كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
بَابُ مَا يَكُونُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فِيهِ خُصُومَةٌ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ رَهْنٍ وَالرَّاهِنُ غَائِبٌ فَادَّعَاهَا رَجُلٌ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَإِنْ أَقَامَ الْمُرْتَهِنُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا رَهْنٌ فِي يَدِهِ فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُمَا ) ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ أَنَّ يَدَهُ فِيهَا يَدُ حِفْظٍ لَا يَدَ خُصُومَةٍ فَالْمَرْهُونُ عَيَّنَهُ أَمَانَةً فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ بِمَنْزِلَةِ الْوَدِيعَةِ وَلَئِنْ كَانَ مَضْمُونًا فَهُوَ ضَمَانٌ لَا يُوجِبُ الْمِلْكَ لَهُ فِي الْعَيْنِ بِحَالٍ ، وَلَوْ كَانَ مَضْمُونًا ضَمَانًا يُوجِبُ الْمِلْكَ لَهُ إذَا تَقَرَّرَ كَالْمَغْصُوبِ لَمْ يَكُنْ خَصْمًا فِيهِ لِمُدَّعِي الْمِلْكِ .
فَإِذَا كَانَ دُونَ ذَلِكَ أَوْلَى ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُرْتَهِنُ الَّذِي الدَّارُ فِي يَدِهِ غَائِبًا وَالرَّاهِنُ حَاضِرًا فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْمِلْكِ لَا تُسْمَعُ فِي الْعَيْنِ إلَّا عَلَى ذِي الْيَدِ وَالْيَدُ فِيهَا مُسْتَحَقَّةٌ لِلْمُرْتَهِنِ وَهُوَ غَائِبٌ وَالْإِجَارَةُ وَالْعَارِيَّةُ فِي ذَلِكَ كَالرَّهْنِ ، وَإِنْ لَمْ يُقِمْ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ خَصْمٌ لِظُهُورِ يَدِهِ فِيهَا وَمَنْفَعَةُ الْمُدَّعِي مِنْهَا بِيَدِهِ فَلَا يَخْرُجُ مِنْ خُصُومَتِهِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَنَّهَا لَيْسَتْ لِي وَلَمْ يَنْسُبْهَا إلَى أَحَدٍ فَهُوَ خَصْمٌ فِيهَا ؛ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ عَلَى هَذَا لَا تُقْبَلْ وَبِدُونِ الْبَيِّنَةِ لَا يَخْرُجُ مِنْ خُصُومَتِهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ إنَّمَا يَخْرُجُ ذُو الْيَدِ مِنْ الْخُصُومَةِ إذَا أَحَالَ الْمُدَّعِيَ عَلَى رَجُلٍ مَعْرُوفٍ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْخُصُومَةِ مَعَهُ حَتَّى لَوْ قَالَ هُوَ لِرَجُلٍ عَارِيَّةٌ عِنْدِي وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ تَنْدَفِعْ الْخُصُومَةُ عَنْهُ فَلَأَنْ لَا تَنْدَفِعَ بِقَوْلِهِ لَيْسَتْ لِي أَوْلَى ، وَإِنْ أَقَرَّ الْمُدَّعِي أَنَّهَا فِي يَدِهِ بِإِجَارَةٍ ، أَوْ عَارِيَّةٍ ، أَوْ رَهْنٍ فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُمَا فِيهَا ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ مُلْزِمٌ إيَّاهُ ، وَقَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ
الْمُدَّعِي ادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ فُلَانٍ وَادَّعَى ذُو الْيَدِ أَنَّ فُلَانًا ذَلِكَ أَسْكَنَهَا إيَّاهُ وَلَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ فَلَا خُصُومَةَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ أَصْلَ الْمِلْكِ فِيهَا لِفُلَانٍ فَتَكُونُ أُصُولُهَا إلَى يَدِ ذِي الْيَدِ مِنْ جِهَةِ فُلَانٍ وَفُلَانٌ ذَلِكَ لَوْ حَضَرَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذِي الْيَدِ خُصُومَةٌ لِإِقْرَارِ ذِي الْيَدِ لَهُ بِهَا عَلَيْهِ .
فَكَذَلِكَ لَا خُصُومَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ يَدَّعِي تَلَقِّي الْمِلْكِ مِنْ جِهَةِ فُلَانٍ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْبَائِعَ وَكَّلَهُ بِقَبْضِهَا مِنْهُ .
فَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ يَجِبُ عَلَى ذِي الْيَدِ دَفْعُهَا إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَحَقُّ بِإِمْسَاكِهَا وَإِثْبَاتُ الْيَدِ عَلَيْهَا مِنْ ذِي الْيَدِ وَالْعُرُوضُ فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ كَالْعَقَارِ .
وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَغَابَ أَحَدُهُمَا فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ اشْتَرَى مِنْ الْغَائِبِ نَصِيبَهُ لَمْ يَكُنْ الشَّرِيكُ خَصْمًا لَهُ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى سَبَبَ مِلْكٍ جَدِيدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَائِبِ فِي نَصِيبِهِ وَالْحَاضِرُ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْ الْغَائِبِ فِيمَا يَدَّعِي قِبَلَهُ ، وَلِأَنَّ ذَا الْيَدِ مُقِرٌّ أَنَّ يَدَهُ فِي نَصِيبِ الْغَائِبِ مِنْ جِهَتِهِ فَلَا يَكُونُ خَصْمًا لِمَنْ يَدَّعِي بِمِلْكِهِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَاهَا ، أَوْ بَعْضَهَا مِنْ الْمَيِّتِ الَّذِي وَرِثُوهَا مِنْهُ كَانَ الْحَاضِرُ خَصْمًا عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ الْغَائِبِ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْمَيِّتِ وَأَحَدُ الْوَرَثَةِ خَصْمٌ عَنْ الْمَيِّتِ وَعَنْ سَائِرِ الْوَرَثَةِ فِيمَا يَدَّعِي عَلَى الْمَيِّتِ كَدَعْوَى الدَّيْنِ وَيَسْتَوِي إنْ كَانُوا قَسَمُوا الدَّارَ ، أَوْ لَمْ يَقْسِمُوا ؛ لِأَنَّ قِسْمَتَهُمْ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي إذَا ثَبَتَ فَشِرَاؤُهُ بَاطِلٌ .
دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ فَادَّعَاهَا آخَرُ فَالْمُشْتَرِي خَصْمٌ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَمْلِكُ رَقَبَتَهَا وَكُلُّ مَنْ يَمْلِكُ الرَّقَبَةَ أَوْ يَدَّعِيَهَا خَصْمٌ لَهُ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلِنَا أَنَّ الشِّرَاءَ الْفَاسِدَ مُوجِبٌ لِلْمِلْكِ بَعْدَ الْقَبْضِ ، وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى حُكْمِ الْمِلْكِ هُنَا .
دَارٌ فِي يَدِ رَجُلٍ فَادَّعَاهَا آخَرُ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ يَدِ رَجُلٍ وَاحِدٍ وَالْمُدَّعِي هُوَ الْأَوَّلُ وَلَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ وَالْبَائِعُ غَائِبٌ فَإِنِّي أَقْضِي بِهَا لِلْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّ ذَا الْيَدِ زَعَمَ أَنَّهَا مِلْكُهُ فَيَكُونُ خَصْمًا فِيهَا لِلْمُدَّعِي ، وَإِنَّمَا يَزْعُمُ أَنَّهُ يَمْلِكُهَا مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ فَيَكُونُ خَصْمًا عَنْهُ فِي إثْبَاتِ سَبَبِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ أَثْبَتَ الْمُدَّعِي تَقَدُّمَ شِرَائِهِ بِالْبَيِّنَةِ فَيَقْضِي بِالدَّارِ لَهُ وَيَسْتَوْفِي مِنْهُ الثَّمَنَ فَإِنْ كَانَ ذُو الْيَدِ قَدْ نَقَدَ الثَّمَنَ أَعْطَيْته الثَّمَنَ قِصَاصًا ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ الرُّجُوعَ عَلَى الْبَائِعِ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ مِنْ الثَّمَنِ ، وَقَدْ ظَفِرَ بِمَالِهِ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ فَيَأْخُذُ مِقْدَارَ حَقِّهِ مِنْ ذَلِكَ وَلِلْقَاضِي أَنْ يُعِينَهُ عَلَيْهِ لِمَا يَثْبُتُ حَقَّ الْأَخْذِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ أَمْسَكَهُ عَلَى الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهُ مَالُ الْغَائِبِ فَيَحْفَظُهُ عَلَيْهِ ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْبَائِعُ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي بِقَبْضِ الثَّمَنِ مِنْ ذِي الْيَدِ قَبْلَ غَيْبَتِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَعْطَاهُ الثَّمَنَ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْغَائِبِ وَلَا يَقْضِي الْقَاضِي عَلَى الْغَائِبِ بِالْبَيِّنَةِ إذَا لَمْ يَحْضُرْ عَنْهُ خَصْمٌ ، وَإِنْ كَانَ ذُو الْيَدِ لَمْ يَنْقُدْ لِلْبَائِعِ الثَّمَنَ أَوْ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِهِ بِهِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ دَفَعْتهَا إلَى الْمُدَّعِي لِإِثْبَاتِهِ سَبَبَ الْمِلْكِ فِيهَا بِتَارِيخٍ سَابِقٍ وَأَخَذْتُ الثَّمَنَ مِنْهُ لِلْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهُ مَالُ الْغَائِبِ فَيَحْفَظُ عَلَيْهِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ عَلَى الْبَيْعِ يَنْتَفِعُ بِهِ وَيَتَصَرَّفُ فِيهِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِنَقْدِ الثَّمَنِ فَالْقَاضِي يَنْظُرُ لَهُمَا فَيَسْتَوْفِي الثَّمَنَ مِنْهُ لِمُرَاعَاةِ حَقِّ الْغَائِبِ وَيُسَلِّمُ الدَّارَ إلَيْهِ لِيُتَوَصَّلَ
الِانْتِفَاعَ بِمِلْكِهِ .
رَجُلٌ بَاعَ جَارِيَةً مِنْ رَجُلٍ ، ثُمَّ غَابَ الْمُشْتَرِي وَلَا يُدْرَى أَيْنَ هُوَ فَأَقَامَ الْبَائِعُ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَسْمَعُ بَيِّنَتَهُ ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ قَدْ وَجَبَ عَلَى الْقَاضِي النَّظَرُ لَهُ وَلِلْمَفْقُودِ فِي مَالِهِ .
فَإِذَا أَثْبَتَ ذَلِكَ بِالْحُجَّةِ قَبِلَ الْقَاضِي ذَلِكَ مِنْهُ وَبَاعَ الْجَارِيَةَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِطَرِيقِ حِفْظِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الْمِلْكِ لَا تَبْقَى لَهُ بِدُونِ النَّفَقَةِ وَحِفْظُ الثَّمَنِ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ حِفْظِ الْعَيْنِ .
فَإِذَا بَاعَهَا نَقَدَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ ؛ لِأَنَّهُ ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ مِنْ مَالِ غَرِيمِهِ وَاسْتَوْثَقَ مِنْهُ بِكَفِيلٍ نَظَرًا مِنْهُ لِلْغَائِبِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ قَدْ اسْتَوْفَى الثَّمَنَ وَابَرَاءُ الْمُشْتَرِي مِنْ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ فِيهِ فَضْلٌ أَمْسَكَ الْفَضْلَ لِلْمُشْتَرِي ، وَإِنْ كَانَ وَضِيعَهُ فَذَلِكَ عَلَى الْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْقَاضِي لَهُ الْجَارِيَةَ كَقَبْضِ الْمُشْتَرِي إيَّاهَا بِنَفْسِهِ فِيهِ يَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ جَمِيعُ الثَّمَنِ وَيُطَالِبُهُ الْبَائِعُ بِمِقْدَارِ الْوَضِيعَةِ إذَا حَضَرَ ، وَإِنْ كَانَ أَبْرَأَهُ الْمُشْتَرِي لَمْ يَبِعْ الْقَاضِي الْجَارِيَةَ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْوِلَايَةِ لِلْقَاضِي بِطَرِيقِ النَّظَرِ مِنْهُ لَهُمَا ، وَذَلِكَ عِنْدَ الضَّرُورَةِ إذَا كَانَ لَا يُوقَفُ عَلَى مَوْضِعِ الْمُشْتَرِي .
فَأَمَّا إذَا كَانَ يَعْرِفُ ذَلِكَ فَالْبَائِعُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَنْ يَبِيعَهُ وَيُطَالِبُهُ بِالثَّمَنِ وَمِلْكُهُ مَضْمُونٌ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ فَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُبْطِلَ عَلَيْهِ عَيْنَ مِلْكِهِ لِاتِّصَالِ الْبَائِعِ إلَى حَقِّهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ اخْتِلَافِ الشَّهَادَةِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ شَاهِدَانِ شَهِدَا أَنَّ فُلَانًا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالْبَصْرَةِ وَالْآخَرُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بِعَيْنِهِ بِالْكُوفَةِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِكَذِبِ أَحَدِهِمَا ) فَإِنَّ الْإِنْسَانَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ بِالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ اللَّفْظَيْنِ رَجُلَانِ لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ لِهَذَا .
فَإِذَا شَهِدَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَجُلٌ وَاحِدٌ أَوْلَى بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا بِالْكُوفَةِ وَالْآخَرُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا بِالْبَصْرَةِ وَلَمْ يُوَقِّتَا وَقْتًا فَهُنَاكَ الشَّهَادَةُ تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ كَلَامٌ يَتَكَرَّرُ فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَشْهُودُ بِهِ بِاخْتِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْمَكَانِ .
رَجُلٌ يَدَّعِي دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهَا لَهُ وَشَهِدَ لَهُ بِهَا شَاهِدَانِ أَحَدُهُمَا بِالشِّرَاءِ وَالْآخَرُ بِالْهِبَةِ فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ لَا بُدَّ أَنْ يَدَّعِيَ أَحَدَ السَّبَبَيْنِ ، وَبِهِ يَكُونُ مُكَذِّبًا أَحَدَ الشَّاهِدَيْنِ لَا مَحَالَةَ ، وَلِأَنَّ الْهِبَةَ غَيْرُ الْبَيْعِ ، وَلَيْسَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ السَّبْيَيْنِ حُجَّةٌ تَامَّةٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْهِبَةِ وَالْآخَرُ بِالصَّدَقَةِ ، أَوْ الرَّهْنِ ، أَوْ الْمِيرَاثِ أَوْ الْوَصِيَّةِ فَهُوَ بَاطِلٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْمِيرَاثِ وَالْآخَرُ بِالْوَصِيَّةِ فَهُوَ بَاطِلٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ .
وَإِذَا ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ وَهَبَهَا لَهُ ، وَأَنَّهُ لَمْ يَتَصَدَّقْ بِهَا عَلَيْهِ وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ عَلَى الصَّدَقَةِ .
وَقَالَ لَمْ يَهَبْهَا لِي قَطُّ ، وَقَدْ ادَّعَى الْهِبَةَ عِنْدَ الْقَاضِي فَهَذَا إكْذَابٌ مِنْهُ لِشَاهِدَيْهِ وَهُوَ تَنَاقُضٌ مِنْهُ فِي الْكَلَامِ فَقَدْ زَعَمَ مَرَّةً أَنَّهُ لَمْ يَتَصَدَّقْ بِهَا عَلَيْهِ ، ثُمَّ ادَّعَى الصَّدَقَةَ بَعْدَ ذَلِكَ وَزَعَمَ مَرَّةً أَنَّهُ وَهَبَهَا لَهُ ، ثُمَّ قَالَ لَمْ يَهَبْهَا لِي قَطُّ وَلَا تَنَاقُضَ أَظْهَرَ مِنْ هَذَا وَمَعَ التَّنَاقُضِ لَا يَسْمَعُ دَعْوَاهُ وَالْبَيِّنَةُ لَا تُقْبَلُ إلَّا بَعْدَ دَعْوَى صَحِيحَةٍ ، ثُمَّ إكْذَابْ الْمُدَّعِي شَاهِدَهُ تَخْرُجُ شَهَادَتُهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ حُجَّةً لَهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى أَنَّهَا مِيرَاثٌ لَمْ يَشْتِرْهَا قَطُّ ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ هِيَ بِشِرَاءٍ وَلَمْ أَرِثْهَا قَطُّ وَجَاءَ بِشَاهِدَيْنِ عَلَى الشِّرَاءِ مُنْذُ سَنَةٍ فَهُوَ بَاطِلٌ لِمَعْنَى التَّنَاقُضِ وَالْإِكْذَابِ فَإِنْ ادَّعَاهَا هِبَةً وَلَمْ يَقُلْ لَمْ يَتَصَدَّقْ بِهَا عَلَيَّ قَطُّ ، ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ بِشُهُودٍ عَلَى الصَّدَقَةِ .
وَقَالَ لَمَّا جَحَدَنِي الْهِبَةَ سَأَلْته أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَيَّ فَفَعَلَ أَجَزْت هَذَا ؛ لِأَنَّهُ وَفَّقَ بَيْنَ كَلَامَيْهِ بِتَوْفِيقٍ صَحِيحٍ فَيَنْعَدِمُ لَهُ الْإِكْذَابُ وَالتَّنَاقُضُ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّا لَوْ عَايَنَّا
مَا أَخْبَرَ بِهِ كَانَ الْمِلْكُ ثَابِتًا لَهُ بِجِهَةِ الصَّدَقَةِ .
فَكَذَلِكَ إذَا أَخْبَرَ بِهِ وَأَثْبَتَهُ بِالْبَيِّنَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ وَرِثْتهَا ، ثُمَّ قَالَ جَحَدَنِي الْمِيرَاثَ فَاشْتَرَيْتهَا مِنْهُ وَجَاءَ بِشَاهِدَيْنِ عَلَى الشِّرَاءِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّنَاقُضِ وَالْإِكْذَابِ انْعَدَمَ بِتَوْفِيقِهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ ادَّعَى الشِّرَاءَ أَوَّلًا ، ثُمَّ جَاءَ بِشَاهِدَيْنِ يَشْهَدَانِ عَلَى أَنَّهُ وَرِثَهُ مِنْ أَبِيهِ ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا وَجْهَ لِلتَّوْفِيقِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ اشْتَرَيْتهَا مِنْهُ كَمَا ادَّعَيْت ، ثُمَّ جَحَدَنِي الشِّرَاءَ فَوَرِثْتهَا مِنْ أَبِي .
وَإِذَا اخْتَلَفَ شَاهِدَا الرَّهْنِ فِي جِنْسِ الدَّيْنِ ، أَوْ مِقْدَارِهِ فَالشَّهَادَةُ لَا تُقْبَلُ لِإِكْذَابِ الْمُدَّعِي أَحَدَ الشَّاهِدَيْنِ ، وَلِأَنَّ الدَّيْنَ مَعَ الرَّهْنِ يَتَحَاذَيَانِ مُحَاذَاةَ الثَّمَنِ لِلْمَبِيعِ ، ثُمَّ اخْتِلَافُ الشَّاهِدَيْنِ فِي الثَّمَنِ يَمْنَعُ قَبُولَ شَهَادَتِهِمَا عَلَى الْبَيْعِ .
فَكَذَلِكَ فِي الرَّهْنِ فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ وَاخْتَلَفَا فِي الْأَيَّامِ وَالْبُلْدَانِ وَهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى مُعَايَنَةِ الْقَبْضِ فَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ اسْتِحْسَانًا ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا تُقْبَلُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَعَلَى الْخِلَافِ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ ، وَإِنْ شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِ الرَّهْنِ وَالْوَهْبِ وَالْمُتَصَدِّقُ بِالْقَبْضِ جَازَتْ الشَّهَادَةُ بِالِاتِّفَاقِ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ تَمَامَ هَذِهِ الْعُقُودِ بِالْقَبْضِ وَالْقَبْضُ فِعْلٌ وَاخْتِلَافُ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْوَقْتِ وَالزَّمَانِ فِي الْأَفْعَالِ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ كَالْغَصْبِ وَالْقَتْلِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ مُخْتَلِفٌ فَالْفِعْلُ الْمَوْجُودُ فِي مَكَان غَيْرِ الْمَوْجُودِ فِي مَكَان آخَرَ بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدُوا عَلَى الْإِقْرَارِ فَالْإِقْرَارُ كَلَامٌ مُكَرَّرٌ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِمُعَايَنَةِ الْقَبْضِ وَالْآخَرُ بِإِقْرَارِ الرَّاهِنِ بِهِ لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ وَجُعِلَ الرَّهْنُ فِي هَذَا كَالْغَصْبِ وَلَمْ يُجْعَلْ كَالْبَيْعِ .
فَكَذَلِكَ إذَا اخْتَلَفَا فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ وَلِلِاسْتِحْسَانِ وَجْهَانِ أَشَارَ إلَى أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ هُنَا ( فَقَالَ ) ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ مَرَّةٍ وَأَشَارَ إلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ ( فَقَالَ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ رَهْنًا وَلَا قَبْضًا إلَّا بِإِقْرَارِ الرَّاهِنِ وَمَعْنَى مَا ذُكِرَ هُنَا أَنَّ الْقَبْضَ بِحُكْمِ الرَّهْنِ فِعْلٌ صُورَةً ، وَلَكِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَوْلِ حُكْمًا ؛ لِأَنَّهُ يُعَادُ وَيُكَرَّرُ ، وَيَكُونُ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ
الْمُرْتَهِنَ إذَا قَبَضَ الرَّهْنَ ، ثُمَّ اسْتَرَدَّهُ الرَّاهِنُ مِنْهُ غَصْبًا ، أَوْ أَعَارَهُ الْمُرْتَهِنُ إيَّاهُ ، ثُمَّ قَبَضَهُ مِنْهُ ثَانِيَةً فَهَذَا يَكُونُ هُوَ الْقَبْضُ الْأَوَّلُ حَتَّى يَكُونَ مَضْمُونًا بِاعْتِبَارِ قِيمَتِهِ عِنْدَ الْقَبْضِ الْأَوَّلِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مِمَّا يُعَادُ وَيُكَرَّرُ فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَشْهُودُ بِهِ بِاخْتِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ فِي وَقْتِهِ بِخِلَافِ الْغَصْبِ وَالْقَتْلِ وَلَمَّا أَخَذَ شَبَهًا مِنْ أَصْلَيْنِ تَوَفَّرَ حَظُّهُ عَلَيْهِمَا ( فَنَقُولُ ) لِشَبَهِهِ بِالْأَفْعَالِ صُورَةً .
إذَا اخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ فِي الْإِنْشَاءِ وَالْإِقْرَارِ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ وَلِشَبَهِهِ بِالْأَقْوَالِ حُكْمًا لَا يُمْتَنَعُ قَبُولُ الشَّهَادَةِ بِاخْتِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ فِيهِ فِي الْوَقْتِ وَالْمَكَانِ وَمَعْنَى مَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الرَّهْنِ أَنَّ حُكْمَ ضَمَانِ الرَّهْنِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِإِقْرَارِ الرَّاهِنِ أَنَّهُ مَرْهُونٌ عِنْدَك بِالدَّيْنِ فَإِنَّ بِدُونِ هَذَا الْقَوْلِ إذَا قَبَضَهُ الْمُرْتَهِنُ بِغَيْرِ إذْنِ الرَّاهِنِ فَهُوَ غَاصِبٌ .
وَإِذَا سَلَّمَهُ الرَّاهِنُ إلَيْهِ فَهُوَ مُودِعٌ فَعَرَفْنَا أَنَّ حُكْمَهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِإِقْرَارِ الرَّاهِنِ فَبِاعْتِبَارِ حُكْمِهِ جَعَلْنَاهُ كَالْأَقْوَالِ وَجَعَلَ شَهَادَةَ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الْمُعَايَنَةِ فِيهِ وَشَهَادَتَهُمَا عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ سَوَاءً فَكَمَا أَنَّ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْإِقْرَارِ اخْتِلَافَهُمَا فِي الْوَقْتِ وَالزَّمَانِ لَا يَمْنَعُ الْعَمَلَ بِشَهَادَتِهِمَا .
فَكَذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْمُعَايَنَةِ .
وَإِذَا طَلَبَ الرَّجُلُ شُفْعَةً فِي دَارٍ وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ عَلَى الشِّرَاءِ وَاخْتَلَفَا فِي الثَّمَنِ ، أَوْ فِي الْبَائِعِ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ مُكَذِّبُ أَحَدَهُمَا لَا مَحَالَةَ ، وَلَوْ اتَّفَقَا عَلَى الْإِقْرَارِ بِالشِّرَاءِ مِنْ وَاحِدٍ بِمَالٍ وَاخْتَلَفَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا كُنَّا جَمِيعًا فِي مَكَانِ كَذَا .
وَقَالَ الْآخَرُ كُنَّا فُرَادَى أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا كُنَّا فِي الْبَيْتِ .
وَقَالَ الْآخَرُ فِي الْمَسْجِدِ ، أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا كَانَ ذَلِكَ بِالْغَدَاةِ .
وَقَالَ الْآخَرُ كَانَ بِالْعَشِيِّ فَشَهَادَتُهُمَا جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ وَاخْتَلَفَا فِيمَا لَمْ يُكَلَّفَا حِفْظَهُ وَفِعْلَهُ فِي الْوَقْتِ وَالْمَكَانِ فَلَا يَقْدَحُ ذَلِكَ فِي شَهَادَتِهِمَا كَمَا لَوْ اخْتَلَفَا فِي الثِّيَابِ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمَا ، أَوْ الْمَرَاكِبِ أَوْ فِيمَنْ حَضَرَهُمَا وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّهُمَا لَوْ سَكَتَا عَنْ بَيَانِ الْوَقْتِ وَالْمَكَانِ وَالْوَصْفِ لَمْ يَسْأَلْهُمَا الْقَاضِي عَنْ ذَلِكَ ، وَلَوْ سَأَلَهُمَا فَقَالَا لَا نَحْفَظُ ذَلِكَ لَا تَبْطُلُ شَهَادَتُهُمَا ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْضَ مَسَائِلِ أَدَبِ الْقَاضِي وَرَوَى فِيهِ حَدِيثَ الشَّعْبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ عُمَرَ إلَى مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي الْقَضَاءِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ فِي أَدَبِ الْقَاضِي وَذَكَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مِنْ الْحَزْمِ أَنْ يَسْتَشِيرَ أَوْلَى الرَّأْيِ ، ثُمَّ يُطِيعُهُمْ } ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَتْرُكَ الِاسْتِشَارَةَ ، وَكَذَلِكَ غَيْرُ الْقَاضِي إذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ فَالْمَشُورَةُ تَلْقِيحٌ لِلْعُقُولِ ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا هَلَكَ امْرُؤُ عَنْ مَشُورَةٍ } { وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَشِيرُ أَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى فِي قُوتِ أَهْلِهِ وَإِدَامِهِمْ } ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يُسْتَشَارُ أَوْلَى
الرَّأْيِ الْكَامِلِ وَيُتَحَرَّزُ عَنْ مَشُورَةِ نَاقِصَاتِ الْعَقْلِ مِنْ النِّسْوَانِ ، وَأَنَّ مَنْ اسْتَشَارَ أَوْلَى الرَّأْيِ الْكَامِلِ مِنْ الرِّجَالِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُطِيعَهُمْ إذَا لَمْ يَتَّهِمْهُمْ فِيمَا أَشَارُوا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْمَشُورَةِ لَا تَظْهَرُ إلَّا بِالطَّاعَةِ .
وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ أَنَّ هَذَا الثَّوْبَ ثَوْبُ فُلَانٍ وَهُوَ فِي يَدِهِ وَشَهِدَ آخَرُ أَنَّ فُلَانًا الَّذِي شَهِدَا لَهُ أَقْرَبَهَا لِفُلَانٍ الَّذِي شَهِدَ عَلَيْهِ فَهُوَ لِذِي الْيَدِ ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ تَعَارَضَتَا فِي الْإِقْرَارِ فِيهَا رَأْيًا كَمَا لَوْ عَايَنَ الْإِقْرَارَيْنِ وَيَبْقَى الثَّوْبُ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ مُسْتَحَقًّا لَهُ بِيَدِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِمَا فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي اسْتِحْقَاقِهِ بِالْيَدِ .
دَارٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ فُلَانًا أَقَرَّ لَهُ بِهَا وَوَقَّتَا فَهِيَ لِصَاحِبِ الْوَقْتِ الْآخَرِ وَلَا نِسْبَةَ لِهَذَا الْبَيْعِ يَعْنِي إذَا أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ فُلَانًا بَاعَهَا مِنْهُ وَوَقَّتَا فَهِيَ لِصَاحِبِ الْوَقْتِ الْأَوَّلِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّ وُصُولَهَا إلَيْهِ مِنْ جِهَةِ فُلَانٍ فَفِي مَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ الَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوَقْتِ الْآخَرِ أَثْبَتَ إقْرَارَ فُلَانٍ بِهَا لَهُ مُنْذُ شَهْرٍ ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ دَعْوَى فُلَانٍ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ فِيهَا مُنْذُ سَنَةٍ .
فَكَذَلِكَ يَمْنَعُ دَعْوَى مَنْ يُثْبِتُ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ بِبَيِّنَتِهِ مُنْذُ سَنَةٍ بِإِقْرَارِ فُلَانٍ لَهُ بِهَا مُنْذُ سَنَةٍ ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ فُلَانًا مِنْ أَنْ يُثْبِتَ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ فِيهَا مُنْذُ شَهْرٍ بِإِقْرَارِ فُلَانٍ لَهُ بِهَا ؛ فَلِهَذَا رَجَّحْنَا صَاحِبَ الْوَقْتِ الْآخَرِ ، وَفِي الْبَيْعِ ثُبُوتُ الشِّرَاءِ مُنْذُ شَهْرٍ لَا يَمْنَعُ فُلَانًا مِنْ دَعْوَى الْمِلْكِ فِيهَا لِنَفْسِهِ مُنْذُ سَنَةٍ .
فَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ مَنْ يَدَّعِي تَمَلُّكَهَا مِنْ جِهَتِهِ مِنْ أَنْ يُثْبِتَ بَيْعَهَا مِنْهُ مُنْذُ سَنَةٍ .
وَإِذَا وَجَبَ قَبُولُ بَيِّنَتِهِ عَلَى ذَلِكَ ثَبَتَ شِرَاؤُهُ فِي وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ الْآخَرُ فِيهِ فَإِنَّمَا أَثْبَتَ الْآخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ الشِّرَاءَ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ وَعَلَى هَذَا لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ بَاعَ هَذِهِ الدَّارَ مِنْ فُلَانٍ مُنْذُ سَنَةٍ وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ مُنْذُ سَنَتَيْنِ فَهِيَ لِلَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى سَنَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُثْبِتٌ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ بِإِقَامَتِهِ الْبَيِّنَةَ عَلَى تَمْلِيكِهَا مِنْ فُلَانٍ بِالْبَيْعِ فَيَتَرَجَّحُ أَسْبَقُ التَّارِيخَيْنِ لِانْعِدَامِ مُنَازَعَةِ الْآخَرِ مَعَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ .
وَإِذَا لَمْ يُوَقِّتَا فَهِيَ لِذِي الْيَدِ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَيْهِ ، وَإِنَّمَا يَدَّعِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الثَّمَنَ فِي
ذِمَّتِهِ لِنَفْسِهِ ، وَقَدْ أَثْبَتَهُ بِالْبَيِّنَةِ ، وَفِي الذِّمَّةِ سَعَةٌ .
وَإِذَا ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ أَوْ أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدٌ بِالْأَلْفِ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ قَضَى لَهُ بِالْأَلْفِ لِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الْأَلْفِ لَفْظًا وَمَعْنًى فَالْأَلْفُ وَخَمْسُمِائَةٍ جُمْلَتَانِ أَحَدُهُمَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْأُخْرَى فَبِعِطْفِ أَحَدِهِمَا الْخَمْسَمِائَةِ عَلَى الْأَلْفِ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا لَهُ بِأَلْفٍ لَفْظًا بِخِلَافِ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِعَشَرَةٍ وَالْآخَرُ بِخَمْسَةَ عَشَرَ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ اخْتَلَفَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ لَفْظًا فَخَمْسَةَ عَشَرَ اسْمٌ وَاحِدٌ لِعَدَدٍ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَرْفُ الْعَطْفِ فَهُوَ نَظِيرُ الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي يَدَّعِي أَلْفًا فَقَدْ أَكْذَبَ الَّذِي شَهِدَ عَلَى أَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا لَهُ إلَّا أَنْ يُوَفِّقَ فَيَقُولَ كَانَ أَصْلُ حَقِّي أَلْفًا وَخَمْسَمِائَةٍ لَكِنِّي اسْتَوْفَيْت خَمْسَمِائَةٍ ، أَوْ أَبْرَأْته مِنْهَا وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ هَذَا الشَّاهِدُ فَحِينَئِذٍ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى الْأَلْفِ ؛ لِأَنَّهُ وَفَّقَ بِتَوْفِيقٍ صَحِيحٍ مُحْتَمَلٍ ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي جِنْسِ الْمَالِ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يُكَذِّبُ أَحَدَهُمَا ، وَلِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ مُخْتَلِفٌ ، وَلَيْسَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْمَالَيْنِ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ .
وَلَوْ شَهِدَا عَلَى قَتْلٍ أَوْ قَطْعٍ ، أَوْ غَصْبٍ أَوْ عَمَلٍ وَاخْتَلَفَا فِي الْوَقْتِ ، أَوْ الْمَكَانِ ، أَوْ فِيمَا وَقَعَ بِهِ الْقَتْلُ كَانَتْ الشَّهَادَةُ بَاطِلَةً لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْفِعْلِ وَالْآخَرُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ فَهَذَا اخْتِلَافٌ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ ، وَإِنْ شَهِدَ عَلَى إقْرَارِ الْقَائِلِ بِهِ فِي وَقْتَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ، أَوْ فِي مَكَانَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ قَوْلٌ فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَشْهُودُ بِهِ بِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْوَقْتِ وَالْمَكَانِ بِهِ .
وَلَوْ ادَّعَى ثَوْبًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ رَهَنَهُ مِنْهُ مُنْذُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ فَجَاءَ بِشَاهِدَيْنِ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَهَبَهُ مِنْهُ مُنْذُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ وَالْآخَرُ مُنْذُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ مُكَذِّبٌ أَحَدَ شَاهِدَيْهِ ، وَقَدْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ كَانَ مَمْلُوكًا لِلْوَاهِبِ قَبْلَ عَشَرَةِ أَيَّامٍ ، وَذَلِكَ يَمْنَعُ دَعْوَاهُ مَا شَهِدَ بِهِ هَذَا مِنْ هِبَتِهِ مُنْذُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، وَلَوْ لَمْ يُوَقِّتْ الْمُدَّعِي جَازَتْ الشَّهَادَةُ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَذِّبٍ وَاحِدًا مِنْهُمَا وَالْمَشْهُودُ بِهِ قَوْلٌ ، أَوْ مَا هُوَ كَالْقَوْلِ حُكْمًا فَاخْتِلَافُ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْوَقْتِ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ فِيهِ .
وَإِذَا شَهِدَ الْوَصِيُّ عَلَى الْمَيِّتِ بِدَيْنٍ أَوْ عَلَى رَجُلٍ بِدَيْنٍ لِلْمَيِّتِ فَشَهَادَتُهُ بِالدَّيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ صَحِيحَةٌ وَبِالدَّيْنِ لِلْمَيِّتِ مَرْدُودَةٌ ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا شَهِدَ بِهِ لِلْمَيِّتِ يَثْبُتُ حَقُّ الْقَبْضِ لِنَفْسِهِ فَيَكُونُ مُتَّهَمًا وَلَا تُهْمَةَ فِيمَا شَهِدَ بِهِ عَلَى الْمَيِّتِ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ قَضَاهُ مِنْ التَّرِكَةِ فَحِينَئِذٍ هُوَ مُتَّهَمٌ فِي شَهَادَتِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَقْصِدُ بِهِ إسْقَاطَ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ .
وَإِذَا شَهِدَ الْوَصِيُّ عَلَى الْمَيِّتِ بِدَيْنٍ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ لِلْكِبَارِ لِخُلُوِّهَا عَنْ التُّهْمَةِ وَلَا يَجُوزُ لِلصِّغَارِ لِتَمَكُّنِ التُّهْمَةِ فِي شَهَادَتِهِ فَحَقُّ الْقَبْضِ فِي ذَلِكَ إلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ لِبَعْضِ الْوَرَثَةِ عَلَى الْبَعْضِ بِحَقٍّ فِي شَهَادَتِهِ لِلْكِبَارِ جَائِزَةٌ وَلِلصِّغَارِ مَرْدُودَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْبِضُ لِلْكِبَارِ شَيْئًا وَهُوَ يَقْبِضُ مَا يَجِبُ لِلصِّغَارِ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الشَّاهِدِ لِنَفْسِهِ .
وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي عَلَى رَجُلٍ بِأَرْضٍ ، أَوْ دَارٍ فِي يَدَيْهِ بِبَيِّنَةٍ قَامَتْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَدَفَعَهَا إلَى الْمَقْضِيِّ لَهُ بِبِنَائِهَا ، ثُمَّ إنَّ الْمَقْضِيَّ لَهُ أَقَرَّ بِبِنَائِهَا لِلْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ ذَلِكَ إلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ وَلَا يَكُونُ هَذَا الْإِقْرَارُ إكْذَابًا مِنْهُ لِشُهُودِهِ فِي الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ الْأَرْضُ وَالْبِنَاءُ إنَّمَا يَدْخُلُ تَبَعًا كَمَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ الْبِنَاءِ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَرْضُ لِلْمُدَّعِي كَمَا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ ، وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَدْ بَنَى فِيهَا هَذَا الْبِنَاءَ فَهُوَ لَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ إنَّمَا صَارَ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِالْأَصْلِ وَالْبِنَاءُ تَبَعٌ فِي ذَلِكَ .
فَكَذَلِكَ الْقَضَاءُ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ إثْبَاتِ حَقِّ نَفْسِهِ فِي الْبِنَاءِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي حِينَ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ شَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّ هَذِهِ الدَّارَ لِهَذَا الْمُدَّعِي بِبِنَائِهَا فَأَقَرَّ هُوَ بِالْبِنَاءِ لِلْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ أُبْطِلَتْ الشَّهَادَةُ ؛ لِأَنَّهُ أَكْذَبَ شُهُودَهُ ؛ لِأَنَّهُمْ صَرَّحُوا فِي شَهَادَتِهِمْ بِمِلْكِ الْبِنَاءِ لَهُ مَقْصُودًا ، وَقَدْ كَذَّبَهُمْ فِي ذَلِكَ وَالْمُدَّعِي مَتَى أَكْذَبَ شَاهِدَهُ فِي بَعْضِ مَا شَهِدَ لَهُ بِهِ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُ فِي الْكُلِّ كَمَا إذَا ادَّعَى أَلْفًا وَشَهِدَ لَهُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ
وَإِذَا وَكَّلَتْ امْرَأَةٌ رَجُلَيْنِ بِأَنْ تَزَوَّجَاهَا ثُمَّ شَهِدَا أَنَّ الزَّوْجَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَهِيَ تَدَّعِي ، أَوْ تُنْكِرُ جَازَتْ الشَّهَادَةُ لِخُلُوِّهَا عَنْ التُّهْمَةِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَمَّيْنِ فَزَوَّجَا ابْنَتَ أَخٍ لَهُمَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ ، ثُمَّ شَهِدَا عَلَى الطَّلَاقِ ، أَوْ كَانَا أَخَوَيْنِ لَهَا زَوَّجَاهَا ، ثُمَّ شَهِدَا بِالطَّلَاقِ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ ؛ لِأَنَّهُمَا يُثْبِتَانِ الْحُرْمَةَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى وَلَا يَجُرَّانِ إلَى أَنْفُسِهِمَا شَيْئًا فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِشَهَادَتِهِمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
كِتَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ ( قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إمْلَاءً : اعْلَمْ بِأَنَّ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ مَأْمُورٌ بِهِ شَرْعًا ) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ } أُمِرُوا بِهِ لِلْوُجُوبِ .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إذَا مَا دُعُوا } وَالنَّهْيُ عَنْ الْإِبَاءِ عِنْدَ الدُّعَاءِ أَمْرٌ بِالْحُضُورِ لِلْأَدَاءِ .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } وَاسْتِحْقَاقُ الْوَعِيدِ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ { .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَاتِمُ الشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ كَشَاهِدِ الزُّورِ } وَشَهَادَةُ الزُّورِ مِنْ الْكَبَائِرِ { قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ أَيُّهَا النَّاسُ عُدِلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ بِالْأَشْرَاكِ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، ثُمَّ تَلَا قَوْله تَعَالَى { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } } ، وَفِي هَذَا بَيَانُ كَرَامَةِ الْمُؤْمِنِ فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الشَّهَادَةَ عَلَيْهِ بِمَا لَا أَصْلَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ الْكَافِرِ عَلَى ذَاتِهِ بِمَا لَا أَصْلَ لَهُ مِنْ شَرِيكٍ ، أَوْ صَاحِبٍ ، أَوْ وَلَدٍ { .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ قَالُوا نَعَمْ قَالَ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَاسْتَوَى جَالِسًا ، ثُمَّ قَالَ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ فَجَعَلَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ يَسْكُتُ } ، وَفِي رِوَايَةٍ { سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ الْكَبَائِرِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَقَتْلُ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلُ الزُّورِ } ، وَفِي حَدِيث سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ الشَّاهِدُ بِالزُّورِ لَا يَرْفَعُ قَدَمَيْهِ مِنْ مَكَانِهِمَا حَتَّى تَلْعَنَهُ
الْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ } فَيَحِقُّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ الِاجْتِنَابُ عَنْهَا بِجُهْدِهِ وَالتَّوْبَةُ عَنْهَا مَتَى وَقَعَ فِيهَا خَطَأً ، أَوْ عَمْدًا ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَرْجِعَ عَنْ الشَّهَادَةِ وَلْيَكُنْ رُجُوعُهُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّهُ فَسْخٌ لِلشَّهَادَةِ الَّتِي أَدَّاهَا .
وَقَدْ اخْتَصَّتْ الشَّهَادَةُ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَالرُّجُوعُ عَنْهَا كَذَلِكَ ، وَهَذَا لِأَنَّ التَّوْبَةَ بِحَسْبِ الْجَرِيمَةِ { قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السِّرُّ بِالسِّرِّ وَالْعَلَانِيَةُ بِالْعَلَانِيَةِ } .
فَإِذَا كَانَتْ جَرِيمَتُهُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ جَهْرًا فَلْتَكُنْ تَوْبَتُهُ بِالرُّجُوعِ كَذَلِكَ وَلَا يَمْنَعُهُ الِاسْتِحْيَاءُ مِنْ النَّاسِ وَخَوْفُ اللَّائِمَةِ مِنْ إظْهَارِ الرُّجُوعِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَلَأَنْ يُرَاقِبَ اللَّهَ تَعَالَى خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يُرَاقِبَ النَّاسَ وَرُجُوعُهُ صَحِيحٌ مَقْبُولٌ فِي حَقِّهِ ، وَإِنْ كَانَ مَرْدُودًا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حَقِّ غَيْرِهِ حَتَّى إذَا رَجَعَ قَبْلَ الْقَضَاءِ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِ لِبُطْلَانِهَا بِالرُّجُوعِ .
وَإِذَا رَجَعَ بَعْدَ الْقَضَاءِ لَمْ يَبْطُلُ بِرُجُوعِهِ حَقُّ الْمَقْضِيِّ لَهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ الْحَدِيثُ الَّذِي بَدَأَ الْكِتَابَ بِهِ وَرَوَاهُ عَنْ الشَّعْبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ رَجُلَيْنِ شَهِدَا عِنْدَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى رَجُلٍ بِالسَّرِقَةِ فَقَطَعَ يَدَهُ ، ثُمَّ آتَيَا بَعْدَ ذَلِكَ بِآخَرَ فَقَالَ أَوْهَمْنَا إنَّمَا السَّارِقُ هَذَا فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَهُمَا لَا أُصَدِّقُكُمَا عَلَى هَذَا الْآخَرِ وَأُضَمِّنُكُمَا دِيَةَ يَدِ الْأَوَّلِ ، وَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُكُمَا فَعَلْتُمَا ذَلِكَ عَمْدًا قَطَعْت أَيْدِيَكُمَا فَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الرُّجُوعَ عَنْ الشَّهَادَةِ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِ ، وَأَنَّهُ عِنْدَ الرُّجُوعِ ضَامِنٌ مَا اُسْتُحِقَّ بِشَهَادَتِهِ ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِي حَقِّ غَيْرِهِ لِلتَّنَاقُضِ فِي كَلَامِهِ وَالْمُنَاقِضُ لَا قَوْلَ لَهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ ، وَلَكِنَّ التَّنَاقُضَ لَا يَمْنَعُ إلْزَامَهُ حُكْمَ كَلَامِهِ ، ثُمَّ
الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَسْتَدِلُّ بِالْحَدِيثِ فِي فَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا فِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الشُّهُودِ إذَا رَجَعُوا بَعْدَ مَا اسْتَوْفَى الْعُقُوبَةَ بِشَهَادَتِهِمْ وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ تَعَمَّدُوا ذَلِكَ فِي شَهَادَتِهِمْ ، وَفِي أَنَّ الْيَدَيْنِ يُقْطَعَانِ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ فَقَدْ قَالَ ، وَلَوْ أَنِّي أَعْلَمُكُمَا فَعَلْتُمَا ذَلِكَ عَمْدًا قَطَعْتُ أَيْدِيَكُمَا .
