كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي

نِسْبَةِ الْجُزْءِ فَلَا يَثْبُتُ مِنْ التَّأْجِيلِ فِيهِ الْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ ، وَعَلَى الْأَصْلِ قُلْنَا لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الضَّارِبِ إلَّا أَنْ يَتَبَرَّعَ بِهَا احْتِيَاطًا هَكَذَا نُقِلَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ الْكَفَّارَةُ ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ النُّفُوسِ ، وَإِتْلَافُ النَّفْسِ مُوجِبُ الْكَفَّارَةِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : هُوَ جُزْءٌ مِنْ وَجْهٍ ، وَاعْتِبَارُ صِفَةِ الْجُزْئِيَّةِ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ ، وَمَعَ الشَّكِّ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ ، وَلَكِنَّ اعْتِبَارَ مَعْنَى الْجُزْئِيَّةِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الضَّمَانِ فَأَوْجَبْنَا الضَّمَانَ ، وَأَلْحَقْنَاهُ فِي ذَلِكَ بِالنُّفُوسِ ثُمَّ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بِطَرِيقِ السُّكْرِ حَيْثُ سَلَّمَ الشَّرْعُ نَفْسَهُ لَهُ فَلَمْ يَلْزَمْهُ الْقَوَدُ بِعُذْرِ الْخَطَأِ كَمَا بَيَّنَّا وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هَاهُنَا فَإِتْلَافُ الْجَنِينِ لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ بِحَالٍ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ .
وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ لَا يَسْتَقِرُّ عَلَى شَيْءٍ فِي الْجَنِينِ ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُهُ فِي حُكْمِ الْكَفَّارَةِ كَالنُّفُوسِ ثُمَّ يَقُولُ : الْبَدَلُ الْوَاجِبُ فِيهِ مُعْتَبَرٌ بِأُمِّهِ لَا بِنَفْسِهِ حَتَّى يَكُونَ الْوَاجِبُ عُشْرُ بَدَلِ الْأُمِّ ، وَعِنْدَنَا هُوَ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ فَالْوَاجِبُ عِنْدَنَا نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ ذَكَرًا وَعُشْرُ قِيمَتِهِ إنْ كَانَتْ أُنْثَى ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْوَاجِبُ عُشْرُ قِيمَةِ الْأُمِّ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى قَالَ : لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ الْبَدَلُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْجُزْئِيَّةِ دُونَ النَّفْسِيَّةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ يَتَنَصَّفُ بِالْأُنُوثَةِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ اعْتِبَارَ النَّفْسِيَّةِ فِي الْجَنِينِ لَيْسَ يُبْنَى عَلَى سَبَبٍ مَعْلُومٍ حَقِيقَةً فَلَا يَجِبُ الْمَصِيرُ إلَيْهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ ، وَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْكَفَّارَةِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْجُزْئِيَّةِ ، فَأَمَّا فِي حُكْمِ الْبَدَلِ لَا ضَرُورَةَ فَإِيجَابُهُ مُمْكِنٌ بِاعْتِبَارِ الْجُزْئِيَّةِ ،

وَهِيَ مَعْلُومَةٌ حَقِيقَةً فَكَانَ الْوَاجِبُ عُشْرَ دِيَةِ الْأُمِّ إذَا ثَبَتَ هَذَا فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ فَكَذَلِكَ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ .
؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ فِي حَقِّ الْمَمَالِيكِ كَالدِّيَةِ فِي حَقِّ الْأَحْرَارِ ، وَفِيمَا ذَهَبْتُمْ إلَيْهِ تَفْضُلُ الْأُنْثَى عَلَى الذَّكَرِ فِي ضَمَانِ الْجِنَايَاتِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْجَنِينُ فِي حُكْمِ الْبَدَلِ بِمَنْزِلَةِ النُّفُوسِ حَتَّى يَكُونَ بَدَلُهُ مَوْرُوثًا عَنْهُ ، وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِبَدَلِ النَّفْسِ ، وَبَدَلُ النَّفْسِ يُعْتَبَرُ بِحَالِ صَاحِبِ النَّفْسِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ جَنِينَ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ الْمَوْلَى يَجِبُ فِيهِ الْغُرَّةُ ، وَلَوْ كَانَ الْوُجُوبُ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْأُمِّ لَمْ يَجِبْ ؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ ، وَكَذَلِكَ النَّصْرَانِيَّةُ إذَا كَانَتْ فِي بَطْنِهَا جَنِينٌ مِنْ زَوْجٍ مُسْلِمٍ فَيَضْرِبُ إنْسَانٌ بَطْنَهَا يَلْزَمُهُ الْغُرَّةُ ، وَلَوْ كَانَ الْمُعْتَبَرُ حَالَهَا لَمْ يَجِبْ عَلَى أَصْلِهِ ؛ لِأَنَّ دِيَةَ النَّصْرَانِيَّةِ عِنْدَهُ عَلَى الثُّلُثِ مِنْ دِيَةِ الْمُسْلِمِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ مَجُوسِيَّةً ، وَمَا فِي بَطْنِهَا مُسْلِمٌ بِإِسْلَامِ أَبِيهِ فَثَبَتَ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَالُهُ بِنَفْسِهِ إلَّا أَنَّهُ يُسَوِّي بَيْنَ الذُّكُورِ ، وَالْإِنَاثِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ فِي الْجَنِينِ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الذَّكَرِ ، وَالْأُنْثَى خُصُوصًا قَبْلَ أَنْ يَتِمَّ خَلْقُهُ ، فَإِنَّ وُجُوبَ الْبَدَلِ لَا يَخْتَصُّ بِمَا بَعْدَ تَمَامِ الْخِلْقَةِ وَكَمَا لَا يَجُوزُ تَفَضُّلُ الْأُنْثَى عَلَى الذَّكَرِ فِي ضَمَانِ الْجِنَايَاتِ لَا تَجُوزُ التَّسْوِيَةُ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ ثُمَّ جَازَتْ التَّسْوِيَةُ هَاهُنَا بِالِاتِّفَاقِ ، فَكَذَلِكَ التَّفَضُّلُ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْوُجُوبَ قَطَعَ التَّسْوِيَةَ لَا بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مَالِكِيَّةَ فِي الْجَنِينِ .
وَالْأُنْثَى فِي مَعْنَى النُّشُوِّ يُسَوَّى بِالذَّكَرِ وَرُبَّمَا يَكُونُ الْأُنْثَى أَسْرَعَ نُشُوًّا كَمَا بَعْدَ الِانْفِصَالِ فَلِهَذَا جَوَّزْنَا تَفْضِيلَ الْأُنْثَى عَلَى الذَّكَرِ ثُمَّ وُجُوبُ الْبَدَلِ فِي جَنِينِ الْأَمَةِ قَوْلُ أَبِي

حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَعَنْهُ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ لَا يَجِبُ إلَّا نُقْصَانُ الْأُمِّ إنْ تَمَكَّنَ فِيهَا نَقْصٌ ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ لَا يَجِبُ فِيهَا شَيْءٌ كَمَا فِي جَنِينِ الْبَهِيمَةِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : وُجُوبُ بَدَلِ جَنِينِ الْآدَمِيَّةِ ؛ لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الصِّيَانَةِ عَنْ الْهَدَرِ وَجَنِينُ الْأَمَةِ فِي ذَلِكَ كَجَنِينِ الْحُرَّةِ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي الْحَقِيقَةِ تَنْبَنِي عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي ضَمَانِ الْجِنَايَةِ عَلَى الْمَمَالِيكِ فَإِنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الْمَالِ يَجِبُ بَالِغًا مَا بَلَغَ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ هُوَ بَدَلٌ عَنْ النَّفْسِ ، وَلِهَذَا لَا يُزَادُ عَلَى مِقْدَارِ الدِّيَةِ بِحَالٍ عَلَى مَا يَأْتِيك بَيَانُهُ .
وَإِنْ خَرَجَ الْجَنِينُ حَيًّا بَعْدَ الضَّرْبَةِ ثُمَّ مَاتَ فَفِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا انْفَصَلَ حَيًّا كَانَ نَفْسًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ يُوجِبُ الدِّيَةَ ، وَالْكَفَّارَةَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } وَلَوْ قُتِلَتْ الْأُمُّ ثُمَّ خَرَجَ الْجَنِينُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْهَا مَيِّتًا فَفِي الْأُمِّ الدِّيَةُ ، وَلَا شَيْءَ فِي الْجَنِينِ عِنْدَنَا ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ تَجِبُ الْغُرَّةُ فِي الْجَنِينِ ؛ لِأَنَّ فِي إتْلَافِ الْجَنِينِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَنْفَصِلَ مَيِّتًا ، وَهِيَ حَيَّةٌ أَوْ ، وَهِيَ مَيِّتَةٌ وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الضَّارِبَ أَتْلَفَ بِفِعْلِهِ نَفْسَيْنِ فَيَلْزَمُهُ بَدَلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَلَكِنَّا إنَّمَا أَوْجَبْنَا الْبَدَلَ فِي الْجَنِينِ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ .
وَوُرُودُ النَّصِّ بِهِ فِيمَا إذَا انْفَصَلَ مِنْهَا ، وَهِيَ حَيَّةٌ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فَأَلْقَتْ جَنِينًا مَيِّتًا ، وَإِنَّمَا أَضَافَ الْإِلْقَاءَ إلَيْهَا إذَا كَانَتْ حَيَّةً فَبَقِيَ مَا إذَا انْفَصَلَ بَعْدَ مَوْتِهَا عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ ثُمَّ يَتَمَكَّنُ الِاشْتِبَاهُ فِي هَلَاكِهِ إذَا انْفَصَلَ بَعْد مَوْتِهَا فَرُبَّمَا

كَانَ ذَلِكَ بِالضَّرْبَةِ وَرُبَّمَا كَانَ بِانْحِبَاسِ نَفْسِهِ بِهَلَاكِهَا ، وَمَعَ اشْتِبَاهِ السَّبَبِ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ حَيَّةً حِينَ انْفَصَلَ الْجَنِينُ مَيِّتًا عَنْهَا ثُمَّ هَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجْعَلُ ذَكَاةَ الْأُمِّ ذَكَاةَ الْجَنِينِ فَكَذَلِكَ لَا يَجْعَلُ قَتْلَ الْأُمِّ قَتْلًا لِلْجَنِينِ وَالشَّافِعِيُّ جَعَلَ ذَكَاةَ الْأُمِّ ذَكَاةَ الْجَنِين فَكَذَلِكَ يَجْعَلُ قَتْلَ الْأُمِّ قَتْلًا لِلْجَنِينِ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ قَالَا : الْقِيَاسُ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَلَكِنَّا تَرَكْنَا ذَلِكَ فِي حُكْمِ الذَّكَاةِ بِالسُّنَّةِ ؛ وَلِأَنَّ الذَّكَاةَ تَنْبَنِي عَلَى الْوُسْعِ فَبَقِيَ الْقِيَاسُ مُعْتَبَرًا فِي حُكْمِ الْقَتْلِ فَلَا يَكُونُ قَتْلُ الْأُمِّ قَتْلًا لِلْجَنِينِ ، وَإِنْ كَانَ فِي بَطْنِهَا جَنِينَانِ فَخَرَجَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ مَوْتِهَا ، وَخَرَجَ الْآخَرُ بَعْدَ مَوْتِهَا ، وَهُمَا مَيِّتَانِ فَفِي الَّذِي خَرَجَ قَبْلَ مَوْتِهَا خَمْسُمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَلَيْسَ فِي الَّذِي خَرَجَ بَعْدَ مَوْتِهَا شَيْءٌ اعْتِبَارًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا لَوْ كَانَ وَحْدَهُ ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا سَبَبَ لِمَوْتِ الَّذِي خَرَجَ قَبْلَ مَوْتِهَا سِوَى الضَّرْبَةِ ، وَاشْتَبَهَ السَّبَبُ فِي الَّذِي خَرَجَ بَعْدَ مَوْتِهَا ، وَمَعَ اشْتِبَاهِ السَّبَبِ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ ثُمَّ الَّذِي خَرَجَ قَبْلَ مَوْتِهَا مَيِّتًا لَا يَرِثُ مِنْ دِيَةِ أُمِّهِ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ التَّوْرِيثِ بَقَاءُ الْوَارِثِ حَيًّا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ ، وَلَهَا مِيرَاثُهَا مِنْهُ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ حَيَّةً بَعْدَمَا وَجَبَ بَدَلُ هَذَا الْجَنِينِ بِانْفِصَالِهِ مَيِّتًا فَلَهَا مِيرَاثُهَا مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي خَرَجَ بَعْدَ مَوْتِهَا خَرَجَ حَيًّا ثُمَّ مَاتَ فَفِيهِ الدِّيَةُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ زَالَ حِينَ انْفَصَلَ حَيًّا ، وَقَدْ مَاتَ بِالضَّرْبَةِ بَعْدَمَا صَارَ نَفْسًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَتَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً ، وَلَهُ مِيرَاثُهُ مِنْ دِيَةِ أُمِّهِ وَمِمَّا وَرِثَتْ أُمُّهُ مِنْ أَخِيهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِأَخِيهِ أَبٌ حَيٌّ فَلَهُ

مِيرَاثُهُ مِنْ أَخِيهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ كَانَ حَيًّا بَعْدَ مَوْتِهِمَا فَيَكُونُ لَهُ الْمِيرَاثُ مِنْهُمَا .

وَلَا قِصَاصَ عَلَى الْأَبَوَيْنِ ، وَالْأَجْدَادِ ، وَالْجَدَّاتِ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ ، وَالْأُمَّهَاتِ عِنْدَنَا ، وَقَالَ مَالِكٌ إنْ رَمَى الْأَبُ وَلَدَهُ بِسَيْفٍ أَوْ سِكِّينٍ فَقَتَلَهُ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَخَذَهُ فَذَبَحَهُ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ بِاعْتِبَارِ تَغْلِيظِ الْجِنَايَةِ ، وَلِهَذَا اخْتَصَّ بِالْعَمْدِ ، وَجِنَايَةُ الْأَبِ أَغْلَظُ مِنْ جِنَايَةِ الْأَجْنَبِيِّ ؛ لِأَنَّهُ انْضَمَّ إلَى تَعَمُّدِهِ الْقَتْلُ بِغَيْرِ حَقِّ ، وَارْتِكَابُهُ مَا هُوَ مَحْظُورٌ مَعَ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ فَإِذَا وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ بِاعْتِبَارِ تَغْلِيظِ جِنَايَتِهِ فَعَلَى الْأَبِ أَوْلَى ، وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ زَنَى بِابْنَتِهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ مِنْ الْحَدِّ مَا يَلْزَمُهُ إذَا زَنَى بِالْأَجْنَبِيَّةِ ؛ لِتَغْلِيظِ جِنَايَتِهِ هَاهُنَا بِكَوْنِهَا مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ إلَّا أَنَّ مَعَ شُبْهَةِ الْخَطَأِ لَا يَجِبُ الْقَوَدُ ، وَعِنْدَ الرَّمْيِ يَتَمَكَّنُ شُبْهَةُ الْخَطَأِ فَالظَّاهِرُ : أَنَّهُ قَصَدَ تَأْدِيبَهُ لَا قَتْلَهُ ؛ لِأَنَّ شَفَقَةَ الْأُبُوَّةِ تَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ فَلَيْسَ هُنَاكَ بَيْنَهُمَا مَا يَدُلُّ عَلَى الشَّفَقَةِ فَجَعَلْنَا الرَّمْيَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ عَمْدًا مَحْضًا .
فَأَمَّا إذَا أَخَذَهُ فَذَبَحَهُ فَلَيْسَ هَاهُنَا شُبْهَةُ الْخَطَأِ بِوَجْهٍ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ عَلَى الِابْنِ بِقَتْلِ أَبِيهِ فَكَذَلِكَ عَلَى الْأَبِ بِقَتْلِ ابْنِهِ ؛ لِأَنَّ فِي الْقِصَاصِ مَعْنَى الْمُسَاوَاةِ ، وَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ أَحَدِهِمَا مُسَاوِيًا لِلْآخَرِ أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ مُسَاوِيًا لَهُ .
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ : عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا يُقَادُ الْوَالِدُ بِوَلَدِهِ وَلَا السَّيِّدُ بِعَبْدِهِ } وَقَضَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَنْ قَتَلَ ابْنَهُ عَمْدًا بِالدِّيَةِ فِي مَالِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك } فَظَاهِرُ هَذِهِ الْإِضَافَةِ يُوجِبُ كَوْنَ الْوَلَدِ مَمْلُوكًا لِأَبِيهِ ثُمَّ حَقِيقَةُ الْمِلْكِ

تَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ كَالْمَوْلَى إذَا قَتَلَ عَبْدَهُ فَكَذَلِكَ شُبْهَةُ الْمِلْكِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ ، وَكَانَ يَنْبَغِي بِاعْتِبَارِ هَذَا الظَّاهِرِ أَنْ لَا يَلْزَمَهُ الْحَدُّ إذَا زَنَى بِهَا ، وَلَكِنْ تَرَكْنَا الْقِيَاسَ فِي حُكْمِ الْحَدِّ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ جَزَاءٌ عَلَى ارْتِكَابِ مَا هُوَ حَرَامٌ مَحْضٌ وَبِإِضَافَةِ الْوَلَدِ إلَى الْوَالِدِ تَزْدَادُ مَعْنَى الْحُرْمَةِ ، فَلَا يَسْقُطُ الْحَدُّ بِهِ ، وَلِهَذَا سَقَطَ الْحَدُّ عَنْهُ إذَا وَطِئَ جَارِيَةَ الِابْنِ ؛ لِأَنَّ إضَافَةَ الْجَارِيَةِ إلَيْهِ بِالْمِلْكِيَّةِ ، وَحَقِيقَةُ الْمِلْكِ فِيهَا تُوجِبُ الْحِلَّ بِظَاهِرِ الْإِضَافَةِ ، وَيُوجِبُ شُبْهَةً أَيْضًا فَأَمَّا حَقِيقَةُ الْمِلْكِ فِي مَحَلِّ الْحُرْمَةِ لَا يُورِثُ الْحِلَّ فَالْإِضَافَةُ لَا تُورِثُ الشُّبْهَةَ .
يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمِلْكَ كَمَا يُبِيحُ الْوَطْءَ يُبِيحُ الْإِقْدَامَ عَلَى الْقَتْلِ فَإِنَّ وَلِيَّ الدَّمِ لِمَا مَلَكَ نَفْسَ مَنْ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ فَالْإِضَافَةُ إلَيْهِ بِالْمِلْكِيَّةِ تُوجِبُ شُبْهَةً فِي الْفَصْلَيْنِ ، فَأَمَّا الْمِلْكُ فِي مَحَلِّ الْحُرْمَةِ فَلَا يُوجِبُ حِلَّ الْوَطْءِ فَلَا يَصِيرُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ .
وَالْمَعْنَى فِي الْمَسْأَلَةِ : أَنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ لِلْمَقْتُولِ أَوْ لِوَلِيِّهِ عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ عَنْهُ ، وَالِابْنُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَسْتَوْجِبَ ذَلِكَ عَلَى أَبِيهِ ، وَبِدُونِ الْأَهْلِيَّةِ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ لِلِابْنِ أَنْ يَقْتُلَ أَبَاهُ شَرْعًا بِحَالِ ابْتِدَاءٍ سَوَاءٌ كَانَ مُشْرِكًا أَوْ مُرْتَدًّا أَوْ زَانِيًا ، وَهُوَ مُحْصَنٌ ؛ لِأَنَّ الْأَبَ كَانَ سَبَبَ إيجَادِ الْوَلَدِ فَلَا يَجُوزُ لِلْوَلَدِ أَنْ يَكْتَسِبَ سَبَبَ إفْنَائِهِ ، وَفِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ إتْلَافٌ حُكْمًا ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الِاسْتِيفَاءُ دُونَ الْوُجُوبِ بِعَيْنِهِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ شَرْعًا بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا } وَعَلَيْهِ أَنْ

يُصَاحِبَهُمَا بِالْمَعْرُوفِ ، وَإِنْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِنْ جَاهَدَاك عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي } ، وَلَيْسَ الْقَتْلُ مِنْ الْإِحْسَانِ ، وَالْمُصَاحَبَةِ بِالْمَعْرُوفِ فِي شَيْءٍ فَكُلُّ ذَلِكَ ثَبَتَ لِلْوَالِدِ عَلَيْهِ شَرْعًا ؛ لِيَعْرِفَ الْعَاقِلُ بِحَقِّ الْوَالِدِ عَظِيمَ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ الْوَالِدَيْنِ كَانَا سَبَبَيْنِ لِوُجُودِهِ وَتَرْبِيَتِهِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ الرَّازِقُ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَيَعْرِفُ الْعَاقِلُ بِهَذَا أَنَّ مُرَاعَاةَ حَقِّ اللَّهِ أَوْجَبَ عَلَيْهِ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْوَالِدِ بِقَتْلِ الْوَلَدِ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْوَالِدَةِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا أَوْجَبُ .
فَكَذَلِكَ الْأَجْدَادُ ، وَالْجَدَّاتُ مِنْ قِبَلِ الرِّجَالِ ، وَالنِّسَاءِ لِمَعْنَى الْوِلَادَةِ ، وَالْحُرِّيَّةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمَقْتُولِ فَإِنْ كَانَ بِوَاسِطَةٍ فَالْقِصَاصُ عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَعَمِلَتْ الشُّبْهَةُ فِيهِ عَمَلَ الْحَقِيقَةِ بِخِلَافِ الْوَلَدِ إذَا قَتَلَ وَالِدَهُ فَالْوَلَدُ مَا كَانَ سَبَبًا لِإِيجَادِ وَالِدِهِ ، وَالْوَلَدُ يُقَابِلُ مَا عَلَيْهِ مِنْ مُرَاعَاةِ حُرْمَةِ الْوَالِدِ بِضِدِّهِ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ إذَا قَتَلَ مَوْلَاهُ يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ ، وَالْمَوْلَى إذَا قَتَلَ عَبْدَهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ ، وَإِنْ مَنَعَ مَالِكٌ هَذَا بِغَيْرِ الْكَلَامِ فِيهِ فَنَقُولُ : لَوْ وَجَبَ الْقِصَاصُ إنَّمَا يَجِبُ لَهُ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ غَيْرُهُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ قَتَلَ عَبْدَهُ خَطَأً لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ ضَمَانٌ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَتَلَهُ غَيْرُهُ كَانَ الضَّمَانُ لِلْمَوْلَى فَإِذَا قَتَلَهُ الْمَوْلَى لَا يَجُوزُ أَنْ يَجِبَ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ عَلَى الْآبَاءِ ، وَالْأَجْدَادِ الدِّيَةُ بِقَتْلِ الِابْنِ عَمْدًا فِي أَمْوَالِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ تَجِبُ الدِّيَةُ حَالَّةً ، وَإِنَّمَا لَا يَعْقِلُهُ الْعَاقِلَةُ لِقَوْلِهِ : عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا }

يَعْنِي الْوَاجِبَ بِالْعَمْدِ ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ الْأَصْلُ أَنَّ ضَمَانَ الْمُتْلَفِ يَكُونُ عَلَى الْمُتْلِفِ فِي مَالِهِ حَالًّا كَسَائِرِ الْمُتْلَفَاتِ إلَّا أَنَّ التَّأْجِيلَ فِي الدِّيَةِ عِنْدَ الْخَطَأِ ثَبَتَ لِلتَّخْفِيفِ عَلَى الْخَاطِئِ ، وَعَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَالْعَامِدُ لَا يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ التَّخْفِيفَ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ حَالًّا .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَمَّا كَانَ لِلتَّخْفِيفِ عَلَى الْقَاتِلِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ فِي الْعَمْدِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ بِمَعْنَى الْجُبْرَانِ ، وَحَقُّ صَاحِبِ النَّفْسِ فِي نَفْسِهِ كَانَ ثَابِتًا حَالًّا فَلَا جُبْرَانَ فِي حَقِّهِ إلَّا بِبَدَلٍ هُوَ حَالٌّ ؛ وَلِأَنَّ الْقَوَدَ سَقَطَ شَرْعًا إلَى بَدَلٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ الْبَدَلُ حَالًّا ، كَمَا لَوْ سَقَطَ بِالصُّلْحِ عَلَى مَالٍ ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِ مُسْتَقِيمٌ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ فِعْلَ الْأَبِ مُوجِبًا لِلْقَوَدِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ .
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذَا مَا وَجَبَ بِنَفْسِ الْقَتْلِ فَيَكُونُ مُؤَجَّلًا كَمَا لَوْ وَجَبَ بِقَتْلِ الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُتْلَفَ لَيْسَ بِمَالٍ وَمَا لَيْسَ بِمَالٍ لَا يُضْمَنُ بِالْمَالِ أَصْلًا ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا تَقَوُّمَ النَّفْسِ بِالْمَالِ شَرْعًا ، وَالشَّرْعُ إنَّمَا قَوَّمَ النَّفْسَ بِدِيَةٍ مُؤَجَّلَةٍ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ، وَالْمُؤَجَّلُ أَنْقُصُ مِنْ الْحَالِّ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ فِي الْعُرْفِ يَشْتَرِي الشَّيْءَ بِالنَّسِيئَةِ بِأَكْثَرَ مِمَّا يَشْتَرِي بِالنَّقْدِ فَإِيجَابُ الْمَالِ حَالًّا بِالْقَتْلِ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَى مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ مَعْنًى ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْعَمْدِيَّةِ الزِّيَادَةُ فِي الدِّيَةِ عَلَى قَدْرِ الْحَالِّ فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إثْبَاتُ الزِّيَادَةِ فِيهِ وَصْفًا ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ التَّأْجِيلَ لَيْسَ لِمَعْنَى التَّخْفِيفِ عَلَى الْخَاطِئِ بَلْ ؛ لِأَنَّ قِيمَةَ النَّفْسِ شَرْعًا دِيَةٌ مُؤَجَّلَةٌ بِخِلَافِ الْإِيجَابِ عَلَى الْعَاقِلَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي قِيمَةِ النُّفُوسِ بَيْنَ أَنْ

تَكُونَ مُسْتَوْفَاةً مِنْ الْعَاقِلَةِ أَوْ مِنْ الْقَاتِلِ فَكَانَ الْإِيجَابُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِمَعْنَى التَّخْفِيفِ عَلَى الْقَاتِلِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَالِ الْوَاجِبِ بِالصُّلْحِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَجِبُ بِالْعَقْدِ وَلِهَذَا لَا يَتَقَدَّرُ بِمِقْدَارٍ شَرْعًا حَتَّى لَوْ وَقَعَ الصُّلْحُ بِأَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ قَدْرًا جَازَ فَكَذَلِكَ إذَا الْتَزَمَهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَكُونُ ذَلِكَ حَالًّا بِمَنْزِلَةِ الْأَعْوَاضِ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ ، وَإِنْ كَانَ الْوَالِدُ قَتَلَ وَلَدَهُ خَطَأً فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَأِ ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِي الْعَمْدِ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ مَحْظُورٌ مَحْضٌ كَفِعْلِ الْأَجْنَبِيِّ .
، وَالْمَحْظُورُ الْمَحْضُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ عِنْدَنَا عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فَإِنْ قِيلَ : فَأَيْنَ ذَهَبَ قَوْلُكُمْ : إنَّ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ بِطَرِيقِ السُّكْرِ لَمَّا سَلَّمَ الشَّرْعُ لَهُ نَفْسَهُ فَأَسْقَطَ الْقَوَدَ عَنْهُ ؟ فَقَدْ وُجِدَ هَذَا الْمَعْنَى هَاهُنَا وَقُلْتُمْ : بِأَنَّهُ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ قُلْنَا : إسْقَاطُ الْقَوَدِ عَنْهُ شَرْعًا مَتَى كَانَ بِطَرِيقِ الْعُذْرِ لَهُ ، وَالتَّخْفِيفِ عَلَيْهِ كَانَ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ ، وَهَاهُنَا امْتِنَاعُ وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ ؛ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ فِيمَنْ يَجِبُ لَهُ لَا بِطَرِيقِ التَّخْفِيفِ وَالْعُذْرِ لِلْأَبِ فَبَقِيَ فِعْلُهُ حَرَامًا مَحْضًا لَا شُبْهَةَ فِيهِ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمَوْلَى قَتَلَ مَمْلُوكَهُ عَمْدًا ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْوَلَدُ مَمْلُوكًا لِإِنْسَانٍ فَقَتَلَهُ أَبُوهُ عَمْدًا فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ لِمَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ لِلْمَوْلَى بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْمَقْتُولِ ، فَإِنَّهُ يَنْزِلُ مِنْ الْمَمْلُوكِ مَنْزِلَةَ وَارِثِ الْحُرْمَةِ ، فَإِذَا اشْتَرَكَ الرَّجُلَانِ فِي قَتْلِ رَجُلٍ أَحَدُهُمَا بِعَصًا ، وَالْآخَرُ بِحَدِيدَةٍ فَلَا قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا هَكَذَا نُقِلَ عَنْ إبْرَاهِيمَ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْقَتْلَ بِالْعَصَا لَا يُصْلَحُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا

لِلْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ بِهِ التَّأْدِيبُ ، وَالْآلَةُ آلَةُ التَّأْدِيبِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ الْخَاطِئِ ، وَالْخَاطِئُ ، وَالْعَامِدُ إذَا اشْتَرَكَا فِي الْقَتْلِ لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّهُ اخْتَلَطَ الْمُوجِبُ بِغَيْرِ الْمُوجِبِ فِي الْمَحَلِّ فَقَدْ انْزَهَقَتْ الرُّوحُ عَقِيبَ فِعْلَيْنِ أَحَدُهُمَا لَيْسَ بِسَبَبٍ لِوُجُوبِ الْعُقُوبَةِ ، وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ بِأَيِّ الْفِعْلَيْنِ أُزْهِقَ الرُّوحُ فَيُمْكِنُ الشُّبْهَةُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، فَالْقِصَاصُ عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَبَعْدَ سُقُوطِ الْقِصَاصِ يَجِبُ الْمَالُ فَيَتَوَزَّعُ عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِإِضَافَةِ الْقَتْلِ إلَيْهِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ .
وَلَا يُقَالُ : يَنْبَغِي أَنْ يُضَافَ الْقَتْلُ إلَى فِعْلِ مَنْ اسْتَعْمَلَ السِّلَاحَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ السِّلَاحَ آلَةٌ لِلْقَتْلِ دُونَ الْعَصَا ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَسْلَمُ مِنْ الْجُرْحِ بِالْحَدِيدِ ، وَيَتْلَفُ مِنْ الضَّرْبِ بِالْعَصَا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ جَرَحَهُ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا جِرَاحَةً وَاحِدَةً ، وَالْآخَرُ عَشَرَةَ جِرَاحَاتٍ فَإِنَّهُ يُجْعَلُ الْقَتْلُ مُضَافًا إلَيْهِمَا عَلَى السَّوَاءِ لِهَذَا الْمَعْنَى ثُمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا لَزِمَهُ مِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ يُجْعَلُ كَالْمُنْفَرِدِ بِهِ فَنِصْفُ الدِّيَةِ عَلَى صَاحِبِ الْحَدِيدَةِ فِي مَالِهِ ، وَنِصْفُهَا عَلَى صَاحِبِ الْعَصَا عَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَاهُ بِسِلَاحٍ ، وَأَحَدُهُمَا صَبِيٌّ أَوْ مَعْتُوهٌ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِمَا عِنْدَنَا ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ ، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ يَجِبُ الْقَوَدُ قِيَاسًا عَلَى الْعَاقِلِ الْبَالِغِ بِنَاءً عَلَى قَوْلَيْنِ فِي عَمْدِ الصَّبِيِّ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
فَأَمَّا الْأَبُ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ أَوْ الْمَوْلَى مَعَ الْأَجْنَبِيِّ إذَا اشْتَرَكَا فِي قَتْلِ الْوَلَدِ ، وَالْمَمْلُوكِ فَلَا قِصَاصَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ ؛ لِأَنَّهُمَا قَاتِلَاهُ عَمْدًا مَحْضًا مَضْمُونٌ فَيُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا

كَالْمُنْفَرِدِ بِهِ فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ كَالْأَجْنَبِيَّيْنِ عَفَا عَنْ أَحَدِهِمَا أَوْ بِسُقُوطِ الْقَوَدِ عَنْ أَحَدِهِمَا ؛ لِمَعْنًى يَخُصُّهُ لَا يُوجِبُ سُقُوطَهُ عَنْ الْآخَرِ كَالْأَجْنَبِيَّيْنِ إذَا عَفَا عَنْ أَحَدِهِمَا .

وَتَفْسِيرُ الْعَمْدِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ فِعْلٍ يَتَرَتَّبُ عَلَى قَصْدٍ صَحِيحٍ إلَيْهِ ، وَبِالْأُبُوَّةِ وَالْمِلْكِ لَا يَنْعَدِمُ الْقَصْدُ الصَّحِيحُ إلَى الْفِعْلِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ ضِدَّ الْعَمْدِ الْخَطَأُ فَإِذَا كَانَ الْخَطَأُ مَا يَكُونُ عَنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْ الْفَاعِلِ إلَيْهِ بِعَيْنِهِ عَرَفْنَا أَنَّ الْعَمْدَ مَا يَكُونُ عَنْ قَصْدٍ ، وَعَلَى هَذَا نَقُولُ : يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى شَرِيكِ الصَّبِيِّ ، وَالْمَجْنُونِ ؛ لِأَنَّ لِلصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ قَصْدًا صَحِيحًا فَكَانَ فِعْلُهُمَا عَمْدًا ، وَلِلْعَمْدِ تَفْسِيرٌ آخَرُ فِي الْقَتْلِ شَرْعًا ، وَهُوَ أَنَّهُ مَحْظُورٌ مَحْضٌ لَيْسَ فِيهِ الْإِبَاحَةُ ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِهِ شَرْعًا الْعُقُوبَةُ قَالَ : عَلَيْهِ السَّلَامُ { الْعَمْدُ قَوَدٌ } ، وَلَا تَجِبُ الْعَقُوبَةُ إلَّا جَزَاءً عَلَى فِعْلٍ هُوَ مَحْظُورٌ مَحْضٌ ، وَفِعْلُ الْأَبِ وَالْمَوْلَى مَحْظُورٌ مَحْضٌ لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ ؛ لِأَنَّ فِي حَقِّ الْأَبِ قَدْ انْضَمَّ إلَى ارْتِكَابِ الْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ مَعْنَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ .
وَفِي حَقِّ الْمَوْلَى انْضَمَّ إلَى الْفِعْلِ الْمُحَرَّمِ الْإِتْيَانُ بِضِدِّ مَا أُمِرَ بِهِ مِنْ الْإِحْسَانِ إلَى الْمَمَالِيكِ ، وَالْقَتْلُ لَا يَحِلُّ بِمِلْكِ الْمِلْكِيَّةِ بِحَالٍ فَلَا يَتَمَكَّنُ بِسَبَبِهِ شُبْهَةٌ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ شَرِبَ خَمْرَ نَفْسِهِ يَلْزَمُهُ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِلْمِلْكِ فِي إبَاحَةِ شُرْبِ الْخَمْرِ فَلَا يَخْرُجُ الْفِعْلُ بِاعْتِبَارِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحْظُورًا مَحْضًا ، وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ لَا يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى شَرِيكِ الصَّبِيِّ ، وَالْمَعْتُوهِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُمَا لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ مَحْظُورٌ مَحْضٌ ، وَفِي الْحَقِيقَةِ الْكَلَامُ يَنْبَنِي عَلَى أَنَّ فِعْلَ الْأَبِ مُوجِبٌ لِقَوَدٍ عِنْدَهُ ثُمَّ سَقَطَ عَنْهُ الْقَوَدُ بِعَفْوِ الشَّرْعِ مِنْهُ عَنْ الْأَبِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ أَوَانِ السُّقُوطِ أَحَدُ الْقَاتِلَيْنِ مُتَمَيِّزٌ عَنْ الْآخَرِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ الْقَوَدِ شَرْعًا هُوَ الْعَمْدُ ، وَثُبُوتُ

الْحُكْمِ بِثُبُوتِ السَّبَبِ فَإِذَا كَانَتْ الْأُبُوَّةُ لَا تُوجِبُ نُقْصَانًا فِي السَّبَبِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ أَيْضًا ، وَإِنَّمَا لَا يُسْتَوْفَى لِكَيْ لَا يَكُونَ الْوَلَدُ سَبَبَ إفْنَاءِ الْوَالِدِ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْوَالِدُ سَبَبَ إيجَادِهِ ، وَهَذَا فِي حَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ دُونَ الْوُجُوبِ فَيَثْبُتُ الْوُجُوبُ حُكْمًا لِلسَّبَبِ ثُمَّ يَتَعَذَّرُ الِاسْتِيفَاءُ ؛ لِهَذَا الْمَعْنَى فَيَسْقُطُ شَرْعًا .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ عِنْدَكُمْ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ عَلَى الْوَالِدِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْفِعْلُ مُوجِبًا لِلْقَوَدِ لَوَجَبَتْ الْكَفَّارَةُ بِهِ ، وَإِنَّ الْأَبَ لَوْ قَتَلَ ابْنَهُ عَمْدًا كَانَ الْوَلَدُ شَهِيدًا لَا يُغَسَّلُ ، وَإِنَّمَا لَا يُغَسَّلُ إذَا كَانَ الْقَتْلُ غَيْرَ مُوجِبٍ لِلْمَالِ بِنَفْسِهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْخَاطِئِ مَعَ الْعَامِدِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْخَاطِئِ غَيْرُ مُوجِبٍ فَاخْتَلَطَ الْمُوجِبُ بِغَيْرِ الْمُوجِبِ فِي الْمَحَلِّ فَيُمْكِنُ الشُّبْهَةُ لِاتِّحَادِ الْمَحَلِّ يُقَرِّرُهُ : أَنَّ الْخَطَأَ مَعْنًى فِي الْفِعْلِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ يُوصَفُ الْفِعْلُ بِهِ فَيُقَالُ : قَتْلُ خَطَأٍ ، وَقَدْ اجْتَمَعَ الْفِعْلَانِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ ، فَأَمَّا الْأُبُوَّةُ فَمَعْنًى فِي الْفَاعِلِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْفَاعِلَ يُوصَفُ بِهِ فَيُقَالُ أَبٌ قَاتِلٌ فَأَحَدُ الْفَاعِلَيْنِ مُتَمَيِّزٌ عَنْ الْآخَرِ ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْقَتْلَ ثَمَّ مُوجِبٌ لِلدِّيَةِ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ كَالْخَاطِئِ مَعَ الْعَامِدِ إذَا اشْتَرَكَا ، وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْأَبِ بِهَذَا الْفِعْلِ الدِّيَةُ لَا غَيْرُ ، فَإِنَّهُ هُوَ الَّذِي يُسْتَوْفَى مِنْهُ ، وَإِنَّمَا يُرَادُ بِالْوُجُوبِ الِاسْتِيفَاءُ فَإِذَا كَانَ لَا يُسْتَوْفَى مِنْهُ إلَّا الدِّيَةُ عَرَفْنَا أَنَّهُ مُوجِبٌ لِلدِّيَةِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ هُوَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ فِي قَتْلِ الْأَبِ دُونَ الْقِصَاصِ أَنَّ السَّبَبَ لَا يَنْعَقِدُ مُوجِبًا لِحُكْمِهِ إلَّا فِي مَحَلٍّ صَالِحٍ لَهُ ، وَبَعْدَ صَلَاحِيَّةِ الْمَحَلِّ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْحُكْمِ

إلَّا بِاعْتِبَارِ الْأَهْلِيَّةِ فِيمَنْ يَجِبُ لَهُ ، وَفِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْإِتْلَافَ كَمَا لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ بِدُونِ مَحَلٍّ صَالِحٍ لَهُ ، وَهُوَ الْمَالُ الْمُتَقَوِّمُ لَا يَكُونُ مُوجِبًا بِدُونِ الْأَهْلِيَّةِ فِيمَنْ يَجِبُ لَهُ ، وَفِيمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ حَتَّى إنَّ الْمُسْلِمَ إذَا أَتْلَفَ مَالَ مُسْلِمٍ لَا أَمَانَ لَهُ أَوْ الْحَرْبِيُّ إذَا أَتْلَفَ مَالَ الْمُسْلِمِ لَا يَجِبُ الضَّمَانُ ، وَالْبَيْعُ كَمَا لَا يَنْعَقِدُ شَرْعًا إلَّا فِي مَحَلٍّ صَالِحٍ لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ الْأَهْلِيَّةِ فِيمَنْ يُبَاشِرُهُ .
إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ : الْعَمْدُ مُوجِبٌ لِلْقَوَدِ بِشَرْطِ الْأَهْلِيَّةِ فِيمَنْ يَجِبُ لَهُ وَعَلَيْهِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي قَتْلِ الصَّبِيِّ ، وَالْمَجْنُونِ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ فِيمَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ ، وَلَا فِي قَتْلِ الْأَبِ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ فِيمَنْ تَجِبُ لَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْوَلَدَ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَجِبَ لَهُ الْقَتْلُ عَلَى وَالِدِهِ ؛ لِأَنَّ فِي الْإِيجَابِ اسْتِحْقَاقَ نَفْسِهِ شَرْعًا ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ أَهْلًا لِمُبَاشَرَةِ إتْلَافِهِ حَقِيقَةً بِصِفَةِ الْإِبَاحَةِ لَا يَكُونُ أَهْلًا لِاسْتِحْقَاقِ إتْلَافِهِ شَرْعًا ، فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ وَلِهَذَا كَانَ مُوجِبًا الدِّيَةَ الْمُغَلَّظَةَ فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلْقَوَدِ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ فِيمَنْ يَجِبُ لَهُ ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الدِّيَةِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلْكَفَّارَةِ ؛ لِأَنَّ انْعِدَامَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ فِيمَنْ تَجِبُ لَهُ الشُّبْهَةُ فِي أَصْلِ الْفِعْلِ فَلَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحْظُورًا ، وَفِي غُسْلِهِ رِوَايَتَانِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ يُغَسَّلُ ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ مُوجِبٌ لِلْمَالِ ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَا يُغَسَّلُ ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ وُجُوبِ الْقِصَاصِ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ فِيمَنْ تَجِبُ لَهُ وَذَلِكَ لَا يَتَعَدَّى إلَى

حُكْمِ الْغُسْلِ .
فَإِنْ قِيلَ : هَذَا مَمْنُوعٌ فَإِنَّ الْوَلَدَ يَرِثُ الْقِصَاصَ عَلَى أَبِيهِ حَتَّى يَسْقُطَ وَبِدُونِ الْأَهْلِيَّةِ لَا يَجِبُ الْحَقُّ لِلْوَارِثِ قُلْنَا : هَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِإِيجَابِ الْقَوَدِ عَلَى الْأَبِ لِمَا فِيهِ مِنْ إتْلَافِهِ حُكْمًا ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْوَارِثَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِتْلَافَ الْحُكْمِيَّ كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ أَنْ يَرِثَهُ الْوَلَدُ بَلْ فِي ثُبُوتِ الْإِرْثِ لِلْوَلَدِ إحْيَاءٌ لِلْأَبِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَإِنَّهُ يَسْقُطُ الْقَوَدُ إذَا وَرِثَهُ الِابْنُ ، وَلَا يَسْقُطُ إذَا لَمْ يَرِثْهُ وَهُوَ نَظِيرُ الْوَلَدِ فِي أَنَّهُ لَا يَسْتَرِقُّ وَالِدَهُ ثُمَّ يَشْتَرِي وَالِدَهُ الْمَمْلُوكَ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْأُبُوَّةَ لَوْ طَرَأَتْ عَلَى قِصَاصٍ مُوجِبٍ أَسْقَطَتْهُ ، وَإِذَا اقْتَرَنَتْ بِالسَّبَبِ دَفَعَتْ الْوُجُوبَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الشَّيْءِ فِي الْحُكْمِ مُقْتَرِنًا بِالسَّبَبِ أَقْوَى مِنْ تَأْثِيرِهِ طَارِئًا عَلَى السَّبَبِ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ فِعْلَ الْأَبِ غَيْرُ مُوجِبٍ عَرَفْنَا أَنَّهُ اخْتَلَطَ الْمُوجِبُ بِغَيْرِ الْمُوجِبِ فِي الْمَحَلِّ فَكَانَ كَالْخَاطِئِ مَعَ الْعَامِدِ بِخِلَافِ مَا إذَا عَفَا عَنْ أَحَدِ الْقَاتِلَيْنِ .
وَقَوْلُهُ : الْأُبُوَّةُ مَعْنًى فِي الْفَاعِلِ لَا مُعْتَبَرَ بِهِ فَإِنَّهُ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْفَاعِلِ فَقَدْ تَعَدَّى إلَى الْفِعْلِ حَتَّى أَخْرَجَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا فَهُوَ نَظِيرُ الْخَطَأِ فِي الْفَاعِلِ بِأَنْ رَمَى إلَى إنْسَانٍ يَظُنُّهُ كَافِرًا ، وَهُوَ مُسْلِمٌ فَإِنَّ الْخَطَأَ هَاهُنَا بِاعْتِبَارِ مَعْنًى فِي الْفَاعِلِ وَلَكِنْ لَمَّا تَعَدَّى إلَى الْفِعْلِ صَارَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي حَقِّ شَرِيكِهِ فِي الْفِعْلِ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مُسْلِمَيْنِ لَوْ رَمَيَا إلَى صَيْدِ أَحَدُهُمَا بِسَهْمٍ ، وَالْآخَرُ بِبُنْدُقِيَّةٍ لَمْ يَحِلَّ تَنَاوُلَ الصَّيْدِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَى مُسْلِمٌ وَمَجُوسِيٌّ إلَى الصَّيْدِ ، وَفِي أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ الْحُرْمَةُ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى فِي الْفِعْلِ وَفِي الْمُوضَعِ

الْآخَرِ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى فِي الْفَاعِلِ ، وَهُوَ كَوْنُهُ مَجُوسِيًّا لَكِنْ لَمَّا تَعَدَّى إلَى الْفِعْلِ الْتَحَقَ بِالْمَعْنَى الَّذِي هُوَ فِي الْفِعْلِ فِي إيجَابِ الْحُرْمَةِ فَهَذَا مِثْلُهُ .

