كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي

فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عِلْمِهِ .
تَوْضِيحُهُ أَنَّ ذِمَّتَهُ بِالْمَوْتِ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا صَالِحًا لِلِالْتِزَامِ وَبِهِ يَتَحَقَّقُ التَّوَى إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَالٌ يَخْلُفُ الذِّمَّةَ فِي ثُبُوتِ حَقِّ الطَّالِبِ فِيهِ فَالْمَطْلُوبُ يَدَّعِي هَذَا الْخَلْفَ ، وَالطَّالِبُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَجَعَلْنَا الْقَوْلَ قَوْلَهُ لِهَذَا

وَلَوْ كَفَلَ بِالْمَالِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْبَرَاءَةِ ثُمَّ إنَّ الطَّالِبَ أَبْرَأَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ مِنْ الْمَالِ بَعْدَ الْكَفَالَةِ ؛ بَرِئَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ إبْرَاءَ الْكَفِيلِ إسْقَاطٌ لِأَصْلِ الدَّيْنِ وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِبَرَاءَةِ الْكَفِيلِ ضَرُورَةً .
فَكَمَا أَنَّ الْكَفَالَةَ لَا تَصِحُّ إلَّا بِاعْتِبَارِ مَالٍ وَاجِبٍ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ فَكَذَلِكَ لَا تَبْقَى بَعْدَ سُقُوطِ الْمَالِ عَنْ ذِمَّةِ الْأَصِيلِ بِالْإِبْرَاءِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بِشَرْطِ الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ صَارَ عِبَارَةً عَنْ الْحَوَالَةِ وَاللَّفْظُ إذَا جُعِلَ عِبَارَةً عَنْ غَيْرِهِ مَجَازًا سَقَطَ اعْتِبَارُ حَقِيقَتِهِ فِي نَفْسِهِ تَوْضِيحُ الْفَرْقِ أَنَّ الْكَفَالَةَ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ لَا تَكُونُ إسْقَاطًا ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الدَّيْنِ يَكُونُ تَحْوِيلًا إلَى ذِمَّةِ الْكَفِيلِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا .
فَأَمَّا إبْرَاءُ الْأَصِيلِ بَعْدَ الْكَفَالَةِ فَيَكُونُ إسْقَاطًا لِأَصْلِ الدَّيْنِ وَالْمُطَالَبَةُ تَنْبَنِي عَلَى وُجُوبِ أَصْلِ الدَّيْنِ فَكَمَا لَا يَبْقَى عَلَى الْأَصِيلِ مُطَالَبَةٌ بَعْدَ الْإِسْقَاطِ فَكَذَلِكَ عَلَى الْكَفِيلِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ : مَا أَشَارَ إلَيْهِ ، وَهُوَ أَنَّ الصَّبِيَّ التَّاجِرَ إذَا كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ مَالٌ فَضَمِنَهُ لَهُ آخَرُ عَلَى أَنْ أَبْرَأَ الْأَوَّلَ ، أَوْ كَانَ عَلَيْهِ مَالٌ لِرَجُلٍ فَضَمِنَهُ لِآخَرَ بِأَمْرِ صَاحِبِهِ عَلَى أَنْ أَبْرَأَ الْمَكْفُولَ لَهُ فَهُوَ جَائِزٌ .
وَلَوْ كَانَ هَذَا إسْقَاطًا لِأَصْلِ الْحَقِّ عَنْ الْأَصِيلِ ؛ مَا مَلَّكَ الصَّبِيُّ التَّاجِرُ فِيمَا لَهُ عَلَى غَيْرِهِ .
كَإِبْرَاءِ الْأَصِيلِ بَعْدَ الْكَفَالَةِ وَلَوْ كَانَ هَذَا مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ الْتِزَامًا لِلْمَالِ فِي ذِمَّتِهِ ابْتِدَاءً مَا مَلَّكَهُ الصَّبِيَّ التَّاجِرَ فِيمَا عَلَيْهِ وَبِهَذَا الْفَصْلِ يَتَبَيَّنُ الْفَرْقُ ، وَكَذَلِكَ فِي الصَّرْفِ وَرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ : الْحَوَالَةُ تَصِحُّ .
وَالْكَفَالَةُ بِشَرْطِ بَرَاءَةِ الْأَصِيلِ تَصِحُّ وَلَا يَبْطُلُ بِهِ عَقْدُ السَّلَمِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَبْرَأَ الْأَصِيلَ بَعْدَ

الْكَفَالَةِ فَقَبِلَهُ الْأَصِيلُ حَيْثُ يَبْطُلُ بِهِ عَقْدُ السَّلَمِ

وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ آخَرَ : مَا أَقَرَّ لَك بِهِ فُلَانٌ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ عَلَيَّ فَقَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ أَقَرَّ بَعْدَ الْكَفَالَةِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ؛ لَزِمَ الْكَفِيلَ الْأَلْفُ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ مِنْ إقْرَارِهِ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ ، وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ أَقَرَّ بِذَلِكَ قَبْلَ الْكَفَالَةِ لَمْ يَلْزَمْ الْكَفِيلَ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ ، وَإِنْ كَانَ فِي صُورَةِ الْمَاضِي فَالْمُرَادُ بِهِ الْمُسْتَقْبَلُ عَادَةً فَلَا يَصِيرُ بِهِ مُلْتَزِمًا لِمَا سَبَقَ الْإِقْرَارُ بِهِ عَلَى الْعَقْدِ وَإِنَّمَا يَكُونُ مُلْتَزِمًا لِمَا يَقِرُّ بِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ مَا يَقِرُّ لَك كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ مَا ذَابَ لَك فِي مَعْنَى مَا يَذُوبُ فَهَذَا قِيَاسُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

بَابُ ضَمَانِ مَا يُبَايِعُ بِهِ الرَّجُلُ ( قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ) وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِرَجُلٍ : بَايِعْ فُلَانًا فَمَا بَايَعْتَهُ بِهِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ عَلَيَّ ؛ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا قَالَ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْكَفَالَةَ إلَى سَبَبِ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَى الْأَصِيلِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ صَحِيحٌ وَالْجَهَالَةُ فِي الْمَكْفُولِ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ لِكَوْنِهَا مَبْنِيَّةً عَلَى التَّوَسُّعِ وَلِأَنَّ جَهَالَةَ عَيْنِهَا لَا تُبْطِلُ شَيْئًا مِنْ الْعُقُودِ .
وَإِنَّمَا الْجَهَالَةُ الْمُفْضِيَةُ إلَى الْمُنَازَعَةِ هِيَ الَّتِي تُؤَثِّرُ فِي الْعُقُودِ .
وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ؛ لِأَنَّ تَوَجُّهَ الْمُطَالَبَةِ عَلَى الْكَفِيلِ بَعْدَ الْمُبَايَعَةِ وَعِنْدَ ذَلِكَ مَا بَايَعَهُ بِهِ مَعْلُومٌ ، وَيَسْتَوِي إنْ وَقَّتَ لِذَلِكَ وَقْتًا أَوْ لَمْ يُوَقِّتْ إلَّا أَنَّ فِي الْمُوَقَّتِ يُرَاعَى وُجُودُ الْمُبَايَعَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ حَتَّى إذَا قَالَ : مَا بَايَعْته بِهِ الْيَوْمَ فَبَاعَهُ غَدًا ؛ لَا يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّقْيِيدَ مُفِيدٌ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ وَلَكِنْ إذَا كَرَّرَ مُبَايَعَتَهُ فِي الْيَوْمِ فَذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى الْكَفِيلِ ؛ لِأَنَّ حَرْفَ مَا يُوجِبُ الْعُمُومَ .
وَإِذَا لَمْ يُوَقِّتْ فَذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ الْعُمْرِ وَإِذَا بَايَعْته مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ فَذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى الْكَفِيلِ وَلَا يُخْرِجُ نَفْسَهُ مِنْ الْكَفَالَةِ لِوُجُودِ الْحَرْفِ الْمُوجِبِ لِلتَّعْمِيمِ فِي كَلَامِهِ وَيَسْتَوِي إنْ بَايَعَهُ بِالنُّقُودِ أَوْ بِغَيْرِ النُّقُودِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ مَا بَايَعْته بِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ يَجْمَعُ كُلَّ ذَلِكَ فَإِنْ قَالَ الطَّالِبُ : بِعْته شَيْئًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَبَضَهُ مِنِّي فَأَقَرَّ بِهِ الْمَطْلُوبُ وَجَحَدَ الْكَفِيلُ فَفِي الْقِيَاسِ لَا يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ بِشَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى أَنَّهُ بَايَعَهُ بَعْدَ الْكَفَالَةِ وَقَدْ رَوَى أَسَدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ أَخَذَ بِالْقِيَاسِ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ عَلَى

الْكَفِيلِ نَاشِئٌ عَنْ مُبَايَعَتِهِ بَعْدَ الْكَفَالَةِ وَذَلِكَ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّهِ بِإِقْرَارِ الْمَطْلُوبِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ لَا عَلَى الْكَفِيلِ وَلَوْ أَنْكَرَا جَمِيعًا يَعْنِي : الْمَطْلُوبَ وَالْكَفِيلَ لَمْ يَكُنْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَيْءٌ فَإِذَا أَقَرَّ بِهِ الْمَطْلُوبُ لَزِمَهُ دُونَ الْكَفِيلِ ؛ لِأَنَّ الثُّبُوتَ بِحَسَبِ الْحُجَّةِ فَإِذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ ثَبَتَ فِي حَقِّهِمَا ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ عَلَيْهِمَا وَلَكِنْ اسْتَحْسَنَ ، فَقَالَ : الْكَفِيلُ ضَامِنٌ لِلْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مَعَ الطَّالِبِ تَصَادَقَا عَلَى الْمُبَايَعَةِ فِي حَالٍ يَمْلِكَانِ إنْشَاءَهَا فَإِنَّهُمَا لَوْ أَنْشَآ الْمُبَايَعَةَ لَزِمَ ذَلِكَ الْكَفِيلَ وَمَنْ أَقَرَّ بِمَا لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ يَكُونُ مَقْبُولَ الْإِقْرَارِ فِي حَقِّ الْغَيْرِ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ بِمَنْزِلَةِ التَّوْكِيلِ قَبْلَ الْعَزْلِ إذَا أَقَرَّ بِالْبَيْعِ .
وَالْمُطَلِّقُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إذَا أَقَرَّ بِالرَّجْعَةِ .
تَوْضِيحُهُ أَنَّهُمَا إنْ كَانَا صَادِقَيْنِ فِيمَا أَقَرَّا بِهِ مِنْ الْمُبَايَعَةِ ؛ فَقَدْ تَحَقَّقَ السَّبَبُ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ وَإِنْ كَانَا كَاذِبَيْنِ فَتَصَادَقَا بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ الْمُبَايَعَةِ فَيَلْزَمُ الْكَفِيلَ أَيْضًا .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَالَ : مَا لَزِمَهُ لَك مِنْ شَيْءٍ فَأَنَا ضَامِنٌ بِهِ لَزِمَهُ مَا أَقَرَّ بِهِ الْمَكْفُولُ عَنْهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ .
وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ : بِعْهُ مَا بَيْنَك وَبَيْنَ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَمَا بِعْته مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ عَلَيَّ إلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَبَاعَهُ مَتَاعًا بِخَمْسِمِائَةٍ ثُمَّ بَاعَهُ حِنْطَةً بِخَمْسِمِائَةٍ لَزِمَ الْكَفِيلَ الْمَالَانِ جَمِيعًا ، وَإِنْ بَاعَهُ مَتَاعًا آخَرَ بَعْد ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ الْكَفِيلَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ قَيَّدَ الْكَفَالَةَ بِمِقْدَارِ الْأَلْفِ فَلَا تَلْزَمُهُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ .

وَلَوْ قَالَ : إذَا بِعْته شَيْئًا فَهُوَ عَلَيَّ .
فَبَاعَهُ مَتَاعًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ بَاعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ خَادِمًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَزِمَ الْكَفِيلَ الْأَوَّلَ دُونَ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ إذَا لَا تَقْتَضِي الْعُمُومَ وَلَا التَّكْرَارَ ، وَإِنَّمَا تَتَنَاوَلُ الْمُبَايَعَةَ مَرَّةً فَبِوُجُودِ ذَلِكَ تَنْتَهِي الْكَفَالَةُ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ : كُلَّمَا بَايَعْته بَيْعًا فَأَنَا ضَامِنٌ بِثَمَنِهِ ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلَّمَا تَقْتَضِي التَّكْرَارَ فَيَصِيرُ هُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ مُلْتَزِمًا يَجِبُ بِمُبَايَعَتِهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَلَوْ قَالَ : بِعْهُ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا فَبَاعَهُ لَمْ يَلْزَمْ الْآمِرَ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ مُشِيرٌ عَلَيْهِ وَلَيْسَ بِضَامِنٍ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : أَقْرِضْهُ .
وَلَوْ قَالَ : مَتَى بِعْته بَيْعًا فَأَنَا ضَامِنٌ لِثَمَنِهِ أَوْ إنْ بِعْته بَيْعًا فَبَاعَهُ مَتَاعًا فِي صَفْقَتَيْنِ كُلُّ صَفْقَةٍ بِخَمْسِمِائَةٍ ؛ ضَمِنَ الْكَفِيلُ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ إنْ لِلشَّرْطِ وَكَلِمَةَ مَتَى لِلْوَقْتِ بِمَنْزِلَةِ كَلِمَةِ إذَا

وَلَوْ قَالَ مَا بَايَعْتَهُ مِنْ زُطِّيٍّ فَهُوَ عَلَيَّ فَبَاعَهُ ثَوْبًا هَرَوِيًّا أَوْ حِنْطَةً ؛ لَمْ يَلْزَمْ الْكَفِيلَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ قَيَّدَ الْكَفَالَةَ بِمُبَايَعَتِهِ مِنْ الزُّطِّيِّ خَاصَّةً فَلَا يَتَنَاوَلُ غَيْرَهَا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : مَا أَقْرَضْتَهُ فَهُوَ عَلَيَّ ، فَبَاعَهُ مَتَاعًا أَوْ قَالَ : مَا بَايَعْتَهُ فَهُوَ عَلَيَّ ، فَأَقْرَضَهُ شَيْئًا لَمْ يَلْزَمْ الْكَفِيلَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ قَيَّدَ الْكَفَالَةَ بِسَبَبٍ فَلَا تَتَنَاوَلُ شَيْئًا آخَرَ وَالْمُبَايَعَةُ غَيْرُ الْإِقْرَاضِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمُبَايَعَةَ تَصِحُّ مِمَّنْ لَا يَصِحُّ مِنْهُ الْإِقْرَاضُ كَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ .

وَلَوْ قَالَ : مَا دَايَنْته الْيَوْمَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ عَلَيَّ لَزِمَهُ الْقَرْضُ وَثَمَنُ الْمَبِيعِ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْمُدَايَنَةِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ سَبَبِ وُجُوبِ الدَّيْنِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْآمِرَ بِالْكِتَابَةِ وَالشُّهُودَ جَاءَ بِهِ اسْمُ الْمُدَايَنَةِ وَعُلِمَ الْكُلُّ .
فَلَوْ رَجَعَ الْكَفِيلُ عَنْ هَذَا الضَّمَانِ قَبْلَ أَنْ يُبَايِعَهُ وَنَهَاهُ عَنْ مُبَايَعَتِهِ ثُمَّ بَايَعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَلْزَمْ الْكَفِيلَ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ لُزُومَ الْكَفَالَةِ بَعْدَ وُجُوبِ الْمُبَايَعَةِ وَتَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ عَلَى الْكَفِيلِ .
فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ مَطْلُوبٍ بِشَيْءٍ وَلَا مُلْتَزِمٌ فِي ذِمَّتِهِ شَيْئًا فَيَصِحَّ رُجُوعُهُ .
تَوْضِيحُهُ أَنَّ بَعْدَ الْمُبَايَعَةِ إنَّمَا أَوْجَبْنَا الْمَالَ عَلَى الْكَفِيلِ دَفْعًا لِلْغَرَرِ عَنْ الطَّالِبِ ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ : إنَّمَا عَقَدْت فِي الْمُبَايَعَةِ مَعَهُ كَفَالَةَ هَذَا الرَّجُلِ وَقَدْ انْدَفَعَ هَذَا الْغُرُورُ حِينَ نَهَاهُ عَنْ الْمُبَايَعَةِ .

وَلَوْ قَالَ : مَا بَايَعْته الْيَوْمَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ لَك عَلَيَّ ثُمَّ جَحَدَ الْكَفِيلُ وَالْمَكْفُولُ لَهُ الْمُبَايَعَةَ ، وَأَقَامَ الطَّالِبُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَحَدِهِمَا أَنَّهُ قَدْ بَاعَ الْمَكْفُولُ لَهُ ذَلِكَ الْيَوْمَ مَتَاعًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ؛ لَزِمَهُمَا جَمِيعًا ذَلِكَ الْمَالُ أَيُّهُمَا كَانَ حَضَرَ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ .
وَالْمَالُ الَّذِي يُطَالِبَانِ بِهِ وَاحِدٌ فَيُنَصَّبُ الْحَاضِرُ مِنْهُمَا خَصْمًا فَيَكُونُ حُضُورُ أَحَدِهِمَا كَحُضُورِهِمَا فَلَا يُكَلَّفُ إعَادَةَ الْبَيِّنَةِ عِنْدَ حُضُورِ الْآخَرِ إذَا كَانَ الْقَاضِي هُوَ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِسَبَبِ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَى الَّذِي حَضَرَ إذْ هُوَ بَاشَرَ الْقَضَاءَ بِهِ عَلَى الْأَوَّلِ ، وَعِلْمُهُ يُغْنِي الطَّالِبَ عَنْ إعَادَةِ الْبَيِّنَةِ .

وَلَوْ قَالَ : مَنْ بَايَعَ فُلَانًا الْيَوْمَ بِبَيْعٍ فَهُوَ عَلَيَّ فَبَاعَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ لَمْ يَلْزَمْ الْكَفِيلَ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْمَكْفُولَ لَهُ مَجْهُولٌ ، وَجَهَالَةُ الْمَكْفُولِ لَهُ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ كَجَهَالَةِ الْمُقِرِّ لَهُ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ وَاحِدٌ مِنْ النَّاسِ : عَلَيَّ شَيْءٌ كَانَ إقْرَارُهُ بَاطِلًا .

وَلَوْ قَالَ لِقَوْمٍ خَاصَّةً : مَا بَايَعْتُمُوهُ أَنْتُمْ وَغَيْرُكُمْ فَهُوَ عَلَيَّ ؛ كَانَ عَلَيْهِ مَا يَبِيعُ بِهِ أُولَئِكَ الْقَوْمُ ، وَلَا يَلْزَمُهُ مَا بَايَعَ غَيْرُهُمْ ؛ لِأَنَّ فِي حَقِّهِمْ الْمَكْفُولُ لَهُ مَعْلُومٌ فَصَحَّتْ الْكَفَالَةُ ، وَفِي حَقِّ غَيْرِهِمْ هُوَ مَجْهُولٌ فَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ وَلَكِنْ ضَمُّ الْمَجْهُولِ إلَى الْمَعْلُومِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ فِي حَقِّ الْمَعْلُومِ ؛ لِأَنَّ مَا يَلْتَزِمُهُ لِوَاحِدٍ بِالْكَفَالَةِ مُنْفَصِلٌ عَمَّا يَلْتَزِمُهُ لِلْآخَرِ .

وَلَوْ أَذِنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ وَقَالَ لِرَجُلٍ : مَا بَايَعْت بِهِ عَبْدِي مِنْ شَيْءٍ أَبَدًا فَهُوَ عَلَيَّ أَوْ لَمْ يَقُلْ أَبَدًا فَهُوَ سَوَاءٌ وَلَزِمَهُ كُلُّ بَيْعٍ بَايَعَهُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ الْمَوْلَى مِنْ عَبْدِهِ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ صَحِيحٌ ، كَمَا يَصِحُّ مِنْ الْحُرِّ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَبَقَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : كُلُّ مَا بَايَعْته أَوْ الَّذِي بَايَعْته بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ : إذَا بَايَعْته أَوْ إنْ بَايَعْته ؛ فَهَذَا عَلَى الْأَوَّلِ خَاصَّةً وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْحُرِّ فَكَذَلِكَ فِي الْعَبْدِ

وَلَوْ قَالَ مَا بَايَعْت فُلَانًا مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ عَلَيَّ فَأَسْلَمَ إلَيْهِ دَرَاهِمَ فِي طَعَامٍ أَوْ بَاعَهُ شَعِيرًا بِزَيْتٍ فَذَلِكَ كُلُّهُ عَلَى الْكَفِيلِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَاعَهُ فَإِنَّ السَّلَمَ نَوْعُ بَيْعٍ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : إذَا وَكَّلَهُ بِثَوْبٍ يَبِيعُهُ فَأَسْلَمَهُ فِي طَعَامٍ ؛ جَازَ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ السَّلَمَ غَيْرُ الْبَيْعِ بَلْ إنَّ مُطْلَقَ التَّوَكُّلِ بِالْبَيْعِ يَنْصَرِفُ إلَى الْبَيْعِ بِالنُّقُودِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ الْحَوَالَةِ ( قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ) ذُكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَوَالَةِ : إذَا أَفْلَسَ فَلَا تَوًى عَلَى مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يُرِيدُ بِهِ أَنَّ مَالَ الطَّالِبِ يَعُودُ فَدَلِيلُهُمَا أَنَّ بِمُجَرَّدِ الْإِفْلَاسِ تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ .
قَالَ : وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : إذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَحَالَهُ بِهَا فَقَدْ بَرِئَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا .
وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِيهِ وَوَجْهَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَفَالَةِ وَالْحَوَالَةِ ( فَفِي الْكِتَابِ ) أَشَارَ إلَى حُرُوفٍ فَإِنَّكَ لَا تَكْتُبُ : ذِكْرُ حَقِّ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ أَنَّ لَهُ عَلَى فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقَدْ أَحَالَهُ بِهَا عَلَى فُلَانٍ .
فَإِنَّ هَذَا لَا يَحْسُنُ فِي الْكِتَابِ وَلَا فِي الْكَلَامِ ، وَكَيْفَ يَكُونُ عَلَيْهِ وَقَدْ حَوَّلَهَا عَنْهُ إلَى غَيْرِهِ وَيَحْسُنُ فِي الضَّمَانِ أَنْ يَقُولَ : لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَقَدْ ضَمِنَهَا عَنْهُ فُلَانٌ ( ثُمَّ وُجُوهُ التَّوَى ) قَدْ بَيَّنَّاهَا فِيمَا سَبَقَ .
( وَالْجَوَابُ ) بَيْنَ الْأَجَانِبِ وَالْأَقَارِبِ فِي جَمِيعِ أَصْنَافِ الدُّيُونِ مِنْ التِّجَارَاتِ وَالْمَهْرِ وَالْجِنَايَاتِ وَغَيْرِ ذَلِكَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ تَحْوِيلُ الْحَقِّ مِنْ الذِّمَّةِ الْأُولَى إلَى الذِّمَّةِ الثَّانِيَةِ فَيَسْتَدْعِي وُجُوبَ الْحَقِّ فِي الذِّمَّةِ الْأُولَى ؛ لِيَصِحَّ التَّحْوِيلُ .
وَلَوْ أَنَّ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ أَحَالَهُ بِالْمَالِ عَلَى غَيْرِهِ ؛ كَانَ جَائِزًا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَحَوَّلَ الْمَالُ إلَيْهِ بِالْحَوَالَةِ الْتَحَقَ بِمَا كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ وَكَمَا يَصِحُّ التَّحْوِيلُ مِنْ الذِّمَّةِ الْأُولَى إلَى ذِمَّتِهِ ؛ يَصِحُّ التَّحْوِيلُ مِنْ ذِمَّتِهِ إلَى ذِمَّةٍ أُخْرَى بِالْحَوَالَةِ وَلَيْسَ لِلْمُحْتَالِ عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَصِيلَ بِالْمَالِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ وَلَكِنْ يُعَامِلُهُ بِحَسَبِ مَا يُعَامَلُ بِهِ مِنْ الْمُلَازَمَةِ وَالْحَبْسِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي فَصْلِ الْكَفِيلِ ( وَفِي هَذَا نَوْعُ إشْكَالٍ ) فَإِنَّ فِي

الْكَفَالَةِ مُطَالَبَةَ الطَّالِبِ عَلَى الْأَصِيلِ بَاقِيَةٌ ، فَلَا تَتَوَجَّهُ عَلَيْهِ مُطَالَبَةُ الْكَفِيلِ مَا لَمْ يُؤَدِّ ، وَبَعْدَ الْحَوَالَةِ لَا تَبْقَى مُطَالَبَةُ الْمَالِ عَلَى الْأَصِيلِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ مُطَالَبَةُ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ كَالْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ يُطَالِبُ الْمُوَكِّلَ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ .
وَلَكِنَّا نَقُولُ : مَا سَقَطَتْ مُطَالَبَةُ الطَّالِبِ عَنْ الْمُحِيلِ عَلَى الثَّبَاتِ بَلْ يُؤَخِّرُ ذَلِكَ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ مُفْلِسًا ، فَكَانَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِمَعْنَى التَّأْجِيلِ .
أَوْ لَمَّا كَانَتْ الْمُطَالَبَةُ بِغَرَضِ أَنْ يَتَوَجَّهَ عَلَيْهِ جُعِلَ كَالْمُتَوَجَّهِ فِي الْحَالِ بِمَعْنَى الْكَفَالَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْبَائِعِ عَلَى الْمُوَكِّلِ مُطَالَبَةٌ بِالثَّمَنِ لَا فِي الْحَالِ وَلَا فِي ثَانِي الْحَالِ بَلْ مُطَالَبَتُهُ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْوَكِيلِ فَكَانَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَلَوْ قَضَى الْمُحِيلُ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ الْمَالَ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ فَعَمِلَ بِهِ وَرَبِحَ ؛ كَانَ رِبْحُهُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ بِنَفْسِ الْحَوَالَةِ قَدْ اسْتَوْجَبَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ عَلَى الْمُحِيلِ وَلَكِنَّهُ مُؤَجِّلٌ لِأَدَائِهِ .
وَمَنْ اسْتَعْجَلَ الدَّيْنَ الْمُؤَجَّلَ وَتَصَرَّفَ فِيهِ وَرَبِحَ ؛ كَانَ الرِّبْحُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَرْبَحَ عَلَى مِلْكٍ صَحِيحٍ

وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَحَالَهُ بِهَا عَلَى آخَرَ فَقَضَاهَا إيَّاهُ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ فَلَمَّا أَرَادَ الرُّجُوعَ عَلَى الْأَصِيلِ قَالَ الْأَصِيلُ : كَانَتْ لِي عَلَيْك ، وَقَالَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ : مَا كَانَ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ فَإِنَّهُ يَقْضِي لِلْمُحْتَالِ عَلَيْهِ عَلَى الْأَصِيلِ بِالْمَالِ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْمَالِ لَهُ عَلَى الْأَصِيلِ ظَاهِرٌ ، وَهُوَ قَبُولُهُ الْحَوَالَةَ بِأَمْرِهِ وَأَدَائِهِ ، وَالْمُحِيلُ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ دَيْنًا عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ لِيَجْعَلَ مَا عَلَيْهِ قِصَاصًا بِذَلِكَ الدَّيْنِ وَلَمْ يَظْهَرْ سَبَبُ مَا يَدَّعِيهِ وَالْمُحْتَالُ عَلَيْهِ لِذَلِكَ مُنْكِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَلَيْسَ فِي قَبُولِ الْحَوَالَةِ عَنْهُ إقْرَارٌ بِوُجُوبِ الْمَالِ لِلْمُحِيلِ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْحَوَالَةَ قَدْ تَكُونُ مُقَيَّدَةً بِمَا لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ وَقَدْ تَكُونُ مُطْلَقَةً .
بَلْ حَقِيقَةُ الْحَوَالَةِ هِيَ الْمُطْلَقَةُ ، فَأَمَّا الْمُقَيَّدَةُ مِنْ وَجْهٍ : فَتَوْكِيلٌ بِالْأَدَاءِ وَالْقَبْضِ ؛ عَرَفْنَا أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ دَلَالَةُ الْإِقْرَارِ بِوُجُوبِ الْمَالِ لِلْمُحِيلِ عَلَيْهِ ، وَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي الْإِنْكَارِ .

وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلَيْنِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَأَحَالَهُ أَحَدُهُمَا عَلَى رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ أَبْرَأَهُ ؛ فَلِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ بِالْأَلْفِ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ بِالْحَوَالَةِ وَالْمُحِيلُ كَانَ أَصِيلًا فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ كَفِيلًا فِي النِّصْفِ الثَّانِي ، وَالْحَوَالَةُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَحِيحَةٌ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الَّذِي لَمْ يَحِلَّهُ بِخَمْسِمِائَةٍ ؛ لِأَنَّ الْمُحِيلَ فِي هَذِهِ الْخَمْسمِائَةِ كَانَ كَفِيلًا وَقَدْ بَرِئَ بِالْحَوَالَةِ مِنْ غَيْرِ أَدَاءً .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ لَا تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ .
فَإِنْ أَدَّاهَا الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْمُحِيلِ دُونَ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَمَرَهُ بِقَبُولِ الْحَوَالَةِ وَرُجُوعِهِ بِذَلِكَ .
فَإِنْ أَدَّاهَا الْمُحِيلُ رَجَعَ بِنِصْفِهَا عَلَى صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ كَفِيلًا عَنْهُ وَأَدَاءُ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ بِأَمْرِهِ كَأَدَائِهِ أَدَاءَهُ بِنَفْسِهِ وَإِلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ كَأَدَائِهِ إلَى الطَّالِبِ لَهُ وَلَوْ أَدَّى إلَى الطَّالِبِ رَجَعَ بِنَفْسِهَا عَلَى صَاحِبِهِ فَكَذَلِكَ هُنَا .

وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَحَالَهُ بِهَا عَلَى رَجُلَيْنِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِهَا ؛ لِأَنَّهُمَا أَضَافَا الْحَوَالَةَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ الْمَالِ إلَيْهِمَا إضَافَةً عَلَى السَّوَاءِ فَيَقْسِمُ عَلَيْهِمَا انْقِسَامًا عَلَى السَّوَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْكَفَالَةِ نَظِيرَهُ فَإِنْ اشْتَرَطَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ أَخَذَ بِالْأَلْفِ أَيَّهمَا شَاءَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْتَزَمَ بِجَمِيعِ الْمَالِ هُنَا فِي النِّصْفِ عَنْ الْأَصِيلِ وَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ عَنْ صَاحِبِهِ بِالْكَفَالَةِ فَإِذَا أَدَّاهَا رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِالنِّصْفِ لِيَسْتَوِيَا فِي الْغُرْمِ الثَّابِتِ بِسَبَبِ هَذِهِ الْحَوَالَةِ كَمَا اسْتَوَيَا فِي أَصْلِ الِالْتِزَامِ .

وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى مُكَاتَبٍ مَالٌ فَأَحَالَهُ الْمُكَاتَبُ بِهِ عَلَى رَجُلٍ عَلَيْهِ مَالٌ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ مِنْ الْمُكَاتَبِ بِهِ عَلَى رَجُلٍ لَهُ عَلَيْهِ مَالٌ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ مِنْ الْمُكَاتَبِ لِلطَّالِبِ فِي أَنْ يَقْبِضَ مَالَهُ مِنْ غَرِيمِهِ لَهُ أَوَّلًا ثُمَّ لِنَفْسِهِ .
وَأَمَرَ لِلْغَرِيمِ بِأَنْ يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ إلَى الطَّالِبِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْ الْمُكَاتَبِ .
وَهَذَا التَّكَلُّفُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ فِي هَذَا الْفَصْلِ فَإِنَّ الْمُكَاتَبَ لَوْ أَحَالَ الطَّالِبَ حَوَالَةً مُطْلَقَةً ؛ يَجُوزُ .
فَكَذَلِكَ الْحَوَالَةُ مِنْ الْمُكَاتَبِ الْمُقَيَّدَةُ وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْفَصْلِ الثَّانِي وَهُوَ مَا إذَا كَانَ الْمُكَاتَبُ هُوَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الْحَوَالَةِ مِنْ الْمُكَاتَبِ مُطْلَقًا لَا يَجُوزُ بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ وَلَكِنْ يَجُوزُ مُقَيَّدًا بِالْمَالِ الَّذِي عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي حَقِّهِ بَيْنَ أَنْ يُؤَدِّيَ ذَلِكَ الْمَالَ إلَى الْمُحِيلِ أَوْ إلَى الْمُحْتَالِ .
وَالْعَبْدُ التَّاجِرُ وَالصَّبِيُّ التَّاجِرُ فِي هَذَا كَالْمُكَاتَبِ

وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَالُ عَلَى رَجُلَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَأَحَالَاهُ عَلَى وَاحِدٍ جَازَتْ الْحَوَالَةُ مِنْهُمَا كَمَا تَجُوزُ مِنْ الْوَاحِدِ إذَا كَانَ مَطْلُوبًا بِالْمَالِ

وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ يَحْتَالُ بِدَيْنِ الْيَتِيمِ عَلَى رَجُلٍ أَمْلَأَ مِنْ غَرِيمِهِ الْأَوَّلِ فَاحْتَالَ بِذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا قُرْبَانُ مَالِهِ بِالْأَحْسَنِ فَإِنَّ حَيَاةَ الدَّيْنِ بِمَلَاءَةِ ذِمَّةِ مَنْ عَلَيْهِ .
وَفِي قَبُولِ الْحَوَالَةِ عَلَى مَنْ هُوَ أَمْلَأُ : إظْهَارٌ لِلزِّيَادَةِ فِي حَقِّهِ وَتَيَسُّرُ الْوُصُولِ إلَى مَالِهِ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمَا نَظَرًا مِنْ حَقِّهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الْأَمْرِ بِنَقْدِ الْمَالِ ( قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ) : وَإِذَا أَمَرَ رَجُلٌ رَجُلًا بِأَنْ يَنْقُدَ عَنْهُ فُلَانًا أَلْفَ دِرْهَمٍ فَنَقَدَهَا ؛ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْآمِرِ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ الْآمِرِ اسْتِقْرَاضٌ مِنْ الْمَأْمُورِ وَأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ نَقْدُهُ عَنْهُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْمَنْقُودُ مِلْكًا لَهُ وَلَا يَصِيرُ مِلْكًا لَهُ بِالِاسْتِقْرَاضِ مِنْهُ فَكَأَنَّهُ اسْتَقْرَضَ مِنْهُ الْأَلْفَ وَوَكَّلَ صَاحِبَ دَيْنِهِ بِأَنْ يَقْبِضَ لَهُ ذَلِكَ أَوَّلًا ثُمَّ لِنَفْسِهِ ؛ وَلِأَنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يُمَلِّكَهُ مَا فِي ذِمَّتِهِ بِمَالٍ يُؤَدِّيهِ مِنْ عِنْدِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يُمَلِّكَهُ عَيْنَ الْغَيْرِ فِي يَدِهِ بِأَنْ يَشْتَرِيَهَا لَهُ فَيُؤَدِّيَ الثَّمَنَ مِنْ عِنْدِهِ وَهُنَاكَ يَثْبُتُ لِلْمَأْمُورِ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْآمِرِ بِمَا يُؤَدِّي فَكَذَلِكَ هُنَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : اُنْقُدْ فُلَانًا أَلْفَ دِرْهَمٍ لَهُ عَلَيَّ ، أَوْ قَالَ : اقْضِهِ عَنِّي كَذَا أَوْ قَالَ : اقْضِهِ مَا لَهُ عَلَيَّ ، أَوْ ادْفَعْ إلَيْهِ الَّذِي لَهُ عَلَيَّ ، أَوْ ادْفَعْ عَنِّي كَذَا ، أَوْ أَعْطِهِ عَنِّي أَلْفَ دِرْهَمٍ ، أَوْ أَوْفِهِ مَالَهُ عَلَيَّ ، فَهَذَا كُلُّهُ بَابٌ وَاحِدٌ وَكُلُّهُ إقْرَارٌ مِنْ الْآمِرِ أَنَّ الْمَالَ عَلَيْهِ لِفُلَانٍ إمَّا لِقَوْلِهِ : عَنِّي أَوْ لِقَوْلِهِ : اقْضِهِ عَنِّي .
فَإِنَّ الْقَضَاءَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْوُجُوبِ أَوْ لِقَوْلِهِ : عَلَيَّ أَوْ لِقَوْلِهِ : أَوْفِهِ عَنِّي فَإِنَّ الْإِيفَاءَ يَكُونُ بَعْدَ الْوُجُوبِ وَلَوْ قَالَ : اُنْقُدْهُ عَنِّي أَلْفَ دِرْهَمٍ عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ لَهَا أَوْ عَلَى أَنِّي كَفِيلٌ بِهَا أَوْ عَلَى أَنَّهَا لَك عَلَيَّ أَوْ إلَيَّ أَوْ قِبَلِي فَهُوَ سَوَاءٌ وَإِذَا نَقَدَهَا إيَّاهُ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْآمِرِ ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِالْتِزَامِ ضَمَانِ الْمَنْقُودِ لَهُ أَوْ أَتَى بِلَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَيَسْتَوِي إنْ نَقَدَهُ الدَّرَاهِمَ أَوْ نَقَدَهُ بِهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ أَوْ بَاعَهُ بِهَا جَارِيَةً أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ بِالْبَيْعِ يَجِبُ الثَّمَنُ لِلْبَائِعِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَلَمْ يَصِرْ

قَابِضًا الدَّرَاهِمَ الَّتِي وَجَبَتْ لَهُ عَلَيْهِ كَمَا أَمَرَ بِهِ .
فَكَانَ هَذَا وَمَا لَوْ دَفَعَ إلَيْهِ دَرَاهِمَ فِي الْحُكْمِ سَوَاءً .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الطَّالِبَ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ بِهَذِهِ الطَّرِيقِ إذَا حَلَفَ لَيَسْتَوْفِيَنَّ مَالَهُ عَلَيْك قَبْلَ أَنْ يُفَارِقَك

وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ : ادْفَعْ إلَى فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ قَضَاءً وَلَمْ يَقُلْ : عَنِّي أَوْ قَالَ : اقْضِ فُلَانًا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَلَمْ يَقُلْ : عَلَى أَنَّهَا لَك عَلَيَّ فَدَفَعَهَا الْمَأْمُورُ فَإِنْ كَانَ خَلِيطًا لِلْآمِرِ رَجَعَ بِهَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْخُلْطَةَ الْقَائِمَةَ بَيْنَهُمَا دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّ أَمْرَهُ بِالْقِضَاءِ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ بِهَذَا اللَّفْظِ وَهَذَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَلِيطَيْنِ يَنُوبُ عَنْ صَاحِبِهِ فِي قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَدَّاهُ بِنَاءً عَلَى الْخُلْطَةِ السَّابِقَةِ .
وَتِلْكَ الْخُلْطَةُ تُثْبِتُ لَهُ حَقَّ الرُّجُوعِ بِمَا يُؤَدِّي بِأَمْرِهِ كَمَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ بِمَا يُؤَدِّي إلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ خَلِيطًا لَهُ لَمْ يَرْجِعْ بِهَا عَلَيْهِ .
فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنَّمَا رُجُوعُهُ عَلَى الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ .
وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : يَرْجِعُ عَلَى الْآمِرِ خَلِيطًا كَانَ أَوْ غَيْرَ خَلِيطٍ لِوَجْهَيْنِ ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ أَمْرَهُ بِالدَّفْعِ إلَى غَيْرِهِ بِمَنْزِلَةِ أَمْرِهِ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ وَلَوْ قَالَ : ادْفَعْهُ إلَيَّ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا أَمَرَهُ بِالدَّفْعِ إلَى غَيْرِهِ وَلِأَنَّ فِعْلَهُ فِي الدَّفْعِ يَتَرَتَّبُ عَلَى أَمْرِهِ فِي الْفَصْلَيْنِ وَإِذَا اعْتَمَدَ فِي الْأَدَاءِ أَمَرَهُ فَلَوْ لَمْ يَرْجِعْ صَارَ مُغَرَّرًا مِنْ جِهَتِهِ .
وَالْغَرَرُ مَدْفُوعٌ كَمَا فِي الْخَلِيطَيْنِ ( الثَّانِي ) أَنَّهُ قَالَ : ادْفَعْهَا إلَيْهِ قَضَاءً وَالْقَضَاءُ يَنْبَنِي عَلَى الْوُجُوبِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَأْمُورِ شَيْءٌ وَاجِبٌ لِلْمَدْفُوعِ إلَيْهِ وَلَا يُعْتَبَرُ أَمْرُ الْآمِرِ بِذَلِكَ بَلْ أَمْرُهُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي قَضَاءِ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْآمِرِ وَكَانَ إقْرَارًا بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .
وَهَذَا وَقَوْلُهُ : اقْضِ عَنِّي سَوَاءٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - قَالَا إنَّ قَوْلَهُ : اقْضِ أَوْ ادْفَعْهُ

إلَيْهِ قَضَاءُ كَلَامٍ مُحْتَمَلٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ اقْضِهِ مَالَهُ عَلَيْك فَيَكُونُ هَذَا مِنْهُ أَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ : اقْضِهِ مَالَهُ عَلَيَّ .
وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْمَالُ عَلَى الْآمِرِ لِلْمَدْفُوعِ إلَيْهِ وَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْمَالُ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ هَذَا مِنْهُ اسْتِقْرَاضًا وَلَا أَمْرًا بِأَنْ يُمَلِّكَهُ مَا فِي ذِمَّتِهِ وَطَرِيقُ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ هُنَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ : قَضَاءً عَنِّي إذَا كَانَ قَضَاءً لِمَا لَهُ عَلَيَّ ؛ لِأَنَّ الِاحْتِمَالَ قَدْ زَالَ هُنَاكَ بِمَا صَرَّحَ بِهِ مِنْ الْإِضَافَةِ إلَى نَفْسِهِ .
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْتَبَرَ أَمْرُهُ بِالدَّفْعِ إلَى غَيْرِهِ بِالدَّفْعِ إلَى نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ ادْفَعْهُ إلَيَّ لَا يُثْبِتُ لَهُ حَقَّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ بِهَذَا الْأَمْرِ بَلْ يَقْضِهِ الْمَالَ مِنْهُ وَهَذَا الْمَعْنَى يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ رُجُوعُهُ هُنَا إلَى الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْقَابِضُ لِلْمَالِ مِنْهُ دُونَ الْآمِرِ وَلَوْ كَانَ أَمَرَ بِذَلِكَ وَلَدَهُ أَوْ أَخَاهُ وَهُوَ لَيْسَ فِي عِيَالِهِ فَهَذَا وَأَمْرُهُ لَلْأَجْنَبِيِّ بِذَلِكَ سَوَاءٌ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ بَعْضُ مَنْ فِي عِيَالِهِ فَيَكُونَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَمَرَ خَلِيطًا لَهُ بِذَلِكَ اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَقْضِي مَا عَلَيْهِ بِيَدِ مَنْ فِي عِيَالِهِ .
وَيَدُ هَؤُلَاءِ بِمَنْزِلَةِ يَدِهِ ، وَلَوْ دَفَعَ بِنَفْسِهِ قَضَاءً كَانَ ذَلِكَ قَضَاءً لِمَا هُوَ وَاجِبٌ فَكَذَلِكَ إذَا أَمَرَ بَعْضَ مَنْ فِي عِيَالِهِ حَتَّى أَدَّى ، وَكَذَلِكَ الزَّوْجَةُ إذَا أَمَرَتْ بِذَلِكَ زَوْجَهَا فَإِنَّ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الزَّوْجِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْخُلْطَةِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَرَ بِهِ أَجِيرًا لَهُ .
وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ التِّلْمِيذَ الْخَاصَّ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ مُسَانَهَةً أَوْ مُشَاهَرَةً فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ فِي عِيَالِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَرَ بِهِ شَرِيكًا لَهُ ؛ لِأَنَّ قِيَامَ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْخُلْطَةِ أَوْ أَقْوَى مِنْهَا

وَهَذَا كُلُّهُ اسْتِحْسَانٌ وَحَمْلٌ لِمُطْلَقِ الْكَلَامِ عَلَى مَا هُوَ مُعْتَادٌ بَيْنَ النَّاسِ .

وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ ادْفَعْ إلَى فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَإِنْ كَانَ الْمَأْمُورُ خَلِيطًا لِلْآمِرِ أَوْ بَعْضَ مَنْ فِي عِيَالِهِ رَجَعَ الْمَأْمُورُ عَلَى الْآمِرِ بِاعْتِبَارِ الْخُلْطَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْغَرَرِ مِنْ جِهَتِهِ لَوْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ ؛ لَمْ يَرْجِعْ الْآمِرُ عَلَى الْقَابِضِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ يَصِيرُ قِصَاصًا بِهِ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَأْمُورُ خَلِيطًا لِلْآمِرِ فَلَا إشْكَالَ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْآمِرِ وَإِنَّمَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْقَابِضِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَعَلَى قِيَاسِ الطَّرِيقَةِ الْأُولَى يَرْجِعُ عَلَى الْآمِرِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ : ادْفَعْهُ إلَيَّ .
وَعَلَى قِيَاسِ الطَّرِيقَةِ الثَّانِيَةِ يَكُونُ رُجُوعُهُ عَلَى الْقَابِضِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقَابِضَ يَسْتَوْفِي حَقًّا وَاجِبًا لَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ : ادْفَعْهَا إلَى فُلَانٍ قَضَاءً .
وَلَوْ أَمَرَ خَلِيطًا لَهُ أَنْ يَنْقُدَ فُلَانًا عَنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ نَجِيَّةٍ فَنَقَدَ عَنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ غَلَّةً أَوْ نَبَهْرَجَةً لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْآمِرِ إلَّا بِمِثْلِ مَا أَعْطَى بِخِلَافِ الْكَفِيلِ بِالنَّجِيَّةِ إذَا أَدَّى بِالْغَلَّةِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِالنَّجِيَّةِ فَإِنَّ رُجُوعَ الْكَفِيلِ بِحُكْمِ الِالْتِزَامِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ وُهِبَ الْمَالُ مِنْهُ رَجَعَ عَلَى الْأَصِيلِ وَإِنَّمَا الْتَزَمَ فِي ذِمَّتِهِ النَّجِيَّةَ فَاسْتَوْجَبَ مِثْلَهَا فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ ثُمَّ إنْ سَامَحَهُ الطَّالِبُ فَتَجُوزُ بِالْغَلَّةِ ؛ لَا يَجِبُ أَنْ يُسَامِحَ الْأَصِيلَ بِشَيْءٍ فَأَمَّا الْمَأْمُورُ فَهُوَ غَيْرُ مُلْتَزِمٌ فِي ذِمَّتِهِ شَيْئًا وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ بِالْأَدَاءِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ وُهِبَ الْمَالُ مِنْهُ لَمْ يَصِحَّ فَإِنْ كَانَ رُجُوعُهُ بِالْأَدَاءِ رَجَعَ الْمُؤَدِّي .

وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَحَالَ بِهَا عَلَيْهِ رَجُلًا فَلَمَّا اسْتَوْفَاهَا الْمُحْتَالُ قَالَ الْمُحْتَالُ لِلْمُحِيلِ : كَانَ الْمَالُ لِي عَلَيْك فَإِنَّمَا اسْتَوْفَيْت حَقَّ نَفْسِي ، وَقَالَ الْمُحِيلُ : بَلْ كُنْت وَكِيلِي فِي قَبْضِ مَالِي ؛ لَمْ يَكُنْ لَك عَلَيَّ شَيْءٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحِيلِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ لَهُ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ كَانَ ظَاهِرًا كَالْمَقْبُوضِ بِذَلِكَ السَّبَبِ فَيَكُونُ مِلْكًا لَهُ ثُمَّ الْقَابِضُ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ دَيْنًا عَلَيْهِ حَتَّى يَحْبِسَ مَالَهُ بِذَلِكَ .
وَلَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ الدَّيْنُ لَهُ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ إحَالَتَهُ عَلَيْهِ لَا تَكُونُ دَلِيلًا عَلَى وُجُوبِ الْمَالِ لِلْمُحْتَالِ عَلَى الْمُحِيلِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ وَيُؤْمَرُ بِدَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ دَيْنُ نَفْسِهِ عَلَيْهِ .
وَلَوْ أَرَادَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ أَنْ يَمْنَعَ الْمَالَ مِنْ الَّذِي أَحَالَ بِهِ عَلَيْهِ وَرَبُّ الْمَالِ غَائِبٌ ؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ بَعْدَ الْحَوَالَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ الْتَزَمَ دَفْعَ الْمَالِ إلَيْهِ فَعَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِمَا الْتَزَمَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ رَبُّ الْمَالِ : اضْمَنْ لَهُ هَذَا الْمَالَ .
فَهُوَ مِثْلُ الْحَوَالَةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ : اضْمَنْ لَهُ هَذَا الْمَالَ عَنِّي فَإِنَّهُ يَكُونُ إقْرَارًا مِنْ رَبِّ الْمَالِ بِالْمَالِ لِهَذَا ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يَضْمَنَ عَنْهُ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ : اضْمَنْ عَنِّي لَهُ ، بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ مِنْهُ أَنَّ الْقَابِضَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ وَلَيْسَ بِوَكِيلٍ مِنْ جِهَتِهِ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ عِنْدَ وُجُوبِ الْمَالِ لِلطَّالِبِ عَلَى الْأَصِيلِ وَكَذَلِكَ الْحَوَالَةُ إذَا قَالَ : يَحْتَالُ إلَيْك بِالْأَلْفِ الَّتِي لِي عَلَيْك ؛ لَمْ يَكُنْ هَذَا إقْرَارًا بِأَنَّ الْمَالَ عَلَيْهِ .
وَلَوْ قَالَ : هُوَ مُحْتَالٌ عَلَيْك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لِتُؤَدِّيَهَا عَنِّي مِنْ الْمَالِ الَّذِي لِي عَلَيْك فَهَذَا إقْرَارٌ مِنْهُ بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ لِلْمُحْتَالِ .
وَإِذَا قَالَ

: يَحْتَالُ عَلَيْك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَمْ يَكُنْ هَذَا إقْرَارًا مِنْهُ بِالْمَالِ وَلَكِنَّ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ لَا يَسْتَطِيعُ الِامْتِنَاعَ مِنْ أَدَاءِ الْمَالِ إلَى الْمُحْتَالِ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهَا لَهُ وَلِأَنَّ كَلَامَهُ مُحْتَمَلٌ .
وَبِالْمُحْتَمَلِ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ إيفَاءِ مَا الْتَزَمَ ، وَإِنْ أَدَّاهَا وَكَانَ خَلِيطًا لِلْآمِرِ رَجَعَ بِهَا عَلَيْهِ وَرَجَعَ بِهَا الْآمِرُ عَلَى الْمَضْمُونِ لَهُ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَيْهِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْحَوَالَةِ نَظِيرَهُ فَكَذَلِكَ فِي الضَّمَانِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ خَلِيطًا لَهُ لَمْ يَرْجِعْ بِهَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ بِالضَّمَانِ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهَا تُسَلَّمُ لِلْمَضْمُونِ لَهُ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ : ادْفَعْ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَاكَ مِنْ الْمَأْمُورِ الْتِزَامُ شَيْءٍ لِلْمَدْفُوعِ إلَيْهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الدَّفْعِ إلَيْهِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الدَّفْعِ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَيْهِ .
وَهُنَا بِقَبُولِ الْحَوَالَةِ وَالضَّمَانِ قَدْ الْتَزَمَ الْمَالَ لِلْمَضْمُونِ لَهُ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الدَّفْعِ إلَيْهِ فِي الِابْتِدَاءِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الدَّفْعِ إلَيْهِ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِمَّا أَدَّى إلَيْهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ صُلْحِ الْكَفَالَةِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَبِهَا كَفِيلٌ عَنْهُ بِأَمْرِهِ فَصَالَحَ الْكَفِيلُ الطَّالِبَ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى إبْرَاءِ الْأَصِيلِ مِنْ الْأَلْفِ ؛ جَازَ كَمَا لَوْ صَالَحَهُ الْأَصِيلُ بِنَفْسِهِ وَهَذَا ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ اسْتَوْفَى عُشْرَ حَقِّهِ وَأَبْرَأَهُ مِنْ سِوَى ذَلِكَ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ صَحِيحٌ فِي الْكُلِّ ، فَكَذَلِكَ فِي الْبَعْضِ لَمْ يَرْجِعْ الْكَفِيلُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّ رُجُوعَ الْكَفِيلِ بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَهُ .
وَذَلِكَ مَقْصُورٌ عَلَى مَا أَدَّى دُونَ مَا أَبْرَأَهُ الْأَصِيلُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ فَلَا يَتَضَمَّنُ التَّمْلِيكَ مِنْ الْكَفِيلِ ، وَلَا يَتَحَوَّلُ بِهِ أَصْلُ الدَّيْنِ إلَى ذِمَّةِ الْكَفِيلِ بِخِلَافِ الْإِيفَاءِ فَإِنَّهُ يَتَضَمَّنُ تَحَوُّلَ أَصْلِ الدَّيْنِ إلَى ذِمَّةِ الْكَفِيلِ ؛ لِيَتَمَلَّكَ بِأَدَائِهِ مَا فِي ذِمَّتِهِ فَيَسْتَوْجِبَ الرُّجُوعَ بِهِ عَلَى الْأَصِيلِ .
وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يُبْرِئَ الْكَفِيل خَاصَّةً مِنْ الْبَاقِي رَجَعَ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَرَجَعَ الطَّالِبُ عَلَى الْأَصِيلِ بِتِسْعِمِائَةٍ ؛ لِأَنَّ إبْرَاءَ الْكَفِيلِ يَكُونُ فَسْخًا لِلْكَفَالَةِ وَلَا يَكُونُ إسْقَاطًا لِأَصْلِ الدَّيْنِ فَيَبْقَى لَهُ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ مَا أَبْرَأَهُ الْكَفِيلُ مِنْهُ وَتِسْعُمِائَةٍ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ يَلْتَزِمُ الْمُطَالَبَةَ ، وَإِبْرَاءُ الْكَفِيلِ يَكُونُ تَصَرُّفًا فِي تِلْكَ الْمُطَالَبَةِ دُونَ أَصْلِ الدَّيْنِ .
وَبِالْإِبْرَاءِ لَا يَتَحَوَّلُ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّةِ الْكَفِيلِ .
وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ وَهَبَ التِّسْعَمِائَةِ لِلْكَفِيلِ ؛ كَانَ لِلْكَفِيلِ أَنْ يَرْجِعَ بِالْأَلْفِ كُلِّهَا عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ جَمِيعَ الْأَصْلِ ، وَهُوَ الْأَلْفُ بَعْضُهَا بِالْأَدَاءِ وَبَعْضُهَا بِالْهِبَةِ مِنْهُ .
وَالْبَعْضُ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ وَهَذَا لِأَنَّ الْهِبَةَ تَمْلِيكٌ فِي الْأَصْلِ .
فَمِنْ

ضَرُورَةِ تَصْحِيحِهِ : تَحَوُّلُ الدَّيْنِ إلَى ذِمَّةِ الْكَفِيلِ ، فَلَا يَبْقَى لِلطَّالِبِ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ شَيْءٌ وَيَتَحَوَّلُ الْكُلُّ إلَى ذِمَّةِ الْكَفِيلِ ثُمَّ يَتَمَلَّكُهَا بِالْهِبَةِ وَالْأَدَاءِ فَيَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْأَصِيلِ وَلَوْ صَالَحَ الْكَفِيلُ الطَّالِبَ عَلَى عَشَرَةِ دَنَانِيرَ أَوْ بَاعَهُ إيَّاهُ بِعَشَرَةِ دَنَانِيرَ كَانَ لِلْكَفِيلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْأَصِيلِ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ ؛ لِأَنَّهُ بِهَذَا الصُّلْحِ وَالشِّرَاءِ يَتَمَلَّكُ جَمِيعَ الْأَلْفِ .
وَمِنْ ضَرُورَةِ صِحَّتِهَا تَحَوُّلُ الدَّيْنِ إلَى ذِمَّةِ الْكَفِيلِ .
فَإِنَّ الصُّلْحَ فِي غَيْرِ جِنْسِ الْحَقِّ يَكُونُ تَمْلِيكًا كَالْبَيْعِ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا صَالَحَهُ عَلَيْهِ مِنْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ بِعَيْنِهِ أَوْ حَيَوَانٍ أَوْ عَرَضٍ أَوْ مَتَاعٍ فَالْجَوَابُ فِي الْكُلُّ سَوَاءٌ وَلَوْ كَانَ مَعَهُ كَفِيلٌ آخَرُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ عَنْ صَاحِبِهِ ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ هَذَا الصُّلْحَ أَوْ الْبَيْعَ بِمَنْزِلَةِ الْأَدَاءِ فِي حَقِّ الرُّجُوعِ عَلَى الْأَصِيلِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الرُّجُوعِ عَلَى الْكَفِيلِ مَعَهُ .
وَلَوْ أَدَّى جَمِيعَ الْمَالِ ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِهِ عَلَى شَرِيكِهِ فِي الْكَفَالَةِ فَكَذَلِكَ هُنَا .

وَلَوْ كَفَلَ رَجُلَانِ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَأَدَّى أَحَدُهُمَا ثُمَّ أَخَذَ صَاحِبَهُ فِي الْكَفَالَةِ مَعَهُ بِالنِّصْفِ فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى إنْ أَبْرَأَهُ خَاصَّةً مِمَّا بَقِيَ فَهُوَ جَائِزٌ وَاسْتَوْجَبَ الرُّجُوعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ الْمُؤَدَّى وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ لِيَسْتَوِيَ مَعَهُ فِي الْغُرْمِ فَإِذَا اسْتَوْفَى مِنْهُ بَعْضَ ذَلِكَ وَأَبْرَأَهُ عَنْ الْبَاقِي ؛ جَازَ كَمَا لَوْ عَامَلَ الْأَصِيلَ بِمِثْلِ ذَلِكَ .
ثُمَّ بَرَاءَةُ الْكَفِيلِ بِالْإِبْرَاءِ لَا تَكُونُ بَرَاءَةً لِلْأَصِيلِ وَقَدْ كَانَ لِلْمُؤَدِّي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْأَصِيلِ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ فَإِنَّمَا وَصَلَ إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ مِائَةٌ فَيَبْقَى حَقُّهُ فِي الرُّجُوعِ عَلَى الْأَصِيلِ بِتِسْعِمِائَةٍ وَيَثْبُتُ لِلْكَفِيلِ الْآخَرِ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْأَصِيلِ بِمِائَةٍ فَأَيُّهُمَا أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا اقْتَسَمَا الْمَأْخُوذَ اعْتِبَارًا عَلَى قَدْرِ شَرِكَتِهِمَا فِيمَا فِي ذِمَّتِهِ .
لِأَحَدِهِمَا تِسْعَةُ أَعْشَارِهِ ، وَلِلْآخِرِ عُشْرٌ .
وَلَوْ صَالَحَ الْمُؤَدِّي صَاحِبَهُ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ عَلَى عَشَرَةِ دَنَانِيرَ أَوْ كُرِّ حِنْطَةٍ أَوْ عَرَضٍ ؛ جَازَ ذَلِكَ كَمَا يَجُوزُ صُلْحُهُ مَعَ الطَّالِبِ عَنْ الْخَمْسِمِائَةِ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ .
وَيَمْلِكُ الْكَفِيلُ الْآخَرُ خَمْسَمِائَةٍ بِهَذَا الصُّلْحِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَدَّاهَا بِعَيْنِهَا إلَى الْمُؤَدِّي فَيَتْبَعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْأَصِيلَ بِخَمْسِمِائَةٍ وَأَيُّهُمَا أَخَذَ شَيْئًا كَانَ لِصَاحِبِهِ نِصْفُهُ عَلَى حَسَبِ حَقِّهِمَا فِي ذِمَّتِهِ .
وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ طَعَامًا وَبِهِ كَفِيلٌ فَصَالَحَ الْكَفِيلُ الطَّالِبَ مِنْهُ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ ؛ رَجَعَ بِالطَّعَامِ كُلِّهِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ مَا أَدَّاهُ الْكَفِيلُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا عَنْ جَمِيعِ الطَّعَامِ فَيَصِيرُ بِهِ مُتَمَلِّكًا بِجَمِيعِ الطَّعَامِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ بَاعَهُ بِالطَّعَامِ ثَوْبًا ؛ كَانَ بِهِ مُتَمَلِّكًا جَمِيعَ الطَّعَامِ حَتَّى يَرْجِعَ بِهِ عَلَى

الْأَصِيلِ فَهَذَا مِثْلُهُ .

وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَبِهِ كَفِيلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَصَالَحَ أَحَدُ الْكَفِيلَيْنِ صَاحِبَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يُبْرِئَهُ مِنْ حِصَّتِهِ مِنْ الْكَفَالَةِ وَقَبَضَهَا مِنْهُ ثُمَّ إنْ الْكَفِيلُ الَّذِي قَبَضَ الْمِائَةَ أَدَّى الْمَالَ كُلَّهُ إلَى الطَّالِبِ ؛ رَجَعَ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ بِتِسْعِمِائَةٍ وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْكَفِيلِ مَعَهُ بِشَيْءٍ وَيَرْجِعُ الْمُؤَدِّي لِلْمِائَةِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ بِالْمِائَةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ الْأَصِيلِ بِجَمِيعِ الْمَالِ وَعَنْ صَاحِبِهِ بِنِصْفِ الْمَالِ ، صُلْحُ الْكَفِيلِ مَعَ الْأَصِيلِ قَبْلَ أَدَائِهِ إلَى الطَّالِبِ صَحِيحٌ كَمَا يَجُوزُ صُلْحُهُ مَعَ الطَّالِبِ فَإِذَا صَالَحَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ عَلَى مِائَةٍ ؛ فَقَدْ صَارَ مُبْرِئًا لَهُ عَمَّا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ مِمَّا اسْتَوْجَبَ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ وَهُوَ كَانَ كَفِيلًا عَنْ الْأَصِيلِ وَإِبْرَاءُ الْكَفِيلِ لَا يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ فَإِذَا أَدَّى الْقَابِضُ لِلْمِائَةِ جَمِيعَ الْأَلْفِ ؛ فَإِنَّمَا أَدَّى عَنْ الْأَصِيلِ تِسْعَمِائَةٍ فَيَسْتَوْجِبُ الرُّجُوعَ بِهَا عَلَيْهِ وَيَصِيرُ مُؤَدِّيًا عَنْ الْكَفِيلِ مَعَهُ مِقْدَارَ مَا كَفَلَ عَنْهُ وَذَلِكَ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَيَرْجِعُ الْمُؤَدِّي لِلْمِائَةِ عَلَى الْأَصِيلِ بِتِلْكَ الْمِائَةِ ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ كَفِيلِهِ عَنْهُ كَأَدَائِهِ بِنَفْسِهِ .
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَكَذَا وَلَكِنَّ الطَّالِبَ أَخَذَ الْكَفِيلَ الَّذِي أَدَّى الْمِائَةَ وَاسْتَوْفَى مِنْهُ الْأَلْفَ كُلَّهَا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِتِسْعِمِائَةٍ ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ إلَيْهِ الْمِائَةَ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَهَا عَنْهُ إلَى الطَّالِبِ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى أَدَّاهَا بِنَفْسِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْمِائَةِ ، وَقَدْ كَانَ كَفَلَ عَنْهُ خَمْسَمِائَةٍ وَأَدَّاهَا ؛ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْخَمْسِمِائَةِ أَيْضًا .
وَلَوْ كَانَ الْكَفِيلُ صَالَحَ صَاحِبَهُ عَلَى كُرِّ حِنْطَةٍ وَدَفَعَهُ إلَيْهِ عَلَى أَنْ أَبْرَأَهُ مِنْ حِصَّتِهِ مِنْ الْكَفَالَةِ ؛ فَهَذَا

جَائِزٌ فِيمَا بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِالْخَمْسِمِائَةِ وَمَا أَدَّى إلَيْهِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا عَنْ الْخَمْسِمِائَةِ وَيَكُونُ هَذَا التَّصَرُّفُ مِنْهُمَا غَيْرَ جَائِزٍ فِي حَقِّ الطَّالِبِ ؛ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِجَمِيعِ الْمَالِ أَيَّهمَا شَاءَ .
فَإِنْ أَخَذَ الطَّالِبُ الْكَفِيلَ الَّذِي أَدَّى بِالْأَلْفِ فَأَدَّاهَا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِهَا تَامَّةً عَلَى الْكَفِيلِ الَّذِي مَعَهُ وَبِخَمْسِمِائَةٍ مَعَ ذَلِكَ عَلَى الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ إنْ شَاءَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْكَفِيلُ الْقَابِضُ لِلطَّعَامِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الطَّعَامَ ، وَيَرُدَّ عَلَيْهِ خَمْسَمِائَةٍ مَعَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُؤَدِّيَ لِلْأَلْفِ اسْتَوْجَبَ الرُّجُوعَ عَلَى شَرِيكِهِ فِي الْكَفَالَةِ بِنِصْفِ مَا أَدَّى وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ ؛ لِأَنَّهُ تَحَمَّلَ ذَلِكَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ ، وَبِالنِّصْفِ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ إلَيْهِ الطَّعَامَ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ مَا يُقَابِلَهُ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ إلَى الطَّالِبِ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى أَدَّى بِنَفْسِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْخَمْسِمِائَةِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ الْقَابِضَ لِلطَّعَامِ قَبَضَهُ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ عَلَى أَنْ يُبْرِئَ الْمُؤَدِّيَ مِنْ رُجُوعِهِ عَلَيْهِ لَا عَلَى أَنْ يَرْجِعَ الْمُؤَدِّي عَلَيْهِ بِخَمْسِمِائَةٍ .
فَإِذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى ذَلِكَ خُيِّرَ ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الصُّلْحِ عَلَى التَّجَوُّزِ بِدُونِ الْحَقِّ فَإِنْ شَاءَ نَقَضَ الصُّلْحَ وَرَدَّ عَلَيْهِ الطَّعَامَ ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ الطَّعَامَ وَرَدَّ عَلَيْهِ عِوَضَهُ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ ، وَإِنْ شَاءَ الْمُؤَدِّي لِلْأَلْفِ رَجَعَ بِخَمْسِمِائَةٍ عَلَى الْأَصِيلِ ؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهَا عَنْهُ بَعْدَ مَا تَحَمَّلَهَا بِأَمْرِهِ ، وَرَجَعَ بِخَمْسِمِائَةٍ عَلَى الْكَفِيلِ الَّذِي قَبَضَ الطَّعَامَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْكَفِيلُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الطَّعَامَ لِمَا بَيَّنَّا .
( وَحَاصِلُ فِقْهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ) أَنَّ الْخَمْسَمِائَةِ الَّتِي هِيَ عِوَضٌ عَنْ الطَّعَامِ لَا يَسْتَوْجِبُ الْمُؤَدِّي الرُّجُوعَ بِهَا عَلَى الْأَصِيلِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُمَلَّكًا إيَّاهَا مِنْ الْمُؤَدِّي

لِلطَّعَامِ ، فَيَكُونُ رُجُوعُهُ بِذَلِكَ عَلَى الْقَابِضِ لِلطَّعَامِ خَاصَّةً إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْقَابِضُ لِلطَّعَامِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الطَّعَامَ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الْحَطِّ وَالْإِغْمَاضِ وَلَوْ صَالَحَ أَحَدُ الْكَفِيلَيْنِ صَاحِبَهُ عَلَى عَشَرَةِ دَنَانِيرَ وَدَفَعَهَا إلَيْهِ عَلَى أَنْ أَبْرَأَهُ مِنْ حِصَّتِهِ مِنْ الْكَفَالَةِ ثُمَّ إنْ الطَّالِبُ صَالَحَ الْكَفِيلَ الَّذِي قَبَضَ الدَّنَانِيرَ عَلَى تِلْكَ الدَّنَانِيرِ بِأَعْيَانِهَا عَنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَأَدَّاهَا إلَيْهِ ؛ كَانَ جَائِزًا ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الدَّنَانِيرَ وَتَمَّ مِلْكُهُ فِيمَا قَبَضَهُ مِنْ صَاحِبِهِ فَالْتَحَقَ تَعْيِينُهَا مِنْ دَنَانِيرِهِ فِي جَوَازِ الصُّلْحِ مَعَ الطَّالِبِ عَلَيْهَا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ، وَيَكُونُ هَذَا الصُّلْحُ تَمْلِيكًا مِنْهُ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الرِّبَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ ثُمَّ يَكُونُ لِلْكَفِيلِ الَّذِي صَالَحَ الطَّالِبَ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْأَصِيلِ بِخَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَيَرْجِعَ الْكَفِيلُ الْآخَرُ عَلَى الْأَصِيلِ بِخَمْسِمِائَةٍ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الَّذِي صَالَحَ الطَّالِبَ قَدْ يَمْلِكُ جَمِيعَ الْأَلْفِ بِهَذَا الصُّلْحِ ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَدَّى إلَيْهِ جَمِيعَ الْأَلْفِ وَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِخَمْسِمِائَةٍ لَوْلَا صُلْحُهُ مَعَهُ ، وَقَدْ صَحَّ صُلْحُهُ مَعَهُ عَنْ الْخَمْسِمِائَةِ عَلَى الدَّنَانِيرِ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ الصُّلْحُ بَيْنَهُمَا كَأَنَّهُ كَانَ بَعْدَ إذْنِهِ فَيَتَقَرَّرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الرُّجُوعِ عَنْ الْأَصِيلِ بِخَمْسِمِائَةٍ ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الْكَفِيلِ الْمُصَالِحِ الْأَوَّلِ عَنْهُ كَأَدَائِهِ بِنَفْسِهِ .
وَأَيُّهُمَا أَخَذَ شَيْئًا مِنْ الْأَصِيلِ شَارَكَهُ فِيهِ صَاحِبُهُ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ الَّذِي فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا .
وَمَا يَقْبِضُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ دَيْنٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُمَا شَارَكَهُ فِيهِ صَاحِبُهُ .
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَكَذَا وَلَكِنَّ أَحَدَ الْكَفِيلَيْنِ أَدَّى الْمَالَ كُلَّهُ إلَى الطَّالِبِ ثُمَّ صَالَحَ الْكَفِيلَ مَعَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ أَبْرَأَهُ أَوْ عَلَى

عَشَرَةِ دَنَانِيرَ عَلَى أَنْ أَبْرَأَهُ وَقَبَضَ ذَلِكَ ؛ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ بِالْأَدَاءِ اسْتَوْجَبَ الرُّجُوعَ عَلَى شَرِيكِهِ فِي الْكَفَالَةِ بِخَمْسِمِائَةٍ .
وَالصُّلْحُ مِنْ الْخَمْسِمِائَةِ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ عَلَى عَشَرَةِ دَنَانِيرَ جَائِزٌ .
وَهُمَا يَتْبَعَانِ الْأَصِيلَ بِالْأَلْفِ تَامَّةً ؛ لِأَنَّهُمَا صَارَا مُؤَدِّيَيْنِ عَنْهُ جَمِيعَ الْأَلْفِ فَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الدَّنَانِيرِ ؛ فَالْأَلْفُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ؛ لِأَنَّ مُؤَدِّيَ الدَّنَانِيرِ يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا لِلْخَمْسِمِائَةِ بِمَا أَدَّى فَالصُّلْحُ يَصِحُّ بِطَرِيقِ التَّمْلِيكِ إذَا أَمْكَنَ .
وَالْإِمْكَانُ مَوْجُودٌ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ فَيَكُونُ رُجُوعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْأَصِيلِ بِخَمْسِمِائَةٍ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَدَّى صَاحِبُهُ خَمْسَمِائَةٍ ، وَإِنْ جَرَى الصُّلْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ ؛ فَالْأَلْفُ بَيْنَهُمَا عَلَى عَشَرَةِ أَسْهُمٍ ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الصُّلْحِ عَنْهُمَا هُنَا بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ فَإِنَّ مُبَادَلَةَ الْخَمْسِمِائَةِ بِالْمِائَةِ رِبًا فَالْمُؤَدِّي لِلْمِائَةِ لَا يَأْخُذُ إلَّا مِقْدَارَهَا .
وَإِبْرَاءُ مُؤَدِّي الْأَلْفِ صَاحِبَهُ عَمَّا زَادَ عَلَى الْمِائَةِ لَا يَكُونُ إبْرَاءَ الْأَصِيلِ فَيَكُونَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْأَصِيلِ بِتِسْعِمِائَةٍ وَلِلْآخَرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالْمِائَةِ فَإِذَا اقْتَضَاهُ شَيْئًا مِنْهَا يَكُونُ الْمَقْبُوضُ بَيْنَهُمَا عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِمَا اعْتِبَارًا .
وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى عَرَضٍ أَوْ حَيَوَانٍ كَانَ مِثْلَ الصُّلْحِ عَلَى الدَّنَانِيرِ ؛ لِأَنَّ تَصْحِيحَهُ بِطَرِيقِ التَّمْلِيكِ مُمْكِنٌ .
وَالصُّلْحُ قَبْلَ الْأَدَاءِ وَبَعْدَ الْأَدَاءِ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَجِبُ لِلْكَفِيلِ عَنْ الْأَصِيلِ بِالْكَفَالَةِ كَمَا يَجِبُ لِلطَّالِبِ عَلَى الْكَفِيلِ بِعَيْنٍ فِي حَقِّ الْمُطَالَبَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْكَفِيلَ يُطَالِبُ الْأَصِيلَ بِحَسَبِ مَا تَعَامَلَهُ الطَّالِبُ مَعَ الْكَفِيلِ وَيَجُوزُ صُلْحُ الْكَفِيلِ مَعَ الْأَصِيلِ قَبْلَ الْأَدَاءِ وَبَعْدَهُ وَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ طَعَامًا قَرْضًا أَوْ

غَصْبًا فَصَالَحَ أَحَدُ الْكَفِيلَيْنِ صَاحِبَهُ عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ عَلَى أَنْ أَبْرَأَهُ مِنْ خُصُومَتِهِ ؛ فَهُوَ مِثْلُ الْبَابِ الْأَوَّلِ ، لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ تَصْحِيحَ هَذَا الصُّلْحِ بَيْنَهُمَا بِطَرِيقِ الْمُبَادَلَةِ مُمْكِنٌ فَإِنْ أَدَّى الَّذِي قَبَضَ الدَّرَاهِمَ وَالطَّعَامَ كُلَّهُ ؛ كَانَ لَهُمَا أَنْ يَتْبَعَا الْأَصِيلَ بِذَلِكَ نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمُؤَدِّيَ لَلدَّرَاهِمَ كَانَ أَصِيلًا فِي حَقِّ صَاحِبِهِ .
وَأَدَاءُ كَفِيلِهِ كَأَدَائِهِ بِنَفْسِهِ .
وَقَدْ تَمَّ مِلْكُهُ فِي حِصَّتِهِ مِنْ الطَّعَامِ بِمَا أَدَّى مِنْ الدَّرَاهِمِ إلَى صَاحِبِهِ فَيَرْجِعُ عَلَى الْأَصِيلِ بِذَلِكَ وَالْمُؤَدِّي لِلطَّعَامِ كَفِيلٌ عَنْ الْأَصِيلِ بِالطَّعَامِ وَقَدْ أَدَّى فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ عِوَضُهُ مِنْ صَاحِبِهِ وَذَلِكَ نِصْفُ الطَّعَامِ فَلِهَذَا رَجَعْنَا عَلَيْهِ بِالطَّعَامِ نِصْفَيْنِ ، وَإِنْ أَدَّى الطَّعَامَ الَّذِي دَفَعَ الدَّرَاهِمَ اتَّبَعَ صَاحِبَ الْأَصْلِ بِالْجَمِيعِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ كَفِيلًا عَنْهُ بِجَمِيعِ الطَّعَامِ وَقَدْ أَدَّى فَيَرْجِعُ عَلَى الْكَفِيلِ الَّذِي قَبَضَ الدَّرَاهِمَ بِنِصْفِ مَا أَدَّى الطَّعَامَ ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ إلَيْهِ الدَّرَاهِمَ عِوَضًا عَنْ نِصْفِ الطَّعَامِ الَّذِي كَانَ كَفَلَ بِهِ عَنْهُ لِيُؤَدِّيَهُ إلَى الطَّالِبِ وَلَمْ يَفْعَلْ فَيَرْجِعَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْقَابِضُ لِلدَّرَاهِمِ أَنْ يَرُدَّ الدَّرَاهِمَ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهَا بِطَرِيقِ الصُّلْحِ وَمَبْنَى الصُّلْحِ عَلَى التَّجَوُّزِ بِدُونِ الْحَقِّ فَإِذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى أَنْ يُلْزِمَهُ رَدَّ نِصْفِ الطَّعَامِ وَيُكْمِلَهُ عَلَيْهِ ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَلْتَزِمَ هَذَا الضَّرَرَ وَيَرُدَّ عَلَيْهِ الْمَقْبُوضَ مِنْ الدَّرَاهِمِ إنْ شَاءَ ، وَإِنْ شَاءَ الْكَفِيلُ الَّذِي أَدَّى الطَّعَامَ اتَّبَعَ صَاحِبَهُ فِي الْكَفَالَةِ بِجَمِيعِ الطَّعَامِ لِيُؤَدِّيَهُ عَنْهُ إلَى الطَّالِبِ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى أَدَّى بِنَفْسِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ أَيْضًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْقَابِضُ لِلطَّعَامِ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ دَرَاهِمَهُ مَكَانَ نِصْفِ الطَّعَامِ

فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ ذَلِكَ فَيَدْفَعُ إلَيْهِ دَرَاهِمَهُ مَعَ نِصْفِ الطَّعَامِ فَالْمَقْبُوضُ مِنْهُ يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ حَقَّيْهِمَا .

وَإِنْ كَانَا كَفِيلَيْنِ عَنْ رَجُلٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبهِ بِهَا ثُمَّ إنْ أَحَدُ الْكَفِيلَيْنِ صَالَحَ الْآخَرَ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ عَلَى أَنْ أَبْرَأَهُ ثُمَّ صَالَحَ الطَّالِبُ الَّذِي قَبَضَ الْعَشَرَةَ عَلَى خَمْسَةِ دَرَاهِمَ وَأَدَّاهَا إلَيْهِ فَإِنَّهُ يَرُدُّ تِسْعَةً وَنِصْفًا عَلَى الْكَفِيلِ الَّذِي مَعَهُ ثُمَّ يَرْجِعَانِ جَمِيعًا عَلَى الْأَصِيلِ بِخَمْسَةٍ ؛ لِأَنَّ الْمُؤَدِّيَ لِلْعَشَرَةِ إنَّمَا أَدَّاهَا إلَى صَاحِبِهَا عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ الْعَشَرَةَ وَهُوَ مَا أَدَّى إلَى الطَّالِبِ مِمَّا كَفَلَ عَنْهُ إلَّا دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفًا ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى إلَيْهِ خَمْسَةً - وَهِيَ شَائِعَةٌ فِي النِّصْفَيْنِ - نِصْفَ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ فِيهِ مُتَحَمِّلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ أَدَّى إلَى الطَّالِبِ مِمَّا تَحَمَّلَ عَنْ صَاحِبِهِ دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفًا .
وَصَاحِبُهُ إنَّمَا بَرِئَ مِمَّا بَقِيَ بِإِبْرَاءِ الطَّالِبِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ يَتَعَدَّدُ تَصْحِيحُ الصُّلْحِ بِطَرِيقِ الْمُبَادَلَةِ فَلِهَذَا رَجَعَ الْمُؤَدِّي لِلْعَشَرَةِ عَلَى صَاحِبِهِ بِسَبْعَةٍ وَنِصْفٍ .
ثُمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُؤَدِّي عَنْ الْأَصِيلِ دِرْهَمَيْنِ وَنِصْفًا حُكْمًا فَيَرْجِعَانِ عَلَيْهِ بِالْخَمْسَةِ كَذَلِكَ .
وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَكَذَا ، وَلَكِنَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ صَالَحَ أَحَدَ الْكَفِيلَيْنِ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَدَفَعَهَا إلَيْهِ ؛ فَهُوَ جَائِزٌ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ لِمَا وَرَاءَ الْعَشَرَةِ مِمَّا اسْتَوْجَبَ الرُّجُوعَ بِهِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْأَدَاءِ .
فَإِنْ أَدَّى الْكَفِيلُ الَّذِي أَخَذَ الْعَشَرَةَ إلَى الطَّالِبِ الْمِائَةَ دِرْهَمٍ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْأَصِيلِ وَلَا عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ ، وَقَدْ صَالَحَ الْأَصِيلَ عَلَى مَا أَخَذَ مِنْهُ مِنْ الْعَشَرَةِ وَصَارَ مُبَرِّئًا لَهُ عَمَّا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ عِنْدَ الْأَدَاءِ .
وَالْكَفِيلُ مَعَهُ إنَّمَا اسْتَفَادَ الْبَرَاءَةَ بِبَرَاءَةِ الْأَصِيلِ لَا بِأَدَائِهِ ؛ لِأَنَّ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ تَكُونُ تَتَضَمَّنُ بَرَاءَةَ

الْكَفِيلِ .
وَلَوْ أَدَّى الْكَفِيلُ الْآخَرُ الْمِائَةَ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْكَفِيلِ الَّذِي مَعَهُ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا وَعَلَى الْأَصِيلِ بِمِثْلِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُؤَدِّيًا عَنْ الْكَفِيلِ الَّذِي مَعَهُ مِقْدَارَ الْخَمْسِينَ .
وَلَوْ لَمْ يَجْرِ بَيْنَ الْكَفِيلِ الْآخَرِ وَبَيْنَ الْأَصِيلِ صُلْحٌ ؛ كَانَ لِهَذَا الْمُؤَدِّي أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْكَفِيلِ الْآخَرِ بِمَا أَدَّى عَنْهُ بِالْكَفَالَةِ وَهُوَ مِقْدَارُ الْخَمْسِينَ فَبَعْدَ صُلْحِهِ أَوْلَى وَقَدْ كَانَ كَفِيلًا عَنْ الْأَصِيلِ بِالْخَمْسِينَ الْأُخْرَى وَأَدَّاهَا عَنْهُ ثُمَّ يَرْجِعُ الْأَصِيلُ عَلَى الْكَفِيلِ الَّذِي صَالَحَهُ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ صَالَحَهُ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَنِصْفِ ذَلِكَ مِمَّا كَانَ هُوَ الَّذِي كَفَلَ بِهِ عَنْهُ وَنِصْفِهِ مِمَّا كَفَلَ بِهِ صَاحِبُهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُؤَدِّي عَنْهُ .
فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ تِلْكَ الْعَشَرَةِ وَهُوَ خَمْسَةٌ وَتَسْلِيمُ الْخَمْسَةِ الْأُخْرَى لِلْمُصَالِحِ ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ الْآخَرَ لَمَّا رَجَعَ عَلَيْهِ بِخَمْسِينَ ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ عَلَى الْأَصِيلِ لَوْلَا صُلْحُهُ مَعَهُ عَلَى هَذِهِ الْخَمْسَةِ وَإِبْرَاؤُهُ إيَّاهُ عَمَّا زَادَ عَلَيْهَا إلَى تَمَامِ الْخَمْسِينَ وَلَوْ صَالَحَ الْأَصِيلُ الْكَفِيلَيْنِ جَمِيعًا عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ مِنْ جَمِيعِ الْكَفَالَةِ فَهُوَ جَائِزٌ .
وَأَيُّهُمَا أَدَّى بِالْكَفَالَةِ الْمِائَةَ إلَى الطَّالِبِ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْأَصِيلِ بِشَيْءٍ إلَّا بِخَمْسَةٍ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالصُّلْحِ قَدْ أَبْرَأَهُ عَمَّا زَادَ عَلَى الْخَمْسَةِ إلَى تَمَامِ مَا كَفَلَ عَنْهُ ، وَلَوْ أَبْرَأهُ عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ الْأَدَاءِ سَقَطَ حَقُّهُ فِي الرُّجُوعِ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ قَبْلَ الْأَدَاءِ ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِالْخَمْسَةِ الَّتِي قَبَضَهَا مِنْ الْأَصِيلِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ قَبْضُ تِلْكَ الْخَمْسَةِ لِيُؤَدِّيَ إلَى الطَّالِبِ مَا تَحَمَّلَ عَنْ الْأَصِيلِ وَلَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا ، وَإِنَّمَا أَدَّاهُ الْآخَرُ فَيَكُونُ هُوَ

أَحَقَّ بِتِلْكَ الْخَمْسَةِ ، يَقْبِضُهَا مِنْهُ وَلَا يَتْبَعَانِ بِشَيْءٍ لِمَا بَيَّنَّا أَوْ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : لَا يَرْجِعُ الْمُؤَدِّي عَلَى الْأَصِيلِ إلَّا بِخَمْسَةٍ سِوَى الْخَمْسَةِ الَّتِي قَبَضَهَا صَاحِبُهُ فِي الْكَفَالَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُؤَدِّيَ أَدَّى تِلْكَ الْخَمْسَةَ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ عَنْ الْأَصِيلِ وَهُوَ مَا أَبْرَأَهُ مِنْهَا فَيَرْجِعُ بِهَا عَلَى الْأَصِيلِ إنْ شَاءَ ثُمَّ يَرْجِعُ بِهَا الْأَصِيلُ عَلَى الْقَابِضِ مِنْهُ ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ بِهَا عَلَى صَاحِبِهِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ وَاحِدٌ مِنْ الْكَفِيلَيْنِ الْمَالَ وَلَكِنْ أَدَّى الْأَصِيلُ ؛ رَجَعَ عَلَى الْكَفِيلَيْنِ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ بِعَيْنِهَا ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوْفَيَا الْعَشَرَةَ مِنْهُ لِيُؤَدِّيَا عَنْهُ مَا تَحَمَّلَا مِنْ الدَّيْنِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ حِينَ أَدَّى هُوَ الْمَالَ بِنَفْسِهِ ؛ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِمَا بِتِلْكَ الْعَشَرَةِ وَلَا يَرْجِعُ بِمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ عَلَيْهِمَا بِحُكْمِ اسْتِيفَائِهِمَا مِنْهُ لَا بِحُكْمِ إسْقَاطِهِمَا عَنْهُ .
وَلَوْ صَالَحَهُمَا عَلَى ثَوْبٍ وَدَفَعَهُ إلَيْهِمَا ثُمَّ إنَّهُ أَدَّى الْمِائَةَ إلَى الطَّالِبِ ؛ رَجَعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَبْضِ نِصْفِ الثَّوْبِ مِنْهُ فِي حُكْمِ الْمُسْتَوْفِي الْخَمْسِينَ بِطَرِيقِ الْمُبَادَلَةِ وَإِنَّمَا اسْتَوْفَى عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ حَقَّ الطَّالِبِ .
فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ وَلَكِنْ أَدَّاهَا صَاحِبَهُ وَقَدْ كَانَ كَفِيلًا عَنْهُ بِهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِتِلْكَ الْخَمْسِينَ عَلَيْهِ وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْأَصِيلِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَحَمَّلُ تِلْكَ الْخَمْسِينَ عَنْ الْأَصِيلِ وَقَدْ أَدَّاهَا فَإِنْ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْأَصِيلِ رَجَعَ بِهَا الْأَصِيلُ عَلَى الْكَفِيلِ الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ الْكَفِيلُ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ نِصْفَ الثَّوْبِ الَّذِي صَالَحَهُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَاهَا عَنْهُ لِيُؤَدِّيَهَا عَنْهُ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى أَدَّى هُوَ بِنَفْسِهِ إلَى الْكَفِيلِ الْمُؤَدِّي عَنْهُ ؛ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَدَائِهِ إلَى الطَّالِبِ

فَيَرْجِعُ بِهَا عَلَى الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا إذْ الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا صَارَ مُسْتَوْفِيًا بِطَرِيقِ التَّجَوُّزِ بِدُونِ الْحَقِّ فَيَتَخَيَّرُ لِذَلِكَ .
وَلَوْ لَمْ يُؤَدِّ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَلَكِنَّهُ أَدَّى عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَصَالَحَهُ عَلَيْهَا الطَّالِبُ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ فِي الْكَفَالَةِ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ وَلَكِنَّ الْأَصِيلَ يَرْجِعُ عَلَى الْكَفِيلِ الْمُؤَدِّي لِلْعَشَرَةِ إلَى الطَّالِبِ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَعَلَى الْكَفِيلِ الْآخَرِ بِخَمْسِينَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقَبْضِ نِصْفِ الثَّوْبِ مِنْهُ صَارَ قَابِضًا لِلْخَمْسِينَ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ ذَلِكَ إلَى الطَّالِبِ وَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ الَّذِي لَمْ يُؤَدِّ إلَى الطَّالِبِ شَيْئًا وَإِنَّمَا بَرِئَ هُوَ عَنْ تِلْكَ الْخَمْسِينَ بِإِبْرَاءِ الطَّالِبِ إيَّاهُ ، فَكَانَ لِلْأَصِيلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْخَمْسِينَ إلَّا أَنْ يَشَاءَ هُوَ رَدَّ نِصْفِ الثَّوْبِ عَلَيْهِ .
وَالْمُؤَدِّي لِلْعَشَرَةِ كَانَ فِي حُكْمِ الْقَابِضِ لِلْخَمْسِينَ مِنْهُ أَيْضًا عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ ذَلِكَ عَنْهُ وَإِنَّمَا أَدَّى إلَيْهِ عَشَرَةً فَمَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ إنَّمَا بَرِئَ الْأَصِيلُ عَنْهُ بِإِبْرَاءِ الطَّالِبِ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُؤَدِّي لِلْعَشَرَةِ بِقَدْرِ الْأَرْبَعِينَ لِذَلِكَ .
وَلَا رُجُوعَ لِلْمُؤَدِّي لِلْعَشَرَةِ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِ الْعَشَرَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى مِنْ الْأَصِيلِ هَذِهِ الْعَشَرَةَ وَزِيَادَةً فَكَيْفَ يَرْجِعُ بِشَيْءٍ مِنْهَا عَلَى شَرِيكِهِ ؟ وَلَوْ لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا وَلَكِنَّ الْأَصِيلَ صَالَحَ الطَّالِبَ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَفِيلَيْنِ بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ رَدَّ الثَّوْبِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حُكْمِ الْمُسْتَوْفِي لِلْخَمْسِينَ مِنْهُ وَلَكِنْ بِطَرِيقِ التَّجَوُّزِ بِدُونِ الْحَقِّ .
وَلَوْ كَانَ الْأَصِيلُ صَالَحَ الْكَفِيلَيْنِ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَكَانَ أَحَدُ الْكَفِيلَيْنِ صَالَحَ الطَّالِبَ عَلَى أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى

صَاحِبِ الدِّرْهَمَيْنِ اللَّذَيْنِ أَدَّى عَنْهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ قَبَضَ ذَلِكَ مِنْ الْأَصِيلِ وَزِيَادَةً وَلَكِنْ يَرُدُّ دِرْهَمًا عَلَى الْأَصِيلِ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ مِنْ الْأَصِيلِ خَمْسَةً وَمَا أَدَّى عَنْهُ إلَى الطَّالِبِ إلَّا أَرْبَعَةً فَإِنَّمَا بَرِئَ عَمَّا زَادَ عَلَى الْأَرْبَعَةِ بِإِبْرَاءِ الطَّالِبِ وَيَرُدُّ صَاحِبُهُ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ عَلَى الْأَصِيلِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ اسْتَوْفَى مِنْ الْأَصِيلِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ ، وَلَمْ يُؤَدِّ عَنْهُ شَيْئًا وَإِنَّمَا بَرِئَ هُوَ مِنْ حِصَّةِ صَاحِبِهِ بِإِبْرَاءِ الطَّالِبِ وَلَوْ كَانَ الْأَصِيلُ صَالَحَهُمَا عَلَى ثَوْبٍ ثُمَّ إنْ أَحَدُهُمَا صَالَحَ الطَّالِبَ عَلَى دَرَاهِمَ عَلَى أَنْ أَبْرَأَهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ؛ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى شَرِيكِهِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَدَّى إلَى الطَّالِبِ دِرْهَمًا ، وَقَدْ صَارَ مُسْتَوْفِيًا مِنْ الْأَصِيلِ مِقْدَارَ الْخَمْسِينَ بِالصُّلْحِ عَلَى الثَّوْبِ فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِشَيْءٍ وَلَكِنَّ الْمُصَالِحَ مَعَ الطَّالِبِ يَرُدُّ عَلَى الْأَصِيلِ تِسْعَةً وَأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا ، وَصَاحِبُهُ يَرُدُّ عَلَى الْأَصِيلِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَارَ مُسْتَوْفِيًا لِلْخَمْسِينَ دِرْهَمًا مِنْ الْأَصِيلِ عَلَى أَنْ يَسْتَفِيدَ الْأَصِيلُ الْبَرَاءَةَ مِنْ حَقِّ الطَّالِبِ بِأَدَائِهِمَا وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ ، فَاَلَّذِي صَالَحَ الطَّالِبَ عَلَى الدَّرَاهِمِ إنَّمَا أَدَّى عَنْهُ الدَّرَاهِمَ فَقَطْ فَيَرُدُّ عَلَيْهِ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ الْخَمْسِينَ وَالْآخَرُ لَمْ يُؤَدِّ عَنْهُ شَيْئًا إلَى الطَّالِبِ فَيَرُدُّ عَلَيْهِ مَا صَارَ مُسْتَوْفِيًا مِنْهُ وَذَلِكَ خَمْسُونَ دِرْهَمًا .

