كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
الْعَيْنِ لِنَفْسِهِ ، فَإِنَّ الدَّرَاهِمَ تَتَعَيَّنُ فِي الْغَصْبِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْغَاصِبُ إمْسَاكَ الْعَيْنِ وَرَدَّ الْمِثْلِ ، وَحَقُّ الْغَرِيمِ إنَّمَا كَانَ فِي ذِمَّةِ الْمَيِّتِ فَيَتَعَلَّقُ بَعْدَ مَوْتِهِ بِمَالِهِ دُونَ مَالِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ .
وَإِنْ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنْ هَذَا ثَوْبُهُ غَصَبَهُ ذُو الْيَدِ ، وَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ ذَا الْيَدِ أَقَرَّ بِهِ لَهُ أَقْضِي بِهِ لِلَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ثَوْبُهُ غَصَبَهُ إيَّاهُ ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ بِالْبَيِّنَةِ ، وَأَثْبَتَ أَنَّ ذَا الْيَدِ كَانَ غَاصِبًا ، وَالْآخَرُ إنَّمَا أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ إقْرَارَ الْغَاصِبِ لَهُ بِالْمِلْكِ ، وَإِقْرَارُ الْغَاصِبِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْمَالِكِ .
( رَجُلٌ ) غَصَبَ ثَوْبَ رَجُلٍ فَأَوْدَعَهُ عِنْدَ آخَرَ فَهَلَكَ عِنْدَهُ فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يُضَمِّنَهُ أَيَّهُمَا شَاءَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَدٍّ فِي حَقِّهِ ، فَإِنَّ الْمَالِكَ غَيْرُ رَاضٍ بِقَبْضِ الْمُودِعِ فَهُوَ كَالْغَاصِبِ فِي حَقِّهِ ، فَإِنْ ضَمِنَ الْمُسْتَوْدِعُ رَجَعَ عَلَى الْغَاصِبِ بِمَا ضَمِنَ ؛ لِأَنَّهُ فِي حِفْظِ الْعَيْنِ كَانَ عَامِلًا لَهُ ، وَكَانَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ حِينَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ مِلْكُهُ ، وَأَنَّهُ لَا يَغْرَمُ شَيْئًا إنْ هَلَكَ فِي يَدِهِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ الْمُودَعَ إذَا رَدَّ الثَّوْبَ عَلَى الْغَاصِبِ أَوْ كَانَ غُصِبَ مِنْهُ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ هَلْ يَبْقَى لِلْمَالِكِ عَلَيْهِ سَبِيلٌ .
؟ .
( وَالْجَوَابُ ) أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لِلْمَالِكِ عَلَيْهِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَإِنَّهُ يَقُولُ : صَارَ ضَامِنًا لِلْمَالِكِ بِقَبْضِهِ ، فَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِالرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ أَوْ عَلَى مَنْ قَامَتْ يَدُهُ مَقَامَ يَدِ الْمَالِكِ ، وَيَدُ الْغَاصِبِ لَا تَقُومُ مَقَامَ يَدِ الْمَالِكِ ، فَلَا يَبْرَأُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ .
وَلَكِنَّا نَقُولُ : وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ ، وَقَدْ انْفَسَخَ ذَلِكَ حِينَ أَعَادَهُ إلَى يَدِ مَنْ ، وَصَلَتْ إلَيْهِ مِنْ جِهَتِهِ فَانْعَدَمَ بِهِ حُكْمُ يَدِهِ ، وَكَانَ هَذَا فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ رَدِّ الْغَاصِبِ عَلَى مَالِكِهِ .
( وَإِذَا ) قَالَ الرَّجُلُ لِآخَرَ : غَصَبْتَنِي هَذِهِ الْجُبَّةَ الْمَحْشُوَّةَ ، وَقَالَ الْغَاصِبُ : مَا غَصَبْتُكَهَا ، وَلَكِنْ غَصَبْتُكَ الظِّهَارَةَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ لِإِنْكَارِهِ مَا ادَّعَاهُ ، فَإِنَّهُ ادَّعَى غَصْبَ الْجُبَّةِ ، وَالظِّهَارَةُ لَيْسَتْ بِجُبَّةٍ ، وَلِأَنَّهُ مُنْكِرٌ الْغَصْبَ فِي الْبِطَانَةِ وَالْحَشْوِ ، وَلَوْ أَنْكَرَ الْغَصْبَ فِي الْكُلِّ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ ، ثُمَّ إذَا حَلَفَ يَضْمَنُ قِيمَةَ الظِّهَارَةِ لِإِقْرَارِهِ بِغَصْبِ الظِّهَارَةِ ، وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِ فَكَانَ غَايَتُهُ غَصْبَ الظِّهَارَةِ ، وَجَعْلَهَا جُبَّةً .
وَإِنْ قَالَ : غَصَبْتُكَ الْجُبَّةَ ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ : الْبِطَانَةُ ، وَالْحَشْوُ لِي لَمْ يُصَدَّقْ ؛ لِأَنَّهُ رَجَعَ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ ، فَاسْمُ الْجُبَّةِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : غَصَبْتُكَ هَذَا الْخَاتَمَ ، ثُمَّ قَالَ : فَصُّهُ لِي ، أَوْ هَذِهِ الدَّارَ ، ثُمَّ قَالَ : بِنَاؤُهَا لِي ، أَوْ هَذِهِ الْأَرْضَ ، ثُمَّ قَالَ : شَجَرُهَا لِي ، أَوْ أَنَا غَرَسْتُهَا لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ رَاجِعًا ، فَإِنَّ الْبِنَاءَ وَالشَّجَرَ تَبَعٌ لِلْأَصْلِ فَيَصِيرُ مَذْكُورًا بِذِكْرِ الْأَصْلِ ، وَيَثْبُتُ حُكْمُ الْغَصْبِ فِيهِ بِثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ ، وَالْفَصُّ فِي الْخَاتَمِ كَذَلِكَ فَيَكُونُ رَاجِعًا بِدَعْوَاهُ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ لِغَيْرِهِ .
وَإِنْ قَالَ : غَصَبْتُكَ هَذِهِ الْبَقَرَةَ ، ثُمَّ قَالَ : عُجُولُهَا لِي أَوْ قَالَ : هَذِهِ الْجَارِيَةَ ، ثُمَّ قَالَ : وَلَدُهَا لِي فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مُنْفَصِلٌ ، فَلَا يَكُونُ تَبَعًا لِلْأُمِّ ، فَإِقْرَارُهُ بِالْأَصْلِ لَا يَتَعَدَّى إلَيْهِ ، بِخِلَافِ الِاسْتِحْقَاقِ بِالْيَدِ عِنْدَنَا .
وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْفَرْقَ فِي الدَّعْوَى ، فَلَا يَكُونُ هُوَ فِي دَعْوَى الْوَلَدِ لِنَفْسِهِ مُنَاقِضًا بَلْ يَكُونُ مُتَمَسِّكًا بِمَا هُوَ الْأَصْلُ ، وَهُوَ أَنَّ مَا فِي يَدِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِلْكُهُ إلَّا مَا يُقِرُّ بِهِ لِغَيْرِهِ .
( رَجُلٌ ) غَصَبَ مِنْ رَجُلٍ ثَوْبًا ، ثُمَّ إنَّ الْغَاصِبَ كَسَا الثَّوْبَ رَبَّ الثَّوْبِ فَلَبَسَهُ حَتَّى تَخَرَّقَ ، وَلَمْ يَعْرِفْهُ ، فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْغَاصِبِ ، وَكَذَلِكَ الْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ إذَا غُصِبَ مِنْهُ ثُمَّ أَطْعَمَهُ إيَّاهُ بِعَيْنِهِ أَوْ وَهَبَهُ فَأَكَلَهُ وَلَمْ يَعْرِفْهُ ، فَالْغَاصِبُ بَرِيءٌ عَنْ الضَّمَانِ عِنْدَنَا ، وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَا يَبْرَأُ ؛ لِأَنَّهُ مَا أَتَى بِالرَّدِّ الْمَأْمُورِ بِهِ ، فَإِنَّهُ غُرُورٌ مِنْهُ ، وَالشَّرْعُ لَا يَأْمُرُ بِالْغُرُورِ ، وَالْغَاصِبُ لَا يَسْتَفِيدُ الْبَرَاءَةَ إلَّا بِالرَّدِّ .
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ يُوجَدُ صَارَ ضَامِنًا ، وَلِأَنَّهُ مَا أَعَادَ إلَى مِلْكِهِ كَمَا كَانَ ؛ لِأَنَّ الْمُبَاحَ لَهُ الطَّعَامُ لَا يَصِيرُ مُطْلَقَ التَّصَرُّفِ فِيمَا أُبِيحَ لَهُ ، فَكَانَ فِعْلُهُ قَاصِرًا فِي حُكْمِ الرَّدِّ ، فَلَوْ جَعَلْنَا هَذَا رَدًّا تَضَرَّرَ بِهِ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ إقْدَامٌ عَلَى الْأَكْلِ بِنَاءً عَلَى خَبَرِهِ أَنَّهُ أَكْرَمَ ضَيْفَهُ ، وَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ مِلْكُهُ رُبَّمَا لَمْ يَأْكُلْهُ ، وَحَمَلَهُ إلَى عِيَالِهِ فَأَكَلَهُ مَعَهُمْ فَلِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ بَقِيَ الضَّمَانُ عَلَى الْغَاصِبِ .
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْغَاصِبِ نَسْخُ فِعْلِهِ ، وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ .
أَمَّا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ فَلِأَنَّهُ ، وَصَلَ إلَى يَدِ الْمَالِكِ ، وَبِهِ يَنْعَدِمُ مَا كَانَ فَائِتًا .
وَمِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ فَلِأَنَّهُ صَارَ بِهِ مُتَمَكِّنًا مِنْ التَّصَرُّفِ حَتَّى لَوْ تَصَرَّفَ فِيهِ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ غَيْرَ أَنَّهُ جَهِلَ بِحَالِهِ ، وَجَهْلُهُ لَا يَكُونُ مُبْقِيًا لِلضَّمَانِ فِي ذِمَّةِ الْغَاصِبِ مَعَ تَحَقُّقِ الْعِلَّةِ الْمُسْقِطَةِ ، كَمَا أَنَّ جَهْلَ الْمُتْلِفِ لَا يَكُونُ مَانِعًا مِنْ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ مَعَ تَحَقُّقِ الْإِتْلَافِ إذَا كَانَ يَظُنُّ أَنَّهُ مِلْكُهُ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْغُرُورَ بِمُجَرَّدِ الْخَبَرِ لَا يُوجِبُ حُكْمًا ، إنَّمَا الْمُعْتَبَرُ مَا يَكُونُ فِي ضِمْنِ عَقْدِ ضَمَانٍ ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ ، فَإِنَّ
الْغَاصِبَ الْمُضِيفَ مَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ عِوَضًا ، وَلِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْبَابِ أَنْ لَا يَكُونَ فِعْلُ الْغَاصِبِ هُوَ الرَّدَّ الْمَأْمُورَ بِهِ ، وَلَكِنَّ تَنَاوُلَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَيْنَ الْمَغْصُوبِ كَافٍ فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ عَنْ الْغَاصِبِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ جَاءَ إلَى بَيْتِ الْغَاصِبِ ، وَأَكَلَ ذَلِكَ الطَّعَامَ بِعَيْنِهِ ، وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ مِلْكُ الْغَاصِبِ بَرِئَ الْغَاصِبُ مِنْ الضَّمَانِ ، فَكَذَلِكَ إذَا أَطْعَمَهُ الْغَاصِبُ إيَّاهُ ، وَإِنْ كَانَ الْغَاصِبُ قَدْ نَبَذَ التَّمْرَ ، ثُمَّ سَقَاهُ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلتَّمْرِ ؛ لِأَنَّهُ بَدَّلَ الْعَيْنَ بِمَا صَنَعَ ، وَتَقَرَّرَ ضَمَانُ التَّمْرِ فِي ذِمَّتِهِ ، فَسَقْيُ النَّبِيذِ إيَّاهُ لَا يَكُونُ رَدًّا لِلْعَيْنِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ ، وَلَا أَدَاءَ الضَّمَانِ .
وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُشْبِهُهُ كَالدَّقِيقِ إذَا خَبَزَهُ ثُمَّ أَطْعَمَهُ ، أَوْ اللَّحْمِ إذَا شَوَاهُ ثُمَّ أَطْعَمَهُ .
( قَالَ : ) وَكَذَلِكَ إذَا غَصَبَ حَدِيدًا فَجَعَلَهُ دِرْعًا فَهُوَ ضَامِنٌ لِحَدِيدِ مِثْلِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ ضَمِنَ قِيمَتَهُ .
وَكَذَلِكَ إذَا غَصَبَ صُفْرًا فَجَعَلَهُ كُوزًا ؛ لِأَنَّهُ غَيَّرَهُ عَنْ حَالِهِ ، وَصَارَ الْغَاصِبُ مُسْتَهْلِكًا ، وَهَذَا الْحَادِثُ حَادِثٌ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ لِتَبَدُّلِ الْعَيْنِ صُورَةً وَمَعْنًى وَاسْمًا وَحُكْمًا وَمَقْصُودًا ؛ فَلِهَذَا لَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْمَصْنُوعِ ، وَكَانَ الْكَرْخِيُّ يَقُولُ : هَذَا إذَا كَانَ بَعْدَ الصَّنْعَةِ لَا يُبَاعُ وَزْنًا ، أَمَّا إذَا كَانَ يُبَاعُ وَزْنًا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ حَقُّ أَخْذِ الْمَصْنُوعِ إنْ شَاءَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَمَا فِي الْبَقَرَةِ لِبَقَاءِ حُكْمِ الرِّبَا ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْجَوَابَ مُطْلَقٌ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْعَيْنِ قَدْ تَبَدَّلَ بِصُنْعِ الْغَاصِبِ ، بِخِلَافِ الْقُلْبِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ ، فَإِنْ كَسَرَ صَاحِبُ الصُّفْرِ الْكُوزَ بَعْدَ مَا ضَمِنَ لَهُ الْغَاصِبُ قِيمَةَ صُفْرِهِ فَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْكُوزِ صَحِيحَةً ؛ لِأَنَّ الْكُوزَ مَمْلُوكٌ لِلْغَاصِبِ ، وَهُوَ مِلْكٌ مُحْتَرَمٌ فَيَكُونُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الصُّفْرُ فِي كَسْرِهِ كَغَيْرِهِ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَسَرَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ لَهُ بِالْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ الْكُوزَ مَمْلُوكٌ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ حَادِثًا بِعَمَلِهِ فَيَكُونُ الْحَالُ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ ، وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ فِي حَقِّهِ إلَّا أَنَّهُ يُحَاسِبُهُ بِمَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ اسْتَوْجَبَ عَلَيْهِ قِيمَةَ الصُّفْرِ ، وَالْغَاصِبَ اسْتَوْجَبَ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْكُوزِ فَيَتَقَاصَّانِ وَيَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ ، فَإِنْ غَصَبَ فِضَّةً فَضَرَبَهَا دَرَاهِمَ أَوْ صَاغَهَا إنَاءً فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هَذَا وَالْحَدِيدُ وَالصُّفْرُ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ تَبَدَّلَ بِصَنْعَةِ الْغَاصِبِ ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ ، فَإِنَّ الْبَقَرَةَ لَا تَصْلُحُ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ ، وَالْمُضَارَبَةُ وَالدَّرَاهِمُ تَصْلُحُ لِذَلِكَ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الْإِعَادَةِ ، فَإِنَّ هَذَا مَوْجُودٌ فِي
الْحَدِيدِ وَالصُّفْرِ ، ثُمَّ جَعَلَ هُنَاكَ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ ، وَجَعَلَ الْإِنَاءَ حَادِثًا بِعَمَلِ الْغَاصِبِ ، فَهَذَا مِثْلُهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ هُنَا لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَهَا ، وَلَا أَجْرَ لِلْغَاصِبِ ، وَعَلَّلَ فَقَالَ : لِأَنَّهُ فِضَّةٌ بِعَيْنِهَا لَا تَخْرُجُ مِنْ الْوَزْنِ بِخِلَافِ الْحَدِيدِ وَالصُّفْرِ .
وَبِهَذَا الْحَرْفِ يَسْتَدِلُّ الْكَرْخِيُّ فِي تَقْسِيمِ الْجَوَابِ هُنَاكَ ، ثُمَّ مَعْنَى هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّ اسْمَ الْعَيْنِ لَا يَتَبَدَّلُ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْعَيْنِ هُوَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ ، وَهُوَ يَبْقَى بَعْدَ الصَّنْعَةِ إنَّمَا يَتَبَدَّلُ اسْمُ الصَّنْعَةِ ، فَإِنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ اسْمُ الصَّنْعَةِ ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْعَيْنِ بَاقٍ ، فَإِنَّ حُكْمَ الْعَيْنِ أَنَّهُ مَوْزُونٌ ، وَيَجْرِي فِيهِ الرِّبَا بِعِلَّةِ الْوَزْنِ ، وَتَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ ، فَأَمَّا صَلَاحِيَّةُ رَأْسِ مَالِ الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ فَهُوَ حُكْمُ الصَّنْعَةِ لَا حُكْمَ الْعَيْنِ ؛ وَلِهَذَا يَقُولُ مَا لَا يَتَفَاوَتُ مِنْ الْفُلُوسِ الرَّائِجَةِ فِي هَذَا الْحُكْمِ كَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ ، فَإِذَا بَقِيَ اسْمُ الْعَيْنِ وَحُكْمُ الْعَيْنِ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلَ بَقَاءِ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبِ ، وَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَخْذُهُ إنَّمَا يَتَعَذَّرُ لِلصَّنْعَةِ ، وَلَا قِيمَةَ لِلصَّنْعَةِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ مُنْفَرِدَةً مِنْ الْأَصْلِ ، وَبِهِ فَارَقَ الْحَدِيدَ وَالصُّفْرَ ، فَإِنَّ الصَّنْعَةَ هُنَاكَ تُخْرِجُهَا مِنْ الْوَزْنِ ، وَمِنْ أَنْ تَكُونَ مَالَ الرِّبَا ، وَلِلصَّنْعَةِ فِي غَيْرِ مَالِ الرِّبَا قِيمَةٌ مَعَ أَنَّ اسْمَ الْعَيْنِ وَحُكْمَهُ قَدْ تَبَدَّلَ هُنَاكَ كَمَا قَرَّرَنَا .
وَإِنْ غَصَبَ حِنْطَةً فَاسْتَهْلَكَهَا ، ثُمَّ بَاعَهُ بِهَا شَعِيرًا أَوْ غَيْرَهُ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ أَوْ مِنْ الْعُرُوضِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، فَلَا بَأْسَ بِهِ يَدًا بِيَدٍ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مِثْلُ الْحِنْطَةِ فِي ذِمَّتِهِ ، وَبَيْعُ الْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ جَائِزٌ كَيْفَمَا كَانَ ، وَلَوْ كَانَتْ الْحِنْطَةُ عَيْنًا فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ ذَلِكَ دَيْنًا إلَّا أَنَّ الدَّيْنَ بِالدَّيْنِ حَرَامٌ ، فَيُشْتَرَطُ قَبْضُ مَا يُقَابِلُهَا فِي الْمَجْلِسِ ، فَلَا تَنْعَدِمُ الدَّيْنِيَّةُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ .
وَكَذَلِكَ إنْ أَقْرَضَهُ طَعَامًا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا بَدَا لَهُ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالسَّلَمِ يُرِيدُ بِهِ أَنَّ الِاسْتِبْدَالَ بِالْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ ، وَالْمُسْلَمُ فِيهِ فِي حُكْمِ الْمَبِيعِ ، فَأَمَّا بَدَلُ الْقَرْضِ وَالْغَصْبِ لَيْسَ فِي حُكْمِ الْمَبِيعِ حَتَّى يَجُوزَ إسْقَاطُ الْقَبْضِ فِيهِ أَصْلًا فِي الْإِبْرَاءِ ، فَكَذَلِكَ فِي الِاسْتِبْدَالِ بِهِ كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ .
وَإِذَا غَصَبَ رَجُلٌ دَابَّةً مِنْ رَجُلٍ فَأَقَامَ صَاحِبُهَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا نَفَقَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ وَأَقَامَ الْغَاصِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَدْ رَدَّهَا إلَيْهِ وَأَنَّهَا نَفَقَتْ عِنْدَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا خِلَافَ أَبِي يُوسُفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَأَنَّ بَيِّنَةَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِطَرِيقِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ ، وَبَيِّنَةَ الْغَاصِبِ وَافَقَتْ عَلَى أَمْرٍ هُوَ حَادِثٌ ، وَهُوَ الرَّدُّ فَكَانَتْ أَوْلَى بِالْقَبُولِ .
( مُسْلِمٌ ) غَصَبَ مِنْ نَصْرَانِيٍّ خَمْرًا فَاسْتَهْلَكَهَا فَعَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهَا عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ الْخِنْزِيرُ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ ، وَلَا يَضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ حَقًّا لِلْمُسْلِمِ فَكَذَلِكَ لِلذِّمِّيِّ ؛ لِأَنَّ حُقُوقَهُمْ دُونَ حُقُوقِنَا ، وَهَذَا لِأَنَّا بِعَقْدِ الذِّمَّةِ إنَّمَا ضَمَنَّا تَرْكَ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ، وَإِيجَابُ ضَمَانِ الْقِيمَةِ عَلَى الْمُتْلِفِ أَمْرٌ وَرَاءَ ذَلِكَ ، تَحَقُّقُ هَذَا أَنَّ تَرْكَ التَّعَرُّضِ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ ، وَلَكِنَّ اعْتِقَادَهُمْ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُسْلِمِ الْمُتْلِفِ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّهِمْ ؛ وَلِهَذَا لَا نَحُدُّهُمْ عَلَى شُرْبِهَا ، وَلَا نَدَعُ أَحَدًا يَتَعَرَّضُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ ، وَلَا يَتَعَرَّضُ لَهُمْ فِي الْأَنْكِحَةِ أَيْضًا .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ اعْتِقَادَهُمْ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْغَيْرِ ، إنَّ الْمَجُوسِيَّ إذَا مَاتَ عَنْ ابْنَتَيْنِ إحْدَاهُمَا امْرَأَتُهُ ، فَإِنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ بِالزَّوْجِيَّةِ شَيْئًا ، وَلَمْ يُجْعَلْ اعْتِقَادُهُمْ مُعْتَبَرًا فِي اسْتِحْقَاقِ التَّفْضِيلِ بِشَيْءٍ مِنْ الْمِيرَاثِ عَلَى الْأُخْرَى .
وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْمُرْتَدُّ لَا يَضْمَنُ لِلذِّمِّيِّ بِالْإِتْلَافِ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ ، وَأَنَّهُ مُحِقٌّ فِي اعْتِقَادِهَا ، ثُمَّ لَمْ يَصِرْ اعْتِقَادُهُ حُجَّةً فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُتْلِفِ ، إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يَتَعَرَّضُ لَهُ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّا بِعَقْدِ الذِّمَّةِ مَا ضَمِنَّا تَرْكَ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ .
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حِينَ سَأَلَ عُمَّالَهُ مَاذَا تَصْنَعُونَ بِمَا يَمُرُّ بِهِ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ الْخَمْرِ فَقَالُوا : نُعَشِّرُهَا فَقَالَ : لَا تَفْعَلُوا ، وَلَوْ هَمَّ بِبَيْعِهَا ، وَخُذُوا الْعُشْرَ مِنْ أَثْمَانِهَا فَقَدْ جَعَلَهَا مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي
حَقِّهِمْ حَيْثُ جَوَّزَ بَيْعَهَا ، وَأَمَرَ بِأَخْذِ الْعُشْرِ مِنْ الثَّمَنِ .
وَذَكَرَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَتَبَ إلَى عُمَّالِهِ أَنْ اُقْتُلُوا خَنَازِيرَ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَاحْتَسِبُوا لِأَصْحَابِهَا بِقِيمَتِهَا مِنْ الْجِزْيَةِ فَهَذَا تَنْصِيصٌ مِنْهُ عَلَى أَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِمْ يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ عَلَيْهِمْ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْخَمْرَ كَانَ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي شَرِيعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا ، وَكَذَلِكَ فِي شَرِيعَتِنَا فِي الِابْتِدَاءِ ، ثُمَّ إنَّ الشَّرْعَ أَفْسَدَ تَقَوُّمَهُ بِخِطَابٍ خَاصٍّ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ حَيْثُ قَالَ : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ } إلَى قَوْله تَعَالَى : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } فَبَقِيَ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ هَذَا الْخِطَابِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ قَبْلُ .
هَذَا مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ ، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَنَّ حُرْمَةَ الْعَيْنِ وَفَسَادَ التَّقَوُّمِ ثَبَتَ بِخِطَابِ الشَّرْعِ ، وَقَدْ أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ ، وَمَا يَدِينُونَ لِمَكَانِ عَقْدِ الذِّمَّةِ فَقَصَرَ الْخِطَابُ عَنْهُمْ حِينَ لَمْ يَعْتَقِدُوا الرِّسَالَةَ فِي الْمَبْلَغِ ، وَانْقَطَعَتْ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ بِالسَّيْفِ وَالْمُحَاجَّةِ لِمَكَانِ عَقْدِ الذِّمَّةِ ، وَيَصِيرُ فِي حَقِّهِمْ كَأَنَّ الْخِطَابَ غَيْرُ نَازِلٍ فَيَبْقَى الْحُكْمُ عَلَى مَا كَانَ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ مَا نَزَلَ خِطَابُ التَّحْرِيمِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِهِ لَمْ يَكُنْ مُعَاتَبًا بِذَلِكَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } الْآيَةَ .
وَكَذَلِكَ أَهْلُ قُبَاءَ كَانُوا يُصَلُّونَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ مَا نَزَلَتْ فَرِيضَةُ التَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ ، وَجَازَ ذَلِكَ مِنْهُمْ كَأَنَّ الْخِطَابَ غَيْرُ نَازِلٍ حِينَ لَمْ يَبْلُغْهُمْ ، فَهَذَا مِثْلُهُ أَيْضًا وَأَمْرُ الْأَنْكِحَةِ عَلَى هَذَا ، وَلَيْسَ فِي هَذَا
تَوْسِعَةُ الْأَمْرِ عَلَيْهِمْ بَلْ فِيهِ اسْتِدْرَاجٌ وَتَرْكٌ لَهُمْ عَلَى الْجَهْلِ ، وَتَمْهِيدٌ بِعُقُوبَةِ الْآخِرَةِ وَالْخُلُودِ فِي النَّارِ ، وَتَحْقِيقٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الدُّنْيَا سِجْنُ الْمُؤْمِنِ وَجَنَّةُ الْكَافِرِ } وَبِهَذَا تَبَيَّنَ فَسَادُ مَا قَالَ : أَنَّ اعْتِقَادَهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُتْلِفِ ؛ لِأَنَّا لَا نُوجِبُ الضَّمَانَ بِاعْتِبَارِ اعْتِقَادِهِ ، وَلَكِنْ يَبْقَى مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ ، وَهُوَ الْمَالِيَّةُ وَالتَّقَوُّمُ .
ثُمَّ وُجُوبُ الضَّمَانِ بِالْإِتْلَافِ لَا يَكُونُ بِهِ الْمَحِلُّ مَالًا مُتَقَوِّمًا ، وَلَكِنَّ شَرْطَ سُقُوطِ الضَّمَانِ بِالْإِتْلَافِ انْعِدَامُ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ فِي الْمَحِلِّ ، وَهَذَا الشَّرْطُ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهِمْ مَعَ أَنَّا لَمَّا ضَمِنَّا بِعَقْدِ الذِّمَّةِ تَرْكَ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فَقَدْ الْتَزَمْنَا حِفْظَهَا وَحِمَايَتَهَا لَهُمْ ، وَالْعِصْمَةُ وَالْإِحْرَازُ تَتِمُّ بِهَذَا الْحِفْظِ ، وَوُجُوبُ الضَّمَانِ بِالْإِتْلَافِ يَنْبَنِي عَلَى ذَلِكَ ، فَكَانَ هَذَا مِنْ ضَرُورَةِ مَا ضَمِنَّاهُ بِعَقْدِ الذِّمَّةِ ، بِخِلَافِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ فَإِنَّا مَا ضَمِنَّا لَهُمْ تَرْكَ التَّعَرُّضِ فِي ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ بِالدِّينِ ، وَكَانَ نَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ الْعُقُودِ الرِّبَا ، فَإِنَّهُ يَتَعَرَّضُ لَهُمْ فِي إبْطَالِ عُقُودِ الرِّبَا بَيْنَهُمْ ؛ لِأَنَّا لَمْ نَضْمَنْ لَهُمْ تَرْكَ التَّعَرُّضِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إلَّا مَنْ أَرْبَى فَلَيْسَ بَيْنَنَا ، وَبَيْنَهُ عَهْدٌ } وَهَذَا لِأَنَّ ذَلِكَ فِسْقٌ مِنْهُمْ فِي الِاعْتِقَادِ ، وَلَا دِيَانَةَ فَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ حُرْمَةُ الرِّبَا فِي اعْتِقَادِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ } وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي مَوْقُوذَةِ الْمَجُوسِيِّ الصَّحِيحُ أَنَّ الْمُسْلِمَ يَضْمَنُهَا لَهُ بِالْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُهَا كَالْمَيْتَةِ
وَالدَّمِ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمَالٍ فِي اعْتِقَادِ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَقَدْ أُمِرْنَا أَنْ نَبْنِيَ أَحْكَامَ الْمَجُوسِ عَلَى أَحْكَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { سُنُّوا بِالْمَجُوسِ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ } الْحَدِيثَ ، إلَّا أَنَّ هَذَا ضَعِيفٌ ، فَإِنَّا فِي حُكْمِ الْأَنْكِحَةِ اعْتَبَرْنَا اعْتِقَادَ الْمَجُوسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ نَبْنِيَ ذَلِكَ عَلَى اعْتِقَادِ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَالْعُذْرُ عَنْ فَضْلِ الْمِيرَاثِ بِالزَّوْجِيَّةِ بَيَّنَّاهُ فِي النِّكَاحِ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ بِصِحَّةِ النِّكَاحِ اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ ، وَهَذَا كُلُّهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَتْلَفَ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا عَلَى شَفْعَوِيِّ الْمَذْهَبِ ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِلْزَامِ بِالْمُحَاجَّةِ ، وَالدَّلِيلُ هُنَا ثَابِتٌ ، وَقَدْ ثَبَتَ لَنَا بِالنَّصِّ أَنَّ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ حَرَامٌ لَيْسَ بِمَالٍ ، فَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ اعْتِقَادُهُمْ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ .
( وَلَوْ ) غَصَبَ نَصْرَانِيٌّ مِنْ نَصْرَانِيٍّ خَمْرًا فَاسْتَهْلَكَهَا فَعَلَيْهِ مِثْلُهَا لِأَنَّ الْخَمْرَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، وَالْمَصِيرُ إلَى الْقِيمَةِ فِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ أَدَاءِ الْمِثْلِ ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ دُونَ النَّصْرَانِيِّ ؛ لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى تَمْلِيكِ الْخَمْرِ مِنْ غَيْرِهِ بِعِوَضٍ ؛ وَلِهَذَا جَازَتْ الْمُبَايَعَةُ بِالْخَمْرِ فِيمَا بَيْنَهُمْ ، وَإِنْ أَسْلَمَ الطَّالِبُ بَعْدَ مَا قُضِيَ لَهُ بِمِثْلِهَا ، فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الْمُسْتَهْلِكِ ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ .
وَلَوْ احْتَبَسَ عَيْنَهَا عِنْدَ النَّصْرَانِيِّ لَهُ بِالْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ لَمْ يُضَمِّنْهُ شَيْئًا ، فَكَذَلِكَ إذَا احْتَبَسَ مَا صَارَ دَيْنًا مِنْهَا ، وَلَكِنَّهُ بِإِسْلَامِهِ يَكُونُ مُبَرِّئًا لَهُ عَمَّا كَانَ لَهُ فِي ذِمَّتِهِ مِنْ الْخَمْرِ ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِفِعْلِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَقِّهِ ، وَمِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَمَكِّنًا مِنْ قَبْضِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَسْلَمَا مَعًا ؛ لِأَنَّ فِي إسْلَامِهِمَا إسْلَامَ الطَّالِبِ ، وَلَوْ أَسْلَمَ الْمَطْلُوبُ وَحْدَهُ أَوْ أَسْلَمَ الْمَطْلُوبُ ثُمَّ الطَّالِبُ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ رِوَايَتُهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْجَوَابُ كَذَلِكَ ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهُوَ رِوَايَةُ عَافِيَةَ وَزُفَرَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ قِيمَةُ الْخَمْرِ .
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْإِسْلَامَ الطَّارِئَ بَعْدَ تَقَرُّرِ سَبَبِ الضَّمَانِ يُجْعَلُ كَالْمُقْتَرِنِ بِالسَّبَبِ .
كَمَا أَنَّ الْإِسْلَامَ الطَّارِئَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ يُجْعَلُ كَالْمُقْتَرِنِ بِالْعَقْدِ ، ثُمَّ اقْتِرَانُ إسْلَامِ الْمَطْلُوبِ بِغَصْبِ الْخَمْرِ وَاسْتِهْلَاكِهَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ ضَمَانِ الْقِيمَةِ بِخِلَافِ إسْلَامِ الطَّالِبِ فَكَذَلِكَ الطَّارِئُ ، وَهَذَا لِأَنَّ خَمْرَ الذِّمِّيِّ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا فِي يَدِ الْمُسْلِمِ ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا فِي
ذِمَّةِ الْمُسْلِمِ .
وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي إسْلَامِ الْمَطْلُوبِ مَعْنَى الْبَرَاءَةِ ، وَأَمَّا خَمْرُ الْمُسْلِمِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَضْمُونًا فِي يَدِ الذِّمِّيِّ فَكَذَلِكَ فِي ذِمَّتِهِ فَكَانَ إسْلَامُهُ مُبَرَّئًا بِهَذَا الطَّرِيقِ ، وَهُوَ أَنَّهُ يَمْنَعُ بَقَاءَهَا فِي ذِمَّتِهِ بَعْدَهُ ، وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ أَصْلِ السَّبَبِ مُوجِبًا لِلْقِيمَةِ فِي الْإِسْلَامِ الْمُقَارَنِ ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِهِ ضَمَانُ الْمِثْلِ ، فَلَا تَجِبُ بِهِ الْقِيمَةُ أَيْضًا بِخِلَافِ النِّكَاحِ ، فَإِنَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَجِبُ قِيمَةُ الْخَمْرِ بَعْدَ إسْلَامِ أَحَدِهِمَا كَانَتْ بِعَيْنِهَا أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهَا ؛ لِأَنَّ إسْلَامَ الطَّالِبِ مُبَرِّئٌ مِنْ حَيْثُ تَعَذُّرُ إبْقَائِهَا فِي الذِّمَّةِ أَوْ مَضْمُونًا فِي يَدِ الزَّوْجِ بَعْدَ إسْلَامِهِمَا ، وَلَكِنْ هَذَا لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ ضَمَانِ الْقِيمَةِ بِأَصْلِ السَّبَبِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْقِيمَةَ عِوَضٌ عَنْ الْبُضْعِ ، وَشَرْطُ وُجُوبِهَا صِحَّةُ التَّسْمِيَةِ لِإِبْقَاءِ اسْتِحْقَاقِ الْمُسَمَّى ، وَقَدْ كَانَتْ التَّسْمِيَةُ صَحِيحَةً حِينَ كَانَ الْمُسَمَّى مَالًا مُتَقَوِّمًا يَوْمئِذٍ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : تَعَذُّرُ قَبْضِ الْخَمْرِ الْمُسْتَحَقِّ فِي الذِّمَّةِ بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ ، فَلَا تَجِبُ الْقِيمَةُ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ الطَّالِبُ ، وَتَحْقِيقُهُ أَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ الْخَمْرُ بِالسَّبَبِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ ، فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الْقِيمَةِ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ السَّبَبِ ، وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الْقِيمَةِ عِوَضًا عَمَّا كَانَ فِي الذِّمَّةِ ؛ لِأَنَّ شَرْطَهَا تَمْلِيكُ مَا فِي الذِّمَّةِ بِهَا .
وَالذِّمِّيُّ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَمْلِيكِ الْخَمْرِ مِنْ الْمُسْلِمِ بِعِوَضِ كَمَا أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَتَمَلَّكُ الْخَمْرَ بِعِوَضٍ ؛ فَلِانْعِدَامِ الشَّرْطِ يَتَعَذَّرُ اسْتِيفَاءُ الْقِيمَةِ ، كَمَا لَوْ هَشَّمَ قُلْبَ فِضَّةِ إنْسَانٍ ، ثُمَّ تَلِفَ الْمَكْسُورُ فِي يَدِ صَاحِبِ الْقُلْبِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْكَاسِرَ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ شَرْطَ تَضْمِينِ الْقِيمَةِ تَمْلِيكُ الْمَكْسُورِ مِنْهُ ، وَذَلِكَ فَائِتٌ ، وَبِهِ فَارَقَ
الْإِسْلَامُ الْمُقَارَنُ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِيمَةِ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ السَّبَبِ ، وَهُوَ الْغَصْبُ وَالِاسْتِهْلَاكُ ، فَإِنَّهُ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ بِاعْتِبَارِ الْجِنَايَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا الْمِلْكَ فِي الْمَحِلِّ عِنْدَ التَّعَذُّرِ كَمَا فِي غَصْبِ الْمُدَبَّرِ .
وَإِنْ غَصَبَ خِنْزِيرًا فَاسْتَهْلَكَهُ ، ثُمَّ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا أَوْ أَسْلَمَا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ ؛ لِأَنَّ بِنَفْسِ الِاسْتِهْلَاكِ وَجَبَتْ الْقِيمَةُ هُنَا ، فَإِنَّ الْحَيَوَانَ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، وَالْقِيمَةُ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ ، فَلَا يَمْتَنِعُ بَقَاؤُهَا فِي الذِّمَّةِ ، وَاسْتِيفَاؤُهَا بَعْدَ إسْلَامِهِمَا أَوْ إسْلَامِ أَحَدِهِمَا .
وَلَوْ غَصَبَ مُسْلِمٌ مِنْ مُسْلِمٍ خَمْرًا فَجَعَلَهَا خَلًّا ، ثُمَّ اسْتَهْلَكَهَا فَعَلَيْهِ خَلٌّ مِثْلُهَا ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ مَا جَعَلَهَا خَلًّا بَقِيَتْ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهَا حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْهُ ، فَإِذَا اسْتَهْلَكَهَا فَقَدْ اسْتَهْلَكَ مَالًا مُتَقَوِّمًا لِغَيْرِهِ ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ أَمَانَةً كَانَتْ عِنْدَهُ أَوْ مَضْمُونَةً .
وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ جِلْدَ مَيْتَةٍ فَدَبَغَهُ بِشَيْءٍ لَا قِيمَةَ لَهُ ثُمَّ اسْتَهْلَكَهُ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ ؛ وَلِهَذَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعْطِيَهُ عِوَضًا .
وَمِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ يَقُولُ : يُضَمِّنُهُ قِيمَتَهُ طَاهِرًا غَيْرَ مَدْبُوغٍ ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الدِّبَاغِ حَصَلَ بِفِعْلِهِ ، فَلَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَيْهِ ، وَلَكِنَّ مِنْ ضَرُورَتِهِ زَوَالَ صِفَةِ النَّجَاسَةِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ حَاصِلٍ بِفِعْلِهِ بَلْ يَتَمَيَّزُ الْجِلْدُ مِنْ الدُّسُومَاتِ النَّجِسَةِ .
وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ يُضَمِّنُهُ قِيمَتَهُ مَدْبُوغًا ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الدِّبَاغِ هُنَا تَبَعٌ لِلْجِلْدِ ، وَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ مُنْفَرِدًا عَنْ الْجِلْدِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَغْرَمُ بِاعْتِبَارِهِ شَيْئًا ، وَإِذَا صَارَ أَصْلُ الْجِلْدِ مَضْمُونًا عَلَيْهِ بِالِاسْتِهْلَاكِ فَكَذَلِكَ مَا يَتْبَعُهُ كَالْخَمْرِ إذَا خَلَّلَهُ ، فَأَمَّا إذَا دَبَغَهُ بِشَيْءٍ لَهُ قِيمَةٌ ثُمَّ اسْتَهْلَكَهُ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - يَضْمَنُ قِيمَةَ الْجِلْدِ مَدْبُوغًا وَيُعْطِيهِ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْجِلْدَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ بَعْدَ الدِّبَاغِ ، وَهُوَ مَضْمُونُ الرَّدِّ عَلَى الْغَاصِبِ ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ ، فَإِذَا اسْتَهْلَكَهُ كَانَ ضَامِنًا كَالثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ إذَا صَبَغَهُ ثُمَّ اسْتَهْلَكَهُ ، وَهَذَا لِمَعْنَيَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ الِاسْتِهْلَاكَ جِنَايَةٌ مُوجِبَةٌ لِلضَّمَانِ فِي مَحَلٍّ هُوَ مَالٌ
مُتَقَوِّمٌ ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ لَمَّا بَقِيَ الْجِلْدُ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ بَعْدَ مَا صَارَ مَالًا مُتَقَوِّمًا كَمَا فِي الثَّوْبِ ، إلَّا أَنَّ هُنَاكَ السَّبَبَ الْأَوَّلَ وَهُوَ الْغَصْبُ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ أَيْضًا ، فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ بِأَيِّ السَّبَبَيْنِ شَاءَ ، وَهُنَا الْأَوَّلُ وَهُوَ الْغَصْبُ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ فَيَتَعَيَّنُ التَّضْمِينُ بِالسَّبَبِ الثَّانِي ، وَكَانَ هُوَ فِي هَذَا السَّبَبِ كَغَيْرِهِ ، وَلَوْ اسْتَهْلَكَهُ غَيْرُهُ كَانَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُسْتَهْلِكَ وَيُعْطِيَ الْغَاصِبَ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ .
( وَالثَّانِي ) وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا بَقِيَ الْجِلْدُ مَضْمُونَ الرَّدِّ عَلَيْهِ ، وَإِذَا تَعَذَّرَ رَدُّ عَيْنِهَا بِاسْتِهْلَاكِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ قِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِهْلَاكِ فَوَّتَ مَا كَانَ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ ، وَالتَّفْوِيتُ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ ، وَبِهِ فَارَقَ مَا لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ ، فَإِنَّ التَّفْوِيتَ مِنْهُ لَمْ يُوجَدْ ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمُسْتَعَارِ إذَا فَوَّتَ الْمُسْتَعِيرُ رَدَّهُ بِالِاسْتِهْلَاكِ ضَمِنَ قِيمَتَهُ ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا فَاتَ بِغَيْرِ صُنْعِهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ دَبَغَهُ بِشَيْءٍ لَا قِيمَةَ لَهُ أَوْ جَعَلَ الْخَمْرَ خَلًّا ، فَلَا يَضْمَنُ إذَا فَوَّتَ الرَّدَّ بِالِاسْتِهْلَاكِ ، وَلَا يَضْمَنُ إذَا هَلَكَ فِي يَدِهِ ، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ اسْتَفَادَ الْمَالِيَّةَ وَالتَّقَوُّمَ فِي هَذَا الْجِلْدِ مِنْ الْغَاصِبِ بِبَدَلٍ اسْتَوْجَبَهُ الْغَاصِبُ عَلَيْهِ ، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ شَيْئًا بَعْدَ اسْتِهْلَاكِهِ كَمَا لَوْ اسْتَهْلَكَ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ ، وَتَقْرِيرُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ الِاسْتِهْلَاكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ قَبْلَ الِاتِّصَالِ بِالْجِلْدِ ، وَبَعْدَ الِاتِّصَالِ بَقِيَ حَقًّا لَهُ حَتَّى كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ لِيَسْتَوْفِيَ بَدَلَهُ ، وَالْجِلْدُ بِدُونِ هَذَا الْوَصْفِ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ
بِالِاسْتِهْلَاكِ كَمَا لَوْ اسْتَهْلَكَهُ قَبْلَ الدِّبَاغِ ، وَبِهِ فَارَقَ الثَّوْبَ ، فَإِنَّ الِاسْتِهْلَاكَ فِيهِ بِدُونِ صِفَةِ الصَّبْغِ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ ، وَبِهِ فَارَقَ مَا إذَا دَبَغَهُ بِشَيْءٍ لَا قِيمَةَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ مَا بَقِيَتْ حَقًّا لِلْغَاصِبِ بَعْدَ الِاتِّصَالِ بِالْجِلْدِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَحْبِسُهُ ، وَلَا يَرْجِعُ بِبَدَلِهِ ، وَكَذَلِكَ الْخَمْرُ إذَا خَلَّلَهُ .
( وَالثَّانِي ) أَنَّ مَا اتَّصَلَ بِالْجِلْدِ مِنْ الصِّفَةِ هُنَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ لِلْغَاصِبِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا وَهُوَ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَقَدْ كَانَ مَالًا قَبْلَ الِاتِّصَالِ بِالْجِلْدِ ، وَبَقِيَ بَعْدَهُ كَذَلِكَ ، وَأَمَّا أَصْلُ الْجِلْدِ لَمْ يَكُنْ مَالًا مُتَقَوِّمًا قَبْلَ الدِّبَاغِ ، وَمَا كَانَ مَالًا بِنَفْسِهِ وَمُتَّصِلًا بِغَيْرِهِ يَتَرَجَّحُ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ مَالًا قَبْلَ الِاتِّصَالِ ، وَإِنَّمَا صَارَ مَالًا بِالِاتِّصَالِ فَتَكُونُ الْعِبْرَةُ لِلرَّاجِحِ وَاسْتِهْلَاكُهُ فِيهِ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ ، بِخِلَافِ الثَّوْبِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُنَاكَ كَانَ مَالًا قَبْلَ الِاتِّصَالِ ، وَإِنَّمَا صَارَ مَالًا بِالِاتِّصَالِ ، وَلَمَّا اسْتَوَيَا فِي صِفَةِ الْمَالِيَّةِ رَجَّحْنَا مَا هُوَ الْأَصْلُ .
وَإِذَا دَبَغَهُ بِشَيْءٍ لَا قِيمَةَ لَهُ فَالْوَصْفُ لَيْسَ بِمَالٍ قَبْلَ الِاتِّصَالِ وَلَا بَعْدَهُ ، وَالْأَصْلُ مَالٌ بَعْدَ الِاتِّصَالِ فَرَجَّحْنَا جَانِبَ الْأَصْلِ لِهَذَا ، وَلَا يُقَالُ فِي حَالِ بَقَاءِ الْجِلْدِ رَجَّحْنَا حَقَّ صَاحِبِ الْأَصْلِ حَتَّى مَكَّنَّاهُ مِنْ أَخْذِهِ .
