كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
يَسْتَسْعِيَهُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ ، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَاءُ هَذَا النِّصْفِ لِلَّذِي اسْتَسْعَاهُ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِيهِ ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ عَتَقَ عَلَى مِلْكِهِ بِأَدَاءِ السِّعَايَةِ ، وَوَلَاءُ النِّصْفِ الْآخَرِ لِلْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ الْمُقِرَّ يَزْعُمُ أَنَّ وَلَاءَ الْكُلِّ لِلْمَيِّتِ ، وَإِقْرَارُهُ صَحِيحٌ فِيمَا هُوَ مِنْ حَقِّهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ غَيْرُهُ ، وَلِهَذَا جَعَلْنَا وَلَاءَ حِصَّتِهِ لِلْمَيِّتِ إذَا كَانَ قَوْمُهُمَا وَاحِدًا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَاءُ النِّصْفِ الَّذِي هُوَ نَصِيبُ الْمُقِرِّ لِلْمَيِّتِ لِهَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا ، وَوَلَاءُ النِّصْفِ الَّذِي اسْتَسْعَاهُ مَوْقُوفٌ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا الْعِتْقَ لَا يَتَجَزَّأُ ، فَاَلَّذِي اسْتَسْعَاهُ يَتَبَرَّأُ مِنْ الْوَلَاءِ وَيَقُولُ : إنَّمَا عَتَقَ هَذَا النِّصْفُ بِإِقْرَارِ شَرِيكِي ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ كَالْعِتْقِ فَالْوَلَاءُ فِي الْكُلِّ لَهُ ، وَالْمُقِرُّ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ بَلْ هُوَ لِلْمَيِّتِ ، فَيَتَعَارَضُ قَوْلُهُمَا فِي نَصِيبِ الَّذِي اسْتَسْعَاهُ فَيَبْقَى مَوْقُوفًا حَتَّى يَرْجِعَ أَحَدُهُمَا إلَى تَصْدِيقِ صَاحِبِهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي الْوَرَثَةِ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ فَأَقَرَّتْ مِنْهُمْ بِذَلِكَ ، ( فَإِنْ قِيلَ ) : عَلَى قَوْلِهِمَا لَمَّا أَقَرَّ الْمُسْتَسْعَى بِوَلَاءِ نَصِيبِهِ لِصَاحِبِهِ ، وَصَاحِبُهُ مُقِرٌّ بِهِ لِلْمَيِّتِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ وَلَاءُ الْعَبْدِ كُلُّهُ مِنْ الْمَيِّتِ .
( قُلْنَا ) : نَعَمْ وَلَكِنْ مِنْ ضَرُورَةِ إثْبَاتِ كُلِّ الْوَلَاءِ مِنْ الْمَيِّتِ الْحُكْمُ بِأَنَّهُ عِتْقٌ مِنْ جِهَةِ الْمَيِّتِ ، وَذَلِكَ يُسْقِطُ حَقَّ الْمُسْتَسْعَى فِي السِّعَايَةِ ، فَلِإِبْقَاءِ حَقِّهِ فِي السِّعَايَةِ جَعَلْنَا وَلَاءَ هَذَا النِّصْفِ مَوْقُوفًا .
عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ ، قَالَ أَحَدُهُمَا : إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ أَمْسِ الْمَسْجِدَ فَهُوَ حُرٌّ ، وَقَالَ الْآخَرُ : إنْ كَانَ دَخَلَ فَهُوَ حُرٌّ .
قَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ فِي الْإِسْقَاطِ نِصْفُ السِّعَايَةِ عَنْ الْمَمْلُوكِ أَعَادَهَا لِبَيَانِ حُكْمِ الْوَلَاءِ ، وَهُوَ أَنَّهُمَا إذَا كَانَا مُعْسِرَيْنِ يَسْعَى الْعَبْدُ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ بَيْنَهُمَا ، وَالْوَلَاءُ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ عِتْقٌ عَلَى مِلْكِهِ بِاعْتِبَارِ مَا أَدَّى إلَيْهِ مِنْ السِّعَايَةِ وَمَا سَقَطَ بِإِسْقَاطِهِ ، لَا بِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ ، فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَاءُ نَصِيبِهِ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْوَلَاءُ مَوْقُوفٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْفِيهِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَيَزْعُمُ أَنَّ صَاحِبَهُ حَانِثٌ ، وَأَنَّ الْكُلَّ عِتْقٌ مِنْ جِهَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ عِنْدَهُ لَا يَتَجَزَّأُ فَلِهَذَا كَانَ الْوَلَاءُ مَوْقُوفًا ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ كَامِلَةً لَهُمَا ، وَالْوَلَاءُ مَوْقُوفٌ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَتَجَزَّأُ ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَزْعُمُ أَنَّ صَاحِبَهُ حَانِثٌ ، وَأَنَّ الْوَلَاءَ كُلَّهُ لَهُ ، فَلِهَذَا يَتَوَقَّفُ الْوَلَاءُ ، وَكُلُّ وَلَاءٍ مَوْقُوفٌ فَمِيرَاثُهُ يُوقَفُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ لِصَاحِبِ الْوَلَاءِ وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ ، وَالْمَالُ الَّذِي لَا يُعْرَفُ مُسْتَحِقُّهُ يُوقَفُ فِي بَيْتِ الْمَالِ حَتَّى يَظْهَرَ مُسْتَحِقُّهُ ، وَجِنَايَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ لَا يَعْقِلُ عَنْهُ بَيْتُ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ بَيْتَ الْمَالِ لَا يَرِثُ مَالَهُ إنَّمَا يُوقَفُ الْمَالُ فِيهِ لِيَظْهَرَ مُسْتَحِقُّهُ ، فَلَا يَعْقِلُ جِنَايَتَهُ أَيْضًا ؛ وَهَذَا لِأَنَّ بَيْتَ الْمَالِ إنَّمَا يَعْقِلُ جِنَايَةَ مَنْ يَكُونُ وَلَاؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَمَنْ عَلَيْهِ وَلَاءُ عَتَاقَةٍ لَا يَكُونُ وَلَاؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَنَحْنُ نَتَيَقَّنُ أَنَّ عَلَى هَذَا الرَّجُلِ وَلَاءَ
عَتَاقَةٍ ، فَلِهَذَا لَا يُجْعَلُ عَقْلُ جِنَايَتِهِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ .
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ
بَابٌ آخَرُ مِنْ الْوَلَاءِ ( قَالَ ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاللَّقِيطُ حُرٌّ يَرِثُهُ بَيْتُ الْمَالِ ، وَيَعْقِلُ عَنْهُ هَكَذَا نُقِلَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ وَالْإِسْلَامَ تَثْبُتُ لَهُ بِاعْتِبَارِ الدَّارِ ، فَيَكُونُ وَلَاؤُهُ لِأَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ يَرِثُونَهُ وَيَعْقِلُونَهُ جِنَايَتَهُ ، وَمَالُ بَيْتِ الْمَالِ مَالُ الْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ مَالِ مَنْ عَلَيْهِ وَلَاءٌ مَوْقُوفٌ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوبٌ إلَى الْمُعْتِقِ ، وَهَذَا غَيْرُ مَنْسُوبٍ إلَى أَحَدٍ حَتَّى لَوْ وَالَى اللَّقِيطُ إنْسَانًا قَبْلَ أَنْ يَعْقِلَ عَنْهُ بَيْتُ الْمَالِ جِنَايَتَهُ فَوَلَاؤُهُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَنْسُوبًا إلَيْهِ بِالْوَلَاءِ حِينَ عَاقَدَهُ وَوَلَاؤُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ لَمْ يَتَأَكَّدْ بِعَقْلِ الْجِنَايَةِ حَتَّى لَوْ تَأَكَّدَ بِعَقْلِ الْجِنَايَةِ لَمْ يَمْلِكْ أَنْ يُوَالِي أَحَدًا .
( فَإِنْ قِيلَ ) : الْوَلَاءُ عَلَيْهِ لِلْمُسْلِمِينَ ثَبَتَ شَرْعًا فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ بِعَقْدِهِ كَوَلَاءِ الْعِتْقِ .
( قُلْنَا ) : نَعَمْ وَلَكِنَّ ثُبُوتَهُ لِمَعْنَى ذَلِكَ الْمَعْنَى يَزُولُ بِالْعَقْدِ ، وَهُوَ أَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إلَى أَحَدٍ ، بِخِلَافِ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ فَإِنَّ ثُبُوتَ الْوَلَاءِ عَلَيْهِ لِمَعْنًى لَا يَزُولُ ذَلِكَ بِالْعَقْدِ ، وَحُكْمُ مَوَالِي اللَّقِيطِ كَحُكْمِ اللَّقِيطِ لِأَنَّهُمْ يُنْسَبُونَ إلَيْهِ بِوَلَاءِ الْعِتْقِ أَوْ الْمُوَالَاةِ ، وَوَلَاؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ وَلَاءُ مَوَالِيهِ كَمَا فِي مُعْتِقِ الْمُعْتَقِ ، وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ أَسْلَمَ وَلَا يُوَالِي أَحَدًا ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَنْسُوبٍ إلَى أَحَدٍ بِالْوَلَاءِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَهُوَ كَاللَّقِيطِ ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ مِنْ الْعَرَبِ عَبْدٌ فَأَعْتَقَاهُ فَجَنَى جِنَايَةً كَانَ نِصْفُ الْجِنَايَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْعَرَبِيِّ ؛ لِأَنَّ نِصْفَ وَلَائِهِ لَهُ وَنِصْفَهَا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ نِصْفَ وَلَائِهِ لِمَنْ هُوَ مَوْلَى الْمُسْلِمِينَ ، وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَيَا وَلَدًا وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَهُوَ وَلَدُهُمَا ، وَنِصْفُ
جِنَايَتِهِ عَلَى قَبِيلَةِ الْعَرَبِيِّ ، وَنِصْفُهُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ نَسَبِهِ مِنْ اللَّقِيطِ وَالْعَرَبِيِّ جَمِيعًا .
( قَالَ ) : ذِمِّيٌّ أَعْتَقَ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا فَأَسْلَمَ الْكَافِرُ كَانَ مِيرَاثُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ مَوْلَى الْكَافِرُ وَلَكِنَّ الْكَافِرَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ وَعَقْلُهُ عَلَى نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ بِالْوَلَاءِ إلَى إنْسَانٍ ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ عَقْلِ جِنَايَتِهِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ، وَلَا وَجْهَ لِإِيجَابِهِ عَلَى الْكَافِرِ ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يَنْصُرُ الْمُسْلِمَ فَكَانَ عَقْلُ جِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَاتَ مَوْلَاهُ وَلَا عَشِيرَةَ لَهُ مِنْ الْكُفَّارِ ، كَانَ مَالُهُ مَصْرُوفًا إلَى بَيْتِ الْمَالِ .
( قَالَ ) : وَلَوْ جَنَى جِنَايَةً كَانَ عَقْلُ جِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ ، فَكَذَلِكَ حَالُ الْمُعْتِقِ وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ لِلذِّمِّيِّ عَشِيرَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ فَمِيرَاثُهُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ عَصَبَةً مِنْ الْمُعْتِقِ ، وَإِنْ وَالَى هَذَا الْمُعْتِقُ رَجُلًا لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ وَلَاءَ عَتَاقَةٍ لِكَافِرٍ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إبْطَالِهِ بِعَقْدِ الْمُوَالَاةِ وَإِنْ أَسْلَمَ مَوْلَاهُ الْمُعْتِقُ وَوَالَى رَجُلًا صَارَ هَذَا الْمُعْتِقُ مَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَنْسُوبًا إلَيْهِ بِالْوَلَاءِ وَقَدْ صَارَ مَوْلًى لِمَنْ عَاقَدَهُ .
نَصْرَانِيٌّ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ مُسْلِمًا كَانَ وَلَاؤُهُ لِقَبِيلَةِ مَوْلَاهُ الَّذِي أَعْتَقَهُ إنْ كَانَ مِنْ بَنِي تَغْلِبَ ، فَهُوَ تَغْلِبِيٌّ مَنْسُوبٌ إلَيْهِمْ يَعْقِلُونَ عَنْهُ ، وَيَرِثُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ أَقْرَبُهُمْ إلَى مَوْلَاهُ عَصَبَةً ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ يَثْبُتُ لِلْمُعْتِقِ وَإِنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَرِث لِكَوْنِهِ مُخَالِفًا لَهُ فِي الدِّينِ ، فَيَقُومُ أَقْرَبُ عَصَبَتِهِ مَقَامَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ مِيرَاثِهِ ، وَعَقْلُ جِنَايَتِهِ عَلَى قَبِيلَةِ مَوْلَاهُ كَعَقْلِ جِنَايَةِ مَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَيْهِمْ بِالْوَلَاءِ وَكُلُّ مُعْتِقٍ جَرَى عَلَيْهِ الرِّقُّ بَعْدَ الْعِتْقِ اُنْتُقِضَ بِهِ الْوَلَاءُ الْأَوَّلُ ، وَكَانَ حُكْمُ الْوَلَاءِ لِلْعِتْقِ الَّذِي يَحْدُثُ مِنْ بَعْدُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يُنْتَقَضُ الْأَوَّلُ بِالِاسْتِرْقَاقِ ، فَرُبَّمَا يَقُولُ لَا يَسْتَرِقُّ مَنْ عَلَيْهِ وَلَاءٌ لِمُسْلِمٍ ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ ، لَا يَبْطُلُ النَّسَبُ بِالِاسْتِرْقَاقِ أَوْ لِمُرَاعَاةِ حَقِّ الْمُسْلِمِ فِي الْوَلَاءِ لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ كَالْحُرِّيَّةِ الْمُتَأَكِّدَةِ بِالْإِسْلَامِ ، لَا يَجُوزُ إبْطَالُهَا بِالرِّقِّ .
( وَلَكِنَّا ) نَقُولُ : سَبَبُ الْوَلَاءِ الْأَوَّلِ قَدْ انْعَدَمَ بِالِاسْتِرْقَاقِ وَهُوَ الْعِتْقُ ، وَقُوَّةُ الْمَالِكِيَّةِ الَّتِي حَدَثَتْ فِيهِ وَلَا بَقَاءَ لِلْحُكْمِ بَعْدَ بُطْلَانِ السَّبَبِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَمْتَنِعَ الِاسْتِرْقَاقُ ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ قَدْ تَقَرَّرَ فَلَا يَمْتَنِعُ إلَّا لِمَانِعٍ وَهِيَ الْعِصْمَةُ ، وَلَا عِصْمَةَ لَهُ بِاعْتِبَارِ الْوَلَاءِ كَمَا لَا عِصْمَةَ لَهُ بِاعْتِبَارِ نَسَبِ الْمُسْلِمِ حَتَّى يَجُوزَ اسْتِرْقَاقُ الْحَرْبِيِّ وَإِنْ كَانَ لَهُ وَالِدٌ مُسْلِمٌ ، وَإِذَا صَارَ رَقِيقًا لِلثَّانِي فَأَعْتَقَهُ فَقَدْ اكْتَسَبَ سَبَبَ الْوَلَاءِ عَلَيْهِ لِنَفْسِهِ ، فَلِهَذَا كَانَ مَوْلًى لَهُ حَرْبِيٌّ أَعْتَقَ عَبْدًا فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ خَرَجَا مُسْلِمَيْنِ كَانَ لَهُ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ عِتْقَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ بَاطِلٌ ؛
لِأَنَّهُ لَمْ يُخَلِّ سَبِيلَهُ ، فَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ خَلَّى سَبِيلَهُ كَانَ عِتْقُهُ نَافِذًا ، وَلَكِنْ لَا يَثْبُتُ الْوَلَاءُ لَهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَجْرِي عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ ، وَلَئِنْ ثَبَتَ الْوَلَاءُ فَهُوَ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْمِلْكِ ، وَلَا حُرْمَةَ لِمِلْكِهِ ، فَكَذَلِكَ لَا حُرْمَةَ لِأَثَرِ مِلْكِهِ ، وَلَكِنْ بِإِحْرَازِ الْعَبْدِ نَفْسَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَبْطُلُ ذَلِكَ كُلُّهُ ، فَلَهُ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ .
حَرْبِيٌّ دَخَلَ دَارَنَا بِأَمَانٍ فَاشْتَرَى عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ ، أَوْ أَعْتَقَ عَبْدًا جَاءَ بِهِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ مَعَهُ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَأُسِرَ وَجَرَى عَلَيْهِ الرِّقُّ فَمُعْتِقُهُ مَوْلَاهُ لَا يَتَحَوَّلُ عَنْهُ أَبَدًا ؛ لِأَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ الْوَلَاءِ لَهُ الْعِتْقُ وَإِحْدَاثُ الْقُوَّةِ فِي الْمَمْلُوكِ ، وَذَلِكَ بَاقٍ بَعْدَمَا صَارَ رَقِيقًا وَضَعُفَ حَالُهُ بِسَبَبِ الرِّقِّ ، لَا يَكُونُ فَوْقَ ضَعْفِ حَالِهِ بِالْمَوْتِ ، وَالْوَلَاءُ الثَّابِتُ لِلْمُعْتِقِ لَا يَبْطُلُ بِالْمَوْتِ فَكَذَلِكَ بِرِقِّهِ .
( فَإِنْ قِيلَ ) : الرِّقُّ الَّذِي حَدَثَ فِيهِ يُنَافِي ابْتِدَاءَ الْوَلَاءِ بِالْعِتْقِ ، وَإِنْ تَقَرَّرَ سَبَبُهُ مِنْهُ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْمُكَاتَبِ ، فَكَذَلِكَ يُنَافِي بَقَاءَهُ ( قُلْنَا ) : لَا كَذَلِكَ وَلَكِنَّ الرَّقَّ مُنَافٍ حَقِيقَةَ الْمِلْكِ ، وَعَلَيْهِ يَتَرَتَّبُ الْعِتْقُ الَّذِي يَعْقُبُهُ الْوَلَاءُ ، وَلَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ فِي إبْقَاءِ الْوَلَاءِ وَهُوَ نَظِيرُ الْمَوْتِ فِي أَنَّهُ يُنَافِي الْمِلْكَ وَابْتِدَاءَ الْوَلَاءِ لِلْمَيِّتِ ، وَلَا يُنَافِي بَقَاءَهُ فَإِنْ مَاتَ مُعْتِقُهُ كَانَ مِيرَاثُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ مَوْلَاهُ رَقِيقٌ لَا يَرِثُهُ وَلَيْسَ لَهُ عَشِيرَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، فَيُوضَعُ مَالُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ نَصِيبُ كُلِّ مَالٍ ضَائِعٍ وَعَقْلُ جِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ بِالْوَلَاءِ إلَى إنْسَانٍ فَإِنْ أُعْتِقَ هَذَا الْحَرْبِيُّ صَارَ مَوْلًى لِمُعْتِقِهِ ، وَكَذَلِكَ مُعْتِقُهُ يَكُون مَوْلًى لَهُ بِوَاسِطَةِ أُمِّ وَلَدٍ
لِحَرْبِيٍّ خَرَجَتْ إلَيْنَا مُسْلِمَةً ، فَهِيَ حُرَّةٌ تُوَالِي مَنْ شَاءَتْ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهَا أَحْرَزَتْ نَفْسَهَا بِدَارِ الْإِسْلَامِ ، وَلَوْ كَانَتْ قِنَّةً فَأَحْرَزَتْ نَفْسَهَا بِالدَّارِ كَانَتْ تُعْتَقُ لِمِلْكِهَا نَفْسَهَا ، وَلَا وَلَاءَ عَلَيْهَا لِأَحَدٍ ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ ، وَلِهَذَا كَانَ لَهَا أَنْ تُوَالِيَ مَنْ شَاءَتْ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ { أَنَّ سِتَّةً مِنْ عَبِيدِ أَهْلِ الطَّائِفِ خَرَجُوا مُسْلِمِينَ حِينَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحَاصِرًا لَهُمْ ، ثُمَّ خَرَجَ مَوَالِيهِمْ يَطْلُبُونَ وَلَاءَهُمْ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أُولَئِكَ عُتَقَاءُ اللَّهِ } .
مُسْلِمٌ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ ، أَوْ أَسْلَمَ حَرْبِيٌّ هُنَاكَ ثُمَّ أَعْتَقَ عَبْدًا اشْتَرَاهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، ثُمَّ أَسْلَمَ عَبْدُهُ لَمْ يَكُنْ مَوْلَاهُ فِي الْقِيَاسِ ، وَلَهُ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ ثُبُوتَ الْوَلَاءِ عَلَيْهِ مِنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ وَحُكْمُ الْإِسْلَامِ لَا يَجْرِي عَلَى الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ عَلَى هَذَا الْمُعْتِقِ الْحَرْبِيِّ وَلَاءٌ حِينَ أَسْلَمَ ، فَلَهُ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : أَجْعَلُهُ مَوْلَاهُ اسْتِحْسَانًا لِمَا وَرَدَ فِي الْخَبَرِ مِنْ { عِتْقِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ } ، وَعِتْقِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَبْعَةً مِمَّنْ كَانَ يُعَذَّبُ فِي اللَّهِ تَعَالَى بِمَكَّةَ مِنْهُمْ صُهَيْبٌ وَبِلَالٌ وَكَانَ وَلَاؤُهُمْ لَهُ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : كَانَ هَذَا قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ بِالْقِتَالِ ، وَقَبْلَ أَنْ تَصِيرَ مَكَّةُ دَارَ حَرْبٍ ، وَإِنَّمَا صَارَتْ دَارَ حَرْبٍ بَعْدَمَا هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا ، وَأُمِرَ بِالْقِتَالِ فَجَرَى حُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ أُولَئِكَ الْمُعْتَقِينَ كَانُوا مُسْلِمِينَ ، وَكَانُوا يُعَذَّبُونَ بِمَكَّةَ ، وَالْمُسْلِمُ إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا مُسْلِمًا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَوَلَاؤُهُ لَهُ .
حَرْبِيٌّ اشْتَرَى فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عَبْدًا فَأَعْتَقَهُ ثُمَّ رَجَعَ الْحَرْبِيُّ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَأُسِرَ وَاسْتُرِقَّ ، فَاشْتَرَاهُ مُعْتِقُهُ وَأَعْتَقَهُ فَوَلَاءُ الْأَوَّلِ لِلْآخَرِ ، وَوَلَاءُ الْآخَرِ لِلْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اكْتِسَابُ سَبَبِ الْوَلَاءِ فِي صَاحِبِهِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْوِلَاءَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يَجُوزُ نِسْبَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَخَوَيْنِ بِالْأُخُوَّةِ إلَى صَاحِبِهِ ، فَكَذَلِكَ نِسْبَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُعْتَقَيْنِ إلَى صَاحِبِهِ بِالْوَلَاءِ .
حَرْبِيٌّ مُسْتَأْمَنٌ اشْتَرَى عَبْدًا مُسْلِمًا فَأَدْخَلَهُ دَارَ الْحَرْبِ فَهُوَ حُرٌّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ وَلَا يَكُونُ وَلَاؤُهُ لِلَّذِي أَدْخَلَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَتَقَ بَعْدَ وُصُولِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَزَوَالُ الْعِصْمَةِ عَنْ مِلْكِ الْحَرْبِيِّ وَثُبُوتُ الْوَلَاءِ بِاعْتِبَارِ عِصْمَةِ الْمِلْكِ ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَ لِمِلْكِهِ عِصْمَةٌ لَا يَثْبُتُ لَهُ وَلَاؤُهُ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إنْ أَعْتَقَهُ الَّذِي أَدْخَلَهُ فَوَلَاؤُهُ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ مُلْتَزِمٌ لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ فَيَثْبُتُ الْوَلَاءُ لَهُ بِالْعِتْقِ ، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ إنَّمَا عَتَقَ لِمِلْكِهِ نَفْسَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَلَّ لَهُ قَتْلُ مَوْلَاهُ وَأَخْذُ مَالِهِ ، وَهُوَ قَاهِرٌ لِمَوْلَاهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَيُعْتَقُ بِمِلْكِهِ نَفْسَهُ ، وَلِهَذَا لَا يَكُونُ عَلَيْهِ وَلَاءٌ ، وَإِذَا أَسْلَمَ عَبْدُ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يُعْتَقْ بِنَفْسِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُحْرِزًا نَفْسَهُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ هَذَا وَمِلْكُهُ نَفْسَهُ بِالْإِحْرَازِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ كَانَ مُحْرِزًا نَفْسَهُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ ، وَلَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ بِإِدْخَالِ الْحَرْبِيِّ إيَّاهُ دَارَ الْحَرْبِ ، فَإِنْ بَاعَهُ الْحَرْبِيُّ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ حَرْبِيٍّ مِثْلِهِ ، فَهُوَ حُرٌّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْحَرْبِيِّ زَالَ عَنْهُ بِالْبَيْعِ ، وَمِلْكَ الْحَرْبِيِّ مَتَى زَالَ عَنْ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَزُولُ إلَى الْعِتْقِ كَمَا لَوْ خَرَجَ مُرَاغَمًا وَعِنْدَهُمَا لَا يُعْتَقُ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَخْلُفُ الْبَائِعَ فِي مِلْكِهِ ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ السَّيْرِ فَإِنْ غَنَمَهُ الْمُسْلِمُونَ عَتَقَ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ
يَدَهُ فِي نَفْسِهِ أَقْرَبُ مِنْ أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِ فَيَصِيرُ مُحْرِزًا نَفْسَهُ بِمَنْعِهِ الْجَيْشَ .
حَرْبِيٌّ خَرَجَ مُسْتَأْمَنًا فِي تِجَارَةٍ لِمَوْلَاهُ فَأَسْلَمَ لَمْ يُعْتَقْ ، وَلَكِنَّ الْإِمَامَ يَبِيعُهُ وَيُمْسِكُ ثَمَنَهُ عَلَى مَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّ مَالِيَّةَ الْحَرْبِيِّ فِيهِ صَارَ مَعْصُومًا بِالْأَمَانِ فَلَا يُعْتَقُ ، وَلَكِنْ بَعْدَ الْإِسْلَامِ لَا يَجُوزُ إبْقَاءُ الْمُسْلِمِ فِي مِلْكِ الْكَافِرِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَوْلَاهُ لَوْ كَانَ مَعَهُ يُجْبِرُهُ الْإِمَامُ عَلَى بَيْعِهِ ، وَلَمْ يَتْرُكْهُ لِيَرْجِعَ بِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمَوْلَى مَعَهُ نَابَ الْإِمَامُ عَنْهُ فِي الْبَيْعِ ، وَيُمْسِكُ ثَمَنَهُ عَلَى مَوْلَاهُ حَتَّى يَجِيءَ فَيَأْخُذَهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، ثُمَّ خَرَجَ إلَيْنَا فِي تِجَارَةٍ لِمَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّهُ مَا قَصَدَ بِالْخُرُوجِ إحْرَازَ نَفْسِهِ عَلَى مَوْلَاهُ فَهُوَ كَمَا لَوْ خَرَجَ مَعَ مَوْلَاهُ فِي تِجَارَةٍ بِخِلَافِ مَا إذَا خَرَجَ مُرَاغَمًا ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ إحْرَازَ نَفْسِهِ عَنْ مَوْلَاهُ فَكَانَ حُرًّا يُوَالِي مَنْ شَاءَ مَا لَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ بَيْتُ الْمَالِ ، فَإِنْ عَقَلَ عَنْهُ بَيْتُ الْمَالِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُوَالِيَ أَحَدًا ؛ لِأَنَّ وَلَاءَهُ لِلْمُسْلِمِينَ قَدْ تَأَكَّدَ بِعَقْدِ جِنَايَتِهِ .
رَجُلٌ ارْتَدَّ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ فَمَاتَ مَوْلًى لَهُ قَدْ كَانَ أَعْتَقَهُ قَبْل رِدَّتِهِ ، فَوَرِثَهُ الرِّجَالُ مِنْ وَرَثَتِهِ دُونَ النِّسَاءِ ثُمَّ خَرَجَ ثَانِيًا أَخَذَ مَا وُجِدَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فِي يَدِ وَرَثَتِهِ ، وَلَمْ يَأْخُذْ مَا وُجِدَ مِنْ مَالِ مَوْلَاهُ فِي أَيْدِيهِمْ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُرْتَدًّا حِينَ مَاتَ مَوْلَاهُ ؛ وَالْمُرْتَدُّ لَا يَرِثُ ، وَإِنَّمَا يُعَادُ إلَيْهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ الْمَالُ الَّذِي كَانَ لَهُ قَبْلَ الرِّدَّةِ ، فَأَمَّا مَا لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا قَطُّ لَا يُعَادُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ كَانَ هَذَا مَالِكًا مُبْتَدِئًا لَهُ ، وَبِسَبَبِ إسْلَامِهِ لَا يَسْتَحِقُّ تَمَلُّكَ الْمَالِ عَلَى أَحَدٍ ابْتِدَاءً ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ حِينَ مَاتَ مَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّهُ مُرْتَدٌّ فَلَا يَرِثَ الْمُسْلِمَ ، وَلَكِنْ يُجْعَلُ هُوَ كَالْمَيِّتِ فِي إرْثِ مَوْلَاهُ ، فَيَكُونُ مِيرَاثُهُ لِأَقْرَبِ عَصَبَةٍ مِنْهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ .
امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي أَسَدٍ أَعْتَقَتْ عَبْدًا لَهَا فِي رِدَّتِهَا ، أَوْ قَبْلَ رِدَّتِهَا ، ثُمَّ لَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ فَسُبِيَتْ فَاشْتَرَاهَا رَجُلٌ مِنْ هَمْدَانَ فَأَعْتَقَهَا ، فَإِنَّهُ يَعْقِلُ عَنْ الْعَبْدِ بَنُو أَسَدٍ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَوَّلِ ، وَتَرِثُهُ الْمَرْأَةُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ ؛ لِأَنَّ قَبْلَ رِدَّتِهَا كَانَ عَقْلُ جِنَايَةِ هَذَا الْمُعْتِقِ عَلَى بَنِي أَسَدٍ بِاعْتِبَارِ نِسْبَةِ الْمُعْتَقَةِ إلَيْهِمْ ، وَذَلِكَ بَاقٍ بَعْدَ السَّبْيِ ، فَإِنَّ النَّسَبَ لَا يَنْقَطِعُ بِالسَّبْيِ وَبَعْدَ مَا عَتَقَتْ هِيَ مَنْسُوبَةٌ إلَيْهِمْ بِالنَّسَبِ أَيْضًا ، فَكَانَ عَقْلُ جِنَايَتِهِ عَلَيْهِمْ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ بَعْدَ السَّبْيِ قَبْلَ الْعِتْقِ كَانَ الْحُكْمُ هَكَذَا فَلَا يَزْدَادُ بِالْعِتْقِ إلَّا وَكَادَةً ، ثُمَّ رَجَعَ يَعْقُوبُ عَنْ هَذَا وَقَالَ : يَعْقِلُ عَنْهُ هَمْدَانُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَقَةَ لَمَّا سُبِيَتْ فَأُعْتِقَتْ صَارَتْ مَنْسُوبَةً بِالْوَلَاءِ إلَى قَبِيلَةِ مُعْتِقِهَا ، فَكَذَلِكَ مُعْتِقُهَا يَكُونُ مَنْسُوبًا إلَيْهِمْ بِوَاسِطَتِهَا ؛ وَهَذَا لِأَنَّ وَلَاءَ الْعِتْقِ فِي الْحُكْمِ أَقْوَى مِنْ النَّسَبِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ عَقْلَ جِنَايَتِهَا يَكُونُ عَلَى قَوْمِ مُعْتِقِهَا ، وَلَوْ أَعْتَقَتْ بَعْدَ هَذَا عَبْدًا كَانَ مَوْلًى لِقَوْمِ مُعْتِقِهَا ، فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ وَقَبْلَ الرِّدَّةِ إنَّمَا كَانَ الْمُعْتَبَرُ النِّسْبَةُ لِانْعِدَامِ وَلَاءِ الْعِتْقِ عَلَيْهَا ، فَإِذَا ظَهَرَ وَلَاءُ الْعِتْقِ كَانَ الْحُكْمُ لَهُ كَمَا يُنْسَبُ الْوَلَدُ بِالْوَلَاءِ إلَى قَوْمِ أُمِّهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ وَلَاءٌ فِي جَانِبِ أَبِيهِ ، فَإِذَا ظَهَرَ كَانَ الْحُكْمُ لَهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ مُعْتَقَةً لِلْأَوَّلَيْنِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْوَلَاءَ الثَّابِتَ عَلَيْهَا لِلْأَوَّلَيْنِ قَدْ بَطَلَ حِينَ سُبِيَتْ وَأُعْتِقَتْ ، فَكَذَلِكَ مَا يُبْتَنَى عَلَيْهِ مِنْ وَلَاءِ مُعْتِقِهَا .
رَجُلٌ ذِمِّيٌّ أَعْتَقَ عَبْدًا فَأَسْلَمَ الْعَبْدُ ، ثُمَّ نَقَضَ الذِّمِّيُّ الْعَهْدَ وَلَحِقَ بِدَارُ الْحَرْبِ فَلَيْسَ لِلْعَبْدِ أَنْ يُوَالِيَ أَحَدًا ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ ثَابِتٌ عَلَيْهِ لِمُعْتِقِهِ ، وَإِنْ صَارَ حَرْبِيًّا بِاعْتِبَارِ أَنَّ صَيْرُورَتَهُ حَرْبِيًّا كَمَوْتِهِ ، وَإِنْ جَنَى جِنَايَةً لَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ بَيْتُ الْمَالِ وَكَانَتْ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ بِالْوَلَاءِ لِلْإِنْسَانِ ، وَإِنَّمَا يَعْقِلُ بَيْتُ الْمَالِ عَمَّنْ لَا عَشِيرَةَ لَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَلَا وَرَثَةَ .
وَإِذَا أَسْلَمَتْ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ثُمَّ أَعْتَقَتْ عَبْدًا ، ثُمَّ ارْتَدَّتْ وَلَحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ سُبِيَ أَبُوهَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ كَافِرًا فَأَعْتَقَهُ رَجُلٌ لَمْ يَجْرِ وَلَاءُ مَوْلَاهَا ؛ لِأَنَّهَا حُرَّةٌ حَرْبِيَّةٌ ، فَلَا تَصِيرُ مَوْلًى لِمَوَالِي أَبِيهَا ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ حُكْمَ الْإِسْلَامِ لَا يَجْرِي عَلَى الْحَرْبِيَّةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَإِنَّمَا يَنْجَرُّ وَلَاءُ مُعْتَقِهَا إلَى مَوَالِي الْأَبِ بِوَاسِطَتِهَا ، فَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ هَذِهِ الْوَاسِطَةُ فِي حَقِّهِمْ لَا يَنْجَرُّ إلَيْهِمْ الْوَلَاءُ ، فَإِنْ كَانَ مَوْلَاهَا الَّذِي أَعْتَقَهُ مُسْلِمًا فَجَنَى جِنَايَةً ، فَعَقْلُهُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهَا حِينَ أَعْتَقَتْ الْعَبْدَ كَانَ وَلَاؤُهَا لِبَيْتِ الْمَالِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ جَنَتْ كَانَ عَقْلُ جِنَايَتِهَا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ، فَيَثْبُتُ ذَلِكَ الْحُكْمُ فِي حَقِّ مَوْلَاهَا ، ثُمَّ يَبْقَى بَعْدَ رِدَّتِهَا كَمَا يَبْقَى بَعْدَ مَوْتِهَا لَوْ مَاتَتْ ؛ لِأَنَّ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ فَهُوَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ كَالْمَيِّتِ .
امْرَأَةٌ مِنْ الْعَجَمِ أَسْلَمَتْ ثُمَّ أَعْتَقَتْ عَبْدًا ، ثُمَّ سُبِيَ أَبُوهَا فَاشْتَرَاهَا رَجُلٌ فَأَعْتَقَهُ ، فَإِنَّ وَلَاءَ الْمَرْأَةِ وَوَلَاءَ مَوْلَاهَا إلَى مَوَالِي الْأَبِ ، وَيَنْجَرُّ بِوَاسِطَتِهَا وَلَاءُ مُعْتَقِهَا إلَى مَوَالِي الْأَبِ أَيْضًا ؛ وَهَذَا لِأَنَّ ثُبُوتَ الْوَلَاءِ عَلَيْهَا لِلْمُسْلِمِينَ لَا يَمْنَعُهَا مِنْ أَنْ تُوَالِيَ إنْسَانًا ، فَلَا يُمْنَعُ جَرُّ وَلَائِهَا إلَى قَوْمِ الْأَبِ بَعْدَ مَا عَتَقَ الْأَبُ .
حَرْبِيٌّ أَوْ مُرْتَدٌّ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، ثُمَّ أَعْتَقَ عَبْدًا مُسْلِمًا ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ الْإِسْلَامِ فَأُسِرَ فَأَسْلَمَ الْعَبْدُ وَأَبَى الْمَوْلَى أَنْ يُسْلِمَ فَقُتِلَ فَوَلَاءُ الْعَبْدُ لِلْمَوْلَى لَا يَتَحَوَّلُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ كَمَوْتِهِ ، وَالْوَلَاءُ الثَّابِتُ لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِهِ ، فَإِنْ كَانَ لَهُ عَشِيرَةٌ كَانَ عَقْلُهُ عَلَيْهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَشِيرَةٌ فَمِيرَاثُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ وَعَقْلُهُ عَلَى نَفْسِهِ ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مَنْسُوبٌ بِالْوَلَاءِ إلَى إنْسَانٍ بِعَيْنِهِ فَلَا يَعْقِلُ عَنْهُ بَيْتُ الْمَالِ ، فَإِذَا تَعَذَّرَ إيجَابُ عَقْلِ جِنَايَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ جُعِلَ عَلَى نَفْسِهِ .
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .
بَابُ الْإِقْرَارِ بِالْوَلَاءِ ( قَالَ ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلٌ أَقَرَّ أَنَّهُ مَوْلَى فُلَانٍ مَوْلَى عَتَاقَةٍ مِنْ فَوْقُ أَوْ مِنْ تَحْتِ ، وَصَدَّقَهُ الْآخَرُ فَهُوَ مَوْلًى لَهُ ، وَيَعْقِلُ عَنْهُ قَوْمُهُ ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ وَالْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ صَحِيحٌ مِنْ الْأَبِ وَالِابْنِ جَمِيعًا فَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِالْوَلَاءِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَسْفَلَ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَى الْأَعْلَى بِالْوَلَاءِ ، وَالْأَعْلَى يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ ، وَأَنَّ عَلَيْهِ نُصْرَتَهُ ، وَإِقْرَارُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نَفْسِهِ نَافِذٌ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَوْلَادٌ كِبَارٌ وَأَنْكَرُوا ذَلِكَ وَقَالُوا : أَبُونَا مَوْلَى عَتَاقَةٍ لِفُلَانٍ آخَرَ ، فَالْأَبُ يُصَدِّقُ عَلَى نَفْسِهِ ، وَالْأَوْلَادُ مُصَدِّقُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْأَبِ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ فِي عَقْدِ الْوَلَاءِ ، فَكَذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ بِهِ وَهُمْ يَمْلِكُونَ مُبَاشَرَةَ عَقْدِ الْوَلَاءِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَيَمْلِكُونَ الْإِقْرَارَ بِهِ ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي وَلَاءِ الْمُوَالَاةِ فَكَذَلِكَ فِي وَلَاءِ الْعَتَاقَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا فِي النِّسْبَةِ وَالنُّصْرَةِ سَوَاءٌ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَادُ صِغَارًا كَانَ الْأَبُ مُصَدِّقًا عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ عَقْدِ الْوَلَاءِ عَلَيْهِمْ بِوِلَايَةِ الْأُبُوَّةِ ، فَيَنْفُذُ إقْرَارُهُ عَلَيْهِمْ أَيْضًا ؛ وَلِأَنَّ الصِّغَارَ مِنْ الْأَوْلَادِ يَتْبَعُونَهُ فِي الْإِسْلَامِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ اعْتِقَادُهُمْ بِخِلَافِهِ فَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ أَمٌّ فَقَالَتْ أَنَا مَوْلَاةُ فُلَانٍ ، وَصَدَّقَهَا مَوْلَاهَا بِذَلِكَ ، فَالْوَلَدُ مَوْلَى مَوَالِي الْأَبِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَبَوَيْنِ أَصْلٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، وَلَوْ كَانَ وَلَاءُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْرُوفًا كَانَ الْوَلَدُ مَوْلًى لِمَوَالِي الْأَبِ ، وَلَوْ قَالَتْ الْأُمُّ لِلْأَبِ : أَنْتَ عَبْدُ فُلَانٍ .
وَقَالَ : كُنْتُ عَبْدَ فُلَانٍ فَأَعْتَقَنِي وَصَدَّقَهُ فُلَانٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَبِ ؛ لِأَنَّ
بِتَصَادُقِهِمَا ظَهَرَ فِي جَانِبِ الْأَبِ وَلَاءٌ ، فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلِهِمَا فِي حَقِّ الْوَلَدِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَتْ : هُمْ وَلَدِي مِنْ غَيْرِك ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ ، وَفِرَاشُ الزَّوْجِ عَلَيْهَا ظَاهِرٌ فَلَا تُصَدَّقُ فِيمَا تَدَّعِي مِنْ فِرَاشٍ آخَرَ غَيْرِ مَعْلُومٍ ، وَلَوْ قَالَتْ وَلَدْتُهُ بَعْدَ عِتْقِي بِخَمْسَةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ مَوْلًى لِمَوَالِيَّ وَقَالَ الزَّوْجُ : وَلَدْتِيهِ بَعْدَ عِتْقِكِ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ لِأَنَّ الْوَلَاءَ كَالنَّسَبِ ، وَفِي مِثْلِ هَذَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي النَّسَبِ بِأَنْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ : وَلَدْتُهُ بَعْدَ النِّكَاحِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ .
وَقَالَ الزَّوْجُ : بَلْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ .
كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الزَّوْجِ لِظُهُورِ فِرَاشِهِ عَلَيْهَا فِي الْحَالِ ، فَكَذَلِكَ فِي الْوَلَاءِ لِظُهُورِ وَلَاءِ الْأَبِ فِي الْحَالِ ، وَهُوَ مُوجِبٌ جَرَّ وَلَاءَ الْوَلَدِ مَا لَمْ يُعْلَمْ أَنَّهُ كَانَ مَقْصُودًا بِالْعِتْقِ .
امْرَأَةٌ فِي يَدِهَا وَلَدٌ لَا يُعْرَفُ أَبُوهُ أَقَرَّتْ أَنَّهَا مُعْتَقَةُ هَذَا الرَّجُلِ ، وَصَدَّقَهَا ذَلِكَ الرَّجُلُ لَمْ تُصَدَّقْ عَلَى الِابْنِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَهِيَ مُصَدَّقَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هِيَ تَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ عَقْدِ الْوَلَاءِ عَلَى وَلَدِهَا ، وَيَتْبَعُهَا الْوَلَدُ فِي الْإِسْلَامِ فَتُصَدَّقُ فِي الْإِقْرَارِ عَلَيْهِ بِالْوَلَاءِ أَيْضًا ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَتْ : كَانَ زَوْجِي رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ أَسْلَمَ أَوْ كَانَ عَبْدًا صُدِّقَتْ عَلَى الْوَلَدِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلَا تُصَدَّقُ فِي قَوْلِهِمَا ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا لَا تَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ عَقْدِ الْوَلَاءِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا رَجُلًا مِنْ الْعَرَبِ وَهِيَ لَا تَعْرِفُ فَأَقَرَّتْ أَنَّهَا مَوْلَى عَتَاقَةٍ لِرَجُلٍ صُدِّقَتْ عَلَى نَفْسِهَا وَلَا تُصَدَّقُ عَلَى الْوَلَدِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ بِمَا لَهُ مِنْ النَّسَبِ مُسْتَغْنٍ عَنْ الْوَلَاءِ ، وَاعْتِبَارُ قَوْلِهَا عَلَيْهِ لِمَنْفَعَةِ الْوَلَدِ ، فَإِذَا لَمْ تُوجَدْ الْمَنْفَعَةُ هُنَا لَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهَا عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ ، وَالْإِقْرَارُ بِوَلَاءِ الْعَتَاقَةِ وَالْوَلَاءِ سَوَاءٌ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ كَالْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ فِي الْمَرَضِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَحَلِّ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْوَلَاءِ .
