كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي

( قَالَ : ) وَلَيْسَ عَلَى الْعَاقِدِ فِي بَابِ النِّكَاحِ وَلِيًّا كَانَ أَوْ وَكِيلًا حَقُّ قَبْضِ مَهْرِهَا بِدُونِ أَمْرِهَا ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مُعَبِّرٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ ، وَكَمَا لَا يَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ بِتَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ إلَيْهِ قَبْضُ الْبَدَلِ وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ مِنْ جَانِبِ الزَّوْجِ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ مِنْ الْمَهْرِ شَيْءٌ كَمَا لَا يَكُونُ إلَيْهِ قَبْضُ الْمَعْقُودِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ : الصَّدَاقُ عَلَى مَنْ أَخَذَ السَّاقَ إلَّا الْأَبَ فِي حَقِّ ابْنَتِهِ الْبَالِغَةِ فَإِنَّهُ يَقْبِضُ مَهْرَهَا فَيَجُوزُ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ .

( قَالَ ) : وَإِذَا أَرْسَلَ إلَى الْمَرْأَةِ رَسُولًا حُرًّا أَوْ عَبْدًا صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا فَهُوَ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الرِّسَالَةَ تَبْلِيغُ عِبَارَةِ الْمُرْسِلِ إلَى الْمُرْسَلِ إلَيْهِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ عِبَارَةٌ مَفْهُومَةٌ فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا أَلَا تَرَى أَنَّ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ جَعَلَ الْهُدْهُدَ رَسُولًا فِي تَبْلِيغِ كِتَابِهِ إلَى بِلْقِيسَ فَالْآدَمِيُّ الْمُمَيِّزُ أَوْلَى أَنْ يَصْلُحَ لِذَلِكَ فَإِذَا بَلَّغَ الرِّسَالَةَ فَقَالَ : إنَّ فُلَانًا سَأَلَكِ أَنْ تُزَوِّجِيهِ نَفْسَك فَأَشْهَدَتْ أَنَّهَا قَدْ تَزَوَّجَتْهُ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا إذَا أَقَرَّ الزَّوْجُ بِالرِّسَالَةِ أَوْ أَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ بَلَّغَهَا رِسَالَةَ الْمُرْسِلِ فَكَأَنَّهُ حَضَرَ بِنَفْسِهِ وَعَبَّرَ عَنْ نَفْسِهِ بَيْنَ يَدَيْ الشُّهُودِ ، وَقَدْ سَمِعَ الشُّهُودُ كَلَامَهَا أَيْضًا فَكَانَ نِكَاحًا بِسَمَاعِهِمَا كَلَامَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، وَإِذَا أَنْكَرَ الرِّسَالَةَ وَلَمْ تُقِمْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ لَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ، وَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ الرِّسَالَةَ لَمَّا لَمْ تَثْبُتْ كَانَ الْمُخَاطِبُ فُضُولِيًّا وَلَمْ يَرْضَ الزَّوْجُ بِمَا صَنَعَ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا فَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ قَدْ خَطَبَهَا وَضَمِنَ لَهَا الْمَهْرَ وَزَوَّجَهَا إيَّاهُ وَقَالَ قَدْ أَمَرَنِي بِذَلِكَ فَالنِّكَاحُ لَازِمٌ ؛ لِلزَّوْجِ إنْ أَقَرَّ أَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِالْأَمْرِ وَالضَّمَانُ لَازِمٌ ؛ لِلرَّسُولِ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ زَعِيمًا بِالْمَهْرِ وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ ، وَإِنْ جَحَدَ الزَّوْجُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِالْأَمْرِ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا ؛ لِمَا قُلْنَا وَلِلْمَرْأَةِ عَلَى الرَّسُولِ نِصْفُ الصَّدَاقِ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ قَدْ أَمَرَهُ ، وَأَنَّ النِّكَاحَ جَائِزٌ ، وَأَنَّ الضَّمَانَ قَدْ لَزِمَهُ ، وَإِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ صَحِيحٌ وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ : أَنَّ عَلَى الرَّسُولِ جَمِيعَ الْمَهْرِ بِحُكْمِ الضَّمَانِ فَقِيلَ : مَا ذَكَرَ هُنَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ

رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ ، وَمَا ذَكَرَ هُنَاكَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي يَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ فَنَفَذَ قَضَاؤُهُ بِالْفُرْقَةِ هُنَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَسَقَطَ نِصْفُ الصَّدَاقِ عَنْ الزَّوْجِ فَيَسْقُطُ عَنْ الْكَفِيلِ أَيْضًا ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ بَاطِنًا فَيَبْقَى جَمِيعُ الْمَهْرِ وَاجِبًا عَلَى الزَّوْجِ ، وَيَكُونُ الْكَفِيلُ مُطَالَبًا بِهِ ؛ لِإِقْرَارِهِ وَقِيلَ : بَلْ فِيهِ رِوَايَتَانِ .
وَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّ الزَّوْجَ مُنْكِرٌ لِأَصْلِ النِّكَاحِ ، وَإِنْكَارُهُ أَصْلَ النِّكَاحِ لَا يَكُونُ طَلَاقًا فَلَا يَسْقُطُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الصَّدَاقِ بِزَعْمِ الْكَفِيلِ ، وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ : أَنَّهُ أَنْكَرَ وُجُوبَ الصَّدَاقِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ مَالِكٌ لِإِسْقَاطِ نِصْفِ الصَّدَاقِ عَنْ نَفْسِهِ بِسَبَبٍ يَكْسِبُهُ فَيُجْعَلُ مُسْقِطًا فِيمَا يُمْكِنُهُ إسْقَاطُهُ ، وَمِنْ ضَرُورَةِ سُقُوطِ نِصْفِ الصَّدَاقِ عَنْ الْأَصِيلِ سُقُوطُهُ عَنْ الْكَفِيلِ فَلِهَذَا كَانَ الْكَفِيلُ ضَامِنًا لِنِصْفِ الصَّدَاقِ .

( قَالَ : ) فَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ قَالَ : لَمْ يَأْمُرْنِي ، وَلَكِنْ أُزَوِّجُهُ ، وَأَضْمَنُ عَنْهُ الْمَهْرَ فَفَعَلَ ثُمَّ أَجَازَ الزَّوْجُ جَازَ عَلَيْهِ ، وَلَزِمَ الزَّوْجَ الضَّمَانُ ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَإِنْ أَبَى الزَّوْجُ أَنْ يُجِيزَ النِّكَاحَ لَمْ يَكُنْ عَلَى الرَّسُولِ شَيْءٌ مِنْ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ السَّبَبِ انْتَفَى بِرَدِّ الزَّوْجِ النِّكَاحَ فَيَنْتَفِي حُكْمُهُ ، وَهُوَ وُجُوبُ الصَّدَاقِ ، وَبَرَاءَةُ الْأَصِيلِ حَقِيقَةً تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ

( قَالَ : ) وَإِنْ أَمَرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً بِعَيْنِهَا عَلَى مَهْرٍ قَدْ سَمَّاهُ فَزَوَّجَهَا إيَّاهُ وَزَادَ عَلَيْهِ فِي الْمَهْرِ فَإِنْ شَاءَ الزَّوْجُ أَجَازَهُ ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّهُ ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِخِلَافِ مَا أُمِرَ بِهِ فَكَانَ مُبْتَدِئًا فَيَتَوَقَّفُ عَقْدُهُ عَلَى إجَازَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الزَّوْجُ بِذَلِكَ حَتَّى دَخَلَ بِهَا فَهُوَ بِالْخِيَارِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ دُخُولَهُ بِهَا كَانَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ امْتَثَلَ الْوَكِيلُ أَمْرَهُ فَلَا يَصِيرُ بِهِ رَاضِيًا بِمَا خَالَفَ فِيهِ الْوَكِيلُ فَإِنَّ الرِّضَا بِالشَّيْءِ لَا يَتَحَقَّقُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِهِ فَكَانَ عَلَى خِيَارِهِ إنْ شَاءَ أَقَامَ مَعَهَا بِالْمَهْرِ الْمُسَمَّى ، وَإِنْ شَاءَ فَارَقَهَا وَكَانَ لَهَا الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى ، وَمِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ بِحُكْمِ النِّكَاحِ الْمَوْقُوفِ بِمَنْزِلَةِ الدُّخُولِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ فَيَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ ؛ لِلشُّبْهَةِ ، وَيَجِبُ الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى وَمِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ عُقُوبَةٍ أَوْ غَرَامَةٍ .

( قَالَ : ) فَإِنْ كَانَ الرَّسُولُ ضَمِنَ لَهَا الْمَهْرَ ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا الزَّوْجُ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ ثُمَّ رَدَّ الزَّوْجُ النِّكَاحَ ؛ لِلزِّيَادَةِ فِي الْمَهْرِ فَعَلَى الرَّسُولِ نِصْفُ الْمُسَمَّى ؛ لِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ إنْكَارَ الزَّوْجِ الْأَمْرَ بِالزِّيَادَةِ بِمَنْزِلَةِ إنْكَارِهِ الْأَمْرَ أَصْلًا كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ

( قَالَ : ) فَإِنْ قَالَ الرَّسُولُ : أَنَا أَغْرَمُ الْمَهْرَ وَأُلْزِمُك النِّكَاحَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الزَّوْجُ ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا بَاشَرَ مِنْ الْعَقْدِ غَيْرُ مُمْتَثِلٍ أَمْرَهُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْفُضُولِيِّ وَالْفُضُولِيُّ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُلْزِمَ عَلَيْهِ حُكْمَ الْعَقْدِ إلَّا بِرِضَاهُ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ ، وَإِنْ تَبَرَّعَ بِأَدَاءِ الزِّيَادَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَجِبَ عَلَى الزَّوْجِ أَوَّلًا ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ صَدَاقٌ وَالصَّدَاقُ مُطْلَقًا يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ إلْزَامُ الزَّوْجِ بِذَلِكَ وَانْعَدَمَ مِنْهَا الرِّضَا بِدُونِهِ

( قَالَ : ) وَإِذَا وَكَّلَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً فَزَوَّجَهَا إيَّاهُ وَضَمِنَ لَهَا عَنْهُ الْمَهْرَ جَازَ ذَلِكَ وَلَمْ يَرْجِعْ بِهِ الْوَكِيلُ عَلَى الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ عَنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَإِنَّ أَمْرَهُ إيَّاهُ بِالنِّكَاحِ لَا يَكُونُ أَمْرًا بِالْتِزَامِ الصَّدَاقِ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالنِّكَاحِ سَفِيرٌ وَمُعَبِّرٌ لَا مُلْتَزِمٌ ، وَمَنْ ضَمِنَ عَنْ غَيْرِهِ دَيْنَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ تَبَرُّعَهُ بِالضَّمَانِ كَتَبَرُّعِهِ بِالْأَدَاءِ فَإِنْ كَانَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ رَجَعَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أَمَرَهُ بِالْأَدَاءِ

( قَالَ : ) وَإِذَا كَانَ الْعَقْدُ مِنْ الْوَكِيلِ بِشُهُودٍ جَازَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى التَّوْكِيلِ شُهُودٌ ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ بِالنِّكَاحِ لَيْسَ بِنِكَاحٍ ، وَالشُّهُودَ مِنْ خَصَائِصِ شَرَائِطِ النِّكَاحِ وَإِنَّمَا شُرِطَ الشُّهُودُ فِي النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَلَّكُ بِهِ الْبُضْعَ فَلِإِظْهَارِ خَطَرِهِ اُخْتُصَّ بِشُهُودٍ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي التَّوْكِيلِ فَإِنَّ الْبُضْعَ لَا يُتَمَلَّكُ بِالتَّوْكِيلِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّوْكِيلِ بِسَائِرِ الْعُقُودِ

( قَالَ : ) وَإِذَا أُدْخِلَ عَلَى الرَّجُلِ غَيْرُ امْرَأَتِهِ فَدَخَلَ بِهَا فَعَلَى الزَّوْجِ مَهْرُ الَّتِي دَخَلَ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ بِهَا بِشُبْهَةِ النِّكَاحِ بِخَبَرِ الْمُخْبِرِ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ ، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ حُجَّةٌ فَيَصِيرُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ فَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ وَجَبَ الْمَهْرُ ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْهُ ، وَلَا تَتَّقِي فِي عِدَّتِهَا مَا تَتَّقِي الْمُعْتَدَّةُ ، وَبِنَحْوِهِ قَضَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ ، وَالْحِدَادُ : إظْهَارُ التَّحَزُّنِ عَلَى فَوَاتِ نِعْمَةِ النِّكَاحِ ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ ، وَلَيْسَ لَهَا عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْعِدَّةِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الْيَدِ الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ ؛ وَلِأَنَّهُ يَبْقَى بِالْعِدَّةِ مَا كَانَ ثَابِتًا مِنْ النَّفَقَةِ بِأَصْلِ النِّكَاحِ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا نَفَقَةٌ مُسْتَحَقَّةٌ هُنَا ؛ لِيَبْقَى ذَلِكَ بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ ، وَلَا يَرْجِعُ بِالْمَهْرِ عَلَى الَّذِي أَدْخَلَهَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ عِوَضًا عَمَّا اسْتَوْفَى ، وَهُوَ الَّذِي نَالَ اللَّذَّةَ بِالِاسْتِيفَاءِ فَلَا يَرْجِعُ بِالْعِوَضِ عَلَى غَيْرِهِ ؛ وَلِأَنَّ الْمُخْبِرَ أَخْبَرَ بِكَذِبٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَضْمَنَ لَهُ شَيْئًا ، وَهَذَا الْعَقْدُ مِنْ الْغَرُورِ لَا يُثْبِتُ لَهُ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ كَمَنْ أَخْبَرَهُ بِأَمْنِ الطَّرِيقِ فَسَلَكَ فِيهِ حَتَّى أَخَذَ اللُّصُوصُ مَتَاعَهُ .
( قَالَ : ) فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ أُمَّ امْرَأَتِهِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ بِالْمُصَاهَرَةِ ، لَهَا عَلَيْهِ نِصْفُ الصَّدَاقِ ؛ لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ ، وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ أَيْضًا ؛ لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ كَانَتْ بِنْتَ امْرَأَتِهِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ بِالْمُصَاهَرَةِ ، وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الَّتِي دَخَلَ بِهَا ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْعَقْدِ عَلَى الْأُمِّ لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الرَّبِيبَةِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ

أُمَّ الَّتِي دَخَلَ بِهَا ؛ لِأَنَّ بِالدُّخُولِ بِالْبِنْتِ تَحْرُمُ الْأُمُّ عَلَى التَّأْبِيدِ بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ هُنَاكَ لَا يَتَزَوَّجُ وَاحِدَةً مِنْهُمَا ؛ لِوُجُودِ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ عَلَى الْبِنْتِ ، وَالدُّخُولِ بِالْأُمِّ وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ أُخْتَ امْرَأَتِهِ أَوْ ذَاتَ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا لَمْ يَقْرُبْ امْرَأَتَهُ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا ؛ لِأَنَّ أُخْتَهَا مُعْتَدَّةٌ مِنْهُ فَلَوْ قَرُبَهَا كَانَ جَامِعًا مَاءَهُ فِي رَحِمِ أُخْتَيْنِ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ الْأَكْفَاءِ ( قَالَ : ) اعْلَمْ أَنَّ الْكَفَاءَةَ فِي النِّكَاحِ مُعْتَبَرَةٌ مِنْ حَيْثُ النَّسَبُ إلَّا عَلَى قَوْلِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ : لَا مُعْتَبَرَ فِي الْكَفَاءَةِ مِنْ حَيْثُ النَّسَبُ وَقِيلَ : أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْعَرَبِ فَتَوَاضَعَ وَرَأَى الْمَوَالِيَ أَكْفَاءً لَهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَانَ مِنْ الْمَوَالِي فَتَوَاضَعَ وَلَمْ يَرَ نَفْسَهُ كُفُؤًا لِلْعَرَبِ ، وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : النَّاسُ سَوَاسِيَةٌ كَأَسْنَانِ الْمُشْطِ لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ إنَّمَا الْفَضْلُ بِالتَّقْوَى } ، وَهَذَا الْحَدِيثُ يُؤَيِّدُهُ قَوْله تَعَالَى { إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : كُلُّكُمْ بَنُو آدَمَ طَفٌّ لِلصَّاعِ لَمْ يُمْلَأْ ، وَقَالَ : النَّاسُ كَإِبِلٍ مِائَةٍ لَا تَكَادُ تَجِدُ فِيهَا رَاحِلَةً وَاحِدَةً } فَهَذِهِ الْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى الْمُسَاوَاةِ ، وَأَنَّ التَّفَاضُلَ بِالْعَمَلِ ، وَمَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ { ، وَخَطَبَ أَبُو طَيْبَةَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي بَيَاضَةَ فَأَبَوْا أَنْ يُزَوِّجُوهُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : زَوِّجُوا أَبَا طَيْبَةَ إلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ فَقَالُوا : نَعَمْ وَكَرَامَةٌ .
} { وَخَطَبَ بِلَالٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى قَوْمٍ مِنْ الْعَرَبِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : قُلْ لَهُمْ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُزَوِّجُونِي } ، وَأَنَّ سَلْمَانَ خَطَبَ بِنْتَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَهَمَّ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْهُ ثُمَّ لَمْ يَتَّفِقْ ذَلِكَ ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قُرَيْشٌ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ بَطْنٌ بِبَطْنٍ ، وَالْعَرَبُ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ قَبِيلَةٌ بِقَبِيلَةٍ وَالْمَوَالِي بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ رَجُلٌ بِرَجُلٍ } ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ

النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَلَا لَا يُزَوِّجُ النِّسَاءَ إلَّا الْأَوْلِيَاءُ ، وَلَا يُزَوَّجْنَ إلَّا مِنْ الْأَكْفَاءِ } وَمَا زَالَتْ الْكَفَاءَةُ مَطْلُوبَةً فِيمَا بَيْنَ الْعَرَبِ حَتَّى فِي الْقِتَالِ .
بَيَانُهُ : فِي قِصَّةِ { الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خَرَجُوا يَوْمَ بَدْرٍ ؛ لِلْبِرَازِ عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ وَالْوَلِيدُ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ ثَلَاثَةٌ مِنْ فِتْيَانِ الْأَنْصَارِ فَقَالُوا لَهُمْ : انْتَسِبُوا فَانْتَسَبُوا فَقَالُوا : أَبْنَاءُ قَوْمٍ كِرَامٍ ، وَلَكِنَّا نُرِيدُ أَكْفَاءَنَا مِنْ قُرَيْشٍ فَرَجَعُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : صَدَقُوا وَأَمَرَ حَمْزَةَ وَعَلِيًّا وَعُبَيْدَةَ بْنَ الْحَارِثِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ بِأَنْ يَخْرُجُوا إلَيْهِمْ } فَلَمَّا لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ طَلَبَ الْكَفَاءَةِ فِي الْقِتَالِ فَفِي النِّكَاحِ أَوْلَى ، وَهَذَا لِأَنَّ النِّكَاحَ يُعْقَدُ لِلْعُمُرِ ، وَيَشْتَمِلُ عَلَى أَغْرَاضٍ وَمَقَاصِدَ مِنْ الصُّحْبَةِ وَالْأُلْفَةِ وَالْعِشْرَةِ وَتَأْسِيسِ الْقَرَابَاتِ ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إلَّا بَيْنَ الْأَكْفَاءِ ، وَفِي أَصْلِ الْمِلْكِ عَلَى الْمَرْأَةِ نَوْعُ ذِلَّةٍ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ { : النِّكَاحُ رِقٌّ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ أَيْنَ يَضَعُ كَرِيمَتَهُ } ، وَإِذْلَالُ النَّفْسِ حَرَامٌ ، قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ } وَإِنَّمَا جُوِّزَ مَا جُوِّزَ مِنْهُ ؛ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ ، وَفِي اسْتِفْرَاشِ مَنْ لَا يُكَافِئُهَا زِيَادَةُ الذُّلِّ ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ فَلِهَذَا اُعْتُبِرَتْ الْكَفَاءَةُ ، وَالْمُرَادُ مِنْ الْآثَارِ الَّتِي رَوَاهَا فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ .
وَبِهِ نَقُولُ : إنَّ التَّفَاضُلَ فِي الْآخِرَةِ بِالتَّقْوَى ، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ الْآخَرِ النَّدْبُ إلَى التَّوَاضُعِ وَتَرْكِ طَلَبِ الْكَفَاءَةِ لَا الْإِلْزَامِ ، وَبِهِ نَقُولُ : إنَّ عِنْدَ الرِّضَا يَجُوزُ الْعَقْدُ وَيُحْكَى عَنْ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ

اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : الْأَصَحُّ عِنْدِي أَنْ لَا تُعْتَبَرَ الْكَفَاءَةُ فِي النِّكَاحِ أَصْلًا ؛ لِأَنَّ الْكَفَاءَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِيمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ النِّكَاحِ ، وَهُوَ الدِّمَاءُ فَلَأَنْ لَا تُعْتَبَرُ فِي النِّكَاحِ أَوْلَى ، وَلَكِنَّ هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ الْكَفَاءَةَ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي الدِّينِ فِي بَابِ الدَّمِ حَتَّى لَا يُقْتَلَ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي النِّكَاحِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ : الْكَفَاءَةُ فِي خَمْسَةِ أَشْيَاءَ ( أَحَدُهَا ) النَّسَبُ ، وَهُوَ عَلَى مَا قَالَ : قُرَيْشٌ أَكْفَاءٌ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ فَإِنَّهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ يَتَفَاضَلُونَ ، وَأَفْضَلُهُمْ بَنُو هَاشِمٍ ، وَمَعَ التَّفَاضُلِ هُمْ أَكْفَاءٌ أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا ، وَكَانَتْ تَيْمِيَّةَ وَتَزَوَّجَ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا وَكَانَتْ عَدَوِيَّةَ { وَزَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ عَبْشَمِيًّا } فَعَرَفْنَا أَنَّ بَعْضَهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ : إلَّا أَنْ يَكُونَ نَسَبًا مَشْهُورًا نَحْوَ أَهْلِ بَيْتِ الْخِلَافَةِ فَإِنَّ غَيْرَهُمْ لَا يُكَافِئُهُمْ ، وَكَأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ ؛ لِتَسْكِينِ الْفِتْنَةِ وَتَعْظِيمِ الْخِلَافَةِ ، لَا لِانْعِدَامِ أَصْلِ الْكَفَاءَةِ ، وَالْعَرَبُ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ فَإِنَّ فَضِيلَةَ الْعَرَبِ بِكَوْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ ، وَنُزُولِ الْقُرْآنِ بِلُغَتِهِمْ ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : حُبُّ الْعَرَبِ مِنْ الْإِيمَانِ } { ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَا تَبْغَضْنِي قَالَ : وَكَيْفَ أَبْغَضُك ، وَقَدْ هَدَانِي اللَّهُ بِك ؟ قَالَ : تَبْغَضُ الْعَرَبَ فَتَبْغَضُنِي } ، وَلَا تَكُونُ الْعَرَبُ كُفُؤًا لِقُرَيْشٍ وَالْمَوَالِي لَا يَكُونُونَ كُفُؤًا لِلْعَرَبِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ { : وَالْمَوَالِي بَعْضُهُمْ أَكْفَاءٌ لِبَعْضٍ } ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَوَالِيَ ضَيَّعُوا أَنْسَابَهُمْ فَلَا يَكُونُ التَّفَاخُرُ بَيْنَهُمْ بِالنَّسَبِ بَلْ بِالدِّينِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ سَلْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حِينَ تَفَاخَرَ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ بِذِكْرِ الْأَنْسَابِ فَلَمَّا انْتَهَى إلَى سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالُوا : سَلْمَانُ ابْنُ مَنْ ؟ فَقَالَ سَلْمَانُ : ابْنُ الْإِسْلَامِ فَبَلَغَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَبَكَى ، وَقَالَ وَعُمَرُ ابْنُ الْإِسْلَامِ فَمَنْ كَانَ مِنْ الْمَوَالِي لَهُ أَبَوَانِ فِي الْإِسْلَامِ فَهُوَ كُفُؤٌ لِمَنْ لَهُ عَشَرَةُ آبَاءٍ ؛ لِأَنَّ النِّسْبَةَ تَتِمُّ بِالِانْتِسَابِ إلَى الْأَبِ وَالْجَدِّ فَمَنْ كَانَ لَهُ أَبَوَانِ مُسْلِمَانِ فَلَهُ فِي الْإِسْلَامِ نَسَبٌ صَحِيحٌ وَمَنْ أَسْلَمَ بِنَفْسِهِ لَا يَكُونُ كُفُؤًا ؛ لِمَنْ لَهُ أَبٌ فِي الْإِسْلَامِ وَمَنْ أَسْلَمَ أَبُوهُ لَا يَكُونُ كُفُؤًا لِمَنْ لَهُ أَبَوَانِ فِي الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّ هَذَا يَحْتَاجُ فِي النِّسْبَةِ إلَى الْأَبِ الْكَافِرِ ، وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ؛ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَجُلًا انْتَسَبَ إلَى تِسْعَةِ آبَاءٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هُوَ عَاشِرُهُمْ فِي النَّارِ } وَلَكِنَّ هَذَا إذَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّفَاخُرِ دُونَ التَّعْرِيفِ

( وَالثَّانِي ) : الْكَفَاءَةُ فِي الْحُرِّيَّةِ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَكُونُ كُفُؤًا لِامْرَأَةٍ حُرَّةِ الْأَصْلِ ، وَكَذَلِكَ الْمُعْتَقُ لَا يَكُونُ كُفُؤًا لِحُرَّةِ الْأَصْلِ ، وَالْمُعْتَقُ أَبُوهُ لَا يَكُونُ كُفُؤًا لِامْرَأَةٍ لَهَا أَبَوَانِ فِي الْحُرِّيَّةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الرِّقَّ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْكُفْرِ ، وَفِيهِ مَعْنَى الذُّلِّ فَكَانَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ أَصْلِ الدِّينِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الَّذِي أَسْلَمَ بِنَفْسِهِ أَوْ أُعْتِقَ لَوْ أَحْرَزَ مِنْ الْفَضَائِلِ مَا يُقَابِلُ نَسَبَ الْآخَرِ كَانَ كُفُؤًا لَهُ

( وَالثَّالِثُ ) : الْكَفَاءَةُ مِنْ حَيْثُ الْمَالُ فَإِنَّ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَهْرِ امْرَأَةٍ وَنَفَقَتِهَا لَا يَكُونُ كُفُؤًا لَهَا ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ عِوَضُ بُضْعِهَا ، وَالنَّفَقَةُ تَنْدَفِعُ بِهَا حَاجَتُهَا ، وَهِيَ إلَى ذَلِكَ أَحْوَجُ مِنْهَا إلَى نَسَبِ الزَّوْجِ فَإِذَا كَانَتْ تَنْعَدِمُ الْكَفَاءَةُ بِضَعَةِ نَسَبِ الزَّوْجِ فَبِعَجْزِهِ عَنْ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ أَوْلَى ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : إذَا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى مَا يُعَجِّلُهُ ، وَيَكْتَسِبُ فَيُنْفِقُ عَلَيْهَا يَوْمًا بِيَوْمٍ كَانَ كُفُؤًا لَهَا ، وَأَمَّا إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ كَانَ كُفُؤًا لَهَا ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ صَاحِبَةَ مَالٍ عَظِيمٍ ، وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ اعْتَبَرُوا الْكَفَاءَةَ فِي كَثْرَةِ الْمَالِ ؛ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا رَأَيْت ذَا الْمَالِ مَهِيبًا وَرَأَيْت ذَا الْفَقْرِ مَهِينًا وَقَالَتْ : إنَّ أَحْسَابَ ذَوِي الدُّنْيَا الْمَالُ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ ؛ لِأَنَّ كَثْرَةَ الْمَالِ فِي الْأَصْلِ مَذْمُومٌ { قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَلَكَ الْمُكْثِرُونَ إلَّا مَنْ قَالَ بِمَالِهِ : هَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي تَصَدَّقَ بِهِ }

( وَالرَّابِعُ ) : الْكَفَاءَةُ فِي الْحِرَفِ ، وَالْمَرْوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ أَصْلًا ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مُعْتَبَرٌ حَتَّى إنَّ الدَّبَّاغَ وَالْحَجَّامَ وَالْحَائِكَ وَالْكَنَّاسَ لَا يَكُونُ كُفُؤًا لِبِنْتِ الْبَزَّازِ وَالْعَطَّارِ ، وَكَأَنَّهُ اعْتَبَرَ الْعَادَةَ فِي ذَلِكَ ، وَوَرَدَ حَدِيثٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { النَّاسُ أَكْفَاءٌ إلَّا الْحَائِكَ وَالْحَجَّامَ } وَلَكِنَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : الْحَدِيثُ شَاذٌّ لَا يُؤْخَذُ بِهِ فِيمَا تَعُمُّ بِهِ الْبَلْوَى ، وَالْحِرْفَةُ لَيْسَتْ بِشَيْءٍ لَازِمٍ فَالْمَرْءُ تَارَةً يَحْتَرِفُ بِحِرْفَةٍ نَفِيسَةٍ ، وَتَارَةً بِحِرْفَةٍ خَسِيسَةٍ بِخِلَافِ صِفَةِ النَّسَبِ ؛ لِأَنَّهُ لَازِمٌ لَهُ ، وَذُلُّ الْفَقْرِ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُفَارِقُهُ

( وَالْخَامِسُ : ) الْكَفَاءَةُ فِي الْحَسَبِ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ : هُوَ مُعْتَبَرٌ حَتَّى إنَّ الَّذِي يَسْكَرُ فَيَخْرُجُ فَيَسْتَهْزِئُ بِهِ الصِّبْيَانُ لَا يَكُونُ كُفْئًا لِامْرَأَةٍ صَالِحَةٍ مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ ، وَكَذَلِكَ أَعْوَانُ الظَّلَمَةِ مَنْ يُسْتَخَفُّ بِهِ مِنْهُمْ لَا يَكُونُ كُفُؤًا لِامْرَأَةٍ صَالِحَةٍ مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَهِيبًا يَعْظُمُ فِي النَّاسِ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ : الَّذِي يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ فَإِنْ كَانَ يُسِرُّ ذَلِكَ فَلَا يَخْرُجُ سَكْرَانَ كَانَ كُفْئًا ، وَإِنْ كَانَ يُعْلِنُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ كُفْئًا لِامْرَأَةٍ صَالِحَةٍ مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، وَالصَّحِيحُ عِنْدَهُ أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِلَازِمٍ حَتَّى لَا يُمْكِنُ تَرْكُهُ

( قَالَ : ) وَإِذَا زَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ فَلِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهَا أَلْحَقَتْ الْعَارَ بِالْأَوْلِيَاءِ فَإِنَّهُمْ يَتَعَيَّرُونَ بِأَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِمْ بِالْمُصَاهَرَةِ مَنْ لَا يُكَافِئُهُمْ فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يُخَاصِمُوا ؛ لِدَفْعِ ذَلِكَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَلَا يَكُونُ التَّفْرِيقُ بِذَلِكَ إلَّا عِنْدَ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُ فَسْخٌ لِلْعَقْدِ بِسَبَبِ نَقْصٍ فَكَانَ قِيَاسُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ ، وَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي ؛ وَلِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَصْمَيْنِ نَوْعُ حُجَّةٍ فِيمَا يَقُولُ فَلَا يَكُونُ التَّفْرِيقُ إلَّا بِالْقَضَاءِ ، وَمَا لَمْ يُفَرِّقْ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا فَحُكْمُ الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ وَالتَّوَارُثِ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ أَصْلَ النِّكَاحِ انْعَقَدَ صَحِيحًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَإِنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ ، وَإِنَّمَا الضَّرَرُ عَلَيْهِمْ فِي اللُّزُومِ فَتَتَوَفَّرُ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ فَإِذَا فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا كَانَتْ فُرْقَةً بِغَيْرِ طَلَاقٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّفْرِيقَ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْفَسْخِ لِأَصْلِ النِّكَاحِ ، وَالطَّلَاقُ تَصَرُّفٌ فِي النِّكَاحِ فَمَا يَكُونُ فَسْخًا لِأَصْلِ النِّكَاحِ عِنْدَنَا لَا يَكُونُ تَصَرُّفًا فِيهِ ؛ وَلِأَنَّ الطَّلَاقَ إلَى الزَّوْجِ فَتَفْرِيقُ الْقَاضِي مَتَى كَانَ عَلَى وَجْهِ النِّيَابَةِ عَنْ الزَّوْجِ كَانَ طَلَاقًا ، وَهَذَا التَّفْرِيقُ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ النِّيَابَةِ عَنْهُ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا قُلْنَا : لَا مَهْرَ لَهَا عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا أَوْ خَلَا بِهَا فَلَهَا مَا سُمِّيَ مِنْ الْمَهْرِ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ النِّكَاحِ كَانَ صَحِيحًا فَيَتَقَرَّرُ الْمُسَمَّى بِالتَّسْلِيمِ إمَّا بِالدُّخُولِ أَوْ بِالْخَلْوَةِ ، وَالْمُكَاتَبُ وَالْمُدَبَّرُ نَظِيرُ الْعَبْدِ فِي أَنَّهُ لَا يَكُونُ كُفُؤًا لِلْحُرَّةِ ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ فِيهِمَا قَائِمٌ قَالَ :

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ

( قَالَ : ) وَإِذَا تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ غَيْرَ كُفْءٍ فَرَضِيَ بِهِ أَحَدُ الْأَوْلِيَاءِ جَازَ ذَلِكَ ، وَلَا يَكُونُ لِمَنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي الْوِلَايَةِ أَوْ أَبْعَدُ مِنْهُ أَنْ يَنْقُضَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَقْرَبَ مِنْهُ فَحِينَئِذٍ لَهُ الْمُطَالَبَةُ بِالتَّفْرِيقِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي نَوَادِرِ هِشَامٍ : إذَا رَضِيَ أَحَدُ الْوَلِيَّيْنِ بِغَيْرِ كُفْءٍ فَلِلْوَلِيِّ الَّذِي هُوَ مِثْلُهُ أَنْ لَا يَرْضَى بِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ هَذَا الْوَلِيُّ الرَّاضِي هُوَ الَّذِي زَوَّجَهَا ، وَالْخِلَافُ مَعَ الشَّافِعِيِّ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ هُنَا ، وَجْهُ قَوْلِهِمْ أَنَّ طَلَبَ الْكَفَاءَةِ حَقُّ جَمِيعِ الْأَوْلِيَاءِ فَإِذَا رَضِيَ مِنْهُمْ وَاحِدٌ فَقَدْ أَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ وَحَقَّ غَيْرِهِ فَيَصِحُّ إسْقَاطُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ دُونَ غَيْرِهِ كَالدَّيْنِ الْمُشْتَرَكِ إذَا أُبْرِئَ أَحَدُهُمْ أَوْ ارْتَهَنَ رَجُلَانِ عَيْنًا ثُمَّ رَدَّهُ أَحَدُهُمَا أَوْ سَلَّمَ أَحَدُ الشَّفِيعَيْنِ الشُّفْعَةَ أَوْ عَفَا أَحَدُ الْوَلِيَّيْنِ عَنْ الْقِصَاصِ يَصِحُّ فِي حَقِّهِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَذَفَ أُمَّ جَمَاعَةٍ وَصَدَّقَهُ أَحَدُهُمْ كَانَ لِلْبَاقِينَ الْمُطَالَبَةُ بِالْحَدِّ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا لَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ كَانَ لِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُفَرِّقُوا ، وَلَمْ يَكُنْ رِضَاهَا بِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ مُبْطِلًا حَقَّ الْأَوْلِيَاءِ فَكَذَلِكَ هُنَا .
وَحُجَّتُنَا أَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ ، وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لِلتَّجْزِيءِ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِسَبَبٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّجْزِيءَ فَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَالْمُنْفَرِدِ بِهِ كَمَا فِي الْأَمَانِ فَإِنَّ فِيهِ إبْطَالَ حَقِّ الِاسْتِغْنَامِ وَالِاسْتِرْقَاقِ ثُمَّ صَحَّ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي حَقِّ جَمَاعَتِهِمْ ؛ لِلْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِسْقَاطَ صَحِيحٌ فِي حَقِّ الْمُسْقِطِ بِالِاتِّفَاقِ فَإِذَا كَانَ الْحَقُّ وَاحِدًا ، وَقَدْ سَقَطَ فِي حَقِّ الْمُسْقِطِ فَمِنْ ضَرُورَتِهِ سُقُوطُهُ فِي حَقِّ

غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْقُطْ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لَكَانَ إذَا اسْتَوْفَاهُ يَصِيرُ حَقُّ الْغَيْرِ مُسْتَوْفًى أَيْضًا ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَبْقَ بَعْدَ السُّقُوطِ لَا يَتَمَكَّنُ الْآخَرُ مِنْ الْمُطَالَبَةِ بِهِ بِخِلَافِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ مُتَجَزِّئٌ فِي نَفْسِهِ ، وَبِخِلَافِ الرَّهْنِ فَإِنَّا لَوْ نَفَيْنَا حَقَّ الْآخَرِ لَا يَصِيرُ حَقُّ الْمُسْقِطِ مُسْتَوْفًى ، وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَقَّ يَتَعَدَّدُ هُنَاكَ ، وَكَذَلِكَ فِي الشُّفْعَةِ ، وَفِي الْقِصَاصِ مَا لَا يَحْتَمِلُ التَّجْزِيءُ لَا يَبْقَى بَعْدَ عَفْوِ أَحَدِهِمْ ، وَإِنَّمَا يَبْقَى مَا يَحْتَمِلُ التَّجْزِيءُ ، وَهُوَ الدِّيَةُ وَبِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ وَلَكِنَّ الْمُصَدِّقَ يُنْكِرُ سَبَبَ الْوُجُوبِ ، وَهُوَ إحْصَانُ الْمَقْذُوفِ وَإِنْكَارُ سَبَبِ وُجُوبِ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ إسْقَاطًا لَهُ فَوِزَانُهُ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ أَنْ لَوْ ادَّعَى أَحَدُ الْأَوْلِيَاءِ أَنْ الزَّوْجَ كُفُؤٌ ، وَأَثْبَتَ الْآخَرُ أَنَّهُ لَيْسَ بِكُفْءٍ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ التَّفْرِيقَ وَأَمَّا إذَا رَضِيَتْ هِيَ فَلِأَنَّ الْحَقَّ الثَّابِتَ لَهَا غَيْرُ الْحَقِّ الثَّابِتِ لِلْأَوْلِيَاءِ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ لَهَا صِيَانَةُ نَفْسِهَا عَنْ ذُلِّ الِاسْتِفْرَاشِ ، وَلِلْأَوْلِيَاءِ صِيَانَةُ نَسَبِهِمْ عَنْ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِمْ بِالْمُصَاهَرَةِ مَنْ لَا يُكَافِئُهُمْ ، وَأَحَدُهُمَا غَيْرُ الْآخَرِ فَلَمْ يَكُنْ إسْقَاطُ أَحَدِهِمَا مُوجِبًا سُقُوطَ الْآخَرِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لَهَا فِي مَوْضِعٍ لَا يَثْبُتُ ؛ لِلْأَوْلِيَاءِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي آخِرِ الْبَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَتَى فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بَعْدَ الدُّخُولِ ؛ لِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ حَتَّى وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ فَلَهَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ عَلَى الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ فِي أَصْلِ النِّكَاحِ فَيَبْقَى ذَلِكَ بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ ، وَسُكُوتُ الْوَلِيِّ عَنْ الْمُطَالَبَةِ بِالتَّفْرِيقِ لَيْسَ بِرِضًا مِنْهُ بِالنِّكَاحِ ، وَإِنْ طَالَ ذَلِكَ حَتَّى تَلِدَ ، وَلَهُ

الْخُصُومَةُ إنْ شَاءَ ؛ لِأَنَّ هَذَا حَقٌّ ثَابِتٌ لَهُ ، وَالسُّكُوتُ لَيْسَ بِمُبْطِلٍ لِلْحَقِّ الثَّابِتِ بِصِفَةِ التَّأَكُّدِ ؛ وَلِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الْخُصُومَةِ فِي الْمُطَالَبَةِ ، وَقَدْ لَا يَرْغَبُ الْإِنْسَانُ بِالْخُصُومَةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَتَأْخِيرُهُ إلَى أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْهُ لَا يَكُونُ مُبْطِلًا حَقَّهُ

( قَالَ ) : وَإِذَا زَوَّجَهَا الْوَلِيُّ غَيْرَ كُفْءٍ ثُمَّ فَارَقَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَتْ بِهِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ كَانَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الثَّانِيَ غَيْرُ الْأَوَّلِ ، وَرِضَاهُ بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ بَيْنَهُمَا لَا يَكُونُ رِضًا بِالْعَقْدِ الْآخَرِ كَمَا أَنَّ رِضَاهُ بِرَجُلٍ لَا يُكَافِئُهَا لَا يَكُونُ رِضًا بِرَجُلٍ آخَرَ إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ

( قَالَ : ) وَإِذَا تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ غَيْرَ كُفْءٍ ثُمَّ جَاءَ الْوَلِيُّ فَقَبَضَ مَهْرَهَا وَجَهَّزَهَا فَهَذَا مِنْهُ رِضًا بِالنِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْمَهْرِ تَقْرِيرٌ لِحُكْمِ الْعَقْدِ فَيَتَضَمَّنُ ذَلِكَ الرِّضَا بِالْعَقْدِ ضَرُورَةً .
وَمُبَاشَرَةَ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ دَلِيلُ الرِّضَا بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ بِالرِّضَا أَلَا تَرَى أَنَّ مِثْلَ هَذَا الْفِعْلِ يَكُونُ إجَازَةً لِلْعَقْدِ فَلَأَنْ يَكُونُ رِضًا بِالْعَقْدِ النَّافِذِ كَانَ أَوْلَى ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ هَذَا وَلَكِنْ خَاصَمَ زَوْجَهَا فِي نَفَقَتِهَا أَوْ فِي بَقِيَّةِ مَهْرِهَا عَلَيْهِ بِوَكَالَةٍ مِنْهَا فَفِي الْقِيَاسِ هَذَا لَا يَكُونُ رِضًا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا خَاصَمَ فِي ذَلِكَ ؛ لِيُظْهِرَ عَجْزَ الزَّوْجِ عَنْهُ ، وَهُوَ أَحَدُ أَسْبَابِ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ ، وَاشْتِغَالُهُ بِإِظْهَارِ سَبَبِ عَدَمِ الْكَفَاءَةِ يَكُونُ تَقْرِيرًا لِحَقِّهِ لَا إسْقَاطًا ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ هَذَا رِضًا بِالنِّكَاحِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُخَاصِمُ فِي الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ ؛ لِيَسْتَوْفِيَ ، وَالِاسْتِيفَاءُ يَنْبَنِي عَلَى تَمَامِ الْعَقْدِ فَتَكُونُ خُصُومَتُهُ فِي ذَلِكَ رِضًا مِنْهُ بِتَمَامِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا

( قَالَ : ) وَإِذَا تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ غَيْرَ كُفْءٍ وَدَخَلَ بِهَا وَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بِخُصُومَةِ الْوَلِيِّ ، وَأَلْزَمَهُ الْمَهْرَ وَأَلْزَمَهَا الْعِدَّةَ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي عِدَّتِهَا بِغَيْرِ وَلِيٍّ ، وَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا كَانَ لَهَا عَلَيْهِ الْمَهْرُ الثَّانِي كَامِلًا وَعَلَيْهَا عِدَّةٌ مُسْتَقْبَلَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا مَهْرَ لَهَا عَلَيْهِ ، وَعَلَيْهَا بَقِيَّةُ الْعِدَّةِ الْأُولَى ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ لَوْ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً ثَانِيَةً فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ فَطَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَجِبُ الْمَهْرُ الثَّانِي كَامِلًا ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَجِبُ نِصْفُ الْمَهْرِ الثَّانِي ، وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا إلَّا أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَلْزَمُهَا بَقِيَّةُ الْعِدَّةِ الْأُولَى ؛ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } الْآيَةَ ، وَقَالَ { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } ، وَفِي النِّكَاحِ الثَّانِي الطَّلَاقُ حَصَلَ قَبْلَ الْمَسِيسِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الثَّانِيَ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى الْأَوَّلِ وَالدُّخُولُ فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ لَمْ يُجْعَلْ دُخُولًا فِي النِّكَاحِ الثَّانِي .
أَلَا تَرَى أَنَّ صَرِيحَ الطَّلَاقِ يُبِينُهَا فَصَارَ فِي حَقِّ الْعَقْدِ الثَّانِي كَأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يُوجَدْ أَصْلًا إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُوجِبُ بَقِيَّةَ الْعِدَّةِ الْأُولَى احْتِيَاطًا ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْعِدَّةِ كَانَتْ وَاجِبَةً وَبِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ صَارَ النِّكَاحُ الثَّانِي كَالْمَعْدُومِ وَزُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : الْعِدَّةُ الْأُولَى سَقَطَتْ بِالنِّكَاحِ الثَّانِي ، وَالسَّاقِطُ مِنْ

الْعِدَّةِ لَا يَعُودُ ، وَتَجَدُّدُ وُجُوبِ الْعِدَّةِ يَسْتَدْعِي تَجَدُّدَ السَّبَبِ ، وَهُمَا قَالَا : الْعَقْدُ الثَّانِي يَتَأَكَّدُ بِنَفْسِهِ ، وَالْفُرْقَةُ مَتَى حَصَلَتْ بَعْدَ تَأَكُّدِ الْعَقْدِ يَجِبُ كَمَالُ الْعِدَّةِ وَالْمَهْرِ ، وَبَيَانُ التَّأَكُّدِ أَنَّ الْيَدَ وَالْفِرَاشَ يَبْقَى بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ فَإِنَّمَا تَزَوَّجَهَا ، وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ فِي يَدِهِ حُكْمًا فَيَصِيرُ قَابِضًا بِنَفْسِ الْعَقْدِ كَالْغَاصِبِ إذَا اشْتَرَى مِنْ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ الْمَغْصُوبَ وَبِهِ يَتَأَكَّدُ حُكْمُ النِّكَاحِ سَوَاءٌ وُجِدَ الدُّخُولُ أَوْ لَمْ يُوجَدْ كَمَا يَتَأَكَّدُ بِالْخَلْوَةِ ، وَبِهِ يَبْطُلُ اعْتِمَادُهُمْ عَلَى حُصُولِ الْبَيْنُونَةِ بِصَرِيحِ الطَّلَاقِ فَإِنَّ بَعْدَ الْخَلْوَةِ صَرِيحَ الطَّلَاقِ يُبِينُهَا .
وَيَكُونُ النِّكَاحُ مُتَأَكَّدًا فِي حُكْمِ الْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ ؛ وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةِ ؛ لِتَوَهُّمِ اشْتِغَالِ الرَّحِمِ بِالْمَاءِ عِنْدَ الْفُرْقَةِ ، وَهَذَا قَائِمٌ فِي الْعَقْدِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ فِي تَجْدِيدِ الْعَقْدِ فِي بَرَاءَةِ الرَّحِمِ ، وَقَدْ كَانَ تَوَهُّمُ الشُّغْلِ ثَابِتًا حَتَّى أَوْجَبْنَا الْعِدَّةَ عِنْدَ الْفُرْقَةِ الْأُولَى ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَلْزَمُ ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهَا بَقِيَّةُ الْعِدَّةِ الْأُولَى بِاعْتِبَارِ تَوَهُّمِ الشُّغْلِ وَالْعِدَّةُ لَا تَتَجَزَّأُ فِي الْوُجُوبِ ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَوْ كَانَتْ الْفُرْقَةُ بِسَبَبِ اللِّعَانِ أَوْ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ أَوْ بِخِيَارِ الْعِتْقِ كُلُّهُ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ النِّكَاحُ الْأَوَّلُ فَاسِدًا أَوْ كَانَ دَخَلَ بِهَا بِشُبْهَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا نِكَاحًا صَحِيحًا فِي الْعِدَّةِ ، وَإِنْ كَانَ النِّكَاحُ الْأَوَّلُ صَحِيحًا وَالثَّانِي فَاسِدًا فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يَجِبُ الْمَهْرُ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ صَيْرُورَتَهُ قَابِضًا بِاعْتِبَارِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْقَبْضِ شَرْعًا ، وَذَلِكَ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ لَا يَكُونُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْخَلْوَةَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ لَا تُوجِبُ الْمَهْرَ

وَالْعِدَّةَ فَهُنَا كَذَلِكَ الْعِدَّةُ الْأُولَى لَمْ تَسْقُطْ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ فَبَقِيَتْ مُعْتَدَّةً كَمَا كَانَتْ ، وَلَا مَهْرَ لَهَا عَلَيْهِ إذَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَلَوْ كَانَ الْعَقْدُ الثَّانِي صَحِيحًا فَارْتَدَّتْ وَوَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ الَّذِي قُلْنَا : لَهَا كَمَالُ الْمَهْرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا مَهْرَ لَهَا ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَوْ كَانَ تَزَوَّجَهَا فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كَانَ الْجَوَابُ عِنْدَهُمْ كَمَا هُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْفُصُولِ الْمُتَقَدِّمَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ عَلَيْهَا تِلْكَ الْيَدُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَالتَّزَوُّجُ بِهَا وَبِأَجْنَبِيَّةٍ أُخْرَى سَوَاءٌ

( قَالَ : ) وَإِذَا تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ رَجُلًا خَيْرًا مِنْهَا فَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْكَفَاءَةَ غَيْرُ مَطْلُوبَةٍ مِنْ جَانِبِ النِّسَاءِ فَإِنَّ الْوَلِيَّ لَا يَتَغَيَّرُ بِأَنْ يَكُونَ تَحْتَ الرَّجُلِ مَنْ لَا تُكَافِئُهُ ؛ وَلِأَنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ يَكُونُ إلَى أَبِيهِ لَا إلَى أُمِّهِ أَلَا تَرَى أَنَّ إسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مِنْ قَوْمِ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ لَا مِنْ قَوْمِ هَاجَرَ ، وَكَذَلِكَ إبْرَاهِيمُ بْنُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنْ قُرَيْشٍ وَمَا كَانَ قِبْطِيًّا ، وَأَوْلَادُ الْخُلَفَاءِ مِنْ الْإِمَاءِ يَصْلُحُونَ لِلْخِلَافَةِ

( قَالَ ) : وَإِذَا تَسَمَّى الرَّجُلُ لِامْرَأَةٍ بِغَيْرِ اسْمِهِ وَانْتَسَبَ لَهَا إلَى غَيْرِ نَسَبِهِ فَتَزَوَّجَتْهُ فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : ( أَحَدُهَا ) : أَنْ يَكُونَ النَّسَبُ الْمَكْتُومُ أَفْضَلَ مِمَّا أَظْهَرَهُ بِأَنْ أَخْبَرَهَا أَنَّهُ مِنْ الْعَرَبِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ قُرَيْشٍ ، وَفِي هَذَا لَا خِيَارَ لَهَا ، وَلَا لِلْأَوْلِيَاءِ ؛ لِأَنَّهَا وَجَدَتْهُ خَيْرًا مِمَّا شَرَطَ لَهَا فَهُوَ كَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا عَلَى أَنَّهُ مَعِيبٌ فَإِذَا هُوَ سَلِيمٌ .
( وَالثَّانِي ) : إذَا كَانَ نَسَبُهُ الْمَكْتُومُ دُونَ مَا أَظْهَرَهُ ، وَلَكِنَّهُ فِي النَّسَبِ الْمَكْتُومِ غَيْرُ كُفْءٍ لَهَا بِأَنْ تَزَوَّجَ قُرَشِيَّةً عَلَى أَنَّهُ مِنْ قُرَيْشٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ الْعَرَبِ أَوْ مِنْ الْمَوَالِي ، وَفِي هَذَا لَهَا الْخِيَارُ ، وَإِنْ رَضِيَتْ هِيَ فَلِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا ؛ لِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ .
( وَالثَّالِثُ : ) إنْ كَانَ النَّسَبُ الْمَكْتُومُ دُونَ مَا أَظْهَرَ ، وَلَكِنَّهُ فِي النَّسَبِ الْمَكْتُومِ كُفُؤٌ لَهَا بِأَنْ تَزَوَّجَ عَرَبِيَّةً عَلَى أَنَّهُ مِنْ قُرَيْشٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ الْعَرَبِ ، وَفِي هَذَا لَيْسَ لِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِالْفُرْقَةِ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْخُصُومَةِ لِلْأَوْلِيَاءِ ؛ لِدَفْعِ الْعَارِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ حَتَّى لَا يُنْسَبَ إلَيْهِمْ بِالْمُصَاهَرَةِ مَنْ لَا يُكَافِئُهُمْ ، وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا ، وَلَكِنْ لَهَا الْخِيَارُ إنْ شَاءَتْ أَقَامَتْ مَعَهُ ، وَإِنْ شَاءَتْ فَارَقَتْهُ عِنْدَنَا ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا خِيَارَ لَهَا كَمَا لَا يَثْبُتُ لِلْأَوْلِيَاءِ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالْكَفَاءَةِ ، وَهِيَ مَوْجُودَةٌ وَلَكِنَّا نَقُولُ : شَرَطَ لَهَا زِيَادَةَ مَنْفَعَةٍ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ وَلَدُهَا مِنْهُ صَالِحًا لِلْخِلَافَةِ فَإِذَا لَمْ تَنَلْ هَذَا الشَّرْطَ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ كَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ كَاتِبٌ أَوْ خَبَّازٌ فَوَجَدَهُ لَا يُحْسِنُهُ ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي الِاسْتِفْرَاشِ ذُلًّا فِي جَانِبِهَا ، وَالْمَرْأَةُ قَدْ تَرْضَى

اسْتِفْرَاشَ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهَا ، وَلَا تَرْضَى اسْتِفْرَاشَ مَنْ هُوَ مِثْلُهَا فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ غَرَّهَا فَقَدْ تَبَيَّنَ انْعِدَامُ تَمَامِ الرِّضَا مِنْهَا فَلِهَذَا كَانَ لَهَا الْخِيَارُ .
بِخِلَافِ الْأَوْلِيَاءِ فَإِنَّ ثُبُوتَ الْخِيَارِ لَهُمْ ؛ لِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ فَقَطْ وَلِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : قَوْلٌ مِثْلُ قَوْلِنَا وَقَوْلٌ مِثْلُ قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَوْلٌ آخَرُ : أَنَّ النِّكَاحَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ رَجُلٍ هُوَ قُرَشِيٌّ ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ الرَّجُلُ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْإِشَارَةُ مَعَ التَّسْمِيَةِ إذَا اجْتَمَعَا فَالْعِبْرَةُ لِلْإِشَارَةِ ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ بِالْإِشَارَةِ أَبْلَغُ ، وَبِهَذَا وَنَحْوِهِ نَسْتَدِلُّ عَلَى قِلَّةِ فِقْهِهِ فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا الْجَوَابِ لَا يَعْجِزُ عَنْهُ غَيْرُ الْفَقِيهِ ، وَمَنْ سُئِلَ عَنْ طَرِيقٍ فَقَالَ : إمَّا مِنْ هَذَا الْجَانِبِ وَإِمَّا مِنْ هَذَا الْجَانِبِ فَيُشِيرُ إلَى الْجَوَانِبِ الْأَرْبَعَةِ عُلِمَ أَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ بِالطَّرِيقِ أَصْلًا

( قَالَ : ) وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي غَرَّتْ الزَّوْجَ وَانْتَسَبَتْ إلَى غَيْرِ نَسَبِهَا فَلَا خِيَارَ لَهُ فِيهِ إذَا عَلِمَ ، وَهِيَ امْرَأَتُهُ إنْ شَاءَ طَلَّقَهَا ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَفُوتُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ مَقَاصِدِ النِّكَاحِ بِمَا ظَهَرَ مِنْ غُرُورِهَا لَا فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، وَلَا فِي وَلَدِهِ ؛ وَلِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّخَلُّصِ مِنْهَا بِالطَّلَاقِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إثْبَاتِ الْخِيَارِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .

( قَالَ : ) بَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا نِكَاحَ إلَّا بِشُهُودٍ } وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَكَانَ مَالِكٌ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَعُثْمَانُ الْبَتِّيُّ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُونَ الشُّهُودُ لَيْسُوا بِشَرْطٍ فِي النِّكَاحِ إنَّمَا الشَّرْطُ الْإِعْلَانُ حَتَّى لَوْ أَعْلَنُوا بِحَضْرَةِ الصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ صَحَّ النِّكَاحُ ، وَلَوْ أَمَرَ الشَّاهِدَيْنِ بِأَنْ لَا يُظْهِرَا الْعَقْدَ لَا يَصِحُّ ، وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : أَعْلِنُوا النِّكَاحَ وَلَوْ بِالدُّفِّ } { وَحَضَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إمْلَاكَ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ أَيْنَ شَاهِدُكُمْ فَأَتَى بِالدُّفِّ فَأَمَرَ بِأَنْ يُضْرَبَ عَلَى رَأْسِ الرَّجُلِ } ، وَكَانَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا دُفٌّ تُعِيرُهُ لِلْأَنْكِحَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ حَرَامَ هَذَا الْفِعْلِ لَا يَكُونُ إلَّا سِرًّا فَالْحَلَالُ لَا يَكُونُ إلَّا ضِدَّهُ ، وَذَلِكَ بِالْإِعْلَانِ ؛ لِتَنْتَفِيَ التُّهَمُ ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَيْنَاهُ ؛ وَلِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كُلُّ نِكَاحٍ لَمْ يَحْضُرْهُ أَرْبَعَةٌ فَهُوَ سِفَاحٌ : خَاطِبٌ وَوَلِيٌّ وَشَاهِدَانِ .
} ، وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا أُوتَى بِرَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ إلَّا رَجَمْته ؛ وَلِأَنَّ الشَّرْطَ لَمَّا كَانَ هُوَ الْإِظْهَارَ يُعْتَبَرُ فِيهِ مَا هُوَ طَرِيقُ الظُّهُورِ شَرْعًا ، وَذَلِكَ شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ فَإِنَّهُ مَعَ شَهَادَتِهِمَا لَا يَبْقَى سِرًّا قَالَ : الْقَائِلُ وَسِرُّك مَا كَانَ عِنْدَ امْرِئٍ وَسِرُّ الثَّلَاثَةِ غَيْرُ الْخَفِيِّ ؛ وَلِأَنَّ اشْتِرَاطَ زِيَادَةِ شَيْءٍ فِي هَذَا الْعَقْدِ ؛ لِإِظْهَارِ خَطَرِ الْبُضْعِ فَهُوَ نَظِيرُ اشْتِرَاطِ زِيَادَةِ شَيْءٍ فِي إثْبَاتِ إتْلَافِ مَا يُمْلَكُ بِالنِّكَاحِ ، وَإِنَّمَا اُخْتُصَّ ذَلِكَ مِنْ بَيْنَ سَائِرِ نَظَائِرِهِ بِزِيَادَةِ شَاهِدَيْنِ فَكَذَلِكَ

هَذَا التَّمْلِيكُ مُخْتَصٌّ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ نَظَائِرِهِ بِزِيَادَةِ شَاهِدَيْنِ

ثُمَّ الْأَصْلُ عِنْدَنَا أَنَّ كُلَّ مَنْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لِلْعَقْدِ بِنَفْسِهِ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِشَهَادَتِهِ ، وَكُلَّ مَنْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا فِي نِكَاحٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا فِي ذَلِكَ النِّكَاحِ ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قُلْنَا : يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقَيْنِ ، وَلَا يَنْعَقِدُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ } ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : ذَكَرَ الْعَدَالَةَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ ، وَالشَّهَادَةُ مُطْلَقَةٌ فِيمَا رَوَيْنَا فَنَحْنُ نَعْمَلُ بِالْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ جَمِيعًا مَعَ أَنَّهُ نَكَّرَ ذِكْرَ الْعَدَالَةِ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ فَيَقْتَضِي عَدَالَةً مَا ، وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الِاعْتِقَادُ ، وَفِي الْحَقِيقَةِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى أَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عِنْدَنَا ، وَإِنَّمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ؛ لِتَمَكُّنِ تُهْمَةِ الْكَذِبِ ، وَفِي الْحُضُورِ وَالسَّمَاعِ لَا تَتَمَكَّنُ هَذِهِ التُّهْمَةُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعَدْلِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْفَاسِقُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ أَصْلًا ؛ لِنُقْصَانِ حَالِهِ بِسَبَبِ الْفِسْقِ ، وَهُوَ يَنْبَنِي أَيْضًا عَلَى أَصْلِ أَنَّ الْفِسْقَ لَا يَنْقُصُ مِنْ إيمَانِهِ عِنْدَنَا فَإِنَّ الْإِيمَانَ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ ، وَالْأَعْمَالُ مِنْ شَرَائِعِ الْإِيمَانِ لَا مِنْ نَفْسِهِ ، وَعِنْدَهُ الشَّرَائِعُ مِنْ نَفْسِ الْإِيمَانِ ، وَيَزْدَادُ الْإِيمَانُ بِالطَّاعَةِ ، وَيَنْتَقِصُ بِالْمَعْصِيَةِ فَجُعِلَ نُقْصَانُ الدِّينِ بِسَبَبِ الْفِسْقِ كَنُقْصَانِ الْحَالِ بِسَبَبِ الرِّقِّ وَالصِّغَرِ .
وَاعْتُبِرَ بِطَرَفِ الْأَدَاءِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ إظْهَارُ النِّكَاحِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ، وَالصِّيَانَةُ عَنْ خَلَلٍ يَقَعُ بِسَبَبِ التَّجَاحُدِ ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْفِسْقُ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلْإِمَامَةِ وَالسَّلْطَنَةِ فَإِنَّ الْأَئِمَّةَ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ رَضِيَ

اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ قَلَّ مَا يَخْلُو وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَنْ فِسْقٍ فَالْقَوْلُ بِخُرُوجِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ إمَامًا بِالْفِسْقِ يُؤَدِّي إلَى فَسَادٍ عَظِيمٍ ، وَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهِ أَهْلًا لِلْإِمَامَةِ كَوْنُهُ أَهْلًا لِلْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ تَقَلُّدَ الْقَضَاءِ يَكُونُ مِنْ الْإِمَامِ ، وَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهِ أَهْلًا لِوِلَايَةِ الْقَضَاءِ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ وَبِهِ ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نُقْصَانِ الْحَالِ بِسَبَبِ الرِّقِّ ، وَالْأَدَاءُ ثَمَرَةٌ مِنْ ثَمَرَاتِ الشَّهَادَةِ .
وَفَوْتُ الثَّمَرَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى انْعِدَامِ الشَّيْءِ مِنْ أَصْلِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ بِشَهَادَةِ الْمَسْتُورِ الَّذِي ظَاهِرُ حَالِهِ الْعَدَالَةُ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ ، وَلَا يَظْهَرُ بِمَقَالَتِهِ ، كَذَلِكَ بِشَهَادَةِ ابْنَتِهِ مِنْهَا ، وَكَذَلِكَ

يَنْعَقِدُ بِشَهَادَةِ الْأَعْمَيَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ أَمَّا عِنْدَنَا فَلِأَنَّ الْأَعْمَى إنَّمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْمَشْهُودِ لَهُ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلٍ مُشْتَبَهٍ ، وَهُوَ النَّغْمَةُ وَالصَّوْتُ ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ فِي حَالَةِ الْحُضُورِ وَالسَّمَاعِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَى مِنْ أَهْلِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ ، وَلِهَذَا قَالَ : لَوْ تَحَمَّلَ ، وَهُوَ بَصِيرٌ ثُمَّ عَمِيَ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ

فَأَمَّا بِشَهَادَةِ الْمَحْدُودَيْنِ فِي الْقَذْفِ فَإِنْ لَمْ تَظْهَرْ تَوْبَتُهُمَا فَهُمَا فَاسِقَانِ ، وَإِنْ ظَهَرَتْ تَوْبَتُهُمَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِشَهَادَتِهِمَا بِالِاتِّفَاقِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِجَوَازِ الْأَدَاءِ مِنْهُمَا بَعْدَ التَّوْبَةِ ، وَعِنْدَنَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ ؛ لِكَوْنِهِ مَحْكُومًا بِكَذِبِهِ فَإِنَّمَا يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِيمَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ تُهْمَةُ الْكَذِبِ أَوْ فِيمَا يَسْتَدْعِي قَوْلًا مِنْ جِهَتِهِمَا ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ فِي الْحُضُورِ وَالسَّمَاعِ

فَأَمَّا بِشَهَادَةِ الْعَبْدَيْنِ وَالصَّبِيَّيْنِ لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَقْبَلَانِ هَذَا الْعَقْدَ بِأَنْفُسِهِمَا ؛ وَلِأَنَّهُمَا لَا يَصْلُحَانِ لِلْوِلَايَةِ فِي هَذَا الْعَقْدِ ، وَهَذَا لِأَنَّ النِّكَاحَ يُعْقَدُ فِي مَحَافِلِ الرِّجَالِ ، وَالصِّبْيَانُ وَالْعَبِيدُ لَا يُدْعَوْنَ إلَى مَحَافِلِ الرِّجَالِ عَادَةً فَلِهَذَا جُعِلَ حُضُورُهُمَا كَلَا حُضُورِهِمَا

وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَنْعَقِدُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ شَهَادَةَ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ إنَّمَا تَكُونُ حُجَّةً فِي الْأَمْوَالِ ، وَفِيمَا يَكُونُ تَبَعًا لِلْأَمْوَالِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُعَامَلَةَ تَكْثُرُ بَيْنَ النَّاسِ ، وَيَلْحَقُهُمْ الْحَرَجُ بِإِشْهَادِ رَجُلَيْنِ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ فَكَانَتْ حُجَّةً ضَرُورِيَّةً فِي هَذَا الْمَعْنَى ، وَلَا ضَرُورَةَ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ ، وَمَا لَيْسَ بِمَالٍ ؛ لِأَنَّ الْمُعَامَلَةَ فِيهَا لَا تَكْثُرُ فَكَانَتْ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ، وَكَذَلِكَ هَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ مُوجِبَةً لِلنِّكَاحِ ، وَلَا قَابِلَةً فَكَذَلِكَ لَا تَصْلُحُ شَاهِدَةً فِي النِّكَاحِ ، وَعِنْدَنَا هِيَ تَصْلُحُ لِذَلِكَ ، وَلِلنِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ شَهَادَةٌ أَصْلِيَّةٌ ، وَلَكِنَّ فِيهَا ضَرْبَ شُبْهَةٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَغْلِبُ الضَّلَالُ وَالنِّسْيَانُ عَلَيْهِنَّ كَمَا أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ { أَنْ تَضِلَّ إحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى } وَبِانْضِمَامِ إحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ إلَى الْأُخْرَى تَقِلُّ تُهْمَةُ النِّسْيَانِ ، وَلَا تَنْعَدِمُ ؛ لِبَقَاءِ سَبَبِهَا ، وَهِيَ الْأُنُوثَةُ فَلَا تُجْعَلُ حُجَّةً فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ فَأَمَّا النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ فَهَذِهِ الشَّهَادَةُ فِيهَا نَظِيرُ شَهَادَةِ الرِّجَالِ ، وَلَا إشْكَالَ أَنَّ تُهْمَةَ الضَّلَالِ وَالنِّسْيَانِ فِي شَهَادَةِ الْحُضُورِ لَا تَتَحَقَّقُ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْعَقِدَ النِّكَاحُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّ الْمَرْأَتَيْنِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَكَانَتْ الْمَرْأَةُ الْوَاحِدَةُ نِصْفَ الشَّاهِدِ وَبِنِصْفِ الشَّاهِدِ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ

وَلِهَذَا لَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ وَامْرَأَةٌ ثُمَّ رَجَعُوا لَمْ تَضْمَنْ الْمَرْأَةُ شَيْئًا وَسَنُقَرِّرُ هَذِهِ الْأُصُولَ فِي مَوْضِعِهَا مِنْ كِتَابِ الشَّهَادَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَاعْتِمَادُنَا عَلَى حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حَيْثُ أَجَازَ شَهَادَةَ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي النِّكَاحِ وَالْفُرْقَةِ

( قَالَ : ) وَلَوْ تَزَوَّجَهَا بِشَهَادَةِ ابْنَتِهِ أَوْ ابْنَتِهَا أَوْ بِنْتِهِ مِنْهَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِحُضُورِ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلشَّهَادَةِ فَإِنَّ امْتِنَاعَ قَبُولِ شَهَادَةِ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ لَا ؛ لِنُقْصَانِ حَالِهِ بَلْ ؛ لِتُهْمَةِ مَيْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى صَاحِبِهِ ، وَلَا تَتَمَكَّنُ هَذِهِ التُّهْمَةُ فِي انْعِقَادِ الْعَقْدِ بِشَهَادَتِهِمَا

( قَالَ : ) وَلَوْ تَزَوَّجَ مُسْلِمٌ نَصْرَانِيَّةً بِشَهَادَةِ نَصْرَانِيَّيْنِ جَازَ النِّكَاحُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَلَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ هَذَا نِكَاحٌ لَا يَصِحُّ إلَّا بِشُهُودٍ فَلَا يَصِحُّ بِشَهَادَةِ الْكَافِرِينَ كَالْعَقْدِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ أَنْكِحَةِ الْكُفَّارِ فَإِنَّهَا تَنْعَقِدُ بِغَيْرِ شُهُودٍ ، وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى أَنَّ هَذَا السَّمَاعَ شَهَادَةٌ ، وَلَا شَهَادَةَ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ فَلَمْ يَصِحَّ سَمَاعُهُمَا كَلَامَ الْمُسْلِمِ بِطَرِيقِ الشَّهَادَةِ ، وَشَرْطُ الِانْعِقَادِ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ كِلَا شَطْرَيْ الْعَقْدِ ، وَلَمْ يُوجَدْ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ سَمِعَ الشَّاهِدَانِ كَلَامَ الْمَرْأَةِ دُونَ كَلَامِ الزَّوْجِ ، وَلَهُمَا طَرِيقَانِ ( أَحَدُهُمَا ) مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْكَافِرَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا فِي الْعَقْدِ وَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ قَابِلًا لِهَذَا الْعَقْدِ بِنَفْسِهِ فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا فِيهِ أَيْضًا كَالْمُسْلِمِ ، وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى فَإِنَّ الْإِيجَابَ وَالْقَبُولَ رُكْنُ الْعَقْدِ وَالشَّهَادَةَ شَرْطُهُ فَإِذَا كَانَ يَصْلُحُ الْكَافِرُ لِلْقِيَامِ بِرُكْنِ هَذَا الْعَقْدِ بِنَفْسِهِ فَلَأَنْ يَقُومَ بِشَرْطِهِ كَانَ أَوْلَى بِخِلَافِ مَا يَجْرِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَلِأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِالْإِشْهَادِ هُوَ الرَّجُلُ ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَلَّكُ الْبُضْعَ ، وَلَا يَتَمَلَّكُ إلَّا بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ فَأَمَّا الْمَرْأَةُ تَمْلِكُ الْمَالَ ، وَالشُّهُودُ لَيْسُوا بِشَرْطٍ ؛ لِتَمَلُّكِ الْمَالِ أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ مَخْصُوصًا بِالنِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ } ثُمَّ كَانَتْ الْمَرْأَةُ لَا تَحْتَاجُ إلَى الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ : الرَّجُلُ قَدْ أَشْهَدَ عَلَيْهَا مَنْ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا عَلَيْهَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ مُسْلِمَةً ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا سَمِعُوا كَلَامَهَا ؛ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهَا

بِالْعَقْدِ ، وَالْعَقْدُ لَا يَكُونُ إلَّا بِكَلَامِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، وَسَمَاعُهُمَا كَلَامَ الْمُسْلِمِ صَحِيحٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَهَا بِشَهَادَةِ كَافِرَيْنِ وَمُسْلِمَيْنِ ثُمَّ وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى أَدَاءِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْكَافِرَيْنِ بِالْعَقْدِ عَلَيْهَا إذَا جَحَدَتْ ، وَعَلَى الزَّوْجِ لَوْ كَانَا أَسْلَمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَظَهَرَ أَنَّ سَمَاعَهُمَا كَلَامَ الْمُسْلِمِ صَحِيحٌ فَيَحْصُلُ بِهِ الْإِشْهَادُ عَلَيْهَا بِالْعَقْدِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ شُهُودٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِمْ حَلَالًا ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْعَقْدِ هُوَ الزَّوْجُ ، وَهُوَ مُسْلِمٌ مُخَاطَبٌ بِالْإِشْهَادِ فَلَا يُعْتَبَرُ اعْتِقَادُهَا فِي حَقِّهِ

( قَالَ : ) وَإِذَا زَوَّجَ ابْنَتَهُ بِشَهَادَةِ ابْنَيْهِ ثُمَّ جَحَدَ الزَّوْجُ النِّكَاحَ ، وَادَّعَاهُ الْأَبُ وَالْمَرْأَةُ فَشَهِدَ الِابْنَانِ بِذَلِكَ فَشَهَادَتُهُمَا لَا تُقْبَلُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تُقْبَلُ ، وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُدَّعِيَ ، وَجَحَدَ الْأَبُ وَالْمَرْأَةُ لِذَلِكَ فَشَهَادَةُ الِابْنَيْنِ فِيهِ تَكُونُ مَقْبُولَةً عَلَى أَبِيهِمَا ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ شَهَادَتَهُمَا لِأُخْتِهِمَا ، وَعَلَى أُخْتِهِمَا تَكُونُ مَقْبُولَةً ، وَشَهَادَتُهُمَا عَلَى أَبِيهِمَا فِيمَا يَجْحَدُهُ الْأَبُ مَقْبُولَةٌ ، فَأَمَّا إذَا شَهِدَا لِأَبِيهِمَا فِيمَا يَدَّعِيهِ إنْ كَانَ لِلْأَبِ فِيهِ مَنْفَعَةٌ نَحْوُ أَنْ يَشْهَدَا بِعَقْدٍ تَتَعَلَّقُ الْحُقُوقُ بِهِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَيْضًا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ تُقْبَلُ ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ : إنْ كَلَّمَك فُلَانٌ فَأَنْتَ حُرٌّ فَشَهِدَ ابْنَا فُلَانٍ أَنَّ أَبَاهُمَا كَلَّمَ الْعَبْدَ ، فَإِنْ كَانَ الْأَبُ يَجْحَدُ ذَلِكَ فَشَهَادَتُهُمَا مَقْبُولَةٌ ، وَإِنْ كَانَ الْأَبُ يَدَّعِي ذَلِكَ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تُقْبَلُ قَالَ : لِأَنَّ امْتِنَاعَ قَبُولِ شَهَادَةِ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ ؛ لِتَمَكُّنِ تُهْمَةِ الْمَيْلِ إلَيْهِ ؛ وَإِيثَارِهِ بِالْمَنْفَعَةِ عَلَى غَيْرِهِ ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا لَا مَنْفَعَةَ لِلْأَبِ فِيهِ فَقُبِلَتْ الشَّهَادَةُ جَحَدَهَا أَوْ ادَّعَاهَا وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً بِالنَّصِّ ، وَهُوَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ } ، وَإِنَّمَا تَكُونُ شَهَادَةً لَهُ إذَا كَانَ مُدَّعِيًا بِشَهَادَتِهِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْمَنْفَعَةِ فَإِنَّ جُحُودَهُ الشَّهَادَةَ يُقْبَلُ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ فِيهِ

مَنْفَعَةٌ بِأَنْ شَهِدُوا عَلَيْهِ بِبَيْعِ مَا يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مَعَ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ هُنَا تَتَحَقَّقُ فَإِنَّ ظُهُورَ صِدْقِهِ عِنْدَ الْقَاضِي وَالنَّاسِ مِنْ جُمْلَةِ الْمَنْفَعَةِ ، وَالْعَاقِلُ يُؤْثِرُ هَذَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ الْمَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : كُلُّ شَيْءٍ لِلْأَبِ فِيهِ مَنْفَعَةٌ جَحَدَ أَوْ ادَّعَى فَشَهَادَةُ ابْنَيْهِ فِيهِ بَاطِلٌ وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ تَوَلَّاهُ مِمَّا يَكُونُ فِيهِ خَصْمًا كَالْبَيْعِ ، وَمَا أَشْبَهَهُ ، وَالْمُرَادُ بِهَذَا أَنَّ عِنْدَ دَعْوَى الْأَبِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الِابْنِ ؛ لِلتُّهْمَةِ ، وَعِنْدَ جُحُودِ الْأَبِ إنْ كَانَ الْآخَرُ جَاحِدًا أَيْضًا لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ ؛ لِعَدَمِ الدَّعْوَى فَأَمَّا إذَا كَانَ الْآخَرُ مُدَّعِيًا كَانَتْ الشَّهَادَةُ مَقْبُولَةً ، وَإِنْ كَانَ لِلْأَبِ فِيهَا مَنْفَعَةٌ كَمَا إذَا شَهِدُوا عَلَيْهِ بِبَيْعِ مَا يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِيهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ هَذِهِ مَنْفَعَةً غَيْرُ مَطْلُوبَةٍ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ ، وَالْمَنْفَعَةُ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مَطْلُوبَةٍ لَا تُؤَثِّرُ فِي الْمَنْعِ مِنْ قَبُولِ الشَّهَادَةِ .

( قَالَ ) : وَأَمَّا شَهَادَةُ الشَّاهِدِ عَلَى فِعْلٍ تَوَلَّاهُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ مِمَّا يَكُونُ فِيهِ خَصْمًا ، وَمِمَّا لَا يَكُونُ خَصْمًا فَسَاقِطَةٌ بِالِاتِّفَاقِ ، وَبِهَذَا يَسْتَدِلُّ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ : الِابْنُ جُزْءٌ مِنْ أَبِيهِ فَشَهَادَتُهُ كَشَهَادَةِ الْأَبِ لِنَفْسِهِ فَكَمَا أَنَّ شَهَادَةَ الْأَبِ فِيمَا بَاشَرَهُ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ مَنْفَعَةٌ فَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الِابْنِ لِلْأَبِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : فِيمَا بَاشَرَهُ يَكُونُ مُدَّعِيًا لَا شَاهِدًا فَأَمَّا الِابْنُ فِيمَا بَاشَرَ أَبُوهُ يَكُونُ شَاهِدًا فَبَعْدَ تَحَقُّقِ الشَّهَادَةِ الْمَانِعُ مِنْ الْقَبُولِ هُوَ التُّهْمَةُ فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَا تَتَحَقَّقُ التُّهْمَةُ تَكُونُ الشَّهَادَةُ مَقْبُولَةً

( قَالَ : ) وَإِذَا زَوَّجَ الرَّجُلُ ابْنَتَهُ فَأَنْكَرَتْ الرِّضَا فَشَهِدَ عَلَيْهَا أَخُوهَا وَأَبُوهَا بِالرِّضَا لَمْ تُقْبَلْ ؛ لِأَنَّ الْأَبَ يُرِيدُ تَتْمِيمَ مَا بَاشَرَهُ ، وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهَا أَخَوَاهَا بِالرِّضَا كَانَتْ مَقْبُولَةً ؛ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي شَهَادَتِهِمَا عَلَيْهَا .

( قَالَ : ) وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِغَيْرِ شُهُودٍ أَوْ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ ثُمَّ أَشْهَدَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ النِّكَاحُ ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ هُوَ الْإِشْهَادُ عَلَى الْعَقْدِ ، وَلَمْ يُوجَدْ ، وَإِنَّمَا وُجِدَ الْإِشْهَادُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ ، وَالْإِقْرَارُ بِالْعَقْدِ لَيْسَ بِعَقْدٍ ، وَبِالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ لَا يَنْقَلِبُ الْفَاسِدُ صَحِيحًا .

