كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي

فَكَذَلِكَ إذَا امْتَنَعَ عَنْ اسْتِهْلَاكِ مَالِ الْغَيْرِ حَتَّى قُتِلَ قَالَ : وَلَوْ أَثِمَ فِي هَذَا فِي مَالِهِ ، أَوْ مَالِ غَيْرِهِ أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ ، فَهُوَ شَهِيدٌ } ، وَهَذَا حَدِيثٌ مَشْهُورٌ أَشَارَ إلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَوْ قُتِلَ دَفْعًا عَنْ مَالِ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ مَالِ غَيْرِهِ كَانَ شَهِيدًا ، فَكَيْفَ لَا يَكُونُ شَهِيدًا فِي دَفْعِ مَا لَا يَسَعُهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ ، فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ إذَا امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : لَأَقْتُلَنَّكَ ، أَوْ لَتُطَلِّقَنَّ امْرَأَتَكَ ، أَوْ لَتُعْتِقَنَّ عَبْدَك ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى قُتِلَ لَمْ يَأْثَمْ ؛ لِأَنَّهُ بَذَلَ نَفْسَهُ دَفْعًا عَنْ مِلْكٍ مُحْتَرَمٍ لَهُ ، فَإِنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ مُحْتَرَمٌ لِمِلْكِ الْمَالِ ، وَرُبَّمَا يَكُونُ الِاحْتِرَامُ لِمِلْكِ النِّكَاحِ أَظْهَرُ ، فَلَا يَكُونُ هُوَ آثِمًا ، وَإِنْ كَانَ يَسَعُهُ الْإِقْدَامُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِتَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ .

وَلَوْ أُكْرِهَ بِوَعِيدِ قَتْلٍ عَلَى أَنْ يَقْتُلَ عَبْدَهُ عَمْدًا وَقِيمَتُهُ أَلْفِ دِرْهَمٍ ، أَوْ يَسْتَهْلِكَ مَالَهُ هَذَا ، وَهُوَ أَلْفَا دِرْهَمٍ ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يَفْعَلَ وَاحِدًا مِنْهُمَا حَتَّى قُتِلَ كَانَ غَيْرَ آثِمٍ ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْقَتْلِ لَمْ تَنْكَشِفْ بِالْإِكْرَاهِ ، وَحُرْمَةُ الْمَالِ قَائِمَةٌ مَعَ الْإِكْرَاهِ ، وَإِنْ أُبِيحَ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى اسْتِهْلَاكِهِ لِلدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ ، فَلَا يَكُونُ آثِمًا فِي الِامْتِنَاعِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ مِنْ السَّفَهِ فِي اسْتِهْلَاكِ الْمَالِ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ مِنْ السَّفَهِ ، فَإِنْ اسْتَهْلَكَ مَالَهُ ، فَقَدْ أَحْسَنَ ، وَضَمَانُهُ عَلَى الْمُكْرِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ ؛ لِأَنَّ الْإِلْجَاءَ قَدْ تَحَقَّقَ ، فَيَكُونُ فِعْلُهُ فِي إتْلَافِ الْمَالِ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ ، وَهُوَ مُحْسِنٌ فِيمَا صَنَعَ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ مَالَهُ دُونَ نَفْسِهِ ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لِوَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ اجْعَلْ مَالَك دُونَ نَفْسِك ، وَنَفْسَك دُونَ دِينِك } ، فَإِنْ قَتَلَ الْعَبْدَ ، وَلَمْ يَسْتَهْلِكْ الْمَالَ ، فَهُوَ آثِمٌ ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُكْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِلْجَاءَ لَمْ يَتَحَقَّقْ فِي الْقَتْلِ ، فَإِنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ دَفْعِ الشَّرِّ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ ، فَبَقِيَ فِعْلُهُ فِي الْقَتْلِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ عَلَى الْمُكْرِهِ قَوَدٌ ، وَلَا قِيمَةٌ .
.

وَلَوْ أَكْرَهَهُ بِوَعِيدِ الْقَتْلِ عَلَى أَنْ يَقْتُلَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ هَذَيْنِ ، وَأَحَدُهُمَا أَقَلُّ قِيمَةً مِنْ الْآخَرِ ، فَقَتَلَ أَحَدَهُمَا عَمْدًا كَانَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَ الْمُكْرِهَ لِتَحَقُّقِ الْإِلْجَاءِ هُنَا فِيمَا أَقْدَمَ عَلَيْهِ مِنْ الْقَتْلِ ، فَحُكْمُ الْقَتْلِ فِي الْعَبْدِ الَّذِي هُوَ قَلِيلُ الْقِيمَةِ كَهُوَ فِي كَثِيرِ الْقِيمَةِ ، وَاذَا تَحَقَّقَ الْإِلْجَاءُ صَارَ الْقَتْلُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ، فَإِنَّهُ لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ اسْتِهْلَاكِ الْمَالِ ، وَالْقَتْلِ ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الْإِلْجَاءُ فِي الْأَدْنَى وَالْأَدْنَى اسْتِهْلَاكُ الْمَالِ الَّذِي يُبَاحُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ ، فَبَقِيَ فِي قَتْلِ الْعَبْدِ مُبَاشِرًا لِلْفِعْلِ مُخْتَارًا ، وَهُنَا حُرْمَةُ نَفْسِ الْعَبْدَيْنِ سَوَاءٌ ، فَيَتَحَقَّقُ الْإِلْجَاءُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَكْرَهَهُ بِوَعِيدِ الْقَتْلِ عَلَى أَنْ يَقْطَعَ يَدَ نَفْسِهِ ، أَوْ يَقْتُلَ عَبْدَهُ عَمْدًا ، فَفَعَلَ أَحَدَهُمَا كَانَ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ الْمُكْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِلْجَاءَ تَنَاوَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ ، فَإِنْ قِيلَ : لَا كَذَلِكَ ، فَإِنَّهُ يُبَاحُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى قَطْعِ يَدِ نَفْسِهِ عِنْدَ الْإِكْرَاهِ ، وَلَا يُبَاحُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى قَتْلِ عَبْدِهِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ هَذَا نَظِيرَ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ ، فَالْأَطْرَافُ مُحْتَرَمَةٌ كَالنُّفُوسِ إلَّا أَنَّهُ إذَا أُكْرِهَ عَلَى قَطْعِ يَدَ نَفْسِهِ ، فَبِاعْتِبَارِ مُقَابَلَةِ طَرَفِهِ بِنَفْسِهِ جَوَّزَنَا لَهُ أَنْ يَخْتَارَ أَدْنَى الضَّرَرَيْنِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَ مُقَابَلَةِ طَرَفِهِ بِنَفْسِ عَبْدِهِ فَالضَّرَرُ عَلَيْهِ فِي قَطْعِ طَرَفِهِ ، فَوْقَ الضَّرَرِ فِي قَتْلِ عَبْدِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ خَافَ عَلَى عَبْدِهِ الْهَلَاكَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ يَدَ نَفْسِهِ لِيَتَنَاوَلَهُ الْعَبْدُ ، فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا فِي الْحُرْمَةِ عِنْدَ مُقَابَلَةِ

أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ ، فَيَتَنَاوَلُ الْإِكْرَاهُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .

وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَضْرِبَ أَحَدَ عَبْدَيْهِ مِائَةَ سَوْطٍ ، فَفَعَلَ ذَلِكَ بِأَحَدِهِمَا ، فَمَاتَ مِنْهُ غَرِمَ الْمُكْرِهُ أَقَلَّ الْقِيمَتَيْنِ إنْ كَانَ الَّذِي بَقِيَ أَقَلُّهُمَا قِيمَةً ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِهَذَا الْفِعْلِ ضَمَانُ الْمَالِيَّةِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى ، وَفِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمَالِيَّةِ الضَّرُورَةُ لِلْمَوْلَى إنَّمَا تَتَحَقَّقُ فِي الْأَقَلِّ ، فَهُوَ أَقْدَمَ عَلَى ضَرْبِ أَكْثَرِهِمَا قِيمَةً كَانَ مُخْتَارًا فِي الزِّيَادَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْهِبَةِ ، وَالتَّسْلِيمِ فِي أَحَدِهِمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ ، فَهُنَاكَ مُوجِبُ الْفِعْلِ الْقَوَدُ يَسْتَوِي فِيهِ قَلِيلُ الْقِيمَةِ ، وَكَثِيرُ الْقِيمَةِ ، وَهُنَا مُوجِبُهُ الْمَالُ بِطَرِيقِ الْجُبْرَانِ لِمَا ، فَاتَ عَنْ الْمَوْلَى ، وَبَيْنَهُمَا فِي الْمَالِيَّةِ تَفَاوُتٌ وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ لَهُ الضَّرُورَةُ فِي أَقَلِّهِمَا ، وَلَوْ أَكْرَهَهُ فِي كُلِّهِ بِوَعِيدِ حَبْسٍ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُكْرِهِ شَيْءٌ .

وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مَالَ هَذَا الرَّجُلِ ، أَوْ مَالَ هَذَا الرَّجُلِ ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَ مَالَ أَحَدِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ قَدْ تَنَاوَلَهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي بَقَاءِ الْحُرْمَةِ ، وَالتَّقَوُّمُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَحَقِّ الْمَالِكِ ، وَإِنْ أُبِيحَ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْأَخْذِ لِدَفْعِ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَأَحَبُّ إلَيْنَا أَنْ يَأْخُذَ مَالَ أَغْنَاهُمَا عَنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ أَخْذَ الْمَالِ مِنْ صَاحِبِهِ يُلْحِقُ الْهَمَّ ، وَالْحَزَنَ بِهِ ، وَذَلِكَ يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ حَالِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ فِي الْغِنَى ، فَالْأَخْذُ مِنْ الْفَقِيرِ يُلْحِقُ بِهِ هَمًّا عَظِيمًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ إلَى مِلْكِهِ مِثْلُهُ بِخِلَافِ الْأَخْذِ مِنْ الْغَنِيِّ فِي مُبَاسَطَةِ الشَّرْعِ مَعَ الْأَغْنِيَاءِ فِي الْمَالِ الْكَثِيرِ مِنْهُ مَعَ الْفُقَرَاءِ يَعْنِي بِهِ الزَّكَاةَ ، وَصَدَقَةَ الْفِطْرِ وَضَمَانَ الْعِتْقِ ، وَالنَّفَقَةِ ، فَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَالَ أَغْنَاهُمَا ، فَإِنْ كَانَا فِي الْغِنَى عَنْهُ سَوَاءٌ قُلْنَا : خُذْ أَقَلَّهُمَا ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تَتَحَقَّقُ فِي الْأَقَلِّ ، وَفِي الْقَلِيلِ مِنْ الْمَالِ مِنْ التَّسَاهُلِ بَيْنَ النَّاسِ مَا لَيْسَ فِي الْكَثِيرِ ، وَقِيلَ إنْ اسْتَوَيَا فِي الْمِقْدَارِ قُلْنَا خُذْ مَالَ أَحْسَنِهِمَا خُلُقًا ، وَأَظْهَرِهِمَا جُودًا ، وَسَمَاحَةً ؛ لِأَنَّ الْهَمَّ ، وَالْحَزَنَ بِالْأَخْذِ مِنْهُ يَتَفَاوَتُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ ، وَسُوءِ خُلُقِهِ ، وَبُخْلِهِ وُجُودِهِ ، فَإِنْ أَخَذَهُ ، وَاسْتَهْلَكَهُ كَمَا أَمَرَهُ غَرِمَهُ الَّذِي أَكْرَهَهُ ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَمَّا تَنَاوَلَهُ صَارَ الْإِتْلَافُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ ، وَإِنْ أَخَذَ أَكْثَرَهُمَا ، فَاسْتَهْلَكَهُ غَرِمَ الْمُكْرِهُ مِقْدَارَ أَقَلِّهِمَا ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ إنَّمَا يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ فِيمَا تَحَقَّقَ الْإِلْجَاءُ فِيهِ ، وَهُوَ الْأَقَلُّ ، ثُمَّ يَغْرَمُ الْمُسْتَهْلِكُ الْفَضْلَ لِصَاحِبِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَقَلِّ لَا ضَرُورَةَ لَهُ فِي الِاسْتِهْلَاكِ ، فَيَقْتَصِرُ حُكْمُ

الِاسْتِهْلَاكِ عَلَيْهِ .

وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَقْتُلَ عَبْدَ هَذَا الرَّجُلِ عَمْدًا أَوْ يَأْخُذَ مَالَ هَذَا الْآخَرِ ، أَوْ مَالَ صَاحِبِ الْعَبْدِ ، فَيَطْرَحَهُ فِي مُهْلِكَةٍ ، أَوْ يُعْطِيَهُ إنْسَانًا ، فَلَا بَأْسَ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْمَالِ مَا أَمَرَهُ بِهِ لِتَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ فِيهِ ، وَغُرْمُهُ بَالِغًا مَا بَلَغَ عَلَى الْمُكْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ صَارَ مَنْسُوبًا إلَيْهِ ، وَإِنْ قَتَلَ الْعَبْدَ فَعَلَى الْقَاتِلِ الْقَوَدُ ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَمْ يَتَنَاوَلْ الْقَتْلَ هُنَا إذْ لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ حُرْمَةِ الْقَتْلِ ، وَحُرْمَةِ اسْتِهْلَاكِ الْمَالِ ، وَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْ دَفْعِ الْبَلَاءِ عَنْ نَفْسِهِ بِغَيْرِ الْقَتْلِ كَانَ هُوَ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْقَتْلِ طَائِعًا ، فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ ، وَعَلَى الْمُكْرِهِ الْأَدَبُ ، وَالْحَبْسُ لِارْتِكَابِهِ مَا لَا يَحِلُّ .
وَلَوْ كَانَ إنَّمَا أَمَرَهُ أَنْ يَسْتَهْلِكَ الْمَالَ ، وَيَضْرِبَ الْعَبْدَ مِائَةَ سَوْطٍ ، فَلَا بَأْسَ بِاسْتِهْلَاكِ الْمَالِ ، وَضَمَانُهُ عَلَى الْمُكْرِهِ ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ ضَرْبُ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الضَّرْبِ يَخَافُ مِنْهُ الْهَلَاكَ ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْقَتْلِ ، فَإِنْ ضَرَبَهُ ، فَمَاتَ مِنْهُ كَانَتْ قِيمَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الضَّارِبِ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرَهِ ؛ لِأَنَّهُ طَائِعٌ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الضَّرْبِ حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ التَّخْلِيصِ بِدُونِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَلْحَقُهُ إثْمٌ ، وَلَا ضَمَانٌ ، وَالْقَتْلُ بِالسَّوْطِ يَكُونُ سَبَبُهُ الْعَمْدُ ، فَيُوجِبُ الْقِيمَةَ عَلَى عَاقِلَةِ الضَّارِبِ ، وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ ، وَالْمَالُ لِلْمُكْرَهِ لَمْ يَسَعْهُ ضَرْبُ عَبْدِهِ وَلَكِنَّهُ يَسْتَهْلِكُ مَالَهُ ، وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُكْرِهِ ، فَإِنْ ضَرَبَ عَبْدَهُ ، فَمَاتَ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُكْرِهِ ضَمَانٌ ؛ لِأَنَّ الْمُكْرَهَ لَمَّا كَانَ يَتَخَلَّصُ بِدُونِ الضَّرْبِ كَانَ هُوَ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الضَّرْبِ طَائِعًا ، وَمَنْ قَتَلَ عَبْدَ نَفْسِهِ طَائِعًا لَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ .

وَلَوْ أُكْرِهَ بِوَعِيدِ قَتْلٍ عَلَى أَنْ يَقْتُلَ عَبْدَهُ هَذَا أَوْ يَقْتُلَ الْعَبْدَ الَّذِي أَكْرَهَهُ ، أَوْ يَقْتُلَ ابْنَهُ ، أَوْ قَالَ اُقْتُلْ عَبْدَك هَذَا الْآخَرَ ، أَوْ اُقْتُلْ أَبَاك لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَقْتُلَ عَبْدَهُ الَّذِي أَكْرَهَهُ عَلَى قَتْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَمْ يَتَحَقَّقْ هُنَا ، فَالْمُكْرَهُ مَنْ يَخَافُ التَّلَفَ عَلَى نَفْسِهِ ، وَهُنَا إنَّمَا هَدَّدَهُ بِقَتْلِ مَنْ سَمَّاهُ دُونَ نَفْسِهِ ، فَلَا يَكُونُ هُوَ مُلْجَأً بِهِ إلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الْقَتْلِ فَإِنْ قَتَلَ عِنْدَ ذَلِكَ ، فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُكْرَهِ سِوَى الْأَدَبِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ آلَةً لِلْمُكْرِهِ حِينَ لَمْ يَتَحَقَّقْ الْإِلْجَاءُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ قِيلَ لَهُ : لَتَقْتُلَنَّ ابْنَك ، أَوْ لَتَقْتُلَنَّ هَذَا الرَّجُلَ وَهُوَ لَا يَخَافُ مِنْهُ سِوَى ذَلِكَ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَقْتُلَ الرَّجُلَ ، وَإِنْ قَتَلَهُ قُتِلَ بِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَكْرَهُوهُ عَلَى أَنْ يَسْتَهْلِكَ مَالَ هَذَا الرَّجُلِ ، أَوْ يَقْتُلُونَ أَبَاهُ ، فَاسْتَهْلَكَهُ ضُمِّنَّهُ ، وَلَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْمُكْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مُلْجَأً إلَى هَذَا الْفِعْلِ حَتَّى لَمْ يَصِرْ خَائِفًا عَلَى نَفْسِهِ ، وَلِأَنَّ قَتْلَ أَبِيهِ ، أَوْ ابْنِهِ يُلْحِقُ الْهَمَّ ، وَالْحَزَنَ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الْحَبْسِ ، وَالْقَيْدِ فِي نَفْسِهِ ، وَلَوْ أُكْرِهَ بِالْحَبْسِ عَلَى الْقَتْلِ ، أَوْ اسْتِهْلَاكِ الْمَالِ اقْتَصَرَ حُكْمُ الْفِعْلِ عَلَيْهِ كَذَلِكَ هَهُنَا إلَّا أَنَّهُ لَا يَأْثَمُ فِي ذَلِكَ الِاسْتِهْلَاكِ ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ مَالَ الْغَيْرِ وِقَايَةً لِنَفْسِ ابْنِهِ ، وَكَمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ مَالَ الْغَيْرِ وِقَايَةً لِنَفْسِهِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ مَالَ الْغَيْرِ وِقَايَةً لِنَفْسِ ابْنِهِ ، أَوْ لِنَفْسِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمُضْطَرَّ الَّذِي يَخَافُ الْهَلَاكَ إذَا عَجَزَ عَنْ أَخْذِ طَعَامِ الْغَيْرِ ، وَهُنَاكَ مَنْ يَقْوَى عَلَى أَخْذِ ذَلِكَ مِنْهُ وَسِعَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ ، فَيَدْفَعَهُ إلَى الْمُضْطَرِّ ، فَيَأْكُلَهُ ، وَيَكُونُ ضَامِنًا لِمَا يَأْخُذُهُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ مِنْ

بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ ، فَإِنَّهُ يَحِقُّ عَلَى صَاحِبِ الطَّعَامِ شَرْعًا دَفْعُ الْهَلَاكِ عَنْ الْمُضْطَرِّ ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ فِعْلُ الْغَيْرِ بِهِ ذَلِكَ مِنْ نَوْعِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ فَيَسَعُهُ ذَلِكَ ، فَكَذَلِكَ فِي الِاسْتِهْلَاكِ لِلْمَالِ ، وَلَوْ لَمْ يَسْتَهْلِكْهُ حَتَّى قَتَلَ الرَّجُلُ أَبَاهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إثْمٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَلْزَمُهُ غُرْمُهُ إذَا اسْتَهْلَكَهُ ، فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يَكُونُ لِلْقَوِيِّ فِي فَضْلِ الْمُضْطَرِّ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ أَخْذِ الطَّعَامِ ، وَدَفْعِهِ إلَى الْمُضْطَرِّ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ حُرْمَةَ أَبِيهِ فِي حَقِّهِ لَا تَكُونُ أَعْظَمَ مِنْ حُرْمَةِ نَفْسِهِ ، وَفِي حَقِّ نَفْسِهِ يَسَعُهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الِاسْتِهْلَاكِ حَتَّى يُقْتَلَ ، فَفِي حَقِّ أَبِيهِ أَوْلَى إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا يَسِيرًا ، فَلَا أُحِبُّ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ اسْتِهْلَاكَهُ ثُمَّ يَغْرَمَ لِصَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَحِقُّ عَلَيْهِ إحْيَاءُ أَبِيهِ بِالْغُرْمِ الْيَسِيرِ يَعْنِي بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ ، فَكَذَلِكَ فِي ، فَصْلِ الْإِكْرَاهِ إذَا كَانَ شَيْئًا يَسِيرًا لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْتِزَامِ غُرْمِهِ وَيَدَعَ أَبَاهُ يُقْتَلُ ، وَكَذَلِكَ فِي النَّاسِ التَّحَرُّزُ عَنْ الْتِزَامِ الْقَلِيلِ لِإِحْيَاءِ أَبِيهِ يُعَدُّ مِنْ الْعُقُوقِ ، وَالْعُقُوقُ حَرَامٌ .
، وَكَذَلِكَ فِي مَسْأَلَةِ الْمُضْطَرِّ الْمُسْتَحَبُّ لِلْقَوِيِّ أَنْ لَا يَمْتَنِعَ مِنْ أَخْذِ الطَّعَامِ ، وَدَفْعِهِ إلَى الْمُضْطَرِّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَسِيرٌ لَا يُجْحِفُ بِهِ غُرْمَهُ ، وَلَوْ كَانَ بِحَيْثُ يُجْحَفُ بِهِ لَمْ أَرَ بَأْسًا أَنْ لَا يَأْخُذَهُ ، وَلَوْ رَأَى رَجُلًا يَقْتُلُ رَجُلًا وَهُوَ يَقْوَى عَلَى مَنْعِهِ لَمْ يَسَعْهُ إلَّا أَنْ يَمْنَعَهُ ، وَإِنْ كَانَ يَأْتِي ذَلِكَ عَلَى نَفْسِ الَّذِي أَرَادَ قَتْلَ صَاحِبِهِ بِخِلَافِ ، فَضْلِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَلْتَزِمُ غُرْمًا بِهَذَا الدَّفْعِ ، وَإِنْ أَتَى عَلَى نَفْسِ الْقَاصِدِ ، فَالْقَاصِدُ بَاغٍ قَدْ أُبْطِلَ دَمُهُ بِمَا صَنَعَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ إذَا قَصَدَ

قَتْلَهُ ، فَقَتَلَهُ الْمَقْصُودُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ، فَكَذَلِكَ إذَا قَصَدَ قَتْلَ غَيْرِهِ ، فَقَتَلَهُ هَذَا الَّذِي يَقْوَى عَلَيْهِ ، فَأَمَّا فِي فَضْلِ الْمَال الْقَوِيِّ ، فَيَلْتَزِمُ الْغُرْمَ بِمَا يَأْخُذُهُ ؛ لِأَنَّ بِسَبَبِ الضَّرُورَةِ لِلْمُضْطَرِّ لَا تَسْقُطُ الْحُرْمَةُ ، وَالْقِيمَةُ فِي حَقِّ صَاحِبِ الْمَالِ ، فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَوْ انْتَهَوْا إلَى بِئْرٍ فِيهَا مَاءٌ ، فَمَنَعَ الْمُضْطَرَّ مِنْ الشُّرْبِ مِنْهَا ، فَلَمْ يَقْوَ عَلَيْهِمْ ، وَقَوِيَ صَاحِبُهُ عَلَى قِتَالِهِمْ حَتَّى يَأْخُذَ الْمَاءَ ، فَيَسْقِيَهُ إيَّاهُ لَمْ يَسَعْهُ إلَّا ذَلِكَ ، وَإِنْ أَتَى عَلَى أَنْفُسِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ ظَالِمُونَ فِي مَنْعِ الْمُضْطَرِّ حَقَّهُ ، فَحَقُّ السُّقْيَا فِي مَاءِ الْبِئْرِ ثَابِتٌ لِكُلِّ أَحَدٍ .
وَلَوْ قَوِيَ الْمُضْطَرُّ بِنَفْسِهِ عَلَى أَنْ يُقَاتِلَهُمْ بِالسَّيْفِ حَتَّى يَقْتُلَهُمْ ، وَيُخَلُّوا بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ الْمَاءِ ، فَكَذَلِكَ مِنْ يَقْوَى عَلَى ذَلِكَ مِنْ رُفَقَائِهِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَا يَلْتَزِمُ غُرْمًا يَفْعَلُهُ فَهُوَ نَظِيرُ الْقَاصِدِ إلَى قَتْلِ الْغَيْرِ ، فَأَمَّا فِي الطَّعَامِ ، وَالشَّرَابِ الَّذِي أَحْرَزُوهُ فِي أَوْعِيَتِهِمْ ، فَلَمْ يَبْقَ لِلْغَيْرِ فِيهِ حَقٌّ ، وَإِنْ اُضْطُرَّ إلَى ذَلِكَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَا يَسَعُهُ أَنْ يُقَاتِلَهُمْ عَلَيْهِ إنْ مَنَعُوهُ ، فَكَذَلِكَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْتِزَامِ الْغُرْمِ بِأَخْذِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمَاءَ الَّذِي فِي الْبِئْرِ لَوْ بَاعُوهُ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَحْرَزُوهُ فِي أَوْعِيَتِهِمْ .
.

وَلَوْ بَذَلُوا لَهُ الطَّعَامَ ، أَوْ الشَّرَابَ بِثَمَنِ مِثْلِ مَا يُشْتَرَى بِهِ مِثْلُهُ ، فَأَبَى أَنْ يَأْخُذَهُ بِذَلِكَ حَتَّى مَاتَ ، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى ثَمَنِهِ كَانَ آثِمًا فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى قَاتِلِ نَفْسِهِ حِينَ امْتَنَعَ مِنْ تَحْصِيلِ مَا هُوَ سَبَبٌ لِبَقَائِهِ مَعَ قُدْرَتُهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } ، وَلِأَنَّهُ مُلْقٍ نَفْسَهُ فِي التَّهْلُكَةِ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ أَدَاءِ الثَّمَنِ عِنْدَ عَرْضِهِمْ عَلَيْهِ إذَا كَانَ ، وَاجِدًا لِلثَّمَنِ .

وَلَوْ قِيلَ لَهُ : لَتَشْرَبَنَّ هَذَا الْخَمْرَ ، أَوْ لَتَأْكُلَنَّ هَذِهِ الْمَيْتَةَ ، أَوْ لَتَقْتُلَنَّ ابْنَك هَذَا ، أَوْ أَبَاك لَمْ يَسَعْهُ شُرْبُ الْخَمْرِ وَلَا أَكْلُ الْمَيْتَةِ لِانْعِدَامِ الضَّرُورَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ التَّهْدِيدِ بِالْحَبْسِ فِي حَقِّهِ كَمَا قَرَّرْنَا .

وَلَوْ قِيلَ لَهُ : لَتَقْتُلَنَّ ابْنَك هَذَا ، أَوْ أَبَاك ، أَوْ لَتَبِيعَنَّ عَبْدَك هَذَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، فَبَاعَهُ ، فَالْقِيَاسُ أَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُكْرَهٍ عَلَى الْبَيْعِ ، فَالْمُكْرَهُ مَنْ يُهَدَّدُ بِشَيْءٍ فِي نَفْسِهِ ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ ، فَقَالَ : الْبَيْعُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا ، وَبِمَا هُدِّدَ بِهِ يَنْعَدِمُ رِضَاهُ ، فَالْإِنْسَانُ لَا يَكُونُ رَاضِيًا عَادَةً بِقَتْلِ أَبِيهِ ، أَوْ ابْنِهِ ، ثُمَّ هَذَا يُلْحِقُ الْهَمَّ ، وَالْحَزَنَ بِهِ ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ ، وَالْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ يَمْنَعُ نُفُوذَ الْبَيْعِ ، وَالْإِقْرَارَ ، وَالْهِبَةَ وَالْعُقُودَ الَّتِي تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ ، فَكَذَلِكَ الْإِكْرَاهُ بِقَتْلِ ابْنِهِ وَكَذَلِكَ التَّهْدِيدُ بِقَتْلِ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ ؛ لِأَنَّ الْقَرَابَةَ الْمُتَأَيِّدَةَ بِالْمَحْرَمِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْوِلَادَةِ فِي حُكْمِ الْإِحْيَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تُوجِبُ الْعِتْقَ عِنْدَ الدُّخُولِ فِي مِلْكِهِ .

وَلَوْ قِيلَ لَهُ : لَنَحْبِسَنَّ أَبَاك فِي السِّجْنِ ، أَوْ لَتَبِيعَنَّ هَذَا الرَّجُلَ عَبْدَك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، فَفَعَلَ ، فَفِي الْقِيَاسِ الْبَيْعُ جَائِزٌ ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ ، فَإِنَّهُ لَمْ يُهَدَّدْ بِشَيْءٍ فِي نَفْسِهِ ، وَحَبْسُ ابْنِهِ فِي السِّجْنِ لَا يُلْحِقُ ضَرَرًا بِهِ وَالتَّهْدِيدُ بِهِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ بَيْعِهِ ، وَإِقْرَارِهِ ، وَهِبَتِهِ ، وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ ذَلِكَ إكْرَاهٌ كُلُّهُ وَلَا يَنْفُذُ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ ؛ لِأَنَّ حَبْسَ ابْنِهِ يُلْحِقُ بِهِ مِنْ الْحَزَنِ مَا يُلْحِقُ بِهِ حَبْسُ نَفْسِهِ ، أَوْ أَكْثَرُ فَالْوَلَدُ إذَا كَانَ بَارًّا يَسْعَى فِي تَخْلِيصِ أَبِيهِ مِنْ السِّجْنِ ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُحْبَسُ ، وَرُبَّمَا يَدْخُلُ السِّجْنَ مُخْتَارًا ، وَيُحْبَسُ مَكَانَ أَبِيهِ لِيَخْرُجَ أَبُوهُ ، فَكَمَا أَنَّ التَّهْدِيدَ بِالْحَبْسِ فِي حَقِّهِ يُعْدِمُ تَمَامَ الرِّضَا ، فَكَذَلِكَ التَّهْدِيدُ بِحَبْسِ أَبِيهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَإِذَا أُكْرِهَ الرَّجُلُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى أَنْ يُكَفِّرَ يَمِينًا قَدْ حَنِثَ فِيهَا ، فَكَفَّرَ بِعِتْقٍ ، أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ كِسْوَةٍ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِإِسْقَاطِ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ شَرْعًا ، وَذَلِكَ مِنْ بَاب الْحِسْبَةِ ، فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَى الْمُكْرِهِ ، وَكَأَنَّهُ يُعَوِّضُهُ مَا جَبَرَهُ عَلَيْهِ مِنْ التَّكْفِيرِ بِسُقُوطِ التَّبِعَةِ عَنْهُ فِي الْآخِرَةِ ، وَأَمَّا الْجَوَازُ عَنْ الْكَفَّارَةِ ، فَلِأَنَّ الْفِعْلَ فِي التَّكْفِيرِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ لِمَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ ، وَمُجَرَّدُ الْخَوْفِ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ التَّكْفِيرِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ كُلَّ مُكَفِّرٍ يُقْدِمُ عَلَى التَّكْفِيرِ خَوْفًا مِنْ الْعَذَابِ ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ جَوَازَهُ وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ هَذَا عَنْهَا ، فَفَعَلَ لَمْ يُجْزِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ شَرْعًا الْكَفَالَةُ لَا إبْطَالُ الْمِلْكِ فِي هَذَا الْعَبْدِ بِعَيْنِهِ ، فَالْمُكْرِهُ فِي إكْرَاهِهِ عَلَى إعْتَاقِ هَذَا الْعَبْدِ بِعَيْنِهِ ظَالِمٌ ، فَيَصِيرُ فِعْلُهُ فِي الْإِتْلَافِ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ ، وَإِذَا لَزِمَهُ قِيمَتُهُ لَمْ يُجْزِ عَنْ الْكَفَّارَةِ لِانْعِدَامِ التَّكْفِيرِ فِي حَقِّ الْمُكْرَهِ حِينَ صَارَ مَنْسُوبًا إلَى غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى عِتْقٍ بِعِوَضٍ ، وَالْكَفَّارَةُ لَا تَتَأَتَّى بِمِثْلِهِ ، وَلَوْ كَانَ أَكْرَهَهُ بِالْحَبْسِ أَجْزَأَهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ دُونَ الْمُكْرِهِ ، وَلَمْ يَسْتَوْجِبْ الضَّمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ بِهَذَا الْإِكْرَاهِ ، فَتَتَأَدَّى بِهِ الْكَفَّارَةُ لِاقْتِرَانِ النِّيَّةِ بِفِعْلِ الْإِعْتَاقِ .

وَلَوْ أَكْرَهَهُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى الصَّدَقَةِ فِي الْكَفَّارَةِ فَفَعَلَ ذَلِكَ نُظِرَ فِيمَا تَصَدَّقَ بِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الرِّقَابِ ، وَمِنْ أَدْنَى الْكِسْوَةِ الَّتِي تُجْزِئُ لَمْ يَضْمَنْ الْمُكْرَهُ شَيْئًا لِتَيَقُّنِنَا بِوُجُوبِ هَذَا الْمِقْدَارِ مِنْ الْمَالِ عَلَيْهِ فِي التَّكْفِيرِ ، فَيَكُونُ الْمُكْرَهُ مُكْتَسِبًا سَبَبَ إسْقَاطِ الْوَاجِبِ عَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ قِيمَةً مِنْ غَيْرِهَا ضَمِنَهُ الَّذِي أَكْرَهَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُغْبَنُ فِي وُجُوبِ هَذَا الْمِقْدَارِ عَلَيْهِ ، وَلَا هَذَا النَّوْعِ بَلْ هُوَ مُخَيَّرٌ شَرْعًا بَيْنَ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ وَيَخْرُجُ عَنْ الْكَفَّارَةِ بِاخْتِيَارِهِ أَقَلَّهَا ، فَيَكُونُ الْمُكْرِهُ مُتْلِفًا عَلَيْهِ هَذَا النَّوْعَ بِغَيْرِ حَقٍّ ، فَيَضْمَنُهُ لَهُ ، وَلَا يُجْزِئُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الَّذِي أَخَذَهُ مِنْهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى التَّسْلِيمِ إلَيْهِ ، وَتَمْلِيكِهِ إيَّاهُ مَعَ الْإِكْرَاهِ فَاسِدٌ ، فَيَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِرْدَادِهِ ، وَإِنْ كَانَ أَكْرَهَهُ بِالْحَبْسِ لَمْ يَضْمَنْ الْمُكْرِهِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ بِهَذَا الْإِكْرَاهِ ، وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الَّذِي أُخِذَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ رَاضِيًا بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ وَالتَّمْلِيكُ مَعَ الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ .
فَإِنْ أَمْضَاهُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِغَيْرِ إكْرَاهٍ أَجْزَأَهُ إنْ كَانَ قَائِمًا ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلِكًا لَمْ يَجْزِهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ قَائِمًا فِي يَدِهِ ، فَإِمْضَاؤُهُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ التَّصَدُّقِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلِكًا ، فَهُوَ دَيْنٌ عَلَيْهِ ، وَالتَّصَدُّقُ بِالدَّيْنِ عَلَى مَنْ هُوَ عَلَيْهِ لَا يُجْزِئُ عَنْ الْكَفَّارَةِ ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ : إنَّهُ إذَا أَكْرَهَهُ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ عَلَى عِتْقِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ ، وَذَلِكَ أَدْنَى مَا يُجْزِئُ فِي الْكَفَّارَةِ لَا يَكُونُ عَلَى الْمُكْرِهِ فِيهِ ضَمَانٌ ، وَيُجْزِيهِ

عَنْ الْكَفَّارَةِ ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ ، فَالتَّكْفِيرُ بِالْعِتْقِ عَيْنٌ فِي الظِّهَارِ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُجْزِيهِ ، وَعَلَى الْمُكْرِهِ قِيمَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ظَالِمًا لَهُ فِي الْقَدْرِ ، فَهُوَ ظَالِمٌ لَهُ فِي الْعَيْنِ إذْ لَيْسَ عَلَيْهِ إعْتَاقُ هَذَا بِعَيْنِهِ ، وَلِلنَّاسِ فِي الْإِعْتَاقِ أَغْرَاضٌ فَيَلْزَمُ الْمُكْرِهَ الضَّمَانُ بِهَذَا الطَّرِيقِ ، وَإِذَا لَزِمَهُ الضَّمَانُ لَمْ يُجْزِهِ عَنْ الْكَفَّارَةِ قَالَ : وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ وَجَبَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ بَدَنَةٍ ، أَوْ هَدْيٍ ، أَوْ صَدَقَةٍ ، أَوْ حَجٍّ ، فَأُكْرِهَ عَلَى أَنْ يُمْضِيَهُ ، فَفَعَلَ ، وَلَمْ يَأْمُرْهُ الْمُكْرِهُ بِشَيْءٍ بِعَيْنِهِ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ ، وَيُجْزِئُ عَنْ الرَّجُلِ مَا أَمْضَاهُ ، وَلِأَنَّ الْمُكْرِهَ مُحْتَسِبٌ حِينَ لَمْ يَزِدْ عَلَى أَمْرِهِ بِإِسْقَاطِ الْوَاجِبِ ، وَالْوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمَهُ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { ، وَأَوْفَوْا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ } .
فَإِنْ ، أَوْجَبَ شَيْئًا بِعَيْنِهِ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةً فِي الْمَسَاكِينِ ، فَأُكْرِهَ بِحَبْسٍ ، أَوْ قَيْدٍ عَلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِذَلِكَ جَازَ مَا صُنِعَ مِنْهُ ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الْوَفَاءَ بِمَا الْتَزَمَهُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ شَرْعًا كَمَا الْتَزَمَهُ ، فَإِذَا الْتَزَمَ التَّصَدُّقَ بِالْعَيْنِ كَانَ عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِهِ فِي ذَلِكَ الْعَيْنِ ، وَالْمُكْرِهُ مَا زَادَ فِي أَمْرِهِ عَلَى ذَلِكَ ، فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ ، وَكَذَلِكَ الْأُضْحِيَّةُ ، وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ لَوْ أُكْرِهَ عَلَيْهِمَا رَجُلٌ حَتَّى فَعَلَهُمَا أَجْزَأَهُ ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُكْرِهِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ شَرْعًا ، وَهَذَا الْجَوَابُ فِي الْأُضْحِيَّةِ بِنَاءً عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ وَمَقْصُودُهُ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ الَّذِي يَثْبُتُ لِلْإِمَامِ فِيهِ وِلَايَةَ الْأَخْذِ ، وَاَلَّذِي لَا يَثْبُتُ لَهُ فِي ذَلِكَ ، وَلَكِنْ مَنْ عَلَيْهِ يَقْضِي بِأَدَائِهِ فِي حُكْمِ

الْإِكْرَاهِ سَوَاءٌ .

وَلَوْ قَالَ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَيَّ هَدْيٌ أُهْدِيهِ إلَى بَيْتِ اللَّهِ ، فَأُكْرِهَ بِالْقَتْلِ عَلَى أَنْ يُهْدِيَ بَعِيرًا ، أَوْ بَدَنَةً يَنْحَرُهَا وَيَتَصَدَّقَ بِهَا ، فَفَعَلَ كَانَ الْمُكْرِهُ ضَامِنًا قِيمَتَهَا ، وَلَا تَجْزِيهِ مَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ بِلَفْظِ الْهَدْيِ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ الْبَعِيرُ ، وَلَا الْبَقَرَةُ ، وَلَكِنْ يُخْرِجُ عَنْهُ بِالشَّاةِ ، فَالْمُكْرِهُ ظَالِمٌ لَهُ فِي تَعْيِينِ الْبَدَنَةِ ، فَيَلْزَمُهُ ضَمَانُ قِيمَتِهَا ، وَلَا يُجْزِيهِ عَمَّا أَوْجَبَهُ لِحُصُولِ الْعِوَضِ ، أَوْ لِأَنَّ الْفِعْلَ صَارَ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَدْنَى مَا يَكُونُ مِنْ الْهَدْيِ فِي الْقِيمَةِ ، وَغَيْرِهَا فَأَمْضَاهُ لَمْ يَغْرَمْ الْمُكْرِهُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ مَا زَادَ عَلَى مَا هُوَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ شَرْعًا .
.

وَلَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ عِتْقُ رَقَبَةٍ ، فَأَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يُعْتِقَ عَبْدًا بِعَيْنِهِ بِقَتْلٍ ، فَأَعْتَقَهُ ضَمِنَ الْمُكْرِهُ قِيمَتَهُ ، وَلَمْ يُجْزِهِ عَنْ النَّذْرِ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ بِغَيْرِ عَيْنِهَا ، وَالْمُكْرِهُ فِي أَمْرٍ بِعِتْقِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ ظَالِمٌ ، فَيَكُونُ ضَامِنًا قِيمَتَهُ ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ الَّذِي أَكْرَهَهُ عَلَى عِتْقِ عَبْدٍ هُوَ أَدْنَى مَا يَكُونُ مِنْ التَّسْمِيَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُكْرِهِ ضَمَانٌ ، وَأَجْزَأَ عَنْ الْمُعْتِقِ لِتَيَقُّنِنَا بِوُجُوبِ هَذَا الْمِقْدَارِ عَلَيْهِ ، وَمَنْ قَالَ مِنْ أَصْحَابِنَا فِي مَسْأَلَةِ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ : إنَّ الْمُكْرَهَ لَا يَضْمَنُ إذَا أَكْرَهَهُ عَلَى عِتْقِ عَبْدٍ هُوَ أَدْنَى مَا يُجْزِي إنَّمَا أَخَذَ جَوَابَهُ مِنْ هَذَا الْفَضْلِ ، وَعَلَى مَا قُلْنَا مِنْ الْجَوَابِ الْمُخْتَارِ هَذِهِ لَا تُشْبِهُ تِلْكَ ؛ لِأَنَّ النَّاذِرَ إنَّمَا يَلْتَزِمُ الْوَفَاءَ بِالْمَنْذُورِ مِنْ أَعْيَانِ مِلْكِهِ ، فَيَصِيرُ كَالْمُعْتِقِ لِلْأَدْنَى عَنْ نَذْرِهِ ، فَأَمَّا فِي الْكَفَّارَةِ ، فَالْوَاجِبُ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ وَلَا يَتَنَاوَلُ أَعْيَانَ مِلْكِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ فِي الْكَفَّارَاتِ قَدْ يُخْرِجُ بِغَيْرِ الْإِعْتَاقِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْإِعْتَاقِ ، وَفِي النَّذْرِ لَا يُخْرِجُ بِدُونِ الْإِعْتَاقِ ، وَلَا يَكُونُ الْإِعْتَاقُ إلَّا فِي مِلْكِهِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَقَعُ الْفَرْقُ .

وَلَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِثَوْبٍ هَرَوِيٍّ ، أَوْ مَرْوِيٍّ ، فَأَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِثَوْبٍ بِعَيْنِهِ ، فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إلَى الَّذِي تَصَدَّقَ بِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْعِلْمُ مُحِيطًا بِأَنَّهُ أَدْنَى مَا يَكُونُ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ فِي الْقِيمَةِ ، وَغَيْرِهَا أَجْزَأَهُ ذَلِكَ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَا أَلْزَمَهُ بِالْإِكْرَاهِ إلَّا مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِنَذْرِهِ شَرْعًا ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ نُظِرَ إلَى فَضْلِ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ ، فَغَرِمَ الْمُكْرِهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَدْنَى يَلْزَمُهُ ذَلِكَ بِالْإِكْرَاهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْهَدْيِ ، وَالْأُضْحِيَّةِ وَالْعِتْقِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُنْتَقَضُ ، فَإِذَا ضَمِنَ الْمُكْرِهُ بَعْضَهُ صَارَ نَاقِضًا مَا وَجَبَ عَلَيْهِ ، فَلَا يُجْزِيهِ عَنْ الْوَاجِبِ ، فَلِهَذَا يَغْرَمُ الْمُكْرَهُ جَمِيعَ الْقِيمَةِ ، وَالتَّصَدُّقُ بِالثَّوْبِ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ فَإِنَّهُ لَوْ تَصَدَّقَ بِنِصْفِ ثَوْبٍ جَيِّدٍ يُسَاوِي ثَوْبًا كَمَا لَزِمَهُ أَجْزَأَهُ عَنْ الْوَاجِبِ فَنَحْنُ ، وَإِنْ ، أَوْجَبْنَا ضَمَانَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمُكْرِهِ ، وَقَعَ الْمُؤَدَّى فِي مِقْدَارِ الْأَدْنَى مُجْزِيًا عَنْ الْوَاجِبِ : يُوَضِّحُهُ أَنَّ فِي التَّصَدُّقِ تُعْتَبَرُ الْمَالِيَّةُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِقِيمَةِ الثَّوْبِ مَكَانَ الثَّوْبِ وَعِنْدَ النَّظَرِ إلَى الْقِيمَةِ يَظْهَرُ الْفَضْلُ ، وَفِي الْهَدَايَا ، وَالضَّحَايَا وَعِتْقِ الرِّقَابِ لَا تُعْتَبَرُ الْمَالِيَّةُ حَتَّى لَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ بِالْقِيمَةِ ، فَلِهَذَا قُلْنَا إذَا صَارَ ضَامِنًا لِلْبَعْضِ ضَمِنَ الْكُلَّ .

