كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي

( قَالَ ) رَجُلٌ أَهَلَّ بِعُمْرَتَيْنِ مَعًا فَسَارَ إلَى مَكَّةَ لِيَقْضِيَهُمَا ثُمَّ أُحْصِرَ قَالَ يَبْعَثُ بِالْهَدْيِ لِوَاحِدٍ .
وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ نَقُولَ : مَنْ أَحْرَمَ بِعُمْرَتَيْنِ مَعًا أَوْ بِحَجَّتَيْنِ مَعًا انْعَقَدَ إحْرَامُهُ بِهِمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى : يَنْعَقِدُ إحْرَامُهُ بِأَحَدِهِمَا لِأَنَّ الْإِحْرَامَ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِعَيْنِهِ بَلْ لِأَدَاءِ الْأَفْعَالِ بِهِ ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَدَاءُ حَجَّتَيْنِ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَا أَدَاءُ عُمْرَتَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ، وَالْعَقْدُ إذَا خَلَا عَنْ مَقْصُودِهِ لَا يَكُونُ مُنْعَقِدًا أَصْلًا فَإِذَا خَلَا أَحَدُ الْعَقْدَيْنِ هُنَا عَمَّا هُوَ مَقْصُودٌ لَمْ يَنْعَقِدْ الْإِحْرَامُ إلَّا بِأَحَدِهِمَا ، وَقَاسَا بِالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ فَإِنَّ مَنْ شَرَعَ فِي صَوْمَيْنِ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ ، وَفِي صَلَاتَيْنِ بِتَكْبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَصِيرُ شَارِعًا إلَّا فِي أَحَدِهِمَا ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَاضِحٌ لِأَنَّ عِنْدَهُ الْإِحْرَامَ مِنْ الْأَرْكَانِ ، وَلِهَذَا لَا يَنْعَقِدُ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ عِنْدَهُ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَإِنْ كَانَ الْإِحْرَامُ مِنْ الشَّرَائِطِ فَفِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ جُعِلَ مِنْ الْأَرْكَانِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ فَائِتَ الْحَجِّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَدِيمَ الْإِحْرَامَ إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ الْحَجَّ بِهِ فِي السَّنَةِ الْقَابِلَةِ ، وَلَوْ كَانَ مِنْ الشَّرَائِطِ لَكَانَ لَهُ ذَلِكَ كَمَا فِي الطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ فَإِذَا كَانَ مِنْ الْأَرْكَانِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْأَعْمَالِ لَا يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُ الْمَثْنَى مِنْهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ كَالْوُقُوفِ لِحَجَّتَيْنِ وَالطَّوَافِ لِعُمْرَتَيْنِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْعَقْدَيْنِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَثْبُتُ أَحَدُهُمَا وَهُمَا مُتَسَاوِيَانِ ، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ إذَا كَانَ مُنَافَاةٌ بَيْنَ

الْعَقْدَيْنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ أَنْ لَا يَثْبُتَ أَحَدُهُمَا كَنِكَاحِ الْأُخْتَيْنِ مَعًا ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ انْعَقَدَ الْإِحْرَامُ ثُمَّ أَدَاءُ الْأَفْعَالِ لَا يَتَّصِلُ بِالْإِحْرَامِ ، وَالتَّنَافِي بَيْنَهُمَا فِي أَدَاءِ الْأَفْعَالِ ، وَإِذَا كَانَ أَدَاءُ الْأَفْعَالِ لَا يَتَّصِلُ بِالْإِحْرَامِ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْإِحْرَامِ بِهِمَا بِخِلَافِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ فَالشُّرُوعُ هُنَاكَ مِنْ الْأَدَاءِ ، وَيَتَّصِلُ بِهِ الْأَدَاءُ وَالْوَقْتُ مِعْيَارُ الصَّوْمِ فَلَا يُتَصَوَّرُ أَدَاءُ الصَّوْمَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ثُمَّ الْإِحْرَامُ سَبَبٌ لِالْتِزَامِ الْأَدَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ الْأَدَاءُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ النَّذْرِ .
وَالنَّذْرُ بِالْعُمْرَتَيْنِ صَحِيحٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الْإِحْرَامَ مِنْ جُمْلَةِ الشَّرَائِطِ ابْتِدَاءً ، وَإِنْ أَعُطِيَ لَهُ حُكْمُ الْأَرْكَانِ انْتِهَاءً فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُنَافَاةُ فِيهِ كَمَنْ تَطَهَّرَ لِأَدَاءِ الصَّلَاتَيْنِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ عَقَدَ إحْرَامَهُ بِهِمَا يَصِيرُ رَافِضًا لِأَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ كَمَا فَرَغَ مِنْ الْإِحْرَامِ جَاءَ أَوَانُ أَدَاءِ الْأَعْمَالِ ، وَالْمُنَافَاةُ مُلْتَحِقَةٌ فَيَصِيرُ رَافِضًا لِأَحَدِهِمَا ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِرَفْضِهَا ، وَيَمْضِي فِي الْآخَرِ فَإِنْ كَانَ أَحْرَمَ بِعُمْرَتَيْنِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ الَّتِي رَفَضَهَا ، وَإِنْ كَانَ إحْرَامُهُ بِحَجَّتَيْنِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ عُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ لِرَفْضِ أَحَدِهِمَا ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَصِيرُ رَافِضًا لِأَحَدِهِمَا مَا لَمْ يَشْتَغِلْ بِالْعَمَلِ لِلْآخَرِ ، فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ كَمَا يَسِيرُ إلَى مَكَّةَ لِأَدَاءِ الْأَعْمَالِ يَصِيرُ رَافِضًا لِأَحَدِهِمَا ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى مَا لَمْ يَأْخُذْ فِي الطَّوَافِ لَا يَصِيرُ رَافِضًا لِأَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَتَنَافَ الْإِحْرَامَانِ ابْتِدَاءً لَا يَتَنَافَيَانِ بَقَاءً بَلْ الْبَقَاءُ أَسْهَلُ مِنْ الِابْتِدَاءِ ،

وَإِنَّمَا الْمُنَافَاةُ فِي الْأَعْمَالِ فَمَا لَمْ يَشْتَغِلْ بِعَمَلِ أَحَدِهِمَا لَا يَصِيرُ رَافِضًا لِلْآخَرِ ، وَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ إنَّمَا تَظْهَرُ فِيمَا إذَا أُحْصِرَ قَبْلَ أَنْ يَسِيرَ إلَى مَكَّةَ .
قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَبْعَثُ بِهَدْيَيْنِ لِلتَّحَلُّلِ لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامَيْنِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَبْعَثُ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ صَارَ رَافِضًا لِأَحَدِهِمَا فَإِنَّمَا أُحْصِرَ ، وَهُوَ حَرَامٌ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَنْعَقِدْ إلَّا إحْرَامٌ وَاحِدٌ فَلَا يَبْعَثُ إلَّا بِهَدْيٍ وَاحِدٍ ، وَإِنْ كَانَ سَارَ إلَى مَكَّةَ ثُمَّ أُحْصِرَ فَإِنَّمَا يَبْعَثُ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ صَارَ رَافِضًا لِأَحَدِهِمَا حِينَ سَارَ فِي عَمَلِ الْآخَرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِلرَّفْضِ ، وَدَمٌ آخَرُ لِلتَّحَلُّلِ فَأَمَّا حُكْمُ الْقَضَاءِ فَإِنَّ أَهَلَّ بِعُمْرَتَيْنِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ عُمْرَتَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ أَهَلَّ بِحَجَّتَيْنِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ حَجَّتَيْنِ ، وَعُمْرَتَيْنِ

( قَالَ ) رَجُلٌ أَهَلَّ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ لَا يَنْوِي حَجَّةً وَلَا عُمْرَةً يَنْعَقِدُ إحْرَامُهُ مَعَ الْإِبْهَامِ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ عَلِيًّا ، وَأَبَا مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَمَّا قَدِمَا مِنْ الْيَمَنِ قَالَ لَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَ أَهْلَلْتُمَا قَالَا أَهْلَلْنَا بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } فَقَدْ صَحَّحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إحْرَامَهُمَا مَعَ الْإِبْهَامِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِحْرَامَ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ لِلنُّسُكِ ابْتِدَاءً ، وَالْإِبْهَامُ فِيهِ لَا يَمْنَعُ صِحَّتَهُ كَالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ ، وَبَعْدَمَا انْعَقَدَ الْإِحْرَامُ مُبْهَمًا فَلِلْخُرُوجِ مِنْهُ طَرِيقَانِ شَرْعًا أَمَّا الْحَجُّ أَوْ أَعْمَالُ الْعُمْرَةِ فَيَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا إنْ شَاءَ خَرَجَ عَنْهُ بِأَعْمَالِ الْعُمْرَةِ ، وَإِنْ شَاءَ بِأَعْمَالِ الْحَجِّ ، وَكَانَ تَعْيِينُهُ فِي الِانْتِهَاءِ بِمَنْزِلَةِ التَّعْيِينِ فِي الِابْتِدَاءِ فَإِنْ أُحْصِرَ قَبْلَ أَنْ يُعَيِّنَ شَيْئًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَبْعَثَ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ فَالتَّحَلُّلُ عَنْ إحْرَامٍ وَاحِدٍ ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ عُمْرَةٍ اسْتِحْسَانًا ، وَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهِ قَضَاءُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ لِأَنَّ إحْرَامَهُ إنْ كَانَ لِلْحَجِّ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ ، وَالْأَخْذُ بِالِاحْتِيَاطِ فِي قَضَاءِ الْعِبَادَاتِ وَاجِبٌ ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ : الْمُتَيَقَّنُ بِهِ يَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَقَطْ ، وَالْمُتَيَقَّنُ الْعُمْرَةُ ، وَلَمَّا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ هَذَا الْإِحْرَامِ قَبْلَ الْإِحْصَارِ بِأَدَاءِ الْعُمْرَةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْإِحْصَارِ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ هَذِهِ الْعُهْدَةِ بِأَدَاءِ الْعُمْرَةِ .
( قَالَ ) وَإِنْ لَمْ يُحْصَرْ فَهُوَ عَلَى خِيَارِهِ مَا لَمْ يَطُفْ بِالْبَيْتِ فَإِنْ طَافَ بِالْبَيْتِ قَبْلَ أَنْ يَنْوِيَ شَيْئًا فَهِيَ عُمْرَةٌ لِأَنَّ طَوَافَ الْعُمْرَةِ وَاجِبٌ ، وَالتَّحِيَّةُ فِي الْحَجِّ لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُعَارَضَةُ

بَيْنَ الْوَاجِبِ وَبَيْنَ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَلِهَذَا جَعَلْنَا طَوَافَهُ لِلْعُمْرَةِ ، وَيَحْصُلُ التَّعْيِينُ بِهِ .
( قَالَ ) وَكَذَلِكَ إذَا جَامَعَ قَبْلَ التَّعْيِينِ فَعَلَيْهِ دَمُ الْجِمَاعِ وَالْمُضِيُّ فِي أَعْمَالِ الْعُمْرَةِ وَقَضَاءُ عُمْرَةٍ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا الْمُتَيَقَّنُ بِهِ إذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى أَنْ يَصِيرَ دَيْنًا ، وَالْمُتَيَقَّنُ هُوَ الْعُمْرَةُ فَلِهَذَا تَعَيَّنَ إحْرَامُهُ لِلْعُمْرَةِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ تَعَيَّنَ لِلْحَجِّ ، وَقَدْ أَفْسَدَهَا بِالْجِمَاعِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ فَيَفُوتُهُ الْحَجُّ بِصِفَةِ الصِّحَّةِ أَصْلًا فِي هَذِهِ السَّنَةِ ، وَإِذَا تَعَيَّنَ لِلْعُمْرَةِ ، لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ فَلِهَذَا تَعَيَّنَ إحْرَامُهُ لِلْعُمْرَةِ .
( قَالَ ) وَلَوْ أَهَلَّ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ كَمَا بَيَّنَّا ، وَسَمَّى ثُمَّ نَسِيَهُ وَأُحْصِرَ بَعَثَ بِهَدْيٍ وَاحِدٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ .
( قَالَ ) وَإِذَا تَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ فَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ ، وَهَذَا احْتِيَاطٌ وَأَخْذٌ بِالثِّقَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ حِينَ أَحْرَمَ نَوَى الْحَجَّ فَيَلْزَمُهُ قَضَاءُ عُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ هُنَاكَ يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَنْوِ الْحَجَّ عِنْدَ إحْرَامِهِ ، وَوُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ نِيَّةِ الْحَجِّ فَإِذَا تَيَقَّنَ هُنَاكَ أَنَّهُ لَمْ يَنْوِ الْحَجَّ لَا يَكُونُ لِلْأَمْرِ بِالِاحْتِيَاطِ مَعْنًى ، وَهُنَا هُوَ غَيْرُ مُتَيَقِّنٍ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ حِينَ أَحْرَمَ نَوَى الْحَجَّ فَكَانَ هَذَا أَوَانَ الْأَخْذِ بِالِاحْتِيَاطِ فَلِهَذَا يَحْتَاطُ وَيَقْضِي عُمْرَةً وَحَجَّةً .
وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا إذَا لَمْ يُعَيِّنْ فِي الِابْتِدَاءِ وَبَيْنَ مَا إذَا عَيَّنَ ثُمَّ نَسِيَ ظَاهِرٌ فِي الْمَسَائِلِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ إحْدَى أَمَتَيْهِ بِغَيْرِ عَيْنِهَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَهُمَا ، وَبِمِثْلِهِ لَوْ أَعْتَقَ إحْدَاهُمَا بِعَيْنِهَا ثُمَّ نَسِيَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَنِبَهُمَا إلَّا أَنْ يَتَذَكَّرَ ، وَكَذَا إنْ لَمْ يُحْصَرْ فِي هَذَا الْفَصْلِ وَلَكِنَّهُ وَصَلَ إلَى الْبَيْتِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ

عُمْرَةً وَحَجَّةً ، وَيَلْزَمُهُ مَا يَلْزَمُ الْقَارِنَ لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ نَوَى إحْرَامَ الْحَجِّ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ نَوَى إحْرَامَ الْعُمْرَةِ فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ فِي الْعِبَادَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ صَلَاةِ الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ لَا يَعْرِفُهَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ صَلَاةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ اسْتِحْسَانًا فَكَذَلِكَ هُنَا .
( قَالَ ) وَلَوْ جَامَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الْبَيْتِ فَعَلَيْهِ هَدْيٌ وَاحِدٌ لِلْجِمَاعِ لِأَنَّهُ يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامٍ وَاحِدٍ ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ إتْمَامُ عُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ لِأَنَّ الْفَاسِدَ مُعْتَبَرٌ بِالصَّحِيحِ فَكَمَا أَنَّ قَبْلَ الْإِفْسَادِ عَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَحَجَّةٌ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْإِفْسَادِ عَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِي عُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ لِأَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْإِحْرَامِ بِالْإِفْسَادِ قَبْلَ أَدَاءِ الْأَعْمَالِ ، وَالْفَاسِدُ مُعْتَبَرٌ بِالصَّحِيحِ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ لِأَنَّ دَمَ الْقِرَانِ إنَّمَا يَلْزَمُهُ عِنْدَ صِحَّةِ النُّسُكَيْنِ .
( قَالَ ) وَلَوْ جَامَعَ بَعْدَمَا نَوَى أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً وَحَجَّةً ، وَلَبَّى بِهِمَا فَعَلَيْهِ دَمَانِ لِأَنَّهُ يَتَيَقَّنُ بَعْدَمَا لَبَّى بِهِمَا أَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامَيْنِ بِطَرِيقَةِ إضَافَةِ أَحَدِ الْإِحْرَامَيْنِ إلَى الْآخَرِ فَعَلَيْهِ دَمَانِ لِلْجِمَاعِ ، وَحُكْمُهُ فِي الْقَضَاءِ مِثْلُ الْأَوَّلِ كَمَا بَيَّنَّا

( قَالَ ) وَلَوْ أَهَلَّ بِشَيْئَيْنِ ثُمَّ نَسِيَهُمَا فَأُحْصِرَ بَعَثَ بِهَدْيَيْنِ لِأَنَّهُ مُتَيَقِّنٌ أَنَّهُ مُحْرِمٌ بِإِحْرَامَيْنِ فَإِذَا تَحَلَّلَ بِهَدْيَيْنِ كَانَ عَلَيْهِ عُمْرَتَانِ وَحَجَّةٌ اسْتِحْسَانًا ، وَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهِ حَجَّتَانِ وَعُمْرَتَانِ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ نَوَى عِنْدَ إحْرَامِهِ حَجَّتَيْنِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ عُمْرَتَيْنِ وَحَجَّتَيْنِ احْتِيَاطًا ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ فِعْلُ الْمُسْلِمِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ ، وَعَلَى مَا هُوَ الْأَفْضَلُ فَلَا يُحْمَلُ عَلَى الْفَسَادِ إلَّا بَعْدَ تَعَذُّرِ حَمْلِهِ عَلَى الصِّحَّةِ فَلَوْ جَعَلْنَا إحْرَامَهُ بِحَجَّةٍ عُمْرَةً كَانَ فِيهِ حَمْلُ أَمْرِهِ عَلَى الصِّحَّةِ ، وَعَلَى مَا هُوَ الْأَفْضَلُ ، وَهُوَ الْقِرَانُ ، وَلَوْ جَعَلْنَا إحْرَامَهُ بِحَجَّتَيْنِ كَانَ فِيهِ حَمْلُ أَمْرِهِ عَلَى الْفَسَادِ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا أَدَاءً فَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ كَالْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَإِذَا تَحَلَّلَ بِهَدْيَيْنِ كَانَ عَلَيْهِ عُمْرَتَانِ وَحَجَّةٌ بِمَنْزِلَةِ الْقَارِنِ ، وَإِنْ لَمْ يُحْصَرْ وَوَصَلَ إلَى الْبَيْتِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ يَجْعَلُ إحْرَامَهُ عُمْرَةً وَحَجَّةً كَمَا يَعْمَلُ الْقَارِنُ اسْتِحْسَانًا ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَقْضِيَ عُمْرَتَهُ وَحَجَّتَهُ مَعَ النَّاسِ ، وَعَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ ، وَعَلَيْهِ دَمٌ آخَرُ وَحَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ كَانَ أَحْرَمَ بِحَجَّتَيْنِ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِرَفْضِ أَحَدِهِمَا ، وَقَضَاءٌ ، وَحَجَّةٌ ، وَعُمْرَةٌ ، وَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ فَعَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ فَقُلْنَا إنَّهُ يَحْتَاطُ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فَيَقْضِي عُمْرَتَهُ وَحَجَّتَهُ مَعَ النَّاسِ ، وَعَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ لِاحْتِمَالِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ ثُمَّ عَلَيْهِ دَمٌ وَقَضَاءُ عُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ لِاحْتِمَالِ الْجَانِبِ الْآخَرِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَهَلَّ بِعُمْرَتَيْنِ فَقَدْ أَتَى بِأَعْمَالِ إحْدَاهُمَا ، وَقَضَى الْأُخْرَى مَعَ قَضَاءِ الْحَجِّ فَيَصِيرُ خَارِجًا مِمَّا عَلَيْهِ بِيَقِينٍ هَذَا هُوَ الْقِيَاسُ ،

وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَجَعَلَهُ قَارِنًا حَمْلًا لِأَمْرِهِ عَلَى الصِّحَّةِ ، وَعَلَى مَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ ثُمَّ عَلَيْهِ دَمٌ وَقَضَاءُ عُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَامَعَ فِيهِمَا ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَارِنِ إذَا جَامَعَ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ الْفَاسِدَ مُعْتَبَرٌ بِالصَّحِيحِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ

( بَابُ الْجِمَاعِ ) ( قَالَ ) وَاذَا جَامَعَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَهُمَا مُهِلَّانِ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَنْ يَقِفَا بِعَرَفَةَ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاةٌ وَيَمْضِيَانِ فِي حَجَّتِهِمَا وَعَلَيْهِمَا الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ ، هَكَذَا رُوِيَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَمَّنْ وَاقَعَ امْرَأَتَهُ وَهُمَا مُحْرِمَانِ بِالْحَجِّ ، قَالَ : يُرِيقَانِ دَمًا وَيَمْضِيَانِ فِي حَجَّتِهِمَا وَعَلَيْهِمَا الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ } ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ الصَّحَابَةِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلَكِنَّهُمْ قَالُوا : إذَا رَجَعَا لِلْقَضَاءِ يَفْتَرِقَانِ مَعْنَاهُ أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي طَرِيقٍ غَيْرِ طَرِيقِ صَاحِبِهِ وَمَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَخَذَ بِظَاهِرِ هَذَا اللَّفْظِ فَقَالَ كَمَا خَرَجَا مِنْ بَيْتِهِمَا فَعَلَيْهِمَا أَنْ يَفْتَرِقَا ، وَلَكِنَّ هَذَا بَعِيدٌ مِنْ الْفِقْهِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُوَاقِعَهَا مَا لَمْ يُحْرِمَا ، وَالِافْتِرَاقُ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْمُوَاقَعَةِ فَلَا مَعْنَى لِلْأَمْرِ بِالِافْتِرَاقِ فِي وَقْتٍ تَحِلُّ الْمُوَاقَعَةُ بَيْنَهُمَا فِيهِ وَزُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ يَفْتَرِقَانِ مِنْ وَقْتِ الْإِحْرَامِ لِأَنَّ الِافْتِرَاقَ نُسُكٌ بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَأَوَانَ أَدَاءِ مَا هُوَ نُسُكٌ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَهَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ فَإِنَّ الِافْتِرَاقَ لَيْسَ بِنُسُكٍ فِي الْأَدَاءِ فَلَا يَكُونُ نُسُكًا فِي الْقَضَاءِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِصِفَةِ الْأَدَاءِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : إذَا قَرُبَا مِنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي جَامَعَهَا فِيهِ يَفْتَرِقَانِ لِأَنَّهُمَا لَا يَأْمَنَانِ إذَا وَصَلَا إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَنْ تَهِيجَ بِهِمَا الشَّهْوَةُ فَيُوَاقِعَهَا فَيَفْتَرِقَانِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ هَذَا ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا وَاقَعَهَا فِي السَّنَةِ الْأُولَى بِسَبَبِ النِّكَاحِ الْقَائِمِ بَيْنَهُمَا فَلَوْ وَجَبَ الِافْتِرَاقُ إنَّمَا يَجِبُ عَنْ النِّكَاحِ ، وَأَحَدٌ لَا يَأْمُرُ بِهَذَا ثُمَّ إذَا بَلَغَا إلَى ذَلِكَ

الْمَوْضِعِ فَتَأَمَّلَا فِيمَا لَحِقَهُمَا مِنْ الْمَشَقَّةِ بِسَبَبِ لَذَّةٍ يَسِيرَةٍ ازْدَادَا نَدَمًا وَتَحَرُّزًا عَنْ ذَلِكَ ثَانِيًا لِكَيْ لَا يُصِيبَهُمَا الْآنَ مِثْلَ مَا أَصَابَهُمَا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى ، وَلَكِنَّا نَقُولُ مُرَادُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ عَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ إنْ خَافَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا الْفِتْنَةَ لَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ وَاجِبًا عَلَيْهِمَا كَمَا يُنْدَبُ الشَّابُّ إلَى الِامْتِنَاعِ عَنْ التَّقْبِيلِ فِي حَالَةِ الصِّيَامِ إذَا كَانَ لَا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ مَا سِوَى ذَلِكَ .
( قَالَ ) وَإِنْ كَانَا قَارِنَيْنِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاتَانِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْرِمٌ بِإِحْرَامَيْنِ وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَضَاءُ عُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ إنْ لَمْ يَكُنْ طَافَ بِالْبَيْتِ قَبْلَ الْمُوَاقَعَةِ وَقَدْ سَقَطَ دَمُ الْقِرَانِ عَنْهُمَا لِفَسَادِ نُسُكِهِمَا وَإِنْ لَزِمَهُمَا الْمُضِيُّ فِي الْفَاسِدِ ؛ لِأَنَّ هَذَا دَمُ نُسُكٍ فَلَا يَجِبُ إلَّا عَلَى مِنْ جَمْعٍ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِصِفَةِ الصِّحَّةِ وَإِنْ كَانَ طَافَ بِالْبَيْتِ قَبْلَ الْجِمَاعِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ دَمَانِ ؛ لِأَنَّ بِالطَّوَافِ لَمْ يَتَحَلَّلْ عَنْ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ مَا لَمْ يَحْلِقْ ، وَلَكِنْ لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ هُنَا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا جَامَعَ بَعْدَ مَا أَدَّى عُمْرَتَهُ ؛ لِأَنَّ رُكْنَ الْعُمْرَةِ هُوَ الطَّوَافُ فَلَمْ تَفْسُدْ عُمْرَتُهُ بِهَذَا ، وَإِنَّمَا فَسَدَ حَجُّهُ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهُ وَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ بِفَسَادِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ .
وَإِنْ جَامَعَ بَعْدَ مَا وَقَفَ بِعَرَفَةَ لَمْ يَفْسُدْ وَاحِدٌ مِنْ النُّسُكَيْنِ عِنْدَنَا وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ جَزُورٌ لِجِمَاعِهِ بَعْدَ الْوُقُوفِ فِي إحْرَامِ الْحَجِّ وَشَاةٌ لِجِنَايَتِهِ عَلَى إحْرَامِ الْعُمْرَةِ وَعَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى النُّسُكَيْنِ بِصِفَةِ الصِّحَّةِ

( قَالَ ) : وَاذَا جَامَعَ الْحَاجُّ بَعْدَمَا وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَأَهْدَى جَزُورًا ثُمَّ جَامَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ شَاةٌ ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ إحْرَامَهُ نُقْصَانٌ بِالْجِمَاعِ الْأَوَّلِ فَالْجِمَاعُ الثَّانِي صَادَفَ إحْرَامًا نَاقِصًا فَيَكْفِيهِ شَاةٌ بِخِلَافِ الْجِمَاعِ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى فَإِنَّ هُنَاكَ صَادَفَ إحْرَامًا تَامًّا فَكَانَ عَلَيْهِ جَزُورٌ

( قَالَ ) : وَإِنْ طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ بَعْدَ مَا حَلَقَ أَوْ قَصَّرَ ثُمَّ جَامَعَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ فِي حُكْمِ التَّحَلُّلِ كَجَمِيعِ الطَّوَافِ فَكَمَا أَنَّهُ لَوْ أَتَمَّ الطَّوَافَ تَحَلَّلَ فِي حَقِّ النِّسَاءِ فَكَذَلِكَ إذَا أَتَى بِأَكْثَرَ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ ، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ إذَا طَافَ جُنُبًا ثُمَّ جَامَعَ بَعْدُ قَبْلَ الْإِعَادَةِ فِي الْقِيَاسِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ طَافَ مُحْدِثًا ؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ يَحْصُلُ بِطَوَافِ الْجُنُبِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ عَلَيْهِ دَمٌ فَيَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ ذَلِكَ وَالْفَرْقُ مَا بَيَّنَّا أَنَّ طَوَافَ الْجُنُبِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهِ إلَّا فِي حُكْمِ التَّحَلُّلِ وَلِهَذَا لَوْ أَعَادَهُ انْفَسَخَ الْأَوَّلُ بِالثَّانِي فِي أَصَحِّ الطَّرِيقَيْنِ فَصَارَ فِي الْمَعْنَى كَالْجِمَاعِ قَبْلَ الطَّوَافِ وَهُنَا مَا أَتَى بِهِ مِنْ أَكْثَرِ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ مُعْتَدٌّ بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ مَا بَقِيَ هُنَا يَقُومُ الدَّمُ مَقَامَهُ فَيَكُونُ هَذَا نَظِيرُ النُّقْصَانِ فِي طَوَافِ الْمُحْدِثِ ، وَلَوْ طَافَ مُحْدِثًا ثُمَّ جَامَعَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ بِخِلَافِ مَا إذَا طَافَ جُنُبًا فَإِنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ لَا يَجِبُ بِمُقَابَلَةِ أَصْلِ الطَّوَافِ عِنْدَ فَوْتِ أَدَائِهِ وَهِيَ الْبَدَنَةُ فَجِمَاعُهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ كَجِمَاعِهِ قَبْلَ الطَّوَافِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَلَقَ قَبْلَ الطَّوَافِ حَتَّى جَامَعَ بَعْدَ مَا طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِارْتِكَابِ مَحْظُورِ الْإِحْرَامِ فَإِنَّ التَّحَلُّلَ بِالطَّوَافِ لَا يَحْصُلُ إذَا لَمْ يَحْلِقْ

( قَالَ ) : وَالْمَسُّ وَالتَّقْبِيلُ عَنْ شَهْوَةٍ وَالْجِمَاعُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ أَنْزَلَ أَوْ لَمْ يُنْزِلْ لَا يُفْسِدُ الْإِحْرَامَ وَلِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلٌ : إنَّهُ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْإِنْزَالُ يَفْسُدُ بِهِ الْإِحْرَامُ عَلَى قِيَاسِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ يَفْسُدُ بِالتَّقْبِيلِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْإِنْزَالُ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ فَسَادُ الْإِحْرَامِ حُكْمٌ مُتَعَلِّقٌ بِعَيْنِ الْجِمَاعِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ بِارْتِكَابِ سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ لَا يَفْسُدُ وَمَا تَعَلَّقَ بِعَيْنِ الْجِمَاعِ مِنْ الْعُقُوبَةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ كَالْحَدِّ ثُمَّ مَا يَجِبُ هُنَا أَبْلُغُ مِمَّا يَجِبُ هُنَاكَ وَهُوَ الْقَضَاءُ فَيَكُونُ قِيَاسَ الْكَفَّارَةِ فِي الصَّوْمِ وَلَا يَجِبُ بِالْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ الْكَفَّارَةُ هُنَاكَ فَكَذَلِكَ لَا يَجِبُ هُنَا الْقَضَاءُ ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ دَمٌ ، أَمَّا إذَا أَنْزَلَ فَغَيْرُ مُشْكِلٍ وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يُنْزِلْ عِنْدَنَا وَلِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلٌ : إنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إذَا لَمْ يُنْزِلْ عَلَى قِيَاسِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إذَا لَمْ يُنْزِلْ بِالتَّقْبِيلِ فَكَذَلِكَ فِي الْحَجِّ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْجِمَاعُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ مِنْ جُمْلَةِ الرَّفَثِ فَكَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ بِسَبَبِ الْإِحْرَامِ وَبِالْإِقْدَامِ عَلَيْهِ يَصِيرُ مُرْتَكِبًا مَحْظُورَ إحْرَامِهِ فَيَلْزَمُهُ دَمٌ ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي فِي الصَّوْمِ إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِالرُّخْصَةِ فِي التَّقْبِيلِ هُنَاكَ ثُمَّ الْمُحَرَّمُ هُنَاكَ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالتَّقْبِيلِ بِدُونِ الْإِنْزَالِ وَهُنَا الْمُحَرَّمُ الْجِمَاعُ بِدَوَاعِيهِ وَالتَّقْبِيلُ مِنْ جُمْلَتِهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّطَيُّبَ مُحَرَّمٌ هُنَا وَلَا يُحَرَّمُ هُنَاكَ

( قَالَ ) : وَالنَّظَرُ لَا يُوجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ شَيْئًا وَإِنْ أَنْزَلَ ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ بِمَنْزِلَةِ التَّفَكُّرِ إذَا لَمْ يَتَّصِلْ مِنْهُ صُنْعٌ بِالْمَحِلِّ ، وَلَوْ تَفَكَّرَ فَأَمْنَى لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ إذَا نَظَرَ

( قَالَ ) : وَحُكْمُ الْجِمَاعِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَاحِدٌ إذَا كَانَ عَنْ نِسْيَانٍ أَوْ عَمْدٍ أَوْ فِي حَالِ نَوْمٍ أَوْ إكْرَاهٍ أَوْ طَوْعٍ إلَّا فِي الْإِثْمِ ، أَمَّا النَّاسِي عِنْدَنَا يَفْسُدُ نُسُكُهُ بِالْجِمَاعِ وَيَلْزَمُهُ مَا يَلْزَمُ الْعَامِدَ إلَّا أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ بِعُذْرِ النِّسْيَانِ وَلِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَوْلٌ : إنَّهُ لَا يَفْسُدُ النُّسُكُ بِجِمَاعِ النَّاسِي عَلَى قِيَاسِ الصَّوْمِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا الْحُكْمُ تَعَلَّقَ بِعَيْنِ الْجِمَاعِ وَبِسَبَبِ النِّسْيَانِ لَا يَنْعَدِمُ عَيْنُ الْجِمَاعِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اقْتَرَنَ بِحَالَةِ مَا يَذْكُرُهُ وَهُوَ هَيْئَةُ الْمُحْرِمَيْنِ فَلَا يُعْذَرُ بِالنِّسْيَانِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ إذَا أَكَلَ أَوْ شَرِبَ بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِحَالَةِ مَا يَذْكُرُهُ فَجَعَلَ النِّسْيَانَ فِيهِ عُذْرًا فِي الْمَنْعِ مِنْ إفْسَادِ الصَّوْمِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ .
( قَالَ ) : وَإِنْ كَانَتْ نَائِمَةً أَوْ مُكْرَهَةً يَفْسُدُ حَجُّهَا عِنْدَنَا وَلَا يَفْسُدُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْإِكْرَاهَ مَتَى أَبَاحَ الْإِقْدَامَ أَعْدَمَ أَصْلَ الْفِعْلِ مِنْ الْمُكْرَهِ فِي الْأَحْكَامِ ، وَالنَّوْمُ يُعْدِمُ أَصْلَ الْفِعْلِ مِنْ النَّائِمِ وَلِهَذَا قَالَ : لَا يَفْسُدُ الصَّوْمُ بِهَذَا الْفِعْلِ فِي حَالَةِ الْإِكْرَاهِ أَوْ النَّوْمِ فَكَذَلِكَ الْإِحْرَامُ ، وَعِنْدَنَا تَأْثِيرُ الْإِكْرَاهِ وَالنَّوْمِ فِي دَفْعِ الْمَأْثَمِ لَا فِي إعْدَامِ أَصْلِ الْفِعْلِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الِاغْتِسَالُ وَيَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ فَكَذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِهِ فَسَادُ النُّسُكِ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الزَّوْجُ مُحْرِمًا أَوْ حَلَالًا بَالِغًا أَوْ صَغِيرًا عَاقِلًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ تَكُونُ الْمَرْأَةُ مَجْنُونَةً أَوْ صَغِيرَةً ؛ لِأَنَّ فَسَادَ النُّسُكِ مُتَعَلِّقٌ بِعَيْنِ الْجِمَاعِ ، وَذَلِكَ لَا يَنْعَدِمُ بِالْجُنُونِ وَالصِّغَرِ إذَا كَانَ يُجَامِعُ مِثْلُهُ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ الْجِمَاعِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ فِي الْإِحْرَامِ

الرَّفَثُ ، وَالرَّفَثُ اسْمُ الْجِمَاعِ

( قَالَ ) : رَجُلٌ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَجَامَعَ فِيهَا ثُمَّ أَحْرَمَ بِأُخْرَى يَنْوِي قَضَاءَهَا قَالَ : هِيَ هِيَ ؛ لِأَنَّهُ بِالْجِمَاعِ وَإِنْ فَسَدَ نُسُكُهُ فَقَدْ لَزِمَهُ الْمُضِيُّ فِي الْفَاسِدِ وَلَا يَخْرُجُ مِنْ الْإِحْرَامِ إلَّا بِأَدَاءِ الْأَعْمَالِ فَنِيَّتُهُ فِي الْإِحْرَامِ بِالْإِهْلَالِ الثَّانِي لَغْوٌ ؛ لِأَنَّهُ يَنْوِي إيجَادَ الْمَوْجُودِ وَنِيَّةُ الْقَضَاءِ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْإِحْرَامَ الْوَاحِدَ لَا يَتَّسِعُ لِلْقَضَاءِ وَالْأَدَاءِ فَكَانَ عَلَيْهِ دَمٌ لِلْجِمَاعِ وَيَفْرُغُ مِنْهَا وَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَكَذَلِكَ هَذَا الْحُكْمُ لَوْ كَانَ مُهِلًّا بِالْحَجَّةِ

( قَالَ ) : وَإِنْ جَامَعَ فِي الْعُمْرَةِ قَبْلَ الطَّوَافِ ثُمَّ أَضَافَ إلَيْهَا حَجَّةً يَقْضِيهِمَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الْحَجِّ إلَى الْعُمْرَةِ الصَّحِيحَةِ جَائِزٌ فَإِلَى الْعُمْرَةِ الْفَاسِدَةِ أَوْلَى ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ لِفَسَادِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ .
وَكَذَلِكَ يَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ تَرْكِ الْوَقْتِ إذَا أَفْسَدَ بَعْدَ مَا أَحْرَمَ بِهِ يَعْنِي إذَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ حَلَالًا ثُمَّ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ أَوْ حَجَّةٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ فَإِنْ أَفْسَدَهَا بِالْجِمَاعِ سَقَطَ عَنْهُ هَذَا الدَّمُ ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ النُّسُكِ فَيَعُودُ فَيُحْرِمُ مِنْ الْمِيقَاتِ ، وَلِأَنَّ الدَّمَ إنَّمَا يَلْزَمُهُ بِتَرْكِ الْإِحْرَامِ مِنْ الْمِيقَاتِ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي النُّسُكَ بِهَذَا الْإِحْرَامِ ، وَلَمْ يَتَأَدَّ نُسُكُهُ بِهَذَا الْإِحْرَامِ حِينَ أَفْسَدَهُ ، وَلِهَذَا لَزِمَهُ قَضَاؤُهَا

( قَالَ ) : الْمُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ إذَا جَامَعَ النِّسَاءَ وَرَفَضَ إحْرَامَهُ وَأَقَامَ حَلَالًا يَصْنَعُ مَا يَصْنَعُ الْحَلَالُ مِنْ الطِّيبِ وَالصَّيْدِ وَغَيْرِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ حَرَامًا كَمَا كَانَ ؛ لِأَنَّ بِإِفْسَادِ الْإِحْرَامِ لَمْ يَصِرْ خَارِجًا مِنْهُ قَبْلَ أَدَاءِ الْأَعْمَالِ وَكَذَلِكَ بِنِيَّةِ الرَّفْضِ وَارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ فَهُوَ مُحْرِمٌ عَلَى حَالِهِ إلَّا أَنَّ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ مَا صَنَعَ دَمًا وَاحِدًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ ارْتِكَابَ الْمَحْظُورَاتِ اسْتَنَدَ إلَى قَصْدٍ وَاحِدٍ وَهُوَ تَعْجِيلُ الْإِحْلَالِ فَيَكْفِيهِ لِذَلِكَ دَمٌ وَاحِدٌ وَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ مَكَانَ عُمْرَتِهِ ؛ لِأَنَّهَا لَزِمَتْهُ بِالشُّرُوعِ ، وَالْأَدَاءُ بِصِفَةِ الْفَسَادِ لَا يَنُوبُ عَمَّا لَزِمَهُ بِصِفَةِ الصِّحَّةِ فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( بَابُ الدُّهْنِ وَالطِّيبِ ) ( اعْلَمْ ) بِأَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ اسْتِعْمَالِ الدُّهْنِ وَالطِّيبِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْحَاجُّ الشَّعِثُ التَّفِلُ ، وَقَالَ : يَأْتُونَ شُعْثًا غُبْرًا مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ } وَاسْتِعْمَالُ الدُّهْنِ وَالطِّيبِ يُزِيلُ هَذَا الْوَصْفَ وَمَا يَكُونُ صِفَةَ الْعِبَادَةِ يُكْرَهُ إزَالَتُهُ إلَّا أَنَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَالَ : إنْ اسْتَعْمَلَ الطِّيبَ فِي عُضْوٍ كَامِلٍ يَلْزَمُهُ الدَّمُ ، وَقَدْ فَسَّرَهُ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ : كَالْفَخِذِ وَالسَّاقِ وَنَحْوِهِمَا ، وَإِنْ اسْتَعْمَلَهُ فِيمَا دُون ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِحِصَّتِهِ مِنْ الدَّمِ .
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ مِنْ الطِّيبِ سَوَاءٌ فِي وُجُوبِ الدَّمِ بِهِ ؛ لِأَنَّ رَائِحَةَ الطِّيبِ تُوجَدُ مِنْهُ سَوَاءٌ اسْتَعْمَلَ الْقَلِيلَ أَوْ الْكَثِيرَ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْجَزَاءُ إنَّمَا يَجِبُ بِحَسَبِ الْجِنَايَةِ ، وَإِنَّمَا تَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ بِمَا هُوَ مَقْصُودٌ مِنْ قَضَاءِ التَّفَثِ ، وَالْمُعْتَادُ اسْتِعْمَالُ الطِّيبِ فِي عُضْوٍ كَامِلٍ فَتَمَّ بِهِ جِنَايَتُهُ وَفِيمَا دُونَ ذَلِكَ فِي جِنَايَتِهِ نُقْصَانٌ فَتَكْفِيهِ نُقْصَانُ الصَّدَقَةِ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُوجِبُ بِحِصَّتِهِ مِنْ الدَّمِ وَاعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ كَمَا هُوَ أَصْلُهُ ، وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى إذَا طَيَّبَ شَارِبَهُ أَوْ طَرَفًا مِنْ أَطْرَافِ لِحْيَتِهِ دُونَ الرُّبْعِ فَعَلَيْهِ الصَّدَقَةُ .
وَإِنْ اسْتَعْمَلَ الطِّيبَ فِي رُبْعِ رَأْسِهِ فَعَلَيْهِ الدَّمُ ، وَكَذَلِكَ فِي رُبْعِ عُضْوٍ آخَرَ وَجَعَلَ الرُّبْعَ بِمَنْزِلَةِ الْكَمَالِ عَلَى قِيَاسِ الْحَلْقِ ثُمَّ الدُّهْنُ إذَا كَانَ مُطَيَّبًا كَدُهْنِ أَلْبَانٍ وَالْبَنَفْسَجِ وَالزَّنْبَقِ فَهُوَ طِيبٌ يَجِبُ بِاسْتِعْمَالِهِ الدَّمُ ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الدُّهْنُ قَدْ طُبِخَ وَجُعِلَ فِيهِ طِيبٌ ، فَأَمَّا إذَا ادَّهَنَ بِزَيْتٍ أَوْ بِخَلٍّ غَيْرِ مَطْبُوخٍ فَعَلَيْهِ الدَّمُ عِنْدَ أَبِي

حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - : عَلَيْهِ صَدَقَةٌ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : لَوْ اسْتَعْمَلَهُ فِي الشَّعْرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَإِنْ اسْتَعْمَلَهُ فِي غَيْرِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الدُّهْنِ فِي الشَّعْرِ يُزِيلُ الشَّعَثَ فَيَكُونُ مِنْ قَضَاءِ التَّفَثِ .
وَأَمَّا فِي غَيْرِ الشَّعْرِ لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى قَضَاءِ التَّفَثِ وَلَا مَعْنَى اسْتِعْمَالِ الطِّيبِ ؛ لِأَنَّ الدُّهْنَ مَأْكُولٌ ، وَلَيْسَ بِطِيبٍ فَيَكُونُ قِيَاسَ الشَّحْمِ وَالسَّمْنِ ، وَبِهَذَا يَحْتَجُّ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَلَكِنَّهُمَا قَالَا : اسْتِعْمَالُ الدُّهْنِ يَقْتُلُ الْهَوَامَّ فَيَكُونُ فِيهِ بَعْضُ الْجِنَايَةِ فَيَلْزَمُهُ الصَّدَقَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : الدُّهْنُ أَصْلُ الطِّيبِ فَإِنَّ الرَّوَائِحَ تُلْقَى فِي الدُّهْنِ فَيَصِيرُ تَامًّا فَيَجِبُ بِاسْتِعْمَالِ أَصْلِ الطِّيبِ مَا يَجِبُ بِاسْتِعْمَالِ الطِّيبِ كَمَا إذَا كَسَرَ الْمُحْرِمُ بَيْضَ الصَّيْدِ يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ كَمَا يَجِبُ بِقَتْلِ الصَّيْدِ .
( قَالَ ) : وَإِذَا دَهَنَ شُقَاقَ رِجْلِهِ بِزَيْتٍ أَوْ شَحْمٍ أَوْ سَمْنٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ قَصْدَهُ التَّدَاوِي ، وَالتَّدَاوِي غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَكَلَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ فَإِنْ دَهَنَ بِهِ شُقَاقَ رِجْلِهِ أَوْلَى

( قَالَ ) : وَيُكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَشُمَّ الطِّيبَ وَالزَّعْفَرَانَ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَجَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَرَى بِهِ بَأْسًا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُحَرَّمُ عَلَيْهِ مَسُّ الطِّيبِ وَهُوَ لَمْ يَمَسَّهُ وَإِنْ شَمَّ رَائِحَتَهُ كَمَنْ اجْتَازَ فِي سُوقِ الْعَطَّارِينَ لَمْ يُكْرَهْ لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُحْرِمًا مَعَ أَنَّ الرَّيْحَانَ مِنْ جُمْلَةِ نَبَاتِ الْأَرْضِ لَا مِنْ الطِّيبِ فَهُوَ كَالتُّفَّاحِ وَالْبِطِّيخِ وَنَحْوِهِمَا ، وَلَكِنَّا نَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ فِي الطِّيبِ مَعْنَى الرَّائِحَةِ ، وَاسْتِعْمَالُ عَيْنِ الطِّيبِ غَيْرُ مَقْصُودٍ بَلْ الْمَقْصُودُ مِنْ الطِّيبِ رَائِحَتُهُ فَمَا يُوجِدُ رَائِحَةَ الطِّيبِ يُكْرَهُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَشُمَّهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ قَضَاءِ التَّفَثِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي التُّفَّاحِ هَكَذَا وَمَنْ فَرَّقَ فَقَالَ : الْمَقْصُودُ هُنَاكَ الْأَكْلُ فَأَمَّا الرَّيْحَانُ فَلَيْسَ فِيهِ مَقْصُودٌ سِوَى رَائِحَتِهِ فَيُمْنَعُ مِنْهُ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ ، وَلَكِنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ لَا يَتِمُّ بِمُجَرَّدِ اشْتِمَامِ الرَّائِحَةِ بِمَنْزِلَةِ الْجُلُوسِ عِنْدَ الْعَطَّارِ وَنَحْوِهِ ، وَذَكَرَ حَمْرَانِ عَنْ أَبَانَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْمُحْرِمِ أَيَدْخُلُ الْبُسْتَانَ ، قَالَ : نَعَمْ وَيَشُمُّ الرَّيْحَانَ فَهُوَ دَلِيلٌ لِمَنْ أَخَذَ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ

( قَالَ ) : فَإِنْ كَانَ تَطَيَّبَ أَوْ ادَّهَنَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ ثُمَّ وَجَدَ رِيحَهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ لَمْ يَضُرَّهُ ، وَكَذَلِكَ إنْ أَجْمَرَ ثِيَابَهُ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ ثُمَّ لَبِسَهَا بَعْدَ الْإِحْرَامِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْمُحْرِمَ إذَا دَخَلَ بَيْتًا قَدْ أُجْمِرَ فِيهِ فَطَالَ مُكْثُهُ حَتَّى عَلِقَ ثَوْبَهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ، وَلَوْ أَجْمَرَ ثِيَابَهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ ؛ لِأَنَّ الْإِجْمَارَ إذَا كَانَ فِي الْبَيْتِ فَعَيْنُ الطِّيبِ لَمْ يَتَّصِلْ بِثَوْبِهِ وَلَا بِبَدَنِهِ إنَّمَا نَالَ رَائِحَتَهُ فَقَطْ بِخِلَافِ مَا إذَا أَجَمَرَ ثِيَابَهُ فَإِنَّ عَيْنَ الطِّيبِ قَدْ عَلِقَ بِثِيَابِهِ فَإِذَا كَانَ الْإِجْمَارُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ لَمْ يَكُنْ مَمْنُوعًا عَنْ اسْتِعْمَالِ عَيْنِ الطِّيبِ يَوْمَئِذٍ ، وَإِنَّمَا بَقِيَ مَعَ الْمُحْرِمِ رَائِحَتُهُ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ

( قَالَ ) : وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْكُلَ الطَّعَامَ الَّذِي فِيهِ الزَّعْفَرَانُ أَوْ الطِّيبُ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ السِّكْبَاجَ الْأَصْفَرَ فِي إحْرَامِهِ ، وَلِأَنَّ قَصْدَهُ بِهَذَا الطَّعَامِ التَّغَذِّي لَا التَّطَيُّبُ ، وَإِنْ أَكَلَ الزَّعْفَرَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ فِي الطَّعَامِ فَعَلَيْهِ دَمٌ إنْ كَانَ كَثِيرًا ؛ لِأَنَّ الزَّعْفَرَانَ لَا يُتَغَذَّى بِهِ كَمَا هُوَ ، وَإِنَّمَا يُجْعَلُ تَبَعًا لِلطَّعَامِ .
وَمَنْ أَكَلَ الزَّعْفَرَانَ كَمَا هُوَ يَضْحَكُ حَتَّى يَمُوتَ فَكَانَ هُوَ بِالْأَكْلِ مُطَيِّبًا فَمَه بِالزَّعْفَرَانِ وَهُوَ عُضْوٌ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ فَأَمَّا إذَا جُعِلَ فِي الطَّعَامِ فَقَدْ صَارَ مُسْتَهْلَكًا فِيهِ إنْ كَانَ فِي طَعَامٍ قَدْ مَسَّتْهُ النَّارُ ، وَإِنْ كَانَ فِي طَعَامٍ لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ مِثْلِ الْمِلْحِ وَغَيْرِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَغْلُوبًا فِيهِ وَالْمَغْلُوبُ كَالْمُسْتَهْلَكِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الزَّعْفَرَانُ غَالِبًا عَلَى الْمِلْحِ فَحِينَئِذٍ هُوَ وَالزَّعْفَرَانُ الْبَحْتُ سَوَاءٌ .
وَإِنْ مَسَّ طِيبًا فَإِنْ لَزِقَ بِيَدَيْهِ تَصَدَّقَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا لَزِقَ بِيَدَيْهِ كَثِيرًا فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُهُ الدَّمُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا حَدَّ الْكَثِيرِ فِيهِ ، وَإِنْ لَمْ يَلْتَزِقْ بِهِ شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اجْتَازَ فِي سُوقِ الْعَطَّارِينَ ، وَإِنْ اسْتَلَمَ الرُّكْنَ فَأَصَابَ فَمَه أَوْ يَدَهُ خَلُوقٌ كَثِيرٌ فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَإِنْ كَانَ قَلِيلًا فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْخَلُوقُ الْتَزَقَ بِهِ مِنْ الرُّكْنِ أَوْ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ

( قَالَ ) : وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَكْتَحِلَ الْمُحْرِمُ بِكُحْلٍ لَيْسَ فِيهِ طِيبٌ فَإِنْ كَانَ فِيهِ طِيبٌ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا فَعَلَيْهِ الدَّمُ ؛ لِأَنَّ الْكُحْلَ لَيْسَ بِطِيبٍ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ طِيبٌ فَتَتَفَاوَتُ الْجِنَايَةُ بِاسْتِعْمَالِهِ مِنْ حَيْثُ الْقِلَّةُ وَالْكَثْرَةُ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَعْضَاءِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَذًى فَعَلَيْهِ أَيُّ الْكَفَّارَاتِ الثَّلَاثِ شَاءَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فِيمَا يَجِبُ فِيهِ الدَّمُ عَلَى الْمُحْرِمِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْذُورًا ، فَإِنْ كَانَ عَنْ عُذْرٍ وَضَرُورَةٍ يُتَخَيَّرُ بَيْنَ الْكَفَّارَاتِ الثَّلَاثِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَدَاوَى بِدَوَاءٍ فِيهِ الطِّيبُ فَأَلْزَقَهُ بِجِرَاحِهِ أَوْ شَرِبَ شَرَابًا ؛ لِأَنَّ التَّدَاوِيَ يَكُونُ عَنْ ضَرُورَةٍ ، وَإِنْ دَاوَى قُرْحَةً بِدَوَاءٍ فِيهِ طِيبٌ فَأَلْزَقَهُ بِجِرَاحِهِ ثُمَّ خَرَجَتْ بِهِ قُرْحَةٌ أُخْرَى وَالْأُولَى عَلَى حَالِهَا فَدَاوَى الثَّانِيَةَ مَعَ الْأُولَى فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ فَكَأَنَّهُ فَعَلَ الْكُلَّ دُفْعَةً وَاحِدَةً إذَا لَمْ تَبْرَأْ الْأُولَى لِأَنَّ الْجِنَايَاتِ اسْتَنَدَتْ إلَى سَبَبٍ وَاحِدٍ

( قَالَ ) : وَلِلْمُحْرِمِ أَنْ يَبُطَّ الْقُرْحَةَ وَيَجْبُرَ الْكَسْرَ وَيُعَصِّبَ عَلَيْهِ وَيَنْزِعَ ضِرْسَهُ إذَا اشْتَكَى وَيَحْتَجِمَ وَيَغْتَسِلَ وَيَدْخُلَ الْحَمَّامَ ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ بَابِ الْمُعَالَجَةِ فَالْمُحْرِمُ وَالْحَلَالُ فِيهِ سَوَاءٌ .
أَلَا تَرَى { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ مُحْرِمٌ بِالْقَاحَّةِ } وَدَخَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الْحَمَّامَ بِالْجُحْفَةِ وَهُوَ مُحْرِمٌ

( قَالَ ) : وَإِنْ غَسَلَ رَأْسَهُ وَلِحْيَتَهُ بِالْخِطْمِيِّ فَعَلَيْهِ دَمٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - صَدَقَةٌ ؛ لِأَنَّ الْخَطْمَيَّ لَيْسَ بِطِيبٍ بَلْ هُوَ كَالْأُشْنَانِ يَغْسِلُ بِهِ رَأْسَهُ ، وَلَكِنَّهُ يَقْتُلُ الْهَوَامَّ فَلِذَلِكَ يَلْزَمُهُ الصَّدَقَةُ .
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ قَالُوا وَتَأْوِيلُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ إذَا غَسَلَ رَأْسَهُ بِالْخِطْمِيِّ بَعْدَ الرَّمْيِ يَوْمَ النَّحْرِ فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ يَلْزَمُهُ الصَّدَقَةُ عِنْدَهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ الْخِطْمِيُّ مِنْ الطِّيبِ فَإِنَّ لَهُ رَائِحَةً ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ زَكِيَّةً وَهُوَ يَقْتُلُ الْهَوَامَّ أَيْضًا فَتَتَكَامَلُ الْجِنَايَةُ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَيَيْنِ فَلِهَذَا يَلْزَمُهُ الدَّمُ

( قَالَ ) : وَإِنْ خَضَّبَتْ الْمُحْرِمَةُ بِالْحِنَّاءِ يَدَهَا فَعَلَيْهَا دَمٌ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى الْمُعْتَدَّةَ أَنْ تَخْتَضِبَ بِالْحِنَّاءِ ، وَقَالَ : الْحِنَّاءُ طِيبٌ } ، وَلِأَنَّ لَهُ رَائِحَةً مُسْتَلَذَّةً ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ زَكِيَّةً .

وَإِنْ خَضَّبَ رَأْسَهُ بِالْوَسْمَةِ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ فَلَا دَمَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْوَسْمَةَ لَيْسَتْ بِطِيبٍ إنَّمَا تُغَيِّرُ لَوْنَ الشَّعْرِ إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا خَضَّبَ رَأْسَهُ بِالْوَسْمَةِ فَعَلَيْهِ دَمٌ لَا لِلْإِخْضَابِ ، وَلَكِنْ لِتَغْطِيَةِ الرَّأْسِ بِهِ ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ .
( قَالَ ) : وَإِنْ خَضَّبَ لِحْيَتَهُ بِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ دَمٌ ، وَلَكِنْ إنْ خَافَ أَنْ يَقْتُلَ الْهَوَامَّ أَطْعَمَ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْجِنَايَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُتَكَامِلٍ فَتَلْزَمُهُ الصَّدَقَةُ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ

( قَالَ ) : وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَلْبَسَ الْمُحْرِمُ الْقَبَاءَ وَيُدْخِلَ فِيهِ مَنْكِبَيْهِ دُونَ يَدَيْهِ عِنْدَنَا ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْقَبَاءَ مَخِيطٌ فَإِذَا أَدْخَلَ فِيهِ مَنْكِبَيْهِ صَارَ لَابِسًا لِلْمَخِيطِ فَإِنَّ الْقَبَاءَ يُلْبَسُ هَكَذَا عَادَةً ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لُبْسُ الْقَبَاءِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِإِدْخَالِ الْيَدَيْنِ فِي الْكُمَّيْنِ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ كَانَ وَاضِعًا الْقَبَاءَ عَلَى مَنْكِبَيْهِ لَا لَابِسًا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى لُبْسِ الرِّدَاءِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تُكَلِّفْ حِفْظِهِ عَلَى مَنْكِبَيْهِ عِنْدَ اشْتِغَالِهِ بِعَمَلٍ كَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لَابِسُ الرِّدَاءِ ، أَمَّا إذَا أَدْخَلَ يَدَيْهِ فِي كُمَّيْهِ فَلَا يَحْتَاجُ فِي حِفْظِهِ عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ الِاشْتِغَالِ بِالْعَمَلِ فَيَكُونُ لَابِسًا لِلْمِخْيَطِ ، وَكَذَلِكَ إنْ زَرَّهُ عَلَيْهِ كَانَ لَابِسًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَكَلُّفِ حِفْظِهِ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا زَرَّهُ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا لَبِسَ الْمَخِيطَ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ وَإِنْ كَانَ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّ لُبْسَ الْمَخِيطِ مَحْظُورُ الْإِحْرَامِ فَيَصِيرُ هُوَ مُرْتَكِبًا مَحْظُورَ الْإِحْرَامِ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ ، وَإِنْ فَعَلَهُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ كَالتَّطَيُّبِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّمَا تَتِمُّ جِنَايَتُهُ بِلُبْسٍ مَقْصُودٍ ، وَاللُّبْسُ الْمَقْصُودُ فِي النَّاسِ عَادَةً يَكُونُ فِي يَوْمٍ كَامِلٍ فَإِنَّ مَنْ أَصْبَحَ يَلْبَسُ الثِّيَابَ ثُمَّ لَا يَنْزِعُهَا إلَى اللَّيْلِ فَإِذَا لَبِسَ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ تَكَامَلَتْ الْجِنَايَةُ بِاسْتِمْتَاعٍ مَقْصُودٍ وَفِيمَا دُونَ ذَلِكَ لَمْ تَتَكَامَلْ جِنَايَتُهُ بِاسْتِمْتَاعٍ مَقْصُودٍ فَتَكْفِيهِ صَدَقَةٌ إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَانَ يَقُولُ أَوَّلًا قَدْ يَرْجِعُ الْمَرْءُ إلَى بَيْتِهِ قَبْلَ اللَّيْلِ فَيَنْزِعُ ثِيَابَهُ الَّتِي لَبِسَهَا لِلنَّاسِ

فَكَانَ اللُّبْسِ فِي أَكْثَرِ الْيَوْمِ اسْتِمْتَاعًا مَقْصُودًا عَادَةً ، وَالْأَكْثَرُ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْكَمَالِ

( قَالَ ) : وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَلْبَسَ الْخَزَّ وَالْبُرُودَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَخِيطًا كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ فِي غَيْرِ الْإِحْرَامِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَلْبَسُ الْبُرْدَ الْمَصْبُوغَ بِالْعُصْفُرِ أَوْ الزَّعْفَرَانِ أَوْ الْوَرْسِ فَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ لُبْسِ الْمُزَعْفَرِ وَالْمُوَرَّسِ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ } ، وَكَذَلِكَ الْمَصْبُوغُ بِالْعُصْفُرِ عِنْدَنَا ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا بَأْسَ بِهِ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ رَأَى عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رِدَاءً مُعَصْفَرًا فِي إحْرَامِهِ فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَا أَرَى أَحَدًا يُعَلِّمُنَا السُّنَّةَ ، وَلِأَنَّ الْعُصْفُرَ لَيْسَ بِطِيبٍ فَهُوَ قِيَاسُ ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ وَلَا بَأْسَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَلْبَسَهُ ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَإِنَّهَا كَرِهَتْ لُبْسَ الْمُعَصْفَرِ فِي الْإِحْرَامِ ، وَكَذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْكَرَ عَلَى طَلْحَةَ الرِّدَاءَ الْمُعَصْفَرَ حَتَّى قَالَ : لَا تَعْجَلْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ مُمَشَّقٌ ، وَلِأَنَّ الْعُصْفُرَ لَهُ رَائِحَةٌ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ زَكِيَّةً فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْوَرْسِ وَالزَّعْفَرَانِ ، وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ قَدْ غُسِلَ وَصَارَ بِحَيْثُ لَا يُنْفَضُ قَدْ عَرَفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْ كَانَ ذَلِكَ مَصْبُوغًا بِمَدَرٍ عَلَى لَوْنِ الْعُصْفُرِ ، وَقَدْ عَرَفَ ذَلِكَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ عُثْمَانُ فَلِهَذَا قَالَ مَا قَالَ فَأَمَّا الْمَصْبُوغُ عَلَى لَوْنِ الْهَرَوِيِّ هُوَ أَدْمَى اللَّوْنِ لَيْسَ لَهُ رَائِحَةٌ فَكَانَ قِيَاسَ الْمُعَصْفَرِ إذَا غُسِلَ حَتَّى صَارَ بِحَيْثُ لَا يُنْفَضُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فَهَذَا مِثْلُهُ ، ثُمَّ

التَّقْدِيرُ فِي إيجَابِ الدَّمِ عِنْدَ لُبْسِ الْمَصْبُوغِ ، بِنَحْوِ مَا بَيَّنَّا فِي لُبْسِ الْقَبَاءِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ لَبِسَ قَمِيصًا أَوْ سَرَاوِيلَ أَوْ قَلَنْسُوَةً يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ كَمَا بَيَّنَّا ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا إذَا لَبِسَهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ أَمَّا إذَا ائْتَزَرَ بِالسَّرَاوِيلِ أَوْ ارْتَدَى بِالْقَمِيصِ أَوْ اتَّشَحَ بِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى تَكَلُّفِ حِفْظِهِ عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ اشْتِغَالِهِ بِالْعَمَلِ فَلَا يَكُونُ لَابِسًا لِلْمَخِيطِ .
وَأَمَّا فِي الْقَلَنْسُوَةِ فَلِتَغْطِيَةِ الرَّأْسِ بِهَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ عَنْ تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ ، وَقَدْ ذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ إذَا لَمْ يَجِدْ الْإِزَارَ فَفَتَقَ السَّرَاوِيلَ إلَّا مَوْضِعَ التِّكَّةِ فَلَا بَأْسَ حِينَئِذٍ بِلُبْسِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمِئْزَرِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا وَرَدَ بِهِ الْأَثَرُ فِيمَا لَمْ يَجِدْ الْمُحْرِمُ نَعْلَيْنِ قَطَعَ خُفَّيْهِ أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ لِيَصِيرَ فِي مَعْنَى النَّعْلَيْنِ وَفَسَّرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - الْكَعْبَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِالْمِفْصَلِ الَّذِي فِي وَسَطِ الْقَدَمِ عِنْدَ مَعْقِدِ الشِّرَاكِ ، وَعَلَى هَذَا قَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ مَشَايِخِنَا : لَا بَأْسَ لِلْمُحْرِمِ بِأَنْ يَلْبَسَ الْمِشَكَّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتُرُ الْكَعْبَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّعْلَيْنِ فَإِنْ لَبِسَ الْقَمِيصَ وَالْقَلَنْسُوَةَ وَالْقَبَاءَ وَالسَّرَاوِيلَ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّ جِنْسَ الْجِنَايَةِ وَاحِدٌ ، وَالْمَقْصُودُ وَاحِدٌ وَهُوَ الِاسْتِمْتَاعُ بِلُبْسِ الْمَخِيطِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ كَمَا لَوْ حَلَقَ رَأْسَهُ كُلَّهُ ، وَكَذَلِكَ إنْ غَطَّى وَجْهَهُ يَوْمًا فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يُغَطِّيَ وَجْهَهُ وَلَا رَأْسَهُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَدْ وَرَدَ

الْأَثَرُ بِالنَّهْيِ عَنْ تَغْطِيَةِ اللِّحْيَةِ فِي الْإِحْرَامِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْوَجْهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يُغَطِّي وَجْهَهُ

( قَالَ ) : وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَلْبَسَ الْهِمْيَانَ وَالْمِنْطَقَةَ يَشُدُّ بِهَا حَقْوَيْهِ فِيهَا نَفَقَتُهُ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا سُئِلَتْ هَلْ يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ الْهِمْيَانَ فَقَالَتْ اسْتَوْثِقْ مِنْ نَفَقَتِكَ بِمَا شِئْتَ ، وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَمْ يَرَ لِلْمُحْرِمِ بَأْسًا بِأَنْ يَعْقِدَ الْهِمْيَانَ عَلَى وَسَطِهِ وَفِيهِ نَفَقَتُهُ } ، وَكَانَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : إنْ كَانَ فِيهِ نَفَقَتُهُ فَلَا بَأْسَ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ نَفَقَةُ غَيْرِهِ كَرِهْتُ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى حَمْلِ نَفَقَةِ غَيْرِهِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : جَوَازُ لُبْسِ الْهِمْيَانِ وَالْمِنْطَقَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى لُبْسِ الْمَخِيطِ ، وَفِي هَذَا يَسْتَوِي نَفَقَتُهُ وَنَفَقَةُ غَيْرِهِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَرِهَ لِلْمُحْرِمِ لُبْسَ الْمِنْطَقَةِ الْمُتَّخَذَةِ مِنْ الْإِبْرَيْسَمِ ، فَقِيلَ : لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْمَخِيطِ ، وَقِيلَ : هُوَ بِنَاءٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كَرَاهَةِ مَا قَلَّ مِنْ الْحَرِيرِ وَكَثُرَ لِلرِّجَالِ

( قَالَ ) : وَيَتَوَشَّحُ الْمُحْرِمُ بِالثِّيَابِ وَلَا يَعْقِدُ عَلَى عُنُقِهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَقَدَهُ لَا يَحْتَاجُ فِي حِفْظِهِ عَلَى نَفْسِهِ إلَى تَكَلُّفٍ فَكَانَ فِي مَعْنَى لُبْسِ الْمَخِيطِ ، وَكَذَلِكَ قَالُوا إذَا ائْتَزَرَ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْقِدَ إزَارَهُ عَلَى نَفْسِهِ بِحَبْلٍ أَوْ غَيْرِهِ فَقَدْ رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا قَدْ شَدَّ فَوْقَ إزَارِهِ حَبْلًا فَقَالَ : أَلْقِ ذَلِكَ الْحَبْلَ وَيْلَكَ } ، وَكَذَلِكَ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَخُلَّ رِدَاءَهُ بِخِلَالٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَكَلُّفٍ فِي حِفْظِهِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَلَكِنَّهُ مَعَ هَذَا لَوْ فَعَلَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمَحْظُورَ عَلَيْهِ الِاسْتِمْتَاعُ بِلُبْسِ الْمَخِيطِ ، وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ

( قَالَ ) : وَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يُعَصِّبَ رَأْسَهُ فَإِنْ فَعَلَ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ ؛ لِأَنَّهُ غَطَّى بَعْضَ رَأْسِهِ بِالْعِصَابَةِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ إلَّا أَنَّ مَا غَطَّى بِهِ جُزْءٌ يَسِيرٌ مِنْ رَأْسِهِ فَتَكْفِيهِ الصَّدَقَةُ لِعَدَمِ تَمَامِ جِنَايَتِهِ ، وَإِنْ عَصَّبَ شَيْئًا مِنْ جَسَدِهِ مِنْ عِلَّةٍ أَوْ غَيْرِ عِلَّةٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْنُوعٍ عَنْ تَغْطِيَةِ سَائِرِ الْجَسَدِ سِوَى الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ ، وَلَكِنْ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ عِلَّةٍ كَمَا يُكْرَهُ شَدُّ الْإِزَارِ وَشَدُّ الرِّدَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا

( قَالَ ) : وَإِنْ غَطَّى الْمُحْرِمُ رُبْعَ رَأْسِهِ أَوْ وَجْهِهِ يَوْمًا فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ : إنْ غَطَّى أَكْثَرَ رَأْسِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَإِلَّا فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ ؛ لِأَنَّ الْقَلِيلَ مِنْ تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ لَا تَتِمُّ بِهِ الْجِنَايَةُ وَالْقِلَّةُ وَالْكَثْرَةُ إنَّمَا تَظْهَرُ بِالْمُقَابَلَةِ ، وَهَذَا أَصْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمَسَائِلِ ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْجَوَابُ قَالَ : مَا يَتَعَلَّقُ بِالرَّأْسِ مِنْ الْجِنَايَةِ فَلِلرُّبْعِ فِيهِ حُكْمُ الْكَمَالِ كَالْحَلْقِ ، وَهَذَا لِأَنَّ تَغْطِيَةَ بَعْضِ الرَّأْسِ اسْتِمْتَاعٌ مَقْصُودٌ يَفْعَلُهُ الْأَتْرَاكُ وَغَيْرُهُمْ عَادَةً بِمَنْزِلَةِ حَلْقِ بَعْضِ الرَّأْسِ فَأَمَّا الْمُحْرِمَةُ تُغَطِّي كُلَّ شَيْءٍ مِنْهَا إلَّا وَجْهَهَا وَتَلْبَسُ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ الْمَخِيطِ وَغَيْرِهِ إلَّا الثَّوْبَ الْمَصْبُوغَ فَإِنَّ فِيمَا لَا حَاجَةَ بِهَا إلَى لُبْسِهِ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ وَفِيمَا تَحْتَاجُ إلَى لُبْسِهِ وَسَتْرِهِ يُخَالِفُ حَالُهَا حَالَ الرَّجُلِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ

( قَالَ ) : وَلَا بَأْسَ لَهَا أَنْ تَلْبَسَ الْقُفَّازَيْنِ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُلْبِسُ بَنَاتَه الْقُفَّازَيْنِ فِي الْإِحْرَامِ وَلَهَا أَنْ تَلْبَسَ الْحَرِيرَ وَالْحُلِيَّ وَعَنْ عَطَاءٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلنِّسَاءِ لُبْسُ الْحُلِيِّ فِي الْإِحْرَامِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُلْبِسُ نِسَاءَهُ الْحُلِيَّ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ { وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَتَيْنِ تَطُوفَانِ بِالْبَيْتِ وَعَلَيْهِمَا سِوَارَانِ مِنْ ذَهَبٍ } الْحَدِيثَ فَدَلَّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ

( قَالَ ) : وَكُلُّ مَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَلْبَسَهُ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْإِحْرَامِ فَكَذَلِكَ يَحِلُّ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ إلَّا الْمَصْبُوغَ عَلَى مَا بَيَّنَّا

( قَالَ ) : وَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَسْدُلَ الْخِمَارَ عَلَى وَجْهِهَا مِنْ فَوْقِ رَأْسِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُصِيبُ وَجْهَهَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ؛ لِأَنَّ تَغْطِيَةَ الْوَجْهِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِمَا يُمَاسُّ وَجْهَهَا دُونَ مَا لَا يُمَاسُّهُ فَيَكُونُ هَذَا فِي مَعْنَى دُخُولِهَا تَحْتَ سَقْفٍ .
وَيُكْرَهُ أَنْ تَلْبَسَ الْبُرْقُعَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُمَاسُّ وَجْهَهَا فَإِنْ لَبِسَ الْمُحْرِمُ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ مِنْ الثِّيَابِ أَوْ الْخِفَافِ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لِضَرُورَةٍ فَعَلَيْهِ أَيُّ الْكَفَّارَاتِ شَاءَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ مَا يَجِبُ الدَّمُ بِلُبْسِهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ إذَا لَبِسَهُ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ يَتَخَيَّرُ فِيهِ بَيْنَ الْكَفَّارَاتِ مَا شَاءَ ، وَذَكَرَ فِي الرُّقَيَّاتِ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : إذَا اُضْطُرَّ إلَى لُبْسِ قَمِيصٍ فَلَبِسَ قَمِيصَيْنِ فَعَلَيْهِ أَيُّ الْكَفَّارَاتِ شَاءَ ، وَإِذَا اُضْطُرَّ إلَى لُبْسِ قَمِيصٍ فَلَبِسَ مَعَهُ عِمَامَةً أَوْ قَلَنْسُوَةً فَعَلَيْهِ دَمٌ فِي لُبْسِ الْقَلَنْسُوَةِ وَيَتَخَيَّرُ فِي الْكَفَّارَاتِ أَيُّهَا شَاءَ فِي لُبْسِ الْقَمِيصِ ؛ لِأَنَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ زِيَادَةً فِي مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ فَلَا تَكُونُ جِنَايَةً مُبْتَدَأَةً كَمَا لَوْ اضْطَرَّ إلَى لُبْسِ قَمِيصٍ فَلَبِسَ جُبَّةً ، وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي الزِّيَادَةُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ فَكَانَتْ جِنَايَةً مُبْتَدَأَةً فَتَعَلَّقَ بِهَا مَا هُوَ مُوجِبُهَا

( قَالَ ) : فَإِنْ لَبِسَ الْمَخِيطَ لِلضَّرُورَةِ أَيَّامًا ، وَكَانَ يَنْزِعُ بِاللَّيْلِ لِلنَّوْمِ لَا لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ ذَلِكَ فَهَذِهِ كُلُّهَا جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ بِخِلَافِ مَا إذَا نَزَعَ لِزَوَالِ الضَّرُورَةِ ثُمَّ اضْطَرَّ إلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَبِسَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الضَّرُورَةِ الْأُولَى قَدْ انْتَهَى بِالْبُرْءِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِيمَنْ يُدَاوِي الْقُرْحَةَ بِدَوَاءٍ فِيهِ طِيبٌ مِرَارًا أَنَّ عَلَيْهِ كَفَّارَةً وَاحِدَةً مَا لَمْ يَبْرَأْ فَإِذَا بَرِئَ ثُمَّ خَرَجَتْ بِهِ قُرْحَةٌ أُخْرَى فَدَاوَاهَا بِالطِّيبِ فَهَذِهِ جِنَايَةٌ أُخْرَى ، وَلَوْ كَانَ بِهِ حُمَّى غِبٍّ فَكَانَ يَلْبَسُهُ يَوْمَ الْحُمَّى وَلَا يَلْبَسُهُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ فَهَذِهِ كُلُّهَا جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ لَا يَجِبُ بِهَا إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الْمُحْوِجَةَ إلَى اللُّبْسِ قَائِمَةٌ ، أَرَأَيْتُ لَوْ جَلَسَ فِي الشَّمْسِ فَاسْتَغْنَى عَنْ لُبْسِ الْمَخِيطِ فَلَمَّا ذَهَبَتْ الشَّمْسُ احْتَاجَ إلَى الْمَخِيطِ فَأَعَادَ اللُّبْسَ أَكَانَتْ هَذِهِ جِنَايَةً أُخْرَى بَلْ الْكُلُّ جِنَايَةٌ وَاحِدَةٌ مَادَامَ الْعِلَّةُ قَائِمَةً فَعَلَيْهِ أَيُّ الْكَفَّارَاتِ شَاءَ فَإِنْ اخْتَارَ الْإِطْعَامَ فَدَعَا الْمَسَاكِينَ فَغَدَّاهُمْ وَعَشَّاهُمْ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلَمْ يُجْزِهِ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَأَبُو يُوسُفَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ اعْتَبَرَ الْمَقْصُودَ ، فَقَالَ : هَذَا طَعَامُ كَفَّارَةٍ فَيَتَأَدَّى بِالتَّغْذِيَةِ وَالتَّعْشِيَةِ كَسَائِرِ الْكَفَّارَاتِ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَعْتَبِرُ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فَيَقُولُ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ هُنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } وَمَا وَرَدَ بِلَفْظَةِ الصَّدَقَةِ لَا يَتَأَدَّى بِطَعَامِ الْإِبَاحَةِ كَالزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ

( قَالَ ) : فَإِنْ لَبِسَ الْمُحْرِمُ قَمِيصَهُ ، وَلَمْ يُزَرِّرْهُ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ ؛ لِأَنَّ اسْتِمْتَاعَهُ بِلُبْسِ الْمَخِيطِ قَدْ تَمَّ فَإِنَّهُ يَسْتَغْنِي عَنْ التَّكَلُّفِ لِحِفْظِ الْقَمِيصِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَزُرَّهُ

( قَالَ ) : وَلَا بَأْسَ لِلْمُحْرِمِ بِلُبْسِ الطَّيْلَسَانِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الرِّدَاءِ ، وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَزُرَّهُ عَلَيْهِ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : لَا بَأْسَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الطَّيْلَسَانَ لَيْسَ بِمَخِيطٍ ، وَلَكِنَّا أَخَذْنَا بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْإِزَارَ مُحِيطٌ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ إذَا زَرَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى التَّكَلُّفِ لِحِفْظِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ لُبْسِ الْمَخِيطِ

( قَالَ ) : وَلَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ الْجَوْرَبَيْنِ كَمَا لَا يَلْبَسُ الْخُفَّيْنِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا

( قَالَ ) : وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَضْرِبَ الْمُحْرِمُ فُسْطَاطًا لِيَسْتَظِلَّ بِهِ عِنْدَنَا ، وَكَانَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَكْرَهُ ذَلِكَ ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلَكِنَّا نَأْخُذُ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُضْرَبُ لَهُ فُسْطَاطٌ فِي إحْرَامِهِ وَأَنَّ عَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ إذَا آذَاهُ الْحُرُّ أَلْقَى ثَوْبَهُ عَلَى شَجَرَةٍ وَاسْتَظَلَّ تَحْتَهُ ، وَلِأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَسْتَظِلَّ بِسَقْفِ الْبَيْتِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُمَاسُّ بَدَنَهُ فَكَذَلِكَ الْفُسْطَاطُ .
( قَالَ ) وَإِنْ دَخَلَ تَحْتَ سِتْرِ الْكَعْبَةِ حَتَّى غَطَّاهُ فَإِنْ كَانَ السِّتْرُ يُصِيبُ رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ كَرِهْتُ لَهُ ذَلِكَ لِتَغْطِيَةِ الرَّأْسِ وَالْوَجْهِ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُصِيبُ رَأْسَهُ وَلَا وَجْهَهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ التَّغْطِيَةَ إنَّمَا تَحْصُلُ بِمَا يُمَاسُّ بَدَنَهُ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ حَمَلَ الْمُحْرِمُ شَيْئًا عَلَى رَأْسِهِ فَإِنْ كَانَ شَيْئًا مِنْ جِنْسِ مَا لَا يُغَطَّى بِهِ الرَّأْسُ كَالطَّسْتِ وَالْإِجَّانَةِ وَنَحْوِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِ مَا يُغَطَّى بِهِ الرَّأْسُ مِنْ الثِّيَابِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُغَطَّى بِهِ الرَّأْسُ يَكُونُ هُوَ حَامِلًا لَا مُسْتَعْمَلًا ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمِينَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ لَا يَصِيرُ ضَامِنًا

( قَالَ ) : فَإِنْ كَانَ الْمُحْرِمُ نَائِمًا فَغَطَّى رَجُلٌ وَجْهَهُ وَرَأْسَهُ بِثَوْبٍ يَوْمًا كَامِلًا فَعَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِأَنَّ مَا فَعَلَهُ بِهِ غَيْرُهُ كَفِعْلِهِ فِي الْجَزَاءِ ، وَإِنْ كَانَا يَفْتَرِقَانِ فِي الْمَأْثَمِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي حَلْقِ الرَّأْسِ وَالْجِمَاعِ وَنَحْوِهِ ، وَعُذْرُ النَّوْمِ لَا يَمْنَعُ إيجَابَ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ انْقَلَبَ عَلَى صَيْدٍ فِي حَالِ نَوْمِهِ فَقَتَلَهُ

( قَالَ ) : صَبِيٌّ أَحْرَمَ عَنْهُ أَبُوهُ وَجَنَّبَهُ مَا يُجَنَّبُ الْمُحْرِمُ فَلَبِسَ ثَوْبًا أَوْ أَصَابَ طِيبًا أَوْ صَيْدًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ عِنْدَنَا وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُوجِبُ الْكَفَّارَةَ الْمَالِيَّةَ عَلَى الصَّبِيِّ كَالْبَالِغِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي إيجَابِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ وَيَأْمُرُ الْوَلِيُّ بِأَدَائِهِ مِنْ مَالِهِ ، وَعِنْدَنَا الْمَالِيُّ وَالْبَدَنِيَّ سَوَاءٌ فِي أَنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ يَنْبَنِي عَلَى الْخِطَابِ .
وَالصَّبِيُّ غَيْرُ مُخَاطَبٍ ثُمَّ إحْرَامُ الصَّبِيِّ لِلتَّخَلُّقِ فَلَا تَتَحَقَّقُ جِنَايَتُهُ فِي الْإِحْرَامِ بِهَذِهِ الْأَفْعَالِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَبِ عَلَيْهِ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ فِيمَا يَضُرُّهُ ، وَلَوْ جَعَلْنَا إحْرَامَهُ مُلْزِمًا إيَّاهُ فِي الِاجْتِنَابِ عَنْ الْمَحْظُورَاتِ وَمُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ تَصَرُّفُ الْأَبِ فِي الْإِحْرَامِ وَاقِعًا بِصِفَةِ النَّظَرِ لَهُ فَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ تَخَلُّقًا غَيْرَ مُلْزِمٍ إيَّاهُ فَلَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ بِارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ غَيْرَ أَنَّ الْأَبَ يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ لِتَحْقِيقِ مَعْنَى التَّخَلُّقِ وَالِاعْتِيَادِ .