وَلَوْ اشْتَرَكَ عَشَرَةُ رَهْطٍ فِي قَتْلِ رَجُلٍ خَطَأً كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الدِّيَةِ لِصِيَانَةِ الْمَحَلِّ عَنْ الْهَدَرِ فَالْمَحَلُّ وَاحِدٌ وَبِإِيجَابِ دِيَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَيْهِمْ يُتِمُّ مَعْنَى الصِّيَانَةِ ، ثُمَّ الْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مِمَّا هُوَ مُؤَجَّلٌ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ، وَهُوَ بَدَلُ النَّفْسِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَى عَشَرَةُ نَفَرٍ شَيْئًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ إلَى ثَلَاثِ سِنِينَ فَإِنَّهُ ثَبَتَ تَمَامُ الْأَجَلِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ كُلَّ ثُلُثٍ مِنْ بَدَلِ النَّفْسِ مُؤَجَّلٌ فِي سَنَةٍ ، وَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عُشْرُ كُلِّ ثُلُثٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ عَلَى بَعْضِهِمْ مِنْ الثُّلُثِ الَّذِي هُوَ مُؤَجَّلٌ إلَى سَنَةٍ أَوْ مِنْ الثُّلُثِ الثَّانِي خَاصَّةً .

وَلَوْ أَقَرَّ رَجُلٌ بِقَتْلِ خَطَأٍ أَوْ شِبْهِ عَمْدٍ كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَعْقِلُ مَا يَجِبُ بِالِاعْتِرَافِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : { وَلَا اعْتِرَافًا } ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ خَبَرٌ مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ ، فَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى الصِّدْقِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ خَاصَّةً ؛ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ فَأَمَّا فِي حَقِّ عَاقِلَتِهِ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَذِبِ ، وَلَهُ وِلَايَةٌ عَلَى نَفْسِهِ فِي الِالْتِزَامِ قَوْلًا دُونَ عَاقِلَتِهِ ، وَكُلُّ جِنَايَةِ عَمْدٍ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لَا يُسْتَطَاعُ فِيهَا الْقِصَاصُ أَوْ شِبْهُ عَمْدٍ فَالْأَرْشُ فِي مَالِ الْجَانِي مُغَلَّظًا أَمَّا فِي الْعَمْدِ فَلَا يُشْكِلُ ، وَأَمَّا فِي شِبْهِ الْعَمْدِ فَلِأَنَّ شِبْهَ الْعَمْدِ لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي النَّفْسِ خَاصَّةً فَإِنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ ، وَإِنَّمَا وَرَدَ النَّصُّ بِهِ فِي أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَكْفِي ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الصِّنَاعَةِ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَقَدْ يَتَحَوَّلُ الْإِنْسَانُ مِنْ صِنَاعَةٍ إلَى صِنَاعَةٍ فَإِنْ كَانَ قَدْ عَرَفَهُمْ بِالصَّلَاحِ كَتَبَ بِذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُمْ وَأُخْبِرَ بِذَلِكَ عَنْهُمْ كَتَبَ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إعْلَامُ عَدَالَتِهِمْ لِلْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ ؛ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْقَضَاءِ فَالْقَضَاءُ يَقَعُ بِشَهَادَتِهِمْ ، وَإِنْ حَلَّاهُمْ فَحَسَنٌ ، وَإِنْ تَرَكَ التَّحْلِيَةَ لَمْ يَضُرَّ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ التَّعْرِيفُ قَدْ حَصَلَ بِذِكْرِ الِاسْمِ ، وَالنَّسَبِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ رَأْيِ الْكَاتِبِ أَنْ يَذْكُرَ التَّحْلِيَةَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَشِينُهُ ، وَلَا يُعَيَّرُ بِهِ فِي النَّاسِ فَيَتَحَرَّزُ عَنْ ذِكْرِ مَا يَشِينُهُ فَذَلِكَ نَوْعُ غِيبَةٍ فَإِنْ أَرَادَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مِنْ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ بِهِ إلَى قَاضٍ آخَرَ فَعَلَهُ ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الشُّهُودِ تَثْبُتُ عِنْدَهُ بِالْكِتَابِ فَكَأَنَّهُ تَثْبُتُ بِسَمَاعِهِ مِنْهُمْ ، وَكَمَا

جَوَّزْنَا الْكِتَابَ مِنْ الْقَاضِي الْأَوَّلِ لِلْحَاجَةِ فَكَذَلِكَ نُجَوِّزُهُ مِنْ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ قَدْ يَهْرُبُ إلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى قَبْلَ قَضَاءِ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ بِذَلِكَ عَلَيْهِ .

وَإِذَا سَمِعَ الْقَاضِي شَهَادَةَ الشُّهُودِ ، وَكَتَبَ بِهَا إلَى قَاضٍ آخَرَ فَلَمْ يَخْرُجْ الْكِتَابُ مِنْ يَدِهِ حَتَّى حَضَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمْ يَحْكُمْ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ سَمَاعَهُ الْأَوَّلَ كَانَ لِلنَّقْلِ فَلَا يَسْتَفِيدُ بِهِ وِلَايَةَ الْقَضَاءِ كَشَاهِدِ الْفَرْعِ إذَا اسْتَقْصَى بَعْدَمَا شَهِدَ الْأَصْلِيَّانِ عِنْدَهُ ، وَأَشْهَدَاهُ عَلَى شَهَادَتِهِمَا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِذَلِكَ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ جَوَازَ الْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ وَاَلَّذِي سَمِعَ شَهَادَةً لَا بَيِّنَةً فَالْبَيِّنَةُ مَا يَحْصُلُ الْبَيَانُ بِهَا ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ بَعْدَ إنْكَارِهِ أَوْ سُكُوتِهِ الْقَائِمِ مَقَامَ إنْكَارِهِ فَإِنْ أَعَادَ الْمُدَّعِي تِلْكَ الْبَيِّنَةَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ فَالْآنَ يَقْضِي لَهُ بِهَا ؛ لِأَنَّ شَرْطَ قَبُولِ الْبَيِّنَةِ لِلْقَضَاءِ إنْكَارُ الْخَصْمِ ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ حِينَ أَعَادَهَا وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَدَاءِ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ ، وَإِذَا وَصَلَ الْكِتَابُ إلَى الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَقَرَأَهُ بِحَضْرَةِ الْخَصْمِ وَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى الْخَتْمِ وَمَا فِيهِ ، وَهُوَ مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْفُقَهَاءُ لَمْ يُنَفِّذْهُ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ رَأْيِهِ .
لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ ، وَإِنَّمَا نَقَلَ الشَّهَادَةَ بِكِتَابِهِ إلَى مَجْلِسِهِ فَلَا يَحْكُمُ بِهِ إلَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ رَأْيِهِ كَمَا إذَا شَهِدَ الْفُرُوعُ عِنْدَهُ عَلَى شَهَادَةِ الْأُصُولِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْأَوَّلُ قَدْ قَضَى بِهِ ، وَأَعْطَى الْخَصْمَ سِجِلًّا فَالثَّانِي يُنَفِّذُ ذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ رَأْيِهِ ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهَدَاتِ نَافِذٌ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يُبْطِلَ قَضَاءَهُ ، وَإِنْ تَحَوَّلَ رَأْيُهُ فَكَذَلِكَ لَيْسَ لِلثَّانِي أَنْ يُبْطِلَ ذَلِكَ فَأَمَّا فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ مَا قَضَى بِشَيْءٍ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ لَهُ أَنْ يُبْطِلَ كِتَابَهُ قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ إلَى الثَّانِي ، وَإِنَّ الْخَصْمَ لَوْ حَضَرَ مَجْلِسَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ مِنْ ذَلِكَ

شَيْءٌ فَكَذَلِكَ الثَّانِي لَا يُنَفِّذُ كِتَابَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ رَأْيِهِ

وَلَا يُقْبَلُ كِتَابَ الْقَاضِي فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ ، وَالْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ .
الشَّرْعُ مَا أَمَرَنَا بِالِانْتِظَارِ إضْرَارًا بِالْمَضْرُوبِ فَلَوْ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِيمَا يَظْهَرُ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ أَنَّهُ حَادِثٌ بِتِلْكَ الضَّرْبَةِ لَرَجَعَ ذَلِكَ إلَى الْإِضْرَارِ بِهِ ، وَلَوْ شَجَّ رَجُلًا مُوضِحَةً فَصَارَتْ مُنَقِّلَةً فَقَالَ الْمَضْرُوبُ : صَارَتْ مُنَقِّلَةً مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ : الضَّارِبُ حَدَّثَتْ فِيهَا مِنْ غَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الضَّارِبِ بِخِلَافِ السِّنِّ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِحْسَانِ ؛ لِأَنَّ هَاهُنَا فِعْلُ الضَّارِبِ إنَّمَا عَمِلَ فِي اللَّحْمِ دُونَ الْعَظْمِ ، وَالْمُنَقِّلَةُ مَا يَكُونُ عَامِلًا فِي الْعَظْمِ فَالضَّارِبُ يُنْكِرُ فِعْلَهُ فِي هَذَا الْمَحَلِّ ، وَالظَّاهِرُ يَشْهَدُ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي الْمَحَلِّ لَا يُؤَثِّرُ فِعْلًا آخَرَ إلَّا نَادِرًا .
فَأَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَإِنَّ مَا اسْوَدَّتْ السِّنُّ الَّتِي حَلَّتْ الضَّرْبَةُ بِهَا فَالظَّاهِرُ شَاهِدٌ لِلْمَضْرُوبِ هُنَاكَ ، وَإِذَا قَلَعَ الرَّجُلُ سِنَّ رَجُلٍ أَوْ صَبِيٍّ ثُمَّ نَبَتَتْ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَالِعِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِفِعْلِهِ أَثَرٌ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : يَلْزَمُهُ حُكُومَةُ عَدْلٍ بِاعْتِبَارِ الْأَلَمِ الَّذِي لَحِقَهُ ، وَكَذَلِكَ الظُّفْرُ إذَا قَلَعَهُ فَنَبَتَ فَلَيْسَ فِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ ، وَلَا أَرْشٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِيهِ أَثَرٌ ، وَإِنْ نَبَتَتْ السِّنُّ سَوْدَاءَ فَفِيهَا أَرْشٌ كَامِلٌ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْمَقْلُوعَةِ فَكَأَنَّ الْأُولَى بَاقِيَةٌ قَدْ اسْوَدَّتْ ، وَإِنْ نَبَتَ الظُّفْرُ أَغَوْرَ وَمُتَغَيِّرًا فَفِيهِ حُكُومَةُ عَدْلٍ بِمَنْزِلَةِ الْأَوَّلِ لَوْ أَغْوَرَ بِالضَّرْبَةِ أَوْ تَغَيَّرَ ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الظُّفْرِ مَنْفَعَةٌ مَقْصُودَةٌ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ فِيهِ مُجَرَّدُ الْجَمَالِ فَإِذَا اسْوَدَّ أَوْ تَغَيَّرَ يُنْتَقَصُ مَعْنَى الْجَمَالِ ، وَلَا يَكُونُ السَّوَادُ فِي الظُّفْرِ دَلِيلُ مَوْتِ الظُّفْرِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ فِي أَنْوَاعِ بَنِي

آدَمَ مَنْ يَكُونُ ظُفْرُهُمْ أَسْوَدَ خِلْقَةً حَتَّى قَالُوا : إذَا كَانَ الْمَضْرُوبُ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبَ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُنْتَقَصُ فِي حَقِّهِ مَعْنَى الْجَمَالِ قَالَ : وَإِذَا قَلَعَ الرَّجُلُ سِنَّ رَجُلٍ خَطَأً فَأَخَذَ الْمَقْلُوعُ سِنَّهُ فَأَثْبَتَهَا مَكَانَهَا فَثَبَتَتْ فَعَلَى الْقَالِعِ أَرْشُهَا ؛ لِأَنَّهَا ، وَإِنْ ثَبَتَتْ لَا تَصِيرُ كَمَا كَانَتْ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهَا لَا تَتَّصِلُ بِعُرُوقِهَا ، وَلِهَذَا جَعَلَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تِلْكَ السِّنَّ كَالْمَيِّتَةِ حَتَّى قَالَ : إذَا كَانَتْ أَكْثَرُ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ مَعَهَا ، وَفَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَ مَا إذَا أَثْبَتَ فِي مَوْضِعِهَا سِنَّ نَفْسِهِ أَوْ سِنَّ غَيْرِهِ فِي حُكْمِ جَوَازِ الصَّلَاةِ ، وَقَالَ : بَيْنَهُمَا فَرْقٌ ، وَلَا يَحْضُرُنِي ، وَكَذَلِكَ الْأُذُنُ إذَا أَعَادَهَا إلَى مَكَانِهَا ؛ لِأَنَّهَا لَا تَعُودُ إلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ ، وَإِنْ الْتَصَقَتْ فَأَمَّا إذَا ابْيَضَّتْ الْعَيْنُ مِنْ ضَرْبَةِ رَجُلٍ ثُمَّ ذَهَبَ الْبَيَاضُ مِنْهَا فَأَبْصَرَ فَلَيْسَ عَلَى الضَّارِبِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ عَادَ إلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ ، وَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْأَلَمُ الَّذِي لَحِقَهُ بِالضَّرْبَةِ وَبِاعْتِبَارِهَا لَا يَجِبُ شَيْءٌ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بِاعْتِبَارِ الْأَثَرِ فِي الْمَحَلِّ ، وَلَمْ يَبْقَ ، وَلَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةً خَطَأً فَسَقَطَ مِنْهَا شَعْرُ رَأْسِهِ كُلُّهُ فَلَمْ يَنْبُتْ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ تَامَّةً لِإِفْسَادِ الْمَنْبَتِ ، وَيَدْخُلُ أَرْشُ الشَّجَّةِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَدْخُلُ ؛ لِأَنَّ الشَّجَّةَ مُوجِبَةٌ لِلضَّمَانِ بِنَفْسِهَا ، وَكَذَلِكَ إفْسَادُ مَنْبَتِ الشَّعْرِ جِنَايَةٌ عَلَى حِدَةٍ ، وَلَا تَدْخُلُ فِي أَرْشِ الْجِنَايَاتِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ وُجُوبُ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ بِاعْتِبَارِ ذَهَابِ الشَّعْرِ دَلِيلُ أَنَّهُ لَوْ نَبَتَ الشَّعْرُ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَاسْتَوَى كَمَا كَانَ لَا يَجِبُ شَيْءٌ ، وَإِذَا وَجَبَ كَمَالُ بَدَلِ النَّفْسِ

بِاعْتِبَارِ ذَهَابِ الشَّعْرِ لَا يَجِبُ مَا دُونَهُ بِاعْتِبَارِهِ أَيْضًا فَإِنْ كَانَ ذَهَبَ مِنْ الشَّعْرِ بَعْضُهُ فَعَلَى الْجَانِي الْأَكْثَرُ مِنْ أَرْشِ الشَّعْرِ وَمِنْ أَرْشِ الشَّجَّةِ ، وَيَدْخُلُ الْأَقَلُّ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ إيجَابَ الْأَكْثَرِ يَتَحَقَّقُ بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ مَعْنًى كَمَا بَيَّنَّا ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي الْحَاجِبِ فَإِنَّ الْمُوضِحَةَ فِي الْوَجْهِ ، وَالرَّأْسِ سَوَاءٌ ، وَالْآمَّةُ لَا تَكُونُ إلَّا فِي الرَّأْسِ أَوْ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَتَّصِلُ بِالدِّمَاغِ مِنْ الْوَجْهِ ، وَالْجَائِفَةُ لَا تَكُونُ إلَّا فِي الظَّهْرِ ، وَالْبَطْنِ ، وَالْجَنْبِ أَوْ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَتَّصِلُ بِالْجَوْفِ حَتَّى لَوْ جَرَحَهُ بَيْنَ ذَكَرِهِ وَدُبُرِهِ جِرَاحَةً وَاصِلَةً إلَى جَوْفِهِ تَكُونُ جَائِفَةً فَأَمَّا فِي الْفَخِذِ ، وَالْعَضُدِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْجَائِفَةُ ، وَكَذَلِكَ فِي الْعُنُقِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ إذَا وَصَلَتْ الْجِرَاحَةُ إلَى مَوْضِعٍ يَحْصُلُ الْفِطْرُ لِلصَّائِمِ بِوُصُولِ الْمُفْطِرِ إلَيْهِ تَكُونُ جَائِفَةً ، وَإِنْ كَانَ لَا يَحْصُلُ لَهُ الْفِطْرُ بِوُصُولِ الْمُفْطِرِ إلَيْهِ لَا تَكُونُ جَائِفَةً ، وَلَوْ شَجَّهُ فَذَهَبَ مِنْ ذَلِكَ عَقْلُهُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الدِّيَةُ بِاعْتِبَارِ ذَهَابِ الْعَقْلِ وَيَدْخُلُ فِيهِ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ عِنْدَنَا ، وَعَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَدْخُلُ لِاخْتِلَافِ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ فَإِنَّ مَحَلَّ الْمُوضِحَةِ غَيْرُ مَحَلِّ الْعَقْلِ بِخِلَافِ الشَّعْرِ مَعَ الْمُوضِحَةِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : ذَهَابُ الْعَقْلِ فِي مَعْنَى تَبْدِيلِ النَّفْسِ ، وَإِلْحَاقِهِ بِالْبَهَائِمِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ وَلَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةً فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ لَزِمَهُ كَمَالُ الدِّيَةِ وَدَخَلَ فِيهِ أَرْشُ الشَّجَّةِ .
فَأَمَّا إذَا ذَهَبَ مِنْ الشَّجَّةِ سَمْعُهُ أَوْ بَصَرُهُ أَوْ كَلَامُهُ يَلْزَمُهُ الدِّيَةُ بِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ، وَلَا يَدْخُلُ أَرْشُ الشَّجَّةِ فِي ذَلِكَ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : وَفِي السَّمْعِ ، وَالْكَلَامِ يَدْخُلُ أَرْشُ

الشَّجَّةِ فِي الدِّيَةِ ، وَفِي الْبَصَرِ لَا يَدْخُلُ ؛ لِأَنَّ الْبَصَرَ ظَاهِرٌ كَالْمُوضِحَةِ فَقَدْ يُبَايِنُ الْمَحَلَّ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَأَمَّا السَّمْعُ وَالْكَلَامُ فَمَعْنًى بَاطِنٌ بِمَنْزِلَةِ الْعَقْلِ فَكَمَا يَدْخُلُ أَرْشُ الْمُوضِحَةِ فِي الدِّيَةِ الْوَاجِبَةِ بِإِذْهَابِ الْعَقْلِ فَكَذَلِكَ فِيمَا تَجِبُ بِإِذْهَابِ السَّمْعِ وَالْكَلَامِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : مَحَلُّ السَّمْعِ غَيْرُ مَحَلِّ الشَّجَّةِ ، وَكَذَلِكَ مَحَلُّ الْكَلَامِ وَبِتَفْوِيتِهِمَا لَا تَتَبَدَّلُ النَّفْسُ ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الدِّيَةُ لِتَفْوِيتِ مَنْفَعَةٍ مَقْصُودَةٍ مِنْهُمَا فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ ذَهَابِ الْبَصَرِ بِالشَّجَّةِ ، فَإِنْ ذَهَبَ بِالشَّجَّةِ الْعَقْلُ ، وَالسَّمْعُ ، وَالْكَلَامُ ، وَالْبَصَرُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَرْبَعُ دِيَاتٍ .
وَقَدْ رَوَيْنَا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى عَلَى رَجُلٍ بِأَرْبَعِ دِيَاتٍ ، وَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ حَيٌّ فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا ، وَلَوْ مَاتَ مِنْ الشَّجَّةِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ ؟ وَبِمَوْتِهِ فَاتَتْ هَذِهِ الْمَنَافِعُ ثُمَّ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ فَبِفَوَاتِ هَذِهِ قَدْ ذَكَرُوا أَكْثَرَ الْحُدُودِ ، وَإِقَامَةُ الْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ ثُمَّ مِقْدَارُ الطُّولِ بِذِكْرِ الْحَدَّيْنِ صَارَ مَعْلُومًا ، وَمِقْدَارُ الْعَرْضِ بِذِكْرِ أَحَدِ الْحَدَّيْنِ بَعْدَ إعْلَامِ الطُّولِ يَصِيرُ مَعْلُومًا أَيْضًا ، وَقَدْ تَكُونُ الْأَرْضُ مُثَلَّثَةً لَهَا ثَلَاثَةُ حُدُودٍ فَإِذَا كَانَتْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِذِكْرِ الْحُدُودِ الثَّلَاثَةِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا غَلِطُوا فِي ذِكْرِ أَحَدِ الْحُدُودِ ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ بِمَا ذَكَرُوا صَارَ شَيْئًا آخَرَ ، وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ بَيْنَ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ ، وَمَا إذَا خَالَفُوا فِي ذِكْرِهِ كَمَا إذَا ادَّعَى شِرَاءَ شَيْءٍ بِثَمَنٍ مَنْقُودٍ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى ذَلِكَ تُقْبَلُ ، وَإِنْ سَكَتَ الشُّهُودُ عَنْ ذِكْرِ جِنْسِ الثَّمَنِ ، وَلَوْ ذَكَرُوا ذَلِكَ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ فَهَذَا مِثْلُهُ ،

وَإِنْ لَمْ يَحُدُّوهَا وَنَسَبُوهَا إلَى اسْمٍ مَعْرُوفٍ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجَازَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ بِالشُّهْرَةِ كَالتَّعْرِيفِ بِذِكْرِ الْحُدُودِ أَوْ أَبْلُغُ ، وَذِكْرُ الْحُدُودِ فِي الْعَقَارَاتِ كَذِكْرِ الِاسْمِ ، وَالنَّسَبِ فِي الْآدَمِيِّ ثُمَّ هُنَاكَ الشُّهْرَةُ تُغْنِي عَنْ ذِكْرِ الِاسْمِ ، وَالنَّسَبِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : بِالشُّهْرَةِ يَصِيرُ مَوْضِعُ الْأَصْلِ مَعْلُومًا فَأَمَّا مِقْدَارُ الْمَشْهُودِ بِهِ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِذِكْرِ الْحُدُودِ ، وَجَهَالَةُ الْمِقْدَارِ تَمْنَعُ مِنْ الْقَضَاءِ ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الدَّارَ الْمَشْهُودَةَ قَدْ يُزَادُ فِيهَا وَيُنْتَقَصُ مِنْهَا ، وَلَا تَتَغَيَّرُ الشُّهْرَةُ بِذَلِكَ بِخِلَافِ الْآدَمِيِّ فَإِنَّهُ لَا يُزَادُ فِيهِ ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ .
وَالْحَاجَةُ هُنَاكَ إلَى إعْلَامِ أَصْلِهِ بِالشُّهْرَةِ يَصِيرُ مَعْلُومًا ، وَلَوْ جَاءَ بِكِتَابِ قَاضٍ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ السَّدِي عَبْدِ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ كَذَا كَذَا أُجْرَتُهُ ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ يُعْرَفُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَالِكِهِ فَالنِّسْبَةُ إلَى الْأَبِ وَالْقَبِيلَةِ تَتَعَطَّلُ بِالرِّقِّ ، وَإِنَّمَا يُنْسَبُ إلَى مَالِكِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْوِلَايَةَ عَلَى الْمَمْلُوكِ لِمَالِكِهِ دُونَ أَبِيهِ فَإِذَا نَسَبَهُ إلَى مَالِكٍ مَعْرُوفٍ بِالشُّهْرَةِ أَوْ بِذِكْرِ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ فَقَدْ تَمَّ تَعْرِيفُهُ بِذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ إنْ نَسَبَ الْعَبْدَ إلَى عَمَلٍ أَوْ تِجَارَةٍ يُعْرَفُ بِهَا فَالتَّعْرِيفُ فِي الْحُرِّ يَحْصُلُ بِذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، فَكَذَلِكَ فِي الْعَبْدِ ، وَإِنْ جَاءَ بِالْكِتَابِ أَنَّ الْعَبْدَ لَهُ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ ، وَهُمَا فِي الْقِيَاسِ سَوَاءٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْآبِقِ مَا يُقْبَلُ فِيهِ كِتَابُ الْقَاضِي وَمَا لَا يُقْبَلُ .
( قَالَ : ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا كِتَابُ الْقُضَاةِ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَا فِي الْعَقَارِ

فَإِنَّهُ لَا يَتَحَوَّلُ عَنْ مَوْضِعِهِ فَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَعْيَانِ لَا يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إلَى عَيْنِهِ عِنْدَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ شَرْطٌ وَلِهَذَا لَا بُدَّ مِنْ إحْضَارِهِ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ ، وَإِذَا أَتَى كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي وَلَيْسَ عَلَيْهِ عُنْوَانٌ وَهُوَ مَخْتُومٌ بِخَاتَمِهِ فَشَهِدَتْ الشُّهُودُ أَنَّهُ كِتَابُهُ إلَيْهِ وَخَاتَمُهُ فَإِنَّهُ يَفْتَحُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى ظَهْرِهِ عُنْوَانٌ فِيهِ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا مَحْكُومًا أَنَّهُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَيْهِ ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ مَعْلُومًا الْمَحَلَّانِ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فِي مَعْنَى نَفْسَيْنِ فَكَمَا أَنَّهُ إذَا قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ فَأَصَابَ السِّكِّينُ يَدَ آخَرَ فَقَطَعَ يَدَهُ يَجِبُ الْأَرْشُ لِلثَّانِي ، وَالْقِصَاصُ لِلْأَوَّلِ فَهَذَا مِثْلُهُ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : هَذِهِ جِنَايَةٌ وَسِرَايَتُهَا .
وَقَدْ تَعَذَّرَ إيجَابُ الْقِصَاصِ بِاعْتِبَارِ سِرَايَتِهَا فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ بِاعْتِبَارِ أَصْلِهَا كَمَا لَوْ قَطَعَ مَفْصِلًا فَشُلَّتْ الْأُصْبُعُ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ السِّرَايَةَ أَثَرُ الْجِنَايَةِ ، وَهُوَ مَعَ أَصْلِ الْجِنَايَةِ فِي حُكْمِ فِعْلٍ وَاحِدٍ ، فَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ سِرَايَتَانِ أَنَّ فِعْلَهُ أَثَّرَ فِي نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ، وَالسِّرَايَةُ عِبَارَةٌ عَنْ آلَامٍ تَتَعَاقَبُ مِنْ الْجِنَايَةِ عَلَى الْبَدَنِ ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْهُمَا كَمَا يَتَحَقَّقُ فِي الطَّرَفِ مَعَ أَصْلِ النَّفْسِ إذَا مَاتَ مِنْ الْجِنَايَةِ بِخِلَافِ النَّفْسَيْنِ فَإِنَّ الْفِعْلَ فِي النَّفْسِ الثَّانِيَةِ مُبَاشَرَةٌ عَلَى حِدَةٍ لَيْسَ بِسِرَايَةِ الْجِنَايَةِ الْأُولَى إذْ لَا تُتَصَوَّرُ السِّرَايَةُ مِنْ نَفْسٍ إلَى نَفْسٍ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ فِي حُكْمِ فِعْلٍ عَلَى حِدَةٍ ، وَهُوَ خَطَأٌ ثُمَّ يُعْتَبَرُ حُكْمُ كُلِّ فِعْلٍ بِنَفْسِهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْفَعَةَ كُلِّ أُصْبُعٍ تَتَّصِلُ بِمَنْفَعَةِ الْأُخْرَى كَمَا أَنَّ مَنْفَعَةَ الْأَصَابِعِ تَتَّصِلُ بِمَنْفَعَةِ الْكَفِّ ،

وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْيَدَيْنِ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ بِخِلَافِ النَّفْسَيْنِ فَلَا اتِّصَالَ لِمَنْفَعَةِ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى ، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّهُ لَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةً عَمْدًا فَذَهَبَ مِنْ ذَلِكَ بَصَرُهُ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ فِي الْمُوضِحَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَكِنْ عَلَيْهِ الْأَرْشُ فِيهِمَا وَنُقِلَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ عَلَيْهِ الْقِصَاصَ فِي الْمُوضِحَةِ ، وَالدِّيَةَ فِي الْبَصَرِ وَهُوَ نَظِيرُ مَا بَيَّنَّا .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهِمَا ؛ لِأَنَّ إذْهَابَ الْبَصَرِ عَمْدًا يُوجِبُ الْقِصَاصَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ سِرَايَةَ الْفِعْلِ لَا تُخَالِفُ أَصْلَ الْفِعْلِ فِي الصِّفَةِ بِخِلَافِ الشَّلَلِ فَإِنَّ الشَّلَلَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْقِصَاصِ فَعَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ عَنْ مُحَمَّدٍ لَوْ قَطَعَ أُصْبُعًا مِنْهُ عَمْدًا فَقُطِعَتْ أُصْبُعٌ أُخْرَى يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهَا أَيْضًا بِخِلَافِ مَا إذَا شُلَّتْ أُخْرَى ؛ لِأَنَّ فِي تَفْوِيتِ أَصْلِ الْأُصْبُعَيْنِ عَمْدًا الْقِصَاصَ ، وَالسِّرَايَةَ بِصِفَةِ أَصْلِ الْفِعْلِ ، وَلَيْسَ فِي تَفْوِيتِ الْمَنْفَعَةِ بِالشَّلَلِ قِصَاصٌ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَقَعُ الْفَرْقُ وَلَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةً فَصَارَتْ مُنَقِّلَةً أَوْ كَسَرَ بَعْضَ سِنِّهِ فَاسْوَدَّ مَا بَقِيَ أَوْ قَطَعَ الْكَفَّ فَشُلَّ السَّاعِدُ فَلَا قِصَاصَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ السِّرَايَةِ هَاهُنَا مُتَّصِلٌ بِمَحَلِّ الْجِنَايَةِ فَكَانَ الْفِعْلُ وَاحِدًا حَقِيقَةً وَحُكْمًا ، وَبِاعْتِبَارِ مَا لَهُ يَتَعَذَّرُ إيجَابُ الْقِصَاصِ إذْ لَا قِصَاصَ فِي كَسْرِ الْعَظْمِ وَسَوَادِ السِّنِّ ، وَالشَّلَلِ ، وَقِيلَ : يَلْزَمُهُ الْأَرْشُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ ، وَإِذَا شَجَّهُ مُنَقِّلَةً عَمْدًا ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِبِلِ غُلِّظَ عَلَيْهِ فِي الْأَسْنَانِ فَجُعِلَ عَلَيْهِ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ أَرْبَاعًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ .
وَكَذَلِكَ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ فِي الْآمَّةِ وَغَيْرِهَا اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ فَإِنَّ صِفَةَ

التَّغْلِيظِ ثَابِتَةٌ فِي جَمِيعِ الدِّيَةِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْعَمْدِيَّةِ فَثَبَتَ فِي أَبْعَاضِهَا ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ خَطَأً وَجَبَ الْأَرْشُ أَخْمَاسًا اعْتِبَارًا بِالْكُلِّ إلَّا أَنَّ فِي الْعَمْدِ تَجِبُ فِي مَالِهِ ، وَفِي الْخَطَأِ يَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِ إذَا بَلَغَ الْوَاجِبُ أَرْشَ الْمُوضِحَةِ ، وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي عَلَى طَرِيقَةِ الْقِيَاسِ مِنْهَا دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، وَبِالْقِيَاسِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ الْجُزْءَ بِالْكُلِّ ، وَاعْتَبَرَ ضَمَانَ إتْلَافِ النَّفْسِ بِضَمَانِ إتْلَافِ الْمَالِ فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ فِي حَقِّ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ ، وَلَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا فَجَعَلْنَا مَا دُونَ أَرْشِ الْمُوضِحَةِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ الْأَثَرِ فِيهِ ، وَإِذَا كَانَ الْقَاتِلُ خَطَأً مِنْ أَهْلِ الْإِبِلِ فَصَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ دِينَارٍ نَقْدًا أَوْ نَسِيئَةً لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطِيَ أَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ الْوَاجِبِ مِنْ الدِّيَةِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ فَلَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ ؛ لِمَا فِي الصُّلْحِ عَلَى الزِّيَادَةِ مِنْ مَعْنَى الرِّبَا وَبِأَنْ كَانَ الْقَاتِلُ مِنْ أَهْلِ الْإِبِلِ لَا تَخْرُجُ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ مِنْ أَنْ تَكُونَ أَصْلًا فِي الدِّيَةِ فِي حَقِّهِ ، وَعِنْدَ الصُّلْحِ عَلَى الدَّرَاهِمِ يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا عَيْنَا الدَّرَاهِمِ أَوَّلًا ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَيَكُونُ رِبًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوَرِقِ فَصَالَحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ دِينَارٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ مِنْ الْإِبِلِ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَحَدِ الْأَصْنَافِ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ الصِّنْفُ الْوَاجِبُ مِنْهُ مُقَدَّرًا شَرْعًا ، فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ تَكُونُ رِبًا ، فَأَمَّا فِي الْعَمْدِ الْمُوجِبِ لِلْقَوَدِ إذَا أَوْقَعَ الصُّلْحَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ يَجُوزُ عِنْدَنَا ، وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ لَا يَجُوزُ بِنَاءً عَلَى

مَا تَقَدَّمَ أَنَّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ الْوَاجِبَ فِي الْعَمْدِ أَحَدُ شَيْئَيْنِ يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ بِاخْتِيَارِ الْوَلِيِّ ، وَإِذَا اخْتَارَ الدِّيَةَ ، وَهِيَ مُقَدَّرَةٌ شَرْعًا لَا تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا بِطَرِيقِ الصُّلْحِ .
وَعِنْدَنَا الْوَاجِبُ هُوَ الْقَوَدُ لَا غَيْرُ فَالْمَالُ الَّذِي يَلْتَزِمُهُ يَكُونُ عِوَضًا عَنْ الْقَوَدِ ، وَلَا رِبَا بَيْنَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ وَبَيْنَ مَا هُوَ مَالٌ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ هَذَا الصُّلْحِ مَا رُوِيَ أَنَّ فَارِسًا مِنْ فُرْسَانِ الْمُسْلِمِينَ قَتَلَ رَجُلًا فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِصَاصِ فَلَمَّا خَرَجَ لِيُقْتَلَ رَأَتْ الصَّحَابَةُ الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجُوا وَصَالَحُوا أَوْلِيَاءَ الْقَتِيلِ عَلَى دِيَتَيْنِ دِيَةٍ يُعْطِيهَا الْقَاتِلُ وَدِيَةٍ يَتَبَرَّعُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَدَائِهَا فَسُرَّ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ صَالَحَهُ فِي الْخَطَأِ أَوْ الْعَمْدِ عَلَى خَمْسِينَ مِنْ الْإِبِلِ جَازَ أَمَّا فِي الْعَمْدِ فَلَا يُشْكِلُ ، وَفِي الْخَطَأِ ؛ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ بَعْضَ الْوَاجِبِ .
وَلَوْ أَسْقَطَ الْكُلَّ بِالْعَفْوِ لَجَازَ ، فَكَذَلِكَ إذَا أَسْقَطَ الْبَعْضَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى خَمْسِمِائَةِ دِينَارٍ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ عَلَيْهِ بِالدَّرَاهِمِ ، وَقَالَ : إنَّمَا صَالَحْتُك عَنْ الدِّيَةِ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ كَأَنَّهُمَا عَيَّنَا الدَّنَانِيرَ ثُمَّ أَسْقَطَ عَنْهُ النِّصْفَ وَرَضِيَ بِالنِّصْفِ وَيَكُون الْبَاقِي مُؤَجَّلًا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ سَوَاءٌ ذَكَرَ الْأَجَلَ أَوْ لَمْ يَذْكُرْهُ أَمَّا إذَا لَمْ يَذْكُرْ الْأَجَلَ فَلِأَنَّ هَذَا الصُّلْحَ إبْرَاءٌ عَنْ الْبَعْضِ ، وَلَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِمَا بَقِيَ فَيَبْقَى مَا بَقِيَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الْكُلُّ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَهُوَ أَنَّهُ مُؤَجَّلٌ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ، وَكَذَلِكَ إنْ شُرِطَ الْأَجَلُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ يُقَرِّرُ مُقْتَضَى

مُطْلَقِ الْعَقْدِ ، وَلَا يُقَالُ هَذَا فِي مَعْنَى نَسِيئَةٍ بِنَسِيئَةٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عِنْدَ تَمَكُّنِ الْمُبَادَلَةِ ، وَلَا مُبَادَلَةَ هَاهُنَا إنَّمَا هُوَ إسْقَاطُ نِصْفِ الْوَاجِبِ فَقَطْ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِبِلِ فَقَضَى عَلَيْهِ بِالْإِبِلِ فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْعُرُوضِ أَوْ الْحَيَوَانِ بِعَيْنِهِ بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ مِمَّا فَرَضَ عَلَيْهِ الدِّيَةَ كَانَ جَائِزًا ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الدِّيَةِ أَضْعَافًا وَيَأْخُذُهُ حَالًّا ؛ لِأَنَّ هَذَا اسْتِبْدَالٌ بِدَيْنٍ لَا يَسْتَحِقُّ قَبْضَهُ فِي الْمَجْلِسِ ، وَلَا هُوَ فِي حُكْمِ الْمَبِيعِ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ صَحِيحًا وَبِنَفْسِ الِاسْتِبْدَالِ يَمْلِكُهُ عَيْنًا ، وَالْأَجَلُ فِي الْعَيْنِ لَا يَتَحَقَّقُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْوَرِقِ أَوْ الذَّهَبِ فَقَضَى عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى عَيْنٍ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ جَازَ ، وَإِنْ جَعَلَ لِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ أَجَلًا بِأَنْ صَالَحَهُ عَلَى طَعَامٍ مَوْصُوفٍ فِي الذِّمَّةِ مُؤَجَّلٍ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ بَدَلٌ عَمَّا قَضَى عَلَيْهِ بِهِ مِنْ الدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ ، فَيَكُونُ هَذَا شِرَاءَ دَيْنٍ بِدَيْنٍ ، وَذَلِكَ حَرَامٌ ، وَكَذَلِكَ إنْ قَضَى عَلَيْهِ بِدَرَاهِمَ ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى دَنَانِيرَ بِعَيْنِهَا أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ دِينَارٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْ أَلْفِ دِينَارٍ يَجُوزُ بَعْدَ أَنْ يَقْبِضَ ذَلِكَ فِي الْمَجْلِسِ ، وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى دَنَانِيرَ مُؤَجَّلَةٍ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ صَرْفٌ وَلِأَنَّهُ دَيْنٌ بِدَيْنٍ ، وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّهُ قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً ، وَادَّعَى وَلِيُّهُ الْعَمْدَ فَلَهُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ اسْتِحْسَانًا ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا شَيْءَ لَهُ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَجْهُ الْقِيَاسِ : أَنَّ الْوَلِيَّ ادَّعَى عَلَيْهِ الْقَوَدَ وَهُوَ مُنْكِرٌ ، وَهُوَ أَقَرَّ لَهُ بِالْمَالِ ، وَقَدْ كَذَّبَهُ الْوَلِيُّ فِي ذَلِكَ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِالْعَمْدِ وَادَّعَى الْوَلِيُّ الْخَطَأَ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ

الْوَلِيَّ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِ الْمَالِ الَّذِي أَقَرَّ لَهُ بِهِ الْقَاتِلُ مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى دَعْوَاهُ بِأَنْ يَقُولَ حَقِّي فِي الْقِصَاصِ ، وَلَكِنَّهُ طَلَبَ مِنِّي أَنْ آخُذَ الْمَالَ عِوَضًا عَنْ الْقِصَاصِ ، وَذَلِكَ جَائِزٌ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مَا صَارَ مُكَذِّبًا لَهُ فِيمَا أَقَرَّ بِهِ فَأَمَّا إذَا ادَّعَى الْوَلِيُّ الْخَطَأَ ، وَأَقَرَّ الْقَاتِلُ بِالْعَمْدِ فَإِنَّ الْوَلِيَّ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ يَجْحَدُ مُوجِبَ ذَلِكَ ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْخُذَ الْقِصَاصَ مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى الدَّعْوَى ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ عِوَضٌ عَنْ الْمَالِ .
يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ الْوَلِيَّ حِينَ ادَّعَى الْعَمْدَ فَقَدْ ادَّعَى أَصْلَ الْقَتْلِ ، وَالصِّفَةَ ، وَالْمُقِرُّ بِالْخَطَأِ صَدَّقَهُ فِيمَا ادَّعَى مِنْ أَصْلِ الْقَتْلِ وَجَحَدَ مَا ادَّعَى مِنْ صِفَةِ الْعَمْدِيَّةِ فَلَا يُعْتَبَرُ تَصْدِيقُهُ فِي أَصْلِ الْقَتْلِ بَعْدَ مَا كَذَّبَهُ فِي الصِّفَةِ ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْأَصْلِ الَّذِي صَدَّقَهُ فِيهِ يُخَالِفُ مُوجِبَ الْأَصْلِ بِالصِّفَةِ الَّتِي كَذَّبَهُ فِيهَا ، وَكَذَلِكَ هَذَا الْحُكْمُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مِمَّا يَجِبُ فِي الْعَمْدِ مِنْهُ الْقِصَاصُ ، وَإِذَا قَتَلَ النَّائِمُ إنْسَانًا بِأَنْ سَقَطَ عَلَيْهِ أَوْ كَانَ بِيَدِهِ شَيْءٌ فَضَرَبَهُ وَهُوَ نَائِمٌ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ قَالَ : وَهَذَا خَطَأٌ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ فِي مَعْنَى الْخَطَأِ فِي الْحُكْمِ دُونَ الْخَطَأِ حَقِيقَةً فَإِنَّ النَّائِمَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْقَصْدِ أَصْلًا إلَّا أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ وَجَعَلَهُ مَحْرُومًا مِنْ الْمِيرَاثِ ؛ لِتَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ تَنَاوَمَ ، وَلَمْ يَكُنْ نَائِمًا حَقِيقَةً ، وَهَذَا مُعْتَبَرٌ فِي حِرْمَانِ الْإِرْثِ ، وَأَمَّا الْكَفَّارَةُ فَلِتَرْكِهِ التَّحَرُّزَ فِي مَوْضِعٍ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَصِيرَ قَاتِلًا لِإِنْسَانٍ فِي نَوْمِهِ بِهَذِهِ الطَّرِيقَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْكَفَّارَةَ فِي الْخَطَأِ إنَّمَا وَجَبَتْ لِتَرْكِ التَّحَرُّزِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ بِالْقَتْلِ خَطَأً وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى إقْرَارِ الْقَاتِلِ بِذَلِكَ فَهَذَا بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ فَإِنَّ أَحَدَهُمَا شَهِدَ بِفِعْلٍ ، وَالْآخَرَ بِقَوْلٍ ، وَالْقَوْلُ غَيْرُ الْفِعْلِ ، وَوَاحِدٌ مِنْهُمَا لَا يَثْبُتُ عِنْدَ الْقَاضِي إلَّا بِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا عَلَى الْقَتْلِ وَاخْتَلَفَا فِي الْوَقْتِ ، أَوْ الْمَكَانِ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُقْبَلُ ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ خُصُوصًا الْقَتْلُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَشْهَدُ بِفِعْلٍ غَيْرِ مَا يَشْهَدُ بِهِ صَاحِبُهُ وَذَلِكَ يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ كَشُهُودِ الْغَصْبِ إذَا اخْتَلَفُوا فِي الْمَكَانِ ، وَالزَّمَانِ ، ثُمَّ هَاهُنَا الْقَاضِي يُوقِنُ بِكَذِبِ أَحَدِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَمَا قَبِلَ فِي يَوْمٍ وَفِي مَكَان لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَقْبَلَهُ فِي مَكَان آخَرَ فِي يَوْمٍ آخَرَ وَبَعْدَمَا تَيَقَّنَ الْقَاضِي بِكَذِبِ الشَّاهِدِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِشَهَادَتِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اخْتَلَفَا فِيمَا قَتَلَهُ بِهِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا : كَانَ بِحَجَرٍ وَقَالَ الْآخَرُ : بِعَصًا ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ ، فَالْقَتْلُ بِالْحَجَرِ غَيْرُ الْقَتْلِ بِالْعَصَا حَقِيقَةً ، وَإِنْ كَانَ حُكْمُهُمَا وَاحِدًا .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : أَحَدُهُمَا قَتَلَهُ عَمْدًا وَقَالَ الْآخَرُ : قَتَلَهُ خَطَأً ، فَقَدْ اخْتَلَفَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ غَيْرُ الْعَمْدِ وَحُكْمُهُمَا مُخْتَلِفٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا : قَتَلَهُ بِعَصًا وَقَالَ الْآخَرُ : لَا أَحْفَظُ الَّذِي كَانَ بِهِ الْقَتْلُ ؛ لِأَنَّ الَّذِي قَالَ : لَا أَحْفَظُ ضَيَّعَ بَعْضَ شَهَادَتِهِ وَلِأَنَّهُ شَاهِدٌ بِفِعْلٍ غَيْرِ الْفِعْلِ الَّذِي شَهِدَ بِهِ صَاحِبُهُ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّهُ قَتَلَهُ بِالسِّلَاحِ وَلَا يَكُونُ هَذَا الْبَيَانُ مِنْهُ مُخَالِفًا لِأَوَّلِ كَلَامِهِ وَلَوْ قَالَ الْآخَرُ مِثْلَ ذَلِكَ كَانَ مُنَاقِضًا فِي كَلَامِهِ فَعَرَفْنَا

أَنَّهُ شَاهِدٌ بِفِعْلٍ غَيْرِ الْفِعْلِ الَّذِي شَهِدَ بِهِ صَاحِبُهُ فَلَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ ، وَإِنْ قَالَا جَمِيعًا : لَا نَدْرِي بِمَ قَتَلَهُ ، فَهُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ فِي الْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّهُمَا أَقَرَّا أَنَّهُمَا ضَيَّعَا شَهَادَتَهُمَا وَلِأَنَّ شَرْطَ قَبُولِ الشَّهَادَةِ اتِّفَاقُهُمَا عَلَى فِعْلٍ وَاحِدٍ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِأَنْ يَتَّفِقَا عَلَى آلَةٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ بِدُونِ الْآلَةِ لَا يَتَحَقَّقُ وَاتِّفَاقُهُمَا عَلَى آلَةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ التَّنْصِيصِ فَأَمَّا إذَا قَالَا : لَا نَدْرِي فَبِهَذَا اللَّفْظِ لَا يَثْبُتُ الِاتِّفَاقُ عَلَى آلَةٍ وَاحِدَةٍ لِجَوَازِ أَنَّهُمَا إذَا بَيَّنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَمْ يَكُنْ بَيَانُهُ ذَلِكَ مُخَالِفًا لِأَوَّلِ كَلَامِهِ ، وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ ، وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ أَنْ نُجِيزَ شَهَادَتَهُمَا وَنُوجِبَ عَلَيْهِ الدِّيَةَ فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ اتِّفَاقُهُمَا فِيمَا صَرَّحَا بِهِ فِي شَهَادَتَيْهِمَا وَذَلِكَ أَصْلُ الْقَتْلِ ، وَقَدْ ثَبَتَ بِنَصٍّ لَا احْتِمَالَ فِيهِ وَأَصْلُ الْقَتْلِ مُوجِبٌ لِلدِّيَةِ فَاتِّفَاقُهُمَا عَلَيْهِ يَكُون اتِّفَاقًا عَلَى هَذَا الْمُوجِبِ فَأَمَّا الْقِصَاصُ فَإِنَّمَا يَجِبُ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْعَمْدِيَّةِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ الشُّهُودُ لِذَلِكَ وَبِاخْتِلَافِ الْآلَةِ إنَّمَا يَخْتَلِفُ حُكْمُ الْقِصَاصِ .
فَتَوَهُّمُ اخْتِلَافِ الْآلَةِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْحُكْمِ بِالْقِصَاصِ لَا فِي الْمَنْعِ مِنْ الْحُكْمِ بِالْمَالِ فَإِنَّهُ لَا أَثَرَ لِاخْتِلَافِ الْآلَةِ فِي ذَلِكَ ، وَلَكِنَّ الدِّيَةَ هُنَا فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّ فِي تَحَمُّلِ الْعَاقِلَةِ عَنْهُ مَعْنَى الشَّكِّ ، وَالِاحْتِمَالِ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ عَمْدًا لَا تَتَحَمَّلُهَا الْعَاقِلَةُ وَمَعَ الشَّكِّ يَتَعَذَّرُ إيجَابُهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ فَكَانَتْ فِي مَالِهِ يُوَضِّحُهُ : أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الشَّاهِدَيْنِ عَرَفَا الْآلَةَ ، وَأَنَّ الْفِعْلَ كَانَ عَمْدًا بِسِلَاحٍ ؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا بِقَتْلٍ مُطْلَقٍ ، وَالْفِعْلُ الْمُطْلَقُ يَكُونُ بِآلَتِهِ وَآلَةُ الْقَتْلِ السِّلَاحُ ،

وَكَذَلِكَ الْفِعْلُ الْمُطْلَقُ يَكُونُ مِنْ الْعَامِدِ إلَّا أَنَّهُمَا سَتَرَا ذَلِكَ لِدَرْءِ الْقَوَدِ وَيُحْمَلُ الْوَلِيُّ عَلَى أَنْ يَكْتَفِيَ بِالدِّيَةِ ، وَقَدْ نُدِبَا إلَى ذَلِكَ بِالشَّرْعِ فَلَا يَكُونُ مُبْطِلًا شَهَادَتَهُمَا ، بَلْ - يَقْضِي بِالدِّيَةِ فِي مَالِ الْقَاتِلِ كَمَا هُوَ مُوجِبُ شَهَادَتِهِمَا .

وَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ مَعَ رَجُلٍ جَائِزَةٌ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ وَفِي كُلِّ مَا لَيْسَ فِيهِ قِصَاصٌ وَلَا تَجُوزُ فِيمَا فِيهِ قِصَاصٌ ، وَكَذَلِكَ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ وَكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَفِي شَهَادَةِ النِّسَاءِ ضَرْبُ شُبْهَةٍ ؛ لِأَنَّ الضَّلَالَةَ ، وَالنِّسْيَانَ يَغْلِبُ عَلَيْهِنَّ ، وَكَذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُمَا بَدَلٌ وَفِي الْبَدَلِ الْقَائِمِ مَقَامَ الْأَصْلِ ضَرْبُ شُبْهَةٍ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَيَثْبُتُ بِهِ مَا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَهُوَ الْمَالُ ، ثُمَّ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ إذَا تَعَذَّرَ الْقَضَاءُ بِالْقِصَاصِ لَا يَقْضِي بِالْمَالِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْإِقْرَارِ فَإِنَّ الْقَاتِلَ إذَا أَقَرَّ بِالْخَطَأِ بَعْدَ مَا ادَّعَى الْوَلِيُّ الْعَمْدَ يَقْضِي بِالْمَالِ ؛ لِأَنَّ هَاهُنَا تَعَذَّرَ الْقَضَاءُ بِالْقَوَدِ لِمَعْنًى مِنْ جِهَةِ الْوَلِيِّ ، وَهُوَ اشْتِغَالُهُ بِإِقَامَةِ حُجَّةٍ فِيهَا شُبْهَةٌ ، وَالْوَلِيُّ لَا يَنْفَرِدُ بِأَخْذِ الْمَالِ بِدُونِ رِضَا الْقَاتِلِ وَهُنَاكَ تَعَذَّرَ الْقَضَاءُ بِالْقَوَدِ لِمَعْنًى مِنْ جِهَةِ الْقَاتِلِ ، وَهُوَ إقْرَارُهُ بِالْخَطَأِ ، فَيُنَزَّلُ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ الرِّضَا مِنْهُ بِأَخْذِ الْمَالِ وَلِلْوَلِيِّ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ مَكَانَ الْقِصَاصِ بِرِضَا الْقَاتِلِ .
يُوَضِّحُهُ : أَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ لِلْحَقِّ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَيَتَمَكَّنُ الْوَلِيُّ مِنْ أَخْذِ مَا أَقَرَّ بِهِ الْقَاتِلُ ، وَهُوَ الْمَالُ فَأَمَّا الشَّهَادَةُ فَلَا تُوجِبُ شَيْئًا بِدُونِ قَضَاءِ الْقَاضِي ، وَالْقَاضِي إنَّمَا يَقْضِي بِمَا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِذَلِكَ هَاهُنَا لِمَكَانِ الشُّبْهَةِ فَلَا يَقْضِي بِشَيْءٍ ، وَإِنْ شَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلَانِ بِالْعَمْدِ حُبِسَ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْهُمَا ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَّهَمًا بِالدَّمِ ، وَالسَّبِيلُ فِي الْمُتَّهَمِ أَنْ يُحْبَسَ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

حَبَسَ رَجُلًا فِي التُّهْمَةِ } وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَى رَجُلًا يَعْدُو عَلَيْهِ وَيَقُولُ أَجِرْنِي يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ مِنْ مَاذَا فَقَالَ مِنْ الدَّمِ فَقَالَ احْبِسُوهُ الْحَدِيثَ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْحُدُودِ أَنَّ أَخْذَ الْكَفِيلِ فِي الْعُقُوبَاتِ غَيْرُ مُمْكِنٍ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مَعْنَى التَّوَثُّقِ ، وَالِاحْتِيَاطِ ، وَأَنَّهُ يُصَارُ فِيهِ إلَى الْحَبْسِ ، فَإِنْ شَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلٌ وَاحِدٌ عَدْلٌ حَبَسَهُ أَيْضًا أَيَّامًا ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُتَّهَمًا بِالدَّمِ فَإِنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتِمُّ بِالْحُجَّةِ فَتَثْبُتُ بِهِ التُّهْمَةُ خُصُوصًا إذَا كَانَ الْمُخْبِرُ عَدْلًا ؛ وَلِأَنَّ لِلشَّهَادَةِ شَرْطَيْنِ : الْعَدَدُ ، وَالْعَدَالَةُ ، وَقَدْ وُجِدَ أَحَدُ الشَّرْطَيْنِ هَاهُنَا ، وَهُوَ الْعَدَالَةُ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَمَّ عَدَدُ الشُّهُودِ وَلَمْ تَظْهَرْ عَدَالَتُهُمْ فَكَمَا يُحْبَسُ هُنَاكَ فَكَذَلِكَ يُحْبَسُ هَاهُنَا ، فَإِنْ جَاءَ شَاهِدٌ آخَرُ وَإِلَّا خَلَّى سَبِيلَهُ ، وَالْعَمْدُ فِي ذَلِكَ ، وَالْخَطَأُ وَشِبْهُ الْعَمْدِ سَوَاءٌ .
وَكَانَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ لَا يُحْبَسَ فِي الْخَطَأِ وَشِبْهِ الْعَمْدِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِمَا الْمَالُ وَفِي الدُّيُونِ الَّتِي هِيَ غَيْرُ الْمُؤَجَّلَةِ لَا يُحْبَسُ مَا لَمْ تَتِمَّ الْحُجَّةُ لِظُهُورِ عَدَالَةِ الشُّهُودِ فَفِيمَا يَكُونُ مُؤَجَّلًا إلَى الْعَاقِلَةِ أَوْلَى ، وَلَكِنَّهُ تَرَكَ الْقِيَاسَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُتَّهَمَ بِالدَّمِ يُحْبَسُ فَإِنَّ الْقَتْلَ أَمْرٌ عَظِيمٌ إلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ مُوجِبُهُ ؛ لِظُهُورِ عُذْرِ الْقَاتِلِ ، أَوْ انْتِفَاءِ عُذْرِهِ ، فَإِذَا ادَّعَى وَلِيُّ الْقَتِيلِ بَيِّنَةً حَاضِرَةً فِي الْمِصْرِ ، وَالْقَتْلُ خَطَأٌ أُخِذَ بِهِ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَفِيلًا إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِخِلَافِ مَا إذَا زَعَمَ أَنَّ بَيِّنَتَهُ غَيْبٌ ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى دَعْوَى الدَّيْنِ ، فَالْخَطَأُ مُوجِبُ الدِّيَةِ دَيْنًا .
وَأَخْذُ الْكَفِيلِ بِالنَّفْسِ فِي دَعْوَى الدُّيُونِ صَحِيحٌ إذَا ادَّعَى بَيِّنَةً حَاضِرَةً فِي الْمِصْرِ

فَأَمَّا فِي الْعَمْدِ فَلَا يُصَارُ إلَى أَخْذِ الْكَفِيلِ قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ وَلَا بَعْدَهَا ، وَلَكِنْ قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ يُلَازِمُهُ الْمُدَّعِي وَبَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ يَحْبِسُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْزِيرِ ، فَإِنْ ظَهَرَتْ عَدَالَةُ الشُّهُودِ كَانَ الْقَتْلُ مُوجِبًا لِلْقَوَدِ وَقَضَى عَلَيْهِ بِالْقَوَدِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَإِذَا وُجِدَ الرَّجُلُ قَتِيلًا فِي مَحَلَّةِ قَوْمٍ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُقْسِمَ مِنْهُمْ خَمْسُونَ رَجُلًا بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا ، ثُمَّ يَغْرَمُونَ الدِّيَةَ .
بَلَغَنَا هَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي هَذَا أَحَادِيثُ مَشْهُورَةٌ مِنْهَا حَدِيثُ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ { أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَهْلٍ وَحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ خَرَجُوا فِي التِّجَارَةِ إلَى خَيْبَرَ وَتَفَرَّقُوا بِحَوَائِجِهِمْ فَوَجَدُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَتِيلًا فِي قَلِيبٍ مِنْ قُلُبِ خَيْبَرَ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ فَجَاءُوا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُخْبِرُوهُ فَأَرَادَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ ، وَهُوَ أَخُو الْقَتِيلِ أَنْ يَتَكَلَّمَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْكِبَرَ الْكِبَرَ ، فَتَكَلَّمَ أَحَدُ عَمَّيْهِ حُوَيِّصَةُ وَمُحَيِّصَةُ ، وَهُوَ الْأَكْبَرُ مِنْهُمَا وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ ، قَالَ : وَمَنْ قَتَلَهُ قَالُوا : وَمَنْ يَقْتُلُهُ سِوَى الْيَهُودِ قَالَ : تَبَرُّكُمْ الْيَهُودُ بِأَيْمَانِهَا ، فَقَالُوا : لَا نَرْضَى بِأَيْمَانِ قَوْمٍ كُفَّارٍ لَا يُبَالُونَ مَا حَلَفُوا عَلَيْهِ قَالَ : عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ ، فَقَالُوا : كَيْفَ نَحْلِفُ عَلَى أَمْرٍ لَمْ نُعَايِنْ وَلَمْ نُشَاهِدْ فَكَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبْطِلَ دَمَهُ فَوَدَاهُ بِمِائَةٍ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ } .
وَذَكَرَ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ { أَنَّ الْقَسَامَةَ كَانَتْ مِنْ أَحْكَامِ الْجَاهِلِيَّةِ فَقَرَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتِيلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وُجِدَ فِي حَيٍّ لِيَهُودَ } وَذَكَرَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ : فَأَلْزَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَهُودَ الدِّيَةَ وَالْقَسَامَةَ وَفِي رِوَايَةٍ { فَكَتَبَ إلَيْهِمْ إمَّا أَنْ يَدُوهُ ، أَوْ يَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ } .
وَذَكَرَ الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إلَى أَهْلِ خَيْبَرَ إنَّ هَذَا قَتِيلٌ وُجِدَ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ فَمَا الَّذِي يُخْرِجُهُ عَنْكُمْ فَكَتَبُوا إلَيْهِ إنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْحَادِثَةِ وَقَعَتْ فِي بَنِي إسْرَائِيلَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَمْرًا ، فَإِنْ كُنْت نَبِيًّا فَاسْأَلْ اللَّهَ مِثْلَ ذَلِكَ فَكَتَبَ إلَيْهِمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَانِي أَنْ أَخْتَارَ مِنْكُمْ خَمْسِينَ رَجُلًا فَيَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا ، ثُمَّ يَغْرَمُونَ الدِّيَةَ قَالُوا : لَقَدْ قَضَيْت فِينَا بِالنَّامُوسِ يَعْنِي بِالْوَحْيِ } وَرَوَى حُنَيْفٌ عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ : { جَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنِّي وَجَدْتُ أَخِي قَتِيلًا فِي بَنِي فُلَانٍ فَقَالَ : اخْتَرْ مِنْ شُيُوخِهِمْ خَمْسِينَ رَجُلًا فَيَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا قَالَ : وَلَيْسَ لِي مِنْ أَخِي إلَّا هَذَا قَالَ : نَعَمْ وَمِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ } وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَجُلًا وُجِدَ بَيْنَ وَدَاعَةَ وَأَرْحَبَ وَكَانَ إلَى وَدَاعَةَ أَقْرَبُ فَقَضَى عَلَيْهِمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْقَسَامَةِ ، وَالدِّيَةِ فَقَالَ حَارِثُ بْنُ الْأُصْبَعِ الْوَادِعِيُّ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ لَا أَيْمَانُنَا تَدْفَعُ عَنْ أَمْوَالِنَا وَلَا أَمْوَالُنَا تَدْفَعُ عَنْ أَيْمَانِنَا فَقَالَ : حَقَنْتُمْ دِمَاءَكُمْ بِأَيْمَانِكُمْ وَأُغَرِّمُكُمْ الدِّيَةَ لِوُجُودِ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ فَهَذِهِ الْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ حُكْمِ الْقَسَامَةِ ، وَالدِّيَةِ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي الْمَحَلَّةِ عَلَى أَهْلِهَا وَنَوْعٌ مِنْ الْمَعْنَى يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا ، وَهُوَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْقَاتِلَ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَلَّمَا يَأْتِي مِنْ مَحَلَّةٍ إلَى مَحَلَّةٍ ؛ لِيُقْتَلَ مُخْتَارًا فِيهَا ، وَإِنَّمَا تَمَكَّنَ الْقَاتِلُ مِنْهُمْ مِنْ هَذَا الْفِعْلِ بِقُوَّتِهِمْ وَنُصْرَتِهِمْ فَكَانُوا كَالْعَاقِلَةِ فَأَوْجَبَ الشَّرْعُ الدِّيَةَ

عَلَيْهِمْ صِيَانَةً لِدَمِ الْمَقْتُولِ عَنْ الْهَدَرِ وَأَوْجَبَ الْقَسَامَةَ عَلَيْهِمْ لِرَجَاءِ أَنْ يَظْهَرَ الْقَاتِلُ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَيَتَخَلَّصَ غَيْرُ الْجَانِي إذَا ظَهَرَ الْجَانِي ؛ وَلِهَذَا يُسْتَحْلَفُونَ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا ، ثُمَّ عَلَى أَهْلِ كُلِّ مَحَلَّةٍ حِفْظُ مَحَلِّهِمْ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الْفِتْنَةِ ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ فِي مَحَلَّتِهِمْ إلَيْهِمْ فَإِنَّمَا وَقَعَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ لِتَفْرِيطٍ كَانَ مِنْهُمْ فِي الْحِفْظِ حِينَ تَغَافَلُوا عَنْ الْأَخْذِ عَلَى أَيْدِي السُّفَهَاءِ مِنْهُمْ ، أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَوْجَبَ الشَّرْعُ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ عَلَيْهِمْ لِذَلِكَ ، وَوُجُوبُ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ مَذْهَبُ عُلَمَائِنَا وَقَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا كَانَ بَيْنَ أَهْلِ الْقَتِيلِ وَأَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَدَاوَةٌ ظَاهِرَةٌ وَلَوْثٌ وَتَأْثِيرُهُ وَكَانَ الْعَهْدُ قَرِيبًا بِدُخُولِهِ فِي مَحَلَّتِهِمْ إلَى أَنْ وُجِدَ قَتِيلًا يُؤْمَرُ الْوَلِيُّ بِأَنْ يُعَيِّنَ الْقَاتِلَ مِنْهُمْ بِاعْتِبَارِ اللَّوْثِ ، وَتَفْسِيرُ اللَّوْثِ : أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ عَلَامَةُ الْقَاتِلِينَ أَوْ يَكُونَ هُوَ مَشْهُورًا بِعَدَاوَتِهِ ، ثُمَّ يَحْلِفُ الْوَلِيُّ خَمْسِينَ يَمِينًا بِاَللَّهِ أَنَّهُ قَتَلَهُ ، فَإِذَا حَلَفَ اُقْتُصَّ لَهُ مِنْ الْقَاتِلِ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ : فَإِذَا حَلَفَ قُضِيَ لَهُ بِالدِّيَةِ فِي مَالِهِ ، وَإِذَا انْعَدَمَتْ هَذِهِ الْمَعَانِي أَوْ أَبَى الْوَلِيُّ أَنْ يَحْلِفَ ، فَالْحُكْمُ فِيهِ مَا هُوَ الْحُكْمُ فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى وَاحْتَجَّ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ { أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ .
وَفِي رِوَايَةٍ تَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ .
} وَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الْوَلِيِّ ، وَأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْقِصَاصَ .
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَضَى بِالْقَوَدِ فِي الْقَسَامَةِ } وَقَضَى بِهِ أَبُو

بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ قَالَ : قَتَلْنَا قَاتِلَ وَلِيِّنَا فِي الْقَسَامَةِ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ لَنَا حُجَّةٌ سِوَى اللَّوْثِ وَفِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي ، وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ إلَّا فِي الْقَسَامَةِ } فَفِي هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ فِي الْقَسَامَةِ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي ، فَإِذَا حَلَفَ تَرَجَّحَ مَعْنَى الصِّدْقِ فِي جَانِبِهِ فَيَسْتَحِقُّ الْمُدَّعَى ، وَهُوَ الْقَوَدُ ، ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نُرَجِّحُ جَانِبَهُ ، وَلَكِنْ بِحُجَّةٍ فِيهَا ضَرْبُ شُبْهَةٍ ، وَالْقِصَاصُ عُقُوبَةٌ يَنْدَرِئُ بِالشُّبْهَةِ فَيَجِبُ الْمَالُ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ حُجَّةُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ كَمَا فِي سَائِرِ الدَّعَاوَى فَإِنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ فَأَمَّا فِي الْقَسَامَةِ ، فَالظَّاهِرُ يَشْهَدُ لِلْمُدَّعِي عِنْدَ قِيَامِ اللَّوْثِ وَقُرْبِ الْعَهْدِ فَيَكُونُ الْيَمِينُ حُجَّةً لَهُ وَحُجَّتُنَا مَا رَوَيْنَا مِنْ الْآثَارِ الْمَشْهُورَةِ وَقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ } الْحَدِيثَ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى أَنَّ الْيَمِينَ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ صَالِحَةٍ لِاسْتِحْقَاقِ فَلْسٍ بِهَا فَكَيْفَ تَكُونُ حُجَّةً لِاسْتِحْقَاقِ نَفْسٍ خُصُوصًا فِي مَوْضِعٍ يُتَيَقَّنُ بِأَنَّ الْحَالِفَ مُجَازِفٌ يَحْلِفُ عَلَى مَا لَمْ يُعَايِنْهُ بِحَالٍ مُحْتَمَلٍ فِي نَفْسِهِ ، وَهُوَ اللَّوْثُ ، وَإِنَّمَا الْيَمِينُ مَشْرُوعَةٌ لِإِبْقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ فَلَا يُسْتَحَقُّ بِهَا مَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا ، فَأَمَّا قَوْلُهُ أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ فَلَا تَكَادُ تَصِحُّ هَذِهِ الزِّيَادَةُ ، وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ ، أَوْهَمَ سَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَتَحْلِفُونَ

وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ } وَلَوْ ثَبَتَ فَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ لَا عَلَى طَرِيقِ الْأَمْرِ لَهُمْ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْأَمْرِ لَكَانَ يَقُولُ أَتَحْلِفُونَ فَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ فَأَمَّا قَوْلُهُ أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ فَعَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنْ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ } الْآيَةَ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَحْلِفُونَ مَعْنَاهُ أَتَحْلِفُونَ كَقَوْلِهِ { تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا } مَعْنَاهُ أَتُرِيدُونَ وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ رَأَى مِنْهُمْ الرَّغْبَةَ فِي حُكْمِ الْجَاهِلِيَّةِ حِينَ أَبَوْا أَيْمَانَ الْيَهُودِ وَبِقَوْلِهِمْ : لَا نَرْضَى بِيَمِينِ قَوْمٍ كُفَّارٍ .
فَقَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الزَّجْرِ فَلَمَّا عَرَفُوا كَرَاهَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ رَغِبُوا عَنْهُ بِقَوْلِهِمْ : كَيْفَ نَحْلِفُ عَلَى أَمْرٍ لَمْ نُعَايِنْ وَلَمْ نُشَاهِدْ ، ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْيَهُودُ ادَّعَوْا عَلَيْهِمْ بِنَقْلِ الْقَتِيلِ مِنْ مَحَلَّةٍ أُخْرَى إلَى مَحَلَّتِهِمْ فَصَارُوا مُدَّعًى عَلَيْهِمْ ؛ فَلِهَذَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ الْيَمِينَ ، وَالْحَدِيثُ الْآخَرُ لَا يَكَادُ يَصِحُّ لِمَا رُوِيَ عَنْ أَيُّوبَ مَوْلَى أَبِي قِلَابَةَ قَالَ : كُنْت عِنْدَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَعِنْدَهُ رُؤَسَاءُ النَّاسِ فَخُوصِمَ إلَيْهِ فِي قَتِيلٍ وُجِدَ فِي مَحَلَّةٍ وَأَبُو قِلَابَةَ جَالِسٌ عِنْدَ السَّرِيرِ أَوْ خَلْفَ السَّرِيرِ فَقَالَ النَّاسُ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَوَدِ فِي الْقَسَامَةِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ ، وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُمْ فَنَظَرَ إلَى أَبِي قِلَابَةَ ، وَهُوَ سَاكِتٌ فَقَالَ : مَا تَقُولُ قَالَ : عِنْدَك رُؤَسَاءُ النَّاسِ وَأَشْرَافُ الْعَرَبِ أَرَأَيْتُمْ لَوْ شَهِدَ ثَمَّ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ حِمْصَ أَنَّهُ سَرَقَ وَلَمْ يَرَيَاهُ أَكُنْت تَقْطَعُهُ فَقَالَ : لَا قَالَ : أَرَأَيْتُمْ لَوْ شَهِدَ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَهْلِ

حِمْصَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ دِمَشْقَ أَنَّهُ زَنَى وَلَمْ يَرَوْهُ أَكُنْت تَرْجُمُهُ فَقَالَ : لَا فَقَالَ : وَاَللَّهِ مَا قَتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ إلَّا رَجُلًا كَفَرَ بِاَللَّهِ بَعْدَ إيمَانِهِ ، أَوْ زَنَى بَعْدَ إحْصَانِهِ ، أَوْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ ، وَقَدْ قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقَسَامَةِ ، وَالدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ فِي قَتِيلٍ وُجِدَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَانْقَادَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِذَلِكَ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ أُمَرَاءَ بَنِي أُمَيَّةَ كَانُوا يَقْضُونَ بِالْقَوَدِ فِي الْقَسَامَةِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ : الْقَوَدُ فِي الْقَسَامَةِ مِنْ أُمُورِ الْجَاهِلِيَّةِ أَوَّلُ مَنْ قَضَى بِهِ مُعَاوِيَةُ ؛ فَلِهَذَا بَالَغَ أَبُو قِلَابَةَ فِي إنْكَارِ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا فِي الْقَسَامَةِ يَعْنِي الْأَيْمَانَ مُكَرَّرَةً فِي الْقَسَامَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الدَّعَاوَى مَعْنَاهُ لَا تَنْقَطِعُ الْخُصُومَةُ بِالْيَمِينِ فِي الْقَسَامَةِ ، بَلْ يُقْضَى بِالدِّيَةِ بَعْدَهَا بِخِلَافِ سَائِرِ الدَّعَاوَى ، ثُمَّ إنَّمَا يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ؛ لِأَنَّ حَالَهُمْ هُنَا دُونَ حَالِ مَنْ بَاشَرَ الْقَتْلَ خَطَأً وَإِذَا كَانَتْ الدِّيَةُ هُنَاكَ عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَهَاهُنَا أَوْلَى .

، فَإِنْ لَمْ يَكْمُلْ الْعَدَدُ خَمْسُونَ رَجُلًا كُرِّرَتْ عَلَيْهِمْ الْأَيْمَانُ حَتَّى يُكْمِلُوا خَمْسِينَ يَمِينًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ الَّذِينَ جَاءُوا إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ وَدَاعَةَ كَانُوا تِسْعَةً وَأَرْبَعِينَ رَجُلًا مِنْهُمْ فَحَلَّفَهُمْ ، ثُمَّ اخْتَارَ مِنْهُمْ وَاحِدًا فَكَرَّرَ عَلَيْهِ الْيَمِينَ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ عَدَدَ الْيَمِينِ فِي الْقَسَامَةِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ الْإِخْلَالُ بِالْعَدَدِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَيَجُوزُ تَكْرَارُ الْيَمِينِ مِنْ وَاحِدٍ كَمَا فِي كَلِمَاتِ اللِّعَانِ وَلِأَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ أَنْ يَخْتَارُوا فِي الْقَسَامَةِ صَالِحِي الْعَشِيرَةِ مِنْ الَّذِينَ وُجِدَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ الْقَتِيلُ فَيُحَلِّفُونَهُمْ ؛ لِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَخِ الْقَتِيلِ اخْتَرْ مِنْهُمْ خَمْسِينَ رَجُلًا } فَدَلَّ أَنَّ الْخِيَارَ إلَيْهِ ، وَهُوَ حَقُّهُ يُسْتَوْفَى بِطَلَبِهِ وَإِلَيْهِ تَعْيِينُ مَنْ يَسْتَوْفِي مِنْهُ حَقَّهُ وَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ الشُّبَّانَ ، وَالْفَسَقَةَ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّ تُهْمَةَ الْقَتِيلِ عَلَيْهِمْ أَظْهَرُ وَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ الْمَشَايِخَ ، وَالصُّلَحَاءَ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَحَرَّزُونَ عَنْ الْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ أَكْثَرَ مِمَّا يَتَحَرَّزُ الْفَسَقَةُ ، فَإِذَا عَلِمُوا الْقَاتِلَ مِنْهُمْ أَظْهَرُوهُ وَلَمْ يَحْلِفُوا وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْقَسَامَةُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ، وَالدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ وَذُكِرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ أَنَّ عَلَى قَوْلِ زُفَرَ الْقَسَامَةُ ، وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ قِيَاسًا لِأَحَدِ الْمُوجِبَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا قَسَامَةَ عَلَى الْعَاقِلَةِ ؛ لِأَنَّ التَّحَمُّلَ يَجْرِي فِي الدِّيَةِ وَلَا يَجْرِي التَّحَمُّلُ فِي الْيَمِينِ .
وَلَوْ اخْتَارُوا فِي الْقَسَامَةِ أَعْمَى ، أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ كَانَ ذَلِكَ لَهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ أُسْوَةُ غَيْرِهِمْ فِي الْأَهْلِيَّةِ لِلْيَمِينِ ، وَالنُّكُولِ ، وَالْخِيَارُ فِيهِ إلَيْهِمْ دُونَ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا

الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ اللِّعَانِ فَإِنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ ، وَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ ، وَالْأَعْمَى لَيْسَ لَهُمَا شَهَادَةُ الْأَدَاءِ فَأَمَّا هَذِهِ فَيَمِينٌ مَحْضَةٌ قَالَ فِي الْأَصْلِ وَكُلُّ مَا يَلْزَمُ الْعَاقِلَةَ يَلْزَمُ أَهْلَ الدِّيوَانِ ، وَالْمُعَاقَلَةُ مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ وَلَا يَلْزَمُ النِّسَاءَ ، وَالذُّرِّيَّةَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ الرَّجُلِ فِي كُلِّ سَنَةٍ إلَّا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ ، أَوْ أَرْبَعَةٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا دَوَّنَ الدَّوَاوِينَ وَفَرَضَ الْأَعْطِيَاتِ جَعَلَ الْمَعَاقِلَ عَلَيْهِمْ فِي أَعْطِيَاتِهِمْ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ ، أَوْ أَرْبَعَةً وَهَذَا عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْعَاقِلَةُ هُمْ الْعَشِيرَةُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ الْجَنِينِ لِأَوْلِيَاءِ الضَّارِبَةِ قُومُوا فَدُوهُ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ مَا كَانَتْ الدَّوَاوِينُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإِنَّمَا كَانُوا يَتَنَاصَرُونَ بِالْقَرَابَةِ بَعْدَ الدِّينِ فَلَمَّا دَوَّنَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الدَّوَاوِينَ جَعَلَ التَّعَاقُلَ بِالدِّيوَانِ ؛ لِأَنَّهُ بِاعْتِبَارِ التَّنَاصُرِ ، وَالتَّنَاصُرُ بِالدِّيوَانِ دُونَ الْقَبِيلَةِ فَإِنَّ أَهْلَ الدِّيوَانِ ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبَائِلَ شَتَّى يَقُومُ بَعْضُهُمْ بِنُصْرَةِ بَعْضٍ وَرُبَمَا تَظْهَرُ الْعَدَاوَةُ مَعَ مَنْ هُوَ مِنْ قَبِيلَتِهِ مِنْ أَهْلِ دِيوَانٍ آخَرَ أَكْثَرَ مِمَّا تَظْهَرُ مَعَ غَيْرِهِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ فِي الْجَمَلِ وَصِفِّينَ كَانَ يَقُومُ أَهْلُ كُلِّ قَبِيلَةٍ مِنْ أَحَدِ الصَّفَّيْنِ بِمُقَاتَلَةِ تِلْكَ الْقَبِيلَةِ مِنْ الصَّفِّ الْآخَرِ ، ثُمَّ الْأَخْذُ مِنْ الْعَاقِلَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُؤَدِّي إلَى الْإِجْحَافِ بِهِمْ وَذَلِكَ فِي أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ الْقَدْرُ الَّذِي سُمِّيَ ، فَإِنْ لَمْ يَسَعْ دِيوَانُ أُولَئِكَ الْقَوْمِ ضَمَّ إلَيْهِمْ أَقْرَبَ الْقَبَائِلِ إلَيْهِمْ فِي

النَّسَبِ حَتَّى لَا يَقَعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَّا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ ، أَوْ أَرْبَعَةٌ وَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ النِّسَاءُ ، وَالذَّرَارِيُّ ؛ لِأَنَّهُمْ أَتْبَاعٌ لَا تَقُومُ النُّصْرَةُ بِهِمْ وَتَمَامُ بَيَانِ هَذَا الْكَلَامِ فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي كِتَابِ الْمَعَاقِلِ ، وَالْقَبَائِلِ .

وَاَلَّذِي حَلَفَ فِي الْقَسَامَةِ وَاَلَّذِي لَمْ يَقْبَلْ ، وَلَمْ يَشْهَدْ فِي ذَلِكَ كُلٌّ سَوَاءٌ الدِّيَةُ عَلَيْهِمْ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ ؛ لِأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ أَعْطِيَاتِهِمْ ، وَقَدْ اسْتَوَى فِي الْأَعْطِيَاتِ مَنْ شَهِدَ مِنْهُمْ ، وَمَنْ غَابَ ، وَكَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَنْ كَانَ غَائِبًا ، وَمَنْ كَانَ حَاضِرًا مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ فِي الْقَسَامَةِ سَوَاءٌ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : مَنْ عَلِمْتُ أَنَّهُ كَانَ غَائِبًا حِينَ وَقَعَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ لَا أُدْخِلُهُ فِي الْقَسَامَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ تُهْمَةِ الْقَتْلِ شَيْءٌ وَلَمْ يَكُنْ قَائِمًا فِي حِفْظِ الْمَحَلَّةِ ، وَالتَّدْبِيرِ فِيهَا حِين وَقَعَتْ هَذِهِ الْحَادِثَةُ وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ السَّبَبَ كَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لَا تُهْمَةُ الْقَتْلِ فَإِنَّ الْفُقَهَاءَ ، وَالْمَشَايِخَ وَصَالِحِي أَهْلِ الْمَحَلَّةِ يَحْلِفُونَ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِمْ مِنْ تُهْمَةِ الْقَتْلِ شَيْءٌ وَهَذَا السَّبَبُ لَا يَنْعَدِمُ بِكَوْنِهِ غَائِبًا عَنْ الْمَحَلَّةِ .

، وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ ، أَوْ سِكَّتَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا كَانَ أَقْرَبَ كَانَ عَلَيْهِمْ الْقَسَامَةُ ، وَالدِّيَةُ لِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ قَتِيلًا وُجِدَ بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَ أَنْ يُمْسَحَ بَيْنَهُمَا فَوُجِدَ إلَى إحْدَى الْقَرْيَتَيْنِ أَقْرَبُ بِشِبْرٍ فَقَضَى عَلَيْهِمْ بِالْقَسَامَةِ ، وَالدِّيَةِ } ، وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ بَيْنَ وَدَاعَةَ وَأَرْحَبَ أَمَرَ بِأَنْ يُقَاسَ بَيْنَ الْقَبِيلَتَيْنِ وَكَانَ إلَى وَدَاعَةَ أَقْرَبَ فَجَعَلَهَا عَلَيْهِمْ وَلِأَنَّ مَنْ يَقْرَبُ مِنْ مَوْضِعٍ ، فَهُوَ أَحَقُّ بِحِفْظِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، وَالتَّدْبِيرُ فِيهِ مِمَّنْ يَكُونُ أَبْعَدَ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، فَإِنْ نَكَلُوا عَنْ الْيَمِينِ حُبِسُوا حَتَّى يَحْلِفُوا ؛ لِأَنَّ الْأَيْمَانَ فِي الْقَسَامَةِ حَقٌّ مَقْصُودٌ لِتَعْظِيمِ أَمْرِ الدَّمِ ، وَمَنْ لَزِمَهُ حَقٌّ مَقْصُودٌ لَا تَجْرِي النِّيَابَةُ فِي إيفَائِهِ ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْهُ فَإِنَّهُ يُحْبَسُ لِيُوَفِّيَ كَمَا كَلِمَاتُ اللِّعَانِ .

وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي قَرْيَةٍ أَصْلُهَا لِقَوْمٍ شَتَّى فِيهِمْ الْمُسْلِمُ ، وَالْكَافِرُ ، فَالْقَسَامَةُ عَلَى أَهْلِ الْقَرْيَةِ الْمُسْلِمُ مِنْهُمْ ، وَالْكَافِرُ فِيهِ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَوْجَبَ الْقَسَامَةَ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ وَكَانُوا مِنْ الْيَهُودِ } ، ثُمَّ يَعْرِضُ عَلَيْهِمْ الدِّيَةَ فَمَا أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَى عَوَاقِلِهِمْ وَمَا أَصَابَ أَهْلَ الذِّمَّةِ ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ مَعَاقِلُ فَعَلَيْهِمْ وَإِلَّا فَفِي أَمْوَالِهِمْ كَمَا لَوْ بَاشَرُوا بِأَيْدِيهِمْ الْقَتْلَ خَطَأً .

، وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي قَبِيلَةٍ بِالْكُوفَةِ وَفِيهَا سُكَّانٌ وَفِيهَا مَنْ قَدْ اشْتَرَى مِنْ دُورِهِمْ فَالْقَسَامَةُ ، وَالدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ الْخُطَّةِ دُونَ السُّكَّانِ ، وَالْمُشْتَرِينَ وَهَذِهِ فُصُولٌ أَحَدُهَا أَنَّهُ مَا بَقِيَ فِي الْمَحَلَّةِ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْخُطَّةِ فَلَيْسَ عَلَى الْمُشْتَرِينَ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى الْمُشْتَرُونَ فِي ذَلِكَ كَأَصْحَابِ الْخُطَّةِ ؛ لِأَنَّهُمْ قَامُوا مَقَامَ الْبَائِعِ وَلِأَنَّهُمْ مُلَّاكٌ لِبَعْضِ الْمَحَلَّةِ كَأَصْحَابِ الْخُطَّةِ وَفِيمَا يَجِبُ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ سَبَبِ الْمِلْكِ كَاسْتِحْقَاقِ الشُّفْعَةِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي دَارِ رَجُلٍ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ الدَّارِ مُشْتَرِيًا ، أَوْ صَاحِبَ خُطَّةٍ فَكَذَلِكَ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي الْمَحَلَّةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا : صَاحِبُ الْخُطَّةِ أَخَصُّ بِتَدْبِيرِ الْمَحَلَّةِ مِنْ الْمُشْتَرِينَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمَحَلَّةَ تُنْسَبُ إلَى أَصْحَابِ الْخُطَّةِ دُونَ الْمُشْتَرِينَ ، وَأَنَّ الْمُشْتَرِينَ قَلَّ مَا يُزَاحِمُونَ أَهْلَ الْخُطَّةِ فِي التَّدْبِيرِ ، وَالْقِيَامِ بِحِفْظِ الْمَحَلَّةِ فَكَانَ صَاحِبُ الْخُطَّةِ أَخَصُّ بِحُكْمِ الْقَسَامَةِ ، وَالدِّيَةِ مِنْ الْمُشْتَرِينَ أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الدَّارِ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي دَارِهِ مَعَ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لَمَّا كَانَ هُوَ أَخَصَّ بِالتَّدْبِيرِ فِي دَارِهِ كَانَ مُوجِبُ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ الْمُشْتَرُونَ أَتْبَاعٌ لِأَصْحَابِ الْخُطَّةِ وَمَا بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الْأَصْلِ يَكُونُ الْحُكْمُ لَهُ دُونَ التَّبَعِ وَقِيلَ : إنَّمَا أَجَابَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا شَاهَدَ مِنْ عَادَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ فِي زَمَانِهِ أَنَّ أَصْحَابَ الْخُطَّةِ فِي كُلِّ مَحَلَّةٍ هُمْ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِتَدْبِيرِ الْمَحَلَّةِ وَلَا يُشَارِكُهُمْ الْمُشْتَرُونَ فِي ذَلِكَ فَأَمَّا إذَا لَمْ

يَبْقَ مِنْ أَصْحَابِ الْخُطَّةِ أَحَدٌ وَفِيهَا سُكَّانٌ وَمُشْتَرُونَ فَهِيَ عَلَيْهِمْ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَضَى بِهَا عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ ، وَقَدْ كَانُوا سُكَّانًا } .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجْلَاهُمْ مِنْهَا إلَى الشَّامِ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : أَنَّ التَّدْبِيرَ فِي أَهْلِ الْمَحَلَّةِ إلَى أَصْحَابِ الْمِلْكِ دُونَ السُّكَّانِ ؛ لِأَنَّ السُّكَّانَ يَتَنَقَّلُونَ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ مَحَلَّةٍ إلَى مَحَلَّةٍ دُونَ أَصْحَابِ الْمِلْكِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَا يَنْبَنِي مِنْ الْغُرْمِ شَرْعًا عَلَى الْقُرْبِ يَخْتَصُّ بِهِ أَصْحَابُ الْمِلْكِ دُونَ السُّكَّانِ ، وَهُوَ الشُّفْعَةُ فَكَذَلِكَ مَا يَكُونُ مِنْ الْغُرْمِ شَرْعًا وَلَا حُجَّةَ فِي حَدِيثِ خَيْبَرَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُلَّاكًا قَدْ أَقَرَّهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَكِنَّهُ اسْتَثْنَى بِقَوْلِهِ أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ ؛ فَلِهَذَا أَجْلَاهُمْ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَا وَظَّفَ عَلَيْهِمْ كَانَ بِطَرِيقِ الْخَرَاجِ إلَّا أَنْ يُقَالَ يَمْلِكُ عَلَيْهِمْ الْأَرَاضِيَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْمُزَارَعَةِ ، وَمِنْ فُرُوعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ : إذَا وُجِدَ قَتِيلٌ فِي السِّجْنِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ السِّجْنِ ؛ لِأَنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ السُّكَّانِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَهُمْ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِتَدْبِيرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مَا دَامُوا فِيهِ ، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا : أَهْلُ السِّجْنِ مَقْهُورُونَ فِي الْمَقَامِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَهُمْ قَلَّ مَا يَقُومُونَ بِحِفْظِهِ ، وَالتَّدْبِيرِ فِيهِ إلَّا بِقَدْرِ حَاجَتِهِمْ ، ثُمَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مُعَدٌّ لِمَنْفَعَةِ الْمُسْلِمِينَ ، فَدِيَةُ الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِيهِ تَكُونُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي بَيْتِ مَالِهِمْ .

