كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي

( قَالَ : ) وَإِذَا أَخَذَتْ الْمَرْأَةُ رَهْنًا بِصَدَاقِهَا ، وَقِيمَتُهُ مِثْلُ الصَّدَاقِ فَهَلَكَ عِنْدَهَا فَهُوَ كَمَا فِيهِ ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الصَّدَاقِ يُسْتَوْفَى كَسَائِرِ الدُّيُونِ ، وَالرَّهْنُ يُثْبِتُ يَدَ الِاسْتِيفَاءِ وَيَتِمُّ الِاسْتِيفَاءُ بِهِ عِنْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الرَّهْنُ بِمَا فِيهِ } فَصَارَتْ عِنْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ مُسْتَوْفِيَةً لِصَدَاقِهَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اسْتَوْفَتْ حَقِيقَةً فَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا ضَمَّنَهَا نِصْفَ الصَّدَاقِ كَمَا لَوْ كَانَتْ اسْتَوْفَتْ حَقِيقَةً ، وَإِنْ كَانَ هَلَاكُ الرَّهْنِ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهَا فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ سَقَطَ نِصْفُ الصَّدَاقِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ غَرِمَهُ الزَّوْجُ ، وَلَوْ سَقَطَ الْكُلُّ بِإِبْرَائِهَا خَرَجَ الرَّهْنُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا فِي الْكُلِّ ، فَكَذَلِكَ إذَا سَقَطَ النِّصْفُ فَإِنَّمَا يَبْقَى ضَمَانُ الرَّهْنِ بِمَا بَقِيَ ، وَعِنْدَ هَلَاكِهِ إنَّمَا صَارَتْ مُسْتَوْفِيَةً لِمَا بَقِيَ فَلِهَذَا لَا تَغْرَمُ لَهُ شَيْئًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ، فَإِنَّ عِنْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ كَانَ جَمِيعُ الصَّدَاقِ وَاجِبًا هُنَاكَ فَصَارَتْ مُسْتَوْفِيَةً لِلْكُلِّ فَلِهَذَا لَزِمَهَا رَدُّ النِّصْفِ بَعْدَ الطَّلَاقِ .
( قَالَ : ) وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي النِّكَاحِ تَسْمِيَةٌ وَرَهَنَ عِنْدَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ رَهْنًا صَحَّ الرَّهْنُ ؛ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ كَالْمُسَمَّى فِي كَوْنِهِ دَيْنًا وَاجِبَ الِاسْتِيفَاءِ فَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ ، وَفِي قِيمَتِهِ وَفَاءٌ بِمَهْرِ الْمِثْلِ صَارَتْ مُسْتَوْفِيَةً ، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَعَلَيْهَا أَنْ تَرُدَّ مَا زَادَ عَلَى قَدْرِ الْمُتْعَةِ ؛ لِأَنَّ قَدْرَ الْمُتْعَةِ هُنَا كَنِصْفِ الْمُسَمَّى هُنَاكَ فَعَلَيْهَا أَنْ تَرُدَّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ ، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا ، وَالرَّهْنُ قَائِمٌ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَحْبِسَ الرَّهْنَ بِالْمُتْعَةِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْآخَرِ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ ، وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ

الِاسْتِحْسَانُ ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهَا أَنْ تَحْبِسَ الرَّهْنَ بِالْمُتْعَةِ لِوَجْهَيْنِ .
( أَحَدُهُمَا ) : أَنَّ الْمُتْعَةَ بِمَنْزِلَةِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ مَهْرِ الْمِثْلِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي النِّكَاحِ الَّذِي فِيهِ التَّسْمِيَةُ مَا يَجِبُ بَعْدَ الطَّلَاقِ جُزْءٌ مِمَّا كَانَ فِيهِ ، فَكَذَا فِي النِّكَاحِ الَّذِي لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الطَّلَاقَ مُسْقِطٌ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا فَعَرَفْنَا أَنَّ مَا بَقِيَ بَعْضُ مَا كَانَ وَاجِبًا قَبْلَ الطَّلَاقِ ، وَالرَّهْنُ بِالدَّيْنِ يَكُونُ مَحْبُوسًا بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ .
( وَالثَّانِي ) : أَنَّ الْمُتْعَةَ خَلَفٌ عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عِنْدَ سُقُوطِ مَهْرِ الْمِثْلِ بِالسَّبَبِ الَّذِي كَانَ يَجِبُ بِهِ مَهْرُ الْمِثْلِ ، وَهُوَ النِّكَاحُ ، وَهَذَا هُوَ حَدُّ الْأَصْلِ ، وَالْخَلَفِ ، ثُمَّ الرَّهْنُ بِالشَّيْءِ يَكُونُ مَحْبُوسًا بِمَا هُوَ خَلَفٌ عَنْهُ كَالرَّهْنِ بِالْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ يَكُونُ مَحْبُوسًا بِقِيمَتِهَا ، وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ الْمُتْعَةَ دَيْنٌ حَادِثٌ سِوَى مَهْرِ الْمِثْلِ ، وَالْمَحْبُوسُ بِدَيْنٍ لَا يَكُونُ مَحْبُوسًا بِدَيْنٍ آخَرَ سِوَاهُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ خِلَافِ جِنْسِ مَهْرِ الْمِثْلِ ، فَإِنَّ الْمُتْعَةَ ثِيَابٌ وَمَهْرُ الْمِثْلِ مِنْ النُّقُودِ ؛ وَلِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ قِيمَةُ بُضْعِهَا ، وَالْمُتْعَةُ تَذْكِرَةٌ لَهَا ، وَلَا يَلْتَقِيَانِ بِحَالٍ فَإِنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ يَجِبُ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ ، وَالْمُتْعَةُ تَجِبُ بَعْدَ ارْتِفَاعِ النِّكَاحِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْكَفِيلَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ لَا يَكُونُ كَفِيلًا بِالْمُتْعَةِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُمَا دَيْنَانِ مُخْتَلِفَانِ لَمْ يَكُنْ الرَّهْنُ بِأَحَدِهِمَا مَحْبُوسًا بِالْآخَرِ فَإِذَا هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِهَا قَبْلَ أَنْ تَمْنَعَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا ضَمَانٌ ، وَلَكِنَّهَا فِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ تَصِيرُ مُسْتَوْفِيَةً لِلْمُتْعَةِ ، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ لَا تَصِيرُ مُسْتَوْفِيَةً فَلَهَا أَنْ تُطَالِبَ الزَّوْجَ بِالْمُتْعَةِ ، وَإِنْ مَنَعَتْ الرَّهْنَ عَلَى

الزَّوْجِ بَعْدَ مُطَالَبَتِهِ حَتَّى هَلَكَ فَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ : لَا ضَمَانَ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهَا حَبَسَتْهُ لِحَقٍّ ، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ : هِيَ ضَامِنَةٌ لِلزَّوْجِ قِيمَةَ الْمَرْهُونِ ؛ لِأَنَّهَا حَبَسَتْهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَصَارَتْ غَاصِبَةً ضَامِنَةً

( قَالَ : ) فَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى غَيْرِ مَهْرٍ مُسَمًّى ثُمَّ فَرَضَ لَهَا بَعْدَ الْعَقْدِ دَارًا فَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ بَعْدَ الْعَقْدِ تَقْدِيرُ مَهْرِ الْمِثْلِ ، وَمَهْرُ الْمِثْلِ بَدَلُ الْبُضْعِ فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ ، وَلِهَذَا لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا كَانَ عَلَيْهَا أَنْ تَرُدَّ الدَّارَ وَتَرْجِعَ عَلَى الزَّوْجِ بِالْمُتْعَةِ ، وَإِنْ كَانَ سَمَّى فِي الْعَقْدِ مَهْرًا ثُمَّ بَاعَهَا دَارِهِ بِهِ كَانَ لِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ ؛ لِأَنَّهَا مَلَكَتْ الدَّارَ شِرَاءً بِالْمَهْرِ ، وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا كَانَتْ الدَّارُ سَالِمَةً لَهَا ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَا يَبْطُلُ بِالطَّلَاقِ ، وَلَكِنَّهَا تَرُدُّ نِصْفَ الْمُسَمَّى عَلَى الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مُسْتَوْفِيَةً لِلصَّدَاقِ بِالشِّرَاءِ .
( قَالَ : ) وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ لَهَا هَذِهِ الدَّارَ وَيُعْطِيَهَا إيَّاهَا مَهْرًا أَوْ قَالَ : أَتَزَوَّجُك عَلَى هَذِهِ الدَّارِ عَلَى أَنْ أَشْتَرِيَهَا فَأُسَلِّمَهَا إلَيْك كَانَ لَهَا أَنْ تَأْخُذَهُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ لَهَا ذَلِكَ ، وَالْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ وَاجِبٌ ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ الدَّارِ لَهَا ، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا نِصْفُ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ التَّسْمِيَةَ صَحِيحَةٌ فَإِنَّ الْمُسَمَّى مَالٌ ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ عَاجِزًا عَنْ تَسْلِيمِهِ وَقْتَ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى تَسْلِيمِ الصَّدَاقِ لَا تُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ التَّسْمِيَةِ ، فَإِنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ فِيمَا يُقَابِلُ الصَّدَاقَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ الْعَقْدِ ، وَلَكِنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْعَقْدِ فِيهِ صِفَةُ الْحِلِّ ، فَكَذَا فِي الصَّدَاقِ شَرْطُ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ صِفَةُ الْمَالِيَّةِ ، وَقَدْ وُجِدَ فَإِذَا تَحَقَّقَ عَجْزُهُ عَنْ تَسْلِيمِ الْمُسَمَّى تَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُ لَوْ كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى عَبْدِ الْغَيْرِ ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تُجَوِّزُ الْكِتَابَةَ عَلَى الْعَيْنِ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْكِتَابَةِ كَالْبَيْعِ

مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ ، وَلَا يَصِحُّ إلَّا بِتَسْمِيَةِ الْبَدَلِ فَكَمَا أَنَّ الْعَجْزَ عَنْ التَّسْلِيمِ فِي الْبَيْعِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ فَكَذَا فِي الْكِتَابَةِ .

( قَالَ : ) وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى دَارٍ فَاسْتُحِقَّ نِصْفُهَا خُيِّرَتْ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي ؛ لِأَنَّ التَّشْقِيصَ فِي الْأَمْلَاكِ الْمُجْتَمِعَةِ عَيْبٌ فَاحِشٌ ، فَإِنَّ نِصْفَ الدَّارِ لَا يُشْتَرَى بِنِصْفِ مَا يُشْتَرَى بِهِ جَمِيعُ الدَّارِ عَادَةً ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ تَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَهُوَ عَيْبٌ فَاحِشٌ ، فَإِنْ شَاءَتْ رَدَّتْ النِّصْفَ الْبَاقِي بِالْعَيْبِ وَرَجَعَتْ بِجَمِيعِ قِيمَةِ الدَّارِ ، وَإِنْ شَاءَتْ أَمْسَكَتْ وَرَجَعَتْ بِنِصْفِ قِيمَةِ الدَّارِ ، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ كَانَ لَهَا النِّصْفُ الَّذِي فِي يَدِهَا ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ فِي نِصْفِ الدَّارِ ، وَنِصْفُ الدَّارِ سَالِمٌ لَهَا فَلَا تَرْجِعُ بِشَيْءٍ آخَرَ عَلَيْهِ

( قَالَ : ) وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَهْرٍ مُسَمًّى ثُمَّ زَادَ فِيهِ جَازَتْ الزِّيَادَةُ إنْ دَخَلَ بِهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَصْلُهُ الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ بَعْدَ الْعَقْدِ ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْبُيُوعِ ، وَدَلِيلُنَا لِجَوَازِ الزِّيَادَةِ هُنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ } مَعْنَاهُ مِنْ فَرِيضَةٍ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ ، وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا بَطَلَتْ الزِّيَادَةُ إلَّا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ .
( قَالَ : ) وَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى مَهْرٍ فِي السِّرِّ وَسَمَّعَ فِي الْعَلَانِيَةِ بِأَكْثَرَ مِنْهُ يُؤْخَذُ بِالْعَلَانِيَةِ ، وَهَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ : إنْ كَانَا تَوَاضَعَا فِي السِّرِّ عَلَى مَهْرٍ ثُمَّ تَعَاقَدَا فِي الْعَلَانِيَةِ بِأَكْثَرَ مِنْهُ فَالْمَهْرُ مَهْرُ الْعَلَانِيَةِ ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْمُوَاضَعَةَ مَا كَانَتْ لَازِمَةً وَجُعِلَ مَا عَقَدَا عَلَيْهِ فِي الْعَلَانِيَةِ بِمَنْزِلَةِ الزِّيَادَةِ فِي مَهْرِهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ أَشْهَدَ عَلَيْهَا أَوْ عَلَى وَلِيِّهَا الَّذِي زَوَّجَهَا مِنْهُ أَنَّ الْمَهْرَ هُوَ الَّذِي فِي السِّرِّ ، وَالْعَلَانِيَةُ سُمْعَةٌ فَحِينَئِذٍ الْمَهْرُ مَا سَمَّى لَهَا فِي السِّرِّ ؛ لِأَنَّهُمَا فِي الْإِشْهَادِ أَظْهَرَا أَنَّ مُرَادَهُمَا الْهَزْلُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى مَهْرِ السِّرِّ ، وَالْهَزْلُ بِبَعْضِ الْمُسَمَّى مَانِعٌ مِنْ الْوُجُوبِ إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَقُولُ : كَمَا لَا يَعْمَلُ الْهَزْلُ فِي جَانِبِ الْمَنْكُوحَةِ فَكَذَلِكَ فِي جَانِبِ الصَّدَاقِ فَيَكُونُ مَهْرُهَا مَهْرَ الْعَلَانِيَةِ فَأَمَّا إذَا تَعَاقَدَا فِي السِّرِّ بِأَلْفٍ وَأَشْهَدَا أَنَّهُمَا يُجَدِّدَانِ الْعَقْدَ بِأَلْفَيْنِ سُمْعَةً ، فَالْمَهْرُ هُوَ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الثَّانِي بَعْدَ الْأَوَّلِ لَغْوٌ وَبِالْإِشْهَادِ عَلِمْنَا أَنَّهُمَا قَصَدَا الْهَزْلَ بِمَا سَمَّعَا فِيهِ ، وَإِنْ لَمْ يُشْهِدَا فِي ذَلِكَ فَاَلَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْمَهْرَ هُوَ مَهْرُ

الْعَلَانِيَةِ ، وَيَكُونُ هَذَا مِنْهُ زِيَادَةً لَهَا فِي الْمَهْرِ قَالُوا : وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْمَهْرُ هُوَ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الثَّانِي لَغْوٌ فَمَا ذُكِرَ فِيهِ مِنْ الزِّيَادَةِ أَيْضًا يَلْغُو ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَصْلُ الْعَقْدِ الثَّانِي ، وَإِنْ صَارَ لَغْوًا فَمَا ذُكِرَ فِيهِ مِنْ الزِّيَادَةِ يَكُونُ مُعْتَبَرًا بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ ، وَهُوَ أَكْبَرُ سِنًّا مِنْهُ : هَذَا ابْنِي فَإِنَّهُ لَمَّا لَغَا صَرِيحُ كَلَامِهِ عِنْدَهُمَا لَمْ يُعْتَقْ الْعَبْدُ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَإِنْ لُغِيَ صَرِيحُ كَلَامِهِ فِي حُكْمِ النَّسَبِ بَقِيَ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْعِتْقِ .

( قَالَ : ) وَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ رَدَّتْ عَلَيْهِ عَبْدًا فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهَا بَذَلَتْ شَيْئَيْنِ بِإِزَاءِ الْأَلْفِ الْبُضْعُ ، وَالْعَبْدُ فَيُقْسَمُ الْأَلْفُ عَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ وَمَهْرِ مِثْلِهَا ، فَمَا أَصَابَ الْعَبْدَ يَكُونُ شِرَاءً حَتَّى إذَا مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ ، أَوْ وَجَدَ الزَّوْجُ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ بَطَلَ ذَلِكَ الْقَدْرُ ، وَمَا أَصَابَ مَهْرَ الْمِثْلِ فَهُوَ صَدَاقٌ لَهَا حَتَّى إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ كَانَ لَهَا نِصْفُ ذَلِكَ .

( قَالَ ) : وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَبِيهَا ، وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ رَدَّتْ عَلَيْهِ أَمَةً قِيمَتُهَا أَلْفَانِ جَازَ ذَلِكَ ، وَعَتَقَ الْأَبُ قَبَضَتْهُ أَوْ لَمْ تَقْبِضْهُ ؛ لِأَنَّ الْأَبَ مَقْسُومٌ عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا ، وَعَلَى قِيمَةِ الْأَمَةِ فَمَا يَخُصُّ قِيمَةَ الْأَمَةِ تَكُونُ مُشْتَرِيَةً لَهُ بِالْأَمَةِ ، وَمَا يَخُصُّ مَهْرَ الْمِثْلِ يَكُونُ صَدَاقًا لَهَا ، وَكِلَا السَّبَبَيْنِ يُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ فَإِذَا مَلَكَتْ الْأَبَ عَتَقَ عَلَيْهَا ، ثُمَّ إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَعَلَيْهَا رَدُّ نِصْفِ مَا يَخُصُّ مَهْرَ الْمِثْلِ مِنْ قِيمَةِ أَبِيهَا ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ قَابِضَةً لِلْأَبِ بِالْعِتْقِ ، وَحِصَّةُ الصَّدَاقِ مِنْهُ تَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ ، وَقَدْ عَجَزَتْ عَنْ رَدِّهِ فَعَلَيْهَا رَدُّ نِصْفِ قِيمَةِ ذَلِكَ .

( قَالَ : ) وَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ تَرُدَّ عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ لَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَ الْمَذْكُورَةَ بِمُقَابَلَةِ الْأَلْفِ الْمَشْرُوطَةِ عَلَيْهَا ، فَإِنَّ الْأَمْوَالَ الرِّبَوِيَّةَ مَتَى قُوبِلَتْ بِجِنْسِهَا يَكُونُ الْجِنْسُ بِمُقَابَلَةِ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّ الْمُقَابَلَةَ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ ، وَالْمَالِيَّةُ مَعَ الْقُدْرَةِ لَا تَتَفَاوَتُ فَإِذَا صَارَتْ الْأَلْفُ بِمُقَابَلَةِ الْأَلْفِ بَقِيَ النِّكَاحُ بِغَيْرِ تَسْمِيَةِ الْمَهْرِ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا .

( قَالَ : ) وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ عَلَى أَنْ تَرُدَّ عَلَيْهِ مِائَةَ دِينَارٍ جَازَ ، وَتَقْسِمُ الْأَلْفَ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ ، وَعَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا فَمَا أَصَابَ الدَّنَانِيرَ يَكُونُ صَرْفًا ، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ التَّقَابُضُ فِي الْمَجْلِسِ ، وَمَا يَخُصُّ مَهْرَ الْمِثْلِ يَكُونُ صَدَاقًا فَإِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ رَدَّتْ نِصْفَ ذَلِكَ عَلَى الزَّوْجِ إنْ كَانَتْ قَبَضَتْ الْأَلْفَ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُقَابَلَةَ هُنَا بِخِلَافِ الْجِنْسِ ، وَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ الْمُقَابَلَةُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ الْجُودَةَ لَهَا قِيمَةٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ، وَالدَّنَانِيرُ فِي حُكْمِ الْمُقَابَلَةِ كَالْعُرُوضِ ، وَلَوْ تَفَرَّقَا قَبْلَ التَّقَابُضِ بَطَلَتْ حِصَّةُ الدَّنَانِيرِ مِنْ الدَّرَاهِمِ ؛ لِوُجُودِ الِافْتِرَاقِ قَبْلَ الْقَبْضِ فِي عَقْدِ الصَّرْفِ ، وَفِي هَذِهِ الْوُجُوهِ إنْ كَانَتْ حِصَّةُ مَهْرِ الْمِثْلِ مِنْ الْأَلْفِ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ يُكْمِلُ لَهَا عَشَرَةً ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى ذَلِكَ الْقَدْرِ ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَعَلَى أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ فُلَانَةَ ، وَعَلَى أَنْ رَدَّتْ عَلَيْهِ عَبْدًا فَنَقُولُ : الْمَرْأَةُ بَذَلَتْ شَيْئَيْنِ الْبُضْعَ ، وَالْعَبْدَ ، وَالزَّوْجُ بَذَلَ الْأَلْفَ ، وَشَرَطَ الطَّلَاقَ فِي ضَرَّتِهَا ، فَيُقْسَمُ الْأَلْفُ عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا ، وَعَلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ فَإِنْ كَانَا سَوَاءً صَارَ نِصْفُ الْأَلْفِ ثَمَنًا لِلْعَبْدِ ، وَنِصْفُ الْأَلْفِ صَدَاقٌ لَهَا فَإِذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَلَهَا نِصْفُ ذَلِكَ ، وَإِنْ دَخَلَ نَظَرَ فَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسَمِائَةٍ أَوْ أَقَلَّ فَلَيْسَ لَهَا إلَّا ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ وَفَّى بِالشَّرْطِ بِأَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فُلَانَةَ فَلَيْسَ لَهَا إلَّا الْخَمْسُمِائَةِ ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يُطَلِّقَ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ الطَّلَاقَ وَإِيقَاعُ الطَّلَاقِ لَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ فِي الذِّمَّةِ فَلَا يَلْزَمُهُ بِالشَّرْطِ شَيْءٌ ، وَلَكِنْ لَهَا كَمَالُ مَهْرِ مِثْلِهَا ؛ لِأَنَّ

لَهَا فِي طَلَاقِ ضَرَّتِهَا مَنْفَعَةً ، فَإِنَّمَا رَضِيَتْ بِدُونِ مَهْرِ مِثْلِهَا بِشَرْطِ أَنْ تُسَلَّمَ لَهَا هَذِهِ الْمَنْفَعَةُ ، فَإِذَا لَمْ تُسَلَّمْ كَانَ لَهَا كَمَالُ مَهْرِ مِثْلِهَا

( قَالَ : ) وَلَوْ كَانَ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَعَلَى طَلَاقِ فُلَانَةَ عَلَى أَنْ رَدَّتْ عَلَيْهِ عَبْدًا فَهُنَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ شَرَطَ أَنْ يُطَلِّقَ فَمَا لَمْ يُطَلِّقْ لَمْ يَقَعْ ، وَهُنَا أَوْجَبَ الطَّلَاقَ بِالْعَقْدِ عِوَضًا ، وَالْعِوَضُ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ فَلِهَذَا يَقَعُ الطَّلَاقُ هُنَا ، وَالزَّوْجُ بَذَلَ شَيْئَيْنِ الْأَلْفَ ، وَالطَّلَاقَ ، وَالْمَرْأَةُ بَذَلَتْ شَيْئَيْنِ الْبُضْعَ ، وَالْعَبْدَ ، وَالشَّيْئَانِ مَتَى قُوبِلَا بِشَيْئَيْنِ يَنْقَسِمْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرَيْنِ فَإِذَا كَانَ مَهْرُ الْمِثْلِ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ سَوَاءً كَانَ نِصْفُ الْأَلْفِ وَنِصْفُ الطَّلَاقِ بِمُقَابَلَةِ الْعَبْدِ ثَمَنًا وَنِصْفُ الْأَلْفِ وَنِصْفُ الطَّلَاقِ صَدَاقٌ لَهَا فَإِذَا طَلَّقَهَا قَبْل الدُّخُولِ بِهَا كَانَ لَهَا مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ ، وَالطَّلَاقُ الْوَاقِعُ عَلَى الضَّرَّةِ بَائِنٌ ؛ لِأَنَّ بِمُقَابَلَةِ الطَّلَاقِ نِصْفُ الْعَبْدِ وَنِصْفُ الْبُضْعِ فَكَانَ الطَّلَاقُ بِجُعَلٍ فَيَكُونُ بَائِنًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْجُعَلُ مَشْرُوطًا عَلَى الْمُطَلَّقَةِ ، وَإِنَّمَا جَعَلْنَا نِصْفَ الْعَبْدِ وَنِصْفَ الْبُضْعِ بِمُقَابَلَةِ الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّ الْمَجْهُولَ إذَا ضُمَّ إلَى الْمَعْلُومِ فَالِانْقِسَامُ بِاعْتِبَارِ الذَّاتِ دُونَ الْقِيمَةِ ، وَإِنْ اُسْتُحِقَّ الْعَبْدُ أَوْ هَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ رَجَعَ بِحِصَّةِ خَمْسِمِائَةٍ حِصَّةِ الْعَبْدِ لِمَا قُلْنَا وَتَتَنَصَّفُ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْعَبْدِ بِمُقَابَلَةِ نِصْفِ الطَّلَاقِ وَاسْتِحْقَاقُ الْجُعْلِ أَوْ هَلَاكُهُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ يُوجِبُ قِيمَتَهُ عَلَى مَنْ كَانَ مُلْتَزَمَ تَسْلِيمِهِ فَلِهَذَا رَجَعَ بِقِيمَةِ ذَلِكَ النِّصْفِ .

( قَالَ : ) وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَعَلَى أَنْ يُطَلِّقَ فُلَانَةَ فَأَبَى أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلَهَا كَمَالُ مَهْرِ مِثْلِهَا عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا رَضِيَتْ بِالْأَلْفِ بِاعْتِبَارِ مَنْفَعَةِ طَلَاقِ الضَّرَّةِ فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهَا ذَلِكَ فَلَهَا كَمَالُ مَهْرِ مِثْلِهَا كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ وَكَرَامَتِهَا أَوْ يُهْدِي إلَيْهَا هَدِيَّةً ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : إنْ شَرَطَ لَهَا مَعَ الْأَلْفِ مَا هُوَ مَالٌ كَالْهَدِيَّةِ ، وَالْكَرَامَةِ ؛ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ ، وَإِنْ شَرَطَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ كَطَلَاقِ الضَّرَّةِ فَلَيْسَ لَهَا إلَّا الْأَلْفُ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ يَتَقَوَّمُ بِالْإِتْلَافِ ، فَكَذَلِكَ يُمْنَعُ التَّسْلِيمُ إذَا شَرَطَ لَهَا فِي الْعَقْدِ .
فَأَمَّا الطَّلَاقُ وَنَحْوُهُ لَا يَتَقَوَّمُ بِالْإِتْلَافِ فَكَذَا لَا يَتَقَوَّمُ بِمَنْعِ التَّسْلِيمِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : لَا تُوجَبُ الزِّيَادَةُ بِاعْتِبَارِ تَقَوُّمِ مَا شَرَطَ لَهَا ؛ وَلَكِنْ لِانْعِدَامِ رِضَاهَا بِالْأَلْفِ بِدُونِ الْمَنْفَعَةِ الْمَشْرُوطَةِ .

( قَالَ : ) وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِير وَهُمَا مُسْلِمَانِ كَانَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا عِنْدَنَا ، وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : النِّكَاحُ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ يَمْنَعُ وُجُوبَ عِوَضٍ آخَرَ ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الْخَمْرِ بِالْعَقْدِ عَلَى الْمُسْلِمِ فَكَانَ بَاطِلًا كَمَا لَوْ بَاعَ عَبْدًا بِخَمْرٍ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : هُمَا شَرَطَا قَبُولَ الْخَمْرِ ، وَهُوَ شَرْطٌ فَاسِدٌ إلَّا أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ ، وَشَرْطُ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى مَالًا فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَطَلَتْ التَّسْمِيَةُ فَكَأَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ لَهَا عِوَضًا فَلِهَذَا كَانَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا وَهَكَذَا نَقُولُ فِي الْبَيْعِ : إنَّهُ يَصِيرُ كَأَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ ثَمَنًا ، وَالْبَيْعُ يَفْسُدُ عِنْدَ عَدَمِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ .

( قَالَ : ) وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ وَعَلَى أَرْطَالٍ مَعْلُومَةٍ مِنْ خَمْرٍ فَلَيْسَ لَهَا سِوَى الْأَلْفِ ؛ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ الْخَمْرِ ، وَالسُّكُوتَ عَنْهَا سَوَاءٌ كَمَا قُلْنَا ، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذَا الدَّنِّ مِنْ الْخَمْرِ ، وَقِيمَةُ الدَّنِّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَلَهَا الدَّنُّ دُونَ الْخَمْرِ ؛ لِأَنَّ الدَّنَّ مُتَقَوِّمٌ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ سَمَّى لَهَا الْخَمْرَ مَعَ الْعَشَرَةِ ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى أَنَّ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ الْمَظْرُوفُ دُونَ الظَّرْفِ ، وَالْمَظْرُوفُ لَيْسَ بِمَالٍ .

( قَالَ : ) وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذَا الْخَمْرِ ، فَإِذَا هُوَ خَلٌّ أَوْ عَلَى هَذَا الْحُرِّ فَإِذَا هُوَ عَبْدٌ فَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَهَا الْمُشَارُ إلَيْهِ ، وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِتَسْمِيَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ ، وَالْأَصَحُّ رِوَايَةُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِمَا بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ عِنْدَهُ إذَا كَانَ الْمُشَارُ إلَيْهِ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى يَتَعَلَّقُ الْحُكْمُ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ ، وَالْمُشَارُ إلَيْهِ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ .

( قَالَ : ) وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ امْرَأَةٌ ، وَعَلَى أَلْفَيْ دِرْهَمٍ إنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ أَوْ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ إنْ لَمْ يُخْرِجْهَا مِنْ الْكُوفَةِ ، وَعَلَى أَلْفَيْنِ إنْ أَخْرَجَهَا أَوْ قَدَّمَ شَرْطَ الْأَلْفَيْنِ فِي الْفَصْلَيْنِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْمَذْكُورُ أَوَّلًا صَحِيحٌ فِي الْوَجْهَيْنِ ، وَالثَّانِي فَاسِدٌ حَتَّى إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهَا نِصْفُ الْمَذْكُورِ أَوَّلًا ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا فَإِنْ وَفَّى بِالشَّرْطِ فَلَهَا الْأَلْفُ ، وَإِنْ لَمْ يُوَفِّ لَهَا بِالشَّرْطِ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا لَا يُجَاوِزُ بِهَا أَلْفَيْ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّهَا رَضِيَتْ بِالْأَلْفِ بِاعْتِبَارِ مَنْفَعَةٍ مَشْرُوطَةٍ ، فَإِذَا لَمْ تَنَلْ ذَلِكَ كَانَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ، وَلَكِنَّهَا رَضِيَتْ بِالْأَلْفَيْنِ بِيَقِينٍ ، فَلِهَذَا لَا يُجَاوِزُ بِهِ أَلْفَيْنِ ، وَإِنَّمَا جَوَّزَ الشَّرْطَ الْأَوَّلَ دُونَ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْعَقْدِ مَعَ بَقَائِهِ قَدْ تَمَّ بِذِكْرِ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ ، وَاسْتَقَرَّ بِذَلِكَ فَبِذِكْرِ الشَّرْطِ الثَّانِي قَصَدَ تَغَيُّرَ مُوجِبِ الْعَقْدِ مَعَ بَقَائِهِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ صَحِيحًا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الشَّرْطَانِ جَائِزَانِ عَلَى مَا اشْتَرَطَا ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الشَّرْطَانِ فَاسِدَانِ فَيَكُونُ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا لَا يُنْقَصُ عَنْ الْأَلْفِ ، وَلَا يُزَادُ عَنْ الْأَلْفَيْنِ ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ إذَا دَفَعَ إلَى خَيَّاطٍ ثَوْبًا ، وَقَالَ : إنْ خِطْته الْيَوْمَ فَلَكَ دِرْهَمٌ ، وَإِنْ خِطْته غَدًا فَلَكَ نِصْفُ دِرْهَمٍ وَسَنُبَيِّنُهَا ثَمَّةَ مَعَ نَظَائِرِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( قَالَ : ) وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفٍ وَكَرَامَتِهَا ، ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهَا نِصْفُ الْأَلْفِ ؛ لِأَنَّ مَهْرَ الْمِثْلِ سَقَطَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَاشْتِرَاطُ الزِّيَادَةِ الْمَجْهُولَةِ إنَّمَا كَانَ مُعْتَبَرًا فِي حَالِ قِيَامِ الْعَقْدِ ؛ لِإِيجَابِ مَهْرِ الْمِثْلِ بِقَوْلِهِ ، وَقَدْ سَقَطَ مَهْرُ الْمِثْلِ بِالطَّلَاقِ فَكَانَ لَهَا نِصْفُ الْأَلْفِ كَمَا لَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ تِلْكَ الزِّيَادَةَ أَصْلًا .

( قَالَ : ) وَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ أَوْ أَلْفَيْنِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُحَكَّمُ مَهْرُ الْمِثْلِ فَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفًا أَوْ أَقَلَّ فَلَهَا الْأَلْفُ ، وَإِنْ كَانَ أَلْفَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَلَهَا أَلْفَانِ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ وَأَقَلَّ مِنْ أَلْفَيْنِ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَهَا الْأَلْفُ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا ، وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ أَنَّ تَسْمِيَةَ الْمَالِ فِي النِّكَاحِ مُنْفَصِلٌ عَنْ الْعَقْدِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ الْعَقْدُ عَلَى ذِكْرِهِ فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْتِزَامِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ فَإِنَّمَا يَجِبُ الْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ كَمَنْ أَقَرَّ لِإِنْسَانٍ بِأَلْفٍ أَوْ أَلْفَيْنِ ؛ وَلِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ تَمَامِهِ ، وَالتَّخْيِيرُ بَيْنَ الْأَلْفِ ، وَالْأَلْفَيْنِ فِيهِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ فَكَانَ قِيَاسُ الطَّلَاقِ بِمَالٍ ، وَالْعِتْقِ بِمَالٍ ، وَهُنَاكَ إذَا سَمَّى الْأَلْفَ أَوْ الْأَلْفَيْنِ يَجِبُ الْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ ، وَلَا وَجْهَ إلَى الرُّجُوعِ إلَى مَهْرِ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّهُ مُوجِبُ نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ ، وَبِالتَّخْيِيرِ لَا تَنْعَدِمُ التَّسْمِيَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : النِّكَاحُ عَقْدٌ يُسْتَحَقُّ فِيهِ - التَّسْلِيمُ وَالتَّسَلُّمُ ، فَالتَّخْيِيرُ فِي الْمُسَمَّى فِيهِ بَيْنَ الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ ، يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ كَالْبَيْعِ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ، فَإِنَّهُ لَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى التَّسْلِيمِ ، وَالتَّسَلُّمِ إلَّا أَنَّ فِي الْبَيْعِ انْعِدَامَ التَّسْمِيَةِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ ، فَكَذَا جَهَالَةُ الْمُسَمَّى بِخِلَافِ النِّكَاحِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ هَذِهِ الْجَهَالَةَ كَجَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ أَقْوَى مِنْهَا فَإِنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ تَارَةً ، وَبَيْنَ الْمَقَادِيرِ الْمُخْتَلِفَةِ تَارَةً ، وَمِثْلُ هَذِهِ الْجَهَالَةِ يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّسْمِيَةِ فَإِذَا لَمْ تَصِحَّ

التَّسْمِيَةُ يُصَارُ إلَى الْمُوجِبِ الْأَصْلِيِّ ، وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ ، وَبِهِ فَارَقَ الطَّلَاقَ ، وَالْعَتَاقَ ؛ لِأَنَّهُ لَا مُوجِبَ لِذَلِكَ الْعَقْدِ فِي الْأَصْلِ حَتَّى لَا يَجِبُ شَيْءٌ عِنْدَ عَدَمِ ذِكْرِ الْبَدَلِ فَلِهَذَا أَوْجَبْنَا الْأَقَلَّ وَبِخِلَافِ الْإِقْرَارِ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الْمُقَرَّ بِهِ لَيْسَ بِعِوَضٍ فَلَوْ عَيَّنَّا الْأَقَلَّ لَا يَكُونُ فِيهِ بَخْسٌ لِحَقِّ الْمُقَرِّ لَهُ ، وَهُنَا الصَّدَاقُ عِوَضٌ عَمَّا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهَا ، وَفِي تَعْيِينِ الْأَقَلِّ بَخْسٌ لِحَقِّهَا ، وَالنَّظَرُ وَاجِبٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَحَكَّمْنَا مَهْرَ الْمِثْلِ لِهَذَا .

( قَالَ : ) وَكَذَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى هَذَا الْعَبْدِ الْحَبَشِيِّ ، أَوْ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ الْأَبْيَضِ فَهُوَ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ تَحْكِيمِ مَهْرِ الْمِثْلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَوُجُوبِ الْأَوْكَسِ لَهَا عِنْدَهُمَا إلَّا أَنْ يُعْطِيَ الزَّوْجُ الْأَفْضَلَ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ عَلَيْهَا ، وَهَذَا عِنْدَهُمَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ : عَلَى أَنْ أُعْطِيَك أَيَّهمَا شِئْت ، وَلَوْ صَرَّحَ بِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا أَيَّهمَا شَاءَ إنْ شَرَطَ الْمَشِيئَةَ لِنَفْسِهِ ، وَكَانَ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ أَيَّهمَا شَاءَتْ إنْ شَرَطَ الْمَشِيئَةَ لَهَا ، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : بِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لِأَحَدِهِمَا تَنْعَدِمُ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهَا وَيَسْتَبِدُّ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ بِالتَّعْيِينِ فَلِهَذَا صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ ، وَعِنْدَ عَدَمِ شَرْطِ الْخِيَارِ تَتَحَقَّقُ الْمُنَازَعَةُ ، وَلَيْسَ الرُّجُوعُ إلَى قَوْلِ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَكَانَتْ التَّسْمِيَةُ فَاسِدَةً كَمَا فِي الْبَيْعِ إذَا بَاعَ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ لَا يَجُوزُ .
وَلَوْ سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا وَشَرَطَ الْخِيَارَ فِيهِ لِأَحَدِهِمَا جَازَ ، وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا نِصْفُ الْأَوْكَسِ ، وَفِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لَهَا نِصْفُ الْأَلْفِ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ كَانَتْ بِاعْتِبَارِ مَهْرِ الْمِثْلِ ، وَقَدْ سَقَطَ مَهْرُ الْمِثْلِ بِالطَّلَاقِ فَلِهَذَا كَانَ لَهَا نِصْفُ الْأَقَلِّ .

( قَالَ : ) وَإِنْ تَزَوَّجَهَا عَلَى حُكْمِهِ أَوْ عَلَى حُكْمِهَا أَوْ عَلَى حُكْمِ رَجُلٍ أَجْنَبِيٍّ فَهَذِهِ التَّسْمِيَةُ فَاسِدَةٌ ؛ لِلْجَهَالَةِ ، وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ فَوْقَ جَهَالَةِ مَهْرِ الْمِثْلِ إلَّا أَنَّهُ أَضَافَ الْحُكْمَ إلَى نَفْسِهِ ، فَإِنْ حَكَمَ لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ أَكْثَرَ جَازَ حُكْمُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَحْكُمُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَلَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ ، وَإِنْ حَكَمَ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا لَمْ يَجُزْ بِدُونِ رِضَاهَا ؛ لِأَنَّهُ حَكَمَ عَلَيْهَا بِإِسْقَاطِ بَعْضِ حَقِّهَا ، وَلَيْسَ لَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ عَلَيْهَا ، وَإِنْ أَضَافَ الْحُكْمَ إلَيْهَا فَإِنْ حَكَمَتْ بِمَهْرِ الْمِثْلِ أَوْ أَقَلَّ فَلَهَا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا تَحْكُمُ عَلَى نَفْسِهَا ، وَإِنْ حَكَمَتْ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا لَمْ يَجُزْ حُكْمُهَا بِدُونِ رِضَا الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهَا تَحْكُمُ عَلَى الزَّوْجِ بِالزِّيَادَةِ ، وَلَيْسَ لَهَا عَلَيْهِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ ، وَإِنْ أَضَافَ الْحُكْمَ إلَى الْأَجْنَبِيِّ فَإِنْ حَكَمَ بِمَهْرِ الْمِثْلِ جَازَ ذَلِكَ ، وَإِنْ حَكَمَ بِأَقَلَّ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ لَمْ يَجُزْ بِدُونِ رِضَاهَا ، وَإِنْ حَكَمَ بِأَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ لَمْ يَجُزْ بِدُونِ رِضَا الزَّوْجِ .

( قَالَ : ) وَلَا يَجِبُ الْمَهْرُ عَلَى مَنْ قَبِلَ النِّكَاحَ لِغَيْرِهِ بِوَكَالَةٍ أَوْ وِلَايَةٍ عَلَى صَغِيرِهِ أَوْ عَلَى عَبْدِهِ أَوْ عَلَى مُكَاتَبِهِ مَا لَمْ يَضْمَنْهُ ، وَلَهَا الْمَهْرُ عَلَى الزَّوْجِ ؛ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { الصَّدَاقُ عَلَى مَنْ أَخَذَ السَّاقَ } ؛ وَلِأَنَّ تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إلَى الزَّوْجِ فَوَجَبَ الْبَدَلُ عَلَيْهِ أَيْضًا ، وَالْعَاقِدُ مُعَبِّرٌ عَنْهُ حَتَّى لَا يُسْتَغْنَى عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَيْهِ فَلَا يَكُونُ مُلْتَزِمًا لِلْبَدَلِ إلَّا أَنْ يَضْمَنَهُ فَيُؤَاخَذُ بِالضَّمَانِ حِينَئِذٍ .

