شَرْطًا ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ مَشِيئَتُهَا الثَّلَاثَ وَقَدْ شَاءَتْ الْوَاحِدَةَ وَاشْتِغَالُهَا بِمَشِيئَةٍ أُخْرَى يَكُونُ رَدًّا لِلْمَشِيئَةِ الَّتِي جَعَلَهَا الزَّوْجُ شَرْطًا فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهَا لَا أَشَاءُ وَلَوْ قَالَتْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهَا مَشِيئَةٌ بَعْدَهُ فَكَذَلِكَ هُنَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ كَلَامَهَا مَوْصُولٌ هُنَاكَ وَبِتَأَخُّرِهِ يَبِينُ أَنَّهُ إيجَادٌ لِلشَّرْطِ لَا رَدٌّ لِلْمَشِيئَةِ وَلَوْ قَالَتْ قَدْ شِئْت إنْ شَاءَ أَبِي كَانَ هَذَا بَاطِلًا ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ مَشِيئَتُهَا وَمَا أَتَتْ بِهِ إنَّمَا عَلَّقَتْ مَشِيئَتَهَا بِمَشِيئَةِ أَبِيهَا وَالتَّعْلِيقُ غَيْرُ التَّنْجِيزِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُفَوَّضَ إلَيْهَا تَنْجِيزُ الطَّلَاقِ لَا تَمْلِيكُ التَّعْلِيقِ ثُمَّ اشْتِغَالُهَا بِالتَّعْلِيقِ بِمَنْزِلَةِ قِيَامِهَا فِي خُرُوجِ الْأَمْرِ مِنْ يَدِهَا فَلَا مَشِيئَةَ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ فِي الْمَجْلِسِ وَلَوْ قَالَ لَهَا إذَا شِئْت فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ مَتَى شِئْت كَانَ لَهَا أَنْ تَشَاءَ فِي الْمَجْلِسِ وَبَعْدَ الْقِيَامِ مِنْ الْمَجْلِسِ مَتَى شَاءَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ إذَا وَمَتَى لِلْوَقْتِ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَيَّ وَقْتٍ شِئْت فَيَكُونُ مُوجِبُ هَذَا الْحَرْفِ تَعَدِّي

الْمَشِيئَةِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَجْلِسِ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا التَّكْرَارَ فَكَانَ لَهَا الْمَشِيئَةُ مَرَّةً وَاحِدَةً فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَتْ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ إذَا مَا شِئْت أَوْ مَتَى مَا شِئْت وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ كُلَّمَا شِئْت كَانَ لَهَا ذَلِكَ أَبَدًا كُلَّمَا شَاءَتْ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى حَتَّى يَقَعَ عَلَيْهَا ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلَّمَا تَقْتَضِي التَّكْرَارَ وَإِنْ شَاءَتْ مَرَّةً وَاحِدَةً وَصَارَتْ طَالِقًا وَاحِدَةً وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا كَانَ لَهَا الْمَشِيئَةُ أَيْضًا لِبَقَاءِ بَعْضِ التَّطْلِيقَاتِ الْمَمْلُوكَةِ لَهُ وَلَوْ شَاءَتْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ فَلَا مَشِيئَةَ لَهَا ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ التَّطْلِيقَاتِ الْمَمْلُوكَةَ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا شَيْءٌ بَعْدَ وُقُوعِ الثَّلَاثِ وَفِي هَذَا خِلَافُ زُفَرَ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ وَلَوْ أَنَّهَا شَاءَتْ مَرَّتَيْنِ وَوَقَعَ عَلَيْهَا تَطْلِيقَتَانِ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ عَادَتْ إلَيْهِ تَعُودُ بِثَلَاثٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَهَا الْمَشِيئَةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ لِبَقَاءِ شَيْءٍ مِنْ التَّطْلِيقَاتِ الْمَمْلُوكَةِ لَهُ وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا الْفَرْقَ فِيمَا سَبَقَ أَنَّهُ إذَا بَقِيَ شَيْءٌ مِمَّا تَنَاوَلَهُ عَقْدُهُ وَاسْتَفَادَ مِنْ جِنْسِهِ يَتَعَدَّى حُكْمُ ذَلِكَ الْعَقْدِ إلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْهُ وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ تَشَأْ حَتَّى طَلَّقَهَا الزَّوْجُ ثَلَاثًا فَلَا مَشِيئَةَ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ عَادَتْ إلَيْهِ بَعْدَ الزَّوْجِ بِخِلَافِ مَا لَوْ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ وَلَوْ لَمْ تَشَأْ شَيْئًا وَرَدَّتْ الْمَشِيئَةَ كَانَ رَدُّهَا بَاطِلًا ؛ لِأَنَّ رَدَّهَا إعْرَاضٌ بِمَنْزِلَةِ قِيَامِهَا عَنْ الْمَجْلِسِ وَفِي لَفْظِ كُلَّمَا لَا تَبْطُلُ مَشِيئَتُهَا بِقِيَامِهَا فَكَذَلِكَ بِرَدِّهَا وَهَذَا ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْمَشِيئَةِ فِي حُكْمِ الرَّدِّ كَسَائِرِ الشُّرُوطِ

وَلَوْ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِدُخُولِهَا الدَّارَ فَرَدَّتْ كَانَ رَدُّهَا بَاطِلًا أَلَا تَرَى أَنَّ فِي جَانِبِ الزَّوْجِ جُعِلَ هَذَا فِي اللُّزُومِ وَالتَّعْلِيقِ بِشَرْطٍ آخَرَ سَوَاءً .

( قَالَ ) وَلَوْ قَالَ لَهَا كُلَّمَا شِئْت فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَقَالَتْ شِئْت وَاحِدَةً فَهَذَا بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ كُلَّمَا شِئْت الثَّلَاثَ وَلَوْ قَالَ كُلَّمَا شِئْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً أَوْ قَالَ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَلَمْ يَقُلْ وَاحِدَةً فَشَاءَتْ الثَّلَاثَ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعِنْدَهُمَا تَقَعُ وَاحِدَةٌ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا وَلَوْ قَالَتْ قَدْ شِئْت أَمْسِ تَطْلِيقَةً وَكَذَّبَهَا الزَّوْجُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْ بِمَا لَا تَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فَإِنَّهَا أَخْبَرَتْ بِمَشِيئَةٍ كَانَتْ مِنْهَا أَمْسِ وَلَا يَبْقَى لَهَا ذَلِكَ بَعْدَ مُضِيِّ أَمْسِ .
( فَإِنْ قِيلَ ) أَلَيْسَ أَنَّهَا لَوْ شَاءَتْ فِي الْحَالِ يَصِحُّ مِنْهَا فَقَدْ أَخْبَرَتْ بِمَا تَمْلِكُ إنْشَاءَهُ .
( قُلْنَا ) لَا كَذَلِكَ فَالْمَشِيئَةُ فِي الْحَالِ غَيْرُ مَشِيئَةٍ فِي الْأَمْسِ ، وَكُلُّ مَشِيئَةٍ شَرْطُ تَطْلِيقَةٍ فَهِيَ لَا تَمْلِكُ إنْشَاءَ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ إنَّمَا تَمْلِكُ إنْشَاءَ شَيْءٍ آخَرَ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ الْيَوْمَ أَوْ إنْ كَلَّمَتْ فُلَانًا غَدًا فَقَالَتْ فِي الْغَدِ قَدْ كُنْت دَخَلْت الدَّارَ أَمْسِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا وَإِنْ كَانَتْ تَمْلِكُ الْإِيقَاعَ فِي الْحَالِ بِأَنْ تُكَلِّمَ فُلَانًا ، وَلَوْ قَالَتْ قَدْ شِئْت أَنْ أَكُونَ طَالِقًا غَدًا كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهَا التَّنْجِيزَ فَلَا تَمْلِكُ الْإِضَافَةَ إلَى وَقْتٍ مُنْتَظَرٍ كَمَا لَا تَمْلِكُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ .

( قَالَ ) وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ إنْ شِئْتُمَا فَأَنْتُمَا طَالِقَانِ فَشَاءَتْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى كَانَ بَاطِلًا عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَطْلُقُ الَّتِي شَاءَتْ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ خَاطَبَهَا بِالطَّلَاقِ مُطْلَقًا كَانَ كَلَامُهُ مُتَنَاوِلًا كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَكَذَلِكَ إذَا خَاطَبَهَا بِطَلَاقٍ مُعَلَّقٍ بِالْمَشِيئَةِ يَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت وَلَكِنَّا نَقُولُ مَعْنَى قَوْلِهِ إذَا شِئْتُمَا أَيْ شِئْتُمَا طَلَاقَكُمَا فَبِمَشِيئَةِ إحْدَاهُمَا وُجِدَ بَعْضُ الشَّرْطِ وَبِوُجُودِ بَعْضِ الشَّرْطِ لَا يَنْزِلُ شَيْءٌ مِنْ الْجَزَاءِ كَمَا إذَا قَالَ إذَا دَخَلْتُمَا هَذِهِ الدَّارَ أَوْ كَلَّمْتُمَا فُلَانًا فَفَعَلَتْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى وَعَلَى هَذَا لَوْ شَاءَتَا إيقَاعَ الطَّلَاقِ عَلَى إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى لَمْ تَطْلُقْ ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ مَشِيئَتُهُمَا طَلَاقَهُمَا فَبِمَشِيئَتِهِمَا طَلَاقُ إحْدَاهُمَا يُوجَدُ بَعْضُ الشَّرْطِ وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَتْ إحْدَاهُمَا ثُمَّ شَاءَتْ الْأُخْرَى الطَّلَاقَ كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّهُ تَحَقَّقَ فَوَاتُ بَعْضِ الشَّرْطِ بِمَوْتِ إحْدَاهُمَا ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْأَجْنَبِيَّتَيْنِ وَكَذَلِكَ فِي الْمَحَبَّةِ إذَا قَالَ إنْ أَحْبَبْتُمَا أَنْ أُطَلِّقَكُمَا فَأَحَبَّتَا طَلَاقَ إحْدَاهُمَا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ .

( قَالَ ) قَالَ رَجُلٌ لِامْرَأَتِهِ شَائِي طَلَاقَك يَنْوِي الطَّلَاقَ فَقَالَتْ قَدْ شِئْت فَهِيَ طَالِقٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَلَيْسَ بِطَلَاقٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَشِيئَتَهَا مِنْ عَمَلِ قَلْبِهَا كَاخْتِيَارِهَا وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ اخْتَارِي الطَّلَاقَ فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت وَهُنَاكَ إنْ نَوَى الزَّوْجُ الْإِيقَاعَ يَقَعُ فَكَذَلِكَ هُنَا ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ اخْتَارِي الطَّلَاقَ لِأُطَلِّقكِ أَوْ اخْتَارِي فَتَكُونِي طَالِقًا فَاعْتُبِرَ نِيَّةُ الْإِيقَاعِ فِيهِ فَكَذَلِكَ فِي الْمَشِيئَةِ وَإِنْ قَالَ أَحِبِّي الطَّلَاقَ أَوْ أَرِيدِي الطَّلَاقَ أَوْ اهْوَيْ الطَّلَاقَ فَقَالَتْ قَدْ فَعَلْت كَانَ بَاطِلًا وَإِنْ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ ؛ لِأَنَّ الْإِرَادَةَ وَالْمَحَبَّةَ وَالْهَوَى مِنْ الْعِبَادِ نَوْعُ تَمَنٍّ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَهَا تَمَنِّي الطَّلَاقَ فَقَالَتْ قَدْ تَمَنَّيْت لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ وَفِي الْكِتَابِ أَشَارَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ شَائِي ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ شَائِي الطَّلَاقَ وَاجِبَةٌ فَيَكُونُ مُمَلَّكًا مِنْهَا وَأَحِبِّي وَأَرِيدِي وَاهْوَيْ لَمْ يُمَلِّكْهَا فِيهِ شَيْئًا وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْمَشِيئَةَ فِي صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ أَلْزَمُ فِي اللُّغَةِ مِنْ الْإِرَادَةِ وَالْهَوَى وَالْمَحَبَّةِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَشِيئَةَ لَا تُذْكَرُ مُضَافَةً إلَى غَيْرِ الْعُقَلَاءِ وَقَدْ تُذْكَرُ الْإِرَادَةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ } وَلَيْسَ إلَى الْجِدَارِ مِنْ الْإِرَادَةِ شَيْءٌ ، تَوْضِيحُ الْفَرْقِ أَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الْمُوقِعُ وَلِهَذَا شُرِطَ نِيَّةُ الْإِيقَاعِ مِنْهُ وَلَفْظُ الْمَشِيئَةِ يَمْلِكُ الزَّوْجُ الْإِيقَاعَ بِهِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا شِئْتُ طَلَاقَك بِنِيَّةِ الْإِيقَاعِ يَقَعُ فَكَذَلِكَ إذَا فَوَّضَ إلَيْهَا يَكُونُ مُمَلَّكًا مِنْهَا مَا كَانَ لَهُ فَأَمَّا لَفْظُ الْإِرَادَةِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْهَوَى لَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ الْإِيقَاعَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ أَحْبَبْت طَلَاقَك أَوْ هَوَيْت طَلَاقَك أَوْ أَرَدْت طَلَاقَك لَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ وَإِنْ نَوَى فَكَذَلِكَ لَا

يَصِيرُ مُمَلَّكًا مِنْهَا بِهَذَا اللَّفْظِ شَيْئًا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ أَحْبَبْت فَقَالَتْ قَدْ شِئْت الطَّلَاقَ وَقَعَ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهَا أَتَتْ بِمَا جَعَلَهُ شَرْطًا بَلْ بِأَقْوَى عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَشِيئَةَ مِنْهَا أَقْوَى مِنْ الْمَحَبَّةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت فَقَالَتْ قَدْ أَحْبَبْت أَوْ هَوِيت أَوْ أَرَدْت لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهَا أَتَتْ بِدُونِ مَا جَعَلَهُ شَرْطًا فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ وَمَا لَمْ يَتِمَّ الشَّرْطُ لَا يَنْزِلُ الْجَزَاءُ .

( قَالَ ) وَلَوْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك وَاحِدَةً إنْ شِئْت فَقَالَتْ قَدْ طَلَّقْت نَفْسِي وَاحِدَةً فَهِيَ طَالِقٌ ؛ لِأَنَّ إيقَاعَهَا عَلَى نَفْسِهَا مَشِيئَةٌ مِنْهَا وَزِيَادَةٌ فَيَتِمُّ بِهِ شَرْطُ الْمَشِيئَةِ .

( قَالَ ) وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ شِئْت فَقَالَتْ قَدْ شِئْت إنْ كَانَ كَذَا لِشَيْءٍ مَاضٍ كَانَتْ طَالِقًا ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِشَرْطٍ مَوْجُودٍ يَكُونُ تَنْجِيزًا .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالتَّنْجِيزِ يَمْلِكُ هَذَا النَّوْعَ مِنْ التَّعْلِيقِ بِخِلَافِ التَّعْلِيقِ بِمَا يَكُونُ فِي الْمُسْتَقْبِلِ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ قَالَتْ قَدْ شِئْت إنْ كُنْت زَوْجِي كَانَ ذَلِكَ مَشِيئَةً مِنْهَا وَلَوْ قَالَتْ قَدْ شِئْت إنْ شِئْت فَقَالَ الزَّوْجُ قَدْ شِئْت كَانَ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّهَا عَلَّقْت مَشِيئَتَهَا بِمَشِيئَةٍ مُنْتَظَرَةٍ وَهِيَ مَشِيئَةُ الزَّوْجِ فَكَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا مِنْهَا كَمَا لَوْ عَلَّقْت بِمَشِيئَةِ رَجُلٍ آخَرَ .
( فَإِنْ قِيلَ ) يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ بِقَوْلِ الزَّوْجِ شِئْت ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ بِهَذَا اللَّفْظِ .
( قُلْنَا ) إنَّمَا يَمْلِكُ الْإِيقَاعَ بِمَشِيئَةِ الطَّلَاقِ وَهُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ شَاءَ مَشِيئَتَهَا ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ جَوَابَهَا حَتَّى لَوْ قَالَ شِئْت الطَّلَاقَ نَقُولُ يَقَعُ إذَا نَوَى الطَّلَاقَ وَإِذَا قَالَ لِغَيْرِهِ طَلِّقْ امْرَأَتِي فَهُوَ رَسُولٌ مَعْنَاهُ أَنَّ الْوَكِيلَ فِي الطَّلَاقِ وَالرَّسُولَ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ وَالرِّسَالَةُ لَا تَخْتَصُّ بِالْمَجْلِسِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ الْمَجْلِسِ وَلَوْ قَالَ طَلِّقْهَا إنْ شِئْت كَانَ ذَلِكَ عَلَى الْمَجْلِسِ عِنْدَنَا حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْإِيقَاعَ بَعْدَ قِيَامِهِ مِنْ الْمَجْلِسِ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَمْلِكُ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ إنْ شِئْت فَضْلٌ مِنْ الْكَلَامِ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ إنَّمَا يُطَلِّقُهَا إذَا شَاءَ فَتَغْلُو هَذِهِ الزِّيَادَةُ وَيَبْقَى قَوْلُهُ طَلِّقْهَا وَلَكِنَّا نَقُولُ بِآخِرِ كَلَامِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ مُرَادَهُ تَمْلِيكُ أَمْرِهَا مِنْهُ لَا الرِّسَالَةَ وَجَوَابُ التَّمْلِيكِ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ كَمَا لَوْ خَاطَبَهَا بِهِ ، وَحَاصِلُ هَذَا أَنَّ فِي حَقِّهَا لَا تَتَحَقَّقُ الرِّسَالَةُ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ رَسُولًا إلَى نَفْسِهَا فَيَكُونُ تَمْلِيكًا سَوَاءٌ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك أَوْ قَالَ إنْ شِئْت

وَفِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ تَتَحَقَّقُ الرِّسَالَةُ وَالتَّمْلِيكُ جَمِيعًا فَإِذَا قَالَ طَلِّقْ كَانَ رِسَالَةً وَإِذَا قَالَ إنْ شِئْت كَانَ تَمْلِيكًا لِأَمْرِهَا مِنْهُ وَعَلَى هَذَا نَقُولُ إذَا قَالَ طَلِّقْهَا فَلَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ قَبْلَ الْإِيقَاعِ وَلَوْ قَالَ طَلِّقْهَا إنْ شِئْت لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ كَمَا لَوْ مَلَكَ الْأَمْرَ مِنْهَا وَكَذَلِكَ لَوْ جَعَلَ ذَلِكَ إلَى صَبِيٍّ أَوْ مَعْتُوهٍ ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْعِبَارَةِ يَتَحَقَّقُ مِنْ هَؤُلَاءِ .

( قَالَ ) وَإِنْ قَالَ هِيَ طَالِقٌ إذَا شِئْت فَقَالَ قَدْ شِئْت فَهِيَ طَالِقٌ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَإِنْ قَالَ طَلِّقْهَا إنْ شِئْت فَقَالَ قَدْ شِئْت كَانَ بَاطِلًا حَتَّى يَقُولَ هِيَ طَالِقٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ تَمْلِيكٌ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِهِ مَا لَمْ يَأْتِ بِكَلِمَةِ الْإِيقَاعِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْفَرْقَ فِي التَّمْلِيكِ مِنْهَا فَكَذَلِكَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ وَإِنْ قَالَ طَلِّقْهَا ثَلَاثًا فَقَالَ قَدْ فَعَلْت فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا ؛ لِأَنَّ هَذَا جَوَابُ الْكَلَامِ وَهَذَا لِأَنَّ قَوْلَهُ قَدْ فَعَلْت غَيْرُ مَفْهُومِ الْمَعْنَى بِنَفْسِهِ فَيَصِيرُ مَا تَقَدَّمَ مُعَادًا فِيهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ قَدْ فَعَلَتْ مَا قُلْت مِنْ إيقَاعِ الثَّلَاثِ عَلَيْهَا .

( قَالَ ) وَإِنْ قَالَ لِرَجُلَيْنِ طَلِّقَاهَا فَطَلَّقَهَا أَحَدُهُمَا جَازَ ؛ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ مُجَرَّدُ عِبَارَةٍ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ فَيَنْفَرِدُ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ طَلِّقْ امْرَأَتِي فَوَكَّلَ الْوَكِيلُ غَيْرَهُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ رَضِيَ بِعِبَارَتِهِ لَا بِعِبَارَةِ غَيْرِهِ وَإِنَّمَا جَعَلَهُ رَسُولًا فِي الْإِيقَاعِ لَا فِي الْإِرْسَالِ وَإِنْ قَالَ طَلِّقَاهَا ثَلَاثًا فَطَلَّقَهَا أَحَدُهُمَا وَاحِدَةً وَالْآخَرُ اثْنَتَيْنِ فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا ؛ لِأَنَّ فِعْلَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِعْلِهِمَا وَلَوْ أَوْقَعَ الْوَاحِدَةَ ثُمَّ الِاثْنَتَيْنِ كَانَتْ طَالِقًا ثَلَاثًا وَلَوْ قَالَ طَلِّقَاهَا جَمِيعًا وَلَا يُطَلِّقُ وَاحِدٌ مِنْكُمَا دُونَ صَاحِبِهِ فَطَلَّقَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَقَعْ ؛ لِأَنَّ آخِرَ كَلَامِهِ عَزْلُهُمَا عَنْ الْإِيقَاعِ إلَّا أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَيْهِ وَلَوْ عَزَلَهُمَا عَنْ الْإِيقَاعِ أَصْلًا صَحَّ عَزْلُهُ فَكَذَلِكَ إذَا عَزَلَهُمَا عَنْ الْإِيقَاعِ إلَّا أَنْ يَجْتَمِعَا .

( قَالَ ) وَإِذَا قَالَ لِرَجُلٍ طَلِّقْ امْرَأَتِي ثُمَّ نَهَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنْ عَلِمَ بِالنَّهْيِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوقِعَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ خَاطَبَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ الْإِيقَاعِ وَحُكْمُ الْخِطَابِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُخَاطَبِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ كَخِطَابِ الشَّرْعِ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَمَكُّنَ لَهُ مِنْ الِامْتِثَالِ مَا لَمْ يَعْلَمْ وَالتَّكْلِيفُ بِحَسَبِ الْوُسْعِ وَعَلَى هَذَا قَالَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إذَا جَعَلَ طَلَاقَ امْرَأَتِهِ إلَى رَجُلٍ غَائِبٍ فَطَلَّقَهَا ذَلِكَ الرَّجُلُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِالتَّفْوِيضِ إلَيْهِ لَمْ يَقَعْ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ حُكْمَ ذَلِكَ الْخِطَابِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَالَ لَهُ طَلِّقْهَا إنْ شِئْت كَانَ لَهُ مَجْلِسٌ عَلِمَهُ فَمَا لَمْ يَعْلَمْ لَا يَبْطُلُ بِقِيَامِهِ وَلَكِنَّ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ الْمُوقِعُ لِلطَّلَاقِ مُعَبِّرٌ لَا يَلْحَقُهُ فِي ذَلِكَ عُهْدَةٌ وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ حُكْمُ الطَّلَاقِ فِي حَقِّهِ عَلَى عِلْمِهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ بِإِيقَاعِهِ .

( قَالَ ) وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ طَلِّقِي نَفْسَك ثُمَّ نَهَاهَا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي حَقِّهَا تَمْلِيكٌ لَا إرْسَالٌ وَتَوْكِيلٌ وَكَمَا يَتِمُّ الطَّلَاقُ بِالزَّوْجِ إذَا أَوْقَعَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْهُ فَكَذَلِكَ يَتِمُّ التَّمْلِيكُ بِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْهُ أَوْ هَذَا فِي مَعْنَى التَّعْلِيقِ بِمَشِيئَتِهَا أَوْ تَخْيِيرِهِ لَهَا فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْهُ بَعْدَ تَمَامِهِ .

( قَالَ ) وَلَوْ قَالَ لَهَا إنْ شِئْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَقَالَتْ نَعَمْ كَانَ هَذَا بَاطِلًا ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ مَشِيئَتُهَا وَقَوْلُهَا نَعَمْ لَيْسَ بِمَشِيئَةٍ مِنْهَا لِلطَّلَاقِ فَمَا لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ بِقَوْلِهَا شِئْت لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَتْ قَدْ قَبِلْت ؛ لِأَنَّ قَبُولَهَا لَيْسَ بِمَشِيئَةٍ لِلطَّلَاقِ .

( قَالَ ) وَلَوْ قَالَ لِرَجُلَيْنِ إذَا شِئْتُمَا فَفُلَانَةُ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَشَاءَ أَحَدُهُمَا وَاحِدَةً وَالْآخَرُ اثْنَتَيْنِ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ مَشِيئَتُهُمَا الثَّلَاثُ وَلَمْ يَشَأْ أَحَدٌ مِنْهُمَا الثَّلَاثَ وَبِدُونِ تَمَامِ الشَّرْطِ لَا يَنْزِلُ الْجَزَاءُ .

( قَالَ ) وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْت وَشَاءَ فُلَانٌ فَقَالَتْ قَدْ شِئْت إنْ شَاءَ فُلَانٌ وَقَالَ فُلَانٌ قَدْ شِئْت كَانَ هَذَا بَاطِلًا ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ مَشِيئَتُهَا وَلَمْ يُوجَدْ ؛ لِأَنَّهَا عَلَّقَتْ مَشِيئَتَهَا بِمَشِيئَةِ فُلَانٍ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مِثْلَ هَذَا التَّعْلِيقِ لَا يَكُونُ مَشِيئَةً مِنْهَا وَبِمَشِيئَةِ فُلَانٍ إنَّمَا وُجِدَ بَعْضُ الشَّرْطِ وَإِنْ قَالَ لَهَا إنْ شِئْت فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ لِأُخْرَى طَلَاقُك مَعَ طَلَاقِ هَذِهِ ثُمَّ شَاءَتْ تِلْكَ الطَّلَاقَ طَلُقَتْ وَطَلُقَتْ هَذِهِ مَعَهَا ثَلَاثًا إنْ كَانَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ الطَّلَاقُ ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ طَلَاقَ الْأُولَى بِمَشِيئَتِهَا فَقَوْلُهُ لِلْأُخْرَى طَلَاقُك مَعَ طَلَاقِ هَذِهِ كَلَامٌ مُحْتَمَلٌ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ طَلَاقُك مَعَ طَلَاقِ هَذِهِ فِي مِلْكِي وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ طَلَاقُك مَعَ طَلَاقِ هَذِهِ مُتَعَلِّقٌ بِذَلِكَ الشَّرْطِ فَيَنْوِي فِي ذَلِكَ فَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ وَقَعَ عَلَيْهِمَا بِمَشِيئَةِ الْأُولَى وَإِنْ قَالَ لَمْ أَنْوِ الطَّلَاقَ كَانَ مَدِينًا فِي الْقَضَاءِ لِكَوْنِ كَلَامِهِ مُحْتَمَلًا وَإِنْ قَالَ إذَا شِئْت فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ لِامْرَأَةٍ لَهُ أُخْرَى أَنْتِ طَالِقٌ إذَا طَلَّقَتْ فُلَانَةُ ثُمَّ شَاءَتْ فُلَانَةُ الطَّلَاقَ طَلَقَتْ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَلَمْ تَطْلُقْ الْأُخْرَى ؛ لِأَنَّ الْوُقُوعَ عَلَى الْأُولَى عِنْدَ مَشِيئَتِهَا بِإِيقَاعِ الزَّوْجِ وَإِيقَاعُهُ سَبَقَ يَمِينَهُ فِي حَقِّ الثَّانِيَةِ وَشَرْطُ الْحِنْثِ يُرَاعَى وُجُودُهُ بَعْدَ الْيَمِينِ وَلَوْ قَالَ أَوَّلًا إنْ طَلَّقْت فُلَانَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ لِفُلَانَةَ أَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْتِ فَشَاءَتْ الطَّلَاقَ وَقَعَ عَلَيْهِمَا عَلَى فُلَانَةَ بِوُجُودِ الْمَشِيئَةِ وَعَلَى الْأُخْرَى بِوُجُودِ شَرْطِ الْحِنْثِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُطَلِّقًا فُلَانَةَ بِإِيقَاعٍ مِنْهُ بَعْدَ الْيَمِينِ بِطَلَاقِهَا وَذَلِكَ شَرْطُ الْحِنْثِ فِي حَقِّهَا .

( قَالَ ) وَلَوْ قَالَ لَهَا إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ فَهِيَ طَالِقٌ إنْ شَاءَتْ فَتَزَوَّجَهَا فَلَهَا الْمَشِيئَةُ حِينَ تَعْلَمُ بِذَلِكَ فِي مَجْلِسِهَا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ إنْ تَزَوَّجْت فُلَانَةَ شَرْطٌ وَقَوْلُهُ فَهِيَ طَالِقٌ إنْ شَاءَتْ جَزَاءً وَالْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنَجِّزِ فَكَأَنَّهُ بَعْدَ مَا تَزَوَّجَهَا قَالَ هِيَ طَالِقٌ إنْ شَاءَتْ فَلِهَذَا تُوقَفُ عَلَى مَجْلِسِ عِلْمِهَا وَإِنْ شَاءَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَتِلْكَ الْمَشِيئَةُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَهُ فَقَبْلَ التَّزَوُّجِ لَمْ يَصِرْ فِي يَدِهَا شَيْءٌ فَلِهَذَا تَلْغُو مَشِيئَتُهَا قَبْلَ التَّزَوُّجِ وَفِي كُلِّ فَصْلٍ تَتَوَقَّفُ مَشِيئَتُهَا بِالْمَجْلِسِ إنْ كَانَتْ قَائِمَةً فَقَعَدَتْ لَمْ تَبْطُلْ مَشِيئَتُهَا وَإِنْ كَانَتْ قَاعِدَةً فَقَامَتْ بَطَلَتْ مَشِيئَتُهَا ؛ لِأَنَّ حَالَةَ الْقُعُودِ أَجْمَعُ عَلَى الرَّأْيِ مِمَّا قَبْلَ الْقُعُودِ ؛ لِأَنَّ الْقُعُودَ يُفْرِغُ الرَّأْيَ وَالْقِيَامَ يُفَرِّقُهُ فَإِنَّمَا انْتَقَلَتْ إلَى الْقُعُودِ لِلتَّرَوِّي وَالنَّظَرِ فِي أَمْرِهَا فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إعْرَاضًا مِنْهَا فَإِذَا قَامَتْ فَذَلِكَ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ مِنْهَا .

( قَالَ ) وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا إنْ شِئْت فَقَالَتْ السَّاعَةُ قَدْ شِئْت كَانَ بَاطِلًا وَإِنَّمَا لَهَا الْمَشِيئَةُ فِي الْغَدِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهَا إنْ شِئْت فَأَنْتِ طَالِقٌ غَدًا وَنَوَى السَّاعَةَ بِذَلِكَ أَوْ قَالَ إنْ شِئْت السَّاعَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ غَدًا فَإِنَّ لَهَا الْمَشِيئَةَ فِي مَجْلِسِهَا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ إنْ شِئْت شَرْطٌ وَقَوْلُهُ فَأَنْتِ طَالِقٌ غَدًا جَزَاءً فَقَدْ عَلَّقَ بِالشَّرْطِ طَلَاقًا مُضَافًا إلَى الْغَدِ وَلَوْ عَلَّقَ بِالْمَشِيئَةِ طَلَاقًا مُنَجَّزًا يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْمَشِيئَةِ فِي الْحَالِ حَتَّى إذَا قَامَتْ بَطَلَتْ مَشِيئَتُهَا فَكَذَلِكَ إذَا عَلَّقَ بِهَا طَلَاقًا مُضَافًا وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ بَدَأَ بِإِضَافَةِ الطَّلَاقِ إلَى الْغَدِ ثُمَّ جَعَلَ ذَلِكَ الطَّلَاقَ مُعَلَّقًا بِمَشِيئَتِهَا فَيُرَاعَى وُجُودُ الْمَشِيئَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا يُرَاعَى وُجُودُ الْمَشِيئَةِ فِي الْغَدِ ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِمَشِيئَتِهَا فِي الْمَعْنَى كَالتَّنْجِيزِ فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ وُجُودُهُ وَقْتَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَفِي الْفَصْلَيْنِ الْوُقُوعُ فِي الْغَدِ فَلِذَلِكَ يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْمَشِيئَةِ فِي الْغَدِ وَعَنْ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ فِي الْفَصْلَيْنِ يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْمَشِيئَةِ فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ إنْ شِئْت شَرْطٌ وَالشَّرْطُ وَإِنْ تَأَخَّرَ ذِكْرُهُ كَانَ مُتَقَدِّمًا مَعْنًى ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ لَا يَنْزِلُ الْجَزَاءُ فَكَأَنَّهُ بَدَأَ بِذِكْرِ الْمَشِيئَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ غَدًا وَبَيْنَ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا إنْ دَخَلْت الدَّارَ ثُمَّ إنَّمَا يَقَعُ فِي قَوْلِهِ إنْ شِئْت السَّاعَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ غَدًا إذَا قَالَتْ شِئْت أَنْ أَكُونَ غَدًا طَالِقًا وَإِنْ قَالَتْ شِئْت أَنْ يَقَعَ الطَّلَاقُ الْيَوْمَ كَانَتْ هَذِهِ الْمَشِيئَةُ بَاطِلَةً وَلَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ الْيَوْمَ وَلَا غَدًا ؛ لِأَنَّهَا شَاءَتْ غَيْرَ مَا جَعَلَهُ الزَّوْجُ

مُفَوِّضًا إلَى مَشِيئَتِهَا فَإِنَّهُ جَعَلَ الطَّلَاقَ فِي الْغَدِ مُفَوَّضًا إلَى مَشِيئَتِهَا فَإِذَا شَاءَتْ أَنْ يَقَعَ الْيَوْمَ فَقَدْ اشْتَغَلَتْ بِشَيْءٍ آخَرَ فَكَانَ ذَلِكَ كَقِيَامِهَا عَنْ الْمَجْلِسِ .