( قَالَ ) : وَلَا يَجُوزُ النِّكَاحُ بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ بِشَهَادَةِ عَبْدَيْنِ أَوْ كَافِرَيْنِ أَوْ صَبِيَّيْنِ أَوْ مَعْتُوهَيْنِ أَوْ نِسَاءٍ لَيْسَ مَعَهُنَّ رَجُلٌ ؛ لِمَا قُلْنَا فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ شَاهِدَانِ حُرَّانِ مُسْلِمَانِ جَازَ النِّكَاحُ ؛ لِوُجُودِ شَرْطِهِ ، فَإِنَّ أَدْرَكَ الصَّبِيَّانِ وَعَتَقَ الْعَبْدَانِ ، وَأَسْلَمَ الْكَافِرَانِ ثُمَّ شَهِدُوا بِذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ ؛ لِأَنَّ شَرَائِطَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ إنَّمَا تُعْتَبَرُ عِنْدَ الْأَدَاءِ ، وَهُوَ مَوْجُودٌ ، وَالْعِتْقُ وَالْإِسْلَامُ وَالْبُلُوغُ لَيْسُوا مِنْ شَرَائِطِ التَّحَمُّلِ فَتَحَمُّلُهُمَا كَانَ صَحِيحًا حِينَ تَحَمَّلَا ؛ لِأَنَّ التَّحَمُّلَ لَيْسَ بِشَهَادَةٍ ، وَالْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ وَالْبُلُوغُ تُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ فَلِهَذَا جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا

( قَالَ ) : وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدٌ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا أَمْسِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا الْيَوْمَ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ ، وَإِنْ كَانَ قَوْلًا إلَّا أَنَّ مِنْ شَرَائِطِهِ مَا هُوَ فِعْلٌ ، وَهُوَ حُضُورُ الشُّهُودِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْأَفْعَالِ ، وَاخْتِلَافُ الشُّهُودِ فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ فِي الْأَفْعَالِ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ .
تَوْضِيحُهُ : أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَهِدَ بِعَقْدٍ عُقِدَ بِحُضُورِهِ وَحْدَهُ ، وَذَلِكَ فَاسِدٌ

( قَالَ : ) وَإِذَا جَحَدَ الزَّوْجُ النِّكَاحَ فَأَقَامَتْ الْمَرْأَةُ الْبَيِّنَةَ جَازَ ، وَلَمْ يَكُنْ جُحُودُهُ طَلَاقًا ، وَلَا فُرْقَةً ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ تَصَرُّفٌ فِي النِّكَاحِ ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِأَصْلِ النِّكَاحِ فَلَا يَكُونُ إنْكَارُهُ تَصَرُّفًا فِيهِ بِالرَّفْعِ وَالْقَطْعِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ بِالطَّلَاقِ يَنْتَقِصُ الْعَدَدُ ، وَبِانْتِفَاءِ أَصْلِ النِّكَاحِ لَا يَنْتَقِصُ فَإِنْ أَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ عَلَى إقْرَارِهِ بِالنِّكَاحِ جَازَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ

( قَالَ : ) وَلَوْ زَوَّجَ عَبْدَهُ أُمَّتَهُ بِغَيْرِ شُهُودٍ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ نِكَاحٌ بَيْنَ مُسْلِمَيْنِ ، وَاشْتِرَاطُ الشُّهُودِ فِي نِكَاحِ الْمُسْلِمِينَ لِإِظْهَارِ خَطَرِ الْبُضْعِ ، وَذَلِكَ الْمَعْنَى لَا يَخْتَلِفُ فِي الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَهْرِ ؛ لِأَنَّهُ عَلَى طَرِيقِ بَعْضِ مَشَايِخِنَا يَجِبُ الْمَهْرُ بِهَذَا الْعَقْدِ ؛ لِإِظْهَارِ خَطَرِ الْبُضْعِ حَقًّا لِلشَّرْعِ ثُمَّ يَسْقُطُ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَقِيَ كَانَ لِلْمَوْلَى ، وَلَا دَيْنَ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ ، وَإِنْ قُلْنَا : لَا يَجِبُ فَإِنَّمَا امْتَنَعَ وُجُوبُهُ ؛ لِوُجُودِ الْمُنَافِي لَهُ ، وَلِكَوْنِهِ غَيْرَ مُفِيدٍ ؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْوُجُوبِ الِاسْتِيفَاءُ ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الشُّهُودِ فَإِنَّ مِلْكَهُ رَقَبَتَهُمَا لَا يُنَافِي الْإِشْهَادَ عَلَى النِّكَاحِ وَيَحْصُلُ بِهِ مَا هُوَ مَقْصُودُ الْإِشْهَادِ

( قَالَ ) : وَإِنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ لَمْ يَقَعْ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا ، وَلَكِنَّهُ مُتَارَكَةٌ لِلنِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ يَسْتَدْعِي مِلْكًا لَهُ عَلَى الْمَحَلِّ ، إمَّا مِلْكُ الْعَيْنِ أَوْ مِلْكُ الْيَدِ ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ فَإِنَّ الْعِدَّةَ ، وَإِنْ وَجَبَتْ بِالدُّخُولِ لَا يَثْبُتُ مِلْكُ الْيَدِ بِاعْتِبَارِهِ ، وَلِهَذَا لَا تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ ، وَلَكِنَّهُ يَكُونُ مُتَارَكَةً فَإِنَّ الطَّلَاقَ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ يَكُونُ رَافِعًا لِلْعَقْدِ مُوجِبًا نُقْصَانَ الْعَدَدِ لَكِنْ امْتَنَعَ ثُبُوتُ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ هُنَا فَبَقِيَ عَامِلًا فِي الْآخَرِ ، وَهُوَ رَفْعُ الشُّبْهَةِ ؛ لِأَنَّ رَفْعَ الشُّبْهَةِ دُونَ رَفْعِ الْعَقْدِ ثُمَّ بَيَّنَ حُكْمَ الدُّخُولِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ ، وَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ ثَانِيَةً بِشُهُودٍ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْخِلَافَ فِيمَا سَبَقَ

( قَالَ : ) وَإِذَا قَالَ : تَزَوَّجْتُك بِغَيْرِ شُهُودٍ ، وَقَالَتْ هِيَ : تَزَوَّجْتَنِي بِشُهُودٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى أَصْلِ الْعَقْدِ فَيَكُونُ ذَلِكَ كَالِاتِّفَاقِ مِنْهُمَا عَلَى شَرَائِطِهِ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الشَّيْءِ يَتْبَعُهُ فَالِاتِّفَاقُ عَلَى الْأَصْلِ يَكُونُ اتِّفَاقًا عَلَى الشَّرْطِ ثُمَّ الْمُنْكِرُ مِنْهُمَا لِلشَّرْطِ فِي مَعْنَى الرَّاجِعِ فَإِنْ كَانَتْ هِيَ الَّتِي أَنْكَرَتْ الشُّهُودَ فَالنِّكَاحُ بَيْنَهُمَا صَحِيحٌ ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُنْكِرَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ؛ لِإِقْرَارِهِ بِالْحُرْمَةِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ تَحْرِيمِهَا عَلَى نَفْسِهِ فَجُعِلَ إقْرَارُهُ مَقْبُولًا فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ ، وَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْفُرْقَةِ مِنْ جِهَتِهِ فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَجَمِيعُ الْمُسَمَّى وَنَفَقَةُ الْعِدَّةِ إنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَنْكَرَ الزَّوْجُ أَصْلَ النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ كَذَّبَهُ فِي إنْكَارِهِ بِالْحُجَّةِ ، وَالْمُكَذَّبُ فِي زَعْمِهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا يَبْقَى لِزَعْمِهِ عِبْرَةٌ ، وَهُنَا الْقَاضِي مَا كَذَّبَهُ فِي زَعْمِهِ بِالْحُجَّةِ وَلَكِنَّهُ رَجَّحَ قَوْلَهَا لِلْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا فَبَقِيَ زَعْمُهُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّهِ فَلِهَذَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا .
( قَالَ : ) وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : تَزَوَّجْتهَا وَلَهَا زَوْجٌ أَوْ هِيَ مُعْتَدَّةٌ مِنْ غَيْرِي أَوْ هِيَ مَجُوسِيَّةٌ أَوْ أُخْتُهَا عِنْدِي أَوْ هِيَ أَمَةٌ تَزَوَّجْتهَا بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَوَانِعَ كُلَّهَا مَعْنًى فِي مَحِلِّ الْعَقْدِ ، وَالْمُحَالُ فِي حُكْمِ الشُّرُوطِ فَكَانَ هَذَا وَاخْتِلَافُهُمَا فِي الشُّهُودِ سَوَاءٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّ النِّكَاحَ كَانَ فِي صِغَرِهِ بِمُبَاشَرَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ أَصْلَ الْعَقْدِ هُنَا فَإِنَّ الصَّغِيرَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِمُبَاشَرَةِ النِّكَاحِ بِنَفْسِهِ فَإِضَافَةُ الْعَقْدِ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ تُنَافِي الْأَهْلِيَّةَ يَكُونُ إنْكَارًا لِأَصْلِ الْعَقْدِ كَمَا لَوْ

قَالَ : تَزَوَّجْتُك قَبْلَ أَنْ تُخْلَقِي أَوْ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ ، وَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ مِنْهُمَا فَلَا مَهْرَ لَهَا عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا قَبْلَ الْإِدْرَاكِ ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا قَبْلَ الْإِدْرَاكِ فَلَهَا الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى ، وَمِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ ؛ لِوُجُودِ الدُّخُولِ بِحُكْمِ النِّكَاحِ الْمَوْقُوفِ فَإِنَّ عَقْدَ الصَّغِيرِ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ وَلِيِّهِ إذَا كَانَ الْوَلِيُّ يَمْلِكُ مُبَاشَرَتَهُ ، وَإِنْ كَانَ الدُّخُولُ بَعْدَ الْإِدْرَاكِ فَهَذَا رِضًا بِذَلِكَ النِّكَاحِ ، وَبَعْدَ الْإِدْرَاكِ لَوْ أَجَازَ الْعَقْدَ الَّذِي عَقَدَهُ فِي حَالَةِ الصِّغَرِ جَازَ كَمَا لَوْ أَجَازَ وَلِيُّهُ قَبْلَ إدْرَاكِهِ فَكَذَلِكَ بِدُخُولِهِ بِهَا يَصِيرُ مُجِيزًا

( قَالَ : ) وَإِذَا زُوِّجَ الرَّجُلُ امْرَأَةً بِأَمْرِهِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فَقَالَ الْوَكِيلُ : أَشْهَدْت فِيهِ عَلَى النِّكَاحِ ، وَقَالَ الزَّوْجُ : لَمْ تُشْهِدْ فِيهِ فَإِنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ؛ لِإِقْرَارِهِ ، وَعَلَيْهِ نِصْفُ الصَّدَاقِ ؛ لِمَا قُلْنَا : إنَّ إقْرَارَهُ بِأَصْلِ عَقْدِ الْوَكِيلِ إقْرَارٌ بِشَرْطِهِ ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ الْمَرْأَةُ وَوَكِيلُهَا فِي مِثْلِ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ بِالْوَكَالَةِ وَالنِّكَاحِ فَيَكُونُ ذَلِكَ إقْرَارًا مِنْهَا بِشَرْطِ النِّكَاحِ

( قَالَ : ) وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَتْ : لَمْ تُزَوِّجْنِي لَا يَلْزَمُهَا إقْرَارُ الْوَكِيلِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى خِلَافًا لَهُمَا ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْوَكِيلِ بِالنِّكَاحِ فِي حَالِ بَقَاءِ الْوَكَالَةِ صَحِيحٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ ، وَكَذَلِكَ وَكِيلُ الزَّوْجِ إذَا أَقَرَّ بِالنِّكَاحِ ، وَجَحَدَ الزَّوْجُ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا هَكَذَا ذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ هُنَا ، وَأَعَادَ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ ، وَذَكَرَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : سَوَاءٌ النِّكَاحُ وَالْخُلْعُ وَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ فِي أَنَّ إقْرَارَ الْوَكِيلِ بِفِعْلِهِ جَائِزٌ ؛ إذَا كَانَ الْآمِرُ مُقِرًّا أَنَّهُ أَمَرَهُ بِفِعْلِهِ فَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ الطَّلَاقِ : الْخِلَافُ فِي إقْرَارِ الْوَلِيِّ عَلَى الصَّغِيرِ فِي النِّكَاحِ لَا فِي إقْرَارِ الْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ مُسَلَّطٌ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ بِاخْتِيَارِهِ فَإِقْرَارُ الْوَكِيلِ بِهِ كَإِقْرَارِ الْمُوَكِّلِ بِنَفْسِهِ فَأَمَّا الْوَلِيُّ مُسَلَّطٌ شَرْعًا ، وَالشَّرْعُ اعْتَبَرَ الشُّهُودَ فِي النِّكَاحِ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْوَلِيِّ بِغَيْرِ شُهُودٍ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْكُلِّ كَمَا ذَكَرَ هُنَا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ

بَابُ نِكَاحِ أَهْلِ الذِّمَّةِ ( قَالَ : ) رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ نِكَاحٍ يَجُوزُ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ جَائِزٌ فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ جَوَازَهُ ، وَنَحْنُ نَعْتَقِدُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِمْ أَيْضًا { فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : بُعِثْتُ إلَى الْأَحْمَرِ } وَالْأَسْوَدِ ، وَخِطَابُ الْوَاحِدِ خِطَابُ الْجَمَاعَةِ فَمَا تَوَافَقْنَا فِي اعْتِقَادِهِ يَكُونُ ثَابِتًا فِي حَقِّهِمْ ، فَأَمَّا مَا لَا يَجُوزُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ أَنْوَاعٌ مِنْهَا النِّكَاحُ بِغَيْرِ شُهُودٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ يُقَرُّونَ عَلَيْهِ إذَا أَسْلَمُوا عِنْدَنَا ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنْ يُسْلِمُوا أَوْ يَتَرَافَعُوا إلَيْنَا فَحِينَئِذٍ يُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } ؛ وَلِأَنَّهُمْ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ صَارُوا مِنَّا دَارًا ، وَالْتَزَمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ فَيَثْبُتُ فِي حَقِّهِمْ مَا هُوَ ثَابِتٌ فِي حَقِّنَا أَلَا تَرَى أَنَّ حُرْمَةَ الرِّبَا ثَابِتَةٌ فِي حَقِّهِمْ بِهَذَا الطَّرِيقِ ، فَكَذَلِكَ حُرْمَةُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : نُعْرِضُ عَنْهُمْ ؛ لِمَكَانِ عَقْدِ الذِّمَّةِ لَا لِأَنَّا نُقِرُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَمَا نَتْرُكُهُمْ وَعِبَادَةَ النَّارِ وَالْأَوْثَانِ عَلَى سَبِيلِ الْإِعْرَاضِ لَا عَلَى سَبِيلِ التَّقْرِيرِ وَالْحُكْمِ بِصِحَّةِ مَا يَفْعَلُونَ .
وَلَا نُعْرِضُ عَنْهُمْ فِي عَقْدِ الرِّبَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى عَنْ عَقْدِ الذِّمَّةِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إلَّا مَنْ أَرْبَى فَلَيْسَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ عَقْدٌ وَيُرْوَى عَهْدٌ } { ، وَكَتَبَ إلَى بَنِي نَجْرَانَ إمَّا أَنْ تَدَعُوا الرِّبَا أَوْ فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى النِّكَاحِ مِنْ حَقِّ الشَّرْعِ ، وَهُمْ لَا يُخَاطَبُونَ بِحُقُوقِ الشَّرْعِ

بِمَا هُوَ أَهَمُّ مِنْ هَذَا ؛ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ بِغَيْرِ شُهُودٍ يُجَوِّزُهُ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَمْ يَلْتَزِمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ بِجَمِيعِ الِاخْتِلَافِ ثُمَّ مِنْ الْمُنَزَّلِ أَنْ يُتْرَكَ أَهْلُ الْكِتَابِ وَمَا يَعْتَقِدُونَ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ عَلَيْهِمْ ، وَأَنَّ حُكْمَ خِطَابِ الشَّرْعِ فِي حَقِّهِمْ كَأَنَّهُ غَيْرُ نَازِلٍ ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ خِلَافَ ذَلِكَ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ يَكُونُ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَقِّهِمْ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُمْ فِيهِمَا بِهَذَا الطَّرِيقِ ، فَكَذَا مَا نَحْنُ فِيهِ بِخِلَافِ الشِّرْكِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَمْ يَحِلَّ قَطُّ وَلَنْ يَحِلَّ قَطُّ ، وَإِذَا انْعَقَدَ انْعَقَدَ فِيمَا بَيْنَهُمْ صَحِيحًا بِهَذَا الطَّرِيقِ فَمَا بَعْدَ الْمُرَافَعَةِ وَالْإِسْلَامِ حَالُ بَقَاءِ النِّكَاحِ ، وَالشُّهُودُ شَرْطُ ابْتِدَاءِ النِّكَاحِ لَا شَرْطُ الْبَقَاءِ

فَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَ ذِمِّيَّةً فِي عِدَّةِ ذِمِّيٍّ جَازَ النِّكَاحُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى لَا يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ أَسْلَمَا أَوْ تَرَافَعَا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُفَرَّقُ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ فِي الْعِدَّةِ مُجْمَعٌ عَلَى بُطْلَانِهِ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ بَاطِلًا فِي حَقِّهِمْ أَيْضًا وَلَكِنْ لَا نَتَعَرَّضُ لَهُمْ ؛ لِمَكَانِ عَقْدِ الذِّمَّةِ فَإِذَا تَرَافَعُوا أَوْ أَسْلَمُوا وَجَبَ الْحُكْمُ فِيهِمْ بِمَا هُوَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ كَمَا فِي نِكَاحِ الْمَحَارِمِ .
فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ : الْعِدَّةُ لَا تَجِبُ مِنْ الذِّمِّيِّ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا ؛ لِحَقِّ الشَّرْعِ أَوْ ؛ لِحَقِّ الزَّوْجِ ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهَا ؛ لِحَقِّ الشَّرْعِ هُنَا ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُخَاطَبُونَ بِذَلِكَ ، وَلَا لِحَقِّ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْتَقِدُ ذَلِكَ فَإِذَا لَمْ تَجِبْ الْعِدَّةُ كَانَ النِّكَاحُ صَحِيحًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْعِدَّةُ وَاجِبَةٌ ، وَلَكِنَّهَا ضَعِيفَةٌ لَا تَمْنَعُ النِّكَاحَ بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِمْ كَالِاسْتِبْرَاءِ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ النِّكَاحُ صَحِيحًا ، وَبَعْدَ الْمُرَافَعَةِ أَوْ الْإِسْلَامِ الْحَالُ حَالُ بَقَاءِ النِّكَاحِ ، وَالْعِدَّةُ لَا تَمْنَعُ بَقَاءَ النِّكَاحِ كَالْمَنْكُوحَةِ إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ مُسْلِمٍ ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْعِدَّةَ قَوِيَّةٌ وَاجِبَةٌ حَقًّا لِلزَّوْجِ

فَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَ ذَاتَ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ مِنْ أُمٍّ أَوْ بِنْتٍ أَوْ أُخْتٍ فَإِنَّهُ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُ فِي ذَلِكَ ، وَإِنْ عَلِمَهُ الْقَاضِي مَا لَمْ يَتَرَافَعُوا إلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْآخَرِ وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ أَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا إذَا عَلِمَ بِذَلِكَ ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ أَنْ فَرِّقُوا بَيْنَ الْمَجُوسِ وَبَيْنَ مَحَارِمِهِمْ ، وَامْنَعُوهُمْ مِنْ الرَّمْرَمَةِ إذَا أَكَلُوا ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : هَذَا غَيْرُ مَشْهُورٍ ، وَإِنَّمَا الْمَشْهُورُ مَا كَتَبَ بِهِ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إلَى الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا مَا بَالُ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ تَرَكُوا أَهْلَ الذِّمَّةِ ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ نِكَاحِ الْمَحَارِمِ ، وَاقْتِنَاءِ الْخُمُورِ وَالْخَنَازِيرِ فَكَتَبَ إلَيْهِ إنَّمَا بَذَلُوا الْجِزْيَةَ ؛ لِيُتْرَكُوا ، وَمَا يَعْتَقِدُونَ ، وَإِنَّمَا أَنْتَ مُتَّبِعٌ وَلَسْتَ بِمُبْتَدِعٍ ، وَالسَّلَامُ .
وَلِأَنَّ الْوُلَاةَ وَالْقُضَاةَ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ إلَى يَوْمِنَا هَذَا لَمْ يَشْتَغِلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُمْ يُبَاشِرُونَ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : لِهَذِهِ الْأَنْكِحَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ حُكْمُ الصِّحَّةِ ، وَلِهَذَا قَالَ : يُقْضَى لَهَا بِنَفَقَةِ النِّكَاحِ إذَا طَلَبَتْ ، وَلَا يَسْقُطُ إحْصَانُهُ إذَا دَخَلَ بِهَا حَتَّى إذَا أَسْلَمَ يُحَدُّ قَاذِفُهُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : هُوَ بَاطِلٌ فِي حَقِّهِمْ ، وَلَكِنَّا لَا نَتَعَرَّضُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ ؛ لِمَكَانِ عَقْدِ الذِّمَّةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْخِطَابَ بِحُرْمَةِ هَذِهِ الْأَنْكِحَةِ شَائِعٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَهُمْ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَيَكُونُ الْخِطَابُ ثَابِتًا فِي حَقِّهِمْ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْمُبَلِّغِ التَّبْلِيغُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ ، وَإِنَّمَا فِي وُسْعِهِ جَعْلُ الْخِطَابِ شَائِعًا فَيُجْعَلُ شُيُوعُ الْخِطَابِ بِمَنْزِلَةِ الْبُلُوغِ إلَيْهِمْ ، وَلَكِنْ لَا نَتَعَرَّضُ

لَهُمْ ؛ لِمَكَانِ عَقْدِ الذِّمَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَا يَتَوَارَثُونَ بِهَذِهِ الْأَنْكِحَةِ ، وَلَوْ كَانَتْ صَحِيحَةً فِي حَقِّهِمْ لَتَوَارَثُوا بِهَا ، وَأَمَّا الْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ فَقَدْ قِيلَ : الْحُرْمَةُ بِخِطَابٍ خَاصٍّ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ } إلَى قَوْله تَعَالَى { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } ، وَقِيلَ : لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْحُرْمَةِ سُقُوطُ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ ، فَالْمَالُ قَدْ يَكُونُ حَرَامًا ، وَقَدْ يَكُونُ حَلَالًا ، وَإِنَّمَا تَنْبَنِي الْمَالِيَّةُ عَلَى التَّمَوُّلِ ، وَهُمْ يَتَمَوَّلُونَ ذَلِكَ فَأَمَّا مِنْ ضَرُورَةِ حُرْمَةِ الْمَحَلِّ بُطْلَانُ النِّكَاحِ ، وَقَدْ ثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ فِي حَقِّهِمْ كَمَا بَيَّنَّا وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : لَوْ تَزَوَّجَ مَجُوسِيَّةً صَحَّ بِالِاتِّفَاقِ ، وَالْمَجُوسِيَّةُ مُحَرَّمَةُ النِّكَاحِ بِخِطَابِ الشَّرْعِ كَذَوَاتِ الْمَحَارِمِ .
، وَإِنَّمَا حَكَمْنَا بِجَوَازِهِ بَيْنَهُمْ ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ فِي حَقِّهِمْ كَأَنَّهُ غَيْرُ نَازِلٍ فَإِنَّهُمْ يُكَذِّبُونَ الْمُبَلِّغَ ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رَسُولًا ، وَقَدْ انْقَطَعَتْ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ بِالسَّيْفِ أَوْ بِالْحَاجَةِ ؛ لِمَكَانِ عَقْدِ الذِّمَّةِ فَصَارَ حُكْمُ الْخِطَابِ قَاصِرًا عَنْهُمْ ، وَشُيُوعُ الْخِطَابِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ مَنْ يَعْتَقِدُ كَوْنَ الْمُبَلِّغِ رَسُولًا فَإِذَا اعْتَقَدُوا ذَلِكَ بِأَنْ أَسْلَمُوا ثَبَتَ حُكْمُ الْخِطَابِ فِي حَقِّهِمْ ، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ لَمَّا قَصَرَ الْخِطَابُ عَنْهُمْ بَقِيَ حُكْمُ الْمَنْسُوخِ فِي حَقِّهِمْ مَا لَمْ يَثْبُتْ النَّاسِخُ ، كَمَا بَقِيَ حُكْمُ جَوَازِ الصَّلَاةِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فِي حَقِّ أَهْلِ قُبَاءَ لَمَّا لَمْ يَبْلُغْهُمْ الْخِطَابُ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ ، فَإِذَا ثَبَتَ حُكْمُ صِحَّةِ الْأَنْكِحَةِ بِهَذَا الطَّرِيقِ ثَبَتَ بِهِ مَا هُوَ مِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةِ النِّكَاحِ كَالنَّفَقَةِ ، وَبَقَاءِ الْإِحْصَانِ ، وَأَمَّا الْمِيرَاثُ فَلَيْسَ اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ مِنْ ضَرُورَةِ

صِحَّةِ النِّكَاحِ فَقَدْ يَمْتَنِعُ التَّوَارُثُ بِأَسْبَابٍ كَالرِّقِّ ، وَاخْتِلَافِ الدِّينِ مَعَ أَنَّ التَّوَارُثَ : إنَّمَا يُسْتَحَقُّ الْمِيرَاثُ عَلَى الْمُوَرِّثِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَحُكْمُ اعْتِقَادِهِ بِخِلَافِ الشَّرْعِ سَقَطَ اعْتِبَارُهُ بِالْمَوْتِ ؛ لِعِلْمِنَا أَنَّهُ قَدْ تُيُقِّنَ بِذَلِكَ ، وَلِمَا أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ فِي قَوْلِهِ { وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } فَلَا يَكُونُ اعْتِقَادُ الْوَارِثِ مُعْتَبَرًا فِي الِاسْتِحْقَاقِ عَلَيْهِ ، فَلِهَذَا لَا يَرِثُهُ بِخِلَافِ النَّفَقَةِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ ، وَبَقَاءِ الْإِحْصَانِ .
إذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فَنَقُولُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ : إنْ رَفَعَ أَحَدُهُمَا الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي وَطَلَبَ حُكْمَ الْإِسْلَامِ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا إذَا كَانَ الْآخَرُ يَأْبَى ذَلِكَ وَعِنْدَهُمَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ أَصْلَ النِّكَاحِ كَانَ بَاطِلًا ، وَلَكِنَّ تَرْكَ التَّعَرُّضِ كَانَ لِلْوَفَاءِ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ فَإِذَا رَفَعَ أَحَدُهُمَا الْأَمْرَ ، وَانْقَادَ لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا ، وَلَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا فَكَانَ إسْلَامُ أَحَدِهِمَا كَإِسْلَامِهِمَا ، فَكَذَلِكَ رَفْعُ أَحَدِهِمَا إلَيْهِ كَمُرَافَعَتِهِمَا ، وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : أَصْلُ النِّكَاحِ كَانَ صَحِيحًا فَرَفْعُ أَحَدِهِمَا إلَى الْقَاضِي ، وَمُطَالَبَتُهُ بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْآخَرِ فِي إبْطَالِ الِاسْتِحْقَاقِ الثَّابِتِ لَهُ بِاعْتِقَادِهِ بَلْ اعْتِقَادُهُ يَكُونُ مُعَارِضًا لِاعْتِقَادِ الْآخَرِ فَبَقِيَ حُكْمُ الصِّحَّةِ عَلَى مَا كَانَ بِخِلَافِ مَا إذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو ، وَلَا يُعْلَى فَلَا يَكُونُ اعْتِقَادُ الْآخَرِ مُعَارِضًا لِإِسْلَامِ الْمُسْلِمِ مِنْهُمَا ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا رَفَعَا ؛ لِأَنَّهُمَا انْقَادَا لِحُكْمِ الْإِسْلَامِ فَيَثْبُتُ حُكْمُ الْخِطَابِ فِي حَقِّهَا بِانْقِيَادِهِمَا لَهُ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ : { فَإِنْ

جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ } .
فَتَكُونُ مُرَافَعَتُهُمَا كَإِسْلَامِهِمَا ، وَبَعْدَ إسْلَامِهِمَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْمَحْرَمِيَّةَ كَمَا تُنَافِي ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ تُنَافِي الْبَقَاءَ بَعْدَمَا انْعَقَدَ صَحِيحًا كَمَا لَوْ اعْتَرَضَتْ الْمَحْرَمِيَّةُ فِي نِكَاحِ الْمُسْلِمِينَ بِرَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ

( قَالَ : ) وَإِذَا تَزَوَّجَ الذِّمِّيُّ ذِمِّيَّةً عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ بِعَيْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَلَا مَهْرَ لَهَا غَيْرُ مَا سُمِّيَ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ كَوْنُ الْمُسَمَّى مَالًا مُتَقَوِّمًا ، وَالْخَمْرُ وَالْخِنْزِيرُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْخَلِّ وَالشَّاءِ فِي حَقِّنَا ، وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَيْتَةٍ أَوْ دَمٍ أَوْ غَيْرِ شَيْءٍ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ ، لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَمَوَّلُونَ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ كَمَا لَا يَتَمَوَّلُهُمَا الْمُسْلِمُونَ ، وَلَوْ كَانَ الْمُسْلِمُ هُوَ الَّذِي تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَانَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا فَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ ، وَقِيلَ : هَذَا قَوْلُهُمَا أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : لَا شَيْءَ لَهَا إذَا كَانُوا يَدِينُونَ بِالنِّكَاحِ بِغَيْرِ مَهْرٍ إلَى هَذَا يُشِيرُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ .
وَالْخِلَافُ مَشْهُورٌ فِيمَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ لَا مَهْرَ لَهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَجِبُ الْمَهْرُ ، وَإِنْ أَسْلَمَا وَعِنْدَهُمَا لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْأَصْلِ فَإِنَّ تَقْيِيدَ الِابْتِغَاءِ بِالْمَالِ ثَبَتَ بِخِطَابِ الشَّرْعِ فَعِنْدَهُمَا يَكُونُ ثَابِتًا فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ ؛ لِشُيُوعِ الْخِطَابِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ؛ وَكَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِهَا ، وَاشْتِرَاطُهُمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ بَاطِلٌ إلَّا أَنَّهُ لَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ مَا لَمْ يُسْلِمُوا أَوْ يَرْفَعْ أَحَدُهُمْ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي بِخِلَافِ أَهْلِ الْحَرْبِ فَإِنَّ الْخِطَابَ غَيْرُ شَائِعٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ ؛ وَلِأَنَّ الْحَرْبِيَّةَ مَحَلٌّ لِلتَّمْلِيكِ بِالْقَهْرِ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ إثْبَاتِ مِلْكِ النِّكَاحِ عَلَيْهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ بِخِلَافِ الذِّمِّيَّةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : حُكْمُ هَذَا الْخِطَابِ قَاصِرٌ عَنْهُمْ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا .
فَصَحَّ الشَّرْطُ وَوَجَبَ الْوَفَاءُ بِهِ مَا لَمْ يُسْلِمُوا ، وَبَعْدَ الْإِسْلَامِ أَوْ الْمُرَافَعَةِ الْحَالُ

حَالُ بَقَاءِ النِّكَاحِ ، وَالْمَهْرُ لَيْسَ بِشَرْطِ بَقَاءِ النِّكَاحِ فَكَانَ هَذَا وَالنِّكَاحُ بِغَيْرِ شُهُودٍ سَوَاءٌ ، فَأَمَّا إذَا سَكَتَا عَنْ ذِكْرِ الْمَهْرِ فَكَذَا فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ تَمَلُّكَ الْبُضْعِ فِي حَقِّهِمْ كَتَمَلُّكِ الْمَالِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَجِبُ الْعِوَضُ إلَّا بِالشَّرْطِ ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَجِبُ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ مُعَاوَضَةُ الْبُضْعِ بِالْمَالِ فَالتَّنْصِيصُ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ الْعِوَضِ كَالتَّنْصِيصِ عَلَى الْبَيْعِ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَمَا لَمْ يُوجَدْ التَّنْصِيصُ عَلَى نَفْيِ الْعِوَضِ كَانَ الْعِوَضُ مُسْتَحَقًّا لَهَا ، وَكَذَا عِنْدَ تَسْمِيَةِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَغْوٌ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فَكَانَ هَذَا وَالسُّكُوتُ عَنْ ذِكْرِ الْمَهْرِ سَوَاءً

( قَالَ : ) وَإِذَا طَلَّقَ الذِّمِّيُّ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا ثُمَّ أَقَامَ عَلَيْهَا فَرَافَعَتْهُ إلَى السُّلْطَانِ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ الطَّلَاقَ مُزِيلٌ لِلْمِلْكِ ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَعْتَقِدُونَهُ مَحْصُورَ الْعَدَدِ فَإِمْسَاكُهُ إيَّاهَا بَعْدَ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ ظُلْمٌ مِنْهُ ، وَمَا أَعْطَيْنَاهُمْ الذِّمَّةَ لِنُقِرَّهُمْ عَلَى الظُّلْمِ أَرَأَيْت لَوْ اخْتَلَعَتْ بِمَالٍ أَكُنَّا نَدَعُهُ لِيَقُومَ عَلَيْهَا ، وَقَدْ اسْتَوْفَى مِنْهَا فَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَهَا بَعْدَ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ بِرِضَاهَا ؛ فَلِأَنَّ هَذَا وَنِكَاحَ الْمَحَارِمِ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمَحَلِّ بِخِطَابِ الشَّرْعِ كَالْمَحْرَمِيَّةِ ، وَهُمْ لَا يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ ، وَحُرْمَةُ الْمَحَلِّ بِهَذَا السَّبَبِ تَمْنَعُ بَقَاءَ النِّكَاحِ كَمَا تَمْنَعُ الِابْتِدَاءَ ، فَكَانَ كَالْمَحْرَمِيَّةِ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْرِيعَاتِ

( قَالَ : ) وَإِذَا تَزَوَّجَ الذِّمِّيُّ ذِمِّيَّةً عَلَى خَمْرٍ بِعَيْنِهَا أَوْ خِنْزِيرٍ بِعَيْنِهِ ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فَلَيْسَ لَهَا غَيْرُ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
فَإِنْ كَانَتْ الْخَمْرُ بِغَيْرِ عَيْنِهَا فَلَهَا قِيمَتُهَا ، وَفِي الْخِنْزِيرِ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فِي الْقِيَاسِ كَذَلِكَ ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ : لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ : لَهَا الْقِيمَةُ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ : لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَهُ الْأَوَّلَ ، وَقِيلَ : هُوَ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، أَمَّا حُجَّتُهُمَا فِي الْعَيْنِ : أَنَّ الْإِسْلَامَ وَرَدَ وَالْحَرَامُ مَمْلُوكٌ بِالْعَقْدِ غَيْرُ مَقْبُوضٍ فَيَمْنَعُ الْإِسْلَامُ قَبْضَهُ كَمَا فِي الْخَمْرِ الْمُشْتَرَاةِ إذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقَبْضَ يُؤَكِّدُ الْمِلْكَ الثَّابِتَ بِالْعَقْدِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّدَاقَ تَتَنَصَّفُ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَقْبُوضًا وَبَعْدَ الْقَبْضِ لَا يَعُودُ شَيْءٌ إلَى مِلْكِ الزَّوْجِ إلَّا بِقَضَاءٍ أَوْ رِضَاءٍ ، وَكَذَلِكَ الزَّوَائِدُ تَنْتَصِفُ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَلَا تَنْتَصِفُ بَعْدَهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَرَّ يَوْمُ الْفِطْرِ ، وَالصَّدَاقُ عَبْدٌ عِنْدَ الزَّوْجِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ، لَا تَجِبُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَلَيْهَا بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْقَبْضِ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ : الْإِسْلَامُ كَمَا يَمْنَعُ تَمَلُّكَ الْخَمْرِ بِالْعَقْدِ ابْتِدَاءً يَمْنَعُ تَأَكُّدَ الْمِلْكِ فِيهَا بِالْقَبْضِ ، وَبِهِ فَارَقَ الْخَمْرَ الْمَغْصُوبَةَ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الِاسْتِرْدَادِ تَأَكُّدُ الْمِلْكِ إنَّمَا فِيهِ مُجَرَّدُ النَّقْلِ مِنْ يَدٍ إلَى يَدٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : الْإِسْلَامُ وَرَدَ ، وَعَيْنُ الْمُسَمَّى مَمْلُوكٌ لَهَا مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ فِي يَدِ الزَّوْجِ فَلَا يَمْنَعُ الْإِسْلَامُ قَبْضَهُ كَالْخَمْرِ الْمَغْصُوبَةِ لَا يَمْنَعُ الْإِسْلَامُ اسْتِرْدَادَهَا ،

وَهَذَا لِأَنَّ مِلْكَهَا فِي الصَّدَاقِ يَتِمُّ بِنَفْسِ الْعَقْدِ حَتَّى تَمْلِكَ التَّصَرُّفَ فِيهِ كَيْفَ شَاءَتْ ، وَمَعَ مَنْ شَاءَتْ بِبَدَلٍ ، وَغَيْرِ بَدَلٍ فَلَيْسَ الْقَبْضُ هُنَا بِمُوجِبِ مِلْكِ التَّصَرُّفِ ، وَلَا تَمَلُّكِ الْعَيْنِ بِخِلَافِ الْمَبِيعِ فَإِنَّ بِالْقَبْضِ هُنَاكَ يُسْتَفَادُ مِلْكُ التَّصَرُّفِ ، وَالْإِسْلَامُ الْمَانِعُ مِنْهُ ؛ وَلِأَنَّ ضَمَانَ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ ضَمَانُ مِلْكٍ حَتَّى لَوْ هَلَكَ يَهْلِكُ عَلَى مِلْكِهِ فَكَانَ قَبْضُ الْمُشْتَرِي نَاقِلًا لِضَمَانِ الْمِلْكِ فَأَمَّا ضَمَانُ الْمُسَمَّى فِي يَدِ الزَّوْجِ فَلَيْسَ بِضَمَانِ مِلْكٍ حَتَّى لَوْ هَلَكَ عَلَى مِلْكِهَا ، وَلِهَذَا وَجَبَ لَهَا الْقِيمَةُ فَلَا يَكُونُ الْإِسْلَامُ مَانِعًا مِنْ الْقَبْضِ النَّاقِلِ لِلضَّمَانِ ، إذَا لَمْ يَكُنْ ضَمَانَ مِلْكٍ كَاسْتِرْدَادِ الْمَغْصُوبِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُسَمَّى بِغَيْرِ عَيْنِهِ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ هُنَاكَ مُوجِبٌ مِلْكَ الْعَيْنِ .
وَالْإِسْلَامُ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ ، وَإِذَا عَرَفْنَا هَذَا فَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا : تَعَذَّرَ بِالْإِسْلَامِ تَسْلِيمُ الْمُسَمَّى بَعْدَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْقِيمَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى الْعَبْدِ فَاسْتُحِقَّ أَوْ هَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : الْإِسْلَامُ الطَّارِئُ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ يُجْعَلُ فِي الْحُكْمِ كَالْمُقَارِنِ لِلْعَقْدِ كَمَا فِي الْبَيْعِ ، وَلَوْ اقْتَرَنَ الْإِسْلَامُ بِالْعَقْدِ وَجَبَ لَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، فَهَذَا مِثْلُهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : الْقِيَاسُ مَا قَالَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ صَحِيحَةٌ ، وَبِطَرَيَانِ الْإِسْلَامِ لَا يُتَبَيَّنُ فَسَادُ التَّسْمِيَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا اقْتَرَنَ الْإِسْلَامُ بِالْعَقْدِ فَإِنَّ التَّسْمِيَةَ هُنَاكَ مُفْسِدَةٌ ، وَبِخِلَافِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ السَّبَبِ هُنَاكَ يَفْسُدُ بِالْإِسْلَامِ الطَّارِئِ ، وَهُنَا أَصْلُ السَّبَبِ

بَاقٍ ، وَقَدْ كَانَتْ التَّسْمِيَةُ صَحِيحَةً فَإِذَا تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْمُسَمَّى كَانَ لَهَا الْقِيمَةُ ، غَيْرَ أَنِّي أَسْتَقْبِحُ إيجَابَ قِيمَةِ الْخِنْزِيرِ فَأُوجِبُ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا قِيلَ : إنَّمَا اسْتَقْبَحَ ذَلِكَ ؛ لِبُعْدِ الْخِنْزِيرِ عَنْ الْمَالِيَّةِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَعْرِفُونَ قِيمَتَهُ ، وَالرُّجُوعُ إلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي مَعْرِفَةِ قِيمَةِ الْخِنْزِيرِ ؛ لِيُقْضَى بِهِ مُسْتَقْبَحٌ ، وَلَكِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّ الْمُسْلِمَ إذَا أَتْلَفَ خِنْزِيرَ الذِّمِّيِّ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ كَمَا إذَا أَتْلَفَ خَمْرَهُ ، وَالصَّحِيحُ أَنْ يُقَالَ قِيمَةُ الْخِنْزِيرِ كَعَيْنِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ قَبْلَ الْإِسْلَامِ لَوْ أَتَاهَا بِالْقِيمَةِ أُجْبِرَتْ عَلَى الْقَبُولِ كَمَا إذَا أَتَاهَا بِالْعَيْنِ فَكَمَا تَعَذَّرَ قَبْضُ عَيْنِ الْخِنْزِيرِ بِالْإِسْلَامِ فَكَذَلِكَ الْقِيمَةُ بِخِلَافِ الْخَمْرِ .
يُقَرِّرُهُ : أَنَّ قِيمَةَ الْخِنْزِيرِ مِنْ مُوجِبَاتِ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ ، وَبِالْإِسْلَامِ قَدْ تَغَيَّرَ حُكْمُ التَّسْمِيَةِ فَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَوْفَى بَعْدَ الْإِسْلَامِ مَا لَيْسَ مِنْ مُوجِبَاتِ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ ، وَذَلِكَ مَهْرُ الْمِثْلِ فَأَمَّا قِيمَةُ الْخَمْرِ لَيْسَ مِنْ مُوجِبَاتِ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَلِهَذَا يُصَارُ إلَى قِيمَةِ الْخَمْرِ ثُمَّ إنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَفِي الْعَيْنِ لَهَا نِصْفُ الْعَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَفِي غَيْرِ الْعَيْنِ فِي الْخَمْرِ لَهَا نِصْفُ الْقِيمَةِ ، وَفِي الْخِنْزِيرِ لَهَا الْمُتْعَةُ ؛ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لَا يَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ بَلْ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ كَانَ الْوَاجِبُ مَهْرَ الْمِثْلِ قَبْلَ الطَّلَاقِ ، فَالْوَاجِبُ الْمُتْعَةُ بَعْدَ الطَّلَاقِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ فِي بَابِ الْمُهُورِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ نِصْفُ الْقِيمَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهَا الْمُتْعَةُ عَلَى كُلِّ حَالٍ

( قَالَ ) : مُسْلِمٌ تَزَوَّجَ مُسْلِمَةً عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ شَيْءٍ مِمَّا لَا يَحِلُّ كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ لَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ أَصْلِ النِّكَاحِ فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ بِغَيْرِ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ فَكَذَلِكَ مَعَ فَسَادِ التَّسْمِيَةِ ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ فَاسِدًا شَرْعًا فَذِكْرُهُ كَالسُّكُوتِ عَنْهُ فِي حُكْمِ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَتَقَدُّمُ اشْتِرَاطِهِ غَيْرُ مُبْطِلٍ لِلنِّكَاحِ ، فَإِنَّ النِّكَاحَ يَهْدِمُ الشَّرْطَ ، وَلَا يَنْهَدِمُ بِهِ هَكَذَا قَالَ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : النِّكَاحُ يَهْدِمُ الشَّرْطَ ، وَالشَّرْطُ يَهْدِمُ الْبَيْعَ ، وَإِذَا صَحَّ النِّكَاحُ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ؛ لِأَنَّ الْبُضْعَ لَا يُتَمَلَّكُ إلَّا بِعِوَضٍ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ إيجَابُ الْمُسَمَّى فَيُصَارُ إلَى الْعِوَضِ الْأَصْلِيِّ ، وَهُوَ قِيمَةُ الْبُضْعِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي بَابِ الْمُهُورِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

( قَالَ : ) وَتَجُوزُ الْمُنَاكَحَةُ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسِ ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى جَوَازِ أَصْلِ الْمُنَاكَحَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ ثُمَّ هُمْ أَهْلُ مِلَّةٍ وَاحِدَةٍ ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ نِحَلُهُمْ ؛ لِأَنَّهُ يَجْمَعُهُمْ اعْتِقَادُ الشِّرْكِ ، وَالْإِنْكَارُ ؛ لِنُبُوَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَجُوزُ الْمُنَاكَحَةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ كَأَهْلِ الْمَذَاهِبِ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَلِهَذَا جَوَّزْنَا شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ ، وَوَرَّثْنَا بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ ، ثُمَّ الْمَوْلُودُ بَيْنَهُمَا عَلَى دِينِ الْكِتَابِيِّ مِنْ الْأَبَوَيْنِ عِنْدَنَا تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ وَمُنَاكَحَتُهُ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَلَا يَحِلُّ ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ تَتَحَقَّقُ بَيْنَهُمَا ، وَأَحَدُهُمَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ ، وَالْآخَرُ الْحِلَّ فَيُغَلَّبُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ فِي شَيْءٍ إلَّا غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ } بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ لَا يُعَارِضُ الْإِسْلَامَ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ } الْحَدِيثَ ، فَقَدْ جَعَلَ اتِّفَاقَ الْأَبَوَيْنِ عِلَّةً نَاقِلَةً عَنْ أَصْلِ الْفِطْرَةِ فَيَثْبُتُ ذَلِكَ فِيمَا إذَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَبَوَانِ ، وَفِيمَا اخْتَلَفَا فِيهِ يَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْفِطْرَةِ ؛ وَلِأَنَّ حِلَّ الذَّبِيحَةِ وَالْمُنَاكَحَةِ مِنْ حُكْمِ الْإِسْلَامِ فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ اعْتِقَادَ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ يُجْعَلُ الْوَلَدُ تَبَعًا لَهُ فِي ذَلِكَ كَمَا فِي نَفْسِ الْإِسْلَامِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْيَهُودِيَّةَ إذَا قُوبِلَتْ بِالْمَجُوسِيَّةِ فَالْمَجُوسِيَّةُ شَرٌّ فَلَا تَقَعُ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَهُمَا ، وَلَكِنْ يَتَرَجَّحُ جَانِبُ التَّبَعِيَّةِ لِلْكِتَابِيِّ ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ التَّوْحِيدَ أَوْ يُظْهِرُهُ فَكَانَ فِي جَعْلِ الْوَلَدِ تَبَعًا لَهُ نَوْعُ نَظَرٍ

لِلْوَلَدِ ، وَذَلِكَ وَاجِبٌ .