( قَالَ : ) وَإِذَا تَزَوَّجَ الْحَرْبِيُّ الْحَرْبِيَّةَ مِنْ غَيْرِ مَهْرٍ أَوْ عَلَى مَيْتَةٍ ثُمَّ أَسْلَمَا فَلَا مَهْرَ لَهَا أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَظَاهِرٌ كَمَا فِي الذِّمِّيِّينَ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَعِنْدَهُمَا فِي الذِّمِّيِّينَ إنَّمَا يَجِبُ الْمَهْرُ ؛ لِأَنَّ الْخِطَابَ بِالِابْتِغَاءِ بِالْمَالِ شَائِعٌ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ مُلْتَزِمُونَ لِأَحْكَامِنَا فِي الْمُعَامَلَاتِ ، فَأَمَّا فِي دَارِ الْحَرْبِ الْخِطَابُ بِهِ غَيْرُ شَائِعٍ ، وَهُمْ غَيْرُ مُلْتَزِمِينَ لِأَحْكَامِنَا فَلِهَذَا لَا شَيْءَ لَهَا ، وَإِذَا أَسْلَمَا بَعْدَ ذَلِكَ فَالْحَالُ حَالُ بَقَاءِ النِّكَاحِ ، وَالصَّدَاقُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي حَالِ بَقَاءِ النِّكَاحِ .
( قَالَ : ) وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى مَهْرٍ مُسَمًّى ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ صَارَا ذِمَّةً فَلَهَا ذَلِكَ الْمُسَمَّى ؛ لِأَنَّهُ صَارَ دَيْنًا لَهَا عَلَيْهِ بِالتَّسْمِيَةِ فِي عَقْدٍ صَحِيحٍ فَلَا يَزِيدُهُ الْإِسْلَامُ إلَّا وَكَادَةً ، وَإِنْ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا ثُمَّ أَسْلَمَا فَلَهَا أَنْ تَأْخُذَهُ بِنِصْفِ الْمُسَمَّى ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يُسْقِطُ عَنْهُ إلَّا النِّصْفَ فَيَبْقَى مُطَالَبًا بِمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ سَمَّى لَهَا شَيْئًا فَلَا مُتْعَةَ لَهَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ مَا كَانَ لَهَا عَلَيْهِ شَيْءٌ ، وَإِنْ أَسْلَمَا فَبَعْدَ الطَّلَاقِ أَوْلَى

( قَالَ : ) رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَالْأَلْفُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ مَهْرِ كُلِّ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الْوَاحِدَ إذَا قُوبِلَ بِشَيْئَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ يَنْقَسِمُ عَلَى مِقْدَارِ قِيمَتِهِمَا كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَقِيمَةُ الْبُضْعِ مَهْرُ الْمِثْلِ فَإِنْ طَلَّقَ إحْدَاهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ كَانَ لَهَا نِصْفُ حِصَّتِهَا مِنْ الْأَلْفِ فَإِنْ طَلَّقَهَا كَانَ لَهُمَا نِصْفُ الْأَلْفِ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ مَهْرَيْهِمَا ، فَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا مِمَّنْ لَا يَحِلُّ لَهُ بِأَنْ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ أَوْ مُعْتَدَّةً مِنْ زَوْجٍ أَوْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ بِرَضَاعٍ أَوْ صِهْرِيَّةً ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَلْفُ كُلُّهَا مَهْرُ الَّتِي تَحِلُّ لَهُ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تُقْسَمُ الْأَلْفُ عَلَى قَدْرِ مَهْرَيْهِمَا ، فَمَهْرُ الَّتِي تَحِلُّ لَهُ حِصَّتُهَا مِنْ ذَلِكَ ، وَحُجَّتُهُمَا أَنَّ الْأَلْفَ مُسَمًّى بِمُقَابَلَةِ الْبُضْعَيْنِ ، وَإِنَّمَا الْتَزَمَهَا الزَّوْجُ عِنْدَ سَلَامَةِ الْبُضْعَيْنِ لَهُ فَإِذَا لَمْ يَسْلَمْ لَهُ إلَّا أَحَدُهُمَا لَا يَلْزَمُهُ إلَّا حِصَّتُهَا مِنْ الْأَلْفِ ، كَمَا لَوْ خَاطَبَ امْرَأَتَيْنِ بِالنِّكَاحِ بِأَلْفٍ فَأَجَابَتْ إحْدَاهُمَا دُونَ الْأُخْرَى ، وَكَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ فَإِذَا أَحَدُهُمَا مُدَبَّرٌ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الِانْقِسَامَ جُعِلَ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الَّتِي لَا تَحِلُّ لَهُ حَتَّى لَوْ دَخَلَ بِهَا يَلْزَمُهُ مَهْرُ مِثْلِهَا لَا يُجَاوِزُ بِهِ حِصَّتَهَا مِنْ الْأَلْفِ عَلَيْهِ نَصَّ فِي الزِّيَادَاتِ ، وَادَّعَى الْمُنَاقَضَةَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا ، وَكَذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ بِوَطْئِهَا مَعَ الْعِلْمِ ، وَمِنْ ضَرُورَةِ دُخُولِهَا فِي الْعَقْدِ انْقِسَامُ الْبَدَلِ الْمُسَمَّى ، وَعِنْدَهُمَا إنَّمَا يَجِبُ الْحَدُّ ؛ لِانْتِفَاءِ شُبْهَةِ الْحِلِّ ، فَإِنَّ الْعَقْدَ لَا يَنْعَقِدُ فِي

غَيْرِ مَحَلِّ الْحِلِّ ، وَسُقُوطُ الْحَدِّ مِنْ حُكْمِ انْعِقَادِ الْعَقْدِ .
فَأَمَّا الِانْقِسَامُ مِنْ حُكْمِ التَّسْمِيَةِ لَا مِنْ حُكْمِ انْعِقَادِ الْعَقْدِ كَمَا لَوْ أَجَابَتْهُ إحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى ، وَاحْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ ، وَقَالَ : ضَمُّ الَّتِي لَا تَحِلُّ لَهُ إلَى الَّتِي تَحِلُّ لَهُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ لَغْوٌ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ ضَمِّ جِدَارٍ أَوْ أُسْطُوَانَةٍ إلَى الْمَرْأَةِ فِي النِّكَاحِ ، وَهُنَاكَ الْبَدَلُ الْمُسَمَّى كُلُّهُ بِمُقَابَلَتِهَا دُونَ مَا ضَمَّهُ إلَيْهَا فَكَذَا هُنَا ، وَبَيَانُ ذَلِكَ : أَنَّ النِّكَاحَ يَخْتَصُّ بِمَحَلِّ الْحِلِّ ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُ مِلْكُ الْحِلِّ ، وَبَيْنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ فِي الْمَحَلِّ مُنَافَاةٌ ، فَفِي حَقِّ الْمُحَرَّمَةِ الْعَقْدُ مُضَافٌ إلَى غَيْرِ مَحَلِّهِ ، وَانْقِسَامُ الْبَدَلِ مِنْ حُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ ، وَالْمُسَاوَاةِ فِي الدُّخُولِ فِي الْعَقْدِ ، فَإِذَا انْعَدَمَ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ الِانْقِسَامُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ كَانَ بِإِزَاءِ كُلِّ تَطْلِيقَةٍ ثُلُثُ الْأَلْفِ ، وَلَوْ كَانَتْ عِنْدَهُ بِتَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ فَطَلَّقَهَا ثَلَاثًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ كَانَتْ الْأَلْفُ كُلُّهَا بِمُقَابَلَةِ الْوَاحِدَةِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا خَاطَبَهَا بِالنِّكَاحِ ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الْإِيجَابِ حَتَّى لَوْ أَجَابَتَاهُ صَحَّ نِكَاحُهُمَا جَمِيعًا فَيَثْبُتُ حُكْمُ انْقِسَامِ الْبَدَلِ بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْإِيجَابِ ، وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ مَعَ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ مَالٌ مَمْلُوكٌ فَيَدْخُلُ تَحْتَ الْعَقْدِ ثُمَّ يَسْتَحِقُّ نَفْسَهُ بِحَقِّ الْحُرِّيَّةِ ، وَلِهَذَا لَوْ قَضَى الْقَاضِي بِجَوَازِ بَيْعِهِ جَازَ .
فَأَمَّا إذَا دَخَلَ بِاَلَّتِي لَا تَحِلُّ لَهُ فَفِي هَذَا الْكِتَابِ يَقُولُ : لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا مُطْلَقًا ، وَهُوَ الْأَصَحُّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَمَا ذُكِرَ فِي الزِّيَادَاتِ فَهُوَ قَوْلُهُمَا ، وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ يَقُولُ : الْمَنْعُ مِنْ الْمُجَاوَزَةِ بِمُجَرَّدِ التَّسْمِيَةِ ،

وَرِضَاهَا بِالْقَدْرِ الْمُسَمَّى ؛ لِانْعِقَادِ الْعَقْدِ ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ الَّتِي لَا تَحِلُّ لَهُ فَأَمَّا الِانْقِسَامُ لِلِاسْتِحْقَاقِ بِاعْتِبَارِ الدُّخُولِ فِي الْعَقْدِ فَاَلَّتِي تَحِلُّ لَهُ هِيَ الْمُخْتَصَّةُ بِذَلِكَ فَكَانَ جَمِيعُ الْبَدَلِ لَهَا ، وَكَذَلِكَ سُقُوطُ الْحَدِّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ حُكْمِ صُورَةِ الْعَقْدِ لَا مِنْ حُكْمِ انْعِقَادِهِ ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الَّتِي لَا تَحِلُّ لَهُ فَأَمَّا انْقِسَامُ الْبَدَلِ مِنْ حُكْمِ انْعِقَادِ الْعَقْدِ .

( قَالَ : ) رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى عَبْدٍ وَدَفَعَهُ إلَيْهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَقَدْ جَنَى الْعَبْدُ عِنْدَهَا جِنَايَةً فَالزَّوْجُ بِالْخِيَارِ ؛ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْجِنَايَةِ بِرَقَبَتِهِ مِنْ أَفْحَشِ الْعُيُوبِ فَإِنَّهُ شَبِيهٌ بِاسْتِحْقَاقِ نَفْسِهِ ، وَذَلِكَ مُثْبِتُ الْخِيَارِ لِلزَّوْجِ ، فَإِنْ أَخَذَ نِصْفَهُ دَفَعَاهُ أَوْ فَدَيَاهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَلَّكُهُ ابْتِدَاءً بِالطَّلَاقِ ، وَلَكِنْ يَعُودُ إلَيْهِ هَذَا النِّصْفُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمَرْأَةِ صُنْعٌ يَكُونُ اخْتِيَارًا أَوْ اسْتِهْلَاكًا فَلِهَذَا تَبْقَى الْجِنَايَةُ مُتَعَلِّقَةً بِرَقَبَتِهِ فَيُخَاطَبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدَفْعِ النِّصْفِ أَوْ الْفِدَاءِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ ثُمَّ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا مِنْ قِبَلِ الْجِنَايَةِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِأَخْذِ النِّصْفِ مَشْغُولًا بِالْجِنَايَةِ ، وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِ ذَلِكَ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ وَأَخَذَ مِنْهَا نِصْفَ قِيمَتِهِ يَوْمَ دَفَعَهُ إلَيْهَا ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهَا الرَّدُّ كَمَا قَبَضَتْ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ فِي يَدِ الزَّوْجِ قَبْلَ الْقَبْضِ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا كَانَ لَهَا الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ تَأْخُذَ نِصْفَ قِيمَتِهِ يَوْمَ تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ ، وَبَيْنَ أَخْذِ نِصْفِهِ ثُمَّ يُخَاطَبَانِ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ كَمَا بَيَّنَّا ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ ، وَالْعَبْدُ فِي يَدِهِ فَإِنْ شَاءَتْ أَخَذَتْ قِيمَتَهُ صَحِيحًا يَوْمَ تَزَوَّجَهَا عَلَيْهِ ، وَإِنْ شَاءَتْ أَخَذَتْ الْعَبْدَ ثُمَّ تُخَاطَبُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ ، وَلَا تَرْجِعُ عَلَى الزَّوْجِ بِشَيْءٍ لِمَا قُلْنَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ

بَابُ الْخِيَارِ فِي النِّكَاحِ ( قَالَ : ) وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ امْرَأَةً ، وَاشْتُرِطَ فِيهِ لِأَحَدِهِمَا أَوْ لَهُمَا خِيَارٌ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ ، وَالْخِيَارُ بَاطِلٌ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى النِّكَاحُ بَاطِلٌ فَمِنْهُمْ مِنْ جَعَلَ هَذَا بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ نِكَاحِ الْمُكْرَهِ ، فَإِنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ يُعْدِمُ الرِّضَا كَالْإِكْرَاهِ ، وَمِنْ أَصْلِنَا انْعِدَامُ الرِّضَا بِسَبَبِ الْإِكْرَاهِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ النِّكَاحِ وَلُزُومَهُ ، وَعِنْدَهُ يَمْنَعُ فَكَذَلِكَ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ ، وَلَكِنَّ هَذَا الْبِنَاءَ عَلَى أَصْلِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنَّ الْإِكْرَاهَ عِنْدَهُ يُفْسِدُ الْعَقْدَ ، وَالْعِبَارَةُ وَخِيَارُ الشَّرْطِ لَا يُفْسِدُ ، وَلِهَذَا لَمْ يُصَحِّحْ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ مِنْ الْمُكْرَهِ وَصَحَّحَهُمَا مَعَ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ ، وَحُجَّتُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ فِي مَعْنَى التَّوْقِيتِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَا يَثْبُتُ فِيهِ الْخِيَارُ ، وَهُوَ الْبَيْعُ يَتَأَخَّرُ حُكْمُ الْعَقْدِ ، وَهُوَ الْمِلْكُ إلَى مَا بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَيَصِيرُ الْعَقْدُ فِي حَقِّ مِلْكِهِ كَالْمُضَافِ فَكَذَلِكَ هُنَا بِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ يَصِيرُ النِّكَاحُ مُضَافًا ، وَإِضَافَةُ النِّكَاحِ إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا يَجُوزُ ، وَالتَّوْقِيتُ فِي النِّكَاحِ يَمْنَعُ صِحَّةَ النِّكَاحِ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا شَهْرًا ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ثَلَاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جِدٌّ النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ } ، وَالْهَزْلُ وَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الْهَازِلَ قَاصِدٌ إلَى مُبَاشَرَةِ السَّبَبِ غَيْرُ رَاضٍ بِحُكْمِهِ بَلْ أَوْلَى ، فَإِنَّ الْهَازِلَ غَيْرُ رَاضٍ بِالْحُكْمِ أَبَدًا ، وَشَارِطُ الْخِيَارِ غَيْرُ رَاضٍ بِالْحُكْمِ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ فَإِذَا لَمْ يَمْنَعْ الْهَزْلُ تَمَامَهُ ؛ فَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ أَوْلَى .
وَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّهُ قَدْ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ تَمَامِهِ ، وَلَا يَقْبَلُ خِيَارَ الشَّرْطِ ، فَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ لَا يَمْنَعُ

تَمَامَهُ كَالطَّلَاقِ ، وَالْعَتَاقِ بِمَالٍ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ أَصْلِ السَّبَبِ مُطْلَقًا ، وَإِنَّمَا يُعْدِمُ الرِّضَا بِلُزُومِهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ ، وَمِنْ ضَرُورَةِ انْعِقَادِ النِّكَاحِ صَحِيحًا اللُّزُومُ فَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ يَكُونُ شَرْطًا فَاسِدًا ، وَالنِّكَاحُ لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ ، وَلَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ وَلُزُومُهُ عَلَى تَمَامِ الرِّضَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ تَمَامَ الرِّضَا إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الرُّؤْيَةِ كَمَا فِي الْبَيْعِ ثُمَّ عَدَمُ الرُّؤْيَةِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ النِّكَاحِ وَلُزُومَهُ ، حَتَّى لَا يَثْبُتَ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ بِخِلَافِ الْإِضَافَةِ إلَى وَقْتٍ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ انْعِقَادَ السَّبَبِ فِي الْحَالِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مِثْلَهُ لَا يَصِحُّ فِي الْبَيْعِ بِخِلَافِ التَّوْقِيتِ ، فَإِنَّهُ يَمْنَعُ انْعِقَادَ السَّبَبِ فِيمَا وَرَاءَ الْوَقْتِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ، وَالنِّكَاحُ لَا يَتَحَمَّلُ الِانْعِقَادَ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ فَلِهَذَا بَطَلَ بِالتَّوْقِيتِ .

( قَالَ : ) وَلَا يَرُدُّ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ عَنْ عَيْبٍ بِهَا ، وَإِنْ فَحُشَ عِنْدَنَا ، وَلَكِنَّهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ طَلَّقَهَا ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ بِالْعُيُوبِ الْخَمْسَةِ وَهِيَ الرَّتْقُ وَالْقَرَنُ ، وَالْجُنُونُ وَالْجُذَامُ وَالْبَرَصُ ، فَإِذَا رَدَّهَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ ، وَلَا مَهْرَ لَهَا إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا قَبْلَ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ، وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى مَنْ زَوَّجَهَا مِنْهُ ، وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي بَيَاضَةَ فَلَمَّا خَلَا بِهَا وَجَدَ فِي كَشْحِهَا بَيَاضًا فَرَدَّهَا ، وَقَالَ : دَلَّسْتُمُونِي أَوْ قَالَ : دَلَّسْتُمْ عَلَيَّ } ، وَالرَّدُّ مَتَى ذُكِرَ عَقِيبَ الْعَيْبِ يَكُونُ بِطَرِيقِ الْفَسْخِ ، وَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ فِرَارَك مِنْ الْأَسَدِ } ، وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَثْبَتَ الْخِيَارَ لِلزَّوْجِ بِهَذِهِ الْعُيُوبِ .
وَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّ النِّكَاحَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يَتَحَمَّلُ الْفَسْخَ بِأَسْبَابٍ فَيَثْبُتُ فِيهِ حَقُّ الرَّدِّ بِعَيْبٍ يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ كَالْبَيْعِ ، وَالْمَقْصُودُ بِالنِّكَاحِ طَبْعًا قَضَاءُ الشَّهْوَةِ وَشَرْعًا النَّسْلُ ، وَهَذِهِ الْعُيُوبُ تُخِلُّ بِهَذَا الْمَقْصُودِ أَمَّا الرَّتْقُ وَالْقَرَنُ يُفَوِّتُهُ أَصْلًا ، وَأَمَّا الْجُنُونُ وَالْجُذَامُ ، وَالْبَرَصُ يُخِلُّ بِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الطَّبْعَ يَنْفِرُ مِنْ صُحْبَةِ مِثْلِهَا ، وَرُبَّمَا تَعَدَّى إلَى الْوَلَدِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْعُيُوبِ مِنْ الْعَمَى ، وَالشَّلَلِ فَإِنَّهُ لَا يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ ، وَأَحَدُ الْعِوَضَيْنِ فِي هَذَا الْعَقْدِ ، وَهُوَ الْمَهْرُ عِنْدَكُمْ يُرَدُّ بِالْعَيْبِ الْفَاحِشِ دُونَ الْيَسِيرِ فَكَذَلِكَ الْعِوَضُ الْآخَرُ ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إذَا وَجَدَتْ زَوْجَهَا عِنِّينًا أَوْ مَجْبُوبًا يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ ، وَلَا يَثْبُتُ فِي سَائِرِ الْعُيُوبِ فَكَذَا فِي حَقِّ

الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهُمَا فِي حُكْمِ هَذَا الْعَقْدِ سَوَاءٌ ، وَإِذَا كَانَ الْعَيْبُ الَّذِي يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ فِي جَانِبِ الزَّوْجِ يُثْبِتُ لَهُ الْخِيَارَ دُونَ الَّذِي لَا يُخِلُّ بِالْمَقْصُودِ ، فَكَذَلِكَ فِي جَانِبِهَا ، وَالزَّوْجُ وَإِنْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الطَّلَاقِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى إثْبَاتِ الْخِيَارِ لَهُ ؛ لِيُسْقَطَ بِهِ الْمَهْرَ عَنْ نَفْسِهِ كَمَا قُلْتُمْ فِي الصَّغِيرِ إذَا بَلَغَ ، وَقَدْ زَوَّجَهُ عَمُّهُ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ ، وَإِنْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الطَّلَاقِ ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا تُرَدُّ الْحُرَّةُ عَنْ عَيْبٍ ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : إذَا وَجَدَ بِامْرَأَتِهِ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ فَالنِّكَاحُ لَازِمٌ لَهُ إنْ شَاءَ طَلَّقَ وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَثْبَتَ الْخِيَارَ فَالْمُرَادُ خِيَارُ الطَّلَاقِ ، وَكَذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ رَدَّهَا أَيْ رَدَّهَا بِالطَّلَاقِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ : الْحَقِي بِأَهْلِك ، وَهَذَا مِنْ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ ، وَاَلَّذِي قَالَ : { فِرَّ مِنْ الْمَجْذُومِ فِرَارَك مِنْ الْأَسَدِ } قُلْنَا : نَحْنُ نُمَكِّنُهُ مِنْ الْفِرَارِ ، وَلَكِنْ بِالطَّلَاقِ .
وَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ فَسْخُ الْعَقْدِ بَعْدَ تَمَامِهِ بِلَا خَلَلٍ فِي وِلَايَةِ الْمَحَلِّ ، وَالنِّكَاحُ لَا يَتَحَمَّلُ هَذَا النَّوْعَ مِنْ الْفَسْخِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَحَمَّلُ الْفَسْخَ بِالْإِقَالَةِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ مِلْكٌ ضَرُورِيٌّ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ النَّقْلِ إلَى الْغَيْرِ ، وَلَا فِي حَقِّ الِانْتِقَالِ إلَى الْوَرَثَةِ ، وَإِنَّمَا أَظْهَرَهُ الشَّرْعُ فِي حَقِّ الطَّلَاقِ لِلتَّقَصِّي عَنْ عُهْدَةِ النِّكَاحِ عِنْدَ عَدَمِ مُوَافَقَةِ الْأَخْلَاقِ ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي ظُهُورَهُ فِي حَقِّ الْفَسْخِ بَعْدَ تَمَامِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ فِيهِ فَكَانَ فِي هَذَا الْفَسْخِ بِمَنْزِلَةِ الْإِسْقَاطَاتِ كَالطَّلَاقِ ، وَالْعَتَاقِ بِخِلَافِ الْفَسْخِ بِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ

أَوْ بِخِيَارِ الْبُلُوغِ فَإِنَّهُ فَسْخٌ قَبْلَ تَمَامِهِ لِخَلَلٍ فِي وِلَايَةِ الْمَحَلِّ ، فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الِامْتِنَاعِ مِنْ تَمَامِهِ ، وَكَذَلِكَ الْفَسْخُ بِخِيَارِ الْعِتْقِ فَإِنَّهُ امْتِنَاعٌ مِنْ الْتِزَامِ زِيَادَةِ الْمِلْكِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْعُيُوبَ لَا تُخِلُّ بِمُوجِبِ الْعَقْدِ ، وَهُوَ الْحِلُّ فَلَا يَثْبُتُ خِيَارُ الْفَسْخِ كَالْعَمَى ، وَالشَّلَلِ وَالزَّمَانَةِ ، فَإِنَّ الِاسْتِيفَاءَ ثَمَرَةٌ ، وَفَوَاتُ الثَّمَرَةِ لَا يُؤَثِّرُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الِاسْتِيفَاءَ يَفُوتُ بِمَوْتِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ ، وَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ انْفِسَاخَ النِّكَاحِ حَتَّى لَا يَسْقُطَ شَيْءٌ مِنْ الْمَهْرِ ، وَعَيْبُ الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ دُونَ الْمَوْتِ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ هُنَا يَتَأَتَّى ، وَمَقْصُودُ النَّسْلِ يَحْصُلُ ، وَبِهِ فَارَقَ الْبَيْعَ فَإِنَّ هُنَاكَ فَوَاتَ التَّسْلِيمِ قَبْلَ الْقَبْضِ يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْبَيْعِ فَكَذَلِكَ وُجُودُ الْعَيْبِ ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا هَلَاكُ الْمَهْرِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ يُثْبِتُ الرُّجُوعَ بِقِيمَتِهِ فَوُجُودُ الْعَيْبِ الْفَاحِشِ بِهِ كَذَلِكَ بِخِلَافِ الْمَنْكُوحَةِ ؛ وَلِأَنَّ وُجُودَ الْعَيْبِ تَأْثِيرُهُ فِي انْعِدَامِ تَمَامِ الرِّضَا بِهِ ، وَالنِّكَاحُ لُزُومُهُ لَا يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا كَمَا بَيَّنَّا فِي الْهَزْلِ ، وَعَدَمُ الرُّؤْيَةِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا وَجَدَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا مَجْبُوبًا أَوْ عِنِّينًا ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يَثْبُتُ لَهَا خِيَارُ الْفَسْخِ عِنْدَنَا ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهَا حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِالْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ ، وَذَلِكَ فِي أَنْ يُوَفِّيَهَا حَقّهَا فِي الْجِمَاعِ فَإِذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ تَعَيَّنَ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ ، وَالتَّسْرِيحُ طَلَاقٌ ، وَعِنْدَنَا هُنَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا .
ثُمَّ الْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّ هُنَاكَ قَدْ انْسَدَّ عَلَيْهَا بَابُ تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَوَصَّلُ إلَى ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ مَادَامَ تَحْتَهُ ، وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ

إلَيْهَا فَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ لَهَا الْخِيَارُ بَقِيَتْ مُعَلَّقَةً لَا ذَاتَ بَعْلٍ ، وَلَا مُطَلَّقَةً فَأَثْبَتْنَا لَهَا الْخِيَارَ ؛ لِإِزَالَةِ ظُلْمِ التَّعْلِيقِ ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي جَانِبِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهَا إمَّا بِمِلْكِ الْيَمِينِ ، أَوْ بِمِلْكِ النِّكَاحِ ، وَمُتَمَكِّنٌ مِنْ التَّخَلُّصِ مِنْهَا بِالطَّلَاقِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِحَاجَتِهِ إلَى التَّخَلُّصِ مِنْ الْمَهْرِ كَمَا لَوْ مَاتَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ مَعَ قِيَامِ حَاجَتِهِ إلَى التَّخَلُّصِ مِنْ الْمَهْرِ يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ مَنَعَ حَقَّهَا فِي الْجِمَاعِ قَصْدًا إلَى الْإِضْرَارِ بِهَا بِالْإِيلَاءِ كَانَ مُوجِبًا لِلْفُرْقَةِ ، فَكَذَلِكَ إذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ إيفَاءُ حَقِّهَا بِالْجَبِّ وَالْعُنَّةِ ، وَالْمَرْأَةُ لَوْ مَنَعَتْ حَقَّهُ عَلَى قَصْدِ الْإِضْرَارِ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِهِ الْخِيَارُ بِذَلِكَ السَّبَبِ ، فَكَذَلِكَ إذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الِاسْتِيفَاءُ بِالرَّتْقِ أَوْ الْقَرَنِ ، فَأَمَّا الْمَرْأَةُ إذَا وَجَدَتْ بِالزَّوْجِ عَيْبَ الْجُنُونِ أَوْ الْجُذَامِ أَوْ الْبَرَصِ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَرُدَّهُ بِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ لَهَا الْخِيَارُ إذَا كَانَ عَلَى حَالٍ لَا تُطِيقُ الْمُقَامَ مَعَهُ ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهَا الْوُصُولُ إلَى حَقِّهَا ؛ لِمَعْنًى فِيهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَجَدَتْهُ مَجْبُوبًا أَوْ عِنِّينًا ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : بِهَذِهِ الْعُيُوبِ لَا يَنْسَدُّ عَلَيْهَا بَابُ اسْتِيفَاءِ الْمَقْصُودِ إنَّمَا تَقِلُّ رَغْبَتُهَا فِيهِ أَوْ تَتَأَذَّى بِالصُّحْبَةِ وَالْعِشْرَةِ مَعَهُ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُثْبِتٍ لَهَا الْخِيَارَ ، كَمَا لَوْ وَجَدَتْهُ سَيِّئَ الْخُلُقِ أَوْ مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ أَوْ الرِّجْلَيْنِ بِخِلَافِ الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا .
يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ الزَّوْجَ هُنَاكَ ظَالِمٌ فِي إمْسَاكِهَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَيْهَا وَلِلْقَاضِي وِلَايَةُ إزَالَةِ الظُّلْمِ بِالطَّلَاقِ ، وَهُنَا الزَّوْجُ غَيْرُ ظَالِمٍ فِي

إمْسَاكِهَا مَعَ صِدْقِ حَاجَتِهِ إلَيْهَا ، وَذَلِكَ لَا يُثْبِتُ لَهَا الْخِيَارَ ، وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَطَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ السَّلَامَةَ مِنْ الْعَمَى وَالشَّلَلِ ، وَالزَّمَانَةِ فَوُجِدَ بِخِلَافِ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ الْجَمَالَ وَالْبَكَارَةَ ، فَوَجَدَهَا بِخِلَافِ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ ؛ لِأَنَّ فَوْتَ زِيَادَةٍ مَشْرُوطَةِ بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ كَمَا فِي الْبَيْعِ ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَّ أَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ لِتَمَامِ الرِّضَا فِي بَابِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَهَا بِشَرْطِ أَنَّهَا بِكْرٌ شَابَّةٌ جَمِيلَةٌ فَوَجَدَهَا ثَيِّبًا عَجُوزًا شَوْهَاءَ لَهَا شِقٌّ مَائِلٌ وَعَقْلٌ زَائِلٌ وَلُعَابٌ سَائِلٌ ، فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ ، وَقَدْ انْعَدَمَ الرِّضَا مِنْهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ .

( قَالَ : ) وَإِذَا قَالَ : الرَّجُلُ لِلْمَرْأَةِ بِحَضْرَةِ الشُّهُودِ : زَوِّجِينِي نَفْسَك فَقَالَتْ : قَدْ فَعَلْت جَازَ النِّكَاحُ ، وَلَوْ قَالَ : بِعْنِي هَذَا الثَّوْبَ بِكَذَا فَقَالَ : فَعَلْت لَا يَتِمُّ الْبَيْعُ مَا لَمْ يَقُلْ الْمُشْتَرِي : اشْتَرَيْت أَوْ قَبِلْت ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ ، وَإِنَّمَا أَعَادَهُ هُنَا ؛ لِإِيضَاحِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ ، وَقَدْ اسْتَكْثَرَ مِنْ الشَّوَاهِدِ لِذَلِكَ ثُمَّ قَالَ : وَهُمَا فِي الْقِيَاسِ سَوَاءٌ ، وَهَكَذَا ذَكَرَهُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَمَالِي قَالَ : إنَّمَا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ فِي النِّكَاحِ ؛ لِلسُّنَّةِ ، وَهُوَ مَا حَدَّثَنِي أَبُو إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيُّ عَنْ الْحَكَمِ { أَنَّ بِلَالًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَطَبَ إلَى قَوْم فَأَبَوْا أَنْ يُزَوِّجُوهُ فَقَالَ : لَوْلَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَنِي أَنْ أَخْطُبَ إلَيْكُمْ مَا فَعَلْت فَقَالُوا : قَدْ مَلَكْت } فَدَلَّ أَنَّ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ بَعْدَ الْخِطْبَةِ يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ حُكْمِ تَوَقُّفِ النِّكَاحِ عَلَى الْإِجَازَةِ لِيُبَيِّنَّ أَنَّ ذَلِكَ لَا يُشْبِهُ حُكْمَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ؛ لِأَنَّ مَنْ تَوَقَّفَ الْعَقْدُ عَلَى حَقِّهِ غَيْرُ رَاضٍ بِأَصْلِ السَّبَبِ فَكَانَ أَصْلُ السَّبَبِ فِي حَقِّهِ كَالْمَعْدُومِ مَا لَمْ يَجُزْ ، وَأَمَّا عِنْدَ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ أَوْ وُجُودِ الْعَيْبِ فَقَدْ ظَهَرَ السَّبَبُ فِي حَقِّهِ ، وَهُوَ رَاضٍ بِأَصْلِ السَّبَبِ حِينَ بَاشَرَهُ .
فَلِهَذَا تَمَّ الْعَقْدُ ثُمَّ بَيَّنَ فِي الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ أَنَّ الزَّوْجَ إذَا كَانَ هُوَ الْوَلِيَّ فَفِي حَقِّ الزَّوْجِ يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِهِ أَوْ رَدِّهِ بِكَلَامٍ أَوْ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ ، وَفِي حَقِّ الْمَرْأَةِ إذَا كَانَتْ ثَيِّبًا كَذَلِكَ ، وَإِذَا كَانَتْ بِكْرًا فَسُكُوتُهَا رِضَاهَا ؛ لِعِلَّةِ الْحَيَاءِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ ، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْبِكْرَ إذَا زَوَّجَهَا وَلِيَّانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ رَجُلٍ فَبَلَغَهَا

الْعَقْدَانِ فَإِنْ أَجَازَتْ أَحَدَهُمَا جَازَ ذَلِكَ ، وَإِنْ أَجَازَتْهُمَا مَعًا بَطَلَا ؛ لِلْمُنَافَاةِ بَيْنَهُمَا ، وَلَوْ سَكَتَتْ لَمْ يَكُنْ سُكُوتُهَا رِضًا مِنْهَا بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَرَوَى عَلِيُّ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ سُكُوتَهَا بِمَنْزِلَةِ رِضَاهَا بِالْعَقْدَيْنِ فَيَبْطُلُ الْعَقْدَانِ جَمِيعًا ، وَالْأَصَحُّ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ سُكُوتُهَا رِضًا بِأَحَدِ الْعَقْدَيْنِ إذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ ، وَلَا رِضًى بِهِمَا ؛ لِأَنَّ السُّكُوتَ إنَّمَا يُقَامُ مَقَامَ الرِّضَا ؛ لِتَصْحِيحِ الْعَقْدِ ، وَفِي الرِّضَا هُنَا بِهِمَا أَبْطَالُهُمَا ، فَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ سُكُوتُهَا هُنَا رِضًى .

( قَالَ : ) وَإِذَا أُعْتِقَتْ الْأَمَةُ ، وَلَهَا زَوْجٌ قَدْ كَانَ زَوَّجَهَا الْمَوْلَى مِنْهُ أَوْ تَزَوَّجَتْهُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى فَلَهَا الْخِيَارُ إنْ شَاءَتْ أَقَامَتْ مَعَهُ ، وَإِنْ شَاءَتْ فَارَقَتْهُ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا أَعْتَقَتْ بَرِيرَةَ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَلَكْت بُضْعِك فَاخْتَارِي ، وَكَانَ زَوْجُهَا مُغِيثٌ يَمْشِي خَلْفَهَا وَيَبْكِي ، وَهِيَ تَأْبَاهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ : أَلَا تَعْجَبُونَ مِنْ شِدَّةِ حُبِّهِ لَهَا ، وَبُغْضِهَا لَهُ ثُمَّ قَالَ لَهَا : اتَّقِي اللَّهَ فَإِنَّهُ زَوْجُك وَأَبُ وَلَدِك فَقَالَتْ : أَتَأْمُرُنِي فَقَالَ : لَا إنَّمَا أَنَا شَافِعٌ فَقَالَتْ : إذًا لَا حَاجَةَ بِي إلَيْهِ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا } .
وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مِلْكَ الزَّوْجِ يَزْدَادُ عَلَيْهَا بِالْعِتْقِ فَإِنَّ قَبْلَ الْعِتْقِ كَانَ يَمْلِكُ عَلَيْهَا تَطْلِيقَتَيْنِ ، وَيَمْلِكُ مُرَاجَعَتَهَا فِي قُرْأَيْنِ ، وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ يَزْدَادُ بِالْعِتْقِ ، وَهِيَ لَا تَتَوَصَّلُ إلَى رَفْعِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ إلَّا بِرَفْعِ أَصْلِ الْعَقْدِ فَأَثْبَتَ الشَّرْعُ لَهَا الْخِيَارَ لِهَذَا ، وَلِهَذَا لَوْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا كَانَ فَسْخًا لَا طَلَاقًا بِمَنْزِلَةِ الْخِيَارِ الثَّابِتِ ؛ لِرَفْعِ أَصْلِ الْعَقْدِ ، وَفِي حَقِّ مَنْ تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَتِهِ لَا يَكُونُ طَلَاقًا ؛ وَلِأَنَّ سَبَبَ هَذَا الْخِيَارِ مَعْنًى فِي جَانِبِهَا ، وَهُوَ مِلْكُهَا أَمْرَ نَفْسِهَا ، وَالْفُرْقَةُ مَتَى كَانَتْ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ لَا تَكُونُ طَلَاقًا ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا عِنْدَنَا ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ كَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا فَلَهَا الْخِيَارُ ، وَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا فَلَا خِيَارَ لَهَا ، وَالرُّوَاةُ اخْتَلَفُوا فِي زَوْجِ بَرِيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا فَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ حُرًّا فَأَصْحَابُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى

أَوَّلُوا مَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا أَيْ : عِنْدَ أَصْلِ الْعَقْدِ ، وَلَكِنَّهُ كَانَ حُرًّا عِنْدَ عِتْقِهَا ، وَلَمَّا تَعَارَضَتْ الرِّوَايَاتُ فِي صِفَةِ زَوْجِهَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ فَيَبْقَى الِاعْتِمَادُ عَلَى قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَلَكْت بُضْعَك فَاخْتَارِي } ، وَفِي هَذَا التَّعْلِيلِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّهُ { كَانَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَانِ مَمْلُوكَانِ فَأَرَادَتْ عِتْقَهَا ، وَسَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَأَمَرَهَا بِالْبُدَاءَةِ بِالْغُلَامِ } قَالَ : وَإِنَّمَا أَمَرَهَا بِذَلِكَ كَيْ لَا يَثْبُتَ لَهَا الْخِيَارُ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : أَمَرَهَا بِذَلِكَ ؛ لِإِظْهَارِ فَضِيلَةِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ فَإِنَّهَا لَوْ أَعْتَقَتْهُمَا مَعًا عِنْدَهُ لَا يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ أَيْضًا ، وَمِنْ طَرِيقِ الْمَعْنَى يَقُولُ : بِمَا اعْتَرَضَ تَحَقُّقَ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فَلَا مَعْنَى لِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ كَالْكِتَابِيَّةِ تَحْتَ مُسْلِمٍ إذَا أَسْلَمَتْ أَوْ الْمُعْسِرَةِ إذَا أَيْسَرَتْ ، وَالزَّوْجُ مُوسِرٌ ، وَالْمَنْفِيَّةِ إذَا أَثْبَتَتْ نَسَبَهَا ، وَلِلزَّوْجِ نَسَبٌ ثَابِتٌ فَلَا خِيَارَ لَهَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا فَإِنَّ بِمَا اعْتَرَضَ هُنَاكَ مِنْ حُرِّيَّتِهَا يَظْهَرُ التَّفَاوُتُ ، وَتَنْعَدِمُ الْكَفَاءَةُ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : ثُبُوتُ الْخِيَارِ لَهَا لَيْسَ لِانْعِدَامِ الْكَفَاءَةِ ، فَإِنَّ الْكَفَاءَةَ شَرْطٌ لِابْتِدَاءِ النِّكَاحِ لَا فِي الْبَقَاءِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْسَرَ الزَّوْجُ أَوْ انْتَفَى نَسَبُهُ لَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ ، وَلَكِنَّ ثُبُوتَ الْخِيَارِ لِزِيَادَةِ مِلْكِ الزَّوْجِ عَلَيْهَا ، وَفِي هَذَا لَا فَرْقَ عَنْدَنَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا .
وَهَذَا لِأَنَّ الْمِلْكَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِحَسَبِ الْحِلِّ ، وَالْحِلُّ فِي جَانِبِهَا يَتَنَصَّفُ بِالرِّقِّ كَمَا يَتَنَصَّفُ الْحِلُّ فِي جَانِبِهِ

بِالرِّقِّ فَتَزَوَّجَ الْعَبْدُ امْرَأَتَيْنِ ، وَالْحُرُّ أَرْبَعًا ، وَإِذَا انْتَصَفَ الْحِلُّ بِرِقِّهَا فَإِذَا أُعْتِقَتْ ازْدَادَ الْحِلُّ وَبِحَسَبِهِ يَزْدَادُ الْمِلْكُ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَتْ مُكَاتَبَةً زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِإِذْنِ مَوْلَاهَا ثُمَّ أَدَّتْ فَعَتَقَتْ يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ ؛ لِزِيَادَةِ الْمِلْكِ عَلَيْهَا عِنْدَنَا ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ هُنَا ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْخِيَارِ فِي الْأَمَةِ ؛ لِنُفُوذِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا ؛ وَسَلَامَةِ الْمَهْرِ لِمَوْلَاهَا ، وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا فَإِنَّ الْمَهْرَ لَهَا ، وَالنِّكَاحُ مَا انْعَقَدَ إلَّا بِرِضَاهَا ، وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ : إنْ أَعَانَهَا عَلَى أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ لَا خِيَارَ لَهَا ، وَإِنْ لَمْ يُعِنْهَا فَلَهَا الْخِيَارُ ، وَلَكِنَّ الصَّحِيحَ الْمُوَافِقَ لِتَعْلِيلِ صَاحِبِ الشَّرْعِ مَا بَيَّنَّاهُ .
( قَالَ : ) وَلَوْ كَانَتْ حُرَّةً فِي أَصْلِ الْعَقْدِ ثُمَّ صَارَتْ أَمَةً ثُمَّ عَتَقَتْ بِأَنْ ارْتَدَّتْ امْرَأَةٌ مَعَ زَوْجِهَا وَلَحِقَا بِدَارِ الْحَرْبِ مَعًا وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ ثُمَّ سُبِيَا مَعًا فَأُعْتِقَتْ الْأَمَةُ فَلَهَا الْخِيَارُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلَا خِيَارَ لَهَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ؛ لِأَنَّ بِأَصْلِ الْعَقْدِ يَثْبُتُ عَلَيْهَا مِلْكٌ كَامِلٌ بِرِضَاهَا ثُمَّ انْتَقَضَ الْمِلْكُ فَإِذَا أُعْتِقَتْ عَادَ الْمِلْكُ إلَى أَصْلِهِ كَمَا كَانَ فَلَا يَثْبُتُ الْخِيَارُ لَهَا وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : بِالْعِتْقِ مَلَكَتْ أَمْرَ نَفْسِهَا ، وَازْدَادَ مِلْكُ الزَّوْجِ عَلَيْهَا ، وَذَلِكَ مُثْبِتٌ الْخِيَارَ لَهَا شَرْعًا ، وَلَمَّا صَارَتْ أَمَةً حَقِيقَةً الْتَحَقَتْ بِاَلَّتِي كَانَتْ أَمَةً فِي الْأَصْلِ فِي حُكْمِ النِّكَاحِ ، فَيَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ بِالْعِتْقِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ

بَابُ الْعِنِّينِ ( قَالَ : ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَلَغَنَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : يُؤَجَّلُ الْعِنِّينُ سَنَةً ، فَإِنْ وَصَلَ إلَى امْرَأَتِهِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَجَعَلَهَا تَطْلِيقَةً بَائِنَةً وَجَعَلَ لَهَا الْمَهْرَ كَامِلًا وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَبِهَذَا أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا ، بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّهُ لَا خِيَارَ لِامْرَأَةِ الْعِنِّينِ أَصْلًا ؛ لِحَدِيثِ { امْرَأَةِ رِفَاعَةَ ، فَإِنَّهَا تَزَوَّجَتْ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَمْ يَصِلْ إلَيْهَا فَجَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَتْ : إنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَنِي فَأَبَتَّ طَلَاقِي وَتَزَوَّجْتُ بِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الزُّبَيْرِ فَلَمْ أَجِدْ مِنْهُ إلَّا مِثْلَ هُدْبَةِ ثَوْبِي ، تَحْكِي ضَعْفَ حَالِهِ فِي بَابِ النِّسَاءِ ، فَلَمْ يُخَيِّرْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَجَاءَتْ امْرَأَةٌ إلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَذَكَرَتْ أَنَّ زَوْجَهَا لَا يَصِلُ إلَيْهَا فَقَالَ : وَلَا وَقْتَ السَّحَرِ ، فَقَالَتْ : وَلَا وَقْتَ السَّحَرِ ، فَقَالَ : هَلَكْتُ وَأَهْلَكْتُ مَا أَنَا بِمُفَرِّقٍ بَيْنَكُمَا ، وَلِأَنَّهُ عَاجِزٌ مَعْذُورٌ فَيَكُونُ مُنْظَرًا بِإِنْظَارِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْعِنِّينِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ الْمَهْرَ كَامِلًا ، وَالصَّحِيحُ مِنْ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَوْا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ تِلْكَ الْمَرْأَةَ قَالَتْ : لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ إلَّا مَرَّةً ، وَفِي هَذَا لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا عِنْدَنَا ، وَامْرَأَةُ رِفَاعَةَ بِمَا ذَكَرَتْ حَكَتْ صِغَرَ مَتَاعِهِ لَا الْعُنَّةَ ، وَفِي مِثْلِ هَذَا عِنْدَنَا لَا تُخَيَّرُ ثُمَّ هُوَ مَعْذُورٌ ، وَلَكِنَّهُ فِي إمْسَاكِهَا ظَالِمٌ ؛ لِأَنَّهُ يَنْسَدُّ عَلَيْهَا بَابُ قَضَاءِ الشَّهْوَةِ