وَإِذَا كَفَلَ رَجُلٌ بِمَالٍ مُؤَجَّلٍ ثُمَّ فَاوَضَ رَجُلًا ، ثُمَّ حَلَّ الْأَجَلُ ؛ لَمْ يَلْزَمْ شَرِيكَهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ .
أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَلِأَنَّ عَقْدَ الْمُفَاوَضَةِ لَا يُوجِبُ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا فِي ضَمَانِ الْكَفَالَةِ أَنْ لَوْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ بَعْدَ الشَّرِكَةِ ، فَإِذَا كَانَتْ قَبْلَهَا أَوْلَى .
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ يَكُونُ كَفِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ فِيمَا يَجِبُ عَلَى صَاحِبِهِ بِسَبَبٍ يُبَاشِرُهُ بَعْدَ الشَّرِكَةِ وَهَذَا الْمَالُ إنَّمَا لَزِمَهُ بِسَبَبٍ بَاشَرَهُ قَبْلَ الشَّرِكَةِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْكَفَالَةِ لَا بِحُلُولِ الْأَجَلِ .
وَالْأَجَلُ الَّذِي كَانَ مَانِعًا مِنْ الْمُطَالَبَةِ يَرْتَفِعُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ فَيَبْقَى الْمَالُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْكَفَالَةِ وَقَدْ كَانَ قَبْلَ الشَّرِكَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ ثُمَّ فَاوَضَ رَجُلًا .
وَلَوْ كَفَلَ بِالْمَالِ مُؤَجَّلًا وَهُوَ مُعَاوَضَةٌ ثُمَّ فَارَقَهُ أَوْ صَارَ شَرِيكَهُ فَإِنَّهُ يُلْزِمُ شَرِيكَهُ جَمِيعَ الْكَفَالَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ؛ لِأَنَّ الْمَالَ إنَّمَا لَزِمَهُ بِسَبَبٍ بَاشَرَهُ فِي حَالِ قِيَامِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا وَإِنَّمَا كَانَ زَوَالُ الْمَانِعِ بَعْدَ انْقِطَاعِ الشَّرِكَةِ وَكَمَا وَجَبَ الْمَالُ بِمُبَاشَرَةِ السَّبَبِ عَلَى الَّذِي بَاشَرَهُ وَجَبَ عَلَى الْآخَرِ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ عَنْهُ ؛ فَيَفْسَخُ الشَّرِكَةَ وَانْفِسَاخُهَا بِالْمَوْتِ لَا يُسْقِطُ عَنْهُ مَا كَانَ لَزِمَهُ كَمَا لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ ثُمَّ تَفَاسَخَا الشَّرِكَةِ فَإِنْ أَدَّاهَا الشَّرِيكُ قَبْلَ الْفُرْقَةِ أَوْ بَعْدَهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الَّذِي أَمَرَ شَرِيكَهُ بِالْكَفَالَةِ ؛ لِأَنَّهُ كَمَا قَامَ مَقَامَ الشَّرِيكِ فِي وُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ وَالْأَدَاءِ إلَى الطَّالِبِ فَكَذَلِكَ فِي الرُّجُوعِ عَلَى الْأَصِيلِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ بِالْكَفَالَةِ كَمَا وَجَبَ الْمَالُ لِلطَّالِبِ عَلَى كُلِّ

وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ وَجَبَ أَيْضًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْأَصِيلِ الَّذِي أَمَرَ أَحَدَهُمَا بِالْكَفَالَةِ ؛ لِأَنَّ أَمْرَهُ أَحَدَهُمَا كَأَمْرِهِ إيَّاهُمَا فَإِنَّهُمَا بِعَقْدِ الْمُفَاوَضَةِ صَارَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَدَّاهُ بَعْدَ مَوْتِ الْكَفِيلِ ؛ لِأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِالْمَالِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَأَنْ مَاتَ قَبْلَهُ فَإِنْ مَاتَ الْمُفَاوِضُ الَّذِي لَمْ يَكْفُلْ قَبْلَ حِلِّ الْأَجَلِ ؛ فَالْمَالُ يَحِلُّ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَا يَحِلُّ عَلَى الْحَيِّ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ كَانَ ثَابِتًا فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنَّ الْمَيِّتَ اسْتَغْنَى عَنْ الْأَصِيلِ بِمَوْتِهِ وَالْحَيُّ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ .
وَالْمَيِّتُ لَا يَنْتَفِعُ بِبَقَاءِ الْأَجَلِ بَلْ يَتَضَرَّرُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْوَارِثِ لَا تَنْبَسِطُ فِي التَّرِكَةِ وَالْحَيُّ يَنْتَفِعُ بِالْأَجَلِ فَيَبْقَى الْأَجَلُ فِي حَقِّ الْحَيِّ مِنْهُمَا دُونَ الْمَيِّتِ .
وَحُلُولُ الْمَالِ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْهُمَا بَعْدَ الْمَوْتِ لَا يُوجِبُ حُلُولَهُ عَلَى الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ قَدْ انْقَطَعَتْ بِمَوْتِهِ .
فَأَمَّا فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ وَالْمُضَارَبَةِ إذَا كَفَلَ أَحَدُهُمَا بِمَالٍ أَوْ نَفْسٍ لَمْ يَلْزَمْ شَرِيكَهُ مِنْهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ فِي التِّجَارَةِ دُونَ الْكَفَالَةِ فَالدَّيْنُ الَّذِي يَجِبُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِمُبَاشَرَةِ سَبَبِهِ يَكُونُ الْآخَرُ كَالْأَجْنَبِيِّ فِيهِ فَلَا يُطَالَبُ بِشَيْءٍ مِنْهُ .

وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ حِنْطَةُ سَلَمٍ وَبِهِ كَفِيلٌ فَأَدَّاهُ الْكَفِيلُ ثُمَّ صَالَحَ الْمَكْفُولَ عَنْهُ عَلَى دَرَاهِمَ أَوْ عَرَضٍ أَوْ مَكِيلٍ أَوْ مَوْزُونٍ يَدًا بِيَدٍ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ مَا يَرْجِعُ بِهِ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ لَيْسَ بِسَلَمٍ فَإِنَّ السَّلَمَ اسْمٌ لِمَا يَجِبُ بِعَقْدِ السَّلَمِ وَهَذَا إنَّمَا يَجِبُ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ وَهُوَ عَقْدٌ آخَرُ سِوَى السَّلَمِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ كَفَلَ بِبَدَلِ الصَّرْفِ أَوْ بِرَأْسِ مَالِ السَّلَمِ وَأَدَّاهُ فِي الْمَجْلِسِ ثُمَّ فَارَقَ الْأَصِيلَ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَيْهِ جَازَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَا يَرْجِعُ بِهِ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ بِمَنْزِلَةِ بَدَلِ الْقَرْضِ فَإِنَّ الْكَفِيلَ يَصِيرُ مُقْرِضًا ذِمَّتَهُ مِنْ الْأَصِيلِ بِالِالْتِزَامِ لِلْمُطَالَبَةِ بِالْكَفَالَةِ ثُمَّ يَصِيرُ مُقْرِضًا مَالَهُ مِنْهُ بِالْأَدَاءِ عَنْهُ فَمَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ يَكُونُ بَدَلَ الْقَرْضِ .
وَالِاسْتِبْدَالُ بِبَدَلِ الْقَرْضِ صَحِيحٌ .
وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ نَسِيئَةً لَمْ يَجُزْ إلَّا الطَّعَامُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ دَيْنًا بِدِينٍ فَأَمَّا إذَا صَالَحَهُ بِكُرٍّ مِنْ حِنْطَةٍ إلَى أَجَلٍ ؛ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا مُبَادَلَةَ هُنَا بَلْ هُوَ تَأْجِيلٌ فِي عَيْنِ مَا اسْتَوْجَبَ الرُّجُوعَ بِهِ عَلَيْهِ .
فَإِنْ قِيلَ : فَأَيْنَ ذَهَبَ قَوْلُكُمْ : إنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَرْضِ وَالْأَجَلُ فِي الْقَرْضِ لَا يَلْزَمُ .
قُلْنَا : هُوَ فِي حُكْمِ الْقَرْضِ وَأَمَّا فِي الْحَقِيقَةِ فَلَيْسَ بِقَرْضٍ بَلْ هُوَ وَاجِبٌ بِعَقْدٍ مَآلًا ، وَهُوَ الْكَفَالَةُ وَالْأَجَلُ فِي الْقَرْضِ إنَّمَا لَمْ يَلْزَمْ بِمَنْزِلَةِ الْإِعَارَةِ ، وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيمَا وَجَبَ بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ فَلِهَذَا صَحَّ تَأْجِيلُهُ فِيهِ وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى شَيْءٍ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ كَانَ جَائِزًا ؛ لِأَنَّهُ بِنَفْسِ الْكَفَالَةِ وَجَبَ الدَّيْنُ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ كَمَا وَجَبَ لِلطَّالِبِ عَلَى الْكَفِيلِ وَلَكِنَّهُ مُؤَجَّلٌ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ .
وَالصُّلْحُ عَنْ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ قَبْلَ

حُلُولِ الْأَجَلِ صَحِيحٌ .
فَإِنْ أَدَّى الْأَصِيلُ الطَّعَامَ إلَى الطَّالِبِ رَجَعَ عَلَى الْكَفِيلِ بِطَعَامٍ مِثْلِهِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ( مَا خَلَا خَصْلَةً وَاحِدَةً ) وَهِيَ مَا إذَا كَانَ صَالَحَهُ عَلَى طَعَامٍ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ إلَّا بِمِثْلِ مَا أَعْطَاهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا كَانَ مِنْهُ إسْقَاطًا لِبَعْضِ حَقِّهِ وَاسْتِيفَاءً لِلْبَعْضِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ إلَّا بِقَدْرِ مَا أَوْفَاهُ وَفِيمَا سِوَاهُ كَانَ الصُّلْحُ بَيْنَهُمَا مُبَادَلَةً وَكَانَ الْكَفِيلُ كَالْمُسْتَوْفِي مِنْهُ جَمِيعَ الطَّعَامِ بِمَا أَخَذَهُ مِنْ عِوَضِهِ وَإِنَّمَا اسْتَوْفَى ذَلِكَ لِيَقْضِيَ عَنْهُ مَا عَلَيْهِ لِلطَّالِبِ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ كَانَ لِلْأَصِيلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا اسْتَوْفَى مِنْهُ كَمَا إذَا أَوْفَاهُ الطَّعَامَ حَقِيقَةً .
وَلَوْ أَخَذَ الْكَفِيلُ الطَّعَامَ مِنْ الْأَصِيلِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَهُ ثُمَّ أَدَّاهُ ؛ كَانَ التَّأْجِيلُ صَحِيحًا ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْجَبَ الْمَالَ عَلَيْهِ بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ قَبْلَ الْأَدَاءِ .
وَالتَّأْجِيلُ فِي الدَّيْنِ بَعْدَ وُجُوبِهِ صَحِيحٌ .
وَلَوْ صَالَحَ الْكَفِيلُ الْأَصِيلَ عَلَى دَرَاهِمَ ثُمَّ افْتَرَقَا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْجَبَ عَلَيْهِ الطَّعَامَ دَيْنًا ، فَإِذَا صَالَحَهُ عَلَى دَرَاهِمَ كَانَ دَيْنًا بِدِينٍ فَلَا يَكُونُ عَفْوًا بَعْدَ الْمَجْلِسِ .
وَالدَّرَاهِمُ لَا تَتَعَيَّنُ بِالتَّعْيِينِ مَا لَمْ تُقْبَضْ ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى شَيْءٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ مَا خَلَا الطَّعَامَ فَإِنَّهُ إنْ صَالَحَهُ عَلَى نِصْفِ كُرِّ حِنْطَةٍ إلَى أَجَلٍ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا مُبَادَلَةَ بَيْنَهُمَا فِي هَذَا الصُّلْحِ ، وَإِنَّمَا حَطَّ عَنْهُ نِصْفَ كُرٍّ وَأَجَلُهُ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ وَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الْكَفَالَةِ وَالْحَوَالَةِ إلَى أَجَلٍ ( قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ) وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ مِائَةُ دِرْهَمٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَضَمِنَهَا رَجُلٌ عَنْهُ إلَى أَجَلٍ دُونَ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ مِثْلِهِ ؛ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا سُمِّيَ أَمَّا إذَا لَمْ يُسَمِّ الْكَفِيلُ شَيْئًا ؛ فَالْمَالُ عَلَيْهِ إلَى ذَلِكَ الْأَجَلِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْكَفَالَةِ إنَّمَا يَلْتَزِمُ الْمُطَالَبَةَ الَّتِي هِيَ ثَابِتَةٌ عَلَى الْأَصِيلِ .
وَالْمُطَالَبَةُ بِهَذَا الْمَالِ عَلَى الْأَصِيلِ بَعْدَ حِلِّ الْأَجَلِ ، فَيَثْبُتُ ذَلِكَ عَلَى ذَلِكَ الْكَفِيلِ أَيْضًا .
وَأَمَّا إذَا كَفَلَ بِهِ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَقَدْ صَرَّحَ بِمَا هُوَ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْكَفَالَةِ ، وَالتَّصْرِيحُ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ لَا يَزِيدُهُ إلَّا وِكَادَةً أَمَّا إذَا كَفَلَ بِهِ إلَى أَجَلٍ دُونَ ذَلِكَ فَلِأَنَّهُ لَوْ كَفَلَ بِهِ حَالًّا لَزِمَهُ الْمَالُ فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّ الْأَصِيلَ لَوْ أَسْقَطَ الْأَجَلَ لَزِمَهُ الْمَالُ فِي الْحَالِ فَكَذَلِكَ الْكَفِيلُ وَكَفَالَتُهُ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَهُ حَالًّا بِمَنْزِلَةِ إسْقَاطِ الْأَجَلِ فَإِذَا جَازَ فِي جَمِيعِ الْأَجَلِ ؛ جَازَ فِي بَعْضِهِ ، وَإِنْ كَفَلَ بِهِ إلَى أَجَلٍ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَالُ حَالًّا عَلَى الْأَصِيلِ فَكَفَلَ بِهِ الْكَفِيلُ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ؛ صَحَّ وَلَمْ يُطَالِبْ الْكَفِيلُ إلَّا بَعْدَ حِلِّ الْأَجَلِ فَكَذَلِكَ إذَا كَفَلَ بِهِ إلَى أَجَلٍ أَكْثَرَ مِنْ الْأَجَلِ فِي حَقِّ الْأَصِيلِ ، فَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْمَالِ حَالًّا فَأَخَذَ الطَّالِبُ الْمَطْلُوبَ حَتَّى أَقَامَ لَهُ بِهِ كَفِيلًا إلَى سَنَةٍ ؛ فَهُوَ جَائِزٌ وَالتَّأْخِيرُ عَنْهُمَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ التَّأْجِيلَ إلَى أَصْلِ الْمَالِ وَأَصْلُ الْمَالِ ثَابِتٌ فِي ذِمَّةِ الْمَطْلُوبِ فَيَثْبُتُ الْأَجَلُ فِيهِ ثُمَّ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ بِثُبُوتِهِ فِي حَقِّ الْأَصِيلِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَجَّلَ الْكَفِيلَ سَنَةً ؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ هُنَا غَيْرُ مُضَافٍ إلَى أَصْلِ الْمَالِ بَلْ هُوَ مُضَافٌ إلَى الْمُطَالَبَةِ الَّتِي الْتَزَمَهَا الْكَفِيلُ بِالْكَفَالَةِ

فَيَبْقَى أَصْلُ الْمَالِ حَالًّا عَلَى الْأَصِيلِ .
وَلَوْ أَنَّ الْكَفِيلَ أَخَّرَ الْمَطْلُوبَ بَعْدَ الْحِلِّ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى كَانَ التَّأْخِيرُ عَنْ الْمَطْلُوبِ لِلْكَفِيلِ دُونَ الطَّالِبِ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ التَّأْخِيرَ إلَى مَا اسْتَوْجَبَهُ عَلَى الْأَصِيلِ بِالْكَفَالَةِ وَذَلِكَ فِي حُكْمِ دَيْنٍ آخَرَ سِوَى دَيْنِ الطَّالِبِ وَلِأَنَّ التَّأْخِيرَ تَصَرُّفٌ مِنْ الْكَفِيلِ بِإِسْقَاطِ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ إلَى مُدَّةٍ وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ دُونَ الطَّالِبِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى ثَوْبٍ أَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ بَعْضِهِ جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِ دُونَ الطَّالِبِ وَلَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ حَتَّى يَمْضِيَ الْأَجَلُ كَمَا لَوْ أَجَّلَهُ بَعْدَ الْأَدَاءِ ، وَلَوْ أَجَّلَ الْمَالَ عَلَيْهِمَا ثُمَّ أَخَّرَ الطَّالِبُ الْأَصِيلَ سَنَةً فَهُوَ تَأْخِيرٌ عَنْهُمَا وَلَوْ أَخَّرَ الْكَفِيلَ سَنَةً كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْأَصِيلَ بِهَا حَالَّةً اعْتِبَارًا لِلتَّأْجِيلِ بِالْإِبْرَاءِ فَكَمَا أَنَّ إبْرَاءَ الْكَفِيلِ لَا يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ .
وَإِبْرَاءَ الْأَصِيلِ يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ فَكَذَلِكَ التَّأْخِيرُ وَبَعْدَ مَا أُخِّرَ الْأَصِيلُ إذَا أَدَّى الْكَفِيلُ الْمَالَ قَبْلَ الْأَجَلِ ؛ لِأَنَّ إسْقَاطَ الْكَفِيلِ الْأَجَلَ صَحِيحٌ مِنْهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّالِبِ ، وَدَعْوَاهُ غَيْرُ صَحِيحَةٍ مِنْهُ فِي حَقِّ الْمَطْلُوبِ ، وَإِنْ كَانَ أَخَّرَ الْكَفِيلَ سَنَةً ثُمَّ أَدَّاهُ الْكَفِيلُ قَبْلَ الْأَجَلِ ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْأَصِيلِ فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ حَالٌّ عَلَى الْأَصِيلِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الطَّالِبَ كَانَ يُطَالِبُهُ بِهِ حَالًّا فَكَذَلِكَ الْكَفِيلُ يُطَالِبُهُ حَالًّا بَعْدَ الْأَدَاءِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ .
وَالْكَفَالَةُ بِالْقَرْضِ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّ بَدَلَ الْقَرْضِ مَضْمُونٌ تُجْرَى النِّيَابَةُ فِي أَدَائِهِ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ وَهُوَ عَلَى الْكَفِيلِ إلَى أَجَلٍ وَعَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ حَالًّا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْكَفِيلَ إنَّمَا الْتَزَمَ الْمُطَالَبَةَ بِالْعَقْدِ وَذَلِكَ

يَقْبَلُ التَّأْخِيرَ بِالتَّأْجِيلِ .

وَلَوْ كَفَلَ رَجُلٌ مَالًا عَنْ رَجُلٍ ثُمَّ كَفَلَ بِهِ عَنْ الْكَفِيلِ كَفِيلٌ آخَرُ ، وَأَخَّرَ الطَّالِبُ عَنْ الْأَصِيلِ سَنَةً فَهُوَ تَأْخِيرٌ عَنْ الْكَفِيلَيْنِ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْمَالِ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ فَإِذَا صَارَ مَا فِي ذِمَّتِهِ مُؤَجَّلًا ثَبَتَ الْأَجَلُ فِيمَا هُوَ بِنَاءٌ عَلَيْهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ أَبْرَأَ الْأَصِيلَ مِنْهَا ؛ بَرِئَ الْكَفِيلَانِ جَمِيعًا ، وَإِنْ أَخَّرَ عَنْ الْكَفِيلِ الْأَوَّلِ فَهُوَ تَأْخِيرٌ عَنْهُ وَعَنْ الْكَفِيلِ الْآخَرِ وَالْمَالُ عَلَى الْأَصِيلِ حَالَ اعْتِبَارِ التَّأْجِيلِ بِالْإِبْرَاءِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ الَّتِي الْتَزَمَهَا الْكَفِيلُ الثَّانِي بِنَاءٌ عَلَى الْمُطَالَبَةِ الَّتِي هِيَ عَلَى الْكَفِيلِ الْأَوَّلِ .
فَالتَّأْجِيلُ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ الْأَوَّلِ يَكُونُ تَأْجِيلًا فِي حَقِّ الثَّانِي دُونَ الْأَصِيلِ .

وَلَوْ كَفَلَ رَجُلٌ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إلَى سَنَةٍ ثُمَّ إنْ الْكَفِيلَ بَاعَ الطَّالِبَ بِهَا عَبْدًا قَبْلَ الْأَجَلِ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ فَاسْتَحَقَّ الْعَبْدَ ؛ فَالْمَالُ عَلَى الْكَفِيلِ إلَى أَجَلِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْمُعَامَلَةُ لِلطَّالِبِ مَعَ الْأَصِيلِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ إنَّمَا سَقَطَ حُكْمًا لِلْعَقْدِ وَقَدْ انْتَقَضَ الْعَقْدُ مِنْ الْأَصِيلِ بِاسْتِحْقَاقِ الْعَبْدِ فَكَانَ الْمَالُ عَلَيْهِ إلَى أَجَلِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَدَّهُ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ قَاضٍ ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَسْخٌ لِلْعَقْدِ مِنْ الْأَصْلِ وَلَوْ رَدّ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ وَلَمْ يُسَمِّ أَجَلًا فَالْمَالُ حَالٌّ عَلَى الْكَفِيلِ ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقَالَةِ بِمَنْزِلَةِ الْعَقْدِ الْجَدِيدِ فَإِنَّهَا تَعْتَمِدُ التَّرَاضِيَ إلَّا أَنَّهَا جُعِلَتْ فَسْخًا فِيمَا بَيْنَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فِيمَا هُوَ مِنْ أَحْكَامِ الْعَقْدِ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُمَا وَالْأَجَلُ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ فَكَانَ فِي حُكْمِ الْأَجَلِ هَذَا بِمَنْزِلَةِ عَقْدٍ مُبْتَدَإٍ ، فَلَا يَثْبُتُ الْأَجَلُ فِي بَدَلِهِ إلَّا بِالشَّرْطِ وَلَوْ كَانَ قَضَاهُ الْأَلْفَ مُعَجَّلَةً نَبَهْرَجَةً فَوَجَدَهَا سَتُّوقَةً فَرَدَّهَا عَلَيْهِ كَانَ الْمَالُ عَلَيْهِ إلَى أَجَلِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَا صَارَ قَابِضًا لِدَيْنِهِ .
وَسُقُوطُ الْأَجَلِ مِنْ حُكْمِ قَبْضِهِ فَإِذَا لَمْ يَصِرْ قَابِضًا كَانَ الْمَالُ مُؤَجَّلًا عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ وَجَدَهَا زُيُوفًا فَرَدَّهَا بِقَضَاءِ قَاضٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِعَيْبِ الزِّيَافَةِ فَسْخٌ لِلْقَبْضِ مِنْ الْأَصْلِ .
بِدَلِيلِ أَنَّ الرَّادَّ يَنْفَرِدُ بِهِ وَأَنْ يَرْجِعَ بِمُوجَبِ الْعَقْدِ ، وَالْعَقْدُ لَا يُوجِبُ التَّسْلِيمَ مَرَّتَيْنِ .
فَلَوْ لَمْ يُنْتَقَضْ الْقَبْضُ مِنْ الْأَصْلِ ؛ مَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمُوجَبِ الْعَقْدِ وَهَذَا لِأَنَّ الزُّيُوفَ غَيْرُ الْجِيَادِ الَّتِي هِيَ دَيْنٌ فِي الذِّمَّةِ فَالْمَقْبُوضُ إنَّمَا يَكُونُ حَقًّا لَهُ عَلَى أَنْ يَتَجَوَّزَ بِهِ .
فَإِذَا لَمْ يَتَجَوَّزْ بِهِ

وَرَدَّهُ عُرِفَ أَنَّ الْمَقْبُوضَ لَمْ يَكُنْ حَقًّا لَهُ .
وَسُقُوطُ الْأَجَلِ كَانَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ قَبَضَ حَقَّهُ فَإِذَا انْعَدَمَ ذَلِكَ بَقِيَ الْأَجَلُ كَمَا كَانَ ، وَإِنْ كَانَ حِينَ أَعْطَاهُ الْمَالَ أَعْلَمَهُ أَنَّهَا زُيُوفٌ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ تَجَوَّزَ بِدُونِ حَقِّهِ فَيَصِيرُ الْكَفِيلُ بِهِ قَابِضًا دَيْنَهُ وَلَا يُجْعَلُ هَذَا مُبَادَلَةً لِلْأَجَلِ بِالصِّفَةِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ بَيْنَهُمَا وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ الْمُبَادَلَةُ إذَا كَانَ شَرْطٌ ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ بِالْجِيَادِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْكَفَالَةِ اسْتَوْجَبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ .
وَلَوْ أَنَّ الْكَفِيلَ أَحَالَهُ بِالْمَالِ عَلَى رَجُلٍ إلَى أَجَلٍ أَوْ حَالٍّ ، فَمَاتَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا رَجَعَ الْمَالُ عَلَى الْكَفِيلِ إلَى أَجَلِهِ ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ مُفْلِسًا عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ ، فَإِنَّمَا يَعُودُ الْحُكْمُ الَّذِي كَانَ قَبْلَ الْحَوَالَةِ ، وَهُوَ أَنَّ الْمَالَ عَلَيْهِ إلَى أَجَلِهِ .

وَلَوْ كَفَلَ رَجُلٌ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ عَلَى أَنَّ الْمَالَ عَلَى أَحَدِهِمَا إلَى سَنَةٍ وَعَلَى الْآخَرِ إلَى سَنَتَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا هُوَ الشَّرْطُ لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { الشَّرْطُ أَمْلَكُ } أَيْ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ إذَا أَمْكَنَ وَهُوَ مُمْكِنٌ هُنَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَا يَلْتَزِمُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَفِيلَيْنِ يَنْفَصِلُ عَمَّا يَلْتَزِمُهُ الْآخَرُ فِي حُكْمِ الْأَجَلِ فَإِنْ حَلَّ الْأَجَلُ عَلَى صَاحِبِ السَّنَةِ بِأَدَائِهِ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْأَصِيلِ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ عَلَيْهِ حَالٌّ ، وَقَدْ كَفَلَ هَذَا الْكَفِيلُ عَنْهُ بِأَمْرِهِ وَأَدَاؤُهُ لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْكَفِيلِ الْآخَرِ حَتَّى تَمْضِيَ سَنَةٌ أُخْرَى ؛ لِأَنَّ الْمَالَ عَلَيْهِ مُؤَجَّلٌ إلَى سَنَتَيْنِ وَهُوَ كَفِيلٌ عَنْهُ إلَى سَنَةٍ فَكَمَا أَنَّ الطَّالِبَ لَا يُطَالِبُهُ بِذَلِكَ إلَّا بَعْدَ سَنَتَيْنِ ، فَكَذَلِكَ الْمُؤَدِّي عَنْهُ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ ، لَا يُطَالِبُهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى تَمْضِيَ السَّنَتَانِ .
وَلَوْ كَانَ الْأَصِيلُ بَاعَ الطَّالِبَ عَبْدًا بِالْمَالِ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ ؛ بَرِئَ الْكَفِيلُ مِنْ الْكَفَالَةِ لِبَرَاءَةِ الْأَصِيلِ فَإِنْ رَدَّ الطَّالِبُ الْعَبْدَ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ لَمْ يَرْجِعْ الْمَالُ عَلَى الْكَفِيلِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الرَّدَّ بِمَنْزِلَةِ عَقْدٍ مُبْتَدَأٍ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ ، وَإِنْ رَدَّهُ بِقَضَاءِ قَاضٍ أَوْ اسْتَحَقَّ الْعَبْدَ مِنْ يَدِهِ رَجَعَ الْمَالُ عَلَى الْكَفِيلِ ؛ لِأَنَّ بِهَذَا السَّبَبِ يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ مِنْ الْأَصْلِ فِي حَقِّ الْكُلِّ ؛ فَيَعُودُ مَا كَانَ قَبْلَ الْعَقْدِ وَهُوَ الْمَالُ عَلَى الْأَصِيلِ وَالْكَفِيلِ جَمِيعًا .

وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ حَالَّةً أَوْ إلَى سَنَةٍ فَأَحَالَهُ بِهَا عَلَى رَجُلٍ إلَى سَنَةٍ ثُمَّ مَاتَ الْمُحِيلُ ؛ وَهِيَ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ إلَى الْأَجَلِ ؛ لِأَنَّ بِالْحَوَالَةِ تَحَوَّلَ أَصْلُ الْمَالِ إلَى ذِمَّةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ وَثَبَتَ الْأَجَلُ حَقًّا لَهُ وَهُوَ حَيٌّ مُحْتَاجٌ إلَى الْأَجَلِ فَيَبْقَى الْأَجَلُ فِي حَقِّهِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُحِيلِ ، وَإِنْ مَاتَ الْمُحْتَالُ حَلَّ الْمَالُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَغْنَى عَنْ الْأَجَلِ بِمَوْتِهِ فَإِنْ لَمْ يَتْرُكْ وَفَاءً ؛ رَجَعَ الْمَالُ إلَى الْمُحِيلِ .
فَإِنْ كَانَ إلَى أَجَلٍ فَهُوَ عَلَيْهِ إلَى ذَلِكَ الْأَجَلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَجَلٌ فَهُوَ حَالٌّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ تَنْفَسِخُ بِمَوْتِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ مُفْلِسًا فَعَادَ مَا كَانَ مِنْ الْحُكْمِ قَبْلَ الْحَوَالَةِ .

وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ قَرْضٌ وَلِلْمَطْلُوبِ عَلَى آخَرَ أَلْفُ دِرْهَمٍ قَرْضٌ فَأَحَالَ الْمَطْلُوبُ الطَّالِبَ بِالْأَلْفِ الَّتِي لِلْمَطْلُوبِ عَلَى الْآخَرِ إلَى سَنَةٍ ؛ فَهُوَ جَائِزٌ وَهِيَ لَهُ إلَى سَنَةٍ ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَجِبُ لِلطَّالِبِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ بِعَقْدِ الْحَوَالَةِ وَالْوَاجِبُ بِعَقْدِ الْحَوَالَةِ كَالْوَاجِبِ بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ فِي صِحَّةِ اشْتِرَاطِ الْأَجَلِ فِيهِ وَلَيْسَ لِلْمُحِيلِ أَنْ يَأْخُذَ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ بِالْأَلْفِ الَّتِي كَانَتْ لَهُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا قَبِلَ الْحَوَالَةَ مُقَيَّدَةً بِذَلِكَ الْمَالِ فَصَارَتْ مَشْغُولَةً بِحَقِّ الطَّالِبِ وَلَا يَبْقَى لِلْمُحِيلِ سَبِيلٌ عَلَى أَخْذِهَا لَوْ كَانَتْ عَيْنًا لَهُ فِي يَدِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ ، وَإِنْ أَبْرَأَهُ مِنْهَا أَوْ وَهَبَهَا لَهُ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الطَّالِبِ تَعَلَّقَ بِهَا وَذَلِكَ يُوجِبُ الْحَجْرَ عَلَى الْمُحِيلِ عَنْ التَّصَرُّفِ فِيهَا وَلَوْ صَحَّ مِنْهُ هَذَا التَّصَرُّفُ بَطَلَ حَقُّ الطَّالِبِ قِبَلَ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ الْحَوَالَةَ بِالْمَالِ مُطْلَقَةً ، وَإِنَّمَا الْتَزَمَهَا مُقَيَّدَةً بِذَلِكَ الْمَالِ فَإِذَا سَقَطَتْ عَنْهُ بِالْإِبْرَاءِ أَوْ الْهِبَةِ ؛ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ مُطَالَبَةٌ بِشَيْءٍ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْحَوَالَةَ لَوْ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِوَدِيعَةٍ فِي يَدِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ فَهَلَكَتْ تِلْكَ الْوَدِيعَةُ بَطَلَتْ الْحَوَالَةُ فَإِنْ مَاتَ الْمُحِيلُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَمَا كَانَ قَبَضَ الْمُحْتَالُ فِي حَيَاتِهِ فَهُوَ لَهُ ، وَمَا لَمْ يَقْبِضْهُ فَهُوَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغُرَمَاءِ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الطَّالِبُ أَحَقُّ بِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَرْهُونِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الزِّيَادَاتِ

وَلَوْ أَحَالَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إلَى سَنَةٍ ثُمَّ إنْ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ تَرَكَ الْأَجَلَ وَجَعَلَهَا حَالَّةً ؛ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ حَقُّهُ فَيَسْقُطُ بِإِسْقَاطِهِ كَمَا لَوْ أَسْقَطَ الْأَصِيلُ الْأَجَلَ قَبْلَ الْحَوَالَةِ فَإِنْ أَدَّاهَا لَمْ يَرْجِعْ بِهَا عَلَى الْأَصِيلِ الْمُحِيلِ حَتَّى يَمْضِيَ الْأَجَلُ ؛ لِأَنَّ إسْقَاطَ الْأَجَلِ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِ لَا فِي حَقِّ الْمُحِيلِ وَلَوْ كَانَ دَيْنًا لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ ثُمَّ إنَّ الْمُحِيلُ قَضَى الْمَالَ مِنْ عِنْدِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ هَذَا بِتَطَوُّعٍ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ دَيْنِهِ بَقِيَ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ إلَّا أَنَّهُ كَانَ لَا يُطَالِبُهُ بِهِ لِاشْتِغَالِهِ بِحَقِّ الطَّالِبِ فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ الشَّغْلُ بِأَنْ قَضَاهُ الْمَالَ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا لَمْ يُجْعَلْ هَذَا تَطَوُّعًا مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ بِهِ تَخْلِيصَ ذِمَّتِهِ عَنْ حَقِّ الْغُرَمَاءِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَضَاهُ عَنْهُ غَيْرُهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَطَوِّعًا فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مَا قَصَدَ هَذَا الْمُؤَدِّي تَخْلِيصَ شَيْءٍ لِنَفْسِهِ وَهُوَ نَظِيرُ الْمُعِيرَ لِلرَّهْنِ إذَا قَضَى الدَّيْنَ لَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا فِيهِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَضَاهُ غَيْرُهُ وَإِذَا كَانَ الْمُؤَدِّي مُتَطَوِّعًا ؛ كَانَ الْمَالُ الَّذِي عَلَيْهِ لَهُ ، لَا سُقُوطَ دَيْنِ الطَّالِبِ عَنْهُ بِإِبْرَاءِ الْمُتَطَوِّعِ كَسُقُوطِهِ بِأَدَاءِ نَفْسِهِ .

وَلَوْ أَحَالَ رَجُلٌ بِمَالٍ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ عَلَى رَجُلٍ إلَى رَجُلٍ لَمْ يَجُزْ ، وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ إبْرَاءُ الْأَصِيلِ وَالْأَبُ وَالْوَصِيُّ لَا يَمْلِكَانِ الْإِبْرَاءَ فِي دَيْنِ الصَّغِيرِ وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ إذَا لَمْ يُفَوِّضْ إلَيْهِ الْمُوَكِّلُ ذَلِكَ ، وَالْمُرَادُ الْوَكِيلُ بِالْقَبْضِ ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ فِي الِاسْتِيفَاءِ .
وَقَبُولُ الْحَوَالَةِ إبْرَاءٌ لِلْأَصِيلِ وَلَيْسَ بِاسْتِيفَاءٍ .

فَأَمَّا الْوَكِيلُ بِالْعَقْدِ إذَا أَحَالَ رَجُلٌ بِمَالِ إلَى أَجَلٍ ثُمَّ إنْ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ أَحَالَهُ عَلَى آخَرَ إلَى أَجَلٍ مِثْلِ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الطَّالِبِ حَتَّى يَقْبِضَ الطَّالِبُ مَالَهُ ؛ لِأَنَّ بِالْحَوَالَةِ لَمْ يَصِرْ الطَّالِبُ مُسْتَوْفِيًا شَيْئًا وَالْمَالُ بِعَرَضِ الْعَوْدِ عَلَى الْأَصِيلِ فَإِنَّهُ تَنْفَسِخُ الْحَوَالَتَانِ بِمَوْتِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ عَلَيْهِمَا مُفْلِسَيْنِ .

وَلَوْ احْتَالَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ بِمَالِ إلَى أَجَلٍ ثُمَّ مَاتَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ وَتَرَكَ وَفَاءً وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَكَانَ فِي طَلَبِ الْغُرَمَاءِ وَقِسْمَتِهِ تَأْخِيرٌ بَعْدَ الْأَجَلِ ؛ لَمْ يَكُنْ لِلطَّالِبِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْأَصِيلِ حَتَّى يَنْظُرَ إلَى مَا يَصِيرُ أَمْرُهُ ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ بَاقِيَةٌ بَعْدَ مَوْتِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ مَلِيًّا فَإِنَّ تَرِكَتَهُ خَلَفٌ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ قَضَاءُ الدَّيْنِ مِنْهُ وَمَعَ بَقَاءِ الْحَوَالَةِ لَا سَبِيلَ لِلطَّالِبِ عَلَى الْمُحِيلِ فِي الْمُطَالَبَةِ بِشَيْءٍ .
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ الْأَمْرِ بِالضَّمَانِ ( قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ) : وَإِذَا أَمَرَ رَجُلٌ رَجُلًا أَنْ يَضْمَنَ لِرَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَلَيْسَ بِخَلِيطٍ لَهُ فَضَمِنَهَا لَهُ ؛ فَهِيَ لَازِمَةٌ لِلْكَفِيلِ يَأْخُذُهُ بِهَا الطَّالِبُ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهَا وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ .
وَالْمَضْمُونُ مَا يَكُونُ لَازِمًا فِي ذِمَّتِهِ وَيَكُونُ هُوَ مُجْبَرًا عَلَى أَدَائِهِ فَإِذَا أَدَّاهَا لَمْ يَرْجِعْ بِهَا عَلَى الْآمِرِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ أَنْ يَضْمَنَ عَنْهُ وَلَمْ يَشْتَرِطْ الْكَفِيلُ لِنَفْسِهِ ضَمَانَهَا عَلَيْهِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ : يَرْجِعُ بِهَا عَلَى الَّذِي أَمَرَهُ ؛ لِأَنَّ أَمْرَهُ إيَّاهُ بِالضَّمَانِ بِمَنْزِلَةِ الِاعْتِرَافِ مِنْهُ أَنَّ الْمَالَ عَلَيْهِ وَأَنَّهُ يَلْتَزِمُ الْمُطَالَبَةَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَالِ وَيُسْقِطُ الْمُطَالَبَةَ عَنْهُ بِالْأَدَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فَأَعَادَهَا فِي الْفُرُوعِ وَلَمْ يَذْكُرْهَا فِيمَا سَبَقَ وَقَالَ : إنْ قَالَ الْكَفِيلُ : إنِّي لَمْ أَضْمَنْ لَك دَيْنًا كَانَ لَك عَلَى أَحَدٍ ، وَإِنَّمَا ضَمِنْت لَك مَالًا لَمْ يَكُنْ عَلَيَّ ، وَلَا عَلَى غَيْرِي ؛ فَإِنَّ الطَّالِبَ لَا يُكَلَّفُ شَيْئًا وَلَا يَطْلُبُ مِنْهُ تَفْسِيرَ وَجْهِ هَذَا الْمَالِ : مِنْ أَيْنَ كَانَ ؟ وَكَيْفَ كَانَ ؟ وَلَكِنْ كَانَ الْكَفِيلُ يُؤْخَذُ بِالضَّمَانِ بِإِقْرَارِهِ أَوْ بِالْبَيِّنَةِ الَّتِي قَامَتْ لِلطَّالِبِ عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ ، وَالْكَفِيلُ هُوَ الَّذِي ضَيَّعَ حَقَّهُ حِينَ كَفَلَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَسْتَطِيعُ الرُّجُوعَ بِهِ عَلَى أَحَدٍ وَهَذَا لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعُقُودِ الشَّرْعِيَّةِ مَحْمُولَةٌ عَلَى الصِّحَّةِ ، وَقَدْ بَاشَرَ الْكَفِيلُ الْكَفَالَةَ ظَاهِرًا .
وَوَجْهُ صِحَّتِهَا أَنْ يَكُونَ مُلْتَزِمًا لِلْمُطَالَبَةِ بِمَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَى الْأَصِيلِ فَيَصِيرُ هُوَ مُقِرًّا بِذَلِكَ ثُمَّ هُوَ بِالْكَلَامِ الثَّانِي رَجَعَ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ أَوَّلًا ، فَيَكُونُ رُجُوعُهُ بَاطِلًا وَإِقْرَارُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حُجَّةً عَلَى غَيْرِهِ فَهُوَ

حُجَّةٌ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، وَأَنَا بِهَا كَفِيلٌ عَنْهُ بِأَمْرِهِ وَأَنْكَرَ الْأَصِيلُ ذَلِكَ كُلِّهِ ؛ فَإِنَّ الْمُقِرَّ يُطَالَبُ بِالْمَالِ وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ إذَا أَدَّى .

وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ : اُكْفُلْ لِفُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَفَعَلَ أَوْ قَالَ : احْتَالَ عَلَيْك فُلَانٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَشْهَدَ لَهُ الْآخَرُ أَنَّهُ قَالَ : احْتَالَ عَلَيْهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ؛ فَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْكَفِيلِ لِمُبَاشَرَتِهِ سَبَبَ الِالْتِزَامِ وَهُوَ الْكَفَالَةُ وَالْحَوَالَةُ .
وَلَيْسَ عَلَى الْآمِرِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْكَفَالَةِ عَنْهُ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ أَمْرِهِ إيَّاهُ بِالْكَفَالَةِ وَالْحَوَالَةِ وُجُوبُ أَصْلِ الْمَالِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ وَالْحَوَالَةَ مِنْ الْمُبَاشِرِ كَمَا تَجُوزُ بِالْمَالِ الَّذِي عَلَى الْآمِرِ لِفُلَانٍ ؛ تَجُوزُ بِالْمَالِ الَّذِي عَلَى غَيْرِهِ لِفُلَانٍ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْآمِرُ رَسُولَ ذَلِكَ الْمَطْلُوبِ إلَيْهِ أَوْ فُضُولِيًّا أَمَرَهُ بِذَلِكَ وَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يَثْبُتُ الْمَالُ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْآمِرُ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا أَوْ صَبِيًّا ، وَإِنْ كَانَ الْمَأْمُورُ صَبِيًّا تَاجِرًا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الضَّمَانُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِالْتِزَامِ بِالْكَفَالَةِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَالُ عَلَى الْآمِرِ أَوْ غَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَأْمُورُ مُرْتَدًّا فَإِنْ أَسْلَمَ فَضَمَانُهُ جَائِزٌ عَلَيْهِ ، وَإِنْ قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ ؛ فَضَمَانُهُ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ ، وَإِنْ لَحِقَ بِالدَّارِ فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِهِ فَنَقُولُ : إنْ رَجَعَ مُسْتَأْمَنًا أَخَذْنَاهُ بِالضَّمَانِ هَكَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ الْأَصْلِ ، وَالصَّحِيحُ : فَإِنْ رَجَعَ مُسْلِمًا ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يُعْطَى الْأَمَانَ ، وَإِذَا خَرَجَ مُسْتَأْمَنًا قُتِلَ عَلَى الرِّدَّةِ إنْ لَمْ يُسْلِمْ ، وَكَانَ الضَّمَانُ بَاطِلًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ

وَإِذَا قَالَ رَجُلٌ لِآخَرَ : اضْمَنْ لِفُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ الَّتِي لَهُ عَلَيَّ .
أَوْ قَالَ : أَحَلْت لِفُلَانٍ عَلَيْك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَهُ عَلَيَّ أَوْ قَالَ : اضْمَنْ لِفُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّهَا لَك عَلَيَّ .
أَوْ قَالَ : عَلَى أَنِّي ضَامِنٌ لَهَا أَوْ قَالَ : عَلَى أَنِّي كَفِيلٌ بِهِ أَوْ قَالَ : عَلَى أَنْ أُؤَدِّيَهَا إلَيْك أَوْ قَالَ : عَلَى أَنْ أُؤَدِّيَهَا عَنْهُ فَضَمِنَ لَهُ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَيَرْجِعُ بِهِ الْكَفِيلُ عَلَى الْآمِرِ إذَا أَدَّاهُ ؛ لِأَنَّ فِي كَلَامِ الْآمِرِ تَصْرِيحًا بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ لِلطَّالِبِ ؛ فَيَكُونُ هَذَا أَمْرًا مِنْهُ لِلْمَأْمُورِ فِي ذِمَّتِهِ مِمَّا يُؤَدِّيهِ مِنْ مَالِهِ أَوْ الْتِزَامًا لَهُ ضَمَانَ مَا يُؤَدِّيهِ إلَى الطَّالِبِ ، وَذَلِكَ يُثْبِتُ حَقَّ الرُّجُوعِ لَهُ عَلَيْهِ إذَا أَدَّى وَإِذَا أَمَرَ رَجُلٌ خَلِيطًا لَهُ أَنْ يَضْمَنَ لِفُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَضَمِنَهَا لَهُ ، وَالْآمِرُ مُقِرٌّ بِأَنَّ الْأَلْفَ عَلَيْهِ فَأَدَّى الْكَفِيلُ الْمَالَ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْآمِرِ اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّ الْخُلْطَةَ بَيْنَهُمَا تَقُومُ مَقَامَ تَصْرِيحِهِ بِالْأَمْرِ بِالْكَفَالَةِ عَنْهُ فَإِنَّ الْخُلْطَةَ بَيْنَهُمَا مَقْصُودَةٌ لِهَذَا ، وَهُوَ أَنْ يُؤَدِّيَ عَنْهُ مَا عَلَيْهِ لِيَرْجِعَ بِهِ عَلَيْهِ فَنُزِّلَ ذَلِكَ مِنْهُ مَنْزِلَةَ قَوْلِهِ : اضْمَنْ لِفُلَانٍ عَنِّي وَالْخَلِيطُ عِنْدَنَا هُوَ الَّذِي يَأْخُذُ مِنْهُ وَيُعْطِيهِ وَيُدَايِنُهُ وَيَضَعُ الْمَالَ عِنْدَهُ وَكُلُّ مَنْ فِي عِيَالِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخَلِيطِ ، نَحْوُ ابْنِهِ الْكَبِيرِ إذَا كَانَ فِي عِيَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْفَظُ مَالَهُ فِي يَدِهِ وَلِهَذَا لَوْ وَضَعَ الْوَدِيعَةَ عِنْدَهُ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا ، وَكَذَلِكَ إنْ أَمَرَ الِابْنُ أَبَاهُ وَالِابْنُ كَبِيرٌ فِي عِيَالِ أَبِيهِ أَوْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا فَهُوَ مِثْلُ ذَلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَحْفَظُ مَالَهُ بِيَدِ صَاحِبِهِ فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْخُلْطَةِ بَيْنَهُمَا .

