كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
وَلَوْ قَالَ : خَرَجْتُ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ لَمْ يَكُنْ إقْرَارًا بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِفِعْلِهِ بِالْخُرُوجِ مِنْ الدَّارِ وَلَوْ عَايَنَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا انْتِفَاءَ حَقِّهِ عَنْهَا فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ خَرَجْتُ مِنْهَا .
وَإِنْ قَالَ : قَدْ خَرَجْتُ مِنْهَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَقَبَضْتُهَا كَانَ إقْرَارًا بِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ بِعِوَضٍ لَا يَكُونُ إخْبَارًا بِعَيْنِ الْفِعْلِ بَلْ يَكُونُ إخْبَارًا بِإِزَالَةِ مِلْكِهِ عَنْهَا بِعِوَضٍ بِطَرِيقِ الْبَيْعِ أَوْ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ فَيَكُونُ إقْرَارًا بِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهَا ، وَعَلَى هَذَا الْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضُ وَالدَّيْنُ ، فَإِنْ أَنْكَرَ ذُو الْيَدِ ذَلِكَ ، وَقَالَ هُوَ لِي ، وَقَدْ أَخَذْتُ مِائَةَ دِرْهَمٍ غَصْبًا حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ بِأَخْذِ الْمِائَةِ مِنْهُ وَادَّعَى لِأَخْذِهِ شَيْئًا ، وَهُوَ الصُّلْحُ ، فَإِذَا أَنْكَرَ صَاحِبُهُ السَّبَبَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ الْيَمِينِ وَيَسْتَرِدُّ الْمِائَةَ إذَا حَلَفَ وَيَكُونُ الْمُقِرُّ عَلَى خُصُومَتِهِ ؛ لِأَنَّ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ الصُّلْحِ قَدْ بَطَلَ بِإِنْكَارِ صَاحِبِهِ وَاسْتِرْدَادِهِ بَدَلَ الصُّلْحِ .
وَإِذَا قَالَ الطَّالِبُ : قَدْ بَرِئْتُ مِنْ دَيْنِي عَلَى فُلَانٍ أَوْ هُوَ فِي حِلٍّ مِمَّا لِي عَلَيْهِ كَانَتْ هَذِهِ بَرَاءَةً لِلْمَطْلُوبِ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْبَرَاءَةَ إلَى الْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَى الْمَطْلُوبِ فَيَكُونُ مُسْقِطًا لَهُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ وَهَبْتُ الَّذِي لِي عَلَيْهِ لَهُ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ يَكُونُ إسْقَاطًا فَإِنَّهُ لَيْسَ بِعَيْنٍ قَابِلٍ لِلتَّمْلِيكِ مَقْصُودٍ ، وَلَكِنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِلْإِسْقَاطِ فَتَصِيرُ الْهِبَةُ فِيهِ عِبَارَةً عَنْ الْإِسْقَاطِ مَجَازًا كَهِبَةِ الْمَرْأَةِ مِنْ نَفْسِهَا يَكُونُ طَلَاقًا وَهِبَةُ الْعَبْدِ مِنْ نَفْسِهِ يَكُونُ اعْتَاقَا وَهِبَةُ الْقِصَاصِ مِمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ يَكُونُ عَفْوًا ، فَإِنْ كَانَ فُلَانٌ حَاضِرًا فَلَمْ يَقْبَلْ الْهِبَةَ أَوْ كَانَ غَائِبًا فَبَلَغَهُ ، فَقَالَ لَا أَقْبَلُ فَالْمَالُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أَبْرَأَهُ فَرَدَّ الْإِبْرَاءَ وَهَذَا لِأَنَّ إبْرَاءَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ ، وَإِنْ كَانَ إسْقَاطًا فَفِيهِ مَعْنَى التَّمَلُّكِ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ مَا فِي ذِمَّتِهِ وَيُسْقِطَ عَنْهُ كَمَا يَكُونُ عِنْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ أَوْ الشِّرَاءِ بِالدَّيْنِ فَلَمَّا كَانَ فِيهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ احْتَمَلَ الِارْتِدَادَ بِرَدِّهِ وَلِكَوْنِهِ إسْقَاطًا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِهِ حَتَّى لَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ فَهُوَ بَرِيءٌ ؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ حَصَلَتْ لَهُ بِنَفْسِ الْإِسْقَاطِ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَعُودَ بِرَدِّهِ ، فَإِذَا مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ تَمَّ الْإِسْقَاطُ بِمَوْتِهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ هُوَ فِي حِلٍّ مِمَّا لِي عَلَيْهِ فَهَذَا اللَّفْظُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْإِبْرَاءِ عُرْفًا فَهُوَ وَقَوْلُهُ هُوَ بَرِيءٌ مِمَّا لِي عَلَيْهِ سَوَاءٌ .
وَلَوْ قَالَ لَيْسَ لِي مَعَ فُلَانٍ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ هَذَا إبْرَاءً مِنْ الدَّيْنِ ، وَكَانَ بَرَاءَةً مِنْ كُلِّ أَمَانَةٍ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَيْسَ عِنْدَ فُلَانٍ ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ مَعَ لِلضَّمِّ وَكَلِمَةَ عِنْدَ لِلْقُرْبِ ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي الْأَعْيَانِ دُونَ الدُّيُونِ .
وَإِذَا أَقَرَّ الطَّالِبُ أَنَّ فُلَانًا قَدْ بَرِئَ إلَيْهِ مِمَّا لَهُ عَلَيْهِ فَهَذَا إقْرَارٌ بِالْقَبْضِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِبَرَاءَتِهِ بِفِعْلٍ مِنْ الْمَطْلُوبِ مُتَّصِلٍ بِالطَّالِبِ حِينَ وَصَلَهُ بِنَفْسِهِ بِحَرْفِ إلَى ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِإِيفَاءِ الدَّيْنِ فَإِنَّ ابْتِدَاءَهُ مِنْ الْمَطْلُوبِ وَتَمَامَهُ مِنْ الطَّالِبِ بِقَبْضِهِ .
وَإِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ لَهُ قِبَلَ فُلَانٍ فَلَهُ أَنْ يَدَّعِيَ الْخَطَأَ وَالْحَدَّ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ اسْمٌ خَاصٌّ لِعُقُوبَةٍ هِيَ عِوَضُ حَقِّ الْعِبَادِ وَاجِبٌ بِطَرِيقِ الْمُمَاثَلَةِ فَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْخَطَأُ وَالْحَدُّ ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الْخَطَأِ وَالْحَدِّ مَالٌ وَمُعْظَمُ الْحَقِّ فِي الْحَدِّ لِلَّهِ تَعَالَى .
وَإِذَا أَقَرَّ أَنَّهُ لَا جِرَاحَةَ لَهُ خَطَأً قِبَلَ فُلَانٍ فَلَهُ أَنْ يَدَّعِيَ الْعَمْدَ إنْ كَانَ فِيهِ قِصَاصٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ صِفَةٌ لِلْفِعْلِ لَا لِمُوجَبِهِ وَالْعَمْدُ ضِدُّهُ فَلَا يَكُونُ نَفْيُهُ بِصِفَةٍ نَفْيًا مِنْهُ فِعْلًا بِضِدِّ تِلْكَ الصِّفَةِ فَإِنَّ مَا لَيْسَ بِمُعَيَّنٍ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ وَصْفِهِ .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَا جِرَاحَةَ لَهُ قِبَلَ فُلَانٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ جِرَاحَةً عَمْدًا وَلَا خَطَأً ؛ لِأَنَّهُ نَفَى الْفِعْلَ مُطْلَقًا فَلَا يَتَقَيَّدُ بِأَحَدِ الْوَصْفَيْنِ إذْ الْمُقَيَّدُ غَيْرُ الْمُطْلَقِ وَنَفْيُ الْفِعْلِ نَفْيٌ لِمُوجَبِهِ ضَرُورَةً وَلَهُ أَنْ يَدَّعِيَ الدَّمَ ؛ لِأَنَّ الْجِرَاحَ اسْمٌ خَاصٌّ لِمَا دُونَ النَّفْسِ فَلَا يَتَنَاوَلُ النَّفْسَ ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي النَّفْسِ إزْهَاقُ الْحَيَاةِ ، وَفِيمَا دُونَهَا أَمَانَةٌ لِجُزْءٍ مَا هُوَ دُونَهَا فِي الْجُرْحِ وَلَا مُغَايِرَةَ أَبَيْنَ مِنْ مُغَايِرَةِ مَحَلِّ الْفِعْلِ .
وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَا حَدَّ لَهُ قِبَلَ فُلَانٍ فَادَّعَى سَرِقَةً يَجِبُ فِيهَا الْقَطْعُ فَهُوَ عَلَى دَعْوَاهُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا نَفَى حَدًّا هُوَ حَقُّهُ وَحَدُّ السَّرِقَةِ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى لَا يَعْمَلَ فِيهِ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ وَلَا يُعْتَبَرُ خُصُومَةُ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ فِي الْقَطْعِ وَإِنَّمَا حَقُّهُ فِي دَعْوَى الْمَالِ ، وَهُوَ مَا نَفَى ذَلِكَ بِإِقْرَارِهِ .
وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَا دَمَ لَهُ قِبَلَ فُلَانٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ دَمًا خَطَأً وَلَا عَمْدًا ؛ لِأَنَّهُ نَفَى بِإِقْرَارِهِ الدَّمَ مُطْلَقًا ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ نَفْيَ السَّبَبِ نَفْيٌ لِمُوجَبِهِ وَالدِّيَةُ فِي الْخَطَأِ مُوجَبُ الدَّمِ كَالْقِصَاصِ فِي الْعَمْدِ وَلَهُ أَنْ يَدَّعِيَ مَا دُونَ الدَّمِ ، وَالدَّمُ فِي عَرْفِ اللِّسَانِ عِبَارَةٌ عَنْ النَّفْسِ خَاصَّةً ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ نَفْيِ النَّفْسِ نَفْيُ مَا دُونَهَا .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَا أَرْشَ لَهُ قِبَلَ فُلَانٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ دِيَةً خَطَأً وَلَا صُلْحًا عَنْ دَمِ عَمْدٍ وَلَا عَنْ كَفَالَةٍ بِدِيَةِ نَفْسٍ وَلَا عَنْ قِبَلِ شَيْءٍ مِنْ الْجِرَاحَةِ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْأَرْشِ يَعُمُّ ذَلِكَ كُلَّهُ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا بِنَفْسِ الْفِعْلِ أَوْ بِالصُّلْحِ عَلَى الْأَصْلِ أَوْ عَلَى الْكَفِيلِ بِكَفَالَتِهِ بِهِ فَإِقْرَارُهُ بِنَفْيِ الْأَرْشِ يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الْإِقْرَارِ بِالْعِتْقِ وَالْكِتَابَةِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ هَذَا أَمْسِ ، وَهُوَ كَاذِبٌ عَتَقَ فِي الْقَضَاءِ ، وَلَمْ يَعْتِقْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ خَبَرٌ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ لَكِنَّ دِينَ الْمُقِرِّ وَعَقْلَهُ يَدْعُوَانِهِ إلَى الصِّدْقِ وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ ، فَإِذَا تَرَجَّحَ جَانِبُ الصِّدْقِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ قَضَى الْقَاضِي بِعِتْقِهِ ، وَلَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِحَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ ، فَإِذَا لَمْ يَسْبِقْ مِنْ الْمُقِرِّ فِيهِ عِتْقٌ كَانَ خَبَرُهُ فِي الْحَقِيقَةِ كَذِبًا وَالْكَذِبُ بِالْإِخْبَارِ عَنْهُ لَا يُصَيِّرُهُ حَقًّا كَإِقْرَارِ الْمُقِرِّينَ بِهِ لَا يُصَيِّرُهُ حَقًّا بِإِخْبَارِهِمْ بِهِ فَلِهَذَا لَا يَعْتِقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى .
وَلَوْ قَالَ أَعْتَقْتُكَ أَمْسِ وَقُلْتَ إنْ شَاءَ اللَّهُ لَمْ يَعْتِقْ لِمَا سَبَقَ أَنَّ عَمَلَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْكَلَامِ كَعَمَلِ الشَّرْطِ .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِشَرْطٍ لَمْ يَكُنْ هَذَا إقْرَارًا بِالْعِتْقِ فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ اسْتَثْنَى مَوْصُولًا .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَعْتَقْتُكَ أَمْسِ وَإِنَّمَا اشْتَرَاهُ الْيَوْمَ فَقَدْ أَضَافَ الْعِتْقَ إلَى وَقْتٍ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِلْعِتْقِ فِيهِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ أَعْتَقْتُكَ قَبْلَ أَنْ اشْتَرَيْتُكَ .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدَهُ هَذَا لَا بَلْ هَذَا عِتْقًا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ لِلْأَوَّلِ بَاطِلٌ ، وَإِقَامَةُ الثَّانِي مَقَامَهُ فِي الْإِقْرَارِ بِعِتْقِهِ صَحِيحَةٌ فَلِهَذَا عَتَقَا .
وَلَوْ قَالَ أَعْتَقْتُكَ عَلَى مَالٍ ، وَقَالَ الْعَبْدُ أَعْتَقْتَنِي بِغَيْرِ مَالِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى أَقَرَّ بِعِتْقِهِ وَادَّعَى وُجُوبَ الْمَالِ لِنَفْسِهِ فِي ذِمَّتِهِ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَنْزِلُ بِنَفْسِ الْقَبُولِ قَبْلَ الْأَدَاءِ وَالْمَوْلَى مُقِرٌّ بِقَبُولِهِ فَلِهَذَا عَتَقَ الْعَبْدُ ، وَهُوَ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ الْمَالِ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ أَوْ يَحْلِفَ الْعَبْدُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ .
وَلَوْ قَالَ : جَعَلْتُ أَمْرَك بِيَدِكَ فِي الْعِتْقِ أَمْسِ فَلَمْ تُعْتِقْ نَفْسَكَ ، وَقَالَ الْعَبْدُ بَلْ أَعْتَقْتُ نَفْسِي لَمْ يُصَدَّقْ الْعَبْدُ لِأَنَّ الْمَوْلَى مَا أَقَرَّ بِعِتْقِهِ فَإِنَّ جَعْلَ الْأَمْرِ فِي يَدِهِ لَا يُوجِبُ الْعِتْقَ مَا لَمْ يُعْتِقْ الْعَبْدُ نَفْسَهُ ، وَالْعَبْدُ مُدَّعٍ لِذَلِكَ وَالْمَوْلَى مُنْكِرٌ وَلَا قَوْلَ لِلْعَبْدِ فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّهُ يُخْبِرُ بِمَا لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فَقَدْ خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهِ بِالْقِيَامِ مِنْ الْمَجْلِسِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَعْتَقْتُكَ عَلَى مَالِ أَمْسِ فَلَمْ تَقْبَلْ ، وَقَالَ الْعَبْدُ بَلْ قَبِلْتُ أَوْ قَالَ أَعْتَقْتَنِي بِغَيْرِ شَيْءٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى لِأَنَّهُ مَا أَقَرَّ بِعِتْقِهِ فَإِنَّ إعْتَاقَهُ بِمَالٍ تَعْلِيقٌ بِشَرْطِ الْقَبُولِ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ قَبْلَ قَبُولِ الْعَبْدِ وَلَوْ أَقَرَّ بِتَعْلِيقِ عِتْقِهِ بِشَرْطٍ آخَرَ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُ الْعَبْدِ فِي إيجَادِ الشَّرْطِ وَلَا فِي إنْكَارِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ .
وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الطَّلَاقِ ، وَفِي قَوْلِهِ أَمْرُكِ بِيَدِكِ وَاخْتَارِي ، فَإِنْ أَقَامَ الْعَبْدُ الْبَيِّنَةَ عَلَى قَبُولِهِ أَوْ عَلَى إعْتَاقِ الْمَوْلَى إيَّاهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ كَانَ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْمَوْلَى .
وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ : كَاتَبْتُكَ ، وَلَمْ يُسَمِّ مَالًا ، وَقَالَ الْعَبْدُ لَا بَلْ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يُصَدَّقَ الْعَبْدُ وَلَا يُصَدَّقُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا اخْتَلَفَ الْمَوْلَى وَالْمُكَاتَبُ فِي مِقْدَارِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى وَيَتَحَالَفَانِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَسْمِيَةِ الْبَدَلِ وَيُحْتَمَلُ الْفَسْخُ كَالْبَيْعِ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْآخَرِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ إذَا تَمَّتْ بِالْعِتْقِ لَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَتَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعِتْقِ عَلَى مَالٍ وَالطَّلَاقُ بِمَالٍ إذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي مِقْدَارِ الْبَدَلِ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ فِي الزِّيَادَةِ وَلَا يَجْرِي التَّحَالُفُ فَلَمَّا كَانَ مِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ الْكِتَابَةَ عَلَى قِيَاسِ الْبَيْعِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْبَيْعِ أَنَّ إقْرَارَهُ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ بَاطِلٌ فَكَذَلِكَ فِي الْكِتَابَةِ فَيَبْقَى الْعَبْدُ مُدَّعِيًا لِلْكِتَابَةِ بِخَمْسِمِائَةٍ وَلَا يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ فَإِقْرَارُهُ بِهِ صَحِيحٌ ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ مَالًا ، ثُمَّ نَقُولُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْآخَرِ الْمَوْلَى لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إنْكَارِ أَصْلِ الْكِتَابَةِ بَعْدَ مَا أَقَرَّ بِهَا ، وَإِنْ ادَّعَى مَالًا خِلَافَ مَا أَقَرَّ بِهِ الْعَبْدُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ قَدْ وَجَبَ تَصْدِيقُ الْعَبْدِ عِنْدَهُمَا إذَا ادَّعَى الْمَوْلَى خِلَافَ مَا أَقَرَّ بِهِ الْعَبْدُ لَمْ يُصَدَّقْ الْعَبْدُ وَتَحَالَفَا فَكَذَلِكَ هُنَا .
وَلَوْ قَالَ : كَاتَبْتُكَ أَمْسِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَمْ تَقْبَلْ الْكِتَابَةَ ، وَقَالَ الْعَبْدُ بَلْ قَبِلْتُهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ فِي هَذَا قِيَاسُ الْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا لَا تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَيَلْزَمُ الْإِيجَابُ فِيهَا قَبْلَ الْقَبُولِ فَإِقْرَارُهُ بِالْعَقْدِ يَكُونُ إقْرَارًا بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ جَمِيعًا ، ثُمَّ قَوْلُهُ فَلَمْ تُقْبَلْ يَكُونُ رُجُوعًا عَنْ الْإِقْرَارِ فَلَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ كَمَا لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ بَاعَ عَبْدَهُ مِنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَمْ يَقْبَلْ ، وَقَالَ فُلَانٌ : قَبِلْتُ ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ ، وَالْإِيجَابُ فِيهِ لَازِمٌ قَبْلَ الْقَبُولِ فَإِقْرَارُهُ بِفِعْلِهِ لَا يَكُونُ إقْرَارًا مِنْهُ بِقَبُولِ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَاتَبَ عَبْدَهُ هَذَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ لَا بَلْ هَذَا وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْكِتَابَةَ جَازَ ذَلِكَ لَهُمَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ رُجُوعَهُ عَنْ الْإِقْرَارِ لِلْأَوَّلِ بَاطِلٌ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَاتَبَ هَذَيْنِ الْعَبْدَيْنِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ إلَّا هَذَا ؛ لِأَنَّهُ هُنَاكَ أَخْرَجَ كَلَامَهُ مَخْرَجَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالِاسْتِثْنَاءُ صَحِيحٌ مَوْصُولًا فَإِنَّمَا يَصِيرُ مُقِرًّا بِمَا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى ، وَفِي الْأَوَّلِ أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الرُّجُوعِ وَلَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ مَوْصُولًا وَمَفْصُولًا .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَاتَبَهُ ، وَهُوَ صَبِيٌّ ، فَقَالَ الْمُكَاتَبُ بَلْ كَاتَبْتَنِي وَأَنْتَ رَجُلٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الْإِقْرَارَ إلَى حَالٍ مَعْهُودَةٍ تُنَافِي الْكِتَابَةَ .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَاتَبَ هَذَا قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَهُ أَوْ أَنَّهُ كَاتَبَهُ أَمْسِ ، وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ وَصَلَ كَلَامَهُ بِمَا يَنْفِي أَصْلَ الْكِتَابَةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ الْمَوْلَى : اشْتَرَطْتُ الْخِيَارَ لَانْتَفَى أَصْلُ الْعَقْدِ فَإِنَّ تَأْثِيرَ الْخِيَارِ فِي تَغْيِيرِ وَصْفِ الْعَقْدِ وَجَعْلِ حُكْمِهِ كَالْمُتَعَلِّقِ بِالشَّرْطِ لَا أَنْ يَصِيرَ أَصْلُ السَّبَبِ مُتَعَلِّقًا فَلَمْ يَكُنِ الْمَوْلَى بِدَعْوَى الْخِيَارِ مُنْكِرًا لِأَصْلِ الْعَقْدِ بِخِلَافِ الِاسْتِثْنَاءِ وَالْبَيْعِ فِي هَذَا قِيَاسُ الْكِتَابَةِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ إقْرَارِ الْكُفَّارِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَإِذَا أَقَرَّ الْحَرْبِيُّ الْمُسْتَأْمَنُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِدَيْنٍ لِمُسْلِمٍ فَهُوَ لَازِمٌ ؛ لِأَنَّهُ أَهْلٌ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ الْحَقُّ لِلْمُسْلِمِ بِالْمُعَامَلَةِ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ لَهُ ، وَهُوَ سَبَبٌ حَادِثٌ فَيُحَالُ بِهِ عَلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ ، وَهُوَ مَا بَعْدَ دُخُولِ دَارِنَا بِأَمَانٍ ، فَإِنْ قَالَ أَدَانَنِي فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَقَالَ الْمُسْلِمُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَالدَّيْنُ لَازِمٌ عَلَيْهِ سَوَاءٌ قَالَ ذَلِكَ مَوْصُولًا بِإِقْرَارِهِ أَوْ مَفْصُولًا ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي تَارِيخًا سَابِقًا لِمَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ الْمَالِ ، وَهُوَ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِي دَعْوَى التَّارِيخِ ، وَإِنْ وَصَلَ كَلَامُهُ ، وَلِأَنَّ بِهَذِهِ الْإِضَافَةِ لَا يُنْكِرُ وُجُوبَ أَصْلِ الْمَالِ فَإِنَّ الْمُدَايَنَةَ فِي دَارِ الْحَرْبِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْمَالِ لِلْمُسْلِمِ عَلَيْهِ ، وَلَكِنْ لَا تُسْمَعُ الْخُصُومَةُ فِيهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مَا لَمْ يُسْلِمْ أَوْ يَصِرْ ذِمِّيًّا فَيَصِيرُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ دَعْوَى الْأَجَلِ ، وَإِنْ ادَّعَاهُ مَوْصُولًا بِإِقْرَارِهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ لِمُسْتَأْمَنٍ مِثْلِهِ أَوْ لِذِمِّيٍّ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ بِعَيْنِهِ فِي يَدَيْهِ أَنَّهُ لَهُ .
وَإِقْرَارُ الْمُسْتَأْمَنِ بِالنِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالْوَلَدِ وَالْجِرَاحَاتِ وَحَدِّ الْقَذْفِ وَالْإِجَارَةِ وَالْكَفَالَةِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا كُلِّهِ حَقُّ الْعِبَادِ ، وَالْمُسْتَأْمَنُ مُلْتَزِمٌ لِذَلِكَ مُدَّةَ مُقَامِهِ فِي دَارِنَا حَتَّى إذَا بَاشَرَ سَبَبَ ذَلِكَ كَانَ مُؤَاخَذًا بِهِ فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِهِ وَلَوْ أَقَرَّ بِحَدِّ زِنًا أَوْ سَرِقَةٍ فَقَدْ عُرِفَ أَنَّ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الْحُدُودُ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى لَا تُقَامُ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِ ، وَإِنْ ثَبَتَ سَبَبُهَا بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالْمُعَايَنَةِ .
وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِهِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْقَوْلِ الْآخَرِ تُقَامُ الْحُدُودُ عَلَيْهِ كَمَا تُقَامُ عَلَى الذِّمِّيِّ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ بِهَا كَمَا يَصِحُّ إقْرَارُ الذِّمِّيِّ وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الْحُدُودِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْحَدَّ وَحَدِّ الْقَذْفِ مَعْرُوفٌ أَنَّ فِيهِ حَقَّ الْعَبْدِ وَيَضْمَنُ السَّرِقَةَ إذَا أَقَرَّ بِهَا ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ .
وَلَوْ أَقَرَّ مُسْلِمٌ لِذِمِّيٍّ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ فِي يَدِهِ جَازَ إقْرَارُهُ ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ مَالٌ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ فَيُؤْمَرُ بِرَدِّهَا عَلَيْهِ بِحُكْمِ إقْرَارِهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ الذِّمِّيُّ لِلْمُسْلِمِ بِعَيْنِهَا ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ لِلْمُسْلِمِ مَمْلُوكَةٌ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَالًا مُتَقَوِّمًا فَيُؤْمَرُ الذِّمِّيُّ بِرَدِّهَا عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ وَيُؤْمَرُ الْمُسْلِمُ أَنْ يُخَلِّلَهَا .
وَلَوْ أَقَرَّ لَهُ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ مُسْتَهْلَكٍ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ كَمَا لَوْ عَايَنَاهُ اسْتَهْلَكَ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ عَلَى الْمُسْلِمِ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِجِلْدِ شَاةٍ مَيِّتَةٍ يُؤْمَرُ بِدَفْعِهِ إلَيْهِ لِيَنْتَفِعَ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ، وَإِنْ أَقَرَّ بِهَا لِذِمِّيٍّ يَعْنِي بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ مُسْتَهْلَكٍ لَزِمَهُ قِيمَتُهَا ؛ لِأَنَّهَا مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّهِ يَضْمَنُ مُتْلِفُهَا عَلَيْهِ عِنْدَنَا .
وَإِذَا أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ فَأَقَرَّ ذِمِّيٌّ أَنَّهُ اسْتَهْلَكَ لَهُ خِنْزِيرًا بَعْدَ إسْلَامِهِ ، وَقَالَ الْمُسْلِمُ : اسْتَهْلَكْتُهُ قَبْلَ إسْلَامِي فَهُوَ ضَامِنٌ لَقِيمَتِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ .
إذَا قَالَ لِحَرْبِيٍّ أَسْلَمَ أَتْلَفْتُ مَالَكَ أَوْ قَطَعْتُ يَدَكَ حِينَ كُنْتَ حَرْبِيًّا ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْخِلَافَ فَهَذَا قِيَاسُهُ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ ذِمِّيًّا أَقَرَّ بِخَمْرٍ ، وَقَالَ اسْتَهْلَكْتُهَا وَأَنَا حَرْبِيٌّ ، وَقَدْ عُلِمَ كَوْنُهُ حَرْبِيًّا مِنْ قَبْلُ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا .
وَإِقْرَارُ الْمُرْتَدِّ بِالْحُقُوقِ جَائِزٌ إنْ أَسْلَمَ ، وَإِنْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ فِي كَسْبِ إسْلَامِهِ وَيَجُوزُ إقْرَارُهُ فِيمَا اكْتَسَبَهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِقْرَارُ الْمُرْتَدَّةِ بِذَلِكَ كُلِّهِ جَائِزٌ وَعِنْدَهُمَا إقْرَارُهُمَا جَائِزٌ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِ الصَّحِيحِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِ الْمَرِيضِ وَهَذَا نَظِيرُ اخْتِلَافِهِمْ فِي تَصَرُّفَاتِ الْمُرْتَدِّ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ تَصَرُّفٌ مِنْهُ كَسَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ ، وَهُوَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ السِّيَرِ .
وَلَوْ أَقَرَّ الْمُرْتَدُّ بِمُكَاتَبَةِ عَبْدٍ لَهُ أَوْ بِعِتْقِهِ فِي حَالِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ وَيَجُوزُ عِنْدَهُمَا إلَّا أَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِ الْمَرِيضِ .
وَإِذَا أَقَرَّتْ الْمُرْتَدَّةُ أَوْ الْمُرْتَدُّ بِحَدٍّ فِي قَذْفٍ أَوْ سَرِقَةٍ أَوْ زِنًا أَوْ جِرَاحَةِ عَمْدٍ فِيهَا قِصَاصٌ فَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَهُمْ ؛ لِأَنَّ الْحَجْرَ بِسَبَبِ الزِّيَادَةِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الرِّقِّ ، وَلِأَنَّ تَوَقُّفَ تَصَرُّفُهُ فِي الْمَالِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِتَوَقُّفِ مِلْكِهِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْعُقُوبَاتِ ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ الْجِرَاحَاتِ الَّتِي تُوجِبُ الْمَالَ فَإِقْرَارُهُ بِهَا يُوقَفُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيَكُونُ نَافِذًا عِنْدَهُمَا عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَذَكَرَ حَدِيثَ الْقَاسِمِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ عَبْدًا أَتَى عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - فَأَقَرَّ بِالسَّرِقَةِ مَرَّتَيْنِ فَأَمَرَ بِهِ فَقُطِعَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ وَكَأَنِّي أَنْظُرُ إلَى يَدِهِ مُعَلَّقَةً فِي عُنُقِهِ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ إقْرَارِ الْعَبْدِ بِالْأَسْبَابِ الْمُوجَبَةِ لِلْعُقُوبَةِ وَبِهِ يَسْتَدِلُّ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي اشْتِرَاطِ التَّكْرَارِ فِي الْإِقْرَارِ بِالْإِقْرَارِ إلَّا أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدًا رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا فِي الْحَدِيثِ أَقَرَّ مَرَّتَيْنِ فَقَطَعَهُ ، وَلَيْسَ فِيهِ لَوْ لَمْ يُكَرِّرْ إقْرَارَهُ لَمْ يَقْطَعْهُ وَالسُّكُوتُ لَا يَكُونُ حُجَّةً وَذُكِرَ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ أَتَى عَبْدٌ قَدْ رَأَيْتُهُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَقَرَّ عِنْدَهُ بِالزِّنَا فَأَمَرَ بِهِ قَنْبَرًا ، وَقَالَ اضْرِبْهُ ، فَإِذَا قَالَ اُتْرُكْنِي فَاتْرُكْهُ فَلَمَّا وَفَّاهُ خَمْسِينَ جَلْدَةً قَالَ لَهُ الْعَبْدُ اُتْرُكْنِي فَتَرَكَهُ ، وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ إقْرَارِ الْعَبْدِ بِالْحَدِّ عَلَى نَفْسِهِ وَلِقَوْلِهِ " فَإِذَا قَالَ اُتْرُكْنِي فَاتْرُكْهُ " تَأْوِيلَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إذَا رَجَعَ عَنْ إقْرَارِهِ فَاقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ وَالثَّانِي أَنَّهُ عَلِمَ فِقْهَ الْعَبْدِ فِي أَنَّهُ لَا يَقُولُ لَهُ اُتْرُكْنِي إلَّا بَعْدَ أَنْ يُتِمَّ عَلَيْهِ حَدَّ الْعَبِيدِ ، وَقَدْ ظَهَرَ
ذَلِكَ حِينَ قَالَ لَهُ اُتْرُكْنِي بَعْدَ خَمْسِينَ جَلْدَةً .
وَإِذَا أَقَرَّ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ بِدَمِ عَمْدٍ وَلَهُ وَلِيَّانِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ مَالٌ فِي عِتْقِهِ ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِهِ يَكُونُ مُوجَبًا لِلْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ وَكَوْنُ دَمِهِ خَالِصَ حَقِّهِ ، فَإِذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ مَالًا بَطَلَ إقْرَارُهُ ؛ لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ حَقُّ مَوْلَاهُ ، وَكَانَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ .
وَلَوْ أَقَرَّ بِسَرِقَةٍ لَا يَجِبُ فِي مِثْلِهَا الْقَطْعُ كَانَ إقْرَارُهُ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ وَمَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ حَقٌّ لِمَوْلَاهُ فَلَا يُصَدَّقُ فِي إقْرَارِهِ وَإِقْرَارُهُ بِالْمَالِ بِهَذَا السَّبَبِ صَحِيحٌ كَإِقْرَارِهِ بِالْغَصْبِ .
وَإِقْرَارُ الصَّبِيِّ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ وَالْمَعْتُوهِ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالنَّائِمِ بَاطِلٌ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِمْ .
وَإِقْرَارُ السَّكْرَانِ جَائِزٌ كَإِقْرَارِ الصَّاحِي بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ يَنْفُذُ مِنْ السَّكْرَانِ كَمَا يَنْفُذُ مِنْ الصَّحِيحِ وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ إقْرَارُهُ بِالْمَالِ أَوْ بِالْحَدِّ أَوْ بِمَا يَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ أَوْ بِمَا لَا يَصِحُّ إذَا لَمْ يَرْجِعْ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ السُّكْرَ عِبَارَةٌ عَنْ غَلَبَةِ السُّرُورِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي عَقْلِهِ شَيْئًا فَيَنْفُذُ إقْرَارُهُ كَمَا يَنْفُذُ مِمَّنْ هُوَ صَاحٍ .
وَكَذَلِكَ الْأَصَمُّ وَالْأَعْمَى وَالْمُقْعَدُ وَالْمَفْلُوجُ فَهَذِهِ الْآفَاتِ لَا تُؤَثِّرُ فِي عَقْلِهِ وَلَا فِي لِسَانِهِ فَهُوَ فِي أَقَارِيرِهِ كَالصَّاحِي .
وَإِقْرَارُ الْأَخْرَسِ إذَا كَانَ يَكْتُبُ وَيَعْقِلُ جَائِزٌ فِي الْقِصَاصِ وَحُقُوقِ النَّاسِ ؛ لِأَنَّ لَهُ إشَارَةً مَفْهُومَةً تَنْفُذُ تَصَرُّفَاتُهُ بِتِلْكَ الْإِشَارَةِ وَيَحْتَاجُ إلَى الْمُعَامَلَةِ مَعَ النَّاسِ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ مَا خَلَا الْحُدُودَ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ بِهَا يَسْتَدْعِي التَّصْرِيحَ بِلَفْظِ الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَبِإِشَارَتِهِ لَا يَحْصُلُ هَذَا ، وَلِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ فَلَعَلَّ فِي نَفْسِهِ شُبْهَةً لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إظْهَارِهَا بِإِشَارَتِهِ إذْ هُوَ لَا يَقْدِرُ عَلَى إظْهَارِ كُلِّ شَيْءٍ بِإِشَارَتِهِ وَلِهَذَا لَا تُقَامُ عَلَيْهِ الْحُدُودُ بِالْبَيِّنَةِ أَيْضًا لِأَنَّا لَوْ أَقَمْنَاهَا كَانَ إقَامَةً لِلْحَدِّ مَعَ الشُّبْهَةِ .
وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُ الْأَبِ عَلَى ابْنِهِ الصَّغِيرِ أَوْ الْكَبِيرِ الْمَعْتُوهِ بِشَيْءٍ مِنْ مَالٍ أَوْ جِنَايَةٍ ؛ لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ مِنْهُ عَلَى غَيْرِهِ وَشَهَادَةُ الْوَاحِدِ عَلَى غَيْرِهِ لَا تَكُونُ مُلْزِمَةً ، وَلِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَبِ عَلَى وَلَدِهِ مُقَيَّدَةٌ بِشَرْطِ النَّظَرِ فِي الْمَصْلَحَةِ لَهُ عَاجِلًا ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِإِقْرَارِهِ عَلَيْهِ ، وَكَانَ هُوَ فِي الْإِقْرَارِ عَلَيْهِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الْإِقْرَارِ بِالْكِتَابِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : وَإِذَا كَتَبَ الرَّجُلُ ذِكْرَ حَقٍّ عَلَى نَفْسِهِ بِشَهَادَةِ قَوْمٍ أَوْ كَتَبَ وَصِيَّةً ، ثُمَّ قَالَ اشْهَدُوا بِهَذَا لِفُلَانٍ عَلَيَّ ، وَلَمْ يَقْرَأْ عَلَيْهِمْ الصَّكَّ ، وَلَمْ يَقْرَأْهُ عَلَيْهِ فَهَذَا جَائِزٌ إذَا كَتَبَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ بِيَدِهِ أَوْ أَمْلَاهُ عَلَى إنْسَانٍ فَكَتَبَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَكْتُوبَ مَعْلُومٌ لَهُمْ ، وَهُوَ بِقَوْلِهِ اشْهَدُوا بِهَذَا لِفُلَانٍ عَلَيَّ صَارَ مُقِرًّا بِجَمِيعِ مَا فِي الْكِتَابِ مُشْهِدًا لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ وَلَا إظْهَارَ أَتَمَّ مِنْ هَذَا فَالْإِقْرَارُ بَيَانٌ بِاللِّسَانِ ، وَذَلِكَ بِالْإِمْلَاءِ حَاصِلٌ ، وَلَكِنْ لَا يُؤْمَنُ النِّسْيَانُ فَالْكِتَاب يُؤْمَنُ مِنْ ذَلِكَ مَا يَكُونُ مِنْ الْبَيَانِ ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرُوا كِتَابَتَهُ وَلَا إمْلَاءَهُ لَمْ تَجُزْ شَاهِدَتُهُمْ ؛ لِأَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِمَا فِي الْكِتَابِ حِينَ لَمْ يَقْرَأْهُ عَلَيْهِمْ ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } فَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ مَا شَهِدَ عَلَيْهِ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ .
وَإِنْ كَتَبَ رَجُلٌ كِتَابًا إلَى رَجُلٍ مِنْ فُلَانٍ إلَى فُلَانٍ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ لَكَ عَلَيَّ مِنْ قِبَلِ فُلَانٍ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا فَذَلِكَ جَائِزٌ عَلَيْهِ إذَا كَتَبَ مَا يَكْتُبُ النَّاسُ فِي الرَّسَائِلِ ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ هَذَا ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ مُحْتَمِلٌ قَدْ يَكُونُ لِتَجْرِبَةِ الْخَطِّ وَالْقِرْطَاسِ ، وَقَدْ يَكُونُ لِيُعَلَّمَ كَتْبَ الرِّسَالَةِ وَالْمُحْتَمِلُ لَا يَكُونُ حَجَّةً ، وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ لِلْعَادَةِ الظَّاهِرَةِ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُمْ إنَّمَا يَكْتُبُونَ كِتَابَ الرَّسَائِلِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِإِظْهَارِ الْحَقِّ وَإِعْلَامِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْوَاجِبِ ، فَإِذَا تَرَجَّحَ هَذَا الْجَانِبُ بِدَلِيلِ الْعُرْفِ حُمِلَ الْكِتَابُ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ لَفْظٍ مُحْتَمِلٍ يَتَرَجَّحُ فِيهِ مَعْنًى بِدَلِيلِ الْعُرْفِ ، وَإِنْ جَحَدَ وَشَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ كَتَبَهُ أَوْ أَمْلَاهُ جَازَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ .
وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَسَائِرِ الْحُقُوقِ مَا خَلَا الْقِصَاصَ وَالْحَدَّ فَإِنِّي آخُذُ فِيهَا بِالْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّهُ عُقُوبَاتٌ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ فَاحْتِمَالُ جِهَاتٍ أُخْرَى سِوَى مَا تَرَجَّحَ بِدَلِيلِ الْعُرْفِ يَصِيرُ شُبْهَةً فِي ذَلِكَ ، وَهُوَ نَظِيرُ الِاسْتِحْسَانِ فِي صِحَّةِ إقْرَارِ الْوَكِيلِ عَلَى مُوَكِّلِهِ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي أَنَّهُ لَا يُجْعَلُ حُجَّةً فِي الْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ أَخْذًا بِالْقِيَاسِ لِبَقَاءِ شُبْهَةِ عَدَمِ الْخُصُومَةِ حَقِيقَةً فِي الْإِقْرَارِ ، وَلَكِنَّهُ يَضْمَنُ السَّرِقَةَ بِهَذَا الْكِتَابِ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ .
وَإِنْ كَتَبَ فِي الْأَرْضِ أَوْ فِي صَحِيفَةٍ أَوْ خِرْقَةٍ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا عُرْفَ فِي إظْهَارِ الْحَقِّ الْوَاجِبِ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَيَبْقَى مُحْتَمِلًا فِي نَفْسِهِ وَالْمُحْتَمِلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً بِخِلَافِ الْمَكْتُوبِ عَلَى رَسْمِ كَتْبِ الرَّسَائِلِ لِلْعُرْفِ الظَّاهِرِ فِيهِ بَيْنَ النَّاسِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا أُجِيزُ كِتَابَ الْقَاضِي حَتَّى يَشْهَدَ الشُّهُودُ عَلَى مَا فِي جَوْفِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ مَا فِي الْكِتَابِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا لِلشُّهُودِ وَأَنْ يَشْهَدُوا عَلَيْهِ ، فَإِذَا كَتَبَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ، وَقَالَ اشْهَدُوا عَلَيْهِ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَعْلُومًا لَهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرُوا الْكِتَابَ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمْ حَتَّى يَقْرَأَ عَلَيْهِمْ ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا أَشْهَدَهُمْ عَلَى الْكِتَابِ وَالْخَاتَمِ وَشَهِدُوا عَلَى ذَلِكَ أُجِيزُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا مَا فِيهِ اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي قَدْ يَشْتَمِلُ عَلَى شَيْءٍ لَا يُرِيدُ أَنْ يَقِفَ عَلَيْهِ غَيْرُهُمْ فَفِي تَكْلِيفِ إعْلَامِهِمْ مَا فِي الْكِتَابِ نَوْعُ حَرَجٍ وَبِالْخَتْمِ يَقَعُ الْأَمْنُ مِنْ التَّغْيِيرِ وَالتَّبْدِيلِ فَلِهَذَا اسْتَحْسَنَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَبُولَ ذَلِكَ غَيْرَ أَنَّهُمَا قَالَا كِتَابُ الْخُصُومَةِ لَا يَشْتَمِلُ عَلَى التَّبْدِيلِ لِذَلِكَ كِتَابٌ آخَرُ فَلَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِ الشُّهُودِ مَا فِي الْكِتَابِ .
وَلَوْ قَرَأَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ صَكَّا ، فَقَالَ أَشْهَدُ عَلَيْكَ بِمَا فِي هَذَا الْكِتَابِ ، فَقَالَ نَعَمْ فَسَمِعَ ذَلِكَ آخَرُ وَسِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ اشْهَدْ عَلَى جَمِيعِ مَا قُرِئَ ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ لِلسَّامِعِ وَالْقَارِئِ جَمِيعًا وَهَذَا مِنْ الْمُجِيبِ إقْرَارٌ تَامٌّ فَلِمَنْ سَمِعَهُ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَشْهَدَهُ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يُشْهِدْهُ قَالَ الشَّعْبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا أَشْهَدَ الرَّجُلُ قَوْمًا عَلَى شَهَادَةٍ فَسَمِعَ ذَلِكَ آخَرُونَ فَشَهِدُوا فَهِيَ شَهَادَةٌ جَائِزَةٌ .
وَإِذَا كَتَبَ الرَّجُلُ ذِكْرَ حَقٍّ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ بِكَذَا ، وَعِنْدَهُمْ قَوْمٌ حُضُورٌ ، ثُمَّ قَالَ اخْتِمُوا عَلَيْهِ فَلَيْسَتْ هَذِهِ بِشَهَادَةٍ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ اخْتِمُوا مُحْتَمِلٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ لَا تَظْهَرُوهُ فَإِنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَيَّ وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً فَإِنَّ الشَّيْءَ يُخْتَمُ عَلَيْهِ لِيَكُونَ مَحْفُوظًا تَارَةً وَلِيَكُونَ مَكْتُومًا أُخْرَى .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالُوا أَنَشْهَدُ عَلَيْكَ ، فَقَالَ اخْتِمُوهُ وَلَوْ قَالُوا نَخْتِمُ هَذَا الصَّكَّ ، فَقَالَ اشْهَدُوا كَانَ جَائِزًا ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَكُونُ إلَّا لِلِاسْتِئْمَانِ بِالْحَقِّ وَالْأَمْنِ مِنْ الْجُحُودِ فَيَصِيرُ بِهَذَا اللَّفْظُ مُقِرًّا بِوُجُوبِ الْحَقِّ عَلَيْهِ ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ لَفْظَ الشَّهَادَةِ خَاصٌّ شَرْعًا لِإِظْهَارِ الْحُقُوقِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الشَّاهِدَ عِنْدَ الْقَاضِي لَوْ أَبْدَلَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ بِلَفْظَةٍ أُخْرَى لَمْ يَقْبَلْ الْقَاضِي مِنْهُ شَهَادَتَهُ فَكَذَلِكَ الَّذِي يَشْهَدُ عَلَى الْكِتَابِ إذَا أَبْدَلَهُ بِلَفْظٍ آخَرَ هُوَ مُحْتَمِلٌ لَا يَكُونُ إظْهَارًا لِلْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ .
وَلَوْ كَتَبَ رِسَالَةً مِنْ فُلَانٍ إلَى فُلَانٍ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّكَ كَتَبْتَ إلَيَّ أَنِّي ضَمِنْتُ لَكَ عَنْ فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، وَلَمْ أَضْمَنْ لَكَ أَلْفًا وَإِنَّمَا ضَمِنْتُ لَكَ عَنْهُ خَمْسَمِائَةٍ ، وَعِنْدَهُ رَجُلَانِ شَهِدَا كِتَابَتَهُ ، ثُمَّ مَجِيءُ كِتَابِهِ فَشَهِدَا بِذَلِكَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُمَا اشْهَدَا وَلَا اخْتِمَا فَلِلِاسْتِحْسَانِ الَّذِي بَيَّنَّا مِنْ حَيْثُ الْعُرْفُ لَا تُكْتَبُ الرِّسَالَةُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ إلَّا لِلْإِعْلَامِ بِالْحَقِّ الْوَاجِبِ ، ثُمَّ مَحْوُهُ الْكِتَابَةَ بِمَنْزِلَةِ الرُّجُوعِ عَنْ الْإِقْرَارِ فَفَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الصَّكِّ فَإِنَّ هُنَاكَ مَا لَمْ يَقُلْ اشْهَدُوا عَلَيَّ بِهَذَا لَا يَكُونُ مُلْزِمًا إيَّاهُ وَهَذَا فَرْقٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعُرْفِ أَيْضًا فَإِنَّ الصُّكُوكَ تَوْثِيقُ بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهَا عَادَةً وَلَا يَتِمُّ إلَّا بِهَا وَكُتُبِ الرَّسَائِلِ تَخْلُو عَنْ الْإِشْهَادِ عَلَيْهَا عَادَةً فَلِهَذَا كَانَ مُجَرَّدُ الْكِتَابَةِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مُلْزِمًا إيَّاهُ ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ اشْهَدُوا .
وَكَذَلِكَ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَكُلُّ حَقٍّ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ .
وَلَوْ كَتَبَ هَذِهِ الرِّسَالَةَ قُدَّامَ رَجُلَيْنِ أُمِّيَّيْنِ لَا يَقْرَآنِ وَلَا يَكْتُبَانِ فَأَمْسَكَ الْكِتَابَ عِنْدَهُمَا وَشَهِدُوا بِهِ عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَمَّا لَوْ أَقْرَأَ الْكِتَابَ عِنْدَهُمَا وَشَهِدَا بِهِ عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقْرَأَ الْكِتَابَ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّهُ كَتَبَهُ إلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُفَسِّرَ الْقَاضِي مَا فِيهِ وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ عِلْمَ الشُّهُودِ بِمَا فِي الْكِتَابِ لَيْسَ بِشَرْطٍ .
وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَلَا يَجُوزُ حَتَّى يَعْلَمَا مَا فِي الْكِتَابِ أَوْ يَقْرَآنِهِ عِنْدَ الْقَاضِي مُفَسَّرًا وَأَصْلُهُ فِيمَا ذُكِرَ كِتَابُ أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا وَجَدَ فِي خَرِيطَتِهِ سِجِلًّا فِيهِ حُكْمُهُ وَخَتْمُهُ ، وَلَمْ يَتَذَكَّرْ الْحَادِثَةَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ فَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ تِلْكَ فَيَقُولُ أَصْلُ الْحَادِثَةِ هُنَاكَ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَهُ ، ثُمَّ نَسِيَهُ ، وَقَدْ أَمِنَ مِنْ التَّبْدِيلِ فِيهِ لِكَوْنِهِ تَحْتَ خَاتِمِهِ وَهُنَا أَصْلُ الْحَادِثَةِ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لِلشَّاهِدِ ، وَهُوَ أُمِّيٌّ لَا يَعْرِفُ الْكَاتِبَ ، وَلَمْ يَسْمَعْ الْكَاتِبَ يُخْبِرْ فَلَمْ يُسْنَدْ عِلْمُ الشَّهَادَةِ بِهِ أَصْلًا .
وَلَوْ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ صَكَّا قُدَّامَ أُمِّيَّيْنِ ، ثُمَّ قَالَ اشْهَدَا عَلَيْهِ وَهُمَا لَا يَعْلَمَانِ مَا فِيهِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى مَا لَيْسَ بِمَعْلُومٍ لِلشَّاهِدِ بَاطِلٌ فَذِكْرُهُ كَعَدَمِهِ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْأَوَّلِ فَيَقُولُ الْإِشْهَادُ عَلَى كِتَابِ الرِّسَالَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فَعِلْمُ الشَّاهِدِ بِمَا فِيهِ لَا يَكُونُ شَرْطًا أَيْضًا وَالْإِشْهَادُ عَلَى الصَّكِّ شَرْطٌ لِجَوَازِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ فَعِلْمُ الشَّاهِدِ بِمَا فِيهِ يَكُونُ شَرْطًا أَيْضًا .
وَلَوْ كَتَبَ رِسَالَةً فِي تُرَابٍ لَمْ يَجُزْ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ انْعِدَامِ الْفَرْقِ الْمُرَجِّحِ فِي هَذَا إلَّا أَنْ يَقُولَ اشْهَدَا عَلَيَّ بِهَذَا فَحِينَئِذٍ هُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ بِالْكِتَابَةِ فِي التُّرَابِ صَارَ مَعْلُومًا لَهُمْ ، فَإِذَا أَشْهَدَهُمْ عَلَى مَعْلُومٍ صَارَ كَأَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ بِلِسَانِهِ بَيْنَ أَيْدِيهمْ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَتَبَهُ فِي خِرْقَةٍ أَوْ صَحِيفَةٍ أَوْ لَوْحٍ بِمِدَادٍ أَوْ بِغَيْرِ مِدَادٍ إلَّا أَنَّهُ لَا يَسْتَبِينُ فِيهِ الْخَطَّ ، ثُمَّ قَالَ اشْهَدَا عَلَيَّ بِذَلِكَ أَوْ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّهُ كَانَ كَتَبَ لَمْ يَلْزَمْهُ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ الَّتِي لَا يَسْتَبِينُ فِيهَا الْخَطُّ كَالصَّوْتِ الَّذِي لَا يَسْتَبِينُ فِيهِ الْحُرُوفُ ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِشَيْءٍ فَكَذَلِكَ هُنَا ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِشْهَادَ إنَّمَا يَصِحُّ عَلَى مَا يَكُونُ مَعْلُومًا لِلشُّهُودِ وَالْكِتَابَةُ الَّتِي يَسْتَبِينُ فِيهَا الْخَطُّ لَا تُوجِبُ إعْلَامَ شَيْءٍ لَهُمْ ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْكِتَابِ الْحِفْظُ عَنْ النِّسْيَانِ وَشَيْءٌ مِنْ هَذَا الْمَقْصُودِ لَا يَحْصُلُ بِالْكِتَابَةِ الَّتِي لَا يَسْتَبِينُ فِيهَا الْخَطُّ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ .
وَلَوْ كَتَبَ فِي صَحِيفَةِ حِسَابِهِ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَشَهِدَ شَاهِدَانِ حَضَرَا ذَلِكَ أَوْ أَقَرَّ هُوَ عِنْدَ الْحَاكِمِ بِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا أَنْ يَقُولَ اشْهَدُوا عَلَيَّ بِهِ ؛ لِأَنَّ مَا يُكْتَبُ فِي صَحِيفَةِ الْحِسَابِ مُحْتَمِلٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِيَارَ أَئِمَّةِ بَلْخِي رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِيهِ فِيمَا سَبَقَ .
وَلَوْ كَتَبَ أَنَّ لِي عَلَى فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِي صَكٍّ بِخَطِّهِ قُدَّامَ شَاهِدَيْنِ وَبِمَحْضَرٍ مِمَّنْ عَلَيْهِ الْمَالُ ، وَهُوَ كَانَ يَعْرِفُ مَا يَكْتُبُ ، ثُمَّ قَالَ لِلشَّاهِدَيْنِ اشْهَدَا ، فَقَالَ فُلَانٌ الْمَكْتُوبُ عَلَيْهِ نَعَمْ فَهُوَ جَائِزٌ وَهُمَا فِي سَعَةٍ بِأَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ أَقَرَّ وَأَشْهَدَهُمَا عَلَى نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ كِتَابَةَ صَاحِبِ الْحَقِّ صَارَ مَعْلُومًا كَمَا يَصِيرُ مَعْلُومًا كِتَابَةُ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ وَتَمَامُ الصَّكِّ بِالْإِشْهَادِ ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِقَوْلِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ نَعَمْ ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ نَعَمْ فَاشْهَدُوا عَلَى ذَلِكَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ فِي الْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ صَاحِبُ الْحَقِّ فَيَقُولُ أَلَيْسَ لِي عَلَيْك كَذَا فَيَقُولُ مَنْ عَلَيْهِ بَلَى وَبَيْنَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ فَكَذَلِكَ فِي الْكِتَابِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ فِي الْحَيَوَانِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) فَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَوْ الْمَرْأَةُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَبْدًا ، ثُمَّ أَنْكَرَهُ فَإِنَّهُ يَقْضِي عَلَيْهِ بِقِيمَةِ عَبْدٍ وَسَطٍ كَمَا يَقْضِي فِي الْمَهْرِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : الْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ فَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ إقْرَارُهُ بِالْعَبْدِ دَيْنًا عَلَيْهِ كَإِقْرَارِهِ بِغَصْبِ عَبْدٍ هُوَ عَيْنٌ فِي يَدِهِ ، وَذَلِكَ لَا يَتَعَيَّنُ بِهِ وَصْفٌ بَلْ عَلَى أَيِّ وَصْفٍ بَيَّنَهُ قَبْلَ قَوْلِهِ فِيهِ فَكَذَلِكَ هُنَا ، وَلِأَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ مَجْهُولٌ فَيَكُونُ الْبَيَانُ فِيهِ إلَى الْمُقِرِّ وَلَا يَتَعَيَّنُ لِوُجُوبِ الْمُقَرِّ بِهِ سَبَبٌ هَذَا لِمُطْلَقِ إقْرَارِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَرَّضْ فِي إقْرَارِهِ لِسَبَبٍ وَبَيْنَ الْأَسْبَابِ مُعَارَضَةٌ فَلَا تَتَعَيَّنُ وَتَعْيِينُ صِفَةِ الْوَسَطِ بِتَعْيِينِ بَعْضِ الْأَسْبَابِ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ إنَّهُ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْعَبْدِ مُطْلَقًا فَيُضْرَبُ مُطْلَقُ الْإِقْرَارِ إلَى السَّبَبِ الَّذِي يُثْبِتُ بِهِ الْعَبْدُ الْمُطْلَقُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ .
وَذَلِكَ كَالنِّكَاحِ وَيَتَعَيَّنُ فِيهِ وَكَأَنَّهُ صَرَّحَ بِذَلِكَ فَأَقَرَّ لِامْرَأَةٍ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ صَدَاقًا وَلَوْ صَرَّحَ بِذَلِكَ تَعَيَّنَ فِيهِ الْوَسَطُ فَكَذَلِكَ هُنَا .
وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ بِهِ لِرَجُلٍ فَلَعَلَّ هَذَا الرَّجُلَ كَانَ زَوَّجَهُ ثَلَاثَةً عَلَى عَبْدِهِ ، ثُمَّ مَاتَتْ فَصَارَ ذَلِكَ مِيرَاثًا لِلْأَبِ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُقِرَّ امْرَأَةٌ فَلَعَلَّهَا ضَمِنَتْ الصَّدَاقَ عَنْ الزَّوْجِ ، ثُمَّ مَاتَتْ الْمَنْكُوحَةُ فَصَارَ ذَلِكَ مِيرَاثًا لِأَبِيهَا عَلَى الضَّامِنَةِ مَعَ أَنَّ الْعَبْدَ الْمُطْلَقَ كَمَا يَثْبُتُ صَدَاقًا يَثْبُتُ فِي الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَيَتَعَيَّنُ فِيهِ الْوَسَطُ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ الْوَاجِبُ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ قِيمَتِهِ فَأَيُّهُمَا أَتَى بِهِ جُبِرَ الطَّالِبُ عَلَى قَبُولِهِ فَبِالْإِقْرَارِ تَثْبُتُ هَذِهِ الصِّفَةُ أَيْضًا
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي الْحَقِيقَةِ تَنْبَنِي عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ مُطْلَقُ الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ يَنْصَرِفُ إلَى الْتِزَامٍ بِسَبَبِ عَقْدٍ مَشْرُوعٍ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تَتَعَيَّنُ هَذِهِ الْجِهَةُ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْإِقْرَارِ لِلْجَنِينِ .
وَإِذَا قَالَ لَهُ عَبْدٌ فُرِضَ عَلَيْهِ قِيمَةُ عَبْدٍ وَالْقَوْلُ فِيهَا قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ أَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَظَاهِرٌ .
وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ هُنَا ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِالْقَرْضِ .
وَكَذَلِكَ يُمْنَعُ مَعَ تَعْيِينِ الْعُقُودِ الَّتِي يَثْبُتُ فِيهَا الْحَيَوَانُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ وَتَتَعَيَّنُ الصِّفَةُ الْمُتَوَسِّطَةُ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ ، فَإِذَا سَقَطَ اعْتِبَارُهُ بَقِيَ إقْرَارُهُ بِقَبْضِ عَبْدِهِ بِطَرِيقِ الْقَرْضِ وَاسْتِقْرَاضِ الْحَيَوَانِ ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا فَالْمَقْبُوضُ يَصِيرُ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ كَالْمَغْصُوبِ وَلَوْ أَقَرَّ بِالْغَصْبِ كَانَ الْقَوْلُ فِي تَعْيِينِهِ قَوْلَهُ وَلَوْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا فَالْقَوْلُ فِي بَيَانِ قِيمَتِهِ قَوْلُهُ فَكَذَلِكَ هُنَا .
وَلَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ دَابَّةٌ كَانَ عَلَيْهِ قِيمَةُ أَيِّ الدَّوَابِّ لِأَنَّ اسْمَ الدَّابَّةِ يَتَنَاوَلُ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً وَلَا يَصِحُّ الْتِزَامُهَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْعُقُودِ بِهَذَا اللَّفْظِ فَلَمْ يَتَعَيَّنْ لِمَا أَقَرَّ بِهِ وَضْعًا بَلْ الْبَيَانُ فِي ذَلِكَ إلَى الْمُقِرِّ ، فَإِذَا جَاءَ بِدَابَّةٍ بِعَيْنِهَا ، وَقَالَ هِيَ هَذِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ إنْ جَاءَ بِفَرَسٍ أَوْ بِرْذَوْنٍ أَوْ بَغْلٍ أَوْ حِمَارٍ وَلَا أَقْبَلُ مِنْهُ غَيْرَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الدَّابَّةِ يَتَنَاوَلُ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ الثَّلَاثَةِ بِدَلِيلِ مَا لَوْ حَلَفَ لَا يَرْكَبُ الدَّابَّةَ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا هَذِهِ الْأَجْنَاسَ الثَّلَاثَةَ ، وَذَلِكَ مَعْرُوفٌ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ الْبَيَانُ مِنْ الْمُقِرِّ إذَا كَانَ مُطْلِقًا لِلَفْظِهِ .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ دَارًا أَوْ أَرْضًا أَوْ نَخْلًا أَوْ بُسْتَانًا فَحَقِيقَةُ هَذَا الْكَلَامِ مُحَالٌ ؛ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَا تَكُونُ دَيْنًا بِحَالٍ ، وَلَكِنْ إذَا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِحَقِيقَةِ الْكَلَامِ وَلَهُ مَجَازٌ مُحْتَمِلٌ يُحْمَلُ عَلَيْهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ عَلَيَّ رَدُّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ } فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ بِغَصْبِ دَارٍ أَوْ بُسْتَانٍ فَيُؤْخَذُ بِأَدْنَى مَا يَكُونُ ذَلِكَ حَتَّى يَدْفَعَهُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْأَدْنَى هُوَ الْمُتَيَقَّنُ بِهِ .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ ثَوْبًا هَرَوِيًّا فَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ ثَوْبٍ هَرَوِيٍّ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ قَبْلَ هَذَا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَنْصَرِفَ إقْرَارُهُ إلَى الْوَسَطِ عَلَى قِيَاسِ الْعَبْدِ وَصَحَّ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُفَرِّقُ فَيَقُولُ هُنَاكَ الْعَبْدُ الْمُطْلَقُ لَا يَثْبُتُ إلَّا دَيْنًا إلَّا فِي مُعَاوَضَةِ مَالٍ بِمَا لَيْسَ بِمَالٍ وَيَتَعَيَّنُ فِيهِ الْوَسَطُ وَهُنَا الثَّوْبُ الْهَرَوِيُّ يَثْبُتُ دَيْنًا فِي مُبَادَلَةِ مَالٍ كَالسَّلَمِ فَلَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ الْوَسَطُ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ الْوَصْفِ فِيهِ فَلَا يَتَعَيَّنُ لِإِقْرَارِهِ هُنَا بِبَعْضِ الْأَسْبَابِ فَلِهَذَا قُبِلَ قَوْلُهُ فِي بَيَانِهِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ إذَا ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ شَيْئًا آخَرَ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ عَلَى ثَوْبٍ ، وَلَمْ يُسَمِّ جِنْسَهُ فَأَيُّ ثَوْبٍ جَاءَ بِهِ قُبِلَ مِنْهُ اللَّبِيسُ وَالْجَدِيدُ فِيهِ سَوَاءٌ وَلَا يُتْرَكُ حَتَّى يُسَمِّيَ ثَوْبًا ؛ لِأَنَّ بِمُطْلَقِ اسْمِ الثَّوْبِ لَا يَثْبُتُ الثَّوْبُ دَيْنًا فِي شَيْءٍ مِنْ الْعُقُودِ فَيَصِيرُ كَلَامُهُ عِبَارَةً عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْغَصْبِ وَمَعَ بَيَانِ الْجِنْسِ وَالصِّفَةِ وَالْأَجَلِ يَثْبُتُ دَيْنًا فَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ فِي بَيَانِهِ قَوْلَ الْمُقِرِّ .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَا هِبَةَ لَهُ قِبَلَ فُلَانٍ ، ثُمَّ ادَّعَى صَدَقَةً أَوْ شِرَاءً فَهُوَ عَلَى دَعْوَاهُ ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى غَيْرَ مَا نَفَاهُ .
وَلَوْ قَالَ لَا بَيْعَ لِي قِبَلَ فُلَانٍ ، ثُمَّ ادَّعَى عَبْدًا جَعَلَهُ لَهُ مِنْ صُلْحٍ أَوْ قَالَ لَا صُلْحَ لِي قِبَلَ فُلَانٍ ، ثُمَّ ادَّعَى عَبْدًا شِرَاءً كَانَ عَلَى دَعْوَاهُ ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى غَيْر مَا نَفَاهُ .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ مِنْ هَذَا الْعَبْدِ شَيْءٌ ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِغَيْرِهِ قَبْلَ إقْرَارِهِ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ مُنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ فَفِيمَا اشْتَرَاهُ لِغَيْرِهِ مِمَّا هُوَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ مِنْ الْقَبْضِ وَالْخُصُومَةِ فِي الْعَبْدِ كَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ وَلَوْ ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ بَعْدَ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ لَمْ يُسْمَعْ مِنْهُ فَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى أَنَّهُ اشْتَرَاهُ لِغَيْرِهِ .
وَإِذَا أَقَرَّ بِالرَّهْنِ فِي السَّلَمِ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْأَوَّلِ حَتَّى يُعَايِنَ الشُّهُودُ التَّسْلِيمَ وَيَجُوزُ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُهُمَا ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا سَبَقَ ، فَإِنْ كَانَ فِي يَدِ الرَّاهِنِ أُمِرَ بِالدَّفْعِ إلَى الْمُرْتَهِنِ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ إقْرَارِهِ بِالْبَيِّنَةِ كَثُبُوتِهِ بِالْمُعَايَنَةِ ، وَإِنْ تَصَادَقَا فِي رَهْنٍ بِغَيْرِ قَبْضٍ أَوْ عَلَى رَهْنٍ مَشَاعٍ فَهُوَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ وَالشُّيُوعُ يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْيَدِ بِحُكْمِ الرَّهْنِ عِنْدَنَا فَإِنَّمَا تَصَادَقَا عَلَى سَبَبٍ غَيْرِ مُلْزِمٍ وَلَوْ عَايَنَا مَا تَصَادَقَا عَلَيْهِ لَا يُجْبَرُ عَلَى التَّسْلِيمِ .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ رَهَنَ هَذَا الْعَبْدَ مِنْ فُلَانٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَأَنَّهُ قَدْ قَبَضَهُ مِنْهُ ، وَقَالَ فُلَانٌ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَالرَّهْنُ جَائِزٌ ، وَهُوَ مِائَةُ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ يَدَّعِي زِيَادَةً فِي دَيْنِهِ وَالزِّيَادَةُ لَا تَثْبُتُ بِدَعْوَاهُ وَالدَّيْنُ لَيْسَ بِبَدَلٍ عَنْ الرَّهْنِ فَاخْتِلَافُهُمَا فِي مِقْدَارِ الدَّيْنِ لَا يَتَضَمَّنُ التَّكْذِيبَ فِي أَصْلِ الرَّهْنِ فَلِهَذَا كَانَ رَهْنًا بِمَا اتَّفَقَا مِنْ الْمَالِ عَلَيْهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الْإِقْرَارِ بِكَذَا وَإِلَّا فَعَلَيْهِ كَذَا ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْخِلَافِ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي قَوْلِهِ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَإِلَّا فَلِفُلَانٍ أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَوْ لِفُلَانٍ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ لِلْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي فَفَرَّعَ عَلَى مَا ذُكِرَ ثَمَّةَ ، وَقَالَ إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَقْرَضَنِيهَا أَمْسِ وَإِلَّا فَعَبْدُهُ حُرٌّ فَهَذَا مِنْهُ تَأْكِيدٌ لِلْإِقْرَارِ بِالْيَمِينِ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَيَلْزَمُهُ الْمَالُ وَلَا يَعْتِقُ الْعَبْدُ كَمَا لَوْ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ بِطَلَاقٍ أَوْ بِحَجٍّ .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ اسْتَقْرَضَ مِنْ فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقَبَضَهَا أَوْ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَالْإِقْرَارُ لِلْأَوَّلِ جَائِزٌ وَالثَّانِي مُخَاطَرَةٌ لَا يَلْزَمُهُ .
أَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَظَاهِرٌ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَكَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا مُجَانَسَةَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ فَإِنَّ الْقَبْضَ بِحُكْمِ الِاسْتِقْرَاضِ فِعْلٌ وَآخِرُ كَلَامِهِ قَوْلٌ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ وَإِلَّا بِمَعْنَى التَّرْدِيدِ كَحَرْفٍ أَوْ فَبَقِيَ مُقِرًّا بِالْمَالِ لِلْأَوَّلِ وَمُعَلِّقًا إقْرَارَهُ لِلثَّانِي بِشَرْطِ عَدَمِ الِاسْتِقْرَاضِ وَالْقَبْضُ مِنْ الْأَوَّلِ وَتَعْلِيقُ الْإِقْرَارِ بِالشَّرْطِ لَا يَجُوزُ .
.
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : ابْتَعْتُ مِنْ فُلَانٍ هَذَا الْعَبْدَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَإِلَّا فَلِفُلَانٍ عَلَيَّ خَمْسُمِائَةٍ إلَّا أَنَّ هُنَا إنْ أَقَرَّ رَبُّ الْعَبْدِ بِبَيْعِ الْعَبْدِ لَزِمَهُ الْأَلْفُ ، وَإِنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ رَادًّا لِإِقْرَارِهِ حِينَ أَنْكَرَ بَيْعَ الْعَبْدِ مِنْهُ وَإِقْرَارُهُ بِالْخَمْسِمِائَةِ كَانَ مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ ، وَهُوَ بَاطِلٌ مِنْ أَصْلِهِ .
وَلَوْ قَالَ قَدْ أَعْتَقْتُ عَبْدِي هَذَا وَإِلَّا فَغُلَامِي هَذَا حُرٌّ عَتَقَ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ أَكَّدَ عِتْقَ الْأَوَّلِ بِالْيَمِينِ بِعِتْقِ الثَّانِي إذْ لَا مُجَانَسَةَ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ لِمَحَلِّ قَوْلِهِ أَوْ وَلَوْ قَالَ هَذَا حُرٌّ وَإِلَّا فَهَذَا أَوْ أَعْتَقْتُ هَذَا وَإِلَّا فَقَدْ أَعْتَقْتُ هَذَا كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَهُمَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَجَانَسَ الْكَلَامَانِ فَقَوْلُهُ وَإِلَّا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَوْ كَمَا لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَإِلَّا فَلِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةُ دِينَارٍ أَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَا كُلِّهِ فَالْأَوَّلُ إيجَابٌ صَحِيحٌ وَالثَّانِي بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ إقْرَارِ الرَّجُلِ فِي نَصِيبِهِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا أَنَّ نَصِيبَهُ مِنْهَا لِفُلَانٍ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ صَحَّ إقْرَارُهُ لِثُبُوتِ وِلَايَةِ التَّصَرُّفِ لَهُ عَلَى نَصِيبِهِ .
وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ بِبَعْضِ نَصِيبِهِ مِنْ نِصْفٍ أَوْ عُشْرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ لَهُ بِنِصْفِ الدَّارِ مُطْلَقًا يَنْصَرِفُ إقْرَارُهُ إلَى نَصِيبِهِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ قَصْدَهُ تَصْحِيحُ كَلَامِهِ وَلَا يَصِحُّ إلَّا بِأَنْ يُحْمَلَ إقْرَارُهُ عَلَى نَصِيبِهِ .
وَلَوْ قَالَ لَهُ رُبْعُ جَمِيعِ هَذِهِ الدَّارِ وَلِي رُبْعٌ وَنِصْفٌ وَلِصَاحِبِي رُبْعٌ وَنِصْفُهُ وَجَحَدَ شَرِيكُهُ ذَلِكَ فَإِنَّ نِصْفَ الدَّارِ حِصَّةُ الْمُقَرِّ بَيْنَ الْمُقِرِّ وَالْمُقَرِّ لَهُ عَلَى خَمْسَةٍ لِلْمُقِرِّ سَهْمَانِ وَلِلْمُقَرِّ لَهُ ثَلَاثَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ يُعَامِلُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ نَفْسَهُ كَأَنَّ مَا أَقَرَّ بِهِ حَقٌّ وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى غَيْرِهِ ، وَقَدْ زَعَمَ الْمُقِرُّ هُنَا أَنْ حَقَّ الْمُقَرِّ لَهُ فِي سَهْمَيْنِ مِنْ ثُلُثِهِ وَحَقِّي فِي ثُلُثِهِ وَحَقُّ شَرِيكِي فِي ثُلُثِهِ إلَّا أَنَّ شَرِيكَهُ ظَلَمَهُمَا حِينَ أَخَذَ زِيَادَةً عَلَى مِقْدَارِ حَقِّهِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الظُّلْمُ عَلَى أَحَدِهِمَا خَاصَّةً بَلْ يُجْعَلُ ذَلِكَ كَالتَّاوِي وَيَبْقَى مَا فِي يَدِ الْمُقِرِّ تَصَرَّفَ فِيهِ الْمُقَرُّ لَهُ بِسَهْمَيْنِ وَالْمُقِرُّ بِثُلُثِهِ فَيَكُونُ مَقْسُومًا بَيْنَهُمَا عَلَى خَمْسَةٍ .