بِنِكَاحِهِ ، وَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَيْهَا فَوَجَبَ رَفْعُ الظُّلْمِ عَنْهَا ، وَلِأَنَّ مَقْصُودَهَا بِالْعَقْدِ قَدْ فَاتَ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهَا أَنْ تَسْتَعِفَّ بِهِ وَتُحَصِّلَ بِهِ صِفَةَ الْإِحْصَانِ لِنَفْسِهَا ، وَفَوَاتُ الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ أَصْلًا يُثْبِتُ لِلْعَاقِدِ حَقَّ رَفْعِ الْعَقْدِ ، وَهِيَ تَحْتَاجُ إلَى تَقْرِيرِ مَهْرِهَا أَيْضًا ، وَتَمَامُ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ يَحْصُلُ بِالدُّخُولِ ، فَإِذَا انْسَدَّ عَلَيْهَا الْبَابُ يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ ، إلَّا أَنَّ الْعَجْزَ قَدْ يَكُونُ لِآفَةٍ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ وَقَدْ يَكُونُ لِعَارِضٍ ، وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ بِالْمُدَّةِ فَلِهَذَا يُؤَجَّلُ ، وَالْأَجَلُ فِي هَذَا سَنَةٌ كَمَا اتَّفَقَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ الْأَسَى ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْد اللَّهِ بْن نَوْفَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : الْأَجَلُ عَشَرَةُ أَشْهُرٍ ، وَإِنَّمَا قَدَّرْنَا بِالسَّنَةِ ؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ لِإِبْلَاءِ الْعُذْرِ وَالْحَوْلُ حَسَنٌ فِي ذَلِكَ قَالَ قَائِلُهُمْ : وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدْ اعْتَذَرَ وَلِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ الْوُصُولِ قَدْ يَكُونُ بِعِلَّةِ الرُّطُوبَةِ ، وَإِنَّمَا يُعَالَجُ ذَلِكَ فِي فَصْلِ الْحَرِّ وَالْيُبُوسَةِ مِنْ السَّنَةِ ، وَقَدْ يَكُونُ لِغَلَبَةِ الْحَرَارَةِ ، وَإِنَّمَا يُعَالَجُ ذَلِكَ فِي فَصْلِ الْبَرْدِ ، وَقَدْ يَكُونُ لِغَلَبَةِ الْيُبُوسَةِ ، وَإِنَّمَا يُعَالَجُ فِي فَصْلِ الرُّطُوبَةِ فَقَدَّرْنَا الْأَجَلَ بِحَوْلٍ حَتَّى يُعَالِجَ نَفْسَهُ فَيُوَافِقَهُ الْعِلَاجُ فِي فَصْلٍ مِنْ فُصُولِ السَّنَةِ فَيَبْرَأَ ، فَإِذَا مَضَتْ السَّنَةُ وَلَمْ يَصِلْ إلَيْهَا عُلِمَ أَنَّ الْآفَةَ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ ، وَلِهَذَا قَالُوا : يُقَدَّرُ بِسَنَةٍ شَمْسِيَّةٍ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ ، فَرُبَّمَا تَكُونُ مُوَافَقَةُ الْعِلَاجِ فِي الْأَيَّامِ الَّتِي يَقَعُ التَّفَاوُتُ فِيهَا بَيْنَ الْقَمَرِيَّةِ وَالشَّمْسِيَّةِ ، وَابْتِدَاءُ التَّأْجِيلِ مِنْ وَقْتِ الْخُصُومَةِ حَتَّى إذَا صَبَرَتْ مُدَّةً ثُمَّ خَاصَمَتْ ، فَإِنْ ادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُ قَدْ وَصَلَ إلَيْهَا سَأَلَهَا الْقَاضِي أَبِكْرٌ هِيَ أَمْ

ثَيِّبٌ ، فَإِنْ قَالَتْ : ثَيِّبٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْفَحْلِ أَنَّهُ إذَا خَلَا بِأُنْثَى نَزَا عَلَيْهَا ، وَفِي الدَّعَاوَى الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ ، وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا أَرَاهَا الْقَاضِي النِّسَاءَ ، فَإِنَّ الْبَكَارَةَ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ ، وَالْمَرْأَةُ الْوَاحِدَةُ تَكْفِي لِذَلِكَ وَالْمَثْنَى أَحْوَطُ ؛ لِأَنَّ طُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ إلَى قَوْلِ الْمَثْنَى أَكْثَرُ ، فَإِنْ قُلْنَ إنَّهَا بِكْرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا ، وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ الزَّوْجُ أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا وَيُؤَجِّلُهُ الْقَاضِي سَنَةً فَيَأْمُرُهُ أَنْ يُعَالِجَ نَفْسَهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ ، هَكَذَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَفِيضُوا عَلَيْهِ الدَّحْجَ وَالْعَسَلَ لِيُرَاجِعَ نَفْسَهُ ، فَإِنْ مَضَتْ السَّنَةُ وَادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهُ وَصَلَ إلَيْهَا فَهُوَ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ الْبَكَارَةِ وَالثِّيَابَةِ ، فَإِنْ أَرَاهَا النِّسَاءَ فَقُلْنَ : هِيَ بِكْرٌ خَيَّرَهَا الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ الْبَكَارَةَ لَا تَبْقَى مَعَ الْوُصُولِ إلَيْهَا ، فَإِذَا خَيَّرَهَا فَاخْتَارَتْ الزَّوْجَ أَوْ قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا أَوْ أَقَامَهَا أَعْوَانُ الْقَاضِي أَوْ قَامَ الْقَاضِي قَبْلَ أَنْ تَخْتَارَ شَيْئًا بَطَلَ خِيَارُهَا ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ تَخْيِيرِ الزَّوْجِ امْرَأَتَهُ ، وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ بِالْمَجْلِسِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَالتَّفْرِيقُ كَانَ لِحَقِّهَا ، فَإِذَا رَضِيَتْ بِالْإِسْقَاطِ صَرِيحًا أَوْ دَلَالَةً بِتَأْخِيرِ الِاخْتِيَارِ إلَى أَنْ قَامَتْ أَوْ أُقِيمَتْ يَسْقُطُ حَقُّهَا ، فَلَا تُطَالِبُ بَعْدَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ ، وَإِنْ اخْتَارَتْ الْفُرْقَةَ أَمَرَ الْقَاضِي الزَّوْجَ بِأَنْ يُطَلِّقَهَا ، فَإِنْ أَبِي فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا وَكَانَتْ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَكُونُ فَسْخًا بِمَنْزِلَةِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ ، فَأَمَّا عِنْدَنَا الْمُسْتَحَقُّ عَلَى الزَّوْجِ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ إمَّا الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ أَوْ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ أَحَدِهِمَا تَعَيَّنَ

الْآخَرُ .
فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْهُ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِي التَّسْرِيحِ وَالتَّسْرِيحُ طَلَاقٌ ، وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَهَا تَطْلِيقَةً بَائِنَةً ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالرَّجْعِيِّ لَا يَحْصُلُ فَالْمَقْصُودُ إزَالَةُ ظُلْمِ التَّعْلِيقِ ، وَفِي الرَّجْعِيِّ يَسْتَبِدُّ الزَّوْجُ بِالْمُرَاجَعَةِ مَعَ أَنَّ حُكْمَ الرَّجْعَةِ مُخْتَصٌّ بِعِدَّةٍ وَاجِبَةٍ بَعْدَ حَقِيقَةِ الدُّخُولِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي غَيْرِ الْأُصُولِ أَنَّهَا كَمَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا اعْتِبَارًا بِالْمُخَيَّرَةِ بِتَخْيِيرِ الزَّوْجِ أَوْ بِتَخْيِيرِ الشَّرْعِ كَالْمُعْتَقَةِ ، ثُمَّ لَهَا الْمَهْرُ كَامِلًا عَلَيْهِ لِوُجُودِ التَّسْلِيمِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ مِنْهَا ، وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ لَمَّا اسْتَوْفَتْ كَمَالَ الْمَهْرِ ، بِهِ قَضَى عُمَرُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَقَالَا : مَا ذَنْبُهُنَّ إذَا جَاءَ الْعَجْزُ مِنْ قِبَلِكُمْ ، وَكَمَا لَا يَسْقُطُ حَقُّهَا بِتَرْكِ الْمُرَافَعَةِ زَمَانًا فَكَذَلِكَ لَا يَسْقُطُ حَقُّهَا بِتَأْخِيرِ الْخُصُومَةِ بَعْدَ مُضِيِّ الْأَجَلِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ لِلِاخْتِيَارِ مِنْهَا لَا لِلرِّضَا بِهِ ، وَالْإِنْسَانُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْخُصُومَةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ خُصُوصًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُحْتَسَبُ عَلَى الزَّوْجِ بِمَا مَضَى مِنْ الْمُدَّةِ قَبْلَ الْمُرَافَعَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ لَمْ يَكُنْ مُضَيَّقًا عَلَيْهِ قَبْلَ التَّأْجِيلِ ، وَرُبَّمَا كَانَ امْتِنَاعُهُ مِنْ صُحْبَتِهَا لِغَرَضٍ لَهُ فِي ذَلِكَ سِوَى الْعَجْزِ ، وَلَكِنْ بَعْدَ التَّأْجِيلِ يَتْرُكُ ذَلِكَ الْغَرَضَ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعَارِ وَضَرَرِ زَوَالِ مِلْكِهِ ، فَلِهَذَا لَا يُحْتَسَبُ بِالْمُدَّةِ قَبْلَ التَّأْجِيلِ وَيُحْتَسَبُ عَلَيْهِ بِزَمَانِ حَيْضِهَا وَشَهْرِ رَمَضَانَ ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَدَّرُوا الْأَجَلَ بِسَنَةٍ مَعَ عِلْمِهِمْ أَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ ذَلِكَ عَادَةً ، فَإِنْ مَرِضَ الزَّوْجُ فِي الْمُدَّةِ أَوْ مَرِضَتْ

مَرَضًا لَا يُسْتَطَاعُ جِمَاعُهَا فَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى رِوَايَتَانِ : فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ إذَا كَانَ الْمَرَضُ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ شَهْرٍ لَا يُحْتَسَبُ بِمُدَّةِ الْمَرَضِ عَلَى الزَّوْجِ ، وَإِنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ يُحْتَسَبُ عَلَيْهِ بِالْقِيَاسِ عَلَى أَيَّامِ شَهْرِ رَمَضَانَ ، فَإِنَّهُ فِي النَّهَارِ يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ غِشْيَانُهَا ثُمَّ ذَلِكَ مَحْسُوبٌ عَلَيْهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ نِصْفَ الشَّهْرِ وَمَا دُونَهُ عَفْوٌ ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى قَالَ : إذَا كَانَا صَحِيحَيْنِ فِي شَيْءٍ مِنْ السَّنَةِ ، وَلَوْ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ يُحْتَسَبُ عَلَيْهِ بِزَمَانِ الْمَرَضِ ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ مَرِضَ أَحَدُهُمَا فِيمَا دُونَ الشَّهْرِ يُحْتَسَبُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ الْمَرَضُ شَهْرًا لَا يُحْتَسَبُ وَيُزَادُ فِي مُدَّتِهِ بِقَدْرِ مُدَّةِ الْمَرَضِ ، وَإِنْ أَحْرَمَتْ بِحَجَّةِ الْإِسْلَامِ لَا يُحْتَسَبُ عَلَى الزَّوْجِ بِتِلْكَ الْمُدَّةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَنْ يُحْلِلَهَا .
أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُحْرِمَةً حِينَ خَاصَمَتْ لَمْ يُؤَجِّلْهُ الْقَاضِي حَتَّى تَفْرُغَ مِنْ الْحَجِّ ، وَلَوْ خَاصَمَتْ وَالزَّوْجُ مُظَاهِرٌ مِنْهَا ، فَإِنْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الْعِتْقِ أَجَّلَهُ ، وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ ذَلِكَ أَمْهَلَهُ شَهْرَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَنْ غِشْيَانِهَا مَا لَمْ يُكَفِّرْ ، وَالْعَاجِزُ عَنْ الْعِتْقِ كَفَّارَتُهُ بِالصَّوْمِ شَهْرَانِ ، فَإِنْ ظَاهَرَ مِنْهَا بَعْدَ التَّأْجِيلِ لَمْ يَلْتَفِتْ الْقَاضِي إلَى ذَلِكَ وَاحْتَسَبَ عَلَيْهِ تِلْكَ الْمُدَّةَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَنْ لَا يُظَاهِرَ مِنْهَا ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ يَصِلُ إلَى غَيْرِهَا مِنْ النِّسَاءِ أَوْ جَوَارِيهِ ، وَلَا يَصِلُ إلَيْهَا خَيَّرَهَا الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ التَّخْيِيرَ لِرَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِوُصُولِهِ إلَى غَيْرِهَا بَلْ تَزْدَادُ بِهِ غَيْظًا ، وَلَوْ كَانَ غَشِيَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً ثُمَّ انْقَطَعَ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَلَا خِيَارَ لَهَا ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ مَقْصُودُهَا مِنْ تَأَكُّدِ الْبَدَلِ أَوْ ثُبُوتِ صِفَةِ

الْإِحْصَانِ قَدْ حَصَلَ لَهَا بِالْمَرَّةِ .

( قَالَ : ) وَلَوْ وَجَدَتْهُ مَجْبُوبًا خَيَّرَهَا الْقَاضِي فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ فِي الْعِنِّينِ لِرَجَاءِ الْوُصُولِ ، وَذَلِكَ فِي الْمَجْبُوبِ لَا يُوجَدُ فَالْمَقْطُوعُ مِنْ الْآلَةِ لَا يَنْبُتُ فَلِهَذَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَال ، وَإِنْ كَانَ قَدْ خَلَا بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ كَامِلًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ فِي قَوْلِهِمَا ؛ لِأَنَّ التَّيَقُّنَ بِعَدَمِ الْوُصُولِ إلَيْهَا مَوْجُودٌ هُنَا ، وَعُذْرُ الْجَبِّ فِي الزَّوْجِ أَبْيَنُ مِنْ عُذْرِ الْمَرَضِ ، فَإِذَا كَانَ مَرَضُهُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْخَلْوَةِ فَكَوْنُهُ مَجْبُوبًا أَوْلَى ، بِخِلَافِ الْعِنِّينِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ بَاطِنٌ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ يُشَاهَدُ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ فِي الْحُكْمِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ هِيَ أَتَتْ بِالتَّسْلِيمِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهَا بِالْعَقْدِ وَحَقُّهَا فِي الْبَدَلِ يَتَقَرَّرُ بِذَلِكَ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعَقْدَ مَا انْعَقَدَ لِاسْتِحْقَاقِ الْمُجَامَعَةِ بِهِ ، فَإِنَّهُ لَا كَوْنَ لَهُ ، وَإِنَّمَا انْعَقَدَ لِمَا وَرَاءَ ذَلِكَ وَقَدْ أَتَتْ بِهِ فَيَتَقَرَّرُ حَقُّهَا ثُمَّ يَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ ، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُشْكِلُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ جَمِيعُ الْمَهْرِ ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا تَجِبُ الْعِدَّةُ اسْتِحْسَانًا وَأَشَارَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ إلَّا أَنَّهُ لَا تَجِبُ الْعِدَّةُ عِنْدَهُمَا ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ الْمَوْضُوعِ ، فَحَيْثُ قَالَ : لَا تَجِبُ الْعِدَّةُ أَرَادَ فِي مَجْبُوبٍ قَدْ جَفَّ مَاؤُهُ فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ لَا تُعْتَبَرُ خَلْوَتُهُ فِي إيجَابِ الْعِدَّةِ ، وَحَيْثُ قَالَ : تَجِبُ الْعِدَّةُ أَرَادَ فِي مَجْبُوبٍ لَهُ مَاءٌ يَسْحَقُ فَيُنْزِلُ فَتَجِبُ الْعِدَّةُ احْتِيَاطًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا أَوْ خَلَا بِهَا فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا ، ثُمَّ بَعْدَ مَا فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ إذَا جَاءَتْ بِوَلَدٍ إلَى

سَنَتَيْنِ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ ، وَلَا تَبْطُلُ تِلْكَ الْفُرْقَةُ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ النَّسَبِ بِاعْتِبَارِ الْإِنْزَالِ بِالسَّحْقِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُبْطِلٍ حَقَّهَا ، بِخِلَافِ الْعِنِّينِ إذَا فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا وَهُوَ يَدَّعِي الْوُصُولَ إلَيْهَا ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَيَبْطُلُ التَّفْرِيقُ ؛ لِأَنَّا حِينَ حَكَمْنَا بِثُبُوتِ النَّسَبِ فَقَدْ حَكَمْنَا بِوُصُولِهِ إلَيْهَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ بَعْدَ التَّفْرِيقِ عَلَى إقْرَارِهَا بِالْوُصُولِ إلَيْهَا قَبْلَ التَّفْرِيقِ بَطَلَ تَفْرِيقِ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا ، كَمَا لَوْ عَرَفَ الْقَاضِي إقْرَارَهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّتْ بَعْدَ التَّفْرِيقِ أَنَّهُ كَانَ وَصَلَ إلَيْهَا ، فَإِنَّ قَوْلَهَا فِي إبْطَالِ التَّفْرِيقِ وَرَفْعِ الطَّلَاقِ الْوَاقِعِ غَيْرُ مَقْبُولٍ لِكَوْنِهَا مُتَّهَمَةً فِي ذَلِكَ ، وَالْخَصِيُّ بِمَنْزِلَةِ الْعِنِّينِ ؛ لِأَنَّ رَجَاءَ الْوُصُولِ فِي حَقِّهِ مَوْجُودٌ لِبَقَاءِ الْآلَةِ ، وَلَوْ تَزَوَّجَتْ وَاحِدًا مِنْ هَؤُلَاءِ وَهِيَ تَعْلَمُ بِحَالِهِ ، فَلَا خِيَارَ لَهَا فِيهِ لِأَنَّهَا صَارَتْ رَاضِيَةً بِهِ حِينَ أَقْدَمَتْ عَلَى الْعَقْدِ مَعَ عِلْمِهَا بِحَالِهِ ، وَلَوْ رَضِيَتْ بِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ بِأَنْ قَالَتْ : رَضِيتُ سَقَطَ خِيَارُهَا فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ عَالِمَةً بِهِ ، وَلَا فَرْقَ فِي قَوْلِهَا رَضِيتُ بِالْمُقَامِ مَعَهُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ السُّلْطَانِ أَوْ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ إسْقَاطٌ لِحَقِّهَا .

( قَالَ : ) وَلَيْسَ يَكُونُ أَجَلُ الْعِنِّينِ إلَّا عِنْدَ قَاضِي مِصْرٍ أَوْ مَدِينَةٍ يَجُوزُ قَضَاؤُهُ ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ مَنْ هُوَ دُونَ هَؤُلَاءِ وَمُرَادُهُ بِهَذَا الْإِشَارَةُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ خِيَارِ الْمُعْتَقَةِ وَالْعِنِّينِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْحُكْمِ وَهُوَ مِنْ جِهَتِهَا فَلَمْ يَكُنْ طَلَاقًا ، وَهَذَا يَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْحُكْمِ وَهُوَ لِمَعْنًى مِنْ الزَّوْجِ ، فَلِهَذَا كَانَ طَلَاقًا وَقَدْ تَبَيَّنَ بِهَذَا اللَّفْظِ أَنَّ الْمِصْرَ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْقَضَاءِ ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ فِي غَيْرِ الْمِصْرِ بِمَنْزِلَةِ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِالْمِصْرِ .

( قَالَ : ) وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَوَصَلَ إلَيْهَا ثُمَّ فَارَقَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ وَلَمْ يَصِلْ إلَيْهَا يُؤَجَّلُ كَمَا يُؤَجَّلُ الْعِنِّينُ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الثَّانِي غَيْرُ النِّكَاحِ الْأَوَّلِ ، فَلَا يُعْتَبَرُ الْوُصُولُ فِي النِّكَاحِ الْأَوَّلِ فِيمَا يُسْتَحَقُّ فِي النِّكَاحِ الثَّانِي .

( قَالَ : ) وَالْخُنْثَى إذَا كَانَ يَبُولُ مِنْ مَبَالِ الرِّجَالِ فَهُوَ رَجُلٌ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً ، فَإِنْ لَمْ يَصِلْ إلَيْهَا أُجِّلَ كَمَا يُؤَجَّلُ الْعِنِّينُ ؛ لِأَنَّ رَجَاءَ الْوُصُولِ قَائِمٌ ، فَإِنْ كَانَ يَبُولُ مِنْ مَبَالِ النِّسَاءِ فَهُوَ امْرَأَةٌ ، فَإِذَا تَزَوَّجَتْ رَجُلًا لَمْ يَعْلَمْ بِحَالِهَا ثُمَّ عَلِمَ بِذَلِكَ بَعْدَهُ ، فَلَا خِيَارَ لِلزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ فِي يَدِهِ وَهُوَ نَظِيرُ الرَّتْقَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ .

( قَالَ : ) وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ رَتْقَاءَ وَالزَّوْجُ عِنِّينًا لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُخَاصِمَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهَا فِي الْمُطَالَبَةِ بِالْجِمَاعِ مَعَ قِيَامِ الْمَانِعِ فِيهَا ، وَذُكِرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ إذَا زَوَّجَ أُمَّتَهُ فَوَجَدَتْهُ عِنِّينًا أَنَّ الْخُصُومَةَ فِي ذَلِكَ إلَى الْمَوْلَى فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ وَاجِبٌ لَهُ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى أَنْ يُؤَكِّدَ حَقَّهُ ، وَلِأَنَّ النَّسْلَ يَكُونُ مِلْكًا لَهُ وَبِكَوْنِهِ عِنِّينًا يَفُوتُ ذَلِكَ ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْخِيَارُ لَهَا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْوَطْءِ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ لَهَا دُونَ الْمَوْلَى فَكَانَ حَقُّ الْمُرَافَعَةِ إلَيْهَا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .

بَابُ نِكَاحِ الشِّغَارِ ( قَالَ : ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ ، وَأَصْلُ الْحَدِيثِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا جَلَبَ وَلَا جَنَبَ وَلَا شِغَارَ فِي الْإِسْلَامِ } وَالشِّغَارُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ : أُزَوِّجُكَ أُخْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي أُخْتَكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ مَهْرُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِكَاحَ الْأُخْرَى ، أَوْ قَالَا ذَلِكَ فِي ابْنَتَيْهِمَا أَوْ أَمَتَيْهِمَا ، ثُمَّ النِّكَاحُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَجُوزُ عِنْدَنَا ، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرُ مِثْلِهَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النِّكَاحُ بَاطِلٌ لِنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ ، وَالنَّهْيُ يَقْتَضِي فَسَادَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ، وَلِأَنَّهُ شَرَطَ الْإِشْرَاكَ فِي بُضْعِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حِينَ جَعَلَ النِّصْفَ مِنْهُ صَدَاقًا وَالنِّصْفَ مَنْكُوحَةً ، وَمِلْكُ النِّكَاحِ لَا يَحْتَمِلُ الِاشْتِرَاكَ ، فَالِاشْتِرَاكُ بِهِ يَكُونُ مُبْطِلًا كَمَا إذَا زَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا مِنْ رَجُلَيْنِ ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ سَمَّى بِمُقَابَلَةِ بُضْعِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَا لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا فَكَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي الْبُضْعِ صَلَاحِيَةَ كَوْنِهِ صَدَاقًا لَمْ يَتَحَقَّقْ الْإِشْرَاكُ فَبَقِيَ هَذَا شَرْطًا فَاسِدًا ، وَالنِّكَاحُ لَا يَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ ، كَمَا لَوْ شَرَطَ أَنْ يَهَبَهَا لِغَيْرِهِ أَوْ نَحْوِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا زَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا مِنْ رَجُلَيْنِ لِأَنَّهَا تَصْلُحُ مَنْكُوحَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْإِشْرَاكِ وَاسْتِدْلَالُهُ بِالنَّهْيِ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ لِلْخُلُوِّ عَنْ الْمَهْرِ هَكَذَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُزَوَّجَ الْمَرْأَةُ بِالْمَرْأَةِ مِنْ غَيْرِ مَهْرٍ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا } ، وَهَذَا

لِأَنَّ الشِّغَارَ هُوَ الْخُلُوُّ فِي اللُّغَةِ ، يُقَالُ : شَغَرَ الْكَلْبُ إذَا رَفَعَ إحْدَى رِجْلَيْهِ لِيَبُولَ ، وَبَلْدَةٌ شَاغِرَةٌ إذَا كَانَتْ خَالِيَةً مِنْ السُّلْطَانِ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنْ لَا تَخْلُوَ الْمَرْأَةُ بِالنِّكَاحِ عَنْ الْمَهْرِ وَبِهِ نَقُولُ ، وَإِنْ سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمَرْأَتَيْنِ مَهْرًا فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَا سُمِّيَ مِنْ الْمَهْرِ ، وَاشْتِرَاطُ أَحَدِ الْعَقْدَيْنِ فِي الْآخَرِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ هُنَا ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ وَالنِّكَاحُ لَا يَبْطُلُ بِمِثْلِهِ .

( قَالَ : ) وَإِذَا جَعَلَ مَهْرَ امْرَأَتِهِ طَلَاقَ أُخْرَى كَانَ النِّكَاحُ جَائِزًا بِمَهْرِ مِثْلِهَا وَلَمْ يَكُنْ الطَّلَاقُ مَهْرًا ، وَكَذَلِكَ إنْ جَعَلَ الْقِصَاصَ مَهْرًا فَقَدْ وَقَعَ الْعَفْوُ وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كُلَّمَا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ بِالشَّرْطِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَهْرًا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَحَقُّقُ الْمُعَاوَضَةِ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ ، فَإِنَّ عِنْدَهُ تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا فِي قَوْلِهِ { زَوَّجْتُكَهَا بِمَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ } وَلَكِنَّا نَقُولُ : اشْتِرَاطُ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ فِي الصَّدَاقِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : { أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ } وَطَلَاقُ الضَّرَّةِ وَالْعَفْوُ عَنْ الْقِصَاصِ لَيْسَ بِمَالٍ ، وَكَذَلِكَ تَعْلِيمُ الْقُرْآنِ وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ بِحُرْمَةِ مَا مَعَكَ مِنْ الْقُرْآنِ ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قُلْنَا : إذَا أَعْتَقَ أُمَّتَهُ عَلَى أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ، وَيَكُونُ الْعِتْقُ صَدَاقًا لَهَا فَزَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ إبْطَالٌ لِلرِّقِّ ، فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ جَوَّزَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَعْتَقَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَتَزَوَّجَهَا وَجَعَلَ عِتْقَهَا صَدَاقًا لَهَا } وَلَكِنَّا نَقُولُ : قَدْ رُوِيَ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا بِمَهْرٍ جَدِيدٍ ، وَلَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْصُوصًا بِالنِّكَاحِ بِغَيْرِ مَهْرٍ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يَخْدُمَهَا سَنَةً ، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا صَحَّتْ التَّسْمِيَةُ لِتَضَمُّنِهَا تَسْلِيمَ الْمَالِ إلَيْهَا ، فَإِنَّ رَقَبَةَ الْعَبْدِ مَالٌ ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا لَمْ تَصِحَّ التَّسْمِيَةُ ، هَكَذَا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ ،

وَنَحْوُهُ رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يَرْعَى غَنَمَهَا سَنَةً يَجُوزُ اسْتِدْلَالًا بِقِصَّةِ مُوسَى مَعَ شُعَيْبٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ : هِيَ مَأْمُورَةٌ بِأَنْ تُعَظِّمَهُ وَتُرَاعِيَ حَقَّهُ ، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ بِاسْتِخْدَامِهَا إيَّاهُ ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ خِدْمَتُهَا صَدَاقًا ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي عَمَلِ الرَّعْيِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الِابْنَ لَا يَسْتَأْجِرُ أَبَاهُ لِلْخِدْمَةِ وَيَسْتَأْجِرُهُ لِعَمَلٍ آخَرَ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ فِي الْفَصْلَيْنِ رِوَايَتَيْنِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لَا تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَيْسَتْ بِمَالٍ وَاشْتِرَاطُهَا مِنْ الْحُرِّ لَا يَتَضَمَّنُ تَسْلِيمَ الْمَالِ إلَيْهَا ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى تَصِحُّ التَّسْمِيَةُ ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَأْخُذُ حُكْمَ الْمَالِيَّةِ عِنْدَ الْعَقْدِ ، وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ الْحَيَوَانُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بِمُقَابَلَتِهَا ، فَإِذَا لَمْ تَصِحَّ تَسْمِيَةُ الْخِدْمَةِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ؛ لِأَنَّهُ سَمَّى مَالًا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا لَهَا فَهُوَ كَتَسْمِيَةِ الْخَمْرِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهَا قِيمَةُ خِدْمَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْخِدْمَةَ مُتَقَوِّمَةٌ عِنْدَ الْعَقْدِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَالًا ، فَإِذَا تَعَذَّرَ سَلَامَتُهَا لَهَا تَجِبُ قِيمَتُهَا ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدٍ فَاسْتُحِقَّ ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا إذَا تَزَوَّجَ الْمَرْأَةَ عَلَى طَلَاقِ ضَرَّتِهَا وَبَيْنَ مَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يُطَلِّقَ ضَرَّتَهَا فِي حُكْمِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى الضَّرَّةِ ، فَكَذَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى الْقِصَاصِ حَصَلَ الْعَفْوُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، وَإِذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يَعْفُوَ عَنْ الْقِصَاصِ لَمْ يَسْقُطْ الْقِصَاصُ إلَّا بِمُبَاشَرَةِ الْعَفْوِ ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى عِتْقِ أَبِيهَا عَتَقَ

الْأَبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنْ يَعْتِقَ أَبَاهَا وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ؛ لِأَنَّ مَا سُمِّيَ صَدَاقًا مِنْ عِتْقِ الْأَبِ لَيْسَ بِمَالٍ ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى عِتْقِ أَبِيهَا عَنْهَا ؛ لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ تَمْلِيكَ رَقَبَةِ الْأَبِ مِنْهَا ، فَإِنَّ الْعِتْقَ عَنْهَا لَا يَكُونُ إلَّا بِهَذَا الشَّرْطِ ، وَرَقَبَةُ الْأَبِ مَالٌ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ صَدَاقًا لَهَا .

وَإِذَا زَوَّجَ ابْنَتَهُ مِنْ رَجُلٍ عَلَى مَهْرٍ مُسَمًّى عَلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ الْآخَرُ ابْنَتَهُ عَلَى مَهْرٍ مُسَمًّى ، فَإِنْ زَوَّجَهُ فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَا سُمِّيَ لَهَا مِنْ الْمَهْرِ ، وَإِنْ لَمْ يُزَوِّجْهُ الْآخَرُ كَانَ لِلْمُزَوَّجَةِ تَمَامُ مَهْرِ مِثْلِهَا ؛ لِأَنَّ رِضَاهَا بِدُونِ مَهْرِ الْمِثْلِ بِاعْتِبَارِ مَنْفَعَةٍ مَشْرُوطَةٍ لِأَبِيهَا ، وَمَنْفَعَةُ أَبِيهَا كَمَنْفَعَتِهَا ، وَلَوْ شَرَطَ لَهَا مَعَ الْمُسَمَّى مَنْفَعَةً كَانَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ، كَذَا هُنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ نِكَاحِ الْأَكْفَاءِ ( قَالَ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَ مَا هُوَ مَقْصُودُ هَذَا الْبَابِ وَهُوَ اعْتِبَارُ الْكَفَاءَةِ فِي النِّكَاحِ ، وَصِحَّةُ عَقْدِ النِّكَاحِ مِنْ كُفْءٍ بِمَهْرِ مِثْلِهَا بِمُبَاشَرَتِهَا أَوْ بِمُبَاشَرَةِ غَيْرِهَا بِرِضَاهَا بِغَيْرِ وَلِيٍّ ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِآثَارٍ رُوِيَتْ فَمِنْهُ حَدِيثُ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَزَوَّجَ أُمَّ حَبِيبَةَ بِنْتَ أَبِي سُفْيَانَ وَكَانَ الَّذِي وَلِيَ عَقْدَ النِّكَاحِ النَّجَاشِيُّ وَمَهَرَهَا عَنْهُ أَرْبَعَمِائَةِ دِينَارٍ } وَمِنْهُ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا زَوَّجَتْ حَفْصَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ غَائِبٌ فَقَالَ : أَمِثْلِي يُفْتَاتُ عَلَيْهِ فِي بَنَاتِهِ ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَوَتَرْغَبُ عَنْ الْمُنْذِرِ لَتَمْلِكَنَّ أَمْرَهَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ فَمَلَكَهَا فَقَالَ : مَا بِي رَغْبَةٌ عَنْهُ ، وَمِنْهُ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَرْوَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : زَوَّجَتْ امْرَأَةٌ مَعَنَا فِي الدَّارِ ابْنَتَيْهَا فَجَاءَ أَوْلِيَاؤُهَا فَخَاصَمُوهَا إلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَجَازَ النِّكَاحَ ، وَمِنْهُ حَدِيثُ بَحْرِيَّةَ بِنْتِ هَانِئ قَالَتْ : زَوَّجْتُ نَفْسِي مِنْ الْقَعْقَاعِ بْنِ شَوْرٍ فَخَاصَمَ أَبِي إلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَجَازَ النِّكَاحَ ، وَلَكِنَّ الْحُجَّةَ بِهَذِهِ الْآثَارِ عَلَى الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ يَقُولُ : لَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بِعِبَارَةِ النِّسَاءِ ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تَقْوَى الْحُجَّةُ بِبَعْضِ هَذِهِ الْآثَارِ ، فَإِنَّهُ يَقُولُ فِي حَدِيثِ النَّجَاشِيِّ : إنَّهُ كَانَ هُوَ الْوَلِيُّ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُسْلِمَةً فِي وِلَايَتِهِ ، فَإِنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا مِنْ جُمْلَةِ مَنْ هَاجَرَ إلَى الْحَبَشَةِ ، وَلِأَنَّ عَقْدَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى

إجَازَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَكَذَلِكَ مَا أَجَازَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إنَّمَا أَجَازَهُ بِوِلَايَةِ السَّلْطَنَةِ ، ثُمَّ اسْتَكْثَرَ مِنْ الشَّوَاهِدِ فِي جَوَازِ تَزْوِيجِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا مِنْ كُفْءٍ ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْوَلِيَّ لَوْ عَضَلَهَا فَخَاصَمَتْهُ إلَى السُّلْطَانِ ، فَإِنَّهُ يَحِقُّ عَلَى السُّلْطَانِ أَنْ يَأْمُرَ الْوَلِيَّ بِذَلِكَ ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يُزَوِّجَهَا ؛ السُّلْطَانُ ، فَإِذَا صَنَعَتْ هِيَ بِنَفْسِهَا كَيْفَ تَحْكُمُ بِبُطْلَانِ مَا صَنَعَتْ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدِهِ وَلَهَا وَلَدٌ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْلَمَ وَلَدَهَا مِنْهُ ، أَمَا كَانَ يَجُوزُ هَذَا النِّكَاحُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْوَلِيَّ هَذَا الْوَلَدُ ، أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ امْرَأَةً أَعْتَقَتْ أَبَاهَا وَهُوَ مَعْتُوهٌ فَزَوَّجَتْهُ أَمَا كَانَ يَجُوزُ هَذَا ، فَإِذَا كَانَتْ تَمْلِكُ أَنْ تُزَوِّجَ أَبَاهَا فَكَيْفَ لَا تَمْلِكُ أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا ، وَاسْتَكْثَرَ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ مِنْ الشَّوَاهِدِ ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي اخْتِلَافِ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى قَالَ : لَا يَجُوزُ ذَلِكَ وَأَنَّ أَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ حَتَّى يُجِيزَهُ الْقَاضِي أَوْ الْوَلِيُّ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَا فِيهِ مِنْ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُمَا ، وَاَللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ

بَابُ نِكَاحِ الْإِمَاءِ وَالْعَبِيدِ ( قَالَ : ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلِلرَّجُلِ الْحُرِّ إذَا لَمْ يَكُنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا مِنْ الْإِمَاءِ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَيْسَ لِلْحُرِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ إلَّا أَمَةً وَاحِدَةً ، وَالْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فِي فُصُولٍ .
( أَحَدُهَا : ) أَنَّ الْحُرَّ إذَا لَمْ يَكُنْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ ، وَلَكِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى طَوْلِ الْحُرَّةِ عِنْدَنَا لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأَمَةَ وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يَفْعَلَهُ ، وَعِنْدَهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا } الْآيَةَ إلَى قَوْله تَعَالَى : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ } فَاَللَّهُ تَعَالَى شَرَطَ لِجَوَازِ نِكَاحِ الْأَمَةِ عَدَمَ طَوْلِ الْحُرَّةِ ، وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ يَقْتَضِي الْفَصْلَ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ لِلْحُرِّ لِضَرُورَةِ خَوْفِ الزِّنَا عَلَى نَفْسِهِ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ عَدَمِ طَوْلِ الْحُرَّةِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ فِي تَزَوُّجِ الْحُرِّ الْأَمَةَ تَعْرِيضَ وَلَدِهِ لِلرِّقِّ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مِنْهُ وَهُوَ تَابِعٌ لِلْأُمِّ فِي الرِّقِّ ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعَرِّضَ نَفْسَهُ لِلرِّقِّ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعَرِّضَ وَلَدَهُ لِلرِّقِّ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ إذَا كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى طَوْلِ الْحُرَّةِ ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَمْتَنِعَ النِّكَاحُ عَلَيْهِ لِحَقِّ الْوَلَدِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَزَوَّجُ الْمُعْتَدَّةَ مِنْ الْغَيْرِ لِمَا فِيهِ مِنْ اشْتِبَاهِ نَسَبِ الْوَلَدِ ، وَلِأَنَّ نِكَاحَ الْأَمَةِ بَدَلٌ فِي حَقِّ الْحُرِّ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ عَقْدُ ازْدِوَاجٍ وَهُوَ يَنْبَنِي عَلَى الْمُسَاوَاةِ فِي الْأَصْلِ ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْأَمَةِ فَكَانَ نِكَاحُ الْأَمَةِ فِي مَعْنَى الْبَدَلِ ، فَكَمَا أَنَّ وُجُودَ الْأَصْلِ يَمْنَعُ الْعُدُولَ إلَى الْبَدَلِ فَكَذَلِكَ لِلْقُدْرَةِ عَلَى

تَحْصِيلِهِ كَالتَّيَمُّمِ ، فَإِنَّ وُجُودَ الْمَاءِ كَمَا يَمْنَعُ التَّيَمُّمَ فَالْقُدْرَةُ عَلَى تَحْصِيلِهِ بِالشِّرَاءِ تَمْنَعُ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } فَإِذَا اسْتَطَابَ نِكَاحَ الْأَمَةِ جَازَ لَهُ ذَلِكَ بِظَاهِرِ الْآيَةِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ النِّكَاحَ يَخْتَصُّ بِمَحَلِّ الْحِلِّ ، وَالْأَمَةُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَحَلَّاتِ فِي حَقِّ الْحُرِّ كَالْحُرِّ فَيَكُونُ جَوَازُ نِكَاحِهَا أَصْلًا لَا بَدَلًا وَلَا ضَرُورَةً ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا مُحَلَّلَةٌ لَهُ أَنَّهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ مَحَلًّا لَهُ ، وَلَا يَحِلُّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ إلَّا مَا يَحِلُّ بِمِلْكِ النِّكَاحِ وَأَنَّهَا مُحَلَّلَةٌ لِلْعَبْدِ أَصْلًا بِالِاتِّفَاقِ فَكَذَلِكَ بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ فِي حَقِّ الْحُرِّ أَوْسَعُ مِنْهُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ ، لَا يَثْبُتُ الْحِلُّ لِلْعَبْدِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَيَثْبُتُ لِلْحُرِّ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأُنْثَى مِنْ بَنَاتِ آدَمَ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ تَحِلُّ لِلذُّكُورِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حُصُولُ النَّسْلِ ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ ثُمَّ الْحُرْمَةُ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَعَانِي نَصَّ عَلَيْهَا الشَّرْعُ مِنْ الْأُمِّيَّةِ وَالْأُخْتِيَّةِ وَنَحْوِهِمَا ، فَإِذَا انْعَدَمَتْ هَذِهِ الْمَعَانِي كَانَ الْحِلُّ ثَابِتًا بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ ، وَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ تَعْرِيضِ الْوَلَدِ لِلرِّقِّ أَيْضًا فَأَنَّ نِكَاحَ الْعَقِيمِ وَالْعَجُوزِ يَجُوزُ ، وَفِيهِ تَضْيِيعُ النَّسْلِ أَصْلًا ، فَلَأَنْ يَجُوزَ نِكَاحُ الْأَمَةِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ تَضْيِيعُ صِفَةِ الْحُرِّيَّةِ لِلنَّسْلِ أَوْلَى ، وَكَذَلِكَ إنْ تَزَوَّجَ أَمَةً ثُمَّ قَدَرَ عَلَى طَوْلِ الْحُرَّةِ أَوْ تَزَوَّجَ حُرَّةً كَانَ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْأَمَةَ بِالنِّكَاحِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَفِي هَذَا تَعْرِيضُ وَلَدِهِ لِلرِّقِّ ، فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ اعْتِمَادَهُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى لَا يَصِحُّ ، وَكَذَلِكَ دَعْوَاهُ أَنَّ الْأَمَةَ فِي حُكْمِ الْبَدَلِ فَاسِدٌ ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ بَدَلًا لَمْ يَبْقَ النِّكَاحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا بَعْدَ وُجُودِ الْأَصْلِ

