كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
وَإِنْ اشْتَرَى قَلْبَ فِضَّةٍ ، فِيهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ بِدِينَارِ ، وَتَقَابَضَا ، ثُمَّ بَاعَهُ مُرَابَحَةً بِرِبْحِ نِصْفِ دِينَارٍ ، أَوْ بِرِبْحِ دِرْهَمٍ ، فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ ، أَمَّا إذَا بَاعَهُ بِرِبْحِ نِصْفِ دِينَارٍ ، فَإِنَّ الْجِنْسَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، وَالْفَضْلُ لَا يَظْهَرُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ ، فَيَكُونُ تَابِعَ الْقَلْبِ بِدِينَارٍ ، وَنِصْفِ دِرْهَمٍ ، وَذَلِكَ جَائِزٌ ، وَإِنْ بَاعَهُ بِرِبْحِ دِرْهَمٍ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ تَابِعُ الْقَلْبِ بِدِينَارِ ، وَدِرْهَمٍ ، وَذَلِكَ جَائِزٌ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفِ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الدِّرْهَمَ يُقَابِلُهُ مِثْلُ وَزْنِهِ مِنْ الْقَلْبِ عَلَى مَا عَلَيْهِ الْأَصْلُ ، فَإِنَّ الْفِضَّةَ بِمِثْلِ وَزْنِهَا - مُقَابَلَةً - ثَابِتَةٌ شَرْعًا ، وَلَوْ جَوَّزْنَا هَذَا كَانَ الدِّينَارُ بِمُقَابَلَةِ تِسْعَةِ أَعْشَارِ الْقَلْبِ ، وَالدِّرْهَمُ بِمُقَابَلَةِ عُشْرِ الْقَلْبِ ، فَيَكُونُ بَعْضُ مَا سَمَّيَاهُ رَأْسَ الْمَالِ رِبْحًا ، فِيهِ تِسْعَةُ أَعْشَارِ الْقَلْبِ ، وَبَعْضُ مَا سَمَّيَاهُ رِبْحًا رَأْسَ الْمَالِ فِي عُشْرِ الْقَلْبِ ، وَذَلِكَ تَصْحِيحٌ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْمُتَعَاقِدَانِ ، وَلَوْ كَانَ قَامَ عَلَيْهِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَبَاعَهُ بِرِبْحِ دِرْهَمٍ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْعَشَرَةِ بِأَحَدَ عَشَرَ ، وَلَوْ ضَمَّ مَعَهُ ثَوْبًا قَدْ قَامَ مَعَهُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، وَقَالَ : قَدْ قَامَ عَلَيَّ هَذَا بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا فَبَاعَهَا بِرِبْحِ دِرْهَمٍ ، أَوْ بِرِبْحِ ده يازده ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ : الْعَقْدُ يَفْسُدُ كُلُّهُ ؛ لِأَنَّهُ فَسَدَ فِي حِصَّةِ الْقَلْبِ ؛ لِأَجْلِ الرِّبَا أَوْ الْعَقْدِ صَفْقَةً وَاحِدَةً ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ فِي حِصَّةِ الثَّوْبِ ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا مُنْفَصِلٌ عَنْ الْآخَرِ ، وَبِفَسَادِ الْعَقْدِ فِي أَحَدِهِمَا لَا يَتَمَكَّنُ الْمُفْسِدُ فِي الْآخَرِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً ، وَطَوْقُ فِضَّةٍ عَلَيْهَا فِيهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَتَقَابَضَا ، ثُمَّ بَاعَهَا مُرَابَحَةً بِرِبْحِ مِائَةِ دِرْهَمٍ ، أَوْ بِرِبْحِ دَهٍ يازده ، فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ فِي الْجَارِيَةِ دُونَ الطَّوْقِ ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَتَمَيَّزُ عَنْ الْآخَرِ بِغَيْرِ ضَرَرٍ ، وَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رُجُوعَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَسْأَلَةِ الطَّوْقِ ، فَاسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى رُجُوعِهِ فِي نَظَائِرِهِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ .
وَلَوْ اشْتَرَى سَيْفًا مُحَلَّى بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَحِلْيَتُهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا ، وَتَقَابَضَا ، ثُمَّ حَطَّ عَنْهُ ، دِرْهَمًا ، فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ لَيْسَ مِنْ ثَمَنِ الْفِضَّةِ ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِحَاقِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ ، وَيُخْرَجُ قَدْرُ الْمَحْطُوطِ مِنْ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا ، فَكَأَنَّهُ فِي الِابْتِدَاءِ اشْتَرَى السَّيْفَ بِتِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ دِرْهَمًا ، فَيَكُونُ بِمُقَابَلَةِ الْحِلْيَةِ مِثْلَ وَزْنِهَا ، وَالْبَاقِي بِمُقَابَلَةِ السَّيْفِ .
.
وَلَوْ ابْتَاعَ قَلْبَ فِضَّةٍ وَزْنُهُ عَشَرَةٌ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، وَتَقَابَضَا ثُمَّ حَطَّ عَنْهُ دِرْهَمًا ، وَقَبِلَ الْحَطَّ ، وَقَبَضَهُ بَعْدَ مَا افْتَرَقَا مِنْ مَقَامِ الْبَيْعِ ، أَوْ قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا ؛ فَسَدَ الْبَيْعُ كُلُّهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ : الْحَطُّ بَاطِلٌ ، وَيُرَدُّ الدِّرْهَمُ عَلَيْهِ ، وَالْعَقْدُ الْأَوَّلُ صَحِيحٌ ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : الْعَقْدُ الْأَوَّلُ صَحِيحٌ ، وَالْحَطُّ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ الْمُبْتَدَأَةِ ، لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْهُ مَا لَمْ يُسَلِّمْهُ ، وَلَوْ زَادَهُ فِي الثَّمَنِ دِرْهَمًا ، وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ فَسَدَ الْعَقْدُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - : الزِّيَادَةُ بَاطِلَةٌ ، وَالْعَقْدُ الْأَوَّلُ صَحِيحٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَا بَعْدَ الْعَقْدِ لِأَحَدِهِمَا خِيَارًا أَوْ أَجَلًا ، يَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَعِنْدَهُمَا يَبْطُلُ هَذَا الشَّرْطُ ، وَالْعَقْدُ الْأَوَّلُ صَحِيحٌ ، وَكَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ إذَا ذَكَرَ فِيهِ شَرْطًا فَاسِدًا بَعْدَ الْعَقْدِ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَلْتَحِقُ ذَلِكَ بِأَصْلِ الْعَقْدِ حَتَّى يَفْسُدَ الْعَقْدُ ، وَعِنْدَهُمَا يَبْطُلُ هَذَا الشَّرْطُ ، وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ : أَنَّ الشَّرْطَ ، وَالزِّيَادَةَ بَيْعٌ فِي الْعَقْدِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْبَيْعُ فِي الشَّيْءِ مُبْطِلًا لِأَصْلِهِ ؛ وَلِأَنَّ فِي إثْبَاتِ الزِّيَادَةِ ، وَالشَّرْطِ الْمَذْكُورِ إبْطَالَهُ ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ ذَلِكَ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ ؛ فَإِذَا أَثْبَتنَا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِحَاقِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِهِ ، وَبِبُطْلَانِ الْعَقْدِ ، تَبْطُلُ الزِّيَادَةُ ، فَيَكُونُ هَذَا اشْتِغَالًا بِمَا لَا يُفِيدُ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ : الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجَلِهِ يَلْتَحِقُ الشَّرْطُ الصَّحِيحُ وَالزِّيَادَةُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ مَوْجُودٌ هُنَا ، وَذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ : أَنَّهُمَا قَصَدَا تَغْيِيرَ وَصْفِ الْعَقْدِ ، يَجْعَلُ الْخَاسِرَ رَابِحًا ، وَاللَّازِمَ غَيْرَ لَازِمٍ ، وَالتَّصَرُّفَ فِي
الْعَقْدِ إلَيْهِمَا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا يَمْلِكَانِ فَسْخَهُ وَإِبْقَاءَهُ ، فَكَذَلِكَ يَمْلِكَانِ تَغْيِيرَ وَصْفِهِ ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الشَّيْءِ تُمْلَكُ بِمِلْكِ أَصْلِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ هُنَا ، فَإِنَّهُمَا غَيَّرَا وَصْفَ الْعَقْدِ مِنْ الْجَوَازِ إلَى الْفَسَادِ ، وَإِلَيْهِمَا ذَلِكَ ، فَمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ بَعْدَ الْعَقْدِ ، يُجْعَلُ كَالْمَذْكُورِ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ ، وَلَوْ ذُكِرَ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ ثَبَتَ ، وَإِنْ فَسَدَ بِهِ الْعَقْدُ ، فَكَذَلِكَ إذَا ذُكِرَ بَعْدَ الْعَقْدِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدَ الْمُتَصَارِفَيْنِ إذَا وَهَبَ بَدَلَ الصَّرْفِ قَبْلَ الْقَبْضِ مِنْ صَاحِبِهِ ، وَقَبِلَ فَإِنَّهُ يَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ ، بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا : فَكَذَلِكَ إذَا رَدَّهُ فِي بَدَلِ الصَّرْفِ ، وَمُحَمَّدٌ فَرَّقَ بَيْنَ الْحَطِّ ، وَالزِّيَادَةِ فَقَالَ فِي الْحَطِّ : إيفَاءُ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ مَعَ أَنَّ تَصْحِيحَ الْحَطِّ مُمْكِنٌ ؛ بِأَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ هِبَةً مُبْتَدَأَةً ، فَيُصَارُ إلَيْهِ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ فَحَطَّ الْبَائِعُ عَنْهُ الثَّمَنَ كُلَّهُ بَعْدَ الْقَبْضِ ، وَقَبِلَهُ ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ الْحَطُّ بِطَرِيقِ الْهِبَةِ الْمُبْتَدَأَةِ ، وَيُجْعَلُ الْبَيْعُ صَحِيحًا بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ إلَى ذَلِكَ فَصَرَفَ إلَى إلْغَاءِ الزِّيَادَةِ ، وَتَصْحِيحِ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ ، وَلَكِنْ هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ فَإِنَّ حَطَّ جَمِيعِ الثَّمَنِ يَتَعَذَّرُ إلْحَاقُهُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِهِ الْعَقْدُ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَيْعًا ، وَيَصِيرُ هِبَةً ، وَلَمْ يَقْصِدْ الْمُتَعَاقِدَانِ ذَلِكَ بِأَصْلِ السَّبَبِ ؛ فَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ هِبَةً ، وَهُنَا لَوْ ثَبَتَ حَطُّ الْبَعْضِ عَلَى وَجْهِ الِالْتِحَاقِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ ، لَمْ يَخْرُجْ الْعَقْدُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَرْفًا كَمَا بَاشَرَاهُ ، وَإِنَّمَا يَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ ، وَالْفَاسِدُ مِنْ جِنْسِ الزَّائِدِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ لَا يَضْمَنُ بِالْفَسَادِ ، وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ إذَا وَهَبَ كَانَ ضَامِنًا ، يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ الْحَطَّ لِإِخْرَاجِ الْعَيْنِ
مِنْ الْعَقْدِ ، أَوْ لِإِدْخَالِ الرُّخَصِ فِيهِ ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَصِيرُ مَغْبُونًا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ؛ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ بِحَطِّ الْجَمِيعِ قَصَدَ الْبِرَّ الْمُبْتَدَأَ فَجَعَلْنَاهُ هِبَةً كَذَلِكَ وَهُوَ يَصِيرُ مَغْبُونًا بِبَعْضِ الثَّمَنِ فِي عَقْدِ الصَّرْفِ ، كَمَا يَصِيرُ مَغْبُونًا فِي عَقْدِ الْبَيْعِ ، فَيَكُونُ الْحَطُّ لِإِدْخَالِ الرُّخَصِ فِيهِ ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِجَعْلِهِ هِبَةً مُبْتَدَأَةً ؛ فَلِهَذَا اُلْتُحِقَ بِأَصْلِ الْعَقْدِ ، إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ قَبُولُ الْآخَرِ هُنَا ، بِخِلَافِ الْحَطِّ فِي سَائِرِ الْبُيُوعِ ؛ لِأَنَّ فِي صِحَّةِ هَذَا الْحَطِّ إفْسَادَ هَذَا الْعَقْدِ ، وَلَا يَنْفَرِدُ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِإِفْسَادِ الْعَقْدِ ، وَهُنَاكَ فِي تَصْحِيحِ الْحَطِّ إسْقَاطُ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الثَّمَنِ ، وَالْإِسْقَاطُ يَتِمُّ بِالْمُسْقِطِ ، وَحْدَهُ .
وَلَوْ اشْتَرَى قَلْبَ فِضَّةٍ ، وَثَوْبًا بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا ، وَفِي الْقَلْبِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ، وَتَقَابَضَا ، ثُمَّ حَطَّ عَنْهُ دِرْهَمًا مِنْ ثَمَنِهَا جَمِيعًا ، فَإِنَّ نِصْفَ الْحَطِّ فِي الثَّوْبِ ، وَيَنْتَقِضُ الْبَيْعُ فِي الْقَلْبِ ، فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ الْحَطُّ فِيهِمَا جَمِيعًا ، فَإِنَّهُ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : حَطَطْتُ عَنْكَ دِرْهَمًا مِنْ ثَمَنِهِمَا جَمِيعًا ، فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ فِي حِصَّةِ الْقَلْبِ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِمُقَابَلَتِهِ أَقَلَّ مِنْ وَزْنِهِ ، وَلَكِنَّ هَذَا فَسَادٌ طَارِئٌ ، فَلَا يَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ فِي حِصَّةِ الثَّوْبِ بِخِلَافِ الْمُقْتَرِنِ بِالْعَقْدِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، فَإِنَّ الْحَطَّ هُنَاكَ لِمَا ثَبَتَ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِحَاقِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ ، يُظْهِرُ الْفَضْلَ الْخَالِي عَنْ الْمُقَابَلَةِ فِي الْكُلِّ ، وَهُنَا إنَّمَا يَظْهَرُ الْفَضْلُ الْخَالِي عَنْ الْمُقَابَلَةِ فِي الْقَلْبِ دُونَ الثَّوْبِ ؛ فَلِهَذَا جَازَ الْبَيْعُ فِي الثَّوْبِ مَعَ نِصْفِ الْحَطِّ ، وَلَوْ كَانَ الْمَبِيعُ سَيْفًا مُحَلَّى بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَحِلْيَتُهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا ، فَحَطَّ عَنْهُ مِنْ ثَمَنِهِ دِرْهَمًا أَجَزْتُ ذَلِكَ ، وَجَعَلْتُ الْحَطَّ عَلَى غَيْرِ الْفِضَّةِ ؛ لِأَنَّ الْحَطَّ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ ، وَيَخْرُجُ الْقَدْرُ الْمَحْطُوطُ مِنْ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا ، فَيَكُونُ الْبَيْعُ : كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ بِتِسْعَةٍ ، وَتِسْعِينَ دِرْهَمًا ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ، فَإِنَّ الْقَلْبَ مَعَ الثَّوْبِ شَيْئَانِ مُخْتَلِفَانِ ، وَقَدْ جَعَلَ الْحَطَّ مِنْ ثَمَنِهِمَا ، وَالسَّيْفُ مَعَ الْحِلْيَةِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ وَقَدْ جَعَلَ الْحَطَّ مِنْ ثَمَنِهِ ، فَلَوْ جَعَلْنَا ذَلِكَ فِي حِصَّةِ السَّيْفِ خَاصَّةً ؛ لَا يَكُونُ فِي هَذَا تَغْيِيرٌ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْمُتَصَرِّفُ .
وَلَوْ بَاعَ قَلْبَ فِضَّةٍ بِعِشْرِينَ دِينَارًا وَتَقَابَضَا ، ثُمَّ حَطَّ عَنْهُ بَعْدَ مَا افْتَرَقَا عَشَرَةَ دَنَانِيرَ فَهُوَ جَائِزٌ ، سَوَاءٌ قَبَضَهَا ، أَوْ فَارَقَهُ قَبْلَ الْحَطِّ ؛ لِأَنَّهُ بِالْتِحَاقِ الْقَبْضِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ لَا يَظْهَرُ الرِّبَا هُنَا ؛ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ ، وَالْقَدْرُ الْمَحْطُوطُ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا ، فَيَجِبُ رَدُّهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ قَبَضَ فَوْقَ حَقِّهِ ، وَتَرْكُ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ فِي مِثْلِهِ لَا يَضُرُّ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ زَادَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فِي الْبَدَلِ الَّذِي مِنْ قِبَلِهِ فَعِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ يَبْطُلُ الْعَقْدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ إذَا قَبِلَ الْآخَرُ الزِّيَادَةَ ، وَعِنْدَهُمَا الزِّيَادَةُ تَبْطُلُ ، وَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ الزِّيَادَةُ تَثْبُتُ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِحَاقِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي إثْبَاتِ الزِّيَادَةِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إفْسَادُ أَصْلِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ إنْ كَانَتْ ثَوْبًا فَتَفَرَّقَا قَبْلَ قَبْضِهِ لَمْ يَضُرَّهُمَا شَيْئًا كَمَا لَوْ كَانَ مَذْكُورًا فِي أَصْلِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِيهِ بَيْعٌ ، وَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مِنْ النُّقُودِ يُشْتَرَطُ قَبْضُهَا فِي الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ ، وَالْتُحِقَ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَكَانَ بَدَلَ الصَّرْفِ ، فَشَرَطَ قَبْضَهُ فِي الْمَجْلِسِ ، إلَّا أَنَّ اجْتِمَاعَهُمَا فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ فِي أَصْلِ بَدَلِ الصَّرْفِ ، وَإِنْ افْتَرَقَا قَبْلَ قَبْضِ الزِّيَادَةِ بَطَلَ الْعَقْدُ فِي حِصَّةِ الزِّيَادَةِ خَاصَّةً كَمَا لَوْ كَانَ مَذْكُورًا فِي أَصْلِ الْعَقْدِ ، وَلَمْ يَقْبِضْ حَتَّى افْتَرَقَا .
وَلَوْ اشْتَرَى سَيْفًا مُحَلَّى بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَحِلْيَتُهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا ، وَتَقَابَضَا ، ثُمَّ زَادَ مُشْتَرِي السَّيْفِ دِرْهَمًا ، أَوْ دِينَارًا فَهُوَ جَائِزٌ ، وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَيْسَتْ فِي الْحِلْيَةِ إنَّمَا هِيَ فِي ثَمَنِ السَّيْفِ ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ تُلْتَحَقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ ، وَلَوْ كَانَتْ مَذْكُورَةً فِي الْعَقْدِ ، كَانَتْ بِمُقَابَلَةِ السَّيْفِ دُونَ الْحِلْيَةِ ، وَلَوْ كَانَ بَائِعُ السَّيْفِ زَادَهُ دِينَارًا أَوْ قَبَضَهُ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ جَازَ ، وَإِنْ فَارَقَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ اُنْتُقِضَ مِنْ الثَّمَنِ بِحِصَّةِ الدِّينَارِ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ صَارِفٌ سَيْفًا مُحَلًّى ، وَدِينَارًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَخَمْسُونَ دِرْهَمًا مِنْ الثَّمَنِ بِمُقَابَلَةِ الْحِلْيَةِ ، وَتُقْسَمُ الْخَمْسُونَ الْبَاقِيَةُ عَلَى قِيمَةِ الدِّينَارِ ، وَقِيمَةِ السَّيْفِ بِغَيْرِ حِلْيَةٍ ، فَمَا يَخُصُّ الدِّينَارَ يَجِبُ رَدُّهُ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ يَبْطُلُ فِيهِ بِتَرْكِ قَبْضِ الدِّينَارِ فِي الْمَجْلِسِ .
وَلَوْ اشْتَرَى قَلْبَ فِضَّةٍ فِيهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ بِعَشَرَةٍ ، وَاشْتَرَى هُوَ ، أَوْ غَيْرُهُ ثَوْبًا بِعَشَرَةٍ ، ثُمَّ بَاعَهَا بِرِبْحِ دَهٍ يازده ، أَوْ بِوَضِيعَةِ عُشْرِ أَحَدَ عَشَرَ جَازَتْ حِصَّةُ الثَّوْبِ ، وَلَا تَجُوزُ حِصَّةُ الْقَلْبِ لِمَعْنَى الرِّبَا ، وَهَذَا قَوْلُهُمَا ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ كُلُّهُ ؛ لِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ ، وَلَوْ قَالَ أَبِيعُكَهُمَا بِوَضِيعَةِ دِرْهَمٍ مِنْ عِشْرِينَ ، أَوْ بِزِيَادَةِ دِرْهَمٍ عَلَى عِشْرِينَ دِرْهَمًا كَانَ جَائِزًا ، وَكَانَتْ الْفِضَّةُ بِمِثْلِهَا ، وَالثَّوْبُ بِمَا بَقِيَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْسِبْ الْعِشْرِينَ إلَى رَأْسِ الْمَالِ ، وَلَا إلَى مَا قَامَ عَلَيْهِ بِهِ فَكَانَ هَذَا بَيْعَ مُسَاوِمَةٍ ، وَفِي بَيْعِ الْمُسَاوِمَةِ يُقَابِلُ الْفِضَّةَ مِثْلُ وَزْنِهَا ، وَالْبَاقِي بِمُقَابِلِ الثَّوْبِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ نَصٌّ عَلَى بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ فِيهِمَا ، وَفِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَجْعَلَ جَمِيعَ الرِّبْحِ بِمُقَابَلَةِ الثَّوْبِ .
وَلَوْ اشْتَرَى فِضَّةً بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا ، وَزْنُهَا كَذَلِكَ ، وَاشْتَرَى شَيْئًا بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا وَزْنُهَا كَذَلِكَ ، وَاشْتَرَى سَيْفًا بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا بِجَفْنِهِ وَحَمَائِلِهِ ، ثُمَّ أَنْفَقَ عَلَيْهِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ ، وَعَلَى الصِّيَاغَةِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ ، ثُمَّ قَالَ : يُقَوَّمُ عَلَيَّ بِمِائَةٍ ، وَعَشَرَةٍ ، فَبَاعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى ذَلِكَ بِرِبْحِ عَشَرَةٍ أَحَدَ عَشَرِ أَوْ بِرِبْحِ عِشْرِينَ دِرْهَمًا كَانَ ذَلِكَ كُلُّهُ فَاسِدًا ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِجَعْلِ بَعْضِ الرِّبْحِ بِمُقَابَلَةِ الْفِضَّةِ ، وَالْكُلُّ فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ ، فَإِذَا فَسَدَ الْعَقْدُ فِي بَعْضِهِ ، فَسَدَ فِي كُلِّهِ ، وَلَوْ كَانَ الثَّمَنُ ، وَالنَّفَقَةُ دَنَانِيرَ جَازَ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ لَا يَظْهَرُ الْفَضْلُ الْخَالِي عَنْ الْمُقَابَلَةِ .
وَلَوْ اشْتَرَى فَلْسًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، وَفِيهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ، وَقَبَضَ الْقَلْبَ ، وَغَصَبَهُ الْآخَرُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ، أَوْ اسْتَقْرَضَ مِنْهُ ذَلِكَ ، ثُمَّ افْتَرَقَا ؛ فَهُوَ ضَامِنٌ ثَمَنَ الْقَلْبِ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ بَقَاءِ الْعَقْدِ قَبْضُ الْبَدَلِ فِي الْمَجْلِسِ ، وَقَدْ وُجِدَ ، فَإِنَّهُ مُسْتَوْفٍ لِحَقِّهِ ، وَإِنْ أُخِذَ عَلَى سَبِيلِ الْغَصْبِ ، وَالْقَرْضِ ؛ لِأَنَّهُ ظَفِرَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ مِنْ مَالِ غَرِيمِهِ ، فَيَكُونُ بِالْقَبْضِ مُسْتَوْفِيًا لِحَقِّهِ لَا مُسْتَقْرِضًا ، وَلَا قَابِضًا ، وَلَا يُشْتَرَطُ اتِّفَاقُهُمَا عَلَى الْمُقَاصَّةِ هُنَا ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ الْوَاجِبِ قَبْلَ عَقْدِ الصَّرْفِ إذَا جَعَلَا بَدَلَ الصَّرْفِ قِصَاصًا بِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ .
وَلَوْ اشْتَرَى الْقَلْبَ مَعَ ثَوْبٍ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا ، وَقَبَضَ الْقَلْبَ ، وَنَقَدَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ، ثُمَّ افْتَرَقَا ، كَانَ الْمَنْقُودُ مِنْ الْقَلْبِ خَاصَّةً - اسْتِحْسَانًا - ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ مُسْتَحَقٌّ فِي الْمَجْلِسِ ، وَقَبْضُ ثَمَنِ الثَّوْبِ لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ ، وَفِي سَائِرِ الْبُيُوعِ إنَّمَا يُجْعَلُ الْمَنْقُودُ مِنْ ثَمَنِهِمَا ؛ لِأَجْلِ الْمُعَاوَضَةِ ، وَالْمُسَاوَاةِ وَلَا مُعَاوَضَةَ بَيْنَ الْمُسْتَحَقِّ ، وَبَيْنَ مَا لَيْسَ بِمُسْتَحَقٍّ ؛ وَلِأَنَّ فِي جَعْلِ ذَلِكَ مِنْ ثَمَنِهِمَا هُنَا نَقْضَ الْبَيْعِ فِي نِصْفِ الْقَلْبِ ، وَلَمَّا كَانَ يُسْتَحْسَنُ لِتَصْحِيحِ الْعَقْدِ فِيهِ فِي الِابْتِدَاءِ فَالِاسْتِحْسَانُ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ فَسَادِهِ بَعْدَ الصِّحَّةِ أَوْلَى ، وَلَوْ نَقَدَهُ الْعَشَرَةَ ، وَقَالَ : هِيَ مِنْ ثَمَنِهِمَا جَمِيعًا فَهُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ يُضَافُ إلَى الشَّيْئَيْنِ ، وَالْمُرَادُ أَحَدُهُمَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - { : يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ } ، وَالْمُرَادُ أَحَدُهُمَا ، وَهُوَ الْمَالِحُ ، وَقَالَ - تَعَالَى : { يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ } فَالْمُرَادُ بِهِ الْإِنْسُ خَاصَّةً ، فَهُنَا وَإِنْ قَالَ : هُوَ مِنْ ثَمَنِهِمَا فَقَدْ قَصَدَ إيفَاءَ الْحَقِّ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ ، وَإِيفَاءُ ثَمَنِ الْقَلْبِ فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ مُسْتَحَقٌّ بِخِلَافِ ثَمَنِ الثَّوْبِ فَيَصْرِفُ ذَلِكَ إلَى ثَمَنِ الْقَلْبِ ، وَإِنْ قَالَ : هِيَ مِنْ ثَمَنِ الثَّوْبِ خَاصَّةً ، وَقَالَ الْآخِرُ : نَعَمْ ، أَوْ قَالَ : لَا ، وَتَفَرَّقَا عَلَى ذَلِكَ انْتَقَضَ الْبَيْعُ فِي الْقَلْبِ ؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ بِالِاسْتِحْقَاقِ عِنْدَ الْمُسَاوَاةِ فِي الْعَقْدِ ، أَوْ الْإِضَافَةِ ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَعْدَ تَصْرِيحِ الدَّافِعِ ؛ بِكَوْنِ الْمَدْفُوعِ مِنْ ثَمَنِ الثَّوْبِ خَاصَّةً ، وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ فَالْقَوْلُ فِي بَيَانِ جِهَتِهِ .
قَوْلُهُ : وَلَوْ كَانَ اشْتَرَى سَيْفًا مُحَلَّى بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَحِلْيَتُهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا ، وَقَبَضَ السَّيْفَ ، وَنَقَدَهُ خَمْسِينَ ، وَقَالَ هِيَ مِنْ ثَمَنِ السَّيْفِ دُونَ الْحِلْيَةِ وَرَضِيَ بِذَلِكَ الْقَابِضُ ، أَوْ لَمْ يَرْضَ فَهُوَ سَوَاءٌ ، وَفِي الْقِيَاسِ : هُوَ لَمَّا صَرَّحَ بِهِ يَبْطُلُ الْعَقْدُ بِافْتِرَاقِهِمَا كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَجَعَلَ الْمَنْقُودَ مِنْ الْجَاهِلِيَّةِ هُنَا ؛ لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَا الْمَنْقُودَ ثَمَنَ الْحِلْيَةِ يَصِحُّ الْقَبْضُ ، وَالدَّفْعُ ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ ثَمَنَ السَّيْفِ يَبْطُلُ ذَلِكَ كُلُّهُ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي حِصَّةِ الْحِلْيَةِ يَبْطُلُ بِالِافْتِرَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَيَبْطُلُ الْعَقْدُ بِبُطْلَانِهِ فِي حِصَّةِ السَّيْفِ فَيَجِبُ رَدُّ الْمَقْبُوضِ فَكَانَ هَذَا تَصْرِيحًا بِمَا لَا يُفِيدُ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ بِخِلَافِ الثَّوْبِ ، فَإِنَّ هُنَاكَ لَوْ جَعَلْنَا الْمَنْقُودَ مِنْ ثَمَنِ الثَّوْبِ سُلِّمَ لِلْقَابِضِ بِذَلِكَ الطَّرِيقِ ، يُوَضِّحُهُ : أَنَّ الْحِلْيَةَ وَالسَّيْفَ شَيْءٌ وَاحِدٌ ، وَفِي الشَّيْءِ الْوَاحِدِ لَا يُعْتَبَرُ تَعْيِينُهُ فِي الْمَنْقُودِ أَنَّهُ ثَمَنُ هَذَا الْجَانِبِ دُونَ الْجَانِبِ الْآخَرِ بِخِلَافِ الْقَلْبِ ، وَالثَّوْبِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الثَّمَنُ دَنَانِيرَ .
وَلَوْ اشْتَرَى فِضَّةً بِخَمْسَةِ دَنَانِيرَ ، وَاشْتَرَى سَيْفًا ، وَجَفْنًا ، وَحَمَائِلَ بِخَمْسَةِ دَنَانِيرَ ، وَأَنْفَقَ عَلَى صِنَاعَتِهِ ، وَتَرْكِيبِهِ دِينَارًا ، ثُمَّ بَاعَهُ مُرَابَحَةً عَلَى ذَلِكَ بِرِبْحِ دَهٍ يازده ، وَتَقَابَضَا كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ مُخْتَلِفٌ لَا يَظْهَرُ الْفَضْلُ الْخَالِي عَنْ الْمُقَابَلَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ قَلْبُ فِضَّةٍ يُقَوَّمُ عَلَيْهِ بِدِينَارٍ ، وَثَوْبٌ لِآخَرَ يُقَوَّمُ بِدِينَارَيْنِ فَبَاعَاهُمَا مُرَابَحَةً بِرِبْحِ دِينَارٍ ، أَوْ بِرِبْحِ ده يازده ، فَإِنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ رَأْسِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ الْبَاقِيَ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ مَقْسُومٌ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ ، وَقَدْ كَانَ الثَّمَنُ الْأَوَّلُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا ، وَإِنْ كَانَ قَلْبُ فِضَّةٍ لِرَجُلٍ ، وَعَشَرَةُ دَرَاهِمَ ، وَثَوْبٌ لِآخَرَ قِيمَتُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ، فَبَاعَاهُ مِنْ رَجُلٍ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا بَاعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الَّذِي لَهُ إلَّا أَنَّ الْبَيْعَ صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ ، ثُمَّ نَقَدَ الْمُشْتَرِي صَاحِبَ الْقَلْبِ عَشَرَةً ، فَهِيَ لَهُ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَوَلَّى بَيْعَ مِلْكِهِ بِنَفْسِهِ فَإِلَيْهِ قَبْضُ ثَمَنِهِ ، وَلَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَقْبُوضِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا شَرِكَةٌ فِي الْمَبِيعِ ، وَلَا يُنْتَقَضُ الْبَيْعُ إنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَ الْبَاقِيَ ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ ثَمَنُ الثَّوْبِ ، وَلَوْ بَاعَا جَمِيعًا الثَّوْبَ ، وَبَاعَا جَمِيعًا الْقَلْبَ فَنُقِدَ صَاحِبُ الْقَلْبِ عَشَرَةً ثُمَّ تَفَرَّقَا اُنْتُقِضَ الْبَيْعُ فِي نِصْفِ الْقَلْبِ ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ إذَا كَانَ بَائِعُهُمَا ، وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ جَعَلْنَا الْمَنْقُودَ - اسْتِحْسَانًا - لِعَدَمِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُسْتَحِقِّ ، وَغَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ هُنَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتَحَقَّ قَبْضَ نِصْفِ ثَمَنِ الْقَلْبِ ، فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَ الْقَبْضِ لِلْعَاقِدِ سَوَاءٌ بَاشَرَهُ لِنَفْسِهِ ، أَوْ لِغَيْرِهِ ، وَقَدْ بَاعَا جَمِيعًا الْقَلْبَ ، وَالْقَابِضُ
أَحَدُهُمَا ، فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ نِصْفِ الْمَنْقُودِ عِوَضَ مَا بَاعَهُ الْآخَرُ مِنْ ثَمَنِ الْقَلْبِ ، فَإِنْ قَالَا كَذَلِكَ فَإِنَّ قَبْضَ الْمُوَكِّلِ مِنْ الْقَلْبِ كَقَبْضِ الْوَكِيلِ فَصَاحِبُ الْقَلْبِ إذَا قَبَضَ ثَمَنَ الْقَلْبِ ، وَهُوَ فِي النِّصْفِ عَاقِدٌ ، وَفِي النِّصْفِ مُوَكَّلٌ أَمْكَنَ جَعْلُ الْمَنْقُودِ كُلِّهِ ثَمَنَ الْقَلْبِ قُلْنَا : نَعَمْ ، وَلَكِنَّ التَّرْجِيحَ بِاعْتِبَارِ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَقَبْضُ الْمُوَكِّلِ غَيْرُ مُسْتَحَقٌّ لَهُ بِالْعَقْدِ ، فَانْعَدَمَ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجَلِهِ رَجَّحْنَا ثَمَنَ الْقَلْبِ .
وَلَوْ بَاعَ لُؤْلُؤَةً بِمِائَةِ دِينَارٍ عَلَى أَنَّ فِيهَا مِثْقَالًا ، فَإِذَا فِيهَا مِثْقَالَانِ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا ؛ لِأَنَّ الْوَزْنَ فِي اللُّؤْلُؤِ صِفَةٌ وَالْعَقْدُ إنَّمَا يَنْعَقِدُ عَلَى عَيْنِهِ لَا عَلَى صِفَتِهِ
وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ دَارًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّهَا أَلْفُ ذِرَاعٍ فَإِذَا هِيَ أَلْفٌ ، وَخَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا عَلَى جَمِيعِهَا لِأَنَّ الذُّرْعَانَ فِي الدَّارِ صِفَةٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّ بِاخْتِلَافِهَا تَخْتَلِفُ صِفَةُ الْعَيْنِ فِي الضِّيقِ ، وَالسَّعَةِ ، وَلَا يَتَبَدَّلُ الِاسْمُ ، وَلَوْ كَانَ بَاعَهَا عَلَى أَنَّهَا أَلْفُ ذِرَاعٍ كُلُّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ كَانَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِأَلْفٍ ، وَخَمْسِمِائَةٍ وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِجَعْلِ كُلِّ دِرْهَمٍ بِمُقَابَلَةِ كُلٍّ ذِرَاعٍ ، وَقَدْ تَغَيَّرَ عَلَى الْمُشْتَرِي شَرْطُ عَقْدِهِ ، فَإِنَّهُ اشْتَرَاهَا عَلَى أَنْ تُسَلَّمَ لَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَالْآنَ لَا تُسَلَّمُ لَهُ إلَّا بِأَلْفٍ ، وَخَمْسِمِائَةٍ ، فَلَزِمَهُ زِيَادَةٌ فِي الثَّمَنِ ، وَلَمْ يَرْضَ بِالْتِزَامِهِ فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ .
وَكَذَلِكَ قَلْبُ فِضَّةٍ اشْتَرَاهُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ عَلَى أَنَّ فِيهِ عَشَرَةً ، فَإِذَا فِيهِ عِشْرُونَ دِرْهَمًا ، فَهَذَا كُلُّهُ دِرْهَمٌ بِدِرْهَمٍ سَوَاءٌ قَالَ دِرْهَمٌ بِدِرْهَمٍ أَوْ لَمْ يَقُلْ ، فَلَمْ يَأْخُذْهُ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا إنْ لَمْ يَكُنْ تَفَرَّقَا عَنْ الْمَجْلِسِ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ وَزُفَرُ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - الْبَيْعُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُمَا نَصَّا عَلَى عَقْدِ الرِّبَا بِتَسْمِيَةِ الْعَشَرَةِ بِمُقَابَلَةِ قَلْبِ ، وَزْنِهِ عِشْرُونَ دِرْهَمًا ، وَلَكِنَّا نَقُولُ مِثْلَ وَزْنِهَا فِي الْبَيْعِ ، وَذَلِكَ حُكْمٌ ثَابِتٌ بِالشَّرْعِ فَيَكُونُ بِمُقَابَلَةِ كُلِّ دِرْهَمٌ دِرْهَمًا صَرَّحَا بِذَلِكَ ، أَوْ لَمْ يُصَرِّحَا ، وَعِنْدَ التَّصْرِيحِ بِذَلِكَ جَازَ الْبَيْعُ فِي جَمِيعِ الْقَلْبِ بِمِثْلِ وَزْنِهِ ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ شَرْعًا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ تَنْصِيصِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الذُّرْعَانِ فِي الدَّارِ ، ثُمَّ إنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا يُخَيَّرُ ؛ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ زِيَادَةٌ فِي ثَمَنِ الْقَلْبِ لَمْ يَرْضَ بِهَا ، فَإِنْ كَانَ تَفَرَّقَا جَازَ لَهُ نِصْفُ الْقَلْبِ ؛ لِأَنَّهُ مَا قَبَضَ إلَّا ثَمَنَ نِصْفِ الْقَلْبِ ، فَكَأَنَّهُ بَاعَهُ الْقَلْبَ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا ، وَنَقَدَ فِي الْمَجْلِسِ عَشَرَةً ، وَلِهَذَا لَا يَتَخَيَّرُ ؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ بِفِعْلِهِ ، وَهِيَ الْمُفَارَقَةُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ بَعْضَ الثَّمَنِ فَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهُ بِدِينَارٍ فَهُوَ كُلُّهُ بِدِينَارٍ ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى هُنَا بِمُقَابَلَةِ عَيْنِ الْقَلْبِ ، وَالْوَزْنُ فِي الْقَلْبِ صِفَةٌ فَإِنَّ الْقَلْبَ مِمَّا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ ، وَفِيمَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ الْوَزْنُ صِفَةٌ ، فَإِنَّ بِاخْتِلَافِ الْوَزْنِ تَخْتَلِفُ صِفَتُهُ فَيَكُونُ أَثْقَلَ ، أَوْ أَخَفَّ ، وَلَكِنْ لَا يَتَبَدَّلُ اسْمُ الْعَيْنِ ، وَلَوْ كَانَ قَالَ : كُلُّ دِرْهَمٍ بِعُشْرِ دِينَارٍ ، أَخَذَهُ بِدِينَارَيْنِ إنْ شَاءَ ؛ لِأَنَّهُ أَعْقَبَ مِنْهُمْ كَلَامَهُ تَفْسِيرًا فَيَكُونُ الْحُكْمُ لِذَلِكَ التَّفْسِيرِ ، وَيَصِيرُ بَائِعًا كُلَّ دِرْهَمٍ
مِنْ الْقَلْبِ بِعُشْرِ دِينَارٍ فَيَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي لِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الزِّيَادَةِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْقَلْبُ أَنْقُصَ وَزْنًا فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا ، وَثُبُوتُ الْجَوَازِ هُنَا ، وَإِنْ انْتَقَصَ عَنْهُ الثَّمَنُ لَتَغَيَّرَ شَرْطُ عَقْدِهِ ، وَقَدْ يَرْغَبُ الْإِنْسَانُ فِي قَلْبٍ وَزْنُهُ عَشَرَةُ مَثَاقِيلَ ، وَلَا يَرْغَبُ فِيمَا إذَا كَانَ وَزْنُهُ خَمْسَةُ مَثَاقِيلَ .
وَلَوْ بَاعَ قَلْبَ فِضَّةٍ فِيهِ عَشَرَةٌ ، وَثَوْبًا بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا فَنَقَدَهُ مِنْهَا عَشَرَةً ، وَقَالَ : نِصْفُهَا مِنْ ثَمَنِ الْقَلْبِ ، وَنِصْفُهَا مِنْ ثَمَنِ الثَّوْبِ ، وَتَفَرَّقَا ، انْتَقَضَ الْبَيْعُ فِي نِصْفِ الْقَلْبِ ؛ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّ نِصْفَ الْمَنْقُودِ مِنْ ثَمَنِ الثَّوْبِ ، وَلَوْ نَصَّ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْمَنْقُودِ مِنْ ثَمَنِ الثَّوْبِ جُعِلَ مِنْ ثَمَنِهِ خَاصَّةً ، فَكَذَلِكَ نِصْفُهُ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ : الْمَنْقُودُ مِنْ ثَمَنِهِمَا جَمِيعًا فَإِنَّهُ يُجْعَلُ كُلُّهُ مِنْ ثَمَنِ الْقَلْبِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مَا صَرَّحَ بِهِ بَقِيَ فِيهِ بَعْضُ الِاحْتِمَالِ فَقَدْ يُضَافُ الشَّيْءُ إلَى شَيْئَيْنِ ، وَالْمُرَادُ أَحَدُهُمَا كَمَا فِي - قَوْله تَعَالَى - : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ ، وَالْمَرْجَانُ } ، - وقَوْله تَعَالَى - : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ، } أَمَّا هُنَا بَعْدَ التَّصْرِيحِ عَلَى التَّنْصِيفِ لَا يَبْقَى احْتِمَالُ جَعْلِ الْكُلِّ بِمُقَابَلَةِ الْقَلْبِ ، وَأَمَّا فِي السَّيْفِ إذَا سُمِّيَ فَقَالَ : نِصْفُهَا مِنْ ثَمَنِ الْحِلْيَةِ ، وَنِصْفُهَا مِنْ ثَمَنِ السَّيْفِ ، ثُمَّ تَفَرَّقَا لَمْ يَفْسُدْ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَرَّحَ بِأَنَّ الْكُلَّ بِمُقَابَلَةِ السَّيْفِ لَمْ يُعْتَبَرْ تَصْرِيحُهُ : إمَّا ؛ لِأَنَّ السَّيْفَ مَعَ الْحِلْيَةِ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَتَصْرِيحُهُ عَلَى أَنَّ الْمَنْقُودَ عُوِّضَ جَانِبٌ مِنْهُ دُونَ جَانِبٍ غَيْرِ مُعْتَبَرٍ ، أَوْ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ لَا يَسْلَمُ لَهُ بِالطَّرِيقِ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَبْطُلُ فِي السَّيْفِ بِبُطْلَانِهِ فِي الْحِلْيَةِ ، أَوْ فِي بَعْضِهَا ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنْ قَصْدَهُمَا أَنْ يُسَلِّمَ الْمَقْبُوضُ لِلْقَابِضِ ، وَلَا وَجْهَ لِذَلِكَ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ بِمُقَابَلَةِ الْحِلْيَةِ .
وَلَوْ قَالَ : أَبِيعُكَ السَّيْفَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَخَمْسِينَ نَقْدًا مِنْ ثَمَنِ السَّيْفِ ، وَالْحِلْيَةِ ، وَخَمْسِينَ نَسِيئَةٍ مِنْ ثَمَنِ السَّيْفِ ، وَالْحِلْيَةِ ، ثُمَّ تَفَرَّقَا ، كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا ؛ لِأَنَّهُ شَرْطُ الْأَجَلِ فِي بَعْضِ ثَمَنِ الْحِلْيَةِ ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ ، وَالسَّيْفُ شَيْءٌ وَاحِدٌ ، فَإِذَا فَسَدَ الْعَقْدُ فِي بَعْضِهِ فَسَدَ فِي كُلِّهِ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي الْقَلْبِ وَالثَّوْبِ فَسَدَ الْبَيْعُ أَيْضًا ، فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ فِي الثَّوْبِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظَائِرُهُ .
وَلَوْ اشْتَرَى سَيْفًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّ حِلْيَتَهُ خَمْسُونَ دِرْهَمًا ، وَتَقَابَضَا فَإِذَا حِلْيَتُهُ سِتُّونَ دِرْهَمًا ، وَلَمْ يَتَفَرَّقَا ، فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ زَادَهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ، وَأَخَذَ السَّيْفَ ، وَإِنْ شَاءَ نَقَضَ الْبَيْعَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَمَّى وَزْنَ الْحِلْيَةِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا ، فَقَدْ صَرَّحَ بِتَسْمِيَةِ الْخَمْسِينَ بِمُقَابَلَةِ السَّيْفِ ، فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ الْحِلْيَةَ سِتُّونَ دِرْهَمًا ، وَبِمُقَابَلَةِ كُلِّ دِرْهَمٍ دِرْهَمٌ شَرْعًا ، ظَهَرَ أَنَّ ثَمَنِ الْحِلْيَةِ سِتُّونَ دِرْهَمًا ، وَيَكُونُ ثَمَنُهَا مِائَةً ، وَعَشَرَةً ، وَيَتَخَيَّرُ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ لَزِمَهُ زِيَادَةٌ فِي الثَّمَنِ ، وَإِنْ كَانَا تَفَرَّقَا فَالْبَيْعُ مُنْتَقَضٌ ؛ لِأَنَّ ثَمَنَ سُدُسِ الْحِلْيَةِ لَمْ يُقْبَضْ فِي الْمَجْلِسِ ، وَبِانْتِقَاضِ الْعَقْدِ فِي الْحِلْيَةِ يُنْتَقَضُ فِي جَمِيعِ السَّيْفِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي حِلْيَةِ السَّيْفِ مِائَةُ دِرْهَمٍ ، فَإِنْ لَمْ يَتَفَرَّقَا فَإِنْ شَاءَ زَادَهُ خَمْسِينَ دِرْهَمًا ، وَأَخَذَ السَّيْفَ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ؛ لِأَنَّ بِمُقَابَلَةِ السَّيْفِ خَمْسِينَ ، وَبِمُقَابَلَةِ الْحِلْيَةِ مِثْلَ وَزْنِهَا ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِبْرِيقِ ؛ لِأَنَّ بَيْعَ نِصْفِ الْإِبْرِيقِ جَائِزٌ فَيُمْكِنُ إيفَاءُ الْعَقْدِ فِي نِصْفِ الْإِبْرِيقِ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ ، وَبَيْعُ نِصْفِ الْحِلْيَةِ لَا يَجُوزُ ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ السَّيْفِ مَعَ نِصْفِ الْحِلْيَةِ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا فِي التَّسْلِيمِ ، فَإِذَا بَطَلَ الْعَقْدُ فِي الْبَعْضِ بَطَلَ فِي الْكُلِّ .
وَلَوْ اشْتَرَى سَيْفًا مُحَلَّى ، وَزْنُ حِلْيَتِهِ خَمْسُونَ دِرْهَمًا بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ ، وَتَقَابَضَا وَافْتَرَقَا ، فَإِذَا فِي السَّيْفِ مِائَةُ دِرْهَمٍ ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِتَسْمِيَةِ وَزْنِ الْحِلْيَةِ مُسَمِّيًا بِمُقَابَلَةِ خَمْسَةِ دَنَانِيرَ ، وَبِمُقَابَلَةِ الْحِلْيَةِ خَمْسَةِ دَنَانِيرَ ، فَلَا يَضُرُّهُ زِيَادَةُ وَزْنِ الْحِلْيَةِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْقَلْبِ نَظِيرَهُ .
وَلَوْ اشْتَرَى قَلْبَ فِضَّةٍ بِدِينَارٍ عَلَى أَنَّ فِيهِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ، فَإِذَا فِيهِ عِشْرُونَ دِرْهَمًا ، كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا فِي الْكُلِّ ، وَلَوْ كَانَ مَكَانُ الْقَلْبِ نَقْرَةً ؛ رَدَّ نِصْفَهَا ؛ لِأَنَّ النُّقْرَةَ لَا يَضُرُّهَا التَّبْعِيضُ ، وَالْعَقْدُ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمُسَمَّى مِنْ الْوَزْنِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : بِعْتُ مِنْكَ وَزْنَ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ مِنْ هَذِهِ النُّقْرَةِ يَجُوزُ ، وَلَوْ قَالَ : مِنْ هَذَا الْقَلْبِ لَا يَجُوزُ .
وَلَوْ بَاعَ قَلْبَ فِضَّةٍ لِرَجُلٍ ، وَكَّلَهُ بِبَيْعِهِ ، وَوَكَّلَهُ آخَرُ بِبَيْعِ الثَّوْبِ ، فَبَاعَهُمَا جَمِيعًا صَفْقَةً وَاحِدَةً بِدِينَارٍ ، أَوْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، عَلَى أَنَّ ثَمَنَ الثَّوْبِ الدِّينَارُ ، وَثَمَنَ الْقَلْبِ الدَّرَاهِمُ كَانَ جَائِزًا ، وَإِنْ دَفَعَ الْقَلْبَ ، وَقَبَضَ ثَمَنَهُ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَلَا يُشْرِكُهُ صَاحِبُ الثَّوْبِ فِي ثَمَنِ الْقَلْبِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسَمًّى عَلَى حِدَةٍ ، وَبَيْعُ الْوَكِيلِ بِثَمَنٍ مُنْفَصِلٍ ، كَبَيْعِ الْمُوَكِّلِ بِنَفْسِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الثَّمَنُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا ، عَشَرَةٌ بِيضٌ ثَمَنُ الْقَلْبِ ، وَعَشَرَةٌ سُودٌ ثَمَنُ الثَّوْبِ فَهَذَا التَّفْصِيلُ ، وَتَفْصِيلُ الْعَشَرَةِ ، وَالدِّينَارِ سَوَاءٌ ، وَلَوْ بَاعَهُمَا بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا صَفْقَةً وَاحِدَةً ، وَلَمْ يُبَيِّنْ أَحَدَهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ ، ثُمَّ نَقَدَهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ كَانَ الْمَنْقُودُ ثَمَنَ الْقَلْبَ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ وَاحِدٌ ، وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ بِقَبْضِ جَمِيعِ الثَّمَنِ ، فَهَذَا وَمَا لَوْ بَاعَهُمَا لِنَفْسِهِ سَوَاءٌ ، وَإِذَا كَانَ الْمَنْقُودُ مِنْ ثَمَنِ الْقَلْبِ شَرْعًا ، كَانَ ذَلِكَ لِصَاحِبِ الْقَلْبِ ؛ لِأَنَّ الْيَدَ تَمْلِكُ الْأَصْلَ ، وَلَا يُشْرِكُهُ صَاحِبُ الثَّوْبِ فِيهَا ؛ لِانْعِدَامِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِي أَصْلِ الْقَلْبِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْبَيْعُ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا عَشَرَةٌ نَقْدًا ، وَعَشَرَةٌ نَسِيئَةً ، فَقَبَضَ النَّقْدَ ، وَقَبْضَ الثَّوْبَ وَالْقَلْبَ ، كَانَ جَائِزًا ، وَكَانَ الْمَنْقُودُ مِنْ الْقَلْبِ خَاصَّةً ، وَالنَّسِيئَةُ فِي ثَمَنِ الثَّوْبِ ، فَكَذَلِكَ إذَا قَبَضَ الْبَعْضَ فِي الْمَجْلِسِ دُونَ الْبَعْضِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
كِتَابُ الشُّفْعَةِ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إمْلَاءً : الشُّفْعَةُ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الشَّفْعِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْوَتْرِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ ضَمِّ عَدَدٍ إلَى عَدَدٍ ، أَوْ شَيْءٍ إلَى شَيْءٍ وَمِنْهُ شَفَاعَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُذْنِبِينَ فَإِنَّهُ يَضُمُّهُمْ بِهَا إلَى الْعَابِدِينَ ، وَكَذَلِكَ الشَّفِيعُ بِأَخْذِهِ يَضُمُّ الْمَأْخُوذَ إلَى مِلْكِهِ ، فَيُسَمَّى لِذَلِكَ شُفْعَةً ، وَزَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى ثُبُوتَ حَقِّ الشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّهُ يُتَمَلَّكُ عَلَى الْمُشْتَرِي مِلْكًا صَحِيحًا لَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَإِنَّهُ مِنْ نَوْعِ الْأَكْلِ بِالْبَاطِلِ وَتَأَيَّدَ هَذَا بِقَوْلِهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ ، إلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ } ؛ وَلِأَنَّهُ بِالْأَخْذِ يَدْفَعُ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ عَلَى وَجْهٍ يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِالْمُشْتَرِي فِي إبْطَالِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْفَعَ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِالْإِضْرَارِ بِغَيْرِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ بِالْأَخْبَارِ الْمَشْهُورَةِ فِي الْبَابِ ، وَالْأَصَحُّ أَنْ نَقُولَ الشُّفْعَةُ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُ مُسْتَحْسَنٌ مِنْ الْقِيَاسِ ، بَلْ هُوَ ثَابِتٌ ، وَقَدْ دَلَّتْ عَلَى ثُبُوتِهِ الْأَحَادِيثُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ أَصْحَابِهِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ .
مِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ عَقَارًا وَرُبْعًا } ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا بَدَأَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْكِتَابَ بِهِ وَرَوَاهُ عَنْ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّ سَعْدَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَرَضَ بَيْتًا لَهُ عَلَى جَارٍ لَهُ ، فَقَالَ خُذْهُ بِأَرْبَعِمِائَةٍ ، أَمَا إنِّي قَدْ أُعْطِيت بِهِ
ثَمَانَمِائَةٍ ، وَلَكِنِّي أُعْطِيكَهُ بِأَرْبَعِمِائَةٍ لِأَنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقْبِهِ } ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ بَيْعَ مِلْكِهِ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْرِضَهُ عَلَى جَارِهِ لِمُرَاعَاةِ حَقِّ الْمُجَاوَرَةِ قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ } ؛ وَلِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى حُسْنِ الْعِشْرَةِ ، وَالتَّحَرُّزِ عَنْ الْخُصُومَةِ ، وَالْمُنَازَعَةِ ؛ فَلِهَذَا فَعَلَهُ سَعْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَحَطَّ عَنْهُ نِصْفَ الثَّمَنِ لِتَحْقِيقِ هَذَا الْمَعْنَى وَقِيلَ لِإِتْمَامِ الْإِحْسَانِ ، وَإِنَّ تَمَامَ الْإِحْسَانِ أَنْ يَحُطَّ الشَّطْرَ ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ لَهُ دَيْنٌ عَلَى إنْسَانٍ فَطَالَبَ غَرِيمَهُ ، فَقَالَ : أَحْسِنْ إلَيَّ يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : وَهَبْت لَك النِّصْفَ فَقِيلَ لَهُ : النِّصْفُ كَثِيرٌ ، فَقَالَ : وَأَيْنَ ذَهَبَ قَوْله تَعَالَى { وَأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } سَمِعْت جَدِّي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { مِنْ تَمَامِ الْإِحْسَانِ أَنْ يُحَطَّ الشَّطْرُ } .
فَأَمَّا قَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْجَارُ أَحَقُّ بِسَقَبِهِ } ، فَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ بِالسِّينِ ، وَالْمُرَادُ الْقُرْبُ ، وَبِالصَّادِ ، وَالْمُرَادُ الْأَخْذُ ، وَالِانْتِزَاعُ ، يَعْنِي : لَمَّا جَعَلَهُ الشَّرْعُ أَحَقَّ بِالْأَخْذِ بَعْدَ الْبَيْعِ ، فَهُوَ أَحَقُّ بِالْعَرْضِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْبَيْعِ أَيْضًا ، وَهُوَ دَلِيلٌ لَنَا عَلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ تُسْتَحَقُّ بِالْجِوَارِ ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ اسْمًا مُشْتَقًّا مِنْ مَعْنًى ، وَالْحُكْمُ مَتَى عُلِّقَ بِاسْمٍ مُشْتَقٍّ ، فَذَلِكَ الْمَعْنَى هُوَ الْمُوجِبُ لِلْحُكْمِ خُصُوصًا إذَا كَانَ مُؤَثِّرًا فِيهِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي } ، وقَوْله تَعَالَى { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ } وَهَذَا الْمَعْنَى مُؤَثِّرٌ ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ
بِالشُّفْعَةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ ، فَإِنَّ الضَّرَرَ مَدْفُوعٌ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ } فِي الْإِسْلَامِ ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِالْمُجَاوَرَةِ ، يَعْنِي : الضَّرَرَ الْبَادِيَ إلَى سُوءِ الْمُجَاوَرَةِ عَلَى الدَّوَامِ مِنْ حَيْثُ إبْعَادِ النَّارِ وَإِعْلَاءِ الْجِدَارِ وَإِثَارَةِ الْغُبَارِ وَمَنْعِ ضَوْءِ النَّهَارِ وَالشَّافِعِيُّ يَقُولُ : الْمُرَادُ بِالْجَارِ الشَّرِيكُ ، فَقَدْ يُطْلَقُ اسْمُ الْجَارِ عَلَى الشَّرِيكِ قَالَ الْأَعْشَى أَيَا جَارَتِي بِينِي فَإِنَّكِ طَالِق كَذَاكَ أُمُورُ النَّاسِ عَادٍ وَطَارِقَة وَالْمُرَادُ زَوْجَتُهُ ، وَهِيَ شَرِيكَتُهُ فِي الْفِرَاشِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ فِي هَذَا تَرَكَ الْحَقِيقَةَ إلَى الْمَجَازِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ ، ثُمَّ الزَّوْجَةُ تُسَمَّى جَارَةً ؛ لِأَنَّهَا مُجَاوَرَةٌ فِي الْفِرَاشِ تَتَصَرَّفُ عَنْهُ لَا ؛ لِأَنَّهَا تُشَارِكُهُ وَفِي الْحَدِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ هَذَا التَّأْوِيلِ ، وَإِنَّ سَعْدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَرَضَ بَيْتًا لَهُ عَلَى جَارٍ لَهُ وَرَوَى الْحَدِيثَ ، فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الْبَيْتِ كَانَ لَهُ ، وَإِنَّهُ فَهِمَ مِنْ الْحَدِيثِ الْجَارَ دُونَ الشَّرِيكِ حِينَ اسْتَعْمَلَ الْحَدِيثَ فِيهِ .
وَعَنْ الْحَسَنِ فِي الشُّفْعَةِ لِلْيَتِيمِ قَالَ : وَصِيُّهُ بِمَنْزِلَةِ أَبِيهِ إنْ شَاءَ أَخَذُوا الْغَائِبَ عَلَى شُفْعَتِهِ وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ لِلصَّغِيرِ ، وَأَنَّ وَلِيَّهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْأَخْذِ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ ، وَفِيهِ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ الْيَتَامَى وَتَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِمْ ؛ وَلِهَذَا الْمَقْصُودِ أَقَامَ الشَّرْعُ وَلِيَّهُ مَقَامَهُ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الشُّفْعَةَ تَثْبُتُ لِلْغَائِبِ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُثْبِتَ لِحَقِّهِ قَائِمٌ مَعَ غَيْبَتِهِ وَلَا تَأْثِيرَ لِلْغَيْبَةِ فِي إبْطَالِ حَقٍّ تَقَرَّرَ سَبَبُهُ ، فَإِذَا حَضَرَ وَعَلِمَ بِهِ كَانَ عَلَى شُفْعَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ بَعْدَ مَا يَثْبُتُ لَا يَسْقُطُ ، إلَّا بِإِسْقَاطِهِ ، وَالرِّضَا بِسُقُوطِهِ صَرِيحًا ، أَوْ دَلَالَةً وَبِتَرْكِ الطَّلَبِ عِنْدَ الْجَهْلِ بِهِ ، وَالْغَيْبَةِ لَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الْمَعْنَى لِانْعِدَامِ تَمَكُّنِهِ عَنْ الطَّلَبِ .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْخَلِيطُ أَحَقُّ مِنْ الشَّفِيعِ ، وَالشَّفِيعُ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ } ، وَالْخَلِيطُ هُوَ الشَّرِيكُ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ ، وَالشَّفِيعُ هُوَ الشَّرِيكُ فِي حُقُوقِ الْمَبِيعِ كَالشُّرْبِ ، وَالطَّرِيقِ وَقِيلَ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ ، فَقَدْ رَوَى بَعْضُ الرُّوَاةِ أَنَّ الشَّرِيكَ أَحَقُّ مِنْ الْخَلِيطِ ، وَالْخَلِيطَ أَحَقُّ مِنْ الشَّفِيعِ فَالشَّرِيكُ يَكُونُ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ ، وَالْخَلِيطُ يَكُونُ فِي حُقُوقِ الْمَبِيعِ سُمِّيَ خَلِيطًا لِاخْتِلَاطٍ بَيْنَهُمَا فِيمَا يَتَأَتَّى بِهِ الِانْتِفَاعُ مَعَ تَمَيُّزِ الْمِلْكِ ، وَالشَّفِيعُ هُوَ الْجَارُ وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ عَلَى مَرَاتِبَ ، وَأَنَّ الْبَعْضَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْبَعْضِ بِقُوَّةِ سَبَبِهِ وَهَذَا إنَّمَا يَتَأَتَّى عَلَى مَذْهَبِنَا فَأَمَّا الشَّافِعِيُّ ، فَلَا يُوجِبُ الشُّفْعَةَ ، إلَّا لَلشَّرِيكِ ، فَلَا يَتَأَتَّى هَذَا التَّرْتِيبُ عَلَى مَذْهَبِهِ ، وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَعَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ } يَنْتَظِرُ بِهَا ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا إذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا ، وَهَذَا مِنْ أَقْوَى مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ ، فَإِنَّهُ لَا شُبْهَةَ فِي صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ ؛ لِأَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ إمَامٌ مُطْلَقٌ فِي الْحَدِيثِ وَجَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، فَلَا طَعْنَ فِي إسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ ، وَلَا وَجْهَ بِحَمْلِ الْحَدِيثِ عَلَى الشَّرِيكِ ، فَإِنَّهُ إذَا حُمِلَ عَلَى الشَّرِيكِ كَانَ هَذَا لَغْوًا ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُفِيدًا إذَا كَانَ الْمُرَادُ جَارًا هُوَ شَرِيكٌ فِي الطَّرِيقِ قَالَ : كَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ يَقُولُ : الْعَجَبُ مِنْهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْحَدِيثِ ، ثُمَّ يَتْرُكُونَ الْعَمَلَ بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ شُهْرَتِهِ ،
فَلَا يَبْقَى بَعْدَ هَذَا الْحَدِيثِ لِهَذَا اللَّقَبِ مَعْنًى سِوَى أَنَّهُمْ يَتْرُكُونَ الْعَمَلَ بِمِثْلِ هَذَا الْحَدِيثِ فَلِأَجْلِهِ سُمُّوا أَصْحَابَ الْحَدِيثِ لَا لِعِلْمِهِمْ بِالْحَدِيثِ .
وَعَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ : مَنْ بِيعَتْ شُفْعَتُهُ ، وَهُوَ حَاضِرٌ فَلَمْ يَطْلُبْ ، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ ، وَبِهِ نَأْخُذُ ؛ لِأَنَّ سُكُوتَهُ عَنْ الطَّلَبِ بَعْدَ عِلْمِهِ وَتَمَكُّنِهِ مِنْ الطَّلَبِ دَلِيلُ الرِّضَا مِنْهُ بِمُجَاوَرَةِ الْجَارِ الْحَادِثِ فَيَلْتَحِقُ بِالْجَارِ الْقَدِيمِ بِاعْتِبَارِ رِضَاهُ ، وَذَلِكَ يُبْطِلُ شُفْعَتَهُ ضَرُورَةً وَعَلَيْهِ دَلَّ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الشُّفْعَةُ لِمَنْ وَاثَبَهَا } أَيْ لَمْ يَقْعُدْ عَنْ طَلَبِهَا وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الشُّفْعَةُ كَحَلِّ الْعِقَالِ } فَكَنَّى بِهَذَا عَنْ سُرْعَةِ سُقُوطِهَا .
وَعَنْ شُرَيْحٍ قَالَ : الشَّرِيكُ أَحَقُّ مِنْ الْخَلِيطِ ، وَالْخَلِيطُ أَحَقُّ مِنْ الْجَارِ ، وَالْجَارُ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي قُلْنَا إنَّ الشَّرِيكَ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ ، وَالْخَلِيطَ فِي حُقُوقِ الْمَبِيعِ .
وَعَنْ عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ عَنْ أَبِيهِ الشَّرِيدِ بْنِ سُوَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَتِهِ مَا كَانَ .
} ، وَالشَّرِيدُ هَذَا مِمَّنْ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ ، ثُمَّ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : { أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَنْشَدَنِي مِنْ أَشْعَارِ الْجَاهِلِيَّةِ ، فَكُلَّمَا أَنْشَدْت شَيْئًا قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيهِ حَتَّى أَنْشَدْت مِائَةَ بَيْتٍ .
} وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يَرَوْنَ حَدِيثَهُ هَذَا فِي الشُّفْعَةِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ أَرْضٍ بِيعَتْ لَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا شَرِكَةٌ ، وَلَا قَسْمٌ ، إلَّا الْجِوَارَ ، فَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَارُ أَحَقُّ بِشُفْعَتِهِ مَا كَانَ .
} فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ حَقِيقَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ نَفَى الشَّرِكَةَ فِي السُّؤَالِ وَأَثْبَت الْجِوَارَ ، فَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ وَلَهُ مَعْنَيَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ مَنْ كَانَ ، فَإِنَّ " مَا " تُذْكَرُ بِمَعْنَى " مَنْ " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا } ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الشُّفْعَةَ لِلذَّكَرِ ، وَالْأُنْثَى ، وَالْحُرِّ ، وَالْمَمْلُوكِ ، وَالصَّغِيرِ ، وَالْكَبِيرِ ، وَالْمُسْلِمِ ، وَالذِّمِّيِّ ، وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ مَا كَانَ أَيْ مَا كَانَ أَيْ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ، أَوْ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ، فَيَكُونُ دَلِيلًا لَنَا عَلَى الشَّافِعِيِّ حَيْثُ يَقُولُ : لَا تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ ، إلَّا فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ .
وَبِظَاهِرِهِ يَسْتَدِلُّ مَنْ أَوْجَبَ الشُّفْعَةَ فِي بَعْضِ الْمَنْقُولَاتِ كَالسُّفُنِ وَنَحْوِهَا ، وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ ، وَلَكِنْ مَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ رَبْعٍ ، أَوْ عَقَارٍ } تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ مَا كَانَ الْعَقَارُ دُونَ الْمَنْقُولِ .
وَعَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَضَى لِلنَّصْرَانِيِّ بِالشُّفْعَةِ وَكَتَبَ فِي ذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَجَازَهَا ، وَبِهَذَا نَأْخُذُ دُونَ مَا رَوَاهُ بَعْدَ هَذَا عَنْ شُرَيْحٍ أَنَّهُ قَالَ : لَا شُفْعَةَ لِيَهُودِيٍّ ، وَلَا لِنَصْرَانِيٍّ ، وَلَا لِمَجُوسِيٍّ وَبِقَوْلِهِ الثَّانِي كَانَ يَأْخُذُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى فَيَقُولُ : الْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ رِفْقٌ شَرْعِيٌّ ، فَلَا يَثْبُتُ لِمَنْ هُوَ مُنْكِرٌ لِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ ، وَلَكِنَّا نَأْخُذُ بِمَا قَضَى بِهِ شُرَيْحٌ ، فَقَدْ تَأَيَّدَ ذَلِكَ بِإِمْضَاءِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، ثُمَّ أَهْلُ الذِّمَّةِ الْتَزَمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ ، وَالْأَخْذُ بِالشُّفْعَةِ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ ، وَهُوَ مَشْرُوعٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ ، وَالضَّرَرُ مَدْفُوعٌ عَنْهُمْ كَمَا هُوَ مَدْفُوعٌ عَنْ الْمُسْلِمِينَ .
وَعَنْ الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشُّفْعَةِ ، وَالْجِوَارِ } وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَات بِالْجِوَارِ ، وَهُوَ دَلِيلٌ لَنَا عَلَى اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ بِسَبَبِ الْجِوَارِ فَأَمَّا مَعْنَى اللَّفْظِ الْآخَرِ { أَنَّ الْجَارَ كَانَ مُنَازِعًا ، فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ بِالْجِوَارِ وَبِالشُّفْعَةِ } ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجِوَارَ يُسْتَحَقُّ بِهِ الشُّفْعَةُ حَتَّى سَمِعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ الْخُصُومَةَ فَقَضَى بِهِ وَبِالشُّفْعَةِ ، وَعَنْ الْحَسَنِ قَالَ : إذَا اقْتَسَمَ الْقَوْمُ الْأَرَضِينَ وَرَفَعُوا سَرَبًا بَيْنَهُمْ فَهُمْ شُفَعَاءُ ، وَبِهِ نَأْخُذُ ، فَنَقُولُ : الشَّرِكَةُ فِي السَّرَبِ تُسْتَحَقُّ بِهِ الشُّفْعَةُ ؛ لِأَنَّهَا شَرِكَةٌ فِي حُقُوقِ الْمَبِيعِ فَيَثْبُتُ بِاعْتِبَارِهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ كَالشَّرِكَةِ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ الْبَادِي لِسُوءِ الْمُجَاوَرَةِ يَتَحَقَّقُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا ، وَعَنْ شُرَيْحٍ قَالَ : الشُّفْعَةُ بِالْأَبْوَابِ ، فَأَقْرَبُ الْأَبْوَابِ إلَى الدَّارِ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا ، وَإِنَّمَا الشُّفْعَةُ عِنْدَنَا لِلْجَارِ الْمُلَاصِقِ فَأَمَّا الْجَارُ الْمُحَاذِي ، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ بِالْمُجَاوَرَةِ سَوَاءٌ كَانَ أَقْرَبَ بَابًا ، أَوْ أَبْعَدَ ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ قُرْبُ الْبَابِ فِي التَّقْدِيمِ فِي الشُّفْعَةِ عَلَى مَا رُوِيَ { أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : إنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أَبَرُّ قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْك بَابًا .
} ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ اطِّلَاعَهُ وَاطِّلَاعَ أَوْلَادِهِ عَلَى مَا يَدْخُلُ مَنْزِلَهُ مِنْ النِّعْمَةِ أَكْثَرُ ، فَهُوَ بِالْهَدِيَّةِ أَحَقُّ ، وَهَذَا تَأْوِيلُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ يَقُولُ فِي الْهَدَايَا : ابْدَءُوا بِجَارِنَا الْيَهُودِيِّ .
} فَأَمَّا فِي الشُّفْعَةِ ، فَالْمُعْتَبَرُ
هُوَ الْقُرْبُ وَاتِّصَالُ أَحَدِ الْمِلْكَيْنِ بِالْآخَرِ ، وَذَلِكَ فِي الْجَارِ الْمُلَاصِقِ دُونَ الْجَارِ الْمُحَاذِي ، فَإِنَّ بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ طَرِيقًا نَافِذًا ، وَذُكِرَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا : لَا شُفْعَةَ ، إلَّا لِشَرِيكٍ لَمْ يُقَاسِمْ ، وَهَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ، وَلَيْسَ يَأْخُذُ بِهِ أَهْلُ الْكُوفَةِ ، إلَّا أَنَّهُ قَدْ رَجَعَ إلَيْهِ ابْنُ أَبِي لَيْلَى ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ يَقْضِي بِالشُّفْعَةِ لِلْجَارِ حَتَّى كَتَبَ إلَيْهِ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَهْدِيُّ يَأْمُرُهُ بِأَنْ لَا يَقْضِيَ بِالشُّفْعَةِ ، إلَّا لِشَرِيكٍ لَمْ يُقَاسِمْ فَأَخَذَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَامِلًا لَهُ وَنَحْنُ أَخَذْنَا بِقَوْلِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَقَدْ أَثْبَتَ الشُّفْعَةَ لِلْجَارِ حِينَ قَالَ : لِبَنِي عُذْرَةَ أَنْتُمْ شُفَعَاؤُنَا فِي أَمْوَالِ الْيَهُودِ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ وَأَخَذْنَا بِالْآثَارِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ مَتَى صَحَّ عَنْهُ كَانَ حُجَّةً عَلَى كُلِّ صَحَابِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ .
( وَالْحَاصِلُ ) أَنَّ الشُّفْعَةَ عِنْدَنَا عَلَى مَرَاتِبَ يُقَدَّمُ الشَّرِيكُ فِيهَا فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ ، ثُمَّ الشَّرِيكُ فِي حُقُوقِ الْمَبِيعِ بَعْدَهُ ، ثُمَّ الْجَارُ الْمُلَاصِقُ بَعْدَهُمَا ، وَعَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَالشَّافِعِيُّ لَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ ، إلَّا لِلشَّرِيكِ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى بِالشُّفْعَةِ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ ، فَلَا شُفْعَةَ } وَحَدِيثُ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ } وَإِدْخَالُ الْأَلْفِ ، وَاللَّامِ فِي الْكَلَامِ لِلْعُهُودِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَلِلْجِنْسِ ، وَلَيْسَ هُنَا مَعْهُودٌ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ فَكَانَ لِلْجِنْسِ فَيَقْتَضِي أَنَّ جِنْسَ الشُّفْعَةِ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ وَفِي رِوَايَةٍ { إنَّمَا الشُّفْعَةُ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ } ، وَإِنَّمَا لِتَقْرِيرِ الْمَذْكُورِ وَنَفْيِهِ عَمَّا عَدَاهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّمَا اللَّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ } ، فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى نَفِي الشُّفْعَةِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا تَمَلَّكَ الْمَالَ بِغَيْرِ رِضَا الْمُتَمَلِّكِ عَلَيْهِ فَيَخْتَصُّ بِهِ الشَّرِيكُ دُونَ الْجَارِ كَالْمُتَمَلِّكِ بِالِاسْتِيلَادِ وَمِلْكُ أَحَدُ الْجَارَيْنِ مُتَمَيِّزٌ عَنْ مِلْكِ الْآخَرِ ، فَلَا يَسْتَحِقُّ أَحَدُهُمَا مِلْكَ الْآخَرِ بِالشُّفْعَةِ كَالْجَارِ الْمُقَابِلِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لِدَفْعِ ضَرَرِ مُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْخُذْ طَالَبَهُ الْمُشْتَرِي بِالْقِسْمَةِ فَيَلْحَقُهُ بِسَبَبِهِ مُؤْنَةُ الْقِسْمَةِ ، فَالشَّرْعُ مَكَّنَهُ مِنْ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ ؛ لِيَدْفَعَ بِهِ ضَرَرَ مُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ فِيمَا لَا طَرِيقَ لَهُ لِدَفْعِ ذَلِكَ ، إلَّا بِأَنْ يَخْرُجَ عَنْ مِلْكِهِ بِالْأَخْذِ بِالِاسْتِيفَاءِ ، وَالْمِلْكِ فِيهِ ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْجَارِ ؛ وَلِهَذَا لَا يُوجِبُ الشُّفْعَةَ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ؛ لِأَنَّهُ
لَا يَدْفَعُ بِالْأَخْذِ مُؤْنَةَ الْقِسْمَةِ عَنْ نَفْسِهِ ؛ وَلِهَذَا لَا يُوجِبُ الشُّفْعَةَ فِي الْمَنْقُولَاتِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ دَفْعِ مُؤْنَةِ الْقِسْمَةِ هُنَاكَ بِبَيْعِ نَصِيبِهِ ، وَالْبَيْعُ ، وَالشِّرَاءُ فِي الْمَنْقُولِ مُعْتَادٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَأَمَّا الْعَقَارُ فَيُتَّخَذُ لِاسْتِيفَاءِ الْمِلْكِ فِيهِ ؛ وَلِيَبْقَ مِيرَاثًا بِالْعَاقِبَةِ ، فَهُوَ يَحْتَاجُ إلَى الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لِدَفْعِ ضَرَرِ مُؤْنَةِ الْمُقَاسَمَةِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَخْبَارِ ، وَلَا يُعَارِضُهَا مَا رَوَوْا ، فَفِيهَا بَيَانٌ أَنَّ لِلشَّرِيكِ شُفْعَةٌ وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ وَتَخْصِيصُ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ عِنْدَنَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ فِيمَا عَدَاهُ بِخِلَافِهِ ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِالشُّفْعَةِ بِسَبَبِ الشَّرِكَةِ فِيمَا لَمْ يُقْسَمْ ، وَالْمُرَادُ بَيَانُ أَنَّ مَعَ الشَّرِيكِ الَّذِي لَمْ يُقَاسِمْ لَا مُزَاحَمَةَ لِأَحَدٍ فِي الشُّفْعَةِ ، بَلْ هُوَ مُقَدَّمٌ ، وَبِهِ نَقُولُ ، وَاللَّفْظُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِّفَتْ الطُّرُقُ } دَلِيلُنَا أَنَّهُ عَلَّقَ نَفْيَ الشُّفْعَةِ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا ، فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَلَمْ تُصَرَّفْ الطُّرُقُ بِأَنْ كَانَ الطَّرِيقُ وَاحِدًا أَنْ تَجِبَ الشُّفْعَةُ عِنْدَكُمْ لَا تَجِبُ ، ثُمَّ مَعْنَى هَذَا اللَّفْظِ ، فَلَا شُفْعَةَ بِوُقُوعِ الْحُدُودِ وَصَرْفِ الطُّرُقِ وَكَانَ الْمَوْضِعُ مَوْضِعَ إشْكَالٍ ؛ لِأَنَّ فِي الْقِسْمَةِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ فَرُبَّمَا يُشْكِلُ أَنَّهُ هَلْ يَسْتَحِقُّ بِهَا الشُّفْعَةَ فَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ بِالْقِسْمَةِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ مُتَّصِلٌ بِالْمِلْكِ اتِّصَالَ تَأْبِيدٍ وَقَرَارٍ فَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ كَالشَّرِيكِ .
وَتَحْقِيقُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الشُّفْعَةِ بِالْمُجَاوَرَةِ دُونَ الشَّرِكَةِ ، فَإِنَّ الشَّرِكَةَ تَتَحَقَّقُ فِي الْمَنْقُولَاتِ ، ثُمَّ لَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ ، إلَّا فِي الْعَقَارِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْنًى يَظْهَرُ بِهِ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ، وَلَيْسَ ذَلِكَ ، إلَّا أَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْعَقَارِ تُفْضِي إلَى الْمُجَاوَرَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا إذَا اقْتَسَمَا كَانَا جَارَيْنِ ، وَالشَّرِكَةُ فِي الْمَنْقُولَاتِ لَا تُفْضِي إلَى الْمُجَاوَرَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا إذَا اقْتَسَمَا لَا يَبْقَى بَيْنَهُمَا مُجَاوَرَةٌ فِي الْمِلْكِ ، فَإِذَا كَانَ بِاعْتِبَارِ الشَّرِكَةِ الَّتِي تُفْضِي إلَى الْمُجَاوَرَةِ يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ فَتَحْقِيقُهُ الْمُجَاوَرَةَ أَوْلَى ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ ضَرَرِ الْمُتَأَذِّي بِسُوءِ الْمُجَاوَرَةِ عَلَى الدَّوَامِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ لِجَارٍ السُّكْنَى كَالْمُسْتَأْجِرِ ، أَوْ الْمُسْتَعِيرِ ؛ لِأَنَّ جِوَارَهُ لَيْسَ بِمُسْتَدَامٍ ؛ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ فِي الْمَنْقُولِ وَضَرَرُ التَّأَذِّي بِسُوءِ الْمُجَاوَرَةِ عَلَى الدَّوَامِ بِاتِّصَالِ أَحَدِ الْمِلْكَيْنِ بِالْآخَرِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَأَتَّى الْفَصْلُ فِيهِ ، وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْمُجَاوَرَةِ حَتَّى يَرْغَبَ فِي مُجَاوَرَةِ بَعْضِ النَّاسِ لِحُسْنِ خُلُقِهِ ، وَعَنْ جِوَارِ الْبَعْضِ لِسُوءِ خُلُقِهِ فَلِإِمْكَانِ أَنَّهُ يَتَأَذَّى بِالْجَارِ الْحَادِثِ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لَا لِدَفْعِ ضَرَرِ مُؤْنَةِ الْمُقَاسَمَةِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْمَنْقُولَاتِ .
، وَلَا شُفْعَةَ فِيمَا إذَا بَاعَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ نَصِيبَهُ ، وَهُنَا بِالْأَخْذِ تَزْدَادُ مُؤْنَةُ الْمُقَاسَمَةِ عَلَى الْبَاقِينَ ، وَإِنَّمَا يَنْدَفِعُ عَنْهُمْ سُوءُ مُجَاوَرَةِ الْمُشْتَرِي ؛ وَلِهَذَا لَا تَثْبُتُ لِلْجَارِ الْمُقَابِلِ ؛ لِأَنَّ سُوءَ الْمُجَاوَرَةِ لَا يَتَحَقَّقُ إذَا لَمْ يَكُنْ مِلْكُ أَحَدِهِمَا مُتَّصِلًا بِمِلْكِ الْآخَرِ ، وَلَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمَا فِي حُقُوقِ الْمِلْكِ عَلَى أَنَّا نَقُولُ حَقُّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لَهُ ؛ لِيَتَرَفَّقَ بِهِ مِنْ حَيْثُ تَوَسُّعِ الْمِلْكِ ، وَالْمَرَافِقِ ، وَهَذَا فِي الْجَارِ الْمُلَاصِقِ يَتَحَقَّقُ ؛ لِإِمْكَانِ جَعْلِ إحْدَى الدَّارَيْنِ مِنْ مَرَافِقِ الدَّارِ الْأُخْرَى ، أَوْ لَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الْجَارِ الْمُقَابِلِ ؛ لِعَدَمِ إمْكَانِ جَعْلِ إحْدَى الدَّارَيْنِ مِنْ مَرَافِقِ الدَّارِ الْأُخْرَى بِطَرِيقٍ نَافِذٍ بَيْنَهُمَا حَتَّى إذَا كَانَتَا فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ تَثْبُتُ الشُّفْعَةُ لِلْكُلِّ ؛ لِإِمْكَانِ جَعْلِ بَعْضِهَا مِنْ مَرَافِقِ الْبَعْضِ بِأَنْ تُجْعَلَ الدُّورُ كُلُّهَا دَارًا وَاحِدَةً ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا ، الشَّرِيكُ مُقَدَّمٌ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ الْقُرْبُ ، وَالِاتِّصَالُ ، وَذَلِكَ فِي حَقِّهِ أَقْوَى لِوُجُودِ الِاتِّصَالِ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْ الْمَبِيعِ بِجُزْءٍ مِنْ مِلْكِهِ ، ثُمَّ بَعْدَهُ لَلشَّرِيكِ فِي الطَّرِيقِ لِزِيَادَةِ الِاتِّصَالِ فِي حَقِّهِ عَلَى الْجَارِ وَقُوَّةُ السَّبَبِ تُوجِبُ التَّرْجِيحَ ؛ وَلِأَنَّ الشَّرِيكَ يَدْفَعُ بِالْأَخْذِ ضَرَرَ سُوءِ الْمُجَاوَرَةِ وَمُؤْنَةَ الْمُقَاسَمَةِ عَنْ نَفْسِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى دَفْعِ ضَرَرِ مُؤْنَةِ الْمُقَاسَمَةِ لَا يَصْلُحُ عِلَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ فَتَكُونُ عِلَّةً لِلتَّرْجِيحِ ؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ أَبَدًا بِمَا لَا يَكُونُ عِلَّةً الِاسْتِحْقَاقِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَخَ لِأَبٍ وَأُمٍّ مَعَ الْأَخِ لِأَبٍ إذَا اجْتَمَعَا يَتَرَجَّحُ الْأَخُ لِأَبٍ وَأُمٍّ فِي الْعُصُوبَةِ بِسَبَبِ قَرَابَةِ الْأُمِّ ، وَالْعُصُوبَةُ لَا تُسْتَحَقُّ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ ، ثُمَّ التَّرْجِيحُ يَقَعُ بِهَا فَهَذَا مِثْلُهُ وَتَفْسِيرُ مَا قُلْنَا
فِي مَنْزِلٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي دَارٍ هِيَ فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ إذَا بَاعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ مِنْ الْمَنْزِلِ ، فَالشَّرِيكُ فِي الْمَنْزِلِ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ ، فَإِذَا سَلَّمَ ، فَالشُّرَكَاءُ فِي الدَّارِ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ مِنْ الشُّرَكَاءِ فِي السِّكَّةِ ؛ لِأَنَّهُمْ أَمْيَزُ قُرْبًا لِلشَّرِكَةِ بَيْنَهُمْ فِي صَحْنِ الدَّارِ ، فَإِنْ سَلَّمُوا فَأَهْلُ السِّكَّةِ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ فِي الشَّرِكَةِ فِي الطَّرِيقِ ، فَإِنْ سَلَّمُوا ، فَالْجَارُ الْمُلَاصِقُ ، وَهَذَا الَّذِي عَلَى ظَهْرِ هَذَا الْمَنْزِلِ وَبَابُ دَارِهِ فِي سِكَّةٍ أُخْرَى ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَعَ وُجُودِ الشَّرِيكِ لَا شُفْعَةَ لِأَحَدٍ سَوَاءٌ سَلَّمَ أَوْ اسْتَوْفَى ؛ لِأَنَّهُمْ مَحْجُوبُونَ لِحَقِّ الشَّرِيكِ ، وَقَدْ ثَبَتَ حَقُّهُ سَوَاءٌ اسْتَوْفَى ، أَوْ سَلَّمَ ، وَلَكِنْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الشَّرِيكُ مُقَدَّمٌ ، وَقَدْ ثَبَتَ حَقُّ الْجَارِ مَعَ الشَّرِيكِ لِتَقَرُّرِ السَّبَبِ فِي حَقِّهِ ، إلَّا أَنَّ حَقَّ الشَّرِيكِ كَانَ مُقَدَّمًا ، فَإِذَا سَلَّمَ كَانَ لِلْجَارِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ كَحَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ مَعَ غُرَمَاءِ الْمَرَضِ فِي التَّرِكَةِ ، فَإِنَّهُ إذَا اسْتَحَقَّ أَسْقَطَ حَقَّهُمْ بِالْإِبْرَاءِ كَانَتْ التَّرِكَةُ لِغُرَمَاءِ الْمَرَضِ بِدُيُونِهِمْ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِهِمْ ثَابِتٌ ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا يَنْبَغِي لِلْجَارِ أَنْ يَطْلُبَ الشُّفْعَةَ إذَا عَلِمَ بِالْبَيْعِ مَعَ الشَّرِيكِ تَمَكَّنَ مِنْ أَخْذِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ بَعْدَ عِلْمِهِ حَتَّى يُسَلِّمَ الشَّرِيكُ ، فَلَا حَقَّ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ فِنَاءٌ مُنْفَرِجٌ مِنْ الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ رَاجِعًا عَنْ الطَّرِيقِ ، أَوْ زُقَاقٌ ، أَوْ دَرْبٌ غَيْرُ نَافِذٍ فِيهِ دُورٌ فَبِيعَتْ دَارٌ مِنْهَا فَأَصْحَابُ الدُّورِ شُفَعَاءُ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُمْ شُرَكَاءُ فِي الْفِنَاءِ ، وَالطَّرِيقِ ، فَإِنْ سَلَّمَ هَؤُلَاءِ الشُّفْعَةَ ، فَالْجَارُ الْمُلَاصِقُ أَحَقُّ مِنْهُمْ بِالشُّفْعَةِ ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا : فِنَاءُ الدَّارِ مَمْلُوكٌ لِصَاحِبِ الدَّارِ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ حَقُّهُ ،
وَلَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ فِي الدَّارِ ، وَالدَّارُ مَا أُدِيرَ عَلَيْهِ الْحَائِطُ ، وَالْفِنَاءُ اسْمٌ لِصَحْنٍ وَرَاءَ ذَلِكَ يَكُونُ مُعَدًّا لِإِيقَافِ الدَّوَابِّ وَكَسْرِ الْحَطَبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ ، فَهُوَ حَقُّ أَصْحَابِ السِّكَّةِ بِمَنْزِلَةِ الطَّرِيقِ الْخَاصَّةِ لَهُمْ ، أَوْ مِلْكٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ وَفِي هَذِهِ الشَّرِكَةِ الْجَارُ الْمُلَاصِقُ ، وَالْمُقَابِلُ سَوَاءٌ .