وَإِذَا قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِعَشَرَةِ أَقْفِزَةِ حِنْطَةٍ عَلَى الْمَسَاكِينِ ، فَأُكْرِهَ بِوَعِيدِ قَتْلٍ عَلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ بِخَمْسَةِ أَقْفِزَةِ حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ تُسَاوِي عَشَرَةَ أَقْفِزَةِ حِنْطَةٍ رَدِيئَةٍ فَالْمُكْرِهُ ضَامِنٌ لِطَعَامِ مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُؤَدَّى لَا يَخْرُجُ عَنْ جَمِيعِ الْوَاجِبِ ، فَإِنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِالْجَوْدَةِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ عِنْدَ مُقَابَلَتِهَا بِجِنْسِهَا ، وَلَا يُمْكِنُ تَجْوِيزُهَا عَنْ خَمْسَةِ أَقْفِزَةِ حِنْطَةٍ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ ضَرَرًا عَلَى النَّاذِرِ ، فَالْمُكْرِهُ ظَالِمٌ لَهُ فِي الْتِزَامِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَدْنَى ، فَلِهَذَا يَضْمَنُ لَهُ طَعَامَهُ مِثْلَ طَعَامِهِ ، وَعَلَى النَّاذِرِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِعَشَرَةِ أَقْفِزَةٍ رَدِيئَةٍ .

وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتُ مَخَاضٍ ، فَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ ، فَوَجَبَ فِيهَا ابْنَةُ مَخَاضٍ وَسَطٌ ، فَأُكْرِهَ بِوَعِيدِ قَتْلٍ عَلَى أَنْ يَتَصَدَّقَ عَلَى الْمَسَاكِينِ بِابْنَةِ مَخَاضٍ جَيِّدَةٍ غَرِمَ الْمُكْرِهُ ، فَضْلَ قِيمَتِهَا عَلَى قِيمَةِ الْوَسَطِ ؛ لِأَنَّهُ ظَالِمٌ لَهُ فِي إلْزَامِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ ، وَقَدْ جَازَتْ الصَّدَقَةُ عَنْ الْمُتَصَدِّقِ فِي مِقْدَارِ الْوَسَطِ ، فَلَا يَغْرَمُ الْمُكْرَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِمَالِ الرِّبَا ، فَيُمْكِنُ تَجْوِيزُ بَعْضِهِ عَنْ كُلِّهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ تَصَدَّقَ بِنِصْفِ ابْنَةِ مَخَاضٍ جَيِّدَةٍ ، فَبَلَغَ قِيمَتُهُ قِيمَةَ ابْنَةِ مَخَاضٍ وَسَطٍ أَجْزَأَهُ عَنْ الْوَاجِبِ ، فَلِهَذَا لَا تُوجِبُ عَلَى الْمُكْرِهِ إلَّا ضَمَانُ الْفَضْلِ بَيْنَهُمَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَلَوْ أَنَّ لِصًّا أَكْرَهَ رَجُلًا بِوَعِيدِ قَتْلٍ عَلَى أَنْ يُوَكِّلَ رَجُلًا بِعِتْقِ عَبْدٍ لَهُ ، أَوْ بِطَلَاقِ امْرَأَةٍ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ، فَفَعَلَ ذَلِكَ جَازَ التَّوْكِيلُ ، وَنَفَذَ تَصَرُّفُ الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّ الْإِكْرَاهَ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ صِحَّةَ مُبَاشَرَةِ الْإِعْتَاقِ وَالطَّلَاقِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّوْكِيلِ بِهِمَا أَيْضًا ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ مُعَبِّرٌ ، فَعِبَارَتُهُ كَعِبَارَةِ الْمُوَكِّلِ ، وَلَكِنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ كَمَا لَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى مُبَاشَرَةِ الْإِيقَاعِ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي جَعْلِ الْأَمْرِ فِي يَدِ الْغَيْرِ عَنْ إكْرَاهٍ ، فَالتَّوْكِيلُ قِيَاسُهُ .

وَلَوْ أَكْرَهَهُ عَلَى أَنْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدِهِ مِنْ هَذَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَأَكْرَهَهُ عَلَى دَفْعِهِ إلَيْهِ حَتَّى يَبِيعَهُ فَفَعَلَ ذَلِكَ ، فَبَاعَهُ الْوَكِيلُ ، وَأَخَذَ الثَّمَنَ ، وَدَفَعَ الْعَبْدَ إلَى الْمُشْتَرِي ، فَهَلَكَ الْعَبْدُ فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِ ، وَالْوَكِيلُ وَالْمُشْتَرِي غَيْرُ مُكْرَهَيْنِ ، فَالْمَوْلَى بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ قِيمَةَ عَبْدِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ طَائِعًا بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْوَكِيلَ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي الْبَيْعِ ، وَالتَّسْلِيمِ طَائِعًا ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُكْرِهَ ؛ لِأَنَّ إكْرَاهَهُ عَلَى التَّوْكِيلِ ، وَالتَّسْلِيمِ بِمَنْزِلَةِ الْإِكْرَاهِ عَلَى مُبَاشَرَةِ الْبَيْعِ ، وَالتَّسْلِيمِ فِي حُكْمِ الْإِتْلَافِ ، وَالضَّمَانِ ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ بِسَبَبٍ بَاشَرَهُ لِنَفْسِهِ وَإِنْ ضَمِنَ الْمَكِيلَ يَرْجِعُ الْوَكِيلُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَالِكِ فِي الرُّجُوعِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَلِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ ، وَقَدْ قَبَضَهُ الْمُشْتَرِي مِنْهُ بِحُكْمِ شِرَاءٍ فَاسِدٍ ، فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْهُ قِيمَتَهُ لَمَّا تَعَذَّرَ اسْتِرْدَادُ الْعَيْنِ ، وَعَلَى الْوَكِيلِ رَدُّ الثَّمَنِ إنْ كَانَ قَبَضَ ، وَلَا يَكُونُ لَهُ الثَّمَنُ بِمَا ضَمِنَ لَهُ مِنْ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ بَاعَهُ لِلْمُكْرَهِ ، وَنَقَضَ مَا ضَمِنَهُ لَهُ مِنْ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ بَاعَهُ لِلْمُكْرَهِ ، وَقَدْ نَقَضَ الْمُكْرَهُ الْبَيْعَ بِتَضْمِينِهِ الْقِيمَةَ ، وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الْغَصْبَ يَعْنِي أَنَّ الْغَاصِبَ إذَا بَاعَ ، ثُمَّ ضَمِنَ الْقِيمَةَ يَنْفُذُ الْبَيْعُ مِنْ جِهَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ بَاعَهُ هُنَاكَ لِنَفْسِهِ .
وَقَدْ تَقَرَّرَ الْمِلْكُ لَهُ بِالضَّمَانِ ، وَهُنَا بَاعَهُ بِطَرِيقِ الْوِكَالَةِ عَنْ الْمُكْرَهِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمُكْرَهَ لَوْ رَضِيَ بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ نُفُوذَ الْبَيْعِ مِنْ جِهَتِهِ ، وَالْمُشْتَرَى بِالْقَبْضِ صَارَ مُتَمَلِّكًا عَلَى الْمُكْرَهِ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَهُ نَفَذَ عِتْقُهُ ،

فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُتَمَلِّكًا بِهَذَا السَّبَبِ عَلَى الْوَكِيلِ ، فَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ الْبَيْعُ مِنْ جِهَتِهِ ، وَلَا يُسَلِّمُ لَهُ الثَّمَنَ بَلْ يَرُدُّهُ عَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ اسْتِرْدَادَ الْقِيمَةِ مِنْ الْمُشْتَرِي كَاسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ ، وَلَا شَيْءَ لِلْوَكِيلِ عَلَى الْمُكْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَا أَكْرَهَهُ عَلَى شَيْءٍ ، وَإِنَّمَا الْتَزَمَ الْوَكِيلُ ضَمَانَ الْقِيمَةِ بِالْبَيْعِ ، وَالتَّسْلِيمِ ، وَهُوَ كَانَ طَائِعًا فِي ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ الْمُكْرَهُ ضَمَّنَ الْمُكْرِهَ الْقِيمَةَ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا إنْ شَاءَ عَلَى الْمُشْتَرِي وَإِنْ شَاءَ عَلَى الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُكْرِهِ ، وَقَدْ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ ، فَإِنْ قَالَ الْوَكِيلُ لِلْمُكْرِهِ : لَا أَضْمَنُ لَك شَيْئًا ؛ لِأَنَّك أَنْتَ الَّذِي أَمَرْته أَنْ يَدْفَعَ إلَيَّ لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ كَانَ غَيْرَ مُكْرَهٍ عَلَى قَبْضِهِ ، وَقَدْ كَانَ لَهُ أَنْ لَا يَقْبِضَهُ ، وَإِنَّمَا ضَمَّنَهُ الَّذِي أَكْرَهَهُ بِقَبْضِهِ ، وَتَسْلِيمِهِ .
فَإِنْ قَالَ الْوَكِيلُ حِينَ ضَمِنَ الْقِيمَةَ : أَنَا أُجِيزُ الْبَيْعَ فِيمَا بَيْنِي ، وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي ، وَيَكُونُ الثَّمَنُ لِي لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ إنَّمَا يَمْلِكُهُ عَلَى الْمُكْرَهِ ، فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ مُتَمَلِّكًا عَلَى الْوَكِيلِ ، وَإِنْ مَلَكَهُ بِخِلَافِ الْغَصْبِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَلَوْ كَانَ أَكْرَهَهُ بِالْحَبْسِ عَلَى ذَلِكَ كَانَ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ لَا يُضَمِّنُ الْمُكْرِهَ ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ لَا يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ بِالْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ ، وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى ، وَالْوَكِيلُ مُكْرَهَيْنِ بِالْقَتْلِ ، فَإِنَّ الْمَوْلَى بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ قِيمَةَ عَبْدِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ طَائِعًا ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُكْرِهَ بِإِكْرَاهِهِ إيَّاهُ عَلَى التَّسْلِيمِ بِوَعِيدِ تَلَفٍ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهَا الْمُكْرِهُ عَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ مَنْ ضَمِنَهُ ، وَلِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ ، وَلَا ضَمَانَ لَهُ

عَلَى الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُكْرَهًا بِالْقَتْلِ عَلَى الْقَبْضِ ، وَالتَّسْلِيمِ ، فَلَا يَبْقَى فِي جَانِبِهِ فِعْلٌ مُعْتَبَرٌ ، وَإِنْ كَانُوا جَمِيعًا مُكْرَهِينَ بِالْقَتْلِ .
فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُكْرِهِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ مَنْسُوبٌ إلَيْهِ إذْ لَمْ يَبْقَ لِلْمُكْرَهِ فِعْلٌ مُعْتَبَرٌ فِي التَّسْلِيمِ ، وَالْقَبْضِ ، وَلَا يَرْجِعُ الْمُكْرِهُ عَلَى أَحَدٍ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا كَالْآلَةِ لَهُ ، وَلَيْسَ لِلْمُتْلِفِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْآلَةِ بِشَيْءٍ ، وَإِنْ كَانُوا مُكْرَهِينَ بِالْحَبْسِ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُكْرِهِ ، وَلِلْمَوْلَى أَنْ يُضَمِّنَ الْمُشْتَرِيَ قِيمَةَ عَبْدِهِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُشْتَرِي فِي الْقَبْضِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ فِعْلُ الْوَكِيلِ فِي التَّسْلِيمِ ، فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ بِالْحَبْسِ لَا يَخْرُجُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا مَنْ أَنْ يَكُونَ مُبَاشِرًا لِلْفِعْلِ ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْوَكِيلَ رَجَعَ الْوَكِيلُ بِالْقِيمَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ مَنْ ضَمِنَهُ ، وَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْمُشْتَرِي ، فَهُوَ الَّذِي يَلِي خُصُومَتَهُ بِمَا دُونَ الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ بِالْحَبْسِ ، وَذَلِكَ يَنْفِي الْتِزَامَهُ الْعُهْدَةَ بِالْعَقْدِ ، فَيَخْرُجُ مِنْ الْوَسَطِ إذَا اخْتَارَ الْمَوْلَى تَضْمِينَ الْمُشْتَرِي وَتَكُونُ الْخُصُومَةُ فِيهِ لِمَنْ بَاشَرَ الْعَقْدَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَكَّلَ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ ، أَوْ صَبِيًّا مَحْجُورًا بِبَيْعٍ فَاسِدٍ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَوْ خَاصَمَ الْمُشْتَرِيَ إنَّمَا يُخَاصِمُهُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ فَإِنَّهُ قَدْ اسْتَفَادَ الْبَرَاءَةَ مِنْ الضَّمَانِ حِين اخْتَارَ الْمَوْلَى تَضْمِينَ الْمُشْتَرِي ، وَهُوَ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى الْعَقْدِ بِالْحَبْسِ ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ ثُبُوتَ أَحْكَامِ الْعَقْدِ فِي حَقِّهِ ، وَلَوْ أُكْرِهَ الْمَوْلَى بِالْقَتْلِ ، وَأُكْرِهَ الْوَكِيلُ ، وَالْمُشْتَرِي بِالْحَبْسِ ، فَلِلْمَوْلَى أَنْ يُضَمِّنَ قِيمَتَهُ أَيَّهُمْ شَاءَ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُمْ فِي التَّسْلِيمِ مَنْسُوبٌ إلَى الْمُكْرِهِ ، وَفِعْلُ الْوَكِيلِ ،

وَالْمُشْتَرِي مَقْصُورٌ عَلَيْهِمَا فَإِنْ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ بِشَيْءٍ ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْوَكِيلَ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْمُكْرَهِ ؛ لِمَا بَيَّنَّا ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُكْرِهَ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْقِيمَةِ الَّتِي ضَمِنَ ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْوَكِيلِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ الْوَكِيلَ بِالْقَبْضِ وَالْبَيْعِ ، وَالدَّفْعِ حِينَ أَكْرَهَهُ عَلَيْهِ بِالْحَبْسِ ، وَالْمُكْرِهُ بِالضَّمَانِ يَصِيرُ كَالْمَالِكِ ، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِشَيْءٍ عَلَى مَنْ قَبَضَهُ ، وَدَفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ بِإِكْرَاهِهِ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَوْ أُكْرِهَ الْمَوْلَى ، وَالْوَكِيلُ بِالْقَتْلِ ، وَأُكْرِهَ الْمُشْتَرِي بِالْحَبْسِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ لِانْعِدَامِ الْفِعْلِ مِنْهُ حِينَ كَانَ مُكْرَهًا بِالْقَتْلِ ، وَلِلْمَوْلَى أَنْ يُضَمِّنَ الْمُكْرِهَ قِيمَتَهُ إنْ شَاءَ وَيَرْجِعُ بِهِ الْمُكْرِهُ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِيَ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي الْقَبْضِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : إذَا ضَمَّنَ الْمُكْرِهَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَرْجِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ كَانَ مُكْرَهًا مِنْ جِهَتِهِ بِالْحَبْسِ كَمَا فِي حَقِّ الْوَكِيلِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى قُلْنَا نَعَمْ ، وَلَكِنَّ الْمُشْتَرِيَ قَبَضَهُ عَلَى وَجْهِ التَّمْلِيكِ لِنَفْسِهِ بِالشِّرَاءِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ ضَامِنًا لِمَا كَانَ حُكْمُ قَبْضِهِ مَقْصُورًا عَلَيْهِ ، وَأَمَّا الْوَكِيلُ ، فَمَا قَبَضَهُ لِنَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا قَبَضَهُ لِيَدْفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ بِأَمْرِ الْمُكْرِهِ ، فَلَا يَكُونُ لِلْمُكْرِهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ ، وَلَوْ أُكْرِهَ الْمَوْلَى ، وَالْوَكِيلُ بِالْحَبْسِ ، وَأُكْرِهَ الْمُشْتَرِي بِالْقَتْلِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ إلَّا الْوَكِيلَ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى إنَّمَا يُضَمِّنُ الْمُكْرِهَ بِتَسْلِيمِهِ إلَى الْغَيْرِ مُكْرَهًا مِنْ جِهَتِهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ مُكْرَهًا هُنَا عَلَى ذَلِكَ بِالْحَبْسِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ ، وَالْمُشْتَرِي

عَلَى الْقَبْض مُكْرَهٌ بِالْقَتْلِ ، فَلَا يَكُونُ قَبْضُهُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ .
وَأَمَّا الْوَكِيلُ فَهُوَ مُكْرَهٌ عَلَى الْقَبْضِ ، وَالتَّسْلِيمِ بِالْحَبْسِ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ نَقْلَ الْفِعْلِ عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ ، فَيَكُونُ ضَامِنًا قِيمَتَهُ ، فَإِنْ قِيلَ : يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْمُكْرِهُ ضَامِنًا ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُشْتَرِي فِي الْقَبْضِ صَارَ مَنْسُوبًا إلَيْهِ ، فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ قَبَضَهُ بِنَفْسِهِ ، وَهَلَكَ فِي يَدِهِ قُلْنَا الْمَالِكُ إنَّمَا يُضَمِّنُ الْمُكْرِهَ بِاعْتِبَارِ سَبَبٍ جَرَى بَيْنَهُمَا لَا بِاعْتِبَارِ سَبَبٍ جَرَى بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَاَلَّذِي جَرَى بَيْنَهُمَا إكْرَاهُهُ إيَّاهُ عَلَى التَّسْلِيمِ بِالْحَبْسِ ، فَأَمَّا إكْرَاهُهُ الْمُشْتَرِيَ ، فَهُوَ سَبَبٌ بَيْنَ الْمُكْرِهِ وَالْمُشْتَرِي ، فَلَا يَكُونُ لِلْمَوْلَى أَنْ يُضَمِّنَ الْمُكْرِهَ بِذَلِكَ السَّبَبِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَا يَكُونُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ فِي الْقَبْضِ ، وَيَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ ضَمَانٌ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ التَّضْمِينِ بِتَفْوِيتِ يَدِهِ ، وَتَفْوِيتُ يَدِهِ بِالتَّسْلِيمِ لَا بِاعْتِبَارِ قَبْضِ الْمُشْتَرِي وَلَوْ أُكْرِهَ الْمَوْلَى ، وَالْمُشْتَرِي بِالْقَتْلِ ، وَأُكْرِهَ الْوَكِيلُ بِالْحَبْسِ ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يُضَمِّنَ الْمُكْرِهَ إنْ شَاءَ ؛ لِأَنَّهُ ، فَوَّتَ يَدَهُ حِينَ أَكْرَهَهُ بِالْقَتْلِ عَلَى التَّسْلِيمِ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْوَكِيلَ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي الْقَبْضِ ، وَالتَّسْلِيمِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ ، وَأَيُّهُمَا ضُمِّنَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ أَمَّا إذَا ضَمَّنَ الْوَكِيلَ ، فَلِأَنَّهُ مَا كَانَ عَامِلًا فِي الْبَيْعِ ، وَالتَّسْلِيمِ لِلْمُكْرِهِ ، وَفِعْلُهُ فِي الْقَبْضِ ، وَالتَّسْلِيمِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا إذَا ضَمَّنَ الْمُكْرَهَ فَلِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ ، وَدَفْعِهِ حِينَ أُكْرِهَ بِالْحَبْسِ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى الْقَبْضِ بِوَعِيدِ قَتْلٍ ، وَذَلِكَ يَنْفِي الضَّمَانَ عَنْهُ

.

وَلَوْ أَكْرَهَهُ بِالْقَتْلِ عَلَى أَنْ يُوَكِّلَ هَذَا الرَّجُلَ بِأَنْ يَهَبَ عَبْدَهُ هَذَا لِهَذَا الرَّجُلِ ، فَوَكَّلَهُ بِذَلِكَ ، فَقَبَضَهُ الْوَكِيلُ وَدَفَعَهُ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ ، وَمَاتَ فِي يَدِهِ ، وَالْوَكِيلُ ، وَالْمَوْهُوبُ لَهُ غَيْرُ مُكْرَهَيْنِ ، فَلِلْمَوْلَى أَنْ يُضَمِّنَ قِيمَتَهُ أَيَّهُمْ شَاءَ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ يَقْبِضُ لِنَفْسِهِ عَلَى وَجْهِ التَّمَلُّكِ بِهِبَةٍ فَاسِدَةٍ ، فَيَكُونُ ضَامِنًا كَالْمُشْتَرِي ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْمَوْهُوبَ لَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْوَكِيلَ رَجَعَ بِهِ الْوَكِيلُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُكْرَهَ رَجَعَ الْمُكْرَهُ إنْ شَاءَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ ، وَإِنْ شَاءَ عَلَى الْوَكِيلِ ، وَرَجَعَ بِهِ الْوَكِيلُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ لِمَا بَيَّنَّا فِي ، فَصْلِ الشِّرَاءِ ، وَلَوْ كَانَ الْإِكْرَاهُ بِحَبْسٍ لَمْ يَضْمَنْ الْمُكْرِهُ شَيْئًا ، وَكَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يُضَمِّنَ إنْ شَاءَ الْوَكِيلَ وَإِنْ شَاءَ الْمَوْهُوبَ لَهُ ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْوَكِيلَ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ مَنْ ضَمَّنَهُ ، أَوْ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ ، وَلَمْ يَقْصِدْ تَنْفِيذَ الْهِبَةِ مِنْ جِهَتِهِ ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ بِالْقَبْضِ مُتَمَلِّكٌ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ ، فَلَا يُسَلَّمُ لَهُ مَجَّانًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَإِذَا أُكْرِهَ الرَّجُلُ بِوَعِيدِ تَلَفٍ عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ ، أَوْ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ ، أَوْ شُرْبِ الْخَمْرِ ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى قُتِلَ ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ يَسَعُهُ كَانَ آثِمًا ؛ لِأَنَّ حَالَةَ الضَّرُورَةِ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ التَّحْرِيمِ ، وَالْمَيْتَةُ ، وَالْخَمْرُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ كَالطَّعَامِ ، وَالشَّرَابِ فِي غَيْرِ حَالَةِ الضَّرُورَةِ ، وَلَا يَسَعُهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَتْلَفُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الَّذِي يَخَافُ الْهَلَاكَ مِنْ الْجُوعِ ، وَالْعَطَشِ إذَا وَجَدَ مَيْتَةً ، أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ أَوْ دَمًا ، فَلَمْ يَأْكُلْ ، وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى مَاتَ ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ يَسَعُهُ كَانَ آثِمًا ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ فِي الْمَاءِ الَّذِي خَالَطَهُ الْخَمْرُ ، وَالتَّحَرُّز عَنْ قَوْلِ مَنْ خَالَفْنَا فِي شُرْبِ الْخَمْرِ عِنْدَ الْعَطَشِ ، وَفَائِدَةٌ : وَذَكَرَهُ عَنْ مَسْرُوقٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : مَنْ اُضْطُرَّ إلَى مَيْتَةٍ ، أَوْ لَحْمِ خِنْزِيرٍ ، أَوْ دَمٍ ، فَلَمْ يَأْكُلْ ، وَلَمْ يَشْرَبْ ، فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ ، وَهَذَا دَلِيلُنَا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِإِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِدُخُولِ الدَّارِ لِمَنْ يَرْتَكِبُ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى إنْ شَاءَ عَذَّبَهُ ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ حَتَّى اشْتَغَلَ بَعْضُهُمْ بِالتَّأْوِيلِ بِهَذَا اللَّفْظِ قَالُوا : مُرَادُهُ الدُّخُولُ الَّذِي هُوَ تَحِلَّةُ الْقَسَمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { ، وَإِنْ مِنْكُمْ إلَّا وَارِدُهَا } أَيْ دَاخِلُهَا ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ ، وَالْجَمَاعَةِ وَلَكِنَّ هَذَا بَعِيدٌ ؛ لِأَنَّ مُرَادَهُ بَيَانُ الْجَزَاءِ عَلَى ارْتِكَابِ مَا لَا يَحِلُّ ، وَلَكِنْ لَا يَظُنُّ أَحَدٌ بِمِثْلِهِ أَنَّهُ يَقْصِدُ بِهَذَا اللَّفْظِ نَفْيَ الْمَشِيئَةِ ، وَقَطْعَ الْقَوْلِ بِالْعَذَابِ ، فَإِنْ كَانَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ يَسَعُهُ رَجَوْت أَنْ لَا يَكُونَ آثِمًا ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ التَّحَرُّزَ عَنْ ارْتِكَابِ الْحَرَامِ فِي زَعْمِهِ .
وَهَذَا

؛ لِأَنَّ انْكِشَافَ الْحُرْمَةِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ دَلِيلُهُ خَفِيٌّ ، فَيُعْذَرُ فِيهِ بِالْجَهْلِ كَمَا أَنَّ عَدَمَ وُصُولِ الْخِطَابِ إلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَشْتَهِرَ يُجْعَلُ عُذْرًا لَهُ فِي تَرْكِ مَا ثَبَتَ بِخِطَابِ الشَّرْعِ يَعْنِي الصَّلَاةَ فِي حَقِّ مَنْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِوُجُوبِهَا عَلَيْهِ ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي فَصْلِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ أَنَّهُ إذَا امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ لَمْ يَكُنْ آثِمًا ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مَأْجُورٌ فِيهِ كَمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ أَنَّ الْمُجْبَرَ فِي نَفْسِهِ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إنْ أَبَى الْكُفْرَ حَتَّى قُتِلَ ، وَحَدِيثُ خُبَيْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ مَعْرُوفٌ ، وَأَشَارَ إلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّ إجْرَاءَ كَلِمَةِ الشِّرْكِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ رُخْصَةٌ لَهُ ، وَالِامْتِنَاعُ هُوَ الْعَزِيمَةُ فَإِنْ تَرَخَّصَ بِالرُّخْصَةِ وَسِعَهُ ، وَإِنْ تَمَسَّكَ بِالْعَزِيمَةِ كَانَ أَفْضَلَ لَهُ ؛ لِأَنَّ فِي تَمَسُّكِهِ بِالْعَزِيمَةِ إعْزَازُ الدِّينِ ، وَغَيْظُ الْمُشْرِكِينَ فَيَكُونُ أَفْضَلَ ، وَعَلَى هَذَا إذَا قِيلَ لَهُ : لَئِنْ صَلَّيْت لَأَقْتُلَنَّكَ فَخَافَ ذَهَابَ الْوَقْتِ ، فَقَامَ ، وَصَلَّى ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسَعُهُ تَرْكُهُ فَلَمَّا صَلَّى قُتِلَ لَمْ يَكُنْ آثِمًا فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ تَمَسَّكَ بِالْعَزِيمَةِ أَيْضًا ، وَكَذَلِكَ صَوْمُ رَمَضَانَ لَوْ قِيلَ لَهُ : وَهُوَ مُقِيمٌ لَئِنْ لَمْ تُفْطِرْ لَنَقْتُلَنَّكَ ، فَأَبَى أَنْ يُفْطِرَ حَتَّى قُتِلَ ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ يَسَعُهُ كَانَ مَأْجُورًا ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْعَزِيمَةِ ، وَفِيمَا ، فَعَلَهُ إظْهَارُ الصَّلَابَةِ فِي الدِّينِ ، وَإِنْ أَفْطَرَ وَسِعَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْفِطْرَ رُخْصَةٌ لَهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَرِيضًا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ إنْ لَمْ يَأْكُلْ ، وَلَمْ يَشْرَبْ حَتَّى مَاتَ ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ يَسَعُهُ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ آثِمًا .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مُسَافِرًا ، فَصَامَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، فَقِيلَ لَهُ لَنَقْتُلَنَّكَ ، أَوْ لَتُفْطِرَنَّ ، فَأَبَى أَنْ يُفْطِرَ

حَتَّى قُتِلَ كَانَ آثِمًا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ لَهُ الْفِطْرَ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مُعْتَدًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { ، فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } ، فَعِنْدَ خَوْفِ الْهَلَاكِ شَهْرُ رَمَضَانَ فِي حَقِّهِمَا أَيَّامُهُ كَلَيَالِيِهِ ، وَكَأَيَّامِ شَعْبَانَ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا ، فَيَكُونُ فِي الِامْتِنَاعِ حَتَّى يَمُوتَ بِمَنْزِلَةِ الْمُضْطَرِّ فِي فَصْلِ الْمَيْتَةِ بِخِلَافِ الصَّحِيحِ الْمُقِيمِ ، فَالْأَمْرُ بِالصَّوْمِ فِي حَقِّهِ عَزِيمَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { ، فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } ، وَالْفِطْرُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ رُخْصَةٌ ، فَإِنْ تَرَخَّصَ بِالرُّخْصَةِ ، فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَإِنْ تَمَسَّك بِالْعَزِيمَةِ ، فَهُوَ أَفْضَلُ لَهُ ، وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءٌ عَلَى مَذْهَبِنَا أَنَّهُ يَصِيرُ مُفْطِرًا بِالتَّنَاوُلِ مُكْرَهًا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَصِيرُ مُفْطِرًا ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الصَّوْمِ ، فَإِنَّ الْخَاطِئَ ، وَالْمُكْرَهَ عِنْدَهُ فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ وَقَالَ : الْمُكْرَهُ مَسْلُوبُ الْفِعْلِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْإِتْلَافَ الْحَاصِلَ بِفِعْلِهِ يَصِيرُ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُكْرَهُ إنَّمَا يُجْعَلُ آلَةً لِلْمُكْرِهِ فِيمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لَهُ ، وَهُوَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى صَوْمِ نَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لِلْغَيْرِ ، فَيَقْتَصِرُ حُكْمُ فِعْلِهِ فِي حَقِّ الْإِفْطَارِ عَلَيْهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمُكْرَهَ لَوْ كَانَ صَائِمًا لَمْ يَصِرْ مُفْطِرًا بِهَذَا ، فَلَوْ جَعَلْنَا الْفِعْلَ عَدَمًا فِي حُكْمِ الْمُكْرَهِ فِي حَقِّ الصَّوْمِ رَجَعَ إلَى الْإِهْدَارِ ، وَلَيْسَ لِلْإِكْرَاهِ تَأْثِيرٌ فِي الْإِهْدَارِ ، وَلَا فِي تَبْدِيلِ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ ، وَبِهِ فَارَقَ حُكْمَ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَا الْفِعْلَ مَنْسُوبًا إلَى الْمُكْرِهِ لَا يُؤَدِّي إلَى الْإِهْدَارِ ، وَلَا إلَى تَبْدِيلِ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ .
.

وَلَوْ قَالَ لَهُ لَأَقْتُلَنَّكَ ، أَوْ لَتَأْخُذَنَّ مَالَ هَذَا الرَّجُلِ فَتُعْطِينِيهِ ، فَأَبَى أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ حَتَّى قُتِلَ ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ يَسَعُهُ كَانَ مَأْجُورًا إنْ شَاءَ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ مُبَاحٌ لَهُ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ ، وَقِيَامُ الْحُرْمَةِ ، وَالتَّقَوِّي حَقًّا لِلْمَالِكِ يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ الْعَزِيمَةُ فِي تَرْكِ الْأَخْذِ ، فَإِنْ تَمَسَّك بِالْعَزِيمَةِ كَانَ مَأْجُورًا ، وَقَيَّدَهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ هَذَا بِعَيْنِهِ نَصًّا بِعَيْنِهِ ، وَإِنَّمَا قَالَهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ ، وَلَيْسَ هَذَا فِي مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْ الْأَخْذِ هُنَا لَا يَرْجِعُ إلَى إعْزَازِ الدِّينِ ، فَلِهَذَا قَيَّدَهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ .

وَلَوْ أَنَّ مُحْرِمًا قِيلَ لَهُ : لَنَقْتُلَنَّكَ ، أَوْ لَتَقْتُلَنَّ هَذَا الصَّيْدَ ، فَأَبَى أَنْ يَفْعَلَ حَتَّى قُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا إنْ شَاءَ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ قَتْلِ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ حُرْمَةٌ مُطْلَقَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } ، فَكَأَنَّ الِامْتِنَاعَ عَزِيمَةٌ ، وَإِبَاحَةَ قَتْلِ الصَّيْدِ رُخْصَةٌ عِنْدَ الضَّرُورَةِ ، فَإِنْ تَرَخَّصَ بِالرُّخْصَةِ كَانَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَإِنْ تَمَسَّك بِالْعَزِيمَةِ ، فَهُوَ أَفْضَلُ لَهُ ، فَإِنْ قَتَلَ الصَّيْدَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْقِيَاسِ ، وَلَا عَلَى الَّذِي أَمَرَهُ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ عَلَى الْقَاتِلِ الْكَفَّارَةُ أَمَّا الْآمِرُ ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ حَلَالٌ لَوْ بَاشَرَ قَتْلَ الصَّيْدِ بِيَدِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ، فَكَذَلِكَ إذَا أَكْرَهَ عَلَيْهِ غَيْرَهُ ، وَأَمَّا الْمُحْرِمُ ، فَفِي الْقِيَاسِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ بِالْإِلْجَاءِ التَّامِّ ، فَيَنْعَدِمُ الْفِعْلُ فِي جَانِبِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ لَا يَكُونُ هُوَ ضَامِنًا شَيْئًا لِهَذَا الْمَعْنَى ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسَعُهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْقَتْلِ ، فَفِي قَتْلِ الصَّيْدِ أَوْلَى ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ مِنْهُ جِنَايَةٌ عَلَى إحْرَامِهِ وَهُوَ بِالْجِنَايَةِ عَلَى إحْرَامِ نَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لِغَيْرِهِ فَأَمَّا قَتْلُ الْمُسْلِمِ ، فَجِنَايَةٌ عَلَى الْمَحَلِّ ، وَهُوَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ فِي ذَلِكَ حَتَّى إنَّ فِي حَقِّ الْآثِمِ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ جِنَايَةً عَلَى حَقِّ دِينِهِ ، وَهُوَ لَا يَصْلُحُ آلَةً لِغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ اقْتَصَرَ الْفِعْلُ عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْآثِمِ : تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْآمِرِ هُنَا شَيْءٌ ، فَلَوْ لَمْ نُوجِبْ الْكَفَّارَةَ عَلَى الْقَاتِلِ كَانَ تَأْثِيرُ الْإِكْرَاهِ فِي الْإِهْدَارِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلْإِكْرَاهِ فِي الْإِهْدَارِ ، وَلَا فِي تَبْدِيلِ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ ، وَإِنْ كَانَا مُحْرِمَيْنِ جَمِيعًا ، فَعَلَى كُلِّ

وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفَّارَةٌ أَمَّا عَلَى الْمُكْرِهِ ، فَلِأَنَّهُ لَوْ بَاشَرَ قَتْلَ الصَّيْدِ بِيَدِهِ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ ، فَكَذَلِكَ إذَا بَاشَرَ بِالْإِكْرَاهِ ، وَأَمَّا الْمُكْرَهُ ، فَلِأَنَّهُ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى إحْرَامِ نَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ آلَةً لِغَيْرِهِ .
يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ هُنَا إلَى نِسْبَةِ أَصْلِ الْفِعْلِ إلَى الْمُكْرِهِ فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ ، فَكَفَّارَةُ الصَّيْدِ تَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِالدَّلَالَةِ ، وَالْإِشَارَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَصِرْ أَصْلُ الْفِعْلِ مَنْسُوبًا إلَيْهِ ، فَكَذَلِكَ هُنَا ، وَبِهِ فَارَقَ كَفَّارَةَ الْقَتْلِ إذَا كَانَ خَطَأً ، أَوْ شِبْهَ عَمْدٍ ، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى الْمُكْرَهِ دُونَ الْمُكْرِهِ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الدِّيَةِ ، وَالْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْكَفَّارَةَ لَا تَجِبُ إلَّا بِمُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ ، وَمِنْ ضَرُورَةِ نِسْبَةِ الْمُبَاشَرَةِ إلَى الْمُكْرَهِ أَنْ لَا يَبْقَى فِعْلٌ فِي جَانِبِ الْمُكْرِهِ ، وَهُنَا وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ لَا يَعْتَمِدُ مُبَاشَرَةَ الْقَتْلِ ، فَيَجُوزُ إيجَابُهُ عَلَى الْمُكْرَهِ بِالْمُبَاشَرَةِ وَعَلَى الْمُكْرِهِ بِالتَّسْبِيبِ ، وَلِأَنَّ السَّبَبَ هُنَا الْجِنَايَةُ عَلَى الْإِحْرَامِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَانٍ عَلَى إحْرَامِ نَفْسِهِ ، فَأَمَّا هُنَاكَ ، فَالسَّبَبُ هُوَ الْجِنَايَةُ عَلَى الْمَحَلِّ ، وَالْمَحَلُّ وَاحِدٌ ، فَإِذَا أَوْجَبْنَا الْكَفَّارَةَ بِاعْتِبَارِهَا عَلَى الْمُكْرَهِ قُلْنَا : لَا يَجِبُ عَلَى الْمُكْرِهِ ، وَلَوْ تَوَعَّدَهُ بِالْحَبْسِ ، وَهُمَا مُحْرِمَانِ ، فَفِي الْقِيَاسِ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْقَاتِلِ دُونَ الْآمِرِ ؛ لِأَنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ فِعْلٌ ، وَلَا أَثَرَ لِلْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ فِي الْأَفْعَالِ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْجَزَاءُ أَمَّا عَلَى الْقَاتِلِ ، فَلَا يَشْكُلُ ، وَأَمَّا عَلَى الْمُكْرَهِ فَلِأَنَّ تَأْثِيرَ الْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ أَكْثَرُ مِنْ تَأْثِيرِ الدَّلَالَةِ ، وَالْإِشَارَةِ ، وَإِذَا كَانَ الْجَزَاءُ يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ بِالدَّلَالَةِ وَالْإِشَارَةِ ، فَبِالْإِكْرَاهِ بِالْحَبْسِ أَوْلَى .
وَلَوْ كَانَا

حَلَالَيْنِ فِي الْحَرَمِ ، وَقَدْ تَوَعَّدَهُ بِقَتْلٍ كَانَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْمُكْرِه ؛ لِأَنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ فِي حُكْمِ ضَمَانِ الْمَالِ ، وَلِهَذَا لَا يَتَأَدَّى بِالصَّوْمِ ، فَلَا تَجِبُ بِالدَّلَالَةِ ، وَلَا تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْفَاعِلِينَ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا بِاعْتِبَارِ حُرْمَةِ الْمَحَلِّ ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الْمَالِ ، وَذَلِكَ عَلَى الْمُكْرِهِ دُونَ الْمُكْرَهِ عِنْدَ التَّهْدِيدِ بِالْقَتْلِ ، وَإِنْ تَوَعَّدَهُ بِالْحَبْسِ كَانَتْ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْقَاتِلِ خَاصَّةً بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الْمَالِ ، وَبِمَنْزِلَةِ الْكَفَّارَةِ فِي قَتْلِ الْآدَمِيِّ خَطَأً .

وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ ، أَوْ نَهْيٌ عَنْ مُنْكِرٍ ، فَخَافَ إنْ ، فَعَلَ أَنْ يُقْتَلَ وَسِعَهُ أَنْ لَا يَفْعَلَ ، وَإِنْ فَعَلَ ، فَقُتِلَ كَانَ مَأْجُورًا ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ ، وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ ، فَرْضٌ مُطْلَقًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { ، وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ } الْآيَةَ ، وَالتَّرْكُ عِنْدَ خَوْفِ الْهَلَاكِ رُخْصَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً } ، فَإِنْ تَرَخَّصَ بِالرُّخْصَةِ كَانَ فِي سَعَةٍ ، وَإِنْ تَمَسَّك بِالْعَزِيمَةِ كَانَ مَأْجُورًا .
وَذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَحْمِلَ عَلَى جَمْعٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَنْكِي فِيهِمْ ، وَأَنَّهُ يُقْتَلُ لَمْ يَسَعْهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُلْقِيًا نَفْسَهُ فِي التَّهْلُكَةِ مِنْ غَيْرِ ، فَائِدَةٍ ، وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَمْنَعَ قَوْمًا مِنْ ، فَسَقَةِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مُنْكِرٍ اجْتَمَعُوا عَلَيْهِ ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يَمْتَنِعُونَ بِسَبَبِهِ ، وَأَنَّهُمْ يَقْتُلُونَهُ ، فَإِنَّهُ يَسَعُهُ الْإِقْدَامُ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ يَعْتَقِدُونَ الْإِسْلَامَ فَزَجْرُهُ إيَّاهُمْ يُؤَثِّرُ فِيهِمْ اعْتِقَادًا لَا مَحَالَةَ ، وَأُولَئِكَ غَيْرُ مُعْتَقِدِينَ ، فَالشَّرْطُ أَنْ يَنْكِيَ فِعْلُهُ فِيهِمْ حِسًّا ، فَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ لَا يَسَعُهُ الْإِقْدَامُ .

وَلَوْ أُكْرِهَ بِالْقَتْلِ عَلَى أَنْ يَزْنِيَ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَفْعَلَ ، فَإِنْ فَعَلَ ، وَكَانَ مُحْرِمًا فَسَدَ إحْرَامُهُ ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ دُونَ الَّذِي أَكْرَهَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فِعْلَهُ جِنَايَةٌ عَلَى إحْرَامِهِ وَهُوَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى إحْرَامِهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ آلَةً لِغَيْرِهِ وَلَوْ أُكْرِهَتْ امْرَأَةٌ مُحْرِمَةٌ بِالْقَتْلِ عَلَى الزِّنَا ، وَسِعَهَا أَنْ تُمُكِّنَ مِنْ نَفْسِهَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ جَانِبِهَا ، وَجَانِبِ الرَّجُلِ فِي حُكْمِ الْإِثْمِ ، فَأَمَّا فَسَادُ الْإِحْرَامِ فَلَا فَرْقَ حَتَّى يَفْسُدَ إحْرَامُهَا ، وَيَجِبُ عَلَيْهَا الْكَفَّارَةُ دُونَ الْمُكْرِهِ ؛ لِأَنَّ تَمْكِينهَا مِنْ نَفْسِهَا جِنَايَةٌ عَلَى إحْرَامِهَا ، وَهِيَ لَا تَصْلُحْ فِي ذَلِكَ آلَةً لِلْمُكْرِهِ ، وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ حَتَّى تُقْتَلَ ، فَهِيَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الزِّنَا ، وَالْجِمَاعِ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ حُرْمَةٌ مُطْلَقَةٌ فَهِيَ فِي الِامْتِنَاعِ تَتَمَسَّكُ بِالْعَزِيمَةِ ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ ، أَوْجَبْنَا الْكَفَّارَةَ عَلَى الْمُكْرَهِ لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُكْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَلْزَمهُ كَفَّارَةً يَفِي بِهَا ، وَلَوْ رَجَعَ بِهَا عَلَيْهِ يُقْضَى بِهَا عَلَيْهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِأَكْثَرَ مِمَّا الْتَزَمَهُ ، وَكُلُّ أَمْرٍ أَحَلَّهُ اللَّهُ تَعَالَى مِثْلَ مَا أَحَلَّ فِي الضَّرُورَةِ مِنْ الْمَيْتَةِ ، وَغَيْرِهَا ، وَالْفِطْرِ فِي الْمَرَضِ ، وَالسَّفَرِ ، فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى مَاتَ ، أَوْ قُتِلَ ، فَهُوَ آثِمٌ ، وَكُلُّ أَمْرٍ حَرَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلَمْ يَجِئْ فِيهِ إحْلَالٌ إلَّا أَنْ فِيهِ رُخْصَةً ، فَأَبَى أَنْ يَأْخُذَ بِالرُّخْصَةِ حَتَّى قُتِلَ ، فَهُوَ فِي سَعَةٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا إغْرَارٌ بِالدِّينِ ، وَلَيْسَ فِي الْأَوَّلِ إغْرَارٌ بِالدِّينِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مُحْرِمًا لَوْ اُضْطُرَّ إلَى مَيْتَةٍ ، وَإِلَى ذَبْحِ صَيْدٍ حَلَّ لَهُ عِنْدَنَا أَكْلُ الْمَيْتَةِ ، وَلَمْ يَحِلَّ لَهُ ذَبْحُ الصَّيْدِ مَا دَامَ يَجِدُ الْمَيْتَةَ ؛ لِأَنَّ الْمَيْتَةَ حَلَالٌ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ ،

وَالصَّيْدُ جَاءَ تَحْرِيمُهُ عَلَى الْمُحْرِمِ جُمْلَةً ، وَلِأَنَّهُ لَوْ ذَبَحَ الصَّيْدَ صَارَ مَيْتَةً أَيْضًا ، فَيَصِيرُ هُوَ جَامِعًا بَيْنَ ذَبْحِ الصَّيْدِ وَتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ وَإِذَا تَنَاوَلَ الْمَيْتَةَ كَانَ مُمْتَنِعًا مِنْ الْجِنَايَةِ عَلَى إحْرَامِهِ بِقَتْلِ الصَّيْدِ وَالْحِلُّ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ فَإِنْ كَانَتْ الضَّرُورَةُ تَرْتَفِعُ بِأَحَدِهِمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا .

وَلَوْ قِيلَ لِرَجُلٍ دُلَّنَا عَلَى مَالِكَ أَوْ لَنَقْتُلَنَّكَ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى قُتِلَ لَمْ يَكُنْ آثِمًا لِأَنَّهُ قَصَدَ الدَّفْعَ عَنْ مَالِهِ وَذَلِكَ عَزِيمَةٌ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مِنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ } وَلِأَنَّ فِي دَلَالَتِهِ إيَّاهُمْ عَلَيْهِ إعَانَةٌ لَهُمْ عَلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } فَلِهَذَا يَسَعُهُ أَنْ لَا يَدُلَّهُمْ وَإِنْ دَلَّهُمْ حَتَّى أَخَذُوهُ ضَمِنُوا لَهُ لِأَنَّ بِدَلَالَتِهِ لَا يَخْرُجُونَ مِنْ أَنْ يَكُونُوا غَاصِبِينَ لِمَالِهِ مُتْلِفِينَ فَعَلَيْهِمْ الضَّمَانُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَإِذَا ادَّعَتْ امْرَأَةٌ عَلَى زَوْجِهَا قَذْفًا وَجَحَدَهُ الرَّجُلُ فَأَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ بِذَلِكَ وَزُكُّوا فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَأَمَرَ الْقَاضِي الزَّوْجَ أَنْ يُلَاعِنَهَا فَأَبَى أَنْ يَفْعَلَ وَقَالَ لَمْ أَقْذِفْهَا وَقَدْ شَهِدُوا عَلَيَّ بِالزُّورِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُجْبِرُهُ عَلَى اللِّعَانِ وَيَحْبِسُهُ حَتَّى يُلَاعِنَ لِأَنَّهُ مُمْتَنِعٌ مِنْ إيفَاءِ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فَيَحْبِسُهُ لِأَجْلِهِ وَلَا يَضْرِبُهُ الْحَدَّ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الطَّلَاقِ فَإِنْ حَبَسَهُ حَتَّى يُلَاعِنَ أَوْ هَدَّدَهُ بِالْحَبْسِ حَتَّى يُلَاعِنَ وَقَالَ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ أَنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا قَالَهُ أَرْبَعُ مَرَّاتٍ ثُمَّ قَالَ وَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيَّ إنْ كُنْت مِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْتهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا وَالْتَعَنَتْ الْمَرْأَةُ أَيْضًا وَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ الشُّهُودَ عَبِيدٌ أَوْ مَحْدُودُونَ فِي قَذْفٍ أَوْ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمْ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُبْطِلُ اللِّعَانَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمَا وَيُبْطِلُ الْفُرْقَةَ وَيَرُدُّهَا إلَيْهِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ قَضَى بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَالْقَضَاءُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ بَاطِلٌ مَرْدُودٌ وَلَا يُقَالُ فَقَدْ أَقَرَّ بِالْقَذْفِ بِالزِّنَا فِي شَهَادَاتِ اللِّعَانِ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِإِكْرَاهٍ مِنْ الْقَاضِي إيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ وَالْإِكْرَاهُ بِالْحَبْسِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ هَدَّدَهُ بِالْحَبْسِ عَلَى أَنْ يُقِرَّ بِأَنَّهُ قَذَفَ هَذَا الرَّجُلَ فَأَقَرَّ بِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ بِهَذَا الْإِقْرَارِ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ هُنَا فَإِنْ قِيلَ ذَاكَ إكْرَاهٌ بِالْبَاطِلِ وَهَذَا إكْرَاهٌ بِحَقٍّ قُلْنَا هَذَا إكْرَاهٌ بِحَقٍّ ظَاهِرًا فَأَمَّا إذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الشُّهُودَ عَبِيدٌ فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ الْإِكْرَاهَ كَانَ بِالْبَاطِلِ حَقِيقَةً وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي لَمْ يَحْبِسْهُ حَتَّى يُلَاعِنَ وَلَمْ يُهَدِّدْهُ بِحَبْسٍ وَلَكِنَّهُ قَالَ قَدْ شَهِدُوا عَلَيْك بِالْقَذْفِ وَقَضَيْت عَلَيْك

بِاللِّعَانِ فَالْتَعَنَ وَلَمْ يَزِدْهُ عَلَى هَذَا فَالْتَعَنَ الرَّجُلُ كَمَا لَوْ وَصَفْت لَك وَالْتَعَنَتْ الْمَرْأَةُ وَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ الشُّهُودَ كَانُوا عَبِيدًا فَأَبْطَلَ شَهَادَتَهُمْ فَإِنَّهُ يُمْضِي اللِّعَانَ بَيْنَ الزَّوْجِ وَالْمَرْأَةِ وَتَمْضِي الْفُرْقَةُ وَيَجْعَلُهَا بَائِنًا مِنْ زَوْجِهَا لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا لَمْ يُهَدِّدْهُ بِحَبْسٍ وَلَا غَيْرِهِ حَتَّى قَالَ أُشْهِدُكُمْ بِاَللَّهِ أَنَّى لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا كَانَ هَذَا إقْرَارًا مِنْهُ بِأَنَّهُ قَذَفَهَا بِغَيْرِ إكْرَاهٍ فَيَلْزَمُهُ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ ذَلِكَ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ أَقَرَّ بِقَذْفِهِ إيَّاهَا بَعْدَ مَا جَحَدَ ثُمَّ الْتَعَنَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ ذَلِكَ تَفْرِيقًا صَحِيحًا بِاعْتِبَارِ حُجَّةٍ شَرْعِيَّةٍ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ الْقَاضِي قَدْ شَهِدُوا عَلَيْك أَنَّك قَذَفْت هَذَا الرَّجُلَ بِالزِّنَا وَقَدْ قَضَيْت عَلَيْك بِالْحَدِّ فَقَالَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ أَجَلٌ قَدْ قَذَفْته بِالزِّنَا ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ شَهَادَةَ الشُّهُودِ بَاطِلَةٌ ضَرَبَ الْحَدَّ لِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقَذْفِ وَلَوْ قَالَ قَدْ شَهِدَ عَلَيْك الشُّهُودُ بِالْقَذْفِ فَلَتُقِرَّنَّ بِذَلِكَ أَوْ لَأَحْبِسَنَّكَ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّ شَهَادَةَ الشُّهُودِ بَاطِلَةٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَدٌّ بِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ قَذَفَهُ لِأَنَّهُ كَانَ مُكْرَهًا عَلَى ذَلِكَ فَكَذَلِكَ مَا وَصَفْنَا مِنْ حُكْمِ التَّفْرِيقِ بِسَبَبِ اللِّعَانِ وَلَوْ لَمْ يَظْهَرْ أَنَّ الشُّهُودَ عَبِيدٌ وَلَكِنَّهُمَا يَعْلَمَانِ أَنَّهُمْ شَهِدُوا عَلَيْهِمَا بِزُورِ فَالْتَعْنَا وَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا كَانَ قَضَاؤُهُ نَافِذًا ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ بَاطِنًا وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ

كِتَابُ الْحَجْرِ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ ، وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إمْلَاءٌ : اعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْوَرَى ، وَفَاوَتَ بَيْنَهُمْ فِي الْحِجَا ، فَجَعَلَ بَعْضَهُمْ أُولُو الرَّأْيِ ، وَالنُّهَى وَمِنْهُمْ أَعْلَامُ الْهُدَى وَمَصَابِيحُ الدُّجَى ، وَجَعَلَ بَعْضَهُمْ مُبْتَلًى بِبَعْضِ أَصْحَابِ الرَّدَى فِيمَا يَرْجِعُ إلَى مُعَامَلَاتِ الدُّنْيَا كَالْمَجْنُونِ الَّذِي هُوَ عَدِيمُ الْعَقْلِ وَالْمَعْتُوهِ الَّذِي هُوَ نَاقِصُ الْعَقْلِ ، فَأَثْبَتَ الْحَجْرَ عَلَيْهِمَا عَنْ التَّصَرُّفَاتِ نَظَرًا مِنْ الشَّرْعِ لَهُمَا وَاعْتِبَارًا بِالْحَجْرِ الثَّابِتِ عَلَى الصَّغِيرِ فِي حَالِ الطُّفُولِيَّةِ بِسَبَبِ عَدَمِ الْعَقْلِ بَعْدَمَا صَارَ مُمَيِّزًا بِسَبَبِ نُقْصَانِ الْعَقْلِ ، وَذَلِكَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ فَيَثْبُتُ الْحَجْرُ فِي حَقِّ الْمَعْتُوهِ ، وَالْمَجْنُونِ اسْتِدْلَالًا بِالنُّصُوصِ بِطَرِيقِ التَّشْبِيهِ ؛ لِأَنَّ حَالَهُمَا دُونَ حَالِ الصَّبِيِّ فَالصَّبِيُّ عَدِيمُ الْعَقْلِ إلَى الْإِصَابَةِ عَادَةً ، وَالْمَجْنُونُ عَدِيمُ الْعَقْلِ إلَى الْإِصَابَةِ عَادَةً ، وَلِهَذَا جَازَ إعْتَاقُ الصَّبِيِّ فِي الرِّقَابِ الْوَاجِبَةِ دُونَ الْمَجْنُونِ ، فَأَمَّا إذَا بَلَغَ عَاقِلًا ، فَلَا حَجْرَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْحَجْرُ عَلَى الْحُرِّ بَاطِلٌ ، وَمُرَادُهُ إذَا بَلَغَ عَاقِلًا ، وَحُكِيَ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : لَا يَجُوزُ الْحَجْرُ إلَّا عَلَى ثَلَاثَةٍ عَلَى الْمُفْتِي الْمَاجِنِ ، وَعَلَى الْمُتَطَبِّبِ الْجَاهِلِ ، وَعَلَى الْمُكَارِي الْمُفْلِسِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ الْفَاحِشِ إذَا لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِمْ ، فَالْمُفْتِي الْمَاجِنُ يُفْسِدُ عَلَى النَّاسِ دِينَهُمْ وَالْمُتَطَبِّبُ الْجَاهِلُ يُفْسِدُ أَبْدَانَهُمْ ، وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسُ يُتْلِفُ أَمْوَالَهُمْ فَيَمْتَنِعُونَ مِنْ ذَلِكَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ .
فَإِنَّ الْحَجْرَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمَنْعُ وَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، وَرَأَى

هَذَا فِي فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا الْحَجْرُ عَلَى السَّفِيهِ الْمُبَذِّرِ ، وَالْآخَرُ الْحَجْرُ عَلَى الْمَدْيُونِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ ، وَالسَّفَهُ هُوَ الْعَمَلُ بِخِلَافِ مُوجِبِ الشَّرْعِ ، وَهُوَ اتِّبَاعُ الْهَوَى ، وَتَرْكُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَقْلُ ، وَالْحِجَى ، وَأَصْلُ الْمُسَامَحَةِ فِي التَّصَرُّفَاتِ ، وَالْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ شَرْعًا ، وَلَكِنْ بِطَرِيقِ السَّفَهِ وَالتَّبْذِيرِ مَذْمُومٌ شَرْعًا وَعُرْفًا ، وَلِهَذَا لَا تَنْعَدِمُ الْأَهْلِيَّةُ بِسَبَبِ السَّفَهِ ، وَلَا يُجْعَلُ السَّفَهُ عُذْرًا فِي إسْقَاطِ الْخِطَابِ عَنْهُ بِشَيْءٍ مِنْ الشَّرَائِعِ ، وَلَا فِي إهْدَارِ عِبَارَتِهِ فِيمَا يُقِرُّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ بِسَبَبِ السَّفَهِ أَيْضًا ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَجُوزُ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بِهَذَا السَّبَبِ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ الْمُحْتَمَلَةِ لِلْفَسْخِ إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا أَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ عَلَى سَبِيلِ النَّظَرِ لَهُ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ عَلَى سَبِيلِ الزَّجْرِ ، وَالْعُقُوبَةِ لَهُ ، وَيَتَبَيَّنُ هَذَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِيمَا إذَا كَانَ مُفْسِدًا فِي دِينِهِ مُصْلِحًا فِي مَالِهِ كَالْفَاسِقِ ، فَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُحْجَرُ عَلَيْهِ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْفَسَادِ بِطَرِيقِ الزَّجْرِ ، وَالْعُقُوبَةِ ، وَلِهَذَا لَمْ يُجْعَلْ الْفَاسِقُ أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ ، فَالْفَاسِقُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا جَمِيعًا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَهْلٌ لِلْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ عَلَى الْعُمُومِ ، وَعَلَى غَيْرِهِ إذَا وُجِدَ شَرْطٌ ، تُعَدَّى وِلَايَتُهُ لِغَيْرِهِ أَمَّا مَنْ جَوَّزَ الْحَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ ، فَقَدْ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا ، أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ } وَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ إثْبَاتَ

الْوِلَايَةِ عَلَى السَّفِيهِ ، وَأَنَّهُ مُوَلَّى عَلَيْهِ ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ } إلَى أَنْ قَالَ { وَاكْسُوهُمْ } وَهَذَا أَيْضًا تَنْصِيصٌ عَلَى إثْبَاتِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ النَّظَرِ لَهُ ، فَإِنَّ الْوَلِيَّ الَّذِي يُبَاشِرُ التَّصَرُّفَ فِي مَالِهِ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ مِنْهُ لَهُ وَرُوِيَ أَنَّ حِبَّانَ بْنَ مُنْقِذٍ الْأَنْصَارِيَّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُغْبَنُ فِي الْبِيَاعَاتِ لِآمَّةٍ أَصَابَتْ رَأْسَهُ ، فَسَأَلَ أَهْلُهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : إنِّي لَا أَصْبِرُ عَنْ الْبَيْعِ ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إذَا بَايَعْت ، فَقُلْ لَا خِلَابَةَ ، وَلِيَ الْخِيَارُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْحَجْرُ بِسَبَبِ التَّبْذِيرِ فِي الْمَالِ مَشْرُوعًا عُرْفًا لَمَا سَأَلَ أَهْلُهُ ذَلِكَ ، وَلَمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُفْنِي مَالَهُ فِي اتِّخَاذِ الضِّيَافَاتِ حَتَّى اشْتَرَى دَارًا لِلضِّيَافَةِ بِمِائَةِ أَلْفٍ فَبَلَغَ ذَلِكَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لَآتِيَنَّ عُثْمَانَ وَلَأَسْأَلَنَّهُ أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ فَاهْتَمَّ بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَجَاءَ إلَى الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ أَشْرَكَنِي فِيهَا فَأَشْرَكَهُ ، ثُمَّ جَاءَ عَلِيٌّ إلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ ، فَقَالَ كَيْفَ أَحْجُرُ عَلَى رَجُلٍ شَرِيكُهُ الزُّبَيْرُ ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الزُّبَيْرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْكِيَاسَةِ فِي التِّجَارَةِ ، فَاسْتَدَلَّ بِرَغْبَتِهِ فِي الشَّرِكَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا غَبْنَ فِي تَصَرُّفِهِ ، فَهَذَا اتِّفَاقٌ مِنْهُمْ عَلَى جَوَازِ الْحَجْرِ بِسَبَبِ التَّبْذِيرِ ، فَإِنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَأَلَ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اشْتَغَلَ بِبَيَانِ الْعُذْرِ

، وَاهْتَمَّ لِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَاحْتَالَ الزُّبَيْرُ لِدَفْعِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالشَّرِكَةِ ، فَيَكُونُ اتِّفَاقًا مِنْهُمْ عَلَى جَوَازِ الْحَجْرِ بِهَذَا السَّبَبِ .
وَإِنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ تَتَصَدَّقُ بِمَالِهَا حَتَّى رُوِيَ أَنَّهَا كَانَ لَهَا رِبَاعٌ ، فَهَمَّتْ بِبَيْعِ رِبَاعِهَا لِتَتَصَدَّق بِالثَّمَنِ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ فَقَالَ لَتَنْتَهِيَنَّ عَائِشَةُ عَنْ بَيْعِ رِبَاعِهَا ، أَوْ لَأَحْجُرَنَّ عَلَيْهَا وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ مُبَذِّرٌ فِي مَالِهِ ، فَيَكُونُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ كَالصَّبِيِّ بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ إنَّمَا يَكُونُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لِتَوَهُّمِ التَّبْذِيرِ مِنْهُ ، وَقَدْ تَحَقَّقَ التَّبْذِيرُ ، وَالْإِسْرَافُ هُنَا فَلَأَنْ يَكُونَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ أَوْلَى ، وَتَحْقِيقُهُ ، وَهُوَ أَنَّ لِلصَّبِيِّ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ : حَالُ عَدَمِ الْعَقْلِ ، وَحَالُ نُقْصَانِ الْعَقْلِ بَعْدَ مَا صَارَ مُمَيِّزًا وَحَالُ السَّفَهِ ، وَالتَّبْذِيرِ بَعْدَ مَا كَمُلَ عَقْلُهُ بِأَنْ قَارَبَ أَوَانَ بُلُوغِهِ ، ثُمَّ عَدَمُ الْعَقْلِ ، وَنُقْصَانِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ يُسَاوِي عَدَمَ الْعَقْلِ وَنُقْصَانِهِ قَبْلَ الْبُلُوغِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْحَجْرِ بِهِ ، فَكَذَلِكَ السَّفَهُ ، وَالْبُلُوغُ يُسَاوِي السَّفَهَ قَبْلَ الْبُلُوغِ بَعْدَ كَمَالِ الْعَقْلِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْحَجْرِ بِهِ ، وَكَانَ هَذَا الْحَجْرُ بِطَرِيقِ النَّظَرِ لَهُ ؛ لِأَنَّ التَّبْذِيرَ ، وَإِنْ كَانَ مَذْمُومًا ، فَهُوَ مُسْتَحِقُّ النَّظَرِ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ دِينِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْعَفْوَ عَنْ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ حَسَنٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَذَلِكَ يَكُونُ نَظَرًا لَهُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ فِي حَقِّ مَنْعِ الْمَالِ يُجْعَلُ السَّفَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ كَالسَّفَهِ قَبْلَ الْبُلُوغِ بِالْقِيَاسِ عَلَى عَدَمِ الْعَقْلِ ، وَنُقْصَانِ الْعَقْلِ ، وَكَانَ مَنْعُ الْمَالِ بِطَرِيقِ النَّظَرِ لَهُ ، فَكَذَلِكَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ عَنْ التَّصَرُّفِ ؛ لِأَنَّ مَنْعَ الْمَالِ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِعَيْنِهِ بَلْ لِإِبْقَاءِ مِلْكِهِ ، وَلَا يَحْصُلُ

هَذَا الْمَقْصُودُ مَا لَمْ يُقْطَعْ لِسَانُهُ عَنْ مَالِهِ تَصَرُّفًا فَإِذَا كَانَ هُوَ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ لَا يُفِيدُ مَنْعَ الْمَالِ شَيْئًا ، وَإِنَّمَا يَكُونُ فِيهِ زِيَادَةُ مُؤْنَةٍ ، وَتَكَلُّفٍ عَلَى الْمَوْلَى فِي حِفْظِ مَالِهِ إلَى أَنْ يُتْلِفَهُ بِتَصَرُّفِهِ .
وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { ، وَلَا تَأْكُلُوهَا إسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا } ، فَقَدْ نَهَى الْوَلِيَّ عَنْ الْإِسْرَافِ فِي مَالِهِ مَخَافَةَ أَنْ يَكْبَرَ ، فَلَا يَبْقَى لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ ، وَالتَّنْصِيصُ عَلَى زَوَالِ وِلَايَتِهِ عَنْهُ بَعْدَ الْكِبَرِ يَكُونُ تَنْصِيصًا عَلَى زَوَالِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْكِبَرِ ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ عَلَيْهِ لِلْحَاجَةِ ، وَإِنَّمَا تَنْعَدِمُ الْحَاجَةُ إذَا صَارَ هُوَ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ وَلَمَّا سُئِلَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اسْتَدَلَّ بِآيَاتِ الْكَفَّارَاتِ مِنْ الظِّهَارِ ، وَالْقَتْلِ ، وَغَيْرِهَا ، فَفِي هَذِهِ الْعُمُومَاتِ بَيَانُ أَنَّ هَذِهِ الْكَفَّارَاتِ تَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ أَسْبَابُهَا شَرْعًا سَفِيهًا كَانَ أَوْ غَيْرَ سَفِيهٍ ، وَارْتِكَابُ هَذِهِ الْأَسْبَابِ اخْتِيَارًا نَوْعٌ مِنْ السَّفَهِ ، فَدَلَّ أَنَّهُ مَعَ السَّفَهِ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِاسْتِحْقَاقِ الْمَالِ .
وَمِنْ ضَرُورَتِهِ أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنْ أَدَاءِ مَا لَزِمَهُ شَرْعًا وَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْحَجْرَ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ لَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ فَائِدَةٍ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ إتْلَافِ جَمِيعِ مَالِهِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ حُرٌّ مُخَاطَبٌ ، فَيَكُونُ مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ كَالرَّشِيدِ وَفِي هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ إشَارَةٌ إلَى أَهْلِيَّةِ التَّصَرُّفِ وَالْمَحَلِّيَّةِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ بِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا نُثْبِتُ أَهْلِيَّةَ التَّصَرُّفِ ، فَإِنَّ التَّصَرُّفَ كَلَامٌ مُلْزِمٌ وَأَهْلِيَّةُ الْكَلَامِ بِكَوْنِهِ مُمَيِّزًا ، وَالْكَلَامُ الْمُمَيِّزُ بِنَفْسِهِ بِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا وَالْمَحَلِّيَّةُ تَثْبُتُ بِكَوْنِهِ خَالِصَ مِلْكِهِ ، وَذَلِكَ يَثْبُتُ

بِاعْتِبَارِ حُرِّيَّةِ الْمَالِكِ وَبَعْدَ مَا صَدَرَ التَّصَرُّفُ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ لَا يَمْتَنِعُ نُفُوذُهُ إلَّا لِمَانِعٍ ، وَالسَّفَهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَارِضًا لِلْحُرِّيَّةِ ، وَالْخِطَابُ فِي الْمَنْعِ مِنْ نُفُوذِ التَّصَرُّفِ ؛ لِأَنَّ بِسَبَبِ السَّفَهِ لَا يَظْهَرُ نُقْصَانُ عَقْلِهِ ، وَلَكِنَّ السَّفِيهَ يُكَابِرُ عَقْلَهُ ، وَيُتَابِعُ هَوَاهُ وَهَذَا لَا يَكُونُ مُعَارِضًا فِي حَقِّ التَّصَرُّفِ كَمَا لَا يَكُونُ مُعَارِضًا فِي تَوَجُّهِ الْخِطَابِ عَلَيْهِ بِحُقُوقِ الشَّرْعِ ، وَكَوْنُهُ مُعَاقَبًا عَلَى تَرْكِهِ أَنَّ زَوَالَ الْحَجْرِ ، وَتَوَجُّهِ الْخِطَابِ فِي الْأَصْلِ يَنْبَنِي عَلَى اعْتِدَالِ الْحَالِ إلَّا أَنَّ اعْتِدَالَ الْحَالِ بَاطِنًا لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَأَقَامَ الشَّرْعُ السَّبَبَ الظَّاهِرَ الدَّالَّ عَلَيْهِ ، وَهُوَ الْبُلُوغُ عَنْ عَقْلٍ مَقَامَهُ تَيْسِيرًا عَلَى مَا هُوَ الْأَصْلِ أَنَّهُ مَتَى تَعَذَّرَ الْوُقُوفُ عَلَى الْمَعَانِي الْبَاطِنَةِ تُقَامُ الْأَسْبَابُ الظَّاهِرَةُ مَقَامَهَا كَمَا أُقِيمَ السَّيْرُ الْمَدِيدُ مَقَامَ الْمَشَقَّةِ فِي جَوَازِ التَّرَخُّصِ ، وَأُقِيمَ حُدُوثُ مِلْكِ الْحِلِّ بِسَبَبِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ مَقَامَ حَقِيقَةِ اسْتِعْمَالِ الرَّحِمِ بِالْمَاءِ فِي وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ ، ثُمَّ هَذَا السَّبَبُ الظَّاهِرُ يَقُومُ مَقَامَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْخَفِيِّ ، فَيَدُورُ الْحُكْمُ مَعَهُ وُجُودًا ، وَعَدَمًا فَكَمَا لَا يُعْتَبَرُ الرُّشْدُ قَبْلَ الْبُلُوغِ ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ أَصَابَ ذَلِكَ فِي زَوَالِ الْحَجْرِ عَنْهُ ، فَكَذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ السَّفَهُ ، وَالتَّبْذِيرُ بَعْدَ الْبُلُوغِ فِي إثْبَاتِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ فِي حُكْمِ الْخِطَابِ اُعْتُبِرَ هَذَا الْمَعْنَى ، فَدَارَ مَعَ السَّبَبِ الظَّاهِرِ ، وَهُوَ الْبُلُوغُ عَنْ عَقْلٍ وُجُودًا وَعَدَمًا ، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ التَّصَرُّفَاتِ بَلْ أَوْلَى .
؛ لِأَنَّ تَوَجُّهِ الْخِطَابِ عَلَيْهِ إنَّمَا يَكُونُ شَرْعًا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ بَاطِنِهِ ، وَحُكْمُ التَّصَرُّفِ بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ الْعِبَادِ لَا طَرِيقَ لَهُمْ إلَى مَعْرِفَةِ مَا فِي

بَاطِنِهِ حَقِيقَةً فَلَمَّا أُقِيمَ هُنَاكَ السَّبَبُ الظَّاهِرُ مَقَامَ الْمَعْنَى الْخَفِيِّ ، فَهُنَا أَوْلَى ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ جَوَازُ إقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِالْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ ، وَإِقَامَةُ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، وَتِلْكَ الْعُقُوبَاتُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، فَلَوْ بَقِيَ السَّفَهُ مُعْتَبَرًا بَعْدَ الْبُلُوغِ عَنْ عَقْلٍ لَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُعْتَبَرَ ذَلِكَ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَلَوْ جَازَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ النَّظَرِ لَهُ لَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ فِي هَذَا أَكْثَرُ ، فَإِنَّ الضَّرَرَ هُنَا يَلْحَقُهُ فِي نَفْسِهِ ، وَالْمَالُ تَابِعٌ لِلنَّفْسِ ، فَإِذَا لَمْ يُنْظَرْ لَهُ فِي دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ فَعَنْ مَالِهِ أَوْلَى ، وَمَا قَالَا مِنْ أَنَّ النَّظَرَ لَهُ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ دِينِهِ يُضَعَّفُ بِهَذَا الْفَصْلِ ثُمَّ هَذَا النَّوْعُ مِنْ النَّظَرِ جَائِزٌ لَا ، وَاجِبٌ كَمَا فِي الْعَفْوِ عَنْ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ وَمِنْ أَصْلِهِمْ أَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ يَجِبُ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ النَّظَرُ لَهُ بِطَرِيقٍ لَا يُؤَدِّي إلَى إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِهِ وَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ النَّظَرِ ، وَفِي إهْدَارِ قَوْلِهِ فِي التَّصَرُّفَاتِ إلْحَاقٌ لَهُ بِالْبَهَائِمِ ، وَالْمَجَانِينِ فَيَكُونُ الضَّرَرُ فِي هَذَا أَعْظَمُ مِنْ النَّظَرِ الَّذِي يَكُونُ لَهُ فِي الْحَجْرِ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ ؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ إنَّمَا بَايَنَ سَائِرَ الْحَيَوَانَاتِ بِاعْتِبَارِ قَوْلِهِ فِي التَّصَرُّفَاتِ ، فَأَمَّا مَنْعُ الْمَالِ مِنْهُ ، فَعَلَى طَرِيقِ بَعْضِ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ هُوَ ثَابِتٌ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ لِيَكُونَ زَجْرًا لَهُ عَنْ التَّبْذِيرِ ، وَالْعُقُوبَاتُ مَشْرُوعَةٌ بِالْأَسْبَابِ الْحِسِّيَّةِ .
فَأَمَّا إهْدَارُ الْقَوْلِ فِي التَّصَرُّفَاتِ ، فَمَعْنًى حُكْمِيٌّ ، وَالْعُقُوبَاتُ بِهَذَا الطَّرِيقِ غَيْرُ مَشْرُوعَةٍ كَالْحُدُودِ ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ إسْقَاطُ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ ، فَإِنَّهُ مُتَمِّمٌ لِحَدِّهِ عِنْدَنَا ، وَيَكُونُ تَابِعًا لِمَا هُوَ

حِسِّيٌّ ، وَهُوَ إقَامَةُ الْجَلْدِ لَا مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ ، وَلَئِنْ ثَبَتَ جَوَازُ ذَلِكَ ، وَلَكِنْ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ الْعُقُوبَةِ بِالْقِيَاسِ بَلْ بِالنَّصِّ ، وَقَدْ وَرَدَ النَّصُّ بِمَنْعِ الْمَالِ إلَى أَنْ يُؤْنَسَ مِنْهُ الرُّشْدُ ، وَلَا نَصَّ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ عَنْ التَّصَرُّفِ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ ، فَلَا يُثْبِتُهُ بِالْقِيَاسِ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا قَالَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ : إنَّ الْبِكْرَ إذَا كَانَتْ مَخُوفًا عَلَيْهَا فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَضُمَّهَا إلَى نَفْسِهِ ، وَكَذَلِكَ الْغُلَامُ الْبَالِغُ إذَا كَانَ مَخُوفًا عَلَيْهِ ، فَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَضُمَّهُ إلَى نَفْسِهِ ، وَبِأَنْ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ نَفْسِهِ فِي التَّفَرُّدِ بِالسُّكْنَى لِمَعْنَى الزَّجْرِ لَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ قَوْلِهِ فِي التَّصَرُّفِ فِي نَفْسِهِ نِكَاحًا ، أَوْ مُنِعَ الْمَالُ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ بَقَاءِ أَثَرِ الصَّبِيِّ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ أَثَرَ الصَّبِيِّ يَبْقَى زَمَانًا فِي أَوَائِلِ الْبُلُوغِ ، وَلِهَذَا لَوْ بَلَغَ رَشِيدًا ، ثُمَّ صَارَ سَفِيهًا لَا يُمْنَعُ الْمَالُ مِنْهُ ، وَبِأَنْ جَعَلَ أَثَرَ الصَّبِيِّ كَنَفْسِ الصِّبَا فِي مَنْعِ الْمَالِ مِنْهُ ، فَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ يُجْعَلَ كَذَلِكَ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ كَمَا أَنَّ الْعِدَّةَ تَعْمَلُ عَمَلَ النِّكَاحِ فِي الْمَنْعِ مِنْ النِّكَاحِ دُونَ إيفَاءِ الْحِلِّ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ نِعْمَةَ الْيَدِ عَلَى الْمَالِ نِعْمَةٌ زَائِدَةٌ ، وَإِطْلَاقُ اللِّسَانِ فِي التَّصَرُّفَاتِ نِعْمَةٌ أَصْلِيَّةٌ ، فَبَانَ جَوَازُ إلْحَاقِ ضَرَرٍ يَسِيرٍ بِهِ فِي مَنْعِ نِعْمَةٍ زَائِدَةٍ لِتَوَفُّرِ النَّظَرِ عَلَيْهِ لَا يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ إلْحَاقُ الضَّرَرِ الْعَظِيمِ بِهِ بِتَفْوِيتِ النِّعْمَةِ الْأَصْلِيَّةِ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ ، فَأَمَّا الْآيَاتُ فَقِيلَ : الْمُرَادُ بِالسَّفِيهِ الصَّغِيرُ ، أَوْ الْمَجْنُونُ ؛ لِأَنَّ السَّفَهَ عِبَارَةٌ عَنْ الْخِفَّةِ وَذَلِكَ بِانْعِدَامِ الْعَقْلِ وَنُقْصَانِهِ ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْله تَعَالَى { ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ

الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا } أَيْ صَبِيًّا ، أَوْ مَجْنُونًا وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { ، وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ } إمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الصِّبْيَانَ أَوْ الْمَجَانِينَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ وِلَايَةُ الْوَلِيِّ عَلَيْهِ ، وَمَنْ يُوجِبُ الْحَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ يَقُولُ : إنَّ وِلَايَةَ الْوَلِيِّ تَزُولُ عَنْهُ بِالْبُلُوغِ عَنْ عَقْلٍ عَلَى مَا بَيَّنَهُ ، أَوْ الْمُرَادُ نَهْيُ الْأَزْوَاجِ عَنْ دَفْعِ الْمَالِ إلَى النِّسَاءِ ، وَجَعْلُ التَّصَرُّفِ إلَيْهِنَّ كَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ قَالَ ، وَأَمْوَالَكُمْ وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ أَمْوَالَ الْمُخَاطَبِينَ بِهَذَا النَّهْيِ لَا أَمْوَالَ السُّفَهَاءِ ، وَحَدِيثُ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ دَلِيلُنَا ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَمَالِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَطْلَقَ عَنْهُ الْحَجْرُ لِقَوْلِهِ لَا أَصْبِرُ عَنْ الْبَيْعِ وَمَنْ يَجْعَلُ السَّفَهَ مُوجِبًا لِلْحَجْرِ لَا يَقُولُ يُطْلَقُ عَنْهُ الْحَجْرُ بِهَذَا الْقَوْلِ ، فَعَرَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ حَجْرًا لَازِمًا .
وَحَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَلِيلُنَا أَيْضًا ؛ لِأَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ امْتَنَعَ مِنْ الْحَجْرِ عَلَيْهِ مَعَ سُؤَالِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي التَّصَرُّفِ غَبْنٌ ذَلِكَ حِينَ رَغِبَ الزُّبَيْرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الشَّرِكَةِ وَلَكِنَّ الْمُبَذِّرَ ، وَإِنْ تَصَرَّفَ تَصَرُّفًا وَاحِدًا عَلَى وَجْهٍ لَا غَبْنَ فِيهِ ، فَإِنَّهُ يُحْجَرُ عَلَيْهِ عِنْدَ مَنْ يَرَى الْحَجْرَ فَلَمَّا لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ دَلَّ أَنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّخْوِيفِ ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا دَلِيلُنَا ، فَإِنَّهُ لَمَّا بَلَغَهَا قَوْلُ ابْنِ الزُّبَيْرِ حَلَفَتْ أَنْ لَا تُكَلِّمَ ابْنَ الزُّبَيْرِ أَبَدًا ، فَإِنْ كَانَ الْحَجْرُ حُكْمًا شَرْعِيًّا لَمَا اسْتَجَازَتْ هَذَا الْحَلِفُ مِنْ نَفْسِهَا مُجَازَةً عَلَى قَوْلِهِ فِيمَا هُوَ حُكْمٌ

شَرْعِيٌّ ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الزُّبَيْرَ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ كَرَاهَةَ أَنْ يَفْنَى مَالُهَا ، فَتُبْتَلَى بِالْفَقْرِ ، فَتَصِيرُ عِيَالًا عَلَى غَيْرِهَا بَعْدَ مَا كَانَ يَعُولُهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْمَصِيرُ إلَى هَذَا أَوْلَى لِيَكُونَ أَبْعَدَ عَنْ نِسْبَةِ السَّفَهِ ، وَالتَّبْذِيرِ إلَى الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَإِنْ بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً ، وَلَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ دُفِعَ الْمَالَ إلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - : لَمْ يُدْفَعْ الْمَالُ إلَيْهِ مَا لَمْ يُؤْنَسَ مِنْهُ الرُّشْدُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } ، فَهَذِهِ آيَةٌ مُحْكَمَةٌ لَمْ يَنْسَخْهَا شَيْءٌ ، فَلَا يَجُوزُ دَفْعُ الْمَالِ إلَيْهِ قَبْلَ إينَاسِ الرُّشْدِ مِنْهُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ عِنْدَ الْبُلُوغِ إذَا لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ لَا يُدْفَعُ الْمَالُ إلَيْهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ ، فَكَذَلِكَ إذَا بَلَغَ خَمْسًا ، وَعِشْرِينَ ؛ لِأَنَّ السَّفَهَ يَسْتَحْكِمْ بِمُطَاوَلَةِ الْمُدَّةِ وَلِأَنَّ السَّفَهَ فِي حُكْمِ مَنْعِ الْمَالِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْجُنُونِ ، وَالْعَتَهِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ دَفْعَ الْمَالِ إلَيْهِ بَعْدَ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً كَمَا قَبْلَهُ فَكَذَلِكَ السَّفَهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { ، وَلَا تَأْكُلُوهَا إسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا } مَعْنَاهُ أَنْ يَكْبَرُوا يَلْزَمُكُمْ دَفْعُ الْمَالِ إلَيْهِمْ ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { ، وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ } ، وَالْمُرَادُ الْبَالِغِينَ ، فَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى وُجُوبِ دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ إلَّا أَنَّهُ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى مَنْعِ الْمَالِ مِنْهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ إذَا لَمْ يُؤْنَسْ رُشْدُهُ ، وَهُوَ مَا تَلَوْا ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا } وَحَرْفُ الْفَاءِ لِلْوَصْلِ وَالتَّعْقِيبِ ، فَيَكُونُ بَيْنَ إنْ دَفَعَ الْمَالَ إلَيْهِ عَقِيبَ الْبُلُوغِ

بِشَرْطِ إينَاسِ الرُّشْدِ ، وَمَا يَقْرَبُ مِنْ الْبُلُوغِ فِي مَعْنَى حَالَةِ الْبُلُوغِ ، فَأَمَّا إذَا بَعُدَ عَنْ ذَلِكَ فَوُجُوبُ دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ مُطْلَقٌ بِمَا تَلَوْنَا غَيْرَ مُعَلَّقٍ بِشَرْطٍ وَمُدَّةُ الْبُلُوغِ بِالسِّنِّ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَنَةً فَقَدَّرْنَا مُدَّةَ الْقُرْبِ مِنْهُ بِسَبْعِ سِنِينَ اعْتِبَارًا بِمُدَّةِ التَّمْيِيزِ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ إذَا بَلَغُوا سَبْعًا ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَثَرَ الصِّبَا يَبْقَى بَعْدَ الْبُلُوغِ إلَى أَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهِ زَمَانٌ ، وَبَقَاءُ أَثَرِ الصِّبَا كَبَقَاءِ عَيْنِهِ فِي مَنْعِ الْمَالِ مِنْهُ ، وَلَا يَبْقَى أَثَرُ الصِّبَا بَعْدَ مَا بَلَغَ خَمْسًا ، وَعِشْرِينَ سَنَةً لِتَطَاوُلِ الزَّمَانِ بِهِ مُنْذُ بَلَغَ ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَوْ بَلَغَ رَشِيدًا ثُمَّ صَارَ سَفِيهًا لَمْ يُمْنَعْ مِنْهُ الْمَالُ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِأَثَرِ الصِّبَا ، فَلَا يُعْتَبَرُ فِي مَنْعِ الْمَالِ مِنْهُ أَوْ مَنْعُ الْمَالَ كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّأْدِيبِ لَهُ وَالِاشْتِغَالُ بِالتَّأْدِيبِ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ رَجَاءُ التَّأْدِيبِ ، فَإِذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً وَلَمْ يُؤْنَسْ رُشْدُهُ ، فَقَدْ انْقَطَعَ رَجَاءُ التَّأْدِيبِ ؛ لِأَنَّهُ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَصِيرَ جَدًّا ؛ لِأَنَّ الْبُلُوغَ بِالْإِنْزَالِ بَعْدَ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ سَنَةً يَتَحَقَّقُ ، فَإِذَا أَحْبَلَ جَارِيَتَهُ ، وَوَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ ، ثُمَّ إنَّ وَلَدَهُ أَحْبَلَ جَارِيَتَهُ بَعْدَ اثْنَتَيْ عَشَرَ سَنَةٍ وَوَلَدَتْ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ صَارَ الْأَوَّلُ جَدًّا بَعْدَ تَمَامِ خَمْسٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً وَمَنْ صَارَ فَرْعُهُ أَصْلًا ، فَقَدْ تَنَاهَى فِي الْأَصْلِيَّةِ ، فَإِذَا لَمْ يُؤْنَسْ رُشْدُهُ عَرَفْنَا أَنَّهُ انْقَطَعَ مِنْهُ رَجَاءُ التَّأْدِيبِ فَلَا مَعْنَى لِمَنْعِ الْمَالِ مِنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فِي الْكِتَابِ ، فَقَالَ أَرَأَيْت لَوْ بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً ، وَلَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ ، وَصَارَ وَلَدُهُ قَاضِيًا ، أَوْ نَافِلَتُهُ أَكَانَ

يُحْجَرُ عَلَى أَبِيهِ وَحْدَهُ ، وَيَمْتَنِعُ الْمَالُ مِنْهُ هَذَا قَبِيحٌ ، ثُمَّ يَقُولُ بَعْدَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ بِهِ لَا بُدَّ أَنْ يَسْتَفِيدَ رُشْدًا إمَّا بِطَرِيقِ التَّجْرِبَةِ ، أَوْ الِامْتِحَانِ ، فَإِنْ كَانَ مَنْعُ الْمَالِ عَنْهُ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ فَقَدْ تَمَكَّنَتْ شُبْهَةٌ بِإِصَابَةِ نَوْعٍ مِنْ الرُّشْدِ ، وَالْعُقُوبَةُ تَسْقُطُ بِالشُّبْهَةِ ، وَإِنْ كَانَ هَذَا حُكْمًا ثَابِتًا بِالنَّصِّ غَيْرَ مَعْقُولِ الْمَعْنَى فَقَوْلُهُ رُشْدًا مُنَكَّرًا فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ ، وَالنَّكِرَةُ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ تَخُصُّ ، وَلَا تَعُمُّ ، فَإِذَا وُجِدَ رُشْدٌ مَا فَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ ، فَيَجِبُ دَفْعُ الْمَالِ إلَيْهِ ، وَهَذَا مَعْنَى مَا نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا } أَيْ عَقْلًا ؛ لِأَنَّهُ بِالْعَقْلِ يَحْصُلُ لَهُ رُشْدٌ مَا وَفِي الْكِتَابِ تَتَبُّعٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ أَيُّ فَائِدَةٍ فِي مَنْعِ الْمَالِ مِنْهُ مَعَ إطْلَاقِ التَّصَرُّفِ وَفِي مَنْعِ الْمَالِ مِنْهُ زَمَانًا ثُمَّ الدَّفْعُ إلَيْهِ قَبْلَ إينَاسِ الرُّشْدِ مِنْهُ ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا الْفَرْقَ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ السَّفِيهُ إنَّمَا يُبَذِّرُ مَالَهُ عَادَةً فِي التَّصَرُّفَاتِ الَّتِي لَا تَتِمُّ إلَّا بِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَى الْمَالِ مِنْ اتِّخَاذِ الضِّيَافَةِ ، أَوْ الْهِبَةِ أَوْ الصَّدَقَةِ ، فَإِذَا كَانَتْ يَدُهُ مَقْصُورَةً عَنْ الْمَالِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَنْفِيذِ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ ، فَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِمَنْعِ الْمَالِ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ ، ثُمَّ إذَا بَلَغَ سَفِيهًا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَكُونُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ بِدُونِ حَجْرِ الْقَاضِي ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَصِيرُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ مَا لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ الْقَاضِي ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَلَغَ رَشِيدًا ، ثُمَّ صَارَ سَفِيهًا فَمُحَمَّدٌ يَقُولُ : قَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ لَنَا عَلَى أَنَّ السَّفِيهَ فِي ثُبُوتِ الْحَجْرِ بِهِ نَظِيرَ الْجُنُونِ ، وَالْعَتَهِ وَالْحَجْرُ يَثْبُتُ

بِهِمَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي ، فَكَذَلِكَ فِي السَّفَهِ وَقَاسَ الْحَجْرَ بِسَبَبِ الصِّغَرِ وَالرِّقِّ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ : الْحَجْرُ عَلَى السَّفِيهِ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ ، وَهُوَ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ النَّظَرِ وَالضَّرَرِ ، فَفِي إبْقَاءِ الْمِلْكِ لَهُ نَظَرٌ ، وَفِي إهْدَارِ قَوْلِهِ ضَرَرٌ ، وَبِمِثْلِ هَذَا لَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ مِنْهُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي : تَوْضِيحُهُ أَنَّ السَّفَهَ لَيْسَ بِشَيْءٍ مَحْسُوسٍ ، وَإِنَّمَا يُسْتَدَلُّ عَلَيْهِ بِأَنْ يُغْبَنَ فِي التَّصَرُّفَاتِ ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِلسَّفَهِ ، وَقَدْ تَكُونُ جِبِلَّةٌ لِاسْتِجْلَابِ قُلُوبِ الْمُجَاهِرِينَ فَإِذَا كَانَ مُخْتَبَلًا مُتَرَدِّدًا لَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِخِلَافِ الصِّغَرِ ، وَالْجُنُونِ وَالْعَبْدِ ، وَلِأَنَّ الْحَجْرَ بِهَذَا السَّبَبِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي كَالْحَجْرِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ .

وَالْكَلَامُ فِي الْحَجْرِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ مَنْ رَكِبَتْهُ الدُّيُونُ إذَا خِيفَ أَنْ يُلْجِئَ مَالَهُ بِطَرِيقِ الْإِقْرَارِ ، فَطَلَبَ الْغُرَمَاءُ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَحْجُرَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَحْجُرُ عَلَيْهِ الْقَاضِي ، وَعِنْدَهُمَا يَحْجُرُ عَلَيْهِ ، وَبَعْدَ الْحَجْرِ لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِي الْمَالِ الَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ عِنْدَ الْحَجْرِ ، وَتَنْفُذُ تَصَرُّفَاتُهُ فِيمَا يَكْتَسِبُ مِنْ الْمَالِ بَعْدَهُ ، وَفِي هَذَا الْحَجْرِ نَظَرٌ لِلْمُسْلِمِينَ ، فَإِذَا جَازَ عِنْدَهُمَا الْحَجْرُ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ النَّظَرِ ، فَكَذَلِكَ يُحْجَرُ لِأَجْلِ النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُحْجَرُ عَلَى الْمَدْيُونِ نَظَرًا لَهُ ، فَكَذَلِكَ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ نَظَرًا لِلْغُرَمَاءِ ، وَلِمَا فِي الْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ النَّظَرُ لِغُرَمَائِهِ بِطَرِيقٍ لَا يَكُونُ فِيهِ إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِهِ إلَّا بِقَدْرِ مَا ، وَرَدَ الشَّرْعُ بِهِ وَهُوَ الْحَبْسُ فِي الدَّيْنِ لِأَجْلِ ظُلْمِهِ الَّذِي تَحَقَّقَ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ ، وَخَوْفُ التَّلْجِئَةِ ظُلْمٌ مَوْهُومٌ مِنْهُ ، فَلَا يُجْعَلُ كَالْمُتَحَقِّقِ ، ثُمَّ الضَّرَرُ عَلَيْهِ فِي إهْدَارِ قَوْلِهِ فَوْقَ الضَّرَرِ فِي حَبْسِهِ وَلَا يُسْتَدَلُّ بِثُبُوتِ الْأَدْنَى عَلَى ثُبُوتِ الْأَعْلَى كَمَا فِي مَنْعِ الْمَالِ مِنْ السَّفِيهِ مَعَ الْحَجْرِ عَلَيْهِ .
ثُمَّ هَذَا الْحَجْرُ عِنْدَهُمَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا ، وَبَيْنَ الْأَوَّلِ ، فَيَقُولُ : هُنَا الْحَجْرُ لِأَجْلِ النَّظَرِ لِلْغُرَمَاءِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى طَلَبِهِمْ ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَهُ ، وَالْحَجْرُ عَلَى السَّفِيهِ لِأَجْلِ النَّظَرِ لَهُ وَهُوَ غَيْرُ مَوْقُوفٍ عَلَى طَلَبِ أَحَدٍ ، فَيَثْبُتُ حُكْمُهُ بِدُونِ الْقَضَاءِ .