، كَمَا لَا يَبْقَى حُكْمُ التَّيَمُّمِ بَعْدَ وُجُودِ الْمَاءِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ : حُرْمَةُ نِكَاحِ الْأَمَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِالنَّصِّ ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ عَلَى مَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ } .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْحُرَّةَ لَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ غَائِبَةً لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأَمَةَ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ لَا يَسْتَغْنِي بِنِكَاحِهَا عَنْ الْأَمَةِ ، وَيَخَافُ الْوُقُوعَ فِي الزِّنَا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَانِعَ هُنَاكَ عَيْنُ نِكَاحِ الْحُرَّةِ لَا الِاسْتِغْنَاءُ بِنِكَاحِهَا ، وَكَانَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ بِنِكَاحِ الْحُرَّةِ يَثْبُتُ لِنَسْلِهِ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ فَهُوَ بِتَزَوُّجِ الْأَمَةِ يُبْطِلُ الْحَقَّ الثَّابِتَ ، وَحَقُّ الْحُرِّيَّةِ لَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ ، فَأَمَّا بِطَوْلِ الْحُرَّةِ لَا يَثْبُتُ حَقُّ الْحُرِّيَّةِ لِوَلَدِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْأَمَةَ لَيْسَتْ مِنْ جُمْلَةِ الْمَحَلَّاتِ بِالنِّكَاحِ مَضْمُومَةٌ إلَى الْحُرَّةِ وَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَحَلَّاتِ مُنْفَرِدَةٌ عَنْ الْحُرَّةِ ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ عَقْدُ النِّكَاحِ نِعْمَةٌ فِي جَانِبِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ ، فَكَمَا يَتَنَصَّفُ ذَلِكَ الْحِلُّ بِرِقِّ الرَّجُلِ حَتَّى يَتَزَوَّجَ الْعَبْدُ اثْنَتَيْنِ وَالْحُرُّ أَرْبَعًا فَكَذَلِكَ يَتَنَصَّفُ بِرِقِّ الْمَرْأَةِ ، وَلَا يُمْكِنُ إظْهَارُ هَذَا التَّنْصِيفِ فِي جَانِبِهَا بِنُقْصَانِ الْعَدَدِ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَحِلُّ إلَّا لِوَاحِدٍ فَظَهَرَ التَّنْصِيفُ بِاعْتِبَارِ الْحَالَةِ ، فَأَمَّا أَنْ يَقُولَ : الْأَحْوَالُ ثَلَاثَةٌ حَالُ مَا قَبْلَ نِكَاحِ الْحُرَّةِ وَحَالُ مَا بَعْدَهُ وَحَالُ الْمُقَارَنَةِ ، وَلَكِنَّ الْحَالَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ فَتَغْلِبُ الْحُرْمَةُ عَلَى الْحِلِّ فَتُجْعَلُ مُحَلَّلَةً سَابِقَةً عَلَى الْحُرَّةِ وَمُحَرَّمَةً مُقْتَرِنَةً بِالْحُرَّةِ أَوْ مُتَأَخِّرَةً عَنْهَا أَوْ فِي الْحَقِيقَةِ حَالَتَانِ حَالَةُ الِانْضِمَامِ إلَى

الْحُرَّةِ وَحَالَةُ الِانْفِرَادِ عَنْهَا ، فَتُجْعَلُ مُحَلَّلَةً مُنْفَرِدَةً عَنْ الْحُرَّةِ وَمُحَرَّمَةً مَضْمُومَةً إلَى الْحُرَّةِ ، فَإِذَا كَانَتْ تَحْتَهُ حُرَّةٌ فَهُوَ بِنِكَاحِ الْأَمَةِ يَضُمُّهَا إلَى الْحُرَّةِ فَلِهَذَا لَا يَصِحُّ ، فَأَمَّا مَعَ طَوْلِ الْحُرَّةِ فَهُوَ بِنِكَاحِ الْأَمَةِ لَا يَضُمُّهَا إلَى الْحُرَّةِ فَلِهَذَا جَازَ نِكَاحُهَا ، فَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ الْمُرَادَ حَالُ وُجُودِ نِكَاحِ الْحُرَّةِ وَبِهِ نَقُولُ ، عَلَى أَنَّ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ يَقْتَضِي وُجُودَ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ ، وَلَكِنْ لَا يُوجِبُ انْعِدَامَ الْحُكْمِ عِنْدَ انْعِدَامِ الشَّرْطِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ لِعِلَّةٍ أُخْرَى .
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى : يَجُوزُ لِلْحُرِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا مِنْ الْإِمَاءِ كَمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا مِنْ الْحَرَائِرِ ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ لِلْحُرِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ إلَّا أَمَةً وَاحِدَةً ؛ لِأَنَّ جَوَازَ نِكَاحِ الْأَمَةِ لِلْحُرِّ عِنْدَهُ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ تَرْتَفِعُ بِالْوَاحِدَةِ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَكْثَرَ مِنْهَا ، كَتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ لَمَّا كَانَ حِلُّهَا لِأَجَلِ الضَّرُورَةِ لَمْ يَجُزْ إلَّا بِقَدْرِ مَا يَسُدُّ بِهِ رَمَقَهُ ، وَعِنْدَنَا نِكَاحُ الْأَمَةِ لِلْحُرِّ مُبَاحٌ مُطْلَقًا كَنِكَاحِ الْحُرَّةِ ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا مِنْ الْحَرَائِرِ ، وَعَلَى هَذَا يَسْتَوِي عِنْدَنَا إنْ كُنَّ مُسْلِمَاتٍ أَوْ كِتَابِيَّاتٍ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ تَرْتَفِعُ عَنْهُ بِنِكَاحِ الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ أَصْلًا ، فَإِنَّ الْكِتَابِيَّةَ تَكُونُ فِي مِلْكِ الْكَافِرِ عَادَةً ، وَتَعْرِيضُ وَلَدِهِ لِرِقِّ الْمُسْلِمِ أَهْوَنُ مِنْ

تَعْرِيضِهِ لِرِقِّ الْكَافِرِ ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ } مَعْنَاهُ مِنْ الْحَرَائِرِ فَلَمَّا جَوَّزَ نِكَاحَ الْكِتَابِيَّةِ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ حُرَّةً ، فَإِذَا كَانَتْ أَمَةً لَمْ تَدْخُلْ تَحْتَ النَّصِّ ، وَإِنَّمَا دَخَلَتْ تَحْتَ قَوْلِهِ { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } ، وَلِأَنَّ كُفْرَهَا يَغْلُظُ بِبَعْضِ آثَارِهِ وَهُوَ الرِّقُّ ، فَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهَا أَصْلًا كَالْمَجُوسِيَّةِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَمَةَ الْكِتَابِيَّةَ مُحَلَّلَةٌ لِلْمُسْلِمِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَكَذَلِكَ بِمِلْكِ النِّكَاحِ كَالْمُسْلِمَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ مَا لَا يَحِلُّ بِمِلْكِ النِّكَاحِ لَا يَحِلُّ بِمِلْكِ الْيَمِينِ كَالْمَجُوسِيَّةِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الشَّرْعَ سَوَّى بَيْنَ حُكْمِ النِّكَاحِ وَالذَّبِيحَةِ ، ثُمَّ فِي حَقِّ حِلِّ الذَّبِيحَةِ الْكِتَابِيَّةُ كَالْمُسْلِمَةِ أَمَةً كَانَتْ أَوْ حُرَّةً فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ النِّكَاحِ ، وَأَمَّا الْآيَةُ فَقَدْ قِيلَ : إنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ وَالْمُحْصَنَاتُ الْعَفَائِفُ مِنْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَتَتَنَاوَلُ الْأَمَةَ كَالْحُرَّةِ ، وَلَئِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْحَرَائِرَ فَإِبَاحَةُ نِكَاحِ الْحَرَائِرِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى حُرْمَةِ نِكَاحِ الْإِمَاءِ ، وَلَكِنَّ هَذَا لِبَيَانِ الْأَوْلَى ، وَاسْمُ الْمُشْرِكَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْكِتَابِيَّةَ لِاخْتِصَاصِهَا بِاسْمٍ آخَرَ ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ : { لَمْ يَكُنْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ } الْآيَةَ .

( قَالَ : ) وَلَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا ثُمَّ تَزَوَّجَ حُرَّةً ثُمَّ أَجَازَ مَوْلَى الْأَمَةِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ مِلْكِ الْحِلِّ عِنْدَ الْإِجَازَةِ ، وَعِنْدَ الْإِجَازَةِ الْحُرَّةُ تَحْتَهُ ، فَبِهَذِهِ الْإِجَازَةِ يَحْصُلُ ضَمُّ الْأَمَةِ إلَى الْحُرَّةِ وَهِيَ لَيْسَتْ مِنْ الْمُحَلَّلَاتِ مَضْمُومَةً إلَى الْحُرَّةِ ، وَلِأَنَّهُ اعْتَرَضَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ مَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ فَيَمْنَعُ الْإِجَازَةَ كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً نِكَاحًا مَوْقُوفًا ثُمَّ تَزَوَّجَ أُخْتَهَا ثُمَّ إنَّ الْأُولَى أَجَازَتْ لَمْ يَجُزْ ، أَرَأَيْتَ لَوْ تَزَوَّجَ أُمَّ هَذِهِ الْأَمَةِ أَوْ ابْنَتَهَا وَهِيَ حُرَّةٌ قَبْلَ إجَازَةِ مَوْلَاهَا ثُمَّ أَجَازَ الْمَوْلَى أَكَانَ يَجُوزُ قَالَ لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَا .

( قَالَ : ) وَإِذَا تَزَوَّجَ أَمَةً بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا الْمَوْلَى وَلَمْ يَعْلَمْ بِالنِّكَاحِ ، فَإِنَّ هَذَا الْعِتْقَ إمْضَاءٌ لِلنِّكَاحِ وَإِجَازَةٌ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْأَمَةَ مُخَاطَبَةٌ ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ نُفُوذُ عَقْدِهَا لِحَقِّ الْمَوْلَى ، فَإِذَا سَقَطَ حَقُّ الْمَوْلَى نَفَذَ الْعَقْدُ وَكَانَ نُفُوذُ هَذَا الْعَقْدِ مِنْ جِهَتِهَا لَا مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى ، وَمَا قَالَ : إنَّهُ إمْضَاءٌ وَإِجَازَةٌ تَوَسُّعٌ فِي الْكَلَامِ ، فَأَمَّا نُفُوذُ الْعَقْدِ مِنْ جِهَتِهَا ، وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ لَهَا خِيَارُ الْعِتْقِ كَمَا لَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْعِتْقِ إنَّمَا يَثْبُتُ إذَا ازْدَادَ الْمِلْكُ عَلَيْهَا بِالْعِتْقِ ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا كَانَ نُفُوذُ الْعَقْدِ ابْتِدَاءً بَعْدَ الْعِتْقِ ، وَلِهَذَا كَانَ الْمَهْرُ لَهَا إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا قَبْلَ الْعِتْقِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ إنَّمَا يَثْبُتُ عَلَيْهَا فَمَا يَقْبَلُهُ مِنْ الْبَدَلِ يَكُونُ لَهَا ، وَعَنْ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ : يَبْطُلُ النِّكَاحُ ؛ لِأَنَّ تَوَقُّفَهُ كَانَ عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى ، فَلَا يَنْفُذُ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ ، وَلَا يُمْكِنُ إبْقَاؤُهُ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ لِسُقُوطِ حَقِّهِ بِالْعِتْقِ فَتَعَيَّنَ فِيهِ جِهَةُ الْبُطْلَانِ ، كَمَا لَوْ بَاعَ مَالَ الْغَيْرِ ، ثُمَّ إنَّ الْمَالِكَ بَاعَهُ مِنْ إنْسَانٍ آخَرَ بَطَلَ بِهِ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ مَا تَوَقَّفَ هَذَا الْعَقْدُ عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ نُفُوذُهُ لِقِيَامِ حَقِّ الْمَوْلَى وَقَدْ سَقَطَ حَقُّ الْمَوْلَى بِالْعِتْقِ بَعْدَ الْعَقْدِ لِزَوَالِ الْمَانِعِ مِنْ النُّفُوذِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَذِنَ لَهَا الْمَوْلَى فِي النِّكَاحِ ، فَإِنَّهُ لَا يَنْفُذُ ذَلِكَ الْعَقْدُ مَا لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ بِالْإِذْنِ لَمْ يَسْقُطُ حَقُّ الْمَوْلَى ، فَلَا بُدَّ مِنْ إجَازَةِ الْمَوْلَى أَوْ إجَازَةِ مَنْ قَامَ مَقَامَهُ ، فَأَمَّا بِالْعِتْقِ هُنَا سَقَطَ حَقُّ الْمَوْلَى ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَتْ شَيْئًا ثُمَّ أَعْتَقَهَا الْمَوْلَى فَإِنَّهُ

يَبْطُلُ الشِّرَاءُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الشِّرَاءَ انْعَقَدَ مُوجِبًا الْمِلْكَ لِلْمَوْلَى فَلَوْ نَفَذَ بَعْدَ عِتْقِهَا كَانَ مُوجِبًا الْمِلْكَ لَهَا ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، فَأَمَّا هُنَا النِّكَاحُ انْعَقَدَ مُوجِبَ الْحِلِّ لَهَا وَبَعْدَ الْعِتْقِ إنَّمَا يَنْفُذُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، وَلَوْ لَمْ يَعْتِقْهَا ، وَلَكِنَّهُ مَاتَ فَوَرِثَهَا ابْنُهُ ، فَإِنْ كَانَتْ تَحِلُّ لِلِابْنِ بِأَنْ لَمْ يَمَسَّهَا الْأَبُ بَطَلَ النِّكَاحُ ، وَلَيْسَ لِلِابْنِ أَنْ يُجِيزَهُ ؛ لِأَنَّهُ طَرَأَ حِلٌّ نَافِذٌ عَلَى الْحِلِّ الْمَوْقُوفِ فَيَكُونُ مُبْطِلًا لِذَلِكَ الْمَوْقُوفِ كَمَا إذَا طَرَأَ مِلْكٌ نَافِذٌ عَلَى مِلْكٍ مَوْقُوفٍ بِأَنْ بَاعَ مِلْكَ الْغَيْرِ ثُمَّ اشْتَرَاهُ مِنْ الْمَالِكِ بَطَلَ ذَلِكَ الْعَقْدُ ، وَلَا يَمْلِكُ الْإِجَازَةَ بَعْدُ ، وَهَذَا لِأَنَّ بَيْنَ الْمِلْكَيْنِ وَالْحِلَّيْنِ فِي الْمَحَلِّ مُنَافَاةً فَنُفُوذُ أَحَدِهِمَا فِي الْمَحَلِّ يَكُونُ مُبْطِلًا لِلْآخَرِ ، وَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَا يَحِلُّ لِلِابْنِ فَأَجَازَ الِابْنُ ذَلِكَ النِّكَاحَ جَازَ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَبِ فِي هَذِهِ الْإِجَازَةِ وَلَمْ يُوجَدْ الْمُنَافِي وَهُوَ طَرَيَان الْحِلِّ النَّافِذِ عَلَى الْحِلِّ الْمَوْقُوفِ .
وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ زُفَرَ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَةِ الْأَبِ ، فَلَا يَنْفُذُ بِإِجَازَةِ غَيْرِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهَا الْمَوْلَى أَوْ وَهَبَهَا أَوْ سَلَّمَهَا ، فَإِنْ كَانَتْ تَحِلُّ لِلْمُشْتَرِي وَالْمَوْهُوبِ لَهُ لَمْ يَنْفُذْ ذَلِكَ الْعَقْدُ بِإِجَازَتِهِمَا ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَحِلُّ لَهُمَا نَفَذَ الْعَقْدُ بِإِجَازَتِهِمَا عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلَوْ كَانَتْ تَحِلُّ لِمَنْ مَلَكَهَا فَدَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ بَعْدَ مَا مَلَكَهَا وَقَدْ أَجَازَ مَنْ مَلَكَهَا النِّكَاحَ أَوْ لَمْ يُجِزْ كَانَ عَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا وَمِمَّا سَمَّى لَهَا فِي النِّكَاحِ قَبْلَ انْتِقَالِ الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ حَصَلَ بِشُبْهَةِ النِّكَاحِ فَسَقَطَ الْحَدُّ وَيَجِبُ الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى وَمِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ لِمَالِكِهَا

يَوْمَ وَطِئَهَا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا وَجَبَ بَدَلًا عَنْ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ وَالْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ مَمْلُوكٌ لِلثَّانِي فَكَانَ الْبَدَلُ لَهُ ، وَلَوْ كَانَ قَدْ جَامَعَهَا فِي مِلْكِ الْأَوَّلِ ثُمَّ أَجَازَ النِّكَاحَ الْآخَرُ ، فَإِنَّهُ يُجْعَلُ عَلَيْهِ مَهْرٌ وَاحِدٌ لِلْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ بِهَا فِي الْمِلْكِ الْأَوَّلِ حَصَلَ بِشُبْهَةِ النِّكَاحِ فَيَجِبُ الْمَهْرُ بِمُقَابَلَةِ الْمُسْتَوْفَى مِنْهَا ، وَذَلِكَ الْمُسْتَوْفَى مَمْلُوكٌ لِلْأَوَّلِ فَكَانَ الْمَهْرُ لَهُ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَنْفُذُ بِإِجَازَةِ الثَّانِي هُنَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ فَسَدَ حِينَ مَلَكَهَا ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ هَذَا غَلَطٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ فِي مِلْكِ الْأَوَّلِ وَجَبَ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَالْمُعْتَدَّةُ لَا تَحِلُّ لِغَيْرِ الْمُعْتَدِّ مِنْهُ فَهِيَ لَمْ تَصِرْ مُحَلَّلَةً لِلْمَالِكِ الثَّانِي ، فَلَا يَفْسُدُ النِّكَاحُ الْمَوْقُوفُ ، فَإِذَا أَجَازَهُ كَانَ صَحِيحًا ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْعِدَّةِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا ، فَأَمَّا قَبْلَ التَّفْرِيقِ فَهِيَ لَيْسَتْ بِمُعْتَدَّةٍ فَاعْتِرَاضُ الْمِلْكِ الثَّانِي يُبْطِلُ الْمِلْكَ الْمَوْقُوفَ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ مَمْنُوعًا مِنْ غِشْيَانِهَا ، وَجُعِلَ هَذَا قِيَاسَ الْمَنْعِ بِسَبَبِ الِاسْتِبْرَاءِ ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ بُطْلَانَ النِّكَاحِ الْمَوْقُوفِ ، فَهَذَا مِثْلُهُ .
( قَالَ : ) وَلَوْ كَانَ دَخَلَ بِهَا فِي مِلْكِ الْأَوَّلِ ثُمَّ أَعْتَقَهَا جَازَ النِّكَاحُ ، وَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهِ مَهْرَانِ مَهْرٌ لِلْمَوْلَى بِالدُّخُولِ بِشُبْهَةِ النِّكَاحِ قَبْلَ الْعِتْقِ وَمَهْرٌ لَهَا لِنُفُوذِ الْعَقْدِ عَلَيْهَا بَعْدَ الْعِتْقِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْحِلِّ إنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْعِتْقِ ، فَلَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِغَيْرِ مَهْرٍ ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ : لَا يَجِبُ إلَّا مَهْرٌ وَاحِدٌ لِلْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَهْرِ بِالدُّخُولِ إنَّمَا يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْعَقْدِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْبِقْ الْعَقْدُ لَا يَجِبُ الْمَهْرُ

وَالْعَقْدُ الْوَاحِدُ لَا يُوجِبُ إلَّا مَهْرًا وَاحِدًا ، وَإِذَا وَجَبَ بِهِ الْمَهْرُ لِلْمَوْلَى لَا يَجِبُ لَهَا بِهِ مَهْرٌ آخَرُ ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْإِجَازَةَ وَإِنْ كَانَتْ بَعْدَ الْعِتْقِ فَحُكْمُهَا يَسْتَنِدُ إلَى أَصْلِ الْعَقْدِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الشُّهُودَ يُشْتَرَطُ عِنْدَ الْعَقْدِ لَا عِنْدَ الْإِذْنِ فَكَذَلِكَ إذَا أَجَازَهُ فِي الِانْتِهَاءِ إنَّمَا يُشْتَرَطُ حَضْرَةُ الشُّهُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ لَا عِنْدَ الْإِجَازَةِ وَشَرْطُ الشُّهُودِ اخْتَصَّ بِمِلْكِ الْحِلِّ كَشَرْطِ الْمَهْرِ ، فَكَمَا أَنَّ وُجُودَ الشُّهُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ يُغْنِي عَنْ اعْتِبَارِهِ عِنْدَ الْإِجَازَةِ فَكَذَا وُجُوبُ الْمَهْرِ لِلْمَوْلَى عِنْدَ الْعَقْدِ يُغْنِي عَنْ اعْتِبَارِ مَهْرٍ آخَرَ لَهَا عِنْدَ الْإِجَازَةِ ، وَلَوْ لَمْ يُعْتِقْهَا ، وَلَكِنَّهُ أَجَازَ النِّكَاحَ جَعَلَ إجَازَتَهُ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَلَوْ كَانَ أَذِنَ لَهَا فِي النِّكَاحِ جَازَ عَقْدُهَا وَيُشْتَرَطُ حَضْرَةُ الشُّهُودِ عِنْدَ الْعَقْدِ لَا عِنْدَ الْإِجَازَةِ .

( قَالَ : ) وَلِلْمَوْلَى أَنْ يُكْرِهَ أُمَّتَهُ أَوْ عَبْدَهُ عَلَى النِّكَاحِ ، أَمَّا الْأَمَةُ فَلِأَنَّ بُضْعَهَا مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى فَهُوَ إنَّمَا يَعْقِدُ عَلَى مِلْكِ نَفْسِهِ بِتَزْوِيجِهَا ، وَلَهُ وِلَايَةُ الْعَقْدِ عَلَى مِلْكِ نَفْسِهِ بِغَيْرِ رِضَاهَا كَمَا لَوْ بَاعَهَا ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْبَدَلَ يَجِبُ لِلْمَوْلَى ، وَالنَّفَقَةُ تَسْقُطُ عَنْ الْمَوْلَى فَهُوَ فِيمَا صَنَعَ عَمِلَ لِنَفْسِهِ ، وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلِلْمَوْلَى أَنْ يُزَوِّجَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ عِنْدَنَا ، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ مَا تَنَاوَلَهُ النِّكَاحُ مِنْ الْعَبْدِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ فَهُوَ فِي تَزْوِيجِهِ مُتَصَرِّفٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ، فَلَا يَسْتَبِدُّ بِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَوْلَى فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ مِنْ عَبْدِهِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْإِقْرَارَ عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّ دَمَهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ ، وَلَا يَمْلِكُ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَةَ الْعَبْدِ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لِلْمَوْلَى ، فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ تَزْوِيجَهُ ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ هَذَا الْعَقْدِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ تَزْوِيجَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ لَا يُفِيدُ مَقْصُودَ النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ بِيَدِ الْعَبْدِ فَيُطَلِّقُهَا مِنْ سَاعَتِهِ ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ } ، فَإِنَّمَا عَقَدَ الْمَوْلَى عَلَى شَيْءٍ لَا يَقْدِرُ الْعَبْدُ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ مَمْلُوكُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَيَمْلِكُ نِكَاحَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ كَالْأَمَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي الْأَمَةِ إنَّمَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى الْعَقْدَ عَلَيْهَا لِمِلْكِهِ رَقَبَتَهَا لَا لِمِلْكِهِ مَا يُمْلَكُ بِالنِّكَاحِ ، فَإِنَّ وِلَايَةَ التَّزْوِيجِ لَا تَسْتَدْعِي مِلْكَ مَا يُمْلَكُ بِالنِّكَاحِ ، وَلَا يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَلِيَّ يُزَوِّجُ الصَّغِيرَةَ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ عَلَيْهَا مَا يُمْلَكُ بِالنِّكَاحِ ، فَثَبَتَ أَنَّ فِي حَقِّ الْأَمَةِ إنَّمَا يَمْلِكُ

تَزْوِيجَهَا بِمِلْكِهِ رَقَبَتَهَا لَا بِمِلْكِهِ عَلَيْهَا مَا يُمْلَكُ بِالنِّكَاحِ ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي جَانِبِ الْعَبْدِ بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ فِي تَزْوِيجِ الْأَمَةِ يَنْظُرُ لِنَفْسِهِ ، وَفِي تَزْوِيجِ الْعَبْدِ إنَّمَا يَنْظُرُ لِلْعَبْدِ ، وَلِأَنَّ الْإِمْهَارَ أَحَدُ شَطْرَيْ الْعَقْدِ فَيَمْلِكُهُ الْمَوْلَى بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ كَتَمْلِيكِ الْبُضْعِ فِي جَانِبِ الْأَمَةِ ، وَمَا قَالَ : إنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلْمَوْلَى فَاسِدٌ مِنْ الْكَلَامِ ، فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَبِدُّ بِالنِّكَاحِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَمَا لَا يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى مِنْ عَبْدِهِ ، فَالْعَبْدُ فِيهِ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ يَسْتَبِدُّ بِهِ كَالْإِقْرَارِ بِالْقِصَاصِ وَإِيقَاعِ الطَّلَاقِ عَلَى زَوْجَتِهِ ، وَهُنَا الْعَبْدُ لَمَّا كَانَ لَا يَسْتَبِدُّ بِهِ عَرَفْنَا أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لِلْمُوَلَّى عَلَيْهِ ، وَمُوجِبُ النِّكَاحِ الْحِلُّ ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالنِّكَاحِ إلَى أَنْ يَرْتَفِعَ بِالطَّلَاقِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ حِشْمَةَ الْمَوْلَى تَمْنَعُهُ مِنْ إيقَاعِ الطَّلَاقِ .

( قَالَ : ) وَلَوْ أَقَرَّ الْمَوْلَى بِالنِّكَاحِ عَلَى عَبْدِهِ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ عَلَى أَمَتِهِ بِالنِّكَاحِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ ، وَذَكَرَ شُعَيْبُ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى عَكْسِ هَذَا أَنَّ إقْرَارَ الْمَوْلَى بِالنِّكَاحِ عَلَى عَبْدِهِ صَحِيحٌ ، وَعَلَى أَمَتِهِ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهَا فَرْجٌ ، فَلَا تَحِلُّ لِلزَّوْجِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِ الْمَوْلَى بِغَيْرِ شُهُودٍ .

( قَالَ : ) وَإِذَا عَتَقَتْ الْأَمَةُ الْمَنْكُوحَةُ فَلَهَا الْخِيَارُ كَمَا بَيَّنَّا ، فَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا وَقَدْ دَخَلَ الزَّوْجُ بِهَا فَالْمَهْرُ الْمُسَمَّى وَاجِبٌ لِسَيِّدِهَا ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ حَصَلَ بِحُكْمِ نِكَاحٍ صَحِيحٍ فَتَقَرَّرَ بِهِ الْمُسَمَّى ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ، فَلَا مَهْرَ لَهَا ، وَلَا لِسَيِّدِهَا ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَهَا نَفْسَهَا فَسْخٌ لِلنِّكَاحِ مِنْ أَصْلِهِ فَيَسْقُطُ بِهِ جَمِيعُ الْمَهْرِ ، كَمَا إذَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا لِانْعِدَامِ الْكَفَاءَةِ ، فَإِنْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَالْمَهْرُ لِسَيِّدِهَا دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ؛ لِأَنَّ الْمُسَمَّى وَجَبَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ بِمُقَابَلَةِ مَا مَلَكَهُ الزَّوْجُ ، وَإِنَّمَا مَلَكَ ذَلِكَ عَلَى الْمَوْلَى فَكَانَ الْبَدَلُ لِلْمَوْلَى ، وَلَوْ لَمْ يُعْتِقْهَا كَانَ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الصَّدَاقَ مِنْ زَوْجِهَا ، وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يُسَلِّمَهَا إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى فِي اسْتِحْقَاقِ صَدَاقِ الْأَمَةِ كَالْحُرَّةِ فِي اسْتِحْقَاقِ صَدَاقِ نَفْسِهَا ، وَهُنَاكَ لَهَا أَنْ تَحْبِسَ نَفْسَهَا لِاسْتِيفَاءِ صَدَاقِهَا فَهُنَا أَيْضًا لِلْمَوْلَى أَنْ يَحْبِسَهَا إذَا كَانَ الصَّدَاقُ حَالًّا ، وَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ مُؤَجَّلًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهَا ، وَلَا لِلْحُرَّةِ أَنْ تَحْبِسَ نَفْسَهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى قِيَاسِ الْمَبِيعِ لَا يُحْبَسُ بِالثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْآخَرِ ، وَإِنْ كَانَ الصَّدَاقُ مُؤَجَّلًا فَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَحْبِسَ نَفْسَهَا لِاسْتِيفَائِهِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ عَلَيْهَا فِي جَمِيعِ الْعُمُرِ ، وَالْمُطَالَبَةُ بِالصَّدَاقِ ثَابِتٌ لَهَا فِي الْعُمُرِ ، وَفِي الْبَيْعِ اسْتِحْقَاقُ التَّسْلِيمِ عَقِيبَ الْعَقْدِ ، وَلَيْسَ لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِالثَّمَنِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ إذَا كَانَ مُؤَجَّلًا ، فَإِنْ كَانَ اسْتَوْفَى الْمَوْلَى صَدَاقَهَا أُمِرَ الْمَوْلَى أَنْ يُدْخِلَهَا عَلَى زَوْجِهَا ، وَلَكِنْ لَا

يَلْزَمُهُ أَنْ يُبَوِّئَهَا مَعَهُ بَيْتًا ؛ لِأَنَّ خِدْمَتَهَا حَقُّ الْمَوْلَى ، فَلَا تَقَعُ الْحَيْلُولَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ ، وَلَكِنَّهَا تَخْدُمُ الْمَوْلَى فِي بَيْتِهِ كَمَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ مِنْ قَبْلُ .
وَمَتَى مَا وَجَدَ الزَّوْجُ مِنْهَا خَلْوَةً أَوْ فَرَاغًا قَضَى حَاجَتَهُ ، فَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى قَتَلَهَا مَوْلَاهَا فَعَلَيْهِ رَدُّ جَمِيعِ الصَّدَاقِ عَلَى الزَّوْجِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَقْبِضْ الصَّدَاقَ سَقَطَ جَمِيعُ حَقِّهِ عَنْ الزَّوْجِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهَا الْمَوْلَى فِي مَكَان لَا يَقْدِرُ الزَّوْجُ عَلَيْهَا ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْقَتْلَ مَوْتٌ بِأَجَلٍ فَيَتَقَرَّرُ بِهِ جَمِيعُ الصَّدَاقِ كَمَا لَوْ قَتَلَهَا غَيْرُ الْمَوْلَى ، وَهَذَا لِأَنَّ بِالْمَوْتِ تَنْتَهِي مُدَّةُ النِّكَاحِ ، فَإِنَّ النِّكَاحَ يُعْقَدُ لِلْعُمُرِ فَبِمُضِيِّ مُدَّتِهِ يَنْتَهِي الْعَقْدُ ، وَانْتِهَاءُ الْعَقْدِ مُوجِبٌ تَقْرِيرَ الْبَدَلِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرِثُ مِنْ صَاحِبِهِ حَتَّى لَوْ جَرَحَهَا الْمَوْلَى ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَاكْتَسَبَتْ مَالًا ثُمَّ مَاتَتْ مِنْ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ ، فَإِنَّ الزَّوْجَ يَرِثُهَا ، وَلَوْ مَاتَ الزَّوْجُ قَبْلَهَا وَرِثَتْهُ أَيْضًا ، وَالتَّوْرِيثُ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ انْتِهَاءِ النِّكَاحِ بِالْمَوْتِ ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَمْ يُفْسَخْ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا ، وَسُقُوطُ الْمَهْرِ مِنْ حُكْمِ انْفِسَاخِ النِّكَاحِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : مَنْ لَهُ الْحَقُّ فِي الْبَدَلِ اكْتَسَبَ سَبَبَ فَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَيَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالْبَدَلِ ، كَمَا لَوْ أَعْتَقَهَا فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقَتْلَ مَوْتٌ كَمَا قَالَ ، وَلَكِنْ يَتَضَمَّنُ فَوَاتَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي اكْتَسَبَ سَبَبَهُ يُجْعَلُ التَّفْوِيتُ مُحَالًا بِهِ إلَيْهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَائِعَ لَوْ أَتْلَفَ جُزْءًا

مِنْ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَسْقُطُ حَقُّهُ فِي حِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ ، وَلَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ الْمَبِيعَ يَسْقُطُ جَمِيعُ الثَّمَنِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْقَتْلَ فِي الْحَقِيقَةِ مَوْتٌ بِأَجَلٍ ، وَلَكِنْ فِي حَقِّ الْقَاتِلِ جُعِلَ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا كَأَنَّهُ غَيْرُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجِبَ عَلَى الْقَاتِلِ الْقِصَاصُ وَالْكَفَّارَةُ وَالدِّيَةُ إنْ كَانَ خَطَأً ، وَمَنْ ذَبَحَ شَاةَ إنْسَانٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ يَكُونُ ضَامِنًا وَبِاعْتِبَارِ مَوْتِهِ هُوَ مُحْسِنٌ إلَى صَاحِبِ الشَّاةِ فِيمَا صَنَعَهُ غَيْرُ مُتْلِفٍ عَلَيْهِ شَيْئًا ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمَوْلَى لَوْ غَيَّبَ أَمَتَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الزَّوْجَ بِصَدَاقِهَا ، فَإِذَا أَتْلَفَهَا أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ بِصَدَاقِهَا ، وَهَذَا الْكَلَامُ يَتَّضِحُ فِيمَا إذَا بَاعَهَا فِي مَكَان لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الزَّوْجُ ، فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَمَا إذَا غَيَّبَهَا مِنْ غَيْرِ بَيْعٍ ، أَمَّا الْمِيرَاثُ فَنَقُولُ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ مَوْتٌ ، وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ إتْلَافًا فِي حَقِّ الْقَاتِلِ ، وَالْمِيرَاثُ لَيْسَ لِلْقَاتِلِ ، بَلْ ذَلِكَ شَيْءٌ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الزَّوْجِ ، وَفِيمَا بَيْنَهُمَا هَذَا مَوْتٌ مُنْهٍ لِلنِّكَاحِ

، وَلَوْ قَتَلَتْ الْحُرَّةُ الْمَنْكُوحَةُ نَفْسَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا الزَّوْجُ لَمْ يَسْقُطْ مَهْرُهَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَسْقُطُ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي الْمَهْرِ لَهَا وَقَدْ فَوَّتَتْ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَالتَّسْلِيمِ فَصَارَ كَمَا لَوْ ارْتَدَّتْ قَبْلَ الدُّخُولِ ، أَوْ قَتَلَ الْمَوْلَى أَمَتَهُ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : قَتْلُهَا نَفْسَهَا فِي الْإِحْكَامِ كَمَوْتِهَا ، وَلَوْ كَانَتْ مَاتَتْ لَمْ يَسْقُطْ مَهْرُهَا ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ قَتْلَهَا نَفْسَهَا هَدَرٌ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا إنَّمَا تُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ ، فَأَمَّا فِي الدُّنْيَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَحْكَامِ فَهُوَ كَمَوْتِهَا ، بِخِلَافِ قَتْلِ الْمَوْلَى أَمَتَهُ ، فَإِنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي الْأَحْكَامِ حَتَّى يَتَعَلَّقَ بِهِ الْكَفَّارَةُ إنْ كَانَ خَطَأً وَالضَّمَانُ إنْ كَانَ عَلَيْهَا دَيْنٌ ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ بَعْدَ قَتْلِهَا نَفْسَهَا الْمُهُورُ لِوَرَثَتِهَا لَا لَهَا ، وَلَمْ يُوجَدُ مِنْ الْوَرَثَةِ مَا كَانَ تَفْوِيتًا لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقَتْلَ مَوْتٌ فِي حَقِّ غَيْرِ الْقَاتِلِ ، فَأَمَّا الْمَهْرُ لِلْمَوْلَى بَعْدَ قَتْلِ الْأَمَةِ وَالتَّفْوِيتُ وُجِدَ مِنْ جِهَتِهِ ، فَإِنْ قِيلَ : مَا تَقُولُ فِيمَا إذَا كَانَ الْوَارِثُ هُوَ الَّذِي قَتَلَهَا .
؟ قُلْنَا : الْوَارِثُ إذَا قَتَلَهَا صَارَ مَحْرُومًا عَنْ الْمِيرَاثِ ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْمِيرَاثِ هُنَا ، فَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ فِعْلُهُ فِي إسْقَاطِ مَهْرِهَا ، وَهَذَا بِخِلَافِ رِدَّتِهَا ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا ، وَلِأَنَّ الْمَهْرَ لَهَا بَعْدَ الرِّدَّةِ ، وَتَفْوِيتُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَانَ مِنْهَا

فَأَمَّا الْأَمَةُ إذَا قَتَلَتْ نَفْسَهَا فَعَنْهُ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لَا يَسْقُطُ مَهْرُهَا كَالْحُرَّةِ إذَا قَتَلَتْ نَفْسَهَا بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ هُنَا لِمَوْلَاهَا ، وَفِي الْأُخْرَى يَسْقُطُ مَهْرُهَا كَمَا لَوْ ارْتَدَّتْ ، وَهَذَا لِأَنَّ فِعْلَ الْمَمْلُوكِ مُضَافٌ إلَى الْمَالِكِ فِي مُوجِبِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ قَتَلَتْ غَيْرَهَا كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الْمُخَاطَبُ بِدَفْعِهَا أَوْ فِدَائِهَا ، فَإِذَا قَتَلَتْ نَفْسَهَا جُعِلَ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّ الْمَوْلَى قَتَلَهَا فَلِهَذَا يَسْقُطُ مَهْرُهَا .

( قَالَ : ) وَإِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً فَأَخْبَرَهُ رَجُلٌ أَنَّهَا حُرَّةٌ وَلَمْ يُزَوِّجْهَا إيَّاهُ ، وَلَكِنَّ الرَّجُلَ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ ، فَإِذَا هِيَ أَمَةٌ وَقَدْ وَلَدَتْ لَهُ ضَمِنَ الزَّوْجُ قِيمَةَ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ ، وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ ، بِهِ قَضَى عُمَرُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِرِقِّ مَائِهِ ، وَلَكِنْ كَمَا يُعْتَبَرُ حَقُّهُ يُعْتَبَرُ حَقُّ الْمُسْتَحِقِّ فَيَكُونُ الْوَلَدُ حُرًّا بِالْقِيمَةِ نَظَرًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، وَلَا يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَى الْمُخْبِرِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ لَهُ شَيْئًا ، وَإِنَّمَا أَخْبَرَهُ بِخَبَرٍ كَانَ كَاذِبًا فِيهِ ، وَذَلِكَ لَا يُثْبِتُ حَقَّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أَخْبَرَهُ أَنَّ الطَّرِيقَ آمِنٌ فَسَلَكَ فِيهِ فَأَخَذَ اللُّصُوصُ مَتَاعَهُ ، وَلَكِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى الْأَمَةِ إذَا أُعْتِقَتْ ؛ لِأَنَّهَا غَرَّتْهُ حِينَ زَوَّجَتْهُ نَفْسَهَا عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ ، وَضَمَانُ الْغَرَرِ كَضَمَانِ الْكَفَالَةِ ، فَإِنَّهَا ضَمِنَتْ لَهُ سَلَامَةَ الْوَلَدِ بِمَا ذَكَرَتْ مِنْ الْحُرِّيَّةِ فِي الْعَقْدِ ، وَضَمَانُ الْكَفَالَةِ يَجِبُ عَلَى الْأَمَةِ بَعْدَ الْعِتْقِ ، وَيَضْمَنُ الزَّوْجُ الْعُقْرَ لِلْمَوْلَى ، وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ ؛ لِأَنَّهُ عِوَضُ مَا اسْتَوْفَى مِنْهَا ، وَالْمُسْتَوْفَى كَانَ مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى وَهُوَ الَّذِي نَالَ اللَّذَّةَ بِاسْتِيفَائِهِ .

( قَالَ : ) وَإِذَا تَزَوَّجَتْ الْمُسْتَسْعَاةُ فِي بَعْضِ قِيمَتِهَا ثُمَّ أَدَّتْ السِّعَايَةَ فَعَتَقَتْ خُيِّرَتْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَسْعَاةَ كَالْمُكَاتَبَةِ عِنْدَهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ إذَا أَعْتَقَتْ وَقَدْ كَانَتْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا خُيِّرَتْ .

( قَالَ : ) وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْأَمَةِ فِي عِدَّةِ حُرَّةٍ مِنْ فُرْقَةٍ أَوْ طَلَاقٍ بَائِنٍ أَوْ ثَلَاثٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَيَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلَوْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ لَمْ يَجُزْ نِكَاحُ الْأَمَةِ فِي عِدَّتِهَا بِالِاتِّفَاقِ فَهُمْ يَقُولُونَ : الْمُحَرَّمُ نِكَاحُ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ } وَالتَّزَوُّجُ عَلَيْهَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا كَانَ مِلْكُهُ بَاقِيًا عَلَيْهَا ، وَذَلِكَ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ أَوْ قَبْلَ الطَّلَاقِ ، فَأَمَّا بَعْدَ الْفُرْقَةِ لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا نِكَاحٌ ، فَلَا يَكُونُ مُتَزَوِّجًا عَلَيْهَا كَمَا لَوْ كَانَتْ الْحُرَّةُ تَعْتَدُّ مِنْهُ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ فَتَزَوَّجَ أَمَةً يَجُوزُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : إنْ تَزَوَّجْتُ عَلَيْكِ امْرَأَةً فَهِيَ طَالِقٌ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً بَعْدَ مَا أَبَانَهَا لَمْ تَطْلُقْ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ أَوْ قَبْلَهُ فَثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَزَوِّجٍ عَلَيْهَا بَعْدَ مَا أَبَانَهَا ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَنْعِ مِنْ نِكَاحِ الْأُخْتِ فِي عِدَّةِ الْأُخْتِ ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ هُنَاكَ الْجَمْعُ ، فَإِذَا تَزَوَّجَهَا فِي عِدَّتِهَا صَارَ جَامِعًا بَيْنَهُمَا فِي حُقُوقِ النِّكَاحِ ، وَهَذَا الْمَنْعُ لَيْسَ لِأَجْلِ الْجَمْعِ ، فَإِنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ الْأَمَةَ ثُمَّ الْحُرَّةَ صَحَّ نِكَاحُهَا ، وَلَكِنَّ الْمَنْعَ مِنْ تَزَوُّجِ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ لِمَا فِيهِ مِنْ إدْخَالِ نَاقِصَةِ الْحَالِ فِي مُزَاحَمَةِ كَامِلَةِ الْحَالِ ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : الْمَنْعُ مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ ثَبَتَ بِنِكَاحِ الْحُرَّةِ ، وَكُلُّ مَنْعٍ ثَبَتَ بِسَبَبِ النِّكَاحِ يَبْقَى بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ كَالْمَنْعِ مِنْ نِكَاحِ الْأُخْتِ وَالْأَرْبَعِ ، وَهَذَا لِأَنَّ

الْعِدَّةَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ ، وَحَقُّ الشَّيْءِ كَنَفْسِ ذَلِكَ الشَّيْءِ فِي إبْقَاءِ الْحُرْمَةِ ، وَنِكَاحُ الْأَمَةِ إنَّمَا لَا يَجُوزُ بَعْدَ الْحُرَّةِ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَتَبْقَى تِلْكَ الْحُرْمَةُ بِبَقَاءِ عِدَّتِهَا ، فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ مَضْمُومَةٌ إلَى الْحُرَّةِ ، وَفِي هَذَا نَوْعُ ضَمٍّ فِي فِرَاشِ النِّكَاحِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْحُرَّةُ تَعْتَدُّ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ فَقَدْ قِيلَ : إنَّ ذَلِكَ قَوْلُهُمَا ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ ، وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ يَقُولُ : هُنَاكَ الْمَنْعُ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ حَتَّى يُقَالُ : يَبْقَى ذَلِكَ بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ ، وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْيَمِينِ قُلْنَا فِي الْأَيْمَانِ : الْمُعْتَبَرُ الْعُرْفُ ، وَفِي الْعُرْفِ لَا يُسَمَّى مُتَزَوِّجًا عَلَيْهَا بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ فَلِهَذَا لَا تَطْلُقُ ، فَأَمَّا فِي أَلْفَاظِ الشَّرْعِ الْمُعْتَبَرُ الْمَعْنَى ، وَمَعْنَى الْحُرْمَةِ بَاقٍ بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَ مُدَبَّرَةً أَوْ مُكَاتَبَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ فِي عِدَّةِ حُرَّةٍ ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ فِي هَؤُلَاءِ بَاقٍ ، وَحُكْمُهُنَّ فِي النِّكَاحِ حُكْمُ الْأَمَةِ الْقِنَّةِ .