( قَالَ ) : وَإِذَا حَلَفَ بِالْمَشْيِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى فَحَنِثَ فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ اسْتِحْسَانًا ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الِالْتِزَامَ بِالنَّذْرِ إنَّمَا يَصِحُّ فِيمَا يَكُونُ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبًا شَرْعًا ، وَالْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ شَرْعًا فَلَا يَصِحُّ الِالْتِزَامُ بِالنَّذْرِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الِالْتِزَامَ بِاللَّفْظِ ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ مَا تَلَفَّظَ بِهِ بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ الْمَشْيُ فَلَأَنْ لَا يَلْزَمَهُ مَا لَمْ يَتَلَفَّظْ بِهِ مِنْ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ أَوْلَى ، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ فِيمَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى فَعَلَيْهِ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ .
وَالْعُرْفُ الظَّاهِرُ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَذْكُرُونَ هَذَا اللَّفْظَ وَيُرِيدُونَ بِهِ الْتِزَامَ النُّسُكِ ، وَاللَّفْظُ إذَا صَارَ عِبَارَةً عَنْ غَيْرِهِ مَجَازًا سَقَطَ اعْتِبَارُ حَقِيقَتِهِ وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ تَلَفَّظَ بِمَا صَارَ عِبَارَةً عَنْهُ ، وَلِأَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا بِالْإِحْرَامِ فَكَأَنَّهُ الْتَزَمَ الْإِحْرَامَ بِهَذَا اللَّفْظِ ، وَالْإِحْرَامُ لِأَدَاءِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ إمَّا الْحَجُّ أَوْ الْعُمْرَةُ فَكَأَنَّهُ الْتَزَمَ بِهَذَا اللَّفْظِ مَا يَخْرُجُ بِهِ عَنْ الْإِحْرَامِ فَلِهَذَا يَلْزَمُهُ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ وَيَمْشِي فِيهَا كَمَا الْتَزَمَ فَإِذَا رَكِبَ أَرَاقَ دَمًا لِحَدِيثِ { عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حَيْثُ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى غَنِيٌّ عَنْ تَعْذِيبِ أُخْتِكَ مُرْهَا فَلْتَرْكَبْ وَلْتُرِقْ دَمًا } ، وَلِأَنَّ الْحَجَّ مَاشِيًا أَفْضَلُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَ الْمُشَاةَ عَلَى الرُّكْبَانِ ، فَقَالَ { يَأْتُوك رِجَالًا ، وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ } ، وَلَهَذَا كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بَعْدَ مَا كُفَّ بَصَرُهُ يَتَأَسَّفُ عَلَى تَرْكِهِ الْحَجَّ مَاشِيًا .
{

وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ يَمْشِي فِي طَرِيقِ الْحَجِّ وَالْجَنَائِبُ تُقَادُ بِجَنْبِهِ فَقِيلَ لَهُ : أَلَا تَرْكَبُ فَقَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : مَنْ مَشَى فِي طَرِيقِ الْحَجِّ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ حَسَنَةً مِنْ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ ، قِيلَ : وَمَا حَسَنَاتُ الْحَرَمِ قَالَ : الْوَاحِدَةُ بِسَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ } فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمَشْيَ أَفْضَلُ قُلْنَا : إذَا رَكِبَ فَقَدْ أَدَّى أَنْقَصَ مِمَّا الْتَزَمَ فَعَلَيْهِ لِذَلِكَ دَمٌ فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا ، وَقَدْ كَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْمَشْيَ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ ، وَإِنَّمَا كَرِهَ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْمَشْيِ ، وَقَالَ : إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا سَاءَ خُلُقُهُ فَجَادَلَ رَفِيقَهُ ، وَالْجِدَالُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَإِنْ اخْتَارَ الْمَشْيَ فَالصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ مِنْ بَيْتِهِ ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - : يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ مِنْ الْمِيقَاتِ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمَشْيَ فِي النُّسُكِ ، وَذَلِكَ عِنْدَ إحْرَامِهِ مِنْ الْمِيقَاتِ ، وَلَكِنَّ الْعَادَةَ الظَّاهِرَةَ أَنَّ النَّاسَ بِهَذَا اللَّفْظِ يَقْصِدُونَ الْمَشْيَ مِنْ بُيُوتِهِمْ ، وَقَدْ قَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } قَالَ : إتْمَامُهُمَا أَنْ تُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِكَ فَمِيقَاتُ الرَّجُلِ فِي الْإِحْرَامِ مَنْزِلُهُ ، وَلَكِنْ يُرَخَّصُ لَهُ فِي تَأْخِيرِ الْإِحْرَامِ إلَى الْمِيقَاتِ ، وَلَوْ أَحْرَمَ مِنْ بَيْتِهِ لَا إشْكَالَ أَنَّهُ يَمْشِي مِنْ بَيْتِهِ .
فَكَذَلِكَ إذَا أَخَّرَ الْإِحْرَامَ قُلْنَا : يَمْشِي مِنْ بَيْتِهِ كَمَا الْتَزَمَ ثُمَّ لَا يَرْكَبُ إلَى أَنْ يَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْخُرُوجِ مِنْ الْإِحْرَامِ بِهِ يَحْصُلُ فَإِنَّ تَمَامَ التَّحَلُّلِ فِي حَقِّ النِّسَاءِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالطَّوَافِ .
وَإِذَا اخْتَارَ الْعُمْرَةَ مَشَى إلَى أَنْ يَحْلِقَ

فَإِنْ قَرَنَ بِهَذِهِ الْعُمْرَةِ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّ الْقَارِنَ يَأْتِي بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النُّسُكَيْنِ بِكَمَالِهِ فَنُسُكُ الْعُمْرَةِ الْتَزَمَهُ بِالنَّذْرِ وَالْحَجُّ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ ، وَقَدْ أَدَّاهُمَا بِصِفَةِ الْكَمَالِ فَعَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ لِذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ رَكِبَ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِرُكُوبِهِ مَعَ دَمِ الْقِرَانِ

( قَالَ ) : وَكُلُّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ فِي الْمَنَاسِكِ جَازَ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي بَدَنَةٍ سِتَّةُ نَفَرٍ قَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ الدِّمَاءُ فِيهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَّزَ ذَلِكَ فِي كُلِّ سَبْعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ جِنْسُ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ وَاحِدًا أَوْ مُخْتَلِفًا فِي حُكْمِ الْجَوَازِ حَتَّى إذَا قَصَدَ بَعْضُهُمْ دَمَ الْمُتْعَةِ وَبَعْضُهُمْ دَمَ الْإِحْصَارِ وَجَزَاءَ الصَّيْدِ فَذَلِكَ جَائِزٌ بِخِلَافِ مَا إذَا قَصَدَ بَعْضُهُمْ اللَّحْمَ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ إرَاقَةُ دَمٍ هُوَ قُرْبَةٌ ، وَإِرَاقَةُ الدَّمِ فِي كَوْنِهِ قُرْبَةً لَا يَتَجَزَّأُ ، فَإِذَا قَصَدَ بَعْضُهُمْ اللَّحْمَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ خَالِصًا فَأَمَّا عِنْدَ اخْتِلَافِ جِهَاتِ الْقُرْبَةِ فَقَصَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فَقَطْ فَلِهَذَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِهِ ، وَلَوْ كَانَ كُلُّهُ جِنْسًا وَاحِدًا كَانَ أَحَبَّ إلَيَّ ؛ لِأَنَّ دِمَاءَ الْقُرَبِ مُخْتَلِفَةٌ بَعْضُهَا لَا يَحِلُّ التَّنَاوُلُ مِنْهُ لِلْأَغْنِيَاءِ كَدِمَاءِ الْكَفَّارَاتِ وَبَعْضُهَا يَحِلُّ فَإِذَا اتَّحَدَ الْجِنْسُ فَقَدْ اتَّحَدَ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي الْمَذْبُوحِ فَيَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الْجَوَازِ

( قَالَ ) : فَإِذَا نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَوَى مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أَوْ مَسْجِدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ مَسْجِدًا آخَرَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
أَمَّا صِحَّةُ نِيَّتِهِ فَلِأَنَّهَا مُطَابِقَةٌ لِلَفْظِهِ ، وَالْمَسَاجِدُ كُلُّهَا بُيُوتُ اللَّهِ تَعَالَى ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ } وَإِذَا عُلِمَتْ نِيَّتُهُ صَارَ ذَلِكَ كَالْمَلْفُوظِ بِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ سَائِرَ الْمَسَاجِدِ يُبَاحُ دُخُولُهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَلَا يَصِيرُ بِهِ مُلْتَزِمًا لِلْإِحْرَامِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ : أَنَا أَمْشِي إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ : فَإِنْ نَوَى بِهِ الْعِدَةَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمَوَاعِيدَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ ، وَلَكِنْ يُنْدَبُ إلَى الْوَفَاءِ بِالْوَعْدِ ، وَإِنْ نَوَى بِهِ النَّذْرَ كَانَ نَذْرًا وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ نَذْرٌ ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ نَوَى شَيْئًا مِنْ الْمَسَاجِدِ فَهُوَ عَلَى الْكَعْبَةِ لِلْعَادَةِ الظَّاهِرَةِ فَإِنَّ النَّاسَ إذَا أَطْلَقُوا هَذِهِ اللَّفْظَةَ يُرِيدُونَ بِهَا الْكَعْبَةَ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ : عَلَى الْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ ، أَوْ إلَى الْكَعْبَةِ فَهُوَ وَقَوْلُهُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ سَوَاءٌ وَقَوْلُهُ ، وَإِنْ قَالَ : عَلَى الْمَشْيِ إلَى الْحَرَمِ أَوْ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَخْذًا بِالْقِيَاسِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَا يُطْلِقُونَ هَذَا اللَّفْظَ عَادَةً لِإِرَادَةِ الْتِزَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ ثُمَّ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ بِمَنْزِلَةِ الْفِنَاءِ لِلْكَعْبَةِ ، وَالْحَرَمُ بِمَنْزِلَةِ الْفِنَاءِ لِمَكَّةَ فَلَا يُجْعَلُ ذِكْرُ الْفِنَاءِ كَذِكْرِ الْأَصْلِ فِي النَّذْرِ بَلْ يُجْعَلُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى الصَّفَا أَوْ إلَى الْمَرْوَةِ أَوْ إلَى مَقَامِ إبْرَاهِيمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ - فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ

تَعَالَى - قَالَا : نَأْخُذُ بِالِاحْتِيَاطِ أَوْ بِالِاسْتِحْسَانِ فِي هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْحَرَمِ أَوْ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَّا بِالْإِحْرَامِ فَصَارَ بِهِمَا مُلْتَزِمًا لِلْإِحْرَامِ

( قَالَ ) : وَلَوْ قَالَ : عَلَى السَّفَرِ إلَى مَكَّةَ أَوْ الذَّهَابِ أَوْ الْإِتْيَانِ إلَى مَكَّةَ أَوْ الرُّكُوبِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَالْقِيَاسُ فِي الْأَلْفَاظِ كُلِّهَا وَاحِدٌ ، وَلَكِنْ فِيمَا تَعَارَفَ النَّاسُ الْتِزَامَ النُّسُكِ بِهِ تَرَكْنَا الْقِيَاسَ فِيهِ لِلْعُرْفِ فَمَا لَا عُرْفَ فِيهِ أَخَذْنَا بِالْقِيَاسِ ، فَإِنْ قَالَ : إنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا فَلِلَّهِ عَلَيَّ حَجَّةٌ يَوْمَ أُكَلِّمُهُ يَنْوِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ يَوْمَ يُكَلِّمُهُ فَكَلَّمَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ حَجَّةٌ يَقْضِيهَا مَتَى شَاءَ ، وَلَمْ يَكُنْ مُحْرِمًا بِهَا يَوْمئِذٍ مَا لَمْ يُحْرِمْ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ : عَلَيَّ حَجَّةٌ الْيَوْمَ كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَيْهِ يُحْرِمُ بِهَا مَتَى شَاءَ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهَا فِي ذِمَّتِهِ وَالشُّرُوعُ فِي الْأَدَاءِ لَا يَتَّصِلُ بِالِالْتِزَامِ فِي الذِّمَّةِ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ فَإِنَّ مَنْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ الْيَوْمَ لَا يَصِيرُ صَائِمًا بِنَذْرِهِ ، وَالْإِحْرَامُ شُرُوعٌ فِي الْأَدَاءِ فَلَا يَثْبُتُ بِالِالْتِزَامِ ، وَلِأَنَّ مَا يُوجِبُ عَلَى نَفْسِهِ مُعْتَبَرٌ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِوُجُودِ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا بِنَفْسِ الْوُجُوبِ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا بِمُجَرَّدِ مَا قَالَ : وَإِنْ وَصَلَ الِاسْتِثْنَاءَ بِنَذْرِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُخْرِجُ الْكَلَامَ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ وَاسْتَثْنَى فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ } ، وَلَوْ قَالَ لِآخَرَ : عَلَيَّ حَجَّةٌ إنْ شِئْتَ ، فَقَالَ : قَدْ شِئْتُ فَهُوَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ تَعْلِيقَ النَّذْرِ بِالشَّرْطِ صَحِيحٌ فَإِذَا عَلَّقَهُ بِمَشِيئَتِهِ وَشَاءَ جُعِلَ كَأَنَّهُ أَرْسَلَ النَّذْرَ عِنْدَ ذَلِكَ فَيَلْزَمُهُ كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ، وَقَوْلُهُ عَلَيَّ حَجَّةٌ مِثْلُ قَوْلِهِ لِلَّهِ عَلَيَّ حَجَّةٌ ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ لَا يَكُونُ إلَّا لِلَّهِ تَعَالَى وَالِالْتِزَامُ بِقَوْلِهِ " عَلَيَّ " .
وَلَوْ قَالَ : إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَأَنَا

أُحْرِمُ فَإِنْ نَوَى بِهِ الْعِدَةَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ نَوَى بِهِ الْإِيجَابَ لَزِمَهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ إمَّا حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ لَفْظِهِ عِدَةٌ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَلْزَمُهُ ؛ لِأَنَّ فِي عُرْفِ اللِّسَانِ يُرَادُ بِمِثْلِهِ التَّحْقِيقُ لِلْحَالِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُؤَذِّنَ يَقُولُ " أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ " وَالشَّاهِدُ يَقُولُ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي " أَشْهَدُ " وَيُرِيدُ بِهِ التَّحْقِيقَ لَا الْعِدَةَ ، وَقَوْلُهُ " أَنَا أُهْدِي " بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنَا أُحْرِمُ

( قَالَ ) : وَإِنْ قَالَ : إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَأَنَا أَحُجُّ بِفُلَانٍ فَحَنِثَ فَإِنْ كَانَ نَوَى فَأَنَا أَحُجُّ وَهُوَ مَعَنَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ بِهِ ، وَإِنْ نَوَى أَنْ يُحْجِجَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُحْجِجَهُ كَمَا نَوَى ؛ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ فَقَدْ أَلْصَقَ فُلَانًا بِحَجِّهِ ، وَهَذَا يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ أَنْ يَحُجَّ فُلَانٌ مَعَهُ فِي الطَّرِيقِ وَأَنْ يُعْطِيَ فُلَانًا مَا يَحُجُّ بِهِ بِالْمَالِ ، وَالْتِزَامُ الْأَوَّلِ بِالنَّذْرِ غَيْرُ صَحِيحٍ وَالْتِزَامُ الثَّانِي صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ يُؤَدِّي الْمَالَ عِنْدَ الْيَأْسِ عَنْ الْأَدَاءِ بِالْبَدَنِ فَكَانَ هَذَا فِي حُكْمِ الْبَدَلِ وَحُكْمُ الْبَدَلِ حُكْمُ الْأَصْلِ فَيَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالْبَدَلِ كَمَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالْأَصْلِ فَإِنْ نَوَى الْوَجْهَ الْأَوَّلَ عَمِلَتْ نِيَّتُهُ لِاحْتِمَالِ كَلَامِهِ ، وَلَكِنَّ الْمَنْوِيَّ لَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ فَلَا يَلْزَمُهُ بِهِ شَيْءٌ ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ بِنَفْسِهِ فَقَطْ ، وَإِنْ نَوَى الثَّانِيَ فَقَدْ نَوَى مَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ ، وَإِذَا لَزِمَهُ ذَلِكَ فَإِمَّا أَنْ يُعْطِيَهُ مِنْ الْمَالِ مَا يَحُجُّ بِهِ أَوْ يَحُجُّ بِهِ مَعَ نَفْسِهِ لِيَحْصُلَ بِهِ الْوَفَاءُ بِالنَّذْرِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُحْجِجَ فُلَانًا ؛ لِأَنَّ لَفْظَهُ فِي حَقِّ فُلَانٍ مُحْتَمَلٌ وَالْوُجُوبُ لَا يَحْصُلُ بِاللَّفْظِ الْمُحْتَمَلِ ، وَإِنْ كَانَ قَالَ : فَعَلَيَّ أَنْ أُحْجُجَ فُلَانًا ، فَهَذَا مُحْكَمٌ غَيْرُ مُحْتَمَلٍ فَإِنَّهُ تَصْرِيحُ الِالْتِزَامِ بِإِحْجَاجِ فُلَانٍ ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ بِالنَّذْرِ ، وَلَوْ قَالَ : إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَأَنَا أُهْدِي فُلَانًا فَفَعَلَ ذَلِكَ الْفِعْلَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ بِالْهَدْيِ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي الْمِلْكِ وَهُوَ قَدْ نَذَرَ هَدْيَ مَا لَا يَمْلِكُهُ وَمَا لَا مَالِيَّةَ فِيهِ فَكَانَ نَذْرُهُ لَغْوًا إذْ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى فُلَانٍ لِيُهْدِيَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ فُلَانٌ ذَلِكَ وَلَدَهُ فَحِينَئِذٍ

يَكُونُ عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ الْمَعْرُوفِ فِي نَذْرِ ذِبْحِ الْوَالِدِ

( قَالَ ) : وَلَوْ قَالَ : إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَأَنَا أُهْدِي كَذَا وَسَمَّى شَيْئًا مِنْ مَالِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَهُ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَنْ يُهْدِيَ مَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ ، وَالْهَدْيُ قُرْبَةٌ وَالْتِزَامُ الْقُرْبَةِ فِي مَحِلٍّ مَمْلُوكٍ لَهُ صَحِيحٌ كَمَا لَوْ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ ثُمَّ الْإِهْدَاءُ يَكُونُ إلَى مَكَان ، وَذَلِكَ الْمَكَانُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِهِ حَقِيقَةٌ ، وَلَكِنْ صَارَ مَعْلُومًا بِالْعُرْفِ أَنَّهُ مَكَّةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْهَدَايَا { ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ } فَإِذَا تَعَيَّنَ الْمَكَانُ بِهَذَا الْمَعْنَى فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ مِمَّا يُتَقَرَّبُ بِإِرَاقَةِ دَمِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَهُ بِمَكَّةَ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَقَرَّبُ بِإِرَاقَةِ دَمِهِ ، وَإِنَّمَا يَتَقَرَّبُ بِالتَّصَدُّقِ بِهِ فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ مَكَّةَ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُهْدِيَهُ بِنَفْسِهِ كَالدَّارِ وَالْأَرْضِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَهُ بِقِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّ التَّقَرُّبَ يَحْصُلُ بِالْعَيْنِ تَارَةً وَيَحْصُلُ بِمَعْنَى الْمَالِيَّةِ أُخْرَى ، فَإِذَا كَانَتْ الْعَيْنُ لَا تُحَوَّلُ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان عَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ الْتِزَامُ التَّصَدُّقِ بِمَالِيَّتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَ قِيمَتَهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ مَكَّةَ ، وَإِنْ أَعْطَاهُ حَجَبَةَ الْبَيْتِ أَجْزَأَهُ بَعْدَ أَنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ ؛ لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهِمْ مِنْ الْمَسَاكِينِ .
( قَالَ ) : وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ : فَثَوْبِي هَذَا سِتْرُ الْبَيْتِ أَوْ قَالَ : أَنَا أَضْرِبُ بِهِ حَطِيمَ الْبَيْتِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَهُ اسْتِحْسَانًا ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ مَا صَرَّحَ بِهِ فِي كَلَامِهِ لَا يَلْزَمُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ فَلَأَنْ لَا يَلْزَمُهُ غَيْرُهُ أَوْلَى .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ إنَّمَا يُرَادُ بِهَذَا اللَّفْظِ الْإِهْدَاءُ بِهِ فَصَارَ اللَّفْظُ عِبَارَةً عَمَّا يُرَادُ بِهِ غَيْرُهُ فَكَأَنَّهُ الْتَزَمَ أَنْ يُهْدِيَهُ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ مَتَى صَارَ عِبَارَةً عَنْ غَيْرِهِ سَقَطَ

اعْتِبَارُهُ فِي نَفْسِهِ حَقِيقَةً

( قَالَ ) : وَإِنْ قَالَ : مَالِي هَدْيٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَ مَالَهُ كُلَّهُ ، قَالَ : بَلَغَنَا عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ فِي مِثْلِ هَذَا : يَتَصَدَّقُ بِمَالِهِ كُلِّهِ وَيُمْسِكُ مِنْهُ قَدْرَ قُوتِهِ ، فَإِذَا أَفَادَ مَالًا يَتَصَدَّقُ بِقَدْرِ مَا أَمْسَكَ وَأَوْرَدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ فِيمَا إذَا قَالَ : مَالِي صَدَقَةٌ ، فَقَالَ : فِي الْقِيَاسِ يَنْصَرِفُ هَذَا إلَى كُلِّ مَالٍ لَهُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَنْصَرِفُ إلَى مَالِ الزَّكَاةِ خَاصَّةً بِخِلَافٍ ، أَمَّا إذَا قَالَ : جَمِيعُ مَا أَمْلِكُ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : مَا ذُكِرَ هُنَا جَوَابُ الْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ الْهَدْيِ فِي كُلِّ مَالٍ كَالْتِزَامِ الصَّدَقَةِ فِي كُلِّ مَالٍ ، وَالْأَصَحُّ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا فَيُقَالَ فِي لَفْظِ الصَّدَقَةِ إنَّمَا حُمِلَ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى مَالِ الزَّكَاةِ خَاصَّةً اعْتِبَارًا لِمَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ الصَّدَقَةِ فِي الْمَالِ مُخْتَصٌّ بِمَالِ الزَّكَاةِ فَكَذَلِكَ مَا يُوجِبُهُ الْعَبْدُ عَلَى نَفْسِهِ ، وَهُنَا إنَّمَا أَوْجَبَ الْهَدْيَ وَمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْهَدْيِ لَا يَخْتَصُّ بِمَالِ الزَّكَاةِ فَكَذَلِكَ مَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ فَلِهَذَا اعْتَبَرْنَا فِيهِ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ ، وَلَكِنَّهُ يُمْسِكُ مِقْدَارَ قُوتِهِ ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى حَاجَةِ غَيْرِهِ ، فَإِذَا أَفَادَ مَالًا تَصَدَّقَ بِمِثْلِ مَا أَمْسَكَ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْمَسَاكِينِ بِهِ ثُمَّ قَالَ : وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ : كُلُّ مَالِي صَدَقَةٌ فِي الْمَسَاكِينِ فَهَذَا مِثْلُ الْأَوَّلِ فِي قَوْلِ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهَذَا الْعَطْفُ يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَا أَوَّلًا أَنَّ الْمَذْكُورَ جَوَابُ الْقِيَاسِ فَإِنَّ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِمَا فِي لَفْظِ الصَّدَقَةِ فِي كِتَابِ الْهِبَةِ ، وَإِنْ قَالَ : إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَغُلَامِي هَذَا هَدْيٌ فَبَاعَهُ ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ

الْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِهِ كَالْمُنْشَإِ ، وَلَوْ أَنْشَأَ النَّذْرَ عِنْدَ ذَلِكَ الْفِعْلِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ فِي مِلْكِهِ فَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَ الشَّرْطُ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْغُلَامُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ حِينَ حَلَفَ ثُمَّ اشْتَرَاهُ ثُمَّ فَعَلَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ بِالنَّذْرِ فِي مَحَلٍّ مُعَيَّنٍ لَا يَصِحُّ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ أَوْ الْإِضَافَةِ إلَى الْمِلْكِ ، وَلَمْ يُوجَدْ الْمِلْكُ وَلَا الْإِضَافَةُ إلَى الْمِلْكِ فِي الْمَحِلِّ وَقْتَ الْيَمِينِ فَلَمْ يَنْعَقِدْ يَمِينُهُ أَصْلًا

( قَالَ ) : وَإِنْ قَالَ : إنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا فَهَذَا الْمَمْلُوكُ هَدْيٌ ثُمَّ اشْتَرَاهُ صَحَّتْ يَمِينُهُ لِوُجُودِ الْإِضَافَةِ إلَى الْمِلْكِ ثُمَّ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ الْكَلَامُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ أَرْسَلَ النَّذْرَ ، وَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ إلَى شِرَاءٍ بَعْدَهُ لَا إلَى شِرَاءٍ سَبَقَهُ

( قَالَ ) : وَإِنْ قَالَ : فَهَذِهِ الشَّاةُ هَدْيٌ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ إلَى مَكَّةَ أَوْ إلَى الْكَعْبَةِ وَهُوَ يَمْلِكُهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يُهْدِيَهَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَطْلَقَ الْتِزَامَ الْهَدْيِ صَحَّ نَذْرُهُ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَكَانِ ، فَإِذَا صَرَّحَ بِهِ كَانَ أَوْلَى

( قَالَ ) : وَإِذَا قَالَ إلَى الْحَرَمِ أَوْ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَمْ يَلْزَمْهُ أَنْ يُهْدِيَهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَزِمَهُ ذَلِكَ عِنْدَهُمَا وَهُوَ نَظِيرُ مَا سَبَقَ مِنْ الْتِزَامِ الْمَشْيِ إلَى الْحَرَمِ أَوْ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَمَّا جُعِلَ ذِكْرُ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ عِنْدَهُمَا كَذِكْرِ مَكَّةَ ، وَلَمْ يُجْعَلْ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَذَلِكَ هُنَا ، فَإِنْ قِيلَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَنْبَغِي أَنْ يَلْزَمَهُ هُنَا ؛ لِأَنَّ ذِكْرَهُ الْحَرَمَ وَالْمَسْجِدَ الْحَرَامَ غَيْرُ مُلْزَمٍ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ ، وَلَكِنَّهُ قَالَ : هَذِهِ الشَّاةُ هَدْيٌ فَتَلْزَمُهُ بِخِلَافِ الْمَشْيِ فَإِنَّ هُنَاكَ لَوْ قَالَ : عَلَيَّ مَشْيٌ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ قُلْنَا هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ : هَذِهِ الشَّاةُ هَدْيٌ إنَّمَا يَلْزَمُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ ذِكْرَ مَكَّةَ يَصِيرُ مُضْمَرًا فِي كَلَامِهِ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ فَإِذَا نَصَّ إلَى الْحَرَمِ أَوْ إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ ذِكْرَ مَكَّةَ مُضْمَرًا فِي كَلَامِهِ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ عِنْدَهُ

( قَالَ ) : وَكُلُّ شَيْءٍ يَجْعَلُهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْمَتَاعِ وَالرَّقِيقِ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَبِيعَهُ وَيَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ أَهْلِ مَكَّةَ ، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِهِ بِالْكُوفَةِ أَجْزَأَهُ ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُجْزِيهِ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْهَدْيَ ، وَالْهَدْيُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي مَوْضِعٍ فَكَانَ مِنْ ضَرُورَةِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ تَعْيِينُ مَسَاكِينِ أَهْلِ مَكَّةَ لِلتَّصَدُّقِ عَلَيْهِمْ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ هُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ مُلْتَزِمٌ لِلْقُرْبَةِ فِي هَذِهِ الْمَحَالِّ وَالْفِعْلُ الَّذِي هُوَ قُرْبَةٌ فِي هَذِهِ الْمَحَالِّ التَّصَدُّقُ بِهَا فَكَأَنَّهُ نَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا وَالتَّصَدُّقُ عَلَى فُقَرَاءِ الْكُوفَةِ كَالتَّصَدُّقِ عَلَى فُقَرَاءِ مَكَّةَ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي التَّصَدُّقِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِسَدِّ خَلَّةِ الْمُحْتَاجِ ، وَفِي هَذَا فُقَرَاءُ مَكَّةَ وَفُقَرَاءُ الْكُوفَةِ سَوَاءٌ

( قَالَ ) : وَكُلُّ هَدْيٍ جَعَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَهُ بِمَكَّةَ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْقُرْبَةِ فِي هَذِهِ الْمَحَالِّ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ ، وَإِرَاقَةُ الدَّمِ لَا تَكُونُ قُرْبَةً إلَّا فِي مَكَان مَخْصُوصٍ وَهُوَ الْحَرَمُ أَوْ زَمَانٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ ، وَفِي لَفْظِهِ مَا يُنْبِئ عَنْ الْمَكَانِ دُونَ الزَّمَانِ ، وَلَهَذَا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَهُ وَبَعْدَ الذَّبْحِ صَارَ الْمَذْبُوحُ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا فَالسَّبِيلُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهِ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَى مَسَاكِينِ مَكَّةَ ، وَإِنْ تَصَدَّقَ عَلَى غَيْرِهِمْ أَجْزَأَهُ عِنْدَنَا لِمَا بَيَّنَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ إنْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرَ بِمِنًى كَمَا هُوَ السُّنَّةُ فِي الْهَدَايَا ، وَإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ أَيَّامِ النَّحْرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَ بِمَكَّةَ ، وَهَذَا عَلَى سَبِيلِ بَيَانِ الْأَوْلَى ، فَأَمَّا حُكْمُ الْجَوَازِ إذَا ذَبَحَهُ فِي الْحَرَمِ جَازَ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مِنًى مَنْحَرٌ وَفِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا مَنْحَرٌ }

( قَالَ ) : وَلَوْ قَالَ : إنْ فَعَلْتُ كَذَا فَعَلَيَّ هَدْيٌ فَفَعَلَهُ كَانَ عَلَيْهِ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ شَاةٌ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْهَدْيِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَتَنَاوَلُ الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ وَالْغَنَمَ فَإِنَّ هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ يُتَقَرَّبُ بِإِرَاقَةِ دَمِهَا إلَّا أَنَّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ يَلْزَمُهُ الْمُتَيَقَّنُ وَهُوَ الشَّاةُ ، فَإِنْ نَوَى الْإِبِلَ أَوْ الْبَقَرَ كَانَ عَلَيْهِ مَا نَوَى ؛ لِأَنَّهُ شَدَّدَ الْأَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ فِي نِيَّتِهِ وَنَوَى التَّعْظِيمَ فِيمَا الْتَزَمَهُ مِنْ الْهَدْيِ فَيَلْزَمُهُ مَا نَوَى وَلَا يَذْبَحُهَا إلَّا بِمَكَّةَ لِتَصْرِيحِهِ بِالْهَدْيِ ، فَإِنْ كَانَ قَالَ : عَلَيَّ بَدَنَةٌ ، فَإِنْ كَانَ نَوَى شَيْئًا مِنْ الْبُدْنِ بِعَيْنِهِ فَعَلَيْهِ مَا نَوَى ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ إذَا كَانَ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ كَلَامِهِ فَهُوَ كَالْمُصَرَّحِ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَعَلَيْهِ بَقَرَةٌ أَوْ جَزُورٌ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْبَدَنَةِ مُشْتَقٌّ مِنْ الْبَدَانَةِ وَهِيَ الضَّخَامَةُ وَالْعِظَمُ ، وَذَلِكَ لَا يَتَنَاوَلُ الشَّاةَ ، وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ الْبَقَرَةَ وَالْجَزُورَ هَكَذَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ لَفَظَّةَ الْبَدَنَةِ لَا تَتَنَاوَلُ إلَّا الْجَزُورَ فَإِنَّ سَائِلًا سَأَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ صَاحِبًا لَنَا أَوْجَبَ بَدَنَةً أَفَتُجْزِي الْبَقَرَةُ ، فَقَالَ : مِمَّ صَاحِبُكُمْ ، فَقَالَ : مِنْ بَنِي رَبَاحٍ ، فَقَالَ : وَمَتَى اقْتَنَتْ بَنُو رَبَاحٍ الْبَقَرَ ، وَإِنَّمَا وَهَمَ صَاحِبُكُمْ الْإِبِلَ ثُمَّ إنْ كَانَ نَوَى أَنْ يَنْحَرَهَا بِمَكَّةَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْحَرَهَا إلَّا بِمَكَّةَ كَمَا نَوَى لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ كَالْمُصَرَّحِ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ نَحَرَهَا حَيْثُ شَاءَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : لَا يُجْزِئُهُ إلَّا أَنْ يَنْحَرَهَا بِمَكَّةَ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ الْتَزَمَ التَّقَرُّبَ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ ،

وَإِرَاقَةُ الدَّمِ لَا تَكُونُ قُرْبَةً إلَّا فِي مَكَان مَخْصُوصٍ أَوْ زَمَانٍ مَخْصُوصٍ ، وَإِذَا لَمْ يَخْتَصَّ هُنَا بِالزَّمَانِ يَخْتَصُّ بِالْمَكَانِ وَهُوَ الْحَرَمُ كَمَا لَوْ أَوْجَبَهُ بِلَفْظَةِ الْهَدْيِ وَهُمَا قَالَا : كَمَا لَا يَخْتَصُّ بِالزَّمَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِالْمَكَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفَظَّةِ الْبَدَنَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِخِلَافِ لَفْظَةِ الْهَدْيِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى مَكَان أَوْ زَمَانٍ عَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ الْتِزَامُ التَّقَرُّبِ وَالتَّصَدُّقِ بِاللَّحْمِ ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ فِي أَيِّ مَوْضِعِ نَحْرٍ ، وَهُوَ قِيَاسُ مَا لَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ جَزُورٌ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْحَرَ فِي أَيِّ مَكَان شَاءَ ، وَلَكِنْ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فَيَقُولُ : لَا عَادَةَ فِي اسْتِعْمَالِ لَفْظَةِ الْجَزُورِ فِي مَعْنَى الْهَدْيِ بِخِلَافِ لَفْظَةِ الْبَدَنَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ اسْمَ الْبَدَنَةِ لَا يَنْطَلِقُ إلَّا عَلَى مَا هُوَ مُعَدٌّ لِلْقُرْبَةِ كَاسْمِ الْهَدْيِ بِخِلَافِ اسْمِ الْجَزُورِ وَلِمَعْنَى الْقُرْبَةِ جَعَلْنَا اسْمَ الْبَدَنَةِ مُتَنَاوِلًا لِلْبَقَرَةِ وَالْجَزُورِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُجْزِي فِي الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا عَنْ سَبْعَةٍ فَعَرَفْنَا أَنَّ مَعْنَى التَّقَرُّبِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ مُعْتَبَرٌ فِي لَفْظَةِ الْبَدَنَةِ كَمَا هُوَ مُعْتَبَرٌ فِي لَفْظَةِ الْهَدْيِ فَكَانَ مُخْتَصًّا بِالْحَرَمِ

( قَالَ ) : وَلَا يُقَلِّدُ إلَّا هَدْيَ مُتْعَةٍ أَوْ قِرَانٍ أَوْ تَطَوُّعٍ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ دُونَ الْغَنَمِ .
وَالْكَلَامُ فِي فُصُولٍ : أَحَدُهَا - أَنَّ التَّقْلِيدَ فِي الْهَدَايَا سُنَّةٌ ثَبَتَتْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ } وَصَحَّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلَّدَ هَدَايَاهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ } ، وَصِفَةُ التَّقْلِيدِ هُوَ أَنْ يُعَلِّقَ عَلَى عُنُقِ الْبَدَنَةِ نَعْلَ أَوْ قِطْعَةَ أَدَمٍ أَوْ عُرْوَةَ مُزَادَةٍ ، قِيلَ : وَالْمَعْنَى فِيهِ إعْلَامُ النَّاسِ أَنَّ هَذَا أُعِدَّ لِلتَّطَوُّعِ بِإِرَاقَةِ دَمِهِ فَيَصِيرُ جِلْدُهُ عَنْ قَرِيبٍ مِثْلَ هَذِهِ الْقِطْعَةِ مِنْ الْجِلْدِ ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ التَّشْهِيرُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّشْهِيرَ فِيمَا هُوَ نُسُكٌ دُونَ مَا هُوَ جَبْرٌ ، وَلَهَذَا لَا يُقَلِّدُ إلَّا هَدْيَ مُتْعَةٍ أَوْ قِرَانٍ أَوْ تَطَوُّعٍ ، وَالْمَقْصُودُ أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنْ الْمَاءِ وَالْعَلَفِ إذَا عُلِمَ أَنَّهُ هَدْيٌ ، وَهَذَا فِيمَا يَبْعُدُ عَنْ صَاحِبِهِ فِي الرَّعْيِ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ دُونَ الْغَنَمِ فَإِنَّ الْغَنَمَ يَعْدِمُ إذَا لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ مَعَهُ فَلِهَذَا يُقَلِّدُ الْغَنَمَ ، وَهَذَا عِنْدَنَا ، وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُقَلِّدُ الْغَنَمَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ التَّقْلِيدَ سُنَّةٌ فِي الْهَدَايَا ، وَالْغَنَمُ مِنْ الْهَدَايَا ، وَقَدْ وَرَدَ فِيهِ أَثَرٌ ، وَلَكِنَّهُ شَاذٌّ فَلَمْ نَأْخُذْ بِهِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ تَقْلِيدَ الْغَنَمِ غَيْرُ مُعْتَادٍ فِي النَّاسِ ظَاهِرًا بِخِلَافِ تَقْلِيدِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ .
( قَالَ ) : وَالتَّجْلِيلُ حَسَنٌ ؛ لِأَنَّ هَدَايَا رَسُولِ اللَّهِ كَانَتْ مُقَلَّدَةً مُجَلَّلَةً حَيْثُ { قَالَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : تَصَدَّقْ بِجِلَالِهَا وَخِطَامِهَا } ، وَإِنْ تَرَكَ التَّجْلِيلَ لَمْ يَضُرَّهُ وَالتَّقْلِيدُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ التَّجْلِيلِ ؛ لِأَنَّ لِلتَّقْلِيدِ ذِكْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ التَّجْلِيلِ .
وَأَمَّا الْإِشْعَارُ فَهُوَ مَكْرُوهٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعِنْدَهُمَا هُوَ حَسَنٌ فِي الْبَدَنَةِ

، وَإِنْ تَرَكَ لَمْ يَضُرَّهُ ، وَصِفَةُ الْإِشْعَارِ هُوَ أَنْ يَضْرِبَ بِالْمِبْضَعِ فِي أَحَدِ جَانِبَيْ سَنَامِ الْبَدَنَةِ حَتَّى يَخْرُجَ الدَّمُ مِنْهُ ثُمَّ يُلَطِّخَ بِذَلِكَ الدَّمَ سَنَامَهُ ، سُمِّيَ ذَلِكَ إشْعَارًا بِمَعْنَى أَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ عَلَامَةً لَهُ ، وَالْإِشْعَارُ هُوَ الْإِعْلَامُ ، وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : الْإِشْعَارُ فِي الْجَانِبِ الْأَيْسَرِ مِنْ السَّنَامِ ، وَقَدْ صَحَّ فِي الْحَدِيثِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَشْعَرَ الْبُدْنَ بِيَدِهِ } وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ظَاهِرٌ حَتَّى قَالَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : مَا كَرِهَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَصْلَ الْإِشْعَارِ وَكَيْف يَكْرَهُ ذَلِكَ مَعَ مَا اشْتَهَرَ فِيهِ مِنْ الْآثَارِ ، وَإِنَّمَا كَرِهَ إشْعَارَ أَهْلِ زَمَانِهِ ؛ لِأَنَّهُ رَآهُمْ يَسْتَقْصُونَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ يَخَافُ مِنْهُ هَلَاكَ الْبَدَنَةِ لِسِرَايَتِهِ خُصُوصًا فِي حَرِّ الْحِجَازِ فَرَأَى الصَّوَابَ فِي سَدِّ هَذَا الْبَابِ عَلَى الْعَامَّةِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُرَاعُونَ الْحَدَّ ، فَأَمَّا مَنْ وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ قَطَعَ الْجِلْدَ فَقَطْ دُونَ اللَّحْمِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ ثُمَّ حُجَّتُهُمَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْإِشْعَارِ وَالتَّقْلِيدِ إعْلَامٌ بِأَنَّهَا بَدَنَةٌ حَتَّى إذَا ضَلَّتْ رُدَّتْ ، وَإِذَا وَرَدَتْ الْمَاءَ وَالْعَلَفَ لَمْ تُمْنَعْ لَكِنَّ هَذَا الْمَقْصُودَ بِالتَّقْلِيدِ لَا يَتِمُّ ؛ لِأَنَّ الْقِلَادَةَ تُحَلُّ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَسْقُطَ مِنْهُ فَإِنَّمَا يَتِمُّ بِالْإِشْعَارِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفَارِقُهُ فَكَانَ الْإِشْعَارُ حَسَنًا لِهَذَا وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ مَعْنَى الْإِعْلَامِ بِالتَّقْلِيدِ يَحْصُلُ وَهُوَ لِإِكْرَامِ الْبَدَنَةِ ، وَلَيْسَ فِي الْإِشْعَارِ مَعْنَى الْإِكْرَامِ بَلْ ذَلِكَ يُؤْذِي الْبَدَنَةَ ، وَلِأَنَّ التَّجْلِيلَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ مَنْدُوبًا لِدَفْعِ أَذَى الذُّبَابِ عَنْ الْبَدَنَةِ ، وَالْإِشْعَارُ مِنْ جَوَالِبِ الذُّبَابِ فَلِهَذَا

كَرِهَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى

( قَالَ ) : وَلَا يَصِيرُ بِالْإِشْعَارِ وَالتَّجْلِيلِ مُحْرِمًا ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُحْرِمًا بِالتَّقْلِيدِ وَأَصْلُ هَذَا أَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يَنْعَقِدُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ عِنْدَنَا ، وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَنْعَقِدُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ وَجَعَلَ الْإِحْرَامَ قِيَاسَ الصَّوْمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ الْتِزَامُ الْكَفِّ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْعِبَادَةِ يَحْصُلُ الشُّرُوعُ فِيهَا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ كَالصَّوْمِ ، وَعَلَى قَوْلِنَا الْإِحْرَامُ قِيَاسُ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ لِأَدَاءِ الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ ، وَذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْكَانٍ مُخْتَلِفَةٍ كَالصَّلَاةِ فَكَمَا لَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي الصَّلَاةِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ بِدُونِ التَّحْرِيمَةِ فَكَذَلِكَ فِي الْإِحْرَامِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلصَّوْمِ إلَّا رُكْنٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْإِمْسَاكُ ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِزَمَانِهِ فَكَانَ الْوَقْتُ لِلصَّوْمِ مِعْيَارًا ، وَلَهَذَا لَا يَصِحُّ فِي كُلِّ زَمَانٍ إلَّا صَوْمٌ وَاحِدٌ فَبَعْدَ وُجُودِ النِّيَّةِ وَدُخُولِ وَقْتِ الْأَدَاءِ لَا حَاجَةَ إلَى مُبَاشَرَةِ فِعْلِ الْأَدَاءِ فَلِهَذَا صَارَ شَرْعًا فِيهِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ ، وَهُنَا الزَّمَانُ لَيْسَ بِمِعْيَارٍ لِلْحَجِّ ، وَلَهَذَا صَحَّ أَدَاءُ النَّفْلِ فِي الزَّمَانِ الَّذِي يُؤَدَّى فِيهِ الْفَرْضُ ، وَإِنَّمَا أَدَاؤُهُ بِأَفْعَالِهِ وَبِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ لَا يَصِيرُ مُبَاشِرًا لِلْفِعْلِ فَلَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي الْأَدَاءِ أَيْضًا ، وَلَكِنْ لَوْ قَلَّدَ الْبَدَنَةَ بِنِيَّةِ الْإِحْرَامِ أَوْ أَمَرَ فَقُلِّدَ لَهُ وَهُوَ يَنْوِي الْإِحْرَامَ صَارَ مُحْرِمًا عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا إلَّا بِالتَّلْبِيَةِ عَلَى الْقَوْلِ الَّذِي يَقُولُ " لَا يَنْعَقِدُ الْإِحْرَامُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ " وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْفِعْلَ لَا يَقُومُ مَقَامَ الذِّكْرِ فِي التَّحَرُّمِ لِلْعِبَادَةِ كَمَا فِي الصَّلَاةِ لَمَّا كَانَ الشُّرُوعُ فِيهَا بِالتَّكْبِيرِ لَا يَقُومُ الْفِعْلُ فِيهِ مَقَامَهُ حَتَّى لَوْ رَكَعَ أَوْ

سَجَدَ بِنِيَّةِ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ لَا يَصِيرُ شَرْعًا وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ نُسُكٌ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِي الصَّلَاةِ ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ تَقْلِيدَ الْهَدْيِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ إرَاقَةِ دَمِ الْهَدْيِ وَبِإِرَاقَةِ دَمِ الْهَدْيِ عَلَى قَصْدِ الْإِحْرَامِ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا فَكَذَلِكَ بِالتَّقْلِيدِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ } إلَى أَنْ قَالَ { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُ الْإِحْرَامِ فَفِي قَوْلِهِ { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْإِحْرَامَ يَحْصُلُ بِتَقْلِيدِ الْهَدْيِ ، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ الصَّحَابَةِ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ حَتَّى رُوِيَ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّهُ كَانَ يَغْسِلُ رَأْسَهُ فَبَعْدَ مَا غَسَلَ أَحَدَ شِقَّيْ رَأْسِهِ نَظَرَ ، فَإِذَا هَدَايَاهُ قَدْ قُلِّدَتْ فَقَامَ وَتَرَكَ غَسْلَ الشِّقِّ الْآخَرِ ، وَقَالَ : أَمَّا إنْ قُلِّدَتْ هَذِهِ الْهَدَايَا لَهُ فَقَدْ أَحْرَمَ .
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْحَجَّ يُشْبِهُ الصَّلَاةَ مِنْ وَجْهٍ وَالصَّوْمَ مِنْ وَجْهٍ فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَيْسَ فِي أَثْنَائِهِ ذِكْرٌ مَفْرُوضٌ كَانَ مُشَبَّهًا بِالصَّوْمِ وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَرْكَانٍ مُخْتَلِفَةٍ كَانَ مُشَبَّهًا بِالصَّلَاةِ فَيُوَفِّرُ عَلَى الشَّبَهَيْنِ حَظَّهُمَا مِنْ الْحُكْمِ فَنَقُولُ بِشَبَهِهِ بِالصَّلَاةِ لَا يَصِيرُ شَارِعًا فِيهِ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ وَبِشَبَهِهِ بِالصَّوْمِ يَصِيرُ شَارِعًا فِيهِ ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِالذِّكْرِ إذَا أَتَى بِفِعْلٍ يَقُومُ مَقَامَ الذِّكْرِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّلْبِيَةِ إظْهَارُ إجَابَةِ الدَّعْوَةِ وَبِتَقْلِيدِ الْهَدْيِ يَحْصُلُ إظْهَارُ الْإِجَابَةِ أَيْضًا وَفَرَّقَ بَيْنَ التَّجْلِيلِ وَالتَّقْلِيدِ ، فَقَالَ بِالتَّجْلِيلِ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا ، وَإِنْ نَوَى ؛ لِأَنَّ التَّجْلِيلَ لَا يَخْتَصُّ بِهِ مَا أُعِدَّ لِلْقُرْبَةِ فَقَدْ تُجَلَّلُ الْبَدَنَةُ لَا عَلَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ بِهَا فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلَ

الْإِجَابَةِ بِخِلَافِ التَّقْلِيدِ بِالصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا عِنْدَ قَصْدِ التَّقَرُّبِ فَكَانَ إظْهَارًا لِلْإِجَابَةِ ، وَكَذَلِكَ بِالْإِشْعَارِ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا .
أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَلَا يُشْكَلُ ؛ لِأَنَّ الْإِشْعَارَ مَكْرُوهٌ عِنْدَهُ فَكَيْفَ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِهِ .
وَعِنْدَهُمَا الْإِشْعَارُ بِمَنْزِلَةِ التَّجْلِيلِ فَإِنَّهُ إخْرَاجُ شَيْءٍ مِنْ الدَّمِ مِنْ الْبَدَنَةِ ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِحَالِ التَّقَرُّبِ بِهَا فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ دَلِيلَ الْإِجَابَةِ فَلِهَذَا لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا ثُمَّ إذَا نَوَى عِنْدَ التَّقْلِيدِ حَجَّةً أَوْ عُمْرَةً فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى ؛ لِأَنَّ التَّقْلِيدَ بِمَنْزِلَةِ التَّلْبِيَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فِي حَجَّةٍ أَوْ عُمْرَةٍ إنَّمَا نَوَى الْإِحْرَامَ فَقَطْ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَتَى بِنِيَّةِ الْإِحْرَامِ مُطْلَقًا ، فَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُ حَجًّا ، وَإِنْ شَاءَ جَعَلَهُ عُمْرَةً ، وَإِنْ قَلَّدَ الشَّاةَ بِنِيَّةِ الْإِحْرَامِ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّقْلِيدَ فِي الشَّاةِ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ فَلَا يَصِيرُ بِهِ مُحْرِمًا ، وَإِنْ قَلَّدَ الْهَدْيَ وَبَعَثَ بِهِ وَهُوَ لَا يَنْوِي الْإِحْرَامَ ثُمَّ خَرَجَ فِي أَثَرِهِ لَمْ يَصِرْ مُحْرِمًا حَتَّى يُدْرِكَ هَدْيَهُ ، فَإِذَا أَدْرَكَهُ وَسَارَ مَعَهُ صَارَ مُحْرِمًا الْآنَ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ { عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ : كُنْتُ أَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدَيَّ فَقَلَّدَهَا وَبَعَثَ بِهَا وَأَقَامَ بِأَهْلِهِ حَلَالًا لَا يَحْرُمُ بِهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ } فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا بِمُجَرَّدِ التَّقْلِيدِ .
وَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانُوا مُخْتَلِفِينَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقَاوِيلَ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ إذَا قَلَّدَهَا صَارَ مُحْرِمًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إذَا تَوَجَّهَ فِي أَثَرِهَا صَارَ مُحْرِمًا وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : إذَا أَدْرَكَهَا فَسَاقَهَا صَارَ مُحْرِمًا فَأَخَذْنَا

بِالْمُتَيَقَّنِ مِنْ ذَلِكَ وَقُلْنَا إذَا أَدْرَكَهَا وَسَاقَهَا صَارَ مُحْرِمًا لِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إلَّا فِي بَدَنَةِ الْمُتْعَةِ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا حَتَّى يَخْرُجَ عَلَى أَثَرِهَا ، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْهَا اسْتِحْسَانًا ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا حَتَّى يُدْرِكَهَا فَيَسُوقَهَا كَمَا فِي هَدْيِ التَّطَوُّعِ ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ ، فَقَالَ : لِهَدْيِ الْمُتْعَةِ نَوْعُ اخْتِصَاصٍ لِبَقَاءِ الْإِحْرَامِ بِسَبَبِهِ فَإِنَّ الْمُتَمَتِّعَ إذَا سَاقَ الْهَدْيَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْ النُّسُكَيْنِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ وَكَمَا كَانَ لَهُ نَوْعُ اخْتِصَاصٍ بِبَقَاءِ الْإِحْرَامِ فَكَذَلِكَ بِابْتِدَاءِ الشُّرُوعِ فِي الْإِحْرَامِ لِهَدْيِ الْمُتْعَةِ نَوْعُ اخْتِصَاصٍ ، وَذَلِكَ فِي أَنْ يَصِيرَ مُحْرِمًا بِنَفْسِ التَّوَجُّهِ ، وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ الْهَدْيَ بِخِلَافِ هَدْيِ التَّطَوُّعِ

( قَالَ ) : وَإِنْ اشْتَرَكَ قَوْمٌ فِي هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَهُمْ يَؤُمُّونَ الْبَيْتَ فَقَلَّدَهَا بَعْضُهُمْ بِأَمْرِ أَصْحَابِهِ صَارُوا مُحْرِمِينَ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ بِأَمْرِ شُرَكَائِهِ كَفِعْلِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ ، وَإِنْ قَلَّدَهَا بِغَيْرِ أَمْرِهِمْ صَارَ هُوَ مُحْرِمًا دُونَهُمْ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ بِغَيْرِ أَمَرِهِمْ لَا يَقُومُ مَقَامَ فِعْلِهِمْ وَبِدُونِ فِعْلٍ مِنْ جِهَتِهِمْ لَا يَصِيرُونَ مُحْرِمِينَ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَلَّدَهَا أَجْنَبِيٌّ بِغَيْرِ أَمْرِهِمْ لَا يَصِيرُونَ مُحْرِمِينَ فَكَذَلِكَ إذَا قَلَّدَ بَعْضُهُمْ بِغَيْرِ أَمْرِ الشُّرَكَاءِ يَصِيرُ هُوَ مُحْرِمًا دُونَهُمْ

( قَالَ ) : وَيَتَصَدَّقُ بِجِلَالِ هَدْيِهِ إذَا نَحَرَهُ { لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَصَدَّقْ بِجِلَالِهَا وَخِطَامِهَا } .
( قَالَ ) : وَلَا يُعْطِي شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي أَجْرِ جِزَارَتِهِ لَا مِنْ جِلْدِهِ وَلَا مِنْ لَحْمِهِ وَلَا مِنْ جِلَالِهِ هَكَذَا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا تُعْطِ الْجَزَّارَ مِنْهَا شَيْئًا ، وَقَالَ مَنْ بَاعَ جِلْدَ ضَحِيَّتِهِ فَلَا أُضْحِيَّةَ لَهُ }

( قَالَ ) : وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالْقِرَانِ وَالتَّطَوُّعِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِهِ بِقَوْلِهِ { ، فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا } وَأَدْنَى مَا يَثْبُتُ بِالْأَمْرِ الِاسْتِحْبَابُ فَلِذَلِكَ يُسْتَحَبُّ لَهُ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِأَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ بَعَثَ بِهَدْيٍ مَعَ عَلْقَمَةَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثُلُثٍ وَأَنْ يَأْكُلَ ثُلُثًا وَأَنْ يَبْعَثَ إلَى آلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِثُلُثٍ

( قَالَ ) : وَإِنْ سَاقَ بَدَنَةً لَا يَنْوِي بِهَا الْهَدْيَ قَالَ : إذَا كَانَ سَاقَهَا إلَى مَكَّةَ فَهُوَ هَدْيٌ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا إذَا قَلَّدَهَا وَسَاقَهَا ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُفْعَلُ عَادَةً إلَّا بِالْهَدْيِ فَكَانَ سَوْقُهَا بَعْدَ إظْهَارِ عَلَامَةِ الْهَدْيِ عَلَيْهَا بِمَنْزِلَةِ جَعْلِهِ إيَّاهَا بِلِسَانِهِ هَدْيًا

( قَالَ ) : وَلَا يُجْزِي فِي الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا إلَّا الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ إذَا كَانَ عَظِيمًا فَمَا فَوْقَ ذَلِكَ أَوْ الثَّنِيُّ مِنْ الْمَعْزِ وَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ضَحُّوا بِالثُّنْيَانِ وَلَا تُضَحُّوا بِالْجِذْعَانِ } إلَّا أَنَّ الْجَذَعَ مِنْ الضَّأْنِ إذَا كَانَ عَظِيمًا يُجْزِي لِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَجُلًا سَاقَ جِذْعَانًا إلَى مِنًى فَبَادَتْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ نِعْمَتْ الْأُضْحِيَّةُ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ فَانْتَهِزُوهَا } وَلَمَّا { قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَةِ يَوْمِ النَّحْرِ مَنْ ضَحَّى قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ ، قَالَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ نِيَارٍ : إنِّي ذَبَحْتُ نُسُكِي لِأُطْعِمَ أَهْلِي وَجِيرَانِي ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ فَأَعِدْ نُسُكَكَ ، فَقَالَ : عِنْدِي عَتُودٌ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْنِ ، فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ يُجْزِيكَ وَلَا يُجْزِي أَحَدًا بَعْدَكَ } فَدَلَّ أَنْ مَا دُونَ الثَّنِيِّ مِنْ الْمَعْزِ لَا يَجُوزُ .
وَالْجَذْعُ مِنْ الضَّأْنِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مَا أَتَى عَلَيْهِ سَبْعَةُ أَشْهُرٍ ، وَعِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ مَا تَمَّ لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ ، وَالثَّنِيُّ مِنْ الْغَنَمِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ مَا أَتَى عَلَيْهِ سَنَةٌ وَطَعَنَ فِي الثَّانِيَةِ ، وَعِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ مَا تَمَّ لَهُ سَنَتَانِ ، وَالثَّنِيُّ مِنْ الْمَعْزِ وَالْبَقَرِ مَا تَمَّ لَهُ سَنَتَانِ وَطَعَنَ فِي الثَّالِثَةِ ، وَمِنْ الْإِبِلِ الْجَذْعُ مَا تَمَّ لَهُ أَرْبَعُ سِنِينَ وَالثَّنِيُّ مَا تَمَّ لَهُ خَمْسُ سِنِينَ

( قَالَ ) : وَلَا يُجْزِي فِي الْهَدَايَا الْعَوْرَاءُ أَوْ الْمَقْطُوعَةُ الذَّنَبِ أَوْ الْأُذُنِ اشْتَرَاهَا كَذَلِكَ أَوْ جَدَّتْ عِنْدَهُ بَعْدَ الشِّرَاءِ لِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { اسْتَشْرِفُوا الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ } { وَنَهَى رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُضَحَّى بِالْعَوْرَاءِ الْبَيِّنِ عَوْرُهَا وَالْعَجْفَاءِ الَّتِي لَا تَبْقَى وَالْعَرْجَاءُ الَّتِي لَا تَمْشِي إلَى مَنْسِكِهَا } وَالْحَادِثُ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ بَعْدَ شِرَاءٍ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْجُودِ وَقْتَ الشِّرَاءِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْجَوَازِ ، وَهَكَذَا إنْ أَضْجَعَهَا لِيَذْبَحَهَا فَأَصَابَهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ ، وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ هَذَا لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ ؛ لِأَنَّهَا تَضْطَرِبُ عِنْدَ الذَّبْحِ فَيُصِيبُهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَجُعِلَ عَفْوًا لِهَذَا ، وَلِأَنَّهُ أَضْجَعَهَا لَيُتْلِفَهَا فَتَلِفَ جُزْءٌ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْجَوَازِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ .
( قَالَ : ) : وَإِنْ كَانَ الذَّاهِبُ مِنْ الْعَيْنِ أَوْ الْأُذُنِ أَوْ الذَّنَبِ بَعْضَهُ ، فَإِنْ كَانَ مَا ذَهَبَ مِنْهُ كَثِيرًا يَمْنَعُ الْجَوَازَ أَيْضًا لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُضَحَّى بِالشَّرْقَاءِ وَالْخَرْقَاءِ وَالْمُقَابَلَةِ وَالْمُدَابَرَةِ } فَالشَّرْقَاءُ مَشْقُوقَةُ الْأُذُنِ عَرْضًا وَالْخَرْقَاءُ طُولًا وَالْمُقَابَلَةُ الَّتِي ذَهَبَ قُدَّامُ أُذُنِهَا وَالْمُدَابَرَةُ أَنْ يَكُونَ الذَّاهِبُ خَلْفَ أُذُنِهَا إلَّا أَنَّ الْقَلِيلَ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ عَادَةً فَجُعِلَ عَفْوًا ، وَالْحَدُّ الْفَاصِلُ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنْ يَكُونَ الذَّاهِبُ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الثُّلُثُ كَثِيرٌ } ، وَلَكِنْ جَعَلَهُ مِنْ الْكَثِيرِ الَّذِي يُجْزِي فِي الْوَصِيَّةِ بِخِلَافِ مَا

وَرَاءَهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ حُكْمُهُ مُخَالِفٌ لِلثُّلُثِ وَمَا دُونَهُ ، وَذَكَرَ ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الذَّاهِبَ إذَا كَانَ بِقَدْرِ الرُّبْعِ يُمْنَعُ عَلَى قِيَاسِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَسَائِلِ أَنَّ الرُّبْعَ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْكَمَالِ كَمَا فِي الْمَسْحِ وَالْحَلْقِ ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا إذَا كَانَ الذَّاهِبُ أَكْثَرَ مِنْ الْبَاقِي لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي أَكْثَرَ مِنْ الذَّاهِبِ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّ الْقِلَّةَ وَالْكَثْرَةَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُشْتَرَكَةِ فَإِنَّمَا يَظْهَرُ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ ، وَإِنْ كَانَ الذَّاهِبُ وَالْبَاقِي سَوَاءً لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْجَوَازِ إذَا اسْتَوَى بِالْمُجَوِّزِ يَتَرَجَّحُ الْمَانِعُ ، وَقَالَ : أَبُو يُوسُفَ : أَخْبَرْتُ بِقَوْلِي أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، فَقَالَ : قَوْلِي قَوْلُكَ أَوْ مِثْلُ قَوْلِكَ ، قِيلَ : هَذَا رُجُوعٌ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَى قَوْلِهِ ، وَقِيلَ : هُوَ إشَارَةٌ إلَى التَّفَاوُتِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ

( قَالَ : ) : وَيُجْزِي فِي الْهَدْيِ الْخَصِيُّ وَمَكْسُورَةُ الْقَرْنِ ؛ لِأَنَّ مَا لَا قَرْنَ لَهُ يُجْزِي فَمَكْسُورُ الْقَرْنِ أَوْلَى ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لِلْمَسَاكِينِ فِي قَرْنِ الْهَدْيِ وَأَمَّا جَوَازُ الْخَصِيِّ فَلِأَنَّهُ أَطْيَبُ لَحْمًا ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : مَا زَادَهُ الْخَصَا فِي طِيبَةِ لَحْمِهِ خَيْرٌ لِلْمَسَاكِينِ مِمَّا فَاتَ مِنْ الْخَصِيِّينَ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحِينَ مَوْجُوءَيْنِ يَنْظُرَانِ فِي سَوَادٍ وَيَمْشِيَانِ فِي سَوَادٍ وَيَأْكُلَانِ فِي سَوَادٍ أَحَدِهِمَا عَنْ نَفْسِهِ وَالْآخِرِ عَنْ أُمَّتِهِ }

( قَالَ : ) : فَإِنْ اشْتَرَى هَدْيًا ثُمَّ ضَلَّ مِنْهُ فَاشْتَرَى مَكَانَهُ آخَرَ وَقَلَّدَهُ وَأَوْجَبَهُ ثُمَّ وَجَدَ الْأَوَّلَ ، فَإِنْ نَحَرَهُمَا فَهُوَ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْوَاجِبِ وَزَادَ وَلِأَنَّهُ كَانَ وَعَدَ أَنْ يَنْحَرَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَالْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ ، وَإِنْ نَحَرَ الْأَوَّلَ وَبَاعَ الثَّانِيَ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ مَا أَوْجَبَ الثَّانِيَ لِيَكُونَ أَصْلًا بِنَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا أَوْجَبَهُ لِيَكُونَ خَلَفًا عَنْ الْأَوَّلِ قَائِمًا مَقَامَهُ ، فَإِذَا أَوْجَدَ مَا هُوَ الْأَصْلُ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْخَلَفِ ، وَإِنْ بَاعَ الْأَوَّلَ وَذَبَحَ الْآخَرَ ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُمَا سَوَاءً أَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الثَّانِي أَكْثَرَ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ مِثْلُ الْأَوَّلِ أَوْ أَفْضَلُ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْأَوَّلِ أَكْثَرَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْأَوَّلَ هَدْيًا أَصْلًا فَإِنَّمَا يَجُوزُ إقَامَةُ الثَّانِي مَقَامَ الْأَوَّلِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَكُونَ أَنْقَصَ مِنْ الْأَوَّلِ ، فَإِذَا كَانَ أَنْقَصَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقَدْرِ النُّقْصَانِ ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ أَنْ يَمْنَعَ شَيْئًا مِمَّا جَعَلَهُ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ، فَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ لِيُتِمَّ جَعْلَ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الْمَالِيَّةِ لِلَّهِ تَعَالَى .
وَهَدْيُ الْمُتْعَةِ وَالتَّطَوُّعِ فِي هَذَا سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّهُمَا صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى إذَا جَعَلَهُمَا هَدْيًا فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا ، فَإِنْ عَرَّفَ بِهَدْيِ الْمُتْعَةِ فَهُوَ حَسَنٌ ؛ لِأَنَّ هَدْيَ الْمُتْعَةِ نُسُكٌ فَيَنْبَنِي أَمْرُهُ عَلَى الشُّهْرَةِ ، وَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ التَّقَرُّبُ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ فَالتَّعْرِيفُ فِيهِ لَيْسَ مِنْ الْوَاجِبِ فِي شَيْءٍ ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ لِلْمُتْعَةِ هَدْيَانِ فَنَحَرَ أَحَدَهُمَا حَلَّ ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْوَاحِدِ تَطَوُّعٌ فَلَا يَتَوَقَّفُ حُكْمُ التَّحَلُّلِ عَلَيْهِ

( قَالَ : ) : وَهَدْيُ التَّطَوُّعِ إذَا بَلَغَ الْحَرَمَ فَعَطِبَ فَنَحَرَ وَتَصَدَّقَ بِهِ أَجْزَأَهُ بِخِلَافِ هَدْيِ الْمُتْعَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ مُخْتَصٌّ بِيَوْمِ النَّحْرِ فَلَا يَجُوزُ ذَبْحُهُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ ، فَأَمَّا هَدْيُ التَّطَوُّعِ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِيَوْمِ النَّحْرِ ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ تَبْلِيغُهُ مَحِلَّهُ بِأَنْ يَذْبَحَهُ فِي الْحَرَمِ ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ

( قَالَ : ) : فَإِنْ اشْتَرَى بَدَنَةً لِمُتْعَتِهِ ثُمَّ اشْتَرَكَ سِتَّةُ نَفَرٍ فِيهَا بَعْدَ مَا أَوْجَبَهَا لِنَفْسِهِ خَاصَّةً لَا يَسَعُهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَوْجَبَهَا لِنَفْسِهِ صَارَ الْكُلُّ لَازِمًا عَلَيْهِ ، فَإِنْ قَدَّرَ مَا يُجْزِئُ مِنْ هَدْيِ الْمُتْعَةِ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ وَجَبَ بِإِيجَابِهِ فَإِشْرَاكُهُ الْغَيْرَ بَعْدَ ذَلِكَ مَعَ نَفْسِهِ يَكُونُ رُجُوعًا عَمَّا أَوْجَبَ فِي الْبَعْضِ وَكَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْكُلِّ فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْبَعْضِ ، وَلِأَنَّ إشْرَاكَهُ بَيْعٌ لِلْبَعْضِ مِنْهُمْ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا مِمَّا أَوْجَبَهُ هَدْيًا ، وَإِنْ فَعَلَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالثَّمَنِ ، وَإِنْ كَانَ نَوَى عِنْدَ الشِّرَاءِ أَنْ يُشْرِكَ فِيهَا سِتَّةَ نَفَرٍ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مَا أَوْجَبَ الْكُلَّ عَلَى نَفْسِهِ بِمُجَرَّدِ الشِّرَاءِ فَكَانَ هَذَا وَمَا لَوْ اشْتَرَاهُ السَّبْعَةُ سَوَاءً ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ نِيَّةٌ عِنْدَ الشِّرَاءِ ، وَلَكِنْ لَمْ يُوجِبْهَا حَتَّى أَشْرَكَ فِيهَا سِتَّةَ نَفَرٍ أَجْزَأَهُ ، وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَكُونَ ابْتِدَاءُ الشِّرَاءِ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ أَحَدِهِمْ بِأَمْرِ الْبَاقِينَ حَتَّى تَثْبُتَ الشَّرِكَةُ مِنْهُمْ فِي الِابْتِدَاءِ

( قَالَ : ) : وَإِذَا وَلَدَتْ الْبَدَنَةُ بَعْدَ مَا اشْتَرَاهَا لِهَدْيِهِ ذَبَحَ وَلَدَهَا مَعَهَا ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا وَالْوَلَدُ جُزْءٌ مِنْهَا ، فَإِنْ كَانَ انْفِصَالُهُ بَعْدَ مَا جَعَلَهَا لِلَّهِ تَعَالَى سَرَى حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى إلَيْهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَهَا وَالْوَلَدَ مَعَهَا ، وَإِنْ بَاعَ الْوَلَدَ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ ، وَإِنْ اشْتَرَى بِهَا هَدْيًا فَحَسَنٌ ، وَإِنْ تَصَدَّقَ بِهَا فَحَسَنٌ اعْتِبَارًا لِلْقِيمَةِ بِالْوَلَدِ فَإِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَذْبَحَ ، وَلَوْ تَصَدَّقَ بِهِ كَذَلِكَ أَجْزَأَهُ فَكَذَلِكَ بِقِيمَتِهِ

( قَالَ : ) : وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ فِي الْبَدَنَةِ أَوْ الْأُضْحِيَّةِ فَرَضِيَ وَارِثُهُ أَنْ يَذْبَحَهَا مَعَهُمْ عَنْ الْمَيِّتِ أَجْزَأَهُمْ وَهُوَ الِاسْتِحْسَانُ ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ إذَا لَمْ يُوصِ بِأَنْ يُذْبَحَ عَنْهُ فَقَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ الْقُرْبَةِ عَنْ نَصِيبِهِ فَصَارَ مِيرَاثًا لِوَارِثِهِ وَالْوَارِثُ لَمْ يَقْصِدْ التَّقَرُّبَ بِذَبْحِهِ عَنْ نَفْسِهِ فَخَرَجَ ذَلِكَ الْقَدْرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قُرْبَةً ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ التَّقَرُّبَ بِالذَّبْحِ تَقَرُّبٌ بِطَرِيقِ الْإِتْلَافِ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَنْ الْمَيِّتِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ كَالْعِتْقِ ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ ، فَقَالَ : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّقَرُّبُ وَتَقَرُّبُ الْوَارِثِ بِالتَّصَدُّقِ عَنْ الْمَيِّتِ صَحِيحٌ ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهِ فَكَذَلِكَ تَقَرُّبُهُ بِإِيفَاءِ مَا قَصَدَ الْمُوَرِّثُ فِي نَصِيبِهِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ فَالتَّصَدُّقُ بِهِ يَكُونُ صَحِيحًا

( قَالَ ) : وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ فِي الْبَدَنَةِ كَافِرًا أَوْ مُسْلِمًا يُرِيدُ بِهِ اللَّحْمَ دُونَ الْهَدْيِ لَمْ يُجْزِهِمْ .
أَمَّا إذَا كَانَ أَحَدُهُمْ كَافِرًا فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي نَفْسِهِ لِوُجُودِ مَا يُنَافِي مَعْنَى الْقُرْبَةِ وَهُوَ كُفْرُهُ وَإِرَاقَةُ الدَّمِ الْوَاحِدِ إذَا اجْتَمَعَ فِيهِ مَا يُنَافِي مَعْنَى الْقُرْبَةِ مَعَ الْمُوجِبِ لَهَا يَتَرَجَّحُ الْمُنَافِي ، وَأَمَّا إذَا كَانَ مُرَادُ أَحَدِهِمْ اللَّحْمَ فَلَا يُجْزِئُ الْبَاقِينَ عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : يُجْزِيهِمْ ؛ لِأَنَّ الْمُنَافِيَ لِمَعْنَى الْقُرْبَةِ لَمْ يَتَحَقَّقْ هُنَا لِيَكُونَ مُعَارِضًا وَنَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَنْزِلَةِ هَدْيٍ عَلَى حِدَةٍ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا نَوَى ، وَلَكِنَّنَا نَقُولُ الَّذِي نَوَى اللَّحْمَ فَكَأَنَّهُ نَفَى مَعْنَى الْقُرْبَةِ فِي نَصِيبِهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِيمَا ذَبَحَهُ أَبُو بُرْدَةَ قَبْلَ الصَّلَاةِ : تِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ } فَعَرَفْنَا أَنَّ هَذِهِ عِبَارَةٌ عَمَّا لَا يَكُونُ قُرْبَةً وَمَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ وَإِرَاقَةُ الدَّمِ لَا يَتَجَزَّأُ ، فَإِذَا اجْتَمَعَ فِيهِ الْمَانِعُ مِنْ الْجَوَازِ مَعَ الْمُجَوِّزِ يَتَرَجَّحُ الْمَانِعُ كَمَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمْ كَافِرًا ، فَأَمَّا إذَا نَوَوْا الْقُرْبَةَ ، وَلَكِنْ اخْتَلَفَ جِهَاتُ قَصْدِهِمْ فَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ إرَاقَةَ الدَّمِ لَا يَتَبَعَّضُ فَلَا تَسَعُ فِيهَا الْجِهَاتِ الْمُخْتَلِفَةَ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ قَصَدَ الْكُلُّ التَّقَرُّبَ فَكَانَتْ الْإِرَاقَةُ لِلَّهِ خَالِصًا فَلَا يُعْتَبَرُ فِيهِ اخْتِلَافُ الْجِهَاتِ بَعْدَ ذَلِكَ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَاحِدَ إذَا وَجَبَتْ عَلَيْهِ دِمَاءٌ مِنْ جِهَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ فَنَحَرَ بَدَنَةً يَنْوِي عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ أَجْزَأَهُ فَكَذَلِكَ الشُّرَكَاءُ

( قَالَ ) : وَلَا يَرْكَبُ الْبَدَنَةَ بَعْدَ مَا أَوْجَبَهَا ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهَا لِلَّهِ - جَلَّتْ قُدْرَتُهُ - خَالِصًا فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَصْرِفَ شَيْئًا مِنْ عَيْنِهَا أَوْ مَنَافِعِهَا إلَى نَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ إلَّا أَنْ يَحْتَاجَ إلَى رُكُوبِهَا فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً ، فَقَالَ : ارْكَبْهَا ، فَقَالَ : إنَّهَا بَدَنَةٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَقَالَ : ارْكَبْهَا وَيْلَكَ } ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ رَآهُ عَاجِزًا عَنْ الْمَشْيِ مُحْتَاجًا إلَى رُكُوبِهَا ، فَإِذَا رَكِبَهَا وَانْتَقَصَ بِرُكُوبِهِ شَيْءٌ ضَمِنَ مَا نَقَصَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ صَرَفَ جُزْءًا مِنْهَا إلَى حَاجَتِهِ ، وَكَذَلِكَ لَا يَحْلُبُ لَبَنَهَا ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ مُتَوَلِّدٌ مِنْهَا فَلَا يَصْرِفُهُ إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَنْضَحَ ضَرْعَهَا بِالْمَاءِ الْبَارِدِ حَتَّى يَتَقَلَّصَ لَبَنُهَا ، وَلَكِنَّ هَذَا إذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ وَقْتِ الذَّبْحِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ بَعِيدًا يَنْزِلُ اللَّبَنُ ثَانِيًا وَثَالِثًا فَيَصِيرُ ذَلِكَ بِالْبَدَنَةِ ضَارًّا فَيَحْلُبُهَا وَيَتَصَدَّقُ بِلَبَنِهَا ، وَإِنْ صَرَفَهُ إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ تَصَدَّقَ بِمِثْلِ ذَلِكَ أَوْ بِقِيمَتِهِ وَأَيُّ الشُّرَكَاءِ فِيهَا نَحَرَهَا يَوْمَ النَّحْرِ أَجْزَأَهُمْ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَسْتَعِينُ بِشُرَكَائِهِ فِي نَحْرِهَا فِي وَقْتِهِ دَلَالَةً فَيُجْعَلُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْأَمْرِ بِهِ إفْصَاحًا

( قَالَ : ) : وَإِذَا عَطِبَ الْهَدْيُ فِي الطَّرِيقِ نَحَرَهُ صَاحِبُهُ ، فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا فَهُوَ لِصَاحِبِهِ يَصْنَعُ بِهِ مَا شَاءَ ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهَذَا إسْقَاطَ الْوَاجِبِ عَنْ ذِمَّتِهِ ، فَإِذَا خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِإِسْقَاطِ الْوَاجِبِ بِهِ بَقِيَ الْوَاجِبُ فِي ذِمَّتِهِ كَمَا كَانَ ، وَهَذَا مِلْكُهُ فَيَصْنَعُ بِهِ مَا شَاءَ ، وَإِنْ كَانَ تَطَوُّعًا نَحَرَهُ وَصَبَغَ نَعْلَهُ بِدَمِهِ ثُمَّ ضَرَبَ بِهِ صَفْحَتَهُ ، وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ شَيْئًا بَلْ يَتَصَدَّقْ بِهِ ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ أَنْ يَتْرُكَهُ لِلسِّبَاعِ ، هَكَذَا نُقِلَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ الْهَدَايَا عَلَى يَدِ نَاجِيَةَ بْنِ جُنْدُبٍ الْأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْلُكَ بِهَا الْفِجَاجَ وَالْأَوْدِيَةَ حَتَّى يَخْرُجَ بِهَا إلَى مِنًى ، فَقَالَ : مَاذَا أَصْنَعُ بِمَا عَطِبَ عَلَى يَدَيَّ مِنْهَا ، فَقَالَ : انْحَرْهَا وَاصْبُغْ نَعْلَهَا بِدَمِهَا } وَالْمُرَادُ بِالنَّعْلِ قِلَادَتُهَا وَاضْرِبْ بِهَا صَفْحَةَ سَنَامِهَا ثُمَّ خَلِّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ وَلَا تَأْكُلْ أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ رِفْقَتِكَ مِنْهَا شَيْئًا ، وَمَقْصُودُهُ مِمَّا ذَكَرَ أَنْ يَجْعَلَ عَلَيْهَا عَلَامَةً يُعْلَمُ بِتِلْكَ الْعَلَامَةِ أَنَّهَا هَدْيٌ فَيَتَنَاوَلُ مِنْهَا الْفُقَرَاءُ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ ، وَإِنَّمَا نَهَاهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهُ كَانَ غَنِيًّا مَعَ رِفْقَتِهِ ثُمَّ الْمُتَطَوِّعُ بِالْهَدَايَا إنَّمَا يَتَنَاوَلُ بِإِذْنِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ ، وَالْإِذْنُ مُعَلَّقٌ بِشَرْطِ بُلُوغِهِ مَحِلَّهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا } ، فَإِذَا لَمْ تَبْلُغْ مَحِلَّهَا لَا يُبَاحُ لَهُ التَّنَاوُلُ مِنْهَا وَلَا أَنْ يُطْعِمَ غَنِيًّا بَلْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى الْفُقَرَاءِ ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهَا التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِذَا فَاتَ مَعْنَى التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِإِرَاقَةِ الدَّمِ يَتَعَيَّنُ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ

تَعَالَى بِالتَّصَدُّقِ ، وَذَلِكَ بِالصَّرْفِ إلَى الْفُقَرَاءِ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ ، فَإِنْ أَعْطَى مِنْ ذَلِكَ غَنِيًّا ضَمِنَ قِيمَتَهُ وَيَتَصَدَّقُ بِجِلَالِهَا وَخَطْمِهَا أَيْضًا كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إذَا بَلَغَتْ مَحِلَّهَا

( قَالَ ) : وَإِذَا أَخْطَأَ الرَّجُلَانِ فَنَحَرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَدْيَ صَاحِبِهِ أَوْ ضَحِيَّتَهُ عَنْ نَفْسِهِ أَجْزَأَهُ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ لَا يُجْزِئُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا غَيْرُ مَأْمُورٍ بِمَا صَنَعَ فِي هَدْيِ صَاحِبِهِ فَكَانَ مُتَعَدِّيًا ضَامِنًا ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ ، فَقَالَ : كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَأْذُونٌ بِمَا صَنَعَ مِنْ صَاحِبِهِ دَلَالَةً ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ يَسْتَعِينُ بِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَنُوبَ عَنْهُ فِي الذَّبْحِ فِي وَقْتِهِ دَلَالَةً ، وَالْإِذْنُ دَلَالَةً بِمَنْزِلَةِ الْإِذْنِ إفْصَاحًا كَقُرْبِ مَاءِ السِّقَايَةِ وَنَحْوِهَا وَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَدْيَهُ مِنْ صَاحِبِهِ فَيَصْنَعُ بِهِ مَا شَاءَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ فَعَلَهُ صَاحِبُهُ بِأَمْرِهِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخِيَارُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ صَاحِبِهِ هَدْيَهُ فَيَصْنَعَ بِهِ مَا شَاءَ كَمَا لَوْ ذَبَحَهُ بِنَفْسِهِ وَبَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَ صَاحِبَهُ قِيمَةَ هَدْيِهِ فَيَشْتَرِيَ بِهَا هَدْيًا آخَرَ وَيَذْبَحَهُ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ أَيَّامِ النَّحْرِ تَصَدَّقَ بِالْقِيمَةِ .

وَإِنْ نَحَرَ هَدْيَهُ قَائِمًا أَوْ أَضْجَعَهُ فَأَيُّ ذَلِكَ فَعَلَ فَهُوَ حَسَنٌ .
وَبَلَغَنَا أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا يَنْحَرُونَهَا قِيَامًا مَعْقُولَةَ الْأَيْدِي الْيُسْرَى ، وَفِي قَوْله تَعَالَى { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْحَرَهَا قَائِمَةً ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْجَنْبِ السُّقُوطُ مِنْ الْقِيَامِ .
وَرُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحَرَ خَمْسَ هَدَايَا أَوْ سِتًّا فَطَفِقْنَ يَزْدَلِفْنَ إلَيْهِ بِأَيَّتِهِنَّ يَبْدَأُ } فَدَلَّ أَنَّهُ يَنْحَرُ قِيَامًا .
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : نَحَرْتُ بِيَدَيَّ بَدَنَةً قَائِمَةً مَعْقُولَةً فَكِدْتُ أُهْلِكُ قَوْمًا مِنْ النَّاسِ ؛ لِأَنَّهَا نَفَرَتْ فَاعْتَقَدْتُ أَنْ لَا أَنْحَرَ بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا بَارِكَةً مَعْقُولَةً أَوْ أَسْتَعِينَ بِمَنْ يَكُونُ أَقْوَى عَلَيْهِ مِنِّي

( قَالَ : ) : وَلَا أَحَبُّ أَنْ يَذْكُرَ مَعَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرَهُ نَحْوَ قَوْلِهِ اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ فُلَانٍ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { جَرِّدُوا التَّسْمِيَةَ يَعْنِي ذِكْرَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الذَّبْحِ } وَيَكْفِي فِي هَذَا أَنْ يَنْوِيَهُ بِقَلْبِهِ أَوْ يَذْكُرَهُ قَبْلَ ذِكْرِ التَّسْمِيَةِ ثُمَّ يَقُولُ بِسْمِ اللَّهِ ، وَاَللَّهُ أَكْبَرُ وَيَنْحَرُ

( قَالَ : ) : وَلَا يُذْبَحُ الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ قِيَامًا ؛ لِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ فِي كُلِّ نَوْعٍ أَنْ يَذْبَحَهُ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ أَيْسَرَ عَلَى الْمَذْبُوحِ ، قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ } الْحَدِيثَ

( قَالَ ) : وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَذْبَحَ هَدْيَهُ أَوْ أُضْحِيَّتَهُ بِيَدِهِ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاقَ مِائَةَ بَدَنَةٍ فِي حَجَّةِ الْوَادِعِ فَنَحَرَ نَيِّفًا وَسِتِّينَ بِنَفْسِهِ وَوَلَّى الْبَاقِيَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ } ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَذْبَحَ بِنَفْسِهِ ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَمْ يَهْتَدِ لِذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَسْتَعِينَ بِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْغَيْرِ بِأَمْرِهِ كَفِعْلِهِ بِنَفْسِهِ .
( قَالَ : ) : وَلَا أُحِبُّ أَنْ يَذْبَحَهُ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْقُرْبَةِ فَلَا يُسْتَعَانُ فِيهِ بِالْكَافِرِ قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّا لَا نَسْتَعِينُ فِي أَمْرِ دِينِنَا بِمَنْ لَيْسَ عَلَى دِينِنَا }

( قَالَ ) : وَإِنْ ذَبَحَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَجْزَأَهُ وَلَا يُجْزِيهِ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إنْ كَانَ هَدْيَ الْمُتْعَةِ ؛ لِأَنَّهُ مُؤَقَّتٌ بِيَوْمِ النَّحْرِ ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ يَوْمُ النَّحْرِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي

وَإِنْ جَعَلَ ثَوْبَهُ هَدْيًا أَجْزَأَهُ أَنْ يُهْدِيَ قِيمَتَهُ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَهُ لِلَّهِ تَعَالَى وَفِيمَا صَارَ لِلَّهِ تَعَالَى صَرْفُ الْعَيْنِ وَالْقِيمَةِ سَوَاءٌ كَمَا فِي الزَّكَاةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَعَلَ شَاةً مِنْ غَنَمِهِ هَدْيًا أَجْزَأَهُ أَنْ يُهْدِيَ قِيمَتَهَا ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَجْزَأَهُ أَنْ يُهْدِيَ مِثْلَهَا قَالَ : أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُعْطِي فِي الزَّكَاةِ قِيمَةَ الشَّاةِ فَيَجُوزَ .

وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ إذَا قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ شَاتَيْنِ وَسَطَيْنِ فَأَهْدَى شَاةً تَبْلُغُ قِيمَتَهَا قِيمَةُ شَاتَيْنِ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ الزَّكَاةِ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ إرَاقَةَ دَمَيْنِ ، وَإِرَاقَةُ دَمٍ وَاحِدٍ لَا يَقُومُ مَقَامَ إرَاقَةِ دَمَيْنِ وَمَا ذَكَرَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ التَّصَدُّقُ بِالْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا الْتَزَمَ التَّقَرُّبَ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ فَلَا يَقُومُ التَّصَدُّقُ بِالْقِيمَةِ مَقَامَهُ حَتَّى قِيلَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ فَعَلَى مَا ذَكَرَ هُنَا يَجِبُ أَنْ يَجُوزَ هُنَاكَ أَيْضًا .

وَإِنْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أُهْدِيَ شَاةً فَأَهْدَى جَزُورًا يُجْزِئُهُ وَهُوَ مُحْسِنٌ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى الْوَاجِبَ عَلَيْهِ وَزِيَادَةً فَإِنَّ الْجَزُورَ قَائِمٌ مَقَامَ سَبْعٍ مِنْ الْغَنَمِ حَتَّى يُجْزِيَ عَنْ سَبْعَةِ نَفَرٍ فَفِيهِ وَفَاءٌ بِالْوَاجِبِ وَزِيَادَةٌ ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا لِإِيضَاحِ أَنَّهُ إذَا أَهْدَى مِثْلَ مَا عَيَّنَهُ فِي نَذْرِهِ أَوْ أَفْضَلَ مِنْهُ أَوْ أَهْدَى قِيمَتَهُ أَجْزَأَهُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانُهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .

( بَابُ الْحَجِّ عَنْ الْمَيِّتِ وَغَيْرِهِ ) ( قَالَ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلٌ دَفَعَ مَالًا إلَى رَجُلٍ لِيَحُجَّ بِهِ عَنْ الْمَيِّتِ فَلَمْ يَبْلُغْ مَالُ الْمَيِّتِ النَّفَقَةَ فَأَنْفَقَ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ مِنْ مَالِهِ وَمَالِ الْمَيِّتِ فَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ النَّفَقَةِ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ وَكَانَ مَالُهُ بِحَيْثُ يَبْلُغُ ذَلِكَ أَوْ عَامَّةَ النَّفَقَةِ فَهُوَ جَائِزٌ وَإِلَّا فَهُوَ ضَامِنٌ يَرُدُّهُ ، وَيَحُجُّ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْحَجِّ عَنْ الْغَيْرِ الْإِنْفَاقُ مِنْ مَالِهِ فِي الطَّرِيقِ وَالْأَكْثَرُ لَهُ حُكْمُ الْكُلِّ وَالتَّحَرُّزُ عَنْ الْقَلِيلِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَقَدْ يُضِيفُهُ إنْسَانٌ يَوْمًا فَلَا يُنْفِقُ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ ، وَقَدْ يَسْتَصْحِبُ مَعَ نَفْسِهِ زَادًا أَوْ ثَوْبًا مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ، وَقَدْ يَشْرَبُ الْمَاءَ فَيُعْطِي السَّقَّاءَ شَيْئًا مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ وَمَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ يَجْعَلُهُ عَفْوًا فَاعْتَبَرْنَا الْأَكْثَرَ وَقُلْنَا إذَا كَانَ أَكْثَرُ النَّفَقَةِ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ فَكَأَنَّ الْكُلَّ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرُ النَّفَقَةِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ كَانَ جَمِيعُ نَفَقَتِهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ الْحَجُّ عَنْهُ وَيَضْمَنُ مَا أَنْفَقَ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِأَمْرِهِ فَإِنَّهُ أَمَرَ بِأَنْ يُنْفَقَ فِي سَفَرِ الْحَجِّ بِذَلِكَ السَّفَرِ عَنْ الْمَيِّتِ لَا عَنْ نَفْسِهِ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ الْمَذْهَبِ فِيمَنْ حَجَّ عَنْ غَيْرِهِ أَنَّ أَصْلَ الْحَجِّ يَكُونُ عَنْ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ وَأَنَّ إنْفَاقَ الْحَاجِّ مِنْ مَالِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ كَإِنْفَاقِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ أَنْ لَوْ قَدَرَ عَلَى الْخُرُوجِ بِنَفْسِهِ وَبِنَحْوِهِ جَاءَتْ السُّنَّةُ { فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِسَائِلَةٍ حُجِّي عَنْ أَبِيكِ وَاعْتَمِرِي } ، وَقَالَ رَجُلٌ { : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبَى مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ أَفَيُجْزِئُنِي أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعَمْ } ، وَحَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ

مَشْهُورٌ حَيْثُ قَالَتْ { يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ الْحَجُّ أَدْرَكْتُ أَبَى شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَمْسِكَ عَلَى الرَّاحِلَةِ أَفَيُجْزِئُنِي أَنْ أَحُجَّ عَنْهُ فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِهِ أَكَانَ يُقْبَلُ مِنْكِ ؟ قَالَتْ : نَعَمْ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يَقْبَلَ } فَدَلَّ أَنَّ أَصْلَ الْحَجِّ يَقَعُ عَنْ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ : لِلْمَحْجُوجِ عَنْهُ ثَوَابُ النَّفَقَةِ فَأَمَّا الْحَجُّ يَكُونُ عَنْ الْحَاجِّ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ بَدَنِيَّةٌ ، وَالْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ لَا تُجْزِي بِالنِّيَابَةِ فِي أَدَائِهَا ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ إنْفَاقُ الْمَالِ فِي الطَّرِيقِ وَأَدَاءُ الْحَجِّ ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ الْحَجِّ بَقِيَ عَلَيْهِ مِقْدَارُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَهُوَ إنْفَاقُ الْمَالِ فِي الطَّرِيقِ فَلَزِمَهُ دَفْعُ الْمَالِ لِيُنْفِقَهُ الْحَاجُّ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ فَإِنَّ فَرْضَ الْحَجِّ لَا يَسْقُطُ بِهَذَا عَنْ الْحَاجِّ ، وَكَذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا كَانَ أَكْثَرُ نَفَقَتِهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ حَتَّى صَارَ حَجُّهُ عَنْ نَفْسِهِ كَانَ ضَامِنًا لِمَا أُنْفِقَ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ وَلَوْ كَانَ لِلْمَيِّتِ ثَوَابُ النَّفَقَةِ فَقَطْ لَا يَصِيرُ ضَامِنًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ حَصَلَ لِلْمَيِّتِ فَلَمَّا قَالَ يَضْمَنُ وَيَحُجُّ بِهِ عَنْ الْمَيِّتِ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ عُرْفَنَا أَنَّ الْحَجَّ عَنْ الْمَيِّتِ .
( قَالَ ) ، وَإِنْ أَنْفَقَ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ وَفِي مَالِ الْمَيِّتِ وَفَاءٌ بِحَجِّهِ رَجَعَ بِهِ فِي مَالِ الْمَيِّتِ إذَا كَانَ قَدْ دَفَعَ إلَيْهِ وَجَازَ الْحَجُّ عَنْ الْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُبْتَلَى بِالْإِنْفَاقِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ بِأَنْ لَا يَكُونَ مَالُ الْمَيِّتِ حَاضِرًا أَوْ يَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ إظْهَارُهُ ، وَلَا فَرْقَ فِي حَقِّ الْمَيِّتِ بَيْنَ أَنْ يُنْفَقَ مِنْ مَالِهِ وَبَيْنَ أَنْ

يُنْفَقَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَيَرْجِعَ بِهِ فِي مَالِ الْمَيِّتِ كَالْوَصِيِّ وَالْوَكِيلِ يَشْتَرِي لِلْيَتِيمِ وَيُعْطِي الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ يَرْجِعُ بِهِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ

( قَالَ ) فَإِنْ نَوَى الْحَاجُّ عَنْ الْغَيْرِ أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ بَعْدَ النَّفْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا بَطَلَتْ نَفَقَتُهُ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّ بِهَذِهِ النِّيَّةِ صَارَ مُقِيمًا بِمَكَّةَ وَتَوَطُّنُهُ بِمَكَّةَ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ لَا لِحَاجَةِ الْمَيِّتِ فَلَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الْمَيِّتِ ، وَإِنَّمَا اسْتِحْقَاقُهُ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الْمَيِّتِ فِي سَفَرِهِ ذَاهِبًا وَجَائِيًا ؛ لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ عَامِلٌ لِلْمَيِّتِ ، وَإِنْ كَانَ أَقَامَ دُونَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَهُوَ مُسَافِرٌ عَلَى حَالِهِ فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ ، وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ : إنْ أَقَامَ بَعْدَ النَّفْرِ ثَلَاثًا فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْمَقَامِ لِلِاسْتِرَاحَةِ ، وَإِنْ أَقَامَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِ نَفْسِهِ ، وَلَكِنَّ هَذَا الْجَوَابَ كَانَ فِي زَمَانِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَقْدِرُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مَكَّةَ مَتَى شَاءَ فَأَمَّا فِي زَمَانِنَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ إلَّا مَعَ النَّاسِ فَإِنْ كَانَ مَقَامُهُ بِمَكَّةَ لِانْتِظَارِ خُرُوجِ قَافِلَتِهِ فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ سَوَاءٌ أَقَامَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْخُرُوجِ إلَّا مَعَهُمْ فَلَمْ يَكُنْ هُوَ مُتَوَطِّنًا بِمَكَّةَ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ ، وَإِنْ أَقَامَ بَعْدَ خُرُوجِ قَافِلَتِهِ فَحِينَئِذٍ يُنْفِقُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَإِنْ بَدَا لَهُ بَعْدَ الْمَقَامِ أَنْ يَرْجِعَ فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ اسْتَحَقَّ نَفَقَةَ الرُّجُوعِ فِي مَالِ الْمَيِّتِ ، وَإِنَّمَا كَانَ يُنْفِقُ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لِتَأْخِيرِ الرُّجُوعِ .
فَإِذَا أَخَذَ فِي الرُّجُوعِ عَادَتْ نَفَقَةُ الرُّجُوعِ فِي مَالِ الْمَيِّتِ وَهُوَ نَظِيرُ النَّاشِزَةِ إذَا عَادَتْ إلَى بَيْتِ زَوْجِهَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ ، وَكَذَلِكَ الْمُضَارِبُ إذَا أَقَامَ فِي بَلْدَتِهِ أَوْ فِي بَلْدَةٍ أُخْرَى وَنَوَى الْإِقَامَةَ خَمْسَةَ عَشَرَ

يَوْمًا لِحَاجَةِ نَفْسِهِ لَمْ يُنْفِقْ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ فَإِنْ خَرَجَ مُسَافِرًا بَعْدَ ذَلِكَ كَانَتْ النَّفَقَةُ فِي مَالِ الْمُضَارَبَةِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ : لَا تَعُودُ نَفَقَتُهُ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ هُنَا ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ أَنْ لَا يَسْتَوْجِبَ نَفَقَةَ الرُّجُوعِ فِي مَالِ الْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ الرُّجُوعِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ لَا لِلْمَيِّتِ ، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا ذَلِكَ وَقُلْنَا أَصْلُ سَفَرِهِ كَانَ لِعَمَلِ الْمَيِّتِ فَمَا بَقِيَ ذَلِكَ السَّفَرُ تَبْقَى نَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ ، وَبِالْوُصُولِ لَمْ يَبْقَ ذَلِكَ السَّفَرُ ، ثُمَّ هُوَ أَنْشَأَ سَفَرًا بَعْدَ ذَلِكَ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ وَهُوَ الرُّجُوعُ إلَى وَطَنِهِ فَلَا يَسْتَوْجِبُ لِهَذَا السَّفَرِ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الْمَيِّتِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ إذَا وَصَلَ إلَى مَكَّةَ قَبْلَ وَقْتِ الْحَجِّ بِزَمَانٍ كَيْفَ يَكُونُ حَالُهُ فِي الْإِنْفَاقِ ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ إذَا قَدِمَ فِي الْأَيَّامِ الْعَشْرِ فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ ، وَإِنْ قَدِمَ قَبْلَ ذَلِكَ أَنْفَقَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ إلَى أَنْ تَدْخُلَ أَيَّامُ الْعَشْرِ ، ثُمَّ نَفَقَتُهُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ قُدُومَ قَوَافِلِ مَكَّةَ يَتَقَدَّمُ وَيَتَأَخَّرُ ، وَلَكِنَّهُ فِي الْأَيَّامِ الْعَشْرِ مُوَافِقٌ لِمَا هُوَ الْعَادَةُ .
فَأَمَّا قُدُومُهُ قَبْلَ أَيَّامِ الْعَشْرِ مُخَالِفٌ لِمَا هُوَ الْعَادَةُ وَهُوَ فِي هَذِهِ الْإِقَامَةِ لَيْسَ يَعْمَلُ لِلْمَيِّتِ شَيْئًا فَلِهَذَا كَانَتْ نَفَقَتُهُ فِي مَالِ نَفْسِهِ

( قَالَ ) : فَإِنْ أَوْصَى أَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَبَلَغَتْ حِجَجًا فَالْوَصِيُّ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ دَفَعَ كُلَّ سَنَةٍ حَجَّةً وَإِنْ شَاءَ أَحَجَّ عَنْهُ رِجَالًا فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْحَجِّ بِمَالٍ مُقَدَّرٍ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالتَّصَدُّقِ بِمَالٍ مُقَدَّرٍ ، وَفِي ذَلِكَ الْوَصِيُّ بِالْخِيَارِ بَيْنَ التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ ، وَالتَّعْجِيلُ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْمُوصَى وَأَبْعَدُ عَنْ فَوَاتِ مَقْصُودِهِ بِهَلَاكِ الْمَالِ

( قَالَ ) : وَإِذَا حَجَّ الْعَبْدُ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيُّمَا عَبْدٍ حَجَّ وَلَوْ عَشْرَ حِجَجٍ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ إذَا عَتَقَ وَأَيُّمَا صَبِيٍّ حَجَّ وَلَوْ عَشْرَ حِجَجٍ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ إذَا بَلَغَ وَأَيُّمَا أَعْرَابِيٍّ حَجَّ وَلَوْ عَشْرَ حِجَجٍ فَعَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ إذَا هَاجَرَ } ، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا حِينَ كَانَتْ الْهِجْرَةُ فَرِيضَةً وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْعِتْقَ مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْحَجِّ وَلَا يَتَحَقَّقُ الْوُجُوبُ بِدُونِ شَرْطِهِ فَيَكُونُ الْمُؤَدَّى قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ نَفْلًا فَلَا يَنُوبُ عَنْ الْفَرْضِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْفَقِيرِ إذَا حَجَّ ، ثُمَّ اسْتَغْنَى حَيْثُ جَازَ مَا أَدَّى عَنْ الْفَرْضِ ؛ لِأَنَّ مَالِكَ الْمَالِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلْوُجُوبِ إنَّمَا شَرْطُ الْوُجُوبِ التَّمَكُّنُ مِنْ الْوُصُولِ إلَى مَوْضِعِ الْأَدَاءِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَكِّيَّ الَّذِي هُوَ فِي مَوْضِعِ الْأَدَاءِ لَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ مِلْكُ الْمَالِ ، وَفِي حَقِّ الْآفَاقِيِّ لَا يَتَقَدَّرُ الْمَالُ بِالنِّصَابِ بَلْ يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ قُرْبِهِ مِنْ مَوْضِعِ الْأَدَاءِ وَبُعْدِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الشَّرْطَ هُوَ التَّمَكُّنُ مِنْ الْوُصُولِ إلَى مَوْضِعِ الْأَدَاءِ فَبِأَيِّ طَرِيقٍ وَصَلَ الْفَقِيرُ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَجَبَ الْأَدَاءُ فَإِنَّمَا حَصَلَ أَدَاؤُهُ بَعْدَ الْوُجُوبِ فَكَانَ فَرْضًا .
فَأَمَّا الْعِتْقُ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ فَإِنَّ الْعَبْدَ الَّذِي هُوَ بِمَكَّةَ لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ فَالْمُؤَدَّى قَبْلَ الْعِتْقِ لَا يَكُونُ فَرْضًا ، تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ إنَّمَا أَدَّى الْحَجَّ بِمَنَافِعِهِ وَمَنَافِعُ الْفَقِيرِ حَقُّهُ ، فَإِذَا أَدَّاهُ بِمَا هُوَ حَقُّهُ كَانَ فَرْضًا فَأَمَّا مَنَافِعُ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ وَبِإِذْنِ مَوْلَاهُ لَا تَخْرُجُ الْمَنْفَعَةُ مِنْ مِلْكِهِ فَإِنَّمَا أَدَّاهُ بِمَا هُوَ مِلْكُ الْغَيْرِ وَمِلْكُ الْغَيْرِ لَا يَسْقُطُ مَا هُوَ فَرْضُ الْعُمْرِ عَنْهُ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْجُمُعَةِ إذَا أَدَّاهَا بِإِذْنِ

الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْجُمُعَةَ تُؤَدَّى فِي وَقْتِ الظُّهْرِ ، وَمَنَافِعُهُ لِأَدَاءِ الظُّهْرِ صَارَتْ مُسْتَثْنَاةً عَنْ حَقِّ الْمَوْلَى فَإِنَّمَا أَدَّاهُ بِمَنَافِعَ مَمْلُوكَةٍ لَهُ فَهَذَا جَائِزٌ عَنْهُ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّ هَذَا غَيْرُ مُسْتَثْنًى مِنْ حَقِّ الْمَوْلَى فَلَا تَتَأَدَّى بِهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ .

( قَالَ ) : فَإِنْ أَصَابَ صَيْدًا فَعَلَيْهِ الصِّيَامُ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ جَانِيًا عَلَى إحْرَامِهِ بِقَتْلِ الصَّيْدِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّكْفِيرِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ وَلَا بِالْإِطْعَامِ فَيُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ كَمَا إذَا حَنِثَ فِي يَمِينِهِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصَّوْمِ .
( قَالَ ) : وَإِنْ جَامَعَ مَضَى فِيهِ حَتَّى يَفْرَغَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ حَجَّهُ ، وَإِنْ فَسَدَ لَكِنَّ عَلَيْهِ الْمُضِيَّ فِي الْفَاسِدِ ، وَإِنَّ إحْرَامَهُ كَانَ لَازِمًا فَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ إلَّا بِأَدَاءِ أَفْعَالِ الْحَجِّ فَاسِدًا كَانَ أَوْ صَحِيحًا ، وَعَلَيْهِ الْهَدْيُ إذَا عَتَقَ لِتَعَجُّلِ الْإِحْلَالِ بِالْجِمَاعِ ، وَهَذَا الدَّمُ لَا يَقُومُ الصَّوْمُ مَقَامَهُ ، وَالْأَصْلُ فِي كُلِّ دَمٍ لَا يَقُومُ الصَّوْمُ مَقَامَهُ يَتَأَخَّرُ عَنْ الْعَبْدِ حَتَّى يَعْتِقَ ، وَكُلُّ مَا يَقُومُ الصَّوْمُ مَقَامَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَهُ بِالصَّوْمِ وَعَلَيْهِ حَجَّةٌ مَكَانَ هَذِهِ يَنْوِي حَجَّةَ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهُ أَفْسَدَهَا بَعْدَمَا صَحَّ شُرُوعُهُ فِيهَا فَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا وَإِنْ لَمْ يُجَامِعْ ، وَلَكِنَّهُ فَاتَهُ الْحَجُّ يَحِلُّ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالْحَلْقِ ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ صِحَّةِ شُرُوعِهِ فِي الْإِحْرَامِ يَتَحَلَّلُ بِمَا يَتَحَلَّلُ بِهِ الْحُرُّ ، وَالْحُرُّ إنَّمَا يَتَحَلَّلُ بَعْدَ فَوَاتِ الْحَجِّ بِإِعْمَالِ الْعُمْرَةِ فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةً إذَا عَتَقَ سِوَى حَجَّةِ الْإِسْلَامِ لِفَوَاتِ مَا شَرَعَ فِيهِ .
وَإِنْ أَطْعَمَ عَنْهُ مَوْلَاهُ أَوْ ذَبَحَ عَنْهُ مِنْ الدِّمَاءِ مَا يَلْزَمُهُ لَا يُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مَالِكًا لِلطَّعَامِ الَّذِي يُؤَدَّى فِي الْكَفَّارَةِ وَلَا لِمَا يُرَاقُ دَمُهُ فَإِنَّ الرِّقَّ يُنَافِي الْمِلْكَ وَبِدُونِ الْمِلْكِ فِيمَا كَفَّرَ بِهِ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْكَفَّارَةُ إلَّا فِي الْإِحْصَارِ خَاصَّةً فَإِنَّ عَلَى مَوْلَاهُ أَنْ يَبْعَثَ بِهَدْيٍ عَنْهُ حَتَّى يَحِلَّ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَدْخَلَهُ فِي هَذِهِ الْعُهْدَةِ بِإِذْنِهِ بِالْإِحْرَامِ فَإِنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ بِغَيْرِ إذْنِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يُحَلِّلَهُ بِغَيْرِ هَدْيٍ ،

فَإِذَا أَحْرَمَ بِإِذْنِهِ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الْمُكْتَسِبُ لِسَبَبِ وُجُوبِ هَذَا الدَّمِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُحَلِّلَهُ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَجِبَ عَلَى الْمَوْلَى حَقٌّ بِسَبَبِ عَبْدِهِ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَنْ عَبْدِهِ ، ثُمَّ عَلَى الْعَبْدِ إذَا عَتَقَ حَجَّةٌ وَعُمْرَةٌ كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْمُحْصَرِ إذَا كَانَ حُرًّا وَيَتَحَلَّلُ بِالْهَدْيِ الْعَبْدُ إذَا تَحَلَّلَ بِهِ

( قَالَ ) : وَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يُحِجَّ رَجُلًا عَنْ نَفْسِهِ فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُحِجَّ رَجُلًا قَدْ حَجَّ عَنْ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنْ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - وَلِأَنَّهُ أَهْدَى فِي إقَامَةِ أَعْمَالِ الْحَجِّ لِصَيْرُورَتِهَا مَعْهُودَةً عِنْدَهُ فَإِنْ أَحَجَّ صَرُورَةً عَنْ نَفْسِهِ يَجُوزُ عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ وَيَكُونُ حَجُّ الصَّرُورَةِ عَنْ نَفْسِهِ لَا عَنْ الْآمِرِ وَحُجَّتُهُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ رَأَى رَجُلًا يُلَبِّي عَنْ شُبْرُمَةَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : مَنْ شُبْرُمَةَ ؟ فَقَالَ : أَخٌ لِي أَوْ صَدِيقٌ لِي ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ، ثُمَّ عَنْ شُبْرُمَةَ } وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَّزَ لَهَا أَنْ تَحُجَّ عَنْ أَبِيهَا ، وَلَمْ يَسْتَفْسِرْ أَنَّهَا حَجَّتْ عَنْ نَفْسِهَا أَوْ لَا } .
وَفِي الْحَدِيثِ الْأَخِيرِ تَعَارُضٌ فَقَدْ رُوِيَ { أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يُلَبِّي عَنْ نُبَيْشَةَ ، فَقَالَ : مَنْ نُبَيْشَةَ ، فَقَالَ : صَدِيقٌ لِي ، فَقَالَ : إذَا حَجَجْت عَنْ نُبَيْشَةَ فَحِجَّ عَنْ نَفْسِكَ } وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ الْأَخِيرِ أَنَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ لَمْ يُحْرِمْ ، وَلَكِنْ عَلَى سَبِيلِ التَّعْلِيمِ لِلْكَيْفِيَّةِ فِي التَّلْبِيَةِ عَنْ الْغَيْرِ فَأَشَارَ عَلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنْ يَبْدَأَ بِالْحَجِّ عَنْ نَفْسِهِ وَبِهِ نَقُولُ أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَحُجَّ عَنْ نَفْسِهِ أَوَّلًا .
وَالِاخْتِلَافُ فِي هَذَا نَظِيرِ الِاخْتِلَافِ فِي الصَّرُورَةِ إذَا حَجَّ بِنِيَّةِ النَّفْلِ عِنْدَنَا حَجُّهُ يَكُونُ نَفْلًا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَكُونُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ نِيَّةَ النَّفْلِ لَغْوٌ ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ الزِّيَادَةِ وَلَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ قَبْلَ الْأَصْلِ ، وَإِذَا لَغَتْ نِيَّةُ النَّفْلِ يَبْقَى مُطْلَقُ نِيَّةِ الْحَجِّ وَبِمُطْلَقِ

النِّيَّةِ يَتَأَدَّى الْفَرْضُ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّ نِيَّةَ النَّفْلِ نَوْعُ سَفَهٍ قَبْلَ أَدَاءِ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، وَالسَّفِيهُ مُسْتَحِقُّ الْحَجْرِ فَجَعَلَ نِيَّةَ النَّفْلِ لَغْوًا تَحْقِيقِيًّا لِمَعْنَى الْحَجْرِ فَيَبْقَى مُطْلَقُ النِّيَّةِ ، وَيَجُوزُ أَنْ تَتَأَدَّى حَجَّةُ الْإِسْلَامِ بِغَيْرِ نِيَّةٍ كَمَا فِي الْمُغْمَى عَلَيْهِ إذَا أَحْرَمَ عَنْهُ أَصْحَابُهُ فَبِنِيَّةِ النَّفْلِ أَوْلَى .
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ وَقْتَ أَدَاءِ الْفَرْضِ فِي الْحَجِّ يَتَّسِعُ لِأَدَاءِ النَّفْلِ فَلَا يَتَأَدَّى الْفَرْضُ مِنْهُ بِنِيَّةِ النَّفْلِ كَالصَّلَاةِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ عِنْدَنَا ، وَوَقْتُ أَدَاءِ الصَّوْمِ لَا يَتَّسِعُ لِأَدَاءِ النَّفْلِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَجَّ عِبَادَةٌ مَعْلُومَةٌ بِالْأَفْعَالِ لَا بِالْوَقْتِ فَكَانَ الْوَقْتُ ظَرْفًا لَهُ لَا مِعْيَارًا ، وَفِي مِثْلِهِ لَا يَتَمَيَّزُ الْفَرْضُ مِنْ النَّفْلِ إلَّا بِالتَّعْيِينِ .
وَقَوْلُهُ " يَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ " قُلْنَا عِنْدَنَا لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِالتَّعْيِينِ غَيْرَ أَنَّ التَّعْيِينَ يَثْبُتُ بِالنَّصِّ تَارَةً وَبِالدَّلَالَةِ أُخْرَى ، وَفِي الْحَجِّ التَّعْيِينُ حَاصِلٌ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَتَحَمَّلُ الْمَشَقَّةَ الْعَظِيمَةَ ، ثُمَّ يَشْتَغِلُ بِأَدَاءِ النَّفْلِ مَعَ بَقَاءِ الْفَرْضِ عَلَيْهِ ، وَالتَّعْيِينُ بِالْعُرْفِ كَالتَّعْيِينِ بِالنَّصِّ كَمَنْ اشْتَرَى بِدَرَاهِمَ مُطْلَقَةٍ يَنْصَرِفُ إلَى نَقْدِ الْبَلَدِ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ إذَا لَمْ يُوجَدْ التَّصْرِيحُ بِخِلَافِهِ ، فَإِذَا صَرَّحَ بِنِيَّةِ النَّفْلِ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْعُرْفِ فَكَانَ حَجُّهُ عَمَّا نَوَى وَمَا قَالَ بَاطِلٌ عَلَى أَصْلِهِ فِي الصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَا يُلْغِي اعْتِبَارَ نِيَّةِ النَّفْلِ بَلْ يَجْعَلُهُ مُعْتَبَرًا فِي الْإِعْرَاضِ عَنْ الْفَرْضِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ آذِنٌ لِأَصْحَابِهِ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ فِي الْإِحْرَامِ عَنْهُ فَيَنْزِلُ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الْإِذْنِ إفْصَاحًا فَإِنَّمَا يَتَأَدَّى لَهُ حَجٌّ بِالنِّيَّةِ .
وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُعَيِّنَ رَجُلًا بِمَالِهِ لِلْحَجِّ

عَنْ نَفْسِهِ فَالصَّرُورَةُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِمَّنْ قَدْ حَجَّ ؛ لِأَنَّ الصَّرُورَةَ بِمَالِهِ يَتَوَسَّلُ إلَى أَدَاءِ الْفَرْضِ ، وَمَنْ قَدْ حَجَّ مَرَّةً يَتَوَسَّلُ إلَى أَدَاءِ النَّفْلِ وَكَمَا أَنَّ دَرَجَةَ أَدَاءِ الْفَرْضِ أَعْلَى كَانَتْ الْإِعَانَةُ عَلَيْهِ بِالْمَالِ أَوْلَى

( قَالَ ) : وَالْحَجُّ التَّطَوُّعُ جَائِزٌ عَنْ الصَّحِيحِ يُرِيدُ أَنَّ بِهِ الصَّحِيحَ الْبَدَنِ إذَا أَحَجَّ رَجُلًا بِمَالِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّطَوُّعِ عَنْهُ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا إنْفَاقُ الْمَالِ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ ، وَلَوْ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ كَانَ طَاعَةً عَظِيمَةً فَكَذَلِكَ إذَا صَرَفَهُ إلَى غَيْرِهِ لِيَفْعَلَهُ عَنْهُ يَكُونُ جَائِزًا وَكَوْنُهُ صَحِيحًا لَا يَمْنَعُهُ عَنْ أَدَاءِ التَّطَوُّعِ بِهَذَا الطَّرِيقِ ، وَإِنْ كَانَ يَمْنَعُهُ عَنْ أَدَاءِ الْفَرْضِ ؛ لِأَنَّ فِي التَّطَوُّعِ الْأَمْرَ مُوسِعٌ عَلَيْهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الصَّلَاةِ يَجُوزُ التَّطَوُّعُ قَاعِدًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الْفَرْضِ فَكَذَا هُنَا فِي حَجَّةِ الْإِسْلَامِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا صَرْفُ الْمَالِ إلَى سَدِّ خَلَّةِ الْمُحْتَاجِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ نِيَابَةً فَيَجُوزُ الْإِنَابَةُ فِيهَا فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ وَالضَّرُورَةِ ، وَالْعِبَادَاتُ الْبَدَنِيَّةُ الْمَحْضَةُ الْمَقْصُودُ مِنْهَا إمَّا التَّعْظِيمُ بِالْجَوَارِحِ كَالصَّلَاةِ ، وَإِمَّا إتْعَابُ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالنَّائِبِ أَصْلًا وَلَا تُجْزِي النِّيَابَةُ فِي أَدَائِهَا ، وَالْحَجُّ فِيهِ الْمَعْنَيَانِ جَمِيعًا مَعْنَى التَّعْظِيمِ لِلْبُقْعَةِ ، وَذَلِكَ بِالنَّائِبِ يَحْصُلُ وَمَعْنَى تَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ لِلتَّوَسُّلِ إلَى أَدَائِهَا ، وَذَلِكَ بِالنَّائِبِ لَا يَحْصُلُ فَلَا تُجْزِئُ النِّيَابَةُ فِيهَا عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَدَاءِ بِنَفْسِهِ لِانْعِدَامِ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ فِي الْأَدَاءِ بِالنَّائِبِ ، وَتُجْزِئُ النِّيَابَةُ فِيهَا عِنْدَ تَحَقُّقِ الْعَجْزِ عَنْ الْأَدَاءِ بِالْبَدَنِ لِحُصُولِ أَحَدِ الْمَعْنَيَيْنِ بِالنَّائِبِ .
وَفِي الْعِبَادَاتِ الْبَدَنِيَّةِ الْمُعْتَبَرُ الْوُسْعُ وَلَا يُعْتَبَرُ الْعَجْزُ لِلْحَالِ ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ فَرْضُ الْعُمْرِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ عَجْزٌ مُسْتَغْرِقٌ لِبَقِيَّةِ الْعُمْرِ لِيَقَعَ بِهِ الْيَأْسُ عَنْ الْأَدَاءِ بِالْبَدَنِ فَقُلْنَا : إنْ

كَانَ عَجْزُهُ بِمَعْنًى لَا يَزُولُ أَصْلًا كَالزَّمَانَةِ يَجُوزُ الْأَدَاءُ بِالنَّائِبِ مُطْلَقًا .
وَإِنْ كَانَ عَارِضًا يُتَوَهَّمُ زَوَالُهُ بِأَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ مَسْجُونًا ، فَإِذَا أَدَّى بِالنَّائِبِ كَانَ ذَلِكَ مُرَاعًى ، فَإِنْ دَامَ بِهِ الْعُذْرُ إلَى أَنْ مَاتَ تَحَقَّقَ الْيَأْسُ عَنْ الْأَدَاءِ بِالْبَدَنِ فَوَقَعَ الْمُؤَدَّى مَوْقِعَ الْجَوَازِ ، وَإِنْ بَرِئَ مِنْ مَرَضِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِيهِ الْيَأْسُ عَنْ الْأَدَاءِ بِالْبَدَنِ فَكَانَ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ وَالْمُؤَدِّي تَطَوَّعَ لَهُ وَالْمَالُ جُعِلَ خَلَفًا عَنْ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَدَاءِ بِالْبَدَنِ فِي جَوَازِ الْأَدَاءِ بِهِ بَعْدَ تَقَرُّرِ الْوُجُوبِ ، فَأَمَّا فِي ثُبُوتِ حُكْمِ الْوُجُوبِ بِسَبَبِهِ فَفِيهِ اخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ الْمَعْضُوبَ وَالْمُقْعَدَ وَالزَّمِنَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الْمَالِ ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَجِبُ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ الْخَثْعَمِيَّةِ حَيْثُ قَالَتْ : إنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ الْحَجُّ أَدْرَكْتُ أَبَى شَيْخًا كَبِيرًا لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَسْتَمْسِكَ عَلَى الرَّاحِلَةِ فَقَوْلُهَا " شَيْخًا كَبِيرًا " نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ يَعْنِي لَزِمَهُ الْحَجُّ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ فَدَلَّ أَنَّ الْحَجَّ يَجِبُ عَلَى الْمَعْضُوبِ وَالْمُقْعَدِ وَالزَّمِنِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ شَرْطَ الْوُجُوبِ التَّمَكُّنُ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ بِالْمَالِ ، فَإِذَا جَازَ أَدَاءُ الْوَاجِبِ بِالْمَالِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْأَدَاءِ بِالْبَدَنِ عَرَفْنَا أَنَّ شَرْطَ الْوُجُوبِ يَتِمُّ بِهِ .
وَإِذَا جَازَ بَقَاءُ الْوَاجِبِ بَعْدَ وُقُوعِ الْيَأْسِ عَنْ الْأَدَاءِ بِالْبَدَنِ يُؤَدَّى بِالْمَالِ فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ الْوُجُوبُ بِالْبَدَنِ ابْتِدَاءً بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَالصَّوْمِ فِي حَقِّ الشَّيْخِ الْفَانِي يَجِبُ بِاعْتِبَارِ بَدَلِهِ وَهُوَ الْفِدْيَةُ .
وَحُجَّتُنَا فِي

ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } فَإِنَّمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْحَجَّ عَلَى مَنْ يَسْتَطِيعُ الْوُصُولَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى وَالزَّمِنُ لَا يَسْتَطِيعُ الْوُصُولَ إلَى بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَتَنَاوَلُهُ هَذَا الْخِطَابُ ، ثُمَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الشَّرْطَ مَا لَا يُوَصِّلُهُ إلَى الْبَيْتِ بِقَوْلِهِ { مَنْ وَجَدَ زَادًا وَرَاحِلَةً يُبْلِغَانِهِ بَيْتَ اللَّهِ تَعَالَى } وَزَادُ الْمَعْضُوبِ وَرَاحِلَتُهُ لَا يُبْلِغَانِهِ بَيْتَ اللَّهِ تَعَالَى فَصَارَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ الْعِبَادَةِ تَعْظِيمُ الْبُقْعَةِ بِالزِّيَارَةِ وَالْمَالُ شَرْطٌ لِيُتَوَسَّلَ بِهِ إلَى هَذَا الْمَقْصُودِ ، وَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَائِتٌ فِي حَقِّ الْمَعْضُوبِ وَلَا يُعْتَبَرُ وُجُودُ الشَّرْطِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ تَبَعٌ وَالتَّبَعُ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْأَصْلِ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ بِهِ ابْتِدَاءً ، وَإِنْ كَانَ يَبْقَى الْحُكْمُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ بِاعْتِبَارِهِ وَاعْتِبَارُ الِابْتِدَاءِ بِالْبَقَاءِ فَاسِدٌ فَإِنَّهُ إذَا افْتَقَرَ بِهَلَاكِ مَالِهِ بَعْدَ مَا وَجَبَ الْحَجُّ عَلَيْهِ يَبْقَى وَاجِبًا ، ثُمَّ لَا يَجِبُ ابْتِدَاءً عَلَى الْفَقِيرِ ، وَلَيْسَ هَذَا نَظِيرَ الْفِدْيَةِ فِي حَقِّ الشَّيْخِ الْفَانِي ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَنْ أَصْلِ الصَّوْمِ بِالنَّصِّ فَيَجُوزُ أَنْ يَجِبَ الْأَصْلُ بِاعْتِبَارِ الْبَدَلِ وَهُنَاكَ الْمَالُ لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ أَصْلِ الْحَجِّ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَأَدَّى بِالْمَالِ ، وَإِنَّمَا يَتَأَدَّى بِمُبَاشَرَةِ النَّائِبِ بِالْحَجِّ عَنْهُ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمَالُ بَدَلًا عَنْ أَصْلِ الْحَجِّ لَا يَثْبُتُ الْوُجُوبُ بِاعْتِبَارِهِ ، وَالرِّوَايَاتُ اخْتَلَفَتْ فِي الْخَثْعَمِيَّةِ فَفِي بَعْضِهَا قَالَتْ : هُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ ، وَهَذَا بَيَانٌ أَنَّهُ فِي الْحَالِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا أَنَّهُ فِي وَقْتِ الْوُجُوبِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، ثُمَّ مُرَادُهَا أَنْ تَزُولَ فَرِيضَةُ الْحَجِّ عَنْهُ فِي حَالِ كَوْنِهِ شَيْخًا ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ وَلِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ

اللَّهُ تَعَالَى الْمَعْضُوبُ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ إذَا بَذَلَ وَلَدُهُ لَهُ الطَّاعَةَ لِيَحُجَّ عَنْهُ يَلْزَمُهُ فَرْضُ الْحَجِّ وَبِطَاعَةِ غَيْرِهِ مِنْ الْقَرَابَاتِ لَا يَلْزَمُهُ ؛ لِأَنَّ الْخَثْعَمِيَّةَ لَمَّا بَذَلَتْ الطَّاعَةَ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَّ دَيْنًا عَلَى أَبِيهَا بِقَوْلِهِ { فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ } ، وَلَمْ يَسْتَفْسِرْ أَنَّهُ غَنِيٌّ أَوْ فَقِيرٌ فَدَلَّ أَنَّ بَذْلَ الْوَلَدِ الطَّاعَةَ يُلْزِمُهُ الْحَجَّ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَلَدَ كَسْبُهُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَالِهِ فَكَمَا أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الْأَدَاءِ بِالْمَالِ تَكْفِي لِلْإِيجَابِ عِنْدَهُ فَكَذَلِكَ الْقُدْرَةُ بِمَنْفَعَةِ الِابْنِ الَّذِي هُوَ كَسْبُهُ .
وَهَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلَدِ فِي هَذِهِ الطَّاعَةِ كَثِيرُ مِنَّةٍ عَلَى أَبِيهِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْقَرَابَاتِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَخْلُو عَنْ مِنَّةٍ ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْوَلَدَ مُتَبَرِّعٌ فِي بَذْلِ هَذِهِ الطَّاعَةِ كَغَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَبَرُّعُهُ مُوجِبًا لِلْحَجِّ عَلَى الْأَبِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الِابْنَ لَوْ بَذَلَ الْمَالَ لِأَبِيهِ لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ وَلَا يَجِبُ الْحَجُّ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْبَذْلِ فَكَذَلِكَ بِبَذْلِ الطَّاعَةِ بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يَكُنْ لِلِابْنِ أَنْ يَرْجِعَ بَعْدَ ذَلِكَ لِيَتَمَكَّنَ الْأَبُ مِنْ مُكَافَأَتِهِ إذَا اسْتَفَادَ مَالًا وَهُنَا لِلِابْنِ أَنْ يَرْجِعَ عَمَّا بَذَلَ مِنْ الطَّاعَةِ ، فَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْحَجُّ عَلَى الْوَالِدِ بِبَذْلِ الْوَلَدِ الْمَالَ فَبِبَذْلِهِ الطَّاعَةَ أَوْلَى ، وَعَلَى الْأَصْلِ الَّذِي قُلْنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ اسْتِطَاعَةُ تَوَصُّلِهِ إلَى الْبَيْتِ يَتَّضِحُ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْأَعْمَى لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ ، وَإِنْ وَجَدَ مَالًا وَقَائِدًا ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - يَلْزَمُهُ ذَلِكَ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَجْهُ قَوْلِهِمَا

أَنَّ الْأَعْمَى مُتَمَكِّنٌ مِنْ الْأَدَاءِ بِبَدَنِهِ ، وَلَكِنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى قَائِدٍ يُهْدِيهِ إلَى ذَلِكَ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الضَّالِّ وَاَلَّذِي ضَلَّ الطَّرِيقَ إذَا وَجَدَ مَنْ يَهْدِيهِ إلَى الطَّرِيقِ يَلْزَمُهُ الْحَجُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : هُوَ عَاجِزٌ عَنْ الْوُصُولِ إلَى الْبَيْتِ بِنَفْسِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْضُوبِ ، وَهَذَا لِأَنَّ مِلْكَ الْمَالِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا كَانَ يُوَصِّلُهُ إلَى الْبَيْتِ ، وَالْمَالُ هُنَا لَا يُوَصِّلُهُ إلَيْهِ وَبَذْلُ الْقَائِدِ الطَّاعَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَكَانَ وُجُودُ ذَلِكَ كَعَدَمِهِ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الْحَجُّ .
وَأَمَّا إذَا مَاتَ الرَّجُلُ فَأَوْصَى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ فَعَلَى الْوَصِيِّ أَنْ يَحُجَّ بِمَالِهِ ؛ لِأَنَّ بِمَوْتِهِ تَحَقَّقَ الْعَجْزُ عَنْ الْأَدَاءِ بِالْبَدَنِ ، وَالْوَصِيُّ قَائِمٌ مَقَامَهُ فَكَمَا أَنَّهُ بَعْدَ وُقُوعِ الْيَأْسِ يَحُجُّ بِمَالِهِ فِي حَيَاتِهِ فَكَذَا وَصِيُّهُ تَقُومُ مَقَامَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ .
وَالْأَوْلَى أَنْ يُحَجِّجَ الْوَصِيُّ بِمَالِهِ رَجُلًا فَإِنْ حَجَّجَ امْرَأَةً جَازَ مَعَ الْكَرَاهَةِ ؛ لِأَنَّ حَجَّ الْمَرْأَةِ أَنْقَصُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ رَمَلٌ وَلَا سَعْيٌ فِي بَطْنِ الْوَادِي وَلَا رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ وَلَا الْحَلْقُ فَكَانَ إحْجَاجُ الرَّجُلِ عَنْهُ أَكْمَلَ مِنْ إحْجَاجِ الْمَرْأَةِ

( قَالَ ) : وَإِنْ أَحَجَّ بِمَالِهِ رَجُلًا فَجَامَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ فِي إحْرَامِهِ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَقَدْ فَسَدَ حَجُّهُ وَهُوَ ضَامِنٌ لِلنَّفَقَةِ ؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ فِي سَفَرٍ يُؤَدِّي بِهِ حَجًّا صَحِيحًا فَبِالْإِفْسَادِ يَصِيرُ مُخَالِفًا فَيَكُونُ ضَامِنًا لِلنَّفَقَةِ وَعَلَيْهِ الْمُضِيُّ فِي الْفَاسِدِ وَالدَّمِ وَقَضَاءِ الْحَجِّ ، وَبِهَذَا اسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ أَصْلَ الْحَجِّ يَكُونُ لِلْحَاجِّ حَتَّى إنَّ الْقَضَاءَ عَلَيْهِ عِنْدَ الْإِفْسَادِ دُونَ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ ، فَأَمَّا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إذَا وَافَقَ فَالْحَجُّ عَنْ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَنْوِيَ عَنْ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ ، وَلَكِنْ إذَا خَالَفَ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ بِأَمْرِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ فَكَانَ وَاقِعًا عَنْ نَفْسِهِ فَعَلَيْهِ مُوجَبُهُ كَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ إذَا وَافَقَ كَانَ مُشْتَرِيًا لِأَمْرِهِ ، وَلَوْ خَالَفَ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ

( قَالَ ) : وَلَوْ قَرَنَ مَعَ الْحَجِّ عُمْرَةً كَانَ مُخَالِفًا ضَامِنًا لِلنَّفَقَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعِنْدَهُمَا لَا يَصِيرُ مُخَالِفًا اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِالْمَأْمُورِ بِهِ وَزَادَ عَلَيْهِ مَا يُجَانِسُهُ فَلَا يَصِيرُ بِهِ مُخَالِفًا كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا بَاعَ بِأَكْثَرَ مِمَّا سَمَّى لَهُ مِنْ جِنْسِهِ ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ مِنْ الْإِفْرَادِ فَهُوَ بِالْقِرَانِ زَادَ لِلْمَيِّتِ خَيْرًا فَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : هُوَ مَأْمُورٌ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ فِي سَفَرٍ مُجَرَّدٍ لِلْحَجِّ ، وَسَفَرُهُ هَذَا مَا تَفَرَّدَ لِلْحَجِّ بَلْ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ جَمِيعًا فَكَانَ مُخَالِفًا كَمَا لَوْ تَمَتَّعَ ، وَلِأَنَّ الْعُمْرَةَ الَّتِي زَادَهَا لَا تَقَعُ عَنْ الْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ وَلَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ لِلْحَاجِّ فِي أَدَاءِ النُّسُكِ عَنْهُ إلَّا بِقَدْرِ مَا أَمَرَهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِشَيْءٍ لَمْ يَجُزْ أَدَاؤُهُ عَنْهُ فَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْعُمْرَةِ فَإِذَا لَمْ تَكُنْ عُمْرَتُهُ عَنْ الْمَيِّتِ صَارَ كَأَنَّهُ نَوَى الْعُمْرَةَ عَنْ نَفْسِهِ وَهُنَاكَ يَصِيرُ مُخَالِفًا فَكَذَا هُنَا إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ ، وَإِنْ نَوَى الْعُمْرَةَ عَنْ نَفْسِهِ لَا يَصِيرُ مُخَالِفًا ، وَلَكِنْ يَرُدُّ مِنْ النَّفَقَةِ بِقَدْرِ حِصَّةِ الْعُمْرَةِ الَّتِي أَدَّاهَا عَنْ نَفْسِهِ وَذَهَبَ فِي ذَلِكَ إلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِتَحْصِيلِ الْحَجِّ لِلْمَيِّتِ بِجَمِيعِ النَّفَقَةِ ، فَإِذَا ضَمَّ إلَيْهِ عُمْرَةَ نَفْسِهِ فَقَدْ حَصَلَ الْحَجُّ لِلْمَيِّتِ بِبَعْضِ النَّفَقَةِ ، وَبِهَذَا لَا يَكُونُ مُخَالِفًا كَالْوَكِيلِ بِشِرَاءِ عَبْدٍ بِأَلْفٍ إذَا اشْتَرَاهُ بِخَمْسِمِائَةٍ ، وَلَكِنْ هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يُجَرِّدَ السَّفَرَ لِلْمَيِّتِ ، فَإِذَا اعْتَمَرَ لِنَفْسِهِ لَمْ يُجَرِّدْ السَّفَرَ لِلْمَيِّتِ ، ثُمَّ الَّذِي يَحْصُلُ لِلْمَيِّتِ ثَوَابُ النَّفَقَةِ فَبِقَدْرِ مَا

يُنْتَقَصُ بِهِ يُنْتَقَصُ مِنْ الثَّوَابِ فَكَانَ هَذَا الْخِلَافُ ضَرَرًا عَلَيْهِ لَا مَنْفَعَةً لَهُ ، ثُمَّ دَمُ الْقِرَانِ عِنْدَهُمَا يَكُونُ عَلَى الْحَجِّ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا كَانَ مَأْمُورًا بِالْقِرَانِ مِنْ جِهَةِ الْمَيِّتِ حَتَّى لَمْ يَصِرْ مُخَالِفًا ؛ لِأَنَّ دَمَ الْقِرَانِ نُسُكٌ وَسَائِرُ الْمَنَاسِكِ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ هَذَا النُّسُكُ ، وَلِأَنَّ لِهَذَا الدَّمِ بَدَلًا وَهُوَ الصَّوْمُ ، وَلَوْ كَانَ مُعْسِرًا لَمْ يُشْكِلْ أَنَّ الصَّوْمَ عَلَيْهِ دُونَ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ فَكَذَلِكَ الْهَدْيُ يَكُونُ عَلَيْهِ

( قَالَ ) : وَكَذَلِكَ لَوْ أُمِرَ بِالْعُمْرَةِ عَنْ الْمَيِّتِ فَقَرَنَ مَعَهَا حَجَّةً فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي ذَكَرْنَا إلَّا أَنَّ عَلَى قَوْلِهِمَا نَفَقَةُ مَا بَقِيَ مِنْ الْحَجِّ بَعْدَ أَدَاءِ الْعُمْرَةِ يَكُونُ عَلَى الْحَاجِّ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ لَا لِلْمَيِّتِ فَلَا يَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الْمَيِّتِ ، وَبِهَذَا الْفَصْلِ يَتَّضِحُ كَلَامُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى مَا بَيَّنَّا

( قَالَ ) : وَإِذَا كَانَ أُمِرَ بِالْحَجِّ فَبَدَأَ وَاعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، ثُمَّ حَجَّ مِنْ مَكَّةَ كَانَ مُخَالِفًا فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَحُجَّ عَنْ الْمَيِّتِ مِنْ الْمِيقَاتِ وَالْمُتَمَتِّعُ يَحُجُّ مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ فَكَانَ هَذَا غَيْرَ مَا أُمِرَ بِهِ ، وَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَفَرٍ يَعْمَلُ فِيهِ لِلْمَيِّتِ ، وَإِنَّمَا أَنْفَقَ فِي سَفَرٍ كَانَ عَامِلًا فِيهِ لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ سَفَرَهُ كَانَ لِلْعُمْرَةِ وَهُوَ فِي الْعُمْرَةِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ

( قَالَ ) : وَكُلُّ دَمٍ يَلْزَمُ الْمُجَهِّزَ يَعْنِي الْحَاجَّ عَنْ الْغَيْرِ فَهُوَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ دَمَ نُسُكٍ فَإِقَامَةُ الْمَنَاسِكِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ دَمَ كَفَّارَةٍ فَالْجِنَايَةُ وُجِدَتْ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ دَمًا وَجَبَ بِتَرْكِ وَاجِبٍ فَهُوَ الَّذِي تَرَكَ مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ فَلِهَذَا كَانَتْ هَذِهِ الدِّمَاءُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ إلَّا دَمَ الْإِحْصَارِ فَإِنَّهُ فِي مَالِ الْمَحْجُوجِ عَنْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ عَلَى الْحَاجِّ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ لِتَعْجِيلِ الْإِحْلَالِ فَيَكُونُ قِيَاسُ الدَّمِ الْوَاجِبِ بِالْجِمَاعِ وَلِأَنَّهُ فِي مَعْنَى دَمِ الْقِرَانِ ؛ لِأَنَّهُ مَشْرُوعٌ لِلتَّحَلُّلِ وَهُمَا احْتَجَّا ، وَقَالَا : دَمُ الْإِحْصَارِ لِلْخُرُوجِ عَنْ الْإِحْرَامِ وَهُوَ بِمُبَاشَرَةِ الْإِحْرَامِ كَانَ عَامِلًا لِلْمَيِّتِ فَكَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الْمُدْخِلُ لَهُ فِي هَذَا حُكْمًا فَعَلَيْهِ إخْرَاجُهُ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْعَبْدِ إذَا أَحْرَمَ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ ، ثُمَّ أُحْصِرَ كَانَ عَلَيْهِ إخْرَاجُهُ ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ دَمَ الْإِحْصَارِ بِمَنْزِلَةِ نَفَقَةِ الرُّجُوعِ ، وَنَفَقَةُ الرُّجُوعِ فِي مَالِ الْبَيْتِ وَكَانَ الْحَاجُّ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِهِ ، فَكَذَلِكَ دَمُ الْإِحْصَارِ فِي مَالِهِ وَإِنْ كَانَ الْحَاجُّ هُوَ الْمُنْتَفِعُ بِهِ ، ثُمَّ يَرُدُّ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ عَلَى وَصِيِّ الْمَيِّتِ فَيُحِجُّ بِهِ إنْسَانًا مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا أَنْفَقَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِأَمْرِ الْمَيِّتِ فِيمَا أَنْفَقَ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَاتَ فِي الطَّرِيقِ لَمْ يَضْمَنْ مَا أَنْفَقَ فَكَذَلِكَ إذَا أُحْصِرَ ، وَقَوْلُهُ " مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ " يَعْنِي إذَا كَانَ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَحُجَّ بِهِ مِنْ مَنْزِلِ الْمَيِّتِ فَيَحُجُّ بِهِ مِنْ حَيْثُ يُمْكِنُ وَصَارَ هَذَا كَمَا لَوْ لَمْ يَبْلُغْ فِي الِابْتِدَاءِ ثُلُثُ مَالِهِ إلَّا هَذَا الْقَدْرَ فَيَحُجُّ بِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ .
وَأَصْلُ

الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ أَوْصَى بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بِثُلُثِ مَالِهِ فَإِنَّمَا يُحَجُّ مِنْ مَنْزِلِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ خَرَجَ لِلْحَجِّ بِنَفْسِهِ كَانَ يَخْرُجُ مِنْ مَنْزِلِهِ فَكَذَلِكَ يُحَجُّ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ مَنْزِلِهِ فَإِنْ كَانَ ثُلُثُ مَالِهِ لَا يَكْفِي لِلْحَجِّ مِنْ مَنْزِلِهِ يُحَجُّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ تَبْطُلُ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ ؛ لِأَنَّهُ عَجَزَ الْوَصِيُّ عَنْ تَنْفِيذِ مَا أَمَرَ بِهِ وَهُوَ الْحَجُّ مِنْ مَنْزِلِهِ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا أَوْصَى بِأَنْ يُشْتَرَى نَسَمَةٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَتُعْتَقُ عَنْهُ وَكَانَ ثُلُثُ مَالِهِ دُونَ الْأَلْفِ دِرْهَمٍ تَبْطُلُ الْوَصِيَّةِ ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْحَجِّ ابْتِغَاءُ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَيْلُ الثَّوَابِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالصَّدَقَةِ ، وَذَلِكَ يَنْفُذُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ بِالْعِتْقِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إنْ كَانَ مُعَيَّنًا فَالْوَصِيَّةُ تَقَعُ لَهُ ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ مُعَيَّنًا فَإِنَّمَا أَوْصَى بِعَبْدٍ يُسَاوِي أَلْفًا فَلَا يَجُوزُ تَنْفِيذُهُ بِعَبْدٍ يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ فَلَوْ وَجَدُوا مَنْ يَحُجُّ عَنْ الْمَيِّتِ مِنْ مَنْزِلِهِ بِذَلِكَ الْمَالِ مَاشِيًا لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَحُجُّوا مِنْ مَنْزِلِهِ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ رَاكِبًا حَتَّى قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي النَّوَادِرِ : رَاكِبُ الْبَعِيرِ فِي ذَلِكَ أَفْضَلُ مِنْ رَاكِبِ الْحِمَارِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَحُجَّ بِنَفْسِهِ مَاشِيًا إنْ وَجَدَ النَّفَقَةَ فَكَذَلِكَ لَا يُحَجُّ عَنْهُ مَاشِيًا ؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ لِلْمَيِّتِ ثَوَابُ النَّفَقَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ : الْخِيَارُ إلَى الْوَصِيِّ إنْ شَاءَ أَحَجَّ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ رَاكِبًا ، وَإِنْ شَاءَ مِنْ مَنْزِلِهِ مَاشِيًا ؛ لِأَنَّ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ زِيَادَةً فِي الْمَسَافَةِ وَنُقْصَانًا فِي النَّفَقَةِ ، وَفِي الْجَانِبِ الْآخَرِ زِيَادَةٌ فِي النَّفَقَةِ

وَنُقْصَانٌ فِي الْمَسَافَةِ ، وَفِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَيْلُ الثَّوَابِ فَيَخْتَارُ الْوَصِيُّ أَيَّ الْجَانِبَيْنِ شَاءَ ، فَأَمَّا الْمُحْصَرُ بَعْدَمَا تَحَلَّلَ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ أَحْرَمَ عَنْ نَفْسِهِ فَتَحَلَّلَ بِالْهَدْيِ ، وَهَذَا شَاهِدٌ لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّ الْمُحْصَرَ غَيْرُ مُخَالِفٍ وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ قَضَاءُ الْحَجَّةِ وَالْعُمْرَةِ عَلَيْهِ فَدَلَّ أَنَّ أَصْلَ حَجِّهِ عَنْ نَفْسِهِ وَأَنَّ لِلْمَيِّتِ ثَوَابَ النَّفَقَةِ فَإِنْ أَمَرَهُ رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْحَجِّ فَأَهَّلَ بِحَجَّةٍ عَنْهُمَا كَانَ ضَامِنًا لَهُمَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَرَهُ بِأَنْ يُنْفِقَ مِنْ مَالِهِ فِي سَفَرٍ يَخْلُصُ لَهُ وَأَنْ يَنْوِيَهُ بِعَيْنِهِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ ، وَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ صَارَ مُخَالِفًا ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَجْعَلَ الْحَجَّةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ لَزِمَاهُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ حِينَ نَوَاهُمَا ، وَلَمْ يُمْكِنْ تَصْحِيحُ نِيَّتِهِ عَنْهُمَا ؛ لِأَنَّ الْحَجَّةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَكُونُ عَنْ الِاثْنَيْنِ ، وَلَيْسَ أَحَدُهَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَبَطَلَتْ نِيَّتُهُ عَنْهُمَا فَبَقِيَتْ نِيَّةُ أَصْلِ الْإِحْرَامِ فَكَانَ مُحْرِمًا عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُحَوِّلَهُ إلَى غَيْرِهِ مِنْ بَعْدُ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ أَحْرَمَ عَنْ أَبَوَيْهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَهُ عَنْ أَيِّهِمَا شَاءَ ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ ، وَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَتَحَقَّقُ الْخِلَافُ فِي تَرْكِهِ تَعْيِينَ أَحَدِهِمَا فِي الِابْتِدَاءِ بَلْ يَجْعَلُ التَّعْيِينَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالتَّعْيِينِ فِي الِابْتِدَاءِ وَهُنَا هُوَ غَيْرُ مُتَبَرِّعٍ فِيمَا صَنَعَ ، وَهَذَا أَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعِبَادِ فَبِتَرْكِ التَّعْيِينِ فِي الِابْتِدَاءِ يَصِيرُ مُخَالِفًا ، وَإِنْ أَمَرَهُ أَحَدُهُمَا بِالْحَجِّ وَالْآخَرُ بِالْعُمْرَةِ ، وَلَمْ يَأْمُرَاهُ بِالْجَمْعِ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا كَانَ مُخَالِفًا أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ مَا أَتَى بِسَفَرٍ خَالِصٍ لِوَاحِدٍ

مِنْهُمَا فَلَمْ يَكُنْ مُسْتَوْجِبًا لِلنَّفَقَةِ فِي مَالِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
وَإِنْ أَمَرَاهُ بِالْجَمْعِ جَازَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَرَّحَ أَنَّ مَقْصُودَهُ تَحْصِيلُ النُّسُكِ لَا خُلُوصُ السَّفَرِ لَهُ ، وَقَدْ حَصَلَ مَقْصُودُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا أَنْفَقَ مِنْ مَالِهِمَا ، وَهَدْيُ الْمُتْعَةِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ أَمَرَهُ بِالْقِرَانِ رَجُلٌ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّ الْهَدْيَ نُسُكٌ وَسَائِرُ الْمَنَاسِكِ عَلَى الْحَاجِّ فَكَذَا هَذَا النُّسُكُ

( قَالَ ) : رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَحُجَّ عَنْهُ لَمْ تَجُزْ الْإِجَارَةُ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَجُوزُ ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الِاسْتِئْجَارَ عَلَى الطَّاعَاتِ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَدَاؤُهَا مِنْ الْكَافِرِ لَا يَجُوزُ عِنْدنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كُلُّ مَا لَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْأَجِيرِ أَدَاؤُهُ يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ تَجْزِي فِيهِ النِّيَابَةُ وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { حَيْثُ رَقَى الْمَلْدُوغَ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ فَأُعْطِيَ قَطِيعًا مِنْ الْغَنَمِ فَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ لِمَنْ أَكَلَ بِرُقْيَةِ بَاطِلٍ لَقَدْ أَكَلْت بِرُقْيَةِ حَقٍّ } وَالرُّقْيَةُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ طَاعَةٌ ، ثُمَّ جَوَّزَ أَخْذَ الْبَدَلِ عَلَيْهِ .
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْحَجَّ تُجْزِي فِيهِ النِّيَابَةُ فِي الْأَدَاءِ وَلَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْأَجِيرِ إقَامَتُهُ فَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُهُ عَلَيْهِ كَبِنَاءِ الرِّبَاطِ وَالْمَسْجِدِ ، وَبِهَذَا الْوَصْفِ تَبَيَّنَ أَنَّ عَمَلَ الْأَجِيرِ وَقَعَ لِلْمُسْتَأْجِرِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ اسْتَوْجَبَ النَّفَقَةَ فِي مَالِهِ عِنْدَكُمْ ، وَإِنَّمَا يَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ فِي مَالِهِ إذَا عَمِلَ لَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا خَالَفَ لَا يَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ عَمَلُهُ لَهُ اسْتَحَقَّ الْأَجْرَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَنْ اُسْتُؤْجِرَ عَلَى الْإِمَامَةِ فَإِنَّ عَمَلَهُ فِي الصَّلَاةِ يَقَعُ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ ، وَكَذَلِكَ مَنْ اُسْتُؤْجِرَ عَلَى الْجِهَادِ فَإِنَّ الْمُجَاهِدَ يُؤَدِّي الْفَرْضَ لِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ عَمَلُهُ لِغَيْرِهِ ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إيَّاكَ وَالْخُبْزَ الرِّقَاقَ وَالشَّرْطَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ } ، وَحَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ عُلِّمَ سُورَةً مِنْ الْقُرْآنِ فَأَعْطَى قَوْسًا ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

{ أَتُحِبُّ أَنْ يُقَوِّسَكَ اللَّهُ بِقَوْسٍ مِنْ النَّارِ ، فَقَالَ : لَا ، فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ رُدَّ عَلَيْهِ قَوْسَهُ } ، وَفِي حَدِيثِ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ الثَّقَفِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا اتَّخَذْتَ مُؤَذِّنًا فَلَا تَأْخُذْ عَلَى الْأَذَانِ أَجْرًا } ، وَلِأَنَّ الْمُبَاشِرَ لِعَمَلِ الطَّاعَةِ عَمَلُهُ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَصِيرُ مُسْلِمًا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَلَا يَجِبُ الْأَجْرُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ بِنَاءِ الرِّبَاطِ وَالْمَسْجِدِ فَالْعَمَلُ هُنَاكَ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ مَحْضَةٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْ الْكَافِرِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ وَالْمُصَلِّي خَلِيفَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مَا كَانَ يَأْخُذُ أَجْرًا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا } الْآيَةَ فَكَذَلِكَ الْخَلِيفَةُ .
وَأَمَّا حَدِيثُ الرُّقْيَةِ قُلْنَا كَانَ ذَلِكَ مَالًا أَخَذَهُ مِنْ الْحَرْبِيِّ بِطَرِيقِ الْغَنِيمَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { اضْرِبُوا لِي فِيهَا بِسَهْمٍ } مَعَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا بِعَيْنِهِ مَا لَيْسَ بِمَشْرُوطٍ يَجُوزُ أَخْذُهُ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِئْجَارَ عَلَى الْحَجِّ لَا يَجُوزُ ، قُلْنَا : الْعَقْدُ الَّذِي لَا جَوَازَ لَهُ بِحَالٍ يَكُونُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ ، وَإِذَا سَقَطَ اعْتِبَارُ الْعَقْدِ بَقِيَ أَمْرُهُ بِالْحَجِّ فَيَكُونُ لَهُ نَفَقَةُ مِثْلِهِ فِي مَالِهِ ، وَهَذِهِ النَّفَقَةُ لَيْسَ يَسْتَحِقُّهَا بِطَرِيقِ الْعِوَضِ ، وَلَكِنْ يَسْتَحِقُّ كِفَايَتَهُ ؛ لِأَنَّهُ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِعَمَلٍ يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُسْتَأْجِرُ فَيَسْتَحِقُّ الْكِفَايَةَ فِي مَالِهِ كَالْقَاضِي يَسْتَحِقُّ كِفَايَتَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَالْعَامِلُ يَسْتَحِقُّ الْكِفَايَةَ فِي مَالِ الصَّدَقَةِ وَالْمَرْأَةُ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الزَّوْجِ لَا بِطَرِيقِ الْعِوَضِ

( قَالَ ) : وَيَجُوزُ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ عَنْ الْمَحْبُوسِ إذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَحَقَّقَ الْيَأْسُ عَنْ الْأَدَاءِ بِالْبَدَنِ .
( قَالَ ) : وَالْحَاجُّ عَنْ غَيْرِهِ إنْ شَاءَ قَالَ : لَبَّيْكَ عَنْ فُلَانٍ ، وَإِنْ شَاءَ اكْتَفَى بِالنِّيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْحَاجِّ عَنْ نَفْسِهِ إنْ شَاءَ صَرَّحَ بِالْحَجِّ عِنْدَ الْإِحْرَامِ وَإِنْ شَاءَ نَوَى وَاكْتَفَى بِالنِّيَّةِ

( قَالَ ) : وَإِنْ كَانَ الْمَيِّتُ أَوْصَى بِالْقِرَانِ فَخَرَجَ الْمُجَهَّزُ يَؤُمُّ الْبَيْتَ وَسَاقَ هَدْيًا فَقَلَّدَهُ يَكُونُ مُحْرِمًا بِهِمَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ عَنْ غَيْرِهِ مُعْتَبَرٌ بِإِحْرَامِهِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ بِسَوْقِ الْهَدْيِ كَمَا يَحْصُلُ بِالتَّلْبِيَةِ فَكَذَلِكَ إحْرَامُهُ عَنْ غَيْرِهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ الْهَدْيُ لِقِرَانِهِ إنَّمَا هُوَ مِنْ نَذْرٍ كَانَ عَلَيْهِ أَوْ مِنْ جَزَاءِ صَيْدٍ أَوْ مِنْ جِمَاعٍ فِي إحْرَامٍ قَبْلَ هَذَا أَوْ إحْصَارٍ كَانَ قَبْلَ هَذَا فَسَاقَ مَعَهُ لِذَلِكَ هَدْيًا بَدَنَةً وَقَلَّدَهَا فَهُوَ مُحْرِمٌ عَلَى قِيَاسِ مَا لَوْ نَوَى الْإِحْرَامَ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُحْرِمًا بِتَقْلِيدِ هَذِهِ الْهَدَايَا وَسَوْقِهَا فَكَذَلِكَ إذَا نَوَى الْإِحْرَامَ عَنْ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْهَدَايَا عَلَيْهِ فِي مَالِهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ

( قَالَ ) : رَجُلٌ أَمَرَهُ رَجُلَانِ أَنْ يَحُجَّ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَأَهَلَّ بِحَجَّةٍ عَنْ أَحَدِهِمَا لَا يَنْوِي عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، قَالَ : لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى أَيِّهِمَا شَاءَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : أَرَى ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ وَهُوَ ضَامِنٌ لِنَفَقَتِهِمَا ، وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِتَعْيِينِ النِّيَّةِ لَهُ ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ صَارَ مُخَالِفًا كَمَا إذَا نَوَى عَنْهُمَا جَمِيعًا بِخِلَافِ الْحَاجِّ عَنْ الْأَبَوَيْنِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ مِنْ جِهَتِهِمَا .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ نِيَّتُهُ عَنْهُمَا فَكَذَلِكَ عَنْ أَحَدِهِمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ النِّيَّةَ بِمَنْزِلَةِ الرُّكْنِ فِي الْعِبَادَاتِ فَإِنَّ قِيمَةَ الْعَمَلِ يَكُونُ بِالنِّيَّةِ فَبِتَرْكِهِ تَعْيِينَ النِّيَّةِ يَكُونُ مُخَالِفًا فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهُمَا قَالَا : الْإِبْهَامُ فِي الِابْتِدَاءِ لَا يَمْنَعُ مِنْ انْعِقَادِ الْإِحْرَامِ صَحِيحًا وَالتَّعْيِينُ فِي الِانْتِهَاءِ بِمَنْزِلَةِ التَّعْيِينِ فِي الِابْتِدَاءِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ لَا يَنْوِي حَجَّةً وَلَا عُمْرَةً بِعَيْنِهَا كَانَ لَهُ أَنْ يُعَيِّنَ فِي الِانْتِهَاءِ وَيَجْعَلَ ذَلِكَ كَتَعْيِينِهِ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِحْرَامَ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ لِأَدَاءِ النُّسُكِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ فِي غَيْرِ وَقْتِ الْأَدَاءِ وَلَا يَتَّصِلُ بِهِ الْأَدَاءُ فَتَرْكُهُ نِيَّةَ التَّعْيِينِ فِيهِ لَا يَجْعَلُهُ مُخَالِفًا ، وَإِذَا عَيَّنَ قَبْلَ الِاشْتِغَالِ بِعَمَلِ الْأَدَاءِ كَانَ ذَلِكَ كَالتَّعْيِينِ فِي الِابْتِدَاءِ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ اشْتَغَلَ بِالطَّوَافِ قَبْلَ التَّعْيِينِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُعَيِّنَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اشْتَغَلَ بِالْعَمَلِ تَعَيَّنَ إحْرَامُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّ أَدَاءَ الْعَمَلِ مَعَ إبْهَامِ النُّسُكِ لَا يَكُونُ ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَتَعَيَّنَ إحْرَامُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا

يَمْلِكُ أَنْ يَجْعَلَهُ لِغَيْرِهِ بَعْدَ ذَلِكَ

( قَالَ ) : وَإِذَا أَهَلَّ الرَّجُلُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ الَّذِي مَعَهُ ، ثُمَّ أَصَابَ صَيْدًا فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ إهْلَالِهِ عَنْ ابْنِهِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ عِبَارَتَهُ فِي إهْلَالِهِ عَنْ ابْنِهِ كَعِبَارَةِ ابْنِهِ أَنْ لَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ فَيَصِيرُ الِابْنُ مُحْرِمًا بِهَذَا لَا أَنْ يَصِيرَ الْأَبُ مُحْرِمًا عَنْهُ بَقِيَ لِلْأَبِ إحْرَامٌ وَاحِدٌ فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ بِخِلَافِ الْقَارِنِ فَهُوَ مُحْرِمٌ عَنْ نَفْسِهِ بِإِحْرَامَيْنِ فَكَانَ عَلَيْهِ جَزَاءَانِ

( قَالَ ) : وَإِذَا أَمَّ الرَّجُلُ الْبَيْتَ فَأُغْمِيَ عَلَيْهِ فَأَهَلَّ عَنْهُ أَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ وَوَقَفُوا بِهِ فِي الْمَوَاقِفِ وَقَضَوْا لَهُ النُّسُكَ كُلَّهُ ، قَالَ : يُجْزِيهِ ذَلِكَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - : لَا يُجْزِيهِ .
وَالْقِيَاسُ قَوْلُهُمَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ أَصْحَابَهُ بِالْإِحْرَامِ عَنْهُ ، وَلَيْسَ لِلْأَصْحَابِ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ فَلَا يَصِيرُ هُوَ مُحْرِمًا بِإِحْرَامِهِمْ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْإِحْرَامِ عَقْدٌ لَازِمٌ وَإِلْزَامُ الْعَقْدِ عَلَى الْغَيْرِ لَا يَكُونُ إلَّا بِوِلَايَةٍ ، وَلِأَنَّ الْإِحْرَامَ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِالنِّيَّةِ ، وَقَدْ انْعَدَمَتْ النِّيَّةُ مِنْ الْمُغْمَى عَلَيْهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الْغَيْرِ عَنْهُ بِدُونِ أَمْرِهِ لَا تَقُومُ مَقَامَ نِيَّتِهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ سَائِرَ الْمَنَاسِكِ لَا تَتَأَدَّى بِأَدَاءِ الْأَصْحَابِ عَنْهُ فَكَذَلِكَ الْإِحْرَامُ ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا عَاقَدَهُمْ عَقْدَ الرِّفْقَةِ فَقَدْ اسْتَعَانَ بِهِمْ فِي كُلِّ مَا يَعْجِزُ عَنْ مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ ، وَالْإِذْنُ دَلَالَةً بِمَنْزِلَةِ الْإِذْنِ إفْصَاحًا كَمَا فِي شُرْبِ مَاءِ السِّقَايَةِ وَكَمَنْ نَصَبَ الْقِدْرَ عَلَى الْكَانُونِ وَجَعَلَ فِيهِ اللَّحْمَ وَأَوْقَدَ النَّارَ تَحْتَهُ فَجَاءَ إنْسَانٌ وَطَبَخَهُ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا لِوُجُودِ الْإِذْنِ دَلَالَةً ، وَإِذَا ثَبَتَ الْإِذْنُ قَامَتْ نِيَّتُهُمْ مَقَامَ نِيَّتِهِ كَمَا لَوْ كَانَ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ نَصًّا .
وَأَمَّا سَائِرُ الْمَنَاسِكِ فَالْأَصَحُّ أَنَّ نِيَّاتِهِمْ عَنْهُ فِي أَدَائِهَا صَحِيحٌ إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَقِفُوا بِهِ وَأَنْ يَطَّوَّفُوا بِهِ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى أَدَائِهِ لَوْ كَانَ مُفِيقًا ، وَلَوْ أَدَّوْا عَنْهُ جَازَ .
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ فَرَّقَ ، فَقَالَ : الْإِحْرَامُ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ فَتُجْزِي النِّيَابَةُ فِي الشُّرُوطِ ، وَإِنْ كَانَ لَا تُجْزِي فِي الْأَعْمَالِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ

الْمُحْدِثَ إذَا غَسَلَ أَعْضَاءَهُ غَيْرُهُ كَانَ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِتِلْكَ الطَّهَارَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ النِّيَابَةُ لَا تُجْزِي فِي أَعْمَالِ الصَّلَاةِ .
تَوْضِيحُهُ أَنَّ النِّيَابَةَ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْعَجْزِ فَفِي أَصْلِ الْإِحْرَامِ تَحَقَّقَ عَجْزُهُ عَنْهُ بِسَبَبِ الْإِغْمَاءِ فَيَنُوبُ عَنْهُ أَصْحَابُهُ ، فَأَمَّا فِي أَدَاءِ الْأَعْمَالِ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْعَجْزُ ؛ لِأَنَّهُمْ إذَا أَحْضَرُوهُ الْمَوَاقِفَ كَانَ هُوَ الْوَاقِفَ ، وَإِذَا طَافُوا بِهِ كَانَ هُوَ الطَّائِفَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ طَافَ رَاكِبًا لِعُذْرٍ

( قَالَ ) : فَإِنْ أَصَابَ الَّذِي أَهَلَّ عَنْ الْمُغْمَى عَلَيْهِ صَيْدًا فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ مِنْ قِبَلِ إهْلَالِهِ عَنْ نَفْسِهِ إنْ كَانَ مُحْرِمًا ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ إهْلَالِهِ عَنْ الْمُغْمَى عَلَيْهِ شَيْءٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ بِهَذَا الْإِهْلَالِ يَصِيرُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ مُحْرِمًا كَمَا لَوْ كَانَ أَمَرَهُ بِهِ إفْصَاحًا ، فَأَمَّا الْمُهِلُّ بِهَذَا الْإِهْلَالِ لَا يَصِيرُ مُحْرِمًا فَلَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ بِاعْتِبَارِ إحْرَامِهِ

( قَالَ ) : وَإِذَا حَجَّ الرَّجُلُ عَنْ أَبِيهِ أَوْ عَنْ أُمِّهِ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ مِنْ غَيْرِ وَصِيَّةٍ أَوْصَى بِهَا الْمَيِّتُ أَجْزَأَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( قَالَ ) : بَلَغَنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَالَ لِلْخَثْعَمِيَّةِ أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ فَقَضَيْتِيهِ أَمَا كَانَ يُقْبَلُ مِنْكِ ، فَقَالَتْ : نَعَمْ ، فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يَقْبَلَ } ، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ { قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلَّتِي سَأَلَتْهُ أَنْ تَحُجَّ عَنْ أَبِيهَا : حُجِّي وَاعْتَمِرِي } وَأَنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أُمِّي قَدْ تُوُفِّيَتْ وَأَنَّهَا كَانَتْ تُحِبُّ الصَّدَقَةَ أَفَأَتَصَدَّقُ عَنْهَا ، فَقَالَ : } فَهَذِهِ الْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى الْوَارِثِ يَتَبَرَّعُ عَلَى مُوَرِّثِهِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْقُرَبِ فَإِنْ قِيلَ فَلِمَاذَا قَيَّدَ الْجَوَابَ بِالِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ مَا صَحَّ الْحَدِيثُ فِيهِ .
( قُلْنَا ) ؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ أُطْلِقَ الْجَوَابُ فِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَحْكَامِ الثَّابِتَةِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ .
( قُلْنَا ) خَبَرُ الْوَاحِدِ مُوجِبٌ لِلْعَمَلِ فَفِيمَا طَرِيقُهُ الْعَمَلُ أُطْلِقَ الْجَوَابُ فِيهِ ، فَأَمَّا سُقُوطُ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ عَنْ الْمَيِّتِ بِأَدَاءِ الْوَرَثَةِ طَرِيقُهُ الْعِلْمُ فَإِنَّهُ أَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ تَعَالَى فَلِهَذَا قُيِّدَ الْجَوَابُ بِالِاسْتِثْنَاءِ

( قَالَ ) : رَجُلٌ أَوْصَى بِحَجَّةٍ فَأَحَجَّ الْوَصِيُّ عَنْهُ رَجُلًا فَهَلَكَتْ النَّفَقَةُ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ قَالَ : يَحُجُّ عَنْهُ حَجَّةً أُخْرَى مِنْ ثُلُثِ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ بَقِيَ مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَيِّتِ مَا يُمْكِنُ أَنْ يَحُجَّ بِهِ يَحُجُّ عَنْهُ ثَانِيًا وَإِلَّا فَقَدْ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْوَصِيَّةُ تَبْطُلُ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوصِي فِي تَعْيِينِ الْمَالِ ، وَلَوْ عَيَّنَ الْمُوصِي مَالًا فَهَلَكَ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ فَكَذَلِكَ إذَا عَيَّنَ الْوَصِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ : مَحِلُّ الْوَصِيَّةِ الثُّلُثُ فَتَعْيِينُ الْوَصِيِّ الثُّلُثَ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ بِهِ يَتَمَيَّزُ الثُّلُثُ لِلْوَصِيَّةِ ، فَأَمَّا تَعْيِينُهُ فِي الثُّلُثِ غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الثُّلُثِ مَحَلُّ الْوَصِيَّةِ فَمَا بَقِيَ شَيْءٌ يَجِبُ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ فِيهِ .
وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : تَعْيِينُ الْمَالِ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ بِهِ الْحَجُّ عَنْ الْمَيِّتِ ، فَإِذَا لَمْ يُفِدْ هَذَا التَّعْيِينُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ صَارَ كَأَنَّ التَّعْيِينَ لَمْ يُوجَدْ وَمَا هَلَكَ مِنْ الْمَالِ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَلِهَذَا يُحَجُّ عَنْهُ بِثُلُثِ مَا بَقِيَ

( قَالَ ) : وَإِنْ أَوْصَى بِحَجَّةٍ وَعِتْقِ نَسَمَةٍ وَالثُّلُثُ لَا يَسَعُهُمَا يَبْدَأُ بِاَلَّذِي بَدَأَ بِهِ الْمَيِّتُ ؛ لِأَنَّ الْبِدَايَةَ تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْعِنَايَةِ ، وَقَدْ ثَبَتَ وُجُوبُ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ الْأُولَى قَبْلَ ذِكْرِ الثَّانِيَةِ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِذِكْرِ الْوَصِيَّةِ الثَّانِيَةِ إذْ لَيْسَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ مَا يُغَيِّرُ مُوجَبَ أَوَّلِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَجُّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ فَحِينَئِذٍ يَبْدَأُ بِهَا ، وَإِنْ أَخَّرَهُ الْمَيِّتُ ؛ لِأَنَّ التَّرْجِيحَ بِالْبِدَايَةِ بَعْدَ الْمُسَاوَاةِ فِي الْقُوَّةِ وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ فِي الْقُوَّةِ ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُوصَى يَقْصِدُ تَقْدِيمَ الْفَرْضِ فِي الْأَدَاءِ ، وَإِنْ أَخَّرَهُ فِي الذِّكْرِ ؛ لِأَنَّ إسْقَاطَ الْفَرْضِ عَنْ ذِمَّتِهِ يَتَرَجَّحُ عِنْدَهُ عَلَى التَّبَرُّعِ بِمَا لَيْسَ عَلَيْهِ

( قَالَ ) : وَإِنْ أَوْصَى بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ بِثُلُثِهِ ، وَلَمْ يَقُلْ " حَجَّةً " حُجَّ عَنْهُ بِجَمِيعِ الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الثُّلُثَ مَصْرُوفًا إلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْقُرْبَةِ فَيَجِبُ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِ فِي جَمِيعِ الثُّلُثِ كَمَا لَوْ أَوْصَى أَنْ يُفْعَلَ بِثُلُثِهِ طَاعَةٌ أُخْرَى

( قَالَ ) : وَإِنْ أَوْصَى أَنْ يَحُجَّ رَجُلٌ حَجَّةً فَأَحَجُّوهُ فَلَمَّا قَدِمَ فَضَلَ مَعَهُ كِسْوَةٌ وَنَفَقَةٌ فَإِنَّ ذَلِكَ لِوَرَثَةِ الْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَّ عَنْ الْغَيْرِ لَا يَتَمَلَّكُ الْمَالَ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ فَإِنَّ التَّمْلِيكَ يَكُونُ بِطَرِيقِ الِاسْتِئْجَارِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا بُطْلَانَ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الطَّاعَةِ ، وَإِنَّمَا يُنْفَقُ الْمَالُ عَلَى مِلْكِ الْمُوصِي بِطَرِيقِ الْإِبَاحَةِ لِاسْتِحْقَاقِهِ الْكِفَايَةَ حِينَ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِيَعْمَلَ لَهُ فَمَا فَضَلَ مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِ الْمَيِّتِ فَيُرَدُّ عَلَى وَرَثَتِهِ

( قَالَ ) : وَإِذَا أَوْصَى لِرَجُلٍ ، فَقَالَ : أَحِجُّوا فُلَانًا حَجَّةً ، وَلَمْ يَقُلْ عَنِّي ، وَلَمْ يُسَمِّ كَمْ يُعْطَى فَإِنَّهُ يُعْطَى بِقَدْرِ مَا يُحِجُّهُ حَجَّةً وَلَهُ أَنْ لَا يَحُجَّ بِهِ إذَا أَخَذَهُ بَلْ يَصْرِفَهُ إلَى حَاجَةٍ أُخْرَى ؛ لِأَنَّهُ مَا أَمَرَهُ بِالْحَجِّ عَنْهُ ، إنَّمَا جَعَلَ ذَلِكَ الْحَجَّ عِيَارًا لِمَا أَوْصَى لَهُ بِهِ مِنْ الْمَالِ ، ثُمَّ أَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَحُجَّ بِذَلِكَ الْمَالِ عَنْ نَفْسِهِ فَكَانَتْ وَصِيَّةً صَحِيحَةً يَجِبُ تَنْفِيذُهَا بِالدَّفْعِ إلَيْهِ ، وَمَشُورَتُهُ غَيْرُ مُلْزِمَةٍ فَإِنْ شَاءَ حَجَّ بِهِ ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَحُجَّ

( قَالَ ) : وَإِذَا أَوْصَى أَنْ يَحُجَّ عَنْهُ رَجُلٌ بِعَيْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَأَوْصَى بِوَصَايَا لِأُنَاسٍ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ قُسِّمَ الثُّلُثُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ يُضْرَبُ لِلْحَجِّ فِيهِ بِأَدْنَى مَا يَكُونُ مِنْ نَفَقَةِ الْحَجِّ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالْحَجِّ وَجَبَ تَنْفِيذُهَا لَهُ بِنَفَقَةِ الْمُوصِي وَوَجَبَ تَنْفِيذُ سَائِرِ الْوَصَايَا حَقًّا لِلْمُوصَى لَهُمْ فَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْحُقُوقِ تَجْرِي الْمُزَاحَمَةُ بَيْنَهُمْ فِي الثُّلُثِ لِمُرَاعَاةِ حَقِّ كُلِّ مُسْتَحِقٍّ بِخِلَافِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحَجِّ وَالْعِتْقِ ؛ لِأَنَّ تَنْفِيذَ الْوَصِيَّتَيْنِ هُنَاكَ لِحَقِّ الْمُوصِي فَلِهَذَا كَانَتْ الْبِدَايَةُ بِمَا بَدَأَ بِهِ الْمَيِّتُ ، ثُمَّ مَا خَصَّ الْحَجَّ مِنْ الثُّلُثِ هُنَا يُحَجُّ بِهِ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُمْكِنُ مِنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْمُوصِي بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ لَمْ يَكُنْ ثُلُثُ مَالِهِ إلَّا هَذَا وَأَوْصَى بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ فَإِنَّهُ يُحَجُّ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ فَإِنْ أَحَجُّوا بِهِ مِنْ مَوْضِعٍ فَرَجَعَ الْحَاجُّ بِفَضْلِ نَفَقَةٍ وَكِسْوَةٍ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ أَخْطَئُوا فَكَانَ الْوَصِيُّ ضَامِنًا لِمَا أَنْفَقَهُ فَيُضَمُّ ذَلِكَ إلَى مَا بَقِيَ وَيُحَجُّ بِهِ عَنْ الْمَيِّتِ مِنْ حَيْثُ يَبْلُغُ إلَّا إذَا كَانَ الْفَاضِلُ شَيْئًا يَسِيرًا فَحِينَئِذٍ هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ فِي الْقِيَاسِ ، وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ تُجْزِي الْحَجَّةُ عَنْ الْمَيِّتِ وَلَا يَكُونُ الْوَصِيُّ ضَامِنًا ؛ لِأَنَّ الْيَسِيرَ مِنْ التَّفَاوُتِ لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَبْقَى بَعْدَ رُجُوعِهِ كِسْرَةٌ أَوْ جِرَابٌ خَلَقٌ أَوْ ثَوْبٌ خَلَقٌ فَلِهَذَا جَعَلَ هَذَا الْقَدْرَ عَفْوًا ، وَلَكِنْ يُرَدُّ عَلَى الْوَرَثَةِ أَوْ عَلَى الْمُوصَى لَهُ إنْ كَانَ هُنَاكَ مُوصًى لَهُ بِالثُّلُثِ

