كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي

قَالَ فَإِنْ كَانَتْ الْهِبَةُ دَارًا فَقَبَضَهَا ، ثُمَّ مَاتَ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَهَا : جَازَتْ الْهِبَةُ فِي ثُلُثِهَا وَرَدَّ الثُّلُثَيْنِ إلَى الْوَرَثَةِ .
( وَكَذَلِكَ ) سَائِرُ مَا يُقْسَمُ وَمَا لَا يُقْسَمُ ، إلَّا فِيمَا لَا يَنْقَسِمُ فَلَا إشْكَال ، وَأَمَّا فِيمَا يُقْسَمُ ؛ فَلِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ مَلَكَ الْكُلّ بِالْقَبْضِ ، ثُمَّ بَطَلَ مِلْكُهُ فِي الثُّلُثَيْنِ بَعْدَ مَوْتِهِ إذَا لَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ فَكَانَ هَذَا شُيُوعًا طَارِيًا فِيمَا بَقِيَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَ الدَّارِ ؛ فَإِنَّهُ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْمُسْتَحَقّ بِالْقَبْضِ ، وَقَدْ بَطَلَ الْعَقْدُ فِيهِ مِنْ الْأَصْلِ ، فَلَوْ جَازَ فِي الْبَاقِي : كَانَ شَائِعًا فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ؛ وَذَلِكَ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْمِلْكِ بِالْهِبَةِ .

قَالَ : فَإِنْ كَانَتْ الْهِبَةُ جَارِيَةً ، فَكَاتِبُهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ ، ثُمَّ مَاتَ الْمَرِيضُ ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَهَا ، فَعَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ ثُلُثًا قِيمَتِهَا لِلْوَرَثَةِ ، وَلَا تُرَدُّ الْكِتَابَةُ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ مِنْهُ صَحِيحَةٌ لَازِمَةٌ ، لِكَوْنِهِ مَالِكًا لَهَا حِينَ كَانَتْ ، فَمَا دَامَتْ بَاقِيَةً لَا تَحْتَمِلُ النَّقْلَ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ ؛ وَلِأَنَّ فِي رَدِّ ثُلُثِهَا عَلَى الْوَرَثَةِ إبْطَالُ الْحَقِّ الثَّابِتِ لَهَا فِي نَفْسِهَا وَكَسْبِهَا ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، وَإِنْ تَعَذَّرَ رَدُّ عَيْنِهَا بِسَبَبٍ بَاشَرَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ كَانَ ضَامِنًا لِلْوَرَثَةِ قِيمَةَ حِصَّتِهِمْ مِنْهَا ، كَمَا لَوْ كَانَ أَعْتَقَهَا أَوْ دَبَرَهَا ، فَإِنْ قَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِثُلُثَيْ قِيمَتِهَا ، ثُمَّ عَجَزَتْ الْمُكَاتَبَةُ لَمْ يَكُنْ لِلْوَرَثَةِ عَلَيْهَا سَبِيلٌ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِي قَضَى بِالْقِيمَةِ ، وَالسَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْقَضَاءِ بِهِ - وَهُوَ الْعَجْزُ عَنْ رَدِّ الْعَيْنِ - يَتَحَقَّقُ فَانْتَقَلَ حَقُّهُمْ إلَى الْقِيمَةِ ، ثُمَّ لَا يَعُودُ فِي الْعَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ بِزَوَالِ الْعَجْزِ - كَالْمَغْصُوبِ إذَا عَادَ مِنْ إبَاقِهِ بَعْدَ مَا قَضَى الْقَاضِي بِقِيمَتِهِ عَلَى الْغَاصِبِ - وَإِذَا عَجَزَتْ قَبْلَ الْقَضَاءِ أَخَذُوا ثُلُثَيْهَا ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ زَوَالٌ قَبْلَ انْتِقَالِ حَقِّهِمْ مِنْ عَيْنِهَا إلَى مَحِلٍّ آخَرَ ، فَهُوَ كَالْمَغْصُوبِ إذَا عَادَ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ .
( وَكَذَلِكَ ) إنْ كَاتَبَهَا بَعْدَ مَوْتِ الْمَرِيضِ ( فَالْجَوَابُ ) عَلَى مَا تَقَدَّمَ مَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِثُلُثَيْهَا لِلْوَرَثَةِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْهُوبِ لَهُ بَانَ بِبَقَاءِ قَبْضِهِ ، وَإِذَا فَسَدَ السَّبَبُ مَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالرَّدِّ ، فَإِنْ قَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ عَادَ الْمِلْكُ لَهُ فِي ثُلُثَيْهَا إلَى الْوَرَثَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَإِنْ أَعْتَقَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ عِتْقِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ الْجَارِيَة الْمُشْتَرَكَة ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْعِتْقِ .

قَالَ : مَرِيضٌ وَهَبَ لِمَرِيضٍ عَبْدًا وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ فَأَعْتَقَهُ ، وَلَيْسَ لِوَاحِدِ مِنْهُمَا مَال غَيْره ، ثُمَّ مَاتَ الْوَاهِبُ ، ثُمَّ مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ ، قَالَ : يَسْعَى الْعَبْدُ فِي ثُلُثِي قِيمَتِهِ لِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ ؛ لِأَنَّ عِتْقَ الْمَوْهُوبِ لَهُ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ ، فَيَتَأَخَّرُ عَنْ الدَّيْنِ ، وَثُلُثًا قِيمَتِهِ دَيْنٌ لِوَرَثَةِ الْوَاهِبِ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ ؛ فَإِنَّهُ أَتْلَفَ عَلَيْهِمْ حَقَّهُمْ فِي ثُلُثَيْ الْعَبْدِ بِالْإِعْتَاقِ ، فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَسْعَى فِي ذَلِكَ لَهُمْ ، وَإِنَّمَا بَقِيَ مَالُ الْمَوْهُوبِ لَهُ ثُلُث رَقَبَتِهِ فَسَلَّمَ لَهُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ ثُلُث هَذَا الثُّلُثِ ، وَيَسْعَى فِي ثُلُثَيْ هَذَا الثُّلُثِ لِوَرَثَةِ الْمَوْهُوب لَهُ ، وَكَانَ جَمِيعُ مَا عَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي ثَمَانِيَةِ أَتْسَاعٍ قِيمَتُهُ ، وَإِنَّمَا يُسَلِّمُ لَهُ التُّسْع ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ دَيْن أَلْف دِرْهَمٍ ، وَقِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفُ دِرْهَمٍ سَعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَتِهِ يَضْرِبُ فِيهَا غَيْرَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ بِدَيْنِهِمْ ، وَوَرَثَةُ الْوَاهِبِ بِثُلُثَيْ قِيمَةِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الْمَوْهُوبِ لَهُ مُحِيطٌ بِتَرِكَتِهِ ، فَعَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَةُ فِي جَمِيعِ الْقِيمَةِ ؛ لِرَدِّ الْوَصِيَّةِ ، ثُمَّ هَذِهِ الْقِيمَةُ تَرِكَةُ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَيَضْرِبُ فِيهَا غُرَمَاؤُهُ بِدُيُونِهِمْ ، وَدَيْنُ وَرَثَةِ الْوَاهِبِ عَلَيْهِ ثُلُثًا قِيمَتِهِ ، وَدَيْنُ الْغَرِيمِ الْآخَرِ أَلْفٌ ، فَتُقْسَمُ التَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا بِالْحِصَّةِ .

قَالَ : مَرِيضٌ وَهَبَ لِمَرِيضٍ عَبْدًا وَهُوَ ثُلُثُ مَالِهِ ، وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ ، ثُمَّ إنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ قَتَلَ الْوَاهِبَ فِي مَرَضِهِ : فَالْهِبَةُ مَرْدُودَةٌ إلَى وَارِثِهِ ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ فِي الْمَرَضِ فِي حُكْمِ التَّنْفِيذِ مُعْتَبَرٌ بِالْوَصِيَّةِ ؛ وَلِهَذَا يَنْفُذُ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ الدَّيْنِ ، وَلَا وَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ عِنْدَ عَدَمِ إجَازَةِ الْوَرَثَةِ ، فَكَذَلِكَ الْهِبَةُ فِي الْمَرَضِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ بُطْلَانَ الْوَصِيَّةِ لِلْقَاتِلِ لِدَفْعِ الْمُعَاضَلَةِ عَنْ الْوَرَثَةِ حَتَّى لَا يُزَاحِمَهُمْ قَاتِلُ أَبِيهِمْ فِي مَالِ أَبِيهِمْ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيمَا وَهَبَهُ فِي مَرَضِهِ .

قَالَ : رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ عَبْدًا فِي مَرَضِهِ ، وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ ، ثُمَّ إنَّ الْعَبْدَ قَتَلَ الْوَاهِبَ يُقَالُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ : ادْفَعْهُ ، أَوْ افْدِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ مَلَكَ الْعَبْدَ بِالْقَبْضِ ؛ فَإِنَّمَا جَنَى عَلَى الْوَاهِبِ مِلْكُهُ ، وَفِي جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ خَطَأٌ عَلَى غَيْرِ الْمَالِكِ يُخَاطَبُ الْمَالِكُ بِالدَّفْعِ ، أَوْ الْفِدَاءِ - كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى إنْسَانٍ آخَرَ - وَدَلِيلُ تَمَامِ مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ : أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ جَارِيَةً حَلَّ لَهُ وَطْؤُهَا بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فِدَاؤُهُ بِعَشَرَةِ آلَافٍ ؛ لِأَنَّ الْفِدَاءَ بِأَرْشِ الْجِنَايَةِ ، وَهُوَ دِيَةُ النَّفْسِ ، ثُمَّ بَدَّلَ نَفْس الْوَاهِبِ بِمَنْزِلَةِ مَالٍ خَلْفَهُ حَتَّى يَقْضِيَ مِنْهُ دُيُونَهُ ، وَتَنْفُذُ وَصَايَاهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ مَالَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ إحْدَى عَشَرَ أَلْفًا ، وَأَنَّ الْعَبْدَ خَارِجٌ مِنْ ثُلُثِهِ وَزِيَادَةٌ ، فَكَانَتْ الْهِبَةُ صَحِيحَةً فِي جَمِيعِهِ ، وَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ دَفَعَهُ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَتَخَلَّصُ عَنْ عُهْدَةِ الْجِنَايَةِ بِدَفْعِ الْجَانِي ، وَلَمْ يُبَيِّنْ كَيْفِيَّةَ الدَّفْعِ هُنَا ، وَإِنَّمَا بَيَّنَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الدُّورِ فَقَالَ يَدْفَعُ نِصْفَهُ إلَيْهِمْ عَلَى وَجْهِ رَدِّ الْهِبَةِ وَنِصْفَهُ عَلَى وَجْهِ الدَّفْعِ لِلْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ تَجُوزُ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ جَوَازُ الْهِبَةِ فِي ثُلُثِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مَالَ لِلْوَاهِبِ سِوَاهُ ، وَلَكِنْ لِضَرُورَةِ الدُّورِ جَوَّزَ الْهِبَةَ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ وَبَيَانُ ذَلِكَ : إنَّمَا يُجْعَلُ الْعَبْدُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ ، وَتَجُوزُ الْهِبَةُ فِي سَهْمٍ ، وَتَبْطُلُ فِي سَهْمَيْنِ ، ثُمَّ يَدْفَعُ الْمَوْهُوبُ لَهُ هَذَا السَّهْمَ بِالْجِنَايَةِ فَيَزْدَادُ مَالُ الْوَاهِبِ ، وَيَجِبُ بِحِسَابِهِ الزِّيَادَة فِي تَنْفِيذِ الْهِبَةِ ، وَإِذَا زِدْنَا فِي تَنْفِيذِ الْهِبَةِ يَزْدَادُ مَالُهُ بِالدَّفْعِ بِالْجِنَايَةِ أَيْضًا ، فَلَا يَزَالُ يَدُورُ

هَكَذَا ، وَسَهْمُ الدُّورِ سَاقِطٌ ؛ لِأَنَّهُ شَاعَ بِالْفَسَادِ ، فَالسَّبِيلُ يُقَيَّدُ ، وَإِنَّمَا يُطْرَحُ هَذَا السَّهْمُ مِنْ قِبَلِ مَنْ خَرَّجَ الدُّورَ مِنْ جِهَتِهِمْ ، وَإِنَّمَا الدُّورُ هُنَاكَ بِزِيَادَةٍ ظَهَرَتْ فِي نَصِيبِ الْوَرَثَةِ ، فَالسَّبِيلُ أَنْ تُطْرَحَ مِنْ أَصْلِ حَقِّهِمْ بَيْنَهُمَا ، وَحَقُّ الْمَوْهُوبِ لَهُ فِي سَهْمٍ وَبِهِ يَظْهَرُ أَنَّ الْعَبْدَ يَكُونُ فِي الْأَصْلِ عَلَى سَهْمَيْنِ تَنْفُذُ الْهِبَةُ فِي أَحَدِهِمَا ، وَهُوَ النِّصْفُ ، ثُمَّ يَدْفَعُ الْمَوْهُوبُ لَهُ ذَلِكَ السَّهْمَ بِالْجِنَايَةِ فَسَلَّمَ لِلْوَرَثَةِ سَهْمَانِ ، وَقَدْ نَفَذَ بِالْوَصِيَّةِ فِي سَهْمٍ فَاسْتَقَامَ الثُّلُثُ ، وَالثُّلُثَانِ وَالْعَبْدُ ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا فِي الصُّورَةِ ، فَفِي الْحُكْمِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ وَنِصْفٍ ، فَكَانَ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ ، وَلَمَّا بَطَلَتْ الْهِبَةُ فِي النِّصْفِ بِالرَّدِّ سَقَطَ حُكْمُ الْجِنَايَةِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ جِنَايَةَ الْمَمْلُوكِ عَلَى مَالِكِهِ خَطَأٌ وَاعْتُبِرَ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ ، وَقَدْ دَفَعَهُ الْمَالِكُ بِالْجِنَايَةِ ؛ فَلِهَذَا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ سِوَاهُ .

قَالَ : وَإِذَا رَجَعَ الْوَاهِبُ فِي هِبَتِهِ ، وَالْمَوْهُوبُ لَهُ مَرِيضٌ ، وَقَدْ كَانَتْ الْهِبَةُ فِي الصِّحَّةِ فَإِنْ كَانَ بِقَضَاءِ قَاضٍ فَالرُّجُوعُ فِيهِ صَحِيحٌ ، وَلَا سَبِيلَ لِغُرَمَاءِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَوَرَثَتُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى الْوَاهِبِ ؛ لِأَنَّ الْوَاهِبَ يَسْتَحِقُّهُ بِحَقٍّ سَابِقٍ لَهُ عَلَى حَقِّهِمْ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ ، كَانَ رَدُّ الْمَرِيضِ لَهَا حِينَ طَلَبَ الْوَاهِبُ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ هِبَةٍ جَدِيدَةٍ مِنْ الْمَرِيضِ ؛ فَيَكُونُ مِنْ الثُّلُثِ إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ : أَبْطَلَ ذَلِكَ الرُّجُوعَ ، وَرُدَّتْ الْهِبَةُ إلَى تَرِكَةِ الْمَيِّتِ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ مَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ ، وَالْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ .
وَوَجْهُهُ : أَنَّهُ بِالرَّدِّ بِاخْتِيَارِهِ ، وَرِضَاهُ قَصَدَ إبْطَال حَقِّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ عَنْهُ بَعْدَ تَعَلُّقِ حَقِّهِمْ بِهِ ، يُوَضِّحُهُ : أَنَّ حَقَّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ ضَعِيفٌ حَتَّى يَتَمَكَّنَ الْمَوْهُوبُ لَهُ مِنْ إسْقَاطِهِ بِتَصَرُّفِهِ فَإِذَا اتَّصَلَ قَضَاءُ الْقَاضِي بِهِ يَقْوَى فَيَقْدَمُ عَلَى حَقِّ غُرَمَاءِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَوَرَثَته ؛ لِقُوَّتِهِ ، وَإِذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْقَضَاءُ يُقَدِّم حَقّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ عَلَى حَقّه ؛ لِقُوَّةِ حَقِّهِمْ ، وَضَعْفِ حَقِّ الْوَاهِبِ .

قَالَ : مَرِيضٌ لَهُ عَبْدٌ يُسَاوِي خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ وَهَبَهُ لِرَجُلٍ ، وَقَبَضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ ، ثُمَّ إنَّ الْعَبْدَ قَتَلَ الْمَرِيضَ خَطَأً ؛ فَإِنَّهُ يُقَالُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ : ادْفَعْهُ ، أَوْ افْدِهِ ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مَالِكٌ لِلْعَبْدِ حِينَ جَنَى فَإِنْ اخْتَارَ الدَّفْعَ فَقَدْ بَيَّنَّا التَّخْرِيجَ ، وَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَدَاهُ بِالدِّيَةِ ، وَسَلَّمَ لَهُ الْعَبْدَ كُلَّهُ ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ بَدَلَ نَفْسِ الْوَاهِبِ بِمَنْزِلَةِ مَالٍ خَلَّفَهُ فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ مَالَ خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفًا ، وَقِيمَة الْعَبْدِ خَمْسَةُ آلَافٍ ، فَهُوَ خَارِجٌ مِنْ ثُلُثِهِ ؛ فَلِهَذَا تَنْفُذُ الْهِبَةُ فِي جَمِيعِهِ ، وَإِذَا ظَهَرَ نُفُوذُ الْهِبَةِ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ ظَهَرَ أَنَّ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ دِيَة كَامِلَة لِلْوَرَثَةِ بِاخْتِيَارِهِ فَإِنْ كَانَ يُسَاوِي سِتَّةَ آلَافِ دِرْهَمٍ ، وَاخْتَارَ الْفِدَاءَ ؛ فَإِنَّهُ يَرُدُّ عَلَى وَرَثَةِ الْوَاهِبِ رُبْعَهُ ، وَيُفْدِي مَا بَقِيَ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ .
وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي كِتَابِ الدُّورِ طَرِيقًا فِي تَخَرُّجِ هَذَا الْجِنْسِ مِنْ الْمَسَائِلِ - هُوَ أَسْهَلَ الطُّرُقِ - قَالَ : وَلَوْ كَانَ لِلْوَاهِبِ سِوَى أَلْفَيْ دِرْهَمٍ كَانَتْ الْهِبَةُ صَحِيحَةً فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَ الْفِدَاءِ يُؤَدِّي الدِّيَةَ عَشْرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ ، فَيُسَلِّمُ ذَلِكَ لِلْوَرَثَةِ مَعَ الْأَلْفَيْنِ ، فَيَكُونُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا ، وَقَدْ نَفَذَ بِالْهِبَةِ فِي الْعَبْدِ ، وَهُوَ يُسَاوِي سِتَّةَ آلَافِ ، فَيُسَلِّمُ لِلْوَرَثَةِ ضِعْف مَا نَفَّذْنَا فِيهِ الْهِبَةَ ، فَإِذَا عَدِمْنَا الْأَلْفَيْنِ تَعَذَّرَ عَلَيْنَا تَنْفِيذُ الْهِبَةِ فِي جَمِيعِ الْعَبْدِ ، فَالسَّبِيلُ أَنْ يَضُمّ مَا عَدِمْنَا - وَهُوَ الْأَلْفَانِ - إلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ - وَهُوَ سِتَّةُ آلَافٍ - ثُمَّ يَبْطُلُ مِنْ الْهِبَةِ بِقَدْرِ مَا عَدِمْنَا ، وَتَجُوزُ بِقَدْرِ الْمَوْجُودِ ، وَاَلَّذِي عَدِمْنَا مِنْ الْجُمْلَةِ مِقْدَارُ الرُّبْعِ ، فَتَبْطُلُ الْهِبَةُ فِي رُبْعِ الْعَبْد ، وَيَجُوزُ هُنَا ، وَقِيمَةُ ذَلِكَ أَرْبَعَةُ آلَافٍ

وَخَمْسُمِائَةٍ ، ثُمَّ يُفْدَى ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ ؛ وَذَلِكَ سَبْعَةُ آلَافٍ ، وَخَمْسُمِائَةٍ فَيُسَلِّمُ ذَلِكَ لِلْوَرَثَةِ مَعَ رُبْعِ الْعَبْدِ - وَقِيمَتُهُ أَلْفٌ وَخَمْسُمِائَةٍ - وَجُمْلَةُ ذَلِكَ تِسْعَةُ آلَافٍ ، وَقَدْ نَفَّذْنَا الْهِبَةَ فِي نِصْفِ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ آلَافٍ وَخَمْسَمِائَةٍ فَيَسْتَقِيمُ الثُّلُثُ ، وَالثُّلُثَانِ ، فَهَذَا طَرِيقٌ ظَاهِرٌ مِنْ غَيْرِ دُورٍ .
فَأَمَّا بَيَانُ طَرِيقِ الدُّورِ : أَنَّ الْعَبْدَ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ صَحَّتْ الْهِبَةُ فِي سَهْمٍ مِنْهُ ، ثُمَّ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ أَنْ يَفْدِي السَّهْمَ بِمِثْلِهِ وَمِثْل ثُلُثَيْهِ ، فَعَرَفْنَا أَنَّ كُلَّ سَهْمٍ مِنْ الْعَبْدِ يُقَابِلُهُ مِنْ الدِّيَةِ مِثْلَهُ ، وَمِثْلَ ثُلُثَيْهِ ، فَإِذَا فَدَاهُ بِسَهْمٍ وَثُلُثَيْنِ ازْدَادَ مَالُ الْوَرَثَةِ ، وَجَاءَ الدُّورُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قَرَّرْنَا ، فَالسَّبِيلُ أَنْ يَطْرَحَ مِنْ أَصْلِ حَقِّ الْوَرَثَةِ مِقْدَارَ الزِّيَادَةِ ، وَهُوَ سَهْمٌ ، وَثُلُثَا سَهْمٍ ، وَقَدْ كَانَ حَقُّهُمْ فِي سَهْمَيْنِ فَإِذَا طَرَحْنَا سَهْمًا ، وَثُلُثَيْ سَهْمٍ بَقِيَ حَقُّهُمْ فِي ثُلُثِ سَهْمٍ وَحَقُّ الْمَوْهُوبِ لَهُ فِي سَهْمٍ ، فَيَكُونُ الْعَبْدُ عَلَى سَهْمٍ ، وَثُلُثٍ انْكَسَرَ بِالْإِثْلَاثِ فَأَصْرِفهُ فِي ثُلُثِهِ ، وَسَهْم وَثُلُث فِي ثُلُثِهِ يَكُونُ أَرْبَعَةً فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْعَبْدَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ ، وَأَنَّ الْهِبَةَ تَنْفُذُ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ فَيُقَدَّرُ ذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الدِّيَةِ ، ثُمَّ التَّخْرِيجُ إلَى آخِرِهِ كَمَا بَيَّنَّا ، وَتَخْرُجُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى طَرِيقِ الْحِسَابِ مِنْ الْجَبْرِ ، وَالْمُقَابِلَةِ ، وَغَيْرِهَا .
وَلَكِنْ يُؤَخَّرُ بَيَانُ ذَلِكَ إلَى كِتَابِ الدُّورِ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ وَأَخَوَاتُهَا تَعُودُ هُنَاكَ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - .

قَالَ : وَأَهْلُ الذِّمَّةِ فِي حُكْمِ الْهِبَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ بِالْخَمْرِ عَنْ الْهِبَةِ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ ، وَالذِّمِّيِّ ، سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْلِمُ هُوَ الْمُعَوِّضُ لِلْخَمْرِ أَوْ الذِّمِّيّ ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ تَمْلِيكِهِ ، وَتَمَلُّكِهَا ، فَهِيَ فِي حَقِّهِ - كَالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ - لَا تَصْلُحُ عِوَضًا .
قَالَ : وَإِنْ صَارَتْ الْخَمْرُ خَلًّا فِي يَدِ الْقَابِضِ لَمْ تَصِرْ مُعَوَّضًا ، وَيَرُدُّهُ إلَى صَاحِبِهَا ؛ لِأَنَّ تَمْلِيكَهَا عَلَى وَجْهِ التَّعْوِيضِ بَاطِلٌ ، فَتَثْبُتُ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهَا فَإِذَا تَخَلَّلَتْ كَانَ الْخَلُّ مَمْلُوكًا لَهُ مَرْدُودًا عَلَيْهِ ، وَأَصْلُ التَّعْوِيضِ لَمَّا بَطَلَ لَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا بِالتَّخَلُّلِ ، كَمَا لَوْ بَاعَ خَمْرًا مِنْ إنْسَانٍ فَتَخَلَّلَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي .
وَتَجُوزُ الْمُعَاوَضَةُ بِالْخَمْرِ ، وَالْخِنْزِيرِ فِيمَا بَيْنَ الذِّمِّيِّينَ ، كَمَا يَجُوزُ - ابْتِدَاءً - الْمُبَايَعَةُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِمْ ، وَلَا يَجُوزُ بِالْمَيْتَةِ وَالدَّمِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ فِي حَقِّهِمْ ، كَمَا فِي حَقِّنَا .
وَصِحَّةُ التَّعْوِيضِ تَخْتَصُّ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ .

قَالَ : مُسْلِمٌ وَهَبَ لِمُرْتَدٍّ هِبَةً فَعَوَّضَهُ مِنْهَا الْمُرْتَدُّ ، ثُمَّ قُتِلَ ، أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ : جَازَتْ الْهِبَةُ ، وَلَمْ يَجُزْ تَعْوِيضُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ التَّعْوِيضَ تَصَرُّفٌ مِنْ الْمُرْتَدِّ فِي مَالِهِ ، وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ تَصَرُّفَ الْمُرْتَدِّ فِي مَالِهِ يَبْطُلُ إذَا قُتِلَ أَوْ مَاتَ ، أَوْ أُلْحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ، وَأَمَّا هِبَةُ الْمُسْلِمِ مِنْ الْمُرْتَدِّ صَحِيحَةٌ ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الْهِبَةِ مِنْ الْمُرْتَدِّ لَيْسَ بِتَصَرُّفٍ فِي مَالِهِ ، وَالْحَجْرُ بِسَبَبِ الرِّدَّةِ لَا يَكُونُ فَوْقَ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الرِّقِّ ؛ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الْهِبَةِ ، فَهَذَا أَوْلَى ، إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ لِلْوَاهِبِ حَقُّ الرُّجُوعِ فِي حَالِ حَيَاةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ ، وَقَدْ مَاتَ حَقِيقَةً ، أَوْ حُكْمًا - بِلَحَاقِهِ بِدَارٍ الْحَرْبِ - فَكَانَتْ الْهِبَةُ جَائِزَةً ، وَقَدْ بَطَلَ التَّعْوِيضُ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعْوِيضُهُ صَحِيحٌ كَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ إلَّا أَنَّ عِنْد أَبِي يُوسُفَ يَكُونُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ مِنْ ثُلُثِهِ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّعِ فَإِنْ كَانَ الْمُرْتَدُّ هُوَ الْوَاهِبُ ، وَقَدْ عَوَّضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ مِنْ هِبَتِهِ ، ثُمَّ قُتِلَ ، أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ؛ فَإِنَّهُ يَرُدُّ هِبَتَهُ إلَى وَرَثَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ تَصَرُّفًا مِنْهُ فِي مَالِهِ ، وَإِذَا كَانَ تَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ بَيْعًا يَبْطُل عِنْدَهُ إذَا مَاتَ فَتَصَرُّفه هِبَةٌ أَوْلَى ، فَتُرَدُّ هِبَتُهُ إلَى وَرَثَتِهِ ، وَيُرَدُّ عِوَضُهُ إلَى صَاحِبِهِ إنْ كَانَ قَائِمًا ، وَإِنْ كَانَ قَدْ اسْتَهْلَكَهُ كَانَ ذَلِكَ دَيْنًا فِي مَالِ الْمُرْتَدِّ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ عَلَى وَجْهِ الْعِوَضِ ، وَلَمْ يُسَلِّمْ الْمَوْهُوب لِلْمَوْهُوبِ لَهُ ، فَلَا يُسَلِّمُ الْعِوَضُ لَهُ أَيْضًا ، وَلَكِنْ إنْ كَانَ قَائِمًا رَدَّهُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ بِعَيْنِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا فَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلرَّدِّ ، فَتَجِبُ

قِيمَتُهُ دَيْنًا فِي مَالِهِ - سَوَاءٌ كَانَ الْآخَرُ عَلِمَ بِارْتِدَادِهِ ، أَوْ لَمْ يُعْلَمْ - ؛ لِأَنَّ حُكْمَ تَصَرُّفِ الْمُرْتَدِّ لَا يَخْتَلِفُ بِعِلْمِ مَنْ عَامَلَهُ بِرِدَّتِهِ ، وَجَهِلَهُ ؛ فَإِنَّ التَّوَقُّفَ لَحِقَ الْوَرَثَة ، وَحَقُّهُمْ ثَابِتٌ فِي الْحَالَيْنِ .

قَالَ : وَإِذَا وَهَبَ الْمُرْتَدُّ لِلنَّصْرَانِيِّ هِبَةً ، أَوْ النَّصْرَانِيُّ لِلْمُرْتَدِّ عَلَى أَنَّ عَوَّضَهُ عَنْهَا خَمْرًا : فَذَلِكَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ فِي حُكْمِ التَّصَرُّفِ فِي الْخَمْرِ كَالْمُسْلِمِ ؛ فَإِنَّهُ مُجْبَرٌ عَلَى الْعَوْدِ إلَى الْإِسْلَامِ غَيْر مُقِرٍّ عَلَى مَا اعْتَقَدَهُ فَيَبْطُلُ تَصَرُّفُهُ فِي الْخَمْرِ تَعْوِيضًا عَنْ الْهِبَةِ كَمَا يَبْطُلُ مِنْ الْمُسْلِمِ .

قَالَ : وَإِذَا وَهَبَ الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَن هِبَةً لِمُسْلِمٍ أَوْ وَهَبَهَا لَهُ مُسْلِمٌ فَقَبَضَهَا ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ، ثُمَّ عَادَ مُسْتَأْمَنًا : فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ ؛ لِبَقَاءِ الْمِلْكِ الْمُسْتَفَادِ بِالْهِبَةِ ، وَبَقَاء الْعَيْنِ عَلَى حَالِهِ ؛ فَإِنَّ الْمُسْتَأْمَنَ ، وَإِنْ كَانَ فِي دَارِنَا صُورَةً فَهُوَ فِي أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ حُكْمًا ، فَلَا يَتَبَدَّلُ مِلْكُهُ بِالرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ، وَإِنْ سُبِيَ وَأُخِذَتْ الْهِبَةُ مِنْهُ : لَمْ يَكُنْ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا ؛ لِزَوَالِ الْمِلْكِ الْمُسْتَفَادِ بِالْهِبَةِ ؛ فَإِنَّ نَفْسَهُ بِالسَّبْيِ قَدْ تَبَدَّلَتْ ، وَخَرَجَ هُوَ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلْمِلْكِ ، وَالْمَوْهُوبُ صَارَ مِلْكًا لِلسَّابِي - بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ أَمْوَالِهِ - إذَا أَخَذَهُ مَعَهُ ، فَلَا سَبِيلَ لِلْوَاهِبِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ حَضَرَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِ مَا بَقِيَ ، وَوَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ ، وَهَذَا مَالٌ أَزَالَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِاخْتِيَارِهِ ، فَلَا يَأْخُذهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ ، وَإِنْ حَضَرَ قَبِلَ الْقِسْمَةِ .

قَالَ : وَإِنْ وَقَعَ الْحَرْبِيُّ فِي سَهْمِ رَجُلٍ فَأَعْتَقَهُ ، ثُمَّ ، وَصَلَتْ تِلْكَ الْهِبَةُ إلَيْهِ - بِشِرَاءٍ ، أَوْ غَيْرِهِ - لَمْ يَكُنْ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ هَذَا مِلْكٌ حَادِثٌ لَهُ ، وَحَقُّ الْوَاهِبِ كَانَ فِي الْمِلْكِ الْمُسْتَفَادِ بِالْهِبَةِ ، فَلَا يَثْبُتُ فِي مِلْكٍ حَدَثَ بِسَبَبِ آخَرَ ، وَصَارَ اخْتِلَافُ سَبَبِ الْمِلْكِ كَاخْتِلَافِ الْعَيْنِ .

قَالَ : وَإِنْ كَانَ الْحَرْبِيُّ هُوَ الْوَاهِبُ فَسُبِيَ وَوَقَعَ فِي سَهْمِ رَجُلٍ : لَمْ يَكُنْ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ ؛ لِأَنَّ نَفْسَهُ تَبَدَّلَتْ بِالرِّقِّ ؛ وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ ؛ فَإِنَّ الْحُرِّيَّةَ حَيَاةٌ ، وَالرِّقّ تَلَفٌ ، وَبِمَوْتِ الْوَاهِبِ يَبْطُلُ الْحَقُّ فِي الرُّجُوعِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ رَجَعَ كَانَ مُعِيدًا لِلْعَيْنِ إلَى مِلْكِ مَوْلَاهُ لَا إلَى مِلْكِ نَفْسِهِ ، وَبِالْهِبَةِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ مِلْكِ مَوْلَاهُ ، وَكَذَلِكَ إنْ أُعْتِق لَا يَسْتَطِيعُ الرُّجُوعَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ حَقَّ الرُّجُوعِ قَدْ بَطَلَ - بِتَبَدُّلِ نَفْسِهِ كَمَا قُلْنَا - وَالسَّاقِطُ مِنْ الْحَقِّ يَكُونُ مُتَلَاشِيًا لَا يُتَصَوَّرُ عَوْدُهُ .

قَالَ : حَرْبِيٌّ وَهَبَ لِحَرْبِيٍّ هِبَةً ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَهْلُ الدَّارِ ، أَوْ أَسْلَمَا جَمِيعًا ، وَخَرَجَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ : فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ لِبَقَاءِ الْمِلْكِ الْمُسْتَفَادِ بِالْهِبَةِ ؛ فَإِنَّ بِالْإِسْلَامِ يَتَأَكَّدُ الْمِلْكُ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ وَلَا يَتَبَدَّلُ ، وَكَذَلِكَ الْعَيْنُ عَلَى حَالِهِ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَإِنْ كَانَ عَوَّضَهُ مِنْ هِبَتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا لِحُصُولِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ لَهُ بِالْهِبَةِ ، وَهُوَ وُصُولُ الْعِوَضِ إلَيْهِ .
تَمَّ كِتَابُ الْهِبَةِ ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : انْتَهَى شَرْحُ الصِّفَارِ مِنْ الْفُرُوعِ مِنْ الِاسْتِحْسَانُ إلَى الْبُيُوعِ ، بِالْمُؤْثَرِ مِنْ الْمُعَانِي مَعَ الْخَبَرِ الْمَسْمُوعِ بِإِمْلَاءِ الْمُلْتَمِسِ لِرَفْعِ الْبَاطِلِ الْمَوْضُوعِ ، الْمَنْفِيّ لِأَجْلِهِ الْمَحْصُورِ الْمَمْنُوعِ عَنْ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ وَالْكِتَاب الْمَجْمُوع الطَّالِب لِلْفَرَجِ بِالدُّعَاءِ وَالْخُشُوعِ فِي ظُلَمِ اللَّيَالِي بِالْبُكَاءِ { وَالدُّمُوعِ } ، مَقْرُونًا بِالصَّلَاةِ عَلَى سَيِّدِ أَهْلِ الْجُمُوعِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ أَهْلِ التُّقَى وَالْخُضُوعِ

كِتَابُ الْبُيُوعِ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، إمْلَاءً : اعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى جَعَلَ الْمَالَ سَبَبًا لِإِقَامَةِ مَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الدُّنْيَا وَشَرَعَ طَرِيقَ التِّجَارَةِ لِإِكْسَابِهَا ؛ لِأَنَّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كُلُّ أَحَدٍ لَا يُوجَدُ مُبَاحًا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ، وَفِي الْأَخْذِ عَلَى سَبِيلِ التَّغَالُبِ فَسَادٌ ، وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ .
وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي قَوْلِهِ { : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } .
وَالتِّجَارَةُ نَوْعَانِ : حَلَالٌ يُسَمَّى فِي الشَّرْعِ بَيْعًا وَحَرَامٌ يُسَمَّى رِبًا ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تِجَارَةٌ ، فَإِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ عَنْ الْكَفَرَةِ إنْكَارَهُمْ الْفَرْقَ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالرِّبَا عَقْلًا ، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا } ، ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا } ؛ فَعَرَفْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تِجَارَةٌ وَأَنَّ الْحَلَالَ الْجَائِزَ مِنْهَا بَيْعٌ شَرْعًا .
بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ يَتَعَامَلُونَهُ فَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ .

وَانْعِقَادُ هَذَا الْبَيْعِ بِلَفْظَيْنِ هُمَا عِبَارَةٌ عَنْ الْمَاضِي وَهُوَ بِقَوْلِهِ بِعْت وَاشْتَرَيْت فِي مَحَلَّيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ عَلَى طَرِيقِ الِاكْتِسَابِ حَتَّى أَنَّ مَا يَدْخُلُهُ مَعْنَى التَّبَرُّعِ كَالْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ لَا يَكُونُ بَيْعًا ابْتِدَاءً وَلَوْ كَانَ أَحَدُ اللَّفْظَيْنِ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ بِأَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا بِعْنِي فَيَقُولَ الْآخَرُ بِعْت أَوْ يَقُولُ اشْتَرِ فَيَقُولُ الْآخَرُ اشْتَرَيْت لَا يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ عِنْدَنَا بِخِلَافِ النِّكَاحِ وَالشَّافِعِيُّ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدُ تَمْلِيكٍ بِعِوَضٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَالْفَرْقُ لَنَا مِنْ وَجْهَيْنِ ( أَحَدُهُمَا ) : أَنَّ النِّكَاحَ يَتَقَدَّمُهُ خُطْبَةٌ عَادَةً فَقَوْلُهُ زَوِّجِينِي نَفْسَك فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ لَا يُجْعَلُ خُطْبَةً لِأَنَّ الْخُطْبَةَ قَدْ تَقَدَّمَتْهُ فَيُجْعَلُ أَحَدَ شَطْرَيْ الْعَقْدِ ، فَأَمَّا الْبَيْعُ يَقَعُ بَغْتَةً مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ اسْتِيَامٍ ؛ فَيُجْعَلُ قَوْلُهُ : بِعْنِي : اسْتِيَامًا .
فَلَا بُدَّ مِنْ لَفْظِ الْعَقْدِ بَعْدَهُ ( وَالثَّانِي ) : أَنَّ قَوْلَهُ : زَوِّجِينِي نَفْسَك تَفْوِيضٌ لِلْعَقْدِ إلَيْهَا ؛ فَيُجْعَلُ قَوْلُهَا : زَوَّجْتُ : عَقْدًا تَامًّا ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الْوَاحِدِ يَصْلُحُ لِلْعَقْدِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي النِّكَاحِ إذَا كَانَ مَأْمُورًا بِهِ ، وَفِي الْبَيْعِ لَا يَتَأَتَّى مِثْلُ هَذَا لِأَنَّ كَلَامَ الْوَاحِدِ لَا يَنْعَقِدُ بِهِ الْبَيْعُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ إذَا لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا مُولِيًا عَلَيْهِ مِنْ الْآخَرِ .

فَأَمَّا الرِّبَا فِي اللُّغَةِ : هُوَ الزِّيَادَةُ .
يُقَالُ : أَرْبَى فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ ، أَيْ زَادَ عَلَيْهِ .
وَيُسَمَّى الْمَكَانُ الْمُرْتَفِعُ رَبْوَةً لِزِيَادَةٍ فِيهِ عَلَى سَائِرِ الْأَمْكِنَةِ .
وَفِي الشَّرِيعَةِ : الرِّبَا : هُوَ الْفَضْلُ الْخَالِي عَنْ الْعِوَضِ الْمَشْرُوطِ فِي الْبَيْعِ ؛ لِمَا بَيَّنَّا : أَنَّ الْبَيْعَ الْحَلَالَ مُقَابَلَةُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فَالْفَضْلُ الْخَالِي عَنْ الْعِوَضِ إذَا دَخَلَ فِي الْبَيْعِ كَانَ ضِدَّ مَا يَقْتَضِيهِ الْبَيْعُ فَكَانَ حَرَامًا شَرْعًا ، وَاشْتِرَاطُهُ فِي الْبَيْعِ مُفْسِدٌ لِلْبَيْعِ ، كَاشْتِرَاطِ الْخَمْرِ وَغَيْرِهَا .
وَالدَّلِيلُ عَلَى حُرْمَةِ الرِّبَا : الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ .
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَحَرَّمَ الرِّبَا .
} وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى لِآكِلِ الرِّبَا خَمْسًا مِنْ الْعُقُوبَاتِ ( أَحَدُهَا : ) التَّخَبُّطُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا يَقُومُونَ إلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ .
} قِيلَ : مَعْنَاهُ يَنْتَفِخُ بَطْنُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ؛ بِحَيْثُ لَا تَحْمِلُهُ قَدَمَاهُ ، وَكُلَّمَا رَامَ الْقِيَامَ يَسْقُطُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي أَصَابَهُ مَسٌّ مِنْ الشَّيْطَانِ ؛ فَيَصِيرُ كَالْمَصْرُوعِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَقُومَ .
وَقَدْ وَرَدَ بِنَحْوِهِ أَثَرٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : يُمْلَأُ بَطْنُهُ نَارًا بِقَدْرِ مَا أَكَلَ مِنْ الرِّبَا .
} وَالْمُرَادُ : أَنْ يَفْتَضِحَ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ .
كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ { : أَنَّ لِوَاءً يَنْتَصِبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَكَلَةِ الرِّبَا فَيَجْتَمِعُونَ تَحْتَهُ ثُمَّ يُسَاقُونَ إلَى النَّارِ } .
( وَالثَّانِي ) : الْمَحْقُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا } .
وَالْمُرَادُ : الْهَلَاكُ وَالِاسْتِيصَالُ ، وَقِيلَ : ذَهَابُ الْبَرَكَةِ وَالِاسْتِمْتَاعِ ؛ حَتَّى لَا يَنْتَفِعَ هُوَ بِهِ وَلَا وَلَدُهُ بَعْدَهُ .
( وَالثَّالِثُ ) : الْحَرْبُ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَأْذَنُوا

بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ .
} وَالْمَعْنَى مِنْ الْقِرَاءَةِ بِالْمَدِّ : أَعْلِمُوا النَّاسَ أَكَلَةَ الرِّبَا أَنَّكُمْ حَرْبُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ بِمَنْزِلَةِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ .
وَالْقِرَاءَةُ بِالْقَصْرِ اعْلَمُوا أَنَّ أَكَلَةَ الرِّبَا حَرْبُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ .
( وَالرَّابِعُ ) : الْكُفْرُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .
} وَقَالَ تَعَالَى : { وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ .
} أَيْ : كَفَّارٍ بِاسْتِحْلَالِ الرِّبَا أَثِيمٍ فَاجِرٍ بِأَكْلِ الرِّبَا .
( وَالْخَامِسُ ) : الْخُلُودُ فِي النَّارِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } .
وَالسُّنَّةُ جَاءَتْ بِتَأْيِيدِ مَا قُلْنَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : أَكْلُ دِرْهَمٍ وَاحِدٍ مِنْ الرِّبَا أَشَدُّ مِنْ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ زَنْيَةً يَزْنِيهَا الرَّجُلُ .
مَنْ نَبَتَ لَحْمُهُ مِنْ حَرَامٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ } .

وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ بَيَانُ الْحَلَالِ الَّذِي هُوَ بَيْعٌ شَرْعًا وَالْحَرَامِ الَّذِي هُوَ رِبًا وَلِهَذَا قِيلَ لِمُحَمَّدٍ أَلَا تُصَنِّفُ فِي الزُّهْدِ شَيْئًا قَالَ قَدْ صَنَّفْتُ كِتَابَ الْبُيُوعِ وَمُرَادَهُ بَيَّنْت فِيهِ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ وَلَيْسَ الزُّهْدُ إلَّا الِاجْتِنَابُ عَنْ الْحَرَامِ وَالرَّغْبَةُ فِي الْحَلَالِ وَلِهَذَا بَدَأَ الْكِتَابَ بِحَدِيثٍ رَوَاهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ ، وَالْفَضْلُ رِبًا .
وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ ، وَالْفَضْلُ رِبًا .
وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ ، وَالْفَضْلُ رِبًا .
وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ ، وَالْفَضْلُ رِبًا .
وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ ، وَالْفَضْلُ رِبًا .
وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ ، وَالْفَضْلُ رِبًا .
} وَهَذَا حَدِيثٌ مَشْهُورٌ تَلَقَّتْهُ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى بِالْقَبُولِ وَالْعَمَلِ بِهِ .
وَلِشُهْرَتِهِ بَدَأَ مُحَمَّدٌ بِبَعْضِهِ كِتَابَ الْبُيُوعِ ، وَبِبَعْضِهِ كِتَابَ الْإِجَارَاتِ ، وَبِبَعْضِهِ كِتَابَ الصَّرْفِ .
وَمِثْلُهُ حُجَّةٌ فِي الْأَحْكَامِ تَجُوزُ بِهِ الزِّيَادَةُ عَلَى الْكِتَابِ عِنْدَنَا .
وَدَارَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَرْبَعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ : عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَعَ اخْتِلَافِ أَلْفَاظِهِمْ ثُمَّ الْحَدِيثُ يَشْتَمِلُ عَلَى تَفْسِيرٍ وَحُكْمٍ وَمَعْنًى يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ .
أَمَّا تَفْسِيرُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ أَيْ : بَيْعُ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ أَوْ بِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ ؛ لِأَنَّ الْبَاءَ تَصْحَبُ الْإِعْوَاضَ وَالْإِبْدَالَ فَإِنَّهُ لِلْإِلْصَاقِ .
فَهُوَ

دَلِيلُ فِعْلٍ مُضْمَرٍ كَقَوْلِنَا : بِسْمِ اللَّهِ وَقَوْلُهُ : مِثْلٌ بِمِثْلٍ رُوِيَ بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ .
فَمَعْنَى الرِّوَايَةِ بِالرَّفْعِ : بَيْعُ الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ .
وَمَعْنَى الرِّوَايَةِ بِالنَّصْبِ : بِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ مِثْلًا بِمِثْلٍ وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْقَدْرِ دُونَ الصِّفَةِ وَإِنْ كَانَ مُطْلَقُ اسْمِ الْمُمَاثَلَةِ يَتَنَاوَلُهُمَا وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الصَّرْفِ وَذَكَرَ مَكَانَ قَوْلِهِ : مِثْلًا بِمِثْلٍ : وَزْنًا بِوَزْنٍ ، فَبِذَلِكَ اللَّفْظِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْوَزْنِ ، وَبِهَذَا اللَّفْظِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُرَادَ : قَوْلُهُ وَزْنًا بِوَزْنٍ الْمُمَاثَلَةُ قَدْرًا لَا صِفَةً .
وَكَلَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضًا وَفِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : تِبْرُهُ وَعَيْنُهُ سَوَاءٌ فَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْوَزْنِ دُونَ الصِّفَةِ ؛ لِأَنَّ التِّبْرَ لَا يُسَاوِي الْعَيْنَ فِي الصِّفَةِ وَإِنَّمَا يُسَاوِيهِ مِنْ حَيْثُ الْمِقْدَارُ .
وَقَوْلُهُ : يَدًا بِيَدٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ : عَيْنًا بِعَيْنٍ ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ يَكُونُ بِالْإِشَارَةِ بِالْيَدِ .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ قَبْضًا بِقَبْضٍ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ يَكُونُ بِالْيَدِ .
وَزَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ : الْقَبْضُ هُنَا ؛ لِبَيَانِهِ فِي حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الصَّرْفِ : مِنْ يَدِكَ إلَى يَدِهِ ، وَإِنْ اسْتَنْظَرَك إلَى خَلْفِ السَّارِيَةِ فَلَا تَنْتَظِرْهُ ، وَإِنْ وَثَبَ مِنْ السَّطْحِ ، فَثِبْ مَعَهُ ، وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ الْمُرَادَ التَّعْيِينُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْقَبْضَ لَقَالَ : مِنْ يَدٍ إلَى يَدٍ ؛ لِأَنَّهُ يَقْبِضُ مِنْ يَدِ غَيْرِهِ ؛ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ : التَّعْيِينُ .
إلَّا أَنَّ التَّعْيِينَ فِي النُّقُودِ لَا يَتِمُّ بِالْقَبْضِ لِأَنَّهَا لَا تَتَعَيَّنُ فِي

الْعُقُودِ بِالْإِشَارَةِ فَكَانَ اشْتِرَاطُ الْقَبْضِ لِتَحْقِيقِ التَّعْيِينِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ .
وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ هَا وَهَا أَيْ : هَذَا بِهَذَا .
وَقَوْلُهُ : وَالْفَضْلُ رِبًا ، يَحْتَمِلُ الْفَضْلَ فِي الْقَدْرِ ، وَيَحْتَمِلُ الْفَضْلَ فِي الْحَالِ ، بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا نَقْدًا وَالْآخَرُ نَسِيئَةً .
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُرَادٌ بِاللَّفْظِ وَقَوْلُهُ : رِبًا أَيْ حَرَامٌ ، أَيْ : فَضْلٌ خَالٍ عَنْ الْعِوَضِ وَالْمُقَابَلَةِ إمَّا مُتَيَقَّنًا بِهِ عِنْدَ فَضْلِ الْقَدْرِ أَوْ مَوْهُومُ الْوُجُودِ عَادَةً لِتَفَاوُتٍ بَيْنَ النَّقْدَيْنِ وَالنِّسْبَةِ فِي الْمَالِيَّةِ .
وَكَذَلِكَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ الْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ .
فَأَمَّا قَوْلُهُ : الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ يَحْتَمِلُ الْمُمَاثَلَةَ فِي الْكَيْلِ وَيَحْتَمِلُ الْمُمَاثَلَةَ فِي الصِّفَةِ ، وَلَكِنَّهُ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ ذَكَرَ مَكَانَ قَوْلِهِ مِثْلًا بِمِثْلٍ كَيْلًا بِكَيْلٍ فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُمَاثَلَةُ مِنْ حَيْثُ الْقَدْرُ وَفِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ جَيِّدُهَا وَرَدِيُّهَا سَوَاءٌ .
فَهُوَ بَيَانٌ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْقَدْرِ وَقَوْلُهُ يَدًا بِيَدٍ مَعْنَاهُ عِنْدَنَا : عَيْنٌ بِعَيْنٍ .
وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ فِي بَيْعِ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ فِيهَا يَتِمُّ بِالْإِشَارَةِ وَقَوْلُهُ : وَالْفَضْلُ رِبًا يَحْتَمِلُ الْفَضْلَ فِي الْقَدْرِ وَيَحْتَمِلُ الْفَضْلَ فِي الْحَالِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُرَادٌ .
وَقَدْ فُسِّرَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَقَالَ : مَنْ زَادَ أَوْ ازْدَادَ فَقَدْ أَرْبَى .
وَكَذَلِكَ الشَّعِيرُ وَالتَّمْرُ وَالْمِلْحُ .
فَأَمَّا الْحُكْمُ فَفِي الْحَدِيثِ حُكْمَانِ : حُرْمَةُ النَّسَاءِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ عِنْدَ الْمُبَايَعَةِ بِجِنْسِهَا وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَحُرْمَةُ التَّفَاضُلِ ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إلَّا الْبَتِّيَّ رَوَى

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ يُجَوِّزُ التَّفَاضُلَ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ .
وَلَا مُعْتَبَرَ بِهَذَا الْقَوْلِ ؛ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لَمْ يُسَوِّغُوا لَهُ هَذَا الِاجْتِهَادَ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَشَى إلَيْهِ فَقَالَ : يَا ابْنَ عَبَّاسٍ : إلَى مَتَى تُؤْكِلَ النَّاسَ الرِّبَا أَصَحِبْتَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا لَمْ يُصْحَبْ ؟ أَسَمِعْتَ مِنْهُ مَا لَمْ يُسْمَعْ ؟ فَقَالَ : لَا ، وَلَكِنْ حَدَّثَنِي أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ .
} فَقَالَ : وَاَللَّهِ لَا أَوَانِي وَإِيَّاكَ ظِلُّ بَيْتٍ مَا دُمْتَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ وَقَالَ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : مَا خَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ الدُّنْيَا حَتَّى رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ فِي الصَّرْفِ وَالْمُتْعَةِ .
فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ رُجُوعُهُ ، فَإِجْمَاعُ التَّابِعِينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ بَعْدَهُ يَرْفَعُ قَوْلَهُ .
فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا : لَا يُعْتَدُّ بِهَذَا الْقَوْلِ .
وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سُئِلَ عَنْ مُبَادَلَةِ الْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ وَالذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا رِبَا إلَّا فِي النَّسِيئَةِ .
} فَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ السُّؤَالِ فَكَأَنَّ الرَّاوِيَ سَمِعَ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَمْ يَسْمَعْ مَا تَقَدَّمَ مِنْ السُّؤَالِ أَوْ لَمْ يَشْتَغِلْ بِنَقْلِهِ .
وَأَمَّا الْمَعْنَى فَنَقُولُ اتَّفَقَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الرِّبَا غَيْرُ مَقْصُودٍ عَلَى الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ ، وَإِنَّ فِيهَا مَعْنًى يَتَعَدَّى الْحُكْمَ بِذَلِكَ الْمَعْنَى إلَى غَيْرِهَا مِنْ الْأَمْوَالِ ، إلَّا دَاوُد مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ وَعُثْمَانَ الْبَتِّيَّ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ .
فَإِنَّ دَاوُد يَقُولُ : حُكْمُ الرِّبَا

مَقْصُورٌ عَلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ قِيَاسُ غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَى الْمَنْصُوصِ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ ، وَعِنْدَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ : الْقِيَاسُ حُجَّةٌ لِتَعْدِيَةِ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ وَالْبَتِّيُّ يَقُولُ : بِأَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ وَلَكِنْ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّهُ لَا يُجَوِّزُ الْقِيَاسُ عَلَى الْأُصُولِ إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ فِي كُلِّ أَصْلٍ عَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَقُمْ ذَلِكَ الدَّلِيلُ هُنَا .
وَعِنْدَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَى الْأُصُولِ إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ يَمْنَعُ الْقِيَاسَ عَلَى كُلِّ أَصْلٍ ، ثُمَّ قَدْ قَامَ الدَّلِيلُ هُنَا عَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ ، فَإِنَّ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ وَإِسْحَاقَ بْنَ إبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيَّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ رَوَيَا هَذَا الْحَدِيثَ وَذُكِرَ فِي آخِرِهِ وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ إلَى سَائِرِ الْأَمْوَالِ .
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : لَا تَبِيعُوا الدِّرْهَمَ بِالدِّرْهَمَيْنِ ، وَلَا الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ ؛ فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْكُمْ الرِّبَا } .
أَيْ الرِّبَا وَلَمْ يُرِدْ بِهِ عَيْنَ الصَّاعِ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ : مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الصَّاعِ كَمَا يُقَالُ خُذْ هَذَا الصَّاعَ أَيْ : مَا فِيهِ وَوَهَبْتُ لِفُلَانٍ صَاعًا أَيْ : مِنْ الطَّعَامِ .
وَفِي حَدِيثِ { عَامِلِ خَيْبَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمْرًا جَنِيًّا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَوَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا ؟ فَقَالَ : لَا ، وَلَكِنِّي دَفَعْتُ صَاعَيْنِ مِنْ عَجْوَةٍ بِصَاعٍ مِنْ هَذَا .
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَرْبَيْتَ .
هَلَّا بِعْتَ تَمْرَك بِسِلْعَةٍ ، ثُمَّ اشْتَرَيْتَ بِسِلْعَتِكَ تَمْرًا ، ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَكَذَلِكَ الْمِيزَانُ } .
يَعْنِي : مَا يُوزَنُ بِالْمِيزَانِ .
فَتَبَيَّنَ بِهَذِهِ الْآثَارِ

قِيَامُ الدَّلِيلِ عَلَى تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ مِنْ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ لَا غَيْرِهَا ، وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ } .
ثُمَّ لَمْ يُجَوِّزْ قِيَاسَ مَا سِوَى هَذِهِ الْخَمْسِ عَلَى الْخَمْسِ لِأَنَّ التَّعْلِيلَ لِتَعْدِيَةِ حُكْمِ النَّصِّ إلَى غَيْرِ الْمَنْصُوصِ ، لِإِبْطَالِ الْمَنْصُوصِ .
وَقَدْ نُصَّ فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْفَوَاسِقَ خَمْسٌ ، فَلَوْ اشْتَغَلْنَا بِالتَّعْلِيلِ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسٍ ، فَيَكُونُ إبْطَالًا لِلْمَنْصُوصِ .
وَهُنَا لَيْسَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ مَالَ الرِّبَا : سِتَّةُ أَشْيَاءَ ، وَلَكِنْ ذُكِرَ حُكْمُ الرِّبَا فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ .
فَالِاشْتِغَالُ بِالتَّعْلِيلِ لَا يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ .
فَلِهَذَا جَوَّزْنَا ذَلِكَ .
وَفَائِدَةُ تَخْصِيصِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِالذِّكْرِ أَنَّ عَامَّةَ الْمُعَامَلَاتِ يَوْمَئِذٍ كَانَ بِهَا عَلَى مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : كُنَّا نَتَبَايَعُ فِي الْأَسْوَاقِ بِالْأَوْسَاقِ ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْوَسْقِ مِمَّا يَكْثُرُ الْحَاجَةُ إلَيْهِ وَهِيَ الْأَشْيَاءُ الْمَذْكُورَةُ .
ثُمَّ اخْتَلَفُوا بَعْد ذَلِكَ فِي الْمَعْنَى الَّذِي يَتَعَدَّى الْحُكْمُ بِهِ إلَى سَائِرِ الْأَمْوَالِ .
قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى : الْجِنْسِيَّةُ وَالْقَدْرُ .
عُرِّفَتْ الْجِنْسِيَّةُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ } ، وَالْقَدْرُ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مِثْلًا بِمِثْلٍ ، وَيَعْنِي بِالْقَدْرِ الْكَيْلَ فِيمَا يُكَالُ ، وَالْوَزْنَ فِيمَا يُوزَنُ .
وَظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْعِلَّةَ مَعَ الْجِنْسِ الْفَضْلُ عَلَى الْقَدْرِ ، وَذَلِكَ مَحْكِيٌّ عَنْ الْكَرْخِيِّ وَلَكِنَّهُ لَيْسَ بِقَوِيٍّ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إسْلَامُ قَفِيزِ حِنْطَةٍ فِي قَفِيزِ شَعِيرٍ ، وَلَا تَثْبُتُ حُرْمَةُ النَّسَاءِ إلَّا بِوُجُودِ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ ، وَلَوْ كَانَتْ الْعِلَّةُ هِيَ الْفَضْلُ لَمَا حَرُمَ النَّسَاءُ هُنَا

لِانْعِدَامِ الْفَضْلِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْعِلَّةَ نَفْسُ الْقَدْرِ مَعَ الْجِنْسِ .
وَقَالَ مَالِكٌ : الْعِلَّةُ الِاقْتِيَابُ وَالِادِّخَارُ مَعَ الْجِنْسِ .
وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ : تُقَارَنُ الْمَنْفَعَةُ مَعَ الْجِنْسِ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ : الْعِلَّةُ فِي الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ الْكَيْلُ وَالطَّعْمُ .
وَقَالَ فِي : الْجَدِيدِ الْعِلَّةُ هِيَ الطَّعْمُ وَفِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الْعِلَّةُ الثَّمَنِيَّةُ ، وَهُوَ أَنَّهُمَا جَوْهَرُ الْأَثْمَانِ .
وَالْجِنْسِيَّةُ عِنْدَهُ شَرْطٌ لَا تَعْمَلُ الْعِلَّةُ إلَّا عِنْدَ وُجُودِهَا ؛ وَلِهَذَا لَا يَجْعَلُ لِلْجِنْسِيَّةِ أَثَرًا فِي تَحْرِيمِ النَّسَاءِ ، فَحَاصِلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ : بَيْعَ كُلِّ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ بِجِنْسِهِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا إلَّا بَعْدَ وُجُودِ الْمُخَلِّصِ وَهُوَ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْقَدْرِ ، وَأَنْ يَكُونَ عَيْنًا بِعَيْنٍ وَعِنْدَهُ بَيْعُ كُلِّ مَطْعُومٍ بِجِنْسِهِ ، وَكُلِّ ثَمَنٍ بِجِنْسِهِ حَرَامٌ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْمُخَلِّصِ وَهُوَ : الْمُسَاوَاةُ ، فِي الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ ، وَأَنْ يَكُونَ قَبْضًا بِقَبْضٍ فِي الْمَجْلِسِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ حُرْمَةَ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ أَصْلٌ عِنْدَهُ ، وَالْجَوَازُ يُعَارِضُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْمِعْيَارِ مَعَ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ وَعِنْدَنَا إبَاحَةُ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ أَصْلٌ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ ، وَالْفَسَادُ يُعَارِضُ انْعِدَامَ الْمُمَاثَلَةِ بِوُجُودِ الْفَضْلِ الْخَالِي عَنْ الْعِوَضِ مُتَيَقِّنًا بِهِ أَوْ مَوْهُومًا احْتِيَاطًا ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ التَّعْلِيلِ عِنْدَهُ مَنْعُ قِيَاسِ غَيْرِ الْمَطْعُومَاتِ وَغَيْرِ الثَّمَنِ عَلَى الثَّمَنِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ التَّعْلِيلَ صَحِيحٌ لِإِثْبَاتِ حُكْمِ الْأَصْلِ وَالْمَنْعِ مِنْ إلْحَاقِ غَيْرِهِ بِهِ ، وَعِنْدَنَا التَّعْلِيلُ لِتَعْدِيَةِ حُكْمِ النَّصِّ إلَى غَيْرِ الْمَنْصُوصِ ، فَالْحُكْمُ فِي الْمَنْصُوصِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ لَا بِالْعِلَّةِ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالنَّصِّ مَقْطُوعٌ بِهِ ، وَالْمَنْعُ بِظَاهِرِ النَّصِّ ثَابِتٌ .
فَالِاشْتِغَالُ بِالتَّعْلِيلِ يَكُونُ لَغْوًا عِنْدَنَا .

وَبَيَانُ هَذَا الْأَصْلِ : إذَا بَاعَ تُفَّاحَةً بِتُفَّاحَتَيْنِ عِنْدَهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ هِيَ الْأَصْلُ فِي بَيْعِهَا وَالْحِلُّ يَثْبُتُ بِعَارِضٍ بِوُجُودِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ وَلَمْ يُوجَدْ فَلَا يَجُوزُ ، وَعِنْدَنَا يَجُوزُ ؛ لِانْعِدَامِ الْفَضْلِ عَلَى الْقَدْرِ - وَهُوَ الْمِعْيَارُ الشَّرْعِيُّ - وَالْحَرَامُ هُوَ الْفَضْلُ عَلَى الْقَدْرِ وَلَمْ يُوجَدْ : فَيَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ أَصْلٌ فِي الْبَيْعِ ، وَالْحُرْمَةُ تَثْبُتُ بِعَارِضِ انْعِدَامِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْقَدْرِ - وَهُوَ الْمِعْيَارُ الشَّرْعِيُّ - وَهَذَا لَا مِعْيَارَ لَهُ ؛ فَيَجُوزُ الْعَقْدُ وَلَوْ بَاعَ قَفِيزَ جِبْسٍ بِقَفِيزَيْ جِصٍّ ، عِنْدَنَا : لَا يَجُوزُ ؛ لِوُجُودِ الْجِنْسِيَّةِ وَالْقَدْرِ .
وَعِنْدَهُ : يَجُوزُ ؛ لِعَدَمِ الطَّعْمِ .
وَلَوْ بَاعَ حَفْنَةً بِحَفْنَتَيْنِ ، عِنْدَهُ : لَا يَجُوزُ ؛ لِكَوْنِهِ مَطْعُومًا ، وَقَدْ عُدِمَتْ الْمُسَاوَاةُ فِي الْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ ، وَعِنْدَنَا : يَجُوزُ لِعَدَمِ الْكَيْلِ مَعَ الْجِنْسِ وَلَوْ بَاعَ مَنَّا سُكَّرٍ بِمَنَوَيْ سُكَّرٍ ، عِنْدَنَا : لَا يَجُوزُ لِوُجُودِ الْجِنْسِ مَعَ الْقَدْرِ ، وَعِنْدَهُ : لَا يَجُوزُ أَيْضًا لِوُجُودِ الطَّعْمِ مَعَ الْجِنْسِ .
وَلَوْ بَاعَ مَنَّا قُطْنٍ بِمَنَوَيْ قُطْنٍ ، عِنْدَنَا : لَا يَجُوزُ لِوُجُودِ الْجِنْسِيَّةِ وَالْقَدْرِ ، وَعِنْدَهُ يَجُوزُ لِعَدَمِ الطَّعْمِ .
وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ لِإِثْبَاتِ أَصْلِهِ مَا رُوِيَ : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بِالطَّعَامِ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ } .
وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ { : لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ } فَفِي هَذَا بِدَايَةٌ بِبَيَانِ النَّهْيِ وَالْمَنْعِ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ : لَا تَبِيعُوا لَمْ يَجُزْ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ بِحَالٍ .
فَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّ حُرْمَةَ الْبَيْعِ أَصْلٌ ، وَأَنَّ الْجَوَازَ يُعَارِضُ الْمُسَاوَاةَ .
بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ ، وَالْمُرَادُ الْمُسَاوَاةُ فِي الْقَدْرِ .
ثُمَّ اسْمُ الطَّعَامِ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ ، وَمَا

يُكَالُ مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَمَا لَا يُكَالُ فَثَبَتَ حُرْمَةُ الْبَيْعِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ ، وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْقَدْرِ يُوجِبُ تَخْصِيصَ الْأَصْلِ الْمُعَلَّلِ ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ .
وَكَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ قَالَ : { الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ } .
فَهَذَا اللَّفْظُ يَتَنَاوَلُ الْقَلِيلَ وَالْكَثِيرَ .
وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مِثْلًا بِمِثْلٍ ، } نُصِبَ عَلَى الْحَالِ أَيْ : إنَّمَا يَكُونُ بَيْعًا فِي حَالَةِ مَا يَكُونُ مِثْلًا بِمِثْلٍ ، وَالْمُرَادُ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْقَدْرِ فَتَبَيَّنَ بِهِ أَيْضًا أَنَّ الْحُرْمَةَ أَصْلٌ فِيهَا ، وَأَنَّ الْحِلَّ يُعَارِضُ الْمُمَاثَلَةَ فِي الْقَدْرِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالرِّبَا الزِّيَادَةَ ؛ فَقَدْ قَالَ عُمَرُ : إنَّ آيَةَ الرِّبَا آخِرُ مَا نَزَلَ ، وَقُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ لَنَا شَأْنَهَا ، وَإِنَّ مِنْ الرِّبَا أَبْوَابًا لَا يَكَدْنَ يَخْفَيْنَ عَلَى أَحَدٍ ، مِنْهَا : السَّلَمُ فِي السِّنِّ .
فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ الِاسْمَ غُيِّرَ عَمَّا عَلَيْهِ مُقْتَضَى اللُّغَةِ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ الرِّبَا الزِّيَادَةَ ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي السَّلَمِ فِي السِّنِّ زِيَادَةٌ خَالِيَةٌ عَنْ الْعِوَضِ .
وَقَدْ جَعَلَهُ مِنْ الرِّبَا الَّذِي لَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ وَلَئِنْ كَانَ الْمُرَادُ الزِّيَادَةَ ، فَإِنَّمَا أَرَادَ فَضْلًا قَائِمًا فِي الذَّاتِ لِأَنَّ الْمَطْعُومَ إذَا قُوبِلَ بِجِنْسِهِ لَا يَتَسَاوَيَانِ فِي الطَّعْمِ إلَّا نَادِرًا وَلَا يَنْبَنِي الْحُكْمُ عَنْ النَّادِرِ فَذَلِكَ الْفَضْلُ الْقَائِمُ فِي الذَّاتِ حَرَامٌ وَرِبًا إلَّا أَنَّهُ سَقَطَ اعْتِبَارُهُ شَرْعًا بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْقَدْرِ تَيْسِيرًا عَلَى النَّاسِ ، فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْحُرْمَةَ أَصْلٌ أَيْضًا .
وَفِي ذِكْرِ الطَّعَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الطَّعْمُ ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْهُ مَعْنًى ، وَالْحُكْمُ إذَا عُلِّقَ بِاسْمٍ مُشْتَقٍّ مِنْ مَعْنًى ، فَالْمَعْنَى الَّذِي اُشْتُقَّ مِنْهُ الِاسْمُ هُوَ الْعِلَّةُ لِلْحُكْمِ ، كَمَا فِي

قَوْله تَعَالَى { : الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي } وَفِي قَوْله تَعَالَى { : السَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ } وَمِنْ حَيْثُ الِاسْتِدْلَال وَهُوَ أَنَّ الشَّرْعَ شَرَطَ لِجَوَازِ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ شَرْطَيْنِ : الْمُسَاوَاةَ وَالْيَدَ بِالْيَدِ ؛ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُوجِبَ لِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ مَعْنًى فِي الْمَحَلِّ يُنْبِئُ عَنْ زِيَادَةِ شَرْطَيْنِ - الْوَلِيِّ وَالشُّهُودِ - كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْمُوجِبَ لِلشَّرْطَيْنِ مَعْنًى فِي الْمَحَلِّ يُنْبِئُ عَنْ زِيَادَةِ خَطَرٍ ، وَهُوَ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِهِ مَا فِي حُكْمِ النُّفُوسِ .
ثُمَّ هُنَا الْمَعْنَى يُنْبِئُ عَنْ الْخَطَرِ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ الثَّمَنِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُمَا خُلِقَا لِذَلِكَ ، وَبِالثَّمَنِيَّةِ حَيَاةُ الْأَمْوَالِ .
وَالْمَعْنَى أَنَّ الَّذِي يُنْبِئُ عَنْ زِيَادَةِ الْخَطَرِ فِي الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ الطَّعْمُ ؛ لِأَنَّ بِالطَّعْمِ حَيَاةَ النُّفُوسِ ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْعِلَّةَ الْمُوجِبَةَ لِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ الطَّعْمُ وَالثَّمَنِيَّةُ ؛ وَلِهَذَا جَعَلْنَا الْجِنْسِيَّةَ شَرْطًا لَا عِلَّةً لِأَنَّ الْحُكْمَ يَدُورُ مَعَ الشَّرْطِ وُجُودًا وَعَدَمًا كَمَا يَدُورُ مَعَ الْعِلَّةِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا بِالتَّأْثِيرِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي الْجِنْسِيَّةِ مَا يُنْبِئُ عَنْ زِيَادَةِ الْخَطَرِ وَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ إلَّا عِنْدَ وُجُودِهِ جَعَلْنَاهُ شَرْطًا لَا عِلَّةً .
وَبِهَذَا تَبَيَّنَ فَسَادُ التَّعْلِيلِ بِالْقَدْرِ ، فَإِنَّهُ لَا يُنْبِئُ عَنْ زِيَادَةِ خَطَرٍ فِي الْمَحَلِّ ؛ لِأَنَّ الْجِصَّ شَيْءٌ هَيِّنٌ ، يُكَالُ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَيَاةُ نَفْسٍ وَلَا مَالٍ ، إنَّمَا هُوَ مُعَدٌّ لِتَزَيُّنِ الْبِنَاءِ .
وَلِأَنَّ الشَّرْعَ ذَكَرَ عِنْدَ بَيَانِ حُكْمِ الرِّبَا جَمِيعَ الْأَثْمَانِ ، وَهِيَ : الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ ، وَذَكَرَ مِنْ الْمَطْعُومَاتِ أَنْفَسَ كُلِّ نَوْعٍ .
فَالْحِنْطَةُ أَنْفَسُ مَطْعُومِ بَنِي آدَمَ ، وَالشَّعِيرُ أَنْفَسُ عَلَفِ الدَّوَابِّ ، وَالتَّمْرُ أَنْفَسُ الْفَوَاكِهِ ، وَالْمِلْحُ أَنْفَسُ التَّوَابِلِ ، فَلَمَّا أَرَادَ الْمُبَالَغَةَ فِي بَيَانِ حُكْمِ الرِّبَا وَلَمْ يُمْكِنْهُ ذِكْرُ

جَمِيعِ الْمَطْعُومَاتِ ، نَصَّ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ عَلَى أَعْلَاهُ ؛ لِيُبَيِّنَ بِذَلِكَ أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الطَّعْمُ .
فَأَمَّا إذَا جَعَلَ الْعِلَّةَ الْقَدْرَ يَتَمَحَّضُ ذِكْرُ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ تَكْرَارًا لِأَنَّ صِفَةَ الْقَدْرِ لَا تَخْتَلِفُ فِي الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ ، وَحَمْلُ كَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ عَلَى مَا يُفِيدُ أَوْلَى .
وَلِهَذَا قَالَ مَالِكٌ : الْعِلَّةُ : الِاقْتِيَاتُ ، لِأَنَّهُ خَصَّ بِالذِّكْرِ كُلَّ مُقْتَاتٍ مُدَّخَرٍ وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ : الْعِلَّةُ : تَقَارُبُ الْمَنْفَعَةِ لِوُجُودِ ذَلِكَ فِي الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ ، فَإِنَّ الْحِنْطَةَ مَعَ الشَّعِيرِ تَتَقَارَبُ فِي الْمَنْفَعَةِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعِلَّةَ هِيَ الطَّعْمُ وَالثَّمَنِيَّةُ ؛ امْتَنَعَ قِيَاسُ غَيْرِ الْمَطْعُومِ عَلَى الْمَطْعُومَاتِ ، وَغَيْرِ الْأَثْمَانِ عَلَى الْأَثْمَانِ ؛ لِانْعِدَامِ الْعِلَّةِ فِيهَا ، وَلَمَّا جَعَلَ الشَّرْعُ الْقَدْرَ مُعْتَبَرًا فِي الْخَلَاصِ عَنْ الرِّبَا ؛ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارُ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ فِي الْوُقُوعِ فِي الرِّبَا ؛ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَتَضَمَّنَ الشَّيْءُ حُكْمَيْنِ مُتَضَادَّيْنِ ، بَلْ الْقَدْرُ فِي الْمُقَدَّرَاتِ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَدِ فِي الْمَعْدُودَاتِ ، وَالزُّرُوعِ فِي الْمَزْرُوعَاتِ .
فَكَمَا لَا يَصْلُحُ جَعْلُ عِلَّةِ ذَلِكَ لِلرِّبَا فَكَذَلِكَ الْقَدْرُ .
وَحُجَّتُنَا فِي الْمَسْأَلَةِ مَا رَوَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ بِصِفَةِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ .
فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِيهَا الْكَيْلُ وَالْوَزْنُ .
وَإِنْ لَمْ تَثْبُتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ فَقَوْلُهُ : الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ ، مَعْنَاهُ : بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالْحِنْطَةِ .
وَالْبَيْعُ لَا يَجْرِي بِاسْمِ الْحِنْطَةِ ؛ فَالِاسْمُ يَتَنَاوَلُ الْحَبَّةَ الْوَاحِدَةَ وَلَا يَبِيعُهَا أَحَدٌ ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُ مَالِيَّتَهَا وَلَوْ بَاعَهَا لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فَعُلِمَ ضَرُورَةً أَنَّ الْمُرَادَ : الْحِنْطَةُ الَّتِي هِيَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ ، وَلَا يُعْلَمُ مَالِيَّتُهَا إلَّا بِالْكَيْلِ فَصَارَتْ صِفَةُ

الْكَيْلِ ثَابِتَةً بِمُقْتَضَى النَّصِّ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ .
فَالِاسْمُ قَائِمٌ بِالذُّرَةِ وَلَا يَبِيعُهَا أَحَدٌ ، وَإِنَّمَا تُعْرَفُ مَالِيَّتُهَا بِالْوَزْنِ كَالشَّعِيرَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَصَارَتْ صِفَةُ الْوَزْنِ ثَابِتَةً بِمُقْتَضَى النَّصِّ .
فَكَأَنَّهُ قَالَ : الذَّهَبُ الْمَوْزُونُ بِالذَّهَبِ ، وَالْحِنْطَةُ الْمَكِيلَةُ بِالْحِنْطَةِ ، وَالصِّفَةُ مِنْ اسْمِ الْعَلَمِ يَجْرِي مَجْرَى الْعِلَّةِ لِلْحُكْمِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : فِي خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ السَّائِمَةِ شَاةٌ } .
وَمَا ثَبَتَ بِمُقْتَضَى النَّصِّ فَهُوَ كَالْمَنْصُوصِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : غَصَبْت مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا يَلْزَمُهُ أَنْ يُبَيِّنَ مَالًا مُتَقَوِّمًا ؛ لِثُبُوتِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ بِمُقْتَضَى الْغَصْبِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ } .
ذَكَرَ الطَّعَامَ عِنْدَ ذِكْرِ الْبَيْعِ فَلَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْحِنْطَةَ وَدَقِيقَهَا ؛ كَمَنْ وَكَّلَ وَكِيلًا بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ طَعَامًا ، فَاشْتَرَى فَاكِهَةً يَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ وَهَذَا لِأَنَّ سُوقَ الطَّعَامِ الَّذِي يُبَاعُ فِيهِ الْحِنْطَةُ وَدَقِيقُهَا وَبَائِعُ الطَّعَامِ مَنْ يَبِيعُ الْحِنْطَةَ وَدَقِيقَهَا .
وَهَذَا مِنْ أَبْوَابِ الْكِتَابِ لَيْسَ مِنْ فِقْهِ الشَّرِيعَةِ فِي شَيْءٍ .

وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي الْمَسْأَلَةِ مِنْ حَيْثُ الِاسْتِدْلَال فَيَنْبَنِي عَلَى مَعْرِفَةِ النَّصِّ فَنَقُولُ حُكْمُ نَصِّ الرِّبَا ؛ وُجُوبُ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْمِعْيَارِ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْعَقْدِ ثُمَّ ضَرُورَةُ الْفَضْلِ ؛ لِعَدَمِ تِلْكَ الْمُمَاثَلَةِ رِبًا ؛ لِوُجُوبِ الْمُمَاثَلَةِ لَا كَمَا قَالَهُ الْخَصْمُ : إنَّ الْحُكْمَ حُرْمَةُ فَضْلٍ فِي الذَّاتِ ثُمَّ الْمُمَاثَلَةُ شَرْطٌ لِإِزَالَةِ فَضْلٍ حَرَامٍ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلًا بِمِثْلٍ } فَقَدْ أَوْجَبَ الْمُمَاثَلَةَ لِجَوَازِ الْعَقْدِ ثُمَّ جَعَلَ الْفَضْلَ بَعْدَ تِلْكَ الْمُمَاثَلَةِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { وَالْفَضْلُ رِبًا } وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ قَالَ { : لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ } .
وَبِالْإِجْمَاعِ : الْمُسَاوَاةُ فِي الْكَيْلِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ اشْتِرَاطُ الْمُمَاثَلَةِ لِجَوَازِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُقَيَّدَ بِالِاسْتِثْنَاءِ يَصِيرُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى فَيَكُونُ الْمَعْنَى فَسَادُ الْبَيْعِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ الَّتِي هِيَ وَاجِبَةٌ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحُكْمَ وُجُوبُ الْمُمَاثَلَةِ وَلَا يُتَصَوَّرُ ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِدُونِ مَحَلِّهِ عَرَفْنَا أَنَّ الْمَحَلَّ الَّذِي لَا يَقْبَلُ الْمُمَاثَلَةَ لَا يَكُونُ مَالَ الرِّبَا أَصْلًا وَالْحَفْنَةُ وَالتُّفَّاحَةُ لَا تَقْبَلُ الْمُمَاثَلَةَ بِالِاتِّفَاقِ فَلَمْ يَكُنْ مَالَ الرِّبَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا نَصَّ عَلَى حُكْمِ الرِّبَا إلَّا مَقْرُونًا بِالْمُخَلِّصِ فَكُلُّ عِلَّةٍ تُوجِبُ الْحُكْمَ فِي مَحَلٍّ لَا يَقْبَلُ الْمُخَلِّصَ أَصْلًا فَهِيَ عِلَّةٌ بَاطِلَةٌ وَالطَّعْمُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَإِنَّهَا تُوجِبُ الْحُكْمَ فِي الرُّمَّانِ وَالسَّفَرْجَلِ وَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْمُخَلِّصُ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { لَا تَبِيعُوا الْبُرَّ بِالْبُرِّ إلَّا سَوَاءً بِسَوَاءٍ } كَلَامٌ مُقَيَّدٌ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَالْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى

مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لِإِخْرَاجِ مَا لَوْلَاهُ لَكَانَ الْكَلَامُ مُتَنَاوِلًا لَهُ وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَثْنَى الْكَثِيرُ الْقَابِلُ لِلْمُمَاثِلَةِ لَا يَتَنَاوَلُهُ الْحَدِيثُ أَصْلًا .
فَإِنْ قَالَ : هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مَقْطُوعٌ بِمَعْنَى : لَكِنْ إنْ جَعَلْتُمُوهُ سَوَاءً بِسَوَاءٍ ؛ فَبِيعُوا أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ قُلْنَا : هَذَا مَجَازٌ وَلَا يُتْرَكُ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ إلَّا عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ وَبِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ حُكْمَ النَّصِّ وُجُوبُ الْمُمَاثَلَةِ فِيمَا يَخْتَصُّ بِمَحَلٍّ قَابِلٍ لِلْمُمَاثِلَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ قَفِيزَ حِنْطَةٍ يَمْلِكُهُ بِقَفِيزِ حِنْطَةٍ رَخْوَةٍ أَوْ قَدْ أَكَلَهَا السُّوسُ يَجُوزُ وَقَدْ تَيَقَّنَّا بِفَضْلٍ فِي الذَّاتِ وَمَعَ ذَلِكَ جَازَ الْعَقْدُ لِوُجُودِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْقَدْرِ فَإِنْ قَالَ : سَقَطَ اعْتِبَارُ الْفَضْلِ الْقَائِمِ فِي الذَّاتِ لِوُجُودِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْقَدْرِ قُلْنَا هَذَا جَائِزٌ وَلَكِنْ عِنْدَ قِيَامِ الدَّلِيلِ فَإِذَا أَمْكَنَ أَنْ يَجْعَلَ الْحُكْمَ فِي الذَّاتِ وُجُوبَ الْمُمَاثَلَةِ وَالْفَضْلَ الَّذِي هُوَ رِبًا بَعْدَ تِلْكَ الْمُمَاثَلَةِ فَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى إسْقَاطِ مَا هُوَ مَوْجُودٌ حَقِيقَةً خُصُوصًا فِيمَا إذَا بَنَى أَمْرَهُ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَهُوَ الرِّبَا وَاَلَّذِي قَالَ : إنَّ الِاسْمَ غُيِّرَ عَمَّا عَلَيْهِ مُقْتَضَى اللُّغَةِ مَمْنُوعٌ فَإِنَّهُ دَعْوَى الْمَجَازِ أَيْضًا فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ أَيْضًا إلَّا بِدَلِيلٍ فَأَمَّا حَدِيثُ عُمَرَ فَلَهُ تَأْوِيلَانِ ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ : وَإِنَّ مِنْ الرِّبَا أَبْوَابًا لَا يَكَدْنَ يَخْفَيْنَ عَلَى أَحَدٍ ، مِنْهَا السَّلَمُ فِي السِّنِّ مَا كَانُوا اعْتَادُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ يُسَلِّمُ فِي ابْنَةِ مَخَاضٍ فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ زَادَهُ فِي السِّنِّ وَجَعَلَهُ ابْنَةَ لَبُونٍ لِيَزِيدَهُ فِي الْأَجَلِ ثُمَّ يَزِيدَهُ إلَى سِنِّ الْحُقَّةِ وَالْجَذَعَةِ وَفِي ذَلِكَ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى : { لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً } فَتِلْكَ الزِّيَادَةُ خَالِيَةٌ عَنْ عِوَضٍ هُوَ

مَالٌ وَلِهَذَا قَالَ : إنَّهُ مِنْ الرِّبَا الَّذِي لَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ ( وَالثَّانِي ) أَنَّ الْمُرَادَ السَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ وَالْحَيَوَانُ مِمَّا يَتَفَاوَتُ وَالْمُسْلَمُ فِيهِ دَيْنٌ فَإِنَّمَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِذِكْرِ الْوَصْفِ وَرَأْسِ الْمَالِ بِمُقَابَلَةِ الْأَوْصَافِ الْمَذْكُورَةِ عِنْدَ الْعَقْدِ ثُمَّ عِنْدَ الْقَبْضِ يَتَمَكَّنُ التَّفَاوُتُ فِي الْمَالِيَّةِ بَيْنَ الْمَقْبُوضِ وَالْمَوْصُوفِ عِنْدَ الْعَقْدِ لَا مَحَالَةَ فَتِلْكَ الزِّيَادَةُ كَأَنَّهَا خَالِيَةٌ عَنْ عِوَضٍ هُوَ مَالٌ وَلِهَذَا جُعِلَ مِنْ الرِّبَا الَّذِي لَا يَكَادُ يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ وَإِنْ سَلَّمُوا أَنَّ حُكْمَ النَّصِّ وُجُوبُ الْمُمَاثَلَةِ لَا يَبْقَى لَهُمْ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمُمَاثَلَةِ لَا تَكُونُ إلَّا فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ لِلْمُمَاثَلَةِ وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمُوا فَالدَّلِيلُ عَلَى إثْبَاتِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّ الْأَمْوَالَ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ مُتَفَاوِتَةٌ فِي نَفْسِهَا كَالثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ فَلَا تَجِبُ الْمُمَاثَلَةُ فِيهَا لِلْمُبَايَعَةِ وَأَمْثَالٍ مُتَقَارِبَةٍ كَالسِّهَامِ وَلَا تَجِبُ الْمُمَاثَلَةُ فِيهَا أَيْضًا لِلْمُبَايَعَةِ وَأَمْثَالٍ مُتَسَاوِيَةٍ كَالْفُلُوسِ الرَّابِحَةِ وَتَجِبُ الْمُمَاثَلَةُ فِيهَا حَتَّى إذَا بَاعَ فَلْسًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ بِفَلْسَيْنِ بِغَيْرِ أَعْيَانِهِمَا لَا يَجُوزُ لِلرَّسَنَةِ فَإِنَّ بَيْعَ فَلْسٍ بِفَلْسٍ جَائِزٌ بَلْ لِوُجُوبِ الْمُمَاثَلَةِ فَإِنَّ إحْدَى الْفَلْسَيْنِ يَبْقَى بِغَيْرِ شَيْءٍ لَمَّا كَانَتْ أَمْثَالًا مُتَسَاوِيَةً بِصِفَةِ الرَّوَاجِ فَيَكُونُ ذَلِكَ رِبًا وَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَيْنِهِ فَكَأَنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ أَعْرَضَا عَنْ الِاصْطِلَاحِ عَلَى كَوْنِهَا أَمْثَالًا مُتَسَاوِيَةً وَلِهَذَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ فَتَصِيرُ أَمْثَالًا مُتَقَارِبَةً كَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ الشَّرْعُ هُنَا نَصَّ عَلَى اشْتِرَاطِ الْمُمَاثَلَةِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ فَعَرَفْنَا أَنَّهَا أَمْثَالٌ مُتَسَاوِيَةٌ وَإِنَّمَا تَكُونُ أَمْثَالًا مُتَسَاوِيَةً بِالْجِنْسِ وَالْقَدْرِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ حَادِثٍ فِي الدُّنْيَا

مَوْجُودٌ بِصُورَتِهِ وَمَعْنَاهُ فَإِنَّمَا بَطَلَتْ الْمُمَاثَلَةُ مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ وَالْمُمَاثَلَةُ صُورَةٌ بِاعْتِبَارِ الْقَدْرِ ؛ لِأَنَّ الْمِعْيَارَ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ كَالطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالْمُمَاثَلَةِ مَعْنِيٌّ بِاعْتِبَارِ الْجِنْسِيَّةِ وَلَكِنَّ هَذِهِ الْمُمَاثَلَةَ لَا تَكُونُ قَطْعًا إلَّا بِشَرْطٍ وَهُوَ سُقُوطُ قِيمَةِ الْجَوْدَةِ مِنْهَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا أَجْوَدُ مِنْ الْآخَرِ وَإِذَا سَقَطَتْ قِيمَةُ الْجَوْدَةِ مِنْهَا صَارَتْ أَمْثَالًا مُتَسَاوِيَةً قَطْعًا فَإِنَّمَا يُقَابَلُ الْبَعْضُ بِالْبَعْضِ فِي الْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ الذَّاتُ فَإِذَا كَانَ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ فَضْلٌ كَانَ ذَلِكَ الْفَضْلُ خَالِيًا عَنْ الْمُقَابَلَةِ وَالْفَضْلُ الْخَالِي عَنْ الْمُقَابَلَةِ رِبًا فَإِذَا جُعِلَ شَرْطًا فِي الْعَقْدِ فَسَدَ بِهِ الْعَقْدُ وَهَكَذَا فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ إلَّا أَنَّ الْفَضْلَ الْخَالِيَ عَنْ الْمُقَابَلَةِ هُنَاكَ إنَّمَا يَظْهَرُ بِالشَّرْطِ حَتَّى لَوْ بَاعَ ثَوْبًا بِثَوْبٍ بِشَرْطِ أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ مَعَ ذَلِكَ ثَوْبًا آخَرَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْفَضْلُ يَظْهَرُ بِالشَّرْطِ وَهُنَا يَظْهَرُ شَرْعًا لِوُجُوبِ الْمُمَاثَلَةِ فَثَبَتَ بِمَا قَرَّرْنَا أَنَّ الْعِلَّةَ لِهَذَا الْحُكْمِ بِالتَّأْثِيرِ فِي إيجَابِ الْمُمَاثَلَةِ وَهُوَ الْجِنْسُ وَالْقَدْرُ وَإِنَّ شَرْطَ عَمَلِ الْعِلَّةِ سُقُوطُ قِيمَةِ الْجَوْدَةِ مِنْهَا وَهَذَا شَرْطٌ عَرَفْنَاهُ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَيِّدُهَا وَرَدِيُّهَا سَوَاءٌ وَبِدَلِيلٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ بَاعَ قَفِيزَ حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ بِقَفِيزِ حِنْطَةٍ رَدِيَّةٍ وَدِرْهَمٍ لَا يَجُوزُ وَمَا كَانَ مَالًا مُتَقَوِّمًا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ كَالْبَيْعِ وَإِنَّمَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَمَّا فَسَدَ بِتَقَوُّمِهِ شَرْعًا كَالْخَمْرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَلَمَّا لَمْ يَجُزْ الِاعْتِيَاضُ عَنْ الْجَوْدَةِ هُنَا عَرَفْنَا أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلْجَوْدَةِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِالْجِنْسِ ثُمَّ إثْبَاتُ الْحُكْمِ بِهَذَا الطَّرِيقِ يَكُونُ عَلَى مُوَافَقَةِ الْأُصُولِ وَعَلَى مَا