وَإِذَا قَالَ : فُلَانٌ مَوْلًى لِي قَدْ أَعْتَقْتُهُ .
وَقَالَ فُلَانٌ : بَلْ أَنَا أَعْتَقْتُك لَمْ يُصَدَّقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ اعْتِبَارًا لِلْوَلَاءِ بِالسَّبَبِ ، وَلَوْ قَالَ : أَنَا مَوْلًى لِفُلَانٍ وَفُلَانٍ أَعْتَقَانِي ، فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِذَلِكَ ، وَأَنْكَرَ الْآخَرُ وَحَلَفَ مَا أَعْتَقْته ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ يُعْتِقُهُ أَحَدُهُمَا ، وَإِنْ قَالَ : أَنَا مَوْلَى فُلَانٍ أَعْتَقَنِي ، ثُمَّ قَالَ : لَا بَلْ أَعْتَقَنِي فُلَانٌ فَهُوَ مَوْلًى لِلْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ رَجَعَ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْوَلَاءِ لِلْأَوَّلِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ وَبَعْدَ مَا ثَبَتَ عَلَيْهِ الْوَلَاءُ لِلْأَوَّلِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْوَلَاءِ لِلثَّانِي ، وَلَوْ قَالَ : أَعْتَقَنِي فُلَانٌ أَوْ فُلَانٌ وَادَّعَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَهَذَا الْإِقْرَارُ بَاطِلٌ لِجَهَالَةِ الْمُقَرِّ لَهُ ، فَإِنَّ الْإِقْرَارَ لِلْمَجْهُولِ غَيْرُ مُلْزِمٍ إيَّاهُ شَيْئًا ، فَيُقِرُّ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَيِّهِمَا شَاءَ أَوْ لِغَيْرِهِمَا أَنَّهُ مَوْلَاهُ فَيَجُوزُ ذَلِكَ ، كَمَا لَوْ لَمْ يُوجَدْ الْإِقْرَارُ الْأَوَّلُ .
رَجُلٌ أَقَرَّ أَنَّهُ مَوْلًى لِامْرَأَةٍ أَعْتَقَتْهُ فَقَالَتْ : لَمْ أُعْتِقْكَ وَلَكِنَّك أَسْلَمْت عَلَى يَدِي وَوَالَيْتنِي فَهُوَ مَوْلَاهَا ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى ثُبُوتِ أَصْلِ الْوَلَاءِ ، وَاخْتَلَفَا فِي سَبَبِهِ ، وَالْأَسْبَابُ غَيْرُ مَطْلُوبَةٍ لِأَعْيَانِهَا بَلْ لِأَحْكَامِهَا ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَهُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ مِقْدَارُ مَا وُجِدَ فِيهِ التَّصْدِيقُ ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ التَّحَوُّلِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : الْمُقِرُّ يُعَامَلُ فِي إقْرَارِهِ كَأَنَّ مَا أَقَرَّ بِهِ حَقٌّ وَفِي زَعْمِهِ أَنَّ عَلَيْهِ وَلَاءَ عَتَاقَةٍ لَهَا ، وَذَلِكَ يَمْنَعُهُ مِنْ التَّحَوُّلِ ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي النَّسَبِ إذَا أَقَرَّ لِإِنْسَانٍ فَكَذَّبَهُ ، ثُمَّ ادَّعَاهُ لَمْ يَصِحَّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهُوَ صَحِيحٌ فِي قَوْلِهِمَا ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْعَتَاقِ .
وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَسْلَمَ عَلَى يَدِهَا وَوَالَاهَا ، وَقَالَتْ : بَلْ أَعْتَقْتُك فَهُوَ مَوْلَاهَا ، وَلَهُ أَنْ يَتَحَوَّلَ عَنْهَا مَا لَمْ يَعْقِلْ عَنْهُ قَوْمُهَا ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ عِنْدَ التَّصْدِيقِ مِقْدَارُ مَا أَقَرَّ بِهِ الْمُقِرُّ وَهُوَ إنَّمَا أَقَرَّ بِوَلَاءِ الْمُوَالَاةِ ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ التَّحَوُّلِ مَا لَمْ يَتَأَكَّدْ بِعَقْلِ الْجِنَايَةِ ، وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّ فُلَانًا أَعْتَقَهُ ، وَقَالَ فُلَانٌ : مَا أَعْتَقْتُك وَلَا أَعْرِفُك فَأَقَرَّ أَنَّهُ مَوْلًى لِآخَرَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَيَجُوزُ فِي قَوْلِهِمَا اعْتِبَارًا لِلْوَلَاءِ بِالنَّسَبِ ، وَفِي النَّسَبِ فِي نَظِيرِهِ خِلَافٌ ظَاهِرٌ مِنْهُمْ فَكَذَلِكَ فِي الْوَلَاءِ .
وَإِذَا مَاتَ رَجُلٌ ، وَادَّعَى رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ أَعْتَقَهُ ، وَصَدَّقَ بَعْضُ أَوْلَادِهِ مِنْ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ أَحَدَهُمَا ، وَصَدَّقَ الْبَاقُونَ الْآخَرَ ، فَكُلُّ مَوْلًى لِلَّذِي صَدَّقَهُ ؛ لِأَنَّ الْأَوْلَادَ الْبَالِغِينَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَصْلٌ فِي مُبَاشَرَةِ الْوَلَاءِ عَلَى نَفْسِهِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى ، فَكَذَلِكَ إقْرَارُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْوَلَاءِ لِلَّذِي صَدَّقَهُ صَحِيحٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ .
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمُرْجِعُ وَالْمَآبُ .
بَابُ عِتْقِ مَا فِي الْبَطْنِ ( قَالَ ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلٌ قَالَ لِأَمَتِهِ : مَا فِي بَطْنِك حُرٌّ ، ثُمَّ قَالَ : إنْ حَبِلْتِ فَسَالِمٌ حُرٌّ فَوَلَدَتْ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ ، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمَوْلَى لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْوَلَدُ مَوْجُودًا فِي الْبَطْنِ وَقْتَ الْإِيجَابِ ، فَإِنَّمَا يُعْتَقُ هَذَا ، أَوْ كَانَ مِنْ حَبَلٍ حَادِثٍ فَإِنَّمَا يُعْتَقُ سَالِمٌ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعُلُوقَ إنَّمَا يَسْتَنِدُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ إثْبَاتُ عِتْقٍ بِالشَّكِّ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ فِيهِ إثْبَاتُ عِتْقٍ بِالشَّكِّ فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْيَقِينُ ؛ لِأَنَّ بِالشَّكِّ لَا يَزُولُ وَهُنَا تَيَقَّنَّا بِحُرِّيَّةِ أَحَدِهِمَا فَالْبَيَانُ فِيهِ إلَى الْمَوْلَى ، كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدَيْنِ لَهُ : أَحَدُكُمَا حُرٌّ .
فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا يَوْمئِذٍ فَهَذَا مِنْهُ إقْرَارٌ بِعِتْقِ الْوَلَدِ ، وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ حَبَلٌ مُسْتَقْبَلٌ عَتَقَ سَالِمٌ لِإِقْرَارِهِ بِهِ ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ عَتَقَ سَالِمٌ ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّهُ مِنْ عُلُوقٍ حَادِثٍ .
رَجُلٌ أَوْصَى بِمَا فِي بَطْنِ أَمَتِهِ لِرَجُلٍ فَأَعْتَقَهُ الْمُوصَى لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ، فَإِنَّ عِتْقَهُ جَائِزٌ وَهُوَ مَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ ، فَكَمَا أَنَّ الْجَنِينَ يُمْلَكُ بِالْإِرْثِ فَكَذَلِكَ بِالْوَصِيَّةِ ، وَعِتْقُ الْمُوصَى لَهُ فِي مِلْكِهِ نَافِذٌ ، فَإِنْ ضَرَبَ إنْسَانٌ بَطْنَهَا فَأَلْقَتْهُ مَيِّتًا فَفِيهِ مَا فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ ، وَهُوَ مِيرَاثٌ لِمَوْلَاهُ الَّذِي أَعْتَقَهُ ؛ لِأَنَّ بَدَلَ نَفْسِ الْجَنِينِ مَوْرُوثٌ عَنْهُ ، وَأَبَوَاهُ مَمْلُوكَانِ فَكَانَ مِيرَاثًا لِمَوْلَاهُ ، وَلَوْ أَوْصَى بِمَا فِي بَطْنِ أَمَتِهِ لِفُلَانٍ فَأَعْتَقَهُ الْمُوصَى لَهُ بِهِ ، وَأَعْتَقَ الْوَارِثُ الْأَمَةَ ، وَأَعْتَقَ مَوْلَى الزَّوْجِ زَوْجَ الْأَمَةِ فَوَلَاءُ الْوَلَدِ لِلْمُوصِي ؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ بِالْعِتْقِ مِنْ جِهَتِهِ ، فَإِنْ ضَرَبَ إنْسَانٌ بَطْنَهَا فَأَلْقَتْهُ مَيِّتًا فَفِيهِ مَا فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ مِيرَاثًا لِأَبَوَيْهِ ؛ لِأَنَّهُمَا حُرَّانِ عِنْدَ وُجُوبِ بَدَلِ نَفْسِ الْجَنِينِ فَإِنْ كَانَا أَعْتَقَا بَعْدَ الضَّرْبَةِ قَبْلَ أَنْ يَسْقُطَ أَوْ بَعْدَ الْإِسْقَاطِ ، فَالْغُرَّةُ لِلَّذِي أَعْتَقَ الْوَلَدَ ؛ لِأَنَّهُ يُحْكَمُ بِمَوْتِ الْجَنِينِ عِنْدَ الضَّرْبَةِ ، وَلِهَذَا وَجَبَ الْبَدَلُ بِهِ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ كَانَا مَمْلُوكِينَ فَلَا يَرِثَانِهِ وَإِنْ عَتَقَا بَعْدَ ذَلِكَ بَلْ الْمِيرَاثُ لِلْمُعْتَقِ ، وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ هَذَا الْجَوَابُ وَهُوَ أَنَّ وَلَاءَ الْجَنِينِ لِلْمُعْتَقِ إذَا كَانَ عِتْقُ مَا فِي الْبَطْنِ أَوَّلًا ، أَوْ كَانَا سَوَاءً ، فَأَمَّا إذَا أَعْتَقَ الْوَارِثُ الْأُمَّ أَوَّلًا فَإِنَّ الْجَنِينَ يُعْتَقُ بِعِتْقِ الْأُمِّ ، وَيَكُونُ الْوَارِثُ ضَامِنًا لِلْمُوصَى لَهُ قِيمَةَ الْجَنِينِ يَوْمَ تَلِدُ ، وَلَا يُتَصَوَّرُ الْإِعْتَاقُ مِنْ جِهَتِهِ فِي الْجَنِينِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَلَا يَثْبُتُ لَهُ وَلَاؤُهُ وَإِذَا أَعْتَقَ الرَّجُلُ مَا فِي بَطْنِ أَمَتِهِ فَوَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ ، فَقَالَتْ لِلْمَوْلَى : قَدْ أَقْرَرْتَ أَنِّي حَامِلٌ بِقَوْلِكِ : مَا فِي بَطْنِك حُرٌّ .
وَقَالَ الْمَوْلَى : هَذَا حَبَلٌ حَادِثٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ
الْمَوْلَى لِإِنْكَارِهِ ، وَمَا تَقَدَّمَ لَا يَكُونُ إقْرَارًا مِنْهُ بِوُجُودِ الْوَلَدِ فِي الْبَطْنِ يَوْمئِذٍ ، بَلْ مَعْنَاهُ مَا فِي بَطْنِكِ حُرٌّ إنْ كَانَ فِي بَطْنِك وَلَدٌ ، وَلَوْ أَعْتَقَ أَمَتَهُ وَهِيَ مُعْتَدَّةٌ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ مِنْ وَقْتِ وُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا فَهُوَ مَوْلًى لِمَوَالِي الْأُمِّ لِأَنَّا حَكَمْنَا بِأَنَّ الْعُلُوقَ كَانَ سَابِقًا عَلَى إعْتَاقِهِ إيَّاهَا حِينَ أَثْبَتْنَا نَسَبَ الْوَلَدِ مِنْ الزَّوْجِ ، فَإِنْ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ أَحَدُهُمَا لِتَمَامِ سَنَتَيْنِ وَالْآخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ ، فَكَذَلِكَ أَيْضًا هَكَذَا ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَكُونُ الْوَلَدُ لِمَوَالِي الْأَبِ هُنَا ، وَكَأَنَّهَا وَلَدَتْهُمَا لِأَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ قَالَ : أَتْبِعْ الشَّكَّ الْيَقِينَ وَهُمَا يُتْبِعَانِ الثَّانِي الْأَوَّلَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الزِّيَادَاتِ .
وَلَا يَمِينَ فِي الْوَلَاءِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ ادَّعَى الْأَعْلَى أَوْ الْأَسْفَلَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى : فِيهِ الْيَمِينُ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا مَعَ نَظَائِرِهِ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَالدَّعْوَى ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْمَوْلَى إذَا جَحَدَ الْعِتْقَ فَإِنَّهُ يُسْتَحْلَفُ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ مِمَّا يَعْمَلُ فِيهِ الْبَدَلُ فَيَجْرِي فِيهِ الِاسْتِحْلَافُ وَعِنْدَ نُكُولِهِ يُقْضَى بِالْعِتْقِ ، ثُمَّ الْوَلَاءُ يَنْبَنِي عَلَيْهِ ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمَرْأَةِ تُسْتَحْلَفُ فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، ثُمَّ إذَا نَكَلَتْ يَنْبَنِي عَلَيْهِ صِحَّةُ رَجْعَةِ الزَّوْجِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَرَبِيٌّ عَلَى وَرَثَةِ مَيِّتٍ قَدْ تَرَكَ ابْنَةً وَمَالًا أَنَّهُ مَوْلَاهُ الَّذِي أَعْتَقَهُ ، وَلَهُ نِصْفُ مِيرَاثِهِ فَلَا يَمِينَ عَلَى الِابْنَةِ فِي الْوَلَاءِ ، وَلَكِنْ تَحْلِفُ أَنَّهَا مَا تَعْلَمُ لَهُ فِي مِيرَاثِ أَبِيهَا حَقًّا وَلَا إرْثًا ؛ لِأَنَّ هَذَا اسْتِحْلَافٌ فِي الْمَالِ ، وَالْمَالُ مِمَّا يُعْمَلُ فِيهِ الْبَدَلُ وَهُوَ كَمَنْ ادَّعَى مِيرَاثًا بِنَسَبٍ لَا يُسْتَحْلَفُ الْمُنْكِرُ عَلَى النَّسَبِ عِنْدَهُ ، وَيُسْتَحْلَفُ عَلَى الْمِيرَاثِ ، وَإِنْ ادَّعَى عَرَبِيٌّ عَلَى نَبَطِيٍّ أَنَّهُ وَالَاهُ ، وَجَحَدَهُ النَّبَطِيُّ فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
وَوَلَاءُ الْمُوَالَاةِ فِي هَذَا كَوَلَاءِ الْعَتَاقَةِ فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ بَعْدَ إنْكَارِهِ فَهُوَ مَوْلَاهُ ، وَلَا يَكُونُ جُحُودُهُ نَقْضًا لِلْوَلَاءِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَرَبِيُّ هُوَ الْجَاحِدُ ؛ لِأَنَّ النَّقْضَ تَصَرُّفٌ فِي الْعَقْدِ بِالرَّفْعِ بَعْدَ الثُّبُوتِ وَإِنْكَارِ أَصْلِ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ تَصَرُّفًا فِيهِ بِالرَّفْعِ كَإِنْكَارِ الزَّوْجِ لِأَصْلِ النِّكَاحِ ، وَإِنْ ادَّعَى نَبَطِيٌّ عَلَى عَرَبِيٍّ أَنَّهُ مَوْلَاهُ الَّذِي أَعْتَقَهُ وَالْعَرَبِيُّ غَائِبٌ ، ثُمَّ ادَّعَى النَّبَطِيُّ ذَلِكَ عَلَى آخَرَ وَأَرَادَ اسْتِحْلَافَهُ فَإِنَّهُ لَا حَلِفَ لِوَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى لَا يَرَى الِاسْتِحْلَافَ فِي الْوَلَاءِ .
( وَالثَّانِي ) أَنَّهُ قَدْ ادَّعَى ذَلِكَ عَلَى غَيْرِهِ ، وَلَوْ أَقَرَّ الثَّانِي لَهُ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَوْلَاهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَكَيْفَ يُسْتَحْلَفُ عَلَى ذَلِكَ وَعِنْدَهُمَا إنْ قَدِمَ الْغَائِبُ فَادَّعَى الْوَلَاءَ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ ، وَإِنْ أَنْكَرَ فَهُوَ مَوْلًى لِلثَّانِي .
رَجُلٌ مِنْ الْمَوَالِي قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً فَادَّعَى وَرَثَتُهُ عَلَى رَجُلٍ مِنْ قَبِيلَةٍ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ وَأَرَادُوا اسْتِحْلَافَهُ فَلَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمِينَ فِي الْوَلَاءِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ لَهُمْ ، وَإِنْ أَقَرَّ الرَّجُلُ بِهِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى الْعَاقِلَةِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يُلْزِمَهُمْ مَالًا بِإِقْرَارِهِ ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُلْزِمَهُمْ ذَلِكَ بِإِنْشَاءِ التَّصَرُّفِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ، فَكَذَلِكَ بِالْإِقْرَارِ ، وَتَكُونُ الدِّيَةُ عَلَى الْقَاتِلِ فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ مِنْ الْمَوَالِي فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ قَبْلَ الْقَتْلِ وَأَنَّهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ ، وَأَرَادَ اسْتِحْلَافَ الْقَاتِلِ عَلَى الْوَلَاءِ ، وَهُوَ مُقِرٌّ بِالْقَتْلِ لَمْ يُسْتَحْلَفْ عَلَيْهِ ، وَلَكِنْ يَحْلِفُ مَا يَعْلَمُ لِهَذَا فِي دِيَةِ فُلَانٍ الْمُسَمَّى عَلَيْك حَقًّا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِمَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي أُمِرَ بِتَسْلِيمِ الدِّيَةِ إلَيْهِ فَإِذَا أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ عَلَى ذَلِكَ لِرَجَاءِ نُكُولِهِ فَأَمَّا أَصْلُ الْوَلَاءِ فَلَا يَمِينَ فِيهِ عَلَى مِنْ يَدَّعِيهِ فَكَيْفَ عَلَى غَيْرِهِ .
وَوَلَدُ الْمُلَاعَنَةِ مِنْ قَوْمِ أُمِّهِ ، وَعَقْلُ جِنَايَتِهِ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُ لَا نَسَبَ وَلَا وَلَاءَ مِنْ جَانِبِ الْأَبِ ، فَيَكُونُ مَنْسُوبًا إلَى قَوْمِ الْأُمِّ بِالنَّسَبِ إنْ كَانَتْ مِنْ الْعَرَبِ وَبِالْوَلَاءِ إنْ كَانَتْ مِنْ الْمَوَالِي ، فَإِنْ أَعْتَقَ ابْنُ الْمُلَاعَنَةِ عَبْدًا فَعَقْلُ جِنَايَتِهِ عَلَى عَاقِلَةِ الْأُمِّ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَقَ مَنْسُوبٌ بِالْوَلَاءِ إلَى مِنْ يُنْسَبُ إلَيْهِ الْمُعْتِقُ بِوَاسِطَةٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُعْتِقَ مَنْسُوبٌ إلَى قَوْمِ أُمِّهِ عَلَيْهِمْ عَقْلُ جِنَايَتِهِ ، فَكَذَلِكَ مُعْتَقُهُ وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ بَعْدَ مَوْتِ الِابْنِ وَأُمِّهِ وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ ، وَرِثَهُ أَقْرَبُ النَّاسِ مِنْ الْأُمِّ مِنْ الْعَصَبَاتِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَمَّا كَانَ مَنْسُوبًا إلَيْهَا كَانَتْ هِيَ فِي حَقِّهِ كَالْأَبِ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ أَبٌ كَانَ مِيرَاثُ مُعْتَقِهِ لِأَقْرَبِ عُصْبَةِ الْأَبِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، فَكَذَلِكَ هُنَا وَلَوْ كَانَ لَهَا ابْنٌ ثُمَّ مَاتَ الْمَوْلَى وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُ ابْنِ الْأُمِّ ، وَهُوَ أَخٌ الْمُعْتِقِ لِأُمِّهِ ، فَإِنَّهُ يَرِثُ الْمَوْلَى كَأَنَّهُ أَخُ الْمُعْتِقِ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ ؛ وَلِأَنَّ هَذَا الِابْنَ أَقْرَبُ عَصَبَةِ الْأُمِّ فِي نِسْبَةِ الْمُعْتِقِ إلَيْهَا كَالْأَبِ ، فَكَذَلِكَ ابْنُهَا فِي اسْتِحْقَاقِ مِيرَاثِ الْمُعْتِقِ كَابْنِ الْأَبِ .
وَلَوْ كَانَ لِلْمُعْتَقِ أَخٌ وَأُخْتٌ كَانَ مِيرَاثُ الْمَوْلَى لِلْأَخِ دُونَ الْأُخْتِ لِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُ أُمِّهِ لَمْ يَكُنْ لَهَا مِنْ الْمِيرَاثِ شَيْءٌ ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَرِثُ مِنْ النِّسَاءِ بِالْوَلَاءِ إلَّا مَا أَعْتَقْنَ أَوْ أَعْتَقَ مَنْ أَعْتَقْنَ ، وَكَانَ الْمِيرَاثُ لِأَقْرَبِ النَّاسِ مِنْهَا مِنْ الْعَصَبَاتِ ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا لَمْ تَرِثْ شَيْئًا كَانَتْ كَالْمَيِّتَةِ ، فَإِنْ ادَّعَاهُ الْأَبُ وَهُوَ حَيٌّ ثَبَتَ النَّسَبُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ قَدْ اسْتَتَرَ بِاللِّعَانِ بَعْدَ مَا كَانَ ثَابِتًا مِنْهُ بِالْفِرَاشِ ، وَبَقِيَ مَوْقُوفًا عَلَى حَقِّهِ ، فَإِذَا ادَّعَاهُ فِي حَالِ قِيَامِ
حَاجَتِهِ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ ، وَرَجَعَ وَلَاءُ مَوَالِيهِ الْعَتَاقَةِ وَالْمُوَالَاةِ إلَيْهِ ، وَيَرْجِعُ عَاقِلَةُ الْأُمِّ بِمَا عَقَلُوا عَنْهُمْ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ ، وَمَا كَانُوا مُتَبَرِّعِينَ فِي هَذَا الْأَدَاءِ بَلْ كَانُوا مُجْبَرِينَ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ فَيَرْجِعُونَ عَلَيْهِمْ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا جَرَّ الْأَبُ وَلَاءَ الْوَلَدِ بَعْدَ مَا عَقَلَ عَنْهُ مَوَالِي الْأُمِّ ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُونَ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ النَّسَبَ إنَّمَا يَثْبُتُ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ عَاقِلَةَ الْأُمِّ أَدَّوْا مَا كَانَ مُسْتَحَقًّا عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ ، وَإِنْ كَانَ الِابْنُ مَيِّتًا لَمْ تَجُزْ دَعْوَةُ الْأَبِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَقِيَ لَهُ وَلَدٌ ؛ وَلِأَنَّهُ بِالْمَوْتِ اسْتَغْنَى عَنْ النَّسَبِ فَدَعْوَى الْأَبِ لَا تَكُونُ إقْرَارًا بِالنَّسَبِ بَلْ تَكُونُ دَعْوَى لِلْمِيرَاثِ ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ مُتَنَاقِضٌ ، فَإِنْ خَلَفَ الْوَلَدُ ابْنًا فَحَاجَةُ ابْنِ الِابْنِ كَحَاجَةِ الِابْنِ فِي تَصْحِيحِ دَعْوَى الْأَبِ ، وَلَوْ كَانَ وَلَدُ الْمُلَاعَنَةِ بِنْتًا فَمَاتَتْ وَتَرَكَتْ وَلَدًا ، ثُمَّ ادَّعَاهُ الْأَبُ جَازَتْ دَعْوَتُهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ مَوْتَهَا عَنْ وَلَدٍ كَمَوْتِ ابْنِ الْمُلَاعَنَةِ عَنْ وَلَدٍ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ وَلَدَهَا مُحْتَاجٌ إلَى إثْبَاتِ نَسَبَ أُمِّهِ لِيَصِيرَ كَرِيمَ الطَّرَفَيْنِ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ تَجُزْ دَعْوَتُهُ ؛ لِأَنَّ نَسَبَ هَذَا الْوَلَدِ إلَى أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ ، فَإِنَّ الْوَلَدَ مِنْ قَوْمِ أَبِيهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ إبْرَاهِيمَ بْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قُرَيْشٍ ، وَأَنَّ أَوْلَادَ الْخُلَفَاءِ مِنْ الْإِمَاءِ يَصْلُحُونَ لِلْخِلَافَةِ فَلَا مُعْتَبِرَ بِوُجُودِ هَذَا الْوَلَدِ لَمَّا لَمْ يَكُنْ مَنْسُوبًا إلَيْهَا ، فَلِهَذَا لَا تَصِحُّ دَعْوَةُ الْأَبِ ، وَإِنْ كَانَ وَلَدُ الْمُلَاعَنَةِ أَعْتَقَ عَبْدًا ، ثُمَّ مَاتَ لَاعَنَ وَلَدٌ فَادَّعَى الْأَبُ
نَسَبَهُ لَمْ يُصَدَّقْ بِاعْتِبَارِ بَقَاءِ مَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ أَثَرُ الْمِلْكِ وَلَوْ بَقِيَ لَهُ أَصْلُ الْمِلْكِ عَلَى الْعَبْدِ لَمْ يُصَدَّقْ وَهُوَ فِي الدَّعْوَةِ بِاعْتِبَارِهِ ، فَبَقَاءُ الْوَلَاءِ أَوْلَى وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ بَقَاءُ مَنْ يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ بِالنَّسَبِ إذَا صَحَّتْ دَعْوَتُهُ ، وَالْمَوْلَى لَا يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ بِالنَّسَبِ ، وَإِذَا لَاعَنَ بِوَلَدَيْ تَوْأَمٍ ، ثُمَّ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا عَبْدًا وَمَاتَ فَادَّعَى الْأَبُ الْحَيُّ مِنْهُمَا ثَبَتَ نَسَبُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا خُلِقَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ ، فَبَقَاءُ أَحَدِهِمَا مُحْتَاجًا إلَى النِّسْبَةِ كَبَقَائِهِمَا وَإِذَا ثَبَتَ نَسَبُهُمَا جَرَّ الْأَبُ وَلَاءَ مُعْتَقِ الْمَيِّتِ مِنْهُمَا إلَى نَفْسِهِ ، كَمَا لَوْ كَانَ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْهُ حِينَ أَعْتَقَهُ .
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصِّدْقِ وَالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمُرْجِعُ وَالْمَآبُ .
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ انْتَهَى شَرْحُ كِتَابَ الْوَلَاءِ بِطَرِيقِ الْإِمْلَاءِ مِنْ الْمُمْتَحَنِ بِأَنْوَاعِ الْبَلَاءِ .
يَسْأَلُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى تَبْدِيلَ الْبَلَاءِ وَالْجَلَاءِ بِالْعِزِّ وَالْعَلَاءِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ يَسِيرٌ وَهُوَ عَلَى مَا يَشَاءُ قَدِيرٌ .
وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الطَّاهِرِينَ .
كِتَابُ الْأَيْمَانِ ( قَالَ ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ السَّلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ : رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الْيَمِينُ فِي اللُّغَةِ الْقُوَّةُ ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى { لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ } ، وَقَالَ الْقَائِلُ : رَأَيْت عَرَابَةَ الْأَوْسِيِّ يَسْمُو إلَى الْخَيْرَاتِ مُنْقَطِعَ الْقَرِينِ إذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ فَمَا يُسْتَعْمَلُ بِالْعُهُودِ وَالتَّوْثِيقِ وَالْقُوَّةِ يُسَمَّى يَمِينًا ، وَقِيلَ : الْيَمِينُ الْجَارِحَةُ فَلَمَّا كَانَتْ يُسْتَعْمَلُ بَذْلُهَا فِي الْعُهُودِ سُمِّيَ مَا يُؤَكَّدُ بِهِ الْعَقْدُ بِاسْمِهَا ، وَهِيَ نَوْعَانِ نَوْعٌ يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ ، وَهُوَ مَا يُقْصَدُ بِهِ تَعْظِيمُ الْمُقْسَمِ بِهِ ، وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ قَسَمًا إلَّا أَنَّهُمْ لَا يَخُصُّونَ ذَلِكَ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَفِي الشَّرْعِ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْيَمِينِ لَا يَكُونُ إلَّا بِاَللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلتَّعْظِيمِ بِذَاتِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَجُوزُ هَتْكُ حُرْمَةِ اسْمِهِ بِحَالٍ .
وَالنَّوْعُ الْآخَرُ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ ، وَهُوَ يَمِينٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الْيَمِينِ ، وَهُوَ الْمَنْعُ وَالْإِيجَابُ ، وَلَكِنَّ أَهْلَ اللُّغَةِ لَا يَعْرِفُونَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى التَّعْظِيمِ ثُمَّ بَدَأَ الْكِتَابَ بِبَيَانِ النَّوْعِ الْأَوَّلِ فَقَالَ : الْأَيْمَانُ ثَلَاثَةٌ وَهَذَا اللَّفْظُ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُرْوَى عَنْ رَجُلَيْنِ مِنْ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ أَبِي مَالِكٍ الْغِفَارِيِّ وَكَعْبِ بْنِ مَالِكٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَلَمْ يَرِدْ عَدَدُ الْأَيْمَانِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّ الْيَمِينَ بِاَللَّهِ تَعَالَى تَنْقَسِمُ فِي أَحْكَامِهَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ : يَمِينٌ يُكَفَّرُ ، وَيَمِينٌ لَا يُكَفَّرُ ، وَيَمِينٌ يَرْجُوا أَنْ لَا يُؤَاخِذَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا صَاحِبَهَا ، فَأَمَّا الَّذِي يُكَفَّرُ فَهُوَ
يَمِينٌ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِإِيجَادِ فِعْلٍ ، أَوْ نَفْيِ فِعْلٍ ، وَهَذَا عَقْدٌ مَشْرُوعٌ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي بَيْعَةِ نُصْرَةِ الْحَقِّ وَفِي الْمَظَالِمِ وَالْخُصُومَاتِ ، وَهِيَ فِي وُجُوبِ الْحِفْظِ أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ : نَوْعٌ مِنْهَا يَجِبُ إتْمَامُ الْبَرِّ فِيهَا ، وَهُوَ أَنْ يَعْقِدَ عَلَى أَمْرِ طَاعَةٍ أُمِرَ بِهِ ، أَوْ الِامْتِنَاعُ عَنْ مَعْصِيَةٍ ، وَذَلِكَ فَرْضٌ عَلَيْهِ قَبْلَ الْيَمِينِ وَبِالْيَمِينِ يَزْدَادُ وَكَادَةً وَنَوْعٌ لَا يَجُوزُ حِفْظُهَا وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى تَرْكِ طَاعَةٍ أَوْ فِعْلِ مَعْصِيَةٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ حَلَفَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ ، وَمَنْ حَلَفَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ } .
وَنَوْعٌ يَتَخَيَّرُ فِيهِ بَيْنَ الْبَرِّ وَالْحِنْثِ ، وَالْحِنْثُ خَيْرٌ مِنْ الْبَرِّ فَيُنْدَبُ فِيهِ إلَى الْحِنْثِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ، وَلْيُكَفِّرْ } .
وَأَدْنَى دَرَجَاتِ الْأَمْرِ النَّدْبُ ، وَنَوْعٌ يَسْتَوِي فِيهِ الْبَرُّ وَالْحِنْثُ فِي الْإِبَاحَةِ فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا ، وَحِفْظُ الْيَمِينِ أَوْلَى بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ } .
وَحِفْظُ الْيَمِينِ يَكُونُ بِالْبَرِّ بَعْدَ وُجُودِهَا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ حِفْظُ الْبَرِّ ، وَمَنْ حَنِثَ فِي هَذَا الْيَمِينِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ كَمَا قَالَ تَعَالَى { : فَكَفَّارَتُهُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } .
وَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ وَالْإِعْتَاقِ لِلتَّنْصِيصِ عَلَى حَرْفِ أَوْ ؛ وَلِأَنَّ الْبِدَايَةَ بِالْأَخَفِّ وَالْخَتْمَ بِالْأَغْلَظِ إشَارَةٌ إلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُرَتَّبَةً كَانَتْ الْبِدَايَةُ بِالْأَغْلَظِ .
وَاَلَّتِي لَا تُكَفَّرُ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ ، وَهِيَ الْمَعْقُودَةُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمَاضِي أَوْ الْحَالِ كَاذِبَةً يَتَعَمَّدُ صَاحِبُهَا ذَلِكَ ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ بِيَمِينٍ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ ، وَهَذِهِ كَبِيرَةٌ مَحْضَةٌ ، وَالْكَبِيرَةُ ضِدُّ الْمَشْرُوعِ وَلَكِنْ سَمَّاهُ يَمِينًا مَجَازًا ؛ لِأَنَّ ارْتِكَابَ هَذِهِ الْكَبِيرَةِ لِاسْتِعْمَالِ صُورَةِ الْيَمِينِ كَمَا سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَ الْحُرِّ بَيْعًا مَجَازًا ؛ لِأَنَّ ارْتِكَابَ تِلْكَ الْكَبِيرَةِ لِاسْتِعْمَالِ صُورَةِ الْبَيْعِ ، ثُمَّ لَا يَنْعَقِدُ هَذَا الْيَمِينُ فِيمَا هُوَ حُكْمُهُ فِي الدُّنْيَا عِنْدَنَا ، وَلَكِنَّهَا تُوجِبُ التَّوْبَةَ وَالِاسْتِغْفَارَ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَنْعَقِدُ مُوجِبَةً لِلْكَفَّارَةِ فَمِنْ أَصْلِهِ مَحَلُّ الْيَمِينِ نَفْسُ الْخَبَرِ ، وَشَرْطُ انْعِقَادِهَا الْقَصْدُ الصَّحِيحُ ، وَعِنْدَنَا مَحَلُّ الْيَمِينِ خَبَرٌ فِيهِ رَجَاءُ الصِّدْقِ ؛ لِأَنَّهَا تَنْعَقِدُ مُوجِبَةً لِلْبَرِّ ، ثُمَّ الْكَفَّارَةُ خَلْفٌ عَنْهُ عِنْدَ فَوْتِ الْبَرِّ ، فَالْخَبَرُ الَّذِي لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الصِّدْقُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلْيَمِينِ ، وَالْعَقْدُ لَا يَنْعَقِدُ بِدُونِ مَحَلِّهِ ، وَحُجَّتُهُ قَوْله تَعَالَى { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } .
فَاَللَّهُ أَثْبَتَ الْمُؤَاخَذَةَ فِي الْيَمِينِ الْمَكْسُوبَةِ وَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ؛ لِأَنَّهَا بِالْقَلْبِ مَقْصُودَةٌ ، ثُمَّ فَسَّرَ هَذِهِ الْمُؤَاخَذَةَ بِالْكَفَّارَةِ فِي قَوْلِهِ { بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ } .
مَعْنَاهُ بِمَا قَصَدْتُمْ ، وَالْعَقْدُ هُوَ الْقَصْدُ وَمِنْهُ سُمِّيَتْ النِّيَّةُ عَقِيدَةً ، وَأَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ مَوْصُولَةً بِالْيَمِينِ بِقَوْلِهِ { : فَكَفَّارَتُهُ } ؛ لِأَنَّ الْفَاءَ لِلْوَصْلِ ، وَقَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ { : ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ } وَالْكَفَّارَةُ بِنَفْسِ الْحَلِفِ إنَّمَا تَجِبُ بِالْغَمُوسِ ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : { وَاحْفَظُوا
أَيْمَانَكُمْ } الِامْتِنَاعُ مِنْ الْحَلِفِ فَإِنَّ بَعْدَ الْحَلِفِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ حِفْظُ الْبَرِّ وَحِفْظُ الْيَمِينِ يُذْكَرُ لِمَعْنَى الِامْتِنَاعِ .
قَالَ الْقَائِلُ : قَلِيلُ الْأَلَايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ وَإِنْ بَدَرَتْ مِنْهُ الْأَلِيَّةُ بُرَّتْ ؛ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ خَالَفَ فِعْلَهُ فِي يَمِينٍ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَقْصُودٍ فَيَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ كَمَا فِي الْمَعْقُودَةِ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَأَقْرَبُ مَا يَقِيسُونَ عَلَيْهِ إذَا حَلَفَ لَيَمَسَّنَّ السَّمَاءَ ، أَوْ لَيُحَوِّلَنَّ هَذَا الْحَجَرَ ذَهَبًا ؛ وَهَذَا لِأَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ فِي الْمَعْقُودَةِ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِمَعْنَى الْحَظْرِ ، وَلِهَذَا سُمِّيَتْ كَفَّارَةً أَيْ سَاتِرَةً ، وَهَذَا الْحَظْرُ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِشْهَادُ بِاَللَّهِ تَعَالَى كَاذِبًا ، وَذَلِكَ بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي الْغَمُوسِ ؛ وَلِأَنَّ الْغَمُوسَ إنَّمَا يُخَالِفُ الْمَعْقُودَةَ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فِي تَوَهُّمِ الْبَرِّ ، وَالْبَرُّ مَانِعٌ مِنْ الْكَفَّارَةِ ، وَانْعِدَامُ مَا يَمْنَعُ الْكَفَّارَةَ يُحَقِّقُ مَعْنَى الْكَفَّارَةِ فِيهَا ، وَلِأَنَّ فِي أَحَدِ نَوْعَيْ الْيَمِينِ وَهُوَ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ يُسَوَّى بَيْنَ الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ فِي مُوجِبِهِ ، فَكَذَلِكَ فِي النَّوْعِ الْآخَرِ .
( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا } الْآيَةَ ، فَقَدْ بَيَّنَ جَزَاءَ الْيَمِينِ الْغَمُوسِ بِالْوَعِيدِ فِي الْآخِرَةِ ، فَلَوْ كَانَتْ الْكَفَّارَةُ فِيهَا وَاجِبَةً لَكَانَ الْأَوْلَى بَيَانَهَا ؛ وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَوْ وَجَبَتْ إنَّمَا تَجِبُ لَرَفْعِ هَذَا الْوَعِيدِ الْمَنْصُوصِ ، وَذَلِكَ لَا يَقُولَ بِهِ أَحَدٌ .
قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { خَمْسٌ مِنْ الْكَبَائِرِ لَا كَفَّارَةَ فِيهِنَّ ، وَذَكَرَ مِنْهَا الْيَمِينَ الْفَاجِرَةَ يُقْتَطَعُ بِهَا مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ ، وَقَالَ : الْيَمِينُ الْغَمُوسُ تَدَعُ الدِّيَارَ بَلَاقِعُ } أَيْ خَالِيَةً مِنْ أَهْلِهَا ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : كُنَّا نَعُدُّ
الْيَمِينَ الْغَمُوسَ مِنْ الْأَيْمَانِ الَّتِي لَا كَفَّارَةَ فِيهَا ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهَا غَيْرُ مَعْقُودَةٍ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْيَمِينِ لِلْحَظْرِ أَوْ الْإِيجَابِ ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي الْمَاضِي ، وَالْخَبَرُ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ تَوَهُّمُ الصِّدْقِ وَالْعَقْدُ لَا يَنْعَقِدُ بِدُونِ مَحَلِّهِ كَالْبَيْعِ لَا يَنْعَقِدُ عَلَى مَا لَيْسَ بِمَالٍ ؛ لِخُلُوِّهِ عَنْ مُوجِبِ الْبَيْعِ ، وَهُوَ تَمْلِيكُ الْمَالِ ؛ وَلِأَنَّهُ قَارَنَهَا مَا يُحِلُّهَا وَلَوْ طَرَأَ عَلَيْهَا يَرْفَعُهَا فَإِذَا قَارَنَهَا مَنَعَ انْعِقَادَهَا كَالرِّدَّةِ وَالرَّضَاعِ فِي النِّكَاحِ بِخِلَافِ مَسِّ السَّمَاءِ وَنَحْوِهِ ، فَإِنَّهُ لَمْ يُقَارِنْهَا مَا يَحِلُّهَا ؛ لِأَنَّهَا عُقِدَتْ عَلَى فِعْلٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَمَا يَحِلُّهَا انْعِدَامُ الْفِعْلِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَلِهَذَا تَتَوَقَّتُ تِلْكَ الْيَمِينُ بِالتَّوْقِيتِ ؛ وَلِأَنَّ الْغَمُوسَ مَحْظُورٌ مَحْضٌ فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ كَالزِّنَا وَالرِّدَّةِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَشْرُوعَاتِ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ وَسَبَبُهَا مُبَاحٌ مَحْضٌ ، وَعُقُوبَةٌ مَحْضَةٌ كَالْمَحْدُودِ وَسَبَبُهَا مَحْظُورٌ مَحْضٌ ، وَكَفَّارَاتٌ وَهِيَ تَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْعِبَادَةِ وَالْعُقُوبَةِ فَمِنْ حَيْثُ إنَّهَا لَا تَجِبُ الْأَجْزَاءُ تُشْبِهُ الْعُقُوبَةَ ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُفْتَى بِهَا فَلَا تَتَأَدَّى إلَّا بِنِيَّةِ الْعِبَادَةِ ، وَتَتَأَدَّى بِمَا هُوَ مَحْضُ الْعِبَادَةِ كَالصَّوْمِ تُشْبِهُ الْعِبَادَاتِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ سَبَبُهَا مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ ، وَذَلِكَ الْمَعْقُودَةُ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ؛ لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ تَعْظِيمِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْيَمِينِ مُبَاحٌ وَبِاعْتِبَارِ هَتْكِ هَذِهِ الْحُرْمَةِ بِالْحِنْثِ مَحْظُورٌ فَيَصْلُحُ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ فَأَمَّا الْغَمُوسُ مَحْظُورٌ مَحْضٌ ؛ لِأَنَّ الْكَذِبَ بِدُونِ الِاسْتِشْهَادِ بِاَللَّهِ تَعَالَى مَحْظُورٌ مَحْضٌ فَمَعَ الِاسْتِشْهَادِ بِاَللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى فَلَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ ، ثُمَّ الْكَفَّارَةُ تَجِبُ
خَلَفًا عَنْ الْبَرِّ الْوَاجِبِ بِالْيَمِينِ ، وَلِهَذَا يَجِبُ فِي الْمَعْقُودَةِ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَعْدَ الْحِنْثِ ؛ لِأَنَّ قَبْلَ الْحِنْثِ مَا هُوَ الْأَصْلُ قَائِمٌ فَإِذَا حَنِثَ فَقَدْ فَاتَ الْأَصْلُ ، فَتَجِبُ الْكَفَّارَةُ لِيَكُونَ خَلَفًا ، وَيَصِيرَ بِاعْتِبَارِهَا كَأَنَّهُ عَلَى بَرَّةٍ .