( قَالَ ) وَلَوْ قَالَ إنْ شِئْت فَأَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْت فَهُمَا مَشِيئَتَانِ إحْدَاهُمَا عَلَى الْمَجْلِسِ بِقَوْلِهِ إنْ شِئْت وَالْأُخْرَى مُطْلَقَةٌ بِقَوْلِهِ إذَا شِئْت وَلَكِنَّ الْمَشِيئَةَ الْمُطْلَقَةَ مُعَلَّقَةٌ بِالْمَشِيئَةِ الْمُؤَقَّتَةِ فَإِذَا قَالَتْ فِي الْمَجْلِسِ شِئْت أَنْ أَكُونَ طَالِقًا إذَا شِئْت فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ وَصَارَتْ الْمَشِيئَةُ الْمُطْلَقَةُ مُنَجَّزَةً فَكَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْت فَمَتَى شَاءَتْ بَعْدَ هَذَا طَلُقَتْ وَإِنْ لَمْ تَقُلْ شَيْئًا حَتَّى قَامَتْ مِنْ الْمَجْلِسِ فَلَا مَشِيئَةَ لَهَا ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْمَشِيئَةِ الْمُطْلَقَةِ لَمْ يُوجَدْ وَالْمَشِيئَةَ الْمُقَيَّدَةُ بَطَلَتْ بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ وَيَسْتَوِي إنْ صَرَّحَ بِذِكْرِ السَّاعَةِ فَقَالَ إنْ شِئْت السَّاعَةَ فَأَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْت أَوْ لَمْ يَتَكَلَّمْ بِالسَّاعَةِ وَنَوَاهَا قَالَ لِأَنَّ هَذَا كَلَامٌ لَهُ وَجْهَانِ فِي الْقَضَاءِ وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ نَوَى مَا دَامَتْ فِي الْمَجْلِسِ فَهُوَ كَمَا نَوَى وَإِنْ نَوَى بَعْدَهُ فَهُوَ كَمَا نَوَى وَمُرَادُهُ أَنَّ كَلِمَةَ إذَا قَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى أَنْ وَقَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى مَتَى فَإِنْ جُعِلَتْ بِمَعْنَى أَنْ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ تَكْرَارًا وَإِنْ جُعِلَتْ بِمَعْنَى مَتَى كَانَ تَصْرِيحًا بِالْمَشِيئَةِ الْمُطْلَقَةِ فَيَنْوِي فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَا إذَا قَالَ إذَا شِئْت فَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت وَذَكَرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ سَوَاءٌ فَهَذَا كَالْأَوَّلِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْمُعْتَبَرُ هُنَا الْمَشِيئَةُ الْمُطْلَقَةُ فَسَوَاءٌ شَاءَتْ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ بَعْدَهُ طَلُقَتْ فَإِنَّ الْمَشِيئَةَ الْمُطْلَقَةَ أَعَمُّ فَلَا تَظْهَرُ بَعْدَهَا الْمَشِيئَةُ الْمُؤَقَّتَةُ .

( قَالَ ) وَإِنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ كَيْفَ شِئْت فَهِيَ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا مَشِيئَةَ لَهَا إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا وَقَعَتْ تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَالْمَشِيئَةُ إلَيْهَا فِي الْمَجْلِسِ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنْ شَاءَتْ الْبَائِنَةُ وَقَدْ نَوَى الزَّوْجُ ذَلِكَ كَانَتْ بَائِنَةً وَإِنْ شَاءَتْ ثَلَاثًا وَقَدْ نَوَى الزَّوْجُ ذَلِكَ كَانَتْ طَالِقًا ثَلَاثًا وَإِنْ شَاءَتْ وَاحِدَةً بَائِنَةً وَقَدْ نَوَى الزَّوْجُ ثَلَاثًا فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَإِنْ شَاءَتْ ثَلَاثًا وَقَدْ نَوَى الزَّوْجُ وَاحِدَةً بَائِنَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ مَا لَمْ تَشَأْ فَإِذَا شَاءَتْ فَالتَّفْرِيعُ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ كَيْف شِئْت عَتَقَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا مَشِيئَةَ لَهُ وَلَا يَعْتِقُ عِنْدَهُمَا مَا لَمْ يَشَأْ هُمَا يَقُولَانِ الزَّوْجُ تَكَلَّمَ بِطَلَاقِ الْمَشِيئَةِ فَلَا يَقَعُ بِدُونِ مَشِيئَتِهَا كَقَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ كَمْ شِئْت أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ حَيْثُ شِئْت أَوْ أَيْنَ شِئْت لَا يَقَعُ مَا لَمْ تَشَأْ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ حَرْفَ كَيْفَ وَإِنْ كَانَ اسْتِخْبَارًا عَنْ الْوَصْفِ وَالْحَالِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا كَانَ أَصْلُهُ مَوْجُودًا قَبْلَ الِاسْتِخْبَارِ دُونَ مَا لَمْ يَكُنْ أَصْلُهُ مَوْجُودًا فَيُقَامُ الْأَصْلُ مَقَامَ الصِّفَةِ فِيمَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا قَبْلَ كَلَامِهِ فَلِهَذَا تَعَلَّقَ أَصْلُ الطَّلَاقِ بِمَشِيئَتِهَا وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ إنَّمَا يَتَأَخَّرُ إلَى مَشِيئَتِهَا مَا عَلَّقَ الزَّوْجُ بِمَشِيئَتِهَا دُونَ مَا لَمْ يُعَلِّقْ وَكَيْفَ لَا يَرْجِعُ إلَى أَصْلِ الطَّلَاقِ فَيَكُونُ مُنَجِّزًا أَصْلَ الطَّلَاقِ وَمُفَوِّضًا لِلصِّفَةِ إلَى مَشِيئَتِهَا بِقَوْلِهِ كَيْفَ شِئْت إلَّا أَنَّ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَفِي الْعِتْقِ لَا مَشِيئَةَ لَهَا فِي الصِّفَةِ بَعْدَ إيقَاعِ

الْأَصْلِ فَيَلْغُو تَفْوِيضُهُ الْمَشِيئَةَ فِي الصِّفَةِ إلَيْهَا أَيْضًا وَفِي الْمَدْخُولِ بِهَا لَهَا الْمَشِيئَةُ فِي الصِّفَةِ بَعْدَ وُقُوعِ الْأَصْلِ أَنْ تَجْعَلَهَا بَائِنًا أَوْ ثَلَاثَةً عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَا أَمْلَيْنَاهُ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى فَيَصِحُّ تَفْوِيضُهُ إلَيْهَا فَإِنْ شَاءَتْ فِي مَجْلِسِهَا أَنْ تَكُونَ بَائِنَةً أَوْ ثَلَاثًا جَازَ إذَا نَوَى الزَّوْجُ مَا شَاءَتْ .
وَإِنْ نَوَى الزَّوْجُ الْوَاحِدَةَ الْبَائِنَةَ فَشَاءَتْ الثَّلَاثَةَ فَقَدْ شَاءَتْ غَيْرَ مَا نَوَى فَلِهَذَا كَانَ الْوَاقِعُ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً تَوْضِيحُهُ أَنَّ الِاسْتِخْبَارَ عَنْ وَصْفِ الشَّيْءِ وَحَالِهِ لَمَّا كَانَ مِنْ ضَرُورَتِهِ وُجُودُ أَصْلِهِ تَقَدَّمَ وُقُوعُ أَصْلِ الطَّلَاقِ فِي ضِمْنِ تَفْوِيضِهِ الْمَشِيئَةَ فِي الصِّفَةِ إلَيْهَا فَإِنَّ الِاسْتِخْبَارَ عَنْ وَصْفِ الشَّيْءِ قَبْلَ وُجُودِ أَصْلِهِ مُحَالٌ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ .
يَقُولُ خَلِيلِي كَيْفَ صَبْرُك بَعْدَنَا فَقُلْت وَهَلْ صَبْرٌ فَيُسْأَلُ عَنْ كَيْفَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ كَمْ شِئْت ؛ لِأَنَّ الْكَمِّيَّةَ اسْتِخْبَارٌ عَنْ الْعَدَدِ فَيَقْتَضِي تَفْوِيضُ الْعَدَدِ إلَى مَشِيئَتِهَا وَأَصْلُ الْعَدَدِ فِي الْمَعْدُودَاتِ الْوَاحِدُ وَبِخِلَافِ قَوْلِهِ حَيْثُ شِئْت وَأَيْنَ شِئْت ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَكَانِ وَالطَّلَاقُ إذَا وَقَعَ فِي مَكَان يَكُونُ وَاقِعًا فِي الْأَمْكِنَةِ كُلِّهَا فَكَانَ ذَلِكَ تَعْلِيقَ أَصْلِ الطَّلَاقِ بِمَشِيئَتِهَا وَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ كُلُّهَا عَلَى الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تُنْبِئُ عَنْ الْوَقْتِ فَيَتَوَقَّتُ بِالْمَجْلِسِ كَقَوْلِهِ إنْ شِئْت وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ زَمَانَ شِئْت أَوْ حِينَ شِئْت فَقَامَتْ مِنْ ذَلِكَ الْمَجْلِسِ لَمْ تَبْطُلْ الْمَشِيئَةُ ؛ لِأَنَّ زَمَانَ وَحِينَ عِبَارَةٌ عَنْ الْوَقْتِ فَكَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْت أَوْ مَتَى شِئْت

( قَالَ ) وَإِذَا قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَمْسِ إنْ شِئْت فَلَهَا الْمَشِيئَةُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقُلْ إنْ شِئْت كَانَ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا فِي الْحَالِ وَكَانَ قَوْلُهُ أَمْسِ لَغْوًا فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ إنْ شِئْت يَكُونُ كَلَامُهُ تَعْلِيقًا لِلطَّلَاقِ فِي الْحَالِ بِمَشِيئَتِهَا فَلَهَا الْمَشِيئَةُ مَا دَامَتْ فِي الْمَجْلِسِ وَإِنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ إذَا شِئْت أَوْ مَتَى شِئْت أَوْ كُلَّمَا شِئْت فَذَلِكَ إلَيْهَا مَتَى شَاءَتْ اعْتِبَارًا لِلطَّلَاقِ بِالْجُعْلِ بِالطَّلَاقِ بِغَيْرِ جُعْلٍ وَهَذَا لِأَنَّ فِي الطَّلَاقِ بِجُعْلٍ يُعْتَبَرُ قَبُولُهَا وَهِيَ بِالْمَشِيئَةِ تَكُونُ قَابِلَةً وَلَمَّا كَانَ حَرْفُ إذَا وَمَتَى لِلْوَقْتِ فَقَدْ عُلِّقَ الطَّلَاقُ بِجُعْلٍ بِقَبُولِهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ يَكُونُ فَسَوَاءٌ قَبِلَتْ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ بَعْدَهُ بِمَشِيئَتِهَا وَقَعَ الطَّلَاقُ وَلَزِمَهَا الْمَالُ وَإِنْ قَالَ إنْ شِئْت فَهَذَا عَلَى الْمَجْلِسِ كَمَا لَوْ كَانَ الطَّلَاقُ بِغَيْرِ جُعْلٍ فَإِنْ قَالَتْ فِي الْمَجْلِسِ قَدْ شِئْت وَقَعَ الطَّلَاقُ وَلَزِمَهَا الْمَالُ وَإِنْ قَامَتْ قَبْلَ أَنْ تَشَاءَ فَهِيَ امْرَأَتُهُ .

( قَالَ ) وَإِذَا قَالَ لَهَا إذَا شَاءَ فُلَانٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ وَفُلَانٌ مَيِّتٌ أَوْ كَانَ حَيًّا فَمَاتَ سَاعَتئِذٍ وَالزَّوْجُ يَعْلَمُ بِذَلِكَ أَوْ لَا يَعْلَمُ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ أَمَّا إذَا كَانَ حَيًّا فَمَاتَ فُلَانٌ .
الشَّرْطُ مَشِيئَتُهُ وَقَدْ فَاتَ بِمَوْتِهِ وَبِفَوَاتِ الشَّرْطِ يَمْتَنِعُ نُزُولُ الْجَزَاءِ وَأَمَّا إذَا كَانَ مَيِّتًا فَلِأَنَّهُ عَلَّقَ الطَّلَاقَ بِشَرْطٍ لَا كَوْنَ لَهُ فَيَكُونُ تَحْقِيقًا لِلنَّفْيِ كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ هَذَا الْجِدَارُ أَوْ إنْ تَكَلَّمَتْ الْمَوْتَى أَوْ إنْ تَكَلَّمَتْ هَذِهِ الْحَصَاةُ يَكُونُ تَحْقِيقًا لِلنَّفْيِ لَا إيقَاعًا وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ إذَا شَاءَ الْجِنُّ أَوْ مَا أَشْبَهَ هَذَا مِنْ خَلْقٍ لَا يُرَى وَلَا يَظْهَرُ وَلَا تُعْلَمُ مَشِيئَتُهُ هَذَا تَحْقِيقٌ لِلنَّفْيِ وَتَأْثِيرُهُ فِي إخْرَاجِ الْكَلَامِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً وَلَوْ قَالَ إذَا شَاءَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ غَائِبٌ فَمَاتَ وَلَا يَعْلَمُ أَنَّهُ شَاءَ أَوْ لَمْ يَشَأْ لَمْ تَطْلُقْ كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ تَكَلَّمَ فُلَانٌ بِطَلَاقِك فَمَاتَ فُلَانٌ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ ذَلِكَ مِنْهُ لَمْ تَطْلُقْ ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِالشَّرْطِ لَا يَنْزِلُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِوُجُودِ الشَّرْطِ .

( قَالَ ) وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كُنْت تُحِبِّينَ كَذَا لِشَيْءٍ يَعْلَمُ أَنَّهَا تُحِبُّهُ أَوْ لَا تُحِبُّهُ مِثْلَ الْمَوْتِ وَالْعَذَابِ فَقَالَتْ أَنَا أُحِبُّ ذَلِكَ فَهِيَ طَالِقٌ إذَا قَالَتْ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا يَعْلَمُ أَنَّهَا لَا تُحِبُّهُ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا وَلَا تَطْلُقُ ؛ لِأَنَّا نَتَيَقَّنُ بِكَذِبِهَا فَإِنَّ أَحَدًا لَا يُحِبُّ الْعَذَابَ فِي النَّارِ وَلَا الْمَوْتَ فِي الدُّنْيَا وَالْمُخَبِّرُ عَنْ الشَّيْءِ إذَا كَانَ مُتَّهَمًا بِالْكَذِبِ لَا يُقْبَلُ خَبَرُهُ فَعِنْدَ التَّيَقُّنِ بِالْكَذِبِ أَوْلَى وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا مَحَبَّتُهَا تَكُونُ بِقَلْبِهَا وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فَيُقَامُ خَبَرُهَا بِذَلِكَ مَقَامَ حَقِيقَتِهِ تَيْسِيرًا وَصَارَ كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا إنْ أَخْبَرَتْنِي أَنَّك تُحِبِّينَ الْمَوْتَ وَالْعَذَابَ وَقَدْ أَخْبَرَتْ بِذَلِكَ مَعَ أَنَّ فِي خَبَرِهَا احْتِمَالَ الصِّدْقِ وَقَدْ يَبْلُغُ ضِيقُ الصَّدْرِ بِالْمَرْءِ وَسُوءُ الْحَالِ دَرَجَةً يُحِبُّ فِيهَا الْمَوْتَ وَقَدْ تَحْمِلُهَا شِدَّةُ بُغْضِهَا لِلزَّوْجِ عَلَى أَنْ تُؤْثِرَ الْعَذَابَ وَالْمَوْتَ عَلَى صُحْبَتِهِ وَذَلِكَ مَحْسُوسٌ وَقَدْ تَحْمِلُهَا شِدَّةُ الْبُغْضِ أَوْ الْغَيْرَةِ عَلَى أَنْ تَقْتُلَ نَفْسَهَا وَهَلْ فِي ذَلِكَ إلَّا إيثَارُ الْعَذَابِ وَالْمَوْتِ عَلَى صُحْبَتِهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهَا إنْ كُنْت تُبْغِضِينَ كَذَا لِشَيْءٍ يَعْلَمُ أَنَّهَا تُحِبُّهُ مِثْلَ الْجَنَّةِ وَالْغِنَى فَقَالَتْ أَنَا أُبْغِضُهُ فَهُوَ كَالْأَوَّلِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَإِنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كُنْت تُحِبِّينَ كَذَا فَقَالَتْ لَسْت أُحِبُّهُ وَهِيَ كَاذِبَةٌ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الظَّاهِرَ وَهُوَ الْإِخْبَارُ قَامَ مَقَامَ الْمَعْنَى الْخَفِيِّ فَيَدُورُ الْحُكْمُ مَعَ السَّبَبِ الظَّاهِرِ وُجُودًا وَعَدَمًا وَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْمَعْنَى الْخَفِيِّ وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ كُنْت أَنَا أُحِبُّ

ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ لَسْت أُحِبُّ ذَلِكَ وَهُوَ كَاذِبٌ فَهِيَ امْرَأَتُهُ وَيَسَعُهُ أَنْ يَطَأَهَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَيَسَعُهَا الْمُقَامُ مَعَهُ وَهَذَا مُشْكِلٌ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لَا يَعْرِفُ مَا فِي قَلْبِهَا حَقِيقَةً يَعْرِفُ مَا فِي قَلْبِهِ وَلَكِنَّ الطَّرِيقَ مَا قُلْنَا أَنَّ مَا فِي قَلْبِهِ وَمَا فِي قَلْبِهَا لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالسَّبَبِ وَهُوَ الْإِخْبَارُ فَإِذَا أَخْبَرَ بِخِلَافِ مَا جَعَلَهُ شَرْطًا لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ الْمَحَبَّةُ وَالْبُغْضُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَإِنْ قَالَ لَهَا إنْ كُنْت أُحِبُّ طَلَاقَك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ لَسْت أُحِبُّ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَقُلْ شَيْئًا فَهِيَ امْرَأَتُهُ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ وُقُوعِ طَلَاقِهَا إخْبَارُهُ بِمَحَبَّةِ طَلَاقِهَا فَإِذَا لَمْ يَقُلْ شَيْئًا لَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ وَإِنْ قَالَ لَسْت أُحِبُّهُ فَقَدْ أَخْبَرَ بِضِدِّ مَا جَعَلَهُ شَرْطًا فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَإِنْ كَانَ يُحِبُّ ذَلِكَ حَقِيقَةً وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهَا إنْ كُنْت تُحِبِّينَ طَلَاقَك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَشَرْطُ الْوُقُوعِ إخْبَارُهَا بِمَحَبَّةِ الطَّلَاقِ مَا دَامَتْ فِي الْمَجْلِسِ حَتَّى إذَا قَامَتْ قَبْلَ أَنْ تَقُولَ شَيْئًا لَمْ تَطْلُقْ وَإِنْ كَانَتْ تُحِبُّ ذَلِكَ بِقَلْبِهَا لِانْعِدَامِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْخَبَرُ وَكَذَلِكَ إنْ قَالَتْ لَا أُحِبُّهُ وَهِيَ كَاذِبَةٌ لَمْ تَطْلُقْ ؛ لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْ بِضِدِّ مَا هُوَ شَرْطُ الطَّلَاقِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ إنْ كُنْت تُحِبِّينَ الطَّلَاقَ بِقَلْبِك أَوْ تَهْوَيْنَهُ أَوْ تُرِيدِينَهُ أَوْ تَشْتَهِينَهُ بِقَلْبِك دُونَ لِسَانِك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَقَالَتْ لَا أَشَاءُ وَلَا أُحِبُّ وَلَا أَهْوَى وَلَا أُرِيدُ وَلَا أَشْتَهِي فَهِيَ امْرَأَتُهُ ؛ لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْ بِضِدِّ مَا هُوَ شَرْطُ الطَّلَاقِ وَلَا تُصَدَّقُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى خِلَافِ هَذَا الْقَوْلِ إمَّا لِلتَّنَاقُضِ أَوْ ؛ لِأَنَّ بِالْخَبَرِ الْأَوَّلِ قَدْ تَمَّ شَرْطُ بِرِّهِ وَبَعْدَ تَمَامِ شَرْطِ الْبِرِّ فِي الْيَمِينِ لَا يُتَصَوَّرُ الْحِنْثُ وَإِنْ سَكَتَتْ وَلَمْ تَقُلْ شَيْئًا

حَتَّى قَامَتْ فَهِيَ امْرَأَتُهُ ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ لَمْ يُوجَدْ وَهُوَ إخْبَارُهَا فِي الْمَجْلِسِ وَإِنْ كَانَ فِي قَلْبِهَا خِلَافُ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ فَإِنَّهُ يَسَعُهَا أَنْ تُقِيمَ مَعَهُ فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَا يَسَعُهَا ذَلِكَ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الشَّرْطَ مَحَبَّتَهَا بِقَلْبِهَا حِينَ صَرَّحَ بِهِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِخَبَرِهَا بِخِلَافِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْ كَلَامِهِ مَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى مَعْرِفَتِهِ فَأَمَّا أَنْ يَقُومَ خَبَرُهَا مُقَامَ حَقِيقَةِ مَا فِي قَلْبِهَا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُعَبِّرُ عَمَّا فِي قَلْبِهَا لِسَانُهَا أَوْ لَمَّا جَعَلَ الشَّرْطَ مَا لَا طَرِيقَ لَنَا إلَى مَعْرِفَتِهِ حَقِيقَةً كَانَ ذَلِكَ تَحْقِيقًا لِلنَّفْيِ كَمَا بَيَّنَّا مِنْ نَظَائِرِهِ فِيمَا سَبَقَ .

( قَالَ ) وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ أَيَّتُكُمَا شَاءَتْ فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَشَاءَتَا جَمِيعًا فَهُمَا طَالِقَانِ وَإِنْ شَاءَتْ إحْدَاهُمَا وَسَكَتَتْ الْأُخْرَى فَاَلَّتِي شَاءَتْ طَالِقٌ ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ أَيُّ تَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُخَاطَبِينَ عَلَى الِانْفِرَادِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا } وَلَمْ يَقُلْ يَأْتُونِي وَيُقَالُ أَيُّكُمْ فَعَلَ كَذَا وَلَا يُقَالُ فَعَلُوا وَلَا فَعَلْتُمْ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ يَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدَةٍ عَلَى الِانْفِرَادِ صَارَتْ مَشِيئَةُ كُلِّ وَاحِدَةٍ شَرْطًا لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا عَلَى الِانْفِرَادِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ إنْ شِئْتُمَا عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَإِنْ شَاءَتَا وَقَالَ الزَّوْجُ إنَّمَا عَنَيْت أَحَدًا كَمَا لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي لَفْظِ الْعُمُومِ فَإِنْ كَانَ عَنَى وَاحِدَةً مِنْهُمَا بِعَيْنِهَا فَارَقَ تِلْكَ الْوَاحِدَةَ وَإِنْ عَنَى بِغَيْرِ عَيْنِهَا يَمْسِكُ أَيَّتَهمَا شَاءَ وَفَارَقَ الْأُخْرَى وَلَا يَسَعُ امْرَأَتَيْهِ أَنْ تُقِيمَا مَعَهُ ؛ لِأَنَّهُمَا يَتْبَعَانِ الظَّاهِرَ فَكَمَا لَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ فَكَذَلِكَ لَا يَسَعُهُمَا أَنْ يُصَدِّقَاهُ وَإِنْ قَالَ أَشَدُّكُمَا حُبًّا لِي أَوْ لِلطَّلَاقِ طَالِقٌ أَوْ قَالَ أَشَدُّكُمَا بُغْضًا لِي أَوْ لِلطَّلَاقِ طَالِقٌ فَادَّعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا أَنَّهَا أَشَدُّ حُبًّا أَوْ بُغْضًا فِي ذَلِكَ وَكَذَّبَهُمَا الزَّوْجُ لَمْ تَطْلُقْ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تَدَّعِي شَرْطَ الطَّلَاقِ وَالزَّوْجُ يُنْكِرُ ذَلِكَ وَقَدْ يَكُونَانِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ لَا يُحِبَّانِ وَلَا يَبْغُضَانِ ( فَإِنْ قِيلَ ) لِمَاذَا لَا يُقَامُ هُنَا إخْبَارُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَقَامَ حَقِيقَةِ كَوْنِهَا أَشَدَّ حُبًّا أَوْ بُغْضًا .
( قُلْنَا ) لَا طَرِيقَ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إلَى مَعْرِفَةِ مَا فِي قَلْبِ صَاحِبَتِهَا وَبِدُونِ ذَلِكَ لَا يُعْرَفُ أَنَّهَا أَشَدُّ حُبًّا أَوْ بُغْضًا فَتَكُونُ فِي الْإِخْبَارِ

مُجَازَفَةً فَلِهَذَا لَا يُقَامُ الْخَبَرُ مُقَامَ حَقِيقَةِ الشَّرْطِ تَوْضِيحُهُ أَنَّا لَمَّا أَقَمْنَا هُنَا الْخَبَرَ مُقَامَ حَقِيقَةِ الشَّرْطِ جَعَلْنَاهُمَا طَالِقَيْنِ وَنَحْنُ نَتَيَقَّنُ أَنَّهُ طَلَّقَهُمَا إنَّمَا طَلَّقَ أَشَدَّهُمَا حُبًّا لَهُ أَوْ بُغْضًا لَهُ وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِمَا جَمِيعًا وَلِهَذَا لَا تَطْلُقُ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الْخِيَارِ ( قَالَ ) وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ اخْتَارِي فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فِي الْقِيَاسِ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ ؛ لِأَنَّ التَّفْوِيضَ إلَيْهَا إنَّمَا يَصِحُّ فِيمَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ مُبَاشَرَتَهُ بِنَفْسِهِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ إيقَاعَ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا بِهَذَا اللَّفْظِ حَتَّى لَوْ قَالَ اخْتَرْتُك مِنْ نَفْسِي أَوْ اخْتَرْت نَفْسِي مِنْك لَا يَقَعُ شَيْءٌ فَلَا يَمْلِكُ التَّفْوِيضَ إلَيْهَا بِهَذَا اللَّفْظِ أَيْضًا وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ لِآثَارِ الصَّحَابَةِ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَجَابِرٍ وَزَيْدٍ وَعَائِشَةَ قَالُوا فِي الرَّجُلِ يُخْبِرُ امْرَأَتَهُ أَنَّ لَهَا الْخِيَارَ مَا دَامَتْ فِي مَجْلِسِهَا ذَلِكَ فَإِنْ قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا فَلَا خِيَارَ لَهَا وَلِأَنَّ الزَّوْجَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَسْتَدِيمَ نِكَاحَهُمْ أَوْ يُفَارِقَهَا فَيَمْلِكَ أَنْ يُسَوِّيَهَا بِنَفْسِهِ فِي حَقِّهِ بِأَنْ يُخَيِّرَهَا { وَقَدْ خَيَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ حِينَ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ } } ثُمَّ كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَبْطُلَ خِيَارُهَا بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ مِنْ الزَّوْجِ مُطْلَقٌ وَالْمُطْلَقُ فِيمَا يَحْتَمِلُ التَّأْبِيدَ مُتَأَبِّدٌ وَلَكِنَّا تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ لِآثَارِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَلِأَنَّ الْخِيَارَ الطَّارِئَ لَهَا عَلَى النِّكَاحِ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ مُعْتَبَرٌ بِالْخِيَارِ الطَّارِئِ شَرْعًا وَهُوَ خِيَارُ الْمُعْتَقَةِ وَذَلِكَ يَتَوَقَّتُ بِالْمَجْلِسِ فَكَذَلِكَ هَذَا لَهَا الْخِيَارُ مَا بَقِيَتْ فِي الْمَجْلِسِ وَإِنْ تَطَاوَلَ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ ؛ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ قَدْ يَطُولُ وَقَدْ يَقْصُرُ .
أَلَا تَرَى أَنَّ حُكْمَ قَبْضِ بَدَلِ الصَّرْفِ وَرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ لَمَّا تَوَقَّتَ بِالْمَجْلِسِ لَمْ يَفْتَرِقْ الْحَالُ بَيْنَ أَنْ يَطُولَ أَوْ يَقْصُرَ فَإِذَا قَامَتْ أَوْ أَخَذَتْ فِي عَمَلٍ يَعْرِفُ أَنَّهُ قَطْعٌ لِمَا كَانَتْ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ بَطَلَ خِيَارُهَا ؛ لِأَنَّ

اشْتِغَالَهَا بِعَمَلٍ آخَرَ يَقْطَعُ الْمَجْلِسَ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَجْلِسَ يَكُونُ مَجْلِسَ مُنَاظَرَةٍ ثُمَّ يَنْقَلِبُ مَجْلِسَ أَكْلٍ إذَا اشْتَغَلُوا بِهِ ثُمَّ مَجْلِسَ الْقِتَالِ إذَا اقْتَتَلُوا وَلِأَنَّ الذَّهَابَ عَنْ الْمَجْلِسِ إنَّمَا كَانَ مُبْطِلًا لِخِيَارِهَا لِوُجُودِ دَلِيلِ الْإِعْرَاضِ عَمَّا فُوِّضَ إلَيْهَا وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِاشْتِغَالِهَا بِعَمَلٍ آخَرَ وَكَذَلِكَ بِقِيَامِهَا وَإِنْ لَمْ تَذْهَبْ ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ يُفَرِّقُ الرَّأْيَ وَبِهِ فَارَقَ الصَّرْفَ وَالسَّلَمَ فَإِنَّ بِمُجَرَّدِ الْقِيَامِ قَبْلَ الذَّهَابِ هُنَاكَ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِدَلِيلِ الْإِعْرَاضِ ثَمَّ وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ الِافْتِرَاقُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَإِنْ كَانَتْ قَاعِدَةً حِينَ خَيَّرَهَا فَاضْطَجَعَتْ بَطَلَ خِيَارُهَا فِي قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي مَالِكٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ الِاضْطِجَاعَ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ وَالتَّهَاوُنِ بِمَا خَيَّرَهَا وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَضْطَجِعُ إذَا أَرَادَ أَنْ يُرَوِّيَ النَّظَرَ فِي أَمْرٍ وَلَوْ كَانَتْ مُتَّكِئَةً حِينَ خَيَّرَهَا فَاسْتَوَتْ قَاعِدَةً لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا ؛ لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْإِقْبَالِ عَلَى مَا حَزَبَهَا مِنْ الْأَمْرِ .
وَإِنْ كَانَتْ قَاعِدَةً فَاتَّكَأَتْ فَفِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا ؛ لِأَنَّ الِاتِّكَاءَ نَوْعُ جِلْسَةٍ فَكَأَنَّهَا كَانَتْ مُتَرَبِّعَةً فَاحْتَبَتْ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَبْطُلُ خِيَارُهَا ؛ لِأَنَّ الِاتِّكَاءَ بِمَنْزِلَةِ الِاضْطِجَاعِ ؛ لِأَنَّهُ إظْهَارٌ لِلتَّهَاوُنِ بِمَا خَيَّرَهَا وَإِذَا خَيَّرَهَا وَقَالَ لَمْ أُرِدْ بِهِ الطَّلَاقَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ اخْتَارِي كَلَامٌ مُحْتَمِلٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ اخْتَارِي نَفَقَةً أَوْ كِسْوَةً أَوْ دَارًا لِلسُّكْنَى وَفِي الْكَلَامِ الْمُحْتَمِلِ الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الطَّلَاقَ مَعَ يَمِينِهِ

لِكَوْنِهِ مُتَّهَمًا فِي ذَلِكَ وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ فَإِنْ كَانَ قَالَ لَهَا اخْتَارِي فَقَالَتْ اخْتَرْت لَا يَقَعُ شَيْءٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِهِ وَلَا فِي كَلَامِهَا مَا يُوجِبُ التَّخْصِيصَ وَإِزَالَةَ الْإِبْهَامِ وَالطَّلَاقُ لَا يَقَعُ بِمُجَرَّدِ الْقَصْدِ مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهَا اخْتَارِي نَفْسَك فَقَالَتْ اخْتَرْت أَوْ قَالَ اخْتَارِي فَقَالَتْ اخْتَرْت نَفْسِي ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ فِي كَلَامِ أَحَدِهِمَا تَنْصِيصٌ عَلَى التَّخْصِيصِ فَيَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ عِنْدَ النِّيَّةِ ثُمَّ الْمُخَيَّرَةُ إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ إلَّا عَلَى قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَقُولُ يَقَعُ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَكَأَنَّهُ جَعَلَ عَيْنَ هَذَا اللَّفْظِ طَلَاقًا فَقَالَ إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَالْوَاقِعُ بِهِ طَلَاقٌ لَا يَرْفَعُ الزَّوْجِيَّةَ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا بَلْ نَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهَا إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَا شَيْءَ وَهَذَا لِحَدِيثِ { عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاخْتَرْنَاهُ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ طَلَاقًا } وَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَوَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ عِنْدَنَا وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَلَى قَوْلِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَعَلَى قَوْلِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَثَلَاثٌ وَكَأَنَّهُ حَمَلَ هَذَا اللَّفْظَ عَلَى أَتَمِّ مَا يَكُونُ مِنْ الِاخْتِيَارِ وَعُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَمَلَا عَلَى أَدْنَى مَا يَكُونُ مِنْهُ وَهُوَ التَّطْلِيقَةُ الرَّجْعِيَّةُ وَلَكِنَّا نَأْخُذُ فِي هَذَا بِقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَهَا نَفْسَهَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا زَالَ مِلْكُ الزَّوْجِ عَنْهَا وَصَارَتْ مَالِكَةً أَمْرَ نَفْسِهَا وَذَلِكَ بِالْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ وَلَيْسَ فِي هَذَا اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَى الثَّلَاثِ ؛

لِأَنَّ حُكْمَ مَالِكِيَّتِهَا أَمْرَ نَفْسِهَا لَا يَخْتَلِفُ بِالثَّلَاثِ وَالْوَاحِدَةِ الْبَائِنَةِ وَلِهَذَا قُلْنَا وَإِنْ نَوَى الثَّلَاثَ بِهَذَا اللَّفْظِ لَا تَقَعُ إلَّا وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا مُجَرَّدُ نِيَّةِ الْعَدَدِ مِنْهُ وَقَوْلُهُ اخْتَارِي أَمْرٌ بِالْفِعْلِ فَلَا يَحْتَمِلُ مَعْنَى الْعَدَدِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتِ بَائِنٌ فَنِيَّةُ الثَّلَاثِ إنَّمَا تَصِحُّ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ نَوَى بِهِ نَوْعًا مِنْ الْبَيْنُونَةِ وَهُنَا الِاخْتِيَارُ لَا يَتَنَوَّعُ فَبَقِيَ هَذَا مُجَرَّدَ نِيَّةِ الْعَدَدِ .