( قَالَ : ) وَإِذَا زُوِّجَ صَبِيَّةٌ مِنْ صَبِيٍّ ، وَهُمَا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ جَازَ ذَلِكَ كَمَا يَجُوزُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ ثَبَتَتْ لِلْأَوْلِيَاءِ فِيمَا بَيْنَهُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ } ثُمَّ إنْ كَانَ الْمُزَوِّجُ هُوَ الْأَبُ وَالْجَدُّ ، فَلَا خِيَارَ لَهُمَا إذَا أَدْرَكَا ؛ لِشَفَقَةِ الْأُبُوَّةِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ عَلَى مَا قِيلَ : كُلُّ شَيْءٍ يُحِبُّ وَلَدَهُ حَتَّى الْحُبَارَى ، وَإِنْ كَانَ الْمُزَوِّجُ غَيْرَ الْأَبِ وَالْجَدِّ فَلَهُمَا الْخِيَارُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ

( قَالَ : ) وَإِذَا تَزَوَّجَتْ الذِّمِّيَّةُ ذِمِّيًّا فَقَالَ وَلِيُّهَا : هَذَا لَيْسَ بِكُفْءٍ لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ ذُلَّ الشِّرْكِ ، وَصَغَارَ الْجِزْيَةِ يَجْمَعُهُمْ فَلَا يَظْهَرُ مَعَ ذَلِكَ نُقْصَانُ النَّسَبِ بَلْ هُمْ أَكْفَاءٌ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ اُسْتُرِقُّوا كَانُوا أَكْفَاءً ، وَلَوْ أُعْتِقُوا كَذَلِكَ ، وَلَوْ أَسْلَمُوا كَانُوا أَكْفَاءً فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمْ فَلَا يَكُونُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُخَاصِمَ .
( قَالَ : ) إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا مَشْهُورًا يَعْنِي كَابْنَةِ مَلِكٍ مِنْهُمْ خَدَعَهَا حَائِكٌ أَوْ سَائِسٌ وَنَحْوُهُ فَهُنَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا لَا لِانْعِدَامِ الْكَفَاءَةِ بَلْ لِتَسْكِينِ الْفِتْنَةِ ؛ لِأَنَّ هَذَا يُهَيِّجُ الْفِتْنَةَ ، وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِتَسْكِينِ الْفِتْنَةِ بَيْنَهُمْ كَمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ

( قَالَ : ) وَإِذَا تَزَوَّجَ الذِّمِّيُّ مُسْلِمَةً حُرَّةً فُرِّقَ بَيْنَهُمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا } ؛ وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْإِسْلَامُ يَعْلُو ، وَلَا يُعْلَى } فَاسْتَقَرَّ الْحُكْمُ فِي الشَّرْعِ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَةَ لَا تَحِلُّ لِلْكَافِرِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ حَلَالًا فِي الِابْتِدَاءِ فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ، وَيُوجَعُ عُقُوبَةً إنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا ، وَلَا يَبْلُغُ بِهِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا وَتُعَزَّرُ الْمَرْأَةُ وَاَلَّذِي سَعَى فِيمَا بَيْنَهُمَا ، وَفِي حَقِّ الذِّمِّيِّ لَمْ يَذْكُرْ لَفْظَ التَّعْزِيرِ ؛ لِأَنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ مَعْنَى التَّطْهِيرِ وَالتَّوْقِيرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا } فَلِهَذَا قَالَ : يُوجَعُ عُقُوبَةً ، وَهَذَا لِأَنَّهُ أَسَاءَ الْأَدَبَ فِيمَا صَنَعَ ، وَاسْتَخَفَّ بِالْمُسْلِمِينَ ، وَارْتَكَبَ مَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ فَيُؤَدَّبُ عَلَى ذَلِكَ ، وَكَانَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : يُقْتَلُ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِهَذَا نَاقِضًا لِلْعَهْدِ حِينَ بَاشَرَ مَا ضَمِنَ فِي الْعَهْدِ أَنْ لَا يَفْعَلَهُ فَهُوَ نَظِيرُ الذِّمِّيِّ إذَا جَعَلَ نَفْسَهُ طَلِيعَةً لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى قَوْلِهِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : كَمَا أَنَّ الْمُسْلِمَ بِارْتِكَابِ مِثْلِهِ لَا يَصِيرُ نَاقَضَا لِأَمَانِهِ فَالذِّمِّيُّ لَا يَصِيرُ نَاقِضًا لِأَمَانِهِ فَلَا يُقْتَلُ ، وَلَكِنْ يُوجَعُ عُقُوبَةً ، وَكَذَلِكَ يُعَذَّرُ الَّذِي سَعَى بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ أَعَانَ عَلَى مَا لَا يَحِلُّ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ } ، وَهُوَ الَّذِي يَسْعَى بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَ النِّكَاحِ لَمْ يُتْرَكْ عَلَى نِكَاحِهِ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ النِّكَاحِ كَانَ بَاطِلًا فَبِالْإِسْلَامِ لَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا

( قَالَ : ) وَلَوْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ وَامْرَأَتُهُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بَقِيَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا ، وَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُمَا ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ صَحِيحٌ بَعْدَ إسْلَامِ الرَّجُلِ فَلَأَنْ يَبْقَى أَوْلَى ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ حَتَّى يُعْرَضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ فَإِنْ أَسْلَمَتْ وَإِلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي أَسْلَمَتْ ، وَالزَّوْجُ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ حَتَّى يُعْرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ فَإِنْ أَسْلَمَ ، وَإِلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِإِسْلَامِ أَحَدِهِمَا ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ يَتَوَقَّفُ وُقُوعُ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا عَلَى انْقِضَاءِ ثَلَاثِ حِيَضٍ ، وَلَا يُعْرَضُ الْإِسْلَامُ عَلَى الْآخَرِ ، وَاسْتَدَلَّ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : قَدْ ضَمِنَّا بِعَقْدِ الذِّمَّةِ أَنْ لَا نَتَعَرَّضَ لَهُمْ فِي الْخِيَارِ عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَذَلِكَ يَقْطَعُ وِلَايَةَ الْإِجْبَارِ ، وَالتَّفْرِيقُ عِنْدَنَا بِالْإِسْلَامِ ، وَلَكِنَّ النِّكَاحَ قَبْلَ الدُّخُولِ غَيْرُ مُتَأَكَّدٍ فَيَنْقَطِعُ بِنَفْسِ اخْتِلَافِ الدِّينِ ؛ إذَا كَانَ عَلَى وَجْهٍ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ ، وَبَعْدَ الدُّخُولِ النِّكَاحُ مُتَأَكَّدٌ فَلَا يَرْتَفِعُ بِنَفْسِ اخْتِلَافِ الدِّينِ حَتَّى يَنْضَمَّ إلَيْهِ مَا يُؤَثِّرُ فِي الْفُرْقَةِ ، وَهُوَ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ .
وَقَاسَ بِالطَّلَاقِ فَإِنَّ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ يَرْتَفِعُ النِّكَاحُ ، وَبَعْدَ الدُّخُولِ لَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ دِهْقَانَةَ بَهْزِ الْمَلِكِ أَسْلَمَتْ فَأَمَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُعْرَضَ الْإِسْلَامُ عَلَى زَوْجِهَا فَإِنْ أَسْلَمَ ، وَإِلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ، وَأَنَّ دِهْقَانًا أَسْلَمَ فِي عَهْدِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعُرِضَ الْإِسْلَامُ عَلَى امْرَأَتِهِ

فَأَبَتْ فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّ النِّكَاحَ كَانَ صَحِيحًا بَيْنَهُمَا فَلَا يَرْتَفِعُ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ ، وَإِسْلَامُ الْمُسْلِمِ مِنْهُمَا لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِإِثْبَاتِ الْعِصْمَةِ ، وَتَأْكِيدِ الْمِلْكِ لَهُ ، وَكَذَلِكَ كُفْرُ مَنْ أَصَرَّ مِنْهُمَا عَلَى الْكُفْرِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ هَذَا ، وَمَا كَانَ مَانِعًا لِابْتِدَاءِ النِّكَاحِ ، وَلَا بَقَائِهِ ، وَكَذَلِكَ اخْتِلَافُ الدِّينِ فَإِنَّ عَيْنَهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ كَمَا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ مُسْلِمًا ، وَالْمَرْأَةُ كِتَابِيَّةً فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَتَقَرَّرَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْفُرْقَةِ لَمَّا تَعَذَّرَ اسْتِدَامَةُ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا ، وَذَلِكَ السَّبَبُ عَرْضُ الْإِسْلَامِ عَلَى الْكَافِرِ مِنْهُمَا لَا بِطَرِيقِ الْإِجْبَارِ عَلَيْهِ ، وَلَكِنْ ؛ لِأَنَّ بِالنِّكَاحِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ فَالْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ فِي أَنْ يُسَاعِدَهَا عَلَى الْإِسْلَامِ فَإِذَا أَبَى ذَلِكَ تَعَيَّنَ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي أَبَتْ الْإِسْلَامَ حَتَّى فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا مَهْرَ لَهَا ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَيْسَ لَهَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا ، وَتَكُونُ الْفُرْقَةُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ إلَيْهَا مِنْ الطَّلَاقِ شَيْءٌ ، وَإِنَّمَا فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بِإِصْرَارِهَا عَلَى الْخُبْثِ ، وَالْخَبِيثَةُ لَا تَصْلُحُ ؛ لِلطَّيِّبِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الَّذِي أَبَى الْإِسْلَامَ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَهَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ ، وَتَكُونُ الْفُرْقَةُ بِطَلَاقٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَكُونُ فُرْقَةً بِغَيْرِ

طَلَاقٍ ، وَأَمَّا الْفُرْقَةُ بِرِدَّةِ الْمَرْأَةِ تَكُونُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَرِدَّةُ الزَّوْجِ كَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَكُونُ بِطَلَاقٍ .
وَحُجَّةُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْفَصْلَيْنِ أَنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْفُرْقَةِ يَشْتَرِكُ فِيهِ الزَّوْجَانِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَهُوَ الْإِبَاءُ وَالرِّدَّةُ ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْفُرْقَةِ تَكُونُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ كَالْفُرْقَةِ الْوَاقِعَةِ بِالْمَحْرَمِيَّةِ ، وَمِلْكِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ صَاحِبَهُ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ إلَيْهَا مِنْ الطَّلَاقِ شَيْءٌ فَكُلُّ سَبَبٍ لِلْفُرْقَةِ يَتَحَقَّقُ مِنْ جِهَتِهَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلطَّلَاقِ ، وَحُجَّةُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْفَصْلَيْنِ أَنَّ سَبَبَ الْفُرْقَةِ قَوْلٌ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ إمَّا إبَاءٌ أَوْ رِدَّةٌ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ .
وَهَذَا لِأَنَّهُ يَفُوتُ الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ بِهَذَا السَّبَبِ فَيَتَعَيَّنُ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ ، وَالتَّسْرِيحُ طَلَاقٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الْفُرْقَةَ بَيْنَ الْعِنِّينِ وَامْرَأَتِهِ تُجْعَلُ طَلَاقًا بِهَذَا الطَّرِيقِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا ، وَالْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْفُرْقَةَ بِالرِّدَّةِ كَانَتْ لِفَوَاتِ صِفَةِ الْحِلِّ ، وَذَلِكَ مُنَافٍ لِلنِّكَاحِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْفُرْقَةَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يُنَافِي النِّكَاحَ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً ، فَيَكُونُ نَظِيرَ الْمَحْرَمِيَّةِ وَالْمِلْكِ ، فَأَمَّا إبَاءُ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُنَافٍ لِلنِّكَاحِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْفُرْقَةَ بِهِ لَا تَقَعُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، وَالْفُرْقَةُ بِسَبَبٍ غَيْرِ مُنَافٍ لِلنِّكَاحِ إذَا كَانَ مُضَافًا إلَى الزَّوْجِ يَكُون طَلَاقًا .
تَوْضِيحُ الْفَرْقِ : أَنَّ فِي فَصْلِ الْإِبَاءِ لَمَّا كَانَتْ الْفُرْقَةُ لَا تَقَعُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَشْبَهَ الْفُرْقَةَ بِسَبَبِ الْعُنَّةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْقَاضِيَ يَنُوبُ

فِيهِ عَنْ الزَّوْجِ ، وَفِي مَسْأَلَةِ الرِّدَّةِ لَمَّا لَمْ تَتَوَقَّفْ الْفُرْقَةُ عَلَى الْقَضَاءِ أَشْبَهَ الْفُرْقَةَ بِسَبَبِ الْمَحْرَمِيَّةِ وَالْمِلْكِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَتِمُّ بِالْمَرْأَةِ ، وَلَيْسَ إلَيْهَا مِنْ الطَّلَاقِ شَيْءٌ ثُمَّ فِي الْفَصْلَيْنِ يَقَعُ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ ، أَمَّا فِي الْإِبَاءِ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ كَانَتْ بِالطَّلَاقِ ، وَأَمَّا فِي الرِّدَّةِ فَلِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَحَلِّ بِهَذَا السَّبَبِ غَيْرُ مُتَأَبَّدَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَرْتَفِعُ بِالْإِسْلَامِ فَيَتَوَفَّرُ عَلَى الطَّلَاقِ مَا هُوَ مُوجِبُهُ ، وَهُوَ حُرْمَةُ الْمَحَلِّ إلَى غَايَةِ إصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي ، فَلِهَذَا يَقَعُ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْمَحْرَمِيَّةِ ، فَإِنَّ حُرْمَةَ الْمَحَلِّ هُنَاكَ مُؤَبَّدَةٌ فَلَا يَظْهَرُ مَعَهَا مَا هُوَ مُوجِبُ الطَّلَاقِ

( قَالَ : ) وَإِذَا عُقِدَ النِّكَاحُ عَلَى صَبِيَّيْنِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ثُمَّ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا ، وَهُوَ يَعْقِلُ الْإِسْلَامَ صَحَّ إسْلَامُهُ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا وَيُعْرَضُ عَلَى الْآخَرِ الْإِسْلَامُ إنْ كَانَ يَعْقِلُ فَإِنْ أَسْلَمَ فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يُسْلِمَ فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الَّذِي أَسْلَمَ وَالْمَرْأَةُ كِتَابِيَّةٌ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا كَمَا لَوْ كَانَا بَالِغَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَفِي الْقِيَاسِ لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْإِبَاءَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ مُوجِبًا لِلْفُرْقَةِ مِمَّنْ يَكُونُ مُخَاطَبًا بِالْأَدَاءِ ، وَاَلَّذِي لَمْ يَبْلُغْ ، وَإِنْ كَانَ عَاقِلًا فَهُوَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِذَلِكَ ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ : كُلُّ مَنْ صَحَّ مِنْهُ الْإِسْلَامُ إذَا أَتَى بِهِ صَحَّ مِنْهُ الْإِبَاءُ إذَا عُرِضَ عَلَيْهِ ، وَعِنْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْفُرْقَةِ الصَّبِيُّ يَسْتَوِي بِالْبَالِغِ كَمَا لَوْ وَجَدَتْهُ امْرَأَتُهُ مَجْنُونًا ، وَقِيلَ : هَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَأْخُذُ بِالْقِيَاسِ ، وَهُوَ نَظِيرُ اخْتِلَافِهِمْ فِي رِدَّةِ الصَّبِيِّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَجِبُ الْفُرْقَةُ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا ، وَالْفَرْقُ لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْإِبَاءَ تَمَسُّكٌ بِمَا هُوَ عَلَيْهِ ، فَيَكُونُ صَحِيحًا مِنْهُ فَأَمَّا الرِّدَّةُ إنْشَاءٌ لِمَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا ، وَهُوَ يَضُرُّهُ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَدَّهُ الْهِبَةَ بَعْدَمَا قَبَضَ لَا يَصِحُّ وَامْتِنَاعَهُ مِنْ الْقَبُولِ فِي الِابْتِدَاءِ صَحِيحٌ ، ثُمَّ إذَا فُرِّقَ بِإِبَاءِ الزَّوْجِ ، وَكَانَ صَغِيرًا فَبَعْضُ مَشَايِخِنَا يَقُولُونَ : هَذَا لَا يَكُونُ طَلَاقًا ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الطَّلَاقِ بِخِلَافِ الْبَالِغِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ طَلَاقٌ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَقَرَّرَ فَهُوَ

نَظِيرُ الْفُرْقَةِ بِسَبَبِ الْجَبِّ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ، ثُمَّ الْعِتْقُ يَنْفُذُ مِنْ جِهَتِهِ إذَا تَقَرَّرَ سَبَبُهُ بِأَنْ وَرِثَ قَرِيبَهُ فَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ

( قَالَ : ) نَصْرَانِيٌّ تَزَوَّجَ نَصْرَانِيَّةً ثُمَّ أَنَّهَا تَمَجَّسَتْ فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا ؛ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَجُوسِيَّةً فِي الِابْتِدَاءِ صَحَّ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا ، فَكَذَلِكَ إذَا تَمَجَّسَتْ ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِنَا أَنَّهُ إذَا تَحَوَّلَ مِنْ دِينٍ إلَى دِينٍ يُتْرَكُ عَلَى مَا اعْتَقَدَ ؛ لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : قَوْلٌ مِثْلُ قَوْلِنَا ، وَقَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ يُقْتَلُ إنْ لَمْ يُسْلِمْ ؛ لِأَنَّ الْأَمَانَ لَهُ كَانَ عَلَى مَا اعْتَقَدَ فَإِذَا بَدَّلَهُ بِغَيْرِهِ لَمْ يَبْقَ لَهُ أَمَانٌ فَيُقْتَلُ إنْ لَمْ يُسْلِمْ ، وَهَذَا فَاسِدٌ فَإِنَّ الْأَمَانَ بِسَبَبِ الذِّمَّةِ كَانَ لَهُ مَعَ كُفْرِهِ ، وَمَا تَرَكَ الْكُفْرَ ، وَإِذَا كَانَ مَا اعْتَقَدَ لَا يُنَافِي ابْتِدَاءَ عَقْدِ الذِّمَّةِ لَا يَكُونُ مُنَافِيًا لِلْبَقَاءِ أَيْضًا ، وَفِي قَوْلٍ آخَرَ يَقُولُ : يُجْبَرُ عَلَى الْعَوْدِ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ كَالْمُسْلِمِ إذَا ارْتَدَّ ، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ، وَهُوَ بَعِيدٌ أَيْضًا فَإِنَّ مَا كَانَ عَلَيْهِ كَانَ كُفْرًا فَكَيْفَ يُجْبَرُ عَلَى الْعَوْدِ إلَيْهِ ؟ ، وَالنَّصْرَانِيُّ إذَا تَهَوَّدَ فَقَدْ اعْتَقَدَ التَّوْحِيدَ ظَاهِرًا ، فَكَيْفَ يُجْبَرُ عَلَى الْعَوْدِ إلَى التَّثْلِيثِ بَعْدَ مَا اعْتَقَدَ التَّوْحِيدَ ؟ ، فَإِنْ أَسْلَمَ الزَّوْجُ بَعْدَ مَا تَمَجَّسَتْ عُرِضَ عَلَيْهَا الْإِسْلَامُ كَمَا لَوْ كَانَتْ مَجُوسِيَّةً فِي الْأَصْلِ فَإِنْ أَسْلَمَتْ ، وَإِلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا .
وَإِنْ تَهَوَّدَتْ أَوْ تَنَصَّرَتْ كَانَا عَلَى النِّكَاحِ ، كَمَا لَوْ كَانَتْ يَهُودِيَّةً أَوْ نَصْرَانِيَّةً فِي الِابْتِدَاءِ ، وَإِنْ تَمَجَّسَتْ بَعْدَمَا أَسْلَمَ الزَّوْجُ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ تَمَجُّسَهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ كَرِدَّةِ الْمُسْلِمَةِ ، فَكَمَا يَتَعَجَّلُ الْفُرْقَةَ بِنَفْسِ رِدَّةِ الْمَرْأَةِ ، فَكَذَا بِتَمَجُّسِهَا بَعْدَ إسْلَامِ الزَّوْجِ

( قَالَ ) : نَصْرَانِيٌّ تَزَوَّجَ نَصْرَانِيَّةً بِشَهَادَةِ عَبْدَيْنِ كَانَ جَائِزًا ؛ إذَا كَانَ ذَلِكَ فِي دِينِهِمْ نِكَاحًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ شُهُودٍ جَازَ فَبِشَهَادَةِ الْعَبْدَيْنِ أَوْلَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ

بَابُ نِكَاحِ الْمُرْتَدِّ ( قَالَ ) : وَلَا يَجُوزُ لِلْمُرْتَدِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ مُرْتَدَّةً ، وَلَا مُسْلِمَةً ، وَلَا كَافِرَةً أَصْلِيَّةً ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَعْتَمِدُ الْمِلَّةَ ، وَلَا مِلَّةَ لِلْمُرْتَدِّ ، فَإِنَّهُ تَرَكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ غَيْرُ مُقَرٍّ عَلَى مَا اعْتَقَدَهُ ، وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ النِّكَاحَ مَشْرُوعٌ لِمَعْنَى الْبَقَاءِ ، فَإِنَّ بَقَاءَ النَّسْلِ بِهِ يَكُونُ ، وَكَذَلِكَ بَقَاءُ النُّفُوسِ بِالْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْمَعِيشَةِ ، وَالْمُرْتَدُّ مُسْتَحِقٌّ لِلْقَتْلِ فَمَا كَانَ سَبَبُ الْبَقَاءِ لَا يَكُونُ مَشْرُوعًا فِي حَقِّهِ .
وَالثَّانِي : أَنَّ قَتْلَهُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ صَارَ مُسْتَحَقًّا ، وَإِنَّمَا يُمْهَلُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ؛ لِيَتَأَمَّلَ فِيمَا عَرَضَ لَهُ مِنْ الشُّبْهَةِ فَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ جُعِلَ كَأَنَّهُ لَا حَيَاةَ لَهُ حُكْمًا فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ عَقْدُ النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ اشْتِغَالَهُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ يَشْغَلُهُ عَمَّا ؛ لِأَجْلِهِ حَيَاتُهُ ، وَهُوَ التَّأَمُّلُ ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْمُرْتَدَّةِ مَعَ أَحَدٍ ؛ لِأَنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِالتَّأَمُّلِ ؛ لِتَعُودَ إلَى الْإِسْلَامِ ، وَمَمْنُوعَةٌ مِنْ الِاشْتِغَالِ بِشَيْءٍ آخَرَ ؛ وَلِأَنَّهَا بِالرِّدَّةِ صَارَتْ مُحَرَّمَةً ، وَالنِّكَاحُ مُخْتَصُّ بِمَحَلِّ الْحِلِّ ابْتِدَاءً فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا مَعَ أَحَدٍ

( قَالَ : ) وَإِذَا ارْتَدَّ الْمُسْلِمُ بَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كِتَابِيَّةً دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : إنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ لَا يَتَوَقَّفُ انْقِطَاعُ النِّكَاحِ عَلَى انْقِضَاءِ ثَلَاثِ حِيَضٍ ، بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ تَأَكُّدِ النِّكَاحِ بِالدُّخُولِ ، وَعَدَمِ تَأَكُّدِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْإِسْلَامِ ، فَإِنَّهُ بِالرِّدَّةِ يَقْصِدُ مُنَابَذَةَ الْمِلَّةِ لَا الْحَلِيلَةِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلْفُرْقَةِ بَعْدَ تَأَكُّدِهِ ، مَا لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ سَبَبٌ آخَرُ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا وَابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِرِدَّةِ أَحَدِهِمَا قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَلَا بَعْدَهُ حَتَّى يُسْتَتَابَ الْمُرْتَدُّ فَإِنْ تَابَ فَهِيَ امْرَأَتُهُ ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ وَرِثَتْهُ ، وَجُعِلَ هَذَا قِيَاسُ إسْلَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : الرِّدَّةُ تُنَافِي النِّكَاحَ ، وَاعْتِرَاضُ سَبَبِ الْمُنَافِي لِلنِّكَاحِ مُوجِبٌ لِلْفُرْقَةِ بِنَفْسِهِ كَالْمَحْرَمِيَّةِ ، فَأَمَّا اخْتِلَافُ الدِّينِ : عَيْنُهُ لَا يُنَافِي النِّكَاحَ حَتَّى يَجُوزَ ابْتِدَاءُ النِّكَاحِ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكِتَابِيَّةِ ، وَكَذَلِكَ الْإِسْلَامُ لَا يُنَافِي النِّكَاحَ فَإِنَّ النِّكَاحَ نِعْمَةٌ .
وَبِالْإِسْلَامِ تَصِيرُ النِّعَمُ مُحْرَزَةً لَهُ فَلِهَذَا لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ هُنَاكَ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي بَعْدَ إبَاءِ الْآخَرِ ، ثُمَّ إنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُرْتَدُّ فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ إنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ، وَنَفَقَةُ الْعِدَّةِ إنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الَّتِي ارْتَدَّتْ فَلَا مَهْرَ لَهَا إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَلَيْسَ لَهَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ بَعْدَ الدُّخُولِ ، وَالْكَلَامُ فِي أَنَّ هَذِهِ الْفُرْقَةَ بِطَلَاقٍ أَوْ بِغَيْرِ طَلَاقٍ كَمَا بَيَّنَّاهُ

( قَالَ : ) وَإِذَا ارْتَدَّ الزَّوْجَانِ مَعًا فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا اسْتِحْسَانًا عِنْدَنَا ، وَفِي الْقِيَاسِ تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ فِي رِدَّتِهِمَا رِدَّةَ أَحَدِهِمَا وَزِيَادَةً ، فَإِذَا كَانَتْ رِدَّتُهَا تُنَافِي ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ تُنَافِي الْبَقَاءَ أَيْضًا ، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ ؛ لِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فَإِنَّ بَنِي حَنِيفَةَ ارْتَدُّوا بِمَنْعِ الزَّكَاةِ فَاسْتَتَابَهُمْ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمْ بِتَجْدِيدِ الْأَنْكِحَةِ بَعْدَ التَّوْبَةِ ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى سِوَاهُ ، وَلَا يُقَالُ لَعَلَّ الِارْتِدَادَ مِنْ بَعْضِهِمْ كَانَ قَبْلَ بَعْضٍ ، وَلَمْ يُشْتَغَلْ بِذَلِكَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ كُلَّ أَمْرَيْنِ لَا يُعْرَفُ التَّارِيخُ بَيْنَهُمَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا وَقَعَا مَعًا .
وَفِقْهُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ عِنْدَ رِدَّةِ أَحَدِهِمَا ؛ لِظُهُورِ خُبْثِهِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِطِيبِ الْمُسْلِمِ فَإِذَا ارْتَدَّا مَعًا لَا يَظْهَرُ هَذَا الْخُبْثُ بِالْمُقَابَلَةِ ؛ لِأَنَّهُ تَقَابُلُ الْخُبْثِ بِالْخُبْثِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَخْتَلِفْ لَهُمَا دِينٌ ، وَلَا دَارٌ فَيَبْقَى مَا كَانَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا كَانَ كَمَا إذَا أَسْلَمَ الْكَافِرَانِ مَعًا ، وَاعْتِبَارُ الْبَقَاءِ بِالِابْتِدَاءِ فَاسِدٌ فَإِنَّ الْعِدَّةَ تَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ ، وَلَا تَمْنَعُ الْبَقَاءَ ، وَلَا فَرْقَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمَحَلِّ ، وَلَكِنَّهَا غَيْرُ مُتَأَبَّدَةٍ فَإِنْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا ، وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِإِصْرَارِ الْآخَرِ عَلَى الرِّدَّةِ ؛ لِظُهُورِ خُبْثِهِ الْآنَ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِطِيبِ الْآخَرِ ، حَتَّى لَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي أَسْلَمَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الَّذِي أَسْلَمَ فَلَا شَيْءَ لَهَا ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ مِنْ جَانِبِ مَنْ أَصَرَّ عَلَى الرِّدَّةِ ، فَإِنَّ إصْرَارَهُ بَعْدَ إسْلَامِ

الْآخَرِ كَإِنْشَاءِ الرِّدَّةِ

( قَالَ ) : وَإِنْ أَسْلَمَ النَّصْرَانِيُّ ، وَامْرَأَتُهُ نَصْرَانِيَّةٌ ، ثُمَّ تَحَوَّلَتْ إلَى الْيَهُودِيَّةِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ كَمَا لَوْ كَانَتْ يَهُودِيَّةً فِي الِابْتِدَاءِ ، وَإِنْ أَسْلَمَ ، وَهِيَ مَجُوسِيَّةٌ ثُمَّ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ بَانَتْ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ بَعْدَ إسْلَامِهِ بَاقٍ مَا لَمْ يُفَرِّقْ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ أَسْلَمَتْ كَانَا عَلَى نِكَاحِهِمَا ، فَتَفَرُّدُهُ بِالرِّدَّةِ فِي حَالِ بَقَاءِ النِّكَاحِ مُوجِبٌ لِلْفُرْقَةِ ، وَكَذَلِكَ إذَا أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ الْمَجُوسِيَّةُ ثُمَّ ارْتَدَّتْ بَانَتْ مِنْهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ ارْتَدَّ الزَّوْجُ بَانَتْ مِنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَرْتَدَّ الزَّوْجُ ، وَلَمْ تُسْلِمْ هِيَ حَتَّى مَاتَ الزَّوْجُ كَانَ لَهَا الْمَهْرُ كَامِلًا دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَنْتَهِي بِالْمَوْتِ حِينَ لَمْ يُفَرِّقْ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا فَيَتَقَرَّرُ بِهِ جَمِيعُ الْمَهْرِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .

بَابُ نِكَاحِ أَهْلِ الْحَرْبِ ( قَالَ : ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَلَغَنَا عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مُنَاكَحَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ؟ فَكَرِهَ ذَلِكَ ، وَبِهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ : يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَزَوَّجَ كِتَابِيَّةً فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَلَكِنَّهُ يُكْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَهَا ثَمَّةَ رُبَّمَا يَخْتَارُ الْمُقَامَ فِيهِمْ ، وَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ لَا تَرَاءَى نَارَاهُمَا } ؛ وَلِأَنَّ فِيهِ تَعْرِيضَ وَلَدِهِ لِلرِّقِّ فَرُبَّمَا تَحْبَلُ مِنْهُ فَتُسْبَى فَيَصِيرُ مَا فِي بَطْنِهَا رَقِيقًا ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا ، وَإِذَا وَلَدَتْ تَخَلَّقَ بِأَخْلَاقِ الْكُفَّارِ ، وَفِيهِ بَعْضُ الْفِتْنَةِ فَيُكْرَهُ لِهَذَا ، فَإِنْ خَرَجَ ، وَتَرَكَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ، فَإِنَّهَا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ ، وَالزَّوْجُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَتَبَايُنُ الدَّارَيْنِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مُوجِبٌ لِلْفُرْقَةِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْفُرْقَةِ حَتَّى إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ ، وَخَرَجَ إلَى دَارِنَا فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي خَرَجَتْ مُرَاغَمَةً ، وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِالِاتِّفَاقِ عِنْدَنَا ؛ لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ .
وَعِنْدَهُ لِلْقَصْدِ إلَى الْمُرَاغَمَةِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى حَقِّ الزَّوْجِ فَإِنْ خَرَجَتْ غَيْرَ مُرَاغِمَةٍ لِزَوْجِهَا أَوْ خَرَجَ الزَّوْجُ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ عِنْدَنَا ، وَلَا تَقَعُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { فَإِنَّهُ أَسْلَمَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ فِي مُعَسْكَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ لَمْ يُجَدِّدْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّكَاحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ هِنْدُ ، وَلَمَّا فَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ هَرَبَ عِكْرِمَةُ بْنُ أَبِي جَهْلٍ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَتَّى أَسْلَمَتْ امْرَأَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَأَخَذَتْ الْأَمَانَ لِزَوْجِهَا ، وَذَهَبَتْ فَجَاءَتْ بِزَوْجِهَا ، وَلَمْ يُجَدِّدْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا ، وَإِنَّ زَيْنَبَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَاجَرَتْ إلَى الْمَدِينَةِ ثُمَّ تَبِعَهَا زَوْجُهَا أَبُو الْعَاصِ بَعْدَ سِنِينَ فَرَدَّهَا عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ } ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ اخْتِلَافَ الدَّارِ عِبَارَةٌ عَنْ تَبَايُنِ الْوِلَايَاتِ ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ ارْتِفَاعَ النِّكَاحِ كَاخْتِلَافِ الْوِلَايَتَيْنِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَرْبِيَّ لَوْ خَرَجَ إلَيْنَا مُسْتَأْمَنًا ، أَوْ الْمُسْلِمَ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ ، وَكَذَلِكَ الْخَارِجُ مِنْ مِصْرِ أَهْلِ الْعَدْلِ إلَى مَنَعَةِ أَهْلِ الْبَغْيِ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ ، وَأَصْحَابُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ } إلَى قَوْلِهِ { فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الْكُفَّارِ } ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بَيَانُ قَصْدِ الْمُرَاغَمَةِ فَاشْتِرَاطُهُ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ ، وَقَالَ تَعَالَى : { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } .
وَالْكَوَافِرُ : جَمْعُ كَافِرَةٍ مَعْنَاهُ لَا تَعُدُّوا مَنْ خَلَّفْتُمُوهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ نِسَائِكُمْ ، وَلَمَّا أَرَادَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُهَاجِرَ إلَى الْمَدِينَةِ نَادَى بِمَكَّةَ أَلَا مَنْ أَرَادَ أَنْ تَئِيمَ امْرَأَتُهُ مِنْهُ أَوْ تَبِينَ فَلْيَلْتَحِقْ بِي أَيْ : فَلْيَصْحَبْنِي فِي الْهِجْرَةِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مَنْ بَقِيَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْمَيِّتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ } أَيْ : كَافِرًا فَرَزَقْنَاهُ الْهُدَى ، أَلَا تَرَى

أَنَّ الْمُرْتَدَّ اللَّاحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ يُجْعَلُ كَالْمَيِّتِ حَتَّى يُقْسَمَ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ فَكَمَا لَا تَتَحَقَّقُ عِصْمَةُ النِّكَاحِ بَيْنَ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ ، فَكَذَلِكَ لَا تَتَحَقَّقُ عِنْدَ تَبَايُنِ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ، فَأَمَّا إذَا خَرَجَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ فَتَبَايُنُ الدَّارَيْنِ لَمْ يُوجَدْ حُكْمًا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الرُّجُوعِ إلَيْهَا ، وَكَذَلِكَ إذَا دَخَلَ الْمُسْلِمُ دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ حُكْمًا ، وَمَنَعَةُ أَهْلِ الْبَغْيِ مِنْ جُمْلَةِ دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَمَنْ فِيهَا لَا يُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ الْمَيِّتِ حُكْمًا ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَا خَرَجَ إلَّا قَاصِدًا إحْرَازَ نَفْسِهِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَلَا يُعْتَبَرُ مَعَ ذَلِكَ الْقَصْدِ إلَى الْمُرَاغَمَةِ ، وَلَوْ كَانَ خُرُوجُهَا عَلَى سَبِيلِ الْمُرَاغَمَةِ لِزَوْجِهَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِالِاتِّفَاقِ .
فَأَمَّا حَدِيثُ زَيْنَبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ رَدَّهَا عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ الْجَدِيدِ ، وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ رَدَّهَا عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ أَيْ : بِحُرْمَةِ النِّكَاحِ الْأَوَّلِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ رَدَّهَا عَلَيْهِ بَعْدَ سَنَتَيْنِ ، وَالْعِدَّةُ تَنْقَضِي فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمُدَّةِ عَادَةً ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْكُفَّارَ تَتَبَّعُوهَا وَضَرَبُوهَا حَتَّى أَسْقَطَتْ فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِذَلِكَ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ كَانَ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ تَقَعُ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، وَأَمَّا إسْلَامُ أَبِي سُفْيَانَ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَحْسُنْ إسْلَامُهُ يَوْمَئِذٍ ، وَإِنَّمَا أَجَارَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَفَاعَةِ عَمِّهِ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعِكْرِمَةُ وَحَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ إنَّمَا هَرَبَا إلَى السَّاحِلِ ، وَكَانَتْ مِنْ حُدُودِ مَكَّةَ فَلَمْ يُوجَدْ تَبَايُنُ الدَّارَيْنِ ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ : إنَّ دَارَ الْإِسْلَامِ إنَّمَا تَمَيَّزَتْ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ ، فَلَمْ يُوجَدْ

تَبَايُنُ الدَّارَيْنِ يَوْمَئِذٍ فَلِهَذَا لَمْ يُجَدِّدْ النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا ، فَأَمَّا إذَا سُبِيَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِالِاتِّفَاقِ .
فَعِنْدَنَا ؛ لِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِلسَّبْيِ حَتَّى إذَا سُبِيَا مَعًا لَمْ تَقَعْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ } مَعْنَاهُ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ مِنْ النِّسَاءِ إلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَإِنَّهَا مُحَلَّلَةٌ لَكُمْ ، وَإِنَّمَا نَزَلَتْ الْآيَةُ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ { ، وَقَدْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ أَلَا لَا تُوطَأُ الْحَبَالَى مِنْ الْفَيْءِ حَتَّى يَضَعْنَ ، وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يُسْتَبْرَأْنَ بِحَيْضَةٍ } ، وَإِنَّمَا سُبِيَ أَزْوَاجُهُنَّ مَعَهُنَّ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّ السَّبْيَ يَقْتَضِي صَفَاءَ الْمَسْبِيِّ لِلسَّابِي ، وَلِهَذَا لَا يَبْقَى الدَّيْنُ الَّذِي كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْمَسْبِيِّ ، وَإِنَّمَا يَصْفُو إذَا لَمْ يَبْقَ مِلْكُ النِّكَاحِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ السَّبْيَ سَبَبٌ لِمِلْكِ مَا يَتَحَمَّلُ التَّمَلُّكَ وَمَحَلُّ النِّكَاحِ مُحْتَمِلٌ لِلتَّمَلُّكِ فَيَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلسَّابِي ؛ لِأَنَّهُ لَوْ امْتَنَعَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ إنَّمَا يَمْتَنِعُ لِحَقِّ الزَّوْجِ ، وَهُوَ لَيْسَ بِذِي حَقٍّ مُحْتَرَمٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَسْقُطُ بِهِ مَالِكِيَّتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ مَالِهِ .
وَلِهَذَا قُلْنَا : لَوْ كَانَتْ الْمَسْبِيَّةُ مَنْكُوحَةً لِمُسْلِمٍ أَوْ لِذِمِّيٍّ لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ مُحْتَرَمٌ ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِالسَّبْيِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالْقِصَاصِ الدَّمُ ، وَهُوَ لَيْسَ بِمُحْتَمِلٍ لِلتَّمَلُّكِ ؛ وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَجِبُ إلَّا لِمُحْتَرَمٍ ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ السَّبْيَ سَبَبٌ لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ مَالًا فَلَا يَكُونُ مُبْطِلًا لِلنِّكَاحِ كَالشِّرَاءِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ فِي النِّكَاحِ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ التَّمَلُّكُ بِالسَّبْيِ مَقْصُودًا ؛ لِأَنَّ تَمَلُّكَ

الْبُضْعِ مَقْصُودًا بِسَبَبِهِ يَخْتَصُّ بِشَرَائِطَ مِنْ الشُّهُودِ وَالْوَلِيِّ ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي السَّبْيِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ هُنَا تَبَعًا لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ ، وَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ إلَّا عِنْدَ فَرَاغِ الْمَحَلِّ عَنْ حَقِّ الْغَيْرِ .
وَنَفْسُ السَّبْيِ لَيْسَ بِمُنَافٍ لِلنِّكَاحِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ لَوْ كَانَ مُحْتَرَمًا لَا يُبْطِلُ النِّكَاحَ مَعَ تَقَرُّرِ السَّبْيِ ، وَالْمُنَافِي إذَا تَقَرَّرَ فَالْمُحْتَرَمُ وَغَيْرُ الْمُحْتَرَمِ فِيهِ سَوَاءٌ ، كَمَا إذَا تَقَرَّرَ بِالْمَحْرَمِيَّةِ وَالرَّضَاعِ ؛ وَلِأَنَّ السَّبْيَ لَا يُنَافِي ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ فَلَأَنْ لَا يُنَافِي الْبَقَاءَ أَوْلَى ، وَأَمَّا الدَّيْنُ فَإِنْ كَانَ عَلَى عَبْدٍ فَسُبِيَ لَمْ يَسْقُطْ الدَّيْنُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْمَأْذُونِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى حُرٍّ فَسُبِيَ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ عَبْدًا ، وَالدَّيْنُ لَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ إلَّا شَاغِلًا مَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ ، فَكَذَلِكَ لَا يَبْقَى إلَّا شَاغِلًا لِلْمَالِيَّةِ ، وَحِينَ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْحُرِّ لَمْ يَكُنْ شَاغِلًا لِمَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ إذْ لَا مَالِيَّةَ فِي رَقَبَتِهِ ، فَلَا يُمْكِنُ إبْقَاؤُهُ إلَّا بِتِلْكَ الصِّفَةِ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ إبْقَاؤُهُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ بَعْدَ السَّبْيِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الدَّيْنُ لِمُحْتَرَمٍ لَا يَبْقَى كَذَلِكَ ، وَبِهِ يَبْطُلُ قَوْلُهُمْ : أَنَّ السَّبْيَ يَقْتَضِي صَفَاءَ الْمَسْبِيِّ لِلسَّابِي ، فَإِنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ إذَا كَانَ مُحْتَرَمًا بَقِيَ النِّكَاحُ ، وَلَا صَفَاءَ ، وَكَذَلِكَ إذَا سُبِيَ الزَّوْجُ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ ، وَهُنَا الْمِلْكُ لَهُ لَا عَلَيْهِ .
فَأَمَّا الْحَدِيثُ : فَالْمَرْوِيُّ أَنَّ الرِّجَالَ هَرَبُوا إلَى حُصُونِهِمْ ، وَإِنَّمَا سُبِيَ النِّسَاءُ وَحْدَهُنَّ ، فَقَدْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ ، وَالْآيَةُ دَلِيلُنَا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ ذَوَاتَ الْأَزْوَاجِ فَمَا لَمْ يَثْبُتْ انْقِطَاعُ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهُمَا كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَى السَّابِي بِهَذَا النَّصِّ ، إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ : إذَا خَرَجَ

الزَّوْجُ مُسْلِمًا وَتَرَكَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا ، لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا طَلَاقُهُ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ انْقَطَعَ لَا إلَى عِدَّةٍ ، فَإِنَّ بَقَاءَهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ كَمَا يُنَافِي أَصْلَ النِّكَاحِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الزَّوْجِ يُنَافِي الْعِدَّةَ ، فَلِهَذَا لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا ، وَإِنْ خَرَجَتْ الْمَرْأَةُ قَبْلَ الزَّوْجِ مُسْلِمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مُسْلِمٌ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ أَيْضًا فَلَمْ تَتَبَايَنْ بِهِمْ الدَّارُ

( قَالَ : ) حَرْبِيَّةٌ كِتَابِيَّةٌ دَخَلَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ فَتَزَوَّجَتْ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا جَازَ ذَلِكَ ، وَصَارَتْ ذِمِّيَّةً ؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِزَوْجِهَا فِي الْمُقَامِ ، فَتَزْوِيجُهَا نَفْسَهَا مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ يَكُونُ رِضًى مِنْهَا بِالْمُقَامِ فِي دَارِنَا عَلَى التَّأْبِيدِ ، فَتَصِيرُ ذِمِّيَّةً ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ كِتَابِيَّةٍ فَإِنْ تَزَوَّجَهَا ذِمِّيٌّ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ ، وَإِنْ تَزَوَّجَهَا مُسْلِمٌ لَمْ يَجُزْ النِّكَاحُ ، وَصَيْرُورَتُهَا ذِمِّيَّةً تَكُونُ ضِمْنًا لِصِحَّةِ النِّكَاحِ ، وَلَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ هُنَا ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُسْتَأْمَنِ فِي دَارِنَا إذَا تَزَوَّجَ ذِمِّيَّةً فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ ذِمِّيًّا ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ يَتْبَعُ لِلْمَرْأَةِ فِي الْمُقَامِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُقِيمًا بِإِقَامَةِ الْمَرْأَةِ ، وَالْمَرْأَةُ تَصِيرُ مُقِيمَةً بِإِقَامَةِ الزَّوْجِ ، وَمُسَافِرَةً بِسَفَرِهِ فَلِهَذَا افْتَرَقَا .