وَيُمْلَكُ الْوَصْفُ عَلَى الْغَاصِبِ بِعِوَضٍ ، وَهَذَا لِأَنَّ أَخْذَ الْعَيْنِ كَانَ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ دُونَ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ اسْتِرْدَادِهِ قَبْلَ الدِّبَاغِ ، وَفِي حُكْمِ الْمِلْكِ الْأَصْلُ مُرَجَّحٌ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مَمْلُوكًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ قَبْلَ الِاتِّصَالِ وَبَعْدَهُ ، فَأَمَّا وُجُوبُ الضَّمَانِ عِنْدَ الِاسْتِهْلَاكِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ ، وَصِفَةُ الدِّبَاغِ فِي مَعْنَى الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ يَتَرَجَّحُ عَلَى أَصْلِ
الْجِلْدِ فَيُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ .
يُحَقِّقُ مَا قُلْنَا أَنَّ فَائِدَةَ وُجُوبِ الضَّمَانِ الِاسْتِيفَاءُ ، وَلَا يَسْتَوْفِي مِنْهُ قَدْرَ مَالِيَّةِ الدِّبَاغَةِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَكَيْفَ يَسْتَوْفِي مِنْهُ مَا هُوَ وَاجِبٌ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ .
وَلَوْ ظَفِرَ صَاحِبُ الْحَقِّ بِجِنْسِ حَقِّهِ فَاسْتَهْلَكَهُ لَمْ يَغْرَمْ شَيْئًا ، فَإِذَا ظَفِرَ بِعَيْنِ حَقِّهِ فَاسْتَهْلَكَهُ أَوْلَى أَنْ لَا يَضْمَنَ شَيْئًا ، فَإِذَا تَعَذَّرَ إيجَابُ هَذَا الْقَدْرِ عَلَيْهِ انْفَصَلَ أَصْلُ الْجِلْدِ عَنْ صِفَةِ الدِّبَاغَةِ حُكْمًا فَيُعْتَبَرُ بِمَا لَوْ كَانَ مُنْفَصِلًا حَقِيقَةً ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَةِ الْجِلْدِ ، وَهُمَا قَدْ اعْتَبَرَا هَذَا حَتَّى قَالَا : لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ الْجِلْدِ غَيْرَ مَدْبُوغٍ .
( وَلَوْ ) غَصَبَ مِنْ رَجُلٍ عَيْنًا فَقَالَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ لِلْغَاصِبِ أَبْرَأْتُكَ عَنْ الْغَصْبِ ، ثُمَّ هَلَكَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ .
وَقَالَ زُفَرُ هُوَ ضَامِنٌ لِلْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ الْعَيْنِ لَغْوٌ ، فَإِنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ ، وَالْعَيْنُ لَيْسَتْ بِمَحِلٍّ لَهُ إذْ لَا تَسْقُطُ حَقِيقَةً ، وَلَا يَسْقُطُ مِلْكُ الْمَالِكِ عَنْهَا أَيْضًا ، وَإِضَافَةُ التَّصَرُّفِ إلَى غَيْرِ مَحِلِّهِ لَغْوٌ .
وَلَكِنَّا نَقُولُ : قَوْلُهُ أَبْرَأْتُكَ عَنْ الْغَصْبِ أَيْ عَمَّا وَجَبَ لِي عَلَيْكَ بِسَبَبِ الْغَصْبِ بِمَنْزِلَةِ إبْرَاءِ الْمَجْنِيّ عَلَيْهِ الْجَانِيَ عَنْ الْجِنَايَةِ ، وَإِبْرَاءِ الْمُشْتَرِي الْبَائِعَ عَنْ الْعَيْبِ ، وَالْوَاجِبُ لَهُ بِسَبَبِ الْغَصْبِ رَدُّ الْعَيْنِ عِنْدَ قِيَامِهِ ، وَرَدُّ الْقِيمَةِ عِنْدَ هَلَاكِهِ ، وَذَلِكَ قَابِلٌ لِلْإِسْقَاطِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ ، وَإِذَا سَقَطَ عَنْهُ ذَلِكَ بَقِيَ الْعَيْنُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ كَالْوَدِيعَةِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَبْرَأَهُ بَعْدَ تَقَرُّرِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِالْهَلَاكِ صَحَّ الْإِبْرَاءِ فَكَذَلِكَ إذَا أَبْرَأَهُ بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ .
( وَلَوْ ) غَصَبَ جَارِيَةً فَحَبِلَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ ثُمَّ رَدَّهَا فَوَلَدَتْ ثُمَّ هَلَكَتْ بِالْوِلَادَةِ يَجِبُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُ قِيمَتِهَا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تُقَوَّمُ حَامِلًا وَغَيْرَ حَامِلٍ ، فَيَكُونُ عَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُ النُّقْصَانِ ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ قَدْ صَحَّ مَعَ الْحَبَلِ ، وَلَكِنَّهَا مَعِيبَةٌ بِعَيْبِ الْحَبَلِ ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ ضَمَانَ النُّقْصَانِ عَلَيْهِ ، فَأَمَّا هَلَاكُهَا بِسَبَبِ الْآلَامِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ الرَّدِّ وَهُوَ الطَّلْقُ ، فَلَا يَبْطُلُ بِهِ حُكْمُ الرَّدِّ ، كَمَا لَوْ حُمَّتْ الْجَارِيَةُ عِنْدَ الْغَاصِبِ ثُمَّ رَدَّهَا فَهَلَكَتْ أَوْ زَنَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ ، ثُمَّ رَدَّهَا فَجُلِدَتْ وَمَاتَتْ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ الْغَاصِبُ إلَّا نُقْصَانَ عَيْبِ الزِّنَا .
وَكَذَلِكَ الْمَبِيعَةُ إذَا
سَلَّمَهَا إلَى الْمُشْتَرِي ، وَهِيَ حُبْلَى فَمَاتَتْ فِي الْوِلَادَةِ لَمْ يَرْجِعْ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ بِالِاتِّفَاقِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : الْوَاجِبُ عَلَى الْغَاصِبِ نَسْخُ فِعْلِهِ بِالرَّدِّ ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ حِينَ رَدَّهَا لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَبَضَهَا ، وَلَمَّا هَلَكَتْ بِالسَّبَبِ الَّذِي كَانَ عِنْدَ الْغَاصِبِ يُجْعَلُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهَا هَلَكَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ كَمَا لَوْ جُنَّتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ ثُمَّ رَدَّهَا فَدُفِعَتْ فِي الْجِنَايَةِ ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ لَمْ يَرُدَّهَا أَصْلًا ، بِخِلَافِ الْحُمَّى لِأَنَّ الْهَلَاكَ لَمْ يَكُنْ بِالسَّبَبِ الَّذِي كَانَ .
عِنْدَ الْغَاصِبِ إنَّمَا كَانَ لِضَعْفِ الطَّبِيعَةِ عَنْ دَفْعِ آثَارِ الْحُمَّى الْمُتَوَالِيَةِ ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِأَوَّلِهِ الْحُمَّى عِنْدَ الْغَاصِبِ ، وَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِمَا كَانَ بَعْدَهُ .
وَهُنَا أَصْلُ السَّبَبِ مَا كَانَ عِنْدَ الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّ الْحَبَلَ يُوجِبُ انْفِصَالَ الْوَلَدِ ، وَانْفِصَالُ الْوَلَدِ يُوجِبُ آلَامَ الْوِلَادَةِ ، فَمَا يَحْدُثُ بِهِ يَكُونُ مُحَالًا عَلَى السَّبَبِ الْأَوَّلِ ، بِخِلَافِ الْجَلْدِ ؛ لِأَنَّ الزِّنَا يُوجِبُ جَلْدًا مُؤْلِمًا غَيْرَ جَارِحٍ وَلَا مُتْلِفٍ ؛ وَلِهَذَا يَخْتَارُ سَوْطًا لَا ثَمَرَةَ لَهُ ، فَلَمْ يَكُنْ الْهَلَاكُ مُحَالًا بِهِ عَلَى السَّبَبِ الَّذِي كَانَ عِنْدَ الْغَاصِبِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الشِّرَاءِ ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ يُوجِبُ تَسْلِيمَ الْمَبِيعِ إلَى الْمُشْتَرِي عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ ، وَهُوَ أَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ ظَاهِرِ الْحَالِ ، وَهُوَ أَنَّ الْغَالِبَ فِي الْوِلَادَةِ السَّلَامَةُ ، فَإِنَّمَا عَلَى الْغَاصِبِ نَسْخُ فِعْلِهِ وَذَلِكَ فِي أَنْ يَرُدَّهُ كَمَا قَبَضَهُ ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَائِعَ لَوْ قَطَعَ يَدَهُ ثُمَّ بَاعَهُ وَسَلَّمَهُ إلَى الْمُشْتَرِي فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فِي يَدِهِ لَمْ يَرْجِعْ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ، بِخِلَافِ الْغَاصِبِ إذَا قَطَعَ يَدَهَا ، ثُمَّ رَدَّهَا فَمَاتَتْ
مِنْ ذَلِكَ .
ثُمَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هِيَ قَدْ تَعَيَّبَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ بِعَيْبِ الزِّنَا وَالْحَبْلِ جَمِيعًا فَفِي الْقِيَاسِ يَضْمَنُ الْغَاصِبُ نُقْصَانَ الْعَيْبِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ يَضْمَنُ أَكْثَرَهُمَا ، وَيَدْخُلُ الْأَقَلُّ فِي الْأَكْثَرِ .
وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا سَلِمَتْ مِنْ الْوِلَادَةِ يَنْظُرُ إلَى نُقْصَانِ الزِّنَا ، وَنُقْصَانِ الْحَبَلِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ أَكْثَرِهِمَا ، وَلَكِنْ إنْ كَانَ عَيْبُ الْحَبَلِ أَكْثَرَ فَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْوِلَادَةِ ، فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا قَدْرُ نُقْصَانِ عَيْبِ الزِّنَا ، وَإِنْ كَانَ عَيْبُ الزِّنَا أَكْثَرَ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ عَيْبَ الزِّنَا لَا يَنْعَدِمُ بِالْوِلَادَةِ فَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتَبَرَ الْحَقِيقَةَ ، وَهُوَ أَنَّ الْحَبَلَ عَيْبٌ آخَرُ سِوَى عَيْبِ الزِّنَا لِتَحَقُّقِ انْفِصَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ الْآخَرِ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتَبَرَ اتِّحَادَ السَّبَبِ وَقَالَ : الْحَبَلُ هُنَا حَصَلَ بِذَلِكَ السَّبَبِ ، فَبِحُكْمِ اتِّحَادِ السَّبَبِ يَدْخُلُ الْأَقَلُّ فِي الْأَكْثَرِ كَمَا فِي نُقْصَانِ الْبَكَارَةِ مَعَ الْعُقْرِ الْوَاجِبِ بِالْوَطْءِ ، فَإِنَّهُ يَدْخُلُ الْأَقَلُّ فِي الْأَكْثَرِ لِاتِّحَادِ السَّبَبِ فَكَذَلِكَ هُنَا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .
كِتَابُ الْوَدِيعَةِ ( قَالَ ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، إمْلَاءً - : الْإِيدَاعُ عَقْدٌ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مِنْ الْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ ، وَقَدْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ عِنْدَ إرَادَةِ السَّفَرِ ، وَالْحَاجُّ يَحْتَاجُ إلَى إيدَاعِ بَعْضِ مَالِهِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ؛ لِيَنْتَفِعَ بِهِ إذَا رَجَعَ ، وَالْمُودَعُ مَنْدُوبٌ إلَى الْقَبُولِ - شَرْعًا - ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِعَانَةِ عَلَى الْبِرِّ .
قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - { : وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } .
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - { : إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ } .
وَبَعْدَ الْقَبُولِ ، عَلَيْهِ أَدَاءُ مَا الْتَزَمَ - وَهُوَ الْحِفْظُ - حَتَّى يُؤَدِّيَهَا إلَى صَاحِبِهَا ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { : إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا } .
وَقَدْ قِيلَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ : إنَّ الْمُرَادَ رَدُّ مِفْتَاحِ الْكَعْبَةِ عَلَى عُثْمَانَ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَتَاهُ بِهِ قَالَ : خُذْهُ بِأَمَانَةِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَلَكِنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ يَتَنَاوَلُ كُلَّ أَمَانَةٍ .
قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - { : مَنْ ائْتَمَنَ أَمَانَةً فَلْيُؤَدِّهَا } .
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - { : أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك ، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك } .
وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : { عَلَامَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ : إذَا حَدَّثَ كَذَبَ ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ ، وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ .
} عَلَى الْمُوَحِّدِ أَنْ يَحْتَرِزَ عَمَّا هُوَ مِنْ عَلَامَةِ الْمُنَافِقِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَحْفَظَ الْوَدِيعَةَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَحْفَظُ بِهِ مَال نَفْسِهِ ؛ فَيَضَعَهَا فِي بَيْتِهِ ، أَوْ صُنْدُوقِهِ ؛ لِأَنَّهُ وَعَدَ لِصَاحِبِهَا ذَلِكَ ، وَخَلْفُ الْوَعْدِ مَذْمُومٌ ، وَإِذَا تَرَكَ الْحِفْظَ بَعْدَ غَيْبَةِ صَاحِبِهَا : فَفِيهِ تَرْكُ الْوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمَ ، وَالْغَرُورُ فِي حَقِّ صَاحِبِهَا ،
وَذَلِكَ حَرَامٌ .
فَإِنْ وَضَعَهَا فِي بَيْتِهِ أَوْ صُنْدُوقِهِ ، فَهَلَكَتْ : لَمْ يَضْمَنْهُ ؛ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : { مَنْ أَوْدَعَ وَدِيعَةً فَهَلَكَتْ : فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ .
} وَلِحَدِيثِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : { لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ ، وَلَا عَلَى الْمُودَعِ غَيْرِ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ .
} فَالْمُرَادُ بِالْمُغِلِّ : الْخَائِنُ .
قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - { : لَا إغْلَالَ وَلَا إسْلَالَ فِي الْإِسْلَامِ } .
وَالْإِغْلَالُ : الْخِيَانَةُ ، وَالْإِسْلَالُ : السَّرِقَةُ .
وَقَدْ قِيلَ : الْمُغِلُّ الْمُنْتَفِعُ ، مِنْ قَوْلِهِمْ : أَرْضٌ مُغِلٌّ ، أَيْ كَثِيرُ الرِّيعِ وَالْغَلَّةِ ، فَعَلَى هَذَا : الْمُرَادُ : الْمُنْتَفِعُ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ .
وَقَالَ عُمَرُ : الْعَارِيَّةُ كَالْوَدِيعَةِ ، لَا يَضْمَنُهَا صَاحِبُهَا إلَّا بِالتَّعَدِّي .
وَقَالَ عَلِيٌّ : لَا ضَمَانَ عَلَى رَاعٍ ، وَلَا عَلَى مُؤْتَمَنٍ .
وَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّ الْمُودَعَ مُتَبَرِّعٌ فِي حِفْظِهَا لِصَاحِبِهَا ، وَالتَّبَرُّعُ لَا يُوجِبُ ضَمَانًا عَلَى الْمُتَبَرِّعِ لِلْمُتَبَرَّعِ عَلَيْهِ ، فَكَانَ هَلَاكُهَا فِي يَدِهِ كَهَلَاكِهَا فِي يَدِ صَاحِبِهَا ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - : يَدُ الْمُودَعِ كَيَدِ الْمُودِعِ .
وَيَسْتَوِي إنْ هَلَكَ بِمَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ ، أَوْ بِمَا لَا يُمْكِنُ ؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ بِمَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِمَعْنَى الْعَيْبِ فِي الْحِفْظِ ، وَلَكِنَّ صِفَةَ السَّلَامَةِ عَنْ الْعَيْبِ إنَّمَا تَصِيرُ مُسْتَحَقًّا فِي الْمُعَاوَضَةِ - دُونَ التَّبَرُّعِ - وَالْمُودَعُ مُتَبَرِّعٌ ، فَإِنْ دَفَعَهَا إلَى بَعْضِ مَنْ فِي عِيَالِهِ - مِنْ زَوْجَتِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ وَالِدَيْهِ أَوْ أَجِيرِهِ - فَلَا ضَمَان عَلَيْهِ إذَا هَلَكَتْ - اسْتِحْسَانًا - وَفِي الْقِيَاسِ : هُوَ ضَامِنٌ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحْفَظَ - مَنْ اسْتَحْفَظَ - مِنْهُ ، وَيُؤَيِّدُ وَجْهَ الْقِيَاسِ -
قَوْله تَعَالَى - { : وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ } .
وَالْمُرَادُ : النِّسَاءُ ، فَإِنْ كَانَ هُوَ مَنْهِيًّا عَنْ دَفْعِ مَالِ نَفْسِهِ إلَى امْرَأَتِهِ ، فَمَا ظَنُّك فِي مَالِ غَيْرِهِ ؟ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ : أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْهُ : حِفْظُ الْوَدِيعَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَحْفَظُ مَالَ نَفْسِهِ ، وَالْإِنْسَانُ يَحْفَظُ مَالَ نَفْسِهِ بِيَدِ مَنْ فِي عِيَالِهِ ، عَلَى مَا قِيلَ : قِوَامُ الْعَالَمِ بِشَيْئَيْنِ : كَاسِبٍ يَجْمَعُ ، وَسَاكِنَةٍ تَحْفَظُ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ هَذَا ، فَإِنَّهُ إذَا خَرَجَ مِنْ دَارِهِ - فِي حَاجَتِهِ - لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَجْعَلَ الْوَدِيعَةَ مَعَ نَفْسِهِ ، وَإِذَا خَلَّفَهَا فِي دَارِهِ صَارَتْ فِي يَدِ امْرَأَتِهِ حُكْمًا ، وَمَا لَا يُمْكِنُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ عَفْوٌ .
وَذُكِرَ فِي جُمْلَةِ مَنْ فِي عِيَالِهِ : الْأَجِيرُ ، وَالْمُرَادُ : التِّلْمِيذُ الْخَاصُّ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ مُشَاهَرَةً ، أَوْ مُسَانَهَةً ، فَأَمَّا الْأَجِيرُ بِعَمَلٍ مِنْ الْأَعْمَالِ - كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ - يَضْمَنُ الْوَدِيعَةَ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ .
فَإِذَا انْشَقَّ الْكِيسُ فِي صُنْدُوقِهِ ؛ فَاخْتَلَطَ بِدَرَاهِمِهِ : فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِانْعِدَامِ الصُّنْعِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ ، وَلَوْ يُمْكِنُ تَقْصِيرٌ ، فَذَلِكَ مِنْ الْمُودَعِ بِأَنْ جَعَلَ دَرَاهِمَ الْوَدِيعَةِ فِي كِيسٍ بَالٍ ، وَلَكِنَّ الْمُخْتَلَطَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا بِقَدْرِ مِلْكِهِمَا ، فَإِنْ هَلَكَ بَعْضُهَا هَلَكَ مِنْ مَالِهَا جَمِيعًا وَيُقَسَّمُ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ مَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَنْ يَجْعَلَ الْهَالِكَ مِنْ نَصِيبِهِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ ، وَالْأَصْلُ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ إذَا هَلَكَ شَيْءٌ مِنْهُ : أَنَّ مَا هَلَكَ هَلَكَ عَلَى الشَّرِكَةِ ، وَمَا بَقِيَ عَلَى الشَّرِكَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْهَالِكَ يُجْعَلُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ .
( وَإِنْ ) فَعَلَ ذَلِكَ إنْسَانٌ مِمَّنْ هُوَ فِي عِيَالِ الْمُودَعِ - مِنْ صَغِيرٍ ، أَوْ كَبِيرٍ ، أَوْ مَمْلُوكٍ أَوْ أَجْنَبِيٍّ - فَلَا ضَمَانَ فِيهِ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ ؛ لِانْعِدَامِ الْخَلْطِ مِنْهُ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ، فَإِنَّ فِعْلَ مَنْ فِي عِيَالِهِ كَفِعْلِهِ فِيمَا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ مِنْ جِهَتِهِ صَرِيحًا ، أَوْ دَلَالَةً ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْخَلْطِ ، وَلَكِنَّ الضَّمَانَ عَلَى الَّذِي خَلَطَهَا بِمُبَاشَرَةِ الْفِعْلِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ .
وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ مُؤَاخَذٌ بِضَمَانِ الْفِعْلِ ، فَإِنَّ تَحَقَّقَ الْفِعْلُ بِوُجُودِهِ : لَا يَنْعَدِمُ بِالْحَجْرِ بِسَبَبِ الصِّغَرِ .
ثُمَّ الْخَلْطُ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ : ( خَلْطٌ ) يَتَعَذَّرُ التَّمْيِيزُ بَعْدَهُ - كَخَلْطِ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ - فَهَذَا مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ بِهِ عَلَى الْمَالِكِ الْوُصُولُ إلَى عَيْنِ مِلْكِهِ .
وَخَلْطٌ يَتَيَسَّرُ مَعَهُ التَّمْيِيزُ - كَخَلْطِ السُّودِ بِالْبِيضِ ، وَالدَّرَاهِمِ بِالدَّنَانِيرِ - فَهَذَا لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ ؛ لِتَمَكُّنِ الْمَالِكِ مِنْ الْوُصُولِ إلَى عَيْنِ مِلْكِهِ ، فَهَذِهِ مُجَاوَرَةٌ - لَيْسَ بِخَلْطٍ - .
وَخَلْطٌ يَتَعَسَّرُ مَعَهُ التَّمْيِيزُ - كَخَلْطِ الْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ -
فَهُوَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَى الْمَالِكِ الْوُصُولُ إلَى عَيْنِ مِلْكِهِ ، إلَّا بِحَرَجٍ ، وَالْمُتَعَسِّرُ كَالْمُتَعَذِّرِ - كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْغَصْبِ - .
( فَإِنْ قِيلَ ) : تَمْيِيزُ الْحِنْطَةِ مِنْ الشَّعِيرِ مُمْكِنٌ : بِأَنْ يُصَبَّ مِنْ مَاءٍ فَتَرَسَّبُ الْحِنْطَةُ ، وَيَطْفُو الشَّعِيرُ ، ( قُلْنَا ) : فِي هَذَا إفْسَادٌ لِلْمَخْلُوطِ فِي الْحَالِ ، ثُمَّ الْحِنْطَةُ لَا تَخْلُو عَنْ حَبَّاتِ الشَّعِيرِ ، كَمَا لَا يَخْلُو الشَّعِيرُ عَنْ حَبَّاتِ الْحِنْطَةِ ، فَمَا كَانَ مِنْ حَبَّاتِ الْحِنْطَةِ لِصَاحِبِ الشَّعِيرِ يَرْسُبُ ، وَمَا كَانَ مِنْ حَبَّاتِ الشَّعِيرِ لِصَاحِبِ الْحِنْطَةِ يَطْفُو ، فَعَرَفْنَا أَنَّ التَّمْيِيزَ مُتَعَذِّرٌ بِهَذَا الطَّرِيقِ أَيْضًا .
وَكَذَلِكَ خَلْطُ الْجِيَادِ بِالزُّيُوفِ ، إنْ كَانَ بِحَيْثُ يَتَعَذَّرُ التَّمْيِيزُ ، أَوْ يَتَعَسَّرُ ، فَهُوَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَى الْخَالِطِ ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَتَيَسَّرُ التَّمْيِيزُ ، لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ ، يَقُولُ : فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ بِالْخَلْطِ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا : أَنَا آخُذُ الْمَخْلُوطَ ، وَأَغْرَمُ لِصَاحِبِي مِثْلَ مَا كَانَ لَهُ ، فَرَضِيَ بِهِ صَاحِبُهُ : جَازَ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمَا ، فَإِذَا تَرَاضَيَا عَلَى شَيْءٍ صَحَّ ذَلِكَ فِي حَقِّهِمَا ، وَإِنْ أَبَى ذَلِكَ أَحَدُهُمَا ، فَإِنَّهُ يُبَاعُ الْمَخْلُوطُ وَيُقْسَمُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا عَلَى قِيمَةِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ ، عَلَى التَّفْسِيرِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي الْغَصْبِ قَبْلَ هَذَا الْجَوَابِ .
إنَّمَا يَسْتَقِيمُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَرِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي أَنَّ مِلْكَ الْمَالِكِ لَا يَنْقَطِعُ عَنْ الْمَخْلُوطِ ، بَلْ لَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ الشَّرِكَةِ فِي الْمَخْلُوطِ وَبَيْنَ تَضْمِينِ الْخَالِطِ ، فَأَمَّا عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ : الْمَخْلُوطُ مِلْكٌ لِلْخَالِطِ ، وَحَقُّهُمَا فِي ذِمَّتِهِ ، فَلَا يُبَاعُ مَالُهُ فِي دَيْنِهِمَا ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْحَجْرِ عَلَيْهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَرَى ذَلِكَ .
وَالْأَصَحُّ : أَنَّهُ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُمَا - وَإِنْ انْقَطَعَ عَنْ الْمَخْلُوطِ - فَالْحَقُّ فِيهِ بَاقٍ ، مَا لَمْ يَصِلْ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَلُ مِلْكِهِ ، وَلِهَذَا لَا يُبَاحُ لِلْخَالِطِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالْمَخْلُوطِ قَبْلَ أَدَاءِ الضَّمَانِ ، فَلِبَقَاءِ حَقِّهِمَا يَكُونُ لَهُمَا أَنْ يَسْتَوْفِيَا حَقَّهُمَا مِنْ الْمَخْلُوطِ ، إمَّا صُلْحًا بِالتَّرَاضِي ، أَوْ بَيْعًا وَقِسْمَة الثَّمَنِ ، إذَا لَمْ يَتَرَاضَيَا عَلَى شَيْءٍ .
وَإِذَا كَانَ عِنْدَ الرَّجُلِ وَدِيعَةٌ - دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ ، أَوْ شَيْءٌ مِنْ الْمَكِيلِ ، أَوْ الْمَوْزُونِ - فَأَنْفَقَ طَائِفَةً مِنْهُمَا فِي حَاجَتِهِ : كَانَ ضَامِنًا لِمَا أَنْفَقَ مِنْهَا - اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ - وَلَوْ لَمْ يَصِرْ ضَامِنًا لَمَا بَقِيَ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهُ فِي الْبَاقِي حَافِظٌ لِلْمَالِكِ ، وَبِمَا أَنْفَقَ لَمْ يَتَعَيَّبْ الْبَاقِي ، فَإِنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَضُرُّهُ التَّبْعِيضُ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ أَوْدَعَهُ وَدِيعَتَيْنِ ، فَأَنْفَقَ إحْدَاهُمَا : لَا يَكُونُ ضَامِنًا لِلْأُخْرَى ، فَإِنْ جَاءَ بِمِثْلِ مَا أَنْفَقَ ، فَخَلَطَهُ بِالْبَاقِي ، صَارَ ضَامِنًا لِجَمِيعِهَا ؛ لِأَنَّ مَا أَنْفَقَ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ ، وَهُوَ لَا يَنْفَرِدُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ صَاحِبِهِ ، فَيَكُونُ فِعْلُهُ هَذَا خَلْطًا لِمَا بَقِيَ بِمِلْكِ نَفْسِهِ ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ حِين أَنْفَقَ بَعْضَهَا وَجَاءَ ، بِمِثْلِهِ فَخَلَطَ بِالْبَاقِي أُفْتِي بِأَنَّهُ صَارَ ضَامِنًا لَهَا كُلَّهَا ، فَبَاعَهَا ثُمَّ جَاءَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ فَضَمَّنَهَا إيَّاهُ ، وَفِي الثَّمَنِ فَضْلٌ قَالَ : يَطِيبُ لَهُ حِصَّةُ مَا خَلَطَهُ بِهَا مِنْ مَالِهِ مِنْ الْفَضْلِ ؛ لِأَنَّهُ رِبْحٌ حَصَلَ عَلَى مِلْكِهِ وَضَمَانِهِ ، وَيَتَصَدَّقُ بِحِصَّةِ الثَّانِي مِنْ الْوَدِيعَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : لَا يَتَصَدَّقُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ بِالضَّمَانِ قَدْ مَلَكَهُ ، مُسْتَنِدًا إلَى وَقْتِ وُجُوبِ الضَّمَانِ ، وَلِهَذَا نَفَذَ بَيْعُهُ ، فَكَانَ هَذَا رِبْحًا حَاصِلًا عَلَى مِلْكِهِ وَضَمَانِهِ ، فَيَطِيبُ لَهُ كَمَا فِي حِصَّةِ مِلْكِهِ ، وَهُمَا يَقُولَانِ : هَذَا رِبْحٌ حَصَلَ لَهُ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ ، فَإِنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ بَيْعِ الْوَدِيعَةِ ، إمَّا لِبَقَاءِ مِلْكِ الْمُودِعِ - كَمَا فِي الْبَاقِي بَعْدَ الْخَلْطِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ، أَوْ لِبَقَاءِ حَقِّهِ عَلَى مَا قُلْنَا - وَالرِّبْحُ الْحَاصِلُ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقُ بِهِ ، وَلِأَنَّ الْمُودَعَ عِنْدَ الْبَيْعِ يُخْبِرُ
الْمُشْتَرِي أَنَّهُ يَبِيعُ مِلْكَهُ وَحَقَّهُ ، وَهُوَ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ ، وَالْكَذِبُ فِي التِّجَارَةِ يُوجِبُ الصَّدَقَةَ ؛ بِدَلِيلِ حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ عُرْوَةَ الْكِنَانِيِّ قَالَ : { كُنَّا نَتَبَايَعُ فِي الْأَسْوَاقِ بِالْأَوْسَاقِ وَنُسَمِّي أَنْفُسَنَا السَّمَاسِرَةَ ، فَدَخَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَمَّانَا بِأَحْسَنِ الْأَسْمَاءِ وَقَالَ : يَا مَعْشَرَ التُّجَّارِ ، إنَّ تِجَارَتَكُمْ هَذِهِ يَحْضُرُهَا اللَّغْوُ وَالْكَذِبُ ؛ فَشُوبُوهَا بِالصَّدَقَةِ } .
فَعَمِلْنَا بِالْحَدِيثِ فِي إيجَابِ التَّصَدُّقِ بِالْفَضْلِ .
وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْوَدِيعَةُ شَيْئًا يُبَاعُ .
فَإِنْ كَانَتْ دَرَاهِمَ : فَالدَّرَاهِمُ يُشْتَرَى بِهَا ، ثُمَّ يُنْظَرُ : إنْ اشْتَرَى بِهَا بِعَيْنِهَا وَنَقَدَهَا ، لَا يَطِيبُ لَهُ الْفَصْلُ أَيْضًا ، وَإِنْ اشْتَرَى بِهَا ، وَنَقَدَ غَيْرَهَا ، أَوْ اشْتَرَى بِدَرَاهِمَ مُطْلَقَةٍ ، ثُمَّ نَقَدَهَا : يَطِيبُ لَهُ الرِّبْحُ هُنَا ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ لَا تَتَعَيَّنُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، مَا لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ التَّسْلِيمُ .
وَلِهَذَا لَوْ أَرَادَ أَنْ يُسَلِّمَ غَيْرَهَا كَانَ لَهُ ذَلِكَ ، فَأَمَّا بِالْقَبْضِ يَتَعَيَّنُ نَوْعٌ تَعَيُّنٍ ، وَلِهَذَا لَا يُمْلَكُ اسْتِرْدَادُ الْمَقْبُوضِ مِنْ الْبَائِعِ لِيُعْطِيَهُ مِثْلَهَا ؛ فَلِهَذَا قُلْنَا : إذَا اسْتَعَانَ فِي الْعَقْدِ وَالنَّقْدِ جَمِيعًا بِالدَّرَاهِمِ الْوَدِيعَةِ أَوْ الْمَغْصُوبَةِ ، لَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ ، وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَى بِهَا مَأْكُولًا وَنَقَدَهَا ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ ذَلِكَ قَبْلَ أَدَاءِ الضَّمَانِ .
وَلَوْ اشْتَرَى بِدَرَاهِمَ مُطْلَقَةٍ ثُمَّ نَقَدَ تِلْكَ الدَّرَاهِمَ : حَلَّ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا .
وَفِي النَّوَادِرِ : لَوْ اشْتَرَى دِينَارًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ ، وَنَقَدَ الدَّرَاهِمَ الْمَغْصُوبَةَ : لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالدِّينَارِ ، مَا لَمْ يُؤَدِّ الضَّمَانَ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّرَاهِمِ إذَا اسْتَحَقَّ دَرَاهِمَهُ فَسَدَ الْعَقْدُ ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّ الدِّينَارِ ، فَكَانَتْ كَالْمَقْبُوضِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ .
بِخِلَافِ مَا لَوْ نَقَدَهَا فِي ثَمَنِ الطَّعَامِ ؛ لِأَنَّهُ بِالِاسْتِحْقَاقِ هُنَاكَ لَا يَبْطُلُ الشِّرَاءُ ، بَلْ يَبْقَى الثَّمَنُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ - كَمَا كَانَ - .
وَعَلَى هَذَا قَالُوا : لَوْ غَصَبَ ثَوْبًا وَاشْتَرَى بِهِ جَارِيَةً ، لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَحَقَّ الثَّوْبَ لَزِمَهُ رَدُّ الْجَارِيَةِ ، وَلَوْ تَزَوَّجَ بِالثَّوْبِ الْمَغْصُوبِ امْرَأَةً : حَلَّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا ؛ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ إذَا اسْتَحَقَّ الثَّوْبَ ، لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ وَلَا التَّسْمِيَةُ .
( فَإِنْ ) كَانَ أَخَذَ بَعْضَ الْوَدِيعَةِ لِيُنْفِقَهُ فِي حَاجَتِهِ ، ثُمَّ بَدَا لَهُ ، فَرَدَّهُ إلَى مَوْضِعِهِ ، ثُمَّ ضَاعَتْ الْوَدِيعَةُ : فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ رَفْعَهُ حِفْظٌ ، فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ .
بَقِيَ مُجَرَّدُ نِيَّةِ الْإِنْفَاقِ فِي حَاجَتِهِ ، وَبِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ لَا يَصِيرُ ضَامِنًا ، كَمَا لَوْ نَوَى أَنْ يَغْصِبَ مَالَ إنْسَانٍ ؛ وَهَذَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - { : إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهُمْ مَا لَمْ يَعْمَلُوا ، أَوْ يَتَكَلَّمُوا } .
وَالْعِرَاقِيُّونَ يَقُولُونَ : كَادَ وَلَمَّا .
أَيْ : كَادَ يَعْصِي فَعُصِمَ ، وَالْمَعْصُومُ لَا يُعَاقَبُ بِعُقُوبَةِ مَنْ عَصَى ، وَلَئِنْ صَارَ ضَامِنًا بِالرَّفْعِ فَقَدْ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ بِرَدِّ الْعَيْنِ إلَى مَكَانِهِ ، وَذَلِكَ يُبْرِئُهُ عَنْ الضَّمَانِ " عِنْدَنَا " - عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ - بِخِلَافِ مَا سَبَقَ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ إنَّمَا جَاءَ بِمِلْكِ نَفْسِهِ ، فَوَضَعَهُ مَكَانَ مَا أَنْفَقَ ، وَلِهَذَا لَا يَكُونُ عَوْدًا إلَى الْوِفَاقِ فِيمَا خَالَفَ فِيهِ ، وَهُنَا إنَّمَا جَاءَ الْوَدِيعَةِ بِعَيْنِهَا ، فَتَحَقَّقَ عَوْدُهُ إلَى الْوِفَاقِ ، وَهَذَا أَوْلَى الْوَجْهَيْنِ " عِنْدِي " ؛ فَإِنَّهُ لَوْ بَاعَهَا ثُمَّ ضَمِنَ قِيمَتَهَا ، نَفَذَ الْبَيْعُ مِنْ جِهَتِهِ ، وَإِنَّمَا يَسْتَنِدُ مِلْكُهُ بِالضَّمَانِ إلَى وَقْتِ وُجُوبِ الضَّمَانِ ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الرَّفْعُ لِلْبَيْعِ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ ، لَمْ يَسْتَنِدْ مِلْكُهُ إلَى تِلْكَ الْحَالَةِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَنْفُذَ بَيْعُهُ ، وَالرِّوَايَةُ مَحْفُوظَةٌ فِي هَذَا الْكِتَابِ .
وَفِي الْمُضَارَبَةِ أَنَّ الْبَيْعَ نَافِذٌ ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْأَوْجَهَ هُوَ الطَّرِيقُ الثَّانِي .
وَإِذَا طَلَبَ الْمُودِعُ الْوَدِيعَةَ فَقَالَ الْمُسْتَوْدَعُ : قَدْ رَدَدْتُهَا عَلَيْك فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَمِينِ مَعَ الْيَمِينِ ؛ لِإِنْكَارِهِ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ ، وَإِخْبَارِهِ بِمَا هُوَ مُسَلَّطٌ عَلَيْهِ - وَهُوَ رَدُّ الْوَدِيعَةِ عَلَى صَاحِبِهَا - وَالْمُودِعُ هُوَ الَّذِي سَلَّطَهُ عَلَى ذَلِكَ ، فَيُجْعَلُ قَوْلُهُ كَقَوْلِ الْمُسَلَّطِ إلَّا أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ لِنَفْيِ التُّهْمَةِ عَنْهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ سُرِقَتْ أَوْ ضَاعَتْ ، أَوْ ذَهَبَتْ وَقَالَ : لَا أَدْرِي كَيْفَ ذَهَبَتْ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ أَخْبَرَ بِمَا هُوَ مُحْتَمَلٌ ، وَلِأَنَّهُ يُنْكِرُ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ ، وَالْمَالِكُ يَدَّعِي عَلَيْهِ سَبَبَ الضَّمَانِ - وَهُوَ الْمَنْعُ بَعْدَ الطَّلَبِ - فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ .
( وَاخْتَلَفَ ) الْمُتَأَخِّرُونَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِيمَا إذَا قَالَ - ابْتِدَاءً - : لَا أَدْرِي كَيْفَ ذَهَبَتْ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هُوَ ضَامِنٌ لَهَا ؛ لِأَنَّهُ جَهِلَهَا بِمَا قَالَ ، وَالْمُودَعُ بِالتَّجْهِيلِ يَصِيرُ ضَامِنًا ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ : ذَهَبَتْ وَلَا أَدْرِي كَيْفَ ذَهَبَتْ ؛ لِأَنَّهُ بِقَوْلِهِ : ذَهَبَتْ ، يُخْبِرُ بِهَلَاكِهَا ، وَيَكْفِيهِ هَذَا الْمِقْدَارُ ، فَلَا مُعْتَبَرَ بَعْدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : لَا أَدْرِي كَيْف ذَهَبَتْ .
وَالْأَصَحُّ : أَنَّهُ لَا يَصِيرُ ضَامِنًا ؛ لِأَنَّهُ مُخْبِرٌ بِهَلَاكِهَا ، مُحْتَرِزٌ عَنْ الْكَذِبِ وَالْمُجَازَفَةِ فِي الْقَوْلِ بِقَوْلِهِ : لَا أَدْرِي كَيْفَ ذَهَبَتْ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ أَصْلَ الذَّهَابِ مَعْلُومٌ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ - لَا مَحَالَةَ - وَإِنَّمَا التَّجْهِيلُ فِي كَيْفِيَّةِ الذَّهَابِ .
وَالْإِخْبَارُ بِأَصْلِ الذَّهَابِ يَكْفِي فِي بَرَاءَتِهِ عَنْ الضَّمَانِ .
وَإِنْ قَالَ : بَعَثْت بِهَا إلَيْك مَعَ رَسُولِي ، وَسَمَّى بَعْضَ مَنْ فِي عِيَالِهِ : فَهُوَ كَقَوْلِهِ : رَدَدْتُهَا عَلَيْك ؛ لِأَنَّ يَدَ مَنْ فِي عِيَالِهِ لَمَّا جَعَلَ كَيَدِهِ فِي الْحِفْظِ ، فَكَذَلِكَ فِي الرَّدِّ : يَدُ مَنْ فِي عِيَالِهِ كَيَدِهِ ؛ فَلَا يَصِيرُ بِهَذَا مُقِرًّا بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ
لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ .
( وَإِذَا ) قَالَ : بَعَثْت بِهَا إلَيْك مَعَ أَجْنَبِيٍّ : فَهُوَ ضَامِنٌ حَتَّى يُقَرَّ الْمُودِعُ بِوُصُولِهَا إلَيْهِ " عِنْدَنَا " .
( قَالَ ) ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ " عِنْدَهُ " لِلْمُودَعِ أَنْ يُودِعَ غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ يَحْفَظُ الْوَدِيعَةَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَحْفَظُ مَالَهُ ، وَقَدْ يُودِعُ الْإِنْسَانُ مَالَ نَفْسِهِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ ، فَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يُودِعَ الْوَدِيعَةَ مِنْ غَيْرِهِ ؛ فَلَا يَصِيرُ ضَامِنًا بِالدَّفْعِ إلَى غَيْرِهِ لِيَحْفَظَ ، أَوْ يَرُدَّ - كَمَا فِي حَقِّ مَنْ فِي عِيَالِهِ - " وَعِنْدَنَا " : لَيْسَ لِلْمُودَعِ أَنْ يُودِعَ غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّ الْحِفْظَ يَتَفَاوَتُ فِيهِ النَّاسُ ، وَالْمُودِعُ إنَّمَا رَضِيَ بِحِفْظِهِ وَأَمَانَتِهِ دُونَ غَيْرِهِ ، فَإِذَا دَفَعَ إلَى أَجْنَبِيٍّ ، فَقَدْ صَارَ تَارِكًا لِلْحِفْظِ الَّذِي الْتَزَمَهُ ، مُسْتَحْفِظًا عَلَيْهِ مَنْ اُسْتُحْفِظَ مِنْهُ ؛ فَيَكُونُ ضَامِنًا ، بِخِلَافِ مَنْ فِي عِيَالِهِ : فَإِنَّ الْمُودَعَ هُوَ الْحَافِظُ لَهُ بِيَدِ مَنْ فِي عِيَالِهِ ؛ لِأَنَّ مَنْ فِي عِيَالِهِ فِي يَدِهِ ، فَمَا فِي يَدِ مَنْ فِي عِيَالِهِ كَذَلِكَ .
فَأَمَّا إذَا دَفَعَ إلَى أَجْنَبِيٍّ : لَا يَكُونُ هُوَ حَافِظًا لَهُ ، بَلْ الْأَجْنَبِيُّ هُوَ الْحَافِظُ لَهُ ، وَالْمُودِعُ لَمْ يَرْضَ بِهَذَا ؛ فَيَكُونُ ضَامِنًا حَتَّى يُقَرَّ الْمُودِعُ بِوُصُولِهَا إلَيْهِ ، فَإِذَا أَقَرَّ بِذَلِكَ بَرِئَ عَنْ الضَّمَانِ بِوُصُولِ الْمَالِ إلَى يَدِ صَاحِبِهِ - كَمَا يَبْرَأُ الْغَاصِبُ بِوُصُولِ الْمَغْصُوبِ إلَى يَدِ صَاحِبِهِ - .
وَكَذَلِكَ الْعَارِيَّةُ - فِي جَمِيعِ ذَلِكَ - ؛ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ كَالْوَدِيعَةِ .
وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُودِعَ أَجْنَبِيًّا كَالْمُودَعِ ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ : لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُعِيرَ فِيمَا لَا تَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ .
وَفِي الْإِعَارَةِ إيدَاعٌ وَزِيَادَةٌ ، وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ " عِنْدَنَا " مَالِكٌ لِلْمَنْفَعَةِ ، فَإِعَارَاتُهُ مِنْ
الْغَيْرِ تَصَرُّفٌ فِيمَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ - وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ - ثُمَّ يَتَعَدَّى تَسْلِيمُهُ إلَى الْعَيْنِ حُكْمًا ؛ لِتَصَرُّفِهِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ ، فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ .
فَأَمَّا إيدَاعُهُ مِنْ الْغَيْرِ فَهُوَ تَصَرُّفٌ فِي الْعَيْنِ ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْعَيْنِ ، فَيَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ كَالْإِيدَاعِ مِنْ الْمُودِعِ .
فَإِنْ قَالَ : بَعَثْت بِهَا إلَيْك مَعَ هَذَا الْأَجْنَبِيِّ أَوْ اسْتَوْدَعْتهَا إيَّاهُ ، ثُمَّ رَدَّهَا عَلَيَّ ، فَضَاعَتْ : " عِنْدِي " لَمْ يُصَدَّقْ وَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِوُجُودِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ ثُمَّ ادَّعَى مَا يُسْقِطُ عَنْهُ ، فَلَا يُصَدَّقُ - كَالْغَاصِبِ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْمَغْصُوبِ - فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ بَرِئَ مِنْ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْبَرَاءَةَ بِالْحُجَّةِ وَالثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ ، وَهُوَ مَذْهَبُنَا ، فَإِنَّ الْمُودَعَ إذَا خَالَفَ ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ : يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ .
" وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ " : لَا يَبْرَأُ ، وَبَيَانُهُ : فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَفِيمَا إذَا لَبِسَ ثَوْبَ الْوَدِيعَةِ ثُمَّ نَزَعَهُ ، فَهَلَكَ .
وَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - { : عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ } .
وَهُوَ حِين أَخَذَهَا لِلِاسْتِعْمَالِ صَارَتْ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ ، حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ : ضَمِنَهَا ، فَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِالرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ - وَلَمْ يُوجَدْ - وَلِأَنَّ الْوَدِيعَةَ تُضْمَنُ بِالْخِلَافِ مِنْ طَرِيقِ الْقَوْلِ - وَهُوَ الْجُحُودُ - تَارَةً ، وَبِالْخِلَافِ مِنْ طَرِيقِ الْفِعْلِ أُخْرَى ، ثُمَّ إذَا ضَمِنَهَا بِالْجُحُودِ لَمْ يَبْرَأْ بِذَلِكَ الْخِلَافِ مَا لَمْ يَرُدَّهَا إلَى الْمَالِكِ فَكَذَلِكَ بِالِاسْتِعْمَالِ بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الِاسْتِعْمَالَ يَتَّصِلُ بِالْعَيْنِ ، وَالْجُحُود لَا يَتَّصِلُ بِهِ .