وَالْفَصْلُ الثَّانِي - أَنَّهُ لَا يُبَاعُ عَلَى الْمَدْيُونِ مَالُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْعُرُوض ، وَالْعَقَارُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ لَا مُبَادَلَةَ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالْآخَرِ فَلِلْقَاضِي أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا لِقَضَاءِ دَيْنِهِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَبِيعُ عَلَيْهِ مَالَهُ ، فَيَقْضِي دَيْنَهُ بِثَمَنِهِ لِحَدِيثِ { مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَإِنَّهُ رَكِبَتْهُ الدُّيُونُ ، فَبَاعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالَهُ ، وَقَسَّمَ ثَمَنَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ } ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خُطْبَتِهِ : أَيُّهَا النَّاسُ إيَّاكُمْ ، وَالدَّيْنُ ، فَإِنْ أَوَّلُهُ هَمٌّ ، وَآخِرُهُ حُزْنٌ ، وَإِنَّ أُسَيْفِعَ جُهَيْنَةَ قَدْ رَضِيَ مِنْ دِينِهِ ، وَأَمَانَتِهِ أَنْ يُقَالَ : سَبَقَ الْحَاجُّ ، فَادَّانَ مُعْرِضًا ، فَأَصْبَحَ ، وَقَدْ دِينَ بِهِ أَلَا إنِّي بَائِعٌ عَلَيْهِ مَالَهُ فَقَاسِمٌ ثَمَنَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ ، فَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، فَلْيَفْدِ ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ فَكَانَ هَذَا اتِّفَاقًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ يُبَاعُ عَلَى الْمَدْيُونِ مَالَهُ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنْ بَيْعَ الْمَالِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَنِهِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُحْبَسُ إذَا امْتَنَعَ مِنْهُ وَهُوَ مَا يَجْزِي فِيهِ النِّيَابَةُ وَالْأَصْلُ إنْ امْتَنَعَ عَنْ إيفَاءِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ وَهُوَ مِمَّا يَجْزِي فِيهِ النِّيَابَةُ نَابَ الْقَاضِي فِيهِ مَنَابَهُ كَاَلَّذِي إذَا أَسْلَمَ عَبْدَهُ ، فَأَبَى أَنْ يَبِيعَهُ بَاعَهُ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِهَذَا وَالتَّعْيِينُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ إذَا أَبَى أَنْ يُفَارِقَهَا نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَدْيُونِ إذَا كَانَ مُعْسِرًا ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يُؤَاجِرُهُ لِيَقْضِيَ دَيْنَهُ مِنْ أُجْرَتِهِ ، وَكَذَلِكَ لَا يَبِيعُ مَا عَلَيْهِ مِنْ ثِيَابِ بَدَنِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَحْبِسُهُ لِأَجْلِهِ وَكَذَلِكَ الدَّيْنُ إذَا

وَجَبَ عَلَى امْرَأَةٍ ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يُزَوِّجُهَا لِيَقْضِيَ الدَّيْنَ مِنْ صَدَاقِهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهَا بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَا تُحْبَسُ لِتُبَاشِرَ ذَلِكَ بِنَفْسِهَا فَلَا يَنُوبُ الْقَاضِي فِيهِ مَنَابَهَا وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } ، وَبَيْعُ الْمَالِ عَلَى الْمَدْيُونِ بِغَيْرِ رِضَاهُ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ عَنْ تَرَاضٍ .
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةِ نَفْسٍ مِنْهُ } .
وَنَفْسُهُ لَا تَطِيبُ بِبَيْعِ الْقَاضِي مَالَهُ عَلَيْهِ ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ لِهَذَا الظَّاهِرِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ بَيْعَ الْمَالِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ ، فَلَا يَكُونُ لِلْقَاضِي أَنْ يُبَاشِرَ ذَلِكَ عِنْدَ امْتِنَاعِهِ كَالْإِجَارَةِ وَالتَّزْوِيجِ : بَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ قَضَاءُ الدَّيْنِ ، وَجِهَةُ بَيْعِ الْمَالِ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ ، فَقَدْ يَتَمَكَّنُ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ بِالِاسْتِيهَابِ ، وَالِاسْتِقْرَاضِ وَسُؤَالِ الصَّدَقَةِ مِنْ النَّاسِ فَلَا يَكُونُ لِلْقَاضِي تَعْيِينُ هَذِهِ الْجِهَةِ عَلَيْهِ بِمُبَاشَرَةِ بَيْعِ مَالِهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَحْبِسُهُ بِالِاتِّفَاقِ وَقَدْ وَرَدَ الْأَثَرُ بِهِ عَلَى مَا رُوِيَ { أَنَّ رَجُلًا مِنْ جُهَيْنَةَ أَعْتَقَ شِقْصًا مِنْ عَبْدٍ بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ ، فَحَبَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَاعَ غَنِيمَةً لَهُ ، وَضَمِنَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ } ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ مَا حَبَسَهُ إلَّا بَعْدَ عِلْمِهِ بِيَسَارِهِ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْمُعْتَقِ لَا يَجِبُ إلَّا عَلَى الْمُوسِرِ وَمَعَ ذَلِكَ اشْتَغَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَبْسِهِ حَتَّى بَاعَ بِنَفْسِهِ ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَدْيُونَ يُحْبَسُ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ ، وَلَوْ جَازَ لِلْقَاضِي بَيْعُ مَالِهِ لَمْ يَشْتَغِلْ بِحَبْسِهِ لِمَا فِي الْحَبْسِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِهِ

وَبِالْغُرَمَاءِ فِي تَأْخِيرِ وُصُولِ حَقِّهِمْ إلَيْهِمْ ، فَلَا مَعْنَى لِلْمَصِيرِ إلَيْهِ بِدُونِ الْحَاجَةِ وَفِي اتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ عَلَى حَبْسِهِ فِي الدَّيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ بَيْعِ مَالِهِ فِي دَيْنِهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ عَبْدِ الذِّمِّيِّ إذَا أَسْلَمَ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ إصْرَارِ الْمَوْلَى عَلَى الشِّرْكِ إخْرَاجُ الْعَبْدِ عَنْ مِلْكِهِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ ، فَيَنُوبُ الْقَاضِي مَنَابَهُ .
وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْعِنِّينِ لَمَّا تَحَقَّقَ عَجْزُهُ عَنْ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ فَالتَّسْرِيحُ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِعَيْنِهِ ، فَأَمَّا مُبَادَلَةُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالْآخَرِ بِأَنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ دَرَاهِمَ وَمَالُهُ دَنَانِيرَ ، فَفِي الْقِيَاسِ لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُبَاشِرَ هَذِهِ الْمُصَارَفَةَ ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الطَّرِيقَ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِمَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ ، وَهُوَ قَضَاءُ الدَّيْنِ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَفْعَلُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ جِنْسَانِ صُورَةً وَجِنْسٌ ، وَاحِدٌ مَعْنَى ، وَلِهَذَا يُضَمُّ أَحَدُهُمَا إلَى الْآخَرِ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ ، وَلَوْ كَانَ مَالُهُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ صُورَةً كَانَ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ بِهِ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَالُهُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ مَعْنًى ، فَإِنْ قِيلَ : فَعَلَى هَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ وِلَايَةُ الْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ كَمَا لَوْ ظَفِرَ بِحَبْسِ حَقِّهِ ، وَبِالْإِجْمَاعِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ قُلْنَا ؛ لِأَنَّهُمَا جِنْسَانِ صُورَةً ، وَإِنْ كَانَا جِنْسًا وَاحِدًا حُكْمًا ، فَلِانْعِدَامِ الْمُجَانَسَةِ صُورَةً لَا يَنْفَرِدُ صَاحِبُ الدَّيْنِ ، فَيَأْخُذُهُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْمُبَادَلَةِ مِنْ وَجْهٍ ، وَلِوُجُودِ الْمُجَانَسَةِ مَعْنًى قُلْنَا لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُ بِهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يَأْخُذَ أَحَدَ النَّقْدَيْنِ بِالْآخَرِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ ، وَلَا رِضًا ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ وَالْقَاضِي مُجْتَهِدٌ ،

فَجَعَلْنَا لَهُ وِلَايَةَ الِاجْتِهَادِ هُنَا فِي مُبَادَلَةِ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالْآخَرِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُ ، وَلَا يُوجَدُ هَذَا الْمَعْنَى فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ ، وَفِيهِ إضْرَارٌ بِالْمَدْيُونِ مِنْ حَيْثُ إبْطَالِ حَقِّهِ عَنْ عَيْنِ مِلْكِهِ ، وَلِلنَّاسِ فِي الْأَعْيَانِ أَغْرَاضٌ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَنْظُرَ لِغُرَمَائِهِ عَلَى وَجْهٍ يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِهِ ، فَوْقَ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ ، ثُمَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي النُّقُودِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَاكَ الْمَالِيَّةُ دُونَ الْعَيْنِ .
وَأَمَّا تَأْوِيلُ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَنَقُولُ إنَّمَا بَاعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالَهُ بِسُؤَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي مَالِهِ ، وَفَاءٌ بِدَيْنِهِ فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَوَلَّى بَيْعَ مَالِهِ لِيَنَالَ مَالُهُ بَرَكَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَيَصِيرُ فِيهِ وَفَاءٌ بِدُيُونِهِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا يَأْمُرُ الْقَاضِي الْمَدْيُونَ بِبَيْعِ مَالِهِ أَوَّلًا ، فَإِذَا امْتَنَعَ ، فَحِينَئِذٍ يَبِيعُ مَالَهُ وَلَا يُظَنُّ بِمُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَأْبَى أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُ بِبَيْعِ مَالِهِ حَتَّى يَحْتَجَّ بِبَيْعِهِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ ، فَإِنَّهُ كَانَ سَمْحًا جَوَادًا لَا يَمْنَعُ أَحَدًا شَيْئًا ، وَلِأَجْلِهِ رَكِبَتْهُ الدُّيُونُ ، فَكَيْفَ يَمْتَنِعُ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ بِمَالِهِ بَعْدَ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ .
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمَشْهُورُ فِي حَدِيث أُسَيْفِعَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إنِّي قَاسِمٌ مَالَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ ، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَالُهُ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ ، وَإِنْ ثَبَتَ الْبَيْعُ فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِرِضَاهُ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ عِنْدَهُمَا الْقَاضِي لَا يَبِيعُهُ إلَّا عِنْدَ طَلَبِ الْغُرَمَاءِ ، وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ الْغُرَمَاءَ طَالَبُوهُ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا الْمَنْقُولُ أَنَّهُ ابْتَدَأَهُمْ بِذَلِكَ ،

وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَفِدُوا إلَيْهِ ، فَدَلَّ أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ بِرِضَاهُ .

، ثُمَّ قَدْ تَمَّ الْكِتَابُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَإِنَّمَا التَّفْرِيعُ بَعْدَ هَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى الْحَجْرَ ، فَنَقُولُ بَيْنَ مَنْ يَرَى الْحَجْرَ بِسَبَبِ السَّفَهِ اخْتِلَافٌ فِي صِفَةِ الْحَجْرِ ، فَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْحَجْرُ بِهِ بِمَنْزِلَةِ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الرِّقِّ حَتَّى لَا يَنْفُذُ بَعْدَ الْحَجْرِ شَيْءٌ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ سِوَى الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّ السَّفَهَ لَا يُزِيلُ الْخِطَابَ ، وَلَا يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِالْتِزَامِ الْعُقُوبَةِ بِاللِّسَانِ بِاكْتِسَابِ سَبَبِهَا ، أَوْ بِالْإِقْرَارِ بِهَا بِمَنْزِلَةِ الرِّقِّ ، فَكَمَا أَنَّ بَعْدَ الرِّقِّ لَا يَنْفُذُ شَيْءٌ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ سِوَى الطَّلَاقِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْحَجْرِ بِسَبَبِ السَّفَهِ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ قَالَا : الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ السَّفَهِ فِي التَّصَرُّفَاتِ كَالْهَازِلِ يُخْرِجُ كَلَامَهُ عَلَى غَيْرِ نَهْجِ كَلَامِ الْعُقَلَاءِ لِقَصْدِهِ اللَّعِبَ بِهِ دُونَ مَا وُضِعَ الْكَلَامُ لَهُ لَا لِنُقْصَانٍ فِي عَقْلِهِ ، فَكَذَلِكَ السَّفِيهُ يُخْرِجُ كَلَامَهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ عَلَى غَيْرِ نَهْجِ كَلَامِ الْعُقَلَاءِ لِاتِّبَاعِ الْهَوَى ، وَمُكَابَرَةِ الْعَقْلِ لَا لِنُقْصَانٍ فِي عَقْلِهِ ، وَكُلُّ تَصَرُّفٍ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ كَالنِّكَاحِ ، وَالطَّلَاقِ ، وَالْعَتَاقِ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ السَّفَهُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ هَذَا نَظِيرُ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الرِّقِّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْحَجْرَ لِحَقِّ الْغَيْرِ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يُلَاقِيهِ تَصَرُّفُهُ حَتَّى فِيمَا لَا حَقَّ لِلْغَيْرِ فِيهِ يَكُونُ تَصَرُّفُهُ نَافِذًا ، وَهُنَا لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يُلَاقِيهِ تَصَرُّفُهُ ، ثُمَّ عَلَى مَذْهَبِهِمَا الْقَاضِي يَنْظُرُ فِيمَا بَاعَ وَاشْتَرَى هَذَا السَّفِيهُ .
فَإِنْ رَأَى إجَازَتَهُ أَجَازَهُ ، وَكَانَ جَائِزًا لِانْعِدَامِ الْحَجْرِ قَبْلَ الْقَضَاءِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَلِإِجَازَةِ الْقَاضِي عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّ لَا يَكُونُ دُونَ حَالِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ إذَا كَانَ عَاقِلًا ، وَهُنَاكَ

إذَا بَاعَ وَاشْتَرَى ، وَأَجَازَهُ الْقَاضِي جَازَ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِمَعْنَى النَّظَرِ ، وَرُبَّمَا يَكُونُ النَّظَرُ لَهُ فِي إجَازَةِ هَذَا التَّصَرُّفِ ، فَلِهَذَا نَفَذَ بِإِجَازَةِ الْقَاضِي سَوَاءٌ بَاشَرَهُ السَّفِيهُ ، أَوْ الصَّبِيُّ الْعَاقِلُ قَالَ : وَهُمَا سَوَاءٌ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ إلَّا فِي خِصَالٍ أَرْبَعٍ أَحَدُهَا : لَا يَجُوزُ لِوَصِيِّ الْأَبِ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا مِنْ مَالِ هَذَا الَّذِي بَلَغَ ، وَهُوَ سَفِيهٌ إلَّا بِأَمْرِ الْحَاكِمِ ، وَيَجُوزُ لَهُ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ عَلَى الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْوَصِيِّ عَلَيْهِ ثَابِتَةٌ إلَى وَقْتِ الْبُلُوغِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ يَنْفَرِدُ بِالْإِذْنِ لَهُ ، وَالْحَجْرُ عَلَيْهِ ، وَأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَبِ فِي ذَلِكَ ، وَلِلْأَبِ وِلَايَةٌ عَلَى وَلَدِهِ مَا لَمْ يَبْلُغْ فَأَمَّا بَعْدَ مَا بَلَغَ عَاقِلًا لَا يَبْقَى لِلْوَصِيِّ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ فَلِأَنَّهُ صَارَ وَلِيَّ نَفْسِهِ مَا لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ الْقَاضِي ، وَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهِ وَلِيَّ نَفْسِهِ انْتِفَاءُ وِلَايَةِ الْوَصِيِّ عَنْهُ وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ فَلِأَنَّ الْبُلُوغَ عَنْ عَقْلِ مُخْرِجٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَوْلًى عَلَيْهِ ، وَيَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ عَلَى نَفْسِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ امْتَنَعَ ثُبُوتُ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ ، وَهُوَ ثُبُوتُ الْوِلَايَةِ لَهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ بِنَفْسِهِ ، وَلَا يَتَحَقَّقُ مِثْلُ ذَلِكَ النَّظَرِ فِي إبْقَاءِ وِلَايَةِ الْوَلِيِّ عَلَيْهِ ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تَأْثِيرَ السَّفَهِ كَتَأْثِيرِ الْهَزْلِ ، وَلَا أَثَرَ لِلْهَزْلِ فِي إثْبَاتِ الْوِلَايَةِ عَلَيْهِ لِلْوَصِيِّ ، وَلِلْهَزْلِ تَأْثِيرٌ فِي إبْطَالِ تَصَرُّفِهِ ، فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ تَصَرُّفُ الْوَصِيِّ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ الْحَاكِمُ بِذَلِكَ ، فَحِينَئِذٍ يَقُومُ هُوَ فِي التَّصَرُّفِ لَهُ مَقَامَ الْقَاضِي وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا حَجَرَ عَلَيْهِ لَا يَتْرُكُهُ لِيَمُوتَ جُوعًا ، وَلَكِنْ يَتَصَرَّفُ لَهُ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَرُبَّمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ

مُبَاشَرَةِ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ لِكَثْرَةِ أَشْغَالِهِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُقِيمَ غَيْرَهُ فِيهِ مَقَامَهُ وَالثَّانِي - أَنَّ السَّفِيهَ إذَا أَعْتَقَ مَمْلُوكًا لَهُ نَفَذَ عِتْقُهُ بِخِلَافِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ تَأْثِيرَ السَّفَهِ كَتَأْثِيرِ الْهَزْلِ ، ثُمَّ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخِرِ لَيْسَ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ سَعَى إنَّمَا يَسْعَى لِمُعْتِقِهِ ، وَالْمُعْتِقُ لَا تَلْزَمُهُ السِّعَايَةُ قَطُّ لِحَقِّ مُعْتَقِهِ بِحَالٍ إنَّمَا تَلْزَمُهُ السِّعَايَةُ لِحَقِّ غَيْرِهِ وَالثَّانِي - أَنَّ تَأْثِيرَ السَّفَهِ كَتَأْثِيرِ الْهَزْلِ ، وَمَنْ أَعْتَقَ مَمْلُوكَهُ هَازِلًا لَا تَلْزَمُهُ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ فَهَذَا قِيَاسُهُ : وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْحَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْحَجْرِ عَلَى الْمَرِيضِ لِأَجْلِ النَّظَرِ لِغُرَمَائِهِ ، وَوَرَثَتِهِ ، ثُمَّ هُنَاكَ إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا ، وَجَبَ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ لِغُرَمَائِهِ أَوْ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِوَرَثَتِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، وَلَا مَالٌ سِوَاهُ ؛ لِأَنَّ رَدَّ الْعِتْقِ وَاجِبٌ لِمَعْنَى النَّظَرِ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ عَلَيْهِ ، فَيَكُونُ الرَّدُّ بِإِيجَابِ السِّعَايَةِ ، فَهُنَا أَيْضًا رَدُّ الْعِتْقِ وَاجِبٌ لِمَعْنَى النَّظَرِ وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّ عَيْنِهِ ، فَيَكُونُ الرَّدُّ بِإِيجَابِ السِّعَايَةِ ، فَهُنَا أَيْضًا وَاجِبٌ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ ، فَكَانَ الرَّدُّ بِإِيجَابِ السِّعَايَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَى النَّظَرِ لَهُ فِي حُكْمِ الْحَجْرِ بِمَنْزِلَةِ النَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ فِي الْحَجْرِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ السِّعَايَةِ .
وَالثَّالِثُ - أَنَّ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ إذَا دَبَّرَ عَبْدَهُ لَا يَصِحُّ تَدْبِيرُهُ وَهَذَا السَّفِيهُ إذَا دَبَّرَ عَبْدَهُ جَازَ تَدْبِيرُهُ ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ يُوجِبُ حَقَّ الْعِتْقِ لِلْمُدَبَّرِ ، فَيُعْتَبَرُ

بِحَقِيقَةِ الْعِتْقِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ تَجِبُ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ ، وَهُنَا لَا تَجِبُ إلَّا بَعْدَ صِحَّةِ التَّدْبِيرِ فِي مَالِ مَمْلُوكٍ لَهُ يَسْتَخْدِمُهُ ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ نُقْصَانِ التَّدْبِيرِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا بَقِيَ عَلَى مِلْكِهِ ، وَالْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى مَمْلُوكِهِ دَيْنًا تَعَذَّرَ إيجَابُ النُّقْصَانِ عَلَيْهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ دَبَّرَ عَبْدَهُ بِمَالٍ وَقَبِلَهُ الْعَبْدُ كَانَ التَّدْبِيرُ صَحِيحًا ، وَلَا يَجِبُ الْمَالُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَاتَبَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ عَلَى مَالٍ ، فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ أَنْ يُؤْنَسَ مِنْهُ الرُّشْدُ سَعَى الْغُلَامُ فِي قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا ؛ لِأَنَّ بِمَوْتِ الْمَوْلَى عَتَقَ ، فَكَأَنَّهُ أَعْتَقَهُ فِي حَيَاتِهِ ، فَعَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ ، وَإِنَّمَا لَاقَاهُ الْمُعْتِقُ ، وَهُوَ مُدَبَّرٌ ، فَيَسْعَى فِي قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مُصْلِحًا لَوْ دَبَّرَ عَبْدًا لَهُ فِي صِحَّتِهِ ، ثُمَّ مَاتَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِقِيمَتِهِ أَنَّ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا لِغُرَمَائِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ ، وَكَذَا لَوْ أَعْتَقَهُ بَعْدَ التَّدْبِيرِ نَفَذَ عِتْقُهُ ، وَعَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ ؛ لِمَا قُلْنَا .
وَالرَّابِعُ أَنَّ ، وَصَايَا الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ لَا تَكُونُ صَحِيحَةً ، وَاَلَّذِي بَلَغَ مُفْسِدًا إذَا أَوْصَى بِوَصَايَا فَالْقِيَاسُ فِيهِ كَذَلِكَ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ بِمَنْزِلَةِ تَبَرُّعَاتِهِ فِي حَيَاتِهِ ، وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ أَنَّ مَا وَافَقَ الْحَقَّ وَمَا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَمَا يَكُونُ عَلَى وَجْهِ الْفِسْقِ مِنْ الْوَصِيَّةِ لِلْقَرَابَاتِ ، وَلَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ سَرَفٌ ، وَلَا أَمْرٌ يَسْتَقْبِحُهُ الْمُسْلِمُونَ أَنَّهُ يَنْفُذُ ذَلِكَ كُلُّهُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ حَتَّى لَا يَتْلَفَ مَالُهُ فَيُبْتَلَى بِالْفَقْرِ الَّذِي هُوَ الْمَوْتُ الْأَحْمَرُ ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي وَصَايَاهُ ؛ لِأَنَّ أَوَانَ وُجُوبِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَبَعْدَ مَا وَقَعَ الِاسْتِغْنَاءُ

عَنْ الْمَالِ فِي أَمْرِ دُنْيَاهُ ، فَإِذَا حَصَلَتْ وَصَايَاهُ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ فِيهِ نَظَرٌ مِنْهُ لِأَمْرٍ أَضَرَّ بِهِ أَوْ لِاكْتِسَابِ الثَّنَاءِ الْحَسَنِ بَعْدَ مَوْتِهِ لِنَفْسِهِ وَجَبَ تَنْفِيذُهُ ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ لَهُ فِي تَنْفِيذِ هَذِهِ الْوَصَايَا وَالتَّدْبِيرُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَيُعْتَقُ بِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِهَذَا ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الْمُدَبَّرِ السِّعَايَةُ وَلَكِنَّهُ ، أَوْجَبَ السِّعَايَةَ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى إبْطَالِ الْمَالِيَّةِ ، فَكَلَامُ أَبِي يُوسُفَ يَتَّضِحُ فِي هَذَا الْفَصْلِ ، ثُمَّ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ اخْتَلَفُوا فِي ، وَصِيَّةِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ : أَهْلُ الْمَدِينَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يُجَوِّزُونَ مِنْ وَصَايَاهُ مَا وَافَقَ الْحَقَّ ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا ، وَقَدْ جَاءَتْ فِيهِ الْآثَارُ حَتَّى رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجَازَ وَصِيَّةَ غُلَامٍ يَفَاعٍ ، وَفِي رِوَايَةِ يَافِعٍ ، وَهُوَ الْمُرَاهِقُ ، وَأَنَّ شُرَيْحًا رَحِمَهُ اللَّهُ سُئِلَ عَنْ وَصِيَّةِ غُلَامٍ لَمْ يَبْلُغْ ، فَقَالَ إنْ أَصَابَ الْوَصِيَّةَ ، فَهُوَ جَائِزٌ ، وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ الشَّعْبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَحَالُ هَذَا الَّذِي بَلَغَ وَصَارَ مُخَاطَبًا بِالْأَحْكَامِ أَقْوَى مِنْ حَالِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ ، فَاخْتِلَافُ الْعُلَمَاءِ فِي وَصِيَّةِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ يَكُونُ اتِّفَاقًا مِنْهُمْ فِي وَصِيَّةِ السَّفِيهِ أَنَّهُ إذَا وَافَقَ الْحَقَّ وَجَبَ تَنْفِيذُهُ ، فَهَذَا وَجْهٌ آخَرَ لِلِاسْتِحْسَانِ .

، ثُمَّ الْحَاصِلُ أَنَّ السَّفَهَ لَا يُجْعَلُ كَالْهَزْلِ فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ ، وَلَا كَالصِّبَا ، وَلَا كَالْمَرَضِ ، وَلَكِنَّ الْحَجْرَ بِهِ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ تَوَفُّرُ النَّظَرِ عَلَيْهِ ، وَبَحْثُهُ يُلْحَقُ بِبَعْضِ هَذِهِ الْأُصُولِ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ ، فَإِنْ جَاءَتْ جَارِيَتُهُ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَكَانَ الْوَلَدُ حُرًّا لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ ، وَالْجَارِيَةُ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ ، فَإِنْ مَاتَ كَانَتْ حُرَّةً لَا سَبِيلَ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ تَوَفُّرِ النَّظَرِ فِي إلْحَاقِهِ بِالْمُصْلِحِ فِي حُكْمِ الِاسْتِيلَادِ ، فَإِنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ لِإِبْقَاءِ نَسْلِهِ ، وَصِيَانَةِ مَائِهِ ، وَيَلْحَقُ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِالْمَرِيضِ الْمَدْيُونِ إذَا ادَّعَى نَسَبَ وَلَدِ جَارِيَتِهِ كَانَ هُوَ فِي ذَلِكَ كَالصَّحِيحِ حَتَّى أَنَّهَا تُعْتَقُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ بِمَوْتِهِ ، وَلَا تَسْعَى هِيَ ، وَلَا وَلَدُهَا فِي شَيْءٍ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ غُرَمَائِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَعْتَقَهَا ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ ، وَقَالَ هَذِهِ أُمُّ وَلَدٍ كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ يَقْدِرُ عَلَى بَيْعِهَا ، فَإِنْ مَاتَ سَعَتْ فِي جَمِيعِ قِيمَتِهَا بِمَنْزِلَةِ الْمَرِيضِ إذَا قَالَ لِجَارِيَتِهِ وَلَيْسَ مَعَهَا وَلَدٌ : هَذِهِ أُمُّ وَلَدِي ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَعَهَا وَلَدٌ ، فَثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِ لَهَا فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ فَكَذَلِكَ فِي دَفْعِ حُكْمِ الْحَجْرِ عَنْ تَصَرُّفِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ ، فَإِنَّهُ لَا شَاهِدَ لَهُ هُنَا فَإِقْرَارُهُ لَهَا بِحَقِّ الْعِتْقِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ بِحَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ ، فَلَا يَقْدِرُ عَلَى بَيْعِهَا بَعْدَ ذَلِكَ ، وَيَسْعَى فِي قِيمَتِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهَا ، وَلَوْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ لَمْ يُولَدْ فِي مِلْكِهِ ، فَقَالَ : هَذَا ابْنِي ، وَمِثْلُهُ يُولَدُ لِمِثْلِهِ فَهُوَ ابْنُهُ يَعْتِقُ ، وَيَسْعَى فِي قِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَصْلُ الْعُلُوقِ ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ كَانَتْ دَعْوَاهُ دَعْوَى تَحْرِيرٍ ،

فَيَكُونُ كَالْإِعْتَاقِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمَرِيضَ الْمَدْيُونَ إذَا قَالَ لِعَبْدٍ لَمْ يُولَدْ فِي مِلْكِهِ هَذَا ابْنِي عَتَقَ ، وَسَعَى فِي قِيمَتِهِ ، وَلَوْ اشْتَرَى هَذَا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ ابْنَهُ ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ ، وَقَبَضَهُ كَانَ شِرَاؤُهُ ، فَاسِدًا ، وَيَعْتِقُ الْغُلَامُ حِينَ قَبَضَهُ ، وَيُجْعَلُ فِي هَذَا الْحُكْمِ بِمَنْزِلَةِ شِرَاءِ الْمُكْرَهِ ، فَيَثْبُتُ لَهُ الْمِلْكُ بِالْقَبْضِ ، وَيُعْتَقُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ ابْنَهُ ثُمَّ يَسْعَى فِي قِيمَتِهِ لِلْبَائِعِ وَلَا يَكُونُ لِلْبَائِعِ فِي مَالِ الْمُشْتَرِي شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ ، وَإِنْ مَلَكَهُ بِالْقَبْضِ فَالْتِزَامُ الثَّمَنِ ، أَوْ الْقِيمَةِ بِالْعَقْدِ مِنْهُ غَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي هَذَا الْحُكْمِ مُلْحَقٌ بِالصَّبِيِّ ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ عَلَى الْمَحْجُورِ شَيْءٌ لَا يُسَلَّمُ لَهُ أَيْضًا شَيْءٌ مِنْ سِعَايَتِهِ فَتَكُونُ السِّعَايَةُ الْوَاجِبَةُ عَلَى الْعَبْدِ لِلْبَائِعِ ، وَلَوْ وُهِبَ لَهُ ابْنُهُ الْمَعْرُوفُ ، أَوْ وُهِبَ لَهُ غُلَامٌ ، فَقَبَضَهُ وَادَّعَى أَنَّهُ ابْنُهُ ، فَإِنَّهُ يَعْتِقُ ، وَيَلْزَمُهُ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَعْتَقَهُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمَرِيضَ الْمَدْيُونَ لَوْ وُهِبَ لَهُ ابْنُهُ الْمَعْرُوفُ ، أَوْ وُهِبَ لَهُ غُلَامٌ فِي مَرَضِهِ ، فَادَّعَى أَنَّهُ ابْنُهُ ، ثُمَّ مَاتَ سَعَى الْغُلَامُ فِي قِيمَتِهِ لِغُرَمَائِهِ وَلَوْ أَنَّ هَذَا الَّذِي بَلَغَ مُفْسِدًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً جَازَ نِكَاحُهُ ، وَيُنْظَرُ إلَى مَا تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ ، وَإِلَى مَهْرِ مِثْلِهَا ، فَيَلْزَمُهُ أَقَلُّهُمَا وَيَبْطُلُ الْفَضْلُ عَنْ مَهْرِ مِثْلِهَا مِمَّا سَمَّى ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كَالْمَرِيضِ الْمَدْيُونِ فَإِنَّ التَّزَوُّجَ مِنْ حَوَائِجِهِ وَمِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةِ النِّكَاحِ وُجُوبُ مِقْدَارِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ فَالْتِزَامٌ بِالتَّسْمِيَةِ ، وَلَا نَظَرَ لَهُ فِي هَذَا الِالْتِزَامِ فَلَا تَثْبُتُ هَذِهِ الزِّيَادَةُ كَالْمَرِيضِ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِأَكْثَرَ مِنْ صَدَاقِ مِثْلِهَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْمُسَمَّى

مِقْدَارُ مَهْرِ مِثْلِهَا فَإِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَجَبَ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ صَحِيحَةٌ فِي مِقْدَارِ مَهْرِ الْمِثْلِ ، وَتَنَصُّفُ الْمَفْرُوضِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ حُكْمٌ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ .
وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ ، أَوْ تَزَوَّجَ كُلَّ يَوْمٍ وَاحِدَةٍ ، ثُمَّ طَلَّقَهَا ، وَبِهَذَا يَحْتَجُّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْسَدُّ بَابُ إتْلَافِ الْمَالِ عَلَيْهِ ، وَإِنَّهُ يُتْلِفُ مَالَهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ إذَا أُعْجِزَ عَنْ إتْلَافِهِ بِطَرِيقِ الْبَيْعِ ، وَالْهِبَةِ ، وَهُوَ يَكْتَسِبُ الْمَحْمَدَةَ فِي الْبِرِّ وَالْإِحْسَانِ ، وَالْمَذَمَّةَ فِي التَّزَوُّجِ ، وَالطَّلَاقِ قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَعَنْ اللَّهُ كُلَّ ذَوَّاقٍ مِطْلَاقٍ } ، وَلَوْ حَلَفَ بِاَللَّهِ أَوْ نَذَرَ نُذُورًا مِنْ هَدْيٍ ، أَوْ صَدَقَةٍ لَمْ يُنَفِّذْ لَهُ الْقَاضِي شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ، وَلَمْ يَدَعْهُ يُكَفِّرُ أَيْمَانَهُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ حَجَرَهُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْإِتْلَافِ ، وَلَوْ لَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ إذَا ، أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ بِالْحَجْرِ ؛ لِأَنَّهُ تَيَسَّرَ عَلَيْهِ النَّذْرُ بِالتَّصَدُّقِ بِجَمِيعِ مَالِهِ ، ثُمَّ عَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ لِكُلِّ يَمِينٍ حَنِثَ فِيهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ مَالِكًا لِلْمَالِ ؛ لِأَنَّ يَدَهُ مَقْصُورَةٌ عَنْ مَالِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ ابْنِ السَّبِيلِ الْمُنْقَطِعِ عَنْ مَالِهِ وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ يَكُونُ مَالُهُ دَيْنًا عَلَى إنْسَانٍ ، أَوْ غَصْبًا فِي يَدِهِ ، وَهُوَ يَأْبَى أَنْ يُعْطِيَهُ ، فَلَهُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصَّوْمِ كَذَلِكَ هُنَا .
وَلَوْ ظَاهَرَ هَذَا الْمُفْسِدُ مِنْ امْرَأَتِهِ صَحَّ ظِهَارُهُ كَمَا يَصِحُّ طَلَاقُهُ ، وَيُجْزِيهِ الصَّوْمُ فِي ذَلِكَ لِقُصُورِ يَدِهِ عَنْ مَالِهِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَانَ مَالُهُ غَائِبًا عَنْهُ ، فَإِنْ قِيلَ : هُنَاكَ لَوْ كَانَ فِي مَالِهِ عَبْدٌ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُكَفِّرَ بِالصَّوْمِ قُلْنَا ؛ لِأَنَّ

هُنَاكَ يَقْدِرُ عَلَى إعْتَاقِهِ عَنْ ظِهَارِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ ، وَهُنَا لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ وَجَبَ عَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ ، وَمَعَ وُجُوبِ السِّعَايَةِ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ عِتْقُهُ عَنْ الظِّهَارِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مَرِيضًا مُصْلِحًا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَنْ ظِهَارِهِ ، أَوْ قَتَلَهُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ ، ثُمَّ مَاتَ سَعَى الْغُلَامُ فِي قِيمَتِهِ وَلَمْ يَجُزْ عَنْ الْكَفَّارَةِ لِلسِّعَايَةِ الَّتِي وَجَبَتْ فَلِهَذَا ، أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ صَوْمَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ ، وَالْقَتْلِ فَإِنْ قِيلَ : كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْفُذَ إعْتَاقُهُ مِنْ غَيْرِ سِعَايَةٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَتَقَرَّبُ بِهِ إلَى رَبِّهِ وَيَسْقُطُ بِهِ الْوَاجِبُ عَنْ ذِمَّتِهِ ، فَالنَّظَرُ لَهُ فِي تَنْفِيذِهِ قُلْنَا لَوْ فَتَحَ عَلَيْهِ هَذَا الْبَابَ لَكَانَ إذَا شَاءَ أَنْ يُعْتِقَ عَبْدًا مِنْ عَبِيدِهِ ، وَقِيلَ : لَهُ إنَّ عِتْقَكَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالسِّعَايَةِ ظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ ، ثُمَّ أَعْتَقَ بَعْدَ ذَلِكَ الْعَبْدَ ، أَوْ حَلَفَ بِيَمِينٍ ، وَحَنِثَ فِيهَا ، ثُمَّ أَعْتَقَ ذَلِكَ ، فَيَحْصُلُ لَهُ مَقْصُودُهُ مِنْ التَّبْذِيرِ بِهَذَا الطَّرِيقِ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بَعْدَ هَذَا الْعِتْقِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يُظَاهِرْ ، فَلِزَجْرِهِ عَنْ هَذَا الْقَصْدِ ، أَوْجَبْنَا السِّعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ إذَا أَعْتَقَهُ ، وَعَيَّنَّا عَلَيْهِ التَّكْفِيرَ بِالصَّوْمِ ، فَإِنْ صَامَ الْمُفْسِدُ أَحَدَ الشَّهْرَيْنِ ، ثُمَّ صَارَ مُصْلِحًا لَمْ يُجْزِهِ إلَّا الْعِتْقَ بِمَنْزِلَةِ مُعْسِرٍ أَيْسَرَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُعْسِرًا ابْتِدَاءً ، وَقَدْ وَصَلَتْ يَدُهُ إلَى الْمَالِ قَبْلَ سُقُوطِ الْكَفَّارَةِ عَنْهُ بِالصَّوْمِ ، فَعَلَيْهِ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ .

، وَأَمَّا مَا وَجَبَ عَلَى الْمُفْسِدِ مِنْ أَمْرٍ أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ ، أَوْ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَهُوَ ، وَالْمُصْلِحُ فِيهِ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ ، وَإِنْ كَانَ مُفْسِدًا ، وَبِسَبَبِ الْفَسَادِ لَا يَسْتَحِقُّ النَّظَرَ فِي إسْقَاطِ شَيْءٍ مِنْ حُقُوقِ الشَّرْعِ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْفَاسِقِ الَّذِي يُقَصِّرُ فِي أَدَاءِ بَعْضِ الْفَرَائِضِ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِ التَّخْفِيفَ فِي حُكْمِ الْخِطَابِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَا فِيمَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ بِسَبَبِ الْتِزَامِهِ ، فَيُمْكِنُ فِيهِ مَعْنَى التَّبْذِيرِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الدُّنْيَا ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مَعْنَى النَّظَرِ لَهُ فِي الْآخِرَةِ كَمَا فِي مُبَاشَرَةِ التَّصَدُّقِ ، فَأَمَّا فِيمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ ، فَلَا يُتَوَهَّمُ مَعْنَى التَّبْذِيرِ فَهُوَ ، وَالْمُصْلِحُ فِيهِ سَوَاءٌ ، وَيَنْبَغِي لِلْحَاكِمِ أَنْ يُنَفِّذَ لَهُ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ إذَا طَلَبه مِنْ أَدَاءِ زَكَاةِ مَالِهِ وَلَكِنْ لَا يَدْفَعُ الْمَالَ إلَيْهِ ، وَيُخَلِّي بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ؛ لِأَنَّهُ يَصْرِفُهُ إلَى شَهَوَاتِ نَفْسِهِ ، وَلَكِنْ لَا يُخَلِّي بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ ذَلِكَ حَتَّى يُعْطِيَهُ الْمَسَاكِينَ بِمَحْضَرٍ مِنْ أَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ الْإِيتَاءُ ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ فِعْلٍ هُوَ عِبَادَةٌ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِنِيَّتِهِ ، فَلِهَذَا يَدْفَعُ الْمَالَ إلَيْهِ لِيُعْطِيَهُ الْمَسَاكِينَ مِنْ زَكَاتِهِ بِمَحْضَرٍ مِنْ أَمِينِهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ طَلَبَ مِنْ الْقَاضِي مَالًا يَصِلُ بِهِ قَرَابَتَهُ الَّذِي يُجْبَرُ عَلَى نَفَقَتِهِمْ أَجَابَهُ إلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ نَفَقَتِهِمْ عَلَيْهِ يَكُونُ شَرْعًا لَا بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ ، وَلَكِنَّ الْقَاضِي لَا يَدْفَعُ الْمَالَ إلَيْهِ بَلْ يَدْفَعُهُ بِنَفْسِهِ إلَى ذَوِي الرَّحِمِ الْمُحَرَّمِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى فِعْلِهِ وَنِيَّتِهِ حَتَّى أَنَّ مَنْ لَهُ الْحَقُّ إذَا ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ مِنْ مَالِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ فَكَذَلِكَ الْقَاضِي يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ

بِالدَّفْعِ إلَيْهِ وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَأْخُذَ بِقَوْلِهِ فِي ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْقَرَابَةِ ، وَعِشْرَةِ الْقَرَائِبِ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ لَهُ بِدَيْنٍ عَلَى نَفْسِهِ ، فَلَا يَكُونُ مُلْزِمًا إيَّاهُ شَيْئًا إلَّا فِي الْوَالِدِ ، فَإِنَّهُمَا إذَا تَصَادَقَا عَلَى النَّسَبِ قُبِلَ قَوْلُهُمَا فِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي تَصْدِيقِ صَاحِبِهِ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِالنَّسَبِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ السَّفَهَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حَوَائِجِهِ ، وَلَكِنْ لَا يُعْتَبَرُ قَوْلُهُ فِي عُسْرَةِ الْمُقَرِّ لَهُ حَتَّى يَعْرِفَ أَنَّهُ كَذَلِكَ كَمَا عُسْرَةِ سَائِرِ الْأَقَارِبِ .
وَكَذَلِكَ يُقْبَلُ إقْرَارُهُ بِالزَّوْجِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ إنْشَاءَ التَّزَوُّجِ فَيَمْلِكُ الْإِقْرَارَ بِهِ ، وَيَجِبُ لَهَا مِقْدَارُ مَهْرِ مِثْلِهَا وَيُعْطِيَهَا الْقَاضِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ حُكْمًا لِصِحَّةِ النِّكَاحِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ مَضَى بَعْدَ إقْرَارِهِ أَشْهُرٌ ، ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ فُرِضَ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ فِي أَوَّلِ تِلْكَ الشُّهُورِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى مَا مَضَى مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْهُ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ لَهَا ، فَإِنَّ نَفَقَتَهُ لِزَوْجَةٍ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي لَا تَصِيرُ دَيْنًا إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، وَإِقْرَارُهُ لَهَا بِالدَّيْنِ بَاطِلٌ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهَا تَلْزَمُهُ شَرْعًا مِنْ غَيْرِ صُنْعِ مِنْ جِهَتِهِ ، فَلَا يُتَوَهَّمُ مَعْنَى التَّبْذِيرِ فِيهِ ثُمَّ لَا يُمْنَعُ مِنْ أَدَاءِ مَا لَزِمَهُ شَرْعًا ، وَيُعْطَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كَالزَّادِ وَالرَّاحِلَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِ ، وَإِنْ أَرَادَ عُمْرَةً وَاحِدَةً لَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا أَيْضًا اسْتِحْسَانًا ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يُعْطَى نَفَقَةَ السَّفَرِ لِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ عِنْدَنَا تَطَوُّعٌ كَمَا لَوْ أَرَادَ الْخُرُوجَ لِلْحَجِّ تَطَوُّعًا بَعْدَ مَا حَجّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ لِاخْتِلَافِ