( قَالَ : ) رَجُلٌ تَزَوَّجَ خَمْسَ حَرَائِرَ وَأَرْبَعَ إمَاءٍ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ جَازَ نِكَاحُ الْإِمَاءِ دُونَ الْحَرَائِرِ ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْحَرَائِرِ لَوْ انْفَرَدَ عَنْ نِكَاحِ الْإِمَاءِ لَمْ يَصِحَّ هُنَا ، فَإِنَّهُنَّ خَمْسٌ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ نِكَاحِهِنَّ ، وَلَيْسَ بَعْضُهُنَّ بِأَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ ، فَيَلْغُو ضَمُّهُنَّ إلَى الْإِمَاءِ وَيَبْقَى الْمُعْتَبَرُ نِكَاحُ الْإِمَاءِ وَهُنَّ أَرْبَعٌ يَجُوزُ نِكَاحُهُنَّ لِلْحُرِّ عِنْدَنَا ، فَلِهَذَا جَازَ نِكَاحُ الْإِمَاءِ ، وَكَذَلِكَ إنْ تَزَوَّجَ حُرَّةً وَأَمَةً فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ وَلِلْحُرَّةِ زَوْجٌ ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْمَنْكُوحَةِ بَاطِلٌ ، وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ أَنَّهُ مَتَى كَانَ لَا يَصِحُّ نِكَاحُ الْحُرَّةِ وَحْدَهَا ، فَضَمُّهَا إلَى الْأَمَةِ وُجُودًا وَعَدَمًا سَوَاءٌ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ يَصِحُّ نِكَاحُ الْحُرَّةِ وَحْدَهَا يَتَحَقَّقُ ضَمُّ الْحُرَّةِ إلَى الْأَمَةِ فَيَبْطُلُ نِكَاحُ الْأَمَةِ وَيَجُوزُ نِكَاحُ الْحُرَّةِ عِنْدَنَا ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَاحِدٌ ، فَإِذَا بَطَلَ بَعْضُهُ بَطَلَ كُلُّهُ ، كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ أُخْتَيْنِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : نِكَاحُ الْحُرَّةِ أَقْوَى مِنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ ، وَالضَّعِيفُ لَا يَدْفَعُ الْقَوِيَّ ، وَلَكِنَّهُ يَنْدَفِعُ بِهِ ، بِخِلَافِ الْأُخْتَيْنِ ، فَإِنَّهُمَا مُسْتَوِيَتَانِ فَيَنْدَفِعُ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِالْأُخْرَى ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْأَمَةَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ مَضْمُومَةٌ إلَى الْحُرَّةِ ، وَالْحُرَّةُ مِنْ الْمُحَلَّلَاتِ ، فَصَارَ هُوَ جَامِعًا بَيْنَ مُحَرَّمَةٍ وَمُحَلَّلَةٍ فَيَجُوزُ الْعَقْدُ فِي الْمُحَلَّلَةِ دُونَ الْمُحَرَّمَةِ .

( قَالَ : ) وَإِذَا زَوَّجَ مُدَبَّرَتَهُ أَوْ أُمَّتَهُ أَوْ أُمَّ وَلَدِهِ وَبَوَّأَهَا مَعَ الزَّوْجِ بَيْتًا ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا إلَى خِدْمَتِهِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ خِدْمَتَهَا حَقُّ الْمَوْلَى وَهُوَ بِالتَّبْوِئَةِ يَصِيرُ كَالْمُعِيرِ لَهَا مِنْ زَوْجِهَا فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا مَتَى شَاءَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ شَرَطَ ذَلِكَ لِلزَّوْجِ كَانَ الشَّرْطُ بَاطِلًا لَا يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَسْتَخْدِمَ أَمَتَهُ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ لِلزَّوْجِ بِالنِّكَاحِ مِلْكُ الْحِلِّ لَا غَيْرُ ، فَاشْتِرَاطُهُ شَيْئًا آخَرَ غَيْرُ مُلْزِمٍ إيَّاهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إلْزَامُهُ بِطَرِيقِ الِاسْتِجْبَارِ ، فَإِنَّ الْمُدَّةَ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ ، وَلَا بِطَرِيقِ الْإِعَارَةِ ، فَإِنَّ الْإِعَارَةَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ .

( قَالَ : ) وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّهَا أَمَةٌ قَدْ أَذِنَ الْمَوْلَى لَهَا فِي النِّكَاحِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ ، إنْ شَاءَ أَمْسَكَ ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ ؛ لِأَنَّ ظُهُورَ رَقِّهَا نَوْعُ عَيْبٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعَيْبَ لَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ لِلزَّوْجِ غَيْرَ أَنَّ مَا وُلِدَ لَهُ مِنْ وَلَدٍ فِيمَا مَضَى وَمَا كَانَ فِي بَطْنِهَا فَهُوَ حُرٌّ لِأَجْلِ الْغُرُورِ ، وَعَلَى الْأَبِ قِيمَةُ الْوَلَدِ يَوْمَ يَخْتَصِمُونَ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ فِي يَدِهِ بِصِفَةِ الْأَمَانَةِ مَا لَمْ يُخَاصِمْ ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ أَعْلَى حَالًا مِنْ وَلَدِ الْمَغْصُوبَةِ ، وَوَلَدُ الْمَغْصُوبَةِ أَمَانَةٌ مَا لَمْ يُطَالِبْ بِالرَّدِّ ، فَكَذَلِكَ وَلَدُ الْمَغْرُورِ ، حَتَّى إذَا مَاتَ قَبْلَ الْخُصُومَةِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْأَبِ فِيهِ ، وَلَكِنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ مَانِعًا لِلْوَلَدِ بَعْدَ الطَّلَبِ ، وَذَلِكَ عِنْدَ الْخُصُومَةِ فَلِهَذَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْخُصُومَةِ ، وَهَذَا إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهَا أَمَةٌ أَوْ مُدَبَّرَةٌ ، وَكَذَلِكَ إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا تَجِبُ قِيمَةُ الْوَلَدِ هُنَا ؛ لِأَنَّ وَلَدَ أُمِّ الْوَلَدِ كَأُمِّهِ لَا قِيمَةَ لِرِقِّهِ حَتَّى لَا يُضْمَنَ بِالْغَصْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَكَذَلِكَ بِالْمَنْعِ بَعْدَ الطَّلَبِ ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْوَلَدَ إنَّمَا يَصِيرُ كَأُمِّهِ إذَا ثَبَتَ فِيهِ حَقُّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ ، وَذَلِكَ بَعْدَ ثُبُوتِ الرِّقِّ فِيهِ ، وَهُنَا عُلِّقَ الْوَلَدُ حُرَّ الْأَصْلِ فَلَمْ يَثْبُتْ فِيهِ حَقُّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ ، وَلَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا مُكَاتَبَةٌ فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْجَوَابُ كَذَلِكَ ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الْوَلَدِ هُنَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ إنَّمَا يَضْمَنُ لَهَا ، وَهِيَ إنَّمَا تَسْعَى لِتَحْصِيلِ الْحُرِّيَّةِ لِنَفْسِهَا وَوَلَدِهَا فَفِي حُرِّيَّةِ وَلَدِهَا

يَحْصُلُ بَعْضُ مَقْصُودِهَا ، فَلَا يَجِبُ الضَّمَانُ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ لَرَجَعَ عَلَيْهَا بِمَا ضَمِنَ ؛ لِأَنَّ الْغُرُورَ كَانَ مِنْهَا ، فَلَا يَكُونُ مُفِيدًا شَيْئًا ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِضَمَانِ قِيمَةِ وَلَدِ الْغُرُورِ وَقَدْ تَقَرَّرَ هُنَا ، وَرُجُوعُهُ عَلَيْهَا يَكُونُ بَعْدَ الْعِتْقِ وَهِيَ سَتُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَيْهِ لِلْحَالِ فَكَانَ مُفِيدًا ، وَإِنَّمَا يُرْجَعُ عَلَى الْأَمَةِ وَالْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبَةِ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ بَعْدَ الْعِتْقِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ ضَمَانَ الْغُرُورِ كَضَمَانِ الْكَفَالَةِ ، وَضَمَانُ الْكَفَالَةِ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ مُؤَخَّرٌ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ .

( قَالَ : ) وَلَوْ مَاتَ الْوَلَدُ وَتَرَكَ مَالًا فَمَالُهُ لِأَبِيهِ بِحُكْمِ الْإِرْثِ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْأَبِ فِيهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَنْعَ بَعْدَ الطَّلَبِ لَمْ يَتَحَقَّقْ مِنْهُ ، وَلَوْ قُتِلَ الْوَلَدُ يَأْخُذُ الْأَبُ دِيَتَهُ وَكَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ سَلَّمَ لَهُ بَدَلَ نَفْسِهِ ، وَحُكْمُ الْبَدَلِ كَحُكْمِ الْمُبْدَلِ فَيَتَحَقَّقُ بِهِ الْمَنْعُ بَعْدَ الطَّلَبِ فَلِهَذَا كَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ ضَرَبَ إنْسَانٌ بَطْنَهَا فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا كَانَ عَلَى الضَّارِب خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ بَدَلُ الْجَنِينِ الْحُرِّ ؛ لِأَنَّهُ عُلِّقَ حُرَّ الْأَصْلِ ، وَعَلَى الْأَبِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ لِلْمَوْلَى إنْ كَانَ ذَكَرًا أَوْ عُشْرُ قِيمَتِهَا إنْ كَانَتْ أُنْثَى ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُسْتَحَقِّ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ ، فَلَا يَغْرَمُ لَهُ الْأَبُ إلَّا بَدَلَ جَنِينِ الْأَمَةِ ، وَإِنْ سَلِمَ لَهُ بَدَلُ جَنِينِ الْحُرَّةِ كَمَا لَوْ قُتِلَ بَعْدَ الِانْفِصَالِ .

( قَالَ : ) وَلَوْ مَاتَ الْأَبُ وَبَقِيَ الْوَلَدُ أَخَذَ الْمَوْلَى قِيمَتَهُ مِنْ تَرِكَةِ الْأَبِ ، وَلَا يَرْجِعُ بِهَا بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ فِي حِصَّةِ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ قَدْ تَحَقَّقَ ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ ضَمَانَ الْقِيمَةِ عَلَى الْأَبِ فَيُسْتَوْفَى مِنْ تَرِكَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَقَضَاءُ دَيْنِ الْأَبِ لَا يَكُونُ عَلَى بَعْضِ الْوَرَثَةِ دُونَ الْبَعْضِ ، فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُونَ فِي حِصَّتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ الْأَبُ شَيْئًا لَمْ يُؤْخَذْ الْوَلَدُ بِشَيْءٍ كَمَا لَا يُؤْخَذُ بِسَائِرِ دُيُونِ الْأَبِ ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ إنْ كَانَ مَوْلَى الْجَارِيَةِ عَمَّا لِلْوَلَدِ ؛ لِأَنَّ عِتْقَ الْغُلَامِ هُنَا لَيْسَ بِاعْتِبَارِ الْقَرَابَةِ بَلْ بِالْغُرُورِ ، فَإِنَّهُ عُلِّقَ حُرَّ الْأَصْلِ ، وَالْعِتْقُ بِالْقَرَابَةِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْعَمِّ فِيهِ ، فَلِهَذَا كَانَ الْعَمُّ فِيهِ وَغَيْرُهُ فِي هَذَا سَوَاءً .

( قَالَ : ) وَإِنْ كَانَتْ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى أَخَذَهَا الْمَوْلَى وَعُقْرَهَا وَالْجَوَابُ فِي قِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي غَرَّهُ غَيْرَ الْأَمَةِ بِأَنْ زَوَّجَهَا مِنْهُ حُرٌّ عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ ، فَهَذَا وَمَا تَقَدَّمَ سَوَاءٌ إلَّا أَنَّ الْأَبَ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى الْمُزَوِّجِ فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْغُرُورِ كَضَمَانِ الْكَفَالَةِ ، وَالْحُرُّ يُؤَاخَذُ بِضَمَانِ الْكَفَالَةِ فِي الْحَالِ ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي غَرَّهُ فِيهَا عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا فَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَيْهِمْ حَتَّى يُعْتَقُوا سَوَاءٌ كَانَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ لِأَنَّ الْمَأْذُونَ إنَّمَا يُؤَاخَذُ بِضَمَانِ التِّجَارَةِ فِي الْحَالِ لَا بِضَمَانِ الْكَفَالَةِ فَيَتَأَخَّرُ إلَى عِتْقِهِمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَوْلَى أَمَرَ الْعَبْدَ أَوْ الْمُدَبَّرَ بِذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّ كَفَالَةَ الْعَبْدِ بِإِذْنِ الْمَوْلَى مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ ، فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ لَا يُؤَاخَذُ بِهِ حَتَّى يُعْتَقَ سَوَاءٌ فَعَلَهُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى لَيْسَ لَهُ حَقُّ التَّصَرُّفِ فِي كَسْبِهِ ، فَلَا يُعْتَبَرُ إذْنُهُ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَزَوِّجُ الْمَغْرُورُ عَبْدًا أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ مُكَاتَبًا بِأَنْ تَزَوَّجَ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ بِإِذْنِ الْمَوْلَى امْرَأَةً عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ لَهُ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهَا أَمَةٌ فَالْوَلَدُ رَقِيقٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - ، نَصَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الدَّعْوَى ، وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْوَلَدُ حُرٌّ بِقِيمَتِهِ عَلَى الْأَبِ إذَا عَتَقَ ، وَيَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى الَّذِي غَرَّهُ ، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْحُرِّيَّةِ الْغُرُورُ ، وَاشْتِرَاطُ الْحُرِّيَّةِ فِيهَا عِنْدَ النِّكَاحِ ، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الرَّقِيقِ كَمَا يَتَحَقَّقُ

مِنْ الْحُرِّ ، وَكَمَا يَحْتَاجُ الْحُرُّ إلَى حُرِّيَّةِ الْوَلَدِ فَالْمَمْلُوكُ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ بَلْ حَاجَتُهُ أَظْهَرُ ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَتَطَرَّقُ بِهِ إلَى حُرِّيَّةِ نَفْسِهِ ، تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِرِقِّ الزَّوْجِ وَحُرِّيَّتِهِ فِي رَقِّ الْوَلَدِ بَلْ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ جَانِبُ الْأُمِّ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْحُرَّ إذَا تَزَوَّجَ أَمَةً وَهُوَ يَعْلَمُ بِحَالِهَا كَانَ وَلَدُهُ رَقِيقًا ، فَإِذَا كَانَ الْمُعْتَبَرُ رِقَّ الْأُمِّ وَقَدْ سَقَطَ اعْتِبَارُ رِقِّهَا فِي حَقِّ الْوَلَدِ عِنْدَ اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ إذَا كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا ؛ لِأَنَّ مَا شُرِطَ مِنْ الْحُرِّيَّةِ يُجْعَلُ كَالْمُتَحَقِّقِ فِي حُرِّيَّةِ الْوَلَدِ ، فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - قَالَا : هَذَا الْوَلَدُ مَخْلُوقٌ مِنْ مَاءِ رَقِيقَيْنِ فَيَكُونُ رَقِيقًا ، وَهَذَا لِأَنَّ الْوَلَدَ مُتَفَرِّعٌ مِنْ الْأَصْلِ ، فَإِنَّمَا يَتَفَرَّعُ بِصِفَةِ الْأَصْلِ ، وَإِذَا كَانَ الْأَصْلَانِ رَقِيقَيْنِ لَا تَثْبُتُ الْحُرِّيَّةُ لِلْوَلَدِ مِنْ غَيْرِ عِتْقٍ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا فَقَدْ ثَبَتَ حُرِّيَّةُ الْوَلَدِ هُنَاكَ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ ، وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى ذَاكَ ؛ لِأَنَّ مَاءَ الرَّجُلِ هُنَاكَ بِصِفَتِهِ حُرٌّ ، فَإِنَّهُ جُزْءٌ مِنْهُ ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ رَقِيقًا بِاتِّصَالِهِ بِرَحِمِ الْأَمَةِ فَتَأْثِيرُ الْغُرُورِ فِي الْمَنْعِ مِنْ ثُبُوتِ الرِّقِّ فِي مَائِهِ بِالِاتِّصَالِ بِرَحِمِ الْأَمَةِ ، وَهُنَا مَاءُ الْعَبْدِ رَقِيقٌ كَنَفْسِهِ ، فَالْحَاجَةُ إلَى إثْبَاتِ الْحُرِّيَّةِ لِمَائِهِ وَمَا لَا يَصْلُحُ لِإِبْقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ لَا يَصْلُحُ لِإِيجَابِ مَا لَمْ يَكُنْ ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْحَاجَةَ هُنَاكَ إلَى التَّرْجِيحِ عِنْدَ التَّعَارُضِ ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ جَانِبِ مَائِهِ يُوجِبُ حُرِّيَّةَ الْوَلَدِ ، وَاعْتِبَارُ جَانِبِ مَائِهَا يُوجِبُ رِقَّ الْوَلَدِ فَجَعَلْنَا الْغُرُورَ دَلِيلًا مُرَجِّحًا ، وَهُنَا الْحَاجَةُ إلَى إثْبَاتِ الْحُرِّيَّةِ دُونَ

التَّرْجِيحِ ، وَمَا يَصْلُحُ مُرَجِّحًا لَا يَصْلُحُ مُوجِبًا ، تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ هُنَاكَ ثَبَتَ حُرِّيَّةُ الْوَلَدِ بِضَمَانِ قِيمَتِهِ عَلَى الْأَبِ فِي الْحَالِ فَيَنْدَفِعُ الضَّرَرُ بِهِ عَنْهُ ، وَهُنَا لَوْ ثَبَتَ حُرِّيَّةُ الْوَلَدِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِضَمَانِ قِيمَتِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ الْمُسْتَحِقُّ فِي الْحَالِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ وَجَبَ الرُّجُوعُ فِيهِ إلَى الْأَصْلِ فَكَانَ الْوَلَدُ رَقِيقًا بِمَنْزِلَةِ أُمِّهِ ثُمَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ كَانَ التَّزَوُّجُ مِنْ هَؤُلَاءِ بِإِذْنِ السَّيِّدِ فَعَلَيْهِمْ قِيمَةُ الْوَلَدِ وَالْمَهْرُ فِي الْحَالِ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِ السَّيِّد فَعَلَيْهِمْ قِيمَةُ الْوَلَدِ وَالْمَهْرُ بَعْدَ الْعِتْقِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ دَيْنٍ وَجَبَ عَلَى الْمَمْلُوكِ بِسَبَبٍ مَأْذُونٍ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى يُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ ، وَكُلُّ دَيْنٍ وَجَبَ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ غَيْرِ مَأْذُونٍ فِيهِ ، فَإِنَّمَا يُؤَاخَذُ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ .

( قَالَ : ) وَإِذَا تَزَوَّجَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا أَمَةٌ أَوْ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ يَحْسَبُ أَنَّهَا حُرَّةٌ وَلَمْ يَغُرَّهُ فِيهَا أَحَدٌ فَأَوْلَادُهُ أَرِقَّاءُ ؛ لِأَنَّ هَذَا ظَنٌّ مِنْهُ وَالظَّنُّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا ، وَلِأَنَّ الْمُوجِبَ لِحُرِّيَّةِ الْوَلَدِ الْغُرُورُ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْغُرُورُ هُنَا ، وَلَوْ كَانَتْ أَمَةً بَيْنَ رَجُلَيْنِ زَوَّجَهَا أَحَدُهُمَا مِنْ رَجُلٍ وَدَخَلَ الزَّوْجُ بِهَا فَلِلْآخَرِ أَنْ يُبْطِلَ النِّكَاحَ ؛ لِأَنَّ الْمُزَوِّجَ لَا يَمْلِكُ إلَّا نِصْفَهَا ، وَمِلْكُ نِصْفِ الْأَمَةِ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِوِلَايَةِ التَّزْوِيجِ ، فَلَمْ يَنْفُذْ عَقْدُهُ عَلَيْهَا ، وَقَدْ تَنَاوَلَ عَقْدُهُ نَصِيبَ الشَّرِيكِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ عَقْدَهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ وَقَدْ سَقَطَ الْحَدُّ عَنْ الزَّوْجِ لِشُبْهَةِ النِّكَاحِ فَيَجِبُ الْمَهْرُ عَلَيْهِ ، إلَّا أَنَّ فِي نَصِيبِ الْمُزَوِّجِ يَجِبُ الْأَقَلُّ مِنْ نِصْفِ الْمُسَمَّى ، وَمِنْ نِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا ؛ لِأَنَّهُ رَاضٍ بِالْمُسَمَّى وَرِضَاهُ صَحِيحٌ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ ، فَأَمَّا فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ يَجِبُ نِصْفُ مَهْرِ الْمِثْلِ بَالِغًا مَا بَلَغَ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِسُقُوطِ شَيْءٍ مِنْ حَقِّهِ ، وَإِنْ كَانَ إبْطَالُ النِّكَاحِ قَبْلَ الدُّخُولِ ، فَلَا مَهْرَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا سَوَاءٌ خَلَا بِهَا الزَّوْجُ أَوْ لَمْ يَخْلُ ؛ لِأَنَّ الْخَلْوَةَ إنَّمَا تُعْتَبَرُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ ، وَهَذَا الْعَقْدُ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا ، فَلَا تُعْتَبَرُ الْخَلْوَةُ فِيهِ .

( قَالَ : ) وَإِذَا زَوَّجَ أَمَةَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ فَذَلِكَ جَائِزٌ ، وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ إذَا زَوَّجَ أَمَةَ الْيَتِيمِ ، وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ إذَا زَوَّجَ أَمَتَهُ ، وَكَذَلِكَ الْمُفَاوَضُ إذَا زَوَّجَ أَمَةً مِنْ الشَّرِكَةِ ؛ لِأَنَّ تَزْوِيجَ الْأَمَةِ مِنْ عُقُودِ الِاكْتِسَابِ ، فَإِنَّهُ يَكْتَسِبُ بِهِ الْمَهْرَ وَيَسْقُطُ بِهِ نَفَقَتُهَا عَنْهُ ، وَهَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةُ يَمْلِكُونَ الِاكْتِسَابَ ، أَمَّا الْمُكَاتَبُ فَهُوَ مُنْفَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي اكْتِسَابِ الْمَالِ ، وَأَمَّا الْأَبُ وَالْوَصِيُّ ، فَإِنَّهُمَا أُمِرَا بِالنَّظَرِ لِلصَّغِيرِ ، وَعَقْدُ اكْتِسَابِ الْمَالِ مِنْ النَّظَرِ ، وَأَمَّا الْمُفَاوَضُ فَإِنَّ الْمُتَفَاوِضَيْنِ إنَّمَا عَقَدَا الْمُفَاوَضَةَ لِاكْتِسَابِ الْمَالِ ، وَلَا يَمْلِكُ هَؤُلَاءِ تَزْوِيجَ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ اكْتِسَابُ الْمَالِ بَلْ فِيهِ تَعْيِيبُ الْعَبْدِ وَشَغْلُ ذِمَّتِهِ بِالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ لَهُمْ فِي ذَلِكَ .

( قَالَ : ) وَلَوْ زَوَّجَ الْأَبُ أَوْ الْوَصِيُّ أَمَةَ الصَّبِيِّ مِنْ عَبْدِهِ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ أَيْضًا نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْمَأْذُونِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الصَّبِيِّ ، فَإِنَّ الْمَهْرَ لَا يَجِبُ بِهَذَا الْعَقْدِ ، وَنَفَقَتُهُمَا عَلَيْهِ بَعْدَ النِّكَاحِ كَمَا كَانَا قَبْلَهُ ، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلصَّبِيِّ مِنْ حَيْثُ النَّسْلِ فَيَجُوزُ ذَلِكَ مِنْ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ كَإِنْزَاءِ الْفَحْلِ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ عَلَى أَتَانِهِ ، وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ فِي هَذَا تَعْيِيبًا لَهُمَا ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ عَيْبٌ فِي الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ جَمِيعًا ، وَمَنْفَعَةُ النَّسْلِ مَوْهُوبَةٌ وَالْمَنْفَعَةُ الْمَوْهُوبَةُ لَا تَكُونُ جَائِزَةً لِلضَّرَرِ الْمُتَحَقِّقِ ، فَلِهَذَا لَا يَصِحُّ هَذَا الْعَقْدُ مِنْهُمَا ، وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ أَوْ الْمُضَارِبُ أَوْ الشَّرِيكُ شَرِكَةَ عِنَانٍ إذَا زَوَّجَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الْأَمَةَ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ اكْتِسَابِ الْمَالِ وَهَؤُلَاءِ يَمْلِكُونَ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي الْحَقِيقَةِ مَنْفَعَةٌ ، وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْمَهْرَ أَجْرًا ، وَهَؤُلَاءِ يَمْلِكُونَ الْإِجَارَةَ فَكَذَلِكَ يَمْلِكُونَ التَّزْوِيجَ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - قَالَا : الْمَأْذُونُ إنَّمَا كَانَ مُنْفَكَّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي التِّجَارَةِ ، وَالتَّزْوِيجُ لَيْسَ مِنْ جُمْلَةِ التِّجَارَةِ ، فَإِنَّ التُّجَّارَ لَا يَعْتَادُونَ اكْتِسَابَ الْمَالِ بِتَزْوِيجِ الْإِمَاءِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ رَجُلٍ بِعَبْدٍ وَنَوَتْ التِّجَارَةَ عِنْدَ الْعَقْدِ لَا يَصِيرُ الْعَبْدُ بِهِ لِلتِّجَارَةِ ، وَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ مِنْ التِّجَارَةِ لَصَارَ الْعَبْدُ بِهِ لِلتِّجَارَةِ ، فَإِنَّ نِيَّةَ التِّجَارَةِ مَتَى اقْتَرَنَتْ بِعَمَلِ التِّجَارَةِ يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ وَإِذَا

لَمْ يَكُنْ النِّكَاحُ مِنْ التِّجَارَةِ ، فَلَا يَمْلِكُهُ هَؤُلَاءِ كَالْكِتَابَةِ وَبِهِ فَارَقَ الْأَرْبَعَةَ الَّتِي تَقَدَّمَتْ ، فَإِنَّ أُولَئِكَ يَمْلِكُونَ الْكِتَابَةَ فَعَرَفْنَا أَنَّ تَصَرُّفَهُمْ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَى التِّجَارَةِ ، وَهَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةُ لَا يَمْلِكُونَ الْكِتَابَةَ فَعَرَفْنَا أَنَّ تَصَرُّفَهُمْ مَقْصُورٌ عَلَى التِّجَارَةِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةَ لَا يُزَوِّجُونَ الْعَبْدَ ؛ لِأَنَّ تَزْوِيجَ الْعَبْدِ لَيْسَ مِنْ الِاكْتِسَابِ ، وَلَا مِنْ التِّجَارَةِ .

( قَالَ : ) وَإِذَا تَزَوَّجَ الْحُرُّ أَمَةَ ابْنِهِ جَازَ النِّكَاحُ عِنْدَنَا ، وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَقِيلَ هَذَا بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي تَقَدَّمَ أَنَّ عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ لِلْحُرِّ نِكَاحُ الْأَمَةِ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ طَوْلِ الْحُرَّةِ ، وَعَلَى الِابْنِ أَنْ يُعِفَّ أَبَاهُ فَيَسْتَغْنِيَ بِهِ عَنْ نِكَاحِ الْأَمَةِ ، وَلَكِنَّ هَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ ، فَإِنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ أَمَةَ غَيْرِهِ صَحَّ النِّكَاحُ إذْ لَمْ يَكُنْ فِي مِلْكِهِ مَا يَتَزَوَّجُ بِهِ الْحُرَّةَ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ ، فَوَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ لِلْأَبِ حَقَّ الْمِلْكِ فِي مَالِ وَلَدِهِ حَتَّى لَوْ وَطِئَ جَارِيَةَ ابْنِهِ مَعَ عِلْمِهِ بِحُرْمَتِهَا لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ، كَالْمَوْلَى إذَا تَزَوَّجَ أَمَةً مِنْ كَسْبِ مُكَاتَبِهِ بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمِلْكِ فِي مَالِ وَلَدِهِ أَظْهَرُ .
أَلَا تَرَى أَنَّ اسْتِيلَادَهُ فِي جَارِيَةِ الِابْنِ صَحِيحٌ ، وَاسْتِيلَادُ الْمَوْلَى أَمَةَ مُكَاتَبِهِ لَا يَصِحُّ ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْوَلَدَ كَسْبُهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ أَطْيَبَ مَا يَأْكُلُ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ ، وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ } فَجَارِيَةُ الِابْنِ كَسْبُ كَسْبِهِ ، فَلَا يَمْلِكُ التَّزَوُّجَ كَأَمَةِ عَبْدِهِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : لَيْسَ لَهُ فِي جَارِيَةِ وَلَدِهِ مِلْكٌ ، وَلَا حَقُّ مِلْكٍ ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا كَأَمَةِ أَبِيهِ وَأَخِيهِ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَحِلُّ لِلِابْنِ أَنْ يَطَأَ جَارِيَتَهُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَلَوْ كَانَ لِأَبِيهِ فِيهَا حَقُّ الْمِلْكِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ وَطْؤُهَا كَالْمُكَاتَبِ ، فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَأَ أَمَتَهُ لِمَا كَانَ لِلْمَوْلَى فِيهَا حَقُّ الْمِلْكِ ، فَأَمَّا سُقُوطُ الْحَدِّ ، فَلَيْسَ لِقِيَامِ حَقِّ الْمِلْكِ لَهُ فِي الْجَارِيَةِ ، وَلَكِنْ لِظَاهِرِ الْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ } وَهَذَا الظَّاهِرُ وَإِنْ كَانَ لَمْ يَكُنْ مَعْمُولًا بِهِ فِي

إيجَابِ مِلْكٍ أَوْ حَقِّ مِلْكٍ لَهُ فِيهَا يَصِيرُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لَا يُوجِبُ الْمِلْكَ وَلَا حَقَّ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي ثُمَّ يَسْقُطُ الْحَدُّ بِهِ ، وَكَذَلِكَ الْعَقْدُ الْفَاسِدُ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ بَيْعٍ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَالْوَلَدُ وَإِنْ كَانَ كَسْبًا لَهُ فَهُوَ كَسْبُ حُرٍّ ، فَلَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْمِلْكِ فِي كَسْبِهِ ، بِمَنْزِلَةِ مَالِ الْمُعْتَقِ لَا حَقَّ لِلْمُعْتِقِ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُعْتَقُ كَسْبًا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ حُرٍّ ، فَأَمَّا صِحَّةُ الِاسْتِيلَادِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ حَقِّ الْمِلْكِ لَهُ فِيهَا بَلْ بِوِلَايَةِ التَّمَلُّكِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَتَقَرُّرِ حَاجَتِهِ إلَى صِيَانَةِ مَائِهِ كَيْ لَا يَضِيعَ نَسْلُهُ ، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا فَوَلَدَتْ لَهُ وَلَدًا كَانَ الْوَلَدُ حُرًّا ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الْمِلْكِ فَمَوْلَى الْجَارِيَةِ هُنَا مَلَكَ أَخَاهُ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ بِالْقَرَابَةِ ، وَلَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، وَكَذَا إذَا اسْتَوْلَدَهَا بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ عِنْدَنَا لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَحُجَّتُهُ أَنَّهُ لَوْ اسْتَوْلَدَهَا بِفُجُورٍ صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، فَإِذَا اسْتَوْلَدَهَا بِنِكَاحٍ أَوْ بِشُبْهَةِ نِكَاحٍ أَوْلَى أَنْ تَصِيرَ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ إذَا اسْتَوْلَدَهَا بِغَيْرِ شُبْهَةٍ فَهُنَاكَ يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا لِحَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ كَيْ لَا يَضِيعَ مَاؤُهُ ، فَإِنَّ إثْبَاتَ النَّسَبِ غَيْرُ مُمْكِنٍ بِدُونِ التَّمَلُّكِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ فِيهَا مِلْكٌ وَلَا حَقُّ مِلْكٍ ، فَإِذَا تَمَلَّكَهَا سَابِقًا عَلَى الِاسْتِيلَادِ كَانَ الِاسْتِيلَادُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ ، فَلِهَذَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَهُنَا غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى تَمَلُّكِهَا لِإِثْبَاتِ النَّسَبِ بَلْ النِّكَاحُ أَوْ شُبْهَةُ النِّكَاحِ يَكْفِي ؛ لِذَلِكَ فَلَمْ يَصِرْ مُتَمَلِّكًا لَهَا ، فَلِهَذَا لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ .

( قَالَ : ) وَلَوْ كَانَ الِابْنُ هُوَ الَّذِي تَزَوَّجَ أَمَةَ أَبِيهِ بِتَزْوِيجِ الْأَبِ إيَّاهَا مِنْهُ جَازَ النِّكَاحُ ، فَإِذَا وَلَدَتْ فَالْوَلَدُ حُرٌّ ؛ لِأَنَّ الْأَبَ مَلَّكَ الِابْنَ أَمَتَهُ ، وَلَا تَصِيرُ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَ الِابْنُ وَطِئَهَا بِغَيْرِ نِكَاحٍ أَوْ شُبْهَةِ نِكَاحٍ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْهُ ، وَإِنْ ادَّعَاهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حَقُّ التَّمَلُّكِ فِي جَارِيَةِ أَبِيهِ ، وَلَكِنْ لَا حَدَّ عَلَيْهِ إنْ قَالَ : ظَنَنْتُ أَنَّهَا تَحِلُّ لِي ، وَإِنْ قَالَ : عَلِمْتُ أَنَّهَا عَلَيَّ حَرَامٌ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الظَّنِّ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ مَا يَشْتَبِهُ فَيَسْقُطُ الْحَدُّ بِهِ ، وَعِنْدَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِي الْمَحَلِّ حَقِيقَةً وَلَا صُورَةً وَلَمْ يَشْتَبِهْ عَلَيْهِ أَمْرُهَا فَلَزِمَهُ الْحَدُّ ، وَإِنْ صَدَّقَهُ الْأَبُ فِي أَنَّهُ وَطِئَهَا وَأَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُ عَتَقَ الْوَلَدُ بِإِقْرَارِهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا مَلَكَ ابْنَهُ مِنْ الزِّنَا عَتَقَ عَلَيْهِ ، فَكَذَلِكَ إذَا مَلَكَ ابْنَ ابْنِهِ مِنْ الزِّنَا ، وَلَكِنْ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ لِمَا بَيَّنَّا ، بِخِلَافِ الْأَبِ إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي اسْتَوْلَدَ جَارِيَةَ ابْنِهِ ، فَإِنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى تَصْدِيقِ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّ الْأَبَ لَهُ وِلَايَةُ تَمَلُّكِ جَارِيَةِ الِابْنِ ، فَإِنَّمَا يَكُونُ مُسْتَوْلِدًا لَهَا فِي مِلْكِ نَفْسِهِ ، وَلِهَذَا ضَمِنَ قِيمَتَهَا لِابْنِهِ ، وَلَيْسَ لِلِابْنِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ فِي جَارِيَةِ أَبِيهِ ، فَلِهَذَا لَا يُعْتَقُ الْوَلَدُ إلَّا إذَا صَدَّقَهُ الْأَبُ فِيهِ .

( قَالَ : ) وَلَا يَتَزَوَّجُ الْعَبْدُ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَتَيْنِ ، وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ لَا يُؤَثِّرُ فِي مَالِكِيَّةِ النِّكَاحِ حَتَّى لَا يَخْرُجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِمِلْكِ النِّكَاحِ وَمَا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الرِّقُّ فَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ فِيهِ سَوَاءٌ كَمِلْكِ الطَّلَاقِ وَمِلْكِ الدَّمِ فِي الْإِقْرَارِ بِالْعُقُودِ ، وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : لَا يَتَزَوَّجُ الْعَبْدُ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَتَيْنِ وَلِأَنَّ الرِّقَّ مُؤَثِّرٌ فِي تَنْصِيفِ مَا كَانَ مُتَعَدِّدًا فِي نَفْسِهِ كَالْجَلَدَاتِ فِي الْحُدُودِ وَعَدَدِ الطَّلَاقِ وَأَقْرَاءِ الْعِدَّةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْحِلِّ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ أَهْلًا لِلنِّكَاحِ ، وَذَلِكَ الْحِلُّ يَتَّسِعُ بِزِيَادَةِ الْفَضِيلَةِ وَيَتَضَيَّقُ بِنُقْصَانِ الْحَالِ .
أَلَا تَرَى { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَخْصُوصًا بِإِبَاحَةِ تِسْعِ نِسْوَةٍ } لِفَضِيلَةِ النُّبُوَّةِ الَّتِي اُخْتُصَّ بِهَا ، فَكَانَ الْحِلُّ فِي حَقِّهِ مُتَّسِعًا لِتِسْعِ نِسْوَةٍ ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ غَيْرِهِ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ ، فَكَذَلِكَ يَتَّسِعُ الْحِلُّ لِفَضِيلَةِ الْحُرِّيَّةِ فَيَتَزَوَّجُ الْحُرُّ أَرْبَعًا ، وَلَا يَتَزَوَّجُ الْعَبْدُ إلَّا اثْنَتَيْنِ ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ الرِّقَّ يُنَصِّفُ الْحِلَّ ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي جَانِبِ الْأَمَةِ يَتَنَصَّفُ حِلُّهَا بِالرِّقِّ ، حَتَّى أَنَّ مَا يَنْبَنِي عَلَى الْحِلِّ وَهُوَ الْقَسْمُ يَكُونُ حَالُهَا فِيهِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَالِ الْحُرَّةِ ، وَكَذَلِكَ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَوْفِي لِهَذَا الْحِلِّ بِغَيْرِ طَرِيقِهِ وَهُوَ الْحِلُّ يَتَنَصَّفُ بِالرِّقِّ حَتَّى يَجِبَ عَلَى الْعَبْدِ بِالزِّنَا خَمْسُونَ جَلْدَةً ، وَعَلَى الْحُرِّ مِائَةُ جَلْدَةٍ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحِلَّ يَتَنَصَّفُ بِالرِّقِّ وَعَلَيْهِ يَنْبَنِي عَدَدُ الْمَنْكُوحَاتِ فَقُلْنَا : حَالُ الْعَبْدِ فِيهِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَالِ الْحُرِّ فَيَتَزَوَّجُ ثِنْتَانِ الْحُرَّتَانِ وَالْأَمَتَانِ فِي ذَلِكَ

سَوَاءٌ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُنَا لَا يُخَالِفُنَا ؛ لِأَنَّ فِي حَقِّ الْعَبْدِ نِكَاحَ الْأَمَةِ أَصْلٌ وَلَيْسَ بِبَدَلٍ ، إذْ لَيْسَ فِيهِ تَعْرِيضُ شَيْءٍ لِلرِّقِّ ، فَإِنَّهُ رَقِيقٌ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ ، فَلِهَذَا جُوِّزَ لَهُ نِكَاحُ الْأَمَتَيْنِ ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَقُولُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْأَمَةَ لَيْسَتْ مِنْ الْمُحَلَّلَاتِ مَضْمُومَةً إلَى الْحُرَّةِ فِي حَقِّ الْحُرِّ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ ، وَابْنُ أُمِّ الْوَلَدِ فِي هَذَا كَالْعَبْدِ لِأَنَّ الرِّقَّ الْمُنَصِّفَ لِلْحِلِّ فِيهِمْ قَائِمٌ .

( قَالَ : ) وَلَا يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ عِنْدَنَا ، وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي مَالِكِيَّةِ النِّكَاحِ فَيَسْتَبِدُّ الْعَبْدُ بِهِ كَالطَّلَاقِ ، وَأَصْحَابُنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - اسْتَدَلُّوا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى : { ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ } وَالنِّكَاحُ شَيْءٌ ، فَلَا يَمْلِكُهُ الْعَبْدُ بِنَفْسِهِ ، وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ : أَيُّمَا عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ عَاهِرٌ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ فِي النِّكَاحِ تَعْيِيبَهُ ، وَفِيهِ شَغْلُ مَالِيَّتِهِ بِالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ وَمَالِيَّتُهُ مِلْكُ مَوْلَاهُ ، فَلَا يَمْلِكُ شَغْلَ ذَلِكَ بِتَصَرُّفِهِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى ، يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ رَقَبَتَهُ أَوْ رَهَنَهُ بِمَالٍ لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ كَانَ مَنْفَعَةُ ذَلِكَ تَرْجِعُ إلَى الْمَوْلَى ، فَإِذَا تَزَوَّجَ وَلَا مَنْفَعَةَ فِي عَقْدِهِ لِلْمَوْلَى أَوْلَى أَنْ لَا يَجُوزَ ، وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ وَابْنُ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبُ لَا يَتَزَوَّجُ أَحَدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ الْمُوجِبَ لِلْحَجْرِ فِيهِمْ ، فَإِنْ أَذِنَ الْمَوْلَى لَهُمْ فِي ذَلِكَ جَازَ الْعَقْدُ ، فَإِنَّ الْمَوْلَى لَوْ بَاشَرَ تَزْوِيجَهُمْ جَازَ فَكَذَلِكَ إذَا أَذِنَ لَهُمْ فِيهِ ، إلَّا أَنَّ فِي الْمُكَاتَبِ يُحْتَاجُ إلَى رِضَاهُ إذَا بَاشَرَهُ الْمَوْلَى ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ الْمَوْلَى فَبَاشَرَهُ الْمُكَاتَبُ يَجُوزُ أَيْضًا ، وَهَذَا بِخِلَافِ تَزْوِيجِ الْأَمَةِ ، فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ يُزَوِّجُ أَمَتَهُ بِغَيْرِ رِضَا الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ أَمَتَهُ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لِلْمَوْلَى وَتَزْوِيجُهَا مِنْ عُقُودِ الِاكْتِسَابِ فَيَمْلِكُهُ الْمُكَاتَبُ ، فَأَمَّا تَزْوِيجُهُ لِنَفْسِهِ لَيْسَ مِنْ عُقُودِ الِاكْتِسَابِ وَرَقَبَتُهُ مَمْلُوكَةٌ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ الْمُكَاتَبَةَ زَوَّجَتْ أَمَتَهَا جَازَ ذَلِكَ ، وَلَوْ تَزَوَّجَتْ بِنَفْسِهَا لَمْ يَجُزْ إلَّا بِإِذْنِ الْمَوْلَى

لِقِيَامِ مِلْكِ الْمَوْلَى فِي رَقَبَتِهَا .