( قَالَ : ) حَرْبِيٌّ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ خَمْسُ نِسْوَةٍ وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ فَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهُنَّ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ ، وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهُنَّ فِي عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ فَنِكَاحُ الْأَرْبَعِ الْأُوَلِ جَائِزٌ ، وَنِكَاحُ الْخَامِسَةِ فَاسِدٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَالَ : مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَوَاءٌ تَزَوَّجَهُنَّ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ يُخَيَّرُ فَيَخْتَارُ أَيَّ أَرْبَعٍ مِنْهُنَّ شَاءَ وَيُفَارِقُ الْخَامِسَةَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى

وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ تَحْتَهُ أُخْتَانِ فَأَسْلَمْنَ مَعَهُ فَإِنْ تَزَوَّجَهُمَا فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ بَطَلَ نِكَاحُهُمَا ، وَلَوْ كَانَ تَزْوِيجُهُمَا فِي عَقْدَيْنِ جَازَ نِكَاحُ الْأُولَى ، وَبَطَلَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ عِنْدَهُمَا ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى : يَخْتَارُ أَيَّتَهمَا شَاءَ وَيُفَارِقُ الْأُخْرَى ، وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ { غَيْلَانَ بْنِ سَلَمَةَ أَنَّهُ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ ثَمَانُ نِسْوَةٍ ، وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ فَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتَرْ مِنْهُنَّ أَرْبَعًا ، وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ وَقَيْسُ بْنُ حَارِثَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَسْلَمَ ، وَتَحْتَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ ، وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَخْتَارَ أَرْبَعًا مِنْهُنَّ الضَّحَّاكُ بْنُ فَيْرُوزِ الدَّيْلَمِيُّ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ فَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتَرْ أَيَّتَهمَا شِئْت } ، وَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّ هَذِهِ حُرْمَةٌ اعْتَرَضَتْ فِي بَعْضِ الْمَنْكُوحَاتِ بَعْدَ صِحَّةِ النِّكَاحِ فَتُوجِبُ التَّخْيِيرَ دُونَ التَّفَرُّقِ كَمَا لَوْ طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ لَا بِعَيْنِهَا ثَلَاثًا .
وَبَيَانُ ذَلِكَ : أَنَّ الْأَنْكِحَةَ وَقَعَتْ صَحِيحَةً فِي الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْجَمْعِ بِخِطَابِ الشَّرْعِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حُكْمَ هَذَا الْخِطَابِ قَاصِرٌ عَنْهُمْ ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ بِخِلَافِ ذَلِكَ مَا لَمْ يُسْلِمُوا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَاتَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ أَوْ بَانَتْ ثُمَّ أَسْلَمَ ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ إلَّا أَرْبَعٌ مِنْهُنَّ جَازَ نِكَاحُهُنَّ سَوَاءٌ مَاتَتْ الْأُولَى أَوْ الْأَخِيرَةُ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْأَنْكِحَةَ صَحِيحَةٌ كَانَ الْعَقْدُ الْوَاحِدُ ، وَالْعُقُودُ الْمُتَفَرِّقَةُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْحَرْبِيِّ إذَا كَانَ تَحْتَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَسُبِيَ وَسُبِينَ مَعَهُ فَإِنَّ الْعَقْدَ الْوَاحِدَ ، وَالْعُقُودَ الْمُتَفَرِّقَةَ فِيهِ سَوَاءٌ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ اخْتَلَفْنَا فِي التَّفْرِيقِ أَوْ التَّخْيِيرِ ، وَفَرَّقَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ بَيْنَ أَهْلِ

الْحَرْبِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ فَقَالَ : لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْعُقُودُ فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ كَانَ الْجَوَابُ كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ خِطَابَ الشَّرْعِ بِحُكْمِ الشُّيُوعِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يُجْعَلُ ثَبَاتًا فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَتَعَرَّضُ لَهُمْ مَا لَمْ يُسْلِمُوا ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا مِنْ أَصْلِهَا وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُسَوِّي بَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ ، وَأَهْلِ الذِّمَّةِ فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ اسْتَدَلَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ } فَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ نِكَاحًا حَرَامٌ بِهَذَا النَّصِّ ، وَبِنِكَاحِ الْأُولَى مَا حَصَلَ الْجَمْعُ فَوَقَعَ نِكَاحُهَا بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ ، وَبِنِكَاحِ الثَّانِيَةِ حَصَلَ الْجَمْعُ فَلَمْ يَكُنْ نِكَاحُهَا صَحِيحًا بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الِاعْتِرَاضُ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بِسَبَبِ الْجَمْعِ إذْ لَا سَبَبَ هُنَا سِوَى الْجَمْعِ فَتَعَيَّنَ الْفَسَادُ فِي نِكَاحِ مَنْ حَصَلَ الْجَمْعُ بِنِكَاحِهَا ، وَكَانَ نِكَاحُهَا فَاسِدًا بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ دُونَ مَنْ لَمْ يَحْصُلْ بِنِكَاحِهَا الْجَمْعُ ، وَكَانَ نِكَاحُهَا صَحِيحًا بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ ، وَإِنْ تَزَوَّجَهُمَا فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ فَالْجَمْعُ حَصَلَ بِهِمَا ، وَلَمْ يَكُنْ إبْطَالُ نِكَاحِ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى ، فَبَطَلَ نِكَاحُهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْحَرْبِيَّةِ تَحْتَ رَجُلَيْنِ إذَا أَسْلَمَتْ وَأَسْلَمَا مَعَهَا ، وَكَذَلِكَ فِي نِكَاحِ الْخَمْسِ الْحُرْمَةُ بِسَبَبِ الْجَمْعِ بَيْنَ مَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ .
فَإِنَّمَا حَصَلَ ذَلِكَ بِنِكَاحِ الْخَامِسَةِ ، فَصَرْفُ الْفَسَادِ إلَيْهَا أَوْلَى ، وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهُنَّ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فَالْجَمْعُ حَصَلَ بِهِنَّ جَمِيعًا ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ مَاتَتْ إحْدَاهُنَّ أَوْ بَانَتْ ؛ لِأَنَّ الِاعْتِرَاضَ بِسَبَبِ الْجَمْعِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَقَاءِ الْجَمْعِ الْمُحَرَّمِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ حَتَّى يَجِبَ الِاعْتِرَاضُ ، وَلَمْ يَبْقَ ذَلِكَ إذَا مَاتَتْ

إحْدَاهُمَا أَوْ بَانَتْ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ تَزَوَّجَ رَضِيعَتَيْنِ فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ فَأَرْضَعَتْهُمَا بَانَتَا مِنْهُ ، وَلَوْ أَرْضَعَتْ إحْدَاهُمَا فَمَاتَتْ ثُمَّ أَرْضَعَتْ الْأُخْرَى لَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ إرْضَاعِ الثَّانِيَةِ فَإِذَا كَانَتْ الْأُولَى فِي نِكَاحِهِ تَحَقَّقَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ، وَإِنْ مَاتَتْ أَوْ بَانَتْ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَسْبِيَّاتِ ، فَإِنَّ نِكَاحَ الْأَرْبَعِ هُنَاكَ وَقَعَ صَحِيحًا بِحُكْمِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ تَزَوَّجَهُنَّ كَانَ حُرًّا ، وَلِلْحُرِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ ثُمَّ وَجَبَ الِاعْتِرَاضُ بِسَبَبِ الرِّقِّ الْحَادِثِ فِيهِ ، وَعِنْدَ حُدُوثِ الرِّقِّ هُنَّ مُجْتَمِعَاتٌ مُسْتَوِيَاتٌ ، فَلِهَذَا اسْتَوَى الْعَقْدُ الْوَاحِدُ ، وَالْعُقُودُ الْمُتَفَرِّقَةُ بِمَنْزِلَةِ الرَّضِيعَتَيْنِ إذَا أَرْضَعَتْهُمَا امْرَأَةٌ بَانَتَا مِنْهُ ، وَإِنْ تَزَوَّجَهُمَا فِي عَقْدَيْنِ ؛ لِأَنَّ الِاعْتِرَاضَ وَجَبَ بَعْدَ صِحَّةِ النِّكَاحِ بالأختية الْعَارِضَةِ فِيهَا ، وَهُمَا مُسْتَوِيَانِ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَالْأَحَادِيثُ الَّتِي رُوِيَتْ فَقَدْ قَالَ مَكْحُولٌ : إنَّ تِلْكَ كَانَتْ قَبْلَ نُزُولِ الْفَرَائِضِ مَعْنَاهُ : قَبْلَ نُزُولِ حُرْمَةِ الْجَمْعِ فَوَقَعَتْ الْأَنْكِحَةُ صَحِيحَةً مُطْلَقًا ثُمَّ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاخْتِيَارِ الْأَرْبَعِ ؛ لِتَجْدِيدِ الْعَقْدِ عَلَيْهِنَّ ، أَوْ لَمَّا كَانَتْ الْأَنْكِحَةُ صَحِيحَةً فِي الْأَصْلِ جَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى مِنْ تَحْرِيمِ الْجَمْعِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ : وَطَلِّقْ سَائِرَهُنَّ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَحْكُمْ بِالْفُرْقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعِ

وَعَلَى هَذَا لَوْ أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ بِنْتٌ وَأُمٌّ فَأَسْلَمَتَا مَعَهُ فَإِنْ كَانَ تَزْوِيجُهُمَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ بَطَلَ نِكَاحُهُمَا ثُمَّ إنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْبِنْتَ دُونَ الْأُمِّ ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهِمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْأُخْرَى بِالْمُصَاهَرَةِ عَلَى التَّأْبِيدِ ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِالْأُمِّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ حُرِّمَتْ بِعَقْدِ الْبِنْتِ ، وَالْبِنْتُ حُرِّمَتْ بِالدُّخُولِ بِالْأُمِّ ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِالْبِنْتِ دُونَ الْأُمِّ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْبِنْتَ دُونَ الْأُمِّ ؛ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ عَلَى الْأُمِّ لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْبِنْتِ ، وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهُمَا فِي عَقْدَيْنِ فَنِكَاحُ الْأُولَى جَائِزٌ ، وَنِكَاحُ الثَّانِيَةِ فَاسِدٌ إنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا ، وَكَذَلِكَ إنْ دَخَلَ بِالْأُولَى فَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِالثَّانِيَةِ فَإِنْ كَانَتْ الْأُولَى بِنْتًا فَسَدَ نِكَاحُهُمَا ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ حُرِّمَتْ بِالْعَقْدِ عَلَى الْبِنْتِ وَالْبِنْتُ حُرِّمَتْ بِالدُّخُولِ بِالْأُمِّ ، وَإِنْ كَانَتْ الْأُولَى أُمًّا فَنِكَاحُ الْبِنْتِ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ بِالْبِنْتِ يُحَرِّمُ الْأُمَّ ، وَالْعَقْدُ عَلَى الْأُمِّ لَا يُحَرِّمُ الْبِنْتَ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَوَاءٌ تَزَوَّجَهُمَا فِي عُقْدَةٍ أَوْ فِي عَقْدَيْنِ ، فَنِكَاحُ الْبِنْتِ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْأُمِّ لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْبِنْتِ ، وَالْعَقْدُ عَلَى الْبِنْتِ يُوجِبُ حُرْمَةَ الْأُمِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ دَخَلَ بِالْأُمِّ فَحِينَئِذٍ يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا ، وَهَذَا إذَا كَانَ دُخُولُهُ بِالْأُمِّ بَعْدَمَا تَزَوَّجَ بِالْبِنْتِ ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْبِنْتَ فَنِكَاحُ الْأُمِّ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ بِهَا يُحَرِّمُ الْبِنْتَ فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُ الْبِنْتِ لَا تُحَرَّمُ الْأُمُّ بِذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ دَخَلَ بِالْبِنْتِ أَيْضًا فَحِينَئِذٍ تَقَعُ

الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا بِالْمُصَاهَرَةِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا .

( قَالَ : ) وَإِنْ أَسْلَمَ الْحَرْبِيُّ وَامْرَأَتُهُ ، وَقَدْ كَانَ نِكَاحُهُمَا بَعْدَ أَنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ أَنْ تَنْكِحَ زَوْجًا آخَرَ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثَ تَقَعُ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَمَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ ذَلِكَ ، وَهِيَ سَبَبُ حُرْمَةِ الْمَحَلِّ إلَى وَقْتِ إصَابَةِ الزَّوْجِ الثَّانِي بِمَنْزِلَةِ الْحُرْمَةِ بِالْقَرَابَةِ وَالرَّضَاعِ ، فَكَمَا أَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُ التَّفْرِيقَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ فَكَذَلِكَ هُنَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَامَعَ أُمَّهَا أَوْ ابْنَتَهَا أَوْ قَبَّلَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا بِشَهْوَةٍ ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِسَبَبِ الْمُصَاهَرَةِ نَظِيرُ الْحُرْمَةِ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَمَا يَتَحَقَّقُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَهَذَا مِثْلُهُ .

( قَالَ : ) وَإِذَا أَسْلَمَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَلَمْ يَكُونَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ كَانَا وَالْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي أَسْلَمَتْ فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ انْقِطَاعُ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا عَلَى انْقِضَاءِ ثَلَاثِ حِيَضٍ عِنْدَنَا سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ تَقَعُ الْفُرْقَةُ بِإِسْلَامِ أَحَدِهِمَا ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ يَتَوَقَّفُ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، وَعِنْدَهُ لَا يَخْتَلِفُ هَذَا الْحُكْمُ بِدَارِ الْحَرْبِ وَدَارِ الْإِسْلَامِ ، وَلَكِنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى تَأَكُّدِ النِّكَاحِ بِالدُّخُولِ وَعَدَمِ تَأَكُّدِهِ كَمَا ذَكَرْنَا ، فَأَمَّا عِنْدَنَا : نَفْسُ إسْلَامِ أَحَدِهِمَا غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْفُرْقَةِ ، وَلَا كُفْرُ مَنْ أَصَرَّ مِنْهُمَا عَلَى الْكُفْرِ ، وَلَا اخْتِلَافُ الدِّينِ نَفْسِهِ كَمَا بَيَّنَّا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، إلَّا أَنَّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يُمْكِنُ تَقْرِيرُ سَبَبِ الْفُرْقَةِ بِعَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْآخَرِ مِنْهُمَا حَتَّى إذَا أَبَى يَصِيرُ مُفَوِّتًا الْإِمْسَاكَ بِالْمَعْرُوفِ ، وَفِي دَارِ الْحَرْبِ لَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ يَدَ إمَامِ الْمُسْلِمِينَ لَا تَصِلُ إلَى الْمُصِرِّ مِنْهُمَا ؛ لِيَعْرِضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ ؛ وَيَحْكُمَ بِالْفُرْقَةِ عِنْدَ إبَائِهِ فَيُقَامُ ثَلَاثُ حَيْضَاتٍ مَقَامَ ثَلَاثِ عَرْضَاتٍ فِي تَقَرُّرِ سَبَبِ الْفُرْقَةِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ غَيْرَ مُرِيدٍ لَهَا حِينَ لَمْ يُسَاعِدْهَا عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَبَعْدَمَا صَارَ غَيْرَ مُرِيدٍ لَهَا تَقَعُ بِانْقِضَاءِ ثَلَاثِ حِيَضٍ .
كَمَا لَوْ طَلَّقَهَا إلَّا أَنَّهُ هُنَاكَ إذَا كَانَ الطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْفُرْقَةِ بِنَفْسِهِ ؛ لِمُبَاشَرَةِ الزَّوْجِ سَبَبَ الْفُرْقَةِ وَهُنَا لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْفُرْقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِدُونِ انْقِضَاءِ ثَلَاثِ حِيَضٍ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مَا بَاشَرَ شَيْئًا بَلْ هُوَ مُسْتَدِيمٌ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ فَلِهَذَا يَتَوَقَّفُ انْقِطَاعُ النِّكَاحِ عَلَى انْقِضَاءِ ثَلَاثِ حِيَضٍ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا ، وَإِذَا وَقَعَتْ

الْفُرْقَةُ بِذَلِكَ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ ، وَالْمَرْأَةُ حَرْبِيَّةٌ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الشَّرْعِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهَا فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الْمُسْلِمَةَ فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْعِدَّةَ عَلَى الْمُسْلِمَةِ مِنْ الْحَرْبِيِّ ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمُهَاجِرَةِ فَإِنَّهَا إذَا خَرَجَتْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ مُسْلِمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً لَمْ تَلْزَمْهَا الْعِدَّةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا فَحِينَئِذٍ لَا تَتَزَوَّجُ حَتَّى تَضَعَ حَمْلَهَا .
وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا فَلَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ فِي الْحَالِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَلْزَمُهَا الْعِدَّةُ ، وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ نَسِيبَةَ { أَنَّهَا لَمَّا هَاجَرَتْ أَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَعْتَدَّ } ، وَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّهُ هَذِهِ حُرَّةٌ فَارَقَتْ زَوْجَهَا بَعْدَ الْإِصَابَةِ فَتَلْزَمُهَا الْعِدَّةُ كَالْمُطَلَّقَةِ فِي دَارِنَا ؛ وَهَذَا لِأَنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا لِحَقِّ الشَّرْعِ كَيْ لَا يَجْتَمِعَ مَاءُ رَجُلَيْنِ فِي رَحِمِهَا ، وَهِيَ مُسْلِمَةٌ مُخَاطَبَةٌ بِحَقِّ الشَّرْعِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَسْبِيَّةِ فَإِنَّهَا لَيْسَتْ بِحُرَّةٍ ، وَتَأْثِيرُهُ أَنَّهَا حَلَّتْ لِلسَّابِي ، وَمِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ بِحِلِّهَا لِلسَّابِي الْحُكْمُ بِفَرَاغِ رَحِمِهَا مِنْ مَاءِ الزَّوْجِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ ، وَلَا يُقَالُ : لِمَاذَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ عَلَى السَّابِي ؟ لِأَنَّا نَقُولُ : كَمَا يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ عَلَى السَّابِي إذَا كَانَتْ ثَيِّبًا أَوْ مَنْكُوحَةً فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ بِكْرًا أَوْ لَمْ تَكُنْ مَنْكُوحَةً ، فَكَذَا هَذَا مَعَ أَنَّ هَذَا دَلِيلُنَا ؛ لِأَنَّ بِالِاسْتِبْرَاءِ هُنَاكَ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ فَلَا حَاجَةَ إلَى إيجَابِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا بِخِلَافِ الْمُهَاجِرَةِ .
وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّ

بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } فَاَللَّهُ تَعَالَى أَبَاحَ نِكَاحَ الْمُهَاجِرَةِ مُطْلَقًا ، فَتَقْيِيدُ ذَلِكَ بِمَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ يَكُونُ زِيَادَةً ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ } ، وَفِي إيجَابِ الْعِدَّةِ تَمَسُّكٌ بِعِصْمَةِ الْكَافِرَةِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّ هَذِهِ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ فَلَا تُوجِبُ الْعِدَّةَ عَلَيْهَا وَكَالْمَسْبِيَّةِ ؛ هَذَا لِأَنَّ تَبَايُنَ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا مُنَافٍ لِلنِّكَاحِ ، فَيَكُونُ مُنَافِيًا لِأَثَرِ النِّكَاحِ فَلَا تَجِبُ الْعِدَّةُ لِحَقِّ الشَّرْعِ مَعَ وُجُودِ الْمُنَافِي ، وَلَا لِحَقِّ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهُ حَرْبِيٌّ غَيْرُ مُحْتَرَمٍ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ اشْتَرَى امْرَأَتَهُ لَا تَجِبُ الْعِدَّةُ لِحَقِّهِ ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ الثَّابِتَ بِالْمِلْكِ حَقُّهُ ، وَلَا تَجِبُ لِحَقِّ الشَّرْعِ ؛ لِوُجُودِ الْمُنَافِي فَأَمَّا إذَا كَانَتْ حَامِلًا فَلَا نَقُولُ : تَجِبُ الْعِدَّةُ عَلَيْهَا ، وَلَكِنَّهَا لَا تَتَزَوَّجُ مَا لَمْ تَضَعْ حَمْلَهَا ؛ لِأَنَّ فِي بَطْنِهَا وَلَدًا ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ ، وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ النِّكَاحِ كَأُمِّ الْوَلَدِ إذَا حَبِلَتْ مِنْ مَوْلَاهَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا حَتَّى تَضَعَ .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا إذَا تَزَوَّجَتْ صَحَّ النِّكَاحُ ، وَلَكِنْ لَا يَقْرَبُهَا زَوْجُهَا حَتَّى تَضَعَ ؛ لِأَنَّهُ لَا حُرْمَةَ لِمَاءِ الْحَرْبِيِّ كَمَاءِ الزَّانِي فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَاءِ الزَّانِي ، وَالْحَبَلُ مِنْ الزِّنَا لَا يَمْنَعُ النِّكَاحَ عِنْدَنَا ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْحَبَلَ مِنْ الزِّنَا لَا نَسَبَ لَهُ ، وَهُنَا النَّسَبُ ثَابِتٌ مِنْ الْحَرْبِيِّ ، وَبِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ النَّسَبِ الْمَحَلُّ مَشْغُولٌ فَلِهَذَا لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ مَا لَمْ يَفْرُغْ الْمَحَلُّ عَنْ حَقِّ الْغَيْرِ ، وَيَسْتَوِي فِي وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ إنْ خَرَجَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ خَرَجَ مُسْتَأْمَنًا

ثُمَّ أَسْلَمَ أَوْ صَارَ ذِمِّيًّا ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا حَقِيقَةً وَحُكْمًا فِي الْفَصْلَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ الْخَارِجُ هُوَ الزَّوْجَ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا سِوَاهَا أَوْ أُخْتَهَا إنْ كَانَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهُ لَا عِدَّةَ عَلَى الَّتِي بَقِيَتْ فِي دَارِ الْحَرْبِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْفُرْقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَإِذَا أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ ثُمَّ خَرَجَ الزَّوْجُ مُسْتَأْمَنًا فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ مَا لَمْ تَحِضْ ثَلَاثَ حِيَضٍ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ ، وَإِنْ كَانَ فِي دَارِنَا صُورَةً مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ حُكْمًا فَكَأَنَّهُ بَاقٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى إذَا أَسْلَمَ الزَّوْجُ قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ ، وَإِنْ صَارَ الزَّوْجُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ أَيْضًا ، حَتَّى إذَا خَرَجَتْ الْمَرْأَةُ فَهِيَ امْرَأَتُهُ حَتَّى يَعْرِضَ السُّلْطَانُ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ فِي الْأَصْلِ ذِمِّيًّا ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ خَرَجَتْ إلَيْنَا ذِمِّيَّةً قَبْلَ أَنْ تَحِيضَ ثَلَاثَ حِيَضٍ فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ حَتَّى يَعْرِضَ السُّلْطَانُ عَلَيْهَا الْإِسْلَامَ .
فَأَمَّا إذَا خَرَجَا مُسْتَأْمَنَيْنِ ثُمَّ أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ فَفِي رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ يَتَوَقَّفُ انْقِطَاعُ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا عَلَى انْقِضَاءِ ثَلَاثِ حِيَضٍ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ الطَّلَاقِ يَقُولُ : إنْ عَرَضَ السُّلْطَانُ الْإِسْلَامَ عَلَى الزَّوْجِ فَأَبَى أَنْ يُسْلِمَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِضْ حَتَّى مَضَى ثَلَاثُ حِيَضٍ تَقَعُ الْفُرْقَةُ أَيْضًا فَفِي حَقِّ الذِّمِّيِّ يَتَعَيَّنُ عَرْضُ الْإِسْلَامِ ، وَفِي حَقِّ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ يَتَعَيَّنُ انْقِضَاءُ ثَلَاثِ حِيَضٍ ، وَفِي حَقِّ الْمُسْتَأْمَنِ أَيُّ الْأَمْرَيْنِ يُوجَدُ تَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ مِنْ

وَجْهٍ يُشْبِهُ الذِّمِّيَّ ؛ لِأَنَّهُ تَحْتَ يَدِ الْإِمَامِ يَتَمَكَّنُ مِنْ عَرْضِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ ، وَمِنْ وَجْهٍ يُشْبِهُ الْحَرْبِيَّ ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَيُوَفَّرُ حَظُّهُ عَلَى الشَّبَهَيْنِ ؛ فَلِشَبَهِهِ بِالذِّمِّيِّ إذَا وُجِدَ عَرْضُ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ تَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ ؛ وَلِشَبَهِهِ بِالْحَرْبِيِّ إذَا وُجِدَ انْقِضَاءُ ثَلَاثِ حِيَضٍ أَوَّلًا تَقَعُ بِهِ الْفُرْقَةُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ

بَابُ الْهِبَةِ فِي النِّكَاحِ ( قَالَ : ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النِّكَاحُ بِلَفْظَةِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالتَّمْلِيكِ صُحِّحَ فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : لَا يَصِحُّ إلَّا بِلَفْظَةِ النِّكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } فَقَدْ جَعَلَ النِّكَاحَ بِلَفْظَةِ الْهِبَةِ خَالِصًا لِلرَّسُولِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ، وَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُوصِيكُمْ بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ اتَّخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ } ، وَكَلِمَةُ اللَّهِ الَّتِي أُمِرْنَا بِالِاسْتِحْلَالِ بِهَا : الْإِنْكَاحُ وَالتَّزْوِيجُ ، وَفِي قَوْلِهِ : { اتَّخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ } إشَارَةٌ إلَى أَنَّ هَذَا الْعَقْدَ غَيْرُ مَعْقُودٍ لِمَقْصُودِ إثْبَاتِ الْمِلْكِ ، وَلِهَذَا انْعَقَدَ بِلَفْظَةِ الْإِنْكَاحِ وَالتَّزْوِيجِ ، وَهُمَا لَا يَدُلَّانِ عَلَى الْمِلْكِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِهِمَا شَيْءٌ مِنْ عُقُودِ التَّمْلِيكَاتِ ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ بِالنِّكَاحِ مَا لَا يُحْصَى مِنْ مَصَالِحِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا ، وَأَلْفَاظُ التَّمْلِيكِ لَا تَدُلُّ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلَا يَنْعَقِدُ بِهَا هَذَا الْعَقْدُ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ هَذَا عَقْدٌ خَاصٌّ فَلَا يَنْعَقِدُ بِغَيْرِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّهَادَةَ لَمَّا شُرِعَتْ بِلَفْظٍ خَاصٍّ لِمَعْنًى ، وَهُوَ أَنَّهَا مُوجِبَةٌ بِنَفْسِهَا كَمَا أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ فِي قَوْلِهِ : { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا هُوَ } لَمْ يَقُمْ لَفْظٌ آخَرُ مَقَامَ هَذَا اللَّفْظِ حَتَّى لَوْ قَالَ الشَّاهِدُ : أَحْلِفُ ؛ لَا يَصِحُّ أَدَاءُ الشَّهَادَةِ بِهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ التَّزْوِيجَ هُوَ التَّعْلِيقُ ، وَالنِّكَاحُ هُوَ الضَّمُّ ، وَلَيْسَ فِيهِمَا مَا يَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ ، وَلَيْسَ فِي التَّمْلِيكِ مَعْنَى التَّلْفِيقِ وَالضَّمِّ ، فَلَا يَنْعَقِدُ هَذَا اللَّفْظُ بِأَلْفَاظِ التَّمْلِيكِ

، وَكَيْفَ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِهَذَا اللَّفْظِ ، وَالْفُرْقَةُ تَقَعُ بِهِ ؟ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : وَهَبْتُ نَفْسَكِ مِنْكِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ لَفْظِ الطَّلَاقِ ، مَعَ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَصِحُّ إلَّا بِشُهُودٍ ، وَعِنْدَ ذِكْرِ لَفْظِ الْهِبَةِ الشُّهُودُ لَا يَعْرِفُونَ أَنَّهُمَا أَرَادَا النِّكَاحَ ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَامْرَأَةٌ مُؤْمِنَةٌ إنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْنَاهُ : إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا فَوَهَبَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْهِبَةَ جَوَابًا لِلِاسْتِنْكَاحِ ، وَالِاسْتِنْكَاحُ طَلَبُ النِّكَاحِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ : { خَالِصَةً لَك } فَقَدْ قِيلَ : الْمُرَادُ بِهِ الْمَرْأَةُ يَعْنِي أَنَّهَا خَالِصَةٌ لَك فَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدَك حَتَّى يَكُونَ شَرِيكَك فِي الْفِرَاشِ مِنْ حَيْثُ الزَّمَانِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ ، وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا } ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمُرَادَ هِبَةٌ خَالِصَةٌ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : { إنْ وَهَبَتْ } يَقْتَضِي هِبَةً ، وَالْكِنَايَةُ تَنْصَرِفُ إلَى الثَّابِتِ بِمُقْتَضَى الْكَلَامِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى هِبَةً خَالِصَةً لَا يَلْزَمُك مَهْرٌ لَهَا ، وَهَذَا لَك دُونَ الْمُؤْمِنِينَ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ : { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ } يَعْنِي مِنْ الِابْتِغَاءِ بِالْمَالِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَابَلَ الْمَوْهُوبَةَ نَفْسَهَا بِالْمُؤْتَى مَهْرُهَا بِقَوْلِهِ : { إنَّا أَحْلَلْنَا لَك أَزْوَاجَك } ، وَكَذَلِكَ قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ : { لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَيْك حَرَجٌ } ، وَهُوَ نَصٌّ عَلَى أَنَّ الْخُصُوصِيَّةَ ؛ لِدَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُ ، وَذَلِكَ لَيْسَ فِي اللَّفْظِ إذْ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي ذِكْرِ لَفْظِ النِّكَاحِ ، إنَّمَا الْحَرَجُ فِي إبْقَاءِ الْمَهْرِ مَعَ أَنَّ الْمَذْكُورَ لَفْظَةُ الْهِبَةِ فِي جَانِبِ الْمَرْأَةِ لَا فِي جَانِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ

الْخُصُوصِيَّةُ بِجِوَارِ نِكَاحِهِ بِغَيْرِ مَهْرٍ .
وَإِمَامُنَا فِي الْمَسْأَلَةِ عَلِيٌّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَإِنَّ رَجُلًا وَهَبَ ابْنَتَهُ لِعُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ الْحُرِّ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ فَأَجَازَ ذَلِكَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّ هَذَا مِلْكٌ يُسْتَبَاحُ بِهِ الْوَطْءُ فَيَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ ، وَالتَّمْلِيكِ كَمِلْكِ الْيَمِينِ ، وَهَذَا كَلَامٌ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِدْلَالِ لَا عَلَى سَبِيلِ الْمُقَايَسَةِ ؛ لِأَنَّ صَلَاحِيَةَ اللَّفْظِ كِنَايَةٌ عَنْ غَيْرِهِ ، وَلَيْسَ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ ؛ لِيُعْرَفَ بِالْقِيَاسِ بَلْ طَرِيقُ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ ، النَّظَرُ فِي كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ ، وَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى مَذْهَبِهِمْ فِي الِاسْتِعَارَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَعِيرُونَ اللَّفْظَ لِغَيْرِهِ ؛ لِاتِّصَالٍ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ السَّبَبِيَّةُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا } أَيْ : عِنَبًا بِالْعَصْرِ يَصِيرُ خَمْرًا ، وَيُسَمِّي الْمَطَرَ سَمَاءً ؛ لِأَنَّهُ يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ ، وَمَا يَكُونُ مِنْ عُلُوٍّ فَالْعَرَبُ تُسَمِّيهِ سَمَاءً ، وَكَذَلِكَ النَّبَاتُ يُسَمَّى سَمَاءٌ ؛ لِأَنَّهُ يَنْبُتُ بِسَبَبِ الْمَطَرِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ : مَا زِلْنَا نَطَأُ السَّمَاءَ حَتَّى أَتَيْنَاكُمْ ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ : هَذِهِ الْأَلْفَاظُ سَبَبٌ لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ ، وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ فِي مَحَلِّ مِلْكِ الْمُتْعَةِ مُوجِبٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ فَلِلِاتِّصَالِ بَيْنَهُمَا سَبَبًا يَصْلُحُ هَذَا اللَّفْظُ كِنَايَةً عَنْ مِلْكِ الْمُتْعَةِ ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ النِّكَاحِ مِلْكُ الْمُتْعَةِ دُونَ سِوَاهُ مِنْ الْمَقَاصِدِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِهِ الزَّوْجُ حَتَّى يَجِبَ الْبَدَلُ عَلَيْهِ ، وَسَائِرُ الْمَقَاصِدِ يَحْصُلُ لَهُمَا ، وَإِنَّ مِلْكَ الطَّلَاقِ الرَّافِعِ لِهَذَا الْمِلْكِ يَخْتَصُّ بِهِ الزَّوْجُ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْمِلْكُ دُونَ مَا تَوَهَّمَهُ الْخَصْمُ .
وَإِنَّمَا انْعَقَدَ بِلَفْظِ النِّكَاحِ ، وَالتَّزْوِيجِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَفْظَانِ جُعِلَا عَلَمًا لِهَذَا الْعَقْدِ بِالنَّصِّ ، وَاعْتِبَارِ

الْمَعْنَى فِي غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ، فَأَمَّا فِي الْمَنْصُوصِ لَا يُعْتَبَرُ الْمَعْنَى مَعَ أَنَّهُمَا لَفْظَانِ لِإِيجَابِ مِلْكِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ فَلِهَذَا لَا تَأْثِيرَ لَهُمَا فِي إثْبَاتِ مِلْكِ الْمَالِ ، وَمَتَى صَارَ اللَّفْظُ كِنَايَةً عَنْ غَيْرِهِ سَقَطَ اعْتِبَارُ حَقِيقَتِهِ ، وَقَامَ مَقَامَ اللَّفْظِ الَّذِي جُعِلَ كِنَايَةً عَنْهُ ، وَالشَّرْطُ سَمَاعُ الشَّاهِدَيْنِ اللَّفْظَ الَّذِي يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ فَأَمَّا وُقُوفُهُمَا عَلَى مَقْصُودِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَيْسَ بِشَرْطٍ مَعَ أَنَّهُ إذَا قَالَ : وَهَبْت ابْنَتِي مِنْك بِصَدَاقِ كَذَا ، فَالشُّهُودُ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ أَرَادَ النِّكَاحَ ، وَكَمَا أَنَّ الْفُرْقَةَ تَحْصُلُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ تَحْصُلُ بِلَفْظِ الزَّوْجِيَّةِ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : تَزَوَّجِي وَنَوَى بِهِ الطَّلَاقَ يَقَعُ ، وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ .

فَأَمَّا لَفْظُ الْبَيْعِ فَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ قَالَ : إذَا زَنَى بِامْرَأَةٍ ثُمَّ قَالَ : تَزَوَّجْتهَا أَوْ اشْتَرَيْتهَا ، وَهَذَا لِلْفِقْهِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّ الْبَيْعَ يُوجِبُ مِلْكًا هُوَ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ فِي مَحَلِّهِ ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الْأَعْمَشُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهُ خَالِصٌ لِتَمْلِيكِ مَالٍ بِمَالٍ ، وَالْمَمْلُوكُ بِالنِّكَاحِ لَيْسَ بِمَالٍ .