الْعُلَمَاءِ فِي ، فَرِيضَةِ الْعُمْرَةِ ، وَتَعَارُضِ الْأَخْبَارِ فِي ذَلِكَ ، وَلِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } ، فَهَذَا مِنْهُ أَخْذٌ بِالِاحْتِيَاطِ فِي أَمْرِ الدَّيْنِ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ النَّظَرِ لَهُ لَيْسَ مِنْ التَّبْذِيرِ فِي شَيْءٍ .
وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُقْرِنَ عُمْرَةً وَحَجًّا ، وَسَوْقَ بَدَنَةٍ لَمْ يُمْنَعْ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْقِرَانَ فَضْلٌ عِنْدَنَا ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ مَمْنُوعًا مِنْ إنْشَاءِ سَفَرٍ لِأَدَاءِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النُّسُكَيْنِ ، فَلَأَنْ لَا يُمْنَعَ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي سَفَرٍ أَوْلَى ، ثُمَّ الْقَارِنُ يَلْزَمُهُ هَدْيٌ ، وَيُجْزِيهِ فِيهِ الشَّاةُ عِنْدَنَا ، وَلَكِنَّ الْبَدَنَةَ فِيهِ أَفْضَلُ ، وَقَدْ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ مِنْ السَّلَفِ فِي ذَلِكَ ، فَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : لَا يُجْزِيهِ إلَّا بَقَرَةٌ ، أَوْ جَزُورٌ ، فَهُوَ حِينَ سَاقَ الْبَدَنَةَ قَدْ قَصَدَ بِهِ التَّحَرُّزَ عَنْ مَوْضِعِ الْخِلَافِ ، وَأَخَذَ بِالِاحْتِيَاطِ فِي أَمْرِ الدِّينِ ، وَأَرَادَ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ أَقْرَبَ إلَى مُوَافَقَةِ فِعْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَكُنْ فِي سَوْقِ الْبَدَنَةِ مِنْ مَعْنَى الْفَسَادِ شَيْءٌ ، فَإِنْ أَرَادَ الْخُرُوجَ لِأَدَاءِ ذَلِكَ نَظَرَ الْحَاكِمُ إلَى ثِقَةِ مَنْ يُرِيدُ الْخُرُوجَ إلَى مَكَّةَ ، فَيَدْفَعُ إلَيْهِ مَا يَكْفِي الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ لِلْكِرَاءِ ، وَالنَّفَقَةُ ، وَالْهَدْيُ فَيَلِي ذَلِكَ الرَّجُلُ النَّفَقَةَ عَلَيْهِ ، وَمَا أَرَادَ مِنْ الْهَدْيِ وَغَيْرِهِ بِأَمْرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ ، وَلَا يَدْفَعُ إلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ مَخَافَةَ أَنْ يُتْلِفَهُ فِي شَهَوَاتِ نَفْسِهِ ، ثُمَّ يَقُولُ ضَاعَ مِنِّي ، فَأَعْطُونِي مِثْلَهُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ فِي حَالَةِ الْحَضَرِ كَانَ مَالُهُ فِي يَدِ وَلِيِّهِ يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْهُ بِحَسَبِ حَاجَتِهِ ، وَإِذَا وَلَّاهُ الْقَاضِي ذَلِكَ كَانَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ ، وَلِيِّهِ فِي الْهَدْيِ وَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ أَمْرِهِ وَنِيَّتِهِ لِمَعْنَى الْقُرْبَةِ فَإِمَّا أَنْ يُبَاشِرَهُ ،

أَوْلَى بِأَمْرِهِ ، أَوْ يَدْفَعَ إلَيْهِ لِيُبَاشِرَ بِحَضْرَتِهِ مَا يَحِقُّ عَلَيْهِ مُبَاشَرَتَهُ ، فَإِنْ اصْطَادَ فِي إحْرَامِهِ صَيْدًا ، أَوْ حَلَقَ رَأْسَهُ مِنْ أَذًى أَوْ صَنَعَ شَيْئًا يَجِبُ فِيهِ الصَّوْمُ أَمَرَهُ بِأَنْ يَصُومَ لِذَلِكَ ، وَلَمْ يُعْطِ مِنْ مَالِهِ لِمَا صَنَعَ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ هَذَا بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ ، وَأَصْلُ ذَلِكَ السَّبَبِ جِنَايَةٌ ، فَلَا يَسْتَحِقُّ بِاعْتِبَارِ النَّظَرِ فَيُؤْمَرُ بِالصَّوْمِ لِذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ زَجْرًا عَنْ السَّفَهِ .
فَإِنْ رَأَى الْحَاكِمُ أَنْ يَأْمُرَ الرَّجُلُ إنْ اُبْتُلِيَ بِأَذًى فِي رَأْسِهِ ، أَوْ أَصَابَهُ وَجَعٌ احْتَاجَ فِيهِ إلَى لُبْسِ قَمِيصٍ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ أَنْ يُذْبَحَ عَنْهُ ، أَوْ يَتَصَدَّقَ لَمْ يَكُنْ بِهَذَا بَأْسٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ النَّظَرِ لَهُ عِنْدَ حَاجَتِهِ وَلِهَذَا جَوَّزَ الشَّرْعُ ذَلِكَ لِلْمُضْطَرِّ ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْظُرَ الْقَاضِي لَهُ فِي ذَلِكَ فَيَأْمُرُهُ بِالْأَدَاءِ مِنْ مَالِهِ عِنْدَ حَاجَتِهِ ، وَلَكِنْ لَا يَفْعَلُهُ الْوَكِيلُ إلَّا بِأَمْرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِمَعْنَى الْقُرْبَةِ فِيهِ ، فَإِنَّ الْوِلَايَةَ الثَّابِتَةَ عَلَيْهِ لِوَلِيِّهِ لَمْ تَكُنْ بِاخْتِيَارِهِ ، وَالْعِبَادَةُ لَا تَتَأَدَّى بِمِثْلِ هَذِهِ الْوِلَايَةِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَمْرِهِ وَنِيَّتِهِ لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الْقُرْبَةِ ، وَإِنْ تَطَيَّبَ الْمَحْجُورُ فِي إحْرَامِهِ بِطِيبٍ كَثِيرٍ ، أَوْ قَبَّلَ لِلشَّهْوَةِ أَوْ صَنَعَ مَا يَلْزَمُهُ فِيهِ الدَّمُ ، أَوْ الطَّعَامُ مِمَّا لَا يَجُوزُ فِيهِ الصَّوْمُ ، فَهَذَا لَازِمٌ لَهُ يُؤَدَّى إذَا صَارَ مُصْلِحًا وَلَا يُؤَدَّى عَنْهُ فِي حَالِ فَسَادِهِ ، وَأَنَّهُ لَزِمَهُ ؛ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ ، وَلَكِنْ سَبَبُ هَذَا الِالْتِزَامُ مِنْهُ ، فَلَا يُؤَدَّى مِنْ مَالِهِ فِي حَالِ فَسَادِهِ بَلْ يَتَأَخَّرُ إلَى أَنْ يَصِيرَ مُصْلِحًا بِمَنْزِلَةِ الْمُعْسِرِ الَّذِي لَا يَجِدُ شَيْئًا إذَا صَنَعَ ذَلِكَ ، أَوْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فِي الْإِحْرَامِ مِنْ جِهَةِ مَوْلَاهُ إذَا ، فَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَدَّى عَنْهُ الْحَاكِمُ هَذَا فَعَلَهُ

فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّةً فَيَفْنَى مَالُهُ فِيهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ جَامَعَ امْرَأَتَهُ بَعْدَ مَا وَقَفَ بِعَرَفَةَ ، فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ يَتَأَخَّرُ إلَى أَنْ يَصِيرَ مُصْلِحًا ، وَإِنْ جَامَعَهَا قَبْلَ أَنْ يَقِفَ بِعَرَفَةَ لَمْ يُمْنَعْ نَفَقَةَ الْمُضِيِّ فِي إحْرَامِهِ إلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ التَّحَلُّلِ مِنْ الْإِحْرَامِ وَلَا يُمْنَعُ نَفَقَةَ الْعَوْدِ مِنْ عَامٍ قَابِلٍ لِلْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَازِمٌ عَلَيْهِ شَرْعًا وَيُمْنَعُ مِنْ الْكَفَّارَةِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ وَفِي هَذَا السَّبَبِ مِنْ الْفَسَادِ مَا لَا يَخْفَى ، وَالْعُمْرَةُ فِي هَذَا كَالْحَجِّ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمَرْأَةَ لَيْسَ لَهَا أَنْ تَحُجَّ غَيْرَ حَجَّةِ الْإِسْلَامِ إلَّا بِإِذْنِ زَوْجِهَا ، فَإِذَا خَرَجَتْ لِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، ثُمَّ جُومِعَتْ فِي إحْرَامِهَا مُطَاوِعَةً ، أَوْ مُكْرَهَةً مَضَتْ فِي الْحَجِّ الْفَاسِدِ ، وَلَمْ تُمْنَعْ مِنْ الْعَوْدِ لِلْقَضَاءِ مَعَ الْمَحْرَمِ ، فَإِذَا كَانَتْ لَا تُمْنَعُ هِيَ لِحَقِّ الزَّوْجِ لَمْ يُمْنَعْ الْمَحْجُورُ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا لِأَجْلِ الْحَجْرِ .
وَلَوْ أَنَّ هَذَا الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ قَضَى حَجَّةَ الْإِسْلَامِ إلَّا طَوَافَ الزِّيَارَةِ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ ، وَلَمْ يَطُفْ طَوَافَ الصَّدْرِ ، فَإِنَّهُ يُطْلَقُ لَهُ نَفَقَةُ الرُّجُوعِ لِلطَّوَافِ وَيَصْنَعُ فِي الرُّجُوعِ مِثْلَ مَا يَصْنَعُ فِي ابْتِدَاءِ الْحَجِّ ؛ لِأَنَّهُ مُحَرَّمٌ عَلَى النِّسَاءِ مَا لَمْ يَطُفْ لِلزِّيَارَةِ ، فَالرُّجُوعُ لِلطَّوَافِ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِلتَّحَلُّلِ ، وَلَكِنْ يَأْمُرُ الَّذِي يَلِي النَّفَقَةَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُنْفِقَ عَلَيْهِ رَاجِعًا حَتَّى يَحْضُرَهُ ، وَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ ؛ لِأَنَّهُ لِسَفَهِهِ رُبَّمَا يَرْجِعُ وَلَا يَطُوفُ ، ثُمَّ يَطْلُبُ النَّفَقَةَ مَرَّةً أُخْرَى ، وَهَكَذَا يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ حَتَّى يَفْنَى مَالُهُ ، فَلِلزَّجْرِ عَنْ ذَلِكَ لَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ رَاجِعًا حَتَّى يَطُوفَ بِالْبَيْتِ بِحَضْرَتِهِ ، وَإِنْ طَافَ جُنُبًا ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ لَمْ يُطْلَقْ لَهُ نَفَقَةُ

الرُّجُوعِ لِلطَّوَافِ ؛ لِأَنَّهُ تَحَلَّلَ لِلطَّوَافِ مَعَ الْجَنَابَةِ ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ لِطَوَافِ الزِّيَارَةِ ، وَشَاةٌ لِطَوَافِ الصَّدْرِ يُؤَدِّيهِمَا إذَا صَلَحَ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُمَا كَانَ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ ، وَذَلِكَ السَّبَبُ مِنْ الْغَشَيَانِ يَعْنِي طَوَافَ الزِّيَارَةِ جُنُبًا وَتَرْكَ طَوَافِ الصَّدْرِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ، وَإِنْ أَحْصَرَ فِي حَجَّةِ الْإِسْلَامِ ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِلَّذِي أَعْطَى نَفَقَتَهُ أَنْ يَبْعَثَ بِهَدْيٍ ، فَيَحِلَّ بِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّحَلُّلَ بِالْهَدْيِ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِ وَمَالُهُ مُعَدٌّ لِذَلِكَ .

( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْعَبْدَ إذَا حَجَّ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ ، فَأُحْصِرَ وَجَبَ عَلَى مَوْلَاهُ أَنْ يَبْعَثَ بِهَدْيٍ لِيَحِلَّ بِهِ ، وَلَوْ أَنَّ هَذَا الْمَحْجُورَ أَحْرَمَ بِحَجَّةٍ تَطَوُّعًا لَمْ يُنْفَقْ عَلَيْهِ فِي قَضَائِهَا نَفَقَةَ السَّفَرِ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِسَبَبٍ بَاشَرَهُ ، وَلَكِنْ يُجْعَلُ مِنْ النَّفَقَةِ مَا يَكْفِيهِ فِي مَنْزِلِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِذَلِكَ إذَا أَقَامَ فِي مَنْزِلِهِ وَلَمْ يُحْرِمْ بِالْحَجِّ ، وَلَا يُمْنَعُ ذَلِكَ بِسَبَبِ إحْرَامِهِ وَلَا يُزَادُ لَهُ عَلَى ذَلِكَ مَا يَحْتَاجُ فِي السَّفَرِ مِنْ زِيَادَةِ النَّفَقَةِ ، وَالرَّاحِلَةِ ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ : إنْ شِئْت ، فَاخْرُجْ مَاشِيًا .

( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ قَالَ أَعْطُونِي مِنْ مَالِي شَيْئًا أَتَصَدَّقُ بِهِ لَمْ يُعْطَ ذَلِكَ فَاَلَّذِي يَخْرُجُ بِالْحَجِّ تَطَوُّعًا فِي الْمَعْنَى مُلْتَمِسٌ لِلزِّيَادَةِ عَلَى مِقْدَارِ نَفَقَتِهِ فِي مَنْزِلِهِ لِيَتَقَرَّبَ بِهِ إلَى رَبِّهِ ، فَلَا يُعْطَى ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا كَثِيرَ الْمَالِ وَقَدْ كَانَ الْحَاكِمُ يُوَسِّعُ عَلَيْهِ فِي مَنْزِلِهِ بِذَلِكَ ، فَكَانَ فِيمَا يُعْطِيهِ مِنْ النَّفَقَةِ ، فَضْلٌ عَنْ قُوتِهِ ، فَقَالَ أَنَا أَتَكَارَى بِذَلِكَ ، وَأُنْفِقُ عَلَى نَفْسِي بِالْمَعْرُوفِ أَطْلَقَ لَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ النَّفَقَةَ وَلَكِنْ يَدْفَعُهَا إلَى ثِقَةٍ يُنْفِقُهَا عَلَيْهِ عَلَى مَا أَرَادَ ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّدْبِيرَ دَلِيلُ الرُّشْدِ ، وَالصَّلَاحِ ، وَفِيهِ نَظَرٌ لَهُ ، فَلَا يَمْنَعُهُ الْقَاضِي مِنْهُ ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْخُرُوجِ مَاشِيًا وَمَكَثَ حَرَامًا ، فَطَالَ بِهِ ذَلِكَ حَتَّى دَخَلَهُ مِنْ إحْرَامِهِ ذَلِكَ ضَرُورَةٌ يَخَافُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ مَرَضًا ، أَوْ غَيْرَهُ ، فَلَا بَأْسَ إذَا جَاءَتْ الضَّرُورَةُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ حَتَّى يَقْضِيَ إحْرَامَهُ ، وَيَرْجِعَ ؛ لِأَنَّ إيفَاءَ مَالِهِ لِتَوْفِيرِ النَّظَرِ لَهُ لَا لِلْإِضْرَارِ بِهِ ، وَمِنْ النَّظَرِ هُنَا لَهُ أَنْ يُعْطِيَ لَهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِأَدَاءِ مَا الْتَزَمَهُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ إحْرَامِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أُحْصِرَ فِي إحْرَامِ التَّطَوُّعِ لَمْ يَبْعَثْ الْهَدْيَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ بَاشَرَهُ بِسَبَبٍ الْتَزَمَهُ بِاخْتِيَارِهِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ أَنْ يَبْعَثَ بِهَدْيٍ مِنْ نَفَقَتِهِ وَإِنْ شَاءَ ذَلِكَ لَا يُمْنَعُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ النَّظَرِ ، وَحُسْنِ التَّدْبِيرِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي نَفَقَتِهِ مَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ بِذَلِكَ مِنْهُ تَرَكَهُ عَلَى حَالِهِ حَتَّى تَأْتِيَ الضَّرُورَةُ الَّتِي وَصَفْت لَكَ ، ثُمَّ يَبْعَثُ عَنْهُ بِهَدْيٍ مِنْ مَالِهِ يَحِلُّ بِهِ .
وَإِنَّمَا يُنْظَرُ فِي هَذَا إلَى مَا يُصْلِحُهُ ، وَيُصْلِحُ مَالَهُ ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِصِيَانَةِ مَالِهِ ، فَالْمَقْصُودُ إصْلَاحُ نَفْسِهِ ، فَيَنْظُرُ فِي كُلِّ

شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَى مَا يُصْلِحُهُ وَيُصْلِحُ مَالَهُ ، فَإِذَا بَلَغَتْ الْمَرْأَةُ مُفْسِدَةً ، فَاخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا جَازَ الْخُلْعُ ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فِي الْخُلْعِ يَعْتَمِدُ وُجُوبَ الْقَبُولِ لَا وُجُوبَ الْمَقْبُولِ ، وَقَدْ تَحَقَّقَ الْقَبُولُ مِنْهَا ، وَكَأَنَّ الزَّوْجَ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِقَبُولِهَا الْجُعْلَ ، فَإِذَا قَبِلَتْ وَقَعَ الطَّلَاقُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ ، وَلَمْ يَلْزَمْهَا الْمَالُ ، وَإِنْ صَارَتْ مَصْلَحَةً ؛ لِأَنَّهَا الْتَزَمَتْ الْمَالَ لَا بِعِوَضٍ هُوَ مَالٌ ، وَلَا لِمَنْفَعَةٍ ظَاهِرَةٍ لَهَا فِي ذَلِكَ فَكَانَ النَّظَرُ فِي أَنْ يَجْعَلَ هَذِهِ كَالصَّغِيرَةِ فِي هَذَا الْحُكْمِ لَا كَالْمَرِيضَةِ ، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً عَلَى ذَلِكَ الْمَالِ ، فَهُوَ يَمْلِكُ رَجَعْتهَا ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ لَا يُوجِبُ الْبَيْنُونَةَ إلَّا عِنْدَ وُجُوبِ الْبَدَلِ ، وَلَمْ يَجِبْ الْبَدَلُ هُنَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بِلَفْظِ الْخُلْعِ ، فَإِنَّ مُقْتَضَى لَفْظِ الْخُلْعِ الْبَيْنُونَةُ ، وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا الْفَرْقَ فِي حَقِّ الصَّغِيرَةِ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَمَةِ الَّتِي يُطَلِّقُهَا زَوْجُهَا تَطْلِيقَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَقَدْ كَانَ دَخَلَ بِهَا ، فَإِنَّ الطَّلَاقَ هُنَاكَ بَائِنٌ ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الْأَمَةِ الْمَالَ صَحِيحٌ فِي حَقِّهَا حَتَّى يَلْزَمَهَا الْمَالُ إذَا أُعْتِقَتْ ، فَلِوُجُوبِ الْمَالِ فِي ذِمَّتِهَا كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا وَفِي الْمُفْسِدَةِ ، وَالصَّغِيرَةِ الْمَالُ لَا يَجِبُ بِقَبُولِهَا أَصْلًا حَتَّى إذَا كَانَتْ الْأَمَةُ مَعَ رِقِّهَا مُفْسِدَةً مِمَّنْ لَوْ كَانَتْ حُرَّةً لَمْ يُجِزْ أَمْرَهَا فِي مَالِهَا كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَهَا الْمَالَ لَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّ نَفْسِهَا حَتَّى لَا يَلْزَمُهَا الْمَالُ إذَا أُعْتِقَتْ .

وَلَوْ أَنَّ غُلَامًا أَدْرَكَ مُفْسِدًا ، فَلَمْ يَرْفَعْ أَمْرَهُ إلَى الْقَاضِي حَتَّى بَاعَ شَيْئًا مِنْ تَرِكَةِ وَالِدِهِ ، وَأَقَرَّ بِدُيُونٍ ، وَوَهَبَ هِبَاتٍ ، وَتَصَدَّقَ بِصَدَقَاتٍ ، ثُمَّ رُفِعَ أَمْرُهُ إلَى الْقَاضِي ، فَإِنَّهُ يُبْطِلُ جَمِيعَ ذَلِكَ ، وَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ الْقَاضِي ، وَهَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَهَذَا كُلُّهُ صَحِيحٌ مِنْهُ مَا لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ الْقَاضِي وَاسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ عَلَى أَبِي يُوسُفَ بِمَنْعِ الْمَالِ مِنْهُ ، فَإِنَّ الْوَصِيَّ لَا يَدْفَعُ إلَيْهِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ قَبْلَ حَجْرِ الْقَاضِي لَمَا مُنِعَ الْمَالُ مِنْهُ ، وَمَنْ يَقُولُ : لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ لَمْ يَكُنْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ قَبْلَ حَجْرِ الْقَاضِي لَمَا مُنِعَ ، وَيَكُونُ تَصَرُّفُهُ جَائِزًا ، فَقَدْ دَخَلَ فِيمَا قَالَ الَّذِينَ لَمْ يَرَوْا الْحَجْرَ شَيْئًا ، فَإِنَّا مَا احْتَجَجْنَا عَلَيْهِمْ إلَّا بِهَذَا وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ هَذَا الْقَائِلِ وَبَيْنَهُمْ افْتِرَاقٌ فِي رَدِّ الْآيَةِ يَعْنِي قَوْله تَعَالَى { ، فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } ، فَإِنَّمَا عَرَضَ فِي هَذَا الْكَلَامِ لِأَبِي حَنِيفَةَ ، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : إنَّهُ فِي هَذِهِ الْكَلِمَاتِ جَاوَزَ حَدَّ نَفْسِهِ ، وَلَمْ يُرَاعِ حَقَّ الِاسْتِنَادِ ، وَلِأَجْلِ هَذَا لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ حَتَّى لَمْ يُكْثِرْ لَهُ تَفْرِيعُهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ ، وَلَا فِي كِتَابِ الْوَقْفِ وَلَوْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَحْيَاءِ لَدَمَّرَ عَلَيْهِ ، وَكُلَّ مَجْرَى فِي الْحَلَائِسِ ، فَإِنْ كَانَ هَذَا الْمُفْسِدُ قَبَضَ ثَمَنَ مَا بَاعَ بِبَيِّنَةٍ ، ثُمَّ رَفَعَ ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي ، فَإِنَّهُ يَنْظُرُ فِيهِ فَإِنْ رَأَى مَا بَاعَ بِهِ رَغْبَةً أَجَازَهُ ، وَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ قَائِمًا جَازَ بِإِجَازَتِهِ .
وَإِنْ كَانَ ضَاعَ فِي يَدِهِ لَمْ يُجِزْهُ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ

الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَلِلْقَاضِي أَنْ يَأْذَنَ لِلسَّفِيهِ فِي التِّجَارَةِ إذَا رَآهُ أَهْلًا لِذَلِكَ ، فَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يُجِيزَ تَصَرُّفُهُ ، وَإِذَا رَأَى النَّظَرَ فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ الثَّمَنُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ ، وَالْبَيْعُ بَيْعُ رَغْبَةٍ ، فَالنَّظَرُ فِي إجَازَتِهِ ، فَإِذَا ضَاعَ الثَّمَنُ فِي يَدِهِ ، فَلَا نَظَرَ لَهُ فِي هَذِهِ الْإِجَازَةِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَجَازَهُ زَالَ مِلْكُهُ عَنْ الْعَيْنِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ يُسَلَّمُ لَهُ فِي الْحَالِ فَإِنَّ إجَازَةَ الْبَيْعِ إجَازَةٌ مِنْهُ بِقَبْضِ الثَّمَنِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاعَ الْفُضُولِيُّ مَالَ إنْسَانٍ ، وَقَبَضَ الثَّمَنَ ، وَهَلَكَ فِي يَدِهِ ، ثُمَّ أَجَازَ الْمَالِكُ الْبَيْعَ كَانَ ذَلِكَ إجَازَةً مِنْهُ بِقَبْضِ الثَّمَنِ حَتَّى لَا يَرْجِعَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِشَيْءٍ ، فَهَذَا كَذَلِكَ ، فَإِذَا لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ بَعْدَ الْإِجَازَةِ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ فِي الْإِجَازَةِ نَظَرٌ لَهُ فَلَا يَشْتَغِلُ الْقَاضِي بِهِ ، وَلَا يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي عَلَى الثَّمَنِ الَّذِي ضَاعَ فِي يَدِ الْمُفْسِدِ سَبِيلٌ ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ كَانَ بِتَسْلِيمٍ مِنْهُ ، وَتَسْلِيطُهُ إيَّاهُ عَلَى ذَلِكَ ، فَلَا يَدْخُلُ بِهِ الْمَقْبُوضُ فِي ضَمَانِهِ ، وَهُوَ فِي هَذَا كَاَلَّذِي لَمْ يَبْلُغْ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ قَبَضَ الثَّمَنَ - يَدْفَعُ الْمُشْتَرِي إلَيْهِ ، فَاسْتَهْلَكَهُ بَيْنَ يَدَى الشُّهُودِ ، ثُمَّ رَفَعَ إلَى الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَنْقُضُ بَيْعَهُ ، وَلَا يَلْزَمُ الْمَحْجُورَ مِنْ الثَّمَنِ شَيْءٌ ، وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَيَكُونُ هُوَ ضَامِنًا لِمَا اُسْتُهْلِكَ مِنْ الثَّمَنِ .
وَلِلْقَاضِي أَنْ يُجِيزَ الْبَيْعَ إنْ رَأَى النَّظَرَ فِيهِ ، وَأَصْلُهُ فِي الصَّبِيِّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ إذَا اسْتَهْلَكَ الْوَدِيعَةَ ، أَوْ اسْتَهْلَكَ شَيْئًا اشْتَرَاهُ ، وَإِنْ كَانَ الْمَحْجُورُ حِينَ قَبَضَ الثَّمَنَ أَنْفَقَهُ عَلَى نَفْسِهِ نَفَقَةَ مِثْلِهِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ أَوْ حَجَّ بِهِ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ ، أَوْ أَدَّى مِنْهُ زَكَاةَ مَالِهِ ، أَوْ صَنَعَ فِيهِ

شَيْئًا مِمَّا كَانَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَصْنَعَهُ عِنْدَ طَلَبِهِ ، ثُمَّ دَفَعَ إلَيْهِ نَظَرَ فِيهِ ، فَإِنْ كَانَ الْبَيْعُ فِيهِ رَغْبَةً ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِثْلَ الثَّمَنِ الَّذِي أَخَذَهُ أَجَازَ الْبَيْعَ ، وَأَبْرَأَ الْمُشْتَرِي مِنْ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ لَمْ يَتَمَكَّنْ فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْفَسَادِ شَيْءٌ فَإِنَّهُ لَوْ طَلَبَهُ مِنْ الْقَاضِي وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَهُ إلَى ذَلِكَ ، فَإِنْ بَاشَرَ بِنَفْسِهِ كَانَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يُنَفِّذَهُ ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ لِمَعْنَى الْفَسَادِ ، فَفِيمَا لَا فَسَادَ فِيهِ ، هُوَ كَغَيْرِهِ ، وَالنَّظَرُ لَهُ فِي تَنْفِيذِ هَذَا التَّصَرُّفِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَرْفَعَ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي فِي كُلِّ حَاجَةٍ ، وَفِي كُلِّ وَقْتٍ لِمَا فِيهِ مِنْ الْجَرْحِ الْبَيِّنِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي تَصَرُّفِهِ مُحَابَاةٌ ، فَأَبْطَلَ الْقَاضِي ذَلِكَ لَمْ يَبْطُلْ الثَّمَنُ عَنْ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ ، وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِيهِ مِنْ مَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا فَسَادَ فِيمَا صُرِفَ الْمَالُ إلَيْهِ مِنْ حَوَائِجِهِ ، وَفِيمَا لَا فَسَادَ فِيهِ هُوَ كَالرَّشِيدِ ، فَيَصِيرُ الْمَقْبُوضِ دَيْنًا عَلَيْهِ يَصْرِفُهُ لَهُ فِي حَاجَتِهِ ، وَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَهُ مِنْ مَالِهِ إلَّا أَنْ يَرَى أَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ لَوْ اسْتَقْرَضَ مِنْ رَجُلٍ مَالًا ، فَقَضَى بِهِ مَهْرَ مِثْلِ الْمَرْأَةِ قَضَى الْقَاضِي الْقَرْضَ مِنْ مَالِهِ .
فَإِنْ كَانَ اسْتَقْرَضَهُ لِذَلِكَ ، ثُمَّ اسْتَهْلَكَهُ فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْمُقْرِضِ عَلَيْهِ شَيْءٌ لَهُ حَالَ فَسَادِهِ ، وَلَا بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ صَرَفَ الْمَالَ إلَى وَجْهِ التَّبْذِيرِ ، وَالْفَسَادِ وَهُوَ كَانَ مَحْجُورًا عَنْ ذَلِكَ فَيَكُونُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ ، فَأَمَّا مَا صَرَفَهُ إلَى مَهْرِ مِثْلِ امْرَأَتِهِ فَإِنَّمَا صَرَفَهُ إلَى مَا فِيهِ نَظَرٌ لَهُ ، وَهُوَ إسْقَاطُ الصَّدَاقِ عَنْ ذِمَّتِهِ ، وَرُبَّمَا كَانَ مَحْبُوسًا فِيهِ ، أَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ تَمْنَعُ نَفْسَهَا مِنْهُ لِذَلِكَ ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُقْرِضَ مَمْنُوعٌ

مِنْ دَفْعِ مَالِ نَفْسِهِ إلَيْهِ لِيَصْرِفَهُ إلَى تَبْذِيرِهِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ إعَانَةً لَهُ عَلَى الْفَسَادِ ، فَيَكُونُ مُضَيِّعًا مَالَهُ بِذَلِكَ ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَى أَنْ يُقْرِضَهُ لِيَصْرِفَهُ إلَى مَهْرِ مِثْلِ امْرَأَتِهِ ، فَلَا يَكُونُ بِهِ مُضَيِّعًا مَالَهُ ، وَلَوْ اسْتَقْرَضَ مَالًا ، فَأَنْفَقَهُ عَلَى نَفْسِهِ نَفَقَةَ مِثْلِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ الْقَاضِي أَنْفَقَ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ أَجَازَ ذَلِكَ لَهُ ، وَقَضَاهُ مِنْ مَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا فَسَادَ فِيمَا صَنَعَهُ وَإِنْ كَانَ أَنْفَقَهُ بِإِسْرَافٍ حَسَبِ الْقَاضِي لِلْمُقْرِضِ مِنْ ذَلِكَ مِثْلَ نَفَقَةِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ ، وَقَضَاهُ مِنْ مَالِهِ ، وَأَبْطَلَ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ فِي مَقْدُورِ نَفَقَةِ مِثْلِهِ لَا فَسَادَ ، وَفِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مَعْنَى الْفَسَادِ وَالْإِسْرَافِ ، وَإِنَّمَا جُعِلَ هُوَ كَاَلَّذِي لَمْ يَبْلُغْ فِيمَا فِيهِ الْفَسَادُ .

فَأَمَّا فِيمَا لَا فَسَادَ فِيهِ فَهُوَ كَالرَّشِيدِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ كَانَ مُؤَاخَذًا بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا فَسَادَ فِي إقْرَارِهِ ، وَإِنَّمَا بِهِ يَحْصُلُ التَّطْهِيرُ لِنَفْسِهِ ، وَآثَرَ عُقُوبَةَ الدُّنْيَا عَلَى عُقُوبَةِ الْآخِرَةِ ، وَهُوَ نَظِيرُ أَحَدِ الْوَرَثَةِ إذَا أَسْرَفَ فِي جَهَازِ الْمَيِّتِ ، وَكَفَنِهِ ، فَإِنَّهُ يَحْسِبُ مِنْ أَصْلِ التَّرِكَةِ مِقْدَارَ جِهَازِ مِثْلِهِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ إسْرَافٌ يَكُونُ مَحْسُوبًا عَلَيْهِ دُونَ سَائِرِ الْوَرَثَةِ ، وَلَوْ أَوْدَعَهُ رَجُلٌ مَالًا ، فَأَقَرَّ أَنَّهُ اسْتَهْلَكَهُ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ بِهَذَا الْإِقْرَارِ شَيْءٌ أَبَدًا ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ غَيْرُ مُلْزِمٌ إيَّاهُ الْمَالَ ، وَهُوَ فِيهِ كَاَلَّذِي لَمْ يَبْلُغْ مَا دَامَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَإِنْ صَلَحَ سُئِلَ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ فِي حَالِ فَسَادِهِ ، فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَدْ كَانَ اسْتَهْلَكَهُ فِي حَالِ فَسَادِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِإِقْرَارِهِ كَالثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ ، وَالْمُعَايَنَةِ ، وَلَوْ عَايَنَاهُ اسْتَهْلَكَ الْوَدِيعَةَ فِي حَالِ فَسَادِهِ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا أَبَدًا فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَمَّا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ ضَامِنٌ فَكَذَلِكَ هُنَا .
، وَأَصْلُ الْخِلَافِ فِي الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ إذَا ، أَوْدَعَهُ رَجُلٌ مَالًا وَاسْتَهْلَكَهُ ، وَعَلَّلَ فِي هَذَا بِمَا عَلَّلَ بِهِ هُنَاكَ ، فَقَالَ : لِأَنَّ رَبَّ الْمَالِ هُوَ الَّذِي سَلَّطَهُ عَلَى مَالِهِ حِينَ دَفَعَهُ إلَيْهِ ، وَإِذَا أَوْدَعَ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ غُلَامًا أَوْ جَارِيَةً ، فَقَتَلَهُ خَطَأً كَانَتْ قِيمَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ فِي الْأَفْعَالِ لَا يَتَحَقَّقُ ، فَالْأَفْعَالُ حِسِّيَّةٌ تَحَقُّقُهَا بِوُجُودِهَا ، وَأَصْلُهُ فِي الصَّبِيِّ إذَا أُودِعَ غُلَامًا أَوْ جَارِيَةً ، فَقَتَلَهُ قَالَ : فَإِنْ أَقَرَّ الْمَحْجُورُ بِذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْهُ مَا دَامَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ هَدَرٌ فِي الْتِزَامِ

الْمَالِ بِنَفْسِهِ ، أَوْ الْإِلْزَامُ عَلَى عَاقِلَتِهِ ، فَإِنْ صَلَحَ ، فَيُسْأَلُ عَمَّا كَانَ أَقَرَّ بِهِ ، فَإِنْ أَقَرَّ بِهِ فِي حَالِ صَلَاحِهِ أُخِذَتْ مِنْهُ الْقِيمَةُ مِنْ مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يُقْضَى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ بِإِقْرَارِهِ فِي حَالِ صَلَاحِهِ يَظْهَرُ هَذَا الْفِعْلُ فِي حَقِّهِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الظَّاهِرِ بِالْمُعَايَنَةِ فِي حَقِّهِ ، وَهُوَ لَمْ يَظْهَرْ فِي حَقِّ عَاقِلَتِهِ لِكَوْنِهِ مُتَّهَمًا فِي حَقِّهِمْ فَتَكُونُ الْقِيمَةُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ مُؤَجَّلًا ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِفِعْلِ الْقَتْلِ ، وَابْتَدَأَ الْأَجَلُ مِنْ حِينِ يُقْضَى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ دَيْنًا الْآنَ وَالْأَجَلُ يَكُونُ فِي الدَّيْنِ وَهَذَا بِخِلَافِ الصَّبِيِّ ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ ، وَلَا يَلْزَمُهُ مِنْ الدِّيَةِ شَيْءٌ مِنْ مُوجَبِ جِنَايَتِهِ إذَا كَانَ عَمْدًا فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ هُوَ خَطَأً فَهُوَ ، وَإِنْ أَقَرَّ عِنْدَ الْبُلُوغِ فَإِنَّمَا أَقَرَّ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَذَلِكَ لَا يُلْزِمُهُ شَيْئًا فَأَمَّا الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ فَمُخَاطَبٌ ، وَلَوْ كَانَ فِعْلُهُ عَمْدًا كَانَ هُوَ كَالرَّشِيدِ فِي مُوجِبِهِ ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ خَطَأً يَكُونُ هُوَ كَالرَّشِيدِ فِي أَنَّ الدِّيَةَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ عَنْهُ لِلتَّخْفِيفِ عَلَيْهِ ، وَإِذَا أَقَرَّ بَعْدَ مَا صَلَحَ ، فَإِنَّمَا يَظْهَرُ بِإِقْرَارِهِ فِي حَقِّهِ دُونَ عَاقِلَتِهِ ، فَلِهَذَا كَانَتْ الْقِيمَةُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ .
وَلَوْ أَقَرَّ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَخَذَ مَالَ رَجُلٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، فَاسْتَهْلَكَهُ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مَحْجُورًا عَنْ الْإِقْرَارِ بِوُجُوبِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ صَلَحَ سُئِلَ عَمَّا كَانَ أَقَرَّ بِهِ ، فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ حَقًّا أُخِذَ بِهِ كَمَا لَوْ لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ الْإِقْرَارُ فِي حَالَةِ الْحَجْرِ وَلَكِنْ أَقَرَّ بَعْدَمَا صَلُحَ ابْتِدَاءً أَنَّهُ اسْتَهْلَكَ مَالَ رَجُلٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، وَإِنْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ حَقًّا لَمْ يُؤْخَذْ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ سِوَى الْإِقْرَارِ الَّذِي كَانَ مِنْهُ فِي

حَالَةِ الْحَجْرِ ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ بَعْدَمَا صَلُحَ : إنِّي قَدْ كُنْت أَقْرَرْت ، وَأَنَا مَحْجُورٌ عَلَيَّ أَنِّي اسْتَهْلَكْت لَك أَلْفَ دِرْهَمٍ ، فَقَالَ رَبُّ الْمَالِ : أَقْرَرْت لِي بِذَلِكَ فِي حَالِ صَلَاحِكَ ، أَوْ قَالَ قَدْ أَقْرَرْت بِهِ فِي حَالَ فَسَادِك ، وَلَكِنَّهُ حَقٌّ وَقَالَ الْمُقِرُّ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حَقًّا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْإِقْرَارَ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ تُنَافِي صِحَّةَ إقْرَارِهِ ، فَيَكُونُ فِي الْحَقِيقَةِ مُنْكِرًا لَا مُقِرًّا ، فَيُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ ، وَهُوَ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ ، وَلَوْ قَالَ بَعْدَمَا صَلُحَ قَدْ كُنْت أَقْرَرْت بِذَلِكَ فِي حَالِ الْفَسَادِ ، وَكَانَ ذَلِكَ حَقًّا فَإِنَّهُ يُقْضَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ بِقَوْلِهِ كَانَ ذَلِكَ حَقًّا صَارَ مُقِرًّا لَهُ بِوُجُوبِ الْمَالِ الْآنَ ، فَيُلْزِمُهُ الْقَاضِي ذَلِكَ بِهَذَا الْإِقْرَارِ .

( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ لَوْ أَوْدَعَهُ رَجُلٌ ، أَوْ أَقْرَضَهُ مَالًا ، ثُمَّ كَبِرَ ، فَأَقَرَّ أَنَّهُ اسْتَهْلَكَهُ فِي حَالِ صِغَرِهِ وَقَالَ رَبُّ الْمَالِ : اسْتَهْلَكْتَهُ بَعْدَ الْكِبَرِ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْغُلَامِ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ اسْتِهْلَاكَهُ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ تُنَافِي وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ ، فَيَكُونُ هُوَ مُنْكِرًا لِلضَّمَانِ ، وَلَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ : أَنَا أَقْرَضْتُكَ ، أَوْ أَوْدَعْتُكَ بَعْدَ الْكِبَرِ فَاسْتَهْلَكْته ، وَقَالَ الْغُلَامُ اسْتَهْلَكْته قَبْلَ الْكِبَرَ كَانَ الْغُلَامُ ضَامِنًا لِجَمِيعِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْغُلَامَ يَدَّعِي إسْنَادَ الْإِيدَاعِ ، وَالْإِقْرَاضِ إلَى حَالَةِ الصِّغَرِ لِيَثْبُتَ بِهِ تَسْلِيطُهُ إيَّاهُ عَلَى الِاسْتِهْلَاكِ مُطْلَقًا ، وَرَبُّ الْمَالِ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ، وَإِذَا قَبِلَ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ بَقِيَ اسْتِهْلَاكُهُ لِلْمَالِ ، وَهُوَ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ .

( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ مَالَ إنْسَانٍ ، وَقَالَ أَتْلَفْته بِإِذْنِكَ ، وَأَنْكَرَ صَاحِبُ الْمَالِ ذَلِكَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَهَذَا مِثْلُهُ ، وَإِذَا بَلَغْت الْمَرْأَةُ مَحْجُورًا عَلَيْهَا لِفَسَادِهَا ، فَزُوِّجَتْ كُفُؤًا بِمَهْرِ مِثْلِهَا ، أَوْ بِأَقَلَّ مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا فَسَادَ فِيمَا صَنَعَ ، وَالْحَجْرُ بِسَبَبِ الْفَسَادِ لَا يُؤَثِّرُ فِيمَا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ فِي جَانِبِ الرَّجُلِ ، فَكَذَلِكَ فِي جَانِبِهَا وَالْغَبْنُ الْيَسِيرُ مِمَّا لَا يُسْتَطَاعُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ إلَّا بِحَرَجٍ ، وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ ، وَلَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا فِيمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا قِيلَ : لِزَوْجِهَا إنْ شِئْت ، فَأَتِمَّ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْفَسَادِ يَتَمَكَّنُ فِي هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمُحَابَاةِ فَلَا يُسَلَّمُ ذَلِكَ لِلزَّوْجِ وَلَكِنَّهُ يَتَخَيَّرُ ؛ لِأَنَّهُ يُلْزِمُهُ زِيَادَةً لَمْ يَرْضَ بِالْتِزَامِهَا ، فَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ وَالْتَزَمَهُ .
وَإِنْ شَاءَ أَبَى فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِدَامَةِ إمْسَاكِهَا إلَّا بِالْمَعْرُوفِ إلَّا بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ ، فَإِذَا أَبَاهَا كَانَ رَاضِيًا بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا ، فَعَلَيْهِ لَهَا تَمَامُ مَهْرِ مِثْلِهَا ؛ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ قِيمَةُ بُضْعِهَا مُسْتَحَقٌّ بِالدُّخُولِ لِشُبْهَةِ الْعَقْدِ إلَّا إذَا تَقَدَّمَهُ تَسْمِيَةُ صَحِيحَةٌ ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ حِينَ تَمَكَّنَ الْفَسَادُ فِي تَسْمِيَتِهَا فَكَأَنَّهَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ بِغَيْرِ مَهْرٍ ، وَدَخَلَ هُوَ بِهَا ، فَيَلْزَمُهُ تَمَامُ مَهْرِ مِثْلِهَا ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ التَّفْرِيقَ كَانَ لِلنُّقْصَانِ عَنْ صَدَاقِ الْمِثْلِ وَقَدْ انْعَدَمَ حِينَ قَضَى لَهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا بِالدُّخُولِ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الَّذِي تَزَوَّجَهَا مَحْجُورًا عَلَيْهِ ، فَالْجَوَابُ مَا بَيَّنَّا إلَّا فِي خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَهُوَ إنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَكْثَرَ مِنْ

مَهْرِ مِثْلِهَا بَطَلَ الْفَضْلُ عَنْ مَهْرِ مِثْلِهَا عَنْ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ إلْزَامَ الْمُفْسِدِ لِلزِّيَادَةِ بِالتَّسْمِيَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ ، فَإِنَّ فِي الْتِزَامِ مَا زَادَ عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا مَعْنَى الْفَسَادِ ، ثُمَّ لَا خِيَارَ لِلْمَرْأَةِ فِي ذَلِكَ إنْ دَخَلَ بِهَا ، أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا فِي قِيمَةِ الْبُضْعِ ، وَقَدْ سُلِّمَ لَهَا ذَلِكَ ، وَانْعِدَامُ الرِّضَا مِنْهَا لِتَمَلُّكِ الْبُضْعِ عَلَيْهَا بِدُونِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ لَا يَمْنَعُ لُزُومَ النِّكَاحِ إيَّاهَا كَمَا لَوْ أُكْرِهَتْ هِيَ ، وَوَلِيُّهَا عَلَى أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا فُلَانًا بِمَهْرِ مِثْلِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ تَزَوَّجَتْ بِمَهْرِ مِثْلِهَا غَيْرَ كُفُؤٍ ، فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ طَلَبَ الْكَفَاءَةِ فِيهِ حَقُّهَا ، وَحَقُّ الْوَلِيِّ ، وَلَمْ يُوجَدْ الرِّضَا مِنْ الْوَلِيِّ بِانْعِدَامِ الْكَفَاءَةِ ، وَرِضَاهَا بِذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي إبْطَالِ حَقِّهَا لِمَا تَمَكَّنَ فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْفَسَادِ وَاتِّبَاعِ الْهَوَى ، فَلِهَذَا كَانَ لَهَا أَنْ تُخَاصِمَ ، وَيُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا لِخُصُومَتِهَا وَخُصُومَةُ أَوْلِيَائِهَا ، وَلَوْ أَنَّ غُلَامًا أَدْرَكَ ، وَهُوَ مُصْلِحٌ قَدْ أُونِسَ مِنْهُ الرُّشْدُ فَدَفَعَ إلَيْهِ وَصِيُّهُ ، أَوْ لِلْقَاضِي مَالَهُ وَسَلَّطَهُ عَلَيْهِ ، ثُمَّ أَفْسَدَ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَصَارَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ ، فَهُوَ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَحْجُرْ الْقَاضِي عَلَيْهِ ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ صَارَ مَعْتُوهًا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مَا لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ الْقَاضِي فَتَصَرُّفُهُ نَافِذٌ ، ثُمَّ عِنْدَهُمَا الْقَاضِي يَسْتَرِدُّ الْمَالَ مِنْهُ ، وَيَجْعَلُهُ فِي يَدِ ، وَلِيِّهِ كَمَا لَوْ بَلَغَ مُفْسِدًا ؛ لِأَنَّ إينَاسَ الرُّشْدِ مِنْهُ شَرْطٌ لِدَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ بِالنَّصِّ ، فَيَكُونُ شَرْطًا لِإِبْقَاءِ الْمَالِ فِي يَدِهِ اسْتِدْلَالًا بِالنَّصِّ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَخْرُجُ الْمَالُ مِنْ يَدِهِ ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ شَرْطُ ابْتِدَاءِ الشَّيْءِ لَا يَكُونُ شَرْطَ بَقَائِهِ لَا مَحَالَةَ

، ثُمَّ مُنِعَ الْمَالُ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ أَثَرِ الصِّبَا ، وَفَسَادُهُ عِنْدَ الْبُلُوغِ دَلِيلُ أَثَرِ الصِّبَا ، فَمُنِعَ الْمَالِ مِنْهُ إلَى أَنْ يَزُولَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِعَرْضِ الزَّوَالِ فَأَمَّا فَسَادُهُ بَعْدَمَا بَلَغَ مُصْلِحًا ، فَلَيْسَ بِدَلِيلِ أَثَرِ الصِّبَا ، فَلَا يُوجِبُ الْحَيْلُولَةَ بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ مَالِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ جِنَايَةً مِنْهُ وَلَا تَأْثِيرَ لِلْجِنَايَةِ فِي قَطْعِ يَدِهِ عَنْ مَالِهِ وَلَا فِي قَطْعِ لِسَانِهِ عَنْ الْمَالِ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ ، وَلَوْ كَانَ بَاعَ عَبْدًا ، وَلَمْ يَدْفَعْهُ ، وَلَمْ يَقْبِضْ ثَمَنَهُ وَهُوَ حَالٌّ ، أَوْ مُؤَجَّلٌ حَتَّى فَسَدَ فَسَادًا اسْتَحَقَّ الْحَجْرَ بِهِ ، ثُمَّ دَفَعَ الْغَرِيمُ إلَيْهِ الْمَالَ فَدَفْعُهُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُ عِنْدَ مَنْ يَرَى الْحَجْرَ ، وَلَيْسَ مِنْ النَّظَرِ دَفْعُ الثَّمَنِ إلَيْهِ بَعْدَمَا صَارَ سَفِيهًا ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاعَ عَبْدًا ، وَسَلَّمَهُ وَلَمْ يَقْبِضْ ثَمَنَهُ حَتَّى صَارَ مَعْتُوهًا إلَّا أَنَّ مِثْلَهُ يُقْبَضُ ، فَكَمَا لَا يَجُوزُ قَبْضُهُ لِلثَّمَنِ هُنَاكَ إذَا دَفَعَهُ إلَيْهِ الْمُشْتَرِي كَذَلِكَ هُنَا .

وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ الصَّبِيَّ أَذِنَ لَهُ وَلِيُّهُ فِي التِّجَارَةِ فَبَاعَ شَيْئًا ، ثُمَّ حَجَرَ عَلَيْهِ وَلِيُّهُ قَبْلَ قَبْضِ الثَّمَنِ ، فَدَفَعَ الثَّمَنَ إلَيْهِ الْمُشْتَرِي لَمْ يَبْرَأْ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الْوَلِيِّ هُوَ الَّذِي بَاشَرَ الْبَيْعُ وَالصَّبِيُّ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الصَّبِيِّ إنَّمَا يَكُونُ مُبْرِئًا لِلْمُشْتَرِي إذَا تَأَيَّدَ رَأْيُهُ بِانْضِمَامِ رَأْيِ الْوَلِيِّ إلَيْهِ ، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ ، وَهُنَا قَبْضُهُ إنَّمَا كَانَ مُبَرِّئًا لِلْمُشْتَرِي بِكَوْنِهِ رَشِيدًا حَافِظًا لِمَالِهِ وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ بِفَسَادِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدٍ لَهُ ، وَهُوَ مُصْلِحٌ ، فَبَاعَهُ ، ثُمَّ صَارَ الْبَائِعُ مُفْسِدًا مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ ، فَقَبَضَ الثَّمَنَ بَعْد ذَلِكَ لَمْ يَبْرَأْ الْمُشْتَرِي إلَّا أَنْ يُوصِلَهُ الْقَابِضُ إلَى الْآمِرِ ، فَإِنْ أَوْصَلَهُ الْمُشْتَرِي بَرِئَ الْمُشْتَرِي بِوُصُولِ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحَقِّهِ ، وَإِنْ لَمْ يَصِلْ إلَى الْآمِرِ حَتَّى هَلَكَ فِي يَدِ الْبَائِعِ هَلَكَ مِنْ مَالِ الْمُشْتَرِي ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْبَائِعِ ، وَالْآمِرِ فِيهِ ، وَيُؤْخَذُ مِنْ الْمُشْتَرِي الثَّمَنُ مَرَّةً أُخْرَى ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ إنَّمَا رَضِيَ بِقَبْضِهِ لِلثَّمَنِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مُصْلِحٌ حَافِظٌ لِلْمَالِ ، فَلَا يَكُونُ رَاضِيًا بِهِ بَعْدَمَا صَارَ سَفِيهًا ، وَهَذَا كُلُّهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ نَهَاهُ عَنْ قَبْضِ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ بِالْبَيْعِ قَبْضَ الثَّمَنَ فَاسْتَحَقَّ الْمُشْتَرِي الْبَرَاءَةَ بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ إلَيْهِ ، فَلَا يَبْطُلُ اسْتِحْقَاقُهَا لِنَهْيِ الْآمِرِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ مِنْهُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ ، وَأَمَّا الْفَسَادُ عِنْدَ مَنْ يَرَى الْحَجْرَ بِهِ ، فَمَعْنًى - حُكْمِيٌّ حَتَّى يَخْرُجَ بِهِ الْمُفْسِدُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا لِقَبْضِ الثَّمَنِ ، فَيَعْمَلُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ وَحَقِّ الْمُشْتَرِي .
وَهَذَا لِأَنَّ الْآمِرَ بِالنَّهْيِ قَصَدَ إلْحَاقَ الضَّرَرِ بِهِمَا ، وَلَيْسَ لَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ فِي إثْبَاتِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ عَنْ

الْقَبْضِ بَعْدَمَا صَارَ مُفْسِدًا دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ الْآمِرِ ، وَهَذَا ضَرَرٌ لَمْ يَرْضَ الْآمِرُ بِالْتِزَامِهِ ، فَيَجِبُ دَفْعُهُ عَنْهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْآمِرُ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ وَالْمَأْمُورُ مُفْسِدٌ فِيمَا بَاعَ وَقَبَضَ الثَّمَنَ جَازَ بَيْعُهُ وَقَبْضُهُ ؛ لِأَنَّهُ رَاضٍ بِالْتِزَامِ ذَلِكَ الضَّرَرِ حِينَ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ ، وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ أَمَرَ صَبِيًّا مَحْجُورًا ، أَوْ مَعْتُوهًا يَعْقِلُ الْبَيْعَ ، وَالشِّرَاءَ بِبَيْعِ مَا لَهُ ، فَبَاعَهُ جَازَ ، وَلَوْ أَمَرَهُ وَهُوَ صَحِيحُ الْعَقْلِ ، ثُمَّ صَارَ مَعْتُوهًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الْآمِرُ يَعْلَمُ بِفَسَادِهِ ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ؛ لِأَنَّ أَمْرَهُ تَصْرِيحٌ مِنْهُ بِالرِّضَى بِتَصَرُّفِهِ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا ، وَمَعَ التَّصْرِيحِ لَا مُعْتَبَرَ بِعِلْمِهِ وَجَهْلِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ ، وَلَوْ بَاعَ الْمُفْسِدُ مَتَاعَهُ بِثَمَنٍ صَالِحٍ وَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى رَفَعَ ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي فَإِنَّهُ يُجِيزُ الْبَيْعَ ، وَيَنْهَى الْمُشْتَرِي عَنْ دَفْعِ الثَّمَنِ إلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ فِي إجَازَةِ الْبَيْعِ نَظَرًا لَهُ ، فَإِنَّهُ لَوْ نَقَضَهُ احْتَاجَ إلَى إعَادَةِ مِثْلِهِ وَلَيْسَ فِي مُبَاشَرَتِهِ قَبْضُ الثَّمَنِ نَظَرًا لَهُ بَلْ فِيهِ تَعْرِيضُ مَالِهِ لِلْهَلَاكِ ، فَيَنْهَى الْمُشْتَرِي عَنْ دَفْعِ الثَّمَنِ إلَيْهِ لِمَعْنَى النَّظَرِ وَيَصِحُّ ذَلِكَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحُكْمِ مِنْهُ فِي فَصْلٍ مُجْتَهَدٍ فِيهِ فَإِنْ دَفَعَهُ بَعْدَ مَا نَهَاهُ ، فَضَاعَ فِي يَدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لَمْ يَبْرَأْ الْمُشْتَرِي مِنْهُ ، وَيُجْبَرُ عَلَى دَفْعِ ثَمَنٍ آخَرَ إلَى الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ نَهْيَهُ لَمَّا صَحَّ صَارَ حَقُّ قَبْضِ الثَّمَنِ لِلْقَاضِي ، أَوْ لِأَمِينِهِ ، فَدَفْعُهُ إلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ كَدَفْعِهِ إلَى أَجْنَبِيٍّ آخَرَ ، وَكَدَفْعِ ثَمَنِ مَا بَاعَهُ الْقَاضِي ، أَوْ أَمِينُهُ مِنْ مَالِهِ إلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ ، وَلَا خِيَارَ لِلْمُشْتَرِي فِي ذَلِكَ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهُ ضَيَّعَ

مَالَهُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ بَعْد مَا نَهَاهُ الْقَاضِي ، وَأَسَاءَ الْأَدَبَ بِمُخَالَفَةِ الْقَاضِي فِيمَا خَاطَبَهُ بِهِ ، فَلَا يَسْتَحِقُّ لِسَعْيِهِ تَخْفِيفًا ، وَلَا خِيَارًا وَلَوْ كَانَ الْقَاضِي حِينَ أَجَازَ الْبَيْعَ لَمْ يَنْهَهُ عَنْ دَفْعِ الثَّمَنِ إلَيْهِ ، فَدَفَعَهُ إلَيْهِ ، فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ إجَازَةَ بَيْعِهِ إجَازَةٌ لَدَفْعِ الثَّمَنِ ، فَإِنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ وَمُطْلَقُ الْإِذْنِ لَهُ فِي الْبَيْعِ يَكُونُ تَسْلِيطًا عَلَى قَبْضِ الثَّمَنِ ، فَكَذَلِكَ مُطْلَقُ الْإِجَازَةِ فِي الِانْتِهَاءِ إلَّا أَنْ يُبْنَى الْأَمْرُ عَلَى وَجْهٍ فَيَقُولُ : قَدْ أَجَزْت الْبَيْعَ ، وَلَا أُجِيزُ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَدْفَعَ الثَّمَنَ إلَيْهِ ، فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْحُكْمِ مِنْهُ .
، وَحُكْمُ الْقَاضِي يُقَيَّدُ بِمَا قَيَّدَهُ بِهِ ، وَلَوْ أَجَازَ الْبَيْعَ فِي الِابْتِدَاءِ جُمْلَةً ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ قَدْ نَهَيْت الْمُشْتَرِي أَنْ يَدْفَعَ الثَّمَنَ إلَيْهِ كَانَ نَهْيُهُ بَاطِلًا وَكَانَ دَفْعُ الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ إلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ جَائِزًا حَتَّى يَبْلُغَهُ مَا قَالَ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ سَلَّطَهُ عَلَى دَفْعِ الثَّمَنِ بِإِجَازَتِهِ الْبَيْعَ جُمْلَةً ، ثُمَّ نَهْيُهُ إيَّاهُ عَنْ دَفْعِ الثَّمَنِ إلَيْهِ خِطَابٌ نَاسِخٌ ، أَوْ مُغَيِّرٌ لِحُكْمِ الْإِجَازَةِ الْمُطْلَقَةِ ، فَلَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ حُكْمُهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْعِلْمِ بِهِ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ ، وَفِي إلْزَامِهِ إيَّاهُ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِهِ إضْرَارٌ ، فَإِذَا بَلَغَهُ ، ثُمَّ أَعْطَاهُ الثَّمَنَ لَمْ يَبْرَأْ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ النَّاسِخَ قَدْ وَصَلَ إلَيْهِ ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِالْمَنْسُوخِ بَعْدَمَا بَلَغَهُ النَّاسِخُ ، وَهَذَا نَظِيرُ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فِي خِطَابِ الشَّرْعِ فَإِنَّهُ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ بَعْدَمَا نَزَلَ تَحْرِيمُهَا ، وَلَمْ يُعَاتَبْ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْهُ النَّاسِخُ ، وَفِي قَوْله تَعَالَى { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا

وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } ، وَمَنْ أَعْلَمُهُ بِذَلِكَ ، وَكَانَ خَبَرُهُ حَقًّا ، فَهُوَ إعْلَامٌ ؛ لِأَنَّ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى الْحَجْرَ خَبَرُ الْوَاحِدِ فِي الْمُعَامَلَاتِ حُجَّةٌ سَوَاءٌ كَانَ مُلْتَزِمًا ، أَوْ غَيْرَ مُلْتَزِمٍ كَانَ الْمُخْبِرُ رَسُولًا ، أَوْ لَمْ يَكُنْ ، فَاسِقًا كَانَ ، أَوْ عَدْلًا بَعْدَ أَنْ يَكُون الْخَبَرُ حَقًّا .

( أَلَا تَرَى ) لَوْ أَنْ مُفْسِدًا قَالَ لَهُ الْقَاضِي بِعْ عَبْدَك هَذَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَلَمْ يَنْهَهُ عَنْ قَبْضِ الثَّمَنِ ، فَبَاعَهُ ، وَقَبَضَ الثَّمَنَ ، وَضَاعَ عِنْدَهُ كَانَ جَائِزًا ، وَلَوْ قَالَ : بِعْهُ ، وَلَا تَقْبِضْ الثَّمَنَ لَمْ يَجُزْ قَبْضُهُ وَأُجْبِرَ الْمُشْتَرِي عَلَى أَدَائِهِ مَرَّةً أُخْرَى ، وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي نَقْضِ الْبَيْعِ عَلِمَ بِذَلِكَ ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ ، وَلَوْ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ ، وَلَمْ يَنْهَهُ عَنْ قَبْضِ الثَّمَنِ ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ إذَا بَاعَ فَلَا يَقْبِضُ الثَّمَنَ ، فَإِنَى نَهَيْته عَنْ ذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَ ، وَيَقْبِضَ الثَّمَنَ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ نَهْيُ الْقَاضِي ، وَمَعْنَى هَذَا الِاسْتِشْهَادُ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ أَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَإِذَا أَدْرَكَ الْيَتِيمُ مُفْسِدًا ، فَحَجَرَ الْقَاضِي عَلَيْهِ ، أَوْ لَمْ يَحْجُرْ فَسَأَلَ ، وَصِيَّهُ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ مَالَهُ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ ، فَضَاعَ فِي يَدِهِ ، أَوْ أَتْلَفَهُ فَالْوَصِيُّ ضَامِنٌ لِلْمَالِ ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الْمَالِ إلَى مَنْ هُوَ مُفْسِدٌ يَكُونُ تَضْيِيعًا لَهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ طَرَحَ الْوَصِيُّ مَالَهُ فِي مُهْلِكَةٍ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْوَصِيُّ أَوْدَعَهُ الْمَالَ إيدَاعًا ؛ لِأَنَّهُ تَسْلِيطٌ لَهُ عَلَى إتْلَافِهِ حِينَ مَكَّنَهُ مِنْهُ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الْوَصِيِّ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِهْلَاكِ لِمَالِهِ ، وَلَيْسَ هَذَا كَدَفْعِ الْوَصِيِّ مَالَ يَتِيمٍ مُصْلِحٍ لَمْ يَبْلُغْ إلَيْهِ وَدِيعَةً ، أَوْ لِيَبِيعَ بِهِ وَيَشْتَرِي بِهِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إذَا ضَاعَ مِنْهُ ، أَوْ ضَيَّعَهُ ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ الْمُصْلِحَ مَأْمُونٌ عَلَى نَفْسِهِ ، وَمَالِهِ .

( أَلَا تَرَى ) أَنَّ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ ، فَلَا يَكُونُ دَفْعُ الْمَالِ إلَى مِثْلِهِ تَضْيِيعًا لَهُ ، وَأَمَّا الْكَبِيرُ الْمُفْسِدُ ، فَدَفْعُ مَالِهِ إلَيْهِ مَا دَامَ هُوَ عَلَى فَسَادِهِ يَكُونُ تَضْيِيعًا لَهُ وَلِهَذَا لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ ، وَهُوَ عَالَمٌ بِأَنَّهُ فَاسِدٌ ، وَلَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ رُشْدٌ لَمْ يَجُزْ إذْنُهُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَالنَّظَرُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ الْمُصْلِحِ اخْتِبَارُهُ بِالْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { ، وَابْتَلُوا الْيَتَامَى } ، وَالنَّظَرُ فِي حَقِّ الْكَبِيرِ الْمُفْسِدِ مَنَعَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ ، وَمَنَعَ الْمَالَ مِنْهُ فَيَكُونُ دَفْعُ الْمَالِ إلَيْهِ ، وَالْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ خِلَافُ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي حَقِّهِ ، فَلَا يَنْفُذُ مِنْ الْوَصِيِّ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْغُلَامَ الْمُصْلِحَ لِمَالِهِ لَوْ رَفَعَ الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي وَكَانَ مِمَّنْ يَشْتَرِي ، وَيَبِيعُ وَيَرْبَحُ كَانَ الَّذِي يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَأْذَنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ ، وَلَوْ رَفَعَ هَذَا الْمُفْسِدُ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي ذَلِكَ ، فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ حَالُ الْوَصِيِّ فِيهِمَا ، وَلَوْ أَنَّ الْقَاضِيَ أَمَرَ هَذَا الْمُفْسِدَ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ ، وَيَشْتَرِي بِهِ ، فَفَعَلَ ذَلِكَ جَازَ ، وَكَانَ هَذَا إخْرَاجًا مِنْ الْقَاضِي لَهُ مِنْ الْحَجْرِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ مِنْهُ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ لِيَنْفُذَ مِنْهُ ، وَلَا يَنْفُذُ مِثْلُهُ مِنْ الْوَصِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْحُكْمِ ، فَإِنْ وَهَبَ ، أَوْ تَصَدَّقَ هَذَا الْمُفْسِدُ بِذَلِكَ الْمَالِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا دَفَعَ الْحَجْرَ عَنْهُ فِي التِّجَارَةِ خَاصَّةً .
، وَحُكْمُ الْقَاضِي يَتَقَيَّدُ تَنْفِيذُهُ ، فَبَقِيَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ فِيمَا لَيْسَ بِتِجَارَةٍ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ هَذَا الْإِذْنِ حَتَّى إذَا أَعْتَقَ الْغُلَامَ سَعَى الْغُلَامُ فِي قِيمَتِهِ ، وَإِنْ اشْتَرَى ، وَبَاعَ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ لَمْ يَجُزْ

؛ لِأَنَّ الْمُحَابَاةَ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ التَّبَرُّعَ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ وَإِنْ أَذِنَ لَهُ فِي بَيْعِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ ، أَوْ فِي شِرَاءِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ ، وَلَا أَنْ يَبِيعَ إلَّا الَّذِي أُذِنَ لَهُ فِيهِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ بِهَذَا الْإِذْنِ يُنِيبُهُ مَنَابَ نَفْسِهِ وَلَا يَرْفَعُ الْحَجْرَ عَنْهُ فِي شَيْءٍ ، فَإِنَّهُ لَمْ يُفَوِّضْ إلَيْهِ شَيْئًا مِنْ التَّصَرُّفِ إلَى رَأْيِهِ ، وَلَكِنْ رَأَى فِيهِ رَأْيَهُ ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَنُوبَ عَنْهُ فِي مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ رَفْعًا لِلْحَجْرِ عَنْهُ .
وَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي شِرَاءِ الْبُرِّ ، وَبَيْعِهِ خَاصَّةً دُونَ مَا سِوَاهُ مِنْ التِّجَارَاتِ كَانَ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَاتِ كُلِّهَا ؛ لِأَنَّ هَذَا الْإِذْنَ إطْلَاقٌ لِلْحَجْرِ عَنْهُ فِي التِّجَارَةِ فِي نَوْعٍ مُفَوِّضًا إلَى رَأْيِهِ ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمَوْلَى يَأْذَنُ لِعَبْدِهِ فِي نَوْعٍ مِنْ التِّجَارَةِ يَصِيرُ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَاتِ كُلِّهَا وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ شَيْئًا بِعَيْنِهِ لَا يَصِيرُ مَأْذُونًا ، وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ فِي حَقِّ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ .
وَالْفِقْهُ فِيهِ أَنَّ الْفَاسِدَ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ يَقْدِرُ عَلَى إفْسَادِ مَالِهِ فِيمَا أَذِنَ لَهُ مِنْ التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّ إتْلَافَ الْمَالِ بِطَرِيقِ التِّجَارَاتِ فِي الضَّرَرِ دُونَ إتْلَافِهِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ مِثْلَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِهِ ، فَلَيْسَ فِي تَقْيِيدِ الْإِذْنِ بِنَوْعٍ مِنْ التِّجَارَةِ مَعْنَى النَّظَرِ بِخِلَافِ التَّبَرُّعِ ، فَلَا يَكُونُ فَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي التِّجَارَةِ فَكًّا لِلْحَجْرِ عَنْهُ فِي التَّبَرُّعِ ، فَإِنْ قَالَ الْقَاضِي فِي السُّوقِ بِمَحْضَرٍ مِنْ أَهْلِهَا ، أَوْ بِمَحْضَرٍ مِنْ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ : قَدْ أَذِنْتُ لِهَذَا فِي التِّجَارَةِ ، وَلَا أُجِيزَ لَهُ مِنْهَا إلَّا مَا أَعْلَمُ أَنَّهُ اشْتَرَى ، أَوْ بَاعَ بِبَيِّنَةٍ ، فَأَمَّا مَا لَا يُعْلَمُ إلَّا بِإِقْرَارِهِ ، فَإِنِّي لَا أُجِيزُ عَلَيْهِ ، فَالْأَمْرُ عَلَى مَا قَالَ الْقَاضِي مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ تَقْيِيدَهُ فَكَّ الْحَجْرِ عَنْهُ بِمَا قَيَّدَهُ بِهِ

يَرْجِعُ إلَى النَّظَرِ لَهُ وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ فِي حَقِّ السَّفِيهِ بِمَا يَكُونُ فِيهِ تَوْفِيرُ النَّظَرِ عَلَيْهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِهِ بَعْدَ انْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ تَابِعًا إذَا لَمْ يُصَرِّحْ فِيهِ بِخِلَافِ مَا صَرَّحَ بِهِ فِي أَصْلِ تِجَارَتِهِ ، وَلَهُ وِلَايَةُ هَذَا التَّصْرِيحِ مَعَ بَقَاءِ فَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ ، فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ ، وَلَوْ لَمْ يَعْتَبِرْ هَذَا إنَّمَا لَا يُعْتَبَرُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ ، وَالْغُرُورِ عَمَّنْ يُعَامِلُهُ .
وَقَدْ انْدَفَعَ ذَلِكَ حِينَ جَعَلَ الْقَاضِي هَذَا الْقَيْدَ مَشْهُورًا كَإِشْهَارِ الْإِذْنِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْغُلَامِ الْمُصْلِحِ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ يَأْذَنُ لَهُ أَبُوهُ ، أَوْ وَصِيُّهُ فِي التِّجَارَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَوْ الْعَبْدُ يَأْذَنُ لَهُ مَوْلَاهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ حَيْثُ لَا يَلْزَمُهُمْ ، وَمَا أَقَرُّوا بِهِ مِثْلَ مَا يَلْزَمُهُمْ بِالْبَيِّنَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَلِيِّ ، وَلَا لِلْمَوْلَى وِلَايَةُ تَقْيِيدِ الْإِذْنِ بِمَا قَيَّدَهُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِ الْإِذْنِ فَيَلْغُو بِقَيْدِهِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ لِلْمَحْجُورِ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ ، وَفِي التَّقْيِيدِ تَوْفِيرُ النَّظَرِ ، فَيَسْتَقِيمُ مِنْ الْقَاضِي .
وَفِي حَقِّ مَنْ كَانَ مَأْمُونًا عَلَى مَالِهِ ، أَوْ فِي حَقِّ الْعَبْدِ لَيْسَ فِي هَذَا التَّقْيِيدِ مَعْنَى التَّطْوِيلِ بَلْ هُوَ تَقْيِيدٌ غَيْرُ مُفِيدٍ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى إذْنِ الْمَوْلَى لِتَتَعَلَّقَ دُيُونُهُ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتُهُ ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الدَّيْنِ الَّذِي يَثْبُتُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارٍ ، أَوْ بِالْبَيِّنَةِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَالْفَاسِدُ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ عَلَيْهِ - كُلُّ مَنْ كَانَ مُضَيِّعًا مَالَهُ مُفْسِدًا لَهُ لَا يُبَالِي مَا صَنَعَهُ مُنْتَفِعًا بِالسَّرَفِ فِي غَيْرِ مَنْفَعَةٍ عَلَى جِهَةِ الْمُجُونِ ، فَإِنْ كَانَ فَاسِدًا فِي دَيْنِهِ لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهِ مِنْ فُجُورِهِ ، وَلَا غَيْرَهُ إلَّا أَنَّهُ حَافِظٌ لِمَالِهِ حَسَنُ التَّدْبِيرِ لَهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ

الْحَجْرُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَاهُ لِإِبْقَاءِ الْمَالِ ، وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِي حَقِّ الْفَاسِدِ الَّذِي هُوَ حَسَنُ التَّدْبِيرِ فِي مَالِهِ إنَّمَا الْحَاجَةُ إلَيْهِ فِي حَقِّ الْمُبَذِّرِ الْمُتْلِفِ لِمَالِهِ .
وَلَوْ أَنَّ قَاضِيًا حَجَرَ عَلَى فَاسِدٍ يَسْتَحِقُّ الْحَجْرَ ، ثُمَّ رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ فَأَطْلَقَ عَنْهُ الْحَجْرَ وَأَجَازَ مَا كَانَ بَاعَ ، أَوْ اشْتَرَى ، وَلَمْ يَرَ حَجْرَ الْأَوَّلِ شَيْئًا ، فَأَبْطَلَ حَجْرَهُ جَازَ إطْلَاقُ هَذَا عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَوْ تَحَوَّلَ رَأْيُهُ فَأَطْلَقَ عَنْهُ الْحَجْرَ جَازَ فَكَذَلِكَ الثَّانِي ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ مُجْتَهِدٌ فِيهِ ، فَإِنَّهُ بَاطِلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَنَفْسُ الْقَضَاءِ مَتَى كَانَ مُجْتَهَدًا فِيهِ يُوقَفُ عَلَى إمْضَاءِ غَيْرِهِ فَإِذَا أَبْطَلَهُ بَطَلَ ، ثُمَّ الْحَجْرُ عَلَيْهِ لَمْ يَكُنْ قَضَاءً مِنْ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَسْتَدْعِي مَقْضِيًّا لَهُ وَمَقْضِيًّا عَلَيْهِ ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ نَظَرًا مِنْهُ لَهُ ، وَقَدْ رَأَى الْآخَرُ النَّظَرَ لَهُ فِي الْإِطْلَاقِ عَنْهُ فَيَنْفُذُ ذَلِكَ مِنْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنْ بُيُوعِهِ ، أَوْ شِرَائِهِ الْمُتَقَدِّمَةِ رُفِعَ إلَى الْقَاضِي الَّذِي يَرَى الْحَجْرَ عَلَيْهِ ، أَوْ إلَى قَاضٍ آخَرَ يَرَى الْحَجْرَ ، فَأَبْطَلَ مُبَايَعَاتِهِ ، ثُمَّ رُفِعَ إلَى هَذَا الْقَاضِي الْآخَرِ فَأَبْطَلَ قَضَاءَ الْأَوَّلِ ، وَأَجَازَ مَا كَانَ أَبْطَلَهُ ، ثُمَّ رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ يَرَى الْحَجْرَ ، أَوْ لَا يَرَاهُ ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُجِيزَ قَضَاءَ الْأَوَّلِ بِإِبْطَالِ مَا أَبْطَلَ مِنْ بُيُوعِهِ ، وَأَشْرِيَتِهِ وَيَبْطُلُ قَضَاءُ الثَّانِي فِيمَا أَبْطَلَهُ مِنْ قَضَاءِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْأَوَّلِ حَصَلَ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ فَنَفَذَ ذَلِكَ ، وَكَانَ ذَلِكَ قَضَاءً تَامًّا بِوُجُودِ الْمَقْضِيِّ لَهُ ، وَالْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ ، وَقَضَاءُ الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهَدَاتِ نَافِذٌ بِالِاتِّفَاقِ ، ثُمَّ الْإِبْطَالُ مِنْ الثَّانِي حَصَلَ بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ ؛

لِأَنَّهُ أَبْطَلَ قَضَاءً أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى نُفُوذِهِ وَقَضَاءُ الْقَاضِي بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ ، فَهَذَا يَبْطُلُ ، الثَّالِثُ - قَضَاءُ الْقَاضِي بِإِبْطَالِ قَضَاءِ الْأَوَّلِ ، وَيَمْضِي قَضَاءُ الْأَوَّلِ بِإِبْطَالِ مَا أَبْطَلَ مِنْ بُيُوعِهِ ، أَوْ أَشْرِيَتِهِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : اعْلَمْ بِأَنَّ الْإِذْنَ فِي التِّجَارَةِ فَكُّ الْحَجْرِ الثَّابِتِ بِالرِّقِّ شَرْعًا وَرَفْعُ الْمَانِعِ مِنْ التَّصَرُّفِ حُكْمًا وَإِثْبَاتُ الْيَدِ لِلْعَبْدِ فِي كَسْبِهِ بِمَنْزِلَةِ الْكِتَابَةِ لَا أَنَّ الْكِتَابَةَ لَازِمَةٌ ؛ لِأَنَّهَا بِعِوَضٍ ، وَالْإِذْنُ لَا يَكُونُ لَازِمًا فَخَلُّوهُ عَنْ الْعِوَضِ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْكِ الْمُسْتَفَادِ بِالْهِبَةِ مَعَ الْمُسْتَفَادِ بِالْبَيْعِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلتَّصَرُّفِ بَعْدَ حُدُوثِ الرِّقِّ فِيهِ كَمَا كَانَ قَبْلَهُ ؛ لِأَنَّ رُكْنَ التَّصَرُّفِ كَلَامٌ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ مِنْ الرَّقِيقِ وَاعْتِبَارُ الْكَلَامِ بِكَوْنِهِ صَادِرًا عَنْ مُمَيَّزٍ أَوْ مُخَاطَبٍ وَلَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ بِالرِّقِّ وَمَحِلُّ التَّصَرُّفَاتِ ذِمَّةٌ صَالِحَةٌ لِالْتِزَامِ الْحُقُوقِ وَلَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ بِالرِّقِّ فَإِنَّ صَلَاحِيَّةَ الذِّمَّةِ لِلِالْتِزَامِ مِنْ كَرَامَاتِ الْبَشَرِ وَبِالرِّقِّ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْبَشَرِ إلَّا أَنَّ الذِّمَّةَ تَضْعُفُ بِالرِّقِّ فَلَا يَجِبُ الْمَالُ فِيهَا إلَّا شَاغِلًا مَالِيَّةَ الرَّقَبَةِ وَذَلِكَ يَسْقُطُ بِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهُ لِتَعَلُّقِ الْحَقِّ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ فَكَانَ الْإِذْنُ فَكًّا لِلْحَجْزِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَهُوَ نَظِيرُ مِلْكِ الْحِلِّ فَإِنَّهُ مِنْ كَرَامَاتِ الْبَشَرِ فَلَا يَنْعَدِمُ بِالرِّقِّ ، وَإِنْ كَانَ يُنْتَقَصُ حَتَّى أَنَّ الْحِلَّ فِي حَقِّ الرَّقِيقِ نِصْفُ مَا هُوَ فِي حَقِّ الْحُرِّ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ .

وَإِنَّمَا يَنْعَدِمُ بِالرِّقِّ الْأَهْلِيَّةُ لِمَالِكِيَّةِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِهِ مَمْلُوكًا مَالًا وَبَيْنَ كَوْنِهِ مَمْلُوكًا مَالًا وَكَوْنِهِ مَالِكًا لِلْمَالِ مُنَافَاةٌ ؛ وَلِهَذَا لَا يَنْعَدِمُ بِالرِّقِّ الْأَهْلِيَّةُ لِلْمَالِكِيَّةِ بِالنِّكَاحِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ بِهِ مَمْلُوكًا نِكَاحًا .
فَإِنْ قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْعَدِمَ بِالرِّقِّ الْأَهْلِيَّةُ لِمِلْكِ التَّصَرُّفِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَمْلُوكًا تَصَرُّفًا فَإِنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ التَّصَرُّفَاتِ عَلَيْهِ .
قُلْنَا إنَّمَا يَصِيرُ مَمْلُوكًا تَصَرُّفًا بِنَفْسِهِ بَيْعًا أَوْ تَزْوِيجًا فَلَا جَرَمَ تَنْعَدِمُ الْأَهْلِيَّةُ لِمَالِكِيَّةِ هَذَا التَّصَرُّفِ وَيَكُونُ نَائِبًا فِيهِ عَنْ الْمَوْلَى مَتَى بَاشَرَ بِأَمْرِهِ وَلَكِنَّهُ مَا صَارَ مَمْلُوكًا تَصَرُّفًا فِي ذِمَّتِهِ حَتَّى أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ بِثَمَنٍ يَجِبُ فِي ذِمَّةِ عَبْدِهِ ابْتِدَاءً فَتَبْقَى لَهُ الْأَهْلِيَّةُ فِي مِلْكِ هَذَا التَّصَرُّفِ كَمَا أَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مَمْلُوكًا تَصَرُّفُهُ عَلَيْهِ فِي الْإِقْرَارِ ، وَالْحُدُودِ ، وَالْقِصَاصِ بَقِيَ مَالِكًا لِهَذَا التَّصَرُّفِ فَإِنْ قِيلَ انْعِدَامُ الْأَهْلِيَّةِ لِخُرُوجِهِ بِالرِّقِّ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِحُكْمِ التَّصَرُّفِ وَهُوَ الْمِلْكُ الْمُسْتَفَادُ ، وَالتَّصَرُّفَاتُ الشَّرْعِيَّةُ لَا تُرَادُ لِعَيْنِهَا بَلْ لِحُكْمِهَا وَهُوَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَلِكَ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ وَحُكْمُ التَّصَرُّفِ مِلْكُ الْيَدِ ، وَالرَّقِيقُ أَهْلٌ لِذَلِكَ .
( أَلَا تَرَى ) : أَنَّ اسْتِحْقَاقَ مِلْكِ الْيَدِ يَثْبُتُ لِلْمُكَاتَبِ مَعَ قِيَامِ الرِّقِّ فِيهِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ مَعَ الرِّقِّ أَهْلٌ لِلْحَاجَةِ فَيَكُونُ أَهْلًا لِقَضَائِهَا وَأَدْنَى طَرِيقِ الْحَاجَةِ مِلْكُ الْيَدِ فَهُوَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ لِلتَّصَرُّفِ وَمِلْكُ الْعِتْقِ مَشْرُوعٌ لِلتَّوَصُّلِ إلَيْهِ فَمَا هُوَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ يَثْبُتُ لِلْعَبْدِ وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ يَخْلُفُهُ الْمَوْلَى فِيهِ وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ ، ثُمَّ مَاتَ فَمَتَى اخْتَارَ الْبَائِعُ الْبَيْعَ ثَبَتَ مِلْكُ

الْعَيْنِ لِلْوَارِثِ عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْمُوَرِّثِ بِتَصَرُّفٍ بَاشَرَهُ الْمُوَرِّثُ بِنَفْسِهِ ، ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الْإِذْنِ لِلْعَبْدِ فِي التِّجَارَةِ شَرْعًا الْآثَارُ الَّتِي بَدَأَ بِهَا الْكِتَابَ .
فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ إبْرَاهِيمَ أَنَّ { رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَرْكَبُ الْحِمَارَ وَيُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ } ، وَفِيهِ دَلِيلُ تَوَاضُعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ رُكُوبَ الْحِمَارِ مِنْ التَّوَاضُعِ وَقَدْ كَانَ يَعْتَادُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى رُوِيَ { أَنَّهُ رَكِبَ الْحِمَارَ مُعْرَوْرِيًا } وَرُوِيَ { أَنَّهُ رَكِبَ الْحِمَارَ وَأَرْدَفَ } وَذَلِكَ مِنْ التَّوَاضُعِ ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { بَرِيءٌ مِنْ الْكِبْرِ مَنْ رَكِبَ الْحِمَارَ وَسَعَى فِي مِهْنَةِ أَهْلِهِ } ، وَفِي لِسَانِ النَّاسِ رُكُوبُ الْفَرَسِ عِزٌّ ، وَرُكُوبُ الْجِمَالِ كَمَالٌ ، وَرُكُوبُ الْبَغْلِ مَكْرَمَةٌ وَرُكُوبُ الْحِمَارِ ذُلٌّ وَلَا ذُلَّ كَالتَّرَجُّلِ وَكَذَلِكَ إجَابَةُ دَعْوَةِ الْمَمْلُوكِ مِنْ التَّوَاضُعِ وَقَدْ فَعَلَهُ غَيْرَ مَرَّةٍ عَلَى مَا رُوِيَ { عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَجَابَ دَعْوَةَ عَبْدٍ } .
وَرُوِيَ { أَنَّهُ كَانَ يُجِيبُ دَعْوَةَ الرَّجُلِ الدُّونِ يَعْنِي الْمَمْلُوكَ } ، وَالْمَمْلُوكُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إيجَادِ الدَّعْوَةِ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ كَسْبٌ وَطَرِيقُ الِاكْتِسَابِ التِّجَارَةُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُبَاشِرَهَا بِدُونِ إذْنِ الْمَوْلَى فَثَبَتَ بِهَذَا الْحَدِيثِ جَوَازُ الْإِذْنِ فِي التِّجَارَةِ ، وَأَنَّ مَا يَكْسِبُهُ الْعَبْدُ بَعْدَ الْإِذْنِ حَلَالٌ ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونِ بِأَنْ يَتَّخِذَ الدَّعْوَةَ بَعْدَ أَنْ لَا يُسْرِفَ فِي ذَلِكَ وَلَا بَأْسَ بِإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ كَانَ يُجِيبُ الدَّعْوَةَ وَكَانَ يَقُولُ { مَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ } .

، وَعَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ يَجُوزُ عَلَى الْعَبْدِ كُلُّ دَيْنٍ حَتَّى يُحْجَرَ عَلَيْهِ وَكَانَ يَقُولُ إذَا حَجَرَ الرَّجُلُ عَلَى عَبْدِهِ فِي أَهْلِ سُوقِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَمَعْنَاهُ يَلْزَمُهُ كُلُّ دَيْنٍ يَكْتَسِبُ سَبَبَ وُجُوبِهِ مِمَّا هُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ كَالْإِقْرَارِ ، وَالِاسْتِئْجَارِ ، وَالشِّرَاءِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي التِّجَارَةِ فَهُوَ مَنْ الْتَزَمَ الدَّيْنَ بِسَبَبِهِ كَالْحُرِّ وَإِذَا حَجَرَ الْمَوْلَى عَلَيْهِ فِي أَهْلِ سُوقِهِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَيْ لَا يَلْزَمُهُ الدَّيْنُ بِمُبَاشَرَةِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ بَعْدَ الْحَجْرِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى لِانْعِدَامِ الرِّضَا مِنْهُ بِاسْتِحْقَاقِ مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ بِالدَّيْنِ بَعْدَ الْحَجْرِ وَلَا يَجِبُ الدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ إلَّا شَاغِلًا لِمَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ فَإِذَا كَانَ لَا يَسْتَحِقُّ مَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ بِهِ بَعْدَ الْحَجْرِ فَكَأَنَّهُ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ .
، وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّ الْحَجْرَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَامًّا مُنْتَشِرًا ، وَأَنَّ الِانْتِشَارَ فِيهِ بِكَوْنِهِ فِي أَهْلِ سُوقِهِ فَأَنَّهُ رَفَعَ الْإِذْنَ الَّذِي هُوَ عَامٌّ مُنْتَشِرٌ ، وَفِي تَصْحِيحِهِ بِدُونِ الِانْتِشَارِ مَعْنَى الْإِضْرَارِ ، وَالْغُرُورِ كَمَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ رَأَيْتُ لِلْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عِشْرِينَ عَبْدًا كُلَّهُمْ يَتَّجِرُ بِعَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ فَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ الْإِذْنِ ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِاكْتِسَابِ الْغِنَى ، وَالِاسْتِكْثَارِ مِنْ الْمَالِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مِنْ حِلِّهِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ السَّلَامُ { نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ } ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى غِنَى الْعَبَّاسِ فَإِنَّ مَنْ كَانَ لَهُ عِشْرُونَ عَبْدًا رَأْسُ مَالِ كُلِّ عَبْدٍ عَشَرَةٌ آلَافٍ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِ التِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا وَكَانَ سَبَبُ ثَرْوَتِهِ أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ دَنَانِيرَ فِي

الْفِدَاءِ حِينَ أُسِرَ فَلِمَا أَسْلَمَ وَحَسُنَ إسْلَامُهُ كَانَ يَتَأَسَّفُ عَلَى ذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ الْأَسْرَى إنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ } وَكَانَ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُظْهِرُ السُّرُورَ بِغِنَاهُ وَيَقُولُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَنِي بِشَيْئَيْنِ الْغِنَى فِي الدُّنْيَا ، وَالْمَغْفِرَةَ فِي الْآخِرَةِ وَقَدْ أَنْجَزَ لِي أَحَدَهُمَا وَأَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَحْرِمَنِي مِنْ الْآخَرِ إنَّهُ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ .

، وَعَنْ الشَّعْبِيِّ قَالَ إذَا أَخَذَ الرَّجُلُ مِنْ عَبْدِهِ الضَّرِيبَةَ فَهِيَ تِجَارَةٌ وَبِهِ نَأْخُذُ فَإِنْ الْمَوْلَى اسْتَأْدَى عَبْدَهُ الضَّرِيبَةَ فَذَلِكَ إذْنٌ مِنْهُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَدَاءِ إلَّا بِتَحْصِيلِ الْمَالِ وَلِتَحَصُّلِهِ طَرِيقَانِ التَّكَدِّي ، وَالتِّجَارَةُ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَقْصِدُ تَحْصِيلَهُ الْمَالَ بِالتَّكَدِّي فَالسُّؤَالُ يُدْنِي الْمَرْءَ وَيَبْخَسُهُ ، قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { السُّؤَالُ آخِرُ كَسْبِ الْعَبْدِ } أَيْ يَبْقَى فِي ذُلِّهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ الِاكْتِسَابُ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ وَرِضَاهُ بِالتِّجَارَةِ يَتَضَمَّنُ الرِّضَا مِنْهُ بِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ الْوَاجِبِ بِالتِّجَارَةِ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ فَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْإِذْنَ فِي التِّجَارَةِ ثَبَتَ بِالدَّلَالَةِ كَمَا ثَبَتَتْ نَصًّا .