يَدَّعِيهِ الْخَصْمُ أَنَّ الْحُكْمَ حُرْمَةُ فَضْلٍ فِي الذَّاتِ يَكُونُ إثْبَاتَ الْحُكْمِ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأُصُولِ فَالْبَيْعُ مَا شُرِعَ إلَّا لِطَلَبِ الرِّبْحِ وَالْفَضْلِ فَالْفَضْلُ الَّذِي يُقَابِلُهُ الْعِوَضُ حَلَالٌ كَكَسْبِهِ بِالْبَيْعِ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ أَنْ يُجْعَلَ حَرَامًا بِالرَّأْيِ وَإِنْ أَرَدْتَ تَحْرِيرَ النُّكْتَةِ قُلْتُ التُّفَّاحُ وَالرُّمَّانُ مَالٌ لَمْ يَسْقُطْ قِيمَةُ الْجَوْدَةِ مِنْهُ عِنْدَ الْمُبَايَعَةِ فَيَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ كَيْفَ مَا كَانَ كَالثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ ثُمَّ تَقْرِيرُهُ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا وَبِهَذَا يُعَلَّلُ فِي الْقَلِيلِ مِنْ الْحِنْطَةِ كَالْحَفْنَةِ وَنَحْوِهَا فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا وَلَوْ غَصَبَ مِنْ آخَرَ حَفْنَةً مِنْ حِنْطَةٍ فَنَقَصَتْ عِنْدَهُ لَيْسَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ النُّقْصَانَ مَعَ أَخْذِ حِنْطَتِهِ وَلَوْ كَانَ لِلْجَوْدَةِ مِنْهَا قِيمَةٌ لَكَانَ لَهُ ذَلِكَ كَمَا فِي التُّفَّاحِ وَالرُّمَّانِ وَالثِّيَابِ وَنَحْوِهَا قُلْنَا الْوَاجِبُ عَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ الْحَفْنَةَ لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فَإِنَّ الْمُمَاثَلَةَ بِالْمِعْيَارِ وَلَيْسَ لِلْحَفْنَةِ مِعْيَارٌ أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْقِيمَةُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَالِيَّةَ وَالْقِيمَةَ فِي الْحِنْطَةِ لَا تُعْلَمُ إلَّا بِالْكَيْلِ فَلَا بُدَّ مِنْ إظْهَارِ قِيمَةِ هَذَا الْمَغْصُوبِ مِنْ اعْتِبَارِ الْكَثِيرِ وَهُوَ الْقَفِيزُ وَعِنْدَ اعْتِبَارِ ذَلِكَ لَا قِيمَةَ لِلْجَوْدَةِ فَلَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ النُّقْصَانِ لِيُوجِبَ ذَلِكَ عَلَى الْغَاصِبِ وَيُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الْقِيمَةِ بِالْحِرْزِ فَيُوجِبُ الْقِيمَةَ وَيَكُونُ شَرْطُ الِاسْتِيفَاءِ تَسْلِيمَ الْعَيْنِ إلَى الْغَاصِبِ فَإِذَا أَرَادَ اسْتِرْدَادَ الْعَيْنِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِشَيْءٍ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ عَبْدٍ عِنْدَ إنْسَانٍ فَأَرَادَ الْمَوْلَى إمْسَاكَ الْعَبْدِ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ : وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قُلْنَا : لَوْ بَاعَ حَفْنَةً بِقَفِيزٍ لَا يَجُوزُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْقَفِيزَ لَا قِيمَةَ لِلْجَوْدَةِ مِنْهُ

فَتَكُونُ الْمُقَابَلَةُ بِاعْتِبَارِ الذَّاتِ فَيَظْهَرُ الْفَضْلُ الْخَالِي عَنْ الْمُقَابَلَةِ بِخِلَافِ الْحَفْنَةِ بِالْحَفْنَتَيْنِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُقَابِلُ الْآخَرَ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْقَفِيزِ وَبِدُونِ اعْتِبَارِهِ لِلْجَوْدَةِ قِيمَةً فَلَا يَظْهَرُ الْفَضْلُ الْخَالِي عَنْ الْمُقَابَلَةِ وَيَتَبَيَّنُ بِمَا ذَكَرْنَا فَسَادُ عِلَّةِ الْخَصْمِ بِالطَّعْمِ وَالثَّمَنِيَّةِ فَإِنَّهَا عِلَّةٌ قَاصِرَةٌ لَا تَتَعَدَّى إلَى الْفُرُوعِ ؛ وَلِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْحُكْمَ عَلَى مُخَالَفَةِ الْأُصُولِ ؛ وَلِأَنَّ الطَّعْمَ عِبَارَةٌ عَنْ أَعْظَمِ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَالِ وَكَذَلِكَ الثَّمَنِيَّةُ فَإِنَّهَا تُنْبِئُ عَنْ شِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَتَأْثِيرُ الْحَاجَةِ فِي الْإِبَاحَةِ لَا فِي الْحُرْمَةِ كَتَنَاوُلِ الْمَيْتَةِ تَحِلُّ بِاعْتِبَارِ الضَّرُورَةِ وَلَا مَعْنَى لِمَا قَالَ : إنَّ الشَّرْعَ مَا حَرَّمَ الْبَيْعَ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ إلَّا مَا حَرَّمَ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ وَهُوَ الْفَضْلُ الْخَالِي عَنْ الْمُقَابَلَةِ وَهَذَا لِأَنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ بَذْلَةٌ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ حَتَّى يَجُوزَ تَنَاوُلُهَا بِدُونِ الْمِلْكِ بِالْإِبَاحَةِ وَبِالْمِلْكِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَهُوَ الْهِبَةُ بِخِلَافِ الْبُضْعِ فَإِنَّهُ مَصُونٌ عَنْ الِابْتِذَالِ يَلْحَقُ بِالنُّفُوسِ فَيَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي النِّكَاحِ زِيَادَةُ شَرْطٍ لِإِظْهَارِ خَطَرِ الْمَحَلِّ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ فَسَادُ مَا قَالَ : إنَّ الِاسْمَ الْمُشْتَقَّ مِنْ فِعْلٍ إذَا عُلِّقَ بِهِ الْحُكْمُ يَصِيرُ ذَلِكَ الْفِعْلُ عِلَّةً ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ الْفِعْلُ عِلَّةً إذَا كَانَ صَالِحًا لَهُ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَإِذَا كَانَتْ الثَّمَنِيَّةُ وَالطَّعْمُ يُنْبِئَانِ عَنْ شِدَّةِ الْحَاجَةِ فَلَا يَصْلُحَانِ أَنْ يَكُونَا عِلَّةً لِلْحُرْمَةِ وَاَلَّذِي قَالَ : إنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ نَصَّ عَلَى الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ قُلْنَا قَدْ نَصَّ عَلَى الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ وَعَطَفَ بَعْضَهَا عَلَى الْبَعْضِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ فِي الْكُلِّ وَاحِدَةً وَذَلِكَ الْجِنْسُ وَالْقَدْرُ ثُمَّ الْكَيْلُ

وَالْوَزْنُ اخْتِلَافُ عِبَارَةٍ فِي الْقَدْرِ كَالصَّاعِ وَالْقَفِيزِ وَنَحْوِهِ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ فِي النُّقُودِ الثَّمَنِيَّةَ وَفِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ الْأَرْبَعَةِ الطَّعْمُ لَمْ يَسْتَقِمْ عَطْفُ بَعْضِهَا عَلَى الْبَعْضِ إذْ لَا مُوَافَقَةَ بَيْنَ الثَّمَنِيِّةِ وَالطَّعْمِ وَاَلَّذِي قَالَ : الْقَدْرُ عِلَّةٌ لِلْخَلَاصِ لَا كَذَلِكَ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ جَوَازَ الْبَيْعِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ أَصْلٌ فَحَيْثُ مُفْسِدٌ إنَّمَا يَفْسُدُ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ الْمُفْسِدَةِ لِذَلِكَ فَإِمَّا جَوَازٌ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ لَا بِاعْتِبَارِ الْمُخَلِّصِ وَلَئِنْ كَانَ هَذَا مُخَلِّصًا فَهُوَ مُخَلِّصٌ فِي حَالَةِ التَّسَاوِي وَعِلَّةُ الرِّبَا فِي حَالَةِ الْفَضْلِ وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ يَتَضَمَّنُ حُكْمَيْنِ فِي مَحَلَّيْنِ كَالنِّكَاحِ يُثْبِتُ الْمَحَلَّ لِلْمَنْكُوحَةِ وَالْحُرْمَةَ فِي أُمِّهَا وَإِنَّمَا جَعَلْنَا الْقَدْرَ مُخَلِّصًا لِأَنَّ الْخَلَاصَ عَنْ الرِّبَا بِالْمُسَاوَاةِ فِي الْقَدْرِ وَذَلِكَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ فَكَذَلِكَ الْوُقُوعُ فِي الرِّبَا بِالْفَضْلِ عَلَى الْقَدْرِ وَذَلِكَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَرُبَّمَا يَقُولُ بَعْضُهُمْ إنَّ الْحَفْنَةَ مُقَدَّرَةٌ إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ مِقْدَارِهَا إلَّا بِضَمِّ أَمْثَالِهَا إلَيْهَا وَلَا تَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ تَكُونَ مِقْدَارًا كَالصُّبْرَةِ وَهَذَا فَاسِدٌ فَإِنَّ الْمُقَدَّرَ لَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ مِقْدَارِهِ فَإِذَا ضُمَّ إلَى الْحَفْنَةِ أَمْثَالُهَا وَكِيلَتْ يَصِيرُ مِقْدَارُ الْقَفِيزِ مَعْلُومًا لَا مِقْدَارَ الْحَفْنَةِ بِخِلَافِ الصُّبْرَةِ فَإِنَّهَا إذَا فُرِّقَتْ أَجْزَاءً وَكِيلَتْ يَصِيرُ مِقْدَارُ الصُّبْرَةِ مَعْلُومًا

فَأَمَّا عِلَّةُ رِبَا النَّسَاءِ أَحَدُ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ إمَّا الْجِنْسُ أَوْ الْقَدْرُ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ - : { وَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ } فَقَدْ أُلْغِيَ رِبَا النَّسَاءِ بَعْدَ انْعِدَامِ الْجِنْسِيَّةِ لِبَقَاءِ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ وَالشَّافِعِيُّ لَا يُخَالِفُنَا فِيمَا هُوَ الْعِلَّةُ عِنْدَهُ أَيْضًا وَإِنَّمَا يُخَالِفُنَا فِي الْجِنْسِيَّةِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْجِنْسِيَّةَ شَرْطٌ لَا عِلَّةٌ وَسَنُبَيِّنُ هَذَا الْفَضْلَ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

وَعَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ : أَسْلِمْ مَا يُكَالُ فِيمَا يُوزَنُ وَأَسْلِمْ مَا يُوزَنُ فِيمَا يُكَالُ وَلَا تُسْلِمْ بِالْوَزْنِ فِيمَا يُوزَنُ وَلَا مَا يُكَالُ فِيمَا يُكَالُ وَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ مِمَّا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَاحِدًا بِاثْنَيْنِ يَدًا بِيَدٍ وَلَا بَأْسَ بِهِ نَسِيئَةً وَإِنْ كَانَ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ مِمَّا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ فَلَا بَأْسَ بِهِ اثْنَيْنِ بِوَاحِدٍ يَدًا بِيَدٍ وَلَا خَيْرَ فِي نَسِيئَتِهِ وَنَقُولُ أَمَّا قَوْلُهُ : أَسْلِمْ مَا يُكَالُ فِيمَا يُوزَنُ غَيْرُ مَجْرِيٍّ عَلَى ظَاهِرِهِ بَلْ الْمُرَادُ إذَا كَانَ الْمَوْزُونُ مِمَّا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُسْلَمًا فِيهِ بِأَنْ يَكُونَ مَبِيعًا مَضْبُوطًا بِالْوَصْفِ حَتَّى إذَا أَسْلَمَ الْحِنْطَةَ فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ فِي الْقَدِيمِ أَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ النَّقْدَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَبِيعًا حَتَّى يَتَعَيَّنَ بِالتَّعَيُّنِ فَأَمَّا عِنْدَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَبِيعًا حَتَّى يَتَعَيَّنَ بِالتَّعْيِينِ وَالْمُسْلَمُ فِيهِ مَبِيعٌ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا أَسْلَمَا ، قَالَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ : يَكُونُ هَذَا عَقْدًا بَاطِلًا وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الْأَعْمَشُ يَقُولُ إنَّهُ بَيْعُ الْحِنْطَةِ بِدَرَاهِمَ مُؤَجَّلَةٍ فَيَكُونُ صَحِيحًا لِأَنَّ تَحْصِيلَ مَقْصُودِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَاجِبٌ وَقَدْ قَصَدَا مُبَادَلَةَ الْحِنْطَةِ بِالدَّرَاهِمِ مُؤَجَّلَةً وَمَا ذَكَرَهُ عِيسَى أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي السَّلَمِ الْمُسْلَمُ فِيهِ فَإِنَّمَا يَشْتَغِلُ بِتَصْحِيحِ الْعَقْدِ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي أَوْجَبْنَا الْعَقْدَ فِيهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَلَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِهِ فِي مَحَلٍّ آخَرَ ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُوجِبَا الْعَقْدَ فِيهِ وَقَوْلُهُ : وَأَسْلِمْ مَا يُوزَنُ فِيمَا يُكَالُ مَجْرِيٌّ عَلَى ظَاهِرِهِ فَإِنَّ إسْلَامَ الْمَكِيلِ فِي الْمَوْزُونِ جَائِزٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِانْعِدَامِ الْوَصْفَيْنِ جَمِيعًا إذْ الِاتِّفَاقُ بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ فِي الْجِنْسِ وَلَا فِي الْقَدْرِ

وَالْمَوْزُونِ غَيْرِ الْمَكِيلِ وَقَوْلُهُ : وَلَا تُسَلِّمْ مَا يُوزَنُ فِيمَا يُوزَنُ غَيْرُ مَجْرِيٍّ عَلَى ظَاهِرِهِ أَيْضًا بَلْ الْمُرَادُ إذَا كَانَا مُتَّفِقَيْنِ فِي الْمَعْنَى بِأَنْ كَانَا مُثَمَّنَيْنِ كَالزَّعْفَرَانِ مَعَ الْقُطْنِ

فَأَمَّا إذَا كَانَ مُخْتَلِفَيْنِ فِي الْمَعْنَى فَذَلِكَ جَائِزٌ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ النُّقُودَ فِي الزَّعْفَرَانِ أَوْ الْحَدِيدِ أَوْ الْقُطْنِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَالْعِرَاقِيُّونَ مِنْ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - يَقُولُونَ : الْجَوَازُ لِلْحَاجَةِ ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ يَكُونُ مِنْ النُّقُودِ عَادَةً وَالْحَاجَةُ تَمَسُّ إلَى إسْلَامِهَا فِي الْمَوْزُونَاتِ وَالْمَكِيلَاتِ جَمِيعًا وَلَكِنْ هَذَا كَلَامُ مَنْ يُجَوِّزُ تَخْصِيصَ الْعِلَلِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَسْنَا نَقُولُ بِهِ بَلْ نَقُولُ اتِّفَاقُهُمَا فِي الْوَزْنِ صُورَةً لَا مَعْنًى وَحُكْمًا فَإِنَّ الْوَزْنَ فِي النُّقُودِ لَيْسَ نَظِيرَ الْوَزْنِ فِي الزَّعْفَرَانِ فَإِنَّ الزَّعْفَرَانَ يُوزَنُ بِالْإِنَاءِ وَيَكُونُ مُثَمَّنًا يَتَعَيَّنُ فِي الْعُقُودِ وَالنَّقْدُ يُوزَنُ بِالصَّنَجَاتِ وَيَكُونُ ثَمَنًا لَا يَتَعَيَّنُ فِي الْعَقْدِ وَمِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ صِفَةُ الْوَزْنِ يَلْزَمُ فِي الزَّعْفَرَانِ حَتَّى لَوْ اشْتَرَى زَعْفَرَانًا بِشَرْطِ الْوَزْنِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يَزِنَهُ وَلَا يَلْزَمُ فِي النُّقُودِ حَتَّى لَوْ بَاعَ شَيْئًا بِدِرْهَمٍ بِشَرْطِ الْوَزْنِ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يَزِنَهُ فَمَا كَانَ هَذَا إلَّا نَظِيرَ الْمَوْزُونِ مَعَ الْمَكِيلِ فَإِنَّهُمَا اسْتَوَيَا مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقَدَّرٌ صُورَةً وَلَكِنْ لَمَّا اخْتَلَفَا فِي الْمَعْنَى وَالْحُكْمِ جُوِّزَ إسْلَامُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ فَكَذَلِكَ النُّقُودُ مَعَ سَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ

وَقَوْلُهُ : وَلَا مَا يُكَالُ فِيمَا يُكَالُ مَجْرِيٌّ عَلَى ظَاهِرِهِ فَإِنَّ إسْلَامَ الْمَكِيلِ فِي الْمَكِيلِ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ لِاتِّفَاقِهِمَا فِي قَدْرٍ وَاحِدٍ وَقَوْلُهُ : وَإِذَا اخْتَلَفَا النَّوْعَانِ مِمَّا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَاحِدًا بِاثْنَيْنِ يَدًا بِيَدٍ هَذَا مَجْرِيٌّ عَلَى ظَاهِرِهِ لِانْعِدَامِ الْعِلَّةِ الْمُحَرِّمَةِ لِلْفَضْلِ وَقَوْلُهُ : وَلَا بَأْسَ بِهِ نَسِيئَةً هَذَا غَيْرُ مَجْرِيٍّ عَلَى ظَاهِرِهِ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ إذَا كَانَ مَا يُجْعَلُ مُسْلَمًا فِيهِ يَصِيرُ مَضْبُوطًا بِالْوَصْفِ عَلَى وَجْهٍ يَلْتَحِقُ بِذِكْرِ الْوَصْفِ بِذَوَاتِ الْأَمْثَالِ حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ ثَوْبًا فِي جَوْهَرَةٍ أَوْ دُرَّةٍ لَا يَجُوزُ وَكَذَلِكَ فِي الْحَيَوَانِ عِنْدَنَا .
وَقَوْلُهُ : وَإِنْ كَانَ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ مِمَّا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ فَلَا بَأْسَ بِهِ اثْنَانِ بِوَاحِدٍ يَدًا بِيَدٍ هَذَا مَجْرِيٌّ عَلَى ظَاهِرِهِ وَهُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا بَأْسَ بِبَيْعِ النَّجِيبَةِ بِالْإِبِلِ وَالْفَرَسِ بِالْأَفْرَاسِ يَدًا بِيَدٍ } وَقَوْلُهُ : لَا خَيْرَ فِيهِ نَسِيئَةً هُوَ قَوْلُ عُلَمَائِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَإِنَّ الْجِنْسَ عِنْدَنَا يُحَرِّمُ النَّسَاءَ بِانْفِرَادِهِ حَتَّى لَوْ أَسْلَمَ ثَوْبًا هَرَوِيًّا فِي ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ وَكَانَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ : إنْ اخْتَلَفَا فِي الصِّفَةِ يَجُوزُ فَكَأَنَّهُ يَجْعَلُ اخْتِلَافَ الْجِنْسِ بِاخْتِلَافِ الصِّفَةِ وَلَوْ أَسْلَمَ هَرَوِيًّا فِي مَرْوِيٍّ جَازَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَا يَجُوزُ فَكَأَنَّهُ يَجْعَلُ اخْتِلَافَ الْجِنْسِ بِاخْتِلَافِ الْأَصْلِ فَأَمَّا إذَا اتَّحَدَ الْأَصْلُ فَالْكُلُّ عِنْدَهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ أَوْ بِاعْتِبَارِ تَقَارُبِ الْمَنْفَعَةِ يَجْعَلُ الْهَرَوِيَّ وَالْمَرْوِيَّ جِنْسًا وَاحِدًا وَقَدْ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْهُ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ أَيْضًا أَنَّهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ لِتَقَارُبِ الْمَنْفَعَةِ .
لَكِنَّ هَذَا بَعِيدٌ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

عَطَفَ الشَّعِيرَ عَلَى الْحِنْطَةِ ثُمَّ قَالَ : ( وَإِذَا اخْتَلَفَا النَّوْعَانِ فَكَذَلِكَ ) بَيَانٌ أَنَّهُمَا جِنْسَانِ وَكَذَلِكَ الْمَصْنُوعُ مِنْ أَصْلٍ لَا يَكُونُ جِنْسًا لِلْأَصْلِ كَالْقُطْنِ مَعَ الثَّوْبِ فَكَيْفَ يَكُونُ جِنْسًا لِمَصْنُوعٍ آخَرَ عَلَى هَيْئَةٍ أُخْرَى مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ فَعَرَفْنَا أَنَّ بِاتِّحَادِ الْأَصْلِ لَا تَثْبُتُ الْمُجَانَسَةُ وَبِاخْتِلَافِ الصِّفَةِ لَا تَنْعَدِمُ الْمُجَانَسَةُ أَيْضًا كَمَا فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ فَالْحِنْطَةُ الْعَفِنَةُ مَعَ الْحِنْطَةِ الْجَيِّدَةِ جِنْسٌ وَاحِدٌ وَكَذَلِكَ السَّقْيُ مَعَ التَّجَنُّبِيِّ وَالْفَارِسِيِّ مَعَ الدَّقَلِ فِي التَّمْرِ جِنْسٌ وَاحِدٌ مَعَ اخْتِلَافِ الْوَصْفِ فَأَمَّا الشَّافِعِيُّ فَإِنَّمَا بَنَى مَذْهَبَهُ عَلَى مَا قُلْنَا إنَّ الْجِنْسِيَّةَ عِنْدَهُ شَرْطٌ وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ ذَلِكَ وَعَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ يُحْتَجُّ بِحَدِيثِ { عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَهَّزَ جَيْشًا فَفَرَّتْ الْإِبِلُ فَأَمَرَنِي أَنْ أَشْتَرِيَ بَعِيرًا بِبَعِيرَيْنِ إلَى أَجَلٍ } وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ بَاعَ بَعِيرًا يُقَالُ لَهُ : عُصْفُورٌ بِعِشْرِينَ بَعِيرًا إلَى أَجَلٍ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ بَاعَ بَعِيرًا بِأَرْبَعَةِ أَبْعِرَةٍ إلَى أَجَلٍ وَلِأَنَّ هَذَا عَقْدٌ جَمَعَ بَيْنَ بَدَلَيْنِ لَوْ قُوبِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجِنْسِهِ عَيْنًا حَلَّ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا فَيَجُوزُ إسْلَامُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ كَالْهَرَوِيِّ مَعَ الْمَرْوِيِّ وَتَأْثِيرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ بِاعْتِبَارِ التَّأْجِيلِ فِي أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ يَظْهَرُ التَّفَاوُتُ فِي الْمَالِيَّةِ حُكْمًا وَالتَّفَاوُتُ فِي الْمَالِيَّةِ حَقِيقَةً أَكْثَرُ تَأْثِيرًا مِنْ التَّفَاوُتِ فِي الْمَالِيَّةِ حُكْمًا فَإِذَا كَانَ التَّفَاوُتُ فِي الْمَالِيَّةِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ حَقِيقَةً لَا أَثَرَ لَهُ فِي الْمَنْعِ مِنْ جَوَازِ الْعَقْدِ فَالتَّفَاوُتُ حُكْمًا أَوْلَى وَهَذَا لِأَنَّ حُكْمَ الرِّبَا فِي خَاصٍّ مِنْ الْأَمْوَالِ وَجَعْلِ الْجِنْسِيَّةِ عِلَّةً تُؤُدِّيَ إلَى تَعْمِيمِ

حُكْمِ الرِّبَا فِي كُلِّ مَالٍ فَمَا مِنْ مَالٍ إلَّا وَلَهُ جِنْسٌ فَمَا كَانَتْ الْجِنْسِيَّةُ إلَّا نَظِيرَ الْمَالِيَّةِ ثُمَّ لَا يَجُوزُ جَعْلُ الْمَالِيَّةِ عِلَّةَ الرِّبَا فَكَذَلِكَ الْجِنْسِيَّةُ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { نَهَى عَنْ بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً } وَلَا يُحْمَلُ هَذَا عَلَى النَّسِيئَةِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُسْتَفَادُ بِنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ } ؛ وَلِأَنَّهُ إذَا قِيلَ بَاعَ فُلَانٌ عَبْدَهُ بِالْحَيَوَانِ نَسِيئَةً فَإِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهُ النَّسِيئَةُ فِي الْبَدَلِ خَاصَّةً وَمُطْلَقُ الْكَلَامِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَتَفَاهَمُهُ النَّاسُ وَتَأْوِيلُ مَا رَوَوْا مِنْ الْآثَارِ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ الرِّبَا وَكَانَ ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَعِنْدَنَا لَا يَجُوزُ الرِّبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَتَجْهِيزُ الْجَيْشِ وَإِنْ كَانَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ تَقِلُّ الْآلَاتُ كَمَا لَوْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِعِزَّتِهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ يَوْمَئِذٍ وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوَّى بَيْنَ الْجِنْسِيَّةِ وَالْقَدْرِ فِي أَوَّلِ الْحَدِيثِ ثَمَّ ، قَالَ : ( وَإِذَا اخْتَلَفَا النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ ) فَقَدْ أَبْقَى رِبَا النَّسَاءِ لِبَقَاءِ مَا هُوَ قَرِيبُهُ وَهُوَ الْجِنْسُ فَكَانَ ذَلِكَ تَنْصِيصًا عَلَى ثُبُوتِ رِبَا النَّسَاءِ عِنْدَ وُجُودِ الْجِنْسِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ مَتَى ثَبَتَتْ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ بِالنَّصِّ ثُمَّ خُصَّ جِنْسُ أَحَدِهِمَا بِحُكْمٍ كَانَ ذَلِكَ تَنْصِيصًا عَلَى ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي الْآخَرِ كَالرَّجُلِ يَقُولُ اجْعَلْ زَيْدًا وَعَمْرًا فِي الْعَطِيَّةِ سَوَاءً ثُمَّ يَقُولُ أَعْطِ زَيْدًا دِرْهَمًا يَكُونُ ذَلِكَ تَنْصِيصًا عَلَى أَنْ يُعْطِيَ عَمْرًا أَيْضًا دِرْهَمًا وَلَا يَسْتَقِيمُ اعْتِبَارُ رِبَا النَّسَاءِ بِرِبَا الْفَضْلِ لِاتِّفَاقِنَا عَلَى أَنَّ رِبَا النَّسَاءِ أَعَمُّ حَتَّى يَثْبُتَ فِي بَيْعِ

الْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ رِبَا الْفَضْلِ وَلَيْسَ الْجِنْسُ كَالْمَالِيَّةِ ؛ لِأَنَّ جَعْلَ الْمَالِيَّةِ عِلَّةً تُؤُدِّيَ إلَى تَعْمِيمِ الرِّبَا فِي الْبُيُوعِ كُلِّهَا ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي مَالٍ مُتَقَوِّمٍ وَالشَّرْعُ فَصَلَ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالرِّبَا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَالِيَّةَ لَيْسَتْ بَعْلَةٍ فِيهِ وَلَيْسَ فِي جَعْلِ الْجِنْسِيَّةِ عِلَّةً تَعْمِيمُ الرِّبَا فِي الْعُقُودِ كُلِّهَا وَالْقِيَاسُ عَلَى أُصُولٍ تَنْعَدِمُ فِيهَا الْجِنْسِيَّةُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ انْعِدَامَ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الْعِلَّةِ دَلِيلُ صِحَّةِ الْعِلَّةِ لَا دَلِيلُ فَسَادِهَا وَلِأَنَّ إسْلَامَ الشَّيْءِ فِي جِنْسِهِ يُؤَدِّي إلَى إخْلَاءِ الْعَقْدِ عَنْ الْفَائِدَةِ وَإِلَى أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ عِوَضًا وَمُعَوَّضًا وَإِلَى فَضْلٍ خَالٍ عَنْ الْعِوَضِ مُسْتَحَقٍّ بِالْبَيْعِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ بَيَانُهُ أَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ ثَوْبًا هَرَوِيًّا فِي ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ فَإِنَّهُ يَلْزَمُ تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْحَالِ ثُمَّ إذَا حَلَّ الْأَجَلُ يَرُدُّ ذَلِكَ الثَّوْبَ بِعَيْنِهِ وَالْمَقْبُوضُ بِحُكْمِ السَّلَمِ فِي حُكْمِ عَيْنِ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ فَلَوْ جَوَّزْنَا هَذَا الْعَقْدَ لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا شَيْئًا وَيَكُونُ الثَّوْبُ الْوَاحِدُ عِوَضًا وَمُعَوَّضًا وَإِذَا أَسْلَمَ ثَوْبًا هَرَوِيًّا فِي ثَوْبَيْنِ هَرَوِيَّيْنِ لَوْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ لَكَانَ إذَا حَلَّ الْأَجَلُ أَخَذَ مِنْهُ ذَلِكَ الثَّوْبَ بِعَيْنِهِ وَثَوْبًا آخَرَ فَالثَّوْبُ الْآخَرُ يَكُونُ فَضْلًا خَالِيًا عَنْ الْعِوَضِ مُسْتَحَقًّا بِالْبَيْعِ وَهُوَ الرِّبَا بِعَيْنِهِ

قَالَ : ( وَإِذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ فِي الطَّعَامِ كَيْلًا مَعْلُومًا وَأَجَلًا مَعْلُومًا وَضَرْبًا مِنْ الطَّعَامِ وَسَطًا أَوْ رَدِيًّا أَوْ جَيِّدًا وَاشْتَرَطَ الْمَكَانَ الَّذِي يُوَفِّيهِ فِيهِ فَهُوَ جَائِزٌ ) قَالَ : - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - ( اعْلَمْ بِأَنَّ السَّلَمَ أَخْذُ عَاجِلٍ بِآجِلٍ وَهُوَ نَوْعُ بَيْعٍ لِمُبَادَلَةِ الْمَالِ بِالْمَالِ اُخْتُصَّ بِاسْمٍ ) لِاخْتِصَاصِهِ بِحُكْمٍ يَدُلُّ الِاسْمُ عَلَيْهِ وَهُوَ تَعْجِيلُ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ وَتَأْخِيرُ الْآخَرِ كَالصَّرْفِ وَقِيلَ السَّلَمُ وَالسَّلَفُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَإِنَّمَا سُمِّيَ هَذَا الْعَقْدُ بِهِ لِكَوْنِهِ مُعَجَّلًا عَلَى وَقْتِهِ فَإِنَّ أَوَانَ الْبَيْعِ مَا بَعْدَ وُجُودِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي مِلْكِ الْعَاقِدِ وَإِنَّمَا يُقْبَلُ السَّلَمُ فِي الْعَادَةِ فِيمَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي مِلْكِهِ فَلِكَوْنِ الْعَقْدِ مُعَجَّلًا عَلَى وَقْتِهِ سُمِّيَ سَلَمًا وَسَلَفًا وَالْقِيَاسُ يَأْبَى جَوَازُهُ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ الْمَعْدُومِ وَبَيْعُ مَا هُوَ مَوْجُودٌ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِلْعَاقِدِ بَاطِلٌ فَبَيْعُ الْمَعْدُومِ أَوْلَى بِالْبُطْلَانِ وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ : - تَعَالَى - { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : أَشْهَدُ أَنَّ السَّلَمَ الْمُؤَجَّلَ فِي كِتَابِ اللَّهِ - تَعَالَى - أُنْزِلَ فِيهِ أَطْوَلُ آيَةٍ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ وَالسُّنَّةُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ } فَفِي هَذَا دَلِيلُ أَنَّهُ جَوَّزَهُ لِلْحَاجَةِ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمُعَجِّزِ لَهُ عَنْ التَّسْلِيمِ وَهُوَ عَدَمُ وُجُودِهِ فِي مِلْكِهِ وَلَكِنْ بِطَرِيقِ إقَامَةِ الْأَجَلِ مُقَامَ الْوُجُودِ فِي مِلْكِهِ رُخْصَةً ؛ لِأَنَّ بِالْوُجُودِ فِي مِلْكِهِ يَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَبِالْأَجَلِ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ إمَّا بِالتَّكَسُّبِ فِي الْمُدَّةِ أَوْ مَجِيءِ أَوَانِ الْحَصَادِ فِي الطَّعَامِ وَفِي الْحَدِيثِ

عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَهُمْ يُسَلِّفُونَ فِي الثِّمَارِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ فَقَالَ : - صَلَوَاتُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ - مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ } فَقَدْ قَرَّرَهُمْ عَلَى أَصْلِ الْعَقْدِ

وَبَيَّنَ شَرَائِطَهُ فَذَلِكَ دَلِيلُ جَوَازِ الْعَقْدِ ثُمَّ الشَّرَائِطُ الَّتِي يُحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهَا فِي السَّلَمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ سَبْعَةٌ ( إعْلَامُ ) الْجِنْسِ فِي الْمُسْلَمَ فِيهِ ( وَإِعْلَامُ النَّوْعِ ) ( وَإِعْلَامُ الْقَدْرِ ) وَ ( إعْلَامُ الصِّفَةِ ) وَ ( إعْلَامُ الْأَجَلِ ) وَ ( إعْلَامُ الْمَكَانِ ) الَّذِي يُوَفِّيهِ فِيهِ فِيمَا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ وَإِعْلَامُ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى قَدْرِهِ وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الشَّرَائِطِ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَيْنَا فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِإِعْلَامِ الْقَدْرِ بِأَنَّ تَرْكَ إعْلَامِهِ يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ الَّتِي تَمْنَعُ الْبَائِعَ عَنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَنْ أَنَّ كُلَّ جَهَالَةٍ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ الْمَانِعَةِ عَنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ يَجِبُ إزَالَتُهَا بِالْإِعْلَامِ وَجَهَالَةُ الْجِنْسِ تُفْضِي إلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ فَرَبُّ السَّلَمِ يُطَالِبُهُ بِإِعْلَامِ الْأَشْيَاءِ وَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ لَا يُعْطَى إلَّا أَدْنَى الْأَشْيَاءِ وَيَحْتَجُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِمُطْلَقِ الِاسْمِ فَلَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِ الْجِنْسِ لِقَطْعِ هَذِهِ الْمُنَازَعَةِ وَكَذَلِكَ إعْلَامُ النَّوْعِ فَإِنَّهُ إذَا أَسْلَمَ إلَيْهِ فِي تَمْرٍ فَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ يُعْطِيهِ الدَّقَلَ وَرَبُّ السَّلَمِ يُطَالِبُهُ بِالْفَارِسِيِّ وَيَحْتَجُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِمُطْلَقِ الِاسْمِ فَلَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِ النَّوْعِ لِقَطْعِ هَذِهِ الْمُنَازَعَةِ وَكَذَلِكَ إعْلَامُ الصِّفَةِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ إلَيْهِ فِي الْحِنْطَةِ فَرَبُّ السَّلَمِ يُطَالِبُهُ بِحِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ وَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ لَا يُسْلِمُ إلَّا الرَّدِيءَ وَيَحْتَجُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاسْمِ الْحِنْطَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الصِّفَةِ لِقَطْعِ هَذِهِ الْخُصُومَةِ وَإِعْلَامُ الْقَدْرِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ وَجَهَالَتُهُ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا الْعَقْدِ الِاسْتِرْبَاحُ وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ

إلَّا بِمَعْرِفَةِ مِقْدَارِ الْمَالِيَّةِ وَالْمَالِيَّةُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ وَالصِّفَةِ وَالْقَدْرِ فَلَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِ ذَلِكَ كُلِّهِ لِيَصِيرَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْلُومًا لَهُ فَأَمَّا الْأَجَلُ فَهُوَ مِنْ شَرَائِطِ السَّلَمِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : الْأَجَلُ يَثْبُتُ تَرْفِيهًا لَا شَرْطًا حَتَّى يَجُوزَ السَّلَمُ عِنْدَنَا حَالًّا فِي الْمَوْجُودِ فَأَمَّا فِي الْمَعْدُومِ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ إلَّا مُؤَجَّلًا وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِالْحَدِيثِ وَرَخَّصَ فِي السَّلَمِ فَأَثْبَتَ فِي السَّلَمِ رُخْصَةً مُطْلَقَةً وَاشْتِرَاطُ التَّأْجِيلِ فِيهِ لَا يَكُونُ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ .
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ صَارَ مُعَاوَضَةَ مَالٍ بِمَالٍ فَيَكُونُ الْأَجَلُ فِيهِ تَرْفِيهًا لَا شَرْطًا كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ وَشَرْطُ جَوَازِ الْعَقْدِ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَتَسْلِيمُ الدَّيْنِ بِالْمِثْلِ الْمَوْجُودِ فِي الْعَالَمِ وَالظَّاهِرُ مِنْ حَالِ الْعَاقِلِ أَنَّهُ لَا يُقْدِمُ عَلَى الْتِزَامِ تَسْلِيمِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَإِذَا قِيلَ السَّلَمُ فِيمَا هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْعَالَمِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَذَلِكَ يَكْفِي لِجَوَازِ الْعَقْدِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَادِرًا عَلَى التَّسْلِيمِ فِيمَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ يَقْدِرُ عَلَى التَّحْصِيلِ وَالتَّسْلِيمِ وَلِهَذَا أَوْجَبْنَا تَسْلِيمَ رَأْسِ الْمَالِ عَلَى رَبِّ السَّلَمِ أَوَّلًا قَبْلَ قَبْضِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَبِهَذَا فَارَقَ الْكِتَابَةَ الْحَالَّةَ ، قَالَ : ( فَإِنِّي لَا أُجَوِّزُ الْكِتَابَةَ الْحَالَّةَ فَإِنَّ الْعَبْدَ يَخْرُجُ مِنْ يَدِ مَوْلَاهُ غَيْرَ مَالِكٍ لِشَيْءٍ ) فَلَا يَكُونُ قَادِرًا عَلَى تَسْلِيمِ الْبَدَلِ وَرُبَّمَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ بِالْعَقْدِ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّحْصِيلِ إلَّا بِمُدَّةٍ فَلِهَذَا لَا أُجَوِّزُهُ إلَّا مُؤَجَّلًا فَأَمَّا الْمُسْلَمُ إلَيْهِ حُرٌّ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ قَبْلَ الْعَقْدِ فَالظَّاهِرُ قُدْرَتُهُ عَلَى التَّسْلِيمِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُعْدَمًا فِي

الْعَالَمِ فَحِينَئِذٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ إلَّا بِوُجُودِهِ فِي أَوَانِهِ فَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ إلَّا مُؤَجَّلًا وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ } فَقَدْ شُرِطَ لِجَوَازِ السَّلَمِ إعْلَامُ الْأَجَلِ كَمَا شُرِطَ إعْلَامُ الْقَدْرِ وَالْمُرَادُ بَيَانُ أَنَّ الْأَجَلَ مِنْ شَرَائِطِ السَّلَمِ كَالرَّجُلِ يَقُولُ مَنْ أَرَادَ الصَّلَاةَ فَلْيَتَوَضَّأْ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهِ إذَا أَسْلَمَ مُؤَجَّلًا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ مَعْلُومًا وَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِي السَّلَمِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْأَجَلِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ فِي الشَّيْءِ تَيْسِيرٌ مَعَ قِيَامِ الْمَانِعِ وَالْمَانِعُ هُوَ الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ رَخَّصَ فِيهِ مَعَ قِيَامِ الْعَجْزِ عَنْ التَّسْلِيمِ بِإِقَامَةِ الْأَجَلِ مُقَامَهُ ؛ لِأَنَّ بِهِ يَقْدِرُ عَلَى التَّسْلِيمِ إمَّا بِالتَّكَسُّبِ أَوْ بِمَجِيءِ زَمَانِ الْحَصَادِ وَهُوَ كَالرُّخْصَةِ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ فَإِنَّ إقَامَةَ الْمَسْحِ مُقَامَ الْغُسْلِ لِلتَّيْسِيرِ وَهُوَ الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ : فَإِنَّا نَقُولُ : بَاعَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ عِنْدَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ فَلَا يَجُوزُ الْعَقْدُ كَمَا لَوْ قِيلَ السَّلَمُ فِي الْمَعْدُومِ حَالًّا وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ عَقْدَ السَّلَمِ مِنْ عُقُودِ الْمَفَالِيسِ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ وَلَوْ كَانَ مَوْجُودًا فِي مِلْكِهِ لَكَانَ يَبِيعُهُ بِأَوْفَى الْأَثْمَانِ وَلَا يُقْبَلُ السَّلَمُ فِيهِ بِدُونِ الْقِيمَةِ وَلَا يُقَالُ : إنَّهُ إنَّمَا يُقْبَلُ السَّلَمُ فِيهِ لِإِسْقَاطِ مُؤْنَةِ الْإِحْضَارِ وَالْإِرَاءَةِ لِلْمُشْتَرِي فِيهِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ اسْتَثْنَى السَّلَمَ مِنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَبِالْإِجْمَاعِ الْمُرَادُ بَيْعُ مَا لَيْسَ فِي مِلْكِهِ فَإِنَّ مَا فِي مِلْكِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَاضِرًا يَجُوزُ بَيْعُهُ إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي رَآهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَمَا

لَيْسَ فِي مِلْكِهِ وَإِنْ كَانَ حَاضِرًا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ قَبُولُ السَّلَمِ فِيمَا لَا يُقْدَرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَبِالْعَقْدِ لَا يَصِيرُ قَادِرًا عَلَى التَّسْلِيمِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ سَبَبٌ لِلْوُجُوبِ عَلَيْهِ لَا لَهُ فَلَا تَثْبُتُ بِهِ قُدْرَتُهُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَإِنَّمَا تَكُونُ قُدْرَتُهُ بِالِاكْتِسَابِ وَيَحْتَاجُ ذَلِكَ إلَى مُدَّةٍ فَإِذَا كَانَ مُؤَجَّلًا لَا يَظْهَرُ الْمَانِعُ وَهُوَ عَجْزُهُ عَنْ التَّسْلِيمِ وَإِذَا كَانَ حَالًّا يَظْهَرُ الْمَانِعُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ بِالِاتِّفَاقِ يَجِبُ تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَالِ أَوَّلًا فَلَوْ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ حَالًّا لَمْ يَجِبْ تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَالِ أَوَّلًا ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ الْمُعَاوَضَةِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي التَّمْلِيكِ وَالتَّسْلِيمِ وَيَتَّضِحُ هَذَا فِيمَا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا فَإِنْ أَوَّلَ التَّسَلُّمَيْنِ فِي الْبَدَلِ الَّذِي هُوَ دَيْنٌ كَالثَّمَنِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ السَّلَمَ اخْتَصَّ بِالدَّيْنِ مَعَ مُشَارَكَةِ الْعَيْنِ الدَّيْنَ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَمَا كَانَ ذَلِكَ إلَّا لِاخْتِصَاصِهِ بِحُكْمٍ يَخْتَصُّ بِهِ الدَّيْنُ وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا الْأَجَلُ وَبِهِ يَبْطُلُ قَوْلُهُمْ : إنَّ السَّلَمَ الْحَالَّ أَبْعَدُ عَنْ الْغَرَرِ مِنْ الْمُؤَجَّلِ ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ فِي الْعَيْنِ أَبْعَدُ عَنْ الْغَرَرِ مِنْ السَّلَمِ فِي الدَّيْنِ وَمَعَ ذَلِكَ اخْتَصَّ السَّلَمُ بِالدَّيْنِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ عِنْدَنَا فَإِنَّ الْبَدَلَ فِي الْكِتَابَةِ مَعْقُودٌ بِهِ لَا مَعْقُودٌ عَلَيْهِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ بِهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِجَوَازِ الْعَقْدِ كَالثَّمَنِ فِي الْمَبِيعِ فَأَمَّا الْمُسْلَمُ فِيهِ مَعْقُودٌ عَلَيْهِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْعَقْدِ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ وَلِأَنَّ الْكِتَابَةَ عَقْدُ إرْفَاقٍ فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يُضَيِّقُ عَلَيْهِ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالْبَدَلِ وَأَمَّا السَّلَمُ عَقْدُ تِجَارَةٍ وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الضِّيقِ فَالظَّاهِرُ