فَأَمَّا لَفْظَةُ الْإِجَارَةِ لَا يَنْعَقِدُ بِهَا النِّكَاحُ ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُوجِبَةٍ مِلْكًا يُسْتَفَادُ بِهِ مِلْكُ الْمُتْعَةِ فَإِنَّهَا تُوجِبُ مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ ، وَبِمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ لَا يُسْتَفَادُ مِلْكُ الْمُتْعَةِ ، وَيُحْكَى عَنْ الْكَرْخِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : يَنْعَقِدُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالنِّكَاحِ مَنْفَعَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَإِنْ جُعِلَ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ ، وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْعِوَضَ فِي النِّكَاحِ أَجْرًا بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِجَارَةِ ، وَلَكِنَّ هَذَا فَاسِدٌ ، فَإِنَّ الْإِجَارَةَ شَرْعًا لَا تَنْعَقِدُ إلَّا مُؤَقَّتًا ، وَالنِّكَاحُ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا مُؤَبَّدًا فَبَيْنَهُمَا مُغَايَرَةٌ عَلَى سَبِيلِ الْمُنَافَاةِ .

فَأَمَّا لَفْظُ الْوَصِيَّةِ لَا يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ بَلْ مُوجِبُهُ الْخِلَافَةُ مُضَافَةً إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَلَوْ صَرَّحَ بِلَفْظِ النِّكَاحِ مُضَافًا إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَصِحُّ أَيْضًا فَإِنْ قِيلَ : الْهِبَةُ أَيْضًا لَا تُوجِبُ الْمِلْكَ مَا لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ الْقَبْضُ قُلْنَا الْهِبَةُ لَا تُوجِبُ إضَافَةَ الْمِلْكِ ، وَلَكِنْ لِضَعْفٍ فِي السَّبَبِ لِتَعَرِّيهِ عَنْ الْعِوَضِ يَتَأَخَّرُ الْمِلْكُ إلَى أَنْ يَتَقَوَّى بِالْقَبْضِ ، وَيَنْعَدِمَ ذَلِكَ الضَّعْفُ إذَا اُسْتُعْمِلَ فِي النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ يَجِبُ بِهِ بِنَفْسِهِ ، وَلِهَذَا جَازَ اسْتِعْمَالُهُ فِي حَقِّ الصَّغِيرَةِ ، وَالْكَبِيرَةِ فَلِهَذَا كَانَ مُوجِبًا مِلْكَ النِّكَاحِ بِنَفْسِهِ مَعَ أَنَّ الْمَمْلُوكَ بِالنِّكَاحِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ يَصِيرُ كَالْمَقْبُوضِ ، وَلِهَذَا لَوْ مَاتَتْ عَقِيبَ الْعَقْدِ تَعَذَّرَ الْبَدَلُ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ هِبَةِ عَيْنٍ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَيُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ .
فَأَمَّا لَفْظُ الْإِحْلَالِ ، وَالتَّمَتُّعِ لَا يُوجِبُ مِلْكًا أَصْلًا فَإِنَّ مَنْ أَحَلَّ لِغَيْرِهِ طَعَامًا أَوْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَتَمَتَّعَ بِهِ لَا يَمْلِكُهُ ، وَإِنَّمَا يُتْلِفُهُ عَلَى مِلْكِ الْمُبِيحِ ، فَكَذَلِكَ إذَا اُسْتُعْمِلَ هَذَا اللَّفْظُ فِي مَوْضِعِ النِّكَاحِ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْمِلْكُ ، وَأَمَّا الْإِعَارَةُ فَكَذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ مِلْكًا يُسْتَفَادُ بِهِ مِلْكُ الْمُتْعَةِ ، وَالْإِقْرَاضُ فِي مَعْنَى الْإِعَارَةِ مَعَ أَنَّ الْإِقْرَاضَ فِي مَحَلِّ مِلْكِ الْمُتْعَةِ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ مِلْكِ الْمُتْعَةِ الْآدَمِيُّ ، وَالِاسْتِقْرَاضُ فِي الْحَيَوَانِ لَا يَجُوزُ فَلِهَذَا لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ ، بِخِلَافِ لَفْظَةِ الْهِبَةِ ، وَالصَّدَقَةِ ، وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ تَنْعَقِدُ الشُّبْهَةُ فَيَسْقُطُ بِهِ الْحَدُّ ، وَيَجِبُ الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى ، وَمِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ عِنْدَ الدُّخُولِ

( قَالَ : ) وَلَوْ قَالَ : أَتَزَوَّجُك بِكَذَا فَقَالَتْ : قَدْ فَعَلْت فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهَا : قَدْ تَزَوَّجْتُك ؛ لِأَنَّهَا أَخْرَجَتْ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الْجَوَابِ لِخِطَابِهِ ، فَيَصِيرُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخِطَابِ كَالْمُعَادِ فِيهِ ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ قَبِلْت ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَبَقَ وَذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ إذَا قَالَ : جِئْتُك خَاطِبًا فَقَالَتْ : قَدْ فَعَلْت أَوْ زَوَّجْتُك نَفْسِي كَانَ نِكَاحًا تَامًّا ، وَفِي الْكِتَابِ يَقُولُ : إذَا قَالَ : خَطَبْتُك إلَى نَفْسِك بِكَذَا فَقَالَتْ : زَوَّجْتُك نَفْسِي فَهُوَ نِكَاحٌ جَائِزٌ إذَا كَانَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الشُّهُودِ ؛ لِأَنَّ هَذَا كَلَامُ النَّاسِ ، وَلَيْسَ بِقِيَاسِ مَعْنَاهُ أَنَّهُ بِلَفْظِ الْخِطْبَةِ لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ فِي الْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّ الْخِطْبَةَ غَيْرُ الْعَقْدِ ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ : الْمُرَادُ بِهِ فِي عَادَةِ النَّاسِ الْعَقْدُ ، فَلِأَجْلِ الْفَرْقِ الظَّاهِرِ جَعَلْنَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ النِّكَاحِ اسْتِحْسَانًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .

بَابُ الْمُهُورِ ( قَالَ : ) وَعَقْدُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ جَائِزٌ ، وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا مِنْ نِسَائِهَا لَا وَكْسَ ، وَلَا شَطَطَ إنْ دَخَلَ بِهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا ، وَهَذَا مَذْهَبُنَا أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ يَجِبُ لِلْمُفَوِّضَةِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ، وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ لَا يَجِبُ الْمَهْرُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بِالتَّرَاضِي أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا مَهْرَ لَهَا عِنْدَهُ ، وَمَشَايِخُهُمْ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مُخْتَلِفُونَ فِيمَا إذَا دَخَلَ بِهَا ، وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ الْمَهْرُ بِالدُّخُولِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَا يَجِبُ بِالدُّخُولِ أَيْضًا ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا : حَسْبُهَا الْمِيرَاثُ ، وَلَا مَهْرَ لَهَا ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهَا جَادَتْ بِحَقِّهَا ، وَهِيَ مِنْ أَهْلِ الْجُودِ فَيَصِحُّ مِنْهَا كَمَا لَوْ وَهَبَتْ شَيْئًا مِنْ مَالِهَا ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالنِّكَاحِ إمَّا أَنْ يَكُونَ فِي حُكْمِ الْمَنْفَعَةِ كَمَا هُوَ مَذْهَبِي أَوْ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُكُمْ فَإِنْ كَانَ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ فَبَدَلُهُ بِمَنْزِلَةِ أَرْشِ الطَّرَفِ يُخَلَّصُ حَقًّا لَهَا ، وَيَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهَا ، وَإِنْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَنْفَعَةِ فَبَدَلُ الْمَنْفَعَةِ لَهَا ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا تَمْلِكُ الْإِبْرَاءَ عَنْ الْمَهْرِ ، وَالشِّرَاءَ بِهِ شَيْئًا ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُ ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا لَا يَجِبُ الْمَهْرُ ؛ لِأَنَّهَا كَمَا رَضِيَتْ بِثُبُوتِ الْمِلْكِ عَلَيْهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ فَقَدْ رَضِيَتْ بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ ، وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّ فِيمَا يَجِبُ بِالِاسْتِيفَاءِ مَعْنَى حَقِّ الشَّرْعِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَا يَجِبُ بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْعُقُوبَةِ ، وَهُوَ حَدُّ الزِّنَا يَكُونُ خَالِصَ حَقِّ الشَّرْعِ .
فَكَذَلِكَ الْمَالُ الَّذِي يَجِبُ عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ لَا يَسْقُطُ بِرِضَاهَا بِالِاسْتِيفَاءِ بِغَيْرِ عِوَضٍ ،

وَإِلَى هَذَا أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } ؛ وَلِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ فِي النِّكَاحِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ حَتَّى لَا يَنْعَقِدَ النِّكَاحُ إلَّا بِذِكْرِهِمَا ، فَأَمَّا الْمَهْرُ لَيْسَ بِعِوَضٍ أَصْلِيٍّ ، وَلَكِنَّهُ زَائِدٌ وَجَبَ لَهَا بِإِزَاءِ احْتِبَاسِهَا عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ النَّفَقَةِ ، وَمِثْلُ هَذَا يَحْتَمِلُ التَّعْجِيلَ ، وَالتَّأْجِيلَ ، وَلَكِنَّ النِّكَاحَ كَمَا لَا يَنْعَقِدُ إلَّا مُوجِبًا لِهَذَا الْمِلْكِ عَلَيْهَا لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِشَرْطِ التَّعْوِيضِ فَتَارَةً يُتَعَجَّلُ الْعِوَضُ بِالتَّسْمِيَةِ وَتَارَةً يَتَأَخَّرُ إلَى التَّأَكُّدِ بِالدُّخُولِ أَوْ الْفَرْضِ بِالتَّرَاضِي أَوْ بِالْقَضَاءِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مِلْكَ الْيَمِينِ تَارَةً يَثْبُتُ بِعِوَضٍ وَاجِبٍ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، وَتَارَةً بِشَرْطِ التَّعْوِيضِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا بِنَفْسِ السَّبَبِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لَا يَنْتَصِفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَمَا كَانَ وَاجِبًا بِنَفْسِ الْعَقْدِ يَتَنَصَّفُ كَالْمُسَمَّى ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ { أَنَّ سَائِلًا سَأَلَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنْ هَذَا فَجَعَلَ يَرْدُدْهُ شَهْرًا ، ثُمَّ قَالَ : أَقُولُ فِيهِ بِنَفْسِي فَإِنْ يَكُ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَإِنْ يَكُ خَطَأً فَمِنْ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ ، وَفِي رِوَايَةٍ فَمِنِّي ، وَمِنْ الشَّيْطَانِ ، وَاَللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْهُ بَرِيئَانِ أَرَى لَهَا مَهْرَ مِثْلِ نِسَائِهَا لَا وَكْسَ ، وَلَا شَطَطَ فَقَامَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ مَعْقِلُ بْنُ سِنَانٍ أَوْ مَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ وَأَبُو الْجَرَّاحِ صَاحِبُ الْأَشْجَعِينَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ : نَشْهَدُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَضَى فِي امْرَأَةٍ مِنَّا يُقَالُ لَهَا : بِرْوَعُ بِنْتُ وَاشِقٍ الْأَشْجَعِيَّةُ بِمِثْلِ قَضِيَّتِك هَذِهِ فَسُرَّ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِذَلِكَ سُرُورًا لَمْ يُسَرَّ قَطُّ مِثْلَهُ بَعْدَ إسْلَامِهِ ؛ لَمَّا وَافَقَ قَضَاؤُهُ قَضَاءَ رَسُولِ اللَّهِ } صَلَّى

اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَاَلَّذِي رُوِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ رَدَّ هَذَا الْحَدِيثَ ، وَقَالَ : مَاذَا نَصْنَعُ بِقَوْلِ أَعْرَابِيٍّ بَوَّالٍ عَلَى عَقِبَيْهِ إنَّمَا رَدَّهُ ؛ لِمَذْهَبٍ تَفَرَّدَ بِهِ ، وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ يُحَلِّفُ الرَّاوِيَ ، وَلَمْ يَرَ هَذَا الرَّجُلَ حَتَّى يُحَلِّفَهُ ، وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِذَلِكَ .
وَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ بِالْمَهْرِ فَإِذَا انْعَقَدَ صَحِيحًا كَانَ مُوجِبًا لِلْعِوَضِ كَالْبَيْعِ ، وَكَمَا لَوْ زَوَّجَ الْأَبُ ابْنَتَهُ بِغَيْرِ مَهْرٍ ، وَبَيَانُ الْوَصْفِ قَوْله تَعَالَى : { أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ } يَعْنِي تَبْتَغُوا مِلْكَ النِّكَاحِ عَلَى النِّسَاءِ بِالْمَالِ ، وَحَرْفُ الْبَاءِ يَصْحَبُ الْأَعْوَاضَ فَدَلَّ أَنَّ الْعِوَضَ الْأَصْلِيَّ هُوَ الْمَهْرُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَثْبُتُ لَهَا حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِالْفَرْضِ ، وَالْفَرْضُ عِبَارَةٌ عَنْ التَّقْدِيرِ ، وَالْمُطَالَبَةُ بِالتَّقْدِيرِ تَنْبَنِي عَلَى وُجُوبِ الْأَصْلِ ، فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَمْ يَجِبْ الْأَصْلُ بِالْعَقْدِ لَا تَثْبُتُ الْمُطَالَبَةُ بِالتَّقْدِيرِ ، كَمَا فِي مِلْكِ الْيَمِينِ بِطَرِيقِ الْهِبَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّ أَصْلَ الْوُجُوبِ بِالْعَقْدِ شَرْعًا ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ : { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ } أَضَافَ إلَى نَفْسِهِ ، وَبَيَّنَ خُصُوصِيَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنِّكَاحِ بِغَيْرِ مَهْرٍ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ فِي غَيْرِهِ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا مُوجِبًا لِلْمَهْرِ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ لَا نِكَاحَ إلَّا بِمَهْرٍ وَشُهُودٍ إلَّا مَا كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهَا تَحْبِسُ نَفْسَهَا ؛ لِاسْتِيفَاءِ الْمَهْرِ ، وَلَا تَحْبِسُ الْمُبْدَلَ إلَّا بِبَدَلٍ وَاجِبٍ وَإِنْ بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا يَجِبُ .
وَلَا وَجْهَ لِإِنْكَارِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ ، وَالدُّخُولُ تَصَرُّفٌ فِي الْمِلْكِ فَإِذَا ثَبَتَ

الْمِلْكُ بِغَيْرِ عِوَضٍ لَا يَجِبُ الْعِوَضُ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَلَا مَعْنَى لِمَا يَقُولُ : إنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ بِشَرْطِ التَّعْوِيضِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بِمُعَاوَضَةِ الْمَالِ ؛ إظْهَارًا لِخَطَرِ هَذَا الْمِلْكِ ، وَهُنَا إظْهَارُ الْخَطَرِ إنَّمَا يَظْهَرُ إذَا وَجَبَ الْبَدَلُ بِنَفْسِ الْمِلْكِ ، فَكَمَا أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَحْتَمِلُ التَّأَخُّرَ عَنْ حَالَةِ الْعَقْدِ ، فَكَذَلِكَ وُجُوبُ الْبَدَلِ إلَّا فِي حَقِّ مَنْ قُصِرَ عَنْهُ حُكْمُ هَذَا الْخِطَابِ ، وَهُمْ أَهْلُ الذِّمَّةِ كَمَا بَيَّنَّا .
وَالطَّلَاقُ قَبْلَ الدُّخُولِ مُسْقِطٌ ؛ لِأَنَّهُ رَفْعٌ لِلْعَقْدِ مِنْ الْأَصْلِ فَيَكُونُ مُسْقِطًا لِلْعِوَضِ ، وَسُقُوطُ الْعِوَضِ عِنْدَ وُجُودِ الْمُسْقِطِ لَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا بِالْعَقْدِ ، وَتَنَصُّفُ الْمُسَمَّى بِالطَّلَاقِ حُكْمٌ ثَبَتَ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ ، وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْمُسَمَّى تَأَكَّدَ بِالتَّسْمِيَةِ ، وَالْعَقْدِ جَمِيعًا فَلِتَأَكُّدِهِ لَا يَسْقُطُ كُلُّهُ لَا بِالطَّلَاقِ ، وَلَا بِالْمَوْتِ ، وَالنَّفَقَةُ ضَعِيفَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ بِالتَّسْمِيَةِ ، وَلَا بِنَفْسِ الْعَقْدِ وَتَسْقُطُ بِالطَّلَاقِ ، وَالْمَوْتِ جَمِيعًا وَمَهْرُ الْمِثْلِ ضَعِيفٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسَمًّى فِي الْعَقْدِ ، وَقَوِيٌّ مِنْ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، فَلِقُوَّتِهِ مِنْ وَجْهٍ لَا يَسْقُطُ بِالْمَوْتِ ، وَلِضَعْفِهِ مِنْ وَجْهٍ يَسْقُطُ كُلُّهُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ : نِسَاؤُهَا اللَّاتِي يُعْتَبَرُ مَهْرُهَا بِمُهُورِهِنَّ عَشِيرَتُهَا مِنْ قِبَلِ أَبِيهَا كَأَخَوَاتِهَا وَعَمَّاتِهَا ، وَبَنَاتِ عَمَّاتِهَا عِنْدَنَا ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : أُمُّهَا وَقَوْمُ أُمِّهَا كَالْخَالَاتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ قِيمَةُ بُضْعِ النِّسَاءِ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ قَرَابَتُهَا مِنْ النِّسَاءِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : قِيمَةُ الشَّيْءِ إنَّمَا تُعْرَفُ بِالرُّجُوعِ إلَى قِيمَةِ جِنْسِهِ ، وَالْإِنْسَانُ مِنْ

جِنْسِ قَوْمِ أَبِيهِ لَا مِنْ جِنْسِ قَوْمِ أُمِّهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأُمَّ قَدْ تَكُونُ أَمَةً ، وَالْبِنْتُ تَكُونُ قُرَشِيَّةً تَبَعًا لِأَبِيهَا فَلِهَذَا اُعْتُبِرَ عَشِيرَتُهَا مِنْ قِبَلِ أَبِيهَا ، وَلَا يُعْتَبَرُ مَهْرُهَا بِمَهْرِ أُمِّهَا إلَّا أَنْ تَكُونَ أُمُّهَا مِنْ قَوْمِ أَبِيهَا بِأَنْ كَانَتْ بِنْتَ عَمِّهِ ، فَحِينَئِذٍ يُعْتَبَرُ مَهْرُهَا لَا ؛ لِأَنَّهَا أُمُّهَا بَلْ ؛ لِأَنَّهَا بِنْتُ عَمِّ أَبِيهَا ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْ عَشِيرَتِهَا امْرَأَةٌ هِيَ مِثْلُهَا فِي الْحُسْنِ ، وَالْجَمَالِ وَالسِّنِّ ، وَالْمَالِ وَالْبَكَارَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُهُورَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِمَالِهَا وَجَمَالِهَا } الْحَدِيثَ ، وَكَذَلِكَ يُعْتَبَرُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْمَرْأَةُ مِنْ بَلْدَتِهَا ، وَلَا يُعْتَبَرُ مَهْرُهَا بِمَهْرِ عَشِيرَتِهَا فِي بَلْدَةٍ أُخْرَى ؛ لِأَنَّ الْمُهُورَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ عَادَةً .
وَفِي الْحَاصِلِ مَهْرُ الْمِثْلِ قِيمَةُ الْبُضْعِ ، وَقِيمَةُ الشَّيْءِ إنَّمَا تُعْرَفُ بِالرُّجُوعِ إلَى نَظِيرِهِ بِصِفَتِهِ قَالَ : فَإِنْ فَرَضَ لَهَا الزَّوْجُ بَعْدَ الْعَقْدِ مَهْرًا فَرَضِيَتْ بِهِ أَوْ رَافَعَتْهُ إلَى الْقَاضِي فَفَرَضَ لَهَا مَهْرًا فَهُوَ سَوَاءٌ ، وَلَهَا ذَلِكَ إنْ دَخَلَ بِهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا ، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَوَّلِ : لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ الْمَفْرُوضِ بَعْدَ الْعَقْدِ ، وَهَذَا وَالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ سَوَاءٌ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ : لَهَا الْمُتْعَةُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ بَعْدَ الْعَقْدِ يُقَدَّرُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لَا يَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ ؛ وَلِأَنَّ تَنَصُّفَ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ بِالطَّلَاقِ حُكْمٌ ثَبَتَ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ ، وَالْمَفْرُوضُ بَعْدَ الْعَقْدِ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ ؛ لِأَنَّهُ ، وَإِنْ اسْتَنَدَ حُكْمُهُ إلَى وَقْتِ الْعَقْدِ لَا

يَصِيرُ كَالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَهْرٍ مُسَمًّى ثُمَّ زَادَهَا فِي الْمَهْرِ بَعْدَ الْعَقْدِ فَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَوَّلِ : تَتَنَصَّفُ الزِّيَادَةُ ، وَالْأَصْلُ بِالطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ بَعْدَ الْعَقْدِ مِثْلُ الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } أَيْ : مِنْ فَرِيضَةٍ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ ، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ : لَا يَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ إلَّا الْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ خَاصَّةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } أَيْ : سَمَّيْتُمْ فِي الْعَقْدِ فَأَمَّا الزِّيَادَةُ بَعْدَ الْعَقْدِ تَسْقُطُ كُلُّهَا بِالطَّلَاقِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى .

( قَالَ : ) وَإِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي الْمَهْرِ فَقَالَ الزَّوْجُ : أَلْفٌ ، وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ : أَلْفَانِ فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى : يُحَكَّمُ مَهْرُ مِثْلِهَا ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى : الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِشَيْءٍ مُسْتَنْكَرٍ جِدًّا ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا : أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي بَدَلِ عَقْدٍ لَا يَتَحَمَّلُ الْفَسْخَ بِالْإِقَالَةِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ لِلزِّيَادَةِ كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي بَدَلِ الْخُلْعِ ، وَالْعِتْقِ بِمَالٍ ، وَلَا مَعْنَى لِلْمَصِيرِ إلَى تَحْكِيمِ مَهْرِ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّ وُجُودَ مَهْرِ الْمِثْلِ عِنْدَ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ ، وَهُنَا مَعَ اخْتِلَافِهِمَا اتَّفَقَا عَلَى أَصْلِ الْمُسَمَّى ، وَذَلِكَ مَانِعُ وُجُوبِ مَهْرِ الْمِثْلِ ، وَلَا مَعْنَى لِلتَّحَالُفِ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ التَّحَالُفَ لِفَسْخِ الْعَقْدِ بَعْدَ تَمَامِهِ ، وَالنِّكَاحُ لَا يَتَحَمَّلُ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْفَسْخِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ كَانَ لَهَا نِصْفُ مَا يَقُولُهُ الزَّوْجُ ، وَلَا يُصَارُ إلَى تَحْكِيمِ الْمُتْعَةِ فَكَذَا فِي حَالِ قِيَامِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الْمُتْعَةَ بَعْدَ الطَّلَاقِ مُوجِبُ نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ كَمَهْرِ الْمِثْلِ قَبْلَهُ ، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا لِصِحَّةِ النِّكَاحِ فِي الشَّرْعِ مُوجِبٌ ، وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ لَا تَقَعُ الْبَرَاءَةُ عَنْهُ إلَّا بِتَسْمِيَةٍ صَحِيحَةٍ فَعِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي الْمُسَمَّى يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَى الْمُوجِبِ الْأَصْلِيِّ كَالصَّبَّاغِ وَرَبِّ الثَّوْبِ إذَا اخْتَلَفَا فِي الْأَجْرِ فَإِنَّهُ يُصَارُ إلَى تَحْكِيمِ قِيمَةِ الصِّبْغِ لِهَذَا الْمَعْنَى ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْقَصَّارِ وَرَبِّ الثَّوْبِ إذَا اخْتَلَفَا فِي الْأَجْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِعَمَلِ الْقَصَّارِ مُوجِبٌ بِدُونِ التَّسْمِيَةِ ثُمَّ النِّكَاحُ عَقْدٌ مُحْتَمِلٌ لِلْفَسْخِ فَإِنَّهُ يُفْسَخُ بِخِيَارِ الْعِتْقِ ، وَبِخِيَارِ الْبُلُوغِ وَعَدَمِ الْكَفَاءَةِ ،

وَيُسْتَحَقُّ فِيهِ التَّسْلِيمُ ، وَالتَّسَلُّمُ فَيُشْبِهُ الْبَيْعَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَإِذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الْبَدَلِ يَجِبُ التَّحَالُفُ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ بِمَالٍ ، وَالْعِتْقِ بِمَالٍ .
وَأَمَّا إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ يُصَارُ إلَى تَحْكِيمِ الْمُتْعَةِ عَلَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَامِعِ ، وَوَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي الْمِائَةِ ، وَالْمِائَتَيْنِ فَأَمَّا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْأَلْفِ ، وَالْأَلْفَيْنِ ، وَالْمُتْعَةُ لَا تَزِيدُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ فَلِهَذَا قَالَ : لَهَا نِصْفُ مَا يَقُولُهُ الزَّوْجُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصَارَ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ قَبْلَ الطَّلَاقِ ، وَلَا يُصَارُ إلَى الْمُتْعَةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ كَمَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ وَكَرَامَةٍ يَكُونُ لَهَا نِصْفُ الْأَلْفِ بَعْدَ الطَّلَاقِ ، وَيَكُونُ لَهَا كَمَالُ مَهْرِ الْمِثْلِ قَبْلَ الطَّلَاقِ إذَا لَمْ يَفِ بِمَا شَرَطَ لَهَا مِنْ الْكَرَامَةِ ، وَفِي مَعْنَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِشَيْءٍ مُسْتَنْكَرٍ جِدًّا قَوْلَانِ لِمَشَايِخِنَا .
أَحَدُهُمَا : أَنْ يَدَّعِيَ مَا دُونَ الْعَشَرَةِ فَإِنَّهُ مُسْتَنْكَرٌ شَرْعًا ؛ لِأَنَّهُ لَا مَهْرَ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ مُرَادَهُ أَنْ يَدَّعِيَ شَيْئًا قَلِيلًا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَتَزَوَّجُ مِثْلَ تِلْكَ الْمَرْأَةِ عَلَى ذَلِكَ الْمَهْرِ عَادَةً ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ هَذَا اللَّفْظَ فِي الْبَيْعِ أَيْضًا فِيمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ بَعْدَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي إلَّا أَنْ يَأْتِيَ بِشَيْءٍ مُسْتَنْكَرٍ جِدًّا ، وَلَيْسَ فِي الثَّمَنِ تَقْدِيرٌ شَرْعًا ، وَأَمَّا بَيَانُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَقَدْ كَانَ الْكَرْخِيُّ يَقُولُ : يَتَحَالَفَانِ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ يُحَكَّمُ مَهْرُ الْمِثْلِ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : يُحَكَّمُ مَهْرُ الْمِثْلِ أَوَّلًا فَإِنْ كَانَ مَهْرُ

مِثْلِهَا أَلْفَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ لَهَا ، وَإِنْ كَانَ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ أَقَلَّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ لِلزَّوْجِ ، وَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ ، فَحِينَئِذٍ يَتَحَالَفَانِ ثُمَّ يُقْضَى لَهَا بِمِقْدَارِ مَهْرِ مِثْلِهَا ؛ لِأَنَّ الْمَصِيرَ إلَى التَّحَالُفِ إذَا لَمْ يُمْكِنْ تَرْجِيحُ قَوْلِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ بِشَهَادَةِ الظَّاهِرِ لَهُ ، وَذَلِكَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ ، وَالْأَصَحُّ مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ ظُهُورَ مَهْرِ الْمِثْلِ عِنْدَ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ التَّحَالُفِ فَإِنَّ مَا يَدَّعِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْمُسَمَّى يَنْتَفِي بِيَمِينِ صَاحِبِهِ فَيَبْقَى نِكَاحًا بِلَا تَسْمِيَةٍ فَيَكُونُ مُوجِبُهُ مَهْرُ الْمِثْلِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْمَصِيرِ إلَى التَّحَالُفِ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَأَصْلُ النِّكَاحِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِالتَّحَالُفِ ، فَالتَّسْمِيَةُ تَحْتَمِلُ الِانْتِفَاءَ ، فَإِذَا تَحَالَفَا نُظِرَ إلَى مَهْرِ مِثْلِهَا فَإِنْ كَانَ أَلْفَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَلَهَا أَلْفَانِ ، وَإِنْ كَانَ أَلْفًا أَوْ أَقَلَّ فَلَهَا الْأَلْفُ ؛ لِإِقْرَارِ الزَّوْجِ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ ، وَأَيُّهُمَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ دَعْوَى صَاحِبِهِ ، وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَجَبَ قَبُولُ بَيِّنَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ نَوَّرَ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الزِّيَادَةَ ، وَالْبَيِّنَةُ مَشْرُوعَةٌ لِلْإِثْبَاتِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ أَنْ يَتَّفِقَا ثُمَّ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْحَيِّ وَوَرَثَةِ الْمَيِّتِ فَهُوَ وَوَرَثَةُ الْمَيِّتِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ .
فَأَمَّا إذَا مَاتَا مَعًا فَهُنَا فَصْلَانِ .
( أَحَدُهُمَا ) : أَنْ يَتَّفِقَ الْوَرَثَةُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي

الْعَقْدِ تَسْمِيَةٌ .
( وَالثَّانِي ) : أَنْ يَخْتَلِفَ الْوَرَثَةُ فِي الْمُسَمَّى .
أَمَّا فِي الْأَوَّلِ : فَإِنَّهُ يُقْضَى لِوَرَثَتِهَا فِي تَرِكَةِ الزَّوْجِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ فِي الْقِيَاسِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ وَجَبَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ كَالْمُسَمَّى فَكَمَا لَا يَسْقُطُ الْمُسَمَّى بَعْدَ مَوْتِهِمَا فَكَذَلِكَ مَهْرُ الْمِثْلِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا لَا يَسْقُطُ مَهْرُ الْمِثْلِ ، وَوَرَثَةُ الْمَيِّتِ يَقُومُونَ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِمَا ، وَاسْتَحْسَنَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَ : لَا يُقْضَى بِشَيْءٍ ، وَاسْتَدَلَّ فِي الْكِتَابِ فَقَالَ : أَرَأَيْت لَوْ ادَّعَى وَرَثَةُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى وَرَثَةِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَهْرَ أُمِّ كُلْثُومٍ أَكُنْت تَقْضِي فِيهِ بِشَيْءٍ ، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَفُوتُ هَذَا بَعْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ ؛ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ ، فَإِذَا تَقَادَمَ الْعَهْدُ ، وَانْقَرَضَ أَهْلُ ذَلِكَ الْعَصْرِ يَتَعَذَّرُ عَلَى الْقَاضِي الْوُقُوفُ عَلَى مِقْدَارِ مَهْرِ الْمِثْلِ ، وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ إذَا لَمْ يَكُنْ الْعَهْدُ مُتَقَادِمًا يُقْضَى بِمَهْرِ مِثْلِهَا .
وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ : أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالنِّكَاحِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ : الْمُسَمَّى ، وَهُوَ الْأَقْوَى ، وَالنَّفَقَةُ وَهِيَ الْأَضْعَفُ ، وَمَهْرُ الْمِثْلِ ، وَهُوَ مُتَوَسِّطٌ عَلَى مَا قَرَّرْنَا ، فَالْمُسَمَّى لِقُوَّتِهِ لَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِمَا وَمَوْتِ أَحَدِهِمَا ، وَالنَّفَقَةُ لِضَعْفِهَا تَسْقُطُ بِمَوْتِهِمَا وَبِمَوْتِ أَحَدِهِمَا ، وَمَهْرُ الْمِثْلِ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ ذَلِكَ فَيَسْقُطُ بِمَوْتِهِمَا ، وَلَا يَسْقُطُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا ؛ لِأَنَّ مَا تَرَدَّدَ بَيْنَ أَصْلَيْنِ يُوَفَّرُ حَظُّهُ عَلَيْهِمَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ اخْتَلَفُوا أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ هَلْ يَسْقُطُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا فَيَكُونُ ذَلِكَ اتِّفَاقًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ يَسْقُطُ

بِمَوْتِهِمَا .
فَأَمَّا إذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي مِقْدَارِ الْمُسَمَّى بَعْدَ مَوْتِهِمَا فَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : يُصَارُ إلَى تَحْكِيمِ مَهْرِ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ لَا يَسْقُطُ بِمَوْتِهِمَا فَيَكُونُ هَذَا كَالِاخْتِلَافِ الْوَاقِعِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْقَوْلُ قَوْلُ وَرَثَةِ الزَّوْجِ إلَّا أَنْ يَأْتُوا بِشَيْءٍ مُسْتَنْكَرٍ جِدًّا ، كَمَا لَوْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي حَيَاتِهِمَا ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْقَوْلُ قَوْلُ وَرَثَةِ الزَّوْجِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ عِنْدَهُ لَا يَبْقَى بَعْدَ مَوْتِهِمَا فَلَا يُمْكِنُ الْمَصِيرُ إلَى التَّحَالُفِ وَتَحْكِيمِ مَهْرِ الْمِثْلِ ، فَيَبْقَى ظَاهِرُ الدَّعْوَى ، وَالْإِنْكَارِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ وَرَثَةِ الزَّوْجِ ، إلَّا أَنْ يَقُومَ لِوَرَثَةِ الْمَرْأَةِ بَيِّنَةٌ عَلَى مَا ادَّعَوْا مِنْ الْمُسَمَّى فَحِينَئِذٍ يُقْضَى بِذَلِكَ ، وَيَسْتَوِي فِي هَذَا كُلِّهِ إنْ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ؛ لِأَنَّ مَا قَبْلَ الدُّخُولِ إنَّمَا يُفَارِقُ مَا بَعْدَ الدُّخُولِ عِنْدَ الطَّلَاقِ أَمَّا عِنْدَ الْمَوْتِ لَا فَرْقَ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَنْتَهِي بِالْمَوْتِ .

( قَالَ : ) وَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى بَيْتٍ وَخَادِمٍ فَلَهَا مِنْ ذَلِكَ خَادِمٌ وَسَطٌ وَبَيْتٌ وَسَطٌ ، وَالْكَلَامُ هُنَا فِي فُصُولٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ تَسْمِيَةَ الْخَادِمِ فِي النِّكَاحِ صَحِيحٌ عِنْدَنَا ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَصِحُّ ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدٍ مُطْلَقٍ أَوْ عَلَى أَمَةٍ فَلَهَا عَبْدٌ وَسَطٌ أَوْ أَمَةٌ وَسَطٌ ، فَإِنْ أَتَاهَا بِالْعَيْنِ أُجْبِرَتْ عَلَى الْقَبُولِ ، وَإِنْ أَتَاهَا بِالْقِيمَةِ أُجْبِرَتْ عَلَى الْقَبُولِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ، فَيَكُونُ قِيَاسُ الْبَيْعِ ، وَالْعَبْدُ الْمُطْلَقُ لَا يُسْتَحَقُّ بِعَقْدِ الْبَيْعِ عِوَضًا فَكَذَلِكَ بِالنِّكَاحِ ، وَهَذَا أَصْلٌ لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ كُلَّ مَا لَا يَصِحُّ مُسَمًّى عِوَضًا فِي الْبَيْعِ لَا يُسْتَحَقُّ فِي النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْمُسَمَّى مَهْرًا الْمَالِيَّةُ ، وَبِمُجَرَّدِ ذِكْرِ الْجِنْسِ بِدُونِ بَيَانِ الْوَصْفِ لَا تَصِيرُ الْمَالِيَّةُ مَعْلُومَةً فَلَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ لِبَقَاءِ الْجَهَالَةِ ، وَالْغَرَرِ فِيهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَمَّى ثَوْبًا أَوْ دَابَّةً أَوْ دَارًا لَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ فَكَذَلِكَ إذَا سَمَّى عَبْدًا ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَهْرَ إنَّمَا يُسْتَحَقُّ عِوَضًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ ، وَالْحَيَوَانُ يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ مُطْلَقًا فِي مُبَادَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ فِي الدِّيَةِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ ، وَأَوْجَبَ فِي الْجَنِينِ غُرَّةً عَبْدًا أَوْ أَمَةً فَإِذَا جَازَ أَنْ يَثْبُتَ الْحَيَوَانُ مُطْلَقًا دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ عِوَضًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ شَرْعًا ، فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ شَرْطًا ؛ وَهَذَا لِأَنَّ فِي مَعْنَى الْمَالِيَّةِ هَذَا مَالٌ مُلْتَزَمٌ ابْتِدَاءً ، وَالْجَهَالَةُ الْمُسْتَدْرَكَةُ فِي الْتِزَامِ الْمَالِ ابْتِدَاءً لَا تَمْنَعُ صِحَّتَهُ كَمَا فِي الْإِقْرَارِ ، فَإِنَّ مَنْ أَقَرَّ لِإِنْسَانٍ بِعَبْدٍ صَحَّ إقْرَارُهُ إلَّا

أَنَّهُ هُنَاكَ لَا يَنْصَرِفُ إلَى الْوَسَطِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ عَيْنُهُ لَيْسَ بِعِوَضٍ .
وَهُنَا عَيْنُ الْمَهْرِ عِوَضٌ ، وَإِنْ كَانَ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ هَذَا الْتِزَامٌ مُبْتَدَأٌ ، فَلِكَوْنِهِ عِوَضًا صَرَفْنَاهُ عِنْدَ إطْلَاقِ التَّسْمِيَةِ إلَى الْوَسَطِ ؛ لِيَعْتَدِلَ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَمَا أَوْجَبَ الشَّرْعُ فِي الزَّكَوَاتِ الْوَسَطَ نَظَرًا إلَى الْفُقَرَاءِ وَأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ ، وَبِكَوْنِهِ مَالًا يُلْتَزَمُ ابْتِدَاءً لَا تَمْنَعُ جَهَالَةُ الصِّفَةِ صِحَّةَ الِالْتِزَامِ ، وَلِهَذَا لَوْ أَتَاهَا بِالْقِيمَةِ أُجْبِرَتْ عَلَى الْقَبُولِ ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الِالْتِزَامِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ ، وَالْقِيمَةُ فِيهِ كَالْعَيْنِ ، وَلِلِاعْتِبَارِ بِمَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ مِنْ الدِّيَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْإِبِلِ وَالدَّرَاهِمِ ، وَالدَّنَانِيرِ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَقُولُ : لَوْ لَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ احْتَجْنَا إلَى إيجَابِ مَهْرِ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّ بِفَسَادِ التَّسْمِيَةِ لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ كَمَا لَا يَبْطُلُ بِتَرْكِ التَّسْمِيَةِ ، وَكُلُّ جَهَالَةٍ فِي الْمُسَمَّى إذَا كَانَتْ دُونَ جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْجَهَالَةِ يَرْتَفِعُ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ ، وَكُلُّ جَهَالَةٍ هِيَ مِثْلُ جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ فَوْقَ جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَعْلَامِ فَجَهَالَةُ الْعَبْدِ الْمُسَمَّى جَهَالَةُ الصِّفَةِ دُونَ الْجِنْسِ فَأَمَّا جَهَالَةُ مَهْرِ الْمِثْلِ جَهَالَةُ جِنْسٍ فَصَحَّحْنَا فِيهِ التَّسْمِيَةَ ؛ لِيَحْصُلَ بِهَا التَّحَرُّزُ عَنْ بَعْضِ الْجَهَالَةِ .
فَأَمَّا جَهَالَةُ الثَّوْبِ فَوْقَ جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الثَّوْبِ يَتَنَاوَلُ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً مِنْ الْقُطْنِ ، وَالْكَتَّانِ وَالْإِبْرَيْسِمِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ جَهَالَةُ الدَّابَّةِ ؛ لِأَنَّهَا تَتَنَاوَلُ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً ، وَكَذَلِكَ