وَقَاسَ بِالْمُسْتَأْجِرِ لِلدَّابَّةِ إلَى مَكَان : إذَا جَاوَزَهُ ثُمَّ عَادَ إلَيْهِ لَمْ يَبْرَأْ .
وَكَذَلِكَ الْمُسْتَعِيرُ يَعْلَمُ أَنَّهُ أَمِينٌ ضَمِنَ الْأَمَانَةَ بِالْخِيَانَةِ ، وَلِأَنَّ الْمُودِعَ مُعِيرٌ يَدَهُ مِنْ الْمُودَعِ فِي الْحِفْظِ ، فَإِذَا خَالَفَ فَقَدْ اسْتَرَدَّ يَدَ عَارِيَّتِهِ ، وَهُوَ يَنْفَرِدُ بِهِ ، ثُمَّ إذَا عَادَ إلَى الْوِفَاقِ فَقَدْ أَرَادَ إعَادَةَ يَدِهِ ثَانِيًا مِنْهُ ، وَهُوَ لَا يَنْفَرِدُ بِهِ ، وَلِأَنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ هُوَ الْحِفْظُ لِلْمَالِكِ ،
وَبِالْخِلَافِ يَفُوتُ مُوجَبُ الْعَقْدِ ، إمَّا لِتَرْكِهِ الْحِفْظَ أَصْلًا ، أَوْ لَتَرْكِهِ الْحِفْظَ لِلْمَالِكِ حِينَ حَفِظَهَا لِنَفْسِهِ ؛ فَلَا يَبْقَى الْعَقْدُ بَعْدَ فَوَاتِ مُوجَبِهِ ، وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَأْتَمِنُ الْأَمِينَ عَلَى مَالِهِ - دُونَ الْخَائِنِ - وَمُطْلَقُ الْعَقْدِ يَتَقَيَّدُ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ - كَالشِّرَاءِ بِمُطْلَقِ الدَّرَاهِمِ يَتَقَيَّدُ بِنَقْدِ الْبَلَدِ - وَإِذَا تَقَيَّدَ الْعَقْدُ بِمَا قَبْلَ الْخِلَافِ : لَا يَبْقَى بَعْدَهُ ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ : أَنَّ الْإِيدَاعَ مُطْلَقٌ فَكَانَ بَاقِيًا بَعْدَ الْخِلَافِ ، وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّهُ قَالَ : احْفَظْ مَالِي ، أَوْ قَالَ : احْفَظْهُ أَبَدًا .
وَلَا يَشْكُلُ عَلَى أَحَدٍ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَتَنَاوَلُ الْحِفْظَ قَبْلَ الْخِلَافِ وَبَعْدَهُ ، ثُمَّ لَمْ يَبْطُلْ بِالْخِلَافِ ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ الشَّيْءِ بِمَا هُوَ مَوْضِعٌ لِإِبْطَالِهِ ، أَوْ بِمَا يُنَافِيهِ ، وَالِاسْتِعْمَالُ لَيْسَ بِمَوْضِعٍ لِإِبْطَالِ الْإِيدَاعِ ، وَهُوَ لَا يُنَافِيهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالْحِفْظِ مَعَ الِاسْتِعْمَالِ صَحِيحٌ - ابْتِدَاءً - بِأَنْ يَقُولَ لِلْغَاصِبِ : أَوْدَعْتُك ، وَهُوَ مُسْتَعْمِلٌ لَهُ ، وَالْخِلَافُ لَيْسَ يَرِدُ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ قَوْلٌ ، وَرَدُّ الْقَوْلِ بِقَوْلٍ مِثْلِهِ ، وَلِأَنَّ الْخِلَافَ يَكُونُ فِي حَالِ غَيْبَةِ الْمُودَعِ ، وَلَوْ قَالَ : رَدَدْت الْأَمْرَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ : لَمْ يَرْتَدَّ .
وَلِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي حِفْظِ الْوَاجِبِ بِالْأَمْرِ عَلَى خِلَافِ مَا يُوجِبُهُ ، وَلَيْسَ بِتَصَرُّفٍ فِي الْأَمْرِ وَصِحَّةِ الْأَمْرِ ، كَأَنْ يَكُونَ الْآمِرُ أَهْلًا لَهُ .
وَكَوْنُ الْحِفْظِ مَقْصُودًا مِنْ الْمَأْمُورِ ، وَلَمْ يَنْعَدِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ - بِخِلَافِ الْجُحُودِ - فَإِنَّهُ رَدٌّ لِلْأَمْرِ بِعَيْنِهِ ؛ لِأَنَّ الْجَاحِدَ يَكُونُ مُتَمَلِّكًا لِلْعَيْنِ .
وَالْمَالِكُ فِي مِلْكِهِ لَا يَكُونُ مَأْمُورًا بِالْحِفْظِ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ : أَوَامِرُ الشَّرْعِ ، فَالْجُحُودُ فِيهَا رَدٌّ ، وَالْخِلَافُ لَا يَكُونُ رَدًّا ، حَتَّى لَوْ تَرَكَ صَوْمًا أَوْ صَلَاةً : لَمْ يُكَفَّرْ .
( وَكَذَلِكَ ) فِي أَوَامِرِ الْعِبَادِ إذَا وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَيْنٍ بِأَلْفٍ ، فَبَاعَهُ بِخَمْسِمِائَةٍ ، وَسَلَّمَ : لَمْ تَبْطُلْ الْوَكَالَةُ مَعَ تَحَقُّقِ الْخِلَافِ ، وَمَعَ أَنَّ الْوَكَالَةَ جَائِزَةٌ غَيْرُ لَازِمَةٍ - كَالْإِيدَاعِ - .
وَعُذْرُهُ أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَسْتَغْرِقُ الْمُدَّةَ ، فَالْأَمْرُ بِهِ لَا يَبْطُلُ بِالْخِلَافِ ، وَالْحِفْظُ يَسْتَغْرِقُ الْمُدَّةَ ، فَيَبْطُلُ الْأَمْرُ بِهِ إذَا خَالَفَ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ هُنَا وَهُنَاكَ حَتَّى يَصِيرَ ضَامِنًا ، وَيَشْكُلُ بِالِاسْتِئْجَارِ لِلْحِفْظِ ، فَإِنَّهُ يَسْتَغْرِقُ الْمُدَّةَ ثُمَّ لَا يَبْطُلُ بِالْخِلَافِ مِنْ طَرِيقِ الْفِعْلِ .
وَعُذْرُهُ عَنْ الْإِجَارَةِ أَنَّهَا لَازِمَةٌ حَتَّى لَا يَبْطُلَ بِالْجُحُودِ ضَعِيفٌ ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ الْعَقْدِ " عِنْدَهُ " بِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَاللَّازِمُ وَغَيْرُ اللَّازِمِ فِيهِ سَوَاءٌ .
إنَّمَا يَفْتَرِقُ اللَّازِمُ وَغَيْرُ اللَّازِمِ فِيمَا هُوَ رَدٌّ ، ثُمَّ فِي الِاسْتِئْجَارِ الْعَقْدُ وَرَدَ عَلَى مَنْفَعَةِ الْحَافِظِ فِي الْمُدَّةِ ، وَالْمَنْفَعَةُ تَحْدُثُ شَيْئًا فَشَيْئًا ، فَبِتَرْكِ الْحِفْظِ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ يَبْطُلُ الْعَقْدُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ ، وَيَكُونُ بَاقِيًا فِيمَا وَرَاءَهُ كَبَقَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، فَكَذَلِكَ فِي الْحِفْظِ بِغَيْرِ بَدَلٍ .
فَأَمَّا اسْتِئْجَارُ الدَّابَّةِ إلَى مَكَان فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ : إنْ اسْتَأْجَرَهَا ذَاهِبًا وَجَائِيًا يَبْرَأْ عَنْ الضَّمَانِ بِالْعَوْدِ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ ، فَيَصِيرُ ضَامِنًا بِالْمُجَاوَزَةِ لِوُجُودِ سَبَبِ الضَّمَانِ ، ثُمَّ بِالْعَوْدِ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ : لَا يَعُودُ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا .
وَلَوْ سَلَّمْنَا فَنَقُولُ : الْعَقْدُ هُنَاكَ يَرِدُ عَلَى مَنَافِعِ الدَّابَّةِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ ، فَبِإِخْرَاجِ الدَّابَّةِ مِنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ يَفُوتُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ أَصْلًا ، وَهُنَا الْعَقْدُ يَرِدُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْحَافِظِ ، وَبِالْخِلَافِ مِنْ طَرِيقِ الْفِعْلِ لَمْ يَفُتْ جَمِيع الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، إنَّمَا وَقَعَ التَّغَيُّرُ فِي التَّسْلِيمِ فِي بَعْضِهِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ
مَأْمُورًا بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ فِي الْمِصْرِ ، فَإِذَا أَخْرَجَهُ يَتَغَيَّرُ التَّسْلِيمُ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَفُوتَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ ، حَتَّى أَنَّ فِي الْإِجَارَةِ : لَوْ حَمَلَ عَلَيْهَا حِمْلًا آخَرَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ ، ثُمَّ نَزَعَ : بَرِئَ عَنْ الضَّمَانِ لِبَقَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَتَمَكُّن التَّغَيُّرِ كَانَ فِي الِاسْتِيفَاءِ ، وَلِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ ضَامِنٌ بِالْإِمْسَاكِ لَا فِي الْمَكَانِ الْمَأْمُورِ بِهِ ، وَهُوَ فِي الْإِمْسَاكِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَمْسَكَهَا أَيَّامًا فِي بَيْتِهِ : كَانَ ضَامِنًا .
فَلَا يَتَحَقَّقُ الرَّدُّ مِنْهُ بَعْدَ الْخِلَافِ إذَا كَانَ مُمْسِكًا لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ ، فَأَمَّا الْمُودَعُ لَا يَضْمَنُ بِالْإِمْسَاكِ ، بَلْ بِالِاسْتِعْمَالِ ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ كُلُّهُ ، حَتَّى أَنَّ فِي الْإِجَارَةِ إذَا لَمْ يُضْمَنْ بِالْإِمْسَاكِ : بَرِئَ بِتَرْكِ الْخِلَافِ ، عَلَى مَا قَالَ فِي الْإِجَارَاتِ : إذَا اسْتَأْجَرَتْ الْمَرْأَةُ ثَوْبَ صِيَانَةٍ لِتَلْبَسَهُ أَيَّامًا ، فَلَبِسَتْ بِاللَّيْلِ : كَانَتْ ضَامِنَةً ، فَإِذَا جَاءَ النَّهَارُ بَرِئَتْ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ عَلَيْهَا بِالِاسْتِعْمَالِ لَيْلًا - دُونَ الْإِمْسَاكِ - .
( إذَا ) ثَبَتَ بَقَاءُ عَقْدِ الْوَدِيعَةِ ، فَنَقُولُ : يَدُ الْمُودَعِ كَيَدِ الْمُودِعِ ، فَإِمَّا أَنْ يُجْعَلَ فِي حَالَةِ الْخِلَافِ ، كَانَ الْعَيْنُ فِي يَدِ الْمَالِكِ ، وَالْمُسْتَعْمَلُ مُتَشَبِّثٌ بِهِ فَإِنْ هَلَكَ مِنْ عَمَلِهِ : ضُمِنَ وَإِلَّا فَلَا .
كَمَا لَوْ تَشَبَّثَ بِثَوْبٍ فِي يَدِ صَاحِبِهِ ، وَهَذَا اخْتِيَارُ الْهِنْدُوَانِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ، وَالْأَصَحُّ : أَنَّهُ ضَامِنٌ إذَا هَلَكَ فِي حَالَةِ الْخِلَافِ ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ ، أَوْ مِنْ غَيْرِ اسْتِعْمَالِهِ ، وَفِي الْكِتَابِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ : بَرِئَ عَنْ الضَّمَانِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ صَيْرُورَةِ الْعَيْنِ مَضْمُونًا عَلَيْهِ .
وَلَوْ تَنَازَعَا فِي الْهَلَاكِ أَنَّهُ كَانَ فِي حَالَةِ الْخِلَافِ ، أَوْ بَعْدَ تَرْكِ الْخِلَافِ : كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَالِكِ ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ صَارَ ضَامِنًا ، وَطَرِيقُ صَيْرُورَتِهِ ضَامِنًا تَفْوِيتُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَنَزَعَ يَده ضِمْنًا لِلْخِلَافِ .
وَلَكِنْ مَا ثَبَتَ ضِمْنًا لِلشَّيْءِ يَتَقَدَّرُ بِقَدْرِهِ ، فَفِيمَا وَرَاءَ زَمَانِ الْخِلَافِ يَدُ الْمُودَعِ كَيَدِ الْمُودِعِ ؛ لِبَقَاءِ الْعَقْدِ ، وَالِاسْتِدَامَة فِيمَا يُسْتَدَامُ لَهُ حُكْمُ الْإِنْشَاءِ ، وَلَوْ أَوْدَعَهُ ابْتِدَاءً بَرِئَ عَنْ الضَّمَانِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ يَدَ الْمُودَعِ كَيَدِ الْمُودِعِ ، فَكَذَلِكَ هُنَا ، وَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ اسْتِرْدَادَهُ يَدَ عَارِيَّتِهِ كَانَ مَقْصُودًا ، عَلَى حَالَةِ الْخِلَافِ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ ضِمْنًا لَهُ وَدَعْوَى تُقَيِّدُ الْأَمْرَ بِمَا قَبْلَ الْخِلَافِ كَلَام بَاطِلٌ ؛ فَإِنَّ أَحَدًا لَا يَظُنُّ بِصَاحِبِ الْمَالِ أَنْ يَقُولَ : احْفَظْ مَالِي مَا لَمْ تَخُنْ ، فَإِذَا خُنْت فَلَا تَحْفَظْ ، وَلَكِنَّهُ يَقُولُ : احْفَظْ ، وَلَا تَخُنْ ، فَإِذَا خُنْت فَاتْرُكْ الْخِيَانَةَ ، وَاحْفَظْهُ لِي ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ مِنْ الْأَمْرِ بِالْحِفْظِ أَنْ يَكُونَ مَالُهُ مَصُونًا عِنْدَهُ .
وَالْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ فِي حَالَةِ الْخِلَافِ أَظْهَرُ .
وَإِذَا طَلَبَ الْمُودِعُ الْوَدِيعَةَ ، فَجَحَدَهَا الْمُسْتَوْدَعُ ، كَانَ ضَامِنًا لَهَا ؛ لِوَجْهَيْنِ ( أَحَدُهُمَا ) : أَنَّهُ بِالْجُحُودِ صَارَ مُتَمَلِّكًا ؛ فَإِنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَهُ فِيمَا فِي يَدِهِ ، وَلَا يَتَمَلَّكُ أَحَدٌ مَالَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ رِضَاهُ إلَّا بِالضَّمَانِ ، وَلِأَنَّ الْمَالِكَ عَزَلَهُ عَنْ الْحِفْظِ حِينَ طَالَبَهُ بِالرَّدِّ ، فَهُوَ بِالْجُحُودِ صَارَ مَانِعًا الْمَالِكَ عَنْ مِلْكِهِ ، مُفَوِّتًا عَلَيْهِ يَدَهُ الثَّابِتَةَ حُكْمًا ؛ فَيَكُونُ كَالْغَاصِبِ : ضَامِنًا بِهَذَا الطَّرِيقِ ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ إذَا جَحَدَهَا ، لَا فِي وَجْهِ الْمُودَعِ ، فَإِنْ قَالَ لَهُ إنْسَانٌ : مَا حَالُ وَدِيعَةِ فُلَانٍ عِنْدَك ؟ فَجَحَدَهَا ، أَوْ جَحَدَهَا فِي وَجْهِ الْمُودِع ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالرَّدِّ بِأَنْ قَالَ لَهُ : مَا حَالُ وَدِيعَتِي عِنْدَك ؟ لِيَشْكُرَهُ عَلَى حِفْظِهَا ، فَجَحَدَهَا .
وَذَكَرَ الْفَصْلَيْنِ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ عَلَى قَوْلِ زُفَرَ يَكُونُ ضَامِنًا ؛ لِمَا ذَكَرَ : أَنَّهُ بِالْجُحُودِ مُتَمَلِّكٌ لَهَا ، وَمُفَوِّتٌ يَد الْمَالِكِ حُكْمًا .
( وَقَالَ ) أَبُو يُوسُفَ : لَا يَكُونُ ضَامِنًا ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ مَا عَزَلَهُ عَنْ الْحِفْظِ ؛ فَيَكُونُ الْعَقْدُ بَاقِيًا وَبِاعْتِبَارِ بَقَائِهِ ، يَدُهُ كَيَدِ الْمَالِكِ فِي الْعَيْنِ ، وَلِأَنَّ الْجُحُودَ فِي حَالِ غَيْبَةِ الْمَالِكِ مِنْ الْحِفْظِ ؛ لِأَنَّهُ طَرِيقٌ لِدَفْعِ طَمَعِ الطَّامِعِينَ عَنْهَا ؛ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ .
فَإِنْ أَقَامَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ جُحُودِ الْمُودَعِ أَنَّهُ اسْتَوْدَعَهُ كَذَا ، ثُمَّ أَقَامَ الْمُسْتَوْدَعُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا ضَاعَتْ : فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا ؛ لِأَنَّهُ بِالْجُحُودِ صَارَ ضَامِنًا ، وَهَلَاكُ الْمَضْمُونِ فِي يَدِ الضَّامِنِ يُقَرِّرُ عَلَيْهِ الضَّمَانَ ، وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا كَانَتْ ضَاعَتْ قَبْلَ جُحُودِهِ ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لَا تُقْبَلُ إلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ الدَّعْوَى ، وَهُوَ مُنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ ، فَجُحُودُهُ أَصْلَ الْإِيدَاعِ يَمْنَعُهُ
مِنْ دَعْوَى الْهَلَاكِ قَبْلَهُ ؛ فَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ ، إلَّا أَنْ يُقِرَّ الْمُودِعُ بِذَلِكَ ، فَحِينَئِذٍ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُودَعِ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ ، وَلِأَنَّ الْمُنَاقِضَ إذَا صَدَّقَهُ خَصْمُهُ كَانَ مَقْبُولَ الْقَوْلِ .
وَإِنْ قَالَ : لَمْ تُودِعْنِي شَيْئًا ثُمَّ قَالَ : قَدْ أَوْدَعْتنِي وَلَكِنَّهَا هَلَكَتْ : فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ جُحُودَهُ أَصْلَ الْإِيدَاعِ يَمْنَعُهُ مِنْ دَعْوَى الْهَلَاكِ قَبْلَهُ ، وَالْهَلَاكُ بَعْدَ الْجُحُودِ يُؤَكِّدُ الضَّمَانَ عَلَيْهِ .
وَإِنْ قَالَ : قَدْ أَعْطَيْتُكهَا ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَيَّامٍ : لَمْ أُعْطِكَهَا ، وَلَكِنَّهَا ضَاعَتْ ، لَمْ يُصَدَّقْ وَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا .
وَطَعَنَ عِيسَى فِي هَذَا وَقَالَ : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِكَلَامَيْنِ ، لَوْ تَكَلَّمَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا ، فَبِمَجْمُوعِهِمَا كَيْفَ يَصِيرُ ضَامِنًا ؟ وَتَقْرِيرُ هَذَا مِنْ وَجْهَيْنِ ، ( أَحَدُهُمَا ) : أَنَّ الضَّمَانَ يَسْتَدْعِي سَبَبًا - لَا مَحَالَةَ - وَلَمْ يُوجَدْ ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ جُحُودٌ لِيَكُونَ ضَامِنًا .
( وَالثَّانِي ) : أَنَّ قَوْلَ الْمُودَعِ : رَدَدْتُهَا ، أَوْ هَلَكَتْ ، مُعْتَبَرٌ فِي نَفْيِ الضَّمَانِ عَنْهُ ، لَا فِي ثُبُوتِ الرَّدِّ بِهِ ؛ وَلِهَذَا لَوْ ادَّعَى الرَّدَّ عَلَى الْوَصِيِّ ، لَمْ يَضْمَنْ الْوَصِيُّ شَيْئًا ، وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ نَفْيَ الضَّمَانِ عَنْهُ ، وَلَا تَنَاقُضَ بَيْنَ كَلَامَيْهِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ ، لَا يَكُونُ ضَامِنًا شَيْئًا .
وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ مُنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ ؛ لِأَنَّ إخْبَارَهُ بِالرَّدِّ يَمْنَعُهُ مِنْ دَعْوَى الْهَلَاكِ فِي يَدِهِ ، وَإِخْبَارهُ بِالْهَلَاكِ فِي يَدِهِ يَمْنَعُهُ مِنْ دَعْوَى الرَّدِّ ؛ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ كَلَامِهِ لِلتَّنَاقُضِ ، فَيَبْقَى سَاكِتًا مُمْتَنِعًا مِنْ رَدِّ الْوَدِيعَةِ بَعْدَ مَا طَالَبَ بِهَا ، وَذَلِكَ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ ؛ فَكَانَ ضَامِنًا لِهَذَا .
فَإِنْ قَالَ : اسْتَوْدَعْتنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ ، فَضَاعَتْ ، وَقَالَ الطَّالِبُ : كَذَبْتَ ، بَلْ غَصَبْتهَا مِنِّي ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَوْدَعِ ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ لَهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ سَبَبَ الضَّمَانِ - وَهُوَ الْغَصْبُ - وَالْمُسْتَوْدَعُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ ، وَلَمْ يَسْبِقْ مِنْهُ إقْرَارٌ بِسَبَبٍ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ ، إنَّمَا ذَكَرَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ وَضَعَ مَالَهُ فِي مَوْضِعٍ ، فَضَاعَ ، وَفِعْلُ الْإِنْسَانِ فِي مَالِ نَفْسِهِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَى غَيْرِهِ .
وَإِنْ قَالَ الْمُسْتَوْدَعُ : أَخَذْتهَا مِنْك وَدِيعَةً ، وَقَالَ الْآخَرُ : بَلْ غَصَبْتنِي ، فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا ؛ لِإِقْرَارِهِ بِوُجُودِ الْفِعْلِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ مِنْهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ - وَهُوَ الْأَخْذُ - .
قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - { : عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ } .
ثُمَّ ادَّعَى مَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ عَنْهُ ، وَهُوَ إذْنُ الْمَالِكِ إيَّاهُ فِي الْأَخْذِ ، فَلَا يُصَدَّقُ عَلَى ذَلِكَ ، وَيَكُونُ ضَامِنًا ، إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ ، أَوْ يَأْتِيَ الْمَالِكُ الْيَمِينَ ؛ فَيَقُومَ نُكُولُهُ مَقَامَ إقْرَارِهِ .
وَإِنْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ : بَلْ أَقْرَضْتُكَهَا قَرْضًا ، وَقَالَ الْمُسْتَوْدَعُ : بَلْ وَضَعْتَهَا عِنْدِي وَدِيعَةً ، أَوْ أَخَذْتُهَا مِنْك وَدِيعَةً ، وَقَدْ ضَاعَتْ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الْأَخْذَ حَصَلَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ ؛ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ إلَّا بِاعْتِبَارِ عَقْدِ الضَّمَانِ .
وَالْمَالِكُ يَدَّعِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : أَقْرَضْتُكهَا ، وَالْمُودَعُ مُنْكِرٌ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ - لِإِنْكَارِهِ - ثُمَّ بَيَّنَ فِي خَلْطِ الْحِنْطَةِ بِالشَّعِيرِ أَنَّهُ إنْ كَانَ بِحَيْثُ يُسْتَطَاعُ أَنْ يُخَلَّصَ ؛ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُودَعِ .
وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِأَنْ يَدُقَّ حَبَّاتِ الْحِنْطَةِ فَتُغَرْبَلَ ، فَتَتَمَيَّزَ مِنْ الشَّعِيرِ ، فَإِذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ : كَانَ هَذَا كَخَلْطِ الْبِيضِ بِالسُّودِ ؛ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ .
( رَجُلٌ ) اسْتَوْدَعَ رَجُلًا أَلْفَ دِرْهَمٍ ، وَلَهُ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ أَلْفٌ قَرْضٌ ، فَأَعْطَاهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ اخْتَلَفَا بَعْدَ أَيَّامٍ فَقَالَ الطَّالِبُ : أَخَذْتُ الْوَدِيعَةَ وَقَالَ الْمُسْتَوْدَعُ : أَعْطَيْت الْقَرْضَ وَقَدْ ضَاعَتْ الْوَدِيعَةُ : فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَوْدَعِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الدَّافِعُ لِلْأَلْفِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ إنَّهُ مِنْ أَيْ جِهَةٍ دَفَعَهُ ، وَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ دَفَعَهُ عَنْ جِهَةِ قَضَاءِ الدَّيْنِ ؛ فَبَرِئَ مِنْ الدَّيْنِ بِهِ ، وَبَقِيَتْ الْوَدِيعَةُ فِي يَدِهِ ، وَقَدْ أَخْبَرَ بِهَلَاكِهَا ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ ، يُوَضِّحُهُ : أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ شَيْئًا حَتَّى أَخْبَرَ بِهَلَاكِ الْوَدِيعَةِ ، كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا أَدَاءُ الْأَلْفِ - بَدَلَ الْقَرْضِ - فَكَذَلِكَ إذَا أَخْبَرَ بِهَلَاكِ الْوَدِيعَةِ بَعْدَ أَدَاءِ الْأَلْفِ .
( رَجُلٌ ) اسْتَوْدَعَ صَبِيًّا مَحْجُورًا عَلَيْهِ مَالًا ، فَاسْتَهْلَكَهُ : لَمْ يَضْمَنْ ، فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَهُوَ ضَامِنٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا : أَنَّ ضَمَانَ الِاسْتِهْلَاكِ ضَمَانُ فِعْلٍ ، وَالصَّبِيُّ وَالْبَالِغُ فِيهِ سَوَاءٌ ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنْ تَحَقُّقَ الْفِعْلِ بِوُجُودِهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَدِيعَةَ لَوْ كَانَتْ عَبْدًا ، أَوْ أَمَةً ، فَقَتَلَهُمَا الصَّبِيُّ ، كَانَ ضَامِنًا بِهَذَا الطَّرِيقِ .
فَكَذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ .
وَلِأَنَّ الْإِيدَاعَ مِنْ الصَّبِيِّ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِحْفَاظُ مَنْ لَا يَحْفَظُ ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يُودِعْهُ وَلَكِنَّهُ جَاءَ فَأَتْلَفَ مَالَهُ .
وَاسْتِحْفَاظُ مَنْ لَا يَحْفَظُ : تَضْيِيعٌ لِلْمَالِ ، فَكَأَنَّهُ أَلْقَاهُ عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ فَأَتْلَفَهُ صَبِيٌّ كَانَ ضَامِنًا ؟ فَكَذَا هَذَا .
وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ : لِأَنَّهُ صَبِيٌّ ، وَقَدْ سَلَّطَهُ رَبُّ الْمَالِ عَلَى مَالِهِ حِينَ دَفَعَهُ إلَيْهِ .
( وَفِي ) تَفْسِيرِ هَذَا التَّسْلِيطِ نَوْعَانِ مِنْ الْكَلَامِ ( أَحَدُهُمَا ) : أَنَّهُ تَسْلِيطٌ بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ ؛ لِأَنَّ عَادَةَ الصِّبْيَانِ إتْلَافُ الْمَالِ ؛ لِقِلَّةِ نَظَرِهِمْ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ ، فَهُوَ لَمَّا مَكَّنَهُ مِنْ ذَلِكَ - مَعَ عِلْمِهِ بِحَالِهِ - يَصِيرُ كَالْإِذْنِ لَهُ فِي الْإِتْلَافِ .
وَبِقَوْلِهِ : احْفَظْ ، لَا يُخْرِجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ إذْنًا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُخَاطِبُ بِهَذَا مَنْ لَا يَحْفَظُ ، فَهُوَ كَمُقَدِّمِ الشَّعِيرِ بَيْنَ يَدَيْ الْحِمَارِ ، وَقَالَ : لَا تَأْكُلْ ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عَادَةِ الصَّبِيَّانِ الْقَتْلُ ؛ لِأَنَّهُمْ يَهَابُونَ الْقَتْلَ ، وَيَفِرُّونَ مِنْهُ ، فَلَا يَكُونُ إيدَاعُهُ تَسَلُّطًا عَلَى الْقَتْلِ - بِاعْتِبَارِ عَادَتِهِمْ - .
وَهَذَا بِخِلَافِ الدَّابَّةِ ، فَإِنَّ مِنْ عَادَتِهِمْ إتْلَافَ الدَّوَابِّ ، رُكُوبًا ، فَيَثْبُتُ التَّسْلِيطُ فِي الدَّابَّةِ بِطَرِيقِ الْعَادَةِ
، وَإِلَّا صَحَّ أَنْ تَقُولَ : مَعْنَى التَّسْلِيطِ : تَحْوِيلُ يَدِهِ فِي الْمَالِ إلَيْهِ ؛ فَإِنَّ الْمَالِكَ - بِاعْتِبَارِ يَدِهِ - كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ اسْتِهْلَاكِهِ ، فَإِذَا حَوَّلَ يَدَهُ إلَيْهِ ، صَارَ مُمَكَّنًا لَهُ مِنْ اسْتِهْلَاكِهِ - بَالِغًا كَانَ الْمُودَعُ ، أَوْ صَبِيًّا - إلَّا أَنَّهُ بِقَوْلِهِ : احْفَظْ ، قَصَدَ أَنْ يَكُونَ هَذَا التَّحْوِيلُ مَقْصُورًا عَلَى الْحِفْظِ - دُونَ غَيْرِهِ - وَهَذَا صَحِيحٌ فِي حَقِّ الْبَالِغِ ، بَاطِلٌ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا الْتَزَمَ بِالْعَقْدِ ، وَالصَّبِيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ ، فَيَبْقَى التَّسْلِيطُ عَلَى الِاسْتِهْلَاكِ بِتَحْوِيلِ الْيَدِ إلَيْهِ مُطْلَقًا ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ ، فَإِنَّ الْمَالِكَ - بِاعْتِبَارِ يَدِهِ - مَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ قَتْلِ الْآدَمِيِّ ، فَتَحْوِيلُ الْيَدِ إلَيْهِ لَا يَكُونُ تَسْلِيطًا عَلَى قَتْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِيدَاعَ مِنْ الْمَالِكِ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِهِ ، وَالْمَمْلُوكُ فِي حُكْمِ الدَّمِ مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ ؛ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْإِيدَاعُ .
وَالتَّسْلِيطُ يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِهِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ : اُقْتُلْ عَبْدِي ؛ لِأَنَّ ذَاكَ اسْتِعْمَالٌ ، وَالِاسْتِعْمَالُ وَرَاءَ التَّسْلِيطِ ، فَإِنَّ بَعْدَ الِاسْتِعْمَالِ إذَا لَحِقَهُ ضَمَانٌ ، يَرْجِعُ عَلَى الْمُسْتَعْمَلِ ، وَبَعْدَ التَّسْلِيطِ يَسْقُطُ حَقُّ الْمُسَلَّطِ فِي التَّضْمِينِ - لِرِضَاهُ بِهِ - وَلَا يَثْبُتُ لِأَحَدٍ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ .
وَلِهَذَا قُلْنَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ : إنَّ الصَّبِيَّ الْمُسْتَهْلِكَ ، إذَا ضُمِنَ لِلْمُسْتَحَقِّ ، لَا يُرْجَعُ عَلَى الْمُودَعِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهُ : أَتْلِفْهُ ، فَذَلِكَ اسْتِعْمَالٌ لِلصَّبِيِّ ، وَهَذَا تَسْلِيطٌ لَهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : أَبَحْتُ لَك أَنْ تَأْكُلَ هَذَا الطَّعَامَ ، إنْ شِئْت ، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ ، فَأَكَلَهُ الصَّبِيُّ ، لَمْ يَضْمَنْ .
وَلَوْ جَاءَ مُسْتَحَقٌّ وَضَمِنَهُ ، لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الَّذِي قَالَ لَهُ ذَلِكَ ؛ فَهَذَا مِثْلُهُ ، إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يَقُولُ : قَوْلُهُ : احْفَظْهُ ، بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ مِمَّا تَنَاوَلَهُ
مُطْلَقُ التَّسْلِيمِ .
وَالِاسْتِثْنَاءُ تَصَرُّفٌ مِنْ الْمُسْتَثْنِي عَلَى نَفْسِهِ فِي حَقِّهِ ؛ فَلَا يَعْتَبِرُ لِصِحَّتِهِ حَالَ الْمُخَاطَبِ بِهِ ، أَوْ ثُبُوتَ وِلَايَةٍ لَهُ عَلَيْهِ ، بَلْ بِاسْتِثْنَائِهِ يَخْرُجُ مَا وَرَاءَ الْحِفْظِ مِنْ هَذَا التَّسْلِيطِ .
فَإِذَا اسْتَهْلَكَهُ الصَّبِيُّ كَانَ مُسْتَهْلِكًا بِغَيْرِ إذْنِهِ .
وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَقُولَانِ : التَّسْلِيطُ : بِالْفِعْلِ ، وَهُوَ نَقْلُ الْيَدِ إلَيْهِ مُطْلَقًا .
وَقَوْلُهُ : احْفَظْ ، كَلَامٌ ، فَلَا يَتَحَقَّقُ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الْفِعْلِ الْمُطْلَقِ ، بَلْ يَكُونُ مُعَارِضًا لِذَلِكَ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ تَسْلِيطٌ ، وَلَا يَكُونُ مُعَارِضًا إلَّا بَعْدَ صِحَّتِهِ حُكْمًا ؛ لِكَوْنِ الْمُخَاطَبِ مِنْ أَهْلِ الِالْتِزَامِ بِالْعَقْدِ ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ الْبَالِغِ دُونَ الصَّبِيِّ ، فَيَبْقَى التَّسَلُّطُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ : أَنَّ الصَّبِيَّ لَوْ ضَيَّعَ الْوَدِيعَةَ ، لَمْ يَضْمَنْ ؛ بِأَنْ رَأَى إنْسَانًا يَأْخُذُهَا ، أَوْ دَلَّهُ عَلَى أَخْذِهَا ، وَالْبَائِع يَضْمَنُ - بِمِثْلِهِ - .
فَعَرَفْنَا أَنَّ الْعَارِضَ صَحِيحٌ فِي حَقِّ الْبَالِغِ - دُونِ الصَّبِيِّ - .
وَعَلَى هَذَا : لَوْ أَوْدَعَ عَبْدًا ، مَحْجُورًا عَلَيْهِ ، مَالًا فَاسْتَهْلَكَهُ : لَمْ يَضْمَنْ ، عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ حَتَّى يُعْتَقَ ؛ لِأَنَّ الْعَارِضَ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِ دُونَ الْمَوْلَى فَإِنَّهُ الْتِزَامٌ بِالْعَقْدِ .
وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ : يُبَاعُ فِيهِ فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ يَتَصَرَّفُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ ؛ فَيَبْقَى الِاسْتِهْلَاكُ بِغَيْرِ إذْنِهِ .
فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ صَبِيًّا لَمْ يَضْمَنْ " عِنْدَهُمَا " فِي الْحَالِ ، وَلَا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالْعِتْقِ ؛ لِأَنَّ الْعَارِضَ لَمْ يَصِحَّ فِي حَقِّهِ وَلَا فِي حَقِّ الْمَوْلَى .
وَإِنْ كَانَ الصَّبِيُّ ، أَوْ الْعَبْدُ مَأْذُونًا ، كَانَ ضَامِنًا فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّ الْعَارِضَ قَدْ صَحَّ فِي حَقِّهِمَا ، وَفِي حَقِّ الْمَوْلَى ؛ فَالْمَأْذُونُ مِنْ أَهْلِ الِالْتِزَامِ بِالْعَقْدِ ، وَلِهَذَا يُؤَاخَذَانِ
بِضَمَانِ التَّضْيِيعِ .
وَعَلَى هَذَا : الْخِلَافُ لَوْ أَقْرَضَ صَبِيًّا مَحْجُورًا عَلَيْهِ ، أَوْ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ ، مَالًا فَاسْتَهْلَكَهُ ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ إلَيْهِ تَسْلِيطٌ .
وَقَوْلُهُ : أَقْرَضْتُكَ : مُعَارِضُ لِقَوْلِهِ : احْفَظْ فِي الْوَدِيعَةِ - عَلَى مَا بَيَّنَّا - ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ مِنْ صَبِيٍّ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ ، أَوْ عَبْدٍ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ شَيْئًا ، فَاسْتَهْلَكَهُ ، فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ إلَيْهِمَا تَسْلِيطٌ .
وَقَوْلُهُ : بِعْت ، مُعَارِضٌ فَلَا يَعْمَلُ هَذَا الْمُعَارِضُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ أَصْلًا ، وَلَا فِي حَقِّ الْعَبْدِ حَتَّى يُعْتَقَ ، فَهَذَا هُوَ الْحَرْفُ الَّذِي يَخْرُجُ عَلَيْهِ هَذِهِ الْمَسَائِلُ .
( وَإِنْ ) هَلَكَتْ الْوَدِيعَةُ عِنْدَ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ : فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا ؛ لِانْعِدَامِ صَنِيعٍ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ مِنْهُمَا .
وَفِي قَتْلِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ يَجِبُ عَلَيْهِمَا مَا يَجِبُ قَبْلَ الْإِيدَاعِ ، فَعَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ قِيمَةُ الْمَقْتُولِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ - عَمْدًا قَتَلَهُ أَوْ خَطَأً ؛ لِأَنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ وَخَطَأَهُ سَوَاءٌ - وَعَلَى الْمَمْلُوكِ الْقِصَاصُ إنْ قَتَلَهُ عَمْدًا ، وَإِنْ قَتَلَهُ خَطَأً : يُخَاطَبُ الْمَوْلَى بِالدَّفْعِ ، أَوْ الْفِدَاءِ فِي الْعَبْدِ ، وَعَلَيْهِ الْقِيمَةُ فِي الْمُدْبِرِ ، وَأُمِّ الْوَلَدِ ، يَعْنِي الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الْمَقْتُولِ وَقِيمَةِ الْقَاتِلِ .
وَعَلَى الْمُكَاتَبِ أَنْ يَسْعَى فِي الْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ ، وَمِنْ قِيمَةِ الْمَقْتُولِ .
وَلَوْ أَوْدَعَ رَجُلًا شَيْئًا فَاسْتَهْلَكَهُ ابْنٌ لَهُ صَغِيرٌ ، أَوْ عَبْدٌ : فَعَلَى الْمُسْتَهْلِكِ ضَمَانُهُ فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّ قَبُولَهُ الْوَدِيعَةَ يَكُونُ إذْنًا لِمَنْ فِي عِيَالِهِ بِأَنْ يَحْفَظَهَا .
وَالصَّبِيُّ وَالْعَبْدُ إذَا كَانَ مَأْذُونًا فِي حِفْظِ الْوَدِيعَةِ يُؤَاخَذُ بِضَمَانِ الِاسْتِهْلَاكِ .
.
( رَجُلٌ ) اسْتَوْدَعَ رَجُلًا أَلْفَ دِرْهَمٍ ، فَدَفَعَهَا الْمُسْتَوْدَعُ إلَى آخَرَ ، وَادَّعَى أَنَّ رَبَّ الْوَدِيعَةِ أَمَرَهُ بِذَلِكَ : لَمْ يُصَدَّقْ عَلَيْهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ .
( وَقَالَ ) ابْنُ أَبِي لَيْلَى : هُوَ مُصَدَّقٌ فِي ذَلِكَ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ " عِنْدَهُ " : لِلْمُودَعِ أَنْ يُودِعَ ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ .
" فَأَمَّا عِنْدَنَا " : لَيْسَ لِلْمُودَعِ أَنْ يُودِعَ ، فَدَفْعُهُ إلَى الثَّانِي سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ .
ثُمَّ يَدَّعِي مَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ عَنْهُ - وَهُوَ الْإِذْنُ - ؛ فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ، كَمَا لَوْ أَخَذَ مَالَ إنْسَانٍ فَادَّعَى أَنَّهُ أَخَذَهُ بِإِذْنِهِ ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ صَاحِبَهَا أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالدَّفْعِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالْأَمْرِ بَرِئَ الْمُودَعُ ، فَإِذَا أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ ؛ لِرَجَاءِ نُكُولِهِ .
فَإِنْ كَانَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ أَمَرَهُ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى رَجُلٍ ، فَقَالَ : قَدْ دَفَعْتُهَا ، وَقَالَ الرَّجُلُ : لَمْ أَقْبِضْهَا مِنْك ، وَقَالَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ : لَمْ تَدْفَعْهَا ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُودَعِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهُ الدَّفْعَ إلَى مَنْ أَمَرَ الْمَالِكُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ دَعْوَاهُ الدَّفْعَ إلَى مَالِكِهَا ؛ فَيَكُونُ مُصَدَّقًا فِي بَرَاءَتِهِ عَنْ الضَّمَانِ دُونَ وُصُولِ الْمَالِ إلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ ، حَتَّى لَا يَضْمَنَ ذَلِكَ الرَّجُلُ ، مَا لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ عَلَى قَبْضِهِ .
.
وَإِذَا قَالَ صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ لِلْمُودَعِ : اخْبَأْهَا فِي بَيْتِك هَذَا ، فَخَبَّأَهَا فِي بَيْتٍ آخَرَ فِي دَارِهِ تِلْكَ ، فَضَاعَتْ : فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ - اسْتِحْسَانًا - وَفِي الْقِيَاسِ : هُوَ ضَامِنٌ ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ أَمْرَهُ نَصًّا ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ : اخْبَأْهَا فِي دَارِك هَذِهِ ، فَخَبَّأَهَا فِي دَارٍ أُخْرَى ؛ فَهَلَكَتْ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَقُولُ : إنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْ كَلَامِهِ مَا يَكُونُ مُفِيدًا دُونَ مَا لَا يَكُونُ مُفِيدًا .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : احْفَظْهَا بِيَمِينِك دُونَ يَسَارِك ، أَوْ : اُنْظُرْ إلَيْهَا بِعَيْنِك الْيُمْنَى دُونَ الْيُسْرَى ، لَمْ يُعْتَبَرْ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفِيدٍ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ : الْبَيْتَانِ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ لَا يَتَفَاوَتَانِ فِي مَعْنَى الْحِرْزِيَّةِ ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ حِرْزٌ وَاحِدٌ .
أَلَا تَرَى أَنَّ السَّارِقَ إذَا أَخْرَجَ الْمَتَاعَ مِنْ أَحَدِ الْبَيْتَيْنِ إلَى الْبَيْتِ الْآخَرِ ، لَمْ يُقْطَعْ إذَا أُخِذَ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ الْحِرْزِ ، فَأَمَّا الدَّارَانِ يَتَفَاوَتَانِ فِي الْحِرْزِ ، فَكَانَ تَقْيِيدُهُ فِي الدَّارِ مُفِيدًا ؛ لِأَنَّ كُلَّ دَارٍ حِرْزٌ عَلَى حِدَةٍ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لَهُ : لَا تَخْرُجْ بِهَا مِنْ الْكُوفَةِ ، فَخَرَجَ بِهَا إلَى الْبَصْرَةِ كَانَ ضَامِنًا ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ فِي الْمِصْرَيْنِ مُفِيدٌ ، فَإِنْ انْتَقَلَ مِنْ الْكُوفَةِ إلَى الْبَصْرَةِ ، أَوْ إلَى غَيْرِهَا لِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهُ بُدٌّ ، فَهَلَكَتْ : فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ إنَّمَا يَلْتَزِمُ شَرْطَ الْمُودِعِ بِحَسَبِ إمْكَانِهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : أَمْسِكْهَا بِيَدِك وَلَا تَضَعْهَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا ، فَوَضَعَهَا فِي بَيْتِهِ ؛ فَهَلَكَتْ : لَمْ يَضْمَنْهَا ، ؛ لِأَنَّ مَا شَرَطَ عَلَيْهِ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ - بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ - فَكَذَلِكَ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ شَرْطِهِ .
إذَا لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ الِانْتِقَالِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إذَا هَلَكَتْ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِنَا ؛ فَإِنَّ لِلْمُودَعِ أَنْ يُسَافِرَ الْوَدِيعَةِ عِنْدَ إطْلَاقِ الْعَقْدِ ، " وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ " : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَعْرِيضَ الْمَالِ لِلْهَلَاكِ .
قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - { : الْمُسَافِرُ وَمَتَاعُهُ وَمَالُهُ عَلَى قَلَتٍ إلَّا مَا وَقَى اللَّهُ - تَعَالَى - } .
وَلَيْسَ لِلْمُودَعِ تَعْرِيضُ الْوَدِيعَةِ لِلْمُتْلِفِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ وَالْمُضَارَبِ ؛ فَإِنَّهُمْ يُسَافِرُونَ لِلتِّجَارَةِ وَطَلَبِ الرِّبْحِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُمْ أَنْ يُسَافِرُوا بِالْمَالِ مِنْ طَرِيقِ الْبَحْرِ .
وَلَيْسَ لِلْمُودَعِ حَقُّ التَّصَرُّفِ وَالِاسْتِرْبَاحِ فِي الْوَدِيعَةِ ؛ وَلِهَذَا : لَا يُسَافِرُ مِنْ طَرِيقِ الْبَحْرِ ، يُوَضِّحُهُ : أَنَّ مَقْصُودَ الْمُودِعِ أَنْ يَكُونَ مَالُهُ فِي الْمِصْرِ مَحْفُوظًا ، يَتَمَكَّنُ مِنْهُ مَتَى شَاءَ ، وَيَفُوتُ عَلَيْهِ هَذَا الْمَقْصُودُ إذَا سَافَرَ الْمُودَعُ بِهِ .
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ : أَنَّ الْأَمْرَ مُطْلَقٌ ، فَلَا يَتَقَيَّدُ بِمَكَانٍ دُونَ مَكَان ، كَمَا لَا يَتَقَيَّدُ بِزَمَانٍ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ مَنْ يُرَاعَى أَمْرُهُ فِي شَيْءٍ يُرَاعَى إطْلَاقُ أَمْرِهِ ، كَأَوَامِرِ الشَّرْعِ ، وَالْأَمْكِنَةُ كُلُّهَا فِي صِفَةِ الْأَمْرِ سَوَاءٌ ، إنَّمَا الْخَوْفُ مِنْ النَّاسِ - دُونَ الْمَكَانِ - فَإِذَا كَانَ الطَّرِيقُ أَمْنًا ، كَانَ الْحِفْظُ فِيهِ كَالْحِفْظِ فِي جَوْفِ الْمِصْرِ .
وَمُرَادُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : بَيَانُ الْحَالَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ .
فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا لَا يَأْمَنُونَ خَارِجَ الْمَدِينَةِ ؛ لِغَلَبَةِ الْكُفَّارِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ فِيمَا أَخْبَرَ مِنْ الْأَمْرِ بَعْدَهُ قَالَ : يُوشِكُ أَنْ تَخْرُجَ الظَّعِينَةُ مِنْ الْقَادِسِيَّةِ إلَى مَكَّةَ لَا تَخَافُ إلَّا اللَّهَ - تَعَالَى - وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهَا .
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَقَيَّدَ مُطْلَقُ أَمْرِهِ بِالْعُرْفِ وَالْمَقْصُودِ ؛ لِأَنَّ النَّصَّ مُقَدَّمٌ عَلَى ذَلِكَ ،
وَالْمَقْصُودُ مُشْتَرَكٌ ، فَقَدْ يَكُونُ قَصْدُهُ : أَنْ يُحْمَلَ الْمَالُ إلَيْهِ ، خُصُوصًا إذَا سَافَرَ إلَى الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ صَاحِبُ الْمَالِ ، وَلِأَنَّ الْمُودَعَ لَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ لِلسَّفَرِ فِي حَاجَتِهِ بِسَبَبِ قَبُولِ الْوَدِيعَةِ ، وَإِذَا خَرَجَ : فَإِمَّا أَنْ يَدْفَعَ الْوَدِيعَةَ إلَى غَيْرِهِ ؛ فَيَكُونَ تَارِكًا لِلنَّصِّ ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَحْفَظَ بِنَفْسِهِ ، وَإِمَّا أَنْ يَحْمِلَ مَعَ نَفْسِهِ ؛ فَيَكُونَ مُخَالِفًا لِمَقْصُودِهِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مُرَاعَاةَ النَّصِّ أَوْلَى مِنْ مُرَاعَاةِ الْمَقْصُودِ ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : مَالَهُ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ ، وَمَا لَا حِمْلَ لَهُ وَلَا مُؤْنَةَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ - بَعُدَتْ الْمَسَافَةُ أَوْ قَرُبَتْ - لِمُرَاعَاةِ النَّصِّ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ .
وَاسْتَحْسَنَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ : إذَا كَانَ لَهُ حِمْلٌ وَمُؤْنَةٌ ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ صَاحِبَهَا مُؤْنَةُ الرَّدِّ ، وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ فِي إلْزَامِ الْمُؤْنَةِ إيَّاهُ .
وَاسْتَحْسَنَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ : إذَا قَرُبَتْ الْمَسَافَةُ فَلَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهَا ، وَإِذَا بَعُدَتْ الْمَسَافَةُ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَعْظُمُ الضَّرَرُ وَالْمُؤْنَةُ عَلَى صَاحِبِهَا عِنْدَ بُعْدِ الْمَسَافَةِ ، إذَا أَرَادَ رَدَّهَا .
وَلَوْ أَوْدَعَهُ وَدِيعَةً فَقَالَ : لَا تَدْفَعْهَا إلَى امْرَأَتِك ، أَوْ عَبْدِك ، أَوْ وَلَدِك ، أَوْ أَجِيرِك ؛ فَإِنِّي أَتَّهِمُهُمْ عَلَيْهَا ، فَدَفَعَهَا إلَى الَّذِي نَهَاهُ عَنْهُ ، فَهَلَكَتْ : فَإِنْ كَانَ يَجِدُ بُدًّا مِنْ الدَّفْعِ إلَيْهِ - بِأَنْ كَانَ لَهُ سِوَاهُ أَهْلٌ وَخَدَمٌ - : فَهُوَ ضَامِنٌ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ ذَلِكَ : لَمْ يَضْمَنْ ؛ لِأَنَّ شَرْطَهُ هَذَا مُفِيدٌ ، وَقَدْ يَأْتَمِنُ الْإِنْسَانُ الرَّجُلَ عَلَى مَالِهِ وَلَا يَأْتَمِنُ زَوْجَتَهُ ، إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ مُرَاعَاةُ شَرْطِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ .
فَإِذَا كَانَ يَجِدُ بُدًّا مِنْ الدَّفْعِ إلَى مَنْ نَهَاهُ عَنْهُ ؛ فَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ حِفْظِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَأْمُورِ بِهِ ، فَيَصِيرُ ضَامِنًا بِحِفْظِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ، وَإِذَا كَانَ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ ذَلِكَ ، فَهُوَ حَافِظٌ لَهَا - بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ - وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ : فَلَا يَضْمَنُهَا .
وَإِذَا اسْتَعْمَلَ الْمُودَعُ الْوَدِيعَةَ وَأَقَرَّ بِذَلِكَ ثُمَّ قَالَ : رَدَدْتُهَا إلَى مَكَانِهَا فَهَلَكَتْ : لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ - وَهُوَ الِاسْتِعْمَالُ - مَعْلُومٌ ، ثُمَّ ادَّعَى مَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ عَنْهُ - وَهُوَ تَرْكُ الْخِلَافِ قَبْلَ الْهَلَاكِ - فَلَا يَصْدُقُ إلَّا بِحُجَّةٍ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ رَدَّهُ إلَى وَضْعِهِ صَحِيحًا ، ثُمَّ هَلَكَ : كَانَ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ ، فَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا عِنْدَنَا .
وَإِنْ كَانَتْ الْوَدِيعَةُ أَمَةً ، فَوَطِئَهَا الْمُودَعُ ، فَوَلَدَتْ : فَالْوَلَدُ مَمْلُوكٌ لِصَاحِبِ الْأَصْلِ ، وَعَلَى الْمُودَعِ الْحَدُّ ، وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ زِنًا مَحْضٌ ، وَكَوْنُهَا وَدِيعَةً عِنْدَهُ لَا يُمْكِنُ فِي شُبْهَةِ الْمُحِلِّ إلَّا أَنْ يَدَّعِي شُبْهَةَ نِكَاحٍ ، أَوْ شِرَاءٍ ؛ فَحِينَئِذٍ يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْهُ ، وَيُغَرَّمُ الْعُقْرَ لِلشُّبْهَةِ .
( وَإِذَا ) اسْتَوْدَعَ رَجُلَانِ رَجُلًا وَدِيعَةً مِنْ دَرَاهِمَ ، أَوْ دَنَانِيرَ ، أَوْ ثِيَابٍ ، أَوْ دَوَابَّ ، أَوْ عَبِيدٍ ، ثُمَّ حَضَرَ أَحَدُهُمَا وَطَلَبَ حَقَّهُ مِنْهُ : لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ حَتَّى يَجْتَمِعَا وَلَوْ خَاصَمَهُ إلَى الْقَاضِي ، لَمْ يَأْمُرْهُ بِدَفْعِ نَصِيبِهِ إلَيْهِ ، فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - : يَأْمُرُهُ بِأَنْ يُقَسِّمَ ذَلِكَ وَيَدْفَعَ نَصِيبَهُ إلَيْهِ ، وَلَا تَكُونُ قِسْمَتُهُ جَائِزَةً عَلَى الْغَائِبِ ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ - فِي الْأَمَالِي - قَالَ : قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَقْيَسُ وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَوْسَعُ وَجْهٌ : قَوْلُهُمَا : أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُودِعَيْنِ مَالِكٌ لِنَصِيبِهِ حَقِيقَةً ؛ فَلَا يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ قَبْضُ نَصِيبِهِ فِي غَيْبَةِ الْآخَرِ ، كَالشَّرِيكَيْنِ فِي الدَّيْنِ إذَا حَضَرَ أَحَدُهُمَا كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْمَدْيُونَ بِنَصِيبِهِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ يَجِبُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ الْحَاضِرِ ، كَمَا يَجِبُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ الْغَائِبِ ، وَإِنَّمَا يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ عَنْهُمَا فِيمَا قُلْنَا : بِأَنْ يَقْسِمَ ، فَيَدْفَعَ إلَى الْحَاضِرِ نَصِيبَهُ ، لِيَنْدَفِعَ الضَّرَرُ عَنْهُ ، ثُمَّ لَا تَنْفُذُ قِسْمَتُهُ عَلَى الْغَائِبِ ، حَتَّى إذَا هَلَكَ الْبَاقِي فِي يَدِهِ ، ثُمَّ حَضَرَ الْغَائِبُ : كَانَ لَهُ أَنْ يُشَارِكَ الْحَاضِرَ فِيمَا قَبَضَ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ ، هَذَا فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَاضِحٌ ، فَإِنَّ الْحَاضِرَ لَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِأَخْذِ نَصِيبِهِ مِنْهُمَا مَعَ غَيْبَةِ الْآخَرِ ، فَكَذَلِكَ لِلْمُودَعِ أَنْ يَدْفَعَ نَصِيبَهُ إلَيْهِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي مَالِ الْمَفْقُودِ .
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ .
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ شَيْئًا إلَى الْحَاضِرِ : فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمَدْفُوعُ مِنْ نَصِيبِهِمَا جَمِيعًا ، أَوْ نَصِيبِ الْحَاضِرِ خَاصَّةً ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ مِنْ نَصِيبِ الْحَاضِرِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ قِسْمَةٍ مُعْتَبَرَةٍ ، وَلَيْسَ لِلْمُودَعِ
وِلَايَةٌ عَلَى الْغَائِبِ فِي الْقِسْمَةِ ، فَلَمْ يَبْقَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَدْفُوعُ مِنْ النَّصِيبَيْنِ ، وَدَفْعُ مَالِ الْغَيْرِ إلَى الْغَيْرِ يَكُونُ جِنَايَةً ؛ فَلَا يَكُونُ لِلْمُودَعِ أَنْ يُبَاشِرَ ذَلِكَ ، وَلَا يَأْمُرُهُ الْقَاضِي بِهِ .
وَالْحَاضِرُ ، وَإِنْ كَانَ يَتَضَرَّرُ بِهَذَا ، فَقَدْ رَضِيَ بِالْتِزَامِ هَذَا الضَّرَرِ حِين سَاعَدَ شَرِيكَهُ عَلَى الْإِيدَاعِ قَبْلِ الْقِسْمَةِ ، وَإِنْ كَانَ يَتَمَكَّنُ هُوَ مِنْ أَخْذِهِ .
فَكَذَلِكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ لِلْمُودَعِ أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ إذَا طَالَبَ الْمُودَعَ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ مِنْ الْوَدِيعَةِ ، لَمْ يُؤْمَرْ الْمُودَعُ بِذَلِكَ ، وَلَوْ ظَفِرَ بِهِ وَهُوَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمَدْيُونَ إنَّمَا يَقْضِي بِالدَّيْنِ مِنْ مِلْكِ نَفْسِهِ ، فَدَفْعُهُ نَصِيبَ الْآخَرِ إلَيْهِ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِهِ ، وَلَيْسَ فِيهِ قِسْمَةٌ عَلَى الْغَائِبِ ؛ فَلِهَذَا يُؤْمَرُ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ .
( رَجُلٌ ) أَوْدَعَ رَجُلًا دَرَاهِمَ ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ : أَرْسَلَنِي إلَيْك صَاحِبُ الْوَدِيعَةِ لِتَدْفَعَهَا إلَيَّ ، فَصَدَّقَهُ ، وَدَفَعَهَا إلَيْهِ ، فَهَلَكَتْ عِنْدَهُ ، ثُمَّ حَضَرَ صَاحِبُهَا وَأَنْكَرَ الرِّسَالَةَ : فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ مَالَهُ إلَى غَيْرِهِ .
وَبِتَصَادُقِهِمَا : لَا يَثْبُتُ الْأَمْرُ فِي حَقِّ الْمَالِكِ إذَا أَنْكَرَ ؛ فَكَانَ ضَامِنًا ، وَلَا يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الرَّسُولِ إذَا كَانَتْ الْوَدِيعَةُ هَلَكَتْ فِي يَدِهِ ، أَوْ زَعَمَ أَنَّهُ أَوْصَلَهَا إلَى صَاحِبِهَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ صَدَّقَهُ - فَإِنَّهُ رَسُولٌ أَمِينٌ - وَإِنَّ الْمَالِكَ ظَالِمٌ فِي تَضْمِينِهِ إيَّاهُ ، وَمَنْ ظُلِمَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَظْلِمَ غَيْرَهُ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَقْبُوضُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فِي يَدِهِ فَيَأْخُذَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَمَلَّكَهُ بِأَدَاءِ بَدَلِهِ ، وَإِنْ كَانَ كَذَّبَهُ فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ ، أَوْ لَمْ يُصَدِّقْهُ وَلَمْ يَكْذِبْهُ ، وَدَفَعَ الْمَالَ إلَيْهِ ، ثُمَّ جَاءَ الْمَالِكُ فَضَمِنَهُ ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الرَّسُولِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُقَرَّ بِأَنَّهُ كَانَ أَمِينًا ، وَلَكِنْ دَفَعَ الْمَالَ إلَيْهِ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ أَنَّهُ رَسُولُ الْمَالِكِ ، وَأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ غُرْمٌ بِسَبَبِ الدَّفْعِ إلَيْهِ ، فَإِذَا لَحِقَهُ غُرْمٌ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِهِ ، وَلَوْ صَدَّقَهُ فِي دَعْوَى الرِّسَالَةِ ، وَدَفَعَهُ إلَيْهِ ، وَضَمِنَهُ يَعْنِي أَنَّ الرَّسُولَ قَالَ لَهُ : إنْ لَحِقَك فِيهِ غُرْمٌ فَأَنَا ضَامِنٌ لَك ، ثُمَّ حَضَرَ الْمَالِكُ وَضَمِنَهُ : فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الرَّسُولِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ضَمِنَ لَهُ ذَلِكَ ، وَهَذِهِ كَفَالَةٌ مُضَافَةٌ إلَى سَبَبِ وُجُوبِ الْمَالِ ؛ فَإِنَّهُمَا يَتَصَادَقَانِ أَنَّ الْمَالِكَ ظَالِمٌ وَأَنَّ مَا يَقْبِضُهُ دَيْنٌ عَلَيْهِ لِلْمُودِعِ ، وَالرَّسُولُ ضَمِنَ لَهُ ذَلِكَ مُضَافًا إلَى سَبَبِ الْوُجُوبِ ؛ فَلِهَذَا طَالَبَهُ بِهِ .
( وَإِذَا ) كَانَ عِنْدَ رَجُلٍ وَدِيعَةٌ ، أَوْ عَارِيَّةٌ ، أَوْ بِضَاعَةٌ ، فَغَصَبَهَا مِنْهُ رَجُلٌ ، فَهُوَ خَصْمُهُ فِيهَا " عِنْدَنَا " ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - : لَا خُصُومَةَ بَيْنَهُمَا ، حَتَّى يَحْضُرَ الْمَالِكُ .
وَلِأَنَّ الْمَالَ مِلْكُ صَاحِبِهِ ، فَإِنَّمَا يُخَاصَمُ فِي الِاسْتِرْدَادِ ، هُوَ أَوْ وَكِيلُهُ ، وَالْمُودَعُ لَيْسَ بِوَكِيلٍ عَنْهُ فِي الْخُصُومَةِ ؛ فَلَا يُخَاصِمُ فِي الِاسْتِرْدَادِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ .
وَلَكِنَّا نَقُولُ : لِلْمُودَعِ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْوَدِيعَةِ ، وَقَدْ أَزَالَهَا الْغَاصِبُ ؛ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ عَنْ نَفْسِهِ ؛ لِإِعَادَةِ الْيَدِ الَّتِي أَزَالَهَا بِالْغَصْبِ ، وَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْحِفْظِ مِنْ جِهَةِ الْمُودِعِ ، وَلَا يَتَأَتَّى لَهُ الْحِفْظُ إلَّا بِاسْتِرْدَادِ عَيْنِهِ مِنْ الْغَاصِبِ ، أَوْ اسْتِرْدَادِ قِيمَتِهِ بَعْدَ هَلَاكِ الْعَيْنِ ؛ لِيَحْفَظَ مَالِيَّتَهُ عَلَيْهِ ، فَكَانَ كَالْمَأْمُورِ بِهِ دَلَالَةً ، وَفِي إثْبَاتِ حَقِّ الْخُصُومَةِ لَهُ تَحْقِيقُ مَعْنَى الْحِفْظِ ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ إذَا عَلِمَ أَنَّ الْمُودَعَ لَا يُخَاصِمُهُ فِي حَالِ غَيْبَةِ الْمُودِعِ تَجَاسَرَ عَلَى أَخْذِهِ ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْمُودَعُ فِيهِ خَصْمًا .
وَإِنْ كَانَتْ الْوَدِيعَةُ عِنْدَ رَجُلَيْنِ - مِنْ ثِيَابٍ أَوْ غَيْرِهَا - فَاقْتَسَمَاهَا وَجَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهَا فِي بَيْتِهِ ، فَهَلَكَ أَحَدُ النِّصْفَيْنِ ، أَوْ كِلَاهُمَا : فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا .
وَهَكَذَا أَمْرُ النَّاسِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَجْتَمِعَا عَلَى حِفْظِهَا فِي مَكَان وَاحِدٍ ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُودَعَ إنَّمَا يَلْتَزِمُ الْحِفْظَ بِحَسَبِ إمْكَانِهِ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُمَا لَا يَقْدِرَانِ عَلَى أَنْ يَتْرُكَا جَمِيعَ أَشْغَالِهِمَا ، وَيَجْتَمِعَا فِي مَكَان وَاحِدٍ لِحِفْظِ الْوَدِيعَةِ .
وَالْمَالِكُ لَمَّا أَوْدَعَهُمَا - مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ - فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِقِسْمَتِهَا وَحِفْظِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلنِّصْفِ دَلَالَةً ، وَالثَّابِتُ بِالدَّلَالَةِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ .
وَإِنْ أَبَيَا الْقِسْمَةَ وَأَوْدَعَاهُ عِنْدَ رَجُلٍ ، فَهَلَكَ : ضَمِنَاهُ ؛ لِتَرْكِهِمَا مَا الْتَزَمَاهُ مِنْ الْحِفْظِ وَالْمُسْتَبْضَعَانِ وَالْوَصِيَّانِ ، وَالْعَدْلَانِ فِي الرَّهْنِ قِيَاسُ الْمُودِعَيْنِ فِي ذَلِكَ ، فَإِنْ تَرَكَهَا أَحَدُهُمَا عِنْدَ صَاحِبِهِ - وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ شَيْئًا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ - فَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا إذَا هَلَكَ ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَمَّا أَوْدَعَهُمَا - مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ عَلَى حِفْظِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ - فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِحِفْظِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِجَمِيعِهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا يَتَهَايَآنِ فِي الْحِفْظِ ، وَفِي مُدَّةِ الْمُهَايَأَةِ يَتْرُكُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ صَاحِبِهِ فِي نُوبَتِهِ .
فَإِنْ كَانَ شَيْئًا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ، فَتَرَكَهُ أَحَدُهُمَا عِنْدَ صَاحِبِهِ : فَلَا ضَمَانَ عَلَى الَّذِي هَلَكَ فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُقْبِلٌ عَلَى حِفْظِهِ ، وَهُوَ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ مُودَعُ الْمُودَعِ .
وَمُودَعُ الْمُودَعِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُضْمَنُ .
فَأَمَّا الدَّافِعُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ ضَامِنٌ لِلنِّصْفِ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْحِفْظَ الَّذِي الْتَزَمَهُ مَعَ الْإِمْكَانِ ، فَإِنَّهُمَا يَتَمَكَّنَانِ مِنْ
الْقِسْمَةِ ؛ لِيَحْفَظَ كُلٌّ مِنْهُمَا نِصْفَهُ ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَضْمَنُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ائْتَمَنَهُمَا ، فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِحِفْظِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ ، كَمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ .
وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَقْيَسُ ؛ لِأَنَّ رِضَاهُ بِأَمَانَةِ اثْنَيْنِ لَا يَكُونُ رِضًا بِأَمَانَةِ وَاحِدٍ ، فَإِذَا كَانَ الْحِفْظُ مِنْهُمَا يَتَأَتَّى عَادَةً ، لَا يَصِيرُ رَاضِيًا بِحِفْظِ أَحَدِهِمَا لِلْكُلِّ وَحْدَهُ .
( وَإِذَا ) احْتَرَقَ بَيْتُ الْمُودَعِ وَأَخْرَجَ الْوَدِيعَةَ مَعَ مَتَاعِهِ ، وَوَضَعَهُ فِي بَيْتِ جَارِهِ ، فَهَلَكَ : فَهُوَ ضَامِنٌ فِي الْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ الْحِفْظَ الَّذِي الْتَزَمَهُ بِالتَّسْلِيمِ إلَى غَيْرِهِ ، وَعُذْرُهُ يُسْقِطُ الْمَأْثَمَ عَنْهُ ، وَلَكِنْ لَا يُبْطِلُ حَقَّ الْمَالِكِ فِي الضَّمَانِ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ هَذَا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ ، وَلِأَنَّ وَضْعَهُ فِي بَيْتِ جَارِهِ - فِي مِثْلِ هَذِهِ الْحَالَةِ - مِنْ الْحِفْظِ ؛ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِهِ دَفْعَ الْحَرْقِ عَنْ الْوَدِيعَةِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ إنَّمَا يَحْفَظُ الْوَدِيعَةَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَحْفَظُ مَالَ نَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا يَحْفَظُ مَالَ نَفْسِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِهَذَا الطَّرِيقِ .
أَرَأَيْت لَوْ كَانَ فِي سَفِينَةٍ ، فَغَرِقَتْ ، فَنَاوَلَ الْوَدِيعَةَ إنْسَانًا عَلَى الْجِلْدِ - يُمْسِكُهَا - أَكَانَ ضَامِنًا ؟ .
( وَإِذَا ) كَانَتْ الْوَدِيعَةُ إبِلًا ، أَوْ بَقَرًا ، أَوْ غَنَمًا ، وَصَاحِبُهَا غَائِبٌ ، فَإِنْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا الْمُسْتَوْدَعُ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي ، فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ ، بِغَيْرِ أَمْرِهِ .
وَإِنْ دَفَعَهَا إلَى الْقَاضِي : يَسْأَلُهُ الْبَيِّنَةَ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي ثُبُوتَ وِلَايَةِ الْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ لِلْقَاضِي فِيهِ ؛ فَلَا يُصَدِّقُهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ .
فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا وَدِيعَةٌ عِنْدَهُ لِفُلَانٍ : أَمَرَهُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا مِنْ مَالِهِ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ ، وَالْحَيَوَانُ لَا يَبْقَى بِدُونِ النَّفَقَةِ ، وَالْمُودَعُ لَا يُنْفِقُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْضَى بِالتَّبَرُّعِ بِهِ ، فَيَأْمُرُهُ بِذَلِكَ ، نَظَرًا مِنْهُ لِلْغَائِبِ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى رَبِّ الْوَدِيعَةِ ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْقَاضِي - فِي حَالِ قِيَامِ وِلَايَتِهِ - كَأَمْرِهِ بِنَفْسِهِ ، وَلَوْ أَمَرَهُ بِأَنْ يُنْفِقَ : كَانَ مَا يُنْفِقُهُ دَيْنًا لَهُ عَلَى الْمَالِكِ .
فَكَذَا إذَا أَمَرَهُ الْقَاضِي بِهِ .
فَإِذَا جَاءَ : أَجْبَرَهُ عَلَى رَدِّ نَفَقَتِهِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ رَأَى الْقَاضِي أَنْ يَأْمُرَهُ بِبَيْعِهَا ، فَعَلَ ذَلِكَ ، وَإِذَا بَاعَهَا جَازَ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّ فِي الْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ تَلَفُ بَعْضِ الْمَالِيَّةِ عَلَى الْمَالِكِ ، وَفِي الْبَيْعِ يَتَوَفَّرُ عَلَيْهِ حِفْظُ جَمِيعِ الْمَالِيَّةِ فَلِهَذَا نَفَذَ بَيْعهُ بِأَمْرِ الْقَاضِي .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَفَعَهَا إلَى الْقَاضِي ، وَاجْتَمَعَ عِنْدَهُ مِنْ أَلْبَانِهَا شَيْءٌ كَثِيرٌ ، يَخَافُ فَسَادَهُ ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ ثَمَرَةَ أَرْضٍ فَبَاعَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي ؛ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا إنْ كَانَ فِي مِصْرٍ يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِطْلَاعِ رَأْيِ الْقَاضِي .
وَإِنْ بَاعَهَا بِأَمْرِ الْقَاضِي لَمْ يَضْمَنْ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ نَائِبُ الْغَائِبِ فِيمَا يُرْجَعُ إلَى النَّظَرِ لَهُ ، وَلَوْ تَمَكَّنَ مِنْ اسْتِطْلَاعِ رَأْيِ الْمَالِكِ فَبَاعَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ : لَمْ يَنْفُذْ بَيْعُهُ ، وَكَانَ ضَامِنًا .
فَكَذَلِكَ إذَا تَمَكَّنَ مِنْ اسْتِطْلَاعِ رَأْيِ الْقَاضِي فَلَمْ يَفْعَلْ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي مَوْضِعٍ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْقَاضِي قَبْلَ أَنْ يَفْسُدَ ذَلِكَ الشَّيْءُ : لَمْ يَضْمَنْ - اسْتِحْسَانًا - ؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ الْآنَ مِنْ الْحِفْظِ ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ إلَّا مَا أَتَى بِهِ .
( وَحُكِيَ ) أَنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَاتَ رَفِيقٌ لَهُمْ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ ، فَبَاعُوا مَتَاعَهُ ، وَجَهَّزُوهُ بِهِ ، ثُمَّ رَجَعُوا إلَى مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَسَأَلُوا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا لَمْ تَكُونُوا فُقَهَاءَ { وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنْ الْمُصْلِحِ } .
وَإِنْ حَمَلَ عَلَيْهَا الْمُسْتَوْدَعُ ؛ فَنَتَجَتْ ، وَلَمْ يَكُنْ صَاحِبُهَا أَمَرَ بِذَلِكَ : فَأَوْلَادُهَا لِصَاحِبِهَا ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ خَيْرٌ مُتَوَلَّدٌ مِنْ الْأَصْلِ ، يُمَلَّكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ ، وَإِنْ هَلَكَتْ الْأُمَّهَاتُ بِذَلِكَ ، فَالْمُسْتَوْدَعُ ضَامِنٌ لَهَا ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ حِينَ أَتَى بِغَيْرِ مَا أُمِرَ بِهِ فَيَضْمَنُ مَا هَلَكَ بِسَبَبِهِ .
( وَلَوْ ) أَكْرَى الْإِبِلَ إلَى مَكَّةَ ، وَأَخَذَ الْكِرَاءَ كَانَ الْكِرَاءُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِعَقْدِهِ ، وَلَيْسَتْ الْغَلَّةُ كَالْوَلَدِ وَلَا كَالصُّوفِ وَاللَّبَنِ ؛ فَإِنَّ ذَاكَ يَتَوَلَّدُ مِنْ الْأَصْلِ فَيُمَلَّكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ ، وَهَذَا غَيْرُ مُتَوَلِّدٍ مِنْ الْأَصْلِ ، بَلْ هُوَ وَاجِبٌ بِالْعَقْدِ ؛ فَيَكُونُ لِلْعَاقِدِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الْغَصْبِ .
( وَإِنْ ) ادَّعَى الْمُسْتَوْدَعُ أَنَّهُ أَنْفَقَ الْوَدِيعَةَ عَلَى عِيَالِ الْمُودِعِ بِأَمْرِهِ ، وَصَدَّقَهُ عِيَالُهُ فِي ذَلِكَ ، وَقَالَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ لَمْ آمُرْك بِذَلِكَ : فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْوَدِيعَةِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ بَاشَرَ سَبَبَ الضَّمَانِ فِي الْوَدِيعَةِ - وَهُوَ الْإِنْفَاقُ - وَادَّعَى مَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ عَنْهُ - وَهُوَ إذْنُ الْمَالِكُ - ؛ فَلَا يَصَدَّقُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ : فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْوَدِيعَةِ مَعَ يَمِينِهِ لِإِنْكَارِهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى الْمَسَاكِينِ ، أَوْ يَهَبَهَا لِفُلَانٍ .
فَإِنْ كَانَتْ الْوَدِيعَةُ جَارِيَةً فَزَوَّجَهَا الْمُسْتَوْدَعُ مِنْ رَجُلٍ ، وَأَخَذَ عُقْرَهَا فَوَلَدَتْ ، وَنَقَصَتْهَا الْوِلَادَةُ ، ثُمَّ جَاءَ سَيِّدُهَا : لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا وَوَلَدَهَا ، وَلَهُ أَنْ يُفْسِدَ النِّكَاحَ ؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ بَاشَرَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ فَكَانَ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ ، وَإِذَا فَسَدَ النِّكَاحُ : أَخَذَ عُقْرَهَا ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ ، وَالْعُقْرُ كَالْأَرْشِ ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ الْعَيْنِ بِخِلَافِ الْأَجْرِ ، وَيَضْمَنُ الْمُسْتَوْدَعُ نُقْصَانَ الْوِلَادَةِ إنْ كَانَتْ الْوِلَادَةُ نَقَصَتْهَا ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الْوَلَدِ وَفَاءٌ بِهَا ، وَإِنْ كَانَ فِي الْوَلَدِ وَفَاءٌ بِهَا : انْجَبَرَ النُّقْصَانُ بِالْوَلَدِ ؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ صَارَ كَالْغَاصِبِ فِيمَا صَنَعَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْحَكَمَ فِي حَقِّ الْغَاصِبِ .
وَإِنْ كَانَ نُقْصَانُهَا مِنْ غَيْرِ الْوِلَادَةِ - مِنْ شَيْءٍ أَحْدَثَهُ الزَّوْجُ مِنْ جِمَاعِهَا - فَالْمُسْتَوْدَعُ ضَامِنٌ لِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ سَلَّطَ الزَّوْجَ عَلَى ذَلِكَ ، وَصَارَ غَاصِبًا بِمَا صَنَعَ ، وَإِنَّمَا يَنْجَبِرُ بِالْوَلَدِ نُقْصَانُ الْوِلَادَةِ ؛ لِاتِّحَادِ سَبَبِ النُّقْصَانِ وَالزِّيَادَةِ ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي نُقْصَانٍ حَدَثَ بِسَبَبٍ آخَرَ ، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَوْدَعُ اسْتَهْلَكَ الْوَلَدَ : ضَمِنَ قِيمَةَ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ كَانَ أَمَانَةً عِنْدَهُ - كَوَلَدِ الْغَصْبِ عِنْدَ الْغَاصِبِ - فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ بِالِاسْتِهْلَاكِ .
( ثُمَّ ) رَدُّ قِيمَةِ الْوَلَدِ كَرَدِّ عَيْنِهِ فِي انْجِبَارِ نُقْصَانِ الْوِلَادَةِ بِهِ .
( رَجُلٌ ) اسْتَوْدَعَ رَجُلَيْنِ جَارِيَةً فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نِصْفَهَا الَّذِي فِي يَدِهِ فَوَقَعَ عَلَيْهَا الْمُشْتَرِي فَوَلَدَتْ لَهُ ، ثُمَّ جَاءَ سَيِّدُهَا : ( قَالَ ) : يَأْخُذُهَا وَعُقْرَهَا ، وَقِيمَةَ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْلِدَ مَغْرُورٌ ، فَإِنَّ قِيَامَ الْمِلْكِ لَهُ فِي نِصْفِهَا كَقِيَامِ الْمِلْكِ لَهُ فِي جَمِيعِهَا ، فِي صِحَّةِ الِاسْتِيلَادِ ، وَلَوْ كَانَ الْمِلْكُ لَهُ فِي جَمِيعِهَا ظَاهِرًا ، كَانَ يَتَحَقَّقُ الْغَرَرُ ، فَكَذَلِكَ فِي نِصْفِهَا .
وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ .
ثُمَّ رَدُّ قِيمَةِ الْوَلَدِ كَرَدِّ عَيْنِ الْوَلَدِ فِي جَبْرِ نُقْصَانِ الْوِلَادَةِ بِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي قِيمَةِ الْوَلَدِ وَفَاءٌ بِالنُّقْصَانِ : أُخِذَ تَمَامُ ذَلِكَ مِنْ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ كَانَ غَاصِبًا لَهَا فِي حَقِّ مَالِكِهَا ، فَيَكُونُ ضَامِنًا لِمَا حَدَثَ مِنْ النُّقْصَانِ فِي يَدِهِ ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ ، وَبِنِصْفِ قِيمَةِ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا مَلَّكَهُ نِصْفَهَا ، وَلَوْ مَلَّكَهُ كُلَّهَا رَجَعَ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ قِيمَةِ الْوَلَدِ ، إذَا ظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ ، فَالْجُزْءُ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ .
وَأَمَّا الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ فَلِانْفِسَاخِ الْبَيْعِ بِسَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَإِنْ شَاءَ رَبُّ الْجَارِيَةِ ضَمِنَ الْبَائِع نِصْفَ النُّقْصَانِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَمِينًا فِي نِصْفِهَا ، وَقَدْ تَعَدَّى بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ هَلَكَتْ كَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْبَائِعَ نِصْفَ قِيمَتِهَا ، فَكَذَلِكَ إذَا فَاتَ جُزْءٌ مِنْهَا بِالْوِلَادَةِ .
فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْجَارِيَةَ لِهَذَا الَّذِي حَضَرَ إلَّا بِقَوْلِ الْمُسْتَوْدَعِينَ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ مِنْهُمَا مُنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ ، وَالْآخَر قَدْ تَمَلَّكَ عَلَيْهِ الْمُسْتَوْلِدُ نَصِيبَهُ أَيْضًا بِالضَّمَانِ ؛ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى إبْطَالِ مِلْكٍ ثَابِتٍ لِلْمُسْتَوْلِدِ عَلَيْهِمَا ، وَلَكِنْ الْجَارِيَةُ أُمُّ وَلَدٍ لِلْمُشْتَرِي ، بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ ، وَيَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ
نِصْفَ قِيمَتِهَا ، وَنِصْفَ عُقْرِهَا فَيَدْفَعُهُ إلَى شَرِيكِهِ فِيهَا ، كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي جَارِيَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ يَسْتَوْلِدُهَا أَحَدُهُمَا .
( فَإِنْ قِيلَ ) : كَيْفَ يَغْرَمُ لِلشَّرِيكِ هُنَا ، وَهُوَ يَأْبَى ذَلِكَ ، وَيَزْعُمُ أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِغَيْرِهِ ؟ ( قُلْنَا ) : نَعَمْ ، وَلَكِنَّهُ صَارَ مُكَذَّبًا فِي زَعْمِهِ شَرْعًا حِينَ كَانَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لِلْمُشْتَرِي ؛ فَلِهَذَا سَقَطَ اعْتِبَارُ زَعْمِهِ .
( وَإِذَا ) جَحَدَ الْمُسْتَوْدَعُ مَا عِنْدَهُ مِنْ الْوَدِيعَةِ ، ثُمَّ أَوْدَعَ مِنْ مَالِهِ عِنْدَ الْمُودَعِ مِثْلَ ذَلِكَ : وَسِعَهُ إمْسَاكُهُ قِصَاصًا بِمَا ذَهَبَ بِهِ مِنْ وَدِيعَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ صَارَ دَيْنًا لَهُ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ بِجُحُودِهِ .
وَصَاحِبُ الْحَقِّ مَتَى ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ مِنْ مَالِ الْمَدْيُونِ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ : قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِهِنْدٍ : { خُذِي مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ } .
( وَقِيلَ ) فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِصَاحِبِ الْحَقِّ : الْيَدُ وَاللِّسَانُ ، أَنَّ الْمُرَادَ أَخْذُ جِنْسِ حَقِّهِ إذَا ظَفِرَ بِهِ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمَالَ دَيْنًا عَلَيْهِ ، وَأَنْكَرَهُ ، ثُمَّ أَوْدَعَهُ مِثْلَهُ ، فَأَمَّا إذَا أَوْدَعَهُ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ جِنْسِ حَقِّهِ لَمْ يَسَعْهُ إمْسَاكُهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا بَيْعٌ عِنْد اخْتِلَافِ الْجِنْسِ فَلَا يَنْفَرِدُ هُوَ بِهِ ، وَالْأَوَّلُ : اسْتِيفَاءٌ ، وَصَاحِبُ الْحَقِّ يَنْفَرِدُ بِالِاسْتِيفَاءِ ، وَحُكِيَ عَنْ ابْن أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا ؛ لِلْمُجَانِسَةِ مِنْ حَيْثُ الْمَالِيَّةِ ، وَلَكِنَّهُ بَعِيدٌ ؛ فَالْوَدِيعَةُ عَيْنٌ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهَا بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ ، إذَا لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حَقُّ تَمَلُّكِ الْعَيْنِ ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْمَرْهُونُ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ : الْمُرْتَهَنُ يَحْبِسُ الْمَرْهُونَ بِإِيجَابِ الرَّاهِنِ مِلْكَ الْيَدِ لَهُ فِي الْعَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْهَلَاكِ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ ، ثُمَّ عِنْدَ الْمُجَانَسَةِ إذَا طَلَبَ الثَّانِي يَمِينَ الْمُودَعِ الْأَوَّلِ ، كَانَ لَهُ أَنْ يَحْلِفَ بِاَللَّهِ : لَا يَلْزَمُنِي تَسْلِيمُ شَيْءٍ إلَيْك ، فَإِنْ قَالَ لِلْقَاضِي : حَلِّفْهُ بِاَللَّهِ مَا اسْتَوْدَعْته كَذَا : فَلَهُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يُؤَدِّيَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَيَقُولُ : قَدْ يُودِعُ الرَّجُلُ غَيْرَهُ شَيْئًا ، ثُمَّ لَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُ شَيْءٍ إلَيْهِ .
فَإِنْ أَدَّى
بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، فَقَدْ طَلَبَ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَنْظُرَ لَهُ ، فَيُجِيبُهُ إلَى ذَلِكَ .
فَأَمَّا إذَا لَمْ يَذْكُرْ هَذَا فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُحَلِّفُهُ - كَمَا طَلَبَ الْخَصْمُ - بِاَللَّهِ مَا أَوْدَعَهُ مَا يَدَّعِي ، ثُمَّ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ كَاذِبًا فِي يَمِينِهِ ، وَلَا رُخْصَةَ فِي الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ ، فَطَرِيقُ التَّخَلُّصِ لَهُ : أَنْ يَعْرِضَ لِلْقَاضِي بِمَا ذَكَرْنَا ، أَوْ يَحْلِفَ : مَا اسْتَوْدَعْتنِي شَيْئًا إلَّا كَذَا وَكَذَا ، يَسْتَثْنِي ذَلِكَ بِكَلَامِهِ وَيُخْفِيهِ مِنْ خَصْمِهِ وَمِنْ الْقَاضِي ، وَيَسَعُهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مَظْلُومٌ دَافَعَ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ ، غَيْرَ قَاصِدٍ إلَى الْإِضْرَارِ بِغَيْرِهِ ، إلَّا أَنَّ مُجَرَّدَ نِيَّتِهِ لَا تَكْفِي لِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إخْرَاجِهِ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَتَنَاوَلُهُ كَلَامُهُ ، لَوْلَا الِاسْتِثْنَاءُ ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالنِّيَّةِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ بَيَانُ أَنَّ كَلَامَهُ عِبَارَةٌ عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى ، فَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ نَاسِخًا ، أَوْ مُعَارِضًا ، وَمُجَرَّدُ النِّيَّةِ لَا تَصْلُحُ لِذَلِكَ ؛ فَلِهَذَا شَرَطَ التَّكَلُّمَ بِالِاسْتِثْنَاءِ .
وَجْهُ ذَلِكَ مَا لَوْ قَرَّبَ إنْسَانٌ أُذُنَهُ مِنْ فَمِهِ سَمِعَ ذَلِكَ ، وَفَهِمَهُ .
وَأَمَّا إذَا غَابَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ ، وَلَا يُدْرَى : أَحَيٌّ هُوَ أَوْ مَيِّتٌ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَهَا حَتَّى يَعْلَمَ بِمَوْتِهِ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ حِفْظَهَا لَهُ ، فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا الْتَزَمَ ، كَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ فِي الْعُهُودِ : وَفَاءٌ لَا غَدْرَ فِيهِ .
بِخِلَافِ اللُّقَطَةِ فَإِنَّ مَالِكَهَا غَيْرُ مَعْلُومٍ عِنْدَهُ ، فَبَعْدَ التَّعْرِيفِ : التَّصَدُّقُ بِهَا طَرِيقٌ لَا يَصِلُهَا إلَيْهِ ، وَهُنَا مَالِكُهَا مَعْلُومٌ ، فَطَرِيقُ إيصَالِهَا الْحِفْظُ إلَى أَنْ يَحْضُرَ الْمَالِكُ ، أَوْ يَتَبَيَّنَ مَوْتُهُ فَيَطْلُبَ ، وَارِثَهُ ، وَيَدْفَعُهَا إلَيْهِ .
، وَإِنْ مَاتَ الرَّجُلُ ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ ، وَعِنْدَهُ ، وَدِيعَةٌ ، وَمُضَارَبَةٌ ، وَبِضَاعَةٌ ، فَإِنْ عُرِفَتْ بِأَعْيَانِهَا : فَأَرْبَابُهَا أَحَقُّ بِهَا مِنْ الْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَدْيُونِ يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ دُونَ مَالِ سَائِرِ النَّاسِ ، وَكَمَا كَانُوا أَحَقَّ بِهَا فِي حَيَاةِ الْمَدْيُونِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ .
وَإِنْ لَمْ تُعْرَفْ بِأَعْيَانِهَا : قُسِمَ الْمَالُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ ، وَأَصْحَابُ الْوَدِيعَةِ ، وَالْمُضَارَبَةِ ، وَالْبِضَاعَةِ بِمَنْزِلَةِ الْغُرَمَاءِ عِنْدَنَا ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى : الْغُرَمَاءُ أَحَقُّ بِجَمِيعِ التَّرِكَةِ .
وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْأَمِينَ إذَا مَاتَ مُجْهِلًا لِلْأَمَانَةِ ؛ فَالْأَمَانَةُ تَصِيرُ دَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّهُ بِالتَّجْهِيلِ صَارَ مُتَمَلِّكًا لَهَا ، فَإِنَّ الْيَدَ الْمَجْهُولَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ تَنْقَلِبُ يَدَ مِلْكٍ ؛ وَلِهَذَا : لَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ بِهَا كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ بِالْمِلْكِ ، حَتَّى يَقْضِيَ الْقَاضِي لِلْوَارِثِ وَالْمُودَعِ بِالتَّمْلِيكِ ؛ فَيَصِيرُ ضَامِنًا ، وَلِأَنَّهُ بِالتَّجْهِيلِ يَصِيرُ مُسَلِّطًا غُرَمَاءَهُ وَوَرَثَتَهُ عَلَى أَخْذِهَا .
وَالْمُودَعُ بِمِثْلِ هَذَا التَّسْلِيطِ يَصِيرُ ضَامِنًا كَمَا لَوْ دَلَّ سَارِقًا عَلَى سَرِقَتِهَا ، وَلِأَنَّهُ الْتَزَمَ أَدَاءَ الْأَمَانَةِ ، وَمِنْ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ : بَيَانُهَا عِنْدَ مَوْتِهِ ، وَرَدُّهَا عَلَى الْمَالِكِ إذَا طَلَبَ ، فَكَمَا يَضْمَنُ بِتَرْكِ الرَّدِّ بَعْدَ الطَّلَبِ يَضْمَنُ أَيْضًا بِتَرْكِ الْبَيَانِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ : هَذَا كُلُّهُ إذَا عَلِمَ قِيَامَهَا عِنْدَ الْمَوْتِ ، وَلَا يَعْرِفُ ذَلِكَ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : قَدْ عَلِمْنَا بَقَاءَهَا ، وَالتَّمَسُّكُ بِمَا هُوَ الْمَعْلُومُ وَاجِبٌ ، مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ خِلَافُهُ ، وَرُبَّمَا يَقُولُ : حَقُّ الْغُرَمَاءِ كَانَ فِي ذِمَّتِهِ ، وَيَتَحَوَّلُ بِالْمَوْتِ إلَى مَالِهِ ، وَحَقُّ أَصْحَابِ الْأَمَانَةِ لَمْ يَكُنْ فِي ذِمَّتِهِ فِي حَيَاتِهِ ، فَكَيْف يُزَاحِمُونَ الْغُرَمَاءَ فِي مَالِهِ بَعْدَ
مَوْتِهِ ؟ وَلَكِنَّا نَقُولُ : صَارَ حَقُّهُمْ أَيْضًا دَيْنًا قَبْلَ مَوْتِهِ حِين وَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ بَيَانِهِ ، ثُمَّ حَقُّ أَصْحَابِ الْأَمَانَةِ مِنْ وَجْهٍ أَقْوَى ، لِعِلْمِنَا أَنَّهُ كَانَ فِي عَيْنِ الْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ ، وَمَنْ لَهُ حَقُّ الْعَيْنِ ، فَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى سَائِرِ الْغُرَمَاءِ - كَالْمُرْتَهِنِ فِي الرَّهْنِ - فَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَحِقُّ صَاحِبُ الْأَمَانَةِ التَّرْجِيحَ ، فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يُزَاحِمَ الْغُرَمَاءَ .
( وَإِذَا ) رَدَّ الْمُسْتَوْدَعُ الْوَدِيعَةَ إلَى الْمُودِعِ ، ثُمَّ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ ، وَحَضَرُوا عِنْدَ الْقَاضِي : فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي الْقَبْضِ قَدْ انْتَسَخَ بِالرَّدِّ إلَى مَنْ أَخَذَ مِنْهُ ؛ فَلَا يَبْقَى لَهُ حُكْمٌ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَبَيَانُ الِانْتِسَاخِ مِنْ حَيْثُ الْحِسِّ ظَاهِرٌ .
وَمِنْ حَيْثُ الْحُكْمِ : فَلِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالرَّدِّ شَرْعًا عَلَى مَنْ أَخَذَهَا مِنْهُ قَبْلَ حُضُورِ الْمَالِكِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَوَّلَ لَوْ كَانَ غَاصِبًا مَعْرُوفًا فَطَالَبَ الْمُودَعَ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَحْضُرَ الْمَالِكُ : أَلْزَمَهُ الْقَاضِي ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ سَرِقَةً ، أَوْ غَصْبًا : فَالْمُودَعُ بِالرَّدِّ عَلَى مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُ يَكُونُ نَاسِخًا حُكْمَ فِعْلِهِ فَيَبْقَى لِلْمَالِكِ قَبْلَهُ حَقٌّ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ التَّفْوِيتِ ؛ فَإِنَّ بِأَخْذِهِ فَاتَ عَلَى الْمَالِكِ التَّمَكُّنُ مِنْ الْأَخْذِ مِنْ الْأَوَّلِ ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْإِعَادَةِ إلَى يَدِهِ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُودَعُ صَبِيًّا ، أَوْ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ صَبِيًّا ، أَوْ عَبْدًا ؛ لِأَنَّ الْمُسْقِطَ لِلضَّمَانِ فِي حَقِّ الْمُودَعِ : رَدُّهُ إلَى مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُ ، وَذَلِكَ مُتَحَقِّقٌ مِنْهُ .