أَنَّهُ يُطَالِبُهُ بِالتَّسْلِيمِ عَقِيبَ الْعَقْدِ وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ ذَلِكَ فَلِهَذَا لَمْ يُجَوِّزُهُ إلَّا مُؤَجَّلًا

وَلَمْ يُبَيَّنْ فِي الْكِتَابِ أَدْنَى الْأَجَلِ فِي السَّلَمِ وَذَكَرَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي عُمْرَانَ مِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - : أَنَّ أَدْنَى الْأَجَلِ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ اعْتِبَارًا لِلْأَجَلِ بِالْخِيَارِ الَّذِي وَرَدَ الشَّرْعُ فِيهِ بِالتَّقْدِيرِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ يَقُولُ أَدْنَى الْأَجَلِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ ؛ لِأَنَّ الْمُعَجَّلَ مَا كَانَ مَقْبُوضًا فِي الْمَجْلِسِ وَالْمُؤَجَّلَ مَا يَتَأَخَّرُ قَبْضُهُ عَنْ الْمَجْلِسِ وَلَا يَبْقَى الْمَجْلِسُ بَيْنَهُمَا فِي الْعَادَةِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ وَمِنْ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - مَنْ قَالَ : أَدْنَى الْأَجَلِ شَهْرٌ .
اسْتِدْلَالًا بِمَسْأَلَةِ كِتَابِ الْأَيْمَانِ إذَا حَلَفَ الْمَدِينُ لَيَقْضِيَنَّ دَيْنَهُ عَاجِلًا فَقَضَاهُ قَبْلَ تَمَامِ الشَّهْرِ بَرَّ فِي يَمِينِهِ فَإِذَا كَانَ مَا دُونَ الشَّهْرِ فِي حُكْمِ الْعَاجِلِ كَانَ الشَّهْرُ فَمَا فَوْقَهُ فِي حُكْمِ الْآجِلِ

فَأَمَّا تَعْجِيلُ رَأْسِ الْمَالِ فَنَقُولُ إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ يَكُونُ التَّعْجِيلُ فِيهِ شَرْطًا قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ لَا يَتَعَيَّنَانِ فِي الْعُقُودِ فَيَكُونُ هَذَا بَيْعَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ } يَعْنِي : النَّسِيئَةَ بِالنَّسِيئَةِ فَأَمَّا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عُرُوضًا هَلْ يَكُونُ التَّعْجِيلُ شَرْطًا الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَكُونَ شَرْطًا وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ شَرْطًا وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الْعُرُوضَ سِلْعَةٌ تَتَعَيَّنُ فِي الْعُقُودِ بِخِلَافِ الدَّرَاهِمِ فَلَوْ لَمْ يُشْتَرَطْ التَّعْجِيلُ لَا يُؤَدِّي إلَى بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدِّينِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ السَّلَمَ أَخْذُ عَاجِلٍ بِآجِلٍ وَالْمُسْلَمُ فِيهِ آجِلٌ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ عَاجِلًا لِيَكُونَ حُكْمُهُ ثَابِتًا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ الِاسْمُ لُغَةً كَالصَّرْفِ وَالْحَوَالَةِ وَالْكَفَالَةِ فَإِنَّ هَذِهِ الْعُقُودَ تَثْبُتُ أَحْكَامُهَا بِمُقْتَضَيَاتِ أَسَامِيهَا لُغَةً وَمِنْ عُلَمَائِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - مَنْ عَبَّرَ وَقَالَ : شَرْطُ جَوَازِ السَّلَمِ إعْلَامُ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ وَتَعْجِيلُهُ وَإِعْلَامُ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَتَأْجِيلُهُ وَبَعْضُهُمْ عَبَّرَ بِعِبَارَةٍ أُخْرَى شَرْطُ جَوَازِ السَّلَمِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَضْبُوطَ الْوَصْفِ مَعْلُومَ الْقَدْرِ مَوْجُودًا مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إلَى وَقْتِ التَّسْلِيمِ

فَأَمَّا بَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ فِيمَا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ مِنْ شَرَائِطِ جَوَازِ السَّلَمِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرَ وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا لَيْسَ بِشَرْطٍ وَلَكِنْ إنْ بَيَّنَ مَكَانًا تَعَيَّنَ ذَلِكَ الْمَكَانُ لِلْإِيفَاءِ وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ يَتَعَيَّنْ مَوْضِعُ الْعَقْدِ لِلْإِيفَاءِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ أَنَّ مَوْضِعَ الْعَقْدِ مَوْضِعُ الِالْتِزَامِ فَيَتَعَيَّنُ لِإِيفَاءِ مَا الْتَزَمَهُ فِي ذِمَّتِهِ كَمَوْضِعِ الِاسْتِقْرَاضِ وَالِاسْتِهْلَاكِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ وَمَحَلُّهُ الذِّمَّةُ فَإِنَّمَا يَصِيرُ مَمْلُوكًا لِرَبِّ السَّلَمِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ وَالتَّسْلِيمُ إنَّمَا يَجِبُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي ثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُ فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ بَاعَ حِنْطَةً بِعَيْنِهَا بِالسَّوَادِ يَجِبُ تَسْلِيمُهَا مَوْضِعَ الْحِنْطَةِ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَلِأَنَّ أَحَدَ الْبَدَلَيْنِ وَهُوَ رَأْسُ الْمَالِ يَجِبُ تَسْلِيمُهُ فِي مَوْضِعِ الْعَقْدِ فَكَذَلِكَ الْبَدَلُ الْآخَرُ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي حُكْمِ مَكَانِ التَّسْلِيمِ مُطْلَقٌ فَيَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ الْبَدَلَيْنِ وَبِأَنْ جَازَ تَعْبِيرُهُ بِالشَّرْطِ فَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٌ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ وَيَجُوزُ تَعْبِيرُهُ بِاشْتِرَاطِ الْآجِلِ وَالْمُطْلَقِ بِمُطْلَقِ الْبَيْعِ ثَبَتَ عَقِيبَ الْعَقْدِ وَيَجُوزُ تَعْبِيرُهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَتَوَجُّهُ الْمُطَالَبَةِ بِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ ثَابِتٌ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ عَقِيبَهُ ثُمَّ يَجُوزُ تَعْبِيرُهُ بِاشْتِرَاطِ الْأَجَلِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ مَكَانُ الْإِيفَاءِ مَجْهُولٌ وَجَهَالَتُهُ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَيَجِبُ التَّحَرُّزُ عَنْ ذَلِكَ بِإِعْلَامِهِ كَزَمَانِ التَّسْلِيمِ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ الْإِلْزَامِ إنَّمَا يَتَعَيَّنُ لِلتَّسْلِيمِ بِسَبَبٍ يَسْتَحِقُّ بِهِ التَّسْلِيمَ بِنَفْسِ الِالْتِزَامِ كَالْقَرْضِ وَالْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ وَالسَّلَمُ لَا يَجُوزُ إلَّا مُؤَجَّلًا فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يُسْتَحَقُّ

التَّسْلِيمُ عَقِيبَ الْعَقْدِ فِيهِ بِحَالٍ وَإِنَّمَا اسْتِحْقَاقُ التَّسْلِيمِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا نَدْرِي أَنَّهُ فِي أَيِّ مَكَان يَكُونُ ثُمَّ قَالَ : ( أَرَأَيْتَ لَوْ عُقِدَ عَقْدُ السَّلَمِ فِي السَّفِينَةِ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ أَكَانَ يَتَعَيَّنُ مَوْضِعُ الْعَقْدِ لِلتَّسْلِيمِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ ) هَذَا مَا لَا يَقُولُهُ عَاقِلٌ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَكَانَ الْعَقْدِ لَوْ تَعَيَّنَ لِتَسْلِيمِ الْمُسْلَمِ فِيهِ لَمْ يَجُزْ تَعْبِيرُهُ بِالشَّرْطِ كَمَكَانِ الْبَيْعِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ فَإِنَّهُ لَوْ بَاعَ حِنْطَةً فِي السَّوَادِ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَهَا فِي الْمِصْرِ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ وَلَمَّا أَجَازَ هُنَا بَيَانَ مَكَانِ الْإِيفَاءِ عَرَفْنَا أَنَّ مَوْضِعَ الْعَقْدِ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ لَهُ وَهَذَا بِخِلَافِ رَأْسِ الْمَالِ فَإِنَّهُ لَمَّا تَعَيَّنَ الْعَقْدُ بِتَسْلِيمِهِ لَمْ يَجُزْ تَعْبِيرُهُ بِالشَّرْطِ ثُمَّ هُنَاكَ مَوْضِعُ الْعَقْدِ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ وَلَكِنَّ الشَّرْطَ تَسْلِيمُ رَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ حَتَّى لَوْ مَشَيَا فَرْسَخًا ثُمَّ سَلَّمَ إلَيْهِ رَأْسَ الْمَالِ قَبْلَ أَنْ يُفَارِقَهُ كَانَ صَحِيحًا فَأَمَّا فِيمَا لَا حَمْلَ لَهُ وَلَا مُؤْنَةَ فَلَا خِلَافَ أَنَّ بَيَانَ مَكَانِ الْإِيفَاءِ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَلَكِنْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ يَجِبُ تَسْلِيمُهُ فِي مَوْضِعِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ الِالْتِزَامِ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْهُمَا يُسَلِّمُ إلَيْهِ حَيْثُ مَا لَقِيَهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ سَوَاءٌ بَيَّنَّا الْمَكَانَ أَوْ لَمْ نُبَيِّنْ ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي لَيْسَ بِمُفِيدٍ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا وَالْمَالِيَّةُ فِيمَا لَا حَمْلَ لَهُ وَلَا مُؤَنَهُ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ إنَّمَا تَخْتَلِفُ لِعِزَّةِ الْوُجُودِ وَكَثْرَةِ الْوُجُودِ فَأَمَّا فِيمَا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ تَخْتَلِفُ مَالِيَّتُهُ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ فَإِنَّ الْحِنْطَةَ وَالْحَطَبَ مَوْجُودٌ فِي الْمِصْرِ وَالسَّوَادِ جَمِيعًا ثُمَّ يَشْتَرِي فِي الْمِصْرِ بِأَكْثَرَ مِمَّا يَشْتَرِي بِهِ فِي

السَّوَادِ وَمَا كَانَ ذَلِكَ إلَّا لِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا يَخْتَلِفُ مَالِيَّةُ الْمُسْلَمِ فِيهِ بِاخْتِلَافِهِ فَإِعْلَامُهُ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْعَقْدِ وَهَذَا الْخِلَافُ فِي فُصُولٍ أَرْبَعَةٍ ( أَحَدُهَا ) السَّلَمُ ( وَالثَّانِي ) إذَا بَاعَ عَبْدًا بِحِنْطَةٍ مَوْصُوفَةٍ فِي الذِّمَّةِ إلَى أَجَلٍ يُشْتَرَطُ بَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ لِجَوَازِ الْعَقْدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَا يُشْتَرَطُ بَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ ( وَالثَّالِثُ ) إذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا بِمَا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُشْتَرَطُ بَيَانُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ وَعِنْدَهُمَا يَتَعَيَّنُ مَوْضِعُ الدَّارِ لِلِاسْتِيفَاءِ لَا مَوْضِعَ الْعَقْدِ ( وَالرَّابِعُ ) إذَا اقْتَسَمَا دَارًا وَشَرَطَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ شَيْئًا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ وَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ فِي الْإِجَارَاتِ وَالْقِسْمَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

فَأَمَّا إعْلَامُ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى قَدْرِهِ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَشَرْطُ السَّلَمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ بِشَرْطٍ وَالْإِشَارَةُ إلَى عَيْنِهِ تَكْفِي وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَدَدِيًّا مُتَقَارِبًا كَالْفُلُوسِ وَالْجَوْزِ وَالْبَيْضِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إعْلَامِ الْقَدْرِ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَانْقِطَاعِ الْمُنَازَعَةِ وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِالْإِشَارَةِ إلَى الْعَيْنِ فَيُغْنِي ذَلِكَ عَنْ إعْلَامِ الْقَدْرِ كَمَا فِي الثَّمَنِ وَالْأُجْرَةِ وَكَمَا فِي الْمُضَارَبَةِ لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ دَرَاهِمَ غَيْرَ مَعْلُومَةِ الْمِقْدَارِ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ كَانَ جَائِزًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ لَوْ كَانَ ثَوْبًا لَا يُشْتَرَطُ إعْلَامُ ذُرْعَانِهِ وَالذَّرْعُ فِي الْمَذْرُوعَاتِ لِلْإِعْلَامِ بِمَنْزِلَةِ الْقَدْرِ فِي الْمُقَدَّرَاتِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ كَمَا يُشْتَرَطُ إعْلَامُ الْقَدْرِ يُشْتَرَطُ إعْلَامُ الذِّرَاعِ إذَا كَانَ ثَوْبًا ثُمَّ فِي رَأْسِ الْمَالِ لَا يُشْتَرَطُ إعْلَامُ الذَّرْعِ فِي الْمَذْرُوعَاتِ لِكَوْنِهِ عَيْنًا فَكَذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ إعْلَامُ الْقَدْرِ فِي الْمُقَدَّرَاتِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ وَقَوْلُ الْفَقِيهِ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا مُقَدَّرٌ يَتَنَاوَلُهُ عَقْدُ السَّلَمِ فَلَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِ قَدْرِهِ كَالسَّلَمِ فِيهِ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ جَهَالَةَ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ تُؤُدِّيَ إلَى جَهَالَةِ الْمُسْلَمِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ يُنْفِقُ رَأْسَ الْمَالِ شَيْئًا فَشَيْئًا وَرُبَّمَا يَجِدُ بَعْدَ ذَلِكَ زُيُوفًا فَيَرُدُّهُ وَلَا يَسْتَنِدُ لَهُ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ بِقَدْرِ مَا رَدُّوا لَا لَمْ يَكُنْ مِقْدَارُ رَأْسِ الْمَالِ مَعْلُومًا لَا يُعْلَمُ فِي كَمْ اُنْتُقِضَ السَّلَمُ وَفِي كَمْ بَقِيَ وَإِذَا كَانَ مِقْدَارُ رَأْسِ الْمَالِ مَعْلُومًا بِوَزْنِ الْمَرْدُودِ فَيُعْلَمُ أَنَّهُ فِي

كَمْ اُنْتُقِضَ الْعَقْدُ

وَمَا يُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ الْمُسْلَمِ فِيهِ يَجِبُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَوْهُومًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ فِي مَكِيلٍ بِمِكْيَالِ رَجُلٍ بِعَيْنِهِ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّهُ يُتَوَهَّمُ هَلَاكُ ذَلِكَ الْمِكْيَالِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِغَيْرِهِ مِنْ الْمَكَايِيلِ فَإِذَا هَلَكَ صَارَ مِقْدَارُ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَجْهُولًا فَكَذَلِكَ هُنَا يَجِبُ التَّحَرُّزُ عَنْ الْجَهَالَةِ بِإِعْلَامِ مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ ثَوْبًا ؛ لِأَنَّ الذُّرْعَانَ فِي الثَّوْبِ الْمُعَيَّنِ صِفَةٌ وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا عَلَى أَنَّهُ عَشَرَةُ أَذْرُعٍ فَوَجَدَهُ أَحَدَ عَشَرَ ذِرَاعًا تُسَلَّمُ لَهُ الزِّيَادَةُ وَلَوْ وَجَدَهُ تِسْعَةَ أَذْرُعٍ لَا يَحُطُّ عَنْهُ شَيْئًا مِنْ الثَّمَنِ فَالْمُسْلَمُ فِيهِ لَا يَنْقَسِمُ عَلَى عَدَدِ الذَّرِعَانِ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ إعْلَامُهُ ثُمَّ لَا يُتَصَوَّرُ اسْتِحْقَاقُ ذَرْعٍ بِعَيْنِهِ مِنْ الثَّوْبِ وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ اسْتِحْقَاقُ النِّصْفِ أَوْ الثُّلُثِ وَذَلِكَ لَا يُؤَدِّي إلَى جَهَالَةِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومَ الذَّرْعِ بِخِلَافِ الْمِقْدَارِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْ فِي جُمْلَةِ الشَّرَائِطِ تَعْجِيلَ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ ؛ لِأَنَّا عَدَّدْنَا الشَّرَائِطَ الَّتِي يُحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهَا فِي الْعَقْدِ وَتَعْجِيلُ رَأْسِ الْمَالِ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ شَرْطُ بَقَاءِ الْعَقْدِ لَا شَرْطُ انْعِقَادِهِ صَحِيحًا فَإِنَّ الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا لَازِمٌ قَبْلَ تَعْجِيلِ رَأْسِ الْمَالِ مَا دَامَ فِي الْمَجْلِسِ فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ مِنْ جُمْلَةِ الشَّرَائِطِ

قَالَ : ( وَإِذَا شَرَطَ طَعَامَ قَرْيَةٍ بِعَيْنِهَا أَوْ أَرْضٍ خَاصَّةٍ لَا يَبْقَى طَعَامُهَا فِي أَيْدِي النَّاسِ فَالسَّلَمُ فَاسِدٌ ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ { زَيْدَ بْنَ شُعْبَةَ أَسْلَمَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي التَّمْرِ فَقَالَ : أَسْلَمْتُ إلَيْك فِي تَمْرِ حَائِطِ فُلَانٍ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَّا حَائِطُ فُلَانٍ فَلَا أُسْلِمُ إلَّا فِي تَمْرٍ جَيِّدٍ } وَفِي مِثْلِهِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : أَرَأَيْتَ لَوْ أَذْهَبَ اللَّهُ ثَمَرَتَهُ بِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ لَا تُسَلِّفُوا فِي الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا } وَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ قُدْرَةَ الْعَاقِدِ عَلَى التَّسْلِيمِ عِنْدَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْعَقْدِ وَلَا يُعْلَمُ قُدْرَتُهُ عَلَى التَّسْلِيمِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ إلَّا بِوُجُودِ الثِّمَارِ فِي تِلْكَ النَّخْلَةِ أَوْ الْحَائِطِ الَّذِي عَيَّنَهُ وَوُجُودُ ذَلِكَ مَوْهُومٌ وَبِالْمَوْهُومِ لَا تَثْبُتُ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَكَذَلِكَ إذَا عَيَّنَ أَرْضًا لَا يَبْقَى طَعَامُهَا فِي أَيْدِي النَّاسِ فَقُدْرَتُهُ عَلَى التَّسْلِيمِ عِنْدَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ مَوْهُومٌ

قَالَ : ( وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْخُذَ بَعْضَ رَأْسِ مَالِهِ وَبَعْضَ مَا أَسْلَمَ فِيهِ إذَا حَلَّ الْأَجَلُ عِنْدَنَا ) وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَا يُجَوِّزُ ذَلِكَ وَبِهِ أَخَذَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى قَالَ : ( وَإِذَا أَخَذَ بَعْضَ رَأْسِ مَالِهِ فَسَدَ الْعَقْدُ وَيَسْتَرِدُّ مَا بَقِيَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ) لِقَوْلِهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَأْخُذْ إلَّا سَلَمَك أَوْ رَأْسَ مَالِك } فَإِذَا أَخَذَ بَعْضَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَمْ يَأْخُذْ لَا هَذَا وَلَا ذَاكَ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُ شَرْعًا ؛ وَلِأَنَّهُ حِينَ أَخَذَ بَعْضَ رَأْسِ الْمَالِ فَقَدْ اخْتَارَ فَسْخَ الْعَقْدِ فَيَنْفَسِخُ فِي الْكُلِّ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ أَخْذَ رَأْسِ الْمَالِ إقَالَةٌ وَلَوْ أَقَالَهُ فِي الْكُلِّ جَازَ فَلِذَلِكَ إذَا أَقَالَهُ فِي الْبَعْضِ يَجُوزُ أَيْضًا كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ أَخْذِ شَيْءٍ آخَرَ سِوَى رَأْسِ الْمَالِ وَالْمُسْلَمِ فِيهِ وَأَنَّهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَا أَخَذَ غَيْرَ رَأْسِ الْمَالِ وَغَيْرَ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ عِنْدَ الِاسْتِبْدَالِ وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : ذَلِكَ الْمَعْرُوفُ الْحَسَنُ الْجَمِيلُ وَكَانَ يَكْفِيه أَنْ يَقُولَ جَائِزٌ وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا اللَّفْظَ ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ بِدُونِ ثَمَنِ الْمِثْلِ يَكُونُ عَادَةً وَالْمُسْلَمُ إلَيْهِ يَنْدَمَ عِنْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ أَقَالَ نَادِمًا بَيْعَتَهُ أَقَالَ اللَّهُ عَثَرَاتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } إلَّا أَنَّهُ لَوْ أَقَالَهُ فِي الْكُلِّ فَاتَ مَقْصُودُ رَبِّ السَّلَمِ وَهُوَ الرِّبْحُ فَأَقَالَهُ فِي الْبَعْضِ انْتِدَابًا إلَى مَا نُدِبَ إلَيْهِ وَاسْتَوْفَى بَعْضَ الْمُسْلَمِ فِيهِ لَيُحَصِّلَا مَقْصُودَهُ فِي الرِّبْحِ فَفِيهِ النَّظَرُ لَهُمَا وَهُوَ الْمَعْرُوفُ الْحَسَنُ الْجَمِيلُ ،

قَالَ : ( وَالسَّلَمُ جَائِزٌ فِيمَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ مِمَّا لَا يَنْقَطِعُ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ ) وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مَضْبُوطًا بِوَصْفِهِ مَعْلُومًا بِقَدْرِهِ مَوْجُودًا مِنْ وَقْتِ عَقْدِهِ إلَى حِينِ أَجَلِهِ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ وَمَا لَا فَلَا وَقِيلَ كُلُّ مَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْتَى عَلَى حُصُرٍ مُتَقَارِبَةٍ وَيَكُونُ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ وَقِيلَ كُلُّ مَا يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ كَمِّيَّتِهِ اجْتِهَادًا وَكَيْفِيَّتِهِ ضَرُورَةً يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ وَالْمَكِيلَاتُ وَالْمَوْزُونَاتُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ

قَالَ : ( وَلَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي الرَّطْبَةِ وَلَا فِي الْحَطَبِ حُزُمًا وَلَا جُرُزًا وَأَوْقَارًا ؛ لِأَنَّ هَذَا مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ طُولُهُ وَعَرْضُهُ وَغِلَظُهُ فَإِنَّ الْأَوْقَارَ تَخْتَلِفُ وَبِسَبَبِ هَذِهِ الْجَهَالَةِ تَتَمَكَّنُ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ كُلَّ جَهَالَةٍ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ فَهِيَ مُفْسِدَةٌ لِلْعَقْدِ وَإِنْ عُرِفَ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ ) مَعْنَاهُ إذَا بُيِّنَ طُولُ مَا تُشَدُّ بِهِ الْحُزْمَةُ أَنَّهُ ذِرَاعٌ أَوْ شِبْرٌ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَفَاوَتُ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ السَّلَمُ لِكَوْنِ الْمُسْلَمِ فِيهِ مَعْلُومًا مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ

قَالَ : ( وَلَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي جُلُودِ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ عِنْدَنَا ) وَقَالَ مَالِكٌ بِأَنَّهُ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ مَعْلُومُ الْمِقْدَارِ بِالْوَزْنِ وَالصِّفَةِ بِالذِّكْرِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْجُلُودُ لَا تُوزَنُ عَادَةً وَلَكِنَّهَا تُبَاعُ عَدَدًا وَهِيَ عَدَدِيَّةٌ مُتَفَاوِتَةٌ فِيهَا الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ فَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ فِي أَبْعَاضِ الْحَيَوَانِ فَقَدْ قَامَتْ الدَّلَالَةُ لَنَا عَلَى أَنَّ السَّلَمَ فِي الْحَيَوَانِ لَا يَجُوزُ فَكَذَلِكَ فِي أَبْعَاضِ الْحَيَوَانِ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْأَكَارِعِ وَالرُّءُوسِ وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْأَدَمِ وَالْوَرَقِ ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ فِيهِ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ إلَّا أَنْ يُشْتَرَطَ مِنْ الْوَرَقِ وَالصُّحُفِ وَالْأَدَمِ ضَرْبًا مَعْلُومَ الطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالْجَوْدَةِ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ كَالثِّيَابِ وَكَذَلِكَ الْأَدَمُ إذَا كَانَ يُبَاعُ وَزْنًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ بِذِكْرِ الْوَزْنِ إذَا كَانَ عَلَى وَجْهٍ لَا تَتَمَكَّنُ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا فِي التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ قَالَ : ( وَلَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْحَيَوَانِ عِنْدَنَا ) وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَجُوزُ إذَا بُيِّنَ الْجِنْسُ وَالنَّوْعُ وَالصِّفَةُ وَالسِّنُّ وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْآثَارِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اسْتَقْرَضَ بَكْرًا وَقَضَاهُ رُبَاعِيًّا وَقَالَ : خَيْرُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً } وَالسَّلَمُ أَقْرَبُ إلَى الْجَوَازِ مِنْ الِاسْتِقْرَاضِ فَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ اسْتِقْرَاضِ الْحَيَوَانِ بِهَذَا الْحَدِيثِ ثَبَتَ جَوَازُ السَّلَمِ فِيهِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ مَبِيعٌ مَعْلُومٌ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ فَيَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ كَالثِّيَابِ وَالْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ عَيْنًا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ مَعْلُومٌ فَإِنَّهُ إذَا سَمَّى الْإِبِلَ صَارَ الْجِنْسُ مَعْلُومًا وَإِذَا قَالَ : حَيَوَانٌ صَارَ النَّوْعُ مَعْلُومًا وَإِذَا قَالَ : جَذَعٌ

أَوْ ثَنِيٌّ يَصِيرُ السِّنُّ مَعْلُومًا وَإِذَا قَالَ : ثَمِينٌ تَصِيرُ الصِّفَةُ مَعْلُومَةً وَإِعْلَامُ الشَّيْءِ مِنْ الْأَعْيَانِ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَشَرْطُ جَوَازِ الْعَقْدِ إعْلَامُ الْعَيْنِ وَلَا يُعْتَبَرُ بَعْدَ ذَلِكَ جَوَازُ نَفْعٍ فِي الْمَالِيَّةِ كَمَا فِي الذَّبَائِحِ وَالثِّيَابِ الْفَاخِرَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ بَنِي إسْرَائِيلَ اسْتَوْصَفُوا الْبَقَرَةَ فَوَصَفَهَا اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ وَأَدْرَكُوهَا بِتِلْكَ الصِّفَةِ حَيْثُ قَالُوا : { الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ } وَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَصِفُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ بَيْنَ يَدَيْ امْرَأَتِهِ حَتَّى كَأَنَّهَا تَنْظُرُ إلَيْهِ } فَقَدْ جَعَلَ الْمَوْصُوفَ مِنْ الْحَيَوَانِ كَالْمَرْئِيِّ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مَهْرًا وَأَنَّ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةَ فِي الْحَيَوَانِ تُسْمَعُ بِذِكْرِ الصِّفَةِ فَدَلَّ أَنَّهَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِذِكْرِ الْوَصْفِ بِخِلَافِ اللَّآلِئِ وَالْجَوَاهِرِ فَالسَّلَمُ فِي الصِّغَارِ مِنْ اللَّآلِئِ يَجُوزُ وَزْنًا أَمَّا الْكِبَارُ مِنْهَا فَلَا يُمْكِنُ إعْلَامُهَا لِكَوْنِ الْمَقْصُودِ التَّدْوِيرَ وَالصَّفَاءَ وَالْمَاءَ وَلَيْسَ لِذَلِكَ حَدٌّ مَعْلُومٌ يُوقَفُ عَلَيْهِ فَإِذَا بَالَغَ فِي بَيَانِهِ يَصِيرُ بِذَلِكَ عَدِيمَ النَّظِيرِ وَفِي مِثْلِهِ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ مَهْرًا فِي الذِّمَّةِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ } وَفِي الْكِتَابِ قَالَ : ( بَلَغَنَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ ) وَإِنَّمَا فُسِّرَ هَذَا الْحَدِيثُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ دَفَعَ مَالًا مُضَارَبَةً إلَى زَيْدِ بْنِ خُلَيْدَةَ فَأَسْلَمَهَا زَيْدٌ إلَى عَتْوِيسَ بْنِ عُرْقُوبٍ فِي قَلَانِصَ مَعْلُومَةٍ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ اُرْدُدْ مَالَنَا لَا نُسْلِمُ أَمْوَالَنَا فِي الْحَيَوَانِ وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ : إنَّ مِنْ الرِّبَا أَبْوَابًا لَا يَكَدْنَ يَخْفَيْنَ عَلَى

أَحَدٍ مِنْهَا السَّلَمُ فِي السِّنِّ وَقَدْ بَيَّنَّا تَأْوِيلَ آثَارِهِمْ وَمَا رُوِيَ أَنَّهُ اسْتَقْرَضَ بَكْرًا فَالْمُرَادُ اسْتَعْجَلَ فِي الصَّدَقَةِ ثُمَّ لَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ عَلَى صَاحِبِهَا فَرَدَّهَا رُبَاعِيًّا أَوْ اسْتَقْرَضَ لِبَيْتِ الْمَالِ وَكَمَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ لِبَيْتِ الْمَالِ حَقٌّ مَجْهُولٌ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ ذَلِكَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ أَيْضًا وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ أَسْلَمَ فِي مَجْهُولٍ فَلَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ فِي الْحَلَقَاتِ أَوْ الْجَوَاهِرِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَبِيعٌ وَشَرْطُ جَوَازِ الْعَقْدِ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَجْهُولًا وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ بَعْدَ ذِكْرِ الْأَوْصَافِ الَّتِي يَشْتَرِطُهَا الْخَصْمُ يَبْقَى تَفَاوُتٌ عَظِيمٌ فِي الْمَالِيَّةِ فَإِنَّكَ تَجِدُ فَرَسَيْنِ مُسْتَوِيَيْنِ فِي السِّنِّ وَالصِّفَةِ ثُمَّ تَشْتَرِي أَحَدَهُمَا بِأَضْعَافِ مَا تَشْتَرِي بِهِ الْآخَرَ لِتَفَاوُتٍ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعَانِي الْبَاطِنَةِ كَالْهَمْلَجَةِ وَشِدَّةِ الْعَدْوِ وَكَذَلِكَ فِي الْبَعِيرَيْنِ وَهَذَا فِي بَنِي آدَمَ لَا يَخْفَى فَإِنَّ الْعَبْدَيْنِ وَالْأَمَتَيْنِ يَتَسَاوَيَانِ فِي السِّنِّ وَالصِّفَةِ وَيَخْتَلِفَانِ فِي الْمَالِيَّةِ لِتَفَاوُتِهِمَا فِي الذِّهْنِ وَالْكِيَاسَةِ .
وَفِيهِ يَقُولُ الْقَائِلُ : رُبَّ وَاحِدٍ يَعْدِلُ أَلْفًا زَائِدًا وَأُلُوفٌ تَرَاهُمْ لَا يُسَاوُونَ وَاحِدًا وَكَمَا أَنَّ الْعَيْنَ مَقْصُودٌ ، فَالْمَالِيَّةُ أَيْضًا مَقْصُودَةٌ ، بَلْ أَكْثَرُ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الِاسْتِرْبَاحُ وَذَلِكَ بِالْمَالِيَّةِ يَكُونُ .
فَإِذَا كَانَ الْحَيَوَانُ بِذِكْرِ الْأَوْصَافِ لَا يَلْتَحِقُ بِذَوَاتِ الْأَمْثَالِ فِي مَعْنَى الْمَالِيَّةِ ؛ قُلْنَا : لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا بِخِلَافِ الثِّيَابِ فَإِنَّهَا مَصْنُوعُ بَنِي آدَمَ .
فَمَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَهُمْ لَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ اتِّخَاذِهَا ، وَالثِّيَابُ إذَا نُسِجَتْ فِي مِنْوَالٍ وَاحِدٍ عَلَى هَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ لَا تَتَفَاوَتُ فِي الْمَالِيَّةِ إلَّا يَسِيرًا ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ كَالتَّفَاوُتِ بَيْنَ

الْجَيِّدِ وَالرَّدِيءِ فِي الْحِنْطَةِ فِي الْمَالِيَّةِ .
فَأَمَّا الْحَيَوَانُ مَصْنُوعُ اللَّهِ تَعَالَى وَذَلِكَ يَكُونُ عَلَى مَا يُرِيدُهُ فَقَدْ يَكُونُ عَلَى وَجْهٍ لَا نَظِيرَ لَهُ وَلَوْ بَالَغَ فَاسْتَقْصَى فِي بَيَانِ وَصْفِهِ يَصِيرُ عَدِيمَ النَّظِيرِ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ وَيُوَضِّحُهُ أَنَّ أَقْرَبَ الْحَيَوَانَاتِ إلَى الثِّيَابِ الْغَنَمُ ، وَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْغَنَمِ غَيْرُ مَرْئِيٍّ بَلْ هُوَ تَحْتَ الْجِلْدِ ، وَيَقَعُ فِيهِ تَفَاوُتٌ عَظِيمٌ ، وَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ فِي الثِّيَابِ ظَاهِرٌ مَرْئِيٌّ ، وَقَدْ ذَكَرَ عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : قُلْت : لَهُ إنَّمَا لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْحَيَوَانِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْبُوطٍ بِالْوَصْفِ ، قَالَ : ( لَا فَإِنَّا نُجَوِّزُ السَّلَمَ فِي الذَّبَائِحِ وَلَا نُجَوِّزُ فِي الْعَصَافِيرِ ) وَلَعَلَّ ضَبْطُ الْعَصَافِيرِ بِالْوَصْفِ أَهْوَنُ مِنْ ضَبْطِ الذَّبَائِحِ ؛ وَلَكِنَّهُ لِلسُّنَّةِ .
وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى لَبَنَى إسْرَائِيلَ الْأَوْصَافَ الظَّاهِرَةِ وَذَلِكَ يُمْكِنُ إعْلَامُهُ عِنْدَنَا ثُمَّ كَانَ الْمَقْصُودُ التَّشْدِيدَ عَلَيْهِمْ لَمَّا اسْتَقْصُوا فِي الِاسْتِيصَافِ .
هَكَذَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَإِنَّمَا نَهَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الِاسْتِيصَافِ لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ وَذَلِكَ يَقَعُ بِالْأَوْصَافِ الظَّاهِرَةِ ، وَكَذَلِكَ سَمَاعُ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ لِأَنَّ الْأَوْصَافَ الظَّاهِرَةَ مِنْهَا تَصِيرُ مَعْلُومَةٌ ، وَثُبُوتُهُ فِي الذِّمَّةِ مَهْرًا لِكَوْنِ النِّكَاحِ مَبْنِيًّا عَلَى التَّوَسُّعِ ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ شَيْءٌ آخَرَ سِوَى الْمَالِيَّةِ بِخِلَافِ السَّلَمِ ، وَلِهَذَا يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الْوَصْفِ هُنَاكَ

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي الثِّيَابِ كُلِّهَا بَعْدَ أَنْ يُشْتَرَطَ ضَرْبًا مَعْلُومًا ، وَطُولًا ، وَعَرَضَا ، بِذِرَاعٍ مَعْلُومٍ ، وَأَجَلًا ، وَصِفَةً مَعْلُومَةً ) لِأَنَّ مِقْدَارَ الْمَالِيَّةِ بِذِكْرِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ يَصِيرُ مَعْلُومًا عَادَةً ، وَالتَّفَاوُتُ الَّذِي يَقَعُ بَعْدَ هَذَا يَسِيرٌ وَالْيَسِيرُ مِنْ التَّفَاوُتِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ بِسَبَبِهِ مُنَازَعَةُ مَانِعِهِ مِنْ التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْوَزْنُ بِخِلَافِ الْحَرِيرِ فَإِنَّهُ إذَا أَسْلَمَ فِي الْحَرِيرِ يَنْبَغِي أَنْ يُشْتَرَطَ الْوَزْنُ لِأَنَّ قِيمَةَ الْحَرِيرِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْوَزْنِ .
وَيَنْبَغِي أَنْ يُشْتَرَطَ الطُّولُ وَالْعَرْضُ مَعَ الْوَزْنِ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ يَأْتِي وَقْتَ حُلُولِ الْأَجَلِ يَقْطَعُ الْحَرِيرَ بِذَلِكَ الْوَزْنِ وَنَحْنُ نَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ قَطْعَ الْحَرِيرِ .

قَالَ ( وَكُلُّ شَيْءٍ يَنْقَطِعُ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ فَلَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِيهِ ) وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنْ يَكُونَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ مُنْقَطِعًا عَنْ أَيْدِي النَّاسِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ السَّلَمَ إلَيْهِ بِالْعَقْدِ يَلْتَزِمُ التَّسْلِيمَ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَقْدُورَ التَّسْلِيمِ عِنْدَ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ ( الثَّانِي : ) أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا وَقْتَ الْعَقْدِ مَوْجُودًا فِي أَيْدِي النَّاسِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا وَيَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ( الثَّالِثُ : ) أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا عِنْدَ الْعَقْدِ وَعِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ وَلَكِنَّهُ يَنْقَطِعُ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ فَهَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ( الرَّابِعُ : ) أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إلَى وَقْتِ الْمَحِلِّ عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْقَطِعُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ فَيَكُونُ الْعَقْدُ صَحِيحًا بِالِاتِّفَاقِ وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { دَخَلَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَهُمْ يُسَلِّفُونَ فِي الثِّمَارِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ - وَرُبَّمَا قَالَ : ثَلَاثَ سِنِينَ - فَقَالَ : مِنْ أَسْلَمَ مِنْكُمْ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ الثِّمَارَ الرَّطْبَةَ لَا تَبْقَى إلَى هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ وَمَعَ هَذَا قَرَّهُمْ عَلَى السَّلَمِ فِيهَا وَالْمَعْنَى فِيهِ وَهُوَ أَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَعْلُومٌ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ عِنْدَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ فَيَجُوزُ الْعَقْدُ كَمَا لَوْ كَانَ مَوْجُودًا مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إلَى وَقْتِ الْمَحِلِّ وَبَيَانِ الْوَصْفِ أَنَّ وُجُوبَ التَّسْلِيمِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ وَعِنْدَ ذَلِكَ هُوَ مَوْجُودٌ فِي الْعَالَمِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى تَسْلِيمِ الدَّيْنِ بِوُجُودِ جِنْسِهِ فِي الْعَالَمِ وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ مِنْ

الْجَائِزِ أَنْ يَمُوتَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ عَقِيبَ الْعَقْدِ فَيَحِلَّ الْأَجَلُ لِأَنَّ هَذَا مَوْهُومٌ وَلَا يُبْنَى الْعَقْدُ عَلَى الْمَوْهُومَاتِ أَلَا تَرَى أَنَّ اعْتِبَارَ هَذَا الْمَوْهُومِ يُؤَدِّي إلَى الْحُلُولِ أَوْ جَهَالَةِ الْأَجَلِ وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِعَقْدِ السَّلَمِ وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا فِي الْحَالِ فَدَلَّ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ يَنْقَطِعُ فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ الْمَحِلِّ يَجُوزُ الْعَقْدُ وَإِنْ كَانَ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَتَأَخَّرَ التَّسْلِيمُ إلَى أَنْ يَنْقَطِعَ وَلَيْسَ هَذَا نَظِيرَ مَا لَوْ عَيَّنَ مِكْيَالًا أَوْ قِيَمًا تُخَالِفُ مَا بَيْنَ النَّاسِ لِأَنَّ بُطْلَانَ الْعَقْدِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ هَلَاكِ مَا عَيَّنَهُ بَلْ بِاعْتِبَارِ جَهَالَةِ قَدْرِ الْمُسْلَمِ فِيهِ كَتَعْيِينِ الْمُسْلَمِ فِيهِ لَا لِأَنَّهُ يَتَوَهَّمُ أَوْ يُصِيبُ ثِمَارَ تِلْكَ النَّخْلَةِ آفَةٌ وَالدَّلِيلُ أَنَّ وُجُودَ السَّلَمِ فِيهِ فِي مَكَانِ الْعَقْدِ لَيْسَ بِشَرْطٍ بِجَوَازِ الْعَقْدِ فَكَذَلِكَ فِي زَمَانِ الْعَقْدِ لَا التَّسْلِيمِ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِمَكَانٍ أَوْ زَمَانٍ فَكُلٌّ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ وُجُودِهِ فِي مَكَانِ الْعَقْدِ فَكَذَلِكَ فِي زَمَانِ الْعَقْدِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُسَلِّفُوا فِي الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا } وَفِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا } وَلَمْ يُرِدْ بِهِ النَّهْيَ عَنْ بَيْعهَا سَلَمًا وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ قُدْرَةَ الْعَاقِدِ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْعَقْدِ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُلْتَزِمَ لِلتَّسْلِيمِ هُوَ الْعَاقِدُ فَيُشْتَرَطُ قُدْرَتُهُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَعْدُومًا فِي الْحَالِ لِأَنَّ الْعَاقِدَ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ إلَّا بِإِيصَالِ حَيَاتِهِ وَأَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ وَإِيصَالَ حَيَّاتِهِ بِأَوَانِ الْوُجُودِ مَوْهُومٌ وَبِالْمَوْهُومِ لَا تَثْبُتُ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ فَإِنْ قِيلَ

حَيَاتُهُ مَعْلُومَةٌ فِي الْحَالِ وَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ حَيًّا إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ وَإِنَّمَا الْمَوْتُ مَوْهُومٌ قَبْلَهُ قُلْنَا نَعَمْ وَلَكِنْ بَقَاؤُهُ حَيًّا إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ فَيَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي إبْقَاءِ مَالِهِ عَلَى مِلْكِهِ لَا فِي تَوْرِيثِهِ مِنْ مُورِثِهِ فَبِهَذَا الطَّرِيقِ لَا تَثْبُتُ قُدْرَتُهُ عَلَى التَّسْلِيمِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فِي الْحَالِ حَتَّى تَكُونَ حَيَاتُهُ مُتَّصِلَةً بِأَوَانِ ذَلِكَ الشَّيْءِ ثُمَّ عَجْزُهُ بِالْمَوْتِ أَوْ بِآخِرِ التَّسْلِيمِ إلَى أَنْ يَنْقَطِعَ مَوْهُومٌ فَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي إفْسَادِ الْعَقْدِ يُقَرِّرُهُ أَنَّ مَا بَعْدَ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ حَالَةِ الْمَحِلِّ لِأَنَّ زَمَانَ الْمَحِلِّ وَقْتُ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ بِشَرْطِ بَقَائِهِ حَيًّا إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ وَذَلِكَ مَوْهُومٌ وَمَا بَعْدَ الْعَقْدِ وَقْتَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ يُشْتَرَطُ مَوْتُهُ وَذَلِكَ مَوْهُومٌ أَيْضًا فَاسْتَوَيَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ثُمَّ يُشْتَرَطُ الْوُجُودُ وَقْتَ الْمَحِلِّ بِالِاتِّفَاقِ فَلِذَلِكَ يُشْتَرَطُ الْوُجُودُ مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إلَى وَقْتِ الْمَحِلِّ بِخِلَافِ مَا وَرَاءَ الْمَحِلِّ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِزَمَانِ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ ابْتِدَاءً وَإِنَّمَا هُوَ زَمَانُ بَقَاءِ مَا وَجَبَ مِنْ التَّسْلِيمِ وَلَا يُعْتَبَرُ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ مَا يُعْتَبَرُ فِي حَالَةِ الِابْتِدَاءِ كَخُلُوِّ الْمَحِلِّ عَنْ الرِّدَّةِ وَالْعِدَّةِ فِي النِّكَاحِ وَالشُّهُودِ تُعْتَبَرُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الْعَقْدِ لَا عِنْدَ الْبَقَاءِ وَاعْتِبَارُ الزَّمَانِ بِالْمَكَانِ سَاقِطٌ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ نَقْلُهُ مِنْ مَكَان إلَى مَكَان فَبِانْعِدَامِهِ فِي مَكَانِ الْعَقْدِ لَا تَنْعَدِمُ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ وَلَا يَتَحَقَّقُ نَقْلُهُ مِنْ زَمَانٍ إلَى زَمَانٍ فَتَنْعَدِمُ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ لِعَدَمِ الْوُجُودِ فِي زَمَانِ الْعَقْدِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ وُجُودُهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي جَعَلَاهُ مَحِلَّ التَّسْلِيمِ وَيُشْتَرَطُ وُجُودُهُ فِي زَمَانِ الْمَحِلِّ وَمَا افْتَرَقَا إلَّا لِمَا قُلْنَا وَإِذَا كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مَوْجُودًا

مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ إلَى وَقْتِ الْمَحِلِّ ثُمَّ لَمْ يَأْخُذْهُ بَعْدَ مَحَلِّ الْأَجَلِ حَتَّى انْقَطَعَ فَرَبُّ السَّلَمِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ رَأْسَ الْمَالِ وَإِنْ شَاءَ صَبَرَ حَتَّى يَجِيءَ حِينُهُ فَيَأْخُذُ مَا أَسْلَمَ فِيهِ عِنْدَ عُلَمَائِنَا الثَّلَاثَةِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ زُفَرُ : يَبْطُلُ الْعَقْدُ وَيَسْتَرِدُّ رَأْسَ الْمَالِ لِأَنَّ الِانْقِطَاعَ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ فِي الْعَجْزِ عَنْ تَسْلِيمِ الدَّيْنِ بِمَنْزِلَةِ هَلَاكِ الْعَيْنِ فِي الْعَجْزِ عَنْ التَّسْلِيمِ وَلَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ بَطَلَ بِهِ الْبَيْعُ فَكَذَلِكَ إذَا انْقَطَعَتْ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ وَقَاسَ بِمَا لَوْ اشْتَرَى بِفُلُوسٍ شَيْئًا فَكَسَدَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ يَبْطُلُ الْعَقْدُ لِهَذَا الْمَعْنَى فَكَذَلِكَ إذَا انْقَطَعَ الْمُسْلَمُ فِيهِ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يُعْذَرُ بِتَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِعَارِضٍ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ فَيَتَخَيَّرُ فِيهِ الْعَاقِدُ كَمَا لَوْ أَبَقَ الْعَبْدُ الْمَبِيعُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَبَقَاءُ الدَّيْنِ بِبَقَاءِ مَحِلِّهِ وَمَحِلُّ الدَّيْنِ إنَّمَا هُوَ الذِّمَّةُ فَكَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ بَاقِيًا بِبَقَاءِ الذِّمَّةِ وَلَكِنَّ تَأَخُّرَ تَسْلِيمِهِ إلَى أَوَانِ وُجُودِهِ وَفِيهِ يُعْتَبَرُ شَرْطُ الْعَقْدِ فَيَثْبُتُ لِلْعَاقِدِ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ وَيَسْتَرِدَّ رَأْسَ الْمَالِ وَبَيْنَ أَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يَأْتِيَ أَوَانُهُ فَيَأْخُذَ الْمُسْلَمَ فِيهِ وَبِهِ فَارَقَ هَلَاكَ الْعَيْنِ فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُنَاكَ يَفُوتُ أَصْلًا وَكَذَلِكَ الْفُلُوسُ إذَا كَسَدَتْ فَإِنَّ الْعَقْدَ إنَّمَا تَنَاوَلَ فُلُوسًا هِيَ ثَمَنٌ فَبَعْدَ الْكَسَادِ لَا يَبْقَى ثَمَنًا أَصْلًا يُوَضِّحُهُ أَنَّ مَا يَكْسُدُ مِنْ الْفُلُوسِ لَا يَرُوجُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ لَا يُدْرَى مَتَى يَرُوجُ فَلَمْ يَكُنْ لِلْقُدْرَةِ فِيهِ عَلَى التَّسْلِيمِ أَوَانٌ مَعْلُومٌ فَلِهَذَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ هُنَا لِادِّرَاكِ الثِّمَارِ لِلْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ أَوَانٍ مَعْلُومٍ

فَيُخَيَّرُ رَبُّ السَّلَمِ إنْ شَاءَ رَضِيَ بِالتَّأْخِيرِ وَإِنْ شَاءَ فَسَخَ الْعَقْدَ وَأَخَذَ رَأْسَ مَالِهِ

قَالَ : ( وَلَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي الرُّمَّانِ وَالسَّفَرْجَلِ وَالْبِطِّيخِ وَالْقِثَّاءِ وَالْخِيَارِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ ) لِأَنَّهُ يَخْتَلِفُ فِيهِ الصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْتَى عَلَى حُصُرٍ مُتَقَارِبَةٍ وَأَصْلُ هَذَا الْجِنْسِ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، قَالَ : ( مَا يَتَفَاوَتُ آحَادُهُ فِي الْقِيمَةِ فَهُوَ عَدَدِيٌّ مُتَفَاوِتٌ لَا يَجُوزُ السَّلَمِ فِيهِ عَدَدًا ) وَمَا لَا يَتَفَاوَتُ آحَادُهُ فِي الْقِيمَةِ وَإِنَّ مَا يَتَفَاوَتُ أَنْوَاعُهُ فَهُوَ عَدَدِيٌّ مُتَفَاوِتٌ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ عَدَدًا وَالرُّمَّانُ وَالْبِطِّيخُ تَتَفَاوَتُ فِي الْمَالِيَّةِ آحَادُهُ وَالْبَاذِنْجَانُ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ لَا يَتَفَاوَتُ آحَادُهُ فِي الْمَالِيَّةِ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْبَيْضِ وَالْجَوْزِ عَدَدًا لِأَنَّ آحَادَهُ فِي الْمَالِيَّةِ لَا تَتَفَاوَتُ فَإِنَّكَ لَا تَرَى جَوْزَةً بِفَلْسٍ وَجَوْزَةً بِفَلْسَيْنِ وَإِنَّمَا تَتَفَاوَتُ أَنْوَاعُهُ فِي الْمَالِيَّةِ وَذَلِكَ التَّفَاوُتُ يَزُولُ بِذِكْرِ الْعَدِّ فِي الْعَدَدِيَّاتِ كَالْقَدْرِ فِي الْمَقْدُورَاتِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي بَيْضِ النَّعَامِ لِأَنَّهُ تَتَفَاوَتُ آحَادُهُ فِي الْمَالِيَّةِ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرِ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْبَيْضِ وَالْجَوْزِ عَدَدًا لِأَنَّ فِيهِ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ وَتَجْرِي فِيهِ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا فِي التَّسْلِيمِ وَالتَّسَلُّمِ وَإِنَّمَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْبَيْضِ وَزْنًا وَفِي الْجَوْزِ كَيْلًا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ بِمِكْيَالٍ مَعْرُوفٍ لَهُ وَنَحْنُ نُجَوِّزُ السَّلَمَ فِيهِ كَيْلًا أَيْضًا لِأَنَّهُ يُكَالُ تَارَةً وَيُعَدُّ أُخْرَى فَتَنْقَطِعُ فِيهِ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا بِذِكْرِ الْكَيْلِ كَمَا يَنْقَطِعُ بِذِكْرِ الْعَدَدِ

قَالَ : ( وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي الْفُلُوسِ عَدَدًا لِأَنَّهُ عَدَدِيٌّ مُتَقَارِبٌ أَوْ هِيَ أَمْثَالٌ مُتَسَاوِيَةٌ قَطْعًا مَا دَامَتْ مُتَسَاوِيَةً قَطْعًا مَا دَامَتْ مُتَسَاوِيَةً رَائِجَةً لِسُقُوطِ قِيمَةِ الْجَوْدَةِ مِنْهَا بِاصْطِلَاحِ النَّاسِ ) وَذَكَرَ أَبُو اللَّيْثِ الْخَوَازِمُ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الْفُلُوسِ لِأَنَّهَا ثَمَنٌ مَا دَامَتْ رَائِجَةً وَالْمُسْلَمُ فِيهِ مَبِيعٌ فَمَا ثَمَنٌ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْلَمًا فِيهِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَبَعْدَ الْكَسَادِ هِيَ قِطَعٌ صِغَارٌ مَوْزُونَةٌ فَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا عَدَدًا وَلَكِنْ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَصَحُّ لِأَنَّ صِفَةَ الثَّمَنِيَّةِ فِي الْفُلُوسِ عَارِضَةٌ بِاصْطِلَاحِ النَّاسِ وَالْمُتَعَاقِدَانِ أَعْرَضُ عَنْ هَذَا الِاصْطِلَاحِ حِينَ عَقْدِ السَّلَمِ وَمَا أَعْرَضَ عَلَى الِاصْطِلَاحِ عَلَى كَوْنِهِ عَدَدِيًّا وَلَكِنْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ خُرُوجِهِ فِي حَقِّهِمَا مِنْ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا خُرُوجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَدَدِيًّا كَالْجَوْزِ وَالْبِيضِ فَأَمَّا الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ ثَمَنٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ فَلَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ بِجَعْلِهِمَا إيَّاهُ مَبِيعًا أَلَا تَرَى أَنَّ الْفُلُوسَ تَرُوجُ تَارَةً وَتَكْسُدُ أُخْرَى وَتَرُوجُ فِي ثَمَنٍ الْخَسِيسِ مِنْ الْأَشْيَاءِ دُونَ النَّفِيسِ بِخِلَافِ النُّقُودِ

وَلَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي اللَّحْمِ لِأَنَّهُ مُخْتَلِفٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا بَأْسَ بِهِ فِي قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَقَالَ : أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا أَسْلَمَ فِي مَوْضِعٍ مِنْهُ مَعْلُومٍ وَسَمَّى صِفَةً مَعْلُومَةً فَهُوَ جَائِزٌ وَقِيلَ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ بَلْ جَوَابُ أَبِي حَنِيفَةَ فِيمَا إذَا أَطَلَقَ السَّلَمَ فِي اللَّحْمِ ، وَهُمَا لَا يُجَوِّزَانِ ذَلِكَ ، وَجَوَابُهُمَا فِيمَا إذَا بَيَّنَ مِنْهُ مَوْضِعًا مَعْلُومًا .
وَأَبُو حَنِيفَةَ يُجَوِّزُ ذَلِكَ وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ ، وَأَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ وَإِنْ بَيَّنَ مِنْهُ مَوْضِعًا مَعْلُومًا .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ مَوْزُونٌ مَعْلُومٌ فَيَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ كَسَائِرِ الْمَوْزُونَاتِ ، وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ النَّاسَ اعْتَادُوا بَيْعَهُ وَزْنًا وَيَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ وَزْنًا وَيَجْرِي فِيهِ الرِّبَا بِعِلَّةِ الْوَزْنِ ، ثُمَّ الْمَوْزُونُ الْمُثَمَّنُ مُعْتَبَرٌ بِالْمَكِيلِ الْمُثَمَّنِ وَيَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ وَإِنْ اشْتَمَلَ عَلَى مَا هُوَ مَقْصُودٌ وَعَلَى مَا لَيْسَ بِمَقْصُودِهِ كَالتَّمْرِ ، فَمَا فِيهِ مِنْ النَّوَى غَيْرُ مَقْصُودٍ ، وَلَا يَمْنَعُ ذَلِكَ جَوَازُ السَّلَمِ .
فَكَذَلِكَ مَا فِي اللَّحْمِ مِنْ الْعَظْمِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ جَوَازُ السَّلَمِ فِي الْأَلْيَةِ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ الْعَظْمِ ، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ السَّلَمُ فِي الشَّحْمِ لِأَنَّهُ مَوْزُونٌ فَكَذَلِكَ فِي اللَّحْمِ .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ طَرِيقَانِ : ( أَحَدُهُمَا : ) أَنَّ اللَّحْمَ يَشْتَمِلُ عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَعَلَى مَا لَيْسَ بِمَقْصُودِهِ وَهُوَ الْعَظْمُ ، فَيَتَفَاوَتُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِتَفَاوُتِ مَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ مِنْهُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَجْرِي الْمُمَاكَسَةُ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي ذَلِكَ ، فَالْمُشْتَرِي يُطَالِبُهُ بِالنَّزْعِ وَالْبَائِعُ يَدُسُّهُ فِيهِ ؟ وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الْجَهَالَةِ وَالْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا لَا تَرْتَفِعُ بِبَيَانِ الْمَوْضِعِ ، وَذِكْرُ

الْوَزْنِ بِخِلَافِ النَّوَى الَّذِي فِي التَّمْرِ فَالْمُنَازَعَةُ لَا تَجْرِي فِي نَزْعِ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الْعَظْمُ الَّذِي فِي الْأَلْيَةِ .
وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ إذَا أَسْلَمَ فِي لَحْمٍ مَنْزُوعِ الْعَظْمِ يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ شُجَاعٍ وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ : أَنَّ اللَّحْمَ يَشْتَمِلُ عَلَى السِّمَنِ وَالْهُزَالِ وَمَقَاصِدُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفَةٌ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ فُصُولِ السَّنَةِ وَبِقِلَّةِ الْكَلَأِ وَبِكَثْرَةِ الْكَلَأِ ، وَالسَّلَمُ لَا يَكُونُ إلَّا مُؤَجَّلًا ، فَلَا يُدْرَى أَنَّ عِنْدَ حُلُولِ الْحَوْلِ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ تَكُونُ وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ لَا تَرْتَفِعُ بِذَكَرِ الْوَصْفِ فَكَانَ السَّلَمُ فِي اللَّحْمِ بِمَنْزِلَةِ السَّلَمِ فِي الْحَيَوَانِ ، وَبِهِ فَارَقَ الِاسْتِقْرَاضَ .
فَالْقَرْضُ لَا يَكُونُ إلَّا حَالًّا وَفِي الْحَالِ صِفَةُ السِّمَنِ وَالْهُزَالِ مَعْلُومَةٌ وَبِخِلَافِ الشَّحْمِ وَالْأَلْيَةِ فَالتَّفَاوُتُ فِيهِمَا مِنْ حَيْثُ الْقِلَّةُ وَالْكَثْرَةُ ، وَبِذِكْرِ الْوَزْنِ يَزُولُ ذَلِكَ وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ مَنْزُوعُ الْعَظْمِ سَوَاءٌ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ .

قَالَ ( وَلَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي السَّمَكِ الطَّرِيِّ فِي غَيْرِ حِينِهِ ، ) لِأَنَّهُ يَنْقَطِعُ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ وَلِأَنَّهُ مُخْتَلِفٌ .
فَالنُّكْتَةُ الْأُولَى : تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا أَسْلَمَ فِي حِينِهِ يَجُوزُ .
وَالنُّكْتَةُ الثَّانِيَةُ : تَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ ، وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ السَّلَمَ فِيهِ فِي غَيْرِ حِينِهِ لَا يَجُوزُ وَزْنًا وَلَا عَدَدًا ، وَفِي حِينِهِ يَجُوزُ وَزْنًا وَلَا يَجُوزُ عَدَدًا لِأَنَّ فِيهِ الصَّغِيرَ وَالْكَبِيرَ إلَّا أَنَّ النَّاسَ اعْتَادُوا بَيْعَهُ وَزْنًا ، وَالتَّفَاوُتُ فِي الْمَالِيَّةِ يَنْعَدِمُ بِذِكْرِ الْوَزْنِ .
وَأَبُو حَنِيفَةَ يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ السَّلَمِ فِي اللَّحْمِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعَظْمَ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ مِنْ اللَّحْمِ حَتَّى تَجْرِي الْمُمَاسَكَةَ فِي نَزْعِهِ ، فَإِنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى السِّمَنِ وَالْهُزَالِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي السَّمَكِ .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْكِبَارَ مِنْ السَّمَكِ الَّذِي يُقْطَعُ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا وَزْنًا بِمَنْزِلَةِ السَّلَمِ فِي اللَّحْمِ ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ يُقْطَعُ تَجْرِي الْمُمَاكَسَةُ فِي نَزْعِ الْعَظْمِ مِنْهُ وَتَخْتَلِفُ رَغَائِبُ النَّاسِ بِاخْتِلَافِ الْمَوْضِعِ مِنْهُ ، فَأَمَّا السَّمَكُ الْمَالِحُ فَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِيهِ وَزْنًا مَعْلُومًا وَلَا خَيْرَ فِيهِ عَدَدًا ، أَمَّا الصِّغَارُ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُبَاعُ وَزْنًا وَلَا سِمَنَ لَهُ وَهُوَ مِمَّا لَا يَنْقَطِعُ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ فَيَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ وَزْنًا وَفِي الْكِبَارِ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ عَدَدًا لِلتَّفَاوُتِ وَيَجُوزُ وَزْنًا وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ بِخِلَافِ اللَّحْمِ فَهُنَاكَ يَتَمَكَّنُ مِنْ إعْلَامِ مَوْضِعِ الْخُبْثِ أَوْ الطُّهْرِ وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي السَّمَكِ فَلَا يَجُوزُ وَزْنًا

قَالَ : ( وَإِذَا أَسْلَمَ فِي الْجُذُوعِ ضَرْبًا مَعْلُومًا وَسَمَّى طُولَهُ وَغِلَظَهُ وَأَجَلَهُ وَالْمَكَانَ الَّذِي يُوفِيهِ فِيهِ فَهُوَ جَائِزٌ ) لِأَنَّهُ مَذْرُوعٌ مَعْلُومٌ كَالثِّيَابِ وَكَذَلِكَ السَّاجُ وَصُنُوفُ الْعِيدَانِ وَالْخَشَبُ وَالْقَصَبُ وَإِعْلَامُ الْغِلَظِ فِي الْقَصَبِ بِإِعْلَامِ مَا يَسُدُّ بِهِ الظَّنَّ بِشِبْرٍ أَوْ ذِرَاعٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا تَجْرِي الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا

قَالَ : ( وَإِذَا اسْتَصْنَعَ الرَّجُلُ عِنْدَ الرَّجُلِ خُفَّيْنِ أَوْ قَلَنْسُوَةً أَوْ طَسْتًا أَوْ كُوزًا أَوْ آنِيَةً مِنْ أَوَانِي النُّحَاسِ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجُوزَ ذَلِكَ ) لِأَنَّ الْمُسْتَصْنَعَ فِيهِ مَبِيعٌ وَهُوَ مَعْدُومٌ وَبَيْعُ الْمَعْدُومِ لَا يَجُوزُ لِنَهْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ ثُمَّ هَذَا فِي حُكْمِ بَيْعِ الْعَيْنِ وَلَوْ كَانَ مَوْجُودًا غَيْرَ مَمْلُوكٍ لِلْعَاقِدِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَعْدُومًا بَلْ أَوْلَى وَلَكِنَّا نَقُولُ نَحْنُ تَرَكْنَا الْقِيَاسَ لِتَعَامُلِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُمْ تَعَامَلُوهُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ مُنْكِرٍ وَتَعَامُلُ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ أَصْلٍ مِنْ الْأُصُولِ كَبِيرٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ } وَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَجْتَمِعُ أُمَّتِي عَلَى ضَلَالَةٍ } وَهُوَ نَظِيرُ دُخُولِ الْحَمَّامِ بِأَجْرٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ لِتَعَامُلِ النَّاسِ وَإِنْ كَانَ مِقْدَارُ الْمُكْثِ فِيهِ وَمَا يُصَبُّ مِنْ الْمَاءِ مَجْهُولًا وَكَذَلِكَ شُرْبُ الْمَاءِ مِنْ السَّقَّا بِفَلْسٍ وَالْحِجَامَةُ بِأَجْرٍ جَائِزٌ لِتَعَامُلِ النَّاسِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِقْدَارٌ فَمَا يُشْتَرَطُ أَنْ يُصْنَعَ مِنْ الْكَنَّةِ عَلَى ظَهْرِهِ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اسْتَصْنَعَ خَاتَمًا وَاسْتَصْنَعَ الْمِنْبَرَ } فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا يُتْرَكُ كُلُّ قِيَاسٍ فِي مُقَابَلَتِهِ وَكَانَ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ يَقُولُ : الِاسْتِصْنَاعُ مُوَاعَدَةٌ وَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ بِالتَّعَاطِي إذَا جَاءَ بِهِ مَفْرُوغًا عَنْهُ وَلِهَذَا ثَبَتَ فِيهِ الْخِيَارُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مُعَاقَدَةٌ فَإِنَّهُ أَجْرَى فِيهِ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ وَالْمَوَاعِيدُ تَجُوزُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا ثُمَّ كَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْبَرْدَعِيُّ يَقُولُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ هُوَ الْعَمَلُ

لِأَنَّ الِاسْتِصْنَاعَ اشْتِغَالٌ مِنْ الصُّنْعِ وَهُوَ الْعَمَلُ فَتَسْمِيَةُ الْعَقْدِ بِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَالْأَدِيمُ وَالصِّرْمُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْآلَةِ لِلْعَمَلِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْمُسْتَصْنَعُ فِيهِ وَذَكَرَ الصَّنْعَةَ لِبَيَانِ الْوَصْفِ فَإِنَّ الْمَعْقُودَ هُوَ الْمُسْتَصْنَعُ فِيهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَاءَ بِهِ مَفْرُوغًا عَنْهُ لَا مِنْ صَنْعَتِهِ أَوْ مِنْ صَنْعَتِهِ قَبْلَ الْعَقْدِ فَأَخَذَهُ كَانَ جَائِزًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مُحَمَّدًا قَالَ : إذَا جَاءَ بِهِ مَفْرُوغًا عَنْهُ فَلِلْمُسْتَصْنِعِ الْخِيَارُ لِأَنَّهُ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ وَخِيَارُ الرُّؤْيَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَبِيعَ هُوَ الْمُسْتَصْنَعُ فِيهِ قَالَ : ( وَإِذَا عَمِلَهُ الصَّانِعُ فَقَبْلَ أَنْ يَرَاهُ الْمُسْتَصْنِعُ بَاعَهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِهِ ) لِأَنَّ الْعَقْدَ لَمْ يَتَعَيَّنْ فِي هَذَا بَعْدُ وَلَكِنْ إذَا أَحْضَرَهُ وَرَآهُ الْمُسْتَصْنِعُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا لَمْ يَرَهُ وَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ } وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ : إذَا جَاءَ بِهِ كَمَا وَصَفَهُ لَهُ فَلَا خِيَارَ لِلْمُسْتَصْنِعِ اسْتِحْسَانًا لَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الصَّانِعِ فِي إفْسَادِ أَدِيمِهِ وَآلَاتِهِ فَرُبَّمَا لَا يَرْغَبُ غَيْرُهُ فِي شِرَائِهِ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ فَلِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ قُلْنَا بِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ وَفَرَّقَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ هَذَا وَالسَّلَمِ ، وَقَالَ : لَا فَائِدَةَ فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ فِي السَّلَمِ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ فِي الذِّمَّةِ وَإِذَا رَدَّ الْمَقْبُوضَ عَادَ دَيْنًا كَمَا كَانَ وَهُنَا إثْبَاتُ الْخِيَارِ مُقَيَّدٌ لِأَنَّهُ مَبِيعُ عَيْنٍ فَبِرَدِّهِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ وَيَعُودُ إلَيْهِ رَأْسُ مَالِهِ وَيُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ إعْلَامَ الدَّيْنِ بِذِكْرِ الصِّفَةِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ الْمُعَايَنَةُ فَقَامَ ذِكْرُ الْوَصْفِ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ مَقَامَ

الرُّؤْيَةِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ فَأَمَّا إعْلَامُ الْعَيْنِ فَتَمَامُهُ بِالرُّؤْيَةِ وَالْمُسْتَصْنَعُ فِيهِ مَبِيعُ عَيْنٍ فَلِهَذَا يَثْبُتُ فِيهِ خِيَارُ الرُّؤْيَةِ قَالَ : ( فَإِنْ ضَرَبَ لِذَلِكَ أَجَلًا وَكَانَتْ تِلْكَ الصِّنَاعَةُ مَعْرُوفَةً فَهُوَ سَلَمٌ ) فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ تُعْتَبَرُ فِيهِ شَرَائِطُ السَّلَمِ مِنْ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ وَلَا خِيَارَ فِيهِ لِرَبِّ السَّلَمِ إذَا أَحَضَرَهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ وَهُوَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى اسْتِصْنَاعٌ عَلَى حَالِهِ لِأَنَّهُ بِدُونِ ذِكْرِ الْأَجَلِ عَقْدٌ جَائِزٌ غَيْرُ لَازِمٍ فَبِذِكْرِ الْأَجَلِ فِيهِ لَا يَصِيرُ لَازِمًا لِعَقْدِ الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ وَهَذَا لِأَنَّ ذِكْرَ الْأَجَلِ تَيَسَّرَ فِيهِ وَتَأْخِيرُ الْمُطَالَبَةِ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ الْعَقْدُ مِنْ جِنْسٍ إلَى جِنْسٍ آخَرَ وَلَوْ كَانَ الِاسْتِصْنَاعُ بِذِكْرِ الْأَجَلِ فِيهِ يَصِيرُ سَلَمًا لَصَارَ السَّلَمُ بِحَذْفِ الْأَجَلِ مِنْهُ اسْتِصْنَاعًا وَلَوْ كَانَ هَذَا سَلَّمَا فَاسِدًا لِأَنَّهُ شَرَطَ فِيهِ صَنْعَةَ صَانِعٍ بِعَيْنِهِ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلسَّلَمِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ هَذَا مَبِيعُ دَيْنٍ وَالْمَبِيعُ الدَّيْنُ لَا يَكُونُ إلَّا سَلَمًا كَمَا لَوْ ذَكَرَ لَفْظَةَ السَّلَمِ وَبَيَانُهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُسْتَصْنَعَ فِيهِ مَبِيعٌ وَالْأَجَلُ لَا يَثْبُتُ إلَّا فِي الدُّيُونِ فَلَمَّا ثَبَتَ فِيهِ الْأَجَلُ هُنَا عَرَفْنَا أَنَّهُ مَبِيعُ دَيْنٍ فَتَأْثِيرُهُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَبِهِ يَخْتَلِفُ الْعَقْدُ لَا بِاعْتِبَارِ اللَّفْظِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : مَلَّكْتُكَ هَذِهِ الْعَيْنَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ كَانَ بَيْعًا وَلَوْ قَالَ : بِسُكْنَى هَذِهِ الدَّارِ شَهْرًا كَانَتْ إجَارَةً فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ ثُمَّ السَّلَمُ أَقْرَبُ إلَى الْجَوَازِ مِنْ الِاسْتِصْنَاعِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَحْسِنٌ وَلَكِنَّ الْآثَارَ فِي السَّلَمِ مَشْهُورَةٌ وَهُوَ جَائِزٌ فِيمَا لِلنَّاسِ فِيهِ تَعَامُلٌ وَفِيمَا لَا تَعَامُلَ فِيهِ فَكَانَ الْأَصْلُ فِيمَا قَصَدَاهُ السَّلَمُ

إلَّا إذَا تَعَذَّرَ جَعْلُهُ سَلَمًا بِأَنْ لَمْ يَذْكُرَا فِيهِ أَجَلًا فَحِينَئِذٍ جُعِلَ اسْتِصْنَاعًا فَأَمَّا إذَا أَمْكَنَ جَعْلُهُ سَلَمًا بِأَنْ ذَكَرَ الْأَجَلَ يُجْعَلُ سَلَمًا وَلِأَنَّ الْأَجَلَ مُؤَخَّرٌ لِلْمُطَالَبَةِ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ وَاللُّزُومُ فِي السَّلَمِ دُونَ الِاسْتِصْنَاعِ فَثُبُوتُ الْأَجَلِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ سَلَمٌ وَذِكْرُ الصَّنْعَةِ لِبَيَانِ وَصْفِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَلِهَذَا لَوْ جَاءَ بِهِ مَفْرُوغًا عَنْهُ لَا مِنْ صَنْعَتِهِ يُجْبَرُ عَلَى الْقَبُولِ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ فَسَادُ قَوْلِهِمْ أَنَّهُ سَلَمٌ شُرِطَ فِيهِ صَنْعَةُ صَانِعٍ بِعَيْنِهِ وَمَا قَالَا بِأَنَّ السَّلَمَ بِحَذْفِ الْأَجَلِ لَا يَصِيرُ اسْتِصْنَاعًا يَشْكُلُ بِالْمُتْعَةِ فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ نِكَاحًا بِحَذْفِ الْمُدَّةِ عَنْهُ ثُمَّ النِّكَاحُ بِذِكْرِ الْمُدَّةِ فِيهِ يَصِيرُ مُتْعَةً وَهُوَ إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً شَهْرًا وَهَذَا إذَا كَانَ ذِكْرُ الْمُدَّةِ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِمْهَالِ أَمَّا إذَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِعْجَالِ بِأَنْ قَالَ : عَلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْهُ غَدًا أَوْ بَعْدَ غَدٍ فَهَذَا لَا يَكُونُ سَلَمًا لِأَنَّ ذِكْرَ الْمُدَّةِ لِلْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ لَا لِتَأْخِيرِ الْمُطَالَبَةِ بِالتَّسْلِيمِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ ذَكَرَ أَدْنَى مُدَّةً يُمْكِنُهُ الْفَرَاغُ فِيهَا مِنْ الْعَمَلِ وَيُحْكَى عَنْ الْهِنْدُوَانِيِّ .
قَالَ : إنْ كَانَ ذِكْرُ الْمُدَّةِ مِنْ قِبَلِ الْمُسْتَصْنِعِ فَهُوَ لِلِاسْتِعْجَالِ وَلَا يَصِيرُ بِهِ سَلَمًا وَإِنْ كَانَ الصَّانِعُ هُوَ الَّذِي ذَكَرَ الْمُدَّةَ فَهُوَ سَلَمٌ لِأَنَّهُ يُذْكَرُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِمْهَالِ وَقِيلَ إنَّ ذِكْرَ أَدْنَى مُدَّةٍ يُتَمَكَّنُ فِيهَا مِنْ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ فَهُوَ اسْتِصْنَاعٌ وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ سَلَمٌ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَعْمَالِ فَلَا يُمْكِنُ تَقْدِيرُهُ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ

قَالَ : ( وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي اللَّبَنِ فِي جُبْنِهِ وَزْنًا أَوْ كَيْلًا مَعْلُومًا ) لِأَنَّهُ يُكَالُ تَارَةً وَيُوزَنُ أُخْرَى فَيَصِيرُ مَعْلُومًا بِذِكْرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى فِيهِ مُنَازَعَةٌ فِي التَّسْلِيمِ قَالَ : ( فِي الْكِتَابِ وَهَذَا قَبْلَ انْقِطَاعِهِ وَهَذَا فِي عُرْفِ دِيَارِهِمْ ) لِأَنَّ اللَّبَنَ يَنْقَطِعُ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَأَمَّا فِي دِيَارِنَا لَا يَنْقَطِعُ وَإِنْ كَانَتْ تُزَادُ قِيمَتُهُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ وَلَكِنْ لَا يُعَدُّ ذَلِكَ انْقِطَاعًا فَيَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ قَالَ : ( وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي اللَّبِنِ وَالْآجُرِّ إذَا شَرَطَ فِيهِ شَيْئًا مَعْلُومًا ) لِأَنَّهُ عَدَدِيٌّ مُتَقَارِبٌ فَإِنَّ آحَادَهُ لَا تَخْتَلِفُ فِي الْمَالِيَّةِ وَإِنَّمَا تَخْتَلِفُ أَنْوَاعُهُ وَإِنَّمَا يَكُونُ مَعْلُومًا بِذِكْرِ الْمَلْبَنِ فَمَلْبَنُ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهُ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ وَإِنْ كَانَ لَا يُعْرَفُ ذَلِكَ فَلَا خَيْرَ فِيهِ

قَالَ : ( وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي التِّبْنِ كَيْلًا مَعْلُومًا وَكِيمَانًا مَعْلُومَةً ) لِأَنَّهُ مَكِيلٌ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ وَكَيْلُهُ الْغِرَارَةُ إذَا كَانَ مَعْلُومًا وَإِنْ كَانَ لَا يُعْرَفُ ذَلِكَ فَلَا خَيْرَ فِيهِ .

قَالَ : ( وَلَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي رُءُوسِ الْغَنَمِ وَالْأَكَارِعِ ) لِأَنَّهَا عَدَدِيَّةٌ مُتَفَاوِتَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُنَازِعُ الْبَائِعَ فَيَقُولُ أُرِيدُ هَذَا وَلَا أُرِيدُ هَذَا وَالْمَقْصُودُ مَا عَلَيْهَا مِنْ اللَّحْمِ وَهِيَ تَخْتَلِفُ ثُمَّ هَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ غَيْرُ مُشْكِلٍ لِأَنَّهَا أَبْعَاضُ الْحَيَوَانِ كَاللَّحْمِ وَهُمَا يَقُولَانِ اللَّحْمُ مَوْزُونٌ أَمَّا الرُّءُوسُ وَالْأَكَارِعُ فَغَيْرُ مَوْزُونَةٍ عَادَةً وَبِذِكْرِ الْوَزْنِ لَا يَصِيرُ الْمَقْصُودُ مِنْهَا مَعْلُومًا فَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا

قَالَ : ( وَلَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ إذَا شُرِطَ بِمِكْيَالٍ غَيْرِ مَعْرُوفٍ أَوْ بِإِنَاءٍ بِعَيْنِهِ غَيْرِ مَعْرُوفٍ أَوْ بِوَزْنِ حَجَرٍ غَيْرِ مَعْرُوفٍ ) لِأَنَّ مِقْدَارَ السَّلَمِ فِيهِ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا عِنْدَ الْعَقْدِ وَبِمَا ذُكِرَ لَا يَصِيرُ مِقْدَارُهُ بِالْمِكْيَالِ الْمَعْرُوفِ وَالْمِيزَانِ الْمَعْرُوفِ مَعْلُومًا فَكَانَ هَذَا سَلَمًا فِي الْمَجْهُولِ وَلِأَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّسْلِيمِ وَقْتَ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ شَرْطٌ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ الْإِبْقَاءُ مَا عَيْنُهُ مِنْ الْمِكْيَالِ إلَى وَقْتِ حُلُولِ الْأَجَلِ وَبَقَاؤُهُ مَوْهُومٌ فَرُبَّمَا يَهْلَكُ قَبْلَ ذَلِكَ وَإِنْ اشْتَرَى بِذَلِكَ الْإِنَاءِ يَدًا بِيَدٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّ فِي الْعَيْنِ يَجُوزُ الْبَيْعُ مُجَازَفَةً فَمِكْيَالٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ أَوْلَى وَهَذَا لِأَنَّ التَّسْلِيمَ عَقِيبَ الْعَقْدِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ لِلْحَالِ ثَابِتَةٌ وَهَذَا لِأَنَّ التَّسْلِيمَ عَقِيبَ الْعَقْدِ لَا بِقِيَامِ الْمِكْيَالِ الَّذِي عَيَّنَهُ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي غَيْرِ الْأُصُولِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ إمَّا أَنْ تَكُونَ مُجَازَفَةً أَوْ يُذْكَرَ الْقَدْرُ فَفِي الْمُجَازَفَةِ وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَا يُشَارُ إلَيْهِ وَعِنْدَ ذِكْرِ الْقَدْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَا سَمَّى مِنْ الْقَدْرِ وَلَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا هُنَا فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُجَازَفَةٍ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْكَيْلُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمِكْيَالُ مَعْلُومًا وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ : فِي بَيْعِ الْعَيْنِ إنْ عَيَّنَ مِكْيَالًا لَا يَنْكَبِسُ فِيهِ كَالزِّنْبِيلِ وَنَحْوِهِ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ فِيهِ فَإِنَّهُ تَتَمَكَّنُ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْكَيْلِ وَإِنْ كَانَ شَيْئًا لَا يَنْقَبِضُ وَلَا يَنْبَسِطُ كَالْقَصْعَةِ وَنَحْوِهَا يَجُوزُ .

قَالَ : ( وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي الْعَصِيرِ فِي حِينِهِ وَزْنًا أَوَكَيْلًا ) لِأَنَّهُ يُوزَنُ أَوْ يُكَالُ كَالْبُنِّ وَكَذَلِكَ الْخَلُّ لَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِيهِ كَيْلًا مَعْلُومًا أَوْ وَزْنًا مَعْلُومًا لِأَنَّهُ يُكَالُ وَيُوزَنُ وَإِعْلَامُ الْمِقْدَارِ بِذِكْرِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحَصَّلٌ وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا عُرِفَ كَوْنُهُ مَكِيلًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ مَكِيلٌ أَبَدًا وَإِنْ اعْتَادَ النَّاسُ بَيْعَهُ وَزْنًا وَمَا عُرِفَ كَوْنُهُ مَوْزُونًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَهُوَ مَوْزُونٌ أَبَدًا وَمَا لَمْ يُعْلَمُ كَيْفَ كَانَ يُعْتَبَرُ فِيهِ عُرْفُ النَّاسِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ إنْ تَعَارَفُوا فِيهِ الْكَيْلَ وَالْوَزْنَ جَمِيعًا فَهُوَ مَكِيلٌ وَمَوْزُونٌ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ إنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ الْعُرْفُ لِأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ مَكِيلًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَوْ مَوْزُونًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ لَا بِنَصٍّ فِيهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنَّا نَقُولُ تَقْرِيرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُمْ عَلَى مَا تَعَارَفُوهُ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ بِمَنْزِلَةِ النَّصِّ مِنْهُ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِالْعُرْفِ لِأَنَّ الْعُرْفَ لَا يُعَارِضُ النَّصَّ

قَالَ : ( وَإِنْ أَسْلَمَ فِي تَمْرٍ وَلَمْ يُسَمِّ فَارِسِيًّا وَلَا دَقَلًا لَمْ يَجُزْ ) لِأَنَّ التَّمْرَ أَنْوَاعٌ فَبِدُونِ ذِكْرِ النَّوْعِ لَا تَنْقَطِعُ الْمُنَازَعَةُ فَإِنَّ اُشْتُرِطَ فَارِسِيًّا فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُشْتَرَطَ جَيِّدًا أَوْ وَسَطًا أَوْ رَدِيًّا لِأَنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ التَّمْرِ يَشْتَمِلُ عَلَى هَذِهِ الْأَوْصَافِ الثَّلَاثَةِ وَالْمَالِيَّةُ تَخْتَلِفُ بِجِنْسِهَا

قَالَ : ( وَلَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي شَيْءٍ مِنْ الطُّيُورِ وَلَا فِي لُحُومِهَا ) لِأَنَّ آحَادَهَا تَخْتَلِفُ فِي الْمَالِيَّةِ فَكَانَتْ عَدَدِيَّةً مُتَفَاوِتَةً وَهُمَا فَرَّقَا بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ السَّلَمِ فِي اللَّحْمِ لِأَنَّ هُنَاكَ يُمْكِنُ إعْلَامُ الْمُسْلَمِ فِيهِ بِذِكْرِ الْمَوْضِعِ وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي لُحُومِ الطَّيْرِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ : مَا لَا تَتَفَاوَتُ آحَادُهُ فِي الْمَالِيَّةِ كَالْعَصَافِيرِ وَنَحْوِهَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِي لُحُومِهَا

قَالَ : وَلَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْجَوَاهِرِ وَاللُّؤْلُؤِ أَمَّا الصِّغَارُ مِنْ اللَّآلِئِ الَّتِي تُبَاعُ وَزْنًا وَتُجْعَلُ فِي الْأَدْوِيَةِ يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا وَزْنًا وَأَمَّا الْكِبَارُ مِنْهَا تَتَفَاوَتُ آحَادُهَا فِي الْمَالِيَّةِ وَهِيَ عَدَدِيَّةٌ مُتَفَاوِتَةٌ لَا يُمْكِنُ إعْلَامُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا فَلَا يَجُوزُ السَّلَمِ فِيهَا

قَالَ : ( وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي الْجَصِّ وَالنُّورَةِ كَيْلًا ) لِأَنَّهُ مَكِيلٌ مَعْلُومٌ وَهُوَ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ فِي كُلِّ وَقْتٍ ،

قَالَ : ( وَلَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي الزُّجَاجِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَكْسُورًا فَيُشْتَرَطُ وَزْنًا مَعْلُومًا وَكَذَلِكَ جَوْهَرُ الزُّجَاجِ فَإِنَّهُ مَوْزُونٌ مَعْلُومٌ عَلَى وَجْهٍ لَا تَفَاوُتَ فِيهِ أَمَّا الْأَوَانِي الْمُتَّخَذَةُ مِنْ الزُّجَاجِ فَهِيَ عَدَدِيَّةٌ مُتَفَاوِتَةٌ فَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهَا بِذِكْرِ الْعَدَدِ وَلَا بِذِكْرِ الْوَزْنِ ) لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُوزَنُ وَلَا تُعْلَمُ مَالِيَّتُهُ بِوَزْنِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا مَعْرُوفًا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَتَفَاوَتُ فِي الْمَالِيَّةِ كَالْمَكَاحِلِ وَالْمُطَابِقِ فَإِنَّ آحَادَ ذَلِكَ لَا تَخْتَلِفُ فِي الْمَالِيَّةِ إنَّمَا تَخْتَلِفُ أَنْوَاعُهُ وَكُلُّ نَوْعٍ مِنْهُ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ فَيَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ بِذِكْرِ الْعَدَدِ

قَالَ : ( وَإِذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِي طَعَامٍ خَمْسُمِائَةٍ مِنْ ذَلِكَ كَانَتْ دَيْنًا عَلَيْهِ وَخَمْسُمِائَةٍ نَقَدَهَا إيَّاهُ جَازَتْ حِصَّةُ الْعَيْنِ مِنْ ذَلِكَ وَبَطَلَتْ حِصَّةُ الدَّيْنِ ) وَعَنْ زُفَرَ أَنَّ الْعَقْدَ فِي الْكُلِّ بَاطِلٌ أَمَّا فِي حِصَّةِ الدَّيْنِ فَلِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَنْ بَيْعِ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ } يَعْنِي الدَّيْنَ بِالدِّينِ وَهَذَا فَسَادٌ قَوِيٌّ يُمْكِنُ فِي الْبَعْضِ فَيَفْسُدُ بِهِ الْكُلُّ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ جَعَلَ قَبُولَ الْعَقْدِ فِي حِصَّةِ الدَّيْنِ شَرْطًا لِلْقَبُولِ فِي حِصَّةِ الْعَيْنِ وَهَذَا شَرْطٌ فَاسِدٌ وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ثُمَّ يُعْتَبَرُ الْبَعْضُ بِالْكُلِّ فِي الدَّيْنِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا وَحَقِيقَةً الْمَعْنَى أَنَّ الْعَقْدَ انْعَقَدَ صَحِيحًا فِي الْكُلِّ حَتَّى لَوْ نُقِدَ جَمِيعُ الْأَلْفِ فِي الْمَجْلِسِ كَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ بِالدِّينِ الْمُضَافِ إلَيْهِ وَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِجِنْسِهِ وَمِثْلِهِ وَلَوْ اشْتَرَى بِالدِّينِ شَيْئًا مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنِ ثُمَّ تَصَادَقَا عَلَى أَنْ لَا دَيْنَ بَقِيَ الشِّرَاءُ صَحِيحًا وَإِنَّمَا فَسَدَ الْعَقْدُ هُنَا بِمِقْدَارِ الْخَمْسِمِائَةِ بِتَرْكِ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ وَهَذَا فَسَادٌ طَارِئٌ فَيَقْتَصِرُ عَلَى مَا وُجِدَتْ فِيهِ عِلَّتُهُ كَمَا لَوْ هَلَكَ بَعْضُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ .

قَالَ : ( وَإِذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ مِائَةَ دِرْهَمٍ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ وَكُرِّ شَعِيرٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ رَأْسَ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا خَيْرَ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ) بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ إعْلَامَ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى شَرْطِهِ شَرْطٌ عِنْدَهُ وَهُنَا الْمِائَةُ الَّتِي تَنْقَسِمُ انْقَسَمَتْ عَلَى الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الْحِرْزُ فَلَا يَكُونُ مِقْدَارُ رَأْسِ الْمَالِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْلُومًا وَلَوْ تَتَارَكَا السَّلَمَ فِي أَحَدِهِمَا لَمْ يُعْلَمْ يَقِينًا مِقْدَارُ مَا يَرُدُّهُ فَلَا يَجُوزُ الْعَقْدُ وَعِنْدَهُمَا الْإِشَارَةُ إلَى الْعَيْنِ تَكْفِي لِجَوَازِ الْعَقْدِ وَقَدْ وُجِدَ

قَالَ : ( وَلَا يَجُوزُ السَّلَمُ إذَا كَانَ فِيهِ شَرْطُ خِيَارٍ ) لِأَنَّ خِيَارَ الشَّرْطِ يُعْدِمُ الْمِلْكَ وَيَجْعَلُ الْعَقْدَ فِي حَقِّ الْحُكْمِ كَالْعِتْقِ بِشَرْطِ سُقُوطِ الْخِيَارِ فَكَانَ تَأْثِيرُهُ أَكْثَرَ مِنْ تَأْثِيرِ عَدَمِ الْقَبْضِ وَعَدَمُ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ مُبْطِلٌ لِلسَّلَمِ فَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ أَوْلَى وَهَذَا لِأَنَّ لِلْقَبْضِ حُكْمَ الْعَقْدِ وَقَدْ صَارَ الْعَقْدُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ فِي حَقِّ الْحُكْمِ كَالْمُتَعَلِّقِ بِالشَّرْطِ وَالْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَهُ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْقَبْضَ لَا يَتِمُّ وَالِافْتِرَاقُ قَبْلَ تَمَامِ الْقَبْضِ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ إلَّا أَنْ يُبْطِلَ صَاحِبُ الْخِيَارِ خِيَارَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا فَحِينَئِذٍ يَنْقَلِبُ الْعَقْدُ صَحِيحًا عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ فَإِنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ تَصْحِيحَ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ فِي اسْتِقْبَالِهِ فَقَطْ وَعِنْدَنَا الْمُفْسِدُ مَتَى زَالَ قَبْلَ تَقَرُّرِهِ جُعِلَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ وَتَقَرَّرَ الْفَسَادُ هُنَا بِالِافْتِرَاقِ قَبْلَ تَمَامِ الْقَبْضِ وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ مَتَى أَسْقَطَا الْخِيَارَ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا وَلِأَنَّ حَالَةَ الْمَجْلِسِ كَحَالَةِ الْعَقْدِ وَلِهَذَا جُعِلَ قَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ كَالْمُقْتَرِنِ بِالْعَقْدِ فَكَذَلِكَ لُزُومُ الْعَقْدِ بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ فِي الْمَجْلِسِ يُجْعَلُ كَالْمُقْتَرِنِ بِالْعَقْدِ وَهَذَا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ قَائِمًا فِي يَدِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ عِنْدَ إسْقَاطِ الْخِيَارِ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَنْفَقَهُ حَتَّى صَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ بِرَأْسِ مَالٍ هُوَ دَيْنٌ لَا يَجُوزُ فَكَذَلِكَ إتْمَامُهُ بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ ،

قَالَ : ( وَإِذَا أَسْلَمَ إلَيْهِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ أَوْ ثَوْبًا أَوْ عَبْدًا فِي طَعَامٍ ثُمَّ افْتَرَقَا قَبْلَ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ لَمْ يَجُزْ السَّلَمُ ) وَقَالَ : مَالِكٌ يَجُوزُ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ رَأْسَ الْمَالِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ مُؤَجَّلًا بِمَنْزِلَةِ الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ إلَّا أَنَّ هُنَا الشَّرْطَ أَنْ يَكُونَ حَالًّا لِأَنَّ مَا يُقَابِلُهُ مُؤَجَّلٌ وَالنَّسِيئَةُ بِالنَّسِيئَةِ حَرَامٌ وَلَا تَنْعَدِمُ صِفَةُ الْحُلُولِ بِتَرْكِ الْقَبْضِ فِيهِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ وَلَكِنَّا نَقُولُ السَّلَمُ أَخْذُ عَاجِلٍ بِآجِلٍ فَيُشْتَرَطُ كَوْنُ أَحَدِ الْبَدَلَيْنِ فِيهِ مُعَجَّلًا كَمَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ مُؤَجَّلًا لِيَتَوَفَّرَ عَلَى هَذَا الْعَقْدِ مُقْتَضَاهُ وَالتَّعْجِيلُ إنَّمَا يُحَصَّلُ بِالْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُشْتَرَطَ اقْتِرَانُ الْقَبْضِ بِالْعَقْدِ فَإِنَّهُ أَتَمُّ مَا يَكُونُ مِنْ التَّعْجِيلِ وَلَكِنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ سَاعَاتِ الْمَجْلِسِ كَحَالَةِ الْعَقْدِ تَيْسِيرًا كَمَا فِي عَقْدِ الصَّرْفِ ثُمَّ إنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَيْنًا فَالْعَقْدُ يُبْطِلُهُ بِالِافْتِرَاقِ قَبْلَ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ دَيْنٌ بِدَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا فَفِي الْقِيَاسِ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ لِأَنَّهُمَا افْتَرَقَا عَنْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ وَذَلِكَ جَائِزٌ كَبَيْعِ الْعَيْنِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ لِمُرَاعَاتِ اسْمِ هَذَا الْعَقْدِ وَلِأَنَّ جَوَازَ عَقْدِ السَّلَمِ لِحَاجَةِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَإِنَّمَا يَتَوَفَّرُ عَلَيْهِ حَاجَتُهُ إذَا وَصَلَ رَأْسُ الْمَالِ إلَيْهِ فَيُشْتَرَطُ وُصُولُهُ إلَى يَدِهِ مَقْرُونًا بِالْعَقْدِ ثُمَّ حَالَةُ الْمَجْلِسِ جُعِلَتْ كَحَالَةِ الْعَقْدِ فَلِهَذَا يَفْسُدُ بِتَرْكِ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ وَإِنْ كَانَ عَيْنًا وَإِنْ قَبَضَ الدَّرَاهِمَ ثُمَّ افْتَرَقَا فَوَجَدَهَا زُيُوفًا فَإِنَّهُ يَرُدُّهَا وَيَنْتَقِضُ السَّلَمُ أَمَّا إذَا تَجَوَّزَ بِهَا جَازَ الْعَقْدُ لِأَنَّ الزُّيُوفَ مِنْ جِنْسِ

الدَّرَاهِمِ وَلَكِنْ فِيهِ عَيْبٌ وَوُجُودُ الْعَيْبِ فِي الشَّيْءِ لَا يَجْعَلُهُ فِي حُكْمِ جِنْسٍ آخَرَ ثُمَّ الزُّيُوفُ مَا زَيَّفَهُ بَيْتُ الْمَالِ وَلَكِنْ يَرُوجُ فِيمَا بَيْنَ التُّجَّارِ وَالنَّبَهْرَجَةُ مَا تُبَهْرِجُهُ التُّجَّارُ وَرُبَّمَا تَسَامَحَ فِيهِ بَعْضُهُمْ وَرُبَّمَا يَأْبَاهُ بَعْضُهُمْ لِغِشٍّ فِيهِ وَبِهَذَا لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ فَقَابِضُهُ يَكُونُ مُسْتَوْفِيًا لِحَقِّهِ فَإِذَا تَجَوَّزَ بِهِ تَجَوَّزَ بِخِلَافِ مَا إذَا وُجِدَ الْمَقْبُوضُ سَتُّوقَةً أَوْ رَصَاصًا فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ فَإِنَّ السَّتُّوقَةَ فَلْسٌ مُمَوَّهٌ بِالْفِضَّةِ وَمَعْنَاهُ مِنْ طَاقَةٍ وَالرَّصَاصُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ فَلَا يَصِيرُ بِقَبْضِهِ مُسْتَوْفِيًا لِرَأْسِ الْمَالِ فَإِذَا تَجَوَّزَ بِهَا كَانَ مُسْتَبْدِلًا لَا مُسْتَوْفِيًا وَالِاسْتِبْدَالُ بِرَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ فَأَمَّا إذَا رَدَّهُ فِي الْقِيَاسِ يُنْتَقَصُ السَّلَمُ سَوَاءٌ اُسْتُبْدِلَ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ أَوْ لَمْ يُسْتَبْدَلْ وَصَارَ الْكُلُّ زُيُوفًا أَوْ الْبَعْضُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّ الرَّدَّ بِعَيْبِ الزِّيَافَةِ يَنْقُضُ الْقَبْضَ مِنْ الْأَصْلِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَرْجِعُ بِمُوجَبِ الْعَقْدِ وَهُوَ الْجِيَادُ وَالْعَقْدُ لَا يُوجِبُ الْقَبْضَ مَرَّتَيْنِ فَلَوْ لَمْ يُنْتَقَضُ الْقَبْضُ الْأَوَّلُ مِنْ الْأَصْلِ لَمَّا كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمُوجَبِ الْعَقْدِ وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُسْتَبْدَلْ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ بَطَلَ الْعَقْدُ وَبَقَاءُ الْقَبْضِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِبَقَاءِ الْعَقْدِ وَإِذَا ثَبُتَ انْتِقَاضُ الْقَبْضِ مِنْ الْأَصْلِ صَارَ كَأَنْ لَمْ يُوجَدْ فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ بِقَدْرِ الْمَرْدُودِ كَمَا لَوْ وَجَدَهُ مُسْتَحِقًّا وَلِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ دَيْنٌ وَالدَّيْنُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْوَصْفِ وَإِنَّمَا يَكُونُ الزُّيُوفُ رَأْسَ الْمَالِ بِاعْتِبَارِ إسْقَاطِ حَقِّهِ عَنْ الْجَوْدَةِ إذَا تَجَوَّزَ بِهِ فَإِذَا أَتَى ذَلِكَ بِالرَّدِّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ فَارَقَهُ قَبْلَ قَبْضِ حَقِّهِ فَبَطَلَ الْعَقْدُ كَمَا لَوْ وُجِدَ الْمَقْبُوضُ سُتُّوقًا

أَوْ رَصَاصًا وَاسْتَحْسَنَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَقَالَا : إذَا اُسْتُبْدِلَ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ بَقِيَ الْعَقْدُ صَحِيحًا سَوَاءٌ وُجِدَ الْكُلُّ زُيُوفًا أَوْ الْبَعْضُ لِأَنَّهُمَا افْتَرَقَا عَنْ قَبْضٍ صَحِيحٍ حَتَّى لَوْ تَجَوَّزَ بِهِ جَازَ فَإِنَّمَا اُنْتُقِضَ ذَلِكَ الْقَبْضُ بِالرَّدِّ وَصَارَ الْعَقْدُ عِنْدَ الرَّدِّ مُوجِبًا قَبْضَ الْجِيَادِ وَهُمَا مُجْتَمِعَانِ فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ فَيُجْعَلُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي مَجْلِسِ الرَّدِّ كَاجْتِمَاعِهِمَا فِي مَجْلِسِ الْعَقْدِ فَإِذَا افْتَرَقَا بَعْدَ قَبْضِ مُوجِبِ الْعَقْدِ وَهِيَ الْجِيَادُ بَقِيَ الْعَقْدُ صَحِيحًا كَمَا لَوْ زَادَ فِي رَأْسِ الْمَالِ وَافْتَرَقَا عَنْ مَجْلِسِ الزِّيَادَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَهَذَا بِخِلَافِ الِاسْتِحْقَاقِ فَقَبْضُ الْمُشْتَرَى مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ صَاحِبِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُرْضِيَ بِهِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ وَالْمَوْقُوفُ إذَا بَطَلَ صَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فَإِذَا نَفَذَ بِإِجَازَةِ الْمُسْتَحِقِّ اُلْتُحِقَ بِمَا لَوْ كَانَ نَافِذًا فِي الِابْتِدَاءِ كَالْمَبِيعِ الْمَوْقُوفِ فَلِهَذَا إذَا أَجَازَ الْمُسْتَحِقُّ بَقِيَ الْعَقْدُ صَحِيحًا وَإِذَا أَتَى وَأَخَذَ دَرَاهِمَهُ كَانَ الْعَقْدُ بَاطِلًا وَأَبُو حَنِيفَةَ أَخَذَ بِالْقِيَاسِ إذَا وَجَدَ الْكُلَّ زُيُوفًا أَوْ كَانَتْ الزُّيُوفُ أَكْثَرَ وَأَخَذَ بِالِاسْتِحْسَانِ إذَا قَلَّ الْمَرْدُودُ بِعَيْبِ الزِّيَافَةِ لِأَنَّ فِي الْقَلِيلِ بَلْوَى وَضَرُورَةً فَدَرَاهِمُ النَّاسِ لَا تَخْلُو عَنْ قَلِيلِ زَيْفٍ فَيَذْهَبُ عَلَى النَّاقِدِ وَإِنْ كَانَ بَصِيرًا وَإِقَامَةُ مَجْلِسِ الرَّدِّ مُقَامَ مَجْلِسِ الْعَقْدِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ فَإِنَّ الْمَوْجُودَ فِي هَذَا الْمَجْلِسِ شَرْطٌ بِوَجْهِ الْمُطَالَبِ بِمُوجَبِ الْعَقْدِ وَهُوَ الرَّدُّ لَا سَبَبُهُ وَإِقَامَةُ الشَّرْطِ مُقَامَ السَّبَبِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِيمَا تَتَحَقَّقُ فِيهِ الْبَلْوَى وَهُوَ الْقَلِيلُ دُونَ مَا لَا بَلْوَى فِيهِ وَهُوَ الْكَثِيرُ بَلْ الْكَثِيرُ كَالْمُسْتَحِقِّ قَلَّ أَوْ كَثُرَ لِأَنَّ دَرَاهِمَ النَّاسِ لَا تَخْلُو

عَنْ الْمُسْتَحِقِّ عَادَةً وَهَذَا بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ لِأَنَّ أَصْلَ الْعَقْدِ مَا كَانَ مُوجِبًا لِهَذِهِ الزِّيَادَةِ وَإِنَّمَا صَارَ الْآنَ مُوجِبًا فَكَانَ هَذَا الْمَجْلِسُ فِي حَقِّ الزِّيَادَةِ مَجْلِسَ السَّبَبِ بِمَنْزِلَةِ مَجْلِسِ الْعَقْدِ فِي حَقِّ رَأْسِ الْمَالِ وَإِذَا وُجِدَ الْقَبْضُ فِي مَجْلِسِ الزِّيَادَةِ لَمْ يَضُرَّهُمَا الِافْتِرَاقُ بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فَفِي كِتَابِ الْبُيُوعِ يَقُولُ مَا دُونَ النِّصْفِ قَلِيلٌ وَالنِّصْفُ فَمَا فَوْقَهُ كَثِيرٌ وَفِي كِتَابِ الصَّرْفِ يَقُولُ النِّصْفُ فَمَا دُونَهُ قَلِيلٌ وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ الثُّلُثُ كَثِيرٌ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ : لِسَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ } فَإِذَا وُجِدَ الثُّلُثُ زُيُوفًا فَرَدُّهُ يُبْطِلُ الْعَقْدَ بِقَدْرِهِ وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ قِلَّةَ الشَّيْءِ وَكَثْرَتَهُ تَتَبَيَّنُ بِالْمُقَابَلَةِ فَإِنَّ الْعَشَرَةَ بِمُقَابَلَةِ الدِّرْهَمِ كَثِيرَةٌ وَبِمُقَابَلَةِ الْمِائَةِ قَلِيلَةٌ فَإِذَا كَانَتْ الزُّيُوفُ دُونَ النِّصْفِ قُلْنَا إذَا قُوبِلَتْ الزُّيُوفُ بِالْجِيَادِ فَالزُّيُوفُ قَلِيلَةٌ وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ فَهِيَ كَثِيرَةٌ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِالْجِيَادِ فَإِذَا كَانَ النِّصْفُ سَوَاءً فَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ الْبُيُوعِ قَالَ : هَذَا كَثِيرٌ لَا يُقَابِلُهُ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ لِتَتَبَيَّنَ قِلَّتُهُ بِالْمُقَابَلَةِ وَفِي كِتَابِ الصَّرْفِ قَالَ : الشَّرْطُ كَثْرَةُ الْمَرْدُودِ وَلَا تَتَبَيَّنُ كَثْرَتُهُ إذَا لَمْ يَكُنْ مَا يُقَابِلُهُ أَقَلَّ مِنْهُ وَقَدْ كَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا فِي الْكُلِّ فَلَا تُنْتَقَضُ بِالشَّكِّ وَكَذَلِكَ حُكْمُ الصَّرْفِ فِي مَا ذَكَرْنَا

قَالَ : ( رَجُلٌ أَسْلَمَ إلَى رَجُلٍ فِي طَعَامٍ وَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِالْمُسْلَمِ فِيهِ ثُمَّ صَالَحَ الْكَفِيلَ عَلَى رَأْسِ مَالِهِ وَذَلِكَ دَيْنٌ ) فَالصُّلْحُ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فَإِنْ اخْتَارَ رَدَّ رَأْسِ الْمَالِ جَازَ وَإِنْ رَدَّ الصُّلْحَ بَطَلَ وَاسْتَرَدَّ الْكَفِيلُ دَرَاهِمَهُ وَطَالَبَ رَبُّ السَّلَمِ بِطَعَامِ السَّلَمِ أَيَّهُمَا شَاءَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْكَفِيلِ وَرَبِّ السَّلَمِ وَيَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ بِطَعَامِ السَّلَمِ وَهَذَا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عُرُوضًا لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ ثَوْبًا فَإِمَّا أَنْ يَصِحَّ الصُّلْحُ عَنْ ذَلِكَ الثَّوْبِ بِعَيْنِهِ وَهُوَ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ مِلْكُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فَلَا يَكُونُ الْكَفِيلُ قَادِرًا عَلَى تَسْلِيمِهِ وَإِمَّا أَنْ يَصِحَّ عَلَى ثَوْبِ غَيْرِهِ وَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا لِأَنَّهُ يَكُونُ اسْتِبْدَالًا بِرَأْسِ الْمَالِ وَكَذَلِكَ الصُّلْحُ عَلَى قِيمَةِ ذَلِكَ الثَّوْبِ يَكُونُ اسْتِبْدَالًا فَلَا يَجُوزُ فَأَمَّا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ فَالْخِلَافُ فِيهِ يَتَحَقَّقُ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ أَنَّ صُلْحَ الْكَفِيلِ عَنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ كَالصُّلْحِ عَنْ سَائِرِ الدُّيُونِ عَلَى أَيِّ بَدَلٍ كَانَ بِدَلِيلِ جَوَازِ ذَلِكَ مِنْ الْأَصْلِ ثُمَّ الْكَفِيلُ فِي سَائِرُ الدُّيُونِ لَوْ صَالَحَ عَلَى بَدَلٍ جَازَ صُلْحُهُ وَرَجَعَ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ بِمَا كِفْلَ عَنْهُ فَكَذَلِكَ الْكَفِيلُ بِالسَّلَمِ إذَا صَالَحَ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ وَهَذَا لِأَنَّ الْكَفِيلَ مَطْلُوبٌ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ كَالْأَصِيلِ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى تَسْلِيمِ رَأْسِ الْمَالِ إلَيْهِ وَبِهَذَا فَارَقَ مَا لَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنَا فِي يَدِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ لِأَنَّ الْكَفِيلَ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَلَوْ صَالَحَ عَلَى قِيمَتِهِ كَانَ مُسْتَبْدِلًا لَا مُسْتَرِدًّا

لِرَأْسِ الْمَالِ وَلَا يُقَالُ فِي هَذَا الصُّلْحِ تَمْلِيكُ طَعَامِ السَّلَمِ مِنْ الْكَفِيلِ لِأَنَّ تَمْلِيكَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فِي سَائِرِ الدُّيُونِ لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ أَيْضًا ثُمَّ جَازَ الصُّلْحُ مَعَ الْكَفِيلِ فِي سَائِرِ الدُّيُونِ عَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ بِتَمْلِيكِ الدَّيْنِ وَلَكِنْ يَعْقِدُ الْكَفَالَةَ كَمَا وَجَبَ لِلطَّالِبِ عَلَى الْكَفِيلِ وَجَبَ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ إلَّا أَنَّهُ مُؤَخَّرٌ إلَى أَنْ يُسْقِطَ مُطَالَبَةَ الطَّالِبِ عَنْ الْأَصِيلِ وَقَدْ سَقَطَ ذَلِكَ بِصُلْحِهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ كَمَا يَسْقُطُ بِإِيفَائِهِ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ بِطَعَامِ السَّلَمِ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الصُّلْحَ عَنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ فَسْخٌ لِلْعَقْدِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَخْتَصُّ بِرَأْسِ الْمَالِ وَأَنَّهُ يَصِحُّ بِلَفْظِ الْمُتَارَكَةِ وَالْإِقَالَةِ فَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فَسْخًا كَانَ هَذَا اسْتِبْدَالًا لِبَقَاءِ الْعَقْدِ الْمُوجِبِ لِطَعَامِ السَّلَمِ وَالِاسْتِبْدَالِ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ وَالْكَفِيلُ أَجْنَبِيٌّ مِنْ الْعَقْدِ فَلَا يَمْلِكُ الْفَسْخَ كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ وَالْكَفِيلُ بِالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ وَهَذَا لِأَنَّ الْفَسْخَ تَصَرُّفٌ فِي الْعَقْدِ فَلَا يَجُوزُ مِنْ الْعَاقِدِ أَوْ مِمَّنْ قَامَ مَقَامَ الْعَاقِدِ أَوْ مِمَّنْ كَانَ وَقَعَ الْعَقْدُ لَهُ وَالْكَفِيلُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَإِنَّمَا الْتَزَمَ مَا الْتَزَمَهُ مِنْ الْكَفَالَةِ فَلَا يَصِيرُ بِهِ فِي حُكْمِ الْعَاقِدِ لِلسَّلَمِ بِخِلَافِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فَإِنَّهُ عَاقِدٌ فَيَجُوزُ صُلْحُهُ بِطَرِيقِ الْفَسْخِ وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّ رَبَّ السَّلَمِ إذَا زَادَ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ دِرْهَمًا جَازَ وَلَوْ زَادَ الْكَفِيلُ فِي رَأْسِ الْمَالِ دِرْهَمًا كَانَ بَاطِلًا وَبِهِ فَارَقَ سَائِرَ الدُّيُونِ فَالصُّلْحُ هُنَاكَ لَيْسَ بِتَصَرُّفٍ فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْفَسْخِ وَإِنَّمَا هُوَ تَصَرُّفٌ فِي الدَّيْنِ الْوَاجِبِ وَلِهَذَا جَازَ بِأَيِّ بَدَلٍ كَانَ وَالْكَفِيلُ مَطْلُوبٌ بِالدِّينِ كَالْأَصِيلِ وَلِهَذَا جَازَ

الصُّلْحُ مَعَهُ

قَالَ : ( وَإِذَا أَسْلَمَ الرَّجُلَانِ إلَى رَجُلٍ فِي طَعَامٍ فَصَالَحَهُ أَحَدُهُمَا عَلَى رَأْسِ مَالِهِ فَالصُّلْحُ مَوْقُوفٌ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَإِنَّ أَجَازَهُ الْآخَرُ جَازَ وَكَانَ الْمَقْبُوضُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَمَا بَقِيَ مِنْ طَعَامِ السَّلَمِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَإِنْ لَمْ يَجُزْهُ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُصَالِحِ وَالْمُسْلَمِ إلَيْهِ لِمَا قُلْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنَّ الصُّلْحَ عَنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ كَالصُّلْحِ عَنْ سَائِرِ الدُّيُونِ عَلَى أَيِّ بَدَلٍ كَانَ عِنْدَهُ ثُمَّ أَخَذَ رَبُّ الدَّيْنِ إذَا صَالَحَ عَنْ نَصِيبِهِ مَعَ الْمَدْيُونِ عَلَى بَدَلٍ جَازَ الصُّلْحُ وَيُخَيَّرُ الْآخَرُ بَيْنَ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ وَبَيْنَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمَدْيُونِ بِنَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ كَذَلِكَ هُنَا إذَا صَالَحَ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ وَلِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّ هَذَا فَسْخُ الْعَقْدِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدِينَ حَقُّ التَّفَرُّدِ بِالْفَسْخِ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ كَمَا فِي بَيْعِ الْعَيْنِ لَوْ اشْتَرَى رَجُلَانِ عَيْنًا ثُمَّ أَقَالَ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ فِي نَصِيبِهِ مَعَ الْبَائِعِ جَازَ بِدُونِ رِضَى الْآخَرِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : فِي هَذَا الصُّلْحِ قِسْمَةُ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بَيَانُهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ صُلْحُهُ عَنْ نَفْسِهِ خَاصَّةً فَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بِأَنْ يَتَمَيَّزَ نَصِيبُهُ عَنْ نَصِيبِ صَاحِبِهِ وَهَذَا هُوَ الْقِسْمَةُ وَإِنْ كَانَ صَالَحَهُ عَنْ النِّصْفِ مِنْ النَّصِيبَيْنِ جَمِيعًا فَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ بِدُونِ إجَازَةِ الْآخَرِ لَتَنَاوُلِهِ نَصِيبَهُ وَفِقْهُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ وُجُوبَ الْمُسْلَمِ فِيهِ بِعَقْدِهِمَا إذَا هُوَ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا قَبْلَ الْعَقْدِ وَالْعَقْدُ مِنْهُمَا وَاحِدٌ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي التَّصَرُّفِ فِيهِ كَشَطْرِ الْعِلَّةِ وَبِشَطْرِ الْعِلَّةِ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ الْحُكْمِ مَا لَمْ

يَتِمَّ ذَلِكَ بِإِجَازَةِ الْآخَرِ كَالْمُعْتَقَةِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ زَوْجُهَا أَحَدُهُمَا وَبِهِ فَارَقَ بَيْعَ الْعَيْنِ فَقَدْ كَانَتْ الْعَيْنُ هُنَاكَ مَوْجُودَةً قَبْلَ الْعَقْدِ مَحِلُّ التَّصَرُّفِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنْ يَكُونَ ثُبُوتُ وِلَايَةِ التَّصَرُّفِ فِيهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْعَقْدِ فَلِهَذَا كَانَ الْفَسْخُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِهِ كَأَنَّهُ كَانَ مُنْفَرِدًا بِهِ وَهُنَاكَ الْمُسْلَمُ فِيهِ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا قَبْلَ الْعَقْدِ وَجَوَازُ التَّصَرُّفِ بِاعْتِبَارِ وُجُوبِهِ بِالْعَقْدِ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ كَشَطْرِ الْعِلَّةِ وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ الصُّلْحُ مِنْ أَحَدِهِمَا هُنَا يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَسْقُطَ حَقُّ رَبِّ السَّلَمِ عَنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَيَتَقَرَّرُ فِي رَأْسِ الْمَالِ ثُمَّ يَعُودُ فِي السَّلَمِ فِيهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ تَقَابَلَا السَّلَمُ ثُمَّ أَرَادَ فَسْخَ الْإِقَالَةِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ بِخِلَافِ بَيْعِ الْعَيْنِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْآخَرَ إذَا اخْتَارَ الْمُشَارَكَةَ فِي الْمَقْبُوضِ مَعَ الْمَصَالِحِ كَانَ مَا بَقِيَ مِنْ طَعَامِ السَّلَمِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَقَدْ سَقَطَ بِالصُّلْحِ حَقُّ الْمَصَالِحِ عَنْ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَتَقَرَّرَ فِي رَأْسِ الْمَالِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ حَقُّهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ وَبِهِ فَارَقَ سَائِرَ الدُّيُونِ إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ إنَّمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ حَقُّهُ فِيمَا كَانَ سَاقِطًا لِأَنَّ السَّاقِطَ مَثَلًا شَيْءٌ كَمَا فِي فَصْلِ الْإِقَالَةِ وَهُنَا إنَّمَا يَعُودُ بِحَقِّهِ فِيمَا هُوَ قَائِمٌ وَهُوَ النِّصْفُ الْبَاقِي مِنْ طَعَامِ السَّلَمِ وَأَمَّا بَيَانُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَإِنَّهُ يَقُولُ لِلْآخَرِ الْخِيَارُ فَإِنْ شَاءَ شَارَكَ الْقَابِضُ فِي الْمَقْبُوضِ لِأَنَّ أَصْلَ رَأْسِ الْمَالِ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَلَا يُسَلَّمُ لَأَحَدِهِمَا مِنْهُ شَيْءٌ إلَّا بِتَسْلِيمِ الْآخَرِ وَإِذَا شَارَكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ كَانَ الْبَاقِي فِي ذِمَّةِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا وَإِنْ شَاءَ سَلَّمَ الْمَقْبُوضُ لِلْقَابِضِ وَيَرْجِعُ

عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ بِطَعَامِ السَّلَمِ فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ ثُمَّ أَرَادَ الرُّجُوعَ عَنْ شَرِيكِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إنَّهُ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَإِذَا اخْتَارَ أَحَدَهُمَا تَعَيَّنَ ذَلِكَ عَلَيْهِ كَالْغَاصِبِ مَعَ غَاصِبِ الْغَاصِبِ إذَا اخْتَارَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ تَضْمِينَ أَحَدِهِمَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فَيَضْمَنَ لِلْآخَرِ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنْ نَوَى مَا عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِ الْمَقْبُوضِ لِأَنَّهُ إنَّمَا سَلَّمَ لَهُ الْمَقْبُوضَ بِشَرْطِ أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ مَا فِي ذِمَّةِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فَإِذَا نَوَى بَطَلَ تَسْلِيمُهُ كَالْمُحْتَالِ عَلَيْهِ إذَا مَاتَ مُفْلِسًا عَادَ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ قَالَ : ( وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ رَجُلَيْنِ لَهُمَا عَلَى رَجُلٍ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَصَالَحَهُ أَحَدُهُمَا مِنْ حِصَّتِهِ عَلَى ثَوْبٍ وَسَلَّمَ لَهُ الْآخَرُ وَاخْتَارَ اتِّبَاعَ الْمَدْيُونِ فَنَوَى مَا عَلَيْهِ ) كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ فِي الثَّوْبِ فَيَأْخُذَ مِنْهُ نِصْفَهُ إلَّا أَنْ يَرْضَى صَاحِبُ الثَّوْبِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَلَا يُعْطِيهِ شَيْئًا مِنْ الثَّوْبِ كَانَ لَهُ ذَلِكَ حِينَئِذٍ وَالْخِيَارُ فِيهِ إلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ كَمَا فِي الِابْتِدَاءِ لَوْ اخْتَارَ الْمُشَارَكَةَ مَعَهُ كَانَ صَاحِبُ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُعْطِيَهُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ دِرْهَمًا وَبَيْنَ أَنْ يُعْطِيَهُ نِصْفَ الثَّوْبُ لِأَنَّ مِنْ حُجَّتِهِ أَنْ يَقُولَ مَبْنَى الصُّلْحِ عَلَى التَّجَوُّزِ بِدُونِ الْحَقِّ إنَّمَا تَوَصَّلْتُ إلَى نَصِيبِي لِأَنَّى رَضِيتُ بِدُونِ حَقِّي بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَرَى بِنَصِيبِهِ ثَوْبًا وَهَذَا فَرْقٌ مَعْرُوفٌ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ بِالسَّلَمِ كَفِيلٌ فَصَالَحَ أَحَدُ صَاحِبِ السَّلَمِ مَعَ الْكَفِيلِ عَلَى رَأْسِ مَالِهِ فَهُوَ كَالصُّلْحِ مَعَ الْأَصِيلِ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا

قَالَ : ( وَإِذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلٍ دَرَاهِمَ فِي طَعَامٍ ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى رَأْسِ مَالِهِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ بِرَأْسِ مَالِهِ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ ) فِي الْقِيَاسِ لَهُ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ لِأَنَّ عَقْدَ السَّلَمِ ارْتَفَعَ بِالْفَسْخِ بَقِيَ رَأْسُ الْمَالِ فِي ذِمَّتِهِ بِحُكْمِ الْقَبْضِ لَا بِحُكْمِ الْعَقْدِ وَهُوَ دَيْنٌ لَا يَسْتَحِقُّ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ فَيَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ أَلَا تَرَى أَنَّ السَّلَمَ لَوْ كَانَ فَاسِدًا كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِرَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ الِاسْتِرْدَادِ لِهَذَا الْمَعْنَى وَاسْتَحْسَنَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فَقَالُوا لَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا أَسْلَمْتَ فِي شَيْءٍ فَلَا تَصْرِفْهُ فِي غَيْرِهِ } فَلَوْ جَوَّزْنَا هَذَا كَانَ صَارِفًا حَقَّهُ مِنْ طَعَامِ السَّلَمِ إلَى شَيْءٍ آخَرَ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَفِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ { لَا تَأْخُذْ إلَّا سَلَمَكَ أَوْ رَأْسَ مَالِكَ } وَبِهَذَا الطَّرِيقُ نَأْخُذُ شَيْئًا آخَرَ غَيْرَ رَأْسِ الْمَالِ وَغَيْرَ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ ثُمَّ حَالَ رَبُّ السَّلَمِ مَعَ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ بَعْدَ الْفَسْخِ كَحَالِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ مَعَ رَبِّ السَّلَمِ حَالَ قِيَامِ الْعَقْدِ قَبْلَ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ فَكَمَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ هُنَاكَ فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ هُنَا وَبِهِ فَارَقَ السَّلَمَ الْفَاسِدَ مِنْ الْأَصِيلِ لِأَنَّهُ مَا كَانَ مُوجِبًا تَسْلِيمَ رَأْسِ الْمَالِ لِيُعْتَبَرَ الِانْتِهَاءُ بِالِابْتِدَاءِ وَهُنَا الْعَقْدُ كَانَ مُوجِبًا تَسْلِيمَ رَأْسِ الْمَالِ فَاعْتَبَرْنَا حَالَ الْفَسْخِ بِحَالِ الْعَقْدِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الِاسْتِبْدَالِ

قَالَ : ( وَإِذَا أَسْلَمَ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ فِي طَعَامٍ وَقَدْ عَلِمَ وَزْنَ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يَعْلَمْ وَزْنَ الْآخَرِ فَلَا خَيْرَ فِيهِ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَائِزٌ عِنْدَهُمَا لِأَنَّ إعْلَامَ قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ عِنْدَهُمَا لَيْسَ بِشَرْطٍ وَالْإِشَارَةُ إلَى الْعَيْنِ تَكْفِي وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إعْلَامُ الْقَدْرِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ الْعَقْدُ عَلَى قَدْرِهِ شَرْطٌ فَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ وَزْنُ أَحَدِهِمَا بَطَلَ الْعَقْدُ فِي حِصَّتِهِ لِانْعِدَامِ شَرَطِ الْجَوَازِ فَيَبْطُلُ فِي حِصَّةِ الْآخَرِ أَيْضًا لِاتِّحَادِ الصَّفْقَةِ أَوْ لِجَهَالَةِ حِصَّةِ الْآخَرِ وَالسَّلَمُ فِي الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ ابْتِدَاءً

قَالَ : ( وَإِذَا أَسْلَمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي ثَوْبَيْنِ أَحَدُهُمَا هَرَوِيٌّ وَالْآخِرُ مَرْوِيٌّ فَمَا لَمْ تَتَبَيَّنُ حِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ ) عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَمَا فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ لِأَنَّ الِانْقِسَامَ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ وَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الْحِرْزُ فَلَا يُتَيَقَّنُ بِحِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الثَّوْبَيْنِ إلَّا بِالْقِسْمَةِ وَإِنْ كَانَا مَوْصُوفَيْنِ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ فَفِي الْقِيَاسِ كَذَلِكَ لِأَنَّ الثِّيَابَ لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَالِانْقِسَامُ عَلَى الثَّوْبَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُمَا عَيْنًا .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَوْصُوفَيْنِ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَتَفَاوَتَانِ فِي الظَّاهِرِ فِي الْمَالِيَّةِ مَا دَامَا فِي الذِّمَّةِ وَالِانْقِسَامِ حَالَ كَوْنِهِمَا فِي الذِّمَّةِ فَحِصَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ رَأْسِ الْمَالِ بِيَقِينٍ فَيَجُوزُ الْعَقْدُ مِنْ غَيْرِ إعْلَامِ حِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا لَوْ أَسْلَمَ عَشَرَةً فِي كُرَّيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ بِخِلَافِ مَا لَوْ اشْتَرَاهُمَا عَيْنًا فَإِنَّهُمَا يَتَفَاوَتَانِ فِي الْمَالِيَّةِ إذَا كَانَا عَيْنَيْنِ فَلِهَذَا كَانَ انْقِسَامُ الثَّمَنِ عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فَإِنْ قَبَضَ الثَّوْبَيْنِ فِي السَّلَمِ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا مُرَابَحَةً عَلَى خَمْسَةِ دَرَاهِمَ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنْ يُبَيِّنَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِأَنَّ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ مَعْلُومَةً بِيَقِينٍ فَبَيْعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى ذَلِكَ كَالْكُرَّيْنِ وَبَيَانُهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الثَّمَنَ بِمُقَابَلَةِ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ وَلَا تَفَاوَتَ فِي ذَلِكَ وَلِهَذَا جَازَ الْعَقْدُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُمَا لَوْ تَقَايَلَا السَّلَمَ فِي أَحَدِهِمَا يَرُدُّ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ خَمْسَةً وَلَوْ وَجَدَ بِأَحَدِهِمَا عَيْبًا فَرَدَّهُ يَرُدُّهُ بِخَمْسَةٍ فَعَرَفْنَا أَنَّ حِصَّةَ كُلِّ وَاحِدٍ

مِنْهُمَا خَمْسَةٌ بِيَقِينٍ فَكَأَنَّهُ سَمَّى ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ اشْتَرَى الثَّوْبَيْنِ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ فَلَا يَبِيعُ أَحَدَهُمَا مُرَابَحَةً كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُمَا عَيْنًا بِخِلَافِ الْكُرَّيْنِ فَإِنَّ هُنَاكَ لَوْ اشْتَرَاهُمَا عَيْنًا كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ أَحَدَهُمَا مُرَابَحَةً وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ رَبَّ السَّلَمِ مُشْتَرٍ وَالْمُسْلِمَ فِيهِ مَبِيعٌ فَإِذَا قَبَضَ الْمُسْلَمَ فِيهِ كَانَ الْمَقْبُوضُ عَيْنَ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ لَا غَيْرَهُ لِأَنَّهُ إنْ جَعَلَ غَيْرَهُ كَانَ اسْتِبْدَالًا بِالْمُسْلَمِ فِيهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ جُعِلَ كَأَنَّهُ عَيْنُ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ فَأَمَّا فِي الْحَقِيقَةِ هُوَ غَيْرُهُ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَتَنَاوَلُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ وَالْعَيْنُ غَيْرُ الدَّيْنِ فَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ لَمْ يَكُنْ الْمَقْبُوضُ عَيْنَ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ فَلَا بُدَّ مِنْ طَرِيقٍ يُجْعَلُ بِذَلِكَ الطَّرِيقِ كَأَنَّهُ عَيْنُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ الطَّرِيقُ لَنْ يُجْعَلَ عِنْدَ الْقَبْضِ كَأَنَّهُمَا جَدَّدَا ذَلِكَ الْعَقْدَ عَلَى الْمَقْبُوضِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْمُتَقَدِّمِينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ لِلْقَبْضِ فِي بَابِ السَّلَمِ حُكْمُ عَقْدٍ جَدِيدٍ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا قَالَهُ فِي الزِّيَادَاتِ لَوْ أَسْلَمَ إلَى رَجُلٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ ثُمَّ اشْتَرَى الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مِنْ رَبِّ السَّلَمِ كُرَّ حِنْطَةٍ بِمِائَتِي دِرْهَمٍ إلَى سَنَةٍ وَقَبَضَهُ فَلِمَا حَلَّ الطَّعَامُ فِي السَّلَمِ أَعْطَاهُ ذَلِكَ الْكُرَّ لَمْ يَجُزْ لِأَنَّهُ اشْتَرَى مَا بَاعَ بِأَقَلَّ مِمَّا بَاعَ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا جُعِلَا عِنْدَ الْقَبْضِ كَأَنَّهُمَا جَدَّدَا الْعَقْدَ عَلَيْهِ وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَهُوَ وَمَا لَوْ اشْتَرَاهُمَا عَيْنًا بِثَمَنٍ وَاحِدٍ سَوَاءٌ وَقَالَ : فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ لَوْ أَحْرَزَ الْمُشْرِكُونَ كُرَّ الرَّجُلِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِدَرَاهِمَ فَدَخَلَ إلَيْهِمْ مُسْلِمٌ وَأَسْلَمَ إلَيْهِمْ مِائَةَ دِرْهَمٍ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ فَأَعْطَوْهُ ذَلِكَ الْكُرَّ فَأَخْرَجَهُ

فَلَا سَبِيلَ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عِوَضًا عَنْ الْكُرِّ الَّذِي لَهُ فِي ذِمَّتِهِمْ فَلَوْ أَخَذَهُ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ أَخَذَهُ بِمِثْلِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُفِيدٍ وَفِي السَّلَمِ عِنْدَ الْقَبْضِ يَصِيرُ كَالْمُجَدِّدِ لِلْعَقْدِ عَلَى ذَلِكَ الْكُرِّ بِالْمِائَةِ فَيَأْخُذُهُ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ بِذَلِكَ ثُمَّ أَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يُثْبِتَ شُبْهَةَ تَجْدِيدِ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا وَإِنْ لَمْ يُثْبِتْ الْحَقِيقَةَ وَالشُّبْهَةَ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ بِمَنْزِلَةِ الْحَقِيقَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ لَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ لِشُبْهَةِ الزِّيَادَةِ بِسَبَبِ الْأَجَلِ وَلَوْ أَخَذَ عَيْنًا صُلْحًا مِنْ دَيْنٍ لَهُ عَلَى إنْسَانٍ لَا يَبِيعُهُ مُرَابَحَةً عَلَى ذَلِكَ الدَّيْنِ لِشُبْهَةِ الْحَطِّ بِسَبَبِ الصُّلْحِ وَاَلَّذِي يُوَضِّحُ كَلَامَ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الثَّوْبَيْنِ الْمَوْصُوفَيْنِ لَا يَتَفَاوَتَانِ فِي الذِّمَّةِ وَيَتَفَاوَتَانِ بَعْدَ التَّعْيِينِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَبَضَهُمَا وَبَاعَ أَحَدَهُمَا مِنْ إنْسَانٍ ثُمَّ اسْتَهْلَكَ ذَلِكَ الثَّوْبَ عَلَى الْمُشْتَرِي لَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الثَّوْبِ الْآخَرِ وَإِنَّمَا يَجِبُ قِيمَةُ الْمُسْتَهْلَكِ فَدَلَّ أَنَّهُمَا لَا يَتَمَاثَلَانِ عَيْنًا فَجَازَ الْعَقْدُ فِي الِابْتِدَاءِ فِي الدَّيْنِ وَكَذَلِكَ الْإِقَالَةُ فِي أَحَدِهِمَا وَأَمَّا بَيْعُ الْمُرَابَحَةِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ التَّعْيِينِ فَيُعْتَبَرُ التَّفَاوُتُ فِي حُكْمِ بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ فَلَا يَبِيعُ أَحَدَهُمَا مُرَابَحَةً مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَهُمَا مُرَابَحَةً عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّ ثَمَنَهُمَا مُسَمًّى مَعْلُومٌ كَمَا لَوْ اشْتَرَاهُمَا عَيْنًا .