وَلِهَذَا كَانَتْ الشُّفْعَةُ عِنْدَنَا عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ دُونَ مَقَادِيرِ الْأَنْصِبَاءِ ، وَالدُّورِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ عَلَى مِقْدَارِ النُّصُبِ ، وَبَيَانُهُ : فِي دَارٍ بَيْنَ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ لِأَحَدِهِمْ نِصْفُهَا وَلِآخَرَ ثُلُثُهَا وَلِآخَرَ سُدُسُهَا بَاعَ صَاحِبُ النِّصْفِ نَصِيبَهُ وَطَلَبَ الْآخَرَانِ الشُّفْعَةَ قُضِيَ بِالشُّفْعَةِ فِي الْمَبِيعِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عِنْدَنَا .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَثْلَاثًا بِقَدْرِ مِلْكَيْهِمَا ، وَإِنْ بَاعَ صَاحِبُ السُّدُسِ مِلْكَهُ وَطَلَبَ الْآخَرَانِ الشُّفْعَةَ قُضِيَ بَيْنَهُمَا أَخْمَاسًا عِنْدَهُ ، وَإِنْ بَاعَ صَاحِبُ الثُّلُثِ نَصِيبَهُ قُضِيَ بِهِ بَيْنَ الْآخَرَيْنِ أَرْبَاعًا عِنْدَهُ بِقَدْرِ مِلْكَيْهِمَا وَعِنْدَنَا يُقْضَى بِهِ نِصْفَيْنِ فَكَذَلِكَ عَلَى أَصْلِنَا إذَا بِيعَتْ دَارٌ وَلَهَا جَارَانِ أَحَدُهُمَا جَارٌ مِنْ ثَلَاثِ جَوَانِبَ ، وَالْآخَرُ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ وَاحِدٍ وَطَلَبَا الشُّفْعَةَ ، فَهِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، فَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ اسْتَدَلَّ { بِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَجْلَى يَهُودَ مِنْ وَادِي الْقُرَى قَالَ لِبَنِي عُذْرَةَ : أَنْتُمْ شُفَعَاؤُنَا فِي أَمْوَالِ الْيَهُودِ } الْحَدِيثَ ، إلَى أَنْ جَعَلَ الْوَادِيَ بَيْنَ بَنِي عُذْرَةَ وَبَيْنَ الْإِمَارَةِ نِصْفَيْنِ ، فَقَدْ اعْتَبَرَ مِقْدَارَ النَّصِيبِ ، وَلَمْ يَقْسِمْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ بَنِي عُذْرَةَ ، وَإِنَّ هَذَا رِفْقٌ مِنْ مَرَافِقِ الْمِلْكِ ، فَيَكُونُ عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ كَالرِّبْحِ أَوْ ثَمَرَةٍ تُسْتَحَقُّ بِالْمِلْكِ ، فَيَكُونُ عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ كَالْأَوْلَادِ ، وَالْأَلْبَانِ ، وَالْأَثْمَارِ فِي الْأَشْجَارِ الْمُشْتَرَكَةِ يُوَضِّحُهُ الْمَنْفَعَةُ أَنَّ الَّتِي تُسْتَحَقُّ بِسَبَبِ الْمِلْكِ يُعْتَبَرُ بِالْغُرْمِ الَّذِي يَلْحَقُ الْمَالِكَ بِسَبَبِ الْمِلْكِ ، وَذَلِكَ بِقَدْرِ الْمِلْكِ ، فَإِذَا كَانَ الْحَائِطُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ اثْنَيْنِ ، أَوْ ثَلَاثًا وَأُشْهِدَ عَلَيْهِمَا فِيهِ فَسَقَطَ وَأَصَابَ مَالًا ، أَوْ نَفْسًا كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا بِقَدْرِ الْمِلْكِ فَهَذَا مِثْلُهُ
وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِ مُسْتَقِيمٌ ، فَإِنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ عِنْدَهُ لِدَفْعِ ضَرَرِ مُؤْنَةِ الْمُقَاسَمَةِ وَحَاجَةُ صَاحِبِ الْكَثِيرِ إلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ حَاجَةِ صَاحِبِ الْقَلِيلِ ؛ لِأَنَّ مُؤْنَةَ الْقِسْمَةِ عِنْدَهُ عَلَى الشُّرَكَاءِ بِقَدْرِ الْمِلْكِ فَكَذَلِكَ مَا شُرِعَ لِدَفْعِ هَذِهِ الْمُؤْنَةِ وَجْهُ قَوْلِنَا إنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ إمَّا الْجِوَارُ ، أَوْ الشَّرِكَةُ ، وَقَدْ اسْتَوَيَا فِي أَصْلِ ذَلِكَ ، فَإِنَّ صَاحِبَ الْقَلِيلِ شَرِيكٌ كَصَاحِبِ الْكَثِيرِ ، وَجَازَ لِاتِّصَالِ مِلْكِهِ بِالْمَبِيعِ كَصَاحِبِ الْكَثِيرِ ( ثُمَّ تَحْقِيقُ هَذَا الْكَلَامِ ) أَنَّ عِلَّةَ الِاسْتِحْقَاقِ أَصْلُ الْمِلْكِ لَا قَدْرُ الْمِلْكِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ صَاحِبَ الْكَثِيرِ لَوْ بَاعَ نَصِيبَهُ كَانَ لِصَاحِبِ الْقَلِيلِ أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ بِالشُّفْعَةِ كَمَا لَوْ بَاعَ صَاحِبُ الْقَلِيلِ نَصِيبَهُ كَانَ لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ أَنْ يَأْخُذَ جَمِيعَ الْمَبِيعِ فَمِلْكُ كُلِّ جُزْءٍ عِلَّةٌ تَامَّةٌ ؛ لِاسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ بِالشُّفْعَةِ ، فَإِذَا اجْتَمَعَ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْكَثِيرِ عِلَلٌ وَفِي حَقِّ صَاحِبِ الْقَلِيلِ عِلَّةٌ وَاحِدَةٌ ، وَالْمُسَاوَاة لَا تَتَحَقَّقُ بَيْنَ الْعِلَّةِ الْوَاحِدَةِ ، وَالْعِلَلِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَحَدَ الْمُدَّعِيَيْنِ لَوْ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ وَأَقَامَ الْآخَرُ عَشَرَةً مِنْ الشُّهَدَاءِ تَثْبُتُ الْمُعَارِضَةُ ، وَالْمُشَارَكَةُ بَيْنَهُمَا .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا جَرَحَ رَجُلًا جِرَاحَةً وَاحِدَةً ، وَجَرَحَهُ آخَرُ جِرَاحَاتٍ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ اسْتَوَيَا فِي حُكْمِ ذَلِكَ الْقَتْلِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ بِقُوَّةِ الْعِلَّةِ لَا بِكَثْرَةِ الْعِلَّةِ وَعِنْدَ ظُهُورِ الْعِلَّةِ التَّرْجِيحُ الْمَرْجُوحُ مَدْفُوعٌ بِالرَّاجِحِ ، وَهُنَا لَا يَبْطُلُ حَقُّ صَاحِبِ الْقَلِيلِ أَصْلًا ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا تَرْجِيحَ فِي جَانِبِهِ مِنْ حَيْثُ قُوَّةُ الْعِلَّةِ ، وَكَثْرَةُ الْعِلَّةِ لَا تُوجِبُ التَّرْجِيحَ ؛ لِأَنَّ مَا يَصْلُحُ بِانْفِرَادِهِ عِلَّةً لَا
يَصْلُحُ مُرَجِّحًا ، وَمِلْكُ كُلِّ جُزْءٍ بِانْفِرَادِهِ عِلَّةٌ ، فَمِنْ هَذَا الطَّرِيقِ تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا بِخِلَافِ الْغُرَمَاءِ فِي التَّرِكَةِ ، فَإِنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي دَيْنِهِ فِي ذِمَّةِ الْمَدْيُونِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ عِنْدَ الِانْفِرَادِ لَا يَسْتَحِقُّ مِنْ التَّرِكَةِ ، إلَّا قَدْرَ دَيْنِهِ ، فَإِذَا ظَهَرَ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ الدَّيْنِ وَعَلَيْهِ يَتَرَتَّبُ اسْتِحْقَاقُ التَّرِكَةِ قُلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَسْتَحِقُّ بِقَدْرِ دَيْنِهِ ، وَكَذَلِكَ الرِّبْحُ ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِقَدْرِ الْمَالِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ عِنْدَ الِانْفِرَادِ يَحْصُلُ الرِّبْحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ مَالِهِ ، وَكَذَلِكَ الْوَلَدُ ، وَاللَّبَنُ ، وَالثِّمَارُ ، فَإِنَّهَا مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ الْعَيْنِ ، فَإِنَّ مَا تَتَوَلَّدُ بِقَدْرِ الْمِلْكِ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ غَلَطَ فِي اعْتِبَارِ حُكْمِ الْعِلَّةِ بِالْمُتَوَلِّدِ مِنْ الْعِلَّةِ وَقِسْمَةِ الْحُكْمِ عَلَى أَجْزَاءِ الْعِلَّةِ ، فَأَمَّا الْحَائِطُ الْمَائِلُ إذَا مَاتَ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ الْحَائِطُ ، فَإِنْ جَرَحَهُ الْحَائِطُ ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْعِلَّةِ ، وَإِنْ مَاتَ بِنَقْلِ الْحَائِطِ ، فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا ؛ لِأَنَّ التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا فِي الْعِلَّةِ لَمْ يُوجَدْ ، فَإِنَّ نَقْلَ نَصِيبِ صَاحِبِ الْقَلِيلِ لَا يَكُونُ كَنَقْلِ نَصِيبِ صَاحِبِ الْكَثِيرِ ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا الْفَارِسُ مَعَ الرَّاجِلِ فِي الْغَنِيمَةِ ؛ لِأَنَّ تَفْصِيلَ الْفَارِسِ بِفَرَسِهِ حُكْمٌ عُرِفَ شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ مَعَ أَنَّ الْفَرَسَ بِانْفِرَادِهِ لَا يَكُونُ عِلَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ فَيَصْلُحُ مُرَجِّحًا فِي اسْتِحْقَاقِ بَعْضِ الْغَنِيمَةِ ، وَهُنَا مِلْكُ كُلِّ جُزْءٍ عِلَّةٌ كَامِلَةٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْجَمِيعِ ، فَلَا تَصْلُحُ مُرَجِّحَةً .
، وَلَا شُفْعَةَ ، إلَّا فِي الْأَرِضِينَ ، وَالدُّورِ ؛ لِأَنَّهَا عُرِفَتْ شَرْعًا ، وَقَدْ نَصَّ الشَّرْعُ عَلَى الشُّفْعَةِ فِي الْعَقَارِ خَاصَّةً ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ عَقَارٍ ، أَوْ رَبْعٍ } .
، وَالصَّغِيرُ كَالْكَبِيرِ فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ ، إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ، فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ : لَا شُفْعَةَ لِلصَّغِيرِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا لِدَفْعِ التَّأَذِّي بِسُوءِ الْمُجَاوَرَةِ وَذَلِكَ مِنْ الْكَبِيرِ دُونَ الصَّغِيرِ فِي الْجِوَارِ تَبَعٌ ، فَهُوَ فِي مَعْنَى الْمُعِيرِ ، وَالْمُسْتَأْجِرِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ مُتَحَقِّقٌ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ ، وَهُوَ الشَّرِكَةُ أَوْ الْجِوَارُ مِنْ حَيْثُ اتِّصَالُ حَقِّ مِلْكِهِ بِالْمَبِيعِ عَلَى وَجْهِ التَّأْبِيدِ ، فَيَكُونُ مُسَاوِيًا لِلْكَبِيرِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ بِهِ أَيْضًا ، ثُمَّ هُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْأَخْذِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ فِي الْآتِي عَنْ نَفْسِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا إلَى ذَلِكَ فِي الْحَالِ وَبِمِثْلِ هَذِهِ الْحَاجَةِ جَازَ لِلْمَوْلَى تَزْوِيجُ الصَّغِيرِ ، وَالصَّغِيرَةِ فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الشُّفْعَةِ ، ثُمَّ يَقُومُ بِالطَّلَبِ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ شَرْعًا فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِهِ ، وَهُوَ أَبُوهُ ، ثُمَّ وَصِيُّ أَبِيهِ ، ثُمَّ جَدُّهُ أَبُو أَبِيهِ ، ثُمَّ وَصِيُّ الْجَدِّ ، ثُمَّ وَصِيٌّ نَصَّبَهُ الْقَاضِي ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ ، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ إذَا أَدْرَكَ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ قَدْ يَثْبُتُ لَهُ ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَائِهِ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ يُبْنَى عَلَى طَلَبٍ مُلْزِمٍ ، وَلَا يَكُونُ طَلَبُهُ مُلْزِمًا قَبْلَ الْإِدْرَاكِ فَتَرْكُهُ الطَّلَبَ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ ؛ لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مُسْقِطًا حَقَّهُ كَالْبَائِعِ إذَا تَرَكَ الطَّلَبَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ ، وَالْغَائِبُ عَلَى شُفْعَتِهِ إذَا عَلِمَ لِهَذَا الْمَعْنَى ، فَإِنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الطَّلَبِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ وَتَرْكُ الطَّلَبِ إنَّمَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى الرِّضَا ، أَوْ التَّسْلِيمِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ لَا قَبْلَهُ .
، وَالذَّكَرُ ، وَالْأُنْثَى ، وَالْحُرُّ ، وَالْمَمْلُوكُ ، وَالْمُسْلِمُ ، وَالْكَافِرُ فِي حَقِّ الشُّفْعَةِ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْمُعَامَلَاتِ ، وَإِنَّمَا يَنْبَنِي الِاسْتِحْقَاقُ عَلَى سَبَبٍ مُتَصَوَّرٍ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ وَثُبُوتُ الْحُكْمِ بِثُبُوتِ سَبَبِهِ .
وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ دَارًا وَقَبَضَهَا وَنَقَدَ الثَّمَنَ وَاخْتَلَفَ الشَّفِيعُ ، وَالْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَتَمَلَّكُ الدَّارَ عَلَى الْمُشْتَرِي كَمَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَتَمَلَّكُهَا عَلَى الْبَائِعِ .
وَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْبَائِعِ ، وَالْمُشْتَرِي فِي الثَّمَنِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ كَمَا قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ ، فَالْقَوْلُ مَا يَقُولُهُ الْبَائِعُ } فَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي مَعَ الشَّفِيعِ ؛ وَلِأَنَّ الشَّفِيعَ يَدَّعِي عَلَى الْمُشْتَرِي وُجُوبَ تَسْلِيمِ الدَّارِ إلَيْهِ عِنْدَ إحْضَارِ الْأَلْفِ ، وَالْمُشْتَرِي مُنْكِرٌ لِذَلِكَ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَيِّدُ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ ، وَلَيْسَ فِي مُعَارَضَةِ حُجَّتِهِ سِوَى مُجَرَّدِ الدَّعْوَى مِنْ الْآخَرِ ، وَالدَّعْوَى لَا تُعَارِضُ الْحُجَّةَ ، ثُمَّ الشَّفِيعُ إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ ، فَقَدْ أَثْبَتَ مَا ادَّعَى مِنْ وُجُوبِ تَسْلِيمِ الدَّارِ إلَيْهِ عِنْدَ أَدَاءِ الْأَلْفِ ، وَالْمُشْتَرِي إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ ، فَقَدْ أَثْبَتَ زِيَادَةً فِي الثَّمَنِ بِبَيِّنَتِهِ ، وَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ ، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الشَّفِيعِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ زِيَادَةً فِي الثَّمَنِ بِبَيِّنَتِهِ ، وَالشَّفِيعُ يَنْفِي تِلْكَ الزِّيَادَةِ ، وَالْمُثْبَتُ لِلزِّيَادَةِ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ أَوْلَى بِالْعَمَلِ بِهَا كَمَا لَوْ اخْتَلَفَ الْبَائِعُ ، وَالْمُشْتَرِي فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ كَانَتْ بَيِّنَةُ الْبَائِعِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ إثْبَاتِ الزِّيَادَةِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَلَفَ الْبَائِعُ ، وَالْمُشْتَرِي ، وَالشَّفِيعُ ، فَقَالَ الْبَائِعُ : ثَلَاثَةُ آلَافٍ وَقَالَ الْمُشْتَرِي : أَلْفَانِ ، وَقَالَ الشَّفِيعُ : أَلْفٌ ، وَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ كَانَتْ بَيِّنَةُ الْبَائِعِ بِالْقَبُولِ ، وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ مَعَ الْمُوَكِّلِ إذَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ كَانَتْ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةَ الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ .
وَأَظْهَرُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ مَعَ الْمَوْلَى الْقَدِيمِ إذَا اخْتَلَفَا فِي ثَمَنِ الْعَبْدِ الْمَأْسُورِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ كَانَتْ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ إثْبَاتِ الزِّيَادَةِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ طَرِيقَتَانِ : إحْدَاهُمَا : حَكَاهَا مُحَمَّدٌ عَنْهُ ، وَالْأُخْرَى : حَكَاهَا أَبُو يُوسُفَ ، فَاَلَّتِي حَكَاهَا مُحَمَّدٌ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ صَدَرَ مِنْهُ إقْرَارٌ أَنَّ أَحَدَهُمَا لَهُ ، وَالْآخَرَ عَلَيْهِ فَكَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِمَا عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِيَ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا .
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّفِيعَ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ إقْرَارَ الْمُشْتَرِي بِالشِّرَاءِ بِأَلْفٍ وَهَذَا عَلَيْهِ ، وَالْمُشْتَرِي أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ إقْرَارَهُ بِالشِّرَاءِ بِأَلْفَيْنِ وَهَذَا لَهُ ، وَبِهِ فَارَقَ الْبَائِعَ مَعَ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَدَرَ مِنْهُ إقْرَارٌ أَنَّ أَحَدَهُمَا مَا أَثْبَتَهُ بِبَيِّنَةٍ ، وَهُوَ لَهُ ، وَالْآخَرُ مَا أَثْبَتَهُ صَاحِبُهُ ، وَهُوَ عَلَيْهِ فَاسْتَوَيَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ؛ فَلِهَذَا صِرْنَا إلَى التَّرْجِيحِ بِالزِّيَادَةِ ، وَالْأَوْلَى أَنْ نُقَرِّرَ هَذَا الْكَلَامَ مِنْ وَجْهِ آخَرَ ، فَنَقُولُ : لَا تَنَافِي بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى مَرَّتَيْنِ مَرَّةً بِأَلْفٍ وَمَرَّةً بِأَلْفَيْنِ كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِأَيِّهِمَا شَاءَ ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا تَنَافِي بَيْنَهُمَا فِي حَقِّهِ ، وَالِاشْتِغَالُ بِالتَّرْجِيحِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِهِمَا أَوْلَى ، فَأَمَّا مَعَ
إمْكَانِ الْعَمَلِ بِالْبَيِّنَتَيْنِ ، فَلَا مَعْنَى لِلْمَصِيرِ إلَى التَّرْجِيحِ فَيُجْعَلُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ كَأَنَّ الشِّرَاءَيْنِ جَمِيعًا ثَابِتَانِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِأَيِّهِمَا شَاءَ ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمَوْلَى مَعَ الْعَبْدِ إذَا اخْتَلَفَا ، فَقَالَ الْمَوْلَى : قُلْت لَك : إذَا أَدَّيْت إلَيَّ أَلْفَيْنِ فَأَنْتَ حُرٌّ وَقَالَ الْعَبْدُ قُلْت لِي إذَا أَدَّيْت إلَى أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ ، فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ بَيِّنَةُ الْعَبْدِ بِهَذَا الطَّرِيقِ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا فِي حَقِّهِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْكَلَامَيْنِ صَدَرَا مِنْ الْمَوْلَى وَيُعْتَقُ الْعَبْدُ بِأَدَاءِ أَيِّ الْمَالَيْنِ شَاءَ بِخِلَافِ الْبَائِعِ مَعَ الْمُشْتَرِي إذَا اخْتَلَفَا ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْعَمَلِ بِالْبَيِّنَتَيْنِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ، فَالْعَقْدُ الثَّانِي فِي حَقِّهِمَا نَاسِخٌ لِلْأَوَّلِ ؛ فَلِهَذَا صِرْنَا إلَى التَّرْجِيحِ بِالزِّيَادَةِ ، وَكَذَلِكَ إنْ اخْتَلَفُوا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ الِاخْتِلَافَ قَائِمًا بَيْنَ الْبَائِعِ ، وَالْمُشْتَرِي ، فَلَا مُعْتَبَرَ بِاخْتِلَافِ الشَّفِيعِ وَأَمَّا الْوَكِيلُ مَعَ الْمُوَكِّلِ إذَا اخْتَفَى ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْبَيِّنَةَ بَيِّنَةُ الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ صَدَرَ مِنْهُ إقْرَارَانِ كَمَا بَيَّنَّا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، فَالْوَكِيلُ مَعَ الْمُوَكِّلِ كَالْبَائِعِ مَعَ الْمُشْتَرِي ؛ وَلِهَذَا يَجْرِي التَّحَالُفُ بَيْنَهُمَا عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي الثَّمَنِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْعُذْرَ فِيمَا إذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْبَائِعِ ، وَالْمُشْتَرِي ، فَأَمَّا الْمَوْلَى الْقَدِيمُ مَعَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْعَدُوِّ إذَا اخْتَلَفَا ، فَقَدْ نَصَّ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ عَلَى أَنَّ الْبَيِّنَةَ بَيِّنَةُ الْمَوْلَى الْقَدِيمِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ ؛ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْوَحْشَةِ حِينَ نَصِّ السِّيَرِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا فَهُنَاكَ الْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فِي حَقِّ الْمَوْلَى الْقَدِيمِ ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ الثَّانِي نَاسِخٌ لِلْأَوَّلِ فَصِرْنَا إلَى التَّرْجِيحِ
بِالزِّيَادَةِ ؛ لِهَذَا ، وَالطَّرِيقَةُ الَّتِي حَكَاهَا أَبُو يُوسُفَ أَنَّ بَيِّنَةَ الشَّفِيعِ مُلْزِمَةٌ وَبَيِّنَةَ الْمُشْتَرِي غَيْرُ مُلْزَمَةٍ ، وَالْبَيِّنَتَانِ لِلْإِلْزَامِ ، فَالْمُلْزِمُ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ يَتَرَجَّحُ كَمَا فِي بَيِّنَةِ الْعَبْدِ مَعَ بَيِّنَةِ الْمَوْلَى فِي مَسْأَلَةِ التَّعْلِيقِ وَبَيَانُ هَذَا أَنَّهُ إذَا قُبِلَتْ بَيِّنَةُ الشَّفِيعِ وَجَبَ عَلَى الْمُشْتَرِي تَسْلِيمُ الدَّارِ إلَيْهِ بِأَلْفٍ شَاءَ ، أَوْ أَبَى ، وَإِذَا قُبِلَتْ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي لَا يَجِبُ عَلَى الشَّفِيعِ شَيْءٌ ، وَلَكِنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ ، أَوْ يَتْرُكَ ، وَبِهِ فَارَقَ بَيِّنَةَ الْبَائِعِ ، وَالْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ هُنَاكَ مُلْزِمَةٌ ، وَكَذَلِكَ بَيِّنَةُ الْوَكِيلِ مَعَ الْمُوَكِّلِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُلْزِمَةٌ ؛ فَلِهَذَا صِرْنَا إلَى التَّرْجِيحِ بِالزِّيَادَةِ وَفِي مَسْأَلَةِ الْمُشْتَرِي مَعَ الْعَبْدِ مِنْ الْعَدُوِّ وَيَقُولُ : عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَوْلَى الْقَدِيمِ ؛ لِأَنَّهَا مُلْزِمَةٌ وَبَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي غَيْرُ مُلْزِمَةٍ .
وَإِذَا أَخَذَ الشَّفِيعُ الدَّارَ مِنْ الْمُشْتَرِي فَعُهْدَتُهُ وَضَمَانُ مَالِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَلَّكُ الدَّارَ عَلَيْهِ وَيَدْفَعُ الثَّمَنَ إلَيْهِ ، فَهُوَ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ مَعَ الْمُشْتَرِي ، فَإِنْ قِيلَ حَقُّ الشَّفِيعِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمُشْتَرِي شَرْعًا فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ أَخْذُ الشَّفِيعِ مِنْ يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ بِحَقٍّ مُقَدَّمٍ عَلَى حَقِّهِ قُلْنَا نَعَمْ حَقُّهُ مُقَدَّمٌ ، وَلَكِنَّ ثُبُوتَ حَقِّهِ بِالسَّبَبِ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ حَقُّ الْمُشْتَرِي ، وَهُوَ الشِّرَاءُ إذْ بِأَخْذِهِ لَا يَبْطُلُ ذَلِكَ السَّبَبُ بِخِلَافِ الِاسْتِحْقَاقِ بِدَعْوَى الْمِلْكِ ، فَإِذَا بَقِيَ السَّبَبُ وَتَأَكَّدَ بِقَبْضِ الْمُشْتَرِي لَمْ يُمْكِنْ أَنْ يُجْعَلَ الشَّفِيعُ مُتَمَلِّكًا عَلَى الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ ، وَلَا يَدَ حَتَّى قُضِيَ لَهُ بِالشُّفْعَةِ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُجْعَلَ مُتَمَلِّكًا عَلَى الْمُشْتَرِي مُسْتَحِقًّا عَلَيْهِ يَدُهُ ؛ فَلِهَذَا كَانَتْ عُهْدَتُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي كَمَا لَوْ اشْتَرَاهَا ابْتِدَاءً مِنْهُ وَإِنْ أَخَذَهَا مِنْ الْبَائِعِ وَدَفَعَ الثَّمَنَ إلَيْهِ فَعُهْدَتُهُ وَضَمَانُ مَالِهِ عَلَى الْبَائِعِ عِنْدَنَا .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : عُهْدَتُهُ عَلَى الْبَائِعِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ لَمَّا تَقَدَّمَ عَلَى الْمُشْتَرِي قَامَ مَقَامَهُ ، ثُمَّ عُهْدَةُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ فَكَذَلِكَ عُهْدَةُ الشَّفِيعِ وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلَانِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَيْسَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْبَائِعِ ، وَلَكِنَّ الْبَائِعَ يُسَلِّمُهُ إلَى الْمُشْتَرِي وَعُهْدَتُهُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَلَّكُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِعِوَضٍ ، وَالْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّمَلُّكَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِعِوَضٍ عَقَارًا كَانَ أَوْ مَنْقُولًا وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ يَأْخُذُ مِنْ يَدِ الْبَائِعِ وَعُهْدَتُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي وَإِلَيْهِ يَدْفَعُ الثَّمَنَ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ يَثْبُتُ بِالشِّرَاءِ فَكَانَ مِنْ
حُقُوقِ الشِّرَاءِ وَمَا يَكُونُ مِنْ حُقُوقِ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ نَاسِخًا لَهُ وَكَيْف يَكُونُ أَخْذُ الشَّفِيعِ نَاسِخًا لِلْبَيْعِ ، وَهُوَ مُبْطِلٌ حَقَّهُ كَمَا لَوْ ظَهَرَ بُطْلَانُ الْبَيْعِ مِنْ الْأَصْلِ وَإِذَا نَفَى الشِّرَاءَ كَانَ الشَّفِيعُ مُتَمَلِّكًا عَلَى الْمُشْتَرِي فَعُهْدَتُهُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أُخِذَ مِنْ يَدِهِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي نَقَدَ الْبَائِعَ الثَّمَنَ ، فَالشَّفِيعُ يَدْفَعُ الثَّمَنَ إلَى الْمُشْتَرِي وَعُهْدَتُهُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ مَرَّتَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمُشْتَرِي نَقَدَ الْبَائِعَ الثَّمَنَ ، فَالشَّفِيعُ يَدْفَعُ الثَّمَنَ إلَى الْبَائِعِ وَيَسْقُطُ حَقُّ الْبَائِعِ مِنْ الثَّمَنِ قَبْلَ الْمُشْتَرِي وَعُهْدَةُ الشَّفِيعِ عَلَى الْبَائِعِ ، فَأَمَّا وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، فَهُوَ أَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ ثَبَتَ بِالْبَيْعِ قَبْلَ مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَيَدِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : كُنْت بِعْت هَذِهِ الدَّارَ مِنْ فُلَانٍ وَقَالَ فُلَانٌ مَا اشْتَرَيْت كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ لِثُبُوتِ الْبَيْعِ بِإِقْرَارِ الْبَائِعِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ مِلْكُ الْمُشْتَرِي لِإِنْكَارِهِ ، فَإِذَا ثَبَتَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْأَخْذِ قَبْلَ مِلْكِ الْمُشْتَرِي فَقَبْلَ قَبْضِهِ أَوْلَى وَإِذَا أَخَذَ بِالشُّفْعَةِ فَاتَ بِأَخْذِهِ الشُّفْعَةَ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي ، وَذَلِكَ يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْبَيْعِ كَمَا لَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ .
وَهَذَا ؛ لِأَنَّ يَدَ الشَّفِيعِ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهَا نَائِبَةً عَنْ يَدِ الْمُشْتَرِي لِتَقَدُّمِ حَقِّهِ عَلَى حَقِّ الْمُشْتَرِي بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهَا الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ يَدَ الثَّانِي هُنَاكَ يُمْكِنُ جَعْلُهَا نَائِبَةً عَنْ يَدِ الْأَوَّلِ ، فَلَا يَفُوتُ قَبْضُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ مَعْنًى ، ثُمَّ إنْ حَضَرَ الشَّفِيعُ ، وَالدَّارُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ، فَهُوَ الْخَصْمُ لِلشَّفِيعِ يَأْخُذُهُ مِنْ يَدِهِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ حَضْرَةُ الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ
قَدْ انْتَهَى بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْمُشْتَرِي وَصَارَ هُوَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ ، فَالشَّفِيعُ بَعْدَ ذَلِكَ يَسْتَحِقُّ عَلَى الْمُشْتَرِي مِلْكَهُ وَيَدَهُ وَكَانَ هُوَ الْخَصْمُ ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ الْبَائِعِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَضْرَةِ الْبَائِعِ ، وَالْمُشْتَرِي جَمِيعًا لِخُصُومَةِ الشَّفِيعِ فِي الْأَخْذِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي ، وَالْيَدَ لِلْبَائِعِ ، وَالشَّفِيعُ يُرِيدُ اسْتِحْقَاقَهُمَا جَمِيعًا فَيُشْتَرَطُ حُضُورُهُمَا لِذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حُضُورِ الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ الدَّارَ فِي يَدِهِ ، وَالشَّفِيعُ لَا يَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ مِنْ غَيْرِ مَنْ فِي يَدِهِ وَاحِدَةٌ مِنْ يَدِ الْبَائِعِ مُوجِبُ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ بَيْنَ الْبَائِعِ ، وَالْمُشْتَرِي ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ ، إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمُشْتَرِي فَيُشْتَرَطُ حُضُورُهُمَا لِذَلِكَ .
وَإِذَا أَخَذَ الشَّفِيعُ مِنْ الْمُشْتَرِي الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ وَأَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ عَلَيْهِ كَتَبَ عَلَيْهِ نَحْوَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْكِتَابِ التَّوَثُّقُ ، وَالِاحْتِيَاطُ ، فَالسَّبِيلُ أَنْ يَكْتُبَ عَلَى أَحْوَطِ الْوُجُوهِ ؛ وَلِهَذَا قَالَ : يَكْتُبُ عَلَى إقْرَارِهِ كِتَابًا أَنَّهُ كَانَ اشْتَرَاهَا ، وَأَنَّ هَذَا كَانَ شَفِيعَهَا فَطَلَبَ أَخْذَهَا بِالشُّفْعَةِ فَسَلَّمَهَا إلَيْهِ لِشُفْعَتِهِ فِيهَا وَقَبَضَ مِنْهُ الثَّمَنَ وَدَفَعَ إلَيْهِ الدَّارَ وَضَمِنَ لَهُ الدَّرَكَ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ الشُّهُودَ وَيَأْخُذُ أَيْضًا مِنْ الْمُشْتَرِي كِتَابَ الشِّرَاءِ الَّذِي عِنْدَهُ ، فَذَلِكَ أَحْوَطُ لَهُ ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يُعْطِيَهُ فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْقَابِضَ مَلَكَهُ ، ثُمَّ الِاحْتِيَاطُ لِلشَّفِيعِ أَنْ يُشْهِدَ عَلَى شَهَادَةِ الشُّهُودِ فِيهِ حَتَّى إذَا جَحَدَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ يَتَمَكَّنُ هُوَ مِنْ إثْبَاتِ حَقِّهِ بِالْحُجَّةِ ، وَإِنْ أَخَذَ الدَّارَ مِنْ الْبَائِعِ كَتَبَ أَيْضًا عَلَيْهِ نَحْوَ ذَلِكَ وَزَادَ فِيهِ ، وَقَدْ سَلَّمَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْمُشْتَرِي جَمِيعَ مَا فِي هَذَا الْكِتَابِ وَأَجَازَهُ وَأَقَرَّ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ ، وَلَا فِي ثَمَنِهَا ، وَإِنْ شَاءَ كَتَبَ الْكِتَابَ عَلَيْهِمَا بِتَسْلِيمِ الدَّارِ بِالشُّفْعَةِ إلَيْهِ وَقَبَضَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ بِرِضَاهُمَا ، وَضَمَانُ الْبَائِعِ الدَّرَكَ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْأَخْذِ مِنْ يَدِ الْبَائِعِ يَحْتَاجُ إلَى حَضْرَتِهِمَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِيرُ مُقْتَضِيًا عَلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ ، فَأَمَّا أَنْ يَكْتُبَ الْكِتَابَ عَلَيْهِمَا ، أَوْ عَلَى الْبَائِعِ وَيَذْكُرَ فِيهِ تَسْلِيمَ الْمُشْتَرِي أَيْضًا ؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَحْوَطُ لِلشَّفِيعِ .
وَإِذَا اشْتَرَى دَارًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إلَى سَنَةٍ وَطَلَبهَا الشَّفِيعُ إلَى ذَلِكَ الْأَجَلِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَنَا .
وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ صِفَةُ الدَّيْنِ يُقَالُ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ وَدَيْنٌ حَالٌّ وَلِلشَّفِيعِ حَقُّ الْأَخْذِ بِالثَّمَنِ الَّذِي يَمْلِكُ بِهِ الْمُشْتَرِي بِصِفَتِهِ كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ بِأَلْفٍ زُيُوفٍ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْأَجَلُ مُدَّةً يَلْحَقُهُ بِالشَّرْطِ بِالْعَقْدِ شَرْطٌ ، فَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ كَالْخِيَارِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْأَجَلِ فِي تَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ بِصِفَةٍ لِلْمَالِ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ لِلْبَائِعِ ، وَالْأَجَلَ حَقٌّ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ فَكَيْفَ يَكُونُ صِفَةً لِلثَّمَنِ ، ثُمَّ النَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي مَلَاةِ الذِّمَّةِ فَبِرِضَا الْبَائِعِ يَكُونُ مَالُهُ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي لَا يَكُونُ رِضًا مِنْهُ بِكَوْنِهِ فِي ذِمَّةِ الشَّفِيعِ ؛ وَلِأَنَّ الشَّفِيعَ يَتَمَلَّكُ بِمِثْلِ مَا يَتَمَلَّكُ بِهِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمَالِ ، فَلَا يَثْبُتُ الْأَجَلُ فِي حَقِّهِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ كَالْمَوْلَى ، فَإِنَّ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ ، ثُمَّ وَلَّاهُ غَيْرُهُ لَا يَثْبُتُ الْأَجَلُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى بِدُونِ الذِّكْرِ إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَنَقُولُ : الشَّفِيعُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِالثَّمَنِ حَالًّا وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَ حُلُولَ الْأَجَلِ فَإِذَا حَلَّ أَخَذَهَا بِالثَّمَنِ حَالًّا وَإِذَا اخْتَارَ الِانْتِظَارَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَ الشُّفْعَةَ فِي الْحَالِ حَتَّى إذَا لَمْ يَطْلُبْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَذَكَرَ ابْنُ أَبِي مَالِكٍ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ كَانَ يَقُولُ هَكَذَا أَوَّلًا ، ثُمَّ رَجَعَ ، فَقَالَ : لَهُ : أَنْ يَأْخُذَهَا وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ حَقَّهُ فِي الشُّفْعَةِ قَدْ ثَبَتَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَخَذَهُ بِثَمَنٍ حَالٍّ كَانَ لَهُ ذَلِكَ ، وَالسُّكُوتُ عَنْ الطَّلَبِ بَعْدَ ثُبُوتِ حَقِّهِ يُبْطِلُ شُفْعَتَهُ وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ
أَنَّ الطَّلَبَ غَيْرُ مَقْصُودٍ لَعَيْنِهِ ، بَلْ لِلْآخِذِ ، وَهُوَ فِي الْحَالِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَخْذِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَطْلُبُهُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُرِيدُ الْأَخْذَ بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ ، أَوْ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فِي الْحَالِ ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ ، فَلَا فَائِدَةَ فِي طَلَبِهِ فِي الْحَالِ وَسُكُوتِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرَ فِيهِ فَائِدَةً لَا لِإِعْرَاضِهِ عَنْ الْأَخْذِ ، وَإِنْ اخْتَارَ أَخْذَهَا مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي وَدَفَعَ إلَيْهِ الثَّمَنَ فِي الْحَالِ كَانَ الثَّمَنُ لِلْبَائِعِ عَلَى الْمُشْتَرِي إلَى أَجَلِهِ لِتَقَرُّرِ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا .
وَإِذَا كَانَ لِلدَّارِ شَفِيعَانِ فَسَلَّمَ أَحَدُهُمَا لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ ، إلَّا أَنْ يَأْخُذَهَا كُلَّهَا ، أَوْ يَدَعَهَا ؛ لِأَنَّ مُزَاحَمَةَ الْمُسَلِّمِ قَدْ زَالَتْ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ الشَّفِيعُ فِي حَقِّهِ ، إلَّا وَاحِدًا ، وَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الْبَعْضَ دُونَ الْبَعْضِ ؛ لِمَا فِي الْأَخْذِ مِنْ تَفْرِيقِ الصَّفْقَةِ ، وَالْإِضْرَارِ بِالْمُشْتَرِي فِي تَبْعِيضِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ ، وَالشَّفِيعُ بِالْأَخْذِ يَدْفَعُ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ ، فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَخْذِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ فِيهِ إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِغَيْرِهِ ، ثُمَّ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّفِيعَيْنِ ثَابِتٌ فِي جَمِيعِ الْمَبِيعِ لِتَكَامُلِ الْعِلَّةِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، إلَّا أَنَّهُمَا إذَا طَلَبَا قَضَى الْقَاضِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ لِلْمُزَاحَمَةِ وَنَفْيِ الضِّيقِ فِي الْمَحَلِّ ، فَإِذَا سَلَّمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَضَاءِ بَقِيَ حَقُّ الْآخَرِ فِي الْكُلِّ كَمَا لَوْ قَتَلَ رَجُلَيْنِ عَمْدًا فَعَفَا عَنْهُ وَلِيُّ أَحَدِهِمَا كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ لِهَذَا الْمَعْنَى .
وَإِذَا كَانَ الْبَائِعُ اثْنَيْنِ فِي صَفْقَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَالْمُشْتَرِي وَاحِدًا لَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بَعْضَهَا دُونَ بَعْضٍ ، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ وَاحِدًا ، وَالْمُشْتَرِي اثْنَيْنِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ حِصَّةَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي بِالشُّفْعَةِ فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي وَاحِدًا لَوْ تَمَكَّنَ مِنْ أَخْذِ الْبَعْضِ تَضَرَّرَ بِهِ الْمُشْتَرِي مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَبَعَّضُ عَلَيْهِ الْمَالُ وَإِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي اثْنَيْنِ ، فَإِنَّمَا مَلَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفَ ، وَلَيْسَ فِي أَخْذِ الشَّفِيعِ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا إضْرَارٌ بِالْآخَرِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ أَخْذَهُ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْجَارِ الْحَادِثِ وَبِأَخْذِ الْبَعْضِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمُشْتَرِي لَا يَنْدَفِعُ ضَرَرُ مُجَاوَرَتِهِ ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ ، إلَّا الْإِضْرَارَ بِهِ .
وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي اثْنَيْنِ ، فَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا مِمَّنْ يَنْتَفِعُ بِجِوَارِهِ ،
وَالْآخَرُ مِمَّنْ يَتَضَرَّرُ بِجِوَارِهِ ، فَهُوَ يَقْصِدُ دَفْعَ ضَرَرِ جَارِ السُّوءِ بِأَخْذِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ قَالَ إذَا كَانَ الْبَائِعُ اثْنَيْنِ فَأَرَادَ الشَّفِيعُ الْأَخْذَ قَبْلَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ أَحَدِ الْبَائِعَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْأَخْذِ يَتَمَلَّكُ عَلَى الْبَائِعِ ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ عُهْدَتُهُ عَلَى الْبَائِعِ ، وَالْمِلْكُ فِي حَقِّ الْبَائِعَيْنِ مُتَفَرِّقٌ وَبَعْدَ الْقَبْضِ إنَّمَا يُتَمَلَّكُ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَالْمِلْكُ فِي حَقِّهِ مُجْتَمِعٌ ، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ وَاحِدًا ، وَالْمُشْتَرِي اثْنَيْنِ فَقَبْلَ الْقَبْضِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ لِاجْتِمَاعِ الْمِلْكِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ وَبَعْدَ الْقَبْضِ لَهُ ذَلِكَ ، وَلَكِنَّ هَذَا قَوْلُهُ الْأَوَّلُ ، فَأَمَّا قَوْلُهُ الْآخَرُ كَمَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ ، فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ جَانِبُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَ الْقَبْضِ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ ، أَوْ لِغَيْرِهِ فَسَّرَهُ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْوَاحِدَ إذَا اشْتَرَى دَارَ الرَّجُلَيْنِ فَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ وَلَوْ اشْتَرَى رَجُلَانِ لِوَاحِدٍ كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ النِّصْفَ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِي اثْنَانِ ، وَالْعَاقِدُ لِغَيْرِهِ فِي بَابِ الشِّرَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ فِي أَحْكَامِ الْعَقْدِ ، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ اثْنَيْنِ ، وَالْمُشْتَرِي وَاحِدًا فَطَلَبَ نَصِيبَ أَحَدِ الْبَائِعَيْنِ لَمْ تَبْطُلْ بِذَلِكَ شُفْعَتُهُ وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا كُلَّهَا مَقْسُومَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مَقْسُومَةٍ ؛ لِأَنَّهُ مَا أَعْرَضَ عَنْ الطَّلَبِ ، وَلَكِنَّهُ أَظْهَرَ الطَّلَبَ ، وَالرَّغْبَةَ ، ثُمَّ اشْتَغَلَ بِتَقْسِيمٍ لَمْ يَجْعَلْ الشَّرْعُ لَهُ ذَلِكَ فَيَبْطُلُ تَقْسِيمُهُ وَيَبْقَى حَقُّهُ فِي جَمِيعِ الدَّارِ وَيَأْخُذُهُ إنْ شَاءَ وَلَوْ أَخْبَرَ الشَّفِيعُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ فُلَانُ ، فَقَالَ : قَدْ سَلَّمْت لَهُ ، فَإِذَا الْمُشْتَرِي غَيْرُهُ ، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ ؛ لِمَا بَيَّنَّا
أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْمُجَاوَرَةِ فَرِضَاهُ بِمُجَاوَرَةِ إنْسَانٍ لَا يَكُونُ رِضًا مِنْهُ بِمُجَاوَرَةِ غَيْرِهِ وَهَذَا التَّقَيُّدُ مِنْهُ مُفِيدٌ كَأَنَّهُ قَالَ : إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي فُلَانًا ، فَقَدْ سَلَّمْت الشُّفْعَةَ فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ غَيْرُهُ ، فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ ، وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ فُلَانٌ وَآخَرُ مَعَهُ صَحَّ تَسْلِيمُهُ فِي نَصِيبِ فُلَانٍ ، وَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِمُجَاوَرَةِ أَحَدِهِمَا ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ رِضًا بِمُجَاوَرَةِ الْآخَرِ ، وَالْبَعْضُ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ وَلَوْ أُخْبِرَ أَنَّ الثَّمَنَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ فَتَسْلِيمُهُ صَحِيحٌ ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ فَلَهُ الشُّفْعَةُ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا شُفْعَةَ لَهُ فِي الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ بَعْدَ مَا وَجَبَتْ لَهُ الشُّفْعَةُ وَرَضِيَ بِمُجَاوَرَةِ هَذَا الْمُشْتَرِي ، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ ذَلِكَ بَعْدَ الرِّضَا بِهِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّمَا أَسْقَطَ حَقَّهُ بِشَرْطٍ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ أَلْفَ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّهُ بَنَى تَسْلِيمَهُ عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ ، وَالْخِطَابُ السَّابِقُ كَالْمَعَادِ فِيمَا بَنِي عَلَيْهِ مِنْ الْجَوَابِ فَكَأَنَّهُ قَالَ : سَلَّمْت إنْ كَانَ الثَّمَنُ أَلْفًا ، وَإِنَّمَا أَقْدَمَ عَلَى هَذَا التَّسْلِيمِ لِغَلَاءِ الثَّمَنِ ، أَوْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ تَحْصِيلِ الْأَلْفِ ، وَلَا يَزُولُ هَذَا الْمَعْنَى إذَا كَانَ الثَّمَنُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ ، بَلْ يَزْدَادُ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الثَّمَنُ أَقَلَّ مِنْ الْأَلْفِ ، فَقَدْ انْعَدَمَ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ لِأَجْلِهِ رَضِيَ بِالتَّسْلِيمِ ، فَيَكُونُ عَلَى حَقِّهِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ شِرَاءُ ، وَقَدْ يَرْغَبُ الْمَرْءُ فِي شِرَاءِ شَيْءٍ عِنْدَ قِلَّةِ الثَّمَنِ ، وَلَا يَرْغَبُ فِيهِ عِنْدَ كَثْرَةِ الثَّمَنِ وَلَوْ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ قَبْلَ الشِّرَاءِ كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ حَقِّهِ بِالشِّرَاءِ ، وَالْإِسْقَاطِ قَبْلَ وُجُودِ
سَبَبِ الْوُجُودِ يَكُونُ لَغْوًا كَالْإِبْرَاءِ عَنْ الثَّمَنِ قَبْلَ الْبَيْعِ وَلَوْ أَخْبَرَ أَنَّ الثَّمَنَ شَيْءٌ مِمَّا يُكَالُ ، أَوْ يُوزَنُ فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ ، فَإِذَا الثَّمَنُ مِنْ صِنْفٍ آخَرَ أَقَلَّ مِمَّا يُسَمَّى لَهُ ، أَوْ أَكْثَرَ ، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ جِنْسٌ دُونَ جِنْسٍ وَكَانَ هَذَا التَّقْيِيدُ مُفِيدًا فِي حَقِّهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ : سَلَّمَتْ إنْ كَانَ الثَّمَنُ كُرًّا مِنْ شَعِيرٍ ، فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّ الثَّمَنَ كُرٌّ مِنْ حِنْطَةٍ ، فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ لَوْ أَخْبَرَ أَنَّ الثَّمَنَ عَبْدٌ ، أَوْ ثَوْبٌ ، أَوْ دَابَّةٌ ، ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا ، فَهُوَ شُفْعَتُهُ ؛ لِأَنَّ مَا لَهُ مِثْلٌ مِنْ جِنْسِهِ الشَّفِيعُ يَأْخُذُ بِمِثْلِ مَا اشْتَرَاهُ الْمُشْتَرِي وَفِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ يَأْخُذُ بِقِيمَتِهِ دَرَاهِمَ ، وَقَدْ يَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ تَحْصِيلُ جِنْسٍ مِنْ الْمَكِيلِ ، وَالْمَوْزُونِ وَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ تَحْصِيلُ الدَّرَاهِمِ فَكَانَ هَذَا التَّقْيِيدُ مُفِيدًا فِي حَقِّهِ وَلَوْ أَخْبَرَ أَنَّ الثَّمَنَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَسَلَّمَ ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الثَّمَنَ مِائَةُ دِينَارٍ قِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ ، أَوْ أَقَلَّ ، أَوْ أَكْثَرَ فَعِنْدنَا هُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ إنْ كَانَ قِيمَتُهَا أَقَلَّ مِنْ الْأَلْفِ وَإِلَّا فَتَسْلِيمُهُ صَحِيحٌ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ هُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ ، وَالدَّنَانِيرَ جِنْسَانِ ؛ وَلِهَذَا حَلَّ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا فَكَأَنَّهُ قَالَ : سَلَّمْت إنْ كَانَ الثَّمَنُ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الثَّمَنَ دَنَانِيرُ ، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ كَمَا فِي الْمَكِيلَاتِ ، وَالْمَوْزُونَاتِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : الدَّرَاهِمُ ، وَالدَّنَانِيرُ جِنْسَانِ صُورَةً ، وَلَكِنَّهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ فِي الْمَعْنَى ، وَالْمَقْصُودُ هُوَ الْمَالِيَّةُ وَالثَّمَنِيَّةُ وَمُبَادَلَةُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالْآخَرِ يَتَيَسَّرُ فِي الْعَادَةِ ، فَلَا يَتَقَيَّدُ رِضَاهُ بِالصُّورَةِ ، وَإِنَّمَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَعْنَى وَهُوَ مِقْدَارُ الْمَالِيَّةِ ، فَيَكُونُ
تَسْلِيمُهُ صَحِيحًا إذَا كَانَتْ مَالِيَّةُ الثَّمَنِ أَقَلَّ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يَرْغَبُ فِي شِرَاءِ الشَّيْءِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَا يَرْغَبُ فِي شِرَائِهِ أَيْضًا بِمِائَةِ دِينَارٍ قِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ وَمَا لَا يَكُونُ مُقَيَّدًا مِنْ التَّقْيِيدِ لَا يُعْتَبَرُ وَلَوْ قِيلَ لَهُ اشْتَرَاهَا بِعَبْدٍ ، أَوْ ثِيَابٍ قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَسَلَّمَ ، فَإِذَا الثَّمَنُ دَرَاهِمُ ، أَوْ دَنَانِيرُ ، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّقْيِيدَ مُفِيدٌ فِي حَقِّهِ ؛ لِأَنَّهُ ، وَإِنْ كَانَ يَأْخُذُهَا بِالْقِيمَةِ ، فَقَدْ يَصِيرُ مَغْبُونًا فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ تَقْوِيمَ الشَّيْءِ بِالظَّنِّ يَكُونُ قَائِمًا أَقْدَمَ عَلَى التَّسْلِيمِ لِهَذَا وَيَنْعَدِمُ هَذَا الْمَعْنَى إذَا كَانَ الثَّمَنُ دَرَاهِمَ وَلَوْ قِيلَ لَهُ إنَّهُ اشْتَرَاهَا بِعَبْدٍ قِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ ، فَإِذَا قِيمَةُ الْعَبْدِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ ، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَهُ الشَّفَةُ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ إذَا كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ ، فَإِنَّمَا يَأْخُذُ الشَّفِيعُ بِقِيمَتِهِ فَكَانَ هَذَا فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ بِتِلْكَ الْقِيمَةِ ، فَإِذَا كَانَ لِثَمَنٍ أَقَلَّ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ لَمْ يَكُنْ هُوَ رَاضِيًا بِسُقُوطِ حَقِّهِ .
وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ رِجَالٍ ، إلَّا مَوْضِعَ بِئْرٍ ، أَوْ طَرِيقٍ فِيهَا فَبَاعَ الشَّرِيكُ فِي الْجَمِيعِ نَصِيبَهُ مِنْ جَمِيعِ الدَّارِ ، فَالشَّرِيكُ الَّذِي لَهُ فِي جَمِيعِ الدَّارِ نَصِيبٌ أَحَقُّ مِنْ الْآخَرِ الَّذِي لَهُ فِي بَعْضِ الدَّارِ نَصِيبٌ ؛ لِأَنَّ شَرِكَتَهُ أَعَمُّ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَنْ يَكُونُ أَقْوَى سَبَبًا ، فَهُوَ مُقَدَّمٌ فِي الِاسْتِحْقَاقِ ؛ وَلِأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي هُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْبَائِعِ وَبَيْنَهُ لَا حَقَّ لِلثَّالِثِ فِيهِ ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْبِئْرِ ، أَوْ الطَّرِيقُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ هُوَ أَحَقُّ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ ، وَذَلِكَ فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ ، فَإِذَا صَارَ أَحَدُهُمْ أَحَقَّ بِالتَّبْعِيضِ كَانَ أَحَقَّ بِالْجَمِيعِ وَإِنْ اخْتَلَفَا الْبَائِعُ ، وَالْمُشْتَرِي ، وَالشَّفِيعُ فِي الثَّمَنِ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ ، وَالدَّارُ مَقْبُوضَةٌ ، أَوْ غَيْرُ مَقْبُوضَةٍ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ وَيَثْبُتُ حُكْمُ التَّحَالُفِ بَيْنَ الْبَائِعِ ، وَالْمُشْتَرِي بِالنَّصِّ وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِمَا قَالَ الْبَائِعُ إنْ شَاءَ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ الْبَائِعِ ظَهَرَ مِقْدَارُ الثَّمَنِ فِي حَقِّهِ بِخَبَرِهِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَظْهَرْ فِي إلْزَامِ الْمُشْتَرِي ، وَلَيْسَ فِي جَانِبِ الشَّفِيعِ إلْزَامٌ ، بَلْ هُوَ مُخَيَّرٌ فَيَأْخُذُهُ بِمَا قَالَ الْبَائِعُ إنْ شَاءَ ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ، فَقَالَ الْبَائِعُ : بِعْتهَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَاسْتَوْفَيْت الثَّمَنَ وَقَالَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتهَا بِأَلْفَيْنِ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَوْ قَالَ الْبَائِعُ بِعْتهَا إيَّاهُ وَاسْتَوْفَيْت الثَّمَنَ ، وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَقَالَ الْمُشْتَرِي اشْتَرَيْتهَا بِأَلْفَيْنِ وَنَقَدْته الثَّمَنَ لَمْ يَأْخُذْهَا الشَّفِيعُ ، إلَّا بِأَلْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَيْعِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ يَنْتَهِي بِوُصُولِ الثَّمَنِ إلَيْهِ ، فَإِذَا بَدَأَ فَأَقَرَّ بِجَمِيعِ قَبْضِ الثَّمَنِ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ مِقْدَارَهُ ، فَقَدْ انْتَهَى حُكْمُ الْعَقْدِ
فِي حَقِّهِ وَصَارَ هُوَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ ، فَلَا قَوْلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي بَيَانِ مِقْدَارِ الثَّمَنِ وَبَقِيَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الشَّفِيعِ ، وَالْمُشْتَرِي ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي فَأَمَّا إذَا بَدَأَ بِبَيَانِ مِقْدَارِ الثَّمَنِ قَبْلَ أَنْ يُقِرَّ بِقَبْضِهِ ، فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الثَّمَنَ ذَلِكَ الْقَدْرُ بِخَبَرِهِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَهُ مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ الثَّمَنُ وَثَبَتَ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الْأَخْذِ بِذَلِكَ الثَّمَنِ ، فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِ الْبَائِعِ بِقَبْضِ الثَّمَنِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ قَالَ الْوَصِيُّ اسْتَوْفَيْت جَمِيعَ مَا لِلْمَيِّتِ عَلَى غَرِيمَهُ فُلَانٍ ، وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَقَالَ الْغَرِيمُ ، بَلْ كَانَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، وَقَدْ أَوْفَيْتُك جَمِيعَ ذَلِكَ ، فَالْوَصِيُّ ضَامِنٌ لِلْأَلْفَيْنِ ، وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْغَرِيمِ وَلَوْ قَالَ : اسْتَوْفَيْت مِنْ الْغَرِيمِ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، وَهُوَ جَمِيعُ مَالِ الْمَيِّتِ عَلَيْهِ ، فَقَالَ فُلَانٌ : كَانَ عَلَيَّ أَلْفَا دِرْهَمٍ ، وَقَدْ أَوْفَيْتُك الْكُلَّ فَلِلْوَصِيِّ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِأَلْفٍ أُخْرَى ، وَالْفَرْقُ مَا بَيَّنَّا وَفَرَّعَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَمَالِي عَلَى هَذَا ، فَقَالَ : لَوْ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ الْبَائِعِ ، فَقَالَ : بِعْتهَا إيَّاهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَاسْتَوْفَيْت الثَّمَنَ وَأَخَذَهَا الشَّفِيعُ مِنْ يَدِهِ بِأَلْفٍ ، فَالْمُشْتَرِي عَلَى حُجَّتِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَائِعِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِأَلْفَيْنِ إنْ أَثْبَتَ أَنَّ الثَّمَنَ أَلْفَا دِرْهَمٍ ، وَهُوَ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ انْفَسَخَ فِيمَا بَيْنَ الْبَائِعِ ، وَالْمُشْتَرِي فَيَرْجِعُ بِمَا أَوْفَاهُ مِنْ الثَّمَنِ وَلَوْ قَالَ الْبَائِعُ بِعْتهَا بِأَلْفَيْنِ وَلَمْ أَنْقُدْ ، إلَّا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَأْخُذْهَا الْمُشْتَرِي ، وَلَا الشَّفِيعُ ، إلَّا بِأَلْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ فِي إثْبَاتِ مِقْدَارِ الثَّمَنِ قَوْلُ الْبَائِعِ مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ كَمَالُ الثَّمَنِ وَإِذَا كَانَ الْبَيْعُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَحَطَّ الْبَائِعُ عَنْ
الْمُشْتَرِي تِسْعَمِائَةٍ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَأْخُذُهَا ، إلَّا بِالْأَلْفِ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ أَنَّ الزِّيَادَةَ ، وَالْحَطَّ فِي بَعْضِ الثَّمَنِ يَثْبُتُ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِحَاقِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ الْمُبْتَدَأَةِ ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَنَا الْحَطُّ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ ، فَالْمَحْطُوطُ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا ، وَإِنَّمَا ثَمَنُ الدَّارِ مَا بَقِيَ فَيَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ بِذَلِكَ وَلَوْ كَانَ الشَّفِيعُ أَخَذَهَا بِأَلْفٍ ، ثُمَّ حَطَّ الْبَائِعُ عَنْ الْمُشْتَرِي تِسْعَمِائَةٍ ، فَإِنَّهُ يَنْحَطُّ ذَلِكَ الْقَدْرُ عَنْ الشَّفِيعِ أَيْضًا حَتَّى يَرْجِعَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ عَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ مِنْهُ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ فَوْقَ حَقِّهِ وَعَلَى هَذَا قَالُوا لَوْ أَخْبَرَ أَنَّ الثَّمَنَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ ، ثُمَّ حَطَّ الْبَائِعُ عَنْ الْمُشْتَرِي مِائَةً ، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَحْطُوطَ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَبَيَّنَ أَنَّ الثَّمَنَ كَانَ أَقَلَّ مِنْ أَلْفٍ وَلَوْ وَهَبَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ كُلَّهُ لِلْمُشْتَرِي قَبْلَ قَبْضِهِ ، أَوْ بَعْدَهُ لَمْ يَحُطَّ الْمُشْتَرِي عَنْ الشَّفِيعِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ هِبَةَ جَمِيعِ الثَّمَنِ لَا تَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ ، فَإِنَّ الْتِحَاقَ الْحَطِّ بِأَصْلِ الْعَقْدِ ؛ لِيَدْفَعَ الْعَيْنَ وَيَعْتَبِرَ صِفَةَ الْعَقْدِ فِيهِ ؛ لِيَصِيرَ عَدْلًا بَعْدَ أَنْ كَانَ رَابِحًا ، أَوْ خَاسِرًا ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي هِبَةِ جَمِيعِ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَصِيرُ مَغْبُونًا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ يُوضِحُهُ إنْ حَطَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ لَوْ الْتَحَقَ بِأَصْلِ الْعَقْدِ فَإِمَّا أَنْ يَصِيرَ الْعَقْدُ هِبَةً ، وَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ فِي الْهِبَةِ ، أَوْ يَصِيرُ بَيْعًا بِغَيْرِ ثَمَنٍ ، فَيَكُونُ فَاسِدًا ، وَلَا شُفْعَةَ فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إلْحَاقَ الْجَمِيعِ
بِأَصْلِ الْعَقْدِ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ بِخِلَافِ حَطِّ الْبَعْضِ ، فَإِنْ زَادَ الْبَائِعُ الْمُشْتَرِيَ فِي الثَّمَنِ زِيَادَةً بَعْدَ الْعَقْدِ أَخَذَ الشَّفِيعُ الدَّارَ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَحَقَّ أَخْذَهَا بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ قَبْلَ الزِّيَادَةِ ، وَالْمُشْتَرِي لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ الْحَقِّ الثَّابِتِ لَهُ ، فَلَا يَمْلِكُ غَيْرُهُ أَيْضًا يُوضِحُهُ أَنَّ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ يُلْزِمُ نَفْسَهُ شَيْئًا لِلْبَائِعِ وَيَلْزَمُ الشَّفِيعَ مِثْلُ ذَلِكَ وَلَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى نَفْسِهِ دُونَ الشَّفِيعِ فَيَعْمَلُ الْتِزَامُهُ فِي حَقِّهِ ، وَلَا يَعْمَلُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَجَدَ بَيْعًا مَعَ الْبَائِعِ بِأَكْثَرِ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ صَحَّ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ وَكَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ ، فَقَدْ فَرَّقَ بَيْنَ الزِّيَادَةِ ، وَالْحَطِّ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ وَسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ غَيْرَ مُسْتَحَقٍّ عَلَى الْمُشْتَرِي فَلَيْسَ فِي الْتِزَامِهِ الزِّيَادَةَ فِي حُكْمِ بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ إبْطَالُ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الشُّفْعَةِ وَلَوْ بَاعَهَا الْمُشْتَرِي مِنْ آخَرَ بِثَمَنٍ أَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ كَانَ لِلشَّفِيعِ الْخِيَارُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَقْدَيْنِ سَبَبٌ تَامٌّ لِثُبُوتِ حَقِّ الْآخِذِ لَهُ بِالشُّفْعَةِ ، فَإِنْ اخْتَارَ الْأَخْذَ بِالشِّرَاءِ الثَّانِي يَأْخُذُهَا مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي ، وَلَا يُشْتَرَطُ حَضْرَةُ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ ، وَإِنْ اخْتَارَ الْأَخْذَ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ بِحُكْمِ الشِّرَاءِ الْأَوَّلِ كَانَ ذَلِكَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ الْأَوَّلَ يَتَمَكَّنُ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الشَّفِيعِ بِتَصَرُّفِهِ وَإِذَا أَخَذَهَا بِالشِّرَاءِ الْأَوَّلِ دَفَعَ الثَّمَنَ إلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلَ وَعُهْدَتُهُ عَلَيْهِ وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي الثَّانِي عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ ، وَإِنَّمَا أَوْفَاهُ مِنْ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الثَّانِي قَدْ انْفَسَخَ ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ أَخَذَهَا بِحَقٍّ مُقَدَّمٍ عَلَى الْبَيْعِ الثَّانِي وَلَمْ يُشْتَرَطْ حَضْرَةُ
الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ إذَا أَرَادَ أَخْذَهَا بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ لَا يُشْتَرَطُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي وَهَبَهَا مِنْ إنْسَانٍ ، ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ ، فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَوْهُوبِ لَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ حَتَّى يَحْضُرَ الْمُشْتَرِي وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُوَ خَصْمٌ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي حَقَّهُ فِي الْعَيْنِ الَّذِي يَزْعُمُ ذُو الْيَدِ أَنَّهُ مَلَكَهُ ، فَيَكُونُ هُوَ خَصْمًا لَهُ فِي ذَلِكَ كَمَا إذَا ادَّعَى مِلْكَ الْعَيْنِ لِنَفْسِهِ وَهُمَا يَقُولَانِ الشَّفِيعُ لَا يَدَّعِي حَقًّا عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ ، وَلَا فِي مِلْكِهِ ، وَإِنَّمَا يَدَّعِي حَقَّهُ عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ فِي مِلْكِهِ فَمَا لَمْ يَعُدْ مِلْكُهُ لَا يَتَبَيَّنُ مَحَلُّ حَقِّهِ ، وَإِنَّمَا يَعُودُ مِلْكُهُ إذَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ الثَّانِي وَفَسْخُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ ، إلَّا بِحَضْرَتِهِ وَتَمَامُ بَيَانِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمَأْذُونِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي فِي الدَّارِ تَصَرُّفًا آخَرَ بِأَنْ رَهَنَهَا ، أَوْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يُبْطِلَ ذَلِكَ كُلَّهُ وَيَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ الْأُولَى ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ عَلَى الشَّفِيعِ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ إنَّمَا الثَّمَنُ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ ، وَلَا يَأْخُذُ الشَّفِيعُ الدَّارَ حَتَّى يَنْقُدَ الثَّمَنَ كَمَا لَا يَأْخُذُ الْمُشْتَرِي الدَّارَ مِنْ الْبَائِعِ حَتَّى يَنْقُدَهُ ثَمَنَهَا ، ثُمَّ قَدْ يَبْطُلُ الرَّهْنُ ، وَالْهِبَةُ بِالِاسْتِحْقَاقِ وَتَرْجِعُ الْمَرْأَةُ عَلَى الزَّوْجِ بِقِيمَةِ الدَّارِ ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى مِنْ الصَّدَاقِ قَدْ اُسْتُحِقَّ فَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ شِقْصًا مِنْ دَارٍ فَقَاسَمَ شَرِيكَهُ بِحُكْمٍ ، أَوْ بِغَيْرِ حُكْمٍ ، ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا أَصَابَ الْمُشْتَرِي بِالْقِسْمَةِ ، أَوْ يَتْرُكُهُ ، وَلَيْسَ لَهُ فَسْخُ الْقِسْمَةِ ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ تَتِمَّةِ الْقَبْضِ ، فَالْمَقْصُودُ مِنْ الْقَبْضِ الْحِيَازَةُ وَتَمَامُ الْحِيَازَةِ تَكُونُ بِالْقِسْمَةِ ،
وَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَنْقُضَ قَبْلَ الْمُشْتَرِي فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ قِسْمَتَهُ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ نَقَضَ الْقِسْمَةَ احْتَاجَ إلَى إعَادَتِهَا فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ مُطَالَبٌ بِالْقِسْمَةِ ، وَلَا يَشْتَغِلُ بِنَقْضِ شَيْءٍ يَحْتَاجُ إلَى إعَادَتِهِ فِي الْحَالِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : هَذَا إذَا قُسِّمَ بِأَمْرِ الْقَاضِي ، فَإِنْ كَانَتْ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمَا بِالتَّرَاضِي فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَنْقُضَ تِلْكَ الْقِسْمَةَ ؛ لِأَنَّ فِي الْقِسْمَةِ بِالتَّرَاضِي مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ ، فَهِيَ كَتَصَرُّفٍ آخَرَ مِنْ الْمُشْتَرِي فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَنْقُضَهُ ، وَقَدْ يُفِيدُهُ هَذَا النَّقْضُ فَرُبَّمَا يَقَعُ نَصِيبُهُ فِي الْقِسْمَةِ الثَّانِيَة فِيمَا يُجَاوِزُ مِلْكَهُ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْقَاضِي هُوَ الَّذِي قَسَّمَ فَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْقِسْمَةِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ ، وَلَكِنَّهُ تَعَيَّنَ الْمَبِيعُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، وَهُوَ مَا سَلَّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي فَيَأْخُذُ الشَّفِيعُ ذَلِكَ مِنْ يَدِهِ إنْ شَاءَ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ .
وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي لِلشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ بِثَمَنٍ مُسَمًّى ، فَهِيَ لَازِمَةٌ لَا يَتَخَلَّصُ مِنْهَا ، إلَّا بِرِضَا الْمُشْتَرِي ، أَوْ يَحْدُثُ فِي الدَّارِ عَيْبٌ ؛ لِأَنَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ثَبَتَ الْمِلْكُ لِلشَّفِيعِ بِالثَّمَنِ الْمُسَمَّى وَيُؤَكَّدُ ، فَيَكُونُ حَالُهُ مَعَ الْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ حَالِ الْمُشْتَرِي مَعَ الْبَائِعِ وَبَعْدَ الْبَيْعِ لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْهَا ، إلَّا بِالْإِقَالَةِ بِرِضَاءِ الْبَائِعِ ، أَوْ بِعَيْبٍ يَجِدُهُ فِي الدَّارِ فَكَذَلِكَ حَالُ الشَّفِيعِ ، فَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَقَضَى الْقَاضِي بِهَا عَلَيْهِ ، ثُمَّ سَأَلَ الْبَائِعَ أَنْ يُقِيلَهُ فَأَقَالَهُ جَازَتْ الْإِقَالَةُ وَهِيَ لِلْبَائِعِ ، وَقَدْ بَرِئَ مِنْهَا الشَّفِيعُ ، وَالْمُشْتَرِي أَمَّا الْمُشْتَرِي فَلِأَنَّ الْبَيْعَ انْفَسَخَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَائِعِ حِينَ قَضَى الْقَاضِي بِهَا لِلشَّفِيعِ عَلَى الْبَائِعِ وَأَمَّا الشَّفِيعُ فَلِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ مَا قَضَى الْقَاضِي لَهُ بِهَا بِذَلِكَ الْبَيْعِ وَإِقَالَةُ الْمُشْتَرِي مَعَ الْبَائِعِ كَانَتْ تَصِحُّ قَبْلَ أَخْذِ الشَّفِيعِ فَكَذَلِكَ إقَالَةُ الشَّفِيعِ مَعَ الْبَائِعِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الشَّفِيعَ لَمَّا تَقَدَّمَ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ بِالْعَقْدِ الَّذِي بَاشَرَهُ الْمُشْتَرِي صَارَ الْمُشْتَرِي فِي مَعْنَى الْوَكِيلِ لَهُ وَإِقَالَةُ الْمُوَكِّلِ مَعَ الْبَائِعِ صَحِيحَةٌ فَكَذَلِكَ إقَالَةُ الشَّفِيعِ مَعَ الْبَائِعِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ فِي يَدَيْ الْمُشْتَرِي فَقَضَى بِهَا عَلَيْهِ ، ثُمَّ رَدَّهَا الشَّفِيعُ عَلَى الْبَائِعِ ، فَهُوَ جَائِزٌ ، وَالشَّفِيعُ ، وَالْمُشْتَرِي بَرِيئَانِ مِنْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَمَّا عَلَى الطَّرِيقِ الثَّانِي قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشَّفِيعَ كَالْمُوَكِّلِ وَإِقَالَةُ الْمُوَكِّلِ مَعَ الْبَائِعِ صَحِيحَةٌ فِي حَقِّ بَرَاءَةِ الْمُشْتَرِي فَكَذَلِكَ إقَالَةُ الشَّفِيعِ مَعَ الْبَائِعِ ، وَإِنْ كَانَ أَخْذُهَا مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي وَأَمَّا عَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ فَفِيهِ بَعْضُ الْإِشْكَالِ ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الشَّفِيعِ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي
بِمَنْزِلَةِ عَقْدِ مُبْتَدَإٍ فِيمَا بَيْنَهُمَا ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ عُهْدَتُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ إقَالَةُ الشَّفِيعِ مَعَ الْبَائِعِ فِي حَقِّ بَرَاءَةِ الْمُشْتَرِي حَتَّى قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا هَذِهِ الْإِقَالَةُ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمِ الْبَيْعِ الْمُبْتَدَإِ فَيَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذِهِ الْإِقَالَةُ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمِ الْبَيْعِ الْمُبْتَدَإِ فَيَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ لَا يَجُوزُ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي بَيْعِ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبِتِلْكَ الْمَسْأَلَةِ اسْتَشْهَدَ فِي الْكِتَابِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : بَلْ إقَالَةِ الشَّفِيعِ مَعَ الْبَائِعِ صَحِيحَةٌ فِي حَقِّ الْكُلِّ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى هَذِهِ الْإِقَالَةِ يَتَبَعَّضُ حَقُّ الْمُشْتَرِي وَيَصِيرُ كَأَنَّ الشَّفِيعَ أَخَذَهَا مِنْ يَدِ الْبَائِعِ ؛ وَلِأَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ يَثْبُتُ سَابِقًا عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي عِنْدَهُ ، فَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِحَقِّهِ فَمِلْكُهُ لَا يَنْبَنِي عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي ، بَلْ هُوَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُشْتَرِي فِي الْإِقَالَةِ مَعَ الْبَائِعِ وَمِلْكُ الْإِقَالَةِ بِمِلْكِ الْمَبِيعِ لَا بِالْعَقْدِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَارِثَ يَمْلِكُ الْإِقَالَةَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ ؛ لِأَنَّهُ يَخْلُفُهُ فِي مِلْكِهِ ، فَإِذَا قَامَ الشَّفِيعُ مَقَامَ الْمُشْتَرِي فِي الْمِلْكِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي مَلَكَ الْإِقَالَةَ مَعَ الْبَائِعِ غَيْرَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يُخْرِجُهَا مِنْ يَدِهِ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ الْبَائِعَ الثَّمَنَ كَمَا لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي أَقَالَهُ بِنَفْسِهِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ مَا انْفَسَخَ عَقْدُهُ يَكُونُ حَالُهُ فِي الْحَبْسِ كَحَالِ الْبَائِعِ عِنْدَ الْعَقْدِ ، وَقَدْ كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَحْبِسَ الْمَبِيعَ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ فَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْفَسْخِ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ الثَّمَنَ .
وَإِذَا اشْتَرَى دَارًا لِرَجُلٍ غَائِبٍ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْهُ بِالشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّهَا فِي يَدِهِ ، وَهُوَ نَائِبٌ عَنْ الْمُوَكِّلِ فِيهَا ، ثُمَّ الْعَاقِدُ لِغَيْرِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْبَائِعُ وَكِيلًا لِغَائِبٍ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الدَّارَ مِنْهُ بِالشُّفْعَةِ إذَا كَانَتْ فِي يَدِهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْبَائِعُ وَصِيًّا لِلْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ إذَا كَانُوا كِبَارًا كُلَّهُمْ ، وَلَيْسَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ وَلَمْ يُوصِ بِشَيْءٍ تُبَاعُ فِيهِ الدَّارُ حَتَّى يَنْقُدَ ذَلِكَ لَمْ يُجِزْ بَيْعُ الْوَصِيِّ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لِلْوَرَثَةِ وَهُمْ مُتَمَكِّنُونَ مِنْ النَّظَرِ بِأَنْفُسِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ صَبِيٌّ صَغِيرٌ جَازَ بَيْعُ الْوَصِيِّ فِي جَمِيعِ الدَّارِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، أَوْ أَوْصَى بِوَصِيَّةٍ مِنْ ثَمَنِ الدَّارِ ، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ ( وَفِي الْقِيَاسِ ) لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ، إلَّا فِي نَصِيبِ الصَّغِيرِ خَاصَّةً ، أَوْ بِقَدْرِ الدَّيْنِ ، وَالْوَصِيَّةُ اعْتِبَارٌ لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ ( وَلَكِنْ اسْتَحْسَنَ ) أَبُو حَنِيفَةَ ، فَقَالَ : الْوِلَايَةُ بِالْوِصَايَةِ لَا تَتَجَزَّأُ ، فَإِذَا ثَبَتَ فِي بَعْضِ الدَّارِ ثَبَتَ فِي كُلِّهَا وَفِي بَيْعِ الْكُلِّ مَنْفَعَةٌ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ ، فَالْجُمُلُ يُشْتَرَى بِمَا لَا يُشْتَرَى بِهِ الْأَشْقَاصُ وَإِذَا بَلَغَ الشَّفِيعُ شِرَاءَ نِصْفِ الدَّارِ فَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ اشْتَرَى جَمِيعَهَا كَانَ لَهُ الشُّفْعَةُ ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ النِّصْفَ وَكَانَ حَقُّهُ فِي أَخْذِ الْكُلِّ ، وَالْكُلُّ غَيْرُ النِّصْفِ ، فَلَا يَكُونُ إسْقَاطُ النِّصْفِ إسْقَاطًا لِلْكُلِّ وَلَوْ أُخْبِرَ بَيْع الْكُلّ فَسَلَّمَ ، ثُمَّ عِلْم أَنَّهُ إنَّمَا اشْتَرَى النِّصْف ، فَلَا شُفْعَة لَهُ ؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَة تَسْلِيم الْكُلّ تَسْلِيم النِّصْف الَّذِي هُوَ حَقّه يُوضِح الْفَرْق أَنَّ الْأَشْقَاص لَا يُرْغَب فِيهَا كَمَا يُرْغَب فِي الْجُمَل ، وَإِنَّمَا سَلَّمَ حِين
أُخْبِرَ بِشِرَاءِ النِّصْفِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْغَبْ فِيهِ مَعَ عَيْبِ الشَّرِكَةِ ، فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَعِيبًا فَأَمَّا إذَا سَلَّمَ وَلَمْ يَرْغَبْ فِي الْأَخْذِ بِدُونِ عَيْبِ الشَّرِكَةِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ رَاغِبًا فِيهِ مَعَ عَيْبِ الشَّرِكَةِ وَذَكَرَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَلَى ضِدِّ هَذَا ، فَقَالَ : إذَا أُخْبِرَ بِشِرَاءِ النِّصْفِ فَسَلَّمَ ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ اشْتَرَى الْجَمِيعَ ، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ وَإِذَا أُخْبِرَ بِشِرَاءِ الْجَمِيعِ ، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ اشْتَرَى النِّصْفَ فَلَهُ الشُّفْعَةُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَمَكَّنُ مِنْ تَحْصِيلِ ثَمَنِ النِّصْفِ ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَحْصِيلِ ثَمَنِ الْجَمِيعِ ، وَقَدْ يَكُونُ لَهُ حَاجَةٌ إلَى النِّصْفِ لِيُتِمَّ بِهِ مَرَافِقَ مِلْكِهِ ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْجَمِيعِ .
وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ دَارًا فَعَلِمَ الشَّفِيعُ وَقَالَ قَدْ سَلَّمْتهَا أَوْ سَلَّمْت نِصْفَ الشُّفْعَةِ كَانَ مُسَلِّمًا لِجَمِيعِهَا أَمَّا إذَا سَلَّمَ الْكُلَّ فَلِأَنَّهُ أَسْقَطَ الْحَقَّ بَعْدَ الْوُجُوبِ وَأَمَّا إذَا سَلَّمَ النِّصْفَ فَلِأَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ لَا يَتَجَزَّأُ ثُبُوتًا وَاسْتِيفَاءً ، فَلَا يَتَجَزَّأُ إسْقَاطًا أَيْضًا وَمَا لَا يَتَجَزَّأُ فَذِكْرُ بَعْضِهِ كَذِكْرِ كُلِّهِ كَمَا لَوْ طَلَّقَ نِصْفَ امْرَأَتِهِ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ تَسْلِيمَ النِّصْفِ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي أَخْذِ النِّصْفِ ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ إسْقَاطُهُ فِيمَا لَهُ حَقُّ الِاسْتِيفَاءِ فِيهِ ؛ وَلِأَنَّ هَذَا مِنْهُ إظْهَارٌ لِرَغْبَةٍ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الدَّارِ وَهُوَ النِّصْفُ ، وَإِنَّمَا يُسْقِطُ شُفْعَتَهُ بِأَعْرَاضِهِ عَنْ الطَّلَبِ لَا بِإِظْهَارِ الرَّغْبَةِ فِيهِ ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِيمَا إذَا كَانَ طَلَبَ أَوَّلًا ، ثُمَّ سَلَّمَ النِّصْفَ أَمَّا إذَا قَالَ كَمَا سَمِعَ سَلَّمْت نِصْفَ الشُّفْعَةِ ، فَلَا شَكَّ أَنَّهُ تَسْقُطُ شُفْعَتُهُ كَمَا لَوْ سَكَتَ عَنْ الطَّلَبِ .
وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ دَارًا فَغَرِقَ بِنَاؤُهَا ، أَوْ احْتَرَقَ وَبَقِيَتْ الْأَرْضُ لَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا ، إلَّا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَلَوْ أَحْرَقَ الْبِنَاءَ بِيَدِهِ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَرْضَ بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ إذَا قُسِّمَ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَقْتَ الْعَقْدِ وَلِلشَّافِعِيِّ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا قَوْلَانِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لَا يَأْخُذُ ، إلَّا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ يَأْخُذُ الْأَرْضَ بِحِصَّتِهَا فِي الْوَجْهَيْنِ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْبُيُوعِ ، فَإِنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَنَا أَنَّ الثَّمَنَ بِمُقَابِلَةِ الْأَصْلِ دُونَ الْأَوْصَافِ حَتَّى إنَّ فَوَاتَ الْوَصْفِ فِي يَدِ الْبَائِعِ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ لَا يُسْقِطُ شَيْئًا مِنْ الثَّمَنِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُسْقِطُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فَكَذَلِكَ فَوَاتُ الْوَصْفِ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْبَيْعِ مُرَابَحَةً عَلَى جَمِيعِ الثَّمَنِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ ، ثُمَّ الْبِنَاءُ وَصْفٌ وَبَيْعٌ ؛ وَلِهَذَا دَخَلَ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الْبِنَاءِ بِالْأَرْضِ كَقِيَامِ الْوَصْفِ بِالْمَوْصُوفِ ، فَإِذَا فَاتَ الْبِنَاءُ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ ، فَقَدْ فَاتَهُ مَا هُوَ بَيْعٌ ، فَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ ، فَإِذَا فَوَّتَهُ الْمُشْتَرِي ، فَقَدْ صَارَ مَقْصُودًا يَتَنَاوَلهُ ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الثَّمَنِ بِمُقَابِلَتِهِ كَمَا لَوْ فَوَّتَ الْبَائِعُ طَرَفَ الْمَبِيعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَيَسْقُطُ حَقُّهُ مِنْ الثَّمَنِ عَنْ الشَّفِيعِ قَالَ : أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ احْتَرَقَ مِنْهَا جِذْعٌ ، أَوْ بَابٌ ، أَوْ ، وَهِيَ مِنْهَا حَائِطٌ كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا مُرَابَحَةً فَكَذَلِكَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ إنْ شَاءَ وَإِنْ هَدَمَ الْبِنَاءَ بِيَدِهِ ، ثُمَّ جَاءَ الشَّفِيعُ قُسِّمَ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ يَوْمَ وَقَعَ الشِّرَاءُ فَيَأْخُذُ الْأَرْضَ بِحِصَّتِهَا مِنْ
الثَّمَنِ ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْبِنَاءِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ زَايَلَ الْأَرْضَ ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مَنْقُولٌ لَا يُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ ، وَإِنَّمَا كَانَ ثُبُوتُ حَقِّهِ فِيهِ لِاتِّصَالِهِ بِالْأَرْضِ ، فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْبِنَاءِ حَقٌّ وَلَوْ انْهَدَمَ الْبِنَاءُ بِنَفْسِهِ ، فَإِنَّهُ يُقَسِّمُ الثَّمَنَ عَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ يَوْمَ وَقَعَ الْعَقْدُ وَقِيمَةِ النَّقْصِ ؛ لِأَنَّ الِانْهِدَامَ لَمْ يَكُنْ بِصُنْعِ الْمُشْتَرِي ، فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الِاحْتِبَاسُ عِنْدَهُ ، وَالْمُحْتَبَسُ هُوَ النَّقْصُ ؛ لِأَنَّهُ زَايَلَ الْبِنَاءَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ الْمُشْتَرِي هُوَ الَّذِي قَسَّمَ الْبِنَاءَ ؛ فَلِهَذَا قَسَّمْنَا الثَّمَنَ عَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ يَوْمَ وَقَعَ الشِّرَاءُ حَتَّى لَوْ كَانَتْ الدَّارُ تُسَاوِي أَلْفًا ، وَالثَّمَنُ أَلْفٌ وَقِيمَةُ النَّقْصِ مِائَةٌ وَقِيمَةُ الْأَرْضِ خَمْسُمِائَةٍ وَقِيمَةُ التَّأْلِيفِ أَرْبَعُمِائَةٍ فَفِي الِانْهِدَامِ يَسْقُطُ عَنْهُ قِيمَةُ النَّقْصِ وَفِي الْهَدْمِ يَأْخُذُ بِحِصَّةِ الْأَرْضِ لَا غَيْرَ ، وَذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ اسْتَهْلَكَ الْبِنَاءَ .
وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَهْلَكَهُ أَجْنَبِيٌّ فَأَخَذَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهُ ، فَإِنْ سَلَامَةَ بَدْلِ الْبِنَاءِ لِلْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ سَلَامَةِ الْبِنَاءِ لَهُ أَنْ لَوْ هُدِمَ بِيَدِهِ وَلَمْ يُذْكَرْ مَا إذَا نَوَى الْقِيمَةَ عَلَى الَّذِي هَدَمَ الْبِنَاءَ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ الدَّارَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ إنْ شَاءَ كَمَا لَوْ احْتَرَقَ الْبِنَاءُ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ فَإِنْ خَرَجَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا عَلَى الَّذِي هَدَمَ الْبِنَاءَ مِنْ الْقِيمَةِ رَجَعَ الشَّفِيعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِحِصَّةِ الْبِنَاءِ مِنْ الثَّمَنِ ، فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قِيمَتِهِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَدَّعِي عَلَيْهِ حَقًّا بِمِلْكِ الْأَرْضِ بِثُلُثِ الثَّمَنِ ، وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُ ذَلِكَ وَيَزْعُمُ أَنَّ لَهُ حَقُّ التَّمَلُّكِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ ، وَالْقَوْلُ فِي مِثْلِ هَذَا قَوْلُ الْمُشْتَرِي
مَعَ يَمِينِهِ كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَار الثَّمَنِ ، فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي لِإِثْبَاتِ الزِّيَادَةِ فِي قِيمَةِ الْبِنَاءِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ وَعَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي حَكَاهَا أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ هُنَاكَ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الشَّفِيعِ هُنَا ؛ لِأَنَّهَا مُلْزِمَةٌ دُونَ بَيِّنَةِ الْمُشْتَرِي وَعَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي حَكَاهَا مُحَمَّدٌ هُنَاكَ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ إنَّمَا جَعَلْنَا الْبَيِّنَةَ بَيِّنَةَ الشَّفِيعِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ صَدَرَ مِنْهُ إقْرَارَانِ ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ الْمَعْنَى هُنَا فَبَقِيَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي قِيمَةِ الْبِنَاءِ وَفِي بَيِّنَةِ الْمُشْتَرِي إثْبَاتُ الزِّيَادَةِ فَكَانَتْ أَوْلَى كَذَلِكَ ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْأَرْضِ يَوْمَ وَقَعَ الشِّرَاءُ نُظِرَ إلَى قِيمَتِهِ الْيَوْمَ فَيُقَسَّمُ الثَّمَنُ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِمَنْ يُوَافِقُ قَوْلُهُ الْقِيمَةَ فِي الْحَالِ ؛ وَلِأَنَّ تَمْيِيزَ الصَّادِقِ مِنْ الْكَاذِبِ بِالرُّجُوعِ إلَى قِيمَتِهِ فِي الْحَالِ مُمْكِنٌ فَيُسْتَدَلُّ بِقِيمَتِهَا فِي الْحَالِ عَلَى قِيمَتِهَا فِيمَا مَضَى .
وَإِذَا اشْتَرَى دَارًا فَوَهَبَ بِنَاءَهَا لِرَجُلٍ ، أَوْ بَاعَهَا مِنْهُ ، أَوْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا وَهُدِمَ لَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ عَلَى الْبِنَاءِ سَبِيلٌ ؛ لِأَنَّهُ زَايَلَ الْأَرْضَ ، وَهُوَ فِي نَفْسِهِ مَنْقُولٌ ، فَلَا يَسْتَحِقُّ بِالشُّفْعَةِ ، وَلَكِنْ يَأْخُذُ الْأَرْضَ بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ هَدْمَ الْبِنَاءِ كَانَ بِتَسْلِيطٍ مِنْ الْمُشْتَرِي ، فَهُوَ كَمَا لَوْ هُدِمَ بِنَفْسِهِ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُهْدَمْ فَلَهُ أَنْ يُبْطِلَ تَصَرُّفَ الْمُشْتَرِي وَيَأْخُذَ الدَّارَ كُلَّهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْبِنَاءِ مَا دَامَ مُتَّصِلًا بِالْأَرْضِ ثَابِتٌ وَلِلشَّفِيعِ حَقُّ نَقْضِ تَصَرُّفَاتِ الْمُشْتَرِي ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَصَرَّفَ فِي الْأَصْلِ ، وَالْهِبَةِ كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَنْقُضَ ذَلِكَ وَيَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ فَكَذَلِكَ إذَا تَصَرَّفَ فِي الْبِنَاءِ ؛ وَلِأَنَّهُ يَأْخُذُ الْكُلَّ بِالشُّفْعَةِ بِحَقٍّ تَقَدَّمَ ثُبُوتَ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ فِي إبْطَالِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي فِيهِ وَإِذَا سَلَّمَ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ لِلْمُشْتَرِي ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالشِّرَاءِ ، فَهُوَ تَسْلِيمٌ ، وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ بَعْدَ الْوُجُوبِ وَعِلْمُهُ بِحَقِّهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ الْإِسْقَاطِ بِاللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ لَهُ كَالْإِبْرَاءِ عَنْ الدَّيْنِ وَإِيقَاعِ الطَّلَاقِ ، وَالْعَتَاقِ ، وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا سَاوَمَهُ ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ ( لِأَنَّ الْمُسَاوَمَةَ ) غَيْرُ مَوْضُوعَةٍ لِإِسْقَاطِ الشُّفْعَةِ ، وَإِنَّمَا تَسْقُطُ الشُّفْعَةُ بِهَا ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ دَلِيلِ الرِّضَا مِنْ الشَّفِيعِ ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ الشَّفِيعُ بِهِ .
وَإِذَا اتَّخَذَ الْمُشْتَرِي الدَّارَ مَسْجِدًا ، ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْمَسْجِدَ وَيَأْخُذَ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ ( وَرَوَى الْحَسَنُ ) عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْحَسَنِ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمَسْجِدَ
يَتَحَرَّرُ عَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ إعْتَاقِ الْعَبْدِ وَحَقُّ الشَّفِيعِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ فِي الْمَرْهُونِ ، ثُمَّ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ لَا يَمْنَعُ حَقَّ الرَّاهِنِ فَكَذَلِكَ حَقُّ الشَّفِيعِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ جَعْلِ الدَّارِ مَسْجِدًا وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ لِلشَّفِيعِ فِي هَذِهِ الْبُقْعَةِ حَقًّا مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ الْمُشْتَرِي ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ صِحَّةَ جَعْلِهِ مَسْجِدًا ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ يَكُونُ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ جُزْءًا شَائِعًا مِنْ دَارِهِ مَسْجِدًا ، أَوْ جَعَلَ وَسْطَ دَارِهِ مَسْجِدًا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى فَكَذَلِكَ مَا فِيهِ حَقُّ الشُّفْعَةِ إذَا جَعَلَهُ مَسْجِدًا وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى مَسْجِدِ الضِّرَارِ ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ الْإِضْرَارَ بِالشَّفِيعِ مِنْ حَيْثُ إبْطَالُ حَقِّهِ ، فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ ، وَيَرْفَعُ الْمُشْتَرِي بِنَاءَهُ الْمُحْدَثَ .