( قَالَ ) وَالتَّخْيِيرُ فِي السَّفِينَةِ كَالتَّخْيِيرِ فِي الْبَيْتِ ؛ لِأَنَّ السَّفِينَةَ فِي حَقِّ رَاكِبِهَا كَالْبَيْتِ لَا يَجْرِ بِهَا بَلْ هِيَ تَجْرِي بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ } .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إيقَافِهَا مَتَى شَاءَ فَلَهَا الْخِيَارُ مَا دَامَتْ فِي مَجْلِسِهَا بِخِلَافِ مَا إذَا خَيَّرَهَا وَهِيَ رَاكِبَةٌ فَسَارَتْ الدَّابَّةُ بَعْدَ الْخِيَارِ شَيْئًا يَبْطُلُ خِيَارُهَا ؛ لِأَنَّ سَيْرَ الدَّابَّةِ مُضَافٌ إلَى رَاكِبِهَا حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ إيقَافِهَا مَتَى شَاءَ فَكَانَ ذَلِكَ كَمَشِيئَتِهَا فِي حُكْمِ تَبَدُّلِ الْمَجْلِسِ إلَّا أَنْ تَكُونَ الدَّابَّةُ وَاقِفَةً أَوْ سَائِرَةً فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا مُتَّصِلًا بِتَخْيِيرِ الزَّوْجِ مِنْ غَيْرِ سُكُوتٍ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ فَحِينَئِذٍ يَصِحُّ اخْتِيَارُهَا ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِسُكُوتِهَا بَعْدَ تَخْيِيرِ الزَّوْجِ وَلَمْ يُوجَدْ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَعَهَا عَلَى تِلْكَ الدَّابَّةِ أَوْ كَانَا فِي مَحْمِلٍ وَاحِدٍ وَهَكَذَا الْجَوَابُ فِي الْبَيْعِ إنْ اتَّصَلَ قَبُولُ الْمُشْتَرِي بِإِيجَابِ الْبَائِعِ مِنْ غَيْرِ سَكْتَةٍ بَيْنَهُمَا فِي هَذَا الْفَصْلِ يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ وَإِلَّا فَلَا

وَإِنْ خَيَّرَهَا وَهِيَ فِي صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ فَأَتَمَّتْ صَلَاتَهَا لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهَا ؛ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ عَنْ قَطْعِ الصَّلَاةِ قَبْلَ إتْمَامِهَا فَلَا تَتَمَكَّنُ مِنْ الِاخْتِيَارِ مَا لَمْ تَفْرُغْ وَدَلِيلُ الْإِعْرَاضِ بِتَرْكِ الِاخْتِيَارِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ وَالْوَتْرُ فِي هَذَا كَالْمَكْتُوبَةِ ؛ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْ قَطْعِهَا قَبْلَ تَمَامٍ فَأَمَّا فِي التَّطَوُّعِ إذَا كَانَتْ فِي الشَّفْعِ الْأَوَّلِ فَأَتَمَّتْ ذَلِكَ الشَّفْعَ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا ؛ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْ إبْطَالِ الْعَمَلِ وَالرَّكْعَةُ الْوَاحِدَةُ لَا تَكُونُ صَلَاةً مُعْتَبَرَةً كَمَا قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَاَللَّهِ مَا أَجَزْت رَكْعَةً قَطُّ وَإِنْ تَحَوَّلَتْ إلَى الشَّفْعِ الثَّانِي بَطَلَ خِيَارُهَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ شَفْعٍ مِنْ التَّطَوُّعِ صَلَاةٌ عَلَى حِدَةٍ فَاشْتِغَالُهَا بِالشَّفْعِ الثَّانِي دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ افْتَتَحَتْ الصَّلَاةَ بَعْدَ مَا خَيَّرَهَا الزَّوْجُ وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَرْبَعِ قَبْلَ الظُّهْرِ إذَا كَانَتْ فِي الشَّفْعِ الْأَوَّلِ حِينَ خَيَّرَهَا فَأَتَمَّتْ أَرْبَعًا لَمْ يَسْقُطْ خِيَارُهَا ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَرْبَعَ تُؤَدَّى بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ عَادَةً .
وَإِنْ كَانَتْ قَاعِدَةً فَدَعَتْ بِطَعَامٍ فَطَعِمَتْ يَبْطُلُ خِيَارُهَا ؛ لِأَنَّ مَجْلِسَهَا تَبَدَّلَ حِينَ دَعَتْ بِطَعَامٍ فَقَدْ صَارَ مَجْلِسُهَا مَجْلِسَ الْأَكْلِ وَهَذَا دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ وَالتَّهَاوُنِ مِنْهَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَكَلَتْ شَيْئًا يَسِيرًا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَدْعُوَ بِالطَّعَامِ فَذَلِكَ الْقَدْرُ لِقِلَّتِهِ لَا يُبَدِّلُ الْمَجْلِسَ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ بَلْ ذَلِكَ مِنْهَا تَفْرِيغُ نَفْسِهَا لِمَا حَزَبَهَا وَكَذَلِكَ إنْ شَرِبَتْ مَاءً ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا شَرِبَتْ لِتَتَمَكَّنَ مِنْ الْكَلَامِ فَفِي حَالَةِ الْمُشَاجَرَةِ قَدْ يَجِفُّ فَمُ الْمَرْءِ فَلَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَلَامِ مَا لَمْ يَشْرَبْ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ بَلْ ذَلِكَ مِنْهَا تَفْرِيغُ نَفْسِهَا وَلَوْ

نَامَتْ أَوْ امْتَشَطَتْ أَوْ اغْتَسَلَتْ أَوْ اخْتَضَبَتْ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ فَهَذَا كُلُّهُ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ لِاشْتِغَالِهَا بِعَمَلٍ آخَرَ لَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الِاخْتِيَارِ وَكَذَلِكَ إنْ جَامَعَهَا فَتَمْكِينُهَا مِنْ أَدَلِّ الدَّلَائِلِ عَلَى إعْرَاضِهَا وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَهَا مِنْ مَجْلِسِهَا إمَّا لِأَنَّهَا طَاوَعَتْهُ فِي الْقِيَامِ أَوْ لِأَنَّهَا تَرَكَتْ الِاخْتِيَارَ حَتَّى أَقَامَهَا فَذَلِكَ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ مِنْهَا وَكَذَلِكَ هَذَا كُلُّهُ فِي قَوْلِهِ أَمْرُك بِيَدِك وَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت لِتَوَقُّتِهِمَا بِالْمَجْلِسِ وَإِنْ لَبِسَتْ ثِيَابَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَقُومَ لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهَا ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَلْبَسُ لِتَكُونَ مُسْتَتِرَةً مِنْهُ إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَلَا يَكُونُ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ وَكَذَلِكَ إذَا دَعَتْ شُهُودًا ؛ لِأَنَّهَا تَقْصِدُ بِذَلِكَ إشْهَادَهُمْ عَلَى اخْتِيَارِ أَمْرِ نَفْسِهَا وَكَذَلِكَ إذَا قَالَتْ اُدْعُوا إلَيَّ أَبِي وَأُمِّي ؛ لِأَنَّهَا تَقْصِدُ بِذَلِكَ أَنْ تَسْتَشِيرَهُمَا فَلَا يَكُونَ ذَلِكَ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ مِنْهَا وَالِاسْتِشَارَةُ فِي مِثْلِ هَذَا حَسَنٌ عَلَى مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إنِّي أَعْرِضُ عَلَيْك أَمْرًا فَلَا تُحْدِثِي فِيهِ شَيْئًا حَتَّى تَسْتَشِيرِي أَبَوَيْك ثُمَّ تَلَا عَلَيْهَا آيَةَ التَّخْيِيرِ وَخَيَّرَهَا فَقَالَتْ أَفِي هَذَا أَسْتَشِيرُ أَبَوَيَّ أَنَا أَخْتَارُ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ } وَكَذَلِكَ إنْ سَبَّحَتْ أَوْ قَرَأَتْ آيَةً أَوْ نَحْوَهَا مِنْ الْقُرْآنِ فَلَا يَكُونُ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ مِنْهَا وَقَدْ يَفْعَلُ الْمَرْءُ ذَلِكَ لِلِاسْتِخَارَةِ فَلَا يَبْطُلُ بِهِ مَا صَارَ فِي يَدِهَا مِنْ الْخِيَارِ وَالْأَمْرِ وَالْمَشِيئَةِ .

( قَالَ ) وَإِذَا خَيَّرَهَا أَوْ جَعَلَ أَمْرَهَا إلَيْهَا فَقَالَتْ قَدْ طَلَّقْتُك فَهُوَ بَاطِلٌ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الزَّوْجَ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلطَّلَاقِ وَرَوَيْنَا فِيهِ حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ

( قَالَ ) وَإِذَا قَالَ اخْتَارِي ثُمَّ اخْتَارِي ثُمَّ اخْتَارِي يَنْوِي الطَّلَاقَ بِهَذَا كُلِّهِ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَهِيَ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ ؛ لِأَنَّ الْوُقُوعَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ عِنْدَ اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا يَكُونُ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَإِنَّ اخْتِيَارَهَا نَفْسَهَا جَوَابٌ لِلْكَلِمَاتِ الثَّلَاثِ وَالتَّرْتِيبُ بِحَرْفِ ثُمَّ فِي كَلَامِ الزَّوْجِ فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ تَرْتِيبًا فِي الْوُقُوعِ ؛ لِأَنَّ الْوُقُوعَ بِاخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا وَلَوْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا بِالْأُولَى قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ بَانَتْ بِالْأُولَى وَلَمْ يَقَعْ بِالثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْبَائِنَ لَا يَلْحَقُ الْبَائِنَ وَلِأَنَّهَا مَلَكَتْ أَمْرَ نَفْسِهَا حِينَ بَانَتْ بِالْأُولَى فَلَا يَكُونُ كَلَامُهُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ إيجَابًا بَلْ إخْبَارًا عَنْ حَالِهَا أَنَّهَا مَالِكَةٌ أَمْرَ نَفْسِهَا وَهُوَ صَادِقٌ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ هُنَاكَ كَلَامَهُ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ إيجَابٌ ؛ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَمْلِكَ أَمْرَ نَفْسِهَا .

( قَالَ ) وَلَوْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي اخْتَارِي اخْتَارِي فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَقَالَ الزَّوْجُ نَوَيْت بِالْأُولَى الطَّلَاقَ وَبِالْأُخْرَيَيْنِ أَنْ أُفْهِمَهَا لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ وَبَانَتْ بِثَلَاثٍ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ إيجَابٌ صَحِيحٌ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ وَلَكِنَّهُ يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْوَاحِدَ قَدْ يُكَرَّرُ لِلتَّأَكُّدِ وَتَفْهِيمِ الْمُخَاطَبِ وَلَوْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت فَلَمَّا قَامَتْ عَنْ الْمَجْلِسِ قَالَتْ عَنَيْت نَفْسِي لَمْ تُصَدَّقْ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ خَرَجَ مِنْ يَدِهَا بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ فَإِنَّمَا أَخْبَرَتْ بِمَا لَا تَمْلِكُ إنْشَاءَهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَوْ قَالَتْ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ أَرَدْت نَفْسِي أَنَّ ذَلِكَ يَصِحُّ مِنْهَا لِبَقَائِهَا فِي الْمَجْلِسِ كَمَا لَوْ سَكَتَتْ حَتَّى الْآنَ ثُمَّ قَالَتْ اخْتَرْت نَفْسِي وَلَكِنَّهُ قَالَ فِي التَّعْلِيلِ قَدْ خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا حِينَ تَكَلَّمَتْ بِذَلِكَ فَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهَا وَإِنْ قَالَتْ فِي الْمَجْلِسِ أَرَدْت نَفْسِي لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّ اشْتِغَالَهَا بِكَلَامٍ مُبْهَمٍ دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ وَالتَّهَاوُنِ وَإِنْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي نَفْسَك فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت فَهَذَا جَوَابٌ وَهِيَ طَالِقٌ ؛ لِأَنَّ جَوَابَهَا بِنَاءً عَلَى خِطَابِ الزَّوْجِ فَمَا تَقَدَّمَ فِي الْخِطَابِ يَصِيرُ كَالْمُعَادِ فِي الْجَوَابِ فَكَأَنَّهَا قَالَتْ اخْتَرْت نَفْسِي وَإِذَا خَيَّرَهَا بَعْدَ ذِكْرِ الطَّلَاقِ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا ثُمَّ قَالَ لَمْ أَنْوِ بِهِ الطَّلَاقَ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ هَذَا فِي غَضَبٍ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي فُصُولِ الْكِنَايَاتِ وَكَمَا لَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي فَكَذَلِكَ لَا يَسَعُ الْمَرْأَةَ أَنْ تُقِيمَ مَعَهُ إلَّا بِنِكَاحٍ مُسْتَقْبَلٍ .
وَإِذَا قَالَ لَهَا اخْتَارِي ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً بَائِنَةً بَطَلَ الْخِيَارُ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مَالِكَةً أَمْرَ نَفْسِهَا بِمَا أَوْقَعَ

عَلَيْهَا وَإِنَّمَا كَانَتْ تَخْتَارُ أَمْرَ نَفْسِهَا لِهَذَا الْمَقْصُودِ فَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بَعْدَ مَا مَلَكَتْ أَمْرَ نَفْسِهَا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَائِنَةً إنْ شِئْت فَقَالَتْ قَدْ شِئْت سَقَطَ الْخِيَارُ ؛ لِأَنَّهَا مَلَكَتْ أَمْرَ نَفْسِهَا وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا كَانَ الْخِيَارُ عَلَى حَالِهِ ؛ لِأَنَّهَا بِهَذَا الطَّلَاقِ لَا تَصِيرُ مَالِكَةً أَمْرَ نَفْسِهَا وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْأَمْرِ بِالْيَدِ وَذَكَرَ فِي الْأَمَالِي أَنَّهُ إذَا قَالَ لَهَا اخْتَارِي إذَا شِئْت أَوْ أَمْرُك بِيَدِك إذَا شِئْت ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً بَائِنَةً ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا أَنَّهَا لَا تَطْلُقُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ أَوْقَعَ بِنَفْسِهِ مَا فَوَّضَ إلَيْهَا فَيَكُونُ ذَلِكَ إخْرَاجًا لِلْأَمْرِ مِنْ يَدِهَا وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَطْلُقُ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً ؛ لِأَنَّ التَّفْوِيضَ قَدْ صَحَّ فَلَا يَبْطُلُ بِزَوَالِ الْمِلْكِ إلَّا أَنَّهَا بَعْدَ زَوَالِ الْمِلْكِ كَانَتْ لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ الِاخْتِيَارِ لِكَوْنِهَا مَالِكَةً أَمْرَ نَفْسِهَا فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ بِالْعَقْدِ فَهِيَ عَلَى خِيَارِهَا وَمَا قَالَهُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ مُتَعَدِّدٌ فَلَا يَتَعَيَّنُ مَا أَوْقَعَهُ الزَّوْجُ لِمَا فَوَّضَهُ إلَيْهَا كَمَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ بِعْ قَفِيزًا مِنْ هَذِهِ الصُّبْرَةِ ثُمَّ بَاعَ بِنَفْسِهِ قَفِيزًا لَا يَنْعَزِلُ الْوَكِيلُ .

( قَالَ ) وَإِذَا قَالَ لَهَا اخْتَارِي الْأَزْوَاجَ أَوْ اخْتَارِي أَهْلَك أَوْ أَبَوَيْك فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت الْأَزْوَاجَ أَوْ أَبِي أَوْ أَهْلِي وَقَدْ عَنِيَ الزَّوْجُ الطَّلَاقَ فِي الْقِيَاسِ لَا تَطْلُقُ ؛ لِأَنَّهَا مَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا وَقَدْ كَانَ الْقِيَاسُ فِي أَصْلِ هَذَا اللَّفْظِ أَنْ لَا يَقَعَ بِهِ شَيْءٌ تَرَكْنَا الْقِيَاسَ لِآثَارِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَإِنَّمَا وَرَدَ الْأَثَرُ فِي اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا فَمَا سِوَى ذَلِكَ يَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ هِيَ طَالِقٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا فَإِنَّهَا إنَّمَا تَخْتَارُ الْأَزْوَاجَ إذَا مَلَكَتْ أَمْرَ نَفْسِهَا وَإِنَّمَا تَتَمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى بَيْتِ أَبِيهَا وَأَهْلِهَا إذَا مَلَكَتْ أَمْرَ نَفْسِهَا فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى اخْتِيَارِهَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ اخْتَارِي أُخْتك أَوْ أَخَاك أَوْ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْك فَاخْتَارَتْ ذَلِكَ وَهُوَ يَنْوِي الطَّلَاقَ فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيُؤْخَذُ فِيهِ بِالْقِيَاسِ وَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ وَلَوْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي فَقَالَتْ أَخْتَارُ نَفْسِي فِي الْقِيَاسِ لَا تَطْلُقُ ؛ لِأَنَّ كَلَامَهَا وَعْدٌ وَلَيْسَ بِإِيجَابٍ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك فَقَالَتْ أَنَا أُطَلِّقُ نَفْسِي لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ تَطْلُقُ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا أَخْتَارُ وَعْدٌ صُورَةً وَإِيجَابُ مَعْنًى وَالْعَادَةُ الظَّاهِرُ فِي هَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ الْحَالُ دُونَ الِاسْتِقْبَالِ يَقُولُ الرَّجُلُ فُلَانٌ يَخْتَارُ كَذَا وَأَنَا أَخْتَارُ كَذَا وَالشَّاهِدُ يَقُولُ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي أَشْهَدُ وَالْمُؤَذِّنُ يَقُولُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَالْمُرَادُ بِهِ التَّحْقِيقُ دُونَ الْوَعْدِ وَلَمْ يُوجَدْ مِثْلُ هَذِهِ الْعَادَةِ فِي قَوْلِهَا أَنَا أُطَلِّقُ نَفْسِي فَلِهَذَا يُؤْخَذُ هُنَاكَ بِالْقِيَاسِ وَلَوْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي فَقَالَتْ قَدْ فَعَلْت لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ كَمَا لَوْ قَالَتْ اخْتَرْت ؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا قَدْ

فَعَلْت فِي مَعْنَى الْإِبْهَامِ أَزْيَدُ مِنْ قَوْلِهَا قَدْ اخْتَرْت وَإِذَا قَالَ اخْتَارِي نَفْسَك فَقَالَتْ قَدْ فَعَلْت طَلُقَتْ كَمَا لَوْ قَالَتْ اخْتَرْت ؛ لِأَنَّهَا أَخْرَجَتْ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْجَوَابِ فَيَصِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْخِطَابِ كَالْمُعَادِ فِي الْجَوَابِ وَإِنْ قَالَ اخْتَارِي إنْ شِئْت فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ فِي اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا مَشِيئَةً وَزِيَادَةً وَإِنْ قَالَ اخْتَارِي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَاخْتَارَتْ زَوْجَهَا لَمْ يَلْزَمْهَا الْمَالُ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ عَلَيْهَا بِإِزَاءِ الْبَيْنُونَةِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَالْبَيْنُونَةُ قَدْ حَصَلَتْ هُنَا وَقَدْ أَوْجَبَ الزَّوْجُ ذَلِكَ لَهَا بِعِوَضٍ وَفِي اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا قَبُولٌ مِنْهَا .

( قَالَ ) وَإِنْ قَالَ اخْتَارِي فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي وَإِنْ كُنْت زَوْجِي أَوْ إنْ كَانَ كَذَا لِشَيْءٍ مَاضٍ وَقَعَ الطَّلَاقُ ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِالْمَوْجُودِ تَنْجِيزٌ فَهَذَا وَقَوْلُهَا اخْتَرْت نَفْسِي سَوَاءٌ فَإِنْ اشْتَرَطَتْ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ فَقَدْ بَطَلَ الْخِيَارُ ؛ لِأَنَّهَا أَتَتْ بِالتَّعْلِيقِ وَإِنَّمَا فَوَّضَ إلَيْهَا التَّنْجِيزَ فَاشْتِغَالُهَا بِالتَّعْلِيقِ يَكُونُ إعْرَاضًا عَمَّا فَوَّضَ إلَيْهَا فَيَبْطُلُ خِيَارُهَا .

( قَالَ ) وَإِنْ قَالَ اخْتَارِي فَقَالَتْ قَدْ طَلَّقْت نَفْسِي طَلُقَتْ وَاحِدَةً بَائِنَةً بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي كَانَ هَذَا بَاطِلًا ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الِاخْتِيَارِ أَضْعَفُ مِنْ لَفْظِ الطَّلَاقِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الزَّوْجَ يَمْلِكُ الْإِيقَاعَ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ دُونَ لَفْظِ الِاخْتِيَارِ فَالْأَضْعَفُ لَا يَصْلُحُ جَوَابًا لِلْأَقْوَى وَالْأَقْوَى يَصْلُحُ جَوَابًا لِلْأَضْعَفِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ قَوْلَهَا طَلَّقْت نَفْسِي لَوْ كَانَ قَبْلَ تَخْيِيرِ الزَّوْجِ تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَةِ الزَّوْجِ فَإِذَا كَانَ بَعْدَ تَخْيِيرِ الزَّوْجِ يَكُونُ عَامِلًا وَقَوْلُهَا اخْتَرْت نَفْسِي قَبْلَ تَخْيِيرِ الزَّوْجِ يَكُونُ لَغْوًا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الزَّوْجِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ تَفْوِيضِ الزَّوْجِ بِقَوْلِهِ طَلِّقِي نَفْسَك ؛ لِأَنَّ التَّفْوِيضَ غَيْرُ التَّخْيِيرِ يُقَرِّرُهُ أَنَّ بِقَوْلِهِ اخْتَارِي نَفْسَك يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ تَمْلِكَ اكْتِسَابَ سَبَبِ الْفُرْقَةِ وَقَوْلَهَا طَلَّقْت نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ فَيَصِحُّ مِنْهَا فَأَمَّا قَوْلُهُ طَلِّقِي نَفْسَك فَإِنَّهُ تَفْوِيضٌ لِلطَّلَاقِ إلَيْهَا وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ يُثْبِتَ الْخِيَارَ لَهَا فِي اكْتِسَابِ سَبَبِ الْفُرْقَةِ وَقَوْلُهَا اخْتَرْت نَفْسِي مِنْ ذَلِكَ فَلِهَذَا كَانَ بَاطِلًا مِنْهَا .

( قَالَ ) وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ لِرَجُلٍ خَيِّرْ امْرَأَتِي أَوْ قُلْ لَهَا أَمْرُك بِيَدِك فَمَا لَمْ يُخَيِّرْهَا ذَلِكَ الرَّجُلِ لَا يَصِيرُ الْأَمْرُ بِيَدِهَا ؛ لِأَنَّهُ أَنَابَ ذَلِكَ الرَّجُلَ مَنَابَ نَفْسِهِ فِي تَخْيِيرِهَا وَمَا أَوْجَبَ لَهَا الْخِيَارَ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ قُلْ لَهَا أَنَّ الْخِيَارَ بِيَدِهَا أَوْ أَنَّ أَمْرَهَا بِيَدِهَا أَوْ أَنَّهَا طَالِقٌ إنْ شَاءَتْ فَذَلِكَ بِيَدِهَا أَخْبَرَهَا الرَّجُلُ أَوْ لَمْ يُخْبِرْهَا ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ لَهَا ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَجَعَلَ الْمُخَاطَبَ رَسُولًا إلَيْهَا فِي إعْلَامِهَا ذَلِكَ فَسَوَاءٌ أَعْلَمَهَا أَوْ عَلِمَتْ بِنَفْسِهَا بِسَمَاعِهَا مِنْ الزَّوْجِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ فِي مَجْلِسِ عِلْمِهَا وَلَوْ لَمْ تَعْلَمْ بِهِ إلَّا بَعْدَ أَيَّامٍ فَمَتَى عَلِمَتْ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ فِي مَجْلِسِهَا ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ بِمُقْتَضَى هَذَا التَّخْيِيرِ مَا لَمْ تَعْلَمْ بِهِ فَيَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي حَقِّهَا عَلَى عِلْمِهَا بِهِ فِي خِطَابِ الشَّرْعِ وَكَمَا فِي خِيَارِ الْمُعْتَقَةِ أَنَّهُ يَبْقَى إلَى عِلْمِهَا بِهِ وَمَتَى عَلِمَتْ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ .

( قَالَ ) وَإِنْ قَالَ هِيَ بِالْخِيَارِ الْيَوْمَ فَلَهَا الْخِيَارُ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَلَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا بِقِيَامِهَا عَنْ الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ لَهَا خِيَارًا مُمْتَدًّا فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ مَا بَقِيَ وَقْتَهُ وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ حَتَّى مَضَى الْيَوْمُ بَطَلَ خِيَارُهَا ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ كَانَ مُؤَقَّتًا بِوَقْتٍ فَلَا مُوجِبَ لَهُ بَعْدَ مُضِيِّ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَلَكِنْ يَنْتَهِي بِمُضِيِّ الْوَقْتِ سَوَاءٌ عَلِمَتْ أَوْ لَمْ تَعْلَمْ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ هِيَ بِالْخِيَارِ هَذَا الشَّهْرَ وَذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهَا لَوْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا ثُمَّ أَرَادَتْ أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا قَبْلَ مُضِيِّ الشَّهْرِ فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهَا ذَلِكَ وَذَكَرَ بِشْرُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَهَا ذَلِكَ عَلَى عَكْسِ هَذَا وَقَالَ إذَا قَالَ لَهَا الْخِيَارُ إلَى رَأْسِ الشَّهْرِ فَاخْتَارَتْ زَوْجَهَا فِي يَوْمٍ ثُمَّ أَرَادَتْ أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا فِي يَوْمٍ آخَرَ فَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَهَا ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَمَنْ يَقُولُ لَهَا ذَلِكَ قَالَ ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَهَا زَوْجَهَا بِمَنْزِلَةِ قِيَامِهَا عَنْ الْمَجْلِسِ فَكَمَا لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا فِي الْأَمْرِ الْمُؤَقَّتِ بِالْقِيَامِ عَنْ الْمَجْلِسِ وَاشْتِغَالِهَا بِعَمَلٍ آخَرَ فَكَذَلِكَ بِاخْتِيَارِهَا زَوْجِهَا وَمَنْ يَقُولُ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا قَالَ ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ وَاحِدٌ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ وَقَدْ أَبْطَلَتْهُ حِينَ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَا يَبْقَى بَعْدَ إبْطَالِهَا خِيَارٌ حَتَّى تَخْتَارَ بِهِ نَفْسَهَا .

( قَالَ ) وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَةٍ يَوْمَ أَتَزَوَّجك فَاخْتَارِي أَوْ مَتَى أَتَزَوَّجْك فَاخْتَارِي أَوْ إنْ تَزَوَّجْتُك أَوْ إذَا تَزَوَّجْتُك أَوْ كُلَّمَا تَزَوَّجْتُك فَلَهَا الْخِيَارُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ فِي الْمَجْلِسِ الَّذِي يَتَزَوَّجُهَا فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ إلَّا فِي كُلَّمَا فَإِنَّ لَهَا الْخِيَارَ كُلَّمَا تَزَوَّجَهَا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلَّمَا تَقْتَضِي التَّكْرَارَ .

قَالَ ) وَإِنْ قَالَ اخْتَارِي إذَا أَهَلَّ الشَّهْرُ أَوْ إذَا كَمُلَتْ السَّنَةُ أَوْ إذَا قَدِمَ فُلَانٌ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ بِذَلِكَ فَلَهَا الْخِيَارُ إذَا عَلِمَتْ فَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ وَلَوْ خَيَّرَهَا مُطْلَقًا عِنْدَ وُجُودِ هَذِهِ الْأُمُورِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمَجْلِسِ الَّذِي عَلِمَتْ بِهِ كَذَلِكَ هُنَا .

( قَالَ ) وَإِنْ قَالَ اخْتَارِي يَوْمَ كَذَا أَوْ رَأْسَ الشَّهْرِ أَوْ صَلَاةَ الْأُولَى فَلَهَا الْخِيَارُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ كُلِّهِ وَوَقْتِ تِلْكَ الصَّلَاةِ كُلِّهِ وَرَأْسِ الشَّهْرِ لَيْلَتِهِ وَيَوْمِهِ كُلِّهِ ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ يَشْتَمِلُ اللَّيَالِيَ وَالْأَيَّامَ وَرَأْسُهُ اللَّيْلَةُ الْأُولَى وَيَوْمُهَا وَيَسْقُطُ خِيَارُهَا بِمُضِيِّ هَذَا الْوَقْتِ إنْ عَلِمَتْ أَوْ لَمْ تَعْلَمْ ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ لَهَا الْخِيَارَ مُؤَقَّتًا فَلَا يَبْقَى بَعْدَ مُضِيِّ الْوَقْتِ .

( قَالَ ) وَإِنْ قَالَ اخْتَارِي يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ فَقَدِمَ فُلَانٌ لَيْلًا فَلَا خِيَارَ لَهَا وَلَوْ قَدِمَ بِالنَّهَارِ فَلَهَا الْخِيَارُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ ؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ يَتَوَقَّتُ فَذَكَرَ الْيَوْمَ فِيهِ لِلتَّوَقُّتِ بِهِ فَيَتَنَاوَلُ بَيَاضَ النَّهَارِ خَاصَّةً بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ يَوْمَ يَقْدَمُ فُلَانٌ ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ وَلَا يَخْتَصُّ بِأَحَدِ الْوَقْتَيْنِ فَذِكْرُ الْيَوْمِ فِيهِ عِبَارَةٌ عَنْ الْوَقْتِ .

( قَالَ ) وَإِنْ قَالَ اخْتَارِي تَطْلِيقَةً فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْتهَا فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَطْلِيقَةً بِمَنْزِلَةِ التَّفْسِيرِ لِأَوَّلِ كَلَامِهِ وَالْمُبْهَمُ إذَا تَعَقَّبَهُ تَفْسِيرٌ يَكُونُ الْحُكْمُ لِذَلِكَ التَّفْسِيرِ فَيَصِيرُ مُفَوِّضًا إلَيْهَا الطَّلَاقَ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ بِالْيَدِ لَوْ قَالَ لَهَا أَمْرُك بِيَدِك فِي تَطْلِيقَةٍ كَانَ هَذَا تَفْسِيرَ كَلَامِهِ الْأَوَّلِ وَلَوْ قَالَ اخْتَارِي تَطْلِيقَتَيْنِ فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت وَاحِدَةً وَقَعَ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً ؛ لِأَنَّهَا مَلَكَتْ إيقَاعَ اثْنَتَيْنِ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ تَمْلِكَ إيقَاعَ الْوَاحِدَةِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي تَطْلِيقَتَيْنِ إنْ شِئْتهمَا فَاخْتَارَتْ وَاحِدَةً لَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الشَّرْطَ مَشِيئَتَهَا تَطْلِيقَتَيْنِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ بِإِيقَاعِ الْوَاحِدَةِ .

( قَالَ ) وَلَوْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي اخْتَارِي اخْتَارِي فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي فَهَذَا جَوَابٌ مِنْهَا تَامٌّ لِلْكَلِمَاتِ الثَّلَاثِ فَتَطْلُقُ ثَلَاثًا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَتْ اخْتَرْت نَفْسِي مَرَّةً وَاحِدَةً أَوْ بِمَرَّةٍ أَوْ اخْتِيَارَةٍ فَهَذَا جَوَابٌ تَامٌّ لِلْكَلِمَاتِ الثَّلَاثِ فَتَطْلُقُ ثَلَاثًا وَإِنْ قَالَتْ اخْتَرْت التَّطْلِيقَةَ الْأُولَى وَقَعَ عَلَيْهَا وَاحِدَةً بِالِاتِّفَاقِ .
( قَالَ ) وَإِنْ قَالَتْ اخْتَرْت الْأُولَى أَوْ الْوُسْطَى أَوْ الْأَخِيرَةَ فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَطْلُقُ وَاحِدَةً بَائِنَةً بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَتْ اخْتَرْت التَّطْلِيقَةَ أَوْ اخْتَرْت التَّطْلِيقَةَ الْأُولَى ؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهَا اخْتَرْت الْأُولَى مَا صَارَ إلَيْهَا بِالْكَلِمَةِ الْأُولَى وَاَلَّذِي صَارَ إلَيْهَا بِالْكَلِمَةِ الْأُولَى تَطْلِيقَةٌ فَكَأَنَّهَا صَرَّحَتْ بِذَلِكَ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْأُولَى نَعْتٌ لِمُؤَنَّثٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ التَّطْلِيقَةَ فَلَا يَقَعُ بِهِ إلَّا وَاحِدَةً وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ الْمَرَّةَ أَوْ الِاخْتِيَارَ فَيَقَعُ الثَّلَاثُ وَلَكِنَّ الطَّلَاقَ بِالشَّكِّ لَا يَنْزِلُ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ الْأُولَى نَعْتٌ لِمُؤَنَّثٍ وَلَكِنَّ النَّعْتَ يَنْصَرِفُ إلَى مَنْعُوتٍ مَذْكُورٍ وَلَا يَنْصَرِفُ إلَى مَا لَمْ يُذْكَرْ مَعَ إمْكَانِ صَرْفِهِ إلَى الْمَذْكُورِ وَالْمَذْكُورُ الِاخْتِيَارُ دُونَ الطَّلَاقِ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهَا اخْتَرْت الِاخْتِيَارَةَ الْأُولَى أَوْ الْمَرَّةَ الْأُولَى وَلَوْ صَرَّحَتْ بِذَلِكَ طَلُقَتْ ثَلَاثًا وَحَرْفٌ آخَرُ لَهُ أَنَّهَا أَتَتْ بِالتَّرْتِيبِ فِيمَا لَا يَلِيقُ بِهِ صِفَةُ التَّرْتِيبِ فَيَلْغُو ذِكْرُ التَّرْتِيبِ فَيَبْقَى قَوْلُهَا اخْتَرْت فَيَكُونُ جَوَابًا لِلْكُلِّ وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثَ قَدْ اجْتَمَعَتْ فِي مِلْكِهَا حَتَّى يَقَعَ الثَّلَاثُ جُمْلَةً بِاخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا وَالْمُجْتَمِعُ فِي زَمَانٍ أَوْ مَكَان لَا يَلِيقُ بِهِ

صِفَةُ التَّرْتِيبِ فَكَذَلِكَ الْمُجْتَمِعُ فِي الْمِلْكِ لَا يَلِيقُ بِهِ صِفَةُ التَّرْتِيبِ وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهَا اخْتَرْت التَّطْلِيقَةَ الْأُولَى فَإِنَّ هُنَاكَ يَلْغُو ذِكْرُ التَّرْتِيبِ أَيْضًا فَيَبْقَى قَوْلُهَا اخْتَرْت التَّطْلِيقَةَ ( فَإِنْ قِيلَ ) كَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَقَعَ هُنَاكَ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لُغِيَ ذِكْرُ التَّرْتِيبِ بَقِيَ قَوْلُهَا اخْتَرْت وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بِهَذَا اللَّفْظِ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ مَا لَمْ تَقُلْ اخْتَرْت نَفْسِي .
( قُلْنَا ) هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِ الزَّوْجِ مَا يَدُلُّ عَلَى تَخْصِيصِ الطَّلَاقِ وَهُنَا مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُ اخْتَارِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَإِنَّ الطَّلَاقَ هُوَ الْمَحْصُورُ بِعَدَدِ الثَّلَاثِ وَلَوْ قَالَ اخْتَارِي نَفْسَك أَوْ طَلَاقَك فَقَالَتْ اخْتَرْت كَانَ جَوَابًا فَكَذَلِكَ هُنَا .