وَإِذَا أَقَرَّ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ أَلْفًا وَأَنَّهُ قَدْ قَضَاهَا إيَّاهُ فَوَصَلَ الْإِقْرَارُ بِهَذَا ، ثُمَّ جَاءَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ قَضَاهَا إيَّاهُ قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ اسْتِحْسَانًا ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يُقْبَلُ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ مُحَالٌ فَإِنَّهُ أَقَرَّ بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ وَمَا قَضَاهُ قَبْلَ هَذَا لَا يَكُونُ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ فَكَانَ مُنَاقِضًا فِي دَعْوَى الْقَضَاءِ وَالْكَلَامُ الْمُحَالُ وَالتَّنَاقُضُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ ، وَلَكِنْ اُسْتُحْسِنَ لِلْعُرْفِ فَإِنَّ النَّاسَ يَذْكُرُونَ هَذَا اللَّفْظَ وَيُرِيدُونَ بِهِ أَنَّهُ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ هَذَا الثَّوْبُ لِلْأَمِيرِ كَسَانِيهِ أَوْ هَذِهِ الدَّابَّةُ لِلْأَمِيرِ حَمَلَنِي عَلَيْهَا وَالْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ لَهُ لَا أَنَّهُ فِي الْحَالِ لَهُ كَذَلِكَ هُنَا .
وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ مَا سَكَتَ قَضَيْتُهَا إيَّاهُ قَبْلَ أَنْ أُقِرَّ بِهَا وَجَاءَ بِالْبَيِّنَةِ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ قَضَيْتُهَا إيَّاهُ بَيَانٌ مُغَايِرٌ لِظَاهِرِ كَلَامِهِ فَإِنَّ ظَاهِرَ كَلَامِهِ الْإِخْبَارُ بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ أَنَّهُ كَانَ وَمِثْلُ هَذَا الْكَلَامِ إنَّمَا يُسْمَعُ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا ، فَإِذَا سَكَتَ تَقَرَّرَ الْمَالُ عَلَيْهِ وَاجِبًا فِي الْحَالِ فَهُوَ فِي قَوْلِهِ قَضَيْتُهَا إيَّاهُ قَبْلَ أَنْ أُقِرَّ بِهَا مُنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ .
وَلَوْ قَالَ كَانَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ قَالَ قَدْ قَضَيْتُهَا إيَّاهُ قَبْلَ أَنْ أُقِرَّ بِهِ وَجَاءَ بِالْبَيِّنَةِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ كَانَ كَذَا لَا يَكُونُ تَصْرِيحًا مِنْهُ بِقِيَامِهِ فِي الْحَالِ وَإِنَّمَا يُجْعَلُ قَائِمًا بِاعْتِبَارِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ ؛ لِأَنَّ مَا عُرِفَ ثُبُوتُهُ فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى اسْتِصْحَابِ الْحَالِ إذَا لَمْ يَقُمْ الدَّلِيلُ بِخِلَافِهِ ، وَقَدْ قَامَ الدَّلِيلُ هُنَا حِينَ أَتَى بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَا ادَّعَى مِنْ الْقَضَاءِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَإِنَّ كَلَامَهُ الْأَوَّلَ هُنَا تَصْرِيحٌ بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ فَهُوَ بِقَوْلِهِ كُنْتُ قَضَيْتُهَا مِنْ قَبْلُ يَكُونُ مُنَاقِضًا فِيمَا صَرَّحَ بِهِ .
وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ هَذَا الْعَبْدُ لِفُلَانٍ اشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ فَوَصَلَهُ بِإِقْرَارِهِ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ اسْتِحْسَانًا وَلَوْ قَالَ بَعْدَ مَا سَكَتَ اشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ قَبْلَ الْإِقْرَارِ أَوْ وَهَبَهُ لِي أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيَّ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ اسْتِحْسَانًا فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ الَّذِي فِي يَدِهِ عَبْدٌ لِفُلَانٍ اشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَنَقَدْتُهُ الثَّمَنَ ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ اشْتَرَيْتُهُ مِنْ فُلَانٍ الْآخَرِ بِخَمْسِمِائَةٍ دِرْهَمٍ وَنَقَدْتُهُ الثَّمَنَ ، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ فَهُوَ جَائِزٌ وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ لِلْأَوَّلِ وَالثَّمَنُ لِلْآخَرِ وَمُرَادُهُ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى التَّعْيِينِ فَقَطْ دُونَ نَقْدِ الثَّمَنِ ، فَأَمَّا إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى نَقْدِ الثَّمَنِ فَلَا شَيْءَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَإِذَا أَقَامَ عَلَى التَّعْيِينِ فَقَطْ فَالْمَبِيعُ مَقْبُوضٌ لَهُ وَثَمَنُ الْمَبِيعِ الْمَقْبُوضِ يَكُونُ مُتَأَكِّدًا عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَفِي الذِّمَّةِ سَعَةٌ بِالْحُقُوقِ فَلِهَذَا لَزِمَهُ الثَّمَنُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَإِذَا لَمْ تَقُمْ بَيِّنَةٌ عَلَى ذَلِكَ فَالْعَبْدُ لِلْأَوَّلِ إذَا جَحَدَ الْبَيْعَ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالشِّرَاءِ مِنْهُ إقْرَارٌ بِمِلْكِ أَصْلِ الْعَبْدِ لَهُ ، وَلَمْ يَثْبُتْ شِرَاؤُهُ مِنْهُ حِينَ جَحَدَهُ فَعَلَيْهِ رَدُّ الْعَبْدِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ أَقَرَّ لِلثَّانِي أَنَّهُ قَبَضَ الْعَبْدَ مِنْهُ بِجِهَةِ الْبَيْعِ ، فَإِنْ صَدَّقَهُ فِي ذَلِكَ فَلَهُ الثَّمَنُ خَمْسُمِائَةٍ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُصَدَّقٍ عَلَيْهِ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ نَقْدِ الثَّمَنِ إذَا لَمْ يُصَدِّقْهُ فِي ذَلِكَ ، وَإِنْ جَحَدَ الْبَيْعَ ضَمِنَ لَهُ الْمُقِرُّ قِيمَةَ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ عَلَى جِهَةِ الشِّرَاءِ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ عَلَى الْقَابِضِ كَالْمَقْبُوضِ بِحَقِيقَةِ الشِّرَاءِ إذَا لَمْ يَجِبْ بِهِ الثَّمَنُ الْمُسَمَّى .
وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الدَّارِ وَالْأَرْضِ وَالْعُرُوضِ .
وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ فِي يَدَيْهِ بَيِّنَةَ وَبَيْنَ فُلَانٍ ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ هُوَ بَيْنِي وَبَيْنَ فُلَانٍ الْآخَرِ ، ثُمَّ تَخَاصَمُوا إلَى الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَقْضِي لِلْأَوَّلِ بِنَصِيبِهِ ؛ لِأَنَّهُ شَرَّكَهُ بِنَفْسِهِ فِي الْعَبْدِ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ هُوَ كَانَ مَالِكًا لِجَمِيعِ الْعَبْدِ ظَاهِرًا فَيَكُونُ كَلَامُهُ إقْرَارًا بِالنِّصْفِ ، ثُمَّ سَاوَى الثَّانِيَ بِنَفْسِهِ فِي الْعَبْدِ ، وَعِنْدَ إقْرَارِهِ لِلثَّانِي مَا كَانَ يَمْلِكُ فِي الْمُقَرِّ بِهِ إلَّا نِصْفَهُ فَصَارَ مُقَرًّا لَهُ بِنِصْفِ ذَلِكَ النِّصْفِ وَسَاوَى الثَّالِثَ بِنَفْسِهِ فِي الْعَبْدِ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ مَا كَانَ يَمْلِكُ مِنْ الْعَبْدِ إلَّا رُبْعَهُ فَصَارَ مُقَرًّا لَهُ بِنِصْفِ ذَلِكَ الرُّبْعِ ، وَهُوَ الثُّمْنُ وَيَبْقَى فِي يَدِ الْمُقِرِّ الثُّمْنُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ عَلَى مَيِّتٍ هُوَ وَارِثُهُ فَإِقْرَارُهُ فِيمَا يَخْلُفُ الْمَيِّتَ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ ابْتِدَاءً .
وَلَوْ أَقَرَّ بِالْعَبْدِ كُلِّهِ لِفُلَانٍ ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ هُوَ لِفُلَانٍ فَإِنَّهُ لِلْأَوَّلِ وَلَا شَيْءَ لِلْآخَرِ إلَّا أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى الْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَحِينَئِذٍ يَضْمَنُ لِلْآخَرِ قِيمَتَهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْفُصُولَ فِي إقْرَارِهِ بِالْغَصْبِ الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ فِيمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ .
وَلَوْ كَانَتْ دَابَّةٌ فِي يَدَيْ رَجُلٍ ، فَقَالَ اسْتَوْدَعَنِي فُلَانٌ نِصْفَ هَذِهِ الدَّابَّةِ ، ثُمَّ قَالَ اسْتَوْدَعَنِي فُلَانٌ نِصْفَ هَذِهِ الدَّابَّةِ ، ثُمَّ قَالَ اسْتَوْدَعَنِي فُلَانٌ آخَرُ نِصْفَ هَذِهِ الدَّابَّةِ فَيَنْصَرِفُ مُطْلَقُ إقْرَارِهِ إلَى ذَلِكَ ، ثُمَّ يَضْمَنُ لِلثَّالِثِ نِصْفَ قِيمَتِهَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا دَفَعَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ إلَى الْأَوَّلَيْنِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ سَوَاءٌ دَفَعَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ أَوْ بِقَضَاءٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ فِي دَارٍ فِي يَدِ رَجُلٍ ، ثُمَّ أَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهَا لَهُ وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ أَقَرَّ أَنَّهَا لَهُ فَالثَّابِتُ مِنْ الْإِقْرَارَيْنِ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ فَيَتَغَايَرَانِ لِلتَّعَارُضِ فَتَبْقَى الدَّارُ فِي يَدِهِ عَلَى مَا كَانَ ، وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفٍ وَخَمْسِمِائَةٍ جَازَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى أَلْفٍ ، وَإِنْ ادَّعَى الْمُدَّعِي أَكْثَرَ الْمَالَيْنِ لِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى أَلْفٍ لَفْظًا وَمَعْنًى .
وَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِأَلْفَيْنِ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ هُنَا لِاخْتِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ فِي اللَّفْظِ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ دَوَّارَةٌ فِي الْكُتُبِ مَعْرُوفَةٌ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ .
وَإِنْ شَهِدَا عَلَى أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَلْفٍ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا كُنَّا جَمِيعًا ، وَقَالَ الْآخَرُ كُنْت وَحْدِي فَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ قَوْلٌ يُعَادُ وَيُكَرَّرُ وَيَكُونُ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ فَبِهَذَا لَا يَخْتَلِفُ الْمَشْهُودُ بِهِ .
وَلَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، فَقَالَ قَدْ أَخَذْت مِنْهَا شَيْئًا فَقَدْ أَقَرَّ بِهَا ؛ لِأَنَّ الْهَاءَ وَالْأَلِفَ فِي قَوْلِهِ مِنْهَا كِنَايَةٌ عَنْ الْأَلْفِ فَكَأَنَّهُ قَالَ قَدْ أَخَذْتُ مِنْ الْأَلْفِ الَّتِي لَكَ عَلَيَّ شَيْئًا .
وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ كَمْ وَزْنُهَا أَوْ مَتَى حِلُّهَا أَوْ مَا ضَرْبُهَا أَوْ قَدْ بَرِئْتُ إلَيْكَ مِنْهَا أَوْ قَدْ أَدَّيْتُهَا إلَيْكَ فَهَذَا كُلُّهُ إقْرَارٌ بِأَلْفٍ لِمَا بَيَّنَّا .
وَلَوْ قَالَ قَدْ بَرِئْتُ إلَيْكَ مِنْ كُلِّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ كَانَ لَكَ عَلَيَّ لَمْ يَكُنْ هَذَا إقْرَارًا بِالْأَلْفِ ، وَلَكِنَّهُ إقْرَارٌ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ الْإِيفَاءُ فَيَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارُ بِشَيْءٍ مَجْهُولِ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ فَيَكُونُ مُجْبَرًا عَلَى بَيَانِهِ ، وَإِذَا بَيَّنَهُ يَحْلِفُ الطَّالِبُ مَا قَبَضَهُ مِنْهُ وَيَحْلِفُ الْمَطْلُوبُ مَا عَلَيْهِ غَيْرُ هَذَا ؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ يَدَّعِي عَلَيْهِ زِيَادَةً ، وَهُوَ لِذَلِكَ مُنْكِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الْإِقْرَارِ بِمَا قَبَضَهُ مِنْ غَيْرِهِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّهُ أَخَذَ ثَوْبًا مِنْ دَارٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ فَادَّعَى عَلَيْهِ الشَّرِيكُ نِصْفَ الثَّوْبِ وَأَنْكَرَ الْمُقِرُّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ فِي يَدِهِ وَإِقْرَارُهُ بِالْأَخْذِ مِنْ دَارٍ مُشْتَرَكَةٍ لَا يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِالثَّوْبِ غَيْرِ مُتَوَلَّدٍ مِنْ الدَّارِ بَلْ مَوْضُوعٌ فِيهَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ سَاكِنٌ فِي الدَّارِ يَضَعُ أَمْتِعَتَهُ فِيهَا ، ثُمَّ يَأْخُذُهَا مِنْهَا فَلَا يَكُونُ مُقِرًّا بِالْيَدِ لَلشَّرِيكِ فِي الثَّوْبِ .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْ بَيْتِ فُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ قَالَ هُوَ لِي فَالْمَالُ لِصَاحِبِ الْبَيْتِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْأَخْذِ مِنْ بَيْتِهِ فَهُوَ كَإِقْرَارِهِ بِالْأَخْذِ مِنْ يَدِهِ ؛ لِأَنَّ مَا فِي مِلْكِ الْإِنْسَانِ يَكُونُ فِي يَدِهِ حُكْمًا لَوْ نَازَعَهُ فِيهِ غَيْرُهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ حَتَّى يُثْبِتَ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ .
وَكَذَلِكَ إنْ زَعَمَ أَنَّهُ لِآخَرَ إلَّا أَنَّهُ يَضْمَنُ لِلثَّانِي مِثْلَهُ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ حُجَّةٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، وَقَدْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ قَبَضَ مِلْكَهُ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّهُ فَيَضْمَنُ لَهُ مِثْلَهُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ قَبَضْتُ مِنْ صُنْدُوقِ فُلَانٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ أَوْ مِنْ كِيسِهِ أَوْ سَفَطِهِ ثَوْبًا هَرَوِيًّا أَوْ مِنْ قَرْيَتِهِ كُرًّا مِنْ حِنْطَةٍ أَوْ مِنْ نَخْلِهِ كُرًّا مِنْ تَمْرٍ أَوْ مِنْ زَرْعِهِ كُرًّا مِنْ حِنْطَةٍ فَهَذَا كُلُّهُ إقْرَارٌ بِأَنَّهُ أَخَذَ مَا كَانَ فِي يَدِ فُلَانٍ فَعَلَيْهِ رَدُّهُ .
وَلَوْ قَالَ قَبَضْتُ مِنْ أَرْضِ فُلَانٍ عِدْلَ زُطِّيٍّ ، ثُمَّ قَالَ مَرَرْتُ فِيهَا مَارًّا فَنَزَلْتُهَا لَمْ يُصَدَّقْ إذَا لَمْ يُعْرَفْ نُزُولُهُ فِيهَا وَيُقْضَى بِالزُّطِّيِّ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا إلَّا أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ طَرِيقًا مَعْرُوفًا لِلنَّاسِ أَوْ يَكُونَ لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ حِينَئِذٍ .
وَكَذَلِكَ الْقَرْيَةُ إذَا كَانَ الطَّرِيقُ فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهَا بِالنُّزُولِ فَيَكُونُ قِيَاسُ الدَّارِ الْمُشْتَرَكَةِ الَّتِي يُمْكِنُ كُلُّ شَرِيكٍ مِنْ السُّكْنَى فِيهَا فَلَا يَتَضَمَّنُ كَلَامُهُ الْإِقْرَارَ بِأَنَّهُ آخِذٌ لِلْعَدْلِ مِنْ صَاحِبِ الْأَرْضِ .
وَلَوْ قَالَ أَخَذْتُ مِنْ دَارِ فُلَانٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ قَالَ كُنْت فِيهَا سَاكِنًا بِأُجْرَةٍ ، فَإِنْ عَلِمَ ذَلِكَ أَوْ بَيَّنَهُ بِالْبَيِّنَةِ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْمَالِ وَإِلَّا لَمْ يُصَدَّقْ وَأُمِرَ بِرَدِّ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ سَبَبُ يَدِهِ عَلَى الدَّارِ فِي وَقْتٍ مَا يَكُونُ هَذَا إقْرَارًا مِنْهُ بِأَخْذِ الْمِائَةِ مِنْ صَاحِبِ الدَّارِ .
وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ فُلَانًا أَتَى أَرْضَ فُلَانٍ هَذِهِ فَاحْتَفَرَ فِيهَا وَاسْتَخْرَجَ مِنْهَا أَلْفَ دِرْهَمٍ وَزْنَ سَبْعَةٍ وَادَّعَاهَا رَبُّ الْأَرْضِ وَجَحَدَ الْحَافِرُ أَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ وَادَّعَى أَنَّ الْمَالَ لَهُ فَإِنِّي أَقْضِي بِهَا لِرَبِّ الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمْ عَلَى أَخْذِهَا مِنْ مِلْكِهِ كَشَهَادَتِهِمْ عَلَى أَخْذِهَا مِنْ يَدِهِ أَرَأَيْتَ لَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ ضَرَبَ صَاحِبَ الْأَرْضِ حَتَّى أَوْقَعَهُ أَوْ قَاتَلَهُ حَتَّى غَلَبَهُ ، ثُمَّ احْتَفَرَ الْأَرْضَ وَأَخْرَجَ الْمَالَ أَمَا كَانَ يُؤْمَرُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ فَهَذَا مِمَّا لَا يُشْكِلُ عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِرَدِّهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ مَنْزِلِهِ كَذَا أَوْ مِنْ حَانُوتِهِ أَوْ أَخَذَ دُهْنًا مِنْ قَارُورَتِهِ أَوْ سَمْنًا مِنْ زِقِّهِ فَهَذَا وَشَهَادَتُهُمْ عَلَى الْأَخْذِ مِنْ يَدِهِ سَوَاءٌ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَخَذَ سَرْجًا كَانَ عَلَى دَابَّةِ فُلَانٍ أَوْ لِجَامًا أَوْ حِمْلًا مِنْ حِنْطَةٍ كَانَتْ عَلَى دَابَّةِ فُلَانٍ أَوْ طَعَامًا كَانَ فِي جُوَالِقِ فُلَانٍ قُضِيَ بِهِ لَهُ لِإِقْرَارِهِ بِالْأَخْذِ مِنْ يَدِهِ فَإِنَّ دَابَّةَ فُلَانٍ وَمَا عَلَيْهَا مِنْ يَدِهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَخَذَ بِطَانَةَ جُبَّتِهِ أَوْ سِتْرَ بَابِهِ فَالْإِضَافَةُ لِمِلْكِهِ بِمَنْزِلَةِ الْإِضَافَةِ إلَيْهِ فِي أَنَّهُ إقْرَارٌ بِالْمِلْكِ لَهُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ رَكِبَ دَابَّةَ فُلَانٍ أَوْ لَبِسَ ثَوْبَ فُلَانٍ أَوْ اسْتَخْدَمَ خَادِمَهُ ، ثُمَّ أَخَذَهُ فُلَانٌ آخَرُ مِنْهُ فَهَذَا كُلُّهُ إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ بِفِعْلٍ هُوَ غَصْبٌ مِنْ مِلْكِ الْأَوَّلِ فَيُؤْمَرُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ ، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ الرَّدِّ كَانَ ضَامِنًا .
وَلَوْ قَالَ فُلَانٌ حَمَلَنِي عَلَى دَابَّتِهِ أَوْ فِي سَفِينَتِهِ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ مَا فَعَلَ بِنَفْسِهِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَإِنَّمَا أَقَرَّ بِفِعْلِ صَاحِبِ الدَّابَّةِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجَبٍ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ حُمِلَ عَلَى دَابَّةِ فُلَانٍ هَذَا فِعْلُ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ فَلَا يَصِيرُ بِهِ مُضِيفًا لِلْحَمْلِ عَلَى نَفْسِهِ وَلَا مُقِرًّا عَلَى نَفْسِهِ بِسَبَبٍ مُوجَبٍ لِلضَّمَانِ .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَخَذَ ثِيَابًا مِنْ حَمَّامِ فُلَانٍ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَدْخُلُونَ الْحَمَّامَ فَيَضَعُونَ ثِيَابَهُمْ فِيهَا ، ثُمَّ يَأْخُذُونَهَا فَلَا يَتَضَمَّنُ هَذَا اللَّفْظُ الْإِقْرَارَ بِيَدٍ أَصْلِيَّةٍ لِصَاحِبِ الْحَمَّامِ فِي الثِّيَابِ .
وَكَذَلِكَ الْمَسْجِدُ الْجَامِعُ وَالْكَعْبَةُ وَالْخَانُ وَالْأَرْضُ يَنْزِلُهَا النَّاسُ وَيَضَعُونَ فِيهَا الْأَمْتِعَةَ .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ وَضَعَ ثَوْبَهُ فِي بَيْتِ فُلَانٍ لَمْ يَضْمَنْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ ادَّعَاهُ رَبُّ الْبَيْتِ وَيَضْمَنُهُ عِنْدَهُمَا ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا سَبَقَ إذَا قَالَ أَسْكَنْتُهُ دَارِي ، ثُمَّ أَخَذْتهَا مِنْهُ .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَخَذَ ثَوْبًا مِنْ طَرِيقِ فُلَانٍ أَوْ مِنْ فِنَاءِ فُلَانٍ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْفِنَاءَ اسْمُ لِسَعَةٍ خَارِجَةٍ عَنْ مِلْكِهِ مُعَدَّةٍ لِمَنَافِعِهِ مِنْ كَسْرِ الْحَطَبِ وَإِلْقَاءِ الْكُنَاسَةِ وَنَحْوِهَا فَلَا تَكُونُ تِلْكَ الْمَنْفَعَةُ فِي يَدِ فُلَانٍ عَلَى الْخُصُوصِ بَلْ لِلنَّاسِ أَنْ يَنْتَفِعُوا بِهَا .
وَكَذَلِكَ الطَّرِيقُ .
وَلَوْ قَالَ أَخَذْتُ ثَوْبًا مِنْ أَجِيرِ فُلَانٍ فَهُوَ لِلْأَجِيرِ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ مِنْ يَدِهِ وَيَدُ الْأَجِيرِ فِي أَمْتِعَتِهِ يَدُ نَفْسِهِ حَتَّى لَوْ نَازَعَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْأَجِيرِ .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَخَذَ ثَوْبًا مِنْ مَسْجِدِ فُلَانٍ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَسْجِدُ لَهُ خَاصَّةً فِي دَارِهِ فَيَكُونُ مِنْ جُمْلَةِ مِلْكِهِ وَمَا فِيهِ يَكُونُ فِي يَدِهِ فَيَضْمَنُهُ وَلَوْ قَالَ مِنْ هَذِهِ الْبِيعَةِ أَوْ الْكَنِيسَةِ أَوْ بَيْتِ النَّارِ أَوْ الْقَنْطَرَةِ أَوْ الْجِسْرِ أَوْ كُلِّ مَوْضِعٍ لِلْعَامَّةِ مِمَّا لَا يَدَ عَلَيْهِ فِيهِ لَا حَدَّ ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقُّ وَضْعِ الْأَمْتِعَةِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فَلَا يَتَضَمَّنُ كَلَامُهُ الْإِقْرَارَ بِأَخْذِهِ مِنْ يَدِ إنْسَانٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ إقْرَارِ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَعَلَى غَيْرِهِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ ، وَعَلَى فُلَانٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَجَحَدَ الْآخَرُ لَزِمَ الْمُقِرَّ نِصْفُهُ ؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ الْآخَرَ عَلَى نَفْسِهِ وَالْعَطْفُ يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ فِي الْخَبَرِ وَإِقْرَارُهُ عَلَى نَفْسِهِ حُجَّةٌ ، وَعَلَى الْآخَرِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ .
وَكَذَلِكَ لَوْ سَمَّى اثْنَيْنِ مَعَهُ لَزِمَهُ الثُّلُثُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ سَمَّى عَبْدًا مَحْجُورًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ حَرْبِيًّا أَوْ ذِمِّيًّا أَوْ رَجُلًا لَا يُعْرَفُ فَعَلَى الْمُقِرِّ حِصَّتُهُ عَلَى عَدَدِهِمْ ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ مَنْ سَمَّى ذِمَّتُهُ صَالِحُهُ لِالْتِزَامِ الْمَالِ فَيَتَحَقَّقُ الِاشْتِرَاكُ وَيَكُونُ مُقِرًّا عَلَى نَفْسِهِ بِحِصَّتِهِ خَاصَّةً .
وَلَوْ قَالَ إنَّ لِفُلَانٍ عَيْنًا أَلْفَ دِرْهَمٍ ، وَلَمْ يُسَمِّ أَحَدًا ، ثُمَّ قَالَ عَنَيْتُ فُلَانًا وَفُلَانًا لَزِمَهُ الْمَالُ كُلُّهُ إنْ ادَّعَاهُ الطَّالِبُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا حِصَّتُهُ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَحَقِيقَةُ لَفْظِ الْجَمْعِ لَا تَتَنَاوَلُ الْمُفْرَدَ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي بَيَانِ الْعَدَدِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ الْإِقْرَارُ ؛ لِأَنَّ إبْهَامَ الْعَدَدِ فِي الْمُقَرِّ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَتِهِ فِي الْمُقَرِّ بِهِ فَيَرْجِعُ فِي بَيَانِهِ إلَيْهِ وَكُنَّا تَرَكْنَا هَذِهِ الْحَقِيقَةَ لِدَلِيلِ عُرْفِ النَّاسِ فَقَدْ يُخْبِرُ الْوَاحِدُ عَنْ نَفْسِهِ بِعِبَارَةٍ الْجَمْعِ تَارَةً وَبِعِبَارَةِ الْمُفْرَدِ أُخْرَى .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْعُظَمَاءَ مِنْ النَّاسِ يَقُولُونَ فَعَلْنَا كَذَا وَأَمَرْنَا بِكَذَا وَنَحْنُ نَقُولُ كَذَا وَإِنَّمَا يُرِيدُونَ أَنْفُسَهُمْ وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْله تَعَالَى { ثُمَّ إنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } وقَوْله تَعَالَى { إنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ } وقَوْله تَعَالَى { إنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ } وقَوْله تَعَالَى { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } ، فَإِذَا كَانَ عُرْفٌ ظَاهِرٌ جَعَلْنَاهُ بِهَذَا اللَّفْظِ مُخْبِرًا عَنْ نَفْسِهِ فَيَلْزَمُهُ الْمَالُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ عَلَيْنَا وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى نَفْسِهِ وَإِلَى آخَرِينَ مَعَهُ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِلَفْظِهِ لَا بِإِشَارَتِهِ فَوُجُودُ هَذِهِ الْإِشَارَةِ كَعَدَمِهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ رَهْطٌ قُعُودٌ ، فَقَالَ لِفُلَانٍ عَلَيْنَا جَمِيعًا أَوْ عَلَيْنَا كُلِّنَا وَأَشَارَ إلَى نَفْسِهِ وَإِلَيْهِمْ فَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا حِصَّتُهُ عَلَى عَدَدِ الْقَوْمِ الَّذِينَ مَعَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَرَنَ بِكَلَامِهِ لَفْظًا يَمْنَعُنَا أَنْ نَحْمِلَ كَلَامَهُ عَلَى الْإِخْبَارِ عَنْ نَفْسِهِ خَاصَّةً ، وَهُوَ قَوْلُهُ كُلُّنَا فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مُضِيفٌ الْإِقْرَارَ إلَى نَفْسِهِ وَإِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ هُمْ جُلُوسٌ مَعَهُ ، وَقَدْ أَظْهَرَ ذَلِكَ بِإِشَارَتِهِ إلَيْهِمْ فَلَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا حِصَّتُهُ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ .
وَلَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَى رَجُلٍ مِنَّا كُرٌّ أَوْ رَجُلَيْنِ مِنَّا كُرٌّ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى مَجْهُولٍ فَإِنَّهُ جَعَلَ الْمُقَرَّ عَلَيْهِ مُنَكَّرًا ، وَهُوَ مَعْرِفَةٌ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ لَفْظُهُ عِبَارَةً عَنْ نَفْسِهِ .
وَلَوْ قَالَ يَا فُلَانُ لَكَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَزِمَهُ الْمَالُ كُلُّهُ ؛ لِأَنَّهُ خَاطَبَ الْمُقَرَّ لَهُ بِهَذَا اللَّفْظِ ، وَقَدْ يُخَاطَبُ الْمُفْرَدُ بِعِبَارَةِ الْجَمْعِ تَعْظِيمًا وَهَذَا ظَاهِرٌ عِنْدَ أَهْلِ اللِّسَانِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَنْتُمْ يَا فُلَانُ لَكُمْ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَوْ قَالَ نَحْنُ يَا فُلَانُ لَكَ عَلَيْنَا أَلْفُ دِرْهَمٍ فَهُوَ إقْرَارٌ لَهُ بِالْمَالِ عَلَى نَفْسِهِ لِمَا قُلْنَا .
وَلَوْ قَالَ يَا فُلَانُ لَكُمَا عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ كَانَ لِفُلَانٍ مِنْهُمَا النِّصْفُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخَاطَبُ الْمُفْرَدُ بِعِبَارَةِ التَّثْنِيَةِ إذْ لَيْسَ فِي ذَلِكَ غَرَضٌ فَإِنَّ فِي عِبَارَةِ الْجَمْعِ لِلْمُفْرَدِ مَعْنَى التَّعْظِيمِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي عِبَارَةِ التَّثْنِيَةِ فَإِنَّمَا صَارَ مُقِرًّا لَهُ وَلِمَجْهُولٍ آخَرَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا نِصْفُ الْأَلْفِ وَبَعْضُ أَهْلِ اللُّغَةِ يَقُولُونَ يَلْزَمُهُ الْأَلْفُ لَهُ فَخِطَابُ التَّثْنِيَةِ لِلْمُفْرَدِ يُوجَدُ فِي الْقُرْآنِ الْعَزِيزِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ } ، وَقَالَ تَعَالَى { فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ } ، وَلَكِنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ أَبْقَى الْجَوَابَ عَلَى مَا هُوَ الْمَعْرُوفُ بَيْنَ الْعَوَامّ مِنْ النَّاسِ .
وَلَوْ قَالَ أَقْرَضَنَا فُلَانٌ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ اسْتَوْدَعَنَا أَوْ أَعَارَنَا أَوْ غَصَبْنَا مِنْهُ لَزِمَهُ جَمِيعُ الْمَالِ وَلَا يُصَدَّقُ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ غَيْرَهُ مَعَهُ لِمَا قُلْنَا .
وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُ وَمَعِي فُلَانٌ مِنْ فُلَانٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ لَزِمَهُ النِّصْفُ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ وَمَعِي فُلَانٌ جَالِسٌ ؛ لِأَنَّهُ مَتَى ذَكَرَ لِلثَّانِي خَبَرًا لَا يَكُونُ اشْتِرَاكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ فِي الْخَبَرِ ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ خَبَرًا تَحَقَّقَ الِاشْتِرَاكُ لِلْعَطْفِ كَمَا إذَا قَالَ زَيْنَبُ طَالِقٌ ثَلَاثًا وَعَمْرَةُ تَطْلُقُ ثَلَاثًا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ وَعَمْرَةُ طَالِقٌ .
وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةُ مَثَاقِيلَ فِضَّةً ، ثُمَّ قَالَ هِيَ سُودٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ بَيَانَهُ مُقَرِّرٌ لِأَوَّلِ كَلَامِهِ فَإِنَّ اسْمَ الْفِضَّةِ يَتَنَاوَلُ السُّودَ وَالْبِيضَ عَلَى السَّوَاءِ فَيَكُونُ بَيَانُهُ مَقْبُولًا .
وَلَوْ قَالَ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ قَرْضًا ، وَلَمْ أَقْبِضْهَا لَمْ يُصَدَّقْ ، وَإِنْ وَصَلَ لِأَنَّ الْمَالَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ بِالْقَرْضِ إلَّا بِالْقَبْضِ فَكَانَ هَذَا رُجُوعًا .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ عِنْدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةٌ أَوْ غَصْبٌ لَمْ أَقْبِضْهَا لَمْ يُصَدَّقْ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَا يَصِيرُ وَدِيعَةً عِنْدَهُ وَلَا غَصْبًا قَبْلَ الْقَبْضِ .
وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ مَتَاعٍ بَاعَنِيهِ وَنِسَائِي إلَى الْعَطَاءِ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْأَجَلِ إذَا أَنْكَرَهُ الطَّالِبُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ادَّعَى أَجَلًا صَحِيحًا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ ، فَإِذَا ادَّعَى أَجَلًا فَاسِدًا كَانَ ذَلِكَ أَوْلَى .
وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى فِيهِ شَرْطًا يُفْسِدُهُ أَوْ زَادَ مَعَ ذَلِكَ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ لِمَا بَيَّنَّا وَأَوْرَدَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ زُيُوفٌ ، وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ بَلْ هِيَ جِيَادٌ فَعِنْدَنَا يَلْزَمُهُ الْمَالُ كَمَا أَقَرَّ بِهِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ إقْرَارُهُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ رَدَّ إقْرَارَهُ وَادَّعَى عَلَيْهِ شَيْئًا آخَرَ فَقِيَاسُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ هُنَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ إقْرَارُهُ بَاطِلًا وَأَوْرَدَ أَيْضًا ، ثُمَّ إنَّهُ لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثَمَنُ هَذَا الْعَبْدِ لَا بَلْ ثَمَنُ جَارِيَةٍ وَادَّعَاهُمَا الْمُقَرُّ لَهُ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَلْزَمُهُ أَلْفٌ وَاحِدٍ ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَلْزَمُهُ أَلْفَانِ وَلَوْ قَالَ لَا بَلْ هِيَ ثَمَنُ جَارِيَةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا أَلْفٌ وَاحِدٌ بِالِاتِّفَاقِ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ فِي اسْتِدْرَاكِ الْغَلَطِ بِقَوْلِهِ لَا بَلْ .
وَلَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، فَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ بَلْ هِيَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ فَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَبْطُلُ إقْرَارُهُ ، وَعِنْدَنَا يَكُونُ الْمَالُ الثَّانِي اسْتِحْسَانًا وَنَظَائِرُ هَذَا الْفَصْلِ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي الْجَامِعِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الْإِقْرَارِ فِي غَيْرِ الْمَرَضِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَإِقْرَارُ الصَّحِيحِ بِالدَّيْنِ وَالْقَرْضِ وَالْغَصْبِ الْوَدِيعَةِ لِوَارِثِهِ وَغَيْرِ وَارِثِهِ وَالْمُكَاتَبَةِ وَإِقْرَارُ الْمُكَاتَبِ لِمَوْلَاهُ جَائِزٌ كُلُّهُ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِي مَالِ الصَّحِيحِ وَلَا تُهْمَةَ فِي إقْرَارِهِ فَإِنَّهُ مُمَكَّنٌ مِنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ بِطَرِيقِ الْإِنْشَاءِ .
وَإِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ ، فَقَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ حَقٌّ فَصَدِّقُوهُ فِيمَا قَالَ ، ثُمَّ مَاتَ الْمَرِيضُ فَفِي الْقِيَاسِ لَا يُصَدَّقُ عَلَى مَا يَدَّعِي فِي يَدِهِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ وَصِيَّةٌ بِخِلَافِ حُكْمِ الشَّرْعِ فَإِنَّ مِنْ حُكْمِ الشَّرْعِ أَنْ لَا يُصَدَّقَ فِي دَعْوَاهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ } الْحَدِيثَ وَوَصِيَّتُهُ بِخِلَافِ الشَّرْعِ بَاطِلَةٌ ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ ، فَقَالَ يُصَدَّقُ الطَّالِبُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّهُ سَلَّطَهُ عَلَى مَالِ نَفْسِهِ ، وَهُوَ مَالِكٌ لِتَسْلِيطِهِ عَلَى قَدْرِ الثُّلُثِ فِي مَالِهِ إيجَابًا لَهُ فَكَذَلِكَ يَصِحُّ تَسْلِيطُهُ إيَّاهُ عَلَى قَدْرِ الثُّلُثِ إخْبَارًا بِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ ثُلُثَ الْمَالِ حَقًّا لِلْمَرِيضِ لِيَفُكَّ بِهِ نَفْسَهُ وَيَصْرِفَهُ فِي حَوَائِجِهِ وَمِنْ حَوَائِجِهِ تَفْرِيغُ ذِمَّتِهِ وَرُبَّمَا يَعْلَمُ بِوُجُوبِ الْحَقِّ لِلْغَيْرِ عَلَيْهِ وَيَشْتَبِهُ عَلَيْهِ مِقْدَارُهُ فَيُقِرُّ بِهِ وَيُفَوِّضُ بَيَانَ الْمِقْدَارِ إلَى صَاحِبِ الْحَقِّ لِعِلْمِهِ بِأَمَانَتِهِ فَلِهَذَا صَحَّحْنَا وَصِيَّتَهُ فِي التَّصْدِيقِ بِقَدْرِ الثُّلُثِ ، وَإِنْ ادَّعَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ وَلَكِنْ يُحَلِّفُ الْوَرَثَةَ عَلَى عِلْمِهِمْ ؛ لِأَنَّا كُنَّا نُصَدِّقُهُ بِاعْتِبَارِ وَصِيَّةِ الْمُوصِي وَوَصِيَّتُهُ لَا تَكُونُ مُلْزِمَةً فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ وَإِنْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِدَيْنٍ مُسَمًّى بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ الدَّيْنُ الْمُسَمَّى أَوْلَى فِي جَمِيعِ تَرِكَتِهِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ صَاحِبِ الدَّيْنِ الْمُسَمَّى مَعْلُومٌ ثَابِتٌ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ ، وَهُوَ الْإِقْرَارُ وَحَقُّ الْآخَرِ مَجْهُولٌ وَيُشْبِهُ دَعْوَى الْمُدَّعِي وَلَا يَقَعُ التَّعَارُضُ بَيْنَ الضَّعِيفِ مِنْ السَّبَبِ وَبَيْنِ الْقَوِيِّ فَلِهَذَا كَانَ صَاحِبُ الدَّيْنِ الْمُسَمَّى أَوْلَى ، وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ بِدَيْنٍ مُسَمًّى ، وَلَكِنَّهُ أَوْصَى بِوَصِيَّةٍ مَعْلُومَةٍ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ أَوْلَى مِنْ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ
مَعْلُومٌ مُسَمًّى وَالْمَجْهُولُ لَا يُزَاحِمُ الْمَعْلُومَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَى هَذَا فِي الْكِتَابِ وَأَوْرَدَ فِي الزِّيَادَاتِ أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ إذَا أَخَذَ الثُّلُثَ يُقَالُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ يُقِرَّ بِشَيْءٍ لِآخَرَ فَنُعْطِيَهُ ثُلُثَ ذَلِكَ مِمَّا فِي يَدِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُوصَى لَهُ شَرِيكُ الْآخَرِ الْوَارِثِ ، وَقَدْ أَقَرَّ الْمَيِّتُ لِلْآخَرِ بِدَيْنٍ مَجْهُولٍ وَالدَّيْنُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ فَلَا بُدَّ لِلْمُوصَى لَهُ أَنْ يُبَيِّنَ كَمَا لَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ لِلْوَارِثِ ، وَلَكِنَّ وَضْعَ الْمَسْأَلَةِ هُنَاكَ فِيمَا إذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَيْنٌ فَصَدِّقُوهُ وَهُنَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ حَقٌّ فَصَدِّقُوهُ فَمَا زَادَ عَلَى هَذَا مِنْ الْكَلَامِ فِيهِ فَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الزِّيَادَاتِ .
وَلَوْ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِدَيْنٍ ، ثُمَّ بِدَيْنٍ آخَرَ تَخَاصَمُوا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ الْإِقْرَارُ بِالدَّيْنِ فَقَدْ صَارَ مَالُهُ مَشْغُولًا بِحَقِّ الْغَرِيمِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّهِ عَنْهُ فَإِقْرَارُهُ الْوَدِيعَةِ بَعْدَ ذَلِكَ إقْرَارٌ بِوَدِيعَةٍ مُسْتَهْلَكَةٍ فَهُوَ كَالْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ .
وَلَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفٌ إلَّا دِرْهَمًا أَوْ غَيْرَ دِرْهَمٍ أَوْ نُقْصَانَ دِرْهَمٍ كَانَ كَمَا قَالَ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ حَقِيقَةً فَتَصْرِيحُهُ فِي الْمُسْتَثْنَى بِالدَّرَاهِمِ يَكُونُ بَيَانًا فِي الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ أَنَّهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ .
وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إلَّا تِسْعَمِائَةٍ فَعَلَيْهِ مِائَةٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ صَحِيحٌ مَتَى بَقِيَ وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى شَيْئًا قَلَّ ذَلِكَ أَوْ كَثُرَ ، وَإِنْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةٌ وَنِصْفُ دِرْهَمٍ كَانَتْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ؛ لِأَنَّهُ عَطَفَ الْعَشَرَةَ ، ثُمَّ فَسَّرَهُ بِالدِّرْهَمِ فَيَكُونُ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لَهُمَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ " عَشَرَةُ دَرَاهِمَ " ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظَائِرَهُ فِي قَوْلِهِ " مِائَةُ دِرْهَمٍ " .
وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ إلَى أَجَلٍ بَطَلَ الْأَجَلُ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْغَرِيمِ صَارَ كَالْعَيْنِ فِي التَّرِكَةِ وَالْأَعْيَانُ لَا تَقْبَلُ الْآجَالَ فَلَا فَائِدَةَ فِي إبْقَاءِ الْأَجَلِ بَعْدَ مَوْتِهِ لَهُ وَلَا لِوَارِثِهِ لِأَنَّهُ يَبْقَى مُرْتَهَنًا بِالدَّيْنِ وَلَا تَنْبَسِطُ يَدُ وَارِثِهِ فِي التَّرِكَةِ لِمَكَانِ الدَّيْنِ .
وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُ الْمَرِيضِ بِالدَّيْنِ لِقَابِلِهِ وَلَا لِعَبْدِ قَابِلِهِ وَلَا لِمُكَاتَبِ قَابِلِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ إقْرَارَهُ بِالدَّيْنِ لِلْقَابِلِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ لِلْوَارِثِ عَلَى قِيَاسِ الْوَصِيَّةِ فَكَذَلِكَ لِعَبْدِهِ وَمُكَاتَبِهِ .
وَإِنْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ لِمُكَاتَبِ نَفْسِهِ بِدَيْنٍ فَهُوَ جَائِزٌ إذَا كَانَ كَاتَبَهُ فِي الصِّحَّةِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ أَحَقَّ بِنَفْسِهِ وَمَكَاسِبِهِ ، وَهُوَ مِنْ مَوْلَاهُ بِمَنْزِلَةِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ فِي أَنَّهُ يَثْبُتُ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ لَهُ أَيْضًا كَمَا يَصِحُّ لِأَجْنَبِيٍّ آخَرَ ، وَإِنْ كَانَ كَاتَبَهُ فِي الْمَرَضِ لَمْ يَجُزْ إلَّا مِنْ الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ إعْتَاقِهِ إيَّاهُ فَإِنَّ إقْرَارَهُ لَهُ بِالدَّيْنِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ بِاسْتِيفَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ لَمْ يَصِحَّ إلَّا مِنْ الثُّلُثِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَاتَبَهُ فِي الصِّحَّةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ تُهْمَةَ الْمُوَاضَعَةِ تَتَمَكَّنُ بَيْنَهُمَا إذَا كَانَتْ الْكِتَابَةُ فِي الْمَرَضِ فَلِهَذَا جَعَلْنَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ إعْتَاقِهِ ، وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَثْبَتَهُ أَنَّ مِثْلَ الْكِتَابَةِ عِتْقٌ وَسَعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِمَا قُلْنَا .
وَإِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ أَنَّ عَلَى أَبِيهِ لِفُلَانٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ دَيْنًا ، وَفِي دَارٍ لِأَبِيهِ ، وَعَلَى الْمَرِيضِ دَيْنٌ مَعْرُوفٌ فِي الصِّحَّةِ فَدَيْنُهُ الَّذِي فِي الصِّحَّةِ أَوْلَى بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ عَلَى أَبِيهِ فِي مَرَضِهِ كَإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ دُونَ ذَلِكَ فَيُقَدِّمُ دَيْنَ الصِّحَّةِ وَلَوْ كَانَ أَقَرَّ بِذَلِكَ فِي صِحَّتِهِ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ كَانَ دَيْنُ الْأَبِ أَوْلَى فِي تَرِكَةِ الْأَبِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِالْعَيْنِ فَإِنَّ حَقَّ غُرَمَاءِ الْأَبِ يَتَعَلَّقُ بِتَرِكَتِهِ وَصِحَّةُ إقْرَارِ الِابْنِ عَلَى الْأَبِ بِاعْتِبَارِ مَا فِي يَدِهِ مِنْ التَّرِكَةِ ، فَإِذَا حَصَلَ إقْرَارُهُ فِي الصِّحَّةِ صَارَ ذَلِكَ مُسْتَحَقًّا لِغُرَمَاءِ الْأَبِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ غُرَمَاءِ الِابْنِ .
وَإِذَا مَرِضَ الرَّجُلُ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ ، وَفِي يَدِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ تَرِكَةِ أَبِيهِ ، فَقَالَ لِفُلَانٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ عَلَى أَبِي وَلِفُلَانٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَوَصَلَ ذَلِكَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِأَنَّ فِي آخَرِ كَلَامِهِ مَا يُغَايِرُ أَوَّلَهُ فَتَوَقَّفَ أَوَّلُهُ عَلَى آخِرِهِ وَصَارَ هَذَا كَقَوْلِهِ لَهُمَا " عَلَى أَبِي أَلْفُ دِرْهَمٍ " .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ " لِفُلَانٍ عَلَى أَبِي أَلْفُ دِرْهَمٍ " وَهَذِهِ وَدِيعَةٌ عِنْدَ أَبِي لِفُلَانٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ أَنَّهُ إذَا قَدَّمَ الْإِقْرَارَ بِالدَّيْنِ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ الْوَدِيعَةِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ بِوَدِيعَةٍ مُسْتَهْلَكَةٍ فَيَتَحَاصَّانِ بِخِلَافِ مَا إذَا انْعَدَمَ الْإِقْرَارُ الْوَدِيعَةِ .
وَلَوْ كَانَ أَبُوهُ تَرَكَ عَبْدًا ، فَقَالَ رَجُلٌ لِي عَلَى أَبِيكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، وَقَالَ الْعَبْدُ قَدْ أَعْتَقَنِي أَبُوكَ ، فَقَالَ صَدَقْتُمَا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الدَّيْنُ أَوْلَى ، وَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَسْعَى فِي عِتْقِهِ ؛ لِأَنَّ نُفُوذَ الْعِتْقِ عِنْدَ إقْرَارِ الْوَارِثِ كَنُفُوذِهِ لَوْ بَاشَرَهُ الْأَبُ فِي مَرَضِهِ فَيَكُونُ مُؤَخَّرًا عَنْ الدَّيْنِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَعْتِقُ الْعَبْدُ وَلَا سِعَايَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ مُقِرٌّ أَنَّهُ لَمْ يَصِرْ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ تَرِكَتِهِ فَلَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ عَلَيْهِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي الْحَقِيقَةِ تَنْبَنِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ إذَا ادَّعَى رَجُلٌ وَدِيعَةً فِي يَدِ أَبِيهِ بِعَيْنِهَا وَادَّعَى الْآخَرُ دَيْنًا فَصَدَّقَهُمَا الْوَارِثُ وَهُنَاكَ عِنْدَهُمَا مُدَّعِي الْعَيْنِ أَوْلَى فَكَذَلِكَ هُنَا الْعَبْدُ بِمَنْزِلَةِ مُدَّعِي الْعَيْنِ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُنَاكَ يَتَحَاصَّانِ وَصَارَتْ دَعْوَى الْعَيْنِ كَدَعْوَى الدَّيْنِ حِينَ أَقَرَّ الْوَارِثُ بِهِمَا مَعًا فَهُنَا أَيْضًا يَصِيرُ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ وَالتَّبَرُّعِ فَيُقَدَّمُ الدَّيْنُ عِنْدَهُ .
وَلَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَى أَبِي أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنًا وَدَفَعَهَا إلَيْهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، ثُمَّ أَقَرَّ لِآخَرَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَيْهِ لَمْ يَضْمَنْ لَهُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ إقْرَارِهِ مَا صَارَ مُتْلِفًا شَيْئًا مِنْ تَرِكَةِ أَبِيهِ وَالدَّفْعُ حَصَلَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ دَفَعَ إلَى الْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ ضَمِنَ الثَّانِي خَمْسَمِائَةٍ بِإِقْرَارِهِ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي خَمْسِمِائَةٍ مِنْ التَّرِكَةِ فَإِنَّهُ بِالدَّفْعِ إلَى الْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ صَارَ مُتْلِفًا حَقَّ الثَّانِي فَيَضْمَنُ لَهُ نَصِيبَهُ .
وَلَوْ كَانَ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَى أَبِي أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا بَلْ لِفُلَانٍ فَالْأَلْفُ لِلْأَوَّلِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُقِرِّ لِلثَّانِي وَرُجُوعُهُ فِي إبْطَالِ اسْتِحْقَاقِ الْأَوَّلِ بَاطِلٌ ، وَلَكِنَّهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ صَحِيحٌ ، فَإِذَا دَفَعَهَا بِغَيْرِ قَضَاءٍ صَارَ مُتْلِفًا جَمِيعَ الْأَلْفِ عَلَى الثَّانِي بِزَعْمِهِ فَيَضْمَنُ لَهُ مِثْلَهَا .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ الْمَيِّتَ أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ لِهَذَا لَا بَلْ لِهَذَا فَالثُّلُثُ لِلْأَوَّلِ وَلَا شَيْءَ لِلثَّانِي عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ دَفَعَ الثُّلُثَ إلَى الْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَحِينَئِذٍ يَغْرَمُ لِلثَّانِي مِثْلَهُ ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَدْفَعُ ثُلُثًا إلَى الْأَوَّلِ وَثُلُثًا إلَى الثَّانِي .
وَلَوْ كَانَ قَالَ أَوْصَى أَبِي بِثُلُثِ مَالِهِ لِفُلَانٍ لَا بَلْ لِفُلَانٍ فَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَدْفَعُ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثَ الْمَالِ وَيَخْرُجُ مِنْ الْوَسَطِ ، وَعِنْدَنَا الثُّلُثُ لِلْأَوَّلِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِلْآخَرَيْنِ إذَا دَفَعَهُ بِقَضَاءٍ وَهَذَا قِيَاسُ مَا سَبَقَ .
وَلَوْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِدَيْنٍ لِوَارِثِهِ فَخَاصَمَهُ الْوَارِثُ فِي ذَلِكَ أَمَرَهُ الْقَاضِي بِأَنْ يُوَفِّيَهُ حَقَّهُ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجَبَ لِلْمَالِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَالْمُبْطِلُ لَهُ ، وَهُوَ مَوْتُهُ مِنْ مَرَضِهِ مَوْهُومٌ وَالْمَوْهُومُ لَا يُعَارِضُ الْمَعْلُومَ فَيَأْمُرُهُ بِالْقَضَاءِ ، فَإِنْ بَرَأَ مِنْ مَرَضِهِ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا عَلَيْهِ ، وَإِنْ مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ بَطَلَ إقْرَارُهُ حِينَئِذٍ فَيَأْمُرُ الْوَارِثَ بِرَدِّ الْمَقْبُوضِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الْإِقْرَارِ بِالْقَبْضِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : وَإِذَا أَقَرَّ الطَّالِبُ أَنَّهُ قَبَضَ مِمَّا لَهُ عَلَى فُلَانٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ ، فَقَالَ فُلَانٌ : قَدْ قَبَضْتُ مِنِّي مِائَةً وَخَمْسِينَ دِرْهَمًا مِنْ قَبْلِ كَذَا ، فَقَالَ الطَّالِبُ نَعَمْ ، وَلَكِنَّهَا قَدْ دَخَلَتْ فِي الْمِائَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ مَا ادَّعَاهُ الْمَطْلُوبُ بَعْدَ مَا أَقَرَّ لَهُ الطَّالِبُ بِاسْتِيفَائِهِ فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلطَّالِبِ فَجَعَلْنَا الْقَوْلَ قَوْلَهُ ، وَلِأَنَّ الْمَطْلُوبَ يَدَّعِي زِيَادَةً فِيمَا أَوْفَاهُ وَالطَّالِبُ يُنْكِرُ ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الْمَطْلُوبُ بِعْتُكَ ثَوْبًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ مِمَّا لَكَ عَلَيَّ ، فَقَالَ الطَّالِبُ نَعَمْ قَدْ دَخَلَ فِي هَذِهِ الْمِائَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الطَّالِبِ ؛ لِأَنَّ مَا ادَّعَاهُ مِنْ الْمَطْلُوبِ مِنْ الْبَيْعِ سَبَبٌ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ بِالثَّمَنِ وَإِقْرَارُ الطَّالِبِ بِاسْتِيفَائِهَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ فَمَالُ الْمَطْلُوبِ لِسَبَبٍ فِي الْبَعْضِ لَا يَزْدَادُ مَا أَوْفَاهُ مِنْ الْمَالِ .
وَلَوْ قَالَ كَانَ فِي يَدِ الْمَطْلُوبِ شَاةٌ ، فَقَالَ الطَّالِبُ ابْتَعْتُهَا مِنْكَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ مِنْ هَذِهِ الْمِائَةِ ، وَقَالَ الْمَطْلُوبُ لَمْ أَبِعْهَا ، وَقَدْ أَخَذْتَ مِنِّي مِائَةَ دِرْهَمٍ فَالْقَوْلُ لِلْمَطْلُوبِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الشَّاهَ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِلْمَطْلُوبِ وَادَّعَى الطَّالِبُ تَمَلُّكَهَا عَلَيْهِ ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ وَيَبْقَى إقْرَارُ الطَّالِبِ بِقَبْضِ الْمِائَةِ فَذَلِكَ لَازِمٌ عَلَيْهِ .
وَإِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِقَبْضِ مَالِهِ عَلَى فُلَانٍ وَسَمَّاهُ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ لَهُ فَيَصِحُّ إذَا كَانَ أَجْنَبِيًّا ، وَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ وَارِثُهُ أَوْ كَفِيلًا عَنْ وَارِثِهِ وَالْوَارِثُ كَفِيلٌ عَنْهُ فَالْإِقْرَارُ بَاطِلٌ لِمَا فِيهِ مِنْ اتِّصَالِ النَّفْعِ إلَى وَارِثِهِ ، وَإِذَا جَاءَ الْوَارِثُ بِالْمَالِ فَأَدْخَلَهُ عَلَيْهِ بِمَحْضَرٍ مِنْ الشُّهُودِ بَرِئَ الْوَارِثُ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي السَّبَبِ الْمُعَايَنِ فَالْأَجْنَبِيُّ وَالْوَارِثُ فِيهِ سَوَاءٌ .
وَإِذَا أَقَرَّ الطَّالِبُ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْ الْمَطْلُوبِ خَمْسَمِائَةٍ ، ثُمَّ خَمْسَمِائَةٍ ، ثُمَّ قَالَ وَجَدْتُهَا زُيُوفًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِقَبْضِ الدَّرَاهِمِ مُطْلَقًا وَالزُّيُوفُ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ يَتَنَاوَلُهَا مُطْلَقُ اسْمِ الدَّرَاهِمِ فَكَانَ بَيَانُهُ هَذَا مُقَرِّرًا لِكَلَامِهِ .
وَلَوْ قَالَ قَبَضْتُ مِنْهُ حَقِّي أَوْ قَبَضْتُ مِنْهُ الَّذِي لِي عَلَيْهِ أَوْ قَبَضْتُ مِنْهُ مَالِي عَلَيْهِ أَوْ الْأَلْفَ الَّتِي كَانَتْ لِي عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ وَجَدْتُهَا زُيُوفًا لَمْ يُصَدَّق إلَّا أَنْ يَصِلَهُ بِكَلَامِهِ لِأَنَّ لَفْظَهُ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْحَقِّ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ الْجِيَادُ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْبُوضُ زُيُوفًا ، وَقَالَ ذَلِكَ لِجَهَالَتِهِ بِهَا فَكَانَ هَذَا بَيَانًا مُغَايِرًا لِكَلَامِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ فَيَصِحُّ وَلَا يَصِحُّ مَفْصُولًا .
وَلَوْ قَالَ قَبَضْتُ مِنْهُ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ قَالَ بَعْدُ وَجَدْتُهَا سُتُّوقًا أَوْ رَصَاصًا لَمْ يُصَدَّقْ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِقَبْضِ الدَّرَاهِمِ وَالسَّتُّوقُ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ فَكَانَ بَيَانُهُ هَذَا مُغَايِرًا وَرُجُوعًا عَمَّا أَقَرَّ بِهِ فَلَا يَصِحُّ مَفْصُولًا .
وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ قَبَضَ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ مِمَّا لَهُ عَلَى الْمَطْلُوبِ ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ وَجَدْتُهَا زُيُوفًا لَمْ يُصَدَّقْ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِقَبْضِ جَمِيعِ مَا عَلَيْهِ ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّهُ زُيُوفًا لَمْ يُصَدَّقْ إذَا كَانَ مَفْصُولًا فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِبَعْضِ مَالِهِ عَلَيْهِ وَلَا يَمِينَ عَلَى الْمَطْلُوبِ أَنَّهَا كَانَتْ جِيَادًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا اتَّهَمْتُهُ حَلَّفْتُهُ ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ الَّذِي سَبَقَ إذَا أَقَرَّ الْبَائِعُ بِقَبْضِ الثَّمَنِ ، ثُمَّ قَالَ لَمْ أَقْبِضْهُ لَمْ يُحَلَّفْ خَصْمُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُحَلَّفُ لِلْعُرْفِ الظَّاهِرِ فِي الْإِقْرَارِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَ بِالِاسْتِيفَاءِ لِلْإِشْهَادِ فَكَذَلِكَ هُنَا فَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ اعْتَبَرَا التَّنَاقُضَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتَبَرَ الْعُرْفَ أَنَّهُ قَدْ يُقِرُّ بِالِاسْتِيفَاءِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُسْتَوْفَى جِيَادٌ ، ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ زُيُوفٌ فَلِهَذَا قَالَ إذَا اتَّهَمْتُهُ حَلَّفْتُهُ .
وَلَوْ أَقَرَّ بِقَبْضِ خَمْسِمِائَةٍ وَلَهُ شَرِيكٌ فِي الدَّيْنِ ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ هِيَ زُيُوفٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ أَقَرَّ بِقَبْضِ الدَّرَاهِمِ ، وَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ الزُّيُوفَ حَقِيقَةً وَلِلشَّرِيكِ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ شَارَكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ مِنْ الزُّيُوفِ ، وَإِنْ شَاءَ أَتْبَعَ الْمَطْلُوبَ الْجِيَادَ ، وَإِنْ قَالَ بَعْدَ مَا سَكَتَ : هِيَ رَصَاصٌ ، لَمْ يُصَدَّقْ وَلِلشَّرِيكِ نِصْفُهَا جِيَادٌ ؛ لِأَنَّهُ رَاجِعٌ عَنْ الْإِقْرَارِ فَإِنَّ اسْمَ الدَّرَاهِمِ لَا يَتَنَاوَلُ الرَّصَاصَ حَقِيقَةً ، وَإِنْ قَالَ هُوَ رَصَاصٌ مَوْصُولًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ الرَّصَاصَ مِنْ الدَّرَاهِمِ صُورَةً ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ الدَّرَاهِمُ مَعْنًى فَكَانَ هَذَا بَيَانًا مُغَايِرًا لِظَاهِرِ كَلَامِهِ إلَى مَا هُوَ مُحْتَمَلٌ فَيَصِحُّ مَوْصُولًا ، وَإِذَا صَحَّ فَلَا شَيْءَ لِلشَّرِيكِ مِنْهَا لِأَنَّهُ بِقَبْضِ الرَّصَاصِ لَا يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا شَيْئًا مِنْ حُقُوقِهِ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِلْآخَرِ حَقُّ الْمُشَارَكَةِ مَعَهُ فِيمَا يَقْبِضُ مِنْ حَقِّهِ .
وَإِنْ قَالَ قَبَضْتُ مِنْ مَالِي وَلِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ خَمْسُمِائَةٍ ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ هِيَ زُيُوفٌ لَمْ يُصَدَّقْ لِإِقْرَارِهِ بِأَنَّ الْمَقْبُوضَ مِمَّا لَهُ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ جِيَادٌ فَلَا يُصَدَّقُ فِي حَقِّ الشَّرِيكِ مَفْصُولًا كَمَا لَا يُصَدَّقُ فِي حَقِّ الْمَطْلُوبِ فَلِهَذَا كَانَ لِلشَّرِيكِ نِصْفُهَا جِيَادًا .
وَإِذَا أَقَرَّ الطَّالِبُ أَنَّهُ قَبَضَ مِنْ الْمَطْلُوبِ كُرَّ حِنْطَةٍ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ شَيْئًا مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ هُوَ رَدِيءٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ الرَّدَاءَةَ فِي الْحِنْطَةِ بَيَانٌ لِلنَّوْعِ لَا بَيَانٌ لِلْعَيْبِ فَإِنَّ الْعَيْبَ لَا يَخْلُو عَنْهُ أَصْلُ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ وَفِي بَيَانِ نَوْعِ الْمَقْبُوضِ الْقَوْلُ قَوْلُ الْقَابِضِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ الْفُصُولِ فِيمَا سَبَقَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ الْوَكَالَةِ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إمْلَاءً : اعْلَمْ أَنَّ الْوَكَالَةَ فِي اللُّغَةِ عِبَارَةٌ عَنْ الْحِفْظِ ، وَمِنْهُ الْوَكِيلُ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى الْحَفِيظِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } وَلِهَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - فِيمَنْ قَالَ لِآخَرَ : " وَكَّلْتُك بِمَالِي " : إنَّهُ يَمْلِكُ بِهَذَا اللَّفْظِ الْحِفْظَ فَقَطْ ، وَقِيلَ مَعْنَى الْوَكَالَةِ : التَّفْوِيضُ وَالتَّسْلِيمُ ، وَمِنْهُ التَّوَكُّلُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا } ، يَعْنِي فَوَّضْنَا إلَيْهِ أُمُورَنَا وَسَلَّمْنَا ، فَالتَّوْكِيلُ تَفْوِيضُ التَّصَرُّفِ إلَى الْغَيْرِ وَتَسْلِيمُ الْمَالِ إلَيْهِ لِيَتَصَرَّفَ فِيهِ ، ثُمَّ لِلنَّاسِ إلَى هَذَا الْعَقْدِ حَاجَةٌ مَاسَّةٌ .
فَقَدْ يَعْجِزُ الْإِنْسَانُ عَنْ حِفْظِ مَالِهِ عِنْدَ خُرُوجِهِ لِلسَّفَرِ ، وَقَدْ يَعْجِزُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ لِقِلَّةِ هِدَايَتِهِ وَكَثْرَةِ اشْتِغَالِهِ ، أَوْ لِكَثْرَةِ مَالِهِ ، فَيَحْتَاجُ إلَى تَفْوِيضِ التَّصَرُّفِ إلَى الْغَيْرِ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ ، وَقَدْ عُرِفَ جَوَازُ هَذَا الْعَقْدِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إلَى الْمَدِينَةِ } وَهَذَا كَانَ تَوْكِيلًا ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ وَكَّلَ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِشِرَاءِ الْأُضْحِيَّةِ ، وَبِهِ وَكَّلَ عُرْوَةَ الْبَارِقِيَّ فَلَمَّا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا أَعْطَاهُ عَلَامَةً ، وَقَالَ : ائْتِ وَكِيلِي بِخَيْبَرَ لِيُعْطِيَكَ مَا سَأَلْتنِي بِهَذِهِ الْعَلَامَةِ } وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ : الْحَدِيثُ الَّذِي بَدَأَ بِهِ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْكِتَابَ وَرَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - عَنْ سَالِمٍ
عَنْ الشَّعْبِيِّ { عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلَاثًا ثُمَّ خَرَجَ إلَى الْيَمَنِ فَوَكَّلَ أَخَاهُ بِنَفَقَتِي فَخَاصَمْتُهُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَجْعَلْ لِي نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى } فَفِي هَذَا جَوَازُ التَّوْكِيلِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَبِظَاهِرِ الْحَدِيثِ يَسْتَدِلُّ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَيَقُولُ : " لَيْسَ لِلْمَبْتُوتَةِ نَفَقَةٌ وَلَا سُكْنَى " .
وَلَكِنَّا نَقُولُ إنْ صَحَّ الْحَدِيثُ فَلَهُ تَأْوِيلَانِ : أَحَدُهُمَا - أَنَّهَا كَانَتْ بَذِيئَةَ اللِّسَانِ بَذِيَّةً عَلَى أَحْمَاءِ زَوْجِهَا فَأَخْرَجُوهَا ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ أُمِّ مَكْتُومٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَسْكِينًا لِلْفِتْنَةِ ، فَظَنَّتْ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى ، الثَّانِي - أَنَّهُ وَكَّلَ أَخَاهُ بِأَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا خُبْزَ الشَّعِيرِ وَلَمْ يَكُنْ الزَّوْجُ حَاضِرًا لِيَقْضِيَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ آخَرَ ، فَلِهَذَا قَالَتْ : " وَلَمْ يَجْعَلْ لِي نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى " .
وَذُكِرَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كَانَ عَلِيٌّ - كَرَّمَ اللَّهُ - وَجْهَهُ لَا يَحْضُرُ خُصُومَةً أَبَدًا وَكَانَ يَقُولُ : " إنَّ الشَّيْطَانَ لَيَحْضُرُهَا وَإِنَّ لَهَا قُحَمًا " الْحَدِيثُ .
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ الْخُصُومَةِ وَاجِبٌ مَا أَمْكَنَ لِمَا أَشَارَ إلَيْهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَوْضِعٌ لِحَضْرَةِ الشَّيْطَانِ ، وَأَنَّ لِلْخُصُومَةِ قُحَمًا أَيْ مَهَالِكَ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَفَى بِالْمَرْءِ إثْمًا أَنْ لَا يَزَالَ مُخَاصِمًا ، قَالَ : وَكَانَ إذَا خُوصِمَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِهِ وَكَّلَ عَقِيلًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ } ، وَفِيهِ جَوَازُ التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ ، وَبِظَاهِرِهِ يَسْتَدِلُّ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فِي جَوَازِ التَّوْكِيلِ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ ؛ لِأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَطْلُبْ رِضَا خُصُومِهِ ، وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ خُصُومَهُ كَانُوا يَرْضَوْنَ بِتَوْكِيلِهِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَهْدَى إلَى طُرُقِ الْخُصُومَةِ مِنْ غَيْرِهِ لِوُفُورِ عِلْمِهِ ، وَإِنَّمَا كَانَ يَخْتَارُ عَقِيلًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ ذَكِيًّا حَاضِرَ الْجَوَابِ ، حَتَّى حُكِيَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَقْبَلَهُ يَوْمًا وَمَعَهُ عَنْزٌ لَهُ ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى سَبِيلِ الدُّعَابَةِ : أَحَدُ الثَّلَاثَةِ أَحْمَقُ ، فَقَالَ عَقِيلٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَّا أَنَا وَعَنْزِي فَعَاقِلَانِ ، قَالَ فَلَمَّا كَبِرَ سِنُّ عَقِيلٍ وَكَّلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ ، إمَّا أَنَّهُ وَقَّرَهُ لِكِبَرِهِ ، أَوْ لِأَنَّهُ انْتَقَصَ ذِهْنُهُ فَكَانَ يُوَكِّلُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَكَانَ ذَكِيًّا شَابًّا ، وَقَالَ : " هُوَ وَكِيلِي فَمَا قُضِيَ عَلَيْهِ فَهُوَ عَلَيَّ ، وَمَا قُضِيَ لَهُ فَهُوَ لِي " .
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَكِيلَ يَقُومُ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ ، وَأَنَّ الْقَضَاءَ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْقَضَاءِ عَلَى الْمُوَكِّلِ ، قَالَ فَخَاصَمَنِي طَلْحَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي
ضَفِيرٍ أَحْدَثَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْنَ أَرْضِ طَلْحَةَ وَأَرْضِ نَفْسِهِ ، وَالضَّفِيرُ : الْمُسَنَّاةُ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَخْتَصِمُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ ، وَلَا نَظُنُّ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ سِوَى الْجَمِيلِ ، لَكِنْ كَانَ يُسْتَبْهَمُ عَلَيْهِمْ الْحُكْمُ فَيَخْتَصِمُونَ إلَى الْحَاكِمِ لِيُبَيِّنَهُ لَهُمْ ، وَلِهَذَا كَانُوا يُسَمُّونَ الْحَاكِمَ فِيهِمْ : الْمُفْتِيَ ، فَوَقَعَ عِنْدَ طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ عَلِيًّا - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - أَضَرَّ بِهِ وَحَمَلَ عَلَيْهِ السَّيْلَ ، وَلَمْ يَرَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ ضَرَرًا حِينَ أَحْدَثَهُ ، قَالَ : فَوَعَدَنَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَرْكَبَ مَعَنَا فَيَنْظُرَ إلَيْهِ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِيمَا تَفَاقَمَ مِنْ الْأَمْرِ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُبَاشِرَهُ بِنَفْسِهِ ، وَأَنْ يَرْكَبَ إنْ احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ ، فَقَالَ : وَاَللَّهِ إنِّي وَطَلْحَةَ نَخْتَصِمُ فِي الْمَوَاكِبِ ، وَإِنَّ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى بَغْلَةٍ شَهْبَاءَ أَمَامَ الْمَوْكِبِ قَدْ قَدِمَ قَبْلَ ذَلِكَ وَافِدًا ، فَأَلْقَى كَلِمَةً عَرَفْتُ أَنَّهُ أَعَانَنِي بِهَا ، قَالَ : أَرَأَيْتُ هَذَا الضَّفِيرَ كَانَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؟ ، قَالَ : قُلْت نَعَمْ ، قَالَ : لَوْ كَانَ جَوْرًا مَا تَرَكَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَفِي هَذَا بَيَانٌ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ ، سِوَى الْجَمِيلِ إلَى أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنَهُمَا ، فَوَقَعَ مَا وَقَعَ ، قَالَ : فَسَارَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى رَأَى الضَّفِيرَ فَقَالَ : مَا أَرَى ضَرَرًا ، وَقَدْ كَانَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَوْ كَانَ جَوْرًا لَمْ يَدَعْهُ ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ مَعْرُوفًا بِالْعَدْلِ وَدَفْعِ الظُّلْمِ ، عَلَى مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيْنَمَا دَارَ عُمَرُ فَالْحَقُّ مَعَهُ } ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَا وُجِدَ قَدِيمًا يُتْرَكُ كَذَلِكَ وَلَا
يُغَيَّرُ إلَّا بِحُجَّةٍ ، فَإِنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَرَكَ الضَّفِيرَ عَلَى حَالِهِ بِسَبَبِ أَنَّهُ كَانَ قَدِيمًا ، وَذُكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُجِيزُ بَيْعَ كُلِّ مُجِيزٍ ، الْوَصِيِّ وَالْوَكِيلِ ، وَالْمُجِيزُ : مَا يَتِمُّ الْعَقْدُ بِإِجَازَتِهِ ، وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْعُقُودَ تَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِجَازَةِ ، وَأَنَّ مَنْ يَمْلِكُ إنْشَاءَ الْعَقْدِ يَمْلِكُ إجَازَتَهُ ، وَصِيًّا كَانَ ، أَوْ وَكِيلًا ، أَوْ مَالِكًا ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ أَنْ يَكُونَ تَمَامُ الْعَقْدِ بِرَأْيِهِ ، وَذَلِكَ مَا حَصَلَ بِإِجَازَتِهِ ، وَذُكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ : " مَنْ اشْتَرَطَ الْخَلَاصَ فَهُوَ أَحْمَقُ ، سَلَّمَ مَا بِعْتَ ، أَوْ ذَرَّ مَا أَخَذْتَ وَلَا خَلَاصَ " وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ إبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ مَنْ بَاعَ عَبْدًا يُؤَاخَذُ بِخَلَاصِهِ ، يَعْنِي : إذَا شُرِطَ .
( وَهَذِهِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ ) الْأَوَّلُ - اشْتِرَاطُ الدَّرَكِ ، وَتَفْسِيرُهُ : رَدُّ الْيَمِينِ لِاسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ ، وَهُوَ شَرْطٌ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ يُلَائِمُ مُوجَبَ الْعَقْدِ ، وَهُوَ ثَابِتٌ بِدُونِ الشَّرْطِ ، فَلَا يَزِيدُهُ الشَّرْطُ إلَّا وَكَادَةً ، وَالثَّانِي - شَرْطُ الْعُهْدَةِ وَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ ضَمَانِ الدَّرَكِ عِنْدَهُمَا ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُوَ بَاطِلٌ ، وَتَفْسِيرُهُ : الصَّكُّ الْأَصْلِيُّ الَّذِي كَانَ عِنْدَ الْبَائِعِ يَشْتَرِطُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَيْهِ ، وَهَذَا شَرْطٌ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، وَلَا يَقْتَضِيه الْعَقْدُ فَكَانَ بَاطِلًا ، وَالثَّالِثُ - شَرْطُ الْخَلَاصِ ، وَتَفْسِيرُهُ : أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْبَائِعِ أَنَّ الْمَبِيعَ إذَا اُسْتُحِقَّ مِنْ يَدِهِ يُخَلِّصْهُ حَتَّى يُسَلِّمَهُ إلَيْهِ بِأَيِّ طَرِيقٍ يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، وَهَذَا بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ ، فَالْمُسْتَحِقُّ رُبَّمَا لَا يُسَاعِدُهُ عَلَيْهِ ،
وَلِهَذَا يَنْسِبُهُ شُرَيْحٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلَى الْحَمَاقَةِ ، حَيْثُ الْتَزَمَ مَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ الْوَفَاءُ بِهِ ، وَإِذَا وَكَّلَ الرَّجُلُ بِالْخُصُومَةِ فِي شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْمُبَاشَرَةَ بِنَفْسِهِ ، فَيَمْلِكُ هُوَ صَكَّهُ إلَى غَيْرِهِ لِيَقُومَ فِيهِ مَقَامَهُ ، وَقَدْ يُحْتَاجُ لِذَلِكَ ، إمَّا لِقِلَّةِ هِدَايَتِهِ ، أَوْ لِصِيَانَةِ نَفْسِهِ عَنْ الِابْتِذَالِ فِي مَجْلِسِ الْخُصُومَةِ ، وَقَدْ جَرَى الرَّسْمُ عَلَى التَّوْكِيلِ عَلَى أَبْوَابِ الْقُضَاةِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا ، مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ مُنْكِرٍ ، وَلَا زَجْرِ زَاجِرٍ
، فَإِنْ أَقَرَّ الْوَكِيلُ عَلَى الَّذِي وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ مُطْلَقًا فِي الْقِيَاسِ ، لَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ ، سَوَاءٌ كَانَ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي ، أَوْ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ ، وَقَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَالَ يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي ، وَفِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي إقْرَارُهُ بَاطِلٌ ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ ، وَالْخُصُومَةُ اسْمٌ لِكَلَامٍ يَجْرِي بَيْنَ اثْنَيْنِ عَلَى سَبِيلِ الْمُنَازَعَةِ وَالْمُشَاحَّةِ ، وَالْإِقْرَارُ اسْمٌ لِكَلَامٍ يَجْرِي عَلَى سَبِيلِ الْمُسَالَمَةِ وَالْمُوَافَقَةِ ، وَكَانَ ضِدَّ مَا أُمِرَ بِهِ ، وَالتَّوْكِيلُ بِالشَّيْءِ لَا يَتَضَمَّنُ ضِدَّهُ ، وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ الْهِبَةَ وَالْبَيْعَ أَوْ الصُّلْحَ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ : بُطْلَانُ إقْرَارِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ عَلَى الصَّبِيِّ مَعَ أَنَّ وِلَايَتَهُمَا أَعَمُّ مِنْ وِلَايَةِ الْوَكِيلِ .
وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ : " الْمُوَكِّلُ أَقَامَ الْوَكِيلَ مَقَامَ نَفْسِهِ مُطْلَقًا فَيَقْتَضِي أَنْ يَمْلِكَ مَا كَانَ الْمُوَكِّلُ مَالِكًا لَهُ ، وَالْمُوَكِّلُ مَالِكٌ لِلْإِقْرَارِ بِنَفْسِهِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَفِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ ، فَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ مَا لَا يَكُونُ مُوجَبًا إلَّا بِانْضِمَامِ الْقَضَاءِ إلَيْهِ كَالْبَيِّنَةِ وَالْيَمِينِ ، فَأَمَّا الْإِقْرَارُ فَهُوَ مُوجِبٌ لِلْحَقِّ بِنَفْسِهِ ، سَوَاءٌ حَصَلَ مِنْ الْوَكِيلِ أَوْ مِنْ الْمُوَكِّلِ ، فَمَجْلِسُ الْقَضَاءِ فِيهِ وَغَيْرُ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ سَوَاءٌ .
" وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - قَالَا : حَقِيقَةُ الْخُصُومَةِ مَا قَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَكِنَّا تَرَكْنَا هَذِهِ الْحَقِيقَةَ وَجَعَلْنَا هَذَا تَوْكِيلًا مَجَازًا بِالْجَوَابِ ، وَالْإِقْرَارُ جَوَابٌ تَامٌّ وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا الْمَجَازِ ؛ لِأَنَّ تَوْكِيلَهُ إنَّمَا يَصِحُّ شَرْعًا بِمَا يَمْلِكُهُ
الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ ، وَاَلَّذِي يَتَيَقَّنُ بِهِ أَنَّهُ مُمَلَّكٌ لِلْمُوَكِّلِ الْجَوَابُ لَا الْإِنْكَارُ ، فَإِنَّهُ إذَا عُرِفَ الْمُدَّعِي مُحِقًّا لَا يَمْلِكُ الْإِنْكَارَ شَرْعًا ، وَتَوْكِيلُهُ فِيمَا لَا يَمْلِكُ لَا يَجُوزُ شَرْعًا ، وَالدِّيَانَةُ تَمْنَعُهُ مِنْ قَصْدِ ذَلِكَ ، فَلِهَذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمَجَازِ كَالْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ اثْنَيْنِ ، يَبِيعُ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ فَيَنْصَرِفُ بَيْعُهُ إلَى نَصِيبِهِ مُطْلَقًا لِيُصَحِّحَ عُقْدَةَ هَذَا الطَّرِيقِ ، غَيْرَ أَنَّهُ إنَّمَا سَمَّى الْجَوَابَ خُصُومَةً مَجَازًا ، إذَا حَصَلَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَرَتَّبَ عَلَى خُصُومَةِ الْآخَرِ إيَّاهُ سُمِّيَ بِاسْمِهِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } ، وَالْمُجَازَاةُ لَا تَكُونُ سَيِّئَةً حَقِيقَةً ؛ وَلِأَنَّ مَجْلِسَ الْحُكْمِ الْخُصُومَةُ ، فَمَا يَجْرِي فِيهِ يُسَمَّى خُصُومَةً مَجَازًا ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ ؛ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا اسْتَعَانَ بِالْوَكِيلِ فِيمَا يَعْجِزُ عَنْ مُبَاشَرَتِهِ بِنَفْسِهِ - وَذَلِكَ فِيمَا يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ وَالْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ الْجَوَابُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ بِخِلَافِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ - فَإِنَّ تَصَرُّفَهُمَا مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ الْأَنْظَرِ وَالْأَصْلَحِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { قُلْ إصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ } وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ : { وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } ، وَذَلِكَ لَا يَظْهَرُ بِالْإِقْرَارِ ، فَلِهَذَا لَا يَمْلِكُهُ ، وَإِنْ وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ غَيْرُ جَائِزٍ الْإِقْرَارُ عَلَيْهِ ، صَحَّ الِاسْتِثْنَاءُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ بِاعْتِبَارِ قِيَامِ الْوَكِيلِ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ ، وَهَذَا حُكْمُ الْوَكَالَةِ فَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ .
كَمَا لَوْ وَكَّلَ بِالْبَيْعِ عَلَى أَنْ لَا يَقْبِضَ الْوَكِيلُ الثَّمَنَ ، أَوْ لَا يُسَلِّمَ الْمَبِيعَ ، كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلًا ، فَأَمَّا فِي
ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَالِاسْتِثْنَاءُ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِ الْوَكِيلِ - بِاعْتِبَارِ تَرْكِ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ إلَى نَوْعٍ مِنْ الْمَجَازِ - فَهُوَ بِهَذَا الِاسْتِثْنَاءِ يُبَيِّنُ أَنَّ مُرَادَهُ حَقِيقَةُ الْخُصُومَةِ ، لَا الْجَوَابُ الَّذِي هُوَ مَجَازٌ ، بِمَنْزِلَةِ بَيْعِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ نِصْفَ الْعَبْدِ شَائِعًا مِنْ النَّصِيبَيْنِ أَنَّهُ لَا يَنْصَرِفُ إلَى نَصِيبِهِ ، خَاصَّةً عِنْدَ التَّنْصِيصِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَطْلَقَ ، وَالثَّانِي أَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِهِ وَإِنْكَارِهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لِعُمُومِ الْمَجَازِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ جَوَابٌ ، وَلِاعْتِبَارِ الْمُنَاظَرَةِ فِي الْمُعَامَلَاتِ بِالْمُنَاظَرَةِ فِي الدِّيَانَاتِ مُنِعَ مَوْضِعُهُ ، فَإِذَا اُسْتُثْنِيَ الْإِقْرَارُ كَانَ هَذَا اسْتِثْنَاءً لِبَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ مُطْلَقُ الْكَلَامِ ، أَوْ هُوَ بَيَانٌ مُغَايِرٌ لِمُقْتَضَى مُطْلَقِ الْكَلَامِ فَيَكُونُ صَحِيحًا ، كَمَنْ حَلَفَ لَا يَضَعُ قَدَمَهُ فِي دَارِ فُلَانٍ فَدَخَلَهَا مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا حَنِثَ لِعُمُومِ الْمَجَازِ ، فَإِنْ قَالَ فِي يَمِينِهِ مَاشِيًا فَدَخَلَهَا رَاكِبًا لَمْ يَحْنَثْ لِمَا قُلْنَا ، وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ إنَّمَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ الْإِقْرَارَ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا عَنْ الْوَكَالَةِ ، وَعَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ مَوْصُولًا وَمَفْصُولًا ، قَالُوا وَكَذَلِكَ لَوْ اُسْتُثْنِيَ الْإِنْكَارُ صَحَّ ذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهَذَا لِأَنَّ إنْكَارَ الْوَكِيلِ قَدْ يَضُرُّ الْمُوَكِّلَ ، بِأَنْ كَانَ الْمُدَّعَى وَدِيعَةً أَوْ بِضَاعَةً فَأَنْكَرَ الْوَكِيلُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ دَعْوَى الرَّدِّ وَالْهَلَاكِ بَعْدَ صِحَّةِ الْإِنْكَارِ ، وَيَسْمَعُ مِنْهُ ذَلِكَ قَبْلَ الْإِنْكَارِ ، فَإِذَا كَانَ إنْكَارُهُ قَدْ يَضُرُّ الْمُوَكِّلَ صَحَّ اسْتِثْنَاؤُهُ الْإِقْرَارَ ، ثُمَّ إذَا أَقَرَّ الْوَكِيلُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَاضِي فَلَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ عِنْدَهُمَا ، كَانَ خَارِجًا مِنْ الْوَكَالَةِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُنَاقَضًا فِي
كَلَامِهِ ، وَالْمُنَاقَضُ لَا دَعْوَى لَهُ فَيُسْتَبْدَلُ بِهِ ، كَالْأَبِ وَالْوَصِيِّ إذَا لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُمَا عَلَى الصَّبِيِّ لَا يَمْلِكَانِ الْخُصُومَةَ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَإِذَا وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ فِي دَارٍ يَدَّعِي فِيهَا دَعْوَى ، ثُمَّ عَزَلَهُ عَنْهَا ، ثُمَّ شَهِدَ لَهُ الْوَكِيلُ بِهَا ، فَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ قَدْ خَاصَمَ إلَى الْقَاضِي جَازَتْ شَهَادَتُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَلَمْ تَجُزْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِتَعْيِينِهِ لِلتَّوْكِيلِ صَارَ خَصْمًا قَائِمًا مَقَامَ الْمُوَكِّلِ ، وَلِهَذَا جَازَ إقْرَارُهُ فَيَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا بِنَفْسِ التَّوْكِيلِ ، وَعِنْدَهُمَا إنَّمَا يَصِيرُ خَصْمًا فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي ، فَكَذَلِكَ إنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا إذَا خَاصَمَ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي لَا قَبْلَ ذَلِكَ .
وَإِذَا وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ فَلَهُ أَنْ يَعْزِلَهُ مَتَى شَاءَ ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْوَكَالَةِ لِحَاجَةِ الْمُوَكِّلِ إلَيْهِ وَلِمَا لَهُ فِيهَا مِنْ الْمَنْفَعَةِ ، وَذَلِكَ فِي جَوَازِهَا دُونَ لُزُومِهَا ، وَلِأَنَّ الْوَكِيلَ مُعِيرُهُ مَنَافِعَهُ ، وَالْإِعَارَةُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ إلَّا فِي خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ - وَهِيَ أَنْ يَكُونَ الْخَصْمُ قَدْ أَخَذَهُ حَتَّى جَعَلَهُ وَكِيلًا فِي الْخُصُومَةِ - فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْهَا إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهَذِهِ الْوَكَالَةِ حَقُّ الْخَصْمِ ، فَإِنَّهُ إنَّمَا خَلَّى سَبِيلَهُ اعْتِمَادًا عَلَى أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إثْبَاتِ حَقِّهِ عَلَى الْوَكِيلِ مَتَى شَاءَ ، فَلَوْ جَوَّزْنَا عَزْلَهُ بِدُونِ مَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ ؛ بِأَنْ يَعْزِلَ الْمُوَكِّلُ وَكِيلَهُ وَيُخْفِي شَخْصَهُ فَلَا يَتَوَصَّلُ الْخَصْمُ إلَى إثْبَاتِ حَقِّهِ ، فَلِمُرَاعَاةِ حَقِّ الْخَصْمِ قُلْنَا : " لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ عَزْلِ الْوَكِيلِ ، كَالْعَزْلِ فِي بَابِ الرَّهْنِ إذَا كَانَ مُسَلَّطًا عَلَى بَيْعِهِ لَا يَمْلِكُ الرَّاهِنُ عَزْلَهُ لِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ " .
وَعَلَى هَذَا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - : " إذَا وَكَّلَ الزَّوْجُ وَكِيلًا بِطَلَاقِ امْرَأَتِهِ بِالْتِمَاسِهَا ثُمَّ سَافَرَ لَا يَمْلِكُ عَزْلَ الْوَكِيلِ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْهَا " وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ هُنَاكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْمَرْأَةِ فِي سُؤَالِ الطَّلَاقِ ، وَالتَّوْكِيلُ عِنْدَ سَفَرِ الزَّوْجِ ، وَهُنَا لِلْخَصْمِ حَقٌّ أَنْ يَمْنَعَ خَصْمَهُ مِنْ أَنْ يُسَافِرَ وَأَنْ يُلَازِمَهُ لِيَثْبُتَ حَقُّهُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ إنَّمَا تَرَكَ ذَلِكَ بِتَوْكِيلِهِ وَعَلَى هَذَا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إذَا قَالَ الزَّوْجُ لِلْوَكِيلِ بِالطَّلَاقِ " كُلَّمَا عَزَلْتُك فَأَنْتَ وَكِيلٌ " لَا يَمْلِكُ عَزْلَهُ ؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا عَزَلَهُ تَجَدَّدَتْ وَكَالَتُهُ ، فَإِنَّ تَعْلِيقَ الْوَكَالَةِ بِالشَّرْطِ صَحِيحٌ ، وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ يَمْلِكُ عَزْلَهُ بِأَنْ يَقُولَ " عَزَلْتُك عَنْ جَمِيعِ الْوَكَالَاتِ " فَيَنْصَرِفُ ذَلِكَ إلَى الْمُعَلَّقِ وَالْمُنَفَّذِ ؛ لِأَنَّا لَوْ لَمْ نُجِزْ ذَلِكَ أَدَّى إلَى تَغْيِيرِ حُكْمِ الشَّرْعِ بِجَعْلِ الْوَكَالَةِ مِنْ اللَّوَازِمِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ .
وَإِذَا وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ وَهُوَ مُقِيمٌ بِالْبَلَدِ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ ، إلَّا بِرِضًا مِنْ خَصْمِهِ أَوْ يَكُونُ مَرِيضًا أَوْ غَائِبًا مَسِيرَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَالرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَالثَّيِّبُ وَالْبِكْرُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - ، وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ " لِلْبِكْرِ أَنْ تُوَكِّلَ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ " ، وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ أَوَّلًا : " لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُوَكِّلَ بِذَلِكَ بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا إذَا لَمْ يَكُنْ مُرُوءَةٌ " ، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - : " الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ ، لَهُمْ التَّوْكِيلُ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ " وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ : أَنَّ التَّوْكِيلَ حَصَلَ بِمَا هُوَ مِنْ خَالِصِ حَقِّ الْمُوَكِّلِ ، فَيَكُونُ صَحِيحًا بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ ، كَالتَّوْكِيلِ بِالْقَبْضِ وَالْإِيفَاءِ وَالتَّقَاضِي ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِالْجَوَابِ الَّذِي هُوَ إنْكَارٌ ، وَمَنْ أَفْسَدَ هَذَا التَّوْكِيلَ إنَّمَا يُفْسِدُهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ، فَإِنَّ التَّوْكِيلَ بِالْإِقْرَارِ صَحِيحٌ ، وَالْإِنْكَارُ خَالِصُ حَقِّ الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ بِهِ الْخَصْمَ عَنْ نَفْسِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِمَا هُوَ مِنْ خَالِصِ حَقِّهِ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ : " هُوَ بِهَذَا التَّوْكِيلِ قَصَدَ الْإِضْرَارَ بِخَصْمِهِ فِيمَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فَلَا يَمْلِكُهُ إلَّا بِرِضَاهُ كَالْحَوَالَةِ بِالدَّيْنِ " وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْحُضُورَ وَالْجَوَابَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْطَعُهُ عَنْ أَشْغَالِهِ وَيُحْضِرُهُ لِيُجِيبَ خَصْمُهُ ، وَإِنَّمَا يُحْضِرُهُ لِإِيفَاءِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ ، وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي هَذَا الْجَوَابِ ، فَرُبَّ إنْكَارٍ يَكُونُ أَشَدَّ دَفْعًا لِلْمُدَّعِي مِنْ إنْكَارٍ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُوَكِّلَ إنَّمَا يَطْلُبُ مِنْ الْوَكِيلِ ، وَذَلِكَ الْأَشَدُّ الَّذِي لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ لَوْ أَجَابَ
الْخَصْمُ بِنَفْسِهِ وَفِيهِ إضْرَارٌ بِالْخَصْمِ ، إلَّا أَنَّ أَبَا يُوسُفَ وَمُحَمَّدًا - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - قَالَا : ذَلِكَ حَقُّ الْمُوَكِّلِ لَوْ أَتَى بِهِ بِنَفْسِهِ كَانَ مَقْبُولًا مِنْهُ ، وَصِحَّةُ التَّوْكِيلِ بِاعْتِبَارِ مَا هُوَ حَقٌّ لِلْمُوَكِّلِ دُونَ مَا لَيْسَ الْأَشَدَّ لِحَقٍّ لَهُ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى .
أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَنَى عَلَى الْعُرْفِ الظَّاهِرِ هُنَا ، وَقَالَ : النَّاسُ إنَّمَا يَقْصِدُونَ بِهَذَا التَّوْكِيلِ أَنْ يَشْتَغِلَ الْوَكِيلُ بِالْحِيَلِ الْأَبَاطِيلِ ، لِيَدْفَعَ حَقَّ الْخَصْمِ عَنْ الْمُوَكِّلِ ، وَأَكْثَرُ مَا فِي الْبَابِ أَنْ يَكُونَ تَوْكِيلُهُ بِمَا هُوَ مِنْ خَالِصِ حَقِّهِ ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ يَتَّصِلُ بِهِ ضَرَرٌ بِالْغَيْرِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا لَا يَمْلِكُ بِدُونِ رِضَاهُ - كَمَنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِرُكُوبِهِ أَوْ ثَوْبًا لِلُبْسِهِ - لَا يَمْلِكُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ مِنْ غَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِهِ ، وَهِيَ الْمَنْفَعَةُ وَلَكِنْ يَتَّصِلُ بِهِ ضَرَرٌ بِمِلْكِ الْغَيْرِ وَهُوَ الْعَيْنُ ، لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي اللُّبْسِ وَالرُّكُوبِ ، فَكَذَلِكَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فِي الْعَبْدِ إذَا كَاتَبَهُ كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَفْسَخَ ، وَإِنْ حَصَلَ تَصَرُّفُ الْمُكَاتَبِ فِي مِلْكِهِ لَا ضَرَرَ يَتَّصِلُ بِالشَّرِيكِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ التَّوْكِيلِ بِالْقَبْضِ وَالْإِيفَاءِ ، فَإِنَّ الْحَقَّ مَعْلُومٌ بِصِفَتِهِ ، فَلَا يَتَّصِلُ بِهَذَا التَّوْكِيلِ ضَرَرٌ بِالْآخَرِ ، وَكَذَلِكَ التَّقَاضِي لَهُ حَدٌّ مَعْلُومٌ مُنِعَ الْوَكِيلُ مِنْ مُجَاوَزَةِ ذَلِكَ الْحَدِّ ، لِئَلَّا يَتَضَرَّرَ بِهِ الْخَصْمُ ، فَأَمَّا الْخُصُومَةُ فَلَيْسَ لَهَا حَدٌّ مَعْلُومٌ يُعْرَفُ حَتَّى إذَا جَاوَزَهُ مُنِعَ مِنْهُ فَلِهَذَا شَرَطْنَا رِضَا الْخَصْمِ ، وَهَذَا الشَّرْطُ لَيْسَ مُؤَثِّرًا فِي صِحَّةِ الْوَكَالَةِ ، فَالتَّوْكِيلُ صَحِيحٌ وَلَكِنَّ الْكَلَامَ فِي إسْقَاطِ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ بِجَوَابِ الْمُوَكِّلِ ، وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ رِضَا الْخَصْمِ فِي التَّوْكِيلِ عِنْدَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ أَوْ مَرَضِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ
لِلْخَصْمِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِإِحْضَارِ الْمُوَكِّلِ فَلَا يَكُونُ فِي التَّوْكِيلِ إسْقَاطُ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ ، وَهُوَ نَظِيرُ شَهَادَةِ الْفُرُوعِ عَلَى شَهَادَةِ الْأُصُولِ ، فَإِنَّهَا تَصِحُّ عِنْد مَرَضِ الْأُصُولِ وَغَيْبَتِهِمْ مُدَّةَ السَّفَرِ ، وَلَا تَصِحُّ عِنْدَ حُضُورِهِمْ لِاسْتِحْقَاقِ الْحُضُورِ بِأَنْفُسِهِمْ لِلْأَدَاءِ فِي هَذِهِ الْحَالِ ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ يَقُولُ : " الْمَقْصُودُ بِإِحْضَارِ الْبِكْرِ لَا يَحْصُلُ لِأَنَّهَا تَسْتَحِي فَتَسْكُتُ ، وَالشَّرْعُ مَكَّنَهَا مِنْ ذَلِكَ فَجَازَ لَهَا أَنْ تُوَكِّلَ بِغَيْرِ رِضَا الْخَصْمِ " ، وَهَكَذَا يَقُولُ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي لَيْسَتْ مُعْتَادَةَ مُخَالَطَةِ الرِّجَالِ ، فَإِنَّهَا لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ إذَا حَضَرَتْ مَجْلِسَ الْحُكْمِ ، فَإِنَّ حِشْمَةَ الْقَضَاءِ تَمْنَعُهَا مِنْ ذَلِكَ ، وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ بِحُضُورِهَا جَازَ لَهَا أَنْ تُوَكِّلَ ، وَاَلَّذِي نَخْتَارُهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْجَوَابِ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا عَلِمَ مِنْ الْمُدَّعِي التَّعَنُّتَ فِي إبَاءِ الْوَكِيلِ ، لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ ذَلِكَ وَيَقْبَلُ التَّوْكِيلَ مِنْ الْخَصْمِ ، وَإِذَا عَلِمَ مِنْ الْمُوَكِّلِ الْقَصْدَ إلَى الْإِضْرَارِ بِالْمُدَّعِي فِي التَّوْكِيلِ ، لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْهُ إلَّا بِرِضَا الْخَصْمِ ، فَيَصِيرُ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ .
وَإِذَا وَكَّلَتْ امْرَأَةٌ رَجُلًا ، أَوْ رَجُلٌ امْرَأَةً ، أَوْ مُسْلِمٌ ذِمِّيًّا ، أَوْ ذِمِّيٌّ مُسْلِمًا ، أَوْ حُرٌّ عَبْدًا أَوْ مُكَاتَبًا لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ ، فَذَلِكَ كُلُّهُ جَائِزٌ لِعُمُومِ الْحَاجَةِ إلَى الْوَكَالَةِ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ .
قَالَ وَالْوَكَالَةُ فِي كُلِّ خُصُومَةٍ جَائِزَةٌ ، مَا خَلَا الْحُدُودَ وَالْقِصَاصَ أَوْ سِلْعَةً تُرَدُّ مِنْ عَيْبٍ ، وَالْمُرَادُ التَّوْكِيلُ بِاسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ، فَإِنَّ التَّوْكِيلَ بِاسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ ، وَالْحُدُودُ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَلَا تُسْتَوْفَى بِمَا يَقُومُ مَقَامَ الْغَيْرِ فِي ذَلِكَ مِنْ ضَرْبٍ وَشِبْهِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تُسْتَوْفَى فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي ، وَالشَّهَادَةِ عَلَى شَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ ، وَكَذَلِكَ التَّوْكِيلُ بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لَا يَجُوزُ ، وَلَا يُسْتَوْفَى فِي حَالِ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَسْتَوْفِيهِ الْوَكِيلُ ؛ لِأَنَّهُ مَحْضُ حَقِّ الْعِبَادِ ، وَمَبْنَى حُقُوقِ الْعِبَادِ عَلَى الْحِفْظِ وَالصِّيَانَةِ عَلَيْهِمْ ، فَكَانَ لِصَاحِبِ الْقِصَاصِ أَنْ لَا يَحْضُرَ بِنَفْسِهِ وَيُوَكِّلَ بِاسْتِيفَائِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ كَسَائِرِ حُقُوقِهِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذِهِ عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، فَلَا تُسْتَوْفَى بِمَنْ يَقُومُ مَقَامَ الْغَيْرِ كَالْحُدُودِ ، وَلِهَذَا لَا تُسْتَوْفَى فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي ، وَلَا بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ ، وَتَوْضِيحُهُ أَنَّهُ لَوْ اسْتَوْفَى فِي حَالِ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ كَانَ اسْتِيفَاءً مَعَ تَمَكُّنِ شَهَادَةِ الْعَفْوِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ عَفَا بِنَفْسِهِ ، وَالْوَكِيلُ لَا يَشْعُرُ بِهِ ، وَلِهَذَا إذَا كَانَ الْمُوَكِّلُ حَاضِرًا يَجُوزُ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَتَمَكَّنُ فِيهِ شُبْهَةُ الْعَفْوِ ، وَقَدْ يَحْتَاجُ الْمُوَكِّلُ إلَى ذَلِكَ ، إمَّا لِعِلَّةِ هِدَايَتِهِ فِي الِاسْتِيفَاءِ ، أَوْ لِأَنَّ قَلْبَهُ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ ، فَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ فِي الِاسْتِيفَاءِ عِنْدَ حَضْرَتِهِ اسْتِحْسَانًا .
فَأَمَّا قَوْلُهُ أَوْ سِلْعَةً تُرَدُّ بِالْعَيْبِ ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ : أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْخُصُومَةِ فِي هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ ، بَلْ الْمُرَادُ أَنَّ الْوَكِيلَ إذَا أَثْبَتَ الْعَيْبَ فَادَّعَى الْبَائِعُ رِضَا الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ ، فَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَرُدَّهُ بِالْعَيْبِ حَتَّى يَحْضُرَ الْمُشْتَرِي فَيَحْلِفَ بِاَللَّهِ مَا رَضِيَ بِالْعَيْبِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ يَقْبِضُ الدَّيْنَ إذَا ادَّعَى الْمَطْلُوبُ أَنَّ الطَّالِبَ قَدْ اسْتَوْفَى دَيْنَهُ أَوْ أَبْرَأَ الْمَطْلُوبَ مِنْهُ ، فَإِنَّهُ يُقَالُ لَهُ : ادْفَعْ الْمَالَ إلَى الْوَكِيلِ وَأَنْتَ عَلَى خُصُومَتِك فِي اسْتِحْلَافِ الْمُوَكِّلِ إذَا حَضَرَ ، وَالْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا - أَنَّ الدَّيْنَ حَقٌّ ثَابِتٌ بِنَفْسِهِ إذْ لَيْسَ فِي دَعْوَى الِاسْتِيفَاءِ وَالْإِبْرَاءِ مَا يُنَافِي أَصْلَ حَقِّهِ ، لَكِنَّهُ يَدَّعِي إسْقَاطَهُ بَعْدَ تَقْرِيرِ السَّبَبِ الْمُوجَبِ ، فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَى الْوَكِيلِ الِاسْتِيفَاءُ مَا لَمْ يَثْبُتْ الْمُسْقَطُ ، فَأَمَّا فِي الْعَيْبِ إنْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي بِالْعَيْبِ وَقْتَ الْبَيْعِ ، يَمْنَعُ ثُبُوتَ حَقِّهِ فِي الرَّدِّ أَصْلًا ، فَالْبَائِعُ لَيْسَ يَدَّعِي مُسْقَطًا بَلْ زَعَمَ أَنَّ حَقَّهُ فِي الرَّدِّ لَمْ يَثْبُتْ أَصْلًا ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَحْضُرَ الْمُوَكِّلُ وَيَحْلِفَ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الرَّدِّ عَلَيْهِ .
وَالثَّانِي - أَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَسْخٌ لِلْعَقْدِ ، وَالْعَقْدُ إذَا انْفَسَخَ فَلَا يَعُودُ فَلَوْ أَثْبَتْنَا حَقَّ الرَّدِّ عَلَيْهِ تَضَرَّرَ الْخَصْمُ بِانْفِسَاخِ عَقْدِهِ عَلَيْهِ ، فَأَمَّا قَضَاءُ الدَّيْنِ فَلَيْسَ فِيهِ فَسْخُ عَقْدٍ ، وَإِذَا حَضَرَ الْمُوَكِّلُ فَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ تَوَصَّلَ الْمَطْلُوبُ إلَى حَقِّهِ ، فَلِهَذَا أُمِرَ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ .
وَفِي الْوَكِيلِ يَأْخُذُ الدَّارَ بِالشُّفْعَةِ إذَا ادَّعَى الْخَصْمُ أَنَّ الْمُوَكِّلَ قَدْ سَلَّمَ وَطَلَبَ يَمِينَهُ عَلَى ذَلِكَ ، فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، هَذَا وَمَسْأَلَةُ الدَّيْنِ سَوَاءٌ ، وَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَأْخُذَ بِالشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَدَّعِي مُسْقَطًا بَعْدَ تَقَرُّرِ السَّبَبِ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ هَذَا وَمَسْأَلَةَ الْعَيْبِ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ بِمَنْزِلَةِ الشِّرَاءِ ، فَكَمَا لَا يَقْضِي الْقَاضِي بِفَسْخِ الْعَقْدِ مَا لَمْ يَحْضُرْ الْمُوَكِّلُ وَيَحْلِفْ ، فَكَذَلِكَ لَا يَقْضِي بِالشُّفْعَةِ مَا لَمْ يَحْضُرْ الْمُوَكِّلُ وَيَحْلِفْ مَا سَلَّمَ بِالشُّفْعَةِ ، فَإِنْ أَرَادَ الْمَطْلُوبُ يَمِينَ الْوَكِيلِ ، فَلَيْسَ لَهُ عَلَيْهِ يَمِينٌ فِي الِاسْتِيفَاءِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ مُدَّعًى عَلَى الطَّالِبِ ، وَلَوْ اسْتَحْلَفَ الْوَكِيلَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ عَلَى سَبِيلِ النِّيَابَةِ عَنْهُ ، وَلَا نِيَابَةَ فِي الْيَمِينِ وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَهُ أَنْ يُحَلِّفَ الْوَكِيلَ بِاَللَّهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّ الطَّالِبَ اسْتَوْفَى الدَّيْنَ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ لَوْ أَقَرَّ بِاسْتِيفَاءِ الطَّالِبِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ الْمَطْلُوبَ فَإِذَا أَنْكَرَ اسْتَحْلَفَهُ عَلَيْهِ ، كَمَا يَسْتَحْلِفُ وَارِثَ الطَّالِبِ عَلَى هَذَا بَعْدَ الطَّالِبِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْوَكِيلُ نَائِبٌ وَلَا نِيَابَةَ فِي الْيَمِينِ بِخِلَافِ الْوَارِثِ فَإِنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ فِي الْحَقِّ ، فَتَصِيرُ الْيَمِينُ مُسْتَحَقَّةً عَلَى الطَّالِبِ ، إلَّا أَنَّ الِاسْتِحْلَافَ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ يَكُونُ عِلْمًا ، فَإِذَا حَضَرَ الطَّالِبُ فَاتَ الْمَطْلُوبُ ، إلَّا أَنْ يَحْلِفَ بِاَللَّهِ : لَقَدْ شَهِدَتْ شُهُودُهُ بِحَقٍّ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ ؛ لِأَنَّ صِدْقَ الشُّهُودِ شَرْعًا بِظُهُورِ عَدَالَتِهِمْ ، كَمَا أَنَّ صِدْقَ الْمُدَّعِي بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ ، فَكَمَا لَا يَحْلِفُ الْمُدَّعِي مَعَ الْبَيِّنَةِ ، فَكَذَلِكَ لَا يَحْلِفُ بَعْدَ ظُهُورِ عَدَالَةِ الشُّهُودِ الَّذِينَ شَهِدُوا بِحَقٍّ ، وَلَكِنَّهُ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا
اسْتَوْفَيْتُ دَيْنِي ، فَإِنْ حَلَفَ ثُمَّ قَبَضَ الْوَكِيلُ - وَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ - لَزِمَهُ الْمَالُ دُونَ الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّ نُكُولَهُ كَإِقْرَارِهِ أَوْ بَدَلِهِ ، فَيَنْفُذُ عَلَيْهِ دُونَ الْوَكِيلِ ، وَلَكِنْ إنْ كَانَ الْمَالُ الْمَقْبُوضُ عِنْدَ الْوَكِيلِ ، فَهُوَ حَقُّ الطَّالِبِ يَقْبِضُهُ مِنْ الْوَكِيلِ ، ثُمَّ يَدْفَعُهُ إلَى الْمَطْلُوبِ بِحُكْمِ نُكُولِهِ ، وَلَيْسَ لِلْمَطْلُوبِ أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْوَكِيلِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَامَ الْمَطْلُوبُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْقَضَاءِ ، فَإِنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ فِي حَقِّهِمَا ، فَإِنْ شَاءَ رَجَعَ بِالْمَقْبُوضِ عَلَى الْوَكِيلِ إذَا كَانَ قَائِمًا فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ قُبِضَ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْمُوَكِّلَ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ عَامِلٌ لَهُ فَعُهْدَةُ عَمَلِهِ عَلَيْهِ .