وَإِذَا أَحَالَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ كَانَتْ لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ فَأَدَّاهَا فَقَالَ الْمُحِيلُ : الْمَالُ لِي ، وَقَالَ الْمُحْتَالُ : الْمَالُ لِي فَالْقَوْلُ لِلْمُحِيلِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ .
وَوُجُوبُ الْمَالِ لِلْمُحْتَالِ غَيْرُ مَعْلُومٍ .
وَفِي هَذِهِ الْحَوَالَةِ احْتِمَالٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُحْتَالُ وَكِيلًا لَهُ فِي قَبْضِهَا مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُهُ إسْقَاطَ مُطَالَبَةِ الْمُحْتَالِ عَنْ نَفْسِهِ بِمَالٍ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فَلَا يَجِبُ الْمَالُ بِالشَّكِّ لِلْمُحْتَالِ عَلَى الْمُحِيلِ وَلَا يَثْبُتُ مَعَ الِاحْتِمَالِ إلَّا أَدْنَى الْأَمْرَيْنِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُحْتَالُ وَكِيلًا لِلْمُحِيلِ فِي قَبْضِ الْمَالِ .
فَإِذَا قَبَضَهَا أُمِرَ بِتَسْلِيمِهَا إلَيْهِ حَتَّى يُثْبِتَ دَيْنَ نَفْسِهِ عَلَى الْمُحِيلِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ : اضْمَنْ لَهُ أَلْفِي الَّتِي لِي عَلَيْك ، أَوْ : اُكْفُلْ لَهُ بِأَلْفِي الَّتِي لِي عَلَيْك ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِهِ إقْرَارٌ بِوُجُوبِ الْمَالِ لِلطَّالِبِ عَلَى الْآمِرِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا لَهُ فِي قَبْضِهِ مِنْ مَدْيُونِهِ .

وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَتَى خَلِيطًا لَهُ فَقَالَ : اضْمَنْ لِفُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَضَمِنَهَا لَهُ وَأَدَّاهَا إلَيْهِ فَلِلْآمِرِ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْ الْمَضْمُونِ لَهُ وَهُوَ وَكِيلٌ لِلْآمِرِ فِي ذَلِكَ ، وَلَيْسَ لِلْكَفِيلِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ دَفْعِهَا إلَى الْمَكْفُولِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِهِ إقْرَارٌ بِوُجُوبِ الْمَالِ الْمَضْمُونِ لَهُ عَلَيْهِ ، وَالْخُلْطَةُ بَيْنَ الْآمِرِ وَبَيْنَ الضَّامِنِ ، لَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَضْمُونِ لَهُ وَتِلْكَ الْخُلْطَةُ لَا تَكُونُ دَلِيلَ وُجُوبِ الْمَالِ الْمَضْمُونِ لَهُ عَلَى الْآمِرِ فَلِهَذَا كَانَ الْمَضْمُونُ لَهُ وَكِيلَ الْآمِرِ ، إذَا قَبَضَ الْمَالَ أُمِرَ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ وَلَيْسَ لِلضَّامِنِ أَنْ يَمْتَنِعَ عَلَيْهِ مِنْ دَفْعِهَا إلَى الْمَضْمُونِ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهَا لَهُ بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ ، إلَّا أَنْ يَحْضُرَ الْآمِرُ فَإِنْ حَضَرَ وَادَّعَى أَنَّ الْمَالَ لَهُ عَلَى الْمَأْمُورِ كُلِّفَ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ وَإِلَّا حَلَفَ الْمَأْمُورُ وَبَرِئَ مِنْهُمَا فَإِذَا حَلَفَ ؛ بَرِئَ مِنْ حَقِّ الْآمِرِ .
وَالْمَضْمُونُ لَهُ وَكِيلٌ مِنْ جِهَتِهِ وَبَرَاءَتُهُ عَنْ مُطَالَبَةِ الْمُوَكِّلِ تُوجِبُ الْبَرَاءَةَ مِنْ مُطَالَبَةِ الْوَكِيلِ ضَرُورَةً ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى لِنَفْسِهِ دَيْنًا عَلَيْهِ فَيَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِهِ بِالْبَيِّنَةِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَلَوْ كَانَ الْمَأْمُورُ لَيْسَ بِخَلِيطٍ لِلْآمِرِ ؛ كَانَ الضَّمَانُ جَائِزًا ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ .
وَالْمَالُ لِلْمَكْفُولِ لَهُ دُونَ الْآمِرِ ؛ لِأَنَّ الْمَكْفُولَ لَهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ وَكِيلًا لِلْآمِرِ هُنَا ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ الْمَالِ لِلْآمِرِ عَلَى الْمَأْمُورِ وَلَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ وَلَا يَثْبُتُ بَيْنَهُمَا بَدَلٌ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا ضَمِنَ الْمَالَ لَهُ وَكَانَ هَذَا الْتِزَامًا مِنْ الْمَأْمُورِ لِلْمَكْفُولِ لَهُ خَاصَّةً وَلَوْ كَانَ الْكَفِيلُ خَلِيطًا لِلْمَكْفُولِ لَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْآمِرِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا سَبَبَ

بَيْنَ الْآمِرِ وَبَيْنَ الْمَأْمُورِ .
وَالْخُلْطَةُ الَّتِي بَيْنَ الْكَفِيلِ وَالْمَكْفُولِ لَهُ لَا تَكُونُ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْآمِرَ إنَّمَا أَمَرَ الْمَأْمُورَ بِالضَّمَانِ عَنْهُ فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ إلَّا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى مَا بَيَّنَّا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ

بَابُ تَكْفِيلِ الْقَاضِي فِي الدَّعْوَى ( قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ) : وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ مَالًا عِنْدَ الْقَاضِي فَأَنْكَرَهُ وَسَأَلَ الْمُدَّعِي أَنْ يَأْخُذَ لَهُ كَفِيلًا مِنْهُ بِنَفْسِهِ وَادَّعَى أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً حَاضِرَةً أَخَذَ لَهُ مِنْهُ كَفِيلًا مَعْرُوفًا بِنَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ .
وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَأْخُذُ كَفِيلًا لِآخَرَ بِنَفْسِ الدَّعْوَى لَا يَجِبُ شَيْءٌ عَلَى الْخَصْمِ لِكَوْنِ الدَّعْوَى خَبَرًا مُحْتَمِلًا لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَفِي الْإِجْبَارِ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ إلْزَامُ شَيْءٍ أَبَاهُ وَإِنَّمَا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ لِلتَّعَامُلِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا .
فَإِنَّ الْقُضَاةَ يَأْمُرُونَ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ مِنْ الْخُصُومِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ مُنْكِرٍ ، وَلَا زَجْرِ زَاجِرٍ .
وَفِيهِ نَظَرٌ لِلْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَحْضَرَ شُهُودَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ حُضُورِ الْخَصْمِ لِيَشْهَدُوا عَلَيْهِ وَرُبَّمَا يَهْرَبُ أَوْ يُخْفِي شَخْصَهُ فَيَعْجِزُ الْمُدَّعِي عَنْ إثْبَاتِ حَقِّهِ عَلَيْهِ وَفِي أَخْذِ الْكَفِيلِ بِنَفْسِهِ لِيُحْضِرَهُ نَظَرٌ لِلْمُدَّعِي وَلَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَهُوَ نَظِيرُ الِاسْتِخْلَافِ وَالْخَصْمُ يُسْتَحْلَفُ عِنْدَ طَلَبِ الْمُدَّعِي بَعْدَ إنْكَارِهِ .
وَإِنْ لَمْ تَتَوَجَّهْ لَهُ حَقٌّ فِي تِلْكَ الدَّعْوَى وَلَكِنْ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُدَّعِي مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ فِيهِ عَلَى الْخَصْمِ إذَا كَانَ مُحِقًّا فِي إنْكَارِهِ ، وَكَذَلِكَ الْإِشْخَاصُ إلَى بَابِهِ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الدَّعْوَى بِمَا لَهَا مِنْ النَّظَرِ لِلْمُدَّعِي فَكَذَلِكَ أَخْذُ الْكَفِيلِ وَشَرَطَ أَنْ يَكُونَ الْكَفِيلُ مَعْرُوفًا ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُدَّعِي لَا يَحْصُلُ بِالْمَجْهُولِ فَقَدْ يَهْرُبُ ذَلِكَ الْمَجْهُولُ مَعَ الْخَصْمِ وَالتَّعْذِيرُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لَيْسَ بِلَازِمٍ وَلَكِنْ يَأْخُذُ كَفِيلًا إلَى الْمَجْلِسِ الثَّانِي وَقَدْ كَانَ الْقَاضِي فِيهِمْ يَجْلِسُ بِنَفْسِهِ كُلَّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَإِنْ كَانَ يَجْلِسُ فِي كُلِّ يَوْمٍ فَرُبَّمَا يَعْرِضُ لِلْمُدَّعِي عَارِضٌ فَيَتَعَذَّرُ الْحُضُورُ

فِي الْمَجْلِسِ أَوْ الْمَجْلِسَيْنِ ، وَإِنَّمَا أَخَذَ الْكَفِيلَيْنِ لِنَظَرِ الْمُدَّعِي فَيُؤْخَذُ الْكَفِيلُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُؤَدِّي إلَى التَّعَنُّتِ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي وَإِنْ قَالَ : بَيِّنَتِي غُيَّبٌ ؛ لَمْ يَأْخُذْ لَهُ مِنْهُ كَفِيلًا ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي أَخْذِ الْكَفِيلِ هُنَا فَالْغَائِبُ كَالْهَالِكِ مِنْ وَجْهٍ وَلَيْسَ كُلُّ غَائِبٍ يَئُوبُ ، وَإِنْ أَرَادَ الْمُدَّعِي اسْتِحْلَافَ الْخَصْمِ يُمَكَّنُ مِنْهُ فِي الْحَالِ .
فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ ، وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ بِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ لَا يَثْبُتُ لِلْمُدَّعِي شَيْءٌ كَمَا يَثْبُتُ بِنَفْسِ الدَّعْوَى ، وَإِنْ قَالَ : لَا بَيِّنَةَ لِي وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أُحَلِّفَهُ ، فَخُذْ لِي مِنْهُ كَفِيلًا لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ كَفِيلًا ، وَلَكِنَّهُ يَسْتَحْلِفُهُ مَكَانَهُ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْيَمِينِ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِفَصْلِ الْخُصُومَةِ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِ الْإِمْكَانِ وَذَلِكَ فِي أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ لِلْحَالِ بِكَوْنِ الْمُدَّعِي طَالِبًا لِذَلِكَ فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ ، وَإِنْ قَالَ : بَيِّنَتِي حَاضِرَةٌ فَخُذْ لِي مِنْهُ كَفِيلًا فَقَالَ الْمَطْلُوبُ لَهُ : وَلِي كَفِيلٌ .
فَإِنَّهُ يَأْمُرُ الطَّالِبَ أَنْ يَلْزَمَهُ - إنْ أَحَبَّ - حَتَّى يُحْضِرَ شُهُودَهُ ؛ لِأَنَّ الْمُلَازَمَةَ فِعْلٌ مُتَعَارَفٌ قَدْ كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ عَلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ يُلَازِمُ غَرِيمًا لَهُ } الْحَدِيثُ .
وَلَيْسَ تَفْسِيرُ الْمُلَازَمَةِ أَنْ يُقْعِدَهُ فِي مَوْضِعٍ وَيَقْعُدَ إلَى جَنْبِهِ .
فَإِنَّ ذَلِكَ حَبْسٌ وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُثْبِتَ دَيْنَهُ عَلَيْهِ وَلَكِنَّ ( تَفْسِيرَ الْمُلَازَمَةِ ) أَنْ يَدُورَ مَعَهُ حَيْثُمَا دَارَ ، فَإِذَا دَخَلَ عَلَى أَهْلِهِ قَعَدَ مَنْ يُلَازِمُهُ عَلَى بَابِ دَارِهِ ، وَإِنْ كَانَ يَخَافُ أَنْ يَهْرُبَ مِنْ جَانِبٍ آخَرَ فَإِمَّا أَنْ يَقْعُدَ مَعَهُ عَلَى

بَابِ دَارِهِ حَيْثُ يَرَاهُ أَوْ يَأْذَنَ لَهُ فِي أَنْ يَدْخُلَ مَعَهُ لِيُلَازِمَهُ ؛ إذْ الْمَقْصُودُ هُوَ الْأَمْنُ مِنْ هُرُوبِهِ ، وَالتَّمَكُّنُ مِنْ إحْضَارِهِ إذَا أَحْضَرَ شُهُودَهُ وَلَا يَحْصُلُ إلَّا بِذَلِكَ وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ فَعَلَ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقُّ الدَّعْوَى قِبَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَهُ فِيهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ ، وَهُوَ التَّوَصُّلُ إلَى حَقِّهِ فِي أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ بِنُكُولِهِ وَفِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَمَوْضِعُ بَيَانِهِ شَرْحُ أَدَبِ الْقَاضِي لِلْخَصَّافِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُنَهُ ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ أَقْوَى الْعُقُوبَاتِ فِي دَعْوَى الْمَالِ فَلَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى قَبْلَ أَنْ يَثْبُتَ الْمَالُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ قَالَ الطَّالِبُ : خُذْ لِي مِنْهُ كَفِيلًا بِالْعَيْنِ الَّتِي ادَّعَيْتهَا فِي يَدِهِ أَخَذَ لَهُ كَفِيلًا بِهَا أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ إلَّا بِإِحْضَارِ الْعَيْنِ ، وَرُبَّمَا يُخْفِيهَا الْخَصْمُ وَلَا وَجْهَ لِإِخْرَاجِهَا مِنْ يَدِهِ قَبْلَ إقَامَةِ الْمُدَّعِي حُجَّتَهُ ، وَكَانَ أَخْذُ الْكَفِيلِ بِهَا وَأَخْذُ الْكَفِيلِ بِنَفْسِهِ سَوَاءً ، وَإِنْ كَانَ الْكَفِيلُ بِنَفْسِهِ وَبِذَلِكَ الشَّيْءِ وَاحِدًا جَازَ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حَاصِلٌ ، وَإِنْ أَرَادَ الطَّالِبُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ وَوَكِيلًا فِي خُصُومَتِهِ ؛ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَأْمُرُ الْمَطْلُوبَ أَنْ يُعْطِيَهُ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ هَكَذَا قَالَ هُنَا ؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ رُبَّمَا لَا يُبَالِي بِالْكَفِيلِ بِالنَّفْسِ وَيَهْرُبُ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْمُدَّعِي مِنْ إثْبَاتِ حَقِّهِ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الْكَفِيلِ وَفِي الزِّيَادَاتِ قَالَ : لَا يُجْبَرُ عَلَى إعْطَاءِ الْوَكِيلِ فِي خُصُومَتِهِ .
هَذَا هُوَ الْأَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَقُولُ : أَنَا أَهْدَى إلَى الْخُصُومَةِ مِنْ غَيْرِي .
خُصُوصًا فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ وَرُبَّمَا لَا يَنْظُرُ الْوَكِيلُ وَلَا يَشْتَغِلُ بِالدَّفْعِ بِمَا أَشْتَغِلُ بِهِ إذَا حَضَرْت .
فَفِي الْإِجْبَارِ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ إضْرَارٌ بِهِ ،

وَالْقَاضِي يَنْظُرُ لِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّ بِالْآخَرِ .
فَإِذَا أَرَادَ الطَّالِبُ أَنْ يَكُونَ ضَامِنًا لِمَا قُضِيَ لَهُ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يُجْبِرُ الْمَطْلُوبَ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ بَعْدَ إثْبَاتِ الدَّيْنِ لَا يُجْبَرُ الْخَصْمُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ بِهِ فَقَبْلَ إثْبَاتِهِ أَوْلَى .
وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَيْنًا فَإِنَّ هُنَاكَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إثْبَاتِ الْمُدَّعَى إلَّا بِإِحْضَارِ الْعَيْنِ وَهُنَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إثْبَاتِ الدَّيْنِ عِنْدَ إحْضَارِ الْخَصْمِ وَإِنَّمَا الْكَفِيلُ بِالْمَالِ هُنَا لِلتَّوَثُّقِ لِجَانِبِ الْمُطَالَبَةِ ، وَلَمْ تَتَوَجَّهْ لَهُ مُطَالَبَةٌ بِالْمَالِ قَبْلَ إثْبَاتِهِ .
فَكَيْفَ يُجْبَرُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ بِهِ ؟ وَإِنْ بَعَثَ الْقَاضِي مَعَ الطَّالِبِ رَسُولًا يَأْخُذُ لَهُ كَفِيلًا فَكَفَلَ بِهِ الْكَفِيلُ الطَّالِبَ أَوْ أَحْضَرَهُ الْقَاضِي فَكَفَلَ عِنْدَهُ ثُمَّ رَدَّهُ الْكَفِيلُ إلَى الطَّالِبِ بَرِئَ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ كَانَتْ لَهُ وَقَدْ أَوْفَاهُ حَقَّهُ حِينَ سَلَّمَ نَفْسَ الْخَصْمِ إلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ لِلْقَاضِي أَوْ لِرَسُولِهِ الَّذِي كَفَلَ لَهُ بِهِ .
وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : يَبْرَأُ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ لِلطَّالِبِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا فَإِنَّهَا تَنْبَنِي عَلَى دَعْوَاهُ وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْمَقْصُودُ لَا يُعْتَبَرُ مَعَ التَّصْرِيحِ بِخِلَافِهِ وَقَدْ صَرَّحَ الْكَفِيلُ بِالْتِزَامِ النَّفْسِ إلَى الْقَاضِي أَوْ إلَى رَسُولِهِ فَلَا يَبْرَأُ بِدُونِهِ

وَإِنْ كَفَلَ لَهُ بِنَفْسِهِ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَتَغَيَّبَ الطَّالِبُ فَالْكَفِيلُ عَلَى كَفَالَتِهِ يَدْفَعُ صَاحِبَهُ إلَيْهِ وَيَبْرَأُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ لَا يَبْرَأُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ بِدُونِ الْوَفَاءِ بِمَا الْتَزَمَ وَالْعَبْدُ التَّاجِرُ وَالْمُكَاتَبُ وَالصَّبِيُّ التَّاجِرُ ، مَطْلُوبًا كَانَ أَوْ طَالِبًا وَالْمُسْتَأْمَنُ وَالذِّمِّيُّ وَالْمُرْتَدُّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ تَنْبَنِي عَلَى الدَّعْوَى .
وَالدَّعْوَى صَحِيحَةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ وَعَلَيْهِمْ .

وَإِنْ قَدَّمَ رَجُلٌ مُكَاتَبَهُ إلَى الْقَاضِي وَادَّعَى مُضِيَّ أَجَلِ الْكِتَابَةِ وَقَالَ : بَيِّنَتِي حَاضِرَةٌ فَخُذْ لِي مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ لَمْ يَأْخُذْهُ ؛ لِأَنَّهُ عَبْدُهُ وَالْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ حَقًّا قَوِيًّا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالْكَفَالَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ كَفَلَ عَنْ الْمُكَاتَبِ لِمَوْلَاهُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ الَّذِي عَلَيْهِ ؛ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ لَا يَأْخُذُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ فِي دَعْوَى ذَلِكَ قِبَلَهُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمُكَاتَبَ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يُعَجِّزَ نَفْسَهُ فَلَا يُطَالَبُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى عَلَى عَبْدٍ لَهُ تَاجِرٍ دَعْوَى وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ دَيْنًا .

وَلَوْ ادَّعَى الْمُكَاتَبُ قِبَلَ مَوْلَاهُ دَيْنًا فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ لِلْمُكَاتَبِ كَفِيلٌ بِنَفْسِ الْمَوْلَى ، لِأَنَّهُ يَسْتَوْجِبُ قِبَلَ مَوْلَاهُ مِنْ الْحَقِّ مَا يَسْتَوْجِبُهُ قِبَلَ غَيْرِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ كَفَلَ كَفِيلٌ بِالدَّيْنِ الَّذِي لَهُ عَلَى مَوْلَاهُ ؛ جَازَ .
فَكَذَلِكَ يُؤْخَذُ لَهُ الْكَفِيلُ بِنَفْسِهِ ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ التَّاجِرُ يَدَّعِي قِبَلَ مَوْلَاهُ دَيْنًا وَعَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ ، لِأَنَّ كَسْبَهُ حَقُّ غُرَمَائِهِ فَهُوَ يَسْتَوْجِبُ قِبَلَ مَوْلَاهُ حَقَّ غُرَمَائِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ لَمْ يُؤْخَذْ لَهُ مِنْ مَوْلَاهُ كَفِيلٌ ، لِأَنَّ كَسْبَهُ خَالِصُ حَقِّ الْمَوْلَى ، وَلَا حَقَّ بِهِ قِبَلَ مَوْلَاهُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ .

وَإِنْ ادَّعَى رَجُلٌ دَعْوَى وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَحْبُوسٌ فِي حَقِّ رَجُلٍ ، فَأَرَادَ الطَّالِبُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ السِّجْنِ حَتَّى يُخَاصِمَهُ فَقَالَ الَّذِي حَبَسَهُ : خُذْ لِي مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ فِيمَا لِي عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُخْرِجُهُ لَهُ وَيُخَاصِمُهُ وَهُوَ مَعَهُ حَتَّى يَرُدَّهُ إلَى مَحْبِسِهِ وَلَا يَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ ، لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ وَهُوَ مَحْبُوسٌ ، مَعْنَاهُ : إنَّمَا يُخْرِجُهُ مَعَ أَمِينِهِ ، وَهُوَ فِي السِّجْنِ مَحْبُوسٌ فِي يَدِ أَمِينِهِ فَكَذَلِكَ إذَا أَخْرَجَهُ وَلَا غَرَضَ لِلطَّالِبِ هُنَا فِي الْمُطَالَبَةِ بِالْكَفِيلِ سِوَى التَّعَنُّتِ ، فَلَا يَحْبِسُهُ الْقَاضِي إلَى ذَلِكَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ : لَا يُجْعَلُ لَهَا أَجَلًا إنَّمَا ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ خُلُوصِهِ إلَى الْقَاضِي حَتَّى إذَا كَانَ يُمَكِّنُهُ مِنْ التَّقَدُّمِ إلَى الْقَاضِي فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ جَازَ ذَلِكَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَهَذَا عِنْدَهُمْ جَمِيعًا ، لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ تَوْفِيرُ النَّظَرِ عَلَى الْمُدَّعِي وَإِذَا كَانَتْ الدَّعْوَى فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ فَخِفْت أَنْ يُغَيِّبَهَا الْمَطْلُوبُ وَكَانَتْ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ وَضَعْتهَا عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ وَلَمْ أَجْعَلْ لِذَلِكَ وَقْتًا وَجَعَلْته بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ ، لِأَنَّ فِي التَّعْدِيلِ هُنَا مَعْنَى النَّظَرِ لِلْمُدَّعِي وَلَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ ضَرَرٍ عَلَى الْمُدَّعِي وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَأْخُذُ كَفِيلًا بِتِلْكَ الْعَيْنِ ، وَلَكِنَّ الْمَقْصُودَ رُبَّمَا لَا يَتِمُّ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ بِأَنْ يُغَيِّبَهَا الْخَصْمُ وَلَمْ يَعْرِفْ الشُّهُودُ أَوْصَافَهَا فَلَا يَتَمَكَّنُونَ مِنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَعْرِفُهُ الشُّهُودُ أَوْ مِمَّا لَا يُمْكِنُ تَعْيِينُهُ أَصْلًا ؛ لَمْ يَصِفْهُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ لِأَنَّ النَّظَرَ يَتِمُّ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ بِمَحْضَرٍ مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ .
وَأَمَّا الْعَقَارُ فَلَيْسَ فِيهِ كَفَالَةٌ وَلَا يُوضَعُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ لِأَنَّ تَعْيِينَهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ

وَلَا حَاجَةَ إلَى إحْضَارِهَا لِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَإِنَّمَا إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ بِذِكْرِ الْحُدُودِ .
فَإِنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ وَكَانَتْ أَرْضًا فِيهَا نَخِيلُ تَمْرٍ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُوضَعَ هَذَا عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ إذَا خِيفَ عَلَى الْمَطْلُوبِ اسْتِهْلَاكُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَقَدْ ثَبَتَ حَقُّهُ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ قَضَى الْقَاضِي لَهُ قَبْلَ أَنْ تَظْهَرَ عَدَالَةُ الشُّهُودِ بَعْدَ قَضَائِهِ فَمِنْ تَمَامِ النَّظَرِ لَهُ أَنْ يُوضَعَ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ لِكَيْ لَا يَتَمَكَّنَ الْمَطْلُوبُ مِنْ اسْتِهْلَاكِهِ وَيُؤْخَذُ الْكَفِيلُ فِي دَعْوَى الدَّيْنِ وَفِي الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ وَجَمِيعِ أَجْنَاسِ حُقُوقِ الْعِبَادِ مِمَّا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ .

وَإِذَا ادَّعَى الْمُدَّعِي أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقَالَ سَلْهُ أَيُقِرُّ بِمَالِي أَوْ يُنْكِرُهُ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ لِيَعْلَمَ الْمُدَّعِي أَنَّهُ بِمَاذَا يُعَامِلُهُ النَّاسُ .
فَإِنْ أَنْكَرَ قَالَ لِلْمُدَّعِي : أَحْضِرْ بَيِّنَتَك ، وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ وَلَمْ يُنْكِرْ ؛ قَالَ لِلْمُدَّعِي : أَحْضِرْ الْبَيِّنَةَ لِأَنَّ السَّاكِتَ بِمَنْزِلَةِ الْمُنْكِرِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ وَطَلَبَ يَمِينَهُ فَإِنْ كَانَ أَنْكَرَ اسْتَحْلَفَهُ الْقَاضِي لَهُ وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ وَلَمْ يُنْكِرْ .
فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَسْتَحْلِفُهُ وَلَكِنْ يَحْبِسُهُ لِيَتَجَنَّبَ خَصْمَهُ لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ لِتَرَجُّحِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِي إنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَلَا مَعْنَى لِلِاشْتِغَالِ بِهِ قَبْلَ إنْكَارِهِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْقَاضِيَ يَسْتَحْلِفُهُ لِأَنَّ سُكُوتَهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْإِنْكَارِ شَرْعًا حَتَّى يَقْبَلَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ سُكُوتِهِ فَكَذَلِكَ يَعْرِضُ الْيَمِينَ عَلَى السَّاكِتِ حَتَّى يَقْضِيَ عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ لِحَقِّ الْمُدَّعِي وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَحْبِسَهُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ وَلَا يُجْبِرُهُ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهُ مَا ثَبَتَ عَلَيْهِ شَيْءٌ بِمُجَرَّدِ سُكُوتِهِ ، فَلَا يُعَاقِبُهُ بِالْحَبْسِ .
وَالْمَقْصُودُ حَاصِلٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى الْإِنْكَارِ لِأَنَّ سُكُوتَهُ قَائِمٌ مَقَامَ إنْكَارِهِ فَإِنَّ الْمُنْكِرَ مُمْتَنِعٌ ، وَالسَّاكِتَ كَذَلِكَ ، وَإِنْ قَالَ الْمَطْلُوبُ لِلْقَاضِي : سَلْ الطَّالِبَ مَنْ أَيِّ وَجْهٍ يَدَّعِي عَلَى هَذَا الْمَالَ سَأَلَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ أَبَى أَنْ يُبَيِّنَ وَجْهَهُ سَأَلَهُ الْبَيِّنَةَ لِأَنَّهُ بِدَعْوَى الْمَالِ قَدْ تَمَّ مَا كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ مِنْ جَانِبِهِ وَرُبَّمَا يَضُرُّهُ بَيَانُ الْجِهَةِ وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُجْبِرَ أَحَدًا عَلَى مَا يَضُرُّهُ وَلَا أَنْ يَحْبِسَهُ إذَا امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَكِنْ يَسْأَلُهُ الْبَيِّنَةَ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ

بَيِّنَةٌ اسْتَحْلَفَ الْمَطْلُوبَ بِاَللَّهِ مَالَهُ قِبَلَهُ هَذَا الْحَقَّ وَلَا شَيْءَ مِنْهُ فَإِنْ حَلَفَ دَعَا الْمُدَّعِي مَا عَلَى شُهُودِهِ وَفِي هَذَا بَيَانٌ مَا : أَنَّ لِلْمُدَّعِي أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْخَصْمَ وَإِنْ كَانَ شُهُودُهُ حُضُورًا ، وَهُوَ قَوْلُهُمَا فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَا يَسْتَحْلِفُهُ إذَا زَعَمَ الْمُدَّعِي أَنَّ شُهُودَهُ حُضُورٌ .
هَكَذَا ذَكَرَهُ فِي النَّوَادِرِ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُدَّعِي مِنْ ذَلِكَ هَتْكُ سِتْرِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَافْتِضَاحُهُ .

وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا : هِيَ بِيضٌ وَقَالَ الْآخَرُ : سُودٌ ، وَلِلْبِيضِ صَرْفٌ عَلَى السُّودِ فَإِنْ ادَّعَى الطَّالِبُ الْبِيضَ أَوْ ادَّعَى الْمَالَيْنِ جَمِيعًا قَضَيْت لَهُ بِالسُّودِ لِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى ذَلِكَ لَفْظًا وَمَعْنًى فَإِنَّ الْبَيَاضَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ لَا تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ أَحَدِهِمَا وَتَبْقَى شَهَادَتُهُمَا عَلَى أَصْلِ الْأَلْفِ فَيَقْضِي بِالْقَدْرِ الْمُتَيَقَّنِ وَهُوَ الشُّهُودُ .
وَإِنْ ادَّعَى الْمُدَّعِي السُّودَ بَطَلَتْ شَهَادَةُ الشَّاهِدِ عَلَى الْبِيضِ لِأَنَّهُ أَكْذَبَهُ فِي ذَلِكَ وَلَا يَقْضِي لَهُ بِالسُّودِ حَتَّى يُحْضِرَ شَاهِدًا آخَرَ عَلَيْهَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَشْهَدَ بِكُرِّ حِنْطَةٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا : جَيِّدٌ وَالْآخِرُ : رَدِيءٌ ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِكُرِّ حِنْطَةٍ وَالْآخِرُ بِكُرِّ شَعِيرٍ ؛ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِشَيْءٍ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْجِنْسَيْنِ شَاهِدًا وَاحِدًا .
وَالْمُدَّعِي إنَّمَا يَدَّعِي أَحَدَهُمَا فَيَكُونُ مُكَذِّبًا أَحَدَ شَاهِدَيْهِ .

وَلَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ فَشَهِدَ لَهُ بِهَا شَاهِدٌ ، وَالْآخَرُ بِمِائَتَيْنِ ؛ لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفِي قَوْلِهِمَا تُقْبَلُ عَلَى مِقْدَارِ الْمِائَةِ وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى مَا سَبَقَ أَنَّ عِنْدَهُمَا الْمُوَافَقَةُ بَيْنَ الشَّاهِدَيْنِ مَعْنًى يَكْفِي لِقَبُولِ الشَّهَادَةِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُعْتَبَرُ اتِّفَاقُهُمَا فِي اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى جَمِيعًا وَلَوْ ادَّعَى مِائَةً وَخَمْسِينَ فَشَهِدَ لَهُ أَحَدُهُمَا بِمِائَةٍ وَالْآخَرُ بِمِائَةٍ وَخَمْسِينَ ؛ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا عَلَى الْمِائَةِ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَيْهَا لَفْظًا وَمَعْنًى وَإِنَّمَا تَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِزِيَادَةِ الْخَمْسِينَ وَهُمَا اسْمَانِ أَحَدُهُمَا مَعْطُوفٌ عَلَى الْآخَرِ .

وَلَوْ ادَّعَى خَمْسَةَ عَشَرَ فَشَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ بِعَشَرَةٍ وَالْآخَرُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ ؛ لَا تُقْبَلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي شَيْءٍ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ اسْمٌ وَاحِدٌ لَقَدْرٍ مَعْلُومٍ بِدَلِيلِ أَنَّهُ خَلَا عَنْ حَرْفِ الْعَطْفِ فَهُوَ كَالْمِائَةِ وَالْمِائَتَيْنِ وَعِنْدَهُمَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْأَقَلِّ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ شَهِدَ عِنْدَهُ شَاهِدَانِ : أَحَدُهُمَا بِتِسْعِمِائَةٍ ، وَالْآخَرُ بِثَمَانِمِائَةٍ فَقَضَى شُرَيْحٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِالْأَقَلِّ وَرُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ الْحَسَنِ وَإِبْرَاهِيمَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : سَمِعْت ابْنَ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ : شَهَادَةُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ جَائِرَةٌ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ أَنَّهُ قَوْلُ عُلَمَائِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَبَيَّنَ الْمَعْنَى فِيهِ فَقَالَ إنَّمَا الْهَوَى شَيْءٌ اُفْتُتِنَ بِهِ رَجُلٌ فَأَخْطَأَ فِي ذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ تَبْطُلَ بِهِ شَهَادَتُهُ وَإِنَّمَا دَخَلُوا فِي الْهَوَى لِشِدَّةِ الْمُبَالَغَةِ فِي الدِّينِ فَإِنَّهُمْ عَظَّمُوا الذُّنُوبَ حَتَّى جَعَلُوهَا كُفْرًا فَيُؤْمَنُ عَلَيْهِمْ شَهَادَةُ الرِّبَا .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ أَعْظَمَ الذُّنُوبِ بَعْدَ الْكُفْرِ الْقَتْلُ .
ثُمَّ دِمَاءُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُمْ أَعْظَمُ الدِّمَاءِ وَقَدْ قَتَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا .
فَلَوْ شَهِدَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ أَمَا كَانَ تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ إلَّا الْخَطَّابِيَّةُ وَهُمْ صِنْفٌ مِنْ الرَّوَافِضِ فَإِنَّهُمْ بَلَغَنِي أَنَّ بَعْضَهُمْ يُصَدِّقُ بَعْضًا بِمَا يَدَّعِي وَيَشْهَدُ لَهُ بِهِ إذَا حَلَفَ عِنْدَهُ أَنَّهُ مُحِقٌّ فَهَذَا مُتَّهَمٌ فِي شَهَادَتِهِ فَلَا أَقْبَلُ شَهَادَتَهُ لِهَذَا .

وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ قِبَلَ رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقَالَ خَمْسُمِائَةٍ مِنْهَا مِنْ ثَمَنِ عَبْدٍ قَدْ قَبَضَهُ وَخَمْسُمِائَةٍ مِنْ ثَمَنِ مَتَاعٍ قَبَضَهُ وَجَاءَ بِشَاهِدَيْنِ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى خَمْسِمِائَةٍ ثَمَنِ عَبْدٍ وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ ثَمَنِ مَتَاعٍ قَدْ قَبَضَهُ ؛ فَإِنَّهُ يَجُوزُ مِنْ ذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ لِأَنَّ الْبَيْعَ انْتَهَى بِتَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا دَعْوَاهُ دَعْوَى الدَّيْنِ فَهُوَ كَمَا لَوْ ادَّعَى أَلْفًا وَشَهِدَ لَهُ الشَّاهِدَانِ بِخَمْسِمِائَةٍ .

وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَبَضَ مِنْهَا خَمْسَمِائَةٍ وَأَنْكَرَ الطَّالِبُ قَبْضَهَا فَشَهَادَتُهُمَا بِأَلْفٍ جَائِزَةٌ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى وُجُوبِهَا وَإِنَّمَا تَفَرَّدَ أَحَدُهُمَا بِالشَّهَادَةِ بِشَيْءٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ قَضَاهُ خَمْسَمِائَةٍ وَلَوْ قَضَاهُ جَمِيعَ الْمَالِ لَمْ يَبْطُلْ بِهِ أَصْلُ الشَّهَادَةِ فَهَذَا مِثْلُهُ .
وَعَنْ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ مُكَذِّبٌ أَحَدَ شَاهِدَيْهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ هُوَ غَيْرُ مُكَذِّبٍ لَهُ فِيمَا شَهِدَ لَهُ بِهِ وَإِنَّمَا كَذَّبَهُ فِيمَا شَهِدَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ لَا يَضُرُّهُ فَكُلُّ أَحَدٍ يُصَدِّقُ الشَّاهِدَ فِيمَا شَهِدَ لَهُ بِهِ وَيُكَذِّبُهُ فِيمَا شَهِدَ عَلَيْهِ أَرَأَيْت لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَجَرَهُ سَنَةً أَكُنْت تُبْطِلُ شَهَادَتَهُ عَلَى أَصْلِ الْمَالِ بِذَلِكَ ؟ وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَالَ الطَّالِبُ : إنَّمَا لِي عَلَيْك خَمْسُمِائَةٍ وَقَدْ كَانَتْ أَلْفًا فَقَبَضْت مِنْهَا خَمْسَمِائَةٍ .
وَوَصَلَ الْكَلَامَ أَوْ لَمْ يَصِلْ فَإِنَّ شَهَادَتَهُمَا جَائِزَةٌ بِخَمْسِمِائَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُكَذِّبْهُمَا بَلْ وَفَّقَ بَيْنَ دَعْوَاهُ وَشَهَادَتِهِمَا بِتَوْفِيقٍ مُحْتَمَلٍ فَقَدْ يَسْتَوْفِي الْمُدَّعِي بَعْضَ حَقِّهِ وَلَا يُعَرِّفُ الشَّاهِدَ بِذَلِكَ .
وَلَوْ قَالَ : لَمْ يَكُنْ لِي عَلَيْك قَطُّ إلَّا خَمْسُمِائَةٍ أُبْطِلَتْ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَكْذَبَهُمَا فِيمَا يَشْهَدَانِ لَهُ مِنْ الزِّيَادَةِ وَلَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ لِرَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ جَارِيَةٍ قَدْ قَبَضَهَا الْمُشْتَرِي فَقَالَ الْبَائِعُ : قَدْ أَشْهَدَهُمْ الْمُشْتَرِي بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ ، وَالدَّيْنُ بَاقٍ عَلَيْهِ مِنْ ثَمَنِ الدَّيْنِ مَتَاعٌ ؛ أَجَزْتُ شَهَادَتَهُمَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَبِيعَ إذَا كَانَ مَقْبُوضًا فَالْعَقْدُ فِيهِ مُنْتَهٍ .
وَإِنَّمَا دَعْوَاهُ دَعْوَى الدَّيْنِ وَقَدْ صَدَّقَ الشُّهُودَ فِي ذَلِكَ .
وَلَوْ قَالَ : لَمْ يُشْهِدْهُمَا بِهَذَا ، وَلَكِنْ

أَشْهَدَهُمَا أَنَّهُ مِنْ ثَمَنِ مَتَاعٍ ؛ أَبْطَلْتُ شَهَادَتَهُمَا لِأَنَّهُ أَكْذَبَهُمَا فِيمَا شَهِدَا لَهُ بِهِ وَأَقَرَّ عَلَيْهِمَا بِالْغَفْلَةِ وَالنِّسْيَانِ .
وَلَوْ شَهِدَ أَنَّهُ كَفَلَ لَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَنْ فُلَانٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْمَالِ لِأَنَّهُ مَا أَكْذَبَهُمَا فِي الشَّهَادَةِ وَيَجْعَلُ مَا ثَبَتَ بِشَهَادَتِهِمَا كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ .
وَلَوْ قَالَ : لَمْ يُقِرَّ بِهَذَا وَإِنَّمَا أَقَرَّ أَنَّهَا كَانَتْ عَنْ فُلَانٍ ؛ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّهُ قَدْ أَكْذَبَهُمَا .
وَلَوْ أَنْكَرَ الْمَطْلُوبُ أَنْ يَكُونَ لِلطَّالِبِ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَشَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَجَاءَ الْمَطْلُوبُ بِشَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ بِالْبَرَاءَةِ مِنْهَا وَالدَّفْعِ إلَيْهِ أَجَزْت ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ إنْكَارِهِ لِلْمَالِ فِي الْحَالِ وَبَيْنَ مَا ادَّعَى مِنْ الْإِبْرَاءِ وَالْإِيفَاءِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْإِبْرَاءِ وَالْإِيفَاءِ .
وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ هُنَا : لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ لِكَوْنِهِ مُنَاقِضًا فِي دَعْوَاهُ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : هُوَ غَيْرُ مُنَاقِضٍ لِأَنَّهُ يَقُولُ : مَا كَانَ لَهُ عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ وَلَكِنْ افْتَدَيْت نَفْسِي مِنْ الْمَالِ الَّذِي ادَّعَاهُ عَلَيَّ أَوْ سَأَلْته أَنْ يُبْرِئَنِي فَفَعَلَ ذَلِكَ .
وَالْبَيِّنَةُ حُجَّةٌ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهَا مَعَ الْعَمَلِ بِهَا وَلَوْ كَانَ قَالَ : لَمْ أَدْفَعْ إلَيْهِ شَيْئًا ، أَوْ لَمْ أُقَبِّضْهُ شَيْئًا ، أَوْ لَمْ أَعْرِفْهُ ، أَوْ لَمْ أُكَلِّمْهُ ، أَوْ لَمْ أُخَالِطْهُ ؛ لَمْ أَقْبَلْ مِنْهُ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى دَفْعِ الْمَالِ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِهِ إكْذَابٌ مِنْهُ لِشُهُودِهِ .
وَشَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الْبَرَاءَةِ فِي دَيْنٍ أَوْ كَفَالَةٍ - وَقَدْ اخْتَلَفَا فِي الْوَقْتِ أَوْ الْمَكَانِ - جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ جَائِزَةٌ بِإِقْرَارٍ مِنْ الطَّالِبِ ، فَلَا يَضُرُّهُمْ الِاخْتِلَافُ فِي الْمَكَانِ أَوْ الزَّمَانِ .