، وَعَنْ شُرَيْحٍ فِي عَبْدٍ تَاجِرٍ لَحِقَهُ دَيْنٌ أَنَّهُ يُبَاعُ فِيهِ وَبِهِ نَأْخُذُ فَإِنَّ كُلَّ دَيْنٍ ظَهَرَ وُجُوبُهُ عَلَى الْعَبْدِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى يُبَاعُ فِيهِ كَدَيْنِ الِاسْتِهْلَاكِ فَإِنَّهُ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ مَحْسُوسٌ لَا يَنْعَدِمُ بِالْحَجْرِ بِسَبَبِ الرِّقِّ فَكَذَلِكَ دَيْنُ التِّجَارَةِ بَعْدَ الْإِذْنِ يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى فَيُبَاعُ فِيهِ ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَاعَ رَجُلًا فِي دَيْنِهِ يُقَالُ لَهُ سَرَفٌ } فَحِينَ كَانَ بَيْعُ الْحُرِّ جَائِزًا بَاعَ الْحُرُّ فِي دَيْنِهِ وَبَيْعُ الْعَبْدِ جَائِزٌ فِي الْحَالِ فَيُبَاعُ فِي كُلِّ دَيْنٍ يَظْهَرُ وُجُوبَهُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى .
، وَعَنْ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى عَلَى عَبْدِ رَجُلٍ دَيْنًا فَقَالَ الرَّجُلُ عَبْدِي مَحْجُورٌ عَلَيْهِ ، وَقَالَ شُرَيْحٌ : شَاهِدَا عَدْلٍ أَنَّهُ كَانَ يَشْتَرِي فِي السُّوقِ وَيَبِيعُ بِعِلْمِهِ أَوْ بِأَمْرِهِ فَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْمَوْلَى إذَا أَنْكَرَ الْإِذْنَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَعَلَى مِنْ يَدَّعِي عَلَيْهِ الْإِذْنَ أَنْ يُثْبِتَهُ بِالْبَيِّنَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ أَنَّهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ عَنْ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْإِذْنَ يُثْبِتُهُ بِالدَّلَالَةِ ، وَأَنَّ مَنْ رَأَى عَبْدَهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَلَمْ يَنْهَهُ فَإِنَّهُ يَصِيرُ بِهِ مَأْذُونًا بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ بِالْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَذَلِكَ اسْتِحْسَانٌ عِنْدَنَا لِدَفْعِ الضَّرَرِ ، وَالْغُرُورِ عَنْ النَّاسِ .
، وَعَنْ أَبِي عَوْنٍ الثَّقَفِيِّ أَنَّ رَجُلًا أَذِنَ لِعَبْدِهِ أَنْ يَكُونَ خَيَّاطًا وَأَذِنَ آخَرُ لِعَبْدِهِ أَنْ يَكُونَ صَبَّاغًا فَأَجَازَ شُرَيْحٌ عَلَى الْخَيَّاطِ ثَمَنُ الْإِبَرِ ، وَالْخُيُوطِ وَأَجَازَ عَلَى الصَّبَّاغِ ثَمَنُ الْغَلِيِّ ، وَالْعُصْفُرِ وَمَا كَانَ فِي عَمَلِهِ ، وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّ مَبْنَى الْإِذْنِ عَلَى التَّعَدِّي ، وَالِانْتِشَارِ ، وَأَنَّ الْمَوْلَى ، وَإِنْ خَصَّ نَوْعًا مِنْهُ فَإِنَّهُ يَتَعَدَّى إلَى سَائِرِ الْأَنْوَاعِ لِاتِّصَالِ بَعْضِ الْأَنْوَاعِ بِالْبَعْضِ

فِيمَا يَرْجِعُ إلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْمَوْلَى فَإِنَّ الصَّبَّاغَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا بِشِرَاءِ الصَّبْغِ ، وَالْخَيَّاطَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا بِشِرَاءِ السِّلْكِ ، وَالْإِبْرَةِ وَالْخُيُوطِ ، ثُمَّ قَدْ لَا يَجِدُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ يُبَاعُ بِالنَّقْدِ لِيَشْتَرِيَهُ ، وَإِنَّمَا يُبَاعُ ذَلِكَ بِالطَّعَامِ فَيَحْتَاجُ أَنْ يَشْتَرِيَ طَعَامًا لِيُعْطِيَهُ فِي ثَمَنِ ذَلِكَ وَرُبَّمَا يَشْتَرِي ذَلِكَ بِالدَّنَانِيرِ فَيَحْتَاجُ إلَى مُصَارَفَةِ الدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ لِيَحْصُلَ الثَّمَنُ فَعَرَفْنَا أَنَّ مَبْنَاهُ عَلَى التَّعَدِّي ، وَالِانْتِشَارِ فَيَتَعَدَّى الْإِذْنُ فِي نَوْعٍ إلَى سَائِرِ الْأَنْوَاعِ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ يَأْخُذُ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ فَيَقُولُ يَجُوزُ عَلَيْهِ مَا كَانَ مِنْ تَوَابِعِ عَمَلِهِ خَاصَّةً وَعِنْدَنَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مَا كَانَ مِنْ تَوَابِعِ عَمَلِهِ ، وَمَا اسْتَدَارَ فِي غَيْرِهِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ حَدَّثَنِي سَلْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ { أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَبْدٌ قَبْلَ أَنْ يُكَاتَبَ فَقَبِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيَّتَهُ فَأَكَلَ وَأَكَلَ أَصْحَابُهُ وَأَتَاهُ بِصَدَقَةٍ فَقَبِلَهَا وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا وَلَمْ يَأْكُلْ } .
( قَالَ الشَّيْخُ ) الْإِمَامُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاعْلَمْ أَنَّ سَلْمَانَ كَانَ مِنْ قَوْمٍ يَعْبُدُونَ الْخَيْلَ الْبُلْقَ فَوَقَعَ عِنْدَهُ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى شَيْءٍ وَجَعَلَ يَتَنَقَّلُ مِنْ دِينٍ إلَى دِينٍ يَطْلُبُ الْحَقَّ حَتَّى قَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الصَّوَامِعِ لَعَلَّكَ تَطْلُبُ الْحَنِيفِيَّةَ وَقَدْ قَرُبَ أَوَانُهَا وَعَلَيْكَ بِيَثْرِبَ ، وَمِنْ عَلَامَتِهِ أَنَّهُ يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ وَلَا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ فَتَوَجَّهَ نَحْوَ الْمَدِينَةِ فَاسْتَرَقَّهُ بَعْضُ الْعَرَبِ فِي الطَّرِيقِ وَجَاءَ بِهِ إلَى الْمَدِينَةِ فَبَاعَهُ مِنْ بَعْضِ الْيَهُودِ وَكَانَ يَعْمَلُ فِي نَخِيلِ مَوْلَاهُ بِإِذْنِهِ حَتَّى هَاجَرَ رَسُولُ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْمَدِينَةِ { فَأَتَاهُ سَلْمَانُ بِطَبَقٍ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ : مَا هَذَا يَا سَلْمَانُ ؟ فَقَالَ : صَدَقَةٌ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ : كُلُوا وَلَمْ يَأْكُلْ ، فَقَالَ سَلْمَانُ فِي نَفْسِهِ هَذِهِ وَاحِدَةٌ ، ثُمَّ أَتَاهُ مِنْ الْغَدِ بِطَبَقٍ فِيهِ رُطَبٌ ، فَقَالَ مَا هَذَا يَا سَلْمَانُ ؟ قَالَ هَدِيَّةٌ فَجَعَلَ يَأْكُلُ وَيَقُولُ لِأَصْحَابِهِ : كُلُوا فَقَالَ سَلْمَانُ : هَذِهِ أُخْرَى ، ثُمَّ تَحَوَّلَ خَلْفَهُ فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُرَادَهُ فَأَلْقَى الرِّدَاءَ عَنْ كَتِفَيْهِ حَتَّى نَظَرَ سَلْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ فَأَسْلَمَ } .
وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّ لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونَ أَنْ يَهْدِيَ فَقَدْ قَبِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَدِيَّتَهُ وَلِأَجْلِ هَذَا أَوْرَدَ هَذَا الْحَدِيثَ .
وَذُكِرَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أُسَيْدَ قَالَ بَنَيْتُ بِأَهْلِي وَأَنَا عَبْدٌ فَدَعَوْتُ رَهْطًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ أَبُو ذَرٍّ فَحَضَرَتْ الصَّلَاةُ فَتَقَدَّمَ أَبُو ذَرٍّ فَقَالُوا لَهُ : أَتَتَقَدَّمُ وَأَنْتَ فِي بَيْتِهِ فَقَدَّمُونِي وَصَلَّيْتُ بِهِمْ ، وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّ لِلْعَبْدِ الْمَأْذُونِ أَنْ يَتَّخِذَ الدَّعْوَةَ فِي الْعُرْسِ كَمَا يَتَّخِذُ الدَّعْوَةَ لِلْمُجَاهِدِينَ إذَا أَتَوْهُ بِتِجَارَةٍ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجَابُوا دَعْوَتَهُ وَأَبُو ذَرٍّ مَعَ زُهْدِهِ أَجَابَ دَعْوَتَهُ وَهُوَ عَبْدٌ .
وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يَؤُمَّ غَيْرَهُ فِي بَيْتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ فَإِنَّهُمْ أَنْكَرُوا عَلَى أَبِي ذَرٍّ التَّقَدُّمَ عَلَيْهِ فِي بَيْتِهِ وَبَيَانُهُ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَؤُمُّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ فِي سُلْطَانِهِ وَلَا يَجْلِسُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ } ، وَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ الِاقْتِدَاءِ بِالْعَبْدِ ، وَأَنَّهُ مَتَى كَانَ فَقِيهًا وَرِعًا فَلَا بَأْسَ بِإِمَامَتِهِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ أَبَا ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ

عَنْهُ مَعَ زُهْدِهِ قَدَّمَهُ وَاقْتَدَى بِهِ لِفِقْهِهِ وَوَرِعِهِ .

وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِعَبْدِهِ قَدْ أَذَنْتُ لَكَ فِي التِّجَارَةِ فَهُوَ مَأْذُونٌ لَهُ فِي التِّجَارَاتِ كُلِّهَا لِإِطْلَاقِ الْإِذْنِ مِنْ الْمَوْلَى فَلَا حَاجَةَ فِي تَصْحِيحِ الْإِذْنِ إلَى التَّنْصِيصِ عَلَى أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ فَكٌّ لِلْحَجْرِ كَالْكِتَابَةِ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الْمَوْلَى عَادَةً أَنْ يُحَصِّلَ الْعَبْدُ الرِّبْحَ بِكَسْبِهِ وَاعْتِبَارُ إذْنِهِ شَرْعًا لِيَتَحَقَّقَ بِهِ الرِّضَا مِنْ الْمَوْلَى لِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ الْوَاجِبِ بِالتِّجَارَةِ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ وَهَذَا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ وَاشْتِرَاطِ مَالًا يُفِيدُ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ التَّوْكِيلِ فَالْمَقْصُودُ هُنَاكَ قِيَامُ الْوَكِيلِ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ فِي تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ فِي الْعَيْنِ الَّتِي يَشْتَرِيهَا وَلَا يَقْدِرُ الْوَكِيلُ عَلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ بِمُطْلَقِ التَّوْكِيلِ قَبْلَ التَّنْصِيصِ عَلَى جِنْسِ مَا يَشْتَرِيهِ لَهُ ، ثُمَّ لِلْعَبْدِ أَنْ يَشْتَرِيَ مَا بَدَا لَهُ مِنْ أَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُنْفَكَّ الْحَجْرِ عَنْهُ وَتَمَّ رِضَا الْمَوْلَى بِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ ، وَهُوَ فِي أَصْلِ الِالْتِزَامِ مُتَصَرِّفٌ فِي ذِمَّتِهِ هُوَ حَقُّهُ مِنْ تَعَامُلِهِ ، وَإِنَّمَا نُوجِبُ الْمِلْكَ لَهُ فِي مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ لَهُ فَيَكُونُ صَحِيحًا وَلَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ الْأُجَرَاءَ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِئْجَارَ مِنْ أَنْوَاعِ التِّجَارَاتِ وَلِأَنَّ الْمَأْذُونَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ فَإِنَّهُ يَعْجِزُ عَنْ إقَامَةِ بَعْضِ الْأَعْمَالِ بِنَفْسِهِ وَرُبَّمَا لَا يَجِدُ مِنْ يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ حِسْبَةً فَيَحْتَاجُ إلَى اسْتِئْجَارِ الْإِجْرَاءَ لِإِقَامَةِ الْأَعْمَالِ الَّتِي بِهَا يَتِمُّ مَقْصُودُهُ وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ فِيمَا بَدَا لَهُ مِنْ الْأَعْمَالِ عِنْدَنَا .
وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ كَسْبَهُ ؛ لِأَنَّ عَبْدَهُ الْمَأْذُونَ نَائِبٌ عَنْ الْمَوْلَى فِي التَّصَرُّفِ وَهُوَ إنَّمَا جَعَلَهُ نَائِبًا فِي التَّصَرُّفِ فِي كَسْبِهِ ، وَمَنَافِعُ بَدَنِهِ لَيْسَ مِنْ

كَسْبِهِ وَتَصَرُّفُهُ فِيهِ بَعْدَ الْإِذْنِ كَمَا قَبِلَهُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ رَقَبَتَهُ لَيْسَتْ مِنْ كَسْبِهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بَيْعَهَا وَلَا رَهْنَهَا بِدَيْنٍ عَلَيْهِ وَمَا لَيْسَ مِنْ كَسْبِهِ فَهُوَ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِالْإِجَازَةِ كَسَائِرِ مَمَالِيكِهِ وَأَمَّا عِنْدَنَا فَالْإِذْنُ فَكُّ الْحَجْرِ عَنْ الْمَأْذُونِ فَكَانَ كَالْكِتَابَةِ وَلَا يُقَالُ الْكِتَابَةُ يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ وَالْإِذْنُ فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِئْجَارِ ، وَالِاسْتِعَارَةِ وَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُؤَاجِرَ وَلَيْسَ لِلْمُسْتَعِيرِ ذَلِكَ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ التَّصَرُّفِ لَا يَخْتَلِفُ لِكَوْنِهِ لَازِمًا أَوْ غَيْرَ لَازِمٍ كَالْبَيْعِ مَعَ الْهِبَةِ فَإِنَّ مَحَلَّ التَّصَرُّفَيْنِ وَاحِدٌ وَهُوَ الْعَيْنُ ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَلْزَمُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ الْمُوجِبُ الرُّجُوعَ لِكَوْنِهِ مُعَاوَضَةً ، وَالْأَجْرُ لَا يَلْزَمُ وَنَحْنُ إنَّمَا شَبَّهْنَا الْإِذْنَ بِالْكِتَابَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ فَكُّ الْحَجْرِ ، ثُمَّ انْفِكَاكُ الْحَجْرِ يَثْبُتُ لَهُ الْيَدُ عَلَى مَنَافِعِهِ فَيَمْلِكُ الِاعْتِيَاضَ عَلَيْهَا كَمَا مَلَكَهُ الْمُكَاتَبُ وَلَمَّا كَانَ لِلْمَأْذُونِ أَنْ يُعَيِّنَ غَيْرَهُ لِمَنَافِعِهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ أَقْرَبُ إلَى مَقْصُودِ الْمَوْلَى مِنْ الْإِعَانَةِ وَهُوَ أَلْيَقُ بِحَالِ الْمَأْذُونِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ الْمُعَاوَضَاتِ دُونَ التَّبَرُّعَاتِ ، وَالْمُسْتَعِيرُ إنَّمَا لَا يُؤَاجِرُ لِمَا فِيهِ مِنْ إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالْغَيْرِ مِنْ حَيْثُ اسْتِحْقَاقُ الْيَدِ عَلَيْهِ فِي الْعَيْنِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هَهُنَا ، ثُمَّ إجَارَةُ النَّفْسِ نَوْعُ تِجَارَةٍ ؛ لِأَنَّ رُءُوسَ التِّجَارَةِ وَهُمْ الْبَاعَةُ يُؤَاجِرُونَ أَنْفُسَهُمْ لِلْعَمَلِ ، وَالْمَوْلَى حِينَ أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهَا إلَّا بِرَأْسِ مَالٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ جَعَلَ رَأْسَ مَالِهِ مَنَافِعَهُ وَطَرِيقَ تَحْصِيلِ الْمَالِ مِمَّا جَعَلَ لَهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ الْإِجَارَةِ ، وَإِنَّمَا لَا يَبِيعُ

نَفْسَهُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَفْوِيتِ مَقْصُودِ الْمَوْلَى وَلِأَنَّ حُكْمَهُ ضِدُّ حُكْمِ الْإِذْنِ فَإِنَّ بَيْعَ الرَّقَبَة إذَا صَحَّ أَوْجَبَ الْحَجْرَ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ بَاعَهُ الْمَوْلَى فَكَذَلِكَ لَا يَرْهَنُ نَفْسَهُ ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الرَّهْنِ ضِدُّ مُوجِبِ الْإِذْنِ فَإِنَّ الرَّهْنَ يُوجِبُ يَدًا مُسْتَحَقَّةً عَلَيْهِ لِلْمُرْتَهِنِ عَلَى وَجْهٍ يَمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الرَّهْنِ ضِدُّ مُوجِبِ الْإِذْنِ فَإِنَّ الرَّهْنَ يُوجِبُ الْإِذْنَ فَإِنَّ الرَّهْنَ يُوجِبُ يَدًا مُسْتَحَقَّةً عَلَيْهِ لِلْمُرْتَهِنِ عَلَى وَجْهٍ يَمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَلَا يُسْتَفَادُ مَا لَيْسَ مِنْ مُوجِبٍ ضِدُّهُ مُوجِبُهُ .
وَأَمَّا إجَارَةُ النَّفْسِ فَلَا تُوجِبُ الْحَجْرَ عَلَيْهِ وَلَا تَمْنَعُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَجَرَهُ الْمَوْلَى لَمْ يَصِرْ مَحْجُورًا ؛ فَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ أَنْ يُؤَاجِرَ كَسْبَهُ وَلَهُ أَنْ يَتَقَبَّلَ الْأَرْضَ وَيَأْخُذَهَا مُزَارَعَةً كَمَا يَأْخُذُ الْحُرُّ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِ صَاحِبِ الْأَرْضِ فَالْمَأْذُونُ مُؤَاجِرُ نَفْسِهِ لِلْعَمَلِ بِبَعْضِ الْخَارِجِ ، وَإِنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ قِبَلِهِ فَهُوَ مُسْتَأْجِرٌ الْأَرْضَ بِبَعْضِ الْخَارِجِ وَذَلِكَ أَنْفَعُ مِنْ الِاسْتِئْجَارِ بِالدَّرَاهِمِ فَإِنَّ هُنَاكَ الْأَجْرُ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ سَوَاءٌ حَصَلَ الْخَارِجُ أَوْ لَمْ يَخْرُجْ وَهُنَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يَحْصُلْ الْخَارِجُ فَإِذَا مَلَكَ اسْتِئْجَارَهُ بِبَعْضِ الدَّرَاهِمِ فَبِبَعْضِ الْخَارِجِ أَوْلَى وَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ طَعَامًا لِيَزْرَعَهُ فِي أَرْضِهِ ؛ لِأَنَّ الزِّرَاعَةَ مِنْ التِّجَارَةِ ، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { الزَّارِعُ يُتَاجِرُ رَبُّهُ } ، وَالتُّجَّارُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ عَادَةً قَالَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ طَعَامًا إلَى رَجُلٍ لِيَزْرَعَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ فِي أَرْضِهِ بِالنِّصْفِ قَالَ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَرْضًا وَلَيْسَ لِلْمَأْذُونِ أَنْ يُقْرِضَ ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ تَبَرُّعٌ ، قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ : وَهَذَا التَّعْلِيلُ غَلَطٌ إنَّمَا الصَّحِيحُ مِنْ التَّعْلِيلِ

أَنَّ هَذَا دَفَعَ الْبَذْرَ مُزَارَعَةً ، وَدَفْعُ الْبَذْرِ مُزَارَعَةً وَحْدَهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْبَذْرِ مُسْتَأْجِرٌ الْأَرْضَ ، وَشَرْطُ الْإِجَارَةِ التَّخْلِيَةُ بَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ وَبَيْنَ مَا اسْتَأْجَرَهُ ، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ إذَا كَانَ الْعَامِلُ صَاحِبَ الْأَرْضِ قَالَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ إذَا دَفَعَ الطَّعَامَ إلَى رَبِّ الْأَرْضِ مُزَارَعَةً بِالنِّصْفِ فَزَرَعَهُ كَانَ الْخَارِجُ كُلُّهُ لِرَبِّ الْأَرْضِ وَهُوَ ضَامِنٌ لِلْعَبْدِ طَعَامًا مِثْلَ طَعَامِهِ .
هَكَذَا ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ ، وَفِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ قَالَ إذَا دَفَعَ الْبَذْرَ مُزَارَعَةً إلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ فَالْخَارِجُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ وَلِلْعَامِلِ أَجْرُ مِثْلِهِ وَأَجْرُ مِثْلِ أَرْضِهِ ، وَقِيلَ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَانِ أَصَحُّهُمَا مَا قَالَ فِي الْمُزَارَعَةِ ؛ لِأَنَّ الْخَارِجَ نَمَاءُ الْبَذْرِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْبَذْرِ يَكُونُ لِصَاحِبِ الْبَذْرِ وَوَجْهُ مَا قَالَ هُنَا أَنَّ صَاحِبَ الْبَذْرِ إنَّمَا يَرْضَى بِإِلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ بِطَرِيقِ الْمُزَارَعَةِ بِالنِّصْفِ فَبِدُونِ ذَلِكَ الطَّرِيقِ لَا يَكُونُ رَاضِيًا بَلْ الزَّارِعُ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ لِبَذْرِهِ .
وَمَنْ غَصَبَ مِنْ آخَرَ بَذْرًا وَزَرَعَهُ فِي أَرْضِهِ كَانَ الْخَارِجُ لِلزَّارِعِ وَعَلَيْهِ مِثْلُ مَا غَصَبَ وَقِيلَ إنَّمَا اخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ الْوَضْعِ فَهُنَاكَ وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْحُرِّ وَإِذْنُ الْحُرِّ فِي اسْتِهْلَاكِ الْبَذْرِ صَحِيحٌ مُعْتَبَرٌ ، وَالْمُزَارَعَةُ ، وَإِنْ فَسَدَتْ بَقِيَ إذْنُهُ مُعْتَبَرًا فِي اسْتِهْلَاكِ الْبَذْرِ بِإِلْقَائِهِ فِي الْأَرْضِ فَكَانَ الْإِلْقَاءُ بِإِذْنِ صَاحِبِ الْبَذْرِ كَإِلْقَائِهِ بِنَفْسِهِ فَالْخَارِجُ كُلُّهُ لَهُ وَأَمَّا إذْنُ الْعَبْدِ فِي اسْتِهْلَاكِ بَذْرِهِ لَا عَلَى وَجْهِ الْمُزَارَعَةِ فَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَأْذَنَ فِي إتْلَافِ الْبَذْرِ وَلَا أَنْ يُقْرِضَ الْبَذْرَ فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ وَسَقَطَ اعْتِبَارُ إذْنِهِ فَكَانَ لِزَارِعٍ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ الْمُسْتَهْلِكِ لِلْبَذْرِ بِإِلْقَائِهِ

فِي الْأَرْضِ ، وَالْخَارِجُ كُلُّهُ لَهُ وَعَلَيْهِ ضَمَانُ مِثْلِ ذَلِكَ الْبَذْرِ لِلْعَبْدِ .
( قَالَ الشَّيْخُ ) الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ وَجَدْتُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ زِيَادَةً فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ إذَا دَفَعَ الطَّعَامَ إلَى رَبِّ الْأَرْضِ لِيَزْرَعَهَا لِنَفْسِهِ بِالنِّصْفِ فَمَعَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ لَا يَبْقَى الْإِشْكَالُ وَيَصِحُّ التَّعْلِيلُ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ " ازْرَعْهَا لِنَفْسِكَ " يَكُونُ إقْرَاضًا لِلْبَذْرِ ، ثُمَّ شَرَطَ عَلَيْهِ فِي بَدَلِ الْقَرْضِ نِصْفَ الْخَارِجِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ ، وَالزَّارِعُ فِي إلْقَاءِ الْبَذْرِ فِي الْأَرْضِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فَيَكُونُ الْخَارِجُ كُلُّهُ لَهُ .

وَلَيْسَ عَلَى الْمَوْلَى أَنْ يُشْهَدْ الشُّهُودَ حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْكِتَابَةِ ، وَالْكِتَابَةُ تَصِحُّ مِنْ غَيْرِ إشْهَادٍ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يُنْدَبُ الْإِشْهَادُ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْحَقِّ اللَّازِمِ كَمَا يُنْدَبُ إلَى الْإِشْهَادِ عَلَى الْبَيْعِ بَيَانُهُ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ } ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْإِذْنِ ؛ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ لَيْسَ بِحَقٍّ لَازِمٍ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ يُحْجَرُ عَلَيْهِ مَتَى شَاءَ فَلِهَذَا لَا يَكُونُ عَلَيْهِ الْإِشْهَادُ فِي ذَلِكَ .

وَإِذَا نَظَرَ الرَّجُلُ إلَى عَبْدِهِ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَلَمْ يَنْهَهُ عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ إذْنٌ مِنْهُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : قَدْ أَذِنْتُ لَكَ فِي التِّجَارَةِ ، وَهَذِهِ مَسْأَلَتَانِ إحْدَاهُمَا إذَا أَذِنَ لَهُ فِي نَوْعٍ خَاصٍّ مِنْ التِّجَارَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَاتِ كُلِّهَا عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَكُونُ مَأْذُونًا إلَّا فِي ذَلِكَ النَّوْعِ خَاصَّةً وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعَنْهُ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى قَالَ إنْ سَكَتَ عَنْ النَّهْيِ عَنْ سَائِرِ الْأَنْوَاعِ فَإِنْ قَالَ : اعْمَلْ فِي الْبُرِّ فَهُوَ مَأْذُونٌ فِي التِّجَارَاتِ كُلِّهَا ، وَإِنْ صَرَّحَ بِالنَّهْيِ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي سَائِرِ الْأَنْوَاعِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ إلَّا فِي النَّوْعِ الَّذِي أَذِنَ لَهُ فِيهِ خَاصَّةً فَالْحُجَّةُ لِلشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يَتَصَرَّفَ لِلْمَوْلَى بِإِذْنِهِ فَلَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ إلَّا فِيمَا أَذِنَ لَهُ فِيهِ كَالْوَكِيلِ ، وَالْمُضَارِبِ ، وَالْمُسْتَبْضِعِ ، وَالشَّرِيكِ شَرِكَةَ الْعَنَانِ .
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الرِّقَّ مُوجِبٌ لِلْحَجْرِ عَلَيْهِ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ ، وَالرِّقُّ بَعْدَ الْإِذْنِ قَائِمٌ كَمَا كَانَ قَبْلَهُ فَيَكُونُ تَصَرُّفُهُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْ الْمَوْلَى فِيهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالتَّصَرُّفِ وَهُوَ الْمِلْكُ يَحْصُلُ لِلْمَوْلَى ، وَأَنَّ الْعَبْدَ بِسَبَبِ الرِّقِّ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلْمِلْكِ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ فِيهِ يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلتَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ فَإِنَّ بِالْكِتَابَةِ عِنْدِي يَثْبُتُ لِلْمُكَاتَبِ حَقٌّ ، وَيَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ يَدًا ؛ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى إعْتَاقَهُ عَنْ كَفَّارَتِهِ وَلَا يَمْلِكُ الْحَجْرَ ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ أَهْلًا لِلتَّصَرُّفِ بِاعْتِبَارِ مَا ثَبَتَ لَهُ مِنْ الْحُرِّيَّةِ يَدًا ، ثُمَّ الْمَأْذُونُ عِنْدِي يَرْجِعُ بِالْعُهْدَةِ عَلَى الْمَوْلَى إلَّا أَنَّهُ عَيَّنَ لِرُجُوعِهِ مَحِلًّا وَهُوَ كَسْبُهُ فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ فِي مَحَلٍّ

آخَرَ وَهَكَذَا مَذْهَبِي فِي الْوَكِيلِ إذَا وَكَّلَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ وَيَبِيعَ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ كُلَّهُ لِلْمُوَكِّلِ فَإِنَّ رُجُوعَهُ بِالْعُهْدَةِ فِيمَا يَشْتَرِي وَيَبِيعُ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ كُلَّهُ لِلْمُوَكِّلِ فَإِنَّ رُجُوعَهُ بِالْعُهْدَةِ فِيمَا يَشْتَرِي عَلَى الْمُوَكِّلِ دُونَ غَيْرِهِ وَيَكُونُ هُوَ نَائِبًا عَنْ الْمُوَكِّلِ فِي التَّصَرُّفِ فَكَذَلِكَ الْمَأْذُونُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ أَذِنَ لَهُ فِي تَزْوِيجِ امْرَأَةٍ لَا يَمْلِكُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ فِي نِكَاحِ امْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا لَا يَمْلِكُ أَنْ يَتَزَوَّجَ غَيْرَهَا فَكَذَلِكَ فِي التِّجَارَةِ بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ ذَلِكَ التَّصَرُّفِ يَحْصُلُ لِلْعَبْدِ وَمَقْصُودَ هَذَا التَّصَرُّفِ يَحْصُلُ لِلْمَوْلَى فَكَذَلِكَ إذَا أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ لَا يَمْلِكُ النِّكَاحَ وَإِذَا أَذِنَ لَهُ فِي النِّكَاحِ لَا يَمْلِكُ التِّجَارَةَ ، وَلَئِنْ كَانَ الْإِذْنُ إطْلَاقًا وَتَمْلِيكًا لِلْيَدِ مِنْهُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُكُمْ فَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ كَتَقْلِيدِ الْقَضَاءِ فَإِنَّهُ إطْلَاقٌ وَإِثْبَاتٌ لِلْوِلَايَةِ ، ثُمَّ يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ ، وَالْإِعَارَةَ ، وَالْإِجَارَةُ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ وَإِثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى الْعَيْنِ ، ثُمَّ يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ بِالْإِذْنِ كَذَلِكَ وَهَذَا لِأَنَّ التَّخْصِيصَ مُفِيدٌ فَمَقْصُودُ الْمَوْلَى تَحْصِيلُ الرِّبْحِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِتِجَارَتِهِ فِي نَوْعٍ لِكَثْرَةِ هِدَايَتِهِ فِيهِ ، ثُمَّ يَفُوتُ ذَلِكَ بِتِجَارَتِهِ فِي نَوْعٍ آخَرَ لِقِلَّةِ هِدَايَتِهِ فِي ذَلِكَ فَكَانَ التَّقْيِيدُ مُفِيدًا فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ .
وَزُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَقُولُ إنَّمَا أَثْبَتْنَا حُكْمًا عَامًّا عِنْدَ سُكُوتِهِ عَنْ النَّهْيِ لِدَلَالَةِ الْعُرْفِ وَذَلِكَ يَسْقُطُ عِنْدَ التَّصْرِيحِ بِالنَّهْيِ فِي سَائِرِ الْأَنْوَاعِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مُطْلَقَ الْإِذْنِ يُوجِبُ التَّعْمِيمَ فِي الْوَقْتِ ، ثُمَّ إذَا صَرَّحَ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ مَضَى شَهْرٌ أَوْ يَوْمٌ يَرْتَفِعُ ذَلِكَ الْإِذْنُ

فَهَذَا مِثْلُهُ .
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ طُرُقٌ ثَلَاثَةٌ : أَحَدُهَا مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْإِذْنَ فِي نَوْعٍ يَسْتَدْعِي الْإِذْنَ فِي سَائِرِ الْأَنْوَاعِ لِاتِّصَالِ بَعْضِ التِّجَارَاتِ بِالْبَعْضِ ، وَالْمُتَصَرِّفُ فِي الْبُرِّ بِمَا يَشْتَرِي ذَلِكَ الْبُرَّ بِالطَّعَامِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَشْتَرِيَ الطَّعَامَ لِيُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ وَرُبَّمَا يَحْتَاجُ إلَى بَيْعِ الْبُرِّ بِالْعَبِيدِ ، وَالْإِمَاءِ إذَا لَمْ يَجِدْ مِنْ يَشْتَرِي ذَلِكَ مِنْهُ بِالنَّقْدِ وَإِذَا كَانَ الْإِذْنُ فِي نَوْعٍ يَتَعَدَّى إلَى سَائِرِ أَنْوَاعِ التِّجَارَةِ لِاتِّصَالِ بَعْضِ التِّجَارَاتِ بِالْبَعْضِ وَلِأَنَّ الْإِذْنَ فِي التِّجَارَةِ فَكٌّ لِلْحَجْرِ عَنْهُ ، وَالْعَبْدُ بَعْدَ الْإِذْنِ مُتَصَرِّفٌ لِنَفْسِهِ لِانْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ كَالْمُكَاتَبِ ، وَكَمَا أَنَّ فِي الْكِتَابَةِ لَا يُعْتَبَرُ التَّقْيِيدُ بِنَوْعٍ خَاصٍّ فَكَذَلِكَ فِي الْإِذْنِ ، وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ بِمُطْلَقِ الْإِذْنِ يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ ، وَالْإِنَابَةُ لَا تَحْصُلُ بِمُطْلَقِ اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ تَنْصِيصٍ عَلَى التَّصَرُّفِ كَمَا فِي حَقِّ الْوَكِيلِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَأْذُونَ لَا يَرْجِعُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ عَلَى مَوْلَاهُ ، وَالْمُتَصَرِّفُ لِلْغَيْرِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ ، وَأَنَّهُ إذَا قَضَى الدَّيْنَ مِنْ خَالِصِ مِلْكِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمَوْلَى وَلَوْ كَانَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ لَكَانَ يَرْجِعُ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِمَا يُؤَدِّي مِنْ خَالِصِ مِلْكِهِ كَالْوَكِيلِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ رُجُوعُ الْوَكِيلِ فِيمَا يَحْصُلُ تَصَرُّفُهُ إذَا بَقِيَ ذَلِكَ فَأَمَّا بَعْدَ الْفَوَاتِ فَيَكُونُ رُجُوعُهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَهُنَا ، وَإِنْ هَلَكَ كَسْبُهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمَوْلَى بِشَيْءٍ وَدَلَّ أَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ لِنَفْسِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بِالرِّقِّ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلتَّصَرُّفِ وَلَا مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِثُبُوتِ الْيَدِ لَهُ عَلَى كَسْبِهِ وَلَكِنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ التَّصَرُّفِ لِحَقِّ الْمَوْلَى مَعَ قِيَامِ الْأَهْلِيَّةِ

فَالْإِذْنُ لِإِزَالَةِ الْمَنْعِ كَالْكِتَابَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّ بِالْكِتَابَةِ يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْعِتْقِ أَوْ يُجْعَلُ كَالْحُرِّ يَدًا ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ ، وَالسَّبَبُ الْمُوجِبُ لِحَقِّ الْعِتْقِ مَتَى ثَبَتَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ كَالِاسْتِيلَادِ فَثَبَتَ أَنَّ الْكِتَابَةَ فَكُّ الْحَجْرِ ، وَالْإِذْنُ مِثْلُهُ ، ثُمَّ فَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ بِهَذَيْنِ السَّبَبَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْفَكِّ التَّامِّ الَّذِي يَحْصُلُ بِالْعِتْقِ ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ سَوَاءٌ أَطْلَقَ أَوْ صَرَّحَ بِالنَّهْيِ عَنْ سَائِرِ الْأَنْوَاعِ ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّقْيِيدَ مِنْهُ تَصَرُّفٌ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَكَذَلِكَ هَهُنَا .
وَالثَّالِثُ : أَنَّ تَصَرُّفَ الْعَبْدِ يُلَاقِي مَحِلًّا هُوَ مِلْكُهُ ، وَالْمُتَصَرِّفُ فِي مِلْكِهِ لَا يَكُونُ نَائِبًا عَنْ غَيْرِهِ وَبَيَانُهُ أَنَّ أَوَّلَ التَّصَرُّفَاتِ بَعْدَ الْإِذْنِ مِنْ الْعَبْدِ شِرَاءٌ ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَشْتَرِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَبِيعَ وَهُوَ بِالشِّرَاءِ يَلْتَزِمُ الثَّمَنَ فِي ذِمَّتِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الذِّمَّةَ مَمْلُوكَةٌ بِمَنْزِلَةِ ذِمَّتِهِ فَكَمَا أَنَّهُ يَمْلِكُ التَّصَرُّفِ فِي ذِمَّتِهِ بِالْإِقْرَارِ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقَوَدِ فَكَذَلِكَ يَكُونُ مَالِكًا لِلتَّصَرُّفِ فِي ذِمَّتِهِ إلَّا أَنَّ الدَّيْنَ لَا يَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ إلَّا شَاغِلًا مَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى إذْنِ الْمَوْلَى هُنَا لِإِسْقَاطِ حَقِّهِ عَنْ مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ ، وَالرِّضَى بِصَرْفِهَا إلَى الدَّيْنِ ، وَفِي هَذَا لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَ نَوْعٍ مِنْ التِّجَارَةِ وَنَوْعٍ فَتَقْيِيدُهُ بِنَوْعٍ غَيْرِ مُفِيدٍ فِي حَقِّهِ فَلَا يُعْتَبَرُ كَمَا إذَا رَضِيَ الْمُسْتَأْجِرُ بِبَيْعِ الْعَيْنِ مِنْ زَيْدٍ دُونَ عَمْرٍو أَوْ رَضِيَ الشَّفِيعُ بَيْعَ الْمُشْتَرَى مِنْ زَيْدٍ دُونَ عَمْرٍو وَلَوْ أَسْلَمَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ إلَى الْمُشْتَرِي قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ عَلَى أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ نَوْعًا مِنْ التَّصَرُّفِ دُونَ نَوْعٍ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ التَّقْيِيدُ ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ مِنْ هَؤُلَاءِ إسْقَاطَ حَقِّ الْمَبِيعِ

فَأَهْلُ التَّصَرُّفِ يَكُونُ مُتَصَرِّفًا لِنَفْسِهِ فَتَقْيِيدُهُ بِنَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ لَا يَكُونُ مُفِيدًا وَهَذَا بِخِلَافِ النِّكَاحِ فَإِنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفُ مَمْلُوكٍ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَجُوزُ إلَّا بِوَلِيٍّ ، وَالرِّقُّ يُخْرِجُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ فَكَانَ هُوَ نَائِبًا عَنْ الْمَوْلَى فِي النِّكَاحِ ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا الْمَوْلَى يُجْبِرُهُ عَلَى النِّكَاحِ فَأَمَّا هَذَا التَّصَرُّفُ فَغَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ فَكَانَ الْإِذْنُ مِنْ الْمَوْلَى إسْقَاطًا لِحَقِّهِ لَا إنَابَةَ الْعَبْدِ مَنَابَهُ فِي التَّصَرُّفِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مَعَ الرِّقِّ أَهْلٌ لِلْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ مِلْكُ الْيَدِ ، وَأَنَّ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ مِلْكِ الْعَيْنِ يَثْبُتُ لِلْمَوْلَى عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ عَنْهُ وَهَذَا بِخِلَافِ تَقْلِيدِ الْقَضَاءِ فَالْقَاضِي لَا يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ فِيمَا يَقْضِي بَلْ هُوَ نَائِبٌ عَنْ الْمُسْلِمِينَ ؛ وَلِهَذَا يَرْجِعُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ فِي مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَكَيْف يَكُونُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ وَهُوَ فِيمَا يَعْمَلُ لِنَفْسِهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ قَاضِيًا وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُسْتَعِيرِ ، وَالْمُسْتَأْجِرِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي مَحَلٍّ هُوَ مِلْكُ الْغَيْرِ بِإِيجَابِ صَاحِبِ الْمِلْكِ لَهُ وَإِيجَابُهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ فَأَمَّا الْعَبْدُ فَلَا يَتَصَرَّفُ بِإِيجَابِ الْمَوْلَى لَهُ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّصَرُّفَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلْمَوْلَى فِي ذِمَّتِهِ فَكَيْف يُوجِبُ لَهُ مَالًا يَمْلِكُهُ .

وَالْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : إذَا رَآهُ يَبِيعُ وَيَشْتَرِي فَسَكَتَ عَنْ النَّهْيِ فَهَذَا إذْنٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَكُونُ إذْنًا قَبْلَ هَذَا بِنَاءً عَلَى الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى فَإِنَّ عِنْدَهُ لَوْ أَذِنَ لَهُ نَصًّا فِي نَوْعٍ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِي سَائِرِ الْأَنْوَاعِ فَكَذَلِكَ إذَا رَآهُ يَتَصَرَّفُ فِي نَوْعٍ فَسُكُوتُهُ عَنْ النَّهْيِ لَا يَكُونُ إذْنًا لَهُ فِي التَّصَرُّفِ فِي سَائِرِ الْأَنْوَاعِ وَعِنْدَنَا لَمَّا كَانَ إذْنُهُ فِي نَوْعٍ يُوجِبُ الْإِذْنَ فِي سَائِرِ الْأَنْوَاعِ لِدَفْعِ الْغُرُور ، وَالضَّرَرِ عَنْ النَّاسِ فَكَذَلِكَ سُكُوتُهُ عَنْ النَّهْيِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ تَصَرُّفًا مِنْهُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْإِذْنِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ ، وَالْغُرُورِ عَنْ النَّاسِ وَحُجَّتُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ سُكُوتَهُ عَنْ النَّهْيِ مُحْتَمَلٌ قَدْ يَكُونُ لِلرِّضَى بِتَصَرُّفِهِ وَقَدْ يَكُونُ لِفَرْطِ وَقِلَّةِ الِالْتِفَاتِ إلَى تَصَرُّفِهِ لِعِلْمِهِ أَنَّهُ مَحْجُورٌ عَنْ ذَلِكَ شَرْعًا ، وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ رَأَى إنْسَانًا يَبِيعُ مَالَهُ فَسَكَتَ وَلَمْ يَنْهَهُ لَا يَنْفُذُ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ بِسُكُوتِهِ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْإِذْنِ مِنْ الْمَوْلَى ، وَالسُّكُوتُ لَيْسَ بِإِذْنٍ فَالْإِذْنُ مَا يَقَعُ فِي الْإِذْنِ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ وَلَمْ يَسْمَعْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إذْنًا فَمُجَرَّدُ السُّكُوتِ كَيْفَ يَكُونُ إذْنًا ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ الَّذِي يُبَاشِرُهُ لَا يَنْفُذُ بِسُكُوتِ الْمَوْلَى ، وَأَنَّهُ إذَا رَآهُ يَبِيعُ شَيْئًا مِنْ مِلْكِهِ فَسَكَتَ لَا يَنْفُذُ هَذَا التَّصَرُّفُ فَكَيْفَ يَصِيرُ مَأْذُونًا لَهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ فَالْحَاجَةُ إلَى رِضًى مُسْقِطٌ لِحَقِّ الْمَوْلَى عَنْ مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالسُّكُوتِ كَمَنْ رَأَى إنْسَانًا يُتْلِفُ مَالَهُ فَسَكَتَ فَلَا يَسْقُطُ الضَّمَانُ بِسُكُوتِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ سُكُوتِ الْبِكْرِ إذَا زَوَّجَهَا الْوَلِيُّ فَإِنَّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ وَلَكِنْ قَامَ الدَّلِيلُ الْمُوجِبُ لِتَرْجِيحِ الرِّضَا فِيهِ وَهُوَ أَنَّ لَهَا

عِنْدَ تَزْوِيجِ الْوَلِيِّ كَلَامَيْنِ " لَا " أَوْ " نَعَمْ " ، وَالْحَيَاءُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ نَعَمْ لِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ الرَّغْبَةِ فِي الرِّجَالِ وَهِيَ تُسْتَقْبَحُ مِنْهَا لَا يَحُولُ الْحَيَاءُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ لَا فَسُكُوتُهَا دَلِيلٌ عَلَى الْجَوَابِ الَّذِي يَحُولُ الْحَيَاءُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ ذَلِكَ الْجَوَابِ وَلَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ هَهُنَا فَلَا يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الرِّضَا وَكَذَلِكَ سُكُوتُ الشَّفِيعِ عَنْ الطَّلَبِ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلشَّفِيعِ قَبْلَ الطَّلَبِ ، وَإِنَّمَا لَهُ أَنْ يُثْبِتَ حَقَّهُ بِالطَّلَبِ فَإِذَا لَمْ يَطْلُبْ لَمْ يَثْبُتْ حَقُّهُ ، وَهَهُنَا حَقُّ الْمَوْلَى فِي مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ ثَابِتٌ ، وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ إلَى الرِّضَا الْمُسْقِطِ لِحَقِّهِ .
يُوَضِّحُهُ أَنَّ حَقَّ الشُّفْعَةِ قَبْلَ الطَّلَبِ ضَعِيفٌ ، وَإِنَّمَا يَتَأَكَّدُ بِالطَّلَبِ فَإِعْرَاضُهُ عَنْ الطَّلَبِ الْمُؤَكِّدِ لِحَقِّهِ يَجْعَلُ دَلِيلَ الرِّضَا لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ إذَا بَقِيَ حَقُّ الشَّفِيعِ يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ نَقْضِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي ، وَفِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَيْهِ مَا لَا يَخْفَى فَأَمَّا هُنَا فَحَقُّ الْمَوْلَى فِي مَالِيَّةِ الرَّقَبَةِ مُتَأَكِّدٌ ، وَفِي إسْقَاطِهِ إلْحَاقُ الضَّرَرِ بِهِ عِنْدَ سُكُوتِهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَمَّنْ يَعْمَلُ الْعَبْدُ مَعَهُ .
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ } ، وَقَالَ { أَلَا مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا } وَلَوْ لَمْ تَتَعَيَّنْ جِهَةُ الرِّضَا عِنْدَ سُكُوتِ الْمَوْلَى عَنْ النَّهْيِ أَدَّى إلَى الضَّرَرِ ، وَالْغُرُورِ فَالنَّاسُ يُعَامِلُونَ الْعَبْدَ وَلَا يَمْتَنِعُونَ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَ مَحْضَرِ الْمَوْلَى إذَا كَانَ سَاكِتًا وَإِذَا لَحِقَتْهُ دُيُونٌ ، ثُمَّ قَالَ الْمَوْلَى كَانَ عَبْدِي مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَتَتَأَخَّرُ الدُّيُونُ إلَى وَقْتِ عِتْقِهِ وَلَا يَدْرِي مَتَى يُعْتَقُ وَهَلْ يُعْتَقُ أَوْ لَا يُعْتَقُ فَيَكُونُ فِيهِ أَنْوَاءُ حَقِّهِمْ وَيَلْحَقُهُمْ فِيهِ مِنْ الضَّرَرِ مَا لَا يَخْفَى وَيَصِيرُ الْمَوْلَى غَارًّا لَهُمْ فَلِرَفْعِ الضَّرَرِ ،

وَالْغُرُورِ جَعَلْنَا سُكُوتَهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ ، وَالسُّكُوتُ مُحْتَمَلٌ كَمَا قَالَ وَلَكِنْ دَلِيلُ الْعُرْفِ يُرَجِّحُ جَانِبَ الرِّضَا فَالْعَادَةُ أَنَّ مَنْ لَا يَرْضَى بِتَصَرُّفِ عَبْدِهِ يُظْهِرُ النَّهْيَ إذَا رَآهُ يَتَصَرَّفُ وَيُؤَدِّبُهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ شَرْعًا لِدَفْعِ الضَّرَرِ ، وَالْغُرُورِ فَبِهَذَا الدَّلِيلِ رَجَّحْنَا جَانِبَ الرِّضَا فِي سُكُوتِ الْبِكْرِ كَمَا فِي سُكُوتِ الشَّفِيعِ يُرَجَّحُ جَانِبُ الرِّضَا لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُشْتَرِي ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ بَعْدَ مَا أَذِنَ لَهُ فِي أَهْلِ سُوقِهِ لَوْ حُجِرَ عَلَيْهِ فِي بَيْتِهِ لَمْ يَصِحَّ حُجَّةٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ ، وَالْغُرُورِ فَلَمَّا سَقَطَ اعْتِبَارُ حَجْرِهِ نَصًّا لِدَفْعِ الضَّرَرِ فَلَأَنْ يَسْقُطَ اعْتِبَارُ احْتِمَالِ عَدَمِ الرِّضَا مِنْ سُكُوتِهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ النَّاسِ كَانَ أَوْلَى وَلَئِنْ مَنَعَ الشَّافِعِيُّ هَذَا فَالْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ يُبْنَى عَلَى الْكَلَامِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّ الْكَلَامَ فِيهَا أَوْضَحُ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى مِنْ يُعَامِلُ الْوَكِيلَ إذَا لَمْ يَجْعَلْ سُكُوتَ الْمُوَكِّلِ رِضًى فَإِنَّ تَصَرُّفَ الْوَكِيلِ نَافِذٌ عَلَى نَفْسِهِ ، وَمَنْ يُعَامِلُهُ لَا يُطَالِبُ الْمُوَكِّلَ بِشَيْءٍ ، وَإِنَّمَا يُطَالِبُ الْوَكِيلَ سَوَاءٌ كَانَ تَصَرُّفُهُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ ، وَقَوْلُهُ : " هَذَا التَّصَرُّفُ بِسُكُوتِ الْمَوْلَى لَا يَنْفُذُ " قُلْنَا : لِأَنَّ فِي هَذَا التَّصَرُّفِ إزَالَةَ مِلْكِ الْمَوْلَى عَمَّا يَبِيعُهُ ، وَفِي إزَالَةِ مِلْكِهِ ضَرَرٌ مُتَحَقِّقٌ لِلْحَالِ فَلَا يَثْبُتُ بِسُكُوتِهِ وَلَيْسَ فِي ثُبُوتِ الْإِذْنِ ضَرَرٌ عَلَى الْمَوْلَى مُتَحَقِّقٌ فِي الْحَالِ فَقَدْ يَلْحَقُهُ الدَّيْنُ وَقَدْ لَا يَلْحَقُهُ وَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ الْإِذْنُ بِهِ تَضَرَّرَ النَّاسُ الَّذِينَ يُعَامِلُونَ الْعَبْدَ .
يُوَضِّحُهُ أَنَّ فِي ذَلِكَ التَّصَرُّفِ الْعَبْدُ نَائِبٌ عَنْ الْمَوْلَى بِدَلِيلِ أَنَّهُ إذَا لَحِقَهُ عُهْدَةٌ يَرْجِعُ بِهَا عَلَيْهِ

فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ فِي ذَلِكَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَثْبُتُ بِالسُّكُوتِ وَأَمَّا فِي سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ فَهُوَ مُتَصَرِّفٌ لِنَفْسِهِ كَمَا قَرَّرْنَا ، وَالْحَاجَةُ إلَى إذْنِ الْمَوْلَى لِأَجْلِ الرِّضَا تَصَرُّفُ مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ إلَى الدَّيْنِ فَيَثْبُتُ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ سُكُوتِهِ لِخُلُوِّهِ عَنْ الضَّرَرِ فِي الْحَالِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَتْلَفَ إنْسَانٌ مَالَهُ وَهُوَ سَاكِتٌ ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ هُنَاكَ يَتَحَقَّقُ فِي الْحَالِ وَسُكُوتُهُ لَا يَكُونُ دَلِيلَ الْتِزَامِ الضَّرَرِ حَقِيقَةً ، وَلِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى تَعْيِينِ جَانِبِ الرِّضَا هُنَاكَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ ، وَالْغُرُورِ عَنْ الْمُتْلَفِ وَهُوَ مُلْتَزِمُ الضَّرَرِ بِإِقْدَامِهِ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ .

وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ : أَدِّ إلَيَّ الْغَلَّةَ كُلَّ شَهْرٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ فَهَذَا إذْنٌ مِنْهُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِئْدَاءُ الْمَالِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِالِاكْتِسَابِ يَكُونُ أَمْرًا لَهُ بِالِاكْتِسَابِ ضَرُورَةً وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُطْلَبْ مِنْهُ الِاكْتِسَابُ بِالتَّكَدِّي فَعَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ الِاكْتِسَابُ بِالتِّجَارَةِ ، وَدَلِيلُ الرِّضَا فِي الْحُكْمِ كَصَرِيحِ الرِّضَا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ إذَا أَدَّيْتَ إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ ؛ لِأَنَّهُ حَثَّهُ عَلَى أَدَاءِ الْمَالِ بِمَا أَوْجَبَ لَهُ بِإِزَاءِ الْمَالِ مِنْ الْعِتْقِ عِنْدَ الْأَدَاءِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَدَاءِ إلَّا بِالِاكْتِسَابِ ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ أَدَاءَ الْأَلْفِ إلَيْهِ مِنْ مَالِ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُفِيدٍ فِي حَقِّ الْمَوْلَى ، وَإِنَّمَا الْمُفِيدُ فِي حَقِّهِ أَدَاءُ الْأَلْفِ إلَيْهِ مِنْ كَسْبٍ يَكْتَسِبُهُ بَعْدَ هَذِهِ الْمَقَالَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا ، وَأَنْتِ حُرٌّ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَقُ مَا لَمْ يُؤَدِّ .

وَلَوْ قَالَ : إنْ أَدَّيْتَ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ عَتَقَ فِي الْحَالِ أَدَّى أَوْ لَمْ يُؤَدِّ وَلَوْ قَالَ : إذَا أَدَّيْتَ إلَيَّ أَلْفًا ، وَأَنْتَ حُرٌّ عَتَقَ فِي الْحَالِ أَيْضًا بِخِلَافِ قَوْلِهِ فَأَنْتَ حُرٌّ فَإِنَّهُ لَا يُعْتَقُ فِيهِ إلَّا بِالْأَدَاءِ ؛ لِأَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ بِالْفَاءِ دُونَ الْوَاوِ فَإِنَّ الْجَزَاءَ يَتَّصِلُ بِالشَّرْطِ عَلَى أَنْ يَتَعَقَّبَ نُزُولَهُ بِوُجُودِ الشَّرْطِ ، وَحَرْفُ الْفَاءِ لِلْوَصْلِ ، وَالتَّعْقِيبِ فَيَتَّصِلُ فِيهِ الْجَزَاءُ بِالشَّرْطِ فَأَمَّا حَرْفُ الْوَاوِ فَلِلْعَطْفِ لَا لِلْوَصْلِ وَعَطْفُ الْجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ لَا يُوجِبُ تَعْلِيقَهُ بِالشَّرْطِ فَكَانَ تَنْجِيزًا ، وَأَمَّا جَوَابُ الْأَمْرِ بِحَرْفِ الْوَاوِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ بِمَعْنَى الْحَالِ أَيْ ، وَأَنْتَ حُرٌّ فِي حَالِ أَدَائِكَ وَأَمَّا صِفَةُ الْأَمْرِ تَكُونُ بِمَعْنَى التَّعْلِيلِ يَقُولُ الرَّجُلُ أَبْشِرْ فَقَدْ أَتَاكَ الْغَوْثُ يَعْنِي ؛ لِأَنَّهُ أَتَاكَ الْغَوْثُ فَإِذَا قَالَ : أَدِّ إلَيَّ أَلْفًا فَأَنْتَ حُرٌّ مَعْنَاهُ ؛ لِأَنَّكَ حُرٌّ فَلِهَذَا يَتَنَجَّزُ بِهِ الْعِتْقُ فِي الْحَالِ وَعَلَى هَذَا ذُكِرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ إذَا قَالَ افْتَحُوا الْبَابَ ، وَأَنْتُمْ آمِنُونَ فَمَا لَمْ يَفْتَحُوا لَا يَأْمَنُوا وَلَوْ قَالَ فَأَنْتُمْ آمِنُونَ كَانُوا آمِنِينَ فَتَحُوا أَوْ لَمْ يَفْتَحُوا وَلَوْ قَالَ إذَا فَتَحْتُمْ الْبَابَ فَأَنْتُمْ آمِنُونَ لَا يَأْمَنُونَ مَا لَمْ يَفْتَحُوا ، وَلَوْ قَالَ ، وَأَنْتُمْ آمِنُونَ كَانُوا آمِنِينَ فِي الْحَالِ .

وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ اذْهَبْ فَأَجِّرْ نَفْسَكَ مِنْ فُلَانٍ لَمْ يَكُنْ هَذَا إذْنًا مِنْهُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ : اُقْعُدْ قَصَّارًا وَصَبَّاغًا فَإِنَّ هُنَاكَ لَمَّا لَمْ يَعْتِقْ مَنْ يُعَامِلُهُ فَقَدْ فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَى رَأْيِهِ فِي ذَلِكَ النَّوْعِ مِنْ التِّجَارَةِ وَهَهُنَا عَيَّنَ مَنْ يُؤَاجِرُ الْعَبْدَ نَفْسَهُ مِنْهُ وَلَمْ يُفَوِّضْ الْأَمْرَ إلَى رَأْيِهِ فِيهِ وَلَكِنَّهُ جَعَلَهُ رَسُولًا قَائِمًا مَقَامَ نَفْسِهِ فِي مُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلَ الرِّضَا بِتِجَارَتِهِ .
يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يَعْقِدَ عَلَى مَنَافِعِهِ هَهُنَا وَمَنَافِعُهُ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الرِّضَا بِتِجَارَتِهِ لَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْدَامِ لَهُ ، وَفِي الْأَوَّلِ أَمَرَهُ بِتَقَبُّلِ الْعَمَلِ فِي ذِمَّتِهِ وَذَلِكَ مِنْ نَوْعِ التِّجَارَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ إجَارَةَ نَفْسِ الْعَبْدِ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الرِّضَا بِتِجَارَتِهِ لَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِخْدَامِ لَهُ ، وَفِي الْأَوَّلِ أَمَرَهُ بِتَقَبُّلِ الْعَمَلِ فِي ذِمَّتِهِ وَذَلِكَ مِنْ نَوْعِ التِّجَارَةِ .

( أَلَا تَرَى ) أَنَّ إجَارَةَ نَفْسِ الْعَبْدِ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ ، وَأَنْ يَقْبَلَ الْعَمَلَ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ وَاسْتَشْهَدَ بِمَا لَوْ أَرْسَلَ عَبْدًا لَهُ يُؤَاجِرُ عَبْدًا لَهُ آخَرَ لَمْ يَكُنْ هَذَا إذْنًا لِوَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ فِي التِّجَارَةِ ، وَلَوْ قَالَ : اعْمَلْ فِي النَّقَّالِينَ أَوْ فِي الْحَنَّاطِينَ أَوْ قَالَ أَجِّرْ نَفْسَكَ فِي النَّقَّالِينَ أَوْ الْحَنَّاطِينَ فَهَذَا مِنْهُ إذْنٌ فِي التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ ذَلِكَ النَّوْعَ مِنْ التِّجَارَةِ إلَى رَأْيِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ لَهُ مَنْ يُعَامِلُهُ بَلْ جَعَلَ تَعْيِينَهُ مَوْكُولًا إلَى رَأْيِهِ وَالنَّقَّالُونَ الَّذِينَ يَنْقُلُونَ الْخَشَبَ مِنْ الشَّطْءِ إلَى الْبُيُوتِ ، وَالْحَنَّاطُونَ يَنْقُلُونَ الْحِنْطَةَ مِنْ مَوْضِعِ السَّفِينَةِ إلَى الْبُيُوتِ ، وَإِنَّمَا يَعْمَلُ ذَلِكَ مِنْهُمْ الْعَبِيدُ ، وَالْأَقْوِيَاءُ .

وَلَوْ أَرْسَلَ عَبْدَهُ يَشْتَرِي لَهُ ثَوْبًا أَوْ لَحْمًا بِدَرَاهِمَ لَمْ يَكُنْ هَذَا إذْنًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ اسْتِحْسَانًا .
وَفِي الْقِيَاسِ : هُوَ إذْنٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ اخْتِيَارَ مَنْ يُعَامِلُهُ مُفَوَّضًا إلَى رَأْيِهِ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَكُونُ إذْنًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَإِنَّهُ فِي عَادَةِ النَّاسِ هَذَا اسْتِخْدَامٌ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ إذْنًا فِي التِّجَارَةِ يَتَعَذَّرُ عَلَى الْمَوْلَى اسْتِخْدَامُ الْمَمَالِيكِ فَإِنَّ الِاسْتِخْدَامَ يَكُونُ فِي حَوَائِجِ الْمَوْلَى وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْعَقْدِ مِنْ حَوَائِجِهِ .
يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَقْصِدُ التِّجَارَةَ بِهَذَا الشِّرَاءِ إنَّمَا يَقْصِدُ كِفَايَةَ الْوَقْتِ مِنْ الْكِسْوَةِ ، وَالطَّعَامِ ، وَالتِّجَارَةِ مَا يَقْصِدُ بِهِ الْمَالَ ، وَالِاسْتِرْبَاحَ وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ ثَوْبَ كِسْوَةٍ لِلْمَوْلَى أَوْ لِبَعْضِ أَهْلِهِ أَوْ طَعَامًا رِزْقًا لِأَهْلِهِ أَوْ لِلْمَوْلَى أَوْ لِلْعَبْدِ نَفْسِهِ لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ إذْنًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ أَرَأَيْتَ لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ نَقْلًا بِفَلْسَيْنِ أَكَانَ يَصِيرُ بِهِ مَأْذُونًا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : اشْتَرِ مِنْ فُلَانٍ ثَوْبًا فَاقْطَعْهُ قَمِيصًا أَوْ اشْتَرِ مِنْ فُلَانٍ طَعَامًا فَكُلْهُ أَوْ دَفَعَ إلَيْهِ رَاوِيَةً وَحِمَارًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْتَقِيَ عَلَيْهِ الْمَاءَ لِمَوْلَاهُ وَلِعِيَالِهِ وَلِجِيرَانِهِ بِغَيْرِ ثَمَنٍ فَشَيْءٌ مِنْ هَذَا لَا يَكُونُ إذْنًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ لِمَا قُلْنَا وَلَوْ قَالَ : اسْتَقِ عَلَى هَذَا الْحِمَارِ الْمَاءَ وَبِعْهُ كَانَ هَذَا إذْنًا لَهُ فِي التِّجَارَاتِ كُلِّهَا ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَى رَأْيِهِ نَوْعًا مِنْ التِّجَارَةِ وَقَصَدَ بِهِ تَحْصِيلَ الْمَالِ ، وَالرِّبْحِ .

وَلَوْ أَنَّ طَحَّانًا دَفَعَ إلَى عَبْدِهِ حِمَارًا لِيَنْقُلَ عَلَيْهِ طَعَامًا لَهُ فَيَأْتِيهِ بِهِ لِيَطْحَنَهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا إذْنًا مِنْهُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَخْدَمَهُ فِي نَقْلِ الطَّعَامِ إلَيْهِ ، وَمَا أَمَرَهُ بِشَيْءٍ مِنْ عُقُودِ التِّجَارَاتِ وَلَا بِاكْتِسَابِ الْمَالِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمُضَارَبَةَ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْعَمَلِ لَا تَصِحُّ حَتَّى لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَنْقُلَ الطَّعَامَ إلَيْهِ لِيَبِيعَهُ صَاحِبُ الطَّعَامِ بِنَفْسِهِ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لَا يَجُوزُ .

وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَتَقَبَّلَ الطَّعَامَ مِنْ النَّاسِ بِأَجْرٍ وَيَنْقُلَهُ عَلَى الْحِمَارِ كَانَ هَذَا إذْنًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ نَوْعًا مِنْ التِّجَارَةِ إلَى رَأْيِهِ وَأَمَرَهُ بِاكْتِسَابِ الْمَالِ لَهُ وَأَمَّا إذَا كَانَ الرَّجُلُ تَاجِرًا وَلَهُ غِلْمَانٌ يَبِيعُونَ مَتَاعَهُ بِأَمْرِهِ فَهَذَا إذْنٌ مِنْهُ لَهُمْ فِي التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّ سُكُوتَهُ عَنْ النَّهْيِ عِنْدَ رُؤْيَةِ تَصَرُّفِ الْعَبْدِ جُعِلَ إذْنًا فَتَمْكِينُهُ إيَّاهُمْ مِنْ بَيْعِ أَمْتِعَتِهِ فِي حَانُوتِهِ أَوْ أَمْرُهُ إيَّاهُمْ بِذَلِكَ أَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ إذْنًا وَلِذَلِكَ لَوْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَبِيعُوا لِغَيْرِهِ مَتَاعَهُ فَإِنَّهُ فَوَّضَ نَوْعًا مِنْ التِّجَارَةِ إلَى رَأْيِهِمْ وَرَضِيَ بِالْتِزَامِهِمْ الْعُهْدَةَ فِيمَا يَبِيعُونَهُ لِغَيْرِهِمْ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ أَمَرَهُمْ أَنْ يَشْتَرُوا لَهُ مَتَاعًا أَوْ يَشْتَرُوا ذَلِكَ لِغَيْرِهِ فَاشْتَرَوْهُ لَزِمَهُمْ الثَّمَنُ وَهُمْ تُجَّارٌ فِي تِلْكَ التِّجَارَةِ وَغَيْرِهَا فَكَذَلِكَ إذَا أَمَرَهُمْ بِالْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا قَدْ صَارَ رَاضِيًا بِاسْتِحْقَاقِ مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ فِي ذَلِكَ التَّصَرُّفِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُمْ إذَا بَاعُوا فَوَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْمَبِيعِ عَيْبًا كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِمْ وَيُطَالِبَهُمْ بِالثَّمَنِ .

وَلَوْ رَأَى عَبْدَهُ يَبِيعُ فِي حَانُوتِهِ مَتَاعَهُ لِغَيْرِهِ فَلَمْ يَنْهَهُ كَانَ مَأْذُونًا لِسُكُوتِ الْمَوْلَى عَنْ النَّهْيِ بَعْدَ عِلْمِهِ بِتَصَرُّفِهِ وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ مَا بَاعَ مِنْ مَتَاعِ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْبَيْعِ فِي ذَلِكَ الْمَتَاعِ يَعْتَمِدُ التَّوْكِيلَ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْأَمْرِ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَالْإِجَازَةِ فِي الِانْتِهَاءِ ، وَالسُّكُوتُ لَا يَكُونُ أَمْرًا وَلَا إجَازَةً فَلَا يَثْبُتُ بِهِ التَّوْكِيلُ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ فِيمَا يَبِيعُ مِنْ مَتَاعِ الْمَوْلَى بِأَمْرِهِ إذَا لَحِقَهُ عُهْدَةٌ يَرْجِعُ عَلَى الْمَوْلَى ، وَأَنَّ الضَّرَرَ يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْ الْمَتَاعِ فِي الْحَالِ ؛ فَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ ذَلِكَ بِالسُّكُوتِ بِخِلَافِ صَيْرُورَتِهِ مَأْذُونًا فَإِنَّ ذَلِكَ يَعْتَمِدُ الرِّضَى لَا التَّوْكِيلَ حَتَّى لَا يَرْجِعَ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ فِي سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ عَلَى الْمَوْلَى وَلَا يَتَحَقَّقُ الضَّرَرُ فِي حَقِّ الْمَوْلَى بِمُجَرَّدِ صَيْرُورَتِهِ مَأْذُونًا وَكَذَلِكَ عَبْدٌ دَفَعَ إلَيْهِ رَجُلٌ مَتَاعًا لِيَبِيعَهُ فَبَاعَهُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَوْلَى ، وَالْمَوْلَى يَرَاهُ يَبِيعُ وَلَا يَنْهَاهُ فَهُوَ إذْنٌ مِنْ الْمَوْلَى لَهُ فِي التِّجَارَةِ ، وَالْبَيْعُ فِي الْمَتَاعِ جَائِزٌ بِأَمْرِ صَاحِبِهِ لَا بِسُكُوتِ الْمَوْلَى عَنْ النَّهْيِ حَتَّى أَنَّ الْمَوْلَى وَإِنْ نَهَاهُ أَوْ لَمْ يَرَهُ أَصْلًا كَانَ الْبَيْعُ جَائِزًا ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلُ صَاحِبِ الْمَتَاعِ فِي الْبَيْعِ إلَّا أَنَّ تَأَثُّرَ صَيْرُورَتِهِ مَأْذُونًا فِي هَذَا التَّصَرُّفِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعُهْدَةَ تَكُونُ عَلَى الْعَبْدِ ، وَلَوْ نَهَاهُ الْمَوْلَى أَوْ لَمْ يَرَهُ كَانَتْ الْعُهْدَةُ عَلَى صَاحِبِ الْمَتَاعِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ الْمَحْجُورَ لَا يَلْزَمُ الْعُهْدَةَ فِي تَصَرُّفِهِ لِغَيْرِهِ وَإِذَا تَعَذَّرَ إيجَابُ الْعُهْدَةِ عَلَيْهِ تَعَلَّقَتْ الْعُهْدَةُ بِأَقْرَبِ النَّاسِ بَعْدَهُ مِنْ هَذَا التَّصَرُّفِ وَهُوَ الْأَمْرُ الَّذِي انْتَفَعَ بِتَصَرُّفِ الْعَبْدِ لَهُ .

وَإِذَا اغْتَصَبَ الْعَبْدُ مِنْ رَجُلٍ مَتَاعًا فَبَاعَهُ وَمَوْلَاهُ يَنْظُرُ إلَيْهِ فَلَمْ يَنْهَهُ عَنْهُ فَهَذَا إذْنٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ لِوُجُودِ دَلِيلِ الرِّضَا مِنْهُ بِتَصَرُّفِهِ حِينَ سَكَتَ عَنْ النَّهْيِ وَلَا يَنْفُذُ ذَلِكَ الْبَيْعُ سَوَاءٌ بَاعَهُ بِأَمْرِ الْمَوْلَى أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ الْبَيْعِ إزَالَةُ الْمِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فَلَا يَنْفُذُ إلَّا بِإِجَازَتِهِ فَكَذَلِكَ لَوْ رَأَى عَبْدَهُ يَبِيعُ مَتَاعًا لَهُ بِخَمْرٍ أَوْ أَمَرَهُ بِالْبَيْعِ ، وَالشِّرَاءِ بِالْخَمْرِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْهُ بِتِجَارَتِهِ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً ، وَإِنْ فَسَدَ ذَلِكَ الْعَقْدُ لِكَوْنِ الْبَدَلِ فِيهِ خَمْرًا ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذِهِ الْفُصُولَ لِإِزَالَةِ إشْكَالِ الْخَصْمِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَنْفُذْ ذَلِكَ الْعَقْدُ بِسُكُوتِهِ فَكَيْف يَصِيرُ بِهِ مَأْذُونًا فَإِنَّ هَذَا الْعَقْدَ الْفَاسِدَ لَا يَنْعَقِدُ بِأَمْرِهِ ، وَالْعَقْدُ عَلَى الْمَالِ الْمَغْصُوبِ لَا يَنْعَقِدُ بِأَمْرِ الْمَوْلَى أَيْضًا وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ الْعَبْدُ بِهِ مَأْذُونًا .

وَلَوْ أَرْسَلَ عَبْدَهُ إلَى أُفُقٍ مِنْ الْآفَاقِ بِمَالٍ عَظِيمٍ يَشْتَرِي لَهُ الْبَزَّ وَنَهَاهُ عَنْ بَيْعِهِ فَهَذَا إذْنٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ نَوْعًا مِنْ التِّجَارَةِ إلَى رَأْيِهِ وَهُوَ شِرَاءُ الْبَزِّ وَرَضِيَ بِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ الْوَاجِبِ بِشِرَاءِ الْبَزِّ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ .

وَلَوْ رَأَى عَبْدَهُ يَشْتَرِي بِمَالِهِ فَلَمْ يَنْهَهُ عَنْ ذَلِكَ وَمَالُ الْمَوْلَى دَرَاهِمُ وَدَنَانِيرُ فَهَذَا إذْنٌ مِنْهُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَمَا اشْتَرَاهُ الْعَبْدُ فَهُوَ لَازِمٌ لَهُ وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الَّذِي أَجَازَهُ ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ ، وَالدَّنَانِيرَ لَا يُعَيَّنَانِ فِي الْعُقُودِ ، وَإِنَّمَا كَانَ شَرَى الْعَبْدَ بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِ وَقَدْ صَارَ الْمَوْلَى بِسُكُوتِهِ عَنْ النَّهْيِ رَاضِيًا بِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ وَلَكِنْ لَا يَصِيرُ بِهِ رَاضِيًا بِقَضَاءِ دَيْنِهِ مِنْ سَائِرِ أَمْوَالِهِ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِالْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَمَا نَقَدَ مِنْ دَرَاهِمِ الْمَوْلَى مَالٌ آخَرُ لَهُ فَيَكُونُ الْعَبْدُ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُ كَالْمُسْتَقِرِّ لَهُ مِنْ مَوْلَاهُ ، وَالْإِقْرَاضُ بِالسُّكُوتِ لَا يَثْبُتُ فَلِهَذَا كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَأْخُذَ مَالَهُ مِنْ الَّذِي أَخَذَهُ ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ وَيَرْجِعُ ذَلِكَ الرَّجُلُ عَلَى الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ ثَمَنَ الْمَقْبُوضِ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ فَيُنْتَقَضُ قَبْضُهُ وَيَبْقَى الثَّمَنُ فِي ذِمَّتِهِ عَلَى حَالِهِ وَلَوْ كَانَ مَالُ الْمَوْلَى ذَلِكَ شَيْئًا بِعَيْنِهِ مِنْ الْعُرُوضِ ، وَالْمَكِيلِ ، وَالْمَوْزُونِ سِوَى الدَّرَاهِمِ ، وَالدَّنَانِيرِ كَانَ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْمَوْلَى إذَا أَخَذَهُ انْتَقَضَ شِرَاءُ الْعَبْدِ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ تَعَلَّقَ بِعَيْنِ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ فَصَارَ قَبْضُهُ مُسْتَحَقًّا بِالْعَقْدِ فَإِذَا فَاتَ الْقَبْضُ الْمُسْتَحَقُّ فِيهِ بِاسْتِحْقَاقِ الْمَوْلَى بَطَلَ الْعَقْدُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ .

وَإِذَا دَفَعَ إلَى غُلَامِهِ مَالًا وَأَمَرَهُ أَنْ يَخْرُجَ بِهِ إلَى بَلَدِ كَذَا وَيَدْفَعُهُ إلَى فُلَانٍ فَيَشْتَرِي بِهِ الْبَزَّ ، ثُمَّ يَدْفَعُهُ إلَيْهِ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ مَوْلَاهُ فَفَعَلَهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا إذْنًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَخْدَمَهُ حِينَ أَمَرَهُ بِحَمْلِ الْمَالِ إلَيْهِ وَلَمْ يُفَوِّضْ شَيْئَا مِنْ الْعُقُودِ إلَى رَأْيِهِ ، وَإِنَّمَا جَعَلَ الشِّرَاءَ بِهِ إلَى فُلَانٍ ، ثُمَّ الْعَبْدُ يَأْتِيهِ بِمَا يَشْتَرِيهِ فُلَانٌ لَهُ فَيَكُونُ هَذَا اسْتِخْدَامًا وَإِرْسَالًا لَا إذْنًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ .

وَلَوْ دَفَعَ إلَى عَبْدِهِ أَرْضًا لَهُ بَيْضَاءَ فَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ طَعَامًا فَيَزْرَعَهَا وَيَتَقَبَّلَ الْإِجْرَاءَ فِيهَا فَيَكْرِيُونَ أَنْهَارَهَا وَيَسْقُونَ زُرُوعَهَا وَيَكْرُبُونَهَا وَيُؤَدِّي خَرَاجَهَا فَهَذَا إذْنٌ مِنْهُ فِي التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ نَوْعًا مِنْ الْعَقْدِ إلَى رَأْيِهِ وَقَصَدَ تَحْصِيلَ الرِّبْحِ ، وَالْمَالِ بِتَصَرُّفِهِ وَرَضِيَ بِتَعَلُّقِ ثَمَنِ الطَّعَامِ وَأُجْرَةُ الْإِجْرَاءِ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ فَيَكُونُ بِهِ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ .

وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَبِيعَ لَهُ ثَوْبًا وَاحِدًا يُرِيدُ بِذَلِكَ الرِّبْحَ ، وَالتِّجَارَةَ فَهُوَ إذْنٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَى رَأْيِهِ بِاخْتِيَارِ مَنْ يُعَامِلُهُ فِي عَقْدٍ هُوَ تِجَارَةٌ وَكَانَ قَصْدُهُ مِنْ ذَلِكَ تَحْصِيلُ الرِّبْحِ وَصَارَ رَاضِيًا بِالْتِزَامِ الْعُهْدَةِ فِي مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ .

وَلَوْ قَالَ قَدْ أَذِنْتُ لَكَ فِي التِّجَارَةِ يَوْمًا وَاحِدًا فَإِذَا مَضَى رَأَيْتُ رَأَيَا فَهُوَ مَأْذُونٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ أَبَدًا حَتَّى يُحْجَرَ عَلَيْهِ فِي أَهْلِ سُوقِهِ ؛ لِأَنَّ فَكَّ الْحَجْرِ لَا يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ بِالْوَقْتِ كَمَا لَا يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ بِالْمَكَانِ .

وَلَوْ قَالَ أَذِنْتُ لَكَ فِي التِّجَارَةِ فِي هَذَا الْحَانُوتِ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْفَكَّ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ نَوْعٌ هُوَ لَازِمٌ تَامٌّ كَالْإِعْتَاقِ وَنَوْعٌ هُوَ لَازِمٌ غَيْرُ تَامٍّ كَالْكِتَابَةِ وَنَوْعٌ هُوَ غَيْرُ لَازِمٍ وَلَا تَامٍّ كَالْإِذْنِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَكَمَا أَنَّ النَّوْعَيْنِ الْآخَرَيْنِ لَا يَقْبَلَانِ التَّخْصِيصَ بِالزَّمَانِ ، وَالْمَكَانِ فَكَذَلِكَ هَذَا النَّوْعُ ، ثُمَّ تَقْيِيدُ هَذَا الْإِذْنِ بِوَقْتٍ كَتَقْيِيدِهِ بِنَوْعٍ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِذْنَ فِي نَوْعٍ خَاصٍّ يَكُونُ إذْنًا فِي جَمِيعِ التِّجَارَاتِ وَكَذَلِكَ الْإِذْنُ فِي يَوْمٍ أَوْ سَاعَةٍ يَكُونُ إذْنًا فِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ مَا لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ فِي أَهْلِ سُوقِهِ .

وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَذِنْتُ لَكَ فِي التِّجَارَةِ فِي هَذَا الشَّهْرِ فَإِذَا مَضَى هَذَا الشَّهْرُ فَقَدْ حَجَرْتُ عَلَيْكَ فَلَا تَبِيعَنَّ وَلَا تَشْتَرِيَنَّ بَعْدَ ذَلِكَ فَحَجْرُهُ هَذَا بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْحَجْرَ إلَى وَقْتٍ مُنْتَظَرٍ وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ الْمَأْذُونِ قَدْ حَجَرْتُ عَلَيْكَ رَأْسَ الشَّهْرِ فَإِنَّهُ يَكُونُ بَاطِلًا وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إلَى وَقْتِ مَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ ، وَالْحَجْرُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ إنْ كَلَّمْتُ فُلَانًا فَقَدْ حَجَرْتُ عَلَيْكَ كَانَ هَذَا بَاطِلًا فَكَذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إلَى وَقْتٍ وَفَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْإِذْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ الْمَحْجُورِ : إذَا كَانَ رَأْسُ الشَّهْرِ فَقَدْ أَذِنْتُ لَكَ فِي التِّجَارَةِ فَهُوَ كَمَا قَالَ وَلَا يَكُونُ مَأْذُونًا حَتَّى يَجِيءَ رَأْسُ الشَّهْرِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْإِطْلَاقِ ، وَالْإِطْلَاقَاتُ تَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ ، وَالتَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ ؛ لِأَنَّ فِي الْإِطْلَاقِ مَعْنَى إسْقَاطِ حَقِّهِ عَنْ مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ فَيَكُونُ نَظِيرَ الطَّلَاقِ ، وَالْعَتَاقِ فَأَمَّا الْحَجْرُ فَمِنْ بَابِ التَّقْيِيدِ ؛ لِأَنَّهُ رَفْعٌ لِلْإِطْلَاقِ وَهُوَ فِي الْمَعْنَى إحْرَازٌ لِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ حَتَّى لَا يَصِيرَ مُسْتَهْلَكًا عَلَيْهِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الدَّيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى التَّمْلِيكِ لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إلَى الْوَقْتِ ، وَالتَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ أَوْ يُجْعَلُ الْحَجْرُ بِمَنْزِلَةِ الرَّجْعَةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ وَبِمَنْزِلَةِ عَزْلِ الْوَكِيلِ وَعَزْلُ الْوَكِيلِ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فِي الْإِضَافَةِ إلَى وَقْتٍ بِخِلَافِ التَّوْكِيلِ .

وَإِذَا أَجَّرَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ مِنْ رَجُلٍ فَلَيْسَ هَذَا بِإِذْنٍ مِنْهُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُؤَاجِرُهُ لِلِاسْتِخْدَامِ وَلَوْ اسْتَخْدَمَهُ لِنَفْسِهِ لَا يَصِيرُ بِهِ مَأْذُونًا فَكَذَلِكَ إذَا أَجَّرَهُ مِنْ غَيْرِهِ لِلْخِدْمَةِ وَلَوْ أَجَّرَهُ مِنْهُ كُلَّ شَهْرٍ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ عَلَى أَنْ يَبِيعَ لَهُ الْبُرَّ وَيَشْتَرِيَهُ جَازَتْ الْإِجَارَةُ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَنَافِعُهُ فِي الْمُدَّةِ وَهِيَ مَعْلُومَةٌ فَصَارَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِتِجَارَتِهِ ، وَالْتِزَامِهِ الْعُهْدَةَ لِسَبَبِ التِّجَارَةِ فَمَا لَزِمَهُ مِنْ دَيْنٍ فِيمَا اشْتَرَى لِلْمُسْتَأْجِرِ رَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي التَّصَرُّفِ لَهُ نَائِبٌ كَالْوَكِيلِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ وَمَا لَزِمَهُ مِنْ دَيْنٍ فِيمَا اشْتَرَى لِنَفْسِهِ فَهُوَ فِي رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهِ أَوْ يَفْدِيهِ مَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ لَا لِلْمُسْتَأْجِرِ إلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْمَوْلَى عَنْهُ وَلِلْمُكَاتَبِ أَنْ يَأْذَنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ فَكَذَلِكَ الْمَأْذُونُ لَهُ أَنْ يَأْذَنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَصَرِّفٌ لِنَفْسِهِ بِفَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ ، ثُمَّ الْإِذْنُ فِي التِّجَارَةِ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ وَمِمَّا يَقْصِدُ بِهِ التُّجَّارُ تَحْصِيلَ الْمَالِ فَيَمْلِكُ الْمَأْذُونُ ، وَالْمُكَاتَبُ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ الشَّرِيكُ شَرِكَةَ عَنَانٍ لَهُ أَنْ يَأْذَنَ لِعَبْدٍ مِنْ شَرِكَتِهِمَا فِي التِّجَارَةِ وَهُوَ جَائِزٌ عَلَى شَرِيكِهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ عَمَلِ التِّجَارَةِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَائِبٌ عَنْ صَاحِبِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ عَمَلِ التِّجَارَةِ وَكَذَلِكَ الْمُضَارِبُ لَهُ أَنْ يَأْذَنَ لِعَبْدٍ مِنْ الْمُضَارَبَةِ فِي التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَى الْمُضَارِبِ مَا هُوَ مِنْ عَمَلِ التِّجَارَةِ فِي الْمَالِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ ، وَالْإِذْنُ فِي التِّجَارَةِ مِنْ عَمَلِ التِّجَارَةِ .

وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي فَصْلٍ وَهُوَ أَنَّ الْمُضَارِبَ فِي نَوْعٍ خَاصٍّ إذَا أَذِنَ لِعَبْدٍ مِنْ الْمُضَارَبَةِ فِي التِّجَارَةِ أَنَّ الْعَبْدَ يَصِيرُ مَأْذُونًا لَهُ فِي جَمِيعِ التِّجَارَاتِ أَمْ فِي ذَلِكَ النَّوْعِ خَاصَّةً فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يَصِيرُ مَأْذُونًا لَهُ فِي ذَلِكَ النَّوْعِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا اسْتَفَادَ الْإِذْنَ مِنْ الْمُضَارِبِ ، وَالْمُضَارِبُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ إلَّا فِي ذَلِكَ النَّوْعِ ؛ لِأَنَّ الْمُضَارَبَةَ تَقْبَلُ التَّخْصِيصَ فَكَذَلِكَ الْمَأْذُونُ مِنْ جِهَتِهِ ( قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) ، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مَأْذُونًا فِي التِّجَارَاتِ كُلِّهَا ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ فِي حَقِّهِ فَكُّ الْحَجْرِ وَهُوَ لَا يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ ، وَالْعَبْدُ مُتَصَرِّفٌ لِنَفْسِهِ فَإِنْ كَانَ الْآذِنُ لَهُ مُضَارِبًا لَا يَرْجِعُ بِالْعُهْدَةِ عَلَى الْمُضَارِبِ وَلَا عَلَى رَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ نَائِبٌ يَرْجِعُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ وَرَبُّ الْمَالِ لَمْ يَرْضَ بِرُجُوعِهِ عَلَيْهِ لِعُهْدَةِ نَوْعٍ آخَرَ مِنْ التَّصَرُّفِ فَأَمَّا هَذَا الْعَبْدُ فَلَا يَرْجِعُ بِالْعُهْدَةِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ فَهُوَ ، وَالْمَأْذُونُ مِنْ جِهَةِ مَوْلَاهُ سَوَاءٌ .

( أَلَا تَرَى ) أَنَّ عَبْدَ الْمُضَارَبَةِ لَوْ جَنَى جِنَايَةً لَا يَكُونُ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَدْفَعَهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِ رَبِّ الْمَالِ وَلَوْ أَنَّ عَبْدًا لِهَذَا الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ جَنَى جِنَايَةً كَانَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ بِجِنَايَتِهِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْمُضَارِبِ وَلَا مِنْ رَبِّ الْمَالِ وَيُجْعَلُ فِيهِ كَالْمَأْذُونِ مِنْ جِهَةِ مَوْلَاهُ فَهَذَا مِثْلُهُ .

وَإِذَا أَمَرَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ بِقَبْضِ غَلَّةِ دَارٍ أَوْ أَمَرَهُ بِقَبْضِ كُلَّ دَيْنٍ لَهُ عَلَى النَّاسِ أَوْ وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ مِنْهُ فِي ذَلِكَ فَلَيْسَ هَذَا بِإِذْنٍ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَكَذَلِكَ إنْ أَمَرَهُ بِالْقِيَامِ عَلَى زَرْعٍ لَهُ أَوْ أَرْضٍ أَوْ عَلَى عُمَّالٍ فِي بِنَاءِ دَارِهِ أَوْ أَنْ يُحَاسِبَ غُرَمَاءَهُ أَوْ أَنْ يُقَاضِيَ دَيْنَهُ عَنْ النَّاسِ وَيُؤَدِّيَ مِنْهُ خَرَاجَ أَرْضِهِ أَوْ يَقْضِيَ عَلَيْهِ دَيْنًا لَمْ يَكُنْ هُوَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَا أَمَرَهُ بِهِ مِنْ نَوْعِ الِاسْتِخْدَامِ لَا مِنْ نَوْعِ التِّجَارَةِ فَإِنَّهُ مَا فَوَّضَ شَيْئًا مِنْ عُقُودِ التِّجَارَةِ إلَى رَأْيِهِ وَلَا رَضِيَ مِنْهُ بِاكْتِسَابِ سَبَبٍ مُوجِبٍ لِلدَّيْنِ فِي مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ فَلَا يَصِيرُ بِهِ مَأْذُونًا .
فَإِنْ قِيلَ لَا كَذَلِكَ فَفِي الْقَبْضِ اكْتِسَابُ سَبَبٍ مُوجِبٍ لِلدَّيْنِ فِي مَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ لَوْ ظَهَرَ أَنَّ الْمَقْبُوضَ مُسْتَحَقٌّ .
قُلْنَا نَعَمْ وَلَكِنْ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ بِهَذَا السَّبَبِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إذْنِ الْمَوْلَى بِهِ فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمَحْجُورَ إذَا قَبَضَ مَالًا مِنْ إنْسَانٍ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ ، ثُمَّ اسْتَحَقَّ كَانَ ذَلِكَ الْمَالُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَيَتَعَلَّقُ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ ، وَإِنَّمَا الْإِذْنُ أَنْ يَرْضَى الْمَوْلَى بِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ بِسَبَبٍ لَوْلَا إذْنُهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ ذَلِكَ الدَّيْنُ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ .

وَلَوْ أَمَرَهُ بِقَرْيَةٍ لَهُ عَظِيمَةٍ أَنْ يُؤَاجِرَ أَرْضَهَا وَيَشْتَرِيَ الطَّعَامَ وَيَزْرَعَ فِيهَا وَيَبِيعَ الثِّمَارَ فَيُؤَدِّي خَرَاجَهَا كَانَ إذْنًا لَهُ فِي جَمِيعِ التِّجَارَاتِ ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَى رَأْيِهِ فِي أَنْوَاعٍ مِنْ التِّجَارَاتِ وَرَضِيَ بِتَعَلُّقِ الدُّيُونِ الَّتِي تَلْزَمُهُ بِتِلْكَ التِّجَارَاتِ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ فَيَصِيرُ بِهِ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَاتِ .

وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ اشْتَرِ لِي الْبُرَّ أَوْ الطَّعَامَ أَوْ قَالَ اشْتَرِ لِفُلَانٍ الْبُرَّ أَوْ الطَّعَامَ فَهَذَا إذْنٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِتِجَارَتِهِ وَتَعَلَّقَ الدَّيْنُ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ سَوَاءٌ أَضَافَ ذَلِكَ إلَى نَفْسِهِ أَوْ إلَى غَيْرِهِ أَوْ إلَى الْعَبْدِ بِأَنْ يَقُولَ اشْتَرِ لِنَفْسِكَ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ صَغِيرًا إلَّا أَنَّهُ يَعْقِلُ الْبَيْعَ ، وَالشِّرَاءَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وَهَذَا عِنْدَنَا وَبَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِي هَذَا فِي تَصَرُّفَاتِ الصَّبِيِّ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا وَكَذَلِكَ إذْنُ الْقَاضِي لِعَبْدِهِ الْيَتِيمِ فِي التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةَ التِّجَارَةِ فِي مَالِ الْيَتِيمِ كَمَا لِلْأَبِ ذَلِكَ وَلِلْوَصِيِّ ، ثُمَّ إذْنُهُمَا فِي التِّجَارَةِ لِعَبْدِ الصَّبِيِّ صَحِيحٌ فَكَذَلِكَ إذْنُ الْقَاضِي .

وَإِنْ قَالَ الْقَاضِي لِلْعَبْدِ اتَّجِرْ فِي الطَّعَامِ خَاصَّةً فَاتَّجَرَ فِي غَيْرِهِ فَهُوَ جَائِزٌ بِمَنْزِلَةِ إذْنِ الْمَوْلَى وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ نَابَ عَنْ الصَّبِيِّ فِي ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ الْمَوْلَى بَالِغًا فَقَالَ لِعَبْدِهِ : اتَّجِرْ فِي الْبُرِّ خَاصَّةً كَانَ لَهُ أَنْ يَتَّجِرَ فِي جَمِيعِ التِّجَارَاتِ فَكَذَلِكَ إذَا أَذِنَ لَهُ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ مِنْ الْقَاضِي لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ رَفْعَهُ بِالْحَجْرِ عَلَيْهِ فَهُوَ فِي ذَلِكَ كَغَيْرِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ الْقَاضِي : اتَّجِرْ فِي الْبُرِّ خَاصَّةً وَلَا تَتَعَدَّ إلَى غَيْرِهِ فَإِنِّي قَدْ حَجَرْتُ عَلَيْكَ أَنْ تَعْدُوهُ إلَى غَيْرِهِ فَهُوَ مَأْذُونٌ لَهُ فِي جَمِيعِ التِّجَارَاتِ وَقَوْلُ الْقَاضِي ذَلِكَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ تَقْيِيدَ الْإِذْنِ بِنَوْعٍ كَانَ بَاطِلًا ، فَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنِّي قَدْ حَجَرْتُ عَلَيْكَ أَنْ تَعْدُوهُ إلَى غَيْرِهِ حَجْرٌ خَاصٌّ فِي إذْنٍ عَامٍّ أَوْ حَجْرٌ مُعَلَّقٌ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَعْدُوهُ إلَى غَيْرِهِ ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ فَإِنْ دَفَعَ هَذَا الْعَبْدِ إلَى الْقَاضِي ، وَقَدْ اتَّجَرَ فِي غَيْرِ مَا أَمَرَ بِهِ فَلَحِقَهُ مِنْ ذَلِكَ دَيْنٌ فَأَبْطَلَهُ الْقَاضِي وَقَضَى بِذَلِكَ عَلَى الْغُرَمَاءِ ، ثُمَّ رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ أَمْضَى قَضَاءَهُ وَأَبْطَلَ دَيْنَهُمْ ؛ لِأَنَّهُ أَمْضَى فَصْلًا مُجْتَهِدًا فِيهِ بِقَضَائِهِ وَبَيْنَ الْعُلَمَاءِ اخْتِلَافٌ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْإِذْنَ فِي التِّجَارَةِ هَلْ يَقْبَلُ التَّخْصِيصَ وَقَضَاءُ الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهِدَاتِ نَافِذٌ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ الْقُضَاةِ أَنْ يُبْطِلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَهَذَا بِخِلَافِ أَمْرِهِ إيَّاهُ فِي الِابْتِدَاءِ أَنْ لَا يَتَصَرَّفَ إلَّا فِي كَذَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ لَيْسَ بِقَضَاءٍ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَسْتَدْعِي مَقْضِيًّا لَهُ وَمَقْضِيًّا عَلَيْهِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ عِنْدَ الْأَمْرِ فَأَمَّا قَضَاؤُهُ بِإِبْطَالِ دُيُونِ الْغُرَمَاءِ بَعْدَ مَا لَحِقَهُ فَقَضَاءٌ صَحِيحٌ مِنْهُ لِوُجُودِ الْمَقْضِيِّ لَهُ ، وَالْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ فَلَا يَكُونُ لِأَحَدٍ مِنْ الْقُضَاةِ أَنْ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96