وَلَوْ وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي دَارِ رَجُلٍ قَدْ اشْتَرَاهَا ، وَهُوَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْخُطَّةِ فَأَهْلُ الْخُطَّةِ بُرَآءُ مِنْ ذَلِكَ ، وَالْقَسَامَةُ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ وَعَلَى قَوْمِهِ الدِّيَةُ ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ فِي حِفْظِ الْمِلْكِ الْخَاصِّ إلَى الْمَالِكِ دُونَ أَصْحَابِ الْخُطَّةِ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ، وَالْقَتِيلُ الْمَوْجُودُ فِي مِلْكٍ خَاصٍّ يُجْعَلُ كَأَنَّ صَاحِبَ الْمِلْكِ هُوَ الْقَاتِلُ لَهُ فِي حُكْمِ الْقَسَامَةِ ، وَالدِّيَةِ ؛ فَلِهَذَا كَانَتْ الْقَسَامَةُ عَلَيْهِ ، وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَوُجِدَ فِيهَا قَتِيلٌ وَأَحَدُهُمَا أَكْثَرُ نَصِيبًا مِنْ الْآخَرِ ، فَالدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِهِمَا نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْقِيَامَ بِحِفْظِ الْمَكَانِ ، وَالتَّدْبِيرَ فِيهِ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْمِلْكِ لَا بِاعْتِبَارِ قَدْرِ الْمِلْكِ ، وَقَدْ اسْتَوَيَا فِي أَصْلِ الْمِلْكِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ فِي الْمَغْنَمِ الْمُسْتَحَقِّ بِسَبَبِ الْمِلْكِ يُعْتَبَرُ أَصْلُ الْمِلْكِ ، وَهُوَ الشُّفْعَةُ فَكَذَلِكَ فِي الْغُرْمِ .

، وَإِذَا وُجِدَ الرَّجُلُ قَتِيلًا فِي دَارِ نَفْسِهِ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وُجِدَ غَيْرُهُ قَتِيلًا فِي هَذِهِ الدَّارِ جُعِلَ هُوَ كَالْمُبَاشِرِ لِقَتْلِهِ فِي حُكْمِ الدِّيَةِ ، فَإِذَا وُجِدَ هُوَ قَتِيلًا فِيهَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُ بَاشَرَ قَتْلَ نَفْسِهِ ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ كَانَ دَمُهُ هَدَرًا ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا وُجِدَ قَتِيلًا فِي دَارٍ مِنْ كَسْبِهِ لَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ لِهَذَا الْمَعْنَى ، وَكَذَا لَوْ أَنَّ عَبْدَهُ وُجِدَ قَتِيلًا فِيهِ كَانَ مُوجِبُهُ عَلَيْهِ ، فَإِذَا وَجَدُوهُ فِيهَا قَتِيلًا لَا يَجِبُ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ فِي الْحُرِّ وَلَا يُنْظَرُ إلَى كَوْنِ الدَّارِ فِي الْحَالِ لِوَرَثَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ الْجِنَايَةِ وَعِنْدَ الْجِنَايَةِ كَانَتْ الدَّارُ مَمْلُوكَةً .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ هَاهُنَا وَلَوْ كَانَ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْحَالَ لَكَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ وَرَثَتِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يُتْرَكُ فِي الْإِسْلَامِ مُفْرَحٌ } أَيْ مُهْدَرُ الدَّمِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ وُجِدَ قَتِيلًا فِي مَوْضِعٍ لَوْ وُجِدَ غَيْرُهُ قَتِيلًا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِ وَعَلَى عَوَاقِلِهِ ، فَإِذَا وُجِدَ هُوَ قَتِيلًا فِيهِ كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَوَاقِلِهِ كَمَا لَوْ وُجِدَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ قَتِيلًا فِي الْمَحَلَّةِ تَجِبُ الدِّيَةُ ، وَالْقَسَامَةُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ بِهَذَا الْمَعْنَى ؛ وَلِهَذَا لَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وُجِدَ غَيْرُهُ فِيهِ قَتِيلًا لَكَانَتْ الْقَسَامَةُ عَلَيْهِ دُونَ عَاقِلَتِهِ ، فَإِذَا وُجِدَ هُوَ قَتِيلًا فِيهِ يَتَعَذَّرُ إيجَابُ الْقَسَامَةِ بِخِلَافِ الدِّيَةِ وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ السَّبَبَ وُجُودُ الْقَتِيلِ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا أُغَرِّمُكُمْ

الدِّيَةَ بِوُجُودِ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ .
وَحِينَ وُجِدَ هُوَ قَتِيلًا كَانَتْ الدَّارُ مَمْلُوكَةً لِوَرَثَتِهِ لَا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ فَتَكُونُ الدِّيَةُ عَلَيْهِمْ ، وَإِنَّمَا قَالَ : الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ ، وَهُوَ أَنَّ عَاقِلَةَ الْوَارِثِ ، وَالْمُوَرِّثِ تَتَّحِدُ ، فَإِنْ كَانَ فِي مَوْضِعٍ تَخْتَلِفُ الْعَاقِلَةُ فَيَنْبَغِي عَلَى قِيَاسِ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ أَنْ تَكُونَ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْوَرَثَةِ ، وَهُوَ الْأَصَحُّ وَعَلَى قِيَاسِ الطَّرِيقَةِ الْأُولَى عَلَى عَاقِلَةِ الْقَتِيلِ ، ثُمَّ إذَا وَجَدَ غَيْرَهُ قَتِيلًا فِي دَارِهِ إنَّمَا يَجْعَلُ الدِّيَةَ ، وَالْقَسَامَةَ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ غَيْرَهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ فِي مِلْكِهِ وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِيمَا إذَا وَجَدُوهُ قَتِيلًا فِيهَا ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَقْتُلُ نَفْسَهُ ؛ فَلِهَذَا يُجْعَلُ كَأَنَّ غَيْرَهُ قَتَلَهُ وَعِنْدَ الْقَتْلِ كَانَ التَّدْبِيرُ فِي حِفْظِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إلَيْهِ ، فَإِذَا فَرَّطَ فِي ذَلِكَ وَجَبَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِوَرَثَتِهِ .
فَإِنْ قِيلَ إذَا قُلْتُمْ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْوَرَثَةِ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ أَنْ تَعْقِلُوا عَنْهُمْ قُلْنَا ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ لِلْمَقْتُولِ حَتَّى أَنَّهُ يَقْضِي مِنْهَا دُيُونَهُ وَتُنَفَّذُ وَصَايَاهُ ، ثُمَّ يَخْلُفُهُ الْوَارِثُ ، وَهُوَ نَظِيرُ الصَّبِيِّ أَوْ الْمَعْتُوهِ إذَا قَتَلَ أَبَاهُ فَإِنَّهُ تَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَيَكُونُ مِيرَاثًا لَهُ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ يُوجَدُ قَتِيلًا فِي دَارِ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ إذَا وُجِدَ غَيْرُهُ قَتِيلًا إنَّمَا يُجْعَلُ هُوَ كَالْقَاتِلِ لَهُ بِاعْتِبَارِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ ، وَعَقْدُ الْكِتَابَةِ بَاقٍ بَعْدَمَا وُجِدَ فِيهِ قَتِيلًا ؛ فَلِهَذَا جُعِلَ كَأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ فَأَمَّا هَاهُنَا إذَا وَجَدَ غَيْرَهُ قَتِيلًا إنَّمَا يُجْعَلُ هُوَ كَالْقَاتِلِ لَهُ لِقِيَامِ مِلْكِهِ فِي الدَّارِ حِينَ وُجِدَ الْقَتِيلُ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيمَا إذَا وُجِدَ هُوَ قَتِيلًا

فِيهِ فَإِنَّ الْمِلْكَ مُنْتَقِلٌ إلَى وَرَثَتِهِ ؛ فَلِهَذَا افْتَرَقَا ، وَالْقَتِيلُ عِنْدَنَا كُلُّ مَيِّتٍ بِهِ أَثَرٌ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ - أَثَرٌ فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ وَلَا دِيَةَ إنَّمَا هَذَا مَيِّتٌ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْقَسَامَةِ ثَبَتَ شَرْعًا فِي الْمَقْتُولِ ، وَالْمَقْتُولُ إنَّمَا مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ بِالْأَثَرِ فَمَنْ لَا أَثَرَ بِهِ ، فَهُوَ مَيِّتٌ فَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى صِيَانَةِ دَمِهِ عَنْ الْهَدَرِ بِخِلَافِ مَنْ بِهِ أَثَرٌ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ وُجِدَ فِي الْمَعْرَكَةِ وَبِهِ أَثَرٌ يَكُونُ شَهِيدًا لَا يُغَسَّلُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ أَثَرٌ غُسِّلَ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الدَّمُ يَخْرُجُ مِنْ مَوْضِعٍ يَخْرُجُ الدَّمُ مِنْهُ عَادَةً مِنْ غَيْرِ جُرْحٍ فِي الْبَاطِنِ كَالْأَنْفِ فَلَا قَسَامَةَ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَخْرُجُ الدَّمُ مِنْهُ عَادَةً إلَّا بِجُرْحٍ فِي الْبَاطِنِ كَالْأُذُنِ ، فَهُوَ قَتْلٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الشَّهِيدِ .

، وَإِنْ ادَّعَى أَهْلُ الْقَتِيلِ عَلَى بَعْضِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ الَّذِينَ وُجِدَ الْقَتِيلُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ ، فَقَالُوا : قَتَلَهُ فُلَانٌ عَمْدًا ، أَوْ خَطَأً لَمْ يُبْطِلْ هَذَا حَقَّهُ ، وَفِيهِ الْقَسَامَةُ ، وَالدِّيَةُ ؛ لِأَنَّهُمْ ذَكَرُوا مَا كَانَ مَعْلُومًا لَنَا بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ ، وَهُوَ أَنَّ الْقَاتِلَ وَاحِدٌ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ، وَلَكِنَّا لَا نَعْلَمُ ذَلِكَ حَقِيقَةً ، وَكَذَلِكَ بِدَعْوَى الْأَوْلِيَاءِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا لَنَا حَقِيقَةً أَنَّهُ هُوَ الْقَاتِلُ ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَفِدْ بِهَذِهِ الدَّعْوَى شَيْئًا لَا يَتَغَيَّرُ بِهِ الْحُكْمُ فَتَبْقَى الْقَسَامَةُ ، وَالدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ كَمَا كَانَ وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ أَسْقَطَ الْقَسَامَةَ عَنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْمَوْلَى عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ يَكُونُ إبْرَاءً لِأَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَنْ الْقَسَامَةِ فِي قَتِيلٍ لَا يُعْرَفُ قَاتِلُهُ ، فَإِذَا زَعَمَ الْوَلِيُّ أَنَّهُ يَعْرِفُ الْقَاتِلَ مِنْهُمْ بِعَيْنِهِ صَارَ مُبَرِّئًا لَهُمْ عَنْ الْقَسَامَةِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ ، فَإِنْ أَقَامَ الْوَلِيُّ شَاهِدَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ ، فَقَدْ أَثْبَتَ عَلَيْهِ الْقَتْلَ بِالْحُجَّةِ فَيُقْضَى عَلَيْهِ بِمُوجِبِهِ .
وَإِنْ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ خُصَمَاءُ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ مَا بَقِيَتْ الْقَسَامَةُ ، وَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ فَكَانُوا مُتَّهَمِينَ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ وَكَانُوا بِمَعْنَى الشَّاهِدَيْنِ لِأَنْفُسِهِمْ ، وَإِذَا لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ اخْتَارَ الْوَلِيُّ الشَّاهِدَيْنِ مِنْ جُمْلَةِ مَنْ يَسْتَحْلِفُهُمْ يُحَلِّفُهُمَا بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَا ؛ لِأَنَّهُمَا زَعَمَا أَنَّهُمَا يَعْلَمَانِ الْقَاتِلَ فَلَا مَعْنَى لِاسْتِحْلَافِهِمَا عَلَى الْعِلْمِ ، وَإِنَّمَا يُسْتَحْلَفَانِ عَلَى الْبَتَاتِ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَا وَقَالَ مُحَمَّدٌ

رَحِمَهُ اللَّهُ يَحْلِفَانِ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْنَا وَلَا عَلِمْنَا لَهُ قَاتِلًا سِوَى فُلَانٍ ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِهَذَا الِاسْتِثْنَاءِ فَلَا يَجُوزُ إسْقَاطُ الْيَمِينِ عَلَى الْعِلْمِ فِي حَقِّهِمَا كَمَا لَا يَجُوزُ فِي حَقِّ غَيْرِهِمَا ، وَإِنْ ادَّعَى الْأَوْلِيَاءُ عَلَى غَيْرِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ ، فَقَدْ أَبْرَأَ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى لَا تُسْمَعَ دَعْوَاهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لِلتَّنَاقُضِ ، فَإِنْ أَقَامُوا شَاهِدَيْنِ بِذَلِكَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى الْقَاتِلِ بِذَلِكَ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا : أَنَّ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ حِينَ وُجِدَ الْقَتِيلُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ بِغَرَضِ أَنْ يَكُونُوا خُصَمَاءَ لَوْ ادَّعَى الْوَلِيُّ عَلَيْهِمْ ، فَإِذَا ادَّعَى عَلَى غَيْرِهِمْ ، فَقَدْ زَالَتْ هَذِهِ الْغَرَضِيَّةُ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا خُصَمَاءَ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ أَصْلًا فَوَجَبَ قَبُولُ شَهَادَتِهِمْ فِيهَا كَالشَّفِيعِ إذَا شَهِدَ بِالْبَيْعِ بَعْدَمَا سَلَّمَ الشُّفْعَةَ فَإِنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ، وَالْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ إذَا عُزِلَ قَبْلَ أَنْ يُخَاصِمَ ، ثُمَّ شَهِدَ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِهَذَا الْمَعْنَى وَلِأَنَّ الْبَرَاءَةَ قَدْ وَقَعَتْ لِأَهْلِ الْمَحَلَّةِ بِدَعْوَى الْوَلِيِّ عَلَى غَيْرِهِمْ عَلَى الْبَتَاتِ بِدَلِيلِ أَنَّهُمْ لَا يُطَالَبُونَ بِشَيْءٍ بِسَبَبِ هَذِهِ الْحَادِثَةِ بَعْدَ هَذَا الْحَالِ فَكَانُوا بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهِمْ فِي الشَّهَادَةِ فِيهَا وَلِأَنَّا إنَّمَا كُنَّا نُحَلِّفُهُمْ عَلَى الْعِلْمِ لِيُظْهِرُوا الْقَاتِلَ إنْ عَلِمُوا فَيَسْتَحِيلُ أَنْ يُظْهِرُوا ذَلِكَ حِسْبَةً بِالشَّهَادَةِ وَلَا يَكُونُ مَقْبُولًا مِنْهُمْ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يُظْهِرُونَهُ حِسْبَةً بِالشَّهَادَةِ ، بَلْ يُسْقِطُونَ بِهِ الْقَسَامَةَ ، وَالدِّيَةَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ فَكَانُوا

مُتَّهَمِينَ فِيهَا وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ أَهْلُ الْمَحَلَّةِ صَارُوا خُصَمَاءَ فِي حَادِثَةٍ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ فِيهَا ، وَإِنْ خَرَجَ مِنْ الْخُصُومَةِ كَالْوَكِيلِ إذَا خَاصَمَ فِي الْمَجْلِسِ يَعْنِي مَجْلِسَ الْحُكْمِ ، ثُمَّ عُزِلَ فَشَهِدَ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلدِّيَةِ ، وَالْقَسَامَةِ عَلَيْهِمْ وُجُودُ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا أُغَرِّمُكُمْ الدِّيَةَ لِوُجُودِ الْقَتِيلِ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ وَبِدَعْوَى الْوَلِيِّ عَلَى غَيْرِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذَا السَّبَبَ لَمْ يَكُنْ ، وَلَكِنْ خَرَجُوا مِنْ الْخُصُومَةِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا خُصَمَاءَ لِكَوْنِ الْوَلِيِّ مُنَاقِضًا فِي الدَّعْوَى عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُمْ قَصَدُوا بِالشَّهَادَةِ تَأْكِيدَ تِلْكَ الْبَرَاءَةِ ، وَأَنَّ الْوَلِيَّ قَصَدَ بِتِلْكَ الْبَرَاءَةِ تَصْحِيحَ - شَهَادَتِهِمْ لَهُ ، وَكَذَلِكَ تَتَمَكَّنُ تُهْمَةُ الْمُوَاضَعَةِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْوَلِيِّ فَتَوَاضُعُهُمْ عَلَى أَنْ يَدَّعِيَ عَلَى غَيْرِهِمْ ؛ لِيَشْهَدُوا لَهُ فَلِتَمَكُّنِ التُّهْمَةِ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ امْتَنَعَ قَبُولُ الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّهَا تُرَدُّ بِالتُّهْمَةِ ، وَإِنْ ادَّعَى أَهْلُ الْمَحَلَّةِ عَلَى رَجُلٍ مِنْ عِنْدِهِمْ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَتَلَهُ وَأَقَامُوا عَلَيْهِ بَيِّنَةً مِنْ غَيْرِهِمْ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ يُسْقِطُونَ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ الْخُصُومَةَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَمَنْ ادَّعَى نَفْيَ الْخُصُومَةِ عَنْ نَفْسِهِ وَأَثْبَتَهُ بِالْبَيِّنَةِ كَانَ مَقْبُولًا مِنْهُ كَمَا لَوْ أَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْعَيْنَ وَدِيعَةٌ فِي يَدِهِ لِفُلَانٍ ، ثُمَّ ادَّعَاهُ الْأَوْلِيَاءُ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ أَخَذُوهُ بِالدَّمِ ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ خُصَمَاءُ فِي إسْقَاطِ الْقَسَامَةِ ، وَالدِّيَةِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ لَا فِي إثْبَاتِ مُوجِبِ الْقَتْلِ عَلَى غَيْرِهِمْ ،

إنَّمَا الْخَصْمُ فِي ذَلِكَ الْوَلِيُّ ، فَلَا بُدَّ مِنْ دَعْوَاهُ ؛ لِيَقْضِيَ بِمُوجِبِ الْقَتْلِ عَلَى ذَلِكَ الرَّجُلِ .

وَإِذَا وُجِدَ بَدَنُ الْقَتِيلِ ، أَوْ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ الْبَدَنِ ، أَوْ نِصْفُ الْبَدَنِ وَمَعَهُ الرَّأْسُ فِي مَحَلَّةٍ فَعَلَى أَهْلِهَا الْقَسَامَةُ ، وَالدِّيَةُ ؛ لِأَنَّ هَذَا قَتِيلٌ وُجِدَ فِي مَحَلَّتِهِمْ وَلِلْأَكْثَرِ حُكْمُ الْكَمَالِ ، وَإِنْ وُجِدَ نِصْفُهُ مَشْقُوقًا بِالطُّولِ ، أَوْ وُجِدَ أَقَلُّ مِنْ النِّصْفِ وَمَعَهُ الرَّأْسُ ، أَوْ وُجِدَتْ رِجْلُهُ أَوْ يَدُهُ ، أَوْ رَأْسُهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْجُودَ لَيْسَ بِقَتِيلٍ إذْ الْأَقَلُّ لَا يُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ الْكُلِّ ، ثُمَّ هَذَا يُؤَدِّي إلَى تَكْرَارِ الْقَسَامَةِ ، وَالدِّيَةِ فِي قَتِيلٍ وَاحِدٍ فَإِنَّا لَوْ أَوْجَبْنَا بِوُجُودِ النِّصْفِ فِي هَذِهِ الْمَحَلَّةِ الْقَسَامَةَ ، وَالدِّيَةَ عَلَى أَهْلِهَا لَمْ نَجِدْ بُدًّا مِنْ أَنْ نُوجِبَ إذَا وَجَدْنَا النِّصْفَ الْآخَرَ فِي مَحَلَّةٍ أُخْرَى الْقَسَامَةَ ، وَالدِّيَةَ عَلَى أَهْلِهَا .
وَتَكْرَارُ الْقَسَامَةِ ، وَالدِّيَةِ فِي قَتِيلٍ وَاحِدٍ غَيْرُ مَشْرُوعٍ وَهَذَا نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ .

وَإِذَا وُجِدَ الْعَبْدُ ، أَوْ الْمُكَاتَبُ ، أَوْ الْمُدَبَّرُ ، أَوْ أُمُّ الْوَلَدِ قَتِيلًا فِي مَحَلَّةٍ وَجَبَتْ الْقَسَامَةُ ، وَالْقِيمَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ فِي الْمَمَالِيكِ بِمَنْزِلَةِ الدِّيَةِ فِي الْأَحْرَارِ وَلِنَفْسِ الْمَمْلُوكِ مِنْ الْحُرْمَةِ وَوُجُوبِ الصِّيَانَةِ عَنْ الْهَدَرِ مَا لِنَفْسِ الْحُرِّ بِدَلِيلِ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ .
وَأَمَّا الدَّوَابُّ ، وَالْبَهَائِمُ ، وَالْعُرُوضُ فَلَا قَسَامَةَ فِيهَا وَلَا قِيمَةَ ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُبْتَذَلٌ لَيْسَ لَهُ مِنْ الْحُرْمَةِ مَا لِلنَّفْسِ وَلَا تَجِبُ صِيَانَتُهُ عَنْ الْإِهْدَارِ لَا مَحَالَةَ ، وَفِي الْحُكْمِ الثَّابِتِ شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ إنَّمَا يُلْحَقُ بِالْمَنْصُوصِ مَا يَكُونُ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَأَمَّا مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَلَا يُلْحَقُ بِهِ ، وَإِنْ وُجِدَ فِيهِمْ جَنِينٌ ، أَوْ سَقْطٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْجُزْءِ مِنْ وَجْهٍ كَالْيَدِ ، وَالرِّجْلِ ، وَإِنْ كَانَ تَامًّا وَبِهِ أَثَرٌ ، فَهُوَ قَتِيلٌ وَفِيهِ الْقَسَامَةُ ، وَالدِّيَةُ ؛ لِأَنَّ لِنَفْسِ الصَّغِيرِ مِنْ الْحُرْمَةِ مَا لِنَفْسِ الْكَبِيرِ فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ .

وَلَوْ وُجِدَ الْحُرُّ قَتِيلًا فِي دَارِ أَبِيهِ ، أَوْ أُمِّهِ ، أَوْ الْمَرْأَةُ فِي دَارِ زَوْجِهَا فَفِيهِ الْقَسَامَةُ ، وَالدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ ، وَلَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثَ لِأَنَّ حِرْمَانَ الْمِيرَاثِ جَزَاءَ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ بِصِفَةِ الْخَطَرِ ، وَذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ عَلَى صَاحِبِ الدَّارِ لِوُجُودِ الْقَتِيلِ فِي دَارِهِ ، وَإِنَّمَا جُعِلَ وُجُودُ الْقَتِيلِ فِي دَارِهِ بِمَنْزِلَةِ مُبَاشَرَتِهِ فِي حُكْمِ الْقَسَامَةِ ، وَالدِّيَةِ خَاصَّةً لِلصِّيَانَةِ عَنْ الْهَدَرِ ، فَهُوَ نَظِيرُ التَّسَبُّبِ الَّذِي قَامَ مَقَامَ الْمُبَاشَرَةِ فِي حُكْمِ الدِّيَةِ خَاصَّةً دُونَ حِرْمَانِ الْمِيرَاثِ ، وَإِنْ وُجِدَ الْعَبْدُ قَتِيلًا فِي دَارِ مَوْلَاهُ فَلَا شَيْءَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ مَالُهُ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاشَرَ قَتْلَهُ بِيَدِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَى الْمَوْلَى قِيمَتُهُ حَالَّةً فِي مَالِهِ لِغُرَمَائِهِ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ بِيَدِهِ ؛ لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ حَقُّ الْغُرَمَاءِ ، وَإِذَا وُجِدَ الْمُكَاتَبُ قَتِيلًا فِي دَارِ مَوْلَاهُ ، فَالْقِيمَةُ عَلَى مَوْلَاهُ فِي مَالِهِ كَمَا لَوْ بَاشَرَ قَتْلَهُ بِيَدِهِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ مَمْلُوكٌ لَهُ ، فَبَدَلُهُ مِنْ وَجْهٍ مَمْلُوكٌ لَهُ ، وَالْعَاقِلَةُ لَا تَتَحَمَّلُ عَنْهُ لَهُ فَيَكُونُ فِي مَالِهِ ، وَلَكِنْ تَجِبُ الْقِيمَةُ بِالْقَتْلِ فَيَكُونُ مُؤَجَّلًا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ، ثُمَّ يَسْتَوْفِي مِنْهُ مَا بَقِيَ مِنْ مُكَاتَبِهِ وَيُحْكَمُ بِحُرِّيَّتِهِ وَمَا بَقِيَ يَكُون مِيرَاثًا .

وَإِذَا وُجِدَ الرَّجُلُ قَتِيلًا عَلَى دَابَّةٍ يَسُوقُهَا رَجُلٌ ، أَوْ يَقُودُهَا أَوْ هُوَ رَاكِبُهَا ، فَهُوَ عَلَى الَّذِي مَعَهُ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِتَدْبِيرِ هَذِهِ الدَّابَّةِ وَبِالْيَدِ عَلَيْهَا .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهَا لَوْ وَطِئَتْ إنْسَانًا كَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَ عَلَيْهَا قَتِيلًا ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ الدَّابَّةِ أَحَدٌ ، فَهُوَ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ الَّذِينَ وُجِدَ فِيهِمْ الْقَتِيلُ عَلَى الدَّابَّةِ ؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ عَلَى الدَّابَّةِ كَوُجُودِهِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ الدَّابَّةُ مَوْقُوفَةً فَإِنَّهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِتَدْبِيرِ تِلْكَ الْبُقْعَةِ وَتَدْبِيرِ مَا فِيهَا مِمَّا لَا يُعْرَفُ فِي غَيْرِهِمْ ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يَحْمِلُ قَتِيلًا ، فَهُوَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ يَدَهُ عَلَى نَفْسِهِ أَقْوَى مِنْ يَدِهِ عَلَى دَارِهِ ، وَإِذَا وُجِدَ فِي دَارِهِ قَتِيلًا كَانَتْ الْقَسَامَةُ ، وَالدِّيَةُ عَلَيْهِ ، فَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ عَلَى ظَهْرِهِ ، أَوْ عَلَى رَأْسِهِ أَوْلَى ، وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي سَفِينَةٍ ، فَالْقَسَامَةُ عَلَى مَنْ فِي السَّفِينَةِ مِنْ الرُّكَّابِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِهَا مِنْ الَّذِينَ هُمْ فِيهَا ، وَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلَا يُشْكِلُ ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ السُّكَّانَ ، وَالْمُلَّاكَ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي الْمَحَلَّةِ سَوَاءً فَكَذَلِكَ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي السَّفِينَةِ وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَفِي الْمَحَلَّةِ السُّكَّانُ لَا يُشَارِكُونَ الْمُلَّاكَ ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ فِي الْمَحَلَّةِ إلَى الْمُلَّاكِ دُونَ السُّكَّانِ وَفِي السَّفِينَةِ الظَّاهِرُ أَنَّهُمْ فِي تَدْبِيرِهَا سَوَاءٌ إذَا حَزَبَهُمْ أَمْرٌ .
يُوَضِّحُهُ : أَنَّ السَّفِينَةَ تَنْقُلُ فَيَكُونُ الْمُعْتَبَرُ فِيهَا الْيَدَ دُونَ الْمِلْكِ فَإِنَّهَا مَرْكَبٌ كَالدَّابَّةِ فَكَمَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ عَلَى الدَّابَّةِ هُوَ الْيَدُ دُونَ الْمِلْكِ فَكَذَلِكَ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي السَّفِينَةِ وَهُمْ فِي الْيَدِ عَلَيْهَا سَوَاءٌ .

وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي نَهْرٍ عَظِيمٍ يَجْرِي الْمَاءُ بِهِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا النَّهْرِ لَا يَدَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ فَقَهْرُ الْمَاءِ يَمْنَعُ قَهْرَ غَيْرِهِ عَلَيْهِ ، فَهُوَ كَالْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي الْمَغَارَةِ فِي مَوْضِعٍ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَهْرًا صَغِيرًا لِقَوْمٍ مَعْرُوفِينَ ، فَهُوَ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُ مَنْسُوبٌ إلَيْهِمْ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ التَّدْبِيرَ فِي كَرْيِهِ وَإِجْرَاءِ الْمَاءِ فِيهِ إلَيْهِمْ وَهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِالِانْتِفَاعِ بِمَائِهِ سَقْيًا لِأَرَاضِيِهِمْ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَحَلَّةِ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّهْرِ الْعَظِيمِ ، وَالصَّغِيرِ مَا بَيَّنَّا فِي الشُّفْعَةِ ، فَهُوَ نَهْرٌ عَظِيمٌ مِثْلُ الْفُرَاتِ وَجَيْحُونَ ، فَإِنْ كَانَ إلَى جَانِبِ الشَّاطِئِ مَحْبِسًا ، فَهُوَ عَلَى أَقْرَبِ الْقُرَى إلَيْهِ ، وَالْأَرَضِينَ ، فَعَلَيْهِمْ الْقَسَامَةُ ، وَالدِّيَةُ ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ إلَى جَانِبِ الشَّاطِئِ كَالْمُلْقَى عَلَى الشَّاطِئِ وَاَلَّذِينَ هُمْ بِقُرْبِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَخَصُّ بِالتَّدْبِيرِ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْقُونَ الْمَاءَ مِنْهُ وَيَسُوقُونَ دَوَابَّهُمْ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِلسَّقْيِ ، وَإِذَا كَانُوا بِالْقُرْبِ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِحَيْثُ يَسْمَعُونَ صَوْتَ مَنْ وَقَفَ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، فَإِنْ كَانُوا لَا يَسْمَعُونَ ذَلِكَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ فِيهِ هَكَذَا فَسَّرَهُ الْكَرْخِيُّ .

وَإِنْ وُجِدَ قَتِيلًا فِي فَلَاةٍ فَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ قَالَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ قَرِيبًا مِنْ الْعُمْرَانِ ، فَإِنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْ الْعُمْرَانِ بِحَيْثُ يَبْلُغُ أَعْلَى صَوْتِهِ أَهْلَ الْعُمْرَانِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، فَهُوَ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَنْتَهِي إلَيْهِ صَوْتُهُ مِنْ الْعُمْرَانِ وَهُمْ أَحَقُّ بِالتَّدْبِيرِ فِيهِ لِرَعْيِ مَوَاشِيهِمْ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَبْنِيَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ فَأَمَّا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ ، فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَوَاتِ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِيهِ فَلَا يَجِبُ فِيهِ شَيْءٌ ، وَإِنْ وُجِدَ فِي سُوقِ الْمُسْلِمِينَ ، أَوْ مَسْجِدِ جَمَاعَتِهِمْ ، فَهُوَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ ، وَالْمُرَادُ سُوقُ الْعَامَّةِ ، وَالْمَسْجِدُ الْجَامِعُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَهُمْ فِي التَّدْبِيرِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، وَالْقِيَامِ بِحِفْظِهِ سَوَاءٌ وَمَا يَجِبُ عَلَى جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ يُؤَدَّى مِنْ بَيْتِ مَالِهِمْ ؛ لِأَنَّ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ مُعَدٌّ لِذَلِكَ ، وَلَيْسَ فِيهِ قَسَامَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْقَسَامَةِ نَفْيُ تُهْمَةِ الْقَتْلِ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي سُوقٍ خَاصٍّ لِأَهْلِ صَنْعَةٍ يُنْسَبُ ذَلِكَ السُّوقُ إلَيْهِمْ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَحَلَّةِ الْمَنْسُوبَةِ إلَى قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي مَسْجِدِ مَحَلَّةٍ ، فَهُوَ عَلَى أَهْلِ تِلْكَ الْمَحَلَّةِ ؛ لِأَنَّهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِالتَّدْبِيرِ فِيهَا مِنْ حَيْثُ فَتْحُ الْبَابِ وَإِغْلَاقُهُ وَنَصْبُ الْمُؤَذِّنِ .
وَالْإِمَامُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْجُودِ فِي مَحَلَّتِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ فِي دَارِ رَجُلٍ خَاصٍّ يَمْلِكُهَا فِي السُّوقِ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الْقَسَامَةُ ، وَالدِّيَةُ ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِتَدْبِيرِ مِلْكِهِ وَبِالْأَمْرِ بِحِفْظِ مِلْكِهِ لِكَيْ لَا يَقَعَ فِيهِ مِثْلُ هَذِهِ الْحَادِثَةِ وَفِي هَذَا الْمَعْنَى لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مِلْكُهُ فِي السُّوقِ أَوْ فِي الْمَحَلَّةِ

.

، وَإِذَا جُرِحَ الرَّجُلُ فِي مَحَلَّةٍ ، أَوْ أَصَابَهُ حَجَرٌ لَا يَدْرِي مَنْ رَمَاهُ فَلَمْ يَزَلْ صَاحِبَ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ فَعَلَى أَهْلِ تِلْكَ الْقَبِيلَةِ الْقَسَامَةُ ، وَالدِّيَةُ ، فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا يَجِيءُ وَيَذْهَبُ فَلَا شَيْءَ فِيهِ وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ فِي الْوَجْهَيْنِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ ؛ لِأَنَّ الْقَسَامَةَ ، وَالدِّيَةَ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي الْمَحَلَّةِ ، وَالْجَرِيحُ غَيْرُ الْقَتِيلِ ، وَلَوْ جُعِلَ مَوْتُهُ مُحَالًا عَلَى تِلْكَ الْجِرَاحَةِ لَمَا افْتَرَقَ الْحَالُ بَيْنَ مَا إذَا كَانَ صَاحِبَ فِرَاشٍ ، أَوْ كَانَ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ بَعْدَ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ كَمَا لَوْ كَانَ الْجَارِحُ مَعْلُومًا .
وَجْهُ قَوْلِنَا : أَنَّهُ إذَا كَانَ صَاحِبَ فِرَاشٍ ، فَهُوَ مَرِيضٌ ، وَالْمَرَضُ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْمَوْتُ يُجْعَلُ كَالْمَيِّتِ مِنْ أَوَّلِ سَبَبِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ فِي حُكْمِ التَّصَرُّفَاتِ جُعِلَتْ هَذِهِ الْحَالُ كَالْحَالِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْقَسَامَةِ ، وَالدِّيَةِ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ مَاتَ حِينَ جُرِحَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَأَمَّا إذَا كَانَ صَحِيحًا يَذْهَبُ وَيَجِيءُ ، فَهُوَ فِي حُكْمِ التَّصَرُّفَاتِ لَمْ يُجْعَلْ كَالْمَيِّتِ مِنْ حِينِ جُرِحَ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْقَسَامَةِ ، وَالدِّيَةِ وَعَلَى هَذَا الْجَرِيحِ إذَا وُجِدَ عَلَى ظَهْرِ إنْسَانِ يَحْمِلُهُ إلَى بَيْتِهِ فَمَاتَ بَعْدَ يَوْمٍ ، أَوْ يَوْمَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ صَاحِبَ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ فَهُوَ عَلَى الَّذِي كَانَ يَحْمِلُهُ كَمَا لَوْ مَاتَ عَلَى ظَهْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ يَذْهَبُ وَيَجِيءُ فَلَا شَيْءَ عَلَى مَنْ حَمَلَهُ وَفِي قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَا شَيْءَ فِي الْوَجْهَيْنِ .

وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي الْعَسْكَرِ ، وَالْعَسْكَرُ فِي أَرْضِ فَلَاةٍ ، فَهُوَ عَلَى الْقَبِيلَةِ الَّتِي وُجِدَ فِي رِحَالِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ سُكَّانٌ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مَادَامُوا نَازِلِينَ وَأَهْلُ كُلِّ قَبِيلَةٍ يَنْزِلُونَ فِي مَوْضِعٍ لَا يُنَازِعُهُمْ غَيْرُهُمْ فِي تَدْبِيرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَكَانُوا كَأَهْلِ الْمَحَلَّةِ ، وَالْمَوْضِعُ الَّذِي لَا مِلْكَ لِأَحَدٍ فِيهِ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْيَدُ وَأَهْلُ الْقَبِيلَةِ الَّذِينَ وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي رِحَالِهِمْ هُمْ الْمُخْتَصُّونَ بِالْيَدِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، فَإِنْ كَانَ الْعَسْكَرُ فِي مِلْكِ رَجُلٍ فَعَلَى عَاقِلَةِ صَاحِبِ الْأَرْضِ الْقَسَامَةُ ، وَالدِّيَةُ ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالتَّدْبِيرِ فِي مِلْكِهِ وَوِلَايَةُ حِفْظِ مِلْكِهِ إلَيْهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنْ لَا مُعْتَبَرَ بِالسُّكَّانِ مَعَ الْمُلَّاكِ وَقِيلَ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى النَّازِلِينَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ السُّكَّانُ كَالْمُلَّاكِ ، وَإِنْ كَانَ الْعَسْكَرُ بِفَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ فَوُجِدَ الْقَتِيلُ فِي فُسْطَاطِ رَجُلٍ فَعَلَيْهِ الْقَسَامَةُ وَتَكُونُ عَلَيْهِ الْأَيْمَانُ وَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ ؛ لِأَنَّهُ مُخْتَصٌّ بِحِفْظِ الْفُسْطَاطِ ، وَالتَّدْبِيرِ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الدَّارِ فِي دَارِهِ .
وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي الْمَحَلَّةِ إذَا كَانَ فِيهَا خَمْسُونَ رَجُلًا ، أَوْ أَكْثَرُ وَأَرَادَ أَنْ يُعَيِّنَ وَاحِدًا مِنْهُمْ ؛ لِيَكُونَ عَلَيْهِ الْيَمِينُ خَمْسِينَ مَرَّةً هَلْ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ تَكْرَارَ الْيَمِينِ عَلَى وَاحِدٍ لَيْسَ فِيهِ فَائِدَةٌ ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ هَاهُنَا ، وَإِنَّمَا الضَّرُورَةُ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي دَارِ رَجُلٍ أَوْ فُسْطَاطِهِ ، وَإِنْ وُجِدَ الْقَتِيلُ بَيْنَ قَبِيلَتَيْنِ مِنْ الْعَسْكَرِ فَعَلَيْهِمَا جَمِيعًا الْقَسَامَةُ ، وَالدِّيَةُ إذَا كَانَ الْقَتِيلُ إلَيْهِمَا سَوَاءً ،

بِمَنْزِلَةِ الْمَوْجُودِ بَيْنَ الْمَحَلَّتَيْنِ إذَا كَانَ إلَيْهِمَا سَوَاءً ، وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْعَسْكَرِ قَدْ لَقُوا عَدُوَّهُمْ فَلَا قَسَامَةَ فِي الْقَتِيلِ وَلَا دِيَةَ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ قَتِيلُ الْأَعْدَاءِ عِنْدَمَا الْتَقَى الصَّفَّانِ لِلْقِتَالِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْسَانَ بَعْدَ اللِّقَاءِ إنَّمَا يَقْتُلُ مَنْ يُعَادِيهِ لَا مَنْ يُؤَازِرُهُ ، وَإِنَّمَا كُنَّا نُوجِبُ الْقَسَامَةَ ، وَالدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ بِاعْتِبَارِ نَوْعٍ مِنْ الظَّاهِرِ وَقَدْ انْعَدَمَ هَاهُنَا ، فَإِنْ كَانَ الْعَسْكَرُ مُخْتَلِطًا فَوُجِدَ فِي طَائِفَةٍ مِنْهُمْ قَتِيلٌ ، فَهُوَ عَلَى أَقْرَبِ أَهْلِ الْأَخْبِيَةِ إلَيْهِ عَلَى مَنْ فِي الْخِبَاءِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ تَدْبِيرَ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إلَيْهِمْ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقُرْبَ مُعْتَبَرٌ فِي حُكْمِ الْقَسَامَةِ ، وَالدِّيَةِ .

وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي قَبِيلَةٍ فَإِنَّهُ لَا يُقْبَلُ فِي الْقَسَامَةِ النِّسَاءُ ، وَالصِّبْيَانُ ، وَالْمَمَالِيكُ مِنْ الْمُكَاتَبِينَ وَغَيْرِهِمْ .
وَمُعْتَقُ الْبَعْضِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَالْمُكَاتَبِ ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ أَتْبَاعٌ فِي السُّكْنَى ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَا يُزَاحِمُونَ أَهْلَ الْقَبِيلَةِ فِي التَّدْبِيرِ فِي قَتِيلِهِمْ وَلِأَنَّهُمْ لَا يَقُومُونَ بِحِفْظِهَا دُونَ الرِّجَالِ الْبَالِغِينَ ، ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ فِي الْقَسَامَةِ ، وَالدِّيَةِ النُّصْرَةُ ، وَالنُّصْرَةُ لَا تَقُومُ بِالنِّسَاءِ ، وَالصِّبْيَانِ .

وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي دَارِ امْرَأَةٍ فِي مِصْرٍ لَيْسَ فِيهِ مِنْ عَشِيرَتِهَا أَحَدٌ فَإِنَّ الْأَيْمَانَ تَتَكَرَّرُ عَلَى الْمَرْأَةِ حَتَّى تَحْلِفَ خَمْسِينَ يَمِينًا ، ثُمَّ تُفْرَضُ الدِّيَةُ عَلَى أَقْرَبِ الْقَبَائِلِ مِنْهَا وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ الْأَوَّلُ ، ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ وَقَالَ يُضَمُّ إلَيْهَا أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ مِنْهَا فَيُقْسِمُونَ وَيَعْقِلُونَ .
وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ : أَنَّ الْمَرْأَةَ فِي حُكْمِ الْقَسَامَةِ كَالصَّبِيِّ بِدَلِيلِ أَنَّ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي الْمَحَلَّةِ لَا يَدْخُلُ النِّسَاءُ ، وَالصِّبْيَانُ ، ثُمَّ إذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي دَارِ الصَّبِيِّ ، فَالْقَسَامَةُ ، وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ فَكَذَلِكَ فِي دَارِ الْمَرْأَةِ ، وَعَاقِلَتُهَا هُمْ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ إلَيْهَا ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ النُّصْرَةِ ، وَالدِّيوَانِ وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ : أَنَّ وُجُوبَ الْقَسَامَةِ فِي الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي الْمِلْكِ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ ، وَالْمَرْأَةُ فِي الْمِلْكِ كَالرَّجُلِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّهَا تَخْتَصُّ بِالتَّدْبِيرِ فِي مِلْكِهَا ، وَأَنَّ الْوِلَايَةَ فِي حِفْظِ مِلْكِهَا إلَيْهَا فَكَانَتْ كَالرَّجُلِ فِي حُكْمِ الْقَسَامَةِ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَدْبِيرَ لَهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ وَلَا يَقُومُ بِحِفْظِ مِلْكِهِ بِنَفْسِهِ ، ثُمَّ لِلْمَرْأَةِ قَوْلٌ مُلْزِمٌ فِي الْجِنَايَةِ كَالرَّجُلِ حَتَّى يَصِحَّ مِنْهَا الْإِقْرَارُ بِالْقَتْلِ ، وَلَيْسَ لِلصَّبِيِّ قَوْلٌ مُلْزِمٌ فِي الْجِنَايَةِ ، وَالْقَسَامَةُ فِي مَعْنَى قَوْلٍ مُلْزِمٍ فَيَثْبُتُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ دُونَ الصَّبِيِّ بِخِلَافِ الْقَتِيلِ الْمَوْجُودِ فِي الْمَحَلَّةِ ، فَالْمَرْأَةُ فِي الْمَحَلَّةِ مِثْلُ الصَّبِيِّ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا لَا تَقُومُ بِحِفْظِ الْمَحَلَّةِ ، وَالدَّفْعِ عَنْهَا ، وَالتَّدْبِيرِ فِيهَا .
ثُمَّ ظَاهِرِ مَا يَقُولُ فِي الْكِتَابِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ ، وَإِنَّمَا الدِّيَةُ عَلَى أَقْرَبِ الْقَبَائِلِ مِنْهَا ، وَهُوَ اخْتِيَارُ

الطَّحَاوِيِّ فِي مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ أَيْضًا فَإِنَّهُ يَقُولُ إذَا كَانَ الْقَاتِلُ مِنْ جُمْلَةِ الْعَاقِلَةِ فَعَلَيْهِ جُزْءٌ مِنْ الدِّيَةِ ، فَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ غَيْرَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ الدِّيَةِ ، وَالْمَرْأَةُ تَدْخُلُ فِي جُمْلَةِ الْعَاقِلَةِ إذَا كَانَ الْقَاتِلُ غَيْرَهَا ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ هِيَ لَا تَدْخُلُ فِي جُمْلَةِ الْعَاقِلَةِ ؛ لِأَنَّ النُّصْرَةَ لَا تَقُومُ بِهَا فَأَمَّا إذَا كَانَتْ هِيَ الْمُبَاشِرَةُ لِلْقَتْلِ فَعَلَيْهَا جُزْءٌ مِنْ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ أَحَقُّ مِنْ الْعَوَاقِلِ بِاعْتِبَارِ مُبَاشَرَتِهِ فَإِنَّهُ لَمَّا وَجَبَ عَلَى غَيْرِ الْمُبَاشِرِ فَعَلَى الْمُبَاشِرِ أَوْلَى أَنْ يَجِبَ جُزْءٌ مِنْهَا فَكَذَلِكَ هَاهُنَا وُجُوبُ جُزْءٍ عَلَى الْمَالِكِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ التَّدْبِيرَ فِي مِلْكِهِ إلَيْهِ وَفِي هَذَا : الرَّجُلُ ، وَالْمَرْأَةُ سَوَاءٌ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْقَرْيَةُ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَإِنَّهُ تُكَرَّرُ عَلَيْهِ الْأَيْمَانُ وَعَلَيْهِ الدِّيَةُ ؛ لِأَنَّهُ فِي تَدْبِيرِ مِلْكِهِ كَالْمُسْلِمِ وَلَوْ كَانَ الذِّمِّيُّ نَازِلًا فِي قَبِيلَةٍ مِنْ الْقَبَائِلِ فَوَجَدَ فِيهَا قَتِيلًا لَمْ يَدْخُلْ الذِّمِّيُّ فِي الْقَسَامَةِ وَلَا فِي الْغَرَامَةِ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَا يُزَاحِمُونَ الْمُسْلِمِينَ فِي التَّدْبِيرِ فِي الْقَبِيلَةِ ، وَالْمَحَلَّةِ ، وَلَكِنَّهُمْ أَتْبَاعٌ بِمَنْزِلَةِ السُّكَّانِ مَعَ الْمُلَّاكِ ، أَوْ بِمَنْزِلَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ .

وَإِذَا كَانَتْ مَدِينَةً لَيْسَ فِيهَا قَبَائِلُ مَعْرُوفَةٌ وُجِدَ فِي بَعْضِهَا قَتِيلٌ فَعَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ الَّذِينَ وُجِدَ الْقَتِيلُ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ الْقَسَامَةُ ، وَالدِّيَةُ ؛ لِأَنَّهُمْ مُخْتَصُّونَ بِتَدْبِيرِ الْمَحَلَّةِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَنَاصُرَهُمْ بِالْمُجَاوَرَةِ هَاهُنَا لَمَّا لَمْ تَجْمَعُهُمْ قَبِيلَةٌ مَعْرُوفَةٌ وَلَا دِيوَانٌ ، وَالْمُعْتَبَرُ هُوَ مَعْنَى النُّصْرَةِ ؛ فَلِهَذَا أَلْزَمْنَاهُمْ الدِّيَةَ ، وَالْقَسَامَةَ ، وَإِذَا أَبَى الَّذِينَ وُجِدَ فِيهِمْ الْقَتِيلُ أَنْ يَقْسِمُوا حُبِسُوا حَتَّى يُقْسِمُوا ؛ لِأَنَّ الْقَسَامَةَ عَلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ تُهْمَةِ الْقَتِيلِ ، وَقَدْ ازْدَادَتْ بِنُكُولِهِمْ ، وَالْأَيْمَانُ مَقْصُودَةٌ هَاهُنَا فَيُحْبَسُونَ لِإِيفَائِهَا .

وَإِذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي دَارِ عَبْدٍ مَأْذُونٍ لَهُ فِي التِّجَارَةِ ، فَالْقَسَامَةُ ، وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَوْلَى أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ ، فَالدَّارُ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَوْلَى ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، فَالْعَبْدُ إنَّمَا يَقُومُ بِالتَّدْبِيرِ فِي هَذِهِ الدَّارِ بِاسْتِدَامَةِ الْمَوْلَى الْإِذْنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ ، وَالْمَوْلَى أَخَصُّ بِهَذِهِ الدَّارِ مِنْ الْغُرَمَاءِ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ دَيْنَهُمْ مِنْ مَوَاضِعَ أُخَرَ وَيَسْتَخْلِصَ الدَّارَ مِنْهُمْ لِنَفْسِهِ وَهَذَا مُسْتَحْسَنٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمَأْذُونِ وَلَوْ وُجِدَ فِي دَارِ الْمُكَاتَبِ فَعَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ ، وَمِنْ دِيَةِ الْقَتِيلِ ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاشَرَ الْقَتْلَ بِيَدِهِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ فِي حُكْمِ الْجِنَايَةِ كَالْحُرِّ مِنْ حَيْثُ إنَّ لَهُ فِيهِ قَوْلًا مُلْزِمًا بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ قَوْلٌ مُلْزِمٌ فِي الْجِنَايَةِ حَتَّى لَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْجِنَايَةِ خَطَأً لَمْ يُعْتَبَرْ إقْرَارُهُ وَلِلْمَوْلَى عَلَيْهِ قَوْلٌ مُلْزِمٌ فِي ذَلِكَ فَيُجْعَلُ الْقَتِيلُ الْمَوْجُودُ فِي دَارِهِ كَالْمَوْجُودِ فِي دَارِ الْمَوْلَى .

وَلَوْ وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي قَرْيَةٍ ؛ لِيَتَامَى صِغَارٍ ، وَلَيْسَ فِي تِلْكَ الْبِلَادِ مِنْ عَشِيرَتِهِمْ أَحَدٌ فَلَيْسَ عَلَى الْيَتَامَى قَسَامَةٌ وَلَا دِيَةٌ ، وَلَكِنْ عَلَى عَاقِلَتِهِمْ الدِّيَةُ ، وَالْقَسَامَةُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاشَرُوا الْقَتْلَ بِأَيْدِيهِمْ ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ مُدْرِكًا فَعَلَيْهِ الْقَسَامَةُ تُكَرَّرُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ ؛ لِأَنَّ لَهُ قَوْلًا مُلْزِمًا فِي الْجِنَايَةِ ، ثُمَّ عَلَى أَقْرَبِ الْقَبَائِلِ مِنْهُمْ الدِّيَةُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُمْ عَاقِلَةُ الْيَتَامَى فَإِنَّ الْيَتَامَى لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الدِّيوَانِ ، وَالتَّنَاصُرِ بِالدِّيوَانِ ، فَحَالُهُمْ فِي ذَلِكَ كَحَالِ النِّسَاءِ .
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ .

قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ ) بَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ } وَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى نَفْيِ وُجُوبِ الْقَوَدِ وَاسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ بِغَيْرِ السَّيْفِ ، وَالْمُرَادُ بِالسَّيْفِ السِّلَاحُ هَكَذَا فَهِمَتْ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ حَتَّى قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْعَمْدُ السِّلَاحُ وَقَالَ أَصْحَابُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا قَوَدَ إلَّا بِسِلَاحٍ ، وَإِنَّمَا كَنَّى بِالسَّيْفِ عَنْ السِّلَاحِ ؛ لِأَنَّ الْمُعَدَّ لِلْقِتَالِ عَلَى الْخُصُوصِ بَيْنَ الْأَسْلِحَةِ هُوَ السَّيْفُ فَإِنَّهُ لَا يُرَادُ بِهِ شَيْءٌ آخَرُ سِوَى الْقِتَالِ ، وَقَدْ يُرَادُ بِسَائِرِ الْأَسْلِحَةِ مَنْفَعَةٌ أُخْرَى سِوَى الْقِتَالِ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { بُعِثْت بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ } يَعْنِي السِّلَاحَ الَّذِي هُوَ آلَةُ الْقِتَالِ فَيَكُونُ دَلِيلًا لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْقَوَدَ لَا يَجِبُ إلَّا بِالسِّلَاحِ حَتَّى إذَا قَتَلَ إنْسَانًا بِحَجَرٍ كَبِيرٍ أَوْ خَشَبَةٍ عَظِيمَةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقِصَاصُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { ، وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا ، فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ } ، وَالْمُرَادُ بِالسُّلْطَانِ اسْتِيفَاءُ الْقَوَدِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ عَقَّبَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ الْإِسْرَافِ فِي الْقَتْلِ ، فَالتَّقْيِيدُ بِكَوْنِ الْآلَةِ جَارِحَةً زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ { يَهُودِيًّا رَضَخَ رَأْسَ جَارِيَةٍ عَلَى أَوْضَاحٍ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُرْضَخَ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ } ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ عَمْدٌ مَحْضٌ ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ قَتْلَهُ بِمَا لَا يُقْصَدُ بِهِ إلَّا الْقَتْلُ وَلَا يُعْرَفُ مَحْضُ الْعَمْدِ إلَّا بِهَذَا .
وَالْآلَةُ الْجَارِحَةُ إذَا حَصَلَ الْقَتْلُ بِهَا كَانَ عَمْدًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ

فِعْلٌ مُزْهِقٌ لِلرُّوحِ وَمَا لَا تَلْبَثُ وَلَا تُطِيقُ النَّفْسُ احْتِمَالَهُ فِي كَوْنِهِ مُزْهِقًا لِلرُّوحِ أَبْلَغُ مِنْ الْفِعْلِ الْجَارِحِ ؛ لِأَنَّ هَذَا مُزْهِقٌ لِلرُّوحِ بِنَفْسِهِ ، وَالْفِعْلُ الْجَارِحُ مُزْهِقٌ لِلرُّوحِ بِوَاسِطَةِ الْجِرَاحَةِ ، وَالْجُرْحُ وَسِيلَةٌ يُتَوَسَّلُ بِهَا إلَى إزْهَاقِ الرُّوحِ وَمَا يَكُونُ عَامِلًا بِنَفْسِهِ يَكُونُ أَبْلَغَ مِمَّا يَكُونُ عَامِلًا بِوَاسِطَةٍ ، وَكَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْعُرْفُ فِي قَصْدِ النَّاسِ إلَى قَتْلِ أَعْدَائِهِمْ بِإِلْقَاءِ الْأُسْطُوَانَةِ ، أَوْ رَفْعِ حَجَرِ الرَّحَى عَلَيْهِمْ يَكُونُ أَبْلَغَ مِنْ الْقَصْدِ إلَى ذَلِكَ بِالْجُرْحِ فِي بَعْضِ الْأَعْضَاءِ ، فَإِذَا جُعِلَ ذَلِكَ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ فَهَذَا أَوْلَى وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { كُلُّ شَيْءٍ خَطَأٌ إلَّا السَّيْفَ وَفِي كُلِّ خَطَإٍ الدِّيَةُ } وَفِي حَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَاةَ { أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ رَجُلًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحِجَارَةِ فَقَضَى عَلَيْهِ بِالدِّيَةِ } ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذِهِ الْآلَةَ لَا تَجْرَحُ وَلَا تَقْطَعُ ، فَالْقَتْلُ بِهَا لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ كَالْقَتْلِ بِالْعَصَا الصَّغِيرَةِ وَتَحْقِيقُهُ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدِهِمَا : أَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ يَخْتَصُّ بِقَتْلٍ هُوَ عَمْدٌ مَحْضٌ .
وَصِفَةُ التَّمَحُّضِ أَنْ يُبَاشِرَ الْقَتْلَ بِآلَتِهِ فِي مَحَلِّهِ وَآلَةُ الْقَتْلِ هِيَ الْآلَةُ الْجَارِحَةُ ؛ لِأَنَّ الْجُرْحَ يَعْمَلُ فِي نَقْضِ الْبِنْيَةِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَمَا سِوَاهَا يَدِقُّ بِنَقْضِ الْبِنْيَةِ بَاطِنًا لَا ظَاهِرًا وَقِوَامُ الْبِنْيَةِ بِالظَّاهِرِ ، وَالْبَاطِنِ جَمِيعًا ، فَالْقَتْلُ الَّذِي هُوَ نَقْضُ الْبِنْيَةِ إذَا كَانَ مِمَّا يَعْمَلُ فِي الظَّاهِرِ ، وَالْبَاطِنِ يَكُونُ قَتْلًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَعْمَلُ فِي الْبَاطِنِ دُونَ الظَّاهِرِ يَكُونُ قَتْلًا مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ، وَالثَّابِتُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ يَكُون قَاصِرًا فِي نَفْسِهِ فَيَصْلُحُ أَنْ يَجِبَ بِهِ مَا يَثْبُتُ

مَعَ الشُّبُهَاتِ وَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَجِبَ بِهِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ .
وَمَا ادَّعَوْا مِنْ أَنَّ الْجُرْحَ وَسِيلَةٌ يُتَوَسَّلُ بِهِ إلَى إزْهَاقِ الرُّوحِ غَلَطٌ فَإِنَّ إزْهَاقَ الرُّوحِ يَنْقُضُ الْبِنْيَةَ ، وَكَمَالُ الْجِنَايَةِ مِمَّا يَنْقُضُ الْبِنْيَةَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَنَقْضُ الْبِنْيَةِ بِجُرْحٍ فِي الرُّوحِ لَا يَتَأَتَّى ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحَسُّ وَيَفْعَلُ فِي الْجِسْمِ مَا لَا يَكُونُ كَامِلًا فَإِنَّمَا الْكَامِلُ مِنْهُ مَا يَكُونُ بِفِعْلٍ فِي النَّفْسِ الَّتِي بِهَا قِوَامُ الْآدَمِيِّ وَذَلِكَ الْفِعْلُ الْجَارِحُ الْمُؤَثِّرُ فِي تَسْيِيلٍ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حُكْمُ الذَّكَاةِ فَإِنَّ الْحِلَّ بِالذَّكَاةِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِفِعْلٍ جَارِحٍ مُسِيلٍ لِلدَّمِ بِهَذَا الْمَعْنَى وَلَا يَحْصُلُ بِمَا يَعْمَلُ فِي الْجِسْمِ فَلَا يَكُونُ نَاقِضًا لِلْبِنْيَةِ ظَاهِرًا ، وَهُوَ الْفِعْلُ الَّذِي يَدِقُّ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ فَلَا يَثْبُتُ عِنْدَ تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ كَالْقَوَدِ .
وَيُخَرَّجُ عَلَيْهِ النَّارُ فَإِنَّهَا تَعْمَلُ فِي الظَّاهِرِ ، وَالْبَاطِنِ جَمِيعًا .
وَقِيلَ فِي الذَّكَاةِ أَيْضًا : إذَا قَرَّبَ النَّارَ مِنْ مَذْبَحِ الشَّاةِ حَتَّى انْقَطَعَ بِهَا الْأَوْدَاجُ وَسَالَ الدَّمُ تَحِلُّ ، وَإِنْ لَمْ يَسِلْ لَا تَحِلُّ ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّكَاةِ ، وَهُوَ تَمْيِيزُ الطَّاهِرِ مِنْ النَّجَسِ لَمْ يَحْصُلْ ، وَالْوَجْهُ الْأَخِيرُ أَنَّ آلَةَ الْقَتْلِ الْحَدِيدُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } ، وَالْمُرَادُ الْقَتْلُ ، وَكَذَلِكَ خَزَائِنُ أَسْلِحَةِ الْمُلُوكِ تَكُونُ مِنْ الْحَدِيدِ فَأَمَّا الْخَشَبُ ، وَالْأَحْجَارُ فَمُعَدَّةٌ لِلْأَبْنِيَةِ ، وَالْحَدِيدُ هُوَ الْمُسْتَعْمَلُ فِي الْقِتَالِ ، وَإِنَّمَا يُنْصَبُ الْمَنْجَنِيقُ لِتَخْرِيبِ الْأَبْنِيَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْحَدِيدَ إذَا حَصَلَ الْقَتْلُ بِهِ وَجَبَ الْقِصَاصُ صَغِيرًا كَانَ ، أَوْ كَبِيرًا حَتَّى أَنَّهُ لَوْ غَرَزَهُ بِمِسَلَّةٍ ، أَوْ إبْرَةٍ فِي مَقْتَلِهِ يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ وَمَا سِوَى الْحَدِيدِ الصَّغِيرِ مِنْهُ لَا

يُوجِبُ الْقِصَاصَ ، وَإِنْ تَحَقَّقَ بِهِ الْقَتْلُ ، وَالْفِعْلُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِآلَتِهِ فَبِقُصُورٍ فِي الْآلَةِ تَتَمَكَّنُ شُبْهَةُ النُّقْصَانِ فِي الْفِعْلِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ فَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يَقُولُ الْقَتْلُ بِمُثْقِلِ الْحَدِيدِ يُوجِبُ الْقِصَاصَ نَحْوَ مَا إذَا ضَرَبَهُ بِعَمُودِ حَدِيدٍ أَوْ بِصَنَجَاتِ الْمِيزَانِ ؛ لِأَنَّ الْحَدِيدَ فِي كَوْنِهِ آلَةَ الْقَتْلِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ وَفِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ يُعْتَبَرُ عَيْنَ النَّصِّ فَأَمَّا فِي غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ ، فَالْحُكْمُ يَتَعَلَّقُ بِالْمَعْنَى فَيُعْتَبَرُ كَوْنُهُ مُحَدَّدًا نَحْوَ سَنِّ الْعَصَا ، وَالْمَرْوَةِ وَلِيطَةِ الْقَصَبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَعَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ يَقُولُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ إلَّا بِمَا هُوَ مُحَدَّدٌ ، وَالْحَدِيدُ وَغَيْرُهُ فِيهِ سَوَاءٌ ، وَهُوَ رِوَايَةُ الطَّحَاوِيِّ فِي كِتَابِ الشُّرُوطِ .
وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ أَمَرَ بِذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ السِّيَاسَةِ لِكَوْنِهِ سَاعِيًا فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ مَعْرُوفًا بِذَلِكَ الْفِعْلِ بَيَانُهُ فِيمَا رُوِيَ أَنَّهُمْ أَدْرَكُوهَا وَبِهَا رَمَقٌ فَقِيلَ لَهَا أَقَتَلَك فُلَانٌ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا لَا حَتَّى ذَكَرُوا الْيَهُودِيَّ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا أَنْ نَعَمْ ، وَإِنَّمَا يَعُدْ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالَةِ مَنْ يَكُونُ مُتَّهَمًا بِمِثْلِ ذَلِكَ مَعْرُوفًا بِهِ وَعِنْدَنَا إذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ بِطَرِيقِ السِّيَاسَةِ فَأَمَّا الدَّمُ .
.

الْعَصَا الصَّغِيرَةُ إذَا ، وَالَى بِهَا فِي الضَّرَبَاتِ حَتَّى مَاتَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقِصَاصُ عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ ، وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِيمَا إذَا ضَرَبَهُ جَمَاعَةٌ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِسَوْطٍ ، أَوْ عَصًا ، وَهُوَ يَقُولُ الْقَصْدُ بِالْعَصَا الصَّغِيرَةِ عِنْدَ الْمُوَالَاةِ الْقَتْلُ فَيَكُونُ الْفِعْلُ بِهَا عَمْدًا مَحْضًا بِمَنْزِلَةِ الْقَتْلِ بِالسَّيْفِ بِخِلَافِ الْعَصَا الصَّغِيرَةِ إذَا ضَرَبَهُ بِهَا مَرَّةً ، أَوْ مَرَّتَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ هُنَاكَ التَّأْدِيبُ ، وَالْغَالِبُ مَعَهُ السَّلَامَةُ وَلَا يَكُونُ الْقَتْلُ بِهَا إلَّا نَادِرًا فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْخَطَأِ فَأَمَّا مَعَ الْمُوَالَاةِ ، فَالْقَصْدُ مِنْهُ الْقَتْلُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ التَّهْدِيدَ بِالضَّرْبِ بِالسَّوْطِ مَعَ الْمُوَالَاةِ كَالتَّهْدِيدِ فَالْقَتْلُ فِي حُكْمِ الْإِكْرَاهِ بِخِلَافِ التَّهْدِيدِ بِضَرْبِ سَوْطٍ وَاحِدٍ وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ حُصُولُ الضَّرَبَاتِ مِنْ وَاحِدٍ ، أَوْ مِنْ جَمَاعَةٍ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْقَتْلِ كَوْنُ النَّفْسِ مَعْمُودَةً لَا التَّيَقُّنُ بِكَوْنِ فِعْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُزْهِقًا لِلرُّوحِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَتِهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الضَّرْبَةِ ، وَالضَّرَبَاتِ أَنَّ شُرْبَ الْقَلِيلِ مِنْ الْمُثَلَّثِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْحَدِّ ، فَإِنْ اسْتَكْثَرَ مِنْهُ حَتَّى سَكِرَ لَزِمَهُ الْحَدُّ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْقَلِيلَ مِنْهُ مُمْرِئٌ لِلطَّعَامِ ، وَالْكَثِيرَ مُسْكِرٌ .
وَإِذَا حَصَلَ السُّكْرُ بِالْكَثِيرِ مِنْهُ لَا يُمَيَّزُ بَعْضُ الْفِعْلِ عَنْ الْبَعْضِ ، بَلْ يُجْعَلُ الْكُلُّ كَفِعْلٍ وَاحِدٍ حَتَّى يَتَعَلَّقَ بِهِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَهُوَ الْحَدُّ فَهَذَا مِثْلُهُ وَأَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَلَا إنَّ قَتِيلَ خَطَأِ الْعَمْدِ قَتِيلَ السَّوْطِ ، وَالْعَصَا ، فِيهِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ } فَيَكُونُ نَصْبًا عَلَى التَّفْسِيرِ وَبِالرَّفْعِ قَتِيلُ السَّوْطِ ، وَالْعَصَا

فَيَكُونُ خَبَرًا لِلِابْتِدَاءِ وَفِي كِلَيْهِمَا بَيَانُ أَنَّ قَتِيلَ السَّوْطِ ، وَالْعَصَا يَكُونُ قَتِيلَ خَطَإِ الْعَمْدِ ، وَإِنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ الدِّيَةُ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْقَتْلَ حَصَلَ بِمَجْمُوعِ أَفْعَالٍ لَوْ حَصَلَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى الِانْفِرَادِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقِصَاصُ فَكَذَلِكَ إذَا حَصَلَ بِمَجْمُوعِهَا كَمَا لَوْ جَرَحَ رَجُلًا جِرَاحَاتٍ خَطَأً ، أَوْ اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ فِي قَتْلِ رَجُلٍ خَطَأً وَهَذَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْقِصَاصِ إذَا انْفَرَدَ فَانْضِمَامُ مَا لَيْسَ بِمُوجِبٍ إلَى مَا لَيْسَ بِمُوجِبٍ كَيْفَ يَكُونُ وَاجِبًا لِمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَلَوْ انْضَمَّ مَا هُوَ مُوجِبٌ إلَى مَا لَيْسَ بِمُوجِبٍ كَالْخَاطِئِ مَعَ الْعَامِدِ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ ، فَإِذَا انْضَمَّ مَا هُوَ مُوجِبٌ إلَى مَا لَيْسَ بِمُوجِبٍ أَوْلَى بِخِلَافِ الْأَقْدَاحِ فَهُنَاكَ لَوْ حَصَلَ السُّكْرُ بِالْقَدَحِ الْأَوَّلِ يَجِبُ الْحَدُّ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ الْحَدُّ إذَا لَمْ يُسْكِرْ بِهِ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ وَهُنَا لَوْ حَصَلَ الْقَتْلُ بِالضَّرْبَةِ الْأُولَى لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فَعَرَفْنَا أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ فِي نَفْسِهِ غَيْرُ مُوجِبٍ فَلَا يَدْخُلُ عَلَى هَذَا شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ فَإِنَّهَا تُوجِبُ الْقِصَاصَ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ لَا يُوجِبُ ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الشَّاهِدَيْنِ حُجَّةٌ وَاحِدَةٌ وَشَهَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَرْطُ الْحُجَّةِ وَشَرْطُ الْحُجَّةِ لَا يَثْبُتُ بِهِ شَيْءٌ مِنْ الْحُكْمِ فَأَمَّا هَاهُنَا فَكُلُّ فِعْلٍ صَالِحٍ لِكَوْنِهِ عِلَّةً تَامَّةً ، وَهُوَ عَلَى أَصْلِهِ أَظْهَرُ فَإِنَّ عِنْدَهُ لَوْ حَصَلَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَمَاعَةِ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ يَجِبُ عَلَيْهِمْ الْقِصَاصُ وَمَا لَمْ تَتَكَامَلْ الْعِلَّةُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ وَقَوْلُهُ بِأَنَّ الضَّرْبَةَ الْوَاحِدَةَ يُقْصَدُ بِهَا التَّأْدِيبُ قُلْنَا حَقِيقَةُ الْقَصْدِ لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا ، وَإِنَّمَا يَنْبَنِي الْحُكْمُ عَلَى السَّبَبِ

الظَّاهِرِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ قَطْعَ الْيَدِ لَا يُقْصَدُ بِهِ الْقَتْلُ أَيْضًا ؛ وَلِهَذَا كَانَ مَشْرُوعًا فِي مَوْضِعٍ كَانَ الْقَتْلُ حَرَامًا ، وَكَذَلِكَ الْجُرْحُ الْيَسِيرُ مَشْرُوعٌ عَلَى قَصْدِ الِاسْتِشْفَاءِ كَالْفَصْدِ ، وَالْحِجَامَةِ وَمَعَ ذَلِكَ إذَا حَصَلَ الْقَتْلُ بِهِ وَجَبَ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْقَصْدِ يَتَعَذَّرُ الْوُقُوفُ عَلَيْهَا فَيُعْتَبَرُ السَّبَبُ الظَّاهِرُ فَكَذَلِكَ هَاهُنَا كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ الْقِصَاصُ إذَا حَصَلَ الْقَتْلُ بِالضَّرْبَةِ ، وَالضَّرْبَتَيْنِ بِالسَّوْطِ وَحَيْثُ لَمْ يَجِبْ بِأَنْ كَانَ كُلُّ فِعْلٍ مِنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ بِانْفِرَادِهِ غَيْرُ مُوجِبٍ وَحَقِيقَةُ الْفِقْهِ فِيهِ مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَيُمْكِنُ الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الْحَرْفِ أَيْضًا فَيُقَالُ الْعَصَا الْكَبِيرُ مَجْمُوعُ أَجْزَاءِ لَا يَتَعَلَّقُ الْقِصَاصُ بِكُلِّ جُزْءٍ مِنْهَا ، وَإِنْ حَصَلَ الْقَتْلُ فَكَذَلِكَ بِمَجْمُوعِهَا .

فَأَمَّا بَيَانُ نَفْيِ اسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ بِغَيْرِ السَّيْفِ وَبِهَا يَقُولُ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فَإِنَّ الْقِصَاصَ مَتَى وَجَبَ فَإِنَّهُ يُسْتَوْفَى بِطَرِيقِ حَزِّ الرَّقَبَةِ بِالسَّيْفِ وَلَا يُنْظَرُ إلَى مَا بِهِ حَصَلَ الْقَتْلُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُنْظَرُ إلَى الْقَتْلِ بِمَاذَا حَصَلَ ، فَإِنْ كَانَ بِطَرِيقٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ بِأَنْ سَقَاهُ الْخَمْرَ حَتَّى قَتَلَهُ أَوْ لَاطَ بِصَغِيرٍ حَتَّى قَتَلَهُ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ يُقْتَلُ بِالسَّيْفِ ، وَإِنْ كَانَ بِطَرِيقٍ مَشْرُوعٍ يُفْعَلُ بِهِ مِثْلُ ذَلِكَ الْفِعْلِ وَيُمْهَلُ مِثْلُ تِلْكَ الْمُدَّةِ ، فَإِنْ مَاتَ وَإِلَّا تُحَزُّ رَقَبَتُهُ نَحْوَ مَا إذَا قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ عَمْدًا فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ وَاسْتَدَلَّ بِمَا رَوَيْنَا { أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَمَرَ بِرَضْخِ رَأْسِ الْيَهُودِيِّ بَيْنَ حَجَرَيْنِ } وَكَانَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْقِصَاصِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ رُوِيَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ { فَاعْتَرَفَ الْيَهُودِيُّ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِصَاصِ وَأَمَرَ بِأَنْ يُرْضَخَ رَأْسُهُ بَيْنَ حَجَرَيْنِ } وَلِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقِصَاصِ الْمُسَاوَاةُ ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَ قِصَاصًا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ الْتَقَى الدَّيْنَانِ فَتَقَاصَّا أَيْ تَسَاوَيَا أَصْلًا وَوَصْفًا وَمَا قُلْنَاهُ أَقْرَبُ إلَى الْمُسَاوَاةِ لِمَا فِيهِ مِنْ اعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْفِعْلِ ، وَالْمَقْصُودُ بِالْفِعْلِ يَجِبُ اعْتِبَارُهُ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ وَتَعَذُّرُهُ أَنْ يَكُونَ صُورَةُ الْفِعْلِ بِخِلَافِ الْمَشْرُوعِ بِأَنْ يَكُونَ حَرَامًا ، أَوْ أَنْ لَا يَحْصُلَ الْقَتْلُ بِهِ فَحِينَئِذٍ يُجْعَلُ مَا يَكُونُ مُتَمِّمًا لَهُ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَيَكُونُ الثَّانِي مُتَمِّمًا لِلْأَوَّلِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مَنْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ خَطَأً ، ثُمَّ قَتَلَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ وَجُعِلَ الْفِعْلُ الثَّانِي تَتْمِيمًا لِلْأَوَّلِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا قَوَدَ إلَّا بِالسَّيْفِ } ، وَهُوَ تَنْصِيصٌ

عَلَى نَفْيِ اسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ بِغَيْرِ السَّيْفِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ قَتْلٌ مُسْتَحَقٌّ شَرْعًا فَيُسْتَوْفَى بِالسَّيْفِ كَقَتْلِ الْمُرْتَدِّ وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَوْفِي الْمُسْتَحَقُّ بِالطَّرِيقِ الَّذِي يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ طَرِيقٌ لَهُ وَحَزُّ الرَّقَبَةِ يَتَيَقَّنُ بِأَنَّهُ طَرِيقُ اسْتِيفَاءِ الْقَتْلِ فَأَمَّا قَطْعُ الْيَدِ فَلَا يَكُونُ طَرِيقًا لِذَلِكَ إلَّا بِشَرْطٍ ، وَهُوَ السِّرَايَةُ وَذَلِكَ لِضَعْفِ الطَّبِيعَةِ عَنْ دَفْعِ أَثَرِ الْجِرَاحَةِ وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ عِنْدَ الْقَتْلِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ لَا يَكُونُ ثَابِتًا قَبْلَ الشَّرْطِ فَقَبْلَ السِّرَايَةِ هَذَا الْفِعْلُ غَيْرُ الْقَتْلِ فَلَا يَكُونُ مَشْرُوعًا فَضْلًا عَنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَقًّا وَصُورَةُ الْفِعْلِ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ إزْهَاقُ الرُّوحِ عُرْفًا لِمَعْنَى الِانْتِقَامِ وَاسْتِحْقَاقُ الْقَتْلِ شَرْعًا فَيَجِبُ مُرَاعَاةُ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ وَلَا يُقَالُ لَا يَقْمَعُ النَّاسُ فِي الِابْتِدَاءِ مِنْ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْفِعْلُ مُؤَثِّرًا فِي تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ مَا لَمْ يَبْرَأْ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْمَعُ النَّاسَ عَنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُؤَدِّي إلَى تَأْخِيرِ تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ وَكَمَا لَا يَجُوزُ إبْطَالُ مَقْصُودِ صَاحِبِ الْحَقِّ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ ، ثُمَّ هَذَا اعْتِبَارُ مُعَادِلَةٍ تُوقِعُنَا فِي الظُّلْمِ فِي الِانْتِهَاءِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَرَاخَتْ يَدُهُ تُحَزُّ رَقَبَتُهُ ، وَالْفِعْلُ الثَّانِي بَعْدَ الْبُرْءِ لَا يَكُونُ إتْمَامًا لِلْأَوَّلِ بِدَلِيلِ الْخَطَأِ فَيُؤَدِّي إلَى الزِّيَادَةِ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ وَإِلَى الْمُثْلَةِ وَذَلِكَ حَرَامٌ ، فَإِنْ قِيلَ بِأَيِّ طَرِيقٍ تَسْقُطُ حُرْمَةُ ذَبْحِ الْقَاتِلِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ فِعْلٌ فِي مَذْبَحِ الْمَقْتُولِ قُلْنَا بِالطَّرِيقِ الَّذِي يَسْقُطُ عِنْدَكُمْ حُرْمَةُ مَذْبَحِهِ إذَا تَرَاخَتْ يَدُهُ ، وَهُوَ اسْتِحْقَاقُ الْقَتْلِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ قَبْلَ قَطْعِ الْيَدِ وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ مَا بَيَّنَّا وَاَلَّذِي رُوِيَ أَنَّهُ قَضَى بِالْقِصَاصِ شَاذٌّ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ ، أَوْ قَالَهُ

الرَّاوِي بِنَاءً عَلَى مَا وَقَعَ عِنْدَهُ أَنَّهُ كَانَ بِطَرِيقِ الْقِصَاصِ وَفِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ السِّيَاسَةِ .

، وَإِنْ اجْتَمَعَ رَهْطٌ عَلَى قَتْلِ رَجُلٍ بِالسِّلَاحِ فَعَلَيْهِمْ فِيهِ الْقِصَاصُ بَلَغْنَا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَضَى بِذَلِكَ ، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ ، وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَلْزَمَهُمْ الْقِصَاصُ ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْإِقْرَارِ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقِصَاصِ الْمُسَاوَاةُ لِمَا فِي الزِّيَادَةِ مِنْ الظُّلْمِ عَلَى الْمُتَعَدِّي وَلِمَا فِي النُّقْصَانِ مِنْ الْبَخْسِ بِحَقِّ الْمُتَعَدِّي عَلَيْهِ وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْعَشَرَةِ ، وَالْوَاحِدِ وَهَذَا شَيْءٌ يُعْلَمُ بِبَدَاهَةِ الْعُقُولِ ، فَالْوَاحِدُ مِنْ الْعَشَرَةِ يَكُونُ مَثَلًا لِلْوَاحِدِ فَكَيْفَ تَكُونُ الْعَشَرَةُ مَثَلًا لِلْوَاحِدِ وَأَيَّدَ هَذَا الْقِيَاسَ قَوْله تَعَالَى { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } وَذَلِكَ يَنْفِي مُقَابَلَةَ النُّفُوسِ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ سَبْعَةً مِنْ أَهْلِ صَنْعَاءَ قَتَلُوا رَجُلًا فَقَضَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْقِصَاصِ عَلَيْهِمْ وَقَالَ لَوْ تَمَالَأَ عَلَيْهِ أَهْلُ صَنْعَاءَ لَقَتَلْتهمْ بِهِ وَلِأَنَّ شَرْعَ الْقِصَاصِ لِحِكْمَةِ الْحَيَاةِ وَذَلِكَ بِطَرِيقِ الزَّجْرِ كَمَا قَرَّرْنَا وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْقَتْلَ بِغَيْرِ حَقٍّ فِي الْعَادَةِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالتَّغَالُبِ ، وَالِاجْتِمَاعِ ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ يُقَاوِمُ الْوَاحِدَ فَلَوْ لَمْ نُوجِبْ الْقِصَاصَ عَلَى الْجَمَاعَةِ بِقَتْلِ الْوَاحِدِ لَأَدَّى إلَى سَدِّ بَابِ الْقِصَاصِ وَإِبْطَالِ الْحِكْمَةِ الَّتِي وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهَا بِالنَّصِّ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَا مَقْصُودَ فِي الْقَتْلِ سِوَى التَّشَفِّي ، وَالِانْتِقَامِ وَذَلِكَ حَاصِلٌ لِكُلِّ قَاتِلٍ بِكَمَالِهِ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ وَعَلَى هَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ الْوَاحِدُ إذَا قَتَلَ جَمَاعَةً فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِهِمْ جَمِيعًا عَلَى سَبِيلِ الْكَفَاءَةِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنْ قَتَلَهُمْ عَلَى التَّعَاقُبِ يُقْتَلُ بِأَوَّلِهِمْ وَيُقْضَى بِالدِّيَاتِ لِمَنْ بَعْدَ الْأَوَّلِ فِي تَرِكَتِهِ .
وَإِنْ قَتَلَهُمْ مَعًا يُقْرَعُ

بَيْنَهُمْ وَيُقْضَى بِالْقَوَدِ لِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ وَبِالدِّيَةِ لِلْبَاقِينَ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ } ، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى النَّفْسَ بِمُقَابَلَةِ النَّفْسِ قِصَاصًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ النَّفْسَ بِمُقَابَلَةِ النُّفُوسِ قِصَاصًا بِالرَّأْيِ وَلِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا إلَّا أَنَّا أَوْجَبْنَا الْقِصَاصَ عَلَى الْعَشَرَةِ بِقَتْلِ الْوَاحِدِ لَرَدَّ عَلَيْهِ الْقَتْلُ بِغَيْرِ حَقٍّ وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي الْقَتْلِ قِصَاصًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ بِقُوَّةِ السُّلْطَانِ فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ فِيهِ إلَى التَّعَاوُنِ ، وَالتَّغَالُبِ وَلِأَنَّ فِي إيجَابِ الْقِصَاصِ هُنَاكَ تَحْقِيقَ مَعْنَى الزَّجْرِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هُنَا فَإِنَّهُ بَعْدَمَا قَتَلَ الْوَاحِدَ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ ، وَإِنْ قَتَلَ جَمِيعَ أَعْدَائِهِ لَا يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ أَخَذَ يَتَجَاسَرُ عَلَى قَتْلِ الْأَعْدَاءِ ، وَإِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُسْتَوْفَى الدِّيَاتُ مِنْ تَرِكَتِهِ يُتَحَرَّزُ مِنْ ذَلِكَ لِإِبْقَاءِ الْعَنَاءِ لِوَرَثَتِهِ فَكَانَ مَعْنَى الزَّجْرِ فِيمَا قُلْنَا وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِي الْفَرْقِ أَنَّ الْعَشَرَةَ إذَا قَتَلُوا وَاحِدًا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَتَلَ عَشَرَةً فَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ بِقَدْرِ مَا أَتْلَفَ إلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ ذَلِكَ مِنْهُ إلَّا بِإِسْقَاطِ مَا بَقِيَ مِنْ حُرْمَةِ نَفْسِهِ فَيَسْقُطُ ذَلِكَ لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ إلَى اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ كَمَا إذَا غَصَبَ سَاحَةً وَبَنَى عَلَيْهَا سَقَطَ حُرْمَةُ بِنَائِهِ لِوُجُوبِ رَدِّ السَّاحَةِ ، وَكَذَلِكَ عِنْدِي فِي السَّاحَةِ فَأَمَّا هَاهُنَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَقْتُولِينَ قَدْ اسْتَحَقَّ عَلَى الْقَاتِلِ نَفْسًا كَامِلَةً ، وَلَيْسَ فِي نَفْسِهِ وَفَاءٌ بِالنُّفُوسِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقْتُلَ بِهِمْ جَمِيعًا ، وَلَكِنْ يَتَرَجَّحُ أَوَّلُهُمْ بِالسَّبْقِ فَإِنَّ حَقَّهُ ثَبَتَ فِي مَحَلٍّ فَارِغٍ ، وَإِذَا قَتَلَهُمْ مَعًا رَجَّحَ بِالْقُرْعَةِ كَمَا هُوَ مَذْهَبِي فِي نَظَائِرِهِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ

الْقَاتِلِينَ يَسْتَوْفِي الْجَزَاءَاتِ فِي الْخَطَأِ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مِنْ الدِّيَةِ ، وَأَنَّهُ لَوْ كَانَ بَعْضُ الْفَاعِلِينَ مُخْطِئًا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِخِلَافِ مَا إذَا قَتَلَ جَمَاعَةً بَعْضَهُمْ عَمْدًا وَبَعْضَهُمْ خَطَأً فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ لِمَنْ قَتَلَهُ عَمْدًا ، وَإِنْ كَانَ وَاحِدًا وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعَشَرَةَ إذَا قَتَلُوا وَاحِدًا يَقْتُلُونَ بِهِ وَكَانُوا مَثَلًا لَهُ جَزَاءً لِدَمِهِ فَكَذَلِكَ إذَا قَتَلَ وَاحِدًا يُقْتَلُ بِهِمْ وَيَكُونُ مَثَلًا لَهُمْ ؛ لِأَنَّ الْمِثْلَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ فَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ مَثَلًا لِلْآخَرِ أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ مَثَلًا لَهُ كَأَسَمِّ الْأَخِ فَإِنَّ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ أَحَدِ الشَّخْصَيْنِ أَخًا لِلْآخَرِ أَنْ يَكُونَ الْآخَرُ أَخًا لَهُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ يَلْزَمُهُمْ الْقِصَاصُ لِرَدِّ غَلَّةِ الْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْمُمَاثَلَةِ فَإِنَّ الزِّيَادَةَ فِي الْقَدْرِ أَبْلَغَ مِنْ الزِّيَادَةِ فِي الْوَصْفِ ، وَإِذَا كَانَ لَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالْمُسْتَأْمَنِ وَعَلَى قَوْلِهِ بِالذِّمِّيِّ ، وَالْحُرُّ بِالْعَبْدِ لِانْعِدَامِ الْمُمَاثَلَةِ مَعَ الْحَاجَةِ إلَى رَدِّ الْقَتْلِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَأَنْ لَا يُقْتَلَ الْعَشَرَةُ بِالْوَاحِدِ أَوْلَى ، وَكَذَلِكَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَتَعَذَّرُ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ نَحْوِ كَسْرِ الْعِظَامِ لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ ، وَالْحَاجَةُ إنْ رَدَّ عَلَيْهِ الْجِنَايَةَ هَاهُنَا بِغَيْرِ حَقٍّ يَتَحَقَّقُ هُنَا وَمَعَ ذَلِكَ يُوهَمُ الزِّيَادَةَ بِمَنْعِ الْقِصَاصِ فَتَحَقَّقَ الزِّيَادَةُ ؛ لَأَنْ يُمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ أَوْلَى فَعَرَفْنَا أَنَّهُ إنَّمَا يُقْتَلُ الْعَشَرَةُ بِالْوَاحِدِ بِطَرِيقِ الْمُمَاثَلَةِ وَبَيَانُ ذَلِكَ ، وَهُوَ أَنَّ الْقَتْلَ مِمَّا لَا يَتَجَزَّأُ .
وَإِذَا اشْتَرَكَ الْجَمَاعَةُ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ فَأَمَّا أَنْ يَنْعَدِمَ أَصْلًا أَوْ يَتَكَامَلَ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَقْتُلَهُ

كَانَ حَانِثًا فِي يَمِينِهِ بِهَذَا الْفِعْلِ وَلَا يَجِبُ إلَّا بِوُجُوبِ كَمَالِ الشَّرْطِ وَفِي الْخَطَأِ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْكَفَّارَةُ كَامِلَةً وَلَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ إلَّا بِقَتْلٍ كَامِلٍ فَأَمَّا الدِّيَةُ بِمُقَابَلَةِ الْمَحَلِّ فَلِصِيَانَتِهِ عَنْ الْإِهْدَارِ لَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ جَزَاءَ الْفِعْلِ ، وَالْمَحَلُّ وَاحِدٌ فَلَا يَجِبُ بِمُقَابِلَتِهِ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْقَتْلَ يَخْرُجُ بِبَعْضِهِ زَهُوقُ الرُّوحِ ؛ لِأَنَّ الرُّوحَ لَا يُمْكِنُ أَخْذُهُ حِسًّا فَطَرِيقُ أَثَرِهَا فِيهِ قَصْدًا هَذَا وَقَدْ تَحَقَّقَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، وَالْحُكْمُ إذَا حَصَلَ عَقِيبَ عِلَلٍ يُضَافُ جَمِيعُهُ إلَى كُلِّ عِلَّةٍ فَيُجْعَلُ زَهُوقُ الرُّوحِ مُحَالًا بِهِ عَلَى فِعْلٍ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلًا عَلَى سَبِيلِ الْكَمَالِ بِمَنْزِلَةِ الْأَوْلِيَاءِ فِي التَّزْوِيجِ بِتَكَامُلِ الْوِلَايَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَفِي هَذَا الْمَعْنَى الْقَتْلِ الَّذِي هُوَ عُدْوَانٌ ، وَالْقَتْلُ الَّذِي هُوَ جَزَاءٌ سَوَاءٌ فَإِنَّ الْأَوْلِيَاءَ إذَا اجْتَمَعُوا وَقَتَلُوا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتَلَا بِكَمَالِهِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْقَتْلِ ، وَهُوَ التَّشَفِّي ، وَالِانْتِقَامُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْجَزَاءِ ، وَالْعُدْوَانِ ، وَهُوَ يَتَكَامَلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ كَمَا يَتَكَامَلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ فَعَرَفْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُسْتَوْفٍ حَقَّهُ بِكَمَالِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْمَصِيرِ إلَى الدِّيَةِ وَبِهِ فَارَقَ النِّكَاحُ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ جَمَاعَةٍ لَا يَثْبُتُ النِّكَاحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى هَذِهِ الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْفِرَاشُ ، وَالنَّسْلُ وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ بِالِاشْتِرَاكِ فَلَا يَتَكَامَلُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُمَّ هُنَاكَ لَمَّا لَمْ يَحْتَمِلْ التَّجَزُّؤَ فِي الْمَحَلِّ انْعَدَمَ أَصْلًا عِنْدَ الِاشْتِرَاكِ وَهَاهُنَا لَمْ يَنْعَدِمْ الْقَتْلُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ تَكَامُلٌ فِي حَقِّ كُلِّ

وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَمَا قَالَ بِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ عُشْرُ الْقَتِيلِ كَلَامٌ غَيْرُ مَعْقُولٍ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ فِي نَفْسٍ وَاحِدَةٍ كَمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ اسْتِيفَاءً لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ وُجُوبًا فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ بَعْضَ نَفْسِهِ قِصَاصًا وَكَيْف يَسْتَقِيمُ هَذَا وَلَوْ عَفَى أَحَدُ الْأَوْلِيَاءِ حَتَّى حَيِيَ جُزْءٌ مِنْ الْمَقْتُولِ سَقَطَ الْقِصَاصُ كُلُّهُ ، فَإِذَا كَانَ الْقِصَاصُ الْوَاجِبُ يَسْقُطُ إذَا لَمْ يَبْقَ مُسْتَحَقًّا فِي بَعْضِ النَّفْسِ بَعْدَ الْعَفْوِ فَلَأَنْ لَا يَجِبَ ابْتِدَاءً فِي بَعْضِ النُّفُوسِ دُونَ الْبَعْضِ أَوْلَى وَتَبَيَّنَ بِهَذَا التَّحْقِيقِ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ سِوَى مَا قُلْنَا إنَّ الْعَشَرَةَ إذَا قَتَلُوا وَاحِدًا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلٌ لَهُ عَلَى الْكَمَالِ ، وَكَذَلِكَ الْأَوْلِيَاءُ إذَا اجْتَمَعُوا وَاسْتَوْفَوْا الْقِصَاصَ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَاتِلًا لَهُ عَلَى الْكَمَالِ مِقْدَارَ حَقِّهِ لِيُحْيُوهُ بِدَفْعِ شَرِّ قَاتِلِ أَبِيهِ عَنْ نَفْسِهِ وَكَانَ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى - الْقَضَاءِ بِالدِّيَةِ وَلَا إلَى التَّرْجِيحِ بِالسَّبْقِ ، أَوْ إلَى الْقُرْعَةِ .