قَالَ : ( وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي الْمَسْمُوحِ وَالْأَكْيِسَةِ وَالْعُبَا وَالْجَوَالِيقِ وَالْكَرَابِيسِ بِصِفَةٍ مَعْلُومَةٍ عَرْضًا وَطُولًا وَرِفْعَةً ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ إعْلَامَهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى فِيهِ تَفَاوُتٌ فِي الْمَالِيَّةِ وَلَا يَبْقَى بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ فِي التَّسْلِيمِ تُمْكِنُ

قَالَ : ( وَلَا بَأْسَ بِالرَّهْنِ وَالْكَفِيلِ فِي السَّلَمِ أَمَّا بِرَأْسِ الْمَالِ يَجُوزُ أَخْذُ الْكَفِيلِ وَالرَّهْنِ عِنْدَنَا وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ زُفَرَ وَلَهُ فِي السَّلَمِ رِوَايَتَانِ ) لِأَنَّ الرَّهْنَ وَالْكَفِيلَ مِمَّا يَتَأَخَّرُ قَبْضُهُ وَقَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ مُسْتَحَقٌّ فِي الْمَجْلِسِ فَأَخْذُ الْكَفِيلِ وَالرَّهْنِ بِهِ لَا يُفِيدُ وَلَكِنَّا نَقُولُ رَأْسُ الْمَالِ دَيْنٌ وَاجِبٌ عَلَى رَبِّ السَّلَمِ فَالْكَفِيلُ يَلْتَزِمُ الْمُطَالَبَةَ بِمَا هُوَ مَضْمُونٌ عَلَى الْأَصِيلِ وَهُوَ شَرْطُ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ وَالرَّهْنِ لِلِاسْتِيفَاءِ وَرَأْسُ مَالِ السَّلَمِ دَيْنٌ يُسْتَوْفَى فَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي الْمَجْلِسِ وَفِي قِيمَتِهِ وَفَاءٌ بِرَأْسٍ صَارَ مُسْتَوْفِيًا بِهِ رَأْسَ الْمَالِ فَإِنْ افْتَرَقَا قَبْلَ هَلَاكِ الرَّهْنِ بَطَلَ السَّلَمُ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِهَلَاكِ الرَّهْنِ وَالِافْتِرَاقِ قَبْلَ تَمَامِ الْقَبْضِ يَبْطُلُ السَّلَمُ وَكَذَا إنْ نَقَدَ الْكَفِيلُ رَأْسَ الْمَالِ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَ الْمُتَعَاقِدَانِ ثُمَّ الْعَقْدُ وَإِنْ افْتَرَقَا قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَ الْكَفِيلُ بَطَلَ الْعَقْدُ وَلَا مُعْتَبَرَ بِذَهَابِ الْكَفِيلِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَاقِدٍ حَتَّى لَوْ ذَهَبَ وَجَاءَ بِرَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ افْتِرَاقِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَادَى تَمَّ الْعَقْدُ وَهَذِهِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ الْوِكَالَةُ وَالْكَفَالَةُ وَالْحَوَالَةُ وَالْجَوَابُ فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ إنْ قَبَضَ رَأْسَ الْمَالِ مِنْ الْوَكِيلِ أَوْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ قَبْلَ افْتِرَاقِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ تَمَّ عَقْدُ السَّلَمِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِذَهَابِ الْوَكِيلِ وَالْمُحْتَالِ عَلَيْهِ وَأَمَّا أَخْذُ الرَّهْنِ وَالْكَفِيلِ يَجُوزُ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ وَهَكَذَا ذَكَرَ ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ زُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَذَكَرَ الْحَسَنُ عَنْ زُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَعَلَى رِوَايَةِ ابْنِ شُجَاعٍ قَالَ : كُلُّ دَيْنٍ لَا يَجُوزُ قَبْضُهُ فِي الْمَجْلِسِ وَيَجُوزُ التَّأْجِيلُ فِيهِ فَأَخْذُ الرَّهْنِ وَالْكَفِيلِ بِهِ صَحِيحٌ لِلتَّوْثِيقِ وَالْمُسْلَمُ فِيهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ بِخِلَافِ

رَأْسِ الْمَالِ وَبَدَلِ الصَّرْفِ وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى قَالَ : كُلُّ دَيْنٍ لَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَأَخْذُ الرَّهْنِ وَالْكَفِيلِ بِهِ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ فِي الْكَفَالَةِ إقَامَةَ ذِمَّةِ الْكَفِيلِ مُقَامَ ذِمَّةِ الْأَصِيلِ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الِاسْتِبْدَالِ مِنْ حَيْثُ الْمَحِلُّ وَالْحَوَالَةُ كَذَلِكَ وَفِي الرَّهْنِ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا بِالْهَلَاكِ وَالرَّهْنِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ فَكَانَ هَذَا اسْتِبْدَالًا فَعَلَى هَذَا لَا يَجُوزُ الرَّهْنُ بِالْمُسْلَمِ فِيهِ وَرَأْسِ الْمَالِ وَبَدَلِ الصَّرْفِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ يَهُودِيٍّ طَعَامًا نَسِيئَةً وَرَهَنَهُ دِرْعَهُ } وَشِرَاءُ الطَّعَامِ نَسِيئَةً يَكُونُ سَلَمًا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ جَوَّزَ الرَّهْنَ بِالسَّلَمِ وَاسْتَدَلَّ فِيهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ } إلَى قَوْله تَعَالَى { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ عِنْدَ هَلَاكِ الرَّهْنِ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا عَيْنَ حَقِّهِ لَا مُسْتَبْدِلًا فَإِنَّ عَيْنَ الرَّهْنِ لَا تَكُونُ مَمْلُوكَةً لِلْمُرْتَهِنِ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ الرَّهْنُ عَبْدًا فَمَاتَ كَانَ كَفَنُهُ عَلَى الرَّاهِنِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ مِنْ مَالِيَّتِهِ وَالْأَعْيَانُ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ جِنْسٌ وَاحِدٌ وَلِهَذَا لَوْ ارْتَهَنَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِنَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ فَهَلَكَ الرَّهْنُ يَرْجِعُ شَرِيكُهُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ نَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ اسْتِيفَاءٌ لَا اسْتِبْدَالٌ جَازَ الرَّهْنُ بِكُلِّ دَيْنٍ يَجِبُ اسْتِيفَاؤُهُ وَفِي الْحَوَالَةِ وَالْكَفَالَةِ لَا شَكَّ فَإِنَّ الْمُسْتَوْفِيَ مِنْ الْكَفِيلِ وَالْمُحْتَالَ عَلَيْهِ كَالْمُسْتَوْفِي مِنْ الْأَصِيلِ فِي أَنَّهُ عَيْنُ حَقِّ الطَّالِبِ لَا بَدَلَهُ .

قَالَ : ( وَإِذَا أَسْلَمَ فِي شَيْءٍ مِنْ الثِّيَابِ وَاشْتَرَطَ طُولَهُ وَعَرْضَهُ بِذِرَاعِ رَجُلٍ مَعْرُوفٍ لَمْ يَجُزْ كَمَا فِي الْمَكِيلِ إذَا عَيَّنَ الْمِكْيَالَ ) وَهَذَا لِأَنَّ مِقْدَارَ الْمُسْلَمِ فِيهِ بِالذِّرَاعِ الْمَعْرُوفِ وَرُبَّمَا يَمُوتُ ذَلِكَ الرَّجُلُ فَيَتَعَذَّرُ تَسْلِيمُ الْمُسْلَمِ فِيهِ إذَا حَلَّ الْأَجَلُ وَإِذَا اشْتَرَطَ كَذَا وَكَذَا ذِرَاعًا فَهُوَ جَائِزٌ وَلَهُ ذِرَاعٌ وَسَطٌ لِأَنَّ مُطْلَقَ التَّسْمِيَةِ تَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ كَمُطْلَقِ تَسْمِيَةِ الدَّرَاهِمِ فِي الشِّرَاءِ تَنْصَرِفُ إلَى نَقُدْ الْبَلَدِ وَالْمُتَعَارَفُ الذِّرَاعُ الْوَسَطُ وَيُسَمَّى الْمُكَسَّرَةَ وَسُمِّيَ لِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَسَّرَهُ مِنْ ذِرَاعِ قَبْضَةِ الْمِلْكِ وَإِنَّ الذِّرَاعَ الْوَسَطَ سَبْعُ قَبَضَاتٍ وَهِيَ تِسْعُ مُسَبَّبَاتِ وَمَعْرِفَةُ هَذَا فِي كِتَابِ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ

قَالَ : ( وَإِذَا أَسْلَمَ فِي الْحَرِيرِ وَزْنًا وَلَمْ يُشْتَرَطْ الطُّولُ وَالْعَرْضُ لَمْ يَجُزْ ) لِأَنَّ الْمَالِيَّةَ لَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً إلَّا بِبَيَانِ الطُّولِ وَالْعَرْضِ فِي الثِّيَابِ وَلِأَنَّهُ لَوْ جَازَ هَذَا لَكَانَ يَأْتِيهِ بِقِطَاعِ الْحَرِيرِ بِذَلِكَ الْوَزْنِ الَّذِي سُمِّيَ فَيُجْبَرُ عَلَى أَخْذِهِ وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ فَهَذَا لَا يَجُوزُ مَا لَمْ يُبَيِّنْ الطُّولَ وَالْعَرْضَ وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْوَزْنِ أَيْضًا فِيمَا تَخْتَلِفُ مَالِيَّتُهُ بِالثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ كَالْحَرِيرِ وَالْوَذَارِيِّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَإِنْ اشْتَرَطَ الطُّولَ وَالْعَرْضَ بِقِيمَانِ غَيْرِ الذِّرَاعِ فَإِنْ كَانَ قِيمَانًا مَعْرُوفًا مِنْ قَيَامِينِ التُّجَّارِ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ الْمِقْدَارَ يَصِيرُ مَعْلُومًا بِذَلِكَ وَهُوَ الْمَقْصُودُ وَكَذَلِكَ الْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ تَحْصُلُ بِتَسْمِيَةِ ذَلِكَ

قَالَ : ( وَإِنْ اشْتَرَطَ الرَّجُلُ فِي سَلَمِهِ ثَوْبًا جَيِّدًا ثُمَّ جَاءَ بِهِ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ فَقَالَ : رَبُّ السَّلَمِ لَيْسَ هَذَا بِجَيِّدٍ وَقَالَ : الْمُسْلَمُ إلَيْهِ جَيِّدٌ فَإِنَّ الْحَاكِمَ يُرِيه رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ تِلْكَ الصِّنَاعَةِ ) لِأَنَّهُ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَا فِيهِ فَيَرْجِعُ إلَى مَنْ لَهُ فِيهِ عِلْمٌ كَمَا لَوْ احْتَاجَ إلَى مَعْرِفَةِ قِيمَةِ الْمُسْتَهْلِكِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } فَإِذَا اجْتَمَعَا عَلَى أَنَّهُ جَيِّدٌ مِمَّا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْجَوْدَةِ وَإِنْ كَانَ لَيْسَ نِهَايَةً فِي الْجَوْدَةِ أُجْبِرَ رَبُّ السَّلَمِ عَلَى أَخْذِهِ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ وَفَّى بِمَا شَرَطَ لَهُ فَالْمُسْتَحَقُّ بِالتَّسْمِيَةِ أَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ إذْ لَا نِهَايَةَ لِلْأَعْلَى فَإِنَّهُ مَا مِنْ جَيِّدٍ إلَّا وَفَوْقَهُ أَجْوَدُ مِنْهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اُشْتُرِطَ فِي الْعَبْدِ أَنَّهُ كَاتِبٌ أَوْ خَبَّازٌ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِهِ أَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ وَإِنَّمَا شَرَطَ الْمُثَنَّى لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى فَصْلِ الْخُصُومَةِ بَيْنَهُمَا ، وَإِنَّمَا يُمْكِنُهُ ذَلِكَ بِحُجَّةٍ تَامَّةٍ وَهُوَ قَوْلُ الْمُثَنَّى

قَالَ : ( وَإِنْ كَانَ اشْتَرَطَ وَسَطًا فَأَتَاهُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بِجَيِّدٍ أُجْبِرَ رَبُّ السَّلَمِ عَلَى قَبُولِهِ ) وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ لَا يُجْبَرُ لِأَنَّ الْجَيِّدَ غَيْرُ الْوَسَطِ وَهُوَ مُتَبَرِّعٌ عَلَيْهِ بِصِفَةِ الْجَوْدَةِ وَلَوْ تَبَرَّعَ عَلَيْهِ بِزِيَادَةِ قَدْرٍ كَانَ لَهُ أَنْ لَا يَقْبَلَ تَبَرُّعَهُ فَكَذَلِكَ إذَا تَبَرَّعَ بِالْجَوْدَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ أَوْفَاهُ حَقَّهُ بِكَمَالِهِ وَأَحْسَنَ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَيْرُكُمْ أَحْسَنُكُمْ قَضَاءً لِلدَّيْنِ } وَقَالَ : { لِلْوَازِنِ زِنْ وَأَرْجِحْ فَإِنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ هَكَذَا نَزِنْ } .

قَالَ : ( فَإِنْ أَتَاهُ بِالثَّوْبِ الْجَيِّدِ وَالْمَشْرُوطِ عَلَيْهِ ثَوْبٌ وَسَطٌ وَقَالَ : خُذْ هَذَا وَزِدْنِي دِرْهَمًا فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ إنْ فَعَلَ ) وَهَذِهِ فِي الْحَاصِلِ ثَمَانِيَةُ فُصُولٍ أَرْبَعَةٌ فِي الثِّيَابِ وَأَرْبَعَةٌ فِي الْمُقَدَّرَاتِ أَمَّا فِي الثِّيَابِ إنْ أَتَاهُ بِأَزْيَدَ وَصْفًا أَوْ بِدُونٍ وَصْفًا أَوْ بِأَزْيَدَ قَدْرًا أَوْ بِأَنْقَصَ قَدْرًا أَمَّا فِي الثِّيَابِ إنْ أَتَاهُ بِأَزْيَدَ وَصْفًا أَوْ ذِرَاعًا بِأَنْ أَتَاهُ بِأَحَدَ عَشَرَ ذِرَاعًا وَقَدْ كَانَ الْمُسْلَمُ فِيهِ عَشَرَةَ أَذْرُعٍ فَقَالَ : خُذْ هَذَا وَزِدْنِي دِرْهَمًا يَجُوزُ وَتَكُونُ تِلْكَ الزِّيَادَةُ بِمُقَابَلَةِ صِفَةِ الْجَوْدَةِ أَوْ الذِّرَاعِ الزَّائِدِ وَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ ثَوْبًا جَيِّدًا بِثَوْبٍ وَسَطٍ وَدِرْهَمٍ يَجُوزُ وَلَوْ بَاعَهُ أَحَدَ عَشَرَ ذِرَاعًا بِعَشَرَةِ أَذْرُعٍ وَدِرْهَمٍ يَجُوزُ فَكَذَلِكَ الْقَبْضُ بِحُكْمِ السَّلَمِ وَلَوْ أَتَاهُ بِأَنْقَصَ وَصْفًا بِأَنْ أَتَاهُ بِثَوْبٍ رَدِيءٍ فَقَالَ : خُذْ هَذَا وَأَرُدُّ عَلَيْكَ دِرْهَمًا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ هَذَا مِنْهُمَا إقَالَةٌ لِلْعَقْدِ فِي الصِّفَةِ وَحِصَّةُ الصِّفَةِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ فَلَا تَجُوزُ الْإِقَالَةُ فِيهِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَتَاهُ بِتِسْعَةِ أَذْرُعٍ فَقَالَ : خُذْ هَذَا وَأَرُدُّ عَلَيْكَ دِرْهَمًا لِأَنَّ الذِّرَاعَ فِي الثَّوْبِ صِفَةٌ وَلِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ لَا يَنْقَسِمُ عَلَى ذُرْعَانِ الثَّوْبِ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ فَلَمْ تَكُنْ حِصَّةُ الذِّرَاعِ مَعْلُومَةً مِنْ رَأْسِ الْمَالِ فَلَا تَجُوزُ الْإِقَالَةُ فِيهِ أَمَّا فِي الْمُقَدَّرَاتِ لَوْ أَسْلَمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ حِنْطَةٍ وَسَطٍ فَأَتَاهُ بِطَعَامٍ جَيِّدٍ وَقَالَ : خُذْ هَذَا وَزِدْنِي دِرْهَمًا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الدِّرْهَمَ الزَّائِدَ بِمُقَابَلَةِ الْجَوْدَةِ وَلَا قِيمَةَ لِلْجَوْدَةِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ قَفِيزَ حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ بِقَفِيزٍ وَسَطٍ وَدِرْهَمٍ لَا يَجُوزُ وَهَذَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ هَذَا الْقَفِيزَ الْجَيِّدَ عِوَضًا

عَنْ الْوَسَطِ الَّذِي لَهُ فِي ذِمَّتِهِ وَعَنْ الدِّرْهَمِ الزَّائِدِ وَلَوْ أَتَاهُ بِأَحَدَ عَشَرَ قَفِيزًا وَقَالَ : خُذْ هَذَا وَزِدْنِي دِرْهَمًا جَازَ لِأَنَّ الدِّرْهَمَ الزَّائِدَ بِمُقَابَلَةِ الْقَفِيزِ الزَّائِدِ وَهُوَ جَائِزٌ وَلَوْ أَتَاهُ بِعَشَرَةِ أَقْفِزَةٍ رَدِيئَةٍ فَقَالَ : خُذْ هَذَا وَأَرُدُّ عَلَيْكَ دِرْهَمًا لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلصِّفَةِ فَكَيْفَ تَسْتَقِيمُ الْإِقَالَةُ عَلَى الْقِيمَةِ فِيهِ وَلَوْ أَتَاهُ بِتِسْعَةِ أَقْفِزَةٍ وَقَالَ : خُذْ هَذَا وَأَرُدُّ عَلَيْكَ دِرْهَمًا يَجُوزُ بِخِلَافِ الثَّوْبِ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ يَنْقَسِمُ عَلَى الْقَفِيزَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْأَجْزَاءِ فَحِصَّةُ الْقَفِيزِ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ مَعْلُومَةٌ بِخِلَافِ ذُرْعَانِ الثَّوْبِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَجُوزُ فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا ذَكَرَ قَوْلَهُ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ لِأَنَّ رَبَّ السَّلَمِ يَزِيدُ فِي رَأْسِ الْمَالِ فَتَلْحَقُ الزِّيَادَةُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ أَوْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ يَحُطُّ شَيْئًا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَالْحَطُّ أَيْضًا يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ لَا أَنْ يَكُونَ بِمُقَابَلَةِ الصِّفَةِ أَوْ يَكُونُ فِيهِ إقَالَةُ الْعَقْدِ فِي شَيْءٍ ثُمَّ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ أَجْنَبِيٌّ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ إذَا أَتَى بِالْأَجْوَدِ وَرَبُّ السَّلَمِ أَحْسَنَ إلَيْهِ حِينَ تَجَوَّزَ بِالرَّدِيءِ فَإِذَا أَمْكَنَ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِمَا بِهَذَا الطَّرِيقِ وَجَبَ حَمْلُ تَصَرُّفِهِمَا عَلَيْهِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا إذَا لَمْ يَنُصَّا عَلَى النَّصِّ وَالْمُقَابَلَةِ أَمَّا إذَا نَصَّا عَلَى ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ حَمْلُ فَعْلِهِمَا عَلَى التَّبَرُّعِ كَمَا لَوْ بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ لَا يَجُوزُ وَلَا يُجْعَلُ أَحَدُ الدِّرْهَمَيْنِ هِبَةً وَذَكَرَ أَبُو سُلَيْمَانَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ جَوَّزَ ذَلِكَ فِي الثِّيَابِ وَلَمْ يُجَوِّزْهُ فِي الطَّعَامِ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تُخَالِفُ رِوَايَةَ مُحَمَّدٍ فِي الثَّوْبِ إذَا أَتَاهُ بِأَرْدَأَ مِمَّا شَرَطَ أَوْ

بِأَنْقَصَ مِمَّا شَرَطَ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ .

قَالَ : ( وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي السَّلَمِ فَقَالَ : الطَّالِبُ شَرَطْتَ لِي جَيِّدًا وَقَالَ : الْمَطْلُوبُ شَرَطْتُ لَكَ وَسَطًا أَوْ قَالَ : الطَّالِبُ أَسْلَمْتُ إلَيْكَ فِي حِنْطَةٍ وَقَالَ : الْمَطْلُوبُ أَسْلَمْتَ إلَيَّ فِي شَعِيرٍ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا ) وَحُكْمُ التَّحَالُفِ ثَابِتٌ بِالسُّنَّةِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا } وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ قَالَ : { إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ بِعَيْنِهَا فَالْقَوْلُ مَا يَقُولُهُ الْبَائِعُ أَوْ يَتَرَادَّانِ } وَسَنُقَرِّرُ هَذَا فِي بَابِ التَّحَالُفِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَنَقُولُ الْآنَ إذَا اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَتَعَلَّقَ الْعَقْدِ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ تَعَلُّقِهِ بِالثَّمَنِ ثُمَّ لَوْ اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الثَّمَنِ تَحَالَفَا فَفِي جِنْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوْلَى وَكَذَلِكَ إذَا اخْتَلَفَا فِي الصِّفَةِ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الدَّيْنُ بِصِفَتِهِ فَالْجَيِّدُ مِنْهُ غَيْرُ الْوَسَطِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ أُحْضِرَا كَانَا غَيْرَيْنِ وَالِاخْتِلَافُ فِي الصِّفَةِ فِيمَا هُوَ دَيْنٌ يَكُونُ اخْتِلَافًا فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَيَجْرِي التَّحَالُفُ بَيْنَهُمَا بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الصِّفَةِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ فَإِنَّ الْعَيْنَ لَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ صِفَتِهِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ اخْتِلَافًا بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ قَالَ : ( وَاَلَّذِي يَبْدَأُ بِهِ فِي الْيَمِينِ الْمَطْلُوبِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ ) لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ وَصَاحِبِ الشَّرْعِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ : فَالْقَوْلُ مَا يَقُولُهُ الْبَائِعُ فَظَاهِرُ هَذَا يَقْتَضِي أَنْ يُكْتَفَى بِيَمِينِهِ وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُكْتَفَى بِذَلِكَ فَيَبْقَى هَذَا الظَّاهِرُ مُعْتَبَرًا فِي الْبِدَايَةِ بِيَمِينِهِ وَلِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِالْمُنْكِرِينَ فَإِنَّهُ يُنْكِرُ مَا ادَّعَاهُ الطَّالِبُ مِنْ الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ لِنَفْسِهِ

وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُنْكِرِ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ : يَبْدَأُ بِيَمِينِ الطَّالِبِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ لِأَنَّ أَوَّلَ التَّسْلِيمَيْنِ فِي عَقْدِ السَّلَمِ عَلَى الطَّالِبِ وَهُوَ رَأْسُ الْمَالِ فَلِذَلِكَ أَوَّلُ الْيَمِينَيْنِ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ بِنُكُولِهِ يُثْبِتُ مَا ادَّعَاهُ الْمَطْلُوبُ مِنْهُ وَيَقَعُ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ يَمِينِهِ وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَقُولُ الْقَاضِي يُقْرِعُ بَيْنَهُمَا وَيَبْدَأُ بِيَمِينِ مَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ نَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمَيْلِ عَنْ نَفْسِهِ وَقِيلَ الرَّأْيُ فِي ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي وَقِيلَ يُنْظَرُ أَيُّهُمَا سَبَقَ بِالدَّعْوَةِ يَبْدَأُ بِيَمِينِ خَصْمِهِ وَأَيُّهُمَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ دَعْوَى صَاحِبِهِ لِأَنَّ نُكُولَهُ قَائِمٌ مَقَامَ إقْرَارَهُ وَإِنْ قَامَتْ لَهُمَا جَمِيعًا بَيِّنَةٌ أُخِذَتْ بَيِّنَةُ الطَّالِبِ لِأَنَّ فِي بَيِّنَتِهِ زِيَادَةُ إثْبَاتٍ وَلِأَنَّهُ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى حَقِّ نَفْسِهِ فَالْمَطْلُوبُ إنَّمَا يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى حَقِّ الطَّالِبِ وَبَيِّنَةُ الْإِنْسَانِ عَلَى حَقِّ نَفْسِهِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَعَنْ مُحَمَّدٍ إنْ كَانَ افْتَرَقَا عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ وَإِنْ لَمْ يَفْتَرِقَا عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ يَقْضِي بِسَلَمَيْنِ عَشَرَةٌ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ بِبَيِّنَةِ رَبِّ السَّلَمِ وَعَشَرَةٌ فِي كُرِّ شَعِيرٍ بِبَيِّنَةِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ الْبَيِّنَاتُ حُجَجٌ فَمَهْمَا أَمْكَنَ الْعَمَلُ بِهَا لَا يَجُوزُ إبْطَالُ شَيْءٍ مِنْهَا وَهُنَا الْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ يُمْكِنُ إذْ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْعَقْدَيْنِ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِهِمَا كَحُجَجِ الشَّرْعِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ فَإِنَّهُ مَا قُبِضَ فِي الْمَجْلِسِ إلَّا عَشَرَةً وَاحِدَةً فَلَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ بِالْعَقْدَيْنِ ؛ فَلِهَذَا رَجَّحْنَا بَيِّنَةَ الطَّالِبِ وَقَاسَ هَذَا بِبَيْعِ الْعَيْنِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ : بِعْتُ مِنْكَ هَذِهِ الْجَارِيَةَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَالَ : الْمُشْتَرِي بِعْتَنِي الْعَبْدَ بِأَلْفِ

دِرْهَمٍ وَأَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ يَقْضِي بِالْعَقْدِ فِيهِمَا جَمِيعًا بِالِاتِّفَاقِ فَكَذَلِكَ فِي السَّلَمِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَقُولَانِ مَعَ اخْتِلَافِهِمَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا إلَّا عَقْدٌ وَاحِدٌ فَالْقَضَاءُ بِالْعَقْدَيْنِ قَضَاءٌ بِمَا لَمْ يَطْلُبَا وَلَيْسَ لِلْقَاضِي ذَلِكَ يُقْرِرْهُ أَنَّهُ لَا مَقْصُودَ لِلْمَطْلُوبِ فِي هَذِهِ الْبَيِّنَةِ إثْبَاتًا لِأَنَّ حَقَّهُ فِي رَأْسِ الْمَالِ وَهُوَ سَالَمَ لَهُ وَلَا مُؤْنَةَ عَلَيْهِ فِي ذِمَّتِهِ حِنْطَةً كَانَ أَوْ شَعِيرًا فَإِنَّمَا مَقْصُودُهُ نَفْي بَيِّنَةِ الطَّالِبِ فَرَجَّحْنَا بَيِّنَةَ الطَّالِبِ لِلْإِثْبَاتِ بِخِلَافِ بَيْعِ الْعَيْنِ فَالْبَائِعُ هُنَاكَ بِبَيِّنَتِهِ يُثْبِتُ إزَالَةَ الْعَيْنِ عَنْ مِلْكِهِ لِيُسْقِطَ مُؤْنَتَهُ عَنْ نَفْسِهِ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْمُشْتَرِي فَكَانَ هُوَ مُثْبِتًا كَالْمُشْتَرِي فَلِهَذَا قَضَيْنَا بِالْعَقْدَيْنِ ثُمَّ نُصَّ عَلَى الْخِلَافِ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الْمُسْلَمِ فِيهِ وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي صِفَتِهِ وَمِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ قَالَ : هُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا وَمِنْهُمْ مِنْ فَرَّقَ لِمُحَمَّدٍ بَيْنَهُمَا فَقَالَ : بِاخْتِلَافِهِمَا فِي الصِّفَةِ لَا يَتَحَقَّقُ الْخِلَافُ فِي الْعَقْدِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يُسْلِمُ فِي الْجَيِّدِ وَيَأْخُذُ مَكَانَهُ رَدِيئًا وَيَجُوزُ أَنْ يُسْلِمَ فِي الرَّدِيءِ فَيُعْطِيَهُ مَكَانَهُ جَيِّدًا فَعَرَفْنَا أَنَّ بِاخْتِلَافِ الصِّفَةِ لَا يَخْتَلِفُ الْعَقْدُ فَلَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ هُنَاكَ بِالْعَقْدَيْنِ بِخِلَافِ الْجِنْسِ فَإِنَّ بِالسَّلَمِ بِالْحِنْطَةِ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الشَّعِيرِ فَكَانَ الِاخْتِلَافُ فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا فِي الْعَقْدِ وَقَدْ أَثْبَتَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا ادَّعَى مِنْ الْعَقْدِ بِالْبَيِّنَةِ فَيُقْضَى بِالْعَقْدَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ وَتَحَالَفَا فَسَخَ الْقَاضِي الْعَقْدَ بَيْنَهُمَا إذَا طَلَبَ ذَلِكَ أَحَدُهُمَا قَطْعًا لِلْمُنَازَعَةِ لِمَا فِي امْتِدَادِهَا مِنْ الْفَسَادِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ

كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِإِعَادَةِ رَأْسِ مَالِهِ إلَيْهِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي بَابِ اللِّعَانِ أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ التَّلَاعُنِ مِنْ غَيْرِ طَلَبِهِمَا لِأَنَّ حُرْمَةَ الِاجْتِمَاعِ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ مَا دَامَا مُصِرَّيْنِ حَقُّ الشَّرْعِ فَلَا يَتَوَقَّفُ التَّفْرِيقُ عَلَى طَلَبِهِمَا أَوْ طَلَبِ أَحَدِهِمَا وَهُنَا فَسْخُ الْعَقْدِ حَقُّهُمَا فَيَتَوَقَّفُ عَلَى طَلَبِهِمَا أَوْ طَلَبِ أَحَدِهِمَا

قَالَ : ( فَإِنْ لَمْ يَخْتَلِفَا فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ وَلَكِنْ اخْتَلَفَا فِي مَكَانِ الْإِيفَاءِ ) فَقَالَ : الطَّالِبُ شَرَطْتُ لِي مَكَانَ كَذَا وَكَذَا وَقَالَ : الْمَطْلُوبُ بَلْ مَكَانُ كَذَا وَكَذَا فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الطَّالِبِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ مَعَ يَمِينِهِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ لَمْ يَنُصَّ عَلَيْهِ فِي الْكِتَابِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَتَحَالَفَانِ وَيَتَرَادَّانِ السَّلَمَ وَقِيلَ هَذَا الِاخْتِلَافُ عَلَى الْقَلْبِ فَإِنَّ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ بَيَانَ مَكَانِ الْإِيفَاءِ شَرْطٌ كَالصِّفَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ فَالِاخْتِلَافُ فِيهِ يُوجِبُ التَّحَالُفَ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الصِّفَةِ بَلْ هُوَ زَائِدٌ لَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْخِلَافَ فِي مَوْضِعِهِ فَإِنَّ عِنْدَهُمَا : مُتَعَيَّنُ مَكَانِ الْإِيفَاءِ مُوجَبُ الْعَقْدِ وَلِهَذَا لَا يَحْتَاجُ إلَى ذِكْرِهِ بَلْ يَتَعَيَّنُ مَوْضِعُ الْعَقْدِ لِلْإِيفَاءِ وَالِاخْتِلَافُ فِي مُوجَبِ الْعَقْدِ يُوجِبُ التَّحَالُفَ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ هُوَ مُوجَبٌ بِالشَّرْطِ كَالْأَجَلِ وَالِاخْتِلَافُ فِيهِ لَا يُوجِبُ التَّحَالُفَ ثُمَّ وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ الْمَالِيَّةَ فِيمَا لَهُ حَمْلٌ وَمُؤْنَةٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ فَالِاخْتِلَافُ فِيهِ كَالِاخْتِلَافِ فِي الصِّفَةِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعَقْدِ الْمَالِيَّةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ الْقِيَاسُ يَمْنَعُ التَّحَالُفَ تَرَكْنَا ذَلِكَ بِالسُّنَّةِ وَإِنَّمَا جَاءَتْ السُّنَّةُ بِالتَّحَالُفِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِيمَا هُوَ مِنْ صُلْبِ الْعَقْدِ وَهُوَ الْبَدَلُ فَأَمَّا الْمَكَانُ لَيْسَ مِنْ صُلْبِ الْعَقْدِ فَالِاخْتِلَافُ فِيهِ كَالِاخْتِلَافِ فِي الْأَجَلِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَكَانِ تَسْلِيمِهِ بِخِلَافِ الصِّفَةِ فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ دَيْنًا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ صِفَتِهِ فَلِهَذَا فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمِ التَّحَالُفِ

قَالَ : ( وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْأَجَلِ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ يَخْتَلِفَا فِي مِقْدَارِ الْأَجَلِ أَوْ فِي مُضِيِّ الْأَجَلِ أَوْ فِي أَصْلِ الْأَجَلِ فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الْأَجَلِ فَقَالَ : الطَّالِبُ كَانَ الْأَجَلُ شَهْرًا وَقَالَ : الْمَطْلُوبُ شَهْرَيْنِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ مَعَ يَمِينِهِ ) لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقُّ الْمَطْلُوبِ قَبْلَ الطَّالِبِ فَإِنَّ بِاعْتِبَارِهِ تَتَأَخَّرُ مُطَالَبَتُهُ عَنْهُ فَالْمَطْلُوبُ يَدَّعِي زِيَادَةً فِي حَقِّهِ وَالطَّالِبُ يُنْكِرُ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَطْلُوبِ لِإِثْبَاتِهِ الزِّيَادَةَ فِي حَقِّهِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي مُضِيِّهِ فَقَالَ : الطَّالِبُ كَانَ الْأَجَلُ شَهْرًا وَقَدْ مَضَى وَقَالَ : الْمَطْلُوبُ إنَّمَا عَقَدْنَا الْعَقْدَ الْيَوْمَ وَالْأَجَلُ شَهْرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ إمَّا لِأَنَّ الطَّالِبَ يَدَّعِي تَارِيخًا سَابِقًا فِي الْعَقْدِ وَالْمَطْلُوبَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ أَوْ لِأَنَّهُمَا تَصَادَفَا عَلَى ثُبُوتِ الْأَجَلِ حَقًّا لِلْمَطْلُوبِ ثُمَّ الطَّالِبُ يَدَّعِي إيفَاءَ حَقِّهِ وَالْمَطْلُوبُ يُنْكِرُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَطْلُوبِ أَيْضًا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إثْبَاتُ الْأَجَلِ وَذَلِكَ بِبَيِّنَةِ الْمَطْلُوبِ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ قِيَامَ الْأَجَلِ فِي الْحَالِ وَالطَّالِبُ يَنْفِي ذَلِكَ بِبَيِّنَتِهِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مِنْ وَجْهٍ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةٌ مِنْ وَجْهٍ كَالْمُودِعِ إذَا ادَّعَى الْوَدِيعَةَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِإِنْكَارِهِ الضَّمَانَ وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَتُهُ أَيْضًا لِإِثْبَاتِهِ الرَّدِّ فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي شَرْطِ الْأَجَلِ فَفِي الْقِيَاسِ الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يُنْكِرُ شَرْطَ الْأَجَلِ وَالْعَقْدُ فَاسِدٌ لِأَنَّ عَقْدَ السَّلَمِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِاشْتِرَاطِ الْأَجَلِ فَمَنْ يُنْكِرُ الْأَجَلَ فَهُوَ مُنْكِرٌ لِلْعَقْدِ فِي الْمَعْنَى فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْأَجَلَ شَرْطٌ زَائِدٌ فَإِذَا اخْتَلَفَا فِيهِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ

يُنْكِرُهُ كَالْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ اسْتَحْسَنَ أَبُو حَنِيفَةَ فَقَالَ : الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْأَجَلَ أَيُّهُمَا كَانَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى : إذَا كَانَ الطَّالِبُ يَدَّعِي الْأَجَلَ فَكَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ هُوَ الَّذِي يَدَّعِي الْأَجَلَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ لِإِنْكَارِهِ قِيَاسًا لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقُّ الْمَطْلُوبِ قَبْلَ الطَّالِبِ فَإِذَا ادَّعَاهُ الْمَطْلُوبُ وَأَنْكَرَ الطَّالِبُ فَكِلَاهُمَا خَرَجَ مَخْرَجَ الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارِ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ وَذَا ادَّعَى الطَّالِبُ الْأَجَلَ فَكَلَامُ الْمَطْلُوبِ فِي الْإِنْكَارِ تَعَنُّتٌ لِأَنَّ الطَّالِبَ أَقَرَّ لَهُ بِحَقِّهِ وَهُوَ أَنْكَرَ ذَلِكَ لِيُفْسِدَ الْعَقْدَ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلِ الْمُتَعَنَّتِ فَهُوَ كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا الْمُضَارِبُ وَرَبُّ الْمَالِ فَقَالَ : رَبُّ الْمَالِ شَرَطْتُ لَكَ نِصْفَ الرِّبْحِ إلَّا عَشَرَةً وَقَالَ : الْمُضَارِبُ بَلْ شَرَطْتَ لِي نِصْفَ الرِّبْحِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ وَلَوْ قَالَ : رَبُّ الْمَالِ شَرَطْتُ لَكَ نِصْفَ الرِّبْحِ وَقَالَ : الْمُضَارِبُ إلَّا عَشَرَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ مُتَعَنِّتٌ فِي إنْكَارِهِ بَعْضَ مَا أَقَرَّ بِهِ لِيُفْسِدَ الْعَقْدَ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ الْأَجَلُ مِنْ شَرَائِطِ السَّلَمِ فَاتِّفَاقُهُمَا عَلَى عَقْدِ السَّلَمِ يَكُونُ اتِّفَاقًا عَلَى شَرَائِطِهِ فَكَانَ الْمُنْكَرُ مِنْهُمَا لِلْأَجَلِ رَاجِعًا عَمَّا أَقَرَّ بِهِ وَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ بَاطِلٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الِاخْتِلَافَ لَوْ وَقَعَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ فِي النِّكَاحِ أَنَّهُ كَانَ بِشُهُودِ أَوْ بِغَيْرِ شُهُودٍ يَجْعَلُ الْقَوْلَ قَوْلَ مِنْ يَدَّعِي أَنَّ النِّكَاحَ بِشُهُودِ لِهَذَا الْمَعْنَى وَهَذَا لِأَنَّ شَرْطَ الشَّيْءِ تَبَعٌ لَهُ ثُبُوتُ التَّبَعِ بِثُبُوتِ الْأَصْلِ أَلَا تَرَى أَنَّ مِنْ نَذَرَ صَلَاةً تَلْزَمُهُ الطَّهَارَةُ فَاتِّفَاقُهُمَا عَلَى أَصْلِ الْعَقْدِ يَكُونُ اتِّفَاقًا عَلَى مَا هُوَ مِنْ شَرَائِطِهِ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ

بَيِّنَةُ مِنْ يُثْبِتُ الْأَجَلَ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِبَيِّنَتِهِ شَرْطُ صِحَّةِ الْعَقْد إذْ الْأَجَلُ شَرْطٌ زَائِدٌ كَالْخِيَارِ فَمَنْ يُثْبِتُهُ بِالْبَيِّنَةِ كَانَتْ بَيِّنَتُهُ أُولَى بِالْقَبُولِ .

قَالَ : ( وَإِذَا تَتَارَكَا السَّلَمَ بَعْدَ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي رَأْسِ الْمَالِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ مَعَ يَمِينِهِ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الطَّالِبِ ) لِأَنَّهُ يُثْبِتُ الزِّيَادَةَ بِبَيِّنَتِهِ وَالْمَطْلُوبُ يُنْكِرُ تِلْكَ الزِّيَادَةَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا يَتَحَالَفَانِ بِخِلَافِ بَيْعِ الْعَيْنِ فَإِنَّهُمَا إذَا اخْتَلَفَا هُنَاكَ فِي الثَّمَنِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ تَحَالَفَا وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالتَّحَالُفِ الْفَسْخُ وَالْإِقَالَةُ كَالْبَيْعِ فِي احْتِمَالِ الْفَسْخِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ الْمَبِيعُ بَعْدَ الْإِقَالَةِ قَبْلَ الرَّدِّ تَنْفَسِخُ الْإِقَالَةُ وَلَوْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَإِنَّ حَدَثَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي يَرُدُّهُ بِذَلِكَ وَإِقَالَةُ السَّلَمِ لَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ حَتَّى لَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا لَمْ تَنْفَسِخُ الْإِقَالَةُ بِالْهَلَاكِ فِي يَدِ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَلَا بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ وَبِالْإِقَالَةِ يَسْقُطُ وَالسَّاقِطُ مُتَلَاشِي فَلَا يُتَصَوَّرُ فَسْخُ السَّبَبِ فِيهِ وَإِنَّمَا كَانَ وُجُوبُهُ بِالْعَقْدِ فَلَا يَبْقَى بَعْدَ انْفِسَاخِ الْعَقْدِ وَبِدُونِ بَقَاءِ مَا تَتَنَاوَلُهُ الْإِقَالَةُ لَا يُتَصَوَّرُ فَسْخُ الْإِقَالَةِ وَهُنَاكَ الْعَقْدُ تَنَاوَلَ الْعَيْنَ وَهُوَ بَاقِي بَعْدَ الْإِقَالَةِ

قَالَ : ( وَإِذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ إلَى رَجُلٍ فِي طَعَامٍ فَوَجَدَ فِيهَا دِرْهَمًا زَائِفًا بَعْدَ مَا افْتَرَقَا فَأَنْكَرَ رَبُّ السَّلَمِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ دَرَاهِمِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ ) لِأَنَّهُ يُنْكِرُ اسْتِيفَاءَ حَقِّهِ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْجِيَادِ وَهَذَا بِخِلَافِ بَيْعِ الْعَيْنِ فَإِنَّ هُنَاكَ الْمُشْتَرِيَ إذَا طَعَنَ بِعَيْبٍ وَأَنْكَرَ الْبَائِعُ أَنْ يَكُونَ مَا أَحْضَرَهُ هُوَ الْمَبِيعُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْبَائِعِ لِأَنَّ الْعَقْدَ تَنَاوَلَ الْعَيْنَ وَقَدْ تَصَادَقَا عَلَى قَبْضِ الْمُشْتَرِي لِمَا هُوَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ ثُمَّ الْمُشْتَرِي يَدَّعِي عَلَيْهِ لِنَفْسِهِ حَقَّ الرَّدِّ وَالْبَائِعُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ وَهُنَا حَقُّ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ يَثْبُتْ فِي الْجِيَادِ دَيْنًا وَهُوَ مُنْكِرٌ لِقَبْضِ الْحِيَادِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَهَذَا إذَا لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ إقْرَارٌ بِاسْتِيفَاءِ الْجِيَادِ أَوْ بِاسْتِيفَاءِ حَقِّهِ أَوْ بِاسْتِيفَاءِ رَأْسِ الْمَالِ بِأَنْ كَانَ سَاكِتًا أَوْ أَقَرَّ بِقَبْضِ الدَّرَاهِمِ فَاسْمُ الدَّرَاهِمِ يَتَنَاوَلُ الْجِيَادَ وَالزُّيُوفَ فَأَمَّا إذَا أَقَرَّ بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا كَانَ هُوَ فِي دَعْوَى الزِّيَافَةِ بَعْدَ ذَلِكَ مُنَاقِضًا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ

قَالَ : ( وَإِذَا أَسْلَمَ إلَيْهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ فِي طَعَامٍ وَأَعْطَاهُ بَعْضَهَا وَأَحَالَهُ عَلَى رَجُلٍ بِبَعْضِهَا وَبَقِيَ عِنْدَهُ بَعْضُهَا ثُمَّ تَفَرَّقَا فَلَهُ مِنْ السَّلَمِ بِحِسَابِ مَا نَقَدَهُ وَقَدْ بَطَلَ مَا سِوَى ذَلِكَ ) لِافْتِرَاقِهِمَا قَبْلَ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ فَإِنَّهُ بِالْحَوَالَةِ لَا يَصِيرُ قَابِضًا بَلْ حَقُّهُ فِي ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ كَهُوَ فِي ذِمَّةِ الْمُحِيلِ وَقَدْ بَطَلَتْ الْحَوَالَةُ لِأَنَّهَا كَانَتْ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ وَقَدْ بَطَلَ حَقُّ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ عَنْ ذَلِكَ حِينَ افْتَرَقَا قَبْلَ الْقَبْضِ فَتَبْطُلُ الْحَوَالَةُ لِذَلِكَ وَيَرْجِعُ رَبُّ السَّلَمِ بِالدَّرَاهِمِ الَّتِي أَحَالَهُ بِهَا عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ يُرِيدُ بِهِ إنَّ ذَلِكَ كَانَ دَيْنًا لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِدَيْنِهِ كَمَا كَانَ

قَالَ : ( وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْلِمَ الْحَيَوَانَ وَلَا مَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ فِيمَا يُكَالُ وَيُوزَنُ ) لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ مُعَجَّلٌ فِي هَذَا الْعَقْدِ يَجُوزُ تَعَيُّنُهُ فَكُلُّ مَا يَصْلُحُ مَبِيعًا عَيْنًا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ الْمَالِ وَإِنَّمَا يَجُوزُ السَّلَمُ عِنْدَ انْعِدَامِ وَصْفَيْ عِلَّةِ رِبَا الْفَضْلِ الْجِنْسِيَّةِ وَالْقَدْرِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ

قَالَ : وَيُسْلِمُ الثَّوْبَ الْفَوْهِيَّ فِي الثَّوْبِ الْهَرَوِيِّ وَالْمَرْوِيِّ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الثِّيَابِ الْمُخْتَلِفَةِ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ وَالصَّنْعَةِ يُسْلَمُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ وَكَذَلِكَ الزُّطِّيُّ فِي الْهَرَوِيِّ وَالْكَسَا فِي الطَّيْلَسَانِ وَالطَّيْلَسَانُ فِي الْكَسَا وَالثَّوْبُ مِنْ الْكَتَّانِ فِي الثَّوْبِ مِنْ الْقُطْنِ إمَّا لِاخْتِلَافِ الْأُصُولِ أَوْ لِاخْتِلَافِ الصَّنْعَةِ عَلَى وَجْهٍ يُوجِبُ تَبْدِيلَ الِاسْمِ وَالْمَقْصُودِ وَالْوَذَارِيُّ يُرَادُ بِهِ مَا لَا يُرَادُ بِهِ الْبَلَدِيُّ وَالزَّنْدِيجِيُّ كَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْكُلِّ وَاحِدًا وَهُوَ الْقُطْنُ وَهُوَ كالسَّعْلاطَوِيِّ مَعَ الْخِمَارِ الْأَسْوَدِ جِنْسَانِ وَإِنْ اتَّحَدَ الْأَصْلُ وَهُوَ الْإِبْرَيْسَمُ وَالْيَعْفُورِيُّ مَعَ الْكَسَا جِنْسَانِ وَإِنْ اتَّحَدَ الْأَصْلُ وَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ فِيمَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ يَجُوزُ إسْلَامُ الْبَعْضِ فِي الْبَعْضِ