وَهَذَا إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي خَبَرٍ فِيهِ تَوَهُّمُ الصِّدْقِ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ مُوجِبًا لِلْأَصْلِ ، ثُمَّ الْكَفَّارَةُ خَلَفٌ عَنْهُ ، وَفِي مَسِّ السَّمَاءِ هَكَذَا ؛ لِأَنَّ السَّمَاءَ عَيْنٌ مَمْسُوسَةٌ فَلِتَصَوُّرِ الْبَرِّ انْعَقَدَتْ الْيَمِينُ ، ثُمَّ لِفَوَاتِهِ بِالْعَجْزِ مِنْ حَيْثُ الْعَادَةُ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ فِي الْحَالِ خَلَفًا عَنْ الْبَرِّ ، فَأَمَّا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَا تَصَوُّرَ لِلْبَرِّ فَلَا يَنْعَقِدُ مُوجِبًا لِمَا هُوَ الْأَصْلُ ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُوجِبًا لِلْخَلَفِ ؛ وَلِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ خَلَفًا بَلْ يَكُونُ وَاجِبًا ابْتِدَاءً ، وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْكَفَّارَةِ وَاجِبَةً بِالْيَمِينِ ابْتِدَاءً ؛ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ لَا تَكُونُ كَبِيرَةً بَلْ تَكُونُ سَبَبَ الْتِزَامِ الْقُرْبَةِ ، وَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى { ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ } إذَا حَلَفْتُمْ وَحَنِثْتُمْ ، وَمِنْ أَسْبَابِ الْوُجُوبِ مَا هُوَ مُضْمَرٌ فِي الْكِتَابِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ } فَأَفْطَرَ { فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } ، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ بَعْدَ عَقْدِ الْيَمِينِ بِقَوْلِهِ { بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ } وَالْقِرَاءَةُ بِالتَّشْدِيدِ لَا تَتَنَاوَلُ إلَّا الْمَعْقُودَةَ ، وَكَذَلِكَ بِالتَّخْفِيفِ ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ عَقَدْتُهُ فَانْعَقَدَتْ ، كَمَا يُقَالُ كَسَرْته فَانْكَسَرَ ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ الِانْعِقَادُ فِيمَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْحَلُّ ؛ لِأَنَّهُ ضِدُّهُ قَالَ الْقَائِلُ : وَلِقَلْبِ الْمُحِبُّ حَلٌّ وَعَقْدٌ ، وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي الْمَاضِي أَوْ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ { : بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } الْمُؤَاخَذَةُ بِالْوَعِيدِ فِي الْآخِرَةِ ؛ لِأَنَّ دَارَ الْجَزَاءِ فِي
الْحَقِيقَةِ الْآخِرَةُ ، فَأَمَّا فِي الدُّنْيَا قَدْ يُؤَاخِذُ الْمُطِيعَ ابْتِدَاءً ، وَيُنْعِمُ عَلَى الْعَاصِي اسْتِدْرَاجًا ، وَالْمُؤَاخَذَةُ الْمُطْلَقَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْآخِرَةِ ، وَبِفَصْلِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ يُسْتَدَلُّ عَلَى مَا قُلْنَا ، فَإِنَّهُ إذَا أُضِيفَ إلَى الْمَاضِي يَكُونُ تَحْقِيقًا لِلْكَذِبِ ، وَلَا يَكُونُ يَمِينًا ، وَإِلَيْهِ يُشِيرُ فِي الْكِتَابِ ، وَيَقُولُ : أَمْرُ الْغَمُوسِ أَمْرٌ عَظِيمٌ وَالْبَأْسُ فِيهِ شَدِيدٌ .
مَعْنَاهُ أَنَّ مَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْمَأْثَمِ فِيهِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يَرْتَفِعَ بِالْكَفَّارَةِ .
وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ يَمِينُ اللَّغْوِ فَنَفْيُ الْمُؤَاخَذَةِ بِهَا مَنْصُوصٌ فِي الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي صُورَتِهَا فَعِنْدَنَا صُورَتُهَا أَنْ يَحْلِفَ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمَاضِي أَوْ فِي الْحَالِ ، وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ حَقٌّ ، ثُمَّ ظَهَرَ خِلَافُهُ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ فِي كَلَامِهِ لَا وَاَللَّهِ بَلَى وَاَللَّهِ ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَإِنَّ عِنْدَهُ اللَّغْوَ مَا يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ فِي الْمَاضِي كَانَ أَوْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَهُوَ إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : الْيَمِينُ اللَّغْوُ يَمِينُ الْغَضَبِ .
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي تَفْسِيرِ اللَّغْوِ : قَوْلُ الرَّجُلِ لَا وَاَللَّهِ بَلَى وَاَللَّهِ } وَهُوَ قَوْلُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، وَتَأْوِيلُهُ عِنْدَنَا فِيمَا يَكُونُ خَبَرًا عَنْ الْمَاضِي فَإِنَّ اللَّغْوَ مَا يَكُونُ خَالِيًا عَنْ الْفَائِدَةِ ، وَالْخَبَرُ الْمَاضِي خَالٍ مِنْ فَائِدَةِ الْيَمِينِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا فَكَانَ لَغْوًا ، فَأَمَّا الْخَبَرُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ عَدَمُ الْقَصْدِ لَا يَعْدَمُ فَائِدَةَ الْيَمِينِ ، وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِأَنَّ الْهَزْلَ وَالْجَدَّ فِي الْيَمِينِ سَوَاءٌ { ، وَلَمَّا أَخَذَ الْمُشْرِكُونَ حُذَيْفَةَ بْنَ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَاسْتَحْلَفُوهُ أَنْ لَا يَنْصُرَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَوْفِ لَهُمْ بِعُهُودِهِمْ ، وَنَحْنُ نَسْتَعِينُ بِاَللَّهِ عَلَيْهِمْ } .
وَالْمُكْرَهُ غَيْرُ قَاصِدٍ ، وَمَعَ ذَلِكَ أَمَرَهُ بِالْوَفَاءِ بِهِ ، فَدَلَّ أَنَّ عَدَمَ الْقَصْدِ لَا يَمْنَعُ
انْعِقَادَ الْيَمِينِ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِهِ ، وَتَأْوِيلُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ } رُفِعَ الْأَثِمُ .
وَمِنْ السَّلَفِ مَنْ قَالَ : اللَّغْوُ هُوَ الْيَمِينُ الْمُكَفَّرَةُ وَهَذَا بَاطِلٌ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ الْيَمِينَ الَّتِي فِيهَا الْكَفَّارَةُ عَلَى اللَّغْوِ ، وَالشَّيْءُ لَا يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : يَمِينُ اللَّغْوِ الْيَمِينُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا كَفَّارَةَ فِيهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ هِيَ مُحْبَطَةٌ بِالْكَفَّارَةِ أَيْ لَا مُؤَاخَذَةَ فِيهَا بَعْدَ الْكَفَّارَةِ ، وَهَذَا أَيْضًا فَاسِدٌ فَإِنَّ كَوْنَ الْفِعْلِ مَعْصِيَةً لَا يَمْنَعُ عَقْدَ الْيَمِينِ عَلَيْهِ ، وَلَا يُخْرِجُهُ عَنْ كَوْنِهِ سَبَبًا لِلْكَفَّارَةِ كَالظِّهَارِ ، فَإِنَّهُ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ وَزُورٌ ، ثُمَّ كَانَ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ عِنْدَ الْعَوْدِ ، وَهَذَا النَّوْعُ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَأَمَّا فِي الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ لَا يَتَحَقَّقُ اللَّغْوُ ، هَكَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ عَدَمَ الْقَصْدِ لَا يَمْنَعَ وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ( فَإِنْ قِيلَ ) فَمَا مَعْنَى تَعْلِيقُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى نَفْيَ الْمُؤَاخَذَةِ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ الرَّجَاءِ بِقَوْلِهِ : نَرْجُو أَنْ لَا يُؤَاخِذَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا صَاحِبَهَا ، وَعَدَمُ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْيَمِينِ اللَّغْوِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ ، وَمَا عُرِفَ بِالنَّصِّ فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ .
( قُلْنَا ) : نَعَمْ وَلَكِنَّ صُورَةَ تِلْكَ الْيَمِينِ مُخْتَلَفٌ فِيهَا ، فَإِنَّمَا عَلَّقَ بِالرَّجَاءِ نَفْيَ الْمُؤَاخَذَةِ فِي اللَّغْوِ بِالصُّورَةِ الَّتِي ذَكَرَهَا ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ بِالنَّصِّ ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهَذَا اللَّفْظِ التَّعْلِيقُ بِالرَّجَاءِ ، إنَّمَا أَرَادَ بِهِ التَّعْظِيمَ وَالتَّبَرُّكَ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا مَرَّ بِالْمَقَابِرِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دِيَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ .
} وَمَا ذُكِرَ الِاسْتِثْنَاءُ بِمَعْنَى الشَّكِّ فَإِنَّهُ كَانَ مُتَيَقِّنًا بِالْمَوْتِ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { : إنَّك مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } وَلَكِنْ مَعْنَى ذِكْرُ الِاسْتِثْنَاءِ مَا ذَكَرْنَا .
وَإِذَا حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا ، وَلَمْ يُوَقِّتْ لِذَلِكَ وَقْتًا فَهُوَ عَلَى يَمِينِهِ حَتَّى يَهْلِكَ ذَلِكَ الشَّيْءُ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ ، فَيَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ حِينَئِذٍ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْيَمِينَ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : مُؤَبَّدَةٌ لَفْظًا وَمَعْنًى بِأَنْ يَقُولَ : وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا أَبَدًا ، أَوْ يَقُولَ : لَا أَفْعَلُ مُطْلَقًا وَالْمُطْلَقُ فِيمَا يَتَأَبَّدُ يَقْتَضِي التَّأْيِيدَ كَالْبَيْعِ ، وَمُؤَقَّتَةٌ لَفْظًا وَمَعْنًى بِأَنْ يَقُولَ : لَا أَفْعَلُ كَذَا الْيَوْمَ ، فَيَتَوَقَّتُ الْيَمِينُ بِذَلِكَ الْوَقْتِ ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُ الْحَظْرُ أَوْ الْإِيجَابُ ، وَذَلِكَ يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ فَيَتَوَقَّتُ بِتَوْقِيتِهِ ، وَمُؤَبَّدٌ لَفْظًا مُؤَقَّتٌ مَعْنًى كَيَمِينِ الْفَوْرِ إذَا قَالَ : تَعَالَ تَغَدَّ مَعِي .
فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَا أَتَغَدَّى يَتَوَقَّتُ يَمِينُهُ بِذَلِكَ الْغَدَاءِ الْمَدْعُوِّ إلَيْهِ ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْيَمِينِ سَبَقَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلَمْ يُسْبَقْ بِهِ ، وَأَخَذَهُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَابْنِهِ حِينَ دُعِيَا إلَى نُصْرَةِ إنْسَانٍ ، فَحَلَفَا أَنْ لَا يَنْصُرَاهُ ، ثُمَّ نَصَرَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَحْنَثَا وَبَنَاهُ عَلَى مَا عُرِفَ مِنْ مَقْصُودِ الْحَالِفِ وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الشَّرْعِ أَنْ يَبْتَنِيَ الْكَلَامُ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ مَقْصُودِ الْمُتَكَلِّمِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَاسْتَفْزِزْ مَنْ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } ، وَالْمُرَادُ الْإِمْكَانُ وَالْإِقْدَارُ لِاسْتِحَالَةِ الْأَمْرِ بِالشِّرْكِ وَالْمَعْصِيَةِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ثُمَّ الْكَفَّارَةُ لَا تَجِبُ إلَّا بَعْدَ فَوَاتِ الْبَرِّ فِي الْيَمِينِ الْمُطْلَقَةِ ، وَإِنَّمَا يَفُوتُ الْبَرُّ بِهَلَاكِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ ، أَوْ بِمَوْتِ الْحَالِفِ ، وَأَمَّا فِي الْيَمِينِ الْمُؤَقَّتَةِ فَفَوْتُ الْبَرِّ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ مَعَ بَقَاءِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ ، وَمَعَ بَقَاءِ الْحَالِفِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْحَالِفُ قَدْ مَاتَ قَبْلَ مُضِيِّ ذَلِكَ الْوَقْتِ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ ، وَإِذَا
هَلَكَ ذَلِكَ الشَّيْءُ فَفِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى نُبَيِّنُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَإِذَا قَالَ : وَرَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا أَفْعَلُ كَذَا ، أَوْ وَغَضَبِ اللَّهِ ، وَسَخَطِ اللَّهِ ، وَعَذَابِ اللَّهِ وَثَوَابِهِ وَرِضَاهُ وَعِلْمِهِ ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ يَمِينًا .
وَالْحَاصِلُ أَنْ نَقُولَ الْيَمِينُ : إمَّا أَنْ يَكُونَ بِاسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ ، وَذَلِكَ يَبْتَنِي عَلَى حُرُوفِ الْقَسَمِ فَلَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهَا أَوَّلًا فَنَقُولُ : حُرُوفُ الْقَسَمِ الْبَاءُ وَالْوَاوُ وَالتَّاءُ ، أَمَّا الْبَاءُ فَهِيَ لِلْإِلْصَاقِ فِي الْأَصْلِ ، وَهِيَ بَدَلٌ عَنْ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ فَمَعْنَى قَوْلِهِ بِاَللَّهِ أَيْ أَحْلِفُ بِاَللَّهِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَيَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ } ، أَوْ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : وَأَقْسَمُوا بِاَللَّهِ } ؛ وَلِهَذَا يَصِحُّ اقْتِرَانُهَا بِالْكِتَابَةِ فَيَقُولُ الْقَائِلُ : بِهِ وَبِك ثُمَّ الْوَاوُ تُسْتَعَارُ لِلْقَسَمِ بِمَعْنَى الْبَاءِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُشَابَهَةِ صُورَةً وَمَعْنًى ، أَمَّا صُورَةً ؛ فَلِأَنَّ مَخْرَجَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِضَمِّ الشَّفَتَيْنِ ، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَلِأَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ ، وَفِي الْعَطْفِ مَعْنَى الْإِلْصَاقِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ إظْهَارُ الْفِعْلِ مَعَ حَرْفِ الْوَاوِ بِأَنْ يَقُولَ : أَحْلِفُ وَاَللَّهِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِعَارَةَ لِتَوْسِعَةِ صِلَاتِ الِاسْمِ لَا لِمَعْنَى الْإِلْصَاقِ ، فَإِذَا اُسْتُعْمِلَ مَعَ إظْهَارِ الْفِعْلِ يَكُونُ بِمَعْنَى الْإِلْصَاقِ ، وَلِهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ حَرْفُ الْوَاوِ مَعَ الْكِنَايَةِ ، وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ مَعَ التَّصْرِيحِ بِالِاسْمِ سَوَاءٌ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ اسْمَ غَيْرِ اللَّهِ ، فَيَقُولُ : وَأَبِيكَ وَأَبِي ، ثُمَّ التَّاءُ تُسْتَعَارُ لِمَعْنَى الْوَاوِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُشَابَهَةِ ، فَإِنَّهُمَا مِنْ حُرُوفِ الزَّوَائِدِ تَسْتَعْمِلُ الْعَرَبُ إحْدَاهُمَا بِمَعْنَى الْأُخْرَى كَقَوْلِهِمْ تُرَاثُ وَوَارِثُ ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةَ لِتَوْسِعَةِ صِلَةِ الْقَسَمِ بِاَللَّهِ خَاصَّةً ، وَلِهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ ذِكْرُ التَّاءِ إلَّا مَعَ التَّصْرِيحِ بِاَللَّهِ حَتَّى لَا يُقَالَ
: بِالرَّحْمَنِ ، وَإِنَّمَا يُقَالُ بِاَللَّهِ خَاصَّةً .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا } { تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ } ، ثُمَّ الْحَلِفُ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى يَمِينٌ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْجَوَابِ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ كُلُّ اسْمٍ لَا يُسَمَّى بِهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى كَقَوْلِهِ وَاَللَّهِ وَالرَّحْمَنِ فَهُوَ يَمِينٌ ، وَمَا يُسَمَّى بِهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى كَالْحَكِيمِ وَالْعَالِمِ فَإِنْ أَرَادَ بِهِ الْيَمِينَ فَهُوَ يَمِينٌ ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْيَمِينَ لَا يَكُون يَمِينًا ، وَكَانَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ يَقُولُ فِي قَوْلِهِ وَالرَّحْمَنِ : إنْ أَرَادَ بِهِ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ يَمِينٌ ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ سُورَةَ الرَّحْمَنِ لَا يَكُونُ يَمِينًا ؛ لِأَنَّهُ حَلِفٌ بِالْقُرْآنِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ أَنَّ قَوْلَهُ : وَالْقُرْآنِ لَا يَكُونُ يَمِينًا وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ تَصْحِيحَ كَلَامِ الْمُتَكَلِّمِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ ، وَمُطْلَقُ الْكَلَامِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يُفِيدُ دُونَ مَا لَا يُفِيدُ ، وَذَلِكَ فِي أَنْ يُجْعَلَ يَمِينًا ، وَيَسْتَوِي إنْ قَالَ : وَاَللَّهِ أَوْ بِاَللَّهِ أَوْ تَاللَّهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ : اللَّهِ ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ حَذْفَ بَعْضِ الْحُرُوفُ لِلْإِيجَازِ ، قَالَ الْقَائِلُ : قُلْت لَهَا قِفِي فَقَالَتْ قَافْ لَا تَحْسَبَنَّ أَنِّي نَسِيتُ الْإِلْحَافْ أَيْ وَقَفْت إلَّا أَنَّ عِنْدَ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ عِنْدَ حَذْفِ حَرْفِ الْقَسَمِ يُذْكَرُ مَنْصُوبًا بِانْتِزَاعِ حَرْفِ الْخَافِضِ مِنْهُ ، وَعِنْدَ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ يُذْكَرُ مَخْفُوضًا ؛ لِتَكُونَ كَسْرَةُ الْهَاءِ دَلِيلًا عَلَى مَحْذُوفِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : لِلَّهِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ بِاَللَّهِ ، فَإِنَّ الْبَاءَ وَاللَّامَ يَتَقَارَبَانِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { آمَنْتُمْ لَهُ } أَيْ آمَنْتُمْ بِهِ .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا : دَخَلَ آدَم الْجَنَّةَ فَلِلَّهِ مَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ حَتَّى خَرَجَ ، وَذَكَرَ الْقَفَّالُ فِي تَفْسِيرِهِ إذَا قَالَ لَهُ ، وَعَنَى بِهِ
الْيَمِينَ يَكُونُ يَمِينًا ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِ الْقَائِلِ لِهَنِّكِ مِنْ عَبْسِيَّةٍ لِوَسِيمَةٍ عَلَى هَنَوَاتِ كَاذِبٍ مَنْ يَقُولُهَا مَعْنَاهُ لِلَّهِ إنَّكَ .
وَلَوْ قَالَ : وَأَيْمُ اللَّهِ فَهُوَ يَمِينٌ .
قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَمَعْنَاهُ أَيْمُنُ فَهُوَ جَمْعُ الْيَمِينِ ، وَهَذَا مَذْهَبُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ ، وَأَمَّا الْبَصْرِيُّونَ يَقُولُونَ : مَعْنَاهُ وَاَللَّهِ وَأَيْمُ صِلَتِهِ كَقَوْلِهِمْ صَهٍ وَمَهْ ، وَمَا شَاكَلَهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : لَعَمْرُو اللَّهِ فَهُوَ يَمِينٌ بِاعْتِبَارِ النَّصِّ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : لَعَمْرُكَ } ، وَالْعَمْرُو هُوَ الْبَقَاءُ ، وَالْبَقَاءُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : وَاَللَّهِ الْبَاقِي ، وَأَمَّا الْحَلِفُ بِالصِّفَاتِ فَالْعِرَاقِيُّونَ مِنْ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُونَ : الْحَلِفُ بِصِفَاتِ الذَّاتِ كَالْقُدْرَةِ وَالْعَظَمَةِ وَالْعِزَّةِ وَالْجَلَالِ وَالْكِبْرِيَاءِ يَمِينٌ ، وَالْحَلِفُ بِصِفَاتِ الْفِعْلِ كَالرَّحْمَةِ وَالْغَضَبِ لَا يَكُونُ يَمِينًا ، وَلَوْ قَالُوا : صِفَاتُ الذَّاتِ مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِضِدِّهِ كَالْقُدْرَةِ ، وَصِفَاتُ الْفِعْلِ مَا يَجُوزُ أَنْ يُوصَفَ بِضِدِّهِ ، يُقَالُ : رُحِمَ فُلَانٌ ، وَلَمْ يُرْحَمْ فُلَانٌ ، وَغَضِبَ عَلَى فُلَانٍ ، وَرَضِيَ عَنْ فُلَانٍ .
قَالُوا : وَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ فِي قَوْلِهِ وَعَلِمَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ ، فَإِنَّهُ لَا يُوصَفُ بِضِدِّ الْعِلْمِ ، وَلَكِنَّهُمْ تَرَكُوا هَذَا الْقِيَاسَ ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الْمَعْلُومِ كَقَوْلِ الرَّجُلِ فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا عِلْمَكَ فِينَا أَيْ مَعْلُومَكَ ، وَيُقَالُ : عِلْمُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَيْ مَعْلُومُهُ ، وَالْمَعْلُومُ غَيْرُ اللَّهِ .
( فَإِنْ قِيلَ ) : وَقَدْ يُقَالُ أَيْضًا : اُنْظُرْ إلَى قُدْرَةِ اللَّهِ ، وَالْمُرَادُ الْمَقْدُورُ ، ثُمَّ قَوْلُهُ وَقُدْرَةِ اللَّهِ يَمِينٌ .
( قُلْنَا ) : مَعْنَى قَوْلِهِ اُنْظُرْ إلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ إلَى أَثَرِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنْ بِحَذْفِ الْمُضَافِ وَإِقَامَةِ الْمُضَافِ إلَيْهِ مَقَامُهُ ، فَإِنَّ الْقُدْرَةَ لَا تُعَايَنُ وَلَكِنَّ هَذَا الطَّرِيقَ غَيْرُ مَرْضِيٍّ عِنْدَنَا فَإِنَّهُمْ
يَقْصِدُونَ بِهَذَا الْفَرْقِ الْإِشَارَةَ إلَى مَذْهَبِهِمْ أَنَّ صِفَاتِ الْفِعْلِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ صِفَاتِ اللَّهِ لَا هُوَ وَلَا غَيْرُهُ فَلَا يَسْتَقِيمُ الْفَرْقُ بَيْنَ صِفَاتِ الذَّاتِ وَصِفَاتِ الْفِعْلِ فِي حُكْمِ الْيَمِينِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَلِّلُ فَيَقُولُ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى الْجَنَّةُ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ، وَإِذَا كَانَتْ الرَّحْمَةُ بِمَعْنَى الْجَنَّةِ ، فَالسُّخْطُ وَالْغَضَبُ بِمَعْنَى النَّارِ ، فَيَكُونُ حَلِفًا بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا غَيْرُ مَرَضِيٍّ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الرَّحْمَةَ وَالْغَضَبَ عِنْدَنَا مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْأَصَحُّ أَنْ يَقُولَ الْأَيْمَانُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَمَا تَعَارَفَ النَّاسُ الْحَلِفَ بِهِ يَكُونُ يَمِينًا ، وَمَا لَمْ يُتَعَارَفْ ، الْحَلِفُ بِهِ لَا يَكُونُ يَمِينًا ، وَالْحَلِفُ بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَكِبْرِيَائِهِ وَعَظَمَتِهِ مُتَعَارَفٌ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ ، وَبِرَحْمَتِهِ وَبِغَضَبِهِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ ، فَلِهَذَا لَمْ يُجْعَلْ قَوْلُهُ : وَعِلْمِ اللَّهِ يَمِينًا ، وَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ : وَأَمَانَةِ اللَّهِ : أَنَّهُ يَمِينٌ ثُمَّ سُئِلَ عَنْ مَعْنَاهُ ، فَقَالَ لَا أَدْرِي فَكَأَنَّهُ قَالَ : وُجِدَ الْعَرَبُ يَحْلِفُونَ بِأَمَانَةِ اللَّهِ عَادَةً فَجَعَلَهُ يَمِينًا .
وَذَكَرَ الطَّحْطَاوِيُّ أَنَّ قَوْلَهُ : وَأَمَانَةِ اللَّهِ لَا يَكُونُ يَمِينًا ؛ لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ وَلَكِنْ أَمَرَ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا وَهِيَ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ أَنَّهُ يَتَعَذَّرُ الْإِشَارَةُ إلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ عَلَى الْخُصُوصِ أَنَّهُ أَمَانَةُ اللَّهِ ، وَالْحَلِفُ بِهِ مُتَعَارَفٌ ، وَعَلِمْنَا أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهِ الصِّفَةَ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : وَاَللَّهِ الْأَمِينِ فَإِنْ قَالَ ، وَوَجْهِ اللَّهِ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَمِينٌ ؛ لِأَنَّ الْوَجْهَ يُذْكَرُ بِمَعْنَى الذَّاتِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { :
وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ } .
قَالَ الْحَسَنُ : هُوَ هُوَ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَكُونُ يَمِينًا .
قَالَ أَبُو شُجَاعٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي حِكَايَتِهِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : هُوَ مِنْ أَيْمَانِ السَّفَلَةِ يَعْنِي الْجَهَلَةَ الَّذِينَ يَذْكُرُونَهُ بِمَعْنَى الْجَارِحَةِ ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُجْعَلْ يَمِينًا .
وَإِنْ قَالَ وَحَقِّ اللَّهِ فَهُوَ يَمِينٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَا يَكُونُ يَمِينًا ؛ لِأَنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ الطَّاعَاتُ ، كَمَا فَسَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي { قَوْلِهِ لِمُعَاذٍ : أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } .
وَالْحَلِفُ بِالطَّاعَاتِ لَا يَكُونُ يَمِينًا .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ مَعْنَى وَحَقِّ اللَّهِ وَاَللَّهِ الْحَقِّ ، وَالْحَقُّ مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ } ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ : وَالْحَقِّ لَا أَفْعَلُ كَذَا أَنَّهُ يَمِينٌ كَقَوْلِهِ : وَاَللَّهِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ } ، وَلَوْ قَالَ حَقًّا لَا يَكُونُ يَمِينًا ؛ لِأَنَّ التَّنْكِيرَ فِي لَفْظِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ اسْمَ اللَّهِ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ تَحْقِيقَ الْوَعْدِ مَعْنَاهُ أَفْعَلُ هَذَا لَا مَحَالَةَ فَلَا يَكُونُ يَمِينًا .
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَقَدْ بَيَّنَّا فِي بَابِ الْإِيلَاءِ مِنْ كِتَابِ الطَّلَاقِ أَلْفَاظَ الْقَسَمِ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ ، وَمَا فِيهِ اخْتِلَافٌ ، كَقَوْلِهِمْ هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ أَوْ مَجُوسِيٌّ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ : إذَا قَالَ : هُوَ يَهُودِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا ، وَهُوَ نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا فَهُمَا يَمِينَانِ ، وَإِنْ قَالَ : هُوَ يَهُودِيٌّ هُوَ نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا فَهِيَ يَمِينٌ وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّ فِي الْأَوَّلِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَلَامَيْنِ تَامٌّ بِذِكْرِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ ، وَفِي الثَّانِي الْكَلَامُ وَاحِدٌ حِينَ ذَكَرَ الشَّرْطَ مَرَّةً وَاحِدَةً ، وَلَوْ حَلَفَ عَلَى أَمْرٍ فِي الْمَاضِي بِهَذَا اللَّفْظِ فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ أَنَّهُ صَادِقٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ ، كَانَ
مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : يَكْفُرُ ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْكُفْرَ بِمَا هُوَ مَوْجُودٌ ، وَالتَّعْلِيقُ بِالْمَوْجُودِ تَنْجِيزٌ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : هُوَ كَافِرٌ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ اعْتِبَارًا لِلْمَاضِي بِالْمُسْتَقْبَلِ ، فَفِي الْمُسْتَقْبَلِ هَذَا اللَّفْظُ يَمِينٌ يُكَفِّرُهَا كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَفِي الْمَاضِي هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْغَمُوسِ أَيْضًا .
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إنْ كَانَ عَالِمًا يَعْرِفُ أَنَّهُ يَمِينٌ فَإِنَّهُ لَا يَكْفُرُ بِهِ فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ ، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا وَعِنْدَهُ أَنَّهُ يَكْفُرُ بِالْحَلِفِ يَصِيرُ كَافِرًا فِي الْمَاضِي وَالْمُسْتَقْبَلِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقْدَمَ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ ، وَعِنْدَهُ أَنَّهُ يَكْفُرُ بِهِ فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِالْكُفْرِ ، وَمِنْ هَذَا الْجِنْسِ تَحْرِيمُ الْحَلَالِ فَإِنَّهُ يَمِينٌ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَكُونُ يَمِينًا إلَّا فِي النِّسَاءِ وَالْجَوَارِي ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ قَلْبُ الشَّرِيعَةِ ، وَالْيَمِينُ عَقْدٌ شَرْعِيٌّ ، فَكَيْفَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظٍ هُوَ قَلْبُ الشَّرِيعَةِ ؟ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْمَعْنَى تَعْظِيمُ الْمَقْسَمِ بِهِ ، وَلَا مَعْنَى الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بِوُجُودِ الشَّرْطِ لَا يَثْبُتُ - عَيْنُ مَا عُلِّقَ بِهِ مِنْ الْجَزَاءِ ، أَوْ الْيَمِينُ يَتَنَوَّعُ بِهَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ .
( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { : قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } قِيلَ : إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَّمَ الْعَسَلَ عَلَى نَفْسِهِ ، وَقِيلَ : حَرَّمَ مَارِيَةَ عَلَى نَفْسِهِ فَيُعْمَلُ بِهِمَا أَوْ لِمَا ثَبَتَ بِهَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ التَّحْرِيمَ الْمُضَافَ إلَى الْجَوَارِي يَكُونُ يَمِينًا ، فَكَذَلِكَ التَّحْرِيمُ الْمُضَافُ إلَى سَائِرِ الْمُبَاحَاتِ كَقَوْلِهِ : وَاَللَّهِ ، فَكَمَا أَنَّ هُنَاكَ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لَا يَثْبُتُ مَا عَلَقَ بِهِ مِنْ التَّحْرِيم ، فَكَذَلِكَ فِي الْجَوَارِي ، ثُمَّ مَعْنَى الْيَمِينِ فِي هَذَا
اللَّفْظِ يَتَحَقَّقُ بِالْقَصْدِ إلَى الْمَنْعِ أَوْ إلَى الْإِيجَابِ ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ يَكُونُ مُمْتَنِعًا مِنْ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ ، وَإِذَا جَعَلَ ذَلِكَ بِيَمِينِهِ عَلَامَةَ فِعْلِهِ عَرَفْنَا أَنَّهُ قَصَدَ مَنْعَ نَفْسِهِ عَنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ ، كَمَا فِي قَوْلِهِ : وَاَللَّهِ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ مُمْتَنِعًا مِنْ هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ يَمِينًا ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ : هُوَ كَافِرٌ إنْ فَعَلَ كَذَا كَانَ يَمِينًا ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْكُفْرِ حُرْمَةٌ تَامَّةٌ مُصْمَتَةٌ كَهَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِذَا جَعَلَ فِعْلَهُ عَلَامَةً لِذَلِكَ كَانَ يَمِينًا ، فَأَمَّا إذَا قَالَ : هُوَ يَأْكُلُ الْمَيْتَةَ أَوْ يَسْتَحِلُّهَا أَوْ الدَّمَ أَوْ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ إنْ فَعَلَ كَذَا ، فَهَذَا لَا يَكُونُ يَمِينًا ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ لَيْسَتْ بِحُرْمَةٍ تَامَّةٍ مُصْمَتَةٍ ، حَتَّى أَنَّهُ يَنْكَشِفُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : هُوَ يَتْرُكُ الصَّلَاةَ وَالزَّكَاةَ إنْ فَعَلَ كَذَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ وَالْعَجْزِ ، فَلَمْ يَكُنْ مَعْنَى الْيَمِينِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَلَوْ أُلْحِقَ بِهِ بِاعْتِبَارِ بَعْضِ الْأَوْصَافِ لَكَانَ قِيَاسًا ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي هَذَا الْبَابِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ بِحَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ ، لَمْ يَكُنْ يَمِينًا ؛ لِأَنَّهُ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِأَنَّ الْحَلِفَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعُرْفَ مُعْتَبَرٌ فِي الْيَمِينِ ، وَلَوْ قَالَ : عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ أَوْ غَضَبُ اللَّهِ أَوْ أَمَانَةُ اللَّهِ ، أَوْ عَذَّبَهُ اللَّهُ بِالنَّارِ ، أَوْ حَرَّمَ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ إنْ فَعَلَ كَذَا فَشَيْءٌ مِنْ هَذَا لَا يَكُونُ يَمِينًا ، إنَّمَا هُوَ دُعَاءٌ عَلَى نَفْسِهِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ } ؛ وَلِأَنَّ الْحَلِفَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ .
وَسُئِلَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ عَمَّنْ يَقُولُ : وَسُلْطَانِ اللَّهِ لَا يَفْعَلُ كَذَا فَقَالَ : لَا أَدْرِي مَا هَذَا ، مَنْ حَلَفَ بِهَذَا فَقَدْ أَشَارَ إلَى عَدَمِ الْعُرْفِ ، وَالصَّحِيحُ مِنْ الْجَوَابِ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّهُ إذَا أَرَادَ بِالسُّلْطَانِ الْقُدْرَةَ فَهُوَ يَمِينٌ ، كَقَوْلِهِ : وَقُدْرَةِ اللَّهِ ، وَلَوْ جَعَلَ عَلَيْهِ حَجَّةً أَوْ عُمْرَةً أَوْ صَوْمًا أَوْ صَلَاةً أَوْ صَدَقَةً ، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ طَاعَةٌ إنْ فَعَلَ كَذَا فَفَعَلَ لَزِمَهُ ذَلِكَ الَّذِي جَعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ ، وَلَمْ يَجِبْ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ فِيهِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَنَا ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : إنْ عَلَّقَ النَّذْرَ بِشَرْطٍ يُرِيدُ كَوْنَهُ ، كَقَوْلِهِ : إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي ، أَوْ رَدَّ غَائِبِي لَا يَخْرُجُ عَنْهُ بِالْكَفَّارَةِ ، وَإِنْ عَلَّقَ بِشَرْطٍ لَا يُرِيدُ كَوْنَهُ كَدُخُولِ الدَّارِ وَنَحْوِهِ ، يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْكَفَّارَةِ وَبَيْنَ عَيْنِ مَا الْتَزَمَهُ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْجَدِيدِ ، وَقَدْ كَانَ يَقُولُ فِي الْقَدِيمِ : يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ ، وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى رَجَعَ إلَى التَّخْيِيرِ أَيْضًا ، فَإِنَّ عَبْدَ الْعَزِيزِ بْنَ خَالِدٍ التِّرْمِذِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : خَرَجْتُ حَاجًّا فَلَمَّا دَخَلْتُ الْكُوفَةَ قَرَأْتُ كِتَابَ النُّذُورِ وَالْكَفَّارَاتِ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، فَلَمَّا انْتَهَيْتُ إلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، فَقَالَ : قِفْ فَإِنَّ مِنْ رَأْيِي أَنْ أَرْجِعَ ، فَلَمَّا رَجَعْتُ مِنْ الْحَجِّ إذَا أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ تُوُفِّيَ ، فَأَخْبَرَنِي الْوَلِيدُ بْنُ أَبَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ رَجَعَ عَنْهُ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَبْعَةِ أَيَّامٍ ، وَقَالَ : يَتَخَيَّرُ وَبِهَذَا كَانَ يُفْتِي إسْمَاعِيلُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَهُوَ اخْتِيَارِيٌّ أَيْضًا لِكَثْرَةِ الْبَلْوَى فِي زَمَانِنَا ، وَكَانَ مِنْ مَذْهَبِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ يَخْرُجُ عَنْهُ بِالْكَفَّارَةِ ، وَمِنْ مَذْهَبِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ عَنْهُ بِالْكَفَّارَةِ ، حَتَّى كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ : لَا أَعْرِفُ فِي النَّذْرِ إلَّا الْوَفَاءَ ، وَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ ، قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَسَمَّى فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا سَمَّى ، وَمَنْ نَذَرَ نَذْرًا وَلَمْ يُسَمِّ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ } .
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ عَلَّقَ بِالشَّرْطِ مَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ فِي الذِّمَّةِ ، فَعِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ يَصِيرُ كَالْمُنَجَّزِ ، وَلَوْ نُجِّزَ النَّذْرُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْهُ بِالْكَفَّارَةِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ يُجْعَلُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنْجَزِ ، فَهَذَا مِثْلُهُ ، وَتَحْقِيقُ هَذَا ، وَهُوَ أَنَّ مَعْنَى الْيَمِينِ لَا يُوجَدُ هُنَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَعْظِيمُ الْمُقْسَمِ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ دُخُولَ الدَّارِ عَلَامَةَ الْتِزَامِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ ، وَفِي الِالْتِزَامِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ ، وَالْمُسْلِمُ لَا يَكُون مُمْتَنِعًا مِنْ الْتِزَامِ الْقُرْبَةِ .
تَوْضِيحُهُ : أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ لِمَعْنَى الْحَظْرِ ؛ لِأَنَّهَا سِتَارَةٌ لِلذَّنْبِ ، وَمَعْنَى الْحَظْرِ لَا يُوجَدُ هُنَا ، وَفِي الْقَوْلِ بِالْخِيَارِ لَهُ تَخْيِيرٌ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي جِنْسِ وَاحِدٍ ، حَتَّى إذَا قَالَ : إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَعَلَيَّ طَعَامُ أَلْفُ مِسْكِينٍ ، فَمَنْ يَقُولُ بِالْخِيَارِ يُخَيِّرُهُ بَيْنَ إطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ، وَبَيْنَ إطْعَامِ أَلْفِ مِسْكِينٍ ، وَكَذَا الْعِتْقُ وَالْكِسْوَةُ ، وَإِنْ قَالَ الْمُعْسِرُ : إنْ دَخَلْتُ الدَّارَ فَعَلَيَّ صَوْمُ سَنَةٍ ، يُخَيِّرُهُ بَيْنَ صَوْمِ سَنَةٍ ، وَبَيْنَ صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي جِنْسٍ وَاحِدٍ غَيْرُ مُفِيدٍ شَرْعًا ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُكْمًا شَرْعِيًّا ، وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ قَوْلُهُ { : النَّذْرُ يَمِينٌ
وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ } ، فَيُحْمَلُ هَذَا النَّذْرِ الْمُعَلَّقِ بِالشَّرْطِ ، وَمَا رَوَوْهُ عَلَى النَّذْرِ الْمُرْسَلِ أَوْ الْمُعَلَّقِ بِمَا يُرِيدُ كَوْنَهُ لِيَكُونَ جَمْعًا بَيْنَ الْأَخْبَارِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ كَلَامَهُ يَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى النَّذْرِ وَالْيَمِينِ جَمِيعًا ، أَمَّا مَعْنَى النَّذْرِ فَظَاهِرٌ ، وَأَمَّا مَعْنَى الْيَمِينِ ؛ فَلِأَنَّهُ قَصَدَ بِيَمِينِهِ هَذَا مَنْعَ نَفْسِهِ عَنْ إيجَادِ الشَّرْطِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَمْتَنِعُ مِنْ الْتِزَامِ هَذِهِ الطَّاعَاتِ بِالنَّذْرِ مَخَافَةَ أَنْ لَا يَفِيَ بِهَا ، فَيَلْحَقَهُ الْوَعِيدُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ { : وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ } إلَى قَوْلِهِ { : وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ } ، فَإِذَا جَعَلَ دُخُولَ الدَّارِ عَلَامَةَ الْتِزَامِ مَا يَكُونُ مُمْتَنِعًا مِنْ الْتِزَامِهِ ، يَكُونُ يَمِينًا ، وَكَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْعُرْفُ يُسَمَّى يَمِينًا .
يُقَالُ : حَلَفَ بِالنَّذْرِ فَلِوُجُودِ اسْمِ الْيَمِينِ ، وَمَعْنَاهَا قُلْنَا يَخْرُجُ بِالْكَفَّارَةِ ، وَلِوُجُودِ مَعْنَى النَّذْرِ قُلْنَا : يَخْرُجُ عَنْهُ بِعَيْنِ مَا الْتَزَمَهُ بِخِلَافِ النَّذْرِ الْمُرْسَلِ ، فَاسْمُ الْيَمِينِ وَمَعْنَاهَا غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ الْمُعَلَّقُ بِشَرْطٍ يُرِيدُ كَوْنَهُ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْيَمِينَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيهِ ، وَهُوَ الْقَصْدُ إلَى الْمَنْعِ بَلْ قَصْدُهُ إظْهَارُ الرَّغْبَةِ فِيمَا جَعَلَهُ شَرْطًا ، يُقَرِّرُ هَذَا أَنَّ مَعْنَى الْحَظْرِ يَتَحَقَّقُ هُنَا ؛ لِأَنَّ الِالْتِزَامَ بِالنَّذْرِ قِرْبَةٌ بِشَرْطِ أَنْ يَفِيَ بِمَا وَعَدَ ، فَأَمَّا بِدُونِ الْوَفَاءِ يَكُونُ مَعْصِيَةً .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ } ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ } الْآيَةَ ، وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ هَلْ يَفِي بِهَذَا أَوْ لَا يَفِي فَيَكُونُ مُتَرَدِّدًا دَائِرًا بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ بِمَنْزِلَةِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَيَصْلُحُ سَبَبًا
لِوُجُوبِ الْكَفَّارَة ، ( فَإِنْ قِيلَ ) : هَذَا فِي النَّذْرِ الْمُرْسَلِ مَوْجُودٌ .
( قُلْنَا ) : نَعَمْ وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ اسْمِ الْيَمِينِ لِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ ؛ لِأَنَّهَا تُسَمَّى كَفَّارَةَ الْيَمِينِ ، وَاسْمُ الْيَمِينِ لَا يُوجَدُ فِي النَّذْرِ الْمُرْسَلِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هُوَ يَمِينٌ يَتَوَقَّفُ مُوجِبُهَا عَلَى تَنْفِيذٍ مِنْ جِهَتِهِ فَيَخْرُجُ عَنْهَا بِالْكَفَّارَةِ كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ، فَإِنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ مُوجِبُهَا عَلَى تَنْفِيذٍ مِنْ جِهَتِهِ ، بَلْ بِوُجُودِ الشَّرْطِ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ ، وَلَوْ شُرِعَتْ الْكَفَّارَةُ فِيهَا كَانَتْ لِرَفْعِ مَا وَقَعَ مِنْ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ هُنَا ، وَلَوْ شُرِعَتْ الْكَفَّارَةُ كَانَتْ مَشْرُوعَةً خَلَفًا عَنْ الْبِرِّ لِيَصِيرَ كَأَنَّهُ تَمَّ عَلَى بَرِّهِ ، وَذَلِكَ مَشْرُوعٌ ، فَإِنَّهُ لَوْ تَمَّ عَلَى بِرِّهِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ، وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ جَائِزٌ كَالْعَبْدِ إذَا أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ بِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ ، وَيَتَخَيَّرُ بَيْنَ أَدَاءِ الْجُمُعَةِ رَكْعَتَيْنِ وَبَيْنَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا فَهَذَا مِثْلُهُ .