وَلَوْ كَانُوا كُفَلَاءَ ثَلَاثَةً بَعْضُهُمْ كَفِيلٌ عَنْ بَعْضٍ فَشَهِدَ اثْنَانِ عَلَى وَاحِدٍ أَنَّهُ دَفَعَ الْمَالَ الَّذِي عَلَيْهِمْ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّهُمَا يَنْفَعَانِ أَنْفُسَهُمَا بِذَلِكَ ، وَهُوَ إسْقَاطُ مُطَالَبَةِ الطَّالِبِ عَنْهُمَا وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِمَا الْمَشْهُودُ لَهُ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَبْرَآ مِنْ شَيْءٍ مِنْ حَقِّ الطَّالِبِ وَإِنَّمَا يَرْجِعُ الْكَفِيلُ عَلَى الْأَصِيلِ إذَا اسْتَفَادَ الْكَفِيلُ الْبَرَاءَةَ مِنْ حَقِّ الطَّالِبِ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِمَا بِشَيْءٍ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ مَا يُصَدَّقُ فِيهِ الدَّافِعُ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ ثَلَثُمِائَةِ دِرْهَمٍ كُلُّ مِائَةٍ مِنْهَا فِي صَكٍّ ، فَصَكٌّ مِنْهَا قَرْضٌ ، وَصَكٌّ كَفَالَةٌ عَنْ رَجُلٍ ، وَصَكٌّ كَفَالَةٌ عَنْ آخَرَ ، فَدَفَعَ الْمَطْلُوبُ مِائَةَ دِرْهَمٍ إلَى الطَّالِبِ وَأَشْهَدَ ذَلِكَ الصَّكِّ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُعْطِي وَقَدْ صَرَّحَ فِي الْإِعْطَاءِ بِالْجِهَةِ الَّتِي أَعْطَى بِهَا الْمَالَ فَتَصْرِيحُهُ بِذَلِكَ نَفَى مِنْهُ الْإِعْطَاءَ بِسَائِرِ الْجِهَاتِ وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ النَّافِي وَالْمُثْبِتِ ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَشْهَدْ عِنْدَ الْإِعْطَاءِ فَوَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّالِبِ فِي الْجِهَةِ الَّتِي أَعْطَى بِهَا ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَطْلُوبِ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ لِمَا أَدَّى مِنْ الطَّالِبِ .
وَالْقَوْلُ فِي بَيَانِ جِهَةِ الطَّالِبِ لِلتَّمْلِيكِ قَوْلُ الْمُمَلِّكِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فَالْقَوْلُ مَا يَقُولُهُ الْبَائِعُ } وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ التَّمْلِيكَ أَصْلًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِالتَّمْلِيكِ مِنْ جِهَةٍ دُونَ جِهَةٍ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَدْيُونَ إنَّمَا يَقْضِي الدَّيْنَ بِمِلْكِ نَفْسِهِ .
وَالْإِنْسَانُ مُطْلَقُ التَّصَرُّفِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ مَقْبُولُ الْبَيَانِ فِيهِ ، فِي الِانْتِهَاءِ كَمَا فِي الِابْتِدَاءِ إذَا كَانَ مُفِيدًا لَهُ وَهَذَا بَيَانٌ مُفِيدٌ فَرُبَّمَا يَكُونُ بِبَعْضِ الْمَالِ رَهْنٌ فَتَعَيَّنَ الْمَدْفُوعُ مِمَّا بِهِ الرَّهْنُ لِيَسْتَرِدَّ الرَّهْنَ وَرُبَّمَا يَكُونُ بِبَعْضِ الْمَالِ كَفِيلٌ فَتَعَجَّلَ الْمَكْفُولُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ لِيُبْرِئَ كَفِيلَهُ ، وَإِنْ مَاتَ الدَّافِعُ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ؛ كَانَتْ الْمِائَةُ مِنْ كُلِّ صَكٍّ ثَلَاثَةً لِأَنَّهُ لَيْسَ جَعْلُ الْمَدْفُوعِ مِنْ بَعْضِهَا بِأَوْلَى بِبَعْضٍ .
وَلَا بَيَانَ فِي ذَلِكَ لِوَرَثَتِهِ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَخْلُفُونَهُ فِيمَا صَارَ مِيرَاثًا لَهُمْ وَالْمَالُ الَّذِي قُضِيَ بِهِ دَيْنُهُ لَمْ يَصِرْ مِيرَاثًا لَهُمْ ؛ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ

رَأْيٍ كَانَ لَهُ فِي التَّعْيِينِ فَلَا يَصِيرُ مِيرَاثًا وَهُوَ حَقُّ الْبَيَانِ لِمَا أَرَادَهُ عِنْدَ الْإِعْطَاءِ .
وَلَا طَرِيقَ لِوَرَثَتِهِ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ فَلَا يَقُومُونَ فِيهِ مَقَامَهُ كَحَقِّ الْبَيَانِ فِي الْعِتْقِ الْمُبْهَمِ ، وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ الدَّافِعُ وَالْمَدْفُوعُ إلَيْهِ وَاخْتَلَفَتْ الْوَرَثَةُ فَإِنَّهَا مِنْ كُلِّ صَكٍّ ثَلَاثَةٌ إلَى أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى شَيْءٍ كَانَ مِنْ الدَّافِعِ قَبْلَ مَوْتِهِ فَبِهَا تَعَيُّنُ بَعْضِ الْجِهَاتِ فَيُجْعَلُ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ ، أَوْ يَتَصَادَقُ الْوَرَثَةُ كُلُّهُمْ عَلَى شَيْءٍ يَعْنِي وَرَثَةَ الدَّافِعِ وَالْمَدْفُوعِ إلَيْهِ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ فَإِذَا تَصَادَقُوا عَلَى شَيْءٍ كَانَ ذَلِكَ كَالثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ ، أَوْ يَكُونُ الْقَابِضُ حَيًّا فَيَقُولُ شَيْئًا فَتُصَدِّقُهُ وَرَثَةُ الدَّافِعِ فِي ذَلِكَ .

وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلَيْنِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فِي صَكٍّ ثُمَّ إنْ أَحَدُهُمَا كَفَلَ عَنْ صَاحِبِهِ بِأَمْرِهِ ثُمَّ أَدَّى خَمْسَمِائَةٍ مِمَّا فِي الصَّكِّ فَجَعَلَهُ مِنْ حِصَّةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ عِنْدَ الدَّفْعِ أَوْ بَعْدَ الدَّفْعِ ؛ فَذَلِكَ صَحِيحٌ وَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهُ وَيَرْجِعُ بِهَا الْمَكْفُولُ عَنْهُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمَالِكُ لِمَا أَدَّى .
وَهَذَا الْبَيَانُ مِنْهُ مُفِيدٌ فَإِذَا قَبِلَ مِنْهُ ؛ كَانَ مُؤَدِّيًا دَيْنَ الْكَفَالَةِ فَيَرْجِعُ عَلَى الْأَصِيلِ لِأَنَّهُ كَفَلَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ ، وَلَوْ لَمْ يُؤَدِّ شَيْئًا حَتَّى كَفَلَ الْآخَرُ عَنْهُ أَيْضًا بِأَمْرِهِ فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ أَوْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ عَلَى ذَلِكَ فِي أَصْلِ الصَّكِّ فِي عَقْدِ الْبَيْعِ أَوْ الْقَرْضِ فَأَيُّهُمَا قَضَى شَيْئًا فَهُوَ مِنْ حِصَّتِهِ خَاصَّةً دُونَ حِصَّةِ صَاحِبِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ حِصَّتَهُ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لَهُ فِي أَنْ يُجْعَلَ الْمُؤَدِّيَ عَنْ صَاحِبِهِ لَا مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ بِأَنْ يَقُولَ : أَنَا كَفِيلٌ عَنْك بِأَمْرِك ، وَأَدَاؤُك عَنِّي كَأَدَائِي بِنَفْسِي فَكَانَ لِي أَنْ أُجْعَلَ الْمُؤَدِّيَ عَنْك فَأَنَا أَجْعَلُهُ الْآنَ عَنْك فَلَا يَزَالُ يَدُورُ كَذَلِكَ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَالْمُؤَدِّي هُنَاكَ إذَا جُعِلَ الْمُؤَدِّيَ عَنْ صَاحِبِهِ لَا يَكُونُ لِصَاحِبِهِ أَنْ يُعَارِضَهُ فَيُجْعَلَ الْمُؤَدِّيَ عَنْهُ لِأَنَّ صَاحِبَهُ لَيْسَ بِكَفِيلٍ عَنْهُ .
فَإِنْ أَدَّى زِيَادَةً عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِ ؛ كَانَتْ مِمَّا كَفَلَ بِهِ عَنْ صَاحِبِهِ لِأَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَتَمَكَّنُ فِي مُعَارَضَتِهِ مِنْ هَذِهِ الزِّيَادَةِ وَقَدْ اسْتَفَادَ الْبَرَاءَةَ عَنْ حِصَّتِهِ بِأَدَائِهِ .
وَبَرَاءَةُ الْأَصِيلِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ ، وَكَذَلِكَ إنْ شَرَطَ عِنْدَ الْأَدَاءِ لِلنِّصْفِ أَنْ يُؤَدِّيَ ذَلِكَ مِنْ حِصَّةِ صَاحِبِهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مِنْ حِصَّتِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَ زِيَادَةً عَلَى النِّصْفِ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ حَقٌّ لَا يُفِيدُهُ شَيْئًا ؛ فَإِنَّ صَاحِبَهُ يُعَارِضُهُ بِجَعْلِ الْمُؤَدِّي عَنْهُ .

وَلَوْ كَانَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ عَلَيْهِمْ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ بَيْعٍ ، وَبَعْضُهُمْ كُفَلَاءُ عَنْ بَعْضٍ كَانَ مَا أَدَّى أَحَدُهُمْ مِنْ حِصَّتِهِ إلَى الثَّلَاثِ فَإِذَا جَاوَزَ الثَّلَاثَ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مِنْ حِصَّةِ صَاحِبِهِ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَجْعَلَهَا مِنْ حِصَّةِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْآخَرَيْنِ كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ كَمَا أَنَّهُ كَفِيلٌ عَنْهُمَا فَإِذَا جَعَلَ الزِّيَادَةَ مِنْ حِصَّةِ أَحَدِهِمَا كَانَ لِلْمَجْعُولِ ذَلِكَ مِنْ حِصَّتِهِ أَنْ يَجْعَلَهُ مِنْ حِصَّةِ الْآخَرِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي بَيَّنَّا فَتَحَقَّقَتْ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَهُمَا فَلِهَذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ مِنْ النَّصِيبَيْنِ جَمِيعًا فَيَرْجِعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ ذَلِكَ كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ الْمُعَارَضَةِ وَالْمُسَاوَاةِ .

وَلَوْ كَانُوا مُكَاتَبِينَ ثَلَاثَةً بَعْضُهُمْ كُفَلَاءُ عَنْ بَعْضٍ فَأَدَّى بَعْضُهُمْ طَائِفَةً مِنْ الْكِتَابَةِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ حِصَّتِهِمْ جَمِيعًا قَلَّ الْمُؤَدَّى أَوْ كَثُرَ .
وَلَوْ جَعَلَهَا الْمُؤَدِّي مِنْ حِصَّتِهِ أَوْ حِصَّةِ صَاحِبَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا ؛ يَجُوزُ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْمُكَاتَبَةِ إذْ لَوْ لَمْ يَجْعَلْهُمْ كَذَلِكَ ؛ لَمْ يَصِحَّ فَإِنَّ الْكَفَالَةَ مِنْ الْمُكَاتَبِ ، وَالْكَفَالَةُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ لَا تَكُونُ صَحِيحَةً .
وَالْمُكَاتَبُ الْوَاحِدُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يُجْعَلَ الْمُؤَدِّيَ عَنْ بَعْضِ نَفْسِهِ دُونَ بَعْضٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ شَيْئًا .
فَهَذَا مِثْلُهُ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَهُنَاكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَصِيلٌ فِي بَعْضِ الْمَالِ كَفِيلٌ فِي الْبَعْضِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ صَحِيحٌ مِنْ الْأَحْرَارِ .
تَوْضِيحُ الْفَرْقِ أَنَّ فِي جَعْلِ الْمُؤَدَّى مِنْ نَصِيبِ الْمُؤَدِّي - خَاصَّةً فِي بَابِ الْكِتَابَةِ - إبْطَالَ شَرْطِ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ أَنْ لَا يَعْتِقَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ حَتَّى يَصِلَ إلَيْهِ جَمِيعُ الْمَالِ فَإِذَا أَدَّى أَحَدُهُمْ الثُّلُثَ ، وَجَعَلْنَا ذَلِكَ مِنْ نَصِيبِهِ خَاصَّةً عَتَقَ هُوَ ؛ لِأَنَّهُ بَرِئَ مِمَّا عَلَيْهِ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ، وَبَرَاءَةُ الْمُكَاتَبِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ تُوجِبُ الْعِتْقَ .
وَفِي هَذَا إبْطَالُ شَرْطِ الْمَوْلَى ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْمُؤَدَّى عَنْهُمْ جَمِيعًا ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي ثَمَنِ الْمَبِيعِ ؛ لِأَنَّا وَإِنْ جَعَلْنَا الْمُؤَدَّى هُنَاكَ مِنْ نَصِيبِ الْمُؤَدِّي خَاصَّةً ؛ يَبْقَى الْبَائِعُ فِي حَبْسِ الْمَبِيعِ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ الثَّمَنُ فَجَعَلْنَا ذَلِكَ مِنْ حِصَّتِهِ مَا لَمْ يَزِدْ الْمُؤَدَّى عَلَى الثُّلُثِ .

وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ دَيْنٌ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَلَهُ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَدَفَعَ إلَيْهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ ، فَقَالَ الطَّالِبُ : هِيَ وَدِيعَتِي وَقَالَ الْمَطْلُوبُ : هَلَكَتْ الْوَدِيعَةُ وَهِيَ مِنْ الدَّيْنِ الَّذِي كَانَ لَكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الدَّافِعِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي الْمِلْكِ الْمَدْفُوعِ ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ فِي يَدِ الدَّافِعِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي أَنَّهُ مِلْكِي وَلِأَنَّهُ أَمِينٌ فِي الْوَدِيعَةِ مُسَلَّطٌ عَلَى مَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ هَلَاكِهَا ، فَيَثْبُتُ الْقَوْلُ بِهَلَاكِ الْوَدِيعَةِ وَيَبْقَى الدَّيْنُ وَقَدْ دَفَعَ إلَى الطَّالِبِ مِثْلَ الدَّيْنِ عَلَى جِهَةِ قَضَاءِ الدَّيْنِ ؛ فَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى مَا يَدَّعِي مِنْ هَلَاكِ الْوَدِيعَةِ ، وَالْكَفَالَةُ بِالْمَالِ فِي الْمَرَضِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ حَتَّى يَبْطُلَ لِمَكَانِ الدَّيْنِ الْمُحِيطِ بِالتَّرِكَةِ وَيَبْطُلُ إذَا وَقَعَتْ لِوَارِثٍ أَوْ عَنْ وَارِثٍ وَيَبْطُلُ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إذَا كَانَ لِأَجْنَبِيٍّ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمَالَ عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّعِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ تَمْلِيكِ الْمَالِ فِي مَرَضِهِ عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّعِ إلَّا أَنْ يَبْرَأَ مِنْ مَرَضِهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ صَحِيحًا عَلَى كُلِّ حَالٍ لِأَنَّ الْمَرَضَ يَتَعَقَّبُهُ بُرْؤُهُ بِمَنْزِلَةِ حَالِ الصِّحَّةِ فَإِنَّ مَرَضَ الْمَوْتِ مَا يَتَّصِلُ بِهِ الْمَوْتُ وَمَا لَا يَكُونُ مَرَضَ الْمَوْتِ لَا يَكُونُ مُغَيِّرًا لِلْحُكْمِ ، فَإِنَّمَا لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ مِنْ الْمَرِيضِ لِلْوَارِثِ وَعَنْ الْوَارِثِ لِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لِلْوَارِثِ وَهُوَ مَحْجُورٌ عَنْ الْقَوْلِ الَّذِي فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِوَارِثِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمَالِ .

وَلَوْ كَفَلَ الْمَرِيضُ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَقَرَّ بِدِينٍ يُحِيطُ بِمَالِهِ ؛ فَلَا شَيْءَ لِلْمَكْفُولِ لَهُ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تَبَرُّعٌ وَاصْطِنَاعُ مَعْرُوفٍ كَالْهِبَةِ ، وَالدَّيْنُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْهِبَةِ فِي الْمَرَضِ سَوَاءٌ كَانَ بِالْإِقْرَارِ أَوْ بِالْبَيِّنَةِ وَلَوْ كَانَ لَهُ ثَلَاثَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فَكَفَلَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ مَاتَ ؛ جَازَ ذَلِكَ وَأُخِذَ مِنْ مَالِهِ أَلْفٌ لِخُرُوجِ الْمَكْفُولِ بِهِ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ وَرَثَتُهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ إذَا كَانَ كَفِيلًا بِأَمْرِهِ كَمَا لَوْ أَدَّى بِنَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ وَإِذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ مِنْهُ فِي الصِّحَّةِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَمَاتَ الْكَفِيلُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَضَرَبَ الْمَكْفُولُ لَهُ بِدَيْنِهِ مَعَ غُرَمَائِهِ فَأَصَابَهُ خَمْسَمِائَةٍ ثُمَّ مَاتَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ ؛ ضَرَبَ الْمَكْفُولُ لَهُ فِي مَالِهِ بِالْخَمْسِمِائَةِ الَّتِي بَقِيَتْ لَهُ لِبَقَاءِ ذَلِكَ الْقَدْرِ لَهُ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ بَعْدَ مَا اسْتَوْفَى الْخَمْسَمِائَةِ مِنْ تَرِكَةِ الْكَفِيلِ وَضَرَبَ وَارِثُ الْكَفِيلِ بِالْخَمْسِمِائَةِ دَرَاهِمَ الَّتِي أَدَّى ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَدَّى بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ عَنْهُ بِأَمْرِهِ فَكَانَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ فَمَا أَصَابَ وَارِثُ الْكَفِيلِ فَإِنَّهُ يُقْسَمُ بَيْنَ غُرَمَاءِ الْكَفِيلِ بِالْحِصَصِ وَيَضْرِبُ الْمَكْفُولُ لَهُ بِمَا بَقِيَ لَهُ أَيْضًا ( وَهَذِهِ ) هِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ فِي هَذَا جَذْرَ الْأَصَمِّ وَأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِتَخْرِيجِهَا إلَّا بِطَرِيقِ التَّقْرِيبِ فَإِنَّ مَا يَسْتَوْفِي الْمَكْفُولُ لَهُ ثَانِيًا مِمَّا فِي يَدِ الْوَارِثِ لِلْكَفِيلِ يَرْجِعُ بِهِ وَارِثُ الْكَفِيلِ فِي تَرِكَةِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ أَيْضًا فَتُنْتَقَضُ الْقِسْمَةُ الْأُولَى وَلَا يَزَالُ يَدُورُ هَكَذَا إلَى أَنْ يَنْتَهِيَ إلَى مَا لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ .

وَلَوْ أَنَّ مُتَفَاوِضَيْنِ عَلَيْهِمَا أَلْفُ دِرْهَمٍ مَاتَا جَمِيعًا وَتَرَكَا أَلْفًا ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفُ دِرْهَمٍ مَهْرُ امْرَأَتِهِ قُسِّمَ الْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَلَمْ يَضْرِبْ الطَّالِبُ فِي مَالِ أَيِّهِمَا شَاءَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَطْلُوبٌ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ بَعْضُهَا بِجِهَةِ الْأَصَالَةِ وَبَعْضُهَا بِجِهَةِ الْكَفَالَةِ فَيَضْرِبُ بِجَمِيعِ الْأَلْفِ فِي تَرِكَةِ أَيِّهِمَا شَاءَ وَتَضْرِبُ امْرَأَتُهُ بِمَهْرِهَا أَيْضًا ثُمَّ يَضْرِبُ مَعَ امْرَأَةِ الْآخَرِ بِمَا بَقِيَ وَتَضْرِبُ هِيَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ .
هَكَذَا ذَكَرَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ جَوَاهِرُ زَادَهْ وَتَضْرِبُ هِيَ بِاَلَّذِي بَقِيَ لَهَا مِنْ مَهْرِهَا وَلَا تَرْجِعُ الْوَرَثَةُ بِاَلَّذِي أُخِذَ مِنْهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ فِي مَالِ الثَّانِي إلَّا أَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ أَصَابَ مِنْ مَالِهِ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ لِأَنَّهُ فِي مِقْدَارِ النِّصْفِ هُوَ أَصِيلٌ فَإِنْ كَانَ الْمَقْبُوضُ النِّصْفَ أَوْ مَا دُونَهُ ؛ لَا تَرْجِعُ وَرَثَتُهُ فِي تَرِكَةِ الْآخَرِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ فَحِينَئِذٍ يَضْرِبُونَ بِالْفَضْلِ لِأَنَّهُمْ أَدَّوْا ذَلِكَ بِجِهَةِ كَفَالَةِ صَاحِبِهِمْ عَنْ شَرِيكِهِ بِأَمْرِهِ .
فَإِذَا قَبَضُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كَانَ الْمَقْبُوضُ لِامْرَأَتِهِ وَلِلطَّالِبِ إنْ بَقِيَ لَهُ شَيْءٌ بِالْحِصَصِ ثُمَّ عِنْدَ ذَلِكَ يَعُودُ الْجَذْرُ الْأَصَمُّ وَمَا لَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَتِهِ إلَّا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قَدَّرْنَا أَنَّ كُلَّ مَا يَسْتَوْفِيهِ الطَّالِبُ يُثْبِتُ لَهُمْ حَقَّ الرُّجُوعِ بِهِ فِي تَرِكَةِ الشَّرِكَةِ ؛ فَتُنْتَقَضُ بِهِ الْقِسْمَةُ الْأُولَى .
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

بَابُ ادِّعَاءِ الْكَفِيلِ أَنَّ الْمَالَ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ رِبَا ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : وَإِذَا كَفَلَ رَجُلٌ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ بِأَمْرِهِ ثُمَّ غَابَ الْأَصِيلُ فَادَّعَى الْكَفِيلُ أَنَّ الْأَلْفَ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمُطَالَبَةَ بِكَفَالَةٍ صَحِيحَةٍ .
وَالْمَالُ يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ بِالْتِزَامِهِ بِالْكَفَالَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَى الْأَصِيلِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَأَنَا بِهَا كَفِيلٌ بِأَمْرِهِ وَجَحَدَ الْأَصِيلُ ذَلِكَ فَإِنَّ الْمَالَ يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْأَصِيلِ شَيْءٌ .
فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي ادِّعَائِهِ أَنَّ الْمَالَ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ مَا يُسْقِطُ الْمَالَ عَنْهُ ؛ فَلَا يَكُونُ خَصْمًا فِي ذَلِكَ وَهُوَ مَعَ هَذَا مُنَاقِضٌ فِي دَعْوَاهُ لِأَنَّ الْتِزَامَهُ بِالْكَفَالَةِ إقْرَارٌ مِنْهُ أَنَّ الْأَصِيلَ مُطَالِبٌ بِهَذَا الْمَالِ وَالْمُسْلِمُ لَا يَكُونُ مُطَالِبًا بِثَمَنِ خَمْرٍ فَيَكُونُ مُنَاقِضًا فِي قَوْلِهِ أَنَّ الْمَالَ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ ، وَالدَّعْوَى مَعَ التَّنَاقُضِ لَا تَصِحُّ حَتَّى أَنَّهُ لَوْ جَاءَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى إقْرَارِ الطَّالِبِ بِذَلِكَ لَمْ يُقْبَلْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الطَّالِبُ يَجْحَدُ ذَلِكَ وَلَوْ أَرَادَ اسْتِحْلَافَ الطَّالِبِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ يَمِينٌ لِأَنَّ تَوَجُّهَ الْيَمِينِ وَقَبُولَ الْبَيِّنَةِ تَنْبَنِي عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ إلَّا أَنْ يُقِرَّ الطَّالِبُ بِذَلِكَ فَحِينَئِذٍ هُوَ مُنَاقِضٌ وَلَوْ صَدَّقَهُ خَصْمُهُ فِي ذَلِكَ وَالتَّصْدِيقُ مِنْ الْخَصْمِ صَحِيحٌ مَعَ كَوْنِهِ مُنَاقِضًا فِي دَعْوَاهُ ثُمَّ إنَّ أَصْلَ سَبَبِ الْتِزَامِ الْمَالِ جَرَى بَيْنَ الْمَطْلُوبِ وَالطَّالِبِ وَالْكَفِيلُ لَيْسَ بِخَصْمٍ فِي ذَلِكَ الْعَقْدِ وَيَدَّعِي مَعْنًى كَانَ فِي ذَلِكَ الْعَقْدِ حَتَّى إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ خُرُوجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُطَالِبًا بِالْمَالِ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ ؛ لِأَنَّهَا بَيِّنَةٌ تَقُومُ لِلْغَائِبِ ، وَالْبَيِّنَةُ لِلْغَائِبِ وَعَلَى

الْغَائِبِ لَا تُقْبَلُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرِي لِلْجَارِيَةِ إذَا ادَّعَى أَنَّهَا زَوْجَةٌ لِفُلَانٍ الْغَائِبِ وَأَرَادَ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى ذَلِكَ لِيَرُدَّهَا بِالْعَيْبِ لَا يَكُونُ خَصْمًا فِي ذَلِكَ فَهَذَا مِثْلُهُ ( وَالْحَوَالَةُ ) فِي هَذَا كَالْكَفَالَةِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنًا عَنْ صَاحِبِهِ لِأَنَّ أَصْلَ الْمَالِ عَلَى غَيْرِ هَذَا الْكَفِيلِ فَهُوَ لَا يَكُونُ خَصْمًا فِيمَا عَلَى غَيْرِهِ فَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي أَنَّ الطَّرِيقَ الْأَصَحَّ فِي الْكَفَالَةِ أَنَّ الْكَفِيلَ يَلْتَزِمُ الْمُطَالَبَةَ بِمَا عَلَى الْأَصِيلِ وَلَا يَلْتَزِمُ أَصْلَ الْمَالِ فِي ذِمَّتِهِ وَلَوْ أَدَّى الْكَفِيلُ الْمَالَ إلَى الطَّالِبِ وَغَابَ الطَّالِبُ وَحَضَرَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ فَقَالَ : الْمَالُ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ وَجَاءَ بِالْبَيِّنَةِ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَفِيلِ خُصُومَةٌ فِي ذَلِكَ وَيَدْفَعُ الْمَالَ إلَى الْكَفِيلِ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمَالَ بِأَمْرِهِ وَأَدَّى فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ كَيْفَ كَانَ ذَلِكَ الْمَالُ وَيُقَالُ لِلْمَكْفُولِ عَنْهُ : اُطْلُبْ صَاحِبَكَ فَخَاصِمْهُ وَهَذَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يَدَّعِي سَبَبًا فِي تَصَرُّفٍ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَائِبِ وَهَذَا الْحَاضِرُ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْ الْغَائِبِ ، أَوْ لِأَنَّهُ مُنَاقِضٌ فَإِنَّهُ أَمَرَهُ أَنْ يَلْتَزِمَ الْمُطَالَبَةَ الَّتِي هِيَ مُتَوَجِّهَةٌ عَلَيْهِ بِجِهَةِ الْكَفَالَةِ وَلَوْ أَقَرَّ الطَّالِبُ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّ مَالِهِ عِنْدَهُ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ ؛ فَهَذَا مِثْلُهُ وَهُوَ إقْرَارٌ بِبَرَاءَةِ الْأَصِيلِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ : لَمْ يَكُنْ لِي عَلَى الْأَصِيلِ شَيْءٌ وَذَلِكَ يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ وَالْأَصِيلِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ أَبْرَأَ الْأَصِيلَ ؛ بَرِئَ الْكَفِيلُ فَإِذَا بَقِيَ أَصْلُ الْمَالِ مِنْ الْأَصِيلِ بِإِقْرَارِهِ أَوْلَى أَنْ يَبْرَأَ الْكَفِيلُ فَإِنْ أَقَرَّ الطَّالِبُ بِذَلِكَ وَأَبْرَأَ الْقَاضِي الْكَفِيلَ ثُمَّ حَضَرَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ فَأَقَرَّ أَنَّ الْمَالَ الَّذِي عَلَيْهِ قَرْضٌ ؛

لَزِمَهُ الْمَالُ إنْ صَدَّقَهُ الطَّالِبُ بِذَلِكَ لِتَصَادُقِهِمَا عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ لَهُ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ صَحِيحٍ وَلَا يُصَدَّقَانِ عَلَى الْكَفِيلِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْكَفِيلِ وَقَدْ اسْتَفَادَ الْكَفِيلُ الْبَرَاءَةَ بِمَا سَبَقَ مِنْ إقْرَارِ الطَّالِبِ وَيُجْعَلُ هَذَا مِنْ الْمَطْلُوبِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ لِلطَّالِبِ ابْتِدَاءً بِدَيْنٍ آخَرَ سِوَى الدَّيْنِ ؛ كَانَ كَفَلَ بِهِ الْكَفِيلُ .

وَلَوْ أَنَّ مُسْلِمًا بَاعَ مُسْلِمًا خَمْرًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَحَالَ مُسْلِمًا عَلَيْهِ بِهَا بَطَلَتْ الْحَوَالَةُ وَلَوْ أَحَالَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَجَعَلَهَا لَهُ بِذَلِكَ ثُمَّ غَابَ الْمُحِيلُ وَقَالَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ : الْمَالُ الَّذِي عَلَيَّ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ ؛ فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّالِبِ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمَالَ بِالْحَوَالَةِ فَعَلَيْهِ أَدَاءُ مَا الْتَزَمَ وَهُوَ إنَّمَا يَدَّعِي سَبَبًا مُبْطَلًا بِعَقْدٍ جَرَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَائِبِ وَهَذَا الْحَاضِرُ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْهُ فِي ذَلِكَ فَإِذَا دَفَعَ الْمَالَ ثُمَّ حَضَرَ الْمُحِيلُ خَاصَمَهُ : إنْ أَقَامَ عَلَيْهِ بَيِّنَةً بِذَلِكَ ؛ رَجَعَ عَلَيْهِ بِالْمَالِ لِأَنَّهُ قَبِلَ الْحَوَالَةَ بِأَمْرِهِ وَأَدَّى وَاسْتَوْجَبَ الرُّجُوعَ عَلَيْهِ فَكَانَ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بِمَا لِلْمُحِيلِ عَلَيْهِ فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُحِيلِ عَلَيْهِ شَيْءٌ ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالْمَالِ ، وَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ الْمَالَ حَتَّى يَحْضُرَ الْمُحِيلُ فَخَاصَمَهُ وَجَاءَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهَا مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ ؛ أَبْطَلَهَا الْقَاضِي عَنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ قَبِلَ الْحَوَالَةَ مُقَيَّدَةً بِالْمَالِ الَّذِي لِلْمُحِيلِ عَلَيْهِ وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُحِيلِ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَكَانَتْ الْحَوَالَةُ بَاطِلَةً ، وَإِنْ كَانَ أَحَالَهُ عَلَيْهِ حَوَالَةً مُطْلَقَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ؛ لَمْ يَبْرَأْ مِنْهَا وَلَكِنَّهُ يُؤَدِّيهَا وَيَرْجِعُ بِهَا لِأَنَّ الْحَوَالَةَ الْمُطْلَقَةَ لَا تَسْتَدْعِي مَالًا لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ وَلَا فِي يَدِهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَتْ مُطْلَقَةً يُؤَدِّي الْمَالَ ثُمَّ يَرْجِعُ بِمِثْلِهَا عَلَيْهِ .

وَإِذَا بَاعَ الرَّجُلُ رَجُلًا عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَحَالَ الْبَائِعُ غَرِيمَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالْمَالِ الَّذِي بَاعَهُ بِهِ الْعَبْدَ ثُمَّ اسْتَحَقَّ الْعَبْدَ أَوْ وُجِدَ حُرًّا فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُبْطِلُ الْكَفَالَةَ وَالْحَوَالَةَ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ أَحَالَ عَلَيْهِ بِمَالٍ وَلَا مَالَ .
وَلَوْ رَدَّ بِعَيْبٍ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي لَمْ تَبْطُلْ الْحَوَالَةُ وَالْكَفَالَةُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ الْقَبْضِ وَهَذَا عِنْدَنَا .
وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ إذَا كَانَتْ مُقَيَّدَةً .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الثَّمَنَ الَّذِي تَقَيَّدَتْ بِهِ الْحَوَالَةُ بَطَلَ مِنْ الْأَصْلِ لِانْفِسَاخِ الْعَقْدِ مِنْ الْأَصِيلِ ، وَلَوْ ظَهَرَ بُطْلَانُهُ ؛ تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ فَكَذَلِكَ إذَا بَطَلَ مِنْ الْأَصِيلِ إلَّا أَنَّا نَقُولُ : إنَّ الْحَوَالَةَ لَمَّا صَحَّتْ مُقَيَّدَةً بِمَالٍ وَاجِبٍ عِنْدَهُ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا أَوْ بَطَلَ إنَّمَا يَبْطُلُ بِبُطْلَانِهِ أَنْ لَوْ كَانَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالدَّيْنِ بِهَا أَمَّا مِنْ حَيْثُ الْوُجُوبُ فَلَا يُشْكِلُ لِأَنَّ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِالذِّمَّةِ لَا بِالدَّيْنِ وَلَا تَتَعَلَّقُ بِهِ اسْتِيفَاءً لِأَنَّ تَعَلُّقَهُ بِهِ اسْتِيفَاءً إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا كَانَ قَابِلًا لِلِاسْتِيفَاءِ .
وَالدَّيْنُ لَا يَقْبَلُ اسْتِيفَاءَ دَيْنٍ آخَرَ مِنْهُ إلَّا بَعْدَ خُرُوجِهِ فَقَبْلَ خُرُوجِهِ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ لِدَيْنِ الْحَوَالَةِ تَعَلُّقٌ بِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَصَارَ كَالْحَوَالَةِ الْمُطْلَقَةِ فِي حَالَةِ الْبَقَاءِ فَلَا تَبْطُلُ بِبُطْلَانِهِ وَلَا يَلْزَمُ إذَا أَحَالَ عَلَى مُودِعِهِ لِيَسْتَوْفِيَ دَيْنَهُ مِنْ الْوَدِيعَةِ ثُمَّ هَلَكَتْ الْوَدِيعَةُ حَيْثُ تَبْطُلُ الْحَوَالَةُ ؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ لِلدَّيْنِ تَعَلُّقٌ بِهِ اسْتِيفَاءً لِكَوْنِهِ قَابِلًا لِلِاسْتِيفَاءِ مِنْهُ فَجَازَ أَنْ يَبْطُلَ بِبُطْلَانِهِ .

وَإِذَا أَحَالَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ؛ كَانَتْ لِلْمُحْتَالِ عَلَى الْمُحِيلِ وَكَانَ مِثْلُهَا لِلْمُحِيلِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ ثُمَّ مَاتَ الْمُحِيلُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ كَانَ مَالُهُ الَّذِي عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ وَبَيْنَ الْمُحْتَالِ لَهُ بِالْحِصَصِ وَلَا يَخْتَصُّ الْمُحْتَالُ لَهُ بِذَلِكَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَخْتَصُّ بِهِ لِأَنَّهُ اخْتَصَّ بِهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ حَتَّى كَانَ أَحَقَّ بِهِ مِنْ الْمُحِيلِ حَتَّى لَوْ حُجِرَ الْمُحِيلُ عَنْ اسْتِيفَائِهِ فَيَخْتَصُّ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَهَنِ فِي حَقِّ الرَّاهِنِ .
وَلَكِنَّا نَقُولُ : إنَّ مَا فِي ذِمَّةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ مَالُ الْمُحِيلِ ؛ لِأَنَّهُ بِعَقْدِ الْحَوَالَةِ لَا يَصِيرُ لِلْمُحْتَالِ لَهُ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يَقْبَلُ التَّمْلِيكَ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ .
وَمَتَى كَانَ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ كَانَ بَيْنَ غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ لِمَا مَرَّ أَنَّهُ لَا تَعَلُّقَ لِحَقِّهِ بِالدَّيْنِ قَبْلَ الْخُرُوجِ فَصَارَ هُوَ وَسَائِرُ غُرَمَائِهِ سَوَاءً .
وَإِنَّمَا مُنِعَ الْمُحِيلُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِاعْتِبَارِ عُرْضَةِ الْخُرُوجِ لِأَنَّهُ لَوْ خَرَجَ ؛ يَكُونُ الْمُحْتَالُ لَهُ أَحَقَّ بِهَا ، وَلِهَذَا كَانَ التَّوَى عَلَى الْمُحِيلِ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ كَانَتْ مُقَيَّدَةً بِهِ وَقَدْ اُسْتُحِقَّتْ فَصَارَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ مِنْ الْأَصِيلِ فَيَعُودُ الدَّيْنُ عَلَى الْمُحِيلِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ

بَابُ الْحَبْسِ فِي الدَّيْنِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَيُحْبَسُ الرَّجُلُ فِي كُلِّ دَيْنٍ مَا خَلَا دَيْنَ الْوَلَدِ عَلَى الْأَبَوَيْنِ أَوْ عَلَى بَعْضِ الْأَجْدَادِ فَإِنَّهُمْ لَا يُحْبَسُونَ فِي دَيْنِهِ أَمَّا فِي دَيْنِ غَيْرِهِمْ فَيُحْبَسُ لِأَنَّهُ بِالْمَطْلِ صَارَ ظَالِمًا ، وَالظَّالِمُ يُحْبَسُ وَأَنَّهُ عُقُوبَةٌ مَشْرُوعَةٌ ؛ وَلِهَذَا كَانَ حَدًّا فِي الزِّنَا فِي ابْتِدَاءِ الْإِسْلَامِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ { أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ } وَالْمُرَادُ بِهِ : الْحَبْسُ ، وَكَذَلِكَ { حَبَسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا بِالتُّهْمَةِ } ، وَكَذَلِكَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ اتَّخَذَ سِجْنَيْنِ سَمَّى أَحَدَهُمَا نَافِعًا وَالْآخَرَ مُخَيَّسًا ، وَكَذَلِكَ شُرَيْحٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ يَحْبِسُ النَّاسَ وَحَبَسَ ابْنَهُ بِسَبَبِ الْكَفَالَةِ عَنْ رَجُلٍ وَلَا يَحْبِسُهُ فِي أَوَّلِ مَا يَتَقَدَّمُ إلَى الْقَاضِي وَلَكِنَّهُ يَقُولُ لَهُ : قُمْ فَأَرْضِهِ لِأَنَّ الظُّلْمَ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ فَإِنْ عَادَ إلَيْهِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ يَحْبِسْهُ ، وَالْقِيَاسُ فِي دَيْنِ الْوَلَدِ عَلَى وَالِدَيْهِ هَكَذَا .
إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا فِي دَيْنِ الْوَالِدَيْنِ وَمَنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُمْ أَنَّهُ لَا يُعَاقَبُ الْوَالِدُ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ عَلَى وَلَدِهِ .
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يُقَادُ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ } وَلَا يُعَاقَبُ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ عَلَى مَالِهِ لِأَنَّ لَهُ ضَرْبَ تَأْوِيلٍ فِي مَالِهِ وَذَكَرَ حَدِيثَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ اتَّخَذَ سِجْنَيْنِ وَقَالَ فِيهِ أَلَا تَرَانِي كَيِّسًا مُكَيَّسَا بَنَيْتُ بَعْدَ نَافِعٍ مُخَيَّسَا وَعَنْ الشَّعْبِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ رَجُلًا أَتَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَجِرْنِي فَقَالَ : مِمَّ ؟ قَالَ : مِنْ دَيْنٍ .
قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ السِّجْنُ ، ثُمَّ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كَأَنَّك بِالطِّلْبَةِ خِلْوٌ .
ذَكَرَ هَذَا لِبَيَانِ أَنَّ الْحَبْسَ

مَشْرُوعٌ .
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ - : لَا يُبَاعُ مَالُ الْمَدْيُونِ الْمَسْجُونِ فِي دَيْنٍ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَنَانِيرُ أَوْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَرَاهِمُ فَاصْطَرَفَهَا بِدَرَاهِمَ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - يُبَاعُ مَالُهُ .
وَهِيَ مَسَائِلُ الْحَجْرِ ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خَطَبَ النَّاسَ ثُمَّ قَالَ فِي أَسْفَعِ جُهَيْنَةَ رَضِيَ مِنْ دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ أَنْ يُقَالَ لَهُ : سَبَقَ الْحَاجَّ فَادَّانَ مُعْرِضًا حَتَّى دِينَ بِهِ .
فَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ شَيْءٌ فَلْيَفِدْ عَلَيْنَا فَأَنَا بَائِعٌ مَالَهُ ، قَاسِمٌ ثَمَنَهُ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ ، وَإِيَّاكَ وَالدَّيْنَ فَإِنَّ أَوَّلَهُ هَمٌّ وَآخِرَهُ حَرْبٌ .
وَنِعْمَ مَا قَالَ ؛ فَإِنَّ الدَّيْنَ سَبَبُ الْعَدَاوَةِ - خُصُوصًا فِي زَمَانِنَا - فَيُؤَدِّي إلَى إهْلَاكِ النُّفُوسِ وَيَكُونُ سَبَبًا لِهَلَاكِ الْمَالِ خُصُوصًا مُدَايَنَةُ الْمَفَالِيسِ .
وَالْحَرْبُ هُوَ الْهَلَاكُ ثُمَّ إذَا حُبِسَ الْمَدْيُونُ وَلَمْ يَدَّعِ الْإِعْسَارَ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَا يُخْلَى عَنْهُ .
أَمَّا إذَا ادَّعَى الْإِعْسَارَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي دُيُونٍ وَجَبَتْ بِسَبَبِ الْمُبَايَعَاتِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يُصَدَّقَ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يُكَذِّبُهُ لِأَنَّهُ يَكُونُ وَاحِدًا بِاعْتِبَارِ بَدَلِهِ ، وَإِنْ كَانَ بِأَسْبَابٍ مَشْرُوعَةٍ سِوَى الْمُبَايَعَاتِ كَالْمَهْرِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَالْكَفَالَةِ وَبَدَلِ الصُّلْحِ اخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَقَالَ بَعْضُهُمْ : يُصَدَّقُ وَلَا يُحْبَسُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الْعَدَمُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يُصَدَّقُ لِأَنَّ الْتِزَامَهُ الْمَالَ اخْتِيَارًا دَلِيلُ قُدْرَتِهِ وَلَوْ كَانَ دَيْنًا وَجَبَ حُكْمًا بِاسْتِهْلَاكِ مَالٍ وَنَحْوِهِ يَنْبَغِي أَنْ يُصَدَّقَ ، ثُمَّ قَالَ أَبُو حَنِيفَةُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : إذَا حُبِسَ الرَّجُلُ شَهْرَيْنِ يَسْأَلُ عَنْهُ ، وَإِنْ شَاءَ سَأَلَ عَنْهُ فِي أَوَّلِ مَا يَحْبِسُهُ وَالرَّأْيُ فِيهِ إلَى الْقَاضِي إنْ أُخْبِرَ بَعْدَ أُوَيْقَاتٍ أَنَّهُ مُعْسِرٌ خَلَّى

سَبِيلَهُ ، وَإِنْ قَالُوا : وَاجِدٌ أَمَرَ بِحَبْسِهِ حَتَّى يَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ لِأَنَّهُ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ أَخْفَى مَالَهُ فَيَشْهَدُ النَّاسُ عَلَى ظَاهِرِ حَالِهِ ؛ فَتَبْطُلُ حُقُوقُ النَّاسِ وَإِذَا أَخْبَرُوهُ أَنَّهُ مُعْسِرٌ ؛ أَخْرَجَهُ وَلَمْ يَحُلْ بَيْنَ الطَّالِبِ وَبَيْنَ لُزُومِهِ عِنْدَنَا .
وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَمْنَعُهُ مِنْ مُلَازَمَتِهِ لِأَنَّهُ مُنْظِرٌ بِإِنْظَارِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَوْ كَانَ مُنْظِرًا بِإِنْظَارِهِ ؛ لَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ الْمُلَازَمَةِ هَكَذَا كُنَّا نَقُولُ بِأَنَّهُ مَنْظَرٌ إلَى زَمَانِ الْوُجُودِ وَوُجُودُ مَا يُقَدِّرُهُ عَلَى أَدَاءِ الدَّيْنِ مَوْهُومٌ فِي كُلِّ سَاعَةٍ فَيُلَازِمُهُ إذَا وَجَدَ مَالًا أَوْ اكْتَسَبَ شَيْئًا فَوْقَ حَاجَتِهِ الدَّرَاةَ ؛ يُؤْخَذُ مِنْهُ وَالْكَفِيلُ بِالْمَالِ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ خِطَابَ الْأَدَاءِ مُتَوَجِّهٌ عَلَى الْكَفِيلِ كَمَا هُوَ مُتَوَجِّهٌ عَلَى الْأَصِيلِ وَذُكِرَ عَنْ الْكَلْبِيِّ وَمُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَبَسَ بَنِي قُرَيْظَةَ حَتَّى نَزَلُوا فِي حُكْمِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي دَارِ بِنْتِ الْحَارِثِ حَتَّى ضَرَبَ رِقَابَهُمْ } فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْحَبْسَ مَشْرُوعٌ وَإِذَا حُبِسَ الْكَفِيلُ بِالدَّيْنِ ؛ فَلِلْكَفِيلِ أَنْ يَحْبِسَ الْمَكْفُولَ عَنْهُ حَتَّى يُخَلِّصَهُ إذَا كَانَ بِأَمْرِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَازَمَهُ الطَّالِبُ ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَلْزَمَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْأَدَاءَ مِنْ مَالِ الْمَطْلُوبِ بِأَمْرِهِ فَكَانَ الْأَصِيلُ مُلْتَزِمًا تَخْلِيصَهُ فَلَهُ أَنْ يُلَازِمَهُ وَلَيْسَ لِلْكَفِيلِ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِحُكْمِ الْإِقْرَاضِ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الْمَعْنَى عِنْدَ الْأَدَاءِ .

وَإِذَا حُبِسَ رَجُلٌ بِدَيْنٍ فَجَاءَ غَرِيمٌ لَهُ آخَرُ يُطَالِبُهُ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُخْرِجُهُ مِنْ السِّجْنِ وَيَجْمَعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ هَذَا الْمُدَّعِي فَإِنْ أَقَرَّ لَهُ بِالدَّيْنِ أَوْ قَامَتْ لَهُ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ ؛ كَتَبَ اسْمَهُ فِيمَنْ حُبِسَ لَهُ مَعَ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكْتُبْ رُبَّمَا يُشْتَبَهُ عَلَى الْقَاضِي أَنَّهُ مَحْبُوسٌ بِدَيْنٍ وَاحِدٍ فَيُخْلِي سَبِيلَهُ فَيَكْتُبُهُ حَتَّى لَا يُخْلِيَ سَبِيلَهُ إلَّا بِقَضَائِهِمَا ، وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي قَدْ فَلَّسَ الْمَحْبُوسَ ؛ جَازَ إقْرَارُهُ لِأَشْخَاصٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ : تَفْلِيسُ الْقَاضِي إيَّاهُ جَائِزٌ وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا بَيْعُهُ وَلَا شِرَاؤُهُ وَلَا بِشَيْءٍ يُضِيفُهُ فِي مَالِهِ مَا خَلَا الْعِتْقَ وَالطَّلَاقَ وَالنِّكَاحَ وَالْإِقْرَارَ بِالسَّبَبِ فَإِنَّا نَدَعُ الْقِيَاسَ فِيهِ وَنُجَوِّزُهُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَوْلُ شُرَيْحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَيَعْنِي بِالتَّفْلِيسِ أَنْ يَحْكُمَ بِعَجْزِهِ عَنْ الْكَسْبِ فَيَجْعَلَهُ كَالْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ فَيُحْكَمُ بِتَعَلُّقِ حَقِّ غُرَمَائِهِ فِي مَالِ هَذَا .
وَهَذَا نَوْعُ حَجْرٍ ، وَإِنْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَرَى ذَلِكَ وَهُمَا يُجَوِّزَانِ ذَلِكَ وَلَيْسَ الْحَبْسُ بِتَفْلِيسٍ ؛ لِأَنَّهُ دَلَالَةُ الْقُدْرَةِ عَلَى أَدَاءِ الدَّيْنِ لَا دَلَالَةَ الْعَجْزِ وَلَا يُضْرَبُ الْمَحْبُوسُ فِي الدَّيْنِ وَلَا يُقَيَّدُ وَلَا يُقَامُ وَلَا يُؤَاجَرُ لِأَنَّ هَذِهِ عُقُوبَاتٌ زَائِدَةٌ مَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهَا ، وَإِنَّمَا قُلْنَا بِالْحَبْسِ لِيَكُونَ حَامِلًا لَهُ عَلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ ضَرْبُ عُقُوبَةٍ بِالنُّصُوصِ وَلَا نَصَّ فِي الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَيْسَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ صَفَدٌ وَلَا قَيْدٌ وَلَا غِلٌّ وَلَا تَجْرِيدٌ وَالصَّفَدُ مَا نُقَيِّدُ بِهِ الْأَيْدِي .