قَالَ : وَإِذَا قَتَلَ الْحُرُّ الْمَمْلُوكُ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { الْحُرُّ بِالْحُرِّ ، وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ } وَمُقَابَلَةُ الْحُرِّ بِالْحُرِّ يَقْتَضِي نَفْيَ مُقَابَلَةِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ وَهَذَا عَلَى وَجْهِ التَّفْسِيرِ لِلْقِصَاصِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْله تَعَالَى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } فَيَكُونُ بَيَانُ أَنَّ الْمُسَاوَاةَ الَّتِي هِيَ مُعْتَبَرَةٌ إنَّمَا تَكُونُ عِنْدَ مُقَابَلَةِ الْحُرِّ بِالْحُرِّ لَا عِنْدَ مُقَابَلَةِ الْحُرِّ بِالْعَبْدِ ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ قَالَا : السُّنَّةُ أَنْ لَا يُقْتَلَ الْعَبْدُ بِالْحُرِّ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا أَحَدُ نَوْعَيْ الْقِصَاصِ فَلَا يَجِبُ عَلَى الْحُرِّ بِسَبَبِ الْمَمْلُوكِ كَالْقِصَاصِ فِي الْأَطْرَافِ ، بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الطَّرَفِ دُونَ حُرْمَةِ النَّفْسِ ، فَالْأَطْرَافُ تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ ، وَإِذَا كَانَ طَرَفُ الْحُرِّ لَا يُقْطَعُ بِطَرَفِ الْعَبْدِ مَعَ خِفَّةِ حُرْمَةِ الطَّرَفِ فَلَأَنْ لَا يَقْتُلَ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ مَعَ عِظَمِ حُرْمَةِ النَّفْسِ كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ الْقِصَاصَ يَنْبَنِي عَلَى الْمُسَاوَاةِ وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْأَحْرَارِ ، وَالْعَبِيدِ فَإِنَّ الْعَبْدَ مَمْلُوكٌ مَالًا ، وَالْحُرُّ مَالِكٌ ، وَالْمَالِكِيَّةُ فِي نِهَايَةٍ مِنْ الْعِزِّ ، وَالْكَمَالِ ، وَالْمَمْلُوكِيَّة فِي نِهَايَةٍ مِنْ الذُّلِّ ، وَالنُّقْصَانِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَمْلُوكَ قَائِمٌ مِنْ وَجْهٍ هَالِكٌ مِنْ وَجْهٍ فَإِنَّ الْحُرِّيَّةَ حَيَاةٌ ، وَالرِّقَّ تَلَفٌ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْمُعْتَقُ مَنْسُوبًا بِالْوَلَاءِ إلَى الْمُعْتَقِ ؛ لِأَنَّهُ أَحْيَاهُ بِالْإِعْتَاقِ حُكْمًا وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْقَائِمِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَبَيْنَ الْقَائِمِ مِنْ وَجْهٍ ، وَالْهَالِكُ مِنْ وَجْهٍ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ التَّفَاوُتَ ظَاهِرٌ بَيْنَهُمَا فِي بَدَلِ النَّفْسِ ، وَهُوَ الْمَالُ وَبِهِ تَبَيَّنَّ أَنَّ الرِّقَّ أَثَّرَ فِي النَّفْسِيَّةِ ؛ وَلِهَذَا الْمَعْنَى لَا يَجِبُ

الْقِصَاصُ عَلَى الْمَوْلَى بِقَتْلِ عَبْدِهِ وَلَوْ لَمْ يُؤَثِّرْ الرِّقُّ فِي النَّفْسِيَّةِ لَكَانَ الْمَوْلَى كَالْأَجْنَبِيِّ فِي قَتْلِ الْعَبْدِ فَيَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ وَلِأَنَّ الْمَقْتُولَ كَانَ بِعَرْضٍ أَنْ يَصِيرَ مِنْ خَوْلِ الْقَاتِلِ بِأَنْ يَشْتَرِيَهُ فَيَمْنَعُ ذَلِكَ الْقِصَاصُ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ كَالْمُسْلِمِ مَعَ الْمُسْتَأْمَنِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } فَهَذَا يَقْتَضِي وُجُوبَ الْقِصَاصِ بِسَبَبِ كُلِّ قَتْلٍ إلَّا مَا قَامَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ فَأَمَّا قَوْلُهُ الْحُرُّ بِالْحُرِّ ، فَهُوَ ذَكَرَ بَعْضَ مَا شَمَلَهُ الْعُمُومُ عَلَى مُوَافَقَةِ حُكْمِهِ فَلَا يَجِبُ تَخْصِيصُ مَا بَقِيَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ كَمَا قَابَلَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ قَابَلَ الْأُنْثَى بِالْأُنْثَى ، ثُمَّ لَا يَمْنَعُ ذَلِكَ مُقَابَلَةَ الذَّكَرِ بِالْأُنْثَى وَفِي مُقَابِلَةِ الْأُنْثَى بِالْأُنْثَى دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْحُرَّةِ بِقَتْلِ الْأَمَةِ وَفَائِدَةُ هَذِهِ الْمُقَابَلَةِ مَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كَانَتْ الْمُقَابَلَةُ بَيْنَ بَنِي النَّضِيرِ وَبَيْنَ بَنِي قُرَيْظَةَ وَكَانَتْ بَنُو النَّضِيرِ أَشْرَفَ وَكَانُوا يَعُدُّونَ بَنِي قُرَيْظَةَ عَلَى النِّصْفِ مِنْهُمْ فَتَوَاضَعُوا عَلَى أَنَّ الْعَبْدَ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ بِمُقَابَلَةِ الْحُرِّ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ ، وَالْأُنْثَى مِنْهُمْ بِمُقَابَلَةِ الذَّكَرِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ رَدًّا عَلَيْهِمْ وَبَيَانًا أَنَّ الْحُرَّ بِمُقَابَلَةِ الْحُرِّ ، وَالْعَبْدَ بِمُقَابَلَةِ الْعَبْدِ ، وَالْأُنْثَى بِمُقَابَلَةِ الْأُنْثَى مِنْ الْقَبِيلَتَيْنِ جَمِيعًا ، وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ : يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ الزُّبَيْرِ مَحْمُولٌ عَلَى السَّيِّدِ إذَا قَتَلَ عَبْدَهُ ، فَقَدْ كَانُوا مُخْتَلِفِينَ فِي ذَلِكَ فَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُوجِبُ الْقِصَاصَ وَيُسْتَدَلُّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ } فَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ

رَدًّا عَلَى مَنْ يَقُولُ مِنْهُمْ لَا يُقْتَلُ السَّيِّدُ بِعَبْدِهِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ دَمَ الْعَمْدِ مَضْمُونٌ بِالْقِصَاصِ فَيَسْتَوِي أَنْ يَكُونَ قَاتِلُهُ حُرًّا ، أَوْ عَبْدًا كَدَمِ الْحُرِّ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا قَتَلَ عَبْدًا يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ ، وَالْقِصَاصُ عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَيَسْتَدْعِي وُجُوبُهَا انْتِفَاءَ الشُّبْهَةِ الْمُبِيحَةِ عَنْ الدَّمِ وَبَعْدَ انْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ الْحُرُّ ، وَالْعَبْدُ فِيهِ سَوَاءٌ وَسَنُقَرِّرُ هَذَا الْكَلَامَ فِي مَسْأَلَةِ قَتْلِ الْمُسْلِمِ الذِّمِّيِّ وَاَلَّذِي يَخْتَصُّ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ حَرْفَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ فِي الذِّمِّيِّ ، وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ ، فَالرِّقُّ ، وَالْمَمْلُوكِيَّة لَا يُؤَثِّرُ فِي الدَّمِ ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ إنَّمَا يُؤَثِّرُ فِيمَا يُتَصَوَّرُ وُرُودُ الْقَهْرِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ أَجْزَاءُ الْجِسْمِ فَأَمَّا الْحَيَاةُ فَلَا تَدْخُلُ تَحْتَ الْقَهْرِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَبْدَ فِيهِ يَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْمَوْلَى التَّصَرُّفَ فِيهِ إقْرَارًا عَلَيْهِ بِهِ وَلَا اسْتِيفَاءً مِنْهُ إلَّا أَنَّ الْمَوْلَى إذَا قَتَلَهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ لِانْعِدَامِ الْمُسْتَوْفِي ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَاتِلُ غَيْرَهُ كَانَ هُوَ الْمُسْتَوْفِي بِوِلَايَةِ الْمِلْكِ ، وَالْقَتْلِ لَا يُحَرِّمُهُ ذَلِكَ وَلَا يَكُونُ هُوَ مُسْتَوْفِيًا الْعُقُوبَةَ مِنْ نَفْسِهِ وَنُقْصَانَ بَدَلِ الدَّمِ كَنُقْصَانِ صِفَةِ الْمَمْلُوكِيَّةِ فِي مَحَلِّهِ لَا فِي غَيْرِهِ كَنُقْصَانِ بَدَلِ الدَّمِ بِسَبَبِ الْأُنُوثَةِ إنَّمَا يَكُونُ لِلْمُلُوكِيَّةِ فِي مَحَلِّهِ فَأَمَّا الْحَيَاةُ فَلَا تَحِلُّهَا الْأُنُوثَةُ ، وَالثَّانِي أَنَّ وُجُوبَ الْقِصَاصِ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْإِحْرَازِ ، وَالْإِحْرَازُ إنَّمَا يَكُونُ بِالدَّارِ ، أَوْ بِالدَّيْنِ ، وَالْمَمْلُوكُ فِي ذَلِكَ مُسَاوٍ لِلْحُرِّ ، وَالْحِكْمَةُ فِي شَرْعِ الْقِصَاصِ الْحَيَاةُ وَفِي ذَلِكَ الْمَعْنَى الْحُرُّ ، وَالْمَمْلُوكُ سَوَاءٌ ، وَلَيْسَتْ النُّفُوسُ قِيَاسُ الْأَطْرَافِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ

الْقِصَاصِ هُنَاكَ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْجُزْءِ الْمُبَانِ ؛ وَلِهَذَا لَا تُقْطَعُ الصَّحِيحَةُ بِالشَّلَّاءِ ، وَالرِّقُّ ثَابِتٌ فِي أَجْزَاءِ الْجِسْمِ فَتَنْعَدِمُ بِسَبَبِهِ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي الْأَطْرَافِ مَعَ أَنَّ طَرَفَ الْعَبْدِ فِي حُكْمِ الْمَالِ عِنْدَنَا ؛ وَلِهَذَا لَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْقِصَاصِ عَلَى أَحَدٍ عَبْدًا كَانَ ، أَوْ حُرًّا بِخِلَافِ النَّفْسِ ، فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُسَاوَاةُ فِي الْحَيَاةِ ؛ وَلِهَذَا لَا نَقْتُلُ النَّفْسَ الصَّحِيحَةَ بِالنَّفْسِ الزَّمِنَةِ ، وَقَدْ تَحَقَّقَتْ الْمُسَاوَاةُ هَاهُنَا .
وَعَلَى هَذَا لَوْ قَتَلَ رَجُلٌ صَبِيًّا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِوُجُودِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي الْحَيَاةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ رَجُلٌ امْرَأَةً وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَتَخَيَّرُ أَوْلِيَاؤُهَا بَيْنَ أَنْ يَسْتَوْفُوا دِيَتَهَا وَبَيْنَ أَنْ يُعْطُوا الْقَاتِلَ نِصْفَ دِيَتِهِ ، ثُمَّ يَقْتُلُونَهُ قِصَاصًا وَهَذَا بَعِيدٌ لَا يَصِحُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَقَدْ كَانَ أَفْقَهَ مَنْ أَنْ يَقُولَ الْقِصَاصُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا ، ثُمَّ يَجِبُ بِإِعْطَاءِ الْمَالِ وَعَلَى هَذَا لَوْ قَتَلَ الْعَبْدُ الْحُرَّ عَمْدًا ، وَالْمَرْأَةُ الرَّجُلَ فَعَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ لِوُجُودِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي الْحَيَاةِ وَالشَّافِعِيُّ لَا يُخَالِفُنَا فِي هَذَا فَإِنَّهُ يَرَى اسْتِيفَاءَ الْأَنْقَصِ بِالْأَكْمَلِ قِصَاصًا ، وَإِنَّمَا يَأْبَى اسْتِيفَاءُ الْأَكْمَلِ بِالْأَنْقَصِ ، فَإِذَا تَبَيَّنَّ هَذَا فِي حَالَةِ الِانْفِرَادِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ الِاشْتِرَاكِ حَتَّى إذَا اشْتَرَكَ جَمَاعَةٌ مِنْ الرِّجَالِ فِي قَتْلِ حُرَّةٍ ، أَوْ أَمَةٍ فَعَلَيْهِمْ الْقِصَاصُ كَمَا لَوْ اشْتَرَكُوا فِي قَتْلِ رَجُلٍ حُرٍّ .

، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ الْمُسْلِمُ الذِّمِّيَّ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا قِصَاصَ عَلَيْهِ وَأَمَّا الذِّمِّيُّ إذَا قَتَلَ ذِمِّيًّا ، ثُمَّ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ بِالِاتِّفَاقِ وَيَحْكِي أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَضَى بِالْقِصَاصِ عَلَى هَاشِمِيٍّ بِقَتْلِ ذِمِّيٍّ فَجَعَلَ أَوْلِيَاءُ الْقَاتِلِ يُؤْذُونَهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ وَيَقُولُونَ يَا جَائِرُ يَا قَاتِلُ مُؤْمِنٍ بِكَافِرٍ فَشَكَاهُمْ إلَى الْخَلِيفَةِ فَقَالَ اُرْفُقْ بِهِمْ فَلَمَّا عَلِمَ مُرَادَ الْخَلِيفَةِ خَرَجَ وَأَمَرَ بِإِعَادَتِهِمْ إلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : لِأَوْلِيَاءِ الْقَتِيلِ هَاتُوا بَيِّنَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ صَاحِبَكُمْ كَانَ يُؤَدِّي الْجِزْيَةَ طَوْعًا فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَدَّعُونَ أَنَّهُ كَانَ مُمْتَنِعًا مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ ؛ فَلِهَذَا قَتَلَهُ وَلَا قَتْلَ عَلَيْهِمْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَعَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ فَدَرَأَ الْقَوَدَ بِهِ وَدَخَلَ عَلَى الْخَلِيفَةِ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَضَحِكَ وَقَالَ مَنْ يُقَاوِمُكُمْ يَا أَصْحَابَ أَبِي حَنِيفَةَ وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ } ، فَالْقِصَاصُ يَبْنِي عَلَى الْمُسَاوَاةِ وَبَعْدَ مَا انْتَفَتْ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا بِالنُّصُوصِ الظَّاهِرَةِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ } فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ دِمَاءَ غَيْرِهِمْ لَا يُكَافِئُ دِمَاءَهُمْ ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ { لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ } وَبِالْإِجْمَاعِ لَيْسَ الْمُرَادُ نَفْيَ الِاسْتِيفَاءِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ الْوُجُوبِ .
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْمَقْتُولَ مَنْقُوصٌ بِنَقْصِ الْكُفْرِ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى الْمُسْلِمِ بِقَتْلِهِ كَالْمُسْتَأْمَنِ وَهَذَا لِأَنَّ الْكُفْرَ مِنْ أَعْظَمِ النَّقَائِصِ ، فَالْكَافِرُ كَالْمَيِّتِ مِنْ وَجْهٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ } أَيْ كَافِرًا فَرَزَقْنَاهُ الْهُدَى فَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ مَنْ هُوَ

مَيِّتٌ مِنْ وَجْهٍ وَبَيْنَ مَنْ هُوَ حَيٌّ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ إذَا قَتَلَ ذِمِّيًّا ، فَقَدْ وُجِدَتْ الْمُسَاوَاةُ هُنَاكَ فَوَجَبَ الْقِصَاصُ ، ثُمَّ الْإِسْلَامُ بَعْدَ ذَلِكَ زِيَادَةً حَصَلَتْ عَلَى حَقِّ الْأَوْلِيَاءِ فَلَا يَمْنَعُهُمْ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ كَالْمُسْتَأْمَنِ إذَا قَتَلَ مُسْتَأْمَنًا يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ فِي النَّفْسِ ، وَالطَّرَفِ جَمِيعًا ، ثُمَّ لَوْ أَسْلَمَ الْقَاتِلُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْقِصَاصُ وَلِأَنَّ الْكُفْرَ مُهْدِرٌ لِلدَّمِ مُؤَثِّرٌ فِي الْإِبَاحَةِ ، فَإِذَا وُجِدَ وَلَمْ يُبَحْ يَصِيرُ شُبْهَةً كَالْمِلْكِ فَإِنَّهُ مُبِيحٌ ، فَإِذَا وُجِدَ فِي الْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَلَمْ يُبَحْ فَيَصِيرُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ مُهْدِرٌ لِلدَّمِ أَنَّ مَنْ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ كَالنِّسَاءِ ، وَالذَّرَّارِي إذَا قَتَلَهُمْ إنْسَانٌ لَا يَغْرَمُ شَيْئًا لِوُجُودِ الْمُهْدِرِ وَمَا ذَلِكَ إلَّا الْكُفْرُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّا أُمِرْنَا بِقَتْلِ الْكُفَّارِ لِكُفْرِهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ } يَعْنِي فِتْنَةَ الْكُفْرِ وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ } وَهَذَا الْكُفْرُ قَائِمٌ بَعْدَ عَقْدِ الذِّمَّةِ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ عَامِلٍ فِي إبَاحَةِ الدَّمِ بِمَعْنَى الدُّعَاءِ إلَى الدَّيْنِ بِأَحْسَنِ الْوُجُوهِ عَلَى مَا أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى { فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ } فَبَقِيَ بِاعْتِبَارِهِ شُبْهَةً يَنْتَفِي بِهَا الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِ بِمَنْزِلَةِ طَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ مَعَ طَهَارَةِ الْأَصِحَّاءِ فَإِنَّ سَيَلَانَ الدَّمِ الَّذِي هُوَ نَاقِضٌ لِلطَّهَارَةِ مَوْجُودٌ مَعَ طَهَارَةِ الْمُسْتَحَاضَةِ ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ عَامِلٍ فِي الْوَقْتِ وَمَعَ هَذَا لَا تَكُونُ طَهَارَتُهَا طَهَارَةَ الْأَصِحَّاءِ حَتَّى لَا تَصْلُحَ لِإِمَامَةِ الْأَصِحَّاءِ وَهَذَا

بِخِلَافِ الْمَالِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقَطْعُ بِسَرِقَةِ مَالِ الذِّمِّيِّ ؛ لِأَنَّ الْمُبِيحَ ، وَهُوَ الْكُفْرُ لَيْسَ فِي الْمَالِ ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي النَّفْسِ ، فَهُوَ نَظِيرُ حَقِيقَةِ الْإِبَاحَةِ بِسَبَبِ الْقَضَاءِ بِالرَّجْمِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِي الْمَالِ حَتَّى يَجِبَ الْقَطْعُ بِسَرِقَةِ مَالِهِ وَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَى أَحَدٍ بِقَتْلِهِ ؛ وَلِهَذَا أَوْجَبَ الْقَطْعَ بِسَرِقَةِ مَالِ الْمُسْتَأْمَنِ أَيْضًا .
يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْقَطْعَ فِي السَّرِقَةِ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَوُجُوبُهُ يَعْتَمِدُ الْجِنَايَةَ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ الْمُسَاوَاةِ وَمَعْنَى الْجِنَايَةِ يَتَحَقَّقُ فِي سَرِقَةِ مَالِ الذِّمِّيِّ ، وَالْمُسْتَأْمَنُ بِثُبُوتٍ إلَّا مَنْ لَهُمَا حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَمَا كَانَ الْقَطْعُ إلَّا نَظِيرَ الْكَفَّارَةِ ، وَالْكَفَّارَةُ تَجِبُ بِقَتْلِ الذِّمِّيِّ ، وَالْمُسْتَأْمَنُ كَمَا تَجِبُ بِقَتْلِ الْمُسْلِمِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { أَقَادَ مُسْلِمًا بِذِمِّيٍّ وَقَالَ أَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَّى بِذِمَّتِهِ } وَهَذَا التَّعْلِيلُ تَنْصِيصٌ عَلَى وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَى الْمُسْلِمِ بِقَتْلِ الذِّمِّيِّ وَاسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ مِنْهُ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ { أَنَّ رَجُلًا مُسْلِمًا قَتَلَ ذِمِّيًّا فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِصَاصِ وَقَالَ أَنَا أَحَقُّ مَنْ وَفَّى بِذِمَّتِهِ } .
وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ ذِمِّيٍّ ، ثُمَّ بَلَغَهُ أَنَّهُ فَارِسٌ مِنْ فُرْسَانِ الْعَرَبِ فَكَتَبَ فِيهِ أَنْ لَا يُقْتَلَ يَعْنِي يَسْتَرْضُوا الْأَوْلِيَاءَ فَيُصَالِحُوا عَلَى الدِّيَةِ ، وَإِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ لَمَّا قَتَلَ هُرْمُزَانَ بِتُهْمَةِ دَمِ أَبِيهِ اسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى عُثْمَانَ فَطَلَبَ مِنْهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ وَكَانَ يُدَافِعُ فِي ذَلِكَ أَيَّامًا ، ثُمَّ قَالَ : هَذَا رَجُلٌ قُتِلَ أَبُوهُ بِالْأَمْسِ فَأَنَا أَسْتَحِي أَنْ أَقْتُلَهُ الْيَوْمَ

، وَإِنَّ هُرْمُزَانَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ أَنَا وَلِيُّهُ أَعْفُو عَنْهُ وَأُؤَدِّي الدِّيَةَ فَهَذَا اتِّفَاقٌ مِنْهُمَا عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ وَقَضَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْقِصَاصِ عَلَى مُسْلِمٍ بِقَتْلِ ذِمِّيٍّ ، ثُمَّ رَأَى الْوَلِيَّ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَالَ مَاذَا صَنَعْت قَالَ : إنِّي رَأَيْت أَنَّ قَتْلِي إيَّاهُ لَا يَرُدُّ أَخِي ، وَقَدْ أَعْطَوْنِي الْمَالَ فَقَالَ : فَلَعَلَّهُمْ خَوَّفُوكَ فَقَالَ : لَا ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنَّمَا أَعْطَيْنَاكُمْ الدِّيَةَ وَتَبْذُلُونَ الْجِزْيَةَ لِتَكُونَ دِمَاؤُكُمْ كَدِمَائِنَا وَأَمْوَالُكُمْ كَأَمْوَالِنَا ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ دَمَ الذِّمِّيِّ مَضْمُونٌ بِالْقِصَاصِ حَتَّى إذَا كَانَ الْقَاتِلُ ذِمِّيًّا يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ بِهِ بِالْإِجْمَاعِ وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى انْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ الْمُبِيحَةِ عَنْ الدَّمِ وَبَعْدَ انْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ يَسْتَوِي أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ مُسْلِمًا ، أَوْ ذِمِّيًّا وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْأَبُ إذَا قَتَلَ ابْنَهُ ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ عِنْدَنَا لَيْسَ لِقِيَامِ الشُّبْهَةِ فِي دَمِ الِابْنِ ، بَلْ لِأَنَّ فَضِيلَةَ الْأُبُوَّةِ تُخْرِجُ الْوَلَدَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَوْجِبًا الْقَوَدَ عَلَى وَالِدِهِ كَمَا يَمْنَعُهُ مِنْ قَتْلِهِ شَرْعًا ، وَإِنْ كَانَ الْأَبُ مُبَاحَ الدَّمِ بِأَنْ كَانَ مُرْتَدًّا أَوْ حَرْبِيًّا ، أَوْ زَانِيًا ، وَهُوَ مُحْصَنٌ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْأُبُوَّةَ إذَا طَرَأَتْ تَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ ، وَالشُّبْهَةُ إنَّمَا تُؤَثِّرُ إذَا اقْتَرَنَتْ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ وَحَيْثُ كَانَ طَرَيَان الْأُبُوَّةِ مَانِعًا مِنْ الِاسْتِيفَاءِ عَرَفْنَا أَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ مَا ذَكَرْنَا .

فَأَمَّا الْمُسْتَأْمَنُ إذَا قَتَلَ مُسْتَأْمَنًا فَفِي وُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى الْمُسْلِمِ بِقَتْلِ الْمُسْتَأْمَنِ قِيَاسٌ ، أَوْ اسْتِحْسَانٌ فِي الْقِيَاسِ يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ ، وَهُوَ رِوَايَةُ أَحْمَدَ بْنِ عِمْرَانَ أُسْتَاذِ الطَّحَاوِيِّ عَنْ أَصْحَابِنَا وَرَوَاهُ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، فَقَالُوا : مَا ذَكَرَهُ فِي السِّيَرِ بِنَاءً عَلَى جَوَابِ الْقِيَاسِ أَنَّ الشُّبْهَةَ الْمُبِيحَةَ عَنْ الدَّمِ تُنْفَى بِعَقْدِ الْأَمَانِ فَلَا جَرَمَ يَجِبُ الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ ، وَالْمُسْلِمِ جَمِيعًا فَأَمَّا عَلَى جَوَابِ الِاسْتِحْسَانِ فَيَقُولُ بَقِيَتْ الشُّبْهَةُ الْمُبِيحَةُ فِي دَمِهِ ، وَهُوَ كَوْنُهُ حَرْبِيًّا ؛ لِأَنَّهُ مُمَكَّنٌ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَجُعِلَ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا يَجِبُ الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ عَلَى أَحَدٍ سَوَاءٌ كَانَ الْقَاتِلُ مُسْتَأْمَنًا أَوْ ذِمِّيًّا ، أَوْ مُسْلِمًا وَلِأَنَّ الذِّمِّيَّ مَحْقُونُ الدَّمِ عَلَى التَّأْبِيدِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ عَلَى الْمُسْلِمِ كَالْمُسْلِمِ وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْقِصَاصَ يَعْتَمِدُ الْمُسَاوَاةَ فِي الْحَيَاةِ ؛ لِأَنَّهُ إزْهَاقُ الْحَيَاةِ ، وَهُوَ مَشْرُوعٌ لِحِكْمَةِ الْحَيَاةِ ، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ فِي ذَلِكَ شَرْعًا لِوُجُودِ التَّسَاوِي فِي حَقْنِ الدَّمِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ ، وَالذِّمِّيِّ فَإِنَّ حَقْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُؤَبَّدٌ بِسَبَبٍ مَشْرُوعٍ ، وَهُوَ عَقْدُ الذِّمَّةِ خَلْفٌ عَنْ الْإِسْلَامِ فِي مَعْنَى الْحَقْنِ ، وَالْخَلَفُ يَعْمَلُ عَمَلَ الْأَصْلِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَصْلِ وَهَذَا الْحَقْنُ ، وَالتَّقَوُّمُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْإِحْرَازِ ، وَالْإِحْرَازُ يَكُونُ بِالدَّارِ لَا بِالدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَازَ بِالدَّيْنِ إنَّمَا يَكُونُ فِي حَقِّ مَنْ يَعْتَقِدُهُ فَأَمَّا الْإِحْرَازُ بِقُوَّةِ أَهْلِ الدَّارِ فَيَكُونُ فِي حَقِّ الْكُلِّ ، وَالذِّمِّيُّ فِي الْإِحْرَازِ مُسَاوٍ لِلْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا حَقِيقَةً وَحُكْمًا .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِحْرَازَ يُؤَثِّرُ فِي

الْمَالِ ، وَالنَّفْسِ جَمِيعًا ، ثُمَّ فِي الْمَالِ إحْرَازُ الذِّمِّيِّ كَإِحْرَازِ الْمُسْلِمِ حَتَّى يَجِبَ الْقَطْعُ بِسَرِقَةِ مَالِ الذِّمِّيِّ وَحَدُّ السَّرِقَةِ أَقْرَبُ إلَى السُّقُوطِ عِنْدَ تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ مِنْ الْقِصَاصِ وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ بِالرَّجْمِ ؛ لِأَنَّا لَا نَقُولُ يُبَاحُ قَتْلُهُ لِنُقْصَانٍ فِي إحْرَازِ كُلِّ جُزْءٍ عَلَى جَرِيمَتِهِ فَأَمَّا الْإِحْرَازُ فَقَائِمٌ فِي الْمَالِ ، وَالنَّفْسِ جَمِيعًا وَهَاهُنَا إنْ سَلَّمَ لَنَا أَنَّ الْإِحْرَازَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ وَاَلَّذِي سَوَاءٌ يَتَّضِحُ الْكَلَامُ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَدَّعِيَ بَعْدَ ذَلِكَ بَقَاءَ الشُّبْهَةِ بِسَبَبِ إصْرَارِهِ عَلَى الْكُفْرِ ؛ لِأَنَّ الْمُبِيحَ كَانَ هُوَ الْقِتَالُ دُونَ الْكُفْرِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { ، فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ } وَلَمَّا { رَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةً مَقْتُولَةً قَالَ : هَاهْ مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ فَلِمَ قُتِلَتْ } ، وَالْقِتَالُ يَنْعَدِمُ بِالْإِحْرَازِ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ أَصْلًا كَمَا يَنْعَدِمُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ ، وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِي السِّيَرِ ، وَإِذَا ثَبَتَ انْتِفَاءُ الشُّبْهَةِ ، وَالْمُسَاوَاةِ فِي الْإِحْرَازِ ثَبَتَتْ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فَضِيلَةُ الْإِسْلَامِ فِي الْقَاتِلِ مَانِعًا ؛ لِأَنَّ طَرَيَان هَذِهِ الْفَضِيلَةُ لَا تَمْنَعُ الِاسْتِيفَاءَ فَلَوْ كَانَ اقْتِرَانُهَا بِالسَّبَبِ يَمْنَعُ الْوُجُوبَ لَكَانَ طَرَيَانُهَا يَمْنَعُ الِاسْتِيفَاءَ كَفَضِيلَةِ الْأُبُوَّةِ وَفَضِيلَةِ الْإِسْلَامِ فِي الْمَنْكُوحَةِ فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ عَلَيْهَا لِلْكَافِرِ يَمْنَعُ الْوَطْءَ إذَا طَرَأَ بَعْدَ النِّكَاحِ .
فَأَمَّا الْمُسْلِمُ إذَا قَتَلَ مُسْتَأْمَنًا فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْسَانِ لِانْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْإِحْرَازِ ، فَالْمُسْتَأْمَنُ غَيْرُ مُحْرِزٍ نَفْسَهُ بِدَارِ الْإِسْلَامِ عَلَى التَّأْبِيدِ ؛ وَلِهَذَا لَا يُوجِبُ الْقَطْعَ بِسَرِقَةِ مَالِهِ لِبَقَاءِ الشُّبْهَةِ

الْمُبِيحَةِ وَهِيَ الْمُحَارَبَةُ فَإِنَّهُ مُمْكِنٌ مِنْ أَنْ يَرْجِعَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَيَعُودُ حَرْبِيًّا لِلْمُسْلِمِينَ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ نَقُولُ لَا يُقْتَلُ الذِّمِّيُّ بِالْمُسْتَأْمَنِ أَيْضًا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّ الذِّمِّيَّ مُحْرِزٌ نَفْسَهُ بِدَارِنَا عَلَى التَّأْبِيدِ فَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُسْتَأْمَنِ فَأَمَّا الْآيَاتُ فِي نَفْيِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْكُفَّارِ ، وَالْمُؤْمِنِينَ ، فَالْمُرَادُ بِهَا فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي آخِرِ كُلِّ آيَةٍ وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ } فَمِنْ أَصْلِنَا أَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ فَلَا يَكُونُ هَذَا بَيَانُ أَنَّ دِمَاءَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ لَا تُكَافِئُ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ } ، فَهُوَ غَيْرُ مُجْرًى عَلَى ظَاهِرِهِ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ إذَا أَسْلَمَ يُقْتَلُ قِصَاصًا وَفِيهِ قَتْلُ مُؤْمِنٍ بِكَافِرٍ ، ثُمَّ الْمُرَادُ بِهِ الْحَرْبِيُّ يَعْنِي مَنْ لَا يَحِلُّ قَتْلُهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ كَالنِّسَاءِ ، وَالصِّبْيَانِ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ الْمُؤْمِنُونَ بِهِمْ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ { وَلَا ذُو عَهْدٍ فِي عَهْدِهِ } أَيْ وَلَا يُقْتَلُ ذُو الْعَهْدِ بِالْكَافِرِ ، وَإِنَّمَا لَا يُقْتَلُ ذُو الْعَهْدِ بِالْكَافِرِ الْحَرْبِيِّ ، فَإِنْ قِيلَ هَذَا ابْتِدَاءٌ أَيْ لَا يُقْتَلُ ذُو الْعَهْدِ فِي مُدَّةِ عَهْدِهِ قُلْنَا ابْتِدَاءُ الْوَاوِ حَقِيقَةً لِلْعَطْفِ خُصُوصًا فِيمَا لَا يَكُونُ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ ، فَإِنْ قِيلَ قَدْ رُوِيَ وَلَا بِذِي عَهْدٍ فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُقْتَلُ بِذِي الْعَهْدِ قُلْنَا إنْ ثَبَتَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ فَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ وَبِهِ نَقُولُ إنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُقْتَلُ بِالْمُسْتَأْمَنِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اجْتَمَعَ نَفَرٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ عَلَى قَتْلِ ذِمِّيٍّ قُتِلُوا بِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ كَالْمُسْلِمِينَ .

وَكُلُّ قَطْعٍ مِنْ مَفْصِلٍ فَفِيهِ الْقِصَاصُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْقِصَاصِ الْمُسَاوَاةُ وَفِي الْقَطْعِ مِنْ الْمَفَاصِلِ يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ فَيَجِبُ الْقِصَاصُ فَأَمَّا كُلُّ قَطْعٍ لَا يَكُونُ مِنْ مَفْصِلٍ ، بَلْ يَكُونُ بِكَسْرِ الْعَظْمِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِيهِ عِنْدَنَا وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ مَشْرُوعٌ لِمَعْنَى الزَّجْرِ ، وَالْجِنَايَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ فِي الْغَالِبِ إنَّمَا تَكُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَقَلَّ مَا يَكُونُ مِنْ الْمَفْصِلِ فَلَوْ قُلْنَا لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي ذَلِكَ أَدَّى إلَى إبْطَالِ الْحِكْمَةِ ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا قِصَاصَ فِي الْعَظْمِ } وَلِأَنَّهُ لَا تَتَأَتَّى مُرَاعَاةُ الْمُسَاوَاةِ فِي الْعِظَامِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْكَسِرُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي بَرِئَ كَسْرُهُ وَبِدُونِ اعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ مَا خَلَا السِّنَّ ، فَالْقِصَاصُ يَجِبُ فِيهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ .

وَلَا تُقْطَعُ الْيَسَارُ بِالْيَمِينِ وَلَا الْيَمِينُ بِالْيَسَارِ وَلَا الْيَدُ بِالرِّجْلِ وَلَا الْإِبْهَامُ بِغَيْرِهَا مِنْ الْأَصَابِعِ وَلَا أُصْبُعٌ مِنْ يَدٍ بِأُصْبُعٍ مِنْ الرِّجْلِ لِانْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَعْضَاءِ فَإِنَّ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِهَا لَا مُسَاوَاةٌ يَعْنِي مَقْصُودُ مَنْفَعَةِ الْبَطْشِ فِي الْيَدِ ، وَالْعَمَلِ بِهَا وَبَيْنَ الْيَمِينِ ، وَالْيُسْرَى فِي ذَلِكَ تَفَاوُتٌ ، وَكَذَلِكَ فِي الْخِلْقَةِ ، وَالْهَيْئَةِ يَظْهَرُ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الْإِبْهَامِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَصَابِعِ وَبَيْنَ الْيَدِ ، وَالرِّجْلِ وَأَصَابِعِ الْيَدِ وَأَصَابِعِ الرِّجْلِ فَيُمْتَنَعُ جَرَيَانُ الْقِصَاصِ بَيْنَهُمَا وَلَا يُقْتَصُّ مِنْ عَظْمٍ مَا خَلَا السِّنَّ ، وَالْأَصْلُ فِي جَرَيَانِ الْقِصَاصِ فِي الْأَسْنَانِ قَوْله تَعَالَى { ، وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ } وَرُوِيَ { أَنَّ الرُّبَيِّعَ عَمَّةَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ كَسَرَتْ سِنَّ جَارِيَةٍ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْقِصَاصِ فَقَالَ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ ، أَوَيُكْسَرُ سِنُّ الرُّبَيِّعِ بِسِنِّ جَارِيَةٍ فَرَضُوا بِالْأَرْشِ ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إنَّ لِلَّهِ عِبَادًا لَوْ أَقْسَمُوا عَلَيْهِ لَأَبَرَّهُمْ مِنْهُمْ أَنَسُ بْنُ النَّضْرِ } ، وَالْأَصْلُ فِي جَرَيَانِ الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْفِعْلِ وَفِي الْمَحَلِّ أَمَّا الْمَأْخُوذُ بِالْفِعْلِ فَلِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي ضَمَانِ الْعُدْوَانِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا فِي كُلِّ مَا يَتَأَتَّى ، وَالْمُتَأَتَّى اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَيَعْنِي بِالْمُمَاثَلَةِ فِي الْمَأْخُوذِ بِالْفِعْلِ الْمُسَاوَاةُ فِي الْمَنْفَعَةِ ، وَالْمُسَاوَاةُ فِي الْبَدَلِ ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الْمَنْفَعَةِ الْمَقْصُودَةِ دَلِيلُ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ ، وَإِنْ اتَّحَدَ الْأَصْلُ فَلَأَنْ تَنْعَدِمَ الْمُمَاثَلَةُ أَوْلَى ؛ وَلِهَذَا لَا تُقْطَعُ الْيَمِينُ بِالْيَسَارِ ، وَالتَّفَاوُتُ فِي الْبَدَلِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى انْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ بِمُقَابَلَةِ الْمُبْدَلِ ، وَهُوَ قِيمَتُهُ

، فَالتَّفَاوُتُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى التَّفَاوُتِ فِي الْمُبْدَلِ .

وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ لَا يَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَ الرِّجَالِ ، وَالنِّسَاءُ فِي الْأَطْرَافِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَجْرِي ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَيَسْلُكُونَ فِي الْبَابِ طَرِيقًا سَهْلًا ، وَهُوَ اعْتِبَارُ الْأَطْرَافِ بِالنُّفُوسِ ؛ لِأَنَّهَا تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ وَثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي التَّبَعِ بِثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ فَكَمَا يَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَ الرِّجَالِ ، وَالنِّسَاءِ فِي النُّفُوسِ فَكَذَلِكَ فِي الْأَطْرَافِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لَا مُمَاثَلَةَ بَيْنَ طَرَفِ الرَّجُلِ وَطَرَفِ الْمَرْأَةِ فِي الْمَنْفَعَةِ وَلَا فِي الْبَدَلِ ، وَالْمُمَاثَلَةُ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْقِصَاصِ فِي الْأَطْرَافِ بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّحِيحَةَ لَا تُسْتَوْفَى بِالشَّلَّاءِ لِلتَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا فِي الْبَدَلِ ، وَالْمَنْفَعَةِ وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِمْ إنَّ الشَّلَّاءَ مَيِّتَةٌ لَا رُوحَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَهَا فِي الْقِصَاصِ جَائِزٌ وَبِقَطْعِهَا يَتَأَلَّمُ صَاحِبُهَا وَيَجِبُ حُكُومَةُ الْعَدْلِ لِقَطْعِهَا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْحَيَاةَ فِيهَا بَاقِيَةٌ ، وَلَكِنَّ التَّفَاوُتَ فِي الْبَدَلِ فَلَا تُقْطَعُ الصَّحِيحَةُ بِهَا بِخِلَافِ النُّفُوسِ ، فَالْمُعْتَبَرُ هُنَاكَ الْمُسَاوَاةُ فِي الْفِعْلِ حَتَّى تُسْتَوْفَى النَّفْسُ الصَّحِيحَةُ بِالزَّمِنَةِ ، فَإِنْ قِيلَ التَّفَاوُتُ فِي الْبَدَلِ يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْأَكْمَلِ بِالْأَنْقَصِ وَلَا يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْأَنْقَصِ بِالْأَكْمَلِ حَتَّى إنَّ الشَّلَّاءَ تُقْطَعُ بِالصَّحِيحَةِ وَعِنْدَكُمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا تُقْطَعُ يَدُ الْمَرْأَةِ بِالرَّجُلِ قُلْنَا نَعَمْ إذَا كَانَ التَّفَاوُتُ بِسَبَبٍ حِسِّيٍّ كَالشَّلَلِ وَفَوَاتُ بَعْضِ الْأَصَابِعِ ، فَهُوَ كَمَا قُلْنَا فَأَمَّا إذَا كَانَ التَّفَاوُتُ بِمَعْنًى حُكْمِيٍّ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ كَالْيَمِينِ مَعَ الْيَسَارِ وَهَذَا الْمَعْنَى ، وَهُوَ أَنَّ فِي التَّفَاوُتِ إذَا كَانَ بِنُقْصَانٍ حِسِّيٍّ فَمَنْ لَهُ الْحَقُّ إذَا رَضِيَ بِالِاسْتِيفَاءِ يُجْعَلُ هُوَ بِالْبَعْضِ حَقَّهُ مُسْتَوْفِيًا لِمَا بَقِيَ وَذَلِكَ جَائِزٌ ؛ وَلِهَذَا

لَا يُسْتَوْفَى الْأَكْمَلُ بِالْأَنْقَصِ ، وَإِنْ رَضِيَ بِهِ الْقَاطِعُ ؛ لِأَنَّهُ بِالرِّضَا يَكُونُ بَاذِلًا لِلزِّيَادَةِ وَلَا يَجُوزُ اسْتِيفَاءُ الطَّرَفِ بِالْبَدَلِ فَأَمَّا إذَا كَانَ التَّفَاوُتُ لِمَعْنًى حُكْمِيٍّ فَلَا وَجْهَ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ هَاهُنَا بِطَرِيقِ إسْقَاطِ الْبَعْضِ وَلَا بِطَرِيقِ الْبَدَلِ .
وَعَلَى هَذَا قَالَ الشَّافِعِيُّ تُقْطَعُ يَدُ الْعَبْدِ بِيَدِ الْحُرِّ كَمَا يُقْتَلُ الْعَبْدُ بِالْحُرِّ ، وَكَذَلِكَ تُقْطَعُ يَدُ الْعَبْدِ بِيَدِ الْعَبْدِ كَمَا يُقْتَلُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ قِصَاصًا وَلَا تُقْطَعُ يَدُ الْحُرِّ بِيَدِ الْعَبْدِ كَمَا لَا يُقْتَلُ الْحُرُّ بِالْعَبْدِ عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا لَا يَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَ الْعَبِيدِ ، وَالْأَحْرَارِ وَلَا بَيْنَ الْعَبِيدِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لِانْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْبَدَلِ أَمَّا فِيمَا بَيْنَ الْعَبِيدِ ، وَالْأَحْرَارِ فَظَاهِرٌ ، وَكَذَلِكَ بَيْنَ الْعَبِيدِ إذَا اخْتَلَفَتْ الْقِيَمُ فِيهِمْ ، وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَوَتْ ؛ لِأَنَّ طَرِيقَ مَعْرِفَةِ الْقِيمَةِ الْحَزْرُ ، وَالْمُمَاثَلَةُ الْمَشْرُوطَةُ شَرْعًا لَا تَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْحَزْرِ كَالْمُمَاثَلَةِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا وَلَا يُقَالُ نِصَابُ السَّرِقَةِ يُعْرَفُ بِالتَّقْوِيمِ وَإِنْ كَانَ يَتَعَلَّقُ بِهِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَكَذَلِكَ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْقِيمَةِ هَاهُنَا ؛ لِأَنَّا لَا نُنْكِرُ مَعْرِفَةَ الْقِيمَةِ بِالْحَزْرِ ، وَالظَّنِّ ، وَإِنَّمَا نُنْكِرُ ثُبُوتَ الْمُسَاوَاةِ بِالْحَزْرِ قَطْعًا وَفِي بَابِ السَّرِقَةِ الْحَاجَةُ إلَى مَعْرِفَةِ الْقِيمَةِ لَا إلَى الْمُسَاوَاةِ وَلَا يُقَالُ إذَا كَانَتْ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَبْدَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ آلَافٍ فَهَاهُنَا الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي الْبَدَلِ ثَابِتَةٌ شَرْعًا وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا فِي الْأَطْرَافِ ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ فِي بَدَلِ نَفْسِ الْعَبْدِ فَأَمَّا بَدَلُ طَرَفِهِ فَلَا يَدْخُلُهُ التَّقْدِيرُ شَرْعًا ، وَلَكِنْ تَجِبُ قِيمَتُهُ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ فَيَتَحَقَّقُ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فِيهِ

وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ أَطْرَافَ الْعَبْدِ يَسْلُكُ بِهَا مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِصَاصِ فِي الْأَمْوَالِ .

وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قُلْنَا يَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ ، وَالذِّمِّيِّ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لِلْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي الْبَدَلِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُقْطَعُ طَرَفُ الذِّمِّيِّ بِطَرَفِ الْمُسْلِمِ وَلَا يُقْطَعُ طَرَفُ الْمُسْلِمِ بِطَرَفِ الذِّمِّيِّ اعْتِبَارًا بِالنَّفْسِيَّةِ عَلَى قَوْلِهِ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَا يُقْطَعُ يَدَانِ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ عِنْدَنَا لِلتَّفَاوُتِ فِي الْبَدَلِ ، وَالتَّفَاوُتِ فِي الْمِقْدَارِ وَتَأْثِيرُ التَّفَاوُتِ فِي الْمِقْدَارِ فِيمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُمَاثَلَةُ أَكْثَرُ مِنْ تَأْثِيرِ التَّفَاوُتِ فِي الصِّفَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ التَّفَاوُتُ فِي الْمِقْدَارِ يَمْنَعُ جَوَازَ الْعَقْدِ ، وَالتَّفَاوُتُ فِي الصِّفَةِ لَا يَمْنَعُ ، ثُمَّ التَّفَاوُتُ فِي الصِّفَةِ هَاهُنَا يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْأَكْمَلِ بِالْأَنْقَصِ كَالصَّحِيحَةِ بِالشَّلَّاءِ ، فَالتَّفَاوُتُ فِي الْمِقْدَارِ أَوْلَى وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُقْطَعُ يَدَانِ بِيَدٍ وَاحِدَةٍ إذَا وَضَعَا السِّكِّينَ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدَةٍ اعْتِبَارًا لِلْقِصَاصِ فِي الطَّرَفِ بِالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ إلَّا أَنَّ فِي الْأَطْرَافِ إذَا وَضَعَ أَحَدُهُمَا السِّكِّينَ مِنْ جَانِبٍ ، وَالْآخَرُ مِنْ جَانِبٍ وَأَمَرَّا حَتَّى الْتَقَى السِّكِّينَانِ يَجِبُ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ إزْهَاقٌ لِلْحَيَاةِ ، وَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي بِحَالٍ فَبِاخْتِلَافِ مَحَلِّ الْفِعْلِ لَا يَثْبُتُ التَّجَزُّؤُ ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاتِلٌ عَلَى الْكَمَالِ كَمَا لَوْ اتَّحَدَ مَحَلُّ فِعْلِهِمَا فَأَمَّا الْقَطْعُ فَإِنَّهُ جُزْءٌ مَحْسُوسٌ وَذَلِكَ يَتَنَوَّعُ نَوْعَيْنِ نَوْعٌ مِنْهُ يَتَجَزَّأُ ، وَهُوَ عِنْدَ اخْتِلَافِ مَحَلِّ الْفِعْلِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوجَدْ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إمْرَارُ السِّلَاحِ إلَّا عَلَى بَعْضِ الْعُضْوِ ، وَنَوْعٌ مِنْهُ لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي ، وَهُوَ مَا اتَّحَدَ مَحَلُّ الْفِعْلِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمَرَّ السِّلَاحَ عَلَى جَمِيعِ الْعُضْوِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُشَارَ إلَى شَيْءٍ مِنْ

الْمَحَلِّ فَيُقَالُ الْقَطْعُ بِفِعْلِ هَذَا دُونَ فِعْلِ ذَلِكَ وَعِنْدَ اخْتِلَافِ مَحَلِّ الْفِعْلِ يُقَالُ هَذَا الْجَانِبُ انْقَطَعَ بِفِعْلِ هَذَا ، وَالْجَانِبُ الْآخَرُ انْقَطَعَ بِفِعْلِ الْآخَرِ ، فَإِذَا كَانَ غَيْرَ مُتَجَزِّي كَانَ قِيَاسُ النَّفْسِ يُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاطِعًا بِجَمِيعِ الْيَدِ حُكْمًا فَيَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ لِاعْتِبَارِ مَعْنَى الزَّجْرِ كَمَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي النَّفْسِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّ عِنْدَ تَمَيُّزِ مَحَلِّ الْفِعْلِ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكُومَةُ الْعَدْلِ وَعِنْدَ اتِّحَادِ مَحَلِّ الْفِعْلِ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَكُمْ نِصْفُ دِيَةِ الْيَدِ فِي مَالِهِ ، وَكَذَلِكَ قُلْتُمْ لَوْ أَنَّ مُحْرِمَيْنِ قَتَلَا صَيْدًا بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِيمَتَهُ صَحِيحًا وَلَوْ جَرَحَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَحَلٍّ عَلَى حِدَةٍ ضَمِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قِيمَتَهُ مَجْرُوحًا بِجِرَاحَةِ صَاحِبِهِ فَبِهِ يَتَّضِحُ هَذَا الْفَرْقُ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاطِعٌ بَعْضَ الْيَدِ سَوَاءٌ اخْتَلَفَ مَحَلُّ الْفِعْلِ ، أَوْ اتَّحَدَ ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ هُوَ الْفِعْلُ بَيْنَ مُتَّصِلَيْنِ ؛ وَلِهَذَا يُطْلَقُ هَذَا الِاسْمُ عَلَى الْخَشَبِ ، وَالنَّبَاتِ ، وَالْجِبَالِ وَنَحْنُ نَتَيَقَّنُ أَنَّ مَا انْقَطَعَ بِفِعْلِ أَحَدِهِمَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِفِعْلِ الْآخَرِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِإِمْرَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السِّلَاحُ عَلَى جَمِيعِ الْعُضْوِ ؛ لِأَنَّ إمْرَارَ السِّلَاحِ مِنْ غَيْرِ حُصُولِ الْقَطْعِ بِهِ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ وَمَا انْقَطَعَ بِقُوَّةِ أَحَدِهِمَا لَمْ يَنْقَطِعْ بِقُوَّةِ الْآخَرِ هَذَا شَيْءٌ يَعْرِفُهُ كُلُّ عَاقِلٍ فَعَرَفْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاطِعُ بَعْضِ الْيَدِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْطَعَ جَمِيعَ يَدِهِ بِقَطْعِهِ بَعْضَ الْيَدِ ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي الْفِعْلِ مُعْتَبَرَةٌ لَا مُحَالَةٌ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْقَطْعَ فِي الْجُمْلَةِ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي وَمَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي إذَا اشْتَرَكَ فِيهِ اثْنَانِ

يُضَافُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْضُهُ ، وَإِنْ حَصَلَ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مُتَجَزِّي كَمَا لَوْ اشْتَرَكَا فِي تَمْزِيقِ ثَوْبٍ ، أَوْ فِي اسْتِهْلَاكِ دُرَّةٍ ، أَوْ فِي جَمَلٍ حَبَسَهُ يُضَافُ نِصْفُهُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَإِنْ حَصَلَ عَلَى وَجْهٍ غَيْرِ مُتَجَزِّئٍ فَأَمَّا النَّفْسُ ، فَالْقِيَاسُ فِيهَا هَكَذَا ، وَلَكِنْ تَرَكْنَا الْقِيَاسَ بِالْأَثَرِ ، وَهُوَ حَدِيثُ عُمَرَ ، وَالْمَخْصُوصُ مِنْ الْقِيَاسِ بِالْأَثَرِ لَا يُلْحَقُ بِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي النَّفْسِ لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي بِحَالٍ ، وَالْفِعْلُ فِي الطَّرَفِ يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ يَتَحَقَّقُ أَنْ يُقْطَعَ بَعْضُ الْيَدِ وَيَتْرُكَ مَا بَقِيَ وَفِي النَّفْسِ لَا يَتَحَقَّقُ إزْهَاقُ بَعْضِ الْحَيَاةِ دُونَ الْبَعْضِ فَلِعَدَمِ احْتِمَالِ التَّجَزُّؤِ هُنَاكَ يُجْعَلُ كَامِلًا فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلِاحْتِمَالِ التَّجَزُّؤِ هَاهُنَا يُجْعَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاطِعًا لِلْبَعْضِ يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ الْفِعْلَ فِي النَّفْسِ يَكْمُلُ بِسِرَايَةِ فِعْلِهِ فَإِنَّهُ لَوْ جُرِحَ فَسَرَى إلَى النَّفْسِ كَانَ مُبَاشِرًا قَتْلَهُ ، وَالْفِعْلُ فِي الطَّرَفِ لَا يَكْمُلُ بِسِرَايَةِ الْفِعْلِ ، وَأَنَّهُ لَوْ قَطَعَ فَسَرَى إلَى مَا بَقِيَ حَتَّى سَقَطَ لَا يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ وَسِرَايَةُ فِعْلِهِ أَقْرَبُ إلَى فِعْلِهِ مِنْ فِعْلِ شَرِيكِهِ ، فَإِذَا لَمْ يَجُزْ تَكْمِيلُ فِعْلِهِ بِسِرَايَةِ فِعْلِهِ فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ ، فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ تَكْمِيلُهُ بِفِعْلِ شَرِيكِهِ أَوْلَى .
وَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ الزَّجْرِ .
فَإِنَّ مَعْنَى الزَّجْرِ مُعْتَبَرٌ بَعْدَ وُجُودِ الْمُمَاثَلَةِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا تُقْطَعُ يَدُ الْحُرِّ بِيَدِ الْعَبْدِ وَلَا الصَّحِيحَةُ بِالشَّلَّاءِ لِانْعِدَامِ الْمُمَاثَلَةِ ، وَإِنْ وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى الزَّجْرِ وَلِأَنَّ الْمُشْتَرِكَيْنِ فِي أَدْنَى مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقَطْعُ لَا يَلْزَمُهُمَا الْقَطْعُ كَمَا لَوْ اشْتَرَكَ رَجُلَانِ فِي سَرِقَةِ نِصَابٍ وَاحِدٍ لَا يُقْطَعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا ،

وَإِنْ كَانَ الْمَسْرُوقُ دُرَّةً لَا تَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ وَبِهِ فَارَقَ النَّفْسَ فَإِنَّ الْمُشْتَرِكَيْنِ فِي أَدْنَى مَا يُوجِبُ الْقَتْلَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى يَلْزَمُهُمَا الْقَتْلُ ، نَحْوُ مَا إذَا اشْتَرَكَا فِي قَتْلِ رَجُلٍ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ فَيُعْتَبَرُ حَقُّ الْعَبْدِ بِحَقِّ اللَّهِ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا قُلْنَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةِ الْيَدِ فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّا نَتَيَقَّنُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَاطِعٌ لِلنِّصْفِ ، وَالْفِعْلُ عَمْدٌ ، وَكَذَلِكَ إذَا وَضَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السِّكِّينَ مِنْ جَانِبٍ فَإِنَّا إنْ عَلِمْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَطَعَ نِصْفَ الْيَدِ يَلْزَمُهُ نِصْفُ الدِّيَةِ ، وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى حُكُومَةِ الْعَدْلِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا قَطَعَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْرَ النِّصْفِ .

وَلَوْ قَطَعَ رَجُلٌ يَدَ رَجُلٍ مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ أَوْ رِجْلِهِ مِنْ نِصْفِ السَّاقِ عَمْدًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ قِصَاصٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْفِعْلِ ، وَالْمَحَلِّ فَإِنَّ فِعْلَهُ كَانَ فِي كَسْرِ الْعَظْمِ دُونَ الْقَطْعِ مِنْ الْفَصْلِ وَفِيمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الدِّيَةِ وَحُكُومَةُ الْعَدْلِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَصْحَابِنَا وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ .

وَلَوْ قَطَعَ رَجُلٌ يَدَيْ رَجُلٍ الْيُمْنَى ، وَالْيُسْرَى قُطِعَتْ يَدَاهُ بِهِمَا ، وَكَذَلِكَ إنْ قَطَعَهُمَا مِنْ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ الْمَشْرُوطَةَ فِي الْفِعْلِ ، وَالْمَحَلِّ ، وَالْمَأْخُوذُ بِالْفِعْلِ مَوْجُودٌ ، فَإِنْ قِيلَ هُوَ مَا فَوَّتَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْفَعَةَ الْجِنْسِ ، وَإِذَا قَطَعْنَا يَدَهُ كَانَ فِيهِ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ فَلَا يَتَحَقَّقُ الْمُمَاثَلَةُ قُلْنَا فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُعْتَبَرُ مَا يَسْتَوْفِيهِ هُوَ ، وَلَيْسَ فِي اسْتِيفَائِهِ مَنْفَعَةُ الْجِنْسِ ، ثُمَّ هَذَا الْمَعْنَى إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي السَّرِقَةِ ؛ لِأَنَّ تَفْوِيتَ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ اسْتِهْلَاكٌ حُكْمًا ، وَالِاسْتِهْلَاكُ الْحَقِيقِيُّ فِي حَدِّ السَّرِقَةِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ فَكَذَلِكَ الْحُكْمِيُّ فَأَمَّا فِي الْقِصَاصِ ، فَالِاسْتِهْلَاكُ الْحَقِيقِيُّ مَشْرُوعٌ إذَا كَانَتْ الْمُمَاثَلَةُ فِيهِ فَكَذَلِكَ الِاسْتِهْلَاكُ الْحُكْمِيُّ .

وَلَوْ قَطَعَ رَجُلٌ يَمِينَيْ رَجُلَيْنِ قُطِعَتْ يَمِينُهُ بِهِمَا وَغَرِمَ دِيَةُ يَدٍ مِنْهُمَا عِنْدَنَا سَوَاءٌ قَطَعَهُمَا مَعًا ، أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ إنْ قَطَعَهُمَا عَلَى التَّعَاقُبِ يُقْطَعُ بِالْأُولَى مِنْهُمَا وَلِلثَّانِي الْأَرْشُ ، وَإِنْ قَطَعَهُمَا مَعًا يُقْرِعُ بَيْنَهُمَا وَيَكُونَ الْقِصَاصُ لِمَنْ خَرَجَتْ قُرْعَتُهُ ، وَالْأَرْشُ لِلْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ قَطَعَ يَدَ أَحَدِهِمَا ، فَقَدْ صَارَتْ مَشْغُولَةً بِحَقِّهِ مُسْتَحِقَّةً لَهُ قِصَاصًا ، وَالْمَشْغُولُ لَا يُشْغَلُ كَمَنْ رَهَنَ عَيْنًا مِنْ إنْسَانٍ وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ ، ثُمَّ رَهَنَهَا مِنْ آخَرَ فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ الثَّانِي مَعَ بَقَاءِ حَقِّ الْأَوَّلِ وَهُنَا حَقُّ الْأَوَّلِ بَاقٍ فَمَنَعَ ذَلِكَ ثُبُوتُ حَقِّ الثَّانِي فِي الْيَدِ بِخِلَافِ مَا إذَا عُفِيَ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ قَدْ زَالَ إذْ لَمْ يَبْقَ لَهُ حَقٌّ فِي الْمَحَلِّ ، وَكَذَلِكَ إذَا بَادَرَ الثَّانِي وَاسْتَوْفَى ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِلْأَوَّلِ حَقٌّ فِي الْمَحَلِّ لِفَوَاتِهِ فَكَانَ الثَّانِي مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ ، فَإِذَا حَضَرَا جَمِيعًا فَحَقُّ الْأَوَّلِ قَائِمٌ فَيَتَرَجَّحُ بِالسَّبْقِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي عَيْنِهِ وَفَاءٌ بِحَقِّهِمَا بِالِاتِّفَاقِ حَتَّى إنَّ عِنْدَكُمْ يَقْضِي بِأَرْشِ يَدٍ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ قُطِعَا جَمِيعًا وَلَوْ كَانَ فِي عَيْنِهِ وَفَاءٌ بِحَقِّهِمَا لَمْ يَجِبْ لَهُمَا شَيْءٌ آخَرُ بَعْدَ اسْتِيفَائِهِ كَمَا قُلْتُمْ فِي النَّفْسِ إذَا ثَبَتَ أَنَّ فِي عَيْنِهِ وَفَاءً بِحَقِّ أَحَدِهِمَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَرَجَّحْنَا بِالسَّبْقِ أَوْ بِخُرُوجِ الْقُرْعَةِ إذَا حَصَلَ الْفِعْلَانِ جَمِيعًا كَمَا هُوَ أَصْلٌ ، ثُمَّ فِيمَا قُلْتُمْ جَمَعَ بَيْنَ الْقِصَاصِ ، وَالْأَرْشِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِسَبَبِ فِعْلِ وَاحِدٍ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى أَصْلِكُمْ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتٌ فِي جَمِيعِ الْيَدِ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ تَقَرَّرَ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَهُوَ الْقَطْعُ الْمَحْسُوسُ وَكَوْنُهُ مَشْغُولًا

بِحَقِّ الْأَوَّلِ لَمَّا لَمْ يَمْنَعْ تَقَرُّرَ السَّبَبِ فِي حَقِّ الثَّانِي لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ حُكْمِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مِلْكَ الْمَوْلَى فِي عَبْدِهِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ عَلَيْهِ إذَا تَقَرَّرَ سَبَبُهُ ، وَهُوَ الْقَتْلُ ، وَالْحَقُّ دُونَ الْمِلْكِ بِخِلَافِ الرَّهْنِ فَإِنَّ ثُبُوتَ السَّبَبِ هُنَاكَ بِطُرُقِ الْحُكْمِ وَاشْتِغَالِ الْمَحَلِّ بِحَقِّ الْأَوَّلِ يَمْنَعُ ثُبُوتَ السَّبَبِ فِي حَقِّ الثَّانِي حُكْمًا ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ عَفَى الْأَوَّلُ كَانَ لِلثَّانِي أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ وَتَأْثِيرُ الْعَفْوِ فِي الْإِسْقَاطِ فَلَوْ لَمْ يَجِبْ لَهُ الْقِصَاصُ بِأَصْلِ الْفِعْلِ لَمْ يَجِبْ بِالْعَفْوِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الثَّانِيَ لَوْ بَادَرَ وَاسْتَوْفَى كَانَ مُسْتَوْفِيًا لِلْقِصَاصِ فَعَرَفْنَا أَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتٌ فِي جَمِيعِ الْيَدِ ، وَالْمُسَاوَاةُ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ تُوجِبُ الْمُسَاوَاةَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ كَالْغَرِيمَيْنِ فِي التَّرِكَةِ ، وَالشَّفِيعَيْنِ فِي الشِّقْصِ الْمَشْفُوعِ إلَّا أَنَّهُ إذَا قُطِعَتْ يَدُهُ بِهِمَا ، فَقَدْ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَوْفِيًا نِصْفَ حَقِّهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْقَطْعَ يَقَعُ مُتَجَزِّئًا فَإِنَّ الْقَطْعَ الَّذِي هُوَ ظُلْمٌ يَقَعُ مِنْ اثْنَيْنِ بِصِفَةِ التَّجَزُّؤِ فَكَذَلِكَ الْقَطْعُ الَّذِي هُوَ جُزْءٌ بِخِلَافِ النَّفْسِ فَإِنَّ مَا هُوَ ظُلْمٌ هُنَاكَ لَا يَقَعُ مُتَجَزِّيًا فَكَذَلِكَ مَا هُوَ جُزْءٌ .
وَإِذَا صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَوْفِيًا نِصْفَ الْيَدِ ، فَقَدْ قَضَى بِنِصْفِ طَرَفِهِ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَمَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ إذَا قَضَى بِطَرَفِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ يَقْضِي لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ بِالْأَرْشِ كَمَا لَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ فِي سَرِقَةٍ وَبِهَذَا تَبَيَّنَّ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي يَجِبُ بِهِ نِصْفُ الْأَرْشِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مَا يَجِبُ بِهِ الْقِصَاصُ فَلَا يَكُونُ هَذَا جَمْعًا بَيْنَ الْقِصَاصِ ، وَالْأَرْشِ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ وَبِهِ فَارَقَ النَّفْسَ فَإِنَّ هُنَاكَ لَوْ قَضَى بِنَفْسِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا

عَلَيْهِ بِأَنْ قَتَلَ رَحِمًا لَا يَقْضِي لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصَ بِشَيْءٍ إذَا عَرَفْنَا هَذَا ، فَنَقُولُ : لَوْ عَفَى أَحَدُهُمَا عَنْهُ قَبْلَ الْقِصَاصِ أَقْتَصَّ مِنْهُ لِلْبَاقِي وَلَا شَيْءَ لِلْعَافِي ؛ لِأَنَّ الْمُزَاحَمَةَ بَيْنَهُمَا فِي الْقَطْعِ لِثُبُوتِ حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْمَحَلِّ ، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ بِعَفْوِ أَحَدِهِمَا فَكَانَ لِلْآخَرِ الْقِصَاصُ فَقَطْ وَلَوْ حَضَرَ أَحَدُهُمَا دُونَ صَاحِبِهِ لَمْ يَنْتَظِرْ الْغَائِبَ وَيُقْتَصُّ لِهَذَا الْحَاضِرِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ ثَابِتٌ فِي جَمِيعِ الْيَدِ وَمُزَاحَمَةُ الْآخَرِ مَعَهُ فِي الِاسْتِيفَاءِ مَوْهُومٌ عَسَى يَحْضُرُ وَعَسَى لَا يَحْضُرُ فَلَا يُؤَخَّرُ اسْتِيفَاءُ الْمَعْلُومِ لِمَكَانِ الْمَوْهُومِ كَأَحَدِ الشَّفِيعَيْنِ إذَا حَضَرَ ، وَالْآخَرُ غَائِبٌ يَقْضِي لَهُ بِجَمِيعِ الْمَبِيعِ بِالشُّفْعَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى ، ثُمَّ إذَا قَدِمَ الْغَائِبُ كَانَ لَهُ الدِّيَةُ ؛ لِأَنَّهُ قَضَى بِجَمِيعِ طَرَفِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَيَقْضِي لِلْآخَرِ بِالْأَرْشِ بِخِلَافِ النَّفْسِ فَإِنَّ هُنَاكَ لَوْ حَضَرَ أَحَدُهُمَا وَاسْتَوْفَى الْقِصَاصَ ، ثُمَّ حَضَرَ الْآخَرُ لَا يَقْضِي لَهُ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ فِي نَفْسِهِ وَفَاءً بِحَقِّهِمَا فَإِنَّمَا لَمْ يَسْتَوْفِ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ جِهَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ ، وَلَيْسَ فِي الطَّرَفِ الْوَاحِدِ وَفَاءٌ بِحَقِّهِمَا فَإِنَّ مَا تَعَذَّرَ عَلَى الثَّانِي لِلِاسْتِيفَاءِ بِقَضَائِهِ بِطَرَفِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ .
يُوَضِّحُهُ أَنَّ فِي النَّفْسِ ، وَإِنْ قَضَى بِهَا حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُهَا سَالِمَةً بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَا يُمْكِنُهُ تَقَوُّمُ نَفْسِهِ عَلَيْهِ بَعْدَمَا مَاتَ فَأَمَّا فِي الطَّرَفِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الطَّرَفُ كَالسَّالِمِ لَهُ حِينَ قَضَى بِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ وَأَنْ يَتَقَوَّمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ كَالْحَابِسِ لِطَرَفِهِ حُكْمًا ؛ فَلِهَذَا يَقْضِي لِلثَّانِي بِالْأَرْشِ ، وَإِنْ اجْتَمَعَا فَقَضَى لَهُمَا بِالْقِصَاصِ ، وَالدِّيَةِ فَأَخَذَ الدِّيَةَ ، ثُمَّ عَفَى أَحَدُهُمَا عَنْ الْقِصَاصِ جَازَ عَفْوُهُ وَلَمْ

يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ ، وَإِنَّمَا لَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا مَلَكَا الْأَرْشَ بِالْقَبْضِ وَبَعْدَ تَمَامِ مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ الْيَدِ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَبْقَى حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي جَمِيعِ الْقِصَاصِ فَعَرَفْنَا أَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا بَقِيَ فِي نِصْفِ الْقِصَاصِ ، وَالْقِصَاصُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ اثْنَيْنِ إذَا سَقَطَ نَصِيبُ أَحَدِهِمَا بِعَفْوِهِ انْقَلَبَ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا فَأَمَّا إذَا لَمْ يَسْتَوْفِيَا الدِّيَةَ حَتَّى عَفَى أَحَدُهُمَا بَعْدَمَا قَضَى الْقَاضِي فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ لِلْآخَرِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ كَمَا لَوْ عَفَى أَحَدُهُمَا قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي ، وَهُوَ الْقِيَاسُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ اسْتِحْسَانًا كَمَا لَوْ عَفَى أَحَدُهُمَا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْأَرْشِ وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِالْقِصَاصِ وَبِالْأَرْشِ بَيْنَهُمَا قَدْ نَفَذَ ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ ضَرُورَةُ الْقِصَاصِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا ، فَإِذَا أَسْقَطَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ يَبْقَى حَقُّ الْآخَرِ فِي نِصْفِ الْقِصَاصِ وَلَا يُتَصَوَّرُ اسْتِيفَاءُ نِصْفِ الْيَدِ قِصَاصًا .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْأَرْشَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي صَارَ مَمْلُوكًا بَيْنَهُمَا ، فَهُوَ كَمَا لَوْ مَلَكَا الْأَرْشَ بِالِاسْتِيفَاءِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْقَضَاءِ فَإِنَّهُمَا لَمْ يَمْلِكَا الْأَرْشَ بَعْدُ فَيَبْقَى حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي جَمِيعِ الْقِصَاصِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ مَا قَبْلَ الْقِصَاصِ وَبَيْنَ مَا بَعْدَهُ أَنَّ أَحَدَ الشَّفِيعَيْنِ لَوْ سَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي لَهُمَا بِالدَّارِ كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ جَمِيعَ الدَّارِ بِالشُّفْعَةِ وَلَوْ سَلَّمَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ إلَّا النِّصْفَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شِرَاءَ عَيْنٍ مِنْ ذِي الْيَدِ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ ، ثُمَّ أَسْقَطَ أَحَدُهُمَا حَقَّهُ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَقْضِي

لِلْآخَرِ بِالْبَيْعِ فِي جَمِيعِ الْعَيْنِ وَبَعْدَمَا قَضَى الْقَاضِي لَهُمَا لَوْ رَدَّ أَحَدُهُمَا الْبَيْعَ فِي نَصِيبِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ إلَّا النِّصْفُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ قَالَا : الْقَاضِي إنَّمَا قَضَى بِمَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ فَنَزَلَ ذَلِكَ مَنْزِلَةُ الْفَتْوَى وَلَوْ اسْتَفْتَيَا فَأَفْتَى لَهُمَا الْقَاضِي أَنَّ الْقِصَاصَ بَيْنَكُمَا أَوْ أَنَّ الْأَرْشَ بَيْنَكُمَا ، ثُمَّ عَفَى أَحَدُهُمَا كَانَ لِلْآخَرِ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فَكَذَلِكَ إذَا قَضَى بِهِ الْقَاضِي ، وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنًا وَبِنْتًا فَقَضَى الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بِالْمِيرَاثِ أَثْلَاثًا كَانَ هَذَا كَفَتْوَى الْمُفْتِي .
وَلَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا فَقَضَى الْقَاضِي لَهَا بِمَهْرِ الْمِثْلِ كَانَ هَذَا كَفَتْوَى الْمُفْتِي حَتَّى لَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا كَانَ لَهَا الْمُتْعَةُ وَفِي تَفْسِيرِ هَذَا الْوَصْفِ نَوْعَانِ مِنْ الْكَلَامِ أَحَدُهُمَا أَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ فِي جَمِيعِ الْقِصَاصِ عَلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفَ إذَا زَاحَمَهُ الْآخَرُ وَبَقِيَ كَذَلِكَ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ حَضَرَ أَحَدُهُمَا وَاسْتَوْفَى كَانَ مُسْتَوْفِيًا لِلْقِصَاصِ وَيَكُونُ الْأَرْشُ لِلْآخَرِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْأَرْشِ فَإِنَّ هُنَاكَ لَوْ حَضَرَ أَحَدُهُمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ مَا لَمْ يَحْضُرْ الْآخَرُ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ قَوْلٌ مِنْ الْقَاضِي ، وَالْقِصَاصُ الَّذِي هُوَ غَيْرُ الْمُشْتَرَكِ لَا يَصِيرُ مُشْتَرَكًا بِقَوْلٍ بِحَالٍ كَمَا لَوْ جَعَلَ نِصْفَ الْقِصَاصِ لِغَيْرِهِ وَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ لَغْوًا بِخِلَافِ اسْتِيفَاءِ الْأَرْشِ فَإِنَّهُ فِعْلٌ وَبِالْفِعْلِ يَصِيرُ الْقِصَاصُ مُشْتَرَكًا ، وَالْقَاضِي ، وَإِنْ قَضَى بِالْأَرْشِ بَيْنَهُمَا ، فَالْمِلْكُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَتِمُّ بِالْقَضَاءِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ فِي مَعْنَى الصِّلَاتِ فَإِنَّمَا يَتِمُّ الْمِلْكُ فِيهَا بِالْقَبْضِ لَا بِالْقَضَاءِ كَمَنْفَعَةِ الزَّوْجَةِ تَصِيرُ

بِالْقَبْضِ لَا بِنَفْسِ الْقَضَاءِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْأَرْشِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَضَاؤُهُ بِطَرَفِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ بِالْقَضَاءِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فَأَمَّا إذَا اسْتَوْفَيَا الْأَرْشَ فَسَبَبُ الْمِلْكِ فِي الْمَقْبُوضِ هُوَ الْقَبْضُ ، وَقَدْ تَمَّ ذَلِكَ وَبِهَذَا فَارَقَ فَصْلَ الشُّفْعَةِ ، وَالْبَيْعِ ، فَالْقَاضِي بِقَضَائِهِ هُنَاكَ غَيْرَ الْأَمْرِ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ فَسَخَ بَيْعً كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ وَأَبْطَلَ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّفِيعَيْنِ فِي النِّصْفِ الَّذِي قَضَى بِهِ الْآخَرُ ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ أَنَّ الْقِصَاصَ وَجَبَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا ، وَالْأَرْشُ كَذَلِكَ أَمَّا إذَا حَصَلَ الْفِعْلَانِ مَعًا ، فَهُوَ ظَاهِرٌ ، وَكَذَلِكَ إنْ حَصَلَا عَلَى التَّعَاقُبِ ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُمَا كَانَا مَعًا وَهَذَا ؛ لِأَنَّا لَوْ قُلْنَا إنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي جَمِيعِ الْقِصَاصِ لَكَانَ الْقَاضِي مُسْقِطًا حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ نِصْفِ الْقِصَاصِ بِوِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ ، وَالْقِصَاصُ لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي إسْقَاطًا .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ لَوْ عَفَا عَنْ النِّصْفِ سَقَطَ جَمِيعُ حَقِّهِ وَهَاهُنَا لَمَّا نَفَذَ قَضَاءُ الْقَاضِي بِالْقِصَاصِ بَيْنَهُمَا عَرَفْنَا أَنَّ الْقِصَاصَ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا بِشَرْطِ مُزَاحَمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعَ صَاحِبِهِ فَتَقَرَّرَ ذَلِكَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، ثُمَّ بِالْعَفْوِ زَالَتْ مُزَاحَمَتُهُ فَيَكُونُ حَقُّ الْآخَرِ فِي الْقِصَاصِ لِانْعِدَامِ شَرْطِ الشَّرِكَةِ كَمَا لَوْ زَالَتْ مُزَاحَمَتُهُ بِالْعَفْوِ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي ، وَالطَّرِيقُ الْأَوَّلُ أَصَحُّ وَلَوْ لَمْ يَكُونَا أَخَذَا الْمَالَ وَأَخَذَا بِهِ كَفِيلًا ، ثُمَّ عَفَا أَحَدُهُمَا فَالْمَسْأَلَةُ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الْكَفَالَةِ فِي تَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ بِالْأَرْشِ عَلَى الْكَفِيلِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ تَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ لَهُمَا بِالْأَرْشِ عَلَى الْأَصِيلِ

بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، ثُمَّ هُنَاكَ لَوْ عَفَا أَحَدُهُمَا كَانَ لِلْآخَرِ الْقِصَاصُ فَهَذَا مِثْلُهُ وَلَوْ كَانَا أَخَذَا بِالْمَالِ رَهْنًا كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَبْضِ الْمَالِ إذَا عَفَا أَحَدُهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ وَكَانَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَقَعَ بَيْنَهُمَا شَرِكَةٌ أَبَدًا مَا لَمْ يَقْبِضَا وَلَمْ يَذْكُرْ غَيْرَ هَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ قَالَ : كَانَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَقَعَ بَيْنَهُمَا شَرِكَةٌ أَبَدًا سَوَاءٌ قَبَضَا الْمَالَ ، أَوْ لَمْ يَقْبِضَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَشَارَ إلَى أَنَّ الْقِيَاسَ ، وَالِاسْتِحْسَانَ فِي فَصْلِ اسْتِيفَاءِ الْأَرْشِ ، وَالِارْتِهَانِ بِالْأَرْشِ جَمِيعًا وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ أَشَارَ إلَى أَنَّ الْقِيَاسَ ، وَالِاسْتِحْسَانَ فِي فَصْلِ الِارْتِهَانِ بِالْأَرْشِ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ بِالْأَرْشِ كَالْكَفَالَةِ فَكَمَا أَنَّ عَفْوَ أَحَدِهِمَا بَعْدَ كَفَالَةِ الْكَفِيلِ بِالْأَرْشِ لَا يَمْنَعُ الْآخَرَ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ أَيْ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الرَّهْنِ ؛ لِأَنَّ بِالِارْتِهَانِ لَمْ يَتِمَّ مِلْكُهُمَا فِي الْأَرْشِ وَلَا فِي بَدَلِهِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ مُوجِبَ عَقْدِ الرَّهْنِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ لَهُمَا .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ يَتِمُّ اسْتِيفَاؤُهُمَا بِهَلَاكِ الرَّهْنِ ، وَأَنَّهُ يُعْتَبَرُ قِيمَةُ الرَّهْنِ وَقْتَ الْقَبْضِ فَتُقَامُ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ مَقَامَ حَقِيقَةِ الِاسْتِيفَاءِ فِي إيرَاثِ الشُّبْهَةِ بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ فَإِنَّ بِالْكَفَالَةِ تَزْدَادُ الْمُطَالَبَةُ وَلَا تَثْبُتُ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ فَبَقِيَ كُلُّ حَقٍّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الْكَفَالَةِ فِي جَمِيعِ الْقِصَاصِ كَمَا كَانَ قَبْلَهُ .

، وَإِذَا قَطَعَ الرَّجُلُ أُصْبُعَ رَجُلٍ مِنْ الْمَفْصِلِ مِنْ يُمْنَاهُ ، ثُمَّ قَطَعَ يَمِينًا أُخْرَى وَبَدَأَ بِالْيَدِ ، ثُمَّ قَطَعَ الْأُصْبُعَ ، ثُمَّ حَضَرَا جَمِيعًا فَإِنَّهُ يَقْطَعُ أُصْبُعَهُ أَوَّلًا بِأُصْبُعِ الْآخَرِ ، ثُمَّ يُخَيَّرُ صَاحِبُ الْيَدِ ، فَإِنْ شَاءَ قَطَعَ مَا بَقِيَ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَةَ يَدِهِ ؛ لِأَنَّ فِي الْبُدَاءَةِ بِحَقِّ صَاحِبِ الْيَدِ إيفَاءَ الْحَقَّيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَفُوتُ بِهِ مَحَلُّ حَقِّ صَاحِبِ الْأُصْبُعِ فَمهمَا أَمْكَنَ إيفَاءُ الْحَقَّيْنِ لَا يَجُوزُ إبْطَالُ حَقِّ أَحَدِهِمَا ، ثُمَّ حَقُّ صَاحِبِ الْأُصْبُعِ فِي الْأُصْبُعِ مَقْصُودٌ وَحَقُّ صَاحِبِ الْيَدِ فِي الْأُصْبُعِ تَبَعٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ قَطْعَ الْأَصَابِعِ ، أَوْ بَعْضَهَا وَتَرْكَ الْكَفِّ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ التَّبَعِ ، وَالْمَقْصُودِ ، فَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ وَقَتَلَ آخَرَ فَإِنَّهُ يَبْدَأُ بِحَقِّ صَاحِبِ الْيَدِ فَيُقْتَصُّ لَهُ أَوَّلًا ، ثُمَّ يُقْتَلُ بِالْآخَرِ ، وَإِذَا قَطَعَ صَاحِبُ الْأُصْبُعِ أُصْبُعَهُ يُخَيَّرُ صَاحِبُ الْيَدِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَتْ يَدُ الْقَاطِعِ نَاقِصَةً بِأُصْبُعٍ وَمَنْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ وَيَدُ الْقَاطِعِ نَاقِصَةٌ بِأُصْبُعٍ يَتَخَيَّرُ الْمَقْطُوعَةُ يَدُهُ لِعَجْزِهِ عَنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ ، وَإِنْ شَاءَ قَطَعَ مَا بَقِيَ وَلَا شَيْءَ لَهُ سِوَى ذَلِكَ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ مَا بَقِيَ وَيُضَمِّنَهُ خُمْسَ دِيَةِ الْيَدِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ أُصْبُعٍ خُمْسُ الْيَدِ بِدَلِيلِ أَنَّ أَرْشَ كُلِّ أُصْبُعٍ يَكُونُ خُمْسَ أَرْشِ الْيَدِ ، فَهُوَ إنَّمَا اسْتَوْفَى أَرْبَعَةَ أَخْمَاسِ حَقِّهِ فَيَقْضِي لَهُ بِالْأَرْشِ فِيمَا بَقِيَ كَمَنْ أَتْلَفَ عَلَى آخَرِ خَمْسَةَ أَقْفِزَةِ حِنْطَةٍ فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَرْبَعَةَ أَقْفِزَةٍ وَاسْتَوْفَاهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ قِيمَةَ الْقَفِيزِ الْخَامِسِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ اسْتَوْفَى مَحَلَّ حَقِّهِ بِكَمَالِهِ فَلَا يَرْجِعُ مَعَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَرْشِ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدًا صَحِيحَةً وَيَدُ

الْقَاطِعِ شَلَّاءُ فَاسْتَوْفَى الْقِصَاصَ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْأَصَابِعَ صِفَةٌ لِلْيَدِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْيَدِ مَنْفَعَةُ الْبَطْشِ وَبِفَوَاتِ الْأُصْبُعِ يُنْتَقَصُ مَعْنَى الْبَطْشِ وَلَا يَنْعَدِمُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ صَاحِبُ الْيَدِ اسْتِيفَاءَ بَعْضِ الْأَصَابِعِ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَلَكِنْ إمَّا أَنْ يَقْطَعَ مِنْ مَفْصِلِ الْيَدِ أَوْ يَتْرُكَ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْأَصَابِعَ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَصْفِ وَمَنْ تَجُوزُ بِحَقِّهِ مَعَ نُقْصَانِ الصِّفَةِ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِشَيْءٍ آخَرَ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ عَلَيْهِ كُرًّا جَيِّدًا فَوَجَدَ عِنْدَهُ كُرًّا رَدِيئًا وَقَبَضَهُ بِخِلَافِ الْقُفْزَانِ فَإِنَّهُ مِقْدَارٌ ، وَلَيْسَ بِصِفَةٍ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ لَهُ أَنْ يُبْرِئَ عَنْ بَعْضِ الْأَقْفِزَةِ وَيَسْتَوْفِيَ الْبَعْضَ وَهَاهُنَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْ بَعْضِ الْأَصَابِعِ وَيَسْتَوْفِيَ الْبَعْضَ ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُ الْيَدِ أَوَّلًا قُطِعَتْ لَهُ الْيَدُ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ ثَابِتٌ مَعْلُومٌ فَلَا يَتَأَخَّرُ اسْتِيفَاؤُهُ لِمَكَانِ حَقٍّ مَوْهُومٍ لِغَائِبٍ لَا يَدْرِي أَيَطْلُبُ ، أَوْ يَعْفُو ، ثُمَّ إذَا حَضَرَ الْآخَرُ قَضَى لَهُ بِالْأَرْشِ ؛ لِأَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ قَضَى بِمَحَلِّ حَقِّهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَيَكُونُ لَهُ الْأَرْشُ ، فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ يَسْتَقِيمُ هَذَا مَعَ قَوْلِكُمْ إنَّ الْأُصْبُعَ وَصْفٌ وَتَبَعٌ قُلْنَا نَعَمْ ، وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ فَوَاتِ هَذَا الْوَصْفِ كَانَ يَتَخَيَّرُ مَنْ لَهُ الْحَقُّ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَتَخَيَّرْ هَاهُنَا لِبَقَاءِ الْأُصْبُعِ فَكَانَ هُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ قَاضِيًا بِالْأُصْبُعِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ بِخِلَافِ النَّفْسِ فَإِنَّ هُنَاكَ لَوْ حَضَرَ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ أَوَّلًا وَاسْتَوْفَى لَمْ يَكُنْ لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي الطَّرَفِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مَا قَضَى بِالطَّرَفِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ فَوَاتَ الطَّرَفِ لَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ لِصَاحِبِ النَّفْسِ .