قَالَ : ( وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي الْكَتَّانِ وَالْقُطْنِ وَالْقَزِّ وَالِإِبْرَيْسَمِ ) لِأَنَّهُ مَوْزُونٌ مَعْلُومٌ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ وَإِنْ اشْتَرَطَ أَنْ يُوفِيَهُ السَّلَمَ فِي مَدِينَةِ كَذَا وَفِي مِصْرِ كَذَا فَحَيْثُ مَا دَفَعَهُ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الْمِصْرِ أَوْ مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ فَلَهُ ذَلِكَ وَلَيْسَ لِرَبِّ السَّلَمِ أَنْ يُكَلِّفَهُ تَسْلِيمَهُ إلَيْهِ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهُ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالشَّرْطِ أَدْنَى مَا يَتَنَاوَلُهُ الِاسْمُ كَمَا بَيَّنَّا فِي شَرْطِ الْجَيِّدِ فَحَيْثُ مَا دَفَعَهُ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمِصْرِ فَقَدْ وَفَّى بِالشَّرْطِ وَلِأَنَّ نَوَاحِيَ الْمِصْرِ فِي الْمِصْرِ كَمَكَانٍ وَاحِدٍ بِدَلِيلِ جَوَازِ عَقْدِ السَّلَمِ فَإِذَا لَمْ يُعَيِّنْ مَوْضِعًا مِنْ الْمِصْرِ كَانَ لَهُ أَنْ يُسْلِمَ فِي أَيْ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنْهُ فَإِنْ ( قِيلَ ) أَلَيْسَ أَنَّهُ إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى مِصْرَ كَذَا فَدَخَلَهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَتَبَلَّغَ عَلَيْهَا إلَى مَنْزِلِهِ فِي الْمِصْرِ ( قُلْنَا ) هَذَا مُسْتَحْسَنٌ لِلْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ إذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى مِصْرٍ مِنْ الْأَمْصَارِ أَنَّهُ لَا يَسْتَأْجِرُ دَابَّةً أُخْرَى بَعْدَ دُخُولِ ذَلِكَ الْمِصْرِ لِيَتَبَلَّغَ عَلَيْهَا إلَى مَنْزِلَةٍ فَالْمُسْتَحْسَنُ مِنْ الْقِيَاسِ بِالْعُرْفِ لَا يَرُدُّ نَقْضًا عَلَى الْقِيَاسِ وَلَا يَعْدُو الْمَوْضِعَ الَّذِي فِيهِ الْعُرْفُ

قَالَ : ( وَلَا خِيَارَ فِي السَّلَمِ فِي الْمُسَابِقِ وَالْفِرَا ) لِأَنَّهَا تَخْتَلِفُ مِنْهَا الصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَةُ وَالْمُسْبَقُ مَا لَهُ كُمَّانِ طَوِيلَانِ كَمَا يَكُونُ لِلْأَكْرَادِ وَبَعْضِ الْعَرَبِ وَالْفَرْوُ مَا لَا كُمَّ لَهُ قَالَ : ( إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا مَعْرُوفَ الطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالتَّقْطِيعِ وَالصِّفَةِ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ ) لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ

قَالَ : ( وَلَا خَيْرَ فِي السَّلَمِ فِي كُلِّ شَيْءٍ اُشْتُرِطَ فِيهِ الْأَوْقَارُ وَالْأَحْمَالُ ) لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ فَبَعْضُهَا يَكُونُ أَثْقَلَ مِنْ بَعْضٍ وَهَذِهِ الْجَهَلَةُ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا

قَالَ : ( وَإِنْ اشْتَرَطَ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ أَنْ يُحْمَلَ السَّلَمُ إلَى مَنْزِلِ صَاحِبِ السَّلَمِ بَعْدَ مَا يُوفِيهِ إيَّاهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي شَرَطَهُ فَلَا خَيْرَ فِيهِ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ ) لِأَنَّ الْعَقْدَ يَنْتَهِي بِالْإِيفَاءِ فِي الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ ثُمَّ قَدْ شَرَطَ لِنَفْسِهِ مَنْفَعَةً بَعْدَ انْتِهَاءِ الْعَقْدِ وَهُوَ الْحَمْلُ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ كَمَا لَوْ شَرَطَ أَنْ يَطْحَنَهُ وَإِنْ اشْتَرَطَ أَنْ يُوفِيَهُ إيَّاهُ فِي مَنْزِلِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاسُ فِيهِ مِثْلُ الْأَوَّلِ مِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَقُولُ مَوْضِعُ هَذَا الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ إذَا اشْتَرَطَ أَنْ يُوفِيَهُ فِي مَنْزِلِهِ بَعْدَ مَا يُوفِيهِ فِي مَكَانِ كَذَا لِيَكُونَ الْفَصْلُ الثَّانِي عَلَى وَزَانِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ لِاشْتِرَاطِهِ مَنْفَعَةً لِنَفْسِهِ بَعْدَ مَا انْتَهَى الْعَقْدُ نِهَايَتَهُ إذْ لَا يَتَأَتَّى إيفَاؤُهُ فِي مَنْزِلِهِ بَعْدَ الْإِيفَاءِ فِي الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ إلَّا بِالْحَمْلِ فَلَفْظُ الْحَمْلِ وَالْإِيفَاءِ فِيهِ عَلَى السَّوَاءِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ قَالَ : ( إنْ اشْتَرَطَ بِلَفْظِهِ الْإِيفَاءَ فَالثَّانِي مِثْلُ الْأَوَّلِ مِنْ جِنْسِهِ فَيَنْفَسِخُ بِهِ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ وَيَصِيرُ كَأَنَّهُ اشْتَرَطَ ابْتِدَاءَ هَذَا ) فَأَمَّا الْحَمْلُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْإِيفَاءِ فَلَا يَنْفَسِخُ بِهِ الشَّرْطُ الْأَوَّلُ وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ بَاعَهُ بِأَلْفٍ ثُمَّ بَاعَهُ بِالْفَيْنِ انْفَسَخَ بِهِ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ وَلَوْ وَهَبَهُ لَمْ يَنْفَسِخْ بِهِ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ وَبَيَانُ الْمُجَانَسَةِ أَنَّ الْعَقْدَ يَقْتَضِي الْإِيفَاءَ لَا مَحَالَةَ وَلَا يَقْتَضِي الْحَمْلَ أَلَا تَرَى أَنَّ رَبَّ السَّلَمِ قَدْ يَأْتِي إلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ لِيُوفِيَهُ فِي مَنْزِلِهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى الْحَمْلِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْحَمْلَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْإِيفَاءِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعَقْدَ قَدْ يَخْلُو مِنْهُ وَقِيلَ بِأَنَّ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ فِيمَا إذَا اشْتَرَطَ ابْتِدَاءً أَنْ يُوفِيَهُ فِي مَنْزِلِهِ فِي الْقِيَاسِ لَا

يَجُوزُ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ مَنْزِلَهُ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ مَنْزِلُهُ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَقَدْ يَكُونُ فِي هَذَا الْمِصْرِ وَقَدْ يَكُونُ فِي مِصْرٍ آخَرَ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ : الْعَادَةُ لَمْ تَجْرِ بِاسْتِبْدَالِ الْمَنْزِلِ بِالْمَنْزِلِ فِي كُلِّ وَقْتٍ أَوْ الِانْتِقَالِ مِنْ الْمِصْرِ إلَى الْمِصْرِ لِلتَّوَطُّنِ وَمَنْزِلِهِ لِلْحَالِ مَعْلُومٌ فَبِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ يَكُونُ هَذَا مَنْزِلَهُ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ وَالتَّعَيُّنِ بِالْعُرْفِ كَالتَّعْيِينِ بِالنَّصِّ وَقِيلَ بَلْ مَوْضِعُ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ مَا إذَا شَرَطَ أَنْ يُوفِيَهُ فِي مَنْزِلِهِ وَلَا يَعْلَمُ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مَنْزِلَهُ فِي الْمِصْرِ فِي أَيِّ مَحَلَّةٍ هُوَ فَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ لِلْجَهَالَةِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ لِأَنَّ نَوَاحِيَ الْمِصْرِ كَمَكَانٍ وَاحِدٍ وَلَكِنْ فِي هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِلَفْظِ الْحَمْلِ أَوْ بِلَفْظِ الْإِيفَاءِ وَفِي الْكِتَابِ قَالَ : نَأْخُذُ بِالْحَمْلِ فِي الْقِيَاسِ وَفِي هَذَا بِالِاسْتِحْسَانِ فَعَرَفْنَا أَنَّ مُرَادَهُ الْوَجْهُ الْأَوَّلُ .

قَالَ : ( وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ بِالْجُبْنِ وَالْمَصْلِ ) لِأَنَّهُ مَوْزُونٌ مَعْلُومٌ وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَقُولُونَ هَذَا فِي مَصْلِ دِيَارِ خُوَارِزْمَ فَإِنَّهُ لَا يُخَالِطُهُ الدَّقِيقَ فَإِنَّا فِي مَصْلِ دِيَارِنَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ لِأَنَّهُ يُخَالِطُهُ دَقِيقُ الشَّعِيرِ وَقَدْ نُقِلَ ذَلِكَ وَقَدْ يَكْثُرُ وَبِجِنْسِهِ تَخْتَلِفُ الْمَالِيَّةُ فَكَانَ قِيَاسُ السَّلَمِ فِي النَّاطِفِ الْمُمَوَّنِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إنْ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَفَاوَتُ فَالسَّلَمُ صَحِيحٌ

قَالَ : ( وَإِذَا اخْتَلَفَا فَقَالَ : رَبُّ السَّلَمِ أَسْلَمْتُ إلَيْكَ فِي ثَوْبٍ يَهُودِيٍّ وَقَالَ : الْمُسْلَمُ إلَيْهِ بَلْ هُوَ فِي زُطِّيٍّ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ ) لِاخْتِلَافِهِمَا فِي جِنْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَجَبَ قَبُولُ بَيِّنَتِهِ وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الطَّالِبِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَقْضِي بِسَلَمَيْنِ إذَا كَانَا فِي الْمَجْلِسِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا وَإِذَا اتَّفَقَا عَلَى أَنَّهُ يَهُودِيٌّ غَيْرَ أَنَّ الطَّالِبَ قَالَ : هُوَ سِتَّةُ أَذْرُعٍ فِي ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ وَقَالَ : الْمَطْلُوبُ خَمْسَةُ أَذْرُعٍ فِي ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ فِي الْقِيَاسِ يَتَحَالَفَانِ وَيُتَرَادَّانِ وَبِالْقِيَاسِ نَأْخُذُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَبِيعٌ وَلَوْ كَانَ مَبِيعًا عَيْنًا وَاخْتَلَفَا فِي طُولِهِ وَعَرَضِهِ لَا يَتَحَالَفَانِ بَلْ الْقَوْلُ قَوْلُ مِنْ يُنْكِرُ الزِّيَادَةَ فَكَذَلِكَ فِي السَّلَمِ وَهَذَا لِأَنَّ زِيَادَةَ الطُّولِ وَالْعَرْضِ لَا تُسْتَحَقُّ إلَّا بِالشَّرْطِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْأَجَلِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمَا إذَا اخْتَلَفَا فِي الْأَجَلِ لَمْ يَتَحَالَفَا فَهَذَا مِثْلُهُ وَفِي الْقِيَاسِ الْمُسْلَمُ فِيهِ دَيْنٌ وَالذُّرْعَانُ لَا عَلَامَةَ فِي الْمَذْرُوعَاتِ بِمَنْزِلَةِ الْعَقْدِ فِي الْمَقْدُورَاتِ وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي مِقْدَارِ الْمُسْلَمِ فِيهِ تَحَالَفَا ثُمَّ أَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الذُّرْعَانَ صِفَةٌ وَلَكِنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الصِّفَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْجَيِّدِ وَالرَّدِيءُ أَنَّهُمَا إذَا اخْتَلَفَا فِيهِ تَحَالَفَا فَكَذَلِكَ فِي الذُّرْعَانِ وَنَأْخُذُ بِالْقِيَاسِ لِقُوَّةِ جَانِبِ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانُ قِيَاسَانِ فَأَيُّهُمَا كَانَ أَثَرُهُ أَقْوَى يُؤْخَذُ بِهِ وَلَمْ يُذْكَرْ هَذَا الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي صِفَةِ الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ لِتَحَقُّقِ الْمُغَايِرَةِ بَيْنَهُمَا وَالْجَيِّدُ غَيْرُ الرَّدِيءِ إذَا كَانَ دَيْنًا وَلَا

يَتَحَقَّقُ مِثْلُ تِلْكَ الْمُغَايِرَةِ هُنَا فَالطَّوِيلُ مِنْ الثَّوْبِ قَدْ يَصِيرُ قَصِيرًا بِقَطْعِ بَعْضِهِ وَالْقَصِيرُ قَدْ يُزَادُ فِيهِ فَيَصِيرُ طَوِيلًا فَلِهَذَا ذَكَرَ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ هُنَا وَلَمْ يَذْكُرْ ثَمَنَهُ

قَالَ : ( وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي السَّلَمِ أَوْ فِي رَأْسِ الْمَالِ وَلَمْ يَقْبِضْهُ وَلَمْ يَتَفَرَّقَا ) فَالْحَاصِلُ إنَّ هَذِهِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ ( أَحَدُهَا ) أَنْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ فِي رَأْسِ الْمَالِ وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا أَوْ دَيْنًا فَإِنْ كَانَ عَيْنًا فَقَالَ : الطَّالِبُ أَسْلَمْتُ إلَيْكَ هَذَا الثَّوْبَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ وَقَالَ : الْمَطْلُوبُ بَلْ هَذَا الثَّوْبَ الْآخَرَ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَإِنَّهُ يَقْضِي بِالسَّلَمَيْنِ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِبَيِّنَتِهِ يُثْبِتُ حَقَّهُ فَالطَّالِبُ يُثْبِتُ إزَالَةَ الثَّوْبِ بِاَلَّذِي عَيْنُهُ عَنْ مِلْكِهِ بِكُرِّ حِنْطَةٍ وَالْمَطْلُوبُ يُثْبِتُ مِلْكَهُ فِي الثَّوْبِ الْآخَرِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَضَاءِ بِالْعَقْدَيْنِ وَإِنْ قَالَ : الطَّالِبُ أَسْلَمْتُ إلَيْكَ هَذَا الثَّوْبَ وَقَالَ : الْمَطْلُوبُ مَعَ هَذَا الثَّوْبِ الْآخَرِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَطْلُوبِ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْعَقْدَيْنِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَالثَّوْبُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ جَمِيعَ رَأْسِ الْمَالِ فِي عَقْدٍ وَبَعْضُ رَأْسِ الْمَالِ فِي عَقْدٍ آخَرَ وَالْمَطْلُوبُ يُثْبِتُ الزِّيَادَةَ فِي حَقِّهِ بِبَيِّنَتِهِ فَلِهَذَا قَضَيْنَا بِبَيِّنَتِهِ بِإِسْلَامِ الثَّوْبَيْنِ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ وَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَيْنًا فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي جِنْسِهِ فَقَالَ : رَبُّ السَّلَمِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ وَقَالَ : الْمُسْلَمُ إلَيْهِ دِينَارٌ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَلَا إشْكَالَ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يَقْضِي بِالْعَقْدَيْنِ وَقِيلَ هَكَذَا يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ اعْتِبَارًا لِلدَّيْنِ بِالْعَيْنِ وَالدَّنَانِيرِ غَيْرِ الدَّرَاهِمِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ : يُقْضَى بِعَقْدٍ وَاحِدٍ وَتَكُونُ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةَ الْمَطْلُوبِ لِأَنَّ الطَّالِبَ لَمَّا لَمْ يُثْبِتْ لِنَفْسِهِ شَيْئًا إذْ لَا مُؤْنَةَ عَلَيْهِ فِيمَا فِي ذِمَّتِهِ وَحَقِّهِ فِي الْكُرِّ ثَابِتٌ بِاتِّفَاقِهِمَا وَالْمَطْلُوبُ يُثْبِتُ حَقَّهُ بِبَيِّنَتِهِ فَكَانَتْ بَيِّنَتُهُ

أَوْلَى وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ فَقَالَ : الطَّالِبُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَقَالَ : الْمَطْلُوبُ عِشْرُونَ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي الْمُسْلَمِ فِيهِ فِي الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ وَقَدْ بَيَّنَّا الِاخْتِلَافَ وَإِنْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِيهِمَا جَمِيعًا بِأَنْ قَالَ : رَبُّ السَّلَمِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فِي كُرَّيْ حِنْطَةٍ وَقَالَ : الْمُسْلَمُ عِشْرُونَ دِرْهَمًا فِي كُرِّ حِنْطَةٍ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ تُقْبَلُ بَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مَا يَدَّعِي مِنْ الزِّيَادَةِ فِي حَقِّهِ وَيَقْضِي بِعَقْدٍ وَاحِدٍ وَهُوَ إسْلَامُ عِشْرِينَ دِرْهَمًا فِي كُرَّيْ حِنْطَةٍ وَعِنْدِ مُحَمَّدٍ يَقْضِي بِعَقْدَيْنِ كَمَا شَهِدَ بِهِ كُلُّ فَرِيقٍ فَالْحَاصِلُ أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ يَقْضِي بِعَقْدَيْنِ مَا أَمْكَنَ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ فَحِينَئِذٍ يَشْتَغِلُ بِالتَّرْجِيحِ لِلضَّرُورَةِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَقْضِي بِعَقْدٍ وَاحِدٍ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ فَحِينَئِذٍ يَقْضِي بِعَقْدَيْنِ لِلضَّرُورَةِ وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ

قَالَ : ( وَلَوْ أَسْلَمَ عَبْدًا أَوْ ثَوْبًا فِي حِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ وَلَمْ يُسَمِّ رَأْسَ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهُوَ جَائِزٌ ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الثَّوْبَ وَالْعَبْدَ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ فَلَا يَضُرُّ تَرْكُ تَسْمِيَةِ رَأْسِ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَكِنْ يَنْقَسِمُ عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى كُرَّ حِنْطَةٍ وَكُرَّ شَعِيرٍ عَيْنًا بِثَوْبٍ وَاحِدٍ أَوْ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ فَإِنَّهُ يَنْقَسِمُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ لِلتَّعَارُضِ بَيْنَهُمَا وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا فِي تَخْصِيصِهِ بِشَيْءٍ بِأُولَى مِنْ الْآخَرِ قَالَ : ( وَإِذَا بَاعَ جَارِيَةً بِأَلْفِ مِثْقَالِ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ أَوْ دَرَاهِمَ وَدَنَانِيرَ كَانَ لَهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفُ ) لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ وَمُطْلَقُ الْعَطْفِ يُوجِبُ الِاشْتِرَاكَ عَلَى وَجْهِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ قَالَ : أَلْفُ مِثْقَالٍ فَعَلَيْهِ خَمْسُمِائَةِ مِثْقَالِ ذَهَبٍ وَخَمْسُمِائَةِ مِثْقَالِ فِضَّةٍ لِأَنَّهُ فَسَّرَ الْمَثَاقِيلَ بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَإِنْ قَالَ : أَلْفٌ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَعَلَيْهِ خَمْسُمِائَةِ دِينَارٍ بِالْمَثَاقِيلِ وَخَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَزْنُ سَبْعَةٍ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَعَارَفُ فِي وَزْنِ الدَّرَاهِمِ فَيَنْصَرِفُ إلَيْهِ وَكُلُّ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا فِي الْبَيْعِ يَصْلُحُ ذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ أَيْضًا لِأَنَّ الْمَنَافِعَ فِي حُكْمِ الْأَمْوَالِ أَوْ بِالْعَقْدِ يَثْبُتُ لَهَا حُكْمُ الْمَالِيَّةِ حَتَّى لَا يَثْبُتُ الْحَيَوَانُ دَيْنًا فِيهِ فِي الذِّمَّةِ لَا حَالًّا وَلَا مُؤَجَّلًا كَمَا فِي الْبَيْعِ وَيَثْبُتُ الْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ حَالًّا وَمُؤَجَّلًا وَالثِّيَابُ الْمَرْصُوفَةُ فِيهِ تَثْبُتُ مُؤَجَّلَةً لَا حَالَّةً لِأَنَّ اسْتِقْرَاضَ الثِّيَابِ لَا يَجُوزُ وَالسَّلَمُ فِيهَا صَحِيحٌ وَالْقَرْضُ لَا يَكُونُ إلَّا حَالًّا وَالسَّلَمُ لَا يَكُونُ إلَّا مُؤَجَّلًا فَعَرَفْنَا أَنَّهَا تَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مُؤَجَّلَةً لَا حَالَّةً لِأَنَّ اسْتِقْرَاضَ الثِّيَابِ لَا يَجُوزُ عِوَضًا عَمَّا هُوَ مَالٌ وَأَمَّا

الْحَيَوَانُ لَا يَجُوزُ اسْتِقْرَاضُهُ وَلَا السَّلَمُ فِيهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مُؤَجَّلًا وَلَا حَالًّا بَدَلًا عَمَّا هُوَ مَالٌ .

قَالَ : ( وَإِذَا أَسْلَمَ إلَيْهِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي عِشْرِينَ مَخْتُومَ شَعِيرٍ أَوْ عَشَرَةِ مَخَاتِيمَ حِنْطَةٍ بِالشَّكِّ أَنَّهُ يُعْطِيهِ أَيَّهُمَا شَاءَ فَلَا خَيْرَ فِيهِ ) لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَبِيعٌ وَهُوَ مَجْهُولٌ حِينَ أَدْخَلَ حَرْفَ أَوْ بَيْنَ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَمِثْلُ هَذِهِ الْجَهَالَةِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ يَمْتَنِعُ جَوَازُ الْعَقْدِ فَفِي السَّلَمِ أَوْلَى وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : إنْ أَعْطَيْتَنِي إلَى شَهْرٍ فَكَذَا أَوْ إنْ أَعْطَيْتَنِي إلَى شَهْرَيْنِ فَكَذَا فَهُوَ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عِنْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ إمَّا جِنْسًا وَإِمَّا قَدْرًا لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ صَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ وَعَنْ شَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ هَذَا وَنَحْوُهُ

قَالَ : ( وَلَا يَسْتَطِيعُ رَبُّ السَّلَمِ أَنْ يَبِيعَ مَا أَسْلَمَ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ ) لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَبِيعٌ وَبَيْعُ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يَقْبِضْ } وَلَمَّا { بَعَثَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غِيَاثَ بْنَ أَسَدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَاضِيًا وَأَمِيرًا قَالَ : انْهَهُمْ عَنْ أَرْبَعَةٍ عَنْ بَيْعِ مَا لَمْ يَقْبِضُوا وَعَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنُوا وَعَنْ شَرْطَيْنِ فِي بَيْعٍ وَعَنْ بَيْعٍ وَسَلَفٍ } وَلِأَنَّ الْعَيْنَ أَقْبَلُ لِلتَّصَرُّفِ مِنْ الدَّيْنِ ثُمَّ الْمَبِيعُ الْعَيْنُ إذَا كَانَ مَنْقُولًا لَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ لِبَقَاءِ الْغَرَرِ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لِلتَّصَرُّفِ فَإِذَا كَانَ دَيْنًا أَوْلَى وَذَلِكَ الْغَرَرُ هُنَا قَائِمٌ فَإِنَّ الدَّيْنَ يُنْوَى بِفَوَاتِ مَحِلِّهِ يَعْنِي إذَا مَاتَ الْمَدْيُونُ مُفْلِسًا وَلِهَذَا تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ فَكَمَا لَا يَبِيعُ الْمُسْلَمُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يُشْرِكُ فِيهِ شَرِيكًا وَلَا يُوَلِّيهِ أَحَدًا لِأَنَّ التَّوْلِيَةَ تَمْلِيكُ مَا يُمْلَكُ بِمِثْلِ مَا مُلِكَ بِهِ وَالْإِشْرَاكُ تَمْلِيكُ مِثْلِ مَا مَلَكَهُ بِمِثْلِ نِصْفِ مَا مَلَكَ بِهِ فَكَمَا لَا يَجُوزُ هَذَا التَّصَرُّفُ مِنْهُ فِي الْكُلِّ لَا يَجُوزُ مِنْهُ فِي الْبَعْضِ

قَالَ : ( رَجُلٌ قَالَ : لِرَجُلِ أَسْلَمْتَ إلَيَّ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ ثُمَّ قَالَ : بَعْدَ مَا سَكَتَ وَلَكَنَّى لَمْ أَقْبِضْ الدَّرَاهِمَ مِنْكَ وَقَالَ رَبُّ السَّلَمِ بَلْ قَبَضْتَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ السَّلَمِ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ ) وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ ثَوْبًا .
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ السَّلَمَ اسْمٌ لِلْعَقْدِ وَإِقْرَارُهُ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالْقَبْضِ كَالْبَيْعِ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ : ابْتَعْتُ مِنْكَ كَذَا ثُمَّ قَالَ : لَمْ أَقْبِضْ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلْقَبْضِ وَالْآخَرُ يَدَّعِي عَلَيْهِ التَّسْلِيمَ فَجُعِلَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ فَكَذَا فِي السَّلَمِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : ذَلِكَ مَوْصُولًا بِكَلَامِهِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَلَوْ صَارَ بِالْإِقْرَارِ بِالسَّلَمِ مُقِرًّا بِالْقَبْضِ لَكَانَ هَذَا رُجُوعًا وَالرُّجُوعُ لَا يَعْمَلُ مَوْصُولًا كَانَ أَوْ مَفْصُولًا وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ : السَّلَمُ أَخْذُ عَاجِلٍ بِآجِلٍ فَمُطْلَقُهُ يَقْتَضِي الْإِقْرَارَ بِالْعَقْدِ وَالْقَبْضِ جَمِيعًا فَكَانَ قَوْلُهُ لَمْ أَقْبِضْهُ بَيَانًا فِيهِ تَغْيِيرٌ لِمُقْتَضَى مُطْلَقِ كَلَامِهِ وَالْبَيَانُ الْمُغَيِّرُ لِلَفْظِهِ صَحِيحٌ مَوْصُولًا بِكَلَامِهِ لَا مَفْصُولًا وَهَذَا تَخْصِيصٌ لِلَفْظِهِ الْعَامِّ وَالتَّخْصِيصُ مِمَّنْ لَا يَمْلِكُ الْإِبْطَالَ صَحِيحٌ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ قَالَ : فِي الْأَصْلِ وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ قَدْ أَعْطَيْتَنِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ أَوْ أَسْلَفْتَنِي أَوْ أَقْرَضْتَنِي عَشَرَةَ دَرَاهِمَ بِرُءُوسِهَا ثُمَّ قَالَ : لَمْ أَقْبِضْ وَالْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ فِي الْكُلِّ وَلَكِنْ مِنْ عَادَتِهِ الِاسْتِشْهَادُ بِالْأَوْضَحِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ جَارِيَةٍ بِعْتَنِيهَا ثُمَّ قَالَ : لَمْ أَقْبِضْهَا وَقَالَ : الْآخَرُ قَدْ قَبَضْتُ فَهُوَ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِي قَوْلِهِ لَمْ أَقْبِضْهَا وَصَلَ أَمْ قَطَعَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ أَوَّلًا إنْ وَصَلَ

يُصَدَّقُ وَإِنْ فَصَلَ لَمْ يُصَدَّقْ ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ : إذَا فَصَلَ يُسْأَلُ الْمُقِرُّ لَهُ عَنْ جِهَةِ الْمَالِ فَإِنْ أَقَرَّ بِجِهَةِ الْبَيْعِ وَقَالَ : قَدْ قَبَضْتُهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ إنِّي لَمْ أَقْبِضْهَا وَإِنْ قَالَ : الْمَالُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَالْمَالُ لَازِمٌ عَلَى الْمُقِرِّ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِرُجُوعٍ بَلْ تَفْسِيرٌ لِمَا أَبْهَمَهُ فِي الِابْتِدَاءِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى الْبَيْعِ فَالْبَائِعُ يَدَّعِي تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَالْمُشْتَرِي مُنْكِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ كَمَا لَوْ قَالَ : ابْتَعْتُ مِنْكَ جَارِيَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ قَالَ : لَمْ أَقْبِضْهَا أَوْ قَالَ : لَك عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثَمَنُ هَذِهِ الْجَارِيَةِ الَّتِي بِعْتَهَا مِنِّي وَلَمْ أَقْبِضْهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ الْمُقِرُّ لَهُ فِي الْجِهَةِ فَقَدْ أَقَرَّ بِوُجُوبِ الْمَالِ لَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ ادَّعَى مَا يُسْقِطْهُ فَلَا يُصَدَّقُ إذَا كَانَ مَفْصُولًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ لَمْ أَقْبِضْهَا بَيَانٌ مُغَيِّرٌ لِمُوجَبِ إقْرَارِهِ فَيَصِحُّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا كَالِاسْتِثْنَاءِ إذَا قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا مِائَةً أَوْ قَالَ : إلَّا وَزْنَ خَمْسَةٍ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ أَقَرَّ بِالْقَبْضِ ثُمَّ رَجَعَ وَالرُّجُوعُ بَاطِلٌ مَوْصُولًا كَانَ أَوْ مَفْصُولًا وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِكَوْنِ الْمَالِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ بِقَوْلِهِ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثَمَنُ جَارِيَةٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ وَثَمَنُ الْجَارِيَةِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ لَا يَكُونُ وَاجِبًا إلَّا بِالْقَبْضِ لِأَنَّ الَّتِي هِيَ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلَكَةِ وَثَمَنُ الْجَارِيَةِ الْمُسْتَهْلَكَةِ لَا يَكُونُ وَاجِبًا إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ أَقَرَّ بِالْقَبْضِ ثُمَّ رَجَعَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ ابْتَعْتُ فَهُنَالِكَ مَا أَقَرَّ بِأَنَّ الْمَالَ وَاجِبٌ فِي ذِمَّتِهِ إنَّمَا أَقَرَّ بِالِابْتِيَاعِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالْقَبْضِ

وَبِخِلَافِ قَوْلِهِ ثَمَنُ هَذِهِ الْجَارِيَةِ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَقَرَّ بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ بِمُقَابَلَةِ جَارِيَةٍ مُعَيَّنَةٍ وَثَمَنُ الْجَارِيَةِ الْمُعَيَّنَةِ يَكُونُ وَاجِبًا قَبْلَ الْقَبْضِ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِالْمَالِ وَادَّعَى لِنَفْسِهِ أَجَلًا غَيْرَ مُتَنَاهٍ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ الثَّمَنِ إلَّا بَعْدَ إحْضَارِ الْبَائِعِ الْمَبِيعَ وَمَا مِنْ جَارِيَةٍ يُحْضِرُهَا الْبَائِعُ إلَّا وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَقُولَ الْمَبِيعَةُ غَيْرُهَا وَلَوْ ادَّعَى لِنَفْسِهِ أَجَلًا مَعْلُومًا كَشَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ وَصَلَ أَوْ فَصَلَ فَهُنَا أَوْلَى بِخِلَافِ الْجَارِيَةِ الْمُعَيَّنَةِ فَإِنَّ هُنَاكَ مَا ادَّعَى لِنَفْسِهِ أَجَلًا لِأَنَّهَا حَاضِرَةٌ وَإِنَّمَا أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمَالِ بِشَرْطِ أَنْ يُسْلِمَ لَهُ تِلْكَ الْجَارِيَةَ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُقِرَّ لَهُ لَوْ قَالَ : الْجَارِيَةُ جَارِيَتُكَ مَا بِعْتَهَا وَلِي عَلَيْكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ يَلْزَمُهُ الْمَالُ وَلَوْ قَالَ : الْجَارِيَةُ جَارِيَتِي وَلِي عَلَيْكَ الْمَالُ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُسْلِمْ لَهُ شَرْطَهُ

قَالَ : ( وَإِذَا أَسْلَمَ الرَّجُلُ إلَى رَجُلٍ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ فَأَعْطَاهُ كُرًّا بِغَيْرِ كَيْلٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ وَلَا يَأْكُلَهُ حَتَّى يَكْتَالَهُ ) لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ مَبِيعٌ وَإِنَّمَا اشْتَرَاهُ رَبُّ السَّلَمِ بِذِكْرِ الْكُرِّ فَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ حَتَّى يَكْتَالَهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ صَاعَانِ صَاعُ الْبَائِعِ وَصَاعُ الْمُشْتَرِي } يَعْنِي إذَا اشْتَرَاهُ بِشَرْطِ الْكَيْلِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَكْتَفِيَ بِكَيْلِ الْبَائِعِ وَلَا يَتَصَرَّفُ فِيهِ بَعْدَ الْقَبْضِ حَتَّى يَكِيلَهُ وَهَذَا لِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْقَدْرُ الْمُسَمَّى وَلَا يَعْلَمُ ذَلِكَ إلَّا بِالْكَيْلِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَالَهُ فَوَجَدَهُ أَزْيَدَ يَلْزَمُهُ رَدُّ الزِّيَادَةِ وَتَصْرِفُهُ مِنْ حَيْثُ الْأَكْلُ وَالْبَيْعُ بِحُكْمِ الْمِلْكِ فَمَا لَمْ يَتَعَيَّنْ مِلْكُهُ بِمَعْرِفَةِ الْمِقْدَارِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ وَإِنْ هَلَكَ عِنْدَهُ وَهُوَ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ كُرٌّ وَافٍ فَهُوَ مُسْتَوْفٍ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ عَلَى وَجْهِ التَّمَلُّكِ بِعَقْدِ السَّلَمِ فَيَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ وَقَدْ هَلَكَ عِنْدَهُ فَيَلْزَمُهُ مِثْلُهُ وَقَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ كُرًّا فَيَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ لِأَنَّ مَا فِي الْمُقَاصَّةِ آخِرُ الدَّيْنَيْنِ قَضَاءً عَنْ أَوَّلِهِمَا وَآخِرُهُ دَيْنُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فَيَصِيرُ رَبُّ السَّلَمِ مُقْتَضِيًا طَعَامَ السَّلَمِ بِهِ وَلِأَنَّ الْقَبْضَ تَلَاقِي الْعَيْنِ وَاسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ الْعَيْنِ فَإِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ كُرًّا فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ بِقَبْضِهِ صَارَ مُسْتَوْفِيًا لِحَقِّهِ وَهَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ فَأَمَّا فِي الْمَذْرُوعَاتِ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ قَبْلَ الذَّرْعِ لِأَنَّ الذَّرْعَ صِفَةٌ حَتَّى لَوْ وَجَدُوهُ أَزْيَدَ يُسْلِمُ لَهُ الزِّيَادَةَ وَلَوْ وَجَدَهُ أَنْقَصَ لَا يَحُطُّ شَيْئًا مِنْ الثَّمَنِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمِلْكَ

بِالْعَقْدِ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ فِي الْعَيْنِ وَقَدْ تَمَّ قَبْضُهُ فِي الْعَيْنِ وَفِي الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ أَظْهَرُ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَتَصَرَّفُ قَبْلَ الْعَدِّ فِي الْعَدَدِيَّاتِ مِقْدَارٌ كَالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ حَتَّى لَوْ وَجَدَهُ زَائِدًا لَا يُسْلِمُ لَهُ الزِّيَادَةَ وَلَوْ وَجَدَهُ أَنْقَصَ يَحُطُّ حِصَّةَ النُّقْصَانِ مِنْ الثَّمَنِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ جَوَّزَ التَّصَرُّفَ فِيهِ قَبْلَ الْعَدِّ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِأَنَّ بِصِفَةِ الْعَدَدِ لَا يَصِيرُ مَالُ الرِّبَا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الذَّرْعِ فِي الْمَذْرُوعَاتِ وَالزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ لَا يَتَحَقَّقَانِ فِيهِ إلَّا بِغَلَطٍ فِي الْعَدَدِ بِخِلَافِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ هُنَاكَ يَظْهَرَانِ بِاجْتِهَادٍ مِنْ الْكَيَّالِ وَالْوَزَّانِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَيَقَّنَ بِالْخَطَأِ فِيهِ وَهُنَا الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ لَا يَظْهَرَانِ إلَّا بِغَلَطٍ فِي الْعَدِّ فَكَانَ الْعَقْدُ مُتَنَاوِلًا لِلْعَيْنِ فَيَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ قَبْلَ الْعَدِّ كَمَا فِي الْمَذْرُوعَاتِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمَقْصُودَ عَلَيْهِ فِي الْعَدَدِيَّاتِ الْعَدَدُ لِأَنَّهُ مِقْدَارٌ كَالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَجَدَهُ أَزِيدُ لَا يُسْلِمُ لَهُ الزِّيَادَةَ وَلَوْ وَجَدَهُ أَنْقَصَ يَحُطُّ بِحِصَّةِ النُّقْصَانِ مِنْ الثَّمَنِ فَصَارَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْقَدْرَ وَالْقَدْرُ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِالْعَدِّ إلَّا أَنَّهُ لَا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا لِأَنَّهُ صَارَ عَدَدِيًّا بِاصْطِلَاحِ النَّاسِ لَا بِجَعْلِ الشَّرْعَ أَمْثَالًا مُتَسَاوِيَةً فَإِذَا بَاعَ جَوْزَةً بِجَوْزَتَيْنِ فَقَدْ أَعْرَضَا عَنْ ذَلِكَ الِاصْطِلَاحِ وَمَا ثَبَتَ بِاصْطِلَاحِ النَّاسِ يَبْطُلُ بِاصْطِلَاحِهِمْ أَيْضًا بِخِلَافِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ

قَالَ : ( وَإِنْ اشْتَرَى الْمُسْلَمُ إلَيْهِ مِنْ رَجُلٍ كُرًّا ثُمَّ قَالَ : لِرَبِّ السَّلَمِ اقْبِضْهُ قَبْلَ أَنْ يَكْتَالَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي فَلَيْسَ يَنْبَغِي لِرَبِّ السَّلَمِ أَنْ يَقْبِضَهُ حَتَّى يَكْتَالَهُ الْمُشْتَرِي ) لِأَنَّ فِي هَذَا الْقَبْضِ وَكِيلَ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فَكَمَا أَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ لَوْ قَبْضَ بِنَفْسِهِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَكِيلَهُ فَكَذَلِكَ إذَا قَبَضَهُ وَكِيلُهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَكْتَالَهُ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ بِحُكْمِ الشِّرَاءِ ثُمَّ يَكِيلُهُ ثَانِيًا لِلْقَبْضِ بِنَفْسِهِ بِحُكْمِ السَّلَمِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِكَيْلِهِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ نَائِبٌ عَنْ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فَكَأَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ سَلَّمَهُ إلَيْهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَكْتَالَهُ لِنَفْسِهِ بِحُكْمِ السَّلَمِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى يَجْرِيَ فِيهِ الصَّاعَانِ أَيْ إذَا تَلَقَّاهُ الْبَائِعُ مِنْ غَيْرِهِ بِشَرْطِ الْكَيْلِ وَلَقَّاهُ غَيْرَهُ بِشَرْطِ الْكَيْلِ وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي فَصْلٍ وَهُوَ مَا إذَا اشْتَرَى طَعَامًا مُكَايَلَةً فَكَالَهُ الْبَائِعُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمُشْتَرِي ثُمَّ سَلَّمَهُ إلَيْهِ فَمِنْهُمْ مِنْ يَقُولُ لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَكْتَفِيَ بِذَلِكَ الْكَيْلِ وَلَكِنَّهُ يَكِيلُهُ مَرَّةً أُخْرَى اسْتِدْلَالًا بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَكِيلُ الْبَائِعِ بِحَضْرَتِهِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ كَيْلِهِ بِنَفْسِهِ وَالْأَصَحُّ لَهُ أَنْ يَكْتَفِيَ بِذَلِكَ الْكَيْلِ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْكَيْلِ بِحُكْمِ عَقْدِهِ فَفَعَلَ الْبَائِعُ بِحَضْرَتِهِ كَفِعْلِهِ بِنَفْسِهِ وَفِي مَسْأَلَةِ السَّلَمِ اسْتِحْقَاقُ الْأَوَّلِ بِالْكَيْلِ كَانَ بِالشِّرَاءِ فَلَا يَنُوبُ ذَلِكَ عَنْ الْكَيْلِ الْمُسْتَحَقِّ بِالسَّلَمِ فَلِهَذَا يَلْزَمُهُ الْكَيْلُ مَرَّةً أُخْرَى فَإِنْ دَفَعَ الْمُسْلَمُ إلَيْهِ إلَى رَبِّ السَّلَمِ دَرَاهِمَ فَقَالَ : اشْتَرِ لِي بِهَا طَعَامًا فَاقْبِضْهُ لِي بِكَيْلٍ ثُمَّ كِلْهُ لِنَفْسِكَ بِكَيْلٍ مُسْتَقْبِلٍ كَانَ جَائِزًا لِأَنَّهُ وَكِيلُ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ فِي الشِّرَاءِ لَهُ وَفِعْلُ

الْوَكِيلِ كَفِعْلِ الْمُوَكِّلِ فَكَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ أَمَرَ رَبُّ السَّلَمِ بِقَبْضِهِ وَهِيَ الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى

وَلَوْ قَالَ رَبُّ السَّلَمِ لِلْمُسْلَمِ إلَيْهِ : كُلُّ مَا لِي عَلَيْكَ مِنْ الطَّعَامِ فَاعْزِلْهُ فِي بَيْتِكَ أَوْ فِي غَرَائِرِكَ فَفَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ رَبُّ السَّلَمِ قَابِضًا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ اقْبِضْهُ لِي بِيَسَارِكَ مِنْ يَمِينِكَ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُسْلَمَ فِيهِ دَيْنٌ عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ وَالْمَدْيُونُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ نَائِبًا عَنْ صَاحِبِ الدَّيْنِ فِي قَبْضِ الدَّيْنِ مِنْ نَفْسِهِ وَلَوْ وَكَّلَ رَبُّ السَّلَمِ بِقَبْضِ ذَلِكَ غُلَامَ الْمُسْلَمِ إلَيْهِ أَوْ ابْنَهُ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ يَصْلُحُ نَائِبًا عَنْ رَبِّ السَّلَمِ فِي قَبْضِ حَقِّهِ وَهُوَ فِي ذَلِكَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ وَالْإِنْسَانُ يَصِيرُ قَابِضًا حَقَّهُ بِيَدِ نَائِبِهِ كَمَا يَصِيرُ قَابِضًا بِيَدِ نَفْسِهِ ، قَالَ : ( وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ غَرَائِرَهُ فَقَالَ : كُلُّ مَالِي عَلَيْكَ اجْعَلْهُ فِي غَرَائِرِي فَفَعَلَ ذَلِكَ وَرَبُّ السَّلَمِ لَيْسَ بِحَاضِرٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قَبْضًا ) وَفَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا اشْتَرَى مِنْهُ طَعَامًا بِعَيْنِهِ عَلَى أَنَّهُ كُرٌّ ثُمَّ دَفَعَ إلَيْهِ غَرَائِرَهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَكِيلَهُ فِيهَا فَفَعَلَ فَإِنَّهُ يَصِيرُ قَابِضًا وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إنَّ الْقَبْضَ فِي بَابِ السَّلَمِ مُوجَبٌ بِمِلْكِ الْعَيْنِ وَغَرَائِرُهُ لَا تَصْلُحُ نَائِبَةً عَنْهُ فِي تَمْلِكْ الْعَيْنِ وَفِي بَابِ الشِّرَاءِ قَدْ مَلَكَ الْعَيْنَ بِالْعَقْدِ وَإِنَّمَا الْقَبْضُ لِلْإِحْرَازِ وَالْغَرَائِرُ تَصْلُحُ نَائِبَةً عَنْهُ فِي الْإِحْرَازِ وَالثَّانِي أَنَّ أَمْرَهُ بِالْكَيْلِ فِي غَرَائِرِهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِنَفْسِهِ فِي السَّلَمِ لِأَنَّ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ إنَّمَا يَكِيلُ مِلْكَ نَفْسِهِ وَلَهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ وِلَايَةُ الْكَيْلِ مِنْ غَيْرِ إذْنِهِ فَأَمَّا فِي الشِّرَاءِ إذْنُهُ مُعْتَبَرٌ فِي الْكَيْلِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكِيلُ مِلْكَ الْمُشْتَرِي وَلَهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ إذْنٌ مُعْتَبَرٌ فَكَانَ كَيْلُهُ فِي غَرَائِرِهِ كَكَيْلِ الْمُشْتَرِي بِنَفْسِهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَمَرَ الْمُسْلَمَ إلَيْهِ بِأَنْ يَطْحَنَ مَا عَلَيْهِ مِنْ طَعَامِ السَّلَمِ فَفَعَلَ ذَلِكَ كَانَ الدَّقِيقُ لَهُ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96