( وَإِنْ ) كَانَ الْمُودَعُ دَفَعَهَا إلَى إنْسَانٍ بِأَمْرِ الْمُودِعِ ، أَوْ بَاعَ ، أَوْ وَهَبَ ، وَسَلَّمَ بِأَمْرِهِ ، ثُمَّ ظَهَرَ الِاسْتِحْقَاقُ : كَانَ لِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يَضْمَنَ الْمُسْتَوْدَعَ ؛ لِأَنَّهُ مَا نُسِخَ فِعْلُهُ بِالرَّدِّ إلَى مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُ إنَّمَا سَلَّمَهُ إلَى غَيْرِهِ ، وَذَلِكَ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ بِدُونِ أَمْرِ الْمُودِعِ ، وَقَدْ ظَهَرَ بِالِاسْتِحْقَاقِ أَنَّ أَمْرَهُ لَمْ يَكُنْ مُعْتَبَرًا ؛ فَكَانَ الْمُسْتَوْدَعُ ضَامِنًا - بِخِلَافِ الْأَوَّلِ - فَقَدْ رُدَّ هُنَاكَ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْهُ ، وَذَلِكَ نَاسِخٌ لِفِعْلِهِ .
( عَبْدٌ ) اسْتَوْدَعَ رَجُلًا وَدِيعَةً ، ثُمَّ غَابَ : لَمْ يَكُنْ لِمَوْلَاهُ أَنْ يَأْخُذَ الْوَدِيعَةَ تَاجِرًا كَانَ الْعَبْدُ ، أَوْ مَحْجُورًا ؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ مَا قَبَضَ مِنْهُ شَيْئًا ، وَلِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ أَخْذِ هَذَا الْمَالِ بِشَرْطَيْنِ ، ( أَحَدُهُمَا ) : قِيَامُ مِلْكِهِ فِي رَقَبَةِ الدَّافِعِ فِي الْحَالِ .
( وَالثَّانِي ) : فَرَاغُ ذِمَّةِ الدَّافِعِ عَنْ دَيْنِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الْعَبْدِ فِي كَسْبِهِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْمَوْلَى ، وَالْمُودَعُ لَيْسَ بِخَصْمٍ فِي إثْبَاتِ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ إذَا عَلِمَ أَنَّ الْوَدِيعَةَ كَسْبُ الْعَبْدِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَلَعَلَّهَا كَانَتْ وَدِيعَةً فِي يَدِهِ لِغَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا لِإِيضَاحِ مَا سَبَقَ أَنَّ الْمُودَعَ رَدَّ الْوَدِيعَةَ إلَى مَنْ أَخَذَهَا مِنْهُ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ طَلَبُ الْمَالِكِ لِيَرُدَّهَا عَلَيْهِ ، فَإِنَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَلْزَمُهُ رَدُّهَا إلَى الْعَبْدِ إذَا حَضَرَ ، وَلَا يَلْزَمُهُ رَدُّهَا عَلَى مَالِكِهَا .
( وَإِذَا ) مَاتَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ : فَالْوَارِثُ خَصْمٌ فِي طَلَبِ الْوَدِيعَةِ ؛ لِأَنَّهُ خَلِيفَةُ الْمُوَرِّثِ ، قَائِمٌ مَقَامَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ، فَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ ، وَلَهُ وَصِيٌّ ، فَيَنْبَغِي لِلْمُسْتَوْدَعِ أَنْ يَدْفَعَ الْوَدِيعَةَ إلَى الْوَصِيِّ ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْوَصِيِّ بَعْدَ مَوْتِهِ فَأَمَّا الْوَارِثُ فَإِنَّمَا يَخْلُفُ الْمُوَرِّثَ بِشَرْطِ فَرَاغِ التَّرِكَةِ عَنْ حَقِّ الْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الْوَارِثِ ؛ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى الْوَصِيِّ لِيَبِيعَهَا فَيَقْضِيَ الدَّيْنَ ، ثُمَّ يَدْفَع مَا بَقِيَ إلَى الْوَارِثِ .
( وَإِنْ ) كَانَتْ الْوَدِيعَةُ عَبْدًا ، أَوْ دَابَّةً ، أَوْ ثَوْبًا وَاحِدًا عِنْدَ رَجُلَيْنِ : فَإِنَّهُمَا يَتَهَايَآنِ عَلَى حِفْظِهِ ؛ فَيُمْسِكُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَهْرًا ؛ لِأَنَّ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَى الْحِفْظِ - آنَاءً اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ - لَا يُتَصَوَّرُ ، وَلِأَنَّهُمَا يَحْفَظَانِ مَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ مِنْ مِلْكِهِمَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، فَكَذَلِكَ مِنْ الْوَدِيعَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا يَحْفَظَانِ الْوَدِيعَةَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَحْفَظَانِ مَا لَهُمَا .
( وَإِنْ ) وَضَعَهُ أَحَدُهُمَا عِنْدَ صَاحِبِهِ ، فَهَلَكَ ، لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا ؛ اعْتِبَارًا بِمَا لَوْ هَلَكَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فِي زَمَانِ الْمُهَايَأَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا .
( وَإِذَا ) قَالَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ : أَوْدَعْتُك عَبْدًا وَأَمَةً ، وَقَالَ الْمُسْتَوْدَعُ : مَا أَوْدَعْتَنِي إلَّا الْأَمَةَ ، وَقَدْ هَلَكَتْ ، فَأَقَامَ رَبُّ الْوَدِيعَةِ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا ادَّعَى : ضَمِنَ الْمُسْتَوْدَعُ قِيمَةَ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُ جَحَدَ الْوَدِيعَةَ فِي الْعَبْدِ ؛ فَصَارَ ضَامِنًا قِيمَتَهُ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الْأَمَةِ ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ الْوَدِيعَةِ فِيهَا ، وَقَدْ زَعَمَ أَنَّهَا هَلَكَتْ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ .
( رَجُلَانِ ) ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَةً فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ أَوْدَعَهَا إيَّاهُ ، وَقَالَ الْمُسْتَوْدَعُ : مَا أَدْرِي لِأَيِّكُمَا هِيَ ، غَيْرَ أَنِّي أَعْلَمُ أَنَّهَا لِأَحَدِكُمَا .
( قَالَ ) : يَحْلِفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي عَلَيْهِ أَنَّهُ أَوْدَعَهُ الْأَمَةَ بِعَيْنِهَا ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ ، إنَّمَا أَقَرَّ بِإِيدَاعِ أَحَدِهِمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ مِنْهُ ، وَالْمُنْكِرُ غَيْرُ الْمُعَيَّنِ ؛ فَلِهَذَا يَحْلِفُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
وَتَمَامُ بَيَانِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ .
وَإِنَّمَا أَوْرَدَ الْمَسْأَلَةَ هُنَا لِبَيَانِ خِلَافِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فِي فَصْلٍ ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا أَبَى أَنْ يَحْلِفَ لَهُمَا ، فَإِنَّهُ يَدْفَعُ الْأَمَةَ إلَيْهِمَا ، وَيَغْرَمُ قِيمَتَهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ .
وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يَرُدُّهَا عَلَيْهِمَا ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ سِوَى ذَلِكَ ، وَهُوَ - بِنَاءً عَلَى مَا بَيَّنَّا - أَنَّ التَّجْهِيلَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ عَلَى الْمُودَعِ .
" وَعِنْدَنَا " : التَّجْهِيلُ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ صَارَ مُجْهِلًا فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَيَصِيرُ ضَامِنًا ، ثُمَّ بِنُكُولِهِ صَارَ مُقِرًّا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ أَخَذَ جَمِيعَهَا مِنْهُ ، وَإِنَّمَا رَدَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهَا ، فَيَصِيرُ ضَامِنًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا بَقِيَ مِنْ حَقِّهِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَغْرَمَ قِيمَتَهَا بَيْنَهُمَا .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : هَذَا اسْتَوْدَعَنِيهَا ، ثُمَّ قَالَ : أَخْطَأْت ، بَلْ هُوَ هَذَا ، كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَهُ بِهَا صَحِيحٌ ، وَرُجُوعهُ بَعْدَ ذَلِكَ بَاطِلٌ ، وَيَضْمَنُ لِلْآخَرِ قِيمَتَهَا ؛ لِإِقْرَارِهِ أَنَّهَا لِلثَّانِي ، وَأَنَّهُ صَارَ مُسْتَهْلِكًا عَلَى الثَّانِي بِإِقْرَارِهِ بِهَا لِلْأَوَّلِ ؛ فَيَكُونُ ضَامِنًا لَهُ قِيمَتَهَا .
وَهَذَا إذَا دَفَعَهَا إلَى الْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ دَفَعَهَا بِقَضَاءِ الْقَاضِي فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ .
وَفِي قَوْلِ أَبِي
يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَكُونُ ضَامِنًا ؛ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ إقْرَارِهِ لَمْ يَفُتْ عَلَى الثَّانِي شَيْءٌ ، وَإِنَّمَا الْفَوَاتُ بِالدَّفْعِ إلَى الْأَوَّلِ ، وَقَدْ كَانَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، وَلَكِنْ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ هُوَ الَّذِي سَلَّطَ الْقَاضِي عَلَى الْقَضَاءِ بِهَا لِلْأَوَّلِ بِإِقْرَارِهِ قَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ مُودَعٌ فِيهَا مِنْ الثَّانِي ، وَالْمُودَعُ إذَا سَلَّطَ الْغَيْرَ عَلَى أَخْذِ الْوَدِيعَةِ يَصِيرُ ضَامِنًا لِلْمُودِعِ .
( رَجُلٌ ) اسْتَوْدَعَ رَجُلًا وَدِيعَةً فَأَوْدَعَهَا الْمُسْتَوْدَعُ غَيْرَهُ ، مِنْ غَيْرِ عِيَالِهِ ، فَهَلَكَتْ : فَالْأَوَّلُ ضَامِنٌ لَهَا ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالتَّسْلِيمِ إلَى غَيْرِ مَنْ أُمِرَ بِحِفْظِهَا مِنْهُ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى مُودَعِ الْمُودَعِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - : هُوَ ضَامِنٌ لَهَا أَيْضًا ، وَلِصَاحِبِ الْمَالِ الْخِيَارُ ، يُضَمِّنُ أَيَّهُمَا شَاءَ .
" وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى " : لَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ : أَنَّ لِلْمُودَعِ أَنْ يُودِعَ غَيْرَهُ - وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا - .
فَأَمَّا هُمَا فَيَقُولَانِ : الْأَوَّلُ مُتَعَدٍّ فِي التَّسْلِيمِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ ، وَالثَّانِي مُتَعَدٍّ فِي الْقَبْضِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ فَكَانَ لِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَ أَيَّهُمَا شَاءَ ، كَالْغَاصِبِ مَعَ غَاصِبِ الْغَاصِبِ .
فَإِنْ ضَمَّنَ الْأَوَّلَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ بِالضَّمَانِ مُلِّكَ ؛ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَوْدَعَ مِلْكَ نَفْسِهِ ، وَقَدْ هَلَكَتْ فِي يَدِ الْمُودَعِ ، وَإِنْ ضَمِنَ الثَّانِي رَجَعَ عَلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ مَغْرُورٌ مِنْ جِهَتِهِ فَإِنَّهُ أَوْدَعَهُ عَلَى أَنَّهُ مِلْكُهُ ، وَأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ الضَّمَانُ فَهَلَكَ فِي يَدِهِ .
فَإِذَا لَحِقَهُ الضَّمَانُ رَجَعَ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ فِي الْقَبْضِ ، وَالْحِفْظِ كَانَ عَامِلًا لَهُ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا يَضْمَنُ بِسَبَبِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَقُولُ : الْأَوَّلُ يَصِيرُ ضَامِنًا بِالتَّسْلِيمِ إلَى الثَّانِي بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَهَا إلَيْهِ لِيَحْفَظَهَا بِحَضْرَتِهِ ، فَهَلَكَتْ : لَمْ يَضْمَنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ الْأَوَّلُ ضَامِنًا ؛ بِتَرْكِ الْحِفْظِ حِينَ غَابَ بَعْدَ مَا سَلَّمَهَا إلَى الثَّانِي .
فَأَمَّا الثَّانِي لَمْ يَتْرُكْ الْحِفْظَ ، بَلْ هُوَ مُقْبِلٌ عَلَى الْحِفْظِ حِين هَلَكَتْ ، فَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا .
يُوَضِّحُهُ : أَنَّ أَصْلَ قَبْضِ الثَّانِي لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ ، حَتَّى لَوْ هَلَكَ قَبْلَ
غَيْبَةِ الْأَوَّلِ لَمْ يَضْمَنْ ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ جِهَتِهِ صُنْعٌ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ فَيَصِيرُ بِهِ ضَامِنًا ، وَالضَّمَانُ لَا يَجِبُ بِدُونِ الصُّنْعِ ، إنَّمَا وُجِدَ الصُّنْعُ مِنْ الْأَوَّلِ - وَهُوَ الذَّهَابُ ، وَتَرْكُ الْحِفْظُ - وَلَمَّا لَمْ يَصِرْ الثَّانِي ضَامِنًا بِالْقَبْضِ ، كَانَ هَذَا فِي حَقِّهِ كَثَوْبٍ هَبَّتْ بِهِ الرِّيحُ ، وَأَلْقَتْهُ فِي حِجْرِهِ ، فَإِذَا هَلَكَتْ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ لَمْ يَضْمَنْ .
يُقَرِّرُهُ : أَنَّ الْأَوَّلَ لَمَّا لَمْ يَضْمَنْ بِمُجَرَّدِ التَّسْلِيمِ ، وَإِنَّمَا ضَمِنَ بِتَرْكِهَا فِي يَدِ الثَّانِي بَعْدَ غَيْبَتِهِ ، فَقَدْ صَارَتْ يَدُهُ يَدًا مُعْتَبَرَةً فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى الْأَوَّلِ ، وَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ تِلْكَ الْيَدِ بِعَيْنِهَا فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَى الثَّانِي كَأَجِيرِ الْقَصَّارِ ، إذَا دَقَّ الثَّوْبَ وَتَخَرَّقَ ، لَمَا وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى الْأُسْتَاذِ بِسَبَبِ فِعْلِ الْأَجِيرِ ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَى الْأَجِيرِ شَيْءٌ مِنْ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ إنَّمَا يَضْمَنُ بِذَلِكَ الْفِعْلِ أَيْضًا ، وَالْفِعْلُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَى الشَّخْصَيْنِ ، فَهَذَا مِثْلُهُ ، بِخِلَافِ الْغَاصِبِ مَعَ غَاصِبِ الْغَاصِبِ : فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا يَصِيرُ ضَامِنًا بِفِعْلِهِ - وَهُوَ غَصْبُهُ - وَغَصْبُ أَحَدِهِمَا غَيْرُ غَصْبِ الثَّانِي ، وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ فِي كُلِّ حَقِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِيمَتُهُ حِينَ غَصَبَهُ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( كِتَابُ الْعَارِيَّةِ ) ( قَالَ ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إمْلَاءً : الْعَارِيَّةُ : تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، سُمِّيَتْ عَارِيَّةً لِتَعَرِّيهَا عَنْ الْعِوَضِ ، فَإِنَّهَا مَعَ الْعَرِيَّةِ اُشْتُقَّتْ مِنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ ، وَالْعَرِيَّةُ : الْعَطِيَّةُ فِي الثِّمَارِ بِالتَّمْلِيكِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ ، وَالْعَارِيَّةُ فِي الْمَنْفَعَةِ كَذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا اُخْتُصَّتْ بِمَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهَا مَعَ بَقَاءِ عَيْنِهَا أَوْ مَا يَجُوزُ تَمْلِيكُ مَنَافِعِهَا بِالْعِوَضِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ ، وَقِيلَ : هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ التَّعَاوُرِ ، وَهُوَ التَّنَاوُبُ ، فَكَأَنَّهُ يَجْعَلُ لِلْغَيْرِ نَوْبَةً فِي الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ عَلَى أَنْ تَعُودَ النَّوْبَةُ إلَيْهِ بِالِاسْتِرْدَادِ مَتَى شَاءَ ؛ وَلِهَذَا كَانَتْ الْإِعَارَةُ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ قَرْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَفَعُ بِهَا إلَّا بِاسْتِهْلَاكِ الْعَيْنِ ، فَلَا تَعُودُ النَّوْبَةُ إلَيْهِ فِي تِلْكَ الْعَيْنِ لِتَكُونَ عَارِيَّةً حَقِيقَةً ، وَإِنَّمَا تَعُودُ النَّوْبَةُ إلَيْهِ فِي مِثْلِهَا ، وَمَا يَمْلِكُ الْإِنْسَانُ الِانْتِفَاعَ بِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ يَكُونُ قَرْضًا ، ( وَكَانَ ) الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : مُوجِبُ هَذَا الْعَقْدِ إبَاحَةُ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِ الْعَيْنِ لَا بِمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ إعْلَامُ مِقْدَارِ الْمَنْفَعَةِ فِيهِ بِبَيَانِ الْمُدَّةِ ، وَالْجَهَالَةُ تَمْنَعُ صِحَّةَ التَّمْلِيكِ أَمَا لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِبَاحَةِ ؟ ، وَبِدَلِيلِ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ ، وَمَنْ تَمَلَّكَ شَيْئًا بِغَيْرِ عِوَضٍ جَازَ لَهُ أَنْ يُمَلِّكَهُ مِنْ غَيْرِهِ بِعِوَضٍ كَالْمَوْهُوبِ لَهُ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ مُوجِبَ هَذَا الْعَقْدِ مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ لِلْمُسْتَعِيرِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ تَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ بِعِوَضٍ فَتَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ بِغَيْرِ عِوَضٍ أَيْضًا كَالْعَيْنِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ
أَنَّ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُعِيرَ فِيمَا لَا يَتَفَاوَتُ النَّاسُ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ ، وَالْمُبَاحُ لَهُ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُبِيحَ لِغَيْرِهِ .
( وَالْعَارِيَّةُ ) تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ التَّمْلِيكِ بِأَنْ يَقُولَ : مَلَّكْتُكَ مَنْفَعَةَ دَارِي هَذِهِ شَهْرًا ، أَوْ جَعَلْتُ لَكَ سُكْنَى دَارِي هَذِهِ شَهْرًا ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُؤَاجِرُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِالْمُعِيرِ ، فَإِنَّهُ مَلَّكَهُ عَلَى وَجْهٍ يَتَمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِرْدَادِ ، فَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً أَوْ ثَوْبًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ مِنْ غَيْرِهِ ، وَإِنْ مَلَكَ مَنْفَعَةَ اللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ النَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي ذَلِكَ فَفِي الْإِجَارَةِ مِنْ غَيْرِهِ إضْرَارٌ بِالْآخَرِ ، ( فَإِنْ قِيلَ : ) كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُمَلِّكَ الْمُسْتَعِيرَ الْإِجَارَةَ ، وَلَا يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمُعِيرِ فِي الِاسْتِرْدَادِ بَلْ يَصِيرُ قِيَامُ حَقِّ الْمُعِيرِ فِي الِاسْتِرْدَادِ عُذْرًا فِي نَقْضِ الْإِجَارَةِ ، ( قُلْنَا : ) لَوْ مَلَكَ الْمُسْتَعِيرُ الْإِجَارَةَ كَانَ ذَلِكَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ عَقْدِ الْمُعِيرِ ، وَكَانَ صِحَّةُ الْعَقْدِ بِتَسْلِيطِهِ ، فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِهِ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَإِنَّمَا لَا يُشْتَرَطُ إعْلَامُ الْمُدَّةِ أَوْ الْمَكَانِ فِي الْإِعَارَةِ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ ذَلِكَ فِي الْمُعَاوَضَاتِ لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْعَارِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ إذَا أَرَادَ الْمُعِيرُ الِاسْتِرْدَادَ ، وَلِأَنَّ الْمُعَاوَضَاتِ يَتَعَلَّقُ بِهَا صِفَةُ اللُّزُومِ ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي غَيْرِ الْمَعْلُومِ ، فَأَمَّا الْعَارِيَّةُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا صِفَةُ اللُّزُومِ ؛ فَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ إعْلَامُ الْمَكَانِ ، وَلَا إعْلَامُ الْمُدَّةِ ، وَلَا إعْلَامُ مَا يُحْمَلُ عَلَى الدَّابَّةِ ، وَعِنْدَ إطْلَاقِ الْعَقْدِ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالدَّابَّةِ مِنْ حَيْثُ الْحَمْلُ وَالرُّكُوبُ كَمَا يَنْتَفِعُ بِدَابَّةِ نَفْسِهِ فِي قَلِيلِ الْمُدَّةِ وَكَثِيرِهَا مَا لَمْ يُطَالِبْهُ الْمَالِكُ بِالرَّدِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَاجِرُهَا ، فَإِنْ آجَرَهَا صَارَ غَاصِبًا ، وَكَانَ الْأَجْرُ لَهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ ، وَقَدْ بَيِّنَاهُ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ .
وَإِنْ هَلَكَتْ بَعْدَ مَا آجَرَهَا كَانَ ضَامِنًا لَهَا ، فَإِذَا لَمْ يُؤَاجِرْهَا وَلَكِنَّهَا هَلَكَتْ فِي يَدِهِ لَمْ يَضْمَنْ فِي أَقْوَالِ عُلَمَائِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ سَوَاءٌ هَلَكَتْ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ أَوْ لَا ، وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ هَلَكَتْ مِنْ الِاسْتِعْمَالِ الْمُعْتَادِ لَمْ يَضْمَنْ ، وَإِنْ هَلَكَتْ لَا مِنْ الِاسْتِعْمَالِ ضَمِنَ قِيمَتَهَا لِلْمَالِكِ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْعَارِيَّةُ مَضْمُونَةٌ } فَقَدْ جَعَلَ الضَّمَانَ صِفَةً لِلْعَارِيَّةِ .
فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ صِفَةً لَازِمَةً لَهَا كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا جَعَلَ الْقَبْضَ صِفَةً لِلرَّهْنِ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : { فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ } اقْتَضَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ صِفَةً لَازِمَةً لِلرَّهْنِ { وَاسْتَعَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صَفْوَانَ دُرُوعًا فِي حَرْبِ هَوَازِنَ فَقَالَ لَهُ : أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ .
؟ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا : بَلْ عَارِيَّةً مَضْمُونَةً مُؤَدَّاةً } { وَكَتَبَ فِي عَهْدِ بَنِي نَجْرَانَ وَمَا تُعَارُ رُسُلِي فَهَلَكَتْ عَلَى أَيْدِيهِمْ فَضَمَانُهَا عَلَى رُسُلِي } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ } وَالْأَخْذُ إنَّمَا يُطْلَقُ فِي مَوْضِعٍ يَأْخُذُ الْمَرْءُ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْعَارِيَّةِ ، وَهُوَ الْمَعْنَى الْفِقْهِيُّ أَنَّهُ لَمَّا قَبَضَ مَالَ الْغَيْرِ لِنَفْسِهِ لَا عَنْ اسْتِحْقَاقٍ تَقَدَّمَ ، فَكَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَالْمَغْصُوبِ وَالْمَقْبُوضِ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ وَالْمُسْتَقْرِضِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَثْبُتْ بِهَذَا الْعَقْدِ اسْتِحْقَاقُ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ عَرَفْنَا أَنَّهُ مَقْصُورٌ عَلَى الْمَنْفَعَةِ لَا يَتَعَدَّى إلَى الْعَيْنِ فَصَارَ فِي حَقِّ الْعَيْنِ كَأَنَّهُ قَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ فَقَدْ
تَعَدَّى الْعَقْدُ هُنَاكَ إلَى الْعَيْنِ حَتَّى تَعَلَّقَ بِهِ اسْتِحْقَاقُ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ ، وَبِخِلَافِ الْوَدِيعَةُ فَإِنَّ الْمُودَعَ لَا يَقْبِضُ الْوَدِيعَةَ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ إنَّمَا يَقْبِضُهَا لِمَنْفَعَةِ الْمَالِكِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مُؤْنَةُ الرَّدِّ ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ لَهُمْ ، فَإِنَّ قَبْضَ الْعَارِيَّةِ يُوجِبُ ضَمَانَ الرَّدِّ حَالَ قِيَامِ الْعَيْنِ ، فَيُوجِبُ ضَمَانَ الْقِيمَةِ حَالَ هَلَاكِ الْعَيْنِ كَالْقَبْضِ بِطَرِيقِ الْغَصْبِ .
يُقَرِّرُهُ أَنَّ ضَمَانَ الرَّدِّ إنَّمَا يَلْزَمُهُ لِأَنَّهُ يُسْقِطُ بِالرَّدِّ ضَمَانَ الْعَيْنِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَلَمَّا لَزِمَهُ ضَمَانُ الرَّدِّ فَعَلَيْهِ أَدَاءُ مَا لَزِمَهُ ، وَلَا يَتَحَقَّقُ أَدَاءُ ذَلِكَ إلَّا بِرَدِّ الْعَيْنِ عِنْدَ قِيَامِهِ وَرَدِّ الْقِيمَةِ عِنْدَ هَلَاكِ الْعَيْنِ لِيَصِيرَ بِهِ مُؤَدِّيًا مَا لَزِمَهُ مِنْ ضَمَانِ الرَّدِّ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ تَلِفَ فِي الِاسْتِعْمَالِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي الِاسْتِعْمَالِ مَنْقُولٌ إلَى الْمَالِكِ ، فَإِنَّهُ يَسْتَعْمِلُ بِتَسْلِيطِ الْمَالِكِ فَيَحْصُلُ بِهِ الرَّدُّ مَعْنًى ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَيْنُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ، ثُمَّ يَبْرَأُ عَنْ ضَمَانِهِ بِفِعْلٍ يُبَاشِرُهُ بِتَسْلِيطِ الْمَالِكِ ، كَمَا لَوْ غَصَبَ مِنْ غَيْرِهِ شَاةً فَقَالَ لَهُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ : ضَحِّ بِهَا ، فَإِنْ هَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا ضَمِنَهَا ، وَإِنْ ضَحَّى بِهَا لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا ، وَلَا يُقَالُ : قَبَضَهُ بِتَسْلِيطِ الْمَالِكِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ يَقْبِضُ مِنْ يَدِ الْمَالِكَ لِنَفْسِهِ ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ فِعْلُهُ فِي الْقَبْضِ كَفِعْلِ الْمَالِكِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ ضَمِنَ لِلْمُسْتَحِقِّ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُعِيرِ ، وَلَوْ كَانَ يَدُ الْمُسْتَعِيرِ فِي الْعَيْنِ كَيَدِ الْمُعِيرِ لَرَجَعَ عَلَيْهِ بِالْمُودَعِ ، وَحَجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَيْسَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ غَيْرُ الْمُغِلِّ ضَمَانٌ ، وَلَا عَلَى الْمُسْتَوْدَعِ غَيْرُ الْمُغَلِّ ضَمَانٍ } وَالْمُغِلُّ هُوَ الْخَائِنُ فَقَدْ نَفَى الضَّمَانَ
عَنْ الْمُسْتَعِيرِ عِنْدَ عَدَمِ الْخِيَانَةِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ قَبَضَ الْعَيْنَ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ بِإِذْنٍ صَحِيحٍ ، فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَالْمُسْتَأْجَرِ ، وَتَأْثِيرُهُ أَنْ وُجُوبَ الضَّمَانِ يَكُونُ لِلْجُبْرَانِ ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بَعْدَ تَفْوِيتِ شَيْءٍ عَلَى الْمَالِكَ ، وَبِالْإِذْنِ الصَّحِيحِ يَنْعَدِمُ التَّفْوِيتُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَبْضَ فِي كَوْنِهِ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ لَا يَكُونُ فَوْقَ الْإِتْلَافِ ، ثُمَّ الْإِتْلَافُ بِالْإِذْنِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ فَالْقَبْضُ أَوْلَى ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجِبْ الضَّمَانَ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ ، فَلَا يَكُونُ عَقْدَ ضَمَانٍ كَالْهِبَةِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنْ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ لَا يَصِيرُ مَضْمُونًا بِهَذَا الْعَقْدِ فَمَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْعَقْدُ أَوْلَى ، وَلِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ إذَا كَانَ بِعِوَضٍ ، وَهُوَ الْإِجَارَةُ لَا يُوجِبُ ضَمَانَ الْعَيْنِ ، وَتَأْثِيرُ الْعِوَضِ فِي تَقْدِيرِ حُكْمِ ضَمَانِ الْعَقْدِ ، فَإِذَا كَانَ الْعَقْدُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ مَقْرُونًا بِالْعِوَضِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ ، فَالْمُتَعَرِّي عَنْ الْعِوَضِ كَيْفَ يُوجِبُ الضَّمَانَ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ تَلِفَ فِي الِاسْتِعْمَالِ لَمْ يَضْمَنْ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ فِعْلُهُ كَفِعْلِ الْمَالِكِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ ، وَلَكِنَّ إنَّمَا لَا يَضْمَنُ لِوُجُودِ الْإِذْنِ مِنْ الْمَالِكِ فِي الِاسْتِعْمَالِ فَكَذَلِكَ لِلْقَبْضِ وَإِنْ قَالَ بِحُكْمِ الْإِذْنِ مِنْ الْمَالِكَ فِي الِاسْتِعْمَالِ جَعَلَ اسْتِعْمَالَهُ كَاسْتِعْمَالِ الْمَالِكِ ، فَبِحُكْمِ الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ وَالْإِعْطَاءِ يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ قَبْضَهُ كَقَبْضِ الْمَالِكِ أَيْضًا ، وَوُجُوبُ ضَمَانِ الرَّدِّ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ لَيْسَ لِمَا قَالَ ، بَلْ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ النَّقْلِ حَصَلَتْ لَهُ ، وَالرَّدُّ فَسْخٌ لِذَلِكَ النَّقْلِ ، فَكَانَتْ الْمُؤْنَةُ عَلَى مَنْ حَصَلَتْ لَهُ مَنْفَعَةُ النَّقْلِ ؛ وَلِهَذَا تَجِبُ مُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَى الْمُوصَى
لَهُ بِالْخِدْمَةِ أَيْضًا ، فَأَمَّا ضَمَانُ الْعَيْنُ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ فَوَّتَ شَيْئًا عَلَى الْمَالِكِ بِقَبْضِهِ كَالْغَاصِبِ ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْقَبْضُ بِإِذْنِهِ ، وَالْمَقْبُوضُ عَلَى سَوْمِ الشِّرَاءِ إنَّمَا كَانَ مَضْمُونًا ضَمَانَ الْعَقْدِ ، وَالْإِذْنُ يُقَرِّرُ ضَمَانَ الْعَقْدِ ، وَلِأَنَّ الْمَالِكَ هُنَاكَ مَا رَضِيَ بِقَبْضِهِ إلَّا بِجِهَةِ الْعَقْدِ ، فَفِيمَا وَرَاءَ الْعَقْدِ كَانَ الْمَقْبُوضُ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَالْمُسْتَقْرَضُ كَذَلِكَ ، إنَّمَا كَانَ مَضْمُونًا بِالْعَقْدِ ، وَالْإِذْنُ يُقَرِّرُ ضَمَانَ الْعَقْدِ ، وَإِنَّمَا لَا يَرْجِعُ الْمُسْتَعِيرُ بِضَمَانِ الِاسْتِحْقَاقِ ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ بِسَبَبِ الْغُرُورِ أَوْ بِسَبَبِ الْعَيْبِ ، وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ ، فَإِنَّهُ يَقْتَضِي السَّلَامَةَ عَنْ الْعَيْبِ ، فَأَمَّا عَقْدُ التَّبَرُّعِ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِضَمَانِ الْغُرُورِ عِنْدنَا .
( وَقَوْلُهُ ) بِأَنَّهُ قَبَضَ الْعَيْنَ لَا عَنْ اسْتِحْقَاقٍ تَقَدَّمَ ( قُلْنَا : ) نَعَمْ ، وَلَكِنَّهُ قَبَضَ الْعَيْنَ بِحَقٍّ ، وَالْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ الْقَبْضُ بِغَيْرِ حَقٍّ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّفْوِيتِ عَلَى الْمَالِكِ ، وَكَمَا أَنَّ الْقَبْضَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ فَالْإِتْلَافُ كَذَلِكَ ، ثُمَّ الْإِتْلَافُ إنَّمَا يُوجِبُ الضَّمَانَ إذَا حَصَلَ بِغَيْرِ حَقٍّ لَا إذَا حَصَلَ بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ تَقَدَّمَ فَالْقَبْضُ مِثْلُهُ وَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْعَارِيَّةُ مَضْمُونَةٌ } ضَمَانُ الرَّدِّ ، وَلِأَنَّهُ جَعَلَ الضَّمَانَ صِفَةً لِلْعَيْنِ ، وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ فِي ضَمَانِ الرَّدِّ ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى بِبَقَاءِ الرَّدِّ ، وَحَدِيثُ صَفْوَانَ فَقَدْ قِيلَ : إنَّهُ أَخَذَ تِلْكَ الدُّرُوعَ بِغَيْرِ رِضَاهُ ، وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ : أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ .
؟ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا إلَى السِّلَاحِ كَانَ الْأَخْذُ لَهُ حَلَالًا ثَمَّةَ شَرْعًا ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ الضَّمَانِ ، كَمَنْ أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ مَالَ الْغَيْرِ بِشَرْطِ
الضَّمَانِ ، ( وَقِيلَ : ) كَانَتْ الدُّرُوعُ أَمَانَةً لِأَهْلِ مَكَّةَ عِنْدَ صَفْوَانَ فَاسْتَعَارَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَاجَتِهِ إلَيْهَا فَكَانَ مُسْتَعِيرًا مِنْ الْمُودَعِ ، وَهُوَ ضَامِنٌ عِنْدَنَا ( وَقِيلَ : ) الْمُرَادُ ضَمَانُ الرَّدِّ .
( وَقَوْلُهُ ) مُؤَدَّاةٌ تَفْسِيرٌ لِذَلِكَ ، كَمَا يُقَالُ : فُلَانٌ عَالِمٌ فَفِيهِ يُعْلَمُ بِاللَّفْظِ الثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِ عِلْمُ الْفِقْهَ .
( وَقِيلَ : ) كَانَ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتِرَاطُ الضَّمَانِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَالْمُسْتَعِيرُ وَإِنْ كَانَ لَا يَضْمَنُ ، وَلَكِنْ يَضْمَنُ بِالشَّرْطِ كَالْمُودَعِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْمُنْتَقَى ، وَلَكِنَّ صَفْوَانَ كَانَ يَوْمَئِذٍ حَرْبِيًّا ، وَيَجُوزُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ مِنْ الشَّرَائِطِ مَا لَا يَجُوزُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، ( وَقِيلَ : ) إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ تَطْيِيبًا لِقَلْبِ صَفْوَانَ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ هَلَكَ بَعْضُ تِلْكَ الدُّرُوعِ فَقَالَ : { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنْ شِئْت غَرِمْنَاهَا لَكَ ، فَقَالَ : لَا ، فَإِنِّي الْيَوْمَ أَرْغَبُ فِي الْإِسْلَامِ مِمَّا كُنْتُ يَوْمَئِذٍ } وَلَوْ كَانَ الضَّمَانُ وَاجِبًا لَأَمَرَهُ بِالِاسْتِيفَاءِ أَوْ الْإِبْرَاءِ .
( وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) { وَمَا يُعَارُ رُسُلِي فَهَلَكَ عَلَى أَيْدِيهِمْ } أَيْ اسْتَهْلَكُوهُ لِأَنَّهُ يُقَالُ : هَلَكَ فِي يَدِهِ إذَا كَانَ بِغَيْرِ صُنْعِهِ عَلَى يَدِهِ إذَا اسْتَهْلَكَهُ .
( وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ) { عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ } يَقْتَضِي وُجُوبَ رَدِّ الْعَيْنِ ، وَلَا كَلَامَ فِيهِ إنَّمَا الْكَلَامُ فِي وُجُوبِ ضَمَانِ الْقِيمَةِ بَعْدَ هَلَاكِ الْعَيْنِ .
قَالَ : ( وَإِنْ اسْتَعَارَ الدَّابَّةَ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ ، وَلَمْ يُسَمِّ مَا يَحْمِلُ عَلَيْهَا لَمْ يَضْمَنْ إذَا هَلَكَتْ ) ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهَا بِإِذْنٍ صَحِيحٍ ، وَلَكِنْ إنْ أَمْسَكَهَا بَعْدَ مُضِيِّ الْيَوْمِ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَقَّتَ فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ غَيْرُ رَاضٍ بِقَبْضِهِ إيَّاهَا فِيمَا وَرَاءَ الْمُدَّةِ ، فَإِذَا أَمْسَكَهَا بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ كَانَ مُمْسِكًا لَهَا بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِهَا فَيَضْمَنُهَا كَمَا فِي الْمُودَعِ إذَا طُولِبَ بِالرَّدِّ فَلَمْ يَرُدَّ حَتَّى هَلَكَتْ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُسْتَأْجِرِ فَإِنَّهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ إذَا أَمْسَكَهَا لَا يَضْمَنُهَا مَا لَمْ يُطَالِبْهُ صَاحِبُهَا بِالرَّدِّ ؛ لِأَنَّ مُؤْنَةَ الرَّدِّ هُنَاكَ لَيْسَتْ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ، وَلَكِنَّهَا عَلَى الْمَالِكِ ، فَإِذَا لَمْ يَحْضُرْ الْمَالِكُ لِيَأْخُذَهَا لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ مَنْعٌ يَصِيرُ بِهِ ضَامِنًا ، وَهُنَا مُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ ، فَإِذَا أَمْسَكَهَا بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَقَدْ وُجِدَ مِنْهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ الرَّدِّ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ مُوجِبُ ضَمَانَ الْمُسْتَعَارِ عَلَيْهِ .
( وَإِذَا لَمْ يُؤَقِّتْ الْمَالِكُ وَلَكِنَّهُ أَعَارَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا الْحِنْطَةَ فَجَعَلَ يَنْقُلُ عَلَيْهَا الْحِنْطَةَ أَيَّامًا ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ) لِأَنَّ الْإِذْنَ مِنْ الْمَالِكِ مُطْلَقٌ ، فَلَا يَنْعَدِمُ حُكْمُهُ إلَّا بِالنَّهْيِ وَالْمُطَالَبَةِ بِالرَّدِّ ، وَلَمْ يُوجَدْ .
وَإِنْ حَمَلَ عَلَيْهَا الْآجُرَّ أَوْ اللَّبَنَ أَوْ الْحِجَارَةَ فَعَطِبَتْ فَهُوَ ضَامِنٌ ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ مَا أَمَرَهُ بِهِ نَصًّا فَصَارَ غَاصِبًا مُسْتَعْمِلًا بِغَيْرِ إذْنِهِ .
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : ( أَحَدُهَا ) أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا غَيْرَ مَا عَيَّنَهُ الْمَالِكُ ، وَلَكِنَّهُ مِثْلُ مَا عَيَّنَهُ فِي الضَّرَرِ عَلَى الدَّابَّةِ مِنْ جِنْسِهِ بِأَنْ اسْتَعَارَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ مِنْ هَذِهِ الْحِنْطَةِ فَحَمَلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ مِنْ حِنْطَةٍ أُخْرَى ، أَوْ لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا
حِنْطَةَ نَفْسِهِ فَحَمَلَ عَلَيْهَا حِنْطَةَ غَيْرِهِ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا كَانَ مُفِيدًا ، وَهَذَا التَّقْيِيدُ وَالتَّعْيِينُ لَا يُفِيدُ شَيْئًا ، فَإِنَّ حِنْطَتَهُ وَحِنْطَةَ غَيْرِهِ فِي الضَّرَرِ عَلَيْهَا سَوَاءٌ .
( وَالثَّانِي ) أَنْ يُخَالِفَ فِي الْجِنْسِ بِأَنْ اسْتَعَارَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ أَقْفِزَةِ حِنْطَةٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ أَقْفِزَةِ شَعِيرٍ فِي الْقِيَاسِ يَكُونُ ضَامِنًا ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ ، فَإِنَّهُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ لَا تُعْتَبَرُ الْمَنْفَعَةُ وَالضَّرَرُ ، أَلَا تُرَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إذَا بَاعَ بِأَلْفِ دِينَارٍ لَمْ يَنْفُذْ بَيْعُهُ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَكُونُ ضَامِنًا ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لِلْمَالِكِ فِي تَعْيِينِ الْحِنْطَةِ ، فَإِنَّ مَقْصُودَهُ دَفْعُ زِيَادَةِ الضَّرَرِ عَنْ دَابَّتِهِ ، وَمِثْلُ كَيْلِ الْحِنْطَةِ مِنْ الشَّعِيرِ يَكُونُ أَخَفَّ عَلَى الدَّابَّةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْ تَقْيِيدِهِ مَا يَكُونُ مُفِيدًا دُونَ مَا لَا يُفِيدُهُ شَيْئًا حَتَّى قِيلَ : لَوْ سَمَّى مِقْدَارًا مِنْ الْحِنْطَةِ وَزْنًا فَحَمَلَ مِثْلَ ذَلِكَ الْوَزْنِ مِنْ الشَّعِيرِ يَضْمَنُ ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ ظَهْرِ الدَّابَّةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَأْخُذُ مِنْ الْحِنْطَةِ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ اسْتَعَارَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا حِنْطَةً فَحَمَلَ عَلَيْهَا حَطَبًا أَوْ تِبْنًا ، فَأَمَّا مِثْلُ ذَلِكَ كَيْلًا مِنْ الشَّعِيرِ لَا يَأْخُذُ مِنْ ظَهْرِهَا أَكْثَرَ مِمَّا يَأْخُذُ مِنْ الْحِنْطَةِ .
( وَالثَّالِثُ ) أَنْ يُخَالِفَ إلَى مَا هُوَ أَضَرُّ عَلَى الدَّابَّةِ بِأَنْ اسْتَعَارَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا حِنْطَةً فَحَمَلَ عَلَيْهَا حَدِيدًا أَوْ آجُرًّا مِثْلَ وَزْنِ الْحِنْطَةِ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا ؛ لِأَنَّ هَذَا يَجْتَمِعُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَيَدُقُّ ظَهْرَ الدَّابَّةِ فَكَانَ أَضَرَّ عَلَيْهَا مِنْ حَمْلِ الْحِنْطَةِ ، وَتَقْيِيدُ الْمَالِكِ مُعْتَبَرٌ إذَا كَانَ مُفِيدًا لَهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَمَلَ عَلَيْهَا مِثْلَ وَزْنِ الْحِنْطَةِ قُطْنًا ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ مِنْ ظَهْرِ
الدَّابَّةِ فَوْقَ مَا تَأْخُذُ الْحِنْطَةُ فَكَانَ أَضَرَّ عَلَيْهَا مِنْ وَجْهٍ كَمَا لَوْ حَمَلَ عَلَيْهَا حَطَبًا أَوْ تِبْنًا .
( وَالرَّابِعُ ) أَنْ يُخَالِفَ فِي الْمِقْدَارِ بِأَنْ اسْتَعَارَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ حِنْطَةٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا خَمْسَةَ عَشْرَ مَخْتُومًا فَهَلَكَتْ فَهُوَ ضَامِنٌ ثُلُثَ قِيمَتِهَا ؛ لِأَنَّهُ فِي مِقْدَارِ عَشَرَةِ مَخَاتِيمَ مُوَافِقٌ ؛ لِأَنَّهُ حَامِلٌ بِإِذْنِ الْمَالِكِ ، وَفِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ حَامِلٌ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَيُعْتَبَرُ الْجُزْءُ بِالْكُلِّ ، وَيَتَوَزَّعُ الضَّمَانُ عَلَى ذَلِكَ ، وَهَذَا إذَا كَانَ مِثْلُ تِلْكَ الدَّابَّةِ تُطِيقُ حَمْلَ خَمْسَةَ عَشْرَ مَخْتُومًا ، فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَا تُطِيقُ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِجَمِيعِ قِيمَتِهَا ؛ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ لَهَا بِهَذَا الْحَمْلِ ، وَالْمَالِكُ مَا أَذِنَ لَهُ فِي إتْلَافِهَا .
وَلِلشَّافِعِيِّ ثَلَاثَةُ أَقَاوِيلَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : قَوْلٌ مِثْلُ قَوْلِنَا ، وَقَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ يَضْمَنُ جَمِيعَ قِيمَتِهَا ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ إلَى مَا هُوَ أَضَرُّ عَلَى الدَّابَّةِ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ خَالَفَ فِي الْجِنْسِ ، وَقَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا ؛ لِأَنَّهَا تَلِفَتْ مِنْ حِمْلَيْنِ أَحَدِهِمَا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ ، وَالْآخَرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهَا كَمَا لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَضْرِبَ عَبْدَهُ عَشَرَةَ أَسْوَاطٍ فَضَرَبَهُ أَحَدَ عَشْرَ سَوْطًا فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ ، وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ ذَاكَ ضَمَانُ قَتْلٍ ، وَفِي بَابِ الْقَتْلِ الْمُعْتَبَرُ عَدَدُ الْجُنَاةِ لَا عَدَدُ الْجِنَايَاتِ ، فَقَدْ تَقْوَى الطَّبِيعَةُ عَلَى دَفْعِ أَلَمِ عَشْرِ جِرَاحَاتٍ فِي مَوْضِعٍ ، وَلَا تَقْوَى عَلَى دَفْعِ أَلَمِ جِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ فِي مَوْضِعٍ ؛ فَلِهَذَا اعْتَبَرْنَا عَدَدَ الْجُنَاةِ ، وَجَعَلْنَا الضَّمَانَ نِصْفَيْنِ ، وَهُنَا تَلَفُ الدَّابَّةِ بِاعْتِبَارِ ثِقَلِ الْمَحْمُولِ ، وَثِقَلُ عَشَرَةِ مَخَاتِيمَ فَوْقَ ثِقَلِ خَمْسَةِ مَخَاتِيمَ فِي الضَّرَرِ عَلَى الدَّابَّةِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَتَوَزَّعَ الضَّمَانُ عَلَى
قَدْرِ ثِقَلِ الْمَحْمُولِ .
وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ اسْتَعَارَ ثَوْرًا لِيَطْحَنَ بِهِ عَشْرَةَ مَخَاتِيمَ حِنْطَةً فَطَحَنَ أَحَدَ عَشْر مَخْتُومًا فَهَلَكَ ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ جَمِيعَ قِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّ الطَّحْنَ يَكُونُ شَيْئًا فَشَيْئًا ، فَلَمَّا طَحَنَ عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ انْتَهَى إذْنُ الْمَالِكِ ، فَبَعْدَ ذَلِكَ هُوَ فِي الطَّحْنِ مُخَالِفٌ فِي جَمِيعِ الدَّابَّةِ مُسْتَعْمِلٌ لَهَا بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهَا فَيَضْمَنُ جَمِيعَ قِيمَتِهَا ، فَأَمَّا الْحَمْلُ يَكُونُ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَهُوَ فِي الْبَعْضِ مُسْتَعْمِلٌ لَهَا بِإِذْنِ الْمَالِكِ ، وَفِي الْبَعْضِ مُخَالِفٌ فَيَتَوَزَّعُ الضَّمَانُ عَلَى ذَلِكَ وَإِذَا جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِي سُمِّيَ لَهُ وَأَخَذَ إلَى مَكَانِ غَيْرِ ذَلِكَ فَعَطِبَتْ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَهَا بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهَا ، فَالتَّقْيِيدُ مِنْ صَاحِبِهَا هُنَا مُفِيدٌ ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ عَلَى الدَّابَّةِ يَخْتَلِفُ بِقُرْبِ الطَّرِيقِ وَبُعْدِهِ ، وَالسُّهُولَةِ وَالْوُعُورَةِ .
وَإِنْ اسْتَعَارَهَا لِيَحْمِلَ كَذَا وَكَذَا ثَوْبًا هَرَوِيًّا فَحَمَلَ عَلَيْهَا مِثْلَ ذَلِكَ مَرْوِيًّا أَوْ فَوَهِيًّا أَوْ نُرْمُقًا لَمْ يَضْمَنْ ؛ لِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْهَرَوِيِّ غَيْرُ مُفِيدٍ ، فَإِنَّ سَائِرَ أَجْنَاسِ الثِّيَابِ كَالْهَرَوِيِّ فِي الضَّرَرِ عَلَى الدَّابَّةِ .
وَكَذَلِكَ فِي الْوَزْنِيَّاتِ مِنْ الْأَدْهَانِ وَغَيْرِهَا كُلُّ تَقْيِيدٍ يَكُونُ مُفِيدًا فَهُوَ مُعْتَبَرٌ ، وَإِذَا خَالَفَ ذَلِكَ كَانَ ضَامِنًا ، وَمَا لَا يَكُونُ مُفِيدًا لَا يُعْتَبَرُ .
( وَإِنْ ) اسْتَعَارَهَا لِيَرْكَبَهَا هُوَ فَرَكِبَهَا هُوَ وَحَمَلَ مَعَهُ عَلَيْهَا رَجُلًا ضَمِنَ نِصْفَ قِيمَتِهَا ؛ لِأَنَّهُ فِي نِصْفِهَا مُوَافِقٌ ، وَفِي النِّصْفِ مُخَالِفٌ ، وَالْجُزْءُ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ .
( فَإِنْ قِيلَ : ) أَلَيْسَ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرْكَبْهَا ، وَحَمَلَ عَلَيْهَا غَيْرَهُ فَهَلَكَتْ ضَمِنَ جَمِيعَ قِيمَتِهَا ، فَإِذَا رَكِبَهَا مَعَهُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ عَلَى الدَّابَّةِ أَكْثَرُ .
( قُلْنَا : ) إذَا حَمَلَ عَلَيْهَا غَيْرَهُ فَهُوَ مُخَالِفٌ فِي الْكُلِّ ، وَإِذَا رَكِبَهَا فَهُوَ مُوَافِقٌ فِيمَا شَغَلَهُ بِنَفْسِهِ مُخَالِفٌ فِيمَا شَغَلَهُ بِغَيْرِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ اسْتَأْجَرَهَا لِرُكُوبِهِ لَمْ يَجِبُ الْأَجْرُ إذَا حَمَلَ عَلَيْهَا غَيْرَهُ ، وَوَجَبَ الْأَجْرُ إذَا رَكِبَهَا ، وَحَمَلَ مَعَ نَفْسِهِ غَيْرَهُ ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ الدَّابَّةُ بِحَيْثُ تُطِيقُ حَمَلَ رَجُلَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَا تُطِيقُ ذَلِكَ فَهُوَ مُتْلِفٌ لَهَا ضَامِنٌ لِجَمِيعِ قِيمَتِهَا ، ثُمَّ لَمْ يُعْتَبَرْ هُنَا الثِّقَلُ وَالْخِفَّةُ بِأَنْ يَكُونُ الَّذِي حَمَلَهُ مَعَ نَفْسِهِ أَخَفَّ مِنْهُ أَوْ أَثْقَلَ مِنْهُ ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْحِنْطَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ اسْتَقْبَحَ وَزْنَ الرِّجَالِ فِي مِثْلِ هَذَا ، ( فَقَالَ : ) أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ يُوزَنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ يُوزَنُ قَبْلَ الطَّعَامِ أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ الْخَلَاءِ أَوْ بَعْدَهُ ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ فِي حَقِّ الرَّاكِبَيْنِ عَلَى الدَّابَّةِ لَا يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الثِّقَلِ وَالْخِفَّةِ ، فَرُبَّ ثَقِيلٍ يُرَوِّضُ الدَّابَّةَ إذَا رَكِبَهَا لِهِدَايَتِهِ فِي ذَلِكَ ، وَرُبَّ خَفِيفٍ يَعْقِرُهَا لِخَرْقِهِ فِي ذَلِكَ ؛ فَلِهَذَا اعْتَبَرْنَا الْمُنَاصَفَةَ .
فَإِنْ قَضَى حَاجَتَهُ مِنْ الدَّابَّةِ ثُمَّ رَدَّهَا مَعَ عَبْدِهِ أَوْ بَعْضِ مَنْ هُوَ فِي عِيَالِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إنْ عَطِبَتْ ؛ لِأَنَّ يَدَ مَنْ فِي عِيَالِهِ فِي الرَّدِّ كَيَدِهِ ، كَمَا أَنَّ يَدَ مَنْ فِي عِيَالِهِ فِي الْحِفْظِ كَيَدِهِ ، وَالْعُرْفُ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ يَرُدُّ الْمُسْتَعَارَ بِيَدِ مَنْ فِي عِيَالِهِ ؛ وَلِهَذَا يَعُولُهُمْ فَكَانَ مَأْذُونًا فِيهِ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهَا دَلَالَةً .
وَكَذَلِكَ إنْ رَدَّهَا إلَى عَبْدِ صَاحِبِ الدَّابَّةِ ، وَهُوَ الَّذِي يَقُومُ عَلَيْهَا فَهُوَ بَرِيءٌ اسْتِحْسَانًا ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَبْرَأَ مَا لَمْ تَصِلْ إلَى صَاحِبِهَا كَالْمُودَعِ إذَا رَدَّ الْوَدِيعَةَ لَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ مَا لَمْ تَصِلْ إلَى يَدِ صَاحِبِهَا ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ صَاحِبُهَا إنَّمَا يُحْفَظُ بِيَدِ هَذَا السَّائِسِ ، وَلَوْ دَفَعَهَا إلَيْهِ لَكَانَ يَدْفَعُهَا إلَى السَّائِسِ أَيْضًا فَكَذَلِكَ إذَا رَدَّهَا عَلَى السَّائِسِ ، وَالْعُرْفُ الظَّاهِرُ أَنَّ صَاحِبَ الدَّابَّةِ يَأْمُرُ السَّائِسَ بِدَفْعِهَا إلَى الْمُسْتَعِيرِ ، وَبِاسْتِرْدَادِهَا مِنْهُ إذَا فَرَغَتْ فَيَصِيرُ مَأْذُونًا فِي دَفْعِهَا إلَيْهِ دَلَالَةً ، وَلَمْ يُوجَدْ مِثْلُ هَذَا الْعُرْفِ فِي الْوَدِيعَةِ ، فَإِنَّ صَاحِبَهَا هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى اسْتِرْدَادُهَا عَادَةً ، وَإِنَّمَا أَوْدَعَهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِكَوْنِهَا فِي يَدِ عِيَالِهِ حَتَّى قَالُوا فِي الْمُسْتَعَارِ : لَوْ كَانَ عَقْدُ لُؤْلُؤٍ فَرَدَّهُ الْمُسْتَعِيرُ عَلَى عَبْدٍ هُوَ سَائِسُ دَوَابِّ الْمُعِيرِ لَا يَبْرَأُ ؛ لِأَنَّهُ فِي مِثْلِ هَذَا لَا يَرْضَى بِاسْتِرْدَادِ مِثْلِهِ عَادَةً .
وَإِنْ اسْتَعَارَ ثَوْبًا لِيَلْبَسَهُ هُوَ فَأَعْطَاهُ غَيْرَهُ فَلَبِسَ فَهُوَ ضَامِنٌ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي لُبْسِ الثَّوْبِ ، وَلُبْسُ الْقَصَّابِ وَالدَّبَّاغِ لَا يَكُونُ كَلُبْسِ الْبَزَّازِ وَالْعَطَّارِ فَكَانَ هَذَا تَقْيِيدًا مُفِيدًا فِي حَقِّ صَاحِبِ الثَّوْبِ ، فَإِذَا أَلْبَسَهُ الْمُسْتَعِيرُ غَيْرَهُ صَارَ مُخَالِفًا ، وَكَذَلِكَ الدَّابَّةُ إذَا اسْتَعَارَهَا لِيَرْكَبَهَا هُوَ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الرُّكُوبِ فَرُبَّ رَاكِبٍ يُرَوِّضُ الدَّابَّةَ ، وَآخَرَ يَقْتُلُهَا ، فَأَمَّا إذَا اسْتَعَارَهُ وَلَمْ يُسَمِّ مَنْ يَلْبَسُهُ فَأَعَارَهُ غَيْرَهُ لَمْ يَضْمَنْ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ رَضِيَ بِاسْتِيفَاءِ مَنْفَعَةِ اللُّبْسِ مِنْ ثَوْبِهِ مُطْلَقًا ، فَسَوَاءٌ لَبِسَهُ الْمُسْتَعِيرُ أَوْ غَيْرُهُ لَمْ يَكُنْ مُخَالِفًا لِمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْمُسْتَعِيرُ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُسْتَعَارُ مِمَّا لَا تَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ كَسُكْنَى الدَّارِ وَخِدْمَةِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ تَقْيِيدَهُ هُنَا بِنَفْسِهِ غَيْرُ مُفِيدٍ فَيَكُونُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِنَا أَنَّ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُعِيرَ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يُعِيرَ ؛ لِأَنَّهُ مُنْتَفِعٌ بِمِلْكِ الْغَيْرِ بِإِذْنِهِ ، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْذَنَ لِغَيْرِهِ فِي ذَلِكَ كَالْمُبَاحِ لَهُ الطَّعَامُ لَا يُبِيحُ لِغَيْرِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ يُسَوِّي غَيْرَهُ بِنَفْسِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ حَقِّ الْغَيْرِ ، وَإِنَّمَا لَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا فِي حَقِّ الْغَيْرِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالتَّصَرُّفِ لَا يُوَكِّلُ غَيْرَهُ بِهِ ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ مَالِكٌ لِلِانْتِفَاعِ بِهَذِهِ الْعَيْنِ فَيَمْلِكُ أَنْ يُعِيرَهُ مِنْ غَيْرِهِ كَالْمُسْتَأْجِرِ ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ ، وَهَذَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ يَمْلِكُ الْمَنْفَعَةَ بِالْعَارِيَّةِ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بَعْدَ هَذَا فَقَالَ : ( مَنْ أَعَارَكَ شَيْئًا فَقَدْ جَعَلَ لَكَ مَنْفَعَةَ ذَلِكَ ) وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ
لَوْ قَالَ : مَلَّكْتُكَ مَنْفَعَةَ هَذِهِ الْعَيْنِ كَانَتْ عَارِيَّةً صَحِيحَةً .
فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَالِكٌ لِلْمَنْفَعَةِ فَهُوَ بِالتَّمْلِيكِ مِنْ الْغَيْرِ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ ، وَيَسْتَوِي غَيْرُهُ بِنَفْسِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ بِخِلَافِ الْمُبَاحِ لَهُ الطَّعَامُ ، فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ الطَّعَامَ ، وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُهُ عَلَى مِلْكِ الْمُبِيحِ إلَّا أَنَّ الْعَيْنَ بَقِيَ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ فَفِيمَا يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ لَا يُعِيرُهُ مِنْ غَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ تَصَرُّفُهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ كَمَا أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْعَبْدِ إذَا كَاتَبَهُ كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَفْسَخَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَالْمُشْتَرِي إذَا تَصَرَّفَ فِي الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ فَهُوَ مُتَصَرِّفٌ فِي مِلْكِهِ ، ثُمَّ يُنْقَضُ تَصَرُّفُهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَلَى الشَّفِيعِ .
قَالَ : ( رَجُلٌ اسْتَعَارَ مِنْ رَجُلٍ أَرْضًا عَلَى أَنْ يَبْنِيَ فِيهَا أَوْ عَلَى أَنْ يَغْرِسَ فِيهَا نَخْلًا فَأَذِنَ لَهُ صَاحِبُهَا فِي ذَلِكَ ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ فَلَهُ ذَلِكَ عِنْدَنَا ) وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ ، فَلَا يَهْدِمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ ، وَصَاحِبُ الْأَرْضِ وَإِنْ كَانَ يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ فَقَدْ رَضِيَ بِالْتِزَامِ هَذَا الضَّرَرِ ، فَأَمَّا صَاحِبُ الْبِنَاءِ لَمْ يَرْضَ بِهَدْمِ بِنَائِهِ وَغَرْسِهِ ، فَلَا يَكُونُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ أَنْ يَأْخُذَهَا مَا لَمْ يَفْرُغْ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْأَرْضُ بَقِيَتْ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهَا ، وَالْعَارِيَّةُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ فَلَا يَمْتَنِعُ بِسَبَبِهِ عَلَيْهِ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى مِلْكِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ مَتَى شَاءَ ، وَصَاحِبُ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ لَمَّا بَنَى عَلَى بُقْعَةٍ هِيَ مَمْلُوكَةٌ لِغَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ حَقٍّ لَازِمٍ لَهُ فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِأَنْ يُهْدَمُ عَلَيْهِ بِنَاؤُهُ وَغَرْسُهُ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ ، وَقَدْ شَغَلَ أَرْضَ الْغَيْرِ بِهِ فَيُؤْمَرُ بِتَفْرِيغِهِ ، وَلَا ضَمَانَ لَهُ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ عِنْدَنَا ( وَقَالَ : ) ابْنُ أَبِي لَيْلَى الْبِنَاءُ لِلْمُعِيرِ ، وَيَضْمَنُ قِيمَتَهَا مَبْنِيَّةً لِصَاحِبِهَا ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَاجِبٌ ، وَإِنَّمَا يَنْدَفِعُ الضَّرَرُ بِهَذَا ، وَشُبِّهَ هَذَا بِثَوْبِ إنْسَانٍ إذَا انْصَبَغَ بِصِبْغِ غَيْرِهِ فَأَرَادَ صَاحِبُ الثَّوْبِ أَنْ يَأْخُذَهُ ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ لِلصَّبَّاغِ قِيمَةَ صِبْغِهِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : صَاحِبُ الْأَرْضِ غَيْرُ رَاضٍ بِالْتِزَامِ قِيمَةِ الْبِنَاءِ فَفِي إلْزَامِ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُ إضْرَارٌ بِهِ ، وَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ بِدُونِ تَحَقُّقِ الضَّرُورَةِ ، وَلَا ضَرُورَةَ هُنَا لِأَنَّ رَفْعَ الْبِنَاءِ ، وَتَمْيِيزَ مِلْكِ أَحَدِهِمَا مِنْ مِلْكِ الْآخَرِ مُمْكِنٌ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الصَّبْغِ ، فَإِنَّ تَمْيِيزَ مِلْكِ أَحَدِهِمَا مِنْ مِلْكِ الْآخَرِ هُنَاكَ غَيْرُ مُمْكِنٌ ، ثُمَّ هُنَاكَ لَا يَلْزَمُهُ
قِيمَةُ الصِّبْغِ بِدُونِ رِضَاهُ أَيْضًا حَتَّى يَكُونَ لَهُ أَنْ يَأْبَى الْتِزَامَ الْقِيمَةِ لِيُصَارَ إلَى بَيْعِ الثَّوْبِ ، فَكَذَلِكَ هُنَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَلْزَمَهُ قِيمَةُ الْبِنَاءِ بِغَيْرِ رِضَاهُ .
فَإِنْ كَانَ وَقَّتَ لَهُ وَقْتًا عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ قَبْلَ الْوَقْتِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْمُسْتَعِيرِ قِيمَةَ بِنَائِهِ وَغَرْسِهِ عِنْدَنَا ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَضْمَنُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ التَّوْقِيتَ فِي الْعَارِيَّةِ غَيْرُ مُلْزِمٍ إيَّاهُ شَيْئًا كَأَصْلِ الْعَقْدِ ، فَكَمَا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ بِاعْتِبَارِ مُطْلَقِ الْإِعَارَةِ فَكَذَلِكَ بِالتَّوْقِيتِ مِنْهَا ، وَبَيَانُ التَّوْقِيتِ غَيْرُ مُلْزِمٍ إيَّاهُ أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إخْرَاجِهِ قَبْلَ مُضِيِّ ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُعِيرَ بِالتَّوْقِيتِ يَصِيرُ غَارًّا لِلْمُسْتَعِيرِ ؛ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى تَرْكِ الْأَرْضِ فِي يَدِهِ ، وَإِقْرَارُ بِنَائِهِ فِيهَا فِي الْمُدَّةِ الَّتِي سَمَّى ، فَإِذَا لَمْ يَفِ بِذَلِكَ صَارَ غَارًّا لَهُ ، وَلِلْمَغْرُورِ أَنْ يَدْفَعَ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِالرُّجُوعِ عَلَى الْغَارِّ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَطْلَقَ فَهَلَكَ الْمُعِيرُ لَمْ يَصِرْ غَارًّا لَهُ ، وَلَكِنَّ الْمُسْتَعِيرَ مُغْتَرٌّ بِنَفْسِهِ حَتَّى ظَنَّ أَنَّهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَتْرُكُهَا فِي يَدِهِ مُدَّةً طَوِيلَةً ، وَلَكِنْ قَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الْغُرُورَ بِمُبَاشَرَةِ عَقْدِ الضَّمَانِ يَكُونُ سَبَبًا لِلرُّجُوعِ ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هُنَا ، فَإِنَّ الْمُعِيرَ لَمْ يُبَاشِرْ عَقْدَ ضَمَانٍ ، وَإِنْ وَقَّتَ فَالْوَجْهُ أَنْ يَقُولَ : كَلَامُ الْعَاقِلِ مَحْمُولٌ عَلَى الْفَائِدَةِ مَا أَمْكَنَ ، وَلَا حَاجَةَ إلَى التَّوْقِيتِ فِي تَصْحِيحِ الْعَارِيَّةِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ لِذِكْرِ الْوَقْتِ فَائِدَةٌ أُخْرَى ، وَلَيْسَ ذَلِكَ الِالْتِزَامُ قِيمَةَ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ إذَا أَرَادَ إخْرَاجَهُ قَبْلَهُ ، وَصَارَ تَقْدِيرُ كَلَامِهِ كَأَنَّهُ قَالَ : ابْنِ لِي فِي هَذِهِ الْأَرْضِ لِنَفْسِكَ عَلَى أَنْ أَتْرُكَهَا فِي
يَدِكَ إلَى كَذَا مِنْ الْمُدَّةِ ، فَإِنْ لَمْ أَتْرُكْهَا فَأَنَا ضَامِنٌ لَكَ مَا تُنْفِقُ فِي بِنَائِكَ ، وَيَكُونُ بِنَاؤُكَ لِي ، فَإِذَا بَدَا لَهُ فِي الْإِخْرَاجِ ضَمِنَ قِيمَةَ بِنَائِهِ وَغَرْسِهِ ، وَيَكُونُ كَأَنَّهُ بَنَى لَهُ بِأَمْرِهِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْمُسْتَعِيرُ أَنْ يَرْفَعَهَا ، وَلَا يُضَمِّنُهُ قِيمَتَهَا فَيَكُونُ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ وَالْغَرْسَ مِلْكُهُ ، وَإِنَّمَا أَوْجَبْنَا الضَّمَانَ عَلَى الْمُعِيرِ لَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُسْتَعِيرِ ، فَإِذَا رَضِيَ بِالْتِزَامِ هَذَا الضَّرَرِ كَانَ هُوَ أَحَقُّ بِمِلْكِهِ يَرْفَعُهُ بِتَفْرِيغِ مِلْكِ الْغَيْرِ .
( وَقِيلَ : ) هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي قَلْعِ الْأَشْجَارِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ بِالْأَرْضِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَظِيمٌ فَلَيْسَ لِلْمُسْتَعِيرِ أَنْ يَرْفَعَهَا بِغَيْرِ رِضَا الْمُعِيرِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِهِ ، وَلَكِنْ لِلْمُعِيرِ أَنْ يَتَمَلَّكَهَا عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ .
وَإِنْ كَانَ أَعَارَهُ الْأَرْضَ لِيَزْرَعَهَا وَوَقَّتَ لِذَلِكَ وَقْتًا أَوْ لَمْ يُوَقِّتْ وَقْتًا ، فَلَمَّا تَقَارَبَ حَصَادُهُ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَهُ فَفِي الْقِيَاسِ لَهُ ذَلِكَ كَمَا فِي الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الزَّارِعَ زَرَعَ الْأَرْضَ مِنْ غَيْرِ حَقٍّ لَازِمٍ لَهُ فِيهَا ، فَلِصَاحِبِهَا أَنْ يَأْخُذَهَا مَتَى شَاءَ كَالْغَاصِبِ لِلْأَرْضِ إذَا زَرَعَهَا ، وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَأْخُذُهَا صَاحِبُهَا إلَى أَنْ يَحْصُدَ الْمُسْتَعِيرُ زَرْعَهَا ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي الزِّرَاعَةِ بِجِهَةِ الْعَارِيَّةِ ، وَلِإِدْرَاكِ الزَّرْعِ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ ، فَلَوْ تَمَكَّنَ الْمُعِيرُ مِنْ قَلْعِ زَرْعِهِ كَانَ فِيهِ إضْرَارٌ بِالْمُسْتَعِيرِ فِي إبْطَالِ مِلْكِهِ ، وَلَوْ تُرِكَتْ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ كَانَ فِيهِ إضْرَارٌ بِالْمُعِيرِ مِنْ حَيْثُ تَأْخِيرُ حَقِّهِ ، وَضَرَرُ الْإِبْطَالِ فَوْقَ ضَرَرِ التَّأْخِيرِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ الْإِضْرَارِ بِأَحَدِهِمَا تَرَجَّحَ أَهْوَنُ الضَّرَرَيْنِ .
بِخِلَافِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ نِهَايَةٌ مَعْلُومَةٌ فَيَكُونُ الضَّرَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ضَرَرُ إبْطَالِ الْحَقِّ فَتَرَجَّحَ جَانِبُ صَاحِبِ الْأَصْلِ عَلَى جَانِبِ صَاحِبِ التَّبَعِ ، وَبِخِلَافِ الْغَصْبِ ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ مُتَعَدٍّ فِي الزِّرَاعَةِ فِي الِابْتِدَاءِ ، فَلَا يَسْتَحِقُّ بِفِعْلِ التَّعَدِّي إبْقَاءَ زَرْعِهِ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْأَرْضَ تُتْرَكُ فِي يَدِ الْمُسْتَعِيرِ إلَى وَقْتِ إدْرَاكِ الزَّرْعِ بِأَجْرٍ أَوْ بِغَيْرِ أَجْرٍ قَالُوا : وَيَنْبَغِي أَنْ يُتْرَكَ بِأَجْرِ الْمِثْلِ كَمَا لَوْ انْتَهَتْ مُدَّةُ الْإِجَارَةِ وَالزَّرْعُ نُقِلَ بَعْدَهُ ، وَهَذَا لِأَنَّ إبْطَالَ حَقِّ صَاحِبِ الْأَرْضِ عَنْ مَنْفَعَةِ مِلْكِهِ مَجَّانًا لَا يَجُوزُ بِغَيْرِ رِضَاهُ ، وَإِنَّمَا يَعْتَدِلُ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ إذَا تُرِكَ الزَّرْعُ إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ بِأَجْرِ الْمِثْلِ .
( فَإِنْ ) رَدَّ الْمُسْتَعِيرُ الدَّابَّةَ مَعَ غُلَامِهِ فَعَقَرَهَا الْغُلَامُ فَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا يُبَاعُ فِي ذَلِكَ أَوْ يُؤَدِّي عَنْهُ مَوْلَاهُ لِأَنَّهُ اسْتَهْلَكَهَا ، وَالْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ يُؤَاخَذُ بِضَمَانِ الِاسْتِهْلَاكِ فِي الْحَالِ .
( وَإِذَا اخْتَلَفَ رَبُّ الدَّابَّةِ وَالْمُسْتَعِيرُ فِيمَا أَعَارَهَا لَهُ ، وَقَدْ عَقَرَهَا الرُّكُوبُ أَوْ الْحُمُولَةُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّابَّةِ عِنْدَنَا ) وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَعِيرِ ؛ لِأَنَّ رَبَّ الدَّابَّةِ يَدَّعِي سَبَبَ الضَّمَانِ ، وَهُوَ الْخِلَافُ ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْإِذْنُ يُسْتَفَادُ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الدَّابَّةِ ، وَلَوْ أَنْكَرَ أَصْلَ الْإِذْنِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلُهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَنْكَرَ الْإِذْنَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي انْتَفَعَ بِهِ الْمُسْتَعِيرُ ، وَهَذَا لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الضَّمَانِ قَدْ ظَهَرَ ، وَهُوَ اسْتِعْمَالُ دَابَّةِ الْغَيْرِ ، وَالْمُسْتَعْمِلُ يَدَّعِي مَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ عَنْهُ ، وَهُوَ الْإِذْنُ ، وَصَاحِبُهَا مُنْكِرٌ لِذَلِكَ ، فَإِذَا حَلَفَ فَقَدْ انْتَفَى الْمُسْقِطُ ، وَيَبْقَى هُوَ ضَامِنًا بِالسَّبَبِ الظَّاهِرِ .
وَإِنْ أَعَارَهُ الْأَرْضَ عَلَى أَنْ يَبْنِيَ فِيهَا أَوْ يُسْكِنَ مَا بَدَا لَهُ ، فَإِذَا خَرَجَ فَالْبِنَاءُ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ ، فَهَذَا الشَّرْطُ فَاسِدٌ لِأَنَّ الْبِنَاءَ مِلْكُ الْبَانِي ، شَرْطُ رَبِّ الْأَرْضِ ذَلِكَ عَلَيْهِ لِنَفْسِهِ بِإِزَاءِ مَنْفَعَةِ الْأَرْضِ فَيَكُونُ هَذَا إجَارَةً لَا إعَارَةً ، وَهِيَ إجَارَةٌ فَاسِدَةٌ لِجَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ حِينَ لَمْ يَذْكُرْ مُدَّةً مَعْلُومَةً ، وَبِجَهَالَةِ الْأَجْرِ حِينَ لَمْ يَكُنْ مِقْدَارُ مَا يَبْنِي مَعْلُومًا لَهُمَا وَقْتَ الْعَقْدِ ، وَعَلَى السَّاكِنِ أَجْرٌ مِثْلُ الْأَرْضِ فِيمَا سَكَنَ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنْفَعَتَهَا بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ .
( وَيَنْقُضُ السَّاكِنُ بِنَاءَهُ إذَا طَالَبَهُ صَاحِبُهَا بِرَدِّ الْأَرْضِ ) ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ مِلْكُهُ .
( فَإِنْ قِيلَ : ) لِمَاذَا لَا يَتَمَلَّكُ الْبِنَاءَ صَاحِبُ الْأَرْضِ بِحُكْمِ الْإِجَارَةِ الْفَاسِدَةِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا لَهُ بِاتِّصَالِهِ بِالْأَرْضِ .
( قُلْنَا : ) كَانَ الشَّرْطُ بَيْنَهُمَا أَنْ يَبْنِيَ السَّاكِنُ لِنَفْسِهِ ، ثُمَّ الْبِنَاءُ كَانَ مَعْدُومًا عِنْدَ الْعَقْدِ ، وَالْعَقْدُ عَلَى الْمَعْدُومِ لَا يَنْعَقِدُ أَصْلًا ، وَإِنَّمَا يُمَلَّكُ بِالْقَبْضِ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ الْفَاسِدُ .
وَإِذَا مَاتَ الْمُعِيرُ وَالْمُسْتَعِيرُ انْقَطَعَتْ الْعَارِيَّةُ .
أَمَّا إذَا مَاتَ الْمُعِيرُ فَلِأَنَّ الْعَيْنَ انْتَقَلَتْ إلَى وَارِثِهِ ، وَالْمَنْفَعَةُ بَعْدَ هَذَا تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِهِ ، وَإِنَّمَا جَعَلَ الْمُعِيرُ لِلْمُسْتَعِيرِ مِلْكَ نَفْسِهِ لَا مِلْكَ غَيْرِهِ ، وَأَمَّا إذَا مَاتَ الْمُسْتَعِيرُ فَلِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَا تُوَرَّثُ ؛ لِأَنَّ الْوِرَاثَةَ خِلَافَةٌ ، وَذَلِكَ فِيمَا كَانَ لِلْمَيِّتِ فَيَخْلُفُهُ فِيهِ وَارِثُهُ ، وَإِذَا كَانَتْ الْمَنَافِعُ لَا تَبْقَى وَقْتَيْنِ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا هَذِهِ الْخِلَافَةُ ، وَلِأَنَّ الدَّلَالَةَ قَامَتْ لَنَا عَلَى أَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ بِعِوَضٍ يَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَهُوَ الْإِجَارَةُ ، فَمَا كَانَ مِنْهَا بِغَيْرِ عِوَضٍ أَوْلَى .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ قَالَ لَهُ : هَذِهِ الدَّارُ لَكَ سُكْنَى ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ : سُكْنَاهُ لَكَ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ لَكَ يَحْتَمِلُ تَمْلِيكَ الْعَيْنِ ، وَيَحْتَمِلُ تَمْلِيكَ الْمَنْفَعَةِ ، وَقَوْلُهُ سُكْنَى يَكُونُ تَفْسِيرًا لِذَلِكَ الْمُحْتَمَلِ ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : عُمْرِي سُكْنَى كَانَ قَوْلُهُ سُكْنَى تَفْسِيرًا لِقَوْلِهِ عُمْرِي ، فَإِنَّمَا تَثْبُتُ الْعَارِيَّةُ بِهَذَا اللَّفْظِ ، ثُمَّ تَنْقَطِعُ بِمَوْتِهِ .
( وَإِذَا جَاءَ رَجُلٌ إلَى الْمُسْتَعِيرِ ، وَقَالَ : إنِّي اسْتَعَرْتُ مِنْ فُلَانٍ هَذَا الَّذِي عِنْدَكَ ، وَأَمَرَنِي أَنْ أَقْبِضَهُ مِنْكَ فَصَدَّقَهُ وَدَفَعَهُ إلَيْهِ فَهَلَكَتْ عِنْدَهُ ، ثُمَّ أَنْكَرَ الْمُعِيرُ أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ ، فَالْمُسْتَعِيرُ ضَامِنٌ لَهُ ) لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَى الْمُعِيرِ الْأَمْرَ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ ، وَهُوَ مُنْكِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ، وَإِذَا حَلَفَ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ دَفَعَهُ إلَى غَيْرِ الْمَالِكِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ .
( فَإِنْ قِيلَ : ) لِمَاذَا لَمْ تَجْعَلْ هَذِهِ إعَارَةً مِنْ الْمُسْتَعِيرِ حَتَّى لَا يَكُونَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ ( قُلْنَا ) الْمُسْتَعِيرُ إذَا أَعَارَهُ مِنْ غَيْرِهِ ، فَإِنَّهُ يُقِيمُهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي الِانْتِفَاعِ وَإِمْسَاكِ الْعَيْنِ ، فَيَكُونُ يَدُ الثَّانِي كَيَدِ الْأَوَّلِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مَتَى شَاءَ ، وَهُنَا تَسْلِيمُهُ إلَى الثَّانِي لَمْ يَكُنْ بِهَذَا الطَّرِيقِ بَلْ بِطَرِيقِ أَنَّهُ أَحَقُّ بِالْعَيْنِ مِنْهُ ؛ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الِاسْتِرْدَادَ مِنْهُ ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ كَالْمُعِيرِ مِنْهُ ، ثُمَّ إذَا ضَمِنَ الْمُسْتَعِيرُ لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الَّذِي قَبَضَهُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ صَدَّقَهُ فِيمَا ادَّعَى ، فَفِي زَعْمِهِ أَنَّهُ مُسْتَعِيرٌ مِنْ الْمَالِكِ ، وَأَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنَّ الْمَالِكَ ظَلَمَهُ حِينَ ضَمِنَهُ ، وَمَنْ ظَلَمَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَظْلِمَ غَيْرَ ظَالِمِهِ .
وَإِنْ كَانَ الَّذِي جَاءَ فَقَبَضَ الْعَارِيَّةَ مِنْهُ خَادِمَ الْمُعِيرَ ، وَأَنْكَرَ مَوْلَاهُ أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الرَّدَّ عَلَى خَادِمِ الْمُعِيرِ كَالرَّدِّ عَلَى الْمُعِيرِ ، فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ .
وَإِذَا رَدَّ الْمُسْتَعِيرُ الدَّابَّةَ فَلَمْ يَجِدْ صَاحِبَهَا وَلَا خَادِمَهُ فَرَبَطَهَا فِي دَارِ صَاحِبِهَا عَلَى مَعْلَفِهَا فَضَاعَتْ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا فِي الْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّهُ ضَيَّعَهَا حِينَ أَخْرَجَهَا مِنْ يَدِهِ ، وَلَمْ يُسَلِّمْهَا إلَى أَحَدٍ يَحْفَظُهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْغَاصِبَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ مُضَيِّعًا ضَامِنًا فَكَذَلِكَ الْمُسْتَعِيرُ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ رَبَطَهَا فِي مَوْضِعِهَا الْمَعْرُوفِ ، وَلَوْ رَدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا لَكَانَ يَرْبِطُهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَكَذَلِكَ إذَا رَبَطَهَا بِنَفْسِهِ ، وَهَذَا لِلْعَادَةِ الظَّاهِرَةِ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ يَأْخُذُ الدَّابَّةَ مِنْ مَرْبِطِهَا ، وَيَرُدُّهَا إلَى مَرْبِطِهَا فَيَثْبُتُ الْإِذْنُ لَهُ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهَا فِي ذَلِكَ بِهَذَا الطَّرِيقِ دَلَالَةً ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّهُ ضَامِنٌ مُحْتَاجٌ إلَى إسْقَاطِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ بِنَسْخِ فِعْلِهِ ، وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ بِرَدِّهَا إلَى مَرْبِطهَا بَعْدَ مَا أَخَذَهَا مِنْ صَاحِبِهَا ، فَأَمَّا الْمُسْتَعِيرُ فَهُوَ أَمِينٌ ، فَإِنَّمَا الْحَاجَةُ إلَى دَفْعِ سَبَبِ الضَّمَانِ عَنْهُ وَهُوَ التَّضْيِيعُ ، وَقَدْ انْدَفَعَ بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَرْبِطَ فِي يَدِ صَاحِبِ الدَّابَّةِ فَإِعَادَتُهَا إلَى الْمَرْبِطِ بِمَنْزِلَةِ الْإِعَادَةِ إلَى يَدِ صَاحِبِهَا حُكْمًا .
( وَلَوْ جَحَدَ الْمُسْتَعِيرُ الْعَارِيَّةَ ، ثُمَّ زَعَمَ أَنَّهَا هَلَكَتْ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا ) ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ كَانَتْ أَمَانَةً فِي يَدِهِ فَيَصِيرُ ضَامِنًا بِالْجُحُودِ كَالْمُودَعِ ، وَإِنْ لَمْ يَجْحَدْ ، وَلَكِنْ قَالَ : قَدْ رَدَّدَتْهُ أَوْ ضَاعَ مِنِّي فَهُوَ مُصَدَّقٌ مَعَ يَمِينِهِ فِي كُلِّ مَا يُصَدَّقُ فِيهِ الْمُودَعُ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ يُنْكِرُ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ .
( وَعَارِيَّةُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ وَالْفُلُوسِ قَرْضٌ ) لِأَنَّ الْإِعَارَةَ إذْنٌ فِي الِانْتِفَاعِ ، وَلَا يَتَأَتَّى الِانْتِفَاعُ بِالنُّقُودِ إلَّا بِاسْتِهْلَاكِ عَيْنِهَا فَيَصِيرُ مَأْذُونًا فِي ذَلِكَ وَفِيهِ طَرِيقَانِ : إمَّا الْهِبَةُ أَوْ الْقَرْضُ فَيَثْبُتُ الْأَقَلُّ لِكَوْنِهِ مُتَيَقَّنًا بِهِ ، وَلِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ يَلْتَزِمُ رَدَّ الْعَيْنِ بَعْدَ الِانْتِفَاعِ ، وَيَتَعَذَّرُ هُنَا رَدُّ الْعَيْنِ فَيُقَامُ رَدُّ الْمِثْلِ مَقَامَ رَدِّ الْعَيْنِ ، وَالْقَبْضُ الَّذِي يُمَكِّنُهُ مِنْ اسْتِهْلَاكِ الْمَقْبُوضِ وَيُوجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانَ الْمِثْلِ الْقَبْضُ بِجِهَةِ الْقَرْضِ .
وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ أَوْ يُعَدُّ مِثْلُ الْجَوْزِ وَالْبَيْضِ ، قَالَ فِي الْأَصْلِ : أَرَأَيْتَ لَوْ اسْتَعَارَ دَرَاهِمَ يَشْتَرِي بِهَا طَعَامًا أَوْ جَارِيَةً أَمَا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ الطَّعَامَ أَوْ يَطَأَ الْجَارِيَةَ لَهُ ذَلِكَ ، وَالْمَالُ قَرْضٌ عَلَيْهِ .
وَإِنْ اسْتَعَارَ آنِيَةً يَتَجَمَّلُ بِهَا فِي مَنْزِلِهِ ، أَوْ سِكِّينًا مُحَلَّى أَوْ سَيْفًا أَوْ مِنْطَقَةً مُفَضَّضَةً أَوْ خَاتَمًا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ هَذَا قَرْضًا ؛ لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَذِهِ الْأَعْيَانِ مَعَ بَقَائِهَا مُمْكِنٌ ؛ وَلِهَذَا تَجُوزُ إجَارَتُهَا .
( قَالُوا : ) وَلَوْ أَنَّ صَيْرَفِيًّا اسْتَعَارَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ لِيَتَجَمَّلَ بِهَا فِي حَانُوتِهِ أَوْ لِيَعْبُرَ بِهَا صَنَجَاتِهِ ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ قَرْضًا ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا صَرَّحَا بِهِ عَلِمْنَا أَنَّ مَقْصُودَهُمَا الِانْتِفَاعُ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ دُونَ الْإِذْنِ فِي اسْتِهْلَاكِ الْعَيْنِ .
وَإِذَا اسْتَعَارَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا إلَى مَكَان مَعْلُومٍ فَأَخَذَ بِهَا فِي طَرِيقٍ آخَرَ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ فَعَطِبَتْ لَمْ يَضْمَنْ ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي الْوُصُولِ عَلَيْهَا إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ ، وَلَمْ يُقَيَّدْ لَهُ طَرِيقٌ ، فَلَا يَكُونُ مُخَالِفًا فِي أَيِّ طَرِيقٍ ذَهَبَ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ طَرِيقًا يَسْلُكُهُ النَّاسُ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ ، فَإِنْ كَانَ طَرِيقًا لَا يَسْلُكُهُ النَّاسُ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ فَهُوَ ضَامِنٌ ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِذْنِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ .
وَإِنْ اسْتَعَارَهَا إلَى حَمَّامٍ أَعْبَرَ فَجَاوَزَ بِهَا حَمَّامَ أَعْبَرَ ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا إلَى حَمَّامِ أَعْيَنَ أَوْ إلَى الْكُوفَةِ فَعَطِبَتْ الدَّابَّةُ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا حَتَّى يَرُدَّهَا إلَى صَاحِبِهَا .
( قِيلَ : ) هَذَا إذَا اسْتَعَارَهَا ذَاهِبًا لَا رَاجِعًا ، فَأَمَّا إذَا اسْتَعَارَهَا ذَاهِبًا ، وَجَائِيًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ لَمَّا وَصَلَ إلَى حَمَّامِ أَعْيَنَ انْتَهَى الْعَقْدُ ، فَإِذَا جَاوَزَ كَانَ غَاصِبًا ، فَلَا يَبْرَأُ إلَّا بِالرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ ، وَفِي الثَّانِي إنَّمَا يَضْمَنُ بِالْخِلَافِ ، وَهُوَ اسْتِعْمَالُهَا وَرَاءَ الْمَكَانِ الْمَشْرُوطِ ، فَإِذَا رَجَعَ إلَى حَمَّامِ أَعْيَنَ فَقَدْ ارْتَفَعَ الْخِلَافُ ، وَالْعَقْدُ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا فَيَكُونُ أَمِينًا ( وَقِيلَ : ) الْجَوَابُ فِي الْفَصْلَيْنِ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُسْتَعِيرِ يَدُ نَفْسِهِ .
وَفِي الْوَدِيعَةِ إذَا خَالَفَ ، ثُمَّ عَادَ إلَى الْوِفَاقِ إنَّمَا أَبْرَأْنَاهُ عَنْ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّ يَدَهُ يَدُ الْمَالِكِ فَيُجْعَلُ فِي الْحُكْمِ كَمَا لَوْ رَدَّهُ عَلَى الْمَالِكِ ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ هُنَا فَبَقِيَ ضَامِنًا كَمَا كَانَ ، وَإِنْ عَادَ إلَى مَكَانِ الْعَقْدِ مَا لَمْ يُوَصِّلْهُ إلَى الْمَالِكِ ، وَالْإِجَارَةُ فِي هَذَا كَالْعَارِيَّةِ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُسْتَأْجِرِ يَدُ نَفْسِهِ أَيْضًا ، فَإِنَّهُ يَقْبِضُ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ ، وَرُجُوعُهُ بِضَمَانِ الِاسْتِحْقَاقِ لِأَجْلِ الْغَرُورِ الثَّابِتِ بِعَقْدِ ضَمَانٍ لَا ؛ لِأَنَّ يَدَهُ يَدُ الْمَالِكِ
يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ الْمُسْتَعِيرَ وَالْمُسْتَأْجِرَ يَضْمَنَانِ بِالْإِمْسَاكِ ، فَإِنَّهُ لَوْ اسْتَعَارَ أَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا إلَى مَكَانِ كَذَا فَأَمْسَكَهَا فِي الْمِصْرِ أَيَّامًا كَانَ ضَامِنًا فَكَذَلِكَ إذَا جَاوَزَ الْمَكَانَ الْمَشْرُوطَ ، فَإِنَّمَا ضَمَّنَاهُ بِإِمْسَاكِهَا فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الَّذِي تَنَاوَلَهُ الْإِذْنُ ، وَلَا يَنْعَدِمُ الْإِمْسَاكُ إلَّا بِالرَّدِّ ، فَأَمَّا الْمُودَعُ يَصِيرُ ضَامِنًا بِالِاسْتِعْمَالِ لَا بِالْإِمْسَاكِ ، وَقَدْ انْعَدَمَ الِاسْتِعْمَالُ حِينَ عَادَ الْوِفَاقُ .
يَقُولُ : فَإِنْ أَقَامَ صَاحِبُهَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا نَفَقَتْ تَحْتَهُ فِي دَيْرِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مِنْ رُكُوبِهِ ، وَأَقَامَ الْمُسْتَعِيرُ شَاهِدَيْنِ أَنَّهُ قَدْ رَدَّهَا إلَى صَاحِبِهَا أُخِذَتْ بِبَيِّنَةِ رَبِّ الدَّابَّةِ ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ سَبَبَ تَقَرُّرِ الضَّمَانِ عَلَى الرَّاكِبِ ، وَبَيِّنَةُ الْمُسْتَعِيرِ تَنْفِي ذَلِكَ ، وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِثْبَاتِ .
وَإِذَا نَفَقَتْ الدَّابَّةُ تَحْتَ الْمُسْتَعِيرِ ، ثُمَّ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا دَابَّتُهُ يَقْضِي الْقَاضِي لَهُ بِالْمِلْكِ لِإِثْبَاتِهِ ذَلِكَ بِالْحُجَّةِ ، وَلَا يَسْأَلُهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَمْ يَبِعْ وَلَمْ يَهَبْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَدَّعِيهِ أَحَدٌ ، وَالْقَاضِي نُصِبَ لِفَصْلِ الْخُصُومَاتِ لَا لِإِنْشَائِهَا ، فَإِنْ ادَّعَى ذَلِكَ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَضْمَنَهُ أَوْ قَالَ : أَذِنَ لِي فِي عَارِيَّتِهَا يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى عَلَيْهِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ فَإِذَا أَنْكَرَ يَسْتَحْلِفُهُ ، فَإِنْ نَكَلَ كَانَ نُكُولُهُ كَإِقْرَارِهِ ، فَلَا يُضَمِّنُ الْمُسْتَحِقُّ أَحَدًا ، وَإِنْ حَلَفَ كَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ أَيَّهُمَا شَاءَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَدٍّ فِي حَقِّهِ ، الْمُعِيرُ بِالتَّسْلِيمِ وَالْمُسْتَعِيرُ بِالْقَبْضِ وَالِاسْتِعْمَالِ ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْمُعِيرَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا مِنْ حِينِ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّهُ أَعَارَ مِلْكَ نَفْسِهِ ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُسْتَعِيرَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُعِيرِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ بِفِعْلٍ بَاشَرَهُ لِنَفْسِهِ بِخِلَافِ الْمُودَعِ ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مَغْرُورًا مِنْ جِهَةِ الْمُعِيرِ حِينَ لَمْ يَشْتَرِطْ الْمُعِيرُ لِنَفْسِهِ عِوَضًا ، بِخِلَافِ الْمُسْتَأْجِرِ فَقَدْ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَةِ الْأَجْرِ بِمُبَاشَرَتِهِ عَقْدَ الضَّمَانِ ، وَاشْتِرَاطُ الْعِوَضِ لِنَفْسِهِ ، ثُمَّ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ الْأَجْرُ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي نَفَقَتْ فِيهِ الدَّابَّةُ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ لِلْأَجْرِ دُونَ الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّ تَقَوُّمَ الْمَنْفَعَةِ كَانَ بِعَقْدِهِ ، وَبِهِ وَجَبَ الْأَجْرُ ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُعِيرَ الْعَبْدُ التَّاجِرُ وَالْعَبْدُ الَّذِي يُؤَدِّي الْغَلَّةَ الدَّابَّةَ ، وَفِي الْقِيَاسِ لَيْسَ لَهُمَا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ ، وَالْمَمْلُوكُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهِ ، فَإِنَّ تَبَرُّعَهُ يَكُونُ بِمِلْكِ الْغَيْرِ ، وَلِأَنَّهُ صَارَ مُنْفَكَّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي التِّجَارَةِ ، وَالْإِعَارَةُ لَيْسَتْ مِنْ
التِّجَارَةِ فِي شَيْءٍ .