وَلَوْ اشْتَرَى دَارًا فَهَدَمَ بِنَاءَهَا ، ثُمَّ بَنَى فَأَعْظَمَ الْمَنْفَعَةَ ، فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُهَا بِالشُّفْعَةِ وَيُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ ، وَالْبِنَاءِ الَّذِي كَانَ فِيهَا يَوْمَ اشْتَرَى وَتَسْقُطُ حِصَّةُ الْبِنَاءِ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ هُوَ الَّذِي هَدَمَ الْبِنَاءَ وَيَنْقُضُ الْمُشْتَرِي بِنَاءَهُ الْمُحْدَثَ عِنْدَنَا وَرَوَى أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الشَّفِيعَ لَا يَنْقُضُ بِنَاءَ الْمُشْتَرِي ، وَلَكِنَّهُ يَأْخُذُ بِالثَّمَنِ وَقِيمَةِ الْبِنَاءِ مَبْنِيًّا إنْ شَاءَ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بَنَى فِي مِلْكٍ صَحِيحٍ لَهُ ، فَلَا يُنْقَضُ بِنَاؤُهُ لِحَقِّ الْغَيْرِ كَالْمَوْهُوبِ لَهُ إذَا بَنَى فِي الْأَرْضِ الْمَوْهُوبَةِ وَتَأْثِيرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ مُحِقٌّ فِي أَصْلِ الْبِنَاءِ فَيَسْتَحِقُّ قَرَارَ الْبِنَاءِ إذْ لَيْسَ فِي إبْقَاءِ بِنَائِهِ إبْطَالُ حَقِّ الشَّفِيعِ ، فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ مَبْنِيًّا بِالشُّفْعَةِ وَلَوْ نَقَضْنَا بِنَاءَهُ تَضَرَّرَ الْمُشْتَرِي بِإِبْطَالِ مِلْكِهِ وَلَوْ لَمْ يُنْقَضْ لَا يَتَضَرَّرُ الشَّفِيعُ بِإِبْطَالِ حَقِّهِ ، وَإِنْ لَزِمَ الشَّفِيعَ زِيَادَةُ ثَمَنِ قِيمَةٍ فَبِمُقَابِلَتِهِ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ مَا يَعْدِلُهُ ، وَالضَّرَرُ بِبَدَلٍ أَهْوَنُ مِنْ الضَّرَرِ الَّذِي يَلْحَقُهُ بِغَيْرِ بَدَلٍ فَكَانَ مُرَاعَاةُ جَانِبِ الْمُشْتَرِي أَوْلَى ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ زَرَعَ الْأَرْضَ لَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَقْلَعَ زَرْعَهُ لِهَذَا ، وَالْبِنَاءُ تَبَعٌ لِلْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ الصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ وَمَنْ صَبَغَ ثَوْبَ إنْسَانٍ فَأَرَادَ صَاحِبُ الثَّوْبِ أَنْ يَأْخُذَ ثَوْبَهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ الصَّبَّاغَ مَا زَادَ الصِّبْغُ فِيهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ سَائِرِ تَصَرُّفَاتِ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ فِي إبْقَائِهَا إبْطَالُ حَقِّ الشَّفِيعِ ؛ فَلِذَلِكَ يُمَكَّنُ مِنْ نَقْضِهَا وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ بَنَى فِي بُقْعَةٍ غَيْرُهُ أَحَقُّ بِهَا مِنْهُ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيطِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ ، فَيُنْتَقَضُ عَلَيْهِ بِنَاؤُهُ ، كَالرَّاهِنِ إذَا بَنَى فِي
الْمَرْهُونِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ فِي هَذِهِ الْبُقْعَةِ حَقٌّ قَوِيٌّ مُتَأَكِّدٌ ، وَهُوَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى حَقِّ الْمُشْتَرِي وَتَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْإِضْرَارِ بِالشَّفِيعِ يَكُونُ بَاطِلًا لِمُرَاعَاةِ حَقِّ الشَّفِيعِ وَيُجْعَلُ ذَلِكَ لِتَصَرُّفِهِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ تَصَرُّفَهُ بِالْبَيْعِ ، وَالْهِبَةِ يَنْقُضُ هَذَا الْمَعْنَى فَكَذَلِكَ بِنَاؤُهُ وَفِي الْبِنَاءِ هُوَ مُضِرٌّ بِالشَّفِيعِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَلْزَمُهُ زِيَادَةٌ فِي الثَّمَنِ لَمْ يَرْضَ هُوَ بِالْتِزَامِهَا ، وَهُوَ مُبْطِلٌ لِلْحَقِّ الثَّابِتِ لَهُ ، يَعْنِي : حَقَّ الْأَخْذِ بِأَصْلِ الثَّمَنِ ، فَلَا يَنْفُذَ ذَلِكَ مِنْهُ كَمَا لَا يَنْفُذُ سَائِرُ التَّصَرُّفَاتِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا إذَا بَنَى ؛ لِأَنَّهُ بَنَى هُنَاكَ بِتَسْلِيطِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ ، ثُمَّ حَقُّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ ضَعِيفٌ لَا يَبْقَى بَعْدَ الْبِنَاءِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَبْقَى بَعْدَ تَصَرُّفٍ آخَرَ مِنْ الْمُشْتَرِي بِخِلَافِ حَقِّ الشَّفِيعِ ، وَكَذَلِكَ حَقُّ الْوَاهِبِ ضَعِيفٌ لَا يَبْقَى بَعْدَ تَصَرُّفِ الْمَوْهُوبِ لَهُ بِخِلَافِ حَقِّ الشَّفِيعِ ، وَالِاشْتِغَالُ بِالتَّرْجِيحِ لِدَفْعِ أَعْظَمِ الضَّرَرَيْنِ بِالْأَهْوَنِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْمُسَاوَاةِ فِي أَصْلِ الْحَقِّ ، وَلَا مُسَاوَاةَ فَحَقُّ الشَّفِيعِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمُشْتَرِي ، ثُمَّ الْبِنَاءُ الَّذِي يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الشَّفِيعِ رُبَّمَا لَا يَكُونُ مُوَافِقًا لَهُ فَيَحْتَاجُ إلَى مُؤْنَةِ ذَلِكَ لِرَفْعِ الْبِنَاءِ ، ثُمَّ يَبْنِي عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُوَافِقُهُ وَفِي الزَّرْعِ قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ فِي الْقِيَاسِ بِقَلْعِ زَرْعِهِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَقْلَعُ ؛ لِأَنَّ لِإِدْرَاكِهِ نِهَايَةً مَعْلُومَةً ، وَلَيْسَ فِي الِانْتِظَارِ كَثِيرُ ضَرَرٍ عَلَى الْمُشْتَرِي بِخِلَافِ الْغِرَاسِ ، وَالْبِنَاءِ وَأَصْلُهُ فِي الْمُسْتَعِيرِ يُقْلَعُ بِنَاؤُهُ وَغَرْسُهُ لِحَقِّ الْمُعِيرِ ، وَلَا يُقْلَعُ زَرْعُهُ اسْتِحْسَانًا .
وَإِذَا اشْتَرَى دَارًا فَغَرِقَ نِصْفُهَا فَصَارَ مِثْلَ الْفُرَاتِ يَجْرِي فِيهِ الْمَاءُ ، وَلَا يُسْتَطَاعُ رَدُّ ذَلِكَ عَنْهَا فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الْبَاقِي بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ إنْ شَاءَ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ ثَابِتٌ فِي الْكُلِّ ، وَقَدْ تَمَكَّنَ مِنْ أَخْذِ الْبَعْضِ فَيَأْخُذُهُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَالشَّافِعِيُّ فِي كِتَابَةِ يَدَّعِي الْمُنَاقَضَةَ عَلَيْنَا فِي هَذَا الْفَصْلِ وَيَقُولُ : إنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّهُ إذَا احْتَرَقَ الْبِنَاءُ لَمْ يَسْقُطْ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ عَنْ الشَّفِيعِ وَإِذَا غَرِقَ بَعْضُ الْأَرْضِ سَقَطَ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ فَكَأَنَّهُمْ اعْتَبِرُوا فِعْلَ الْمَاءِ دُونَ النَّارِ ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِقِلَّةِ الْفِقْهِ ، وَالتَّأَمُّلِ ، فَإِنَّ الْبِنَاءَ وَصْفٌ وَتَبَعٌ ، وَلَيْسَ بِمُقَابَلَةِ الْوَصْفِ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ إذَا فَاتَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ ، فَأَمَّا بَعْضُ الْأَرْضِ لَيْسَ بِتَبَعٍ لِلْأَرْضِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ إسْقَاطِ حِصَّةِ مَا غَرِقَ مِنْ الثَّمَنِ عَنْ الشَّفِيعِ ، أَوْ تَأَخُّرِ ذَلِكَ إلَى أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ أَخْذِهِ ، وَالِانْتِفَاعِ بِهِ ، فَإِنْ قَالَ الْمُشْتَرِي ذَهَبَ مِنْهَا الثُّلُثُ وَقَالَ الشَّفِيعُ ذَهَبَ النِّصْفُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي وَيَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِثُلُثَيْ الثَّمَنِ إنْ شَاءَ ، فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَهَذَا وَمَسْأَلَةُ قِيمَةِ الْبِنَاءِ سَوَاءٌ فِي التَّخْرِيجِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَحَقَّ رَجُلٌ بَعْضَهَا وَسَلَّمَ الشُّفْعَةَ وَطَلَبَهَا الْجَارُ بِالشُّفْعَةِ أَخَذَ مَا بَقِيَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي فِي مِقْدَارِ الْمُسْتَحَقِّ مِنْ الْبَاقِي ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَدَّعِي حَقَّ التَّمَلُّكِ عَلَيْهِ فِي الْبَاقِي بِثَمَنٍ يُنْكِرُهُ الْمُشْتَرِي ، وَلَا شُفْعَةَ فِي الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ تَعْتَمِدُ انْقِطَاعَ حَقِّ الْبَائِعِ وَعِنْدَ فَسَادِ الْبَيْعِ حَقُّ الْبَائِعِ لَمْ يَنْقَطِعْ ؛ وَلِأَنَّ فِي إثْبَاتِ حَقِّ الْأَخْذِ لِلشَّفِيعِ تَقْرِيرٌ لِلْبَيْعِ الْفَاسِدِ ، وَهُوَ مَعْصِيَةٌ ،
وَالتَّقْرِيرُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ ، فَإِنْ سَلَّمَهَا الْمُشْتَرِي لِلشَّفِيعِ بِالثَّمَنِ الَّذِي أَخَذَهَا بِهِ وَسَمَّاهُ لَهُ جَازَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ بِالشُّفْعَةِ سُمِّيَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فِي حُكْمِ الْبَيْعِ الْمُبْتَدَأِ وَلَوْ بَاعَهُ الْمُشْتَرِي ابْتِدَاءً جَازَ بَيْعُهُ وَكَانَ عَلَيْهِ قِيمَةُ الدَّارِ فَكَذَلِكَ إذَا سَلَّمَهَا لِلشَّفِيعِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَرِثَ دَارًا فَسَلَّمَهَا لِلشَّفِيعِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ كَانَ ذَلِكَ بَيْعًا مِنْهُ وَلَوْ اشْتَرَى بَيْعًا مَنْقُولًا فَطَلَبَ الشَّفِيعُ بِالشُّفْعَةِ فَسَلَّمَ كَانَ ذَلِكَ بَيْعًا مُبْتَدَأً فَهَذَا مِثْلُهُ وَإِذَا مَاتَ الشَّفِيعُ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ لَمْ يَكُنْ لِوَارِثِهِ حَقُّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَهُ ذَلِكَ ، وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَظِيرُ الْكَلَامِ فِي خِيَارِ الشَّرْطِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ ، فَإِنَّ عِنْدَهُ كَمَا تُوَرَّثُ الْأَمْلَاكُ فَكَذَلِكَ تُوَرَّثُ الْحُقُوقُ اللَّازِمَةُ مَا يُعْتَاضُ عَنْهَا بِالْمَالِ وَمَا لَا يُعْتَاضُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ بِطَرِيقِ أَنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ ، وَإِنَّ حَاجَةَ الْوَارِثِ كَحَاجَةِ الْمُوَرِّثِ وَنَحْنُ نَقُولُ مُجَرَّدُ الرَّأْيِ ، وَالْمَشِيئَةِ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْإِرْثُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى بَعْدَ مَوْتِهِ ؛ لِيَخْلُفَهُ الْوَارِثُ فِيهِ ، وَالثَّابِتُ لَهُ بِالشُّفْعَةِ مُجَرَّدُ الْمَشِيئَةِ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَ ، أَوْ يَتْرُكَ ، ثُمَّ السَّبَبُ الَّذِي بِهِ كَانَ يَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ تَزُولُ بِمَوْتِهِ ، وَهُوَ مِلْكُهُ وَقِيَامُ السَّبَبِ إلَى وَقْتِ الْأَخْذِ شَرْطٌ لِثُبُوتِ حَقِّ الْأَخْذِ لَهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَزَالَهُ بِاخْتِيَارِهِ بِأَنْ بَاعَ مِلْكَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ الْبَعْضَ الْمَشْفُوعَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ فَكَذَلِكَ إذَا زَالَ بِمَوْتِهِ ، وَالثَّابِتُ لِلْوَارِثِ جَوَازًا ، أَوْ شَرِكَةً حَادِثَةٌ بَعْدَ الْبَيْعِ ، فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الشُّفْعَةَ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الشُّفْعَةِ بِسَبَبٍ يَنْبَنِي عَلَى
صِفَةِ الْمِلْكِيَّةِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ حَقُّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لِجَارِ السُّكْنَى وَصِفَةُ الْمِلْكِيَّةُ تَتَجَدَّدُ لِلْوَارِثِ بِانْتِقَالِ مِلْكِ الْمُوَرِّثِ إلَيْهِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ الشُّفْعَةَ بِهَذَا السَّبَبِ وَلَوْ كَانَ بَيْعُ الدَّارِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَانَ لَهُ فِيهَا الشُّفْعَةُ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ انْتَقَلَ بِالْمَوْتِ إلَى الْوَارِثِ بِسَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَهُوَ الْجِوَارُ عِنْدَ بَيْعِ الدَّارِ كَانَ لِلْوَارِثِ وَالْمُعْتَبَرُ قِيَامُ السَّبَبِ عِنْدَ الْبَيْعِ لَا قَبْلَهُ وَإِذَا مَاتَ الْمُشْتَرِي ، وَالشَّفِيعُ حَيٌّ فَلَهُ الشُّفْعَةُ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحِقَّ بَاقٍ وَبِمَوْتِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ وَلَمْ يُبَعْ فِي دَيْنِهِ وَوَصِيَّتِهِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّهِ ، فَيَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ مَنْ ثَبَتَ حَقُّهُ مِنْ جِهَتِهِ أَيْضًا ، وَهُوَ الْغَرِيمُ ، وَالْمُوصَى لَهُ ، فَإِنْ بَاعَهَا الْقَاضِي ، أَوْ الْوَصِيُّ فِي دَيْنِ الْمَيِّتِ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يُبْطِلَ الْبَيْعَ وَيَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ كَمَا لَوْ بَاعَهَا الْمُشْتَرِي فِي حَيَاتِهِ ، وَلَا يُقَالُ بَيْعُ الْقَاضِي حُكْمٌ مِنْهُ فَكَيْفَ يَنْقُضُهُ الشَّفِيعُ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا بَاعَهَا إمَّا لِجَهْلِهِ بِحَقِّ الشَّفِيعِ ، أَوْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ رُبَّمَا لَا يَطْلُبُ الشُّفْعَةَ ، فَإِذَا طَلَبَهَا كَانَ بَيْعُهُ بَاطِلًا ؛ وَلِأَنَّ هَذَا مِنْهُ قَضَاءً بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ ، فَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ لِلشَّفِيعِ حَقُّ نَقْضِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي ، وَإِنَّمَا يَبِيعُهُ الْقَاضِي فِي دَيْنِ الْمُشْتَرِي وَوَصِيَّتِهِ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَوْصَى فِيهِ بِوَصِيَّةٍ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ وَبَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَبَرَّعَ بِهَا فِي حَيَاتِهِ بِالْهِبَةِ كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يُبْطِلَ ذَلِكَ كُلَّهُ فَكَذَلِكَ إذَا تَبَرَّعَ بِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ بِالْوَصِيَّةِ .
وَإِذَا عَلِمَ الشَّفِيعُ بِالْبَيْعِ فَلَمْ يَطْلُبْ مَكَانَهُ ، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ وَفِي هَذَا اللَّفْظِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ طَلَبَ الشُّفْعَةِ يَتَوَقَّتُ بِمَجْلِسِ عِلْمِ الشَّفِيعِ بِهِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الْكَرْخِيِّ وَذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا سَكَتَ عَنْ الطَّلَبِ بَعْدَ مَا عَلِمَ بِالْبَيْعِ يُبْطِلُ شُفْعَتَهُ وَعَلَى هَذَا عَامَّةُ مَشَايِخِنَا ، إلَّا أَنَّ هِشَامًا ذَكَرَ فِي نَوَادِرِهِ أَنَّهُ إذَا سَكَتَ هُنَيْهَةً ، ثُمَّ طَلَبَ ، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ مَا لَمْ يَتَطَاوَلْ سُكُوتُهُ ، وَكَذَلِكَ قَالَ : كَمَا إنْ سَمِعَ سُبْحَانَ اللَّهِ ، أَوْ قَالَ : اللَّهُ أَكْبَرُ ، أَوْ قَالَ خَلَّصَنِي اللَّهُ مِنْ فُلَانٍ ، ثُمَّ طَلَبَ الشُّفْعَةَ ، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : بِكَمْ بَاعَهَا ، أَوْ مَتَى بَاعَهَا ، أَوْ مَتَى اشْتَرَاهَا بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْكَلَامِ لَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ ، وَهُوَ عَلَى حَقِّهِ إذَا طَلَبَ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : إنْ طَالَتْ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَلَهُ الشُّفْعَةُ .
وَقَالَ سُفْيَانُ : لَهُ مُهْلَةُ يَوْمٍ مِنْ حِينِ سَمِعَ وَقَالَ شَرِيكٌ : هُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ مَا لَمْ يُبْطِلْهَا صَرِيحًا ، أَوْ دَلَالَةً بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْحُقُوقِ الْمُسْتَحَقَّةِ لَهُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى كَانَ يَقُولُ : يَحْتَاجُ الشَّفِيعُ إلَى النَّظَرِ ، وَالتَّأَمُّلِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِجِوَارِ هَذَا الْجَارِ ، فَلَا يَطْلُبُ الشُّفْعَةَ ، أَوْ يَتَضَرَّرَ بِهِ وَبَطَلَتْ الشُّفْعَةُ وَمِثْلُ هَذَا لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ ، إلَّا بِالتَّأَمُّلِ فِيهِ مُدَّةً فَيَجْعَلُ لَهُ مِنْ الْمُدَّةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِمَنْزِلَةِ خِيَارِ الشَّرْطِ ؛ فَلِهَذَا قَدَّرَهَا سُفْيَانُ بِيَوْمٍ وَاسْتَدَلَّ عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الشُّفْعَةُ لِمَنْ وَثَبَهَا } وَفِي رِوَايَةٍ { الشُّفْعَةُ كَنَشْطَةِ الْعِقَالِ إنْ أَخَذَ بِهَا ثَبَتَتْ وَإِلَّا ذَهَبَتْ } ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا سَكَتَ عَنْ الطَّلَبِ ، فَذَلِكَ مِنْهُ دَلِيلُ الرِّضَا بِمُجَاوَرَةِ الْجَارِ الْحَادِثِ وَدَلِيلُ الرِّضَا كَصَرِيحِ الرِّضَا وَلَوْ
لَمْ يُجْعَلْ هَذَا مِنْهُ دَلِيلُ الرِّضَا تَضَرَّرَ بِهِ الْمُشْتَرِي ؛ فَإِنَّهُ يَسْكُتُ حَتَّى يَتَصَرَّفَ الْمُشْتَرِي فِيهِ ، ثُمَّ يُبْطِلُ تَصَرُّفَهُ عَلَيْهِ ، وَفِيهِ مِنْ الضَّرَرِ مَا لَا يَخْفَى ، إلَّا أَنَّ الْكَرْخِيَّ جَعَلَ لَهُ الْمَجْلِسَ فِي ذَلِكَ لِحَاجَتِهِ إلَى الرَّأْيِ ، وَالتَّأَمُّلِ ، فَهُوَ كَالْمُخَيَّرَةِ لَهَا الْخِيَارُ مَا دَامَتْ فِي مَجْلِسِهَا ؛ وَلِأَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ لَهُ حَقَّ التَّمَلُّكِ بِبَدَلٍ وَلَوْ أَوْجَبَ الْبَائِعُ لَهُ ذَلِكَ بِإِيجَابِ الْبَيْعِ كَانَ لَهُ خِيَارُ الْقَبُولِ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَلَفْظَةُ الطَّلَبِ لَمْ يَذْكُرْهَا فِي الْكُتُبِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بِأَيِّ لَفْظٍ طَلَبَ ، فَهُوَ صَحِيحٌ مِنْهُ كَسَائِرِ الْحُقُوقِ ، إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَذْكُرُ فِي طَلَبِهِ الْبَيْعَ ، وَالسَّبَبَ الَّذِي يَطْلُبُ بِهِ الشُّفْعَةَ مِنْ جِوَارٍ ، أَوْ شَرِكَةٍ .
فَإِنْ طَلَبهَا فَأَبَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَدْفَعَهَا إلَيْهِ وَخَاصَمَهُ وَأَشْهَدَ الشَّفِيعُ شُهُودًا عَلَى طَلَبِهِ الشُّفْعَةَ كَانَ عَلَى شُفْعَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَظْهَرَ بِطَلَبِهِ رَغْبَتَهُ فِي الْأَخْذِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ ، فَإِذَا عَلِمَ بِالْبَيْعِ ، وَهُوَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمُشْتَرِي ، فَالْجَوَابُ وَاضِحٌ ، وَكَذَلِكَ .
إنْ كَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الشُّهُودِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُشْهِدَهُمْ عَلَى طَلَبِهِ ثُمَّ يَتَوَجَّهُ إلَى مَنْ فِي يَدِهِ الدَّارُ ، أَوْ إلَى مَوْضِعِ الدَّارِ فَيُشْهِدُ عَلَى الطَّلَبِ أَيْضًا عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ أَحَدٌ حِينَ سَمِعَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَطْلُبَ الشُّفْعَةَ ، فَالطَّلَبُ صَحِيحٌ مِنْ غَيْرِ إشْهَادٍ ، وَالْإِشْهَادُ لِمَخَافَةِ الْجُحُودِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَطْلُبَ حَتَّى إذَا حَلَّفَهُ الْمُشْتَرِي أَمْكَنَهُ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ طَلَبَهَا كَمَا سَمِعَ ، ثُمَّ يَأْتِي إلَى مَوْضِعِ الشُّهُودِ فَيُشْهِدُهُمْ عَلَى الطَّلَبِ وَيُسَمَّى هَذَا طَلَبَ الْمُوَاثَبَةِ ، ثُمَّ يَأْتِي إلَى مَنْ فِي يَدِهِ الدَّارُ فَيَشْهَدُ عَلَى الطَّلَبِ عِنْدَهُ أَيْضًا وَيُسَمَّى هَذَا طَلَبَ التَّقْرِيرِ ، وَهُوَ عَلَى حَقِّهِ بَعْدَ هَذَا ، وَإِنْ طَالَتْ الْخُصُومَةُ بَيْنَهُمَا وَإِنْ أَثْبَتَ ذَلِكَ فِي دِيوَانِ الْقَاضِي ، فَهُوَ أَبْلُغُ فِي الْعُذْرِ ، فَإِنْ شَغَلَهُ شَيْءٌ ، أَوْ عَرَضَ لَهُ سَفَرٌ بَعْدَ إشْهَادِهِ عَلَى طَلَبِ التَّقْرِيرِ ، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْقِيَاسُ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ بِالطَّلَبِ ، فَلَا يَسْقُطُ بَعْدَ ذَلِكَ ، إلَّا بِإِسْقَاطِهِ صَرِيحًا ، أَوْ دَلَالَةً ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ إذَا تَرَكَ ذَلِكَ شَهْرًا بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْقُط حَقُّهُ تَضَرَّرَ بِهِ الْمُشْتَرِي ، فَإِنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ مَخَافَةَ أَنْ يَنْقُضَ الشَّفِيعُ تَصَرُّفَهُ ، وَالضَّرَرُ مَدْفُوعٌ ، وَإِنَّمَا قُدِّرَ ذَلِكَ بِالشَّهْرِ ؛ لِأَنَّ الشَّهْرَ فِي حُكْمِ الْأَجَلِ وَمَا دُونَهُ عَاجِلٌ بِدَلِيلِ مَسْأَلَةِ الْيَمِينِ لِتَقْصِيرِ حَقِّهِ عَاجِلًا فَقَضَاؤُهُ فِيمَا دُونَ الشَّهْرِ بِرٌّ فِي يَمِينِهِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ إذَا تَرَكَ الْخُصُومَةَ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْقَاضِي تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ حَتَّى إنْ كَانَ الْقَاضِي يَجْلِسُ فِي كُلِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، فَإِذَا مَضَى مَجْلِسٌ مِنْ مَجَالِسِهِ وَلَمْ يُخَاصِمْ الشَّفِيعَ فِيهِ اخْتِيَارًا
بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ ، وَإِنْ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ عَلَى مَالٍ ، فَالتَّسْلِيمُ جَائِزٌ وَيَرُدَّ الْمَالَ عَلَى صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ مُخْتَارًا وَرَضِيَ بِجِوَارِهِ ، وَلَكِنَّهُ طَمِعَ فِي غَيْرِ مَطْمَعٍ وَهُوَ الْمَالُ ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَالَ ، إلَّا بِمُقَابِلَةِ مِلْكٍ لَهُ وَحَقُّ الشُّفْعَةِ لَيْسَ بِمُلْكٍ لَهُ ، فَلَا يَسْتَوْجِبُ بِمُقَابِلَةِ إسْقَاطِهِ الْمَالَ وَتَسْلِيمُ الشُّفْعَةِ لَا تَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ ، فَالشَّرْطُ الْفَاسِدُ وَهُوَ الْمَالُ فِيهِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْلِيمِ أَيْضًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ شُفْعَتَهُ بِمَالٍ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَمْلِيكُ مَالٍ بِمَالٍ وَحَقُّ الشُّفْعَةِ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ فَيَصِيرُ كَلَامُهُ عِبَارَةً عَنْ الْإِسْقَاطِ مَجَازًا كَبَيْعِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ مِنْ نَفْسِهَا وَفِي الْكِتَابِ لَا ، بَلْ لَا قِيمَةَ لِلشُّفْعَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ عَنْهَا مَالٌ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ كِتَابِ الْكَفَالَةِ أَنَّهُ لَوْ أَبْرَأَ الْكَفِيلَ بِالنَّفْسِ عَلَى مَالِ لَا يَجِبُ الْمَالُ وَفِي بَرَاءَةِ الْكَفِيلِ هُنَاكَ رِوَايَتَانِ وَإِنَّمَا اسْتَشْهَدَ بِالْكَفَالَةِ لِبَيَانِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِوَضَ عَنْ الْحَقِّ الَّذِي لَيْسَ بِمَلْكٍ مُتَقَوِّمٍ ( وَهَذَا بِخِلَافِ ) الِاعْتِيَاضِ عَنْ مِلْكِ النِّكَاحِ فِي زَوْجَتِهِ بِالْخُلْعِ ، وَعَنْ الْقِصَاصِ بِالصُّلْحِ ، وَعَنْ إسْقَاطِ الرِّقِّ بِالْعِتْقِ ( فَذَلِكَ كُلُّهُ مِلْكٌ ) مُتَقَرِّرٌ لَهُ فِي الْمَحَلِّ شَرْعًا وَكَمَا يَجُوز أَنْ يَلْتَزِمَ الْعِوَضَ لِيُثْبِتَ الْمِلْكَ لَهُ يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَ الْعِوَضَ لِيُبْطِلَ مِلْكَهُ ، فَأَمَّا الشَّفِيعُ لَيْسَ يَتَمَلَّكُ عَلَى الْمُشْتَرِي شَيْئًا قَبْلَ الْأَخْذِ فَتَسَلُّمِهِ الشُّفْعَةَ تَرْكُ التَّعَرُّضِ مِنْهُ لِلْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ ، وَلَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ مِلْكٍ ثَابِتٍ ، فَلَا يَسْتَحِقُّ بِمُقَابِلَتِهِ عِوَضًا عَلَيْهِ ، ثُمَّ هَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى مَالٍ سُمِّيَ ، وَالثَّانِي أَنْ يُصَالِحَ الْمُشْتَرِيَ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ
مِنْهُ نِصْفَ الدَّارِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ فَهَذَا صَحِيحٌ وَيَكُونُ مُسْقِطًا لِحَقِّهِ فِيمَا زَادَ عَلَى النِّصْفِ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ بَعْضَ حَقِّهِ بِمَا يَخُصُّهُ مِنْ الْبَدَلِ ، وَذَلِكَ جَائِزٌ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ ، وَالثَّالِثُ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى بَيْتٍ بِعَيْنِهِ مِنْ الدَّارِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ فَهَذَا الصُّلْحُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ حِصَّةَ الْبَيْتِ مِنْ الثَّمَنِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ ، وَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ ، وَإِنَّمَا أَظْهَرَ الرَّغْبَةَ فِي أَخْذِ مِقْدَارِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الدَّارِ فَكَانَ عَلَى شُفْعَتِهِ فِي جَمِيعِ الدَّارِ .
وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي لِلشَّفِيعِ بِالدَّارِ لِشُفْعَتِهِ ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ وَقَبْضِ الدَّارِ ، فَالْبَيْعُ لَازِمٌ لِوَرَثَتِهِ ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَمْلِكُهَا بِبَدَلٍ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَكَانَ حُكْمُهُ كَحُكْمِ مَا لَوْ اشْتَرَى بِنَفْسِهِ وَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي لَهُ بِشُفْعَةٍ قَبْلَ أَنْ يُحْضِرَ الثَّمَنَ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، فَأَمَّا مُحَمَّدٌ لَا يَقْضِي لَهُ بِالشُّفْعَةِ حَتَّى يُحْضِرَ الثَّمَنَ ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الْأَخْذِ إذَا أَدَّى الثَّمَنَ ، فَلَا يَقْضِي الْقَاضِي لَهُ بِالْمِلْكِ قَبْلَ ذَلِكَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي ، وَلَكِنَّا نَقُولُ مَا لَمْ يَجِبْ الثَّمَنُ عَاجِلًا لَا يُطَالَبُ بِإِحْضَارِهِ وَوُجُوبُ الثَّمَنِ عَلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَهُ بِالدَّارِ ، فَالْقَاضِي يَقْضِي لَهُ بِحَقِّهِ قَبْلَ إحْضَارِ الثَّمَنِ وَيَجْعَلُ الْمُشْتَرِيَ أَحَقَّ بِإِمْسَاكِهَا إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ فَيَدْفَعُ الدَّارَ إلَيْهِ كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِيمَا بَيْنَ الْبَائِعِ ، وَالْمُشْتَرِي .
وَإِذَا اشْتَرَى دَارًا ، وَالشَّفِيعُ غَائِبٌ فَعَلِمَ بِالشِّرَاءِ فَلَهُ مِنْ الْأَجَلِ بَعْدَ الْعِلْمِ عَلَى قَدْرِ الْمَسِيرِ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ كَمَا عَلِمَ بِالْبَيْعِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَطْلُبَ الشُّفْعَةَ وَيَشْهَدَ عَلَى الطَّلَبِ ، وَالْغَيْبَةُ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِشْهَادِ عَلَى الطَّلَبِ كَمَا لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ حَقِّهِ ، ثُمَّ بَعْدَ الْإِشْهَادِ حَالُهُ كَحَالِ الْحَاضِرِ فَكَمَا أَنَّ هُنَاكَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَجَّهَ إلَى مَنْ فِي يَدِهِ الدَّارُ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ ؛ لِيَطْلُبَ عِنْدَهُ فَهُنَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَوَجَّهَ أَوْ يَبْعَثَ نَائِبًا عَنْهُ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ ، وَلَكِنْ لِبُعْدِ الْمَسَافَةِ يَحْتَاجُ إلَى مُهْلَةٍ هُنَا ؛ فَلِهَذَا جَعَلَ لَهُ الْأَخْذَ بِقَدْرِ الْمُشْتَرَى وَكَمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ بِنَفْسِهِ يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ بِنَائِبِهِ وَرُبَّمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَتَوَجَّهَ بِنَفْسِهِ لِعُذْرٍ لَهُ فِي ذَلِكَ ، فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَبْعَثَ مَنْ يَطْلُبَ ، فَإِذَا مَضَى ذَلِكَ الْأَجَلُ قَبْلَ أَنْ يَطْلُبَ ، أَوْ يَبْعَثَ مَنْ يَطْلُبُ ، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ ، فَإِنْ قَدِمَ فَطَلَبَ فَتَغَيَّبَ الْمُشْتَرِي عَنْهُ ، أَوْ خَرَجَ مِنْ الْبَلَدِ فَأَشْهَدَ عَلَى طَلَبِ الشُّفْعَةِ ، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ وَإِنْ طَالَتْ مُدَّةُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا كَانَ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فِي طَلَبِ التَّقْرِيرِ إذْ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ أَنْ يَتْبَعَ الْمُشْتَرِي فَرُبَّمَا لَا يَظْفَرُ بِهِ ، أَوْ يَلْحَقَهُ ضَرَرٌ عَظِيمٌ فِيهِ ، فَإِذَا ظَهَرَ الْمُشْتَرِي بِبَلَدٍ لَيْسَ فِيهِ الدَّارُ فَلَيْسَ عَلَى الشَّفِيعِ أَنْ يَطْلُبَهُ فِي غَيْرِ الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الدَّارُ ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إتْبَاعِهِ ، فَإِنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَخْذِ ، إلَّا فِي الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الدَّارُ ، فَإِذَا حَضَرَ هَذَا الْبَلَدَ ، فَقَدْ أَتَى بِمَا كَانَ يَحِقُّ عَلَيْهِ ، ثُمَّ الْمُشْتَرِي قَصَدَ أَنْ يُلْحِقَهُ زِيَادَةَ ضَرَرٍ حِينَ هَرَبَ مِنْهُ فَرَدَّ عَلَيْهِ قَصْدَهُ وَيَكُونُ الشَّفِيعُ عَلَى حَقِّهِ إذَا رَجَعَ الْمُشْتَرِي وَإِذَا اشْتَرَى مِنْ امْرَأَةٍ فَأَرَادَ أَنْ
يُشْهِدَ عَلَيْهَا فَلَمْ يَجِدْ مَنْ يَعْرِفُهَا ، إلَّا مَنْ لَهُمْ الشُّفْعَةُ ، فَإِنَّ شَهَادَتَهُمْ لَا تَجُوزُ عَلَيْهَا إنْ أَنْكَرَتْ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَطْلُبُوا الشُّفْعَةَ ، وَإِنْ سَلَّمُوا الشُّفْعَةَ جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ فِي إثْبَاتِ الْبَيْعِ عَلَيْهَا إثْبَاتُ حَقِّهِمْ مَا لَمْ يُسَلِّمُوا الشُّفْعَةَ وَكَانُوا خَصْمًا فِي ذَلِكَ ، وَالْخَصْمُ فِي الْحَادِثَةِ لَا يَكُونُ شَاهِدًا فِيهَا .
وَإِذَا اشْتَرَى دَارًا ، وَالْقَاضِي شَفِيعُهَا ، أَوْ ابْنُهُ ، أَوْ أَبُوهُ أَوْ زَوْجَتُهُ ، فَإِنَّ قَضَاءَهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْقَضَاءِ فَوْقَ وِلَايَةِ الشَّهَادَةِ ، فَإِذَا لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ لِنَفْسِهِ ، أَوْ لِأَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ فَكَذَلِكَ قَضَاؤُهُ وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي لِلشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ فَسَأَلَهُ الْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ عَلَى أَنْ يَزِيدَهُ فِي الثَّمَنِ كَذَا فَفَعَلَ ذَلِكَ فَرَدَّهَا عَلَيْهِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ رَدٌّ لَا يَكُونُ لَهُ الزِّيَادَةُ ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقَالَةِ ، وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْإِقَالَةَ فَسْخٌ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ وَمَا سُمِّيَ فِيهَا مِنْ زِيَادَةٍ ، أَوْ جِنْسٍ آخَرَ مِنْ الثَّمَنِ ، فَهُوَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِالْجَائِزِ مِنْ الشُّرُوطِ ، وَهُوَ تَسْمِيَةُ الثَّمَنِ ، فَالْفَاسِدُ مِنْ الشَّرْطِ فِي الثَّمَنِ لَا يُبْطِلُهُ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ الْإِقَالَةُ فَسْخٌ إذَا كَانَ بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ ، أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ ، فَإِنْ كَانَ بِأَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ ، أَوْ بِجِنْسٍ آخَرَ سِوَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ ، فَهُوَ بَيْعٌ مُبْتَدَأٌ إذَا أَمْكَنَ وَإِذَا تَعَذَّرَ الْإِمْكَانُ كَانَ فَسْخًا بِالثَّمَنِ الْأَوَّلِ ، وَلَا إمْكَانَ هَهُنَا بِجَعْلِ الْإِقَالَةِ بَيْعًا مُبْتَدَأً مَعَ تَسْمِيَتِهَا زِيَادَةً فِي الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ لَمْ يَقْبِضْ الدَّارَ بَعْدُ وَمِنْ أَصْلِ مُحَمَّدٍ أَنْ بَيْعَ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ مِنْ الْبَائِعِ ، وَلَا مِنْ غَيْرِهِ الْعَقَارُ ، وَالْمَنْقُولُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ الْآخَرِ بَيْعُ الْعَقَارِ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ ، وَمِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْإِقَالَةَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ الْمُبْتَدَأِ إذَا أَمْكَنَ ، وَهُنَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ بَيْعًا مُبْتَدَأً ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَ ؛ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ الزِّيَادَةُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَاَلَّذِي يَقُولُ فِي الْكِتَابِ إذَا كَانَ قَدْ قَبَضَ قَبْلَ الْمُنَاقَضَةِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ الْأَوَّلِ ،
فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ الْآخِرِ لَا يُعْتَبَرُ بِهَذَا الشَّرْطِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَبَ إلَيْهِ الْمُشْتَرِي أَنْ يُسَلِّمَهُ لِلْبَائِعِ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ مِنْ الثَّمَنِ شَيْئًا مُسَمًّى ؛ لِأَنَّهُ إقَالَةٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إقَالَةَ الشَّفِيعِ كَمَا تَجُوزُ مَعَ الْمُشْتَرِي تَجُوزُ مَعَ الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ مَا قَضَى الْقَاضِي لَهُ بِالشُّفْعَةِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ الشَّهَادَةِ فِي الشُّفْعَةِ .
قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الشَّفِيعَيْنِ بِالْبَيْعِ عَلَى الْبَائِعِ الْجَاحِدِ إنْ طَلَبَا الشُّفْعَةَ ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ لِأَنْفُسِهِمَا فَبِثُبُوتِ الْبَيْعِ ثَبَتَ حَقُّهُمَا فِي الشُّفْعَةِ ، وَإِنْ سَلَّمَاهَا جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا لِلْمُشْتَرِي لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ عَنْ شَهَادَتِهِمَا بَعْدَ تَسْلِيمِ الشَّفِيعِ ، فَإِنَّهُمَا يُثْبِتَانِ سَبَبَ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي ، وَلَا شُفْعَةَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ بَعْدَ مَا سَلَّمَا الشُّفْعَةَ ، وَإِنْ جَحَدَ الْمُشْتَرِي الشِّرَاءَ وَادَّعَاهُ الْبَائِعُ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا أَيْضًا إنْ طَلَبَا الشُّفْعَةَ ؛ لِأَنَّهُمَا يُثْبِتَانِ لِأَنْفُسِهِمَا حَقَّ الْأَخْذِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَإِلْزَامَ الْعُهْدَةِ إيَّاهُ إذَا أَخَذَا مِنْ يَدِهِ ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا ، غَيْرَ أَنَّهُمَا يَأْخُذَانِهَا بِإِقْرَارِ الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْبَيْعِ مُوجِبٌ حَقَّ الشُّفْعَةِ لِلشَّفِيعِ ، وَإِنْ جَحَدَهُ الْمُشْتَرِي كَمَا لَوْ قَالَ : كُنْتُ بِعْتُ هَذِهِ الدَّارَ مِنْ فُلَانٍ وَجَحَدَ الْمُشْتَرِي وَحَلَفَ كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ وَلَوْ شَهِدَ ابْنَا الشَّفِيعِ ، أَوْ أَبُوهُ ، أَوْ امْرَأَتُهُ بِذَلِكَ كَانَتْ الشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ بِشَهَادَتِهِ الْحَقَّ لِلشَّفِيعِ وَهُوَ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّهِ بِالْوِلَادَةِ أَوْ الزَّوْجِيَّةِ ، فَيَكُونُ كَالْمُتَّهَمِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، وَإِنْ شَهِدَ وَلَدُ الشَّفِيعِ وَوَالِدُهُ عَلَى الشَّفِيعِ بِالتَّسْلِيمِ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ ، فَإِنَّهُمَا أَسْقَطَا حَقَّ الشَّفِيعِ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ ، وَلَا يُتَّهَمُ الْإِنْسَانُ بِالْإِضْرَارِ بِوَلَدِهِ أَوْ ، وَالِدِهِ ، وَالْقَصْدُ إسْقَاطُ حَقِّهِ .
وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الْمَوْلَى عَلَى مُكَاتَبِهِ وَعَبْدِهِ الْمَأْذُونِ بِالتَّسْلِيمِ جَائِزَةٌ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ مِنْ وَجْهٍ كَشَهَادَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَشَهَادَةُ الْمَرْءِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ أَصْدَقِ الشَّهَادَاتِ ، وَإِنْ شَهِدَ الْمَوْلَى عَلَى الْبَيْعِ ، وَالْعَبْدُ ، وَالْمُكَاتَبُ يَطْلُبَانِ الشُّفْعَةَ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُ ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ وَلَهُ فِي كَسْبِ مُكَاتَبِهِ حَقُّ الْمِلْكِ فَشَهَادَتُهُ بِمَا يُوجِبُ الشُّفْعَةَ لِعَبْدِهِ أَوْ مُكَاتَبِهِ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَتِهِ لِنَفْسِهِ فَكَذَلِكَ شَهَادَةُ وَلَدِ الْمَوْلَى وَوَالِدِهِ ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ الْحَقِّ لِلْوَلِيِّ .
وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ لِثَلَاثَةِ نَفَرٍ فَشَهِدَ اثْنَانِ مِنْهُمْ أَنَّهُمْ جَمِيعًا بَاعُوهَا مِنْ فُلَانٍ وَادَّعَى ذَلِكَ فُلَانٌ وَجَحَدَ الشَّرِيكُ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الشَّرِيكِ ؛ لِأَنَّهُمَا بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ يُثْبِتَانِ صِفَةَ اللُّزُومِ فِي بَيْعِهِمَا ، فَإِنَّ لِلْمُشْتَرِي حَقُّ الْفَسْخِ إذَا لَمْ يَثْبُتْ الْبَيْعُ فِي نَصِيبِ الثَّالِثِ ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى فِعْلٍ بَاشَرَاهُ ، فَإِنَّهُمْ بَاشَرُوا الْبَيْعَ صَفْقَةً وَاحِدَةً وَهُمْ فِي ذَلِكَ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ ، وَالْإِنْسَانُ فِيمَا يُبَاشِرُ يَكُونُ خَصْمًا لَا شَاهِدًا وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ ثُلُثَيْ الدَّارِ بِالشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي نَصِيبِهِمَا ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِمَا وَإِنْ أَنْكَرَ الْمُشْتَرِي الشِّرَاءَ وَأَقَرَّ بِهِ الشُّرَكَاءُ جَمِيعًا فَشَهَادَتُهُمْ أَيْضًا بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَى فِعْلِ أَنْفُسِهِمْ وَيُثْبِتُونَ الثَّمَنَ لَهُمْ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الدَّارَ كُلَّهَا بِالشُّفْعَةِ لِثُبُوتِ الْبَيْعِ فِي جَمِيعِهَا عِنْدَ إقْرَارِهِمْ بِذَلِكَ ، وَلَا شُفْعَةَ لِلْوَكِيلِ فِيمَا بَاعَ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لِغَيْرِهِ فِي حُكْمِ الْعَقْدِ ، كَالْبَائِعِ لِنَفْسِهِ ، وَلَا شُفْعَةَ لِلْبَائِعِ ، فَإِنْ أَخَذَهُ بِالشُّفْعَةِ يَكُونُ سَعْيًا فِي نَقْضِ مَا قَدْ تَمَّ بِهِ وَهُوَ الْمِلْكُ ، وَالْيَدُ لِلْمُشْتَرِي وَمَنْ سَعَى فِي نَقْضِ مَا قَدْ تَمَّ بِهِ يَبْطُلُ سَعْيُهُ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الشُّفْعَةِ امْتَنَعَ مِنْ تَسْلِيمِهَا إلَى الْمُشْتَرِي بَعْدَ مَا الْتَزَمَ ذَلِكَ بِالْعَقْدِ يَكُونُ حَقُّ الشَّفِيعِ مُقَدَّمًا ، وَكَذَلِكَ لَا شُفْعَةَ لِمَنْ بَيْع لَهُ ، وَهُوَ الْمُوَكِّلُ ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْبَيْعِ بِهِ ، فَإِنَّهُ لَوْلَا تَوْكِيلُهُ مَا جَازَ الْبَيْعُ ، فَإِنْ شَهِدَ الْآمِرُ بِالْبَيْعِ مَعَ أَجْنَبِيٍّ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ رَدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ بِالشُّفْعَةِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ الْآمِرِ فِي ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مُتَّهَمًا فِي شَهَادَتِهِ ، فَالْمُشْتَرِي قَبْلَ هَذَا إذَا وَجَدَ بِهَا عَيْبًا رَدَّهَا عَلَى الْوَكِيلِ وَكَانَ ذَلِكَ رَدًّا
عَلَى الْمُوَكِّلِ وَيُمْتَنَعُ ذَلِكَ إذَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ عَلَى أَنَّهُ رَدَّهَا عَلَى الْبَائِعِ بِالشُّفْعَةِ ، فَيَكُونُ فِي هَذَا تَبْعِيدُ الْخُصُومَةِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ الشُّفْعَةُ فَيَرُدُّهَا عَلَيْهِ كَابْتِدَاءِ الْبَيْعِ مِنْهُ وَشَهَادَةُ الْآمِرِ بِالْبَيْعِ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ بَاعَهَا مِنْ غَيْرِهِ لَا تُقْبَلُ ، فَأَمَّا الْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا اشْتَرَى بِالشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّ شِرَاءَهُ لِغَيْرِهِ كَشِرَائِهِ لِنَفْسِهِ وَشِرَاؤُهُ لِنَفْسِهِ لَا يَكُونُ إبْطَالًا لِلشُّفْعَةِ حَتَّى إنَّ أَحَدَ الشُّفَعَاءِ إذَا اشْتَرَى الدَّارَ ، فَهُوَ عَلَى شُفْعَتِهِ فِيهَا يَظْهَرُ ذَلِكَ عِنْدَ مُزَاحَمَةِ الْآخَرِينَ فَكَذَلِكَ شِرَاؤُهُ لِغَيْرِهِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ إنَّمَا تَبْطُلُ بِإِظْهَارِ الشَّفِيعِ الرَّغْبَةَ عَنْ الدَّارِ لَا بِإِظْهَارِ الرَّغْبَةِ فِيهَا ، وَالشِّرَاءُ إظْهَارُ الرَّغْبَةِ فِي الْمُشْتَرَى ، فَلَا يَكُونُ إبْطَالًا لِلشُّفْعَةِ ؛ وَلِأَنَّ الْبَائِعَ يَلْتَزِمُ الْعُهْدَةَ بِالْبَيْعِ فَلَوْ أَخَذَ بِالشُّفْعَةِ كَانَ مُبْطِلًا مَا الْتَزَمَ بِهِ مِنْ الْعُهْدَةِ ، وَالْمُشْتَرِي يَلْتَزِمُ الثَّمَنَ بِالشِّرَاءِ ، وَهُوَ بِالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ يُقَرِّرُ مَا الْتَزَمَ بِالشِّرَاءِ وَلَوْ شَهِدَ ابْنَا الشَّفِيعِ أَنَّهُ قَدْ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ لِأَبِيهِمَا بِتَقَرُّرِ الْمِلْكِ ، وَالْيَدِ فِيهَا .