( قَالَ ) : وَإِذَا أَهَلَّتْ الْمَرْأَةُ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَكُنْ لِزَوْجِهَا أَنْ يَمْنَعَهَا إذَا كَانَ مَعَهَا مَحْرَمٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا مَحْرَمٌ كَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرَّةِ الْمُحْصَرَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ شَرَائِطِ وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهَا فِي حَقِّهَا الْمَحْرَمَ عِنْدَنَا ، ثُمَّ يُشْتَرَطُ أَنْ تَمْلِكَ قَدْرَ نَفَقَةِ الْمَحْرَمِ ؛ لِأَنَّ الْمَحْرَمَ إذَا كَانَ يَخْرُجُ مَعَهَا فَنَفَقَتُهُ فِي مَالِهَا إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : نَفَقَةُ الْمَحْرَمِ فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُجْبَرٍ عَلَى الْخُرُوجِ ، فَإِذَا تَبَرَّعَ بِهِ لَمْ يَسْتَوْجِبْ بِتَبَرُّعِهِ النَّفَقَةَ عَلَيْهَا ، وَلَكِنْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ هِيَ لَا تَتَوَسَّلُ إلَى الْحَجِّ إلَّا بِنَفَقَةِ الْمَحْرَمِ كَمَا لَا تَتَوَسَّلُ إلَى الْحَجِّ إلَّا بِنَفَقَتِهَا فَكَمَا يُشْتَرَطُ لِوُجُوبِ الْحَجِّ عَلَيْهَا مِلْكُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ وَيُجْعَلُ ذَلِكَ شَرْطًا لِنَفْسِهَا فَكَذَلِكَ لِلْمَحْرَمِ الَّذِي يَخْرُجُ مَعَهَا يُجْعَلُ ذَلِكَ شَرْطًا ، وَقَدْ بَيَّنَّا شَرَائِطَ الْوُجُوبِ فِيمَا سَبَقَ ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ لَا مِنْ الطَّرِيقِ وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا أَنَّ أَمْنَ الطَّرِيقِ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ أَمْ شَرْطٌ لِلْأَدَاءِ ؟ وَكَانَ ابْنُ أَبِي شُجَاعٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : هُوَ شَرْطٌ لِلْوُجُوبِ ؛ لِأَنَّ بِدُونِهِ يَتَعَذَّرُ الْوُصُولُ إلَى الْبَيْتِ إلَّا بِمَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ فَيَكُونُ شَرْطُ الْوُجُوبِ كَالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ ، وَكَانَ أَبُو حَازِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : هُوَ شَرْطُ الْأَدَاءِ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمَّا سُئِلَ عَنْ الِاسْتِطَاعَةِ فَسَّرَهَا بِالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ } ، وَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ فِي شَرْطِ وُجُوبِ الْعِبَادَةِ بِالرَّأْيِ ، وَلَمْ يَكُنْ الطَّرِيقُ فِي وَقْتٍ أَخْوَفَ مِمَّا كَانَ يَوْمئِذٍ لِغَلَبَةِ أَهْلِ الشِّرْكِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

أَمْنَ الطَّرِيقِ فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ إنَّمَا شَرْطُ الْوُجُوبِ مِلْكُ الزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ لِلذَّهَابِ وَالْمَجِيءِ وَمِلْكُ نَفَقَةِ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ مِنْ الْعِيَالِ كَالزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ الصَّغِيرِ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ ذَلِكَ زِيَادَةُ نَفَقَةِ شَهْرٍ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ إذَا رَجَعَ لَا يَشْتَغِلُ بِالْكَسْبِ إلَّا بَعْدَ مُدَّةٍ فَاسْتُحْسِنَ اشْتِرَاطُ مِلْكِ نَفَقَةِ شَهْرٍ بَعْدَ رُجُوعِهِ ، ثُمَّ بَعْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْوُجُوبِ يَجِبُ عَلَى الْفَوْرِ حَتَّى يَأْثَمَ بِالتَّأْخِيرِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَوَاهُ عَنْهُ بِشْرُ بْنُ الْمُعَلَّى ، وَهَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ : سُئِلَ عَمَّنْ لَهُ مَالٌ أَيَحُجُّ بِهِ أَمْ يَتَزَوَّجُ قَالَ : بَلْ يَحُجُّ بِهِ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوُجُوبَ عِنْدَهُ عَلَى الْفَوْرِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَسَعُهُ التَّأْخِيرُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَفُوتَهُ بِالْمَوْتِ فَإِنْ أَخَّرَ حَتَّى مَاتَ فَهُوَ آثِمٌ بِالتَّأْخِيرِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ ، وَإِنْ مَاتَ وَاسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ بِتَأْخِيرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَجَّ بَعْدَ نُزُولِ فَرْضِيَّتِهِ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فَرْضِيَّةُ الْحَجِّ فِي سَنَةِ سِتٍّ مِنْ الْهِجْرَةِ وَحَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَنَةِ عَشْرٍ .
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْحَجَّ فَرْضُ الْعُمُرِ فَكَانَ جَمِيعُ الْعُمُرِ وَقْتَ أَدَائِهِ وَلَا يَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ الْعُمُرِ أَدَاؤُهُ فَصَارَ جَمِيعُ الْوَقْتِ فِي حَقِّ الْحَجِّ كَجَمِيعِ وَقْتِ الصَّلَاةِ فِي حَقِّ الصَّلَاةِ وَهُنَاكَ التَّأْخِيرُ يَسَعُهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَفُوتَهُ عَنْ وَقْتِهِ ، وَدَلِيلُ صِحَّةِ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ إذَا أَخَّرَهُ كَانَ مُؤَدِّيًا لَا قَاضِيًا فَدَلَّ أَنَّ جَمِيعَ الْعُمْرِ وَقْتُ أَدَائِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - اسْتَدَلَّا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ { مَنْ وَجَدَ زَادًا وَرَاحِلَةً يُبْلِغَانِهِ بَيْتَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَمْ يَحُجَّ فَلَا عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا } الْحَدِيثَ ، وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أَنْظُرَ إلَى مَنْ مَلَكَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ ، وَلَمْ يَحُجَّ فَأُحَرِّقُ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ ، وَاَللَّهِ مَا أَرَاهُمْ مُسْلِمِينَ قَالَهَا ثَلَاثًا .
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ السَّنَةَ الْأُولَى بَعْدَ مَا تَمَّتْ الِاسْتِطَاعَةُ مُتَعَيِّنَةٌ لِأَدَاءِ الْحَجِّ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الْحَجِّ فَالتَّأْخِيرُ عَنْهُ يَكُونُ تَفْوِيتًا كَتَأْخِيرِ الصَّوْمِ عَنْ شَهْرِ رَمَضَانِ وَتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا بَيَانُهُ وَهُوَ أَنْ يَمْضِيَ هَذَا الْوَقْتُ يَعْجِزُ عَنْ الْأَدَاءِ بِيَقِينٍ ، وَقُدْرَتُهُ عَلَى الْأَدَاءِ بِمَجِيءِ أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مَوْهُومٌ فَرُبَّمَا لَا يَعِيشُ إلَيْهَا وَبِالْمَوْهُومِ لَا تَثْبُتُ الْقُدْرَةُ فَبَقِيَ مُضِيُّ هَذَا الْوَقْتِ تَفْوِيتًا لَهُ ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ وَقْتَ أَدَاءِ أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ عُمُرِهِ لَا مِنْ جَمِيعِ الدُّنْيَا ، وَهَذِهِ السَّنَةُ مُتَعَيِّنَةٌ لِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ عَدَمَ التَّعْيِينِ لِاعْتِبَارِ الْمُعَارَضَةِ وَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُعَارَضَةُ إلَّا أَنْ يَتَيَقَّنَ بِحَيَاتِهِ إلَى السَّنَةِ الثَّانِيَةِ وَلَا طَرِيقَ لِأَحَدٍ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ ، وَلِهَذَا قُلْنَا لَوْ أَخَّرَهُ كَانَ مُؤَدِّيًا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا بَقِيَ إلَى السَّنَةِ الثَّانِيَةِ تَحَقَّقَتْ الْمُعَارَضَةُ فَخَرَجَتْ السَّنَةُ الْأُولَى مِنْ أَنْ تَكُونَ مُتَعَيِّنَةً وَكَانَتْ هَذِهِ السَّنَةُ فِي حَقِّهِ تُعَدُّ لِمَا أَدْرَكَهَا بِمَنْزِلَةِ السَّنَةِ الْأُولَى ، فَأَمَّا تَأْخِيرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ مَنَعَ ذَلِكَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - فَقَالُوا نُزُولُ فَرِيضَةِ الْحَجِّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ } ، وَإِنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي سَنَةِ عَشْرٍ ، فَأَمَّا النَّازِلُ سَنَةَ سِتٍّ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } ،

وَهَذَا أَمْرٌ بِالْإِتْمَامِ لِمَنْ شَرَعَ فِيهِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ ابْتِدَاءُ الْفَرْضِيَّةِ مَعَ أَنَّ التَّأْخِيرَ إنَّمَا لَا يَحِلُّ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّعْرِيضِ لِلْفَوْتِ ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمَنُ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ لِبَيَانِ الْأَحْكَامِ لِلنَّاسِ وَالْحَجُّ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ فَأَمِنَ أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَهُ لِلنَّاسِ بِفِعْلِهِ وَلِأَنَّ تَأْخِيرَهُ كَانَ لِعُذْرٍ ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً وَيُلَبُّونَ تَلْبِيَةً فِيهَا شِرْكٌ وَمَا كَانَ التَّغْيِيرُ مُمْكِنًا لِلْعَهْدِ حَتَّى إذَا تَمَّتْ الْمُدَّةُ بَعَثَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حَتَّى قَرَأَ عَلَيْهِمْ سُورَةَ بَرَاءَةٍ وَنَادَى أَنْ لَا يَطُوفَنَّ بِهَذَا الْبَيْتِ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا عُرْيَانُ ، ثُمَّ حَجَّ بِنَفْسِهِ وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ لَا يَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ وَحْدَهُ بَلْ يَحْتَاجُ إلَى أَصْحَابِهِ يَكُونُونَ مَعَهُ ، وَلَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ تَحْصِيلِ كِفَايَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِيَخْرُجُوا مَعَهُ فَلِهَذَا أَخَّرَهُ أَوْ كَانَ لِلنَّسِيءِ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْأَعْذَارَ فِي الْخِلَافِيَّاتِ

( قَالَ ) : وَإِنْ أَهَلَّتْ الْمَرْأَةُ بِغَيْرِ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ فَلِلزَّوْجِ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ إنْ كَانَ لَهَا مَحْرَمٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ عَنْ التَّطَوُّعِ بِغَيْرِ إذْنِ الزَّوْجِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتِلْكَ الْمَرْأَةِ { لَا تَصُومِي تَطَوُّعًا إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِكِ } وَلِأَنَّا لَوْ مَكَّنَّاهَا مِنْ ذَلِكَ فَوَّتَتْ عَلَى الزَّوْجِ حَقَّهُ أَصْلًا ؛ لِأَنَّهَا كَمَا خَرَجَتْ عَنْ حَجَّةٍ أَحْرَمَتْ بِأُخْرَى وَهِيَ لَا تَمْلِكُ تَفْوِيتَ حَقِّ الزَّوْجِ عَلَيْهِ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمُحْصَرَةِ إلَّا أَنَّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُحَلِّلَهَا هُنَا قَبْلَ أَنْ تَبْعَثَ بِالْهَدْيِ لِيُوَفِّرَ حَقَّهُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا عَدِمَتْ الْمَحْرَمَ فِي حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ ، وَكَذَلِكَ الْمَمْلُوكُ إذَا أَهَلَّ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ .
( قَالَ ) : وَإِذَا أَذِنَ لِعَبْدِهِ أَوْ لِأَمَتِهِ فِي الْإِحْرَامِ كَرِهْتُ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَلَوْ حَلَّلَهُ جَازَ بِخِلَافِ الزَّوْجِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا الْفَرْقِ أَيْضًا أَعَادَهُ لِلْفَرْقِ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا بَاعَ الْمَمْلُوكُ بَعْدَ الْإِذْنِ لَهُ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يُحَلِّلَهُ بِغَيْرِ كَرَاهَةٍ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي حَقِّ الْبَائِعِ كَانَ لِمَعْنَى خُلْفِ الْوَعْدِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُحَلِّلَهُ وَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ بِعَيْبِ الْإِحْرَامِ ، وَجَعَلُهُ بِمَنْزِلَةِ النِّكَاحِ إذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ ثُمَّ بَاعَهَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُبْطِلَ ذَلِكَ النِّكَاحَ ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَ مِلْكَهُ ، وَلَكِنْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ فَكَذَلِكَ هُنَا ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُشْتَرِي فِي مِلْكِ الرَّقَبَةِ قَائِمٌ مَقَامَ الْبَائِعِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْبَائِعِ وِلَايَةُ إبْطَالِ النِّكَاحِ بَعْدَ صِحَّتِهِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي أَيْضًا ، وَقَدْ كَانَ

لِلْبَائِعِ وِلَايَةُ التَّحْلِيلِ مِنْ الْإِحْرَامِ قَبْلَ أَنْ يَبِيعَهُ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي أَيْضًا ، وَإِذَا ثَبَتَ لَهُ وِلَايَةُ التَّحْلِيلِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَيْبًا لَازِمًا ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ النِّكَاحَ حَقُّ الْعِبَادِ فَيَكُونُ مُعَارِضًا لِحَقِّ الْمُشْتَرِي فَيَتَرَجَّحُ عَلَيْهِ بِالسَّبْقِ ، فَأَمَّا الْإِحْرَامُ لُزُومُهُ لَيْسَ لِحَقِّ الْعِبَادِ ، وَحَقُّ الْعَبْدِ فِي الْمَحِلِّ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَلِهَذَا كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُحَلِّلَهُ ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ إذَا أَحْرَمَتْ الْمَرْأَةُ ، ثُمَّ تَزَوَّجَتْ كَانَ لِلزَّوْجِ أَنْ يُحَلِّلَهَا إذَا أَحْرَمَتْ بِغَيْرِ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ، وَإِنْ أَحْرَمَتْ الْمَرْأَةُ بِحَجَّةِ التَّطَوُّعِ بِغَيْرِ إذْنِ زَوْجِهَا فَحَلَّلَهَا ، ثُمَّ جَامَعَهَا ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا فِي عَامِهِ ذَلِكَ فَعَلَيْهَا أَنْ تَحُجَّ بِإِحْرَامٍ مُسْتَقْبَلٍ وَعَلَيْهَا دَمٌ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَحَلَّلَتْ مِنْ الْإِحْرَامِ الْأَوَّلِ بِإِحْلَالِ الزَّوْجِ قَبْلَ أَدَاءِ الْأَعْمَالِ فَعَلَيْهَا الدَّمُ وَقَضَاءُ الْحَجِّ ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا قَضَاءُ الْعُمْرَةِ عِنْدَنَا ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : عَلَيْهَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَذِنَ لَهَا بَعْدَ تَحَوُّلِ السَّنَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ بِالتَّحَلُّلِ الْأَوَّلِ وَجَبَ عَلَيْهَا قَضَاءُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْمُحْصَرِ وَصَارَ ذَلِكَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَأْذَنَ لَهَا فِي عَامِهِ ذَلِكَ أَوْ فِي عَامٍ آخَرَ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ وُجُوبَ الْعُمْرَةِ عَلَى الْمُحْصَرِ بِاعْتِبَارِ فَوْتِ أَدَاءِ الْحَجِّ فِي السَّنَةِ بِالْقِيَاسِ عَلَى فَائِتِ الْحَجِّ فَإِنَّ فَائِتَ الْحَجِّ يَلْزَمُهُ أَدَاءُ الْعُمْرَةِ ، فَإِذَا أَذِنَ لَهَا فَحَجَّتْ فِي هَذِهِ السَّنَةِ لَمْ يَتَحَقَّقْ سَبَبُ وُجُوبِ الْعُمْرَةِ عَلَيْهَا ، فَأَمَّا بَعْدَ تَحَوُّلِ السَّنَةِ فَقَدْ تَحَقَّقَ سَبَبُ وُجُوبِ الْعُمْرَةِ عَلَيْهَا وَهُوَ فَوَاتُ أَدَاءِ الْحَجِّ فِي السَّنَةِ الْأُولَى فَلِهَذَا فَرَّقْنَا

بَيْنَهُمَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( بَابُ الْمَوَاقِيتِ ) ( قَالَ ) : بَلَغَنَا { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ وَلِأَهْلِ الشَّامِ جُحْفَةَ وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ وَلِأَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتَ عِرْقٍ } ، وَهَذَا الْحَدِيثُ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، فَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ رَوَى الْحَدِيثَ وَذَكَرَ الْمَوَاقِيتَ الْأَرْبَعَةَ ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَاتَ عِرْقٍ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ ، وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَوَى الْحَدِيثَ وَذَكَرَ الْمَوَاقِيتَ الثَّلَاثَ ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَاتَ عِرْقٍ وَلَا يَلَمْلَمَ وَفِي هَذِهِ - الْآثَارِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ وَصَلَ إلَى شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ وَهُوَ يُرِيدُ دُخُولَ مَكَّةَ يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ ؛ لِأَنَّ تَوْقِيتَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَخْلُو عَنْ فَائِدَةٍ وَلَا فَائِدَةَ فِي هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ سِوَى الْمَنْعِ مِنْ تَأْخِيرِ الْإِحْرَامِ بَعْدَ مَا انْتَهَى إلَى هَذِهِ الْمَوَاقِيتِ فَإِنَّ قَبْلَ ذَلِكَ كَانَ يَسَعُهُ التَّأْخِيرُ بِالِاتِّفَاقِ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ يَقُولُ : الْأَفْضَلُ أَنْ يَكُونَ إحْرَامُهُ عِنْدَ الْمِيقَاتِ وَعُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - قَالُوا : التَّأْقِيتُ لِبَيَانِ أَنَّهُ لَا يَسَعُهُ التَّأْخِيرُ عَنْهُ ، فَأَمَّا الْأَفْضَلُ أَنْ يُحْرِمَ قَبْلَ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى الْمَوَاقِيتِ لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ أَحْرَمَ مِنْ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ ، وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ زَبَدِ الْبَحْرِ وَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ } ، وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } : إنَّ إتْمَامَهُمَا أَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ ، قَالَ : وَبَلَغَنَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { مَنْ وَقَّتْنَا

لَهُ وَقْتًا فَهُوَ لَهُ وَقْتٌ وَلِمَنْ مَرَّ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ } فَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَنْتَهِي إلَى الْمِيقَاتِ عَلَى قَصْدِ دُخُولِ مَكَّةَ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ ذَلِكَ الْمِيقَاتِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمِيقَاتِ أَوْ لَمْ يَكُنْ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ أَهْلِ الْآفَاقِ حَلَالًا فَأَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ كَانَ مِيقَاتُهُ لِلْإِحْرَامِ مِيقَاتَ أَهْلِ مَكَّةَ فَكَذَا هُنَا ، ثُمَّ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ ، فَقَالَ : إنَّمَا يَجِبُ الْإِحْرَامُ عِنْدَ الْمِيقَاتِ عَلَى مَنْ أَرَادَ دُخُولَ مَكَّةَ لِلْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ .
وَأَمَّا مَنْ أَرَادَ دُخُولَهَا لِقِتَالٍ فَلَيْسَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ عِنْدَهُ قَوْلًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَهَا يَوْمَ الْفَتْحِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ، وَإِنْ أَرَادَ دُخُولَهَا لِلتِّجَارَةِ أَوْ طَلَبِ غَرِيمٍ لَهُ فَلَهُ فِيهِ قَوْلَانِ : فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ " لَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ " ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِعَيْنِهِ بَلْ لِأَدَاءِ النُّسُكِ بِهِ ، وَهَذَا الرَّجُلُ غَيْرُ قَاصِدٍ أَدَاءَ النُّسُكِ فَكَانَ الْحَرَمُ فِي حَقِّهِ كَسَائِرِ الْبِقَاعِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ ، فَأَمَّا عِنْدَنَا لَيْسَ لِأَحَدٍ يَنْتَهِي إلَى الْمِيقَاتِ إذَا أَرَادَ دُخُولَ مَكَّةَ أَنْ يُجَاوِزَهَا إلَّا بِالْإِحْرَامِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ قَصْدِهِ الْحَجُّ أَوْ الْقِتَالُ أَوْ التِّجَارَةُ لِحَدِيثِ ابْنِ شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ يَوْمَ الْفَتْحِ إنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا لِأَحَدٍ بَعْدِي ، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، ثُمَّ هِيَ حَرَامٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } فَقَدْ تَرَخَّصَ لِلْقِتَالِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ { إنَّمَا أُحِلَّتْ لِي

سَاعَةً } فَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدَهُ فَيَتَبَيَّنُ بِهَذَا الْحَدِيثِ خُصُوصِيَّةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدُخُولِ مَكَّةَ لِلْقِتَالِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ، وَإِنَّمَا تَظْهَرُ الْخُصُوصِيَّةُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَصْنَعَ كَصَنِيعِهِ .
وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا ، فَقَالَ : إنِّي جَاوَزْتُ الْمِيقَاتَ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ ، فَقَالَ : ارْجِعْ إلَى الْمِيقَاتِ وَلَبِّ وَإِلَّا فَلَا حَجَّ لَكَ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : { لَا يُجَاوِزُ الْمِيقَاتَ أَحَدٌ إلَّا مُحْرِمًا } وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْإِحْرَامِ عَلَى مَنْ يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ عِنْدَ دُخُولِ مَكَّةَ لِإِظْهَارِ شَرَفِ تِلْكَ الْبُقْعَةِ ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى مَنْ يُرِيدُ النُّسُكَ وَمَنْ لَا يُرِيدُ النُّسُكَ سَوَاءٌ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِمَّنْ يُرِيدُ دُخُولَ مَكَّةَ أَنْ يُجَاوِزَ الْمِيقَاتَ إلَّا مُحْرِمًا ، فَأَمَّا مَنْ كَانَ وَرَاءَ الْمِيقَاتِ إلَى مَكَّةَ فَلَهُ أَنْ يَدْخُلَهَا لِحَاجَتِهِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ عِنْدَنَا ، وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُفَرِّقُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بَيْنَ أَهْلِ الْمِيقَاتِ وَأَهْلِ الْآفَاقِ فِي أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ مِنْهُمْ مَكَّةَ إلَّا مُحْرِمًا ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رَخَّصَ لِلْحَطَّابِينَ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ } .
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَا يُجَاوِزُونَ الْمِيقَاتَ فَدَلَّ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ يُرِيدُ الْمَدِينَةَ فَلَمَّا انْتَهَى إلَى قُدَيْدٍ بَلَغَتْهُ فِتْنَةٌ بِالْمَدِينَةِ فَرَجَعَ إلَى مَكَّةَ وَدَخَلَهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مَنْ كَانَ دَاخِلَ الْمِيقَاتِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ مَكَّةَ ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى الدُّخُولِ فِي كُلِّ وَقْتٍ ، وَلِأَنَّ

مَصَالِحَهُمْ مُتَعَلِّقَةٌ بِأَهْلِ مَكَّةَ وَمَصَالِحَ أَهْلِ مَكَّةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِهِمْ بِهِمْ فَكَمَا يَجُوزُ لِأَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يَخْرُجُوا لِحَوَائِجِهِمْ ، ثُمَّ يَدْخُلُوهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَكَذَا لِأَهْلِ الْمِيقَاتِ ، وَهَذَا لِأَنَّا لَوْ أَلْزَمْنَاهُمْ الْإِحْرَامَ فِي كُلِّ وَقْتٍ كَانَ عَلَيْهِمْ مِنْ الضَّرَرِ مَا لَا يَخْفَى فَرُبَّمَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ فَلِهَذَا جَوَّزْنَا لَهُمْ الدُّخُولَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ إلَّا إذَا أَرَادُوا النُّسُكَ فَالنُّسُكُ لَا يَتَأَدَّى إلَّا بِإِحْرَامٍ ، وَإِرَادَةُ النُّسُكِ لَا تَكُونُ عِنْدَ كُلِّ دُخُولٍ ، وَإِذَا أَرَادَ الْإِحْرَامَ وَأَهْلُهُ فِي الْوَقْتِ أَوْ دُونَ الْوَقْتِ إلَى مَكَّةَ فَوَقَّتَهُ مِنْ أَهْلِهِ حَتَّى لَوْ أَحْرَمُوا مِنْ الْحَرَمِ أَجْزَأَهُمْ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ خَارِجَ الْحَرَمِ كُلَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَكَان وَاحِدٍ فِي حَقِّهِ وَالْحَرَمُ حَدٌّ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الْمِيقَاتِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْآفَاقِ ، وَكَمَا أَنَّ مِيقَاتَ الْآفَاقِيِّ لِلْإِحْرَامِ مِنْ دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ وَيَسَعُهُ التَّأْخِيرُ إلَى الْمِيقَاتِ فَكَذَا هُنَا يَسَعُهُ التَّأْخِيرُ إلَى الْحَرَمِ ، وَلَكِنَّ الشَّرْطَ هُنَاكَ أَنْ لَا يُجَاوِزَ الْمِيقَاتَ إلَّا مُحْرِمًا وَالشَّرْطَ هُنَا أَنْ لَا يَدْخُلَ الْحَرَمَ إلَّا مُحْرِمًا ؛ لِأَنَّ تَعْظِيمَ الْحَرَمِ بِهَذَا يَحْصُلُ ، فَإِنْ دَخَلَ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ فَأَحْرَمَ مِنْهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْحَرَمِ فَيُلَبِّيَ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى يَطَّوَّفَ بِالْبَيْتِ فَعَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْمِيقَاتَ الْمَعْهُودَ فِي حَقِّهِ لِلْإِحْرَامِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْآفَاقِيِّ يُجَاوِزُ الْمِيقَاتَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ، ثُمَّ يُحْرِمُ وَرَاءَ الْمِيقَاتِ ، وَهُنَاكَ يَلْزَمُهُ الدَّمُ إذَا لَمْ يَعُدْ لِتَأْخِيرِ الْإِحْرَامِ عَنْ مَكَانِهِ فَكَذَلِكَ هُنَا يَلْزَمُهُ الدَّمُ إذَا لَمْ يَعُدْ إلَى الْحِلِّ ، وَإِنْ عَادَ فَالْخِلَافُ فِيهِ مِثْلُ الْخِلَافِ فِي الْآفَاقِيِّ إذَا عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ بَعْدَ مَا أَحْرَمَ وَرَاءَ الْمِيقَاتِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ

اللَّهُ تَعَالَى

( قَالَ ) : وَإِنْ أَرَادَ الْكُوفِيُّ بُسْتَانَ بَنِي عَامِرٍ لِحَاجَةٍ فَلَهُ أَنْ يُجَاوِزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْإِحْرَامِ عِنْدَ الْمِيقَاتِ عَلَى مَنْ يُرِيدُ دُخُولَ مَكَّةَ ، وَهَذَا لَا يُرِيدُ دُخُولَ مَكَّةَ إنَّمَا يُرِيدُ الْبُسْتَانَ ، وَلَيْسَ فِي تِلْكَ الْبُقْعَةِ مَا يُوجِبُ التَّعْظِيمَ لَهَا فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ ، فَإِذَا حَصَلَ بِالْبُسْتَانِ ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ لِحَاجَةٍ لَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حَصَلَ بِالْبُسْتَانِ حَلَالًا كَانَ مِثْلَ أَهْلِ الْبُسْتَانِ وَلِأَهْلِ الْبُسْتَانِ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ لِحَوَائِجِهِمْ مِنْ غَيْر إحْرَامٍ فَكَذَلِكَ هَذَا الرَّجُلُ ، وَهَذَا هُوَ الْحِيلَةُ لِمَنْ يُرِيدُ دُخُولَ مَكَّةَ مِنْ أَهْلِ الْآفَاقِ بِغَيْرِ إحْرَامٍ إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إنْ نَوَى الْإِقَامَةَ بِالْبُسْتَانِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا كَانَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ ، وَإِنْ نَوَى الْإِقَامَةَ بِالْبُسْتَانِ دُونَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ إلَّا بِالْإِحْرَامِ ؛ لِأَنَّ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا يَصِيرُ مُتَوَطِّنًا بِالْبُسْتَانِ فَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْبُسْتَانِ ، وَإِنْ نَوَى الْمُقَامَ بِهَا دُونَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَهُوَ مَاضٍ عَلَى سَفَرِهِ فَلَا يَدْخُلُ مَكَّةَ إلَّا بِإِحْرَامٍ ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَهُوَ أَنَّهُ حَصَلَ بِالْبُسْتَانِ قَبْلَ قَصْدِهِ دُخُولَ مَكَّةَ ، فَإِنَّمَا قَصَدَ دُخُولَ مَكَّةَ بَعْدَ مَا حَصَلَ بِالْبُسْتَانِ فَكَانَ حَالُهُ كَحَالِ أَهْلِ الْبُسْتَانِ

( قَالَ ) : وَلَيْسَ لِلرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الْمَوَاقِيتِ وَمَنْ دُونِهَا إلَى مَكَّةَ أَنْ يَقْرِنَ أَوْ أَنْ يَتَمَتَّعَ وَهُمْ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ مَكَّةَ أَمَّا الْمَكِّيُّ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِالنَّصِّ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي ذَلِكَ { لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - فِي حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، فَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ خَاصَّةً ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُمْ أَهْلُ مَكَّةَ وَمَنْ يَكُونُ مَنْزِلُهُ مِنْ مَكَّةَ عَلَى مَسِيرَةٍ لَا يَجُوزُ فِيهَا قَصْرُ الصَّلَاةِ ، وَقُلْنَا أَهْلُ الْمَوَاقِيتِ وَمَنْ دُونِهَا إلَى مَكَّةَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ مَكَّةَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُمْ دُخُولُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَلَا يَكُونُ لَهُمْ أَنْ يَتَمَتَّعُوا وَكَمَا لَا يَتَمَتَّعُ مَنْ هُوَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، فَكَذَلِكَ لَا يَقْرِنُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَجُوزُ لَهُ الْقِرَانُ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْقَارِنَ عَلَى قَوْلِهِ يَتَرَفَّهُ بِإِدْخَالِ عَمَلِ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ فِي الْآخَرِ ، وَالْمَكِّيُّ فِي هَذَا وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ ، وَعِنْدَنَا مَعْنَى التَّرَفُّهِ بِالْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ فِي أَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ لَا فِي إدْخَالِ عَمَلِ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ ، وَمَنْ كَانَ مِنْ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى السَّفَرِ لِأَدَاءِ الْمَنَاسِكِ وَلَا يَلْحَقُهُ بِالسَّفَرِ كَثِيرُ مَشَقَّةٍ فَكَمَا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَقْرِنَ بَيْنَهُمَا عِنْدَنَا إلَّا أَنَّ الْمَكِّيَّ إذَا كَانَ بِالْكُوفَةِ فَلَمَّا انْتَهَى إلَى الْمِيقَاتِ قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَأَحْرَمَ لَهُمَا صَحَّ وَيَلْزَمُهُ دَمُ الْقِرَانِ ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْقَارِنِ أَنْ تَكُونَ حَجَّتُهُ وَعُمْرَتُهُ مُتَقَارِنَتَيْنِ يُحْرِمُ بِهِمَا

جَمِيعًا مَعًا ، وَقَدْ وُجِدَ هَذَا فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ ، وَلَوْ اعْتَمَرَ هَذَا الْمَكِّيُّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا لِأَنَّ الْآفَاقِيَّ إنَّمَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا إذَا لَمْ يُلِمَّ بِأَهْلِهِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ إلْمَامًا صَحِيحًا ، وَالْمَكِّيُّ هُنَا يُلِمُّ بِأَهْلِهِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ حَلَالًا إنْ لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ ، وَكَذَلِكَ إنْ سَاقَ الْهَدْيَ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا بِخِلَافِ الْآفَاقِيِّ إذَا سَاقَ الْهَدْيَ ، ثُمَّ أَلَمَّ بِأَهْلِهِ مُحْرِمًا كَانَ مُتَمَتِّعًا ؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ هُنَاكَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فَيَمْنَعُ ذَلِكَ صِحَّةَ إلْمَامِهِ بِأَهْلِهِ وَهُنَا الْعَوْدُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ ، وَإِنْ سَاقَ الْهَدْيَ فَكَانَ إلْمَامُهُ بِأَهْلِهِ صَحِيحًا ، فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا ، وَعَلَى هَذَا رَوَى هِشَامٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْمَكِّيَّ إذَا خَرَجَ إلَى الْكُوفَةِ ، ثُمَّ مَاتَ وَأَوْصَى بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ مِنْ مَنْزِله وَهُوَ بِمَكَّةَ بِمَنْزِلَةِ الْآفَاقِيِّ يُخْرِجُ مُسَافِرًا فَيُوصِي بِأَنْ يَحُجَّ عَنْهُ ، وَلَوْ أَوْصَى هَذَا الْمَكِّيُّ بِأَنْ يُقْرَنَ عَنْهُ مِنْ الْكُوفَةِ ؛ لِأَنَّ الْقِرَانَ لَا يَكُونُ مِنْ مَكَّةَ فَعَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ أَنْ يُقْرَنَ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ هُوَ .
( قَالَ ) : وَالْمَكِّيُّ إذَا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ لِحَاجَةٍ لَهُ فَلَمْ يُجَاوِزْ الْوَقْتَ فَلَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ، وَإِنْ جَاوَزَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ إلَّا بِإِحْرَامٍ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَنْ قَصَدَ إلَى مَوْضِعٍ فَحَالُهُ فِي حُكْمِ الْإِحْرَامِ كَحَالِ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ

( قَالَ ) : وَوَقْتُ أَهْلِ مَكَّةَ لِلْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ الْحَرَمُ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ حَصَلَ بِمَكَّةَ حَلَالًا لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَمَرَ أَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِفَسْخِ إحْرَامِ الْحَجِّ وَالْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ فَحَلُّوا مِنْهَا فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يُحْرِمُوا بِالْحَجِّ مِنْ جَوْفِ مَكَّةَ }

( قَالَ ) : وَمِيقَاتُ إحْرَامِ أَهْلِ مَكَّةَ لِلْعُمْرَةِ التَّنْعِيمُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ الْحِلِّ ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْإِحْرَامِ غَيْرُ مَوْضِعِ أَدَاءِ النُّسُكِ ، وَأَدَاءُ الْحَجِّ يَكُونُ بِالْوُقُوفِ وَهُوَ فِي الْحِلِّ فَالْإِحْرَامُ بِهِ يَكُونُ فِي الْحَرَمِ وَأَدَاءُ نُسُكِ الْعُمْرَةِ بِالطَّوَافِ وَهُوَ فِي الْحَرَمِ فَالْإِحْرَامُ بِهَا يَكُونُ فِي الْحِلِّ .
( قَالَ ) : كُوفِيٌّ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ نَحْوَ مَكَّةَ ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَوَقَفَ بِعَرَفَةَ جَازَ حَجُّهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ الْوَقْتِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا انْتَهَى إلَى الْمِيقَاتِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ مِنْ الْمِيقَاتِ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا يُجَاوِزُ الْمِيقَاتَ أَحَدٌ إلَّا مُحْرِمًا ، فَإِذَا جَاوَزَهُ حَلَالًا فَقَدْ ارْتَكَبَ الْمَنْهِيَّ } وَأَخَّرَ الْإِحْرَامَ عَنْ الْمِيقَاتِ فَتَمَكَّنَ نُقْصَانٌ فِي حَجِّهِ وَنُقْصَانُ الْحَجِّ يُجْبَرُ بِالدَّمِ فَإِنْ رَجَعَ إلَى الْمِيقَاتِ وَلَبَّى إنْ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ الْمِيقَاتِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّهُ تَلَافَى الْمَتْرُوكَ فِي وَقْتِهِ وَمَكَانِهِ فَصَارَ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ لَمْ يُجَاوِزْ الْمِيقَاتَ إلَّا مُحْرِمًا فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ الْحَجِّ بِإِحْرَامٍ يُبَاشِرُهُ مِنْ الْمِيقَاتِ ، وَقَدْ أَتَى بِذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ أَحْرَمَ بَعْدَ مَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ ، ثُمَّ عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ لَبَّى عِنْدَ الْمِيقَاتِ يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ ، وَإِنْ لَمْ يُلَبِّ لَمْ يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ وَعِنْدَهُمَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ فِي الْحَالَيْنِ جَمِيعًا ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ فِي الْوَجْهَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ إنْشَاءُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ مِنْ الْمِيقَاتِ ، فَإِذَا أَحْرَمَ بَعْد مَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ فَقَدْ تَرَكَ مَا هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ فَلَزِمَهُ الدَّمُ كَمَا لَوْ لَمْ يَعُدْ ،

وَهَذَا لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ إنْشَاءُ تَلْبِيَةٍ وَاجِبَةٍ عِنْدَ الْمِيقَاتِ وَوُجُوبُ التَّلْبِيَةِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ لَا بَعْدَهُ فَهُوَ - وَإِنْ لَبَّى عِنْدَ الْمِيقَاتِ - فَإِنَّمَا أَتَى بِتَلْبِيَةٍ غَيْرِ وَاجِبَةٍ فَلَا يَصِيرُ بِهِ مُتَدَارِكًا لِمَا فَاتَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا عَادَ فَأَحْرَمَ مِنْ الْمِيقَاتِ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولَانِ : الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا عِنْدَ الْمِيقَاتِ لَا أَنْ يُنْشِئَ الْإِحْرَامَ عِنْدَ الْمِيقَاتِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ قَبْلَ أَنْ يَنْتَهِي إلَى الْمِيقَاتِ ، ثُمَّ مَرَّ بِالْمِيقَاتِ مُحْرِمًا ، وَلَمْ يُلَبِّ عِنْدَ الْمِيقَاتِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ، وَكَذَلِكَ إذَا عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ بَعْدَ مَا أَحْرَمَ ، وَلَمْ يُلَبِّ فَقَدْ تَدَارَكَ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ وَهُوَ كَوْنُهُ مُحْرِمًا عِنْدَ الْمِيقَاتِ وَاسْتَدَلَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ لِذَلِكَ الرَّجُلِ : ارْجِعْ إلَى الْمِيقَاتِ وَإِلَّا فَلَا حَجَّ لَكَ .
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمَّا انْتَهَى إلَى الْمِيقَاتِ حَلَالًا وَجَبَ عَلَيْهِ التَّلْبِيَةُ عِنْدَ الْمِيقَاتِ وَالْإِحْرَامِ ، فَإِذَا تَرَكَ ذَلِكَ بِالْمُجَاوَزَةِ حَتَّى أَحْرَمَ وَرَاءَ الْمِيقَاتِ ، ثُمَّ عَادَ فَإِنْ لَبَّى فَقَدْ أَتَى بِجَمِيعِ مَا هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ الدَّمُ ، وَإِنْ لَمْ يُلَبِّ فَلَمْ يَأْتِ بِجَمِيعِ مَا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ أَحْرَمَ قَبْلَ أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى الْمِيقَاتِ ؛ لِأَنَّ مِيقَاتَهُ هُنَاكَ مَوْضِعُ إحْرَامِهِ ، وَقَدْ لَبَّى عِنْدَهُ فَقَدْ خَرَجَ الْمِيقَاتُ الْمَعْهُودُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِيقَاتًا لِلْإِحْرَامِ فِي حَقِّهِ فَلِهَذَا لَا يَضُرُّهُ تَرْكُ التَّلْبِيَةِ عِنْدَهُ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا

( قَالَ ) : فَإِنْ قَرَنَ هَذَا الْكُوفِيُّ بَعْدَ مَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ فَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، وَلَمْ يَرْجِعْ إلَى الْمِيقَاتِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ عِنْدَنَا ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ دَمَانِ ؛ لِأَنَّهُ أَخَّرَ الْإِحْرَامَيْنِ جَمِيعًا عَنْ الْمِيقَاتِ فَيَلْزَمُهُ لِكُلِّ إحْرَامٍ دَمٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَارِنَ إذَا ارْتَكَبَ سَائِرَ الْمَحْظُورَاتِ يَجِبُ عَلَيْهِ ضِعْفُ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُفْرِدِ فَكَذَلِكَ إذَا أَحْرَمَ وَرَاءَ الْمِيقَاتِ ، وَعُلَمَاؤُنَا قَالُوا : الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمِيقَاتِ إحْرَامٌ وَاحِدٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ عِنْدَ الْمِيقَاتِ ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ مَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ كَانَ جَائِزًا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمِيقَاتِ إحْرَامٌ وَاحِدٌ فَيَجِبُ عَلَيْهِ بِتَأْخِيرِ ذَلِكَ الْإِحْرَامِ دَمٌ وَاحِدٌ بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ فَإِنَّهُ صَارَ بِجِنَايَتِهِ مُرْتَكِبًا مَحْظُورَ إحْرَامَيْنِ فَكَانَ عَلَيْهِ جَزَاءَانِ .
وَكَذَلِكَ إنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ بَعْدَ مَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ ، ثُمَّ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ بِمَكَّةَ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ لِتَأْخِيرِهِ إحْرَامَ الْعُمْرَةِ عَنْ الْمِيقَاتِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ بِإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ فَمِيقَاتُ إحْرَامِهِ لِلْحَجِّ الْحَرَمُ ، وَقَدْ أَحْرَمَ بِهِ فِي الْحَرَمِ ، وَإِنْ كَانَ أَهَلَّ بِالْحَجَّةِ بَعْدَ مَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ ، ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ أَيْضًا كَانَ عَلَيْهِ دَمَانِ ؛ لِأَنَّهُ أَخَّرَ إحْرَامَ الْحَجِّ عَنْ مِيقَاتِهِ فَوَجَبَ عَلَيْهِ دَمٌ ، وَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ بِإِحْرَامِ الْحَجَّةِ فَمِيقَاتُ إحْرَامِهِ لِلْعُمْرَةِ الْحِلُّ بِمَنْزِلَةِ مِيقَاتِ أَهْلِ مَكَّةَ فَحِينَ أَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ فِي الْحَرَمِ فَقَدْ تَرَكَ مِيقَاتَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ أَيْضًا فَيَلْزَمُهُ لِذَلِكَ دَمٌ آخَرُ

( قَالَ ) : كُوفِيٌّ دَخَلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ لِحَاجَةٍ لَهُ ، فَقَالَ : عَلَيْهِ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ أَيُّ ذَلِكَ شَاءَ ؛ لِأَنَّ دُخُولَ مَكَّةَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْإِحْرَامِ عَلَيْهِ فَمُبَاشَرَةُ ذَلِكَ السَّبَبِ بِمَنْزِلَةِ الْتِزَامِهِ الْإِحْرَامَ بِالنَّذْرِ ، وَفِي نَذْرِ الْإِحْرَامِ يَلْزَمُهُ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ فَكَذَلِكَ إذَا لَزِمَهُ الْإِحْرَامُ بِدُخُولِ مَكَّةَ فَإِنْ رَجَعَ إلَى الْمِيقَاتِ فَأَهَلَّ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ أَجْزَأَهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ وَعَمَّا لَزِمَهُ بِدُخُولِ مَكَّةَ اسْتِحْسَانًا عِنْدَنَا .
وَفِي الْقِيَاسِ لَا يُجْزِئُهُ عَمَّا لَزِمَهُ لِدُخُولِ مَكَّةَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ بِدُخُولِ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَجَبَ عَلَيْهِ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ وَصَارَ ذَلِكَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ ، وَحَجَّةُ الْإِسْلَامِ لَا تَنُوبُ عَمَّا صَارَتْ نُسُكًا دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْمِيقَاتِ لَا يَنُوبُ هَذَا عَمَّا لَزِمَهُ لِدُخُولِ مَكَّةَ فَكَذَلِكَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى ، وَلَكِنْ اسْتَحْسَنَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - فَقَالُوا : لَوْ كَانَ حِينَ انْتَهَى إلَى الْمِيقَاتِ فِي الِابْتِدَاءِ أَحْرَمَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ نَابَ ذَلِكَ عَمَّا يَلْزَمُهُ لِدُخُولِ مَكَّةَ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا عِنْدَ دُخُولِ مَكَّةَ لَا أَنْ يَكُونَ إحْرَامُهُ لِدُخُولِ مَكَّةَ كَمَنْ اعْتَكَفَ فِي رَمَضَانَ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ صَائِمًا فِي مُدَّةِ الِاعْتِكَافِ لَا أَنْ يَكُونَ صَوْمُهُ لِلِاعْتِكَافِ ، فَإِذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ لَوْ أَحْرَمَ عِنْدَ الْمِيقَاتِ فِي الِابْتِدَاءَ كَأَنْ يُؤَدِّي حَجَّةَ الْإِسْلَامِ بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ ، وَقَدْ أَدَّاهَا حِينَ عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ فَأَحْرَمَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ فَصَارَ بِهِ مُتَلَافِيًا لِلْمَتْرُوكِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ مَا لَزِمَهُ لِدُخُولِ مَكَّةَ ، فَأَمَّا بَعْدَ مَا تَحَوَّلَتْ السَّنَةُ لَمْ يَصِرْ مُتَلَافِيًا

لِلْمَتْرُوكِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فِي السَّنَةِ الْأُولَى لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ الْحَجَّ بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ فِي الثَّانِيَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُتَلَافِيًا لِلْمَتْرُوكِ فَإِنْ قِيلَ أَلَيْسَ أَنَّهُ لَوْ عَادَ إلَى الْمِيقَاتِ وَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ مَنْذُورَةٍ لَا يَسْقُطُ عَنْهَا بِهَذَا الْعَوْدِ مَا لَزِمَهُ بِدُخُولِ مَكَّةَ وَهُوَ حِينَ انْتَهَى إلَى الْمِيقَاتِ لَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ الْمَنْذُورَةِ وَدَخَلَ بِهِ مَكَّةَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ، ثُمَّ لَا يَصِيرُ بِهِ مُتَدَارِكًا لِمَا هُوَ الْوَاجِبُ ؟ .
( قُلْنَا ) هُوَ خَارِجٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُؤَقَّتَةً فَيُكْرَهُ أَدَاؤُهَا فِي خَمْسَةِ أَيَّامٍ مِنْ السَّنَةِ فَلَوْ أَحْرَمَ بِهَا فِي الِابْتِدَاءِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهَا إلَى الْوَقْتِ الْمَكْرُوهِ فَلَا يَصِيرُ بِالرُّجُوعِ إلَى الْمِيقَاتِ وَالْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ مُتَدَارِكًا لِلْمَتْرُوكِ

( قَالَ ) : وَإِذَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ حَلَالًا ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَفَاتَهُ الْحَجُّ سَقَطَ عَنْهُ دَمُ الْوَقْتِ عِنْدَنَا ، وَلَمْ يَسْقُطْ عِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ الدَّمَ بِمُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ صَارَ وَاجِبًا عَلَيْهِ فَلَا يَسْقُطُ بِفَوَاتِ الْحَجِّ كَمَا لَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ بِالتَّطَيُّبِ أَوْ لُبْسِ الْمَخِيطِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ ذَلِكَ بِفَوَاتِ الْحَجِّ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لَمَّا فَاتَهُ الْحَجّ وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَهُوَ لِلْقَضَاءِ يُحْرِمُ مِنْ الْمِيقَاتِ فَيَنْعَدِمُ بِهِ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ يَلْزَمُهُ الدَّمُ وَهُوَ أَدَاءُ الْحَجِّ بِإِحْرَامٍ بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الْمِيقَاتِ بِخِلَافِ سَائِرِ الدِّمَاءِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِمَا ارْتَكَبَ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ وَلَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ بِفَوَاتِ الْحَجِّ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ جَامَعَ قَبْلَ الْوُقُوفِ حَتَّى فَسَدَ حَجُّهُ سَقَطَ عَنْهُ دَمُ الْوَقْتِ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَجَبَ عَلَيْهِ ، فَإِذَا عَادَ لِلْقَضَاءِ يُحْرِمُ مِنْ الْمِيقَاتِ فَانْعَدَمَ بِهِ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ كَانَ يَلْزَمُهُ الدَّمُ

( قَالَ ) : وَكَذَلِكَ مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ غَيْرَ مُحْرِمٍ ، ثُمَّ أَتَى وَقْتًا آخَرَ فَأَحْرَمَ مِنْهُ أَجْزَأَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ إتْيَانَهُ وَقْتًا آخَرَ بِمَنْزِلَةِ رُجُوعِهِ إلَى الْمِيقَاتِ وَالْإِحْرَامِ عِنْدَهُ لِلْأَصْلِ الَّذِي قُلْنَا : إنَّ مِنْ حَصَّلَ فِي مِيقَاتٍ فَإِحْرَامُهُ يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ الْمِيقَاتِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمِيقَاتِ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَإِنَّمَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ مِنْ مِيقَاتِهِ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الدَّمُ

( قَالَ ) : عَبْدٌ دَخَلَ مَكَّةَ مَعَ مَوْلَاهُ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ فَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَعَلَيْهِ إذَا عَتَقَ دَمٌ لِتَرْكِ الْوَقْتِ ؛ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ فَيَتَحَقَّقُ مِنْهُ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلدَّمِ وَهُوَ تَأْخِيرُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ مِنْ مِيقَاتِهِ ، وَلَكِنْ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الدَّمِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ يَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ النَّصْرَانِيِّ يَدْخُلُ مَكَّةَ ، ثُمَّ يُسْلِمُ ، ثُمَّ يُحْرِمُ مِنْ مَكَّةَ أَوْ الصَّبِيُّ يَدْخُلُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ ، ثُمَّ يَحْتَلِمُ بِمَكَّةَ فَيُحْرِمُ بِالْحَجِّ فَإِنَّ هُنَاكَ لَا يَلْزَمُهُ بِتَرْكِ الْوَقْتِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ النَّصْرَانِيَّ لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا بِالْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ حِينَ انْتَهَى إلَى الْمِيقَاتِ فَإِنَّ الْخِطَابَ بِالْإِحْرَامِ إنَّمَا يَتَوَجَّهُ عَلَى مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ الْإِحْرَامُ ، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ فَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُمَا تَأْخِيرُ الْإِحْرَامِ الْوَاجِبِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَزِمَهُمَا الْإِحْرَامُ عِنْدَ الْإِسْلَامِ وَالْبُلُوغِ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ هُمَا بِمَكَّةَ ، وَمِيقَاتُ إحْرَامِ الْحَجِّ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ بِمَكَّةَ الْحَرَمُ ، وَقَدْ أَحْرَمَا مِنْهُ بِخِلَافِ الْعَبْدِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَذُكِرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ النَّصْرَانِيَّ لَوْ أَسْلَمَ أَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ فَمَاتَ قَبْلَ إدْرَاك الْوَقْت وَأَوْصَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَنْ يُحَجَّ عَنْهُ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ فَوَصِيَّتُهُمَا بَاطِلَةٌ عِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُلْزِمْهُمَا الْحَجُّ قَبْلَ إدْرَاكِ الْوَقْتِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ الْأَدَاءُ قَبْلَ إدْرَاكِ الْوَقْتِ فَلَا تَصِحُّ وَصِيَّتُهُمَا بِهِ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ قَدْ تَقَرَّرَ فِي حَقِّهِمَا ، وَالْوَقْتُ شَرْطُ الْأَدَاءِ وَانْعِدَامُ شَرْطِ الْأَدَاءِ لَا يَمْنَعُ تَقَرُّرَ سَبَبِ الْوُجُوبِ فَتَصِحُّ وَصِيَّتُهُمَا بِالْأَدَاءِ فِي وَقْتِهِ

( قَالَ ) : وَلَوْ أَنَّ الصَّبِيَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَنْ يَحْتَلِمَ ، ثُمَّ احْتَلَمَ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ أَوْ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ عِنْدَنَا ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُجْزِئُهُ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ إذَا صَلَّى فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ ، ثُمَّ بَلَغَ فِي آخِرِهِ عِنْدَهُ يُجْزِئُهُ عَنْ الْفَرْضِ وَيُجْعَلُ وَكَأَنَّهُ بَلَغَ قَبْلَ أَدَاءِ الصَّلَاةِ وَهُنَا أَيْضًا يُجْعَلُ كَأَنَّهُ بَلَغَ قَبْلَ مُبَاشَرَةِ الْإِحْرَامِ فَيُجْزِئُهُ ذَلِكَ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ قَالَ : وَهَذَا عَلَى أَصْلِكُمْ أَظْهَرُ ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ عِنْدَكُمْ مِنْ الشَّرَائِطِ دُونَ الْأَرْكَانِ وَلِهَذَا صَحَّ الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ قَبْلَ دُخُولِ أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ حِينَ أَحْرَمَ : هُوَ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ أَدَاءِ الْفَرْضِ فَانْعَقَدَ إحْرَامُهُ لِأَدَاءِ النَّفْلِ فَلَا يَصِحُّ أَدَاءُ الْفَرْضِ بِهِ وَهُوَ نَظِيرُ الصَّرُورَةِ إذَا أَحْرَمَ بِنِيَّةِ النَّفْلِ عِنْدَنَا لَا يُجْزِئُهُ أَدَاءُ الْفَرْضِ بِهِ ، وَعِنْدَهُ يَنْعَقِدُ إحْرَامُهُ لِلْفَرْضِ وَالْإِحْرَامُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الشَّرَائِطِ عِنْدَنَا ، وَلَكِنْ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْأَرْكَانِ وَمَعَ الشَّكِّ لَا يَسْقُطُ الْفَرْضُ الَّذِي ثَبَتَ وُجُوبُهُ بِيَقِينٍ فَلِهَذَا لَا يُجْزِئُهُ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ إلَّا أَنْ يُجَدِّدَ إحْرَامَهُ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ فَحِينَئِذٍ يُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْإِحْرَامَ الَّذِي بَاشَرَهُ فِي حَالَةِ الصِّغَرِ كَانَ تَخَلُّقًا ، وَلَمْ يَكُنْ لَازِمًا عَلَيْهِ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ فَسْخِهِ بِتَجْدِيدِ الْإِحْرَامِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ لَوْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى بَعْدَ مَا أَحْرَمَ لَا يُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، وَإِنْ جَدَّدَ الْإِحْرَامَ بَعْدَ الْعِتْقِ ؛ لِأَنَّ إحْرَامَ الْعَبْدِ لَازِمٌ فِي حَقِّهِ لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا فَلَا يَتَمَكَّنُ بَعْدَ الْعِتْقِ مِنْ فَسْخِ ذَلِكَ الْإِحْرَامِ ، وَإِنَّمَا

طَرِيقُ خُرُوجِهِ مِنْ ذَلِكَ الْإِحْرَامِ أَدَاءُ الْأَفْعَالِ فَسَوَاءٌ جَدَّدَ التَّلْبِيَةَ أَوْ لَمْ يُجَدِّدْ فَهُوَ بَاقٍ فِي ذَلِكَ الْإِحْرَامِ فَلَا يُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَإِنْ أُعْتِقَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْوُجُوبِ تَقَرَّرَ فِي حَقِّهِ بِالْعِتْقِ فَلِهَذَا يُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ .
( قَالَ ) : وَإِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَوَجَبَ عَلَيْهِ حَجَّةٌ أَوْ عُمْرَةٌ فَأَهَلَّ بِهَا بَعْدَ سَنَةٍ فِي وَقْتٍ غَيْرِ وَقْتِهِ الْأَوَّلِ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُ قَالَ : يُجْزِيهِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي السَّنَةِ الْأُولَى لَوْ أَحْرَمَ مِنْ هَذَا الْمِيقَاتِ أَجْزَأَهُ عَمَّا يَلْزَمُهُ لِدُخُولِ مَكَّةَ وَجُعِلَ هَذَا كَعَوْدِهِ إلَى الْمِيقَاتِ الْأَوَّلِ ، فَكَذَلِكَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ إذَا جَاءَ إلَى هَذَا الْمِيقَاتِ ؛ لِأَنَّ مَنْ حَصَّلَ عِنْدَ مِيقَاتٍ فَحُكْمُهُ حُكْمُ أَهْلِ ذَلِكَ الْمِيقَاتِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .

( بَابُ الَّذِي يَفُوتُهُ الْحَجُّ ) ( قَالَ ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجُلٌ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ فَفَاتَهُ فَإِنَّهُ يَحِلُّ بِعُمْرَةٍ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ ، قَالَ : وَبَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ مَا رَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ وَمَنْ فَاتَهُ عَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ وَلْيَتَحَلَّلْ بِالْعُمْرَةِ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ } .
وَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا مَا رَوَاهُ الْأَسْوَدُ قَالَ : سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَقُولُ : مَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ تَحَلَّلَ بِعُمْرَةٍ وَعَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ ، ثُمَّ لَقِيتُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِثَلَاثِينَ سَنَةً فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْإِحْرَامَ بَعْدَ مَا انْعَقَدَ صَحِيحًا فَطَرِيقُ الْخُرُوجِ عَنْهُ أَدَاءُ أَحَدِ النُّسُكَيْنِ إمَّا الْحَجُّ أَوْ الْعُمْرَةُ كَمَنْ أَحْرَمَ إحْرَامًا بِهِمَا وَهُنَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ عَنْهُ بِالْحَجِّ حِينَ فَاتَهُ الْحَجُّ فَعَلَيْهِ الْخُرُوجُ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ ، ثُمَّ إنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَصْلُ إحْرَامِهِ بَاقٍ بِالْحَجِّ وَيَتَحَلَّلُ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَصِيرُ إحْرَامُهُ إحْرَامَ عُمْرَةٍ ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا يُؤَدِّيهِ مِنْ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ بَقَايَا أَعْمَالِ الْحَجِّ ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ الْتَزَمَ أَدَاءَ أَفْعَالٍ يَفُوتُ بَعْضُهَا بِمُضِيِّ الْوَقْتِ وَلَا يَفُوتُهُ الْبَعْضُ فَيَسْقُط عَنْهُ مَا يَفُوتُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ وَيَلْزَمُهُ مَا لَا يَفُوتُ وَهُوَ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ وَأَبُو

حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - قَالَا : الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ لِلْحَجِّ إنَّمَا يَتَحَلَّلُ بِهِمَا مِنْ الْإِحْرَامِ بَعْدَ الْوُقُوفِ ، فَأَمَّا قَبْلَ الْوُقُوفِ فَلَا ، وَحَاجَتُهُ إلَى التَّحَلُّلِ هُنَا قَبْلَ الْوُقُوفِ فَإِنَّمَا يَأْتِي بِطَوَافٍ وَسَعْيٍ يَتَحَلَّلُ بِهِمَا مِنْ الْإِحْرَامِ ، وَذَلِكَ طَوَافُ الْعُمْرَةِ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : يَصِيرُ أَصْلُ إحْرَامِهِ لِلْعُمْرَةِ ضَرُورَةً ؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِطَوَافِ الْعُمْرَةِ إنَّمَا يَكُونُ بِإِحْرَامِ الْعُمْرَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - قَالَا : لَا يُمْكِنُ جَعْلُ إحْرَامِهِ لِلْعُمْرَةِ إلَّا بِفَسْخِ إحْرَامِ الْحَجِّ الَّذِي كَانَ شَرَعَ فِيهِ وَلَا طَرِيقَ لَنَا إلَى ذَلِكَ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَكِّيَّ إذَا فَاتَهُ الْحَجُّ يَتَحَلَّلُ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْرُجَ مِنْ الْحَرَمِ ، وَلَوْ انْقَلَبَ إحْرَامُهُ لِلْعُمْرَةِ لَكَانَ يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ إلَى الْحَرَمِ ؛ لِأَنَّهُ مِيقَاتُ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ فِي حَقِّ الْمَكِّيِّ

( قَالَ ) : فَإِنْ كَانَ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ فَقَدِمَ مَكَّةَ ، وَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَإِنَّهُ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِحَجِّهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ الْحَجُّ مِنْ قَابِلٍ وَلَا يَجْعَلُ مَا أَتَى بِهِ مِنْ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ قَبْلَ فَوَاتِ الْحَجِّ كَافِيًا لِلتَّحَلُّلِ عَنْ إحْرَامِ الْحَجِّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ طَوَافَ التَّحِيَّةِ وَهُوَ سُنَّةٌ فَلَا يَحْصُلُ بِهِ التَّحَلُّلُ فَإِنْ كَانَ طَافَ لِعُمْرَتِهِ وَسَعَى فَقَدْ أَتَى بِهِمَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ طَافَ بِعُمْرَتِهِ يَطُوفُ لَهَا الْآنَ ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ لَا تَفُوتُهُ ، ثُمَّ يَطُوفُ بَعْدَ ذَلِكَ لِحَجَّتِهِ وَيَسْعَى حَتَّى يَتَحَلَّلَ ، وَهَذَا دَلِيلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى أَنَّ أَصْلَ إحْرَامِهِ لَا يَنْقَلِبُ عُمْرَةً ؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْقَلَبَ عُمْرَةً لَصَارَ جَامِعًا بَيْنَ إحْرَامِ عُمْرَتَيْنِ وَأَدَائِهِمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، ثُمَّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمُحْصَرِ ، وَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الْمُحْصَرَ عَاجِزٌ عَنْ التَّحَلُّلِ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَفَائِتُ الْحَجِّ قَادِرٌ عَلَى ذَلِكَ ، ثُمَّ فَائِتُ الْحَجِّ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ حِينَ يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ فِي الطَّوَافِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الطَّوَافَ عَمَلُ الْعُمْرَةِ وَأَوَانُ قَطْعِ التَّلْبِيَةِ فِي حَقِّهِ مَا هُوَ أَوَانُ قَطْعِ التَّلْبِيَةِ فِي حَقِّ الْمُعْتَمِرِ فَإِنْ كَانَ قَارِنًا فَإِنَّمَا يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ حِينَ يَأْخُذُ فِي الطَّوَافِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ مَا فَاتَتْهُ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ طَافَ لَهَا قَبْلَ الْفَوَاتِ فَلَا يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ عِنْدَهَا ، وَإِنَّمَا يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ إذَا أَخَذَ فِي الطَّوَافِ الَّذِي يَتَحَلَّلُ بِهِ عَنْ الْإِحْرَامِ فِي الْحَجِّ

( قَالَ ) : وَلَوْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَمَكَثَ حَرَامًا حَتَّى دَخَلَتْ أَشْهُرُ الْحَجِّ مِنْ قَابِلٍ فَتَحَلَّلَ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ ، ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا ، وَهَذَا أَيْضًا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إحْرَامَهُ لَمْ يَنْقَلِبْ إحْرَامَ عُمْرَةٍ فَإِنَّهُ لَوْ انْقَلَبَ إحْرَامَ عُمْرَةٍ كَانَ مُتَمَتِّعًا كَمَنْ أَحْرَمَ لِلْعُمْرَةِ فِي رَمَضَانَ فَطَافَ لَهَا فِي شَوَّالٍ ، وَلَكِنَّهُ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ يَتَحَلَّلُ مِنْ إحْرَامِ الْحَجِّ فِي شَوَّالٍ ، وَلَيْسَ هَذَا صُورَةَ الْمُتَمَتِّعِ

( قَالَ ) : رَجُلٌ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ فَجَامَعَ فِيهَا ثُمَّ قَدِمَ ، وَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِجِمَاعِهِ وَيَحِلُّ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ ؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ مُعْتَبَرٌ بِالصَّحِيحِ فَكَمَا أَنَّ التَّحَلُّلَ بِالْإِحْرَامِ الصَّحِيحِ بَعْدَ الْفَوَاتِ يَكُونُ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ فَكَذَلِكَ عَنْ الْإِحْرَامِ الْفَاسِدِ ، وَلَوْ كَانَ أَصَابَ فِي حَجِّهِ صَيْدًا فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ بَعْدَ الْفَسَادِ بَاقٍ فَيَجِبُ بِارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ مَا يَلْزَمُهُ بِارْتِكَابِهِ فِي الْإِحْرَامِ الصَّحِيحِ ، وَهَذَا الَّذِي أَفْسَدَ الْحَجَّ إنَّمَا يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ بَعْدَ الْفَوَاتِ حِينَ يَأْخُذُ فِي الطَّوَافِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَفُتْهُ كَانَ أَوَانُ قَطْعِ التَّلْبِيَةِ فِي حَقِّهِ حِينَ يَرْمِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ اعْتِبَارًا بِمَنْ صَحَّ حَجُّهُ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْفَوَاتِ

( قَالَ ) : رَجُلٌ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ فَقَدِمَ مَكَّةَ ، وَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَأَقَامَ حَرَامًا حَتَّى يَحُجَّ مَعَ النَّاسِ مِنْ قَابِلٍ بِذَلِكَ الْإِحْرَامِ قَالَ : لَا يُجْزِئُهُ عَنْ حَجَّتِهِ ، وَبِهَذَا يَسْتَدِلُّ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّ إحْرَامَهُ صَارَ لِلْعُمْرَةِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ أَدَاءُ الْحَجِّ بِهِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : قَدْ بَقِيَ أَصْلُ إحْرَامِهِ لِلْحَجِّ ، وَلَكِنَّهُ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ بِإِعْمَالِ الْعُمْرَةِ فَلَا يَبْطُلُ هَذَا التَّعْيِينُ بِتَحَوُّلِ السَّنَةِ مَعَ أَنَّ إحْرَامَهُ انْعَقَدَ لِأَدَاءِ الْحَجِّ فِي السَّنَةِ الْأُولَى فَلَوْ صَحَّ أَدَاءُ الْحَجِّ بِهِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ تَغَيَّرَ مُوجِبُ ذَلِكَ الْعَقْدِ بِفِعْلِهِ ، وَلَيْسَ إلَيْهِ تَغْيِيرُ مُوجِبِ عَقْدِ الْإِحْرَامِ ، وَإِنْ قَدِمَ ، وَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَأَهَلَّ بِحَجَّةٍ أُخْرَى فَإِنَّهُ يَطُوفُ لِلَّذِي قَدْ فَاتَهُ وَيَسْعَى وَيَرْفُضُ الَّتِي أَهَلَّ بِهَا وَعَلَيْهِ فِيهَا مَا عَلَى الرَّافِضِ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْفَائِتِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ أَصْلَ إحْرَامِهِ بَعْدَ الْفَوَاتِ تَعَيَّنَ لِلْحَجِّ فَهُوَ بِالْإِهْلَالِ بِحَجَّةٍ أُخْرَى يَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ حَجَّتَيْنِ فَلِهَذَا يَرْفُضُ الَّتِي أَهَلَّ بِهَا ، وَقَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ التَّحَلُّلُ عَنْ الْأُولَى بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِفِعْلِهِ ، وَإِنْ نَوَى بِهَذِهِ الَّتِي أَهَلَّ بِهَا قَضَاءَ الْفَائِتِ فَهِيَ هِيَ يَعْنِي لَا يَلْزَمُهُ بِهَذَا الْإِهْلَالِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ نَوَى إيجَادَ الْمَوْجُودِ فَإِنَّ إحْرَامَهُ بِالْحَجِّ بَاقٍ بَعْدَ الْفَوَاتِ وَنِيَّةُ الْإِيجَادِ فِيمَا هُوَ مَوْجُودٌ لَغْوٌ فَيَتَحَلَّلُ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْفَائِتِ فَقَطْ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ، فَقَدْ نَوَى بِالْإِهْلَالِ هُنَاكَ حَجَّةً أُخْرَى سِوَى الْمَوْجُودِ

( قَالَ ) : وَإِنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ بَعْدَ مَا فَاتَهُ الْحَجُّ رَفَضَهَا أَيْضًا وَمَضَى فِي عَمَلِ الْفَائِتَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَزِمَهُ التَّحَلُّلُ عَنْ الْأَوَّلِ بِعَمَلِ الْعُمْرَةِ يَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ الْعُمْرَتَيْنِ مِنْ حَيْثُ الْعَمَلُ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَلِهَذَا يَرْفُضُ الَّتِي أَهَلَّ بِهَا ، وَقَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ التَّحَلُّلُ عَنْ الْأُولَى بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِفِعْلِهِ

( قَالَ ) : رَجُلٌ أَهَلَّ بِحَجَّتَيْنِ وَقَدِمَ مَكَّةَ ، وَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ قَالَ : يَحِلُّ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَعَلَيْهِ عُمْرَةٌ وَحَجَّتَانِ وَدَمٌ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ رَافِضًا لِإِحْدَى الْحَجَّتَيْنِ وَلَزِمَهُ دَمٌ لِرَفْضِهَا وَقَضَاءُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ ، ثُمَّ قَدْ فَاتَتْهُ الْأُخْرَى فَيَتَحَلَّلُ مِنْهَا بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَعَلَيْهِ قَضَاؤُهَا وَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَحَلَّل مِنْهَا بِعَمَلِ عُمْرَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ عَمَلًا فَكَمَا أَخَذَ فِي عَمَلِ إحْدَاهُمَا صَارَ رَافِضًا لِلْأُخْرَى وَلَزِمَهُ الدَّمُ بِالرَّفْضِ

( قَالَ ) : وَإِذَا سَاقَ هَدْيًا لِلْقِرَانِ فَقَدِمَ ، وَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ قَالَ : يَصْنَعُ بِهَدْيِهِ مَا شَاءَ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ ، وَقَدْ أَعَدَّهُ لِمَقْصُودِهِ ، فَإِذَا فَاتَهُ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ صَنَعَ بِهِ مَا أَحَبَّ ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَفُتْهُ ، وَلَكِنَّهُ جَامَعَ ؛ لِأَنَّ بِالْجِمَاعِ فَسَدَ حَجُّهُ وَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَارِنًا ، وَإِنَّمَا أَعَدَّ هَذَا الْهَدْيَ لِلْقِرَانِ ، فَإِذَا فَاتَهُ ذَلِكَ صَنَعَ بِهِ مَا شَاءَ فَإِنْ كَانَ هَدْيُهُ قَدْ نَتَجَ فِي الطُّرُقِ ، ثُمَّ قَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ أَوْ جَامَعَ أَوْ أُحْصِرَ صَنَعَ أَيْضًا بِالْوَلَدِ مَا شَاءَ ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ الْأُمِّ فَكَمَا يَصْنَعُ بِالْأُمِّ مَا شَاءَ فَكَذَلِكَ بِالْوَلَدِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْعَوَارِضِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْحَرَ الْأُمَّ وَالْوَلَدَ جَمِيعًا فَإِنْ نَحَرَ الْأُمَّ وَوَهَبَ الْوَلَدَ أَوْ بَاعَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْوَلَدِ ، وَكَذَلِكَ إنْ وَلَدَ هَذَا الْوَلَدُ وَلَدًا فَعَلَيْهِ قِيمَةُ ذَلِكَ الْوَلَدِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ مِنْ الْحَقِّ فِي الْأَصْلِ سَرَى إلَى الْوَلَدِ لِكَوْنِهِ جُزْءًا مِنْ أَجْزَائِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ كَفَّرَ عَنْ الْوَلَدِ بَعْدَ مَا وَهَبَهُ أَوَبَاعَهُ ، ثُمَّ حَدَثَ لَهُ وَلَدٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ وَلَدِهِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ بِأَدَاءِ الْكَفَّارَةِ قَدْ سَقَطَ عَنْهُ الْحَقُّ فِي الْوَلَدِ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَلْزَمُهُ فِيمَا يَلِدُ هَذَا الْوَلَدُ بَعْدَ ذَلِكَ شَيْءٌ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْوَلَدِ لَازِمٌ إيَّاهُ قَبْلَ التَّكْفِيرِ فَيَسْرِي إلَى مَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ أَخْرُجَ ظَبْيَةً مِنْ الْحَرَمِ فَكَفَّرَ عَنْهَا ، ثُمَّ وَلَدَتْ ثُمَّ مَاتَتْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا فِيهَا وَلَا فِي وَلَدِهَا شَيْءٌ ، وَإِنْ لَمْ يُكَفِّرْ عَنْهَا كَانَ عَلَيْهِ فِيهَا ، وَفِي وَلَدِهَا الْكَفَّارَةُ

( قَالَ ) : مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ قَدِمَ مَكَّةَ وَطَافَ بِالْبَيْتِ ، ثُمَّ خَرَجَ إلَى الرَّبَذَةِ فَأُحْصِرَ بِهَا ، ثُمَّ قَدِمَ مَكَّةَ بَعْدَ فَوَاتِ الْحَجِّ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحِلَّ بِعُمْرَةٍ وَلَا يَكْفِيهِ الطَّوَافُ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ طَوَافَ التَّحِيَّةِ ، وَلَيْسَ لِطَوَافِ التَّحِيَّةِ أَثَرٌ فِي التَّحَلُّلِ ، وَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالطَّوَافِ يَكُونُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ أَوْ بَعْدَهُ ، وَذَلِكَ الطَّوَافُ كَانَ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ فَلَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي التَّحَلُّلِ ، وَإِنْ كَانَ خُرُوجُهُ إلَى الرَّبَذَةِ بَعْدَ الْوَقْتِ لَمْ يَفُتْهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ } ، ثُمَّ قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدِّمَاءِ بَعْدَ هَذَا بِسَبَبِ التَّرْكِ وَالتَّأْخِيرِ

( قَالَ ) : فَإِنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، ثُمَّ قَدِمَ مَكَّةَ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ يَقْضِي عُمْرَتَهُ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ غَيْرُ مُؤَقَّتَةٍ فَلَا يَفُوتُهُ عَمَلُ الْعُمْرَةِ بِمُضِيِّ أَيَّامِ النَّحْرِ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَالْحَاصِلُ أَنَّ جَمِيعَ السَّنَةِ وَقْتُ الْعُمْرَةِ عِنْدَنَا ، وَلَكِنْ يُكْرَهُ أَدَاؤُهَا فِي خَمْسَةِ أَيَّامٍ يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَوْمِ النَّحْرِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَكْرَهُ الْعُمْرَةَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْخَمْسَةِ ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى هَذِهِ الْأَيَّامَ أَيَّامَ الْحَجِّ فَيَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ مُتَعَيِّنَةً لِلْحَجِّ الْأَكْبَرِ فَلَا يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ فِيهَا بِغَيْرِهَا ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تُكْرَهُ الْعُمْرَةُ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْخَمْسَةِ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا تُكْرَهُ الْعُمْرَةُ فِي يَوْمِ عَرَفَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ ؛ لِأَنَّ دُخُولَ وَقْتِ رُكْنِ الْحَجِّ بَعْدَ الزَّوَالِ لَا قَبْلَهُ ، وَلَكِنْ مَعَ هَذِهِ الْكَرَاهَةِ لَوْ أَدَّى الْعُمْرَةَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ صَحَّ فَيَبْقَى مُحْرِمًا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ بِهَا وَهُوَ نَظِيرُ بَقَاءِ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الْكَرَاهَةِ

( قَالَ ) : وَإِذَا أَهَلَّ الْحَاجُّ صَبِيحَةَ يَوْمِ النَّحْرِ بِحَجَّةٍ أُخْرَى لَزِمَتْهُ وَيَقْضِي مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ الْأُولَى وَيُقِيمُ حَرَامًا إلَى أَنْ يُؤَدِّيَ الْحَجَّ بِهَذَا الْإِحْرَامِ مِنْ قَابِلٍ ؛ لِأَنَّهُ أَحْرَمَ بَعْدَ مُضِيِّ وَقْتِ الْحَجِّ مِنْ السَّنَةِ الْمَاضِيَةِ ، فَيَنْعَقِدُ إحْرَامُهُ لِأَدَاءِ الْحَجِّ بِهِ فِي السَّنَةِ الْقَابِلَةِ وَعَلَيْهِ بِجَمْعِهِ بَيْنَ الْحَجَّتَيْنِ دَمٌ ؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ لِلْحَجِّ بَاقٍ مَا لَمْ يَتَحَلَّلْ بِالْحَلْقِ وَالطَّوَافِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ إحْرَامِ الْحَجَّتَيْنِ مَمْنُوعٌ عَنْهُ ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ لَزِمَهُ الدَّمُ بِالْجَمْعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَهَلَّ بِحَجَّتَيْنِ ؛ لِأَنَّ الدَّمَ هُنَاكَ يَلْزَمُهُ لِرَفْضِ إحْدَاهُمَا ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ هُنَاكَ لَا يَتَحَقَّقُ حِينَ صَارَ قَاضِيًا لِإِحْدَاهُمَا وَهُنَا يَتَحَقَّقُ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي مَا بَقِيَ مِنْ أَعْمَالِ الْأُولَى مِنْ غَيْرِ أَنْ يَصِيرَ رَافِضًا لِلْأُخْرَى فَلِهَذَا لَزِمَهُ لِلْجَمْعِ بَيْنَهُمَا دَمٌ ، وَإِنْ قَدِمَ الْحَاجُّ مَكَّةَ فَأَدْرَكَ الْوُقُوفَ بِمُزْدَلِفَةَ لَمْ يَكُنْ مُدْرِكًا لِلْحَجِّ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ فَاتَهُ عَرَفَةَ بِلَيْلٍ فَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ } ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا حُكْمَ الْإِهْلَالِ بِحَجَّتَيْنِ أَوْ بِعُمْرَتَيْنِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ وَيَسْتَوِي فِيهِ إنْ أَهَلَّ بِهِمَا مَعًا أَوْ بِإِحْدَاهُمَا ، ثُمَّ بِالْأُخْرَى مَعًا ؛ لِأَنَّهُ جَامِعٌ بَيْنَ الْإِحْرَامَيْنِ فِي الْحَالَيْنِ فَإِنْ رَفَضَ إحْدَى الْعُمْرَتَيْنِ ، ثُمَّ قَضَاهَا فِي الْعَامِ الْقَابِلِ وَمَعَهَا حَجَّةٌ فَهُوَ قَارِنٌ ؛ لِأَنَّ الْقِرَانَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْحَجَّةِ وَالْعُمْرَةِ فَكَمَا أَنَّ كَوْنَ الْحَجِّ فِي ذِمَّتِهِ لَا يَمْنَعُ تَحَقُّقَ الْقِرَانِ فَكَذَلِكَ كَوْنُ الْعُمْرَةِ وَاجِبَةً فِي ذِمَّتِهِ .
وَكَذَلِكَ إنْ أَتَى بِهَذِهِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ إنْ لَمْ يَكُنْ أَلَمَّ بِأَهْلِهِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ حَلَالًا فَإِنْ أَلَمَّ بِأَهْلِهِ بَيْنَ

النُّسُكَيْنِ حَلَالًا لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا ، بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْقَارِنِ إنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ بَعْدَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا رَجَعَ مُحْرِمًا فَلَمْ يَصِحَّ إلْمَامُهُ بِأَهْلِهِ فَلِهَذَا كَانَ قَارِنًا ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُتَمَتِّعِ الَّذِي سَاقَ الْهَدْيَ وَبَيْنَ الَّذِي لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ فِي حُكْمِ الْإِلْمَامِ بِأَهْلِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ أَيْضًا فِي حُكْمِ الْمَكِّيِّ الَّذِي قَدِمَ الْكُوفَةَ وَبَيَّنَّا الْقِرَانَ وَالتَّمَتُّعَ .
وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ الْمَكِّيَّ إذَا قَدِمَ الْكُوفَةَ إنَّمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْرِنَ إذَا كَانَ خُرُوجُهُ مِنْ الْمِيقَاتِ قَبْلَ دُخُولِ أَشْهُرِ الْحَجِّ ، فَأَمَّا إذَا دَخَلَتْ أَشْهُرُ الْحَجِّ قَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْ الْمِيقَاتِ فَقَدْ حَرُمَ عَلَيْهِ الْقِرَانُ وَالتَّمَتُّعُ فَلَا يَرْتَفِعُ ذَلِكَ بِالْخُرُوجِ عَنْ الْمِيقَاتِ بَعْدَ ذَلِكَ

( قَالَ ) : وَإِذَا قَدِمَتْ الْمَرْأَةُ مَكَّةَ مُحْرِمَةً بِالْحَجِّ حَائِضًا مَضَتْ عَلَى حَجَّتِهَا غَيْرَ أَنَّهَا لَا تَطُوفُ بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { وَاصْنَعِي جَمِيعَ مَا يَصْنَعُهُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ } ، فَإِذَا طَهُرَتْ بَعْدَ مُضِيِّ أَيَّامِ النَّحْرِ طَافَتْ لِلزِّيَارَةِ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا بِهَذَا التَّأْخِيرِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ بِعُذْرِ الْحَيْضِ وَعَلَيْهَا طَوَافُ الصَّدَرِ ؛ لِأَنَّهَا طَاهِرَةٌ ، وَإِنْ حَاضَتْ بَعْدَ مَا طَافَتْ لِلزِّيَارَةِ يَوْمَ النَّحْرِ فَلَيْسَ عَلَيْهَا طَوَافُ الصَّدَرِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ الرُّخْصَةِ الْوَارِدَةِ لِلْحَائِضِ فِي ذَلِكَ

( قَالَ ) : وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَمَنْ وَرَاءَ الْمِيقَاتِ طَوَافُ الصَّدَرِ إنَّمَا ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْآفَاقِ الَّذِينَ يَصْدُرُونَ عَنْ الْبَيْتِ بِالرُّجُوعِ إلَى مَنَازِلِهِمْ فَإِنْ نَوَى الْإِقَامَةَ بِمَكَّةَ وَاِتَّخَذَهَا دَارًا سَقَطَ عَنْهُ طَوَافُ الصَّدَرِ إنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ النَّفَرُ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الصَّدَرِ بَعْدَ حِلِّ النَّفْرِ الْأَوَّلِ فَإِنَّمَا جَاءَ وَقْتُ الصَّدَرِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَلَا يَلْزَمُهُ طَوَافُ الصَّدَرِ ، وَإِنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ الْإِقَامَةَ بَعْدَ مَا حَلَّ النَّفْرَ الْأَوَّلَ فَعَلَيْهِ طَوَافُ الصَّدَرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّ ذَلِكَ قَدْ لَزِمَهُ بِمَجِيءِ وَقْتِ الصَّدَرِ قَبْلَ نِيَّةِ الْإِقَامَةِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِنِيَّتِهِ الْإِقَامَةَ بَعْدَ ذَلِكَ كَالْمَرْأَةِ إذَا حَاضَتْ بَعْدَ خُرُوجِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لَا تَسْقُطُ عَنْهَا تِلْكَ الصَّلَاةُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ فِي طَوَافِ الصَّدَرِ سَقَطَ عَنْهُ طَوَافُ الصَّدَرِ ؛ لِأَنَّهُ ، وَإِنْ دَخَلَ وَقْتُهُ فَلَا يَصِيرُ طَوَافُ الصَّدَرِ دَيْنًا عَلَيْهِ بِدُخُولِ وَقْتِهِ فَنِيَّتُهُ الْإِقَامَةَ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهِ وَقَبْلَهُ سَوَاءٌ كَالْمَرْأَةِ إذَا حَاضَتْ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لَا تَلْزَمُهَا تِلْكَ الصَّلَاةُ .
فَأَمَّا إذَا نَوَى الْإِقَامَةَ بَعْدَ مَا أَخَذَ فِي طَوَافِ الصَّدَرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِذَلِكَ الطَّوَافِ ؛ لِأَنَّ بِالشُّرُوعِ فِيهِ لَزِمَ إتْمَامُهُ فَلَا يَسْقُطُ بِنِيَّةِ الْإِقَامَةِ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنْ بَدَا لَهُ الْخُرُوجُ مِنْ مَكَّةَ بَعْدَمَا اتَّخَذَهَا دَارًا لَا يَلْزَمُهُ طَوَافُ الصَّدَرِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَكِّيِّ يَقْصِدُ الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ .
وَإِنْ نَوَى أَنْ يُقِيمَ بِمَكَّةَ أَيَّامًا ، ثُمَّ يَصْدُرُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ طَوَافُ الصَّدَرِ ، وَإِنْ نَوَى الْإِقَامَةَ سَنَةً أَوْ أَكْثَرَ ؛ لِأَنَّ بِهَذِهِ النِّيَّةِ لَمْ يَصِرْ كَأَهْلِ مَكَّةَ ؛ لِأَنَّ الْمَكِّيَّ غَيْرُ عَازِمٍ عَلَى

الصَّدَرِ مِنْهَا بَعْدَ مُدَّةٍ ، وَهَذَا عَلَى الصَّدَرِ مِنْهَا بَعْدَ مُدَّةٍ فَيَبْقَى عَلَيْهِ طَوَافُ الصَّدَرِ عَلَى حَالِهِ

( قَالَ ) : وَلَيْسَ عَلَى فَائِتِ الْحَجِّ طَوَافُ الصَّدَرِ ؛ لِأَنَّ الْعَوْدَ لِلْقَضَاءِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمُعْتَمِرِ الْمُقِيمِ فِي حَقِّ الْإِعْمَالِ ، وَلَيْسَ عَلَى الْمُعْتَمِرِ طَوَافُ الصَّدَرِ .
( قَالَ ) : رَجُلٌ قَصَدَ مَكَّةَ لِلْحَجِّ فَدَخَلَهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ وَوَافَاهَا يَوْمَ النَّحْرِ ، وَقَدْ فَاتَهُ الْحَجُّ فَأَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَقَضَاهَا أَجْزَأَهُ وَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ الْوَقْتِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ مَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ وَقَضَاهُ كَانَ عَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ الْوَقْتِ فَكَذَلِكَ إذَا أَحْرَمَ بِالْوَقْتِ بِالْعُمْرَةِ وَقَضَاهَا ؛ لِأَنَّ الْوَاصِلَ إلَى الْمِيقَاتِ يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ حَاجًّا كَانَ أَوْ مُعْتَمِرًا ، وَإِنْ لَمْ يُحْرِمْ بِعُمْرَةٍ ، وَلَكِنَّهُ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ فَهُوَ مُحْرِمٌ حَتَّى يَحُجَّ مَعَ النَّاسِ مِنْ قَابِلٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ الْإِحْرَامِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَلَكِنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَرْجِعَ إلَى الْوَقْتِ فَيُلَبِّيَ مِنْهُ لِيَسْقُطَ عَنْهُ الدَّمُ فَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَأْخِيرِ الْإِحْرَامِ .
( قَالَ ) : وَمَنْ فَاتَهُ الْحَجُّ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يُقِيمَ فِي مَنْزِلِهِ حَرَامًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَيَبْعَثَ بِالْهَدْيِ ، وَلَا يَحِلُّ بِالْهَدْيِ إنْ بَعَثَ بِهِ ؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ بِالْهَدْيِ لِلْمُحْصَرِ ، وَهَذَا غَيْرُ مُحْصَرٍ بَلْ هُوَ فَائِتُ الْحَجِّ ، وَقَدْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ التَّحَلُّلُ بِالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ شَرْعًا فَلَا يَتَحَلَّلُ بِغَيْرِ ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96