( قَالَ ) وَلَوْ قَالَ إنْ قَدِمَ فُلَانٌ فَاخْتَارِي فَقَالَتْ بَعْدَ قُدُومِهِ بِأَيَّامٍ لَمْ أَعْلَمْ إلَّا السَّاعَةَ وَلِيَ الْخِيَارُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا إنْ نَازَعَهَا الزَّوْجُ ؛ لِأَنَّهُ يُتَمَسَّكُ بِالْأَصْلِ وَهُوَ عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْقُدُومِ وَلِأَنَّ الزَّوْجَ يَدَّعِي عَلَيْهَا مَا يُسْقِطُ خِيَارَهَا بَعْدَ مَا عُرِفَ ثُبُوتُهُ لَهَا وَهِيَ تُنْكِرُ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا وَلَكِنْ لَوْ لَمْ تَخْتَرْ نَفْسَهَا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ حَتَّى خَاصَمَتْ فِيهِ الزَّوْجَ وَذَهَبَتْ إلَى الْقَاضِي فَلَا خِيَارَ لَهَا لِقِيَامِهَا عَنْ الْمَجْلِسِ بَعْدَ مَا عَلِمَتْ بِالْقُدُومِ فَهُوَ كَمَا لَوْ أَقَامَهَا الزَّوْجُ .

( قَالَ ) وَإِذَا خَيَّرَهَا فِي مَجْلِسِهَا فَقَالَتْ بَعْدَ الْقِيَامِ مِنْهُ قَدْ كُنْت اخْتَرْت نَفْسِي فِيهِ لَمْ تُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ إذَا كَذَّبَهَا الزَّوْجُ ؛ لِأَنَّهَا تُخْبِرُ بِمَا لَا تَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فَإِذَا أَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِتَصْدِيقِ الْخَصْمِ فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا بَيِّنَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عِلْمِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ .

( قَالَ ) وَإِنْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي الْيَوْمَ وَاخْتَارِي غَدًا فَرَدَّتْ الْخِيَارَ الْيَوْمَ أَوْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَيْسَ لَهَا الْخِيَارُ فِي بَقِيَّةِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَهَا الْخِيَارُ غَدًا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَاخْتَارِي غَدًا تَخْيِيرٌ مُضَافٌ إلَى وَقْتٍ آتٍ وَالْمُضَافُ غَيْرُ الْمُنْجَزِ فَإِنَّهَا إنَّمَا رَدَّتْ الْخِيَارَ الْمُنْجَزَ فِي الْيَوْمِ فَيَبْقَى خِيَارُهَا فِي الْغَدِ عَلَى حَالِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ اخْتَارِي الْيَوْمَ وَغَدًا فَرَدَّتْ الْيَوْمَ أَوْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَلَا خِيَارَ لَهَا فِي الْغَدِ ؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ الْغَدَ عَلَى الْيَوْمِ وَالْعَطْفُ لِلِاشْتِرَاكِ فَاقْتَضَى ذَلِكَ امْتِدَادَ الْخِيَارِ إلَى مُضِيِّ الْغَدِ لَا تَجْدِيدَ الْخِيَارِ الْمُضَافِ وَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ وَاحِدًا وَقَدْ بَطَلَ ذَلِكَ بِرَدِّهَا فَلَا خِيَارَ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ فَأَمَّا إذَا قَالَ وَاخْتَارِي غَدًا فَهُوَ خِيَارٌ آخَرُ أَوْجَبَهُ لَهَا فِي الْغَدِ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ لِلْغَدِ خَبَرًا فَلَا يُجْعَلُ الْخَبَرُ الْأَوَّلَ خَبَرًا لَهُ وَإِنْ اخْتَارَتْ الْيَوْمَ نَفْسَهَا فَبَانَتْ فَلَا خِيَارَ لَهَا فِي الْغَدِ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ مَلَكْت أَمْرَ نَفْسِهَا بِاخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا وَذَلِكَ يَنْفِي الْخِيَارَ الْمُضَافَ كَمَا يَنْفِي الْخِيَارَ الْمُنْجَزَ وَلِأَنَّ الْخِيَارَ الْمُضَافَ إلَى الْغَدِ لَا يَتَضَمَّنُ تَطْلِيقَةً أُخْرَى ؛ لِأَنَّ التَّطْلِيقَةَ الَّتِي فِي ضِمْنِ الْخِيَارِ الْمُنْجَزِ تَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إلَى الْغَدِ مَا لَمْ تَقَعْ فَإِذَا وَقَعَتْ بِاخْتِيَارِهَا نَفْسِهَا فِي الْيَوْمِ لَمْ يَبْقَ حَتَّى تَخْتَارَ نَفْسَهَا فِي الْغَدِ بِهَا .

( قَالَ ) وَإِنْ قَالَ اخْتَارِي غَدًا الطَّلَاقَ فَقَالَتْ الْيَوْمَ اخْتَرْت غَدًا الطَّلَاقَ أَوْ قَالَتْ قَدْ اخْتَرْت الزَّوْجَ فَاخْتِيَارُهَا الْيَوْمَ بَاطِلٌ وَلَهَا الِاخْتِيَارُ غَدًا ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ أَضَافَ التَّخْيِيرَ إلَى وَقْتٍ مُنْتَظَرٍ فَلَا يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ قَبْلَ مَجِيءِ ذَلِكَ الْوَقْتِ وَاخْتِيَارُهَا قَبْلَ أَنْ يَثْبُتَ لَهَا الْخِيَارُ لَغْوٌ وَإِنْ قَالَتْ فِي الْغَدِ قَدْ اخْتَرْت زَوْجِي لَا بَلْ نَفْسِي كَانَتْ امْرَأَتَهُ وَلَا خِيَارَ لَهَا ؛ لِأَنَّ بِقَوْلِهَا قَدْ اخْتَرْت زَوْجِي بَطَلَ خِيَارُهَا فَبِقَوْلِهَا لَا بَلْ نَفْسِي اخْتَارَتْ نَفْسَهَا بَعْدَ مَا بَطَلَ خِيَارُهَا وَإِنْ قَالَتْ اخْتَرْت نَفْسِي لَا بَلْ زَوْجِي بَانَتْ بِقَوْلِهَا اخْتَرْت نَفْسِي فَلَا تَرْفَعُ الْبَيْنُونَةَ بِقَوْلِهَا لَا بَلْ زَوْجِي بَعْدَ ذَلِكَ .

( قَالَ ) وَإِنْ قَالَ إنْ شِئْت فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاخْتَارِي فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي وَشِئْت الطَّلَاقَ كَانَتْ طَالِقًا اثْنَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي جَوَابُ التَّخْيِيرِ وَقَوْلُهَا شِئْت الطَّلَاقَ إيجَادٌ لِلشَّرْطِ فِي طَلَاقِ الْمَشِيئَةِ وَالصَّرِيحُ يَلْحَقُ الْبَائِنَ وَلَا يَكُونُ قَوْلُهَا اخْتَرْت نَفْسِي عَمَلًا هُوَ ضِدَّ مَشِيئَةِ الطَّلَاقِ بَلْ هَذَا مِنْ جِنْسِ مَشِيئَةِ الطَّلَاقِ فَلَا يَخْرُجُ بِهِ طَلَاقُ الْمَشِيئَةِ مِنْ يَدِهَا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ اخْتَارِي إنْ هَوَيْت أَوْ أَحْبَبْت أَوْ أَرَدْت فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي وَقَعَتْ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً لِوُجُودِ الشَّرْطِ بِاخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا فَقَدْ هَوِيت ذَلِكَ وَأَحَبَّتْ وَأَرَادَتْ حِينَ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا

( قَالَ ) وَلَوْ قَالَ اخْتَارِي مِنْ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ مَا شِئْت فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تَمْلِكُ أَنْ تَخْتَارَ بِهَذَا اللَّفْظِ إلَّا وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَمْلِكُ أَنْ تَخْتَارَ الثَّلَاثَ بِهَذَا اللَّفْظِ ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ ( مَا ) لِلتَّعْمِيمِ وَ ( مِنْ ) قَدْ تَكُونُ لِلتَّبْعِيضِ وَقَدْ تَكُونُ لِلتَّمْيِيزِ كَمَا يُقَالُ سَيْفٌ مِنْ حَدِيدٍ وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ } وَقَدْ تَكُونُ صِلَةً كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ } وقَوْله تَعَالَى { مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ } فَكَانَتْ مُرَاعَاةُ جَانِبِ التَّعْمِيمِ بِكَلِمَةِ مَا أَوْلَى وَإِذَا حُمِلَ عَلَى مَعْنَى التَّعْمِيمِ صَارَتْ الثَّلَاثَةُ مُفَوَّضَةً إلَيْهَا فَكَانَتْ كَلِمَةُ مِنْ لِتَمْيِيزِ الطَّلَاقِ مِنْ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ فِي التَّفْوِيضِ إلَيْهَا أَوْ هُوَ صِلَةٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ كَلِمَةُ مَا لِلتَّعْمِيمِ كَمَا قَالَا وَكَلِمَةُ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ حَقِيقَةً وَالْكَلَامُ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَإِنَّ الْحَقِيقَةَ لَا تُتْرَكُ إلَى الْمَجَازِ إلَّا لِقِيَامِ الدَّلِيلِ فَيُعْمَلُ بِحَقِيقَةِ الْكَلِمَتَيْنِ وَيَقُولُ يُزَادُ عَلَى الْوَاحِدَةِ لِحَرْفِ التَّعْمِيمِ وَيُنْقَصُ عَنْ الثَّلَاثِ لِحَرْفِ التَّبْعِيضِ فَيَصِيرُ بِيَدِهَا ثِنْتَانِ فَإِذَا أَوْقَعْت وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ جَازَ ذَلِكَ وَإِنْ أَوْقَعَتْ ثَلَاثًا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِاثْنَتَيْنِ لَا يَمْلِكُ إيقَاعَ الثَّلَاثِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا تَطْلُقُ ثَلَاثًا ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ صَارَتْ مُفَوَّضَةً إلَيْهَا وَفِي الْكِتَابِ اسْتَشْهَدَ لِقَوْلِهِمَا بِمَا لَوْ قَالَ كُلْ مِنْ هَذَا الطَّعَامِ مَا شِئْت جَازَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ كُلَّهُ وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ هُنَاكَ قَامَ دَلِيلُ الْمَجَازِ وَهُوَ الْعُرْفُ وَلِأَنَّهُ إبَاحَةٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ فَيَنْبَنِي الْأَمْرُ فِيهِ عَلَى التَّوَسُّعِ بِخِلَافِ

الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ حَقِيقَةُ كُلِّ لَفْظٍ وَلَوْ لَمْ تَخْتَرْ شَيْئًا حَتَّى قَالَ الزَّوْجُ لَك أَلْفُ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ تَخْتَارِينِي فَاخْتَارَتْهُ كَانَتْ قَدْ أَبْطَلَتْ الْخِيَارَ ؛ لِأَنَّ إسْقَاطَ الْخِيَارِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَائِزِ مِنْ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ فَإِنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَهُ وَلَا شَيْءَ لَهَا مِنْ الْأَلْفِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ الزَّوْجَ بِإِسْقَاطِهَا خِيَارَهَا شَيْئًا .

( قَالَ ) وَلَوْ قَالَ لَهَا اخْتَارِي فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي أَوْ زَوْجِي بَطَلَ الْخِيَارُ وَلَمْ يَقَعْ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ حَرْفَ ( أَوْ ) يَقْتَضِي إثْبَاتَ أَحَدِ الْمَذْكُورِينَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَاشْتِغَالُهَا بِالْكَلَامِ الْمُبْهَمِ يَكُونُ إبْطَالًا مِنْهَا لِلْخِيَارِ وَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَجْعَلْ اخْتِيَارَهَا نَفْسَهَا عَزِيمَةً فِي كَلَامِهَا وَإِنْ قَالَتْ قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي وَزَوْجِي طَلَقَتْ بِقَوْلِهَا قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي فَقَوْلُهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَزَوْجِي لَغْوٌ وَإِنْ قَالَتْ قَدْ اخْتَرْت زَوْجِي وَنَفْسِي فَقَدْ سَقَطَ اخْتِيَارُهَا بِقَوْلِهَا اخْتَرْت زَوْجِي فَقَوْلُهَا وَنَفْسِي بَعْدَ ذَلِكَ لَغْوٌ وَهِيَ امْرَأَتُهُ وَلَا خِيَارَ لَهَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .

بَابُ الْأَمْرِ بِالْيَدِ ( قَالَ ) وَإِذَا جَعَلَ الرَّجُلُ أَمْرَ امْرَأَتِهِ بِيَدِهَا فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي الْخِيَارِ فِي سَائِرِ مَسَائِلِ الْبَابِ الْمُتَقَدِّمِ إلَّا أَنَّ هَذَا صَحِيحٌ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مَالِكٌ لِأَمْرِهَا فَإِنَّمَا يُمَلِّكُهَا بِهَذَا اللَّفْظِ مَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ فَيَصِحُّ مِنْهُ وَيَلْزَمُ حَتَّى لَا يَمْلِكُ الزَّوْجُ الرُّجُوعَ عَنْهُ اعْتِبَارًا بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ وَإِنْ نَوَى بِالْأَمْرِ ثَلَاثًا كَانَ كَمَا نَوَى ، حَتَّى إذَا طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا تَطْلُقُ ؛ لِأَنَّ هَذَا تَفْوِيضٌ لِلْأَمْرِ إلَيْهَا وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ وَالْخُصُوصَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ اخْتَارِي فَإِنَّهُ أَمْرٌ بِالْفِعْلِ فَلَا يَحْتَمِلُ مَعْنَى الْعُمُومِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الثَّلَاثَ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ وَعَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هِيَ ثَلَاثٌ وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ إذَا قَالَ نَوَيْت وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهَا بِهَذَا الْكَلَامِ جِنْسَ مَا يَمْلِكُ عَلَيْهَا وَذَلِكَ ثَلَاثٌ وَلَكِنَّا نَقُولُ التَّفْوِيضُ قَدْ يَكُونُ خَاصًّا وَقَدْ يَكُونُ عَامًّا فَإِذَا نَوَى الْوَاحِدَةَ فَقَدْ قَصَدَ تَفْوِيضًا خَاصًّا وَهُوَ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلظَّاهِرِ وَكَذَلِكَ إنْ نَوَى الطَّلَاقَ فَقَطْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا الْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ عِنْدَ الِاحْتِمَالِ وَكَذَلِكَ إنْ نَوَى اثْنَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ هَذَا نِيَّةُ الْعَدَدِ وَهِيَ لَا تَسَعُ فِي هَذَا اللَّفْظِ فَتَكُونُ وَاحِدَةً بَائِنَةً .

( قَالَ ) وَإِذَا قَالَ لَهَا أَمْرُك بِيَدِك ثُمَّ قَالَ لَهَا أَمْرُك بِيَدِك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي فَهِيَ بَائِنٌ بِتَطْلِيقَتَيْنِ وَالْأَلْفُ عَلَيْهَا لَازِمَةٌ ؛ لِأَنَّ كَلَامَهَا جَوَابٌ لِلْإِيجَابَيْنِ جَمِيعًا وَأَحَدُهُمَا بِبَدَلٍ وَالْآخَرُ بِغَيْرِ بَدَلٍ وَإِنَّمَا يَقَعَانِ مَعًا عِنْدَ اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا فَيَلْزَمُهَا الْمَالُ ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ بِجُعْلٍ يُصَادِفُهَا وَهِيَ مَنْكُوحَةٌ كَاَلَّتِي هِيَ بِغَيْرِ جُعْلٍ .

( قَالَ ) وَإِذَا قَالَ لَهَا أَمْرُك فِي يَدِك يَنْوِي ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ لَهَا أَمْرُك بِيَدِك عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ يَنْوِي ثَلَاثًا فَقَبِلَتْ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَتْ قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي بِالْخِيَارِ الْأَوَّلِ كَانَ الْمَالُ عَلَيْهَا لَازِمًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَيْنِ قَدْ صَارَا أَمْرًا وَاحِدًا مَعْنَاهُ أَنَّ الزَّوْجَ لَا يَمْلِكُ عَلَيْهَا إلَّا الثَّلَاثَ وَاَلَّذِي أَوْجَبَهُ بِجُعْلٍ هُوَ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ وَقَدْ قَبِلَتْ ذَلِكَ وَأَوْقَعَتْ فَيَلْزَمُهَا الْمَالُ تَوْضِيحُهُ أَنَّ ذِكْرَهَا التَّرْتِيبَ لَغْوٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَبْقَى قَوْلُهَا اخْتَرْت نَفْسِي فَيَكُونُ جَوَابًا لِلْكَلَامَيْنِ وَيَلْزَمُهَا الْمَالُ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى هِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَلَا يَلْزَمُهَا الْمَالُ ؛ لِأَنَّهَا بِالِاخْتِيَارِ أَوْقَعَتْ مَا تَضَمَّنَهُ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ بِغَيْرِ جُعْلٍ .

( قَالَ ) وَإِنْ قَالَ لَهَا أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ أَوْ قَالَ فِي الْيَوْمِ فَإِنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَقَدْ بَطَلَ خِيَارُهَا وَإِنْ لَمْ تَخْتَرْ شَيْئًا فَلَهَا الْخِيَارُ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَذَكَرَ بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَرْقًا بَيْنَ قَوْلِهِ الْيَوْمَ وَبَيْنَ قَوْلِهِ فِي الْيَوْمِ فَقَالَ إذَا قَالَ فِي الْيَوْمِ فَلَهَا الْخِيَارُ فِي مَجْلِسِهَا لِوُجُودِ حَرْفِ فِي فَإِنَّ الْمَظْرُوفَ قَدْ يَشْغَلُ جُزْءًا مِنْ الظَّرْفِ فَإِنَّمَا جَعَلَ لَهَا الْخِيَارَ فِي جُزْءٍ مِنْ الْيَوْمِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ الْيَوْمَ فَإِنَّ ذَلِكَ تَصْرِيحٌ بِالْخِيَارِ فِي جَمِيعِ الْيَوْمِ وَلَكِنَّ هَذَا الْفَرْقَ ضَعِيفٌ وَالْمَقْصُودُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا تَوْقِيتُ الْخِيَارِ بِالْيَوْمِ .

( قَالَ ) وَإِذَا قَالَ الزَّوْجُ جَعَلْت أَمْرَك بِيَدِك أَمْسِ فَلَمْ تَخْتَارِي شَيْئًا وَقَالَتْ هِيَ بَلْ قَدْ اخْتَرْت فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عِلْمِهِ ؛ لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْ بِمَا لَا تَمْلِكُ إنْشَاءَهُ وَتَدَّعِي وُقُوعَ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا وَالزَّوْجُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَإِنَّهُ أَقَرَّ بِالتَّخْيِيرِ فَقَطْ وَلَا يَقَعُ بِهِ شَيْءٌ مَا لَمْ تَخْتَرْ نَفْسَهَا .

( قَالَ ) وَإِنْ جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ فَهُوَ بِيَدِهِ فِي مَجْلِسِهِ ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ هَذَا التَّفْوِيضِ صِحَّةُ إيقَاعِ الطَّلَاقِ مِنْهُمَا وَذَلِكَ يَكُونُ بِعِبَارَتِهِ وَالصَّبِيُّ مِنْ أَهْلِهِ فَكَانَ كَالْبَالِغِ لَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ يَدِهِ وَلَا يَبْطُلُ إلَّا بِقِيَامِ الْمُفَوَّضِ إلَيْهِ مِنْ مَجْلِسِهِ .

( قَالَ ) وَإِنْ جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِ رَجُلَيْنِ فَطَلَّقَهَا أَحَدُهُمَا لَمْ يَقَعْ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْأَمْرَ مِنْهُمَا فَأَحَدُهُمَا لَا يَسْتَبِدُّ بِالتَّصَرُّفِ فِيمَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُمَا وَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَمْرَ فِي أَيْدِيهِمَا لِيُرَوِّيَا النَّظَرَ فِي أَمْرِهَا وَنَظَرُ الْوَاحِدِ لَا يَقُومُ مَقَامَ نَظَرِ الْمَثْنَى بِخِلَافِ قَوْلِهِ طَلِّقَاهَا ؛ لِأَنَّهُ أَتَمَّ النَّظَرَ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا أَنَابَهُمَا مَنَابَ نَفْسِهِ فِي الْعِبَارَةِ وَعِبَارَةُ الْوَاحِدِ وَالْمَثْنَى سَوَاءٌ .

( قَالَ ) وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ أَمَةٌ أَمْرُك بِيَدِك يُرِيدُ اثْنَتَيْنِ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا طَلُقَتْ اثْنَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ هَذَا نِيَّةُ الْعُمُومِ فِي التَّفْوِيضِ فَالِاثْنَتَانِ فِي حَقِّ الْأَمَةِ كَالثَّلَاثِ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ حُرَّةً فَنِيَّةُ الِاثْنَتَيْنِ فِي حَقِّهَا نِيَّةُ الْعَدَدِ وَهَذَا اللَّفْظُ لَا يَحْتَمِلُ نِيَّةَ الْعَدَدِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْحُرَّةُ عِنْدَهُ فِي ثِنْتَيْنِ فَهَذَا فِي حَقِّهَا نِيَّةُ الْعَدَدِ ؛ لِأَنَّهُ بِأَصْلِ النِّكَاحِ يَمْلِكُ عَلَيْهَا ثَلَاثًا فَلَا يَكُونُ هَذَا فِي حَقِّهَا إلَّا نِيَّةَ الْعَدَدِ فَلَا تَقَعُ إلَّا وَاحِدَةً .

( قَالَ ) وَإِنْ قَالَ لَهَا أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَغَدًا وَبَعْدَ غَدٍ فَهُوَ أَمْرٌ وَاحِدٌ إنْ رَدَّتْهُ الْيَوْمَ بَطَلَ كُلُّهُ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي التَّخْيِيرِ فَكَذَلِكَ فِي الْأَمْرِ بِالْيَدِ وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَمَالِي عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهَا إذَا رَدَّتْ الْيَوْمَ فَأَمْرُهَا بِيَدِهَا غَدًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ وَأَمْرُك بِيَدِك غَدًا وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا .

( قَالَ ) وَإِذَا قَالَ أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَبَعْدَ غَدٍ فَهُمَا أَمْرَانِ حَتَّى إذَا رَدَّتْ الْيَوْمَ فَلَهَا الْخِيَارُ بَعْدَ الْغَدِ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا أَمْرٌ وَاحِدٌ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْيَوْمَ وَرَأْسَ الشَّهْرِ زُفَرُ يَقُولُ عَطَفَ أَحَدَ الْوَقْتَيْنِ عَلَى الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ تَكْرَارِ لَفْظِ الْأَمْرِ فَيَكُونُ أَمْرًا وَاحِدًا كَمَا فِي قَوْلِهِ الْيَوْمَ وَغَدًا وَلَكِنَّا نَقُولُ أَحَدُ الْوَقْتَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ هُنَا غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِالْآخَرِ بَلْ بَيْنَهُمَا وَقْتٌ غَيْرُ مَذْكُورٍ وَلَا يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الْأَمْرِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِذِكْرِ الْوَقْتِ الثَّانِي امْتِدَادَ الْأَمْرِ الْأَوَّلِ فَاقْتَضَى ضَرُورَةَ إيجَابِ أَمْرٍ آخَرَ فَأَمَّا إذَا قَالَ وَغَدًا فَأَحَدُ الْوَقْتَيْنِ مُتَّصِلٌ بِالْوَقْتِ الْآخَرِ فَكَانَ ذِكْرُ الْغَدِ لِامْتِدَادِ حُكْمِ الْأَمْرِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ أَمْرٌ آخَرُ إذْ لَا ضَرُورَةَ فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الظِّهَارِ اعْلَمْ بِأَنَّ الظِّهَارَ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَرَّرَ الشَّرْعُ أَصْلَهُ وَنَقَلَ حُكْمَهُ إلَى تَحْرِيمٍ مُؤَقَّتٍ بِالْكَفَّارَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُزِيلًا لِلْمِلْكِ بَيَانُهُ فِي قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ } الْآيَةُ وَسَبَبُ نُزُولِهَا { قِصَّةُ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ فَإِنَّهَا قَالَتْ كُنْت تَحْتَ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ سَاءَ خُلُقُهُ لِكِبَرِ سِنِّهِ فَرَاجَعْته فِي بَعْضِ مَا أَمَرَنِي بِهِ فَقَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ثُمَّ خَرَجَ فَجَلَسَ فِي نَادِي قَوْمِهِ ثُمَّ رَجَعَ إلَيَّ وَرَاوَدَنِي عَنْ نَفْسِي فَقُلْت وَاَلَّذِي نَفْسُ خَوْلَةَ بِيَدِهِ لَا تَصِلُ إلَيَّ قَدْ قُلْت مَا قُلْتَ حَتَّى يَقْضِيَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِي ذَلِكَ فَوَقَعَ عَلَيَّ فَدَفَعْته بِمَا تَدْفَعُ بِهِ الْمَرْأَةُ الشَّيْخَ الْكَبِيرَ وَقَدْ خَرَجْت إلَى بَعْضِ جِيرَانِي فَأَخَذْت ثِيَابًا وَلَبِسْتهَا فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرْته بِذَلِكَ فَجَعَلَ يَقُولُ لِي : زَوْجُك وَابْنُ عَمِّك وَقَدْ كَبِرَ فَأَحْسِنِي إلَيْهِ فَجَعَلْت أَشْكُو إلَى اللَّهِ مَا أَرَى مِنْ سُوءِ خُلُقِهِ فَتَغَشَّى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ يَغْشَاهُ عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ قَالَ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيك وَفِي زَوْجِك بَيَانًا وَتَلَا قَوْله تَعَالَى { قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُك فِي زَوْجِهَا } إلَى آخِرِ آيَاتِ الظِّهَارِ ثُمَّ قَالَ مُرِيهِ فَلْيُعْتِقْ رَقَبَةً فَقُلْت لَا يَجِدُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرِيهِ أَنْ يَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَقُلْت هُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ لَا يُطِيقُ الصَّوْمَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرِيهِ فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَقُلْت مَا عِنْدَهُ شَيْءٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّا سَنُعِينُهُ بِفَرْقٍ وَقُلْت أَنَا أُعِينُهُ بِفَرْقٍ أَيْضًا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ افْعَلِي وَاسْتَوْصِي بِهِ

خَيْرًا } .
ثُمَّ اخْتَلَفَتْ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْله تَعَالَى { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْجِمَاعِ الَّذِي هُوَ إمْسَاكٌ بِالْمَعْرُوفِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْمُرَادُ هُوَ السُّكُوتُ عَنْ طَلَاقِهَا عَقِيبَ الظِّهَارِ وَقَالَ دَاوُد الْمُرَادُ تَكْرَارُ الظِّهَارِ حَتَّى إنَّ عَلَى مَذْهَبِهِمْ لَا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ بِالظِّهَارِ مَرَّةً حَتَّى يُعِيدَ مَرَّةً أُخْرَى وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ هَذَا لَكَانَ يَقُولُ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا وَالدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِهِ حَدِيثُ أَوْسٍ فَإِنَّهُ لَمْ يُكَرِّرْ الظِّهَارَ إنَّمَا عَزَمَ عَلَى الْجِمَاعِ وَقَدْ أَلْزَمَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَفَّارَةَ وَكَذَلِكَ حَدِيثُ { سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْبَيَاضِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ قَالَ كُنْت لَا أَصْبِرُ عَنْ الْجِمَاعِ فَإِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ ظَاهَرْت مِنْ امْرَأَتِي مَخَافَةَ أَنْ لَا أَصْبِرَ عَنْهَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَظَاهَرْت مِنْهَا شَهْرَ رَمَضَانَ كُلِّهِ ثُمَّ لَمْ أَصْبِرْ فَوَاقَعْتهَا وَخَرَجْت إلَى قَوْمِي فَأَخْبَرْتهمْ بِذَلِكَ فَشَدَّدُوا الْأَمْرَ عَلَيَّ فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرْته بِذَلِكَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْتَ بِذَاكَ فَقُلْت أَنَا بِذَاكَ وَهَا أَنَا بَيْنَ يَدِكَ فَأَمْضِ فِي حُكْمَ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتِقْ رَقَبَةً } الْحَدِيثَ كَمَا رَوَيْنَا فِي كِتَابِ الصَّوْمِ وَلَيْسَ فِي هَذَا تَكْرَارُ الظِّهَارِ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ كَمَا سَكَتَ عَنْ طَلَاقِهَا عَقِيبَ الظِّهَارِ فَقَدْ صَارَ مُمْسِكًا لَهَا فَيَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } أَنْ يَأْتِيَ بِضِدِّ مُوجَبِ كَلَامِهِ وَمُوجَبُ كَلَامِهِ التَّحْرِيمُ لَا إزَالَةُ الْمِلْكِ فَاسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ لَا تَكُونُ ضِدَّهُ بَلْ ضِدُّهُ الْعَزْمُ

عَلَى الْجِمَاعِ الَّذِي هُوَ اسْتِحْلَالٌ وَبِمُجَرَّدِ الْعَزْمِ عِنْدَنَا لَا تَتَقَرَّرُ الْكَفَّارَةُ أَيْضًا حَتَّى لَوْ أَبَانَهَا بَعْدَ هَذَا أَوْ مَاتَتْ لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَنَا وَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَعْنَى الْعُقُوبَةِ يَتَرَجَّحُ فِي الْكَفَّارَةِ فَتَجِبُ بِنَفْسِ الظِّهَارِ الَّذِي هُوَ مَحْظُورٌ مَحْضٌ إلَّا أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إسْقَاطِهَا بِأَنْ يَصِلَ الطَّلَاقَ بِكَلَامِهِ شَرْعًا فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ تَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَعِنْدَنَا فِي الْكَفَّارَةِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ ، وَالْمَحْظُورُ الْمَحْضُ لَا يَكُونُ سَبَبًا لَهَا وَإِنَّمَا سَبَبُهَا مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِالْعَزْمِ عَلَى الْجِمَاعِ الَّذِي هُوَ إمْسَاكٌ بِالْمَعْرُوفِ حَتَّى يَصِيرَ السَّبَبُ بِهِ مُتَرَدِّدًا وَسَنُقَرِّرُ هَذَا الْأَصْلَ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ إنْ شَاءَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى

ثُمَّ لَا خِلَافَ أَنَّ هَذِهِ الْكَفَّارَةَ عَلَى التَّرْتِيبِ دُونَ التَّخْيِيرِ فَإِنَّ مَنْ كَانَتْ كَفَّارَتُهُ بِالْإِعْتَاقِ أَوْ الصِّيَامِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْرَبَهَا حَتَّى يُكَفِّرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } فَإِنْ جَامَعَ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَعَالَى وَلَمْ يَعُدْ حَتَّى يُكَفِّرَ لِأَنَّهُ ارْتَكَبَ الْحَرَامَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِيمَا صَنَعَ كَفَّارَةٌ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَجُلًا ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ وَقَعَ عَلَيْهَا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُكَفِّرَ فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ اللَّهَ تَعَالَى وَلَا يَعُودَ حَتَّى يُكَفِّرَ } وَلَوْ جَامَعَهَا فِي صَوْمِ الْكَفَّارَةِ بِالنَّهَارِ نَاسِيًا أَوْ بِاللَّيْلِ عَامِدًا فَعَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ الْكَفَّارَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الصَّوْمِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ نِصْفَ رَقَبَةٍ ثُمَّ جَامَعَهَا ثُمَّ أَعْتَقَ مَا بَقِيَ لَمْ يَجْزِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ الشَّرْطَ فِي الْإِعْتَاقِ تَقْدِيمُهُ عَلَى الْمَسِيسِ وَإِخْلَاؤُهُ عَنْهُ كَمَا فِي الصَّوْمِ ، وَالْعِتْقُ عِنْدَهُ يَتَجَزَّأُ وَهَذَا التَّفْرِيعُ لَا يَجِيءُ عَلَى قَوْلِهِمَا لِأَنَّ الْعِتْقَ عِنْدَهُمَا لَا يَتَجَزَّأُ وَلَمَّا أَعْتَقَ بَعْضَهُ عَتَقَ كُلُّهُ وَإِنْ كَانَتْ كَفَّارَتُهُ بِالْإِطْعَامِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُجَامِعَهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ عِنْدَنَا وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّكْفِيرِ بِالْإِطْعَامِ شَرْطُ التَّقْدِيمِ عَلَى الْمَسِيسِ وَلَا مُدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي هَذَا الْبَابِ وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اسْتَغْفِرْ اللَّهَ وَلَا تَعُدْ حَتَّى تُكَفِّرَ } مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ وَلِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَقْدِرَ عَلَى الْإِعْتَاقِ أَوْ الصِّيَامِ فَتَصِيرُ كَفَّارَتُهُ بِذَلِكَ فَلَوْ وَطِئَهَا كَانَ قَدْ مَسَّهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ وَذَلِكَ حَرَامٌ إلَّا أَنَّهُ لَوْ أَطْعَمَ ثَلَاثِينَ

مِسْكِينًا ثُمَّ جَامَعَهَا لَا يَلْزَمُهُ اسْتِقْبَالُ الطَّعَامِ بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ وَالصِّيَامِ لِأَنَّ شَرْطَ الْإِخْلَاءِ عَنْ الْمَسِيسِ مِنْ ضَرُورَةِ شَرْطِ التَّقْدِيمِ عَلَى الْمَسِيسِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فِي الْإِطْعَامِ وَثُبُوتُهُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْإِطْعَامِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ وَالصِّيَامِ .

( قَالَ ) وَإِذَا ظَاهَرَ الرَّجُلُ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ لَهُ فَعَلَيْهِ أَرْبَعُ كَفَّارَاتٍ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا ظَاهَرَ مِنْهُنَّ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ الظِّهَارَ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلْكَفَّارَةِ فَبِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا ظِهَارٌ وَاحِدٌ فِي حُكْمِ الْكَفَّارَةِ كَالْيَمِينِ وَلَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ لَا أَقْرَبَكُنَّ ثُمَّ قَرِبَهُنَّ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَكِنَّا نَقُولُ الظِّهَارُ يُوجِبُ تَحْرِيمًا مُؤَقَّتًا بِالْكَفَّارَةِ فَإِذَا أَضَافَ إلَى مَحَالَّ مُخْتَلِفَةٍ يَثْبُتُ فِي كُلِّ مَحَلٍّ حُرْمَةٌ لَا تَرْتَفِعُ إلَّا بِالْكَفَّارَةِ كَالتَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ لَمَّا كَانَتْ تُوجِبُ حُرْمَةً مُؤَقَّتَةً بِزَوْجٍ فَإِذَا أَوْجَبَهَا فِي أَرْبَعِ نِسْوَةٍ بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ تَثْبُتُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ حُرْمَةٌ لَا تَرْتَفِعُ إلَّا بِزَوْجٍ بِخِلَافِ الْيَمِينِ فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ هُنَاكَ بِهَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحِنْثِ وَذَلِكَ لَا يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ النِّسَاءِ وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَإِبْرَاهِيمَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى .

( قَالَ ) وَإِذَا ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ أَوْ مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ ظِهَارٍ كَفَّارَةٌ هَكَذَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَلِأَنَّ تَكْرَارَ الظِّهَارِ فِي امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ كَتَكْرَارِ الْيَمِينِ فَكَمَا يَجِبُ بِاعْتِبَارِ كُلِّ يَمِينٍ كَفَّارَةٌ فَكَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ كُلِّ ظِهَارٍ .
( فَإِنْ قِيلَ ) فَإِذَا ثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ الْمُؤَقَّتَةُ بِالظِّهَارِ الْأَوَّلِ كَيْفَ تَثْبُتُ بِالظِّهَارِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ .
( قُلْنَا ) بِالظِّهَارِ الْأَوَّلِ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ مَعَ بَقَاءِ مِلْكِ الْمَحَلِّ فَيَتَحَقَّقُ الظِّهَارُ الثَّانِي وَالثَّالِثُ وَأَسْبَابُ الْحُرْمَةِ تَجْتَمِعُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَإِنَّ صَيْدَ الْحَرَمِ حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ لِإِحْرَامِهِ وَلِكَوْنِهِ فِي الْحَرَمِ وَالْخَمْرَ حَرَامٌ عَلَى الصَّائِمِ لِعَيْنِهَا وَلِصَوْمِهِ وَلِيَمِينِهِ إذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُهَا وَالْكَفَّارَةُ الثَّانِيَةُ غَيْرُ كَفَّارَةِ الْأُولَى فَالْحُرْمَةُ الثَّانِيَةُ فِي الْحُكْمِ غَيْرُ الْأُولَى أَيْضًا وَإِنْ ظَاهَرَ مِنْهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَنَوَى بِالثَّانِي وَالثَّالِثِ تَكْرَارَ الْكَلَامِ الْأَوَّلِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ صِفَةَ الْإِخْبَارِ وَالْإِنْشَاءِ فِي الظِّهَارِ وَاحِدَةٌ وَالْكَلَامَ الْوَاحِدَ يُعَادُ وَيُكَرَّرُ وَلَا يَجِبُ بِهِ إلَّا مَا يَجِبُ بِالْأَوَّلِ

( قَالَ ) وَإِنْ قَالَ لَهَا أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ كَبَطْنِهَا فَهُوَ مُظَاهِرٌ لِأَنَّ بَطْنَ الْأُمِّ عَلَيْهِ فِي الْحُرْمَةِ كَظَهْرِهَا وَالظِّهَارُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَذَلِكَ أَنْ يُشَبِّهَ مَنْ هُوَ فِي أَقْصَى غَايَاتِ الْحِلِّ بِمَنْ هُوَ فِي أَقْصَى غَايَاتِ الْحُرْمَةِ وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِالظَّهْرِ وَالْبَطْنِ وَكَذَلِكَ لَوْ ذَكَرَ جُزْءًا مِنْ امْرَأَتِهِ شَائِعًا أَوْ عُضْوًا جَامِعًا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ بِخِلَافِ مَا إذَا ذَكَرَ عُضْوًا لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ كَالْيَدِ وَالرِّجْلِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي بَابِ الطَّلَاقِ وَكَذَلِكَ إذَا شَبَّهَهَا بِظَهْرِ امْرَأَةٍ مُحَرَّمَةٍ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ بِنَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ فَهَذَا وَالتَّشْبِيهُ بِظَهْرِ الْأُمِّ سَوَاءٌ لِلْمَعْنَى الَّذِي بَيَّنَّا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَمَالِي إنَّهُ إذَا شَبَّهَهَا بِظَهْرِ امْرَأَةٍ قَدْ زَنَى بِأُمِّهَا أَوْ بِابْنَتِهَا فَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَهُوَ مُظَاهِرٌ مِنْهَا لِأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِمُحَرَّمَةٍ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ قَالَ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِحِلِّ الْمُنَاكَحَةِ بَيْنَهُمَا لَا يَنْفُذُ عِنْدِي لِكَوْنِهِ بِخِلَافِ النَّصِّ فَإِنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةٌ لِلْوَطْءِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ شَبَّهَهَا بِظَهْرِ امْرَأَةٍ قَدْ لَاعَنَهَا لِأَنَّ اللِّعَانَ وَإِنْ كَانَ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ الْمُؤَبَّدَةَ عِنْدِي فَهُوَ مِمَّا يَسَعُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ وَيَنْفُذُ فِيهِ قَضَاءُ الْقَاضِي بِخِلَافِهِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى حُرْمَةِ الْأُمِّ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكَيْسَانِيَّاتِ إذَا شَبَّهَهَا بِظَهْرِ أُمِّ الْمَزْنِيِّ بِهَا لَا يَكُونُ مُظَاهِرًا لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ مُخْتَلِفُونَ فِي حُرْمَتِهَا عَلَيْهِ وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بِحِلِّ الْمُنَاكَحَةِ بَيْنَهُمَا نَفَذَ قَضَاؤُهُ لِأَنَّ النَّاسَ تَعَارَفُوا إطْلَاقَ اسْمِ النِّكَاحِ عَلَى الْعَقْدِ وَلَوْ شَبَّهَهَا بِظَهْرِ امْرَأَةٍ قَدْ لَمَسَ أُمَّهَا أَوْ ابْنَتَهَا مِنْ شَهْوَةٍ أَوْ

نَظَرٍ إلَى فَرْجِهَا مِنْ شَهْوَةٍ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ حُرْمَةٌ ضَعِيفَةٌ لَيْسَتْ فِي مَعْنَى حُرْمَةِ الْأُمِّ حَتَّى يَنْفُذَ قَضَاءُ الْقَاضِي بِخِلَافِهَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَكُونُ مُظَاهِرًا لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ بِالنَّظَرِ إلَى الْفَرْجِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَلْعُونٌ مَنْ نَظَرَ إلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ وَابْنَتِهَا } فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الظِّهَارِ إذَا شَبَّهَهَا بِهِ وَإِنْ شَبَّهَهَا بِظَهْرِ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ أَوْ ذَاتِ رَحِمٍ مِنْهُ غَيْرِ مَحْرَمٍ فَلَيْسَ بِمُظَاهِرٍ لِأَنَّهُ شَبَّهَ مُحَلَّلَةً بِمُحَلَّلَةٍ فَإِنَّ الْأُخْرَى تَحِلُّ لَهُ بِالْمِلْكِ فَلَا يَكُونُ مُظَاهِرًا وَكَذَلِكَ لَوْ شَبَّهَهَا بِظَهْرِ رَجُلٍ أَجْنَبِيٍّ أَوْ قَرِيبٍ فَهُوَ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ عَلَيْهِ النَّظَرُ إلَيْهِ وَمَسُّهُ فَلَا يَكُونُ مُظَاهِرًا .

( قَالَ ) وَإِنْ ظَاهَرَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا فَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ لِأَنَّ مُوجَبَهُ التَّحْرِيمُ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالنِّكَاحِ كَالطَّلَاقِ وَلَيْسَ إلَى الْمَرْأَةِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ عَلَيْهَا الْكَفَّارَةُ لِلظِّهَارِ لِأَنَّ الْمَعْنِيَّ فِي جَانِبِ الرَّجُلِ تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي جَانِبِهَا وَالْحِلُّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَقَالَ الْحَسَنُ عَلَيْهَا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ التَّحْرِيمِ مِنْهَا زَوْجَهَا عَلَى نَفْسِهَا وَتَحْرِيمُ الْحَلَالِ يَمِينٌ فَتَلْزَمُهَا الْكَفَّارَةُ كَمَا لَوْ حَلَفَتْ أَنْ لَا تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا ثُمَّ مَكَّنَتْهُ .

( قَالَ ) وَلَا يَكُونُ الرَّجُلُ مُظَاهِرًا مِنْ أَمَتِهِ وَلَا مِنْ أُمِّ وَلَدِهِ وَلَا مِنْ مُدَبَّرَتِهِ عِنْدَنَا وَقَالَ مَالِكٌ يَصِحُّ ظِهَارُهُ مِنْهُنَّ لِأَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ فِي مَحَلِّ مِلْكِ الْمُتْعَةِ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ كَمِلْكِ النِّكَاحِ فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الظِّهَارُ وَهُوَ تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ } وَهَذَا يَتَنَاوَلُ الزَّوْجَةَ دُونَ الْمَمْلُوكَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الظِّهَارَ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَنَقَلَ الشَّرْعُ حُكْمَهُ إلَى التَّحْرِيمِ الْمُؤَقَّتِ بِالْكَفَّارَةِ وَالْمَمْلُوكَةُ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِلطَّلَاقِ فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلظِّهَارِ أَيْضًا وَلِهَذَا لَا يَصِحُّ إيلَاؤُهُ مِنْ الْأَمَةِ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ طَلَاقٌ مُؤَجَّلٌ وَالْأَمَةُ لَيْسَ بِمَحَلٍّ لِلطَّلَاقِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ شَاءَ بَاهَلْتُهُ عِنْدَ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ فِي الظِّهَارِ مِنْ الْأَمَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ فَهُوَ بَاطِلٌ كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا وَهَذَا لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّةَ لَا تَحِلُّ لَهُ مَا لَمْ يَتَزَوَّجْهَا فَإِنَّمَا شَبَّهَ مُحَرَّمَةً بِمُحَرَّمَةٍ .

( قَالَ ) وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَفَرْجِ أُمِّي أَوْ كَفَخِذِهَا كَانَ مُظَاهِرًا لِأَنَّ فَرْجَ الْأُمِّ وَفَخِذَهَا مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ كَظَهْرِهَا فَيَتَحَقَّقُ تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ وَلَوْ قَالَ كَيَدِهَا أَوْ رِجْلِهَا لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا لِأَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّظَرُ إلَى يَدِهَا وَرِجْلِهَا وَلَا مَسُّهَا فَلَمْ يَتَحَقَّقْ بِهَذَا اللَّفْظِ تَشْبِيهُ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ وَلَوْ قَالَ جَنْبُك أَوْ ظَهْرُك عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ يَدُك أَوْ رِجْلُك لِأَنَّ هَذَا الْعُضْوَ لَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ عَادَةً ؛ وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ ظُفْرُك مَكَانَ قَوْلِهِ ظَهْرُك وَهُوَ غَلَطٌ فَالظَّهْرُ مِنْ الْجَنْبِ أَلْيَقُ مِنْ الظُّفْرِ .

( قَالَ ) وَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّي فَهَذَا كَلَامٌ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا لِأَنَّ الْكَافَ لِلتَّشْبِيهِ وَتَشْبِيهُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ مِنْ وَجْهٍ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ وُجُوهٍ فَإِذَا نَوَى بِهِ الْبِرَّ وَالْكَرَامَةَ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا لِأَنَّ مَا نَوَاهُ مُحْتَمَلٌ وَمَعْنَاهُ أَنْتِ عِنْدِي فِي اسْتِحْقَاقِ الْبِرِّ وَالْكَرَامَةِ كَأُمِّي وَإِنْ نَوَى الظِّهَارَ فَظِهَارٌ لِأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِجَمِيعِ الْأُمِّ وَلَوْ شَبَّهَهَا بِظَهْرِ الْأُمِّ كَانَ ظِهَارًا فَإِذَا شَبَّهَهَا بِجَمِيعِ الْأُمِّ كَانَ أَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ هُوَ ظِهَارٌ وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَنْهُ رِوَايَتَانِ إحْدَاهُمَا كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لِأَنَّهُ قَالَ فِي الْأَمَالِي إذَا كَانَ هَذَا فِي حَالَةِ الْغَضَبِ وَقَالَ نَوَيْت بِهِ الْبِرَّ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ وَهُوَ ظِهَارٌ وَعَنْهُ أَنَّهُ قَالَ إيلَاءٌ لِأَنَّ الْأُمَّ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } فَكَانَ قَوْلُهُ أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّي بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي هَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَنْوِ شَيْئًا يَثْبُتُ أَقَلُّ الْوُجُوهِ وَهُوَ الْإِيلَاءُ وَبِنَحْوِ هَذَا يَحْتَجُّ مُحَمَّدٌ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَلَكِنَّهُ يَقُولُ هُوَ ظِهَارٌ لِكَافِ التَّشْبِيهِ فِي كَلَامِهِ فَإِنَّ الظِّهَارَ يَخْتَصُّ بِهَذَا الْحَرْفِ وَمَتَى كَانَ مُرَادُهُ الْبِرَّ يَقُولُ أَنْتِ عِنْدِي كَأُمِّي وَلَا يَقُولُ عَلَيَّ إلَّا أَنَّهُ إذَا نَوَى الْبِرَّ أَقَمْنَا حَرْفَ عَلَى مُقَامَ عِنْدَ لِتَصْحِيحِ نِيَّتِهِ فَإِذَا لَمْ يَنْوِ بَقِيَ مَحْمُولًا عَلَى حَقِيقَتِهِ فَكَانَ ظِهَارًا وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ كَلَامُ الْعَاقِلِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ ، مَهْمَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ يَحِلُّ شَرْعًا لَا يُحْمَلُ عَلَى مَا يَحْرُمُ

شَرْعًا ، وَالظِّهَارُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ إذَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى مَعْنَى الْبِرِّ وَالْكَرَامَةِ .
تَوْضِيحُهُ : أَنَّهَا كَانَتْ مُحَلَّلَةً لَهُ وَهَذَا الْكَلَامُ يَحْتَمِلُ مَعْنَى الْبِرِّ وَيَحْتَمِلُ مَعْنَى الظِّهَارِ وَلَكِنَّ الْحُرْمَةَ بِالشَّكِّ لَا تَثْبُتُ كَمَا لَا يَثْبُتُ الطَّلَاقُ بِالشَّكِّ

( قَالَ ) وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَأُمِّي فَقَدْ انْتَفَى احْتِمَالُ مَعْنَى الْبِرِّ هُنَا لِتَصْرِيحِهِ بِالْحُرْمَةِ فَبَقِيَ احْتِمَالُ الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ فَإِنْ أَرَادَ الطَّلَاقَ فَهُوَ طَلَاقٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ يَكُونُ طَلَاقًا بِالنِّيَّةِ فَقَوْلُهُ كَأُمِّي لِتَأْكِيدِ تِلْكَ الْحُرْمَةِ فَلَا تَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ تَكُونَ طَالِقًا بِالنِّيَّةِ وَكَذَلِكَ إنْ أَرَادَ التَّحْرِيمَ دُونَ الظِّهَارِ فَهُوَ طَلَاقٌ وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَقُولُونَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إيلَاءً بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ إذَا قَصَدَ بِهِ التَّحْرِيمَ فَقَطْ وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّمَا قُصِدَ التَّحْرِيمُ هُنَا لِزَوَالِ الْمِلْكِ لِأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِالْأُمِّ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ حُرْمَةً تُنَافِي الْمِلْكَ وَزَوَالُ الْمِلْكِ بِالتَّحْرِيمِ يَكُونُ بِالطَّلَاقِ وَإِنْ نَوَى بِهِ الظِّهَارَ فَهُوَ ظِهَارٌ لِأَنَّهُ شَبَّهَهَا فِي الْحُرْمَةِ بِأُمِّهِ وَلَوْ شَبَّهَهَا بِظَهْرِ الْأُمِّ كَانَ ظِهَارًا فَكَذَلِكَ إذَا شَبَّهَهَا بِالْأُمِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ ظِهَارٌ لِأَنَّ عِنْدَ الِاحْتِمَالِ لَا يَثْبُتُ إلَّا الْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ وَالْحُرْمَةُ بِالظِّهَارِ دُونَ الْحُرْمَةِ بِالطَّلَاقِ فَالْحُرْمَةُ بِالظِّهَارِ لَا تُزِيلُ الْمِلْكَ وَالْحُرْمَةُ بِالطَّلَاقِ تُزِيلُهُ .

( قَالَ ) وَإِنْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَظَهْرِ أُمِّي فَهُوَ ظِهَارٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَوَاءٌ نَوَى الظِّهَارَ أَوْ الطَّلَاقَ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي لِأَنَّ ذَلِكَ اللَّفْظَ إنَّمَا كَانَ ظِهَارًا بِاعْتِبَارِ التَّشْبِيهِ فِي الْحُرْمَةِ فَالتَّصْرِيحُ بِمَا هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِهِ يُؤَكِّدُ حُكْمَ الْكَلَامِ وَلَا يُغَيِّرُهُ وَهَذَا اللَّفْظُ صَرِيحٌ فِي الظِّهَارِ فَلَا تَعْمَلُ فِيهِ نِيَّةُ شَيْءٍ آخَرَ كَاللَّفْظِ الَّذِي هُوَ صَرِيحٌ فِي الطَّلَاقِ لَا تَعْمَلُ فِيهِ نِيَّةُ شَيْءٍ آخَرَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى إنْ نَوَى الظِّهَارَ أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ ظِهَارٌ وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ فَهُوَ طَلَاقٌ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ فَإِنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ تَسَعُ فِيهِ نِيَّةُ الطَّلَاقِ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ فَقَوْلُهُ كَظَهْرِ أُمِّي يَحْتَمِلُ مَعْنَى التَّأْكِيدِ لِتِلْكَ الْحُرْمَةِ فَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُحْتَمِلًا لِنِيَّةِ الطَّلَاقِ وَرَوَى أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا قَالَ نَوَيْت بِهِ الطَّلَاقَ يَقَعُ الطَّلَاقُ بِنِيَّتِهِ وَيَكُونُ مُظَاهِرًا بِالتَّصْرِيحِ بِالظِّهَارِ وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ فِي صَرْفِ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ زَيْنَبُ طَالِقٌ وَلَهُ امْرَأَةٌ مَعْرُوفَةٌ بِهَذَا الِاسْمِ فَقَالَ لِي امْرَأَةٌ أُخْرَى وَإِيَّاهَا عَنَيْت يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَى تِلْكَ بِنِيَّتِهِ وَعَلَى هَذِهِ الْمَعْرُوفَةِ بِالظَّاهِرِ وَلَكِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّ الطَّلَاقَ لَوْ وَقَعَ بِقَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ كَانَ مُتَكَلِّمًا بِلَفْظِ الظِّهَارِ بَعْدَ مَا بَانَتْ وَالظِّهَارُ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ لَا يَصِحُّ .
( فَإِنْ قِيلَ ) الظِّهَارُ مَعَ الطَّلَاقِ اثْنَتَانِ بِقَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ .
( قُلْنَا ) اللَّفْظُ الْوَاحِدُ لَا يَحْتَمِلُ الْمَعْنَيَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ .

( قَالَ ) وَإِنْ قَالَ أَنَا مِنْك مُظَاهِرٌ فَهُوَ ظِهَارٌ لِأَنَّ مُوجِبَ الظِّهَارِ هُوَ التَّحْرِيمُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لَفْظَ التَّحْرِيمِ يَصِحُّ إضَافَتُهُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْحِلَّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَكَذَلِكَ لَفْظُ الظِّهَارِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ قَدْ ظَاهَرْت مِنْك فَإِنَّ صِيغَةَ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءِ فِي الظِّهَارِ وَاحِدَةٌ كَمَا فِي الطَّلَاقِ .

( قَالَ ) وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَنْتِ مِنِّي كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ عِنْدِي وَمَعِي فَهُوَ ظِهَارٌ كَقَوْلِهِ عَلَيَّ لِأَنَّ تَشْبِيهَ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ يَتَحَقَّقُ بِهَذِهِ الْكَلِمَاتِ .
( قَالَ ) وَلَا يَنْبَغِي لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَدَعَهُ يَقْرَبُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُكَفِّرْ وَعَلَيْهَا أَنْ تَمْتَنِعَ مِنْ الْحَرَامِ وَلَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِالتَّكْفِيرِ وَتُخَاصِمَهُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهَا اسْتَحَقَّتْ الْإِمْسَاكَ بِالْمَعْرُوفِ وَهُوَ بِالظِّهَارِ فَوَّتَ عَلَيْهَا ذَلِكَ فَلَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِمَا صَارَ مُسْتَحَقًّا لَهَا بِالنِّكَاحِ وَيُجْبِرُهُ الْقَاضِي عَلَى التَّكْفِيرِ عِنْدَ طَلَبِهَا لِأَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ إلَّا بِهِ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُبَاشِرَهَا وَلَا يُقَبِّلَهَا حَتَّى يُكَفِّرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا } وَلِأَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ فِي مَعْنَى الْحُرْمَةِ بِالطَّلَاقِ إلَّا فِي حُكْمِ زَوَالِ الْمِلْكِ وَالِارْتِفَاعِ بِالْكَفَّارَةِ وَالْحُرْمَةُ مَتَى ثَبَتَتْ بِالطَّلَاقِ تُوجِبُ تَحْرِيمَ اللَّمْسِ وَالتَّقْبِيلِ فَكَذَلِكَ بِالظِّهَارِ .

( قَالَ ) وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَةٍ إذَا تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ قَالَ كُلُّ امْرَأَةٍ أَتَزَوَّجُهَا فَهِيَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَهُوَ كَمَا قَالَ لِأَنَّ الظِّهَارَ يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ كَالطَّلَاقِ فَيَصِحُّ إضَافَتُهُ إلَى الْمِلْكِ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنْجَزِ .

( قَالَ ) وَإِذَا قَالَ إذَا تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ثُمَّ تَزَوَّجَهَا طَلَقَتْ وَبَطَلَ الظِّهَارُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ الظِّهَارَ مَعْطُوفٌ عَلَى الطَّلَاقِ فَتَبِينُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ أَنْ يَصِيرَ مُظَاهِرًا وَعِنْدَهُمَا يَقَعَانِ مَعًا وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي بَابِ الطَّلَاقِ .

( قَالَ ) وَإِذَا قَالَ إذَا تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ إذَا تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَزِمَ الطَّلَاقُ وَالظِّهَارُ جَمِيعًا لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالتَّزْوِيجِ هُنَا مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ فَعِنْدَ التَّزْوِيجِ يَقَعَانِ مَعًا .

( قَالَ ) وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ثُمَّ أَبَانَهَا فَدَخَلَتْ الدَّارَ فِي الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَ الْعِدَّةِ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا مِنْهَا لِأَنَّ مُوجِبَ الظِّهَارِ حُرْمَةٌ تَرْتَفِعُ بِالْكَفَّارَةِ ، وَبِالْبَيْنُونَةِ تَثْبُتُ حُرْمَةٌ أَقْوَى مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَظْهَرُ الضَّعِيفُ مَعَ الْقَوِيِّ وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَحَلُّ الظِّهَارِ لِأَنَّهَا مُحَلَّلَةٌ لَهُ بِأَبْلَغِ جِهَاتِهِ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْبَيْنُونَةِ .
وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لَا يَنْزِلُ إلَّا عِنْدَ بَقَاءِ الْمَحَلِّ لِأَنَّ الْوُصُولَ إلَى الْمَحَلِّ عِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ فَإِذَا لَمْ تَبْقَ مَحَلًّا بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ لَمْ يَكُنْ مُظَاهِرًا مِنْهَا .

( قَالَ ) وَإِذَا ظَاهَرَ الْمُسْلِمُ وَهُوَ حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ مِنْ زَوْجَتِهِ وَهِيَ حُرَّةٌ أَوْ أَمَةٌ مُسْلِمَةٌ أَوْ صَبِيَّةٌ أَوْ كِتَابِيَّةٌ فَهُوَ مُظَاهِرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ } وَلِأَنَّ الْعَبْدَ كَالْحُرِّ فِي كَوْنِهِ أَهْلًا لِمُوجَبِ الظِّهَارِ وَهُوَ الْحُرْمَةُ الْمُؤَقَّتَةُ بِالْكَفَّارَةِ وَالْأَمَةُ وَالصَّبِيَّةُ وَالْكِتَابِيَّةُ كَالْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ فِي كَوْنِهَا مُحَلَّلَةً بِأَبْلَغِ جِهَاتِهِ .

( قَالَ ) وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ ذِمِّيًّا فَظِهَارُهُ بَاطِلٌ عِنْدَنَا سَوَاءٌ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُسْلِمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ظِهَارُ الذِّمِّيِّ صَحِيحٌ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ مِنْ أَهْلِ الطَّلَاقِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحُرْمَةَ بِالظِّهَارِ فِي مَعْنَى الْحُرْمَةِ بِالطَّلَاقِ فَكُلُّ مَنْ صَحَّ طَلَاقُهُ صَحَّ ظِهَارُهُ وَكَذَلِكَ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْإِعْتَاقِ وَالْإِطْعَامِ إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكَفَّارَةِ بِالصَّوْمِ وَبِهَذَا لَا يَمْتَنِعُ صِحَّةُ الظِّهَارِ كَالْعَبْدِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ وَكَانَ ظِهَارُهُ صَحِيحًا وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِ مُسْتَقِيمٌ فَإِنَّ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ عِنْدَهُ يَتَرَجَّحُ فِي الْكَفَّارَةِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْحَدِّ وَفِي الْحَدِّ مَعْنَى الْكَفَّارَةِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْحُدُودُ كَفَّارَاتٌ لِأَهْلِهَا } ثُمَّ يُقَامُ عَلَى الذِّمِّيِّ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ وَلَئِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْكَفَّارَةِ فَهُوَ أَهْلٌ لِلْحُرْمَةِ فَيُعْتَبَرُ ظِهَارُهُ فِي حَقِّ الْحُرْمَةِ كَمَا اعْتَبَرَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إيلَاءَ الذِّمِّيِّ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي حَقِّ الْكَفَّارَةِ وَكَلَامُنَا فِي الْمَجُوسِيِّ يَتَّضِحُ فَإِنَّهُ يَعْتَقِدُ الْحِلَّ فِي أُمِّهِ وَأُخْتِهِ فَإِنَّمَا شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِمَنْ يَعْتَقِدُ الْحِلَّ فِيهَا بِالنِّكَاحِ فَلَا يَكُونُ مُظَاهِرًا كَالْمُسْلِمِ إذَا شَبَّهَ امْرَأَتَهُ بِأَجْنَبِيَّةٍ .
( وَلَنَا ) أَنَّ الذِّمِّيَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكَفَّارَةِ فَلَا يَصِحُّ ظِهَارُهُ كَالصَّبِيِّ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكَفَّارَةِ التَّكْفِيرُ وَالتَّطْهِيرُ وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لَهُ وَمَا فِيهِ مِنْ الشِّرْكِ أَعْظَمُ مِنْ الظِّهَارِ بِخِلَافِ الْحُدُودِ فَالْمَقْصُودُ هُنَاكَ الْخِزْيُ وَالنَّكَالُ وَإِنَّمَا الْكَفَّارَةُ فِي حَقِّ مَنْ جَاءَ تَائِبًا مُسْتَسْلِمًا لِحُكْمِ الشَّرْعِ كَمَا فَعَلَهُ مَاعِزٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَعْنَى

الْعِبَادَةِ يَتَرَجَّحُ فِي الْكَفَّارَةِ حَتَّى تَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ الَّذِي هُوَ مَحْضُ عِبَادَةٍ وَلَا يَتَأَدَّى إلَّا بِنِيَّةِ الْعِبَادَةِ وَيُفْتَى بِهِ وَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ كُرْهًا وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْعِبَادَةِ وَتَأْثِيرُ هَذَا الْوَصْفِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ أَنَّ مُوجَبَ الظِّهَارِ الْحُرْمَةُ الْمُؤَقَّتَةُ بِالْكَفَّارَةِ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ تِلْكَ الْحُرْمَةِ هُنَا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْكَفَّارَةِ فَلَوْ صَحَّ ظِهَارُهُ لَثَبَتَتْ بِهِ حُرْمَةٌ مُطْلَقَةٌ وَهَذَا لَيْسَ بِمُوجَبِ الظِّهَارِ وَبِهِ فَارَقَ حُرْمَةَ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ حُرْمَةٌ بِزَوَالِ الْمِلْكِ أَوْ بِانْعِدَامِ مَحَلِّ الْحِلِّ وَالْكَافِرُ مِنْ أَهْلِهِ وَبِهِ فَارَقَ الْعَبْدَ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْكَفَّارَةِ إلَّا أَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ لِعَدَمِ الْمِلْكِ حَتَّى لَوْ عَتَقَ وَأَصَابَ مَالًا كَانَتْ كَفَّارَتُهُ بِالْمَالِ وَبِهِ فَارَقَ الْإِيلَاءَ لِأَنَّهُ طَلَاقٌ مُؤَجَّلٌ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَالذِّمِّيُّ مِنْ أَهْلِ الطَّلَاقِ وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ الثَّابِتَةَ بِالْيَمِينِ تَكُونُ مُطْلَقَةً لَا مُؤَقَّتَةً بِالْكَفَّارَةِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ التَّكْفِيرُ قَبْلَ الْحِنْثِ .

( قَالَ ) وَإِذَا ظَاهَرَ الْمُسْلِمُ مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَا فَهُوَ عَلَى ظِهَارِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى يُكَفِّرَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَدْ سَقَطَ الظِّهَارُ عَنْهُ بِالرِّدَّةِ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الظِّهَارِ وَهُوَ بِالرِّدَّةِ قَدْ الْتَحَقَ بِالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ وَكَمَا لَا يَنْعَقِدُ الظِّهَارُ بِدُونِ الْأَهْلِيَّةِ لَا يَبْقَى بَعْدَ انْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ وَهَذَا لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالظِّهَارِ حُرْمَةٌ مُؤَقَّتَةٌ بِالْكَفَّارَةِ وَبَعْدَ الرِّدَّةِ لَا يُمْكِنُ إبْقَاءُ هَذِهِ الْحُرْمَةِ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ أَهْلًا لِلْكَفَّارَةِ فَلَوْ بَقِيَ إنَّمَا يَبْقَى حُرْمَةً مُطْلَقَةً وَهَذَا لَمْ يَكُنْ مُوجِبَ ظِهَارِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ ظِهَارُهُ قَدْ صَحَّ مُوجِبًا لِحُكْمِهِ فَلَا يَرْتَفِعُ حُكْمُهُ إلَّا بِالْكَفَّارَةِ وَهَذَا لِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِالظِّهَارِ فِي مَعْنَى الْحُرْمَةِ بِالطَّلَاقِ ثُمَّ الْمُسْلِمُ لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ لَا تَحِلُّ لَهُ إلَّا بَعْدَ زَوْجٍ فَكَذَلِكَ إذَا ظَاهَرَ مِنْهَا وَهَذَا لِأَنَّهُ غَيْرُ مُقِرٍّ عَلَى كُفْرِهِ بَلْ هُوَ مُجْبَرٌ عَلَى الْعَوْدِ إلَى الْإِسْلَامِ فَيُمْكِنُ إبْقَاءُ الْحُرْمَةِ الْمُؤَقَّتَةِ بِالْكَفَّارَةِ بِاعْتِبَارِ مَا بَعْدَ إسْلَامِهِ تَوْضِيحُهُ : أَنَّ اعْتِبَارَ الْأَهْلِيَّةِ عِنْدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ لِيَتَقَرَّرَ مُوجِبًا وَعِنْدَ أَدَاءِ الْكَفَّارَةِ لِيَصِحَّ الْأَدَاءُ فَفِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ بَقَاءُ الْأَهْلِيَّةِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جُنَّ بَعْدَ مَا ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ أَفَاقَ بَقِيَ ظِهَارُهُ حَتَّى يُكَفِّرَ مَعَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ التَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا عَنْ ظِهَارِهِ فِي رِدَّتِهِ ثُمَّ أَسْلَمَ جَازَ عِتْقُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ .

( قَالَ ) وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ شِئْت فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَشَاءَتْ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِهَا لَزِمَهُ الظِّهَارُ وَهَذَا وَالطَّلَاقُ الْمُعَلَّقُ بِمَشِيئَتِهَا سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ يُعْتَبَرُ وُجُودُ الْمَشِيئَةِ فِي الْمَجْلِسِ وَأَنَّ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنْجَزِ

( قَالَ ) وَإِنْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي الْيَوْمَ فَهُوَ كَمَا قَالَ لَا يَقْرَبُهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ حَتَّى يُكَفِّرَ فَإِذَا مَضَى الْيَوْمُ بَطَلَ الظِّهَارُ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ مُظَاهِرٌ أَبَدًا حَتَّى يُكَفِّرَ وَقَاسَ هَذَا بِالْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ بِالطَّلَاقِ فِي أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ بِالتَّوْقِيتِ وَلَكِنَّا نَقُولُ مُوجَبُ الظِّهَارِ الْحُرْمَةُ وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلتَّوْقِيتِ كَالْحُرْمَةِ بِسَبَبِ الْعِدَّةِ وَحُرْمَةُ الْبَيْعِ إلَى الْفَرَاغِ مِنْ الْجُمُعَةِ وَحُرْمَةُ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ إلَى أَنْ يَحِلَّ وَالْحُرْمَةُ بِسَبَبِ الْيَمِينِ فَإِذَا احْتَمَلَ التَّوْقِيتَ صَحَّ تَوْقِيتُهُ وَلَا يَبْقَى بَعْدَ مُضِيِّ الْوَقْتِ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فَالْحُرْمَةُ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ زَوَالِ الْمِلْكِ أَوْ لِانْعِدَامِ مَحَلِّ الْحِلِّ وَذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي شَهْرًا أَوْ حَتَّى يَقْدَمَ فُلَانٌ فَهُوَ كَمَا قَالَ وَيَسْقُطُ بِمُضِيِّ الشَّهْرِ أَوْ قُدُومِ فُلَانٍ لِانْتِهَاءِ الْحُرْمَةِ بِمُضِيِّ وَقْتِهَا .

( قَالَ ) وَلَوْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا أَوْ ارْتَدَّتْ عَنْ الْإِسْلَامِ فَبَانَتْ مِنْهُ ثُمَّ أَسْلَمَتْ وَتَزَوَّجَتْهُ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ كَانَ الظِّهَارُ عَلَى حَالِهِ لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ لِأَنَّ ظِهَارَهُ قَدْ صَحَّ وَتَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ إلَى أَنْ يُكَفِّرَ فَثُبُوتُ الْحُرْمَةِ بِسَبَبٍ آخَرَ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ تِلْكَ الْحُرْمَةِ لِأَنَّ أَسْبَابَ الْحُرْمَةِ تَجْتَمِعُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ وَإِذَا بَقِيَتْ تِلْكَ الْحُرْمَةُ لَا تَرْتَفِعُ إلَّا بِالْكَفَّارَةِ

( قَالَ ) وَلَوْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ وَهِيَ أَمَةٌ ثُمَّ اشْتَرَاهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَقْرَبَهَا حَتَّى يُكَفِّرَ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ تَثْبُتُ بِالظِّهَارِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ بِالطَّلَاقِ وَلَوْ طَلَّقَهَا اثْنَتَيْنِ لَمْ تَحِلَّ لَهُ بِسَبَبِ الشِّرَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ بِزَوْجٍ آخَرَ فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ بِالظِّهَارِ أَوْ هَذِهِ حُرْمَةٌ مَعَ بَقَاءِ الْمِلْكِ فَكَانَتْ كَالْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ بِسَبَبِ الْحَيْضِ وَالْحَائِضُ لَا تَحِلُّ لَهُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ كَمَا لَا تَحِلُّ لَهُ بِمِلْكِ النِّكَاحِ وَكَذَلِكَ إنْ أَعْتَقَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لِأَنَّ النِّكَاحَ الثَّانِيَ كَالْأَوَّلِ وَمَعَ بَقَاءِ النِّكَاحِ الْأَوَّلِ مَا كَانَ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْرَبَهَا حَتَّى يُكَفِّرَ فَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي .

( قَالَ ) وَظِهَارُ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ بَاطِلٌ كَطَلَاقِهِمَا لِأَنَّ مُوجَبَ الظِّهَارِ الْحُرْمَةُ الْمُؤَقَّتَةُ بِالْكَفَّارَةِ وَلَيْسَا مِنْ أَهْلِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِمَا وَلَا مِنْ أَهْلِ مُبَاشَرَةِ سَبَبِ الْحُرْمَةِ بِالْقَوْلِ .

( قَالَ ) وَظِهَارُ السَّكْرَانِ وَالْمُكْرَهِ لَازِمٌ كَطَلَاقِهَا لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ وَالسُّكْرَ لَا يُؤَثِّرُ فِي اكْتِسَابِ سَبَبِ الْحُرْمَةِ بِالْقَوْلِ وَلَا فِي اكْتِسَابِ وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عِنْدَنَا

( قَالَ ) وَظِهَارُ الْأَخْرَسِ مِنْ امْرَأَتِهِ فِي كِتَابٍ أَوْ إشَارَةٍ مَفْهُومَةٍ صَحِيحٌ كَطَلَاقِهِ لِكَوْنِهِ أَهْلًا لِمُوجَبِ الظِّهَارِ وَلَا يَدْخُلُ عَلَى الْمُظَاهِرِ إيلَاءٌ وَإِنْ لَمْ يُجَامِعْهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا لَمْ يُجَامِعْهَا وَلَمْ يُكَفِّرْ حَتَّى مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَانَتْ بِالْإِيلَاءِ لِأَنَّ الْمَوْلَى مُضَارٌّ مُتَعَنِّتٌ بِمَنْعِ حَقِّهَا فِي الْغَشَيَانِ وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ فِي حَقِّهَا بِالظِّهَارِ لِأَنَّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قُرْبَانِهَا شَرْعًا إلَّا بِالْكَفَّارَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ حُكْمُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ وَلَا يُقَاسُ الْمَنْصُوصُ عَلَى الْمَنْصُوصِ فَلَوْ أَثْبَتْنَا حُكْمَ الْإِيلَاءِ فِي الظِّهَارِ كَانَ بِطَرِيقِ الْمُقَايَسَةِ وَكَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ حُكْمُ الظِّهَارِ فِي الْإِيلَاءِ بِطَرِيقِ الْمُقَايَسَةِ فَكَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ فِي الظِّهَارِ مَعَ أَنَّ الظِّهَارَ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْإِيلَاءِ فَإِنَّ التَّكْفِيرَ فِي الظِّهَارِ قَبْلَ الْجِمَاعِ وَفِي الْإِيلَاءِ بَعْدَهُ .

( قَالَ ) وَلَوْ قَالَ إنْ قَرِبْتُك فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي كَانَ مُولِيًا إنْ تَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بَانَتْ بِالْإِيلَاءِ وَإِنْ قَرِبَهَا فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ لَزِمَهُ الظِّهَارُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ إنْ قَرِبْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ وَهَذَا لِأَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ مِنْ قُرْبَانِهَا إلَّا بِظِهَارٍ يَلْزَمُهُ وَمَعْنَى الْإِضْرَارِ وَالتَّعَنُّتِ بِهَذَا يَتَحَقَّقُ فَكَانَ مُولِيًا مِنْهَا وَإِذَا بَانَتْ بِالْإِيلَاءِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَقَرِبَهَا فَهُوَ مُظَاهِرٌ لِأَنَّ الْيَمِينَ بَاقِيَةٌ وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنْجَزِ .

( قَالَ ) وَإِذَا ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ قَالَ لِامْرَأَةٍ لَهُ أُخْرَى أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلُ هَذِهِ يَنْوِي الظِّهَارَ فَهُوَ مُظَاهِرٌ لِأَنَّهُ شَبَّهَ الثَّانِيَةَ بِالْأُولَى وَلِأَنَّ قَصْدَ التَّشْبِيهِ فِي حُكْمِ الظِّهَارِ وَهَذَا قَصْدٌ صَحِيحٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ تَشْبِيهَ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ قَدْ يَكُونُ فِي وَجْهٍ خَاصٍّ وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ رَجُلٌ آخَرُ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلُ امْرَأَةِ فُلَانٍ عَلَيْهِ يَنْوِي الظِّهَارَ كَانَ مُظَاهِرًا مِنْهَا أَيْضًا وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الظِّهَارَ فَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ مُحْتَمِلٌ أَنْ يَكُونَ التَّشْبِيهُ فِي حُكْمِ الْحِلِّ وَالْمِلْكِ أَوْ الْبِرِّ وَالْكَرَامَةِ وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ مُلْزِمًا شَيْئًا بِدُونِ النِّيَّةِ .

( قَالَ ) وَإِنْ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ قَالَ لِامْرَأَةٍ لَهُ أُخْرَى قَدْ أَشْرَكْتُك فِي ظِهَارِ فُلَانَةَ كَانَ مُظَاهِرًا أَيْضًا كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِشْرَاكَ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ وَقَدْ صَرَّحَ بِالظِّهَارِ فَكَانَ ذَلِكَ تَنْصِيصًا عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمِ الظِّهَارِ وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي إنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إذَا اتَّصَلَ بِالْكَلَامِ يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً كَمَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ وَاسْتَثْنَى فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ } وَإِنْ قَالَ إنْ شَاءَ فُلَانٌ فَالْمَشِيئَةُ إلَى فُلَانٍ فِي مَجْلِسِ عِلْمِهِ كَمَا فِي الطَّلَاقِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَلَّقَ بِمَشِيئَتِهَا يُنَجَّزُ إذَا شَاءَتْ فِي مَجْلِسِ عِلْمِهَا فَكَذَلِكَ إذَا عَلَّقَ بِمَشِيئَتِهِ غَيْرَهَا .

( قَالَ ) وَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ عَلَى الْعَبْدِ الصَّوْمُ مَا لَمْ يَعْتِقْ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْإِعْتَاقِ وَعَجْزُهُ أَبْيَنُ مِنْ عَجْزِ الْمُعْسِرِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْمِلْكِ فَيُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ وَلَيْسَ لِمَوْلَاهُ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الصَّوْمِ لِمَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ حَقِّ الْمَرْأَةِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ فَإِنْ عَتَقَ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ وَمَلَكَ مَالًا فَكَفَّارَتُهُ بِالْعِتْقِ لِأَنَّ التَّكْفِيرَ بِالصَّوْمِ كَانَ لِضَرُورَةِ الْعَجْزِ عَنْ التَّكْفِيرِ بِالْمَالِ فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ لَزِمَهُ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْكَفَّارَاتِ حَالَةُ الْأَدَاءِ لَا حَالَةُ الْوُجُوبِ وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْهُ الْمُعْتَبَرُ حَالَةُ الْوُجُوبِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي اعْتِبَارِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِيهَا كَمَا فِي الْحُدُودِ حَتَّى إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَهُوَ عَبْدٌ ثُمَّ عَتَقَ قَبْلَ الْإِقَامَةِ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الْعَبِيدِ لَا حَدُّ الْأَحْرَارِ بِخِلَافِ الْكَفَّارَةِ وَعِنْدَنَا الْمُعْتَبَرُ حَالَةُ الْأَدَاءِ إلَّا أَنَّ الصَّوْمَ بَدَلٌ عَنْ الْعِتْقِ وَمَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ لَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِالْبَدَلِ وَحَدُّ الْعَبِيدِ لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ حَدِّ الْأَحْرَارِ وَالْمَصِيرُ إلَيْهِ لَيْسَ لِلْعَجْزِ فَبَدَنُ الْعَبْدِ يَحْتَمِلُ مِنْ الضَّرْبِ فَوْقَ مَا يَحْتَمِلُهُ بَدَنُ الْحُرِّ وَسَنُقَرِّرُ هَذَا فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( قَالَ ) وَإِنْ أَعْتَقَ عَنْهُ مَوْلَاهُ فِي رِقِّهِ أَوْ أَطْعَمَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ لَمْ يَجْزِهِ لِأَنَّ الرِّقَّ مُنَافٍ لِلْمِلْكِ فَلَا يَمْلِكُ الْمَالَ بِتَمْلِيكِ الْمَوْلَى مَعَ قِيَامِ الْمُنَافِي فِيهِ فَإِنَّ الْمُتَنَافِيَيْنِ لَا يَجْتَمِعَانِ وَبِدُونِ مِلْكِهِ لَا يُتَصَوَّرُ الْإِعْتَاقُ عَنْهُ وَالْكَفَّارَةُ الْوَاجِبَةُ عَلَيْهِ لَا تَسْقُطُ بِمِلْكِ الْغَيْرِ فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إعْتَاقُهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ وَلَا إطْعَامُهُ الْمَسَاكِينَ سَوَاءٌ بَاشَرَهُ الْمَوْلَى أَوْ الْعَبْدُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى .

( قَالَ ) حُرٌّ ظَاهِرٌ وَهُوَ مُعْسِرٌ ثُمَّ أَيْسَرَ فَعَلَيْهِ الْعِتْقُ لِأَنَّ جَوَازَ تَكْفِيرِهِ بِالصَّوْمِ كَانَ لِلْعَجْزِ وَقَدْ زَالَ قَبْلَ إسْقَاطِ الْوَاجِبِ فَالْتَحَقَ بِمَا لَوْ كَانَ مُوسِرًا فِي الِابْتِدَاءِ فَإِنْ أَعْسَرَ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ فَعَلَيْهِ الصَّوْمُ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ التَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ فَيُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } الْآيَةَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَابُ الْعِتْقِ فِي الظِّهَارِ ( قَالَ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَيَجُوزُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ عِتْقُ الرَّقَبَةِ الْعَوْرَاءِ عِنْدَنَا وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهَا نَاقِصَةٌ بِنُقْصَانٍ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ فَكَانَتْ كَالْعَمْيَاءِ وَهُوَ الْأَصْلُ عِنْدَهُ : أَنَّ كُلَّ عَيْبٍ لَا يُرْجَى زَوَالُهُ يَكُونُ فَاحِشًا يَمْنَعُ جَوَازَ التَّكْفِيرِ بِهِ وَكُلَّ عَيْبٍ يُرْجَى زَوَالُهُ يَكُونُ يَسِيرًا لَا يَمْنَعُ جَوَازَ التَّكْفِيرِ بِهِ كَالْحُمَّى وَالشَّجَّةِ وَنَحْوِهَا وَالْأَصْلُ عِنْدَنَا قَوْله تَعَالَى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ رَقَبَةٌ مُطْلَقَةٌ ، وَالتَّقْيِيدُ بِصِفَةِ السَّلَامَةِ يَكُونُ زِيَادَةً ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ ، وَلَكِنَّ مُطْلَقَ الرَّقَبَةِ يَقْتَضِي قِيَامَهَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَالْقَائِمُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ لَا يَكُونُ مُطْلَقًا وَالْعَمْيَاءُ مُسْتَهْلَكَةٌ مِنْ وَجْهٍ لِفَوَاتِ مَنْفَعَةِ الْحِسِّ وَهُوَ الْبَصَرُ فَإِنَّ بَقَاءَ الْآدَمِيِّ بِمَنَافِعِهِ مَعْنِيٌّ فَفَوَاتُ مَنْفَعَةِ الْحِسِّ يَكُونُ اسْتِهْلَاكًا مِنْ وَجْهٍ ، وَلَيْسَ فِي الْعَوَرِ فَوَاتُ مَنْفَعَةِ الْحِسِّ وَكَذَلِكَ فِي قَطْعِ الْيَدَيْنِ تَفُوتُ مَنْفَعَةُ الْبَطْشِ ، وَبِقَطْعِ إحْدَى الْيَدَيْنِ لَا تَفُوتُ ، وَكَذَلِكَ أَشَلُّ الْيَدَيْنِ لَا يُجْزِي لِفَوْتِ مَنْفَعَةِ الْحِسِّ ، وَمَقْطُوعُ الرِّجْلَيْنِ أَوْ أَشَلُّهُمَا لَا يُجْزِي لِفَوَاتِ مَنْفَعَةِ الْمَشْيِ ، وَمَقْطُوعُ أَحَدِ الرِّجْلَيْنِ يُجْزِي لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْمَشْيِ لَا تَفُوتُ بِهِ وَكَذَلِكَ مَقْطُوعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ خِلَافٍ ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْمَشْيِ بِالْعَصَا ، وَمَنْفَعَةُ الْبَطْشِ بَاقِيَةٌ أَيْضًا فَلَمْ تَكُنْ مُسْتَهْلَكَةً ، وَالْمَجْنُونُ ، وَالْمَعْتُوهُ لَا يُجْزِي لِفَوَاتِ الْعَقْلِ بِهِ ، وَهُوَ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ وَاَلَّذِي يُجَنُّ وَيُفِيقُ يُجْزِي ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْعَقْلِ غَيْرُ فَائِتَةٍ ، بَلْ هِيَ قَائِمَةٌ تَسْتَتِرُ تَارَةً ، وَتَظْهَرُ أُخْرَى ، وَالْخَرْسَاءُ لَا تُجْزِي لِأَنَّ

مَنْفَعَةَ الْكَلَامِ مَقْصُودَةٌ وَالْآدَمِيُّ إنَّمَا بَايَنَ سَائِرَ الْحَيَوَانَاتِ بِالْبَيَانِ فَفَوَاتُهَا يَكُونُ اسْتِهْلَاكًا مِنْ وَجْهٍ وَتُجْزِي الرَّقَبَةُ الصَّغِيرَةُ لِأَنَّهَا قَائِمَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَلَا يُقَالُ إنَّهَا فَائِتَةُ الْمَنَافِعِ مِنْ الْبَطْشِ وَالْمَشْيِ وَالْعَقْلِ وَالْكَلَامِ لِأَنَّهَا عَدِيمَةُ الْمَنَافِعِ إلَى الْإِصَابَةِ عَادَةً فَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ عَيْبًا وَلِأَنَّ مَا لَا يَخْلُو عَنْهُ أَصْلُ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ لَا يُعَدُّ نُقْصَانًا فَضْلًا عَنْ الِاسْتِهْلَاكِ

( قَالَ ) : وَتُجْزِي الرَّقَبَةُ الْكَافِرَةُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ وَالْإِفْطَارِ عِنْدَنَا وَلَا تُجْزِي عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَّا الرَّقَبَةُ الْمُؤْمِنَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } وَلَا خُبْثَ أَشَدُّ مِنْ الْكُفْرِ ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَقَبَةٍ سَوْدَاءَ ، وَقَالَ : عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ أَفَتُجْزِينِي هَذِهِ فَامْتَحَنَهَا بِالْإِيمَانِ فَوَجَدَهَا مُؤْمِنَةً فَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ } فَامْتِحَانُهُ إيَّاهَا بِالْإِيمَانِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِالْمُؤْمِنَةِ ، وَلِأَنَّ هَذَا تَحْرِيرٌ فِي تَكْفِيرٍ فَلَا يُجْزِي فِيهِ غَيْرُ الْمُؤْمِنَةِ كَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَهَذَا لِأَنَّ الرَّقَبَةَ مُطْلَقَةٌ هُنَا مُقَيَّدَةٌ بِالْإِيمَانِ فِي الْقَتْلِ وَالْمُطْلَقُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ ؛ لِأَنَّ الْقَيْدَ مَسْكُوتٌ عَنْهُ فِي الْمُطْلَقِ ، وَقِيَاسُ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ عَلَى الْمَنْصُوصِ صَحِيحٌ ، وَلِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ يَقْتَضِي نَفْيَ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِهِ فِي عَيْنِ مَا تَعَلَّقَ بِالشَّرْطِ وَكَذَلِكَ فِي نَظَائِرِهِ اسْتِدْلَالًا بِهِ ، وَالْكَفَّارَاتُ جِنْسٌ وَاحِدٌ فَالتَّقْيِيدُ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ فِي بَعْضِهَا يُوجِبُ نَفْيَ الْجَوَازِ عِنْدَ عَدَمِ الْإِيمَانِ فِي جَمِيعِهَا كَالتَّقْيِيدِ بِشَرْطِ الْعَدَالَةِ فِي بَعْضِ الشَّهَادَاتِ أَوْجَبَ نَفْيَ الْجَوَازِ عِنْدَ عَدَمِهَا فِي الْكُلِّ وَكَذَلِكَ التَّقْيِيدُ بِالتَّبْلِيغِ إلَى الْكَعْبَةِ فِي هَدْي جَزَاءِ الصَّيْدِ أَوْجَبَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْهَدَايَا .
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ ظَاهِرُ الْآيَةِ فَالْمَنْصُوصُ اسْمُ الرَّقَبَةِ ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يُنْبِئُ عَنْ صِفَةِ الْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ ، فَالتَّقْيِيدُ بِصِفَةِ الْإِيمَانِ يَكُونُ زِيَادَةً ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ فَلَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَا بِالْقِيَاسِ ثُمَّ قِيَاسُ الْمَنْصُوصِ عَلَى الْمَنْصُوصِ

عِنْدَنَا بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ اعْتِقَادُ النَّقْصِ فِيمَا تَوَلَّى اللَّهُ بَيَانَهُ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، وَكَذَلِكَ شُرُوطُ الْكَفَّارَاتِ لَا تَثْبُتُ بِالْقِيَاسِ كَأَصْلِهَا ، وَلَا يَجُوزُ دَعْوَى التَّخْصِيصِ هُنَا لِأَنَّ التَّخْصِيصَ فِيمَا لَهُ عُمُومٌ وَالْمُطْلَقُ غَيْرُ الْعَامِّ وَامْتِنَاعُ جَوَازِ الْعَمْيَاءِ وَنَظَائِرِهَا لَيْسَ بِطَرِيقِ التَّخْصِيصِ بَلْ لِكَوْنِهَا مُسْتَهْلَكَةً مِنْ وَجْهٍ كَمَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّخْصِيصَ فِيمَا لَهُ لَفْظٌ ، وَالصِّفَةُ فِي الرَّقَبَةِ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ وَلَا يُقَالُ : بَيْنَ صِفَةِ الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ تَضَادٌّ فَإِذَا جَوَّزْنَا الْمُؤْمِنَةَ انْتَفَى جَوَازُ الْكَافِرَةِ ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْمُؤْمِنَةِ عِنْدَنَا لِأَنَّهَا رَقَبَةٌ لَا بِصِفَةِ الْإِيمَانِ أَلَا تَرَى أَنَّا نُجَوِّزُ الصَّغِيرَةَ وَالْكَبِيرَةَ وَبَيْنَ الصِّفَتَيْنِ تَضَادٌّ ، وَكَذَلِكَ نُجَوِّزُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى وَبَيْنَ الصِّفَتَيْنِ تَضَادٌّ .
وَلَكِنَّ الْجَوَازَ بِاسْمِ الرَّقَبَةِ فَكَانَ الْوَصْفُ فِيهِ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ فَأَمَّا حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ فَالْعِرَاقِيُّونَ مِنْ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ يُجَوِّزُونَ ذَلِكَ فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ } مَعَ قَوْلِهِ { فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ } ، وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ عِنْدَنَا فِي حَادِثَةٍ ، وَلَا فِي حَادِثَتَيْنِ حَتَّى جَوَّزَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى التَّيَمُّمَ بِجَمِيعِ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ لِقَوْلِهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا } وَلَمْ يُحْمَلْ هَذَا الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { التُّرَابُ طَهُورُ الْمُسْلِمِ } وَهَذَا لِأَنَّ لِلْمُطْلَقِ حُكْمًا وَهُوَ الْإِطْلَاقُ وَفِي حَمْلِهِ عَلَى الْمُقَيَّدِ إبْطَالُ حُكْمِهِ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي قَوْلِهِ : أَبْهِمُوا مَا أَبْهَمَ اللَّهُ ، وَامْتِنَاعُ وُجُوبِ

الزَّكَاةِ فِي غَيْرِ السَّائِمَةِ لَيْسَ لِحَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بَلْ لِلنَّصِّ الْوَارِدِ بِأَنْ لَا زَكَاةَ فِي الْعَوَامِلِ ، وَاشْتِرَاطُ الْعَدَالَةِ فِي الشَّهَادَاتِ لَيْسَ لِحَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بَلْ لِلنَّصِّ الْوَارِدِ بِالتَّثَبُّتِ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ وَكَذَلِكَ وُجُوبُ التَّبْلِيغِ إلَى الْكَعْبَةِ فِي جَمِيعِ الْهَدَايَا لِلنَّصِّ ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } ، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ إنَّمَا يَجُوزُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْحَادِثَتَيْنِ ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ وَبَيْنَ سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ فَإِنَّ الْقَتْلَ مِنْ أَعْظَمِ الْكَبَائِرِ وَفِيهِ تَفْوِيتُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ مُخَاطَبَةً بِالْإِيمَانِ بِخِلَافِ أَسْبَابِ سَائِرِ الْكَفَّارَاتِ فَفِيهَا مِنْ التَّغْلِيظِ مَا لَيْسَ فِي غَيْرِهَا وَلِهَذَا لَا يَكُونُ الْإِطْعَامُ بَدَلًا مِنْ الصِّيَامِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ ، وَاشْتِرَاطُ صِفَةِ التَّتَابُعِ عِنْدَنَا فِي الصَّوْمِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لَيْسَ بِطَرِيقِ حَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ بَلْ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَهِيَ مَشْهُورَةٌ وَهِيَ لَازِمَةٌ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُمْ لَا يَشْتَرِطُونَ صِفَةَ التَّتَابُعِ فِيهَا لِحَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ لِذَلِكَ الْمُطْلَقِ أَصْلَانِ أَحَدُهُمَا مُقَيَّدٌ بِالتَّفَرُّقِ وَهُوَ صَوْمُ الْمُتْعَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِالتَّفَرُّقِ وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ لِأَنَّهُ مُضَافٌ إلَى وَقْتِ الرُّجُوعِ بِحَرْفِ إذَا ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { : وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ } فَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ ذُكِرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ الرَّجُلَ قَالَ عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ أَوْ عَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ أَنَّ عَلَيْهِ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً فَلِهَذَا امْتَحَنَهَا بِالْإِيمَانِ مَعَ أَنَّ فِي صِحَّةِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ كَلَامًا فَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَيْنَ اللَّهُ فَأَشَارَتْ إلَى السَّمَاءِ } وَلَا نَظُنُّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ يَطْلُبُ مِنْ أَحَدٍ أَنْ يُثْبِتَ لِلَّهِ تَعَالَى جِهَةً وَلَا مَكَانًا ، وَلَا حُجَّةَ لَهُمْ فِي الْآيَةِ لِأَنَّ الْكُفْرَ خَبَثٌ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادِ ، وَالْمَصْرُوفُ إلَى الْكَفَّارَةِ لَيْسَ هُوَ الِاعْتِقَادُ إنَّمَا الْمَصْرُوفُ إلَى الْكَفَّارَةِ الْمَالِيَّةُ وَمِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةِ هُوَ عَيْبٌ يَسِيرٌ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ .

( قَالَ ) : وَيُجْزِئُ الْأَصَمُّ فِي جَمِيعِ الْكَفَّارَاتِ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ لَا يُجْزِئُ وَهُوَ رِوَايَةٌ فِي النَّوَادِرِ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ السَّمْعِ مَقْصُودَةٌ ، وَبِالصَّمَمِ يَفُوتُ ذَلِكَ ؛ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ : أَنَّ بِالصَّمَمِ لَا تَفُوتُ مَنْفَعَةُ السَّمْعِ أَصْلًا حَتَّى أَنَّهُ يَسْمَعُ إذَا صَاحَ إنْسَانٌ فِي أُذُنِهِ وَقِيلَ : الرِّوَايَةُ الَّتِي قَالَ لَا يَجُوزُ مَحْمُولٌ عَلَى صَمَمٍ أَصْلِيٍّ وَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَعَهُ الْخَرَسُ فَإِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ الْكَلَامَ لِيَتَكَلَّمَ وَهَذَا لَا يُجْزِي ، وَمُرَادُهُ مِنْ الرِّوَايَةِ الَّتِي قَالَ لَا يُجْزِي إذَا كَانَ الصَّمَمُ عَارِضًا فَلَا يَكُونُ مَعَهُ الْخَرَسُ وَيَسْمَعُ عِنْدَ الْمُبَالَغَةِ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ

( قَالَ ) : وَيُجْزِي الْخَصِيُّ وَمَقْطُوعُ الْأُذُنَيْنِ وَمَقْطُوعُ الْمَذَاكِيرِ عِنْدَنَا ، وَلَا يُجْزِئُ عِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهَا مُسْتَهْلَكَةٌ مِنْ وَجْهٍ بِفَوَاتِ مَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ مِنْ الْآدَمِيِّ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ بَعْدَ قَطْعِ الْأُذُنَيْنِ الشَّاخِصَتَيْنِ : السَّمْعُ بَاقٍ وَإِنَّمَا يَفُوتُ مَا هُوَ زِينَةٌ وَجَمَالٌ فَلَا تَصِيرُ الرَّقَبَةُ بِهِ مُسْتَهْلَكَةً كَفَوَاتِ شَعْرِ الْحَاجِبَيْنِ وَاللِّحْيَةِ ، وَفِي الْخَصِيَّ وَمَقْطُوعِ الْمَذَاكِيرِ إنَّمَا تَفُوتُ مَنْفَعَةُ النَّسْلِ وَهُوَ زَائِدٌ عَلَى مَا هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْ الْمَمَالِيكِ فَأَمَّا إذَا كَانَ مَقْطُوعَ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ لَا يُجْزِئُ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْمَشْيِ فَائِتَةٌ فَإِنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْمَشْيِ بِعَصَا ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مِنْ كُلِّ يَدٍ ثَلَاثَةُ أَصَابِعَ مَقْطُوعَةً لَمْ يَجُزْ لِفَوَاتِ مَنْفَعَةِ الْبَطْشِ ، وَقَطْعُ أَكْثَرِ الْأَصَابِعِ فِي هَذَا كَقَطْعِ جَمِيعِهَا ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْطُوعُ مِنْ كُلِّ يَدٍ أُصْبُعًا أَوْ أُصْبُعَيْنِ سِوَى الْإِبْهَامِ يُجْزِي ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْبَطْشِ بَاقِيَةٌ ، وَإِنْ كَانَ مَقْطُوعَ الْإِبْهَامِ مِنْ كُلِّ يَدٍ فَمَنْفَعَةُ الْبَطْشِ فَائِتَةٌ ، فَلِهَذَا لَا يُجْزِي ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الْمَفْلُوجُ الْيَابِسُ الشِّقِّ لِفَوَاتِ جِنْسِ الْمَنْفَعَةِ مِنْهُ وَلَا يَجُوزُ عِتْقُ أُمِّ الْوَلَدِ فِي الْكَفَّارَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ الرَّقَبَةُ ، وَذَلِكَ اسْمٌ لِلذَّاتِ حَقِيقَةً وَلِلذَّاتِ الْمَرْقُوقِ عُرْفًا ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى الرِّقِّ قَوْله تَعَالَى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } فَيَقْتَضِي قِيَامَ الرِّقِّ مُطْلَقًا ، وَبِالِاسْتِيلَادِ يَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ فِي الرِّقِّ حَتَّى لَا يَعُودَ إلَى الْحَالَةِ الْأُولَى بِحَالٍ ؛ وَلِأَنَّ قَوْله تَعَالَى { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } يَقْتَضِي إنْشَاءَ الْعِتْقِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَإِعْتَاقُ أُمِّ الْوَلَدِ تَعْجِيلٌ لِمَا صَارَ مُسْتَحَقًّا لَهَا مُؤَجَّلًا فَلَا يَكُونُ إنْشَاءً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَوَلَدُ أُمِّ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ أُمِّهِ ، وَالْمُدَبَّرُ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ

بِالتَّدْبِيرِ صَارَ مُسْتَحِقًّا لَهُ وَلِهَذَا لَا يَحْتَمِلُ التَّدْبِيرُ الْفَسْخَ وَيَثْبُتُ بِهِ اسْتِحْقَاقُ الْوَلَاءِ .
( قَالَ ) : وَلَا يُجْزِي إعْتَاقُ الْمُكَاتَبِ إذَا كَانَ أَدَّى شَيْئًا مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ؛ لِأَنَّهُ عِتْقٌ بِعِوَضٍ وَالْكَفَّارَةُ بِهِ لَا تَتَأَدَّى قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : بَشِّرْ أُمَّتِي بِالسَّنَاءِ وَالتَّمْكِينِ مَا لَمْ يَبْتَغُوا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ الدُّنْيَا } ، وَدَلِيلُ أَنَّ الْمَقْبُوضَ عِوَضٌ أَنَّهُ لَوْ وَجَدَهُ زُيُوفًا رَدَّهُ وَاسْتَبْدَلَ بِالْجِيَادِ ؛ وَلِأَنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ اخْتَلَفُوا فِي رِقِّهِ بَعْدَ أَدَائِهِ بَعْضَ الْبَدَلِ فَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ يُعْتَقُ بِقَدْرِ مَا أَدَّى وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ إذَا أَدَّى قِيمَةَ نَفْسِهِ يُعْتَقُ ، وَاخْتِلَافُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي رِقِّهِ شُبْهَةٌ مَانِعَةٌ مِنْ جَوَازِ التَّكْفِيرِ بِهِ ، وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّ رِقَّهُ لَمْ يُنْتَقَصْ بِمَا أَدَّى مِنْ الْبَدَلِ ، وَلِهَذَا احْتَمَلَ عَقْدُ الْكِتَابَةِ الْفَسْخَ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الْبَدَلِ كَمَا احْتَمَلَ قَبْلَهُ فَأَمَّا إذَا أَعْتَقَهُ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ شَيْئًا جَازَ عَنْ الْكَفَّارَةِ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعِتْقِ وَالْوَلَاءِ يَثْبُتُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ فَوْقَ مَا يَثْبُتُ بِالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ وَلِهَذَا يَصِيرُ أَحَقَّ بِمَكَاسِبِهِ ، وَيُعْتَبَرُ الثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ دُونَ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ ، وَيَمْتَنِعُ عَلَى الْمَوْلَى التَّصَرُّفَاتُ فِيهِ فَإِمَّا أَنْ يَقُولَ : يَتَمَكَّنُ بِهَذَا السَّبَبِ نُقْصَانٌ فِي رِقِّهِ ، أَوْ يَكُونَ كَالزَّائِلِ عَنْ مِلْكِ الْمَوْلَى مِنْ وَجْهٍ حَتَّى لَوْ أَتْلَفَهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ .
وَلَوْ وَطِئَ مُكَاتَبَتَهُ يَغْرَمُ الْعُقْرَ ، وَثُبُوتُ حُكْمِ الزَّوَالِ عَنْ مِلْكِهِ مِنْ وَجْهٍ يَكْفِي

لِلْمَنْعِ مِنْ التَّكْفِيرِ وَلِأَنَّهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى كَفَائِتِ الْمَنْفَعَةِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ أَحَقَّ بِمَنَافِعِهِ وَمَكَاسِبِهِ ، أَوْ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَمَّا صَارَ مُسْتَحَقًّا بِالْكِتَابَةِ فَإِذَا أَوْقَعَهُ وَقَعَ مِنْ الْوَجْهِ الْمُسْتَحَقِّ ، وَلِهَذَا يَسْلَمُ لَهُ الْأَوْلَادُ وَالْأَكْسَابُ وَالْعِتْقُ عِنْدَ الْكِتَابَةِ لَا تَتَأَدَّى بِهِ الْكَفَّارَةُ مَعَ أَنَّ هَذَا مِنْ الْمَوْلَى إعْتَاقُ صُورَةٍ فَأَمَّا فِي الْمَعْنَى هُوَ إبْرَاءٌ عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ، وَلِهَذَا يَسْقُطُ مَالُ الْكِتَابَةِ ، وَيَسْلَمُ لَهُ الْأَوْلَادُ وَالْأَكْسَابُ ، وَهُوَ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ الْوَارِثُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا يُجْزِي عَنْ كَفَّارَتِهِ بِالِاتِّفَاقِ .
( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ ظَاهِرُ الْآيَةِ فَفِيهَا أَمْرٌ بِتَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ ، وَالتَّحْرِيرُ تَصْيِيرُ شَخْصٍ مَرْقُوقٍ حُرًّا وَقَدْ حَصَلَ .
وَالرَّقَبَةُ اسْمٌ لِذَاتِ مَرْقُوقٍ عُرْفًا وَالْمُكَاتَبُ كَذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ } وَلَا يَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ فِي رِقِّهِ ، وَلَا يَصِيرُ الْعِتْقُ مُسْتَحَقًّا لَهُ بِسَبَبِ الْكِتَابَةِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْعِتْقِ فِي الْكِتَابَةِ مُتَعَلِّقٌ بِشَرْطِ الْأَدَاءِ ، وَلَوْ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِشَرْطٍ آخَرَ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ فَكَذَلِكَ بِهَذَا الشَّرْطِ بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ يَمْنَعُ الْفَسْخَ ، وَبِهَذَا الشَّرْطِ لَا يُمْنَعُ ، وَلَوْ تَمَكَّنَ نُقْصَانٌ فِي رِقِّهِ لَمَا تُصُوِّرَ فَسْخُهُ وَإِعَادَتُهُ إلَى الْحَالَةِ الْأُولَى ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ الرِّقِّ بِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ مِنْ وَجْهٍ وَكَمَا أَنَّ ثُبُوتَ الْحُرِّيَّةِ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ ، فَكَذَلِكَ ثُبُوتُهُ مِنْ وَجْهٍ وَلِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْكِتَابَةِ انْفِكَاكُ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ ، وَبِذَلِكَ لَا يَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ فِي رِقِّهِ كَالْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ ، إلَّا أَنَّ ذَلِكَ فَكٌّ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، فَلَا يَكُونُ لَازِمًا فِي حَقِّ الْمَوْلَى ، وَهَذَا فَكٌّ بِعِوَضٍ فَيَكُونُ لَازِمًا

وَلَكِنْ ، مَعَ هَذَا ، الْمَنَافِعُ وَالْمَكَاسِبُ غَيْرُ الرَّقَبَةِ فَبِالتَّصَرُّفِ فِيهَا لَازِمًا كَانَ أَوْ غَيْرَ لَازِمٍ لَا يَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ فِي الرِّقِّ ، وَالْمِلْكُ كَالْإِعَارَةِ مَعَ الْإِجَارَةِ وَبِسَبَبِ اللُّزُومِ يَمْتَنِعُ عَلَى الْمَوْلَى التَّصَرُّفُ فِيهِ .
وَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ الْعُقْرِ وَالْأَرْشِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي حُكْمِ الْمَكَاسِبِ وَالْمَنَافِعِ ؛ وَالْمَكَاسِبُ صَارَتْ مُسْتَحَقَّةٌ لَهُ وَلَكِنْ بِهَذَا الِاسْتِحْقَاقِ لَا تَصِيرُ الرَّقَبَةُ فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلَكِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَصِيرُ مُسْتَحَقًّا بِهَذَا السَّبَبِ ظَهَرَ أَنَّ إعْتَاقَ الْمَوْلَى إيَّاهُ يَكُونُ تَحْرِيرًا مُبْتَدَأً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيَصِيرُ بِهِ مُمْتَثِلًا لِلْأَمْرِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَسْقُطُ بِهِ بَدَلُ الْكِتَابَةِ وَلَوْ كَانَ هَذَا إعْتَاقًا بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ لَتَقَرَّرَ بِهِ الْبَدَلُ فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْمُعَوَّضِ يُوجِبُ تَقْرِيرَ الْبَدَلِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إعْتَاقُهُ إبْرَاءً لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ بِالشَّرْطِ وَإِذَا أَعْتَقَ نِصْفَهُ يُعْتِقُ ذَلِكَ الْقَدْرَ ، وَالْإِبْرَاءُ عَنْ نِصْفِ الْبَدَلِ لَا يُوجِبُ عِتْقَ شَيْءٍ مِنْهُ فَأَمَّا سَلَامَةُ الْأَكْسَابِ وَالْأَوْلَادِ فَلِأَنَّهُ عَتَقَ وَهُوَ مُكَاتَبٌ لَا لِأَنَّهُ عَتَقَ بِجِهَةِ الْكِتَابَةِ ، كَمَا لَوْ كَاتَبَ أُمَّ وَلَدِهِ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى عَتَقَتْ بِجِهَةِ الِاسْتِيلَاءِ ، وَسَلَّمَ لَهَا الْأَوْلَادَ وَالْأَكْسَابَ وَهَذَا لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ وَاحِدٌ ، وَالْإِعْتَاقُ مِنْ الْمَوْلَى تَخْتَلِفُ جِهَاتُهُ فَفِيمَا يَرْجِعُ إلَى حَقِّ الْمُكَاتَبِ جُعِلَ هَذَا ذَلِكَ الْعِتْقَ لِكَوْنِهِ مُتَّحِدًا وَفِي حَقِّ الْمَوْلَى يُجْعَلُ إعْتَاقًا بِجِهَةِ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّهُ قَصَدَ ذَلِكَ ، وَهُوَ كَالْمَرْأَةِ إذَا وُهِبَتْ الصَّدَاقُ مِنْ الزَّوْجِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ ، وَتُجْعَلُ هِبَتُهَا فِي حَقِّ الزَّوْجِ تَحْصِيلًا لِمَقْصُودِ الزَّوْجِ عِنْدَ الطَّلَاقِ ، وَفِي حَقِّهَا تُجْعَلُ تَمْلِيكًا بِهِبَةٍ مُبْتَدَأَةٍ .