( قَالَ : ) وَلَوْ تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَأَجَازَهُ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَإِذْنِهِ فِي الِابْتِدَاءِ ، فَإِنْ طَلَّقَهَا الْعَبْدُ ثَلَاثًا بَعْدَ إجَازَةِ الْمَوْلَى طَلُقَتْ ثَلَاثًا وَلَمْ يَجُزْ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَمَّا صَحَّ كَانَ الْعَبْدُ فِي إيقَاعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا كَالْحُرِّ ، وَلَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ إجَازَةِ الْمَوْلَى النِّكَاحَ لَمْ يَقَعْ النِّكَاحُ ، وَلَكِنْ يَكُونُ هَذَا مُتَارَكَةً لِلنِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ يَخْتَصُّ بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ ، وَنِكَاحُهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا ، فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ ، وَلَكِنَّ إيقَاعَ الطَّلَاقِ يُؤَثِّرُ فِي إزَالَةِ الْحِلِّ عَنْ الْمَحَلِّ وَإِيقَاعِ الْفُرْقَةِ إذَا كَانَ صَحِيحًا ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ النِّكَاحُ نِكَاحًا صَحِيحًا ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِي هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ ، وَلَكِنْ يُؤَثِّرُ فِي رَفْعِ الشُّبْهَةِ حَتَّى لَوْ وَطِئَهَا قَبْلَ الطَّلَاقِ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ ، وَلَوْ وَطِئَهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ الْمَوْلَى ذَلِكَ الْعَقْدَ ، وَلَكِنْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ابْتِدَاءً ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَزَوَّجَهَا ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَحَلِّ بِوُقُوعِ التَّطْلِيقَاتِ عَلَى الْمَحَلِّ وَلَمْ يَقَعْ هُنَا ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَزَوَّجَهَا كَالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ إذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا لَا يَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ الْمَحَلِّ ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ كَانَ هَذَا طَلَاقًا قَبْلَ النِّكَاحِ ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { لَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ } وَلَوْ أَجَازَ الْمَوْلَى ذَلِكَ النِّكَاحَ فَإِجَازَتُهُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ إنَّمَا تَعْمَلُ فِي حَالِ تَوَقُّفِ الْعَقْدِ وَقَدْ ارْتَفَعَ الْعَقْدُ بِمَا أَوْقَعَهُ الْعَبْدُ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَبِدُّ بِالطَّلَاقِ لَوْ أَوْقَعَهُ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ ارْتَفَعَ النِّكَاحُ ، فَإِذَا أَوْقَعَهُ فِي الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ أَوْلَى أَنْ يَرْتَفِعَ الْعَقْدُ بِهِ ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ

أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بَعْدَ هَذَا كَرِهْتُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا .
وَلَوْ فَعَلَ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُكْرَهُ ذَلِكَ ، وَجْهُ قَوْلِهِ ظَاهِرٌ ، فَإِنَّ الطَّلَاقَ غَيْرُ وَاقِعٍ عَلَى الْمَحَلِّ ، وَحُرْمَةُ الْمَحَلِّ بِاعْتِبَارِ وُقُوعِ الطَّلَاقِ ، وَلِأَنَّ إجَازَةَ الْمَوْلَى لِلْعَقْدِ بَاطِلٌ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ ، وَلَوْ لَمْ يُجِزْ الْعَقْدَ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِإِذْنِهِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ إجَازَتِهِ ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الطَّلَاقَ تَصَرُّفٌ يَنْبَنِي عَلَى النِّكَاحِ ، وَإِجَازَةُ الْعُقُودِ يَتَضَمَّنُ إجَازَةَ مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ ، فَاعْتِبَارُ هَذَا الْمَعْنَى يُوجِبُ نُفُوذَ الطَّلَاقِ وَحُرْمَةَ الْمَحَلِّ فَجَعَلْنَاهُ مُعْتَبَرًا فِي الْكَرَاهَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا فِي حَقِيقَةِ حُرْمَةِ الْمَحَلِّ ، وَلَكِنَّ هَذَا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى غَيْرُ صَحِيحٍ ، فَإِنَّ عِنْدَهُ الْمُشْتَرَى مِنْ الْغَاصِبِ إذَا أُعْتِقَ ثُمَّ أَجَازَ الْمَوْلَى لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ ، وَعَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا يَصِحُّ هَذَا أَنْ لَوْ كَانَ الطَّلَاقُ يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ طَلَاقَ الْعَبْدِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ الْمَوْلَى ، لَكِنَّ الْوَجْهَ فِيهِ أَنْ نَقُولَ : الْإِجَازَةُ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَالْإِذْنُ فِي الِابْتِدَاءِ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا تَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ الْمَحَلِّ حَقِيقَةً فَكَذَلِكَ بِوُجُودِ صُورَةِ الْإِجَازَةِ فِي الِانْتِهَاءِ تَثْبُتُ الْكَرَاهَةُ ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْعَبْدَ أَهْلٌ لِلنِّكَاحِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، وَلِهَذَا لَوْ أُعْتِقَ قَبْلَ إجَازَةِ الْمَوْلَى نَفَذَ نِكَاحُهُ فَاعْتِبَارُ هَذَا الْجَانِبِ يُوجِبُ نُفُوذَ طَلَاقِهِ ، وَاعْتِبَارُ جَانِبِ حَقِّ الْمَوْلَى يَمْنَعُ نُفُوذَ طَلَاقِهِ ، فَلِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ قُلْنَا لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ حَقِيقَةً ، وَلَكِنْ تَثْبُتُ صِفَةُ الْكَرَاهَةِ احْتِيَاطًا ؛

لِأَنَّهُ إنْ تَرَكَ نِكَاحَ امْرَأَةٍ تَحِلُّ لَهُ كَانَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً لَا تَحِلُّ لَهُ .

( قَالَ : ) وَإِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ حُرَّةً بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى جَازَ النِّكَاحُ ؛ لِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ لَهُ قَوْلٌ مُلْزِمٌ ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ نُفُوذُ نِكَاحِهِ لِحَقِّ مَوْلَاهُ ، فَإِذَا أَسْقَطَ الْمَوْلَى حَقَّهُ بِالْعِتْقِ فَيَنْفُذُ النِّكَاحُ لِزَوَالِ الْمَانِعِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ فَأَجَازَ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَامَ مَقَامَ الْبَائِعِ فِي مِلْكِهِ رَقَبَتَهُ فَكَذَلِكَ فِي إجَازَةِ عَقْدِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مَا طَرَأَ بِالْبَيْعِ حِلٌّ نَافِذٌ عَلَى الْحِلِّ الْمَوْقُوفِ ، فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَحِلُّ لِلْمُشْتَرِي فَلِهَذَا كَانَتْ إجَازَتُهُ كَإِجَازَةِ الْبَائِعِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَنْفُذُ بِإِجَازَةِ الْمُشْتَرِي وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَجَازَ وَارِثُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ .

( قَالَ : ) وَلَوْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي النِّكَاحِ لَمْ يَمْلِكْ أَنْ يَتَزَوَّجَ إلَّا امْرَأَةً وَاحِدَةً عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ اثْنَتَيْنِ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي تَقَدَّمَ بَيَانُهُ أَنَّ النِّكَاحَ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ عِنْدَنَا حَتَّى يُزَوِّجَهُ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ فَيَكُونَ الْعَبْدُ فِيهِ نَائِبًا عَنْ مَوْلَاهُ ، فَهُوَ كَالْحُرِّ يَأْمُرُ غَيْرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ فَلَا يُزَوِّجَهُ بِمُطْلَقِ الْوَكَالَةِ إلَّا امْرَأَةً وَاحِدَةً ، وَعِنْدَهُمَا النِّكَاحُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ ، وَلَكِنَّ الْعَبْدَ هُوَ الْمَالِكُ لَهُ إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ مِنْهُ بِدُونِ إذْنِ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ ضَرَرَهُ يَتَعَدَّى إلَى حَقِّ الْمَوْلَى ، فَإِذَا أَذِنَ الْمَوْلَى لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَدْ رَضِيَ بِالْتِزَامِ هَذَا الضَّرَرِ وَأَسْقَطَ حَقَّ نَفْسِهِ فَكَانَ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ اثْنَتَيْنِ ، وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ لَا يَجُوزُ نِكَاحُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إلَّا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَوَّلِ ، فَإِنَّهُ يَقُولُ : يَجُوزُ نِكَاحُ إحْدَاهُمَا وَالْبَيَانُ فِيهِ إلَى الْعَبْدِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ وَكَّلَ وَكِيلًا أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً فَزَوَّجَهُ امْرَأَتَيْنِ عِنْدَهُ يَصِحُّ نِكَاحُ إحْدَاهُمَا وَالْخِيَارُ إلَى الزَّوْجِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، فَإِنْ قَالَ الْمَوْلَى : عَنَيْتُ نِكَاحَ امْرَأَتَيْنِ جَازَ نِكَاحُهُمَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَجَازَ نِكَاحَ امْرَأَتَيْنِ جَازَ ، فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : نَوَيْتُ ذَلِكَ عِنْدَ الْإِذْنِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ وَهُوَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي هَذَا الْبَيَانِ .

( قَالَ : ) وَإِذَا أَذِنَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَاحِدَةً فَتَزَوَّجَهَا نِكَاحًا فَاسِدًا وَدَخَلَ بِهَا أُخِذَ بِالْمَهْرِ فِي حَالَةِ الرِّقِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - لَا يُؤْخَذُ بِهِ حَتَّى يُعْتَقَ ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ عِنْدَهُمَا إذْنُ الْمَوْلَى لِعَبْدِهِ فِي النِّكَاحِ يَنْصَرِفُ إلَى الْعَقْدِ الصَّحِيحِ دُونَ الْفَاسِدِ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ تَحْصِيلُ الْعِفَّةِ بِهِ لِلْعَبْدِ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالْعَقْدِ الصَّحِيحِ دُونَ الْفَاسِدِ ، وَاسْتِدْلَالًا بِمَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ يَنْصَرِفَ يَمِينُهُ إلَى الْعَقْدِ الصَّحِيحِ دُونَ الْفَاسِدِ ، فَعَرَفْنَا بِهِ أَنَّ الْفَاسِدَ لَيْسَ بِنِكَاحٍ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ إذْنُ الْمَوْلَى وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : الْفَسَادُ وَالصِّحَّةُ صِفَةُ الْعَقْدِ وَالْإِذْنُ مِنْ الْمَوْلَى فِي أَصْلِ الْعَقْدِ ، فَلَا يَتَقَيَّدُ بِصِفَةٍ دُونَ صِفَةٍ ، كَالْإِذْنِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لِلْوَكِيلِ أَوْ لِلْعَبْدِ يَتَنَاوَلُ الْفَاسِدَ وَالصَّحِيحَ جَمِيعًا ، وَهَذَا لِأَنَّ بَعْضَ الْمَقَاصِدِ يَثْبُتُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ نَحْوَ النَّسَبِ وَالْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ عِنْدَ الدُّخُولِ ، وَهَذَا لَوْ حَلَفَ أَنَّهُ مَا تَزَوَّجَ فِي الْمَاضِي وَقَدْ كَانَ تَزَوَّجَ فَاسِدًا أَوْ صَحِيحًا كَانَ حَانِثًا فِي يَمِينِهِ ، وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ إنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْعَقْدِ الصَّحِيحِ لِدَلَالَةِ الْعُرْفِ ، فَإِنَّ الْأَيْمَانَ تَنْبَنِي عَلَى الْعُرْفِ ، فَأَمَّا هُنَا اعْتِبَارُ إذْنِ الْمَوْلَى لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ ، وَذَلِكَ يَعُمُّ الْعَقْدَ الصَّحِيحَ وَالْفَاسِدَ ، إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ : عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا دَخَلَ بِهَا بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ فَقَدْ لَزِمَهُ الْمَهْرُ بِسَبَبٍ كَانَ مَأْذُونًا فِيهِ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى فَيُؤَاخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ ، وَعِنْدَهُمَا إذْنُ الْمَوْلَى لَا يَتَنَاوَلُ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ ، فَإِنَّمَا لَزِمَهُ الْمَهْرُ بِسَبَبٍ غَيْرِ مَأْذُونٍ فِيهِ مِنْ جِهَةِ

الْمَوْلَى فَيَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ وَعَلَى هَذَا لَوْ تَزَوَّجَهَا نِكَاحًا صَحِيحًا بَعْدَ هَذَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا ؛ لِأَنَّ حُكْمَ إذْنِ الْمَوْلَى مَا انْتَهَى بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ فَيَكُونُ مُبَاشِرًا الْعَقْدَ الثَّانِي بِإِذْنِهِ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَصِحُّ الْعَقْدُ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ حُكْمَ إذْنِ الْمَوْلَى انْتَهَى بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ فَيُحْتَاجُ فِي الْعَقْدِ الثَّانِي إلَى إذْنٍ جَدِيدٍ .

( قَالَ : ) وَإِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ أَجَازَ الْمَوْلَى ذَلِكَ النِّكَاحَ فَعَلَيْهِ مَهْرٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الَّذِي سَمَّاهُ لَهَا اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهَا مَهْرَانِ مَهْرُ الْمِثْلِ بِالدُّخُولِ وَالْمُسَمَّى بِنُفُوذِ الْعَقْدِ بِالْإِجَازَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَ هَذَا فِي جَانِبِ الْأَمَةِ فَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْعَبْدِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى حَتَّى نَفَذَ الْعَقْدُ بَعْدَ عِتْقِهِ .

( قَالَ : ) وَإِذَا تَزَوَّجَ الْمُكَاتَبُ بِغَيْرِ إذْنِ السَّيِّدِ أَوْ الْعَبْدُ أَوْ الْمُدَبَّرُ وَدَخَلَ بِهَا ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا السَّيِّدُ ، فَلَا مَهْرَ عَلَيْهَا حَتَّى يُعْتَقَ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ لَيْسَ مِنْ عُقُودِ التِّجَارَةِ وَلَا مِنْ اكْتِسَابِ الْمَالِ ، وَالْمَهْرُ عِنْدَ الدُّخُولِ إنَّمَا يَجِبُ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْعَقْدِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَقْدُ الْكِتَابَةِ مَتْنًا ، وَلَا لِذَلِكَ الْعَقْدِ يَتَأَخَّرُ الْمَالُ الْوَاجِبُ بِسَبَبِهِ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ جِنَايَةِ الْمُكَاتَبِ ، فَإِنَّ مُوجِبَهُ فِي كَسْبِهِ يَثْبُتُ فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْفِعْلِ ، وَالرِّقُّ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْحَجْرِ عَنْ الْأَفْعَالِ ، وَأَمَّا وُجُوبُ الْمَهْرِ هُنَا بِاعْتِبَارِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ بِدُونِ الْعَقْدِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْمَهْرِ ، وَلِأَنَّهَا رَاضِيَةٌ بِهَذَا الدُّخُولِ فَلِهَذَا يَتَأَخَّرُ الْوَاجِبُ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ ، بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْكَفَالَةِ .

( قَالَ : ) وَإِذَا زَوَّجَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ أُمَّتَهُ بِشُهُودٍ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَلَا مَهْرَ لَهَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ لَوْ وَجَبَ كَانَ لِلْمَوْلَى ، وَإِنَّمَا يَجِبُ فِي مَالِيَّةِ الْعَبْدِ وَمَالِيَّتُهُ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى ، فَلَا فَائِدَةَ فِي وُجُوبِهِ أَصْلًا ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عَلَى طَرِيقِ بَعْضِ أَصْحَابِنَا يَجِبُ ابْتِدَاءً لِحَقِّ الشَّرْعِ ثُمَّ يَسْقُطُ لِقِيَامِ مِلْكِ الْمَوْلَى فِي رَقَبَةِ الزَّوْجِ ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ نَصْرَانِيًّا أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ فِي التَّزَوُّجِ فَأَقَامَتْ عَلَيْهِ امْرَأَةٌ نَصْرَانِيَّةٌ شَاهِدَيْنِ مِنْ النَّصَارَى أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَهُوَ جَاحِدٌ أَجَزْتُ ذَلِكَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ هُوَ الْعَبْدُ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِهَذَا النِّكَاحِ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النَّصَارَى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ نَصْرَانِيٌّ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ شَهِدُوا عَلَيْهِ بَيْعٌ أَوْ شِرَاءٌ وَهُوَ مَأْذُونٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ كَانَتْ الشَّهَادَةُ مَقْبُولَةً فَكَذَلِكَ بِالنِّكَاحِ ، فَإِنْ قِيلَ النِّكَاحُ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ ، فَهَذِهِ الشَّهَادَةُ إنَّمَا تَقُومُ عَلَى الْمَوْلَى وَهُوَ مُسْلِمٌ ، قُلْنَا : أَصْلُ الْعَقْدِ مَمْلُوكٌ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ ، وَلَكِنَّ حُكْمَهُ وَهُوَ مِلْكُ الْحِلِّ يَثْبُتُ لِلْعَبْدِ ، وَالشُّهُودُ إنَّمَا يَشْهَدُونَ لَهَا بِذَلِكَ عَلَى الْعَبْدِ فَلِهَذَا اعْتَبَرْنَا فِيهِ دِينَ الْعَبْدِ ، وَقُلْنَا : لَوْ كَانَ الْمَوْلَى كَافِرًا وَالْعَبْدُ مُسْلِمًا لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّهَا تَقُومُ عَلَى الْعَبْدِ وَهُوَ مُسْلِمٌ ، وَشَهَادَةُ الْكَافِرِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْمُسْلِمِ .

( قَالَ : ) ، وَلَا يَحِلُّ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَسَرَّى ، وَإِنْ أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ عِنْدَنَا ، وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَحِلُّ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُتْعَةِ يَثْبُتُ بِطَرِيقَيْنِ إمَّا عَقْدُ النِّكَاحِ أَوْ التَّسَرِّي ، فَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ أَهْلًا لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ بِأَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ وَهُوَ النِّكَاحُ فَكَذَلِكَ بِالطَّرِيقِ الْآخَرِ بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُتْعَةِ الَّذِي يَثْبُتُ بِالنِّكَاحِ أَقْوَى مِمَّا يَثْبُتُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } وَهَذِهِ لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ لَهُ وَلَا مَمْلُوكَةٍ لَهُ ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : لَا يَحِلُّ فَرْجُ مَمْلُوكَةٍ إلَّا لِمَنْ إذَا أَعْتَقَ أَوْ وَهَبَ جَازَ ، وَالْعَبْدُ لَا يَجُوزُ عِتْقُهُ وَلَا هِبَتُهُ ، فَلَا يَحِلُّ الْفَرْجُ لَهُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْعَبْدَ مَمْلُوكٌ مَالًا ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَالِكًا لِلْمَالِ لِمَا بَيْنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَمْلُوكِيَّة مِنْ الْمُنَافَاةِ ، وَمِلْكُ الْمُتْعَةِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِثُبُوتِ سَبَبِهِ ، فَإِذَا كَانَ سَبَبُهُ وَهُوَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْعَبْدِ فَكَذَلِكَ حُكْمُهُ ، بِخِلَافِ النِّكَاحِ وَلِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِمِلْكِ الْمَالِ قَبْلَ إذْنِ الْمَوْلَى ، وَلَا تَأْثِيرَ لِلْإِذْنِ فِي جَعْلِ مَنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ أَهْلًا ، وَإِنَّمَا تَأْثِيرُ إذْنِ الْمَوْلَى فِي إسْقَاطِ حَقِّهِ عِنْدَ قِيَامِ أَهْلِيَّةِ الْعَبْدِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُجْعَلَ الْعَبْدُ أَهْلًا لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ أَصْلًا ؛ لِأَنَّ بَيْنَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْمَمْلُوكِيَّة مُنَافَاةٌ ، وَلَكِنَّ الشَّرْعَ جَعَلَهُ أَهْلًا لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ بِسَبَبِ النِّكَاحِ لِضَرُورَةِ حَاجَتِهِ إلَى قَضَاءِ الشَّهْوَةِ وَإِبْقَاءِ النَّسْلِ ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ تَرْتَفِعُ بِثُبُوتِ الْحِلِّ لَهُ بِالنِّكَاحِ ، فَلَا حَاجَةَ هُنَا إلَى أَنْ نَجْعَلَهُ أَهْلًا لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ بِسَبَبِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ ،

وَكَذَلِكَ الْمُدَبَّرُ وَالْمُكَاتَبُ وَالْمُسْتَسْعَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَالْمُكَاتَبِ .

( قَالَ : ) وَلَوْ أَنَّ عَبْدًا بَيْنَ رَجُلَيْنِ زَوَّجَهُ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ إذْنِ الْآخَرِ لَمْ يَجُزْ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ وِلَايَةَ النِّكَاحِ إنَّمَا تُسْتَفَادُ بِمِلْكِ رَقَبَةِ الْعَبْدِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مَالِكٍ لِمَا يُسَمَّى عَبْدًا .

( قَالَ : ) وَلَا يَحِلُّ لِلْعَبْدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ مَوْلَاتَهُ وَلَا امْرَأَةً لَهَا فِي رَقَبَتِهِ شِقْصٌ عِنْدَنَا ، وَعَلَى قَوْلِ نُفَاةِ الْقِيَاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَجُوزُ ، وَكَذَلِكَ الْحُرُّ إذَا تَزَوَّجَ أُمَّتَهُ أَوْ أَمَةً لَهُ فِيهَا شِقْصٌ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ ، وَاسْتَدَلُّوا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى : { فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } وَبِقَوْلِهِ : { فَمِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ } وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ } الْآيَةَ ، فَإِنَّمَا خَاطَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَوَالِيَ بِإِنْكَاحِ الْإِمَاءِ لَا بِنِكَاحِهِنَّ ، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ إذَا تَزَوَّجَ بِمَوْلَاتِهِ فَهِيَ تَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةَ بِالنِّكَاحِ وَهُوَ يَسْتَوْجِبُ عَلَيْهَا النَّفَقَةَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَيَتَقَاصَّانِ وَيَمُوتَانِ جُوعًا ، وَفِي هَذَا مِنْ الْفَسَادِ مَا لَا يَخْفَى ، وَالْحُرُّ إذَا تَزَوَّجَ أَمَتَهُ ، فَهَذَا الْعَقْدُ غَيْرُ مُفِيدٍ ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ النِّكَاحِ مِلْكُ الْحِلِّ ، وَمَحَلُّ الْحِلِّ ثَابِتٌ لَهُ تَبَعًا لِمِلْكِ الرَّقَبَةِ ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ إنَّمَا شُرِعَ فِي الْأَصْلِ لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ، وَعِنْدَ مِلْكِهِ رَقَبَتَهَا لَا حَاجَةَ فَلَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا أَصْلًا ، ثُمَّ قِيَامُ الْمِلْكِ فِي شِقْصٍ مِنْهَا يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ قِيَامِ الْمِلْكِ فِي جَمِيعِهَا فِي حُرْمَةِ النِّكَاحِ احْتِيَاطًا ، وَإِنْ كَانَ لَا يَنَزَّلُ مَنْزِلَةَ ذَلِكَ فِي حِلِّ الْوَطْءِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ تَزَوَّجَ مُكَاتَبَتَهُ فَالنِّكَاحُ بَاطِلٌ لِقِيَامِ الْمِلْكِ لَهُ فِي رَقَبَتِهَا ، وَإِنْ كَانَ هُوَ مَمْنُوعًا مِنْ وَطْئِهَا بِسَبَبِ الْكِتَابَةِ ، فَإِنْ وَطِئَهَا كَانَ لَهَا الْمَهْرُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَطِئَهَا قَبْلَ النِّكَاحِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَدَّ يَسْقُطُ لِلشُّبْهَةِ فَيَجِبُ الْمَهْرُ ، وَهِيَ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ صَارَتْ أَحَقَّ بِنَفْسِهَا وَمَكَاسِبِهَا ، وَالْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ عَيْنِهَا ، وَلَوْ قَطَعَ الْمَوْلَى يَدَهَا كَانَ الْأَرْشُ لَهَا فَكَذَلِكَ إذَا

وَطِئَهَا .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَاطِئَ لَوْ كَانَ غَيْرَ الْمَوْلَى كَانَ الْمَهْرُ لَهَا ، فَإِنْ عَتَقَتْ بَعْدَ هَذَا النِّكَاحِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ النِّكَاحُ ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ فِيهِ جِهَةُ الْبُطْلَانِ لِمِلْكِهِ رَقَبَتَهَا ، فَلَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا ، وَإِنْ زَالَ ذَلِكَ الْمِلْكُ ، وَكَذَلِكَ إنْ تَزَوَّجَ الْمُكَاتَبُ مَوْلَاتَهُ وَدَخَلَ بِهَا فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ لِسُقُوطِ الْحَدِّ بِشُبْهَةِ النِّكَاحِ ، وَلَا يَجُوزُ النِّكَاحُ ، وَإِنْ عَتَقَ لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ تَزَوَّجَ الْمُكَاتَبُ أَوْ الْعَبْدُ بِنْتَ مَوْلَاهُ بِإِذْنِهِ جَازَ النِّكَاحُ ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهَا فِي رَقَبَتِهِ ، وَلَا حَقَّ مِلْكٍ مَا دَامَ الْأَبُ حَيًّا ، فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى فَسَدَ نِكَاحُ الْعَبْدِ لِأَنَّهَا مَلَكَتْ رَقَبَةَ زَوْجِهَا إرْثًا ، وَمِلْكُهَا رَقَبَةَ الزَّوْجِ لَوْ اقْتَرَنَ بِالنِّكَاحِ مَنَعَ صِحَّةَ النِّكَاحِ ، فَإِذَا طَرَأَ عَلَى النِّكَاحِ يَرْفَعُ النِّكَاحَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْمُنَافِي يُؤَثِّرُ سَوَاءٌ كَانَ طَارِئًا أَوْ مُقَارِنًا ، فَأَمَّا نِكَاحُ الْمُكَاتَبِ لَا يَفْسُدُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَفْسُدُ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ رَقَبَةَ الْمُكَاتَبِ لَا تُورَثُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تُورَثُ ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمَشْغُولَ بِحَاجَةِ الْمُورِثِ لَا يَمْلِكُهُ الْوَارِثُ عِنْدَنَا كَالتَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرَقَةِ بِالدَّيْنِ ، وَالْمُكَاتَبُ أَيْضًا مَشْغُولٌ بِحَاجَتِهِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كُلُّ مَا كَانَ مَمْلُوكًا لِلْمُورِثِ ، فَإِذَا لَمْ يَخْرُجْ بِمَوْتِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِلْمُورِثِ يَصِيرُ مَمْلُوكًا لِوَارِثِهِ ، وَحُجَّتُهُ عَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهَا لَوْ تَزَوَّجَتْ بِهِ ابْتِدَاءً بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ ، فَكَذَا لَا يَبْقَى النِّكَاحُ كَمَا فِي الْعَبْدِ ، وَتَقْرِيرُهُ أَنَّ الْوَارِثَ خِلَافَةٌ ، وَرَقَبَةُ الْمُكَاتَبِ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِلْمَوْلَى فَيَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِيهِ بَعْدَ الْمَوْتِ .
أَلَا

تَرَى أَنَّهُ لَوْ عَجَزَ كَانَ مَمْلُوكًا لِلْوَارِثِ وَعَجْزُهُ لَيْسَ بِمُوجِبِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ لِلْوَارِثِ ابْتِدَاءً ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ مَالِكًا قَبْلَ ذَلِكَ ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يُمْلَكُ بِسَائِرِ أَسْبَابِ الْمِلْكِ فَكَذَلِكَ لَا يُمْلَكُ بِالْإِرْثِ كَالْمُدَبَّرِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ كَانَ وَلَاؤُهُ لِلْمَوْلَى ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْوَلَاءُ لِمَنْ يُعْتَقُ عَلَى مِلْكِهِ ، فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى لِحَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ وَاسْتِحْقَاقِهِ وَلَاءَهُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ ، وَلِهَذَا يُمْلَكُ بَعْدَ الْعَجْزِ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ حَقُّ الْمَوْلَى وَقَدْ زَالَ فَيَكُونُ ذَلِكَ السَّبَبُ عَامِلًا فِي إيجَابِ الْمِلْكِ بَعْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ ، وَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَتْ بِهِ ابْتِدَاءً بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى إنَّمَا لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ لَهَا حَقُّ أَنْ تَتَمَلَّكَ رَقَبَتَهُ عِنْدَ زَوَالِ الْمَانِعِ ، وَحَقُّ الْمِلْكِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ ، وَلَا يَمْنَعُ بَقَاءَهُ ، وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ امْرَأَةَ مَوْلَاهُ لَا يَفْسُدُ النِّكَاحُ ، وَلَوْ تَزَوَّجَ أَمَةَ مُكَاتَبِهِ لَا يَجُوزُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى الْمُكَاتَبُ امْرَأَةَ نَفْسِهِ لَا يَفْسُدُ النِّكَاحُ ، وَلَوْ تَزَوَّجَهَا ابْتِدَاءً لَمْ يَصِحَّ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَفَلَ رَجُلٌ عَنْ الْمُكَاتَبِ بِمَالٍ لِابْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ جَائِزٌ ، فَإِنْ مَاتَ أَبُوهُ كَانَتْ الْكَفَالَةُ عَلَى حَالِهَا ، وَلَوْ كَفَلَ لَهُ بِمَالٍ مُسْتَقْبَلٍ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ لَمْ يَجُزْ ، وَمِنْ غَيْرِ هَذَا الْبَابِ الْعِدَّةُ تَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ وَلَا تَمْنَعُ الْبَقَاءَ ، وَالْإِبَاقُ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْبَيْعِ وَلَا يَمْنَعُ الْبَقَاءَ ، فَالْقِيَاسُ فِي هَذَا كَثِيرٌ ، وَإِذَا ثَبَتَ بَقَاءُ النِّكَاحِ قُلْنَا : إنْ أُعْتِقَ الْمُكَاتَبُ فَهِيَ امْرَأَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ بِالْعِتْقِ ازْدَادَ بُعْدًا عَنْهَا ، وَإِنْ عَجَزَ وَرُدَّ فِي الرِّقِّ بَطَلَ النِّكَاحُ ، وَلَا مَهْرَ لَهَا إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ

النِّكَاحِ يُقَرِّرُ الْمُنَافِي ، وَذَلِكَ إذَا وُجِدَ قَبْلَ الدُّخُولِ أَبْطَلَ النِّكَاحَ مِنْ الْأَصْلِ ، فَلَا يُوجِبُ شَيْئًا مِنْ الْمَهْرِ كَالْمَحْرَمِيَّةِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ فِي رَقَبَتِهِ يَبْطُلُ مِنْهُ بِقَدْرِ حِصَّتِهَا ؛ لِأَنَّهَا مَلَكَتْ بَعْضَ رَقَبَتِهِ ، وَالْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى مَمْلُوكِهِ دَيْنًا .

( قَالَ : ) رَجُلٌ تَزَوَّجَ أَمَةَ رَجُلٍ ثُمَّ اشْتَرَى بَعْضَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا أَوْ مَلَكَهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَسَدَ النِّكَاحُ لِتَقَرُّرِ الْمُنَافِي وَهُوَ مِلْكُهُ جُزْءًا مِنْ رَقَبَتِهَا ، وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا فَعَلَيْهِ الْمَهْرُ لِمَوْلَاهَا ، وَقَدْ انْتَقَضَ النِّكَاحُ لِمِلْكِهِ جُزْءًا مِنْ رَقَبَتِهَا

وَإِنْ أَتَى الْعَبْدُ الْمَرْأَةَ الْحُرَّةَ فَأَخْبَرَهَا أَنَّهُ حُرٌّ فَتَزَوَّجَهَا عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ عَلِمَتْ أَنَّهُ عَبْدٌ قَدْ أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ فِي التَّزَوُّجِ فَهِيَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَتْ أَقَامَتْ مَعَهُ ، وَإِنْ شَاءَتْ فَارَقَتْهُ ؛ لِأَنَّهُ غَرَّهَا ، وَلِأَنَّهَا مَا رَضِيَتْ أَنْ يَسْتَفْرِشَهَا مَمْلُوكٌ ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِكُفْءٍ لَهَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ إذَا كَتَمَ نَسَبَهُ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّ نَسَبَهُ الْمَكْتُومَ دُونَ مَا أَظْهَرَهُ يَكُونُ لَهَا الْخِيَارُ ، فَإِذَا أَظْهَرَ الْحُرِّيَّةَ وَتَبَيَّنَ الرِّقُّ لَأَنْ يَثْبُتَ لَهَا الْخِيَارُ كَانَ أَوْلَى ، فَإِنْ اخْتَارَتْ الْفُرْقَةَ لَا تَكُونُ هَذِهِ الْفُرْقَةُ إلَّا عِنْدَ الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، وَالْفَسْخُ بِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، وَلَا مَهْرَ لَهَا عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ فَسْخٌ لِأَصْلِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا .

( قَالَ : ) عَبْدٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً بِإِذْنِ مَوْلَاهُ وَلَمْ يُخْبِرْهَا أَنَّهُ حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ ، ثُمَّ عَلِمَتْ أَنَّهُ عَبْدٌ ، فَإِنْ كَانَ أَوْلِيَاءُ الْمَرْأَةِ زَوَّجُوهَا مِنْهُ بِرِضَاهَا فَلَا خِيَارَ لَهُمْ وَلَا لَهَا ؛ لِأَنَّ مُبَاشَرَةَ الْأَوْلِيَاءِ الْعَقْدَ يَكُونُ مُسْقِطًا حَقَّهُمْ فِي طَلَبِ الْكَفَاءَةِ ، وَالزَّوْجُ مَا شَرَطَ لَهَا مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا فَاتَ عَلَيْهَا ذَلِكَ إنَّمَا ظَنَّتْ أَنَّهُ حُرٌّ وَظَنُّهَا لَا يُلْزِمَ الزَّوْجَ شَيْئًا ، فَلِهَذَا لَا خِيَارَ لَهَا ، وَإِنْ كَانَتْ فَعَلَتْهُ بِدُونِ الْأَوْلِيَاءِ فَلَهُمْ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ كُفْءٍ ، وَالْمَرْأَةُ إذَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ كُفْءٍ فَلِلْأَوْلِيَاءِ حَقُّ الِاعْتِرَاضِ دَفْعًا لِلْعَارِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ

بَابُ الرَّضَاعِ ( قَالَ : ) بَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } وَذَكَرَ عُرْوَةُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا هَذَا الْحَدِيثَ قَالَ : { يَحْرُمُ بِالرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ بِالْوِلَادَةِ } ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّضَاعَ مِنْ أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ ، وَأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ فِي ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ بِالنَّسَبِ لِحَقِيقَةِ الْبَعْضِيَّةِ أَوْ شُبْهَةِ الْبَعْضِيَّةِ ، وَفِي الرَّضَاعِ شُبْهَةُ الْبَعْضِيَّةِ بِمَا يَحْصُلُ بِاللَّبَنِ الَّذِي هُوَ جُزْءُ الْآدَمِيَّةِ فِي إنْبَاتِ اللَّحْمِ وَإِنْشَازِ الْعَظْمِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : { الرَّضَاعُ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ } وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحُرْمَةَ بِالرَّضَاعِ كَمَا تَثْبُتُ مِنْ جَانِبِ الْأُمَّهَاتِ تَثْبُتُ مِنْ جَانِبِ الْآبَاءِ وَهُوَ الزَّوْجُ الَّذِي نَزَلَ لَبَنُهَا بِوَطْئِهِ ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَّهَهُ بِالنَّسَبِ فِي التَّحْرِيمِ ، وَالْحُرْمَةُ بِالنَّسَبِ تَثْبُتُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَكَذَلِكَ بِالرَّضَاعِ ، بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ لَبَنَ الْفَحْلِ لَا يُحَرِّمُ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، احْتَجُّوا بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ حُرْمَةَ الرَّضَاعِ فِي جَانِبِ النِّسَاءِ فَقَالَ : { وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ } فَلَوْ كَانَتْ الْحُرْمَةُ تَثْبُتُ مِنْ جَانِبِ الرِّجَالِ لَبَيَّنَهَا اللَّهُ تَعَالَى كَمَا بَيَّنَ الْحُرْمَةَ بِالنَّسَبِ ، وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ فِي حَقِّ الرَّجُلِ لَا تَثْبُتُ بِحَقِيقَةِ فِعْلِ الْإِرْضَاعِ ، فَإِنَّهُ لَوْ نَزَلَ اللَّبَنُ فِي ثُنْدُوَةِ الرَّجُلِ فَأَرْضَعَ بِهِ صَبِيًّا لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ ، فَلَأَنْ لَا تَثْبُتُ فِي جَانِبِهِ بِإِرْضَاعِ زَوْجَتِهِ أَوْلَى ، وَحُجَّتُنَا ذَلِكَ حَدِيثُ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ

عَنْهُمَا { قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيْتِي فَسَمِعْتُ صَوْتَ رَجُلٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَى حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقُلْتُ هَذَا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ فِي بَيْتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ : صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ مَا أَرَاهُ إلَّا فُلَانًا - عَمَّا لِحَفْصَةَ مِنْ الرَّضَاعِ - فَقُلْتُ : لَوْ كَانَ فُلَانٌ عَمِّي مِنْ الرَّضَاعِ حَيًّا أَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيَّ .
؟ فَقَالَ : نَعَمْ الرَّضَاعَةُ تُحَرِّمُ مَا تُحَرِّمُ الْوِلَادَةُ } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَفْلَحَ بْنَ أَبِي قُعَيْسٍ يَدْخُلُ عَلَيَّ وَأَنَّا فِي ثِيَابٍ فَضْلٍ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لِيَلِجْ عَلَيْكِ أَفْلَحُ ، فَإِنَّهُ عَمُّكِ مِنْ الرَّضَاعَةِ ، فَقُلْتُ : إنَّمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ لَا الرَّجُلُ ، فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : لِيَلِجْ عَلَيْكِ فَإِنَّهُ عَمُّكِ } وَالْعَمُّ مِنْ الرَّضَاعَةِ لَا يَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ لَبَنِ الْفَحْلِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ سَبَبَ هَذَا اللَّبَنِ فِعْلُ الْوَاطِئِ ، فَالْحُرْمَةُ الَّتِي تَنْبَنِي عَلَيْهِ تَثْبُتُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَالْوِلَادَةِ ، فَأَمَّا مَا قَالُوا : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ حُرْمَةَ الرَّضَاعِ فِي جَانِبِ النِّسَاءِ قُلْنَا : مِنْ الْأَحْكَامِ مَا يَثْبُتُ بِالْقُرْآنِ ، وَمِنْهَا مَا يَثْبُتُ بِالسُّنَّةِ ، فَحُرْمَةُ الرَّضَاعِ فِي جَانِبِ الرَّجُلِ مِمَّا يَثْبُتُ بِالسُّنَّةِ ، وَالْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ لَا يُوجَدُ فِي إرْضَاعِ الرَّجُلِ ، فَإِنَّ مَا نَزَلَ فِي ثُنْدُوَتِهِ لَا يُغَذِّي الصَّبِيَّ ، فَلَا يَحْصُلُ بِهِ إنْبَاتُ اللَّحْمِ ، فَهَذَا نَظِيرُ وَطْءِ الْمَيِّتَةِ فِي أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ .

( قَالَ : ) وَلَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةَ ابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ ، وَلَا امْرَأَةَ أَبِيهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ ، وَكَذَلِكَ أَجْدَادُهُ وَنَوَافِلُهُ وَهُوَ نَظِيرُ الْحُرْمَةِ الثَّابِتَةِ بِالنَّسَبِ ، وَعَلَى هَذَا الْأَخَوَاتُ مِنْ الرَّضَاعَةِ ، أَمَّا إذَا أَرْضَعَتْ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ ثِنْتَيْنِ فَهُمَا أُخْتَانِ ، فَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا وَاحِدًا فَهُمَا أُخْتَانِ لِأَبٍ وَأُمٍّ مِنْ الرَّضَاعَةِ ، وَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا مُخْتَلِفًا عَنْ الْإِرْضَاعَيْنِ فَهُمَا أُخْتَانِ لِأُمٍّ ، وَإِنْ كَانَ تَحْتَ الرَّجُلِ امْرَأَتَانِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ لَبَنٌ مِنْهُ فَأَرْضَعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا صَبِيَّةً فَهُمَا أُخْتَانِ لِأَبٍ مِنْ الرَّضَاعَةِ ؛ لِأَنَّ لَبَنَهُمَا مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، وَعُمُومُ قَوْله تَعَالَى : { وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ } يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ ، وَكَذَلِكَ بَنَاتُ الْأَخِ مِنْ الرَّضَاعِ كَبَنَاتٍ لِأَخٍ مِنْ النَّسَبِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا { عُرِضَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَ : لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي مَا كَانَتْ تَحِلُّ لِي أَرْضَعَتْنِي وَأَبَاهَا ثُوَيْبَةُ ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّكَ تَرْغَبُ فِي قُرَيْشٍ وَتَرْغَبُ عَنَّا ، فَقَالَ : هَلْ فِيكُمْ شَيْءٌ .
؟ قَالَ : نَعَمْ ابْنَةُ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ } .

( قَالَ : ) وَإِذَا كَانَ لِلْمَرْأَةِ لَبَنٌ وَطَلَّقَهَا زَوْجُهَا وَتَزَوَّجَتْ آخَرَ فَحَبِلَتْ مِنْ الْآخَرِ وَنَزَلَ لَهَا اللَّبَنُ فَاللَّبَنُ مِنْ الْأَوَّلِ حَتَّى تَلِدَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، فَإِذَا وَلَدَتْ فَاللَّبَنُ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ مِنْ الثَّانِي ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا عُرِفَ أَنَّ هَذَا اللَّبَنَ مِنْ الْحَبَلِ الثَّانِي فَهُوَ مِنْ الْآخَرِ ، وَقَدْ انْقَطَعَ اللَّبَنُ الْأَوَّلُ ، وَعَنْهُ فِي رِوَايَةٍ إذَا حَبِلَتْ مِنْ الثَّانِي انْقَطَعَ حُكْمُ لَبَنِ الْأَوَّلِ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَسْتَحْسِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمَا جَمِيعًا حَتَّى تَضَعَ مِنْ الْآخَرِ ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ مَا كَانَ بِهَا مِنْ اللَّبَنِ فَهُوَ مِنْ الْأَوَّلِ وَمَا ازْدَادَ بِسَبَبِ الْحَبَلِ فَهُوَ مِنْ الثَّانِي ، وَبَابُ الْحُرْمَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فَتَثْبُتُ الْحُرْمَةُ مِنْهُمَا جَمِيعًا ، كَمَا إذَا حَلَبَ لَبَنَ امْرَأَتَيْنِ فِي قَارُورَةٍ وَأَوْجَرَ صَبِيًّا ، فَإِذَا وَضَعَتْ مِنْ الثَّانِي فَقَدْ انْتَسَخَ سَبَبُ لَبَنِ الْأَوَّلِ بِاعْتِرَاضِ مِثْلِهِ عَلَيْهِ ، فَلِهَذَا كَانَ اللَّبَنُ مِنْ الثَّانِي بَعْدَهُ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ : اللَّبَنُ يَنْزِلُ تَارَةً بَعْدَ الْوِلَادَةِ وَتَارَةً بَعْدَ الْحَبَلِ قَبْلَ الْوِلَادَةِ ، فَإِذَا عُرِفَ نُزُولُ اللَّبَنِ مِنْ الثَّانِي انْتَسَخَ بِهِ حُكْمُ اللَّبَنِ مِنْ الْأَوَّلِ كَمَا يَنْتَسِخُ بِالْوِلَادَةِ مِنْ الثَّانِي ، وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى يَقُولُ : لَمَّا كَانَ الْحَبَلُ سَبَبًا لِنُزُولِ اللَّبَنِ ، وَحَقِيقَةُ نُزُولِ اللَّبَنِ مِنْ الثَّانِي بَاطِلٌ فَيُقَامُ السَّبَبُ الظَّاهِرُ مَقَامَ الْمَعْنَى الْبَاطِنِ تَيْسِيرًا فَيَنْتَسِخُ بِهِ حُكْمُ لَبَنِ الْأَوَّلِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : كَوْنُ اللَّبَنِ مِنْ الْأَوَّلِ ثَابِتٌ بِيَقِينٍ ، وَاللَّبَنُ يَزْدَادُ تَارَةً وَيَنْقُصُ أُخْرَى بِاعْتِبَارِ الْغِذَاءِ ، فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ تَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مِنْ قُوَّةِ الْغِذَاءِ لَا مِنْ الْحَبَلِ الثَّانِي ، فَلَا يَنْتَسِخُ بِهِ حُكْمُ اللَّبَنِ مِنْ

الْأَوَّلِ حَتَّى يَتَعَرَّضَ مِثْلُ ذَلِكَ السَّبَبِ مِنْ الثَّانِي ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْوِلَادَةِ .

( قَالَ : ) وَلَا يَجْتَمِعُ حُكْمُ الرَّضَاعِ لِرَجُلَيْنِ عَلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُمَا لَا يَجْتَمِعُ حَلَالًا شَرْعًا فَكَذَلِكَ مَا يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ السَّبَبِ ، وَلَكِنْ مَا بَقِيَ الْأَوَّلُ لَا يَثْبُتُ الثَّانِي وَإِذَا ثَبَتَ الثَّانِي انْتَفَى الْأَوَّلُ .

( قَالَ : ) وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً أَرْضَعَتْهُ رَضَاعًا قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ إلَّا بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ يَكْتَفِي الصَّبِيُّ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا ، وَمِنْ أَصْحَابِ الظَّوَاهِرِ مَنْ اعْتَبَرَ ثَلَاثَ رَضَعَاتٍ لِإِيجَابِ الْحُرْمَةِ ، وَاسْتَدَلَّ مَنْ شَرَطَ الْعَدَدَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَحْرُمُ الْمَصَّةُ وَلَا الْمَصَّتَانِ ، وَلَا الْإِمْلَاجَةُ وَلَا الْإِمْلَاجَتَانِ .
} وَفِي حَدِيثِ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَتْ : كَانَ فِيمَا أُنْزِلَ فِي الْقُرْآنِ عَشْرُ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ فَنُسِخَ بِخَمْسِ رَضَعَاتٍ مَعْلُومَاتٍ يُحَرِّمْنَ ، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُتْلَى بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا نَسْخَ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَحُجَّتُنَا قَوْله تَعَالَى : { وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ } أَثْبَتَ الْحُرْمَةَ بِفِعْلِ الْإِرْضَاعِ فَاشْتِرَاطُ الْعَدَدِ فِيهِ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ ، وَمِثْلُهُ لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ .
وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الرَّضَاعُ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ سَوَاءٌ } يَعْنِي فِي إيجَابِ الْحُرْمَةِ ، وَلِأَنَّ هَذَا سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ التَّحْرِيمِ ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَدُ كَالْوَطْءِ ، أَمَّا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا فَضَعِيفٌ جِدًّا ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَتْلُوًّا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ ، وَنَسْخُ التِّلَاوَةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَجُوزُ فَلِمَاذَا لَا يُتْلَى الْآنَ .
؟ وَذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ { فَدَخَلَ دَاجِنٌ الْبَيْتَ فَأَكَلَهُ } وَهَذَا يُقَوِّي قَوْلَ الرَّوَافِضِ الَّذِينَ يَقُولُونَ : كَثِيرٌ مِنْ الْقُرْآنِ ذَهَبَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُثْبِتْهُ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي الْمُصْحَفِ وَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ ، وَلَوْ ثَبَتَ أَنَّ هَذَا كَانَ

فِي وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ ، فَإِنَّمَا كَانَ فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ إرْضَاعُ الْكَبِيرِ مَشْرُوعًا وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ الْحَدِيثُ الثَّانِي ، فَإِنَّ إنْبَاتَ اللَّحْمِ وَإِنْشَازَ الْعَظْمِ فِي حَقِّ الْكَبِيرِ لَا يَحْصُلُ بِالرَّضْعَةِ الْوَاحِدَةِ ، فَكَانَ الْعَدَدُ مَشْرُوعًا فِيهِ ثُمَّ انْتَسَخَ بِانْتِسَاخِ حُكْمِ إرْضَاعِ الْكَبِيرِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

( قَالَ : ) وَالسَّعُوطُ وَالْوَجُورُ يُثْبِتُ الْحُرْمَةَ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَتَغَذَّى بِهِ الصَّبِيُّ ، فَإِنَّ السَّعُوطَ يَصِلُ إلَى الدِّمَاغِ فَيَتَقَوَّى بِهِ ، وَالْوَجُورُ يَصِلُ إلَى الْجَوْفِ فَيَحْصُلُ بِهِ إنْبَاتُ اللَّحْمِ وَإِنْشَازُ الْعَظْمِ ، فَأَمَّا الْإِقْطَارُ فِي الْأُذُنِ لَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى الدِّمَاغِ لِضِيقِ ذَلِكَ الثُّقْبِ ، وَكَذَلِكَ الْإِقْطَارُ فِي الْإِحْلِيلِ ، فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ يَصِلُ إلَى الْمَثَانَةِ ، فَلَا يَتَغَذَّى بِهِ الصَّبِيُّ عَادَةً ، وَكَذَلِكَ الْحُقْنَةُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : إذَا احْتَقَنَ صَبِيٌّ بِلَبَنِ امْرَأَةٍ تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَصِلُ إلَى الْجَوْفِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَفْسُدُ بِهِ الصَّوْمُ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : لَيْسَ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ عَيْنُ الْوُصُولِ إلَى الْجَوْفِ بَلْ حُصُولُ مَعْنَى الْغِذَاءِ لِيَثْبُتَ بِهِ شُبْهَةُ الْبَعْضِيَّةِ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ مِنْ الْأَعَالِي لَا مِنْ الْأَسَافِلِ ثُمَّ بَيَّنَ مَنْ يَحْرُمُ بِسَبَبِ الرَّضَاعَةِ ، وَالْحَاصِلُ فِيهِ مَا بَيَّنَّا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ ، فَكَمَا أَنَّ الْحُرْمَةَ الثَّابِتَةَ بِالنَّسَبِ فِي حَقِّ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ تَتَعَدَّى إلَى الْجَدَّاتِ وَالنَّوَافِلِ وَالْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ فَكَذَلِكَ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ .

( قَالَ : ) وَلَا رَضَاعَ بَعْدَ الْفِصَالِ بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَهَكَذَا رَوَاهُ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا رَضَاعَ بَعْدَ الْفِصَالِ ، وَلَا يُتْمَ بَعْدَ الْحُلُمِ ، وَلَا صُمَاتَ يَوْمٍ إلَى اللَّيْلِ ، وَلَا وِصَالَ فِي صِيَامٍ ، وَلَا طَلَاقَ قَبْلَ النِّكَاحِ ، وَلَا عِتْقَ قَبْلَ الْمِلْكِ ، وَلَا وَفَاءَ فِي نَذْرٍ فِي مَعْصِيَةٍ ، وَلَا يَمِينَ فِي قَطِيعَةِ رَحِمٍ ، وَلَا تَغَرُّبَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ ، وَلَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ } وَالْكَلَامُ هُنَا فِي فُصُولٍ أَحَدُهَا أَنَّ الْحُرْمَةَ لَا تَثْبُتُ بِإِرْضَاعِ الْكَبِيرِ عِنْدَنَا ، وَعَلَى قَوْلِ بَعْضِ النَّاسِ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ لِحَدِيثِ { سَهْلَةَ امْرَأَةِ أَبِي حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، فَإِنَّهَا جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَا انْتَسَخَ حُكْمُ التَّبَنِّي بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ } فَقَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَبَا حُذَيْفَةَ تَبَنَّى سَالِمًا فَكُنَّا نُعِدُّهُ وَلَدًا لَهُ ، وَإِنَّ لَنَا بَيْتًا وَاحِدًا فَمَاذَا تَرَى فِي شَأْنِهِ } وَفِي رِوَايَةٍ { وَإِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيَّ وَأَنَا أَرَى الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِ أَبِي حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَرْضِعِي سَالِمًا خَمْسًا تَحْرُمِينَ بِهَا عَلَيْهِ } وَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَخَذَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حَتَّى كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ أَمَرَتْ أُخْتَهَا أُمَّ كُلْثُومٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَوْ بَعْضَ بَنَاتِ أُخْتِهَا أَنْ تَرْضِعَهُ خَمْسًا ، ثُمَّ كَانَ يَدْخُلُ عَلَيْهَا إلَّا أَنَّ غَيْرَهَا مِنْ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُنَّ يَأْبَيْنَ ذَلِكَ وَيَقُلْنَ لَا نَرَى هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا رُخْصَةً لِسَهْلَةَ خَاصَّةً ، ثُمَّ هَذَا الْحُكْمُ انْتَسَخَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الرَّضَاعُ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَزَ

الْعَظْمَ } وَذَلِكَ فِي الْكَبِيرِ لَا يَحْصُلُ ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الرَّضَاعَةُ مِنْ الْمَجَاعَةِ } يَعْنِي مَا يَرُدُّ الْجُوعَ ، وَذَلِكَ بِإِرْضَاعِ الْكَبِيرِ لَا يَحْصُلُ ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { الرَّضَاعُ مَا فَتَقَ الْأَمْعَاءَ وَكَانَ قَبْلَ الطَّعَامِ } وَالصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ اتَّفَقُوا عَلَى هَذَا ، فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَا : لَا رَضَاعَ بَعْدَ الْفِصَالِ ، وَرُوِيَ أَنَّ أَعْرَابِيًّا وَلَدَتْ امْرَأَتُهُ وَمَاتَ الْوَلَدُ فَانْتَفَخَ ثَدْيُهَا مِنْ اللَّبَنِ فَجَعَلَ يَمُصُّهُ وَيَمُجُّ ، فَدَخَلَ بَعْضُ اللَّبَنِ فِي حَلْقِهِ فَجَاءَ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ ، فَقَالَ : حَرُمَتْ عَلَيْكَ ، فَجَاءَ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : هِيَ حَلَالٌ لَكَ ، فَأَخْبَرَهُ بِفَتْوَى أَبِي مُوسَى فَقَامَ مَعَهُ إلَى أَبِي مُوسَى ثُمَّ أَخَذَ بِأُذُنِهِ وَهُوَ يَقُولُ : أَرَضِيعٌ فِيكُمْ هَذَا لِلِّحْيَانِيِّ ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ مَادَامَ هَذَا الْحَبْرُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : إنَّ لِي جَارِيَةً فَأَرْضَعَتْهَا امْرَأَتِي فَدَخَلْتُ الْبَيْتَ فَقَالَتْ : خُذْهَا دُونَكَ فَقَدْ وَاَللَّهِ أَرْضَعْتُهَا ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَزَمْتُ عَلَيْكَ أَنْ تَأْتِيَ امْرَأَتَكَ فَتَضْرِبَهَا ثُمَّ تَأْتِيَ جَارِيَتَكَ فَتَطَأَهَا ، وَرُوِيَ نَحْوُ هَذَا عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَثَبَتَ بِهَذِهِ الْآثَارِ انْتِسَاخُ حُكْمِ إرْضَاعِ الْكَبِيرِ

ثُمَّ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي تَثْبُتُ فِيهَا حُرْمَةُ الرَّضَاعِ ، فَقَدَّرَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِثَلَاثِينَ شَهْرًا وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - قَدَّرَا ذَلِكَ بِحَوْلَيْنِ وَزُفَرُ قَدَّرَ ذَلِكَ بِثَلَاثِ سِنِينَ ، فَإِذَا وُجِدَ الْإِرْضَاعُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ وَإِلَّا فَلَا ، وَاسْتَدَلَّا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ } ، وَلَا زِيَادَةَ بَعْدَ التَّمَامِ وَالْكَمَالِ ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } ، وَلَا رَضَاعَ بَعْدَ الْفِصَالِ ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الصَّبِيَّ فِي مُدَّةِ الْحَوْلَيْنِ يَكْتَفِي بِاللَّبَنِ وَبَعْدَ الْحَوْلَيْنِ لَا يَكْتَفِي بِهِ فَكَانَ هُوَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْكَبِيرِ فِي حُكْمِ الرَّضَاعِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا } وَظَاهِرُ هَذِهِ الْإِضَافَةِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْمَذْكُورِ مُدَّةً لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ قَامَ عَلَى أَنَّ مُدَّةَ الْحَبَلِ لَا تَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَتَيْنِ فَبَقِيَ مُدَّةُ الْفِصَالِ عَلَى ظَاهِرِهِ ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ } الْآيَةَ فَاعْتُبِرَ التَّرَاضِي وَالتَّشَاوُرُ فِي الْفَصْلَيْنِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْإِرْضَاعِ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } قِيلَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ إذَا أَبَتْ الْأُمَّهَاتُ ، وَلِأَنَّ اللَّبَنَ كَمَا يُغَذِّي الصَّبِيَّ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ يُغَذِّيهِ بَعْدَهُ وَالْفِطَامُ لَا يَحْصُلُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ لَكِنْ يُفْطَمُ دَرَجَةً فَدَرَجَةً حَتَّى يَنْسَى اللَّبَنَ وَيَتَعَوَّدَ الطَّعَامَ ، فَلَا بُدَّ مِنْ زِيَادَةٍ عَلَى الْحَوْلَيْنِ بِمُدَّةٍ ، وَإِذَا وَجَبَتْ الزِّيَادَةُ قَدَّرْنَا

تِلْكَ الزِّيَادَةَ بِأَدْنَى مُدَّةِ الْحَبَلِ ، وَذَلِكَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ اعْتِبَارًا لِلِانْتِهَاءِ بِالِابْتِدَاءِ ، وَبِهَذَا يَحْتَجُّ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ : لَمَّا وَجَبَ اعْتِبَارُ بَعْضِ الْحَوْلِ وَجَبَ اعْتِبَارُ كُلِّهِ ، وَتُقَدَّرُ مُدَّةُ الْفِطَامِ بِحَوْلٍ ؛ لِأَنَّهُ حَسَنٌ لِلِاخْتِبَارِ وَالتَّحَوُّلِ بِهِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ .

( قَالَ : ) فَإِنْ فُطِمَ الصَّبِيُّ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ ثُمَّ أُرْضِعَ فِي مُدَّةِ ثَلَاثِينَ شَهْرًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ فِي مُدَّةِ الْحَوْلَيْنِ عِنْدَهُمَا فَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِهِمَا وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ لِوُجُودِ الْإِرْضَاعِ فِي الْمُدَّةِ ، فَصَارَ الْفِطَامُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : هَذَا إذَا لَمْ يَتَعَوَّدْ الصَّبِيُّ الطَّعَامَ حَتَّى لَا يَكْتَفِي بِهِ بَعْدَ هَذَا الْفِطَامِ ، فَأَمَّا إذَا صَارَ بِحَيْثُ يَكْتَفِي بِالطَّعَامِ لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِرَضَاعِهِ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ مَا صَارَ بِحَيْثُ يَكْتَفِي بِالطَّعَامِ فَاللَّبَنُ بَعْدَهُ لَا يُغَذِّيهِ ، فَلَا يَحْصُلُ بِهِ مَعْنَى الْبَعْضِيَّةِ ، بَيَانُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : وَكَانَ قَبْلَ الطَّعَامِ أَيْ قَبْلَ أَنْ يَكْتَفِيَ بِالطَّعَامِ .

( قَالَ : ) وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ أُمَّ ابْنِهِ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ مِنْ النَّسَبِ فَكَذَلِكَ مِنْ الرَّضَاعَةِ ، وَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَزَوَّجَ ابْنَتَهَا ، وَهَذَا مِنْ النَّسَبِ لَا يَحِلُّ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَ ابْنِهِ لَا لِأَجْلِ النَّسَبِ ، وَلَكِنْ لِأَنَّهَا رَبِيبَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ أُمَّهَا ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الرَّضَاعِ فَلِهَذَا جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ، وَكَذَلِكَ يَتَزَوَّجُ أُخْتَ أُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ وَمِثْلُهُ مِنْ النَّسَبِ يَحِلُّ ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ أُخْتَ أُخْتِهِ مِنْ النَّسَبِ يَحِلُّ ذَلِكَ بِأَنْ كَانَ لَهُ أَخٌ لِأَبٍ وَأُخْتٌ لِأُمٍّ فَلِأَخِيهِ لِأَبِيهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهُ لِأُمِّهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا نَسَبَ بَيْنَهُمَا مُوجِبٌ لِلْحُرْمَةِ فَكَذَلِكَ فِي الرَّضَاعِ ، وَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَزَوَّجَ ابْنَةَ عَمِّهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ أَوْ ابْنَةَ عَمَّتِهِ أَوْ ابْنَةَ خَالِهِ أَوْ ابْنَةَ خَالَتِهِ كَمَا لَا بَأْسَ بِهِ مِنْ النَّسَبِ ، وَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَزَوَّجَ الَّتِي أَرْضَعَتْ أَخَاهُ أَوْ مَا بَدَا لَهُ مِنْ وَلَدِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا رَضَاعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ .

( قَالَ : ) وَلَا يَجْمَعُ الرَّجُلُ بَيْنَ أُخْتَيْنِ مِنْ الرَّضَاعَةِ ، وَلَا بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَابْنَةِ أُخْتِهَا أَوْ ابْنَةِ أَخِيهَا ، وَكَذَلِكَ كُلُّ امْرَأَةٍ ذَاتِ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ لِلْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا فِي النَّسَبِ أَنَّ كُلَّ امْرَأَتَيْنِ لَوْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا ذَكَرًا ، وَالْأُخْرَى أُنْثَى لَمْ يَجُزْ لِلذَّكَرِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأُنْثَى ، فَإِنَّهُ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِالْقِيَاسِ عَلَى حُرْمَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فَكَذَلِكَ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ حُرْمَةَ هَذَا الْجَمْعِ لَيْسَ لِقَطِيعَةِ الرَّحِمِ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الرَّضِيعَتَيْنِ رَحِمٌ ، وَحُرْمَةُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا ثَابِتَةٌ .

( قَالَ : ) وَإِذَا وَلَدَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ الرَّجُلِ ثُمَّ طَلَّقَهَا وَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَأَرْضَعَتْ بِلَبَنِ الْأَوَّلِ وَلَدًا وَهِيَ تَحْتَ الزَّوْجِ الثَّانِي فَالرَّضَاعُ مِنْ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ مَنْ كَانَ نُزُولُ اللَّبَنِ مِنْهُ لَا مَنْ هِيَ تَحْتَهُ ، وَنُزُولُ هَذَا اللَّبَنِ كَانَ مِنْ الْأَوَّلِ .

( قَالَ : ) وَلَا يَجُوزُ شَهَادَةُ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الرَّضَاعِ أَجْنَبِيَّةً كَانَتْ أَوْ أُمَّ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهَا ، وَيَسَعُهُ الْمُقَامُ مَعَهَا حَتَّى يَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عُدُولٌ ، وَهَذَا عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَثْبُتُ الرَّضَاعُ بِشَهَادَةِ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ يُعْتَبَرُ فِيهِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ لِتَقُومَ كُلُّ امْرَأَتَيْنِ مَقَامَ رَجُلٍ ، وَزَعَمَ أَنَّ الرَّضَاعَ مِمَّا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ بِالثَّدْيِ ، وَلَا تَحِلُّ مُطَالَعَتُهُ لِلْأَجَانِبِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الرَّضَاعُ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ ؛ لِأَنَّ ذَا الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ يَنْظُرُ إلَى الثَّدْيِ وَهُوَ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ فِي ذَلِكَ ، وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ كَمَا تَحْصُلُ بِالْإِرْضَاعِ مِنْ الثَّدْيِ تَحْصُلُ بِالْإِيجَارِ مِنْ الْقَارُورَةِ ، وَذَلِكَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ ، فَلَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ النِّسَاءِ وَحْدَهُنَّ ، وَكَانَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : تَثْبُتُ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ إذَا كَانَتْ عَدْلًا ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى { أَنَّهُ تَزَوَّجَ ابْنَةَ أَبِي هَانِئٍ فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ وَأَخْبَرَتْ أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُمَا فَذَكَرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ ذَكَرَ ثَانِيًا فَأَعْرَضَ عَنْهُ ثُمَّ ثَالِثًا فَقَالَ فَارِقْهَا إذَنْ ، فَقَالَ : إنَّهَا سَوْدَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ } وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ : لَا يُقْبَلُ فِي الرَّضَاعِ إلَّا شَهَادَةُ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَيْنِ وَلِأَنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْحُرْمَةِ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ ، فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ

رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ كَالْحُرْمَةِ بِالطَّلَاقِ ، وَحَدِيثُ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى دَلِيلُنَا ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَعْرَضَ عَنْهُ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ } فَلَوْ كَانَتْ الْحُرْمَةُ ثَابِتَةً لَمَا فَعَلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ لَمَّا رَأَى مِنْهُ طُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ إلَى قَوْلِهَا حَيْثُ كَرَّرَ السُّؤَالَ أَمَرَهُ أَنْ يُفَارِقَهَا احْتِيَاطًا ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ تِلْكَ الشَّهَادَةَ كَانَتْ عَنْ ضِغْنٍ ، فَإِنَّهُ قَالَ : { جَاءَتْ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ تَسْتَطْعِمُنَا فَأَبِينَا أَنْ نُطْعِمَهَا فَجَاءَتْ تَشْهَدُ عَلَى الرَّضَاعِ } وَبِالْإِجْمَاعِ بِمِثْلِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ فَعَرَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ احْتِيَاطًا عَلَى وَجْهِ التَّنَزُّهِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ : { كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ } وَعِنْدَنَا إذَا وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهَا صَادِقَةٌ فَالْأَحْوَطُ أَنْ يَتَنَزَّهَ عَنْهَا وَيَأْخُذَ بِالثِّقَةِ ، سَوَاءٌ أَخْبَرَتْ بِذَلِكَ قَبْلَ عَقْدِ النِّكَاحِ أَوْ بَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ ، وَسَوَاءٌ شَهِدَ بِهِ رَجُلٌ أَوْ امْرَأَةٌ ، فَأَمَّا الْقَاضِي لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا مَا لَمْ يَشْهَدْ بِهِ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ إذَا كَانَ ثِقَةً حَجَّةٌ فِي أُمُورِ الدِّينِ ، وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي الْحُكْمِ وَالْقَاضِي لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا إلَّا بِالْحُجَّةِ الْحُكْمِيَّةِ ، فَأَمَّا إذَا قَامَتْ عِنْدَهُ حُجَّةٌ دِينِيَّةٌ يُفْتِي لَهُ بِأَنْ يَأْخُذَ بِالِاحْتِيَاطِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ تَرَكَ نِكَاحَ امْرَأَةٍ تَحِلُّ لَهُ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً لَا تَحِلُّ لَهُ .

( قَالَ : ) وَإِذَا نَزَلَ لِلْمَرْأَةِ لَبَنٌ وَهِيَ بِكْرٌ لَمْ تَتَزَوَّجْ فَأَرْضَعَتْ شَخْصًا صَغِيرًا فَهُوَ رَضَاعٌ ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ حُصُولُ شُبْهَةِ الْجُزْئِيَّةِ بَيْنَهُمَا وَاَلَّذِي نَزَلَ لَهَا مِنْ اللَّبَنِ جُزْءٌ مِنْهَا سَوَاءٌ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ أَوْ لَمْ تَكُنْ ، وَلَبَنُهَا يُغَذِّي الرَّضِيعَ فَتَثْبُتُ بِهِ شُبْهَةُ الْجُزْئِيَّةِ .

( قَالَ : ) وَإِذَا حُلِبَ اللَّبَنُ مِنْ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ ثُمَّ مَاتَتْ فَشَرِبَهُ صَبِيٌّ تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ لِحُصُولِ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْحُرْمَةِ بِهَذَا اللَّبَنِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِفِعْلِهَا فِي الْإِرْضَاعِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ نَائِمَةً فَارْتَضَعَ مِنْ ثَدْيِهَا الصَّبِيُّ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ ، وَكَذَلِكَ الْإِيجَارُ لَوْ حَصَلَ فِي حَيَاتِهَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهَا .

( قَالَ : ) وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَبَ اللَّبَنَ مِنْ ثَدْيِهَا بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَوْجَرَ الصَّبِيَّ تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تَثْبُتُ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ اللَّبَنَ لَا يَمُوتُ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّهُ لَا حَيَاةَ فِيهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُحْلَبُ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ مِنْ الْحَيَوَانِ فَيَكُونُ طَاهِرًا وَمَا فِيهِ الْحَيَاةُ إذَا بَانَ مِنْ الْحَيِّ يَكُونُ مَيِّتًا ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي اللَّبَنِ حَيَاةٌ لَا يَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ بَلْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَبْقَى طَاهِرًا وَعِنْدَهُمَا يَتَنَجَّسُ بِنَجَاسَةِ الْوِعَاءِ كَمَا فِي إنْفَحَةِ الْمَيْتَةِ ، فَكَأَنَّهُ حَلَبَ لَبَنَ امْرَأَةٍ فِي قَارُورَةٍ نَجِسَةٍ فَأَوْجَرَ الصَّبِيَّ بِهِ فَيَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اللَّبَنُ يَمُوتُ فَيَكُونُ نَجِسَ الْعَيْنِ ، وَثُبُوتُ حُرْمَةِ الرَّضَاعِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْكَرَامَةِ ، فَلَا تَثْبُتُ بِمَا هُوَ نَجِسُ الْعَيْنِ ، وَالْأَصْلُ الثَّانِي أَنَّ عِنْدَهُ الْفِعْلَ الَّذِي هُوَ حَرَامٌ بِعَيْنِهِ وَهُوَ الزِّنَا لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهَا بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ فَكَذَلِكَ إيجَارُ لَبَنِ الْمَيِّتَةِ حَرَامُ ، فَلَا تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ ، ثُمَّ قَاسَ لَبَنَ الْمَيِّتَةِ بِوَطْءِ الْمَيِّتَةِ ، وَلَكِنْ عِنْدَنَا ، وَإِنْ كَانَ الْفِعْلُ حَرَامًا تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ إذَا تَحَقَّقَ فِيهِ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ ، وَلِهَذَا أَثْبَتْنَا الْحُرْمَةَ بِالزِّنَا ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْبَعْضِيَّةِ لَا يَنْعَدِمُ بِهِ حَقِيقَةً فَكَذَا هُنَا ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ اللَّبَنَ يُغَذِّي الصَّبِيَّ فَيَتَقَوَّى بِهِ ، وَلَوْ سَلَّمْنَا لَهُ حُرْمَةَ اللَّبَنِ بِالْمَوْتِ فَبِالْحُرْمَةِ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُغَذِّيًا .
أَلَا تَرَى أَنَّ لَحْمَ الْمَيْتَةِ مُغَذٍّ فَكَذَلِكَ لَبَنُهَا وَبِهِ فَارَقَ وَطْءَ الْمَيِّتَةِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْبَعْضِيَّةِ يَنْعَدِمُ مِنْهُ أَصْلًا وَهُوَ مَعْنَى مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ :

الْجِمَاعُ بَعْدَ الْمَوْتِ لَيْسَ بِجِمَاعٍ ، وَإِيجَارُ لَبَنِ الْمَيِّتَةِ رَضَاعٌ ، وَشَبَّهَ اللَّبَنَ بِالْبَيْضَةِ ، فَإِنَّ بِالْمَوْتِ لَا تَخْرُجُ الْبَيْضَةُ أَنْ تَكُونَ مُغَذِّيَةً فَكَذَا اللَّبَنُ .

( قَالَ : ) وَلَوْ أُرْضِعَ الصَّبِيَّانِ مِنْ بَهِيمَةٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ رَضَاعًا ، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ طَعَامٍ أَكَلَاهُ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ صَاحِبُ الْأَخْبَارِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ ، يَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ ، فَإِنَّهُ دَخَلَ بُخَارَى فِي زَمَنِ الشَّيْخِ الْإِمَامِ أَبِي حَفْصٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَجَعَلَ يُفْتِي فَقَالَ لَهُ الشَّيْخُ : رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تَفْعَلْ فَلَسْتَ هُنَالِكَ ، فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ نُصْحَهُ حَتَّى اُسْتُفْتِيَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، إذَا أُرْضِعَ صَبِيَّانِ بِلَبَنِ شَاةٍ فَأَفْتَى بِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ ، فَاجْتَمَعُوا وَأَخْرَجُوهُ مِنْ بُخَارَى بِسَبَبِ هَذِهِ الْفَتْوَى ، وَهَذَا لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ بِسَبَبِ الْكَرَامَةِ ، وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِلَبَنِ الْآدَمِيَّةِ دُونَ لَبَنِ الْأَنْعَامِ ، وَشُبْهَةُ الْجُزْئِيَّةِ لَا يَثْبُتُ بَيْنَ الْآدَمِيِّ وَالْأَنْعَامِ بِشُرْبِ لَبَنِهَا فَكَذَلِكَ لَا تَثْبُتُ بَيْنَ الْآدَمِيِّينَ بِشُرْبِ لَبَنِ بَهِيمَةٍ ، وَهَذَا قِيَاسُ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ الَّتِي تَثْبُتُ بِالْوَطْءِ ، وَلَا تَثْبُتُ بِوَطْءِ الْبَهَائِمِ فَكَذَلِكَ هُنَا .

( قَالَ : ) وَلَوْ صُنِعَ لَبَنُ امْرَأَةٍ فِي طَعَامٍ فَأَكَلَهُ الصَّبِيُّ ، فَإِنْ كَانَتْ النَّارُ قَدْ مَسَّتْ اللَّبَنَ وَأَنْضَجَتْ الطَّعَامَ حَتَّى تَغَيَّرَ ، فَلَيْسَ ذَلِكَ بِرَضَاعٍ ، وَلَا يُحَرِّمْ ؛ لِأَنَّ النَّارَ غَيَّرَتْهُ فَانْعَدَمَ بِهَا مَعْنَى التَّغَذِّي بِاللَّبَنِ ، وَإِنْبَاتُ اللَّحْمِ ، وَإِنْشَازُ الْعَظْمِ ، وَإِنْ كَانَتْ النَّارُ لَمْ تَمَسَّهُ ، فَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ هُوَ الْغَالِبُ لَا تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْمَغْلُوبَ فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلَكِ ، وَلِأَنَّ هَذَا أَكْلٌ وَالْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ شُرْبُ اللَّبَنِ دُونَ الْأَكْلِ ، وَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ هُوَ الْغَالِبِ فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ ، وَالْغَالِبُ هُوَ اللَّبَنُ وَلَمْ يُغَيِّرْهُ شَيْءٌ عَنْ حَالِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : إلْقَاءُ الطَّعَامِ فِي اللَّبَنِ يُغَيِّرُهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَرِقُّ بِهِ وَرُبَّمَا يَتَغَيَّرُ بِهِ لَوْنُهُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ غَيَّرَتْهُ النَّارُ ، وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ لَا يَتَقَاطَرُ اللَّبَنُ مِنْ الطَّعَامِ عِنْدَ حَمْلِ اللُّقْمَةِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ يَتَقَاطَرُ مِنْهُ اللَّبَنُ تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّ الْقَطْرَةَ مِنْ اللَّبَنِ إذَا دَخَلَتْ حَلْقَ الصَّبِيِّ كَانَتْ كَافِيَةً لِإِثْبَاتِ الْحُرْمَةِ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا تَثْبُتُ عَلَى كُلِّ حَالٍ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّ التَّغَذِّيَ كَانَ بِالطَّعَامِ دُونَ اللَّبَنِ .

( قَالَ : ) وَإِذَا جَعَلَ لَبَنَ امْرَأَةٍ فِي دَوَاءٍ فَأَوْجَرَ مِنْهُ صَبِيًّا أَوْ أَسُعِطَ مِنْهُ وَاللَّبَنُ غَالِبٌ ، فَهَذَا رَضَاعٌ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُجْعَلُ فِي الدَّوَاءِ لِيَصِلَ بِقُوَّةِ الدَّوَاءِ إلَى مَا لَا يَصِلُ إلَيْهِ وَحْدَهُ فَكَانَ هَذَا أَبْلَغَ فِي حُصُولِ مَعْنَى التَّغَذِّي بِهِ فَلِهَذَا تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ .

( قَالَ : ) وَإِنْ جَعَلَ اللَّبَنَ فِي مَاءٍ فَشَرِبَهُ الصَّبِيُّ ، فَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ هُوَ الْغَالِبُ تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ ، وَإِنْ كَانَ الْمَاءُ غَالِبًا لَا تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ ، وَكَذَلِكَ إنْ خَلَطَ لَبَنَ الْآدَمِيَّةِ بِلَبَنِ الْأَنْعَامِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَدْرُ مَا يَحْصُلُ بِهِ خَمْسُ رَضَعَاتٍ مِنْ اللَّبَنِ ، إذَا جُعِلَ فِي جُبٍّ مِنْ الْمَاءِ فَشَرِبَهُ الصَّبِيُّ تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ

فَأَمَّا إذَا خَلَطَ لَبَنَ امْرَأَةٍ بِلَبَنِ امْرَأَةٍ أُخْرَى ثُمَّ أَوْجَرَ مِنْهُ صَبِيًّا فَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ مِنْهُمَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ يَكْثُرُ بِجِنْسِهِ ، وَلَا يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا بِهِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ يَكُونُ لَبَنُهَا غَالِبًا ؛ لِأَنَّ الْمَغْلُوبَ لَا يَظْهَرُ حُكْمُهُ فِي مُقَابَلَةِ الْغَالِبِ ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ رِوَايَتَانِ فِي إحْدَاهُمَا اعْتَبَرَ الْأَغْلَبَ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَفِي الْأُخْرَى قَالَ : تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ مِنْهُمَا وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا حَلَفَ لَا يَشْرَبُ مِنْ لَبَنِ هَذِهِ الْبَقَرَةِ فَخَلَطَ لَبَنَهَا بِلَبَنِ بَقَرَةٍ أُخْرَى فَشَرِبَهُ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ .

( قَالَ : ) الرَّضَاعُ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ وَالْوَطْءِ فِي إثْبَاتِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُوجَدَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .

( قَالَ : ) وَإِذَا جَامَعَ الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ أَوْ لَمَسَهَا بِشَهْوَةٍ أَوْ نَظَرَ إلَى فَرْجِهَا بِشَهْوَةٍ لَمْ تَحِلَّ لِابْنِهِ ، وَلَا لِأَبِيهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ ، وَلَا تَحِلُّ لَهُ أُمُّهَا ، وَلَا ابْنَتُهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ كَمَا لَا تَحِلُّ لِابْنِهِ وَأَبِيهِ نَسَبًا ، فَإِنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ تَعَلَّقَتْ بِأَسَامٍ تَثْبُتُ تِلْكَ الْأَسَامِي بِالرَّضَاعَةِ وَهِيَ الْأُبُوَّةُ وَالْأُمُومَةُ ، وَكَذَلِكَ لَا يَتَزَوَّجُ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ مِنْهُ أُخْتَهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ ، وَلَا ذَاتَ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْجَمْعِ مُتَعَلِّقَةٌ بِاسْمِ الْأُخْتِيَّةِ ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بِالرَّضَاعِ كَمَا يَتَحَقَّقُ بِالنَّسَبِ ، وَالْعِدَّةُ تَعْمَلُ عَمَلَ صُلْبِ النِّكَاحِ فِي الْمَنْعِ مِنْ النِّكَاحِ .

( قَالَ : ) وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الصَّبِيَّةَ فَأَرْضَعَتْهَا أُمُّهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ أَوْ أُمُّهُ الَّتِي وَلَدَتْهُ أَوْ أُخْتُهُ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ امْرَأَةُ ابْنِهِ بِلَبَنِ ابْنِهِ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمَحْرَمِيَّةَ تَمْنَعُ النِّكَاحَ بِعِلَّةِ الْمُنَافَاةِ ، فَإِنَّ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ فِي الْمَحَلِّ مُنَافَاةً وَالْمُنَافِي كَمَا يُؤَثِّرُ إذَا اقْتَرَنَ بِالنَّسَبِ يُنَافِي الْبَقَاءَ إذَا طَرَأَ عَلَيْهِ ، فَإِذَا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ لَزِمَهُ بِذَلِكَ نِصْفُ الْمَهْرِ لَهَا ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ حَصَلَتْ لَا بِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهَا أَوْ حَصَلَتْ بِمَعْنًى مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ وَهِيَ الْمَحْرَمِيَّةُ ، فَيَجِبُ نِصْفُ الصَّدَاقِ لَهَا وَيَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى الَّتِي أَرْضَعَتْهَا إنْ كَانَتْ أَرَادَتْ الْفَسَادَ أَوْ عَمَدَتْ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَتْ أَخْطَأَتْ أَوْ أَرَادَتْ الْخَيْرَ بِأَنْ خَافَتْ عَلَى الرَّضِيعِ الْهَلَاكَ مِنْ الْجُوعِ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَيْهَا ، وَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهَا إنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهَا تَعَمُّدُ الْفَسَادِ ؛ لِأَنَّهُ شَيْءٌ فِي بَاطِنِهَا لَا يَقِفُ عَلَيْهِ غَيْرُهَا ، فَلَا بُدَّ مِنْ قَبُولِ قَوْلِهَا فِيهِ ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ فِي نِيَّتِهَا إذَا أَرَادَتْ الْفَسَادَ أَوْ لَمْ تُرِدْ ؛ لِأَنَّهَا مُسَبِّبَةٌ لِهَذِهِ الْفُرْقَةِ لَا مُبَاشِرَةٌ ، فَإِنَّهَا مُبَاشِرَةٌ لِلْإِرْضَاعِ وَهُوَ لَيْسَ بِسَبَبٍ مَوْضُوعٍ لِلْفُرْقَةِ ، وَالْمُسَبِّبُ إذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي تَسَبُّبِهِ يَكُونُ ضَامِنًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا لَا يَضْمَنُ كَحَافِرِ الْبِئْرِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ لَا يَضْمَنُ مَا يَسْقُطُ فِيهِ ، بِخِلَافِ الْحَافِرِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ ، فَإِذَا أَرَادَتْ الْفَسَادَ كَانَتْ مُتَعَدِّيَةً فِي السَّبَبِ وَإِذَا لَمْ تُرِدْ الْفَسَادَ لَمْ تَكُنْ مُتَعَدِّيَةً فِي السَّبَبِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الصَّدَاقِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، فَإِنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْمُتَسَبِّبَ كَالْمُبَاشِرِ ، وَلِهَذَا جَعَلَ فَتْحَ بَابِ

الْقَفَصِ وَالْإِصْطَبْلِ وَحَلَّ قَيْدِ الْآبِقِ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ ، وَفِي الْمُبَاشَرَةِ الْمُتَعَدِّي وَغَيْرُ الْمُتَعَدِّي سَوَاءٌ فَكَذَلِكَ فِي التَّسَبُّبِ عَلَى قَوْلِهِ ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَرْجِعُ بِمَهْرِ مِثْلِ الْمَنْكُوحَةِ ؛ لِأَنَّهَا أَتْلَفَتْ مِلْكَ نِكَاحِهِ فِيهَا ، وَمِلْكُ النِّكَاحِ عِنْدَهُ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ حَتَّى قَالَ فِي شَاهِدَيْ الطَّلَاقِ بَعْدَ الدُّخُولِ إذَا رَجَعَا ضَمِنَا مَهْرَ الْمِثْلِ ، وَهَذَا لِأَنَّ مِلْكَ الْبُضْعِ يَتَقَوَّمُ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ بِمَهْرِ الْمِثْلِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ خُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : إنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ فِي نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمِلْكِ عَيْنٍ ، وَلَا مَنْفَعَةٍ إنَّمَا هُوَ مِلْكٌ ضَرُورِيٌّ لَا يَظْهَرُ إلَّا فِي حَقِّ الِاسْتِيفَاءِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ النَّقْلِ إلَى الْغَيْرِ وَالِانْتِقَالِ إلَى الْوَرَثَةِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ التَّقَوُّمِ بِالْمَالِ ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ فِي نَفْسِهِ ، فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْمَالِ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْإِتْلَافِ مُقَدَّرٌ بِالْمِثْلِ بِالنَّصِّ ، وَتَقَوُّمُ الْبُضْعِ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ لِلضَّرُورَةِ ؛ لِأَنَّهُ تَمَلُّكٌ لِلْبُضْعِ وَهُوَ مُحْتَرَمٌ ، فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِعِوَضٍ ، وَهَذِهِ الضَّرُورَةُ لَا تُوجَدُ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ مِلْكِهِ ؛ لِأَنَّهُ إبْطَالٌ لِلْمِلْكِ لَا تَمْلِيكٌ مِنْهَا ، وَإِبْطَالُ الْمِلْكِ لَا يَسْتَدْعِي التَّقَوُّمَ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّ الْأَبَ يُزَوِّجُ ابْنَهُ الصَّغِيرَ بِمَالِ الصَّغِيرِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْلَعَ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ بِمَالِهَا ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِهِ لَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ عَلَيْهَا بِإِتْلَافِ الْبُضْعِ ، وَلَكِنَّهَا قَرَّرَتْ عَلَيْهِ مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ ، فَإِنَّ الصَّدَاقَ وَإِنْ وَجَبَ بِالْعَقْدِ فَهُوَ بِعَرْضِ السُّقُوطِ مَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا إذَا جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا فَهِيَ قَرَّرَتْ النِّصْفَ عَلَيْهِ بِمَا

فَعَلَتْهُ وَهِيَ مُتَسَبِّبَةٌ فِي ذَلِكَ مُتَعَدِّيَةٌ إذَا تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ فَلِهَذَا رَجَعَ عَلَيْهَا بِذَلِكَ .