فَإِذَا جَازَ قَطْعُ الْيَدَيْنِ فِي يَدٍ وَاحِدَةٍ بِطَرِيقِ الشَّهَادَةِ فَبِالْمُبَاشَرَةِ أَوْلَى ، وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا اللَّفْظُ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ بِدُونِ التَّحْقِيقِ ، وَقَدْ تَهَدَّدَ الْإِمَامُ بِمَا لَا يَتَحَقَّقُ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلَوْ تَقَدَّمْت فِي الْمُتْعَةِ لَرَجَمْت وَالْمُتْعَةُ لَا تُوجِبُ الرَّجْمَ بِالِاتِّفَاقِ ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ مِنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَكَذَا كَذِبًا ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ بِمَا لَا طَرِيقَ إلَيْهِ وَهُوَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُمَا فَعَلَا ذَلِكَ عَمْدًا فَلَمْ يَكُنْ هَذَا كَذِبًا بِهَذَا التَّعْلِيقِ وَيَحْصُلُ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الزَّجْرُ وَهُوَ نَظِيرُ قَوْله تَعَالَى { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ } ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ هَذَا الْكَلَامُ مِنْ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ كَذِبًا ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَهُ بِمَا لَا يَكُونُ وَمَعْنَاهُ إنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ فَقَدْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مِنْ مَذْهَبِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْيَدَيْنِ لَا يُقْطَعَانِ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ فَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ فِي الْكِتَابِ فَهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ مُرَادَهُ التَّهْدِيدُ .
وَذُكِرَ عَنْ حَمَّادٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الشَّاهِدَيْنِ إذَا رَجَعَا عَنْ الشَّهَادَةِ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إلَى حَالِهِمَا يَوْمَ رَجَعَا فَإِنْ كَانَ حَالُهُمَا أَحْسَنُ مِنْهُ يَوْمَ شَهِدَا صَدَّقَهُمَا الْقَاضِي فِي الرُّجُوعِ وَرَدَّ الْقَضَاءَ وَأَبْطَلَهُ ، وَإِنْ كَانَ حَالُهُمَا يَوْمَ رَجَعَا مِثْلَ حَالِهِمَا يَوْمَ شَهِدَا دُونَ ذَلِكَ لَمْ يُصَدِّقْهُمَا الْقَاضِي وَلَمْ يَقْبَلْ
رُجُوعَهُمَا وَلَمْ يُضَمِّنْهُمَا شَيْئًا وَكَانَ الْقَضَاءُ الْأَوَّلُ مَاضِيًا وَبِهَذَا كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ أَوَّلًا ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لَا أُبْطِلُ الْقَضَاءَ بِقَوْلِهِمَا لِآخَرَ ، وَإِنْ كَانَ أَعْدَلَ مِنْهُمْ يَوْمَ شَهِدَا ، وَلَكِنْ أُضَمِّنُهُمَا الْمَالَ الَّذِي شَهِدَا بِهِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَبَرَيْنِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الصِّدْقِ فِيهِ بِالْعَدَالَةِ وَحُسْنِ حَالِ الْمُخْبِرِ .
فَإِذَا كَانَتْ عَدَالَتُهُ عِنْدَ الرُّجُوعِ أَظْهَرُ وَحَالُهُ عِنْدَ ذَلِكَ أَحْسَنُ فَرُجْحَانُ جَانِبِ الصِّدْقِ فِي هَذَيْنِ الْخَبَرَيْنِ بَيِّنٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّ رُجُوعَهُ تَوْبَةٌ وَاسْتِدْرَاكٌ لِمَا كَانَ مِنْهُ مِنْ التَّفْرِيطِ وَالْقَاضِي يَتْبَعُ الظَّاهِرَ ؛ لِأَنَّهُ مَا وَرَاءُ ذَلِكَ غُيِّبَ عَنْهُ .
وَإِذَا كَانَ حَالُهُ عِنْدَ الرُّجُوعِ دُونَ حَالِهِ عِنْدَ الشَّهَادَةِ فَرُجْحَانُ جَانِبِ الْكَذِبِ فِي الرُّجُوعِ أَبْيَنُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ بِالرُّجُوعِ قَاصِدٌ إلَى الْإِضْرَارِ بِالْمَقْضِيِّ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ حَالُهُ عِنْدَ الرُّجُوعِ مِثْلَ حَالِهِ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فَعِنْدَ الْمُسَاوَاةِ يَتَرَجَّحُ الْأَوَّلُ بِالسَّبْقِ وَاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ فَإِنَّ الشَّيْءَ لَا يَنْقُضُهُ مَا هُوَ مِثْلُهُ ، أَوْ دُونَهُ وَيَنْقُضُهُ مَا هُوَ فَوْقَهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مَا يَتَنَاوَلُ شَيْئًا إنَّمَا أَخْبَرَ بِخَبَرٍ ، وَذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلْإِتْلَافِ بِدُونِ الْقَضَاءِ وَالْقَاضِي يَخْتَارُ فِي قَضَائِهِ فَذَلِكَ يَمْنَعُ إضَافَةَ الْإِتْلَافِ إلَى الشَّهَادَةِ ؛ فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ الشَّاهِدُ شَيْئًا .
وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ ظَاهِرَ الْعَدَالَةِ تُرَجِّحُ جَانِبَ الصِّدْقِ فِي الْخَبَرِ ، وَلَكِنْ لَا يَنْعَدِمُ بِهِ مَعْنَى التَّنَاقُضِ فِي الْكَلَامِ وَهُوَ بِالرُّجُوعِ مُنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ فَعَدَالَتُهُ عِنْدَ الرُّجُوعِ لَا تَعْدَمُ التَّنَاقُضَ وَكَمَا أَنَّ الْقَاضِي لَا يَقْضِي بِالْكَلَامِ الْمُتَنَاقِضِ .
فَكَذَلِكَ لَا يُنْقَضُ مَا قَضَاهُ بِالْكَلَامِ الْمُتَنَاقِضِ .
فَكَذَلِكَ لَا يُنْقَضُ مَا قَضَاهُ بِالْكَلَامِ الْمُتَنَاقِضِ ، ثُمَّ جَانِبُ الصِّدْقِ يُعَيَّنُ فِي الشَّهَادَةِ وَتَأَكُّدُ ذَلِكَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فِي حَقِّ الْمَقْضِيِّ لَهُ فِيهِ بِتَعَيُّنِ جَانِبِ الْكَذِبِ فِي الرُّجُوعِ .
وَإِذَا كَانَ تُهْمَةُ الْكَذِبِ عِنْدَ الرُّجُوعِ لِفِسْقِهِ يَمْنَعُ الْقَاضِي مِنْ إبْطَالِ الْقَضَاءِ فَتَعَيُّنُ الْكَذِبِ فِيهِ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُهُ مِنْ إبْطَالِ الْقَضَاءِ أَوْلَى فَلَوْ أَبْطَلَ الْقَضَاءَ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى أَدَّى إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي بَعْدَ ذَلِكَ فَيَرْجِعُ عَنْ هَذَا الرُّجُوعِ فَيَجِبُ إعَادَةُ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ ، وَلَكِنْ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ لِإِقْرَارِهِ عِنْدَ الرُّجُوعِ أَنَّهُ أَتْلَفَ الْمَالَ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَالتَّنَاقُضُ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ حُكْمِ إقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَالْإِتْلَافُ ، وَإِنْ كَانَ يَحْصُلُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَسَبَبُ الْقَضَاءِ شَهَادَةٌ لِلشُّهُودِ ، وَإِنَّمَا يُحَالُ بِالْحُكْمِ عَلَى أَصْلِ السَّبَبِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ بِمَنْزِلَةِ الْمَلْجَأِ مِنْ جِهَتِهِمْ فَإِنَّ بَعْدَ ظُهُورِ عَدَالَتِهِمْ يَحِقُّ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ شَرْعًا ، ثُمَّ السَّبَبُ إذَا كَانَ تَعَدِّيًا بِمَنْزِلَةِ الْمُبَاشَرَةِ فِي إيجَابِ ضَمَانِ الْمَالِ ، وَقَدْ أَقَرَّ بِالتَّعَدِّي فِي السَّبَبِ الَّذِي كَانَ مِنْهُمَا وَبِهَذَا السَّبَبِ سُلِّطَ الْمَشْهُودُ لَهُ عَلَى مَالِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، وَلَوْ تَسَلَّطَا عَلَيْهِ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ لِأَنْفُسِهِمَا ضَمِنَا .
فَكَذَلِكَ إذَا سَلَّطَا الْغَيْرَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ لِلْحَاجَةِ إلَى الْجِيرَانِ وَدَفْعِ الضَّرَرِ وَالْخَسْرَانِ عَنْ الْمُتْلَفِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ تَحَقَّقَتْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَى الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي الْقَضَاءِ بَلْ هُوَ مُبَاشِرٌ لِمَا فُرِضَ عَلَيْهِ ظَاهِرًا فَتَعَيُّنُ الشُّهُودِ لِإِيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمْ .
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى قَطْعِ يَدٍ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ الشَّهَادَةِ فَعَلَيْهِمَا الدِّيَةُ ، وَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَبِهِ نَأْخُذُ ؛ لِأَنَّهُمَا سَبَّبَا لِقَطْعِ الْيَدِ بِطَرِيقٍ هُوَ تَعَدٍّ مِنْهُمَا وَهُوَ سَبَبٌ مُعْتَادٌ فِي النَّاسِ فَقَدْ يَقْصِدُ الْمَرْءُ الْإِضْرَارَ بِغَيْرِهِ فِي نَفْسِهِ ، أَوْ مَالِهِ بِالشَّهَادَةِ الْبَاطِلَةِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ بِالْمُبَاشَرَةِ وَالتَّسَبُّبُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ مُوجِبٌ ضَمَانَ الدِّيَةِ كَحَفْرِ الْبِئْرِ وَوَضْعِ الْحَجَرِ فِي الطَّرِيقِ إلَّا أَنَّ ضَمَانَ الدِّيَةِ فِي مَالِهِمَا ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ بِقَوْلِهِمَا وَهُوَ إقْرَارُهُمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا عِنْدَ الرُّجُوعِ وَقَوْلُهُمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْعَاقِلَةِ .
وَإِذَا كَانَ ضَامِنَيْنِ لِلدِّيَةِ إذَا رَجَعَا كَانَ أَحَدُهُمَا ضَامِنًا لِنِصْفِ الدِّيَةِ إذَا رَجَعَ ؛ لِأَنَّ بِشَهَادَةِ كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُومُ بِنِصْفِ الْحُجَّةِ فَبِبَقَاءِ أَحَدِهِمَا عَلَى الشَّهَادَةِ تَبْقَى الْحُجَّةُ فِي النِّصْفِ أَيْضًا فَيَجِبُ عَلَى الرَّاجِعِ مِنْ الضَّمَانِ بِقَدْرِ مَا انْعَدَمَتْ الْحُجَّةُ فِيهِ ، وَذَلِكَ النِّصْفُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا بِمَالٍ فَقَضَى الْقَاضِي بِهِ ، ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُهُمَا فَعَلَيْهِ نِصْفُ الْمَالِ فَإِنْ رَجَعَا جَمِيعًا فَعَلَيْهِمَا الْمَالُ كُلُّهُ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا رَجَعَ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي حَتَّى امْتَنَعَ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ لِلْمَشْهُودِ لَهُ ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُتْلِفَا عَلَيْهِ شَيْئًا مُسْتَحَقًّا لَهُ فَالشَّهَادَةُ قَبْلَ الْقَضَاءِ لَا تُوجِبُ شَيْئًا لِلْمَشْهُودِ لَهُ .
فَأَمَّا بَعْدَ الْقَضَاءِ فَقَدْ أَتْلَفَا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ مَا كَانَ مُسْتَحَقًّا لَهُ مِنْ الْمَالِ فَيَضْمَنَانِ لَهُ ذَلِكَ .
وَعَنْ الشَّعْبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ رَجُلَيْنِ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا وَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ شَهَادَته فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا الشَّعْبِيُّ ، وَبِهِ كَانَ يَأْخُذُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَانَ يَقُولُ فُرْقَةُ الْقَاضِي جَائِزَةٌ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَلَا يَرُدُّ الْقَاضِيَ الْمَرْأَةَ إلَى زَوْجِهَا بِرُجُوعِ الشَّاهِدَيْنِ وَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الزَّوْجِ الثَّانِي إنْ كَانَ هُوَ الشَّاهِدُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُصَدَّقُ الشَّاهِدُ عَلَى إبْطَالِ شَهَادَتِهِ الْأُولَى ، وَلَكِنَّهُ يُصَدَّقُ عَلَى نَفْسِهِ فَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إنْ كَانَ هُوَ تَزَوَّجَهَا وَإِلَى هَذَا رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِالْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ وَالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ تَنْفُذُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ ظَاهِرًا لَا بَاطِنًا حَتَّى إذَا ادَّعَى نِكَاحَ امْرَأَةٍ وَأَقَامَ شَاهِدَيْ زُورٍ فَقَضَى الْقَاضِي لَهُ بِالنِّكَاحِ وَسِعَهُ أَنْ يَطَأَهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إلَى الْحُكَّامِ } فَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ بِالْبَاطِلِ مُحْتَجًّا بِحُكْمِ الْحَاكِمِ فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّهُ ، وَإِنْ قَضَى الْقَاضِي لَهُ بِالشِّرَاءِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ لَا يَحِلُّ لَهُ تَنَاوَلَهُ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ أَكْلًا بَاطِلًا .
{ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ
أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ فَإِنَّمَا أَقْضِي لَهُ بِقِطْعَةٍ مِنْ نَارٍ } وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ قَضَاءَهُ اعْتَمَدَ سَبَبًا بَاطِلًا فَلَا يَنْفُذُ بَاطِنًا كَمَا إذَا قَضَى بِشَهَادَةِ الْعَبِيدِ أَوْ الْكُفَّارِ ، أَوْ الْمَحْدُودِينَ فِي الْقَذْفِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ قَضَاءَهُ اعْتَمَدَ شَهَادَةَ الزُّورِ وَهُوَ سَبَبٌ بَاطِلٌ فَإِنَّهُ كَبِيرَةٌ وَحُجَّةُ الْقَضَاءِ مَشْرُوعَةٌ وَالْكَبِيرَةُ ضِدَّهَا .
وَإِذَا كَانَتْ تُهْمَةُ الْكَذِبِ تُخْرِجُ الشَّهَادَةَ مِنْ أَنْ تَكُونَ حُجَّةً لِلْقَضَاءِ فَحَقِيقَةُ الْكَذِبِ أَوْلَى ، وَلِأَنَّ مَا قَضَى بِهِ لَا كَوْنَ لَهُ فَيَكُونُ قَضَاؤُهُ بَاطِلًا كَمَا لَوْ قَضَى بِنِكَاحِ مَنْكُوحَةِ الْغَيْرِ لِإِنْسَانٍ بِشَهَادَةِ الزُّورِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّهُ أَظْهَرَ بِقَضَائِهِ نِكَاحًا كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ .
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا نِكَاحٌ فَلَا يُتَصَوَّرُ إظْهَارُهُ بِالْقَضَاءِ عَرَفْنَا أَنَّهُ قَضَى بِمَا لَا كَوْنَ لَهُ .
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ قَضَاؤُهُ إنْشَاءً ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِنْشَاءِ لَمْ تَثْبُتْ لَهُ فَإِنَّ سَبَبَ وِلَايَتِهِ دَعْوَى الْمُدَّعِي وَشَهَادَةُ شُهُودِهِ وَهُوَ إنَّمَا ادَّعَى عَقْدًا سَابِقًا وَبِذَلِكَ شَهِدَ شُهُودُهُ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِمَا لَمْ يَدَّعِهِ الْمُدَّعِي وَلَا يَشْهَدُ بِهِ الشُّهُودُ ، وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ لَمْ يَقْصِدْ إنْشَاءَ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا ، وَإِنَّمَا يُنَفِّذُ قَضَاءَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَصَدَهُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ قَضَاءَهُ فِي الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ لَا يَنْفُذُ بَاطِنًا لِهَذَا الْمَعْنَى وَلَا يُجْعَلُ ذَلِكَ إنْشَاءَ تَمْلِيكٍ مِنْهُ ، وَبِهِ فَارَقَ قَضَاءَ الْقَاضِي بِالْفُرْقَةِ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَبَيْعَةُ التَّرِكَةِ فِي الدَّيْنِ الثَّابِتِ بِشَهَادَةِ الزُّورِ ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ الْإِنْشَاءَ هُنَا ، وَمَا ظَهَرَ عِنْدَهُ مِنْ الْحُجَّةِ يَصْلُحُ لِلْإِنْشَاءِ أَيْضًا ، وَكَذَلِكَ فِي الْمُجْتَهِدَاتِ يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ بِمَا لَاحَ عِنْدَهُ مِنْ الدَّلِيلِ وَقَضَاؤُهُ إنْشَاءٌ أَيْضًا بِطَرِيقِ الْقَصْدِ مِنْهُ إلَى ذَلِكَ .
فَأَمَّا هُنَا إنَّمَا قَصَدَ الْإِمْضَاءَ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُنْشِئًا .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ رَجُلًا وَامْرَأَةً لَوْ أَقَرَّا بِالنِّكَاحِ وَهُمَا يَعْلَمَانِ أَنَّهُ لَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا لَمْ يَثْبُتْ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا بَاطِنًا بِهَذَا الْإِقْرَارِ وَهُمَا يَمْلِكَانِ الْإِنْشَاءَ ، وَلَكِنَّهُمَا بِالْإِقْرَارِ أَظْهَرَا عَقْدًا قَدْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَلَا يُجْعَلُ ذَلِكَ إنْشَاءً مِنْهُمَا ، وَلِأَنَّ الْمُدَّعِي مُتَيَقِّنٌ بِمَا لَوْ تَبَيَّنَ الْقَاضِي بِهِ امْتَنَعَ مِنْ الْقَضَاءِ فَلَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ فِي حَقِّهِ ، وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي مَعْذُورًا لِخَفَاءِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ كَانَتْ امْرَأَةً مَجُوسِيَّةً ، أَوْ مُرْتَدَّةً ، أَوْ مَنْكُوحَةَ الْغَيْرِ ، أَوْ أُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ قَضَاءَهُ لَيْسَ بِإِنْشَاءٍ أَنَّهُ لَا يَسْتَدْعِي شَرَائِطَ الْإِنْشَاءِ مِنْ الشُّهُودِ وَالْمَهْرِ وَالْوَلِيِّ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
احْتَجَّ بِمَا رُوِيَ أَنْ رَجُلًا ادَّعَى عَلَى امْرَأَةٍ نِكَاحًا بَيْنَ يَدَيْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ فَقَضَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالنِّكَاحِ بَيْنَهُمَا فَقَالَتْ الْمَرْأَةُ إنْ لَمْ يَكُنْ بُدًّا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَزَوِّجْنِي مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا نِكَاحَ بَيْنَنَا فَقَالَ عَلِيٌّ شَاهِدَاك زَوَّجَاك فَقَدْ طَلَبْت مِنْهُ أَنْ يُعِفُّهَا عَنْ الزِّنَا بَلْ يَعْقِدُ النِّكَاحَ بَيْنَهُمَا فَلَمْ يُجِبْهَا إلَى ذَلِكَ وَلَا يُقَالُ إنَّمَا يُجِبْهَا إلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الزَّوْجُ رَاضٍ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي النِّكَاحَ وَالْمَرْأَةُ رَضِيَتْ أَيْضًا حَيْثُ قَالَتْ فَزَوِّجْنِي مِنْهُ وَكَانَ يَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَقَدْ كَانَ الزَّوْجُ رَاغِبًا فِيهَا ، ثُمَّ لَمْ يَشْتَغِلْ بِهِ وَبَيْنَ أَنَّ مَقْصُودَهُمَا قَدْ حَصَلَ بِقَضَائِهِ فَقَالَ شَاهِدَاك زَوَّجَاك أَيْ أَلْزَمَانِي الْقَضَاءَ بِالنِّكَاحِ بَيْنَكُمَا فَثَبَتَ النِّكَاحُ بِقَضَاءٍ ، وَمَا نُقِلَ عَنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ كَالْمَرْفُوعِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ حَقِيقَةً بِالرَّأْيِ وَيَتَبَيَّنُ بِهَذَا أَنَّ مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ مِنْ الْآيَةِ وَالْحَدِيثِ فِي الْأَمْلَاكِ الْمُرْسَلَةِ ، وَبِهِ يَقُولُ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ قَضَى بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَا لَهُ فِيهِ وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ وَقَضَاؤُهُ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى يَكُونُ نَافِذًا حَقِيقَةً لِاسْتِحَالَةِ الْقَوْلِ بِأَنْ يَأْمُرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْقَضَاءِ ، ثُمَّ لَا يَنْفَدُ ذَلِكَ الْقَضَاءُ مِنْهُ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّهُ لَمَّا تَفَحَّصَ عَنْ أَحْوَالِ الشُّهُودِ وَزُكُّوا عِنْدَهُ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِمْ حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ يَأْثَمُ وَيُخْرَجُ وَيُعْزَلُ وَيُعْذَرُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ صَارَ مَأْمُورًا بِالْقَضَاءِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ مِنْ الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ لَنَا
طَرِيقًا إلَى مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الصِّدْقِ مِنْ خَبَرِ مَنْ هُوَ غَيْرُ مَعْصُومٍ عَنْ الْكَذِبِ وَلَا يُتَوَجَّهُ عَلَيْهِ شَرْعًا لِوُقُوفٍ عَلَى مَا لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى مَعْرِفَتِهِ ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِحَسْبِ الْوُسْعِ وَاَلَّذِي فِي وُسْعِهِ التَّعَرُّفُ عَنْ أَحْوَالِ الشُّهُودِ فَإِنْ اسْتَقْصَى ذَلِكَ غَايَةَ الِاسْتِقْصَاءِ فَقَدْ أَتَى بِمَا فِي وُسْعِهِ وَصَارَ مَأْمُورًا بِالْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ مَا وَرَاءَ هَذَا سَاقِطٌ عَنْهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ ، ثُمَّ إنَّمَا يُتَوَجَّهُ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِحَسْبِ الْإِمْكَانِ وَالْمَأْمُورُ بِهِ أَنْ يَجْعَلَهَا بِقَضَائِهِ زَوْجَتَهُ فَلِذَلِكَ طَرِيقَانِ إظْهَارُ نِكَاحٍ إنْ كَانَ ، وَإِنْشَاءُ عَقْدٍ بَيْنَهُمَا .
فَإِذَا لَمْ يَسْبِقْ مِنْهُمَا عَقْدٌ تَعَذَّرَ إظْهَارَهُ بِالْقَضَاءِ فَيَتَعَيَّنُ الْإِنْشَاءُ إذَا لَيْسَ هُنَا طَرِيقٌ آخَرُ فَيَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ وَيَجْعَلَ إنْشَاءَهُ كَإِنْشَاءِ الْخَصْمَيْنِ فَيَثْبُتُ الْحِلُّ بِهِ بَيْنَهُمَا حَقِيقَةً بَلْ قَضَاؤُهُ أَوْلَى وَأَقْوَى مِنْ إنْشَاءِ الْخَصْمَيْنِ عَنْ اتِّفَاقٍ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ فِي الْمُجْتَهِدَاتِ صِفَةُ اللُّزُومِ يَثْبُتُ بِإِنْشَاءِ الْقَاضِي وَلَا يَثْبُتُ بِإِنْشَاءِ الْخَصْمَيْنِ فَعَرَفْنَا أَنَّ قَضَاءَهُ أَقْوَى مِنْ إنْشَاءِ الْخَصْمَيْنِ .
وَشَرْطُ صِحَّةِ الْإِنْشَاءِ الشَّهَادَةُ وَالْمَحَلُّ الْقَابِلُ لَهُ وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَحَلَّ شَرْطٌ حَتَّى إذَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَنْكُوحَةَ الْغَيْرِ ، أَوْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ بِسَبَبٍ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ لِانْعِدَامِ الْمَحَلِّ .
فَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ شَرْطُهُ إلَّا أَنَّ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ لَا يَخْلُو عَنْ شَاهِدَيْنِ ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ الشَّهَادَةَ .
فَأَمَّا الْوَلِيُّ لَيْسَ بِشَرْطٍ عِنْدَنَا وَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ الْمَهْرِ وَيَجِبُ هَذَا التَّحْقِيقُ حُكْمُهُ بِأُلْفَةٍ وَهُوَ أَنْ لَا يَجْتَمِعَ رَجُلَانِ عَلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ أَحَدُهُمَا بِنِكَاحِ ظَاهِرٍ لَهُ وَالْآخَرُ بِنِكَاحٍ بَاطِنٍ لَهُ فَفِي ذَلِكَ مِنْ الْقُبْحِ مَا لَا يَخْفَى وَالدِّينُ مَصُونٌ عَنْ مِثْلِ هَذَا الْقُبْحِ وَلَا يَكُونُ الْقَاضِي بِقَضَائِهِ مُمَكِّنًا مِنْ الزِّنَا فَفِيهِ مِنْ الْفَسَادِ مَا لَا يَخْفَى .
وَإِذَا كَانَ يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ إنْشَاءِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ لِنَفْيِهَا بِهِ عَنْ الزِّنَا وَيَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ تَزْوِيجِ الصَّغِيرِ وَالصَّغِيرَةِ لِمَعْنَى النَّظَرِ لَهُمَا فَلَإِنْ يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ انْعِقَادِ الْعَقْدِ هُنَا لِنَفْيِهَا بِهِ عَنْ الزِّنَا وَيَصُونَ قَضَاؤُهُ بِهِ عَنْ التَّمْكِينِ مِنْ الزِّنَا أَوْلَى .
وَكَذَلِكَ يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ إنْشَاءُ التَّفْرِيقِ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ مَعَ يَقِينِهِ بِكَذِبِ أَحَدِهِمَا كَمَا { قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ أَحَدَكُمَا لَكَاذِبٌ }
فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ مَعَ كَذِبِ الشُّهُودِ لِتَوَجُّهِ الْأَمْرِ بِالْقَضَاءِ عَلَيْهِ شَرْعًا وَأَمْرُ الْقِبْلَةِ عَلَى هَذَا فَإِنَّهُ لَمَّا تَوَجَّهَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ إلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ وَأَتَى بِمَا فِي وُسْعِهِ فِي طَلَبِ الْقِبْلَةِ يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ نَسَبِ الْقِبْلَةِ حَتَّى الْجِهَةِ الَّتِي أَدَّى إلَيْهَا اجْتِهَادَهُ تَنْتَصِبُ قِبْلَةً فِي حَقِّهِ فَتَجُوزُ صَلَاتُهُ إلَيْهَا ، وَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُ الْخَطَأُ بَعْدَ ذَلِكَ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ فَسَادُ مَا قَالُوا أَنَّ الْمُدَّعِي عَالِمٌ بِمَا لَوْ عَلِمَهُ الْقَاضِي امْتَنَعَ مِنْ الْقَضَاءِ فَفِي اللِّعَانِ الْكَاذِبُ مِنْهُمَا عَالِمٌ بِمَا لَوْ عَلِمَهُ الْقَاضِي امْتَنَعَ مِنْ التَّفْرِيقِ وَمَعَ ذَلِكَ نَفَذَ الْقَضَاءُ فِي حَقِّهِ لِتَوَجُّهِ الْأَمْرِ عَلَى الْقَاضِي وَتَوَجُّهٌ الْأَمْرِ بِالِانْقِيَادِ وَاتِّبَاعِ أَمْرِ الْقَاضِي فِي حَقِّ النَّاسِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا ظَهَرَ أَنَّ الشُّهُودَ عَبِيدٌ ، أَوْ كُفَّارٌ أَوْ مَحْدُودُونَ فِي قَذْفٍ فَإِنَّ هَذِهِ أَسْبَابٌ يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا عِنْدَ الِاسْتِقْصَاءِ ، وَلَكِنْ رُبَّمَا يَلْحَقُهُ الْحَرَجُ فِي ذَلِكَ فَلِلْحَرِجِ تَعَذَّرَ بِتَرْكِ الِاسْتِقْصَاءِ ، وَلَكِنْ لَمْ يَسْقُطْ الْخِطَابُ بِإِصَابَتِهَا حَقِيقَةً فَلَا يُتَوَجَّهُ الْأَمْرُ بِالْقَضَاءِ بِدُونِهَا حَقِيقَةً .
فَأَمَّا حَقِيقَةُ الصِّدْقِ فَلَا طَرِيقَ إلَى الْوُقُوفِ عَلَيْهِ وَالْأَمْرُ بِالْقَضَاءِ يُتَوَجَّهُ بِدُونِهِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَوَضَّأَ بِمَاءٍ ، أَوْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ كَانَ نَجِسًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ لِهَذَا الْمَعْنَى ، أَوْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَضَى بِاجْتِهَادِهِ ، ثُمَّ ظَهْر نَصٌّ بِخِلَافِهِ .
فَأَمَّا الْأَمْلَاكُ الْمُرْسَلَةُ فَلَيْسَ لِلْقَاضِي هُنَاكَ وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ ؛ لِأَنَّ تَمْلِيكَ الْمَالِ مِنْ الْغَيْرِ بِغَيْرِ سَبَبٍ لَيْسَ فِيهِ وِلَايَةُ الْقَاضِي وَلَا لِصَاحِبِ الْمَالِ أَيْضًا ، وَفِي أَسْبَابِ تَمْلِيكِ الْمَالِ كَثْرَةٌ فَلَا يُمْكِنُ تَعْيِينُ شَيْءٍ مِنْهَا فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ
فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إلَّا وِلَايَةُ إظْهَارِ الْمِلْكِ .
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مِلْكٌ سَابِقٌ فَلَا تَصَوُّرَ لِإِظْهَارِهِ بِالْقَضَاءِ وَالتَّكْلِيفُ بِحَسْبِ الْوُسْعِ فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَأْمُورًا بِالْقَضَاءِ بَاطِنًا .
فَأَمَّا هُنَا لَهُ وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ وَطَرِيقُهُ مُتَعَيَّنٌ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا فَبِاعْتِبَارِهِ يَصِيرُ مَأْمُورًا بِالْقَضَاءِ بِالنِّكَاحِ بَيْنَهُمَا حَقِيقَةً يُوَضِّحُهُ أَنَّ هُنَاكَ الْقَاضِي لَا يَقُولُ لِلْمُدَّعِي مَلَّكْتُك هَذَا الْمَالَ ، وَإِنَّمَا يَقْصُرُ يَدَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ الْمَالِ وَيَأْمُرُهُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ عَلَى أَنَّهُ مِلْكَهُ كَمَا يَدَّعِيه وَقَضَاؤُهُ بِهَذَا نَافِذٌ .
فَأَمَّا هُنَا نَقُولُ قَضَيْت بِالنِّكَاحِ بَيْنَكُمَا وَجَعَلْتهَا زَوْجَةً لَك فَيَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا بِقَضَائِهِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ إذَا ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَأَقَامَتْ عَلَى ذَلِكَ شَاهِدَيْ زُورٍ فَقَضَى الْقَاضِي بِالْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا فَتَزَوَّجَهَا أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَحِلُّ لِلثَّانِي أَنْ يَطَأَهَا وَلَا يَحِلُّ لِلْأَوَّلِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْأَوَّلِ حَقِيقَةً وَصَحَّ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الثَّانِي بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَطَأَهَا لِقَضَاءِ الْقَاضِي بِالْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا وَكَيْفَ يَطَؤُهَا ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ زَانِيًا عِنْدَ الْقَاضِي ، وَعِنْدَ النَّاسِ فَلَا يَجُوزُ لِلْمَرْءِ أَنْ يُعَرِّضَ نَفْسَهُ لِهَذِهِ التُّهْمَةِ وَلَا يَحِلُّ لِلثَّانِي أَنْ يَطَأَهَا ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهَا مَنْكُوحَةُ الْغَيْرِ ، وَأَنَّهُ كَانَ كَاذِبًا فِيمَا يَشْهَدُ بِهِ مِنْ الطَّلَاقِ ، وَذَلِكَ كَانَ كَبِيرَةً مِنْهُ فَلَا يَحِلُّ لَهُ مَا كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ لِلثَّانِي أَنْ يَطَأَهَا لِهَذَا وَيَحِلُّ لِلْأَوَّلِ أَنْ
يَطَأَهَا مَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا الثَّانِي .
فَإِذَا دَخَلَ بِهَا الثَّانِي لَا يَحِلُّ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَطَأَهَا بَعْدَ ذَلِكَ لِوُجُوبِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا مِنْ الثَّانِي بِالْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ وَالْمَنْكُوحَةِ إذَا وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ حَرُمَ عَلَى الزَّوْجِ وَطْؤُهَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنْ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُمَا زَانِيَانِ فِي هَذَا الْوَطْءِ يَعْلَمَانِ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ فَهُوَ يَقُولُ يَطَؤُهَا الْأَوَّلُ سِرًّا بِنِكَاحٍ بَاطِنٍ لَهُ وَالثَّانِي عَلَانِيَةً بِنِكَاحٍ ظَاهِرٍ لَهُ ، وَهَذَا قَبِيحٌ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إلَى اجْتِمَاعِ رَجُلَيْنِ عَلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَعْنَى الصِّيَانَةِ عَنْ هَذَا الْقُبْحِ يَحْصُلُ بِالنَّهْيِ وَنَحْنُ نَنْهَى كُلَّ وَاحِدٍ عَنْ مِثْلِ هَذَا التَّلْبِيسِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا يَقُولُونَ فِيمَا إذَا كَانَ ادَّعَى جَارِيَةً فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهَا لَهُ وَقَضَى الْقَاضِي لَهُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْ زُورٍ فَإِنَّهَا فِي الْبَاطِنِ مَمْلُوكَةٌ لِلْأَوَّلِ يَطَؤُهَا سِرًّا ، وَفِي الظَّاهِرِ مَمْلُوكَةٌ لِلثَّانِي يَطَؤُهَا عَلَانِيَةً ، وَهَذَا الْقُبْحُ يَتَقَرَّرُ فِيهِ ، وَلَكِنَّ مَعْنَى الصِّيَانَةِ عَنْ هَذَا الْقُبْحِ يَحْصُلُ بِالنَّهْيِ ، ثُمَّ التَّمَكُّنُ مِنْ هَذَا الظَّاهِرِ يَلْتَبِسُ وَالنَّاسُ أَطْوَارٌ وَقَلِيلٌ مِنْهُمْ الشَّكُورُ ، وَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو يُوسُفَ فِيهِ نَوْعُ ضَرَرٍ أَيْضًا فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَبْقَى مُعَلَّقَةً لَا ذَاتَ بَعْلٍ وَلَا مُطَلَّقَةً إذْ هِيَ لَا تَحِلُّ لِلْأَوَّلِ وَلَا لِلثَّانِي ، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِزَوْجٍ آخَرَ وَلِدَفْعِ هَذَا الضَّرَرِ أَمَرَ الشَّرْعُ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْعِنِّينِ وَامْرَأَتِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْوَجْهَ بِطَرِيقِ الْفِقْهِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَاتَّبَعَ فِيهِ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَإِنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي يَنْفُذُ ، وَأَنَّهَا تَحِلُّ بِالنِّكَاحِ لِلثَّانِي .
رَجُلٌ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ بَاعَ مِنْهُ جَارِيَتَهُ هَذِهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَالْمُشْتَرِي يَجْحَدُ ذَلِكَ فَأَقَامَ عَلَيْهِ شَاهِدَيْنِ فَأَلْزَمَهُ الْقَاضِي الْبَيْعَ وَالْمُشْتَرِي يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِهَا مِنْهُ ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا لَمْ يُصَدَّقَا عَلَى نَقْضِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا مَا تَأَدَّتْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَتَنَاقُضِ كَلَامِهِمَا فِي الرُّجُوعِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَى الْمُشْتَرِي الثَّمَنَ بِعِوَضٍ يَعْدِلُهُ وَهُوَ الْجَارِيَةُ فَإِنَّ مَالِيَّتَهَا مِثْلَ مَالِيَّةِ الثَّمَنِ وَالْإِتْلَافُ بِعِوَضٍ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْمُتْلِفِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ لِلْجُبْرَانِ وَالنُّقْصَانُ هُنَا مُنْجَبِرٌ بِعِوَضٍ يَعْدِلُهُ الْمُشْتَرِي فِي حِلٍّ مِنْ وَطْئِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَهُ وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ فِي الْبُيُوعِ فَإِنَّهُ يَبِيعُ التَّرِكَةَ فِي الدَّيْنِ وَيَبِيعُ مَالَ الْيَتِيمِ وَالْغَائِبِ لِمَعْنَى النَّظَرِ فَيَكُونُ قَضَاؤُهُ كَإِنْشَاءِ الْبَيْعِ لِمَعْنَى النَّظَرِ لِلْخَصْمَيْنِ فِي ذَلِكَ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا ؛ لِأَنَّ قَضَاءَهُ إمْضَاءٌ لِبَيْعٍ كَانَ .
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا بَيْعٌ كَانَ بَاطِلًا فِي الْبَاطِنِ .
وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا وَالرَّجُلُ يَعْلَمُ أَنَّهُمَا شَهِدَا بِبَاطِلٍ فَأَمَرَهُ الْقَاضِي بِأَنْ يَلْتَعِنَ هُوَ وَامْرَأَتِهِ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا لَمْ يَسَعْ لِلزَّوْجِ أَنْ يَطَأَهَا ، وَلَوْ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَسِعَهَا ذَلِكَ أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ظَاهِرٌ وَعِنْدَهُمَا ؛ لِأَنَّ لِلْقَاضِي هُنَا إنْشَاءُ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا فَيُنَفِّذُ قَضَاءَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَصَدَهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرُهُ فِي بَيْعِ التَّرِكَةِ فِي دَيْنٍ ثَبَتَ بِشَهَادَةِ الزُّورِ قَالَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ قَذَفَهَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فَكَرِهَ أَنْ يُكَذِّبَ نَفْسَهُ فَلَاعَنَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا وَفَرَّقَ لَمْ يَسَعْ الزَّوْجُ أَنْ يَطَأَهَا ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَمْ تَزْنِ ، وَلَوْ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَسِعَهَا ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّ الزَّوْجَ كَاذِبٌ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ لِمَا أَنَّ لِلْقَاضِي إنْشَاءُ التَّفْرِيقِ وَهُوَ قَضَاءٌ مِنْهُ فِي مَوْضِعِهِ لِوِلَايَةِ التَّفْرِيقِ لَهُ بِسَبَبِ اللِّعَانِ عِنْدَ اشْتِبَاهِ الْحَالِ حَتَّى إذَا كَانَ الْحَالُ مَعْلُومًا لَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فَالِاشْتِبَاهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَنْعِ مِنْ نُفُوذِ قَضَائِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَصَدَهُ فِي اللِّعَانِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ فِي هَذَا كُلِّهِ بَعْدَ قَضَائِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى مَعْرِفَتِهِ سَاقِطٌ عَنْهُ
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ خَلَا بِامْرَأَتِهِ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا ، ثُمَّ طَلَّقَهَا وَأَقَرَّتْ هِيَ بِذَلِكَ أَنَّ لَهَا الْمَهْرَ كَامِلًا يَسَعُهَا أَنْ تَأْخُذَهُ ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ عَلِمَتْ أَنَّ الزَّوْجَ لَمْ يَقْرَبْهَا ، وَلَكِنْ لَمَّا سَقَطَ عَنْهَا مَا لَيْسَ فِي وُسْعِهَا وَأَتَتْ بِمَا عَلَيْهَا مِنْ التَّسْلِيمِ تَقَرَّرَ حَقُّهَا فِي الْمَهْرِ وَلَزِمَهَا الْعَقْدُ فَلَا يَسَعُهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَلَا يَسَعُ الزَّوْجَ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا فِي عِدَّتِهَا فِيهِ يَتَّضِحُ مِمَّا سَبَقَ مِنْ فُصُولِ اللِّعَانِ وَالشَّهَادَةِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِالزِّنَا وَهُوَ صَادِقٌ فَجَحَدَتْهُ الْمَرْأَةُ وَلَاعَنَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا وَفَرَّقَ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَهِيَ فِي سَعَةٍ مِنْ أَنْ تَتَزَوَّجَ غَيْرَهُ وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَهَا ، وَإِنْ كَانَا يَعْلَمَانِ مِنْ زِنَاهَا مَا لَوْ عَلِمَهُ الْقَاضِي لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا .
وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ أُمَّتَهُ هَذِهِ فَأَجَازَ الْقَاضِي ذَلِكَ وَأَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَتْ ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا ضَمِنَا قِيمَتَهَا لِلْمَوْلَى لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى فِيهَا كَانَ مَالًا مُتَقَوِّمًا ، وَقَدْ أَبْطَلَا ذَلِكَ بِشَهَادَتِهِمَا .
فَإِذَا زَعَمَا بِالرُّجُوعِ أَنَّهُمَا أَتْلَفَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ صَدَقَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَضَمِنَا قِيمَتَهَا لِلْمَوْلَى وَلَمْ يَسَعْ الْمَوْلَى وَطْؤُهَا ؛ لِأَنَّهَا عَتَقَتْ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ وَمِنْ ضَرُورَةِ سَلَامَةِ الضَّمَانِ لِلْمَوْلَى أَنْ لَا تَبْقَى هِيَ عَلَى مِلْكِهِ وَبِدُونِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ لَا يَثْبُتُ لَهُ عَلَيْهَا مِلْكُ الْحِلِّ بِغَيْرِ سَبَبٍ .
وَلَوْ أَنَّ صَبِيًّا وَصَبِيَّةً سُبِيَا وَكَبِرَا وَعَتَقَا وَتَزَوَّجَ أَحَدُهُمَا الْأُخْرَى ، ثُمَّ جَاءَ حَرْبِيٌّ مُسْلِمًا وَأَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُمَا وَلَدَاهُ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا لَمْ يُقْبَلْ رُجُوعُهُمَا وَلَا يَسَعُ الزَّوْجُ أَنْ يَطَأَهَا ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُمَا شَهِدَا بِزُورٍ وَكَيْفَ يَطَؤُهَا ، وَقَدْ جَعَلَهَا الْقَاضِي أُخْتَهُ وَلَمْ يَضْمَنْ الشَّاهِدَانِ شَيْئًا عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَضْمَنَانِ لَهُ مَهْرَ مِثْلِهَا ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى أَصْلٍ نَذْكُرُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ أَنَّ الْبُضْعَ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِ الزَّوْجِ لَا يَتَقَوَّمُ عِنْدَنَا فَلَمْ يُتْلِفَا عَلَيْهِ مَالًا مُتَقَوِّمًا بِشَهَادَتِهِمَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَتَقَوَّمُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِهِ كَمَا يَتَقَوَّمُ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ .
وَلَوْ كَانَتْ صَبِيَّةً فِي يَدَيْ رَجُلٍ يَزْعُمُ أَنَّهَا أَمَتُهُ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهَا ابْنَتُهُ فَقَضَى بِذَلِكَ الْقَاضِي لَمْ يَسَعْ الْمَوْلَى أَنْ يَطَأَهَا ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُمَا شَهِدَا زُورٍ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِي حَكَمَ بِأَنَّهَا ابْنَتُهُ فَإِنْ رَجَعَا ضَمِنَا قِيمَتَهَا ؛ لِأَنَّهُمَا أَقَرَّا بِالرُّجُوعِ أَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ مَالًا مُتَقَوِّمًا بِشَهَادَتِهِمَا وَهُوَ مِلْكُهُ فِي رَقَبَتِهَا وَلَوْ مَاتَتْ وَتَرَكَتْ مِيرَاثًا وَسِعَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِيرَاثَهَا .
وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ الْأَبُ كَانَتْ فِي سَعَةٍ مِنْ أَكْلِ مِيرَاثِهِ أَمَّا فِي جَانِبِهَا فَهُوَ وَاضِحٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهَا بِحَقِيقَةِ الْأَمْرِ فَحَالَةُ الْعُلُوقِ غَيْبٌ عَنْهَا ، وَفِي مِثْلِهِ عَلَيْهَا اتِّبَاعُ قَضَاءِ الْقَاضِي فَيَسَعُهَا أَنْ تَأْكُلَ مِيرَاثَهُ وَأَمَّا فِي جَانِبِهِ فَهُوَ مُشْكِلٌ ؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ وَالنَّسَبَ مِمَّا لَيْسَ لِلْقَاضِي فِيهِ وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِابْنَتِهِ حَقِيقَةً فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَسَعَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِيرَاثَهَا حَتَّى قِيلَ تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ يَأْكُلُ مِيرَاثَهَا بِسَبَبِ الْوَلَاءِ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِي قَضَى بِالْعِتْقِ وَلَهُ فِيهِ وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ فَيَثْبُتُ الْوَلَاءُ لَهُ وَالْأَصَحُّ أَنْ يُقَالَ لَمَّا كَانَ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ فِي قَطْعِ النَّسَبِ بِاللِّعَانِ .
فَكَذَلِكَ لَهُ وِلَايَةُ الْإِنْشَاءِ فِي الْقَضَاءِ بِالنَّسَبِ إذَا صَادَفَ مَحَلَّهُ فَقَدْ صَادَفَ مَحَلَّهُ وَهُنَا فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهَا نَسَبٌ مَعْرُوفٌ ؛ فَلِهَذَا يَسَعُهُ أَنْ يَأْكُلَ مِيرَاثَهَا .
وَلَوْ شَهِدَا عَلَى مَالٍ فَقَضَى بِهِ الْقَاضِي فَقَبَضَهُ ، أَوْ لَمْ يَقْبِضْهُ ، ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا الْمَالَ إذَا أَخَذَهُ الْمَقْضِيُّ لَهُ مِنْ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ وَقَبْلَ الْأَخْذِ لَا يُضَمِّنُهُمَا الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ تَحَقُّقَ النُّقْصَانِ عِنْدَ تَسْلِيمِ الْمَالِ إلَى الْمَقْضِيِّ لَهُ .
فَأَمَّا مَا بَقِيَتْ يَدُهُ عَلَى مَالِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْخَسْرَانُ فِي حَقِّهِ ، وَلِأَنَّ الضَّمَانَ مُقَدَّرٌ بِالْمِثْلِ وَهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ دَيْنًا حِينَ أَلْزَمَاهُ ذَلِكَ بِشَهَادَتِهِمَا فَلَوْ ضَمَّنَهُمَا عَيْنًا قَبْلَ الْأَدَاءِ كَانَ قَدْ اسْتَوْفَى مِنْهُمَا عَيْنًا مُمَاثِلَةَ الدَّيْنِ وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالدَّيْنِ ، وَفِي الْأَعْيَانِ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمَقْضِيِّ لَهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، وَلَكِنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ يَزْعُمُ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي يَدِهِ مِلْكُهُ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الشَّاهِدَيْنِ شَيْئًا مَا لَمْ يَخْرُجْ الْمَالُ مِنْ يَدِهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي .
وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْعَقَارِ فَإِنَّ بِالشَّهَادَةِ الْبَاطِلَةِ يَضْمَنُ الْعَقَارَ كَالْمَنْقُولِ ؛ لِأَنَّ فِيهَا إتْلَافَ الْمِلْكِ وَالْيَدُ عَلَى الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ وَالْعَقَارُ يُضْمَنُ بِمِثْلِ هَذَا السَّبَبِ فَإِنَّ إتْلَافَ الْمِلْكِ يَتَحَقَّقُ فِيهَا بِخِلَافِ الْغَصْبِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ الْعَقَارُ لَا يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ .
وَلَوْ شَهِدَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ عَلَى رَجُلٍ بِمَالٍ وَقَضَى بِهِ الْقَاضِي ، ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُهُمْ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي ضَمَانِ الرُّجُوعِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بَقَاءُ مَنْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ لَا رُجُوعُ مَنْ رَجَعَ ، وَقَدْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ حُجَّةٌ تَامَّةٌ فَلَا يَضْمَنُ الرَّاجِعُ شَيْئًا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الرَّاجِعَ ، وَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ مُتْلِفٌ بِشَهَادَتِهِ عَلَيْهِ فَمَا أَتْلَفَهُ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ بِشَهَادَةِ غَيْرِهِ وَاسْتِحْقَاقُ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِالْحُجَّةِ يَمْنَعُهُ مِنْ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ عَلَى الْمُتْلِفِ بِالضَّمَانِ كَمَنْ غَصَبَ مَالَ إنْسَانٍ ، أَوْ أَتْلَفَهُ ، ثُمَّ اسْتَحَقَّ رَجُلٌ ذَلِكَ الْمَالَ بِالْبَيِّنَةِ فَلَا ضَمَانَ لِلْمُتْلِفِ عَلَيْهِ إذَا لَمْ يُضَمِّنْهُ الْمُسْتَحِقُّ شَيْئًا ، وَلَوْ رَجَعَ اثْنَانِ مِنْهُمْ ضَمِنَا نِصْفَ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ لَمْ يَثْبُتْ نِصْفُ الْمَالِ بِشَهَادَتِهِ ، وَإِنَّمَا انْعَدَمَتْ الْحُجَّةُ فِي النِّصْفِ خَاصَّةً فَيَضْمَنُ الرَّاجِعَانِ ذَلِكَ .
وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ، ثُمَّ رَجَعَتْ امْرَأَةٌ فَعَلَيْهَا رُبُعُ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِشَهَادَتِهِمَا رُبُعُ الْمَالِ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ مَنْ يَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ فَعَلَى الرَّاجِعِ رُبُعُ الْمَالِ ، وَإِنْ رَجَعَتْ الْمَرْأَتَانِ فَعَلَيْهَا النِّصْفُ ، وَإِنْ رَجَعَ الرَّجُلُ وَحْدَهُ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الْمَالِ ، وَإِنْ رَجَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فَعَلَيْهِمَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ عَلَى الرَّجُلِ النِّصْفُ وَعَلَى الْمَرْأَةِ الرُّبُعُ ، وَإِنْ رَجَعُوا جَمِيعًا فَعَلَى الرَّجُلِ نِصْفُ الْمَالِ وَعَلَى الْمَرْأَتَيْنِ النِّصْفُ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ مِثْلُ مَا ثَبَتَ بِشَهَادَةِ الْمَرْأَتَيْنِ فَقَدْ قَامَتَا فِي الشَّهَادَةِ مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ كَمَا { قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نُقْصَانِ عَقْلِ النِّسَاءِ عَدَلَتْ شَهَادَةُ اثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ شَهَادَةُ رَجُلٍ .
}
فَإِنْ شَهِدَ رَجُلٌ وَعَشْرُ نِسْوَةٍ فَقَضَى الْقَاضِي ، ثُمَّ رَجَعُوا جَمِيعًا فَعَلَى الرَّجُلِ سُدُسُ الْمَالِ وَعَلَى النِّسَاءِ خَمْسَةُ أَسْدَاسِ الْمَالِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَى الرَّجُلِ النِّصْفُ وَعَلَى النِّسَاءِ النِّصْفُ ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ ، وَإِنْ كَثُرْنَ فِي الشَّهَادَةِ لَا يَقُمْنَ إلَّا مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْحُجَّةَ لَا تَتِمُّ مَا لَمْ يَشْهَدْ مَعَهُنَّ رَجُلٌ فَكَانَ الثَّابِتُ بِشَهَادَتِهِ نِصْفَ الْمَالِ وَبِشَهَادَتِهِنَّ نِصْفَ الْمَالِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الرَّجُلَ مُتَعَيِّنٌ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ لِلْقِيَامِ بِنِصْفِ الْحُجَّةِ ؛ وَلِهَذَا لَا تَتِمُّ الْحُجَّةُ إلَّا بِوُجُودِهِ فَلَا يَتَغَيَّرُ هَذَا الْحُكْمُ بِكَثْرَةِ النِّسَاءِ .
وَإِذَا ثَبَتَ نِصْفُ الْحَقِّ بِشَهَادَتِهِ ضَمِنَ ذَلِكَ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ فَعَلَيْهِنَّ ضَمَانُهُ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ كُلّ امْرَأَتَيْنِ فِي الشَّهَادَةِ يَقُومَانِ مَقَامَ الرَّجُلِ الْوَاحِدِ فَعَشْرُ نِسْوَةٍ بِخَمْسَةٍ مِنْ الرِّجَالِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَهِدَ سِتَّةٌ مِنْ الرِّجَالِ ، ثُمَّ رَجَعُوا فَيَكُونُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ أَسْدَاسًا وَدَلِيلُ صِحَّةِ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ حُكْمَ الشَّهَادَةِ كَحُكْمِ الْمِيرَاثِ ، وَفِي الْمِيرَاثِ عِنْدَ كَثْرَةِ الْبَنَاتِ مَعَ الِابْنِ يَجْعَلُ كُلَّ اثْنَتَيْنِ كَابْنٍ وَاحِدٍ وَلَمْ يَجْعَلْ حَالَةَ الِاخْتِلَاطِ كَحَالَةِ انْفِرَادِ الْبَنَاتِ فَعِنْدَ الِانْفِرَادِ لَا يُزَادُ لَهُنَّ عَلَى الثُّلُثَيْنِ ، ثُمَّ عِنْدَ الِاخْتِلَاطِ يَجْعَلُ كُلَّ اثْنَتَيْنِ كَابْنٍ .
فَكَذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ عَلَى أَدْنَى الْعَدَدِ فِي الشَّهَادَةِ يَمْنَعُ الْقَضَاءَ .
فَأَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى النِّصَابِ مُعْتَبَرٌ فِي أَنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ بِشَهَادَةِ الْكُلِّ فَبِكَثْرَةِ النِّسَاءِ عِنْدَ وُجُودِ الرَّجُلِ يَزْدَادُ النِّصَابُ ، وَيَكُونُ الْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ الْكُلِّ عَلَى أَنَّ
كُلَّ امْرَأَتَيْنِ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ فَعِنْدَ الرُّجُوعِ كَذَلِكَ يَقْضِي بِالضَّمَانِ ، وَلَوْ رَجَعَ ثَمَانِ نِسْوَةٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِنَّ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ مَنْ يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ بِشَهَادَتِهِ وَهُوَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فَإِنْ رَجَعَتْ امْرَأَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ عَلَيْهَا وَعَلَى الثَّمَانِ رُبُعُ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ إنَّمَا بَقِيَتْ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْحَقِّ فَيَجِبُ الضَّمَانُ بِقَدْرِ مَا انْعَدَمَتْ الْحُجَّةُ فِيهِ ، وَلَيْسَ الْبَعْضُ بِأَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ فِي وُجُوبِ ذَلِكَ عَلَيْهِ ؛ فَلِهَذَا ضَمِنَ التِّسْعُ رُبُعَ الْمَالِ عَلَيْهِنَّ بِالسَّوِيَّةِ ، وَإِنْ رَجَعَتْ الْعَاشِرَةُ فَعَلَيْهَا وَعَلَى التِّسْعِ نِصْفُ الْمَالِ أَمَّا عِنْدَهُمَا ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِشَهَادَتِهِنَّ نِصْفُ الْمَالِ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ مَنْ يَثْبُتُ نِصْفُ الْمَالِ بِشَهَادَتِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَهِدَ سِتَّةٌ مِنْ الرِّجَالِ ، ثُمَّ رَجَعَ خَمْسَةٌ .
وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ وَامْرَأَةٌ بِمَالٍ ، ثُمَّ رَجَعُوا كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الرَّجُلَيْنِ دُونَ الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ الْوَاحِدَةَ لَا تَكُونُ شَاهِدَةً فَإِنَّ الْمَرْأَتَيْنِ شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَالْمَرْأَةُ الْوَاحِدَةُ شَطْرُ الْعِلَّةِ فِي كَوْنِهَا شَاهِدًا وَبِشَطْرِ الْعِلَّةِ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ مِنْ الْحُكْمِ فَكَانَ الْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ دُونَ الْمَرْأَةِ فَلَا يَضْمَنُ عِنْدَ الرُّجُوعِ شَيْئًا .
وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَثَلَاثُ نِسْوَةٍ ، ثُمَّ رَجَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ ضَمِنَ الرَّجُلُ نِصْفَ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ بَقِيَتْ فِي نِصْفِ الْمَالِ فَقَدْ بَقِيَ امْرَأَتَانِ عَلَى الشَّهَادَةِ ، ثُمَّ هَذَا النِّصْفُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَى الرَّجُلِ خَاصَّةً لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ عِنْدَهُمَا نِصْفَ الْمَالِ مُتَعَيَّنٌ فِي أَنَّهُ ثَابِتٌ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ وَنِصْفٌ ثَابِتٌ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ ، وَقَدْ بَقِيَ مِنْ النِّسَاءِ عَلَى الشَّهَادَةِ مَنْ يَثْبُتُ نِصْفُ الْمَالِ بِشَهَادَتِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْحُجَّةَ انْعَدَمَتْ فِي النِّصْفِ الَّذِي هُوَ ثَابِتٌ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ خَاصَّةً فَيَكُون الضَّمَانُ عَلَيْهِ دُونَ الْمَرْأَةِ وَيَنْبَغِي فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ النِّصْفُ أَثْلَاثًا عَلَى الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ هُنَا بِشَهَادَةِ الْكُلِّ فَكُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ إذَا ضَمَّتْهَا إلَى الْأُخْرَى كَانَتَا شَاهِدًا فَلَا يَكُونُ الْقَضَاءُ مُحَالًا بِهِ عَلَى شَهَادَةِ الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ وَقَدْ بَقِيَتْ الْحُجَّةُ فِي نِصْفِ الْحَقِّ فَيَجِبُ ضَمَانُ نِصْفِ الْحَقِّ عَلَى الرَّاجِعَيْنِ أَثْلَاثًا ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِشَهَادَةِ الرَّجُلِ ضِعْفُ مَا يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْمَرْأَةِ وَلَوْ رَجَعُوا جَمِيعًا كَانَ عَلَى الرَّجُلِ النِّصْفُ وَعَلَى النِّسْوَةِ النِّصْفُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى الرَّجُلِ خُمُسَا الْمَالِ وَعَلَى النِّسْوَةِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِهِ كَمَا ذَكَرْنَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ .
وَإِذَا شَهِدَ رَجُلَانِ وَامْرَأَتَانِ ، ثُمَّ رَجَعُوا فَالضَّمَانُ أَثْلَاثٌ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَتَيْنِ قَامَتَا مَقَامَ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَكَأَنَّهُ شَهِدَ ثَلَاثَةٌ بِالْمَالِ ، ثُمَّ رَجَعُوا
وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِمَالٍ قَضَى بِهِ الْقَاضِي ، ثُمَّ ادَّعَى الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَنَّهُمَا رَجَعَا وَأَرَادَ يَمِينَهُمَا فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِمَا فِي ذَلِكَ وَلَا تُقْبَلُ عَلَيْهِمَا بِهِ بَيِّنَةٌ ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى عَلَيْهِمَا رُجُوعًا بَاطِلًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الرُّجُوعَ فَسْخٌ لِلشَّهَادَةِ فَيَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْحُكْمِ كَالشَّهَادَةِ فَلِمَا أَنَّ شَهَادَتَهُمَا فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي بَاطِلَةٌ .
فَكَذَلِكَ رُجُوعُهُمَا وَالْحُدُودُ وَالْقِصَاصُ فِي هَذَا كَالْأَمْوَالِ .
وَإِذَا رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا وَأَشْهَدَا بِالْمَالِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا مِنْ قَبْلِ الرُّجُوعِ ، ثُمَّ جَحَدَا ذَلِكَ فَشَهِدَتْ عَلَيْهِمَا شُهُودٌ بِالْمَالِ عَلَيْهِمَا قَبْلَ الرُّجُوعِ وَالضَّمَانِ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ بَاطِلٌ فَإِنَّمَا أَشْهَدَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِالْمَالِ بِسَبَبٍ بَاطِلٍ ، وَذَلِكَ لَا يُلْزِمُهُمَا شَيْءٌ .
وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا عَلَى زِنًا وَاحَصَانٍ فَرَجَمَهُ الْقَاضِي بِذَلِكَ ، ثُمَّ أَشْهَدَ الشُّهُودَ عَلَيْهِمْ بِالرُّجُوعِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِمْ بِالرُّجُوعِ حَدٌّ وَلَا ضَمَانٌ ؛ لِأَنَّهُمْ بِالرُّجُوعِ مَا صَارُوا قَاذِفِينَ لَهُ ، وَلَكِنَّ الشَّهَادَةَ تَنْفَسِخُ بِالرُّجُوعِ فَيَصِيرُ كَلَامُ الشَّاهِدَيْنِ قَذْفًا عِنْدَ ذَلِكَ وَفَسْخُ الشَّهَادَةِ بِالرُّجُوعِ مُخْتَصٌّ بِمَجْلِسِ الْحُكْمِ ( قَالَ ) وَلَوْ أَوْجَبْت عَلَيْهِمَا الْحَدَّ لَأَوْجَبْت عَلَيْهِمَا الضَّمَانَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمْ لَا يَضْمَنُونَ بِالرُّجُوعِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ فَلَا يُحَدُّونَ أَيْضًا .
وَإِذَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ حَتَّى رَجَعَا عَنْهَا لَمْ يَقْضِ بِهَا ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَسْتَدْعِي قِيَامَ الْحُجَّةِ عِنْدَهُ وَلَمْ تَبْقَ الْحُجَّةُ حِينَ رَجَعَا ، وَلِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا تَتَأَكَّدُ بِالْقَضَاءِ فَبِالرُّجُوعِ قَبْلَ التَّأَكُّدِ يَبْطُلُ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى لَهُ أَثَرٌ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُتْلِفَا شَيْئًا عَلَى أَحَدٍ أَمَّا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَقَدْ بَقِيَ الْمَالُ عَلَى مِلْكِهِ وَأَمَّا الْمَشْهُودُ لَهُ فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ اسْتِحْقَاقٌ قَبْلَ الْقَضَاءِ
وَلَوْ اشْتَرَى رَجُلٌ دَارًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَهِيَ قِيمَتُهَا وَنَقَدَهُ الثَّمَنَ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ شَفِيعُهَا ، وَأَنَّ هَذِهِ الدَّارَ الَّتِي هِيَ فِي يَدَيْهِ مُلْزَقَةٌ بِدَارِهِ فَقَضَى الْقَاضِي لَهُ بِالشُّفْعَةِ ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَى الْمُشْتَرِي مِلْكَهُ فِيهَا بِعِوَضٍ يَعْدِلُهُ وَهُوَ الثَّمَنُ الَّذِي أَخَذَهُ مِنْ الشَّفِيعِ فَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ بَنَى فِيهَا بِنَاءً فَأَمَرَهُ الْقَاضِي بِنَقْضِهِ ضَمِنَ الشَّاهِدَانِ لَهُ قِيمَةَ بِنَائِهِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُسْتَحِقًّا لِقَرَارِ الْبِنَاءِ بِمِلْكِهِ الدَّارَ ، وَقَدْ شَهِدَ أَنَّ الشَّفِيعَ أَحَقُّ بِمِلْكِهَا مِنْهُ فَكَانَا مُتْلِفَيْنِ لِلْبِنَاءِ عَلَيْهِ فَيَضْمَنَانِ لَهُ قِيمَةَ الْبِنَاءِ مَبْنِيًّا ، وَيَكُونُ النَّقْضُ لَهُمَا بِالضَّمَانِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ هَدَمَاهُ بِأَيْدِيهِمَا .
وَإِذَا رَجَعَ الشَّاهِدَانِ عَنْ شَهَادَةٍ شَهِدَا بِهَا عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي الَّذِي شَهِدَا عِنْدَهُ فَإِنَّهُ يَقْضِي عَلَيْهِمَا بِالضَّمَانِ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الرُّجُوعِ مَجْلِسُ الْقَاضِي لَا مَجْلِسُ ذَلِكَ الْقَاضِي الَّذِي شَهِدَا عِنْدَهُ فَرُجُوعُهُمَا فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي الْآخَرِ كَرُجُوعِهِمْ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي الَّذِي شَهِدَا عِنْدَهُ أَرَأَيْت لَوْ مَاتَ الْأَوَّلُ ، أَوْ عُزِلَ فَرَجَعَ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي الَّذِي قَامَ مَقَامَهُ أَلَيْسَ يَقْضِي عَلَيْهِمَا بِالضَّمَانِ .
فَكَذَلِكَ إذَا رَجَعَا فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي الْآخَرِ فَإِنْ قَضَى بِذَلِكَ عَلَيْهِمَا فَلَمْ يُؤَدِّيَا حَتَّى تَخَاصَمَا إلَى الْقَاضِي الَّذِي شَهِدَا عِنْدَهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَجَحَدَا الرُّجُوعَ فَقَامَتْ عَلَيْهِمَا الْبَيِّنَةُ بِالرُّجُوعِ وَبِقَضَاءِ الْقَاضِي عَلَيْهِمَا بِالضَّمَانِ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا وَيُضَمِّنُهَا الْمَالَ ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ أَثْبَتَ الْمَالَ عَلَيْهِمَا بِالْحُجَّةِ بِسَبَبٍ صَحِيحٍ فَيُضَمِّنُهُمَا الْمَالَ بِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَجَعَا عِنْدَ الْقَاضِي الَّذِي شَهِدَا عِنْدَهُ فَيُضَمِّنُهُمَا ذَلِكَ ، ثُمَّ اخْتَصَمُوا إلَى غَيْرِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ عَلَيْهِمَا شَاهِدَانِ بِإِقْرَارِهِمَا أَنَّهُمَا رَجَعَا عِنْدَ قَاضٍ مِنْ الْقُضَاةِ ، وَأَنَّهُ ضَمَّنَهُمَا ذَلِكَ فَالثَّابِتُ مِنْ إقْرَارِهِمَا بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ ، وَلَوْ سَمِعَ الْقَاضِي إقْرَارَهُمَا بِذَلِكَ ضَمَّنَهَا الْمَالَ .
فَكَذَلِكَ إذَا أَثْبَتَ الْمُدَّعِي ذَلِكَ بِالْحُجَّةِ .
وَلَوْ رَجَعَ عِنْدَ غَيْرِ قَاضٍ وَضَمَّنَهُمَا الْمَالَ وَكَتَبَا بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا صَكًّا وَبِسَبَبِ الْمَالِ إلَى الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ لَهُ مِنْهُ ، ثُمَّ جَحَدَا ذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي لَمْ يَقْضِ بِذَلِكَ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا كَتَبَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا الصَّكَّ بِمَالٍ بِسَبَبٍ بَاطِلٍ وَهُوَ رُجُوعُهُمَا عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ ضَمَّنَهُمَا الْمَالَ .
فَكَذَلِكَ إذَا أَثْبَتَ الْمُدَّعِي ذَلِكَ بِالْحُجَّةِ ، وَلَوْ رَجَعَا عِنْدَ غَيْرِ قَاضٍ وَضَمَّنَهُمَا الْمَالَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي هُوَ لَهُ مِنْهُ ، ثُمَّ جَحَدَا ذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي لَمْ يَقْضِ بِذَلِكَ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا كَتَبَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا الصَّكَّ بِسَبَبٍ بَاطِلٍ وَهُوَ رُجُوعُهُمَا عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ عِنْدَ صَاحِبِ الشُّرَطِ ، أَوْ عَامِلِ كُورَةٍ لَيْسَ الْقَضَاءُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ مُعْتَبَرٌ بِالشَّهَادَةِ فَكَمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ عِنْدَ هَؤُلَاءِ كَالشَّهَادَةِ عِنْدَ غَيْرِهِمْ مِنْ الرَّعَايَا .
فَكَذَلِكَ الرُّجُوعُ
وَإِذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ هَذَا مِنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَالْبَائِعُ يَجْحَدُ وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ الشَّهَادَةِ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، أَوْ أَقَلَّ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا أَدْخَلَا فِي مِلْكِ الْبَائِعِ مَا يَعْدِلُ مَا أَخْرَجَاهُ عَنْ مِلْكِهِ ، أَوْ يَزِيدُ عَلَيْهِ وَهُوَ الثَّمَنُ الَّذِي اسْتَوْفَاهُ مِنْ الْمُشْتَرِي ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ ضَمِنَا الْفَضْلَ ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا الْفَضْلَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ يَعْدِلُهُ وَالْبَعْضُ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ بَيْعٍ ، أَوْ صَرْفٍ شَهِدَا بِهِ ، وَإِنْ أَخَّرَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ الضَّمَانَ عَنْهُمَا جَازَ ؛ لِأَنَّ هَذَا تَأْجِيلُ دَيْنٍ وَاجِبٍ فِي الذِّمَّةِ وَهُوَ وَسَائِرُ الدُّيُونِ سَوَاءٌ ، ثُمَّ إذَا أَجَّلَ رَبُّ الدَّيْنِ لِلْمَدِينِ صَحَّ هَذَا التَّأْجِيلُ فَكَذَا هُنَا ، وَلِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمَا لَيْسَ بِبَدَلِ الصَّرْفِ ، وَإِنَّمَا هُوَ بَدَلُ الْغَصْبِ ، أَوْ مَالٌ مُسْتَهْلَكٌ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ صِحَّةِ التَّأْجِيلِ بِهِ .
وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ وَهَبَهُ ، أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ ، أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ ، أَوْ حَلَّلَهُ ، أَوْ أَوْفَاهُ ، ثُمَّ رَجَعَ ضَمِنَا الْمَالَ ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ الْمَالَ بِشَهَادَتِهِمَا فَإِنْ ( قِيلَ ) قَدْ أَتْلَفَا عَلَيْهِ الدَّيْنَ فَكَيْفَ يَضْمَنَانِ لَهُ الْعَيْنَ ( قُلْنَا ) قَدْ أَتْلَفَا عَلَيْهِ دَيْنًا يَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ فَيَضْمَنَانِ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِمَا يَتَعَيَّنُ بِالْقَبْضِ مِنْهُمَا .
وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ أَجَّلَهُ سَنَةً فَقَضَى بِذَلِكَ ، ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ الْحِلِّ ، أَوْ بَعْدَهُ ضَمِنَا الْمَالَ لِلطَّالِبِ ؛ لِأَنَّهُمَا فَوَّتَا عَلَيْهِ حَقَّ الْقَبْضِ بِالشَّهَادَةِ بِالتَّأْجِيلِ إلَى انْقِضَاءِ الْأَجَلِ ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِمَا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ فِي الْحُكْمِ كَالْإِبْرَاءِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا أَجَّلَ فِي دَيْنٍ لَهُ يُعْتَبَرُ خُرُوجُهُ مِنْ الثُّلُثِ كَمَا لَوْ أَبْرَأَ ، ثُمَّ هَذَا يَتَّضِحُ فِي رُجُوعِهِمَا قَبْلَ حِلِّ الْأَجَلِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَجَعَا بَعْدَ حَلِّ الْأَجَلِ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ عَلَيْهِمَا عِنْدَ الرُّجُوعِ بِالشَّهَادَةِ لَا بِالرُّجُوعِ فَالْإِتْلَافُ بِالشَّهَادَةِ يَحْصُلُ .
وَإِذَا صَارَ ضَامِنَيْنِ بِهَا لَا يَسْقُطُ الضَّمَانُ عَنْهُمَا بِحُلُولِ الْأَجَلِ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ بِثَمَنٍ حَالٍّ إذَا بَاعَ بِثَمَنٍ حَالٍّ ، ثُمَّ أَجَّلَ عَنْ الْمُشْتَرِي كَانَ ضَامِنًا لِلْمُوَكِّلِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ ، وَبَعْدَهُ لِهَذَا الْمَعْنَى ، وَلِأَنَّ الضَّامِنَ كَانَ ضَامِنًا لِلْمُوَكِّلِ قَبْلَ حُلُولِ الْأَجَلِ ، وَبَعْدَهُ ، وَلِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِمَا بِسَبَبِ الْإِتْلَافِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُمَا بِشَهَادَتِهِمَا فَوَّتَا عَلَيْهِ حَقَّ الْقَبْضِ وَبِحُلُولِ الْأَجَلِ لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ إتْلَافًا ؛ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِمَا وَكَانَ الْخِيَارُ لَهُ إنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَطْلُوبَ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الشَّاهِدَ .
فَإِذَا أَخَذَ الشَّاهِدَ كَانَ لَهُمَا حَقُّ الرُّجُوعِ بِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ إلَى أَجَلِهِ ؛ لِأَنَّهُمَا مَلَكَا ذَلِكَ الْمَالَ بِالضَّمَانِ فِي ذِمَّةِ الْمَطْلُوبِ ، وَلِأَنَّ الطَّالِبَ حِينَ ضَمَّنَهُمَا فَقَدْ أَقَامَهُمَا مَقَامَ نَفْسِهِ فِي الرُّجُوعِ عَلَى الْمَطْلُوبِ فَإِنْ نَوَى عَلَى الْمَطْلُوبِ بَرِئَ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا قَامَا فِي ذَلِكَ مَقَامَ الطَّالِبِ لَوْ اخْتَارَ الرُّجُوعَ عَلَى الْمَطْلُوبِ وَلَا يَكُونُ لَهُمَا حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الطَّالِبِ ؛ لِأَنَّهُمَا قَامَا مَقَامَهُ ، ثُمَّ إذَا أَدَّى لِلطَّالِبِ لَا
يَكُونُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى أَحَدٍ .
فَكَذَلِكَ لِلَّذِي قَامَ مَقَامَهُ بِخِلَافِ الْحَوَالَةِ فَإِنَّهُ إذَا نَوَى الْمَالَ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُحِيلِ ؛ لِأَنَّ تَحَوُّلَ الْحَقِّ إلَى ذِمَّةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ كَانَ بِشَرْطِ سَلَامَةِ الْمَالِ لِلطَّالِبِ مِنْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ .
فَإِذَا لَمْ يَسْلَمْ عَادَ إلَى ذِمَّةِ الْمُحِيلِ وَهُنَا أَصْلُ الْمَالِ صَارَ لِلشَّاهِدَيْنِ بِالضَّمَانِ مُطْلَقًا فَإِنْ خَرَجَا كَانَا لَهُمَا ، وَإِنْ نَوَى كَانَا عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا قَامَا فِي ذَلِكَ مَقَامَ الطَّالِبِ .
وَلَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ وَهَبَ عَبْدَهُ لِهَذَا الرَّجُلِ وَقَبَضَهُ وَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا ، ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا قِيمَةَ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا مِلْكَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَلَا رُجُوعٍ لِلْمَوْلَى فِي الْهِبَةِ إذَا أَخَذَ الْقِيمَةَ إمَّا ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ عِوَضٌ لَهُ مِنْ هِبَتِهِ ، أَوْ ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ مَلَكَ الْعَبْدَ مِنْ الشَّاهِدَيْنِ بِمَا أَخَذَ مِنْهُمَا مِنْ الضَّمَانِ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ وَلَا لِلشَّاهِدَيْنِ ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُمَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى إبْطَالِ قَضَاءِ الْقَاضِي بَاطِلٌ وَالْقَاضِي بِقَضَائِهِ جَعَلَ الْعَبْدَ هِبَةً لِلْمَوْهُوبِ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْمَقْضِيِّ عَلَيْهِ لَا مِنْ جِهَةِ الشَّاهِدَيْنِ ، وَلَيْسَ لِغَيْرِ الْوَاهِبِ حَقُّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ ، وَلَوْ لَمْ يَضْمَنْ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ لِلشَّاهِدَيْنِ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِي الْعَبْدِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْوَاهِبُ لِلْعَبْدِ بِحُكْمِ الْقَاضِي وَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ مَا لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ الْعِوَضُ فَإِنْ ( قِيلَ ) .
فَإِذَا ضَمِنَ الشَّاهِدَانِ الْقِيمَةَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَهُمَا حَقُّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمَا قَامَا مَقَامَ الْوَاهِبِ فِي ذَلِكَ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الدَّيْنِ ( قُلْنَا ) الدَّيْنُ فِي الذِّمَّةِ مَالٌ وَهُوَ يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ بِعِوَضٍ ؛ وَلِهَذَا جَازَ الِاسْتِبْدَالُ بِالدَّيْنِ مَعَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُمَلَّكًا وَلَك مِنْ الشَّاهِدَيْنِ بِمَا اسْتَوْفَى مِنْهُمَا .
فَأَمَّا فِي حَقِّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ لَيْسَ بِمَالٍ مُحْتَمِلٍ لِلِاعْتِيَاضِ فِيهِ فَلَا يَكُونُ مُمَلَّكًا ذَلِكَ مِنْ الشُّهُودِ بِالرُّجُوعِ عَلَيْهِمَا بِالضَّمَانِ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ حَقِّ الرُّجُوعِ لَهُمَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمَا يَقُومَانِ مَقَامَهُ ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ مَا وَصَلَ إلَيْهِ الْعِوَضُ لَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ لِمَنْ قَامَ مَقَامَهُ أَيْضًا .
وَلَوْ شَهِدَا عَلَى عَبْدٍ فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ لِهَذَا الرَّجُلِ فَقَضَى لَهُ بِهِ وَهُوَ أَبْيَضُ الْعَيْنِ ، ثُمَّ ذَهَبَ الْبَيَاضُ عَنْهُ وَازْدَادَ خَيْرًا ، أَوْ مَاتَ عِنْدَ الْمَقْضِيِّ لَهُ ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا ضَمِنَا قِيمَتَهُ يَوْمَ قَضَى بِهِ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى مَا كَانَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ زِيَادَةٍ ، أَوْ نُقْصَانٍ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِمَا بِالْإِتْلَافِ بِسَبَبِ الشَّهَادَةِ فَفِي الْقَضَاءِ بِالضَّمَانِ يُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ وَقْتَ الشَّهَادَةِ كَمَا فِي الْمَغْصُوبِ وَالْمُسْتَهْلَكِ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُمَا فِي الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَجِبُ عَلَيْهِمَا فَالْقَوْلُ فِي مِقْدَارِهِ قَوْلُهُمَا .
وَلَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ وَكَّلَ هَذَا الرَّجُلَ بِقَبْضِ دَيْنِهِ الَّذِي عَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٌ مُقِرٌّ بِالدَّيْنِ فَقَضَى الْقَاضِي بِهِ لِلْوَكِيلِ وَقَبَضَهُ وَاسْتَهْلَكَهُ ، ثُمَّ قَدِمَ صَاحِبُ الدَّيْنِ فَأَنْكَرَ الْوَكَالَةَ ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُتْلِفَا الْمَالَ بِشَهَادَتِهِمَا إنَّمَا بِصِنَاعَتِهِ ثَانِيًا يَقْبِضُ الْمَالَ فَيَحْفَظُ لَهُ وَالْوَكِيلُ ضَامِنٌ لِمَا اسْتَهْلَكَهُ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي حَصَلَ فِي يَدِهِ أَمَانَةً لِلْمُوَكِّلِ ، وَقَدْ تَعَدَّى بِالِاسْتِهْلَاكِ ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي قَبْضِ كُلِّ وَدِيعَةٍ وَغَلَّةٍ وَمِيرَاثٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
وَلَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَلَيْهِمَا وَعَلَى مِائَةِ دِينَارٍ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ ، ثُمَّ رَجَعَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَنْ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الدَّرَاهِمِ دُونَ الدَّنَانِيرِ لَمْ يَضْمَنُوا شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَى الدَّرَاهِمِ مَنْ تَتِمُّ الْحُجَّةُ بِشَهَادَتِهِ وَرُجُوعُ هَؤُلَاءِ فِي حَقِّ الدَّرَاهِمِ لَا يَكُونُ رُجُوعًا مِنْهُمْ عَنْ الشَّهَادَةِ فِي الدَّنَانِيرِ ؛ فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُونَ شَرْعًا ، وَلَوْ رَجَعُوا جَمِيعًا عَنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَضَمَانُ الدَّنَانِيرِ عَلَى الَّذِينَ شَهِدُوا بِهَا خَاصَّةً وَضَمَانُ الدَّرَاهِمِ جَمِيعًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَرْبَاعٌ عَلَى كُلِّ امْرَأَتَيْنِ رُبُعٌ وَعَلَى كُلِّ رَجُلٍ رُبُعٌ وَعِنْدَهُمَا ثَلَاثٌ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ الثُّلُثُ وَعَلَى النِّسْوَةِ الثُّلُثُ ، وَإِنْ كَانَ رُجُوعُ الشُّهُودِ عَنْ الشَّهَادَةِ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ فَذَلِكَ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا فِي مَرَضِهِمَا فَيَبْدَآنِ بِدَيْنِ الصِّحَّةِ .
وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ هَذَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَهُوَ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ عَلَى أَنَّ الْبَائِعَ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ ، ثُمَّ مَضَتْ الثَّلَاثَةُ فَوَجَبَ الْبَيْعُ ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا ضَمِنَا فَضْلَ مَا بَيْنَ الْقِيمَةِ وَالثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَاهُ بِشَهَادَتِهِمَا بِغَيْرِ عِوَضٍ ( فَإِنْ قِيلَ ) لَا كَذَلِكَ فَالْبَيْعُ بِشَرْطِ خِيَارِ الْبَائِعِ لَا يُزِيلُ مِلْكَهُ عَنْ الْمَبِيعِ ، وَقَدْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ بِفَسْخِ الْبَيْعِ فِي الْمُدَّةِ .
فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ كَانَ رَاضِيًا بِهَذَا الْبَيْعِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَ الشَّاهِدَانِ شَيْئًا ( قُلْنَا ) زَوَالُ الْمِلْكِ ، وَإِنْ كَانَ يَتَأَخَّرُ إلَى سُقُوطِ الْخِيَارِ فَالسَّبَبُ هُوَ الْبَيْعُ الْمَشْهُودُ بِهِ ؛ وَلِهَذَا اسْتَحَقَّ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِزَوَائِدِهِ فَكَانَ الْإِتْلَافُ حَاصِلًا بِشَهَادَتِهِمْ وَالْبَائِعُ كَانَ مُنْكِرًا لِأَصْلِ الْبَيْعِ فَمَعَ إنْكَارِهِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَصَرَّفَ بِحُكْمِ الْخِيَارِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَصَرَّفَ بِحُكْمِ الْخِيَارِ يَصِيرُ مُقِرًّا بِالْبَيْعِ وَيَتَبَيَّنُ لِلنَّاسِ كَذِبُهُ وَالْعَاقِلُ يَتَحَرَّزُ عَنْ ذَلِكَ بِجُهْدِهِ ؛ فَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ تَمَكُّنُهُ مِنْ الْفَسْخِ فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ عَنْ الشُّهُودِ ، وَلَوْ أَوْجَبَ الْبَيْعَ فِي الثَّلَاثَةِ لَمْ يَضْمَنْ لَهُ الشَّاهِدَانِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُقِرًّا بِالْبَيْعِ مُزِيلًا مِلْكَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَلَا يَكُونُ الشَّاهِدُ مُتْلِفًا عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ شَرْطُ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي وَهُوَ مُنْكِرٌ لِلشِّرَاءِ ، وَفِي قِيمَةِ الْعَبْدِ نُقْصَانٌ عَنْ الثَّمَنِ فَإِنْ سَكَتَ الْمُشْتَرِي حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ ضَمِنَ الْمَشْهُودُ لَهُ النُّقْصَانَ عِنْدَ الرُّجُوعِ ، وَإِنْ اخْتَارَ الْبَيْعَ قَبْلَ الثَّلَاثَةِ لَمْ يَضْمَنَا لَهُ شَيْئًا لِمَا بَيَّنَّا فِي جَانِبِ الْبَيْعِ .
وَلَوْ شَهِدَا بِرَهْنِ عَبْدِهِ وَالرَّاهِنُ مُقِرٌّ بِالدَّيْنِ جَاحِدٌ لِلرَّهْنِ فَقَضَى الْقَاضِي بِالْعَبْدِ رَهْنًا ، ثُمَّ رَجَعَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي قِيمَةِ الْعَبْدِ فَضْلٌ عَلَى الدَّيْنِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا بِثُبُوتِ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمُرْتَهِنِ ، وَلَوْ شَهِدَ عَلَى الْمَطْلُوبِ بِحَقِيقَةِ إيفَاءِ الدَّيْنِ بِمَالٍ فِي يَدِهِ هُوَ مِثْلُ الدَّيْنِ لَمْ يَضْمَنَا عِنْدَ الرُّجُوعِ .
فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَا بِثُبُوتِ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمُرْتَهِنِ فِي مَالِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي قِيمَتِهِ فَضْلٌ عَلَى الدَّيْنِ لَمْ يَضْمَنَا أَيْضًا مَا دَامَ الْعَبْدُ حَيًّا ؛ لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمَطْلُوبِ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَخْذِهِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ وَهُوَ مُقِرٌّ بِالدَّيْنِ .
فَإِذَا مَاتَ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ ضَمِنَا ذَلِكَ الْفَضْلَ ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا الْفَضْلَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ حِينَ أَثْبَتَا حَقَّ الْحَبْسِ فِيهِ لِلْمُرْتَهِنِ وَلَمْ يَسْقُطْ شَيْءٌ مِنْ الدَّيْن عَنْهُ بِاعْتِبَارِهِ وَلَوْ كَانَ الرَّاهِنُ هُوَ الَّذِي ادَّعَى الرَّهْنَ وَجَحَدَ الْمُرْتَهِنُ ذَلِكَ فَقَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا مَا أَتْلَفَا عَلَى الْمُرْتَهِنِ شَيْئًا فَإِنَّ حَقَّهُ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالدَّيْنِ بَعْدَ الرَّهْنِ كَمَا كَانَ مِنْ قَبْلُ وَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ رَدِّ الرَّهْنِ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الرَّهْنِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ فِي جَانِبِ الْمُرْتَهِنِ ( فَإِنْ قِيلَ ) فَلِمَاذَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَهِيَ لَا تُلْزِمُ شَيْئًا ( قُلْنَا ) إثْبَاتُ السَّبَبِ بِالْبَيِّنَةِ صَحِيحٌ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ فِي الْحَالِ كَمَا فِي الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْبَائِعِ أَوْ لِلْمُشْتَرِي إلَّا أَنْ يَكُونَا شَهِدَا عَلَيْهِ بِرَهْنٍ هَالِكٍ فِي يَدِهِ فَحِينَئِذٍ هَذَا بِمَنْزِلَةِ شَهَادَتِهِمَا عَلَيْهِ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ يَتِمُّ بِمِلْكِ الرَّهْنِ فَيَكُونَانِ مُتْلِفَيْنِ لِلْمَالِ عَلَيْهِ فَيَضْمَنَانِ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الرُّجُوعِ .
وَإِذَا عَمِلَ الْمُضَارِبُ بِالْمَالِ وَرَبِحَ فَادَّعَى أَنَّهُ أَخَذَ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ وَرَبُّ الْمَالِ يَقُولُ بِالثُّلُثِ وَأَخَذَ الْمُضَارِبُ نِصْفَ الرِّبْحِ وَرَدَّ الْبَاقِي ، ثُمَّ رَجَعَ الشَّاهِ دَانِ ضَمِنَا السُّدُسَ الَّذِي شَهِدَا بِهِ ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا فَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إلَى إتْمَامِ النِّصْفِ إنَّمَا اسْتَحَقَّهُ الْمُضَارِبُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ بِشَهَادَتِهِمَا ، وَقَدْ أَقَرَّا بِالرُّجُوعِ أَنَّهُمَا أَتْلَفَا ذَلِكَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَوْ كَانَ الرِّبْحُ كُلُّهُ دَيْنًا لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا حَتَّى يَقْبِضَ فَمَا قَبَضَ مِنْهُ اقْتَسَمَاهُ نِصْفَيْنِ وَيَضْمَنُ الشَّاهِدَانِ سُدُسَهُ لِرَبِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِمَا بِتَفْوِيتِ الْيَدِ عَلَى نَفْسِ الْمَالِ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَخْرُجْ الدَّيْنُ وَتَصِلَ إلَى الْمُضَارِبِ حِصَّتُهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ يَتِمُّ التَّفْوِيتُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ شَهَادَتِهِمَا ، وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ أَعْطَاهُ الثُّلُثَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا فِي هَذَا الْوَجْهِ إذَا رَجَعَا ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ رَبِّ الْمَالِ بِغَيْرِ شُهُودٍ فَلَمْ يُتْلِفَا عَلَى الْمُضَارِبِ شَيْئًا بِشَهَادَتِهِمَا إذْ الِاسْتِحْقَاقُ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ النِّصْفَ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَرَبُّ الْمَالِ هُنَاكَ مُسْتَحِقٌّ لِلرِّبْحِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مَالُهُ فَهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِمَا مَا كَانَ مُسْتَحَقًّا لَهُ فَيَضْمَنَانِ إذَا رَجَعَا ، وَلَوْ نَوَى رَأْسَ الْمَالِ فِي الْوَجْهَيْنِ لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُمَا مَا شَهِدَا فِي رَأْسِ الْمَالِ بِشَيْءٍ إنَّمَا شَهَادَتُهُمَا فِي الرِّبْحِ وَلَمْ يَظْهَرْ الرِّبْحُ .
وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُمَا اشْتَرَكَا وَرَأْسُ مَالٍ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفُ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا وَصَاحِبُ الثُّلُثِ يَدَّعِي النِّصْفَ ، وَقَدْ رَبِحَا قَبْلَ الشَّهَادَةِ فَقَسَمَهُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا ، ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا لِصَاحِبِ الثُّلُثِ مَا بَيْنَ الثُّلُثِ وَالنِّصْفِ فِي كُلِّ رِبْحٍ كَانَ قَبْلَ الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَحِقٌّ لِنِصْفِ الرِّبْحِ عِنْدَ تَسَاوِيهِمَا فِي رَأْسِ الْمَالِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي النِّصْفِ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا فَمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إلَى النِّصْفِ أَتْلَفَاهُ بِشَهَادَتِهِمَا عَلَى مَنْ أَخَذَ الثُّلُثَ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَمَا رَبِحَا فِيمَا اشْتَرَيَا بَعْدَ الشَّهَادَةِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا فِيهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَمَكِّنٌ مِنْ فَسْخِ الشَّرِكَةِ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ فَإِقْدَامُهُمَا عَلَى التَّصَرُّفِ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِأَنَّ الرِّبْحَ أَثْلَاثٌ يَكُونُ رِضًا مِنْهُمَا بِذَلِكَ وَرِضَا الْمُتْلَفِ عَلَيْهِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَى الْمُتْلِفِ بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ فَبِالشَّهَادَةِ أَوْلَى .
وَلَوْ كَانَ فِي يَدَيْ رَجُلٍ مَالٌ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ لِرَجُلٍ أَنَّهُ شَرِيكُهُ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ فَقَضَى الْقَاضِي لَهُ بِنِصْفِ مَا فِي يَدِهِ ، ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا ذَلِكَ النِّصْفَ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُنْكِرِ لِلشَّرِكَةِ وَهُوَ ذُو الْيَدِ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا فَإِنَّمَا صَارَ نِصْفُ مَا فِي يَدِهِ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ بِشَهَادَتِهِمَا ، وَقَدْ أَقَرَّ أَنَّهُمَا أَتْلَفَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ
وَلَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ بِوَدِيعَةٍ فَجَحَدَهَا ، أَوْ عَارِيَّةٍ ، أَوْ بِضَاعَةٍ فَضَمَّنَهُ الْقَاضِي ذَلِكَ رَجَعَا ضَمِنَا لَهُ مَا غَرِمَ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَيْهِ بِدَيْنٍ فَالْوَدِيعَةُ الْمَجْحُودَةُ دَيْنٌ عَلَى الْمُوَدِّعِ ، وَقَدْ أَقَرَّا بِالرُّجُوعِ أَنَّهُمَا أَلْزَمَاهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَيَضْمَنَانِ لَهُ مَا اُسْتُوْفِيَ مِنْهُ بِذَلِكَ السَّبَبِ .
وَلَوْ رَكِبَ رَجُلٌ بَعِيرَ رَجُلٍ إلَى مَكَّةَ فَعَطِبَ فَقَالَ رَبُّ الْبَعِيرِ غَصَبَنِي .
وَقَالَ الرَّاكِبُ اسْتَأْجَرْته مِنْك بِكَذَا وَأَقَامَ عَلَيْهِ شَاهِدَيْنِ فَأَبْرَأَهُ الْقَاضِي مِنْ الضَّمَانِ ، وَأَنْفَذَ عَلَيْهِ مَا وَجَبَ مِنْ الْأَجْرِ ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا ضَمِنَا قِيمَةَ الْبَعِيرِ إلَّا مِقْدَارَ مَا أَخَذَ صَاحِبُهُ مِنْ الْأَجْرِ ؛ لِأَنَّ رُكُوبَ بَعِيرِ الْغَيْرِ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَى الرَّاكِبِ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا لَكَانَ ضَمَانَ الْقِيمَةِ دَيْنًا عَلَى الرَّاكِبِ بِمَا ظَهَرَ مِنْهُ فَهُمَا بِشَهَادَتِهِمَا أَثْبَتَا لَهُ سَبَبَ الْبَرَاءَةِ ، وَقَدْ أَقَرَّ عِنْدَ الرُّجُوعِ أَنَّهُمَا أَتْلَفَا ذَلِكَ عَلَى رَبِّ الْبَعِيرِ فَكَانَا ضَامِنَيْنِ لَهُ إلَّا أَنَّهُمَا عَوَّضَاهُ مِقْدَارَ مَا شَهِدَا لَهُ مِنْ الْأَجْرِ فَيُطْرَحُ عَلَيْهِمَا ذَلِكَ ، وَلِأَنَّ صَاحِبَ الْبَعِيرِ مُقِرٌّ أَنَّ الرَّاكِبَ غَاصِبٌ لَا أَجْرَ لَهُ عَلَيْهِ ، وَأَنَّ مَا اُسْتُوْفِيَ مِنْهُ اسْتَوْفَاهُ بِحِسَابِ ضَمَانِ الْقِيمَةِ وَزَعْمُهُ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّهِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ إلَّا بِالْفَضْلِ ، وَلَوْ كَانَ الْبَعِيرُ أَوَّلَ يَوْمٍ رَكِبَهُ يُسَاوِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَآخِرَ يَوْمٍ عَطِبَ فِيهِ يُسَاوِي ثَلَثِمِائَةِ دِرْهَمٍ لِزِيَادَةٍ فِي يَدِهِ وَالْأَجْرُ خَمْسُونَ فَإِنَّهُمَا يَضْمَنَانِ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا بِحِسَابِ يَوْمٍ عَطِبَ .
مِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ يَقُولُ هَذَا فِي قَوْلِهِمَا .
فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّمَا يَضْمَنَانِ بِحِسَابِ قِيمَتِهِ يَوْمَ رُكِبَ وَقَالُوا هَذَا نَظِيرُ الْجَارِيَةِ الْمَغْصُوبَةِ إذَا ازْدَادَتْ فِي بَدَنِهَا ، ثُمَّ بَاعَهَا الْغَاصِبُ وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ فَإِنَّهُ كَمَا لَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافِ هُنَا لَمْ يَذْكُرْ هُنَاكَ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فِي النَّوَادِرِ وَحُكْمُ هَذِهِ وَحُكْمُ تِلْكَ سَوَاءٌ وَالْأَصَحُّ أَنَّ هَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فَيَقُولُ ضَمَانُ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ
ضَمَانُ غَصْبٍ ؛ وَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ بِهِ إلَّا مَا يَضْمَنُ بِالْغَصْبِ وَالْغَصْبُ بَعْدَ الْغَصْبِ فِي الْأَصْلِ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ وَاحِدٍ وَالزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ لَا تُفْرَدُ عَنْ الْأَصْلِ .
فَأَمَّا ضَمَانُ الرُّكُوبِ إذَا عَطِبَتْ الدَّابَّةُ ضَمَانُ إتْلَافٍ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْحُرَّ يَضْمَنُ بِهِ وَالْإِتْلَافُ الْحَقِيقِيُّ بَعْدَ الْغَصْبِ يَتَحَقَّقُ فِي الْأَصْلِ مَعَ الزِّيَادَةِ فَكَانَ الرَّاكِبُ ضَامِنًا قِيمَتَهَا حِينَ عَطِبَتْ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا فَيَضْمَنَانِ عِنْدَ الرُّجُوعِ قِيمَتَهَا بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْحَالِ .
رَجُلٌ لَهُ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَهُوَ مُقِرٌّ بِهَا ، وَفِي يَدِ الطَّالِبِ ثَوْبٌ يُسَاوِي مِائَةَ دِرْهَمٍ يَدَّعِي أَنَّهُ لَهُ فَأَقَامَ الْمَطْلُوبُ شَاهِدَيْنِ أَنَّهُ رَهَنَهُ إيَّاهُ بِالْمَالِ وَقَضَى بِهِ ، ثُمَّ هَلَكَ الثَّوْبُ فَذَهَبَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا مِائَةَ دِرْهَمٍ لِلطَّالِبِ ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ فِي الثَّوْبِ أَنَّهُ مِلْكُهُ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ فَهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ مِلْكَ الثَّوْبِ بِشَهَادَتِهِمَا أَنَّهُ لِلْمَطْلُوبِ فَيَضْمَنَانِ لَهُ عِنْدَ الرُّجُوعِ ( فَإِنْ قِيلَ ) كَيْفَ يَضْمَنَانِ وَلَمْ يَخْرُجْ الثَّوْبُ مِنْ يَدِهِ حَتَّى هَلَكَ ( قُلْنَا ) عَيْنُ الرَّهْنِ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَيَدُهُ فِي ذَلِكَ كَيَدِ الرَّاهِنِ ، ثُمَّ أَثْبَتَا بِشَهَادَتِهِمَا يَدَ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمُرْتَهِنِ فِي مِقْدَارِ الْمِائَةِ ، وَقَدْ تَمَّ ذَلِكَ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ فَكَأَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَيْهِ أَنَّهُ اسْتَوْفَاهُ مِائَةً ، ثُمَّ رَجَعَا ، وَلَوْ كَانَ ذُو الْيَدِ مُقِرًّا بِالثَّوْبِ لِلرَّاهِنِ غَيْرَ أَنَّهُ يَقُولُ هُوَ عِنْدِي وَدِيعَةٌ .
وَقَالَ الرَّاهِنُ بَلْ هُوَ رَهْنٌ عِنْدَك وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ عَلَيْهِ فَقَضَى بِهِ ، ثُمَّ هَلَكَ ، ثُمَّ رَجَعَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُتْلِفَا عَلَى ذِي الْيَدِ عَيْنَ الثَّوْبِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي مِلْكَهُ لِنَفْسِهِ ، وَقَدْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ رَدِّهِ عَلَى الرَّاهِنِ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي فَالرَّهْنُ لَا يَكُونُ لَازِمًا فِي جَانِبِ الْمُرْتَهِنِ فَيُجْعَلُ إمْسَاكُهُ الثَّوْبَ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِأَنَّهُ رَهْنٌ عِنْدَهُ رِضًا مِنْهُ بِمَا شَهِدَا عَلَيْهِ فَلَا يَضْمَنَانِ لَهُ عِنْدَ الرُّجُوعِ شَيْئًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَقَدْ أَتْلَفَا عَلَيْهِ مِلْكَهُ فِي الثَّوْبِ هُنَاكَ .
وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَسْلَمَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي كُرِّ حِنْطَةٍ إلَى رَجُلٍ يَجْحَدُ ذَلِكَ وَلَمْ يَعْتَرِفَا فَقَضَى الْقَاضِي بِهِ وَأَمَرَ بِدَفْعِ الْعَشَرَةِ إلَيْهِ وَأَوْجَبَ الْكُرَّ عَلَيْهِ ، ثُمَّ رَجَعَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا حَتَّى يَقْبِضَ الْكُرِّ ؛ لِأَنَّهُمَا أَلْزَمَا الْمُسَلَّمَ إلَيْهِ الْكُرَّ دَيْنًا فَلَوْ ضَمِنَا لَهُ يَضْمَنَانِ الْعَيْنَ وَالْعَيْنُ فَوْقَ الدَّيْنِ فِي الْمَالِيَّةِ وَضَمَانُ الْإِتْلَافِ يَتَقَدَّرُ بِالْمِثْلِ .
فَإِذَا قَبَضَهُ مِنْهُمَا فَهُمَا ضَامِنَانِ لِطَعَامِ مِثْلِهِ إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ يَنْقُصُ مِنْ ذَلِكَ الْكُرِّ ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ الْعَشَرَةِ حَصَلَ الْإِتْلَافُ فِيهِ بِعِوَضٍ فَلَا يَجِبُ ضَمَانُهُ عَلَيْهِمَا عِنْدَ الرُّجُوعِ ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَتْلَفَاهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ مِثْلَ الْكُرِّ لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُمَا عَوَّضَاهُ مِثْلَ مَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ وَالْإِتْلَافُ بِعِوَضٍ يَعْدِلُ الْمُتْلَفَ وَلَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْمُتْلِفِ .
وَلَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَكْرَى شِقَّ مَحْمَلٍ إلَى مَكَّةَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَقَضَى لَهُ الْقَاضِي وَحَمَلَهُ وَقَبَضَ الْأَجْرَ ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا إذَا كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ هُوَ الْمُدَّعِي ، وَإِنْ كَانَ الْأَجْرُ ضِعْفَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا الْمَنْفَعَةَ عَلَى رَبِّ الْإِبِلِ وَالْمَنْفَعَةُ لَيْسَتْ بِمَالٍ يُضْمَنُ بِالِاسْتِهْلَاكِ عِنْدَنَا ، وَلَوْ أَتْلَفَاهُ مُبَاشَرَةً بِأَنْ رَكِبَا لَمْ يَضْمَنَا .
فَإِذَا أَتْلَفَاهُ بِشَهَادَتِهِمَا أَوْلَى ، وَإِنْ كَانَ ادَّعَاهُ صَاحِبُ الْإِبِلِ وَجَحَدَهُ الْمُسْتَأْجِرُ ضَمِنَا لَهُ مِمَّا أَدَّى مَا زَادَ عَلَى أَجْرِ مِثْلِ الْبَعِيرِ ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ مَا الْتَزَمَاهُ بِشَهَادَتِهِمَا مِنْ الْأَجْرِ وَعَوَّضَاهُ مِنْ ذَلِكَ مَنْفَعَةَ الْبَعِيرِ وَالْمَنَافِعُ تَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ وَتَأْخُذُ حُكْمَ الْمَالِيَّةِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ الْحَيَوَانُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بِمُقَابَلَتِهِ فَلَا يَضْمَنَانِ مِقْدَارَ مَا أَتْلَفَاهُ بِعِوَضٍ وَيَضْمَنَانِ مَا سِوَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا شَهَادَتِهِمَا لَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاكِبِ وَلَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا فَإِنَّمَا لَزِمَهُ الْأَجْرَ بِشَهَادَتِهِمَا ، وَلَوْ أَقَرَّ عِنْدَ الرُّجُوعِ أَنَّهُمَا أَتْلَفَا ذَلِكَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَيَضْمَنَانِ لَهُ مَالًا يُقَابِلُهُ مِنْ ذَلِكَ عِوَضٌ يَعْدِلُهُ .
وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَأَقَامَ بِمَا عَلَيْهِ شَاهِدَيْنِ وَأَقَامَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالْأَلْفِ شَاهِدَيْنِ أَنَّهُ أَبْرَأَهُ مِنْهَا أَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ أَبْرَأَهُ مِنْ كُلٍّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ يَدَّعِي ذَلِكَ فَعَدَّلُوا وَاجْتَمَعَتْ الْبَيِّنَتَانِ عِنْدَ الْقَاضِي فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَسْمَعَ مِنْ الشُّهُودِ الَّذِينَ شَهِدُوا عَلَى الْمَالِ ؛ لِأَنَّ هُنَا مَنْ يَشْهَدُ عَلَى الْبَرَاءَةِ وَالْبَرَاءَةُ مُسْقِطَةٌ مُفَرِّغَةٌ لِلذِّمَّةِ فَكَيْفَ يَقْضِي بِإِشْغَالِ الذِّمَّةِ بِالْمَالِ ، وَقَدْ ظَهَرَ عِنْدَهُ مَا يُفَرِّغُ الذِّمَّةَ .
ثُمَّ الْإِبْرَاءُ فِي مَعْنَى النَّاسِخِ بِحُكْمِ وُجُوبِ الدَّيْنِ وَالْقَضَاءُ بِالْمَنْسُوخِ بَعْدَ ظُهُورِ النَّاسِخِ لَا يَجُوزُ فَإِنْ أَخَذَ بِشَهَادَةِ شُهُودِ الْبَرَاءَةِ فَقَضَى بِهَا ، ثُمَّ رَجَعُوا فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُكَلِّفُ الْمَشْهُودَ لَهُ بِالْأَلْفِ بِالْبَيِّنَةِ الْمُثْبِتَةِ وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى مَا مَضَى ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْضِ بِشَهَادَتِهِمْ عَلَى أَصْلِ الْمَالِ وَالشَّهَادَةُ الَّتِي لَمْ يَتَّصِلْ الْقَضَاءُ بِهَا لَا تَكُونُ مُوجِبَةً شَيْئًا فَلَا بُدَّ مِنْ إعَادَتِهِمْ إذَا أَرَادَ تَضْمِينَ شُهُودِ الْبَرَاءَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَضْمَنُونَ بِإِتْلَافِهِمْ عَلَيْهِ مَا كَانَ مُسْتَحَقًّا لَهُ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ هَذَا الِاسْتِحْقَاقُ بِإِعَادَةِ الْبَيِّنَةِ ، وَإِنْ أَعَادَهُمْ فَخَصَمَهُمْ فِي ذَلِكَ شُهُودُ الْبَرَاءَةِ الَّذِينَ رَجَعُوا ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِمْ الضَّمَانَ فَهُمْ خُصَمَاؤُهُ فِي ذَلِكَ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يُلْزِمَ الْمَدِينَ شَيْئًا بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّ رُجُوعَ شُهُودِ الْبَرَاءَةِ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمْ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّهِ ؛ فَلِهَذَا لَا تَقُومُ شُهُودُ الْبَرَاءَةِ مَقَامَ الْمَدِينِ فِي إعَادَةِ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِمْ فَإِنْ شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى الْأَلْفِ أَنَّهَا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ فَقَضَى بِهَا عَلَى شُهُودِ الْبَرَاءَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ إتْلَافَهُمْ ذَلِكَ الْمَالَ عَلَى الطَّالِبِ بِشَهَادَتِهِمْ عَلَيْهِ بِالْبَرَاءَةِ فَيَضْمَنَانِ لَهُ وَلَا يَرْجِعَانِ بِهَا عَلَى الْمَشْهُودِ لَهُ بِالْبَرَاءَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا يَضْمَنَانِ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَرُجُوعُهُمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّ الْمَشْهُودِ لَهُ بِالْبَرَاءَةِ .
وَقَالَ ، وَإِنَّمَا يَأْمُرُ الْقَاضِي مُدَّعِي الْمَالِ بِإِعَادَةِ شُهُودِهِ بَعْدَ رُجُوعِ شَاهِدَيْ الْبَرَاءَةِ بِمَحْضَرٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ الْمَالَ إنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِمَا سَاعَةَ رَجَعَا وَهُوَ مَالٌ حَادِثٌ وَجَبَ عَلَيْهِمَا فَلَا يُجْبَرَا بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ الَّذِينَ شَهِدُوا بِهِ قَبْلَ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا كَأَنَّهُمَا غَصَبَا الْمَالَ
سَاعَةَ يَقْضِي الْقَاضِي لَهُ وَرَجَعَا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ فِي الطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِذَا شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَلَى طَلَاقِ امْرَأَةٍ وَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ عَلَى دُخُولِهِ بِهَا فَقَضَى الْقَاضِي بِالصَّدَاقِ وَالطَّلَاقِ ثُمَّ رَجَعُوا فَعَلَى شُهُودِ الدُّخُولِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَهْرِ وَعَلَى شُهُودِ الطَّلَاقِ رُبْعُ الْمَهْرِ ) ؛ لِأَنَّ شُهُودَ الطَّلَاقِ أَلْزَمُوهُ نِصْفَ الْمَهْرِ بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ لَوْ انْفَرَدُوا قَضَى الْقَاضِي عَلَى الزَّوْجِ بِنِصْفِ الْمَهْرِ وَشُهُودُ الدُّخُولِ أَلْزَمُوهُ جَمِيعَ الْمَهْرِ بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ لَوْ انْفَرَدُوا قَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الْمَهْرِ فَنِصْفُ الْمَهْرِ اخْتَصَّ بِشُهُودِ الدُّخُولِ بِإِيجَابِهِ عَلَى الزَّوْجِ فَعِنْدَ الرُّجُوعِ ضَمَانُهُ عَلَيْهِمْ وَنِصْفُ الْمَهْرِ اشْتَرَكُوا فِيهِ فَضَمَانُهُ عِنْدَ الرُّجُوعِ عَلَى كِلَا الْفَرِيقَيْنِ نِصْفَانِ فَإِنْ ( قِيلَ ) لَا كَذَلِكَ بَلْ جَمِيعُ الْمَهْرِ وَاجِبٌ عَلَى الزَّوْجِ بِالْعَقْدِ فَمَا أَلْزَمَهُ وَاحِدٌ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ شَيْئًا مِنْ الْمَهْرِ بِمَا شَهِدُوا بِهِ ( قُلْنَا ) نَعَمْ وَجَبَ جَمِيعُ الْمَهْرِ بِالْعَقْدِ وَلَكِنْ بِمُقَابَلَةِ الْبُضْعِ عَلَى أَنَّهُ فَوَّتَ تَسْلِيمَ الْبُضْعِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْتَهِي بِهِ النِّكَاحُ فَلَا شَيْءَ عَلَى الزَّوْجِ مِنْهُ وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ بِالْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا وَلَوْلَا شَهَادَةُ شُهُودِ الطَّلَاقِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ وَلَوْلَا شَهَادَةُ شُهُودِ الدُّخُولِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْمَهْرِ وَلَكِنَّهُمَا حِينَ شَهِدَا بِوُجُودِ التَّسْلِيمِ قَبْلَ ظُهُورِ الْفُرْقَةِ فَكَأَنَّهُمَا أَلْزَمَاهُ جَمِيعَ الْمَهْرِ وَحِينَ شَهِدَا الْآخَرَانِ بِالْفُرْقَةِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ مُضَافًا إلَى الزَّوْجِ فَكَأَنَّهُمَا أَلْزَمَاهُ نِصْفَ الْمَهْرِ فَيَجِبُ ضَمَانُ ذَلِكَ عِنْدَ الرُّجُوعِ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ حَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَهْرِ بِشَهَادَتِهِمْ فَكَأَنَّهُمْ غَصَبُوهُ ذَلِكَ : أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ النِّصْفَ ، وَالْفَرِيقُ الْآخَرُ الْكُلَّ .
وَلَوْ رَجَعَ شُهُودُ الدُّخُولِ وَحْدَهُ ضَمِنَ رُبْعَ الْمَهْرِ ؛ لِأَنَّ
النِّصْفَ الَّذِي اخْتَصَّ شُهُودُ الدُّخُولِ بِإِلْزَامِهِ بَقِيَ فِيهِ امْرَأَتَانِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَبِبَقَائِهِمَا يَبْقَى نِصْفُ ذَلِكَ النِّصْفِ فَيَجِبُ عَلَى الرَّاجِعِ نِصْفُ ذَلِكَ النِّصْفِ وَفِي النِّصْفِ الْآخَرِ قَدْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ حُجَّةٌ تَامَّةٌ وَلَوْ رَجَعَ شَاهِدُ الطَّلَاقِ وَحْدَهُ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ فِي النِّصْفِ الَّذِي لَزِمَ بِشَهَادَةِ شُهُودِ الطَّلَاقِ قَدْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ حُجَّةٌ كَامِلَةٌ ، وَلَوْ رَجَعَ شُهُودُ الدُّخُولِ كُلُّهُمْ ضَمِنُوا النِّصْفَ ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ الْآخَرَ قَدْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ حُجَّةٌ كَامِلَةٌ وَلَوْ كَانَ شُهُودُ الطَّلَاقِ هُمْ الَّذِينَ رَجَعُوا لَمْ يَضْمَنُوا شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ بِجَمِيعِ الْمَهْرِ حُجَّةٌ تَامَّةٌ وَهُمْ شُهُودُ الدُّخُولِ وَلَوْ رَجَعَتْ امْرَأَةٌ مِنْ شُهُودِ الطَّلَاقِ وَامْرَأَةٌ مِنْ شُهُودِ الدُّخُولِ فَعَلَى الرَّاجِعَةِ مِنْ شُهُودِ الدُّخُولِ ثُمُنُ الْمَهْرِ ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ شُهُودُ الدُّخُولِ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ فَلَهُ رَجُلٌ وَامْرَأَةٌ فَبَقِيَ الْحُجَّةُ فِي ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ بِتَفَاوُتِهِمَا وَيَجِبُ عَلَى الرَّاجِعَةِ رُبْعُ ذَلِكَ النِّصْفِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى شَاهِدِ الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ حُجَّةٌ كَامِلَةٌ بَعْدَ رُجُوعِهَا
وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَاحِدَةً وَآخَرَانِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَلَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا فَقَضَى بِالْفُرْقَةِ وَبِنِصْفِ الْمَهْرِ لَهَا ثُمَّ رَجَعُوا جَمِيعًا فَضَمَانُ نِصْفِ الْمَهْرِ عَلَى شُهُودِ الثُّلُثِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى شُهُودِ الْوَاحِدَةِ ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَ الثُّلُثِ هُمْ الَّذِينَ قَطَعَتْ بِشَهَادَتِهِمْ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ قَبْلَ الزَّوْجِ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ بِالثُّلُثِ يَثْبُتُ فِي الْمَحَلِّ صِفَةُ الْحُرْمَةِ وَشَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْحُرْمَةِ لَا يَثْبُتُ بِالْوَاحِدَةِ ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْمَحَلِّ لَا تَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ وَإِنَّمَا قَضَى الْقَاضِي بِحُرْمَةِ الْمَحَلِّ وَذَلِكَ مِنْ مُوجِبَاتِ مَا شَهِدَ بِهِ شُهُودُ الثُّلُثِ خَاصَّةً فَعَرَفْنَا أَنَّ الْقَضَاءَ كَانَ بِشَهَادَتِهِمْ فَالضَّمَانُ عِنْدَ الرُّجُوعِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ نَظِيرُ مَا ذُكِرَ بَعْدَهُ
وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ حَلَفَ لَا يَقْرَبُهَا يَوْمَ النَّحْرِ وَآخَرَانِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا يَوْمَ النَّحْرِ فَأَبَانَهَا الْقَاضِي مِنْهُ وَلَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا وَأَلْزَمَهُ نِصْفَ الْمَهْرِ ثُمَّ رَجَعُوا فَالضَّمَانُ عَلَى شُهُودِ الطَّلَاقِ دُونَ شُهُودِ الْإِيلَاءِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا قَضَى بِالْفُرْقَةِ بِشَهَادَةِ شُهُودِ الطَّلَاقِ دُونَ شَهَادَةِ شُهُودِ الْإِيلَاءِ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ حُجَّةٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَنَّ الثَّلَاثَ غَيْرُ الْوَاحِدَةِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا إذَا شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بِتَطْلِيقِهِ وَالْآخَرُ بِثَلَاثٍ
وَإِذَا شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَهِيَ مَهْرُ مِثْلِهَا فَقَضَى بِذَلِكَ وَنَقَدَهَا الْأَلْفَ ثُمَّ رَجَعَا ؛ لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا أَيُّهُمَا كَانَ الْمُدَّعِي فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الْمُدَّعِيَةُ فَقَدْ أَلْزَمَا الزَّوْجَ الْأَلْفَ وَأَدْخَلَا فِي مِلْكِهِ الْبُضْعَ بِمُقَابَلَتِهِ وَالْبُضْعُ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ مُتَقَوِّمٌ ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَلَّكُ الْبُضْعَ وَمِنْ ضَرُورَةِ التَّمَلُّكِ يَقُومُ الْمَمْلُوكُ بِهِ كَالِاسْتِيلَاءِ لَمَّا كَانَ يَتَمَلَّكُ بِهِ الْحَرْبِيُّ يَتَقَوَّمُ بِهِ نَفْسُهُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِتْلَافَ بِعِوَضٍ يَعْدِلُهُ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمُدَّعِي فَقَدْ أَثْبَتْنَا عَلَيْهِ الْمِلْكَ وَعَوَّضَاهَا بِمُقَابَلَتِهِ مَا يَعْدِلُهُ وَهُوَ الْأَلْفُ فَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسَمِائَةٍ وَكَانَ الزَّوْجُ مُنْكِرًا ضَمِنَا لَهُ الْفَضْلَ ؛ لِأَنَّهُمَا أَلْزَمَاهُ الْأَلْفَ وَعَوَّضَاهُ مَا يَتَقَوَّمُ بِخَمْسِمِائَةٍ فَقِيمَةُ الْبُضْعِ مَهْرُ الْمِثْلِ فَالْخَمْسُمِائَةِ الْأُخْرَى أَتْلَفَاهَا عَلَيْهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي هُوَ الزَّوْجُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا سَوَاءٌ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا الْبُضْعَ عَلَيْهِمَا بِغَيْرِ عِوَضٍ دُونَ قِيمَةِ الْبُضْعِ وَلَكِنَّ الْبُضْعَ لَا يَتَقَوَّمُ عَلَى الْمُتْلِفِ وَإِنَّمَا يَتَقَوَّمُ عَلَى الْمُتَمَلِّكِ لِضَرُورَةِ التَّمَلُّكِ فَلَمْ يَضْمَنْ الشَّاهِدَانِ لَهُمَا شَيْئًا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَضْمَنَانِ مَا زَادَ عَلَى الْأَلْفِ إلَى تَمَامِ مَهْرِ مِثْلِهَا وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مَا إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالتَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ بَعْدَ الدُّخُولِ ثُمَّ رَجَعَا بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالْفُرْقَةِ لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَضْمَنَانِ لِلزَّوْجِ مَهْرَ الْمِثْلِ
وَكَذَلِكَ إنْ قَتَلَ الْمَرْأَةَ رَجُلٌ لَمْ يَضْمَنْ الْقَاتِلُ لِلزَّوْجِ شَيْئًا مِنْ الْمَهْرِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَضْمَنُ مَهْرَ الْمِثْلِ
وَكَذَلِكَ لَوْ ارْتَدَّتْ الْمَرْأَةُ بَعْدَ الدُّخُولِ لَمْ يَغْرَمْ لِلزَّوْجِ شَيْئًا عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِلزَّوْجِ مَهْرُ الْمِثْلِ عَلَى الْقَاتِلِ وَعَلَيْهَا إنْ ارْتَدَّتْ ؛ لِأَنَّ الْبُضْعَ مُتَقَوِّمٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ مُتَقَوِّمٌ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ فَيُقَوَّمُ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مِلْكِهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ مِلْكِهِ عَيْنُ مَا دَخَلَ فِي مِلْكِهِ فَمِنْ ضَرُورَةِ التَّقَوُّمِ فِي إحْدَى الْحَالَتَيْنِ التَّقَوُّمُ فِي الْحَالَةِ الْأُخْرَى كَمِلْكِ الْيَمِينِ فَإِنَّهُ يَتَقَوَّمُ عِنْدَ ثُبُوتِهِ ابْتِدَاءً وَيَتَقَوَّمُ أَيْضًا عِنْدَ الْإِزَالَةِ بِطَرِيقِ الْإِبْطَالِ وَهُوَ الْعِتْقُ حَتَّى يَضْمَنَ شُهُودُ الْعِتْقِ الْقِيمَةَ إذَا رَجَعُوا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ شُهُودَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ إذَا رَجَعُوا ضَمِنُوا نِصْفَ الْمَهْرِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْبُضْعُ مُتَقَوِّمًا عِنْدَ الطَّلَاقِ لَمَا ضَمِنُوا شَيْئًا وَإِذَا ثَبَتَ التَّقَوُّمُ قُلْنَا الْمُتَقَوِّمُ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ مَالًا أَوْ غَيْرَ مَالٍ كَالنَّفْسِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْبُضْعَ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ بِالْمَالِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْإِتْلَافِ يَتَقَدَّرُ بِالْمِثْلِ وَلَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ الْبُضْعِ وَالْمَالِ صُورَةً وَمَعْنًى فَأَمَّا عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ الْمُتَقَوِّمُ هُوَ الْمَمْلُوكُ دُونَ الْمِلْكِ الْوَارِدِ عَلَيْهِ وَكَانَ تَقَوُّمُهُ لِإِظْهَارِ خَطَرِ ذَلِكَ الْمَحَلِّ حَتَّى يَكُونَ مَصُونًا عَنْ الِابْتِدَالِ وَلَا يَمْلِكُ مَجَّانًا فَإِنَّ مَا يَمْلِكُهُ الْمَرْءُ مَجَّانًا لَا يَعْظُمُ خَطَرُهُ عِنْدَهُ وَذَلِكَ مَحَلٌّ لَهُ خَطَرٌ مِثْلُ خَطَرِ النُّفُوسِ ؛ لِأَنَّ النَّسْلَ يَحْصُلُ بِهِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي طَرَفِ الْإِزَالَةِ فَإِنَّهَا لَا تَتَمَلَّكُ عَلَى الزَّوْجِ شَيْئًا وَلَكِنْ يَبْطُلُ مِلْكُ الزَّوْجِ عَنْهَا .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مَا هُوَ مَشْرُوطٌ لِمَعْنَى الْخَطَرِ عِنْدَ التَّمَلُّكِ كَالشُّهُودِ وَالْوَلِيِّ لَا يَشْتَرِطُ شَيْئًا مِنْهُ عِنْدَ الْإِزَالَةِ وَأَنَّ الْأَبَ لَوْ زَوَّجَ ابْنَهُ الصَّغِيرَ
بِمَالِهِ يَصِحُّ ذَلِكَ وَلَوْ خَلَعَ ابْنَتَهُ الصَّغِيرَةَ بِمَالِهَا مِنْ زَوْجِهَا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ وَهَذَا بِخِلَافِ مِلْكِ الْيَمِينِ فَهُوَ مِلْكُ مَالٍ وَالْمَالُ مِثْلُ الْمَالِ صُورَةً وَمَعْنًى فَعِنْدَ الْإِتْلَافِ يَضْمَنُ بِالْمَالِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَا بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَغْرَمَانِ هُنَاكَ قِيمَةَ الْبُضْعِ فَقِيمَةُ الْبُضْعِ مَهْرُ الْمِثْلِ وَلَا يَغْرَمَانِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا يَغْرَمَانِ نِصْفَ الصَّدَاقِ ؛ لِأَنَّهُمَا أَكَّدَا عَلَى الزَّوْجِ مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إذَا ارْتَدَّتْ يَسْقُطُ عَنْهُ الْمَهْرُ وَكَذَلِكَ إذَا قَتَلَتْ ابْنَ زَوْجِهَا فَهُمَا أَكَّدَا عَلَيْهِ مَا كَانَ عَلَى شَرَفِ السُّقُوطِ فَكَأَنَّهُمَا أَلْزَمَاهُ ذَلِكَ ، هُوَ عِبَارَةُ الْمُتَقَدِّمِينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَالْأَوْجَهُ أَنْ نَقُولَ : وُقُوعُ الْفُرْقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ مُسْقِطٌ جَمِيعَ الصَّدَاقِ إذَا لَمْ يَكُنْ مُضَافًا إلَى الزَّوْجِ وَلَا كَانَ مُتَهَيِّئًا لِلنِّكَاحِ لِلْفِقْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْبَابِ فَهُمَا بِإِضَافَةِ الْفُرْقَةِ مَنَعَا الْعِلَّةَ الْمُسْقِطَةَ مِنْ أَنْ يَعْمَلَ عَلَيْهَا فِي النِّصْفِ فَكَأَنَّهُمَا أَلْزَمَا الزَّوْجَ ذَلِكَ النِّصْفَ بِشَهَادَتِهِمَا فَيَضْمَنَانِ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَفِي هَذَا أَيْضًا نَوْعُ الشُّبْهَةِ فَإِنَّ الِابْنَ إذَا أَكْرَهَ امْرَأَةَ أَبِيهِ حَتَّى زَنَى بِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ يَغْرَمُ الْأَبُ نِصْفَ الْمَهْرِ وَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الِابْنِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ مَا تَصِيرُ بِهِ الْفُرْقَةُ مُضَافَةً إلَى الْأَبِ وَلَكِنَّا نَقُولُ هُوَ بِإِكْرَاهِهِ إيَّاهَا مَنَعَ صَيْرُورَةَ الْفُرْقَةِ مُضَافَةً إلَيْهَا وَذَا مُوجِبٌ نِصْفَ الصَّدَاقِ عَلَى الْأَبِ فَكَأَنَّهُ أَلْزَمَهُ ذَلِكَ
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ شُهُودُ الْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ إذَا رَجَعُوا لَمْ يَضْمَنُوا شَيْئًا عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَضْمَنُونَ الدِّيَةَ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ مِلْكٌ مُتَقَوِّمٌ لِلْوَلِيِّ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْقَاتِلَ إذَا صَالَحَ فِي مَرَضِهِ عَلَى الدِّيَةِ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَقَدْ أَتْلَفُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ بِشَهَادَتِهِمْ فَيَضْمَنُونَ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا كَمَا تُضْمَنُ النَّفْسُ بِالْإِتْلَافِ حَالَةَ الْخَطَإِ وَلَكِنَّا نَقُولُ مِلْكُ الْقِصَاصِ كَمِلْكِ الْبُضْعِ لِلزَّوْجِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَظْهَرُ إلَّا فِي حَقِّ الِاسْتِيفَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مِلْكَ الْبُضْعِ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ وَإِنَّمَا الْمُتَقَوِّمُ الْمَحَلُّ الْمَمْلُوكُ فَكَذَلِكَ مِلْكُ الْقِصَاصِ إلَّا أَنَّ بِالصُّلْحِ الْقَاتِلُ إنَّمَا يَلْتَزِمُ الدِّيَةَ بِمُقَابَلَةِ مَا هُوَ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِ فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى هَذَا الصُّلْحِ لِإِبْقَاءِ نَفْسِهِ وَحَاجَتُهُ مُقَدَّمَةُ عَلَى حَقِّ الْوَارِثِ فَيُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ لِهَذَا وَالْمَرِيضَةُ إذَا اخْتَلَعَتْ فَإِنَّمَا الْتَزَمَتْ الْمَالَ لَا بِمُقَابَلَةِ مَا هُوَ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهَا فَاعْتُبِرَ مِنْ الثُّلُثِ كَذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّهُ يُسَلَّمُ لِلْقَاتِلِ الْمَحَلُّ الْمَمْلُوكُ وَهُوَ نَفْسُهُ وَذَلِكَ مُتَقَوِّمٌ وَهُنَا بِالطَّلَاقِ بَطَلَ مِلْكُ الزَّوْجِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسَلَّمَ لَهَا شَيْءٌ كَانَ قَدْ أَشْرَفَ عَلَى الزَّوَالِ عَنْهَا .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلْمِلْكِ الْوَارِدِ عَلَى الْمَحَلِّ فَأَمَّا تَقَوُّمُ النَّفْسِ بِالدِّيَةِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ فَلِلصِّيَانَةِ عَنْ الْهَدَرِ وَإِظْهَارِ خَطَرِ الْمَحَلِّ وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي مِلْكِ الْقِصَاصِ فَالْعَفْوُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فَيَكُونُ إهْدَارُهُ حَسَنًا بِهَذَا الطَّرِيقِ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ حَيَاةٌ حُكْمًا وَفِي الْعَفْوِ حَيَاةٌ حَقِيقَةً فَلَا يُمْكِنُ إيجَابُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُتْلِفِ هُنَا بِمَعْنَى الصِّيَانَةِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فَرَضَ الزَّوْجُ لَهَا مَهْرًا فَشَهِدَا بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَضَى الْقَاضِي
لَهَا بِالْمُتْعَةِ ثُمَّ رَجَعَا غَرِمَا الْمُتْعَةَ لَهُ فِي النِّكَاحِ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ نِصْفِ الصَّدَاقِ فِي نِكَاحٍ فِيهِ تَسْمِيَةٌ فَكَمَا أَنَّ هُنَاكَ عِنْدَ الرُّجُوعِ يَغْرَمَانِ لِلزَّوْجِ مَا قَضَى بِهِ الْقَاضِي وَهُوَ نِصْفُ الْمَهْرِ فَكَذَلِكَ هُنَا يَغْرَمَانِ لَهُ مَا قَضَى بِهِ الْقَاضِي وَهُوَ الْمُتْعَةُ وَزُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ فِي الْفَصْلَيْنِ لَا يَغْرَمَانِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَهْرِ وَجَبَ عَلَى الزَّوْجِ بِالْعَقْدِ وَإِنَّمَا يَسْقُطُ عَنْهُ نِصْفُهُ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَهُمَا أَسْقَطَا عَنْهُ الْبَعْضَ وَمَا أَوْجَبَا عَلَيْهِ شَيْئًا وَإِنَّمَا ضَمِنَّا فَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يَضْمَنَا لَهَا ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا مِلْكَهَا فِي بَعْضِ الصَّدَاقِ وَفِيمَا قَرَّرْنَا جَوَابٌ عَنْ كَلَامِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَلْفٍ وَالزَّوْجُ يَجْحَدُ وَمَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسُمِائَةٍ وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ طَلَّقَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَقَضَى بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعُوا فَعَلَى شَاهِدَيْ النِّكَاحِ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ وَعَلَى شَاهِدَيْ الطَّلَاقِ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْخَمْسِمِائَةِ إلَى تَمَامِ أَلْفٍ أَلْزَمَهُ شُهُودَ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ بِمُقَابَلَتِهِ وَقَدْ سَقَطَ عَنْهُ نِصْفُ ذَلِكَ بِالطَّلَاقِ وَبَقِيَ النِّصْفُ فَيَغْرَمَانِ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ وَمِقْدَارُ الْخَمْسِمِائَةِ أَلْزَمَاهُ بِعِوَضٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا فِي ذَلِكَ وَلَكِنَّ شُهُودَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ كَأَنَّهُمَا أَلْزَمَاهُ نِصْفَ ذَلِكَ النِّصْفِ تَمْنَعُهُمَا الْعِلَّةُ الْمُسْقِطَةُ مِنْ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلَهَا حِينَ أَضَافَا الْفُرْقَةَ إلَى الزَّوْجِ فَيَضْمَنَانِ ذَلِكَ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَلَوْ شَهِدَ آخَرَانِ أَيْضًا بِالدُّخُولِ فَأَلْزَمَهُ الْقَاضِي أَلْفَ دِرْهَمٍ ثُمَّ رَجَعُوا فَعَلَى شَاهِدَيْ النِّكَاحِ خَمْسُمِائَةٍ الْفَضْلُ عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا ؛ لِأَنَّهُمَا أَلْزَمَاهُ ذَلِكَ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَأَمَّا الْخَمْسُمِائَةِ الْأُخْرَى أَلْزَمَاهُ بِعِوَضٍ يَعْدِلُهُ فَلَا يَضْمَنَانِ لَهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَلَكِنْ بَقِيَ فِي ذَلِكَ شَاهِدَا الدُّخُولِ وَشَاهِدَا التَّطْلِيقِ فَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ عَلَى شَاهِدَيْ الدُّخُولِ وَرُبْعُهُ عَلَى شَاهِدَيْ الطَّلَاقِ بِمَنْزِلَةِ جَمِيعِ الْمُسَمَّى فِي مَسْأَلَةٍ أَوَّلَ الْبَابِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا
وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى امْرَأَةٍ أَنَّهَا اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا عَلَى أَنْ بَرَّأَتْهُ مِنْ الْمَهْرِ وَالزَّوْجُ يَدَّعِي ذَلِكَ وَهِيَ تَجْحَدُ فَقَضَى بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا نِصْفَ الْمَهْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا لَكَانَ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِإِقْرَارِ الزَّوْجِ فَهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِمَا ذَلِكَ النِّصْفَ بِشَهَادَتِهِمَا وَلَوْ كَانَ دَخَلَ بِهَا بَعْدَ الزَّوْجِ وَالْمَهْرُ عَلَيْهِ ضَمِنَا لَهَا جَمِيعَ الْمَهْرِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا لَكَانَ لَهَا جَمِيعُ الْمَهْرِ عَلَى الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ بِإِقْرَارِهِ بَعْدَ الدُّخُولِ فَهُمَا أَتْلَفَا جَمِيعَ الْمَهْرِ عَلَيْهَا بِشَهَادَتِهِمَا بِالْخُلْعِ وَالْإِبْرَاءِ مِنْ الْمَهْرِ فَيَضْمَنَانِ ذَلِكَ لَهَا عِنْدَ الرُّجُوعِ كَشَاهِدَيْ الْإِبْرَاءِ فِي سَائِرِ الدُّيُونِ
وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ بَلْ تَزَوَّجَنِي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَذَلِكَ مَهْرُ مِثْلِهَا فَأَقَامَ الزَّوْجُ شَاهِدَيْنِ بِمَا ادَّعَى وَقَضَى بِذَلِكَ وَقَدْ دَخَلَ بِهَا ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا لَهَا تِسْعَمِائَةٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَلَمْ يَضْمَنْ لَهَا شَيْئًا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ كِتَابِ النِّكَاحِ إذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي الْمَهْرِ وَمَهْرُ الْمِثْلِ مِثْلُ مَا تَقُولُهُ الْمَرْأَةُ فَعِنْدَهُمَا الْقَوْلُ قَوْلُهَا وَعِنْدَهُ الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ وَلَوْلَا شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ لَكَانَ يُقْضَى لَهَا عَلَى الزَّوْجِ بِالْأَلْفِ فَهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهَا بِشَهَادَتِهِمَا مِقْدَارَ تِسْعِمِائَةٍ فَيَضْمَنَانِ لَهَا ذَلِكَ عِنْدَ الرُّجُوعِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي الْمَهْرِ فَالشَّاهِدَانِ لَمْ يُتْلِفَا عَلَى الْمَرْأَةِ شَيْئًا فَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الصَّحِيحَ فِي مَعْنَى الْمُسْتَنْكَرِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يَدَّعِيَ الزَّوْجُ دُونَ الْعَشَرَةِ فَأَمَّا إذَا ادَّعَى نُقْصَانًا كَثِيرًا عَنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ كَمَا فَسَّرَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَضْمَنَا لَهَا شَيْئًا بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الزَّوْجِ بَعْدَ الطَّلَاقِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ فَلَا يَضْمَنَانِ لَهَا شَيْئًا لِذَلِكَ وَذَكَرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْأَصْلِ يَضْمَنَانِ لَهَا أَرْبَعَمِائَةٍ وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا وَهَذَا إنْ صَحَّ فَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ مِنْ تَحْكِيمِ الْمُتْعَةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ عِنْدَهُمَا أَنْ تَكُونَ مُتْعَتُهَا خَمْسَمِائَةٍ فَقَدْ أَتْلَفَا عَلَيْهَا مَا زَادَ عَلَى الْخَمْسِينَ وَذَلِكَ أَرْبَعُمِائَةٍ وَخَمْسُونَ فَيَضْمَنَانِ ذَلِكَ لَهَا وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ لَمْ تُقِرَّ بِالنِّكَاحِ لَمْ يَضْمَنَا لَهَا شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُمَا مَا أَتْلَفَا عَلَيْهَا شَيْئًا مِنْ الْمَالِ إنَّمَا أَتْلَفَا
عَلَيْهَا مِلْكَ الْبُضْعِ بِشَهَادَتِهِمَا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْبُضْعَ لَا يَتَقَوَّمُ عَلَى غَيْرِ الْمُتَمَلِّكِ
وَلَوْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ صَالَحَ مِنْ نَفَقَتِهَا عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ كُلَّ شَهْرٍ فَقَالَ الزَّوْجُ : صَالَحْتُكِ عَلَى خَمْسَةٍ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ صَالَحَهَا عَلَى عَشَرَةٍ فَقَضَى بِهَا ثُمَّ رَجَعَا فَإِنْ كَانَتْ نَفَقَةُ مِثْلِهَا عَشَرَةً أَوْ أَكْثَرَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا فِي مِقْدَارِ نَفَقَةِ مِثْلِهَا فَالشُّهُودُ مَا أَلْزَمُوا الزَّوْجَ شَيْئًا بِغَيْرِ عِوَضٍ وَإِنْ كَانَتْ نَفَقَةُ مِثْلِهَا أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ ضَمِنَا الْفَضْلَ لِلزَّوْجِ فِيمَا مَضَى ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَا شَهَادَتُهُمَا لَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الزَّوْجِ فِي إنْكَارِهِ الْفَضْلَ عَلَى نَفَقَةِ مِثْلِهَا فَإِنَّمَا أَلْزَمَاهُ ذَلِكَ بِشَهَادَتِهِمَا .
وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي لِامْرَأَةٍ بِمَهْرٍ أَوْ مُتْعَةٍ أَوْ نَفَقَةٍ فَمَضَتْ مُدَّةٌ ثُمَّ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَيْهَا بِالِاسْتِيفَاءِ وَقَضَى بِهِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا ذَلِكَ لِلْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ دَيْنًا مُسْتَحَقًّا لَهَا عَلَى الزَّوْجِ فَنَفَقَةُ الزَّوْجَةِ تَصِيرُ دَيْنًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشَّهَادَةَ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مُوجِبُ الضَّمَانِ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَكَذَلِكَ الْوَلَدُ وَكُلُّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِمَّنْ فَرَضَ لَهُ الْقَاضِي النَّفَقَةَ وَهَذَا عَلَى رِوَايَةِ الْجَامِعِ حَيْثُ يَقُولُ إنَّ نَفَقَةَ ذَوِي الْأَرْحَامِ تَصِيرُ دَيْنًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ كِتَابِ النِّكَاحِ يَقُولُ لَا تَصِيرُ ذَلِكَ دَيْنًا بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَإِنْ قَضَى الْقَاضِي فَعَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ شُهُودُ الِاسْتِيفَاءِ لَا يَضْمَنُونَ شَيْئًا وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ التَّوْفِيقِ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ فِيمَا أَمْلَيْنَا مِنْ شَرْحِ الْجَامِعِ
وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى الطَّلَاقِ وَرَجُلَانِ عَلَى الدُّخُولِ ثُمَّ رَجَعَ شَاهِدُ الطَّلَاقِ وَأَحَدُ شَاهِدَيْ الدُّخُولِ ضَمِنُوا جَمِيعًا نِصْفَ الْمَهْرِ عَلَى شَاهِدِ الدُّخُولِ مِنْ ذَلِكَ نِصْفُهُ وَالنِّصْفُ الْبَاقِي عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا ؛ لِأَنَّ فِي النِّصْفِ الَّذِي لَزِمَهُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْ الدُّخُولِ خَاصَّةً بَقِيَ أَحَدُهُمَا عَلَى الشَّهَادَةِ فَتَبْقَى الْحُجَّةُ فِي نِصْفِ ذَلِكَ النِّصْفِ بِبَقَائِهِ فَعَلَى الرَّاجِعِ مِنْهُمَا نِصْفُ ذَلِكَ النِّصْفِ وَفِي النِّصْفِ الْبَاقِي يَبْقَى نِصْفُهُ أَيْضًا بِبَقَائِهِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَإِنَّمَا انْعَدَمَتْ الْحُجَّةُ فِي نِصْفِ ذَلِكَ النِّصْفِ وَقَدْ كَانَ ثَبَتَ بِشَهَادَتِهِمْ جَمِيعًا فَعِنْدَ الرُّجُوعِ يَجِبُ ضَمَانُ ذَلِكَ النِّصْفِ عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا
وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا مَهْرًا فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ صَالَحَهَا مِنْ الْمُتْعَةِ عَلَى عَبْدٍ وَدَفَعَهُ إلَيْهَا وَقَبَضَتْهُ وَهِيَ تُنْكِرُ ذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا فَإِنَّهُمَا يَضْمَنَا الْمُتْعَةَ لَهَا وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ مِثْلِ كِسْوَتِهَا فِي بَيْتِهَا وَلَا يَضْمَنَانِ لَهَا الْعَبْدَ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ حَقِّهَا هُوَ الْمُتْعَةُ وَقَدْ أَتْلَفَا بِشَهَادَتِهِمَا ذَلِكَ عَلَيْهَا ، فَأَمَّا الْعَبْدُ كَانَ مِلْكًا لِلزَّوْجِ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا فَلَا يَضْمَنَانِ لَهَا الْعَبْدَ وَإِنْ شَهِدَا عَلَيْهَا بِقَبْضِهِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ لَهَا بِشَهَادَتِهِمَا وَهِيَ تُنْكِرُ فَلَا يَكُونُ لَهَا أَنْ تُضَمِّنَهُمَا قِيمَةَ الْعَبْدِ مَعَ مَا سَبَقَ مِنْ إنْكَارِهَا وَإِنَّمَا تُضَمِّنُهُمَا أَصْلَ حَقِّهَا وَهُوَ الْمُتْعَةُ فَإِنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِهَا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ضَمِنَا لَهُ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ بِالْمُتْعَةِ عَلَى نِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ فَلَوْلَا شَهَادَتُهُمَا ؛ كَانَ لَهَا هَذِهِ الْخَمْسَةُ فَلِهَذَا ضَمِنَا لَهَا عِنْدَ الرُّجُوعِ الْخَمْسَةَ
وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى الطَّلَاقِ وَشَاهِدَانِ عَلَى الدُّخُولِ وَلَمْ يَكُنْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا فَقُضِيَ بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعُوا ضَمِنَ شَاهِدَا الطَّلَاقِ نِصْفَ الْمُتْعَةِ وَشَاهِدَا الدُّخُولِ بَقِيَّةَ الْمَهْرِ ؛ لِأَنَّ الْمُتْعَةَ فِي نِكَاحٍ لَا تَسْمِيَةَ فِيهِ كَنِصْفِ الْمُسَمَّى فِي نِكَاحٍ فِيهِ تَسْمِيَةُ الْمَهْرِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هُنَاكَ شُهُودُ الطَّلَاقِ يَغْرَمُونَ رُبْعَ الْمُسَمَّى فَكَذَلِكَ هُنَا يَغْرَمُونَ نِصْفَ الْمُتْعَةِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ مَهْرِ الْمِثْلِ ثَابِتٌ بِشَهَادَةِ شُهُودِ الدُّخُولِ فَيَغْرَمُونَ ذَلِكَ عِنْدَ الرُّجُوعِ
وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ بِعَيْنِهَا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهَا لِرَجُلٍ آخَرَ وَآخَرَانِ عَلَى مِائَةٍ مِنْهَا أَنَّهَا لَهُ فَقَضَى لَهُ بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُ شَاهِدَيْ الْمِائَتَيْنِ ضَمِنَ خَمْسِينَ ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ الْمِائَةِ اُسْتُحِقَّ بِشَهَادَتِهِ وَشَهَادَةِ صَاحِبِهِ خَاصَّةً ، وَقَدْ بَقِيَ نِصْفُهُ بِبَقَاءِ صَاحِبِهِ عَلَى الشَّهَادَةِ فَيَغْرَمُ نِصْفَهُ وَذَلِكَ خَمْسُونَ وَإِنْ رَجَعَ أَحَدُ شَاهِدَيْ الْمِائَةِ أَيْضًا لِمَنْ يَضْمَنُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ الْمِائَةِ ثَبَتَ بِشَهَادَةِ الْأَرْبَعِ وَقَدْ بَقِيَ اثْنَانِ عَلَى الشَّهَادَةِ بِتِلْكَ الْمِائَةِ فَلَا يَغْرَمُ الرَّاجِعَانِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابٌ عَنْ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ أَيْضًا ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ ذِمِّيَّانِ لِذِمِّيٍّ عَلَى ذِمِّيٍّ بِمَالِ أَوْ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ فَقَضَى بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا الْمَالَ ، وَقِيمَةُ الْخَمْرِ مِثْلُ قِيمَةِ الْخِنْزِيرِ ) ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الرُّجُوعِ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي ذَلِكَ يَسْتَوُونَ بِالْمُسْلِمِينَ وَيَضْمَنُونَ فِي الْخَمْرِ الْمِثْلَ وَفِي الْخِنْزِيرِ الْقِيمَةَ وَإِنْ كَانَ الشَّاهِدَانِ أَسْلَمَا ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا ضَمِنَا قِيمَةَ الْخِنْزِيرِ ؛ لِأَنَّ الْخِنْزِيرَ لَيْسَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ وَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمَا ضَمَانُ الْقِيمَةِ بِنَفْسِ الْإِتْلَافِ وَإِسْلَامُهُمَا لَا يَمْنَعُ نُفُوذَ ذَلِكَ وَفِي الْخَمْرِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَضْمَنَانِ الْقِيمَةَ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَضْمَنَانِ شَيْئًا بِنَاءً عَلَى إسْلَامِ الْمُسْلِمِينَ الْمَطْلُوبِ بَعْدَ إتْلَافِ الْخَمْرِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْغَصْبِ وَلَوْ لَمْ يُسْلِمْ الشَّاهِدَانِ وَأَسْلَمَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا قِيمَةَ الْخِنْزِيرِ وَلَمْ يَضْمَنَا الْخَمْرَ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمَا مِثْلُ الْخَمْرِ وَإِسْلَامُ الطَّالِبِ يُسْقِطُ الْخَمْرَ لَا إلَى بَدَلٍ فَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فِي حَقِّهِمَا طَالِبٌ فَأَمَّا إتْلَافُ الْخِنْزِيرِ يُوجِبُ الْقِيمَةَ وَإِسْلَامُ الطَّالِبِ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَهَا وَاسْتِيفَاءَهَا
وَلَوْ شَهِدَ ذِمِّيَّانِ بِمَالٍ عَلَى ذِمِّيٍّ وَأَسْلَمَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا لَمْ يَقْضِ بِهَا ؛ لِأَنَّ إسْلَامَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لَوْ اقْتَرَنَ بِشَهَادَتِهِمَا مُنِعَ الْعَمَلُ بِهَا فَكَذَلِكَ إذَا طَرَأَ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَهَذَا لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَقْضِي إلَّا بِحُجَّةٍ وَشَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ
وَإِذَا شَهِدَ مَحْدُودَانِ بِقَذْفٍ بِشَهَادَةٍ وَلَمْ يَعْلَمْ الْقَاضِي بِذَلِكَ حَتَّى قَضَى بِشَهَادَتِهِمَا ثُمَّ عَلِمَ بِذَلِكَ وَلَيْسَ مِنْ رَأْيِهِ إمْضَاؤُهُ فَإِنَّهُ يَرُدُّ الْقَضَاءَ وَيَأْخُذُ الْمَالَ مِنْ الْمَقْضِيِّ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ لَهُ الْخَطَأُ فِي قَضَائِهِ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهَدَاتِ إنَّمَا يَنْفُذُ إذَا صَدَرَ عَنْ اجْتِهَادٍ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ عَنْ اجْتِهَادٍ وَإِنَّمَا كَانَ عَنْ تَلْبِيسٍ وَاشْتِبَاهٍ لَمْ يَنْفُذْ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عَلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْجَامِعِ ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ قَضَاءَهُ فِي الْمُجْتَهَدَاتِ نَافِذٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ اجْتِهَادٍ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْقُضُ قَضَاءَهُ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ الْخَطَأُ بِيَقِينٍ وَفِي الِاجْتِهَادِ لَا يَتَبَيَّنُ ذَلِكَ فَعَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ لَا يُنْقَضُ الْقَضَاءُ هُنَا أَيْضًا
( قَالَ ) وَكَذَلِكَ لَوْ عَلِمَ أَنَّهُمَا عَبْدَانِ أَوْ كَافِرَانِ أَوْ أَعْمَيَانِ أَمَّا فِي الْعَبْدَيْنِ وَالْكَافِرَيْنِ فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ قَضَاءَهُ كَانَ بِخِلَافِ الْإِجْمَاعِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَفِي الْأَعْمَيَيْنِ الْجَوَابُ مِثْلُ الْجَوَابِ فِي الْمَحْدُودَيْنِ فِي الْقَذْفِ ؛ لِأَنَّ قَضَاءَهُ حَصَلَ فِيمَا هُوَ مُجْتَهَدٌ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ الِاجْتِهَادَ وَقَدْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَعْنِي رَدَّ الْقَضَاءِ وَأَخْذَ الْمَالِ مِنْ الْمَقْضِيِّ لَهُ
وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ وَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا قِيمَةَ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ مِلْكًا هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ وَلَا يُمْنَعُ وُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَيْهِمَا بِثُبُوتِ الْوَلَاءِ لِلْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ بَلْ هُوَ كَالنَّسَبِ فَلَا يَكُونُ عِوَضًا عَمَّا أَتْلَفَا عَلَيْهِ مِنْ مِلْكِ الْمَالِ وَلَوْ شَهِدَا عَلَيْهِ أَنَّهُ دَبَّرَهُ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا مَا نَقَصَهُ التَّدْبِيرُ ؛ لِأَنَّهُمَا أَوْجَبَا حَقَّ الْعِتْقِ لِلْعَبْدِ بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا مَا نَقَصَهُ التَّدْبِيرُ ؛ لِأَنَّهُمَا أَوْجَبَا حَقَّ الْعِتْقِ لِلْعَبْدِ وَبِذَلِكَ يُنْقَضُ مِلْكُ الْمَالِيَّةِ لِلْمَوْلَى فَيَضْمَنَانِ ذَلِكَ النُّقْصَانَ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ مِقْدَارَ نُقْصَانِ التَّدْبِيرِ فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى يَخْرُجُ الْعَبْدُ مِنْ ثُلُثِهِ عِتْقٌ وَضَمِنَ الشَّاهِدَانِ قِيمَتَهُ مُدَبَّرًا ؛ لِأَنَّ تَلَفَ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ عِنْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى حَصَلَ بِشَهَادَتِهِمَا فَالتَّدْبِيرُ مُوجِبٌ حَقَّ الْعِتْقِ فِي الْحَالِ وَحَقِيقَةُ الْعِتْقِ فِي الثُّلُثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَدْ كَانَ ضَمِنَا مَا أَتْلَفَاهُ مُعَجَّلًا وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ مُؤَجَّلًا فَيَضْمَنَانِ ذَلِكَ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْإِتْلَافِ وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ عَتَقَ ثُلُثُهُ وَيَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ وَيَضْمَنُ الشَّاهِدَانِ ثُلُثَ الْقِيمَةِ إذَا عَجَّلَ الْعَبْدُ الثُّلُثَيْنِ فَإِنَّ بَدَلَ مَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ قَدْ سُلِّمَ لِلْوَرَثَةِ مِنْ جِهَةِ الْعَبْدِ فَإِتْلَافُ الشَّاهِدَيْنِ لِذَلِكَ حَصَلَ بِعِوَضٍ فَلَا يَضْمَنَانِهِ عِنْدَ الرُّجُوعِ فَأَمَّا مِقْدَارُ الثُّلُثِ أَتْلَفَاهُ عَلَى الْوَرَثَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَيَضْمَنَانِ ثُلُثَ قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا وَلَا يَرْجِعَانِ بِذَلِكَ الثُّلُثِ عَلَى الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُمَا غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي حَقِّ الْعَبْدِ وَإِنْ لَمْ يُعَجِّلْ الْعَبْدُ الثُّلُثَيْنِ مِنْ الْقِيمَةِ وَعَجَزَ عَنْهَا
فَلِلْوَرَثَةِ أَنْ يَرْجِعُوا بِهِ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا حَالَا بَيْنَ الْوَرَثَةِ وَبَيْنَ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ مَالِيَّتِهِ بِشَهَادَتِهِمَا وَالْعِوَضُ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ فَكَأَنَّهُمَا أَتْلَفَا ذَلِكَ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَيَضْمَنَانِ لِلْوَرَثَةِ كَالثُّلُثِ وَيَرْجِعُ الشَّاهِدَانِ بِذَلِكَ عَلَى الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُمَا قَامَا مَقَامَ الْوَرَثَةِ حِينَ ضَمِنَا ذَلِكَ وَقَدْ كَانَ لِلْوَرَثَةِ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْعَبْدِ بِذَلِكَ فَكَذَلِكَ لِمَنْ قَامَ مَقَامَهُ بِخِلَافِ ثُلُثِ الْقِيمَةِ وَحَالُهُمَا فِي الثُّلُثَيْنِ كَحَالِ شُهُودِ الْكِتَابَةِ فَإِنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا عَلَيْهِ أَنَّهُ كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ إلَى سَنَةٍ فَقَضَى بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَا وَهُوَ يُسَاوِي أَلْفَيْنِ أَوْ أَلْفًا فَإِنَّهُمَا يَضْمَنَانِ قِيمَتَهُ ؛ لِأَنَّهُمَا حَالَا بَيْنَ الْمَوْلَى وَبَيْنَ مَالِيَّةِ الْعَبْدِ بِشَهَادَتِهِمَا عَلَيْهِ بِالْكِتَابَةِ فَكَانَا بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبَيْنِ ضَامِنَيْنِ لِلْقِيمَةِ ثُمَّ يَتْبَعَانِ الْمُكَاتَبَ بِالْمُكَاتَبَةِ عَلَى نَحْوِهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا قَامَا مَقَامَ الْمَوْلَى فِي ذَلِكَ حِينَ ضَمِنَا قِيمَتَهُ وَلَا يُعْتَقُ الْمُكَاتَبُ حَتَّى يُؤَدِّيَ مَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ رُجُوعِ الشَّاهِدَيْنِ مَا كَانَ يُعْتَقُ إلَّا بَعْدَ أَدَاءِ جَمِيعِ الْأَلْفِ إلَى الْمَوْلَى فَكَذَلِكَ حَالُهُ مَعَ الشَّاهِدَيْنِ بَعْدَ مَا ضَمِنَا الْقِيمَةَ فَإِذَا أَدَّاهُ عَتَقَ وَالْوَلَاءُ لِلَّذِي كَاتَبَهُ ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ قَامَا مَقَامَ الْمَوْلَى فِي قَبْضِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ مِنْهُ فَأَدَاؤُهُ إلَيْهِمَا كَأَدَائِهِ إلَى الْمَوْلَى وَهَذَا لِأَنَّ رُجُوعَهُمَا فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ غَيْرُ صَحِيحٍ وَقَدْ اسْتَحَقَّ الْمُكَاتَبُ أَنْ يُعْتَقَ عَلَى الْمَوْلَى وَيَكُونَ وَلَاؤُهُ لَهُ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ الْحَقُّ بِرُجُوعِ الشَّاهِدَيْنِ وَإِنْ عَجَزَ وَرُدَّ فِي الرِّقِّ كَانَ لِمَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّ رَقَبَتَهُ لَمْ تَصِرْ مَمْلُوكَةً لِلشَّاهِدَيْنِ فَالْمُكَاتَبُ لَيْسَ بِمَحَلِّ النَّقْلِ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ فَرُجُوعُهُمَا غَيْرُ صَحِيحٍ فِي حَقِّهِ وَيَرُدُّ الْمَوْلَى مَا
أَخَذَ مِنْ الشُّهُودِ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ الْحَيْلُولَةَ قَدْ زَالَتْ بِعَجْزِ الْمُكَاتَبِ فَهُوَ نَظِيرُ غَاصِبِ الْمُدَبَّرِ إذَا ضَمِنَ الْقِيمَةَ بَعْدَ مَا أَبَقَ ثُمَّ رَجَعَ فَيَكُونُ مَرْدُودًا عَلَى مَوْلَاهُ وَيَرُدُّ الْمَوْلَى عَلَى الْغَاصِبِ مَا أَخَذَ مِنْهُ
وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ حَلَفَ بِعِتْقِهِ إنْ دَخَلَ هَذِهِ الدَّارَ وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ قَدْ دَخَلَهَا فَقَضَى بِعِتْقِهِ ثُمَّ رَجَعُوا جَمِيعًا ضَمِنَ شَاهِدُ الْيَمِينِ قِيمَةَ الْعَبْدِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى شَاهِدَيْ الدُّخُولِ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ تَلَفَ الْمَالِ حَصَلَ بِشَهَادَةِ الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا وَلَكِنَّا نَقُولُ شُهُودُ الْيَمِينِ أَثْبَتُوا بِشَهَادَتِهِمْ الْعِلَّةَ الْمُوجِبَةَ لِلْعِتْقِ وَهُوَ قَوْلُهُ أَنْتَ حُرٌّ وَشُهُودُ الدُّخُولِ إنَّمَا أَثْبَتُوا شَرْطَ الْعِتْقِ وَالشَّرْطُ لَا يُعَارِضُ الْعِلَّةَ فِي إحَالَةِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ فَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى عِلَّتِهِ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ بِهَا شَرْعًا وَإِلَى الشَّرْطِ مَجَازًا ؛ لِأَنَّهُ مَوْجُودٌ عِنْدَ الشَّرْطِ لَا بِهِ وَالْمَجَازُ لَا يُعَارِضُ الْحَقِيقَةَ بَلْ مَتَى كَانَتْ الْعِلَّةُ صَالِحَةً لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا لَا يُضَافُ شَيْءٌ إلَى الشَّرْطِ وَهُوَ نَظِيرُ حَافِرِ الْبِئْرِ مَعَ الْمُلْقِي فَإِنَّ الضَّمَانَ عَلَى الْمُلْقِي دُونَ الْحَافِرِ وَعَلَى الْقَائِدِ دُونَ الْمُمْسِكِ لِهَذَا الْمَعْنَى وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي مَسْأَلَةِ شُهُودِ الْإِحْصَانِ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ وَلَمْ يُذْكَرْ هُنَا أَنَّ الْيَمِينَ لَوْ كَانَتْ ثَابِتَةً بِإِقْرَارِ الْمَوْلَى وَشَهِدَ شَاهِدَانِ بِالشَّرْطِ ثُمَّ رَجَعَا ظَنَّ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُمَا يَضْمَنَانِ فِي هَذَا الْفَصْلِ وَقَالُوا إنَّ الْعِلَّةَ لَا تَصْلُحُ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا هُنَا فَإِنَّهَا لَيْسَتْ تَتَعَدَّى فَيَكُونُ الْحُكْمُ مُضَافًا إلَى الشَّرْطِ عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ يُجْعَلُ خَلَفًا عَنْ الْعِلَّةِ هُنَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْحُكْمَ يُضَافُ إلَيْهِ وُجُودًا عِنْدَهُ وَشَبَهُ هَذَا حَفْرُ الْبِئْرِ وَهُوَ غَلَطٌ بَلْ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّ شُهُودَ الشَّرْطِ لَا يَضْمَنُونَ بِحَالٍ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الزِّيَادَاتِ .
وَهَذَا لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتَ حُرٌّ مُبَاشَرَةُ الْإِتْلَافِ لِلْمَالِيَّةِ ، وَعِنْدَ وُجُودِ مُبَاشَرَةِ الْإِتْلَافِ الْحُكْمُ يُضَافُ إلَيْهِ دُونَ
الشَّرْطِ سَوَاءٌ كَانَ بِطَرِيقِ التَّعَدِّي بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْحَفْرِ فَالْعِلَّةُ هُنَاكَ ثِقَلُ الْمَاشِي وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْإِتْلَافِ فِي شَيْءٍ فَلِهَذَا يُجْعَلُ الْإِتْلَافُ مُضَافًا إلَى الشَّرْطِ وَهُوَ إزَالَةُ الْمَسْكَةِ بِحَفْرِ الْبِئْرِ الَّذِي فِي الطَّرِيقِ
وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَنْ مُدَبَّرٍ مِنْهُ وَآخَرَانِ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ أَلْبَتَّةَ فَقَضَى بِهِ ثُمَّ رَجَعُوا فَضَمَانُ الْقِيمَةِ عَلَى شَاهِدَيْ الْعِتْقِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى شَاهِدَيْ التَّدْبِيرِ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ كَانَ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْ الْعِتْقِ فَمَنَعَ جَرَّ الْعِتْقِ الْمُضَافِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ
وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَا التَّدْبِيرِ فَقَضَى الْقَاضِي بِهِ ثُمَّ شَهِدَ شَاهِدَا الْعِتْقِ فَقَضَى بِهِ ثُمَّ رَجَعُوا فَعَلَى شَاهِدَيْ التَّدْبِيرِ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ مَا نَقَصَهُ التَّدْبِيرُ ذَلِكَ الْجَرُّ تَلِفَ بِشَهَادَتِهِمَا حِينَ قَضَى بِهَا الْقَاضِي وَيَضْمَنُ شَاهِدَا الْعِتْقِ قِيمَتَهُ مُدَبَّرًا ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا مَالِيَّةَ الْمَوْلَى بِشَهَادَتِهِمَا ، وَعِنْدَ شَهَادَتِهِمَا كَانَ هُوَ مُدَبَّرًا فَيَضْمَنَانِ ذَلِكَ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَلَوْ كَانَ شَاهِدَا الْعِتْقِ عَلَى الثِّيَابِ شَهِدَا أَنَّهُ أَعْتَقَهُ قَبْلَ التَّدْبِيرِ فَأَعْتَقَهُ الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعُوا ضَمِنَ شَاهِدُ الْعِتْقِ قِيمَتَهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَى شَاهِدَيْ التَّدْبِيرِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ شَاهِدَيْ التَّدْبِيرِ مَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ شَيْئًا وَأَنَّ الْقَاضِيَ أَخْطَأَ فِي قَضَائِهِ بِالتَّدْبِيرِ حِينَ قَامَتْ الْحُجَّةُ عَلَى الْحُرِّيَّةِ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنَّمَا حَصَلَ تَلَفُ الْمَالِيَّةِ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْ الْعِتْقِ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا عِنْدَ الرُّجُوعِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا أَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ مِنْ هَذَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَوَقَّتَا لِذَلِكَ وَقْتًا قَبْلَ التَّدْبِيرِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُبْطِلُ التَّدْبِيرَ وَيُنْفِذُ الْبَيْعَ فَإِنْ رَجَعُوا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ شُهُودُ التَّدْبِيرِ شَيْئًا وَضَمِنَ شُهُودُ الْبَيْعِ فَضْلَ الْقِيمَةِ عَلَى الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ فِي الْفَضْلِ حَصَلَ بِشَهَادَتِهِمْ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَإِنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ أَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِي هُوَ الْمُنْكِرُ ضَمِنَا لِلْمُشْتَرِي فَضْلَ الثَّمَنِ عَلَى الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ الْفَضْلَ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَلَوْ كَانَ سَوَاءً وَشَهِدَا أَنَّهُ نَقَدَ الثَّمَنَ وَالْبَائِعُ مُنْكِرٌ ثُمَّ رَجَعَا عَنْ الْبَيْعِ وَلَمْ يَرْجِعَا عَنْ نَقْدِ الثَّمَنِ لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُمَا بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْبَيْعِ أَزَالَ مِلْكَهُ عَنْ الْعَبْدِ بِعِوَضٍ يَعْدِلُهُ وَهُمَا ثَابِتَانِ عَلَى شَهَادَتِهِمَا بِنَقْدِ الثَّمَنِ فَهُوَ وَمَا لَوْ شَهِدَ بِهِ غَيْرُهُمَا سَوَاءٌ وَلَوْ رَجَعَ عَنْ
نَقْدِ الثَّمَنِ ضَمِنَ الثَّمَنَ ؛ لِأَنَّهُمَا أَقَرَّا بِالرُّجُوعِ أَنَّهُمَا أَتْلَفَا مِلْكَ الْبَائِعِ فِي الثَّمَنِ بِشَهَادَتِهِمَا عَلَيْهِ بِالِاسْتِيفَاءِ وَلَوْ كَانَ الْبَائِعُ هُوَ الْمُدَّعِي وَالْمُشْتَرِي يَجْحَدُ لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُمَا أَدْخَلَا فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي مَا يَعْدِلُ مَا أَلْزَمَاهُ مِنْ الثَّمَنِ .
وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ إلَى سَنَةٍ وَقِيمَتُهُ خَمْسُمِائَةٍ فَأَجَازَ الْقَاضِي ذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَا فَاخْتَارَ الْمَوْلَى ضَمَانَ الشَّاهِدَيْنِ فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمَا حَالَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِيَّةِ الْعَبْدِ بِشَهَادَتِهِمَا وَبَدَلُ الْكِتَابَةِ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ الْمُفْلِسِ كَالتَّاوِي فَإِنْ قَبَضَ الْمَوْلَى مِنْهُمَا الْقِيمَةَ لَمْ يُعْتَقْ الْمُكَاتَبُ حَتَّى يُؤَدِّيَ أَلْفَ دِرْهَمٍ إلَى الشَّاهِدَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا قَامَا مَقَامَ الْمَوْلَى فِي اسْتِيفَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ حِينَ ضَمَّنَهُمَا الْقِيمَةَ وَيَتَصَدَّقَانِ بِالْفَضْلِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رِبْحٌ حَصَلَ لَهُمَا بِكَسْبٍ خَبِيثٍ وَهُوَ شَهَادَةُ الزُّورِ وَإِنْ لَمْ يُجْبَرْ الْمَوْلَى يَضْمَنُهُمَا وَلَكِنْ جَعَلَ يَتَقَاضَى الْمُكَاتَبُ حَتَّى قَبَضَ مِنْهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ أَوْ لَمْ يَقْبِضْهَا غَيْرَ أَنَّهُ عَلِمَ بِرُجُوعِ الشَّاهِدَيْنِ فَهَذَا اخْتِيَارٌ لِلْمُكَاتَبَةِ وَلَا يَضْمَنُ الشَّاهِدَانِ شَيْئًا أَبَدًا مَا خَلَا خُصْلَةً وَاحِدَةً وَهِيَ أَنْ تَكُونَ الْمُكَاتَبَةُ أَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ فَإِنَّ هُنَا لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمُكَاتَبَ بِالْمُكَاتَبَةِ وَيَرْجِعَ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ بِفَضْلِ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ مَا عَلِمَ بِرُجُوعِ الشَّاهِدَيْنِ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ تَضْمِينِ الشَّاهِدَيْنِ الْقِيمَةَ وَمُطَالَبَةِ الْمُكَاتَبِ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ فَاخْتِيَارُهُ اتِّبَاعَ الْمُكَاتَبِ بِالتَّقَاضِي مِنْهُ يَتَضَمَّنُ بَرَاءَةَ الشَّاهِدَيْنِ كَمَا فِي الْغَصْبِ مَعَ غَاصِبِ الْغَاصِبِ وَلَكِنَّ هَذَا فِي مِقْدَارِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَأَمَّا مَا زَادَ عَلَيْهِ إلَى تَمَامِ الْقِيمَةِ فَحَقُّهُ فِيهِ قَبْلَ الشَّاهِدَيْنِ خَاصَّةً فَلَا يَكُونُ اخْتِيَارُهُ اتِّبَاعَ الْمُكَاتَبِ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ أَبْرَأَ الشَّاهِدَيْنِ عَنْ ذَلِكَ الْفَضْلِ فَلِهَذَا يَرْجِعُ عَلَيْهِمَا بِهِ .
وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ مِنْ رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إلَى سَنَةٍ وَقِيمَتُهُ خَمْسُمِائَةٍ وَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي ذَلِكَ وَالْبَائِعُ يَجْحَدُ فَأَجَازَ الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَا فَهُوَ
مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يَبِيعَ الْمُشْتَرِيَ الثَّمَنَ وَبَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَ الشَّاهِدَيْنِ الْقِيمَةَ لِإِتْيَانِهِمَا الْحَيْلُولَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مِلْكِهِ فِي الْحَالِ وَالْبَدَلُ لَا يَصِلُ إلَيْهِ إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ الْأَجَلِ فَإِنْ ضَمَّنَ الشَّاهِدَيْنِ الْقِيمَةَ ؛ قَامَا مَقَامَهُ فِي الرُّجُوعِ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ وَتَصَدَّقَا بِالْفَضْلِ ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُمَا بِكَسْبٍ خَبِيثٍ ؛ وَلِأَنَّهُ مِنْ وَجْهٍ كَالْمِلْكِ لِلثَّمَنِ مِنْهُمَا فَإِنْ اسْتَوْفَى مِنْهُمَا مِنْ الْقِيمَةَ وَتَمْلِيكِ الْأَلْفِ بِالْخَمْسِمِائَةِ رِبًا فَلِشَبَهِهِ بِالرِّبَا يَلْزَمُهُمَا التَّصَدُّقُ بِالْفَضْلِ وَإِنْ اخْتَارَ الْمَوْلَى اتِّبَاعَ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ بِشَيْءٍ أَبَدًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْهُ رِضًا بِالْبَيْعِ بِالثَّمَنِ الْمُؤَجَّلِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ تَقَاضَى الْمُشْتَرِي بَعْدَ رُجُوعِهِمَا فَذَلِكَ مِنْهُ رِضًا بِالثَّمَنِ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي فَيَكُونُ مُبْرِئًا لَهُمَا بِاخْتِيَارِ اتِّبَاعِ الْمُشْتَرِي فَلَا يَتْبَعُ الشَّاهِدَيْنِ بِشَيْءٍ بَعْدَهُ أَبَدًا نَوَى مَالَهُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَوْ خَرَجَ
وَإِذَا شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ حَلَفَ بِعِتْقِ عَبْدِهِ أَنَّ فِي قَيْدِهِ عَشَرَةَ أَرْطَالٍ وَحَلَفَ الرَّجُلُ بِعِتْقِهِ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي أَنْ لَا يَحِلَّ الْقَيْدُ أَبَدًا فَشَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى الْمَوْلَى أَنَّ فِي قَيْدهِ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ فَأَعْتَقَهُ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا ثُمَّ أَطْلَقَهُ مِنْ الْقَيْدِ ثُمَّ نَظَرَ إلَى الْقَيْدِ فَإِذَا فِيهِ عَشَرَةُ أَرْطَالٍ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : عَلَى الشَّاهِدَيْنِ قِيمَةُ الْعَبْدِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ لَا ضَمَانَ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ اخْتِلَافِهِمْ فِي نُفُوذِ قَضَاءِ الْقَاضِي بِشَهَادَةِ الزُّورِ بَاطِنًا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمَّا نَفَذَ قَضَاؤُهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَإِنَّمَا عَتَقَ بِشَهَادَتِهِمَا قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ الْقَيْدَ ، وَعِنْدَهُمَا لَمْ يَنْفُذْ قَضَاؤُهُ بَاطِنًا فَإِنَّمَا عَتَقَ بِحَلِّ الْقَيْدِ لَا بِشَهَادَتِهِمَا وَالشُّهُودُ فِي الصُّورَةِ يَشْهَدُونَ بِالشَّرْطِ وَلَكِنْ فِي الْمَعْنَى يَشْهَدُونَ بِتَنْجِيزِ الْعِتْقِ ؛ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْعِتْقِ بِشَرْطٍ مَوْجُودٍ تَنْجِيزٌ وَلَا يُقَالُ كَيْفَ يَنْفُذُ قَضَاءُ الْقَاضِي بَاطِنًا وَظَاهِرًا هُنَا وَقَدْ تَيَقَّنَّا بِكَذِبِهِمْ بِمَعْرِفَةِ وَزْنِ الْقَيْدِ فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ ظَهَرَ نَصٌّ بِخِلَافِ قَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ ظَهَرَ أَنَّ الشُّهُودَ عَبِيدٌ أَوْ كُفَّارٌ وَهَذَا لِأَنَّ الْقَاضِيَ حِينَ قَضَى بِالْعِتْقِ لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا بِمَعْرِفَةِ وَزْنِ الْقَيْدِ حَقِيقَةً ؛ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إلَيْهِ مَا لَمْ يَحِلَّ الْقَيْدُ وَحَلُّ الْقَيْدِ مُعْتِقٌ لِلْعَبْدِ وَقَضَاؤُهُ إنَّمَا يَنْفُذُ بَاطِنًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ سَقَطَ عَنْهُ تَعَرُّفُ مَا لَا طَرِيقَ لَهُ إلَى مَعْرِفَتِهِ وَهَذَا مَوْجُودٌ هُنَا وَلَوْ لَمْ يُحِلَّهُ وَعَلِمَ أَنَّهُمَا شَهِدَا بِبَاطِلٍ ؛ رُدَّ فِي الرِّقِّ عِنْدَهُمَا ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي لَهُ يَنْفُذُ بَاطِنًا وَكَذَلِكَ لَوْ هَلَكَ الْعَبْدُ وَأَقَرَّ
أَنَّهُمَا شَهِدَا بِزُورٍ فَهُوَ وَمَا سَبَقَ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّهُمَا رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي فَذَلِكَ كَمَعْرِفَةِ الْقَاضِي كَذِبَهُمَا أَوْ أَقْوَى مِنْهُ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِمَا .
وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَامَ أَوَّلٍ فِي رَمَضَانَ فَأَجَازَ الْقَاضِي شَهَادَتَهُمَا وَأَعْتَقَهُ ثُمَّ رَجَعَا وَضَمَّنَهُمَا الْقِيمَةَ أَوْ لَمْ يُضَمِّنْهُمَا حَتَّى شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ عَامَ أَوَّلٍ فِي شَوَّالٍ فَإِنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْآخَرَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ بِعِتْقِهِ بِشَهَادَةِ الْأَوَّلَيْنِ فِي أَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ حُكْمَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي جَزَاءِ جِنَايَتِهِ وَحُدُودِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ حُكْمُ الْأَحْرَارِ فَالْفَرِيقُ الثَّانِي إنَّمَا شَهِدُوا بِإِعْتَاقِ مَنْ هُوَ مَحْكُومٌ بِحُرِّيَّتِهِ وَذَلِكَ لَغْوٌ وَعَلَى الْأَوَّلَيْنِ ضَمَانُ الْقِيمَةِ يَوْمَ أَعْتَقَهُ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُمَا بِالرُّجُوعِ أَقَرَّ أَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ مَالِيَّتَهُ حِينَ أَعْتَقَهُ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا بِالزُّورِ وَإِقْرَارُهُمَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمَا فَيَضْمَنَانِ قِيمَتَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا عَلَى أَنَّ مَوْلَاهُ أَقَرَّ بِهِ حِينَ وُلِدَ أَنَّهُ لِهَذَا الرَّجُلِ وَأَنْكَرَ الْمَوْلَى وَشَهِدَ يَوْمَ شَهِدُوا وَالْعَبْدُ رَجُلٌ شَابٌّ ثُمَّ قَضَى بِهِ الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا قِيمَتَهُ يَوْمَ قَضَى الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ مَالِيَّتَهُ فِيهِ يَوْمئِذٍ وَلَوْ شَهِدَا عَلَيْهِ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَامَ أَوَّلٍ فِي رَمَضَانَ فَقَضَى بِهِ الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَا ثُمَّ شَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ أَوَّلَ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ أَوَّلُ مِنْ عَامِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ شَهَادَةَ الْآخَرَيْنِ مَقْبُولَةٌ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْأَوَّلَيْنِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى عِتْقِ الْعَبْدِ لَا تُقْبَلُ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى وَلَا مُدَّعِي لِمَا شَهِدَ بِهِ الْفَرِيقُ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مَحْكُومٌ بِحُرِّيَّتِهِ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَدَّعِيَ بِشَهَادَتِهِمَا وَالْفَرِيقُ الْأَوَّلُ لَا تَصِحُّ مِنْهُمْ الدَّعْوَى ؛
لِأَنَّ كَلَامَهُمْ مُتَنَاقِضٌ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الشَّهَادَةُ عَلَى عِتْقِ الْعَبْدِ مَقْبُولَةٌ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى فَيَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْفَرِيقِ الثَّانِي فِي عِتْقِهِ فِي وَقْتٍ سَابِقٍ عَلَى الْوَقْتِ الَّذِي شَهِدَ بِهِ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ وَيَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّهُمَا شَهِدَا بِأَنَّهُ أَعْتَقَ حُرًّا فَيَسْقُطُ الضَّمَانُ عَنْهُمَا كَذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ شَهَادَةُ الْفَرِيقِ الثَّانِي بَعْدَ وَقْتِ الْعِتْقِ الْأَوَّلِ حَتَّى قَالُوا إذَا كَانَ هُنَاكَ مَنْ يَدَّعِي حُرِّيَّتَهُ فِي وَقْتٍ سَابِقٍ عَلَى الْوَقْتِ الَّذِي شَهِدَ بِهِ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ بِأَنْ كَانَ يَدَّعِي عَلَيْهِ حَدًّا أَوْ قِصَاصًا فِي الطَّرِيقِ فَإِنَّ شَهَادَةَ الْفَرِيقِ الثَّانِي مَقْبُولَةٌ وَيَسْقُطُ بِهِ الضَّمَانُ عَنْ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ لِوُجُودِ الْمُدَّعِي لِمَا شَهِدَ بِهِ الْفَرِيقُ الثَّانِي وَلَوْ شَهِدُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ عَامَ أَوَّلٍ فِي رَمَضَانَ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَقَضَى بِهِ الْقَاضِي وَأَلْزَمَهُ بِنِصْفِ الْمَهْرِ ثُمَّ رَجَعَا فَضَمَّنَهُمَا الْقَاضِي بِنِصْفِ الْمَهْرِ ثُمَّ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ طَلَّقَهَا عَامَ أَوَّلٍ فِي شَوَّالٍ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ الْأَوَّلَانِ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مُطَلَّقَةً بِقَضَاءِ الْقَاضِي فِي وَقْتٍ سَابِقٍ عَلَى الْوَقْتِ الَّذِي شَهِدَ بِهِ الْفَرِيقُ الثَّانِي فَإِنَّمَا شَهِدَ بِهِ الْفَرِيقُ الثَّانِي بِطَلَاقِ مَنْ هِيَ أَجْنَبِيَّةٌ مِنْهُ فِي الْحُكْمِ فَكَانَ ذَلِكَ لَغْوًا وَلَوْ أَقَرَّ الزَّوْجُ بِذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي ؛ لَمْ يَكُنْ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ ضَمَانٌ وَرَدَّ عَلَيْهِمَا مَا كَانَ ضَمِنَا لَهُ
وَكَذَلِكَ إقْرَارُ الْمَوْلَى فِي الْعِتْقِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى بِإِقْرَارِهِ يَزْعُمُ أَنَّ تَلَفَ الْمَالِيَّةِ عَلَيْهِ وَتَقَرُّرَ نِصْفِ الصَّدَاقِ كَانَ بِمُبَاشَرَتِهِ الطَّلَاقَ وَالْعَتَاقَ لَا بِشَهَادَتِهِمَا وَمُبَاشَرَةُ ذَلِكَ رِضًا مِنْهُ ضَرُورَةٌ وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ الشُّهُودَ مَا أَتْلَفُوا عَلَيْهِ شَيْئًا حِينَ قَضَى الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمْ بِخِلَافِ الْبَيِّنَةِ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَالْقَاضِي لَا يَقْضِي بِشَهَادَةِ الْفَرِيقِ الثَّانِي بَعْدَ مَا قَضَى بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِي وَقْتٍ مُتَقَدِّمٍ بِشَهَادَةِ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ وَلَوْ شَهِدَ الْفَرِيقُ الثَّانِي بِالطَّلَاقِ فِي وَقْتٍ مُتَقَدِّمٍ عَلَى الْوَقْتِ الَّذِي شَهِدَ بِهِ الْفَرِيقُ الْأَوَّلُ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى الطَّلَاقِ تُقْبَلُ حِسْبَةً مِنْ غَيْرِ دَعْوَى وَتَبَيَّنَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ أَنَّ الْفَرِيقَ الْأَوَّلَ مَا أَكَّدَ عَلَيْهِ شَيْئًا مِنْ الصَّدَاقِ بِشَهَادَتِهِمَا فَيَسْقُطُ الضَّمَانُ عَنْهُمَا وَلَوْ شَهِدَا عَلَيْهِ أَنَّهُ حَلَفَ بِعِتْقِ عَبْدِهِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ وَأَنْكَرَ ذَلِكَ الْمَوْلَى ثُمَّ دَخَلَ الْعَبْدُ الدَّارَ فَقَضَى الْقَاضِي بِعِتْقِهِ ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا ضَمِنَا قِيمَتَهُ ؛ لِأَنَّهُمَا أَثْبَتَا سَبَبَ إتْلَافِ الْمَالِيَّةِ بِشَهَادَتِهِمَا وَهُوَ الْيَمِينُ فَعِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ إنَّمَا يُعْتَقُ الْعَبْدُ بِالْيَمِينِ لَا بِوُجُودِ الشَّرْطِ
وَلَوْ ادَّعَى الْعَبْدُ أَنَّ مَوْلَاهُ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَهِيَ قِيمَتُهُ وَقَالَ الْمَوْلَى كَاتَبْتُهُ عَلَى أَلْفَيْنِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ عَلَى الْمُكَاتَبِ فَأَدَّاهَا ثُمَّ رَجَعَا فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُضَمِّنُهُمَا أَلْفَ دِرْهَمٍ لِلْمُكَاتَبِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا لَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُكَاتَبِ لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْآخَرِ فَمَا زَادَ عَلَى الْأَلْفِ إنَّمَا لَزِمَهُ بِشَهَادَتِهِمَا فَيَضْمَنَانِ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَلَوْ كَانَ الْمُكَاتَبُ لَمْ يَدَّعِ الْمُكَاتَبَةَ وَقَالَ مَوْلَاهُ كَاتَبْتُهُ عَلَى أَلْفَيْنِ فَجَحَدَ الْمُكَاتَبُ ذَلِكَ وَأَقَامَ الْمَوْلَى بَيِّنَةً فَإِنَّهُ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ إنَّمَا تُقْبَلُ إذَا كَانَتْ مُلْزِمَةً وَهَذِهِ بَيِّنَةٌ لَا يَلْزَمُ الْعَبْدُ شَيْئًا فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يُعَجِّزَ نَفْسَهُ لِيَفْسَخَ الْكِتَابَةَ فَلَا مَعْنَى لِقَبُولِ الْبَيِّنَةِ مِنْ الْمَوْلَى عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنْ يُقَالُ لِلْمُكَاتَبِ إنْ شِئْتَ فَامْضِ عَلَى الْكِتَابَةِ وَإِنْ شِئْتَ فَدَعْهَا وَكُنْ رَقِيقًا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَهُنَاكَ يَدَّعِي الْعَبْدُ الْكِتَابَةَ فَنَّدَ دَعْوَاهُ الْكِتَابَةَ إنَّمَا يَلْزَمُهُ مِقْدَارُ الْأَلْفَيْنِ بِشَهَادَتِهِمَا فَلِهَذَا وَجَبَ قَبُولُ شَهَادَتِهِمَا فَإِنْ كَانَ الْمُكَاتَبُ يَدَّعِي أَنَّهُ حُرٌّ فَجَاءَ الْمَوْلَى بِشَاهِدَيْنِ فَشَهِدَا أَنَّهُ كَاتَبَهُ عَلَى أَلْفَيْنِ فَقَضَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَأَدَّى الْمَالَ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا الْأَلْفَيْنِ لِلْمُكَاتَبِ وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمَا أَلْزَمَاهُ الْأَلْفَيْنِ بِشَهَادَتِهِمَا فَإِنَّهُ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا لَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ حُرٌّ وَقَدْ أَقَرَّ بِالرُّجُوعِ أَنَّهُمَا أَلْزَمَاهُ الْأَلْفَيْنِ بِغَيْرِ حَقٍّ بِشَهَادَتِهِمَا فَيَضْمَنَانِ لَهُ ذَلِكَ
وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ عَبْدٌ لِهَذَا الرَّجُلِ فَقَضَى الْقَاضِي بِهِ ثُمَّ أَعْتَقَهُ عَلَى مَالٍ ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا لَمْ يَضْمَنَا لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُمَا مَا أَلْزَمَاهُ مَالًا بِالشَّهَادَةِ إنَّمَا أَبْطَلَا حُرِّيَّتَهُ وَأَلْزَمَاهُ الرِّقَّ بِشَهَادَتِهِمَا وَذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا لَيْسَ بِمَالٍ لَا يُضْمَنُ بِالْمَالِ بِالشَّهَادَةِ الْبَاطِلَةِ ثُمَّ الْعَبْدُ الْتَزَمَ الْمَالَ بِاخْتِيَارِهِ حِينَ قَبِلَ الْعِتْقَ بِجُعْلٍ وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الشُّهُودِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَقَدْ أَلْزَمَهُ الْمَالَ هُنَاكَ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُمَا لَوْ ضَمِنَا إنَّمَا يَضْمَنَانِ بِاعْتِبَارِ قَضَاءِ الْقَاضِي بِرِقِّهِ فَذَلِكَ الضَّمَانُ يَكُونُ لِلْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِأَنَّهُ عَبْدُهُ فَمَالُهُ يَكُونُ لِمَوْلَاهُ وَالْمَوْلَى يُكَذِّبُهُمَا فِي الرُّجُوعِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْمُكَاتَبِ فَهُنَاكَ إنَّمَا يَضْمَنَانِ الْمَالَ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لَا لِمَوْلَاهُ وَهُوَ مُصَدِّقٌ لَهُمَا فِي الرُّجُوعِ
وَلَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَأَعْتَقَهُ الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَا فَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الشَّاهِدَيْنِ الْأَلْفَ وَيَرْجِعَانِ عَلَى الْعَبْدِ بِخَمْسِمِائَةٍ ؛ لِأَنَّهُمَا قَامَا مَقَامَ الْمَوْلَى فِي ذَلِكَ وَإِنْ شَاءَ رَجَعَ عَلَى الْعَبْدِ بِخَمْسِمِائَةٍ وَأَيُّهُمَا اخْتَارَ ضَمَانَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْآخَرِ بَعْدَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ أَبَدًا بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ مَعَ غَاصِبِ الْغَاصِبِ إذَا اخْتَارَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ تَضْمِينَ أَحَدِهِمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ فِي النَّسَبِ وَالْوَلَاءِ وَالْمَوَارِيثِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ ابْنُ رَجُلٍ وَالْأَبُ يَجْحَدُ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ وَأَنَّهُ وَارِثُهُ فَقَضَى بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ ) ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَشْهَدُوا عَلَيْهِ بِمَالٍ إنَّمَا أَلْزَمُوهُ النَّسَبَ بِشَهَادَتِهِمْ وَالنَّسَبُ لَيْسَ بِمَالٍ وَلَا يُدْرَى أَيُّهُمَا يَمُوتُ قَبْلَ الْآخَرِ فَيَرِثُهُ الْآخَرُ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ أَنَّ هَذَا مَوْلَاهُ أَعْتَقَهُ وَهُوَ يَمْلِكُهُ وَقَالَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ أَنَا حُرُّ الْأَصْلِ ثُمَّ رَجَعُوا بَعْدَ الْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِمْ لَمْ يَضْمَنُوا شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُمْ أَلْزَمُوهُ الْوَلَاءَ بِشَهَادَتِهِمْ وَالْوَلَاءُ كَالنَّسَبِ لَيْسَ بِمَالٍ وَلَوْ مَاتَ فَوَرِثَهُ ثُمَّ رَجَعُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ لَمْ يَضْمَنُوا شَيْئًا أَبَدًا ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ بِالنَّسَبِ أَوْ الْوَلَاءِ كَانَتْ فِي حَالِ الْحَيَاةِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ شَهَادَةً بِالْمِيرَاثِ وَهَذَا لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمِيرَاثِ بِالنَّسَبِ وَالْمَوْتِ جَمِيعًا فَكَانَ حُكْمًا مُتَعَلِّقًا بِعِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ فَإِنَّمَا يُحَالُ بِهِ عَلَى آخِرِ الْوَصْفَيْنِ وُجُودًا ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ تَتِمُّ بِهِ وَثُبُوتُ الْحُكْمِ بِاعْتِبَارِ كَمَالِ الْعِلَّةِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدَ وَاحِدٌ ثُمَّ آخَرُ فَقَضَى الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَا فَإِنَّهُمَا يَضْمَنَانِ وَلَا يُحَالُ بِالْإِتْلَافِ عَلَى شَهَادَةِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُوجِبُ شَيْئًا بِدُونِ الْقَضَاءِ وَإِنَّمَا يَقْضِي الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا جَمِيعًا فَهُوَ وَمَا لَوْ شَهِدَا مَعًا سَوَاءٌ وَهُنَا السَّبَبُ قَدْ ثَبَتَ قَبْلَ الْمَوْتِ ثُمَّ الْمَوْتُ لَمْ يَكُنْ مَشْهُودًا بِهِ اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ الْوَصْفَيْنِ وُجُودًا
وَلَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ ابْنُ هَذَا الْقَتِيلِ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ وَالْقَاتِلُ يُقِرُّ أَنَّهُ قَتَلَهُ عَمْدًا فَقَضَى الْقَاضِي بِالْقِصَاصِ وَقَتَلَهُ الِابْنُ ثُمَّ رَجَعُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ فِي الْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَضْمَنُونَهُ لِلْوَرَثَةِ الْمَعْرُوفِينَ وَإِنْ أَتْلَفُوهُ بِشَهَادَتِهِمْ عَلَيْهِمْ كَمَا لَوْ شَهِدُوا بِالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ عَلَى الْمَوْلَى يَضْمَنُونَ كُلَّ مَالٍ وَرِثَهُ هَذَا الِابْنُ مِنْ الْقَتِيلِ لِوَرَثَتِهِ الْمَعْرُوفِينَ ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالنَّسَبِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَكَانَ الْمَشْهُودُ بِهِ مُتَمِّمًا عِلَّةَ اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ فَإِنَّمَا يُحَالُ بِاسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ عَلَى شَهَادَتِهِمْ وَقَدْ أَقَرُّوا بِالرُّجُوعِ ثُمَّ إنَّهُمْ أَتْلَفُوهُ عَلَى الْوَرَثَةِ الْمَعْرُوفِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَوْ رَجَعَ شُهُودُ الْعَفْوِ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بِهَا كَانَ الْقِصَاصُ وَاجِبًا عَلَى حَالِهِ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُوجِبُ شَيْئًا مَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِهَا وَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِهَا بَعْدَ مَا رَجَعُوا .
وَلَوْ شَهِدُوا لِرَجُلٍ مُسْلِمٍ كَانَ أَبُوهُ كَافِرًا أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ مُسْلِمًا وَلِلْمَيِّتِ ابْنٌ كَافِرٌ فَقَضَى الْقَاضِي بِمَالِ ابْنِهِ لِلْمُسْلِمِ ثُمَّ رَجَعُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ ضَمِنُوا الْمِيرَاثَ كُلَّهُ لِلْكَافِرِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا شَهَادَتُهُمْ لَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الِابْنِ الْكَافِرِ وَالْمِيرَاثُ كُلُّهُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ كُفْرَ أَبِيهِ فِي الْأَصْلِ فَإِنَّمَا صَارَ الْمِيرَاثُ كُلُّهُ مُسْتَحَقًّا لِلِابْنِ الْمُسْلِمِ بِشَهَادَتِهِمَا فَعِنْدَ الرُّجُوعِ يَضْمَنَانِ ذَلِكَ
وَلَوْ أَسْلَمَ كَافِرٌ ثُمَّ مَاتَ وَلَهُ ابْنَانِ مُسْلِمَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّهُ أَسْلَمَ قَبْلَ مَوْتِ أَبِيهِ وَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَاهِدَيْنِ فَوَرَّثَهُمَا الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَ شُهُودُ أَحَدِهِمَا ضَمِنُوا جَمِيعَ مَا وَرِثَهُ الْآخَرُ ؛ لِأَنَّ الْآخَرَ بِبَيِّنَتِهِ أَثْبَتَ اسْتِحْقَاقَ جَمِيعِ الْمِيرَاثِ لِنَفْسِهِ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا فَالْمَشْهُودُ لَهُ إنَّمَا أَخَذَ نِصْفَ ذَلِكَ بِشَهَادَتِهِمَا لَهُ وَقَدْ أَقَرَّ بِالرُّجُوعِ أَنَّهُمَا شَهِدَا بِغَيْرِ حَقٍّ .
وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ رَجُلٌ عَنْ أَخٍ مَعْرُوفٍ فَادَّعَى آخَرُ أَنَّهُ ابْنُهُ وَشَهِدَ لَهُ بِهِ شَاهِدَانِ وَحَكَمَ لَهُ بِالْمِيرَاثِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا ذَلِكَ لِلْأَخِ ؛ لِأَنَّ الْأَخَ كَانَ مُسْتَحِقًّا بِجَمِيعِ الْمِيرَاثِ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا بِنَسَبِ الِابْنِ وَقَدْ أَقَرَّ بِالرُّجُوعِ أَنَّهُمَا أَتْلَفَا ذَلِكَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ
وَلَوْ كَانَ صَبِيٌّ فِي يَدِ رَجُلٍ لَا يَعْرِفُ أَنَّهُ حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى إقْرَارِهِ أَنَّهُ ابْنُهُ فَأَثْبَتَ الْقَاضِي نَسَبَهُ مِنْهُ ثُمَّ مَاتَ الرَّجُلُ فَقَضَى لَهُ بِمِيرَاثِهِ ثُمَّ رَجَعَا لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا بِالنَّسَبِ فِي حَيَاتِهِ ، وَاسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ إنَّمَا يُحَالُ بِهِ عَلَى آخِرِ الْوَصْفَيْنِ وُجُودًا وَهُوَ الْمَوْتُ دُونَ مَا شَهِدَا بِهِ
وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا لِامْرَأَةٍ بِالنِّكَاحِ عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا فَقَضَى بِهِ ثُمَّ مَاتَ الرَّجُلُ فَوَرِثَتْ مِنْهُ ثُمَّ رَجَعَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا وَلَوْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ بَعْدَ الْمَوْتِ ضَمِنَا جَمِيعَ مَا أَخَذَتْهُ الْمَرْأَةُ ؛ لِأَنَّ آخِرَ الْوَصْفَيْنِ مَا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ هُنَا وَبِهِ يَتِمُّ عِلَّةُ اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ
وَلَوْ كَانَ فِي يَدِ رَجُلٍ عَبْدٌ صَغِيرٌ وَأَمَةٌ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ الصَّبِيَّ ابْنُهُ وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ أَعْتَقَ هَذِهِ الْأَمَةَ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَهُوَ يَجْحَدُ ذَلِكَ فَقَضَى الْقَاضِي بِجَمِيعِ ذَلِكَ ثُمَّ مَاتَ الرَّجُلُ عَنْ بِنْتَيْنِ سِوَى الصَّبِيِّ فَقَضَى الْقَاضِي لِلْمَرْأَةِ بِالْمَهْرِ وَقَسَّمَ الْمَالَ بَيْنَهُمْ عَلَى الْمِيرَاثِ ثُمَّ رَجَعَ الشُّهُودُ عَنْ شَهَادَتِهِمْ فَإِنَّ شُهُودَ الِابْنِ يَضْمَنُونَ قِيمَةَ الِابْنِ لِلْوَرَثَةِ إلَّا نَصِيبَ الِابْنِ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهُمْ أَتْلَفُوا مِلْكَهُ فِي الْعَبْدِ بِشَهَادَتِهِمْ فَإِنَّهُ لَوْلَا شَهَادَتُهُمْ لَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ إنَّ الصَّغِيرَ عَبْدُهُ فَإِنَّهُ لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ وَقَدْ أَقَرَّ عِنْدَ الرُّجُوعِ أَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ ذَلِكَ بِغَيْرِ حَقٍّ فَيَضْمَنَانِ قِيمَتَهُ لِلْمَوْلَى وَيَصِيرُ ذَلِكَ مِيرَاثًا عَنْهُ لِوَرَثَتِهِ لَا أَنَّهُ يَطْرَحُ عَنْهُمَا حِصَّةَ الِابْنِ الْمَشْهُودِ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ يُكَذِّبُهُمَا فِي الرُّجُوعِ وَيَزْعُمُ أَنَّهُمَا كَانَا صَادِقَيْنِ فِي الشَّهَادَةِ بِنَسَبِهِ وَأَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا وَزَعْمُهُ مُعْتَبَرٌ فِي نَصِيبِهِ وَيَضْمَنُ شُهُودُ الْأَمَةِ قِيمَةَ الْأَمَةِ إلَّا مِيرَاثَ الْأَمَةِ مِنْهَا لِهَذَا الْمَعْنَى لَا يَضْمَنُونَ غَيْرَ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا فَيَضْمَنُونَ الْفَضْلَ لِإِقْرَارِهِمْ أَنَّهُمْ أَلْزَمُوهُ ذَلِكَ الْفَضْلَ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَلَكِنْ يَطْرَحُ مِنْ ذَلِكَ حِصَّتَهَا مِنْهُ بِمِيرَاثِهَا ؛ لِأَنَّهَا تُكَذِّبُهُمْ فِي الرُّجُوعِ وَتُصَدِّقُهُمْ فِي الشَّهَادَةِ فَيُعْتَبَرُ زَعْمُهَا فِي حِصَّتِهَا وَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ مِنْ الشُّهُودِ فِيمَا أَخَذَ الْمَشْهُودُ لَهُ مِنْ الْمِيرَاثِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالنَّسَبِ وَالنِّكَاحِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ
وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ أَوْصَى لَهُ بِالثُّلُثِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ فَقَضَى لَهُ ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا ضَمِنَا الثُّلُثَ ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ لَهُ اسْتَحَقَّ الثُّلُثَ بِشَهَادَتِهِمَا فَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ أَوْصَى لَهُ بِالثُّلُثِ فِي حَيَاةِ الْمَيِّتِ وَلَمْ يَخْتَصِمُوا فِي ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ وَفِي هَذَا نَوْعُ إشْكَالٍ فَالْوَصِيَّةُ أُخْتُ الْمِيرَاثِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمْ لَوْ شَهِدُوا بِالنَّسَبِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ لَمْ يَضْمَنُوا شَيْئًا بَعْدَ الْمَوْتِ
وَإِذَا شَهِدُوا بِالْوَصِيَّةِ ضَمِنُوا ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْوَصِيَّةِ عِنْدَ الْمَوْتِ بِالْعَقْدِ لَا بِالْمَوْتِ فَإِنَّ الْمِلْكَ لِلْمُوصَى لَهُ مِلْكٌ مُتَجَدِّدٌ ثَابِتٌ بِالْعَقْدِ بِخِلَافِ الْمِيرَاثِ فَإِنَّهُ خِلَافُهُ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَبْقَى لِلْوَارِثِ مِنْ الْمِلْكِ مَا كَانَ ثَابِتًا لِلْمُورِثِ وَهَذِهِ الْخِلَافَةُ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِالْمَوْتِ يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ الشَّهَادَةَ بِالنَّسَبِ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ وَإِنْ كَانَتْ تُوجِبُ الْمِيرَاثَ بَعْدَ الْمَوْتِ فَفِيهَا مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَمُوتَ الْمَشْهُودُ لَهُ أَوَّلًا فَيَرِثُهُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَلِهَذَا لَا يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الشُّهُودِ وَلَا تَتَحَقَّقُ مِثْلُ هَذِهِ الْمُعَاوَضَةِ فِي الشَّهَادَةِ بِالْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ عَلَى النَّسَبِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَيَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِمَا إذَا رَجَعَا وَلَوْ شَهِدَا بَعْدَ مَوْتِهِ أَنَّهُ أَوْصَى بِهَذِهِ الْجَارِيَةِ لِهَذَا الْمُدَّعِي وَهِيَ تُخْرَجُ مِنْ ثُلُثِهِ فَقَضَى لَهُ بِهَا فَاسْتَوْلَدَهَا ثُمَّ رَجَعَا عَنْ الشَّهَادَةِ ضَمِنَا قِيمَتَهَا يَوْمَ قُضِيَ بِهَا وَلَمْ يَضْمَنَا الْعُقْرَ وَلَا قِيمَةَ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا مِلْكَ الرَّقَبَةِ عَلَى الْوَرَثَةِ بِشَهَادَتِهِمَا لِمِلْكِ الْمُوصَى لَهُ فَيَضْمَنَانِ قِيمَةَ الرَّقَبَةِ كَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَهِدَا بِالْهِبَةِ وَالتَّسْلِيمِ فِي حَيَاةِ صَاحِبِهَا وَكَذَلِكَ لَوْ وُلِدَتْ مِنْ غَيْرِهِ لَمْ يَضْمَنَا لِلْوَرَثَةِ شَيْئًا مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهُمْ مَا اسْتَحَقُّوا الْوَلَدَ ، وَالِاسْتِحْقَاقُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ الْوُجُودِ ، وَعِنْدَ وُجُودِ الْوَلَدِ هِيَ مَمْلُوكَةٌ لِلْمُوصَى لَهُ يَحْكُمُ الْحَاكِمُ دُونَ الْوَرَثَةِ وَإِنْ كَانَتْ مَيْتَةً فَالْقَوْلُ فِي قِيمَتِهَا قَوْلُ الشَّاهِدَيْنِ فِي قِيمَتِهَا لِإِنْكَارِهِمْ الزِّيَادَةَ وَإِنْ كَانَتْ حَيَّةً فَقَالَ الشَّاهِدَانِ قَدْ ازْدَادَتْ قِيمَتُهَا لَمْ يُصَدَّقَا عَلَى ذَلِكَ وَضَمِنَا قِيمَتَهَا الْيَوْمَ إلَّا أَنْ يُقِيمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا قَالَا ؛ لِأَنَّ
قِيمَتَهَا فِي الْحَالِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى قِيمَتِهَا فِيمَا مَضَى وَالْبِنَاءُ عَلَى الظَّاهِرِ وَاجِبٌ وَعَلَى مَنْ يَدَّعِي خِلَافَ الظَّاهِرِ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ ؛ أَخَذَ بِذَلِكَ إلَّا أَنْ تُقِيمَ الْوَرَثَةُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ قِيمَتَهَا يَوْمَ شَهِدَا أَكْثَرُ مِمَّا قَالَ شُهُودُهُمَا فَيُؤْخَذُ بِبَيِّنَةِ الْوَرَثَةِ لِمَا فِيهَا مِنْ إثْبَاتِ الزِّيَادَةِ
وَلَوْ شَهِدَا أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى إلَى هَذَا فِي تَرِكَتِهِ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَا لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُمَا مَا أَتْلَفَا عَلَى الْمَيِّتِ وَلَا عَلَى الْوَرَثَةِ شَيْئًا بِشَهَادَتِهِمَا إنَّمَا نَصَّبَا مَنْ يَحْفَظُ الْمَالَ عَلَيْهِمْ وَيُقَوِّمُ التَّصَرُّفَ فِيهِ لَهُمْ وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ إتْلَافَ شَيْءٍ عَلَيْهِمْ فَإِنْ اسْتَهْلَكَ الْوَصِيُّ الْمَالَ فَهُوَ ضَامِنٌ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَمَانَةً فِي يَدِهِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَشْهَدَا عَلَى اسْتِحْقَاقٍ فِي عِلْمِهِ الْمَالَ بِعَيْنِهِ وَإِنَّمَا أَتْلَفَ الْمَالَ بِاسْتِهْلَاكِ الْوَصِيِّ بِاخْتِيَارِهِ فَيَكُونُ ضَمَانُهُ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى شَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ وَشَاهِدَانِ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ بِحَقٍّ فَقَضَى بِهِ ثُمَّ رَجَعُوا فَعَلَى الشَّاهِدَيْنِ اللَّذَيْنِ شَهِدُوا عَلَى شَهَادَةِ الْأَرْبَعَةِ الثُّلُثَانِ وَعَلَى الشَّاهِدَيْنِ الْآخَرَيْنِ الثُّلُثُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ الضَّمَانُ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ نِصْفَيْنِ ) ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ كُلِّ فَرِيقٍ عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ عِنْدَ الرُّجُوعِ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَتِهِ عَلَى شَهَادَةِ نَفْسِهِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْإِتْلَافَ يَحْصُلُ بِشَهَادَةِ كُلِّ فَرِيقٍ إذَا انْفَرَدَ سَوَاءٌ شَهِدَ عَلَى شَهَادَةِ نَفْسِهِ أَوْ عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِ وَسَوَاءٌ شَهِدَ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ أَوْ شَهَادَةِ أَرْبَعَةٍ فَلَمَّا اسْتَوَيَا فِي عِلَّةِ الْإِتْلَافِ يَسْتَوِيَانِ فِي الضَّمَانِ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَهَذَا لِأَنَّ شَهَادَةَ الِاثْنَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ الْأَرْبَعَةِ أَضْعَفُ مِنْ شَهَادَتِهِمَا عَلَى الْحَقِّ بِعَيْنِهِ ؛ لِأَنَّهُمَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْحَقِّ بِعَيْنِهِ يَشْهَدَانِ عَلَى مُعَايَنَةٍ وَفِي الشَّهَادَةِ عَلَى شَهَادَةِ الْأَرْبَعَةِ يَشْهَدَانِ عَنْ خَبَرٍ ثُمَّ لَوْ شَهِدَا عَلَى الْحَقِّ بِعَيْنِهِ وَشَهِدَ آخَرَانِ كَذَلِكَ ثُمَّ رَجَعُوا كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ نِصْفَيْنِ كَذَا هُنَا وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا : اللَّذَانِ شَهِدَا عَلَى شَهَادَةِ الْأَرْبَعَةِ فِي الصُّورَةِ اثْنَانِ وَفِي الْمَعْنَى أَرْبَعَةٌ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ بِشَهَادَةِ الْأُصُولِ لَا بِشَهَادَةِ الْفُرُوعِ وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ عَدَالَةُ الْأُصُولِ وَهَذَا لِأَنَّ الْفُرُوعَ يَنْقُلُونَ شَهَادَةَ الْأُصُولِ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي فَكَأَنَّ الْأُصُولَ حَضَرُوا بِأَنْفُسِهِمْ وَشَهِدُوا وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى الْحَقِّ وَاثْنَانِ عَلَى الْحَقِّ ثُمَّ رَجَعُوا بَعْدَ الْقَضَاءِ فَيَكُونُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ أَسْدَاسًا ثُمَّ
مَا يَجِبُ عَلَى الْأَرْبَعَةِ لَوْ حَضَرُوا وَشَهِدُوا يُقْضَى بِهِ عَلَى مَنْ أَثْبَتَ شَهَادَتَهُمْ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِ وَهُمَا اللَّذَانِ شَهِدَا عَلَى شَهَادَةِ الْأَرْبَعَةِ قَالَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ أَرْبَعَةً لَوْ شَهِدُوا عَلَى شَهَادَةِ اثْنَيْنِ وَشَهِدَ اثْنَانِ عَلَى شَهَادَةِ اثْنَيْنِ ثُمَّ رَجَعُوا بَعْدَ الْقَضَاءِ أَنَّ نِصْفَ الضَّمَانِ عَلَى الْأَرْبَعَةِ وَنِصْفَهُ عَلَى الِاثْنَيْنِ وَمَا كَانَ ذَلِكَ إلَّا بِاعْتِبَارِ عَدَدِ الْأُصُولِ دُونَ الْفُرُوعِ وَكَذَلِكَ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا وَيَقُولُ شَهَادَةُ الْأَرْبَعَةِ عَلَى شَهَادَةِ الْمُثَنَّى أَضْعَفُ مِنْ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْحَقِّ بِعَيْنِهِ فَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مَا يَلْزَمُهُمْ أَنْ لَوْ شَهِدُوا عَلَى الْحَقِّ بِعَيْنِهِ وَفِي الْأَوَّلِ كَذَلِكَ يَقُولُ شَهَادَةُ الِاثْنَيْنِ عَلَى شَهَادَةِ الْأَرْبَعَةِ أَضْعَفُ مِنْ شَهَادَتِهِمَا عَلَى الْحَقِّ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَهُمَا بِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يَلْزَمُهُمَا أَنْ لَوْ شَهِدُوا عَلَى الْحَقِّ بِعَيْنِهِ فَإِنَّمَا أَنْظُرُ فِي الْوَجْهَيْنِ إلَى الْأَقَلِّ مِمَّا يَلْزَمُ الشُّهُودَ بِشَهَادَتِهِمْ وَشَهَادَةِ مَنْ شَهِدُوا عَلَى شَهَادَتِهِ فَأُلْزِمُهُمْ الْأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا نَوْعُ اسْتِحْسَانٍ فِيهِ وَالْقِيَاسُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ
وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ وَشَاهِدَانِ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ وَوَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ فَعَلَى الرَّاجِعِينَ رُبُعُ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ بِبَقَاءِ أَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ مِنْ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ يَبْقَى نِصْفُ الْمَالِ فَإِنَّهُ مَعَ صَاحِبِهِ كَانَ حُجَّةً تَامَّةً فِي جَمِيعِ الْمَالِ فَيَبْقَى بِبَقَائِهِ نِصْفُ الْمَالِ وَكَذَلِكَ بِبَقَاءِ الْوَاحِدِ مِنْ الْفَرِيقِ الْآخَرِ يَبْقَى نِصْفُ الْمَالِ إلَّا أَنَّ هَذَا النِّصْفَ شَائِعٌ نِصْفُهُ مِمَّا هُوَ بَاقٍ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ مِنْ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ بَقَاءُ نِصْفِ هَذَا النِّصْفِ بِبَقَائِهِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَإِنَّمَا انْعَدَمَتْ الْحُجَّةُ فِي رُبْعِ الْمَالِ فَيَضْمَنُ الرَّاجِعَانِ ذَلِكَ ( وَقَعَ ) فِي بَعْضِ النُّسَخِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الرَّاجِعِينَ رُبْعُ الْمَالِ وَوَجْهُهُ أَنَّهُمْ لَوْ رَجَعُوا جَمِيعًا ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رُبْعَ الْمَالِ وَبِبَقَاءِ الْمُثَنَّى هُنَا عَلَى الشَّهَادَةِ لَمْ تَبْقَ الْحُجَّةُ بِجَمِيعِ الْمَالِ فَيَجِبُ عَلَى الرَّاجِعِينَ مَا يَلْزَمُهُمَا لَوْ رَجَعُوا وَذَلِكَ نِصْفُ الْمَالِ وَقِيلَ هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى الرَّاجِعِينَ ثُمُنَانِ وَنِصْفٌ عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْفِئَةِ مَعْرُوفَةٌ بِنَاءً عَلَى اعْتِبَارِ حَالِ مَنْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ فَقَدْ ذَكَرَ هُنَاكَ مَسْأَلَةَ الرُّجُوعِ لِإِكْمَالِ الْحُجَّةِ ، فِيهَا وَجْهٌ وَاحِدٌ وَأَوْجَبَ عَلَى الرَّاجِعِينَ ثَلَاثَةَ أَثْمَانِ الْمَالِ وَذَكَرَ مَسْأَلَةً لِإِكْمَالِ الْحُجَّةِ فِيهَا ثَلَاثَةُ وُجُوهٍ وَأَوْجَبَ عَلَى الرَّاجِعِينَ ثُمُنَيْ الْمَالِ ثُمَّ قَالَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِإِكْمَالِ الْحُجَّةِ وَجْهَانِ أَنْ يَشْهَدَ وَاحِدٌ عَلَى شَهَادَةِ هَذَيْنِ أَوْ يَشْهَدَ وَاحِدٌ عَلَى شَهَادَةِ الْآخَرَيْنِ فَكَانَ حَالُ مَنْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي هَذَا الْفَصْلِ دُونَ حَالِهِ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي وَفَوْقَ حَالِهِ فِي
الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَبِاعْتِبَارِ ذَلِكَ أَوْجَبَ عَلَى الرَّاجِعِينَ ثُمُنَيْنِ وَنِصْفًا وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الْجَامِعِ
وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ فَقَضَى بِهِ الْقَاضِي ثُمَّ إنَّ الشَّاهِدَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ أَتَيَا الْقَاضِي فَقَالَا لَمْ نُشْهِدْهُمَا عَلَى شَهَادَتِنَا فَقَضَاءُ الْقَاضِي مَاضٍ عَلَى حَالِهِ ؛ لِأَنَّ إنْكَارَهُمَا الْإِشْهَادَ خَبَرٌ مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ الْكَذِبِ وَالصِّدْقِ فَلَا يُبْطِلُ قَضَاءَ الْقَاضِي كَمَا لَوْ شَهِدَا بِأَنْفُسِهِمَا وَقَضَى الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَا وَلَكِنْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا هُنَا ؛ لِأَنَّهُمَا يُنْكِرَانِ سَبَبَ الْإِتْلَافِ وَهُوَ الْإِشْهَادُ عَلَى شَهَادَتِهِمَا وَلَوْ قَالَا كُنَّا أَشْهَدْنَاهُمَا عَلَى شَهَادَتِنَا وَلَكِنَّا رَجَعْنَا عَنْ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ هُمَا ضَامِنَانِ لِلْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْفَرْعَيْنِ قَامَا مَقَامَهُمَا فِي نَقْلِ شَهَادَتِهِمَا إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي فَأَمَّا الْقَضَاءُ حَصَلَ بِشَهَادَةِ الْأَصْلَيْنِ وَلِهَذَا تُعْتَبَرُ عَدَالَتُهُمَا فَكَأَنَّهُمَا حَضَرَا بِأَنْفُسِهِمَا وَشَهِدَا ثُمَّ رَجَعَا فَيَلْزَمُهُمَا الضَّمَانُ وَهُمَا قَالَا الْمَوْجُودُ مِنْهُمَا شَهَادَةٌ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ لَا تَكُونُ سَبَبًا لِإِتْلَافِ شَيْءٍ فَلَا يَلْزَمُهُمَا الضَّمَانُ وَإِنْ رَجَعَا عَنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ تَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ كَالرُّجُوعِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الرُّجُوعَ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الشُّهُودِ فَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَلَا نَقُولُ إنَّ الْفُرُوعَ نَائِبُونَ عَنْ الْأُصُولِ فِي نَقْلِ شَهَادَتِهِمْ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي فَإِنَّهُمْ بَعْدَ الْإِشْهَادِ لَوْ مَنَعُوهُمْ عَنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ كَانَ عَلَيْهِمْ الْأَدَاءُ إذَا طَلَبَ الْمُدَّعِي وَلَوْ كَانُوا نَائِبِينَ عَنْ الْأُصُولِ لَمَا كَانَ لَهُمْ ذَلِكَ إذَا مَنَعَهُمْ الْأُصُولُ عَنْ الْأَدَاءِ وَلَكِنَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَى مَا تَحَمَّلُوا وَهُوَ إشْهَادُ الْأُصُولِ إيَّاهُمْ عَلَى شَهَادَتِهِمْ وَلَوْ شَهِدُوا عَلَى الْحَقِّ بِعَيْنِهِ مَا كَانُوا
نَائِبِينَ فِيهِ عَنْ أَحَدٍ فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدُوا عَلَى شَهَادَةِ الْأُصُولِ .
وَلَوْ رَجَعَ الْفُرُوعُ وَالْأُصُولُ جَمِيعًا فَالضَّمَانُ عَلَى الْفُرُوعِ خَاصَّةً فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ سَبَبَ الْإِتْلَافِ الشَّهَادَةُ الْقَائِمَةُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي وَإِنَّمَا وُجِدَ ذَلِكَ مِنْ الْفُرُوعِ دُونَ الْأُصُولِ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ الرُّجُوعِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْفُرُوعَ وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْأُصُولَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ لَوْ رَجَعَ وَحْدَهُ كَانَ ضَامِنًا لِلْمَالِ الْمَقْضِيِّ بِهِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِذَا رَجَعَ الْفَرِيقَانِ يُجْعَلُ فِي حَقِّ كُلِّ فَرِيقٍ كَأَنَّهُ هُوَ الْمُنْفَرِدُ بِالرُّجُوعِ وَيَتَخَيَّرُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُجَانَسُ بَيْنَ شَهَادَةِ الْفَرِيقَيْنِ فَقَدْ كَانَتْ شَهَادَةُ الْأُصُولِ عَلَى أَصْلِ الْحَقِّ وَشَهَادَةُ الْفُرُوعِ عَلَى شَهَادَةِ الْأُصُولِ وَلَا مُجَانَسَةَ بَيْنَهُمَا لِيُجْعَلَ الْكُلُّ فِي حُكْمِ شَهَادَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَكُونُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا بَلْ يُجْعَلُ كُلُّ فَرِيقٍ كَالْمُنْفَرِدِ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ يُضَمِّنُ أَيَّ الْفَرِيقَيْنِ شَاءَ كَالْغَاصِبِ مَعَ غَاصِبِ الْغَاصِبِ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يُضَمِّنَ أَيَّهمَا شَاءَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ فِي الْحُدُودِ وَغَيْرِهَا ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ بِسَرِقَةِ أَلْفُ دِرْهَمٍ بِعَيْنِهَا فَقُطِعَتْ يَدُهُ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا دِيَةَ الْيَدِ فِي مَالِهِمَا وَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِمَا عِنْدَنَا ) ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مِنْهُمَا بِسَبَبِ الْقِصَاصِ وَالْقِصَاصُ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُبَاشَرَةِ وَالسَّبَبِ ؛ وَلِأَنَّ الْيَدَيْنِ لَا يُقْطَعَانِ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ هَكَذَا ذَكَرَهُ إبْرَاهِيمُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَا يُقْطَعُ يَدَانِ بِيَدٍ فَإِذَا امْتَنَعَ وُجُوبُ الْقَوَدِ عَلَيْهِمَا ضَمِنَا دِيَةَ الْيَدِ فِي مَالِهِمَا ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُمَا عَنْ الشَّهَادَةِ قَوْلٌ وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ وَضَمِنَا الْأَلْفَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَاهُ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ كُلُّ قِصَاصٍ فِي نَفْسٍ أَوْ دُونَهَا وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُوجِبُ الْقَوَدَ عَلَى الشُّهُودِ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَالْمَسْأَلَةُ فِي الدِّيَاتِ
وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَلَمْ يُحْصِنْ فَجَلَدَهُ الْإِمَامُ وَجَرَحَتْهُ السِّيَاطُ ثُمَّ رَجَعُوا عَنْ الشَّهَادَةِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمْ أَرْشُ الْجِرَاحَةِ خِلَافًا لَهُمَا وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْحُدُودِ .
وَلَوْ لَمْ تَجْرَحْهُ السِّيَاطُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ بِالْإِتْلَافِ كَمَا لَوْ بَاشَرُوا ضَرْبًا غَيْرَ مُؤَثِّرٍ وَعَلَى هَذَا حَدُّ الْقَذْفِ وَحَدُّ الْخَمْرِ وَالتَّعْزِيرُ
وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ وَشَهِدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَةٌ بِالزِّنَا وَالْإِحْصَانِ فَأَجَازَ الْقَاضِي شَهَادَتَهُمْ وَأَعْتَقَهُ وَرَجَمَهُ ثُمَّ رَجَعُوا فَعَلَى شُهُودِ الْعِتْقِ قِيمَةُ الْعَبْدِ لِمَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّهُمْ أَتْلَفُوا مَالِيَّةَ الْمَوْلَى فِيهِ بِشَهَادَتِهِمْ بِالْعِتْقِ وَعَلَى شُهُودِ الزِّنَا الدِّيَةُ لِمَوْلَاهُ أَيْضًا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ غَيْرُهُ ؛ لِأَنَّهُمْ أَتْلَفُوا نَفْسَهُ بِشَهَادَتِهِمْ عَلَيْهِ بِالزِّنَا وَالْإِحْصَانِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَإِنْ ( قِيلَ ) الْمَوْلَى كَانَ جَاحِدًا لِلْعِتْقِ فَكَيْفَ يُضَمِّنُونَ الشُّهُودَ الدِّيَةَ ؟ .
( قُلْنَا ) : لِأَنَّ الْقَاضِيَ حَكَمَ بِعِتْقِهِ وَزَعْمُ الْمَوْلَى بِخِلَافِ مَا قَضَى الْقَاضِي بَعْدَ قَضَائِهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ، فَإِنْ ( قِيلَ ) : كَيْف يَجِبُ لِلْمَوْلَى بَدَلَانِ عَنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ؟ ( قُلْنَا ) وُجُوبُ الْقِيمَةِ عَلَى شُهُودِ الْعِتْقِ بَدَلٌ عَنْ الْمَالِيَّةِ وَوُجُوبُ الدِّيَةِ بِاعْتِبَارِ النَّفْسِيَّةِ ، ثُمَّ الدِّيَةُ لَا تَجِبُ لِلْمَوْلَى وَلَكِنْ لِلْمَقْتُولِ حَتَّى تَنْفُذَ مِنْهُ وَصَايَاهُ وَيَقْضِي دُيُونَهُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ ابْنٌ حُرٌّ كَانَتْ الدِّيَةُ لَهُ دُونَ مَوْلَاهُ أَرَأَيْتَ لَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ ابْنَهُ وَشَهِدَ آخَرُونَ بِالزِّنَا وَالْإِحْصَانِ ثُمَّ رَجَعُوا أَمَا كَانَ عَلَى شُهُودِ النَّسَبِ الْقِيمَةُ وَعَلَى شُهُودِ الزِّنَا الدِّيَةُ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ شَاهِدَا الْعِتْقِ بَعْضَ شُهُودِ الزِّنَا فَعَلَيْهِمَا مِنْ الْقِيمَةِ حِصَّتُهُمَا مِنْ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ مُخْتَلِفٌ فَاتِّحَادُ الشُّهُودِ فِي ذَلِكَ وَاخْتِلَافُهُمْ سَوَاءٌ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ شُهُودُ الْعِتْقِ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِلْحَدِّ وَهُمَا مِمَّا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ فَشَهَادَةُ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ بِهِ كَشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى الْعِتْقِ وَالزِّنَا وَالْإِحْصَانِ فَأَمْضَى الْقَاضِي ذَلِكَ كُلَّهُ ثُمَّ رَجَعُوا عَنْ الْعِتْقِ ضَمِنُوا الْقِيمَةَ لِإِقْرَارِهِمْ بِالرُّجُوعِ ؛ لِأَنَّهُمْ
أَتْلَفُوا مَالِيَّةَ الْمَوْلَى فِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ مِنْ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ مُصِرُّونَ عَلَى الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ بِالزِّنَا وَفِي حَقِّ الْعِتْقِ هُمْ بِمَنْزِلَةِ شُهُودِ الْإِحْصَانِ وَرُجُوعُ شُهُودِ الْإِحْصَانِ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَيْهِمْ عِنْدَنَا وَلَوْ رَجَعَ اثْنَانِ عَنْ الزِّنَا وَاثْنَانِ آخَرَانِ عَنْ الْعِتْقِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى شُهُودِ الْعِتْقِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَى الْعِتْقِ حُجَّةٌ كَامِلَةٌ وَعَلَى اللَّذَيْنِ رَجَعَا عَنْ الزِّنَا نِصْفُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي حُكْمِ الرَّجْمِ نِصْفُ الْحُجَّةِ فَيَجِبُ عَلَى الرَّاجِعِينَ نِصْفُ الدِّيَةِ وَحَدُّ الْقَذْفِ .
وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ عَلَى رَجُلٍ بِالزِّنَا وَالْإِحْصَانِ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ وَأَمَرَ بِرَجْمِهِ فَرَجَعُوا عَنْ الشَّهَادَةِ وَقَدْ جَرَحَتْهُ الْحِجَارَةُ وَهُوَ حَيٌّ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَدْرَأُ عَنْهُ الرَّجْمَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ رَجَعُوا قَبْلَ أَنْ يَأْخُذُوا فِي رَجْمِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْحَدِّ إلَّا بِحُجَّةٍ قَائِمَةٍ وَلَمْ تَبْقَ الْحُجَّةُ بَعْدَ رُجُوعِهِمْ وَهُمْ ضَامِنُونَ أَرْشَ جِرَاحَتِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا اُسْتُحِقَّ بِشَهَادَتِهِمْ فَضَمَانُهُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ الرُّجُوعِ
وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ صَالَحَهُ مِنْ دَمٍ عَمْدًا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ رَجَعَا لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا أَيُّهُمَا كَانَ الْمُنْكِرُ لِلصُّلْحِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْمُنْكِرُ لِلصُّلْحِ هُوَ الْمَوْلَى فَقَدْ شَهِدَا عَلَيْهِ بِسُقُوطِ حَقِّهِ بِعِوَضٍ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا عَلَيْهِ بِالْعَفْوِ بِغَيْرِ عِوَضٍ ثُمَّ رَجَعَا لَمْ يَضْمَنَا فَهَذَا أَوْلَى وَإِنْ كَانَ الْمُنْكِرُ هُوَ الْقَاتِلُ فَقَدْ سَلِمَ لَهُ بِنَفْسِهِ وَمَا أَلْزَمَاهُ مِنْ الْعِوَضِ دُونَ بَدَلِ نَفْسِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا تَقَوُّمَ النَّفْسِ فِي حَقِّهِ ، وَلِهَذَا لَوْ صَالَحَ فِي مَرَضِهِ عَلَى قَدْرِ الدِّيَةِ أَوْ دُونَهُ اُعْتُبِرَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ فَلَا يَضْمَنَانِ لَهُ شَيْئًا لِذَلِكَ
وَلَوْ شَهِدَا أَنَّهُ صَالَحَهُ عَلَى عِشْرِينَ أَلْفًا وَالْقَاتِلُ يَجْحَدُ ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا ضَمِنَا الْفَضْلَ عَلَى الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا أَلْزَمَاهُ مَا زَادَ عَلَى الدِّيَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ .
وَكَذَلِكَ هَذَا فِيمَا دُونَ النَّفْسِ إنْ شَهِدُوا عَلَى الصُّلْحِ عَلَى مِقْدَارِ الْأَرْشِ أَوْ دُونَهُ لَمْ يَضْمَنَا عِنْدَ الرُّجُوعِ شَيْئًا وَإِنْ شَهِدَا عَلَى الصُّلْحِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ الْأَرْشِ ضَمِنَا الْفَضْلَ لِلْجَارِحِ إذَا كَانَ جَاحِدًا لِذَلِكَ
وَلَوْ قَالَ الطَّالِبُ صَالَحْتُكَ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَلْ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ فَإِنْ أَقَامَ الطَّالِبُ بَيِّنَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَقَضَى لَهُ بِهَا ثُمَّ رَجَعَ شُهُودُهُ ضَمِنُوا الْخَمْسَمِائَةِ الَّتِي وَجَبَتْ بِشَهَادَتِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا شَهَادَتُهُمْ لَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ فَإِنَّمَا لَزِمَتْهُ تِلْكَ الزِّيَادَةُ بِشَهَادَتِهِمْ
وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ عَفَا عَنْ دَمٍ خَطَأً أَوْ جِرَاحَةٍ خَطَأً أَوْ عَمْدًا فِيهَا أَرْشٌ فَقَضَى بِذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَ الدِّيَةَ وَأَرْشَ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ الْمَالَ بِشَهَادَتِهِمَا فَالْخَطَأُ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ فَيَضْمَنَانِ ذَلِكَ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَلَكِنْ بِالصِّفَةِ الَّتِي كَانَتْ وَاجِبَةً وَقَدْ كَانَتْ الدِّيَةُ وَاجِبَةً مُؤَجَّلَةً فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَيَجِبُ عَلَيْهِمَا ضَمَانُهَا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ أَيْضًا وَمَا بَلَغَ مِنْ أَرْشِ الْجِرَاحَةِ خَمْسَمِائَةٍ فَصَاعِدًا إلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ فِي سَنَةٍ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى ثُلُثٍ فَفِي سَنَةٍ أُخْرَى وَإِنْ كَانَ الْأَرْشُ أَقَلَّ مِنْ خَمْسِمِائَةٍ ضَمِنَاهُ حَالًا .
وَكَذَلِكَ الدِّيَةُ إنْ كَانَتْ قَدْ وَجَبَتْ حَالَةً وَلَمْ يُؤْخَذْ مِنْهَا شَيْءٌ فَشَهِدَا أَنَّهُ أَبْرَأَهُ مِنْهَا وَقَضَى بِالْبَرَاءَةِ ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا ذَلِكَ حَالًا ؛ لِأَنَّهُمَا كَذَلِكَ أَتْلَفَاهُ بِشَهَادَتِهِمَا عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُمَا يَضْمَنَانِ الْجَيِّدَ بِمِثْلِهِ وَالرَّدِيءَ بِمِثْلِهِ وَهَذَا لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِمَا بِطَرِيقِ الْجُبْرَانِ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا كَانَ الضَّمَانُ نِصْفَهُ الْفَائِتَ
وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى عَبْدٍ فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ لِفُلَانٍ فَقَضَى الْقَاضِي لَهُ بِهِ وَاَلَّذِي فِي يَدِهِ الْعَبْدُ يَجْحَدُ ذَلِكَ ثُمَّ رَجَعَا وَضَمَّنَهُمَا الْقَاضِي الْقِيمَةَ فَأَدَّيَاهَا أَوْ لَمْ يُؤَدِّهَا حَتَّى وَهَبَ الْمَشْهُودُ لَهُ الْعَبْدَ مِنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ وَقَبَضَهُ فَإِنَّ الشَّاهِدَيْنِ يَبْرَآنِ مِنْ الضَّمَانِ وَيَرْجِعَانِ فِيمَا أَدَّيَا ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِمَا لِأَجْلِ الْجُبْرَانِ وَقَدْ انْعَدَمَتْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ بِرُجُوعِ الْعَبْدِ إلَى يَدِ الْمَوْلَى مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّ الْعَبْدَ سَلَّمَ لَهُ بِمِلْكِهِ الْقَدِيمِ لَا بِالْهِبَةِ الَّتِي بَاشَرَهَا الْمَشْهُودُ لَهُ فَزَعْمُهُ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّهِ فَإِنْ رَجَعَ الْوَاهِبُ فِي الْعَبْدِ وَقَبَضَهُ رَجَعَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ ؛ لِأَنَّ فَوَاتَ مِلْكِهِ وَيَدِهِ كَانَ بِسَبَبِ شَهَادَتِهِمَا لَوْلَا ذَلِكَ لَمَا تَمَكَّنَ الْمَشْهُودُ لَهُ مِنْ اسْتِرْدَادِ الْعَبْدِ مِنْهُ ؛ وَلِأَنَّ الْهِبَةَ لَمَّا انْفَسَخَتْ بِالرُّجُوعِ صَارَتْ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ .
وَإِنْ مَاتَ الْمَشْهُودُ لَهُ فَوَرِثَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مِنْهُ الْعَبْدَ رَجَعَ عَلَيْهِ الشَّاهِدَانِ بِمَا أَعْطَيَاهُ مِنْ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ وُصُولَ الْعَبْدِ إلَى يَدِهِ بِقَدِيمِ مِلْكِهِ لَا بِالْمَوْتِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ قَتَلَ فَأَخَذَ الْمَشْهُودُ لَهُ الْقِيمَةَ فَوَرِثَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مِنْهُ تِلْكَ الْقِيمَةَ ؛ لِأَنَّ عَوْدَ بَدَلِ الْعَبْدِ إلَيْهِ كَعَوْدِ عَيْنِهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ وَرِثَ مِثْلَهَا مِنْ تَرِكَتِهِ ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِهِ أَنَّ الْقِيمَةَ دَيْنٌ لَهُ عَلَى الْمَشْهُودِ وَأَنَّهُ اسْتَوْفَى تَرِكَتَهُ بِحِسَابِ الدَّيْنِ دُونَ الْمِيرَاثِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَعَهُ وَارِثٌ آخَرُ وَفِي حِصَّتِهِ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ وَفَاءٌ بِالْقِيمَةِ فَفِي حَقِّهِ يُجْعَلُ ذَلِكَ سَالِمًا لَهُ بِجِهَةِ دَيْنِهِ كَمَا يَزْعُمُ وَيَنْعَدِمُ النُّقْصَانُ بِسَبَبِهِ فَلَا يَجِبُ ضَمَانُهُ عَلَى الْمَشْهُودِ بِطَرِيقِ الْجُبْرَانِ
وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَ هَذِهِ الْمَرْأَةَ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَهِيَ مَهْرُ مِثْلِهَا وَالزَّوْجُ يَجْحَدُهُ فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ ثُمَّ طَلَّقَهَا عِنْدَ الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهُمَا أَدْخَلَا فِي مِلْكِهِ مَا هُوَ مِثْلٌ لِمَا أَلْزَمَاهُ فَالْبُضْعُ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِ الزَّوْجِ مُتَقَوِّمٌ ، ثُمَّ تَقَرُّرُ نِصْفِ الصَّدَاقِ عَلَى الزَّوْجِ كَانَ بِإِيقَاعِهِ الطَّلَاقَ بِاخْتِيَارِهِ .
وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ قَالَ تَزَوَّجْتُهَا بِغَيْرِ تَسْمِيَةِ مَهْرٍ كَانَ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ فَضْلُ مَا بَيْنَ الْمُتْعَةِ إلَى الْخَمْسِمِائَةِ الَّتِي غَرِمَهَا الزَّوْجُ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ ثَبَتَ هُنَا بِتَصَادُقِهِمَا وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ لِلتَّسْمِيَةِ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا وَلَا يَلْزَمُهُ أَكْثَرُ مِنْ الْمُتْعَةِ عِنْدَ الطَّلَاقِ فَمَا زَادَ عَلَى الْمُتْعَةِ إلَى تَمَامِ الْخَمْسِمِائَةِ إنَّمَا لَزِمَهُ بِشَهَادَتِهِمَا فَيَضْمَنَانِ ذَلِكَ لَهُ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَلَوْ شَهِدَ آخَرَانِ عَلَى الدُّخُولِ قَبْلَ الطَّلَاقِ ثُمَّ رَجَعُوا فَعَلَى شُهُودِ الدُّخُولِ خَمْسُمِائَةٍ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْخَمْسَمِائَةِ إنَّمَا لَزِمَتْهُ قَبْلَ الطَّلَاقِ بِشَهَادَتِهِمَا عَلَيْهِ بِالدُّخُولِ وَعَلَيْهِمَا وَعَلَى الشَّاهِدَيْنِ بِالْأَلْفِ فَضْلُ مَا بَيْنَ الْمُتْعَةِ وَالْخَمْسِمِائَةِ نِصْفَانِ ؛ لِأَنَّ لُزُومَ ذَلِكَ الْقَدْرِ إيَّاهُ بِشَهَادَةِ الْفَرِيقَيْنِ جَمِيعًا .
وَلَوْ شَهِدَ آخَرَانِ أَيْضًا عَلَى الطَّلَاقِ فَقَضَى الْقَاضِي بِجَمِيعِ ذَلِكَ ثُمَّ رَجَعُوا فَعَلَى شَاهِدَيْ الدُّخُولِ خَمْسُمِائَةٍ ؛ لِأَنَّ لُزُومَ ذَلِكَ بِشَهَادَتِهِمَا خَاصَّةً وَعَلَيْهِمَا أَيْضًا وَعَلَى شَاهِدَيْ التَّسْمِيَةِ فَضْلُ مَا بَيْنَ الْمُتْعَةِ إلَى نِصْفِ الْأَوَّلِ وَعَلَى شَاهِدَيْ الدُّخُولِ وَشَاهِدَيْ التَّسْمِيَةِ وَشَاهِدَيْ الطَّلَاقِ قَدْرُ الْمُتْعَةِ أَثْلَاثًا عَلَى كُلِّ شَاهِدَيْنِ ثُلُثُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ تَقَرُّرَ ذَلِكَ كَانَ بِشَهَادَتِهِمْ جَمِيعًا
وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَمَهْرُ مِثْلِهَا خَمْسُمِائَةٍ وَشَهِدَ آخَرَانِ عَلَى الدُّخُولِ وَآخَرَانِ عَلَى الطَّلَاقِ وَالزَّوْجُ يَجْحَدُ ذَلِكَ كُلَّهُ ثُمَّ رَجَعُوا فَعَلَى شَاهِدَيْ النِّكَاحِ خَمْسُمِائَةٍ ؛ لِأَنَّهُمَا أَلْزَمَاهُ أَلْفًا وَعَوَّضَاهُ مِنْ ذَلِكَ مَا يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَتْلَفَاهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَيَضْمَنَانِ ذَلِكَ لَهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِمَا غَيْرُ ذَلِكَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ بِخَمْسِمِائَةٍ لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا فَأَمَّا فِي الْخَمْسِمِائَةِ الْبَاقِيَةِ فَيُضِيفُ ذَلِكَ عَلَى شَاهِدَيْ الدُّخُولِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا لَزِمَهُ بِشَهَادَتِهِمَا عَلَى الدُّخُولِ فَالْخَمْسُمِائَةِ الَّتِي ضَمِنَهُمَا شُهُودُ الْعَفْوِ شَائِعَةٌ فَكَذَلِكَ الْخَمْسُمِائَةِ الْأُخْرَى تَكُونُ شَائِعَةً نِصْفَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ بِالدُّخُولِ فَيَجِبُ ضَمَانُ ذَلِكَ عَلَى شَاهِدَيْ الدُّخُولِ وَنِصْفُ هَذِهِ الْخَمْسِمِائَةِ عَلَيْهِمَا وَعَلَى شَاهِدَيْ الطَّلَاقِ نِصْفَانِ ؛ لِأَنَّ تَقَرُّرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِشَهَادَةِ الْفَرِيقَيْنِ
وَإِذَا شَهِدَ أَرْبَعَةُ نَفَرٍ عَلَى رَجُلٍ بِحَقٍّ فَشَهِدَ عَلَيْهِ اثْنَانِ بِخَمْسِمِائَةٍ وَاثْنَانِ بِأَلْفٍ فَقَضَى بِهِ الْقَاضِي ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُ شَاهِدَيْ الْأَلْفِ فَعَلَيْهِ رُبْعُ الْأَلْفِ ؛ لِأَنَّ نِصْفَ الْأَلْفِ ثَبَتَ بِشَهَادَتِهِ وَشَهَادَةِ صَاحِبِهِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَإِنَّمَا انْعَدَمَتْ الْحُجَّةُ فِي نِصْفِهِ فَإِنْ رَجَعَ مَعَهُ شَاهِدُ الْخَمْسِمِائَةِ كَانَ عَلَى شَاهِدَيْ الْأَلْفِ رُبْعُ الْأَلْفِ كَمَا بَيَّنَّا وَعَلَيْهِ أَيْضًا وَعَلَى الْآخَرِينَ رُبْعُ سَهْمٍ أَثْلَاثًا ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ عَلَى النِّصْفِ الْآخَرِ كَانُوا أَرْبَعَةً وَقَدْ بَقِيَ نِصْفُهُ بِبَقَاءِ الْوَاحِدِ عَلَى الشَّهَادَةِ فَيَجِبُ عَلَى الَّذِينَ رَجَعُوا نِصْفُ ذَلِكَ النِّصْفِ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا وَإِنْ رَجَعَ أَحَدُ شَاهِدَيْ الْخَمْسِمِائَةِ وَحْدَهُ أَوْ هُمَا جَمِيعًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ بِتِلْكَ الْخَمْسِمِائَةِ مَنْ يُتِمُّ الْحُجَّةَ بِشَهَادَتِهِ وَإِنْ رَجَعُوا جَمِيعًا كَانَ عَلَى شَاهِدَيْ الْأَلْفِ خَمْسُمِائَةٍ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُسْتَحَقُّ بِشَهَادَتِهِمَا خَاصَّةً وَالْخَمْسُمِائَةِ الْأُخْرَى عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا أَرْبَاعًا ؛ لِأَنَّهَا ثَابِتَةٌ بِشَهَادَةِ الْأَرْبَعَةِ فَعِنْدَ الرُّجُوعِ ضَمَانُهَا عَلَيْهِمْ أَرْبَاعًا وَإِنْ رَجَعَ شَاهِدَا الْأَلْفِ وَأَحَدُ شَاهِدَيْ الْخَمْسِمِائَةِ فَنِصْفُ الْأَلْفِ عَلَى شَاهِدَيْ الْأَلْفِ خَاصَّةً وَالرُّبْعُ عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ بَقِيَتْ فِي رُبْعِ الْأَلْفِ بِبَقَاءِ أَحَدِ شَاهِدَيْ الْخَمْسِمِائَةِ عَلَى شَهَادَتِهِ
وَإِذَا شَهِدَا عَلَى مَجْهُولِ الْحَالِ أَنَّهُ عَبْدٌ لِهَذَا الرَّجُلِ فَقَضَى بِشَهَادَتِهِمَا ثُمَّ رَجَعَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا لِلْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُمَا أَبْطَلَا عَلَيْهِ الْحُرِّيَّةَ الثَّابِتَةَ لَهُ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ وَالْحُرِّيَّةُ لَيْسَتْ بِمَالٍ ؛ وَلِأَنَّهُمَا لَوْ ضَمِنَا إنَّمَا يَضْمَنَانِ لِلْعَبْدِ وَمَا يَكُونُ لِلْعَبْدِ فَهُوَ لِمَوْلَاهُ مُنْكِرًا لِرُجُوعِهِمَا فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ كَاتَبَ نَفْسَهُ عَلَى مَالٍ أَوْ اشْتَرَى نَفْسَهُ بِمَالٍ ثُمَّ رَجَعَ فَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ رَجَعَا قَبْلَ الْعِتْقِ وَالْمُكَاتَبَةِ لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا فَكَذَلِكَ بَعْدَهُ ؛ وَلِأَنَّ هَذَا الْمَالَ الْتَزَمَهُ الْعَبْدُ بِاخْتِيَارِهِ فَلَا يَسْتَوْجِبُ الرُّجُوعَ بِهِ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ
رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ عَبْدَيْنِ وَأَمَةً وَمَالًا فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ أَخُوهُ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَوَارِثُهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ فَقَضَى بِالْمَالِ لَهُ وَالْعَبْدَيْنِ وَالْأَمَةِ ثُمَّ شَهِدَ شَاهِدَانِ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ بِعَيْنِهِ ابْنُ الْمَيِّتِ فَأَجَازَ الْقَاضِي شَهَادَتَهُمَا وَأَعْطَاهُ الْمِيرَاثَ كُلَّهُ ثُمَّ شَهِدَ آخَرَانِ أَنَّ الْعَبْدَ الثَّانِيَ ابْنُ الْمَيِّتِ فَقَضَى بِهِ أَيْضًا ثُمَّ شَهِدَ آخَرَانِ أَنَّ الْمَيِّتَ أَعْتَقَ هَذِهِ الْأَمَةَ وَتَزَوَّجَهَا فِي حَيَاتِهِ وَصِحَّتِهِ فَقَضَى بِذَلِكَ وَجَعَلَهَا وَارِثَةً مَعَهُمْ ثُمَّ رَجَعَ اللَّذَانِ شَهِدَا لِلْعَبْدِ الْأَوَّلِ ضَمِنَا قِيمَتَهُ بَيْنَ الِابْنِ الْآخَرِ وَالْمَرْأَةِ أَثْمَانًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْلَا شَهَادَتُهُمَا لَكَانَتْ رَقَبَةُ الْمَشْهُودِ لَهُ بَيْنَ الْآخَرِ وَالْمَرْأَةِ عَلَى ثَمَانِيَةٍ فَإِنَّمَا تَلِفَ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا بِشَهَادَتِهِمَا فَقَدْ أَقَرَّا بِالرُّجُوعِ أَنَّهُمَا أَتْلَفَا ذَلِكَ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَرْجِعْ وَرَجَعَ شُهُودُ الِابْنِ الثَّانِي ضَمِنَا قِيمَتَهُ بَيْنَ الِابْنِ الْأَوَّلِ وَالْمَرْأَةِ أَثْمَانًا لِمَا قُلْنَا وَيَضْمَنَانِ مِيرَاثَهُ لِأُخْتِهِ دُونَ الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ كَانَ مُسْتَحَقًّا لَهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي قَبْلَ شَهَادَتِهِمَا فَإِنَّمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ ذَلِكَ بِشَهَادَتِهِمَا وَمَا أَتْلَفَا مِنْ الْمِيرَاثِ عَلَى الْمَرْأَةِ بِشَهَادَتِهِمَا ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهَا عِنْدَ الشَّهَادَةِ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا وَإِنَّمَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى نِكَاحِهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَلِهَذَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لَا يَضْمَنُ الشُّهُودُ شَيْئًا مِمَّا يُوَرَّثُ الِابْنَ الْأَوَّلَ ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُثْبِتَا اسْتِحْقَاقَ ذَلِكَ عَلَى الِابْنِ الثَّانِي وَالْمَرْأَةِ بِشَهَادَتِهِمَا فَالِاسْتِحْقَاقُ لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا عِنْدَ شَهَادَتِهِمَا وَإِنَّمَا ثَبَتَ بِثُبُوتِ سَبَبِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا يَضْمَنَانِ لِلْأَخِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ مَا اسْتَحَقَّ بِشَهَادَتِهِمَا عَلَى الْأَخِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِشَهَادَةِ غَيْرِهِمَا فَفِي
حَقِّ الْأَخِ بَقِيَتْ الشَّهَادَةُ حُجَّةً تَامَّةً فِي حَقِّ اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ عَلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يَرْجِعْ هَذَانِ وَرَجَعَ شَاهِدَا الْمَرْأَةِ ضَمِنَا قِيمَتَهَا وَمِيرَاثَهَا بَيْنَ الِابْنَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا بِشَهَادَتِهِمَا مِلْكَ الِابْنَيْنِ فِي رَقَبَتِهِمَا وَأَثْبَتَ اسْتِحْقَاقَهَا الْمِيرَاثَ عَلَيْهِمَا بِشَهَادَتِهِمَا بِالنِّكَاحِ وَقَدْ أَقَرَّا بِالرُّجُوعِ أَنَّهُمَا شَهِدَا بِذَلِكَ كُلِّهِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَإِنْ كَانَ الشَّاهِدَانِ لِلْمَرْأَةِ هُمَا الشَّاهِدَانِ عَلَى نَسَبِ الِابْنِ الْأَوَّلِ وَالِابْنِ الْآخَرِ ثُمَّ رَجَعُوا عَنْ الشَّهَادَةِ كُلِّهَا كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ مُخْتَلِفٌ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ اتِّحَادِ الْمَشْهُودِ وَاخْتِلَافِهِمْ فِي ذَلِكَ وَسَوَاءٌ رَجَعُوا مَعًا أَوْ مُتَفَرِّقِينَ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الشَّهَادَةِ كَانَ مُخْتَلِفًا بَعْضُهَا قَبْلَ بَعْضٍ وَالضَّمَانُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ الرُّجُوعِ بِاعْتِبَارِ الشَّهَادَةِ السَّابِقَةِ .
وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ مَعًا وَبَعْضُهُمْ لَا يُصَدِّقُ بَعْضًا ثُمَّ رَجَعَا ضَمِنَا ثَمَنَ الْمَرْأَةِ وَقِيمَتَهَا بَيْنَ الِاثْنَيْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَى الِاثْنَيْنِ فَلَوْلَا شَهَادَتُهُمَا بِذَلِكَ لَكَانَ ذَلِكَ مُسْتَحَقًّا لِلِاثْنَيْنِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا وَيَضْمَنَانِ مِنْ قِيمَةِ كُلِّ ابْنٍ لِصَاحِبِهِ سَبْعَةَ أَسْهُمٍ مِنْ ثَمَانِيَةِ أَسْهُمٍ وَلِلْمَرْأَةِ الثُّمُنُ كَمَا لَوْ شَهِدَ بِكُلِّ شَيْءٍ شَاهِدَانِ آخَرَانِ وَكَذَلِكَ لَوْ رَجَعَا عَنْ الشَّهَادَةِ وَاحِدٌ بَعْدَ وَاحِدٍ كَانَ الْحُكْمُ كَمَا بَيَّنَّا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
( بَابٌ مِنْ الرُّجُوعِ أَيْضًا ) .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ رَجُلٌ لَهُ جَارِيَتَانِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَدٌ وَلَدَتْهُ فِي مِلْكِهِ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ لِأَحَدِ الِابْنَيْنِ أَنَّ الرَّجُلَ أَعَادَهُ وَهُوَ مُنْكِرٌ وَشَهِدَ آخَرَانِ لِلْوَلَدِ الْآخَرِ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَقَضَى الْقَاضِي بِأَيِّهِمَا أَتَيَاهُ وَجَعَلَ الْأَمَتَيْنِ كَالْوَلَدِ ثُمَّ رَجَعُوا عَنْ شَهَادَتِهِمْ وَالْوَلَدُ حَيٌّ ضَمِنَ كُلُّ شَاهِدَيْنِ مِنْهُ قِيمَةَ الْوَلَدِ الَّذِي شَهِدُوا لَهُ وَبَيْنَ قِيمَتِهَا أَمَةً إلَى قِيمَتِهَا أُمَّ وَلَدٍ ؛ لِأَنَّهُمَا أَتْلَفَا عَلَيْهِ ذَلِكَ الْقَدْرَ بِشَهَادَتِهِمَا فَالثَّابِتُ فِي شَهَادَتِهِمَا فِي حَيَاتِهِ حُرِّيَّةُ الْوَلَدِ وَنُقْصَانُ الِاسْتِيلَاءِ فِي الْأُمِّ فَإِذَا غَرِمَا ذَلِكَ وَاسْتَهْلَكَهُ الْأَبُ ثُمَّ مَاتَ وَلَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُمَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الِاثْنَيْنِ يَجْحَدُ صَاحِبَهُ ضَمِنَ كُلُّ شَاهِدَيْنِ لِلْوَلَدِ الْآخَرِ نِصْفَ قِيمَةِ أُمِّ الْوَلَدِ الَّذِي شَهِدُوا لَهُ ؛ لِأَنَّهَا عَتَقَتْ عِنْدَ الْمَوْتِ بِشَهَادَتِهِمَا فَيَضْمَنَانِ مَا بَقِيَ مِنْ قِيمَتِهَا إلَّا أَنَّ ذَلِكَ مِيرَاثٌ بَيْنَ الِابْنَيْنِ نِصْفَانِ وَالِابْنُ الْمَشْهُودُ لَهُ يُصَدِّقُهَا فِي الشَّهَادَةِ وَيُكَذِّبُهُمَا فِي الرُّجُوعِ فَسَقَطَتْ حِصَّتُهُ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَبْقَى عَلَى كُلِّ فَرِيقٍ حِصَّةُ الِابْنِ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُ مُدَّعِي لِذَلِكَ عَلَيْهِمَا وَيَرْجِعُ شَاهِدَا كُلِّ وَلَدٍ فِي الْمِيرَاثِ الَّذِي وَرِثَهُ الْوَلَدُ الَّذِي شَهِدَا لَهُ بِجَمِيعِ مَا أَخَذَ مِنْهُمَا الْوَالِدُ فِي حَيَاتِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ لَهُ يُقِرُّ أَنَّ ذَلِكَ دَيْنًا لَهُمَا عَلَى الْأَبِ وَأَنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى ذَلِكَ مِنْهُمَا بِغَيْرِ حَقٍّ ؛ لِأَنَّهُمَا صَادِقَانِ فِي الشَّهَادَةِ وَأَحَدُ الْوَارِثَيْنِ إذَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ عَلَى الْمَيِّتِ يَسْتَوْفِي جَمِيعَ ذَلِكَ مِنْ نَصِيبِهِ وَلَا يَرْجِعَانِ فِي نَصِيبِهِ بِمَا ضَمِنَهُمَا أَخُوهُ مِنْ نِصْفِ قِيمَةِ أُمِّهِ ؛ لِأَنَّهُمَا يَزْعُمَانِ أَنَّهُمَا شَهِدَا بِغَيْرِ حَقٍّ فَكَانَا ضَامِنَيْنِ جَمِيعَ ذَلِكَ لَهُ
وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى الرَّجُلِ بِطَلَاقٍ وَهُوَ يَجْحَدُهُ فَقَضَى الْقَاضِي بِالْفُرْقَةِ وَبِنِصْفِ الْمَهْرِ لَهَا ثُمَّ مَاتَ الرَّجُلُ ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا غَرِمَا لِوَرَثَةِ الزَّوْجِ نِصْفَ الْمَهْرِ الَّذِي أَخَذَتْهُ الْمَرْأَةُ ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ رَجَعَا فِي حَيَاةِ الزَّوْجِ كَانَا ضَامِنَيْنِ ذَلِكَ لَهُ وَقَدْ نَبَّهَ بَعْدَ مَوْتِهِ أَنَّهُمْ يُحَلِّفُونَهُ فَيَضْمَنُونَ ذَلِكَ لِلْوَرَثَةِ إذَا رَجَعُوا بَعْدَ الْمَوْتِ أَيْضًا وَلَا مِيرَاثَ لِلْمَرْأَةِ مِنْهُ إنْ كَانَتْ ادَّعَتْ الطَّلَاقَ أَوْ لَمْ تَدَّعِ إنْ أَقَرَّ الْوَرَثَةُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا أَوْ لَمْ يُطَلِّقْهَا ؛ لِأَنَّهَا قَدْ بَانَتْ فِي حَيَاتِهِ وَإِنَّمَا تَسْتَحِقُّ الْمِيرَاثَ بِالنِّكَاحِ إذَا انْتَهَى بِالْوَفَاةِ فَإِذَا بَانَتْ فِي حَيَاتِهِ وَصِحَّتِهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَمْ تَكُنْ هِيَ وَارِثَةً لَهُ فَلَا يَنْفَعُهَا قَوْلُ الْوَرَثَةِ وَالشُّهُودِ مَا أَتْلَفُوا عَلَيْهَا شَيْئًا مِنْ الْمِيرَاثِ ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِالْفُرْقَةِ فِي حَيَاةِ الزَّوْجِ وَلَمْ تَكُنْ هِيَ مُسْتَحِقَّةً لِلْمِيرَاثِ عِنْدَ ذَلِكَ لِجَوَازِ أَنْ تَمُوتَ قَبْلَهُ وَلَوْ كَانَا شَهِدَا بِذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ وَادَّعَى ذَلِكَ الْوَرَثَةُ فَقَضَى الْقَاضِي لَهَا بِنِصْفِ الْمَهْرِ فِي مَالِهِ ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا ضَمِنَا لِلْمَرْأَةِ نِصْفَ الْمَهْرِ وَالْمِيرَاثِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا فِي جَمِيعِ الْمَهْرِ قَدْ تَقَرَّرَ بِمَوْتِ الزَّوْجِ وَاسْتَحَقَّتْ الْمِيرَاثَ أَيْضًا فَإِنَّمَا بَطَلَ حَقُّهَا عَنْ نِصْفِ الْمَهْرِ وَعَنْ الْمِيرَاثِ بِشَهَادَتِهِمَا بِالْفُرْقَةِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ فَيَضْمَنَانِ ذَلِكَ عِنْدَ الرُّجُوعِ وَلَا يَضْمَنَانِ لِسَائِرِ الْوَرَثَةِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُتْلِفَا عَلَى سَائِرِ الْوَرَثَةِ شَيْئًا قَدْ تَقَرَّرَ حَقُّهَا فِي جَمِيعِ الْمَهْرِ بِمَوْتِ الزَّوْجِ قَبْلَ ظُهُورِ الْفُرْقَةِ فَهُمَا نَفْعًا لِلْوَرَثَةِ بِإِسْقَاطِ نِصْفِ مَهْرِهَا وَمِيرَاثِهَا عَنْهُمْ فَلِهَذَا لَمْ يَضْمَنَا لِلْوَرَثَةِ شَيْئًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( كِتَابُ الدَّعْوَى ) ( قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ إمْلَاءً : اعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْخَلْقَ أَطْوَارًا عُلُومُهُمْ شَتَّى مُتَبَايِنَةٌ وَلِتَبَايُنِ الْهِمَمِ تَقَعُ الْخُصُومَاتُ بَيْنَهُمْ فَالسَّبِيلُ فِي الْخُصُومَةِ قَطْعُهَا ) لِمَا فِي امْتِدَادِهَا مِنْ الْفَسَادِ وَاَللَّهُ تَعَالَى لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ وَطَرِيقُ فَصْلِ الْخُصُومَاتِ لِلْقُضَاةِ بِمَا ذَكَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ } هَذَا وَإِنْ كَانَ مِنْ اخْتِيَارِ الْآحَادِ فَقَدْ تَلَقَّتْهُ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ بِالْقَبُولِ وَالْعَمَلِ بِهِ فَصَارَ فِي حَيِّزِ التَّوَاتُرِ وَعُدَّ هَذَا مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ عَلَى مَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أُوتِيتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ } وَاخْتُصِرَ لِي الْحَدِيثُ اخْتِصَارًا فَقَدْ تَكَلَّمَ كَلِمَتَيْنِ اسْتَنْبَطَ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ مِنْهُمَا مَا بَلَغَ دَفَاتِرَ فَقَالَ قَتَادَةُ فِي قَوْله تَعَالَى { وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ } أَنَّ الْحِكْمَةَ النُّبُوَّةُ وَفَصْلَ الْخِطَابِ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَهُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّ الْمُدَّعِيَ غَيْرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَيَّزَ بَيْنَهُمَا وَذَلِكَ تَنْصِيصٌ عَلَى الْمُغَايَرَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ } يَكُونُ تَنْصِيصًا عَلَى أَنَّ الْعَاهِرَ غَيْرُ صَاحِبِ الْفِرَاشِ وَالْمُدَّعِي لُغَةً مَنْ يَقْصِدُ إيجَابَ حَقٍّ عَلَى غَيْرِهِ فَالْمُدَّعِي فِعْلٌ يَتَعَدَّى مَفْعُولُهُ فَيَكُونُ الْمُدَّعِي اسْمًا لِفَاعِلِ الدَّعْوَى كَالضَّارِبِ وَالْقَاتِلِ إلَّا أَنَّ إطْلَاقَ اسْمِ الْمُدَّعِي فِي عُرْفِ
اللِّسَانِ يَتَنَاوَلُ مَنْ لَا حُجَّةَ لَهُ وَلَا يَتَنَاوَلُ مَنْ لَهُ حُجَّةٌ فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُسَمِّيهِ مُدَّعِيًا قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَأَمَّا بَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ يُسَمِّيهِ مُحِقًّا لَا مُدَّعِيًا وَيُقَالُ لِمُسَيْلِمَةَ مُدَّعِي النُّبُوَّةَ وَلَا يُقَالُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ لِأَنَّهُ قَدْ أَثْبَتَهُ بِالْمُعْجِزَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّ إطْلَاقَ الِاسْمِ عَلَى مَنْ لَا حُجَّةَ لَهُ عُرْفًا وَهَذَا الْحَدِيثُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَحْكَامٍ بَعْضُهَا يُعْرَفُ عَقْلًا وَبَعْضُهَا شَرْعًا فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي } يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى وَهَذَا مَعْقُولٌ لِأَنَّهُ خَبَرٌ مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ يُسْتَحَقُّ بِالْبَيِّنَةِ وَهَذَا شَرْعِيٌّ وَفِي خَبَرِ الشُّهُودِ الِاحْتِمَالُ قَائِمٌ وَلَا يَزُولُ بِظُهُورِ الْعَدَالَةِ لِأَنَّ الْعَدْلَ غَيْرُ مَعْصُومٍ عَنْ الْكَذِبِ أَوْ الْقَصْدِ إلَى الْكَذِبِ فَحُصُولُ الْبَيِّنَاتِ أَوْ الِاسْتِحْقَاقِ بِشَهَادَتِهِمْ شَرْعِيٌّ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ } فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ وَهَذَا مَعْقُولٌ لِأَنَّهُ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ فَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ وَانْتِفَاءُ حَقِّ الْغَيْرِ عَمَّا فِي يَدِهِ وَفِيهِ دَلِيلُ تَوَجُّهِ الْيَمِينِ عَلَيْهِ وَهَذَا شَرْعِيٌّ وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْمُدَّعِيَ يَزْعُمُ أَنَّهُ صَارَ مُتْوِيًا حَقَّهُ بِإِنْكَارِهِ فَالشَّرْعُ جَعَلَ لَهُ حَقَّ اسْتِحْلَافِهِ حَتَّى إنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَ فَالْيَمِينُ الْعُمُومِيُّ مُهْلِكَةٌ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَيَكُونُ أَتْوًا بِمُقَابَلَةِ أَتْوَاءٍ وَهُوَ مَشْرُوعٌ وَإِنْ كَانَ بِخِلَافِ مَا زَعَمَ نَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الثَّوَابَ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ صَادِقًا وَلَا يَتَضَرَّرُ بِهِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حَبْسَ الْبَيِّنَاتِ فِي
جَانِبِ الْمُدَّعِيَيْنِ لِإِدْخَالِ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي الْبَيِّنَةِ فَلَا تَبْقَى بَيِّنَةٌ فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِأَنَّ مُطْلَقَ التَّقْسِيمِ يَقْتَضِي انْتِقَاءَ مُشَارَكَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ قِسْمِ صَاحِبِهِ فَيَكُونُ حُجَّةً لَنَا أَنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ عَلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ فِي مُعَارَضَةِ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ جِنْسَ الْإِيمَانِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَا يَمِينَ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي فَيَكُونُ دَلِيلًا لَنَا فِي أَنَّهُ لَا يُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي عِنْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهَكَذَا ذَكَرَهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْكِتَابِ فَقَالَ كَانَ لَا يَرُدُّ يَعْنِي عَمَلًا بِالْحَدِيثِ كَانَ لَا يَرُدُّ الْيَمِينَ وَيَكُونُ حُجَّةً لَنَا فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِشَاهِدٍ وَاحِدٍ مَعَ يَمِينِ الْمُدَّعِي إذْ لَا يَمِينَ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي وَلِأَنَّهُ جَعَلَ الْفَاصِلَ لِلْخُصُومَةِ سَبَبَيْنِ بَيِّنَةً فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي وَيَمِينًا فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَالشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ لَيْسَتْ بَيِّنَةً وَلَا يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَكَوْنُ إثْبَاتِ طَرِيقٍ ثَالِثٍ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُدَّعِي عَامٌّ لَمْ يَدْخُلْهُ خُصُوصٌ فَالْمُدَّعِي لَا يَسْتَحِقُّ بِنَفْسِ الدَّعْوَى وَيَسْتَحِقُّ بِالْبَيِّنَةِ فِي الْخُصُومَاتِ كُلِّهَا وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ } عَامٌّ دَخَلَهُ خُصُوصٌ وَهُوَ مَا لَا يَجْرِي فِيهِ الِاسْتِحْلَافُ مِنْ الْحُدُودِ وَغَيْرِهَا
( قَالَ ) وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدَيْ رَجُلٍ فَادَّعَى رَجُلٌ كُلَّهَا أَوْ طَائِفَةً مِنْهَا فَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ الدَّارُ فِي يَدَيْهِ وَيُحْتَاجُ هُنَا إلَى مَعْرِفَةِ أَشْيَاءَ أَحَدُهُمَا أَنَّ الدَّعْوَى نَوْعَانِ : صَحِيحَةٌ وَفَاسِدَةٌ فَالصَّحِيحَةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا أَحْكَامُهَا وَهُوَ احْتِضَارُ الْخَصْمِ وَالْمُطَالَبَةُ بِالْجَوَابِ وَالْيَمِينُ إذَا أَنْكَرَ مِثْلُ هَذِهِ الدَّعْوَى يُمْكِنُ إثْبَاتُهَا بِالْبَيِّنَةِ وَالدَّعْوَى الْفَاسِدَةُ مَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا الْأَحْكَامُ الَّتِي بَيَّنَّاهَا وَفَسَادُ الدَّعْوَى بِأَحَدِ مَعْنَيَيْنِ إمَّا أَنْ لَا يَكُونَ مُلْزِمًا لِخَصْمٍ شَيْئًا وَإِنَّمَا ثَبَتَتْ كَمَنْ ادَّعَى عَلَى غَيْرِهِ أَنَّهُ وَكِيلُهُ أَوْ أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا فِي نَفْسِهِ فَالْمَجْهُولُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَضَاءِ بِالْمَجْهُولِ بِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي وَلَا بِنُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ثُمَّ الدَّعْوَى الصَّحِيحَةُ لَا تُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْمُدَّعَى لِلْمُدَّعِي بِنَفْسِهَا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى قَوْمٌ دِمَاءَ قَوْمٍ وَأَمْوَالِهِمْ لَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ } وَفِي رِوَايَةٍ { عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } وَلِأَنَّ عَلَى الْقَاضِي تَحْسِينَ الظَّنِّ بِكُلِّ وَاحِدٍ فَلَوْ جَعَلْنَا نَفْسَ الدَّعْوَى مُوجِبَةً اسْتِحْقَاقَ الْمُدَّعَى لِلْمُدَّعِي فِيهِ إسَاءَةُ الظَّنِّ بِالْآخَرِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَلَكِنْ عَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ لِإِثْبَاتِ اسْتِحْقَاقِهِ بِهَا فَيُطَالِبُهُ الْقَاضِي بِذَلِكَ لَا عَلَى وَجْهِ الْإِلْزَامِ عَلَيْهِ بَلْ عَلَى وَجْهِ التَّذْكِيرِ لَهُ فَلَعَلَّهُ يَغْفُلُ عَنْ ذَلِكَ وَفِيهِ نَظَرٌ لِلْآخَرِ أَيْضًا فَإِنَّهُ لَوْ حَلَّفَهُ ثُمَّ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ افْتَضَحَ بِالْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ فَلِهَذَا بَدَأَ بِطَلَبِ الْبَيِّنَةِ مِنْ الْمُدَّعِي فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَالْيَمِينُ عَلَى ذِي الْيَدِ لِأَنَّهُ
مُنْكِرٌ وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ وَهَذِهِ الْيَمِينُ حَقُّ الْمُدَّعِي فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَالْيَمِينُ عَلَى ذِي الْيَدِ وَهَذِهِ حَقٌّ لَا يُسْتَوْفَى إلَّا بِطَلَبِهِ هَكَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْحَضْرَمِيِّ وَالْكِنْدِيِّ لِلْمُدَّعِي مِنْهُمَا { أَلَكَ بَيِّنَةٌ فَقَالَ لَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَكَ يَمِينٌ فَقَالَ يَحْلِفُ وَلَا يُبَالِي فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ لَيْسَ لَكَ إلَّا هَذَا شَاهِدَاكَ أَوْ يَمِينُهُ } فَذَلِكَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ حَقُّ الْمُدَّعِي فَإِنْ ( قِيلَ ) كَيْفَ يَسْتَحِقُّهَا بِنَفْسِ الدَّعْوَى ( قُلْنَا ) كَمَا يَسْتَحِقُّ الْإِحْضَارَ وَالْجَوَابَ وَذَلِكَ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَإِذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } الْآيَةَ فَقَدْ أَلْحَقَ الْوَعِيدَ بِمَنْ امْتَنَعَ مِنْ الْحُضُورِ بَعْدَ مَا طُولِبَ بِهِ ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ أَنَّ الْحُضُورَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ وَالضَّرَرُ عَلَيْهِ فِي الْحُضُورِ وَالِانْقِطَاعِ عَنْ أَشْغَالِهِ فَوْقَ الضَّرَرِ عَلَيْهِ فِي الْجَوَابِ وَالْيَمِينِ فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالنَّصِّ ثَبَتَ هَذَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى مِنْ أَنَّ دَعْوَى الْمُدَّعِي وَإِنْكَارَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ خَبَرَانِ قَدْ تَعَارَضَا وَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ تَرْكِهِمَا عَلَى ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ امْتِدَادِ الْخُصُومَةِ بَيْنَهُمَا فَلَا بُدَّ مِنْ طَلَبِ رُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِي خَبَرِ أَحَدِهِمَا وَذَلِكَ فِي بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي أَوْ يَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْيَمِينَ حَقٌّ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِأَنَّ مَا تَرَجَّحَ صِدْقُهُ يَكُونُ حَقًّا لَهُ إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا بِطَلَبِ الْمُدَّعِي فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ حَقُّ الْمُدَّعِي وَمَعْنَى حَقِّهِ فِيهِ أَنَّهُ يُوصِلُهُ إلَى حَقِّهِ عِنْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيُرَجَّحُ مَعْنَى الصِّدْقِ فِي جَانِبِهِ فَلِهَذَا يَصِيرُ الْقَاضِي إلَيْهِ بِمُجَرَّدِ طَلَبِ الْمُدَّعِي وَيَسْتَوِي فِيمَا ذَكَرْنَا صُنُوفُ الْأَمْلَاكِ
وَأَنْوَاعُ الْمُدَّعِينَ مِنْ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ ، مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ ، مُسْتَأْمَنٍ أَوْ مُرْتَدٍّ فَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالْعَدَالَةِ وَالْإِنْصَافِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ .
وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَاهُ شِرَاءً مِنْ ذِي الْيَدِ أَوْ هِبَةً أَوْ صَدَقَةً أَوْ إجَارَةٍ أَوْ رَهْنًا لِأَنَّهُ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ مِلْكِ الْعَيْنِ أَوْ الْمَنْفَعَةِ وَالْيَدُ عَلَى ذِي الْيَدِ بِبَعْضِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ فَكَانَ مُدَّعِيًا وَلَا يَتَوَصَّلُ إلَى إثْبَاتِ مَا ادَّعَاهُ إلَّا بِإِثْبَاتِ سَبَبِهِ فَيَصِيرُ السَّبَبُ مَقْصُودًا بِالْإِثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ لِأَنَّ مَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْمَطْلُوبِ إلَّا بِهِ يَكُونُ مَقْصُودًا قَالَ وَأَصْلُ مَعْرِفَةِ الْمُدَّعِي مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى الْمُنْكِرِ مِنْهُمَا فَهُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَالْآخَرُ الْمُدَّعِي وَهَذَا أَهَمُّ مَا يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَتِهِ فِي هَذَا الْكِتَابِ وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ كَلَامٌ صَحِيحٌ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمُنْكِرَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } وَلَكِنَّ تَمَامَ بَيَانِ الْحَدِّ لَا يَحْصُلُ بِهَا فَقَدْ يَكُونُ مُدَّعِيًا صُورَةً وَالْيَمِينُ فِي جَانِبِهِ كَالْمُودِعِ يَدَّعِي رَدَّ الْوَدِيعَةِ أَوْ هَلَاكَهَا وَذُو الْيَدِ إذَا قَالَ الْعَيْنُ لِي فَهُوَ مُدَّعٍ صُورَةً وَلَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُدَّعِيًا عَلَيْهِ وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ الْمُدَّعِيَ مَنْ يَسْتَدْعِي عَلَى الْغَيْرِ بِقَوْلِهِ وَإِذَا تَرَكَ الْخُصُومَةَ يَتْرُكُ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يُسْتَدْعَى عَلَيْهِ بِقَوْلِ الْغَيْرِ وَإِذَا تَرَكَ الْخُصُومَةَ لَا يَتْرُكُ وَقِيلَ الْمُدَّعِي مَنْ يَشْتَمِلُ كَلَامُهُ عَلَى الْإِثْبَاتِ وَلَا يَصِيرُ خَصْمًا بِالتَّكَلُّمِ بِالنَّفْيِ فَإِنَّ الْخَارِجَ لَوْ قَالَ لِذِي الْيَدِ هَذَا الشَّيْءُ لَيْسَ لَكَ لَا يَكُونُ خَصْمًا مُدَّعِيًا مَا لَمْ يَقُلْ هُوَ لِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يَشْتَمِلُ كَلَامُهُ عَلَى النَّفْيِ فَيَكْتَفِي بِهِ
مِنْهُ فَإِنَّ ذَا الْيَدِ إذَا قَالَ لَيْسَ هَذَا لَكَ كَانَ خَصْمًا بِهَذَا الْقَدْرِ وَقَوْلُهُ هُوَ لِي فَصْلٌ مِنْ الْكَلَامِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ وَقِيلَ الْمُدَّعِي مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ إلَّا بِحُجَّةٍ كَالْخَارِجِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يَكُونُ مُسْتَحِقًّا بِقَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ كَذِي الْيَدِ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ هُوَ لِي كَانَ مُسْتَحِقًّا لَهُ مَا لَمْ يُثْبِتْ الْغَيْرُ اسْتِحْقَاقَهُ فَأَمَّا الْمُودَعُ يَدَّعِي رَدَّ الْوَدِيعَةِ أَوْ هَلَاكَهَا فَهُوَ مَقْبُولُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الْخَصْمَ سَلَّطَهُ عَلَى ذَلِكَ فَيَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ فَكَانَ مُدَّعًى عَلَيْهِ أَوْ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ الضَّمَانَ فِي ذِمَّتِهِ فَكَانَ مُدَّعًى عَلَيْهِ فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَحْلِفُ لِنَفْيِ التُّهْمَةِ وَعَلَى الْوَجْهِ الْآخَرِ يَحْلِفُ لِإِنْكَارِهِ الضَّمَانَ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الرَّدَّ لَا يَثْبُتُ بِيَمِينِهِ حَتَّى لَوْ ادَّعَى الرَّدَّ عَلَى الْوَصِيِّ لَا يَكُونُ الْوَصِيُّ ضَامِنًا وَإِنْ كَانَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ ادَّعَى أَنَّهُ بَاعَهُ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ أَوْ آجَرَهُ فَهُوَ الْمُدَّعِي وَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ لِأَنَّهُ يَدَّعِي سَبَبَ نَقْلِ الْمِلْكِ فِي الْعَيْنِ أَوْ الْمَنْفَعَةِ إلَيْهِ وَاسْتِحْقَاقَهُ الْعِوَضَ عَلَيْهِ فَيَكُونُ مُدَّعِيًا مُحْتَاجًا إلَى إثْبَاتِ صِدْقِهِ وَعَلَى الْآخَرِ الْيَمِينُ لِإِنْكَارِهِ
قَالَ وَإِنْ ادَّعَى دَيْنًا عَلَى رَجُلٍ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ فَأَنْكَرَ الْآخَرُ فَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي بِدَعْوَاهُ أَمْرًا عَارِضًا وَهُوَ اشْتِغَالُ ذِمَّةِ الْغَيْرِ بِحَقِّهِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ الْمُنْكِرُ لِتَمَسُّكِهِ بِالْأَصْلِ وَهُوَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ فَإِنْ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ وَقَالَ قَدْ قَبَّضْتُهُ إيَّاهُ كَانَ هُوَ الْمُدَّعِي لِأَنَّ الْقَضَاءَ يَعْتَرِضُ الْوُجُوبَ فَهُوَ الَّذِي يَدَّعِي الْآنَ أَمْرًا عَارِضًا وَكَذَلِكَ إنْ ادَّعَى الْإِبْرَاءَ أَوْ التَّأْجِيلَ فَهُوَ الْمُدَّعِي لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ مُفَرِّغٌ لِذِمَّتِهِ بَعْدَ اشْتِغَالِهَا بِاتِّفَاقِهِمَا وَالتَّأْجِيلُ يُؤَخِّرُ الْمُطَالَبَةَ بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ بِوَجْهِ الْمُطَالَبَةِ بِاتِّفَاقِهِمَا فَهُوَ الَّذِي يَدَّعِي أَمْرًا عَارِضًا فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ وَيَدَّعِي الْآخَرُ الْيَمِينَ
قَالَ دَارٌ فِي يَدِ رَجُلَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّهَا لَهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي لِمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ لِأَنَّ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ الدَّارِ فَكَأَنَّ الدَّارَ الْوَاحِدَةَ بِمَنْزِلَةِ دَارَيْنِ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ أَحَدِهِمَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِيهَا فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُدَّعِيًا لِمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ وَمُنْكِرُ الدَّعْوَى صَاحِبُهُ فِيمَا فِي يَدِهِ فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ قَضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِ صَاحِبِهِ فَرَجَّحْنَا بَيِّنَةَ الْخَارِجِ عَلَى بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ فِي دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَلَوْ لَمْ يَقُمْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ وَأَيُّهُمَا حَلَفَ بَرِئَ مِنْهُمَا وَأَيُّهُمَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ دَعْوَى صَاحِبِهِ لِأَنَّ نُكُولَهُ قَائِمٌ مَقَامَ إقْرَارِهِ لِمَا ادَّعَاهُ صَاحِبُهُ فَقَدْ أُسْلِمَتْ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ عَلَى فَصْلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ وَبَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ إذَا تَعَارَضَتَا عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ عِنْدَنَا وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ تَتَهَاتَرُ الْبَيِّنَتَانِ وَيَكُونُ الْمُدَّعَى لِذِي الْيَدِ كَانَ فِي يَدِهِ لِقَضَائِهِ لَهُ وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ تُرَجَّحُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ فَيُقْضَى بِهِ لِذِي الْيَدِ فَقَضَاءُ مِلْكٍ بِالْبَيِّنَةِ وَطَرِيقُهُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ حُجَّةٌ يَجُوزُ دَفْعُهَا بِالطَّعْنِ فِيهَا فَيَجُوزُ دَفْعُهَا بِالْمُعَارَضَةِ كَالْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِذَا تَحَقَّقَ التَّعَارُضُ فَالْقَاضِي تَيَقَّنَ بِكَذِبِ أَحَدِهِمَا لِأَنَّ الْعَيْنَ الْوَاحِدَةَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ لَا تَكُونُ كُلُّهَا مِلْكًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَبَطَلَتْ الْبَيِّنَتَانِ وَبَقِيَ الْيَمِينُ فِي يَدِ ذِي الْيَدِ بِحُكْمِ يَدِهِ وَطَرِيقُهُ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ أَنَّ ذَا الْيَدِ لَهُ نَوْعَانِ مِنْ الْحُجَّةِ الْيَدُ وَالْبَيِّنَةُ وَلِلْخَارِجِ نَوْعٌ وَاحِدٌ وَذُو
الْحُجَّتَيْنِ يَتَرَجَّحُ عَلَى ذِي حُجَّةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا فِي دَعْوَى النِّكَاحِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ وَكَمَا لَوْ ادَّعَيَا تَلَقِّيَ الْمِلْكِ مِنْ وَاحِدٍ وَأَحَدُهُمَا قَابِضٌ فَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ وَهَذَا لِأَنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ وَجَبَ قَبُولُهَا الْآنَ لِصَيْرُورَتِهِ مُحْتَاجًا إلَى إقَامَتِهَا بِإِقَامَةِ الْخَارِجِ الْبَيِّنَةَ وَلَنَا فِي الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَانِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ تَقُومُ عَلَى مَا شَهِدَ لَهُ الظَّاهِرُ بِهِ فَلَا تَكُونُ حُجَّةً كَبَيِّنَةِ الْمَدِينِ عَلَى أَنْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ أَقَامَهَا قَبْلَ إقَامَةِ الْخَارِجِ الْبَيِّنَةَ لَمْ تُقْبَلْ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَيْهَا فِي إسْقَاطِ الْيَمِينِ عَنْ نَفْسِهِ وَالْبَيِّنَةُ تُقْبَلُ لِهَذِهِ الْحَاجَةِ كَمَا لَوْ أَقَامَ الْمُودَعُ الْبَيِّنَةَ عَلَى رَدِّ الْوَدِيعَةِ أَوْ هَلَاكِهَا فَكَذَلِكَ بَعْدَ إقَامَةِ الْخَارِجِ الْبَيِّنَةَ وَهَذَا لِأَنَّ شُهُودَ ذِي الْيَدِ يَشْهَدُونَ لَهُ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ الْقَائِمَةِ وَلَا طَرِيقَ لِمَعْرِفَةِ الْمِلْكِ إلَّا الْيَدَ وَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ لَا تَنْدَفِعُ بِيَدِ ذِي الْيَدِ وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي يُعَايِنُهَا فَكَذَلِكَ لَا تَنْدَفِعُ بِبَيِّنَةٍ تَعْتَمِدُ تِلْكَ الْيَدِ بِخِلَافِ النِّتَاجِ فَإِنَّ بِاعْتِبَارِ الْيَدِ لَا يَجُوزُ لَهُمْ الشَّهَادَةُ عَلَى النِّتَاجِ وَإِنَّمَا اعْتَمَدُوا سَبَبًا آخَرَ ذَلِكَ غَيْرُ ظَاهِرٍ عِنْدَ الْقَاضِي فَلَا بُدَّ مِنْ قَبُولِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ وَبِخِلَافِ بَيِّنَةِ مَجْهُولِ الْحَالِ عَلَى حُرِّيَّتِهِ لِأَنَّ الشُّهُودَ لَا يَجُوزُ لَهُمْ أَنْ يَشْهَدُوا بِحُرِّيَّتِهِ بِسَبَبِ الدَّارِ فَإِنَّمَا اعْتَمَدُوا شَيْئًا آخَرَ ذَلِكَ غَيْرُ ظَاهِرٍ عِنْدَ الْقَاضِي وَذَلِكَ شُهُودُ الشِّرَاءِ لِذِي الْيَدِ الَّذِي اعْتَمَدُوا سَبَبًا ، وَذَلِكَ غَيْرُ ظَاهِرٍ أَيْضًا عِنْدَ الْقَاضِي فَوَجَبَ قَبُولُ بَيِّنَتِهِ ثُمَّ يَتَرَجَّحُ بِيَدِهِ وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ أَنَّ الْبَيِّنَاتِ تَتَرَجَّحُ بِزِيَادَةِ الْإِثْبَاتِ وَالْإِثْبَاتُ فِي بَيِّنَةِ الْخَارِجِ أَكْثَرُ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ الْمِلْكَ عَلَى خَصْمٍ هُوَ مَالِكٌ
وَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ عَلَى خَصْمٍ هُوَ مَالِكٌ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ إقَامَةِ الْخَارِجِ الْبَيِّنَةَ لَمْ يَثْبُتْ الِاسْتِحْقَاقُ لَهُ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَلَا يَصِيرُ هُوَ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ لَوْ قَضَى بِبَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ وَإِذَا قَضَى بِبَيِّنَةِ الْخَارِجِ صَارَ ذُو الْيَدِ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ فَلِزِيَادَةِ الْإِثْبَاتِ رَجَّحْنَا بَيِّنَةَ الْخَارِجِ بِخِلَافِ دَعْوَى الْخَارِجِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ هُنَاكَ يُثْبِتُ أَوَّلِيَّةَ الْمَالِكِ لِصَاحِبِهِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ اسْتِحْقَاقًا عَلَى غَيْرِهِ وَلِهَذَا لَا يَصِيرُ ذُو الْيَدِ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ حَتَّى لَوْ أَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي لِلْخَارِجِ وَجَبَ قَبُولُ بَيِّنَتِهِ فَلَمَّا اسْتَوَيَا فِي الْإِثْبَاتِ رَجَّحْنَا بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ وَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَيَا تَلَقِّيَ الْمِلْكِ مِنْ وَاحِدٍ فَقَدْ اسْتَوَتْ الْبَيِّنَاتُ فِي الْإِثْبَاتِ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْبَائِعِ فَرَجَّحْنَا بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ لِتَأْكِيدِ شِرَائِهِ بِالْقَبْضِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ فَإِنَّهَا حُجَّةٌ فِي النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَيَتَحَقَّقُ التَّعَارُضُ وَهُنَا الْبَيِّنَتَانِ لِلْإِثْبَاتِ لَا لِلنَّفْيِ وَحَاجَةُ ذِي الْيَدِ إلَى اسْتِحْقَاقِ الْخَارِجِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ التَّعَارُضُ وَالْفَصْلُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ نُكُولُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ الْيَمِينِ مُوجِبًا لِلْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالْمَالِ عِنْدَنَا وَلَكِنْ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَعْرِضَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَيُخْبِرَهُ فِي كُلِّ مَرَّةٍ أَنَّ مِنْ رَأْيِهِ الْقَضَاءَ بِالنُّكُولِ إيلَاءً لِعُذْرِهِ فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ قَضَى عَلَيْهِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعِي فَإِنْ حَلَفَ أَخَذَ الْمَالَ وَإِنْ أَبَى انْقَطَعَتْ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا وَحُجَّتُهُ فِي مَنْعِ الْقَضَاءِ بِالنُّكُولِ أَنَّهُ سُكُوتٌ فِي نَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً لِلْقَضَاءِ عَلَيْهِ كَسُكُوتِهِ عَنْ
الْجَوَابِ فِي الِابْتِدَاءِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمَلٌ قَدْ يَكُونُ لِلتَّوَرُّعِ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ وَقَدْ يَكُونُ لِلتَّرَفُّعِ عَنْ الْيَمِينِ الصَّادِقَةِ كَمَا فَعَلَهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ خَشِيتُ أَنْ يُوَافِقَ قَدْرَ يَمِينِي فَيُقَالُ أُصِيبَ بِيَمِينِهِ وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً .
وَحُجَّتُهُ فِي رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى الْمُدَّعِي عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ادَّعَى مَالًا عَلَى الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ الْكِنْدِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْنَ يَدَيْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ الْمِقْدَادُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيَحْلِفْ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيَحْلِفْ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَأْخُذْ حَقَّهُ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَقَدْ أَنْصَفَ الْمِقْدَادُ وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ حَلَّفَ الْمُدَّعِي بَعْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْيَمِينَ فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي الِابْتِدَاءِ لِكَوْنِ الظَّاهِرِ شَاهِدًا لَهُ وَبِنُكُولِهِ صَارَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْمُدَّعِي فَيَعُودُ الْيَمِينُ إلَى جَانِبِهِ وَلِهَذَا بَدَأْنَا فِي اللِّعَانِ بِأَيْمَانِ الْخُرُوجِ لِشَهَادَةِ الظَّاهِرِ لَهُ فَإِنَّهُ لَا يُلَوِّثُ فِرَاشَهُ كَاذِبًا وَبَدَأْتُ أَنَا فِي الْقِيَامَةِ بِيَمِينِ الْوَلِيِّ لِلشَّهَادَةِ الظَّاهِرَةِ فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْعَدَاوَةُ ظَاهِرَةً بَيْنَ الْقَتِيلِ وَأَهْلِ الْمَحَلَّةِ وَكَانَ الْعَهْدُ قَرِيبًا بِدُخُولِهِمْ فِي مَحَلَّتِهِمْ إلَى أَنْ وُجِدَ قَتِيلًا وَلَنَا فِي الْمَسْأَلَةِ حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ قَضَى عَلَى الزَّوْجِ بِالطَّلَاقِ فِي قَوْلِهِ حَبْلُكَ عَلَى غَارِبِكَ عِنْدَ نُكُولِهِ عَنْ الْيَمِينِ عَلَى إرَادَةِ الطَّلَاقِ وَقَضَى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِصِحَّةِ الرَّجْعَةِ عِنْدَ نُكُولِهَا عَنْ الْيَمِينِ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ بَعْدَ حِلِّ الصَّلَاةِ لَهَا وَقَالَ ابْنُ مُلَيْكَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كُنْتُ قَاضِيًا بِالْبَصْرَةِ فَاخْتَصَمَ إلَيَّ امْرَأَتَانِ
فِي سِوَارٍ فَطَلَبْتُ الْبَيِّنَةَ مِنْ الْمُدَّعِيَةِ فَلَمْ أَجِدْ وَعَرَضْتُ الْيَمِينَ عَلَى الْأُخْرَى فَنَكَلَتْ فَكَتَبْتُ إلَى أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَوَرَدَ كِتَابُهُ أَنْ أَحْضِرْهُمَا وَاتْلُ عَلَيْهِمَا قَوْله تَعَالَى { إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا } الْآيَةَ ثُمَّ اعْرِضْ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِيَةِ عَلَيْهَا فَإِنْ نَكَلَتْ فَاقْضِ عَلَيْهَا وَقَضَى شُرَيْحٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالنُّكُولِ بَيْنَ يَدَيْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لَهُ ( قالون ) وَهِيَ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ أَصَبْتَ وَمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ حَلَّفَ الْمُدَّعِيَ فَبِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ لِأَنَّهُ كَانَ يَحْلِفُ مَعَ تَمَامِ حُجَّةِ الْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِذَلِكَ .
وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ الْمِقْدَادِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ ادَّعَى الْإِيفَاءَ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبِهِ نَقُولُ وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى إمَّا طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ حَقَّ الْمُدَّعِي قِبَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ الْجَوَابُ وَهُوَ جَوَابٌ يُوصِلُهُ إلَى حَقِّهِ وَهُوَ الْإِقْرَارُ فَإِذَا فَوَّتَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِإِنْكَارِهِ حَوَّلَهُ الشَّرْعُ إلَى الْيَمِينِ خَلْفًا عَنْ أَصْلِ حَقِّهِ فَإِذَا مَنَعَهُ الْحَلِفَ يَعُودُ إلَيْهِ أَصْلُ حَقِّهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ مَنْعِ الْحَلِفِ شَرْعًا إلَّا بِإِيفَاءِ مَا هُوَ أَصْلُ الْحَقِّ وَهَذَا الطَّرِيقُ عَلَى قَوْلِهِمَا وَأَنَّهُمَا يَجْعَلَانِ النُّكُولَ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ أَنَّ الدَّعْوَةَ لَمَّا صَحَّتْ مِنْ الْمُدَّعِي يُخَيَّرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَيْنَ بَدَلِ الْمَالِ وَبَيْنَ الْيَمِينِ فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْهُمَا وَأَحَدُهُمَا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ دُونَ الْآخَرِ ؛ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ فِيمَا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الْمُنَازَعَةِ شَرْعًا بِشَرْطِ أَنْ يَحْلِفَ فَإِذَا أَبَى ذَلِكَ صَارَ تَارِكًا لِلْمُنَازَعَةِ بِتَفْوِيتِ شَرْطِهَا فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا أُنَازِعُكَ فِي هَذَا الْمَالِ فَيَتَمَكَّنُ الْمُدَّعِي
مِنْ أَخْذِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِيهِ وَلَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ وَهَذَا الطَّرِيقُ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ حَيْثُ جَعَلَ النُّكُولَ بَدَلًا وَلَا عِبْرَةَ لِلِاحْتِمَالِ فِي النُّكُولِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَلْزَمَهُ التَّوَرُّعَ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ دُونَ التَّرَفُّعِ عَنْ الصَّادِقَةِ فَيَتَرَجَّحُ هَذَا الْجَانِبُ فِي نُكُولِهِ وَلِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّرَفُّعِ عَنْ الْيَمِينِ إلَّا بِبَدَلِ الْمَالِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَرْتَفِعُ مُلْتَزِمًا الضَّرَرَ عَلَى نَفْسِهِ لَا مُلْحِقًا الضَّرَرَ بِالْغَيْرِ يَمْنَعُ الْحَقَّ وَاَلَّذِي قَالَ مِنْ شَهَادَةِ الظَّاهِرِ لِلْمُدَّعِي عِنْدَ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِتَرَجُّحِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِي دَعْوَى الْمُدَّعِي وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْقَضَاءِ ثُمَّ الْيَمِينُ مَشْرُوعَةٌ لِلنَّفْيِ لَا لِلْإِثْبَاتِ وَحَاجَةُ الْمُدَّعِي إلَى الْإِثْبَاتِ فَلَا تَكُونُ الْيَمِينُ حُجَّةً لَهُ هَذَا مَعْنَى تَعْلِيلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا أُحَوِّلُ الْيَمِينَ عَنْ مَوْضِعِهِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّهَا فِي النَّفْيِ لَا تُوجِبُ النَّفْيَ حَتَّى تُقْبَلَ بَيِّنَةُ الْمُدَّعِي بَعْدَ يَمِينِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَفِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ وَهُوَ الْإِثْبَاتُ أَوْلَى أَنْ لَا يُوجِبَ الْإِثْبَاتُ وَالشَّهَادَاتُ لِلْإِثْبَاتِ ثُمَّ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُدَّعِي بِشَهَادَتِهِ لِنَفْسِهِ شَيْئًا بِحَالٍ فَلَأَنْ لَا يَسْتَحِقَّ بِيَمِينِهِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ كَانَ أَوْلَى
وَإِذَا تَنَازَعَ رَجُلَانِ فِي دَارِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّهَا فِي يَدِهِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةُ لِأَنَّ دَعْوَى الْيَدِ مَقْصُودَةٌ كَمَا أَنَّ دَعْوَى الْمِلْكِ مَقْصُودَةٌ ؛ لِأَنَّ بِالْيَدِ يَتَوَصَّلُ إلَى الِانْتِفَاعِ بِالْمِلْكِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ فَإِنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا فِي يَدَيْهِ جَعَلَ يَدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهَا لِتَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ وَتَسَاوِيهِمَا فَالْمُسَاوَاةُ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ تُوجِبُ الْمُسَاوَاةَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي قَابِلًا لِلِاشْتِرَاكِ يَقْضِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِالنِّصْفِ لِمَعْنَى الضِّيقِ وَالْمُزَاحَمَةِ فِي الْمَحَلِّ قَالَ فَإِذَا أَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ قَضَيْتُ بِهَا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ بِالْبَيِّنَةِ الْمِلْكَ فِيمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَلَمْ يُعَامِلْهُ صِحَابُهُ بِمِثْلِهِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْقَضَاءِ بِالْيَدِ لِصَاحِبِهِ وَالْمِلْكِ لَهُ بِالْبَيِّنَةِ وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَقُولُونَ إذَا قَالَ الْمُدَّعِي : هَذَا الشَّيْءُ مِلْكِي وَفِي يَدِي لَمْ يَسْمَعْ الْقَاضِي دَعْوَاهُ وَقَالَ لَهُ إذَا كَانَ مِلْكٌ فِي يَدِكَ فَمَاذَا تَطْلُبُ مِنِّي فَتَأْوِيلُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْخَصْمَ لَا يَدَّعِي إلَيْهِ الْيَدَ لِنَفْسِهِ وَهُنَا الْخَصْمُ يَدَّعِي الْيَدَ لِنَفْسِهِ فَلِهَذَا قَبِلَ دَعْوَى الْيَدِ لِنَفْسِهِ وَقَضَى لَهُ بِهَا عِنْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ .
وَذَكَرَ الْخَصَّافُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ مَنْ ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ غَيْرِهِ وَإِنَّهَا لَهُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَمَا لَمْ يَشْهَدْ الشُّهُودُ أَنَّهَا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ تَوَاضَعَا فِي مَحْدُودٍ فِي يَدِ ثَالِثٍ عَلَى أَنْ يَدَّعِيَهُ أَحَدُهُمَا وَيُقِرَّ الْآخَرُ بِأَنَّهُ فِي يَدِهِ لِيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَهُوَ فِي يَدِ غَيْرِهِمَا وَلَكِنَّ تَأْوِيلَ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْخَصْمَ الْآخَرَ لَمْ يُثْبِتْ يَدَهُ بِالْبَيِّنَةِ وَهُنَا قَدْ أَثْبَتَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَ
الْبَيِّنَةِ فَلِهَذَا قَبِلْنَا بَيِّنَةَ أَحَدِهِمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِإِثْبَاتِ الْمِلْكِ لَهُ وَإِنْ لَمْ يَقُمْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ عَلَى الْيَدِ وَطَلَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمِينَ صَاحِبِ مَا هِيَ فِي يَدِهِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُحَلِّفَ الْبَيِّنَةَ مَا هِيَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ لِصَاحِبِهِ بِمَا ادَّعَى لَزِمَهُ حَقُّهُ فَإِذَا أَنْكَرَ حَلَفَ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْهَا الْقَاضِي فِي يَدِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ حُجَّةَ الْقَضَاءِ بِالْيَدِ لَمْ تَقُمْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَكِنْ يَمْنَعُهُمَا مِنْ الْمُنَازَعَةِ وَالْخُصُومَةِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ فَأَيُّهُمَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَمْ يَجْعَلْهَا فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ قَدْ حَلَفَ وَلَمْ يَجْعَلْهَا فِي يَدِ الَّذِي حَلَفَ بِنُكُولِ هَذَا النَّاكِلِ أَيْضًا لِجَوَازِ أَنْ تَكُونَ فِي يَدِ ثَالِثٍ وَأَنَّهُمَا تَوَاضَعَا لِلتَّلْبِيسِ عَلَى الْقَاضِي وَذَلِكَ يَمْنَعُ النَّاكِلَ عَنْ مُنَازَعَةِ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ نُكُولَهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فَإِنْ وَجَدَهَا فِي يَدِ آخَرَ لَمْ يَنْزِعْهَا مِنْ يَدِهِ الَّذِي أَنْفَذَهُ بَيْنَ هَذَيْنِ ؛ لِأَنَّ نُكُولَهُمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى غَيْرِهِمَا وَالْقَضَاءُ بِحَسَبِ الْحُجَّةِ
قَالَ عَبْدٌ فِي يَدَيْ رَجُلَيْنِ ادَّعَاهُ آخَرُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ أَمْسِ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بَعْدَ مَا عَرَفَ الْقَاضِي زَوَالَهُمَا وَلَمْ يَثْبُتْ سَبَبُ الزَّوَالِ وَمِثْلُ هَذِهِ الشَّهَادَةِ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى مَا كَانَ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي إنَّمَا تُقْبَلُ بِطَرِيقِ أَنَّ مَا عُرِفَ ثُبُوتُهُ فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ وَاسْتِصْحَابُ الْحَالِ إنَّمَا يَجُوزُ بَقَاؤُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ فِيمَا لَمْ يَتَيَقَّنْ بِزَوَالِهِ وَرَوَى أَصْحَابُ الْإِمْلَاءِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الشَّهَادَةَ تُقْبَلُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّهُمْ لَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ كَانَ فِي مِلْكِهِ أَمْسِ عِنْدَهُ تُقْبَلُ وَلَكِنَّ هَذَا الْقِيَاسَ غَيْرُ صَحِيحٍ فَإِنَّ الْمِلْكَ غَيْرُ مُعَايَنٍ وَلَا يَتَيَقَّنُ الْقَاضِي بِزَوَالِ مَا شَهِدُوا بِهِ فِي الْحَالِ فَكَانَ لِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ طَرِيقَانِ بِخِلَافِ الْيَدِ فَإِنَّهُ مُعَايِنٌ قَدْ عَلِمَ الْقَاضِي انْفِسَاخَ يَدِهِ بِالْيَدِ الظَّاهِرِ لِلْغَيْرِ فَلَا طَرِيقَ لِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ فِيهِ وَلَوْ أَقَرَّ ذُو الْيَدِ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِ الْمُدَّعِي أَمْسِ أُمِرَ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُلْزِمٌ بِنَفْسِهِ قَبْلَ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ فَيَظْهَرُ بِإِقْرَارِهِ يَدُ الْمُدَّعِي أَمْسِ فَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُثْبِتْ حَقًّا لِنَفْسِهِ فَأَمَّا الشَّهَادَةُ فَلَا تُوجِبُ الْحَقَّ إلَّا بِاتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا وَيَتَعَذَّرُ عَلَى الْقَاضِي الْقَضَاءُ بِشَيْءٍ يُعْلَمُ وَالْحَالُ خِلَافُهُ وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِ ذِي الْيَدِ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِ الْمُدَّعِي أَمْسِ أُمِرَ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ مِنْ إقْرَارِهِ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ أَخَذَهُ مِنْهُ هَذَا أَوْ انْتَزَعَهُ مِنْهُ أَوْ غَصَبَهُ مِنْهُ أَوْ غَلَبَهُ عَلَيْهِ فَأَخَذَهُ مِنْهُ أَوْ أَرْسَلَهُ فِي حَاجَتِهِ فَاعْتَرَضَهُ هَذَا فِي الطَّرِيقِ أَوْ أَبَقَ مِنِّي هَذَا فَأَخَذَهُ هَذَا
الرَّجُلُ فَهَذِهِ الشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ وَيَقْضِي بِالْعَبْدِ لَهُ ؛ لِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا سَبَبَ زَوَالِ يَدِهِ فَصَارَ ذَلِكَ كَالْمُعَايَنِ لِلْقَاضِي وَأَثْبَتُوا أَنَّ وُصُولَهُ إلَى يَدِ ذِي الْيَدِ كَانَ بِأَخْذِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْهُ فَعَلَيْهِ رَدُّهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ } وَاحِدَةٌ مِنْ غَيْرِ حَقٍّ ظَاهِرٍ لَهُ فِي الْمَأْخُوذِ عُدْوَانًا وَالْفِعْلُ الَّذِي هُوَ عُدْوَانٌ وَاجِبُ الْفَسْخِ شَرْعًا وَذَلِكَ بِالرَّدِّ
قَالَ : وَلَوْ ادَّعَى عَيْنًا فِي يَدِ رَجُلٍ أَنَّهُ لَهُ وَقَالَ الَّذِي هُوَ فِي يَدَيْهِ أَوْدَعَنِيهِ فُلَانٌ أَوْ أَعَارَنِيهِ أَوْ وَكَّلَنِي بِحِفْظِهِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ خُصُومَةِ الْمُدَّعِي إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا قَالَ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ يَخْرُجُ مِنْ خُصُومَتِهِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ لَا يَخْرُجُ مِنْ خُصُومَتِهِ وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا قَالَ أَمَّا ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّ كَلَامَ ذِي الْيَدِ إقْرَارٌ مِنْهُ بِالْمِلْكِ لِلْغَائِبِ وَالْإِقْرَارُ يُوجِبُ الْحَقَّ بِنَفْسِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { بَلْ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } وَلِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِيمَا يُقِرُّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَيُثْبِتُ مَا أَقَرَّ بِهِ بِنَفْسِ الْإِقْرَارِ وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ يَدَهُ يَدُ حِفْظٍ لَا يَدُ خُصُومَةٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِعَيْنٍ لِغَائِبٍ ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ لِحَاضِرٍ فَرَجَعَ الْغَائِبُ وَصَدَّقَهُ يُؤْمَرُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِشَيْءٍ ثُمَّ مَرِضَ فَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ كَانَ إقْرَارُهُ إقْرَارَ صِحَّةٍ وَأَمَّا ابْنُ شُبْرُمَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ إنَّهُ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ يُثْبِتُ الْمِلْكَ لِلْغَائِبِ وَهُوَ لَيْسَ بِخَصْمٍ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِأَحَدٍ عَلَى غَيْرِهِ فِي إدْخَالِ شَيْءٍ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ ثُمَّ خُرُوجُهُ عَنْ الْخُصُومَةِ فِي ضِمْنِ إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِغَيْرِهِ فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ مَا هُوَ الْأَصْلُ لَا يَثْبُتُ مَا فِي ضِمْنِهِ كَالْوَصِيَّةِ بِالْمُحَابَاةِ إذَا ثَبَتَ فِي ضِمْنِ الْبَيْعِ فَيُبْطِلَانِ الْبَيْعَ بِطَلَبِ الْوَصِيَّةِ وَلَنَا أَنَّ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ تُثْبِتُ أَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا الْمِلْكُ لِلْغَائِبِ وَالْحَاضِرُ لَيْسَ بِخَصْمٍ فِيهِ وَالثَّانِي دَفْعُ خُصُومَةِ الْمُدَّعِي عَنْهُ وَهُوَ خَصْمٌ فِي ذَلِكَ فَكَانَتْ مَقْبُولَةً فِيمَا وُجِدَتْ فَيَكُونُ خَصْمًا فِيهِ كَمَنْ وَكَّلَ وَكِيلًا بِنَقْلِ امْرَأَتِهِ أَوْ
أَمَتِهِ وَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّ الزَّوْجَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَأَنَّ الْمَوْلَى أَعْتَقَهَا تُقْبَلُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ فِي قِصَرِ يَدِ الْوَكِيلِ عَنْهَا وَلَا تُقْبَلُ فِي وُقُوعِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ مَا لَمْ يَحْضُرْ الْغَائِبُ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ ذِي الْيَدِ لَيْسَ هُوَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ لِلْغَائِبِ إنَّمَا مَقْصُودُهُ إثْبَاتُهُ أَنَّ يَدَهُ يَدُ حِفْظٍ وَلَيْسَتْ بِيَدِ خُصُومَةٍ وَفِي هَذَا الْمُدَّعِي خَصْمٌ لَهُ فَيُجْعَلُ إثْبَاتُهُ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِ خَصْمِهِ بِهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى غَصْبًا عَلَى ذِي الْيَدِ حَيْثُ لَا تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ عَنْهُ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ إنَّمَا صَارَ خَصْمًا بِدَعْوَى الْفِعْلِ عَلَيْهِ دُونَ الْيَدِ فَأَمَّا فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ إنَّمَا صَارَ خَصْمًا بِيَدِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ دَعْوَى الْغَصْبِ مَسْمُوعَةٌ عَلَى غَيْرِ ذِي الْيَدِ وَدَعْوَى الْمِلْكِ غَيْرُ مَسْمُوعَةٍ فَإِذَا أَثْبَتَ أَنَّ يَدَ غَيْرِهِ الْتَحَقَ فِي الْحُكْمِ بِمَا لَيْسَ فِي يَدِهِ فَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ لَا تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ الْجَوَابَ فَصَارَ هُوَ خَصْمًا لَهُ بِظُهُورِ الشَّيْءِ فِي يَدِهِ فَلَا يَمْلِكُ إسْقَاطَهُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ وَهُوَ لَا يَثْبُتُ إقْرَارُهُ بِالْبَيِّنَةِ كَمَا زَعَمَ هُوَ إنَّمَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ إسْقَاطُ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ عَنْ نَفْسِهِ وَهُوَ جَوَابُ الْخَصْمِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ كَانَ ذُو الْيَدِ رَجُلًا مَعْرُوفًا بِالْحِيَلِ لَمْ تَنْدَفِعْ الْخُصُومَةُ عَنْهُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَإِنْ كَانَ صَالِحًا تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ عَنْهُ رَجَعَ إلَى هَذَا حِينَ اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ وَعَرَفَ أَحْوَالَ النَّاسِ فَقَالَ قَدْ يَحْتَالُ الْمُحْتَالُ وَيَدْفَعُ مَالَهُ إلَى مَنْ يُرِيدُ شِرَاءً وَيَأْمُرُ مَنْ يُودِعُهُ عَلَانِيَةً حَتَّى إذَا ادَّعَاهُ إنْسَانٌ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ مُودَعٌ لِيَدْفَعَ الْخُصُومَةَ عَنْ نَفْسِهِ .
وَمَقْصُودُهُ مِنْ ذَلِكَ الْإِضْرَارُ
بِالْمُدَّعِي لِيَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ إثْبَاتُ حَقِّهِ بِالْبَيِّنَةِ فَلَا تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ عَنْهُ إذَا كَانَ مُتَّهَمًا بِمِثْلِ هَذِهِ الْحِيلَةِ فَإِنْ شَهِدَ شُهُودُ ذِي الْيَدِ أَنَّهُ أَوْدَعَهُ رَجُلٌ لَا يَعْرِفُهُ لَمْ تَنْدَفِعْ الْخُصُومَةُ عَنْهُ فَلَعَلَّ ذَلِكَ الرَّجُلَ هُوَ الَّذِي حَضَرَ يُنَازِعُهُ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ مَا يُوجِبُ دَفْعَ الْخُصُومَةِ وَالثَّانِي أَنَّ الْخُصُومَةَ إنَّمَا تَنْدَفِعُ عَنْ ذِي الْيَدِ إذَا حَوَّلَهُ إلَى غَيْرِهِ بِالْبَيِّنَةِ وَالتَّحْوِيلُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا أَحَالَهُ عَلَى رَجُلٍ يُمْكِنُهُ اتِّبَاعُهُ لِيُخَاصِمَهُ فَإِذَا أَحَالَهُ إلَى مَجْهُولٍ وَلَا يُمْكِنُهُ اتِّبَاعَ الْمَجْهُولِ كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا لَا يَجُوزُ وَإِنْ قَالَ الشُّهُودُ أَوْدَعَهُ رَجُلٌ نَعْرِفُهُ بِوَجْهِهِ إذَا رَأَيْنَاهُ وَلَا نَعْرِفُهُ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ فَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ عَنْهُ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ عَنْهُ ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ أَحَالَهُ عَلَى مَجْهُولٍ لَا يُمْكِنُهُ اتِّبَاعُهُ لِيُخَاصِمَهُ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِمْ أَوْدَعَهُ رَجُلٌ لَا نَعْرِفُهُ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمَعْرِفَةَ بِالْوَجْهِ لَا تَكُونُ مَعْرِفَةً عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ قَالَ لِرَجُلٍ أَتَعْرِفُ فُلَانًا ؟ فَقَالَ نَعَمْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ تَعْرِفُ اسْمَهُ قَالَ لَا قَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ إذًا لَا تَعْرِفُهُ } .
وَمَنْ حَلَفَ لَا يَعْرِفُ فُلَانًا وَهُوَ يَعْرِفُ وَجْهَهُ دُونَ اسْمِهِ وَنَسَبِهِ لَا يَحْنَثُ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ قَدْ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ لِلْمُدَّعِي فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ مُودِعَهُ لَيْسَ هُوَ الْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ يَعْرِفُونَ الْمُودَعَ بِوَجْهِهِ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ غَيْرُ هَذَا الْمُدَّعِي وَمَقْصُودُ ذِي الْيَدِ إثْبَاتُ أَنَّ يَدَهُ يَدُ حِفْظٍ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ لِهَذَا الْحَاضِرِ وَهَذِهِ الْبَيِّنَةُ كَافِيَةٌ فِي هَذَا الْمَقْصُودِ ثُمَّ إنْ تَضَرَّرَ الْمُدَّعِي بِأَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اتِّبَاعِ خَصْمِهِ فَذَلِكَ الضَّرَرُ يَلْحَقُهُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ جَهِلَ خَصْمَهُ لَا مِنْ جِهَةِ ذِي الْيَدِ وَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ الْمَعْرِفَةَ بِالْوَجْهِ لَا تَكُونُ مَعْرِفَةً تَامَّةً فَإِنَّ الْغَائِبَ لَا يُمْكِنُ اسْتِحْضَارُهُ بِهِ وَلَكِنْ لَيْسَ عَلَى ذِي الْيَدِ تَعْرِيفُ خَصْمِ الْمُدَّعِي لَهُ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يُثْبِتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ لَهُ وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِنَا أَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ بِالْبَيِّنَةِ لَا يَجُوزُ فَلَا بُدَّ مِنْ خَصْمٍ حَاضِرٍ لِلْمُدَّعِي لِيُقِيمَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ .
فَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقَضَاءُ عَلَى الْغَائِبِ بِالْبَيِّنَةِ جَائِزٌ وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ إنْ كَانَ غَائِبًا عَنْ الْبَلْدَةِ أَوْ عَنْ مَجْلِسِ الْحُكْمِ حَاضِرًا فِي الْبَلْدَةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِهِ وَإِنَّمَا يَحْضُرُهُ الْقَاضِي لِرَجَاءِ إقْرَارِهِ حَتَّى يُقَصِّرَ بِهِ الْمَسَافَةَ عَلَيْهِ وَلَا يَحْتَاجُ الْمُدَّعِي إلَى تَكَلُّفِ الْبَيِّنَةِ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي ، فَاشْتِرَاطُ حُضُورِ الْخَصْمِ لِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ تَكُونُ زِيَادَةً وَلَمَّا قَالَتْ هِنْدُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ لَا يُعْطِينِي مَا يَكْفِينِي وَوَلَدِي { فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ } فَقَدْ قَضَى رَسُولُ