وَكَذَلِكَ إذَا حَلَفَ بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى إنْ فَعَلَ كَذَا فَفَعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ فِي الْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ بِالنَّذْرِ مَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ شَرْعًا ، وَالْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ لَيْسَ بِوَاجِبٍ شَرْعًا ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ عَيْنُ مَا الْتَزَمَهُ وَهُوَ الْمَشْيُ ، فَلَأَنْ لَا يَلْزَمَهُ شَيْءٌ آخَرُ أَوْلَى وَهُوَ الْحَجُّ أَوْ الْعُمْرَةُ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَلْزَمُهُ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ وَلِأَنَّهُ فِي عُرْفِ النَّاسِ يُذْكَرُ هَذَا اللَّفْظَ بِمَعْنَى الْتِزَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، وَفِي النُّذُورِ وَالْأَيْمَانِ يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ ، فَجَعَلْنَا هَذَا عِبَارَةً عَنْ الْتِزَامِ حَجٍّ أَوْ
عُمْرَةٍ مَجَازًا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكَلَامِ اسْتِعْمَالُ النَّاسِ لِإِظْهَارِ مَا فِي بَاطِنِهِمْ ، فَإِذَا صَارَ اللَّفْظُ فِي شَيْءٍ مُسْتَعْمَلًا مَجَازًا يُجْعَلُ كَالْحَقِيقَةِ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ ، ثُمَّ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا النُّسُكَانِ الْمُتَعَلِّقَانِ بِالْبَيْتِ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى أَدَائِهِمَا إلَّا بِالْإِحْرَامِ ، وَإِلَّا بِالذَّهَابِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، ثُمَّ يَتَخَيَّرُ إنْ شَاءَ مَشَى ، وَإِنْ شَاءَ رَكِبَ وَأَرَاقَ دَمًا لِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّهُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ { إنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ أُخْتِكَ ، مُرْهَا فَلْتَرْكَبْ وَلْتُرِقْ دَمًا } ؛ وَلِأَنَّ النُّسُكَ بِصِفَةِ الْمَشْيِ يَكُونُ إثْمٌ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بَعْدَمَا كُفَّ بَصَرُهُ كَانَ يَقُولُ : لَا أَتَأَسَّفُ عَلَى شَيْءٍ كَتَأَسُّفِي عَلَى أَنْ أَحُجَّ مَاشِيًا ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَ الْمُشَاةَ فَقَالَ { : يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ } ، فَإِذَا رَكِبَ فَقَدْ أَدْخَلَ فِيهِ نَقْصًا ، وَنَقَائِصُ النُّسُكِ تُجْبَرُ بِالدَّمِ ، وَإِنْ اخْتَارَ الْمَشْيَ فَالصَّحِيحُ مِنْ الْجَوَابِ أَنَّهُ يَمْشِي مِنْ بَيْتِهِ إلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ ، وَمَا سِوَاهُ فِيهِ مِنْ الْكَلَامِ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمَنَاسِكِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ ثَمَانِ فُصُولٍ فِي ثَلَاثٍ يَلْزَمُ بِلَا خِلَافٍ فِي الْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ الْكَعْبَةِ أَوْ مَكَّةَ ، وَفِي ثَلَاثٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِالِاتِّفَاقِ ، وَهُوَ إذَا نَذَرَ الذَّهَابَ إلَى مَكَّةَ ، أَوْ السَّفَرَ إلَى مَكَّةَ ، أَوْ الرُّكُوبَ وَفِي فَصْلَيْنِ خِلَافٌ ، وَهُوَ مَا إذَا نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى الْحَرَمِ أَوْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ .
كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَأْخُذُ فِيهِمَا بِالْقِيَاسِ ، وَهُمَا بِالِاسْتِحْسَانِ .
وَلَوْ حَلَفَ بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ ، وَهُوَ يَنْوِي مَسْجِدًا مِنْ الْمَسَاجِدِ سِوَى
الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَمْ يَلْزَمهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ ، فَالْمَسَاجِدُ كُلُّهَا بُيُوتُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا تَجَرَّدَتْ عَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَصَارَتْ مُعَدَّةٌ لِإِقَامَةِ الطَّاعَةِ فِيهَا لِلَّهِ تَعَالَى فَإِذَا عُمِلَتْ نِيَّتُهُ صَارَ الْمَنْوِيُّ كَالْمَلْفُوظِ بِهِ ، وَسَائِرُ الْمَسَاجِدِ يُتَوَصَّلُ إلَيْهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ ، فَلَا يَلْزَمُهُ بِالْتِزَامِ الْمَشْيِ إلَيْهَا شَيْءٌ ، وَمَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَمَسْجِدُ الْمَدِينَةِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ عِنْدَنَا بِخِلَافِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، فَإِنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِالْإِحْرَامِ ، وَالْمُلْتَزِمُ بِالْإِحْرَامِ يَلْزَمُهُ أَحَدُ النُّسُكَيْنِ الْمُخْتَصُّ أَدَاؤُهُمَا بِالْإِحْرَامِ ، وَهُوَ الْحَجُّ أَوْ الْعُمْرَةُ ، وَإِذَا قَالَ : أَنَا أُحْرِمُ إنْ فَعَلْتُ كَذَا ، أَوْ أَنَا مُحْرِمٌ أَوْ أَهْدِي أَوْ أَمْشِي إلَى الْبَيْتِ ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَعُدَّ مِنْ نَفْسِهِ عُدَّةً وَلَا يُوجِبُ شَيْئًا ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِهِ وَعْدٌ فَإِنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ فِعْلٍ يَفْعَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبِلِ ، وَالْوَعْدُ فِيهِ غَيْرُ مُلْزِمٍ ، وَإِنَّمَا يُنْدَبُ إلَى الْوَفَاءِ بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ مِنْهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَرَادَ الْإِيجَابُ لَزِمَهُ مَا قَالَ ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ ، فَإِنَّ الْفِعْلَ الَّذِي يَفْعَلُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا ، وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ وَاجِبٍ فَإِذَا أَرَادَ الْإِيجَابَ فَقَدْ خَصَّ أَحَدَ النَّوْعَيْنِ بِنِيَّتِهِ ، وَتَعْلِيقُهُ بِالشَّرْطِ دَلِيلٌ عَلَى الْإِيجَابِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَثْبُتُ عِنْدَ وُجُودُ الشَّرْطِ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا مِنْ قَبْلُ ، وَهُوَ الْوُجُوبُ دُونَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ ، فَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِوُجُودِ الشَّرْطِ وَعَدَمِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَفِي الْقِيَاسِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ لَفْظِهِ عِدَةٌ ؛ وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ بِالشَّكِّ لَا يَثْبُتُ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَلْزَمُهُ مَا قَالَ
؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِهَذَا اللَّفْظِ الْإِيجَابَ ، وَمُطْلَقُ الْكَلَامِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُتَعَارَفِ ، وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ دَلِيلُ الْإِيجَابِ أَيْضًا ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ فِي الْمَنَاسِكِ .
وَإِذَا حَلَفَ أَنْ يُهْدِيَ مَالًا يَمْلِكُهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : لَا نَذْرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ } ، وَمُرَادُهُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ أَنْ يَقُولَ : إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ هَذِهِ الشَّاةَ ، وَهِيَ مَمْلُوكَةٌ لِغَيْرِهِ ، فَأَمَّا إذَا قَالَ : وَاَللَّهِ لَأَهْدِيَنَّ هَذِهِ الشَّاةَ يَنْعَقِدُ يَمِينُهُ ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْيَمِينِ خَبَرٌ فِيهِ رَجَاءُ الصِّدْقِ ، وَذَلِكَ بِكَوْنِ الْفِعْلِ مُمْكِنًا ، وَمَحِلُّ النَّذْرِ فِعْلٌ وَهُوَ قُرْبَةٌ ، وَإِهْدَاءُ شَاةِ الْغَيْرِ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ ، إلَّا أَنْ يُرِيدَ الْيَمِينَ فَحِينَئِذٍ يَنْعَقِدُ ؛ لِأَنَّ فِي النَّذْرِ مَعْنَى الْيَمِينِ حَتَّى ذَكَرَ الطَّحْطَاوِيُّ أَنَّهُ لَوْ أَضَافَ النَّذْرَ إلَى مَا هُوَ مَعْصِيَةٌ وَعَنَى بِهِ الْيَمِينَ بِأَنْ قَالَ : لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ أَنْ أَقْتُلَ فُلَانًا ، كَانَ يَمِينًا ، وَيَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ بِالْحِنْثِ ؛ لِقَوْلِهِ { : النَّذْرُ يَمِينٌ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ } ، وَإِذَا قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَنْحَرَ وَلَدِي ، أَوْ أَذْبَحَ وَلَدِي لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ فِي الْقِيَاسِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَلْزَمُهُ ذَبْحُ شَاةٍ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَكِنَّهُ إنْ ذُكِرَ بِلَفْظِ الْهَدْيِ ، فَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالْحَرَمِ ، وَفِي سَائِرِ الْأَلْفَاظِ إمَّا أَنْ يَذْبَحَهَا فِي الْحَرَمِ أَوْ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ .
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ نَذْرٌ بِإِرَاقَةِ دَمٍ مَحْقُونٍ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ، كَمَا لَوْ قَالَ : أَبِي أَوْ أُمِّي ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي سَمَّاهُ مَعْصِيَةً وَلَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَوْ نَذَرَ ذَبْحَ مَا يَمْلِكُ ذَبْحَهُ ، وَلَكِنْ لَا يَحِلُّ ذَبْحُهُ كَالْحِمَارِ وَالْبَغْلِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ، وَلَوْ نَذَرَ ذَبْحَ مَا يَحِلُّ ذَبْحُهُ ، وَلَكِنْ لَا يَمْلِكُ ذَبْحَهُ كَشَاةِ الْغَيْرِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ، فَإِذَا نَذَرَ ذَبْحَ مَا لَا يَحِلُّ ذَبْحُهُ
وَلَا يَمْلِكُ ذَبْحَهُ أَوْلَى أَنْ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا رُوِيَ : أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ : أَرَى عَلَيْك مِائَةُ بَدَنَةٍ ، ثُمَّ قَالَ : ائْتِ ذَلِكَ الشَّيْخَ فَاسْأَلْهُ ، وَأَشَارَ إلَى مَسْرُوقٍ فَسَأَلَهُ فَقَالَ : أَرَى عَلَيْكَ شَاةً فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، فَقَالَ : وَأَنَا أَرَى عَلَيْك ذَلِكَ ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ أَوْجَبَ فِيهِ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ ، وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَوْجَبَ فِيهِ بَدَنَةً أَوْ مِائَةَ بَدَنَةٍ .
وَسَأَلَتْ امْرَأَةٌ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ فَقَالَتْ إنِّي جَعَلْتُ وَلَدِي نَحِيرًا .
فَقَالَ : أَمَرَ اللَّهُ بِالْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ .
فَقَالَتْ : أَتَأْمُرُنِي بِقَتْلِ وَلَدِي ، فَقَالَ : نَهَى اللَّهُ عَنْ قَتْلِ الْوَلَدِ ، وَإِنَّ عَبْدَ الْمُطَّلِبِ نَذَرَ إنْ تَمَّ لَهُ عَشَرَةُ بَنِينَ أَنْ يَذْبَحَ عَاشِرَهُمْ ، فَتَمَّ لَهُ ذَلِكَ بِعَبْدِ اللَّهِ أَبِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَقْرَع بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَشْرٍ مِنْ الْإِبِلِ ، فَخَرَجَتْ الْقُرْعَةُ عَلَيْهِ ، فَمَا زَالَ يَزِيدُ عَشْرًا عَشْرًا ، وَالْقُرْعَةُ تَخْرُجُ عَلَيْهِ حَتَّى بَلَغَتْ الْإِبِلُ مِائَةً ، فَخَرَجَتْ الْقُرْعَةُ عَلَيْهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، فَنَحَرَ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ ، وَأَرَى عَلَيْك مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ ، وَالصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ اتَّفَقُوا عَلَى صِحَّةِ النَّذْرِ ، وَاخْتَلَفُوا فِيمَا يَخْرُج بِهِ ، فَاسْتَدْلَلْنَا بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى صِحَّةِ النَّذْرِ ؛ لِأَنَّ مِنْ الْإِجْمَاعِ أَنْ يَشْتَهِرَ قَوْلُ بَعْضُ الْكِبَارِ مِنْهُمْ ، وَلَا يَظْهَرَ خِلَافُ ذَلِكَ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ رُجُوعَ ابْنِ عَبَّاسٍ إلَى قَوْلِ مَسْرُوقٍ قَدْ اُشْتُهِرَ ، وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْ أَحَدٍ خِلَافُ ذَلِكَ ، وَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ مَرْوَانَ أَخْطَأَ الْفُتْيَا لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ شَاذٌّ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ ، فَإِنَّ قَوْلَ مَرْوَانَ لَا يُعَارِضُ قَوْلَ الصَّحَابَةِ ، مَعَ أَنَّ
الْإِجْمَاعَ لَا يُعْتَبَرُ فِيمَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِلْقِيَاسِ ، وَلَكِنَّ قَوْلَ الْوَاحِدِ مِنْ فُقَهَائِهِمْ فِيمَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ ، يُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِحَمْلِ قَوْلِهِ إلَّا عَلَى السَّمَاعِ مِمَّنْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ ، ثُمَّ أَخَذْنَا بِفَتْوَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٍ فِي إيجَابِ الشَّاةِ لَهَا ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ مَنْ أَوْجَبَ بَدَنَةً أَوْ أَكْثَرَ فَقَدْ أَوْجَبَ الزِّيَادَةَ ؛ أَوْ لِأَنَّ مَنْ أَوْجَبَ الشَّاةَ فَإِنَّمَا أَوْجَبَهَا اسْتِدْلَالًا بِقِصَّةِ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَمَنْ أَوْجَبَ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ ، فَإِنَّمَا أَوْجَبَهَا اسْتِدْلَالًا بِفِعْلِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَالْأَخْذُ بِفِعْلِ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَوْلَى مِنْ الْأَخْذِ بِفِعْلِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَهُوَ الِاسْتِدْلَال الْفِقْهِيُّ فِي الْمَسْأَلَةِ ، فَإِنَّ الشَّاةَ مَحَلٌّ لِوُجُوبِ ذَبْحِهَا بِإِيجَابِ ذَبْحٍ مُضَافٍ إلَى الْوَلَدِ ، فَكَانَ إضَافَةُ النَّذْرِ بِالذَّبْحِ إلَى الْوَلَدِ بِهَذَا الطَّرِيقِ كَالْإِضَافَةِ إلَى الشَّاةِ ، فَيَكُونُ مَلْزَمَةً .
وَبَيَانُهُ أَنَّ الْخَلِيلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ أُمِرَ بِذَبْحِ الْوَلَدِ كَمَا أَخْبَرَ بِهِ وَلَدَهُ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْهُ { : إنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ } أَيْ أُمِرْتُ بِذَبْحِك ، بِدَلِيلِ أَنَّ ابْنَهُ قَالَ فِي الْجَوَابِ { : يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ } ؛ وَلِأَنَّهُمَا اعْتَقَدَا الْأَمْرَ بِذَبْحِ الْوَلَدِ حَيْثُ اشْتَغَلَا بِهِ فَأُقِرَّا عَلَيْهِ ، وَتَقْرِيرُ الرُّسُلِ عَلَى الْخَطَأِ لَا يَجُوزُ ، خُصُوصًا فِيمَا لَا يَحِلُّ الْعَمَلُ فِيهِ بِغَالِبِ الرَّأْيِ مِنْ إرَاقَةِ دَمِ نَبِيٍّ ، ثُمَّ وَجَبَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ الْأَمْرِ ذَبْحُ الشَّاةِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { : وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا .
} أَيْ حَقَقْتَ ، وَإِنَّمَا حُقِّقَ ذَبْحُ الشَّاةِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ : إنَّمَا سَمَّاهُ مُصَدِّقًا رُؤْيَاهُ قَبْلَ ذَبْحِ الشَّاةِ ؛ لِأَنَّ فِي الْآيَةِ
تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا ، مَعْنَاهُ وَفَدَيْنَاهُ بِذَبْحٍ عَظِيمٍ ، وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إبْرَاهِيمُ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ قَبْلَ ذَبْحِ الشَّاةِ إنَّمَا أَتَى بِمُقَدَّمَاتِ ذَبْحِ الْوَلَدِ مِنْ تَلِّهِ لِلْجَبِينِ وَإِمْرَارِهِ السِّكِّينَ عَلَى حَلْقِهِ ، وَبِهِ لَمْ يَحْصُلْ الِامْتِثَالُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِذَبْحٍ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ حَصَلَ الِامْتِثَالُ بِهِ لَمْ تَكُنْ الشَّاةُ فِدَاءً ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ : وُجُوبُ الشَّاةِ بِأَمْرٍ آخَرَ ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ أَمْرٍ آخَرَ بِالرَّأْيِ غَيْرُ مُمَكَّنٍ ؛ وَلِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ فِدَاءً .
وَاَللَّهُ تَعَالَى سَمَّى الشَّاةَ فِدَاءً عَلَى أَنَّهُ دَفَعَ مَكْرُوهَ الذَّبْحِ عَنْ الْوَلَدِ بِالشَّاةِ ، وَهَذَا إذَا كَانَ وُجُوبُ الشَّاةِ بِذَلِكَ الْأَمْرِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : وَجَبَ عَلَيْهِ ذَبْحُ الْوَلَدِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ اشْتَغَلَ بِمُقَدِّمَاتِهِ ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الشَّاةُ فِدَاءً عَنْ وَلَدٍ وَجَبَ ذَبْحُهُ ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي النَّذْرِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ مَا أَوْجَبَ عَلَيْهِ ذَبْحَ الْوَلَدِ حَتَّى جُعِلَتْ الشَّاةُ فِدَاءً ، إذْ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا تَأَدَّى بِالْفِدَاءِ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ فِي يَدِهِ ؛ وَلِأَنَّ الْوَلَدَ كَانَ مَعْصُومًا عَنْ الذَّبْحِ ، وَقَدْ ظَهَرَتْ الْعِصْمَةُ حِسًّا عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ الشَّفْرَةَ كَانَتْ تَنْبُو وَتَنْفُلُ وَلَا تَقْطَعُ ، وَبَيْنَ كَوْنِهِ مَعْصُومًا عَنْ الذَّبْحِ ، وَبَيْنَ كَوْنِهِ وَاجِبَ الذَّبْحِ مُنَافَاةٌ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مَا وَجَبَ ذَبْحُ الْوَلَدِ بَلْ أُضِيفَ الْإِيجَابُ إلَيْهِ عَلَى أَنْ يَنْحَلَّ الْوُجُوبُ بِالشَّاةِ .
وَفَائِدَةُ هَذِهِ الْإِضَافَةِ الِابْتِلَاءُ فِي حَقِّ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالِاسْتِسْلَامِ وَإِظْهَارِ الطَّاعَةِ فِيمَا لَا يَضْطَلِعُ فِيهِ أَحَدٌ مِنْ الْمَخْلُوقِينَ ، وَلِلْوَلَدِ بِالِانْقِيَادِ وَالصَّبْرِ عَلَى مُجَاهَدَةِ بَذْلِ الرُّوحِ إلَى مُكَاشَفَةِ الْحَالِ ؛ وَلِيَكُونَ لَهُ ثَوَابُ أَنْ يَكُونَ قُرْبَانَا لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : أَنَا ابْنُ الذَّبِيحَيْنِ } وَمَا ذُبِحَا بَلْ أُضِيفَ إلَيْهِمَا
، ثُمَّ فُدِيَا بِالْقِرَابَيْنِ ، وَلَا يُقَالُ : قَدْ وَجَبَ ذَبْحُ الْوَلَدِ ، ثُمَّ تَحَوُّلَ وُجُوبُ ذَبْحِ الْوَلَدِ إلَى الشَّاةِ بِانْتِسَاخِ الْمَحَلِّيَّةِ فَتَكُونُ الشَّاةُ وَاجِبَةً بِذَلِكَ الْأَمْرِ كَالدَّيْنِ يُحَالُ مِنْ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ ، فَيَفْرُغُ الْمَحَلُّ الْأَوَّلُ مِنْهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ فِيهِ ، فَيَكُونُ وَاجِبًا فِي الْمَحَلِّ الثَّانِي بِذَلِكَ السَّبَبِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْمَحَلِّ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ صَلَاحِيَّةِ الْمَحَلِّ لَهُ ، وَبَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ تَحَوَّلَ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ يَبْقَى الْمَحَلُّ الْأَوَّلُ صَالِحًا لِمِثْلِهِ كَالدَّيْنِ إذَا حُوِّلَ مِنْ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ ، وَلَمْ يَبْقَ الْوَلَدُ مَحَلًّا صَالِحًا لِذَبْحٍ هُوَ قُرْبَانٌ ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَحَلًّا ، وَأَنَّ الْوُجُوبَ بِحُكْمِ ذَلِكَ الْإِيجَابِ حَلَّ بِالشَّاةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى الْوَلَدِ فِي قَبُولِ حُكْمِ الْوُجُوبِ ، وَلِهَذَا سُمِّيَ فِدَاءً .
نَظِيرُهُ مِنْ الْحَيَاةِ أَنْ يَرْمِيَ إلَى إنْسَانٍ فَيَفْدِيَهُ غَيْرُهُ بِنَفْسِهِ ، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ لِيَنْفُذَ السَّهْمُ فِيهِ ، لَا أَنْ يَتَحَوَّلَ إلَيْهِ بَعْدَ مَا وَصَلَ إلَى الْمَحَلِّ ، وَيَقُولُ لِغَيْرِهِ : فَدَتْك نَفْسٌ عَنْ الْمَكَارِهِ .
وَالْمُرَادُ هَذَا وَمِنْ الشَّرْعِيَّاتِ الْخُفِّ مُقَدَّمٌ عَلَى الرِّجْلِ فِي قَبُولِ حُكْمِ الْحَدَثِ ، لَا أَنْ يَتَحَوَّلَ إلَى الْخُفِّ مَا حَلَّ بِالرِّجْلِ مِنْ الْحَدَثِ ، وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ وَجَبَ ذَبْحُ الْوَلَدِ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ ، وَهُوَ الْفِدَاءُ لَا لِعَيْنِهِ ، وَلِهَذَا صَارَ مُحَقِّقًا رُؤْيَاهُ بِالْفِدَاءِ وَفِي مِثْلِ هَذَا إيجَابُ الْأَصْلِ فِي حَالِ الْعَجْزِ عَنْهُ يَكُونُ إيجَابًا لِلْفِدَاءِ ، كَالشَّيْخِ الْفَانِي إذَا نَذَرَ الصَّوْمَ يَلْزَمُهُ الْفِدَاءُ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الصَّوْمِ عَلَيْهِ شَرْعًا لِغَيْرِهِ وَهُوَ الْفِدَاءُ لَا لِعَيْنِهِ ، فَإِنَّهُ عَاجِزٌ عَنْهُ وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ نَذَرَ الذَّبْحَ لِأَوَّلِ وَلَدٍ يُولَدُ لَهُ ، ثُمَّ نَسِيَ ذَلِكَ فَذُكِّرَ
فِي الْمَنَامِ ، فَإِنْ ثَبَتَ هَذَا فَهُوَ نَصٌّ ؛ لِأَنَّ شَرِيعَةَ مَنْ قَبْلَنَا تَلْزَمُنَا مَا لَمْ يَظْهَرْ نَاسِخُهُ خُصُوصًا شَرِيعَةُ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : فَ { اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } .
فَأَمَّا إذَا نَذَرَ بِذَبْحِ عَبْدِهِ فَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَخَذَ فِيهِ بِالِاسْتِحْسَانِ أَيْضًا ، وَقَالَ أَيْضًا : يَلْزَمُهُ ذَبْحُ الشَّاةِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ كَسْبُهُ وَمِلْكُهُ ، فَإِذَا صَحَّ إضَافَةُ النَّذْرِ إلَى الْوَلَدِ لِكَوْنِهِ كَسْبًا لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا لَهُ فَلَأَنْ يَصِحَّ إضَافَتُهُ إلَى كَسْبِهِ ، وَهُوَ مِلْكُهُ أَوْلَى وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَخَذَ بِالْقِيَاسِ فَقَالَ : لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ جَعْلَ الشَّاةِ فِدَاءً عَنْ الْوَلَدِ لِكَرَامَةِ الْوَلَدِ ، وَالْعَبْدُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْكَرَامَةِ لَيْسَ بِنَظِيرِ الْوَلَدِ ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي هَذَا الْبَابِ .
وَإِنْ نَذَرَ ذَبْحَ ابْنَ ابْنِهِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ ؛ لِأَنَّ ابْنَ الِابْنِ لَيْسَ نَظِيرَ الِابْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِي هَذَا الْبَابِ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى قَالَ : يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ مُضَافٌ إلَيْهِ بِالْبُنُوَّةِ كَالِابْنِ ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الْكَرَامَةِ كَالِابْنِ فِي حَقِّهِ .
وَإِنْ أَضَافَ النَّذْرَ إلَى أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْجَوَابِ ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمَا ، وَهُمَا كَالْأَجَانِبِ فِي حَقِّهِ فِي حُكْمِ النَّذْرِ بِالذَّبْحِ ، وَفِي الْهَارُونِيَّاتِ يُشِيرُ إلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ ذَبْحُ الشَّاةِ ، وَكَأَنَّهُ اُعْتُبِرَ أَحَدُ الطَّرَفَيْنِ بِالطَّرَفِ الْآخَرَ ، ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ فِي الْمَنَاسِكِ بَيْنَ النَّذْرِ بِالْهَدْيِ وَالْبَدَنَةِ وَالْجَزُورِ .
وَإِذَا حَلَفَ بِالنَّذْرِ ، فَإِنْ نَوَى شَيْئًا مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَعَلَيْهِ مَا نَوَى ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ ، فَيَكُونُ كَالْمَلْفُوظِ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : النَّذْرُ يَمِينٌ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ } ؛ وَلِأَنَّهُ الْتِزَامٌ بِحَقِّ اللَّهِ وَالْحَلِفُ فِي مِثْلِهِ يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ سَاتِرَةً لِلذَّنْبِ ، وَإِنْ حَلَفَ عَلَى مَعْصِيَةٍ بِالنَّذْرِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ وَقَالَ الشَّعْبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمَعَاصِيَ لَا تَلْتَزِمُ بِالنَّذْرِ ، وَالْكَفَّارَةُ خَلَفٌ عَنْ الْبِرِّ الْوَاجِبِ بِالْيَمِينِ ، أَوْ الْوَفَاءِ الْوَاجِبِ بِالنَّذْرِ ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْمَعْصِيَةِ .
وَحُكِيَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى دَخَلَ عَلَى الشَّعْبِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَسَأَلَهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ : لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْذُورَ مَعْصِيَةٌ ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَلَيْسَ أَنَّ الظِّهَارَ مَعْصِيَةٌ ، وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ بِالْكَفَّارَةِ فِيهِ فَتَحَيَّرَ الشَّعْبِيُّ وَقَالَ أَنْتَ مِنْ الْآرَائِيِّينَ ، وَفِي الْكِتَابِ اسْتَدَلَّ بِهَذَا ، وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : فَلِيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ، وَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ } وَإِذَا حَلَفَ بِالنَّذْرِ ، وَهُوَ يَنْوِي صِيَامًا وَلَمْ يَنْوِ عَدَدًا فَعَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إذَا حَنِثَ ؛ لِأَنَّ مَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ مُعْتَبَرٌ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ ، وَأَدْنَى مَا أَوْجَبَ اللَّهُ مِنْ الصِّيَامِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ ، وَكَذَلِكَ إذَا نَوَى صَدَقَةً وَلَمْ يَنْوِ عَدَدًا فَعَلَيْهِ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ الْحِنْطَةِ اعْتِبَارًا لِمَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ إطْعَامِ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْفُصُولَ فِي الْمَنَاسِكِ .
وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَحْلِفَ فَيَقُولُ : وَأَبِيك وَأَبِي فَإِنَّهُ بَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ ، وَنَهَى عَنْ الْحَلِفِ بِجَدٍّ مِنْ جُدُودِهِ ، وَمِنْ الْحَلِفِ بِالطَّوَاغِيتِ وَفِي الْبَابِ حَدِيثَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { : تَبِعَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ الْأَسْفَارِ ، وَأَنَا أَحْلِفُ بِأَبِي فَقَالَ : لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِالطَّوَاغِيتِ ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَذَرْ ، فَمَا حَلَفْت بَعْدَ ذَلِكَ لَا ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا } ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ ، وَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ تَعَالَ أُفَاخِرْك فَلْيَقُلْ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } .
وَإِذَا حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ أَوْ نَذْرٍ ، وَقَالَ : إنْ شَاءَ اللَّهُ مَوْصُولًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ عِنْدَنَا ، وَقَالَ مَالِكٌ : يَلْزَمُهُ حُكْمُ الْيَمِينِ وَالنَّذْرِ ؛ لِأَنَّ الْأُمُورَ كُلَّهَا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَتَغَيَّرُ بِذِكْرِهِ حُكْمُ الْكَلَامُ ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { : سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا } وَلَمْ يَصْبِرْ ، وَلَمْ يُعَاتِبْهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَالْوَعْدُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ كَالْعَهْدِ مِنْ غَيْرِهِمْ ، وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ اسْتَثْنَى فَلَهُ ثَنَيَاهُ } .
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَوْقُوفًا عَلَيْهِمْ وَمَرْفُوعًا { : مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَقَالَ : إنْ شَاءَ اللَّهُ فَقَدْ اسْتَثْنَى ، وَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَةَ } ، إلَّا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ كَانَ يُجَوِّزُ الِاسْتِثْنَاءَ ، وَإِنْ كَانَ مَفْصُولًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إذَا نَسِيتَ } ، يَعْنِي إذَا نَسِيتَ الِاسْتِثْنَاءَ مَوْصُولًا فَاسْتَثْنِ مَفْصُولًا ، وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ حُكْمَ الزَّوْجِ الثَّانِي بَعْدَ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثَةِ ، وَلَوْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمَفْصُولُ صَحِيحًا لَكَانَ الْمُطَلِّقُ يَسْتَثْنِي إذَا نَدِمَ ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْمُحَلِّلِ ، وَفِي تَصْحِيحِ الِاسْتِثْنَاءِ مَفْصُولًا إخْرَاجُ الْعُقُودِ كُلِّهَا مِنْ الْبُيُوعِ ، وَالْأَنْكِحَةِ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُلْزَمَةً .
( قَالَ ) : وَإِلَى هَذَا أَشَارَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حِينَ عَاتَبَهُ الْخَلِيفَةُ فَقَالَ أَبَلَغَ مِنْ قَدْرِكَ أَنْ تُخَالِفَ جَدِّي ؟ قَالَ : فَفِيمَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ؟ قَالَ : فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْمَفْصُولِ .
قَالَ : إنَّمَا خَالَفْته مُرَاعَاةً لِعُهُودِكَ ، فَإِذَا جَازَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمَفْصُولُ فَبَارَكَ اللَّهُ فِي عُهُودِكَ إذَنْ ، فَإِنَّهُمْ يُبَايِعُونَك وَيَحْلِفُونَ ، ثُمَّ يَخْرُجُونَ فَيَسْتَثْنُونَ فَلَا يَبْقَى عَلَيْهِمْ لُزُومُ طَاعَتِك ، فَنَدِمَ الْخَلِيفَةُ وَقَالَ : اُسْتُرْ هَذَا
عَلَيَّ .
وَتَأْوِيلُ قَوْله تَعَالَى { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إذَا نَسِيتَ } ، أَيْ إذَا لَمْ تَذْكُرْ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي أَوَّلِ كَلَامِك فَاذْكُرْهُ فِي آخَرِ كَلَامُك مَوْصُولًا بِكَلَامِكَ ، ثُمَّ الِاسْتِثْنَاءُ مُبْطِلٌ لِلْكَلَامِ ، وَمَخْرَجٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ بِمَعْنَى الشَّرْطَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ أَيْمَانِ الْجَامِعِ .
وَإِذَا حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَحَنِثَ فِيهَا فَعَلَيْهِ أَيُّ الْكَفَّارَاتِ شَاءَ ، إنْ شَاءَ أَعْتَقَ رَقَبَةً ، وَإِنْ شَاءَ أَطْعَمَ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ ، وَإِنْ شَاءَ كَسَا عَشَرَةَ مَسَاكِينَ ؛ لِقَوْلِ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ : كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ بِأَوْ فَهُوَ بِالْخِيَارِ ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ صِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ عِنْدَنَا ، وَهُوَ بِالْخِيَارِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ شَاءَ تَابَعَ ، وَإِنْ شَاءَ فَرَّقَ ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ مُطْلَقٌ فِي قَوْله تَعَالَى { فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ } وَلَكِنَّا نَشْتَرِطُ صِفَةَ التَّتَابُعِ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الصَّوْمِ فَيَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا ، وَبَيْنَ صَدَقَةِ الْفِطْرِ فَقَدْ وَرَدَ هُنَاكَ حَدِيثَانِ : أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : أَدُّوا عَنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ } .
وَالثَّانِي قَوْلُهُ { : أَدُّوا مِنْ كُلِّ حُرٍّ وَعَبْدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ } ، ثُمَّ لَمْ يَحْمِلْ الْمُطْلَقَ عَلَى الْمُقَيَّدِ حَتَّى أَوْجَبْنَا صَدَقَةَ الْفِطْرِ عَنْ الْعَبْدِ الْكَافِرِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُطْلَقَ وَالْمُقَيَّدَ هُنَاكَ فِي السَّبَبِ ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ السَّبَبَيْنِ فَالتَّقْيِيدُ فِي أَحَدِ الْحَدِيثَيْنِ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ حُكْمِ الْإِطْلَاقِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرَ بِنَاءً عَلَى أَصْلنَا أَنْ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لَا يَقْتَضِي نَفْيَ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ ، وَهُنَا الْمُطْلَقُ وَالْمُقَيَّدُ فِي الْحُكْمِ وَهُوَ الصَّوْمُ الْوَاجِبُ فِي الْكَفَّارَةِ ، وَبَيْنَ التَّتَابُعِ وَالتَّفْرِيقِ مُنَافَاةٌ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ ، وَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ صِفَةِ التَّتَابُعِ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ لَا يَبْقَى مُطْلَقًا .
( قَالَ ) : وَيَجُوزُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ مِنْ الرِّقَابِ مَا يُجْزِي فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ ، وَالْحُكْمُ فِي هَذِهِ الرَّقَبَةِ مِثْلُ الْحُكْمِ فِي تِلْكَ الرَّقَبَةِ ، سَوَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي بَابِ الظِّهَارِ
.
رَجُلٌ أَعْتَقَ نِصْفَ عَبْدِهِ عَنْ يَمِينِهِ ، وَأَطْعَمَ خَمْسَةَ مَسَاكِينَ ، فَذَلِكَ لَا يُجْزِي عَنْهُ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، فَأَمَّا عِنْدَهُمَا الْعِتْقُ لَا يَتَجَزَّأُ ، وَيَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِالْعِتْقِ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْعِتْقُ يَتَجَزَّأُ وَالْوَاجِبُ هُوَ إعْتَاقُ رَقَبَةٍ ، أَوْ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ أَوْ كِسْوَتُهُمْ ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الرَّقَبَةِ لَيْسَ بِرَقَبَةٍ ، وَلَوْ جَوَّزْنَا هَذَا كَانَ نَوْعًا رَابِعًا فِيمَا يَتَأَدَّى بِهِ الْكَفَّارَةُ ، وَإِثْبَاتُ مِثْلِهِ بِالرَّأْيِ لَا يَجُوزُ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَطْعَمَ كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا مِنْ بُرٍّ وَنِصْفَ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ فِي الطَّعَامِ غَيْرُ مَنْصُوصٍ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ ، وَإِثْبَاتُ ذَلِكَ لِمَعْنَى حُصُولِ كِفَايَةِ الْمِسْكِينِ بِهِ فِي يَوْمِهِ ، وَفِي ذَلِكَ لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَ الْأَدَاءِ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ وَمِنْ نَوْعَيْنِ ، وَهُنَا الرَّقَبَةُ فِي التَّحْرِيرِ وَعَشَرَةُ مَسَاكِينَ فِي الْإِطْعَامِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ ، وَلَوْ جَوَّزْنَا النِّصْفَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ إخْلَالًا بِالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ .
وَإِنْ حَنِثَ وَهُوَ مُعْسِرٌ ، وَأَخَّرَ الصَّوْمَ حَتَّى أَيْسَرَ لَمْ يُجْزِهِ ، هَكَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، إذَا صَامَ الْمُكَفِّرُ يَوْمَيْنِ ثُمَّ وَجَدَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مَا يُطْعِمُ أَوْ يَكْسُوهُ لَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ بِالْإِطْعَامِ أَوْ الْكِسْوَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ ، فَيَسْقُطُ بِهِ حُكْمُ الْبَدَلِ كَالْمُعْتَدَّةِ بِالْأَشْهُرِ إذَا حَاضَتْ ، وَالْمُتَيَمِّمِ إذَا أَبْصَرَ الْمَاءَ قَبْلَ أَدَاءِ الصَّلَاةِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ عَدَمَ الْوُجُودِ بِقَوْلِهِ { : فَمَنْ لَمْ يَجِدْ } ، وَهَذَا الشَّرْطُ لَيْسَ لِتَصْحِيحِ الصَّوْمِ ، فَإِنَّ أَصْلَ الصَّوْمِ صَحِيحٌ مِنْ الْوَاجِدِ لِلْمَالِ ، وَلَكِنَّهُ شُرِطَ لِيَكُونَ الصَّوْمُ كَفَّارَةً يَسْقُطُ بِهِ الْوَاجِبُ عِنْدَ الْأَدَاءِ وَالْفَرَاغِ مِنْهُ ، فَإِذَا انْعَدَمَ هَذَا الشَّرْطُ لَمْ يَكُنْ الصَّوْمُ كَفَّارَةً لَهُ وَلِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ فِي قَوْلٍ مِثْلَ قَوْلِنَا ، وَقَوْلٍ آخَرَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَالَةُ الْوُجُوبِ فِي الْيَسَارِ وَالْعُسْرَةِ ، وَمَا وَجَبَ عِنْدَ ذَلِكَ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ ، وَلَا يَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ حَالِهِ بَعْدَ ذَلِكَ كَالزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ ، وَاعْتَبَرَهُ بِالْحُدُودِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِنْدَ الْوُجُوبِ بِالتَّنَصُّفِ بِالرِّقِّ ، وَهَذَا ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِالْيَمِينِ الْكَفَّارَةُ لَا مَا يُكَفَّرُ بِهِ ، كَالْوَاجِبِ بِالْحَدَثِ الطَّهَارَةُ دُونَ مَا يُتَطَهَّرُ بِهِ مِنْ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ ، بَلْ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالِهِ فِي الْقُدْرَةِ وَالْعَجْزِ عِنْدَ الْأَدَاءِ ، وَوُجُوبُ الْحَدِّ بِاعْتِبَارِ هَتْكِ حُرْمَةِ الْمُنْعِمِ بِالْجِنَايَةِ وَالنِّعْمَةُ تَخْتَلِفُ بِالرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ ، وَذَلِكَ عِنْدَ ارْتِكَابِ الْجِنَايَةِ لَا بَعْدَهُ ، مَعَ أَنَّ الْحُدُودَ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، فَإِذَا وَجَبَ بِصِفَةِ النُّقْصَانِ لَا يَتَكَامَلُ بِالْحُرِّيَّةِ
الطَّارِئَةِ مِنْ بَعْدُ ، وَلَهُ قَوْلٌ آخَرُ : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الصَّوْمُ مَا لَمْ يَكُنْ مُعْسِرًا مِنْ وَقْتِ الْوُجُوبِ إلَى وَقْتِ الْأَدَاءِ ؛ لِأَنَّ التَّكْفِيرَ بِالصَّوْمِ عَنْ ضَرُورَةٍ مَحْضَةٍ ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إذَا كَانَ مُوسِرًا فِي إحْدَى الْحَالَيْنِ ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا كَانَ مُوسِرًا عِنْدَ الْحِنْثِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ ، فَهُوَ بِالتَّأْخِيرِ إلَى أَنْ يُعْسِرَ مُفَرِّطٌ فَلَا يَسْتَحِقُّ التَّخْفِيفَ بِاعْتِبَارِ تَفْرِيطِهِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : كَمَا أَنَّ هَذِهِ كَفَّارَةُ ضَرُورَةٍ فَالتَّيَمُّمُ طَهَارَةُ ضَرُورَةٍ ، ثُمَّ كَانَ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ وَقْتُ الْأَدَاءِ لَا وَقْتُ الْوُجُوبِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الضَّرُورَةَ بِاعْتِبَارِ حَاجَتِهِ إلَى إسْقَاطِ الْوَاجِبِ عَنْ ذِمَّتِهِ وَذَلِكَ لِلْأَدَاءِ .
وَإِنْ اشْتَرَى عَبْدًا شِرَاءً فَاسِدًا فَقَبَضَهُ وَأَعْتَقَهُ عَنْ يَمِينِهِ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْعَبْدَ بِالْقَبْضِ ، وَإِعْتَاقُهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ نَافِذٌ ، وَنِيَّةُ التَّكْفِيرِ بِهِ صَحِيحٌ لِكَوْنِهِ مُتَصَرِّفًا فِيمَا يَمْلِكُ .
وَإِنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَاتُ أَيْمَانٍ مُتَفَرِّقَةٌ فَأَعْتَقَ رِقَابًا بِعَدَدِهِنَّ ، وَلَا يَنْوِي لِكُلِّ يَمِينٍ رَقَبَةً بِعَيْنِهَا ، أَوْ نَوَى فِي كُلِّ رَقَبَةٍ عَنْهُنَّ أَجْزَتْهُ اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ التَّعْيِينِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ لَغْوٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي بَابِ الظِّهَارِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ عَنْ إحْدَاهُنَّ ، وَأَطْعَمَ عَنْ الْأُخْرَى ، وَكَسَا عَنْ الثَّالِثَةِ ، كَانَ كُلُّ نَوْعٍ مِنْ هَذِهِ الْأَنْوَاعِ يَتَأَدَّى بِهِ الْكَفَّارَةُ مُطْلَقًا ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِي كُلِّهَا سَوَاءً ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الظِّهَارِ أَنَّ إعْتَاقَ الْجَنِينِ لَا يُجْزِي عَنْ الْكَفَّارَةِ ، وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا لِكَوْنِهِ فِي حُكْمِ الْإِجْزَاءِ ، فَكَذَلِكَ الْيَمِينُ وَكَفَّارَةُ الْمَمْلُوكِ بِالصَّوْمِ مَا لَمْ يُعْتَقْ ؛ لِأَنَّهُ أَعْسَرُ مِنْ الْحُرِّ الْمُعْسِرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ وَإِنْ مَلَكَ ، وَلَا يُجْزِي أَنْ يُعْتِقَ عَنْهُ مَوْلَاهُ أَوْ يُطْعِمَ ، وَيَكْسُوَ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، فَإِنَّهُ يَقُولُ : لِلْمَوْلَى أَنْ يَمْلِكَهُ حَتَّى يَتَسَرَّى بِإِذْنِ مَوْلَاهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْحُرِّ إذَا أَمَرَ إنْسَانًا أَنْ يُطْعِمَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَمْلِكَ ، فَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ هُوَ مُتَمَلِّكًا بِأَنْ يَكُونَ الْمِسْكِينُ قَابِضًا لَهُ أَوَّلًا ، ثُمَّ لِنَفْسِهِ ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ الْمُنَافِيَ فِيهِ مَوْجُودٌ ، وَبَيْنَ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ مَالًا وَالْمَمْلُوكِيَّة مَالًا مُغَايِرَةً عَلَى سَبِيلِ الْمُنَافَاةِ ، وَالْمُكَاتَبُ وَالْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْقِنِّ ، وَالْمُسْتَسْعَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ .
وَإِنْ صَامَ الْمُعْسِرُ يَوْمَيْنِ ثُمَّ وَجَدَ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ مَا يُعْتِقُ ، فَعَلَيْهِ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ لِانْعِدَامِ شَرْطِ جَوَازِ الْبَدَلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُتِمَّ صَوْمَ يَوْمِهِ ، وَإِنْ أَفْطَرَ فَلَا قَضَاءَ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهَذَا وَالصَّوْمُ الْمَظْنُونُ سَوَاءٌ .
ذِمِّيٌّ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ ، ثُمَّ أَسْلَمَ ، ثُمَّ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْيَمِينِ الْحَظْرُ أَوْ الْإِيجَابُ ، وَالذِّمِّيُّ مِنْ أَهْلِهِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ } فَقَدْ جَعَلَ لِلْكَافِرِينَ يَمِينًا ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ فِي الْمَظَالِمِ وَالْخُصُومَاتِ بِاَللَّهِ ، وَأَنَّهُ مِنْ أَهْلُ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَمِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ، فَيَكُونُ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَإِذَا انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الْحِنْثِ إنْ حَنِثَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ كَفَّرَ بِالْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّكْفِيرِ بِالصَّوْمِ ، وَنَظِيرُهُ الْعَبْدُ يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ بِالتَّكْفِيرِ بِالصَّوْمِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلتَّكْفِيرِ بِالْمَالِ ، وَإِنْ حَنِثَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ إذَا لَمْ يَجِدْ الْمَالَ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْكَافِرَ أَهْلٌ لِلْكَفَّارَةِ ، وَأَنَّ فِي الْكَفَّارَةِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ ، فَيَجِبُ عَلَى الْكَافِرِ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ ، وَعَلَى الْمُسْلِمِ بِطَرِيقِ الطُّهْرَةِ كَالْحُدُودِ ، فَإِنَّهَا كَفَّارَاتٌ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : الْحُدُودُ كَفَّارَاتٌ لِأَهْلِهَا ثُمَّ تُقَامُ عَلَى الْمُسْلِمِ التَّائِبِ تَطَهُّرًا وَعَلَى الْكَافِرِ عُقُوبَةً } .
( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ حَدِيثُ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ الْمُنْقِرِيُّ حَيْثُ { سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنِّي حَلَفْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، أَوْ قَالَ : نَذَرْتَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَدَمَ الْإِسْلَامُ مَا كَانَ فِي الشِّرْكِ } ؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ بِاعْتِبَارِ هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْحِنْثِ ، وَمَا فِيهِ مِنْ الشِّرْكِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ ، فَقَدْ هَتَكَ حُرْمَةَ اسْمِ اللَّهِ
تَعَالَى بِإِصْرَارِهِ عَلَى الشِّرْكِ بِأَبْلَغِ الْجِهَاتِ وَعَقْدُ الْيَمِينِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَظْرِ وَالْإِيجَابِ تَعْظِيمًا لِحُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ } .
وَالِاسْتِحْلَافُ فِي الْمَظَالِمِ وَالْخُصُومَاتِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ مَقْصُودِهَا ، وَهُوَ النُّكُولُ أَوْ الْإِقْرَارُ وَانْعِقَادُ يَمِينِهِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهَا مُجِيزًا ، فَأَمَّا هَذِهِ الْيَمِينِ مُوجِبُهَا الْبِرُّ لِتَعْظِيمِ اسْمِ اللَّهِ ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ وَبَعْدَ الْحِنْثُ مُوجِبُهَا الْكَفَّارَةُ ، وَالْكَافِرُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لَهَا ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ كَاسْمِهَا سِتَارَةٌ لِلذَّنْبِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : إنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } ، وَمَعْنَى الْعُقُوبَةِ فِي الْكَفَّارَةِ صُورَةً فَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ، وَالْحُكْمُ الْمَقْصُودُ مِنْهَا الْعِبَادَةُ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَأْتِي بِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تُقَامَ عَلَيْهِ كُرْهًا ، وَأَنَّهَا تَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ الَّذِي هُوَ مَحْضُ الْعِبَادَةِ ، وَلَا تَتَأَدَّى إلَّا بِنِيَّةِ الْعِبَادَةِ ، وَالْمَقْصُودُ بِهَا التَّطَهُّرُ كَمَا بَيَّنَّا بِخِلَافِ الْحُدُودِ فَإِنَّهَا تُقَامُ خِزْيًا وَعَذَابًا وَنَكَالًا ، وَمَعْنَى التَّكْفِيرِ بِهَا إذَا جَاءَ تَائِبًا مُسْتَسْلِمًا مُؤْثِرًا عُقُوبَةَ الدُّنْيَا عَلَى عُقُوبَةِ الْآخِرَةِ ، كَمَا فَعَلَهُ مَاعِزٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَلِهَذَا يَسْتَقِيمُ إقَامَتُهَا عَلَى الْكَافِرِ بِطَرِيقِ الْخِزْيِ وَالنَّكَالِ .
رَجُلٌ أَعْتَقَ رَقَبَةً عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِهِ يَنْوِي ذَلِكَ بِقَلْبِهِ ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِلِسَانِهِ ، وَقَدْ تَكَلَّمَ بِالْعِتْقِ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّ النِّيَّةَ عَمَلُ الْقَلْبِ ، وَيَتَأَدَّى بِهِ سَائِرُ الْعِبَادَاتِ ، فَكَذَلِكَ الْكَفَّارَاتُ ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ النِّيَّةِ فِيهَا لِمَعْنَى الْعِبَادَةِ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إلَى صُوَرِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ ، وَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى قُلُوبِكُمْ }
( قَالَ ) : وَلَا يَجُوزُ التَّكْفِيرُ بَعْدَ الْيَمِينِ قَبْلَ الْحِنْثِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : يَجُوزُ بِالْمَالِ دُونَ الصَّوْمِ ، وَإِنْ كَانَ يَمِينُهُ عَلَى مَعْصِيَةٍ فَلَهُ فِي جَوَازِ التَّكْفِيرِ قَبْلَ الْحِنْثِ وَجْهَانِ ، احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { : وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ } .
وَحَرْفُ الْفَاءِ لِلتَّعْقِيبِ مَعَ الْوَصْلِ فَيَقْتَضِي جَوَازَ أَدَاءِ الْكَفَّارَةِ مَوْصُولًا بِعَقْدِ الْيَمِينِ .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ وَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيُكَفِّرْ يَمِينَهُ ، وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ } ، وَفِي رِوَايَةٍ { فَلْيُكَفِّرْ ، ثُمَّ لِيَأْتِ بِاَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ } ، وَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى الْأَمْرِ بِالتَّكْفِيرِ قَبْلَ الْحِنْثِ ، وَأَقَلُّ أَحْوَالِهِ أَنْ يُفِيدَ الْجَوَازَ ؛ وَلِأَنَّ السَّبَبَ لِلْكَفَّارَةِ الْيَمِينُ ، فَإِنَّهَا تُضَافُ إلَى الْيَمِينِ ، وَالْوَاجِبَاتُ تُضَافُ إلَى أَسْبَابِهَا حَقِيقَةً ، وَمَنْ قَالَ عَلَى يَمِينٍ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْتِزَامَ السَّبَبِ يَكُونُ كِنَايَةً عَنْ الْوَاجِبِ بِهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ فَالسَّبَبُ هُنَاكَ الْيَمِينُ دُونَ الشَّرْطِ ، حَتَّى يَكُونَ الضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ الْيَمِينِ دُونَ شُهُودِ الشَّرْطِ ، فَكَذَلِكَ الْيَمِينُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ أَدَاءُ الْحَقِّ الْمَالِيِّ بَعْدَ وُجُودِ سَبَبِ الْوُجُوبِ قَبْلَ الْوُجُوبِ جَائِزٌ كَأَدَاءِ الزَّكَاةِ بَعْدَ كَمَالِ النِّصَابِ قَبْلَ الْحَوْلِ ، وَأَمَّا الْبَدَنِيُّ لَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ تَقَرُّرِ الْوُجُوبِ ؛ لِأَنَّ التَّكْفِيرَ بِالصَّوْمِ لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ قَبْلَ تَقَرُّرِ الْوُجُوبِ ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ كَفَّارَةٌ مَالِيَّةٌ تَوَقَّفَ وُجُوبُهَا عَلَى مَعْنًى ، فَيَجُوزُ أَدَاؤُهَا قَبْلَهُ كَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ فِي الْآدَمِيِّ وَالصَّيْدِ إذَا جَرَحَ مُسْلِمًا ، ثُمَّ كَفَّرَ بِالْمَالِ قَبْلَ زَهُوقِ الرُّوحِ ، أَوْ جَرَحَ الْمُحْرِمُ صَيْدًا ثُمَّ كَفَّرَ قَبْلَ مَوْتِهِ يَجُوزُ
بِالْمَالِ بِالِاتِّفَاقِ .
( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ فَإِنَّكَ إنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إلَيْهَا ، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا ، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ وَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ } وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَحْمُولٌ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَا ، وَهَذَا لِمَعْنَيَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْأَمْرَ يُفِيدُ الْوُجُوبَ حَقِيقَةً ، وَلَا وُجُوبَ قَبْلَ الْحِنْثِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَالثَّانِي أَنَّ قَوْلَهُ : فَلْيُكَفِّرْ أَمْرٌ بِمُطْلَقِ التَّكْفِيرِ ، وَلَا يَجُوزُ مُطْلَقُ التَّكْفِيرِ إلَّا بَعْدَ الْحِنْثِ ، أَمَّا قَبْلَ الْحِنْثِ يَجُوزُ عِنْدَهُ بِالْمَالِ دُونَ الصَّوْمِ ، وَلَيْسَ مِنْ بَابِ التَّخْصِيصِ ؛ لِأَنَّ مَا يُكَفَّرُ بِهِ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ ، وَالتَّخْصِيصُ فِي الْمَلْفُوظِ الَّذِي لَهُ عُمُومٌ دُونَ مَا يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الِاقْتِضَاءِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مُجَرَّدَ الْيَمِينِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ ؛ لِأَنَّ أَدْنَى حَدِّ السَّبَبِ أَنْ يَكُونَ مُؤَدِّيًا إلَى الشَّيْءِ طَرِيقًا لَهُ ، وَالْيَمِينُ مَانِعَةٌ مِنْ الْحِنْثِ مُحَرِّمَةٌ لَهُ فَكَيْفَ تَكُونُ مُوجِبَةً لِمَا يَجِبُ بَعْدَ الْحِنْثِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّوْمَ وَالْإِحْرَامَ لَمَّا كَانَ مَانِعًا مِمَّا يَجِبُ بِهِ الْكَفَّارَةُ ، وَهُوَ ارْتِكَابُ الْمَحْظُورِ لَمْ يَكُنْ بِنَفْسِهِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ بِخِلَافِ الْجَرْحِ ، فَإِنَّهُ طَرِيقٌ يُفْضِي إلَى زُهُوقِ الرُّوحِ ، وَبِخِلَافِ كَمَالِ النِّصَابِ ، فَإِنَّهُ تَحَقُّقُ الْغِنَى الْمُؤَدِّي إلَى النَّمَاءِ الَّذِي بِهِ يَكُونُ الْمَالُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ ؛ وَلِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ إلَّا بَعْدَ ارْتِفَاعِ الْيَمِينِ ، فَإِنَّ بِالْحِنْثِ الْيَمِينُ يَرْتَفِعُ ، وَمَا يَكُونُ سَبَبًا لِلشَّيْءِ فَالْوُجُوبُ يَتَرَتَّبُ عَلَى تَقَرُّرِهِ لَا عَلَى ارْتِفَاعِهِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْيُمْنَ لَيْسَتْ بِسَبَبِ
التَّكْفِيرِ بِالصَّوْمِ حَتَّى يَجُوزُ أَدَاؤُهُ قَبْلَ الْحِنْثِ ، وَبَعْدَ وُجُوبِ السَّبَبِ الْأَدَاءُ جَائِزٌ مَالِيًّا كَانَ أَوْ بَدَنِيًّا ، أَلَا تَرَى أَنَّ صَوْمَ الْمُسَافِرِ فِي رَمَضَانَ يَجُوزُ لِوُجُودِ السَّبَبِ ، وَإِنْ كَانَ الْأَدَاءُ مُتَأَخِّرًا إلَى أَنْ يُدْرِكَ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ، وَإِضَافَةُ الْكَفَّارَةِ إلَى الْيَمِينِ ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ بِحِنْثٍ بَعْدَ الْيَمِينِ ، كَمَا تُضَافُ الْكَفَّارَةُ إلَى الصَّوْمِ ، وَالْإِحْرَامُ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْيَمِينَ سَبَبٌ ، فَالْكَفَّارَةُ إنَّمَا تَجِبُ خَلَفًا عَنْ الْبِرِّ الْوَاجِبِ لِيَصِيرَ عِنْدَ أَدَائِهَا كَأَنَّهُ تَمَّ عَلَى بَرِّهِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْخَلَفِ فِي حَالِ بَقَاءِ الْوَاجِبِ ، وَقَبْلَ الْحِنْثِ مَا هُوَ الْأَصْلُ بَاقٍ وَهُوَ الْبِرُّ ، فَلَا تَكُونُ الْكَفَّارَةُ خَلَفًا كَمَا لَا يَكُونُ التَّيَمُّمُ طَهَارَةً مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْمَاءِ ، يُقَرِّرُهُ أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَوْبَةٌ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ { : تَوْبَةً مِنْ اللَّهِ } ، وَالتَّوْبَةُ قَبْلَ الذَّنْبِ لَا تَكُونُ ، وَهُوَ فِي عَقْدِ الْيَمِينِ مُعَظِّمٌ حُرْمَةَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَمَّا الذَّنْبُ فِي هَتْكِ حُرْمَةِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَالتَّكْفِيرُ قَبْلَ الْحِنْثِ بِمَنْزِلَةِ الطَّهَارَةِ قَبْلَ الْحَدَثِ بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الْقَتْلِ ، فَإِنَّهُ جَزَاءُ جِنَايَتِهِ ، وَجِنَايَتُهُ فِي الْجَرْحِ إذْ لَا صُنْعَ لَهُ فِي زُهُوقِ الرُّوحِ ، وَبِخِلَافِ الزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّهُ شُكْرُ النِّعْمَةِ ، وَالنِّعْمَةُ الْمَالُ دُونَ مُضِيِّ الْحَوْلِ ، فَكَانَ حَوْلَانُ ، الْحَوْلِ تَأْجِيلًا فِيهِ ، وَالتَّأْجِيلُ لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ ، فَكَيْفَ يَنْفِي تَقَرُّرَ السَّبَبِ ؟
( قَالَ ) : وَإِذَا أَعْتَقَ عَبْدًا عِنْدَ الْمَوْتِ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ عَتَقَ عَنْ ثُلُثِهِ ، وَيَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّ مَا يُبَاشِرُهُ الْمَرِيضُ مِنْ الْعِتْقِ كَالْمُضَافِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَلَوْ أَوْصَى بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ ثُلُثِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الزَّكَاةِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ الْوَاجِبَةِ لِلَّهِ تَعَالَى وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ سِوَاهُ ، فَقَدْ لَزِمَهُ السِّعَايَةُ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ ، وَكَانَ هَذَا عِتْقًا بِعِوَضٍ فَلَا يُجْزِيهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ ، وَكَذَلِكَ إنْ أَعْتَقَهُ فِي صِحَّتِهِ عَلَى مَالٍ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ بِمَالٍ لَا يَتَمَحَّضُ قُرْبَةً ، وَالْكَفَّارَةُ لَا تَتَأَدَّى إلَّا بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ ، فَإِنْ أَبْرَأَهُ مِنْ الْمَالِ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يُجْزِ عَنْ كَفَّارَتِهِ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعِتْقِ وَقَعَ غَيْرَ مُجْزِئٍ عَنْ الْكَفَّارَةِ ، وَالْإِبْرَاءُ عَنْ الْمَالِ بَعْدَ ذَلِكَ إسْقَاطٌ لِلدَّيْنِ ، وَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي الْكَفَّارَاتِ ؛ فَلِهَذَا لَا يُجْزِيهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ الْإِطْعَامِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ ( قَالَ ) رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : بَلَغَنَا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ لِمَوْلًى لَهُ أَرَقًا وَفِي رِوَايَةٍ ( 1 ) بَرَقًا : إنِّي أَحْلِفُ عَلَى قَوْمٍ أَنْ لَا أُعْطِيَهُمْ ، ثُمَّ يَبْدُوَ لِي فَأُعْطِيَهُمْ ، فَإِذَا أَنَا فَعَلْتُ ذَلِكَ فَأَطْعِمْ عَنِّي عَشَرَةَ مَسَاكِينَ ، كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَحْلِفَ مُخْتَارًا بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ الْمُتَشَفِّعَةُ : أَنَّ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ { : وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ } ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : قَدْ حَلَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ كَانَتْ لَهُ فِي ذَلِكَ ، وَتَأْوِيلُ تِلْكَ الْآيَةِ أَنَّهُ يُجَازِفُ فِي الْحَلِفِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ الْبَرِّ وَالْحِنْثِ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَالِفَ إذَا رَأَى الْحِنْثَ خَيْرًا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُحَنِّثَ نَفْسَهُ ، وَقَدْ رَوَيْنَا فِيهِ حَدِيثَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نَفَرٍ مِنْ الْأَشْعَرِيِّينَ نَسْتَحْمِلُهُ فَحَلَفَ أَنْ لَا يُحَمِّلَنَا ، ثُمَّ رَجَعَ قَوْمٌ عِنْدَهُ بِخَمْسِ ذَوْدٍ ، وَقَالُوا : حَمَلَنَا عَلَيْهَا .
فَقُلْتُ : لَعَلَّهُ نَسِيَ يَمِينَهُ فَأَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ .
قَالَ : إنِّي أَحْلِفُ ثُمَّ أَرَى غَيْرَهُ خَيْرًا مِنْهُ فَأَتَحَلَّلُ يَمِينِي ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ أَوَانَ التَّكْفِيرِ مَا بَعْدَ الْحِنْثِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا ، وَأَنَّ مَا رُوِيَ فَلْيُكَفِّرْ يَمِينَهُ ، وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ، مَحْمُولٌ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : ثُمَّ يَأْتِ بِاَلَّذِي هُوَ خَيْرٌ ؛ لِأَنَّ ثُمَّ قَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى الْوَاوِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { ثُمَّ كَانَ مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا } ، أَيْ وَكَانَ { ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ } ، أَيْ وَاَللَّهُ شَهِيدٌ ، وَفِيهِ
دَلِيلٌ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالتَّكْفِيرِ جَائِزٌ .
بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ : أَنَّهُ لَا تَوْكِيلَ فِي الْعِبَادَةِ أَصْلًا لِظَاهِرِ قَوْلِهِ { : وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلَّا مَا سَعَى } ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْمَقْصُودُ فِيمَا هُوَ مَالِيُّ الِابْتِدَاءِ بِإِخْرَاجِ جُزْءٍ مِنْ الْمَالِ عَنْ مِلْكِهِ ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِالنَّائِبِ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْوَظِيفَةَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ ، أَوْ صَاعٌ مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَذُكِرَ بَعْدَهُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الظِّهَارِ ، وَكَفَّارَةُ الْيَمِينِ مِثْلُهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ دَقِيقَ الْحِنْطَةِ وَسَوِيقَهَا بِمَنْزِلَةِ الْحِنْطَةِ ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ لِلْفَقِيرِ بِهِمَا مَعَ سُقُوطِ مُؤْنَةِ الطَّحْنِ عَنْهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ طَعَامَ الْإِبَاحَةِ تَتَأَدَّى بِهِ الْكَفَّارَةُ عِنْدَنَا ، وَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ أَكْلَتَانِ مُشْبِعَتَانِ ، سَوَاءٌ كَانَ خُبْزُ الْبُرِّ مَعَ الطَّعَامِ أَوْ بِغَيْرِ إدَامٍ ، وَإِنْ أَعْطَى قِيمَةَ الطَّعَامِ يَجُوزُ ، فَكَذَلِكَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ ، وَكَذَلِكَ إنْ غَدَّاهُمْ وَأَعْطَاهُمْ قِيمَةَ الْعَشَاءِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَاحِدٌ ، وَقَدْ أَتَى مِنْ كُلِّ وَظِيفَةٍ بِنِصْفِهِ ، وَإِنْ غَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ ، وَفِيهِمْ صَبِيٌّ فُطِمَ ، أَوْ فَوْقَ ذَلِكَ شَيْئًا لَمْ يُجْزِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَوْفِي كَمَالَ الْوَظِيفَةِ كَمَا يَسْتَوْفِيهِ الْبَالِغُ ، وَعَلَيْهِ طَعَامُ مِسْكِينٍ وَاحِدٍ مَكَانَهُ ، فَإِنْ أَعْطَى عَشَرَةَ مَسَاكِينَ كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ عَلَيْهِمْ مُدًّا مُدًّا ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِمْ اسْتَقْبَلَ الطَّعَامَ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِإِيصَالِ وَظِيفَةٍ كَامِلَةٍ إلَى كُلِّ مِسْكِينٍ ، وَذَلِكَ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ وَذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
تَعَالَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِأَنْ يُطْعَمَ عَنْهُ عَشَرَةُ مَسَاكِينَ فِي كَفَّارَةِ يَمِينِهِ ، فَغَدَّى الْوَصِيُّ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ ، ثُمَّ مَاتُوا قَبْلَ أَنْ يُعَشِّيَهُمْ ، فَعَلَيْهِ الِاسْتِقْبَالُ ؛ لِأَنَّ الْوَظِيفَةَ فِي طَعَامِ الْإِبَاحَةِ الْغَدَاءُ وَالْعَشَاءُ ، فَلَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ إلَّا بِاتِّصَالِ وَظِيفَةٍ كَامِلَةٍ إلَى كُلِّ مِسْكِينٍ ، وَلَا يَكُونُ الْوَصِيُّ ضَامِنًا لِمَا أَطْعَمَ ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا صَنَعَ كَانَ مُمْتَثِلًا لِأَمْرِهِ ، وَكَانَ بَقَاؤُهُمْ إلَى أَنْ يُعَشِّيَهُمْ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ ، وَلَوْ كَانَ أَوْصَى بِأَنْ يُطْعَمَ عَنْهُ عَشَرَةُ مَسَاكِينَ غَدَاءً وَعَشَاءً ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْكَفَّارَةَ فَغَدَّى الْوَصِيُّ عَشَرَةً فَمَاتُوا فَإِنَّهُ يُعَشِّي عَشَرَةً أُخْرَى ، وَيَكْفِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى بِهِ أَكْلَتَانِ فَقَطْ دُونَ إسْقَاطِ الْكَفَّارَةِ بِهِمَا ، وَقَدْ وُجِدَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا فِي بَابِ الظِّهَارِ أَنَّ الْمِسْكِينَ الْوَاحِدَ فِي الْأَيَّامِ الْمُتَفَرِّقَةِ كَالْمَسَاكِينِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ تَفْرِيقِ الدَّفَعَاتِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ الْمَشَايِخِ ، فَكَذَلِكَ فِي الْيَمِينِ .
وَبَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ إطْعَامَ فُقَرَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْكَفَّارَةِ يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْفَرْقَ بَيْنَ الْمَنْذُورِ وَالْكَفَّارَةِ فَقَالَ : إذَا نَذَرَ إطْعَامَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ فَلَهُ أَنْ يُطْعِمَ فُقَرَاءَ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، إنَّمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطْعِمَ فِي الْكَفَّارَةِ فُقَرَاءَ أَهْلِ الذِّمَّةِ اعْتِبَارًا لِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ الْكَفَّارَةِ بِالزَّكَاةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَجُوزُ صَرْفُ الْكَفَّارَةِ إلَى مَنْ يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ .
وَلَوْ أَطْعَمَ خَمْسَةَ مَسَاكِينَ ، وَكَسَا خَمْسَةَ مَسَاكِينَ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ مِنْ الطَّعَامِ ، إنْ كَانَ الطَّعَامُ أَرْخَصَ مِنْ الْكِسْوَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْكِسْوَةُ أَرْخَصَ مِنْ الطَّعَامِ لَمْ يُجْزِئْ مَا لَا يُجْزِئُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ ، فَلَوْ جَوَّزْنَا إطْعَامَ خَمْسَةِ مَسَاكِينَ وَكِسْوَةَ خَمْسَةِ مَسَاكِينَ كَانَ نَوْعًا رَابِعًا ، فَيَكُونُ زِيَادَةً عَلَى الْمَنْصُوصِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَدَّى إلَى كُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا مِنْ حِنْطَةٍ وَنِصْفَ صَاعٍ مِنْ شَعِيرٍ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَاحِدٌ ، وَهُوَ سَدُّ الْجَوْعَةِ ، فَلَا يَصِيرُ نَوْعًا رَابِعًا ، فَأَمَّا الْمَقْصُودُ مِنْ الْكِسْوَةِ غَيْرُ الْمَقْصُودِ مِنْ الطَّعَامِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِبَاحَةَ تُجْزِئُ فِي أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ، وَلَوْ جَوَّزْنَا النِّصْفَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ نَوْعًا رَابِعًا ، ثُمَّ مُرَادُهُ مِنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا أَطْعَمَ خَمْسَةَ مَسَاكِينَ بِطَرِيقِ الْإِبَاحَةِ وَالتَّمْكِينِ دُونَ التَّمْلِيكِ ، فَإِنَّ التَّمْلِيكَ فَوْقَ التَّمْكِينِ ، وَإِذَا كَانَ الطَّعَامُ أَرْخَصَ مِنْ الْكِسْوَةِ أَمْكَنَ إكْمَالُ التَّمْكِينِ بِالتَّمْلِيكِ ، فَتَجُوزُ الْكِسْوَةُ مَكَانَ الطَّعَامِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْكِسْوَةُ أَرْخَصَ لَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الطَّعَامِ مَقَامَ الْكِسْوَةِ ؛ لِأَنَّ التَّمْكِينَ دُونَ التَّمْلِيكِ ، وَفِي الْكِسْوَةِ التَّمْلِيكُ مُعْتَبَرٌ فَلَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْكِسْوَةِ مَقَامَ الطَّعَامِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمَا وَفَاءٌ بِقِيمَةِ الطَّعَامِ ، فَأَمَّا إذَا مَلَّكَ الطَّعَامَ خَمْسَةَ مَسَاكِينَ ، وَكَسَا خَمْسَةَ مَسَاكِينَ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ عَلَى اعْتِبَارِ أَنَّهُ إنْ كَانَ الطَّعَامُ أَرْخَصَ تُقَامُ الْكِسْوَةُ مَقَامَ الطَّعَامِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْكِسْوَةُ أَرْخَصَ ، يُقَامُ الطَّعَامُ مَقَامَ الْكِسْوَةِ لِوُجُودِ التَّمْلِيكِ فِيهَا ، إلَيْهِ أَشَارَ فِي بَابِ الْكِسْوَةِ بَعْدَ هَذَا .
وَلَوْ أَطْعَمَ خَمْسَةَ مَسَاكِينَ ، ثُمَّ افْتَقَرَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الصِّيَامَ ؛ لِأَنَّ إكْمَالَ الْأَصْلِ
بِالْبَدَلِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ، فَإِنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْ الْمَسَاكِينِ الْخَمْسَةِ مَا أَعْطَاهُمْ ؛ لِأَنَّهَا صَدَقَةٌ قَدْ تَمَّتْ بِالْوُصُولِ إلَى يَدِ الْمَسَاكِينِ ، وَمَنْ كَانَتْ لَهُ دَارٌ يَسْكُنُهَا أَوْ ثَوْبٌ يَلْبَسُهُ ، وَلَا يَجِدُ شَيْئًا سِوَى ذَلِكَ أَجْزَأَهُ الصَّوْمُ فِي الْكَفَّارَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَسْكَنَ وَالثِّيَابَ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِ ، وَمَا لَا بُدَّ مِنْهُ فَلَا يَصِيرُ بِهِ وَاجِدًا لِمَا يُكَفِّرُ بِهِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ يَخْدُمُهُ ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ أُصُولِ الْحَوَائِجِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ يَتَعَيَّشُ مِنْ غَيْرِ خَادِمٍ لَهُ ؛ وَلِأَنَّ الرَّقَبَةَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فَمَعَ وُجُودِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي مِلْكِهِ لَا يُجْزِيهِ الصَّوْمُ ، وَفِي الْكِتَابِ عِلَلٌ فَقَالَ : لِأَنَّ الصَّدَقَةَ تَحِلُّ لَهُ ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَذْهَبَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ الَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْأَمَالِي ، أَنَّهُ إذَا كَانَ الْفَاضِلُ مِنْ حَاجَتِهِ دُونَ مَا يُسَاوِي مِائَتَيْنِ يَجُوزُ لَهُ التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ تَحِلُّ لَهُ ، فَلَا يَكُونُ مُوسِرًا وَلَا غَنِيًّا ، فَأَمَّا ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إنْ كَانَ يَمْلِكُ فَضْلًا عَنْ حَاجَتِهِ مِقْدَارَ مَا يُكَفِّرُ بِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ الْوُجُودُ دُونَ الْغِنَى وَالْيَسَارِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : فَمَنْ لَمْ يَجِدْ } وَهَذَا وَاجِدٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْإِعْتَاقِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي وُجُوبِ الضَّمَانِ مِلْكُهُ مِقْدَارَ مَا يُؤَدِّي بِهِ الضَّمَانَ ، وَإِنْ كَانَ الْيَسَارُ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ هُنَاكَ فَهُنَا أَوْلَى ، وَبَيَّنَّا فِي الظِّهَارِ أَنَّهُ لَوْ أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ صَاعًا عَنْ ظِهَارَيْنِ لَا يُجْزِيهِ إلَّا عَنْ أَحَدِهِمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَ جِنْسُ الْكَفَّارَةِ ، فَكَذَلِكَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ ، وَإِنْ أَعْطَى عَشَرَةَ مَسَاكِينَ ثَوْبًا عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينٍ لَمْ
يُجْزِهِ عَنْ الْكِسْوَةِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ كِسْوَتُهُ وَهُوَ مَا يَصِيرُ بِهِ مُكْتَسِيًا ، وَبِعُشْرِ الثَّوْبِ لَا يَكُونُ مُكْتَسِيًا ، وَيُجْزِي مِنْ الطَّعَامِ إذَا كَانَ الثَّوْبُ يُسَاوِيهِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : لَا يُجْزِيهِ إلَّا بِالنِّيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْكِسْوَةَ بَدَلًا عَنْ الطَّعَامِ ، وَهُوَ إنَّمَا نَوَاهُ بَدَلًا عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ بَدَلًا عَنْ غَيْرِهِ إلَّا بِنِيَّةٍ .
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ نَاوٍ لِلتَّكْفِيرِ بِهِ وَذَلِكَ يَكْفِيهِ ، كَمَا لَوْ أَدَّى الدَّرَاهِمَ بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ يُجْزِيهِ ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا عَنْ الطَّعَامِ إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ : الدَّرَاهِمُ لَيْسَتْ بِأَصْلٍ فَأَدَاؤُهَا بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ يَكُونُ قَصْدًا إلَى الْبَدَلِ ، فَأَمَّا الْكِسْوَةُ أَصْلٌ فَأَدَاؤُهَا بِنِيَّةِ الْكَفَّارَةِ لَا يَكُونُ قَصْدًا إلَى جَعْلِهَا بَدَلًا عَنْ الطَّعَامِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ عُشْرُ الثَّوْبِ لَيْسَ بِأَصْلٍ فِي الْكِسْوَةِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ ، فَهُوَ وَأَدَاءُ الدَّرَاهِمِ سَوَاءٌ .
مُسْلِمٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ ، ثُمَّ ارْتَدَّ ، ثُمَّ أَسْلَمَ ، فَحَنِثَ فِيهَا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ بِالرِّدَّةِ الْتَحَقَ بِالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ ، وَلِهَذَا حَبِطَ عَمَلُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } .
وَكَمَا أَنَّ الْكُفْرَ الْأَصْلِيَّ يُنَافِي الْأَهْلِيَّةَ لِلْيَمِينِ الْمُوجِبَةِ لِلْكَفَّارَةِ ، فَكَذَلِكَ الرِّدَّةُ تُنَافِي بَقَاءَ الْيَمِينِ الْمُوجِبَةِ لِلْكَفَّارَةِ .
وَإِذَا جَعَلَ الرَّجُلُ لِلَّهِ عَلَى نَفْسِهِ إطْعَامَ مِسْكِينٍ ، فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى مِنْ عَدَدِ الْمَسَاكِينِ وَكَيْلِ الطَّعَامِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ ، وَهُوَ شَيْءٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَعَلَيْهِ طَعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ اعْتِبَارًا لِمَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ إطْعَامِ الْمَسَاكِينِ ، وَأَدْنَى ذَلِكَ عَشَرَةُ مَسَاكِينَ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ ، إلَّا أَنَّهُ إنْ قَالَ فِي نَذْرِهِ : إطْعَامُ الْمَسَاكِينِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَصْرِفَ الْكُلَّ إلَى مِسْكِينٍ وَاحِدٍ جُمْلَةً ، وَإِنْ قَالَ : طَعَامُ الْمَسَاكِينِ ، فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ بِهَذَا اللَّفْظِ يَلْتَزِمُ مِقْدَارًا مِنْ الطَّعَامِ ، وَبِاللَّفْظِ الْأَوَّلِ يَلْتَزِمُ الْفِعْلَ ؛ لِأَنَّ الْإِطْعَامَ فِعْلٌ فَلَا يَتَأَدَّى إلَّا بِأَفْعَالٍ عَشَرَةٍ ، وَيُعْطِي مِنْ الْكَفَّارَةِ مَنْ لَهُ الدَّارُ وَالْخَادِمُ ؛ لِأَنَّهُمَا يَزِيدَانِ فِي حَاجَتِهِ فَالدَّارُ تُسْتَرَمُّ ، وَالْخَادِمُ يُسْتَنْفَقُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَجُوزُ صَرْفُ الزَّكَاةِ إلَى مِثْلِهِ ، فَكَذَلِكَ الْكَفَّارَةُ ، وَإِنْ أَوْصَى بِأَنْ يُكَفَّرَ عَنْهُ يَمِينُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ، فَهُوَ مِنْ ثُلُثِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ أَدَاؤُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ إلَّا بِوَصِيَّةٍ ، وَمَحَلُّ الْوَصِيَّةِ الثُّلُثُ ، ثُمَّ ذُكِرَ الِاخْتِلَافُ فِي مِقْدَارِ الصَّاعِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ الْكِسْوَةِ ( قَالَ ) : رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَالْكِسْوَةُ ثَوْبٌ لِكُلِّ مِسْكِينٍ إزَارٌ أَوْ رِدَاءٌ أَوْ قَمِيصٌ أَوْ قَبَاءٌ أَوْ كِسَاءٌ ، هَكَذَا نُقِلَ عَنْ الزُّهْرِيِّ فِي قَوْله تَعَالَى { : أَوْ كِسْوَتُهُمْ } .
أَنَّهُ الْإِزَارُ فَصَاعِدًا مِنْ ثَوْبٍ تَامٍّ لِكُلِّ مِسْكِينٍ ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : لِكُلِّ مِسْكِينٍ ثَوْبٌ وَيُعْطِي فِي الْكِسْوَةِ الْقَبَاءَ ، وَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُعْطِي فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ ثَوْبَيْنِ ، فَإِنَّمَا يَقْصِدُ التَّبَرُّعَ بِأَحَدِهِمَا ، فَأَمَّا الْوَاحِدُ يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ هَكَذَا نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : أَدْنَاهُ ثَوْبٌ لِكُلِّ مِسْكِينٍ ، وَأَعْلَاهُ مَا شِئْت وَهَكَذَا ؛ لِأَنَّ الْكِسْوَةَ مَا يَكُونُ الْمَرْءُ بِهِ مُكْتَسِيًا ، وَبِالثَّوْبِ الْوَاحِدِ يَكُونُ مُكْتَسِيًا حَتَّى يَجُوزَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ ، وَإِذَا كَانَ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ فَالنَّاسُ يُسَمُّونَهُ مُكْتَسِيًا لَا عَارِيًّا وَالْمُرَادُ بِالْإِزَارِ الْكَبِيرِ الَّذِي هُوَ كَالرِّدَاءِ ، فَأَمَّا الصَّغِيرُ الَّذِي لَا يَتِمُّ بِهِ سَتْرُ الْعَوْرَةِ لَا يُجْزِي ، وَلَوْ كَسَا كُلَّ مِسْكِينٍ سَرَاوِيلَ ، ذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِهِ مُكْتَسِيًا شَرْعًا حَتَّى تَجُوزَ صَلَاتُهُ فِيهِ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ مِنْ الْكِسْوَةِ ؛ لِأَنَّ لَابِسَ السَّرَاوِيلِ وَحْدَهُ يُسَمَّى عُرْيَانًا لَا مُكْتَسِيًا ، إلَّا أَنْ تَبْلُغَ قِيمَتُهُ الطَّعَامَ ، فَحِينَئِذٍ يُجْزِئُهُ مِنْ الطَّعَامِ إذَا نَوَاهُ ، وَلَوْ أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ نِصْفَ ثَوْبٍ لَمْ يُجْزِهِ مِنْ الْكِسْوَةِ ؛ لِأَنَّ الِاكْتِسَاءَ بِهِ لَا يَحْصُلُ ، وَلَكِنَّهُ يُجْزِي مِنْ الطَّعَامِ إذَا كَانَ نِصْفُ ثَوْبٍ يُسَاوِي نِصْفَ صَاعٍ مِنْ حِنْطَةٍ ، وَلَوْ كَسَا كُلَّ مِسْكِينٍ قَلَنْسُوَةً ، أَوْ أَعْطَاهُ نَعْلَيْنِ أَوْ خُفَّيْنِ لَا يُجْزِيهِ مِنْ الْكِسْوَةِ ؛ لِأَنَّ الِاكْتِسَاءَ بِهِ لَا
يَحْصُلُ ، وَإِنْ أَعْطَى كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِمَامَةً فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَبْلُغُ قَمِيصًا أَوْ رِدَاءً أَجْزَأَهُ ، وَإِلَّا لَمْ يُجْزِهِ مِنْ الْكِسْوَةِ ؛ لِأَنَّ الْعِمَامَةَ كِسْوَةُ الرَّأْسِ كَالْقَلَنْسُوَةِ ، وَلَكِنْ يُجْزِيهِ مِنْ الطَّعَامِ إذَا كَانَتْ قِيمَتُهُ تُسَاوِي قِيمَةَ الطَّعَامِ .
وَلَوْ أَعْطَى عَشَرَةَ مَسَاكِينَ ثَوْبًا بَيْنَهُمْ ، وَهُوَ ثَوْبٌ كَثِيرُ الْقِيمَةِ ، يُصِيبُ كُلُّ مِسْكِينٍ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ ثَوْبٍ لَمْ يُجْزِهِ مِنْ الْكِسْوَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكْتَسِي بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، وَلَكِنْ يُجْزِيهِ مِنْ الطَّعَامِ قَالَ : أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ رُبْعَ صَاعِ حِنْطَةٍ ، وَذَلِكَ يُسَاوِي صَاعًا مِنْ تَمْرٍ لَمْ يُجْزِ عَنْهُ مِنْ الطَّعَامِ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْمُدُّ مِنْ الْحِنْطَةِ يُسَاوِي ثَوْبًا كَانَ يُجْزِئُ مِنْ الْكِسْوَةِ دُونَ الطَّعَامِ ، وَهَذَا تَفْسِيرٌ لِمَا أَبْهَمَهُ قَبْلَ هَذَا مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إقَامَةُ الطَّعَامِ مَقَامَ الْكِسْوَةِ ، وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمُرَادَ هُنَاكَ التَّمْكِينُ دُونَ التَّمْلِيكِ ، وَلَوْ أَعْطَى مِسْكِينًا وَاحِدًا عَشَرَةَ أَثْوَابٍ فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ لَمْ يُجْزِهِ كَمَا فِي الطَّعَامِ ، وَإِنْ أَعْطَاهُ فِي كُلِّ يَوْمٍ ثَوْبًا حَتَّى اسْتَكْمَلَ عَشَرَةَ أَثْوَابٍ فِي عَشْرَةِ أَيَّامٍ أَجْزَأَهُ كَمَا فِي الطَّعَامِ .
( فَإِنْ قِيلَ ) : الْحَاجَةُ إلَى الطَّعَامِ تَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِ الْأَيَّامِ ، وَالْحَاجَةُ إلَى الْكِسْوَةِ لَا تَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِ الْأَيَّامِ ، وَإِنَّمَا تَتَجَدَّدُ فِي كُلِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ .
( قُلْنَا ) : نَعَمْ الْحَاجَةُ إلَى الْمَلْبُوسِ كَذَلِكَ ، وَلَكِنَّا أَقَمْنَا التَّمْلِيكَ مَقَامَهُ فِي بَابِ الْكِسْوَةِ ، وَالتَّمْلِيكُ يَتَحَقَّقُ فِي كُلِّ يَوْمٍ ، وَإِذَا أَقَامَ الشَّيْءَ مَقَامَ غَيْرِهِ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ حَقِيقَةِ نَفْسِهِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْمِلْكِ لَا نِهَايَةَ لَهَا ، إلَّا أَنَّا لَا نُجَوِّزُ أَدَاءَ الْكُلِّ دَفْعَةً وَاحِدَةً لِلتَّنْصِيصِ عَلَى تَفْرِيقِ الْأَفْعَالِ ، وَذَلِكَ بِتَفْرِيقِ الْأَيَّامِ فِي حَقِّ
الْوَاحِدِ ، وَقَدْ يَحْصُلُ أَيْضًا بِتَفَرُّقِ الدَّفَعَاتِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ، إلَّا أَنَّهُ لَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ مَعْلُومٌ ، فَقَدَّرْنَا بِالْأَيَّامِ ، وَجَعَلْنَا تَجَدُّدَ الْأَيَّامِ فِي حَقِّ الْوَاحِدِ كَتَجَدُّدِ الْحَاجَةِ تَيْسِيرًا .
وَإِنْ أَعْطَى عَشَرَةَ مَسَاكِينَ عَبْدًا أَوْ دَابَّةً قِيمَتُهُ تَبْلُغُ عَشَرَةَ أَثْوَابٍ أَجْزَأَهُ مِنْ الْكِسْوَةِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ ، كَمَا لَوْ أَدَّى الدَّرَاهِمَ ، وَإِنْ لَمْ تَبْلُغْ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ أَثْوَابٍ ، وَبَلَغَتْ قِيمَةَ الطَّعَامِ أَجْزَأَهُ مِنْ الطَّعَامِ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ مَعْلُومٌ ، وَهُوَ سُقُوطُ الْوَاجِبِ بِهِ عَنْهُ ، فَيَحْصُلُ مَقْصُودُهُ بِالطَّرِيقِ الْمُمْكِنِ ، وَلَوْ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مِلْكُهُ ، وَأَخَذَهُ ، فَعَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ التَّكْفِيرِ ؛ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى اُسْتُحِقَّ مِنْ يَدِ الْمِسْكِينِ ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ ، وَلَوْ كَسَا عَنْ رَجُلٍ بِأَمْرِهِ عَشَرَةَ مَسَاكِينَ أَجْزَأَ عَنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يُعْطِ عَنْهُ ثَمَنًا ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْغَيْرِ يَنْتَقِلُ إلَيْهِ بِأَمْرِهِ كَفِعْلِهِ بِنَفْسِهِ ، وَالْمِسْكِينُ يَصِيرُ قَابِضًا لَهُ أَوَّلًا ، ثُمَّ لِنَفْسِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الطَّعَامِ مِثْلَهُ فِي الظِّهَارِ ، وَلَوْ كَسَاهُمْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، وَرَضِيَ بِهِ لَمْ يُجْزِ عَنْهُ ، لِأَنَّ الصَّدَقَةَ قَدْ تَمَّتْ مِنْ جِهَةِ الْمُؤَدِّي ، فَلَا يُتَصَوَّرُ وُقُوعُهَا عَنْ غَيْرِهِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَإِنْ رَضِيَ بِهِ وَلَوْ أَعْطَى عَنْ كَفَّارَةِ أَيْمَانِهِ فِي أَكْفَانِ الْمَوْتَى ، أَوْ فِي بِنَاءِ مَسْجِدٍ ، أَوْ فِي قَضَاءِ دَيْنِ مَيِّتٍ ، أَوْ فِي عِتْقِ رَقَبَةٍ لَمْ يُجْزِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ إنَّمَا يَتَأَدَّى بِالتَّمْلِيكِ إلَى الْفَقِيرِ لَا يَحْصُلُ بِهَذَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِثْلَهُ فِي الزَّكَاةِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ .
( فَإِنْ قِيلَ ) فِي بَابِ الْكَفَّارَةِ : التَّمْلِيكُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ عِنْدَكُمْ حَتَّى يَتَأَدَّى بِالتَّمْكِينِ مِنْ الطَّعَامِ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ .
( قُلْنَا ) : لَا يُعْتَبَرُ التَّمْلِيكُ عَنْ وُجُودِ مَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ فِعْلُ
الْإِطْعَامِ ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ التَّمْلِيكِ ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِتَكْفِينِ الْمَيِّتِ وَبِنَاءِ الْمَسْجِدِ ، وَإِنْ أَعْطَى مِنْهَا ابْنَ السَّبِيلِ مُنْقَطِعًا بِهِ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَحَلٌّ لِصَرْفِ الزَّكَاةِ إلَيْهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَصْرِفَ الْكَفَّارَةِ مَنْ هُوَ مَصْرِفُ الزَّكَاةِ .
وَلَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ يَمِينَانِ ، فَكَسَا عَشَرَةَ مَسَاكِينَ كُلَّ مِسْكِينٍ ثَوْبَيْنِ عَنْهُمَا أَجْزَأَهُ عَنْ يَمِينٍ وَاحِدَةٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى كَمَا فِي الطَّعَامِ .
وَإِذَا كَسَا مِسْكِينًا عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِهِ ، ثُمَّ مَاتَ الْمِسْكِينُ ، فَوَرِثَهُ هَذَا مِنْهُ ، أَوْ اشْتَرَاهُ فِي حَيَاتِهِ ، أَوْ وَهَبَهُ لَهُ لَمْ يَفْسُدْ ذَلِكَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ قَدْ تَأَدَّى بِوُصُولِ الثَّوْبِ إلَى يَدِ الْمِسْكِينِ ، وَلَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ بِمَا اعْتَرَضَ لَهُ مِنْ الْأَسْبَابِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الزَّكَاةِ نَظِيرَهُ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ { أَنَّ بَرِيرَةَ كَانَ يُتَصَدَّقُ عَلَيْهَا ، وَتُهْدِيهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيَقُولُ : هِيَ لَهَا صَدَقَةٌ ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ } ، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اخْتِلَافَ أَسْبَابِ الْمِلْكِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ اخْتِلَافِ الْأَعْيَانِ ، وَفِي حَدِيثِ { أَبِي طَلْحَةَ أَنَّهُ تَصَدَّقَ عَلَى ابْنَتِهِ بِحَدِيقَةٍ لَهُ ، ثُمَّ مَاتَتْ فَوَرِثَهَا مِنْهَا ، فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : إنَّ اللَّهَ قَبِلَ مِنْك صَدَقَتَكَ ، وَرَدَّ عَلَيْكَ حَدِيقَتَكَ } .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ الصِّيَامِ ( قَالَ ) : وَإِذَا حَنِثَ الرَّجُلُ ، وَهُوَ مُعْسِرٌ ، فَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَةٍ ، فَإِنْ أَصْبَحَ فِي يَوْمٍ مُفْطِرًا ، ثُمَّ عَزَمَ عَلَى الصَّوْمِ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِهِ لَمْ يُجْزِهِ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ ، وَمَا كَانَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ ؛ وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَأَدَّى بِالنِّيَّةِ مِنْ النَّهَارِ صَوْمُ يَوْمٍ تَوَقَّفَ الْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ النِّيَّةَ تَسْتَنِدُ إلَيْهِ ، وَهَذَا فِيمَا يَكُونُ عَيْنًا فِي الْوَقْتِ دُونَ مَا يَكُونُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ ، وَإِذَا أَفْطَرَتْ الْمَرْأَةُ فِي هَذَا الصَّوْمِ لِمَرَضٍ أَوْ حَيْضٍ فَعَلَيْهَا أَنْ تَسْتَقْبِلَ ؛ لِأَنَّهَا تَجِدُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ خَالِيَةً عَنْ الْحَيْضِ وَالْمَرَضِ ، فَلَا تُعْذَرُ فِيهَا بِالْإِفْطَارِ بِعُذْرِ الْحَيْضِ ، بِخِلَافِ الشَّهْرَيْنِ الْمُتَتَابِعَيْنِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الصَّوْمِ ، وَلَا يُجْزِي الصَّوْمُ عَنْ هَذَا فِي أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ فِي ذِمَّتِهِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ ، وَالصَّوْمُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ نَاقِصٌ ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، فَلَا يَتَأَدَّى بِهِ مَا وَجَبَ فِي ذِمَّتِهِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ ، فَإِنْ كَانَ لِهَذَا الْمُعْسِرِ مَالٌ غَائِبٌ عَنْهُ ، أَوْ دَيْنٌ ، وَهُوَ لَا يَجِدُ مَا يُطْعِمُ أَوْ يَكْسُو وَلَا مَا يُعْتِقُ أَجْزَأَهُ أَنْ يَصُومَ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ قُدْرَتُهُ عَلَى الْمَالِ ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالْمِلْكِ دُونَ الْيَدِ ، فَمَا يَكُونُ دَيْنًا عَلَى مُفْلِسٍ ، أَوْ غَائِبًا عَنْهُ ، فَهُوَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى التَّكْفِيرِ بِهِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَالِهِ الْغَائِبِ عَبْدٌ ، فَحِينَئِذٍ لَا يُجْزِيهِ التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ التَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ فَإِنَّ نُفُوذَ الْعِتْقِ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ دُونَ الْيَدِ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْعَبْدُ آبِقًا ، وَهُوَ يَعْلَمُ حَيَاتَهُ ، فَإِنَّهُ لَا يُجْزِيهِ التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى التَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ
مِثْلُهُ أَجْزَأَهُ الصَّوْمُ بَعْدَ مَا يَقْضِي دَيْنَهُ عَنْ ذَلِكَ الْمَالِ ، وَهَذَا غَيْرُ مُشْكِلٍ ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ بِالْمَالِ غَيْرُ وَاجِدٍ لِمَالٍ يُكَفِّرُ بِهِ ، وَإِنَّمَا الشُّبْهَةُ فِيمَا إذَا كَفَّرَ بِالصَّوْمِ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ بِالْمَالِ ، فَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ يَقُولُ : بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ ، وَيَسْتَدِلُّ بِالتَّقْيِيدِ الَّذِي ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ بَعْدَ مَا يَقْضِي دَيْنَهُ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُنَا الْوُجُودُ دُونَ الْغِنَى ، وَمَا لَمْ يَقْضِ الدَّيْنَ بِالْمَالِ ، فَهُوَ وَاجِدٌ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يُجْزِيهِ التَّكْفِيرُ بِالصَّوْمِ لِمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْكِتَابِ مِنْ قَوْلِهِ : أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّدَقَةَ تَحِلُّ لِهَذَا ، وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَبَعْدَهُ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَالَ الَّذِي فِي يَدِهِ مُسْتَحَقٌّ بِدَيْنِهِ ، فَيُجْعَلُ كَالْمَعْدُومِ فِي حَقِّ التَّكْفِيرِ بِالصَّوْمِ كَالْمُسَافِرِ إذَا كَانَ مَعَهُ مَاءٌ ، وَهُوَ يَخَافُ الْعَطَشَ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ مُسْتَحَقٌّ لِعَطَشِهِ فَيُجْعَلُ كَالْمَعْدُومِ فِي حَقِّ التَّيَمُّمِ ، وَإِنْ صَامَ الْعَبْدُ عَنْ كَفَّارَةِ يَمِينِهِ ، فَعَتَقَ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْهُ ، وَأَصَابَ مَالًا لَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِثْلَهُ فِي الْحُرِّ الْمُعْسِرِ إذَا أَيْسَرَ ، فَكَذَلِكَ فِي غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْكَفَّارَةِ بِالْمَالِ مُتَحَقِّقٌ فِي حَقِّهِ ، وَلَكِنْ لِانْعِدَامِ الْمِلْكِ كَانَ يُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْعِتْقِ فَكَانَ هُوَ وَالْحُرُّ سَوَاءً .
وَلَوْ صَامَ رَجُلٌ سِتَّةَ أَيَّامٍ عَنْ يَمِينَيْنِ أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ نِيَّةُ الْكَفَّارَةِ دُونَ نِيَّةِ التَّمْيِيزِ ، فَإِنَّ التَّمْيِيزَ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ غَيْرُ مُفِيدٍ ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ شَرْعًا مَا يَكُونُ مُفِيدًا ، وَالصَّوْمُ فِي نَفْسِهِ أَنْوَاعٌ ، فَلَا يَتَعَيَّنُ نَوْعٌ مِنْ الْكَفَّارَاتِ إلَّا بِالنِّيَّةِ ، فَأَمَّا كَفَّارَاتُ الْأَيْمَانِ نَوْعٌ وَاحِدٌ ، فَلَا يُعْتَبَرُ نِيَّةُ التَّمْيِيزِ فِيمَا بَيْنَهُمَا كَقَضَاءِ رَمَضَانَ ، فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَنْوِيَ الْقَضَاءَ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ نِيَّةُ تَعْيِينِ يَوْمِ الْخَمِيسِ وَالْجُمُعَةِ ، ثُمَّ فَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْإِطْعَامِ وَالْكِسْوَةِ مِنْ حَيْثُ إنْ يَكُونَ هُنَاكَ ، لَوْ أَعْطَى كُلَّ مِسْكِينٍ صَاعًا أَوْ ثَوْبَيْنِ عَنْ يَمِينَيْنِ لَمْ يُجْزِ إلَّا عَنْ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّ الْأَدَاءَ يَكُونُ دَفْعَةً وَاحِدَةً ، وَهُنَا الصَّوْمُ سِتَّةُ أَيَّامٍ عَنْ يَمِينَيْنِ ، لَا يُتَصَوَّرُ دَفْعَةً وَاحِدَةً ، بَلْ مَا لَمْ يَفْرُغْ عَنْ صَوْمِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يُتَصَوَّرُ صَوْمُ ثَلَاثَةٍ أُخْرَى ، فَلِهَذَا جَازَ كُلُّ ثَلَاثَةٍ عَنْ كَفَّارَةٍ ، وَوِزَانُ هَذَا مِنْ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ مَا لَوْ فَرَّقَ فِعْلَ الدَّفْعِ ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ طَعَامُ إحْدَى الْكَفَّارَتَيْنِ ، فَصَامَ لِإِحْدَاهُمَا ، ثُمَّ أَطْعَمَ لِلْأُخْرَى لَمْ يُجْزِهِ الصَّوْمُ ؛ لِأَنَّهُ كَفَّرَ بِالصَّوْمِ فِي حَالِ وُجُودِ مَا يُكَفِّرُ بِهِ مِنْ الْمَالِ ، وَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الصَّوْمَ بَعْدَ التَّكْفِيرِ بِالْإِطْعَامِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَفَّرَ بِالْإِطْعَامِ عَنْ يَمِينٍ فَقَدْ صَارَ غَيْرَ وَاجِدٍ فِي حَقِّ الْيَمِينِ الْأُخْرَى ، وَهُوَ نَظِيرُ مُحْدِثَيْنِ فِي سَفَرٍ ، وَجَدَا مِنْ الْمَاءِ مِقْدَارَ مَا يَكْفِي لِوُضُوءِ أَحَدِهِمَا ، فَتَيَمَّمَ أَحَدُهُمَا أَوَّلًا ، ثُمَّ تَوَضَّأَ الْآخَرُ بِهِ ، فَعَلَى مَنْ تَيَمَّمَ إعَادَةُ التَّيَمُّمِ بَعْدَ مَا تَوَضَّأَ بِهِ الْآخَرُ لِهَذَا الْمَعْنَى .
وَلَا يَجُوزُ صَوْمُ أَحَدٍ عَنْ أَحَدٍ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ فِي كَفَّارَةٍ أَوْ غَيْرِهَا لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا ، وَلَا يَصُومُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ ؛ وَلِأَنَّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي الصَّوْمِ الِابْتِدَاءُ بِمَا هُوَ شَاقٌّ عَلَى بَدَنِهِ ، وَهُوَ الْكَفُّ عَنْ اقْتِضَاءِ الشَّهَوَاتِ ، وَهَذَا لَا يَحْصُلُ فِي حَقِّ زَيْدٍ بِأَدَاءِ عَمْرٍو .
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .
بَابٌ مِنْ الْأَيْمَانِ ( قَالَ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَإِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ عَلَى أَمْرٍ لَا يَفْعَلُهُ أَبَدًا ، ثُمَّ حَلَفَ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ أَوْ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ لَا يَفْعَلُهُ أَبَدًا ، ثُمَّ فَعَلَهُ ، كَانَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ عَقْدٌ يُبَاشِرُهُ بِمُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ ، وَهُوَ شَرْطٌ وَجَزَاءٌ ، وَالثَّانِي فِي ذَلِكَ مِثْلُ الْأَوَّلِ فَهُمَا عَقْدَانِ ، فَبِوُجُودِ الشَّرْطِ مَرَّةً وَاحِدَةً يَحْنَثُ فِيهِمَا ، وَهَذَا إذَا نَوَى يَمِينًا أُخْرَى ، أَوْ نَوَى التَّغْلِيظَ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّغْلِيظِ بِهَذَا يَتَحَقَّقُ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ صِيغَةُ الْكَلَامِ عِنْدَ ذَلِكَ ، ثُمَّ الْكَفَّارَاتُ لَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ خُصُوصًا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَلَا تَتَدَاخَلُ ، وَأَمَّا إذَا نَوَى بِالْكَلَامِ الثَّانِي الْيَمِينَ الْأَوَّلَ ، فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ التَّكْرَارَ ، وَالْكَلَامُ الْوَاحِدُ قَدْ يُكَرَّرُ فَكَانَ الْمَنْوِيُّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ ، وَهُوَ أَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : هَذَا إذَا كَانَتْ يَمِينُهُ بِحَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ صَوْمٍ أَوْ صَدَقَةٍ ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ يَمِينُهُ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَلَا تَصِحُّ نِيَّتُهُ ، وَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : هَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْنَا مِنْهُ ، وَوَجْهُهُ أَنَّ قَوْلَهُ : فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ مَذْكُورٌ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ ، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلَ ، فَأَمَّا قَوْلُهُ : وَاَللَّهِ هَذَا إيجَابُ تَعْظِيمِ الْمُقْسَمِ بِهِ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ ، فَكَانَ الثَّانِي إيجَابًا كَالْأَوَّلِ فَلَا يَحْتَمِلُ مَعْنَى التَّكْرَارِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْإِخْبَارِ دُونَ الْإِيقَاعِ وَالْإِيجَابِ ، وَإِذَا كَانَتْ إحْدَى الْيَمِينَيْنِ بِحَجَّةٍ ، وَالْأُخْرَى بِاَللَّهِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَحَجَّةٌ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى تَكْرَارِ الْأَوَّلِ غَيْرُ مُحْتَمَلٍ هُنَا فَانْعَقَدَتْ يَمِينَانِ
وَقَدْ حَنِثَ فِيهِمَا بِإِيجَادِ الْفِعْلِ مَرَّةً فَيَلْزَمُهُ مُوجِبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
فَإِنْ حَلَفَ لَيَفْعَلَنَّ كَذَا إلَى وَقْتِ كَذَا ، وَذَلِكَ الشَّيْءُ مَعْصِيَةٌ يَحِقُّ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ ، وَلَا يَرْتَفِعُ النَّهْيُ بِيَمِينِهِ ، وَلَكِنَّ الْيَمِينَ مُنْعَقِدَةٌ فَإِذَا ذَهَبَ الْوَقْتُ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَهُ ، فَقَدْ تَحَقَّقَ الْحِنْثُ فِيهَا بِفَوْتِ شَرْطِ الْبِرِّ فَيَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ ، فَإِنْ لَمْ يُؤَقِّتْ فِيهِ وَقْتًا ، وَذَلِكَ الْفِعْلُ مِمَّا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَأْتِيَ بِهِ كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا وَنَحْوِهِ لَمْ يَحْنَثْ إلَى أَنْ يَمُوتَ ؛ لِأَنَّ الْحِنْثَ بِفَوْتِ شَرْطِ الْبَرِّ ، وَشَرْطُ الْبَرِّ بِوُجُودِ ذَلِكَ الشَّيْءِ مِنْهُ فِي عُمْرِهِ ، فَإِذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَهُ ، فَقَدْ تَحَقَّقَ الْحِنْثُ بِفَوْتِ شَرْطِ الْبَرِّ حِينَ أَشْرَفَ عَلَى الْمَوْتِ ، وَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِهَا لِتُقْضَى بَعْدَ مَوْتِهِ ، كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يُوصِيَ بِسَائِرِ مَا عَلَيْهِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى كَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهَا .
وَإِذَا حَلَفَ بِأَيْمَانٍ مُتَّصِلَةٍ مَعْطُوفَةٍ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ ، وَاسْتَثْنَى فِي آخِرِهَا كَانَ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً مِنْ جَمِيعِهَا ؛ لِأَنَّ الْكَلِمَاتِ الْمَعْطُوفَةَ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ كَكَلَامٍ وَاحِدٍ ، فَيُؤَثِّرُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي إبْطَالِهَا كُلِّهَا اعْتِبَارًا لِلْأَيْمَانِ بِالْإِيقَاعَاتِ ، وَقِيلَ : هَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّه تَعَالَى لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ عِنْدَهُمَا لِإِبْطَالِ الْكَلَامِ ، وَحَاجَةُ الْيَمِينِ الْأُولَى كَحَاجَةِ الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الِاسْتِثْنَاءُ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ ، فَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَلِيهِ خَاصَّةً كَمَا لَوْ ذَكَرَ شَرْطًا آخَرَ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ الْأُولَى تَامَّةٌ بِمَا ذَكَرَ لَهَا مِنْ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ ، فَلَا يَنْصَرِفُ الشَّرْطُ الْمَذْكُورُ آخِرًا إلَيْهَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْجَامِعِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : إلَّا أَنْ يَبْدُوَ لِي أَوْ أَرَى غَيْرَ ذَلِكَ ، أَوْ إلَّا أَنْ أَرَى خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ ، فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ أَلْفَاظِ الِاسْتِثْنَاءِ ، وَبِهِ يَخْرُجُ الْكَلَامُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً وَإِيجَابًا ، وَإِنْ قَالَ : إلَّا أَنْ لَا أَسْتَطِيعَ فَهَذَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ ، فَإِنْ كَانَ يَعْنِي مَا سَبَقَ بِهِ مِنْ الْقَضَاءِ فَهُوَ مُوَسَّعٌ عَلَيْهِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ ، فَالْمَذْهَبُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ ، وَأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ مَعَ الْفِعْلِ ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ عَلِمْنَا أَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ الَّتِي قَدْ اسْتَثْنَى بِهَا لَمْ تُوجَدْ ، وَلَكِنَّ هَذَا فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ فَإِنَّ مُوجِبَهُ الْكَفَّارَةُ ، وَذَلِكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ ، فَإِنْ كَانَتْ الْيَمِينُ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ فَهُوَ مَدِينٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَكِنْ لَا يَدِينُ فِي الْحُكْمِ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ الظَّاهِرَةَ أَنَّ النَّاسَ يُرِيدُونَ بِهَذِهِ الِاسْتِطَاعَةِ ارْتِفَاعَ الْمَوَانِعِ ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ : أَنَا
مُسْتَطِيعٌ لِكَذَا وَلَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَفْعَلَ كَذَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَمْنَعُنِي مَانِعٌ مِنْ ذَلِكَ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } .
وَفَسَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاسْتِطَاعَةَ بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ ، فَإِذَا كَانَ الظَّاهِرُ هَذَا ، وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ لَا يُدِينُهُ فِي الْحُكْمِ ، فَإِنْ كَانَ يَعْنِي شَيْئًا يَعْرِضُ مِنْ الْبَلَايَا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ يَمِينُهُ مَا لَمْ يَعْرِضْ ذَلِكَ الشَّيْءُ ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةُ الِاسْتِطَاعَةِ ، فَهُوَ عَلَى أَمْرٍ يَعْرِضُ لَهُ فَلَا يَكُونُ عَلَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ مَا لَمْ يَنْوِهِ ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْكَلَامَ الْمُطْلَقَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ وَالْمُتَعَارَفُ ، وَلَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا رَجُلًا آخَرَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى يَعْنِي بِالِاسْتِثْنَاءِ الْيَمِينَيْنِ جَمِيعًا ، كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَيْهِمَا لِكَوْنِهِ إحْدَى الْيَمِينَيْنِ مَعْطُوفَةً عَلَى الْأُخْرَى ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لَمْ يَذْكُرْ حَرْفَ الْعَطْفِ ، وَلَكِنْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا وَهَذَا صَحِيحٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ هَذِهِ الْيَمِينِ الْكَفَّارَةُ ، وَذَلِكَ أَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ ، فَإِذَا لَمْ يَسْكُتْ بَيْنَ الْيَمِينَيْنِ كَانَ الْمَنْوِيُّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ ، أَوْ يَجْعَلُ الْوَاوَ فِي الْكَلَامِ الثَّانِي لِلْعَطْفِ دُونَ الْقَسَمِ ، فَكَأَنَّهُ قَالَ : وَاَللَّهِ وَاَللَّهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : عَلَيَّ حَجَّةٌ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا ، وَعَلَيَّ عُمْرَةٌ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا إنْ شَاءَ اللَّهُ ، فَكَلَّمَهُ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الثَّانِيَ مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَوَّلِ ، فَأَمَّا إذَا قَالَ : عَبْدِي حُرٌّ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا ، عَبْدِي الْآخَرُ حُرٌّ إنْ كَلَّمْت فُلَانًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ كَلَّمَهُ عَبْدُهُ الْأَوَّلُ حُرٌّ فِي الْقَضَاءِ ، وَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ
بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ حَرْفَ الْعَطْفِ ، فَانْعِدَامُ الِاتِّصَالِ بَيْنَهُمَا حُكْمًا ، وَوُجِدَ الِاتِّصَالُ صُورَةً حِينَ لَمْ يَسْكُتْ بَيْنَهُمَا ، فَإِنْ نَوَى صَرْفَ الِاسْتِثْنَاءِ إلَيْهِمَا كَانَ مَدِينًا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلِاحْتِمَالِ وَلَا يَدِينُ فِي الْحُكْمِ ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ ، فَإِنَّ الْكَلَامَ الثَّانِيَ غَيْرُ مَعْطُوفٍ عَلَى الْأَوَّلِ فَيَصِيرُ فَاصِلًا بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالْكَلَامِ الْأَوَّلِ .
وَإِنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : إنْ حَلَفْت بِطَلَاقِكِ فَعَبْدِي حُرٌّ فَهَذِهِ يَمِينٌ بِالْعِتْقِ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ تُعْرَفُ بِالْجَزَاءِ ، وَالْجَزَاءُ عِتْقُ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ مَا يَتَعَقَّبُ حَرْفَ الْجَزَاءِ وَهُوَ الْفَاءُ ، وَالشَّرْطُ أَنْ يَحْلِفَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ ، فَإِذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ لِعَبْدِهِ : إنْ حَلَفْت بِعِتْقِك فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَإِنَّ عَبْدَهُ يُعْتَقُ ؛ لِأَنَّ بِالْكَلَامِ الثَّانِي حَلَفَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ ، يَذْكُرُ الشَّرْطَ ، وَالْجَزَاءُ طَلَاقُهَا فَوُجِدَ بِهِ الشَّرْطُ فِي الْيَمِينِ الْأَوَّلِ ، فَلِهَذَا يُعْتَقُ عَبْدُهُ ، وَلَا تَطْلُقُ امْرَأَتُهُ ؛ لِأَنَّ الْحَلِفَ بِعِتْقِ الْعَبْدِ كَانَ سَابِقًا عَلَى الْحَلِفِ بِطَلَاقِهَا ، وَمَا يَكُونُ سَابِقًا عَلَى الْيَمِينِ لَا يَكُونُ شَرْطًا ؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ إنَّمَا يَقْصِدُ مَنْعَ نَفْسِهِ عَنْ إيجَادِ الشَّرْطِ ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا كَانَ سَابِقًا عَلَى يَمِينِهِ ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ : إنْ حَلَفْت بِطَلَاقِك فَأَنْتِ طَالِقٌ طَلُقَتْ اثْنَتَيْنِ إنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ بِالْيَمِينِ الثَّانِيَةِ يَحْنَثُ فِي الْيَمِينِ الْأُولَى فَتَطْلُقُ وَاحِدَةً ، ثُمَّ بِالْيَمِينِ الثَّالِثَةِ يَحْنَثُ فِي الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ فَتَطْلُقُ أُخْرَى ؛ لِأَنَّهَا فِي عِدَّتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا لَا تَطْلُقُ إلَّا وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّهَا بَانَتْ بِالْأُولَى لَا إلَى عِدَّةٍ ؛ وَلِأَنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ فِي الْيَمِينِ الثَّانِيَةِ لَا يُوجَدُ بِالْيَمِينِ الثَّالِثَةِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ هُوَ الْحَلِفُ بِطَلَاقِهَا ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ بِدُونِ الْإِضَافَةِ إلَى الْمِلْكِ ، فَلِهَذَا لَا تَطْلُقُ إلَّا وَاحِدَةً .
وَلَوْ قَالَ : عَبْدُهُ حُرٌّ إنْ حَلَفَ بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ ، ثُمَّ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت لَا يُعْتَقُ عَبْدُهُ ، وَلَيْسَ هَذَا بِيَمِينٍ ، وَإِنْ وُجِدَ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ صُورَةً بَلْ هُوَ مُخَيَّرٌ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : أَمْرُكِ بِيَدِكِ أَوْ اخْتَارِي ، فَقَدْ خَيَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
نِسَاءَهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُنَّ مَعَ نَهْيِهِ عَنْ الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ وُجُودُ الْمَشِيئَةِ مِنْهَا فِي الْمَجْلِسِ ، وَلَوْ كَانَ يَمِينًا لَمْ يَتَوَقَّفْ بِالْمَجْلِسِ كَقَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ كَلَّمْت ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : إذَا حِضْت حَيْضَةً لَمْ يُعْتَقْ عَبْدُهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا تَفْسِيرٌ لِطَلَاقِ السُّنَّةِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ لِلسُّنَّةِ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُعْتَقُ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِإِيقَاعٍ لِطَلَاقِ السُّنَّةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ جَامَعَهَا فِي الْحَيْضِ ، ثُمَّ طَهُرَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا ، وَلَوْ كَانَ هَذَا كَقَوْلِهِ لِلسُّنَّةِ لَمْ يَقَعْ ، قُلْنَا : هُوَ سُنِّيٌّ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَحْنَثُ بِالْحَيْضِ وَتَطْلُقُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ حَقِيقَةً ، وَأَمَّا إذَا قَالَ لَهَا : إذَا حِضْت فَأَنْتِ طَالِقٌ ، أَوْ إذَا جَاءَ غَدٌ فَأَنْتِ طَالِقٌ عَتَقَ عَبْدُهُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُعْتَقُ قَالَ : لِأَنَّ الْحَالِفَ يَكُونُ مَانِعًا نَفْسَهُ مِنْ إيجَادِ الشَّرْطِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْكَلَامُ يَمِينًا بِذِكْرِ شَرْطٍ يُتَصَوَّرُ الْمَنْعُ عَنْهُ ، فَأَمَّا بِذِكْرِ شَرْطٍ لَا يُتَصَوَّرُ الْمَنْعُ عَنْهُ لَا يَصِيرُ حَالِفًا بِطَلَاقِهَا فَلَا يُعْتَقُ عَبْدُهُ ، كَمَا لَوْ قَالَ : أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْكَلَامُ يُعْرَفُ بِصِيغَتِهِ ، وَقَدْ وُجِدَ صِيغَةُ الْيَمِينِ بِذِكْرِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ ، وَلَمْ يَغْلِبْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ فَكَانَ يَمِينًا بِخِلَافِ قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا ؛ لِأَنَّهُ مَا ذَكَرَ الشَّرْطَ وَالْجَزَاءَ ، إنَّمَا أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى وَقْتٍ ، وَبِخِلَافِ قَوْلِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت أَوْ إذَا حِضْت حَيْضَةً ؛ لِأَنَّهُ غَلَبَ عَلَيْهِ مَعْنًى آخَرُ كَمَا بَيَّنَّا ، وَبِأَنْ لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِ مَنْعُ هَذَا الشَّرْطِ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ يَمِينًا ، كَمَا لَوْ جَعَلَ الشَّرْطَ فِعْلَ إنْسَانٍ آخَرَ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَنْعِهِ مِنْ ذَلِكَ .
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
بِالصَّوَابِ ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .
بَابُ الْمُسَاكَنَةِ ( قَالَ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَإِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ لَا يُسَاكِنُ فُلَانًا ، وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَسَاكَنَهُ فِي دَارِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَقْصُورَةٍ عَلَى حِدَةٍ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الْمُسَاكَنَةَ عَلَى مِيزَانِ الْمُفَاعَلَةِ ، فَشَرْطُ حِنْثِهِ وُجُودُ السُّكْنَى مَعَ فُلَانٍ ، وَالسُّكْنَى الْمُكْثُ فِي مَكَان عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْرَارِ وَالدَّوَامِ ، فَتَكُونُ الْمُسَاكَنَةُ بِوُجُودِ هَذَا الْفِعْلِ مِنْهُمَا عَلَى سَبِيلِ الْمُخَالَطَةِ وَالْمُقَارَنَةِ ، وَذَلِكَ إذَا سَكَنَا بَيْتًا وَاحِدًا أَوْ سَكَنَا فِي دَارٍ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي بَيْتٍ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الدَّارِ مَسْكَنٌ وَاحِدٌ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي الدَّارِ مَقَاصِيرُ وَحُجَرُ ، فَكُلُّ مَقْصُورَةٍ مَسْكَنٌ عَلَى حِدَةٍ ، فَلَا يَكُونُ هُوَ مُسَاكِنًا فُلَانًا فَلَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ سَكَنَا فِي مَحَلَّةٍ ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّ الدَّارَ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَى الْمَقَاصِيرِ ، كُلُّ مَقْصُورَةٍ مِنْهَا حِرْزٌ عَلَى حِدَةٍ ، حَتَّى لَوْ أَخْرَجَ السَّارِقُ الْمَتَاعَ مِنْ مَقْصُورَةٍ ، فَأَخَذَ فِي صَحْنِ الدَّارِ يُقْطَعُ ، وَلَوْ سَرَقَ مَنْ يَسْكُنُ إحْدَى الْمَقْصُورَتَيْنِ مِنْ الْمَقْصُورَةِ الْأُخْرَى يُقْطَعُ ، وَالدَّارُ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَى بُيُوتٍ حِرْزٌ وَاحِدٌ حَتَّى لَوْ أَخْرَجَ السَّارِقُ الْمَتَاعَ مِنْ بَيْتٍ ، وَأَخَذَ فِي صَحْنِ الدَّارِ لَا يُقْطَعُ ، وَمَنْ كَانَ مَأْذُونًا فِي الدُّخُولِ فِي أَحَدِ الْبُيُوتِ مِنْ الدَّارِ إذَا سَرَقَ مِنْ الْبَيْتِ الْآخَرِ لَا يُقْطَعُ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : هَذَا إذَا كَانَتْ الدَّارُ كَبِيرَةً نَحْوَ دَارِ الْوَلِيدِ بِالْكُوفَةِ ، وَنَظِيرُهُ دَارُ نُوحٍ بِبُخَارَى ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَحَلَّةِ .
فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ ، سَوَاءٌ كَانَتْ الدَّارُ تَشْتَمِلُ عَلَى مَقَاصِيرَ ، أَوْ عَلَى بُيُوتٍ ؛ لِأَنَّ فِي عُرْفِ النَّاسِ هَذَا مَسْكَنٌ وَاحِدٌ وَيُعَدُّ الْحَالِفُ مُسَاكِنًا لِصَاحِبِهِ ، وَإِنْ كَانَ
كُلُّ وَاحِدٍ فِي مَقْصُورَةٍ ، وَإِنْ كَانَ نَوَى حِينَ حَلَفَ أَنْ لَا يُسَاكِنَهُ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ ، أَوْ فِي حُجْرَةٍ أَوْ فِي مَنْزِلٍ وَاحِدٍ بِأَنْ يَكُونَا فِيهِ جَمِيعًا لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يُسَاكِنَهُ فِيمَا نَوَى ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ ، ( فَإِنْ قِيلَ ) : الْمَسْكَنُ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ ، فَكَيْفَ تَعْمَلُ نِيَّتُهُ فِي تَخْصِيصِ الْمَسْكَنِ ، وَنِيَّةُ التَّخْصِيصِ فِيمَا لَا لَفْظَ لَهُ بَاطِلٌ ؟ ( قُلْنَا ) : نَحْنُ لَا نَعْتَبِرُ تَخْصِيصَ الْمَسْكَنِ حَتَّى لَوْ نَوَى شَيْئًا بِعَيْنِهِ ، لَا تُعْمَلُ نِيَّتُهُ ، وَلَكِنَّ الْفِعْلَ يَقْتَضِي الْمَصْدَرَ لَا مَحَالَةَ ، فَبِذِكْرِ الْفِعْلِ يَصِيرُ الْمَصْدَرُ كَالْمَذْكُورِ لُغَةً ، وَهُوَ إنَّمَا نَوَى أَكْمَلَ مَا يَكُونُ مِنْ السُّكْنَى ؛ لِأَنَّ أَكْمَلَ ذَلِكَ أَنْ يَجْمَعَهَا بَيْتٌ وَاحِدٌ ، وَمَا دُونَ هَذَا عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِهَذَا يَكُونُ قَاصِرًا ، فَيَكُونُ هَذَا مِنْهُ نِيَّةَ نَوْعٍ مِنْ السُّكْنَى ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ ، نَظِيرُهُ مَا قَالَ فِي الْجَامِعِ : إنْ خَرَجْت وَنَوَى السَّفَرَ تَعْمَلُ نِيَّتُهُ ؛ لِأَنَّهُ نَوَى نَوْعًا مِنْ الْخُرُوجِ ، وَالْخُرُوجُ الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ كَالْمَذْكُورِ بِذِكْرِ الْفِعْلِ فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ فِي نَوْعٍ مِنْهُ بِخِلَافِ مَا إذَا نَوَى الْخُرُوجَ إلَى بَغْدَادَ ؛ لِأَنَّ الْمَكَانَ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ فَلَا تَعْمَلُ نِيَّتُهُ فِي ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ نَوَى أَنْ لَا يُسَاكِنَهُ فِي مَدِينَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ ، وَسَمَّى ذَلِكَ ، فَإِنْ سَاكَنَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَنِثَ ، وَلَا تَكُونُ الْمُسَاكَنَةُ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَسْكُنَا بَيْتًا وَاحِدًا أَوْ دَارًا وَاحِدَةً مِنْ دَارِ الْبَلْدَةِ أَوْ الْقَرْيَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُسَاكَنَةَ فِعْلٌ عَلَى سَبِيلِ الْمُخَالَطَةِ وَالْمُقَارَنَةِ ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا فِي مَسْكَنٍ وَاحِدٍ ، وَفَائِدَةُ تَخْصِيصِهِ الْبَلْدَةَ أَوْ الْقَرْيَةَ إخْرَاجُ سَائِرِ الْمَوَاضِعِ عَنْ يَمِينِهِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ يَحْنَثُ إذَا جَمَعَهُمَا الْمَكَانُ الَّذِي سَمَّى فِي السُّكْنَى ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي دَارٍ عَلَى حِدَةٍ لِأَجْلِ الْعُرْفِ فَإِنَّهُ يُقَالُ : فُلَانٌ يُسَاكِنُ فُلَانًا قَرْيَةَ كَذَا وَبَلْدَةَ كَذَا ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي دَارٍ عَلَى حِدَةٍ ، فَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا يَحْنَثُ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ ، فَحِينَئِذٍ تَعْمَلُ نِيَّتُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشْدِيدِ عَلَيْهِ .
وَإِنْ حَلَفَ لَا يُسَاكِنُهُ فِي بَيْتٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِ فِيهِ زَائِرًا أَوْ ضَيْفًا ، وَأَقَامَ فِيهِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمُسَاكَنَةٍ إنَّمَا الْمُسَاكَنَةُ بِالِاسْتِقْرَارِ وَالدَّوَامِ ، وَذَلِكَ بِمَتَاعِهِ وَثُقْلِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يَدْخُلُ فِي الْمَسْجِدِ كُلَّ يَوْمٍ مِرَارًا ، وَلَا يُسَمَّى سَاكِنًا فِيهِ ، وَيَدْخُلُ عَلَى الْأَمِيرِ ، وَيَكُونُ فِي دَارِهِ يَوْمًا ، وَلَا يُسَمَّى مُسَاكِنًا لَهُ فِي دَارِهِ ، فَكَذَلِكَ هَذَا الَّذِي دَخَلَ عَلَى فُلَانٍ زَائِرًا أَوْ ضَيْفًا لَا يَكُونُ سَاكِنًا مَعَهُ فِيهِ ، فَلَا يَحْنَثُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ ، فَحِينَئِذٍ فِي نِيَّتِهِ تَشْدِيدٌ عَلَيْهِ ، فَيَكُونُ عَامِلًا ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَمُرُّ بِالْقَرْيَةِ فَيَبِيتُ فِيهَا ، وَيَقُولُ : مَا سَاكَنْتهَا قَطُّ فَيَكُونُ صَادِقًا فِي ذَلِكَ ، وَلَوْ كَانَ سَاكِنًا فِي دَارٍ فَحَلَفَ أَنْ لَا يَسْكُنَهَا ، وَلَا نِيَّةَ لَهُ ، ثُمَّ أَقَامَ فِيهَا يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ لَزِمَهُ الْحِنْثُ ؛ لِأَنَّ السُّكْنَى فِعْلٌ مُسْتَدَامٌ حَتَّى يَضْرِبَ لَهُ الْمُدَّةَ ، وَيُقَالُ : سَكَنَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا ، وَالِاسْتِدَامَةُ عَلَى مَا يُسْتَدَامُ كَالْإِنْشَاءِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى } .
أَيْ لَا تَمْكُثْ قَاعِدًا ، فَيَجْعَلُ اسْتِدَامَةَ السُّكْنَى بَعْدَ يَمِينِهِ كَإِنْشَائِهِ ، وَكَذَلِكَ اللُّبْسُ وَالرُّكُوبُ ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَدَامُ كَالسُّكْنَى ، فَأَمَّا إذَا أَخَذَ فِي النَّقْلَةِ مِنْ سَاعَتِهِ ، أَوْ فِي نَزْعِ الثَّوْبِ أَوْ فِي النُّزُولِ عَنْ الدَّابَّةِ لَمْ يَحْنَثْ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا ، وَفِي الْقِيَاسِ يَحْنَثُ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِوُجُودِ جُزْءٍ مِنْ الْفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ بَعْدَ يَمِينِهِ إلَى أَنْ يَفْرُغَ عَنْهُ ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ ، فَيَصِيرُ مُسْتَثْنًى لِمَا عُرِفَ مِنْ مَقْصُودِ الْحَالِفِ ، وَهُوَ الْبَرُّ دُونَ الْحِنْثِ ، وَلَا يَتَأَتَّى الْبَرُّ إلَّا بِهَذَا ؛ وَلِأَنَّ
السُّكْنَى هُوَ الِاسْتِقْرَارُ وَالدَّوَامُ فِي الْمَكَانِ ، وَالْخُرُوجُ ضِدُّهُ ، فَالْمَوْجُودُ مِنْهُ بَعْدَ الْيَمِينِ مَا هُوَ ضِدُّ السُّكْنَى حِينَ أَخَذَ فِي النَّقْلَةِ فِي الْحَالِ ، وَلَوْ خَرَجَ مِنْهَا بِنَفْسِهِ ، وَلَمْ يَشْتَغِلْ بِنَقْلِ الْأَمْتِعَةِ يَحْنَثُ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : لَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى سُكْنَاهُ ، وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَيَنْعَدِمُ بِخُرُوجِهِ عَقِيبَ الْيَمِينِ ، وَحُكِيَ عَنْهُ فِي التَّعْلِيلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ ، قَالَ : خَرَجْت مِنْ مَكَّةَ ، وَخَلَّفْت فِيهَا دُفَيْتِرَاتٍ أَفَأَكُونُ سَاكِنًا بِمَكَّةَ ؟ ( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ أَنَّهُ سَاكِنٌ فِيهَا بِثَقَلِهِ وَعِيَالِهِ ، فَمَا لَمْ يَنْقُلْهُمْ فَهُوَ سَاكِنٌ فِيهَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ السُّكْنَى فِعْلٌ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِقْرَارِ وَالدَّوَامِ ، وَذَلِكَ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِالثَّقَلِ وَالْمَتَاعِ ، وَالْعُرْفُ شَاهِدٌ لِذَلِكَ فَإِنَّك تَسْأَلُ السُّوقِيَّ ، أَيْنَ تَسْكُنُ ؟ فَيَقُولُ : فِي مَحَلَّةِ كَذَا وَهُوَ فِي تِجَارَتِهِ يَكُونُ فِي السُّوقِ ، ثُمَّ يُشِيرُ إلَى مَوْضِعِ ثَقَلِهِ وَعِيَالِهِ وَمَتَاعِهِ ، فَعَرَفْنَا أَنَّ السُّكْنَى بِذَلِكَ بِخِلَافِ الدُّفَيْتِرَاتِ ، فَإِنَّ السُّكْنَى لَا تَتَأَتَّى بِهَا ، مَعَ أَنَّ مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ يَقُولُ : إذَا كَانَ يَمِينُهُ عَلَى أَنْ لَا يَسْكُنَ بَلْدَةَ كَذَا فَخَرَجَ مِنْهَا بِنَفْسِهِ لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ خَلَّفَ ثَقَلَهُ بِهَا ، وَقَدْ رُوِيَ بَعْضُ ذَلِكَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِخِلَافِ السُّكْنَى فِي الدَّارِ ، فَإِنَّ مَنْ يَكُونُ فِي الْمِصْرِ فِي السُّوقِ يُسَمَّى سَاكِنًا فِي الدَّارِ الَّتِي فِيهَا ثَقَلُهُ وَمَتَاعُهُ وَعِيَالُهُ ، فَأَمَّا الْمُقِيمُ بِأُوزَجَنْدَ لَا يُسَمَّى سَاكِنًا بِبُخَارَى ، وَإِنْ كَانَ بِهَا عِيَالُهُ وَثَقَلُهُ ، وَقَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى أَصْلٍ فِي مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عِنْدَهُ الْعِبْرَةَ بِحَقِيقَةِ اللَّفْظِ ، وَالْعَادَةُ بِخِلَافِهَا فَلَا
تُعْتَبَرُ ؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ لَا يُعَارِضُ الْحَقِيقَةَ وَعِنْدَنَا الْعَادَةُ الظَّاهِرَةُ اصْطِلَاحٌ طَارِئٌ عَلَى حَقِيقَةِ اللُّغَةِ ، وَالْحَالِفُ يُرِيدُ ذَلِكَ ظَاهِرًا فَيُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَيْهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَدْيُونَ يَقُولُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ : وَاَللَّهِ لَأُجْرِيَنَّكَ عَلَى الشَّوْكِ فَيُحْمَلُ عَلَى شِدَّةِ الْمَطْلِ دُونَ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ ، وَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ : أَلْفَاظُ الْيَمِينِ مَحْمُولَةٌ عَلَى أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ ، وَهَذَا بَعِيدٌ أَيْضًا فَإِنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَسْتَضِيءُ بِالسِّرَاجِ فَاسْتَضَاءَ بِالشَّمْسِ لَا يَحْنَثُ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى سَمَّى الشَّمْسَ سِرَاجًا .