( قَالَ ) : فَإِنْ أَعْتَقَ عَنْ ظِهَارِهِ نَصِيبَهُ مِنْ عَبْدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ كَفَّارَتِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ ضَمِنَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ فَأَعْتَقَ مَا بَقِيَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ عِنْدَهُ يَتَجَزَّأُ فَإِنَّمَا عَتَقَ نَصِيبَهُ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَنِصْفُ الرَّقَبَةِ لَيْسَ بِرَقَبَةٍ ، ثُمَّ يَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ فِي حَقِّ النِّصْفِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ اسْتِدَامَةُ الرِّقِّ فِيهِ ، وَهَذَا النُّقْصَانُ فِي مِلْكِ الشَّرِيكِ غَيْرُ مُجْزٍ عَنْ الْكَفَّارَةِ ، وَبِالضَّمَانِ إنَّمَا يَمْلِكُ مَا بَقِيَ مِنْهُ فَإِذَا أَعْتَقَهُ كَانَ هَذَا فِي الْمَعْنَى إعْتَاقُ عَبْدٍ إلَّا شَيْئًا وَعِنْدَ الضَّمَانِ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ السِّعَايَةَ فِيمَا ضَمِنَ لِشَرِيكِهِ ، فَإِعْتَاقُهُ يَكُونُ إبْرَاءً عَنْ تِلْكَ السِّعَايَةِ فَلَا تَتَأَدَّى بِهِ الْكَفَّارَةُ ، فَأَمَّا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - الْعِتْقُ لَا يَتَجَزَّأُ فَإِنْ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ عَتَقَ كُلُّهُ إلَّا أَنَّ الْمُعْتِقَ إنْ كَانَ مُوسِرًا فَهُوَ ضَامِنٌ لِنَصِيبِ شَرِيكِهِ ، وَلَا سِعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ فَكَانَ هَذَا إعْتَاقًا بِغَيْرِ عِوَضٍ فَيُجْزِي عَنْ الْكَفَّارَةِ ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَعَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَةُ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ فَيَكُونُ هَذَا عِتْقًا بِعِوَضٍ فَلَا تَتَأَدَّى بِهِ الْكَفَّارَةُ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْعَبْدُ كُلُّهُ لَهُ فَأَعْتَقَ نِصْفَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ عِنْدَهُمَا يُعْتَقُ كُلُّهُ بِغَيْرِ سِعَايَةٍ وَيَجُوزُ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُعْتَقُ نِصْفُهُ وَلَا يَجُوزُ عَنْ كَفَّارَتِهِ فَإِنْ أَعْتَقَ النِّصْفَ الْبَاقِي بَعْدَ ذَلِكَ بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ فِي الْقِيَاسِ لَا يُجْزِيهِ ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ بِإِعْتَاقِ النِّصْفِ يَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُجْزِي ؛ لِأَنَّ هَذَا النُّقْصَانَ بِسَبَبِ الْعِتْقِ عَنْ الْكَفَّارَةِ فَلَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الرَّقَبَةَ

كُلَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُ هُنَا ، فَالنُّقْصَانُ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ إنَّمَا يَحْصُلُ فِي مِلْكِهِ فَيُمْكِنُ تَحْرِيرُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ إذَا أَكْمَلَهُ ، وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى أَعْتَقَ النِّصْفَ وَزِيَادَةً ثُمَّ أَعْتَقَ مَا بَقِيَ بِخِلَافِ الْمُشْتَرَكِ ، وَهَذَا نَظِيرُ الِاسْتِحْسَانِ فِيمَنْ أَضْجَعَ أُضْحِيَّتَهُ لِيَذْبَحَهَا فَأَصَابَتْ السِّكِّينُ عَيْنَ الشَّاةِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ التَّضْحِيَةِ بِهَا اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّ حُصُولَ هَذَا الْعَيْبِ بِسَبَبِ فِعْلِ التَّضْحِيَةِ .

( قَالَ ) : وَلَا يُجْزِيهِ الْعِتْقُ بِمَا فِي الْبَطْنِ عَنْ الْكَفَّارَةِ ، وَإِنْ وَلَدَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ؛ لِأَنَّ الْجَنِينَ بِمَنْزِلَةِ جُزْءٍ مِنْ الْأُمِّ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ فَلَا يَكُونُ رَقَبَةً مُطْلَقَةً ؛ لِأَنَّ الرَّقَبَةَ الْمُطْلَقَةَ مَا يَكُونُ نَفْسًا عَلَى حِدَةٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ خُصُوصًا فِي حُكْمِ الْعِتْقِ ، وَالْجَنِينُ بِمَنْزِلَةِ الْجُزْءِ حَتَّى يَعْتِقَ بِعِتْقِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ كَيَدِهَا وَرِجْلِهَا .

( قَالَ ) : وَإِنْ اشْتَرَى أَبَاهُ يَنْوِي بِهِ الْعِتْقَ عَنْ ظِهَارِهِ أَجْزَأَهُ اسْتِحْسَانًا فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يُجْزِئُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَوَّلِ وَزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ التَّحْرِيرُ ، وَالشِّرَاءُ غَيْرُ التَّحْرِيرِ ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ اسْتِجْلَابٌ لِلْمِلْكِ ، وَالْعِتْقَ إبْطَالٌ لَهُ ، فَكَانَتْ الْمُغَايِرَةُ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبِيلِ الْمُضَادَّةِ ، وَلِأَنَّ الْعِتْقَ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ صَارَ مُسْتَحَقًّا لَهُ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ فَلَا تَتَأَدَّى بِهِ الْكَفَّارَةُ كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِ الْغَيْرِ إنْ اشْتَرَيْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ يَنْوِي بِهِ الْكَفَّارَةَ ، وَهَذَا لِأَنَّ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ إنَّمَا يَعْتِقُ بِالسَّبَبِ الَّذِي حَصَلَ الِاسْتِحْقَاقُ بِهِ ، وَهُوَ الْقَرَابَةُ ، وَلَا يُتَصَوَّرُ اقْتِرَانُ نِيَّةِ الْكَفَّارَةِ بِذَلِكَ السَّبَبِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْقَرَابَةِ أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْعَبْدِ إذَا ادَّعَى سَبَبَهُ يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ قِيمَةَ نَصِيبِهِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ : تَوْضِيحُهُ أَنَّ أُمَّ هَذَا الْوَلَدِ اسْتَحَقَّتْ حَقَّ الْعِتْقِ عِنْدَ دُخُولِهَا فِي مِلْكِهِ وَذَلِكَ مَانِعُ إعْتَاقِهَا عَنْ الْكَفَّارَةِ حَتَّى لَوْ قَالَ لَهَا : إذَا اشْتَرَيْتُك فَأَنْتِ حُرَّةٌ عَنْ ظِهَارِي لَا يُجْزِئُهُ عَنْ الظِّهَارِ .
فَالِابْنُ الَّذِي اسْتَحَقَّ حَقِيقَةَ الْعِتْقِ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ ، أَوْ الْأَبُ أَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزُ إعْتَاقُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعِتْقَ مُجَازَاةٌ لِلْأُبُوَّةِ وَمُجَازَاةُ الْأُبُوَّةِ فَرْضٌ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ وَاجِبٌ آخَرُ وَصَرْفُ مَنْفَعَةِ الْكَفَّارَةِ إلَى أَبِيهِ لَا يَجُوزُ كَالطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ .
( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ ظَاهِرُ الْآيَةِ فَفِيهَا الْأَمْرُ بِالتَّحْرِيرِ وَهُوَ تَصْيِيرُ شَخْصٍ مَرْقُوقٍ حُرًّا كَالتَّسْوِيدِ تَصْيِيرُ الْمَحَلِّ أَسْوَدَ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ ،

وَهَذَا لِأَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَنْ يُجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ } أَيْ بِالشِّرَاءِ كَمَا يُقَالُ : أَطْعَمَهُ فَأَشْبَعَهُ ، وَسَمَّاهُ بِالشِّرَاءِ مَجَازِيًّا ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مَجَازِيًّا بِالْإِعْتَاقِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى نِصْفَ قَرِيبِهِ يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا ، وَالضَّمَانُ الَّذِي يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ إعْتَاقٍ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ بِالشِّرَاءِ يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا ، وَالْمِلْكُ فِي الْقَرِيبِ إكْمَالٌ لِعِلَّةِ الْعِتْقِ فَإِذَا صَارَ مُضَافًا إلَى الشِّرَاءِ يَكُونُ بِهِ مُعْتَقًا ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْحُكْمِ بِوَاسِطَةٍ كَالْمُوجِبِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فِي كَوْنِ الْحُكْمِ مُضَافًا إلَيْهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى إثْبَاتِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ ، أَنَّ عِتْقَ الْقَرِيبِ يَثْبُتُ بِالْقَرَابَةِ وَالْمِلْكِ جَمِيعًا قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَهُوَ حُرٌّ } وَهَذَا لِأَنَّ الْعِتْقَ صِلَةٌ ، وَلِلْمِلْكِ تَأْثِيرٌ فِي اسْتِحْقَاقِ الصِّلَةِ شَرْعًا حَتَّى تَجِبَ الزَّكَاةُ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ صِلَةً لِلْفُقَرَاءِ ، كَمَا أَنَّ لِلْقَرَابَةِ تَأْثِيرًا فِي اسْتِحْقَاقِ الصِّلَةِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَصْفَيْنِ لِكَوْنِهِ مُؤَثِّرًا عِلَّةٌ ، وَمَتَى تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِعِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ ، فَالْحُكْمُ لِآخِرِهِمَا وُجُودًا لِأَنَّهُ تَمَامُ الْعِلَّةِ بِهِ وَآخِرُ الْوَصْفَيْنِ هُنَا الْمِلْكُ فَيَكُونُ بِهِ مُعْتَقًا وَلِهَذَا لَوْ ادَّعَى أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَسَبَ نَصِيبِهِ يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ ؛ لِأَنَّ آخِرَ الْوَصْفَيْنِ وُجُودًا الْقَرَابَةُ هُنَا فَيَصِيرُ بِهِ مُعْتِقًا وَهُوَ كَالشَّهَادَةِ عَلَى النَّسَبِ بَعْدَ الْمَوْتِ يُوجِبُ ضَمَانَ الْمِيرَاثِ عِنْدَ الرُّجُوعِ ؛ لِأَنَّ آخِرَ الْوَصْفَيْنِ مَا أَثْبَتَهُ الشُّهُودُ ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَى هَذَا شَهَادَةُ الشَّاهِدِ الثَّانِي فَإِنَّهُ لَا يُحَالُ بِالْإِتْلَافِ عَلَيْهَا ، وَإِنْ تَمَّتْ الْحُجَّةُ بِهَا ؛ لِأَنَّ

الشَّهَادَةَ لَا تُوجِبُ شَيْئًا بِدُونِ الْقَضَاءِ ، وَالْقَضَاءُ يَكُونُ بِهِمَا مَعًا .
وَبِهَذَا تَبَيَّنَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ : أَنَّ الْعِتْقَ مُسْتَحَقٌّ بِالْقَرَابَةِ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ كَمَالِ الْعِلَّةِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الشِّرَاءِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَحْلُولِ بِعِتْقِهِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ هُنَا شَرْطٌ لَا أَثَرَ لَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ الْعِتْقِ فَيَكُونُ مُعْتَقًا بِيَمِينِهِ ، وَلَمْ تَقْتَرِنْ نِيَّةُ الْكَفَّارَةِ بِهَا حَتَّى لَوْ اقْتَرَنَتْ جَازَ قَوْلُهُمْ : إنَّ الْعِتْقَ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ فَرْضٌ ، قُلْنَا : إنَّمَا يَقَعُ الْعِتْقُ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ ، وَيَكُونُ مُجَازَاةً لَهُ إذَا قَصَدَ ذَلِكَ ، فَأَمَّا إذَا قَصَدَ بِهِ الْكَفَّارَةَ كَانَ هَذَا فِي حَقِّهِ إعْتَاقًا عَنْ الْكَفَّارَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ فُرِضَ عَلَيْهِ نَفَقَةُ أَخِيهِ فَصَرَفَ إلَيْهِ زَكَاةَ مَالِهِ جَازَ ، ثُمَّ تَسْقُطُ بِهِ النَّفَقَةُ حُكْمًا لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ ، وَهَذَا الْفِقْهُ الَّذِي أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابَةِ أَنَّ فِي حَقِّ الْمُعْتَقِ الْعِتْقُ وَاحِدٌ ، فَيَحْصُلُ مَقْصُودُهُ مِنْ أَيِّ وَجْهٍ نَوَاهُ الْمُعْتِقُ ، وَلَكِنْ فِي حَقِّ الْمُعْتَقِ تَكْثُرُ جِهَاتُهُ ، فَيَكُونُ عَمَّا نَوَى لِيَصِحَّ قَصْدُهُ ، وَلَيْسَ هَذَا نَظِيرُ أُمِّ الْوَلَدِ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعِتْقِ لَهَا بِالِاسْتِيلَادِ كَمَا قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا } ، فَيَكُونُ الْمِلْكُ فِيهَا شَرْطًا لِلْعِتْقِ لَا إكْمَالًا لِلْعِلَّةِ ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِمْ : إنَّ هَذَا صَرْفُ مَنْفَعَةِ الْكَفَّارَةِ إلَى أَبِيهِ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ صَرْفُ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ إلَى عَبْدِهِ جَازَ صَرْفُهَا إلَى أَبِيهِ بِخِلَافِ الْإِطْعَامِ ، وَالْكِسْوَةِ فَصَرْفُهُ إلَى عَبْدِهِ لَا يَجُوزُ فَإِلَى أَبِيهِ أَوْلَى ، وَكَذَلِكَ إنْ وَهَبَ لَهُ أَبُوهُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ أَوْ أَوْصَى لَهُ بِهِ وَهُوَ يَنْوِي عَنْ كَفَّارَتِهِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ يَحْصُلُ بِصُنْعِهِ ، وَهُوَ الْقَبُولُ فَأَمَّا

إذَا وَرِثَ أَبَاهُ يَنْوِي بِهِ الْكَفَّارَةَ لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ ، وَبِدُونِ الصُّنْعِ لَا يَكُونُ مُحَرِّرًا ، وَالتَّكْفِيرُ إنَّمَا يَتَأَدَّى بِالتَّحْرِيرِ ، وَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ إذَا وَرِثَ نِصْفَ قَرِيبِهِ وَإِذَا قَالَ فُلَانٌ حُرٌّ يَوْمَ أَشْتَرِيهِ ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ وَنَوَى عَنْ ظِهَارِهِ لَا يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُعْتِقُ عِنْدَ الشِّرَاءِ بِقَوْلِهِ حُرٌّ ، وَلَمْ يَقْتَرِنْ بِهِ نِيَّةُ الْكَفَّارَةِ ، وَإِنْ كَانَ عَنَى بِقَوْلِهِ هُوَ حُرٌّ يَوْمَ أَشْتَرِيهِ عَنْ ظِهَارِي أَجْزَأَهُ لِاقْتِرَانِ نِيَّةِ الْكَفَّارَةِ بِالْإِعْتَاقِ .
( قَالَ ) : وَإِنْ قَالَ إذَا اشْتَرَيْتُهُ فَهُوَ حُرٌّ ثُمَّ قَالَ إذَا اشْتَرَيْتُهُ فَهُوَ حُرٌّ عَنْ ظِهَارِي فَاشْتَرَاهُ لَا يُجْزِي عَنْ الظِّهَارِ ؛ لِأَنَّ التَّعْلِيقَ الْأَوَّلَ قَدْ صَحَّ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ ، وَلَا تَغْيِيرَهُ فَإِنَّمَا يُحَالُ بِالْعِتْقِ عِنْدَ الشِّرَاءِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ تَرَجَّحَ بِالسَّبْقِ ، وَلَمْ تَقْتَرِنْ بِهِ نِيَّةُ الْكَفَّارَةِ .

( قَالَ ) : وَلَا يُجْزِي أَنْ يُعْتِقَ عَنْ ظِهَارٍ وَاحِدٍ نِصْفَ رَقَبَةٍ ، وَيَصُومَ شَهْرًا أَوْ يُطْعِمَ ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا لِأَنَّ نِصْفَ الرَّقَبَةِ لَيْسَ بِرَقَبَةٍ ، وَإِكْمَالُ الْأَصْلِ بِالْبَدَلِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَإِنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فَكَيْفَ يَتَحَقَّقُ إكْمَالُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ ؟ .
( فَإِنْ قِيلَ ) إنْ أَعْتَقَ نِصْفَ رَقَبَتَيْنِ بِأَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ عَبْدَانِ ، ( قُلْنَا ) : لَا يَجُوزُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الرَّقَبَتَيْنِ لَيْسَ بِرَقَبَةٍ ، وَالشَّرِكَةُ فِي كُلِّ رَقَبَةٍ تَمْنَعُ التَّكْفِيرَ بِهَا بِخِلَافِ الْأُضْحِيَّةِ ، فَإِنَّ رَجُلَيْنِ لَوْ ذَبَحَا شَاتَيْنِ بَيْنَهُمَا عَنْ أُضْحِيَّتِهِمَا جَازَ ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ لَا تَمْنَعُ التَّضْحِيَةَ كَمَا فِي الْبَدَنَةِ

( قَالَ ) : وَلَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا عَنْ ظِهَارَيْنِ فَلَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ أَيِّهِمَا شَاءَ ، وَيُجَامِعَ تِلْكَ الْمَرْأَةَ ، وَكَذَلِكَ الصَّوْمُ ، وَالْإِطْعَامُ ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِانْعِدَامِ نِيَّةِ التَّعْيِينِ وَلِأَنَّهُ يَصِيرُ مُعْتِقًا عَنْ كُلِّ ظِهَارٍ نِصْفَ رَقَبَةٍ إذْ لَيْسَ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى فَهُوَ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ رَقَبَةً عَنْ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ ، وَالظِّهَارِ ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ نِيَّةَ التَّعْيِينِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لَغْوٌ غَيْرُ مُفِيدٍ ، فَلَا تُعْتَبَرُ بِخِلَافِ الْجِنْسَيْنِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَيْهِ قَضَاءُ أَيَّامٍ مِنْ رَمَضَانَ فَنَوَى صَوْمَ الْقَضَاءِ جَازَ ، وَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ صَوْمَ يَوْمِ الْخَمِيسِ ، أَوْ الْجُمُعَةِ ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ وَاحِدٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ صَوْمُ الْقَضَاءِ ، وَالنَّذْرِ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّعْيِينِ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ .

( قَالَ ) : وَلَوْ أَعْتَقَ رَجُلٌ عَنْهُ بِغَيْرِ أَمْره لَمْ يُجْزِهِ عَنْ ظِهَارِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتِقَ عَنْ الْمُعْتِقِ ، وَنِيَّتُهُ مِنْ غَيْرِهِ لَغْوٌ ؛ لِأَنَّهُ يَعْقُبُ الْوَلَاءَ ؛ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُلْزِمَ غَيْرَهُ وَلَاءً بِغَيْرِ أَمْرِهِ ؛ فَإِنْ كَانَ بِأَمْرِهِ فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ بِجُعْلٍ أَوْ بِغَيْرِ جُعْلٍ ، فَإِنْ كَانَ بِجُعْلٍ بِأَنْ قَالَ : أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنْ ظِهَارِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَعْتَقَهُ جَازَ عَنْ ظِهَارِهِ اسْتِحْسَانًا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَوَجَبَ الْمَالُ عَلَيْهِ ، وَفِي الْقِيَاسِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَعْتِقُ عَنْ الْمُعْتِقِ ، وَالْوَلَاءُ لَهُ ، وَلَا يُجْزِئُ عَنْ ظِهَارِ الْآمِرِ ، وَلَا مَالَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ الْتَمَسَ مِنْهُ مُحَالًا ، وَهُوَ أَنْ يَعْتِقَ مِلْكَ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَلَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ فَكَانَ إعْتَاقُ زَيْدٍ مِلْكَهُ عَنْ عَمْرِو مُحَالًا ، وَلَا يَجُوزُ إضْمَارُ التَّمْلِيكِ هُنَا ؛ لِأَنَّ الْإِضْمَارَ لِتَصْحِيحِ الْمُصَرَّحِ بِهِ لَا لِإِبْطَالِهِ وَإِذَا أَضْمَرْنَا التَّمْلِيكَ صَارَ مُعْتِقًا عَنْ الْآمِرِ لَا مِلْكَ نَفْسِهِ ، وَهُوَ خِلَافُ مَا صَرَّحَ بِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ : مَعْنَى كَلَامِهِ مَلِّكْنِي عَبْدَكَ هَذَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ كُنْ وَكِيلِي فِي إعْتَاقِهِ عَنْ ظِهَارِي ؛ لِأَنَّهُ الْتَمَسَ مِنْهُ إعْتَاقَهُ عَنْ ظِهَارِهِ ، وَلَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِ الْتِمَاسِهِ إلَّا بِهَذَا الْإِضْمَارِ ، وَتَصْحِيحُ كَلَامِ الْعَاقِلِ وَاجِبٌ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ فَإِذَا أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ يُصَحَّحُ لِمَعْنًى ، وَهُوَ أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمَحَلِّ شَرْطُ الْعِتْقِ ، وَشَرْطُ الشَّيْءِ تَبَعُهُ فَيَصِيرُ كَالْمَذْكُورِ بِذِكْرِ أَصْلِهِ ، كَمَنْ نَذَرَ صَلَاةً تَلْزَمُهُ الطَّهَارَةُ .
وَمَنْ نَذَرَ اعْتِكَافًا يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ ، وَيَصِيرُ ذَلِكَ كَالْمَذْكُورِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ بِعْت مِنْك هَذَا الْعَبْدَ بِكَذَا فَقَالَ الْمُشْتَرِي : هُوَ حُرٌّ يَعْتِقُ مِنْ جِهَتِهِ ، وَيَصِيرُ الْقَبُولُ وَالتَّمْلِيكُ

ثَابِتًا بِمُقْتَضَى كَلَامِهِ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ عَبْدُكَ : يَعْنِي الْعَبْدَ الَّذِي هُوَ مِلْكٌ لَك لِلْحَالِ لَا عِنْدَ مُصَادَفَةِ الْعِتْقِ إيَّاهُ ، فَمَقْصُودُهُ مِنْ هَذَا تَعْرِيفُ الْعَبْدِ لَا إضَافَتُهُ إلَيْهِ ، وَالْخِلَافُ ثَابِتٌ فِيمَا لَوْ قَالَ أَعْتِقْ هَذَا الْعَبْدَ عَنِّي .
وَأَمَّا إذَا كَانَ بِغَيْرِ جُعْلٍ بِأَنْ قَالَ : أَعْتِقْ عَبْدَك عَنْ ظِهَارِي بِغَيْرِ شَيْءٍ فَأَعْتَقَهُ الْمَأْمُورُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - الْوَلَاءُ لِلْمَأْمُورِ ، وَلَا يُجْزِئُ عَنْ ظِهَارِ الْآمِرِ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ ؛ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - الْوَلَاءُ لِلْآمِرِ ، وَيُجْزِئُ عَنْ ظِهَارِهِ بِاعْتِبَارِ إضْمَارِ التَّمْلِيكِ كَمَا فِي الْأَوَّلِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ سَوَاءٌ حَصَلَ لَهُ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ يَجُوزُ عَنْ كَفَّارَتِهِ إذَا أَعْتَقَهُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ الْمِلْكُ بِطَرِيقِ الْهِبَةِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي بَابِ الْهِبَةِ كَالْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ فَكَمَا سَقَطَ اعْتِبَارُ الْقَبُولِ هُنَاكَ لِكَوْنِ الْبَيْعِ فِي ضِمْنِ الْعِتْقِ ، فَكَذَلِكَ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْقَبْضِ هُنَا ، أَوْ يَجْعَلُ الْقَبْضَ مُدْرَجًا فِي كَلَامِهِ حُكْمًا كَمَا يَنْدَرِجُ الْقَبُولُ فِي كَلَامِهِ ، أَوْ يَجْعَلُ الْعَبْدَ قَابِضًا نَفْسَهُ مِنْ الْمَوْلَى لَهُ ، كَمَا لَوْ قَالَ أَطْعِمْ عَنْ ظِهَارِي سِتِّينَ مِسْكِينًا يَجُوزُ بِغَيْرِ بَدَلٍ عَلَى أَنْ يَقْبِضَ الْفَقِيرُ لَهُ ثُمَّ لِنَفْسِهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ : أَعْتِقْهُ عَنِّي بِأَلْفٍ وَرِطْلٍ مِنْ خَمْرٍ فَأَعْتَقَهُ جَازَ عَنْ الْآمِرِ ، وَيَنْدَرِجُ الْبَيْعُ الْفَاسِدُ هُنَا ، وَالْمِلْكُ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالْقَبْضِ كَمَا فِي الْهِبَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولَانِ : مُسْتَوْهِبٌ أَمَرَ بِالْعِتْقِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَا يُجْزِي عَنْهُ ، كَمَا لَوْ اسْتَوْهَبَهُ الْعَبْدُ نَصًّا ثُمَّ قَالَ قَبْلَ قَبْضِهِ : أَعْتِقْهُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ

الْقَبْضَ فِي بَابِ الْهِبَةِ شَرْطٌ لِوُقُوعِ الْمِلْكِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَجُوزُ إسْقَاطُهُ بِحَالٍ ، فَلَا يَسْقُطُ بِالِانْدِرَاجِ فِي الْعِتْقِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْقِطُ إنَّمَا يَعْمَلُ فِي مَحَلِّهِ ، لَا فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ بِخِلَافِ الْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ حَتَّى لَوْ قَالَ : بِعْت مِنْك هَذَا الثَّوْبِ بِعَشْرَةٍ فَاقْطَعْهُ فَقَطَعَهُ صَارَ مُتَمَلِّكًا ، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِيجَابَ مَعَ الْقَبُولِ قَدْ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ فِي الْبَيْعِ وَهُوَ عِنْدَ التَّعَاطِي فَمُجَرَّدُ الْقَبُولُ أَوْلَى أَنْ يَحْتَمِلَ السُّقُوطَ ، وَبِهِ فَارَقَ الْبَيْعَ الْفَاسِدَ ؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ فِي الْحُكْمِ مُلْحَقٌ بِالْجَائِزِ ، وَالْقَبْضُ هُنَاكَ نَظِيرُ الْقَبُولِ هُنَا فِي أَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْإِسْقَاطَ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ الْقَبْضَ مُدْرَجًا فِي كَلَامِهِ هُنَا ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ فِعْلٌ - وَالْقَوْلُ لَا يَتَضَمَّنُ الْفِعْلَ - إنَّمَا يَتَضَمَّنُ قَوْلَهُ مِثْلَهُ .
وَالْقَبُولُ قَوْلٌ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَنْدَرِجَ فِي كَلَامِهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ الْعَبْدَ قَابِضًا نَفْسَهُ هُنَا ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إبْطَالٌ لِلْمِلْكِ وَالْمَالِيَّةِ ، وَالْعَبْدُ إنَّمَا يَقْبِضُ مَا يَسْلَمُ لَهُ دُونَ مَا لَا يَسْلَمُ لَهُ ، وَبِهِ فَارَقَ الطَّعَامَ ، فَإِنَّ الْمِسْكِينَ يَقْبِضُ عَيْنَ الطَّعَامِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ قَابِضًا لِلْآمِرِ أَوَّلًا ثُمَّ لِنَفْسِهِ ، وَلَكِنَّ الْعَبْدَ يَنْتَفِعُ بِهَذَا الْإِعْتَاقِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَنْدَرِجُ فِيهِ أَدْنَى الْقَبْضِ ، وَلَكِنَّ أَدْنَى الْقَبْضِ يَكْفِي فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ ، وَلَا يَكْفِي فِي الْهِبَةِ كَالْقَبْضِ مَعَ الشُّيُوعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ، وَمَعَ الِاتِّصَالِ فِي الثِّمَارِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْجَارِ يَكْفِي لِوُقُوعِ الْمِلْكِ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ دُونَ الْهِبَةِ .
وَبِهَذَا يَتَّضِحُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْفُصُولِ .

( قَالَ ) : وَلَوْ أَعْتَقَ الْمُظَاهِرُ عَبْدَهُ عَلَى جُعْلٍ لَمْ يَجُزْ قَلَّ الْجُعْلُ أَوْ كَثُرَ ؛ لِأَنَّ التَّكْفِيرَ بِمَا يَخْلُصُ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَعَمَلُهُ فِي الْعِتْقِ بِجُعْلٍ لَا يَكُونُ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ الْعِوَضَ ، وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يُؤْثَرُ عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ { يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ فَمَنْ عَمِلَ لِي عَمَلًا ، وَأَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَهُوَ كُلُّهُ لِذَلِكَ الشَّرِيكِ ، وَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ .
} وَإِنْ وَهَبَ لَهُ الْجُعْلَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ ؛ لِأَنَّ هَذَا إبْرَاءٌ عَنْ الدَّيْنِ ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْإِبْرَاءِ عَنْ الدَّيْنِ فِي الْكَفَّارَاتِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ الصِّيَامِ فِي الظِّهَارِ قَالَ : وَإِذَا لَمْ يَجِدْ الْمُظَاهِرُ مَا يَعْتِقُ عَنْ ظِهَارِهِ فَعَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ بِالنَّصِّ ، فَإِنْ أَفْطَرَ فِيهِمَا يَوْمًا لِمَرَضٍ أَوْ لِغَيْرِهِ فَعَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ الصِّيَامِ ، لِفَوَاتِ صِفَةِ التَّتَابُعِ بِفِطْرِهِ .
- وَالْوَاجِبُ الْمُقَيَّدُ بِوَصْفٍ شَرْعًا لَا يَتَأَدَّى بِدُونِهِ - وَكَذَلِكَ إنْ أَيْسَرَ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْ الصَّوْمِ انْتَقَضَ صِيَامُهُ ، وَعَلَيْهِ الْعِتْقُ ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ إسْقَاطُ الْكَفَّارَةِ عَنْهُ ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرَيْنِ ، وَهُوَ كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ ، وَالطَّارِئُ مِنْ الْيَسَارِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ كَالْمُقْتَرِنِ بِحَالَةِ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ انْتَقَضَ صَوْمُهُ فِي حُكْمِ جَوَازِهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ فَأَمَّا أَصْلُ الصَّوْمِ بَاقٍ فَيُسْتَحَبُّ إتْمَامُهُ نَفْلًا ؛ لِأَنَّ الْيَسَارَ لَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الصَّوْمِ إنَّمَا يَمْنَعُ التَّكْفِيرَ .

( قَالَ ) : وَلَوْ صَامَ شَهْرَيْنِ : أَحَدُهُمَا - شَهْرُ رَمَضَانَ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ الظِّهَارِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إلَّا صَوْمٌ وَاحِدٌ ، وَهُوَ الْفَرْضُ فَلَا يَصِحُّ التَّكْفِيرُ بِهِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ فِي ذِمَّتِهِ ، وَمَا فِي الذِّمَّةِ إنَّمَا يَتَأَدَّى بِمَا لِلْمَرْءِ لَا بِمَا عَلَيْهِ ، وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِي كِتَابِ الصَّوْمِ ، وَبَيَّنَّا اخْتِلَافَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ صَاحِبَيْهِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي الْمُسَافِرِ ، وَإِذَا لَمْ يَجُزْ صَوْمُهُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ عَنْ الظِّهَارِ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بَعْدَ يَوْمِ الْفِطْرِ لِانْقِطَاعِ التَّتَابُعِ فِي حَقِّ صَوْمِ الْكَفَّارَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ صَوْمُهُ يَوْمَ النَّحْرِ أَوْ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ فَعَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ الصَّوْمِ صَامَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ أَوْ لَا ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ ؛ وَيَنْقَطِعُ التَّتَابُعُ بِتَخَلُّلِ هَذِهِ الْأَيَّامِ ؛ لِأَنَّهُ يَجِدُ شَهْرَيْنِ خَالِيَيْنِ عَنْ هَذِهِ الْأَيَّامِ .