وَإِذَا بَاعَ الرَّجُلُ دَارًا وَلَهُ عَبْدٌ تَاجِرٌ هُوَ شَفِيعُهَا ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَهُ الشُّفْعَةُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ ؛ لِأَنَّ مَالَهُ لِمَوْلَاهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَكَمَا أَنَّ الْبَائِعَ لَا يَأْخُذُ مَا بَاعَ بِالشُّفْعَةِ فَكَذَلِكَ عَبْدُهُ لَا يَأْخُذُ وَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، فَالْغُرَمَاءُ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ وَلِلْغُرَمَاءِ حَقُّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ فِي هَذِهِ الدَّارِ فَكَذَلِكَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ وَشِرَاءُ الْعَبْدِ مِنْ مَوْلَاهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ بَاطِلٌ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَكَذَلِكَ حُكْمُ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ وَعَلَى هَذَا لَوْ بَاعَ الْعَبْدُ وَمَوْلَاهُ شَفِيعُهَا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، فَلَا شُفْعَةَ لِلْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْعَبْدِ وَقَعَ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلَهُ الشُّفْعَةُ ؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ كَانَ لِغُرَمَائِهِ ، وَالْمَوْلَى مِنْ كَسْبِ عَبْدِهِ الْمَدْيُونِ كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ ، فَإِنْ شَهِدَ ابْنَا الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ أَنَّهُ سَلَّمَ الدَّارَ لِلْمَوْلَى بِالشُّفْعَةِ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ لِأَبِيهِمَا بِالْمِلْكِ ، وَالْيَدِ فِي الدَّارِ ( قَالَ : وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا عَلَيْهِ بِتَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ ، وَالدَّارُ فِي يَدِ الْمَوْلَى الْبَائِعِ ) ؛ لِأَنَّ لِلْعَبْدِ حَقَّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ مِنْ يَدِهِ فَهُمَا يَشْهَدَانِ بِمَا يُسْقِطُ حَقَّهُ عَنْ أَبِيهِمَا فَكَانَا مُتَّهَمَيْنِ فِي ذَلِكَ .
وَإِذَا بَاعَ الْمَوْلَى دَارِهِ وَمُكَاتَبُهُ شَفِيعُهَا فَلَهُ الشُّفْعَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمُكَاتَبِ فِي مِلْكِ مَوْلَاهُ ، وَهُوَ فِي الْبَيْعِ الَّذِي بَاشَرَهُ مَوْلَاهُ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ ، وَإِنْ شَهِدَ ابْنَا الْمَوْلَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ لِلْمُشْتَرِي فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا عَلَيْهِ بِتَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ حِينَ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ الْمَوْلَى لَمْ تَكُنْ شَهَادَتُهُمَا مَقْبُولَةً فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَا بِهِ بَعْدَ مَا سَلَّمَهَا إلَى الْمُشْتَرِي وَقِيلَ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الدَّارَ فِي يَدِ الْبَائِعِ بَعْدُ فَشَهِدَا عَلَى الْمُكَاتَبِ بِأَنَّهُ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ لِلْمُشْتَرِي ؛ لِيَسْقُطَ حَقُّهُ بِهِ فِي الْأَخْذِ مِنْ أَبِيهِمَا ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ، فَالشَّهَادَةُ تُقْبَلُ لِخُلُوِّهَا عَنْ التُّهْمَةِ ، فَقَدْ خَرَجَ أَبُوهُمَا مِنْ خُصُومَةِ الشَّفِيعِ بِتَسْلِيمِهَا إلَى الْمُشْتَرِي ، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ الْمُكَاتَبُ وَمَوْلَاهُ شَفِيعُهَا ، وَالدَّارُ فِي يَدِ الْبَائِعِ كَانَ لَهُ الشُّفْعَةُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ كَسْبِ مُكَاتَبِهِ أَبْعَدَ مِنْهُ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ الْمَدْيُونِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّهَا بِالشُّفْعَةِ فَهُنَا أَوْلَى ، فَإِنْ شَهِدَ ابْنَا الْمَوْلَى أَنَّهُ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ لِلْمُشْتَرِي جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى أَبِيهِمَا بِإِسْقَاطِ حَقِّهِ ، فَإِنْ قِيلَ الدَّارُ فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ فَهُمَا يَشْهَدَانِ فِي الْمَعْنَى لِمُكَاتَبِ أَبِيهِمَا وَشَهَادَتُهُمَا لِمُكَاتَبِ أَبِيهِمَا وَعَبْدِ أَبِيهِمَا لَا تُقْبَلُ قُلْنَا نَعَمْ ، وَلَكِنَّ هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ الْأَبَ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ الْأَبَ ، فَلَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي شَهَادَتِهِمَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ شَهَادَتَهُمَا لِمُكَاتَبِ أَبِيهِمَا بِدَيْنٍ عَلَى أَبِيهِمَا تُقْبَلُ وَعَلَى الْأَجْنَبِيِّ لَا تُقْبَلُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُمَا يُؤْثِرَانِ مُكَاتَبَ أَبِيهِمَا عَلَى الْأَجْنَبِيِّ لَا عَلَى أَبِيهِمَا .
وَإِذَا بَاعَ الرَّجُلُ دَارًا فَشَهِدَ ابْنَا الْبَائِعِ أَنَّ الشَّفِيعَ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ لِلْمُشْتَرِي فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ أَبَاهُمَا خَصْمٌ فِيهِ مَا دَامَتْ الدَّارُ فِي يَدِهِ وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْهُ وَيُلْزِمُهُ الْعُهْدَةَ فَهُمَا يَشْهَدَانِ لِأَبِيهِمَا ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ قَبَضَ الدَّارَ فَخَاصَمَهُ الشَّفِيعُ ، ثُمَّ شَهِدَ الِابْنَانِ بِذَلِكَ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّ الْأَبَ خَرَجَ مِنْ هَذِهِ الْخُصُومَةِ بِتَسْلِيمِهَا إلَى الْمُشْتَرِي فَهُمَا يَشْهَدَانِ لِلْمَوْلَى عَلَى الشَّفِيعِ فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّ الْبَائِعَ لَوْ يَشْهَدُ عَلَى الشَّفِيعِ بِذَلِكَ بَعْد مَا سَلَّمَهَا إلَى الْمُشْتَرِي لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ كَمَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَكَذَلِكَ ابْنَا الْبَائِعِ قُلْنَا امْتِنَاعُ قَبُولِ شَهَادَتِهِ يَكُونُ خَصْمًا فِيهِ ، وَمِنْ كَانَ خَصْمًا فِي حَادِثَةٍ مَرَّةً لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِيهَا ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْ الْخُصُومَةِ ، فَأَمَّا امْتِنَاعُ قَبُولِ شَهَادَةِ الِابْنَيْنِ لِمَنْفَعَةِ أَبِيهِمَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ ، وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَهَا إلَى الْمُشْتَرِي ، فَأَمَّا بَعْدَ التَّسْلِيمِ ، فَلَا مَنْفَعَةَ لِأَبِيهِمَا فَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا بِذَلِكَ .
وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ ، وَالْمُكَاتَبُ إذَا بَاعَا دَارًا وَقَبَضَهَا الْمُشْتَرِي ، ثُمَّ شَهِدَ ابْنَا الْمَوْلَى عَلَى الشَّفِيعِ بِالتَّسْلِيمِ ، فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْأَبَ لَوْ كَانَ هُوَ الْبَائِعُ كَانَتْ شَهَادَتُهُمَا مَقْبُولَةً ، فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ ، وَالْمُكَاتَبُ هُوَ الْبَائِعُ أَوْلَى أَنْ تُقْبَلَ الشَّهَادَةُ ، وَبِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَتَّضِحُ مَا بَيَّنَّا مِنْ التَّأْوِيلِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى .
وَإِذَا شَهِدَ رَجُلَانِ لِلْبَائِعِ ، وَالْمُشْتَرِي عَلَى الشَّفِيعِ أَنَّهُ قَدْ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ وَشَهِدَ رَجُلَانِ لِلشَّفِيعِ أَنَّ الْبَائِعَ ، وَالْمُشْتَرِي سَلَّمَا الدَّارَ قُضِيَتْ بِهَا لِلَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا فِي دَارِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ صَاحِبِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَنَقَدَ الثَّمَنَ فَإِنِّي أَقْضِي بِهَا لِلَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ التَّهَاتُرِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ تَتَهَاتَرُ الْبَيِّنَتَانِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَقْضِي بِالْبَيِّنَتَيْنِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ : مَسْأَلَةُ الشُّفْعَةِ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا ، وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُثْبِتُ بَيِّنَةَ الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ عَلَى صَاحِبِهِ بِسَبَبٍ يُصَرِّحُ بِهِ شُهُودُهُ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ : وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ جَوَابَ مَسْأَلَةِ الشُّفْعَةِ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا ، وَأَنَّ هَذَا لَيْسَ نَظِيرَ مَسْأَلَةِ التَّهَاتُرِ ، فَإِنَّ هُنَاكَ مُحَمَّدًا يَقْضِي بِالْبَيِّنَتَيْنِ بِتَارِيخِ بَيِّنَةٍ بَيْنَ الشِّرَاءَيْنِ ، وَالْيَدُ دَلِيلُ ذَلِكَ التَّارِيخِ ، وَلَا يَتَأَتَّى مِثْلُ ذَلِكَ هُنَا وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولَانِ بِالتَّهَاتُرِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُثْبِتُ إقْرَارَ صَاحِبِهِ بِالْمِلْكِ لَهُ وَكُلُّ بَائِعٍ مُقِرٌّ بِوُقُوعِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هُنَا ، فَالشَّفِيعُ بِتَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ لَا يَصِيرُ مُقِرًّا بِالْمِلْكِ لِلْبَائِعِ ، وَلَا لِلْمُشْتَرِي ، وَلَكِنَّ وَجْهَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ تَسْلِيمَ الْمُشْتَرِي الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ لِلشَّفِيعِ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ وَتَسْلِيمَ الشَّفِيعِ الشُّفْعَةَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِحَالٍ ، فَإِنَّهُ بَعْدَ مَا سَلَّمَ الشُّفْعَةَ لَا يَعُودُ حَقُّهُ ، وَإِنْ اتَّفَقَا عَلَيْهِ ، وَالْبَيِّنَتَانِ مَتَى تَعَارَضَتَا وَإِحْدَاهُمَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ ، وَالْأُخْرَى لَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَمَا لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ
يَتَرَجَّحُ كَمَا لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ اشْتَرَى هَذَا الْعَبْدَ مِنْ مَوْلَاهُ وَأَقَامَ الْعَبْدُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ يُوَضِّحُهُ إنَّمَا يُجْعَلُ كَأَنَّ الْأَمْرَيْنِ كَانَا ، فَإِنْ كَانَ الشَّفِيعُ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ أَوَّلًا ، ثُمَّ سَلَّمَهَا الْمُشْتَرِي لَهُ فَمَا لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ يَده لَا يَتِمُّ التَّسْلِيمُ وَبَعْدَ الْإِخْرَاجِ يَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ الْمُبْتَدَإِ فَيُقْضَى بِهَا لِلشَّفِيعِ إذَا كَانَتْ فِي يَدَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي سَلَّمَهَا إلَى الشَّفِيعِ أَوَّلًا وَقَبَضَهَا الشَّفِيعُ ، ثُمَّ سَلَّمَ شُفْعَتَهُ فَتَسْلِيمُهُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ حَقِّهِ قَدْ تَمَّ ؛ فَلِهَذَا قُضِيَ بِالدَّارِ لِذِي الْيَد ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ قَبَضَ الدَّارَ فَشَهِدَ ابْنَا الْبَائِعِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ سَلَّمَهَا لِلشَّفِيعِ ، وَهِيَ فِي يَدَيْ الْمُشْتَرِي وَشَهِدَا أَجْنَبِيَّانِ أَنَّ الشَّفِيعَ قَدْ سَلَّمَهَا لِلْمُشْتَرِي فَإِنِّي أُسَلِّمُهَا لِلْمُشْتَرِي وَاخْتِيَارُ شَهَادَةِ الشُّهُودِ عَلَى تَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ لِوَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا مَا بَيَّنَّا أَنَّ تَسْلِيمَ الشُّفْعَةِ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِخِلَافِ تَسْلِيمِ الدَّارِ إلَى الشَّفِيعِ ، وَالثَّانِي أَنَّ بَنِيَّ الْبَائِعِ يُتَّهَمَانِ فِي شَهَادَتِهِمَا بِتَبْعِيدِ الْخُصُومَةِ ، وَالْعُهْدَةِ عَنْ أَبِيهِمَا ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُخَاصِمُ أَبَاهُمَا فِي عَيْبٍ يَجِدُهُ بِالدَّارِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَهَا إلَى الشَّفِيعِ ، وَلَا يُخَاصِمُهُ فِي ذَلِكَ بَعْدَ مَا سَلَّمَهَا بِالشُّفْعَةِ إلَى الشَّفِيعِ ؛ فَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ ابْنَيْ الْبَائِعِ هُنَا .
وَإِذَا سَلَّمَ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ ، ثُمَّ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالدَّارِ عَيْبًا بَعْدَ مَا قَبَضَهَا فَرَدَّهَا بِغَيْرِ قَضَاءٍ قَاضٍ ، أَوْ قَالَ : الْبَائِعُ الْبَيْعُ فِي الدَّارِ بِغَيْرِ عَيْبٍ كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَعْدَهُ عِنْدَنَا ( وَقَالَ ) زُفَرُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَهَا وَلَمْ يَتَجَدَّدْ حَقُّهُ بِمَا أَخَذْنَا مِنْ السَّبَبِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ يَخْتَصُّ بِمُعَارَضَةِ مَالٍ بِمَالٍ ابْتِدَاءً ، وَالرَّدُّ بِالْعَيْبِ ، وَالْإِقَالَةُ فَسْخٌ لِلْعَقْدِ ، وَلَيْسَ بِمُعَاوَضَةٍ مُبْتَدَأَةٍ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ يُجْعَلُ ذَلِكَ كَبَيْعٍ مُبْتَدَإٍ ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى قَصْدِ الْمُتَصَرِّفِ وَهُمَا قَصَدَا الْفَسْخَ لَا الْعَقْدَ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْإِقَالَةُ ، وَالرَّدُّ بِالْعَيْبِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ الْمُبْتَدَإِ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ تَمَّ بِتَرَاضِيهِمَا فِي مَحَلَّيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ ، وَلَا صُورَةَ لِلْمُعَارَضَةِ ، إلَّا هَذَا غَيْرَ أَنَّهُمَا سَمَّيَاهُ فَسْخًا وَلَهُمَا الْوِلَايَةُ عَلَى أَنْفُسِهِمَا فَكَانَ فَسْخًا فِي حَقِّهِمَا ، وَلَا وِلَايَةَ لَهُمَا عَلَى غَيْرِهِمَا فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْمُعَارَضَةِ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا فَيَتَجَدَّدُ بِهِ حَقُّ الشَّفِيعِ ، وَإِنْ كَانَ رَدُّهَا بِالْعَيْبِ بِقَضَاءِ قَاضٍ لَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ فِيهَا شُفْعَةٌ ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِالرَّدِّ فَسْخٌ ، وَلَيْسَ بِعَقْدٍ ، فَإِنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ فَسْخِ الْعَقْدِ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُمَا لَا إنْشَاءُ الْعَقْدِ ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَهَا الْمُشْتَرِي حَتَّى رَدَّهَا بِالْعَيْبِ بِقَضَاءٍ ، أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ ، فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ قَبْلَ الْقَبْضِ فَسْخٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّادَّ يَنْفَرِدُ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى رِضَاءٍ ، أَوْ قَضَاءِ الْقَاضِي ، فَهُوَ نَظِيرُ الرَّدِّ بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ ، أَوْ خِيَارِ الشَّرْطِ ، وَالْحَرْفُ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ هَذِهِ
الْمَسَائِلُ أَنَّهُ مَتَى عَادَ بِالرَّدِّ إلَى قَدِيمِ مِلْكِ الْبَائِعِ لَا يَتَجَدَّدُ لِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فِي قَدِيمِ مِلْكِهِ وَإِذَا لَمْ يَعُدْ إلَى قَدِيم مِلْكِهِ كَانَ هَذَا فِي مَعْنَى مِلْكٍ حَدَثَ لَهُ بِسَبَبٍ مُبْتَدَإٍ فَيَتَجَدَّدُ بِهِ حَقُّ الشَّفِيعِ ، وَالرَّدُّ بَعْدَ الْقَبْضِ بِالْعَيْبِ أَوْ بِالْإِقَالَةِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ حَتَّى لَوْ كَانَ مَوْهُوبًا لَا يَرْجِعُ فِيهِ الْوَاهِبُ وَلَوْ كَانَ مُشْتَرًى شِرَاءً فَاسِدًا لَا يَسْتَرِدُّهُ الْبَائِعُ بِخِلَافِ الرَّدِّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ ، وَالرُّؤْيَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، أَوْ بَعْدَهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي .
وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ يُقِرُّ بِهِ أَوْ يَجْحَدُهُ فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى دَارٍ ، أَوْ اشْتَرَى مِنْهُ دَارًا وَقَبَضَهَا فَلِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ أَمَّا فِي الشِّرَاءِ فَلِأَنَّهُ صَارَ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ حِينَ أَقْدَمَ عَلَى الشِّرَاءِ بِهِ وَفِي الصُّلْحِ الْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعَى فِي حَقِّهِ وَفِي زَعْمِهِ أَنَّهُ مَلَكَ الدَّارَ بِعِوَضٍ هُوَ مَالٌ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ بِنَاءً عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي فَإِنْ اخْتَلَفَ هُوَ ، وَالشَّفِيعُ فِي مَبْلَغِ ذَلِكَ الدَّيْنِ وَحَبْسِهِ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِ الْمُشْتَرِي ، وَالشَّفِيعِ فِي الثَّمَنِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ ، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الْحَقُّ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا ؛ لِمَا عَلَيْهِ بِدَيْنِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْبَائِعَ بَعْدَ مَا قَبَضَ الثَّمَنَ لَا قَوْلَ لَهُ فِي بَيَانِ الْمِقْدَار .
وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّهُ اشْتَرَى دَارًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَخَذَهَا الشَّفِيعُ بِذَلِكَ ، ثُمَّ ادَّعَى الْبَائِعُ أَنَّ الثَّمَنَ أَلْفَانِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ ، فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِبَيِّنَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ بِهَا حَقَّهُ وَيَرْجِعُ الشَّفِيعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِأَلْفٍ أُخْرَى ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ إنَّمَا يَأْخُذَهَا بِالْأَلْفِ الَّذِي سُلِّمَتْ بِهِ لِلْمُشْتَرِي ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا سُلِّمَتْ لَهُ بِأَلْفَيْنِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِإِقْرَارِ الْمُشْتَرِي أَنَّ الثَّمَنَ كَانَ أَلْفَ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُكَذِّبًا فِي إقْرَارِهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ إقْرَارِهِ كَمَنْ أَقَرَّ بِعَيْنٍ لِإِنْسَانٍ وَاشْتَرَاهُ مِنْهُ ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّ مِنْ يَدِهِ مَا أَثْبَتَهُ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى الْبَائِعُ أَنَّهُ بَاعَهَا إيَّاهُ بِمِائَتِي دِينَارٍ ، أَوْ عَرْضٍ بِعَيْنِهِ قِيمَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ ، فَإِنَّهُ يَقْضِي لَهُ بِذَلِكَ عَلَى الْمُشْتَرِي وَيُسَلِّمُ الدَّارَ لِلشَّفِيعِ بِذَلِكَ فَيَحْسِبُ لَهُ الْمُشْتَرِي بِقَدْرِ مَا قَبَضَ مِنْهُ وَيَرْجِعُ بِالْفَضْلِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ أَلْفٍ رَجَعَ الشَّفِيعُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْفَضْلِ عَلَى قِيمَةِ الْعَرْضِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الشَّفِيعِ قِيمَةُ الْعَرْضِ الَّذِي وَقَعَ الشِّرَاءُ بِهِ ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَيَلْزَمُهُ رَدُّ الْفَضْلِ وَإِذَا اخْتَلَفَ الْبَائِعُ ، وَالْمُشْتَرِي فِي ثَمَنِ الدَّارِ تَحَالَفَا وَيُبْدَأُ بِالْيَمِينِ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْبُيُوعِ فَأَيُّهُمَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ وَجَبَ الْبَيْعُ بِذَلِكَ الثَّمَنِ وَيَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِهِ ، وَإِنْ اخْتَلَفَا تَرَادَّ الْبَيْعُ وَأَخَذَهَا الشَّفِيعُ بِمَا قَالَ الْبَائِعُ إنْ شَاءَ ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى صِحَّةِ الْبَيْعِ بَيْنَهُمَا وَثُبُوتِ حَقِّ الْأَخْذِ لِلشَّفِيعِ ، فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِفَسْخِ الْبَيْعِ بَيْنَهُمَا بِالتَّحَالُفِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ بَعْدَ
التَّحَالُفِ لَوْ صَدَّقَ الْبَائِعَ كَانَ أَحَقَّ بِالدَّارِ بِمَا ادَّعَاهُ الْبَائِعُ مِنْ الثَّمَنِ فَكَذَلِكَ الشَّفِيعُ إذَا صَدَّقَ الْبَائِعَ ، وَإِنْ أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ كَانَتْ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةَ الْبَائِعِ وَيَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَرْقَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْمُشْتَرِي ، وَالشَّفِيعِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَا ادَّعَى الْبَائِعُ أَنَّ الثَّمَنَ كَانَتْ هَذِهِ الدَّارُ ، فَقَالَ الْمُشْتَرِي : بَلْ اشْتَرَيْتُهَا بِهَذَا الْعَرْضِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَبَيِّنَةُ الْبَائِعِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ بِهِ حَقَّ نَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ الشَّفِيعُ شَفِيعًا لِلدَّارَيْنِ جَمِيعًا أَخَذَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِقِيمَةِ الْأُخْرَى ؛ لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ فِي الدَّارَيْنِ تَثْبُتُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، فَهُوَ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَلَوْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شُفَعٌ أَخَذَهَا بِقِيمَةِ الْأُخْرَى فَكَذَلِكَ إذَا اتَّخِذْ شَفِيعُهُمَا .
وَإِنْ كَانَ لِلدَّارِ شَفِيعَانِ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ إحْدَاهُمَا قَدْ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ ، وَلَا يَدْرِيَانِ أَيُّهُمَا هُوَ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ ، وَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ عَلَى الْمَجْهُولِ ؛ وَلِأَنَّهُمَا ضَيَّعَا شَهَادَتَهُمَا ، فَإِنَّهُمَا عِنْد التَّحَمُّلِ إنَّمَا تَحَمَّلَا الشَّهَادَةَ عَلَى مَعْلُومٍ ، فَإِذَا لَمْ يَعْرِفَاهُ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمَا تَضْيِيعًا لِلشَّهَادَةِ ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الشَّفِيعَيْنِ غَائِبًا كَانَ لِلْحَاضِرِ أَنْ يَأْخُذَ جَمِيعَ الدَّارِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتٌ فِي جَمِيعِ الدَّارِ ؛ وَلِأَنَّ حَقَّ الْحَاضِرِ قَدْ تَأَكَّدَ بِالطَّلَبِ ، وَلَا نَدْرِي أَنَّ الْغَائِبَ يَطْلُبُ حَقَّهُ ، أَوْ لَا يَطْلُبُ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ حَقُّ الْحَاضِرِ بِغَيْبَةِ الْآخَرِ ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِ الْبَعْضِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِالْمُشْتَرِي مِنْ حَيْثُ تَبْعِيضِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ فَقُلْنَا بِأَنَّهُ يَأْخُذُ ، أَوْ يَدْعُ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ النِّصْفَ وَرَضِيَ الْمُشْتَرِي بِذَلِكَ فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ حَقُّ الْمُشْتَرِي ، وَإِنْ قَالَ الْمُشْتَرِي لَا أُعْطِيكَ ، إلَّا النِّصْفَ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنْ حَقَّهُ ثَابِتٌ فِي جَمِيعِ الدَّارِ وَأَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْغَائِبَ قَدْ سَلَّمَ لَهُ شُفْعَتَهُ فَلِلْحَاضِرِ أَنْ يَأْخُذَ الْكُلَّ .
وَإِذَا كُفِلَ لِلْمُشْتَرِي كَفِيلٌ بِالدَّرَكِ فَأَخَذَ الشَّفِيعُ الدَّارَ مِنْهُ بِالشُّفْعَةِ وَنَوَى الثَّمَنَ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي عَلَى كَفِيلِ الدَّرَكِ سَبِيلٌ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَا لَحِقَهُ فِيهَا دَرَكٌ ، فَالدَّرَكُ هُوَ الِاسْتِحْقَاقُ بِحَقٍّ مُتَقَدِّمٍ عَلَى الْبَيْعِ ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ عِنْدَ أَخْذِ الشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ وَإِنْ لَحِقَ الشَّفِيعَ دَرَكٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الَّذِي كَفَلَ لِلْمُشْتَرِي بِالدَّرَكِ سَبِيلٌ ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ لِلْمُشْتَرِي الدَّرَكَ ، وَالشَّفِيعُ غَيْرُ الْمُشْتَرِي ، وَالضَّامِنُ لِإِنْسَانٍ شَيْئًا لَا يَكُونُ ضَامِنًا لِغَيْرِهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ لَيْسَ بِدَرَكٍ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ كَانَ بَنَى فِيهَا فَنَقَضَ الشَّفِيعُ بِنَاءَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْبَائِعِ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَحَقَّهَا مُسْتَحِقٌّ .
وَإِذَا كَفَلَ رَجُلَانِ لِلْمُشْتَرِي بِالدَّرَكِ ، ثُمَّ شَهِدَا عَلَيْهِ بِتَسْلِيمِ الدَّارِ إلَى الشَّفِيعِ بِالشُّفْعَةِ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ بِالدَّرَكِ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ شَهَادَةَ الْبَائِعِ بِذَلِكَ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ ، وَلَا شَهَادَةَ ابْنَيْهِ فَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الْكَفِيلَيْنِ بِالدَّرَكِ وَشَهَادَةُ ابْنَيْهِمَا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُمَا يَنْقُلَانِ الْعُهْدَةَ عَنْ أَنْفُسِهِمَا بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ ، وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدَا أَنَّ الشَّفِيعَ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ فَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعَيْنِ فِي ذَلِكَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الشِّرَاءِ وَتَمَامَ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي كَانَ بِقَبُولِهِمَا ضَمَانُ الدَّرَكَ فَهُمَا بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ يُقِرَّانِ مَا يَصِحُّ بِهِمَا وَإِذَا أَشْهَدَ الشَّفِيعُ شُهُودًا أَنَّهُ يَأْخُذُهَا بِالشُّفْعَةِ وَلَمْ يَجِئْ إلَى الْمُشْتَرِي ، وَلَا الْبَائِعِ ، وَلَا إلَى الدَّارِ وَلَمْ يَطْلُبْهَا ، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الطَّلَبَ الْمُقَرِّرَ لِحَقِّهِ بَعْدَ مَا تَمَكَّنَ مِنْهُ وَلَوْ تَرَكَ طَلَبَ الْمُوَاثَبَةِ بَعْدَ مَا تَمَكَّنَ مِنْهُ سَقَطَ حَقُّهُ فَهُنَا أَوْلَى فَإِنْ شَهِدَ عَلَى الطَّلَبِ قَبْلَهُمَا وَلَمْ يُسَمِّ لَهُ الثَّمَنَ ، فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا عَلِمَ لِلثَّمَنِ ؛ لِيَكْشِفَ الْحَالُ لَهُ عِنْدَ ذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّ بِمُجَرَّدِ الطَّلَبِ لَا يَتِمُّ الْأَخْذُ ، وَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ مَا لَمْ يُتِمَّ أَخْذَهُ بِالشُّفْعَةِ وَإِذَا شَهِدَ الْبَائِعَانِ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنَّ الشَّفِيعَ قَدْ طَلَبَ الشُّفْعَةَ حِينَ عَلِمَ بِالشِّرَاءِ ، وَالشَّفِيعُ مُقِرٌّ أَنَّهُ عَلِمَ بِهِ مُنْذُ أَيَّامٍ وَقَالَ الْمُشْتَرِي : مَا طَلَبَ الشُّفْعَةَ ، فَشَهَادَةُ الْبَائِعَيْنِ بَاطِلَةٌ ، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ أَوْلَادِهِمَا كَمَا لَوْ شَهِدَا عَلَى الْمُشْتَرِي بِتَسْلِيمِ الدَّارِ إلَى الشَّفِيعِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُمَا يُقَرِّرَانِ حَقَّ الشَّفِيعِ فِي الْأَخْذِ ، وَفِيهِ تَنْفِيذُ الْعُهْدَةِ ، وَالْخُصُومَةِ عَنْهُمَا ، وَإِنْ قَالَ الشَّفِيعُ لَمْ أَعْلَمْ بِالشِّرَاءِ ، إلَّا السَّاعَةَ ،
فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ بِالشِّرَاءِ حَادِثٌ فَعَلَى مَنْ ادَّعَى تَارِيخًا سَابِقًا فِيهِ أَنْ يُثْبِتَهُ بِالْبَيِّنَةِ وَهُوَ مُنْكِرٌ لِلتَّارِيخِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ، فَإِنْ شَهِدَ الْبَائِعَانِ أَنَّهُ عَلِمَ مُنْذُ أَيَّامٍ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ إنْ كَانَتْ الدَّارُ فِي أَيْدِيهِمَا ، أَوْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي الْمَعْنَى شَهَادَةٌ عَلَى الشَّفِيعِ بِتَسْلِيمِ الشُّفْعَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْبَائِعَ لَا يَكُونُ شَاهِدًا فِي هَذَا إمَّا ؛ لِأَنَّهُ خَصْمٌ فِيهِ ، أَوْ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ خَصْمًا فِيهِ فِي وَقْتٍ وَإِذَا كَانَ الشُّفَعَاءُ ثَلَاثَةٌ فَشَهِدَ اثْنَانِ مِنْهُمْ عَلَى أَحَدِهِمْ أَنَّهُ قَدْ سَلَّمَ الشُّفْعَةَ ، فَإِنْ قَالَ قَدْ سَلَّمْنَاهَا مَعَهُ فَشَهَادَتُهُمَا جَائِزَةٌ لِخُلُوِّهَا عَنْ التُّهْمَةِ فِيهَا ، وَإِنْ قَالَ : نَحْنُ نَطْلُبُ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّهُمَا مُتَّهَمَانِ فِيهَا ، وَإِنَّمَا يَدْفَعَانِ بِشَهَادَتِهِمَا مُزَاحَمَةَ الثَّالِثِ مَعَهُمَا وَإِنْ قَالَا : قَدْ سَلَّمْنَاهَا مَعَهُ وَلِابْنِ أَحَدِهِمَا شُفْعَةٌ ، أَوْ لِابْنِهِ ، أَوْ لِمُكَاتَبِهِ أَوْ لِزَوْجَتِهِ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ كَمَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَكَمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ إذَا أَزَالَ بِهَا الْمُزَاحَمَةَ عَنْ نَفْسِهِ فَكَذَلِكَ لَا تُقْبَلُ إذَا أَزَالَ الْمُزَاحَمَةَ عَنْ مُكَاتَبِهِ ، أَوْ ابْنِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَجُرُّ إلَيْهِمَا بِشَهَادَتِهِ مَنْفَعَةً .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الشُّفْعَةِ بِالْعُرُوضِ قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ ( وَإِذَا اشْتَرَى دَارًا بِعَبْدٍ بِعَيْنِهِ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ عِنْدَنَا .
وَقَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ : يَأْخُذُهَا بِقِيمَةِ الدَّارِ ) ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَا يُقَابِلُهُ مِنْ الْمُسَمَّى ، وَقَدْ تَعَذَّرَ هُنَا إيجَابُ الْمُسَمَّى فِي حَقِّ الشَّفِيعِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ فَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى الضَّمَانِ الْأَصْلِيِّ ، وَهُوَ قِيمَةُ نَفْسِهِ ؛ وَلِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَاجِبٌ ، وَإِنَّمَا يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ عَنْ الْمُشْتَرِي بِوُصُولِ قِيمَةِ مِلْكِهِ إلَيْهِ .
وَمِلْكُهُ عِنْدَ الْأَخْذِ رَقَبَةُ الدَّارِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الشَّفِيعَ يَتَمَلَّكُ بِمِثْلِ مَا يَمْلِكُ بِهِ الْمُشْتَرِي ، وَالْمِثْلُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ ، أَوْ فِي مَعْنَى الْمَالِيَّةِ ، فَإِذَا كَانَ الثَّمَنُ مِمَّا لَهُ مِثْلٌ مِنْ جِنْسِهِ يَأْخُذُهُ بِمِثْلِهِ صُورَةً وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ جِنْسِهِ يَأْخُذُهُ بِمِثْلِهِ فِي صِفَةِ الْمَالِيَّةِ ، وَهُوَ الْقِيمَةُ ، كَالْغَاصِبِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ بِرَدِّ الْمِثْلِ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ ، وَالْقِيمَةُ فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ إنْ أَخَذَهَا مِنْ الْمُشْتَرِي ، فَقَدْ صَارَ مُتَقَدِّمًا عَلَيْهِ فِي تَمَلُّكِهَا بِهَذَا السَّبَبِ وَفِي مَعْنَى التَّلَفِ عَلَى الْمُشْتَرِي مَا غَرِمَ ، فَإِنَّ مَا يَأْخُذُهَا بِمَا غَرِمَ مِنْ الثَّمَنِ ، وَإِنْ أَخَذَهَا مِنْ الْبَائِعِ ، فَقَدْ صَارَ مُتْلِفًا حَقَّهُ فِيمَا اسْتَوْجَبَ قِبَلَ الْمُشْتَرِي مِنْ الثَّمَنِ وَلَوْ أَتْلَفَ ذَلِكَ حَقِيقَةً ضَمِنَ الْمِثْلَ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ ، وَالْقِيمَةَ فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ فَكَذَلِكَ هُنَا ، فَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْبَائِعُ انْتَقَضَ الشِّرَاءُ لِفَوَاتِ الْقَبْضِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ ، فَإِنَّ الْعَبْدَ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ ، وَقَدْ هَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِقِيمَةِ الْعَبْدِ عِنْدَنَا وَ ( قَالَ ) : زُفَرُ لَيْسَ لَهُ أَنْ
يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ انْتَقَضَ مِنْ الْأَصْلِ بِهَلَاكِ الْعَبْدِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ انْتَقَضَ مِنْ اسْتِحْقَاقِهِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا فِي الِابْتِدَاءِ لَمْ يَجِبْ فِيهَا لِلشَّفِيعِ فَكَذَلِكَ إذَا فَسَدَ بِهَلَاكِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْأَخْذِ دَفْعُ ضَرَرِ الْجَارِ الْحَادِثِ ، وَقَدْ انْدَفَعَ ضَرَرُهُ حِينَ بَطَلَ الْبَيْعُ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ بَدَلَ الدَّارِ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ قِيمَةُ الْعَبْدِ ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَخْذِهَا بِهِ بَعْدَ هَلَاكِ الْعَبْدِ كَمَا قَبِلَهُ ، وَلَيْسَ فِي هَلَاكِ الْعَبْدِ ، إلَّا انْفِسَاخُ الْبَيْعِ بَيْنَ الْبَائِعِ ، وَالْمُشْتَرِي ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ حَقِّ الشَّفِيعِ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهَا مِنْ الْبَائِعِ وَأَنْ يَضْمَنَ ذَلِكَ فَسْخُ الْبَيْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مُثْبِتٌ حَقَّ الشَّفِيعِ وَبَقَاؤُهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِبَقَاءِ حَقِّ الشَّفِيعِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ تَقَابَلَا لَا يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الشَّفِيعِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الِاسْتِحْقَاقِ ، فَإِنَّهُ يَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّ أَصْلَ الْبَيْعِ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا ، وَأَنَّ حَقَّهُ لَمْ يَثْبُتْ ، وَكَذَلِكَ إذَا تَبَيَّنَ فَسَادُ الْبَيْعِ مِنْ أَصْلِهِ فَأَمَّا هَاهُنَا بِهَلَاكِ الْعَبْدِ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا ، وَلَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْأَخْذُ بِمَا هُوَ الْبَدَلُ فِي حَقِّهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ أَبْطَلَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ بِعَيْبٍ وَجَدَهُ بِالْعَبْدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَأَخَذَ الشَّفِيعُ الدَّارَ مِنْ الْبَائِعِ أَخَذَهَا بِقِيمَةِ الْعَبْدِ ، وَالْعَبْدُ لِصَاحِبِهِ لَا سَبِيلَ لِلْبَائِعِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ انْفَسَخَ بَيْنَ الْبَائِعِ ، وَالْمُشْتَرِي بِأَخْذِ الشَّفِيعِ مِنْ يَدِ الْبَائِعِ فَيَبْقَى الْعَبْدُ عَلَى مِلْكِهِ ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهُ عَنْ مِلْكِهِ كَانَ بِحُكْمِ الْبَيْعِ ؛ وَلِأَنَّ بَدَلَ الدَّارِ وَهُوَ قِيمَةُ الْعَبْدِ قَدْ سُلِّمَ
لِلْبَائِعِ مِنْ جِهَةِ الشَّفِيعِ ، فَلَا يَبْطُلُ حَقُّهُ فِي بَدَلٍ آخَرَ ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَوْجِبُ بَدَلَيْنِ عَنْ مِلْكٍ وَاحِدٍ ، وَإِنْ أَخَذَهَا مِنْ الْمُشْتَرِي بِقِيمَةِ الْعَبْدِ بِقَضَاءٍ ، أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ ، ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ دَخَلَهُ عَيْبٌ ، فَإِنَّ الْقِيمَةَ لِلْبَائِعِ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ إنْ كَانَ أَخَذَهَا بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، فَالدَّارُ تُرَدُّ عَلَى الْبَائِعِ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ عَلَى الشَّفِيعِ ، وَإِنْ كَانَ أَخَذَهَا بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَعَلَى الْمُشْتَرِي قِيمَةُ الدَّارِ لِلْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ بِمَوْتِ الْعَبْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ بَيْنَ الْبَائِعِ ، وَالْمُشْتَرِي فَبَقِيَتْ الدَّارُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّ عَيْنِهَا حِينَ أَخْرَجَهَا مِنْ مِلْكِهِ بِاخْتِيَارِهِ فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا ، كَالْمُشْتَرَاةِ شِرَاءً فَاسِدًا ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لَمَّا مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَجَبَ عَلَى الْمُشْتَرِي رَدُّ الدَّارِ عَلَى الْبَائِعِ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهَا فَيَجِبُ رَدُّ مِثْلِهَا ، وَمِثْلُهَا بِحُكْمِ الْعَقْدِ قِيمَةُ الْعَبْدِ يُوَضِّحُهُ : أَنَّ حَقَّ الْبَائِعِ بِالْعَقْدِ كَانَ فِي الْعَبْدِ ، أَوْ فِي قِيمَتِهِ بِدَلِيلِ أَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُهَا مِنْ الْبَائِعِ بِقِيمَتِهِ ، وَقَدْ قَدَرَ الْمُشْتَرِي عَلَى تَسْلِيمِ الْقِيمَةِ الَّتِي هِيَ حَقُّهُ عِنْدَ أَخْذِ الشَّفِيعِ ، فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ آخَرُ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي وَاجِبٌ وَرُبَّمَا تَكُونُ الدَّارُ قِيمَتُهَا عَشَرَةُ آلَافٍ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفٌ ، فَإِنَّ مَا سَلَّمَ لِلْمُشْتَرِي مِقْدَارَ الْأَلْفِ دِرْهَمٍ ، فَإِذَا لَزِمَهُ لِلْبَائِعِ عَشَرَةُ آلَافٍ كَانَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ مَا لَا يَخْفَى وَتَسْلِيمُهَا بِالشُّفْعَةِ إلَى الشَّفِيعِ لَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ مِنْهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ فَعَلَ بِدُونِ الْقَاضِي غَيْرَ مَا يَأْمُرُ بِهِ الْقَاضِي لَوْ رُفِعَ الْأَمْرُ إلَيْهِ فَكَمَا لَا يُجْعَلُ بَيْعًا مُبْتَدَأً إذَا أَخَذَ مَا كَانَ وَاجِبًا لَهُ مِنْ الشُّفْعَةِ بِقَضَاءِ
الْقَاضِي فَكَذَلِكَ إذَا أَخَذَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ وَلَوْ اُسْتُحِقَّ الْعَبْدُ بَطَلَتْ الشُّفْعَةُ ؛ لِأَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ يَتَبَيَّنُ بُطْلَانُ الْبَيْعِ مِنْ الْأَصْلِ وَيَأْخُذُ الْبَائِعُ الدَّارَ مِنْ الشَّفِيعِ إنْ كَانَ الْمُشْتَرِي دَفَعَهَا إلَيْهِ بِقَضَاءِ قَاضٍ ، وَإِنْ كَانَ دَفَعَهَا بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَقَضَاءُ قَاضٍ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ وَسَمَّاهَا وَقَبَضَهَا الشَّفِيعُ ، فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ فِيمَا بَيْنَهُمَا ، وَهِيَ جَائِزَةٌ لِلشَّفِيعِ بِتِلْكَ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الْمُسْتَحَقِّ يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ ، وَتَصَرُّفُ الْمُشْتَرِي فِيهِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ نَافِذٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا تَكُونُ الشُّفْعَةُ وَاجِبَةً يُجْعَلُ التَّسْلِيمُ بِغَيْرِ قَضَاءٍ بِمَنْزِلَةِ الْمَبِيعِ الْمُبْتَدَإِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ ، فَقَدْ كَانَتْ الشُّفْعَةُ هُنَاكَ وَاجِبَةً حِينَ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ ؛ فَلِهَذَا جَعَلْنَا الْقَضَاءَ وَغَيْرَ الْقَضَاءِ هُنَاكَ سَوَاءً وَفَرَّقْنَا بَيْنَهُمَا هُنَا ، ثُمَّ عَلَى الْمُشْتَرِي لِلْبَائِعِ قِيمَةُ الدَّارِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اُسْتُحِقَّ الْعَبْدُ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ مَا قَبَضَ مِنْ الدَّارِ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهَا بِإِخْرَاجِهِ إيَّاهَا عَنْ مِلْكِهِ بِاخْتِيَارِهِ فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي بَاعَ الدَّارَ وَوَهَبَهَا وَقَبَضَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ أَوْ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّ الْعَبْدُ ضَمِنَ قِيمَةَ الدَّارِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَالِكًا لِلدَّارِ حِينَ التَّصَرُّفِ فَنَفَذَ تَصَرُّفُهُ ، ثُمَّ لَزِمَهُ رَدُّ عَيْنِهَا حِينَ اُسْتُحِقَّ الْعَبْدُ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَيَلْزَمُهُ رَدُّ قِيمَتِهَا .