وَلَوْ قَطَعَ مِنْ أُصْبُعٍ رَجُلٍ مَفْصِلًا ، وَمِنْ أُصْبُعِ رَجُلٍ آخَرَ مَفْصِلَ ذَلِكَ الْأُصْبُعِ ، وَمِنْ رَجُلٍ ثَالِثٍ الْأُصْبُعَ كُلَّهَا ، ثُمَّ اجْتَمَعُوا عِنْدَ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَقْطَعُ الْمَفْصِلَ الْأَعْلَى لِصَاحِبِ الْأَعْلَى ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي بُدَاءَتِهِ بِحَقِّهِ تَفْوِيتُ مَحَلِّ حَقِّ الْآخَرَيْنِ وَبِالْبُدَاءَةِ بِأَخْذِ حَقِّ الْآخَرَيْنِ تَفْوِيتُ مَحَلِّ حَقِّهِ وَلِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْمَفْصِلِ الْأَعْلَى مَقْصُودٌ وَحَقَّ الْآخَرَيْنِ فِيهِ تَبَعٌ ، وَإِذَا قَطَعَ هَذَا الْمَفْصِلَ تَخَيَّرَ صَاحِبُ الْمَفْصِلَيْنِ ، فَإِنْ شَاءَ قَطَعَ الْمَفْصِلَ الْأَوْسَطَ بِجَمِيعِ حَقِّهِ ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ مَحَلَّ حَقِّهِ ، وَلَكِنَّهُ مَعَ النُّقْصَانِ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ ثُلُثَيْ دِيَةِ أُصْبُعِهِ مِنْ مَالِ الْقَاطِعِ لِعَجْزِهِ عَنْ اسْتِيفَاءِ كَمَالِ حَقِّهِ ، ثُمَّ يُخَيَّرُ صَاحِبُ الْأُصْبُعِ ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ مَا بَقِيَ مِنْ أُصْبُعِهِ لِوُجُودِ مَحَلِّ حَقِّهِ ، وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَةَ أُصْبُعِهِ مِنْ مَالِ الْقَاطِعِ لِعَجْزِهِ عَنْ اسْتِيفَاءِ كَمَالِ حَقِّهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ كَفَّ رَجُلٍ مِنْ مَفْصِلٍ ، ثُمَّ قَطَعَ يَدَ آخَرَ مِنْ الْمِرْفَقِ ، ثُمَّ اجْتَمَعَا فَإِنَّ الْكَفَّ يُقْطَعُ لِصَاحِبِ الْكَفِّ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْبُدَاءَةِ بِحَقِّهِ تَفْوِيتُ مَحَلِّ حَقِّ الْآخَرِ ، ثُمَّ يُخَيَّرُ صَاحِبُ الْمِرْفَقِ ، فَإِنْ شَاءَ قَطَعَ مَا بَقِيَ بِحَقِّهِ لِوُجُودِ مَحَلِّ حَقِّهِ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ لِعَجْزِهِ عَنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ بِكَمَالِهِ وَفِي جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ لَا يَثْبُتُ لِلثَّانِي الْخِيَارُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْكَمَالِ قَائِمَةٌ فِي طَرَفِهِ وَلَا تَنْعَدِمُ بِثُبُوتِ حَقِّ الْأَوَّلِ فِيهِ ، وَإِنَّمَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ بِاسْتِيفَائِهِ ؛ فَلِهَذَا كَانَ خِيَارُهُ بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْأَوَّلِ .

وَإِذَا شَجَّ الرَّجُلُ الرَّجُلَ مُوضِحَةً فَأُخِذَتْ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الْمَشْجُوجِ وَهِيَ لَا تَأْخُذُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ لِكِبَرِ رَأْسِ الشَّاجِّ فَإِنَّ الْمَشْجُوجَ يُخَيَّرُ ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ ، وَإِنْ شَاءَ اُقْتُصَّ لَهُ يَبْدَأُ مِنْ أَيِّ الْجَانِبَيْنِ أَحَبَّ حَتَّى يَبْلُغَ مِقْدَارَهَا فِي طُولِهَا إلَى حَيْثُ تَبْلُغُ ، ثُمَّ يُكَفُّ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشُجَّهُ شَجَّةً تَأْخُذُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْهِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيَّ عَنْ الرَّازِيِّ الْكَبِيرِ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ وَلَا خِيَارَ لَهُ ؛ لِأَنَّ فِي الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ تُعْتَبَرُ الْمُسَاوَاةُ فِي الْمَحَلِّ وَلَا يُنْظَرُ إلَى الصِّغَرِ ، وَالْكِبَرِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مَنْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ وَيَدُ الْقَاطِعِ أَكْبَرُ مِنْ يَدِ الْمَقْطُوعِ أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ فَهَذَا مِثْلُهُ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْأَصْلُ فِي الشِّجَاجِ أَنَّهُ تُعْتَبَرُ الْمُسَاوَاةُ فِي الْمِسَاحَةِ ، وَالسَّيْرِ ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ ، وَالْمُسَاوَاةُ فِي الْبَدَلِ مُعْتَبَرَةٌ فِي الْقِصَاصِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَهَاهُنَا لَوْ شَجَّهُ شَجَّةً تَأْخُذُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ كَانَ فِي الْمِسَاحَةِ أَكْثَرُ مِنْ الْأَوَّلِ ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَلَمِ وَلَوْ شَجَّهُ مِثْلَ الْأَوَّلِ وَفِي الْمِسَاحَةِ كَانَ فِي السَّيْرِ دُونَ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الشَّجَّةَ الْأُولَى أَخَذَتْ مَا بَيْنَ قِرْنَيْهِ وَذَلِكَ الْقَدْرُ لَا يَأْخُذُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ ، فَقَدْ عَجَزَ عَنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ بِكَمَالِهِ فَثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ اسْتَوْفَى الْأَرْشَ ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَوْفَى الْقِصَاصَ بِقَدْرِ الْأُولَى فِي الْمِسَاحَةِ وَتَجُوزُ بِدُونِ حَقِّهِ فِي السَّيْرِ بِخِلَافِ الْيَدِ فَإِنَّ الْمُعْتَبَرَ هُنَاكَ مَنْفَعَةُ الْبَطْشِ فَلَعَلَّ هَذِهِ الْمَنْفَعَةَ فِي الْيَدِ الصَّغِيرَةِ أَكْثَرُ مِنْ الْيَدِ الْكَبِيرَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ أَرْشَ الْيَدِ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْيَدِ فِي الصِّغَرِ ، وَالْكِبَرِ بِحَالٍ ، فَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الْمَشْجُوجِ لِكِبَرِ رَأْسِهِ

وَهِيَ تَأْخُذُ مَا بَيْنَ قَرْنَيْ الشَّاجِّ وَتَفْضُلُ فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ إنْ اسْتَوْفَى مِثْلَ حَقِّهِ فِي الْمِسَاحَةِ كَانَ هَذَا أَزِيدَ فِي السَّيْرِ مِنْ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى مَا يَكُونُ مِثْلَ الْأَوَّلِ فِي السَّيْرِ كَانَ دُونَ حَقِّهِ فِي الْمِسَاحَةِ فَيَتَخَيَّرُ ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ ، وَإِنْ شَاءَ اقْتَصَّ لَهُ مَا بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ مِنْ الشَّاجِّ لَا يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَتْ الشَّجَّةُ فِي طُولِ رَأْسِ الْمَشْجُوجِ وَهِيَ تَأْخُذُ مِنْ رَأْسِ الشَّاجِّ مِنْ جَبْهَتِهِ إلَى قَفَاهُ ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ ، وَإِنْ شَاءَ اقْتَصَّ لَهُ مِقْدَارَ شَجَّتِهِ إلَى مِثْلِ مَوْضِعِهَا مِنْ رَأْسِهِ لَا أَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ شَجَّهُ مِثْلَ شَجَّتِهِ فِي الطُّولِ كَانَ هَذَا فِي مَعْنَى السَّبْرِ أَزْيَدَ مِنْ الْأَوَّلِ وَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى اسْتِيفَاءِ الزِّيَادَةِ ، وَإِنْ شَجَّهُ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْ رَأْسِهِ كَانَ دُونَ حَقِّهِ فِي الطُّولِ فَيُخَيَّرُ لِذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَتْ أُخِذَتْ مِنْ الْمَشْجُوجِ مَا بَيْنَ جَبْهَتِهِ إلَى قَفَاهُ وَلَا تَبْلُغُ مِنْ رَأْسِ الشَّاجِّ إلَّا إلَى نِصْفِ ذَلِكَ ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْأَرْشَ ، وَإِنْ شَاءَ اقْتَصَّ لَهُ بِمِقْدَارِ شَجَّتِهِ إلَى حَيْثُ تَبْلُغُ وَيَبْدَأُ مِنْ أَيِّ الْجَانِبَيْنِ أَحَبَّ لِمَا قُلْنَا وَقَدَّمْنَا فِيمَا سَبَقَ .

حُكْمُ الْقِصَاصِ فِي الشِّجَاجِ وَمَا فِيهَا مِنْ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ ، وَأَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَبْرَأَ وَلَا قِصَاصَ فِي الْهَاشِمَةِ ، وَالْمُنَقِّلَةِ ، وَالْآمَّةِ ، وَالْجَائِفَةِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجِرَاحَاتِ فِي الْعَظْمِ فَاعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِيهَا غَيْرُ مُمْكِنٍ وَبَلَغْنَا عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا قِصَاصَ فِي عَظْمٍ ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : وَلَا قِصَاصَ فِي آمَّةٍ وَلَا جَائِفَةَ وَلَا مُنَقِّلَةٍ وَلَا عَظْمٍ يَخَافُ عَلَيْهِ تَلَفٌ وَكُلُّ عَظْمٍ كُسِرَ مِنْ سَاعِدٍ ، أَوْ سَاقٍ أَوْ ضِلْعٍ ، أَوْ تَرْقُوَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَفِيهِ حُكْمُ عَدْلٍ وَلَا قِصَاصَ فِيهِ لِتَعَذُّرِ اعْتِبَارِ الْمُسَاوَاةِ فِيهِ وَلِلتَّفَاوُتِ فِي الْأَرْشِ فَإِنَّ حُكْمَ الْعَدْلِ إنَّمَا يَظْهَرُ بِتَقْوِيمِ الْمُقَوِّمِينَ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مَقْطُوعًا بِهِ .

، وَإِذَا قَطَعَ رَجُلٌ يَدَ رَجُلٍ عَمْدًا وَيَدُ الْقَاطِعِ شَلَّاءُ ، أَوْ نَاقِصَةٌ أُصْبُعًا قِيلَ لَهُ اقْطَعْ يَدَهُ إنْ شِئْت وَإِلَّا فَخُذْ الْأَرْشَ ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ جِنْسَ حَقِّهِ ، وَلَكِنَّهُ نَاقِصٌ فِي الصِّفَةِ فَيَتَخَيَّرُ لِذَلِكَ ، فَإِنْ سَقَطَتْ يَدُهُ قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ مِنْ لَهُ الْقِصَاصُ شَيْئًا فَلَا شَيْءَ لَهُ عِنْدَنَا وَلَهُ الْأَرْشُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ يَدُ الْقَاطِعِ صَحِيحَةً فَسَقَطَتْ لِأَكَلَةٍ أَوْ قُطِعَتْ ظُلْمًا فَلَا شَيْءَ لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَهُ الْأَرْشُ ، وَكَذَلِكَ فِي النَّفْسِ لَوْ مَاتَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ أَوْ قُتِلَ ، فَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ أَنَّ عِنْدَهُ الْوَاجِبُ أَحَدُ شَيْئَيْنِ إمَّا الْقِصَاصُ ، أَوْ الْأَرْشُ ، وَإِذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ أَحَدِهِمَا لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ تَعَيَّنَ الْآخَرُ وَعِنْدَنَا الْوَاجِبُ هُوَ الْقِصَاصُ لَا غَيْرُ وَقَدْ سَقَطَ لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ، وَالْحَقُّ الثَّابِتُ فِي مَحَلٍّ مَقْصُورٍ عَلَيْهِ لَا يَبْقَى بَعْدَ فَوَاتِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا قُطِعَتْ يَدُهُ فِي سَرِقَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَضَى بِيَدِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ كَالسَّالِمِ لَهُ حُكْمًا إذَا ثَبَتَ هَذَا فِيمَا إذَا كَانَتْ يَدُهُ صَحِيحَةً فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ يَدُهُ شَلَّاءَ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ كَانَ فِي الْقِصَاصِ ، وَقَدْ فَاتَ مَحَلُّهُ حِينَ سَقَطَتْ يَدُهُ ، فَإِنْ قِيلَ هُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ وَاسْتِيفَاءِ الْأَرْشِ ، فَإِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اسْتِيفَاءُ أَحَدِهِمَا تَعَيَّنَ الْآخَرُ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ ، بَلْ كَانَ حَقُّهُ فِي الْقِصَاصِ لَا غَيْرُ إلَّا أَنَّهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْأَرْشَ لِعَجْزِهِ عَنْ اسْتِيفَاءِ كَمَالِ حَقِّهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ زَالَ الشَّلَلُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْأَرْشَ لَمْ يَكُنْ لَهُ إلَّا الْقِصَاصُ ، وَقَدْ فَاتَ مَحَلُّ حَقِّهِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ شَيْءٌ .

وَلَوْ قُطِعَتْ أُصْبُعٌ مِنْ أَصَابِعِ الْقَاطِعِ لِغَيْرِ قِصَاصٍ لَمْ يَكُنْ لِلْمَقْطُوعَةِ يَدُهُ إلَّا أَنَّهُ يُقْطَعُ مَا بَقِيَ وَلَا أَرْشَ لَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا قُطِعَتْ أُصْبُعٌ مِنْ أَصَابِعِهِ فِي قِصَاصٍ ؛ لِأَنَّ الْأُصْبُعَ جُزْءٌ مِنْ الْيَدِ فَيُعْتَبَرُ الْجُزْءُ بِالْكُلِّ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا .

، وَإِذَا اقْتَصَّ الرَّجُلُ مِنْ الرَّجُلِ فِي عُضْوٍ ، أَوْ شَجَّهُ فَمَاتَ الْمُقْتَصُّ مِنْهُ مَنْ ذَلِكَ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُقْتَصِّ لَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَالشَّافِعِيُّ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَالْمَسْأَلَةُ مُخْتَلِفَةٌ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ يَقُولَانِ الْحَقَّ قَبْلَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَى أَحَدٍ وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ يَضْمَنُ دِيَةَ النَّفْسِ وَيَسْقُطُ مِنْ ذَلِكَ أَرْشُ الْعُضْوِ الَّذِي هُوَ حَقُّهُ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ يَقُولُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ وَكَانَ يَرْوِي فِي ذَلِكَ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ اسْتَقَادَ مِنْ إنْسَانٍ فَمَاتَ الْمُسْتَقَادُ مِنْهُ وَبَرِئَ الْمُسْتَقِيدُ ضَمِنَ الْمُسْتَقِيدُ دِيَتَهُ } وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذَا قَطْعٌ بِحَقٍّ ، أَوْ قَطْعٌ مُسْتَحَقٌّ ، فَالسِّرَايَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ مِنْهُ لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً كَالْإِمَامِ إذَا قَطَعَ يَدَ السَّارِقِ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ السِّرَايَةَ أَثَرُ الْفِعْلِ فَلَا تَنْفَصِلُ عَنْ أَصْلِ الْفِعْلِ وَلَمَّا اتَّصَلَ أَصْلُ الْفِعْلِ بِالْخَفِيَّةِ فَكَذَلِكَ أَثَرُهُ ، ثُمَّ نَفْسُ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ صَارَتْ فِي حُكْمِ نَفْسِهِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْفِعْلَ فِي مَحَلِّ حَقِّهِ يَكُونُ حَقًّا مُبَاحًا وَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ يَكُونُ عُدْوَانًا ، وَإِنَّ مَحَلَّ حَقِّهِ صَارَ مَمْلُوكًا لَهُ فِي حُكْمِ الِاسْتِيفَاءِ وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ غَيْرَ مَمْلُوكٍ لَهُ ، وَالْفِعْلُ فِي مَحَلِّ حَقِّهِ جَزَاءً وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ عُدْوَانٌ .
فَإِذَا تَمَيَّزَ أَحَدُ الْمَحَلَّيْنِ عَنْ الْآخَرِ حُكْمًا يُجْعَلُ كَالتَّمْيِيزِ حِسًّا وَلَا تَنُوبُ السِّرَايَةُ مِنْ بَدَنٍ إلَى بَدَنٍ فَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى يُجْعَلُ عَقِيبَ الْقَطْعِ كَأَنَّهُ تَمَّ الْبُرْءُ فَلَا تُعْتَبَرُ السِّرَايَةُ بَعْدَ ذَلِكَ وَلِأَنَّ هَذَا فِعْلٌ مَأْذُونٌ فِيهِ ، فَالسِّرَايَةُ الْمُتَوَلِّدَةُ مِنْهُ لَا تَكُونُ مَضْمُونَةً كَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ اقْطَعْ يَدِي ، أَوْ قَالَ : مَنْ عَلَيْهِ

الْقِصَاصُ لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ اقْطَعْ - يَدِي قِصَاصًا فَقَطَعَ وَسَرَى فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ ، وَكَذَلِكَ النِّزَاعُ ، وَالْفِصَادُ ، وَالْحِجَامُ ، وَالْخِتَانُ لَا يَضْمَنُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِالسِّرَايَةِ شَيْئًا لِهَذَا الْمَعْنَى وَلِأَنَّ هَذَا قَطْعٌ لَوْ اقْتَصَرَ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا فَلَا تَكُونُ السِّرَايَةُ مَضْمُونَةً كَقَطْعِ يَدِ الْمُرْتَدِّ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ لَهُ حَقَّ قَطْعِ الْيَدِ ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ التَّحَرُّزُ عَنْ السِّرَايَةِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُؤَاخَذًا بِهِ ، وَالسِّرَايَةُ إنَّمَا تَكُونُ لِعَجْزِ الطَّبِيعَةِ عَنْ دَفْعِ أَثَرِ الْجِرَاحَةِ ، وَالْبُرْءِ وَبِقُوَّةِ الطَّبِيعَةِ عَنْ دَفْعِ أَثَرِهَا وَشَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْمُسْتَوْفِي لِحَقِّهِ .
يُوَضِّحُهُ أَنَّ طَرَفَهُ كَانَ سَالِمًا بِلَا خَطَرٍ فَلَا يَتَمَيَّزُ إلَّا بِمِثْلِهِ ، وَهُوَ طَرَفٌ يَسْلَمُ لَهُ بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْ غَيْرِ خَطَرٍ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا قَتْلٌ بِغَيْرِ حَقٍّ فَيَكُونُ مَضْمُونًا وَبَيَانُهُ أَنَّ الْقَتْلَ اسْمٌ لِجُرْحٍ يَعْقُبُهُ زَهُوقُ الرُّوحِ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْقَطْعَ غَيْرُ الْقَتْلِ ، فَالْقَطْعُ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِي إبَاحَةِ جُزْءٍ مِنْ الْجُمْلَةِ ، وَالْقَتْلُ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِي إزْهَاقِ الرُّوحِ ، وَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْمَآلِ ؛ وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ فِي الْجِنَايَاتِ مَآلُهَا حَتَّى إذَا قَطَعَ يَدَ امْرَأَةٍ ، أَوْ يَدَ رَجُلٍ مِنْ نِصْفِ السَّاعِدِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ ، فَإِنْ سَرَى إلَى النَّفْسِ يَجِبُ الْقِصَاصُ ، فَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ : أَنَّ عِنْدَ السِّرَايَةِ تَبَيَّنَّ أَنَّ أَصْلَ الْفِعْلِ كَانَ قَتْلًا ، لَا أَنْ يُقَالَ : كَانَ قَطْعًا فَصَارَ قَتْلًا ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ عَلَى صِفَةٍ ، ثُمَّ يَصِيرَ عَلَى صِفَةٍ أُخْرَى إذْ لَا بَقَاءَ لَهُ وَلَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ كَانَ قَتْلًا فِي الْأَصْلِ ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ تَحْرِيكِ الْخَشَبَةِ إنْ لَمْ يُصِبْ شَيْئًا كَانَ تَحْرِيكًا ، وَإِنْ

أَلْقَاهَا عَلَى مَا انْكَسَرَ بِهَا كَانَ كَسْرًا .
وَإِنْ أَلْقَاهَا عَلَى حَيَوَانٍ فَمَاتَ بِهَا كَانَ قَتْلًا وَهَاهُنَا لَمَّا انْزَهَقَ الرُّوحُ بِهَذَا الْفِعْلِ عَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ قَتْلًا مِنْ الْأَصْلِ وَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْقَتْلِ فَيَكُونُ هَذَا قَتْلًا بِغَيْرِ حَقٍّ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ حَزَّ رَقَبَتَهُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَلْزَمَهُ الْقِصَاصُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَّا أَنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الدِّيَةَ اسْتِحْسَانًا بِمَنْزِلَةِ الْخَطَأِ فَإِنَّهُ مَا قَصَدَ قَتْلَهُ ، وَإِنَّمَا قَصَدَ اسْتِيفَاءَ حَقِّهِ بِإِقَامَةِ فِعْلٍ هُوَ حَقٌّ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ رَمَى إلَى صَيْدٍ ، أَوْ حَرْبِيٍّ فَأَصَابَ مُسْلِمًا يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْفِعْلَ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ حَقُّهُ وَبِاعْتِبَارِ الْمَآلِ كَانَ غَيْرَ حَقِّهِ ، وَالْحُكْمُ ، وَإِنْ كَانَ يُبْنَى عَلَى مَا يَظْهَرُ فِي الْحَالِ فَنِسْبَةُ ذَلِكَ الْفِعْلِ لِصُورَتِهِ وَصِفَةُ الْحَقِيَةِ فِي صُورَتِهِ تَكُونُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَمَا ادَّعَوْا مِنْ تَمْيِيزِ أَحَدِ الْمَحَلَّيْنِ حُكْمًا كَلَامٌ لَا مَعْنَى لَهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّمْيِيزَ فِي حُكْمِ الْقَطْعِ الَّذِي هُوَ قِصَاصٌ فَقَطْ فَأَمَّا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَنَفْسُ مَنْ عَلَيْهِ وَأَطْرَافُهُ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِاسْتِيفَاءٍ لِحَقِّهِ ، وَكَذَلِكَ الْفِعْلُ إنَّمَا يَكُونُ جَزَاءً إذَا كَانَ قَطْعًا لَا إذَا كَانَ قَتْلًا وَطَرَفُ مَنْ عَلَيْهِ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ حُكْمًا حَتَّى إذَا قَطَعَ كَانَ الْبَدَلَ لِمَنْ عَلَيْهِ لَا لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ ، وَلَكِنْ فِي حَقِّ الْمُتَمَكِّنِ مِنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ جُعِلَ كَأَنَّهُ لَهُ وَاسْتِيفَاءُ حَقِّهِ يَكُونُ بِفِعْلٍ هُوَ قَطْعٌ لَا بِفِعْلٍ هُوَ قَتْلٌ قَوْلُهُ التَّحَرُّزُ عَنْ السِّرَايَةِ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ قُلْنَا نَعَمْ ، وَلَكِنَّ الْعَفْوَ ، وَالتَّرْكَ فِي وُسْعِهِ ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } .
وَإِنَّمَا يَتَقَيَّدُ بِالْوُسْعِ مَا يَكُونُ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَأَمَّا مَا يَكُونُ

مُبَاحًا لَهُ كَالْمَشْيِ فِي الطَّرِيقِ ، وَالرَّمْيِ إلَى الصَّيْدِ وَتَعْزِيرِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ فَمُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي وُسْعِهِ إيجَادُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ ، ثُمَّ عَجْزُهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْقِطًا حُرْمَةَ صَاحِبِ النَّفْسِ فِي نَفْسِهِ وَأَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَتَقَابَلَ حَقَّانِ حَقُّ هَذَا فِي طَرَفٍ يُسَلَّمُ لَهُ بِلَا خَطَرٍ وَحَقُّ الْآخَرِ فِي نَفْسٍ مُحْتَرَمَةٍ مُتَقَوِّمَةٍ فَتَتَرَجَّحُ حُرْمَةُ النَّفْسِ عَلَى حُرْمَةِ الطَّرَفِ أَوْ يُعْتَبَرُ الْحُرْمَتَانِ فَلِحَقِّهِ فِي الطَّرَفِ يَتَمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ وَلِمُرَاعَاةِ حَقِّ الْآخَرِ فِي النَّفْسِ يَتَقَيَّدُ عَلَيْهِ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَلَعَ سِنَّ إنْسَانٍ فَاسْتَوْفَى حَوْلًا فَلَمْ يَنْبُتْ فَإِنَّهُ يُمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ ، فَإِنْ اسْتَوْفَى الْقِصَاصَ ، ثُمَّ نَبَتَ السِّنُّ الْمَقْلُوعُ أَوَّلًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَرْشُ سِنِّ الْقَالِعِ لِهَذَا الْمَعْنَى وَهَذَا بِخِلَافِ قَطْعِ الْإِمَامِ يَدَ السَّارِقِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ إقَامَتُهُ فَيَتَقَيَّدُ بِمَا فِي وُسْعِهِ .
يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُنَاكَ قَطْعٌ مُطْلَقٌ وَفِعْلُهُ فِي الصُّورَةِ قَطْعٌ فَيَصِيرُ بِهِ مُمْتَثِلًا لِلْآمِرِ وَيَخْرُجُ مِنْ عُهْدَتِهِ فَيَصِيرُ كَالْمُسْلِمِ إلَى مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ الْحَقَّ ، فَإِذَا مَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّمَا قَتَلَهُ مَنْ لَهُ الْحَقُّ بَعْدَمَا خَرَجَ الْإِمَامُ مِنْ عُهْدَةِ فِعْلِهِ فَأَمَّا هُنَا فَمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فَلَا يَخْرُجُ مِنْ عُهْدَتِهِ قَبْلَ الْبُرْءِ ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لَهُ فِي قَطْعٍ مُقَيَّدٍ بِكَوْنِهِ قِصَاصًا ، وَالْقِصَاصُ عِبَارَةٌ عَنْ الْمُسَاوَاةِ ، فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قِصَاصًا كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا فِي قَوْلِهِ اقْطَعْ يَدِي فَقَطَعَ فَسَرَى لَا يَجِبُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ أَنَابَهُ مَنَابَ نَفْسِهِ فِي قَطْعٍ مُطْلَقٍ فَكَمَا أَنَّ بِهِ تَحَوَّلَ فِعْلُهُ إلَى الْآمِرِ وَخَرَجَ الْقَاطِعُ مِنْ عُهْدَتِهِ

، وَكَذَلِكَ النَّزَّاعُ ، وَالْفَصَّادُ ، وَالْحَجَّامُ إنَّمَا أُمِرُوا بِفِعْلٍ مُطْلَقٍ وَكَمَا فَرَغُوا مِنْ ذَلِكَ خَرَجُوا مِنْ عُهْدَتِهِمْ وَصَارَ مُسَلَّمًا إلَى أَمْرِهِمْ بِذَلِكَ فَأَمَّا قَوْلُ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ اقْطَعْ يَدِي قِصَاصًا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ ؛ لِأَنَّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ بَعْدَ هَذَا الْقَوْلِ وَقَبْلَهُ كَيْفَ وَقَدْ قَيَّدَ الْأَمْرَ بِقَوْلِهِ اقْطَعْ قِصَاصًا ، فَإِذَا سَرَى إلَى النَّفْسِ فَهَذَا عَلَى الْخِلَافِ ، وَالْحَرْفُ الْآخَرُ لِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذِهِ سِرَايَةٌ تَوَلَّدَتْ مِنْ قَطْعٍ مَضْمُونٍ فَيَكُونُ مَضْمُونًا كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ ظُلْمًا وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْقِصَاصَ مَحْضُ حَقِّ الْعِبَادِ فَيَكُونُ وَاجِبًا بِطَرِيقِ الْجُبْرَانِ وَمَا يُسْتَوْفَى جَبْرًا يَكُونُ عَلَى الْمُسْتَوْفِي بِمَا كَانَ اسْتَوْفَى مِنْهُ فَإِنَّ مَعْنَى الْجُبْرَانِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِهِ كَمَنْ اسْتَهْلَكَ عَلَى إنْسَانٍ مَالًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ مِثْلَهُ كَانَ الْمُسْتَوْفَى مَضْمُونًا عَلَى الْمُسْتَوْفِي وَهَذَا مِثْلُهُ ، فَإِذَا كَانَ أَصْلُ الْفِعْلِ مَضْمُونًا ، وَالسِّرَايَةُ أَثَرُهُ فَتَكُونُ مَضْمُونَةً أَيْضًا وَعَلَيْهِ يَخْرُجُ قَطْعُ يَدِ السَّارِقِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَهُ حَدًّا فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْإِمَامِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ ذَلِكَ قَضَاءٌ مِنْهُ وَفِيمَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ لَا يَكُونُ نَافِذَ الْقَضَاءِ ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ اقْطَعْ يَدِي فَإِنَّهُ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لِلْآمِرِ لِأَمْرِهِ فِي مَحَلٍّ مَمْلُوكٍ لَهُ ، وَكَذَلِكَ قَطْعُ يَدِ الْمُرْتَدِّ وَأَمَّا فِعْلُ الْفَصَّادِ ، وَالنَّزَّاعِ فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ ضَمَانَ عَقْدٍ ، وَلَكِنْ لَا يَتَوَلَّدُ ضَمَانُ الْجِنَايَةِ مِنْ ضَمَانِ الْعَقْدِ وَقَدْ قَرَّرَنَا هَذَا فِي مَسْأَلَةِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ وَلَوْ لَمْ يَمُتْ الْمُقْتَصُّ مِنْهُ وَمَاتَ الْمُقْتَصُّ لَهُ قُتِلَ بِهِ الْمُقْتَصُّ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا مَاتَ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ لَهُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ ، وَمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ إذَا

قَطَعَ يَدَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ لَا يَسْقُطُ بِهِ حَقُّهُ فِي النَّفْسِ ؛ فَلِهَذَا قُتِلَ بِهِ قِصَاصًا .

وَلَوْ قَتَلَ رَجُلٌ رَجُلًا فَدَفَعَ إلَى وَلِيِّهِ فَقَطَعَ يَدَهُ عَمْدًا أَوْ مَثَّلَ بِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ أَرْشٌ ؛ لِأَنَّهُ كَانَتْ لَهُ نَفْسٌ ، وَالْيَدُ مِنْ النَّفْسِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ اسْتِيفَاءَ النَّفْسِ بَاقٍ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَلَكِنْ تَعَذَّرَ لَمَّا بَاشَرَهُ مِنْ الْمُثْلَةِ فَإِنَّ الْمُثْلَةَ حَرَامٌ بِنَهْيِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ الْمُثْلَةِ وَمَا كَانَ يُمْنَعُ مِنْ هَذَا الْفِعْلِ فَذَاكَ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ حَرَقَهُ بِالنَّارِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ مَمْنُوعًا مِنْهُ ، وَالْأَطْرَافُ تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ ، فَإِذَا كَانَ فِعْلُهُ فِي النَّفْسِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مَمْنُوعًا مِنْهُ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ فِي الطَّرَفِ وَلَوْ أَنَّ الْوَلِيَّ بَعْدَمَا قَطَعَ يَدَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً عَفَا عَنْهُ كَانَ عَلَيْهِ دِيَةُ الْيَدِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى طَرَفًا مِنْ نَفْسٍ لَوْ اسْتَوْفَاهَا لَمْ يَضْمَنْ فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَوْفَى جُزْءًا مِنْهَا لَمْ يَضْمَنْ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ مُرْتَدٍّ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْأَطْرَافَ تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ فَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ حَقِّهِ فِي النَّفْسِ ثُبُوتُ حَقِّهِ فِي الْأَطْرَافِ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي التَّبَعِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ اسْتِيفَاءُ الطَّرَفِ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَفْوِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْعَفْوِ وَلِأَنَّ الْعَفْوَ إسْقَاطٌ فَإِنَّ مَا يَنْصَرِفُ إلَى الْبَاقِي لَا إلَى الْمُسْتَوْفِي كَمَنْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ ، ثُمَّ قَطَعَ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ أُصْبُعًا مِنْ أَصَابِعِهِ ، ثُمَّ عَفَا عَنْ الْيَدِ لَمْ يَضْمَنْ أَرْشَ الْأُصْبُعِ ، وَالْأَصَابِعِ لِلْكَفِّ بِمَنْزِلَةِ الْأَطْرَافِ لِلنَّفْسِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ أَعْقَبَ الْقَطْعَ قَتْلًا لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا وَكَانَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ ثُبُوتِ حَقِّهِ فِي الطَّرَفِ فَكَذَلِكَ إذَا أَعْقَبَهُ عَفْوًا ؛

لِأَنَّهُ فِي الْعَفْوِ مُحْسِنٌ وَإِحْسَانُهُ لَا يَكُونُ مُوجِبًا عَلَيْهِ الضَّمَانَ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ بَعْدَ الْعَفْوِ لَوْ سَرَى إلَى النَّفْسِ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا ، وَالْقَطْعُ السَّارِي أَفْحَشُ مِنْ الْمُقْتَصِرُ ، وَإِذَا كَانَ لَا يَضْمَنُ بَعْدَ الْعَفْوِ إذَا سَرَى شَيْئًا ، فَإِذَا اقْتَصَرَ أَوْلَى أَنْ لَا يَضْمَنَ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ اسْتَوْفَى طَرَفًا لَا حَقَّ لَهُ فِي اسْتِيفَائِهِ مِنْ نَفْسٍ مُتَقَوِّمَةٍ فَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ وَبَيَانُهُ أَنَّ نَفْسَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ مُتَقَوِّمَةٌ فِي حَقِّ سَائِرِ النَّاسِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ إلَّا أَنَّ تَقَوُّمَهَا سَقَطَ فِي حَقِّ الِاسْتِيفَاءِ بِمَا سَبَقَ وَلَا حَقَّ لِمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي اسْتِيفَاءِ الطَّرَفِ ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الطَّرَفِ قَطْعٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حَقَّهُ فِي الْقَتْلِ ، وَالْقَطْعِ غَيْرُ الْقَتْلِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُمْنَعُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ مَعَ أَنَّ الْقَطْعَ طَرِيقٌ مَشْرُوعٌ لِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ فَإِنَّمَا يُمْنَعُ هُنَاكَ ؛ لِأَنَّهُ مُخْطِئٌ فِي الطَّرِيقِ وَهَاهُنَا غَيْرُ مُخْطِئٍ فِي الطَّرِيقِ ، ثُمَّ يُمْنَعُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي الطَّرَفِ وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّهُ فِي النَّفْسِ ، وَالْأَطْرَافُ تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ الْحَقُّ فِي اسْتِيفَائِهَا تَبَعًا لَا مَقْصُودًا .
فَإِذَا اسْتَوْفَى الطَّرَفَ مَقْصُودًا كَانَ مُسْتَوْفِيًا مَا لَيْسَ بِحَقٍّ لَهُ إلَّا أَنَّهُ قَبْلَ الْعَفْوِ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَنْ يَجْعَلَهُ تَبَعًا لِلنَّفْسِ بِأَنْ يَقْتُلَهُ فَيَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْفِعْلَيْنِ قَتْلًا وَيَصِيرَ الطَّرَفُ تَبَعًا لِلنَّفْسِ فَلَا يَضْمَنُ شَيْئًا فَأَمَّا بَعْدَ الْعَفْوِ ، فَقَدْ سَقَطَ حَقُّهُ فِي النَّفْسِ وَبَقِيَ الطَّرَفُ مَقْصُودًا بِالِاسْتِيفَاءِ وَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ مَقْصُودًا فَكَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْ وَجَبَ لَهُ الْقِصَاصُ عَلَى امْرَأَةٍ فَرَمَى بِهَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ ، وَالْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ فَلَوْ ثَبَتَ مَنْ

لَهُ الْحَقُّ فِي أَطْرَافِهَا مَقْصُودًا لَصَارَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ ، وَمَنْ لَهُ الْقِصَاصُ عَلَى عَبْدِ إنْسَانٍ إذَا تَصَرَّفَ فِي مَالِيَّتِهِ كَانَ هُوَ فِي ذَلِكَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ ، وَإِنْ كَانَ حَقُّهُ ثَبَتَ فِي مَالِيَّتِهِ تَبَعًا عَلَى مَعْنَى أَنَّ بِاسْتِيفَاءِ النَّفْسِ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا لِلْمَالِيَّةِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ لَا حَقَّ لَهُ فِي الطَّرَفِ إنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ قِصَاصٌ فِي أَطْرَافِهِ لِإِنْسَانٍ وَفِي نَفْسِهِ لِآخَرَ فَجَاءَ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ فَقَطَعَ طَرَفَهُ لَمْ يَضْمَنْ مَنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِصَاحِبِ الطَّرَفِ وَلَوْ كَانَ حَقُّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ ثَابِتًا فِي الطَّرَفِ لَصَارَ هُوَ قَاضِيًا بِطَرَفِهِ حَقًّا مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ فَيَغْرَمُ الْأَرْشَ لِصَاحِبِ الطَّرَفِ ، وَهُوَ بِخِلَافِ الْأُصْبُعِ مَعَ الْكَفِّ فَإِنَّ حَقَّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ ثَابِتٌ فِي الْأَصَابِعِ هُنَاكَ بِدَلِيلِ أَنَّ فَوَاتَ بَعْضِ الْأَصَابِعِ يُثْبِتُ لَهُ الْخِيَارَ ، وَأَنَّ الْكَفَّ تَابِعَةٌ لِلْأَصَابِعِ بِدَلِيلِ حُكْمِ الْأَرْشِ فَأَمَّا هُنَا فَفَوَاتُ الْأَطْرَافِ لَا يُثْبِتُ الْخِيَارَ لِصَاحِبِ النَّفْسِ وَلَا يَنْقُصُ بَدَلُ النَّفْسِ بِفَوَاتِ الْأَطْرَافِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْأَطْرَافَ تَابِعَةٌ لِلنَّفْسِ ، وَقَدْ قِيلَ إنَّ تِلْكَ الْمَسْأَلَةَ مَذْكُورَةٌ فِي الزِّيَادَاتِ ، وَالْجَوَابُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ سَرَى الْقَطْعُ إلَى النَّفْسِ بَعْدَ الْعَفْوِ ؛ لِأَنَّ بِالسِّرَايَةِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ أَصْلَ فِعْلِهِ كَانَ قَتْلًا ، وَأَنَّهُ كَانَ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ ، وَإِنَّمَا أَسْقَطَ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْقَبَ الْقَطْعُ قَتْلًا ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الثَّانِيَ يَكُونُ مُتَمِّمًا لِلْمَقْصُودِ بِالْفِعْلِ الْأَوَّلِ فَيَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قَتْلٌ ، وَالْقَتْلُ حَقُّهُ فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ، ثُمَّ أَذَا قَتَلَهُ ، فَقَدْ تَقَرَّرَ حَقُّهُ فِي النَّفْسِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ وُجُوبَ ضَمَانِ الطَّرَفِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا عَفَا

وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِمْ إنَّ عَفْوَهُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا بَقِيَ ؛ لِأَنَّهُ بِقَطْعِ الْيَدِ مَا صَارَ مُسْتَوْفِيًا شَيْئًا مِنْ الْقَتْلِ حَتَّى يُقَالَ يَنْصَرِفُ عَفْوُهُ إلَى مَا بَقِيَ .

قَالَ : وَفِي الْعَيْنِ الْقِصَاصُ وَفِي السِّنِّ الْقِصَاصُ إذَا قُلِعَتْ ، أَوْ كُسِرَ بَعْضُهَا وَلَمْ يَسْوَدَّ مَا بَقِيَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ الْقِصَاصِ فِي السِّنِّ ، وَإِنَّمَا بَقِيَ مِنْهُ حَرْفٌ ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَسَرَ بَعْضَ السِّنِّ فَاسْوَدَّ مَا بَقِيَ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فَإِنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ فِعْلِ مِثْلِ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَكْسِرَ بَعْضَ السِّنِّ عَلَى وَجْهٍ يَسْوَدُّ مَا بَقِيَ ؛ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْفِعْلَ كُلَّهُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ وَآخِرُهُ مُوجِبٌ لِلْأَرْشِ فَيَمْنَعُ ذَلِكَ وُجُوبَ الْقِصَاصِ فِي جَمِيعِهِ وَفَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا قَطَعَ أُصْبُعَ إنْسَانٍ فَشُلَّتْ بِجَنْبِهَا أُخْرَى وَهَذَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ أُصْبُعٍ مَحَلٌّ عَلَى حِدَةٍ وَوُجُوبُ الْأَرْشِ بِالْفِعْلِ فِي أَحَدِ الْمَحَلَّيْنِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الْقِصَاصِ بِالْفِعْلِ فِي الْمَحَلِّ الْآخَرِ وَهُنَا الْمَحَلُّ كُلُّهُ وَاحِدٌ ، فَإِذَا خَرَجَ آخِرُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ يَخْرُجُ أَوَّلُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا فَأَمَّا فِي الْعَيْنِ إذَا ذَهَبَ نُورُهَا بِالضَّرْبَةِ وَلَمْ تُخْسَفْ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَصُورَتُهُ أَنْ تُحْمَى لَهُ مِرْآةٌ ، ثُمَّ تُقَرَّبَ مِنْهَا حَتَّى يَذْهَبَ نُورُهَا وَيَرْبِطَ عَلَى عَيْنِهِ الْأُخْرَى وَعَلَى وَجْهِهِ قُطْنٌ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّ هَذِهِ الْحَادِثَةَ وَقَعَتْ فِي زَمَنِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَشَاوَرَ الصَّحَابَةَ فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُمْ شَيْئًا حَتَّى قَضَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْقِصَاصِ وَبَيَّنَ طَرِيقَ الِاسْتِيفَاءِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَاتَّفَقُوا عَلَى قَوْلِهِ فَأَمَّا إذَا انْخَسَفَتْ ، أَوْ قُلِعَتْ الْحَدَقَةُ فَلَا قِصَاصَ فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى اعْتِبَارُ الْمُمَاثَلَةِ فِي السِّنِّ ، وَالْمَحَلِّ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ كَسْرِ الْعَظْمِ ، وَأَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقِصَاصُ .

، وَإِذَا أَحْرَقَ رَجُلٌ رَجُلًا بِالنَّارِ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّ النَّارَ تَعْمَلُ عَمَلَ السِّلَاحِ فِي تَفْرِيقِ الْأَجْزَاءِ ، وَالتَّأْثِيرِ فِي الظَّاهِرِ ، وَالْبَاطِنِ ، ثُمَّ يَقْتُلُهُ الْمَوْلَى بِالسَّيْفِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَقْتُلُهُ بِمِثْلِ مَا قَتَلَهُ بِهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُحْرِقُهُ بِالنَّارِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إلَّا رَبُّهَا } وَقَالَ { لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ أَحَدًا } .

وَإِذَا طَعَنَهُ بِرُمْحٍ لَا سِنَانَ لَهُ فَأَجَافَهُ فَمَاتَ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِوُجُودِ الْجُرْحِ فِي الظَّاهِرِ ، وَالْبَاطِنِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ غَيْرَ الْحَدِيدِ إذَا كَانَ يَعْمَلُ عَمَلَ الْحَدِيدِ فِي الْقَطْعِ ، وَالْجَرْحِ ، فَالْفِعْلُ بِهِ يَكُونُ عَمْدًا مَحْضًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَقَّ بَطْنَهُ بِعُودٍ أَوَذَبَحَهُ بِقَصَبَةٍ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ السِّلَاحِ يَجِبُ الْقِصَاصُ بِهِ وَفِي مُثْقِلِ الْحَدِيدِ ، وَالنُّحَاسِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ كَمَا بَيَّنَّا ، وَالْكَلَامُ فِي الْقَتْلِ بِالْحَجَرِ ، وَالْعَصَا قَدْ تَقَدَّمَ .

، وَإِذَا غَرَّقَ رَجُلٌ رَجُلًا فِي مَاءٍ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَنْقَلِبُ مِنْهُ بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمُرَادُهُ الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَيْنَا فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ إذَا جَاءَ مِنْ ذَلِكَ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ مَنْ مِثْلُهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَتْلِ بِالْحَجَرِ الْكَبِيرِ عَلَى قَوْلِهِمْ وَيَعْتَمِدُونَ فِيهِ قَوْلَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ غَرَّقَ غَرَّقْنَاهُ وَمَنْ حَرَّقَ حَرَّقْنَاهُ } ، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ قَالَ : هَذَا لَا يَثْبُتُ مَرْفُوعًا ، وَإِنَّمَا هَذَا كَلَامُ زِيَادٍ ذَكَرَهُ فِي خُطْبَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِيهِ ، وَمَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ وَبِالْإِجْمَاعِ مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ لَا يُقْتَلُ ، ثُمَّ الْمَاءُ لَيْسَ فِي مَعْنَى السِّلَاحِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِي تَفْرِيقِ الْأَجْزَاءِ فِي الظَّاهِرِ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحَجَرِ وَالْعَصَا عَلَى قَوْلِهِمْ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْغَرِيقَ يَجْتَذِبُ الْمَاءَ بِنَفْسِهِ فَيَكُونُ كَالْمُعِينِ عَلَى نَفْسِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96