وَمَنْ حَلَفَ لَا يَجْلِسُ عَلَى الْبِسَاطِ فَجَلَسَ عَلَى الْأَرْضِ لَمْ يَحْنَثْ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى سَمَّى الْأَرْضَ بِسَاطًا ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَمَسُّ وَتَدًا ، فَمَسَّ جَبَلًا لَا يَحْنَثُ ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْجِبَالَ أَوْتَادًا ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ مَا قُلْنَا ، فَإِنْ نَقَلَ بَعْضَ الْأَمْتِعَةِ فَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، أَنَّهُ يَحْنَثُ إذَا تَرَكَ بَعْضَ أَمْتِعَةٍ فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ كَانَ سَاكِنًا فِيهَا بِجَمِيعِ الْأَمْتِعَةِ ، فَيَبْقَى ذَلِكَ بِبَقَاءِ بَعْضِ الْأَمْتِعَةِ فِيهَا ، وَهُوَ أَصْلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ حَتَّى جَعَلَ بَقَاءَ صِفَةِ السُّكُونِ فِي الْعَصِيرِ مَانِعًا مِنْ أَنْ يَكُونَ خَمْرًا ، وَبَقَاءُ مُسْلِمٍ وَاحِدٍ مِنَّا فِي بَلْدَةٍ ارْتَدَّ أَهْلُهَا مَانِعًا مِنْ أَنْ تَصِيرَ دَارَ حَرْبٍ ، إلَّا أَنَّ مَشَايِخَنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ قَالُوا : هَذَا إذَا كَانَ الْبَاقِي يَتَأَتَّى بِهَا السُّكْنَى ، أَمَّا بِبَقَاءِ مِكْنَسَةٍ أَوْ وَتَدٍ أَوْ قِطْعَةِ حَصِيرٍ فِيهَا ، فَيَبْقَى سَاكِنًا فِيهَا فَلَا يَحْنَثُ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَرِيبٌ مِنْ هَذَا قَالَ : إنْ بَقِيَ فِيهَا مَا يَتَأَتَّى لِمِثْلِهِ السُّكْنَى بِهِ يَحْنَثُ وَإِلَّا فَلَا ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : إنْ نَقَلَ إلَى الْمَسْكَنِ الثَّانِي مَا يَتَأَتَّى لَهُ السُّكْنَى بِهِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ بِهَذَا صَارَ سَاكِنًا فِي
الْمَسْكَنِ الثَّانِي فَلَا يَبْقَى سَاكِنًا فِي الْمَسْكَنِ الْأَوَّلِ ، وَلَوْ كَانَ فِي طَلَبِ مَسْكَنٍ آخَرَ ، فَبَقِيَ فِي ذَلِكَ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَحْنَثْ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الْجَوَابِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ طَرْحُ الْأَمْتِعَةِ فِي السِّكَّةِ ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ الْقَدْرُ مُسْتَثْنًى لِمَا عُرِفَ مِنْ مَقْصُودِهِ إذَا لَمْ يُفَرِّطْ فِي الطَّلَبِ ، وَكَذَلِكَ إنْ بَقِيَ فِي نَقْلِ الْأَمْتِعَةِ أَيَّامًا لِكَثْرَةِ أَمْتِعَتِهِ وَلِبُعْدِ الْمَسَافَةِ ، وَلَمْ يَسْتَأْجِرْ لِذَلِكَ جَمَّالًا بَلْ جَعَلَ يَنْقُلُ بِنَفْسِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ بَقِيَ فِي ذَلِكَ شَهْرًا إذَا لَمْ يُفَرِّطْ ؛ لِأَنَّ نَقْلَ الْأَمْتِعَةِ ضِدُّ الِاسْتِقْرَارِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ ، فَاشْتِغَالُهُ بِهِ يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ سَاكِنًا فِيهِ فَلَا يَحْنَثُ لِهَذَا .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يُسَاكِنُ فُلَانًا فِي دَارٍ قَدْ سَمَّاهَا بِعَيْنِهَا ، وَاقْتَسَمَا وَضَرَبَا بَيْنَهُمَا حَائِطًا ، وَفَتَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَابًا لِنَفْسِهِ ، ثُمَّ سَكَّنَ الْحَالِفُ طَائِفَةً ، وَالْآخَرُ طَائِفَةً لَزِمَهُ الْحِنْثُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَاكَنَهُ فِيهَا بِعَيْنِهَا ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ حِينَ عَقَدَ الْيَمِينَ أَنْ يَجْمَعَهُمَا فِعْلُ السُّكْنَى فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي عَيَّنَهُ ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي الْقِسْمَةِ وَضَرْبِ الْحَائِطِ كَمَا قَبِلَهُ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ يَمِينُهُ عَلَى أَنْ لَا يُسَاكِنَهُ فِي مَنْزِلٍ ، وَلَمْ يُسَمِّ دَارًا بِعَيْنِهَا ، وَلَمْ يَنْوِهَا ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ بِالْقِسْمَةِ وَضَرْبِ الْحَائِطِ صَارَ كُلُّ جَانِبٍ مَنْزِلًا عَلَى حِدَةٍ ؛ وَلِأَنَّ فِي غَيْرِ الْعَيْنِ يُعْتَبَرُ الْوَصْفُ ، وَفِي الْعَيْنِ يُعْتَبَرُ الْعَيْنُ دُونَ الْوَصْفِ ، كَمَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَ شَابًّا فَكَلَّمَ شَيْخًا ، كَانَ شَابًّا وَقْتَ يَمِينِهِ لَمْ يَحْنَثْ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يُكَلِّمَ هَذَا الشَّابَّ فَكَلَّمَهُ بَعْدَ مَا شَاخَ يَحْنَثُ ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ فِي الدَّارِ الْمُعَيَّنَةِ أَظْهَرَ بِيَمِينِهِ التَّبَرُّمَ مِنْهَا لَا مِنْ فُلَانٍ ، وَفِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ إنَّمَا أَظْهَرَ التَّبَرُّمَ مِنْ مُسَاكَنَةِ فُلَانٍ ، وَلَا يَكُونُ مُسَاكِنًا لَهُ إذَا لَمْ يَجْمَعْهُمَا مَنْزِلٌ وَاحِدٌ .
وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يُسَاكِنَهُ ، وَهُوَ يَنْوِي فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ فَسَاكَنَهُ فِي مَنْزِلٍ ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي بَيْتٍ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ نَوَى أَكْمَلَ مَا يَكُونُ مِنْ الْمُسَاكَنَةِ فَتَصِحُّ نِيَّتُهُ ، وَيَصِيرُ الْمَنْوِيُّ كَالْمَلْفُوظِ بِهِ ، وَإِنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَسْكُنَ دَارًا بِعَيْنِهَا ، فَهُدِمَتْ وَبُنِيَتْ بِنَاءً آخَرَ فَسَكَنَهَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّهَا تِلْكَ الدَّارُ بِعَيْنِهَا ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْبِنَاءَ وَصْفٌ ، وَرَفْعُ الْبِنَاءِ الْأَوَّلِ ، وَإِحْدَاثُ بِنَاءٍ آخَرَ يُغَيِّرُ الْوَصْفَ ، وَفِي الْعَيْنِ لَا مُعْتَبَرَ بِالْوَصْفِ ، وَاسْمُ الدَّارِ يَبْقَى بَعْدَ هَدْمِ الْبِنَاءِ حَتَّى لَوْ سَكَنَهَا
، كَذَلِكَ صَارَ حَانِثًا ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِمَا أُدِيرَ عَلَيْهِ الْحَائِطُ ، فَلَا يَزُولُ ذَلِكَ بِرَفْعِ الْبِنَاءِ أَمَا تَرَى أَنَّ الْعَرَبَ تُطَلِّقُ اسْمَ الدَّارِ عَلَى الْخَرَابَاتِ الَّتِي لَمْ يَبْقَ مِنْهَا إلَّا الْآثَارُ ، قَالَ الْقَائِلُ : عَفَتْ الدِّيَارُ مَحَلُّهَا فَمُقَامُهَا وَقَالَ آخَرُ : يَا دَارَ مَيَّةَ بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ بَيْتًا عَيَّنَهُ ، فَهُدِمَ حَتَّى تُرِكَ صَحْرَاءَ ، ثُمَّ بُنِيَ بَيْتٌ آخَرُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَسَكَنَهُ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْبَيْتِ يَزُولُ بِهَدْمِ الْبِنَاءِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَكَنَهُ حِينَ كَانَ صَحْرَاءَ لَمْ يَحْنَثْ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْبَيْتَ اسْمٌ لِمَا يَكُونُ صَالِحًا لِلْبَيْتُوتَةِ فِيهِ ، وَالصَّحْرَاءُ غَيْرُ صَالِحٍ لِذَلِكَ .
وَالْيَمِينُ الْمَعْقُودَةُ بِاسْمٍ لَا يَبْقَى بَعْدَ زَوَالِ الِاسْمِ ، ثُمَّ إنَّمَا حَدَثَ اسْمُ الْبَيْتِ لِذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِالْبِنَاءِ الَّذِي أُحْدِثَ ، فَكَانَ هَذَا اسْمًا غَيْرَ مَا عَقَدَ بِهِ الْيَمِينَ ، وَوِزَانُهُ مِنْ الدَّارِ أَنْ لَوْ جَعَلَهَا بُسْتَانًا أَوْ حَمَّامًا ، ثُمَّ بَنَى دَارًا فَسَكَنَهَا لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ زَالَ .
جَعَلَهَا بُسْتَانًا أَوْ حَمَّامًا ثُمَّ حَدَثَ اسْمُ الدَّارِ بِصِفَةٍ حَادِثَةٍ ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الِاسْمُ الَّذِي انْعَقَدَ بِهِ الْيَمِينُ .
وَإِذَا حَلَفَ لَا يَسْكُنُ دَارَ فُلَانٍ هَذِهِ ، فَبَاعَهَا فَسَكَنَ الْحَالِفُ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى : يَحْنَثُ ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ وَالثَّوْبُ ، وَكُلُّ مَا يُضَافُ إلَى إنْسَانٍ بِالْمِلْكِ .
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ جَمَعَ فِي كَلَامِهِ بَيْنَ الْإِشَارَةِ وَالْإِضَافَةِ ، فَيَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِالْإِشَارَةِ ؛ لِأَنَّهَا أَبْلُغُ فِي التَّعْرِيفِ مِنْ الْإِضَافَةِ ، فَإِنَّهَا تَقْطَعُ الشَّرِكَةَ ، وَالْإِضَافَةُ لَا تَقْطَعُ الشَّرِكَةَ ، فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : لَا أَسْكُنُ هَذِهِ الدَّارَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا لَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ زَوْجَةَ فُلَانٍ هَذِهِ صَدِيقِ فُلَانٍ هَذَا ، فَكَلَّمَ بَعْدَمَا عَادَاهُ ، وَفَارَقَهَا يَحْنَثُ لِمَا قُلْنَا .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : لَا أُكَلِّمُ صَاحِبَ هَذَا الطَّيْلَسَانِ ، فَكَلَّمَ بَعْدَ مَا بَاعَ الطَّيْلَسَانَ يَحْنَثُ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى مِلْكٍ يُضَافُ إلَى مَالِكٍ ، فَلَا يَبْقَى بَعْدَ زَوَالِ الْمِلْكِ ، كَمَا لَوْ كَانَ أَطْلَقَ دَارَ فُلَانٍ ، وَتَحْقِيقُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ الدَّارَ لَا يُقْصَدُ هَجْرُهَا لِعَيْنِهَا ، بَلْ لِأَذًى حَصَلَ مِنْ مَالِكِهَا ، وَالْيَمِينُ تَتَقَيَّدُ بِمَقْصُودِ الْحَالِفِ فَصَارَ بِمَعْرِفَةِ مَقْصُودِهِ كَأَنَّهُ قَالَ : مَادَامَ لِفُلَانٍ بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ وَالصَّدِيقِ ، فَإِنَّهُ يَقْصِدُ هِجْرَانَهُمَا لِعَيْنِهَا ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لِصَاحِبِ الطَّيْلَسَانِ ؛ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ هِجْرَانَهُ لِعَيْنِهِ لَا لِطَيْلَسَانِهِ ، فَكَانَ ذِكْرُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِلتَّعْرِيفِ لَا لِتَقْيِيدِ الْيَمِينِ .
( فَإِنْ قِيلَ ) فِي الْعَبْدِ : هُوَ آدَمِيٌّ ، فَيُقْصَدُ هِجْرَانُهُ لِعَيْنِهِ ، وَمَعَ ذَلِكَ قُلْتُمْ : إذَا حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ عَبْدَ فُلَانٍ هَذَا ، فَكَلَّمَهُ بَعْدَ مَا بَاعَهُ لَا يَحْنَثُ .
( قُلْنَا ) : ذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ
أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَحْنَثُ بِهَذَا فِي الْعَبْدِ .
وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْعَبْدَ مَمْلُوكٌ سَاقِطُ الْمَنْزِلَةِ عِنْدَ الْأَحْرَارِ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْأَذَى مِنْهُ لَا يُقْصَدُ هِجْرَانُهُ بِالْيَمِينِ ، فَلَا يُجْعَلُ لَهُ هَذِهِ الْمَنْزِلَةُ ، وَلَكِنْ إنَّمَا يَحْلِفُ إذَا كَانَ الْأَذَى مِنْ مِلْكِهِ ؛ وَلِأَنَّ إضَافَةَ الْمَمْلُوكِ إلَى الْمَالِكِ حَقِيقَةً كَالِاسْمِ ، ثُمَّ لَوْ جَمَعَ فِي يَمِينِهِ بَيْنَ ذِكْرِ الِاسْمِ وَالْعَيْنِ ، وَزَالَ الِاسْمُ لَمْ يَبْقَ الْيَمِينُ ، كَمَا لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ بِعَيْنِهَا ، فَجُعِلَتْ بُسْتَانًا فَدَخَلَ لَمْ يَحْنَثْ لِزَوَالِ الِاسْمِ ، فَكَذَلِكَ إذَا جَمَعَ بَيْنَ الْإِضَافَةِ وَالتَّعْيِينِ فَزَالَتْ الْإِضَافَةُ لَا يَبْقَى الْيَمِينُ ، بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ وَالصَّدِيقِ ، فَالْإِضَافَةُ هُنَاكَ لَيْسَتْ بِحَقِيقَةٍ ، وَلَكِنَّهُ تَعْرِيفٌ كَالنِّسْبَةِ ، وَكَمَا أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ الْيَمِينُ بِالْعَيْنِ دُونَ النِّسْبَةِ ، فَكَذَلِكَ هُنَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ دُونَ الْإِضَافَةِ ، فَإِنْ نَوَى أَنْ لَا يَسْكُنَهَا وَإِنْ زَالَتْ الْإِضَافَةُ فَلَهُ مَا نَوَى ؛ لِأَنَّهُ شَدَّدَ الْأَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ بِنِيَّتِهِ ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَوْ نَوَى أَنْ لَا يَسْكُنَهَا مَا دَامَتْ لِفُلَانٍ فَلَهُ مَا نَوَى ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ .
وَإِذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَسْكُنَ دَارَ فُلَانٍ أَوْ دَارًا لِفُلَانٍ ، وَلَمْ يُسَمِّ دَارًا بِعَيْنِهَا ، وَلَمْ يَنْوِهَا فَسَكَنَ دَارًا لَهُ قَدْ بَاعَهَا بَعْدَ يَمِينِهِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ الْحِنْثِ وُجُودَ السُّكْنَى فِي دَارٍ مُضَافَةٍ إلَى فُلَانٍ ، وَلَمْ يُوجَدْ بِخِلَافِ قَوْلِهِ : زَوْجَةُ فُلَانٍ أَوْ صَدِيقُ فُلَانٍ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ إنَّمَا يَقْصِدُ هِجْرَانَهُمَا لِعَيْنِهِمَا ، فَيَتَعَيَّنُ مَا كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ يَمِينِهِ بِنَاءً عَلَى مَقْصُودِهِ ، كَمَا لَوْ عَيَّنَهُ وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا ، وَوَجَّهَ أَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ بِالْإِضَافَةِ ، وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ فِيمَا لَوْ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ يَمِينِهِ ، وَلَكِنْ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ لَا بُدَّ أَنْ يُقَالَ : إذَا جَمَعَ بَيْنَ الْإِضَافَةِ وَالتَّعْيِينِ يَبْقَى الْيَمِينُ بَعْدَ زَوَالِ الْإِضَافَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، كَمَا هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَأَمَّا إذَا سَكَنَ دَارًا كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِفُلَانٍ مِنْ وَقْتِ الْيَمِينِ إلَى وَقْتِ السُّكْنَى ، فَهُوَ حَانِثٌ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ سَكَنَ دَارًا اشْتَرَاهَا فُلَانٌ بَعْدَ يَمِينِهِ حَنِثَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ وَالدَّابَّةُ وَالثَّوْبُ ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامَ فُلَانٍ ، أَوْ لَا يُشْرِبُ شَرَابَ فُلَانٍ ، فَتَنَاوَلَ شَيْئًا مِمَّا اسْتَحْدَثَهُ فُلَانٌ لِنَفْسِهِ ، فَهُوَ حَانِثٌ بِالِاتِّفَاقِ ، وَقَدْ أَشَارَ ابْنُ سِمَاعَةَ إلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْكُلِّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ عَلَى الْإِضَافَةِ ، فَمَا لَمْ يُوجَدْ حَقِيقَةً وَقْتَ الْيَمِينِ لَا يَتَنَاوَلُهُ الْيَمِينُ ، فَأَمَّا وَجْهُ قَوْلِهِ فِي الْفَرْقِ عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ : أَنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ يُسْتَحْدَثُ الْمِلْكُ فِيهِمَا فِي كُلِّ وَقْتٍ ، فَعَرَفْنَا أَنْ مَقْصُودَ
الْحَالِفِ وُجُودُ الْإِضَافَةِ إلَى فُلَانٍ وَقْتَ التَّنَاوُلِ ، فَأَمَّا الدَّارُ وَالْعَبْدُ وَالدَّابَّةُ فَلَا يُسْتَحْدَثُ الْمِلْكُ فِيهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ ، فَعَرَفْنَا أَنَّ مَقْصُودَهُ مَا كَانَ مَوْجُودًا فِي الْحَالِ دُونَ مَا يُسْتَحْدَثُ فِيهِ ، فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الزَّوْجَةِ وَالصَّدِيقِ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى مِلْكٍ مُضَافٍ إلَى الْمَالِكِ ، فَإِذَا وُجِدَتْ الْإِضَافَةُ إلَى وَقْتِ الْفِعْلِ كَانَ حَانِثًا كَمَا فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ وُجُودُ السُّكْنَى فِي دَارٍ مُضَافَةٍ إلَى فُلَانٍ بِالْمِلْكِ ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى الْيَمِينِ أَذًى دَخَلَهُ مِنْ فُلَانٍ ، وَفِي هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَوْجُودِ فِي مِلْكِهِ وَقْتَ الْيَمِينِ ، وَمَا اُسْتُحْدِثَ الْمِلْكُ فِيهِ ، بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ وَالصَّدِيقِ ، وَقَدْ رَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ : دَارًا لِفُلَانٍ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ إذَا سَكَنَ دَارًا اشْتَرَاهَا فُلَانٌ بَعْدَ يَمِينِهِ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ : دَارَ فُلَانٍ ؛ لِأَنَّ اللَّامَ دَلِيلٌ عَلَى الْمِلْكِ ، فَصَارَ تَقْدِيرُ كَلَامِهِ كَأَنَّهُ قَالَ : لَا أَسْكُنُ دَارًا هِيَ مَمْلُوكَةٌ لِفُلَانٍ ، فَيَتَعَيَّنُ الْمَوْجُودُ فِي مِلْكِهِ دُونَ مَا يَسْتَحْدِثُهُ ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ : دَارَ فُلَانٍ .
وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَى عَكْسِ هَذَا قَالَ : إذَا قَالَ : دَارَ فُلَانٍ لَا يَتَنَاوَلُ مَا يُسْتَحْدَثُ الْمِلْكُ فِيهِ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ : دَارًا لِفُلَانٍ ؛ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ : دَارَ فُلَانٍ تَمَامَ الْكَلَامِ بِذِكْرِ الْإِضَافَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ فُلَانًا كَانَ كَلَامًا مُخْتَلًّا ، فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ الْمِلْكِ لِفُلَانٍ وَقْتَ الْيَمِينِ لِيَتَنَاوَلَهُ الْيَمِينُ ، وَفِي قَوْلِهِ : دَارًا لِفُلَانٍ .
الْكَلَامُ تَامٌّ بِدُونِ ذِكْرِ فُلَانٍ ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ : لَا أَسْكُنُ دَارًا كَانَ مُسْتَقِيمًا ، فَذِكْرُ فُلَانٍ لِتَقْيِيدِ الْيَمِينِ بِمَا يَكُونُ
مُضَافًا إلَى فُلَانٍ وَقْتَ السُّكْنَى ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ دَارًا لِفُلَانٍ ، فَسَكَنَ دَارًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ لَمْ يَحْنَثْ ، قَلَّ نَصِيبُ الْآخَرِ أَوْ كَثُرَ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ الْحِنْثِ وُجُودَ السُّكْنَى فِي دَارٍ يَمْلِكُهَا فُلَانٌ ، وَالْمَمْلُوكُ لِفُلَانٍ بَعْضُ هَذِهِ الدَّارِ ، وَبَعْضُ الدَّارِ لَا يُسَمَّى دَارًا .
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ دَارًا اشْتَرَاهَا فُلَانٌ ، فَسَكَنَ دَارًا اشْتَرَاهَا لِغَيْرِهِ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ لِغَيْرِهِ كَالْمُشْتَرِي لِنَفْسِهِ فِيمَا يَنْبَنِي عَلَى الشِّرَاءِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِهِ ، وَأَنَّهُ يَسْتَغْنِي عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى غَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا رَتَّبَ الْحَالِفُ يَمِينَهُ عَلَى الشِّرَاءِ دُونَ الْمِلْكِ ، فَإِنْ قَالَ : أَرَدْت مَا اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ ، دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ إذَا كَانَ يَمِينُهُ بِالطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ .
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ بَيْتًا ، وَلَا نِيَّةَ لَهُ فَسَكَنَ بَيْتًا مِنْ شَعْرٍ أَوْ فُسْطَاطًا أَوْ خَيْمَةً ، لَمْ يَحْنَثْ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ ، وَحَنِثَ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ اسْمٌ لِمَوْضِعٍ يُبَاتُ فِيهِ ، وَالْيَمِينُ يَتَقَيَّدُ بِمَا عُرِفَ مِنْ مَقْصُودِ الْحَالِفِ ، فَأَهْلُ الْأَمْصَارِ إنَّمَا يَسْكُنُونَ الْبُيُوتَ الْمَبْنِيَّةَ عَادَةً ، وَأَهْلُ الْبَادِيَةِ يَسْكُنُونَ الْبُيُوتَ الْمُتَّخَذَةَ مِنْ الشَّعْرِ ، فَإِذَا كَانَ الْحَالِفُ بَدْوِيًّا فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ هَذَا مَقْصُودُهُ بِيَمِينِهِ ، فَيَحْنَثُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ ، وَاسْمُ الْبَيْتِ لِلْمَبْنِيِّ حَقِيقَةً ، فَلَا يَخْتَلِفُ فِيهِ حُكْمُ أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَأَهْلِ الْبَادِيَةِ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْبَادِيَةِ يُسَمُّونَ الْبَيْتَ لِلْمَبْنِيِّ حَقِيقَةً ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ سَائِلًا سَأَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : إنَّ صَاحِبًا لَنَا أَوْجَبَ بَدَنَةً .
أَفَتُجْزِي الْبَقَرُ ؟ فَقَالَ : مِمَّنْ صَاحِبُكُمْ ؟ فَقَالَ : مِنْ بَنِي رِيَاحٍ .
قَالَ : وَمَتَى اقْتَنَتْ بَنُو رِيَاحٍ الْبَقَرَ ؟ إنَّمَا وُهِمَ صَاحِبُكُمْ الْإِبِلَ .
فَدَلَّ أَنَّ عِنْدَ إطْلَاقِ الْكَلَامِ يُعْتَبَرُ عُرْفُ الْمُتَكَلِّمِ فِيمَا يَتَقَيَّدُ بِهِ كَلَامُهُ .
وَإِذَا حَلَفَ لَا يَسْكُنُ بَيْتًا لِفُلَانٍ ، فَسَكَنَ صُفَّةً لَهُ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ بَيْتٌ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى الْبُيُوتَ دُونَ الصِّفَافِ ، فَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ ، وَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّهُ نَوَى تَخْصِيصَ اللَّفْظِ الْعَامِّ .
مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ : هَذَا الْجَوَابُ بِنَاءً عَلَى عُرْفِ أَهْلِ الْكُوفَةِ ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ عِنْدَهُمْ اسْمٌ لِبَيْتٍ يَسْكُنُونَهُ يُسَمَّى صَفًّا ، وَمِثْلُهُ فِي دِيَارِنَا يُسَمَّى كَشَأْنِهِ ، فَأَمَّا الصِّفَةُ فِي عُرْفِ دِيَارِنَا غَيْرُ الْبَيْتِ فَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْبَيْتِ ، بَلْ يُنْفَى عَنْهُ ، فَيُقَالُ : هَذَا صِفَةٌ وَلَيْسَ بِبَيْتٍ فَلَا يَحْنَثُ .
قَالَ : وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ مُرَادَهُ حَقِيقَةُ مَا نُسَمِّيهِ الصِّفَةَ ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْبَيْتَ اسْمٌ لِمَبْنًى مُسَقَّفٍ مَدْخَلُهُ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ مَبْنِيٌّ لِلْبَيْتُوتَةِ فِيهِ ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي الصِّفَةِ ، إلَّا أَنَّ مَدْخَلَهُ أَوْسَعُ مِنْ مَدْخَلِ الْبُيُوتِ الْمَعْرُوفَةِ فَكَانَ اسْمُ الْبَيْتِ مُتَنَاوِلًا لَهُ ، فَيَحْنَثُ بِسُكْنَاهُ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى الْبُيُوتَ دُونَ الصِّفَافِ ، فَحِينَئِذٍ يُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ خَصَّ الْعَامَّ بِنِيَّتِهِ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ دَارَ فُلَانٍ هَذِهِ ، فَسَكَنَ مَنْزِلًا مِنْهَا حَنِثَ ؛ لِأَنَّ السُّكْنَى فِي الدَّارِ هَكَذَا تَكُونُ ، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يَقُولُ أَنَا سَاكِنٌ فِي دَارِ فُلَانٍ ، وَإِنَّمَا يَسْكُنُ فِي بَعْضِهَا فَإِنَّهُ لَا يَسْكُنُ تَحْتَ السُّوَرِ ، وَعَلَى الْغُرَفِ وَالْحُجَرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى أَنْ يَسْكُنَهَا كُلَّهَا ، فَلَا يَحْنَثُ حِينَئِذٍ حَتَّى يَسْكُنَهَا كُلَّهَا ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ ، وَمُطْلَقُ الْكَلَامِ وَإِنْ كَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْمُتَعَارَفِ فَنِيَّةُ الْحَقِيقَةِ تَصِحُّ فِيهِ ، كَمَا لَوْ قَالَ : يَوْمَ يَقْدُمُ فُلَانٌ فَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ حُمِلَ عَلَى الْوَقْتِ لِلْعُرْفِ ، فَإِنْ نَوَى حَقِيقَةَ بَيَاضِ النَّهَارِ عَمِلَتْ نِيَّتُهُ فِي ذَلِكَ ، فَهَذَا مِثْلُهُ حَتَّى لَوْ كَانَ حَلَفَ بِعِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ حَقِيقَةٌ غَيْرُ مَهْجُورَةٍ ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ دَارًا لِفُلَانٍ ، وَهُوَ يَنْوِي بِأَجْرٍ أَوْ عَارِيَّةً ، وَسَكَنَهَا عَلَى غَيْرِ مَا عُنِيَ ، وَلَمْ يَجْرِ قَبْلَ ذَلِكَ كَلَامٌ ، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ ، وَمَا نُوِيَ لَا يُغْنِي عَنْهُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِيمَا لَيْسَ مِنْ لَفْظِهِ ، فَإِنَّ فِي لَفْظِهِ فِعْلَ السُّكْنَى ، وَهُوَ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي السَّبَبِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ السُّكْنَى ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَبْلَ هَذَا كَلَامٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ بِأَنْ اسْتَعَارَهُ فَأَبَى فَحَلَفَ ، وَهُوَ يَنْوِي الْعَارِيَّةَ ، ثُمَّ سَكَنَ بِأَجْرٍ فَحِينَئِذٍ لَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْكَلَامِ يَتَقَيَّدُ بِدَلَالَةِ الْحَالِ وَيَصِيرُ ذَلِكَ كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ .
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ الدُّخُولِ ( قَالَ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَإِذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا لِفُلَانٍ ، وَلَمْ يُسَمِّ بَيْتًا بِعَيْنِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَدَخَلَ بَيْتًا هُوَ فِيهِ سَاكِنٌ بِأَجْرٍ أَوْ عَارِيَّةٍ ، فَهُوَ حَانِثٌ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : لَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ إلَى فُلَانٍ بِالْمِلْكِ حَقِيقَةٌ وَبِالسُّكْنَى مَجَازٌ ، فَلَا تَجْتَمِعُ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ ، وَالْحَقِيقَةُ مُرَادَةٌ بِالِاتِّفَاقِ ، فَيَتَنَحَّى الْمَجَازُ ، وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِفُلَانٍ دَلِيلُ الْمِلْكِ أَيْضًا .
( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ أَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى الْإِضَافَةِ إلَى فُلَانٍ ، وَمَا يَسْكُنُهُ فُلَانٌ عَارِيَّةً أَوْ إجَارَةً مُضَافٌ إلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ مَا يَسْكُنُهُ بِالْمِلْكِ ، أَلَا تَرَى أَنَّك تَقُولُ : بَيْتُ فُلَانٍ وَمَنْزِلُ فُلَانٍ ، وَإِنْ كَانَ نَازِلًا فِيهِ بِأَجْرٍ أَوْ عَارِيَّةً ، فَكَذَلِكَ مَعَ حَرْفِ اللَّامِ { ، فَإِنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ قَالَ لِرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ : لِمَنْ هَذَا الْحَائِطُ ؟ فَقَالَ : لِي اسْتَأْجَرْتُهُ } ، لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ إضَافَتَهُ إلَى نَفْسِهِ بِحَرْفِ اللَّامِ ، وَلَا يَقُولُ : إنَّهُ إذَا دَخَلَ بَيْتًا هُوَ مِلْكُ فُلَانٍ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِحَقِيقَةِ الْإِضَافَةِ بِالْمِلْكِ لِوُجُودِ الْإِضَافَةِ بِالسُّكْنَى وَحَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ يَحْنَثُ بِاعْتِبَارِ عُمُومِ الْمَجَازِ ، وَفِي ذَلِكَ الْمِلْكُ وَالْمُسْتَعَارُ سَوَاءٌ ، كَمَنْ حَلَفَ لَا يَضَعُ قَدَمَهُ فِي دَارِ فُلَانٍ فَدَخَلَهَا حَافِيًا أَوْ مُتَنَعِّلًا أَوْ رَاكِبًا ، يَحْنَثُ بِاعْتِبَارِ عُمُومِ الْمَجَازِ ، وَهُوَ الدُّخُولُ دُونَ حَقِيقَةِ وَضْعِ الْقَدَمِ ، ( فَإِنْ قِيلَ ) : كَيْفَ يَكُونُ لِلْمَجَازِ عُمُومٌ ، وَالْمَصِيرُ إلَيْهِ بِطَرِيقِ الضَّرُورَةِ ؟ ( قُلْنَا ) : الْعُمُومُ لِلْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ حَقِيقَةٌ ، بَلْ بِدَلِيلِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ بِعَيْنِهِ مَوْجُودٌ فِي الْمَجَازِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَجَازَ كَالْمُسْتَعَارِ ، وَيَحْصُلُ بِلُبْسِ الثَّوْبِ الْمُسْتَعَارِ دَفْعُ
الْحَرِّ وَالْبَرْدِ ، كَمَا يَحْصُلُ بِلُبْسِ الثَّوْبِ الْمَمْلُوكِ ، وَلَا يُقَالُ : بِأَنَّ الْمَجَازَ يُصَارُ إلَيْهِ لِلضَّرُورَةِ بَلْ هُوَ أَحَدُ قِسْمَيْ الْكَلَامِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى مَجَازًا وَحَقِيقَةً ، وَاَللَّهُ تَعَالَى يَتَعَالَى أَنْ تَلْحَقَهُ الضَّرُورَةُ ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْعُمُومَ يُعْتَبَرُ فِي الْمَجَازِ ، كَمَا فِي الْحَقِيقَةِ ، وَعَلَى هَذَا رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا لِفُلَانٍ ، فَدَخَلَ بَيْتًا أَجَّرَهُ فُلَانٌ مِنْ غَيْرِهِ ، لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ مُضَافٌ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ بِالسُّكْنَى دُونَ الْآجِرِ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ حَانُوتًا لِفُلَانٍ ، فَسَكَنَ حَانُوتًا أَجَّرَهُ ، فَإِنْ كَانَ فُلَانٌ مِمَّنْ لَا يَسْكُنُ حَانُوتًا ، لَا يَحْنَثُ بِهَذَا أَيْضًا ، وَإِنْ كَانَ يَسْكُنُ حَانُوتًا ، فَحِينَئِذٍ يَحْنَثُ لِمَا عُرِفَ مِنْ مَقْصُودِ الْحَالِفِ ، فَإِنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَسْكُنُ حَانُوتَ الْأَمِيرِ يَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ مُرَادَهُ حَانُوتٌ يَمْلِكُهُ الْأَمِيرُ ، وَإِذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ ، وَلَمْ يُسَمِّ شَيْئًا ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ ، أَوْ فِي بَيْتِ غَيْرِهِ أَوْ فِي صِفَةٍ حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ الدُّخُولُ عَلَى فُلَانٍ .
فَإِنَّ الدُّخُولَ عَلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ يَبِيتُ هُوَ فِيهِ ، أَوْ يَجْلِسُ لِدُخُولِ الزَّائِرِينَ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ يَكُونُ فِي بَيْتِهِ تَارَةً وَفِي بَيْتِ غَيْرِهِ أُخْرَى ، وَالصِّفَةُ فِي هَذِهِ كَالْبَيْتِ ، فَيَحْنَثُ لِهَذَا ، وَإِنْ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي مَسْجِدٍ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ مُعَدٌّ لِلْعِبَادَةِ فِيهِ لَا لِلْبَيْتُوتَةِ وَالْجُلُوسِ لِدُخُولِ الزَّائِرِينَ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي ظُلَّةٍ أَوْ سَقِيفَةٍ ، أَوْ دِهْلِيزِ بَابِ دَارٍ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ الظَّاهِرَ أَنَّ جُلُوسَهُ لِدُخُولِ الزَّائِرِينَ عَلَيْهِ ، لَا يَكُونُ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ عَادَةً ، وَإِنَّمَا يَكُونُ نَادِرًا عِنْدَ الضَّرُورَةِ ، فَأَمَّا الْجُلُوسُ عَادَةً يَكُونُ فِي الصِّفَةِ أَوْ الْبَيْتِ ، فَهُوَ وَإِنْ أَتَاهُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ لَا يَكُونُ دَاخِلًا عَلَيْهِ ، وَلَا يَحْنَثُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ عَلَيْهِ فِي فُسْطَاطٍ أَوْ خَيْمَةٍ ، أَوْ بَيْتِ شَعْرٍ ، لَمْ يَحْنَثْ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَالِفُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ جَعَلَ قَوْلَهُ : لَا أَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ ، وَقَوْلُهُ : لَا أَدْخُلُ عَلَيْهِ بَيْتًا سَوَاءً لِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ كَمَا بَيَّنَّا .
وَإِذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ بَيْتًا فَدَخَلَ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ ، أَوْ فِي الْكَعْبَةِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ مُصَلًّى ، وَالْبَيْتُ اسْمٌ لِلْمَوْضِعِ الْمُعَدِّ لِلْبَيْتُوتَةِ فِيهِ .
( فَإِنْ قِيلَ ) : أَلَيْسَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْكَعْبَةَ بَيْتًا بِقَوْلِهِ { : إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } ، وَسَمَّى الْمَسَاجِدَ بُيُوتًا فِي قَوْلِهِ { : فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ } ؟ ( قُلْنَا ) : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْأَيْمَانَ لَا تَنْبَنِي عَلَى لَفْظِ الْقُرْآنِ ، وَقَدْ سُمِّيَ بَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ بَيْتًا ، فَقَالَ { : وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ } .
ثُمَّ هَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْبَيْتِ فِي الْيَمِينِ يَتَنَاوَلُهُ .
( قَالَ ) : وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْمَسَاكِنِ يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ بَيْتٍ حَنِثَ فِيهِ ، وَإِنْ دَخَلَ ، وَمُرَادُهُ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ عَادَةً فِي الِاسْتِعْمَالِ ، وَإِنْ دَخَلَ بَيْتًا هُوَ فِيهِ ، وَلَمْ يَنْوِ الدُّخُولَ عَلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ الدُّخُولُ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَقْصِدَ زِيَارَتَهُ ، أَوْ الِاسْتِخْفَافَ بِهِ بِأَنْ يَقْصِدَ ضَرْبَهُ ، وَهَذَا لَمْ يُوجَدْ إذَا لَمْ يَنْوِ الدُّخُولَ عَلَيْهِ ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ فِيهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ السَّقَّاءَ يَدْخُلُ دَارَ الْأَمِيرِ فِي كُلِّ يَوْمٍ ، وَلَا يُقَالُ : دَخَلَ عَلَى الْأَمِيرِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَحْنَثُ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ كَوْنَهُ فِيهِ ، وَلَمْ يَنْوِ الدُّخُولَ عَلَيْهِ بِأَنْ دَخَلَ عَلَى قَوْمٍ هُوَ فِيهِمْ ، وَالْحَالِفُ لَا يَعْلَمُ بِمَكَانِهِ ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الدُّخُولِ عَلَيْهِ قَدْ وُجِدَ ، وَلَا يَسْقُطُ حُكْمُهُ بِاعْتِبَارِ جَهْلِهِ ، وَإِذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ ، وَلَمْ يُسَمِّ بَيْتًا ، وَلَمْ يَنْوِهِ فَدَخَلَ دَارًا هُوَ فِيهَا لَمْ يَحْنَثْ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي بَيْتٍ مِنْهَا لَا يَرَاهُ الدَّاخِلُ ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ دَاخِلًا عَلَيْهِ ، أَرَأَيْت أَنَّهُ لَوْ كَانَتْ الدَّارُ عَظِيمَةً فِيهَا مَنَازِلُ ، فَدَخَلَ مَنْزِلًا مِنْهَا ،
وَفُلَانٌ فِي مَنْزِلٍ آخَرَ كَانَ يَحْنَثُ ، إنَّمَا يَقَعُ الْيَمِينُ فِي هَذَا إذَا دَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتًا أَوْ صِفَةً ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ دَاخِلًا عَلَيْهِ حَقِيقَةً ، إلَّا أَنْ يَكُونَ حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ عَلَيْهِ دَارًا ، فَحِينَئِذٍ يَحْنَثُ إذَا دَخَلَ دَارِهِ ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْعُرْفِ عِنْدَ عَدَمِ التَّصْرِيحِ بِخِلَافِهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ نَوَى دَارًا ؛ لِأَنَّهُ يُشَدِّدُ الْأَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ بِهَذِهِ النِّيَّةِ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا وَهُوَ فِيهِ دَاخِلٌ فَمَكَثَ فِيهِ أَيَّامًا لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ هُوَ الِانْفِصَالُ مِنْ الْخَارِجِ إلَى الدَّاخِلِ ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ بَعْدَ يَمِينِهِ .
إنَّمَا وُجِدَ الْمُكْثُ فِيهِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ الدُّخُولِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ السُّكْنَى ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مُسْتَدَامٌ يُضْرَبُ لَهُ مُدَّةٌ فَتَكُونُ لِلِاسْتِدَامَةِ فِيهِ حُكْمُ الْإِنْشَاءِ ، فَأَمَّا الدُّخُولُ فَلَيْسَ بِمُسْتَدَامٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُضْرَبُ لَهُ الْمُدَّةُ ، فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ : دَخَلَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا ، إنَّمَا يُقَالُ : دَخَلَ وَمَكَثَ فِيهِ يَوْمًا وَلَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ لِأَدْخُلَنَّهُ غَدًا ، فَأَقَامَ فِيهِ حَتَّى مَضَى الْغَدُ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ بِرِّهِ وُجُودُ فِعْلِ الدُّخُولِ فِي غَدٍ ، وَلَمْ يُوجَدْ ، إنَّمَا وُجِدَ الْمُكْثُ فِيهِ فَإِذَا نَوَى بِالدُّخُولِ الْإِقَامَةَ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ ، فَإِنَّ الدُّخُولَ لِمَقْصُودِ الْإِقَامَةِ وَكَأَنَّهُ جَعَلَ ذِكْرَ الدُّخُولِ كِنَايَةً عَمَّا هُوَ الْمَقْصُودُ ، فَلِهَذَا لَمْ يَحْنَثْ .
وَإِنْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَا أَدْخُلُهَا إلَّا عَابِرَ سَبِيلٍ فَدَخَلَهَا لِيَقْعُدَ فِيهَا ، أَوْ يَعُودَ مَرِيضًا ، أَوْ يُطْعِمَ حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى الدُّخُولِ ، وَاسْتَثْنَى دُخُولًا بِصِفَةٍ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَابِرَ سَبِيلٍ أَيْ مُجْتَازًا وَمَارَّ طَرِيقٍ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : وَلَا جُنُبًا إلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ } .
وَقَدْ وُجِدَ الدُّخُولُ لَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُسْتَثْنَى فَيَحْنَثُ ، وَإِنْ دَخَلَهَا مُجْتَازًا ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَقْعُدَ فِيهَا لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ دُخُولَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُسْتَثْنَى فَلَمْ يَحْنَثْ بِهِ ، وَبَقِيَ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مَكَثَ فِي الدَّارِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ الدُّخُولِ ، فَلَا يَحْنَثُ بِهِ أَيْضًا ، وَإِنْ نَوَى بِكَلَامِهِ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا لَا يُرِيدُ النُّزُولَ فِيهَا صَحَّتْ نِيَّتُهُ ؛ لِأَنَّهُ عَابِرُ سَبِيلٍ يَكُونُ مُجْتَازًا فِي مَوْضِعٍ ، وَلَا يَكُونُ نَازِلًا فِيهِ ، فَجُعِلَ هَذَا مُسْتَثْنًى دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ مَنْعُ نَفْسِهِ مِمَّا هُوَ ضِدُّهُ ، وَهُوَ الدُّخُولُ لِلنُّزُولِ فَإِذَا صَحَّتْ نِيَّتُهُ صَارَ الْمَنْوِيُّ كَالْمَلْفُوظِ ، وَإِذَا دَخَلَهَا يُرِيدُ أَنْ يُطْعَمَ أَوْ يَقْعُدَ لِحَاجَةٍ ، وَلَا يُرِيدُ الْمَقَامَ فِيهَا لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ دُخُولٌ بِصِفَةٍ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لِلسُّكْنَى وَالْقَرَارِ ، وَلَمْ يُوجَدْ وَإِذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ فَجَعَلَهَا بُسْتَانًا أَوْ مَسْجِدًا ، وَدَخَلَهَا لَمْ يَحْنَثْ قَالَ : لِأَنَّهَا قَدْ تَغَيَّرَتْ عَنْ حَالِهَا ، وَلَمْ يُرِدْ تَغَيُّرَ الْوَصْفِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَرْفَعُ الْيَمِينَ إذَا لَمْ يَكُنْ وَصْفًا دَاعِيًا إلَى الْيَمِينِ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ تَغْيِيرَ الِاسْمِ ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ الْيَمِينَ بِاسْمِ الدَّارِ ، وَالْبُسْتَانُ وَالْمَسْجِدُ وَالْحَمَّامُ غَيْرُ الدَّارِ فَإِذَا لَمْ يَبْقَ ذَلِكَ الِاسْمُ لَا يَبْقَى الْيَمِينُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ دَارًا صَغِيرَةً فَجَعَلَهَا بَيْتًا وَاحِدًا ، وَأَشْرَعَ بَابَهُ إلَى الطَّرِيقِ ، أَوْ إلَى دَارٍ فَدَخَلَهُ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَغَيَّرَتْ ، وَصَارَتْ بَيْتًا ، وَهَذَا
إشَارَةٌ إلَى مَا قُلْنَا : أَنَّ اسْمَ الْبَيْتِ غَيْرُ اسْمِ الدَّارِ ، فَمِنْ ضَرُورَةِ حُدُوثِ اسْمِ الْبَيْتِ لِهَذِهِ الْبُقْعَةِ زَوَالُ اسْمِ الدَّارِ
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ بَيْتًا بِعَيْنِهِ فَهُدِمَ سَقْفُهُ ، وَبَقِيَتْ حِيطَانُهُ فَدَخَلَهُ يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّهُ بَيْتٌ ، وَإِنْ انْهَدَمَ سَقْفُهُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا } أَيْ سَاقِطَةً سَقْفُهَا ؛ وَلِأَنَّ الْبَيْتَ اسْمٌ لِمَا هُوَ صَالِحٌ لِلْبَيْتُوتَةِ فِيهِ ، وَمَا بَقِيَتْ الْحِيطَانُ فَهُوَ صَالِحٌ لِذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْقَفًا بِخِلَافِ مَا لَوْ انْهَدَمَتْ الْحِيطَانُ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ صَحْرَاءَ غَيْرَ صَالِحٍ لِلْبَيْتُوتَةِ ، فَلَا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الْبَيْتِ .