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذَا مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ ، فَإِنَّ التَّاجِرَ لَا يَجِدُ مِنْهُ بُدًّا ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَرَادَ الْإِنْسَانَ أَنْ يُعَامِلَهُ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُجْلِسَهُ فِي حَانُوتِهِ أَوْ يَضَعَ وِسَادَةً لَهُ ، وَهُوَ إعَارَةٌ لِذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْهُ ، وَقَدْ يُسْتَعَارُ مِنْهُ الْمِيزَانُ أَوْ صَنَجَاتُ الْمِيزَانِ ، فَإِذَا لَمْ يُعِرْ لَا يُعَارُ مِنْهُ عِنْدَ حَاجَتِهِ أَيْضًا .
وَمَا يَكُونُ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ يَمْلِكُهُ الْمَأْذُونُ كَاِتِّخَاذِ الضِّيَافَةِ الْيَسِيرَةِ وَالْإِهْدَاءِ إلَى الْمُجَاهِدِينَ بِشَيْءٍ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُجِيبُ دَعْوَةَ الْمَمْلُوكِ } ، وَحَدِيثُ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أَسِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ : عَرَّسْتُ ، وَأَنَا عَبْدٌ فَدَعَوْتُ رَهْطًا مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِيهِمْ أَبُو ذَرٍّ فَأَجَابُونِي فَدَلَّ أَنَّ لِلْعَبْدِ اتِّخَاذَ الدَّعْوَةِ حَتَّى أَجَابَهُ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَعَ زُهْدِهِ .
وَالْعَبْدُ الَّذِي أَمَرَهُ الْمَوْلَى بِأَدَاءِ الْغَلَّةِ مَأْذُونٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَدَاءِ إلَّا بِالِاكْتِسَابِ ، فَأَمْرُ الْمَوْلَى إيَّاهُ بِأَدَاءِ الْغَلَّةِ يَكُونُ إذْنًا نَالَهُ فِي الِاكْتِسَابِ .
( عَبْدٌ مَأْذُونٌ لَهُ ) أَجَرَ دَابَّتَهُ مِنْ رَجُلٍ فَنَفَقَتْ تَحْتَهُ فَاسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ ، وَضَمِنَ الرَّاكِبُ قِيمَتَهَا يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ كَمَا يَرْجِعُ عَلَى الْحُرِّ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ بِاشْتِرَاطِهِ الْعِوَضَ لِنَفْسِهِ ، وَالْمَأْذُونُ يُؤَاخَذُ بِضَمَانِ الْغُرُورِ كَالْحُرِّ ؛ وَلِهَذَا تَبَيَّنَ خَطَأُ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ ضَمَانَ الْغَرُورِ كَضَمَانِ الْكَفَالَةِ ، وَأَنَّ الْغَارَّ يَصِيرُ كَالْقَائِلِ لِلْمَغْرُورِ : إنْ ضَمَّنَكَ أَحَدٌ بِسَبَبِ رُكُوبِ هَذِهِ الدَّابَّةِ أَوْ اسْتِيلَادِ هَذِهِ الْجَارِيَةِ فِي الْبَيْعِ فَأَنَا ضَامِنٌ لَكَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا بِطَرِيقِ الْكَفَالَةِ لَمْ يُؤَاخَذْ بِهِ الْمَأْذُونُ ، فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ لَا يُؤَاخَذُ بِضَمَانِ الْكَفَالَةِ ، وَلَكِنَّ الطَّرِيقَ أَنَّ مَنْ بَاشَرَ عَقْدَ الْمُعَاوَضَةِ فَهُوَ مُلْتَزِمٌ سَلَامَةَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَنْ الْعَيْبِ ، وَلَا عَيْبَ فَوْقَ الِاسْتِحْقَاقِ وَالرُّجُوعِ عَلَيْهِ لِهَذَا ؛ وَلِهَذَا لَا رُجُوعَ عَلَى الْمُعِيرِ الْوَاهِبِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْتَزِمُ صِفَةَ السَّلَامَةِ بِعَقْدِ التَّبَرُّعِ .
ثُمَّ الْعَبْدُ فِي الْتِزَامِ صِفَةِ السَّلَامَةِ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ ، وَهُوَ التِّجَارَةُ كَالْحُرِّ .
وَإِذَا أَعَارَ عَبْدٌ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ عَبْدًا مِثْلَهُ دَابَّةً فَرَكِبَهَا فَهَلَكَتْ تَحْتَهُ ، ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ أَيَّهُمَا شَاءَ ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا غَاصِبٌ لِمِلْكِهِ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْآخَرِ ، وَالْآخَرُ مُسْتَهْلِكٌ بِاسْتِعْمَالِهِ ، فَإِنْ ضَمَّنَ الرَّاكِبَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُعِيرِ لِانْعِدَامِ الْغُرُورِ مِنْهُ ، وَلِأَنَّ الْمُعِيرَ كَانَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِضَمَانِ الْأَقْوَالِ ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْمُعِيرَ رَجَعَ بِهِ مَوْلَاهُ فِي رَقَبَةِ الرَّاكِبِ ؛ لِأَنَّ الدَّابَّةَ صَارَتْ كَسْبَ الْمُعِيرِ حِينَ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ ضَمَانُهَا ، وَكَسْبُ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الرَّاكِبَ أَتْلَفَ مِلْكَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الدَّابَّةُ لِمَوْلَى الْمُعِيرِ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الرَّاكِبَ ؛ لِأَنَّ إذْنَ الْعَبْدِ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي إسْقَاطِ حَقِّ الْمَوْلَى فَبَقِيَ الرَّاكِبُ مُسْتَعْمِلًا دَابَّتَهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ فَكَانَ غَاصِبًا ضَامِنًا .
وَإِنْ اسْتَعَارَ الرَّجُلُ دَابَّةً نَتُوجًا فَأَلْقَتْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُعَنِّفَ عَلَيْهَا ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهَا لَوْ هَلَكَتْ مِنْ الرُّكُوبِ الْمُعْتَادِ لَمْ يَضْمَنْ ، فَإِذَا هَلَكَ مَا فِي بَطْنِهَا أَوْلَى ، وَإِنْ ضَرَبَهَا فَفَقَأَ - عَيْنَهَا أَوْ كَبَحَهَا بِاللِّجَامِ فَهَلَكَتْ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ بِمَا صَنَعَ ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لَهُ الْمَالِكُ فِي الرُّكُوبِ دُونَ الضَّرْبِ .
وَلَوْ اسْتَعَارَ مِنْ رَجُلٍ سِلَاحًا لِيُقَاتِلَ بِهِ فَضَرَبَ بِالسَّيْفِ فَانْقَطَعَ نِصْفَيْنِ أَوْ طَعَنَ بِالرُّمْحِ فَانْكَسَرَ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ ، وَالِاسْتِعْمَالُ لَا يَكُونُ إلَّا هَكَذَا وَإِنْ ضَرَبَ بِهِ حَجَرًا فَهُوَ ضَامِنٌ ؛ لِأَنَّ الْمُعِيرَ إنَّمَا أَذِنَ لَهُ فِي الْمُقَاتَلَةِ بِالسِّلَاحِ ، وَالْمُقَاتَلَةُ مَعَ الْخَصْمِ لَا مَعَ الْحَجَرِ ، وَالضَّرْبُ بِالسَّيْفِ الْحَجَرَ غَيْرُ مُعْتَادٍ أَيْضًا فَكَانَ بِهِ ضَامِنًا .
قَالَ : ( وَإِذَا قَالَ الْمُسْتَعِيرُ فِي صِحَّتِهِ أَوْ مَرَضِهِ : قَدْ هَلَكَتْ مِنِّي الْعَارِيَّةُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيهِ كَالْمُودَعِ ، وَلَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُ أَمَانَتِهِ بِمَرَضِهِ .
( وَإِذَا ) كَانَ عَلَى دَابَّةٍ بِإِعَارَةُ أَوْ إجَارَةُ فَنَزَلَ عَنْهَا فِي السِّكَّةِ ، وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ لِيُصَلِّي فَخَلَّى عَنْهَا فَهَلَكَتْ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا ، وَكَذَلِكَ إنْ أَدْخَلَ الْحِمْلَ فِي بَيْتِهِ ، وَخَلَّى عَنْهَا فِي السِّكَّةِ ؛ لِأَنَّهُ ضَيَّعَهَا حِينَ تَرَكَهَا فِي غَيْرِ حِرْزٍ لَا حَافِظَ مَعَهَا ، مِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ قَالَ هَذَا إذَا لَمْ يَرْبِطْهَا بِشَيْءٍ ، فَإِنْ رَبَطَهَا لَمْ يَضْمَنْ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَارَفٌ لَا يَجِدُ الْمُسْتَعِيرُ مِنْ ذَلِكَ بُدًّا ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَضْمَنُ إذَا غَيَّبَهَا عَنْ بَصَرِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ : وَإِنْ كَانَ فِي صَحْرَاءَ فَنَزَلَ لِيُصَلِّيَ وَأَمْسَكَهَا فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ أَنْ لَا يُغَيِّبَهَا عَنْ بَصَرِهِ لِيَكُونَ حَافِظًا لَهَا ، فَأَمَّا بَعْدَ مَا غَيَّبَهَا عَنْ بَصَرِهِ لَا يَكُونُ هُوَ حَافِظًا لَهَا ، وَإِنْ رَبَطَهَا بِشَيْءٍ بَلْ يَكُونُ مُضَيِّعًا لَهَا بِتَرْكِ الْحِفْظِ فَيَكُونُ ضَامِنًا .
وَإِذَا اسْتَعَارَهَا لِيَرْكَبَهَا فِي حَاجَتِهِ إلَى نَاحِيَةٍ مُسَمَّاةٍ مِنْ النَّوَاحِي فِي الْكُوفَةِ فَأَخْرَجَهَا إلَى الْفُرَاتِ لِيَسْقِيَهَا ، وَالنَّاحِيَةُ الَّتِي اسْتَعَارَهَا إلَيْهَا مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ فَهَلَكَتْ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا لِإِمْسَاكِهِ إيَّاهَا فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ الْمَأْذُونِ فِيهِ أَوْ رُكُوبِهِ إيَّاهَا إلَى مَوْضِعِ السَّقْيِ .
( وَلَا يُقَالُ : ) إنَّمَا فَعَلَ هَذَا لِمَنْفَعَةِ الدَّابَّةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ صَاحِبُهَا ، وَهُوَ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ فِي سَقْيِهَا ، وَلِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْقِيَهَا فِي خُرُوجِهِ إلَى النَّاحِيَةِ الَّتِي اسْتَعَارَهَا إلَيْهَا ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ مَوْجُودٌ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ .
( وَإِذَا ) وَجَدَ الْمُعِيرُ دَابَّتَهُ مَعَ رَجُلٍ يَزْعُمُ أَنَّهَا لَهُ فَهُوَ خَصْمٌ لَهُ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا فِي يَدِهِ ، وَهُوَ يَدَّعِي رَقَبَتَهَا ، وَذُو الْيَدِ فِي مِثْلِ هَذَا خَصْمٌ لِلْمُسْتَحِقِّ وَإِنْ قَالَ الَّذِي هِيَ فِي يَدَيْهِ : أَوْدَعَنِيهَا فُلَانٌ الَّذِي أَعَرْتُهَا إيَّاهُ ، فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الْوُصُولَ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ ، وَذَلِكَ الرَّجُلُ لَيْسَ بِخَصْمٍ لِلْمُدَّعِي لَوْ كَانَ حَاضِرًا ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَعِيرٌ مِنْهُ فَكَذَلِكَ مَنْ قَامَتْ يَدُهُ فِيهَا مَقَامَ يَدِهِ لَا يَكُونُ خَصْمًا ، وَلِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا أَنَّهُ مُودَعٌ حَافِظٌ لَهَا ، فَلَا يَكُونُ خَصْمًا ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْمُسْتَعِيرُ بَاعَهَا مِنْ رَجُلٍ أَوْ بَاعَهَا وَصِيَّةً بَعْدَ مَوْتِهِ فَأَخَذَهَا صَاحِبُهَا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ قُضِيَ بِهَا لَهُ ، وَرَجَعَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عَلَى بَائِعِهِ ؛ لِأَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ يَتَبَيَّنُ بُطْلَانُ الْبَيْعِ .
وَإِذَا طَلَبَ الْمُعِيرُ ثَوْبَهُ فَأَبَى الْمُسْتَعِيرُ أَنْ يَدْفَعَهُ فَهَلَكَ عِنْدَهُ فَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْمَنْعِ بَعْدَ الطَّلَبِ صَارَ غَاصِبًا ، وَإِنْ لَمْ يَمْنَعْهُ ، وَلَكِنَّهُ قَالَ : دَعْهُ عِنْدِي إلَى غَدٍ فَرَضِيَ بِهِ صَاحِبُهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ بِهَذَا الرِّضَا صَارَ كَالْمُجَدِّدِ لِلْإِعَارَةِ مِنْهُ ، فَلَا يَكُونُ فِي إمْسَاكِهِ إلَى الْغَدِ مُتَعَدِّيًا .
( رَجُلٌ ) أَرْسَلَ رَسُولًا يَسْتَعِيرُ لَهُ دَابَّةً مِنْ فُلَانٍ إلَى الْحِيرَةِ فَجَاءَ الرَّسُولُ إلَى صَاحِبِهَا وَقَالَ : إنَّ فُلَانًا يَقُولُ لَكَ أَعِرْنِي دَابَّتَكَ إلَى الْمَدِينَةِ فَدَفَعَهَا إلَيْهِ فَجَاءَ بِهَا الرَّسُولُ فَدَفَعَهَا إلَى الَّذِي أَرْسَلَهُ ، ثُمَّ بَدَا لِلَّذِي أَرْسَلَهُ أَنْ يَرْكَبَهَا إلَى الْمَدِينَةِ ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِمَا كَانَ مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ فَرَكِبَهَا فَهَلَكَتْ تَحْتَهُ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَهَا بِإِذْنِ مَالِكِهَا ، وَإِنْ رَكِبَهَا إلَى الْحِيرَةِ فَهَلَكَتْ تَحْتَهُ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا ؛ لِأَنَّهُ جَاوَزَ الْمَكَانَ الَّذِي أَذِنَ فِيهِ الْمَالِكُ فَصَارَ مُسْتَعْمِلًا لَهَا بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ ظَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ، إنَّمَا الْمُعْتَبَرُ إذْنُ الْمَالِكِ ، وَقَدْ كَانَ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي طَلَبَ الرَّسُولُ ، ثُمَّ لَا يَرْجِعُ الْمُرْسِلُ عَلَى الرَّسُولِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ عَقْدُ ضَمَانٍ إنَّمَا أَخْبَرَهُ بِخَبَرٍ أَوْ لَمْ يُخْبِرْهُ بِشَيْءٍ ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُبَلِّغْ رِسَالَتَهُ كَمَا أَمَرَهُ بِهِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ ، وَالْكِرَاءُ فِي هَذَا قِيَاسُ الْعَارِيَّةِ .
وَإِنْ قَالَ : أَعَرْتَنِي دَابَّتَكَ فَنَفَقَتْ ، وَقَالَ رَبُّ الدَّابَّةِ : مَا أَعَرْتُكهَا ، وَلَكِنْ غَصَبْتَهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَرْكَبْهَا ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِفِعْلِ الْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ ، وَالْمَالِكُ يَدَّعِي عَلَيْهِ سَبَبَ الضَّمَانِ ، وَهُوَ الْغَصْبُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ .
إنْ كَانَ قَدْ رَكِبَهَا فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ قَدْ ظَهَرَ ، وَهُوَ اسْتِعْمَالُ دَابَّةِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَالْإِذْنُ الْمُسْقِطُ لِلضَّمَانِ لَا يَثْبُتُ بِدَعْوَاهُ ، وَإِنْ قَالَ رَبُّ الدَّابَّةِ أَجَرْتُكَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاكِبِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الرُّكُوبَ حَصَلَ بِالْإِذْنِ ، ثُمَّ رَبُّ الدَّابَّةِ يَدَّعِي عَلَيْهِ الْأَجْرَ ، وَالرَّاكِبُ مُنْكِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِإِنْكَارِ ذَلِكَ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَيْنِ ، فَإِنَّهُ إذَا هَلَكَ مَالُ الْغَيْرِ فِي يَدِهِ فَقَالَ : وَهَبْتَهَا لِي ، وَقَالَ الْمَالِكُ : بَلْ بِعْتُهَا مِنْكَ ، فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ بِنَفْسِهِ ، فَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْمَالِكِ عَنْ مَالِيَّتِهِ إلَّا بِإِسْقَاطِهِ ، فَأَمَّا الْمَنْفَعَةُ إنَّمَا تَأْخُذُ حُكْمَ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمَ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ ، وَرَبُّ الدَّابَّةِ يَدَّعِي ذَلِكَ ، وَالرَّاكِبُ مُنْكِرٌ ؛ فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ شَيْئًا .
وَإِنْ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَرْضٍ وَنَخْلٍ أَنَّهَا لَهُ ، وَقَدْ أَصَابَ ذُو الْيَدِ مِنْ غَلَّتِهَا ، وَثَمَرَتِهَا فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ ، ( وَقَالَ ) ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَةَ مَنْفَعَةُ الْأَشْجَارِ ، وَالْمَنْفَعَةُ لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً بِغَيْرِ عَقْدِ ضَمَانٍ كَمَنْفَعَةِ الدَّابَّةِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : الثَّمَرَةُ عَيْنُ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ بِدَلِيلِ جَوَازِ بَيْعِهَا ، وَهِيَ مَمْلُوكَةٌ لِصَاحِبِ الشَّجَرَةِ لِتَوَلُّدِهَا مِنْ مِلْكِهِ ، فَيَكُونُ الْمُصِيبُ ضَامِنًا لِمَالِهِ بِالْإِتْلَافِ ، كَوَلَدِ الْجَارِيَةِ ، وَالْحَمْلِ فِي الشَّاةِ إذَا أَتْلَفَهَا .
وَإِذَا غَصَبَ الرَّجُلُ الْأَرْضَ وَزَرَعَهَا فَالزَّرْعُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِعَمَلِهِ مِنْ بَذْرِهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا غَصَبَ جَارِيَةً فَأَحْبَلَهَا ، فَإِنَّ الْوَلَدَ هُنَاكَ يَكُونُ لِصَاحِبِهَا ؛ لِأَنَّ حُصُولَ الْوَلَدِ بِحَضَانَتِهَا فِي رَحِمِهَا لَا بِفِعْلِ الْوَاطِئِ ، فَإِنَّ مَاءَ الْفَحْلِ يَصِيرُ مُسْتَهْلَكَهَا بِالِاخْتِلَاطِ بِمَائِهَا ، وَلِأَنَّ الْوَلَدَ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ عَيْنِهَا ، وَهِيَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا مَمْلُوكَةٌ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ ، فَأَمَّا الزَّرْعُ لَيْسَ بِجُزْءٍ مِنْ الْأَرْضِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ الْبَذْرِ ، وَأَنَّهُ حَاصِلٌ بِعَمَلِ الزَّارِعِ كَمَا قَرَرْنَاهُ فِي الْغَصْبِ ، ثُمَّ الزَّارِعُ ضَامِنٌ لِمَا نَقَصَ الْأَرْضَ عِنْدَنَا ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْعَقَارَ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْغَصْبِ ، وَالنُّقْصَانُ لَمْ يَحْصُلْ بِفِعْلِهِ ، وَلِأَنَّ النُّقْصَانَ فِي الْأَرْضِ مِنْ حَيْثُ تَقْلِيلُ الْمَنْفَعَةِ وَالرَّيْعِ ، وَالْمَنْفَعَةُ لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً عَلَى الْغَاصِبِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : قَدْ انْتَقَصَ مَالِيَّةَ الْعَيْنِ بِفِعْلِهِ ، وَهُوَ الزِّرَاعَةُ فَكَانَ مُتْلِفًا بِقَدْرِ النُّقْصَانِ ، وَالْعَقَارُ يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ كَمَا لَوْ هَدَمَ الْأَبْنِيَةَ أَوْ قَلَعَ الْأَشْجَارَ ، ثُمَّ يَرْفَعُ مِنْ الزَّرْعِ مِقْدَارَ بَذْرِهِ ، وَمَا أَنْفَقَ فِيهِ وَمَا غَرِمَ مِنْ نُقْصَانِ الْأَرْضِ ، وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ بِزِرَاعَتِهِ ، وَهُوَ سَبَبٌ مَشْرُوعٌ لِلِاكْتِسَابِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْغَصْبِ .
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَرْضًا سَنَةً فَزَرَعَهَا سَنَتَيْنِ فَعَلَيْهِ الْأَجْرُ لِلسَّنَةِ الْأُولَى ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ عَقْدٍ صَحِيحٍ ، وَعَلَيْهِ نُقْصَانُ الْأَرْضِ بِالزِّرَاعَةِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ فِيمَا صَنَعَ ، وَيَتَصَدَّقُ بِالْفَضْلِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ، وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى عَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ لِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ ، فَكَأَنَّهُ زَرَعَهَا فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ بِنَاءً عَلَى الْعَقْدِ فِي السَّنَةِ الْأُولَى ، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ صَاحِبُهَا لِهَذَا ، وَالْعَقْدُ يَنْعَقِدُ بِالدَّلَالَةِ كَمَا يَنْعَقِدُ بِالتَّصْرِيحِ فَيَلْزَمُهُ أَجْرُ مِثْلِهَا .
( ثُمَّ ) خَتَمَ الْكِتَابَ بِمَسْأَلَةٍ ذَكَرَهَا فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ أَنَّ مَنْ وَجَدَ كَنْزًا فِي دَارِ رَجُلٍ فَفِيهِ الْخُمُسُ ، وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِصَاحِبِ الْخُلْطَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِلْوَاحِدِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ الْمُخْتَلِفَةَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي آخِرِ هَذَا الْكِتَابِ وَآخِرِ الْوَدِيعَةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ أُسْتَاذَهُ ، فَإِنَّهُ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ يَخْتَلِفُ إلَى ابْنِ أَبِي لَيْلَى تِسْعَ سِنِينَ ، ثُمَّ تَحَوَّلَ مِنْهُ إلَى أَبِي حَنِيفَةَ ، وَاخْتَلَفَ عِنْدَهُ أَيْضًا تِسْعَ سِنِينَ ، فَأَحَبَّ أَنْ يَذْكُرَ بَعْضَ الْفُصُولِ عَنْ أُسْتَاذَيْهِ جَمِيعًا ؛ فَلِهَذَا ذَكَرَ هَذِهِ الْفُصُولَ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ الشَّرِكَةِ ) ( قَالَ ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ ، وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إمْلَاءً : الْأَصْلُ فِي جَوَازِ الشَّرِكَةِ مَا رُوِيَ { أَنَّ السَّائِبَ بْنَ شَرِيكٍ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : أَتَعْرِفُنِي ؟ فَقَالَ : وَكَيْفَ لَا أَعْرِفُكَ ، وَكُنْتَ شَرِيكِي ، وَكُنْتَ خَيْرَ شَرِيكٍ لَا تُدَارِي ، وَلَا تُمَارِي .
} أَيْ : لَا تُدَاجِي ، وَلَا تُخَاصِمُ .
وَبُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنَّاسُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ فَأَقَرَّهُمْ عَلَيْهِ ، وَقَدْ تَعَامَلَهُ النَّاسُ مِنْ بَعْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مُنْكِرٍ .
( ثُمَّ ) الشَّرِكَةُ نَوْعَانِ : شَرِكَةُ الْمِلْكِ وَشَرِكَةُ الْعَقْدِ .
( فَشَرِكَةُ الْمِلْكِ ) أَنْ يَشْتَرِكَ رَجُلَانِ فِي مِلْكِ مَالٍ ، وَذَلِكَ نَوْعَانِ : ثَابِتٌ بِغَيْرِ فِعْلِهِمَا كَالْمِيرَاثِ ، وَثَابِتٌ بِفِعْلِهِمَا ، وَذَلِكَ بِقَبُولِ الشِّرَاءِ ، أَوْ الصَّدَقَةِ أَوْ الْوَصِيَّةِ .
وَالْحُكْمُ وَاحِدٌ ، وَهُوَ أَنَّ مَا يَتَوَلَّدُ مِنْ الزِّيَادَةِ يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا بِقَدْرِ الْمِلْكِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ فِي التَّصَرُّفِ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ .
( وَأَمَّا شَرِكَةُ الْعَقْدِ ) فَالْجَائِزُ مِنْهَا أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ : الْمُفَاوَضَةُ ، وَالْعَنَانُ ، وَشَرِكَةُ الْوُجُوهِ ، وَشَرِكَةُ التَّقَبُّلِ .
وَيُسَمَّى هَذَا شَرِكَةُ الْأَبْدَانِ ، وَشَرِكَةُ الصَّنَائِعِ .
( فَأَمَّا الْعَنَانُ ) فَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِ الْقَائِل : عَنَّ لِي كَذَا أَيْ عَرَضَ .
قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ : فَعَنَّ لَنَا سِرْبٌ كَأَنَّ نِعَاجَهُ عَذَارَى دُوَارٍ فِي مُلَاءٍ مُذَبَّلِ .
أَيْ : عَرَضَ ، وَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْكُوفَةِ أَنَّ هَذَا شَيْءٌ أَحْدَثَهُ أَهْلُ الْكُوفَةِ ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِهِ الْعَرَبُ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ؛ فَقَدْ قَالَ النَّابِغَةُ الْجَعْدِيُّ : وَشَارَكْنَا قُرَيْشًا فِي نَقَاهَا وَفِي أَحْسَابِهَا شَرَكُ الْعَنَانِ .
( وَقِيلَ ) : هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ عَنَانِ الدَّابَّةِ ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ رَاكِبَ الدَّابَّةِ يُمْسِكُ الْعَنَانَ بِإِحْدَى يَدَيْهِ ، وَيَعْمَلُ بِالْأُخْرَى ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ يَجْعَلُ عَنَانَ التَّصَرُّفِ فِي بَعْضِ الْمَالِ إلَى صَاحِبِهِ دُونَ الْبَعْضِ ، أَوْ عَلَى مَعْنَى أَنَّ لِلدَّابَّةِ عَنَانَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَطْوَلُ ، وَالْآخَرُ أَقْصَرُ ، فَيَجُوزُ فِي هَذِهِ الشَّرِكَةِ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي رَأْسِ الْمَالِ ، وَالرِّبْحِ ، أَوْ يَتَفَاوَتَا ؛ فَسُمِّيَتْ عَنَانًا ( وَأَمَّا الْمُفَاوَضَةُ ) فَقَدْ قِيلَ : اشْتِقَاقُهَا مِنْ التَّفْوِيضِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُفَوِّضُ التَّصَرُّفَ إلَى صَاحِبِهِ فِي جَمِيعِ مَالِ التِّجَارَةِ .
( وَقِيلَ ) : اشْتِقَاقُهَا مِنْ مَعْنَى الِانْتِشَارِ ، يُقَالُ : فَاضَ الْمَاءُ إذَا
انْتَشَرَ وَاسْتَفَاضَ الْخَيْرُ يَسْتَفِيضُ إذَا شَاعَ .
فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْعَقْدُ مَبْنِيًّا عَلَى الِانْتِشَارِ ، وَالظُّهُورِ فِي جَمِيعِ التَّصَرُّفَاتِ سُمِّيَ مُفَاوَضَةً .
( وَقِيلَ ) : اشْتِقَاقُهَا مِنْ الْمُسَاوَاةِ ، قَالَ الْقَائِلُ : لَا تَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى لَا سَرَاةَ لَهُمْ وَلَا سَرَاةَ إذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا يَعْنِي : مُتَسَاوِينَ .
فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْعَقْدُ مَبْنِيًّا عَلَى الْمُسَاوَاةِ فِي الْمَالِ وَالرِّبْحِ ؛ سُمِّيَ مُفَاوَضَةً ( وَأَمَّا شَرِكَةُ الْوُجُوهِ ) تُسَمَّى شَرِكَةُ الْمَفَالِيسِ ، وَهُوَ أَنْ يَشْتَرِك الرَّجُلَانِ بِغَيْرِ رَأْسِ مَالٍ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَا بِالنَّسِيئَةِ ، وَيَبِيعَا .
سُمِّيَتْ بِهَذَا الِاسْمِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ رَأْسَ مَالِهِمَا وَجْهُهُمَا ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يُبَاعُ فِي النَّسِيئَةِ مِمَّنْ لَهُ فِي النَّاسِ وَجْهٌ ، وَشَرِكَةُ التَّقَبُّلِ أَنْ يَشْتَرِكَ صَانِعَانِ فِي تَقَبُّلِ الْأَعْمَالِ كَالْخِيَاطَةِ وَالْقِصَارَةِ ، وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَتُسَمَّى شَرِكَةُ الْأَبْدَانِ لِأَنَّهُمَا يَعْمَلَانِ بِأَبْدَانِهِمَا .
وَشَرِكَةُ الصَّنَائِعِ ؛ لِأَنَّ رَأْسَ مَالِهِمَا صَنْعَتُهُمَا .
( وَأَمَّا شَرِكَةُ الْعَنَانِ ) فَهُوَ أَنْ يَشْتَرِكَ الرَّجُلَانِ بِرَأْسِ مَالٍ يُحْضِرُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَلَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ ، إمَّا عِنْدَ الْعَقْدِ ، أَوْ عِنْدَ الشِّرَاءِ حَتَّى أَنَّ الشَّرِكَةَ لَا تَجُوزُ بِرَأْسِ مَالٍ غَائِبٍ ، أَوْ دَيْنٍ .
وَلَا يُشْتَرَطُ لِجَوَازِ هَذِهِ الشَّرِكَةِ خَلْطُ الْمَالَيْنِ " عِنْدَنَا " وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : يُشْتَرَطُ ، وَهِيَ رِوَايَةٌ عَنْ زُفَرَ ، وَالْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّ شَرِكَةَ الْمِلْكِ أَصْلٌ ، ثُمَّ شَرِكَةُ الْعَقْدِ تَنْبَنِي عَلَيْهِ .
قَالَ : لِأَنَّ الشَّرِكَةَ عِبَارَةٌ عَنْ الِاخْتِلَاطِ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمِلْكِ ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي كُلِّ عَقْدٍ مَا هُوَ قَضِيَّةُ اسْمِ ذَلِكَ الْعَقْدِ كَالْحَوَالَةِ ، وَالْكَفَالَةِ ، وَالصَّرْفِ ، فَإِذَا خَلَطَا الْمَالَيْنِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ تَمْيِيزُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ ؛ فَقَدْ ثَبَتَتْ الشَّرِكَةُ فِي الْمِلْكِ ؛ فَيَنْبَنِي عَلَيْهِ شَرِكَةُ الْعَقْدِ .
فَأَمَّا قَبْلَ الْخَلْطِ فَالشَّرِكَةُ فِي الْمِلْكِ لَمْ تَثْبُتْ حَتَّى إذَا هَلَكَ رَأْسُ مَالِ أَحَدِهِمَا ، كَانَ هَالِكًا عَلَيْهِ خَاصَّةً ، فَلَا تَثْبُتُ شَرِكَةُ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الِاخْتِلَاطِ فِيهِ لَا يَتَحَقَّقُ مَقْصُودًا .
" وَعِنْدَنَا " مُوجَبُ شَرِكَةِ الْعَقْدِ الْوَكَالَةُ عَلَى مَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ وَكِيلَ صَاحِبِهِ فِي الشِّرَاءِ بِالْمَالِ الَّذِي عَيَّنَهُ ؛ وَلِهَذَا شَرَطْنَا تَعْيِينَ الْمَالِ عِنْدَ الْعَقْدِ ، أَوْ عِنْدَ الشِّرَاءِ ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ بِالشِّرَاءِ بِمَالِهِ لَا تَصِحُّ إلَّا بِهِ ، فَإِنَّهُ بِدُونِ تَعْيِينِ الْمَالِ يَكُونُ الْوَكِيلُ مُشْتَرِيًا بِمَا فِي ذِمَّتِهِ ، وَهَذَا التَّوْكِيلُ صَحِيحٌ ، بِدُونِ خَلْطِ الْمَالَيْنِ ، وَمَعْنَى الِاخْتِلَاطِ الَّذِي تَقْتَضِيه الشَّرِكَةُ فِي الْمُشْتَرَى بِالْمَالِ وَالرِّبْحِ لَا فِي رَأْسَ الْمَالِ ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ بِدُونِ خَلْطٍ .
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ : لَوْ كَانَ رَأْسُ مَالِ أَحَدِهِمَا دَرَاهِمَ ، وَالْآخَرُ دَنَانِيرَ ، تَنْعَقِدُ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا صَحِيحَةً " عِنْدَنَا " خِلَافًا
لِزُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ رَأْسُ مَالِ أَحَدِهِمَا بِيضًا ، وَالْآخَرِ سُودًا ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْمِلْكِ لَا تَثْبُتُ هُنَا حِينَ كَانَا لَا يَخْتَلِطَانِ .
وَعَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي شَرَطَ زُفَرُ الْخَلْطَ : جَوَابُ هَذِهِ الْفَصْلِ ظَاهِرٌ عَلَى مَذْهَبِهِ ، وَأَمَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي لَا يَشْتَرِطُ ذَلِكَ ، نَقُولُ : فِي هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ رُبَّمَا يَظْهَرُ الرِّبْحُ لِأَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ بِتَغْيِيرِ سِعْرِ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ ، وَذَلِكَ تَقْتَضِيه الشَّرِكَةُ .
" وَعِنْدَنَا " مُوجَبُ هَذَا الْعَقْدِ الْوَكَالَةُ ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ مَعَ اخْتِلَافِ النَّقْدَيْنِ فَإِنَّهُمَا لَوْ صَرَّحَا بِالْوَكَالَةِ بِأَنْ يَشْتَرِيَ أَحَدُهُمَا بِهَذِهِ الدَّرَاهِمِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا ، وَيَشْتَرِي الْآخَرُ بِهَذِهِ الدَّنَانِيرِ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا : كَانَ صَحِيحًا ، فَكَذَلِكَ تَصِحُّ الشَّرِكَةُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ .
( فَأَمَّا شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ ) فَهِيَ جَائِزَةٌ " عِنْدَنَا " .
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : لَا أَعْرِفُ مَا الْمُفَاوَضَةُ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : إنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا عَقْدٌ فَاسِدٌ فَهُوَ الْمُفَاوَضَةُ .
وَرُبَّمَا قَالَ أَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الْقِمَارِ ، فَأَمَّا مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُهَا لُغَةً فَقَدْ بَيَّنَّا اشْتِقَاقَهَا ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُهَا شَرْعًا فَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - { تُفَاوَضُوا ؛ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْبَرَكَةِ } .
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : إذَا فَاوَضْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْمُفَاوَضَةَ } .
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ الْأَصْلَ شَرِكَةُ الْمِلْكِ ، وَمَا هُوَ مُوجَبُ الْمُفَاوَضَةِ قَطُّ لَا يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ شَرِكَةِ الْمِلْكِ ؛ فَلِهَذَا أَفْسَدَهَا ، وَقَالَ : لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْكَفَالَةَ بِالْمَجْهُولِ لِلْمَجْهُولِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ كَفِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ فِيمَا يَلْزَمُهُ بِجِهَةِ التِّجَارَةِ ، وَالْكَفَالَةُ لِلْمَجْهُولِ بِالْمَعْلُومِ بَاطِلٌ ، فَبِالْمَجْهُولِ أَوْلَى .
وَاَلَّذِي يَقُولُ إنَّهُ ضَرْبٌ مِنْ الْقِمَارِ فَإِنَّمَا يَدْخُلُ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الثَّوْرِيِّ ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ : إذَا وُرِّثَ أَحَدُهُمَا مَالًا يَكُونُ ذَلِكَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا ، وَلَسْنَا نَقُولُ بِذَلِكَ ؛ فَلَا يَدْخُلُ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِنَا ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الشَّرِكَةَ تَتَضَمَّنُ الْكَفَالَةَ وَالْوَكَالَةَ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَحِيحٌ مَقْصُودًا ، فَكَذَلِكَ فِي ضِمْنِ الشَّرِكَةِ ، فَأَمَّا الْجَهَالَةُ بِعَيْنِهَا لَا تُبْطِلُ الْكَفَالَةَ ، وَلَكِنْ تُمَكِّنُ الْمُنَازَعَةُ سَبَبًا ، وَذَلِكَ مُنْعَدِمٌ هُنَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا يَصِيرُ ضَامِنًا عَنْ صَاحِبِهِ مَا لَزِمَهُ بِتِجَارَتِهِ ، وَعِنْدَ اللُّزُومِ : الْمَضْمُونُ لَهُ ، وَالْمَضْمُونُ بِهِ مَعْلُومٌ ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُوجَدُ فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ فَإِنَّ التَّوْكِيلَ بِشِرَاءٍ
مَجْهُولِ الْجِنْسِ لَا يَصِحُّ مَقْصُودًا ، ثُمَّ صَحَّتْ شَرِكَةُ الْعَنَانِ ، وَإِنْ تَضَمَّنَتْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَا يَشْتَرِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مُسَمًّى فِي الْعَقْدِ ، فَكَذَلِكَ الْمُفَاوَضَةُ .
وَمِنْ شُرُوطِ هَذَا الْعَقْدِ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِي رَأْسِ الْمَالِ ، وَلَا يَخْتَصُّ أَحَدُهُمَا بِمِلْكِ مَالٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالِهِ فِي الشَّرِكَةِ مِنْ النُّقُودِ ، وَأَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الرِّبْحِ فَلَا يُشْتَرَطُ لِأَحَدِهِمَا زِيَادَةٌ عَلَى صَاحِبِهِ ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ قَضِيَّةَ اللَّفْظِ الْمُسَاوَاةُ .
ثُمَّ فِي ظَاهِرِ هَذِهِ الرِّوَايَةِ تَصِحُّ هَذِهِ الشَّرِكَةُ مِنْ غَيْرِ خَلْطِ الْمَالَيْنِ ، وَالْمَالَانِ لَا يَخْتَلِطَانِ كَالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ، وَالسُّودِ وَالْبِيضِ وَزُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُجَوِّزُ هَذِهِ الشَّرِكَةَ بِدُونِ خَلْطِ الْمَالَيْنِ بِرِوَايَةٍ وَاحِدَةٍ ( قَالَ ) : لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ لَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُخْتَصًّا بِمِلْكِ مَالٍ بَعْدَ عَقْدِ الشَّرِكَةِ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي هَذَا الْعَقْدِ .
( وَقَدْ ) رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هَذِهِ الشَّرِكَةَ لَا تَجُوزُ بِمَالَيْنِ لَا يَخْتَلِطَانِ ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ شَرْطٌ فِي هَذَا الْعَقْدِ ، وَالْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فِي الْمَالِيَّةِ إنَّمَا تَكُونُ بِالتَّقْوِيمِ .
وَطَرِيقُ ذَلِكَ الْحِرْزُ .
وَالْمُسَاوَاةُ شَرْعًا لَا تَثْبُتُ بِهَذَا الطَّرِيقِ كَالْمُسَاوَاةِ الَّتِي تُشْتَرَطُ فِي مُبَادَلَةِ الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ بِجِنْسِهَا .
وَإِنْ كَانَ رَأْسُ مَالِ أَحَدِهِمَا بِيضًا ، وَرَأْسُ مَالِ الْآخَرِ سُودًا ، وَبَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ فِي الصَّرْفِ : لَا يَجُوزُ هَذَا الْعَقْدُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ لِعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ .
( وَذَكَرَ ) إسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّادٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلْجَوْدَةِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ إذَا قُوبِلَتْ بِجِنْسِهَا ، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْمُسَاوَاةُ فِي الْوَزْنِ .
قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - { : جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ
} .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْمُفَاوَضَةَ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِلَفْظِ الْمُفَاوَضَةِ ، حَتَّى إذَا لَمْ يَذْكُرْ لَفْظَةَ الْمُفَاوَضَةِ كَانَ عَنَانًا عَامًّا .
وَالْعَنَانُ قَدْ يَكُونُ عَامًّا ، وَقَدْ يَكُونُ خَاصًّا ، وَتَأْوِيلُ هَذَا : أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْرِفُونَ جَمِيعَ أَحْكَامِ الْمُفَاوَضَةِ ؛ فَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُمَا الرِّضَا بِحُكْمِ الْمُفَاوَضَةِ قَبْلَ عِلْمِهِمَا بِهِ وَيُجْعَلُ تَصْرِيحُهُمَا بِالْمُفَاوَضَةِ قَائِمًا مَقَامَ ذَلِكَ كُلِّهِ فَإِنْ كَانَ الْمُتَعَاقِدَانِ يَعْرِفَانِ أَحْكَامَ الْمُفَاوَضَةِ صَحَّ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا إذَا ذَكَرَا مَعْنَى الْمُفَاوَضَةِ ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحَا بِلَفْظِهَا ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ .
( فَأَمَّا شَرِكَةُ الْوُجُوهِ ) فَهِيَ صَحِيحَةٌ " عِنْدَنَا " وَبَاطِلَةٌ " عِنْدَ الشَّافِعِيِّ " بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْأَصْلَ شَرِكَةُ الْمِلْكِ ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ ، " وَعِنْدَنَا " شَرِكَةُ الْعَقْدِ تَصِحُّ بِاعْتِبَارِ الْوَكَالَةِ ، وَتَوْكِيلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ بِالشِّرَاءِ ، عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ أَوْ أَثَلَاثًا ، صَحِيحٌ .
فَكَذَلِكَ الشَّرِكَةُ الَّتِي تَتَضَمَّنُ ذَلِكَ إلَّا أَنَّ فِي هَذَا الْعَقْدِ لَا يَصِحُّ التَّفَاضُلُ فِي اشْتِرَاطِ الرِّبْحِ بَعْدَ التَّسَاوِي فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ الَّذِي يُشْتَرَطُ لَهُ الزِّيَادَةُ لَيْسَ لَهُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ رَأْسُ مَالٍ وَلَا عَمَلٍ وَلَا ضَمَانٍ .
فَاشْتِرَاطُ جُزْءٍ مِنْ ذَلِكَ الرِّبْحِ لَهُ يَكُونُ رِبْحَ مَا لَمْ يُضْمَنْ ، وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ ، فَإِنْ أَرَادَ التَّفَاوُتَ فِي الرِّبْحِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِطَ التَّفَاوُتَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرَى ؛ بِأَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا الثُّلُثُ ، وَلِلْآخِرِ الثُّلُثَانِ ؛ حَتَّى يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الرِّبْحُ بِقَدْرِ مِلْكِهِ .
وَهَذِهِ الشَّرِكَةُ " عِنْدَنَا " تَجُوزُ عَنَانًا وَمُفَاوَضَةً .
إلَّا أَنَّ الْمُفَاوَضَةَ لَا تَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْمُشْتَرَى وَالرِّبْحِ جَمِيعًا .
( فَأَمَّا شَرِكَةُ التَّقَبُّلِ ) فَهِيَ صَحِيحَةٌ " عِنْدَنَا " ، وَلَا تَصِحُّ " عِنْدَ الشَّافِعِيِّ " رَحِمَهُ اللَّهُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ شَرِكَةَ الْمِلْكِ أَصْلٌ ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الشَّرِكَةِ ، فَإِنَّ الْخَلْطَ فِي الْعَمَلِ لَا يَتَحَقَّقُ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : جَوَازُ الشَّرِكَةِ بِاعْتِبَارِ الْوَكَالَةِ .
وَتَوْكِيلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ بِتَقَبُّلِ الْعَمَلِ صَحِيحٌ ، فَكَذَلِكَ الشَّرِكَةُ .
وَالنَّاسُ تَعَامَلُوا بِهَذِهِ الشَّرِكَةِ ، وَشَرِكَةُ الْوُجُوهِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي جَوَازِ الشَّرِكَةِ .
.
ثُمَّ اسْتِحْقَاقُ الرِّبْحِ فِي طَرِيقِ الشَّرِكَةِ يَكُونُ بِالْمَالِ تَارَةً وَبِالْعَمَلِ أُخْرَى ، بِدَلِيلِ الْمُضَارَبَةِ ، فَإِنَّ رَبَّ الْمَالِ يَسْتَحِقُّ نَصِيبَهُ مِنْ الرِّبْحِ بِمَالِهِ وَالْمُضَارِبَ بِعَمَلِهِ .
وَذَلِكَ الْعَقْدُ شَرِكَةُ الْإِجَارَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَا تَلْزَمُ ، وَأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى بَيَانِ الْمُدَّةِ .
فَإِذَا صَحَّ عَقْدُ الشَّرِكَةِ بَيْنَ اثْنَيْنِ بِالْمَالِ ، فَكَذَلِكَ يَصِحُّ بِاعْتِبَارِ الْعَمَلِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الرِّبْحَ ، وَسَوَاءٌ اتَّفَقَتْ الْأَعْمَالُ أَوْ اخْتَلَفَتْ " عِنْدَنَا " .