أَرَادَ بِقَوْلِهِ : لَا يُقَامُ يَعْنِي لَا يُؤْمَرُ بِالْقِيَامِ بَيْنَ يَدَيْ صَاحِبِ الْمَالِ إهَانَةً لَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ مَعَ عُقُوبَةٍ وَلَا يُؤَاجَرُ مِنْ غَيْرِ اخْتِيَارِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ نَوْعُ حَجْرٍ عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي مَالِهِ فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ فِي نَفْسِهِ بِطَرِيقِ الْأُولَى .

وَيُحْبَسُ الْأَبَوَانِ فِي نَفَقَةِ الْوَلَدِ وَلَا تُشْتَبَهُ النَّفَقَةُ بِالدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَى الْوَلَدِ إنَّمَا شُرِعَ صِيَانَةً لِلْوَلَدِ عَنْ الْهَلَاكِ .
وَالْمُمْتَنِعُ كَالْقَاصِدِ الْهَلَاكَ وَمَنْ قَصَدَ إهْلَاكَ وَلَدِهِ ؛ يُحْبَسُ بِخِلَافِ الدَّيْنِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ قَصْدُ إهْلَاكِ نَفْسِهِ وَلَا يَخْرُجُ الْمَحْبُوسُ فِي الدَّيْنِ بِجُمُعَةٍ وَلَا عِيدٍ وَلَا حَجٍّ وَلَا جِنَازَةٍ قَرِيبٌ أَوْ بَعِيدٌ لِأَنَّ الْوَاجِبَ أَنْ يُحْبَسَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَخْلُصُ بَعْدَ زَمَانٍ حَتَّى يَضْجَرَ قَلْبُهُ عِنْدَ ذَلِكَ فَيُسَارِعُ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ فَلَوْ خَرَجَ أَحْيَانًا لَا يَضِيقُ قَلْبُهُ حِينَئِذٍ وَلِهَذَا قَالُوا يَنْبَغِي أَنْ يُحْبَسَ فِي مَوْضِعٍ خَشِنٍ لَا يُتَبَسَّطُ لَهُ فِي فِرَاشٍ وَلَا وِطَاءٍ وَلَا أَحَدَ يَدْخُلُ عَلَيْهِ لِيَسْتَأْنِسَ لِيَضْجَرَ قَلْبُهُ بِذَلِكَ وَإِذَا سَأَلَ الْقَاضِي عَنْ الْمَحْبُوسِ بَعْدَ شَهْرَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فِي السِّرِّ فَأَخْبَرَهُ ثِقَةٌ بِعَدَمِهِ خَلَّى سَبِيلَهُ وَلَمْ يُخْلِ بَيْنَ غَرِيمِهِ وَبَيْنَ لُزُومِهِ ، وَإِنْ شَهِدَ عَلَيْهِ شُهُودٌ أَنَّهُ مُوسِرٌ أَوْ أَنَّ لَهُ مَالًا أَجَزْتُ شَهَادَتَهُمْ وَيَتْرُكُ الْمَسْأَلَةَ فِي السِّرِّ ؛ لِأَنَّ السُّؤَالَ لِلِاخْتِبَارِ وَمَتَى ظَهَرَتْ حَالُهُ بِالشَّهَادَةِ لَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الِاخْتِبَارِ ، وَإِنْ أَدَّى دَيْنَ أَحَدِ الْغَرِيمَيْنِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ السِّجْنِ حَتَّى يُؤَدِّيَ دَيْنَ الْآخَرِ لِأَنَّ الظُّلْمَ قَائِمٌ وَيُحْبَسُ الرَّجُلُ فِي الدِّرْهَمِ وَفِي أَقَلِّ مِنْهُ لِأَنَّ مَانِعَ الدِّرْهَمِ وَمَا دُونَهُ ظَالِمٌ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحْبِسَ النِّسَاءِ فِي الدَّيْنِ عَلَى حِدَةٍ وَلَا يَكُونُ مَعَهُنَّ رَجُلٌ حَتَّى لَا يُؤَدِّيَ إلَى فِتْنَةٍ وَلَا يُمْنَعُ الْمَحْبُوسُ مِنْ دُخُولِ أَخَوَاتِهِ وَأَهْلِهِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ حَتَّى يُشَاوِرَهُمْ فِي تَوْجِيهِ دُيُونِهِ وَلَكِنْ لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ الْمُكْثِ عِنْدَهُ حَتَّى يَسْتَأْنِسَ بِهِمْ وَلَا يُحْبَسُ الْمُكَاتَبُ لِمَوْلَاهُ بِالْمُكَاتَبَةِ لِأَنَّهُ عَبْدٌ وَلَا يَلِيقُ بِهِ الْحَبْسُ .
( أَلَا تَرَى )

أَنَّهُ لَوْ عَجَّزَ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ يَسْقُطُ وَيُحْبَسُ بِدِينٍ غَيْرِ الْكِتَابَةِ قَالُوا : أَرَادَ بِهِ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمَوْلَى وَقَالَ بَعْضُهُمْ : يُحْبَسُ بِدَيْنِ الْمَوْلَى ، وَهُوَ مُلْحَقٌ بِالْأَجَانِبِ فِي الْمُعَامَلَاتِ مَعَ مَوْلَاهُ وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ

وَإِنْ كَانَ لِلْمُكَاتَبِ عَلَى مَوْلَاهُ طَعَامٌ وَمُكَاتَبَتُهُ دَرَاهِمُ فَإِنَّ الْمَوْلَى يُحْبَسُ فِي دَيْنِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّ مُطَالَبَتَهُ مُتَوَجِّهَةٌ عَلَى مَوْلَاهُ وَهُوَ مُلْحَقٌ بِالْأَجَانِبِ فِي حَقِّ أَكْسَابِهِ ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ التَّاجِرُ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ يَكُونُ لَهُ عَلَى مَوْلَاهُ دَيْنٌ وَلَا يُحْبَسُ لِحَقِّهِ ، وَلَكِنْ لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ وَالصَّبِيُّ التَّاجِرُ فِي السِّجْنِ مِثْلُ الرَّجُلِ يَعْنِي يُحْبَسُ لِأَنَّهُ يُؤَاخَذُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ فَيَتَحَقَّقُ ظُلْمُهُ ، وَالْغُلَامُ الَّذِي يَسْتَهْلِكُ الْمَتَاعَ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ وَلَهُ أَبٌ أَوْ وَصِيٌّ وَلَيْسَ بِنَاجِزٍ مِثْلُ ذَلِكَ يُرِيدُ بِهِ فِي حَقِّ الْحَبْسِ وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّهُ يُحْبَسُ الصَّبِيُّ أَوْ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُحْبَسُ وَلِيُّهُ وَفِي الْكِتَابِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَيْثُ قَيَّدَهُ بِهَذَا اللَّفْظِ وَهَذَا لِأَنَّ الظُّلْمَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ مِمَّنْ يُخَاطَبُ بِأَدَاءِ الْمَالِ وَوَلِيُّهُ هُوَ الَّذِي يُخَاطَبُ بِذَلِكَ لَا هُوَ وَبَعْضُهُمْ قَالَ : الْحَبْسُ لِلصَّبِيِّ بِطَرِيقِ التَّأْدِيبِ حَتَّى لَا يَتَجَاسَرَ عَلَى مِثْلِهِ وَلَكِنَّ هَذَا إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يُبَاشِرُ مِنْ أَسْبَابِ التَّعَدِّي قَصْدًا أَمَّا مَا وَقَعَ خَطَأً مِنْهُ فَلَا

وَلَا يَحْبِسُ الْعَاقِلَةَ فِي الدِّيَةِ وَلَا فِي شَيْءٍ مِنْهَا مِنْ الْأَرْشِ بِقَضَائِهِ عَلَيْهِمْ وَلَكِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ الْأَعْطِيَةِ ، وَإِنْ كَرِهُوا ذَلِكَ لِأَنَّ الدِّيَةَ إنَّمَا تُعْطَى مِنْ عَطَائِهِمْ لَا مِمَّا فِي أَيْدِيهِمْ مِنْ الْأَمْوَالِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ الْمَنْعُ مِنْ قِبَلِهِمْ حَتَّى لَوْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ التَّأْدِيَةِ وَلَيْسَ لَهُمْ عَطَاءٌ يُفْرَضُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ فَإِذَا امْتَنَعُوا مِنْ أَدَائِهِ حُبِسُوا ، وَكَذَلِكَ الذُّعَّارُ يُحْبَسُونَ أَبَدًا حَتَّى يَتُوبُوا وَالذَّاعِرُ الَّذِي يُخَوِّفُ النَّاسَ وَيَقْصِدُ أَخْذَ أَمْوَالِهِمْ فَكَانَ فِي مَعْنَى قُطَّاعِ الطَّرِيقِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } الْآيَةَ

وَلَوْ أَنَّ غُلَامًا اسْتَهْلَكَ لِرَجُلٍ مَالًا وَلَهُ دَارٌ وَرَقِيقٌ وَعُرُوضٌ وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ وَلَا وَصِيٌّ لَمْ يُحْبَسْ وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ يَرَى رَأْيَهُ فِيهِ إنْ شَاءَ جَعَلَ وَكِيلًا بِبَيْعِ بَعْضِ مَالِهِ فَيُوفِي الطَّالِبَ حَقَّهُ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَبٌ أَوْ وَصِيٌّ يَجُوزُ بَيْعُهُ فَإِنَّهُ لَا يُحْبَسُ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَحْبِسُ مَنْ يُخَاطَبُ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ لِمَا مَرَّ وَلَا يُحْبَسُ الصَّبِيُّ إلَّا بِطَرِيقِ التَّأْدِيبِ وَيُحْبَسُ الْمُسْلِمُ لِلذِّمِّيِّ بِدَيْنِهِ وَالذِّمِّيُّ لِلْمُسْلِمِ وَيُحْبَسُ الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ وَيُحْبَسُ لَهُ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الظُّلْمِ يَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ الْكُلِّ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ الْإِبْرَاءِ وَالْهِبَةِ لِلْكَفِيلِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : وَإِذَا قَالَ الطَّالِبُ لِلْكَفِيلِ : قَدْ بَرِئْتَ إلَيَّ مِنْ الْمَالِ الَّذِي كَفَلْتَ بِهِ مِنْ فُلَانٍ ؛ فَهَذَا إقْرَارٌ بِالْقَبْضِ وَلِلْكَفِيلِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ الْبَرَاءَةِ بِفِعْلِ مُتَعَدٍّ مِنْ الْمَطْلُوبِ وَالْكَفِيلُ إلَى الطَّالِبِ وَذَلِكَ بِفِعْلِ الْأَدَاءِ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ مُتَعَدٍّ مِنْ الْمَطْلُوبِ إلَى الطَّالِبِ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : قَدْ دَفَعْتَ إلَيَّ الْمَالَ أَوْ نَقَدْتنِي أَوْ قَبَضْتُهُ مِنْك ، وَكَذَلِكَ الْحَوَالَةُ وَإِذَا قَالَ أَبْرَأْتُكَ لَمْ يَكُنْ هَذَا إقْرَارًا بِالْقَبْضِ وَلِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْفِعْلَ إلَى نَفْسِهِ مُتَعَدِّيًا إلَى الْمَطْلُوبِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِإِسْقَاطِ الدَّيْنِ عَنْهُ .
وَلَوْ قَالَ : بَرِئْتَ مِنْ الْمَالِ وَلَمْ يَقُلْ : إلَيَّ فَهَذَا إقْرَارٌ بِالْقَبْضِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِالْبَرَاءَةِ فَيَنْصَرِفُ إلَى ذَلِكَ السَّبَبِ الْمَعْهُودِ ، وَالسَّبَبُ الْمَعْهُودُ الْإِيفَاءُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : أَبْرَأْتُك لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْوَجْهَيْنِ فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَى الْأَدْنَى أَوْلَى .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْحَاجَةَ إلَى الرُّجُوعِ عَلَى الْأَصِيلِ لَا تَثْبُتُ بِالشَّكِّ وَقَدْ مَرَّ هَذَا فِي الْجَامِعِ .
وَالتَّحْلِيلُ بِمَنْزِلَةِ الْإِبْرَاءِ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَا يُوصَفُ بِالتَّحْلِيلِ .
أَمَّا الْمَالُ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الدَّيْنُ فَيُوصَفُ بِهَذَا ، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْضُوعِ الدُّيُونَ فَمَتَى حَلَّلَهُ أَسْقَطَ حَقَّهُ عَنْ ذَلِكَ أَصْلًا فَكَأَنَّهُ قَالَ : لَا حَقَّ لِي فِي مَالِك وَلَوْ قَالَ لَهُ هَكَذَا ؛ كَانَ إبْرَاءً مُطْلَقًا فَهَذَا كَذَلِكَ وَالْمُحْتَالُ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْكَفِيلِ

وَلَوْ وَكَّلَ الطَّالِبُ وَكِيلًا بِقَبْضِ مَالِهِ فَقَالَ الْوَكِيلُ : لِلْكَفِيلِ بَرِئْتَ إلَيَّ ؛ كَانَ هَذَا إقْرَارًا بِالْقَبْضِ فَيَصِحُّ .
وَلَوْ قَالَ الْوَصِيُّ لِلْكَفِيلِ : قَدْ أَبْرَأْتُك أَوْ أَنْتَ فِي حِلٍّ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْرُوفٌ مِنْهُ وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ التَّاجِرُ وَالْعَبْدُ التَّاجِرُ وَالْمُكَاتَبُ إذَا قَالُوا ذَلِكَ لِلْكَفِيلِ ؛ لَا يَصِحُّ لِمَا مَرَّ وَإِذَا أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْكَفِيلَ مِنْ الْمَالِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ ذَلِكَ ؛ فَهُوَ بَرِيءٌ وَلَا يُشْبِهُ هَذَا الْهِبَةَ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ مَحْضٌ فِي حَقِّهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي حَقِّهِ إلَّا مُجَرَّدَ الْمُطَالَبَةِ فَصَارَ كَسَائِرِ الْإِسْقَاطَاتِ فَلَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ بِخِلَافِ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ لِأَنَّ أَصْلَ الدَّيْنِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ تَمْلِيكًا مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ الَّذِي هُوَ وَاجِبٌ لَهُ فِي مَالِهِ غَيْرُ عَيْنٍ فَصَارَ هَذَا تَصَرُّفًا بِإِسْقَاطِ الْفِعْلِ عَنْهُ وَيُجْعَلُ الْوَاجِبُ لَهُ إسْقَاطًا مِنْ وَجْهٍ وَتَمْلِيكًا مِنْ وَجْهٍ فَوَفَّرْنَا عَلَى السَّهْمَيْنِ حَظَّهُمَا فَعَلَى هَذَا يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ ؛ لِشَبَهِهِ بِالْإِسْقَاطِ وَيَرْتَدُّ بِالرَّدِّ ؛ لِشَبَهِهِ بِالتَّمْلِيكَاتِ .
وَمِثْلُهُ لَوْ وُهِبَ مِنْ الْكَفِيلِ فَإِنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ كَمَا لَوْ وُهِبَ مِنْ الْأَصِيلِ ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَفْظٌ وُضِعَ لِلتَّمْلِيكِ وَيُمْكِنُ تَحْقِيقُ الْهِبَةِ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ كَمَا فِي حَقِّ الْأَصِيلِ ؛ لِأَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ جَائِزَةٌ .
فَإِذَا سَلَّطَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ مُسَلَّطٌ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ أَوْ يُجْعَلُ ذَلِكَ نَقْلًا لِلدَّيْنِ مِنْهُ بِمُقْتَضَى الْهِبَةِ مِنْهُ فَيَصِيرُ هِبَةَ الدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ - لَوْ أَمْكَنَ - ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ لَهُ وِلَايَةُ نَقْلِ الدَّيْنِ إلَيْهِ قَصْدًا بِإِحَالَةِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ فَيَثْبُتُ ذَلِكَ بِمُقْتَضَى تَصَرُّفِهِمَا تَصْحِيحًا لَهُ وَإِذَا اسْتَقَامَ تَحْقِيقُ الْهِبَةِ كَمَا فِي حَقِّهِ وَجَبَ الْجَرْيُ عَلَى مُقْتَضَى الْهِبَةِ كَمَا فِي

حَقِّ الْأَصِيلِ .
وَقَدْ مَرَّ أَنَّهُ لَوْ أَبْرَأَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ مِنْ الدَّيْنِ ؛ يَصِحُّ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ .
وَلَكِنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ فَكَذَلِكَ لَوْ وُهِبَ مِنْهُ فَلَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ ؛ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ فِي الْهِبَةِ وَالْإِبْرَاءِ جَمِيعًا لِأَنَّهُ تَامٌّ فِي نَفْسِهِ وَلَكِنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ فَمَتَى مَاتَ ؛ وَقَعَ الْيَأْسُ عَنْ الرَّدِّ فَانْبَرَمَ .
بِمَنْزِلَةِ لَوْ تَصَرَّفَ لَهُ فِيهِ جَازَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَيِّتًا فَأَبْرَأَهُ مِنْهُ وَجَعَلَهُ فِي حِلٍّ مِنْهُ ؛ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ الدَّيْنَ قَائِمٌ عَلَيْهِ حُكْمًا فَاحْتَمَلَ الْإِسْقَاطَ فَإِنْ قَالَتْ الْوَرَثَةُ : لَا تُقْبَلُ فَلَهُمْ ذَلِكَ وَيَقْبِضُونَ الْمَالَ ، وَالْكَفِيلُ مِنْهُ بَرِيءٌ .
فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : لَيْسَ لِلْوَرَثَةِ فِي ذَلِكَ قَوْلٌ فَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ بِأَنَّ هَذَا فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ إسْقَاطٌ مَحْضٌ لِأَنَّهُ لَا دَيْنَ عَلَيْهِمْ حَقِيقَةً إنَّمَا عَلَيْهِمْ مُجَرَّدُ الْمُطَالَبَةِ فَأَشْبَهَ الْكَفِيلَ ثُمَّ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ فَكَذَا فِي حَقِّهِمْ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ : إنَّ الدَّيْنَ قَائِمٌ وَقَدْ أَخَذَ شَبَهًا بِالْأَعْيَانِ بَعْدَ الْمَوْتِ لِتَعَلُّقِهِ بِالتَّرِكَةِ فَكَانَ أَقْبَلَ لِلتَّمْلِيكِ فِي هَذِهِ الْحَالِ .
وَالْمِلْكُ بِهَذَا التَّمْلِيكِ وَاقِعٌ لَهُمْ فَيَرْتَدُّ بِرَدِّهِمْ كَمَا لَوْ أَضَافَ الْإِبْرَاءَ إلَيْهِمْ تَنْصِيصًا وَإِذَا وَهَبَ الطَّالِبُ الْمَالَ الَّذِي عَلَيْهِ لِلْأَصِيلِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ كَانَ الْمَالُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ فَضْلُهُ ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ مِنْهُ كَالْهِبَةِ مِنْ كَفِيلِهِ وَلَوْ وَهَبَهُ مِنْ كَفِيلِهِ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ ؛ كَانَ الْمَالُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَبْرَأَهُ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعُودُ الدَّيْنُ عَلَى الْكَفِيلِ ؛ لِأَنَّا نَجْعَلُ إبْرَاءَهُ كَإِبْرَاءِ الْكَفِيلِ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ فَكَذَلِكَ هُنَا وَإِذَا وَهَبَ لِلْكَفِيلِ

وَقَبِلَهُ ؛ رَجَعَ بِهِ عَلَى الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالْهِبَةِ فَصَارَ كَمَا لَوْ مَلَكَهُ بِالْأَدَاءِ .
وَالتَّمْلِيكُ مِنْهُ صَحِيحٌ .
لِأَنَّهُ قَابِلٌ لِلْمِلْكِ فِي حَقِّ مَا فِي ذِمَّةِ الْأَصْلِ ، وَلِهَذَا يَمْلِكُهُ بِالْأَدَاءِ وَإِذَا مَلَكَهُ رَجَعَ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ وَإِذَا كَانَتْ الْكَفَالَةُ عَلَى أَنَّ الْمَكْفُولَ عَنْهُ بَرِيءٌ ، أَوْ كَانَتْ حَوَالَةً فَوَهَبَ الطَّالِبُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الْأَصْلُ فَالْهِبَةُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي ذِمَّتِهِ شَيْءٌ ؛ لِانْتِقَالِ الدَّيْنِ إلَى ذِمَّةِ غَيْرِهِ وَعَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ يَنْبَغِي أَنْ يَصْلُحَ .
وَلَوْ وَهَبَ الْكَفِيلُ الَّذِي عَلَيْهِ لِلْأَصِيلِ ؛ فَهُوَ جَائِزٌ لِانْعِقَادِ سَبَبِ وُجُوبِ الدَّيْنِ لَهُ فِي الْحَالِ فَإِنْ أَدَّى الْكَفِيلُ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يُقَرِّرُ مِلْكَهُ مَا فِي ذِمَّتِهِ ؛ فَصَحَّتْ الْهِبَةُ فَصَارَ كَمَا لَوْ وَهَبَهُ بَعْدَ الْأَدَاءِ فَإِنْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْكَفِيلِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ هِبَتَهُ بَاطِلَةٌ لِانْتِقَاضِ سَبَبِ وُجُوبِ الدَّيْنِ بَيْنَهُمَا .
وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

بَابُ إقْرَارِ أَحَدِ الْكَفِيلَيْنِ بِأَنَّ الْمَالَ عَلَيْهِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلَيْنِ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ بِالْمَالِ فَأَقَرَّ أَحَدُ الْكَفِيلَيْنِ بِأَنَّ الْمَالَ كُلَّهُ عَلَيْهِ وَأَدَّاهُ وَأَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ بِنِصْفِهِ عَلَى صَاحِبِهِ وَقَالَ : إنَّمَا عَنَيْتُ بِإِقْرَارِي أَنَّهُ عَلَيَّ ؛ لِأَنِّي كَفَلْت عَنْك كُلَّ حِصَّتِك ؛ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِهِ لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي قَوْلِهِ إنَّهُ كُلُّهُ عَلَيْهِ ، لَكِنَّ بَعْضَهُ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ وَبَعْضَهُ بِحُكْمِ الْأَصَالَةِ .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ كُلَّهُ عَلَيْهِ وَأَنَّ صَاحِبَهُ كَفَلَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ ؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ قَدْ صَرَّحَ أَنَّهُ أَصِيلٌ فِي كُلِّهِ وَصَاحِبُهُ كَفِيلٌ عَنْهُ فَيَجْرِي عَلَى قَضِيَّةِ قَوْلِهِ .

وَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ كَانَ عَلَيْهِمَا خَمْسُونَ دِينَارًا لِرَجُلٍ قَرْضًا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ ضَامِنٌ لَهُ فَأَشْهَدَ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ : أَنِّي مَعَك دَخِيلٌ فِي هَذَا الْمَالِ ، وَلَوْ أَقَرَّ الْآخَرُ بِذَلِكَ ثُمَّ ادَّعَى أَنَّ الْمَالَ كُلَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِهِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : أَنْتَ دَخِيلٌ مَعِي لَيْسَ بِإِقْرَارٍ بِشَيْءٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ خَاصَّةً دُونَ الْآخَرِ .
يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ أَخْبَرَ بِكَوْنِهِمَا دَخِيلَيْنِ فِي هَذَا الْمَالِ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَا أَصِيلَيْنِ فِي بَعْضِهِ فَمَنْ ادَّعَى أَنَّ كُلَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ فَقَدْ نَاقَضَ فِيمَا أَخْبَرَ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى ذَلِكَ ، وَإِنْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا الْمَالَ عَلَيْهِ خَاصَّةً دُونَ الْآخَرِ ثُمَّ أَدَّى الْمَالَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ نَصَّ أَنَّهُ كَفِيلٌ أَصِيلٌ فِي الْكُلِّ .
وَلَوْ أَدَّاهُ صَاحِبُهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِكُلِّهِ عَلَيْهِ .

وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى ثَلَاثَةِ نَفَرٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فِي صَكٍّ بِاسْمِهِ وَبَعْضُهُمْ كُفَلَاءُ عَنْ بَعْضٍ ضَامِنُونَ لِلْمَالِ كُلِّهِ فَأَقَرَّ الطَّالِبُ أَنَّ أَصْلَ الْمَالِ عَلَى أَحَدِهِمْ وَأَنَّ الْآخَرَيْنِ كَفِيلَانِ عَنْهُ وَلَمْ يُقِرَّ بِهَذِهِ الْكَفَالَةِ الَّتِي نُسِبَتْ إلَيْهِ فِي الصَّكِّ ثُمَّ أَدَّى الْمَالَ أَحَدُهُمْ ؛ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِالثُّلُثَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى غَيْرِهِ فَلَمْ يُعْتَبَرْ وَلَوْ لَمْ يُقِرَّ الطَّالِبُ بِذَلِكَ وَلَكِنَّ أَحَدَ الْكُفَلَاءِ قَالَ : أَصْلُ الْمَالِ عَلَيَّ وَصَاحِبَايَ مِنْهُ بَرِيئَانِ ، ثُمَّ أَدَّى الْمَالَ ؛ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبَيْهِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ زَعْمَهُ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّهِ ، وَإِنْ أَدَّاهُ صَاحِبَاهُ رَجَعَا بِالْكُلِّ عَلَيْهِ لِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ أَصِيلٌ فِي جَمِيعِ الْمَالِ وَإِقْرَارُهُ مُلْزِمٌ إيَّاهُ .

وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فِي صَكٍّ بِاسْمِهِ وَفُلَانٌ بِهَا كَفِيلٌ فَأَقَرَّ الْكَفِيلُ أَنَّ أَصْلَ الْمَالِ عَلَيْهِ وَأَنَّ فُلَانًا كَفِيلٌ عَنْهُ وَأَنَّهُ إنَّمَا قَدَّمَهُ فِي الصَّكِّ لِشَيْءٍ خَافَهُ فَأَدَّى الْمُقَدَّمُ فِي الصَّكِّ الْمَالَ كُلَّهُ ؛ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ عَلَى الْكَفِيلِ مُؤَاخَذًا بِمَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَيُجْعَلُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ كَالثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ وَلَوْ كَانَ أَصْلُ الْمَالِ قَرْضًا فِي الصَّكِّ أَوْ مِنْ ثَمَنِ بَيْعٍ وَنَسَبَهُ إلَى الَّذِي فِي صَدْرِ الصَّكِّ ثُمَّ أَقَرَّ الْكَفِيلُ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ ؛ كَانَ إقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ أَصْدَقَ مِمَّا فِي الصَّكِّ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ عَلَى نَفْسِهِ حُجَّةٌ مُلْزِمَةٌ وَالصَّكُّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مُلْزِمَةٍ مَا لَمْ يَشْهَدْ الشُّهُودُ بِمَا فِيهِ وَشَهَادَةُ الشُّهُودِ بِمَا فِيهِ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً مَعَ تَكْذِيبِهِ إيَّاهُمْ بِإِقْرَارِهِ فَلِهَذَا كَانَ الْمَقْبُولُ مَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَلَوْ لَمْ يُقِرَّ الْكَفِيلُ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ ، وَلَكِنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ هُوَ الْقَابِضُ لِلْمَالِ مِنْ صَاحِبِ الصَّكِّ أَوْ أَنَّهُ قَدْ اشْتَرَى الْمَبِيعَ مِنْ صَاحِبِ الصَّكِّ وَقَبَضَهُ وَقَالَ الَّذِي عَلَيْهِ الصَّكُّ - وَهُوَ الَّذِي اسْمُهُ فِي أَوَّلِهِ - : أَجَلْ أَوْ صَدَقَ ثُمَّ ادَّعَى الْمُقِرُّ لَهُ الْمَالَ ؛ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِهِ الْمُقِرِّ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِمُبَاشَرَةِ سَبَبِ الْتِزَامِ الْمَالِ يَكُونُ إقْرَارًا مِنْهُ بِأَنَّهُ أَصِيلٌ فِي جَمِيعِ الْمَالِ ، وَأَنَّ صَاحِبَهُ كَفِيلٌ بِهِ .
وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يُقِرَّ الْكَفِيلُ بِذَلِكَ وَلَكِنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ الْمَالَ مِنْ الْمَكْفُولِ عَنْهُ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّهُ بِالْكَفَالَةِ قَدْ اسْتَوْجَبَ الْمَالَ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا وَإِقْرَارُهُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ صَحِيحٌ فَإِنْ أَدَّاهُ الْمَكْفُولُ عَنْهُ إلَى الطَّالِبِ ؛ رَجَعَ عَلَى الْكَفِيلِ بِسَبَبِ إقْرَارِهِ لِأَنَّ ثُبُوتَ قَبْضِهِ مِنْهُ بِإِقْرَارِهِ كَثُبُوتِهِ بِالْبَيِّنَةِ

أَوْ بِالْمُعَايَنَةِ فِي حَقِّهِ .

وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلَيْنِ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ بِجَمِيعِ الْمَالِ فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ أَنَّهُ كَفِيلٌ عَنْهُ لَمْ يُصَدَّقْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي خِلَافَ الْمَعْلُومِ بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةُ عَلَى مَا ادَّعَى فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ ؛ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ وَأَيُّهُمَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ ؛ فَنُكُولُهُ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ فَيَثْبُتُ بِنُكُولِهِ أَنَّ أَصْلَ الْمَالِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ حَلَفَا جَمِيعًا ثُمَّ أَدَّى أَحَدُهُمَا الْمَالَ رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِهِ لِأَنَّ دَعْوَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَنْفِي عَنْ صَاحِبِهِ نَصِيبَهُ وَقِيلَ : هَذِهِ الدَّعْوَى إذَا كَانَ أَدَّى أَحَدُهُمَا الْمَالَ ؛ رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِالنِّصْفِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الضَّمَانِ إنْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ مِنْ الْأَصِيلِ أَنَّ الْمَالَ عَلَى أَحَدِهِمَا .
وَالْآخَرُ كَفِيلٌ وَلَمْ يَعْرِفُوا ذَلِكَ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ تَقُمْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ بِالْأَصَالَةِ مِنْهُمَا مَجْهُولٌ ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الْمَجْهُولِ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً وَلَا تُبْطِلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ حَقَّ الطَّالِبِ وَلَا تُوهِنُهُ لِأَنَّهَا لَا تَمَسُّ حَقَّهُ ، وَإِنْ أَقَرَّ الطَّالِبُ أَنَّ الْأَصْلَ عَلَى أَحَدِهِمَا وَالْآخَرُ كَفِيلٌ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ لِأَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ وَشَهَادَتُهُ فِي ذَلِكَ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَهُ فَإِنَّمَا يَشْهَدُ لِنَفْسِهِ عَلَى أَحَدِهِمَا بِأَنَّ جَمِيعَ الْمَالِ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لِلطَّالِبِ ابْنَانِ فَشَهِدَا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ لِأَبِيهِمَا وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى أَصْلِ الْمَالِ بَيِّنَةُ أَنَّهُ عَلَيْهِمَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ .
فَإِنْ كَانَ عَلَى أَصْلِ الْمَالِ بَيِّنَةٌ بِذَلِكَ ؛ فَشَهَادَةُ

ابْنَيْ الطَّالِبِ جَائِزَةٌ لِأَنَّهُمَا لَا يُثْبِتَانِ بِشَهَادَتِهَا حَقَّ أَبِيهِمَا ، وَإِنَّمَا يَشْهَدَانِ لِأَحَدِ الْغَرِيمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ أَنَّهُ هُوَ الْأَصِيلُ وَأَنَّ صَاحِبَهُ كَفِيلٌ فَلَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي هَذِهِ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْغَرِيمَانِ مُقِرَّيْنِ بِالْمَالِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الطَّالِبِ عَلَيْهِمَا ثَابِتٌ بِإِقْرَارِهِمَا فَشَهَادَةُ ابْنَيْ الطَّالِبِ عَلَى هَذَا لَا تَكُونُ لِأَبِيهِمَا وَإِنَّمَا تَكُونُ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ .
وَلَوْ شَهِدَ ابْنَا أَحَدِهِمَا أَنَّ الْأَصْلَ عَلَى أَبِيهِ ، وَالْآخَرَ كَفِيلٌ عَنْ أَبِيهِ ؛ جَازَ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى أَبِيهِمَا وَلَوْ شَهِدَا أَنَّ الْأَصْلَ عَلَى الْآخَرِ وَأَنَّ أَبَاهُمَا كَفِيلٌ بِهِ عَنْهُ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا لِأَنَّهُمَا يَدْفَعَانِ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ عَنْ أَبِيهِمَا مَغْرَمًا ، وَيَجُرَّانِ إلَيْهِ الْمَنْفَعَةَ فَكَانَا مُتَّهَمَيْنِ فِيهِ .
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ بُطْلَانِ الْمَالِ عَنْ الْكَفِيلِ مِنْ غَيْرِ أَدَاءً وَلَا إبْرَاءٍ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : وَإِذَا كَفَلَ الرَّجُلُ بِمَالٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ اشْتَرَاهُ فَاسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ مِنْ يَدِهِ ؛ بَرِئَ الْكَفِيلُ مِنْ الْمَالِ لِأَنَّ بِاسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ وَبَرِئَ الْأَصِيلُ مِنْ الثَّمَنِ وَبَرَاءَةُ الْأَصِيلِ مِنْهُ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ يَلْتَزِمُ الْمُطَالَبَةَ الَّتِي هِيَ عَلَى الْأَصِيلِ وَلَا تَبْقَى الْمُطَالَبَةُ عَلَى الْأَصِيلِ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ فَكَذَلِكَ عَلَى الْكَفِيلِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَدَّهُ بِعَيْبٍ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ أَوْ بِإِقَالَةٍ أَوْ بِخِيَارِ شَرْطٍ أَوْ رُؤْيَةٍ أَوْ بِفَسَادِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الْأَصِيلَ يَبْرَأُ عَنْ الثَّمَنِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ ، وَكَذَلِكَ الْمَهْرُ يَبْطُلُ عَنْ الزَّوْجِ كُلُّهُ بِفُرْقَةٍ مِنْ جِهَتِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْضُهُ بِالطَّلَاقِ بِبَرَاءَةِ الْكَفِيلِ بِهِ مِمَّا بَطَلَ عَنْ الزَّوْجِ لِبَرَاءَةِ الْأَصِيلِ ، وَكَذَلِكَ الْكَفِيلُ بِطَعَامِ السَّلَمِ إذَا صَالَحَ الْأَصِيلُ الطَّالِبَ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ ؛ فَهُوَ بَرِيءٌ عَمَّا كَفَلَ بِهِ لِبَرَاءَةِ الْأَصِيلِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ آخَرُ سِوَى مَا كَفَلَ بِهِ وَهُوَ لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ الْمَكْفُولِ بِهِ وَكَيْفَ يَكُونُ بَدَلًا وَوُجُوبُ الْمُسْلَمِ فِيهِ بِعَقْدِ السَّلَمِ ، وَوُجُوبُ رَأْسِ الْمَالِ بِانْفِسَاخِ عَقْدِ السَّلَمِ ، وَالْبَدَلُ مَا يَجِبُ بِالسَّبَبِ الَّذِي وَجَبَ بِهِ الْأَصْلُ .
فَلَوْ ضَمِنَ الْمُشْتَرِي ثَمَنَ الْمُشْتَرَى لِغَرِيمِ الْبَائِعِ يَعْنِي : أَحَالَ الْبَائِعُ غَرِيمًا لَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي حَوَالَةً مُقَيَّدَةً بِالثَّمَنِ أَوْ كَفَلَ الْمُشْتَرِي لِغَرِيمِ الْكَفَالَةِ الْبَائِعِ كَفَالَةً مُقَيَّدَةً بِالثَّمَنِ ثُمَّ اسْتَحَقَّ الْعَبْدَ بَطَلَتْ الْحَوَالَةُ وَالْكَفَالَةُ ؛ لِأَنَّ بِانْفِسَاخِ الْعَقْدِ مِنْ الْأَصْلِ يَنْتَفِي الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي مِنْ الْأَصْلِ ، وَقَدْ كَانَ الْتِزَامًا مُقَيَّدًا بِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ وُجِدَ الْعَبْدُ

حُرًّا أَوْ رَدَّهُ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ بِقَضَاءٍ أَوْ بِغَيْرِ قَضَاءٍ أَوْ بِخِيَارِ رُؤْيَةٍ أَوْ هَلَكَ الْعَبْدُ قَبْلَ الْقَبْضِ ؛ لَمْ تَبْطُلْ الْحَوَالَةُ عِنْدَنَا وَلَا الْكَفَالَةُ ؛ لِأَنَّ بِمَا اعْتَرَضَ مِنْ الْأَسْبَابِ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الثَّمَنَ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَى الْأَصِيلِ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَبْطُلُ الْكَفَالَةُ وَالْحَوَالَةُ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَنْفَسِخُ مِنْ الْأَصِيلِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ وَيَسْقُطُ الثَّمَنُ عَنْ الْمُشْتَرِي وَقَدْ كَانَ الْتِزَامُهُ مُقَيَّدًا بِهِ ( وَاسْتَشْهَدَ فِي الْكِتَابِ بِالصَّرْفِ ) فَقَالَ : لَوْ بَاعَهُ بِالدَّرَاهِمِ مِائَةَ دِينَارٍ وَقَبَضَهَا ثُمَّ انْفَسَخَ الْبَيْعُ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ رَجَعَ عَلَى الْبَائِعِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّ صَرْفَهَا وَأَصْلَهَا صَحِيحٌ بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَحَقَّ الْعَبْدَ أَوْ وُجِدَ حُرًّا ؛ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِالدَّنَانِيرِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الدَّرَاهِمَ لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً مِنْ الْأَصِيل وَعَلَى هَذَا لَوْ ضَمِنَ الزَّوْجُ مَهْرَ الْمَرْأَةِ لِغَرِيمِهَا ثُمَّ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ مِنْ قِبَلِهَا ؛ لَمْ يَبْرَأْ الزَّوْجُ عَنْ الْكَفَالَةِ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ثُمَّ إذَا أَدَّاهَا رَجَعَ بِهَا عَلَى الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّهُ كَفَلَ عَنْهَا بِأَمْرِهَا فَيَسْتَوْجِبُ الرُّجُوعَ عَلَيْهَا عِنْدَ الْأَدَاءِ إلَّا أَنَّهُ كَانَتْ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ قَبْلَ الْفُرْقَةِ بِمَهْرِهَا وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ بِسُقُوطِ الْمَهْرِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِالْمُؤَدَّى ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا غَيْرَ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الْمُؤَدَّى ؛ لِأَنَّ الْمُقَاصَّةَ وَقَعَتْ بِالنِّصْفِ الثَّانِي مِنْ مَهْرِهَا .

وَلَوْ كَاتَبَ رَجُلٌ عَبْدَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَمَرَهُ فَضَمِنَهَا لِغَرِيمٍ لَهُ عَلَى الْمَوْلَى أَلْفُ دِرْهَمٍ وَقَبِلَ الْحَوَالَةَ بِهَا ؛ فَذَلِكَ صَحِيحٌ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِكَفَالَةٍ وَلَا حَوَالَةٍ فِي الْحَقِيقَةِ وَلَكِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ تَوْكِيلِ الْمَوْلَى غَرِيمَهُ بِاسْتِيفَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ مِنْ الْمُكَاتَبِ وَلَا فَرْقَ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ يُطَالِبُهُ الْمَوْلَى بِالْبَدَلِ وَبَيْنَ أَنْ يُطَالِبَهُ غَرِيمُ الْمَوْلَى .
فَإِنْ أَعْتَقَ الْمَوْلَى الْمُكَاتَبَ ؛ عَتَقَ وَلَمْ يَبْرَأْ مِنْ الضَّمَانِ وَفِي بَعْضِ نُسِخَ الْأَصْلِ قَالَ : وَبَرِئَ مِنْ الْكَفَالَةِ لِأَنَّهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ التَّوْكِيلِ وَبِإِعْتَاقِ الْمُكَاتَبِ يَسْقُطُ عَنْهُ بَدَلُ الْكِتَابَةِ حَتَّى لَا يُطَالِبَهُ الْمَوْلَى بِشَيْءٍ مِنْهُ فَكَذَلِكَ وَكِيلُهُ .
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ الْغَرِيمَ كَانَ يُطَالِبُهُ بِدَيْنِهِ قَبْلَ الْعِتْقِ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ حُكْمُ دَيْنِهِ بِإِعْتَاقِ الْمُكَاتَبِ ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ التَّوْكِيلِ وَحُكْمُ تَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ لِلْغَرِيمِ عَلَى الْمُكَاتَبِ بِالْتِزَامِهِ فَأَمَّا الْمَطْلُوبُ فِي حَقِّ الْغَرِيمِ دَيْنُهُ وَمَا اعْتَرَضَ مِنْ الْعِتْقِ لَا يَبْقَى الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ ابْتِدَاءً فَلَأَنْ لَا يَنْفِيَ بَقَاءَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ثُمَّ إذَا أَدَّى رَجَعَ عَلَى الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْعِتْقِ كَانَتْ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بِدَيْنِ الْكِتَابَةِ وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ حِينَ سَقَطَ عَنْهُ دَيْنُ الْكِتَابَةِ بِالْعِتْقِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ الْمَوْلَى وَالْمُكَاتَبُ مُدَبَّرٌ يُعْتَقُ وَعَتَقَ مِنْ ثُلُثِهِ أُمَّ وَلَدٍ فَعَتَقَتْ ؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ يَحْصُلُ بِهَذَا السَّبَبِ كَمَا يَحْصُلُ بِإِعْتَاقِ الْمَوْلَى إيَّاهُ .

وَلَوْ كَفَلَ عَبْدٌ عَنْ مَوْلَاهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ بِأَمْرِهِ ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى فَأَدَّاهُ ؛ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمَوْلَى فَأَمَّا بَعْدَ الْعِتْقِ فَإِنَّهُ يُطَالِبُهُ بِذَلِكَ الْمَالِ لِأَنَّهُ كَانَ مُطَالَبًا فِي حَالِ رِقِّهِ بِالْعِتْقِ وَهُوَ لَا يَزِيدُهُ إلَّا وِكَادَةً وَلِأَنَّ الْمَوْلَى شَغَلَهُ بِهِ حِينَ أَمَرَهُ بِالْكَفَالَةِ عَنْهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ عَلَيْهِ ثُمَّ أَعْتَقَهُ ؛ فَلَا يَرْجِعُ الْعَبْدُ بِهَا عَلَى الْمَوْلَى وَإِنْ أَدَّى مِنْ كَسْبٍ هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ حِينَ وَقَعَتْ لَمْ تَكُنْ مُوجِبَةً لِرُجُوعِ الْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ فَلَا يَصِيرُ مُوجِبًا لِلرُّجُوعِ بَعْدَ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ فَإِنَّ هُنَاكَ أَصْلُ الْكَفَالَةِ كَانَتْ مُوجِبَةً لِرُجُوعِ الْمُكَاتَبِ عَلَى الْمَوْلَى عِنْدَ الْأَدَاءِ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَسْتَوْجِبُ عَلَى مَوْلَاهُ دَيْنًا إلَّا أَنَّهُ كَانَتْ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ وَهُنَا أَصْلُ الْكَفَالَةِ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِرُجُوعِ الْعَبْدِ عَلَى الْمَوْلَى فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى مَوْلَاهُ دَيْنًا .

وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَمَرَهُ أَنْ يَضْمَنَهَا الْغَرِيمُ لَهُ ثُمَّ إنَّ الْآمِرَ وَهَبَهَا لِلْكَفِيلِ أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ ، وَكَانَ لِلْمَكْفُولِ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ أَوْ الْحَوَالَةَ الْمُقَيَّدَةَ قَدْ اشْتَغَلَتْ بِمَا لِلْآمِرِ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ لِحَقِّ الطَّالِبِ ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ الْآمِرَ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الرَّاهِنِ إذَا تَصَرَّفَ فِي الْمَرْهُونِ بِالْهِبَةِ أَوْ الْبَيْعِ مِنْ إنْسَانٍ فَإِنَّهُ لَا يَنْفُذُ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ .
وَلَوْ مَاتَ الْآمِرُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَمْ يَقْتَضِ الْمَكْفُولَ لَهُ الدَّرَاهِمَ ؛ كَانَتْ الدَّرَاهِمُ بَيْنَ سَائِرِ غُرَمَاءِ الْمَيِّتِ وَلَمْ يَكُنْ الْمَكْفُولُ لَهُ أَحَقَّ بِهَا مِنْهُمْ اسْتِحْسَانًا وَكَانَ ذَلِكَ الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ لِلْمَكْفُولِ لَهُ خَاصَّةً وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّهُ صَارَ كَالْمَرْهُونِ بِهِ ؛ وَلِأَنَّ سَائِرَ الْغُرَمَاءِ يَثْبُتُ حَقُّهُمْ مِنْ جِهَةِ الْأَصِيلِ وَقَدْ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى الْأَصْلِ فِي هَذَا الْمَالِ فِي حَيَاتِهِ .
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ : أَنَّ الْمَكْفُولَ لَهُ لَمْ يَصِرْ أَحَقَّ بِغُرْمِ هَذَا الْمَالِ ، حَتَّى لَوْ بَرِئَ مِمَّا فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ لَمْ يَبْطُلْ حَقُّ الْمَكْفُولِ لَهُ وَلَا يَكُونُ أَحَقَّ بِالْغُنْمِ ، وَبِهِ فَارَقَ الرَّهْنَ فَقَدْ صَارَ الْمُرْتَهِنُ أَحَقَّ بِغُرْمِ الرَّهْنِ هُنَاكَ .
يُوَضِّحُهُ أَنَّ يَدَ الِاسْتِيفَاءِ ثَبَتَتْ لِلْمُرْتَهِنِ بِقَبْضِ الرَّهْنِ وَعَلَى ذَلِكَ يَنْبَنِي اخْتِصَاصُهُ بِهِ دُونَ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ .
وَهُنَا يَدُ الِاسْتِيفَاءِ لَمْ تَثْبُتْ لِلْمَكْفُولِ لَهُ فِيمَا فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ بَلْ هُوَ مَالُ الْأَصِيلِ فَيُقْسَمُ بَعْدَ مَوْتِهِ بَيْنَ غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ .
وَلَوْ كَانَ الْمَكْفُولُ عَنْهُ حَيًّا فَأَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّ هَذَا الْمَالَ لَهُ وَأَنَّهُ أَمَرَ فُلَانًا فَبَاعَ الْمَبِيعَ الَّذِي هَذَا الْمَالُ ثَمَنُهُ ؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُبْطِلَ الْكَفَالَةَ .
فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ

- وَلَكِنَّهُ يَضْمَنُهُ لِلْبَائِعِ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَبْطُلُ الْكَفَالَةُ وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى مَسْأَلَةِ كِتَابِ الْبُيُوعِ : أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ عِنْدَهُمَا - فِي نُفُوذِ تَصَرُّفِهِ فِي الثَّمَنِ - بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ وَيَضْمَنُ لِلْمُوَكِّلِ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِمَنْزِلَةِ الثَّابِتِ لَا يَنْفُذُ مِنْ تَصَرُّفِهِ إلَّا مَا يَرْجِعُ إلَى الْقَبْضِ .
وَلَوْ كَانَ الْمَالُ إلَى أَجَلٍ وَبِهِ كَفِيلٌ فَإِنْ مَاتَ الْأَصِيلُ ؛ فَقَدْ حَلَّ الْمَالُ عَلَيْهِ وَلَا يَحِلُّ عَلَى الْكَفِيلِ حَتَّى يَمْضِيَ الْأَجَلُ ؛ لِأَنَّ الْأَصِيلَ اسْتَغْنَى بِمَوْتِهِ عَنْ الْأَجَلِ .
وَالْكَفِيلُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ .
وَحُلُولُهُ عَلَى الْأَصِيلِ لَا يَمْنَعُ كَوْنَهُ مُؤَجَّلًا عَلَى الْكَفِيلِ ؛ كَمَا لَوْ كَفَلَ الْكَفِيلُ بِمَالٍ هُوَ حَالٌّ عَلَى الْأَصِيلِ مُؤَجَّلًا إلَى سَنَةٍ وَلَوْ كَانَ الْمَيِّتُ هُوَ الْكَفِيلُ ؛ فَقَدْ حَلَّ الْمَالُ عَلَيْهِ لِوُقُوعِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْ الْأَجَلِ وَيُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَتِهِ فِي الْحَالِ ثُمَّ لَا يَرْجِعُ وَرَثَتُهُ عَلَى الْأَصِيلِ قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الْأَجَلُ عِنْدَنَا ، وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : يَرْجِعُونَ عَلَى الْأَصِيلِ فِي الْحَالِ لِأَنَّهُمْ أَدَّوْا دَيْنًا عَلَيْهِ بَعْدَ تَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ فِيهِ شَرْعًا بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ عَنْهُ بِأَمْرِهِ فَيَرْجِعُونَ إلَيْهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْكَفِيلَ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ الْمُقْرِضِ لِمَا أَدَّى عَنْ الْأَصِيلِ فَيَسْتَوْجِبُ الرُّجُوعَ بِهِ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ إلَّا إذَا قَصَدَ إثْبَاتَ حَقِّ الرُّجُوعِ لِنَفْسِهِ بِتَعْجِيلِهِ قَبْلَ حِلِّ الْأَجَلِ ، وَلَمْ يُوجَدْ إذَا كَانَ سُقُوطُ الْأَجَلِ حُكْمًا لِمَوْتِهِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ بِالْكَفَالَةِ كَمَا وَجَبَ الْمَالُ لِلطَّالِبِ عَلَى الْكَفِيلِ مُؤَجَّلًا وَالْأَصِيلُ بَاقٍ مُنْتَفِعٌ بِالْأَجَلِ فَكَمَا بَقِيَ الْمَالُ مُؤَجَّلًا فِي حَقِّ الطَّالِبِ بَعْدَ مَوْتِ الْكَفِيلِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ لِلطَّالِبِ قَبْلَ حِلِّ الْأَجَلِ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْأَصِيلِ حَتَّى يَحِلَّ الْأَجَلُ ، فَهَذَا

مِثْلُهُ .

وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَكَفَلَ بِهَا عَنْهُ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ بَعْضُهُمْ كُفَلَاءُ عَنْ بَعْضٍ بِالْمَالِ وَهُوَ حَالٌّ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ فَأَخَّرَ الطَّالِبُ أَحَدَ الْكُفَلَاءِ إلَى سَنَةٍ ؛ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمْ شَاءَ سَوَاءٌ بِجَمِيعِ الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمْ كَفَلَ بِهِ مُؤَجَّلًا فِي الِابْتِدَاءِ ؛ فَإِنَّ الْمَالَ يَكُونُ حَالًّا عَلَى الْبَاقِينَ ، وَهَذَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَفِيلٌ بِجَمِيعِ الْمَالِ .
وَإِبْرَاءُ أَحَدِ الْكُفَلَاءِ لَا يُوجِبُ الْبَرَاءَةَ لِلْبَاقِينَ كَمَا لَا يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ فَكَذَلِكَ التَّأْخِيرُ عَنْ أَحَدِ الْكُفَلَاءِ إلَى سَنَةٍ .
فَإِنْ أَدَّى الْمَالَ أَحَدُ الْكَفِيلَيْنِ الْآخَرَيْنِ ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ صَاحِبَهُ بِالنِّصْفِ لِيَسْتَوِيَ بِهِ فِي غُرْمِ الْكَفَالَةِ كَمَا هُوَ مُسَاوٍ لَهُ فِي الِالْتِزَامِ بِأَصْلِ الْكَفَالَةِ وَلَا يَأْخُذُ الَّذِي أَخَّرَهُ حَتَّى يَحِلَّ الْأَجَلُ ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ ثَابِتٌ فِي حَقِّهِ فَكَمَا لَا تَتَوَجَّهُ مُطَالَبَةُ الطَّالِبِ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ لِمَكَانِ الْأَجَلِ فَكَذَلِكَ مُطَالَبَةُ الْكَفِيلِ الْآخَرِ ، فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ وَقَدْ كَانَ أَخَذَ مِنْ صَاحِبِهِ النِّصْفَ بَيْعًا جَمِيعًا ذَلِكَ الْكَفِيلُ بِالثُّلُثِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُسَاوِيًا لَهُمَا فِي الْكَفَالَةِ ، وَقَدْ كَانَ الْمَانِعُ لَهُمَا مِنْ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ الْأَجَلَ .
وَقَدْ انْعَدَمَ فَيَرْجِعَانِ عَلَيْهِ بِقِسْطِهِ وَهُوَ الثُّلُثُ ؛ لِيَسْتَوُوا فِي غُرْمِ الْكَفَالَةِ ثُمَّ يَرْجِعُونَ عَلَى الْأَصِيلِ بِجَمِيعِ الْمَالِ .
فَلَوْ كَانَ الطَّالِبُ أَخَّرَ الْمَالَ عَلَى الْأَصِيلِ سَنَةً ؛ كَانَ ذَلِكَ تَأْخِيرًا عَنْ جَمِيعِ الْكُفَلَاءِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَبْرَأَ الْأَصِيلَ .
وَكَانَ ذَلِكَ مُوجِبًا بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ أَوْ لَوْ كَانَ أَخَّرَ كَفِيلًا مِنْهُمْ شَهْرًا وَآخَرَ شَهْرَيْنِ وَآخَرَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ ؛ كَانَ جَائِزًا عَلَى مَا سَمَّى .
فَإِنْ حَلَّ عَلَى صَاحِبِ الشَّهْرِ ؛ أَخَذَهُ مِنْ سَهْمِهِ وَلَا يَرْجِعُ هُوَ عَلَى الْآخَرَيْنِ لِقِيَامِ الْمَانِعِ وَهُوَ الْأَجَلُ

، وَإِنْ أَخَّرَ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ بَعْدَ هَذَا سَنَةً ؛ كَانَ الْمَالُ عَلَيْهِمْ إلَى سَنَةٍ وَدَخَلَتْ الشُّهُورُ تَحْتَ السَّنَةِ ؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ فِي حَقِّ الْأَصِيلِ فَهُوَ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ .
وَلَوْ كَانَ أَخَّرَ الْكَفِيلَ شَهْرًا ثُمَّ أَخَّرَهُ سَنَةً ؛ دَخَلَ الشَّهْرُ فِي السَّنَةِ فَهَذَا مِثْلُهُ .
وَإِنْ كَانَ الْمَالُ مِنْ ثَمَنِ مَبِيعٍ أَوْ غَصْبٍ وَبِهِ كَفِيلٌ فَأَخَّرَ الطَّالِبُ الْأَصِيلَ إلَى سَنَةٍ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ ذَلِكَ ؛ فَالْمَالُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْكَفِيلِ حَالٌّ كَمَا كَانَ ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْمُطَالَبَةِ بِالتَّأْجِيلِ فِي حَقِّ الْأَصِيلِ بِمَنْزِلَةِ إسْقَاطِهِ بِالْإِبْرَاءِ .
وَإِبْرَاءُ الْأَصِيلِ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ فَكَذَلِكَ التَّأْخِيرُ عَنْهُ يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ فَيَبْقَى الْمَالُ عَلَيْهِ حَالًّا ، وَكَذَلِكَ عَلَى الْكَفِيلِ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ فِي حَقِّ الْأَصِيلِ يُجْعَلُ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَجَّلَ الْكَفِيلَ وَلَوْ أَجَّلَ الْكَفِيلَ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ الْمَالَ أَنْ يَثْبُتَ حَالًّا فَكَذَلِكَ إذَا أَجَّلَ الْأَصِيلَ وَهَذَا لِأَنَّ التَّأْجِيلَ لَا يُوجِبُ انْفِسَاخَ الْكَفَالَةِ سَوَاءٌ أَجَّلَ الْكَفِيلَ أَوْ الْأَصِيلَ .

وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَكَفَلَ بِهَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ وَبَعْضُهُمْ كُفَلَاءُ عَنْ بَعْضٍ ثُمَّ إنْ الطَّالِبُ وَهَبَ الْمَالَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ ؛ فَالْمَالُ عَلَيْهِمْ كَمَا كَانَ ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ مِنْ الْكَفِيلِ تَمْلِيكٌ فَيَرْتَدُّ بِرَدِّ الْكَفِيلِ كَمَا يَرْتَدُّ بِرَدِّ الْأَصِيلِ إذَا وَهَبَ مِنْهُ ، وَإِنْ قَبِلَ فَقَدْ تَمَلَّكَ الْمَالَ بِقَبُولِ الْهِبَة فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَهَبَهُ تَمَلُّكَهُ بِالْأَدَاءِ فَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الْأَصِيلِ بِجَمِيعِ الْمَالِ ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى صَاحِبَيْهِ بِالثُّلُثَيْنِ إنْ وَجَدَهُمَا أَوْ عَلَى أَحَدِهِمَا بِالنِّصْفِ إنْ وَجَدَهُ دُونَ الْآخَرِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَدَّى الْمَالَ فَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ غَائِبًا فَلَمْ يَقْبَلْ وَلَمْ يَرُدَّ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ حَتَّى مَاتَ ؛ فَالْهِبَةُ جَائِزَةٌ وَيَرْجِعُ وَرَثَتُهُ عَلَى أَيِّهِمْ شَاءَ وَلِمَا بَيَّنَّا أَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ إسْقَاطٌ يَتَضَمَّنُ التَّمْلِيكَ ، فَإِنْ ضَمَّنَهُ مَعْنَى التَّمْلِيكِ يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ مَا دَامَ حَيًّا ، وَلِكَوْنِهِ إسْقَاطًا يُتَّهَمُ بِمَوْتِهِ قَبْلَ الرَّدِّ وَيَجْعَلُ تَمَامَهُ كَتَمَامِهِ بِقَبُولِهِ وَوَرَثَتُهُ قَائِمُونَ مَقَامَهُ فَيَرْجِعُونَ عَلَى أَيِّهِمْ شَاءَ كَمَا بَيَّنَّا .
وَلَوْ وَهَبَهُ لِرَجُلَيْنِ مِنْ الْكُفَلَاءِ فَقَبِلَا ؛ جَازَ وَرَجَعَا بِهِ عَلَى الْأَصِيلِ ، وَإِنْ شَاءَا رَجَعَا عَلَى الْكَفِيلِ الثَّالِثِ بِالثُّلُثِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَدَّيَا وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ مِنْ أَجْلِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَارَ مُتَمَلِّكًا خَمْسَمِائَةٍ وَهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي ذَلِكَ ، وَإِنْ أَخَذَا الْكَفِيلَ الثَّالِثَ فَأَدَّى إلَيْهِمَا الثُّلُثَ ثُمَّ أَرَادَ هَذَا الْكَفِيلُ الْغَارِمُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى أَحَدِهِمَا بِنِصْفِ مَا أَدَّى إلَى الْآخَرِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَمَلِّكٌ لِلثُّلُثِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَدَّوْا جَمِيعًا الْمَالَ إلَى الطَّالِبِ وَإِنَّمَا يَتْبَعُونَ الْأَصِيلَ بِالْأَلْفِ كُلِّهَا .

فَإِذَا أَخَذُوهَا ؛ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُ الْمَقْبُوضِ وَلَوْ أَنَّ الطَّالِبَ حِينَ وَهَبَ الْمَالَ لِهَذَيْنِ الْكَفِيلَيْنِ ؛ قَبِلَ أَحَدُهُمَا الْهِبَةَ وَأَبَى الْآخَرُ أَنْ يَقْبَلَ ؛ فَلِلَّذِي قَبِلَ أَنْ يَأْخُذَ ثُلُثَ هَذَا النِّصْفِ مِنْ الْكَفِيلَيْنِ الْآخَرَيْنِ لِأَنَّ تَمَلُّكَهُ نِصْفَ الْمَالِ بِقَبُولِ الْهِبَةِ كَتَمَلُّكِهِ بِأَدَاءِ النِّصْفِ فَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الْكَفِيلَيْنِ مَعًا بِثُلُثَيْ ذَلِكَ النِّصْفِ ، وَإِنْ شَاءَ عَلَى أَحَدِهِمَا بِنِصْفِ ذَلِكَ الثُّلُثِ وَيَأْخُذُ الطَّالِبُ بِالنِّصْفِ الْآخَرِ أَيَّ الْكُفَلَاءِ شَاءَ ، وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الْأَصِيلِ لِأَنَّ الْهِبَةَ بَطَلَتْ فِي هَذَا النِّصْفِ بِرَدِّ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَعَادَ الْحُكْمُ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْهِبَةِ .
فَإِنْ قَبَضَ الطَّالِبُ مِنْ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ شَيْئًا ؛ فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً ، وَلِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَ الْمَوْهُوبَ لَهُ بِمَا بَقِيَ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ النِّصْفَ الْبَاقِيَ مَا وَهَبَهُ مِنْهُ فَهُوَ فِيهِ كَغَيْرِهِ مِنْ الْكُفَلَاءِ .
وَلَوْ وَهَبَ الطَّالِبُ نِصْفَ الْمَالِ لِأَحَدِ الْكُفَلَاءِ كَانَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ فَإِنْ رَجَعَ الْمَوْهُوبُ لَهُ عَلَى الْكَفِيلَيْنِ بِثُلُثَيْ ذَلِكَ النِّصْفِ فَأَخَذَهُ مِنْهُمَا لَمْ يَتْبَعْهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَقُّ الِاتِّبَاعِ بَعْدَ الْأَدَاءِ ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ ذَلِكَ مِنْهُ فِي الِابْتِدَاءِ وَلَكِنْ لَوْ أَدَّيَا إلَى الطَّالِبِ خَمْسَمِائَةٍ ؛ كَانَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِمَا بِثُلُثِ خَمْسِمِائَةٍ أُخْرَى فَيَرْجِعُ عَلَيْهِمَا بِتِلْكَ الْخَمْسِمِائَةِ حَتَّى يَكُونَ الْأَدَاءُ عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا ، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ وَالنِّحْلَةُ وَالْعَطِيَّةُ .
فَأَمَّا الْبَرَاءَةُ فَلَيْسَتْ كَذَلِكَ وَلَا يَرْجِعُ الْمُبْرَأُ مِنْ الْكُفَلَاءِ عَلَى أَحَدٍ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ إبْرَاءَ الْكَفِيلِ فَسْخٌ لِلْكَفَالَةِ وَلَيْسَ بِتَمَلُّكِ شَيْءٍ مِنْهُ .
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

بَابُ الْحَلِفِ فِي الْكَفَالَةِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : وَإِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ لَا يَضْمَنُ لِفُلَانٍ شَيْئًا فَضَمِنَ لَهُ بِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ فَهُوَ حَانِثٌ لِأَنَّهُ قَدْ ضَمِنَ لَهُ فَالْمَفْهُومُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ الْتِزَامُ الْمُطَالَبَةِ بِتَسْلِيمِ شَيْءٍ مَضْمُونٍ لَهُ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ لَوْ كَفَلَ أَوْ قَبِلَ الْحَوَالَةَ لَهُ وَقَالَ : فِي الْحَوَالَةِ ضَمَانٌ وَزِيَادَةٌ وَالْكَفَالَةُ وَالضَّمَانُ عِبَارَتَانِ عَنْ عَقْدٍ وَاحِدٍ .
وَلَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِأَمْرِهِ فَهَذَا لَيْسَ بِضَمَانٍ وَإِنَّمَا هَذَا الْتِزَامٌ لِعَقْدِ الشِّرَاءِ وَعَقْدُ الشِّرَاءِ لَا يُسَمَّى كَفَالَةً عُرْفًا وَفِي الْأَيْمَانِ يُعْتَبَرُ الْعُرْفُ .
وَلَوْ ضَمِنَ لِعَبْدِهِ أَوْ مُضَارِبِهِ أَوْ شَرِيكٍ لَهُ مُفَاوِضٌ أَوْ عَنَانٍ لَمْ يَحْنَثْ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ وَقَعَ لِغَيْرِهِ فَإِنَّ الْمَضْمُونَ مَا تَجِبُ بِهِ الْمُطَالَبَةُ قِبَلَ الضَّامِنِ بِعَقْدِ الضَّمَانِ وَهُوَ غَيْرُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ فَأَمَّا الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ إنْ تَوَجَّهَتْ لَهُ الْمُطَالَبَةُ فَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ سَبَبٍ آخَرَ دُونَ عَقْدِ الضَّمَانِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الرَّدَّ وَالْقَبُولَ إنَّمَا يُعْتَبَرَانِ مِمَّنْ ضَمِنَهُ لَهُ دُونَ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَعَلَى هَذَا لَوْ ضَمِنَ الرَّجُلُ فَمَاتَ فَوَرِثَهُ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ لَمْ يَحْنَثْ ، وَإِنْ صَارَ الضَّمَانُ لَهُ فِي الِانْتِهَاءِ لِأَنَّ الْأَصْلَ كَانَ لِغَيْرِهِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ بِاعْتِبَارِ سَبَبٍ آخَرَ وَهُوَ الْخِلَافَةُ عَنْ الْمُوَرَّثِ .

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَضْمَنُ لِأَحَدٍ شَيْئًا فَضَمِنَ إنْسَانٌ مَا أَدْرَكَهُ مِنْ دَرَكٍ فِي دَارٍ اشْتَرَاهَا أَوْ عَبْدٍ ؛ حَنِثَ لِأَنَّهُ قَدْ ضَمِنَ لِلْمُشْتَرِي .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ يُسَمَّى فِي النَّاسِ ضَامِنًا مَنْ كَانَ ضَامِنًا لِلدَّرَكِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ : إنْ لَمْ يُوَفِّك فُلَانٌ مَالَك إذَا حَلَّ أَوْ : إنْ مَاتَ فُلَانٌ قَبْلَ أَنْ يُوَفِّيَك ؛ فَهُوَ عَلَيَّ أَوْ : فَأَنَا لَهُ ضَامِنٌ ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا لَهُ وَيَكُونُ حَانِثًا فِي يَمِينِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْمُطَالَبَةُ مُتَأَخِّرَةً عَنْهُ إلَى أَنْ يُوجَدَ مَا صَرَّحَ بِهِ وَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ ضَامِنًا فِي الْحَالِ فَكَذَلِكَ فِي الدَّرَكِ .

وَلَوْ ضَمِنَ لِرَجُلٍ غَائِبٍ لَمْ يُخَاطِبْ عَنْهُ أَحَدٌ ؛ لَمْ يَحْنَثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَيَحْنَثُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى مَا سَبَقَ أَنَّ الْكَفَالَةَ لِلْغَائِبِ إذَا لَمْ يَقْبَلْ عَنْهُ أَحَدٌ بَاطِلَةٌ فِي قَوْلِهِمَا ؛ فَلَا يَحْنَثُ فِي يَمِينِهِ وَهُوَ صَحِيحٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَالضَّمَانُ لَازِمٌ لِلْكَفِيلِ فَيَكُونُ حَانِثًا فِي يَمِينِهِ وَلَوْ خَاطَبَهُ عَنْهُ مُخَاطِبٌ ؛ حَنِثَ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ صَحِيحٌ فِي حَقِّ الضَّامِنِ وَإِنْ كَانَ لِلْمَضْمُونِ لَهُ الْخِيَارُ إذَا بَلَغَهُ بَيْنَ أَنْ يَرْضَى بِهِ وَبَيْنَ أَنْ يَرُدَّهُ فَيَتِمَّ بِهِ شَرْطُ الْحِنْثِ فِي حَقِّهِ وَلَوْ ضَمِنَ لِصَبِيٍّ لِأَنَّ أَبَاهُ أَوْ وَصِيَّهُ لَوْ أَجَازَ ذَلِكَ ؛ جَازَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ ضَمِنَ الْغَائِبُ فَيَتِمُّ فِي حَقِّهِ إذَا خَاطَبَهُ بِهِ مُخَاطِبٌ .

وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ يَحْلِفُ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا فَضَمِنَ ؛ فَهُوَ حَانِثٌ لِأَنَّ يَمِينَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ يَنْعَقِدُ لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا وَالِالْتِزَامُ بِالضَّمَانِ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَالُ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ لِحَقِّ مَوْلَاهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ ضَمِنَ الْغَائِبُ وَعَنْهُ مُخَاطِبٌ أَوْ ضَمِنَ لِإِنْسَانٍ بَعْدَ مَا حَلَفَ وَهُوَ مُفْلِسٌ .

وَلَوْ حَلَفَ لَا يَكْفُلُ بِفُلَانٍ أَوْ لَا يَضْمَنُ فُلَانًا فَكَفَلَ عَنْهُ بِمَالٍ ؛ لَمْ يَحْنَثْ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِفُلَانٍ إذَا أُطْلِقَتْ فَإِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْهَا الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ .
وَمُطْلَقُ اللَّفْظِ فِي الْيَمِينِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَتَفَاهَمُهُ النَّاسُ فِي مُخَاطَبَاتِهِمْ ، فَإِنْ عَنَى الْمَالَ كَانَ ذَلِكَ عَلَى مَا عَنَى ؛ لِأَنَّهُ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ بِلَفْظٍ يَحْتَمِلُهُ .
وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا الْجِنْسِ فِي كِتَابٍ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ الْكَفَالَةِ بِمَا لَا يَجُوزُ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : وَلَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِشَجَّةِ عَمْدٍ فِيهَا قِصَاصٌ وَلَا بِدَمِ عَمْدٍ فِيهِ قِصَاصٌ حَتَّى لَا يُؤَاخَذَ الْكَفِيلُ بِشَيْءٍ مِنْ الْقِصَاصِ وَلَا مِنْ الْأَرْشِ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ إنَّمَا تَصِحُّ بِمَضْمُونٍ تُجْرَى النِّيَابَةُ فِي إيفَائِهِ .
وَالْقِصَاصُ عُقُوبَةٌ لَا تُجْرَى النِّيَابَةُ فِي إيفَائِهَا فَلَا يَصِحُّ الْتِزَامُهَا بِالْكَفَالَةِ وَالْأَرْشُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَى الْأَصِيلِ بِالْفِعْلِ الَّذِي هُوَ مُوجِبٌ لِلْقِصَاصِ وَالْكَفِيلُ لَمْ يَكْفُلْ بِهِ أَيْضًا ، وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ بِحَدِّ الْقَذْفِ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ لَا تُجْرَى النِّيَابَةُ فِي إيفَائِهَا وَلِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِيهِ حَقُّ - اللَّهِ تَعَالَى - فَيَكُونُ عَلَى قِيَاسِ سَائِرِ الْحُدُودِ ، وَكَذَلِكَ لَا تَجُوزُ الْكَفَالَةُ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَمَانَاتِ ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَضْمُونَةٍ عَلَى الْأَصِيلِ وَلَا هُوَ مُطَالَبٌ بِإِيفَائِهَا مِنْ عِنْدَهُ .
وَإِنَّمَا يَلْتَزِمُ الْكَفِيلُ الْمُطَالَبَةَ بِمَا هُوَ مَضْمُونُ الْإِيفَاءِ عَلَى الْأَصِيلِ .
فَإِذَا اسْتَهْلَكَهَا بَعْدَ ذَلِكَ مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ أَوْ خَالَفَ فِيهَا ؛ لَمْ يَلْزَمْ الْكَفِيلُ ضَمَانَهَا ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْكَفَالَةِ لَمْ يَصِحَّ .
وَالضَّمَانُ إنَّمَا لَزِمَ الْأَصِيلَ بِسَبَبٍ حَادِثٍ بَعْدَ الْكَفَالَةِ وَهُوَ مَا أَضَافَ الْكَفَالَةَ إلَى ذَلِكَ السَّبَبِ ، وَكَذَلِكَ فِي الْقِصَاصِ لَوْ صَالَحَ الطَّالِبُ الْمَطْلُوبَ عَلَى مَالٍ لَمْ يَلْزَمْ الْكَفِيلَ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ شَيْءٌ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِعَقْدٍ بَعْدَ الْكَفَالَةِ وَالْكَفَالَةُ مَا أُضِيفَتْ إلَيْهِ وَكَمَا لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَكَذَلِكَ الرَّهْنُ ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الرَّهْنِ يَخْتَصُّ بِمَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الرَّهْنِ فَإِنَّ مُوجَبَهُ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ .
وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ بِالرَّهْنِ عَنْ الْمُرْتَهِنِ الرَّهْنُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الرَّهْنِ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ ، وَالْكَفَالَةُ بِتَسْلِيمِ الْأَمَانَةِ لَا تَصِحُّ كَالْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْمُضَارَبَةِ ،

وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ لِلْمَوْلَى مَمْلُوكَةٌ وَهُوَ فِي بَيْتِ مَوْلَاهُ أَوْ قَدْ أَبَقَ عَنْهُ بَاطِلَةٌ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ لِلْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ فَإِنَّ الْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى عَبْدِهِ حَقًّا مَضْمُونًا وَهَذِهِ الْكَفَالَةُ دُونَ الْكَفَالَةِ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ لَلْمَوْلَى عَنْ مُكَاتَبِهِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ فَهَذَا أَوْلَى .

وَلَوْ دَفَعَ ثَوْبًا إلَى قَصَّارٍ لِيُقَصِّرَهُ وَضَمِنَهُ رَجُلٌ فَضَمَانُهُ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَذَلِكَ مَنْ يُشْبِهُهُ مِنْ الصُّنَّاعِ ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ ؛ لَمْ يَضْمَنْ وَأَمَّا فِي قَوْلِ مَنْ يُضَمِّنُ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ مَا هَلَكَ عِنْدَهُ بِسَبَبٍ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فَالْكَفِيلُ ضَامِنٌ لِأَنَّ الْعَيْنَ عِنْدَهُمَا مَضْمُونَةٌ فِي يَدِ الْقَابِضِ بِنَفْسِهَا وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْصُوبِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ .

وَلَوْ كَفَلَ بِعَبْدٍ رَجُلٌ إنْ هُوَ أَبَقَ مِنْ مَوْلَاهُ فَهُوَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ مَا أَضَافَ الْكَفَالَةَ إلَى سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَالْإِبَاقُ لَيْسَ بِسَبَبٍ يُوجِبُ ضَمَانًا لِلْمَوْلَى عَلَى عَبْدِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَفَلَ بِدَابَّتِهِ إنْ انْفَلَتَتْ مِنْهُ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ إنْ تَلِفَ ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ يَلْتَزِمُ مُطَالَبَةً هِيَ عَلَى الْأَصِيلِ وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ هُنَا .

وَلَوْ اسْتَوْدَعَ رَجُلًا وَدِيعَةً عَلَى أَنَّ هَذَا كَفِيلٌ بِهَا إنْ أَكَلَهَا أَوْ جَحَدَهَا ؛ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا شَرَطَ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْكَفَالَةَ إلَى سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ ، وَالْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنْجَزِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : أَنَا كَفِيلٌ بِمَا صَالَحْته عَلَيْهِ مِنْ مَالٍ مِنْ الْقِصَاصِ الَّذِي تَمْلِكُ عَلَيْهِ فِي نَفْسٍ أَوْ مِنْ مَالٍ لَك عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ إلَى سَبَبِ تَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ بِهَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : إنْ قَتَلَك فُلَانٌ خَطَأً ؛ فَأَنَا ضَامِنٌ لِدِيَتِك فَقَتَلَهُ فُلَانٌ خَطَأً ؛ فَهُوَ ضَامِنٌ أَرْشَهُ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْكَفَالَةَ بِالْأَرْشِ إلَى سَبَبٍ مُوجِبٍ لَهُ وَهُوَ مِمَّا تُجْرَى النِّيَابَةُ فِي إيفَائِهِ وَلَوْ قَالَ : إنْ أَكَلَك سَبُعٌ أَوْ ذِئْبٌ فَأَنَا ضَامِنٌ لِدِيَتِك فَهَذَا بَاطِلٌ لِأَنَّهُ مَا أَضَافَ الضَّمَانَ إلَى سَبَبٍ مُوجِبٍ لَهُ وَلَوْ قَالَ : إنْ غَصَبَك إنْسَانٌ فَأَنَا ضَامِنٌ لَهُ فَغَصَبَهُ إنْسَانٌ شَيْئًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ عَمَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَكْفُولَ عَنْهُ مَجْهُولٌ جَهَالَةً مُتَفَاحِشَةً وَذَلِكَ يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْكَفَالَةِ مُضَافًا كَانَ أَوْ مُجَرَّدًا وَلَوْ خَصَّ إنْسَانًا أَوْ قَوْمًا لَزِمَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَكْفُولَ عَنْهُ مَعْلُومٌ .

وَلَوْ دَفَعَ ثَوْبًا إلَى قَصَّارٍ يُقَصِّرُهُ بِأُجْرَةٍ وَكَفَلَ بِهِ رَجُلٌ إنْ أَفْسَدَهُ كَانَ جَائِزًا لِأَنَّ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ ضَامِنٌ لِمَا جَنَتْ يَدُهُ فَقَدْ أَضَافَ الْكَفَالَةَ إلَى سَبَبٍ مُوجِبٍ الضَّمَانَ ؛ فَصَحَّتْ الْكَفَالَةُ لِهَذَا .

وَلَوْ ادَّعَى قِبَلَ رَجُلٍ قِصَاصًا فِي نَفْسٍ أَوْ دُونِهَا أَوْ حَدًّا فِي قَذْفٍ وَسَأَلَ الْقَاضِيَ أَنْ يَأْخُذَ لَهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ وَقَالَ : بَيِّنَتِي حَاضِرَةٌ لَمْ يُجِبْهُ الْقَاضِي إلَى ذَلِكَ .
فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - يُجِيبُهُ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْأَصِيلِ الطَّالِبِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ كَمَا فِي دَعْوَى الْمَالِ وَهَذَا لِأَنَّ تَسْلِيمَ النَّفْسِ تُجْرَى فِيهِ النِّيَابَةُ فَالْكَفِيلُ إنَّمَا يَلْتَزِمُ مَا يَقْدِرُ عَلَى إيفَائِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ : تَسْلِيمُ النَّفْسِ هُنَا لِمَقْصُودٍ لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ وَهُوَ الْحَدُّ وَالْقِصَاصُ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ بِالنَّفْسِ فِيهِمَا بِخِلَافِ الْمَالِ وَهَذَا لِأَنَّ الْعُقُوبَاتِ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ فَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَسْلُكَ فِيهَا طَرِيقَ الِاحْتِيَاطِ بِالْإِجْبَارِ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ بِالنَّفْسِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى الِاسْتِيثَاقِ وَهُوَ ضِدُّ مَوْضُوعِ الْعُقُوبَاتِ وَلَكِنَّ السَّبِيلَ أَنْ يَقُولَ لَهُ : الْزَمْهُ مَا بَيْنَك وَبَيْنَ قِيَامِي فَإِنْ أَحْضَرَ الْبَيِّنَةَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ الْقَاضِي وَإِلَّا خَلَّى سَبِيلَهُ .
وَلَوْ أَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا لَا يَعْرِفْهُ الْقَاضِي فَإِنْ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ أَوْ وَاحِدًا عَدْلًا يَعْرِفُهُ الْقَاضِي فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَحْبِسُهُ فِي السِّجْنِ حَتَّى يَسْأَلَ الشُّهُودَ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَّهَمًا بِارْتِكَابِ الْحَرَامِ الْمُوجِبِ لِلْعُقُوبَةِ حِينَ تَمَّ أَحَدُ شَطْرَيْ الشَّهَادَةِ ، وَالْحَبْسُ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ مِثْلِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الدَّاعِرَ يُحْبَسُ وَلَا يَكْفُلُ حَتَّى يَأْتِيَ بِشَاهِدٍ آخَرَ ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ لِلِاسْتِيثَاقِ بِالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَأَمَّا الْحَبْسُ لِلتَّعْزِيرِ فَهُوَ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ مُتَّهَمٌ بِارْتِكَابِ الْحَرَامِ وَعَلَى قَوْلِهِمَا لَا يَحْبِسُهُ قَبْلَ تَمَامِ الْحُجَّةِ الْمُوجِبَةِ

لِلْقَضَاءِ وَلَكِنَّهُ يَكْفُلُهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَمَا فِي دَعْوَى الْمَالِ .

وَلَوْ ادَّعَى قِبَلَ رَجُلٍ مَالًا بِسَرِقَةٍ مِنْهُ وَقَالَ : بَيِّنَتِي حَاضِرَةٌ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ لَهُ مِنْهُ كَفِيلٌ بِنَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى مَالٌ وَالِاسْتِيثَاقُ بِالْكَفَالَةِ فِيهِ مَشْرُوعٌ فَإِنْ قَالَ : قَبَضْت مِنْهُ السَّرِقَةَ لَكِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ كَفِيلٌ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ يَجِبُ لِلَّهِ تَعَالَى وَهُوَ يَنْبَنِي عَلَى الْبُرْءِ وَالْإِسْقَاطِ فَلَا يَسْتَوْثِقُ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ بِالنَّفْسِ فِيهِ وَكَذَلِكَ حَدُّ الزِّنَا فَإِنْ طَلَبَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مِنْ الَّذِي شَهِدَ عَلَيْهِ بِالزِّنَا حَدَّ الْقَذْفِ فَقَالَ الشَّاهِدُ : عِنْدِي بِذَلِكَ أَرْبَعَةُ شُهَدَاءَ ؛ أُجِّلَ فِيهِ إلَى قِيَامِ الْقَاضِي لِيَظْهَرَ عَجْزُهُ بِهَذَا الْإِمْهَالِ عَنْ إقَامَةِ أَرْبَعَةٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ فَإِنْ لَمْ يُحْضِرْهُمْ ؛ أَقَامَ عَلَيْهِ حَدَّ الْقَذْفِ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْحَدِّ قَدْ تَقَرَّرَ وَهُوَ الْقَذْفُ مَعَ الْعَجْزِ عَنْ إقَامَةِ أَرْبَعَةٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ وَلَمْ يَحِلَّ عَنْهُ وَلَا يَكْفُلْ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى الِاسْتِيثَاقِ وَلَكِنَّ الطَّالِبَ يَلْزَمُهُ إلَى قِيَامِ الْقَاضِي مُرَاعَاةً لِحَقِّهِ حَتَّى لَا يَهْرُبَ .
فَإِنْ قَالَ الشَّاهِدَانِ : الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ عَبْدٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ حُرِّيَّتِهِ بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ وَبِمِثْلِهِ يُدْفَعُ الِاسْتِحْقَاقُ وَلَا يُسْتَحَقُّ الْحَدُّ ، وَإِنْ طَلَبَ الْمَقْذُوفُ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَأْخُذَ لَهُ مِنْهُ كَفِيلًا حَتَّى يُحْضِرَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ حُرٌّ لَمْ يُؤْخَذْ ؛ لِأَنَّ هَذَا اسْتِيثَاقٌ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ وَلَكِنَّ الْقَاذِفَ يُحْبَسُ عَلَى وَجْهٍ لَهُ فَقَدْ اسْتَوْجَبَ ذَلِكَ بِإِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ حُرًّا كَانَ الْمَقْذُوفُ أَوْ عَبْدًا وَيُؤَجَّلُ الْمَقْذُوفُ أَيَّامًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَامَ رَجُلٌ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ بِالرِّقِّ فَزَعَمَ أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً حَاضِرَةً عَلَى الْحُرِّيَّةِ وَكَمَا يُؤَجَّلُ هُنَاكَ أَيَّامًا لِيَتَمَكَّنَ مِنْ إثْبَاتِ حُرِّيَّتِهِ بِالْبَيِّنَةِ ؛ فَكَذَلِكَ هُنَا ، وَإِنْ أَقَامَ رَبُّ السَّرِقَةِ

شَاهِدَيْنِ عَلَى السَّارِقِ وَعَلَى السَّرِقَةِ وَهِيَ بِعَيْنِهَا فِي يَدَيْهِ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ كَفِيلٌ وَلَكِنَّهُ يُحْبَسُ وَتُوضَعُ السَّرِقَةُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ حَتَّى يُزَكِّيَ الشُّهُودُ ؛ لِأَنَّ فِي الِاشْتِغَالِ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ بِنَفْسِهِ أَوْ بِالْعَيْنِ الْمَسْرُوقَةِ اسْتِيثَاقًا لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ ذَلِكَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَلَكِنَّهُ يُحْبَسُ عَلَى وَجْهِ التَّعْزِيرِ وَتُوضَعُ السَّرِقَةُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ ؛ لِأَنَّ السَّارِقَ غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَى الْعَيْنِ الْمَسْرُوقَةِ وَالْمُدَّعِي عَلَيْهِ الْمَالَ إذَا كَانَ يَخَافُ مِنْهُ أَنْ يُتْلِفَ الْمَالَ فَلِلْقَاضِي أَنْ يَضَعَهُ عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ بَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ حَتَّى يُزَكِّيَ الشُّهُودُ وَإِخْرَاجُ الْعَيْنِ فِيهِ نَوْعُ تَعْزِيرٍ لَهُ .

وَإِذَا ادَّعَى عَبْدٌ عَلَى حُرٍّ قَذْفًا وَأَرَادَ أَنْ يَعْذِرَ لَهُ أَوْ ادَّعَى رَجُلٌ قِبَلَ رَجُلٍ مَسْأَلَةً فِيهَا تَعْزِيرٌ ، وَقَالَ : بَيِّنَتِي حَاضِرَةٌ أَخَذَ لَهُ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحَدٍّ وَإِنَّمَا هُوَ تَعْزِيرٌ وَهُوَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ حَتَّى يَجُوزَ الْعَفْوُ عَنْهُ وَهُوَ مِمَّا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ الَّتِي هِيَ فِي مَعْنَى الْبَدَلِ بِمَنْزِلَةِ الْأَمْوَالِ .

وَلَوْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ قَذَفَهَا وَالزَّوْجُ حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ ؛ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ كَفِيلٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ فِي قَذْفِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَدِّ فِي قَذْفِ الْأَجْنَبِيِّ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْخِلَافَ هُنَاكَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فَكَذَلِكَ هُنَا .

وَلَوْ ادَّعَى الْوَلَدُ قِبَلَ الْوَالِدِ قَذْفًا لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ كَفِيلٌ وَلَمْ يُتْرَكْ إنْ يَلْزَمْهُ ؛ لِأَنَّ الِابْنَ لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى وَالِدِهِ شَيْئًا مِنْ نَوْعِ الْعُقُوبَةِ تَعْزِيرًا كَانَ أَوْ حَدًّا أَوْ قِصَاصًا ، وَكَذَلِكَ لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ الْحَبْسَ فِي دَيْنٍ لَهُ وَاجِبٍ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ لَا يَسْتَوْجِبُ الْمُلَازَمَةَ فِي دَعْوَاهُ قِبَلَهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَاهُ قِبَلَ وَالِدَتِهِ أَوْ جَدِّهِ أَوْ جَدَّتِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى عَبْدٌ أَنَّ مَوْلَاهُ قَذَفَ أُمَّهُ وَهِيَ حُرَّةٌ مُسْلِمَةٌ ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْمِلْكِ فِي إخْرَاجِ الْمَمْلُوكِ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِاسْتِيجَابِ الْعُقُوبَةِ عَلَى مَالِكِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوِلَادَةِ .

وَلَوْ ادَّعَى حُرٌّ قِبَلَ عَبْدٍ قَذْفًا فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ أَوْ نَفْسِ مَوْلَاهُ وَخَافَ أَنْ لَا يُقَامَ عَلَيْهِ الْحَدُّ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ مَوْلَاهُ لَمْ يُؤْخَذْ لَهُ الْكَفِيلُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَكِنَّهُ يُؤْمَرُ بِتَلَازُمِهِمَا إلَى أَنْ يَقُومَ الْقَاضِي فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ مَوْلَاهُ ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ يُحْبَسُ لَهُ وَيُؤْخَذُ لَهُ مِنْ مَوْلَاهُ كَفِيلٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يُحْبَسُ الْعَبْدُ ، وَلَكِنْ يُؤْخَذُ لَهُ كَفِيلٌ بِنَفْسِ الْعَبْدِ خَاصَّةً دُونَ نَفْسِ الْمَوْلَى ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُؤْخَذُ لَهُ الْكَفِيلُ بِنَفْسِ الْعَبْدِ وَنَفْسِ مَوْلَاهُ وَاَلَّذِي قَالَ فِي الْكِتَابِ : إنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّمَا يُرِيدُ بِهِ أَخْذَ الْكَفِيلِ مِنْ الْمَوْلَى فَأَمَّا حَبْسُ الْعَبْدِ فَقَوْلُهُ كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ : إحْدَاهُمَا مَا بَيَّنَّا مِنْ أَخْذِ الْكَفِيلِ بِنَفْسِ الْمُدَّعِي قِبَلَهُ حَدَّ الْقَذْفِ ، وَالْأُخْرَى : مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي الْآبِقِ أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ بِالْبَيِّنَةِ لَا يُقَامُ عَلَى الْعَبْدِ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ مَوْلَاهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُقَامُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ الْمَوْلَى .
فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : لَا يَأْخُذُ الْكَفِيلَيْنِ بِنَفْسِ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى حُضُورِهِ فِي إقَامَتِهِ الْحَدَّ وَيُؤْخَذُ الْكَفِيلُ بِنَفْسِ الْعَبْدِ وَلَا يُحْبَسُ قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَلَا بَعْدَهَا قَبْلَ ظُهُورِ عَدَالَةِ الشُّهُودِ ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ عِنْدَهُ فِي حُكْمِ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَذَلِكَ ، إلَّا أَنَّهُ قَالَ : يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ

بِنَفْسِ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حَضْرَةِ الْمَوْلَى لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْعَبْدِ عِنْدَهُ .
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي دَعْوَى حَدِّ الْقَذْفِ لَا يُجْبَرُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ بِالنَّفْسِ قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَلَكِنْ يُصَارُ فِيهِ إلَى الْمُلَازَمَةِ وَلَا بُدَّ مِنْ حَضْرَةِ الْمَوْلَى عِنْدَهُ لِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَيَكُونُ لِلْمُدَّعِي أَنْ يُلَازِمَهُمَا وَبَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ يُحْبَسُ الْعَبْدُ تَعْزِيرًا كَمَا يُحْبَسُ الْحَرُّ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِالْقَذْفِ وَيُؤْخَذُ مِنْ مَوْلَاهُ كَفِيلٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حَضْرَةِ الْمَوْلَى لِإِقَامَةِ الْحَدِّ وَلَا سَبِيلَ إلَى حَبْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَا ارْتَكَبَ حَرَامًا فَيُؤْخَذُ مِنْهُ كَفِيلٌ نَظَرًا لِلْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي أَخْذِ الْكَفِيلِ مِنْ الْمَوْلَى هُنَا تَوَثُّقٌ بِحَدٍّ عَلَيْهِ إذْ لَا حَدَّ عَلَى الْمَوْلَى .

وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ حَدًّا فِي قَذْفٍ فَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ أَوْ شَاهِدٍ وَامْرَأَتَيْنِ لَمْ يَكْفُلْ وَلَمْ يُحْبَسْ ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْحُجَّةِ فِي حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ .
وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي سَرِقَةٍ أُخِذَ مِنْهُ كَفِيلٌ بِنَفْسِهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ الشُّهُودِ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ يَثْبُتُ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ فَإِنْ زَكَّوْا قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْمَالِ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ جِرَاحَةٍ لَا قِصَاصَ فِيهَا لَا فِي دَعْوَى الْمَالِ ، وَبِمِثْلِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ يَثْبُتُ الْمَالُ .
فَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ دَمَ عَمْدٍ عَلَى ثَلَاثَةِ نَفَرٍ فَأَقَرَّ اثْنَانِ مِنْهُمْ بِذَلِكَ وَشَهِدَا عَلَى الثَّالِثِ أَنَّهُ قَتَلَ مَعَهُمَا عَمْدًا فَإِنَّهُمَا يُحْبَسَانِ فَإِقْرَارُهُمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِمُبَاشَرَةِ السَّبَبِ الْمُوجِبُ لِلْعُقُوبَةِ ، وَلَا يُحْبَسُ الْآخَرُ بِشَهَادَتِهِمَا وَلَا يَكْفُلُ ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا لَيْسَتْ بِمَقْبُولَةٍ عَلَى الثَّالِثِ فَإِنَّهُمَا فَاسِقَانِ وَلِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ بِفِعْلٍ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا وَلَا شَهَادَةَ لَهُمَا فِي مِثْلِهِ فَإِنَّمَا فِي حَقِّ الثَّالِثِ مُجَرَّدُ دَعْوَى الْمُدَّعِي وَبِهِ لَا يَثْبُتُ الْحَبْسُ وَلَا التَّكْفِيلُ .
وَلَوْ كَانَ أَوْلِيَاءُ الدَّمِ ثَلَاثَةً فَادَّعَى أَحَدُهُمْ عَلَى رَجُلٍ وَادَّعَى الْآخَرُ عَلَى الشَّرِيكِ قَتْلَ الْعَمْدِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي بَيِّنَةً حَاضِرَةً لَمْ يُحْبَسْ أَحَدٌ مِنْهُمْ وَلَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَفِيلٌ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى وَإِنَّمَا إنْهَاءُ الْمَالِ بِشَيْءٍ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مَنْ بَيِّنَتُهُ عَلَيْهِ فِي دَعْوَى الْمَالِ يَكْفُلُ بِالنَّفْسِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ .

وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ قِبَلَ رَجُلٍ قَطْعَ يَدٍ عَمْدًا ثُمَّ أَبْرَأَهُ وَادَّعَاهُ عَلَى الْآخَرِ ؛ لَمْ يَكْفُلْ الثَّانِي وَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَةٌ عَلَيْهِ لِوُجُودِ التَّنَاقُضِ مِنْهُ فِي الدَّعْوَى فَإِنْ أَقَرَّ الثَّانِي بِذَلِكَ قَضَى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مُنَاقِضٌ صَدَقَ خَصْمُهُ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ لَا يَقْضِي عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الدَّعْوَى مِنْهُ عَلَى غَيْرِهِ يَمْنَعُهُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ مِنْهُ فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي حَقِّ الْقِصَاصِ دُونَ الْمَالِ وَهَذَا مُشْكِلٌ فَإِنْ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ لِمَعْنًى مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ وَهُوَ تَنَاقُضُهُ فِي الدَّعْوَى وَفِي مِثْلِهِ لَا يُقْضَى بِالدِّيَةِ كَمَا لَوْ قَالَ : قَتَلْت وَلِيَّك عَمْدًا فَقَالَ : لَا بَلْ قَتَلْته خَطَأً ؛ لَا يُقْضَى بِالْمَالِ وَكُلُّ مَا لَا قِصَاصَ فِيهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخَطَأِ فِي حُكْمِ الْكَفَالَةِ حَتَّى إذَا ادَّعَى عَلَى رَجُلَيْنِ قَطْعَ يَدٍ عَمْدًا أَخَذَ لَهُ مِنْهُمَا الْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ ؛ لِأَنَّ هَذَا غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْقِصَاصِ وَإِنَّمَا الدَّعْوَى فِيهِ دَعْوَى الْمَالِ .

وَلَوْ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ عَلَى قَتْلٍ خَطَأٍ ؛ قُضِيَ لَهُ بِالدِّيَةِ وَلَا حَبْسَ عَلَى الْقَاتِلِ فِي ذَلِكَ وَلَا كَفَالَةَ ؛ لِأَنَّ الْخَاطِئَ مَعْذُورٌ وَالْخَطَأُ مَوْضِعُ رَحْمَةٍ مِنْ الشَّرْعِ عَلَيْنَا فَالْخَاطِئُ لَا يَسْتَوْجِبُ التَّعْزِيرَ إلَّا أَنْ يَكُونَ دَاعِرًا فَيُحْبَسُ لِلدِّعَارَةِ ؛ لِأَنَّ فِي حَبْسِ الدَّاعِرِ تَسْكِينُ الْفِتْنَةِ .

وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا قَطَعَ يَمِينَ رَجُلَيْنِ فَاجْتَمَعَا وَطَلَبَا كَفِيلًا بِنَفْسِهِ ؛ لَا يُؤْخَذُ لَهُمَا مِنْهُ كَفِيلٌ بِنَفْسِهِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي الْقِصَاصَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ أَحَدَهُمَا إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُضِيَ لَهُ بِالْقِصَاصِ وَإِذَا أَقَامَا جَمِيعًا الْبَيِّنَةَ قُضِيَ لَهُمَا بِالْقِصَاصِ حَتَّى إذَا بَادَرَ أَحَدُهُمَا وَاسْتَوْفَى كَانَ مُسْتَوْفِيًا لِحَقِّهِ إلَّا أَنَّهُمَا إذَا اسْتَوْفَيَا الْقِصَاصَ يُقْضَى لَهُمَا حِينَئِذٍ بِأَرْشِ الْيَدِ وَقُضِيَ بِنِصْفِ طَرَفِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ دَعْوَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَعْوَى الْقِصَاصِ لَمْ يُؤْخَذْ الْكَفِيلُ بِنَفْسِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ

وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ قِبَلَ رَجُلٍ قَطْعَ يَدٍ عَمْدًا وَيَدُ الْقَاطِعِ شَلَّاءُ فَقَالَ الْمُدَّعِي : أَنَا أَخْتَارُ الدِّيَةَ فَخُذْ لِي مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ ، أَخَذَ لَهُ الْكَفِيلَ ؛ لِأَنَّ بِاخْتِيَارِهِ يَتَعَيَّنُ حَقُّهُ فِي الْمَالِ وَفِي دَعْوَى الْمَالِ تُجْرَى الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ .

وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ قِبَلَ رَجُلٍ شَتْمَةً فَاحِشَةً وَأَقَامَ عَلَيْهِ شَاهِدَيْنِ بِالشَّتْمَةِ لَمْ يُحْبَسْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَكِنْ يُؤْخَذُ مِنْهُ كَفِيلٌ بِنَفْسِهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ الشُّهُودِ وَلِمَا بَيَّنَّا أَنَّ دَعْوَى التَّعْزِيرِ كَدَعْوَى الْمَالِ .
وَفِي دَعْوَى الْمَالِ لَا يُحْبَسُ مَا لَمْ تَظْهَرْ عَدَالَةُ الشُّهُودِ ثُمَّ الْحَبْسُ نِهَايَةُ الْعُقُوبَةِ فِي هَذِهِ الدَّعْوَى .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ بَعْدَ عَدَالَةِ الشُّهُودِ لَوْ رَأَى الْقَاضِي أَنْ يَحْبِسَهُ أَيَّامًا عُقُوبَةً وَلَا يُعَزِّرُ بِالسَّوْطِ ؛ كَانَ لَهُ ذَلِكَ .
فَلَمَّا كَانَ الْحَبْسُ لَهُ نِهَايَةَ الْعُقُوبَةِ هُنَا ؛ لَا يُمْكِنُ إقَامَتُهَا قَبْلَ ظُهُورِ الْعَدَالَةِ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ .
وَأَشَارَ فِي الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ إلَى أَنَّ عَلَى قَوْلِهِمَا بَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ قَبْلَ ظُهُورِ عَدَالَةِ الشُّهُودِ يُحْبَسُ وَلَا يُؤْخَذُ الْكَفِيلُ وَلَكِنْ يَبْرَأُ الْكَفِيلُ إنْ كَانَ أَخَذَهُ مِنْهُ ( تَأْوِيلُهُ ) : بَعْدَ ظُهُورِ الْعَدَالَةِ فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا يَشْتَغِلُ بِحَبْسِهِ عِنْدَهُمَا عَلَى مَا فَسَّرَهُ فِي دَعْوَى الْحَدِّ عَلَى الْعَبْدِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الشَّتْمَةَ رَجُلًا لَهُ مُرُوءَةٌ وَخَطَرٌ ؛ اسْتَحْسَنْت أَنْ لَا أَحْبِسَهُ وَلَا أُعَزِّرَهُ إذَا كَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ مَرَّةٍ ؛ لِأَنَّ إحْضَارَهُ مَجْلِسَ الْقَاضِي فِيهِ نَوْعُ تَعْزِيرٍ فِي حَقِّهِ فَيَكْتَفِي بِهِ فِي أَوَّلِ مَرَّةً وَيُؤْخَذُ بِمَا رَوَاهُ الْحَسَنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - { عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَجَافَوْا عَنْ ذَوِي الْمُرُوءَةِ إلَّا فِي الْحَدِّ .
}

وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ قِبَلَ رَجُلٍ شَيْئًا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ عُقُوبَةٌ فَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَهَرَبَ الْمَكْفُولُ بِهِ وَقَدَّمَ الطَّالِبُ الْكَفِيلَ إلَى الْقَاضِي ؛ فَإِنَّهُ يَحْبِسُهُ حَتَّى يَجِيءَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ تَسْلِيمَ نَفْسِهِ فَيُحْبَسُ لِإِيفَاءِ مَا الْتَزَمَهُ .

وَلَوْ ادَّعَى قِبَلَ رَجُلٍ أَنَّهُ ضَرَبَهُ وَخَنَقَهُ وَشَتَمَهُ وَأَنَّ لَهُ بَيِّنَةً حَاضِرَةً ؛ أَخَذَ لَهُ مِنْهُ كَفِيلًا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ أَقَامَ عَلَى ذَلِكَ شَاهِدَيْنِ أَوْ شَاهِدًا وَامْرَأَتَيْنِ أَوْ شَاهِدَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ عُزِّرَ بِهِ ؛ لِأَنَّ التَّعْزِيرَ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْحُدُودِ أَنَّهُ لَا يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ أَرْبَعِينَ سَوْطًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَبْلُغُ بِالتَّعْزِيرِ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ سَوْطًا إذَا كَانَ فِي أَمْرٍ مُتَفَاحِشٍ ، وَتَعْزِيرُ الْعَبْدِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ سَوْطًا عِنْدَهُ ذَكَرَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ هُنَا ؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعِينَ حَدٌّ فِي حَقِّ الْعَبْدِ .
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ بَلَغَ حَدًّا فِي غَيْرِ حَدٍّ فَهُوَ مِنْ الْمُعْتَدِينَ }

وَلَوْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ قِبَلَ زَوْجِهَا أَنَّهُ ضَرَبَهَا ضَرْبًا فَاحِشًا وَادَّعَتْ بَيِّنَةً حَاضِرَةً أَوْ ادَّعَى رَجُلٌ ذَلِكَ قِبَلَ وَلَدِهِ الْكَبِيرِ أَوْ قِبَلَ أَخِيهِ ؛ يُؤْخَذُ مِنْهُ كَفِيلٌ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ يَدَّعِي الشَّتْمَةَ قِبَلَ الْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ ، أَوْ الْعَبْدُ يَدَّعِيهَا قِبَلَ الْحَرِّ ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى فِي هَذَا كُلِّهِ دَعْوَى التَّعْزِيرِ .
وَالْكَفَالَةُ فِيهِ مَشْرُوعَةٌ .

وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَمْ يَتْرُكْ شَيْئًا فَكَفَلَ ابْنَهُ أَجْنَبِيٌّ لِلْغَرِيمِ بِمَا لَهُ عَلَى الْمَيِّتِ ؛ لَمْ تَجُزْ الْكَفَالَةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهِيَ جَائِزَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَإِذَا كَانَ الْمَيِّتُ تَرَكَ وَفَاءً ؛ جَازَتْ الْكَفَالَةُ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا ، وَإِنْ تَرَكَ شَيْئًا لَيْسَ فِيهِ وَفَاءٌ فَإِنَّهُ يُلْزِمُ الْكَفِيلَ بِقَدْرِ مَا تَرَكَ الْمَيِّتُ فِي قَوْلِهِ وَفِي قَوْلِهِمَا يَلْزَمُهُ جَمِيعُ مَا كَفَلَ بِهِ وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُتِيَ بِجِنَازَةِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَلْ عَلَى صَاحِبِكُمْ دَيْنٌ فَقَالُوا : نَعَمْ ، دِرْهَمَانِ أَوْ دِينَارَانِ فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ : صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ .
فَقَالَ أَبُو قَتَادَةَ : هُمَا عَلَيَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَفِي رِوَايَةٍ : قَالَ ذَلِكَ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } فَلَوْ لَمْ تَصِحَّ الْكَفَالَةُ عَنْ الْمَيِّتِ الْمُفْلِسِ ؛ لَمَا صَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْكَفَالَةِ .
وَعَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ { عَنْ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ : مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَمُوتَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ ؛ فَلْيَفْعَلْ فَإِنِّي شَهِدْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ أُتِيَ بِجِنَازَةِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : هَلْ عَلَى صَاحِبِكُمْ دَيْنٌ فَقَالُوا نَعَمْ فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ : وَمَا يَنْفَعُكُمْ صَلَاتِي عَلَيْهِ وَهُوَ فِي قَبْرِهِ مُرْتَهِنٌ بِدَيْنِهِ ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَنْ ضَمِنَهُ قُمْت فَصَلَّيْت عَلَيْهِ } فَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى تَصْحِيحِ الضَّمَانِ عَنْ الْمَيِّتِ الْمُفْلِسِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ كَفَلَ بِدَيْنٍ وَاجِبٍ

فَيَصِحُّ كَمَا فِي حَالِ حَيَاةِ الْمَدْيُونِ وَهَذَا لِأَنَّ الدَّيْنَ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ فَلَا يَسْقُطُ إلَّا بِإِيفَاءٍ أَوْ إبْرَاءٍ أَوْ انْفِسَاخِ سَبَبِ الْوُجُوبِ .
وَبِالْمَوْتِ لَا يَتَحَقَّقُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ مُؤَاخَذٌ بِهِ فِي الْآخِرَةِ مَطْلُوبٌ بِهِ وَلَوْ تَبَرَّعَ إنْسَانٌ بِقَضَائِهِ جَازَ التَّبَرُّعُ إلَّا أَنَّهُ تَعَذَّرَتْ مُطَالَبَتُهُ بِهِ فِي الدُّنْيَا بِمَوْتِهِ وَبِهَذَا لَا يَخْرُجُ الْحَقُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَطْلُوبًا فِي نَفْسِهِ كَمَا لَوْ أَفْلَسَ فِي حَالِ الْحَيَاةِ ، وَكَالْعَبْدِ إذَا أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِدَيْنٍ ثُمَّ كَفَلَ عَنْهُ كَفِيلٌ بِهِ صَحَّ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ لَا يُطَالِبُهُ فِي حَالِ رِقِّهِ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ مَطْلُوبٌ فِي نَفْسِهِ وَهَذَا لِأَنَّ ذِمَّتَهُ بَاقِيَةٌ بَعْدَ الْمَوْتِ حُكْمًا ؛ لِأَنَّهَا كَرَامَةٌ اُخْتُصَّ بِهَا الْآدَمِيُّ وَبِمَوْتِهِ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُحْتَرَمًا مُسْتَحِقًّا لِكَرَامَاتِ بَنِي آدَمَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ مَاتَ مَلِيًّا بَقِيَ الدَّيْنُ بِبَقَاءِ ذِمَّتِهِ حُكْمًا لَا لِلِانْتِقَالِ إلَى الْمَالِ وَلَيْسَ بِمَحَلٍّ لِوُجُوبِ الدَّيْنِ فِيهِ وَإِنَّمَا هُوَ مَحَلُّ الْقَضَاءِ الْوَاجِبِ مِنْهُ .
وَلَوْ كَانَ بِالدَّيْنِ رَهْنٌ بَقِيَ الرَّهْنُ عَلَى حَالِهِ ، وَإِنْ كَانَ مَاتَ عَنْ إفْلَاسٍ بِأَنْ كَانَ الرَّهْنُ مُسْتَعَارًا مِنْ إنْسَانٍ ، وَبَقَاءُ الرَّهْنِ لَا يَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ بَقَاءِ الدَّيْنِ .

وَلَوْ قُتِلَ عَمْدًا وَهُوَ مُفْلِسٌ فَكَفَلَ بِهِ كَفِيلٌ بِالدَّيْنِ الَّذِي عَلَيْهِ صَحَّ وَالْقِصَاصُ الْوَاجِبُ لَيْسَ بِمَالٍ ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ الذِّمَّةُ بَاقِيَةً حُكْمًا ؛ لَمَا صَحَّتْ الْكَفَالَةُ هُنَا وَهَذَا بِخِلَافِ دَيْنِ الْكِتَابَةِ فَالْحَقُّ هُنَاكَ غَيْرُ مَطْلُوبٍ ، وَكَذَلِكَ الدُّيُونُ الْوَاجِبَةُ لِلَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهَا غَيْرُ مَطْلُوبَةٍ فِي الْحُكْمِ فِي الدُّنْيَا وَالْكَفَالَةُ تَكُونُ بِالْحَقِّ فَيُشْتَرَطُ كَوْنُ الْحَقِّ مَطْلُوبًا فِي نَفْسِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُنَاكَ الْحَقُّ مَطْلُوبٌ فِي نَفْسِهِ وَبِمَوْتِهِ لَمْ يَتَغَيَّرْ الْحُكْمُ فَبَقِيَ مَطْلُوبًا .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْحَقَّ قَدْ تَوَى وَإِنَّمَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالْقَائِمِ مَثَلًا مِنْ الدَّيْنِ دُونَ التَّاوِي .
وَبَيَانُ ذَلِكَ هُوَ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ قِيَامُ الْحَقِّ بِدُونِ مَحَلِّهِ ، وَمَحَلُّ الدَّيْنِ الذِّمَّةُ .
وَقَدْ خَرَجَتْ ذِمَّتُهُ بِمَوْتِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا صَالِحًا لِوُجُوبِ الْحَقِّ فِيهَا فَإِنَّ الذِّمَّةَ عِبَارَةٌ عَنْ الْعُهْدَةِ .
وَمِنْهُ يُقَالُ : أَهْلُ الذِّمَّةِ ، وَأَصْلُ ذَلِكَ مِنْ الْمِيثَاقِ الْمَأْخُوذِ عَلَى الذُّرِّيَّةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ .
قَالَ تَعَالَى { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّك مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } الْآيَةَ وَتَمَامُهُ بِالْإِلْزَامِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَكُلَّ إنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ } وَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْحَيَاةِ قَبْلَهُ .
فَأَمَّا بِالْمَوْتِ فَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِالْتِزَامِ شَيْءٍ مِنْ الْحُقُوقِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ ذِمَّةٌ صَالِحَةٌ تَكُونُ مَحَلًّا لِلْحَقِّ وَلَكِنَّهُ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ مُعَدٌّ لِلْحَيَاةِ فَتَبْقَى الذِّمَّةُ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ وَلِهَذَا كَانَ مُؤَاخَذًا بِهِ وَهُوَ مُعَدٌّ لِلْحَيَاةِ فِي الدُّنْيَا عَادَةً فَلَا تَبْقَى الذِّمَّةُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَبِاعْتِبَارِ الْمُطَالَبَةِ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ

الْكَفَالَةِ كَمَا فِي دُيُونِ اللَّهِ - جَلَّتْ قُدْرَتُهُ - .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الذِّمَّةَ لَمْ تَبْقَ مَحَلًّا لِوُجُوبِ الْحَقِّ فِيهَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَكَمَا يُشْتَرَطُ الْمَحَلُّ لِابْتِدَاءِ الِالْتِزَامِ فَكَذَلِكَ يُشْتَرَطُ الْمَحَلُّ لِبَقَاءِ الْحَقِّ وَلَمْ يَبْقَ الْمَحَلُّ ؛ فَلَا يَبْقَى فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا أَيْضًا .
وَالْكَفِيلُ إنَّمَا يَلْتَزِمُ الْمُطَالَبَةَ بِمَا عَلَى الْأَصِيلِ وَلَا يَلْتَزِمُ أَصْلَ الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ وَلَمْ يَبْقَ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ شَيْءٌ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ وَهَذَا الدَّيْنُ فِي حُكْمِ الْمُطَالَبَةِ دُونَ دَيْنِ الْكِتَابَةِ فَالْمُكَاتَبُ يُطَالَبُ بِالْمَالِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُحْبَسُ فِيهِ ثُمَّ هُنَاكَ الْكَفَالَةُ بِهِ لَا تَصِحُّ فَهُنَا أَوْلَى بِخِلَافِ الْمُفْلِسِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَإِنَّ ذِمَّتَهُ مَحَلٌّ صَالِحٌ لِوُجُوبِ الْحَقِّ فِيهَا ابْتِدَاءً فَبَقِيَ الْوَاجِبُ وَبِخِلَافِ الْعَبْدِ أَيْضًا فَإِنَّ لَهُ ذِمَّةً صَالِحَةً لِوُجُوبِ الْحَقِّ فِيهَا ، وَإِنْ ضَعُفَتْ ذِمَّتُهُ بِسَبَبِ الرِّقِّ وَبِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ مَلِيًّا فَالْمَالُ هُنَاكَ خَلَفٌ عَنْ الذِّمَّةِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الْمُطَالَبَةُ وَالِاسْتِيفَاءُ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ يَكُونُ مِنْ الْمَالِ بِجَعْلِ الْأَصْلِ قَائِمًا حُكْمًا وَهُنَا لَمْ يَبْقَ خَلَفٌ بَعْدَ مَوْتِهِ مُفْلِسًا ، وَتَوَهَّمْ أَنْ يَتَبَرَّعَ إنْسَانٌ بِمَالِهِ فَيُقْضَى عَنْهُ الدَّيْنُ لَا يُجْعَلُ مَالُ الْغَيْرِ خَلَفًا عَنْ ذِمَّتِهِ قَبْلَ جَعْلِ صَاحِبِهِ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بِالدَّيْنِ كَفِيلٌ ؛ لِأَنَّ ذِمَّةَ الْكَفِيلِ هُنَا خَلَفٌ عَنْ ذِمَّتِهِ وَبَعْدَ صِحَّةِ الْكَفَالَةِ قَدْ يَتَحَوَّلُ الدَّيْنُ إلَى ذِمَّةِ الْكَفِيلِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَهُوَ عِنْدَ أَدَاءِ الْكَفِيلِ أَوْ الْهِبَةِ .
وَقَدْ تَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ هُنَا فَلِهَذَا بَقِيَ الْكَفِيلُ فِي الْكَفَالَةِ وَكَذَلِكَ الرَّهْنُ خَلَفٌ عَنْ الذِّمَّةِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ اسْتِيفَاءُ الدَّيْنِ مِنْهُ بِقَدْرِ اسْتِيفَائِهِ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ وَإِذَا قُتِلَ عَمْدًا فَقَدْ قَالَ بَعْضُ

أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - : لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ يَقُولُ : الْقِصَاصُ الْوَاجِبُ بِفَرْضِ أَنْ يَصِيرَ مَالًا بِعَفْوِ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ أَوْ تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ فَتَوَهُّمُ تَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ فِي الدُّنْيَا بِقَضَاءِ ذَلِكَ الدَّيْنِ يَجْعَلُ الذِّمَّةَ بَاقِيَةً حُكْمًا فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ لِهَذَا الْمَعْنَى وَالْحَدِيثُ الْمَرْوِيُّ فِي الْبَابِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ أَبِي قَتَادَةَ أَوْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إقْرَارًا بِكَفَالَةٍ سَابِقَةٍ .
فَإِنَّ لَفْظَ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءِ فِي الْكَفَالَةِ سَوَاءٌ وَالْعُمُومُ بِحِكَايَةِ الْحَالِ لَا يَثْبُتُ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ وَعْدًا مِنْهُمَا لَا كَفَالَةً وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْتَنِعُ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ لِيَظْهَرَ طَرِيقٌ لِقَضَاءِ مَا عَلَيْهِ فَلَمَّا ظَهَرَ الطَّرِيقُ لِوَعْدِهِمَا ؛ صَلَّى عَلَيْهِ لِهَذَا .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ مَا رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ : مَا فَعَلَ الدِّينَارَانِ حَتَّى قَالَ يَوْمًا : قَضَيْتهمَا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآنَ بَرَدَتْ عَلَيْهِ جِلْدَتُهُ وَلَمْ يَجْبُرْهُ عَلَى الْأَدَاءِ وَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ كَانَ وَعْدًا لَا كَفَالَةً .
وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ شَاذٌّ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَفَ أَنَّ لِذَلِكَ الرَّجُلِ مَالًا وَلَكِنَّهُ مَا كَانَ ظَاهِرًا عِنْدَ النَّاسِ فَلِهَذَا نَدَبَهُمْ إلَى الضَّمَانِ عَنْهُ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ ثُمَّ هَذَا حُكْمٌ مَنْسُوخٌ ؛ لِإِجْمَاعِنَا عَلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَدْيُونِ الْمُفْلِسِ وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْمَنْسُوخِ لَا يَقْوَى .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ كِتَابِ الْقَاضِي فِي الْكَفَالَةِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : وَإِذَا كَتَبَ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي كَفَالَةٍ بِنَفْسِ رَجُلٍ كَفَلَ بِهِ بِأَمْرِهِ فَأَرَادَ أَنْ يُقْبِلَ مَعَهُ حَتَّى يُوَافِيَهُ بِهِ فَأَقَامَ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِي شَاهِدَيْ عَدْلٍ وَكَتَبَ أَنَّهُ قَدْ قَامَتْ عِنْدَهُ الْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ أَنَّهُ كَفَلَ بِنَفْسِهِ بِأَمْرِهِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَأْمُرُهُ بِالْخُرُوجِ مَعَهُ حَتَّى يُوفِيَ مَكَانَهُ وَيُخَلِّصَهُ مِمَّا أَدْخَلَهُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ تَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ فَيَثْبُتُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي .
ثُمَّ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ عِنْدَ الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ وَلَوْ أَقَرَّ الْخَصْمُ بِذَلِكَ فِي الذِّمَّةِ بِالْخُرُوجِ مَعَهُ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُ فِي هَذِهِ الْوَرْطَةِ حِينَ أَمَرَ أَنْ يَكْفُلَ بِنَفْسِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُخَلِّصَهُ هَهُنَا كَمَا لَوْ أَمَرَ بِالْكَفَالَةِ بِالْمَالِ كَانَ عَلَيْهِ تَخْلِيصُهُ مِمَّا يَلْزَمُهُ بِهِ ، فَإِنْ كَفَلَ بِالْبَصْرَةِ وَجَاءَ بِالْكِتَابِ مِنْ قَاضِي الْبَصْرَةِ إلَى قَاضِي الْكُوفَةِ بِذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ أَنْ يُوَافِيَهُ حَتَّى يُبْرِئَهُ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي الْتَزَمَ التَّسْلِيمَ فِيهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِمُوَافَاةِ الْآمِرِ مَعَهُ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ كَفَلَ بِهِ بِالْكُوفَةِ عَلَى أَنْ يُوَافِيَ بِهِ بِالْبَصْرَةِ فَأَخَذَ الطَّالِبُ بِالْكُوفَةِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُهُ الْقَاضِي أَنْ يُوَافِيَ مَعَهُ بِالْبَصْرَةِ حَتَّى يُبْرِئَهُ لِمَا قُلْنَا .
وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِهِ بِالْكُوفَةِ عَلَى أَنْ يَدْفَعَهُ بِالْكُوفَةِ وَأَخَذَهُ الطَّالِبُ بِالْبَصْرَةِ فَطَلَبَ كِتَابَ قَاضِي الْبَصْرَةِ إلَى قَاضِي الْكُوفَةِ بِذَلِكَ لِيَأْمُرَهُ بِأَنْ يُوَافِيَ مَعَهُ الْبَصْرَةَ لَمْ يُجِبْهُ إلَى ذَلِكَ وَلَوْ كَتَبَ لَهُ يُجْبِرُ قَاضِي الْكُوفَةِ الْمَكْفُولَ بِهِ عَلَى الذَّهَابِ مَعَهُ إلَى الْبَصْرَةِ ؛ لِأَنَّ مُطَالَبَةَ الطَّالِبِ بِالْبَصْرَةِ لَا تُلْزِمُ

الْكَفِيلَ شَيْئًا فَإِنَّهُ مَا الْتَزَمَ تَسْلِيمَهُ إلَيْهِ بِالْبَصْرَةِ .
وَلَوْ طَلَب الْكَفِيلُ كِتَابَ قَاضِي الْبَصْرَةِ بِبَيِّنَةٍ بِالْكَفَالَةِ بِأَمْرِهِ فَإِنَّهُ يَكْتُبُ لَهُ بِذَلِكَ حَتَّى إذَا قَدِمَ الْكُوفَةَ وَطَالَبَ الطَّالِبُ بِالتَّسْلِيمِ فَامْتَنَعَ الْأَصِيلُ وَجَحَدَ الْآمِرُ بِالْكَفَالَةِ كَانَ كِتَابُ قَاضِي الْبَصْرَةِ حُجَّةً لَهُ عَلَيْهِ .

وَلَوْ كَتَبَ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي كِتَابًا فِي كَفَالَةٍ بِنَفْسِ رَجُلٍ وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي كَفَالَتِهِ أَنَّهُ كَفَلَ بِأَمْرِهِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يُؤْخَذُ لَهُ بِذَلِكَ .
بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَفَلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ كَفَلَ عَنْهُ بِمَالٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ؛ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يُخَلِّصَهُ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَكَذَلِكَ إذَا كَفَلَ بِنَفْسِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ .

وَإِذَا كَانَ الْكُفَلَاءُ بِالْمَالِ ثَلَاثَةً ، وَبَعْضُهُمْ كُفَلَاءُ عَنْ بَعْضٍ فَأَدَّى الْمَالَ أَحَدُهُمْ وَالْكَفِيلَانِ الْآخَرَانِ فِي بَلَدَيْنِ وَصَاحِبُ الْأَصْلِ فِي بَلَدٍ آخَرَ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ بِذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي وَسَأَلَهُ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ بِهِ ؛ فَإِنَّهُ يَكْتُبُ لَهُ بِثَلَاثَةِ كُتُبٍ إلَى كُلِّ بَلَدٍ بِصِفَةِ الْكَفَالَةِ وَحَالِهَا وَأَدَاءِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فَرُبَّمَا يَقْصِدُ أَخْذَ الثَّلَاثَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا يَكُونُ حُجَّةً لَهُ عَلَيْهِ ، إلَّا أَنَّهُ يَكْتُبُ إلَى كُلِّ قَاضٍ بِمَا كَتَبَ بِهِ إلَى الْقَاضِي الْآخَرِ عَلَى سَبِيلِ النَّظَرِ فِيهِ لِلْخُصُومِ لِكَيْ لَا يَلْتَبِسَ الْمُدَّعِي وَيَأْخُذَ مَالًا عَلَى حِدَةِ كُلِّ كِتَابٍ عَنْ كُلِّ خَصْمٍ وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُسَمِّيَ فِي كِتَابَةِ الشُّهُودِ آبَاءَهُمْ وَقَبَائِلهمْ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْكتاب لِنَقْلِ الشَّهَادَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِ الشَّاهِدِ فِيهِ ، وَإِعْلَامُهُ بِذِكْرِ اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَقَبِيلَتِهِ فَإِنْ أَخَذَ أَحَدُ الْكُفَلَاءِ ؛ فَقَالَ : قَدْ أَخَذْت مِنْ الْكَفِيلِ مَعِي نِصْفَ الْمَالِ أَوْ مِنْ الْأَصِيلِ الْمَالَ ؛ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ ؛ لِأَنَّ الْأَصِيلَ لَوْ ادَّعَى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُبَيِّنَهُ بِالْبَيِّنَةِ فَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى ذَلِكَ الْكَفِيلُ وَهَذَا لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلرُّجُوعِ لَهُ بِنِصْفِ الْمَالِ عَلَى الَّذِي أَخَذَهُ ظَاهِرٌ ، وَهُوَ يَدَّعِي مَانِعًا أَوْ مُسْقِطًا فَعَلَيْهِ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ حَلَفَ الَّذِي ادَّعَى الْمَالَ وَأَخَذَ مِنْهُ نِصْفَهُ ، وَإِذَا أَدَّى الْكَفِيلُ الْمَالَ وَأَخَذَ بِهِ كِتَابَ قَاضٍ إلَى قَاضٍ فَلَمْ يَجِدْ صَاحِبَهُ هُنَاكَ فَإِنَّ الْقَاضِيَ الَّذِي أَتَاهُ بِالْكِتَابِ يَكْتُبُ لَهُ إلَى قَاضٍ آخَرَ بِمَا أَتَاهُ مِنْ قَاضِي كَذَا ؛ لِأَنَّ عَلَى الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ وَيَقْبِضَهُ عَلَى مَا يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى حَقِّهِ كَمَا هُوَ عَلَى الْكِتَابِ وَلِأَنَّ شُهُودَهُ قَدْ ثَبَتَ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ

بِالْكِتَابِ فَهُوَ كَمَا لَوْ ثَبَتَ بِأَدَائِهِمْ الشَّهَادَةَ فِي مَجْلِسِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ إلَى قَاضِي الْبَلْدَةِ الَّتِي فِيهَا خَصْمُهُ وَإِنْ رَجَعَ الْقَاضِي الَّذِي كَتَبَ لَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَقَالَ : اُكْتُبْ لِي كِتَابًا آخَرَ فَإِنِّي لَمْ أَجِدْ خَصْمِي فِي الْبَلَدِ الَّذِي كُتِبَ إلَى قَاضِيهِ ؛ لَمْ يَكْتُبْ لَهُ حَتَّى يَرُدَّ إلَيْهِ كِتَابَهُ الْأَوَّلَ نَظَرًا مِنْهُ لِخَصْمِهِ ؛ لِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنْ يَقْصِدَ الْمُدَّعِي التَّلْبِيسَ لِيَأْخُذَ مَالًا بِكُلِّ كِتَابٍ وَإِنَّمَا حَقُّهُ فِي مَالٍ وَاحِدٍ ، وَإِنْ كَتَبَ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّ إلَيْهِ كِتَابَهُ فَقَدْ أَسَاءَ فِي تَرْكِ النَّظَرِ لِأَيِّ الْخَصْمَيْنِ وَمَيْلِهِ إلَى أَحَدِهِمَا وَتَمْكِينِهِ مِنْ التَّلْبِيسِ وَلْيُبَيِّنْ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ قَدْ كَتَبَ لَهُ فِي هَذِهِ النُّسْخَةِ إلَى قَاضِي كَذَا وَكَذَا فَبِهَذَا يَنْدَفِعُ بَعْضُ التَّلْبِيسِ وَيَحْصُلُ لِلْقَاضِي الْكَاتِبِ التَّحَرُّزُ عَنْ التَّمْكِينِ مِنْ الظُّلْمِ .
وَإِذَا كَتَبَ لِلْقَاضِي بِمَالٍ أَدَّاهُ كَفِيلٌ عَنْ كَفِيلٍ ؛ فَهُوَ جَائِزٌ وَيُؤْخَذُ بِهِ الْكَفِيلُ الْأَوَّلُ لِلثَّانِي إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي أَمَرَهُ بِهِ وَلَا يُؤْخَذُ بِهِ الَّذِي عَلَيْهِ الْأَصْلُ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالْكَفَالَةِ عَنْهُ وَإِنَّمَا أَمَرَهُ الْكَفِيلُ الْأَوَّلُ ، وَالتَّخْلِيصُ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ أَوْقَعَهُ بِأَمْرِهِ إيَّاهُ بِالْكَفَالَةِ فِي الْوَرْطَةِ فَإِنْ كَانَ الْأَصِيلُ هُوَ الَّذِي أَمَرَ الثَّانِيَ أَنْ يُضَمِّنَ مَنْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِشَيْءٍ ، وَأَصْلُ الْمَالِ عَلَى الْأَصِيلِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِأَنْ يَكْفُلَ بِذَلِكَ الْمَالِ عَنْهُ وَبَيْنَ أَنْ يَأْمُرَهُ أَنْ يَكْفُلَ بِذَلِكَ الْمَالِ عَنْهُ وَبَيْنَ أَنْ يَأْمُرَهُ بِأَنْ يَكْفُلَ بِهِ عَنْ كَفِيلِهِ وَإِذَا ادَّعَى الْكَفِيلُ الْمَال وَكَتَبَ لَهُ الْقَاضِي بِذَلِكَ وَلَمْ يَكْتُب فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ كَفَلَ بِأَمْرِهِ فَإِنَّ الَّذِي أَتَاهُ الْكِتَابُ لَا يَرُدُّ الْكَفِيلُ بِالْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْأَصِيلَ لَوْ أَقَرَّ بِكَفَالَتِهِ عَنْهُ وَجَحَدَ أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ

لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ ، وَإِنْ جَاءَ الْكَفِيلُ بِكِتَابٍ مِنْ قَاضٍ آخَرَ أَنَّهُ كَفَلَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ فَهُوَ مُسْتَقِيمٌ وَيُؤْخَذُ لَهُ بِالْمَالِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ الْخَصْمُ بِذَلِكَ أَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ

بَابُ الشَّهَادَةِ وَالْيَمِينِ فِي الْحَوَالَةِ وَالْكَفَالَةِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ كَفَالَةً بِنَفْسِ رَجُلٍ وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ فَاخْتَلَفَا فِي الْوَقْتِ أَوْ فِي الْبَلَدِ الَّذِي وَقَعَتْ الْكَفَالَةُ فِيهِ أَوْ فِي الْأَجَلِ بِأَنْ قَالَ أَحَدُهُمَا : إلَى شَهْرٍ ، وَقَالَ الْآخَرُ : إلَى شَهْرَيْنِ ، أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا : حَالٌّ وَقَالَ الْآخَرُ : إلَى شَهْرٍ ؛ فَالْكَفَالَةُ لَازِمَةٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ يُعَادُ وَيُكَرَّرُ فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَشْهُودُ بِهِ وَهُوَ أَصْلُ الْكَفَالَةِ بِاخْتِلَافِهِمَا فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَلَوْ شَهِدَا أَنَّ هَذَا كَفَلَ لِهَذَا بِنَفْسِ رَجُلٍ لَا نَعْرِفُهُ وَلَكِنْ نَعْرِفُ وَجْهَهُ إنْ جَاءَ بِهِ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى قَوْلِ الْكَفِيلِ وَيُجْعَلُ مَا ثَبَتَ مِنْ قَوْلِهِ بِشَهَادَتِهِمَا كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِهِ فَيَقْضِي الْقَاضِي بِهِ وَيَأْمُرُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ عَلَى مَعْرِفَتِهِمَا وَلَوْ قَالَا لَا : نَعْرِفُ وَجْهَهُ أَيْضًا فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِالْكَفَالَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي بِأَنَّهُ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ لِهَذَا ثُمَّ يُقَالُ لَهُ أَيَّ رَجُلٍ أَتَيْت بِهِ ، وَقُلْت : هُوَ هَذَا وَحَلَفْت عَلَيْهِ ؛ فَأَنْتَ بَرِيءٌ مِنْ الْكَفَالَةِ وَهَذَا لِأَنَّ جَهَالَةَ الْمُقَرِّ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ فَالْقَوْلُ فِي بَيَانِهِ قَوْلُ الْمُقِرِّ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ غَصَبَ مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا أَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى إقْرَارِهِ بِذَلِكَ وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا : كَفَلَ بِنَفْسِ فُلَانٍ ، وَقَالَ الْآخَرُ : كَفَلَ بِنَفْسِ فُلَانٍ الْآخَرِ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ التَّوْفِيقُ فِيهِ

وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ كَفَالَةً بِنَفْسِ رَجُلَيْنِ فَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ فَأَثْبَتَا كَفَالَةَ أَحَدِهِمَا وَاخْتَلَفَا فِي الْآخَرِ فَأَثْبَتَهُ أَحَدُهُمَا وَشَكَّ الْآخَرُ فِيهِ ؛ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ بِالْكَفَالَةِ الَّتِي اجْتَمَعَا عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ فِيهَا قَدْ تَمَّتْ وَفِي الْآخَرِ لَمْ تَتِمَّ الْحُجَّةُ حِينَ شَكَّ فِيهِ أَحَدُهُمَا وَالْكَفَالَةُ بِأَحَدِهِمَا تَنْفَصِلُ عَنْ الْكَفَالَةِ بِالْآخَرِ

وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ كَفَلَ لِأَبِيهِمَا وَلِرَجُلٍ بِنَفْسِ فُلَانٍ كَانَتْ شَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةً ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ وَقَدْ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمَا فِي حَقِّ أَبِيهِمَا فَتَبْطُلُ فِي حَقِّ الْآخَرِ أَيْضًا ؛ إذْ الْمَشْهُودُ بِهِ لَفْظٌ وَاحِدٌ

وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ كَفَلَ لِفُلَانٍ بِنَفْسِ فُلَانٍ فَإِنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ مَا عَلَيْهِ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ أَوْ إقْرَارِ الْخَصْمِ فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْوَقْتِ أَوْ الْمَكَانِ أَوْ الْأَجَلِ فَشَهَادَتُهُمَا جَائِزَةٌ إذَا ادَّعَى الطَّالِبُ أَقْرَبَ الْأَجَلَيْنِ فَإِنْ ادَّعَى أَبْعَدَ الْأَجَلَيْنِ لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَكْذَبَ الَّذِي شَهِدَ بِإِقْرَارِهِمَا حِينَ ادَّعَى الْأَبْعَدَ ، وَإِنَّمَا أَكْذَبَهُ فِيمَا شَهِدَ لَهُ بِهِ وَإِكْذَابُ الْمُدَّعِي شَاهِدَهُ فِيمَا شَهِدَ لَهُ يُبْطِلُ شَهَادَتَهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ إنَّمَا أَكْذَبَ الشَّاهِدَ بِأَبْعَدِ الْأَجَلَيْنِ فِيمَا شَهِدَ عَلَيْهِ بِهِ وَذَلِكَ لَا يَضُرُّهُ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ ادَّعَى أَلْفًا وَشَهِدَ لَهُ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ ؛ لَا تُقْبَلُ ، وَلَوْ ادَّعَى أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَشَهِدَ لَهُ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بِأَلْفٍ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا عَلَى مِقْدَارِ الْأَلْفِ لِهَذَا الْمَعْنَى وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي الْمَالِ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِدَرَاهِمَ وَالْآخَرُ بِدَنَانِيرَ ؛ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إذَا ادَّعَى الطَّالِبُ النِّصْفَيْنِ وَقَالَ : لَمْ يَشْهَدْ لِي بِالنِّصْفِ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُ أَكْذَبَ أَحَدَهُمَا فِيمَا شَهِدَ لَهُ بِهِ فَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُمَا فِي جَمِيعِ مَا شَهِدَا بِهِ ، وَإِنْ ادَّعَى النِّصْفَيْنِ جَمِيعًا جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَبَطَلَتْ فِي الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ مَا أَكْذَبَ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَيُقْضَى بِشَهَادَتِهِمَا فِيمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ وَيَتَعَذَّرُ الْقَضَاءُ فِيمَا تَفَرَّدَ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَإِنْ اتَّفَقَا فِي الْمَالِ أَنَّهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا : قَرْضٌ ، وَقَالَ الْآخَرُ : ثَمَنٌ مَبِيعٍ ، وَقَالَ : لَمْ تَشْهَدْ لِي عَلَى الْقَرْضِ فَقَدْ أَكْذَبَ الشَّاهِدَ بِالْقَرْضِ فَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ ادَّعَى الطَّالِبُ

أَلْفَيْنِ : أَلْفٌ قَرْضٌ وَأَلْفٌ ثَمَنُ مَبِيعٍ ؛ فَهُوَ مَا أَكْذَبَ وَاحِدًا مِنْهُمَا فَتَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا لَهُ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَفِي أَلْفِ دِرْهَمٍ لَا يَقْبَلُهَا عَلَى وُجُوبِ الْأَلْفِ ، وَاخْتِلَافُهُمَا فِي الْجِهَةِ لَا يَمْنَعُ الْقَضَاءَ بِالْمَالِ ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا وَلَمْ يَخْتَلِفَا بِقِلَّةٍ وَلِأَنَّ الْجِهَةَ غَيْرُ مَطْلُوبَةٍ بِعَيْنِهَا وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ الْمَالُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَقَدْ اخْتَلَفَا هُنَا فِي جِنْسِ الْمَالِ الَّذِي هُوَ مَقْصُودٌ وَإِنْ كَانَ الشَّاهِدَانِ كَفِيلَيْنِ بِالْمَالِ عَنْ صَاحِبِ الْأَصْلِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا يَجُرَّانِ بِهَا إلَى أَنْفُسِهِمَا مَغْنَمًا فَإِنَّ الطَّالِبَ إذَا أَخَذَ الْمَالَ مِنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ؛ اسْتَفَادَ الْبَرَاءَةَ بِهِ وَكَذَلِكَ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ وَلَدِهِمَا وَوَالِدِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَعُهُمَا بِشَهَادَتِهِ وَكَذَلِكَ لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ ابْنِ الْأَصِيلِ عَلَى الْكَفِيلِ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَعُ أَبَاهُ فَإِنَّ الطَّالِبَ إذَا اسْتَوْفَى الْمَالَ مِنْ الْكَفِيلِ ؛ بَرِئَ الْأَصِيلُ ، وَكَذَلِكَ تَجُوزُ شَهَادَةُ ابْنِ الْكَفِيلِ إذَا أَقَرَّ بِهِ الْكَفِيلُ وَأَنْكَرَهُ الْأَصِيلُ ؛ لِأَنَّهُ شَهِدَ لِأَبِيهِ فِي ثُبُوتِ حَقِّ الرُّجُوعِ عَلَى الْأَصِيلِ عِنْدَ الْأَدَاءِ ، وَإِنْ جَحَدَ الْكَفِيلُ وَأَقَرَّ بِهِ الْأَصِيلُ جَازَتْ شَهَادَةُ ابْنِ الْكَفِيلِ ؛ لِأَنَّهُ يَشْهَدُ عَلَى أَبِيهِ لِلطَّالِبِ بِالْتِزَامِ الْمَالِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96