جَهَالَةُ الدَّارِ ؛ لِأَنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ ، وَالْمَحَالِّ وَالضِّيقِ ، وَالسَّعَةِ وَكَثْرَةِ الْمَرَافِقِ وَقِلَّتِهَا ، فَكَانَتْ تِلْكَ الْجَهَالَةُ فَوْقَ جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ ، فَلِهَذَا لَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ وَوَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ ، وَبِهِ فَارَقَ الْبَيْعَ فَإِنَّا لَوْ لَمْ نُصَحِّحْ التَّسْمِيَةَ مَعَ جَهَالَةِ الْوَصْفِ هُنَاكَ لَا نَحْتَاجُ إلَى إيجَابِ جَهَالَةٍ أُخْرَى ؛ لِأَنَّهُ يُفْسِدُ الْبَيْعَ ، وَيَعُودُ إلَيْهِ عِوَضُهُ ، وَهُوَ مَعْلُومٌ .
فَأَمَّا إذَا سَمَّى فِي الْمَهْرِ بَيْتًا فَالْمُرَادُ مِنْهُ مَتَاعُ الْبَيْتِ عَادَةً دُونَ الْبَيْتِ الْمُسَمَّى ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ بِالْعِرَاقِ يَتَزَوَّجُ عَلَى بَيْتٍ أَوْ بَيْتَيْنِ فَيُرِيدُونَ مَتَاعَ الْبَيْتِ مِمَّا تُجَهَّزُ بِهِ تِلْكَ الْمَرْأَةُ وَيَنْصَرِفُ إلَى الْوَسَطِ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ عَلَى مَا قُلْنَا ثُمَّ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قِيمَةُ الْبَيْتِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا ، وَقِيمَةُ الْخَادِمِ أَرْبَعُونَ دِينَارًا ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى : هُوَ عَلَى قَدْرِ الْغَلَاءِ وَالرُّخْصِ ، وَلَيْسَ هَذَا بِاخْتِلَافٍ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَصَرَ فَتْوَاهُ عَلَى مَا شَاهَدَهُ فِي زَمَانِهِ ، وَهُمَا زَادَا عَلَى ذَلِكَ ، وَبَيَّنَّا الْفَتْوَى فِي الْأَوْقَاتِ ، وَالْأَمْكِنَةِ كُلِّهَا ، وَالْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَا فَإِنَّ الْقِيَمَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْغَلَاءِ وَالرُّخْصِ .
( قَالَ : ) وَالْوَسَطُ مِنْ الْخَادِمِ السِّنْدِيِّ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ أَرْفَعَ الْخَدَمِ الْأَتْرَاكُ ، وَأَدْنَى الْخَدَمِ الْهُنُودُ فَالسِّنْدِيُّ هُوَ الْوَسَطُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ ، وَلَكِنَّهُ فِي بِلَادِنَا قَلَّمَا يُوجَدُ السِّنْدِيُّ فَالْوَسَطُ أَدْنَى الْأَتْرَاكِ وَأَعْلَى الْهُنُودِ .
( قَالَ : ) وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا عَلَى وَصِيفٍ أَبْيَضَ فَلَهَا خَمْسُونَ دِينَارًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهَذَا أَيْضًا بِنَاءً عَلَى مَا شَاهَدَ فِي زَمَانِهِ مِنْ التَّفَاوُتِ

بَيْنَ قِيمَةِ الْوَسَطِ وَالْجَيِّدِ ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْغَلَاءِ وَالرُّخْصِ ، وَلَكِنْ فِي زَمَانِهِ كَانَ هَذَا التَّفَاوُتُ بِقَدْرِ عَشَرَةِ دَنَانِيرَ فَلِهَذَا قَدَّرَهُ بِهِ ، وَإِنْ أَعْطَاهَا وَصِيفًا أَبْيَضَ لَا يُسَاوِي ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ وَفَّى لَهَا بِمَا شَرَطَ ، وَاعْتِبَارُ الْقِيمَةِ عِنْدَ اخْتِيَارِهِ أَدَاءَ الْقِيمَةِ فَأَمَّا إذَا اخْتَارَ أَدَاءَ الْعَيْنِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِالْقِيمَةِ .
( قَالَ : ) وَإِنْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ ، وَقَدْ تَزَوَّجَهَا عَلَى بَيْتٍ فَلَهَا بَيْتٌ مِنْ شَعْرٍ مِنْ بُيُوتِ أَهْلِ الْبَادِيَةِ ، وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى خَادِمٍ فَلَهَا خَادِمٌ وَسَطٌ مِمَّا يُعْرَفُ هُنَاكَ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي التَّسْمِيَةِ الْعُرْفُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى بِدَرَاهِمَ مُطْلَقًا يَنْصَرِفُ إلَى نَقْدِ الْبَلَدِ ؛ لِلْعُرْفِ فَهُنَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ أَيْضًا ، وَالْمُتَعَارَفُ مِنْ تَسْمِيَةِ الْبَيْتِ مُطْلَقًا فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ الْبَادِيَةِ الْبَيْتُ مِنْ الشَّعْرِ ، وَفِي مَا بَيْنَ أَهْلِ الْأَمْصَارِ مَتَاعُ الْبَيْتِ فَصَرَفْنَا التَّسْمِيَةَ إلَى ذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ .
( قَالَ : ) وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ ، وَلَمْ تَرَهُ فَلَيْسَ لَهَا فِي ذَلِكَ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الرُّؤْيَةِ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ ثُبُوتَ صِفَةِ اللُّزُومِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِهَذَا الْعَقْدِ ، وَهِيَ الْمَنْكُوحَةُ فَكَذَلِكَ فِي عِوَضِهِ ، وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْفَائِدَةَ فِي إثْبَاتِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ أَنْ يُتَمَكَّنَّ بِهِ مِنْ إعَادَةِ الْعِوَضِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ إلَيْهِ ، وَهَذَا فِي الْبَيْعِ يَحْصُلُ ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَسِخُ بِالرَّدِّ ، وَفِي النِّكَاحِ لَا يَحْصُلُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَسِخُ بِرَدِّ الْمُسَمَّى بِخِيَارِ الرُّؤْيَةِ ، وَلَكِنْ تَجِبُ الْقِيمَةُ ، وَالْقِيمَةُ غَيْرُ مَرْئِيَّةٍ كَالْعَيْنِ ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يُسْتَدْرَكُ بِالرَّدِّ فَائِدَةٌ ، وَكَذَلِكَ لَا تَرُدُّ الصَّدَاقَ بِالْعَيْبِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فَاحِشًا عِنْدَنَا ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

تَعَالَى : كُلُّ عَيْبٍ يُرَدُّ بِهِ فِي الْبَيْعِ يُرَدُّ بِهِ فِي الصَّدَاقِ .
وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ أَنَّ عِنْدَهُ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ تَبْطُلُ التَّسْمِيَةُ فَيَجِبُ مَهْرُ الْمِثْلِ ، وَعِنْدَنَا لَا تَبْطُلُ التَّسْمِيَةُ ، وَلَكِنْ تَجِبُ قِيمَةُ الْمُسَمَّى فَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ يَسِيرًا لَا تُسْتَدْرَكُ بِالرَّدِّ فَائِدَةٌ إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ عَيْنِ الشَّيْءِ ، وَبِهِ عَيْبٌ يَسِيرٌ ، وَبَيْنَ قِيمَتِهِ ، وَإِذَا كَانَ الْعَيْبُ فَاحِشًا فَتُسْتَدْرَكُ بِالرَّدِّ فَائِدَةٌ ؛ لِأَنَّهَا تَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ صَحِيحًا ، وَهَذَا هُوَ حَدُّ الْفَرْقِ بَيْنَ الْيَسِيرِ وَالْفَاحِشِ ، أَنَّ كُلَّ عَيْبٍ يُنْقِصُ مِنْ الْمَالِيَّةِ مِقْدَارَ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فِي الْأَسْوَاقِ فَهُوَ عَيْبٌ فَاحِشٌ ، وَإِذَا كَانَ يُنْقِصُ بِقَدْرِ مَا يَدْخُلُ بَيْنَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَهُوَ عَيْبٌ يَسِيرٌ ، وَحُجَّتُهُ لِإِثْبَاتِ أَصْلِهِ أَنَّ الصَّدَاقَ مَالٌ مَمْلُوكٌ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ ، وَهُوَ مِمَّا يَنْفَصِلُ عَنْ أَصْلِ الْعَقْدِ فَتَبْطُلُ التَّسْمِيَةُ بِالرَّدِّ كَالْبَيْعِ ، وَلَكِنْ بُطْلَانُ التَّسْمِيَةِ فِي النِّكَاحِ لَا يُبْطِلُ النِّكَاحَ كَانْعِدَامِ التَّسْمِيَةِ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْمُسَمَّى هُوَ الْعَقْدُ ، فَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِبُطْلَانِ التَّسْمِيَةِ مَعَ بَقَاءِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ ، وَلَكِنْ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ يَتَعَذَّرُ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ كَمَا الْتَزَمَ ، فَتَجِبُ قِيمَتُهُ كَالْمَغْصُوبِ إذَا أَبِقَ .
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ إذَا هَلَكَ الصَّدَاقُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ عِنْدَنَا لَا تَبْطُلُ التَّسْمِيَةُ ، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ مِثْلُهُ إنْ كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، وَقِيمَتُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَبْطُلُ التَّسْمِيَةُ كَمَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَيَكُونُ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ، وَبَعْضُ أَصْحَابِهِ يَقُولُ : لَا تَبْطُلُ التَّسْمِيَةُ بِالْهَلَاكِ عِنْدَنَا ، وَلَكِنْ تَجِبُ قِيمَةُ

الْمُسَمَّى ؛ لِتَعَذُّرِ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ فَأَمَّا الرَّدُّ بِالْعَيْبِ لَا يَكُونُ إلَّا لِرَفْعِ تِلْكَ التَّسْمِيَةِ فَتَبْطُلُ بِهِ التَّسْمِيَةُ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ اسْتَحَقَّ الْمُسَمَّى بِعَيْنِهِ لَا تَبْطُلُ التَّسْمِيَةُ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ كَوْنُ الْمُسَمَّى مَالًا ، وَبِالِاسْتِحْقَاقِ لَا تَنْعَدِمُ الْمَالِيَّةُ ، وَلَكِنْ يَتَعَذَّرُ التَّسْلِيمُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْهَلَاكِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ قِيمَتُهُ عَلَى الزَّوْجِ .

( قَالَ : ) وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ أَجَرَ الصَّدَاقَ فَالْأَجْرُ لَهُ ؛ لِأَنَّ الصَّدَاقَ فِي يَدِهِ مَضْمُونٌ بِنَفْسِهِ كَالْمَغْصُوبِ ، وَالْغَاصِبُ إذَا أَجَرَ الْمَغْصُوبَ فَالْأَجْرُ لَهُ ، وَلَكِنْ يَتَصَدَّقُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ ، فَكَذَلِكَ الزَّوْجُ ، وَهَذَا عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَجْرُ لَهَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْمَنَافِعَ عِنْدَهُ مَالٌ ، وَالْأَجْرُ بَدَلُ مَا هُوَ مَالٌ لَهَا ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعُقْرِ وَأَرْشِ الطَّرَفِ ، وَعِنْدَنَا الْمَنَافِعُ لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ ، وَإِنَّمَا تُتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ ، وَالْعَاقِدُ هُوَ الزَّوْجُ فَكَانَ الْأَجْرُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ بِعَقْدِهِ صَيَّرَ مَا لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ مِنْ مِلْكِ الْغَيْرِ مُتَقَوِّمًا ، فَهُوَ كَمَنْ صَنَعَ كُوزًا مِنْ تُرَابِ غَيْرِهِ وَبَاعَهُ يَكُونُ الثَّمَنُ لَهُ .
( قَالَ : ) فَإِنْ وَلَدَتْ أَوْ اكْتَسَبَتْ مَالًا قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَذَلِكَ كُلُّهُ لِلْمَرْأَةِ مَعَهَا .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الزِّيَادَةَ فِي الصَّدَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ نَوْعَانِ : مُتَّصِلَةٌ وَمُنْفَصِلَةٌ .
فَالْمُتَّصِلَةُ : كَالسِّمَنِ فِي الْجَارِيَةِ وَانْجِلَاءِ الْبَيَاضِ عَنْ الْعَيْنِ .
وَالزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ : إمَّا مُتَوَلِّدَةٌ مِنْ الْعَيْنِ كَالْوَلَدِ ، وَالثِّمَارِ ، وَالْعُقْرِ ، وَإِمَّا غَيْرُ مُتَوَلِّدَةٍ مِنْ الْعَيْنِ كَالْكَسْبِ وَالْغَلَّةِ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ يُسَلَّمُ لِلْمَرْأَةِ إذَا دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ أَوْ مَاتَ عَنْهَا ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ ، وَمِلْكُ الْأَصْلِ كَانَ سَالِمًا لَهَا ، وَقَدْ تَقَرَّرَ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ وَالدُّخُولِ ، فَكَذَلِكَ الزِّيَادَةُ ، وَأَمَّا إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَالزِّيَادَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ مُنْفَصِلَةً كَانَتْ أَوْ مُتَّصِلَةً تَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ مَعَ الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ ، وَالْحَادِثُ مِنْ الزِّيَادَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ كَالْمَوْجُودِ وَقْتَ الْعَقْدِ بِدَلِيلِ الْمَبِيعَةِ ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ الْمُتَوَلِّدَةَ هُنَاكَ كَالْمَوْجُودِ وَقْتَ الْعَقْدِ

حَتَّى يَصِيرَ بِمُقَابِلَتِهَا شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ عِنْدَ الْقَبْضِ .
فَأَمَّا الْكَسْبُ وَالْغَلَّةُ لَا تَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ بَلْ يُسَلَّمُ الْكُلُّ لَهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَأَمَّا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَتَنَصَّفُ مَعَ الْأَصْلِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ حَتَّى يَبْطُلَ مِلْكُهَا عَنْ جَمِيعِ الصَّدَاقِ يُسَلَّمُ لَهَا الْكَسْبُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَعِنْدَهُمَا يَدُورُ الْكَسْبُ مَعَ الْأَصْلِ ، وَكَذَلِكَ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ إذَا اُكْتُسِبَ كَسْبًا ثُمَّ انْفَسَخَ الْبَيْعُ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُسَلَّمُ الْكَسْبُ لِلْمُشْتَرِي ، وَعِنْدَهُمَا هُوَ لِلْبَائِعِ ، وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْكَسْبَ زِيَادَةٌ مُنْفَصِلَةٌ عَنْ الْأَصْلِ فَيَكُونُ قِيَاسُ الْوَلَدِ فَكَمَا لَا يُسَلَّمُ ذَلِكَ لَهَا بَعْدَ مَا بَطَلَ مِلْكُهَا عَنْ الْأَصْلِ ، فَكَذَلِكَ هَذَا ؛ وَهَذَا لِأَنَّ بُطْلَانَ مِلْكِهَا عَنْ الْأَصْلِ بِحُكْمِ انْفِسَاخِ السَّبَبِ فِيهِ ، وَالزِّيَادَةُ إنَّمَا تُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ مُتَوَلِّدَةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ ، فَبَعْدَ مَا انْفَسَخَ سَبَبُ الْمِلْكِ لَهَا فِي الْأَصْلِ لَا يَبْقَى سَبَبًا لِمِلْكِ الزِّيَادَةِ لَهَا وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : السَّبَبُ الَّذِي بِهِ مَلَكَتْ الْكَسْبَ لَمْ يَنْفَسِخْ فَيَبْقَى مِلْكُ الْكَسْبِ لَهَا كَمَا قَبْلَ الطَّلَاقِ ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ مِلْكِ الْكَسْبِ إمَّا قَبُولُ الْعَبْدِ الْهِبَةَ أَوْ إجَارَتُهُ نَفْسُهُ ، وَاكْتِسَابُهُ مِنْ حَيْثُ الِاحْتِطَابُ ، وَالِاحْتِشَاشُ وَشَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ لَا يَنْفَسِخُ بِالطَّلَاقِ ، وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ الِاكْتِسَابَ يُوجِبُ الْمِلْكَ لِلْمُكْتَسِبِ ، وَلَكِنْ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمُكْتَسِبُ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ فَمَنْ يَخْلُفُهُ ، وَهُوَ مَوْلَاهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي الْمِلْكِ بِذَلِكَ السَّبَبِ ؛ لِوَصْلَةِ الْمِلْكِ بَيْنَهُمَا

وَقْتَ الِاكْتِسَابِ ، ثُمَّ بِبُطْلَانِ مِلْكِهِ فِي الْأَصْلِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُفْهُ فِي الْمِلْكِ بِذَلِكَ السَّبَبِ ، وَلَيْسَ الْكَسْبُ بِمَنْزِلَةِ الزِّيَادَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُتَوَلِّدَ جُزْءٌ مِنْ الْأَصْلِ يَسْرِي إلَيْهِ مِلْكُ الْأَصْلِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا بِسَبَبٍ حَادِثٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّ وَلَدَ الْمُكَاتَبَةِ يَكُونُ مُكَاتَبًا ، وَكَسْبَهَا لَا يَكُونُ مُكَاتَبًا ، وَوَلَدُ الْمَبِيعَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَكُونُ مَبِيعًا يُقَابِلُهُ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ عِنْدَ الْقَبْضِ ، وَكَسْبُ الْمَبِيعِ لَا يَكُونُ مَبِيعًا فَلَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ ، وَإِنْ قَبَضَ مَعَ الْأَصْلِ فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَبَضَتْ الْمَرْأَةُ الْأَصْلَ مَعَ الزِّيَادَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا يَتَنَصَّفُ الْأَصْلُ وَالزِّيَادَةُ .
لِأَنَّ حُكْمَ التَّنَصُّفِ عِنْدَ الطَّلَاقِ ثَبَتَ فِي الْكُلِّ حِينَ كَانَتْ الزِّيَادَةُ حَادِثَةً قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ بِقَبْضِهَا ، وَلَوْ كَانَتْ قَبَضَتْ الْأَصْلَ قَبْلَ حُدُوثِ الزِّيَادَةِ ثُمَّ حَدَثَتْ الزِّيَادَةُ فِي يَدِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ غَيْرَ مُتَوَلِّدَةٍ كَالْكَسْبِ وَالْغَلَّةِ ، فَهُوَ سَالِمٌ لَهَا وَرَدَّتْ نِصْفَ الْأَصْلِ عَلَى الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ حُدُوثَ الْكَسْبِ كَانَ بَعْدَ تَمَامِ مِلْكِهَا وَيَدِهَا فَيَكُونُ سَالِمًا لَهَا ، وَإِنْ لَزِمَهَا رَدُّ الْأَصْلِ أَوْ بَعْضُهُ كَالْمَبِيعِ إذَا اُكْتُسِبَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ثُمَّ رَدَّ الْأَصْلَ بِالْعَيْبِ يَبْقَى الْكَسْبُ سَالِمًا لَهُ ؛ وَهَذَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ } ، وَقَدْ كَانَ الصَّدَاقُ فِي ضَمَانِهَا فَمَنْفَعَتُهُ تُسَلَّمُ لَهَا ، وَالْكَسْبُ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُتَوَلِّدَةً مِنْ الْعَيْنِ فَإِنْ كَانَتْ مُنْفَصِلَةً كَالْوَلَدِ وَالثِّمَارِ ؛ يَمْنَعُ تَنَصُّفَ الْأَصْلِ بِالطَّلَاقِ وَعَوْدَ الْكُلِّ إلَيْهِ إذَا جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا ، وَلَكِنْ لِلزَّوْجِ

عَلَيْهَا نِصْفُ قِيمَةِ الْأَصْلِ أَوْ جَمِيعُ قِيمَتِهِ يَوْمَ دَفَعَ إلَيْهَا ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : يَتَنَصَّفُ الْأَصْلُ مَعَ الزِّيَادَةِ بِالطَّلَاقِ ، وَيَعُودُ الْكُلُّ إلَى الزَّوْجِ إذَا جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا ؛ لِأَنَّ بِقَبْضِهَا لَا يَتَأَكَّدُ مِلْكُهَا مَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ، بَلْ تَوَهُّمُ عَوْدِ النِّصْفِ إلَى الزَّوْجِ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْكُلِّ إذَا جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا ثَابِتٌ فَيَسْرِي ذَلِكَ الْحَقُّ إلَى الزِّيَادَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرَاةِ شِرَاءً فَاسِدًا إذَا قَبَضَهَا الْمُشْتَرِي ، وَازْدَادَتْ زِيَادَةً مُنْفَصِلَةً فَإِنَّ الْبَائِعَ يَسْتَرِدُّهَا بِزِيَادَتِهَا وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : فِي الطَّلَاقِ يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ قِيمَةِ الْأَصْلِ ، وَعِنْدَ رِدَّتِهَا يَسْتَرِدُّ مِنْهَا الْأَصْلَ مَعَ الزِّيَادَةِ ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ تَفْسَخُ السَّبَبَ مَعَ الْأَصْلِ فَيَكُونُ الرَّدُّ بِحُكْمِ انْفِسَاخِ السَّبَبِ بِمَنْزِلَةِ الرَّدِّ بِسَبَبِ فَسَادِ الْبَيْعِ ، وَهُنَا كَحُكْمِ الرَّدِّ يَثْبُتُ فِي الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةِ ، فَأَمَّا الطَّلَاقُ حَلُّ الْعَقْدِ ، وَلَيْسَ بِفَسْخٍ لَهُ مِنْ الْأَصْلِ فَلَا يُثْبِتُ حَقَّ الزَّوْجِ فِي الزِّيَادَةِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِي مِلْكِهِ ، وَلَا فِي يَدِهِ .
وَيَتَعَذَّرُ تَنَصُّفُ الزِّيَادَةِ بِتَعَذُّرِ تَنَصُّفِ الْأَصْلِ ، وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهَا مَلَكَتْ الصَّدَاقَ بِالْعَقْدِ ، وَتَمَّ مِلْكُهَا بِالْقَبْضِ فَالزِّيَادَةُ حَدَثَتْ عَلَى مِلْكٍ تَامٍّ لَهَا ، وَحُكْمُ التَّنَصُّفِ عِنْدَ الطَّلَاقِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْمَفْرُوضِ فِي الْعَقْدِ ، وَالزِّيَادَةُ مَا كَانَتْ مُسَمَّاةً فِي الْعَقْدِ لَا حَقِيقَةً ، وَلَا حُكْمًا إذَا لَمْ يَرِدْ عَلَيْهَا الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ فَتَعَذَّرَ تَنَصُّفُهَا ، وَهِيَ جُزْءٌ مِنْ الْعَيْنِ فَيَتَعَذَّرُ تَنَصُّفُهَا بِتَعَذُّرِ تَنَصُّفِ الْعَيْنِ كَالزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ فِي الْمَبِيعِ تَمْنَعُ رَدَّ الْأَصْلِ بِالْعَيْبِ إذَا كَانَ حَادِثًا بَعْدَ الْقَبْضِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ

الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ فِي الْمَوْهُوبِ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ الْوَاهِبَ مِنْ الرُّجُوعِ فِي الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ ، فَإِذَا رَجَعَ فِي الْأَصْلِ بَقِيَتْ الزِّيَادَةُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَقَدْ كَانَ الْأَصْلُ سَالِمًا بِغَيْرِ عِوَضٍ فَيَجُوزُ أَنْ تُسَلَّمَ الزِّيَادَةُ لَهُ أَيْضًا بِغَيْرِ عِوَضٍ ، فَأَمَّا الْبَيْعُ ، وَالنِّكَاحُ مُعَاوَضَةً فَبَعْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الزِّيَادَةِ لَوْ أَثْبَتْنَا حُكْمَ الرَّدِّ فِي الْأَصْلِ بَقِيَتْ الزِّيَادَةُ سَالِمَةً بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ الْأَصْلِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَلَّمَ الْمِلْكُ بِغَيْرِ عِوَضٍ بَعْدَ رَفْعِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ بَيْنَهُمَا فَإِذَا تَعَذَّرَ تَنْصِيفُ الْأَصْلِ وَجَبَ عَلَيْهَا نِصْفُ الْقِيمَةِ لِلزَّوْجِ ؛ لِتَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ ، وَإِنَّمَا دَخَلَ الصَّدَاقُ فِي ضَمَانِهَا بِالْقَبْضِ فَلِهَذَا كَانَ الْمُعْتَبَرُ الْقِيمَةَ وَقْتَ الْقَبْضِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُتَّصِلَةً كَالسِّمَنِ ، وَالْجَمَالِ وَانْجِلَاءِ الْبَيَاضِ فَطَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى هَذَا ، وَالزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ سَوَاءٌ ، وَلِلزَّوْجِ عَلَيْهَا نِصْفُ قِيمَةِ الصَّدَاقِ يَوْمَ قَبَضَتْ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَتَنَصَّفُ الْأَصْلُ بِزِيَادَتِهِ ، وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ ، وَالزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ لَا عِبْرَةَ بِهَا فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ كَمَا فِي الْبَيْعِ لَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِعَبْدٍ ، وَقَبَضَ الْجَارِيَةَ فَازْدَادَتْ زِيَادَةً مُتَّصِلَةً ثُمَّ هَلَكَ الْعَبْدُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ أَوْ رَدَّهُ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ يَسْتَرِدُّ الْجَارِيَةَ بِزِيَادَتِهَا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً .
وَهَذَا لِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ بِمَنْزِلَةِ الشَّعْرِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ حَدَثَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَنْقَسِمُ الثَّمَنُ بِاعْتِبَارِهَا كَزِيَادَةِ الشَّعْرِ فَكَذَلِكَ فِي الصَّدَاقِ ،

وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَوْهُوبَةِ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ فِيهَا تَمْنَعُ الرُّجُوعَ ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَيْسَتْ بِعَقْدِ ضَمَانٍ فَالْقَبْضُ بِحُكْمِهِ لَمَّا لَمْ يُوجِبْ ضَمَانَ الْعَيْنِ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ لَمْ يَبْقَ لِلْوَاهِبِ حَقٌّ فِي الْعَيْنِ حَتَّى تَسْرِيَ إلَى الزِّيَادَةِ ، وَإِذَا تَعَذَّرَ الرُّجُوعُ فِي الزِّيَادَةِ تَعَذَّرَ فِي الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ لَا يَنْفَصِلُ عَنْ الزِّيَادَةِ فَأَمَّا قَبْضُهَا الصَّدَاقَ قَبْضَ ضَمَانٍ وَثُبُوتُ الضَّمَانِ لِحَقِّ الزَّوْجِ فِيهِ يَتَبَيَّنُ بَقَاءُ حَقِّ الزَّوْجِ فِي الْأَصْلِ فَيَسْرِي إلَى الزِّيَادَةِ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا : هَذِهِ الزِّيَادَةُ حَدَثَتْ مِنْ مِلْكٍ صَحِيحٍ تَامٍّ لَهَا فَيَكُونُ سَالِمًا لَهَا بِكُلِّ حَالٍ كَالزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ .
وَإِذَا تَعَذَّرَ تَنَصُّفُ الزِّيَادَةِ تَعَذَّرَ تَنَصُّفُ الْأَصْلِ لِمَا قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الصَّدَاقَ فِي حُكْمِ الصِّلَةِ مِنْ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّهَا تَمْلِكُهُ لَا عِوَضًا عَنْ مَالٍ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهَا ، وَالزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ فِي الصِّلَاتِ تَمْنَعُ رَدَّ الْأَصْلِ كَالْمَوْهُوبِ ، وَتَأْثِيرُ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ فِي الصِّلَاتِ أَكْثَرُ مِنْ تَأْثِيرِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ حَتَّى أَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُنْفَصِلَةَ فِي الْهِبَةِ لَا تَمْنَعُ الرُّجُوعَ ، وَالْمُتَّصِلَةُ تَمْنَعُ ثُمَّ الزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ هُنَا تَمْنَعُ تَنَصُّفَ الْأَصْلِ فَالْمُتَّصِلَةُ أَوْلَى ، فَأَمَّا الْبَيْعُ فَالصَّحِيحُ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ هُنَاكَ تَمْنَعُ فَسْخَ الْعَقْدِ مِنْ الْأَصْلِ كَالْمُنْفَصِلَةِ ، وَمَا ذُكِرَ فِي الْمَأْذُونِ فَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى خَاصَّةً ، وَقَدْ نَصَّ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ عَلَى أَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ تَمْنَعُ الْفَسْخَ بِالتَّحَالُفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى كَالزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ ،

وَلَوْ كَانَ حُدُوثُ الزِّيَادَةِ فِي يَدِهَا بَعْدَمَا طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الدُّخُولِ يَتَنَصَّفُ الْأَصْلُ مَعَ الزِّيَادَةِ ؛ لِأَنَّ بِالطَّلَاقِ صَارَ رَدُّ نِصْفِ الْأَصْلِ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهَا فَيَسْرِي ذَلِكَ إلَى الزِّيَادَةِ كَالْمُشْتَرَى شِرَاءً فَاسِدًا يُرَدُّ بِزِيَادَتِهِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الطَّلَاقِ .

فَأَمَّا حُكْمُ النُّقْصَانِ فَإِنْ تَعَيَّبَ الصَّدَاقُ فِي يَدِ الزَّوْجِ بِعَيْبٍ يَسِيرٍ فَلَا خِيَارَ لِلْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ الْيَسِيرَ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ الْعَقْدِ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا الْخِيَارُ بِسَبَبِهِ فَكَذَا إذَا حَدَثَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَعَنْ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ عَلَيْهَا شَرْطُ الْعَقْدِ فَإِنَّهَا اسْتَحَقَّتْ الصَّدَاقَ بِصِفَةِ السَّلَامَةِ ، وَبِالتَّعَيُّبِ قَدْ تَغَيَّرَ ، وَلَكِنَّ هَذَا يَنْبَغِي عَلَى قَوْلِهِ فِي الْعَيْبِ الْمَوْجُودِ وَقْتَ الْعَقْدِ أَنْ يَثْبُتَ لَهَا الْخِيَارُ أَيْضًا إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا

فَأَمَّا إذَا حَدَثَ بِالصَّدَاقِ عَيْبٌ فَاحِشٌ فِي يَدِ الزَّوْجِ فَهُوَ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ .
( أَحَدُهَا ) : أَنْ يَكُونَ الْعَيْبُ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فَيَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ إنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ بِقِيمَةِ الصَّدَاقِ يَوْمَ تَزْوِيجِهَا عَلَى الزَّوْجِ ، وَإِنْ شَاءَتْ أَخَذَتْ الْمَعِيبَ ، وَلَا شَيْءَ لَهَا مِنْ ضَمَانِ النُّقْصَانِ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ عَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِ الصَّدَاقِ سَلِيمًا كَمَا أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ فَيَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ ، وَإِذَا أَرَادَتْ رَجَعَتْ بِالْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْعَيْنِ مَعَ بَقَاءِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ ، فَإِنْ اخْتَارَتْ الْأَخْذَ فَلَا شَيْءَ لَهَا مِنْ ضَمَانِ النُّقْصَانِ عَلَى الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ الصَّدَاقَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ ، وَالْأَوْصَافُ لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً بِالْعَقْدِ وَعَنْ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ لَهَا أَنْ تُضَمِّنَ الزَّوْجَ النُّقْصَانَ ؛ لِأَنَّ الصَّدَاقَ مَضْمُونٌ فِي يَدِ الزَّوْجِ بِنَفْسِهِ كَالْمَغْصُوبِ إذَا تَعَيَّبَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ كَانَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ النُّقْصَانَ مَعَ اسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْمَغْصُوبُ مَضْمُونٌ بِالْقَبْضِ ، وَالْأَوْصَافُ تُضْمَنُ بِالْقَبْضِ .
( وَالثَّانِي ) : أَنْ يَكُونَ التَّعَيُّبُ بِفِعْلِ الزَّوْجِ فَيَكُونُ لَهَا الْخِيَارُ لِلتَّغَيُّرِ ، وَإِنْ اخْتَارَتْ الْأَخْذَ ضَمَّنَتْ الزَّوْجَ النُّقْصَانَ ، وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهَا حَقُّ تَضْمِينِ النُّقْصَانِ ؛ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى الزَّوْجِ بِالْعَقْدِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَبِيعِ ، وَالْبَائِعُ إذَا عَيَّبَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُ النُّقْصَانِ لِلْمُشْتَرِي فَهَذَا مِثْلُهُ ، وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الزَّوْجَ أَتْلَفَ جُزْءًا مِنْ الصَّدَاقِ ، وَلَوْ أَتْلَفَ الْكُلَّ ضَمِنَ قِيمَةَ الْكُلِّ ، فَكَذَلِكَ إذَا أَتْلَفَ جُزْءًا مِنْهُ ، وَبِهِ فَارَقَ الْبَيْعَ فَإِنَّ الْبَائِعَ هُنَاكَ لَوْ أَتْلَفَ الْكُلَّ لَمْ يَضْمَنْهُ فَكَذَا إذَا أَتْلَفَ الْجُزْءَ .
ثُمَّ الْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّ

الْمَبِيعَ مَضْمُونٌ بِالثَّمَنِ ، وَفِي مَا هُوَ مَضْمُونٌ بِهِ فَصَّلْنَا بَيْنَ الْعَيْبِ بِفِعْلِ الْبَائِعِ وَبِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ حَتَّى إنَّهُ إذَا تَعَيَّبَ بِفِعْلِ الْبَائِعِ سَقَطَتْ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ عَنْ الْمُشْتَرِي ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَعَيَّبَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ فَهُنَا أَيْضًا يُفْصَلُ بَيْنَهُمَا فِيمَا إذَا كَانَ الصَّدَاقُ مَضْمُونًا بِهِ ، وَهُوَ الْقِيمَةُ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِتْلَافَ مِنْ الزَّوْجِ يَتَحَقَّقُ فِي الْأَوْصَافِ كَمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْأَصْلِ بِخِلَافِ مَا إذَا تَعَيَّبَ بِغَيْرِ فِعْلِهِ فَإِنَّ الضَّمَانَ هُنَاكَ بِالْعَقْدِ ، وَالْعَقْدُ لَا يَتَنَاوَلُ الْأَوْصَافَ مَقْصُودًا .
( الثَّالِثُ ) : أَنْ يَكُونَ التَّعَيُّبُ بِفِعْلِ الصَّدَاقِ بِنَفْسِهِ فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ هَذَا كَالْعَيْبِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ بِنَفْسِهِ هَدَرٌ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ تَغَيُّبِ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ ، وَفِعْلُ الْمَضْمُونِ كَفِعْلِ الضَّامِنِ فِي اسْتِحْقَاقِ مُوجِبِهِ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْمَغْصُوبِ .
( الرَّابِعُ ) : إنْ حَصَلَ التَّعَيُّبُ بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ النُّقْصَانِ ، وَيَكُونُ ضَمَانُ النُّقْصَانِ بِمَنْزِلَةِ الزِّيَادَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَيَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ لِلتَّغَيُّرِ فَإِذَا اخْتَارَتْ الْأَخْذَ رَجَعَتْ عَلَى الْجَانِي بِضَمَانِ النُّقْصَانِ ، وَإِنْ اخْتَارَتْ تَضْمِينَ الزَّوْجِ الْقِيمَةَ رَجَعَ الزَّوْجُ عَلَى الْجَانِي بِضَمَانِ النُّقْصَانِ ، وَلَوْ أَرَادَتْ أَنْ تَأْخُذَ الْعَيْنَ ، وَتُضَمِّنَ الزَّوْجَ النُّقْصَانَ لَمْ يَكُنْ لَهَا ؛ لِانْعِدَامِ الصُّنْعِ مِنْ الزَّوْجِ فِي التَّعَيُّبِ .
( الْخَامِسُ ) : أَنْ يَكُونَ التَّعَيُّبُ بِفِعْلِ الْمَرْأَةِ فَتَصِيرُ بِهِ قَابِضَةً لِلصَّدَاقِ ؛ لِأَنَّهَا أَتْلَفَتْ جُزْءًا مِنْهُ فَتَكُونُ قَابِضَةً لِذَلِكَ الْجُزْءِ بِالْإِتْلَافِ ، وَلِمَا وَرَاءَ ذَلِكَ بِالتَّخَلِّي ، وَلَا خِيَارَ لَهَا فِي ذَلِكَ ، وَاَلَّذِي بَيَّنَّا فِي هَذِهِ الْفُصُولِ فِيمَا إذَا دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ أَوْ مَاتَ

عَنْهَا فَأَمَّا إذَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَهِيَ فِي حَقِّ النِّصْفِ إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ كَمَا فِي الْكُلِّ إذَا طَلَّقَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ

فَأَمَّا إذَا تَعَيَّبَ فِي يَدِ الْمَرْأَةِ بَعْدَ مَا قَبَضَتْ الصَّدَاقَ فَهُوَ عَلَى خَمْسَةِ أَوْجُهٍ أَيْضًا : أَمَّا إذَا تَعَيَّبَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ ثُمَّ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهَا نِصْفَ قِيمَتِهِ يَوْمَ قَبَضَتْ ؛ لِتَعَذُّرِ رَدِّ النِّصْفِ كَمَا قَبَضَتْ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ النِّصْفَ نَاقِصًا ، وَلَيْسَ عَلَيْهَا مِنْ ضَمَانِ النُّقْصَانِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الصَّدَاقَ كَانَ مَمْلُوكًا لَهَا مِلْكًا تَامًّا فَتَعَيُّبُهُ فِي يَدِهَا لَا يُلْزِمُهَا شَيْئًا مِنْ ضَمَانِ النُّقْصَانِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ التَّعَيُّبُ بِفِعْلِ الصَّدَاقِ بِنَفْسِهِ فَهُوَ كَالتَّعَيُّبِ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ بِنَفْسِهِ هَدَرٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ التَّعَيُّبُ بِفِعْلِ الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهَا صَادَفَ مِلْكًا صَحِيحًا لَهَا فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا ضَمَانَ النُّقْصَانِ عَلَيْهَا بِخِلَافِ فِعْلِ الزَّوْجِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَإِنَّهُ صَادَفَ مِلْكَهَا فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ التَّعَيُّبُ فِي يَدِهَا بِفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ فَإِنَّ الْأَجْنَبِيَّ ضَامِنٌ لِلنُّقْصَانِ ، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ جُزْءٍ مِنْ عَيْنِهَا فَيَمْنَعُ تَنَصُّفَ الْأَصْلِ بِالطَّلَاقِ ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ قِيمَةِ الصَّدَاقِ يَوْمَ قَبَضَتْ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ التَّعَيُّبُ بِفِعْلِ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ فِي جِنَايَتِهِ عَلَى الصَّدَاقِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ إلَيْهَا فَكَانَ فِعْلُهُ كَفِعْلِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ فِي إيجَابِ الْأَرْشِ ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ تَنَصُّفَ الصَّدَاقِ بِالطَّلَاقِ ، وَإِنْ كَانَ التَّعَيُّبُ فِي يَدِهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ كَانَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَأْخُذَ نِصْفَ الْأَصْلِ مَعَ نِصْفِ النُّقْصَانِ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ فَسَدَ فِي النِّصْفِ بِالطَّلَاقِ ، وَصَارَ مُسْتَحَقَّ الرَّدِّ عَلَى الزَّوْجِ فَكَانَ فِي يَدِهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمَقْبُوضِ بِحُكْمِ شِرَاءٍ فَاسِدٍ فَيَلْزَمُهَا ضَمَانُ النُّقْصَانِ

إذَا تَعَيَّبَ بِآفَةٍ سَمَاوِيَّةٍ أَوْ بِفِعْلِهِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِفِعْلِهَا ؛ لِأَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهَا بِالْقَبْضِ ، وَالْأَوْصَافُ تُضْمَنُ بِالْقَبْضِ كَالْمَغْصُوبِ ، وَإِنْ كَانَ التَّعَيُّبُ بِفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ فَالْأَرْشُ بِمَنْزِلَةِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَهُ .
وَوَقَعَ فِي الْمُخْتَصَرِ أَنَّ التَّعَيُّبَ فِي يَدِهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ وَبَعْدَهُ فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ ، وَهُوَ غَلَطٌ ، بَلْ الصَّحِيحُ مِنْ الْجَوَابِ فِي كُلِّ فَصْلٍ مَا ذَكَرْنَا .