( قَالَ : ) وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ الصَّبِيَّةَ ثُمَّ تَزَوَّجَ عَمَّتَهَا فَنِكَاحُ الْعَمَّةِ بَاطِلٌ لِلنَّهْيِ ، فَإِنْ أَرْضَعَتْ أُمُّ الْعَمَّةِ الصَّبِيَّةَ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّةَ وَإِنْ صَارَتْ أُخْتًا لِلْعَمَّةِ بِالرَّضَاعَةِ ، وَلَكِنْ لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُ الْعَمَّةِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْجَمْعُ الْحَرَامُ فَلِهَذَا بَقِيَ نِكَاحُ الصَّبِيَّةِ .

( قَالَ : ) وَإِذَا تَزَوَّجَ صَبِيَّتَيْنِ رَضِيعَتَيْنِ فَأَرْضَعَتْهُمَا امْرَأَةٌ مَعًا أَوْ إحْدَاهُمَا بَعْدَ الْأُخْرَى بَانَتَا جَمِيعًا لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُخْتَيْنِ حِينَ أَرْضَعَتْ الثَّانِيَةَ مِنْهُمَا فَتَقَرَّرَ الْجَمْعُ الْمُنَافِي ، وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِبُطْلَانِ نِكَاحِهَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى ، فَإِذَا بَانَتَا فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الصَّدَاقِ يَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى الْمُرْضِعَةِ إنْ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ لِمَا قُلْنَا ، وَلَوْ كُنَّ ثَلَاثًا فَأَرْضَعَتْهُنَّ مَعًا بِأَنْ حَلَبَتْ لَبَنَهَا فِي قَارُورَةٍ وَأَلْقَمَتْ إحْدَى ثَدْيَيْهَا إحْدَاهُنَّ وَالْأُخْرَى لِلْأُخْرَى ، وَأَوْجَرَتْ الثَّلَاثَةَ مَعًا بِنَّ جَمِيعًا مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُنَّ صِرْنَ أَخَوَاتٍ مَعًا ، وَإِنْ أَرْضَعَتْهُنَّ وَاحِدَةً بَعْدَ الْأُخْرَى بَانَتْ الْأُولَيَانِ وَالثَّالِثَةُ امْرَأَتُهُ ؛ لِأَنَّهَا حِينَ أَرْضَعَتْ الثَّانِيَةَ فَقَدْ تَحَقَّقَتْ الْأُخْتِيَّةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُولَى فَتَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا ، ثُمَّ أَرْضَعَتْ الثَّالِثَةَ ، وَلَيْسَ فِي نِكَاحِهِ غَيْرُهَا فَفِي نِكَاحِهَا ، وَإِنْ كُنَّ أَرْبَعًا فَأَرْضَعَتْهُنَّ مَعًا أَوْ وَاحِدَةً ثُمَّ الثَّلَاثَ مَعًا بِنَّ جَمِيعًا ، وَكَذَلِكَ إنْ أَرْضَعَتْهُنَّ جَمِيعًا وَاحِدَةً بَعْدَ الْأُخْرَى ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَرْضَعَتْ الثَّانِيَةَ بَانَتْ الْأُولَيَانِ لِلْأُخْتِيَّةِ وَحِينَ أَرْضَعَتْ الثَّالِثَةَ وَالرَّابِعَةَ بَانَتْ الْأُخْرَيَانِ أَيْضًا لِلْأُخْتِيَّةِ ، وَإِنْ أَرْضَعَتْ الثَّلَاثَ أَوَّلًا مَعًا ثُمَّ الرَّابِعَةَ بَانَتْ الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ دُونَ الرَّابِعَةِ ؛ لِأَنَّهَا حِينَ أَرْضَعَتْهَا فَلَيْسَ فِي نِكَاحِهِ غَيْرُهَا .

( قَالَ : ) وَإِنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَصَبِيَّتَيْنِ فَأَرْضَعَتْهُمَا الْمَرْأَةُ إحْدَاهُمَا قَبْلَ الْأُخْرَى وَلَمْ يَدْخُلْ بِالْمَرْأَةِ حُرِّمَتْ الْمَرْأَةُ وَالصَّبِيَّةُ الْأُولَى ؛ لِأَنَّهَا حِينَ أَرْضَعَتْ إحْدَاهُمَا فَقَدْ صَارَتَا أُمًّا وَابْنَةً فَتَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا ثُمَّ أَرْضَعَتْ الثَّانِيَةَ ، وَلَيْسَ فِي نِكَاحِهِ غَيْرُهَا فَبَقِيَ نِكَاحُهَا ؛ لِأَنَّ السَّابِقَ مُجَرَّدُ الْعَقْدِ عَلَى الْأُمِّ ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْبِنْتِ ثُمَّ لَا مَهْرَ لِلْكَبِيرَةِ ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَلِلصَّغِيرَةِ نِصْفُ الْمَهْرِ ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ لَيْسَتْ مِنْ قِبَلِهَا إنَّمَا كَانَتْ مِنْ جِهَةِ الْكَبِيرَةِ حِينَ أَرْضَعَتْهَا ، فَإِنَّ اللَّبَنَ يَصِلُ إلَى جَوْفِهَا مِنْ غَيْرِ فِعْلٍ مِنْهَا فِي الِارْتِضَاعِ ، وَيَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى الْكَبِيرَةِ إنْ كَانَتْ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ لِمَا قُلْنَا ، وَلَا تَحِلُّ لَهُ هَذِهِ الْكَبِيرَةُ أَبَدًا ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْعَقْدِ عَلَى الْبِنْتِ يُوجِبُ حُرْمَةَ الْأُمِّ ، وَأَمَّا الصَّبِيَّةُ فَإِنَّهَا تَحِلُّ لَهُ إذَا فَارَقَتْهُ الَّتِي عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْأُمِّ لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْبِنْتِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ مَا دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ حُرِّمْنَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُمَا صَارَتَا ابْنَتَهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ ، وَالدُّخُولُ بِالْأُمِّ يُحَرِّمُ الْبِنْتَ ثُمَّ لِلْكَبِيرَةِ مَهْرُهَا وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الصَّغِيرَتَيْنِ نِصْفُ الْمَهْرِ ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ أَبَدًا لِوُجُودِ الدُّخُولِ بِالْأُمِّ وَصِحَّةِ الْعَقْدِ عَلَى الْبِنْتِ .

( قَالَ : ) وَإِذَا تَزَوَّجَ كَبِيرَتَيْنِ وَصَغِيرَتَيْنِ فَأَرْضَعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْكَبِيرَتَيْنِ صَغِيرَةً وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ ؛ لِأَنَّ كُلَّ صَغِيرَةٍ صَارَتْ بِنْتًا لِمَنْ أَرْضَعَتْهَا ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ فِي النِّكَاحِ حَرَامٌ ، فَإِنْ كَانَتْ أَرْضَعَتْ إحْدَى الْكَبِيرَتَيْنِ الصَّغِيرَتَيْنِ ثُمَّ أَرْضَعَتْ الْكَبِيرَةُ الْأُخْرَى الصَّغِيرَتَيْنِ ، وَذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِالْكَبِيرَتَيْنِ ، فَأَمَّا الْكَبِيرَةُ الْأُولَى مَعَ الصَّغِيرَةِ الْأُولَى فَقَدْ بَانَتَا لِمَا قُلْنَا ، وَالصَّغِيرَةُ الثَّانِيَةُ لَمْ تَبِنْ مِنْهُ بِإِرْضَاعِ الْكَبِيرَةِ الْأُولَى ، فَأَمَّا بِإِرْضَاعِ الْكَبِيرَةِ الثَّانِيَةَ ، فَإِنْ بَدَأَتْ بِإِرْضَاعِهَا بَانَتْ مِنْهُ ، وَإِنْ بَدَأَتْ بِإِرْضَاعِ الْأُولَى فَالصَّغِيرَةُ الثَّانِيَةُ امْرَأَتُهُ لِأَنَّهَا حِينَ أَرْضَعَتْ الْأُولَى صَارَتْ أُمًّا لَهَا وَفَسَدَ نِكَاحُهَا لِصِحَّةِ الْعَقْدِ عَلَى الصَّغِيرَةِ الْأُولَى فِيمَا سَبَقَ ثُمَّ أَرْضَعَتْ الثَّانِيَةَ ، وَلَيْسَ فِي نِكَاحِهِ غَيْرُهَا فَلِهَذَا لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا .

( قَالَ : ) وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّ هَذِهِ الْمَرْأَةَ أُخْتُهُ أَوْ أُمُّهُ أَوْ ابْنَتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ ثُمَّ أَرَادَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ، وَقَالَ : أَوْهَمْتُ أَوْ أَخْطَأْتُ أَوْ نَسِيتُ وَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ فَهُمَا مُصَدَّقَانِ عَلَى ذَلِكَ وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ، وَإِنْ ثَبَتَ عَلَى قَوْلِهِ الْأَوَّلِ ، وَقَالَ : هُوَ حَقٌّ كَمَا قُلْتُ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ، وَلَا مَهْرَ لَهَا عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ ، وَفِي الْقِيَاسِ الْجَوَابُ فِي الْفَصْلَيْنِ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ ، وَالْمُقَرُّ بِهِ يُجْعَلُ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ كَالثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالْمُعَايَنَةِ ، وَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ مُلْزِمٌ بِنَفْسِهِ فَسَوَاءٌ رَجَعَ أَوْ ثَبَتَ كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا بِزَعْمِهِ فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ، وَلَا مَهْرَ لَهَا عَلَيْهِ ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ : هَذَا شَيْءٌ يَقَعُ فِيهِ الِاشْتِبَاهُ فَقَدْ يَقَعُ عِنْدَ الرَّجُلِ أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ رَضَاعٌ فَيُخْبِرُ بِذَلِكَ ثُمَّ يَتَفَحَّصُ عَنْ حَقِيقَةِ الْحَالِ فَيَتَبَيَّنُ لَهُ أَنَّهُ قَدْ غَلِطَ فِي ذَلِكَ ، وَفِيمَا يَقَعُ الِاشْتِبَاهُ إذَا أَخْبَرَ أَنَّهُ غَلِطَ فِيهِ يَجِبُ قَبُولُ قَوْلِهِ شَرْعًا لِوَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ مِنْ حَقِّ الشَّرْعِ ، فَإِذَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُمَا قَدْ غَلِطَا ، فَلَيْسَ هُنَا مَنْ يُكَذِّبُهُمَا فِي خَبَرِهِمَا .
( وَالثَّانِي ) أَنَّ إقْرَارَهُ فِي الِابْتِدَاءِ لَمْ يَكُنْ عَلَى نَفْسِهِ إنَّمَا كَانَ عَلَيْهَا بِحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ وَالْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ صِفَةُ الْمَحَلِّ وَإِقْرَارُ الْإِنْسَانِ عَلَى الْغَيْرِ لَا يَكُونُ لَازِمًا ، فَإِذَا ذَكَرَ أَنَّهُ غَلِطَ فِيهِ فَهُوَ لَا يُرِيدُ بِهَذَا إبْطَالَ شَيْءٍ لَزِمَهُ فَلِهَذَا قُبِلَ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ ، وَإِنْ أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ ثُمَّ أَكْذَبَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا ، وَقَالَتْ أَخْطَأْتُ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ

تَزَوَّجَهَا قَبْلَ أَنْ تُكَذِّبَ نَفْسَهَا فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ ، وَلَا تُصَدَّقُ الْمَرْأَةُ عَلَى قَوْلِهَا ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمَحْرَمِيَّةِ لَا تَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ ، فَإِنَّهُ خَبَرٌ مُحْتَمَلٌ مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ ، وَلَكِنَّ الثَّابِتَ عَلَى الْإِقْرَارِ كَالْمُجَدِّدِ لَهُ بَعْدَ الْعَقْدِ ، وَإِقْرَارُهَا بِالْمَحْرَمِيَّةِ بَعْدَ الْعَقْدِ بَاطِلٌ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهَا بِهِ قَبْلَ الْعَقْدِ ، وَأَمَّا إقْرَارُهُ بِالْحُرْمَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ صَحِيحٌ مُوجِبٌ لِلْفُرْقَةِ ، وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِهِ قَبْلَ الْعَقْدِ وَثَبَتَ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى تَزَوَّجَهَا ، فَإِنْ قِيلَ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ كَمَا لَوْ ابْتَدَأَ بَعْدَ النِّكَاحِ قُلْنَا إنَّمَا لَا يَجِبُ لِوُجُودِ التَّصْدِيقِ مِنْهَا عَلَى بُطْلَانِ أَصْلِ النِّكَاحِ ، أَوْ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ بِالْقَصْدِ إلَى إسْقَاطِ الْمَهْرِ إذْ سَبَقَ الْإِقْرَارُ مِنْهُ بِوُجُوبِ الْمَهْرِ بِالنِّكَاحِ ، يُوَضِّحُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ إنَّمَا يَصِحُّ إذَا كَانَ مُؤَثِّرًا فِي الْمِلْكِ ، إمَّا بِالْمُنَافَاةِ أَوْ بِالْإِزَالَةِ ، وَإِقْرَارُ الرَّجُلِ مُؤَثِّرٌ فِي ذَلِكَ فَكَانَ مُعْتَبَرًا فِي الْمَنْعِ مِنْ صِحَّةِ النِّكَاحِ إذَا ثَبَتَ عَلَيْهِ ، وَإِقْرَارُ الْمَرْأَةِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي ذَلِكَ ، فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ النِّكَاحِ .
( قَالَ : ) وَإِذَا أَقَرَّ الزَّوْجُ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ وَثَبَتَ عَلَيْهَا وَأَشْهَدَ الشُّهُودَ ثُمَّ تَزَوَّجَتْهُ الْمَرْأَةُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ ثُمَّ جَاءَتْ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ بَعْدَ النِّكَاحِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ، وَلَا يَنْفَعُهُ جُحُودُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ عَلَى مَقَالَتِهِ فِي الِابْتِدَاءِ وَزَعَمَ أَنَّهُ حَقٌّ لَا غَلَطَ فِيهِ فَقَدْ لَزِمَهُ حُكْمُ إقْرَارِهِ وَصَارَ كَالْمُجَدِّدِ لِذَلِكَ الْإِقْرَارِ بَعْدَ النِّكَاحِ فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ، وَلَا يَنْفَعُهُ الْجُحُودُ ، وَلَوْ أَقَرَّا بِذَلِكَ جَمِيعًا ثُمَّ كَذَّبَا أَنْفُسَهُمَا ، وَقَالَا : أَخْطَأْنَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ ، وَكَذَلِكَ هَذَا الْبَابُ فِي النَّسَبِ لَيْسَ

يَلْزَمُ مِنْ هَذَا إلَّا مَا بَيَّنَّا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْغَلَطَ وَالِاشْتِبَاهَ فِيهِ أَظْهَرُ ، فَإِنَّ سَبَبَ النَّسَبِ أَخْفَى مِنْ سَبَبِ الرَّضَاعِ فَكَمَا أَنَّ هُنَاكَ الْإِقْرَارُ بِدُونِ الثَّبَاتِ عَلَيْهِ لَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ فَكَذَلِكَ هُنَا .

( قَالَ : ) وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ قَالَ لَهَا بَعْدَ النِّكَاحِ هِيَ أُخْتِي أَوْ ابْنَتِي أَوْ أُمِّي مِنْ الرَّضَاعَةِ ثُمَّ قَالَ : أَخْطَأْتُ أَوْ أَوْهَمْتُ فَالنِّكَاحُ بَاقٍ اسْتِحْسَانًا ، وَلَوْ ثَبَتَ عَلَى هَذَا النُّطْقِ ، وَقَالَ هُوَ حَقٌّ فَشَهِدَتْ عَلَيْهِ الشُّهُودُ بِذَلِكَ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ، وَلَوْ جَحَدَ ذَلِكَ لَمْ يَنْفَعْهُ جُحُودُهُ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ إنَّمَا كَانَ مُوجِبًا لِلْفُرْقَةِ بِشَرْطِ الثَّبَاتِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ قَالَ : أَوْهَمْتُ فَقَدْ انْعَدَمَ مَا هُوَ شَرَطَهُ ، فَلَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ ، وَإِذَا ثَبَتَ عَلَى ذَلِكَ وُجِدَ مَا هُوَ شَرْطُ الْإِقْرَارِ فَثَبَتَ حُكْمُهُ وَهُوَ الْفُرْقَةُ ثُمَّ لَا يَنْفَعُهُ جُحُودُهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : هَذِهِ أُخْتِي أَوْ هَذِهِ ابْنَتِي ، وَلَيْسَ لَهَا نَسَبٌ مَعْرُوفٌ ثُمَّ قَالَ : أَوْهَمْتُ يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ أَوْ أَمَتِهِ هَذَا ابْنِي أَوْ هَذِهِ ابْنَتِي ثُمَّ قَالَ : أَوْهَمْتُ ، فَإِنَّهُ يُعْتَقُ عَلَيْهِ ، وَلَا يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ وَالْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ إقْرَارَهُ بِالنَّسَبِ فِي عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ مُلْزِمٌ بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ لِمَا أَقَرَّ بِهِ مُوجِبًا فِي مِلْكِهِ وَهُوَ زَوَالُ الْمِلْكِ ، فَإِنَّ مَنْ اشْتَرَى ابْنَهُ يَصِحُّ الشِّرَاءُ وَيُعْتَقُ عَلَيْهِ ، فَإِذَا كَانَ لِمَا أَقَرَّ بِهِ مُوجَبٌ فِي مِلْكِهِ كَانَ هُوَ مُقِرًّا بِهِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ ، وَإِقْرَارُ الْإِنْسَانِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ مُلْزِمٌ فَلِهَذَا يُتِمُّ بِنَفْسِهِ ثَبَتَ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَثْبُتْ ، فَأَمَّا إقْرَارُهُ بِنَسَبِ زَوْجَتِهِ لَا مُوجِبَ لَهُ فِي مِلْكِهِ ؛ لِأَنَّ مَنْ تَزَوَّجَ ابْنَتَهُ لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ أَصْلًا لَا أَنْ يَثْبُتَ النِّكَاحُ ثُمَّ يَزُولَ ، وَإِنَّمَا لَا يَصِحُّ النِّكَاحُ بِحُرْمَةِ الْمَحَلِّ ، فَمُوجِبُ إقْرَارِهِ هُنَا لَا يَظْهَرُ فِي مِلْكِهِ ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ فِي الْمَحَلِّ ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْمَحَلِّ ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ صِفَةُ الْمَحَلِّ فَلَمْ يَكُنْ إقْرَارُهُ مُتَنَاوِلًا لِمِلْكِهِ ابْتِدَاءً ، فَلَا يَكُونُ مُلْزِمًا

إلَّا إذَا ثَبَتَ عَلَيْهِ فَحِينَئِذٍ بِحُكْمِ الثَّبَاتِ عَلَيْهِ يَتَعَدَّى ضَرَرُهُ إلَى مِلْكِهِ فَيَلْزَمُهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .
وَالثَّانِي أَنَّ الِاشْتِبَاهَ لَا يَقَعُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَالِابْنِ بَلْ عَبْدُهُ فِي الْغَالِبِ مُبَايِنٌ لِابْنِهِ فِي الْمَطْعَمِ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَجْلِسِ ، فَإِذَا كَانَ الِاشْتِبَاهُ يَنْدُرُ فِيهِ لَا يُعْتَبَرُ ، فَأَمَّا الِاشْتِبَاهُ قَدْ يَقَعُ بَيْنَ زَوْجَتِهِ وَابْنَتِهِ لِتَقَارُبِهِمَا فِي الْمَطْعَمِ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَجْلِسِ فَلِهَذَا يُعْذَرُ إذَا قَالَ : أَوْهَمْتُ .
( قَالَ : ) وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : هَذِهِ ابْنَتِي وَثَبَتَ عَلَى ذَلِكَ وَلَهَا نَسَبٌ مَعْرُوفٌ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : هِيَ أُمِّي وَلَهُ أُمٌّ مَعْرُوفَةٌ ؛ لِأَنَّهُ مُكَذَّبٌ شَرْعًا فِيمَا أَقَرَّ بِهِ وَتَكْذِيبُ الشَّرْعِ إيَّاهُ أَقْوَى مِنْ تَكْذِيبِهِ نَفْسَهُ ، وَلَوْ كَذَّبَ نَفْسَهُ ، وَقَالَ : أَوْهَمْتُ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا فَكَذَا إذَا أَكْذَبَهُ الشَّارِعُ وَبِهِ فَارَقَ الْعَبْدَ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ كَانَ حُرًّا فَكَذَلِكَ إذَا أَكْذَبَهُ الشَّرْعُ بِأَنْ كَانَ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَالْمَعْنَى مَا قُلْنَا إنَّ إقْرَارَهُ بِنَسَبِ الْعَبْدِ مُصَادِفٌ مِلْكَهُ وَهُوَ مُصَدَّقٌ فِيمَا يُقِرُّ بِهِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ فَيَثْبُتُ بِهِ الْعِتْقُ ، وَإِنْ امْتَنَعَ بِثُبُوتِ النَّسَبِ لِكَوْنِهِ مَعْرُوفَ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ ، فَأَمَّا إقْرَارُهُ بِنَسَبِ امْرَأَتِهِ لَا يُصَادِفُ مِلْكَهُ ابْتِدَاءً ، وَإِنَّمَا يُصَادِفُ الْمَحَلَّ فَيَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ الْمَحَلِّ ثُمَّ يَنْبَنِي عَلَيْهِ انْتِفَاءُ الْمِلْكِ وَهُنَا حُرْمَةُ الْمَحَلِّ لَمْ تَثْبُتْ حِينَ كَانَتْ مَعْرُوفَةَ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ فَلِهَذَا لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةَ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ ، وَمِثْلُهَا يُولَدُ لِمِثْلِهِ وَثَبَتَ عَلَى ذَلِكَ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ، وَلَكِنَّهُ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ حَقِيقَةً إلَّا بِتَصْدِيقِ الْمَرْأَةِ إيَّاهُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ يُعَامَلُ فِي حَقِّهِ وَكَأَنَّ مَا أَقَرَّ بِهِ حَقٌّ ، وَلَكِنْ

لَا يُصَدَّقُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ فَيُجْعَلُ النَّسَبُ فِي حَقِّهِ كَالثَّابِتِ حَتَّى يَنْتَفِيَ مِلْكُهُ عَنْهَا ، وَلَكِنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّهَا إلَّا بِتَصْدِيقِهَا ، فَلَا يَلْزَمُهَا الِانْتِسَابُ إلَيْهِ إلَّا أَنْ تُصَدِّقَهُ فِي ذَلِكَ ، وَإِذَا كَانَ مِثْلُهَا لَا يُولَدُ لِمِثْلِهِ لَمْ يَثْبُتُ النَّسَبُ ، وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ تَكْذِيبَ الْحَقِيقَةِ إيَّاهُ أَقْوَى مِنْ تَكْذِيبِهِ نَفْسَهُ ، وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْعِتْقِ مَا قُلْنَا إنَّ لِإِقْرَارِهِ بِالنَّسَبِ فِي مِلْكِهِ مُوجِبًا فَيُجْعَلُ ذَلِكَ الْإِقْرَارُ كِنَايَةً عَنْ مُوجِبِهِ مَجَازًا ، وَلَيْسَ لِإِقْرَارِهِ بِالنَّسَبِ فِي مِلْكِ النِّكَاحِ مُوجِبٌ مِنْ حَيْثُ الْإِزَالَةُ ، فَلَا يُمْكِنُ إعْمَالُهُ بِطَرِيقِ الْمَجَازِ ، وَأَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُقَالَ : مُوجِبُهُ نَفْيُ أَصْلِ النِّكَاحِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ صَرَّحَ بِذَلِكَ ، وَجُحُودُهُ لِأَصْلِ النِّكَاحِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْفُرْقَةِ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ بِذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : أَرْضَعَتْنِي وَمِثْلُهَا لَا يُرْضِعُ ، وَلَا لَبَنَ لَهَا ، فَإِنَّهُ مُكَذَّبٌ فِي ذَلِكَ حَقِيقَةً فَيَنَزَّلُ فِي ذَلِكَ مَنْزِلَةَ تَكْذِيبِهِ نَفْسَهُ ، فَلِهَذَا لَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .

بَابُ الْإِحْصَانِ ( قَالَ : ) لَا يُحْصِنُ الرَّجُلَ الْمُسْلِمَ إلَّا الْمَرْأَةُ الْحُرَّةُ الْمُسْلِمَةُ إذَا دَخَلَ بِهَا ، هَكَذَا نُقِلَ عَنْ الشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ إذَا تَزَوَّجَ أَمَةً وَدَخَلَ بِهَا لَا يَصِيرُ مُحْصَنًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يُحْصِنُ الْمُسْلِمَ الْيَهُودِيَّةُ ، وَلَا النَّصْرَانِيَّةُ ، وَلَا الْحُرَّ الْأَمَةُ ، وَلَا الْحُرَّةَ الْعَبْدُ } وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ ثُبُوتَ الْإِحْصَانِ يَخْتَصُّ بِالْوَطْءِ بِالنِّكَاحِ حَتَّى لَا يَثْبُتَ بِمِلْكِ الْيَمِينِ ، وَفِي مَعْنَى قَضَاءِ الشَّهْوَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْفَرْقِ أَنَّ الْإِحْصَانَ إنَّمَا يَثْبُتُ بِوُجُودِ الْوَطْءِ بَيْنَ مُسْتَوَى الْحَالِ فِي صِفَةِ الْكَمَالِ ، فَإِنَّ النِّكَاحَ فِي الْعَادَةِ يَكُونُ بَيْنَ مُسْتَوَى الْحَالِ ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمَالِكِ وَالْمَمْلُوكِ ، فَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الْمَعْنَى إذَا وُجِدَ الدُّخُولُ بِالْأَمَةِ بِالنِّكَاحِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْأَمَةِ وَالْحُرِّ ، فَأَمَّا إذَا دَخَلَ بِالْكِتَابِيَّةِ بِالنِّكَاحِ لَمْ يَصِرْ مُحْصَنًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَصِيرُ مُحْصَنًا قِيلَ : هَذَا بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي تُرْوَى عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْكِتَابِيَّةَ مُحْصَنَةٌ ، وَأَنَّهَا تُرْجَمُ إذَا زَنَتْ ، وَقِيلَ : بَلْ هِيَ مَسْأَلَةٌ مُبْتَدَأَةٌ ، فَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ عَلَى الْكِتَابِيَّةِ ، وَعَلَى الْمُسْلِمَةِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ بِدَلِيلِ جَوَازِ نِكَاحِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى الْأُخْرَى وَالْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي الْقَسْمِ وَوِلَايَةِ الْمُبَاشَرَةِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِنَفْسِهَا ، فَكَمَا يَصِيرُ مُحْصَنًا بِالدُّخُولِ بِالْمُسْلِمَةِ ، فَكَذَلِكَ بِالْكِتَابِيَّةِ ، بِخِلَافِ الْأَمَةِ فَإِنَّهُ لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحُرَّةِ فِي حُكْمِ

النِّكَاحِ بَلْ حَالُهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَالِ الْحُرَّةِ ، وَبِخِلَافِ الصَّغِيرَةِ وَالْمَجْنُونَةِ ، فَإِنَّهُ لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْبَالِغَةِ الْعَاقِلَةِ فِي وِلَايَةِ الْمُبَاشَرَةِ ، وَفِي مَعْنَى قَضَاءِ الشَّهْوَةِ لِمَا فِي طَبْعِهِ مِنْ النُّفْرَةِ عَنْ الْمَجْنُونَةِ ، وَحُجَّتُهُمَا مَا رَوَيْنَا ، وَكَذَلِكَ لَمَّا { أَرَادَ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : دَعْهَا فَإِنَّهَا لَا تُحْصِنُكَ } وَلَمَّا أَرَادَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَتَزَوَّجَ يَهُودِيَّةً قَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعْهَا فَإِنَّهَا لَا تُحْصِنُكَ وَلِأَنَّ الرِّقَّ أَثَرٌ مِنْ آثَارِ الْكُفْرِ فَإِذَا كَانَ الْإِحْصَانُ لَا يَثْبُتُ بِوَطْءِ الْأَمَةِ بِالنِّكَاحِ لِمَا فِيهِ مِنْ الرِّقِّ فَلَأَنْ لَا يَثْبُتَ بِوَطْءِ الْكَافِرَةِ أَوْلَى ، وَهَذَا لِأَنَّ مَعْنَى الِازْدِوَاجِ لَا يَتِمُّ مَعَ الِاخْتِلَافِ فِي الدِّينِ فَقَلَّ مَا يَرْكَنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا إلَى صَاحِبِهِ فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الصَّغِيرَةِ وَالْمَجْنُونَةِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الزَّوْجَيْنِ إذَا كَانَا كَافِرَيْنِ لَا يَصِيرَانِ مُحْصَنَيْنِ بِالدُّخُولِ ، وَمَعْنَى الْمُسَاوَاةِ فِيمَا بَيْنَهُمَا أَظْهَرُ ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْإِحْصَانُ بِالْوَطْءِ هُنَاكَ فَلَأَنْ لَا يَثْبُتَ هُنَا كَانَ أَوْلَى

وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمَةُ لَا يُحْصِنُهَا الزَّوْجُ إذَا كَانَ كَافِرًا بِأَنْ أَسْلَمَتْ الْمَرْأَةُ ثُمَّ دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ الْكَافِرُ قَبْلَ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا لَمْ تَصِرْ هِيَ بِهَذَا الدُّخُولِ مُحْصَنَةً فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - عَلَى مَا قُلْنَا ، وَكَذَلِكَ لَا يُحْصِنُهَا الْعَبْدُ وَالْمَجْنُونُ وَغَيْرُ الْبَالِغِ اعْتِبَارًا لِجَانِبِهَا بِجَانِبِهِ ، فَإِنَّ الْإِحْصَانَ عِبَارَةٌ عَنْ كَمَالِ الْحَالِ ، فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِوَطْءٍ مَوْصُوفٍ بِكَوْنِهِ نِعْمَةً كَامِلَةً مِنْ الْجَانِبَيْنِ .
( قَالَ : ) وَجِمَاعُ هَؤُلَاءِ يُحِلُّهَا لِلزَّوْجِ الَّذِي قَدْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا قَبْلَ ذَلِكَ حَتَّى إنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا إذَا كَانَتْ ذِمِّيَّةً فَتَزَوَّجَتْ ذِمِّيًّا ثُمَّ أَسْلَمَتْ فَدَخَلَ بِهَا زَوْجُهَا قَبْلَ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا حَلَّتْ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ بِهَذَا الدُّخُولِ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ صَحِيحٌ بَيْنَهُمَا قَبْلَ تَفْرِيقِ الْقَاضِي ، حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهِمَا ، وَالدُّخُولُ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ يُحِلُّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ .

وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا تَزَوَّجَهَا بِإِذْنِ الْمَوْلَى وَدَخَلَ بِهَا حَلَّتْ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ إصَابَةَ الزَّوْجِ الثَّانِي إنَّمَا كَانَ مَشْرُوعًا لِرَفْعِ الطَّلَقَاتِ مُغَايَظَةً لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِدُخُولِ الْعَبْدِ وَالْكَافِرِ بِهَا كَمَا يَحْصُلُ بِدُخُولِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ بَلْ مَعْنَى الْمُغَايَظَةِ فِي هَذَا أَكْثَرُ ، بِخِلَافِ الْإِحْصَانِ ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْوَطْءِ بِالنِّكَاحِ لِاعْتِبَارِ مَعْنَى كَمَالِ النِّعْمَةِ ، وَالْعَبْدُ وَالْكَافِرُ فِي هَذَا لَيْسَ نَظِيرَ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ .

وَعَلَى هَذَا دُخُولُ الصَّبِيِّ الَّذِي يُجَامِعُ مِثْلُهُ بِالْمَرْأَةِ يُحِلُّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُحِلُّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحِلِّ لِلْأَوَّلِ يَسْتَدْعِي كَمَالَ الْفِعْلِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحْصُلُ بِالْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ ، وَفِعْلُ الصَّبِيِّ دُونَ فِعْلِ الْبَالِغِ فَلِانْعِدَامِ صِفَةِ الْكَمَالِ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْحِلُّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ } وَاسْمُ الزَّوْجِ يَتَنَاوَلُ الصَّبِيَّ كَمَا يَتَنَاوَلُ الْبَالِغَ ثُمَّ هَذَا حُكْمٌ مُخْتَصٌّ بِالْوَطْءِ بِالنِّكَاحِ فَيَتَعَلَّقُ بِوَطْءِ الصَّبِيِّ كَتَقْرِيرِ الْمُسَمَّى وَالْعِدَّةِ وَمَا هُوَ الْمَعْنَى فِيهِ وَهُوَ مُغَايَظَةُ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ حَاصِلٌ أَيْضًا ، فَإِنْ اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا حَتَّى تَذُوقِي مِنْ عُسَيْلَتِهِ } قُلْنَا : لَيْسَ الْمُرَادُ بِذَوْقِ الْعُسَيْلَةِ الْإِنْزَالَ بَلْ هِيَ اللَّذَّةُ ، وَهِيَ تَنَالُ ذَلِكَ بِوَطْءِ الصَّبِيِّ الَّذِي يُجَامِعُ ، وَلِهَذَا يَلْزَمُهَا الِاغْتِسَالُ بِنَفْسِ الْإِيلَاجِ وَبِهِ يَتَبَيَّنُ كَمَالُ فِعْلِ الصَّبِيِّ فِي الْوَطْءِ .

( قَالَ : ) وَكَذَلِكَ فِعْلُ هَؤُلَاءِ يُوجِبُ مِنْ التَّحْرِيمِ مَا يُوجِبُهُ جِمَاعُ الْبَالِغِ الْمُحْصَنِ حَتَّى إنَّ الصَّبِيَّ الَّذِي يُجَامِعُ مِثْلُهُ يَتَعَلَّقُ بِوَطْئِهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ ، وَكَذَا الصَّبِيَّةُ الَّتِي يُجَامَعُ مِثْلُهَا ثَبَتَ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ بِوَطْئِهَا ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُونَ فِيمَا إذَا وَطِئَ صَغِيرَةً لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَثْبُتُ بِهِ حُرْمَةُ الْمُصَاهَرَةِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَثْبُتُ لِوُجُودِ فِعْلِ الْوَطْءِ حَقِيقَةً وَهُوَ كَامِلٌ فِي نَفْسِهِ حَتَّى يَتَعَلَّقَ بِهِ الِاغْتِسَالُ بِالْإِيلَاجِ مِنْ غَيْرِ إنْزَالٍ ، وَيَثْبُتَ بِهِ سَائِرُ أَحْكَامِ الْوَطْءِ أَيْضًا ، وَاعْتُبِرَ الْوَطْءُ بِالْعَقْدِ ، فَكَمَا أَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الصَّغِيرَةِ كَالْعَقْدِ عَلَى الْبَالِغَةِ فِي إيجَابِ الْحُرْمَةِ ، فَكَذَلِكَ الْوَاطِئُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّه تَعَالَى - قَالَا : ثُبُوتُ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ لَيْسَ لِعَيْنِ الْوَطْءِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِالْوَطْءِ فِي غَيْرِ الْمَأْتَى ، وَلَكِنَّ ثُبُوتَهُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْبَعْضِيَّةِ ، وَلَا تَصَوُّرَ لِذَلِكَ إذَا كَانَتْ لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ يُجَامَعُ مِثْلُهَا ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْبَعْضِيَّةِ وَإِنْ كَانَتْ بِاعْتِبَارِ الْمَاءِ فَهُوَ بَاطِنٌ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ فَيُقَامُ السَّبَبُ الظَّاهِرُ مُقَامَهُ ، وَهُوَ بُلُوغُهَا حَدَّ الشَّهْوَةِ ، فَإِذَا كَانَتْ مِمَّنْ يُشْتَهَى أُنْزِلَتْ مَنْزِلَةَ الْبَالِغَةِ فِي ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ بِوَطْئِهَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ لَا تُشْتَهَى .
أَلَا تَرَى أَنَّ إبَاحَةَ هَذَا الْفِعْلِ شَرْعًا لِمَقْصُودِ النَّسْلِ ثُمَّ جَعَلَ بُلُوغَهَا حَدَّ الشَّهْوَةِ فِي حُكْمِ إبَاحَةِ هَذَا الْفِعْلِ قَائِمًا مَقَامَ حَقِيقَةِ الْبُلُوغِ ، فَكَذَلِكَ هُنَا ، بِخِلَافِ وُجُوبِ الِاغْتِسَالِ ، فَإِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِاسْتِطْلَاقِ وِكَاءِ الْمَنِيِّ بِمَعْنَى الْحَرَارَةِ وَاللِّينِ فِي الْمَحَلِّ ، فَلِهَذَا

يَسْتَوِي فِيهِ الَّتِي يُجَامَعُ مِثْلُهَا وَاَلَّتِي لَا يُجَامَعُ ، كَمَا يَسْتَوِي فِيهِ الْفِعْلُ فِي الْمَأْتَى وَغَيْرِ الْمَأْتَى .
.

( قَالَ : ) وَالْخَلْوَةُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ الْبَالِغَيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ وَرَاءَ سِتْرٍ أَوْ بَابٍ مُغْلَقٍ يُوجِبُ الْمَهْرَ وَالْعِدَّةَ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُوجِبُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ } الْآيَةَ وَالْمُرَادُ بِالْمَسِيسِ الْجِمَاعُ هَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُكَنِّي الْقَبِيحَ بِالْحَسَنِ كَمَا كَنَّى بِالْمَسِّ عَنْ الْجِمَاعِ وَلِأَنَّ هَذِهِ خَلْوَةٌ خَلَتْ عَنْ الْإِصَابَةِ ، فَلَا تُوجِبُ الْمَهْرَ وَالْعِدَّةَ كَالْخَلْوَةِ الْفَاسِدَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ تَقَرُّرَ الْبَدَلِ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ بِقَبْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَعْنًى فِي بَاطِنِهَا لَا يَصِيرُ مُسْتَوْفًى إلَّا بِالْآلَةِ الَّتِي تَصِلُ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، فَلَا تَكُونُ الْخَلْوَةُ فِيهَا قَبْضًا كَالْقِصَاصِ ، فَإِنَّ حَقَّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي الْبَاطِنِ لَا يَصِيرُ مُسْتَوْفًى إلَّا بِالْآلَةِ الْجَارِحَةِ فَلَمْ تَكُنْ الْخَلْوَةُ فِيهِ قَبْضًا ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حُكْمُ الرَّجْعَةِ وَبَقَاءُ الْمُطَالَبَةِ بِالْوَطْءِ ، فَإِنَّ الْخَلْوَةَ فِي هَذَيْنِ الْحُكْمَيْنِ لَا تُجْعَلُ كَاسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضِ } نَهَى عَنْ اسْتِرْدَادِ شَيْءٍ مِنْ الصَّدَاقِ بَعْدَ الْخَلْوَةِ ، فَإِنَّ الْإِفْضَاءَ عِبَارَةٌ عَنْ الْخَلْوَةِ ، وَمِنْهُ يُسَمَّى الْمَكَانُ الْخَالِي فَضَاءً ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَائِلِ أَفْضَيْتُ إلَيْهِ بِشَغَرِي أَيْ خَلَوْتُ بِهِ ، وَذَكَرْتُ لَهُ سِرِّي ، وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمُرَادَ بِمَا تَلِي الْمَسِيسَ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ وَهِيَ الْخَلْوَةُ ، وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ كَشَفَ قِنَاعَ امْرَأَتِهِ وَقَبَّلَهَا فَلَهَا الْمَهْرُ كَامِلًا دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ } وَلَمَّا فَرَّقَ عُمَرُ

وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَا بَيْنَ الْعِنِّينِ وَامْرَأَتِهِ أَلْزَمَاهُ كَمَالَ الْمَهْرِ ، وَقَالَا مَا ذَنْبُهُنَّ إنْ جَاءَ الْعَجْزُ مِنْ قِبَلِكُمْ وَعَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى أَنَّهُ قَالَ : مَضَتْ السُّنَّةُ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ مَنْ أَغْلَقَ عَلَى امْرَأَتِهِ بَابًا أَوْ أَرْخَى حِجَابًا كَانَ عَلَيْهِ الْمَهْرُ كَامِلًا دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ، وَلِأَنَّهَا أَتَتْ بِتَسْلِيمِ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهَا بِالْعَقْدِ فَيَتَقَرَّرُ حَقُّهَا فِي الْبَدَلِ كَمَا إذَا وَطِئَهَا الزَّوْجُ .
وَهَذَا لِأَنَّ الْبَدَلَ فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ يَتَقَرَّرُ بِتَسْلِيمِ مَنْ لَهُ الْبَدَلُ لَا بِاسْتِيفَاءِ مَنْ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ إذَا خَلَّى الْبَائِعُ بَيْنَ الْمَبِيعِ وَالْمُشْتَرِي أَوْ خَلَّى الْآجِرُ بَيْنَ الدَّارِ وَالْمُسْتَأْجِرِ فِي الْمُدَّةِ يَتَقَرَّرُ الْبَدَلُ وَإِنْ لَمْ يَسْتَوْفِ ، وَهَذَا لِأَنَّا لَوْ عَلَّقْنَا تَقَرُّرَ الْبَدَلِ بِالِاسْتِيفَاءِ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ قَصْدًا مِنْهُ إلَى الْإِضْرَارِ بِمَنْ لَهُ الْبَدَلُ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ التَّسْلِيمُ فَالْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ عَلَيْهَا مَا فِي وُسْعِهَا ، وَفِي وُسْعِهَا تَسْلِيمُ النَّفْسِ فِي حَالِ زَوَالِ الْمَانِعِ لَا حَقِيقَةِ اسْتِيفَاءِ الْوَطْءِ ، فَإِذَا أَتَتْ بِمَا هُوَ الْمُسْتَحَقُّ تَقَرَّرَ حَقُّهَا فِي الْبَدَلِ عَلَى أَنْ تُقَامَ نَفْسُهَا مُقَامَ حَقِيقَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، كَمَا أَنَّهَا فِي جَوَازِ الْعَقْدِ أُقِيمَتْ نَفْسُهَا مُقَامَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ التَّسْلِيمِ ؛ لِأَنَّ تَقَرُّرَ الْبَدَلِ بِتَسْلِيمٍ مَا بِاعْتِبَارِهِ يُجَوِّزُ الْعَقْدَ ، وَهَذَا بِخِلَافِ حَقِّ الرَّجْعَةِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ حَقِّ الزَّوْجِ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ حَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ فَهُوَ الَّذِي أَبْطَلَ حَقَّ نَفْسِهِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ وُجُوبِ الْعِدَّةِ ثُبُوتُ الرَّجْعَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ بِالْمَوْتِ يَتَقَرَّرُ الْمَهْرُ وَالْعِدَّةُ وَلَيْسَ فِيهِ تَصَوُّرُ الرَّجْعَةِ ، وَمُطَالَبَتُهَا

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96