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنْ اتَّفَقَتْ الْأَعْمَالُ كَالْقَصَّارَيْنِ وَالصَّبَّاغَيْنِ إذَا اشْتَرَكَا يَجُوزُ ، وَإِذَا اخْتَلَفَتْ بِأَنْ يَشْتَرِكَ قَصَّارٌ وَصَبَّاغٌ لَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَاجِزٌ عَنْ الْعَمَلِ الَّذِي يَتَقَبَّلُهُ صَاحِبُهُ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ صَنْعَتِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَا هُوَ مَقْصُودُ الشَّرِكَةِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْأَعْمَالِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : جَوَازُ هَذِهِ الشَّرِكَةِ بِاعْتِبَارِ الْوَكَالَةِ ، وَالتَّوْكِيلُ بِتَقَبُّلِ الْعَمَلِ صَحِيحٌ مِمَّنْ يُحْسِنُ مُبَاشَرَةَ ذَلِكَ الْعَمَلِ ، وَمِمَّنْ لَا يُحْسِنُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُتَقَبِّلِ إقَامَةُ الْعَمَلِ بِيَدِهِ ، بَلْ لَهُ أَنْ يُقِيمَ بِأَعْوَانِهِ ، وَأُجَرَائِهِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ عَاجِزٍ عَنْ ذَلِكَ ؛ فَكَانَ الْعَقْدُ صَحِيحًا .
( وَهَذَا ) النَّوْعُ مِنْ الشَّرِكَةِ قَدْ يَكُونُ عَنَانًا ، وَقَدْ يَكُونُ مُفَاوَضَةً عِنْدَ اسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْمُفَاوَضَةِ ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُ مَتَى كَانَ مُفَاوَضَةً فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُطَالَبٌ بِمَا يَلْتَزِمُهُ صَاحِبُهُ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ ، وَمَتَى كَانَ عَنَانًا فَإِنَّمَا يُطَالَبُ بِهِ مَنْ بَاشَرَ السَّبَبَ دُونَ صَاحِبِهِ - كَمَا هُوَ حُكْمُ الْوَكَالَةِ - .
( إذَا ) عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ : بَدَأَ الْكِتَابُ بِبَيَانِ شَرِكَةِ الْعَنَانِ ، وَأَنَّهُمَا كَيْفَ يَكْتُبَانِ كِتَابَ هَذِهِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا ، وَالشَّرِكَةُ عَقْدٌ يَمْتَدُّ فَيُسْتَحَبُّ الْكِتَابُ فِي مِثْلِهِ ؛ لِيَكُونَ حَكَمًا بَيْنَهُمَا فِيمَا يَجْرِي مِنْ الْمُنَازَعَةِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } .
ثُمَّ الْمَقْصُودُ بِالْكِتَابِ : التَّوَثُّقُ وَالِاحْتِيَاطُ ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ يُكْتَبَ عَلَى أَوْثَقِ الْوُجُوهِ ، وَيُتَحَرَّزَ فِيهِ مِنْ طَعْنِ كُلِّ طَاعِنٍ .
ثُمَّ بَدَأَ فَقَالَ : ( هَذَا مَا اشْتَرَكَ عَلَيْهِ فُلَانٌ وَفُلَانٌ ) ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشُّرُوطِ عَابُوا عَلَيْهِ فِي هَذَا اللَّفْظِ ؛ فَقَالَ : هَذَا إشَارَةٌ إلَى الصَّكِّ ، فَالْأَحْوَطُ أَنْ يَكْتُبَ : هَذَا كِتَابٌ فِيهِ ذِكْرُ مَا اشْتَرَكَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ .
وَلَكِنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ اتَّبَعَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فِيمَا اخْتَارَ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : هَذَا مَا تُوعَدُونَ } ، وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْوَعْدِ لِلْأَبْرَارِ ، وَالْوَعِيدِ لِلْفُجَّارِ .
{ وَلَمَّا اشْتَرَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبْدًا ، أَمَرَ أَنْ يُكْتَبَ : هَذَا مَا اشْتَرَى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ الْغَدِ بْنِ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ الْيَهُودِيِّ } .
( وَلَمَّا ) { أَمَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابِ الصُّلْحِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ كَتَبَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَذَا مَا اصْطَلَحَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَسَهْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ ، ثُمَّ قَالَ : اشْتَرَكَا عَلَى تَقْوَى اللَّهِ وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ } ؛ فَإِنَّ هَذَا الْعَقْدَ عَقْدُ أَمَانَةٍ ، وَالْمَقْصُودُ تَحْصِيلُ الرِّبْحِ ، وَذَلِكَ بِالتَّقْوَى وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ يَحْصُلُ .
( ثُمَّ يُبَيِّنُ مِقْدَارَ رَأْسِ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ) ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الْقِسْمَةِ لَا بُدَّ مِنْ تَحْصِيلِ رَأْسِ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛
لِيَظْهَرَ الرِّبْحُ ، فَلَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ لِيَرْجِعَا إلَيْهِ عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ .
ثُمَّ قَالَ : ( وَذَلِكَ كُلُّهُ فِي أَيْدِيهِمَا ) .
وَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ لَيْسَ بِغَائِبٍ ، وَلَا دَيْنٍ ، بَلْ هُوَ عَيْنٌ فِي أَيْدِيهِمَا .
وَمِنْ النَّاسِ مَنْ شَرَطَ الْخَلْطَ ، وَمِنْهُمْ مَنْ شَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ فِي أَيْدِيهِمَا جَمِيعًا .
فَلِلتَّوَثُّقِ يَذْكُرُ ذَلِكَ وَيَذْكُرُ أَنَّهُمَا يَشْتَرِيَانِ بِهِ ، وَيَبِيعَانِ جَمِيعًا فِي شَيْءٍ ، وَيَعْمَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ بِرَأْيِهِ ، وَيَبِيعُ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ .
" وَعِنْدَنَا " : هَذَا يَمْلِكُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمُطْلَقِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ ، إلَّا أَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ : لَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَلِكَ ، مَا لَمْ يُصَرِّحَا بِهِ فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ ، فَلِلتَّحَرُّزِ عَنْ قَوْلِ هَذَا الْقَائِلِ يُكْتَبُ هَذَا .
( ثُمَّ يَذْكُرُ فَمَا كَانَ فِيهِ مِنْ رِبْحٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمَا ، وَمَا كَانَ مِنْ وَضِيعَةٍ أَوْ تَبِعَةٍ فَكَذَلِكَ ) .
وَلَا خِلَافَ أَنَّ اشْتِرَاطَ الْوَضِيعَةِ بِخِلَافِ مِقْدَارِ رَأْسِ الْمَالِ بَاطِلٌ ، وَاشْتِرَاطُ الرِّبْحِ صَحِيحٌ " عِنْدَنَا " خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ .
وَأَمَّا مُكَاتَبَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ : الرِّبْحُ عَلَى مَا اشْتَرَطَا ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَى الْمَالِ .
وَإِنَّمَا يَذْكُرُ هَذَا لِيَكُونَ أَبْعَدَ عَنْ الِاخْتِلَافِ ، وَلَكِنْ إنَّمَا يُكْتَبُ هَذَا إذَا كَانَ الشَّرْطُ بَيْنَهُمَا هَكَذَا .
ثُمَّ قَالَ : ( اشْتَرَكَا عَلَى ذَلِكَ فِي شَهْرِ كَذَا مِنْ سَنَةِ كَذَا ) .
وَإِنَّمَا بِتَبْيِينِ التَّارِيخِ تَنْقَطِعُ الْمُنَازَعَةُ ؛ حَتَّى لَا يَدَّعِي أَحَدُهُمَا لِنَفْسِهِ حَقًّا فِيمَا اشْتَرَاهُ قَبْلَ هَذَا التَّارِيخِ .
( وَكُتِبَ ) التَّارِيخُ فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، فَإِنَّهُ شَاوَرَ الصَّحَابَةَ - رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ - فِي التَّارِيخِ : مِنْ أَيِّ وَقْتٍ يَعْتَبِرُونَهُ
؟ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : مِنْ مَوْلِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : مِنْ وَقْتِ مَبْعَثِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : مِنْ وَقْتِ مَوْتِهِ ، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى التَّارِيخِ مِنْ وَقْتِ الْهِجْرَةِ ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ الَّذِي يَتَعَامَلُ عَلَيْهِ النَّاسُ إلَى يَوْمِنَا هَذَا .
قَالَ : وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْضُلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فِي الرِّبْحِ ، لَا فِي الْمَالِ الْعَيْنِ ، أَوْ الْعَمَلِ بِأَيْدِيهِمَا ، أَوْ فِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شِرَاءُ شَيْءٍ بِتَأْخِيرٍ .
فَأَمَّا فِي الْمَالِ الْعَيْنِ : إذَا تَسَاوَيَا فِي رَأْس الْمَالِ وَاشْتَرَطَا أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا ثَلَاثًا ، أَوْ تَفَاوَتَا فِي رَأْسِ الْمَالِ ، فَكَانَ لِأَحَدِهِمَا أَلْفٌ وَلِلْآخَرِ أَلْفَانِ ، وَاشْتَرَطَا أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ : يَجُوزُ " عِنْدَنَا " ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَجُوزُ ، أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَلِأَنَّ شَرِكَةَ الْمِلْكِ عَلَى مَذْهَبِهِ أَصْلٌ ، وَفِي شَرِكَةِ الْمِلْكِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ أَحَدُهُمَا شَيْئًا مِنْ رِبْحِ مِلْكِ صَاحِبِهِ ، فَكَذَلِكَ فِي شَرِكَةِ الْعَقْدِ ، وَاعْتَبَرَ الرِّبْحَ بِالْوَضِيعَةِ ، فَهِيَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمَا ، وَاشْتِرَاطُهُمَا خِلَافَ ذَلِكَ بَاطِلٌ ، فَكَذَلِكَ الرِّبْحُ .
وَلَكِنَّا نَقُولُ : اسْتِحْقَاقُ الرِّبْحِ بِالشَّرْطِ .
فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَدْرِ مَا شَرَطَ لَهُ ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - { الْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ } .
ثُمَّ جَوَازُ هَذَا الْعَقْدِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ ، وَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ إلَى هَذَا الشَّرْطِ ، فَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَحْذَقَ مِنْ الْآخَرِ فِي وُجُوهِ التِّجَارَةِ ؛ فَلَا يَرْضَى بِأَنْ يُسَاوِيَهُ صَاحِبُهُ فِي اسْتِحْقَاقِ الرِّبْحِ مَعَ حَذَاقَتِهِ ، وَخِرَقِ صَاحِبِهِ .
ثُمَّ الرِّبْحُ يُسْتَحَقُّ بِالْعَمَلِ بِدُونِ الْمَالِ - وَهُوَ فِي الْمُضَارَبَةِ - فَبِالْعَمَلِ مَعَ الْمَالِ أَوْلَى .
( ثُمَّ ) الْوَضِيعَةُ هَلَاكُ
جُزْءٍ مِنْ الْمَالِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمِينٌ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ ، وَاشْتِرَاطُ الضَّمَانِ عَلَى الْأَمِينِ بَاطِلٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْمُضَارَبَةِ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ شَيْءٍ مِنْ الْوَضِيعَةِ عَلَى الْمُضَارِبِ ، وَلِهَذَا يَقُولُ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنَّ التَّسَاوِيَ فِي الرِّبْحِ مَعَ التَّفَاضُلِ فِي رَأْسِ الْمَالِ لَا يَجُوزُ هُنَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ إنَّمَا يَجُوزُ بِالْقِيَاسِ عَلَى الْمُضَارَبَةِ ، عَلَى مَعْنَى أَنَّ صَاحِبَ الْأَلْفَيْنِ يَشْتَرِطُ جُزْءًا مِنْ الرِّبْحِ لِلْآخَرِ بِعَمَلِهِ فِيهِ ، وَمِثْلُ هَذَا فِي الْمُضَارَبَةِ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ فِي أَيْدِيهِمَا هُنَا ، وَالْعَمَلُ مَشْرُوطٌ عَلَيْهِمَا ، وَفِي الْمُضَارَبَةِ لَوْ شُرِطَ الْعَمَلُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ ، أَوْ كَوْنُ الْمَالِ فِي يَدِهِ : لَا يَجُوزُ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ مُوجَبُ الْمُضَارَبَةِ التَّخْلِيَةُ بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَبَيْنَ رَأْسِ الْمَالِ ؛ فَيَكُونُ أَمِينًا عَامِلًا فِيهِ ، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ بِهَذَا الشَّرْطِ .
فَأَمَّا مُوجَبُ الشَّرِكَةِ لَيْسَ هُوَ التَّخْلِيَةُ بَيْنَ أَحَدِهِمَا وَالْمَالِ ، فَهَذَا الشَّرْطُ لَا يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ مُوجَبِ الشَّرِكَةِ .
( ثُمَّ ) حُكْمُ الْمُضَارَبَةِ هُنَا ثَبَتَ تَبْعًا لِلشَّرِكَةِ ، وَقَدْ يَثْبُتُ الشَّيْءُ حُكْمًا عَلَى وَجْهٍ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُهُ قَصْدًا كَالْكَفَالَةِ الثَّابِتَةِ فِي ضِمْنِ الْمُفَاوَضَةِ .
وَكَذَلِكَ فِي الْعَمَلِ بِأَيْدِيهِمَا يَجُوزُ شَرْطُ التَّفَاضُلِ فِي الرِّبْحِ " عِنْدَنَا " لِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ ؛ فَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَحْذَقَ فِي الْعَمَلِ مِنْ الْآخَرِ .
فَأَمَّا قَوْلُهُ : أَوْ فِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ شِرَاءُ شَيْءٍ بِتَأْخِيرٍ ، فَهُوَ إشَارَةٌ إلَى شَرِكَةِ الْوُجُوهِ ، فَإِنَّ التَّفَاضُلَ فِي الرِّبْحِ هُنَاكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ اشْتِرَاطِ التَّسَاوِي فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رِبْحُ مَا لَمْ يَضْمَنْ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ .
قَالَ : ( وَالشَّرِيكَانِ فِي الْعَمَلِ إذَا غَابَ أَحَدُهُمَا ، أَوْ مَرِضَ ، أَوْ لَمْ يَعْمَلْ ، وَعَمِلَ الْآخَرُ : فَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا ) ؛ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : أَنَا أَعْمَلُ فِي السُّوقِ ، وَلِي شَرِيكٌ يُصَلِّي فِي الْمَسْجِدِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَعَلَّكَ بَرَكَتُكَ مِنْهُ } .
وَالْمَعْنَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ بِتَقَبُّلِ الْعَمَلِ - دُونَ مُبَاشَرَتِهِ - وَالتَّقَبُّلُ كَانَ مِنْهُمَا ، وَإِنْ بَاشَرَ الْعَمَلَ أَحَدُهُمَا .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُضَارِبَ إذَا اسْتَعَانَ بِرَبِّ الْمَالِ فِي بَعْضِ الْعَمَلِ كَانَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ .
أَوَلَا تَرَى أَنَّ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْعَمَلِ يَسْتَوِيَانِ فِي الرِّبْحِ ، وَهُمَا لَا يَسْتَطِيعَانِ أَنْ يَعْمَلَا عَلَى وَجْهٍ يَكُونَانِ فِيهِ سَوَاءً ، وَرُبَّمَا يُشْتَرَطُ لِأَحَدِهِمَا زِيَادَةُ رِبْحٍ لِحَذَاقَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ أَكْثَرَ عَمَلًا مِنْهُ ، فَكَذَلِكَ يَكُونُ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ مَا بَقِيَ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ كَانَ الْمُبَاشِرُ لِلْعَمَلِ أَحَدُهُمَا ، وَيَسْتَوِي إنْ امْتَنَعَ الْآخَرُ مِنْ الْعَمَلِ بِعُذْرٍ ، أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَرْتَفِعُ بِمُجَرَّدِ امْتِنَاعِهِ مِنْ الْعَمَلِ ، وَاسْتِحْقَاقُ الرِّبْحِ بِالشَّرْطِ فِي الْعَقْدِ .
قَالَ : ( وَإِنْ جَاءَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَالْآخَرُ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَاشْتَرَكَا عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ وَالْوَضِيعَةَ نِصْفَانِ : فَهَذِهِ شَرِكَةٌ فَاسِدَةٌ ) ، وَمُرَادُهُ أَنَّ شَرْطَ الْوَضِيعَةِ هَلَاكُ جُزْءٍ مِنْ الْمَالِ ، فَكَأَنَّ صَاحِبَ الْأَلْفَيْنِ شَرَطَ ضَمَانَ شَيْءٍ مِمَّا يَهْلِكُ مِنْ مَالِهِ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَشَرْطُ الضَّمَانِ عَلَى الْأَلْفَيْنِ فَاسِدٌ ، وَلَكِنْ لَا يَبْطُلُ بِهَذَا أَصْلُ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الشَّرِكَةِ بِاعْتِبَارِ الْوَكَالَةِ ، وَالْوَكَالَةُ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ ، وَإِنَّمَا تَفْسُدُ الشُّرُوطُ وَتَبْقَى الْوَكَالَةُ ، فَكَذَا هَذَا .
فَإِنْ عَمِلَا عَلَى هَذَا فَوَضَعَا ؛ فَالْوَضِيعَةُ عَلَى قَدْرِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمَا ، لِأَنَّ الشَّرْطَ بِخِلَافِهِ كَانَ بَاطِلًا ، وَإِنْ رَبِحَا فَالرِّبْحُ عَلَى مَا اشْتَرَطَا ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْعَقْدِ كَانَ صَحِيحًا ، وَاسْتِحْقَاقُ الرِّبْحِ بِالشَّرْطِ فِي الْعَقْدِ ، فَكَانَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا .
وَإِنْ اشْتَرَطَا الرِّبْحَ وَالْوَضِيعَةَ عَلَى قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ ، وَالْعَمَلُ مِنْ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ ، كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ مِنْهُمَا مُعَيَّنٌ لِصَاحِبِهِ فِي الْعَمَلِ لَهُ فِي مَالِهِ حِينَ لَمْ يَشْتَرِطْ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِنْ رِبْحِ مَالِ صَاحِبِهِ ، فَهُوَ كَالْمُسْتَبْضَعِ فِي مَالِ صَاحِبِهِ .
( وَإِنْ ) اشْتَرَطَا الرِّبْحَ نِصْفَيْنِ ، وَالْوَضِيعَةَ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ ، وَالْعَمَلَ عَلَيْهِمَا : جَازَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَلْفِ شَرَطَ لِنَفْسِهِ جُزْءًا مِنْ رِبْحِ مَالِ صَاحِبِهِ ، وَهُوَ السُّدُسُ ، بِعَمَلِهِ فِيهِ ؛ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْمُضَارِبِ لَهُ .
إلَّا أَنَّ مَعْنَى الْمُضَارَبَةِ تَبَعٌ لِمَعْنَى الشَّرِكَةِ ، وَالْمُعْتَبَرُ مُوجَبُ الْأَصْلِ - دُونَ التَّبَعِ - فَلِهَذَا لَا يَضُرُّهُمَا اشْتِرَاطُ الْعَمَلِ عَلَيْهِمَا .
فَإِنْ عَمَلَاهُ ، أَوْ عَمِلَ أَحَدُهُمَا ، فَالرِّبْحُ عَلَى مَا اشْتَرَطَا ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ - بَعْدَ صِحَّةِ الْعَقْدِ - بِالشَّرْطِ لَا بِنَفْسِ الْعَمَلِ .
وَقَدْ كَانَ الْعَمَلُ مَشْرُوطًا عَلَيْهِمَا ، فَلَا
يَضُرُّهُمَا تَفَرُّدُ أَحَدِهِمَا بِإِقَامَةِ الْعَمَلِ ، وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَطَا الْعَمَلَ عَلَى صَاحِبِ الْأَلْفِ .
وَوَجْهُ الْجَوَازِ هُنَا أَبْيَنُ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْأَلْفَيْنِ دَفَعَ إلَيْهِ مَالَهُ لِيَعْمَلَ فِيهِ بِسُدُسِ الرِّبْحِ ، فَإِنَّ الْمَشْرُوطَ لَهُ نِصْفُ الرِّبْحِ ، ثُلُثُ الرِّبْحِ حِصَّةُ رَأْسِ مَالِهِ ، وَسُدُسُهُ إلَى تَمَامِ النِّصْفِ يُسْتَحَقُّ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ بِعَمَلِهِ فِيهِ ، وَاشْتِرَاطُ الْعَمَلِ عَلَى الْمُضَارِبِ يُصَحِّحُ الْمُضَارَبَةَ ، وَلَا يُبْطِلُهَا .
( فَإِنْ قِيلَ ) : إذَا كَانَ يَعْمَلُ هُوَ فِي شَيْءٍ شَرِيكٍ ، فَكَيْفَ يَسْتَوْجِبُ عِوَضَ عَمَلِهِ عَلَى شَرِيكِهِ ؟ ( قُلْنَا ) : اسْتِحْقَاقُ الرِّبْحِ بِطَرِيقِ الشَّرِكَةِ لَا بِطَرِيقِ الْإِجَارَةِ ، وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ تَسْمِيَةُ مِقْدَارِ الْعَمَلِ ، وَلَا بَيَانُ الْمُدَّةِ ، وَالْعَامِلُ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ لَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ بِنَفْسِ الْعَمَلِ .
فَإِذًا الْعَامِلُ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ بِالشَّرْطِ فِي عَقْدٍ صَحِيحٍ ، وَإِنْ اشْتَرَطَا الْعَمَلَ عَلَى صَاحِبِ الْأَلْفَيْنِ لَمْ تَجُزْ الشَّرِكَةُ ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ شَرَطَ لِصَاحِبِهِ جُزْءًا مِنْ رِبْحِ مَالِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ فِيهِ رَأْسُ مَالٍ ، أَوْ عَمَلٍ ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ ؛ فَإِنَّ اسْتِحْقَاقَ الرِّبْحِ بِاعْتِبَارِ الْعَمَلِ وَالْمَالِ ، أَوْ الْعَمَلِ ، أَوْ الضَّمَانِ ، وَلَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِصَاحِبِ الْأَلْفِ فِي مَالِ صَاحِبِ الْأَلْفَيْنِ ؛ فَكَانَ اشْتِرَاطُهُ جُزْءًا مِنْ الرِّبْحِ لَهُ بَاطِلًا ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ لَمْ يَطْمَعْ فِي شَيْءٍ مِنْ رِبْحِ مَالِ صَاحِبِ الْأَلْفَيْنِ حِينَ لَمْ يَشْتَرِطْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ .
قَالَ : ( وَإِذَا أَقْعَدَ الصَّانِعُ مَعَهُ رَجُلًا فِي دُكَّانِهِ يَطْرَحُ عَلَيْهِ الْعَمَلَ بِالنِّصْفِ فَهُوَ فَاسِدٌ فِي الْقِيَاسِ ) ؛ لِأَنَّ رَأْسَ مَالِ صَاحِبِ الدُّكَّانِ مَنْفَعَةٌ وَالْمَنَافِعُ لَا تَصْلُحُ أَنْ تُجْعَلَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ ، وَلِأَنَّ الْمُتَقَبِّلَ لِلْعَمَلِ ، إنْ كَانَ صَاحِبَ الدُّكَّانِ ، فَالْعَامِلُ أَجِيرُهُ بِالنِّصْفِ ، وَهُوَ مَجْهُولٌ وَالْجَهَالَةُ تُفْسِدُ عَقْدَ الْإِجَارَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُتَقَبِّلُ هُوَ الْعَامِلَ ، فَهُوَ مُسْتَأْجَرٌ لِمَوْضِعِ جُلُوسِهِ مِنْ دُكَّانِهِ بِنِصْفِ مَا يَعْمَلُ ، وَذَلِكَ مَجْهُولٌ ، إلَّا أَنَّهُ اسْتَحْسَنَ ؛ فَأَجَازَ هَذَا لِكَوْنِهِ مُتَعَامَلًا بَيْنَ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مُنْكَرٍ ، وَفِي نَزْعِ النَّاسِ عَمَّا تَعَامَلُوا بِهِ نَوْعُ حَرَجٍ ؛ فَلِدَفْعِ هَذَا الْحَرَجِ يَجُوزُ هَذَا الْعَقْدُ ؛ إذْ لَيْسَ فِيهِ نَصٌّ يُبْطِلُهُ .
وَلِأَنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً إلَى هَذَا الْعَقْدِ ، فَالْعَامِلُ قَدْ يَدْخُلُ بَلْدَةً لَا يَعْرِفُهُ أَهْلُهَا ، وَلَا يَأْمَنُونَهُ عَلَى مَتَاعِهِمْ ، وَإِنَّمَا يَأْمَنُونَ عَلَى مَتَاعِهِمْ صَاحِبَ الدُّكَّانِ الَّذِي يَعْرِفُونَهُ .
وَصَاحِبُ الدُّكَّانِ لَا يَتَبَرَّعُ بِمِثْلِ هَذَا عَلَى الْعَامِلِ فِي الْعَادَةِ .
فَفِي تَصْحِيحِ هَذَا الْعَقْدِ تَحْصِيلُ مَقْصُودِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ يَصِلُ إلَى عِوَضِ عَمَلِهِ ، وَالنَّاسُ يَصِلُونَ إلَى مَنْفَعَةِ عَمَلِهِ ، وَصَاحِبُ الدُّكَّانِ يَصِلُ إلَى عِوَضِ مَنْفَعَةِ دُكَّانِهِ ؛ فَيَجُوزُ الْعَقْدُ وَيَطِيبُ الْفَضْلُ لِرَبِّ الدُّكَّانِ ؛ لِأَنَّهُ أَقْعَدَهُ فِي دُكَّانِهِ وَأَعَانَهُ بِمَتَاعِهِ .
وَرُبَّمَا يُقِيمُ بَعْضَ الْعَمَلِ أَيْضًا كَالْخَيَّاطِ يَتَقَبَّلُ الْمَتَاعَ ، وَيَلِي قَطْعَهُ ، ثُمَّ يَدْفَعُهُ إلَى آخَرَ بِالنِّصْفِ ؛ فَلِهَذَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ .
وَجَوَازُ هَذَا الْعَقْدِ كَجَوَازِ عَقْدِ السَّلَمِ ، فَإِنَّ الشَّرْعَ رَخَّصَ فِيهِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَيْهِ .
قَالَ : ( وَلَا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ بِالْعُرُوضِ ) ، وَاعْلَمْ بِأَنَّ الشَّرِكَةَ بِالنُّقُودِ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ جَائِزَةٌ ، وَلَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِالتِّبْرِ فِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ .
وَقَدْ ذُكِرَ فِي كِتَابِ الصَّرْفِ أَنَّ مَنْ اشْتَرَى بِتِبْرٍ بِعَيْنِهِ شَيْئًا ، فَهَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ .
فَقَدْ جَعَلَ التِّبْرَ كَالنُّقُودِ ، حَتَّى قَالَ : لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ .
فَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْعُرْفِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ .
فَإِنْ كَانَتْ الْمُبَايَعَاتُ بَيْنَ النَّاسِ فِي بَلْدَةٍ بِالتِّبْرِ ؛ فَهُوَ كَالنُّقُودِ لَا يَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ ، وَيَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ عُرْفٌ ظَاهِرٌ ؛ فَهُوَ كَالْعُرُوضِ لَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِهِ ، فَإِنْ كَانَ التَّعْيِينُ مُفِيدًا فِيهِ ، فَهُوَ مُعْتَبَرٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا لَا يُعْتَبَرُ ، كَتَعَيُّنِ الصَّنْجَانِ وَالْقِيمَاتِ .
( فَأَمَّا الشَّرِكَةُ بِالْفُلُوسِ ) إنْ كَانَتْ نَافِعَةً لَا تَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَتَجُوزُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .
( وَذَكَرَ ) الْكَرْخِيُّ فِي كِتَابِهِ أَنَّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ كَقَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَالْأَصَحُّ مَا قُلْنَا : ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ كِتَابِ الْبُيُوعِ إذَا بَاعَ قُلْنَا : تَعْيِينُهُ بِفَلْسَيْنِ بِأَعْيَانِهَا يَجُوزُ " عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةِ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ " ، وَتَعَيُّنُ الْفُلُوسِ بِالتَّعْيِينِ بِمَنْزِلَةِ الْجَوْزِ ، وَالْبَيْضِ " وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ " لَا يَجُوزُ ، وَلَا تَتَعَيَّنُ الْفُلُوسُ الرَّائِجَةُ بِالتَّعْيِينِ كَالنُّقُودِ ، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الشَّرِكَةِ .
مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : هِيَ بِمَنْزِلَةِ النُّقُودِ مَا دَامَتْ رَائِجَةً .
وَهُمَا يَقُولَانِ : الرَّوَاجُ فِي الْفُلُوسِ عَارِضٌ فِي اصْطِلَاحِ النَّاسِ ، وَذَلِكَ يَتَبَدَّلُ سَاعَةً فَسَاعَةً ، فَلَوْ جَوَّزْنَا الشَّرِكَةَ بِهَا أَدَّى إلَى جَهَالَةِ رَأْسِ الْمَالِ عِنْدَ قِسْمَةِ الرِّبْحِ إذَا كَسَدَتْ الْفُلُوسُ ،
وَأَخَذَ النَّاسُ غَيْرَهَا ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ عِنْدَ قِسْمَةِ الرِّبْحِ يَحْصُلُ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ لَا بِاعْتِبَارِ الْعَدَدِ ، وَمَالِيَّةُ الْفُلُوسِ تَخْتَلِفُ بِالرَّوَاجِ وَالْكَسَادِ .
( وَرَوَى ) الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْمُضَارَبَةَ بِالْفُلُوسِ الرَّائِجَةِ تَصِحُّ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ بِهَا ، وَلَا تَصِحُّ الْمُضَارَبَةُ ، وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ : فِي الْمُضَارَبَةِ يَحْصُلُ رَأْسُ الْمَالِ أَوَّلًا لِيَظْهَرَ الرِّبْحُ ، وَالْفُلُوسُ رُبَّمَا تَكْسُدُ فَلَا تُعْرَفُ مَالِيَّتُهَا بَعْدَ الْكَسَادِ إلَّا بِالْحَزْرِ ، وَالظَّنِّ .
وَلَا وَجْهَ لِاعْتِبَارِ الْعَدَدِ ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِصَاحِبِ الْمَالِ .
فَأَمَّا فِي الشَّرِكَةِ إذَا كَسَدَتْ الْفُلُوسُ يُمْكِنُ تَحْصِيلُ رَأْسِ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِاعْتِبَارِ الْعَدَدِ ؛ لِأَنَّ حَالَهُمَا فِيهِ سَوَاءٌ ، فَلَا يَخْتَصُّ أَحَدُهُمَا بِالضَّرَرِ دُونَ الْآخَرِ .
( فَأَمَّا ) الشَّرِكَةُ بِالْعُرُوضِ مِنْ الدَّوَابِّ وَالثِّيَابِ وَالْعَبِيدِ : لَا تَصِحُّ " عِنْدَنَا " ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَمَالِكٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هِيَ صَحِيحَةٌ ؛ لِلتَّعَامُلِ وَحَاجَةِ النَّاسِ إلَى ذَلِكَ ، وَلِاعْتِبَارِ شَرِكَةِ الْعَقْدِ بِشَرِكَةِ الْمِلْكِ ، وَفِي الْكِتَابِ عِلَلٌ لِلْفَسَادِ ، فَقَالَ : لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ مَجْهُولٌ ، يُرِيدُ بِهِ أَنَّ الْعُرُوضَ لَيْسَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ .
وَعِنْدَ الْقِسْمَةِ لَا بُدَّ مِنْ تَحْصِيلِ رَأْسِ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِيَظْهَرَ الرِّبْحُ .
فَإِذَا كَانَ رَأْسُ مَالِهِمَا مِنْ الْعُرُوضِ ، فَتَحْصِيلُهُ عِنْدَ الْقِسْمَةِ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ ، وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ الْقِيمَةِ الْحَزْرُ وَالظَّنُّ ، وَلَا يَثْبُتُ التَّيَقُّنُ بِهِ .
ثُمَّ الشَّرِكَةُ مُخْتَصَّةٌ بِرَأْسِ مَالٍ يَكُونُ أَوَّلُ التَّصَرُّفِ بِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ شِرَاءً لَا بَيْعًا ، وَفِي الْعُرُوضِ أَوَّلُ التَّصَرُّفِ يَكُونُ بَيْعًا ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِيرُ مُوَكِّلًا لِصَاحِبِهِ بِبَيْعِ مَتَاعِهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ
لَهُ بَعْضُ رِبْحِهِ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ صِحَّةَ الشَّرِكَةِ بِاعْتِبَارِ الْوَكَالَةِ .
فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَا تَجُوزُ الْوَكَالَةُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ ، فَكَذَلِكَ الشَّرِكَةُ .
وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ يَكُونُ أَمِينًا ، فَإِذَا شُرِطَ لَهُ جُزْءٌ مِنْ الرِّبْحِ كَانَ هَذَا رِبْحَ مَا لَمْ يَضْمَنْ ، وَالْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ يَكُونُ ضَامِنًا لِلثَّمَنِ فِي ذِمَّتِهِ ، فَإِذَا شُرِطَ لَهُ نِصْفُ الرِّبْحِ كَانَ ذَلِكَ رِبْحُ مَا قَدْ ضَمِنَ ، وَلِأَنَّ فِي الشَّرِكَةِ بِالْعُرُوضِ رُبَّمَا يَظْهَرُ الرِّبْحُ فِي مِلْكِ أَحَدِهِمَا مِنْ غَيْرِ تَصَرُّفٍ بِتَغَيُّرِ السِّعْرِ فَلَوْ جَازَ اسْتَحَقَّ الْآخَرُ حِصَّتَهُ مِنْ ذَلِكَ الرِّبْحِ مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ لَهُ فِيهِ .
وَرُبَّمَا يَخْسَرُ أَحَدُهُمَا بِتَرَاجُعِ سِعْرِ عُرُوضِهِ وَيَرْبَحُ الْآخَرُ ؛ فَلِهَذِهِ الْمُعَانِي بَطَلَتْ الشَّرِكَةُ بِالْعُرُوضِ ، فَإِنْ بَاعَا الْعُرُوضَ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ قَسَمَا الثَّمَنَ عَلَى قِيمَةِ مَتَاعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَوْمَ بَاعَهُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَابِعٌ لِمِلْكِهِ ، وَالْمُسَمَّى مِنْ الثَّمَنِ بِمُقَابَلَةِ جَمِيعِ مَا دَخَلَ فِي الْعَقْدِ مِنْ الْعُرُوضِ ، فَيُقَسَّمُ عَلَيْهِمَا بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حِصَّةُ عَرَضِهِ ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ لَمَّا فَسَدَتْ كَأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ .
( وَكَذَلِكَ ) لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ مَالِ أَحَدِهِمَا دَرَاهِمَ وَرَأْسُ مَالِ الْآخَرِ عُرُوضًا فِي مُفَاوَضَةٍ وَلَا عَنَانٍ ؛ لِجَهَالَةِ رَأْسِ الْمَالِ فِي نَصِيبِ صَاحِبِ الْعُرُوضِ ، عَلَى مَا بَيَّنَّا .
قَالَ : ( وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي مَكِيلٍ ، أَوْ مَوْزُونٍ ، أَوْ مَعْدُودٍ مُتَّفِقٍ فِي الْمِقْدَارِ وَالصِّفَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَخْلِطَاهُ ؛ فَلَيْسَا بِشَرِيكَيْنِ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَتَاعُهُ لَهُ رِبْحُهُ ، وَعَلَيْهِ وَضِيعَتُهُ ) ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ بِمَنْزِلَةِ الْعُرُوضِ ، وَتَسْتَحِقُّ أَعْيَانَهَا بِالْعَقْدِ ، وَأَوَّلُ التَّصَرُّفِ فِيهَا بَعْدَ الشَّرِكَةِ يَكُونُ بَيْعًا لَا شِرَاءً ، فَكَانَتْ كَالْعُرُوضِ : لَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِهَا ، وَإِنْ خَلَطَاهُ فَهُوَ بَيْنَهُمَا ، وَمَا رَبِحَا فِيهِ فَلَهُمَا ، وَمَا وَضَعَا فِيهِ فَعَلَيْهِمَا ، وَهَذَا ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الْخَلْطَ حَصَلَ بِفِعْلِهِمَا ، فَالْمَخْلُوطُ يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ مِلْكِهِمَا ، وَقَدْ كَانَ مِلْكُهُمَا سَوَاءً ؛ فَالرِّبْحُ وَالْوَضِيعَةُ بَعْدَ الْبَيْعِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا عَلَى ذَلِكَ .
وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الْخَلْطِ تَكُونُ شَرِكَةَ مِلْكٍ ، أَوْ شَرِكَةَ عَقْدٍ .
وَذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا شَرِكَةُ مِلْكٍ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَكُونُ شَرِكَةَ عَقْدٍ .
وَفَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ فِيهِمَا أَنَّهُمَا إذَا اشْتَرَطَا مِنْ الرِّبْحِ لِأَحَدِهِمَا زِيَادَةً عَلَى نَصِيبِهِ : " عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ " لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ ؛ بَلْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الرِّبْحِ بِقَدْرِ مِلْكِهِ ، " وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ " : الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا اشْتَرَطَا مُحَمَّدٌ يَقُولُ : الْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونَ عَرْضٌ مِنْ وَجْهٍ ، ثَمَنٌ مِنْ وَجْهٍ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الشِّرَاءَ بِهِمَا دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ صَحِيحٌ ؛ فَكَانَ ثَمَنًا ، وَأَنَّ بَيْعَ عَيْنِهِمَا صَحِيحٌ ؛ فَكَانَتْ مَبِيعَةً .
وَمَا تَرَدَّدَ بَيْنَ الْأَصْلَيْنِ يُوَفِّرُ حَظَّهُ عَلَيْهِمَا .
فَلِشَبَهِهِمَا بِالْعُرُوضِ قُلْنَا : لَا تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِهِمَا قَبْلَ الْخَلْطِ ، وَلِشَبَهِهِمَا بِالْأَثْمَانِ قُلْنَا : تَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِهِمَا بَعْدَ الْخَلْطِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ بِاعْتِبَارِ الشَّبَهَيْنِ تَضْعُفُ
إضَافَةُ عَقْدِ الشَّرِكَةِ إلَيْهِمَا ، فَيَتَوَقَّفُ ثُبُوتُهَا عَلَى مَا يُقَوِّيهَا ، وَهُوَ الْخَلْطُ ؛ لِأَنَّ بِالْخَلْطِ تَثْبُتُ شَرِكَةُ الْمِلْكِ - لَا مَحَالَةَ - فَيَتَأَكَّدُ بِهِ شَرِكَةُ الْعَقْدِ - لَا مَحَالَةَ - .
وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ لَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِيهِ بِالْخَلْطِ وَعَدَمِ الْخَلْطِ - كَالنُّقُودِ - ؛ فَكَذَلِكَ مَا لَا يُصْلَحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ لَا يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ فِيهِ بِالْخَلْطِ وَعَدَمِ الْخَلْطِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ قَبْلَ الْخَلْطِ إنَّمَا يَجُوزُ شَرِكَةُ الْعَقْدِ بِهَا ؛ لِأَنَّهَا مُتَعَيَّنَةٌ ، فَتَعَيُّنُ رَأْسِ الْمَالِ لَا بُدَّ مِنْهُ فِي عَقْدِ الشَّرِكَةِ ، وَأَعْيَانُهَا مَبِيعَةٌ ، وَأَوَّلُ التَّصَرُّفِ بِهَا يَكُونُ بَيْعًا ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ بَعْدَ الْخَلْطِ ، بَلْ يَزْدَادُ تَقَرُّرًا بِالْخَلْطِ ؛ لِأَنَّ الْخَلْطَ لَا يَتَقَرَّرُ إلَّا فِي مُعَيَّنٍ ، وَالْمَخْلُوطُ الْمُشْتَرَكُ لَا يَكُونُ إلَّا مُعَيَّنًا ؛ فَتَقَرُّرُ الْمَعْنَى الْمُفْسِدِ لَا يَكُونُ مُصَحِّحًا لِلْعَقْدِ .
وَاَلَّذِي يُقَالُ لِمُحَمَّدٍ : إنَّ تَحْصِيلَ رَأْسِ الْمَالِ عِنْدَ الْقِسْمَةِ هُنَا مُمْكِنٌ ؛ لِأَنَّهَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ يَشْكُلُ بِمَا قَبْلَ الْخَلْطِ ، فَإِنَّ هَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيهِ ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بَيْنَهُمَا شَرِكَةُ الْعَقْدِ .
وَكَذَلِكَ يَشْكُلُ بِمَا إذَا كَانَ رَأْسُ مَالِ أَحَدِهِمَا حِنْطَةً ، وَرَأْسُ مَالٍ الْآخَرِ شَعِيرًا .
فَالشَّرِكَةُ لَا تَصِحُّ هُنَا بَيْنَهُمَا - خَلَطَاهُ أَوْ لَمْ يَخْلِطَاهُ - وَرَأْسُ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ عِنْدَ قِسْمَةِ الرِّبْحِ .
وَلَكِنْ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يُفَرِّقُ وَيَقُولُ : عَقْدُ الشَّرِكَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ ، بَعْدَ الْخَلْطِ ، بِاعْتِبَارِ الْمَخْلُوطِ .
فَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ الْمَخْلُوطِ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ هَذَا الْمَخْلُوطَ كَانَ عَلَيْهِ قِيمَتُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعُرُوضِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْجِنْسُ وَاحِدًا فَالْمَخْلُوطُ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، حَتَّى أَنَّ مَنْ أَتْلَفَهُ يَضْمَنُ مِثْلَهُ .
فَيُمْكِنُ تَحْصِيلُ رَأْسِ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقْتَ الْقِسْمَةِ بِاعْتِبَارِ الْمِثْلِ .
( ثُمَّ ) عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ إذَا بَاعَا الْمَخْلُوطَ ؛ فَالثَّمَنُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ مَتَاعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَوْمَ خَلَطَاهُ مَخْلُوطًا ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بَدَلُ الْمَبِيعِ ، فَيُقَسَّمُ عَلَى قِيمَةِ مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَمِلْكُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ مَعْلُومَ الْقِيمَةِ وَقْتَ الْخَلْطِ ؛ فَتُعْتَبَرُ تِلْكَ الْقِيمَةُ ، وَلَكِنْ مَخْلُوطًا ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الْبَيْعِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، وَاسْتِحْقَاقُ الثَّمَنِ بِالْبَيْعِ ؛ فَتُعْتَبَرُ صِفَةُ مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حِينَ دَخَلَ فِي الْبَيْعِ .
فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَزِيدُهُ الْخَلْطُ خَيْرًا ؛ فَإِنَّهُ يَضْرِبُ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ يَقْتَسِمُونَ غَيْرَ مَخْلُوطٍ .
وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ قِيمَةَ الشَّعِيرِ تَزْدَادُ إذَا خَلَطَاهُ بِالْحِنْطَةِ ، وَقِيمَةَ الْحِنْطَةِ تُنْتَقَصُ ، فَصَاحِبُ الشَّعِيرِ يَضْرِبُ بِقِيمَةِ شَعِيرِهِ غَيْرَ مَخْلُوطٍ ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ ظَهَرَتْ فِي مِلْكِهِ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ ، فَلَا يَسْتَحِقُّ الضَّرْبَ بِهِ مَعَهُ .
وَصَاحِبُ الْحِنْطَةِ يَضْرِبُ بِقِيمَةِ حِنْطَتِهِ مَخْلُوطَةً بِالشَّعِيرِ ؛ لِأَنَّ
النُّقْصَانَ حَصَلَ بِعَمَلٍ هُوَ رَاضٍ بِهِ - وَهُوَ الْخَلْطُ - وَقِيمَةُ مِلْكِهِ عِنْدَ الْبَيْعِ نَاقِصٌ ، فَلَا يَضْرِبُ إلَّا بِذَلِكَ الْقَدْرِ .
وَقَدْ طَعَنَ عِيسَى فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا فَقَالَ : قَوْلُهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ قِيمَةُ مَتَاعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَوْمَ خَلَطَاهُ ، وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي يَوْمَ يَقْتَسِمُونَ ، غَلَطٌ ؛ بَلْ الصَّحِيحُ أَنَّهُ يُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ مَتَاعِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَوْمَ وَقَعَ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الثَّمَنِ بِالْبَيْعِ ، وَإِنَّمَا يُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى الْقِيمَةِ وَقْتَ الْبَيْعِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ لَمْ يَخْلِطَا ، وَلَكِنْ بَاعَا الْكُلَّ جُمْلَةً فَقِسْمَةُ الثَّمَنِ تَكُونُ عَلَى الْقِيمَةِ وَقْتَ الْبَيْعِ ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْخَلْطِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُ الْمَسْأَلَةِ أَنْ تَكُونَ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْخَلْطِ وَالْقِسْمَةِ وَالْبَيْعِ سَوَاءً .
( قَالَ ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : " وَعِنْدِي " أَنَّ مَا ذَكَرَهُ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ قِيمَةِ الشَّيْءِ بِالرُّجُوعِ إلَى قِيمَةِ مِثْلِهِ مِمَّا يُبَاعُ فِي الْأَسْوَاقِ ، وَلَيْسَ لِلْمَخْلُوطِ مِثْلٌ يُبَاعُ فِي الْأَسْوَاقِ ؛ حَتَّى يُمْكِنَ اعْتِبَارُ قِيمَةِ مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقْتَ الْبَيْعِ .
فَإِذَا تَعَذَّرَ هَذَا ، وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى التَّقْوِيمِ فِي وَقْتٍ يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ قِيمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، كَمَا فِي جَارِيَةٍ مُشْتَرَكَةٍ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَعْتَقَ أَحَدُهُمَا مَا فِي بَطْنِهَا ؛ فَهُوَ ضَامِنٌ لِنَصِيبِ شَرِيكِهِ مُعْتَبَرًا بِوَقْتِ الْوِلَادَةِ ؛ لِتَعَذُّرِ إمْكَانِ مَعْرِفَةِ الْقِيمَةِ وَقْتَ الْعِتْقِ لِكَوْنِهِ مُخْتَبِئًا فِي الْبَطْنِ ، فَيُصَارُ إلَى تَقْوِيمِهِ فِي أَوَّلِ الْحَالِ الَّذِي يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ الْقِيمَةِ فِيهِ - وَهُوَ بَعْدَ الْوِلَادَةِ - فَكَذَلِكَ هُنَا يُصَارُ إلَى مَعْرِفَةِ قِيمَةِ مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي أَوَّلِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ - وَهُوَ عِنْدَ الْخَلْطِ - إلَّا أَنَّهُ إذَا عَلِمَ أَنَّ الْخَلْطَ يُزِيدُ فِي مَالِ أَحَدِهِمَا