( قَالَ ) : وَلَا يُجْزِي الصَّوْمُ لِمَنْ لَهُ خَادِمٌ ؛ لِأَنَّهُ وَاجِدٌ لِمَا يَتَأَدَّى بِهِ الْأَصْلُ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ بِالْبَدَلِ بِخِلَافِ مَنْ لَهُ مَسْكَنٌ فَقَطْ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ وَاجِدٍ لِمَا هُوَ الْأَصْلُ ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْمَسْكَنِ فَجُعِلَ مِلْكُهُ فِيهِ كَالْمَعْدُومِ لِكَوْنِهِ مَشْغُولًا بِحَاجَتِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ أَنَّ مِلْكَ الْمَسْكَنِ يَزِيدُ فِي حَاجَتِهِ ، وَالْخَادِمَ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ عَيَّنَ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِالْمَعْنَى فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ يَجِدُ بِهَا رَقَبَةً لَمْ يَجُزْ الصَّوْمُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ } ، وَالْوَاجِدُ لِثَمَنِ الرَّقَبَةِ كَالْوَاجِدِ لِعَيْنِهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي حُكْمِ التَّيَمُّمِ ، الْوَاجِدُ لِثَمَنِ الْمَاءِ كَالْوَاجِدِ لِعَيْنِهِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْوُجُودَ عِبَارَةٌ عَنْ التَّيَسُّرِ دُونَ الْغِنَى ، وَبِمِلْكِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ يَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ تَحْصِيلُ مَا يَعْتِقُ ، وَيَسَارُ التَّيَسُّرِ يَنْفِي الشَّرْطَ الْمَنْصُوصَ ، وَهُوَ عَدَمُ الْوُجُودِ .

( قَالَ ) : وَإِذَا ظَاهَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ لَهُ فَأَعْتَقَ رَقَبَةً ، لَيْسَ لَهُ غَيْرُهَا ، ثُمَّ صَامَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مُتَتَابِعَةٍ ، ثُمَّ مَرِضَ فَأَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا ، وَلَمْ يَنْوِ فِي ذَلِكَ وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا أَجْزَأَهُ عَنْهُنَّ اسْتِحْسَانًا ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ نِيَّةَ التَّمْيِيزِ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ ، وَقَدْ أَعْتَقَ حِينَ وَجَدَ ثُمَّ صَامَ حِينَ لَمْ يَجِدْ مَا يُعْتِقُ ، وَذَلِكَ كَفَّارَتُهُ ثُمَّ أَطْعَمَ حِينَ لَمْ يَسْتَطِعْ الصَّوْمَ ، وَذَلِكَ كَفَّارَتُهُ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ عَدَمُ الِاسْتِطَاعَةِ عِنْدَ التَّكْفِيرِ بِالْإِطْعَامِ ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِمَرَضِهِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ اسْتِدَامَةُ الْعُذْرِ بَعْدَ التَّكْفِيرِ ، ثُمَّ فِيمَا أَدَّى وَفَاءً بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِ فَيُجْزِيهِ .
( قَالَ ) : وَإِذَا بَانَتْ مِنْ الْمُظَاهِرِ امْرَأَتُهُ ثُمَّ كَفَّرَ عَنْهَا ، وَهِيَ تَحْتَ زَوْجٍ أَوْ مُرْتَدَّةٌ لَاحِقَةٌ بِدَارِ الْحَرْبِ جَازَتْ الْكَفَّارَةُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ الثَّابِتَةَ بِالظِّهَارِ بَاقِيَةٌ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ ، وَالْكَفَّارَةُ وَاجِبَةٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُقِرَّ بِهَا حَتَّى يُكَفِّرَ ، وَلَوْ سَقَطَتْ لَمْ يَعُدْ بِالتَّزَوُّجِ .
وَإِذَا ثَبَتَ بَقَاءُ الْوَاجِبِ صَحَّ إسْقَاطُهُ بِأَدَائِهِ .
وَإِنْ كَانَتْ لَا تَحِلُّ لَهُ لِلْحَالِ لِكَوْنِهَا مُرْتَدَّةً أَوْ ذَاتَ زَوْجٍ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الْكَفَّارَةِ يَرْفَعُ الْحُرْمَةَ الثَّابِتَةَ بِالظِّهَارِ وَلَا يُوجِبُ حِلَّ الْمَحَلِّ .

( قَالَ ) : وَإِذَا ارْتَدَّ الزَّوْجُ - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - ثُمَّ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ عَنْ ظِهَارِهِ ثُمَّ أَسْلَمَ أَجْزَى عَنْهُ ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ يَبْقَى بَعْدَ رِدَّتِهِ عِنْدَهُ ، وَطَعَنَ عِيسَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ : هَذَا الْجَوَابُ غَلَطٌ ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَتَأَدَّى بِعِتْقٍ هُوَ قُرْبَةٌ خَالِصَةٌ ، وَلِهَذَا لَا يَتَأَدَّى بِالْعِتْقِ بِجُعْلٍ ، وَالْمُرْتَدُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقُرْبَةِ ، وَلَا تَتَأَدَّى الْكَفَّارَةُ إلَّا بِنِيَّةِ الْعِبَادَةِ ، وَالْمُرْتَدُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّمَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ بَعْدَ إسْلَامِهِ ، وَكَمَا تَوَقَّفَ أَصْلُ عِتْقِهِ تُوقَفُ نِيَّتُهُ فَيَصِيرُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَالْمُجَدِّدِ لِذَلِكَ كُلِّهِ ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَتَوَقَّفَ حُكْمُ النِّيَّةِ كَمَنْ أَبْهَمَ النِّيَّةَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ تَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ يَكُونَ حَجًّا ، أَوْ عُمْرَةً لِتَعْيِينِهِ فِي الثَّانِي ، وَيُجْعَلُ عِنْدَ التَّعْيِينِ كَأَنَّهُ جَدَّدَهُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَمَا أَسْلَمَ يَبْطُلُ حُكْمُ رِدَّتِهِ ، وَلِهَذَا يُعَادُ إلَيْهِ مِنْ أَمْلَاكِهِ مَا كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فِي يَدِ وَارِثِهِ ، فَكَذَلِكَ يَبْطُلُ مَا يَنْبَنِي عَلَى رِدَّتِهِ ، وَهُوَ فَسَادُ نِيَّتِهِ

( قَالَ ) : وَإِنْ أَكَلَ فِي صَوْمِ الظِّهَارِ نَاسِيًا لِصَوْمِهِ لَمْ يَضُرَّ ، وَكَذَلِكَ إنْ جَامَعَ غَيْرَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ هَذَا الْفِعْلِ عَلَيْهِ ؛ لِأَجْلِ الصَّوْمِ ، فَيَخْتَلِفُ بِالنِّسْيَانِ ، وَالْعَمْدِ بِخِلَافِ مَا لَوْ جَامَعَ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّ حُرْمَةَ ذَلِكَ الْفِعْلِ لَيْسَ لِأَجْلِ الصَّوْمِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَانَ مُحْرِمًا قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ فَيَسْتَوِي فِيهِ النِّسْيَانُ ، وَالْعَمْدُ ؛ ثُمَّ إنْ صَامَ الْمُظَاهِرُ شَهْرَيْنِ بِالْأَهِلَّةِ أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ شَهْرٍ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا ، وَإِنْ صَامَ لِغَيْرِ الْأَهِلَّةِ ثُمَّ أَفْطَرَ لِتَمَامِ تِسْعَةٍ وَخَمْسِينَ يَوْمًا فَعَلَيْهِ الِاسْتِقْبَالُ ؛ لِأَنَّ الْأَهِلَّةَ أَصْلٌ ، وَالْأَيَّامُ بَدَلٌ كَمَا قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ الْهِلَالُ فَأَكْمِلُوا شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا } فَعِنْدَ وُجُودِ الْأَصْلِ - ، وَهِيَ الْأَهِلَّةُ لَا مُعْتَبَرَ بِالْأَيَّامِ ، وَعِنْدَ عَدَمِ الْأَصْلِ الِاعْتِبَارُ بِالْأَيَّامِ فَلَا يَتِمُّ الشَّهْرَانِ إلَّا بِسِتِّينَ يَوْمًا ، فَإِنْ صَامَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ صَامَ شَهْرًا بِالْأَهِلَّةِ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ ثُمَّ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَجْزَأَهُ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِمَا فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُجْزِيهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي حُكْمِ الْعِدَّةِ ، أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : إذَا كَانَ ابْتِدَاءُ الشَّهْرِ بِالْأَيَّامِ يُعْتَبَرُ كُلُّهُ بِالْأَيَّامِ ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَتِمَّ الشَّهْرُ الْأَوَّلُ لَا يَدْخُلُ الشَّهْرُ الثَّانِي ، وَعِنْدَهُمَا الِاعْتِبَارُ بِالْأَيَّامِ فِيمَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الِاعْتِبَارُ بِالْأَهِلَّةِ ، وَهُوَ الشَّهْرُ الْوَاحِدُ فَقَطْ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

بَابُ الْإِطْعَامِ فِي الظِّهَارِ ( قَالَ ) رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : وَيُجْزِيهِ أَنْ يَدْعُوَ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَيُغَدِّيَهُمْ ، وَيُعَشِّيَهُمْ ، وَهُوَ قَوْلُ عُلَمَائِنَا أَنَّ الْإِطْعَامَ فِي الْكَفَّارَاتِ يَتَأَدَّى بِالتَّمْكِينِ مِنْ الطَّعَامِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ : لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِالتَّمْلِيكِ مِنْ الْفَقِيرِ وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ سَهْلٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَقُولُ : لَا يَتَأَدَّى بِالتَّمْلِيكِ ، وَإِنَّمَا يَتَأَدَّى بِالتَّمْكِينِ فَقَطْ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا } - وَالْإِطْعَامُ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ - وَلَازِمُهُ طَعِمَ يَطْعَمُ ، وَذَلِكَ الْأَكْلُ دُونَ الْمِلْكِ فَفِي التَّمْلِيكِ لَا يُوجَدُ الطَّعَامُ ، وَإِنَّمَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي التَّمْكِينِ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِأَنْ يُطْعِمَ الْمِسْكِينَ ، وَالْكَلَامُ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ الْإِطْعَامُ يُذْكَرُ لِلتَّمْلِيكِ عُرْفًا يَقُولُ رَجُلٌ لِغَيْرِهِ : أَطْعَمْتُك هَذَا الطَّعَامَ .
أَيْ : مَلَّكْتُك ، وَالْمَقْصُودُ سَدُّ خَلَّةِ الْمِسْكِينِ ، وَإِغْنَاؤُهُ ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالتَّمْلِيكِ دُونَ التَّمْكِينِ فَإِذَا لَمْ يَتِمَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّمْكِينِ لَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ ، كَمَا فِي الزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ ، وَقَاسَ بِالْكِسْوَةِ فَإِنَّهُ لَوْ أَعَارَ الْمَسَاكِينَ ثِيَابًا فَلَبِسُوا بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ لَا يَجُوزُ ، فَكَذَلِكَ الْإِطْعَامُ ، وَالْجَامِعُ أَنَّهُ أَحَدُ أَنْوَاعِ التَّكْفِيرِ .
( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ الْإِطْعَامُ ، وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ التَّمْكِينُ ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ سَدُّ الْخَلَّةِ وَفِي التَّمْلِيكِ تَمَامُ ذَلِكَ فَيَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
أَمَّا بِالتَّمْلِيكِ ؛ فَلِأَنَّ الْأَكْلَ الَّذِي هُوَ الْمَنْصُوصُ جُزْءٌ مِمَّا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالتَّمْلِيكِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَلَكَ فَإِمَّا أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَصْرِفَ إلَى حَاجَةٍ أُخْرَى ، فَيُقَامُ هَذَا التَّمْلِيكُ مَقَامَ مَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ لِهَذَا الْمَعْنَى ، وَيَتَأَدَّى بِالتَّمْكِينِ لِمُرَاعَاةِ

عَيْنِ النَّصِّ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ : أَنَّهُ يُشَبِّهُهُ بِطَعَامِ الْأَهْلِ فَقَالَ { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } ، وَذَلِكَ يَتَأَدَّى بِالتَّمْلِيكِ تَارَةً ، وَبِالتَّمْكِينِ أُخْرَى فَكَذَا هَذَا ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْمُشَبَّهِ حُكْمُ الْمُشَبَّهِ بِهِ ، وَلَيْسَ هَذَا كَالْكِسْوَةِ ؛ لِأَنَّ الْكِسْوَةَ بِكَسْرِ الْكَافِ عَيْنُ الثَّوْبِ فَأَمَّا الْفِعْلُ بِفَتْحِ الْكَافِ كِسْوَةٌ ، وَهُوَ الْإِلْبَاسُ فَثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّ التَّكْفِيرَ بِعَيْنِ الثَّوْبِ لَا بِمَنَافِعِهِ ، وَالْإِعَارَةُ ، وَالْإِلْبَاسُ تَصَرُّفٌ فِي الْمَنْفَعَةِ فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ ، فَأَمَّا فِي التَّمْكِينِ مِنْ الطَّعَامِ الْمِسْكِينُ طَاعِمٌ لِلْعَيْنِ وَبِالتَّمْكِينِ يَحْصُلُ الْإِطْعَامُ حَقِيقَةً ، وَهَذَا بِخِلَافِ الزَّكَاةِ فَالْوَاجِبُ هُنَاكَ فِعْلُ الْإِيتَاءِ بِالنَّصِّ ، وَفِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ الْوَاجِبِ فِعْلُ الْأَدَاءِ ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالتَّمْكِينِ بِدُونِ التَّمْلِيكِ ، وَبِمَعْرِفَةِ حُدُودِ كَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ يَحْسُنُ فِقْهُ الرَّجُلِ .
ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ فِي التَّمْكِينِ أَكْلَتَانِ مُشْبِعَتَانِ ، إمَّا الْغَدَاءُ وَالْعَشَاءُ ، وَإِمَّا غَدَاءَانِ أَوْ عَشَاءَانِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ حَاجَةُ الْيَوْمِ ، وَذَلِكَ بِالْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ عَادَةً وَيَسْتَوِي فِي خُبْزِ الْبُرِّ أَنْ يَكُونَ مَأْدُومًا أَوْ غَيْرَ مَأْدُومٍ ، وَفِي الْكِتَابِ أَطْلَقَ الْخُبْزَ ، وَمُرَادُهُ خُبْزُ الْبُرِّ ، وَقَدْ فَسَّرَهُ فِي الزِّيَادَاتِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمِسْكِينَ يَسْتَوْفِي مِنْهُ حَاجَتَهُ ؛ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَأْدُومًا بِخِلَافِ خُبْزِ الشَّعِيرِ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَوْفِي مِنْهُ تَمَامَ حَاجَتِهِ إلَّا إذَا كَانَ مَأْدُومًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ غَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ بِسَوِيقٍ ، وَتَمْرٍ قَالُوا : وَهَذَا فِي دِيَارِهِمْ فَإِنَّهُمْ يَكْتَفُونَ بِذَلِكَ عَادَةً ، وَيَسْتَوْفُونَ مِنْهُ حَاجَتَهُمْ ، فَأَمَّا فِي دِيَارِنَا لَا بُدَّ مِنْ الْخُبْزِ ، وَهَذَا كُلُّهُ بِمَنْزِلَةِ طَعَامِ الْأَهْلِ ، وَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْأَكْلَتَانِ الْمُشْبِعَتَانِ مِمَّا يَكُونُ مُعْتَادًا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ

.
فَقَدْ قَالَتْ الصَّحَابَةُ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - أَعْلَى مَا يُطْعِمُ الرَّجُلُ أَهْلَهُ الْخُبْزَ ، وَاللَّحْمَ ، وَأَوْسَطُ مَا يُطْعِمُ الرَّجُلُ أَهْلَهُ الْخُبْزَ ، وَاللَّبَنَ ، وَأَدْنَى مَا يُطْعِمُ الرَّجُلُ أَهْلَهُ الْخُبْزَ ، وَالْمِلْحَ .
( قَالَ ) : وَإِنْ اخْتَارَ التَّمْلِيكَ أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ ، أَوْ دَقِيقٍ ، أَوْ سَوِيقٍ ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ لَا يُجْزِئُهُ دُونَ ذَلِكَ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ مِنْ بُرٍّ { لِحَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ فِي كَفَّارَةِ الْفِطْرِ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا ، وَقَالَ : فَرِّقْهَا عَلَى سِتِّينَ مِسْكِينًا } وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ ، وَسَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ الْبَيَاضِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَدْ ذُكِرَ فِي الْحَدِيثَيْنِ إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ بُرٍّ ، وَحَدِيثِ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا : لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّانِ مِنْ بُرٍّ - وَعَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ ؛ وَلِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَاجَةُ الْيَوْمِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ فَيَكُونُ نَظِيرَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ ، وَلَا يَتَأَدَّى ذَلِكَ بِالْمُدِّ بَلْ بِمَا قُلْنَا ، فَكَذَلِكَ هَذَا ، وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ فِي حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ فَرِّقْهَا ، وَمِثْلَهَا مَعَهَا ثُمَّ هَذَا الِاسْتِدْلَال مِنْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَسْتَقِيمُ ؛ لِأَنَّ الصَّاعَ لَا يَتَقَدَّرُ بِأَرْبَعَةِ أَمْنَاءَ عِنْدَهُ ، وَإِنْ أَعْطَى قِيمَةَ الطَّعَامِ كُلَّ مِسْكِينٍ أَجْزَأَهُ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ ، وَهُوَ سَدُّ الْخَلَّةِ وَهُوَ عِنْدَنَا وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الزَّكَاةِ .
( قَالَ ) : وَإِنْ أَعْطَى مِنْ صِنْفٍ مِنْ ذَلِكَ أَقَلَّ مِمَّا سَمَّيْنَاهُ وَهُوَ يُسَاوِي كَمَالَ الْوَاجِبِ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ لَمْ يُجْزِهِ إلَّا عَنْ مِقْدَارِهِ ، مَعْنَاهُ إذَا أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا مِنْ

بُرٍّ يُسَاوِي صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ أَوْ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ تَمْرٍ يُسَاوِي نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ .
وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُجْزِيهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِالْمُؤَدَّى ، وَهُوَ كَإِعْطَاءِ الْقِيمَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَسَا عَشْرَةَ مَسَاكِينَ ثَوْبًا وَاحِدًا فِي كَفَّارَةٍ جَازَ عَنْ الطَّعَامِ إذَا كَانَتْ قِيمَةُ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِثْلَ قِيمَةِ الطَّعَامِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُؤَدَّى عَيْنُ الْمَنْصُوصِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْمَعْنَى فِي الْمَنْصُوصِ بَلْ يُعْتَبَرُ عَيْنُ النَّصِّ بِخِلَافِ الْكِسْوَةِ فَالْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ مَا يَحْصُلُ بِهِ الِاكْتِسَاءُ وَبِعُشْرِ الثَّوْبِ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ فَلَمْ يَكُنْ الْمُؤَدَّى مَنْصُوصًا عَلَيْهِ فَيُعْتَبَرُ الْمَعْنَى فِيهِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ فِي إقَامَةِ صِنْفٍ مَقَامَ صِنْفٍ إبْطَالُ التَّقْدِيرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي كُلِّ صِنْفٍ ، وَكُلُّ تَعْلِيلٍ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ النَّصِّ ، فَهُوَ بَاطِلٌ ، وَلَيْسَ فِي الْكِسْوَةِ تَقْدِيرٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فَإِقَامَتُهُ مَقَامَ الطَّعَامِ لَا يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ التَّقْدِيرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكِسْوَةِ غَيْرُ الْمَقْصُودِ بِالطَّعَامِ فَلِلْمُغَايَرَةِ يَجُوزُ إقَامَةُ أَحَدِهِمَا مَقَامَ الْآخَرِ وَالْمَقْصُودُ بِأَصْنَافِ الطَّعَامِ وَاحِدٌ فَاعْتِبَارُ عَيْنِ الْمُؤَدَّى فِيهِ أَوْلَى ، فَإِذَا كَانَ الْمُؤَدَّى لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا مِنْ بُرٍّ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمُدٍّ آخَرَ لِيَصِلَ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا قَدَرَ نَصًّا .
( قَالَ ) : وَإِنْ لَمْ يَجِدْهُمْ اسْتَقْبَلَ الطَّعَامَ ، وَلَا يُجْزِئُهُ أَنْ يُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا آخَرِينَ مُدًّا مُدًّا ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ إيصَالُ نِصْفِ صَاعٍ إلَى كُلِّ مِسْكِينٍ لِيَحْصُلَ بِهِ سَدُّ الْخَلَّةِ .
وَزَوَالُ الْحَاجَةِ فِي يَوْمِهِ ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِصَرْفِ نِصْفِ الْوَظِيفَةِ إلَى كُلِّ مِسْكِينٍ .

( قَالَ ) : وَلَوْ أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا مِنْ بُرٍّ وَمُدَّيْنِ مِنْ شَعِيرٍ أَوْ تَمْرٍ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْلٌ ، وَالْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِأَدَاءِ نِصْفِ الْوَاجِبِ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ ، وَهُوَ زَوَالُ حَاجَتِهِ فِي يَوْمِهِ .
وَلَوْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ كُلَّهُ مِسْكِينًا وَاحِدًا لَمْ يُجْزِهِ فِي دَفْعَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ تَفْرِيقُ الْفِعْلِ بِالنَّصِّ فَإِذَا جَمَعَ لَا يُجْزِيهِ إلَّا عَنْ وَاحِدٍ ، كَالْحَاجِّ إذَا رَمَى الْحَصَيَاتِ السَّبْعِ دَفْعَةً وَاحِدَةً ، وَلَوْ أَعْطَاهُ فِي سِتِّينَ يَوْمًا أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا ، وَلَا يُجْزِئُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ بِالنَّصِّ إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ، وَالْمِسْكِينُ الْوَاحِدُ بِتَكْرَارِ الْأَيَّامِ لَا يَصِيرُ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَلَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِالصَّرْفِ إلَيْهِ وَشُبِّهَ هَذَا بِالشَّهَادَةِ ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ الْوَاحِدَ وَإِنْ كَرَّرَ شَهَادَتَهُ فِي مَجْلِسَيْنِ لَا يَصِيرُ فِي مَعْنَى شَاهِدَيْنِ .
وَلَكِنَّا نَقُولُ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ الْمِسْكِينُ الْوَاحِدُ بِتَجَدُّدِ الْأَيَّامِ فِي مَعْنَى الْمَسَاكِينِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ سَدُّ الْخَلَّةِ ، وَذَلِكَ يَتَجَدَّدُ لَهُ بِتَجَدُّدِ الْأَيَّامِ فَكَانَ هُوَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فِي الْمَعْنَى مِسْكِينًا آخَرَ لِتَجَدُّدِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ لَهُ ؛ وَلِأَنَّ الْإِطْعَامَ يَقْتَضِي طَعَامًا لَا مَحَالَةَ فَمَعْنَى الْآيَةِ فَالطَّعَامُ طَعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا وَقَدْ أَدَّى ذَلِكَ ، وَبِهِ فَارَقَ الشَّهَادَةَ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ طُمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ هُنَاكَ ، وَبِتَكْرَارِ الْوَاحِدِ شَهَادَتَهُ لَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا لَوْ فَرَّقَ الْفِعْلَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ، وَلَا إشْكَالَ فِي طَعَامِ الْإِبَاحَةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ، إلَّا بِتَجَدُّدِ الْأَيَّامِ ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ لَا يَسْتَوْفِي فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ طَعَامَ سِتِّينَ مِسْكِينًا .
فَأَمَّا فِي التَّمْلِيكِ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ أُقِيمَ مَقَامَ

حَقِيقَةِ الْإِطْعَامِ ، وَالْحَاجَةُ بِطَرِيقِ التَّمْلِيكِ لَيْسَ لَهَا نِهَايَةٌ ، فَإِذَا فَرَّقَ الدَّفَعَاتِ جَازَ ذَلِكَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ كَمَا فِي الْأَيَّامِ وَاسْتَدَلُّوا عَلَى هَذَا بِمَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ : أَنَّهُ لَوْ كَسَا مِسْكِينًا وَاحِدًا فِي عَشْرَةِ أَيَّامٍ كِسْوَةَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أَجْزَأَهُ لِتَفَرُّقِ الْفِعْلِ ، وَإِنْ انْعَدَمَ تَجَدُّدُ الْحَاجَةِ فِي كُلِّ يَوْمٍ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ بَعْدَ مَا أَخَذَ وَظِيفَتَهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَوْ صَرَفَ إلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ طَعَامَ مِسْكِينٍ عَنْ كَفَّارَتِهِ يَجُوزُ ذَلِكَ ، فَكَذَلِكَ إذَا صَرَفَ إلَيْهِ ذَلِكَ الرَّجُلُ طَعَامَ مِسْكِينٍ ، آخَرَ ؛ وَبَعْضُهُمْ قَالُوا لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ سَدُّ الْخَلَّةِ ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ صَرْفُهُ إلَى الْغَنِيِّ ؛ لِأَنَّهُ طَاعِمٌ بِمِلْكِهِ ، وَإِطْعَامُ الطَّاعِمِ لَا يَتَحَقَّقُ كَمَا أَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ الْمَالِكِ لَا يَتَحَقَّقُ ، وَبَعْدَ مَا اسْتَوْفَى وَظِيفَتَهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ لَا يَحْصُلُ سَدُّ خَلَّته بِصَرْفِ وَظِيفَةٍ أُخْرَى فِي هَذَا الْيَوْمِ إلَيْهِ بِخِلَافِ كَفَّارَةٍ أُخْرَى ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفِي فِي حُكْمِ تِلْكَ الْكَفَّارَةِ كَالْمَعْدُومِ ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مِثْلُهُ فِي حَقِّ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ وَبِخِلَافِ الثَّوْبِ ؛ لِأَنَّ تَجَدُّدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِيهِ ، فَلَا يُمْكِنُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ ؛ لِتَعَذُّرِ الْوُقُوفِ عَلَيْهِ فَيُقَامُ تَجَدُّدُ الْأَيَّامِ فِيهِ مَقَامَ تَجَدُّدِ الْحَاجَةِ تَيْسِيرًا .

( قَالَ ) : وَلَوْ أَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا كُلَّ مِسْكِينٍ صَاعًا مِنْ حِنْطَةٍ مِنْ ظِهَارَيْنِ مِنْ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ امْرَأَتَيْنِ لَمْ يُجِزْ إلَّا مِنْ أَحَدِهِمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَيُجْزِئُهُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ فِي الْمُؤَدَّى وَفَاءً بِوَظِيفَةِ الْكَفَّارَتَيْنِ ، وَالْمَصْرُوفُ إلَيْهِ مَحَلُّ الْكَفَّارَتَيْنِ فَيُجْزِئُهُ .
كَمَا لَوْ أَعْطَى عَنْ كَفَّارَةٍ نِصْفَ صَاعٍ عَلَى حِدَةٍ لِكُلِّ مِسْكِينٍ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ لَوْ كَانَتْ الْكَفَّارَتَانِ مِنْ جِنْسَيْنِ إحْدَاهُمَا كَفَّارَةُ الظِّهَارِ ، وَالْأُخْرَى كَفَّارَةُ الْفِطْرِ أَجْزَأَ عَنْهُمَا بِالنِّيَّةِ بِالْإِجْمَاعِ ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ وَهُمَا يَقُولَانِ زَادَ فِي الْوَظِيفَةِ ، وَنَقَصَ عَنْ الْمَحَلِّ فَلَا يُجْزِئُهُ إلَّا بِقَدْرِ الْمَحَلِّ كَمَا لَوْ أَعْطَى ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا فِي كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ كُلَّ مِسْكِينٍ صَاعًا ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ كَفَّارَةٍ طَعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا فَمَحَلُّ إطْعَامِ الظِّهَارَيْنِ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ مِسْكِينًا ، وَقَدْ نَقَصَ عَنْ الْمَحَلِّ وَزَادَ فِي الْوَاجِبِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ وَقَدْ أَدَّى صَاعًا ، وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ كَمَا لَا تُعْتَبَرُ نِيَّتُهُ فِي التَّمْيِيزِ لَا تُعْتَبَرُ نِيَّتُهُ فِي الْعَدَدِ ، فَنِيَّتُهُ عَنْ ظِهَارَيْنِ وَعَنْ ظِهَارٍ وَاحِدٍ سَوَاءٌ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتَا مِنْ جِنْسَيْنِ ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ التَّعْيِينِ مُعْتَبَرَةٌ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ ، فَكَذَلِكَ تُعْتَبَرُ نِيَّتُهُ عَنْ الْكَفَّارَتَيْنِ لِيَكُونَ عَنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الْمُؤَدَّى

( قَالَ ) : وَلَا يُجْزِئُهُ أَنْ يُعْطِيَ مِنْ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ مَنْ لَا يُجْزِئُهُ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ زَكَاةِ الْمَالِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ إلَّا فُقَرَاءَ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَإِنَّهُ يُعْطِيهِمْ مِنْ هَذِهِ الْكَفَّارَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَفُقَرَاءُ الْإِسْلَامِ أَحَبُّ إلَيْنَا ، وَلَا يَجْزِيهِ أَنْ يُعْطِيَ فُقَرَاءَ أَهْلِ الْحَرْبِ ، وَإِنْ كَانُوا مُسْتَأْمَنِينَ فِي دَارِنَا وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْفَصْلَ بِتَمَامِهِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ مَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِنَذْرِهِ يَجُوزُ صَرْفُهُ إلَى فُقَرَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، فَأَمَّا مَا أَوْجَبَهُ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ لَا يَصْرِفُهُ إلَّا إلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ كَالزَّكَاةِ ، وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ مُخَالِفَةٌ لِلرِّوَايَةِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى

( قَالَ ) : فَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدًا حَرْبِيًّا فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ الظِّهَارِ ؛ لِأَنَّهُ مُعْتِقٌ بِلِسَانِهِ مُسْتَرِقٌّ بِيَدِهِ وَهُوَ مَحَلٌّ لِلِاسْتِرْقَاقِ فَلَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ فَإِنْ أَعْتَقَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّ عِتْقَهُ يَنْفُذُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ ذِمِّيٌّ تَبَعٌ لِمَوْلَاهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ كَإِعْتَاقِ الذِّمِّيِّ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ وَلَمْ يَذْكُرْ إعْتَاقَ الْعَبْدِ الْمُرْتَدِّ عَنْ ظِهَارِهِ ، وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْمُرْتَدَّةَ تُجْزِي بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ مُشْرِفٌ عَلَى الْهَلَاكِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِخِلَافِ الْمُرْتَدَّةِ ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي الْمُخْتَصَرِ : أَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا حَلَالَ الدَّمِ عَنْ الظِّهَارِ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَتَحَقَّقُ فِيهِ وَمَا عَلَيْهِ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ فَلَا يُمْنَعُ جَوَازُ التَّكْفِيرِ بِهِ كَمَا لَوْ كَانَ مَدْيُونًا أَوْ مَرْهُونًا .

( قَالَ ) : وَلَوْ أَعْتَقَ الْمَدْيُونَ جَازَ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي الدَّيْنِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ الْمَرْهُونَ جَازَ عَنْ الْكَفَّارَةِ ، وَإِنْ كَانَ الرَّاهِنُ مُعْسِرًا وَسَعَى الْعَبْدُ فِي الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ تِلْكَ السِّعَايَةِ لَيْسَتْ فِي بَدَلِ رَقَبَتِهِ حَتَّى يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الرَّاهِنِ إذَا أَيْسَر فَلَا يَكُونُ هَذَا عِتْقًا بِجُعْلٍ ، بِخِلَافِ الْمَرِيضِ مَرَضِ الْمَوْتِ إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا عَنْ ظِهَارِهِ ، وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ ؛ لِأَنَّهُ يَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِلْوَرَثَةِ ، وَتِلْكَ السِّعَايَةُ بَدَلُ رَقَبَتِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي مَعْنَى عِتْقٍ بِجُعْلٍ .

( قَالَ ) : وَلَوْ تَصَدَّقَ عَنْهُ رَجُلٌ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يُجْزِهِ ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَمْلِكُ أَنْ يُدْخِلَ الشَّيْءَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ ، وَبِدُونِ مِلْكِهِ لَا تَتَأَدَّى كَفَّارَتُهُ وَلَوْ تَصَدَّقَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ أَجْزَأَهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِتْقِ وَقَرَّرَنَا طَرِيقَ الْحَقِّ أَنَّهُ يَجْعَلُ الْمِسْكِينَ نَائِبًا فِي الْقَبْضِ لَهُ أَوَّلًا ، ثُمَّ لِنَفْسِهِ وَإِنْ صَامَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَا يُجْزِئُهُ .
لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ( لَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ ) وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الصَّوْمِ .
- وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ

بَابُ الْإِيلَاءِ ( قَالَ ) : رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الْإِيلَاءُ - فِي اللُّغَةِ - هُوَ الْيَمِينُ قَالَ الْقَائِلُ : قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ وَإِنْ بَدَرَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بَرَّتْ ، - وَفِي الشَّرِيعَةِ - عِبَارَةٌ عَنْ يَمِينٍ يَمْنَعُ جِمَاعَ الْمَنْكُوحَةِ ، هَكَذَا نُقِلَ عَنْ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَدْ كَانَ الْإِيلَاءُ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَجَعَلَهُ الشَّرْعُ طَلَاقًا مُؤَجَّلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبَّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ .
} وَإِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ لَا يُجَامِعُ امْرَأَتَهُ أَبَدًا أَوْ لَمْ يَقُلْ أَبَدًا فَهُوَ مُولٍ ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ اللَّفْظِ فِيمَا يَتَأَبَّدُ يَقْتَضِي التَّأْبِيدَ وَبَعْدَمَا صَارَ مُولِيًا إنْ جَامَعَهَا قَبْلَ تَمَامِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ لِوُجُودِ شَرْطِ الْحِنْثِ وَقَدْ سَقَطَ الْإِيلَاءُ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتُ حُكْمِ الْإِيلَاءِ بِقَصْدِهِ الْإِضْرَارَ وَالتَّعَنُّتَ بِمَنْعِ حَقِّهَا بِالْجِمَاعِ ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ حِينَ أَوْفَاهَا حَقَّهَا ، وَهُوَ الْفَيْءُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } لِأَنَّ الْفَيْءَ عِبَارَةٌ عَنْ الرُّجُوعِ يُقَالُ : فَاءَ الظِّلُّ إذَا رَجَعَ وَقَدْ رَجَعَ عَمَّا قَصَدَ مِنْ الْإِضْرَارِ حِينَ جَامَعَهَا ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ النَّاسِ لَيْسَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَهُ بِالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } وَلَكِنَّا نَقُولُ حُكْمُ الْكَفَّارَةِ عِنْدَ الْحِنْثِ ثَابِتٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ } الْآيَةَ .
، وَإِنْ مَضَتْ الْمُدَّةُ قَبْلَ أَنْ يَفِيءَ إلَيْهَا طَلُقَتْ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً عِنْدَنَا ، وَكَانَ مَعْنَى الْإِيلَاءِ إنْ مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ، وَلَمْ أُجَامِعْك فِيهَا فَأَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً هَكَذَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96