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ ، فَاحْتَمَلَهُ إنْسَانٌ فَأَدْخَلَهُ وَهُوَ كَارِهٌ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ مُدْخَلٌ لَا دَاخِلٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَيِّتَ قَدْ يَدْخُلُ الدَّارَ ، وَفِعْلُ الدُّخُولِ مِنْهُ لَا يَتَحَقَّقُ ، وَإِنْ أَدْخَلَهُ بِأَمْرِهِ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْغَيْرِ بِأَمْرِهِ كَفِعْلِهِ بِنَفْسِهِ ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَأْمُرْهُ ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ رَاضٍ بِقَلْبِهِ حَتَّى أَدْخَلَهُ ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الِامْتِنَاعِ ، فَلَمْ يَفْعَلْ صَارَ كَالْآمِرِ بِهِ ، وَإِدْخَالُهُ مُكْرَهًا إنَّمَا يَكُونُ مُسْتَثْنًى ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ الِامْتِنَاعَ عَنْهُ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ ، وَقَدْ انْعَدَمَ فِعْلُهُ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْغَيْرِ يُغَيِّرُهُ أَمْرُهُ ، وَاسْتِعْمَالُهُ إيَّاهُ لَا يَصِيرُ مُضَافًا إلَيْهِ حُكْمًا إلَّا بِأَمْرِهِ ، وَلَمْ يُوجَدْ ، أَمَّا بِتَرْكِ الْمَنْعِ وَالرِّضَا بِالْقَلْبِ فَلَا ، وَإِنْ دَخَلَهَا عَلَى دَابَّةٍ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ سَيْرَ الدَّابَّةِ يُضَافُ إلَى رَاكِبِهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّاكِبَ ضَامِنٌ لِمَا تَطَأُ دَابَّتُهُ ، وَأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إيقَافِهِ مَتَى شَاءَ ، فَكَانَ هَذَا وَالدُّخُولُ مَاشِيًا سَوَاءً .
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَضَعُ قَدَمَهُ فِيهَا فَدَخَلَهَا رَاكِبًا أَوْ مَاشِيًا عَلَيْهِ حِذَاءٌ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْقَدَمِ عِبَارَةٌ عَنْ الدُّخُولِ عَرْفًا ، فَإِذَا نَوَى حِينَ حَلَفَ أَنْ لَا يَضَعَ قَدَمَهُ مَاشِيًا فَدَخَلَهَا رَاكِبًا لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ ، وَهَذِهِ حَقِيقَةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ غَيْرُ مَهْجُورَةٍ ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُهَا فَقَامَ عَلَى حَائِطٍ مِنْ حِيطَانِهَا حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ دَخَلَهَا ، فَإِنَّ الْقَائِمَ عَلَى حَائِطٍ مِنْ حِيطَانِهَا لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ دَاخِلٌ فِيهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ السَّارِقَ لَوْ أُخِذَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، وَمَعَهُ الْمَالُ لَمْ يُقْطَعْ ، كَمَا لَوْ أُخِذَ فِي صَحْنِ الدَّارِ .
تَوْضِيحُهُ : أَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِمَا أُدِيرَ عَلَيْهِ الْحَائِطُ ، فَيَكُونُ الْحَائِطُ دَاخِلًا فِيهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي بَيْعِ الدَّارِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ .
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ فِي الدَّارِ ، فَقَامَ عَلَى السَّطْحِ يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ السَّطْحَ مِنْ الدَّارِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ نَامَ عَلَى سَطْحِ الدَّارِ يَسْتَخِيرُ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يَقُولَ : بِتُّ اللَّيْلَةَ فِي دَارِي ، وَلَوْ قَامَ فِي طَلْقِ بَابِ الدَّارِ ، وَالْبَابُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّارِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الْبَابَ لِإِحْرَازِ الدَّارِ وَمَا فِيهَا ، فَكُلُّ مَوْضِعٍ إذَا رُدَّ الْبَابُ بَقِيَ خَارِجًا ، فَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الدَّارِ فَلَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْهَا ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ رُدَّ الْبَابُ بَقِيَ دَاخِلًا ، فَهَذَا قَدْ دَخَلَهَا فَيَحْنَثُ .
وَلَوْ كَانَ دَاخِلًا فِيهَا فَحَلَفَ أَنْ لَا يَخْرُجَ فَقَامَ فِي مَقَامٍ يَكُونُ الْبَابُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّارِ إذَا أُغْلِقَتْ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ انْفِصَالٌ مِنْ الدَّاخِلِ إلَى الْخَارِجِ ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ حِينَ وَصَلَ إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَإِنْ أَخْرَجَ إحْدَى رِجْلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ ، وَكَذَلِكَ إنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَهَا فَأَدْخَلَ إحْدَى رِجْلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ قِيَامَهُ بِالرِّجْلَيْنِ فَلَا يَكُونُ بِأَحَدِهِمَا خَارِجًا وَلَا دَاخِلًا ، أَلَا تَرَى { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا وَعَدَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ سُورَةً لَيْسَ فِي التَّوْرَاةِ وَلَا فِي الْإِنْجِيلِ مِثْلُهَا قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ ، فَعَلَّمَهُ بَعْدَ مَا أَخْرَجَ إحْدَى رِجْلَيْهِ } ، وَلَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِوَعْدِهِ .
مِنْ أَصْحَابنَا مَنْ يَقُولُ : هَذَا إذَا كَانَ الدَّاخِلُ وَالْخَارِجُ مُسْتَوِيَانِ ، فَإِنْ كَانَ الدَّاخِلُ أَسْفَلَ مِنْ الْخَارِجِ فَبِإِدْخَالِ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ يَصِيرُ دَاخِلًا ؛ لِأَنَّ عَامَّةَ بَدَنِهِ تَمَايَلَ إلَى الدَّاخِلِ ، وَإِنْ كَانَ الْخَارِجُ أَسْفَلَ مِنْ الدَّاخِلِ فَبِإِخْرَاجِ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ يَصِيرُ خَارِجًا لِهَذَا الْمَعْنَى ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ الْحِنْثِ حَقِيقَةً ، فَلَا يَحْنَثُ ، وَاعْتِبَارُ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ حَانِثًا ، وَالرِّجْلُ الْأُخْرَى تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَحْنَثُ بِالشَّكِّ ، وَإِنْ دَخَلَ مِنْ حَائِطٍ لَهَا حَتَّى قَامَ عَلَى سَطْحٍ مِنْ سُطُوحِهَا ، فَقَدْ دَخَلَهَا ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ السَّطْحَ مِمَّا أُدِيرَ عَلَيْهِ الْحَائِطُ فَالدَّاخِلُ إلَيْهِ يَكُونُ دَاخِلًا فِيهَا ، وَلَوْ دَخَلَ بَيْتًا مِنْ تِلْكَ الدَّارِ قَدْ شَرَعَ السِّكَّةَ حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا أُدِيرَ عَلَيْهِ الْحَائِطُ ، وَهَذَا إذَا كَانَ لِذَلِكَ الْبَيْتِ بَابٌ فِي الدَّارِ وَبَابٌ فِي السِّكَّةِ ، وَإِنْ دَخَلَ فِي عُلُوِّهَا عَلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ ، أَوْ دَخَلَ كَنِيفًا مِنْهَا شَارِعًا إلَى الطَّرِيقِ حَنِثَ ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ
مُفَتَّحَةً فِي الدَّارِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حُجَرِ الدَّارِ وَمَرَافِقِهِ ، فَالدَّاخِلُ إلَيْهِ لَا يَكُونُ خَارِجًا مِنْ الدَّارِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ خَارِجًا كَانَ دَاخِلًا فِي الدَّارِ .
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .
بَابُ الْخُرُوجِ ( قَالَ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَإِذَا حَلَفَ عَلَى امْرَأَتِهِ بِالطَّلَاقِ أَنْ لَا تَخْرُجَ حَتَّى يَأْذَنَ لَهَا فَأَذِنَ لَهَا مَرَّةً سَقَطَتْ الْيَمِينُ ؛ لِأَنَّ حَتَّى لِلْغَايَةِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ .
} وَالْيَمِينُ يَتَوَقَّفُ بِالتَّوْقِيتِ ، وَمِنْ حُكْمِ الْغَايَةِ أَنْ يَكُونَ مَا بَعْدَهَا بِخِلَافِ مَا قَبْلَهَا ، فَإِذَا انْتَهَتْ الْيَمِينُ بِالْإِذْنِ مَرَّةً لَمْ يَحْنَثْ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَإِنْ خَرَجَتْ بِغَيْرِ إذْنِهِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْإِذْنَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُشَدِّدًا الْأَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ بِلَفْظٍ يَحْتَمِلُهُ ، وَلَوْ قَالَ : إلَّا بِإِذْنِي فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِذْنِ لِكُلِّ مَرَّةٍ حَتَّى إذَا خَرَجَتْ مَرَّةً بِغَيْرِ إذْنِهِ حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَثْنَى خُرُوجًا بِصِفَةٍ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ بِإِذْنِهِ فَإِنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ فَكُلُّ خُرُوجٍ لَا يَكُونُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ كَانَ شَرْطُ الْحِنْثِ ، وَمَعْنَى كَلَامِهِ إلَّا مُسْتَأْذِنَةً قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : وَمَا نَتَنَزَّلُ إلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ } أَيْ مَأْمُورِينَ بِذَلِكَ ، وَنَظِيرِهِ إنْ خَرَجَتْ إلَّا بِقِنَاعٍ أَوْ إلَّا بِمَلَاءَةٍ ، فَإِذَا خَرَجَتْ مَرَّةً بِغَيْرِ قِنَاعٍ أَوْ بِغَيْرِ مَلَاءَةٍ حَنِثَ ، فَأَمَّا إذَا قَالَ : إلَّا أَنْ آذَنَ لَهَا .
فَهَذَا بِمَنْزِلَتِهِ حَتَّى إذَا وُجِدَ الْإِذْنُ مَرَّةً لَا يَبْقَى الْيَمِينُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ إلَّا أَنْ بِمَعْنَى حَتَّى فِيمَا يَتَوَقَّفُ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : إلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ } أَيْ أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَسْتَقِيمُ إظْهَارُ الْمَصْدَرِ هُنَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ : إلَّا بِإِذْنِي فَإِنَّهُ يَسْتَقِيمُ أَنْ يَقُولَ : إلَّا خُرُوجًا بِإِذْنِي فَعَرَفْنَا أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْمُسْتَثْنِي ، وَهُنَا لَوْ قَالَ إلَّا خُرُوجًا إنْ آذَنَ لَك كَانَ كَلَامًا مُخْتَلًّا ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ بِمَعْنَى التَّوْقِيتِ ، وَفِيهِ طَعَنَ الْفَرَّاءُ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ .
وَإِنْ حَلَفَ عَلَيْهَا أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنْ بَيْتِهِ ، فَخَرَجَتْ إلَى الدَّارِ حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ شَرْطَ الْحِنْثِ الْخُرُوجَ مِنْ الْبَيْتِ نَصًّا ، وَالْبَيْتُ غَيْرُ الدَّارِ فَبِالْوُصُولِ إلَى صَحْنِ الدَّارِ صَارَتْ خَارِجَةً مِنْ الْبَيْتِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا تَخْرُجَ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ هُنَا الْخُرُوجُ إلَى السِّكَّةِ ، وَالْوُصُولُ إلَى مَوْضِعٍ يَرَاهَا النَّاسُ فِيهِ ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ بِخُرُوجِهَا إلَى صَحْنِ الدَّارِ ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ فُلَانٌ بَيْتَهُ ، فَدَخَلَ دَارِهِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ سَمَّى الْبَيْتَ نَصًّا ، وَالدَّارُ غَيْرُ الْبَيْتِ ، فَالدَّاخِلُ فِي الدَّارِ لَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي الْبَيْتِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَأْذَنُ لِغَيْرِهِ فِي دُخُولِ دَارِهِ وَلَا يَأْذَنُ فِي دُخُولِ بَيْتِهِ .
وَلَوْ حَلَفَ عَلَى امْرَأَتِهِ أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنْ بَابِ هَذِهِ الدَّارِ ، فَخَرَجَتْ مِنْ غَيْرِ الْبَابِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ حَلَفَ بِتَسْمِيَةِ الْبَابِ .
فَإِنْ قِيلَ ) : مَقْصُودُهُ مَنْعُهَا مِنْ الْخُرُوجِ لِكَيْ لَا يَرَاهَا الْأَجَانِبُ ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِالْبَابِ وَغَيْرِ الْبَابِ .
( قُلْنَا ) : اعْتِبَارُ مَقْصُودِهِ يَكُونُ مَعَ مُرَاعَاةِ لَفْظِهِ ، وَلَا يَجُوزُ إلْغَاءُ اللَّفْظِ لِاعْتِبَارِ الْمَقْصُودِ ، ثُمَّ قَدْ يَمْنَعُهَا مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الْبَابِ ؛ لِكَيْ لَا يَرَاهَا الْجَارُ الْمُحَاذِي ، وَرُبَّمَا يَتَّهِمُهَا بِإِنْسَانٍ إذَا خَرَجَتْ مِنْ الْبَابِ رَآهَا ، وَإِنْ خَرَجَتْ مِنْ غَيْرِ الْبَابِ لَمْ يَرَهَا ، وَرُبَّمَا يَكُونُ عَلَى الْبَابِ كَلْبٌ عَقُورٌ ، فَكَانَ تَقْيِيدُ الْبَابِ مُفِيدًا فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ عَلَى بَابٍ بِعَيْنِهِ ، فَخَرَجَتْ مِنْ بَابٍ آخَرَ لَمْ يَحْنَثْ مُرَاعَاةً لِلَفْظِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِأَوْلَادِهِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ { : لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ ، وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ .
} وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ أَمْرًا بِمَا هُوَ مُفِيدٌ .
وَإِنْ حَلَفَ أَنْ لَا تَخْرُجَ إلَّا بِإِذْنِهِ ، فَأَذِنَ لَهَا مِنْ حَيْثُ لَا تَسْمَعُ ، لَمْ يَكُنْ إذْنًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : هُوَ إذْنٌ ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ فِعْلُ الْأَذَانِ يَتِمُّ بِهِ كَالرِّضَا ، وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا تَخْرُجَ إلَّا بِرِضَاهُ فَرَضِيَ بِذَلِكَ ، وَلَمْ تَسْمَعْ فَخَرَجَتْ لَمْ يَحْنَثْ ، فَهَذَا مِثْلُهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا : الْإِذْنُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْإِذْنِ ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالسَّمَاعِ ، أَوْ يَكُونَ مُشْتَقًّا مِنْ الْأَذَانِ وَهُوَ الْإِعْلَامُ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } .
وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالسَّمَاعِ ، بِخِلَافِ الرِّضَا فَإِنَّهُ بِالْقَلْبِ ، يَكُونُ تَوْضِيحُهُ : أَنَّ مَقْصُودَهُ مِنْ هَذَا أَنْ لَا تَتَجَاسَرَ بِالْخُرُوجِ قَبْلَ أَنْ تَسْتَأْذِنَهُ ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ إذَا لَمْ تَسْمَعْ بِإِذْنِهِ ، فَكَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ .
وَلَوْ حَلَفَ عَلَيْهَا لَا تَخْرُجُ مِنْ الْمَنْزِلِ إلَّا فِي كَذَا فَخَرَجَتْ لِذَلِكَ مَرَّةً ، ثُمَّ خَرَجَتْ فِي غَيْرِهِ حَنِثَ لِوُجُودِ الْخُرُوجِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُسْتَثْنَى ، فَإِنْ كَانَ عَنَى لَا تَخْرُجُ هَذِهِ الْمَرَّةَ إلَّا فِي كَذَا ، فَخَرَجَتْ فِيهِ ، ثُمَّ خَرَجَتْ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ خَصَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ بِنِيَّتِهِ ، وَإِنْ خَرَجَتْ لِذَلِكَ ثُمَّ بَدَا لَهَا فَانْطَلَقَتْ فِي حَاجَةٍ أُخْرَى ، وَلَمْ تَنْطَلِقْ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهَا بِالصِّفَةِ الْمُسْتَثْنِي ، ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ وَجَدَ مِنْهَا الذَّهَابَ فِي حَاجَةٍ أُخْرَى لَا الْخُرُوجَ ، وَشَرْطُ حِنْثِهِ الْخُرُوجُ .
وَإِنْ حَلَفَ عَلَيْهَا أَنْ لَا تَخْرُجَ مَعَ فُلَانٍ مِنْ الْمَنْزِلِ ، فَخَرَجَتْ مَعَ غَيْرِهِ ، أَوْ خَرَجَتْ وَحْدَهَا ، ثُمَّ لَحِقَهَا فُلَانٌ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ الِانْفِصَالُ مِنْ الدَّاخِلِ إلَى الْخَارِجِ ، وَلَمْ تَكُنْ مَعَ فُلَانٍ ، وَذَلِكَ شَرْطُ حِنْثِهِ ، فَلِهَذَا لَا يَحْنَثُ ، وَإِنْ لَحِقَهَا فُلَانٌ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ فُلَانٌ عَلَيْهَا بَيْتًا فَدَخَلَ فُلَانٌ أَوَّلًا ، ثُمَّ دَخَلَتْ هِيَ فَاجْتَمَعَا فِيهِ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهَا دَخَلَتْ عَلَى فُلَانٍ ، وَشَرْطُ حِنْثِهِ دُخُولُ فُلَانٍ عَلَيْهَا ، وَإِنْ حَلَفَ عَلَيْهَا أَنْ لَا تَخْرُجَ مِنْ الدَّارِ فَدَخَلَتْ بَيْتًا أَوْ كَنِيفًا فِي عُلُوِّهَا شَارِعًا إلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ ، لَمْ يَكُنْ خُرُوجُهَا إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ خُرُوجًا مِنْ الدَّارِ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْوَصْلَ إلَى هَذَا الْمَوْضِعِ يَكُونُ دَاخِلًا فِي الدَّارِ ، فَلَا تَصِيرُ خَارِجَةً مِنْ الدَّارِ بِالْوُصُولِ إلَيْهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ الْأَكْلِ ( قَالَ ) : وَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامًا ، أَوْ لَا يَشْرَبُ شَرَابًا ، فَذَاقَ شَرَابًا مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُدْخِلْهُ حَلْقَهُ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّهُ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ، وَالذَّوْقُ لَيْسَ بِأَكْلٍ وَلَا شُرْبٍ ، فَإِنَّ الْأَكْلَ إيصَالُ الشَّيْءِ إلَى جَوْفِهِ بِفِيهِ مَهْشُومًا ، أَوْ غَيْرَ مَهْشُومٍ ، مَمْضُوغًا أَوْ غَيْرَ مَمْضُوغٍ ، مِمَّا يَتَأَتَّى فِيهِ الْهَشْمُ وَالْمَضْغُ ، وَالشُّرْبُ أَيْضًا إيصَالُ الشَّيْءِ إلَى جَوْفِهِ بِفِيهِ مِمَّا لَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْهَشْمُ وَالْمَضْغُ فِي حَالِ اتِّصَالِهِ ، وَالذَّوْقُ مَعْرِفَةُ طَعْمِ الشَّيْءِ بِفِيهِ مِنْ غَيْرِ إدْخَالِ عَيْنِهِ فِي حَلْقِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّائِمَ إذَا ذَاقَ شَيْئًا لَمْ يُفْطِرْهُ ، وَالْأَكْلُ وَالشُّرْبُ مُفْطِرٌ لَهُ ، وَمَتَى عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى فِعْلٍ ، فَأَتَى بِمَا هُوَ دُونَهُ لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ أَتَى بِمَا هُوَ فَوْقَهُ حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَزِيَادَةٍ ، وَإِنْ كَانَ قَالَ : لَا أَذُوقُ حَنِثَ لِوُجُودِ الذَّوْقِ حَقِيقَةً ، وَإِنْ لَمْ يُدْخِلْهُ حَلْقَهُ ، إلَّا إذَا تَمَضْمَضَ بِمَاءٍ ، فَحِينَئِذٍ لَا يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ قَصْدَهُ التَّطْهِيرُ لَا مَعْرِفَةُ طَعْمِ الْمَاءِ ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ذَوْقًا ، وَإِنْ عُنِيَ بِالذَّوْقِ الْأَكْلَ فِي الْمَأْكُولِ وَالشُّرْبَ فِي الْمَشْرُوبِ لَمْ يَحْنَثْ ، مَا لَمْ يُدْخِلْهُ فِي حَلْقِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ .
وَفِيهِ عُرْفٌ ظَاهِرٌ فَإِنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ : مَا ذُقْت الْيَوْمَ شَيْئًا ، أَيْ مَا أَكَلْت ، وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يَتَفَرَّقُونَ إلَّا عَنْ ذَوْقٍ ، فَإِنْ نَوَى ذَلِكَ عَمِلَتْ نِيَّتُهُ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَيَمِينُهُ عَلَى حَقِيقَةِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُتَعَارَفٌ أَيْضًا ، إلَّا أَنَّهُ رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا تَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ الْأَكْلُ ، لَا يَحْنَثُ مَا لَمْ يَأْكُلْ بِأَنْ قَالَ : تَغَدَّ مَعِي فَحَلَفَ أَنْ لَا يَذُوقَ طَعَامَهُ ، فَيَمِينُهُ عَلَى الْأَكْلِ ؛
لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ دَلِيلٌ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ فَوْقَ نِيَّتِهِ ، وَإِنْ قَالَ : لَا أَذُوقُ طَعَامًا وَلَا شَرَابًا فَذَاقَ أَحَدَهُمَا حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ كَرَّرَ حَرْفَ النَّفْيِ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ مُرَادَهُ نَفْيُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { : لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا } ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : لَا آكُلُ كَذَا وَلَا كَذَا ، أَوْ لَا أُكَلِّمُ فُلَانًا وَلَا فُلَانًا ، وَكَذَلِكَ إنْ أَدْخَلَ حَرْفَ أَوْ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ حَرْفُ أَوْ بِمَعْنَى وَلَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا } يَعْنِي وَلَا كَفُورًا ، فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَأَنَّهُ عَقَدَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ بِانْفِرَادِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا ذَكَر حَرْفَ الْوَاوِ بَيْنَهُمَا ، وَلَمْ يُعِدْ حَرْفَ النَّفْيِ ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ فَيَصِيرُ فِي الْمَعْنَى جَامِعًا بَيْنَهُمَا ، وَلَا يَتِمُّ الْحِنْثُ إلَّا بِوُجُودِهِمَا .
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا ، فَأَكَلَ سَمَكًا طَرِيًّا أَوْ مَالِحًا لَمْ يَحْنَثْ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، فَإِنَّهُ يَحْمِلُ الْأَيْمَانَ عَلَى أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا } ، وَقَدْ بَيَّنَّا بَعْدُ هَذَا ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ دَابَّةً فَرَكِبَ كَافِرًا لَا يَحْنَثُ ، وَقَدْ قَالَ { إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا } ، ثُمَّ مَعْنَى اللَّحْمِيَّةِ نَاقِصٌ فِي السَّمَكِ ؛ لِأَنَّ اللَّحْمَ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْ الدَّمِ وَلَيْسَ فِي السَّمَكِ دَمٌ ، وَمُطْلَقُ الِاسْمِ يَتَنَاوَلُ الْكَامِلَ ، وَكَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْعُرْفِ لَا يُسْتَعْمَلُ السَّمَكُ اسْتِعْمَالَ اللَّحْمِ فِي اتِّخَاذِ الْبَاحَاتِ مِنْهُ ، وَبَائِعُ السَّمَكِ لَا يُسَمَّى لَحَّامًا ، وَالْعُرْفُ فِي الْيَمِينِ مُعْتَبَرٌ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ نَوَى السَّمَكَ ، فَحِينَئِذٍ تَعْمَلُ نِيَّتُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَحْمٌ مِنْ وَجْهٍ ، وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَيْهِ ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ : كُلُّ امْرَأَةٍ لَهُ طَالِقٌ لَا تَدْخُلُ الْمُخْتَلِعَةُ فِيهِ إلَّا بِالنِّيَّةِ : وَكُلُّ مَمْلُوكٍ لَا يَدْخُلُ فِيهِ الْمُكَاتَبُ .
قَالَ : أَلَا تَرَى أَنَّهُ إنْ أَكَلَ رِئَةً أَوْ كَبِدًا لَمْ يَحْنَثْ ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ طِحَالًا ، وَإِنْ أَكَلَ لَحْمَ غَنَمٍ أَوْ طَيْرٍ مَشْوِيٍّ أَوْ مَطْبُوخٍ أَوْ قَدِيدٍ حَنِثَ ؛ لِأَنَّ الْمَأْكُولَ لَحْمٌ مُطْلَقٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَعْنَى الْغِذَاءِ تَامٌّ فِيهِ ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ حَتَّى لَوْ أَكَلَ لَحْمَ خِنْزِيرٍ أَوْ إنْسَانٍ حَنِثَ ؛ لِأَنَّهُ لَا نُقْصَانَ فِي مَعْنَى اللَّحْمِيَّةِ فِيهِ ، فَإِنَّ كَمَالَ مَعْنَى اللَّحْمِيَّةِ بِتَوَلُّدِهِ مِنْ الدَّمِ ، وَمَا يَحِلُّ وَمَا يَحْرُمُ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ وَالطُّيُورِ فِيهَا دَمٌ .
( قَالَ ) : وَكَذَلِكَ لَوْ أَكَلَ شَيْئًا مِنْ الرُّءُوسِ فَإِنَّمَا عَلَى الرَّأْسِ لَحْمٌ لَا يُقْصَدُ بِأَكْلِهِ سِوَى أَكْلِ اللَّحْمِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَشْتَرِي لَحْمًا فَاشْتَرَى
رَأْسًا لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الشِّرَاءِ لَا يَتِمُّ بِهِ بِدُونِ الْبَائِعِ ، وَبَائِعُ الرَّأْسِ يُسَمَّى رَآَّسًا لَا لَحَّامًا ، فَكَذَلِكَ هُوَ لَا يُسَمَّى مُشْتَرِيًا لِلَّحْمِ بِشِرَاءِ الرَّأْسِ ، فَأَمَّا الْأَكْلُ يَتِمُّ بِهِ وَحْدَهُ ، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ حَقِيقَةُ الْمَأْكُولِ ، وَكَذَلِكَ إنْ أَكَلَ شَيْئًا مِنْ الْبُطُونِ كَالْكِرَاشِ وَالْكَبِدِ وَالطِّحَالِ قِيلَ : هَذَا بِنَاءً عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ ، فَإِنَّهُمْ يَبِيعُونَ ذَلِكَ مَعَ اللَّحْمِ فَأَمَّا فِي الْبِلَادِ الَّتِي لَا يُبَاعُ مَعَ اللَّحْمِ عَادَةً ، لَا يَحْنَثُ بِكُلِّ حَالٍ ، وَقِيلَ : بَلْ يَحْنَثُ بِكُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ اللَّحْمِ لِاِتِّخَاذِ الْمَرَقَةِ ، وَاللَّحْمُ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْ الدَّمِ وَالْكَبِدِ ، وَالطِّحَالُ عَيْنُهُ دَمٌ فَمَعْنَى اللَّحْمِيَّةِ فِيهَا أَظْهَرُ وَكَذَلِكَ إنْ أَكَلَ شَحْمَ الظَّهْرِ فَإِنَّهُ لَحْمٌ ، إلَّا أَنَّهُ سَمِينٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُبَاعُ مَعَ اللَّحْمِ ، وَأَنَّهُ يُسَمَّى سَمِينَ اللَّحْمِ ، وَلَا يَحْنَثُ فِي شَحْمِ الْبَطْنِ وَالْأَلْيَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَنْفِي عَنْهُ اسْمَ اللَّحْمِ ، وَيُقَالُ : إنَّهُ شَحْمٌ ، وَلَيْسَ بِلَحْمٍ ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمَالَ اللَّحْمِ فِي اتِّخَاذِ الْبَاحَاتِ وَالْأَلْيَةِ كَذَلِكَ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِلَحْمٍ وَلَا شَحْمٍ بَلْ لَهُ اسْمٌ خَاصٌّ ، وَفِيهِ مَقْصُودٌ لَا يَحْصُلُ بِغَيْرِهِ ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ تُعْمَلُ فِيهِ نِيَّتُهُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَيْهِ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ إدَامًا وَلَا نِيَّةَ لَهُ ، فَالْإِدَامُ الْخَلُّ وَالزَّيْتُ وَاللَّبَنُ وَالزُّبْدُ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِمَّا يَصْطَبِغُ الْخُبْزُ بِهِ ، وَيَخْتَلِطُ بِهِ فَأَمَّا الْجُبْنُ وَالسَّمَكُ وَالْبَيْضُ وَاللَّحْمُ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِإِدَامٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهُوَ الظَّاهِرُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَمَالِي ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْهُ أَنَّ الْجَوْزَ الْيَابِسَ إدَامٌ كَالْجُبْنِ .
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْإِدَامَ مَا يُؤْكَلُ مَعَ الْخُبْزِ غَالِبًا فَإِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْمُؤَادَمَةِ ، وَهُوَ الْمُوَافَقَةُ { قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ : لَوْ نَظَرْتَ إلَيْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا } ، أَيْ يُوَفَّقَ فِيمَا يُؤْكَلُ مَعَ الْخُبْزِ غَالِبًا ، فَهُوَ مُوَافِقٌ لَهُ فَيَكُونُ إدَامًا ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سَيِّدُ إدَامِ أَهْلِ الْجَنَّةِ اللَّحْمُ ، وَأَخَذَ لُقْمَةً بِيَمِينِهِ وَتَمْرَةً بِشِمَالِهِ ، وَقَالَ : هَذِهِ إدَامُ هَذِهِ } ، فَعَرَفْنَا أَنَّ مَا يُوَافِقُ الْخُبْزَ فِي الْأَكْلِ ، فَهُوَ إدَامٌ ، إلَّا أَنَّا خَصَّصْنَا مَا يُؤْكَلُ غَالِبًا وَحْدَهُ كَالْبِطِّيخِ وَالتَّمْرِ وَالْعِنَبِ ؛ لِأَنَّ الْإِدَامَ تَبَعٌ فَمَا يُؤْكَلُ وَحْدُهُ غَالِبًا لَا يَكُونُ تَبَعًا ، فَأَمَّا الْجُبْنُ وَالْبَيْضُ وَاللَّحْمُ لَا يُؤْكَلُ وَحْدُهُ غَالِبًا فَكَانَ إدَامًا ، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : الْإِدَامُ تَبَعٌ وَلَكِنْ حَقِيقَةُ التَّبَعِيَّةِ فِيمَا يَخْتَلِطُ بِالْخُبْزِ ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُحْمَلَ مَعَهُ كَالْخَلِّ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : نِعْمَ الْإِدَامُ الْخَلُّ } ، فَمَا يَصْطَبِغُ بِهِ فَهُوَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، فَأَمَّا اللَّحْمُ وَالْجُبْنُ وَالْبَيْضُ يُحْمَلُ مَعَ الْخُبْزِ فَلَا يَكُونُ إدَامًا ، وَإِنْ كَانَ قَدْ يُؤْكَلُ مَعَهُ
كَالْعِنَبِ ، تَوْضِيحُهُ : أَنَّ الْإِدَامَ مَا لَا يَتَأَتَّى أَكْلُهُ وَحْدَهُ كَالْمِلْحِ ، فَإِنَّهُ إدَامٌ ، وَالْخَلُّ وَاللَّبَنُ لَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْأَكْلُ وَحْدَهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ شَرَابًا لَا أَكْلًا فَعَرَفْنَا أَنَّهُ إدَامٌ ، فَأَمَّا اللَّحْمُ وَالْجُبْنُ وَالْبَيْضُ يَتَأَتَّى الْأَكْلُ فِيهَا وَحْدَهَا ، فَلَمْ تَكُنْ إدَامًا إلَّا أَنْ يَنْوِيَ ذَلِكَ فَتُعْمَلُ نِيَّتُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشْدِيدِ عَلَيْهِ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَعَامًا ، يَنْوِي طَعَامًا بِعَيْنِهِ ، أَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ لَحْمًا ، يَنْوِي لَحْمًا بِعَيْنِهِ ، فَأَكَلَ غَيْرَ ذَلِكَ لَمْ يَحْنَثْ ، إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَتْ يَمِينُهُ بِالطَّلَاقِ يَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الطَّعَامَ مُنْكَرًا فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ ، وَالنَّكِرَةُ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ تَعُمُّ ، وَإِنْ قَالَ : لَا آكُلُ وَعَنِيَ طَعَامًا دُونَ طَعَامٍ ، لَمْ يَدِنْ فِي الْقَضَاءِ ، وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الْأَكْلَ يَقْتَضِي مَأْكُولًا ، فَكَأَنَّهُ صَرَّحَ بِذِكْرِ الطَّعَامِ ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الثَّابِتَ بِمُقْتَضَى اللَّفْظِ كَالْمَلْفُوظِ ، فَأَمَّا عِنْدَنَا لَا عُمُومَ لِلْمُقْتَضَى ، وَنِيَّةُ التَّخْصِيصِ إنَّمَا تَصِحُّ فِيمَا لَهُ عُمُومٌ دُونَ مَا لَا عُمُومَ لَهُ ، فَالْأَصْلُ عِنْدَنَا أَنَّهُ مَتَى ذَكَرَ الْفِعْلَ ، وَنَوَى التَّخْصِيصَ فِي الْمَفْعُولِ ، أَوْ الْحَالِ أَوْ الصِّفَةِ كَانَتْ نِيَّتُهُ لَغْوًا ؛ لِأَنَّهُ تَخْصِيصُ مَا لَا لَفْظَ لَهُ ، أَمَّا نِيَّةُ التَّخْصِيصِ فِي الْمَفْعُولِ كَمَا بَيَّنَّا ، وَنِيَّةُ التَّخْصِيصِ فِي الْحَالِ بِأَنْ يَقُولَ : لَا أُكَلِّمُ هَذَا الرَّجُلَ ، وَهُوَ قَائِمٌ بَيْنَ يَدَيْهِ ، وَنَوَى حَالَ قِيَامِهِ فَنِيَّتُهُ لَغْوٌ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ : هَذَا الرَّجُلُ الْقَائِمُ ، وَهُوَ يَنْوِي حَالَ قِيَامِهِ ، فَإِنَّ نِيَّتَهُ تَعْمَلُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَتَخْصِيصُ الصِّفَةِ أَنْ يَقُولَ : لَا أَتَزَوَّجُ امْرَأَةً ، وَهُوَ يَنْوِي كُوفِيَّةً أَوْ بَصْرِيَّةً ، فَإِنَّ نِيَّتَهُ لَغْوٌ ، وَلَوْ نَوَى عَرَبِيَّةً أَوْ حَبَشِيَّةً عَمِلَتْ نِيَّتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي الْجِنْسِ ، وَذَلِكَ فِي لَفْظِهِ .
وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ شِوَاءً ، وَلَا نِيَّةَ لَهُ ، فَهُوَ عَلَى اللَّحْمِ خَاصَّةً مَا لَمْ يَنْوِ غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يُطْلِقُونَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ عَلَى اللَّحْمِ عَادَةً دُونَ الْفُجْلِ وَالْجَزَرِ الْمَشْوِيِّ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّوَّاءَ اسْمٌ لِمَنْ يَبِيعُ اللَّحْمَ الْمَشْوِيَّ ، فَمُطْلَقُ لَفْظِهِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ لِلْعُرْفِ ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ كُلَّ مَا يُشْوَى مِنْ بَيْضٍ أَوْ غَيْرِهِ ، فَتَعْمَلُ نِيَّتُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّشْدِيدِ عَلَيْهِ ، وَلَوْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ رَأْسًا .
قَالَ : فَهَذَا عَلَى رُءُوسِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ، وَهَذَا لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ رَأْسَ كُلِّ شَيْءٍ ، وَأَنَّ رَأْسَ الْجَرَادِ وَالْعُصْفُورِ لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا ، وَهُوَ رَأْسٌ حَقِيقَةً فَإِذَا عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْحَقِيقَةَ ، وَجَبَ اعْتِبَارُ الْعُرْفِ ، وَهُوَ الرَّأْسُ الَّذِي يُشْوَى فِي التَّنَانِيرِ ، وَيُبَاعُ مَشْوِيًّا ، فَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ أَوَّلًا : يَدْخُلُ فِيهِ رَأْسُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ؛ لِأَنَّهُ رَأَى عَادَةَ أَهْلِ الْكُوفَةِ ، فَإِنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الرُّءُوس الثَّلَاثَةِ ، ثُمَّ تَرَكُوا هَذِهِ الْعَادَةَ ، فَرَجَعَ وَقَالَ : يَحْنَثُ فِي رَأْسِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ خَاصَّةً ، ثُمَّ إنَّ أَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى شَاهَدَا عَادَةَ أَهْلِ بَغْدَادَ وَسَائِرِ الْبُلْدَانِ ، أَنَّهُمْ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ إلَّا فِي رَأْسِ الْغَنَمِ خَاصَّةً ، فَقَالَا : لَا يَحْنَثُ إلَّا فِي رُءُوسِ الْغَنَمِ ، فَعُلِمَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ لَا اخْتِلَافُ حُكْمٍ وَبَيَانٍ ، وَالْعُرْفُ الظَّاهِرُ أَصْلٌ فِي مَسَائِلِ الْأَيْمَانِ .
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ بَيْضًا ، فَهُوَ عَلَى بَيْضِ الطَّيْرِ مِنْ الدَّجَاجِ وَالْإِوَزِّ وَغَيْرِهِمَا ، وَلَا يَدْخُلُ بَيْضُ السَّمَكِ وَنَحْوُهُ فِيهِ ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُرَادُ بِهَذَا بَيْضُ كُلِّ شَيْءٍ ، فَإِنَّ بِيضَ الدُّودِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ ، فَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْبَيْضِ ، وَيُؤْكَلُ عَادَةً ، وَهُوَ كُلُّ بَيْضٍ لَهُ قِشْرٌ كَبَيْضِ الدَّجَاجَةِ وَنَحْوِهَا .
وَإِنْ حَلَفَ لَا يَأْكُلُ طَبِيخًا ، فَهُوَ عَلَى اللَّحْمِ خَاصَّةً مَا لَمْ يَنْوِ غَيْرَهُ اسْتِحْسَانًا ، وَفِي الْقِيَاسِ يَحْنَثُ فِي اللَّحْمِ وَغَيْرِهِ مِمَّا هُوَ مَطْبُوخٌ ، وَلَكِنَّ الْأَخْذَ بِالْقِيَاسِ يَفْحُشُ ، فَإِنَّ الْمُسَهَّلَ مِنْ الدَّوَاءِ مَطْبُوخٌ ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ ذَلِكَ ، فَحَمَلْنَاهُ عَلَى أَخَصِّ الْخُصُوصِ وَهُوَ اللَّحْمُ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُطْبَخُ فِي الْعَادَاتِ الظَّاهِرَةِ ، فَإِنَّ الطَّبِيخَ فِي الْعَادَةِ مَا يُتَّخَذُ مِنْ الْأَلْوَانِ وَالْمُبَاحَاتِ ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى مُتَّخِذُ ذَلِكَ طَبَّاخًا ، فَأَمَّا مَنْ يَطْبُخُ الْآجُرَّ لَا يُسَمَّى طَبَّاخًا .
قَالُوا : وَإِنَّمَا يَحْنَثُ إذَا أَكَلَ اللَّحْمَ الْمَطْبُوخَ ، فَأَمَّا الْمَقْلِيَّةُ الْيَابِسَةُ فَلَا ، وَمَا طُبِخَ بِالْمَاءِ ، إذَا أَكَلَ الْمَرَقَةَ مَعَ الْخُبْزِ يَحْنَثُ ، وَإِنْ لَمْ يَأْكُلْ عَيْنَ اللَّحْمِ ؛ لِأَنَّ أَجْزَاءَ اللَّحْمِ فِيهِ ؛ وَلِأَنَّ تِلْكَ الْمَرَقَةَ تُسَمَّى طَبِيخًا .
وَإِذَا حَلَفَ لَا يَأْكُلُ فَاكِهَةً ، فَأَكَلَ عِنَبًا أَوْ رُطَبًا أَوْ رُمَّانًا لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَيَحْنَثُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ الْفَاكِهَةَ مَا يُؤْكَلُ عَلَى سَبِيلِ التَّفَكُّهِ ، وَهُوَ التَّنَعُّمُ ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ أَكْمَلُ مَا يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ ، وَمُطْلَقُ الِاسْمِ يَتَنَاوَلُ الْكَامِلَ ، وَكَذَلِكَ الْفَاكِهَةُ مَا يُقَدَّمُ بَيْنَ يَدِي الضِّيفَانِ لِلتَّفَكُّهِ بِهِ لَا لِلشِّبَعِ ، وَالرُّمَّانُ وَالرُّطَبُ مِنْ أَنْفَسِ ذَلِكَ كَالتِّينِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : هَذِهِ الْأَشْيَاءُ غَيْرُ الْفَاكِهَةِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ .
} وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَقَضْبًا وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا وَحَدَائِقَ غُلْبًا وَفَاكِهَةً وَأَبًّا } ، فَتَارَةً عَطَفَ الْفَاكِهَةَ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ، وَتَارَةً عَطَفَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ عَلَى الْفَاكِهَةِ ، وَالشَّيْءُ لَا يُعْطَفُ عَلَى نَفْسِهِ مَعَ أَنَّهُ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِ الْمِنَّةِ ، وَلَا يَلِيقُ بِالْحِكْمَةِ ذِكْرُ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ فِي مَوْضِعِ الْمِنَّةِ بِلَفْظَيْنِ ، ثُمَّ الِاسْمُ مُشْتَقٌّ مِنْ التَّفَكُّهِ ، وَهُوَ التَّنَعُّمُ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { انْقَلَبُوا فَكِهِينَ } أَيْ مُتَنَعِّمِينَ ، وَذَلِكَ مَعْنًى زَائِدٌ عَلَى مَا بِهِ الْقَوَامُ وَالْبَقَاءُ ، وَالْعِنَبُ وَالرُّطَبُ يَتَعَلَّقُ بِهِمَا الْقَوَامُ ، وَقَدْ يُجْتَزَى بِهِمَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ ، وَالرُّمَّانُ كَذَلِكَ فِي الْأَدْوِيَةِ ، فَلَا يَتَنَاوَلُهَا مُطْلَقُ اسْمِ الْفَاكِهَةِ ، أَلَا تَرَى أَنْ يَابِسَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَيْسَ مِنْ الْفَوَاكِهِ ، فَإِنَّ الزَّبِيبَ وَالتَّمْرَ قُوتٌ ، وَحَبُّ الرُّمَّانِ مِنْ التَّوَابِلِ دُونَ الْفَوَاكِهِ ، وَمَا يَكُونُ رَطْبُهُ مِنْ الْفَوَاكِهِ فَيَابِسُهُ مِنْ الْفَوَاكِهِ أَيْضًا كَالتِّينِ وَالْمِشْمِشِ وَالْخَوْخِ ، وَمَا لَا يَكُونُ يَابِسُهُ مِنْ الْفَوَاكِهِ ، فَرَطْبُهُ لَا يَكُونُ مِنْ الْفَوَاكِهِ كَالْبِطِّيخِ ، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ مَعَ الْفَوَاكِهِ بَيْنَ يَدَيْ