( قَالَ ) : وَإِنْ كَانَ الْمَهْرُ جَارِيَةً فَلَمْ تَقْبِضْهَا الْمَرْأَةُ حَتَّى وَطِئَهَا الزَّوْجُ فَوَلَدَتْ فَادَّعَى وَلَدَهَا لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِلْمَرْأَةِ ، وَالِاسْتِيلَادُ فِي مِلْكِهَا غَيْرُ صَحِيحٍ إلَّا أَنَّ الْحَدَّ سَقَطَ عَنْ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ الصَّدَاقَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ ، وَإِذَا سَقَطَ الْحَدُّ لَزِمَهُ الْعُقْرُ فَكَانَ الْعُقْرُ مَعَ الْوَلَدِ زِيَادَةً مُنْفَصِلَةً مُتَوَلِّدَةً مِنْ الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ ، وَالْعُقْرُ بَدَلٌ عَنْ ذَلِكَ فَإِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ تَنَصَّفَ الْكُلُّ ، فَتَكُونُ الْجَارِيَةُ بَيْنَهُمَا ، وَلَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لِلزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ أُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ يَثْبُتُ لَهَا بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ ، وَنَسَبُ الْوَلَدِ غَيْرُ ثَابِتٍ هُنَا فَكَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ لَهَا حَقُّ أُمُومِيَّةِ الْوَلَدِ ، وَلَكِنْ نِصْفُ الْوَلَدِ يُعْتَقُ عَلَى الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُ وَلَدِهِ مِنْ الزِّنَا فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الْجُزْئِيَّةِ ، وَيَسْعَى لِلْمَرْأَةِ فِي نِصْفِ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهَا اُحْتُبِسَ عِنْدَ الْوَلَدِ ، وَلَا يَصِيرُ الزَّوْجُ ضَامِنًا ؛ لِأَنَّهُ مَا صَنَعَ فِي الْوَلَدِ شَيْئًا إنَّمَا صَنَعَهُ فِي الطَّلَاقِ ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِمُبَاشَرَةٍ لِإِعْتَاقِ الْوَلَدِ ، بَلْ مِنْ حُكْمِ الطَّلَاقِ عَوْدُ النِّصْفِ إلَى الزَّوْجِ ، ثُمَّ يُعْتَقُ عَلَيْهِ حُكْمًا لِمِلْكِهِ ، وَلَكِنَّهَا تَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الْعُقْرِ ؛ لِأَنَّ الْعُقْرَ تَنَصَّفَ بَيْنَهُمَا فَإِنْ قَتَلَتْ الْخَادِمَ أَوْ مَاتَتْ عِنْدَ الْمَرْأَةِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَلِلزَّوْجِ عَلَيْهَا نِصْفُ الْقِيمَةِ يَوْمَ قَبَضَتْ ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهَا رَدُّ نِصْفِ الصَّدَاقِ بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ ، وَلَا سَبِيلَ لِلزَّوْجِ عَلَى الْقَاتِلِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ مَا لَاقَى مِلْكَ الزَّوْجِ فَإِنَّهُ حِينَ قَتَلَهَا كَانَ الْخَادِمُ

مِلْكًا لِلْمَرْأَةِ فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ أَنْ يُضَمِّنَ الْقَاتِلَ شَيْئًا .
( قَالَ : ) وَإِنْ كَانَتْ ازْدَادَتْ فِي يَدِهَا زِيَادَةً مُتَّصِلَةً فَهَلَكَتْ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ قِيمَةِ الصَّدَاقِ يَوْمَ قَبَضَتْ ، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَهْلَكَتْ ؛ لِأَنَّهَا أَتْلَفَتْ مِلْكَ نَفْسِهَا فَلَا يَلْزَمُهَا بِالْإِتْلَافِ شَيْءٌ ، وَلَكِنَّهَا بِالْقَبْضِ تَصِيرُ ضَامِنَةً لِلزَّوْجِ نِصْفَ قِيمَتِهَا حِينَ قَبَضَتْ .
( قَالَ : ) وَلَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً مُتَوَلِّدَةً مِنْ الْأَصْلِ فَهَلَكَتْ فِي يَدِهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا تَنَصَّفَ الْأَصْلُ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ تَنْصِيفِ الْأَصْلِ هُوَ الزِّيَادَةُ فَحِينَ مَاتَ ، وَلَمْ يُخَلِّفْ بَدَلًا صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَيَتَنَصَّفُ الْأَصْلُ إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ وَلَدًا ، وَقَدْ نَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ ثَبَتَ لِلزَّوْجِ الْخِيَارُ ؛ لِلنُّقْصَانِ الْحَادِثِ فِي يَدِهَا فِي الصَّدَاقِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ نُقْصَانٌ بِسَبَبِ الْوِلَادَةِ فَلَا خِيَارَ لَهُ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي اسْتَهْلَكَتْ الْوَلَدَ ، فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ الْخِيَارُ بِمَنْزِلَةِ الْجَارِيَةِ الْمَبِيعَةِ إذَا وَلَدَتْ فَأَتْلَفَ الْمُشْتَرِي وَلَدَهَا ، ثُمَّ أَرَادَ رَدَّ الْأَصْلِ بِالْعَيْبِ ، وَلَوْ كَانَتْ الْوِلَادَةُ فِي يَدِ الزَّوْجِ فَهَلَكَ الْوَلَدُ لَمْ يَضْمَنْ الزَّوْجُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ حَدَثَ بِغَيْرِ صُنْعِهِ ، وَهَلَكَ بِغَيْرِ صُنْعِهِ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِ الْمَغْصُوبَةِ ، وَلَكِنْ إنْ تَمَكَّنَ نُقْصَانٌ بِسَبَبِ الْوِلَادَةِ يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ ؛ لِأَجْلِ النُّقْصَانِ ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الَّذِي أَتْلَفَ الْأَصْلَ ، وَالزِّيَادَةَ ضَمِنَ قِيمَتَهَا لِلْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ فَيَضْمَنُهَا بِالْإِتْلَافِ كَالْمَغْصُوبَةِ ، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ضَمِنَ لَهَا نِصْفَ الْأَصْلِ وَالزِّيَادَةَ .
( قَالَ : ) وَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ قَائِمَةً عِنْدَ الزَّوْجِ فَأَعْتَقَهَا الزَّوْجُ لَمْ يَجُزْ عِتْقُهُ ؛

لِأَنَّهُ أَعْتَقَ مَا لَا يَمْلِكُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَنْفُذْ ذَلِكَ الْعِتْقُ ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَ مِلْكَهُ ، وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي أَعْتَقَهَا نَفَذَ عِتْقُهَا فِي الْكُلِّ لِمُصَادَفَتِهِ مِلْكَهَا ثُمَّ إذَا طَلَّقَهَا الزَّوْجُ ضَمَّنَهَا نِصْفَ قِيمَتِهَا يَوْمَ أَعْتَقَهَا ؛ لِأَنَّهَا بِالْإِعْتَاقِ تَصِيرُ قَابِضَةً مُتْلِفَةً .

( قَالَ ) : وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ قَبَضَتْ الصَّدَاقَ ، وَهُوَ جَارِيَةٌ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا الزَّوْجُ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَنْفُذُ عِتْقُهُ فِي نِصْفِهَا ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ حُكْمَ التَّنْصِيفِ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الطَّلَاقِ ، وَيَعُودُ نِصْفُهَا إلَى مِلْكِ الزَّوْجِ كَمَا لَوْ كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَيَنْفُذُ عِتْقُهُ فِي نَصِيبِهِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : سَبَبُ مِلْكِهَا فِي النِّصْفِ يَفْسُدُ بِالطَّلَاقِ حَتَّى يَسْتَحِقَّ عَلَيْهَا رَدَّ النِّصْفِ ، وَلَكِنْ لَا يَبْطُلُ مِلْكُهَا فِي شَيْءٍ إلَّا بِالرَّدِّ بِقَضَاءٍ أَوْ رِضَاءٍ لِأَنَّ فَسَادَ السَّبَبِ فِي الِابْتِدَاءِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ بِالْقَبْضِ فَلَأَنْ لَا يَمْنَعَ بَقَاءَ الْمِلْكِ أَوْلَى ، فَإِذَا لَمْ يَعُدْ شَيْءٌ مِنْ الْعَيْنِ إلَى الزَّوْجِ لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ .
( قَالَ : ) وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي لَهُ بِنِصْفِهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَنْفُذُ ذَلِكَ الْعِتْقُ السَّابِقُ ؛ لِأَنَّهُ سَبَقَ مِلْكَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرَاةِ شِرَاءً فَاسِدًا ، وَقَدْ قَبَضَهَا الْمُشْتَرِي ، وَأَعْتَقَهَا الْبَائِعُ ثُمَّ رُدَّتْ عَلَيْهِ لَمْ يَنْفُذْ الْعِتْقُ ، وَإِنْ كَانَ أَعْتَقَهَا بَعْدَ مَا قَضَى لَهُ الْقَاضِي بِنِصْفِهَا أَوْ رَدَّتْ الْمَرْأَةُ عَلَيْهِ النِّصْفَ بِالتَّرَاضِي نَفَذَ عِتْقُهُ فَيَكُونُ حُكْمُهُ كَحُكْمِ جَارِيَةٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَعْتَقَهَا أَحَدُهُمَا ، وَلَوْ كَانَتْ هِيَ الَّتِي أَعْتَقَتْ الْجَارِيَةَ بَعْدَ الطَّلَاقِ نَفَذَ عِتْقُهَا فِي الْكُلِّ ، وَكَذَلِكَ إنْ بَاعَتْ أَوْ وَهَبَتْ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْكُلِّ بَاقٍ لَهَا قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي ، وَإِذَا نَفَذَ تَصَرُّفُهَا فَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهَا رَدُّ النِّصْفِ بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ فَتَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا لِلزَّوْجِ يَوْمَ قَبَضَتْ ، وَلَوْ وُطِئَتْ الْجَارِيَةُ بِالشُّبْهَةِ حَتَّى غَرِمَ الْوَاطِئُ عُقْرَهَا فَحُكْمُ الْعُقْرِ كَحُكْمِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْ الْأَصْلِ وَكَحُكْمِ الْأَرْشِ ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ جُزْءٍ مِنْ

عَيْنِهَا فَإِنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ دُونَ الْمَنْفَعَةِ .

( قَالَ : ) وَلَا شُفْعَةَ فِي الدَّارِ الَّتِي تَتَزَوَّجُ عَلَيْهَا الْمَرْأَةُ ، وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ فِي الدَّارِ لَوْ وَجَبَتْ إنَّمَا تَجِبُ لِلْجَارِ ، وَهُوَ لَا يُوجِبُ الشُّفْعَةَ لِلْجَارِ أَصْلًا ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَجِبُ الشُّفْعَةُ .
( قَالَ : ) ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى شِقْصٍ مِنْ دَارٍ لَمْ تَجِبْ فِيهِ الشُّفْعَةُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَجِبُ ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ مُلِكَ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ فَكَانَ كَالْمَمْلُوكِ بِالشِّرَاءِ ، فَتَجِبُ فِيهِ الشُّفْعَةُ بِقِيمَةِ الْعِوَضِ ، وَالْعِوَضُ هُوَ الْبُضْعُ ، وَقِيمَتُهُ مَهْرُ الْمِثْلِ ، وَهُوَ كَمَنْ اشْتَرَى دَارًا بِعَبْدٍ يَأْخُذُهَا الشَّفِيعُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ ، وَعِنْدَنَا وُجُوبُ الشُّفْعَةِ يَخْتَصُّ بِمُعَاوَضَةِ مَالٍ بِمَالٍ مُطْلَقٍ ، وَالْبُضْعُ لَيْسَ بِمَالٍ مُطْلَقٍ فَكَانَ الْمَمْلُوكُ صَدَاقًا بِمَنْزِلَةِ الْمَوْهُوبِ ، فَلَا تَجِبُ فِيهَا الشُّفْعَةُ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الشَّفِيعَ إنَّمَا يَتَمَلَّكُ بِمِثْلِ السَّبَبِ الَّذِي بِهِ تَمَلَّك الْمُشْتَرِي ، فَإِنَّ الشَّرْعَ قَدَّمَ الشَّفِيعَ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي إثْبَاتِ حَقِّ الْأَخْذِ لَهُ بِذَلِكَ السَّبَبِ لَا فِي إنْشَاءِ سَبَبٍ آخَرَ ، وَلِهَذَا لَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي الْمَوْهُوبِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَهُ أَخَذَهُ بِعِوَضٍ فَكَانَ سَبَبًا آخَرَ غَيْرَ السَّبَبِ الَّذِي تَمَلَّكَ بِهِ الْمُتَمَلِّكُ ، فَكَذَلِكَ هُنَا الْمَرْأَةُ إنَّمَا مَلَكَتْ الدَّارَ بِالنِّكَاحِ صَدَاقًا فَلَوْ أَخَذَهَا الشَّفِيعُ كَانَ شِرَاء فَكَانَ سَبَبًا آخَرَ بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَاهَا بِعَبْدٍ فَإِنَّ الشَّفِيعَ يَأْخُذُهَا بِمِثْلِ ذَلِكَ السَّبَبِ لِأَنَّ الشِّرَاءَ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ بِعَيْنِ الْعَبْدِ فِي أَنَّهُ شِرَاءٌ مُطْلَقٌ .
( قَالَ : ) وَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى دَارٍ عَلَى أَنْ تَرُدَّ الْمَرْأَةُ عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ لَمْ يَجِبْ لِلشَّفِيعِ الشُّفْعَةُ فِي شَيْءٍ مِنْ الدَّارِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ

تَعَالَى ، وَعِنْدَهُمَا تُقْسَمُ الدَّارُ عَلَى الْأَلْفِ وَعَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا ، فَمَا يَخُصُّ الْأَلْفَ تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِيهِ لِلشَّفِيعِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِيمَا يَخُصُّ الْأَلْفَ شِرَاءٌ ، وَفِي مَا يَخُصُّ الْبُضْعَ نِكَاحٌ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الشِّرَاءِ مِنْ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ الْيَسِيرِ وَالْفَاحِشِ ، وَغَيْرِهِ مِنْ أَحْكَامِ الْبَيْعِ ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الصَّرْفِ يَثْبُتُ فِيهِ لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ عَلَى أَنْ تَرُدَّ عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ يَجِبُ التَّقَابُضُ فِي حِصَّةِ الصَّرْفِ ، وَيَجُوزُ أَنْ تُسْتَحَقَّ الشُّفْعَةُ فِي بَعْضِ مَا تَتَنَاوَلُهُ الصَّفْقَةُ دُونَ الْبَعْضِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى دَارًا وَعَبْدًا صَفْقَةً وَاحِدَةً ، فَإِنَّهُ تَجِبُ الشُّفْعَةُ فِي الدَّارِ دُونَ الْعَبْدِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْبَيْعَ هُنَا تَبَعٌ لِلنِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا بِهَذِهِ الصَّفْقَةِ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْمَقْصُودُ النِّكَاحَ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَتَوَقَّفُ حِصَّةُ الْبَيْعِ عَلَى قَبُولِ الْمَرْأَةِ إذَا حَصَلَ الْعَقْدُ مِنْ فُضُولِيٍّ ، وَالشِّرَاءُ مَقْصُودًا لَا يَتَوَقَّفُ ، وَكَذَلِكَ يَنْعَقِدُ بِلَفْظَةِ الرَّدِّ ، وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْقَبُولِ حَتَّى إذَا قَالَ : زَوِّجِينِي نَفْسَك عَلَى هَذِهِ الدَّارِ عَلَى أَنْ تَرُدِّي عَلَيَّ أَلْفًا فَقَالَتْ : فَعَلْت يَتِمُّ بِدُونِ قَبُولِ الزَّوْجِ ، وَإِنَّهَا لَوْ قَبِلَتْ حِصَّةَ النِّكَاحِ دُونَ الْبَيْعِ صَحَّ ، وَلَوْ قَبِلَتْ حِصَّةَ الْبَيْعِ دُونَ النِّكَاحِ لَمْ يَصِحَّ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الشِّرَاءَ تَبَعٌ لِلنِّكَاحِ فَنَقُولُ : إذَا لَمْ تَجِبْ الشُّفْعَةُ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ لَا تَجِبُ بِاعْتِبَارِ التَّبَعِ كَالْعَرْصَةِ الْمَوْقُوفَةِ إذَا كَانَ عَلَيْهَا بِنَاءٌ لَمْ تَجِبْ الشُّفْعَةُ فِي ذَلِكَ الْبِنَاءِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ دَفْعُ ضَرَرِ الْجَارِ الْحَادِثِ ، وَلَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ إذَا لَمْ تَجِبْ الشُّفْعَةُ فِيمَا هُوَ الْأَصْلُ بِخِلَافِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ الْبَيْعِ ؛

لِأَنَّ الْعَيْبَ فِي الْأَصْلِ فَوَاتُ وَصْفٍ هُوَ تَبَعٌ ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الصَّرْفِ يَثْبُتُ فِيمَا هُوَ تَبَعٌ كَالصَّفَائِحِ مِنْ الذَّهَبِ فِي الدَّارِ الْمُشْتَرَاةِ بِالْفِضَّةِ يَثْبُتُ فِيهَا حُكْمُ الصَّرْفِ .

( قَالَ : ) وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى كَذَا مِنْ الْإِبِلِ أَوْ الْبَقَرِ أَوْ الْغَنَمِ فَلَهَا الْعَدَدُ الْمُسَمَّى مِنْ الْوَسَطِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ ، وَإِنْ أَتَى بِقِيمَةِ ذَلِكَ أُجْبِرَتْ عَلَى الْقَبُولِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ .

( قَالَ : ) وَالْأَثْوَابُ الْهَرَوِيَّةُ وَغَيْرُهَا مِنْ أَجْنَاسِ الثِّيَابِ كَذَلِكَ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ بِعَيْنِهِ فَلَهَا ذَلِكَ الثَّوْبُ إنْ كَانَ هَرَوِيًّا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هَرَوِيًّا ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : لَهَا قِيمَةُ ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ وَسَطٍ ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : لَهَا الْخِيَارُ إنْ شَاءَتْ أَخَذَتْ الثَّوْبَ بِعَيْنِهِ ، وَإِنْ شَاءَتْ طَالَبَتْ الزَّوْجَ بِقِيمَةِ ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ وَسَطٍ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ أُضِيفَ إلَى عَيْنِ ذَلِكَ الثَّوْبِ ، وَلَكِنَّهَا وَجَدَتْهُ عَلَى خِلَافِ شَرْطِهَا فَلَهَا الْخِيَارُ كَمَا لَوْ وَجَدَتْهُ مَعِيبًا ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْمُشَارُ إلَيْهِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى فَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُسَمَّى دُونَ الْمُشَارِ إلَيْهِ ، وَهُوَ أَصْلٌ مَعْرُوفٌ نُقَرِّرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ بِغَيْرِ عَيْنِهِ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ الصِّفَةَ فَإِنْ أَتَاهَا بِالثَّوْبِ أُجْبِرَتْ عَلَى الْقَبُولِ ، وَإِنْ أَتَاهَا بِالْقِيمَةِ أُجْبِرَتْ أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْمُطْلَقِ ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مَوْصُوفٍ لَا تَثْبُتُ عَيْنُهُ فِي الذِّمَّةِ ثُبُوتًا صَحِيحًا وَزُفَرُ يَقُولُ : الثَّوْبُ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مَوْصُوفًا ثُبُوتًا صَحِيحًا ، وَإِنَّمَا صَحَّتْ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ ، وَالثَّوْبُ فِي ذَلِكَ وَقِيمَتُهُ سَوَاءٌ ، وَإِنْ بَيَّنَ صِفَةَ هَذَا الثَّوْبِ فَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : تُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ الْقِيمَةِ إذَا أَتَاهَا بِهَا ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : إنْ ذَكَرَ الْأَجَلَ مَعَ ذَلِكَ لَمْ تُجْبَرْ عَلَى قَبُولِ الْقِيمَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْأَجَلَ أُجْبِرَتْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الثِّيَابَ لَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ثُبُوتًا صَحِيحًا إلَّا مُؤَجَّلًا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهَا ، وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ لَا يَكُونُ إلَّا

حَالًّا ، وَالسَّلَمُ لَا يَكُونُ إلَّا مُؤَجَّلًا فَعِنْدَ ذِكْرِ الْأَجَلِ يَثْبُتُ الثَّوْبُ دَيْنًا ثُبُوتًا صَحِيحًا ، فَلَا تُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ الْقِيمَةِ ، وَعِنْدَ عَدَمِ ذِكْرِ الْأَجَلِ لَا يَثْبُتُ ثُبُوتًا صَحِيحًا ؛ لِأَنَّ بِالْمُبَالَغَةِ فِي ذِكْرِ وَصْفِهِ يَلْتَحِقُ بِذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، وَلِهَذَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ .
وَاشْتِرَاطُ الْأَجَلِ هُنَاكَ مِنْ حُكْمِ السَّلَمِ لَا مِنْ حُكْمِ ثُبُوتِ الثِّيَابِ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فَيَسْتَوِي فِي هَذَا إنْ ذَكَرَ الْأَجَلَ ، أَوْ لَمْ يَذْكُرْ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : لَوْ بَاعَ عَبْدًا بِثِيَابٍ مَوْصُوفَةٍ فِي الذِّمَّةِ لَا يَجُوزُ إلَّا مُؤَجَّلًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْعَقْدُ سَلَمًا فَعَرَفْنَا أَنَّ الثِّيَابَ لَا تَثْبُتُ دَيْنًا ثُبُوتًا صَحِيحًا إلَّا مُؤَجَّلًا .

( قَالَ : ) فَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ فَإِنْ سَمَّى جِنْسَهُ وَصِفَتَهُ وَمِقْدَارَهُ ؛ لَمْ تُجْبَرْ عَلَى قَبُولِ الْقِيمَةِ إذَا أَتَاهَا بِهَا ؛ لِأَنَّ الْمَكِيلَ ، وَالْمَوْزُونَ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مَوْصُوفًا ثُبُوتًا صَحِيحًا حَالًّا كَانَ أَوْ مُؤَجَّلًا بِدَلِيلِ جَوَازِ اسْتِقْرَاضِهَا ، وَالسَّلَمِ فِيهَا ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الصِّفَةَ فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إذَا أَتَاهَا بِالْقِيمَةِ أُجْبِرَتْ عَلَى الْقَبُولِ ؛ لِأَنَّهَا بِتَسْمِيَةِ الْجِنْسِ بِدُونِ الصِّفَةِ لَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ثُبُوتًا صَحِيحًا ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى : أَنَّهَا لَا تُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ مَتَى صَحَّتْ بِذِكْرِ الْجِنْسِ تَعَيَّنَ الْوَسَطُ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ كَمَا فِي الْعَبْدِ ، وَالثَّوْبِ الْهَرَوِيِّ فَمَا تَعَيَّنَ مِنْ الْوَصْفِ شَرْعًا يَكُونُ كَالْمَذْكُورِ نَصًّا فَلَا تُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ الْقِيمَةِ .

( قَالَ : ) فَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى دَرَاهِمَ أَوْ شَيْءٍ مِنْ الْعُرُوضِ لَا تَبْلُغُ قِيمَتُهُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَإِنَّهُ يُكْمِلُ لَهَا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهَا مَا سَمَّى ، وَالْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّ كُلَّ مَا يَصْلُحُ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ يَصْلُحُ صَدَاقًا فِي النِّكَاحِ ، وَعِنْدَنَا أَدْنَى الْمَهْرِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ مِنْ الْفِضَّةِ أَوْ مِمَّا تَكُونُ الْفِضَّةُ فِيهِ غَالِبَةً عَلَى الْغِشِّ ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمَهْرُ جَائِزٌ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ } ، وَفِي رِوَايَةٍ { الْمَهْرُ مَا تَرَاضَى عَلَيْهِ الْأَهْلُونَ } ، وَفِي رِوَايَةٍ { مَنْ اسْتَحَلَّ بِدِرْهَمٍ فَقَدْ اسْتَحَلَّ } ، وَرُوِيَ { أَنَّ امْرَأَةً عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرَ فِيهَا رَغْبَةً فَقَالَ : مَالِي حَاجَةٌ إلَى النِّسَاءِ فَقَالَتْ : زَوِّجْنِي مِمَّنْ شِئْت فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ : زَوِّجْهَا مِنِّي فَقَالَ : مَاذَا تُصْدِقُهَا ؟ فَقَالَ : إزَارِي هَذِهِ فَقَالَ : إذًا قَعَدْتَ ، وَلَا إزَارَ لَك الْتَمِسْ ، وَلَوْ بِفَلْسٍ الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ فَقَالَ : لَا أَجِدُ فَقَالَ : هَلْ تُحْسِنُ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ سُورَةُ كَذَا فَقَالَ : زَوَّجْتُكَهَا بِمَا عِنْدَك مِنْ الْقُرْآنِ } فَهَذِهِ الْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَهْرَ لَا يَتَقَدَّرُ بِشَيْءٍ ، وَكَذَلِكَ فِي الْكِتَابِ الشَّرْطُ هُوَ الْمَالُ الْمُطْلَقُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ } فَتَقْيِيدُ ذَلِكَ الْمَالِ بِالْعَشَرَةِ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَلَا لَا يُزَوِّجْ النِّسَاءَ إلَّا الْأَوْلِيَاءُ ، وَلَا يُزَوَّجْنَ إلَّا مِنْ الْأَكْفَاءِ ، وَلَا مَهْرَ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ } ، وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا قَطْعَ فِي أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ

دَرَاهِمَ ، وَلَا مَهْرَ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ } ، وَفِي الْكِتَابِ قَالَ : بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَعَامِرٍ وَإِبْرَاهِيمَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ .
وَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّهُ بَدَلٌ فِي عَقْدٍ لَمْ يُجْعَلْ إيجَابُ أَصْلِهِ إلَى الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَيَكُونُ مُقَدَّرًا شَرْعًا كَالدِّيَةِ ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْعَقِدُ صَحِيحًا إلَّا مُوجِبًا لِلْعِوَضِ إمَّا فِي الْحَالِ ، أَوْ فِي الثَّانِي عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَإِنَّمَا كَانَ اشْتِرَاطُ الْعِوَضِ فِيهِ شَرْعًا ؛ لِإِظْهَارِ خَطَرِ الْبُضْعِ ، وَلَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ بِأَصْلِ الْمَالِيَّةِ فَاسْمُ الْمَالِ يَتَنَاوَلُ الْخَطِيرَ ، وَالْحَقِيرَ ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ إظْهَارُ الْخَطَرِ بِمَالٍ مُقَدَّرٍ وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ : { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ } ، وَالْبُضْعُ مِنْ وَجْهٍ فِي حُكْمِ النُّفُوسِ حَتَّى لَا يَسْقُطَ حُكْمُ الْفِعْلِ فِيهِ بِالْبَدَلِ ؛ وَلِأَنَّ الْوَطْءَ سَبَبٌ ؛ لِإِعْلَاقِ النَّفْسِ ، وَإِذَا كَانَ بِغَيْرِ مِلْكٍ يَضِيعُ ؛ لِانْعِدَامِ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ فَكَانَ الْخَطَرُ هُنَا فِي مَعْنَى الْخَطَرِ فِي النُّفُوسِ ، وَالْمَالُ الَّذِي هُوَ بَدَلٌ عَنْ النُّفُوسِ مُقَدَّرٌ شَرْعًا ، وَهُوَ الدِّيَةُ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ كُلَّ مَالٍ أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ تَوَلَّى بَيَانَ مِقْدَارِهِ كَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا ، فَكَذَا الصَّدَاقُ مِمَّا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ ، فَيَكُونُ مُقَدَّرًا شَرْعًا ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ : { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ } الْآيَةَ مَعْنَاهُ مَا قَدَّرْنَا فَإِنَّ الْفَرْضَ عِبَارَةٌ عَنْ التَّقْدِيرِ ، وَعَلَى هَذَا نِصَابُ السَّرِقَةِ يَدْخُلُهُ التَّقْدِيرُ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَبَاحُ بِهِ مَا لَا يُسْتَبَاحُ بِالْبَدَلِ فَكَذَلِكَ الصَّدَاقُ .
وَتَأْوِيلُ الْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ فِيمَا يَجْعَلُهُ لَهَا بِالْيَدِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَمَرَ ذَلِكَ الرَّجُلَ بِالِالْتِمَاسِ ، وَالصَّدَاقُ يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ فِي الذِّمَّةِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ مَا

يَجْعَلُهُ لَهَا بِالْيَدِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ شَرْعًا عِنْدَنَا ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ : إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى خَمْسَةِ دَرَاهِمَ فَلَهَا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ اسْتِحْسَانًا فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ إنْ دَخَلَ بِهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا ، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهَا خَمْسَةٌ ، وَفِي الْقِيَاسِ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا إنْ دَخَلَ بِهَا ، وَالْمُتْعَةُ إنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ سَمَّى مَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا لَهَا شَرْعًا فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ سَمَّى لَهَا خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا وَلِلِاسْتِحْسَانِ وَجْهَانِ .
( أَحَدُهُمَا ) : أَنَّ الْعَشَرَةَ فِي كَوْنِهَا صَدَاقًا لَا تَتَجَزَّأُ وَذِكْرُ بَعْضِ مَا لَا يَتَجَزَّأُ كَذِكْرِ كُلِّهِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ نِصْفَهَا صَحَّ النِّكَاحُ فِي الْكُلِّ جَمِيعًا .
( الثَّانِي ) : أَنَّ الْإِمْهَارَ إلَى تَمَامِ الْعَشَرَةِ حَقُّ الشَّرْعِ ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ حَقُّهَا فَإِذَا رَضِيَتْ بِالْخَمْسَةِ فَقَدْ أَسْقَطَتْ مَا هُوَ حَقُّهَا ، وَبَعْضَ مَا هُوَ حَقُّ الشَّرْعِ فَيَعْمَلُ إسْقَاطُهَا فِيمَا هُوَ حَقُّهَا ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ عَلَى الْعَشَرَةِ ، وَلَا يَعْمَلُ فِي حَقِّ الشَّرْعِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى ثَوْبٍ يُسَاوِي خَمْسَةً فَلَهَا الثَّوْبُ وَخَمْسَةُ دَرَاهِمَ ، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَلَهَا نِصْفُ الثَّوْبِ وَدِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ ، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ قِيمَةُ الثَّوْبِ يَوْمَ تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ سَمَّى لَهَا مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْمَهْرِ وَاعْتِبَارَهُ عِنْدَ الْعَقْدِ .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الثَّوْبِ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْقَبْضِ ، وَفِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ يَوْمَ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ ثُبُوتًا صَحِيحًا بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، وَالثَّوْبُ لَا يَثْبُتُ ثُبُوتًا صَحِيحًا بَلْ يَتَرَدَّدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِيمَةِ فَلِهَذَا يُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ وَقْتَ

الْقَبْضِ .

( قَالَ : ) وَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى غَيْرِ مَهْرٍ مُسَمًّى ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا الْمُتْعَةُ ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إنْ طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ } إلَى قَوْلِهِ { وَمَتِّعُوهُنَّ } ، وَأَدْنَى الْمُتْعَةِ دِرْعٌ وَخِمَارٌ ، وَمِلْحَفَةٌ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ الْمُتْعَةَ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تُصَلِّي فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ وَتَخْرُجُ فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ عَادَةً فَيَكُونُ ذَلِكَ مُتْعَةً لَهَا تَذْكِرَةً مِنْ الزَّوْجِ إذَا فَارَقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْمُتْعَةُ شَيْءٌ نَفِيسٌ مِنْ ثَوْبٍ أَوْ خَادِمٍ أَوْ فَرَسٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الْمُتْعَةِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهَا نِصْفُ مَهْرِ مِثْلِهَا لَا يَنْقُصُ مِنْ خَمْسَةِ دَرَاهِمَ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهَا الْمُتْعَةُ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّهُ سَقَطَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِهِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : النِّكَاحُ الَّذِي فِيهِ تَسْمِيَةٌ فِي حُكْمِ الصَّدَاقِ أَقْوَى مِمَّا لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ فَإِذَا كَانَ فِي الْعَقْدِ الَّذِي فِيهِ التَّسْمِيَةُ لَا يَجِبُ لَهَا بِالطَّلَاقِ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ مَا كَانَ وَاجِبًا قَبْلَهُ فَكَذَلِكَ فِي النِّكَاحِ الَّذِي لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ ، وَقَدْ كَانَ الْوَاجِبُ قَبْلَ الطَّلَاقِ مَهْرَ الْمِثْلِ فَلَا تُزَادُ الْمُتْعَةُ عَلَى نِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ ، وَإِنْ كَانَا سَوَاءً فَالْوَاجِبُ هُوَ الْمُتْعَةُ ؛ لِأَنَّهَا فَرِيضَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَعِنْدَ الْمُسَاوَاةِ تَتَرَجَّحُ الْمُتْعَةُ

( قَالَ : ) وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ أَوْ عَلَى مَا فِي بَطْنِ أَغْنَامِهِ لَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ كَوْنُ الْمُسَمَّى مَالًا ، وَمَا فِي الْبَطْنِ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْخُلْعِ فَإِنَّهُ لَوْ خَالَعَهَا عَلَى مَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهَا صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ ؛ لِأَنَّ مَا فِي الْبَطْنِ بِغَرَضِ أَنْ يَصِيرَ مَالًا بِالِانْفِصَالِ ، وَأَحَدُ الْعِوَضَيْنِ فِي الْخُلْعِ يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ ، وَهُوَ الطَّلَاقُ فَالْعِوَضُ الْآخَرُ كَذَلِكَ يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ فَإِذَا سَمَّى مَا فِي الْبَطْنِ فَكَأَنَّهُ أَضَافَ التَّسْمِيَةَ إلَى مَا بَعْدَ الِانْفِصَالِ ، وَفِي النِّكَاحِ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ فَالْعِوَضُ الْآخَرُ كَذَلِكَ ، وَالْمُسَمَّى فِي الْحَالِ لَيْسَ بِمَالٍ فَكَانَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَا تَحْمِلُ نَخْلَةٌ أَوْ تُخْرِجُ أَرْضُهُ الْعَامَ أَوْ عَلَى مَا يَكْتَسِبُ غُلَامُهُ ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى مَعْدُومٌ ، وَتَأْثِيرُ الْعَدَمِ أَبْلَغُ مِنْ تَأْثِيرِ الْجَهَالَةِ فَإِذَا كَانَ لَا يَصِحُّ تَسْمِيَةُ مَجْهُولِ الْجِنْسِ كَالثَّوْبِ ، وَالدَّابَّةِ فَتَسْمِيَةُ الْمَعْدُومِ أَوْلَى أَنْ لَا تَصِحَّ .

( قَالَ : ) وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ فَوَجَدَتْهُ حُرًّا فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَوَّلُ ، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ قِيمَةُ ذَلِكَ الشَّخْصِ أَنْ لَوْ كَانَ عَبْدًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذِهِ الشَّاةِ الْمَذْبُوحَةِ فَإِذَا هِيَ مَيْتَةٌ أَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذَا الدَّنِّ مِنْ الْخَلِّ فَإِذَا هُوَ خَمْرٌ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَهَا مِثْلُ ذَلِكَ الدَّنِّ مِنْ خَلٍّ وَسَطٍ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : سَمَّى لَهَا فِي الْعَقْدِ مَالًا ، وَهُوَ الْعَبْدُ ، وَالذَّكِيَّةُ ، وَالْخَلُّ فَصَحَّتْ التَّسْمِيَةُ ثُمَّ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْمُسَمَّى بِمَا ظَهَرَ فَتَجِبُ الْقِيمَةُ فِيمَا لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، وَالْمِثْلُ فِيمَا هُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ تَسْلِيمُ الْمُسَمَّى بِالْهَلَاكِ فِي يَدِ الزَّوْجِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ حِينَ ظَهَرَ حُرًّا فَقَدْ اسْتَحَقَّ نَفْسَهُ فَيُجْعَلُ كَاسْتِحْقَاقِ الْغَيْرِ إيَّاهُ ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدٍ فَاسْتُحِقَّ كَانَ لَهَا قِيمَتُهُ فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَحَقَّ نَفْسَهُ بِالْحُرِّيَّةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا الْأَصْلُ أَنَّ الْإِشَارَةَ ، وَالتَّسْمِيَةَ إذَا اجْتَمَعَتَا فَإِنْ كَانَ الْمُشَارُ إلَيْهِ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمُسَمَّى يَتَعَلَّقُ بِالْمُسَمَّى ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى فَصًّا عَلَى أَنَّهُ يَاقُوتٌ فَإِذَا هُوَ زُجَاجٌ كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْمُسَمَّى ، فَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُسَمَّى ، وَالْمُسَمَّى مَعْدُومٌ ، وَبَيْعُ الْمَعْدُومِ بَاطِلٌ ، وَلَوْ اشْتَرَى فَصًّا عَلَى أَنَّهُ يَاقُوتٌ أَحْمَرُ فَإِذَا هُوَ يَاقُوتٌ أَصْفَرُ جَازَ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ مِنْ

جِنْسِ الْمُسَمَّى فَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ أَبْلَغُ فِي التَّعْرِيفِ ؛ لِأَنَّهَا تَقْطَعُ الشَّرِكَةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ : الْحُرُّ وَالْعَبْدُ جِنْسٌ وَاحِدٌ فَإِنَّ الْآدَمِيَّ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ حُرٌّ ثُمَّ يَتَعَرَّضُ الرِّقُّ فِيهِ ، وَالْإِعْتَاقُ إتْلَافٌ لِذَلِكَ الرِّقِّ الْعَارِضِ فَلَا يُوجِبُ تَبْدِيلَ الْجِنْسِ ، وَاخْتِلَافُ الْجِنْسِ إمَّا بِاخْتِلَافِ الْأَصْلِ أَوْ الْهَيْئَةِ أَوْ الْمَقْصُودِ ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ بَيْنَ الْأَحْرَارِ وَالْعَبِيدِ ، فَإِذَا اتَّحَدَ الْجِنْسُ تَعَلَّقَ الْعَقْدُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ ، وَهُوَ الْحُرُّ دُونَ الْمُسَمَّى ، وَالْمُشَارُ إلَيْهِ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَصِحُّ تَسْمِيَتُهُ بِخِلَافِ عَبْدِ الْغَيْرِ فَإِنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ ، وَعَلَى هَذِهِ الذَّكِيَّةِ وَالْمَيْتَةِ ، فَإِنَّ الْجِنْسَ وَاحِدٌ فَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ .
فَأَمَّا مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْخَمْرِ ، وَالْخَلِّ قَالَ : هُمَا جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُمَا يَخْتَلِفُ ، وَكَذَلِكَ الْخَلُّ فَقَطْ لَا يَصِيرُ فِي مِثْلِ حَالِ الْخَمْرِ ، وَالْخَمْرُ اسْمٌ لِعَيْنٍ حَرَامٍ ، وَالْخَلُّ اسْمٌ لِمَطْعُومٍ حَلَالٍ فَكَانَا جِنْسَيْنِ فَيَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالْمُسَمَّى ، وَالْمُسَمَّى هُوَ الْخَلُّ فَلِهَذَا كَانَ لَهَا مِثْلُ ذَلِكَ الدَّنِّ مِنْ الْخَلِّ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : الْخَلُّ وَالْخَمْرُ جِنْسٌ وَاحِدٌ ، فَإِنَّ الْأَصْلَ وَاحِدٌ ، وَالْهَيْئَةُ وَاحِدَةٌ ، وَهَذِهِ أَوْصَافٌ تَتَعَرَّضُ عَلَى الْعَيْنِ فَلَا تُوجِبُ تَبْدِيلَ الْجِنْسِ كَالصِّغَرِ ، وَالْكِبَرِ فِي الْآدَمِيِّ فَإِنَّ الْحَلَاوَةَ فِي الْعَصِيرِ بِمَنْزِلَةِ الْحَلَاوَةِ الَّتِي تَكُونُ فِي الصِّغَرِ ، ثُمَّ الشِّدَّةُ فِي الْخَمْرِ بِمَنْزِلَةِ الْحِدَةِ ، وَالْقُوَّةِ الَّتِي تَكُونُ فِي الشَّبَابِ ، ثُمَّ الْحُمُوضَةُ فِي الْخَلِّ بِمَنْزِلَةِ حَالِ الشَّيْخُوخَةِ فَكَمَا أَنَّ بِتَبَدُّلِ الْأَحْوَالِ لَا يَخْتَلِفُ جِنْسُ الْآدَمِيِّ ،

فَكَذَلِكَ بِتَبَدُّلِ الْأَحْوَالِ فِي الْعَصِيرِ ، فَإِذَا كَانَ الْجِنْسُ وَاحِدًا تَعَلَّقَ الْعَقْدُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ ، وَالْمُشَارُ إلَيْهِ لَيْسَ بِمَالٍ فَلِهَذَا كَانَ لَهَا مِثْلُهَا .

( قَالَ : ) فَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَمَةٍ فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ ثُمَّ مَاتَ وَلَدُهَا فَلَيْسَ عَلَى الزَّوْجِ فِي الْوَلَدِ ضَمَانٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصْنَعْ فِي الْوَلَدِ شَيْئًا ، وَلَا يَكُونُ حَالُهُ أَعْلَى مِنْ حَالِ وَلَدِ الْمَغْصُوبَةِ ، وَلَكِنْ لَهَا الْأَمَةُ إنْ دَخَلَ بِهَا ، وَلَا خِيَارَ لَهَا إنْ كَانَ نُقْصَانُ الْوِلَادَةِ يَسِيرًا كَمَا لَوْ تَعَيَّبَتْ فِي يَدِ الزَّوْجِ بِعَيْبٍ يَسِيرٍ سِوَى نُقْصَانِ الْوِلَادَةِ ، وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ فَاحِشًا فَلَهَا الْخِيَارُ إنْ شَاءَتْ أَخَذَتْ الْجَارِيَةَ ، وَلَا يَضْمَنُ الزَّوْجُ شَيْئًا مِنْ النُّقْصَانِ ، وَإِنْ شَاءَتْ قِيمَتَهَا يَوْمَ تَزَوَّجَهَا عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ الْوِلَادَةِ كَالْعَيْبِ السَّمَاوِيِّ ، وَقَدْ كَانَ الْوَلَدُ جَابِرًا لِذَلِكَ النُّقْصَانِ .
فَأَمَّا إذَا مَاتَ الْوَلَدُ ظَهَرَ النُّقْصَانُ ؛ لِانْعِدَامِ مَا يَجْبُرُهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ثُبُوتَ الْخِيَارِ لَهَا فِي الْعَيْبِ السَّمَاوِيِّ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ قَتَلَ الْوَلَدَ ضَمِنَ لَهَا قِيمَتَهُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَمَانَةً فِي يَدِهِ فَيَضْمَنُهُ بِالْإِتْلَافِ فَإِنْ كَانَ فِي قِيمَتِهِ وَفَاءُ نُقْصَانِ الْوِلَادَةِ لَمْ يَضْمَنْ نُقْصَانَ الْوِلَادَةِ ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْوَلَدِ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْوَلَدِ ، فَيَكُونُ جَابِرًا لِلنُّقْصَانِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا وَفَاءٌ فَعَلَيْهِ تَمَامُ ذَلِكَ بِهِ أَجَابَ فِي الْكِتَابِ ، وَهُوَ غَلَطٌ فَقَدْ بَيَّنَ فِي الِابْتِدَاءِ أَنَّ الزَّوْجَ لَا يَضْمَنُ نُقْصَانَ الْوِلَادَةِ عِنْدَ مَوْتِ الْوَلَدِ فَكَذَلِكَ لَا يَضْمَنُ مَا زَادَ عَلَى قِيمَةِ الْوَلَدِ مِنْ قَدْرِ النُّقْصَانِ ، وَلَكِنَّهُ إذَا كَانَ يَسِيرًا فَلَا خِيَارَ لَهَا ، وَإِنْ كَانَ فَاحِشًا فَلَهَا الْخِيَارُ كَمَا بَيَّنَّا .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96