وَإِذَا اشْتَرَى دَارًا بِعَرْضٍ بِعَيْنِهِ وَتَقَابَضَا فَاخْتَلَفَ الشَّفِيعُ ، وَالْمُشْتَرِي فِي قِيمَةِ الْعَرْضِ ، فَإِنْ كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ يَقُومُ فِي الْحَالِ فَيَتَبَيَّنُ بِقِيمَتِهِ فِي الْحَالِ قِيمَتَهُ عِنْدَ الْعَقْدِ وَإِنْ كَانَ هَالِكًا ، فَالْقَوْلُ فِيهَا قَوْلُ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ مَا يَلْزَمُ الشَّفِيعَ مِنْ الثَّمَنِ ، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَعَلَى طَرِيقَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الشَّفِيعِ ؛ لِأَنَّهَا مُلْزِمَةٌ وَبَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي غَيْرُ مُلْزَمَةٍ وَعَلَى قِيَاسِ طَرِيقَةِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ مَا صَدَرَ مِنْ الْمُشْتَرِي هَهُنَا إقْرَارَانِ ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا إذَا اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْبِنَاءِ الَّذِي أَحْرَقَهُ الْمُشْتَرِي ، وَإِنْ اشْتَرَاهَا بِشَيْءٍ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ بِمِثْلِهِ مِنْ جِنْسِهِ ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ ، وَلِلْمَكِيلِ ، وَالْمَوْزُونِ مِثْلٌ مِنْ جِنْسِهِ كَمَا فِي ضَمَانِ الْإِتْلَافِ .
وَإِنْ اشْتَرَى دَارًا بِعَبْدٍ ، ثُمَّ وَجَدَ بِالْعَبْدِ عَيْبًا فَرَدَّهُ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ صَحِيحًا ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ دَخَلَ فِي الْعَقْدِ بِصِفَةِ السَّلَامَةِ ، وَإِنَّمَا يَقُومُ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي صَارَ مُسْتَحِقًّا بِالْعَقْدِ وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِدَارٍ فَهَذَا وَشِرَاءُ الدَّارِ بِالْعَبْدِ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْقُودٌ عَلَيْهِ ، فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُضِيفَ الْعَقْدَ إلَى الْعَبْدِ ، أَوْ إلَى الدَّارِ .
وَإِذَا اشْتَرَى بِنَاءَ دَارٍ عَلَى أَنْ يُعَلِّقَهُ ، فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِ مَعَهُ الْأَرْضَ ، وَالْبِنَاءُ بِدُونِ الْأَرْضِ مَنْقُولًا ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْمَنْقُولَ بِالشُّفْعَةِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ يَثْبُتُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْبَادِي بِسُوءِ الْمُجَاوَرَةِ عَلَى الدَّوَامِ ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي شِرَاءِ الْبِنَاءِ بِدُونِ الْأَرْضِ ، فَإِنَّ اتِّصَالَ أَحَدِ الْمِلْكَيْنِ بِالْآخَرِ لَا يَكُونُ اتِّصَالَ تَأْيِيدٍ وَقَرَارٍ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِالشُّفْعَةِ مَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الشُّفْعَةَ وَبِمِلْكِ الْبِنَاءِ بِدُونِ الْأَرْضِ لَا يَسْتَحِقُّ بِالشُّفْعَةِ ، فَأَمَّا مَنْ لَهُ بِنَاءٌ عَلَى أَرْضٍ مَوْقُوفَةٍ إذَا بِيعَتْ دَارٌ بِحَبْسِهِ لَا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ فَكَذَلِكَ لَا يَسْتَحِقُّ الْبِنَاءَ بِالشُّفْعَةِ ، إلَّا تَبَعًا لِلْأَرْضِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى نَصِيبَ الْبَائِعِ مِنْ الْبِنَاءِ ، وَهُوَ النِّصْفُ ، فَلَا شُفْعَةَ فِي هَذَا وَالْبَيْعُ فِيهِ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَنْقُضَهُ ، وَالشَّرِيكُ يَتَضَرَّرُ بِهِ ، فَإِنَّ قِسْمَتَهُ لَا تَتَأَتَّى مَا لَمْ يُنْقَضْ الْكُلُّ ، وَفِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى الشَّرِيكِ مَا لَا يَخْفَى ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْبِنَاءُ كُلُّهُ لِإِنْسَانٍ فَبَاعَ نِصْفَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ ، إلَّا بِضَرَرٍ يَلْحَقُهُ فِيمَا لَيْسَ بِمَبِيعٍ ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْبَيْعِ كَمَا لَوْ بَاعَ جِذْعًا فِي سَقْفٍ .
وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ دَارًا بِخَادِمٍ فَخَافَ عَلَيْهَا الشَّفِيعَ وَقِيمَةُ الْخَادِمِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَبَاعَ الْخَادِمَ بِأَلْفَيْنِ مِنْ رَبِّ الدَّارِ ، ثُمَّ اشْتَرَى الدَّارَ بِالْأَلْفَيْنِ لَمْ يَأْخُذْهَا الشَّفِيعُ ، إلَّا بِالْأَلْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ الدَّارَ بِأَلْفَيْنِ فَبِذَلِكَ يَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ إنْ شَاءَ ( وَهَذَا نَوْعُ حِيلَةٍ ) لِتَقْلِيلِ رَغْبَةِ الشَّفِيعِ فِي الْأَخْذِ لِسَبَبِ كَثْرَةِ الثَّمَنِ ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَشْتَرِيَ الدَّارَ بِأَلْفَيْنِ ، ثُمَّ يُعْطِيَهُ بِهَا خَمْسِينَ دِينَارًا ، أَوْ يُعْطِيَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَثَوْبًا لَا يُسَاوِي الْأَلْفَ ، فَلَا يَتَمَكَّنُ الشَّفِيعُ مِنْ أَخْذِهَا ، إلَّا بِأَلْفَيْنِ وَقَلَّ مَا يَرْغَبُ فِي ذَلِكَ إذَا كَانَ ثَمَنُهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ .
وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ يَحْتَالُ لِتَقْلِيلِ رَغْبَةِ الْجَارِ بِأَنْ يُبَاعَ عُشْرُ الدَّارِ أَوَّلًا بِتِسْعَةِ أَعْشَارِ الثَّمَنِ ، ثُمَّ تِسْعَةُ أَعْشَارِهَا بِعُشْرِ الثَّمَنِ ، فَلَا يَرْغَبُ الْجَارُ فِي أَخْذِ الْعُشْرِ لِكَثْرَةِ الثَّمَنِ ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِيمَا بَقِيَ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ صَارَ شَرِيكًا ، وَالشَّرِيكُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَارِ ، وَمِنْ الْحِيلَةِ لِإِبْطَالِ حَقِّهِ أَنْ يَتَصَدَّقُ الْبَائِعُ بِقِطْعَةٍ مِنْ الدَّارِ صَغِيرَةٍ وَطَرِيقُهَا إلَى بَابِ الدَّارِ عَلَيْهِ فَيُسَلِّمُهَا إلَيْهِ ، ثُمَّ يَشْتَرِي مِنْهُ بَقِيَّةَ الدَّارِ ، فَلَا شُفْعَةَ لِلْجَارِ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ شَرِيكٌ فِي الطَّرِيقِ وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَارِ ، أَوْ يَهَبُ مِنْهُ قَدْرَ ذِرَاعٍ مِنْ الْجَانِبِ الَّذِي هُوَ مُتَّصِلٌ بِمِلْكِ الْجَارِ ، ثُمَّ يَبِيعُ مَا بَقِيَ مِنْهُ ، فَلَا يَجِبُ لِلْجَارِ شُفْعَةٌ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ لَا يُلَازِقُ الْمَبِيعَ ، أَوْ يُوَكَّلُ الشَّفِيعُ بِبَيْعِهَا ، فَإِذَا بَاعَهَا لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا شُفْعَةٌ ، أَوْ يَبِيعُهَا بِشَرْطِ الْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِلشَّفِيعِ ، فَلَا شُفْعَةَ لَهُ قَبْلَ إسْقَاطِ الْخِيَارِ وَإِذَا سَقَطَ الْخِيَارُ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ ، أَوْ يَبِيعُهَا بِشَرْطِ أَنْ يَضْمَنَ الشَّفِيعُ الدَّرَكَ ، فَإِذَا ضَمِنَ بَطَلَتْ
شُفْعَتُهُ ، أَوْ يَقُولُ : الْمُشْتَرِي لِلشَّفِيعِ أَنَا أَبِيعُهَا مِنْك بِأَقَلَّ مِنْ هَذَا الثَّمَنِ ، فَإِذَا رَضِيَ بِذَلِكَ وَسَاوَمَهُ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ ، وَالِاشْتِغَالُ بِهَذِهِ الْحِيَلِ لِإِبْطَالِ حَقِّ الشَّفِيعِ لَا بَأْسَ بِهِ أَمَّا قَبْلَ وُجُوبِ الشُّفْعَةِ ، فَلَا إشْكَالَ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ بَعْدَ الْوُجُوبِ إذَا لَمْ يَكُنْ قَصْدُ الْمُشْتَرِي الْإِضْرَارَ بِهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ قَصْدُهُ الدَّفْعَ عَنْ مِلْكِ نَفْسِهِ وَقِيلَ هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ ، فَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ يُكْرَهُ ذَلِكَ عَلَى قِيَاسِ اخْتِلَافِهِمْ فِي الِاحْتِيَالِ لِإِسْقَاطِ الْإِبْرَاءِ وَلِلْمَنْعِ مِنْ وُجُوبِ الزَّكَاةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْبُيُوعِ ، وَالزَّكَاةِ .
وَإِنْ اشْتَرَى دَارًا بِعَبْدٍ فَاسْتَحَقَّهُ مُسْتَحِقٌّ وَأَجَازَ الشِّرَاءَ كَانَ لِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ ، كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَلَوْ وُجِدَ الْعَبْدُ حُرًّا ، فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ كَانَ بَاطِلًا ، وَالْحُرُّ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ ، وَالْبَيْعُ بِمُبَادَلَةِ مَالٍ بِمَالٍ فَانْعِدَامُ الْمَالِيَّةِ فِي أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ يَمْنَعُ .
انْعِقَادَ الْعَقْدِ .
وَإِذَا اشْتَرَى دَارًا بِدَارٍ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا شَفِيعٌ فَلِكُلِّ شَفِيعٍ أَنْ يَأْخُذَ الدَّارَ بِقِيمَةِ الْأُخْرَى ؛ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لِلدَّارِ مِنْ جِنْسِهَا ، فَيَكُونُ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ شَفِيعٍ بِمُقَابَلَةِ مَا يَأْخُذُ قِيمَةَ الدَّارِ الْأُخْرَى ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ شَفِيعًا أَيْضًا ، يَعْنِي : أَحَدَ الْمُشْتَرِيَيْنِ أَخَذَ الشَّفِيعُ نِصْفَ الدَّارِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى الشِّرَاءِ لَا يُسْقِطُ شُفْعَتَهُ ، بَلْ ذَلِكَ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ ، فَلَا يَكُونُ لِلشَّفِيعِ الْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ ، إلَّا مِقْدَارَ حِصَّتِهِ .
وَإِذَا اشْتَرَى بَيْتًا مِنْ دَارِ عُلْوُهُ لِآخَرَ وَطَرِيقُ الْبَيْتِ الَّذِي اشْتَرَى فِي دَارٍ أُخْرَى ، فَإِنَّمَا الشُّفْعَةُ لِلَّذِي فِي دَارِهِ الطَّرِيقُ ؛ لِأَنَّهُ شَرِيكٌ فِي الْبُقْعَةِ بِالطَّرِيقِ ، وَالشَّرِيكُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَارِ وَصَاحِبُ الْعُلْوِ إنَّمَا لَهُ الشُّفْعَةُ بِالْجِوَارِ ، فَإِنْ سَلَّمَ صَاحِبُ الدَّارِ فَحِينَئِذٍ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ الشُّفْعَةُ بِالْجِوَارِ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْأَمَالِي أَنَّ هَذَا اسْتِحْسَانٌ وَفِي الْقِيَاسِ لَا شُفْعَةَ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ ، وَكَذَلِكَ إذَا بِيعَ الْعُلْوُ ، فَلَا شُفْعَةَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ فِي الْقِيَاسِ ، وَلَا لِصَاحِبِ عُلْوٍ آخَرَ بِجَنْبِهِ ؛ لِأَنَّ الْعُلْوَ بِنَاءٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بِالْبِنَاءِ لَا يَسْتَحِقُّ بِالشُّفْعَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَرْضٌ ، وَالْأَرْض وَسَقْفُ السُّفْلِ كُلُّهُ لِصَاحِبِ السُّفْلِ وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ حَقَّ قَرَارِ الْبِنَاءِ ، وَبِهِ يَسْتَحِقُّ اتِّصَالُ أَحَدِ الْمِلْكَيْنِ بِالْآخَرِ عَلَى وَجْهِ التَّأْبِيدِ وَالْقَرَارِ فَكَانَا بِمَنْزِلَةِ جَارَيْنِ بِخِلَافِ مِلْكِ الْبِنَاءِ عَلَى الْأَرَاضِيِ الْمَوْقُوفَةِ ، فَإِنَّ الِاتِّصَالَ هُنَاكَ غَيْرُ مُتَأَيَّدٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّ عِنْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ يُؤْمَرُ بِرَفْعِ الْبِنَاءِ ، وَهُنَا لَيْسَ لِصَاحِبِ السُّفْلِ أَنْ يُكَلِّفَ صَاحِبَ الْعُلْوِ رَفْعَ الْبِنَاءِ بِحَالٍ وَاتِّصَالُ أَحَدِ الْمِلْكَيْنِ بِالْآخَرِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يُثْبِتُ لِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
بَابُ الشُّفْعَةِ فِي الْأَرْضِينَ ، وَالْأَنْهَارِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَالشَّرِيكُ فِي الْأَرْضِ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ مِنْ الشَّرِيكِ فِي الشُّرْبِ كَمَا أَنَّ الشَّرِيكَ فِي نَفْسِ الْمَنْزِلِ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ مِنْ الشَّرِيكِ فِي الطَّرِيقِ ) لِقَوْلِ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَا مَنْفَعَةَ ، إلَّا لِشَرِيكٍ لَمْ يُقَاسِمْ ، يَعْنِي : عِنْدَ وُجُودِهِ لَا شُفْعَةَ ، إلَّا لَهُ ، ثُمَّ الشُّرْبُ مِنْ حُقُوقِ الْمَبِيعِ ، كَالطَّرِيقِ ، وَقَدْ جَاءَ الْحَدِيثُ فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ بِالشَّرِيكِ فِي الطَّرِيقِ قَالَ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا كَانَ طَرِيقُهُمَا وَاحِدًا } فَكَذَلِكَ يَسْتَحِقُّ بِالشَّرِكَةِ فِي الشَّرَبِ ، وَالشَّرِيكُ فِي الشَّرْبِ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ مِنْ الْجَارِ ، كَالشَّرِيكِ فِي الطَّرِيقِ .
قَالَ ، وَالشُّرَكَاءُ فِي النَّهْرِ الصَّغِيرِ كُلُّ مَنْ لَهُ شِرْبٌ أَحَقُّ مِنْ الْجَارِ الْمُلَاصِقِ ، وَإِنْ كَانَ نَهْرًا كَبِيرًا تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ ، فَالْجَارُ أَحَقُّ ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا شُرَكَاءَ فِي الشِّرْبِ ، مَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الشِّرْبِ بِمَنْزِلَةِ الشَّرِكَةِ فِي الطَّرِيقِ فَفِي النَّهْرِ الصَّغِيرِ الشَّرِكَةُ خَاصَّةٌ بِمَنْزِلَةِ سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ وَفِي النَّهْرِ الْكَبِيرِ الشَّرِكَةُ عَامَّةٌ بِمَنْزِلَةِ الطَّرِيقِ النَّافِذِ لَا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ بِاعْتِبَارِهِ .
وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي حَدِّ النَّهْرِ الصَّغِيرِ أَنْ يَسْتَقِيَ مِنْهُ قَرَاحَيْنِ ، أَوْ ثَلَاثَةً ، فَإِنْ جَاوَزَ ذَلِكَ ، فَهُوَ النَّهْرُ الْكَبِيرُ ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ النَّهْرَ الْكَبِيرَ بِمَنْزِلَةِ الدِّجْلَةِ ، وَالْفُرَاتُ تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ ، وَكُلُّ مَاءٍ يَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ مِنْ الْأَنْهَارِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ وَمَا لَا يَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ ، فَهُوَ فِي حُكْمِ النَّهْرِ الصَّغِيرِ حَتَّى رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الشُّرَكَاءَ فِي النَّهْرِ وَإِنْ كَانُوا مِائَةً ، أَوْ أَكْثَرَ ، فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ بِاعْتِبَارِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَدِّرُ بِعَدَدِ الْأَرْبَعِينَ ، أَوْ بِعَدَدِ الْخَمْسِينَ ، وَلَا مَعْنَى لِلْمَصِيرِ فِيهِ إلَى التَّقْدِيرِ مِنْ حَيْثُ الْعَدَدُ ؛ لِأَنَّ الْمَقَادِيرَ بِالرَّأْيِ لَا تُسْتَدْرَكُ ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ نَصٌّ ، فَالْمُعْتَبَرُ مَا قُلْنَا أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ تَجْرِي فِيهِ السُّفُنُ .
وَإِذَا زَرْع الْمُشْتَرِي الْأَرْضَ ، ثُمَّ جَاءَ الشَّفِيعُ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ وَيَقْلَعَ الزَّرْعَ فِي الْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّهُ زَرَعَ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ ، فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا مِنْهُ ، فَهُوَ ، كَالْغَاصِبِ إذَا زَرَعَ الْأَرْضَ الْمَغْصُوبَةَ ؛ وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ كَمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إبْطَالِ حَقِّ الشَّفِيعِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَأْخِيرِ حَقِّهِ ؛ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ مِنْ وَجْهٍ إبْطَالٌ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَأْخُذُهَا بِالشُّفْعَةِ حَتَّى يَحْصُدَ الزَّرْعَ ، ثُمَّ يَأْخُذُهَا ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ زَرَعَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ وَمَا كَانَ يَتَيَقَّنُ بِأَنَّ الشَّفِيعَ يَطْلُبُ الشُّفْعَةَ قَبْلَ إدْرَاكِ زَرْعِهِ ، فَلَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا فِيمَا صَنَعَ بِخِلَافِ الْغَاصِبِ ؛ وَلِأَنَّ لِإِدْرَاكِ الزَّرْعِ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ فَلَوْ انْتَظَرَ ذَلِكَ لَمْ يَبْطُلْ حَقُّ الشَّفِيعِ ، وَإِنْ تَأَخَّرَ قَلِيلًا ، وَإِذَا قَلَعَ زَرْعَ الْمُشْتَرِي تَضَرَّرَ بِإِبْطَالِ مِلْكِهِ وَمَالِيَّتِهِ وَضَرَرُ التَّأْخِيرِ دُونَ ضَرَرِ الْإِبْطَالِ ، فَإِنْ كَانَ غَرَسَ فِيهَا كَرْمًا ، أَوْ شَجَرًا ، أَوْ رَطْبَةً فَلَهُ أَنْ يَقْلَعَ ذَلِكَ وَيَأْخُذَ الْأَرْضَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِفَرَاغِ الْأَرْضِ مِنْهَا نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْبِنَاءِ نَظِيرَهُ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ قَدْ يَتَأَخَّرُ حَقُّ الشَّفِيعِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي حَتَّى إذَا طَلَبَ الشُّفْعَةَ تَأَخَّرَ التَّسْلِيمُ إلَيْهِ إلَى إحْضَارِ الثَّمَنِ فَيَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ أَيْضًا لِلدَّفْعِ عَنْ الْمُشْتَرِي فِي زَرْعِهِ ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ إبْطَالُ حَقِّ الشَّفِيعِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي وَفِي التَّأْخِيرِ لَا إلَى غَايَةٍ مَعْلُومَةٍ إبْطَالٌ .
وَإِذَا اشْتَرَى نَخْلًا ؛ لِيَقْطَعَهُ ، فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَاهُ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَا تَدْخُلُ فِي هَذَا الشِّرَاءِ ، وَالنَّخْلُ بِدُونِ الْأَرْضِ ، كَالْبِنَاءِ لَا يُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ ، فَإِنْ اشْتَرَاهَا بِأُصُولِهَا وَمَوَاضِعِهَا مِنْ الْأَرْضِ فَفِيهَا الشُّفْعَةُ ؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلْأَرْضِ فِي هَذَا الْحَالِ ، وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَى زَرْعًا أَوْ رَطْبَةً ؛ لِيَجُزَّهَا لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ شُفْعَةٌ ، وَإِنْ اشْتَرَاهَا مَعَ الْأَرْضِ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ فِي الْكُلِّ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ لَا شُفْعَةَ فِي الزَّرْعِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ حُقُوقِ الْأَرْضِ وَتَوَابِعِهَا ؛ وَلِهَذَا لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ ، إلَّا بِالذِّكْرِ ، فَهُوَ ، كَالْمَتَاعِ الْمَوْضُوعِ فِي الْأَرْضِ لَا يُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ ، وَإِنْ اُشْتُرِيَ مَعَ الْأَرْضِ ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الزَّرْعَ مُتَّصِلٌ بِالْأَرْضِ مَا لَمْ يُحْصَدْ وَمَا كَانَ مِنْ الْمَنْقُولِ مُتَّصِلًا بِالْعَقَارِ يُسْتَحَقّ بِالشُّفْعَةِ تَبَعًا ، كَالْأَبْوَابِ ، وَالشُّرُبِ الْمُرَكَّبَةِ يُوَضِّحُهُ : أَنَّ الشَّفِيعَ يُقَدَّمُ عَلَى الْمُشْتَرِي شَرْعًا وَقَبْلَ الْحَصَادِ يُمْكِنُهُ أَخْذَ الْكُلِّ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ لِلْمُشْتَرِي بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يُحْصَدْ حَتَّى حُصِدَ الزَّرْعُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَخْذُ الزَّرْعِ بَعْدَ الْحَصَادِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ لِلْمُشْتَرِي فَلَوْ أَخَذَهُ كَانَ أَخْذًا لِلْمَنْقُولِ بِالشُّفْعَةِ مَقْصُودًا ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ .
وَإِذَا اشْتَرَى أَرْضًا فِيهَا نَخْلٌ لَيْسَ فِيهَا ثَمَرٌ فَأَثْمَرَتْ فِي يَدِهِ فَأَكَلَهَا سِنِينَ ، ثُمَّ جَاءَ الشَّفِيعُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِالشُّفْعَةِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ إنْ شَاءَ وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ : أَوَّلًا يَحُطُّ مِنْ الثَّمَنِ حِصَّةَ مَا أَكَلَ الْمُشْتَرِي مِنْ الثَّمَرِ ؛ لِأَنَّ حَالَ الْمُشْتَرِي مَعَ الشَّفِيعِ كَحَالِ الْبَائِعِ مَعَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ ، وَلَوْ أَكَلَ الْبَائِعُ الثِّمَارَ الْحَادِثَةَ بَعْدَ الْعَقْدِ يَحُطُّ عَنْ الْمُشْتَرِي حِصَّتَهَا مِنْ الثَّمَنِ كَمَا يَحُطُّ حِصَّةَ الثَّمَرَةِ الْمَوْجُودَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ تَنَاوُلَ الثِّمَارِ الْحَادِثَةِ تَمْنَعُ الْمُشْتَرِيَ مِنْ بَيْعِهَا مُرَابَحَةً حَتَّى يُبَيِّنَ ، وَهِيَ فِي ذَلِكَ ، كَالثِّمَارِ الْمَوْجُودَةِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ ، فَأَمَّا وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَهُوَ الَّذِي رَجَعَ إلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ الْأَرْضَ ، وَالنَّخْلَ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ، وَالشَّفِيعُ إنَّمَا يَأْخُذُهَا بِمِثْلِ مَا يَمْلِكُ بِهِ الْمُشْتَرِي ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْحَادِثَ مِنْ الثِّمَارِ بَعْدَ الْقَبْضِ لَا حِصَّةَ لَهُ مِنْ الثَّمَنِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ ، وَلَا عِنْدَ الْقَبْضِ وَانْقِسَامُ الثَّمَنِ يَكُونُ بِاعْتِبَارِهَا وَلَوْ كَانَتْ قَائِمَةً فِي يَدِ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْجَذَاذِ لَا يَثْبُتُ حَقُّ الشَّفِيعِ فِيهَا فَتَنَاوُلُهُ إيَّاهَا لَا يُحِلُّ لَهَا حِصَّةً مِنْ الثَّمَنِ أَيْضًا بِخِلَافِ بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ ، فَالْمُتَوَلِّدُ مِنْ الْعَيْنِ هُنَاكَ لَوْ كَانَ قَائِمًا فِي يَدِ الْمُشْتَرِي كَانَ يَضْمَنُهُ إلَى الْأَصْلِ وَيَبِيعُ الْكُلَّ مُرَابَحَةً ، فَإِذَا تَنَاوَلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَنْفَقَ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا أَكَلَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْبُيُوعِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الثِّمَارِ الْمَوْجُودَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ إذَا أَخَذَهَا الْمُشْتَرِي فَلِلثِّمَارِ الْمَوْجُودَةِ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ ، وَلَا حَقَّ لِلشَّفِيعِ فِيهَا
بَعْدَ الْجَذَاذِ فَيَطْرَحُ عَنْ الشَّفِيعِ حِصَّتَهَا مِنْ الثَّمَنِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الثِّمَارَ الْمَوْجُودَةَ عِنْدَ الْعَقْدِ لَوْ بَلَغَتْ عِنْدَهُ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ سَقَطَ عَنْ الْمُشْتَرِي حِصَّتُهَا مِنْ الثَّمَنِ بِخِلَافِ الثِّمَارِ الْحَادِثَةِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الشَّفِيعِ ، وَإِنْ حَضَرَ الشَّفِيعُ قَبْلَ أَنْ يَجُذَّهَا الْمُشْتَرِي أَخَذَهَا مَعَ الْأَشْجَارِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ اسْتِحْسَانًا ، وَهَذَا ، وَالزَّرْعُ سَوَاءٌ وَبَعْدَ الْجَذَاذِ هُنَا ، وَالْحَصَادِ فِي الزَّرْعِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ وَعَلَى قِيمَةِ الثِّمَارِ ، وَالزَّرْعِ وَقْتَ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ انْقِسَامَ الثَّمَنِ عَلَيْهِمَا بِالْعَقْدِ فَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ عِنْدَ ذَلِكَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تُقَوَّمُ الْأَرْضُ مَزْرُوعَةً وَغَيْرَ مَزْرُوعَةٍ وَالْأَشْجَارُ مُثْمِرَةً وَغَيْرَ مُثْمِرَةٍ ، فَرُبَّمَا لَا يَكُونُ لِلزَّرْعِ ، وَالثَّمَرِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قِيمَةٌ ، إلَّا شَيْئًا يَسِيرًا فَلَوْ اعْتَبَرْنَا قِيمَتَهُ مَحْصُودًا تَضَرَّرَ بِهِ الشَّفِيعُ فَلِدَفْعِ الضَّرَرِ قَالَ : أُقَسِّمُ الثَّمَنَ عَلَى قِيمَةِ الْأَرْضِ مَزْرُوعَةً وَغَيْرَ مَزْرُوعَةٍ فَمَا يَخْتَصُّ قِيمَتَهَا غَيْرَ مَزْرُوعَةٍ ، فَهُوَ حِصَّةُ الْأَرْضِ يَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِذَلِكَ .
وَإِذَا اشْتَرَى أَرْضًا فِيهَا شَجَرٌ صِغَارٌ فَكَبُرَتْ فَأَثْمَرَتْ ، أَوْ كَانَ فِيهَا زَرْعٌ فَأَدْرَكَ فَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ جَمِيعَ ذَلِكَ بِالثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ ثَبَتَ فِيهَا بِطَرِيقِ الِاتِّصَالِ بِالْأَرْضِ ، وَالشَّجَرُ بِيعَ مَا بَقِيَ الِاتِّصَالُ .
وَإِذَا اشْتَرَى بَيْتًا وَرَحَى مَاءٍ فِيهِ وَنَهْرَهَا وَمَتَاعَهَا فَلِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ، إلَّا مَا كَانَ مِنْ مَتَاعِهَا لَيْسَ بِمُرَكَّبٍ فِي الْبِنَاءِ ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ مُرَكَّبًا مُتَّصِلًا بِالْأَرْضِ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبِنَاءِ فَيُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ تَبَعًا ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَمَّامَ يُبَاعُ وَيَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ بِقَدْرِ الْحَمَّامِ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْبِنَاءِ فَكَذَلِكَ الرَّحَى ، وَاسْتِحْقَاقُ الشُّفْعَةِ فِي الْحَمَّامِ ، وَالرَّحَى : قَوْلُنَا ، فَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ مَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لَا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ لِدَفْعِ ضَرَرِ مُؤْنَةِ الْمُقَاسَمَةِ ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ، وَعِنْدَنَا لِدَفْعِ ضَرَرِ الْبَادِي بِسُوءِ الْمُجَاوَرَةِ عَلَى الدَّوَامِ ، وَذَلِكَ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ مَوْجُودٌ لِاتِّصَالِ أَحَدِ الْمِلْكَيْنِ بِالْآخَرِ عَلَى وَجْهِ التَّأْبِيدِ وَالْقَرَارِ ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الشُّفْعَةُ فِي كُلِّ شَيْءٍ رَبْعٍ ، أَوْ حَائِطٍ } ؛ وَلِأَنَّ الْحَمَّامَ لَوْ كَانَ مَهْدُومًا فَبَاعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ كَانَ لَلشَّرِيكِ الشُّفْعَةُ وَمَا يُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ مَهْدُومًا يُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ مُثْبَتًا ، كَالشِّقْصِ مِنْ الدَّارِ ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ مُؤْنَةَ الْمُقَاسَمَةِ إنْ كَانَتْ لَا تَلْحَقُهُ فِي الْحَالِ ، فَقَدْ تَلْحَقُهُ فِي الثَّانِي ، وَهُوَ مَا بَعْدَ الِانْهِدَامِ إذَا طَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ الْأَرْضِ بَيْنَهُمَا .
وَلَوْ اشْتَرَى أَجَمَةً فِيهَا قَصَبٌ وَسَمَكٌ يُؤْخَذُ بِغَيْرِ صَيْدٍ أَخَذَ الْأَجَمَةَ ، وَالْقَصَبَ بِالشُّفْعَةِ وَلَمْ يَأْخُذْ السَّمَكَ ؛ لِأَنَّ الْقَصَبَ مُتَّصِلٌ بِالْأَرْضِ ، فَأَمَّا السَّمَكُ ، فَلَا اتِّصَالَ لَهُ بِالْأَرْضِ ، بَلْ هُوَ ، كَالْمَتَاعِ الْمَوْضُوعِ فِي الدَّارِ ، وَالْأَرْضِ ، فَلَا يُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ .
وَإِذَا اشْتَرَى عَيْنًا أَوْ نَهْرًا ، أَوْ بِئْرًا بِأَصْلِهَا فَلِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ لِاتِّصَالِ مِلْكِهِ بِالْمَبِيعِ عَلَى وَجْهِ التَّأْيِيدِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ عَيْنَ قِيرٍ ، أَوْ نِفْطٍ ، أَوْ مَوْضِعَ مِلْحٍ أَخَذَ جَمِيعَ ذَلِكَ بِالشُّفْعَةِ لِوُجُودِ الِاتِّصَالِ مَعْنًى ، فَإِنَّهُ يَبِيعُ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِمَنْزِلَةِ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ بِخِلَافِ السَّمَكِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي قَدْ حَمَلَ ذَلِكَ مِنْ مَوْضِعِهِ ، فَلَا يَأْخُذُ مَا حَمَلَ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الزَّرْعِ ، وَالتَّمْرِ بَعْدَ الْحَصَادِ ، وَالْجَذَاذِ .
وَإِنْ اشْتَرَى شِرْبًا مِنْ نَهْرٍ بِغَيْرِ أَرْضٍ ، وَلَا أَصْلٍ مِنْ نَهْرٍ ، فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الشَّرْبِ فَاسِدٌ ، فَإِنَّهُ مِنْ حُقُوقِ الْمَبِيعِ بِمَنْزِلَةِ الْأَوْصَافِ ، فَلَا يَنْفَرِدُ بِالْبَيْعِ ، ثُمَّ هُوَ مَجْهُولٌ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَا يَدْرِي أَيَجْرِي الْمَاءُ أَمْ لَا ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ إجْرَاؤُهُ قَالَ : وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ يَحْكِي عَنْ أُسْتَاذِهِ أَنَّهُ كَانَ يُفْتِي بِجَوَازِ بَيْعِ الشِّرْبِ بِدُونِ الْأَرْضِ وَيَقُولُ : فِيهِ عُرْفٌ ظَاهِرٌ فِي دِيَارِنَا بِنَسَفَ ، فَإِنَّهُمْ يَبِيعُونَ الْمَاءَ ) فَلِلْعُرْفِ الظَّاهِرِ كَانَ يُفْتِي بِجَوَازِهِ ، وَلَكِنَّ الْعُرْفَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيمَا لَا نَصَّ بِخِلَافِهِ ، وَالنَّهْيُ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ نَصٌّ بِخِلَافِ هَذَا الْعُرْفِ ، فَلَا يُعْتَبَرُ .
وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ أَرْضًا فَلَهُ مَا فِيهَا مِنْ نَخْلٍ ، أَوْ شَجَرٍ ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْبِنَاءِ مُتَّصِلَةٌ بِالْأَرْضِ لِلْقَرَارِ ، وَلَيْسَ لَهُ مَا فِيهَا مِنْ زَرْعٍ ، أَوْ تَمْرٍ ؛ لِأَنَّ الِاتِّصَالَ فِيهَا لَيْسَ لِلتَّأْبِيدِ ، وَالْقَرَارِ ، بَلْ لِلْإِدْرَاكِ ، فَهُوَ اتِّصَالٌ يَعْرِضُ الْفَصْلَ ، فَيَكُونُ بِمَعْنَى الْمَتَاعِ الْمَوْضُوعِ فِيهَا لَا تَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ ، إلَّا بِالذِّكْرِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ اشْتَرَى أَرْضًا فِيهَا نَخْلٌ ، فَالثَّمَرُ لِلْبَائِعِ ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمَتَاعَ ، } وَلَوْ اشْتَرَى الْأَرْضَ بِكُلِّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ هُوَ فِيهَا ، أَوْ مِنْهَا فَلَهُ الثَّمَرُ ، وَالزَّرْعُ وَفِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ يَقُولُ : لَا يَدْخُلُ الثَّمَرُ ، وَالزَّرْعُ بِهَذَا اللَّفْظِ وَتَأْوِيلُ مَا قَالَ هُنَاكَ إذَا اشْتَرَاهَا بِكُلِّ قَلِيلٍ ، أَوْ كَثِيرٍ هُوَ فِيهَا ، أَوْ مِنْهَا بِحُقُوقِهَا فَعِنْدَ هَذَا التَّقْيِيدِ لَا تَدْخُلُ الثَّمَرَةُ ، وَالزَّرْعُ ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ حُقُوقِهَا وَتَأْوِيلُ مَا ذَكَرَ هُنَا أَنَّهُ لَمْ يُقَيِّدْ بِقَوْلِهِ مِنْ حُقُوقِهَا وَعِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَتَنَاوَلُ لَفْظَ الثَّمَرِ ، وَالزَّرْعِ ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ الْقَلِيلِ ، وَالْكَثِيرِ الَّذِي هُوَ فِيهَا ، أَوْ مِنْهَا لِاتِّصَالِهِ فِي الْحَالِ ، وَالْأَمْتِعَةُ الْمَوْضُوعَةُ تَدْخُلُ بِهَذَا اللَّفْظِ أَيْضًا إنْ كَانَ قَالَ : أَوْ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْقَلِيلِ ، أَوْ الْكَثِيرِ الَّذِي فِيهَا وَإِنْ كَانَ قَالَ : وَمِنْهَا لَمْ تَدْخُلْ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْأَرْضِ وَأَمَّا مَا لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ ، كَالزَّوْجَةِ ، وَالْوَلَدِ لِلْبَائِعِ إذَا كَانَ فِيهَا فِي الْقِيَاسِ يَدْخُلُ وَيَفْسُدُ الْبَيْعُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَدْخُلُ لِعِلْمِنَا أَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَا ذَلِكَ ، وَإِذَا اشْتَرَاهَا بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهَا بِمَرَافِقِهَا لَمْ يَدْخُلْ فِيهَا الثَّمَرُ ، وَالزَّرْعُ ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ حُقُوقِ الْأَرْضِ وَمَرَافِقِهَا ، فَإِنَّمَا يُطْلَقُ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى مَا بِهِ يَتَأَتَّى الِانْتِفَاعُ
بِالْأَرْضِ ، كَالشَّرَبِ ، وَالطَّرِيقِ الْخَاصِّ فِي مِلْكِ إنْسَانٍ ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدْخُلُ فِي الشِّرَاءِ عِنْدَ ذِكْرِ هَذَا اللَّفْظِ ، وَالثَّمَرُ ، وَالزَّرْعُ لَيْسَا مِنْ هَذَا فِي شَيْءٍ ، فَلَا يَدْخُلُ بِذِكْرِ الْحُقُوقِ ، وَالْمَرَافِقِ .
وَإِذَا اشْتَرَى دَارًا فَلَهُ الْبِنَاءُ سَوَاءٌ اشْتَرَطَ كُلَّ حَقٍّ هُوَ لَهَا ، أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ وَهَذِهِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ الدَّارُ ، وَالْمَنْزِلُ ، وَالْبَيْتُ ، فَإِذَا عَقَدَ الْعَقْدَ بِاسْمِ الدَّارِ يَدْخُلُ فِيهِ الْعُلْوُ ، وَالسُّفْلُ ، وَالْكَنِيفُ ، وَالشَّارِعُ ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الدَّارَ هُوَ اسْمٌ ؛ لِمَا أُدِيرَ عَلَيْهِ الْحَائِطُ ، وَالْعُلْوُ ، وَالسُّفْلُ مِمَّا أُدِيرَ عَلَيْهِ الْحَائِطُ ، وَلَا يَدْخُلُ الطَّرِيقُ الْخَاصُّ فِي مِلْكِ إنْسَانٍ ، إلَّا أَنْ يَقُولَ بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهَا ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ خَارِجٌ مِمَّا أُدِيرَ عَلَيْهِ الْحَائِطُ وَيَكُونُ مِنْ حُقُوقِ الدَّارِ ، فَالِانْتِفَاعُ بِالدَّارِ يَتَأَتَّى بِهِ ، فَإِنَّمَا يَدْخُلُ عِنْدَ ذِكْرِ الْحُقُوقِ ، وَالْمَرَافِقِ ، فَأَمَّا الظُّلَّةُ الَّتِي عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ عَلَيْهَا مَنْزِلٌ إلَى الدَّارِ لَا يَدْخُلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْحُقُوقَ ، وَالْمَرَافِقَ فَحِينَئِذٍ تَدْخُلُ إذَا كَانَ مِفْتَحُهَا إلَى الدَّارِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تَدْخُلُ إذَا كَانَ مِفْتَحُهَا إلَى الدَّارِ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ الْحُقُوقَ ، وَالْمَرَافِقَ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ بِنَاءِ الدَّارِ بِمَنْزِلَةِ الْعُلْوِ ، وَالْكَنِيفِ ، وَالشَّارِعِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ : هِيَ خَارِجَةٌ مِمَّا أُدِيرَ عَلَيْهِ الْحَائِطُ ، وَلَكِنَّهَا مِنْ مَرَافِقِ الدَّارِ إذَا كَانَ مِفْتَحهَا إلَى الدَّارِ ، فَإِنَّمَا تَدْخُلُ بِذِكْرِ الْحُقُوقِ ، وَالْمَرَافِقِ ، وَالطَّرِيقِ الْخَاصِّ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ أَحَدَ جَانِبَيْ الظُّلَّةِ عَلَى حَائِطِ الْجَارِ الْمُحَاذِي وَالْجَانِبُ الْآخَرُ عَلَى بِنَاءِ الدَّارِ وَكَانَتْ مِنْ جُمْلَةِ الدَّارِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ، فَلَا تَدْخُلُ عِنْدَ إطْلَاقِ اسْمِ الدَّارِ بِخِلَافِ كَنِيفِ الشَّارِعِ ، فَإِنَّهُ مُتَّصِلٌ بِبِنَاءِ الدَّارِ لَا اتِّصَالَ لَهُ بِشَيْءٍ آخَرَ ، فَيَكُونُ دَاخِلًا فِيمَا أُدِيرَ عَلَيْهِ الْحَائِطُ مِنْ الْبِنَاءِ وَإِنْ كَانَ اشْتَرَى بَيْتًا وَعَلَيْهِ عُلْوٌ لَمْ يَدْخُلُ الْعُلْوُ فِي الْبَيْتِ سَوَاءٌ ذَكَرَ الْحُقُوقَ ، وَالْمَرَافِقَ ،
أَوْ لَمْ يَذْكُرْ مَا لَمْ يَنُصَّ عَلَى الْعُلْوِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ اسْمٌ لِمَا يُبَاتُ فِيهِ ، وَالْعُلْوُ فِي هَذَا كَالسُّفْلِ وَكَانَ نَظِيرَ بَيْتَيْنِ أَحَدُهُمَا بِجَنْبِ الْآخَرِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَكُونُ مِنْ حُقُوقِ مِثْلِهِ ، فَأَمَّا إذَا اشْتَرَى مَنْزِلًا لَمْ يَكُنْ لَهُ عُلْوُهُ ، إلَّا أَنْ يَقُولَ بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهُ ، أَوْ بِمَرَافِقِهِ فَيَدْخُلُ الْعُلْوُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْعُلْوَ مِنْ حُقُوقِ الْمَنْزِلِ فَيَدْخُلُ عَنْهُ ذِكْرُ الْحُقُوقِ ، وَالْبَيْتُ اسْمٌ لِمُسَقَّفٍ وَاحِدٍ لَهُ دِهْلِيزٌ ، وَالْمَنْزِلُ اسْمٌ ؛ لِمَا يَشْتَمِلُ عَلَى بُيُوتٍ وَصَحْنٍ مُسْقَفٍ وَمَطْبَخٍ ؛ لِيَسْكُنَهَا الرَّجُلُ بِعِيَالِهِ ، وَالدَّارُ اسْمٌ ؛ لِمَا يَشْتَمِلُ عَلَى بُيُوتٍ وَمَنَازِلَ وَصَحْنٍ غَيْرِ مُسَقَّفٍ فَكَانَ الْمَنْزِلُ فَوْقَ الْبَيْتِ وَدُونَ الدَّارِ فَلِكَوْنِهِ فَوْقَ الْبَيْتِ قُلْنَا يَدْخُلُ الْعُلْوُ عِنْدَ ذِكْرِ الْحُقُوقِ ، وَالْمَرَافِقِ وَلِكَوْنِهِ دُونَ الدَّارِ قُلْنَا لَا يَدْخُلُ الْعُلْوُ فِيهِ إذَا لَمْ يَذْكُرْ الْحُقُوقَ ، وَالْمَرَافِقَ وَمُشْتَرِي الْمَنْزِلِ مِنْ الدَّارِ ، وَإِنْ ذَكَرَ الْحُقُوقَ ، وَالْمَرَافِقَ لَا حَقَّ لَهُ فِي الدَّارِ ، إلَّا الطَّرِيقَ وَمَسِيلَ الْمَاءِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ الْمَنْزِلِ ، فَأَمَّا الْمَخْرَجُ ، وَالْمِرْبَطُ ، وَالْمَطْبَخُ وَبِئْرُ الْمَاءِ ، فَلَا حَقَّ لَهُ فِيهَا ، إلَّا أَنْ يُسَمِّيَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ الدَّارِ وَمَرَافِقِهَا لَيْسَ مِنْ حُقُوقِ الْمَنْزِلِ ، فَالِانْتِفَاعُ بِالْمَنْزِلِ يَتَأَتَّى بِدُونِهِ بِخِلَافِ الطَّرِيقِ ، وَالْمَسِيلِ وَفِي شِرَاءِ الدَّارِ إذَا كَانَ لَهَا طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا فِي السِّكَّةِ ، وَالْآخَرُ فِي دَارٍ ، فَإِنْ اشْتَرَطَ الْحُقُوقَ ، وَالْمَرَافِقَ اسْتَحَقَّ ذَلِكَ كُلَّهُ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ لَمْ يَسْتَحِقَّ الطَّرِيقَ الَّذِي فِي الدَّارِ الْأُخْرَى ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خَارِجٌ مِمَّا أُدِيرَ عَلَيْهِ الْحَائِطُ وَالْقَرْيَةُ مِثْلُ الدَّارِ ، وَإِنْ كَانَ فِي الدَّارِ ، أَوْ فِي الْقَرْيَةِ بَابٌ مَوْضُوعٌ ، أَوْ خَشَبٌ ، أَوْ آجُرٌّ ، أَوْ جِصٌّ لَمْ يَدْخُلْ
ذَلِكَ فِي الْبَيْعِ بِذِكْرِ الْحُقُوقِ ، وَالْمَرَافِقِ ، وَإِنْ اشْتَرَطَ كُلَّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ فِيهَا ، أَوْ مِنْهَا أَوْ اشْتَرَطَ كُلَّ حَقٍّ هُوَ لَهَا ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ يَتَأَتَّى بِدُونِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ مَتَاعٍ مَوْضُوعٍ فِيهَا .
وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ أَرْضًا فَاسْتَأْجَرَهَا الشَّفِيعُ مِنْهُ ، أَوْ أَخَذَهَا مُزَارَعَةً أَوْ كَانَ فِيهَا نَخِيلٌ فَأَخَذَهَا مُعَامَلَةً بَعْدَ عِلْمِهِ بِالشِّرَاءِ ، أَوْ سَاوَمَ بِهَا ، فَقَدْ بَطَلَتْ شُفْعَتُهُ ؛ لِأَنَّ إقْدَامَهُ عَلَى هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ دَلِيلُ الرِّضَا بِتَقَرُّرِ مِلْكِ الْمُشْتَرِي فِيهَا وَدَلِيلُ الرِّضَا كَصَرِيحِ الرِّضَا ، وَالِاسْتِيَامُ دَلِيلُ إبْطَالِ حَقِّ الشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّهُ طَلَبَ التَّمَلُّكَ مِنْهُ بِسَبَبٍ يُبَاشِرُهُ بِاخْتِيَارِهِ ابْتِدَاءً ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ تَقَرُّرَهُ عَلَى مُبَاشَرَةِ هَذَا السَّبَبِ ، فَيَكُونُ إسْقَاطًا لِلشُّفْعَةِ دَلَالَةً .
وَإِذَا اشْتَرَى نَخْلًا لِيَقْطَعَهُ ، ثُمَّ اشْتَرَى بَعْدَ ذَلِكَ الْأَرْضَ وَتَرَكَ النَّخِيلَ فِيهَا ، فَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ فِي النَّخِيلِ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَقْصُودَةً بِالْعَقْدِ ، وَهِيَ مِنْ النَّقْلِيَّاتِ لَا تُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى الثَّمَرَةَ ؛ لِيَجُذَّهَا ، وَالْبِنَاءَ ؛ لِيَهْدِمَهُ ، ثُمَّ اشْتَرَى الْأَرْضَ لَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ ، إلَّا فِي الْأَرْضِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْبِنَاءِ بِالشُّفْعَةِ لِمَعْنَى التَّبَعِيَّةِ لِلْأَرْضِ ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إذَا مَلَكَهُ بِسَبَبٍ غَيْرِ السَّبَبِ الَّذِي مَلَكَ الْأَرْضَ بِهِ .
وَإِذَا اشْتَرَى قَرْيَةً فِيهَا بُيُوتٌ وَنَخِيلٌ وَأَشْجَارٌ ، ثُمَّ بَاعَ الْمُشْتَرِي شَجَرَهَا وَنَخْلَهَا لِيُقْطَعَ ، ثُمَّ جَاءَ الشَّفِيعُ ، وَقَدْ قَطَعَ بَعْضَهَا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْأَرْضَ وَمَا لَمْ يُقْطَعْ مِنْ الشَّجَرِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا قُطِعَ مِنْ ذَلِكَ وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ أَنَّ حَقَّ الشَّفِيعِ مَتَى كَانَ ثَابِتًا فِي الْبِنَاءِ ، وَالشَّجَرِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ بَعْدَ الْقَطْعِ ، وَالْهَدْمِ اعْتِبَارًا لِلْحَقِّ بِالْمِلْكِ فَكَمَا لَا يَبْطُلُ مِلْكُ الْمَالِكِ بِالْقَطْعِ فَكَذَلِكَ حَقُّ الشَّفِيعِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ ثُبُوتُ حَقِّهِ فِي الْأَخْذِ كَانَ لِمَعْنَى الِاتِّصَالِ بِالْأَرْضِ ، فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ قَبْلَ الْأَخْذِ لَا يَكُونُ لَهُ فِيهِ حَقٌّ الْأَخْذِ كَمَا لَوْ زَالَ جَوَازُهُ ، وَلَكِنْ يَطْرَحُ حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَنِ عَنْ الشَّفِيعِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَقْصُودًا بِالْحَبْسِ ، وَالتَّنَاوُلِ ، فَيَكُونُ لَهُ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ يُطْرَحُ عَنْ الشَّفِيعِ .
وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ نَهْرًا بِأَصْلِهِ وَلِرَجُلٍ أَرْضٌ فِي أَعْلَاهُ إلَى جَنْبِهِ وَلِآخَرَ أَرْضٌ فِي أَسْفَلِهِ إلَى جَنْبِهِ فَلَهُمَا جَمِيعًا الشُّفْعَةُ فِي جَمِيعِ النَّهْرِ مِنْ أَعْلَاهُ إلَى أَسْفَلِهِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَّصِلٌ بِالْمَبِيعِ اتِّصَالَ تَأْبِيدٍ وَقَرَارٍ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الشُّفْعَةُ بِالْجِوَارِ ، وَكَذَلِكَ الْقَنَاةُ ، وَالْعَيْنُ ، وَالْبِئْرُ ، فَهِيَ مِنْ الْعَقَارَاتِ يَسْتَحِقُّ فِيهَا الشُّفْعَةَ بِالْجِوَارِ ، وَكَذَلِكَ الْقَنَاةُ يَكُونُ مِفْتَحُهَا فِي أَرْضٍ وَيَظْهَرُ مَاؤُهَا فِي أَرْضٍ أُخْرَى فَجِيرَانُهَا مِنْ مِفْتَحِهَا إلَى مَصَبِّهَا شُرَكَاءُ فِي الشُّفْعَةِ لِاتِّصَالِ مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْمَبِيعِ وَبِالِاتِّصَالِ فِي جَانِبٍ وَاحِدٍ يَتَحَقَّقُ الْجِوَارُ وَصَاحِبُ النَّصِيبِ فِي النَّهْرِ أَوْلَى بِالشُّفْعَةِ مِمَّنْ يَجْرِي النَّهْرُ فِي أَرْضِهِ ؛ لِأَنَّهُ جَارٌ بِاتِّصَالِ أَرْضِهِ بِالنَّهْرِ ، وَالشَّرِيكُ فِي الْمَبِيعِ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَارِ .
وَإِذَا كَانَ نَهْرٌ أَعْلَاهُ لِرَجُلٍ وَأَسْفَلُهُ لِآخَرَ وَمَجْرَاهُ فِي أَرْضِ رَجُلٍ آخَرَ فَاشْتَرَى رَجُلٌ نَصِيبَ صَاحِبِ أَعْلَى النَّهْرِ فَطَلَبَ صَاحِبُ النَّهْرِ وَصَاحِبُ الْأَرْضِ وَصَاحِبُ أَسْفَلِ النَّهْرِ الشُّفْعَةَ ، فَالشُّفْعَةُ لَهُمْ جَمِيعًا بِالْجِوَارِ ؛ لِأَنَّهُمْ اسْتَوَوْا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فَمِلْكُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُتَّصِلٌ بِالْمَبِيعِ ، إلَّا أَنَّ اتِّصَالَ صَاحِبِ الْأَسْفَلِ بِمِقْدَارِ عَرْضِ النَّهْرِ وَاتِّصَالَ صَاحِبِ الْأَرْضِ بِمِقْدَارِ طُولِ النَّهْرِ مِنْ أَرْضِهِ ، وَلَا عِبْرَةَ بِزِيَادَةِ الْجِوَارِ كَمَا لَا عِبْرَةَ بِزِيَادَةِ الشَّرِكَةِ ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِ مَسِيلِ الْمَاءِ حَقٌّ لِمَسِيلِ الْمَاءِ ، يَعْنِي : أَنَّ صَاحِبَ أَسْفَلِ النَّهْرِ لَهُ فِي الْمَبِيعِ حَقُّ سَيْلِ الْمَاءِ فَمَا لَمْ يَسِلْ الْمَاءُ فِي أَعْلَى النَّهْرِ لَا يَنْتَهِي إلَيْهِ ، وَلَكِنْ لَا يَصِيرُ بِهِ شَرِيكًا لِرَقَبَةِ النَّهْرِ ، وَلَا فِي حُقُوقِهِ ، وَإِنَّمَا يَتَرَجَّحُ عَلَى الْجَارِ الشَّرِيكِ فِي نَفْسِ الْمَبِيعِ أَوْ فِي حُقُوقِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى رَجُلٌ نَصِيبَ صَاحِبِ أَسْفَلِ النَّهْرِ ، فَالشُّفْعَةُ لِصَاحِبِ الْأَعْلَى بِالْجِوَارِ لِاتِّصَالِ مِلْكِهِ بِالْمَبِيعِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ قَنَاةٌ مِفْتَحُهَا بَيْنَ رَجُلَيْنِ إلَى مَكَان مَعْلُومٍ وَأَسْفَلُ مِنْ ذَلِكَ لِأَحَدِهِمَا فَبَاعَ صَاحِبُ الْأَسْفَلِ ذَلِكَ الْأَسْفَلَ ، فَالشَّرِيكُ ، وَالْجِيرَانُ فِيهِ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ بِالشَّرِكَةِ فِي أَعْلَى الْقَنَاةِ لَا يَكُونُ شَرِيكًا فِي الْمَبِيعِ ، فَإِنَّ الْمَبِيعَ أَسْفَلُ الْقَنَاةِ ، وَذَلِكَ كَانَ مِلْكًا خَالِصًا لِلْبَائِعِ ؛ فَلِهَذَا كَانَ شَرِيكُهُ فِي أَعْلَى الْقَنَاةِ ، وَالْجِيرَانُ فِي الشُّفْعَةِ سَوَاءٌ .
وَإِذَا كَانَ نَهْرٌ لِرَجُلٍ فَطَلَبَ إلَيْهِ رَجُلٌ لِيُكْرِيَ مِنْهُ النَّهْرَ إلَى أَرْضِهِ ، ثُمَّ بِيعَ النَّهْرُ الْأَوَّلُ وَمَجْرَاهُ فِي أَرْضِ رَجُلٍ آخَرَ فَصَاحِبُ الْأَرْضِ أَوْلَى بِالشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّ الْآخَرَ مُسْتَعِيرٌ ، وَلَا حَقَّ لِلْمُسْتَعِيرِ فِي الشُّفْعَةِ إذْ لَا مِلْكَ لَهُ مُتَّصِلٌ بِالْمَبِيعِ عَلَى وَجْهِ التَّأْبِيدِ ، وَالْقَرَارِ .
وَإِذَا كَانَ نَهْرٌ لِرَجُلٍ فِي أَرْضٍ لِرَجُلٍ عَلَيْهِ رَحَى مَاءٍ فِي بَيْتٍ فَبَاعَ صَاحِبُ النَّهْرِ النَّهْرَ ، أَوْ الرَّحَى ، وَالْبَيْتَ فَطَلَبَ صَاحِبُ الْأَرْضِ الشُّفْعَةَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَلَهُ الشُّفْعَةُ لِاتِّصَالِ مِلْكِهِ بِالْمَبِيعِ ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ أَرْضِهِ وَبَيْنَ مَوْضِعِ الرَّحَى أَرْضٌ لِرَجُلٍ آخَرَ وَكَانَ جَانِبُ النَّهْرِ الْآخَرِ لِرَجُلٍ آخَرَ فَطَلَبَا الشُّفْعَةَ فَلَهُمَا أَنْ يَأْخُذَا ذَلِكَ بِالشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الْجِوَارِ مِنْ النَّهْرِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُمْ أَقْرَبَ إلَى الرَّحَى ؛ لِأَنَّ الرَّحَى لَا تَسْتَقِيمُ ، إلَّا بِالنَّهْرِ ، فَهُوَ الْآنَ شَيْءٌ وَاحِدٌ أَلَا تَرَى أَنَّ مَوْضِعَ الرَّحَاءِ لَوْ كَانَ أَرْضًا لَهَا فِي ذَلِكَ النَّهْرِ شِرْبٌ فَبِيعَتْ كَانَ الشُّرَكَاءُ فِي الشِّرْبِ سَوَاءً فِي الشُّفْعَةِ ، وَلَا يَكُونُ أَقْرَبُهُمْ إلَيْهَا أَوْلَى بِالشُّفْعَةِ ، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الرَّحَاءِ تَثْبُتُ الشَّرِكَةُ فِي الشِّرْبِ ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالرَّحَى لَا يَتَأَتَّى ، إلَّا بِالْمَاءِ كَمَا لَا يَتَأَتَّى فِي الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ ، إلَّا بِالْمَاءِ .
وَإِذَا كَانَ نَهْرٌ لِرَجُلٍ خَالِصًا لَهُ عَلَيْهِ أَرْضٌ وَلِآخَرَ عَلَيْهِ أَرَاضٍ ، وَلَا شَرْبَ لَهُمْ فِيهِ فَبَاعَ رَبُّ الْأَرْضِ النَّهْرَ خَاصَّةً فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الشُّفْعَةِ فِيهِ لِاتِّصَالِ مِلْكِهِمْ بِالْمَبِيعِ ، وَإِنْ بَاعَ الْأَرْضَ خَاصَّةً دُونَ النَّهْرِ ، فَالْمُلَازِقُ لِلْأَرْضِ أَوْلَاهُمْ بِالشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمْ فِي النَّهْرِ ، وَالْمَبِيعُ الْأَرْضُ وَهُمْ جِيرَانُ الْمَبِيعِ ، يَعْنِي : مَنْ يُلَازَقُ أَرْضُهُ الْأَرْضَ الْمَبِيعَةَ ، فَالشُّفْعَةُ لِلْجَارِ الْمُلَازِقِ خَاصَّةً ، وَإِنْ بَاعَ النَّهْرَ ، وَالْأَرْضَ جَمِيعًا كَانُوا شُفَعَاءُ فِي النَّهْرِ لِاتِّصَالِ مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالنَّهْرِ وَكَانَ الَّذِي هُوَ مُلَازِقُ الْأَرْضِ أَوْلَاهُمْ بِالشُّفْعَةِ فِي الْأَرْضِ لِاتِّصَالِ مِلْكِهِ بِالْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ طَرِيقٍ فِي دَارٍ لِرَجُلٍ فَبَاعَ الطَّرِيقَ وَالطَّرِيقُ خَالِصٌ لَهُ فَجَارُ الطَّرِيقِ أَوْلَى بِهِ مِنْ جَارِ الْأَرْضِ دُونَ الطَّرِيقِ وَهَذَانِ بِمَنْزِلَةِ دَارَيْنِ ؛ لِيُمَيِّزَ أَحَدَهُمَا عَنْ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ جِوَارَ هَذَا غَيْرُ جِوَارِ هَذَا ، وَلَوْ كَانَ شَرِيكًا فِي الطَّرِيقِ أَخَذَ شُفْعَتَهُ مِنْ الدَّارِ ؛ لِأَنَّ الشَّرِيكَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْجَارِ فَكَذَلِكَ إنْ كَانَ شَرِيكًا فِي النَّهْرِ أَخَذَ بِحِصَّتِهِ مِنْ الْأَرْضِ وَكَانَ أَحَقَّ بِهِمَا جَمِيعًا مِنْ جِيرَانِ الْأَرْضِ ، وَالطَّرِيقُ وَالنَّهْرُ سَوَاءٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الشُّفْعَةُ فِي الْهِبَةِ قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ اعْلَمْ بِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَا يُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ ، إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ، فَإِنَّهُ يَقُولُ : يُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ إذَا كَانَ مِمَّا لَا يُقْسَمُ وَيَأْخُذُهُ الشَّفِيعُ بِقِيمَةِ نَفْسِهِ إنْ لَمْ يُعَوِّضْ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْوَاهِبَ ، وَإِنْ عَوَّضَهُ فَقِيمَةُ الْعِوَضِ ، وَكَذَلِكَ إذَا عَوَّضَ الْغَيْرُ مِنْ هِبَتِهِ شِقْصًا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ ، وَفِي اسْتِحْقَاقِهِ بِالشُّفْعَةِ خِلَافٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
هُوَ يَقُولُ : ثُبُوتُ حَقِّ الشُّفْعَةِ لِحَاجَتِهِ إلَى دَفْعِ ضَرَرِ الْبَادِي بِسُوءِ مُجَاوَرَةِ الْجَارِ الْحَادِثِ ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ سَبَبِ الْمِلْكِ فَتَجِبُ لَهُ الشُّفْعَةُ مَتَى تَجَدَّدَ الْمِلْكُ لِلْجَارِ الْحَادِثِ بِأَيِّ سَبَبٍ كَانَ مِنْ هِبَةٍ ، أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ وَصِيَّةِ ، إلَّا الْمِيرَاثَ ، فَالْمِلْكُ لَا يَتَجَدَّدُ بِهِ ، وَإِنَّمَا يَبْقَى الْوَارِثُ مَا كَانَ ثَابِتًا لِلْمُورِثِ ، ثُمَّ يَدْفَعُ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِالْأَخْذِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِالْمُتَمَلِّكِ فَإِنْ كَانَ الْمُتَمَلِّكُ دَفَعَ بِمُقَابَلَتِهِ عِوَضًا فَعَلَيْهِ قِيمَةُ ذَلِكَ الْعِوَضِ ، وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ بِمُقَابَلَتِهِ عِوَضًا فَعَلَيْهِ قِيمَةُ مَا يَأْخُذُ ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ بِذَلِكَ يَنْدَفِعُ عَنْهُ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ حَقُّ الشُّفْعَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ الْأَخْذِ بِمِثْلِ السَّبَبِ الَّذِي بِهِ يَمْلِكُ الْمُتَمَلِّكُ ، فَأَمَّا إذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الشُّفْعَةِ ، كَالْمِيرَاثِ ، وَفِي الْهِبَةِ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ بِمِثْلِ ذَلِكَ السَّبَبِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ يَمْلِكُهُ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ ، فَيَكُونُ هَذَا إنْشَاءَ سَبَبٍ آخَرَ وَبِحَقِّ الشُّفْعَةِ لَا تَثْبُتُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ الشَّرْعَ قَدَّمَ الشَّفِيعَ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي حُكْمِ السَّبَبِ الَّذِي بَاشَرَهُ ، وَذَلِكَ يَتَأَتَّى فِي الْمُعَاوَضَاتِ ، وَلَا يَتَأَتَّى فِي التَّبَرُّعِ ؛ لِأَنَّ
الْمِلْكَ الَّذِي يَثْبُتُ لِلشَّفِيعِ لَا يَكُونُ حُكْمَ التَّبَرُّعِ ؛ وَلِأَنَّ الشَّفِيعَ فِي الْمُعَارَضَةِ كَانَ أَحَقَّ بِالْعَرْضِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْبَيْعِ ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ الْبَائِعُ جَعَلَهُ الشَّرْعُ أَحَقَّ بِالْأَخْذِ ؛ لِيَنْدَفِعَ الضَّرَرُ عَنْهُ وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي التَّبَرُّعِ ، فَإِنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَهَبَ مِلْكَهُ مِنْ إنْسَانٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَعْرِضَ بَيْعَهُ أَوَّلًا عَلَى جَارِهِ ، وَلَا أَنْ يَهَبَهُ مِنْ جَارِهِ ؛ فَلِهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ بِهَذَا السَّبَبِ .
فَإِنْ وَهَبَ لِرَجُلٍ دَارًا عَلَى أَنْ يَهَبَهُ الْآخَرُ أَلْفَ دِرْهَمٍ شَرْطًا ، فَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ فِيهِ مَا لَمْ يَتَقَابَضَا ، وَبَعْضُ التَّقَابُضِ يَجِبُ لِلشَّفِيعِ فِيهِ الشُّفْعَةُ ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ تَجِبُ الشُّفْعَةُ قَبْلَ التَّقَابُضِ ، وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْهِبَةِ أَنَّ الْهِبَةَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ عِنْدَهُ بَيْعٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً وَعِنْدَنَا ابْتِدَاءً ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، فَأَمَّا الْوَصِيَّةُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ إذَا قَبِلَ الْمُوصَى لَهُ ، ثُمَّ مَاتَ الْمُوصِي ، فَهُوَ بَيْعٌ لَازِمٌ لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْقَبُولِ يَحْصُلُ بِالْمَوْتِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ بِغَيْرِ شَرْطِ الْعِوَضِ يَمْلِكُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ ، فَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ إنْ قَالَ : قَدْ أَوْصَيْت بِدَارِي بَيْعًا لِفُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَمَاتَ الْمُوصِي ، فَقَالَ الْمُوصَى لَهُ : قَدْ قَبِلْت فَلِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ ، وَإِنْ قَالَ أَوْصَيْت لَهُ بِأَنْ يُوهَبَ لَهُ عَلَى عِوَضٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَهَذَا وَمَا لَوْ بَاشَرَ الْهِبَةَ بِنَفْسِهِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ سَوَاءٌ فِي الْحُكْمِ .
وَإِنْ وَهَبَ نَصِيبًا مِنْ دَارٍ مُسَمًّى بِشَرْطِ الْعِوَضِ وَتَقَابَضَا لَمْ يَجُزْ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ الشُّفْعَةُ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّهُ بِرٌّ ابْتِدَاءً ، وَالشُّيُوعُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةُ يَمْنَعُ صِحَّتَهُ وَتَأْثِيرُ الشُّيُوعِ كَتَأْثِيرِ عَدَمِ الْقَبْضِ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الشُّيُوعُ فِي الْعِوَضِ فِيمَا يُقْسَمُ .
وَإِنْ وَهَبَ دَارَ الرَّجُلِ عَلَى أَنَّ إبْرَاءَهُ مِنْ دَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يُسَمِّهِ وَقَبَضَ كَانَ لِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ ؛ لِأَنَّ الْمَدْيُونَ قَابِضٌ لِلدَّيْنِ بِدَيْنِهِ فَبِقَبْضِ الدَّارِ تَتِمُّ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَهُمَا فَيَجِبُ لِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ ، وَالْقَوْلُ فِي مِقْدَارِ الْعِوَضِ قَوْلُ الَّذِي عُوِّضَ ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَمْلِكُ الدَّارَ عَلَيْهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقَوْلَ فِي مِقْدَارِ الثَّمَنِ قَوْلُهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَهَبَهَا بِشَرْطِ الْإِبْرَاءِ مِمَّا يَدَّعِي فِي هَذِهِ الدَّارِ الْأُخْرَى وَقَبَضَهَا ، فَهُوَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ بِالشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّ التَّمَلُّكَ فِيهَا يَتِمُّ بِجِهَةِ الْمُعَارَضَةِ .
وَإِذَا وَهَبَ الرَّجُلُ دَارَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ لِرَجُلٍ عَلَى عِوَضٍ مِثْلِ قِيمَتِهَا وَتَقَابَضَا ، فَهُوَ جَائِزٌ وَلِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ لَا يَجُوزُ ، وَلَا شُفْعَةَ فِيهَا ، وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ ، وَالْعَبْدُ ، وَالْمَأْذُونُ ، وَالْمُكَاتَبُ ، وَالْمُضَارِبُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ كُلُّ مَنْ يَمْلِكُ الْبَيْعَ يَمْلِكُ الْهِبَةَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُحَابَاةٌ ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ كُلُّ مَنْ لَا تَجُوزُ هِبَتُهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ لَا تَجُوزُ هِبَتُهُ بِشَرْطِ الْعِوَضِ ، وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ هَذَا تَمْلِيكُ مَالٍ بِمَالٍ يُعَادِلُهُ شَرْطًا فَيَصِحُّ مِنْ الْأَبِ ، وَالْوَصِيِّ كَمَا لَوْ كَانَ بِلَفْظِ الْبَيْعِ ، أَوْ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ حَقَّ الصَّبِيِّ فِي الْمَالِ لَا فِي اللَّفْظِ وَتَصَرُّفُ الْأَبِ ، وَالْوَصِيِّ مُقَيَّدٌ شَرْعًا بِالْأَحْسَنِ ، وَالْأَصْلَحِ لِلْيَتِيمِ ، وَذَلِكَ فِي أَنْ يَتَوَفَّرَ عَلَيْهِ الْمَالِيَّةُ لَا فِي لَفْظِ الْمُعَاوَضَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيْعَ مِنْهُمَا لَمَّا لَمْ يَجُزْ بِالتَّعَاطِي مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ ، فَإِذَا أُسْقِطَ اعْتِبَارُ اللَّفْظِ قُلْنَا تَوْفِيرُ الْمَالِيَّةِ عَلَيْهِ فِي الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ كَمَا فِي الْبَيْعِ ، بَلْ أَظْهَرُ ؛ لِأَنَّ فِي الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ لَا يَزُولُ الْمَالُ عَنْ مِلْكِهِ مَا لَمْ يَصِلْ الْعِوَضُ إلَى يَدٍ ثَانِيَةٍ وَبِالْبَيْعِ تَزُولُ الْعَيْنُ عَنْ مِلْكِهِ قَبْلَ وُصُولِ الْعِوَضِ إلَيْهِ ، وَبِهَذَا التَّحْقِيقِ يَظْهَرُ أَنَّ الْهِبَةَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ مِنْ الْأَبِ ، وَالْوَصِيِّ بِمَنْزِلَةِ الْكِتَابَةِ وَهُمَا يَمْلِكَانِ الْكِتَابَةَ فِي غَيْرِ الصَّبِيِّ بِخِلَافِ الْعِتْقِ عَلَى مَالٍ ، فَالْمِلْكُ هُنَا يَزُولُ بِنَفْسِ الْقَبُولِ وَالْبَدَلُ فِي ذِمَّةٍ مُفْلِسَةٍ لَا يَدْرِي أَيَصِلُ إلَيْهِ أَمْ لَا بِمَنْزِلَةِ التَّأَدِّي .
وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ الْهِبَةَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ ، وَلَيْسَ لِلْأَبِ ، وَالْوَصِيِّ وِلَايَةُ
التَّبَرُّعِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ فَبِاشْتِرَاطِ الْعِوَضِ لَا تَثْبُتُ لَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ ، كَالْعِتْقِ ، فَإِنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ بِمَالِ هُوَ أَضْعَافُ قِيمَتِهِ وَتَبَرَّعَ إنْسَانٌ بِأَدَائِهِ لَمْ يَجُزْ ، وَبِهِ يَبْطُلُ مَا اعْتَبَرَ مُحَمَّدٌ مِنْ تَوْفِيرِ الْمَالِيَّةِ عَلَيْهِ ، وَتَحْقِيقُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ ، وَهَذَا الْعَقْدُ عَقْدُ تَبَرُّعٍ بِاعْتِبَارِ أَصْلِهِ ، فَهُوَ عَقْدٌ صَدَرَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ وَكَمَا يَلْغُو السَّبَبُ إذَا حَصَلَ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ فَكَذَلِكَ إذَا صَدَرَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ ، وَحُكْمُ الْمُعَارَضَةِ يَنْبَنِي عَلَى صِحَّةِ السَّبَبِ عِنْدَ اتِّصَالِ الْقَبْضِ بِهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ أَصْلُ السَّبَبِ ؛ لِمَا قُلْنَا لَا يَنْقَلِبُ بِالتَّقَابُضِ بَيْعًا صَحِيحًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ ذَلِكَ فِي مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لَا يَصِيرُ بَيْعًا صَحِيحًا بِالتَّقَابُضِ فَكَذَلِكَ إذَا حَصَلَ مِمَّنْ لَا يُمْكِنُ الْهِبَةُ بِغَيْرِ عِوَضٍ لَا يَصِيرُ بَيْعًا صَحِيحًا بِالتَّقَابُضِ ، فَلَا تَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
بَابُ الْخِيَارِ فِي الشُّفْعَةِ ( قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِذَا كَانَ الْمُشْتَرِي شَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ ثَلَاثًا فِي الشِّرَاءِ فَلِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ ) أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَالِكًا لِلدَّارِ وَعِنْدَهُمَا خِيَارُ الشَّرْطِ كَخِيَارِ الرُّؤْيَةِ ، وَالْعَيْبُ لِلْمُشْتَرِي ، فَلَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الشُّفْعَةِ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْمُشْتَرِي إنْ لَمْ يَمْلِكْ الدَّارَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ ، فَقَدْ خَرَجَتْ الدَّارُ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَانْقَطَعَ حَقُّهُ عَنْهَا لِكَوْنِ الْبَيْعِ بَاقِيًا فِي جَانِبِهِ وَوُجُوبُ الشُّفْعَةِ تَعْتَمِدُ انْقِطَاعَ حَقِّ الْبَائِعِ لَا ثُبُوتَ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي حَتَّى إذَا أَقَرَّ بِالْبَيْعِ وَأَنْكَرَ الْمُشْتَرِي يَجِبُ لِلشَّفِيعِ فِيهِ الشُّفْعَةُ ؛ وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ صَارَ أَحَقَّ بِالتَّصَرُّفِ فِيهَا فَبِاعْتِبَارِهِ يَتَحَقَّقُ الضَّرَرُ الْمُحْوِجُ لِلشَّفِيعِ إلَى الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ وَإِذَا اشْتَرَى الْمُرْتَدُّ دَارًا فَلِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ إنْ قُبِلَ عَلَى الرِّدَّةِ ، أَوْ أَسْلَمَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ مِنْ الْمُرْتَدِّ صَحِيحٌ عِنْدَهُمَا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ قَدْ تَمَّ فِي جَانِبِ الْبَائِعِ وَصَارَ الْمُشْتَرِي أَحَقَّ بِهَا لَوْ أَسْلَمَ فَكَانَ لِلشَّفِيعِ حَقُّ الشُّفْعَةِ ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ خِيَارٍ ثَابِتٍ لِلْمُشْتَرِي ، وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ أَبَدًا لَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فَاسِدٌ وَفِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ حَقٌّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ ثَابِتٌ وَمَا لَمْ يَنْقَطِعْ حَقُّ الْبَائِعِ فِي الِاسْتِرْدَادِ لَا يَجِبُ لِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ ، فَإِنْ أَبْطَلَ الْمُشْتَرِي خِيَارَهُ وَأَوْجَبَ الْبَيْعَ قَبْلَ مُضِيِّ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ لِزَوَالِ الْمُفْسِدِ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ ، وَكَذَلِكَ عِنْدَهُمَا بَعْدَ مُضِيِّ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ عِنْدَهُمَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا مَتَى أُسْقِطَ خِيَارُهُ ، وَهَذَا إذَا شُرِطَ الْخِيَارُ أَبَدًا ، فَإِنْ كَانَ شَرْطُ
الْخِيَارِ شَهْرًا فَعِنْدَهُمَا هَذَا الْبَيْعُ صَحِيحٌ لَازِمٌ وَلِلشَّفِيعِ حَقُّ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي الْبُيُوعِ ، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ ثَلَاثَةً فَأَخَذَهَا الشَّفِيعُ مِنْ الْبَائِعِ فِي الثَّلَاثَةِ ، فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ ، وَلَيْسَ لِلشَّفِيعِ مِنْ الْخِيَارِ مَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ كَاسْمِهِ لَا يَثْبُتُ ، إلَّا لِمَنْ شُرِطَ لَهُ ، وَالشَّرْطُ كَانَ لِلْمُشْتَرِي دُونَ الشَّفِيعِ وَإِذَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ ، فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا حَتَّى يُوجِبَ الْبَيْعَ ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ خُرُوجَ الْمَبِيعِ مِنْ مِلْكِهِ وَبَقَاءُ حَقِّ الْبَائِعِ يَمْنَعُ ثُبُوتَ حَقِّ الشَّفِيعِ فَبَقَاءُ مِلْكِهِ أَوْلَى ، فَإِنْ بِيعَتْ دَارٌ إلَى جَنْبِهَا فَلِلْبَائِعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ دُونَ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الدَّارِ الْمَبِيعَةِ عِنْدَهُمَا فِي هَذَا الْبَيْعِ لِلْبَائِعِ وَإِذَا أَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ فَهَذَا نَقْضٌ مِنْهُ لِلْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهُ قَرَّرَ مِلْكَهُ وَجِوَارَهُ حِينَ أَخَذَ الْمَبِيعَةَ بِالشُّفْعَةِ بِاعْتِبَارِهِ فَإِقْدَامُ الْبَائِعِ عَلَى مَا يُقَرِّرُ مِلْكَهُ فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ يَكُونُ نَقْضًا لِلْبَيْعِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ نَاقِضًا لَكَانَ إذَا أَجَازَ الْبَيْعَ فِيهَا مَلَكَهَا الْمُشْتَرِي مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ حَتَّى يَسْتَحِقَّ بِزَوَائِدِهَا الْمُتَّصِلَةِ ، وَالْمُنْفَصِلَةِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ مِنْ غَيْرِ حَقٍّ لَهُ .
وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي فَبِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِ هَذِهِ الدَّارِ كَانَ لَهُ فِيهَا الشُّفْعَةُ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ أَحَقَّ بِهَا مَعَ خِيَارِهِ ، وَذَلِكَ يَكْفِي لِثُبُوتِ حَقِّ الشُّفْعَةِ لَهُ ، كَالْمَأْذُونِ ، وَالْمُكَاتَبِ إذَا بِيعَتْ دَارٌ بِجَنْبِ دَارِهِ وَكَانَ الْبَلْخِيُّ يَدَّعِي بِهَذَا الْفَصْلِ الْمُنَاقَضَةَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فَيَقُولُ : أَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّهُ لَا يُمَلَّكُ الْمَبِيعُ فِي مُدَّةِ خِيَارِهِ وَاسْتِحْقَاقُ الشُّفْعَةِ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ الْمُسْتَأْجِرُ ، وَالْمُسْتَعِيرُ فَكَيْفَ تَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي الشُّفْعَةُ فِي هَذِهِ الدَّارِ ، وَلَكِنَّ عُذْرَهُ مَا بَيَّنَّا ، فَإِذَا أَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ كَانَ هَذَا مِنْهُ إجَازَةٌ لِلْبَيْعِ بِوُجُودِ دَلِيلِ الرِّضَا لَتَقَرُّرِ مِلْكِهِ فِيهَا وَهَذَا يُؤَيِّدُ كَلَامَ الْبَلْخِيّ ، فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ الْمِلْكُ مُعْتَبَرًا فِي اسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ لَمَا صَارَ مُخَيَّرًا لِلْبَيْعِ بِأَخْذِهَا بِالشُّفْعَةِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لَوْ لَمْ يَسْقُطُ خِيَارُهُ بِذَلِكَ لَمَا كَانَ إذَا فُسِخَ الْبَيْعُ انْعَدَمَ السَّبَبُ فِي حَقِّهِ مِنْ الْأَصْلِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخَذَهَا بِالشُّفْعَةِ مِنْ غَيْرِ حَقٍّ لَهُ فَلِلتَّحَرُّزِ عَنْ ذَلِكَ جَعَلْنَاهُ مُخَيَّرًا لِلْبَيْعِ ، فَإِذَا جَاءَ الشَّفِيعُ وَأَخَذَ مِنْهُ الدَّارَ الْأُولَى بِالشُّفْعَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الثَّانِيَةِ سَبِيلٌ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَمَلَّكُهَا الْآنَ ، فَلَا يَصِيرُ بِهَا جَارًا لِلدَّارِ الْأُخْرَى مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ دَارٌ إلَى جَنْبِهَا ، وَالدَّارُ الثَّانِيَةُ سَالِمَةٌ لِلْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الشَّفِيعِ مِنْ يَدِهِ لَا يَنْفِي مِلْكَهُ مِنْ الْأَصْلِ ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ عُهْدَةُ الشَّفِيعِ عَلَيْهِ ، فَلَا يَتَبَيَّنُ بِهِ انْعِدَامُ السَّبَبِ فِي حَقِّهِ مِنْ الْأَصْلِ حِينَ أَخَذَ بِالشُّفْعَةِ .
وَإِذَا اشْتَرَى دَارًا بِعَبْدٍ وَاشْتَرَطَ الْخِيَارَ ثَلَاثًا لِمُشْتَرِي الدَّارِ فَلِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ ، فَإِنْ أَخَذَهَا مِنْ يَدِ مُشْتَرِيهَا ، فَقَدْ وَجَبَ الْبَيْعُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ عَنْ رَدِّهَا ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لَهُ الْبَيْعَ فِيهَا ، فَإِنْ سَلَّمَ الْمُشْتَرِي الْبَيْعَ وَأَبْطَلَ خِيَارَهُ سَلَّمَ الْعَبْدَ لِلْبَائِعِ ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يُسَلِّمَ الْبَيْعَ أَخَذَ عَبْدَهُ وَدَفَعَ قِيمَةَ الْعَبْدِ الَّذِي أَخَذَهَا مِنْ الشَّفِيعِ إلَى الْبَائِعِ ، وَلَا يَكُونُ أَخْذُ الشَّفِيعِ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ اخْتِيَارًا مِنْ الْمُشْتَرِي لِلْبَيْعِ وَإِسْقَاطًا لِخِيَارِهِ فِي الْعَبْدِ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَهَا الْمُشْتَرِي ، فَذَلِكَ اخْتِيَارٌ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ تَصَرُّفٌ بِبَيِّنَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ ، فَيَكُونُ دَلِيلَ الرِّضَا بِهِ وَإِسْقَاطَ خِيَارِهِ فَأَمَّا أَخْذُ الشَّفِيعِ مِنْ يَدِهِ يَكُونُ بِغَيْرِ رِضَاهُ وَاخْتِيَارِهِ ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِحَقٍّ يَثْبُتُ لَهُ قَبْلَ قَبْضِ الْمُشْتَرِي ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ كَانَ لَهُ حَقُّ الْأَخْذِ مِنْ الْبَائِعِ ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ اخْتِيَارًا مِنْ الْمُشْتَرِي ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ حَدَثَ بِهَا عَيْبٌ عِنْدَهُ ، أَوْ عُرِفَتْ ؛ لِأَنَّ تَعَذُّرَ الرَّدِّ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ بِسَبَبٍ حَادِثٍ بَعْدَ قَبْضِهِ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اخْتِيَارِهِ ، فَأَمَّا عِنْدَ أَخْذِ الشَّفِيعِ تَعَذَّرَ الرَّدُّ عَلَيْهِ بِحَقٍّ كَانَ سَابِقًا عَلَى قَبْضِهِ ؛ فَلِهَذَا لَا يُجْعَلُ ذَلِكَ اخْتِيَارًا مِنْهُ وَيَبْقَى هُوَ فِي الْعَبْدِ عَلَى خِيَارِهِ ، فَإِذَا فُسِخَ الْعَقْدُ فِي الْعَبْدِ يُجْعَلُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ فِيهِ بِالْهَلَاكِ فِي يَدِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ إلَى الْبَائِعِ الْقِيمَةَ الْمَقْبُوضَةَ مِنْ الشَّفِيعِ ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الَّتِي سُلِّمَتْ لَهُ بِسَبَبِ يَدِهِ عَلَى الدَّارِ فَيَرُدُّهَا عَلَى الْبَائِعِ كَمَا يَرُدُّ الدَّارَ لَوْ كَانَتْ فِي يَدِهِ وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ الْبَائِعِ كَانَ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْهُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ وَيُسَلِّمَ
الْعَبْدَ لِلْمُشْتَرِي لِانْتِقَاضِ الْبَيْعِ بَيْنَهُمَا حِينَ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ مِنْ يَدِ الْبَائِعِ ، وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَهَلَكَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْبَائِعِ انْتَقَضَ الْبَيْعُ وَرَدَّ الْمُشْتَرِي الدَّارَ وَلِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَهَا بِقِيمَةِ الْعِوَضِ ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنْ حَقَّ الشُّفْعَةِ ثَبَتَ لَهُ بِقِيمَةِ الْعِوَضِ ، وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَدَاءِ ذَلِكَ بَعْدَ هَلَاكِ الْعِوَضِ فِي يَدِ مُشْتَرِي الدَّارِ ، وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِبَائِعِ الدَّارِ فِيهَا ، أَوْ فِي الْعَبْدِ لَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ فِيهَا شُفْعَةٌ حَتَّى يُوجِبَ الْبَيْعَ ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ إذَا شَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ فِي أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ ، فَذَلِكَ مِنْهُ شَرْطٌ لِلْخِيَارِ فِي الْعِوَضِ الْآخَرِ ، وَإِنْ كَانَ الْخِيَارُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ ، فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلَا شُفْعَةَ فِي ذَلِكَ ، إلَّا أَنْ يَسْقُطَ خِيَارُهُ قَبْلَ مُضِيِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْبَيْعُ جَائِزٌ ، وَلَكِنْ بِخِيَارِ الْبَائِعِ لَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ حَتَّى يَسْقُطَ خِيَارُهُ ، أَوْ يَسْقُطُ ذَلِكَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ لِلشَّفِيعِ فِيهِ الشُّفْعَةُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
بَابُ مَا لَا تَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ مِنْ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ .
قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : قَدْ بَيَّنَّا فِي النِّكَاحِ أَنْ الْمُهُورَ لَا تُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ عِنْدَنَا وَتُسْتَحَقُّ عِنْدَ .
الشَّافِعِيِّ ، وَالْحَاصِلُ عِنْدَنَا أَنَّ الشُّفْعَةَ تَخْتَصُّ بِمُقَابَلَةِ مَالٍ بِمَالٍ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَخْذِ ، إلَّا بِمِثْلِ السَّبَبِ الَّذِي يَمْلِكُ بِهِ الْجَارُ الْحَادِثُ ، وَأَخْذُهُ لَا يَكُونُ إلَّا مُبَادَلَةَ مَالٍ بِمَالٍ مُطْلَقًا ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَا شُفْعَةَ فِي الْمَجْعُولِ بَدَلًا فِي الْخُلْعِ ، وَالصُّلْحِ فِي الْقِصَاصِ فِي نَفْسٍ ، أَوْ عُضْوٍ ؛ لِأَنَّ الشَّفِيعَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَخْذِ بِمِثْلِ ذَلِكَ السَّبَبِ ، وَلَا يُمْكِنُ إقَامَتُهُ مَقَامَ الْمُتَمَلَّكِ فِي حُكْمِ ذَلِكَ السَّبَبِ ، فَهُوَ نَظِيرُ الْمَوْهُوبِ لَا يُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ إبِلًا بِدَارٍ ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ بِإِزَاءِ مَالٍ مُطْلَقًا ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ لَيْسَتْ بِمَالٍ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَإِنَّمَا يُجْعَلُ لَهَا حُكْمُ الْمَالِيَّةِ فِي جَوَازِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا لِلْحَاجَةِ ، ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ مَا إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى دَارٍ عَلَى أَنْ رُدَّتْ عَلَيْهَا أَلْفًا ، وَذَكَرْنَا أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي حِصَّةِ الْأَلْفِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أُفْرِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَقْدَيْنِ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي شَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ هُنَا بَيْعٌ لِلنِّكَاحِ ( وَإِذَا تَعَذَّرَ إيجَابُ ) الشُّفْعَةِ فِيمَا هُوَ الْأَصْلُ لَا يُوجِبُ فِيمَا هُوَ بَيْعٌ ، وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِغَيْرِ مَهْرٍ ، ثُمَّ فَرَضَ لَهَا دَارِهِ مَهْرًا ، أَوْ صَالَحَهَا عَلَى أَنْ يَجْعَلَهَا مَهْرًا لَهَا أَوْ أَعْطَاهَا إيَّاهَا مَهْرًا لَمْ يَكُنْ فِيهَا شُفْعَةٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْهُ تَعْيِينٌ لِمَهْرِ الْمِثْلِ وَمَهْرُ الْمِثْلِ مَمْلُوكٌ لَهَا بِمُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ ، فَلَا يُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ ؛ وَلِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنْ يَجْعَلَ
الْمَفْرُوضَ بَعْدَ الْعَقْدِ ، كَالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ بَاعَهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا دَارًا ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ اسْمٌ خَاصٌّ لِمُبَادَلَةِ مَالٍ بِمَالٍ فَفِي لَفْظِ الْبَيْعِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَلَّكَهَا الدَّارَ عِوَضًا عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ ، وَكَذَلِكَ إنْ صَالَحَهَا مِنْ مَهْرِهَا عَلَى الدَّارِ ، أَوْ مِمَّا وَجَبَ لَهَا مِنْ الْمَهْرِ عَلَى الدَّارِ فَلِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ ؛ لِأَنَّ فِي لَفْظِهِمَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَا تَعْيِينَ مَهْرِ الْمِثْلِ بِالدَّارِ ، فَإِنَّهُ مَلَّكَهَا ذَلِكَ عِوَضًا عَنْ الْمَهْرِ الَّذِي اسْتَوْجَبَ عَلَيْهِ وَاَلَّذِي اسْتَوْجَبَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَهْرِ مَالٌ فَكَانَ مُبَادَلَةَ مَالٍ بِمَالٍ ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَهْرٍ مُسَمًّى فَبَاعَهَا بِهِ هَذِهِ الدَّارَ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ بِالشُّفْعَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ فَرَضَ الْقَاضِي لَهَا مَهْرًا ، ثُمَّ اشْتَرَى بِهِ الدَّارَ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ بِالشُّفْعَةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَعْطَاهَا الدَّارَ مَهْرًا ، فَإِنَّ هُنَاكَ لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَجَبَ عَلَيْهَا أَنْ تَرُدَّ الدَّارَ وَتُطَالِبَهُ بِالْمُتْعَةِ ، وَهُنَا لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَلْزَمْهَا رَدُّ شَيْءٍ مِنْ الدَّارِ عَلَى الزَّوْجِ ، وَإِنَّمَا لَزِمَهَا مِنْ الدَّارِ مَا فَرَضَ الْقَاضِي مَهْرًا لَهَا يُحْسَبُ مِنْ ذَلِكَ مِقْدَارُ الْمُتْعَةِ وَيُعْطِيهِ الْفَضْلَ عَلَى ذَلِكَ وَفِي الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ يُعْطِيهِ نِصْفَ الْمُسَمَّى .