وَإِنْ قَالَ الْوَكِيلُ : قَدْ دَفَعْتُهُ إلَى الْمُوَكِّلِ أَوْ هَلَكَ مِنِّي ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَمِينًا مُسَلَّطًا عَلَى مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُوَكِّلِ ، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهُ وَإِنْ قَالَ : أَمَرَنِي فَدَفَعْتُهُ إلَى وَكِيلٍ لَهُ أَوْ غَرِيمٍ ، أَوْ وَهَبَهُ لِي أَوْ قَضَانِي مِنْ حَقٍّ كَانَ لِي عَلَيْهِ ، لَمْ يُصَدَّقْ وَضَمِنَ الْمَالَ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي تَمَلُّكَ الْمَقْبُوضِ لِنَفْسِهِ بِسَبَبٍ لَمْ يُعْرَفْ ذَلِكَ السَّبَبُ ، أَوْ يُقِرُّ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلضَّمَانِ عَلَى نَفْسِهِ بِدَفْعِهِ إلَى غَيْرِهِ ، وَادَّعَى الْأَمْرَ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الْمَالِ ، وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ إذَا أَنْكَرَهُ صَاحِبُ الْمَالِ ، فَلِهَذَا ضَمِنَ الْمَالَ .
قَالَ : وَلَا يُقْبَلُ مِنْ الْوَكِيلِ شَهَادَةٌ عَلَى الْوَكَالَةِ فِي شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا إلَّا وَمَعَهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ قَبُولِ الْبَيِّنَةِ الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارُ ، فَكَمَا أَنَّ انْعِدَامَ الدَّعْوَى يَمْنَعُ قَبُولَ الْبَيِّنَةِ ، فَكَذَلِكَ انْعِدَامُ الْإِنْكَارِ ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِنْكَارُ إلَّا مِنْ خَصْمٍ حَاضِرٍ ، وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقْبَلُ الْبَيِّنَةَ عَلَى هَذَا مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ ، وَيَقُولُ : الْوَكِيلُ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ لَا يُلْزِمُ أَحَدًا شَيْئًا ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ كَوْنُهُ نَائِبًا عَنْ مُوَكِّلِهِ ، وَلَيْسَ فِيهِ إلْزَامُ شَيْءٍ عَلَى مُوَكِّلِهِ فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ حُضُورِ الْخَصْمِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّمَا سُمِّيَتْ : الْبَيِّنَةَ ، لِكَوْنِهَا مُبَيِّنَةً فِي حَقِّ الْمُنْكِرِ ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ ، فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوَكَالَةِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ - وَالْيَمِينُ مِنْ الْقَاضِي - أَنْ يَكْتُبَ شَهَادَةَ شُهُودِهِ إلَى قَاضِي بَلَدٍ يَنْقُلُ شَهَادَتَهُمْ فِي كِتَابِهِ إلَى مَجْلِسِ الْقَاضِي الَّذِي فِيهِ الْخَصْمُ ، كَمَا أَنَّ شُهُودَ الْفَرْعِ يَنْقُلُونَ شَهَادَةَ الْأُصُولِ بِعِبَارَتِهِمْ ، فَكَمَا لَا يُشْتَرَطُ فِي إشْهَادِ الْفُرُوعِ حَضْرَةُ الْخَصْمِ ، فَكَذَلِكَ هُنَا ، وَإِنْ قَبِلَ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ بِغَيْرِ خَصْمٍ وَقَضَى بِهَا جَازَ قَضَاؤُهُ ؛ لِأَنَّهُ قَضَى فِي فَصْلٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مُخْتَلِفُونَ فِي سَبَبِ الْقَضَاءِ هُنَا : أَنَّ الْبَيِّنَةَ هَلْ هِيَ حُجَّةٌ بِغَيْرِ مَحْضَرِ خَصْمٍ أَمْ لَا ؟ فَإِذَا قَضَى بِهَا الْقَاضِي فَقَدْ أَمْضَى فَصْلًا مُجْتَهِدًا فِيهِ بِاجْتِهَادِهِ ، فَلِهَذَا لَا يَفْسُدُ قَضَاؤُهُ ، قَالَ : وَلِأَحَدِ الْوَكِيلَيْنِ بِالْخُصُومَةِ أَنْ يُخَاصِمَ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ أَوَّلًا بِقَوْلِ الْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ ، لَهُ أَنْ يَقْبِضَ الْمَالَ عِنْدَنَا ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ عِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّهُ أَمْرٌ بِالْخُصُومَةِ فَقَطْ ، وَالْخُصُومَةُ لِإِظْهَارِ
الْحَقِّ ، وَالِاسْتِيفَاءُ لَيْسَ مِنْ الْخُصُومَةِ ، وَيَخْتَارُ فِي الْخُصُومَةِ أَلَحَّ النَّاسِ ، وَلِلْقَبْضِ آمَنَ النَّاسِ ، فَمَنْ يَصْلُحُ لِلْخُصُومَةِ لَا يُرْضَى بِأَمَانَتِهِ عَادَةً ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْوَكِيلُ بِالشَّيْءِ مَأْمُورٌ بِإِتْمَامِ ذَلِكَ الشَّيْءِ ، وَإِتْمَامُ الْخُصُومَةِ يَكُونُ بِالْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ قَائِمَةٌ مَا لَمْ يَقْبِضْ ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْخُصُومَةِ الْوُصُولُ إلَى الْحَقِّ وَذَلِكَ بِالْقَبْضِ يَكُونُ ، وَالْوَكِيلُ بِالشَّيْءِ يُحَصِّلُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِهِ .
قَالَ : فَإِنْ وَكَّلَ رَجُلَيْنِ بِالْخُصُومَةِ فَلِأَحَدِهِمَا أَنْ يُخَاصِمَ عِنْدَنَا بِدُونِ مَحْضَرٍ مِنْ الْآخَرِ خِلَافًا لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ الْخُصُومَةَ يُحْتَاجُ فِيهَا إلَى الرَّأْيِ ، وَرَأْيُ الْمُثَنَّى لَا يَكُونُ كَرَأْيِ الْوَاحِدِ فَرِضَاهُ بِرَأْيِهِمَا لَا يَكُونُ رِضًا بِرَأْيِ أَحَدِهِمَا ، كَالْوَكِيلَيْنِ بِالْبَيْعِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لَوْ حَضَرَ لَمْ يُخَاصِمْ إلَّا أَحَدُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ تَكَلَّمَا مَعًا لَمْ يَتَمَكَّنْ الْقَاضِي مِنْ أَنْ يَفْهَمَ كَلَامَهُمَا ، فَلَمَّا وَكَّلَهُمَا بِالْخُصُومَةِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ اجْتِمَاعَهُمَا عَلَيْهَا مُتَعَذَّرٌ ، فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِخُصُومَةِ أَحَدِهِمَا بِخِلَافِ الْوَكِيلَيْنِ بِالْبَيْعِ ، وَلَكِنْ إذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى الْقَبْضِ فَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَقْبِضَ ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِأَمَانَتِهِمَا أَوْ اجْتِمَاعِهِمَا فِي الْقَبْضِ ، وَالْحِفْظُ مُتَأَتٍّ فَلَا يَكُونُ رَاضِيًا بِقَبْضِ أَحَدِهِمَا .
وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْخُصُومَةِ ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ } ، وَالْمُوَكِّلُ إنَّمَا رَضِيَ بِرَأْيِهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِدُونِ رِضَاهُ ، وَإِنْ قَالَ مَا صَنَعْتُهُ فِي شَيْئِي ذَلِكَ جَائِزٌ ، كَانَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَجَازَ صُنْعَهُ عَلَى الْعُمُومِ ، فَالتَّوْكِيلُ مِنْ صُنْعِهِ فَيَجُوزُ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْ الْمُوَكِّلِ بِهِ ، وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ أَنْ يُصَالِحَ وَلَا أَنْ يَبِيعَ وَلَا أَنْ يَهَبَ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لَيْسَتْ مِنْ الْخُصُومَةِ ، بَلْ هِيَ ضِدُّ الْخُصُومَةِ قَاطِعَةٌ لَهَا ، وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ لَا يَتَضَمَّنُ ضِدَّهُ .
وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا بِقَبْضِ حَقٍّ لَهُ فِي دَارٍ أَوْ بِقِسْمَةٍ أَوْ بِخُصُومَةٍ فَجَحَدَهُ ذُو الْيَدِ ، فَلَهُ أَنْ يُخَاصِمَ وَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَى حَقِّهِ ؛ لِأَنَّهُ وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ نَصًّا ، وَلِأَنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى تَمْيِيزِ نَصِيبِ الْمُوَكِّلِ ، وَلَا إلَى قَبْضِ حَقِّهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ، فَكَانَ خَصْمًا فِي إثْبَاتِهِ لِيَحْصُلَ مَقْصُودُ الْمُوَكِّلِ .
وَإِذَا وَكَّلَ الْمُسْلِمُ الذِّمِّيَّ فِي خُصُومَةٍ فَشَهِدَ شُهُودٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى إبْطَالِ حَقِّ الْمُسْلِمِ ، لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ نَائِبٌ عَنْ الْمُوَكِّلِ ، وَهَذِهِ الْبَيِّنَةُ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا تَقُومُ عَنْ الْمُوَكِّلِ فَلَا تَكُونُ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ حُجَّةً عَلَيْهِ ، وَلَوْ كَانَ الْمُسْلِمُ هُوَ الْوَكِيلَ ، وَالذِّمِّيُّ صَاحِبَ الْحَقِّ فَشَهِدَ عَلَيْهِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ جَازَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْإِلْزَامَ فِي هَذِهِ الْبَيِّنَةِ عَلَى صَاحِبِ الْحَقِّ دُونَ الْوَكِيلِ ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ كَالنَّائِبِ إذَا اسْتَشْهَدْنَا الذِّمِّيَّ أَنَّهُ أَوْصَى إلَى مُسْلِمٍ فَشَهِدَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَيْهِ لِحَقٍّ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ ؛ لِأَنَّ الْإِلْزَامَ عَلَى الْمَيِّتِ ، أَوْ عَلَى وَرَثَتِهِ دُونَ الْوَصِيِّ - وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ - فَكَانَتْ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي ذَلِكَ مَقْبُولَةً فَكَذَلِكَ هُنَا .
وَتَوْكِيلُ الرَّجُلِ الصَّبِيَّ بِالْخُصُومَةِ إذَا كَانَ يَعْقِلُ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يَعْقِلُ فَلَهُ عِبَارَةٌ مُعْتَبَرَةٌ شَرْعًا حَتَّى تَنْفُذَ تَصَرُّفَاتُهُ بِإِذْنِ الْوَلِيِّ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ، فَكَذَلِكَ فِي الْخُصُومَةِ ، إلَّا أَنَّ الصَّبِيَّ إذَا لَمْ يَكُنْ ابْنَ الْمُوَكِّلِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُوَكِّلَهُ إلَّا بِإِذْنِ أَبِيهِ ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا التَّوْكِيلِ اسْتِعْمَالَ الصَّبِيِّ فِي حَاجَةِ نَفْسِهِ ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي وَلَدِ غَيْرِهِ ، إلَّا بِإِذْنِ أَبِيهِ .
وَإِذَا وَكَّلَ وَكِيلًا فِي بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ خُصُومَةٍ فَذَهَبَ عَقْلُ الْمُوَكِّلِ زَمَانًا ، فَقَدْ خَرَجَ الْوَكِيلُ مِنْ الْوَكَالَةِ ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ الْمُوَكِّلِ ، وَهُوَ إنَّمَا انْتَصَبَ نَائِبًا عَنْ الْمُوَكِّلِ بِاعْتِبَارِ رَأْيِ الْمُوَكِّلِ وَقَدْ خَرَجَ الْمُوَكِّلُ بِالْجُنُونِ الْمُطْبِقِ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلرَّأْيِ ، وَصَارَ مُوَلًّى عَلَيْهِ فَبَطَلَتْ وَكَالَةُ الْوَكِيلِ كَمَا تَبْطُلُ بِمَوْتِهِ ، وَهَذَا فِي مَوْضِعٍ كَانَ لِلْمُوَكِّلِ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ الْوَكَالَةِ ، فَأَمَّا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْهَا ، فَلَا تَبْطُلُ بِجُنُونِهِ ، مِثْلُ : الْأَمِينِ بِالْيَدِ وَالْعَدْلِ إذَا كَانَ مُسَلَّطًا عَلَى الْبَيْعِ فَجُنَّ الرَّاهِنُ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغَيْرِ هُنَاكَ ثَبَتَ فِي الْعَيْنِ ، وَصَارَ ذَلِكَ لَازِمًا عَلَى الْمُوَكِّلِ ، فَلَا يَبْطُلُ بِجُنُونِهِ وَلَا بِمَوْتِهِ إذَا نُفِيَ الْمَحَلُّ .
فَأَمَّا الْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ إذَا كَانَ بِالْتِمَاسِ الْخَصْمِ ، فَجُنَّ الْمُوَكِّلُ أَوْ مَاتَ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْوَكَالَةَ لَمْ تَكُنْ لَازِمَةً عَلَى الْمُوَكِّلِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَعْزِلَ الْوَكِيلَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ ، وَإِنَّمَا لَا يَعْزِلُهُ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْهُ لِدَفْعِ الْغُرُورِ ، لَا لِحَقٍّ ثَابِتٍ لِلْخَصْمِ فِي مَحَلٍّ ، وَلَوْ كَانَ ذَهَبَ عَقْلُهُ سَاعَةً ، أَوْ جُنَّ سَاعَةً فَالْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ النَّوْمِ لَا يَنْقَطِعُ بِهِ رَأْيُ الْمُوَكِّلِ ، فَلَا يَصِيرُ مُوَلًّى عَلَيْهِ ، ثُمَّ أَشَارَ إلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ فِيهِ ، وَاخْتَلَفَتْ فِيهِ أَلْفَاظُ الْكِتَابِ ، فَذَكَرَ فِي بَابِ وَكَالَةِ الْمُكَاتَبِ ، الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ فِي جُنُونِ سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ : أَنَّ فِي الْقِيَاسِ تَبْطُلُ الْوَكَالَةُ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا تَبْطُلُ ، وَفِي بَابِ الْوَكَالَةِ فِي الطَّلَاقِ ذَكَرَ الْقِيَاسَ فِي الْمُتَطَاوِلِ ، وَقَالَ : " لَا تَبْطُلُ الْوَكَالَةُ بِجُنُونِ الْمُوَكِّلِ ، وَإِنْ تَطَاوَلَ لِبَقَاءِ الْمَحَلِّ الَّذِي تَعَلَّقَتْ الْوَكَالَةُ بِهِ
عَلَى حَقِّ الْمُوَكِّلِ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَبْطُلُ الْوَكَالَةُ " ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ الْحَدَّ الْفَاصِلَ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ .
وَذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَانَ يَقُولُ أَوَّلًا : " إذَا جُنَّ شَهْرًا فَهُوَ مُتَطَاوِلٌ " ثُمَّ رَجَعَ وَقَدَّرَ الْمُتَطَاوِلَ بِجُنُونِ سَنَةٍ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَدَّرَ الْمُتَطَاوِلَ بِأَكْثَرِ السَّنَةِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَدَّرَ ذَلِكَ بِأَكْثَرَ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ، وَوَجْهُ هَذَا أَنَّ الْجُنُونَ إذَا زَادَ عَلَى يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ كَانَ مُسْقِطًا لِقَضَاءِ الصَّلَاةِ ، بِخِلَافِ النَّوْمِ ، وَالْقَلِيلُ مِنْهُ كَالدَّوَامِ ، فَإِذَا ظَهَرَتْ الْمُخَالَفَةُ بَيْنَ هَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْجُنُونِ وَبَيْنَ النَّوْمِ عَرَفْنَا أَنَّهُ مُتَطَاوِلٌ ، وَوَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَوَّلًا : أَنَّ الشَّهْرَ فِي حُكْمِ الْمُتَطَاوِلِ ، وَمَا دُونَهُ فِي حُكْمِ الْقَرِيبِ ، بِدَلِيلِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّ حَقَّ فُلَانٍ عَاجِلًا أَوْ عَنْ قَرِيبٍ فَقَضَاهُ فِيمَا دُونَ الشَّهْرِ بَرَّ فِي يَمِينِهِ - وَلَوْ لَمْ يَقْضِهِ حَتَّى مَضَى الشَّهْرُ - كَانَ حَانِثًا ، وَلِأَنَّ الْجُنُونَ إذَا اسْتَوْعَبَ الشَّهْرَ كُلَّهُ أَسْقَطَ قَضَاءَ الصَّوْمِ بِخِلَافِ دُونِهِ ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَدَّرَهُ بِالسَّنَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَسْقُطُ الْعِبَادَاتُ إلَّا بِاسْتِغْرَاقِ الْجُنُونِ سَنَةً كَامِلَةً ، فَإِنَّ مِنْ الْعِبَادَاتِ مَا يَكُونُ التَّقْرِيرُ فِيهَا بِحَوْلٍ كَالزَّكَاةِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَكِنْ أَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَجْعَلُ أَكْثَرَ الْحَوْلِ كَجَمِيعِهِ فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ حَتَّى قَالَ : " إذَا جُنَّ فِي أَكْثَرِ الْحَوْلِ لَا تَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ " فَلِهَذَا قَالَ : " الْمُتَطَاوِلُ مَا يَكُونُ فِي أَكْثَرِ السَّنَةِ " وَلَكِنَّ مُحَمَّدًا - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ يُعْتَبَرُ كَمَالُ السَّنَةِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُوَافِقْهُ فَصْلٌ مِنْ فُصُولِ السَّنَةِ وَلَمْ يُفِقْ ، عَرَفْنَا أَنَّ هَذِهِ آفَةٌ فِي أَصْلِ الْعَقْلِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ
فِي بَعْضِ السَّنَةِ ، وَهُوَ قِيَاسُ أَجَلِ الْعِنِّينِ ، أَيْ أَنَّ التَّقْدِيرَ فِيهِ بِالسَّنَةِ الْكَامِلَةِ .
وَتَوْكِيلُ الصَّبِيِّ رَجُلًا بَاطِلٌ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الصَّبِيُّ مَأْذُونًا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُنِيبُ نَفْسَهُ مَنَابَ غَيْرِهِ فِيمَا يَمْلِكُهُ بِنَفْسِهِ ، وَالصَّبِيُّ الْمَحْجُورُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ بِنَفْسِهِ فَلَا يُوَكِّلُ غَيْرَهُ ، فَأَمَّا الْمَأْذُونُ فَيَمْلِكُ التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ فَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ .
وَإِذَا وَكَّلَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ أَوْ امْرَأَتَهُ بِالْخُصُومَةِ ، ثُمَّ أَعْتَقَ عَبْدَهُ ، أَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فَهُمَا عَلَى وَكَالَتِهِمَا ؛ لِأَنَّ مَا عَرَضَ لَا يُنَافِي ابْتِدَاءَ الْوَكَالَةِ فَلَا يُنَافِي بَقَاءَهَا بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ، وَإِنْ بَاعَ الْعَبْدَ فَإِنْ رَضِيَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ عَلَى وَكَالَتِهِ فَهُوَ وَكِيلٌ ، وَإِنْ لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ فَلَهُ ذَلِكَ .
كَمَا لَوْ وَكَّلَهُ بَعْدَ الْبَيْعِ ، وَهَذَا لِأَنَّ مَنَافِعَ الْعَبْدِ صَارَتْ لِلْمُشْتَرِي فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهَا إلَى حَاجَةِ الْمُوَكِّلِ إلَّا بِرِضَا الْمُشْتَرِي .
قَالَ : وَلَوْ وَكَّلَ الْمُسْلِمُ الْحَرْبِيَّ فِي دَارِ الْحَرْبِ - وَالْمُسْلِمُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ - أَوْ وَكَّلَهُ الْحَرْبِيُّ فَالْوَكَالَةُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا عِصْمَةَ بَيْنَ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ ، وَبَيْنَ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ عِصْمَةَ النِّكَاحِ مَعَ قُوَّتِهَا لَا تَبْقَى بَيْنَ مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَبَيْنَ مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَلَأَنْ لَا تَثْبُتَ الْوَكَالَةُ أَوْلَى ، وَهَذَا لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْوَكِيلِ بِرَأْيِ الْمُوَكِّلِ ، وَمَنْ هُوَ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ فِي أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْمَيِّتِ ، وَالْوَكِيلُ يَرْجِعُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ عَلَى الْمُوَكِّلِ ، وَتَبَايُنُ الدَّارَيْنِ يَمْنَعُ مِنْ هَذَا الرُّجُوعِ .
قَالَ : وَإِنْ وَكَّلَ الْحَرْبِيُّ الْحَرْبِيَّ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، ثُمَّ أَسْلَمَا أَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فَالْوَكَالَةُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ النِّيَابَةَ بِالْوَكَالَةِ تَثْبُتُ حُكْمًا ، وَدَارُ الْحَرْبِ لَيْسَتْ بِدَارِ أَحْكَامٍ بِخِلَافِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ، فَإِنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ هُنَاكَ بِالِاسْتِيلَاءِ حِسًّا عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْدَ مَا أَسْلَمَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُخَاصِمَ صَاحِبَهُ بِشَيْءٍ مِنْ بَقَايَا مُعَامَلَاتِهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، فَكَذَلِكَ لَا تُعْتَبَرُ تِلْكَ الْوَكَالَةُ وَإِنْ أَسْلَمَا جَمِيعًا ، ثُمَّ وَكَّلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ أَجَزْت ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ الْأَصْلِ وَإِذَا خَرَجَ الْحَرْبِيُّ إلَيْنَا بِأَمَانٍ ، وَقَدْ وَكَّلَهُ حَرْبِيٌّ آخَرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِبَيْعِ شَيْءٍ أَجَزْت ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ مَعَهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ ، وَقَدْ ثَبَتَ حُكْمُ الْأَمَانِ فِيهِ ، فَكَأَنَّهُ وَكَّلَهُ بِبَيْعِهِ ، وَهُمَا مُسْتَأْمَنَانِ فِي دَارِنَا بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الشَّيْءُ مَعَهُ فَإِنَّ حُكْمَ الْأَمَانِ لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ ، وَلَا يَقْدِرُ الْوَكِيلُ عَلَى تَسْلِيمِهِ بِحُكْمِ الْبَيْعِ ، وَإِنْ كَانَ وَكَّلَهُ بِخُصُومَةٍ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عَلَى الْحَرْبِيِّ ؛ لِأَنَّ الْإِلْزَامَ بِخُصُومَةِ الْوَكِيلِ إنَّمَا تَكُونُ عَلَى الْمُوَكِّلِ ، وَلَيْسَ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ عَلَى مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْحَرْبِ .
قَالَ : وَتَوْكِيلُ الْمُرْتَدِّ الْمُسْلِمَ بِبَيْعٍ أَوْ قَبْضٍ أَوْ خُصُومَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مَوْقُوفٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ عِنْدَهُ أَنَّهَا تُوقَفُ بَيْنَ أَنْ تَبْطُلَ بِقَتْلِهِ أَوْ مَوْتِهِ أَوْ لُحُوقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ ، وَبَيْنَ أَنْ تَنْفُذَ بِإِسْلَامِهِ ، فَكَذَلِكَ وَكَالَتُهُ ، وَعِنْدَهُمَا تَصَرُّفَاتُ الْمُرْتَدِّ نَافِذَةٌ فَكَذَلِكَ وَكَالَتُهُ ، وَلَوْ ارْتَدَّ الْوَكِيلُ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ انْتَقَضَتْ الْوَكَالَةُ لِانْقِطَاعِ الْعِصْمَةِ بَيْنَ مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَبَيْنَ مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِلِحَاقِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ جَعْلِهِ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ فَتَبْطُلُ الْوَكَالَةُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ ابْتِدَاءَ الْوَكِيلِ لَا يَصِحُّ فِي هَذِهِ الْحَالِ ، فَإِنْ عَادَ مُسْلِمًا لَمْ تَعُدْ الْوَكَالَةُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَعَادَتْ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي بِلُحُوقِهِ بِمَنْزِلَةِ الْقَضَاءِ بِمَوْتِهِ ، وَذَلِكَ إبْطَالٌ لِلْوَكَالَةِ وَبَعْدَ مَا تَأَكَّدَ بُطْلَانُ الْوَكَالَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا نَعُودُ إلَّا بِالتَّجْدِيدِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا عَادَ مُسْلِمًا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْحَرْبِيِّ إذَا أَسْلَمَ الْآنَ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْفُرْقَةَ الْوَاقِعَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ لَا تَرْتَفِعُ بِذَلِكَ ، فَكَذَلِكَ الْوَكَالَةُ الَّتِي بَطَلَتْ لَا تَعُودُ ، وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ : صِحَّةُ الْوَكَالَةِ لِحَقِّ الْمُوَكِّلِ ، وَحَقُّهُ بَعْدَ إلْحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ قَائِمٌ ، وَلَكِنَّهُ عَجَزَ عَنْ التَّصَرُّفِ لِعَارِضٍ ، وَالْعَارِضُ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ ، فَإِذَا زَالَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ فَيَبْقَى الْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ - بَعْدَ رِدَّةِ الْمُوَكِّلِ - عَلَى حَالِهِ ، وَلَكِنْ تَعَذَّرَ عَلَى الْوَكِيلِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أُغْمِيَ عَلَى الْوَكِيلِ زَمَانًا ، ثُمَّ أَفَاقَ فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ .
فَأَمَّا إذَا ارْتَدَّ الْمُوَكِّلُ
وَلَحِقَ بِدَارُ الْحَرْبِ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ لِقَضَاءِ الْقَاضِي بِلِحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ ، فَإِنْ عَادَ مُسْلِمًا لَمْ يَعُدْ الْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ فِي رِوَايَةِ الْكِتَابِ ، فَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - سَوَّى بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ ، وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُفَرِّقُ فَيَقُولُ : الْوَكَالَةُ تَعَلَّقَتْ بِمِلْكِ الْمُوَكِّلِ ، وَقَدْ زَالَ مِلْكُهُ بِرِدَّتِهِ وَلِحَاقِهِ فَبَطَلَتْ الْوَكَالَةُ عَلَى الْبَتَاتِ .
وَأَمَّا بِرِدَّةِ الْوَكِيلِ فَلَمْ يَزَلْ مِلْكُ الْمُوَكِّلِ قَائِمًا ، فَكَانَ مَحَلُّ تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ بَاقِيًا ، وَلَكِنَّهُ عَجَزَ عَنْ التَّصَرُّفِ لِعَارِضٍ ، فَإِذَا زَالَ الْعَارِضُ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ ، وَجَعَلَ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ رِدَّةَ الْمُوَكِّلِ بِمَنْزِلَةِ عَزْلِهِ الْوَكِيلَ ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَ مَحَلَّ وَكَالَتِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ عَبْدٍ ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ .
وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ يَقُولُ مُحَمَّدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَعُودُ الْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ إذَا عَادَ مُسْلِمًا يُعَادُ عَلَيْهِ مَالُهُ عَلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ ، وَقَدْ تَعَلَّقَتْ الْوَكَالَةُ بِقَدِيمِ مِلْكِهِ فَيَعُودُ الْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ ، كَمَا لَوْ وُكِّلَ بِبَيْعِ عَبْدٍ لَهُ ثُمَّ بَاعَهُ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ - وَيُرَدُّ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي - عَادَ الْوَكِيلُ عَلَى وَكَالَتِهِ ، فَهَذَا مِثْلُهُ .
قَالَ : وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلَانِ رَجُلًا ، وَأَحَدُهُمَا يُخَاصِمُ صَاحِبَهُ ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ وَكِيلَهُمَا فِي الْخُصُومَةِ ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى فَسَادِ الْأَحْكَامِ ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُدَّعِيًا مِنْ جَانِبٍ ، جَاحِدًا مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ ، وَالتَّضَادُّ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ، فَإِذَا كَانَ فِي الْبَيْعِ - لَا يَصْلُحُ الْوَاحِدُ أَنْ يَكُونَ وَكِيلًا مِنْ الْجَانِبَيْنِ - فَفِي الْخُصُومَةِ أَوْلَى ، وَإِنْ كَانَتْ الْخُصُومَةُ لَهُمَا مَعَ ثَالِثٍ فَوَكَّلَ وَاحِدًا جَازَ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ مُعَبِّرٌ عَنْ الْمُوَكِّلِ ، وَالْوَاحِدُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَبِّرًا عَنْ اثْنَيْنِ ، كَمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُعَبِّرًا عَنْ وَاحِدٍ .
وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلًا بِالْخُصُومَةِ ، ثُمَّ عَزَلَهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنْهُ لَمْ يَنْعَزِلْ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَنْعَزِلُ لِأَنَّ نُفُوذَ الْوَكَالَةِ لِحَقِّ الْمُوَكِّلِ فَهُوَ بِالْعَزْلِ يُسْقِطُ حَقَّ نَفْسِهِ وَيَنْفَرِدُ الْمَرْءُ بِإِسْقَاطِ حَقِّ نَفْسِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُطَلِّقُ زَوْجَتَهُ وَيُعْتِقُ عَبْدَهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنْهُمَا وَيَكُونُ ذَلِكَ صَحِيحًا .
وَالثَّانِي - الْوَكَالَةُ لِلْمُوَكِّلِ لَا عَلَيْهِ ، وَلِهَذَا لَا يَكُونُ مُلْزِمًا إيَّاهُ ، فَلَوْ لَمْ يَنْفَرِدْ بِالْعَزْلِ قَبْلَ عِلْمِ الْوَكِيلِ بِهِ ، كَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْعَزْلُ خِطَابٌ مُلْزِمٌ لِلْوَكِيلِ بِأَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ التَّصَرُّفِ ، وَحُكْمُ الْخِطَابِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُخَاطَبِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ كَخِطَابِ الشَّرْعِ ، فَإِنَّ أَهْلَ قُبَاءَ كَانُوا يُصَلُّونَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ ، وَجَوَّزَ لَهُمْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ لَمْ يَعْلَمُوا بِهِ ، وَكَذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ شَرِبُوا الْخَمْرَ بَعْدَ نُزُولِ تَحْرِيمِهَا قَبْلَ عِلْمِهِمْ بِذَلِكَ ، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى { لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا } وَلِأَنَّ هَذَا الْخِطَابَ مَقْصُودٌ لِلْعَمَلِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْعَمَلِ مَا لَمْ يَعْلَمْ ، وَلَوْ أَثْبَتْنَا الْعَزْلَ فِي حَقِّ الْوَكِيلِ قَبْلَ عِلْمِهِ أَدَّى إلَى الْإِضْرَارِ بِهِ وَالْغَرَرِ ، وَلَمْ يَثْبُتْ لِلْوَكِيلِ عَلَيْهِ وِلَايَةُ الْإِضْرَارِ بِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْتَقَ الْعَبْدَ الَّذِي وَكَّلَهُ بِبَيْعِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَزْلَ هُنَاكَ حُكْمِيٌّ لِضَرُورَةِ فَوَاتِ الْمَحَلِّ ، فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْعِلْمِ ، وَهُنَا إنَّمَا يَثْبُتُ الْعَزْلُ قَصْدًا فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّ الْوَكِيلِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ ، حَتَّى إذَا نَفَّذَ الْقَاضِي الْقَضَاءَ عَلَى الْوَكِيلِ قَبْلَ عِلْمِهِ بِالْعَزْلِ كَانَ نَافِذًا .
وَلِلْوَصِيِّ أَنْ يُوَكِّلَ بِالْخُصُومَةِ لِلْيَتَامَى ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْأَبِ ، وَلِأَنَّهُ يَمْلِكُ مُبَاشَرَةَ الْخُصُومَةِ بِنَفْسِهِ ، فَلَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِغَيْرِهِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ ، فَإِنَّ هُنَاكَ رَأْيُ الْمُوَكِّلِ قَائِمٌ ، وَإِذَا عَجَزَ الْوَكِيلُ عَنْ الْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ فَلَا حَاجَةَ لَهُ إلَى الِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِهِ ، بَلْ يَرْجِعُ إلَى الْمُوَكِّلِ لِيُخَاصِمَ بِنَفْسِهِ أَوْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ ، وَهُنَا رَأْيُ الْمُوصِي ثَابِتٌ ، وَالصَّبِيُّ عَاجِزٌ عَنْ الْخُصُومَةِ بِنَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ الْأَبُ وَصِيًّا لَهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الصَّبِيِّ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِمُبَاشَرَةِ الْوَصِيِّ بِنَفْسِهِ تَارَةً وَالِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِهِ أُخْرَى ، فَلِهَذَا مَلَكَ التَّوْكِيلَ .
قَالَ وَإِذَا وَكَّلَ الرَّجُلَ بِالْخُصُومَةِ عِنْدَ الْقَاضِي وَالْقَاضِي يَعْرِفُ الْمُوَكِّلَ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ عِلْمَ الْقَاضِي بِالْوَكَالَةِ يَتِمُّ إذَا عَرَفَ الْمُوَكِّلَ ، وَعِلْمُهُ أَقْوَى مِنْ شَهَادَةِ الشُّهُودِ عِنْدَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ لَمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ حَتَّى يَشْهَدَ لِلْوَكِيلِ عَلَى الْوَكَالَةِ شَاهِدَانِ ، يُرِيدُ بِهِ أَنَّ الْوَكِيلَ إذَا حَضَرَ خَصْمٌ يَدَّعِي لِمُوَكِّلِهِ قِبَلَهُ مَالًا ، وَذَلِكَ الْخَصْمُ يَجْحَدُ وَكَالَتَهُ فَالْقَاضِي يَقُولُ لِلْوَكِيلِ : " قَدْ عَرَفْتُ أَنَّ رَجُلًا مِنْ النَّاسِ قَدْ وَكَّلَك وَلَكِنِّي لَا أَدْرِي مَنْ يَدَّعِي لَهُ الْحَقَّ الْآنَ ، هُوَ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَمْ لَا ؟ لِأَنِّي مَا كُنْتُ أَعْرِفُ ذَلِكَ الرَّجُلَ " فَلِهَذَا لَا يَجِدُ الْوَكِيلُ بُدًّا مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْوَكَالَةِ مِنْ جِهَةِ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي يَدَّعِي الْحَقَّ لَهُ .
وَإِذَا وَكَّلَ الرَّجُلَ بِقَبْضِ عَبْدٍ لَهُ أَوْ إجَارَتِهِ فَادَّعَى الْعَبْدُ الْعِتْقَ مِنْ مَوْلَاهُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ ، فَفِي الْقِيَاسِ لَا تُقْبَلُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ ؛ لِأَنَّهَا قَامَتْ عَلَى مَنْ لَيْسَ بِخَصْمٍ ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ بِقَبْضِ الْعَيْنِ لَا يَكُونُ خَصْمًا ، وَالْعَبْدُ إنَّمَا يَدَّعِي الْعِتْقَ عَلَى مَوْلَاهُ ، وَالْمَوْلَى غَائِبٌ وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ ، فَقَالَ تُقْبَلُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ فِي قِصَرِ يَدِ الْوَكِيلِ عَنْ الْعَبْدِ دُونَ الْقَضَاءِ بِالْعِتْقِ لِأَنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْعِتْقَ ، وَمِنْ صَيْرُورَتِهِ قِصَرُ يَدِ الْوَكِيلِ عَنْ قَبْضِهِ وَإِجَازَتِهِ ، وَالْوَكِيلُ لَيْسَ بِخَصْمٍ فِي أَحَدِهِمَا ، وَهُوَ إثْبَاتُ الْعِتْقِ عَلَى الْمُوَكِّلِ ، وَلَكِنَّهُ خَصْمٌ فِي إثْبَاتِ قِصَرِ يَدِهِ ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ قِصَرِ يَدِهِ الْقَضَاءُ بِالْعِتْقِ عَلَى الْغَائِبِ ؛ فَلِهَذَا قُلْنَا الْبَيِّنَةُ فِي قِصَرِ يَدِ الْوَكِيلِ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يُقِمْ الْعَبْدُ الْبَيِّنَةَ وَادَّعَى أَنَّ لَهُ بَيِّنَةً حَاضِرَةً أَجَّلَهُ الْقَاضِي ثَلَاثًا ، فَإِنْ أَحْضَرَ بَيِّنَةً وَإِلَّا دَفَعَهُ إلَى الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إحْضَارِ الشُّهُودِ إلَّا بِمُهْلَةٍ ، فَلَوْ لَمْ يُهْمِلْهُ الْقَاضِي أَدَّى إلَى الْإِضْرَارِ بِالْعَبْدِ ، وَمُدَّةُ الثَّلَاثِ حَسَنٌ لِدَفْعِ الضَّرَرِ وَإِبْلَاغًا لِلْعُذْرِ كَمَا اشْتَرَطْتُ فِي الْخِيَارِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَهُ بِنَقْلِ امْرَأَتِهِ إلَيْهِ فَأَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ : أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ، أَوْ وَكَّلَهُ بِقَبْضِ دَارٍ فَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ : أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ بِقَبْضِ الْعَيْنِ ، وَالْوَكِيلُ بِقَبْضِ الْعَيْنِ لَا يَكُونُ خَصْمًا فِيمَا يَدَّعِي عَلَى الْمُوَكِّلِ مِنْ شِرَاءٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، لَكِنَّهُ خَصْمٌ فِي قِصَرِ يَدِهِ عَنْهُ ، فَتُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْحُكْمِ ، وَلَوْ وَكَّلَهُ بِقَبْضِ دَيْنٍ لَهُ فَأَقَامَ الْغَرِيمُ الْبَيِّنَةَ : أَنَّهُ قَدْ أَوْفَاهُ الطَّالِبَ ، قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ عِنْدَهُ يَمْلِكُ خُصُومَتَهُ فَيَكُونُ خَصْمًا عَنْ الْوَكِيلِ فِيمَا يَدَّعِي عَلَيْهِ مِنْ وُصُولِ الْحَقِّ إلَيْهِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - الْوَكِيلُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ كَالْوَكِيلِ بِقَبْضِ الْعَيْنِ فِي أَنَّهُ نَائِبٌ مَحْضٌ ، فَتَقْصُرُ وَكَالَتُهُ عَلَى مَا أُمِرَ بِهِ ، فَلَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ وَلَا يَكُونُ خَصْمًا فِيمَا يَدَّعِي عَلَى الْمُوَكِّلِ ، وَقَاسَاهُ بِالرَّسُولِ فَإِنَّ الرَّسُولَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ لَا يَمْلِكُ ، فَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَلْحَقُهُ شَيْءٌ مِنْ الْعُهْدَةِ .
وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ : " الْوَكِيلُ بِقَبْضِ الدَّيْنِ وَكِيلٌ بِالْمُبَادَلَةِ فَيَكُونُ خَصْمًا كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ " وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا ، فَكَأَنَّ الْمُوَكِّلَ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَمْلِكَ الْمَطْلُوبُ مَا فِي ذِمَّتِهِ بِمَا يُسْتَوْفَى مِنْهُ ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ فَلَيْسَ فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ شَيْءٌ ، ثُمَّ قَبْضُ الدَّيْنِ مِنْ وَجْهٍ مُبَادَلَةٌ ، وَمِنْ وَجْهٍ كَأَنَّهُ غَيْرُ حَقِّ الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّ مِنْ الدُّيُونِ مَا لَا يَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ فَلِاعْتِبَارِ شَبَهِهِ بِقَبْضِ الْعَيْنِ قُلْنَا : " لَا تَلْحَقُهُ الْعُهْدَةُ فِي الْمَقْبُوضِ " وَلِاعْتِبَارِ شَبَهِهِ بِالْمُبَادَلَةِ
قُلْنَا : " يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ " وَلَيْسَ هَذَا كَالرَّسُولِ فَإِنَّ الرَّسُولَ فِي الْبَيْعِ لَا يُخَاصِمُ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ ، فَكَذَلِكَ فِي قَبْضِ الدَّيْنِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الرِّسَالَةَ غَيْرُ الْوَكَالَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا إلَى الْخَلْقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ } وَنَفَى عَنْهُ الْوَكَالَةَ بِقَوْلِهِ { قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ } فَظَهَرَتْ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَهُمَا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الشَّهَادَةِ فِي الْوَكَالَةِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيَجُوزُ مِنْ الشَّهَادَةِ فِي الْوَكَالَةِ مَا يَجُوزُ فِي غَيْرِهَا مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَا تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ إذَا وَقَعَ فِيهَا الْغَلَطُ أَمْكَنَ التَّدَارُكُ وَالتَّلَافِي فَتَكُونُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْحُقُوقِ فِي الْحُجَّةِ وَالْإِثْبَاتِ أَوْ دُونَهُ ، وَلَا تَفْسُدُ بِاخْتِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْوَقْتِ وَالْمَكَانِ ؛ لِأَنَّهَا كَلَامٌ يُعَادُ وَيُكَرَّرُ وَيَكُونُ الثَّانِي عَيْنَ الْأَوَّلِ ، فَاخْتِلَافُ الشَّاهِدَيْنِ فِيهِ فِي الْمَكَانِ وَالزَّمَانِ لَا يَكُونُ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ ، وَإِنْ شَهِدَا عَلَى الْوَكَالَةِ وَزَادَا أَنَّهُ كَانَ عَزَلَهُ عَنْهَا جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا عَلَى الْوَكَالَةِ ، وَلَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْعَزْلِ عِنْدَنَا .
وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَقْضِي بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ بِالْوَكَالَةِ فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الشَّاهِدَيْنِ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَكِيلٍ فِي الْحَالِ فَكَيْفَ يَقْضِي بِالْوَكَالَةِ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ ؟ وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْعَزْلُ يَكُونُ إخْرَاجًا لِلْوَكِيلِ مِنْ الْوَكَالَةِ وَلَا يَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَكِيلًا فَقَدْ اتَّفَقَ الشَّاهِدَانِ عَلَى الْوَكَالَةِ ، وَبَعْدَ ثُبُوتِهَا تَكُونُ بَاقِيَةً إلَى أَنْ يَظْهَرَ الْعَزْلُ فَإِنَّمَا يَقْضِي الْقَاضِي بِبَقَاءِ الْوَكَالَةِ ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْعَزْلِ لَمْ يَظْهَرْ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِخُصُومَةِ فُلَانٍ فِي دَارِ سَمَّاهَا ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ فِيهَا وَفِي شَيْءٍ آخَرَ ، جَازَتْ الشَّهَادَةُ فِي الدَّارِ الَّتِي اجْتَمَعَا عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَقْبَلُ التَّخْصِيصَ فَإِنَّهُ أَنَابَهُ وَقَدْ يُنِيبُ الْغَيْرَ مَنَابَ نَفْسِهِ فِي شَيْءٍ دُونَ شَيْءٍ ، فَفِيمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشَّاهِدَانِ تَثْبُتُ الْوَكَالَةُ ، وَفِيمَا تَفَرَّدَ بِهِ أَحَدُهُمَا لَمْ تَثْبُتْ ، وَهُوَ قِيَاسُ مَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُ شَاهِدَيْ الطَّلَاقِ أَنَّهُ طَلَّقَ زَيْنَبَ ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ طَلَّقَهَا
وَعَمْرَةَ ، فَتَطْلُقُ زَيْنَبُ خَاصَّةً لِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَيْهَا ، فَكَذَلِكَ هُنَا .
وَإِنْ شَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ بِالْوَكَالَةِ ، وَالْوَكِيلُ لَا يَدْرِي أَنَّهُ وَكَّلَهُ أَوْ لَمْ يُوَكِّلْهُ غَيْرَ أَنَّهُ قَالَ : " أَخْبَرَنِي الشُّهُودُ أَنَّهُ وَكَّلَنِي بِذَلِكَ فَأَنَا أَطْلُبُهَا " فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ بِخَبَرِ الشَّاهِدَيْنِ يَثْبُتُ الْعِلْمُ لِلْقَاضِي بِالْوَكَالَةِ حَتَّى يَقْضِيَ بِهَا ، فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ الْعِلْمُ لِلْوَكِيلِ حَتَّى يَطْلُبَهَا بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْوَكِيلِ غَيْرُ مُلْزِمَةٍ ، وَقَضَاءُ الْقَاضِي مُلْزِمٌ ، وَهُوَ نَظِيرُ الْوَارِثِ إذَا أَخْبَرَهُ الشَّاهِدَانِ بِحَقٍّ لِمُوَرِّثِهِ عَلَى فُلَانٍ ، جَازَ لَهُ أَنْ يَدَّعِيَ ذَلِكَ لِيَشْهَدَا لَهُ ، وَإِنْ شَهِدَا عَلَى وَكَالَتِهِ فِي شَيْءٍ مَعْرُوفٍ ، وَالْوَكِيلُ يَجْحَدُ الْوَكَالَةَ ، وَيَقُولُ : " لَمْ يُوَكِّلْنِي " فَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ هُوَ الطَّالِبَ ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِتِلْكَ الْوَكَالَةِ لِأَنَّهُ أَكَذَبَ شُهُودَهُ حِينَ جَحَدَ الْوَكَالَةَ ، وَإِكْذَابُ الْمُدَّعِي شُهُودَهُ يُبْطِلُ شَهَادَتَهُمْ لَهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ، فَإِنَّهُ هُنَاكَ مَا أَكَذَبَ شُهُودَهُ بِقَوْلِهِ : " لَا أَدْرِي أَوَكَّلَنِي أَمْ لَا ؟ " وَلَكِنَّهُ احْتَاطَ لِنَفْسِهِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ عِلْمُ الْيَقِينِ بِوَكَالَتِهِ ، وَإِنَّمَا يَعْتَمِدُ خَبَرَ الشَّاهِدَيْنِ إيَّاهُ بِذَلِكَ ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْعِلْمَ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ ، فَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ هُوَ الْمَطْلُوبَ ، فَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ قَبِلَ الْوَكَالَةَ لَزِمَتْهُ الْوَكَالَةُ ؛ لِأَنَّ تَوْكِيلَ الْمَطْلُوبِ بَعْدَ قَبُولِ الْوَكَالَةِ مُجْبِرٌ عَلَى جَوَابِ الْخَصْمِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْ الطَّالِبِ ، فَإِنَّا لَوْ لَمْ نُجْبِرْهُ عَلَى ذَلِكَ - وَقَدْ غَابَ الْمَطْلُوبُ - تَضَرَّرَ الْمُدَّعِي بِتَعَذُّرِ إثْبَاتِ حَقِّهِ عَلَيْهِ ، فَإِنَّمَا شَهِدَا عَلَيْهِ بِمَا هُوَ مُلْزِمٌ إيَّاهُ فَقُبِلَتْ الشَّهَادَةُ ، وَأَنْ يُشْهِدَ عَلَى قَبُولِهِ ، وَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ ، وَلَهُ أَنْ يَرُدَّ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ مِنْ التَّوْكِيلِ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ ، وَلَوْ عَايَنَ تَوْكِيلَ الْمَطْلُوبِ إيَّاهُ كَانَ هُوَ بِالْخِيَارِ ، إنْ
شَاءَ رَدَّ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُلْزِمَ غَيْرَهُ شَيْئًا بِدُونِ رِضَاهُ فَكَذَلِكَ هُنَا ، وَلَوْ لَمْ نُجْبِرْهُ عَلَى الْجَوَابِ هُنَا لَا يَلْحَقُ الْمُدَّعِيَ ضَرَرٌ مِنْ جِهَةِ الْوَكِيلِ ، وَإِنَّمَا يَلْحَقُهُ الضَّرَرُ بِتَرْكِ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ فَأَمَّا بَعْدَ الْقَبُولِ فَلَوْ لَمْ يُجْبِرْهُ عَلَى الْجَوَابِ تَضَرَّرَ الطَّالِبُ بِمَعْنَى مِنْ جِهَةِ الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَ الْمَطْلُوبَ اعْتِمَادًا عَلَى قَبُولِ الْوَكِيلِ الْوَكَالَةَ .
وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الذِّمِّيَّيْنِ عَلَى تَوْكِيلِ الْمُسْلِمِ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا بِقَبْضِ دَيْنِهِ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ ؛ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْبَيِّنَةِ مَعْنَى الْإِلْزَامِ عَلَى الْمُسْلِمِ ، فَإِنَّ الْوَكَالَةَ مَتَى ثَبَتَتْ اسْتَفَادَ الْمَطْلُوبُ الْبَرَاءَةَ مِنْ حَقِّهِ بِدَفْعِ الدَّيْنِ إلَى الْوَكِيلِ ، وَكَانَ الْمَقْبُوضُ أَمَانَةً فِي يَدِ الْوَكِيلِ ، إذَا هَلَكَ ضَاعَ حَقُّ الْمُسْلِمِ ، وَشَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا تَكُونُ حُجَّةً فِي إلْزَامِ شَيْءٍ عَلَى الْمُسْلِمِ ، وَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ ذِمِّيًّا وَالْوَكِيلُ مُسْلِمًا وَالْمَطْلُوبُ ذِمِّيًّا جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّ الْإِلْزَامَ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ عَلَى الذِّمِّيِّ ، فَإِنَّهَا تُلْزِمُ الْمَطْلُوبَ دَفْعَ الْمَالِ وَهُوَ ذِمِّيٌّ ، وَيَبْرَأُ بِهَذَا الدَّفْعِ عَنْ حَقِّ الطَّالِبِ وَهُوَ ذِمِّيٌّ ، وَشَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ حُجَّةٌ عَلَى الذِّمِّيِّ وَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ مُسْلِمًا ، فَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا لِلْوَكَالَةِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّ فِيهَا إلْزَامَ قَضَاءِ الدَّيْنِ عَلَى الْمُسْلِمِ الْمَطْلُوبِ ، فَيُجْبَرُ عَلَى دَفْعِ الْمَالِ إلَى الْوَكِيلِ مَتَى ثَبَتَتْ الْوَكَالَةُ .
وَشَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا تَصْلُحُ لِلْإِلْزَامِ عَلَى الْمُسْلِمِ ، فَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ وَالْوَكَالَةِ جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِلْزَامِ فِيهَا عَلَى الطَّالِبِ .
فَأَمَّا الْإِلْزَامُ عَلَى الطَّالِبِ فَقَدْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ بِالدَّيْنِ وَالْوَكَالَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ - وَإِنْ لَمْ تَقُمْ - كَانَ هُوَ مُجْبَرًا عَلَى دَفْعِ الْمَالِ إلَى الْوَكِيلِ ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ بَرَاءَتُهُ عَنْ حَقِّ الطَّالِبِ بِالدَّفْعِ إلَى الْوَكِيلِ ، وَالطَّالِبُ ذِمِّيٌّ
وَإِذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ غَائِبًا فَادَّعَى الطَّالِبُ فِي دَارِهِ دَعْوَى ، وَنَفَاهَا الْمَطْلُوبُ فَشَهِدَ ابْنَا الْمَطْلُوبِ : أَنَّهُ قَدْ وَكَّلَ هَذَا الْوَكِيلَ بِخُصُومَتِهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ ، وَالْوَكِيلُ يَجْحَدُ ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ لِأَبِيهِمَا ، فَإِنَّهُمَا يَثْبُتَانِ بِشَهَادَتِهِمَا نَائِبًا عَنْ أَبِيهِمَا لِيُخَاصِمَ الطَّالِبَ وَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ حُجَّةً لِلدَّفْعِ فَيُقَرَّرَ بِهِ مِلْكُ أَبِيهِمَا ، وَشَهَادَةُ الْوَلَدِ لَا تُقْبَلُ لِأَبِيهِ ، قَالَ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الطَّالِبُ يَجْحَدُ الْوَكَالَةَ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ إنْ كَانَ جَاحِدًا لِلْوَكَالَةِ فَلَيْسَ هُنَا مَنْ يَدَّعِيهَا ، وَبِدُونِ الدَّعْوَى لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ عَلَى الْوَكَالَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ مُدَّعِيًا لِلْوَكَالَةِ فَالطَّالِبُ لَا يَكُونُ مُجْبَرًا عَلَى الدَّعْوَى ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ وَكِيلًا ، كَمَا لَا يُجْبَرُ عَلَى الدَّعْوَى عِنْدَ حَضْرَةِ الْمَطْلُوبِ مَعَ أَنَّ الِابْنَيْنِ نُصِّبَا نَائِبًا عَنْ أَبِيهِمَا لِيُثْبِتَا حُجَّةَ الدَّفْعِ لِأَبِيهِمَا عَلَى الطَّالِبِ .
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ مَالٌ ، فَغَابَ الطَّالِبُ وَدَفَعَ الْمَطْلُوبُ الْمَالَ إلَى رَجُلٍ ادَّعَى أَنَّهُ وَكِيلُ الطَّالِبِ فِي قَبْضِهِ فَقَبَضَهُ ، ثُمَّ قَدِمَ الطَّالِبُ فَجَحَدَ ذَلِكَ فَشَهِدَ لِلْمَطْلُوبِ ابْنَا الطَّالِبِ بِالْوَكَالَةِ جَازَتْ الشَّهَادَةُ ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى أَبِيهِمَا ، فَإِنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ لَوْ انْعَدَمَتْ كَانَ لِلطَّالِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي حَقِّهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ ، إذَا حَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يُوَكِّلْ الْوَكِيلَ ، وَعِنْدَ قَبُولِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ يَبْطُلُ حَقُّهُ فِي الرُّجُوعِ عَلَى الْمَطْلُوبِ ، وَيَسْتَفِيدُ الْمَطْلُوبُ الْبَرَاءَةَ بِمَا دَفَعَ إلَى الْوَكِيلِ ، فَظَهَرَ أَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى أَبِيهِمَا ، وَشَهَادَةُ الْوَاحِدِ عَلَى وَالِدِهِ مَقْبُولَةٌ .
وَلَوْ وَكَّلَ رَجُلٌ رَجُلًا بِقَبْضِ دَيْنٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ وَغَابَ فَشَهِدَ عَلَى ذَلِكَ ابْنَا الطَّالِبِ ، وَالْمَطْلُوبُ يَجْحَدُ الْوَكَالَةَ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ ؛ لِأَنَّهُمَا يُنَصَّبَانِ نَائِبًا عَنْ أَبِيهِمَا لِيُطَالِبَ الْمَطْلُوبَ بِالدَّيْنِ وَيَسْتَوْفِيَهُ ، فَيَتَعَيَّنَ بِهِ حَقُّ أَبِيهِمَا فَكَانَا شَاهِدَيْنِ لَهُ ، وَإِنْ أَقَرَّ بِهَا الْمَطْلُوبُ وَادَّعَاهَا أَحَدُهُمَا جَازَتْ ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ بِإِقْرَارِهِ بِالْوَكَالَةِ صَارَ مُجْبَرًا عَلَى دَفْعِ الْمَالِ إلَى الْوَكِيلِ بِدُونِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ ، فَهَذِهِ الشَّهَادَةُ تَقُومُ عَلَى الطَّالِبِ فِي إثْبَاتِ الْبَرَاءَةِ لِلْمَطْلُوبِ عَنْ حَقِّهِ بِالدَّفْعِ إلَى الْوَكِيلِ ، وَشَهَادَةُ الِابْنَيْنِ عَلَى أَبِيهِمَا مَقْبُولَةٌ ، وَإِنْ كَانَ فِي يَدَيْهِ فَشَهِدَ ابْنَا الطَّالِبِ أَنَّ أَبَاهُمَا وَكَّلَ هَذَا بِالْخُصُومَةِ فِيهَا وَجَحَدَ ذَلِكَ الْمَطْلُوبُ أَوْ أَقَرَّ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ ، أَمَّا إذَا جَحَدَ فَلِمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ، وَأَمَّا إذَا أَقَرَّ بِهِ فَلِأَنَّهُ بِهَذَا الْإِقْرَارِ لَمْ يَصِرْ مُجْبَرًا عَلَى الدَّفْعِ إلَى الْوَكِيلِ وَلَا عَلَى جَوَابِهِ إنْ خَاصَمَهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيِّنَةَ لَوْ لَمْ تَقُمْ هُنَا لَمْ يَكُنْ الْوَكِيلُ مُجْبَرًا بِشَهَادَتِهِمَا عَلَى شَيْءٍ ، وَإِنْ أَقَرَّ بِوَكَالَتِهِ فَإِنَّمَا يَصِيرُ مُجْبَرًا بِشَهَادَتِهِمَا وَهُوَ بِذَلِكَ يَصِيرُ نَائِبًا لِأَبِيهِمَا مُلْزَمًا عَلَى الْغَيْرِ ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا فِيهِ .
وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ جَاءَ إلَى الْمَدْيُونِ وَقَالَ : " أَنَا وَكِيلُ صَاحِبِ الدَّيْنِ فِي قَبْضِ الدَّيْنِ مِنْكَ " فَصَدَّقَهُ فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ .
وَلَوْ جَاءَ إلَى الْمُودَعِ وَقَالَ : " أَنَا وَكِيلُ صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ فِي قَبْضِ الْوَدِيعَةِ مِنْكَ " فَصَدَّقَهُ فَإِنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الدَّفْعِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمَدْيُونَ إنَّمَا يَقْضِي الدَّيْنَ بِمِلْكِ نَفْسِهِ ، فَهُوَ بِالتَّصْدِيقِ يُثْبِتُ لَهُ حَقَّ الْقَبْضِ فِي مِلْكِهِ ، وَإِقْرَارُهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ مُلْزِمٌ ، فَأَمَّا فِي الْوَدِيعَةِ فَهُوَ بِالتَّصْدِيقِ يُقِرُّ بِحَقِّ الْقَبْضِ لَهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ ، وَقَوْلُهُ لَيْسَ بِمُلْزِمٍ فِي حَقِّ الْغَيْرِ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْمُودِعَ إذَا صَدَّقَ مُدَّعِي الْوَكَالَةِ فِيهَا يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِهَا إلَى الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّ بِإِقْرَارِ الْوَكِيلِ يَكُونُ أَوْلَى بِإِمْسَاكِهَا مِنْهُ ، وَالْيَدُ حَقُّهُ فَإِقْرَارُهُ بِهَا لِغَيْرِهِ يَكُونُ مُلْزِمًا ، وَلِأَنَّهُ يُقِرُّ أَنَّهُ يَصِيرُ ضَامِنًا بِالِامْتِنَاعِ مِنْ الدَّفْعِ إلَى الْوَكِيلِ بَعْدَ طَلَبِهِ ، وَإِقْرَارُهُ بِسَبَبِ الضَّمَانِ عَلَى نَفْسِهِ مُثْبِتٌ إيَّاهُ ، وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ الضَّمَانُ إلَّا بِثُبُوتِ الْوَكَالَةِ ، فَأُجْبِرَ عَلَى الدَّفْعِ إلَيْهِ .
وَلَوْ كَانَ مُسْلِمٌ فِي يَدِهِ دَارٌ ادَّعَى ذِمِّيٌّ فِيهَا دَعْوَى ، وَوَكَّلَ وَكِيلًا بِشَهَادَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْوَكَالَةِ ، سَوَاءٌ أَقَرَّ الْمُسْلِمُ بِالْوَكَالَةِ أَوْ أَنْكَرَهَا ، أَمَّا إذَا أَنْكَرَهَا فَلِأَنَّ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ إلْزَامَ الْجَوَابِ عَلَى الْمُسْلِمِ عِنْدَ دَعْوَى الْوَكِيلِ ، وَأَمَّا إذَا أَقَرَّ بِهَا فَلِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْوَكَالَةِ لَا يُلْزِمُهُ الْجَوَابَ هُنَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ إقْرَارَهُ لِحَقِّ الْغَيْرِ ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ ، وَشَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُسْلِمِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي دَيْنٍ وَهُوَ مُقِرٌّ بِهِ وَبِالْوَكَالَةِ ، أَجْبَرْتُهُ عَلَى دَفْعِهِ إلَى الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ إلْزَامُ شَيْءٍ عَلَى الْمُسْلِمِ ، وَصَارَ مُجْبَرًا بِإِقْرَارِهِ عَلَى دَفْعِ الدَّيْنِ إلَى الْوَكِيلِ .
قَالَ : " وَلَيْسَ هَذَا
كَالْوَكَالَةِ بِالْخُصُومَةِ " يُرِيدُ بِهِ أَنَّ بِإِقْرَارِ الْمَطْلُوبِ يَكُونُ هَذَا وَكِيلَ الطَّالِبِ بِالْخُصُومَةِ ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْجَوَابُ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ يَتَنَاوَلُ حَقَّ الْغَيْرِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ بِالْوَكَالَةِ بِقَبْضِ الْعَيْنِ بِخِلَافِ إقْرَارِهِ بِالْوَكَالَةِ بِقَبْضِ الدَّيْنِ .
وَإِذَا شَهِدَ الشَّاهِدَانِ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّ فُلَانًا وَكَّلَ فُلَانًا بِقَبْضِ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى فُلَانٍ ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَخْذِهِ مِنْهُ أَوْ أَرْسَلَهُ لِيَأْخُذَهُ ، فَإِنْ كَانَ الْمَطْلُوبُ مُقِرًّا بِالدَّيْنِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ اتَّفَقَا عَلَى ثُبُوتِ حَقِّ الْقَبْضِ لَهُ ، فَإِنَّ الرَّسُولَ وَالْمَأْمُورَ بِهِ لَهُ حَقُّ الْقَبْضِ عِنْدَ إقْرَارِ الْمَطْلُوبِ بِالدَّيْنِ كَالْوَكِيلِ ، وَإِنْ جَحَدَ الْمَطْلُوبُ الدَّيْنَ لَمْ يَكُنْ هَذَا خَصْمًا لَهُ .
أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ بِقَبْضِ الدَّيْنِ لَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ عِنْدَهُمَا ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَيْضًا ، وَأَمَّا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، فَالْوَكِيلُ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ دُونَ الرَّسُولِ ، وَالْمَأْمُورُ بِالْقَبْضِ كَالرَّسُولِ فَإِنَّمَا الشَّاهِدُ لَهُ لِحَقِّ الْخُصُومَةِ وَاحِدٌ ، وَبِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ لَا يَثْبُتُ شَيْءٌ ، وَإِنْ شَهِدَا جَمِيعًا أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِقَبْضِهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ خَصْمًا فِي إثْبَاتِ الدَّيْنِ إذَا جَحَدَ الْمَطْلُوبُ ذَلِكَ بِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى مَا يُثْبِتُ لَهُ حَقَّ الْخُصُومَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَلَوْ وَكَّلَهُ بِتَقَاضِي دَيْنٍ لَهُ بِشُهُودٍ ، ثُمَّ غَابَ فَشَهِدَ ابْنَانِ لِلطَّالِبِ : أَنَّ أَبَاهُمَا قَدْ عَزَلَهُ عَنْ الْوَكَالَةِ وَادَّعَى الْمَطْلُوبُ شَهَادَتَهُمَا جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى أَبِيهِمَا لِلْمَطْلُوبِ ، فَإِنَّ الْعَزْلَ إذَا ثَبَتَ لَمْ يَكُنْ الْمَطْلُوبُ مُجْبَرًا عَلَى الدَّفْعِ إلَى الْوَكِيلِ ، وَشَهَادَتُهُمَا عَلَى أَبِيهِمَا مَقْبُولَةٌ ، وَإِنْ لَمْ نَدَعْ شَهَادَتَهُمَا أُجْبِرَ عَلَى دَفْعِ الْمَالِ إلَى الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ ظَاهِرَةٌ ، فَجُحُودُهُ الْعَزْلَ إقْرَارٌ بِثُبُوتِ حَقِّ الْقَبْضِ لَهُ فِي مَالِهِ ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ .
وَبِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالتَّقَاضِي لَهُ أَنْ يَقْبِضَ كَالْوَكِيلِ بِالْخُصُومَةِ ، بِخِلَافِ مَا ظَنَّهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - حَيْثُ جَعَلُوا الْوَكِيلَ بِالتَّقَاضِي حُجَّةً لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْخِلَافِيَّةِ ، وَتَكَلَّفُوا لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ، وَكَذَلِكَ شَهَادَةُ الْأَجْنَبِيَّيْنِ فِي هَذَا ، فَإِنْ جَاءَ الطَّالِبُ بَعْدَ دَفْعِ الْمَالِ فَقَالَ : قَدْ كُنْتُ أَخْرَجْتُهُ مِنْ الْوَكَالَةِ فَأَنَا أَضْمَنُ الْمَطْلُوبَ ؛ لِأَنَّ دَفْعَهُ إلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ ، فَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ عَلَى الْعَزْلِ أَمِينَ الطَّالِبِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَضْمَنَ الْمَطْلُوبَ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا الْآنَ لِأَبِيهِمَا عَلَى الْمَطْلُوبِ ، فَإِنَّ أَصْلَ الْوَكَالَةِ ثَابِتٌ ، وَذَلِكَ يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْمَطْلُوبِ بِالدَّفْعِ إلَى الْوَكِيلِ مَا لَمْ يَثْبُتْ الْعَزْلُ ؛ فَلِهَذَا لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ .
وَإِنْ كَانَ الشَّاهِدَانِ عَلَى الْعَزْلِ أَجْنَبِيَّيْنِ فَقَدْ ثَبَتَ الْعَزْلُ بِشَهَادَتِهِمَا ، وَكَانَ لِلطَّالِبِ أَنْ يَرْجِعَ بِمَالِهِ عَلَى الْمَطْلُوبِ إذَا شَهِدَ أَنَّ الْوَكِيلَ عَلِمَ بِالْعَزْلِ ، وَإِنْ شَهِدَ الِابْنَانِ قَبْلَ قُدُومِ أَبِيهِمَا : أَنَّ أَبَاهُمَا قَدْ أَخْرَجَ هَذَا مِنْ الْوَكَالَةِ وَوَكَّلَ هَذَا الْآخَرَ بِقَبْضِ الْمَالِ ، وَإِنْ أَقَرَّ الْمَطْلُوبُ بِذَلِكَ دَفَعَهُ إلَى الْآخَرِ لِإِقْرَارِهِ بِثُبُوتِ حَقِّ الْقَبْضِ لَهُ فِي
مِلْكِهِ ، لَا بِشَهَادَةِ الِابْنَيْنِ بِالْوَكَالَةِ لَهُ ، وَإِنْ جَحَدَ دَفَعَهُ إلَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ وَكَالَتَهُ ثَابِتَةٌ وَلَمْ يَثْبُتْ الْعَزْلُ بِشَهَادَتِهِمَا حِينَ أَنْكَرَهُ الْمَطْلُوبُ ، فَكَانَ مُجْبَرًا عَلَى دَفْعِ الْمَالِ إلَيْهِ .
فَإِنْ كَانَ الطَّالِبُ ذِمِّيًّا فَشَهِدَ مُسْلِمَانِ أَنَّهُ وَكَّلَ هَذَا الْمُسْلِمَ بِقَبْضِ دَيْنِهِ عَلَى هَذَا ، وَالْمَطْلُوبُ مُقِرٌّ وَشَهِدَ الذِّمِّيَّانِ أَنَّهُ عَزَلَهُ عَنْ الْوَكَالَةِ وَوَكَّلَ هَذَا الْآخَرَ لَمْ يَجُزْ عَلَى الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْقَبْضِ ثَابِتٌ لَهُ بِظُهُورِ وَكَالَتِهِ وَهُوَ مُسْلِمٌ ، فَشَهَادَةُ الذِّمِّيَّيْنِ عَلَيْهِ بِإِبْطَالِ حَقِّهِ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً ، وَلَوْ كَانَ الْوَكِيلُ الْأَوَّلُ ذِمِّيًّا جَازَتْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي إبْطَالِ حَقِّهِ حُجَّةٌ عَلَيْهِ .
وَإِذَا شَهِدَ ابْنَا الْوَكِيلِ أَنَّ الطَّالِبَ أَخْرَجَ أَبَاهُمَا عَنْ الْوَكَالَةِ وَوَكَّلَ هَذَا الْآخَرَ بِقَبْضِ الْمَالِ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى أَبِيهِمَا فِي إبْطَالِ حَقِّ الْقَبْضِ الثَّابِتِ لَهُ ، وَيَشْهَدَانِ لِلْآخَرِ بِثُبُوتِ حَقِّ الْقَبْضِ لَهُ ، وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا سَبَبُ التُّهْمَةِ ، وَلَوْ كَانَ الشَّاهِدَانِ أَمِينَيْ الْوَكِيلِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا عَلَى الْوَكَالَةِ لِأَبِيهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ بِثُبُوتِ حَقِّ الْقَبْضِ لَهُ ، وَيَجُوزُ عَلَى إخْرَاجِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَيْهِ بِالْعَزْلِ وَبُطْلَانِ حَقِّهِ فِي الْقَبْضِ ، وَإِذَا شَهِدَ أَنَّهُ جَعَلَهُ وَكِيلًا فِي الْخُصُومَةِ فِي الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى فُلَانٍ ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِقَبْضِهِ قُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْخُصُومَةِ وَالْقَبْضِ جَمِيعًا .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - تُقْبَلُ فِي الْقَبْضِ إذَا أَقَرَّ الْمَطْلُوبُ بِالدَّيْنِ ، وَلَا تُقْبَلُ فِي الْخُصُومَةِ إذَا جَحَدَ الْمَطْلُوبُ الدَّيْنَ ، وَفِي قَوْلِ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - " لَا تُقْبَلُ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا " وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى مَا سَبَقَ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْخُصُومَةِ يَمْلِكُ الْقَبْضَ عِنْدَنَا ، وَالْوَكِيلُ بِالْقَبْضِ يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَقَدْ اتَّفَقَ الشَّاهِدَانِ عَلَى الْحُكْمَيْنِ مَعْنًى ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا
فِي الْعِبَارَةِ ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ كَمَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالتَّخَلِّي وَالْآخَرُ بِالْهِبَةِ .
وَعِنْدَهُمَا الْوَكِيلُ بِالْقَبْضِ لَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ ، فَقَدْ اتَّفَقَ الشَّاهِدَانِ عَلَى ثُبُوتِ حَقِّ الْقَبْضِ لَهُ فَأَمَّا الشَّاهِدُ بِحَقِّ الْخُصُومَةِ لِأَحَدِهِمَا فَيَثْبُتُ فِيمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ دُونَ مَا يَنْفَرِدُ بِهِ أَحَدُهُمَا ، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ لَا يَمْلِكُ الْقَبْضَ ، وَالْوَكِيلُ بِالْقَبْضِ لَا يَمْلِكُ الْخُصُومَةَ ، وَالشَّاهِدُ أَثْبَتَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ ، وَلَا تَتِمُّ الْحُجَّةُ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ .
وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِبَيْعِ هَذَا الْعَبْدِ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِالْبَيْعِ ، وَقَالَ : " لَا تَبِعْ حَتَّى تَسْتَأْمِرَنِي " فَبَاعَ الْوَكِيلُ الْعَبْدَ فَهُوَ جَائِزٌ فِي الْقِيَاسِ ، وَقَوْلُ الْآخَرِ " حَتَّى تَسْتَأْمِرَنِي " بَاطِلٌ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ وَانْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِزِيَادَةِ لَفْظٍ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : " لَا تَبِعْ حَتَّى تَسْتَأْمِرَنِي " فَكَانَ قِيَاسَ مَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْعَزْلِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّهُ يَثْبُتُ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ مِنْ الْوَكَالَةِ ، وَلَا يَثْبُتُ مَا انْفَرَدَ بِهِ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الْعَزْلُ فَهَذَا مِثْلُهُ ، فَقَدْ أَشَارَ إلَى الْقِيَاسِ وَلَمْ يَذْكُرْ الِاسْتِحْسَانَ وَقِيلَ : جَوَابُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَا يَقْضِي بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ فِي قَوْلِهِ : " لَا تَبِعْ حَتَّى تَسْتَأْمِرَنِي " يُفْسِدُ الْوَكَالَةَ ، فَإِنَّمَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِوَكَالَةٍ مُطْلَقَةٍ وَالْآخَرُ بِوَكَالَةٍ مُقَيَّدَةٍ ، وَالْمُقَيَّدُ غَيْرُ الْمُطْلَقِ فَلَمْ يَثْبُتْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِخِلَافِ الْعَزْلِ ، فَإِنَّهُ رَفْعٌ لِلْوَكَالَةِ لَا يُفْسِدُ لَهَا ، وَلَوْ قَالَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ : " وَكَّلَ هَذَا بِالْبَيْعِ " ، وَقَالَ الْآخَرُ : " وَكَّلَ هَذَا وَهَذَا " لَمْ يَكُنْ لَهُمَا وَلَا لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَبِيعَ لِأَنَّ الشَّاهِدَ بِوَكَالَةِ الثَّانِي وَاحِدٌ ، وَلَا تَثْبُتُ وَكَالَتُهُ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ ، وَالشَّاهِدُ بِثُبُوتِ حَقِّ التَّفَرُّدِ لِلْأَوَّلِ بِالْبَيْعِ وَاحِدٌ ، وَهُوَ الَّذِي شَهِدَ بِوَكَالَتِهِ خَاصَّةً فَإِنَّ الْآخَرَ شَهِدَ بِوَكَالَةِ الِاثْنَيْنِ ، وَلَيْسَ لِأَحَدِ الْوَكِيلَيْنِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْبَيْعِ فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَبِيعَ ، فَإِنْ قِيلَ إذَا اجْتَمَعَا عَلَى الْبَيْعِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْفُذَ لِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى نُفُوذِهِ عِنْدَ مُبَاشَرَتِهِمَا ، وَلَا اعْتِبَارَ بِمُبَاشَرَةِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَكِيلٍ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الْعَبْدِ ، فَإِنَّ الشَّاهِدَ بِوَكَالَتِهِ وَاحِدٌ ، وَلَيْسَ بِوَكِيلٍ مِنْ جِهَةِ الْوَكِيلِ
الْأَوَّلِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ مُبَاشَرَتِهِ لِنُفُوذِ هَذَا الْبَيْعِ ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي قَبْضِ الدَّيْنِ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي الْوَكَالَةِ بِالْخُصُومَةِ ، كَانَ الَّذِي اجْتَمَعَا عَلَيْهِ هُوَ الْخَصْمَ ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا عَلَى ثُبُوتِ حَقِّ التَّفَرُّدِ لَهُ فِي الْخُصُومَةِ ، فَإِنَّ أَحَدَ الْوَكِيلَيْنِ فِي الْخُصُومَةِ يَنْفَرِدُ بِهَا ، وَلَكِنْ إذَا قَضَى لَهُ لَا يَمْلِكُ الْقَبْضَ ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْوَكِيلَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِالْقَبْضِ ، فَلَيْسَ عَلَى ثُبُوتِ حَقِّ التَّفَرُّدِ لَهُ بِالْقَبْضِ إلَّا شَاهِدٌ وَاحِدٌ فَلِهَذَا لَا يَقْبِضُهُ .
وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ : " أَنْتَ وَكِيلِي فِي قَبْضِ هَذَا الدَّيْنِ " ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَالَ : " أَنْتَ حَسِيبِي فِي قَبْضِهِ " كَانَ جَائِزًا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ اللَّفْظَيْنِ عِبَارَةٌ عَنْ الْوَكَالَةِ ، فَإِنَّ الْحَسِيبَ نَافِذُ الْأَمْرِ ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْوَكَالَةِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا فِي الْعِبَارَةِ ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا هَكَذَا فِي الْخُصُومَةِ أَوْ قَبْضِ الْعَيْنِ .
وَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا : إنَّهُ قَالَ أَنْتَ وَكِيلِي " ، وَقَالَ الْآخَرُ : " إنَّهُ قَالَ أَنْتَ وَصِيِّي " لَا تُقْبَلُ هَذِهِ الشَّهَادَةُ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَكُونُ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَحُكْمُهَا مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الْوَكَالَةِ فَلَمْ تَبْقَ شَهَادَةُ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ ، إلَّا أَنْ يَشْهَدَ أَنَّهُ قَالَ : " أَنْتَ وَصِيِّي فِي حَيَاتِي " فَالْوَصِيَّةُ فِي الْحَيَاةِ تَكُونُ وَكَالَةً ؛ لِأَنَّهُ أَنَابَهُ فِي التَّصَرُّفِ حَالَ قِيَامِ وِلَايَتِهِ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْوَكَالَةِ ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الشَّاهِدَيْنِ هُنَا فِي الْعِبَارَةِ ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ ، وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ فِي هَذِهِ الدَّارِ إلَى قَاضِي الْكُوفَةِ ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ فِي هَذِهِ الدَّارِ إلَى قَاضِي الْبَصْرَةِ ، فَهُوَ جَائِزٌ وَهُوَ وَكِيلٌ بِالْخُصُومَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ قَضَاءُ الْقَاضِي لَا عَيْنُ الْقَاضِي ، وَأَقْضِيَةُ الْقُضَاةِ لَا تَخْتَلِفُ بَلْ تَكُونُ بِصِفَةٍ وَاحِدَةٍ فِي أَيِّ مَكَان كَانَ قَاضِيًا ، فَقَدْ اتَّفَقَ الشَّاهِدَانِ عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الْوَكَالَةُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ عِنْدَ الْقَاضِي فَعُزِلَ أَوْ مَاتَ فَاسْتَقْضَى غَيْرَهُ ، كَانَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ عِنْدَهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَحَوَّلَ الْخَصْمُ إلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى كَانَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُخَاصِمَ عِنْدَ قَاضِيهَا ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ جَعَلَهُ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ إلَى فُلَانٍ الْفَقِيهِ ، وَقَالَ
الْآخَرُ إلَى فُلَانٍ الْآخَرَ فَهَذَا بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْفَقِيهَ إنَّمَا يَصِيرُ حَاكِمًا بِتَرَاضِيهِمَا ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَشْهَدُ بِرِضَا الْمُوَكِّلِ بِحُكُومَةِ إنْسَانٍ عَلَى حِدَةٍ فَلَمْ يَثْبُتْ وَاحِدٌ مِنْ الْأَمْرَيْنِ ، وَهَذَا لِأَنَّ حُكْمَ الْحَكَمِ بِمَنْزِلَةِ الصُّلْحِ ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُ تَرَاضِيَ الْخَصْمَيْنِ وَذَلِكَ لَيْسَ بِمَعْلُومٍ فِي نَفْسِهِ ، بَلْ يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ عَدْلِ الْحَكَمِ وَمَيْلِهِ إلَى أَحَدِهِمَا وَرِضَاهُ بِالتَّحْكِيمِ إلَى إنْسَانٍ لَا يَكُونُ رِضًا بِالْحُكْمِ إلَى غَيْرِهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ سَمَّى أَحَدُهُمَا الْقَاضِيَ وَالْآخَرُ الْفَقِيهَ ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ عَلَى التَّوْكِيلِ بِالْخُصُومَةِ إلَى فُلَانٍ الْفَقِيهِ لَا يَمْلِكُ التَّحْكِيمَ فَعَرَفْنَا اخْتِلَافَ الْمَشْهُودِ بِهِ .
وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِطَلَاقِ فُلَانَةَ وَفُلَانَةَ ، وَقَالَ الْآخَرُ : " فُلَانَةَ وَحْدَهَا " فَهُوَ وَكِيلٌ فِي طَلَاقِ الَّتِي اجْتَمَعَا عَلَيْهَا لِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى ذَلِكَ ، فَأَمَّا فِي طَلَاقِ الْأُخْرَى فَالشَّاهِدُ بِالْوَكَالَةِ وَاحِدٌ وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِقَبْضِ هَذَا الدَّيْنِ ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ سَلَّطَهُ عَلَى قَبْضِهِ فَالتَّسْلِيطُ عَلَى الْقَبْضِ تَوْكِيلٌ ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْعِبَارَةِ ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ وَكَذَلِكَ هَذَا فِي كُلِّ عَقْدٍ .
وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى وَكَالَةِ رَجُلٍ بِالْخُصُومَةِ فِي دَارٍ فَأَثْبَتَهُ الْقَاضِي وَكِيلًا فِيهَا ثُمَّ رَجَعَا لَمْ أَضْمَنْهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْوَكَالَةِ لَمْ يُتْلِفَا عَلَى أَحَدٍ شَيْئًا ، وَإِنَّمَا نُصِّبَا عَنْ الْمُوَكِّلِ نَائِبًا لِيُطَالِبَ بِحَقِّهِ ، وَالشَّاهِدُ عِنْدَ الرُّجُوعِ إنَّمَا يَضْمَنُ مَا أَتْلَفَ بِشَهَادَتِهِ ، ثُمَّ رُجُوعُهُمَا غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي حَقِّ الْوَكِيلِ ، فَيَضْمَنُ الْقَاضِي وَكَالَتَهُ عَلَى حَالِهَا .
وَإِذَا ادَّعَى الْوَكِيلُ دَعْوَى فِي دَارٍ فِي يَدَيْ رَجُلٍ لِمُوَكِّلِهِ فَأَنْكَرَ ذُو الْيَدِ الْوَكَالَةَ وَالدَّعْوَى ، فَشَهِدَ ابْنَا ذِي الْيَدِ عَلَى الْوَكَالَةِ بِالْخُصُومَةِ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى أَبِيهِمَا فَإِنَّهُمَا يُلْزِمَانِهِ الْجَوَابَ عِنْدَ دَعْوَى الْوَكِيلِ ، وَإِذَا أَشْهَدَا رَجُلَيْنِ عَلَى شَهَادَتِهِمَا ، ثُمَّ ارْتَدَّ الْأَصْلِيَّانِ ، ثُمَّ أَسْلَمَا لَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ الْآخَرَيْنِ عَلَى شَهَادَتِهِمَا ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُمَا عِنْدَ الْآخَرَيْنِ تَبْطُلُ بِارْتِدَادِهِمَا ، بِمَنْزِلَةِ شَهَادَتِهِمَا عِنْدَ الْقَاضِي فَإِنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا عِنْدَ الْقَاضِي ، ثُمَّ ارْتَدَّا قَبْلَ الْقَضَاءِ بَطَلَتْ بِشَهَادَتِهِمَا ، فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَا عِنْدَ الْفَرْعِيَّيْنِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ بِرِدَّتِهِمَا لَا يَبْطُلُ أَصْلُ شَهَادَتِهِمَا ، إنَّمَا يَبْطُلُ أَدَاؤُهُمَا ؛ لِأَنَّ سَبَبَ أَصْلِ الشَّهَادَةِ مَعًا بَيْنَهُمَا ، وَذَلِكَ لَا يَنْعَدِمُ بِالرِّدَّةِ ، وَلِأَنَّ اقْتِرَانَ الرِّدَّةِ بِالتَّحَمُّلِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ ، فَاعْتِرَاضُهُمَا لَا يَمْنَعُ الْبَقَاءَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى .
فَأَمَّا اقْتِرَانُ الرِّدَّةِ بِالْأَدَاءِ فَيَمْنَعُ صِحَّةَ الْأَدَاءِ ، فَاعْتِرَاضُهُمَا بَعْدَ الْأَدَاءِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ يَكُونُ مُبْطِلًا لِلْأَدَاءِ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِلْفَرْعِيَّيْنِ أَنْ يَشْهَدَا بِأَدَاءِ الْأَصْلِيَّيْنِ عِنْدَهُمَا ، وَقَدْ بَطَلَ ذَلِكَ بِرِدَّتِهِمَا ، وَإِنْ شَهِدَ الْأَصْلِيَّانِ بِأَنْفُسِهِمَا بَعْدَ مَا أَسْلَمَا جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا لِبَقَاءِ أَصْلِ الشَّهَادَةِ لَهُمَا بَعْدَ الرِّدَّةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ عَلَى شَهَادَتِهِمَا رَجُلَانِ ، ثُمَّ فَسَقَا لَمْ يَجُزْ أَدَاؤُهُمَا ؛ لِأَنَّ أَدَاءَهُمَا عِنْدَ الْفَرْعِيَّيْنِ بِمَنْزِلَةِ أَدَائِهِمَا عِنْدَ الْقَاضِي ، وَفِسْقُ الشَّاهِدَيْنِ عِنْدَ الْأَدَاءِ يَمْنَعُ الْقَاضِيَ مِنْ الْعَمَلِ بِشَهَادَتِهِمَا ، فَكَذَلِكَ فِسْقُهُمَا هُنَا يَمْنَعُ الْفَرْعِيَّيْنِ مِنْ أَنْ يَشْهَدَا عَلَى شَهَادَتِهِمَا ، وَلَكِنْ إنَّمَا يَبْطُلُ بِفِسْقِهِمَا أَدَاؤُهُمَا ، لَا
أَصْلُ شَهَادَتِهِمَا ، حَتَّى إذَا تَابَا وَأَصْلَحَا ، ثُمَّ شَهِدَا بِذَلِكَ جَازَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا عَلَى شَهَادَتِهِمَا بَعْدَ التَّوْبَةِ ذَلِكَ الشَّاهِدَانِ أَوْ غَيْرُهُمَا جَازَ ، فَإِنْ شَهِدَ الْفَرْعِيَّانِ عَلَى شَهَادَةِ الْفَاسِقَيْنِ عِنْدَ الْقَاضِي فَرَدَّهُمَا لِتُهْمَةِ الْأَوَّلَيْنِ ، لَمْ يَقْبَلْهَا أَبَدًا مِنْ الْأَوَّلَيْنِ وَلَا مِمَّنْ يَشْهَدُ عَلَى شَهَادَتِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْفَرْعِيَّيْنِ نَقَلَا شَهَادَةَ الْأَصْلِيَّيْنِ إلَى الْقَاضِي فَكَأَنَّهُمَا حَضَرَا بِأَنْفُسِهِمَا وَشَهِدَا ، وَالْفَاسِقُ إذَا شَهِدَ فَرَدَّ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ تَأَيَّدَ ذَلِكَ الرَّدُّ ، وَلِأَنَّ الْفِسْقَ لَا يُعْدِمُ الْأَهْلِيَّةَ لِلشَّهَادَةِ فَالْمَرْدُودُ كَانَ شَهَادَةً ، وَقَدْ حَكَمَ الْقَاضِي بِبُطْلَانِهَا فَلَا يُصَحِّحُهَا بَعْدَ ذَلِكَ أَبَدًا ، وَإِنْ كَانَ الْأَصْلِيَّانِ عَدْلَيْنِ فَرَدَّ الْقَاضِي الشَّهَادَةَ لِفِسْقِ الْفَرْعِيَّيْنِ ، ثُمَّ حَضَرَ الْأَصْلِيَّانِ وَشَهِدَا ، قَبِلَ الْقَاضِي شَهَادَتَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا أَبْطَلَ هُنَا نَقْلَ الْفَرْعِيَّيْنِ لِفِسْقٍ فِيهِمَا ، وَمَا أَبْطَلَ الْمَنْقُولَ ، وَهُوَ شَهَادَةُ الْأَصْلِيَّيْنِ ؛ لِأَنَّ إبْطَالَ الْفِسْقِ الْمَنْقُولِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِهِ فِي مَجْلِسِهِ ، وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ إلَّا بِنَقْلِ الْفَاسِقِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ، فَإِنَّ النَّقْلَ هُنَاكَ قَدْ ثَبَتَ بِعَدَالَةِ الْفَرْعِيَّيْنِ ، وَإِنَّمَا أَبْطَلَ الْقَاضِي الْمَنْقُولَ ، وَهُوَ شَهَادَةُ الْأَصْلِيَّيْنِ فَلَا يَقْبَلُهَا بَعْدَ ذَلِكَ .
وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى شَهَادَةِ عَبْدَيْنِ أَوْ كَافِرَيْنِ عَلَى مُسْلِمٍ فَرَدَّ الْقَاضِي ذَلِكَ ، ثُمَّ عَتَقَ الْعَبْدَانِ أَوْ أَسْلَمَ الْكَافِرَانِ فَشَهِدَا بِذَلِكَ جَازَ ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا عِنْدَ الْقَاضِي بِأَنْفُسِهِمَا فَرَدَّ الْقَاضِي شَهَادَتَهُمَا ثُمَّ أَعَادَا بَعْدَ الْعِتْقِ وَالْإِسْلَامِ ، قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُمَا ، كَمَا أَنَّ الْمَرْدُودَ لَمْ يَكُنْ شَهَادَةً ، فَإِنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ ، وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ فَلَمْ يَحْكُمْ الْقَاضِي بِبُطْلَانِ مَا هُوَ شَهَادَةٌ هُنَا ، فَلَهُ أَنْ يَقْبَلَهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِخِلَافِ الْفَاسِقَيْنِ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْحُكْمُ عِنْدَ أَدَائِهِمَا ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَدَاءِ الْفَرْعِيَّيْنِ .
وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْحَرْبِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ ؛ لِأَنَّ حَالَ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَحَالِ الْأَرِقَّاءِ أَوْ دُونَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ دَفْعَ مِلْكِ الْغَيْرِ عَنْ نَفْسِهِ بِالِاسْتِيلَاءِ ، فَلَا شَهَادَةَ لَهُمْ وَلَا يَجُوزُ لِقَاضِي الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَعْمَلَ بِذَلِكَ إنْ كَتَبَ بِهِ إلَيْهِ مَلِكُهُمْ ، إمَّا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ ، أَوْ لِأَنَّ مَلِكَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ ، فَلَا يَكُونُ كِتَابُهُ حُجَّةً عِنْدَ الْقَاضِي إنَّمَا الْحُجَّةُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي ، وَمَلِكُهُمْ لَيْسَ بِقَاضٍ فِي حَقِّ قَاضِي الْمُسْلِمِينَ وَلَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ؛ فَلِهَذَا لَا يُلْتَفَتُ إلَى كِتَابِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي الْوَكَالَةِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَإِذَا وَكَّلَ الرَّجُلُ بِالْخُصُومَةِ فِي دَارٍ لَهُ بِقَبْضِهَا ، وَالدَّارُ فِي مِصْرٍ سِوَى الْمِصْرِ الَّذِي هُوَ فِيهِ ، فَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ كِتَابَ الْقَاضِي بِالْوَكَالَةِ فَذَلِكَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ تَثْبُتُ مَعَ الشَّهَادَةِ ، فَيَجُوزُ فِيهَا كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي ، وَالْقِيَاسُ يَأْبَى كَوْنَ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي حُجَّةً ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ الْكَاتِبَ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْخَصْمِ الَّذِي هُوَ فِي غَيْرِ بَلَدِهِ وَكِتَابُهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ الْخَطَّ يُشْبِهُ الْخَطَّ ، وَالْخَاتَمَ يُشْبِهُ الْخَاتَمَ ، وَالْكِتَابُ قَدْ يُفْتَعَلُ وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ ، فَإِنَّ فِيهِ كِتَابَ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي ، وَلِأَنَّ بِالنَّاسِ حَاجَةً مَاسَّةً إلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْخَصْمِ وَبَيْنَ شُهُودِهِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ ، وَرُبَّمَا لَا يَعْرِفُ عَدَالَةَ شُهُودِهِ فِي الْمِصْرِ الَّذِي فِيهِ الْخَصْمُ ، لَوْ شَهِدَ عَلَى شَهَادَتِهِمْ قُبَيْلَ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي لِيَنْقُلَ شُهُودُهُ كِتَابَهُ إلَى مَجْلِسِ قَاضِي الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ الْخَصْمُ وَيُثْبِتَ عَدَالَتَهُمْ فِي كِتَابِهِ ، فَلِأَجْلِ الْحَاجَةِ جَوَّزْنَا ذَلِكَ بِشَرْطِ أَنْ يُحْتَاطَ فِيهِ .
ثُمَّ بَيَّنَ صِفَةَ الْكِتَابِ فَقَالَ : يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْفُلَانِيُّ بِعَيْنِهِ ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَعْرِفْهُ الْقَاضِي بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَعْلُومًا لَهُ فَعِلْمُ الْقَاضِي فِيهِ أَبْلَغُ مِنْ الْبَيِّنَةِ ، فَلَا يَسْأَلُهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنْ يَذْكُرُ فِي كِتَابِهِ ، وَقَدْ أَثْبَتَهُ مَعْرِفَةً ، وَإِذَا كَانَ لَا يَعْرِفُ اسْمَهُ وَيَشْتَبِهُ ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَسْأَلَهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي كِتَابِهِ إلَى أَنْ يُعَرِّفَهُ عِنْدَ الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ ، وَتَعْرِيفُ الْغَائِبِ إنَّمَا يَكُونُ بِالِاسْمِ وَالنَّسَبِ ، فَمَا لَمْ يُثْبِتْ ذَلِكَ عِنْدَهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُعَرِّفَهُ فِي كِتَابِهِ ، وَإِذَا أَثْبَتَ ذَلِكَ الشُّهُودُ عِنْدَهُ وَزَكَّوْا ، كَتَبَ لَهُ وَسَمَّاهُ وَيَنْسُبُهُ إلَى أَبِيهِ وَقَبِيلَتِهِ .
قَالُوا وَتَمَامُ التَّعْرِيفِ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَ أَبِيهِ وَاسْمَ جَدِّهِ ، وَإِنْ ذَكَرَ قَبِيلَتَهُ مَعَ ذَلِكَ فَهُوَ أَبْلَغُ وَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ ، وَيَذْكُرُ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُ قَدْ أَقَامَ عِنْدَهُ الْبَيِّنَةَ بِذَلِكَ وَزَكَّوْا شُهُودَهُ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ ، وَإِنْ شَاءَ سَمَّى الشُّهُودَ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ذِكْرَهُمْ ، وَقَالَ : أَعْرِفُ وَجْهَهُ وَاسْمَهُ وَنَسَبَهُ ؛ لِأَنَّ تَعْرِيفَهُ عِنْدَ الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ كِتَابُ الْقَاضِي ، لَا شُهُودُهُ عِنْدَ الْقَاضِي الْكَاتِبِ فَيَجُوزُ أَنْ يَتْرُكَ ذِكْرَهُمْ ، ثُمَّ يَكْتُبَ ، وَذَكَرَ أَنَّ دَارًا فِي الْبَصْرَةِ فِي بَنِي فُلَانٍ وَيَذْكُرُ حُدُودَهَا لَهُ ، وَأَنَّهُ قَدْ وَكَّلَ فِي الْخُصُومَةِ فِيهَا وَقَبْضِهَا فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ ، فَإِنْ كَانَ الْوَكِيلُ حَاضِرًا عِنْدَ الْكَاتِبِ جَلَّاهُ مَعَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ لِيَكُونَ أَبْلَغَ وَإِنْ تَرَكَ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ ، ثُمَّ يَخْتِمُ الْكِتَابَ لِيُؤَمَّنَ بِالْخَتْمِ مِنْ التَّغْيِيرِ وَالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ فِيهِ وَيُشْهِدُ عَلَى خَتْمِهِ شَاهِدَيْنِ .
وَإِذَا قَدَّمَ الْوَكِيلُ كِتَابَهُ سَأَلَهُ الْقَاضِي الْبَيِّنَةَ عَلَى الْكِتَابِ وَالْخَاتَمِ وَمَا فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ هَذَا كِتَابُ الْقَاضِي إلَيْهِ وَهُوَ لَا يَعْرِفُ حَقِيقَةَ ذَلِكَ ، وَمَا غَابَ عَنْ الْقَاضِي عِلْمُهُ فَطَرِيقُ إثْبَاتِهِ عِنْدَهُ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ .
وَعِلْمُ الشَّاهِدَيْنِ بِمَا فِي الْكِتَابِ شَرْطٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ - خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهِيَ مَسْأَلَةُ أَدَبِ الْقَاضِي ، فَإِنْ شَهِدُوا بِذَلِكَ فَزَكَّوْا ، سَأَلَ الْوَكِيلَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ بِعَيْنِهِ ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ لَا يَعْرِفُ الْوَكِيلَ بِاسْمِهِ وَنَسَبِهِ ، فَإِذَا كَانَ يَعْرِفُهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْرِفُهُ يَقُولُ لِلْوَكِيلِ : " قَدْ عَلِمْتُ بِهَذَا الْكِتَابِ أَنَّ الْوَكِيلَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ وَلَكِنْ لَا أَدْرَى أَنَّكَ ذَلِكَ الرَّجُلُ أَمْ لَا " فَيَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى اسْمِهِ وَنَسَبِهِ ، لِهَذَا فَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ وَزَكَّوْا ، ادَّعَى بِحُجَّةِ صَاحِبِهِ فِي الدَّارِ ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَكِّلِ ، وَلَوْ حَضَرَ الْمُوَكِّلُ بِنَفْسِهِ طَالَبَهُ بِالْحُجَّةِ عَلَى مَا يَدَّعِي مِنْ الْحَقِّ فِي الدَّارِ ، فَكَذَلِكَ إذَا حَضَرَ وَكِيلُهُ ، وَإِنْ سَأَلَ الْقَاضِي الْوَكِيلَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ فُلَانَ بْنَ فُلَانٍ بِعَيْنِهِ قَبْلَ أَنْ يَسْأَلَهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْكِتَابِ فَذَلِكَ صَوَابٌ وَأَحْسَنُ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ فِي إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْكِتَابِ وَالْخَاتَمِ مِنْ مُدَّعِيهِ ، وَالْمُدَّعِي مَنْ ذَكَرَ لَهُ أَنَّهُ وَكِيلٌ وَأَنَا عُرِفْتُ عِنْدَهُ بِالِاسْمِ وَالنَّسَبِ ، فَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ أَوَّلًا عَلَى اسْمِهِ وَنَسَبِهِ حَتَّى إذَا ثَبَتَ أَنَّهُ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ سَمِعَ دَعْوَاهُ فِي كِتَابِ الْقَاضِي وَخَتْمِهِ ، فَهَذَا التَّرْتِيبُ أَحْسَنُ ، وَالْأَوَّلُ جَائِزٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي أَحَدِهِمَا بِدُونِ صَاحِبِهِ إلْزَامُ شَيْءٍ عَلَى الْخَصْمِ فَبِأَيِّهِمَا كَانَتْ الْبُدَاءَةُ جَازَ .
وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَفْتَحَ كِتَابَ الْقَاضِي إلَّا وَالْخَصْمُ مَعَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَى أَنْ يَصُونَ نَفْسَهُ عَنْ أَسْبَابِ التُّهْمَةِ ، وَلَوْ فَتَحَ الْكِتَابَ بِدُونِ حُضُورِ الْخَصْمِ رُبَّمَا يَتَّهِمُهُ الْخَصْمُ بِتَغْيِيرِ شَيْءٍ مِنْهُ .
وَإِذَا قَبَضَ الْوَكِيلُ الدَّارَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهَا وَلَا يَرْهَنَهَا وَلَا يُسْكِنَهَا أَحَدًا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا وُكِّلَ بِالْخُصُومَةِ فِيهَا وَبِقَبْضِهَا ، وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ وَرَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ فِيهَا كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ ، وَإِنْ ادَّعَى رَجُلٌ فِيهَا دَعْوَى فَهُوَ خَصْمٌ فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ وَكَّلَهُ بِالْخُصُومَةِ فِيهَا وَلَمْ يُسَمِّ فِي الْوَكَالَةِ أَحَدًا بِعَيْنِهِ ، فَإِنْ كَانَ سَمَّى فِي الْوَكَالَةِ إنْسَانًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُخْصِمَ غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ فِي الْوَكَالَةِ صَحِيحٌ إذَا كَانَ مُقَيَّدًا ، وَهَذَا مُقَيَّدٌ ، إمَّا لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ رَضِيَ بِكَوْنِهِ نَائِبًا عَنْهُ فِي الْإِثْبَاتِ لَهُ عَلَى فُلَانٍ دُونَ الْإِثْبَاتِ عَلَيْهِ لِغَيْرِهِ ، أَوْ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْخُصُومَةِ فَقَدْ يَقْدِرُ الْوَكِيلُ عَلَى دَفْعِ خُصُومَةِ إنْسَانٍ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ خُصُومَةِ غَيْرِهِ ، لِكَثْرَةِ هِدَايَتِهِ فِي وُجُوهِ الْحِيَلِ .
وَالْقَاضِي فِي التَّوْكِيلِ لِنَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ غَيْرِهِ مِنْ الرَّعَايَا ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِلتَّصَرُّفِ فِي حُقُوقِ نَفْسِهِ فَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِذَلِكَ ، وَلَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ بَيْنَ وَكِيلِهِ وَبَيْنَ خَصْمِهِ ؛ لِأَنَّ قَضَاءَهُ لِوَكِيلِهِ بِمَنْزِلَةِ قَضَائِهِ لِنَفْسِهِ ، وَهُوَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا يَكُونُ قَاضِيًا ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ فَوْقَ وِلَايَةِ الشَّهَادَةِ ، وَإِذَا كَانَ الْمَرْءُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ لَا يَكُونُ شَاهِدًا فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ قَاضِيًا ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ مِنْ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ أَوْ زَوْجَتِهِ أَوْ ابْنِهِ لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ لَهُ وَلَا لِوَكِيلِهِ ، وَكُلُّ مَنْ جَازَتْ شَهَادَتُهُ لَهُ جَازَ قَضَاؤُهُ لَهُ ؛ لِأَنَّ أَقْرَبَ الْأَسْبَابِ إلَى الْقَضَاءِ الشَّهَادَةُ ، فَإِنَّ الْقَضَاءَ يَكُونُ بِالشَّهَادَةِ وَالشَّهَادَةُ تَصِحُّ بِالْقَضَاءِ ، فَإِذَا جَعَلَ فِي حُكْمِ الشَّهَادَةِ مَنْ سُمِّيَا بِمَنْزِلَةِ نَفْسِهِ ، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْقَضَاءِ .
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا وَصَّى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْقَاضِي ، وَأَوْصَى إلَى رَجُلٍ آخَرَ لَمْ يَجُزْ قَضَاءُ الْقَاضِي لِذَلِكَ الْمَيِّتِ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ ؛ لِأَنَّ لَهُ نَصِيبًا فِيمَا يَقْضِي بِهِ لِلْمَيِّتِ مِنْ الْمَالِ فَكَانَ قَاضِيًا لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ ، فَكَمَا لَا يَقْضِي عِنْدَهُ دَعْوَى الْوَصِيِّ ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ دَعْوَى الْوَكِيلِ لِلْوَصِيِّ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْقَاضِي أَحَدَ وَرَثَةِ الْمَيِّتِ وَلَمْ يُوصِ لَهُ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ قَاضٍ لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ أَوْ الْوَارِثُ ابْنَ الْقَاضِي أَوْ امْرَأَتَهُ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ نَفْسِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ لِلشَّهَادَةِ فِيمَا يَدَّعِي لِلْمَيِّتِ مِنْ الْمَالِ فَكَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لِلْقَاضِي عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ ؛ لِأَنَّهُ بِهَذَا الْقَضَاءِ يُمَهِّدُ مَحَلَّ حَقِّهِ ، فَإِنَّهُ إذَا أَثْبَتَ بِقَضَائِهِ تَرِكَةَ الْمَيِّتِ اسْتَبَدَّ بِاسْتِيفَائِهِ بِدَيْنِهِ ، فَكَانَ قَاضِيًا لِنَفْسِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .
وَلَوْ اخْتَصَمَ رَجُلَانِ فِي شَيْءٍ فَوَكَّلَ أَحَدُهُمَا ابْنَ الْقَاضِي أَوْ عَبْدَهُ أَوْ مُكَاتَبَهُ لَمْ يَجُزْ قَضَاءُ الْقَاضِي لِلْوَكِيلِ عَلَى خَصْمِهِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْقَبْضِ بِقَضَائِهِ يَثْبُتُ لِلْوَكِيلِ ، فَإِذَا كَانَ عَبْدَهُ أَوْ ابْنَهُ ، كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْقَضَاءِ لَهُ .
وَلَوْ قَضَى لِلْخَصْمِ عَلَى الْوَكِيلِ جَازَ بِمَنْزِلَةِ قَضَائِهِ عَلَى ابْنِهِ أَوْ عَبْدِهِ ، إذْ لَا تُهْمَةَ فِي قَضَائِهِ عَلَى ابْنِهِ ، وَإِنَّمَا التُّهْمَةُ فِي قَضَائِهِ لَهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ شَهَادَتَهُ عَلَى ابْنِهِ مَقْبُولَةٌ بِخِلَافِ شَهَادَتِهِ لَهُ .
وَإِذَا وَكَّلَ رَجُلًا بِالْخُصُومَةِ ، ثُمَّ وُلِّيَ الْوَكِيلُ الْقَضَاءَ لَمْ يَجُزْ قَضَاؤُهُ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا يَدَّعِيه لِنَفْسِهِ لَا يَكُونُ قَاضِيًا ، فَكَذَلِكَ فِيمَا هُوَ وَكِيلٌ فِيهِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْقَبْضِ يَثْبُتُ لَهُ فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ مَكَانَهُ وَكِيلًا آخَرَ لَمْ يَجُزْ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ مَا رَضِيَ بِتَوْكِيلِ غَيْرِهِ وَلَكِنَّهُ لَوْ عُزِلَ عَنْ الْقَضَاءِ كَانَتْ وَكَالَتُهُ عَلَى حَالِهَا ، لِأَنَّ نَفَاذَ الْقَضَاءِ لَا يُنَافِي الْوَكَالَةَ ، وَإِنْ كَانَ يَمْنَعُهُ مِنْ الْقَضَاءِ بِهَا ، كَمَا لَا يُنَافِي أَصْلَ حُقُوقِهِ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ مَمْنُوعًا مِنْ الْقَضَاءِ بِهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وُكِّلَ وَهُوَ قَاضٍ كَانَ التَّوْكِيلُ صَحِيحًا وَكَانَ وَكِيلًا ، حَتَّى إذَا عُزِلَ كَانَ وَكِيلًا فَإِذَا كَانَ اقْتِرَانُ الْقَضَاءِ بِالْوَكَالَةِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَهَا ، فَطَرَيَانُهُ لَا يَرْفَعُهَا وَكَانَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى .
وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَ رَجُلٌ الْقَاضِيَ بِبَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ أَوْ قَبْضٍ جَازَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ ، فَكَذَلِكَ لِلْغَيْرِ وَكَذَلِكَ لَوْ وَكَّلَ الْقَاضِيَ بِالْخُصُومَةِ فَهُوَ عَلَى وَكَالَتِهِ إذَا عُزِلَ عَنْ الْقَضَاءِ ، وَإِنْ قَالَ لَهُ الْمُوَكِّلُ : مَا صَنَعْتَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ فَوَكَّلَ الْقَاضِي وَكِيلًا يُخَاصِمُ إلَيْهِ بِذَلِكَ فَالتَّوْكِيلُ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ أَجَازَ صُنْعَهُ عَلَى الْعُمُومِ ، وَالتَّوْكِيلُ مِنْ صُنْعِهِ ، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ لِلْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ هُوَ الَّذِي وَكَّلَهُ ، فَقَضَاؤُهُ لَهُ كَقَضَائِهِ لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا فِيمَا يَدَّعِيه وَكِيلُهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ هَذَا وَكِيلَ ابْنِهِ أَوْ بَعْضَ مَنْ هُوَ مِمَّنْ لَا يَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ .
قَالَ : وَإِذَا وَكَّلَ الْقَاضِي بِبَيْعِ عَبْدِهِ وَكِيلًا فَبَاعَهُ فَخَاصَمَ الْمُشْتَرِي الْوَكِيلَ فِي عَيْبٍ لَمْ يَجُزْ قَضَاءُ الْقَاضِي فِيهِ لِمُوَكِّلِهِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ قَضَائِهِ لِنَفْسِهِ ، فَإِنَّ مَا يَلْحَقُ الْوَكِيلَ مِنْ الْعُهْدَةِ يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْمُوَكِّلِ فَيَنْدَفِعُ عَنْهُ أَيْضًا ، فَفِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا يَنْدَفِعُ عَنْ الْمُوَكِّلِ ، وَإِنْ قَضَى بِهِ عَلَى الْوَكِيلِ جَازَ ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَضَاءِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَلَا تُهْمَةَ فِي ذَلِكَ فَكَذَلِكَ عَلَى ابْنِهِ وَمَنْ لَا يَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ .
وَلَوْ وَكَّلَ الْقَاضِي وَكِيلًا يَبِيعُ لِلْيَتَامَى شَيْئًا ، ثُمَّ خَاصَمَ الْمُشْتَرِيَ فِي عَيْنِهِ جَازَ قَضَاءُ الْقَاضِي لِلْوَكِيلِ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ هُنَا نَائِبٌ عَنْ الْيَتِيمِ لَا عَنْ الْقَاضِي ، حَتَّى إذَا لَحِقَتْهُ عُهْدَةٌ رَجَعَ بِهَا فِي مَالِ الْيَتِيمِ فَلَا يَكُونُ الْقَاضِي فِي هَذَا الْقَضَاءِ دَافِعًا عَنْ نَفْسِهِ .
وَإِذَا وَكَّلَ ابْنُ الْقَاضِي وَكِيلًا فِي خُصُومَةٍ فَخَاصَمَ إلَى الْقَاضِي ، ثُمَّ مَاتَ الْمُوَكِّلُ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ لِلْوَكِيلِ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا يَقْضِي بِهِ لَهُ نَصِيبٌ فِيهِ ، وَإِنْ قَضَى بِهِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوَكِّلِ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْوَارِثِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ فِي مَالِهِ ، وَلَكِنَّ هَذَا إذَا كَانَ الْوَارِثُ مِمَّنْ تَجُوزُ شَهَادَةُ الْقَاضِي لَهُ .
وَلَوْ وَكَّلَتْ امْرَأَةُ الْقَاضِي وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ ، ثُمَّ بَانَتْ مِنْهُ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَقَضَى لِوَكِيلِهَا جَازَ ، وَكَذَلِكَ وَكِيلُ مُكَاتَبِهِ إذَا عَتَقَ الْمُكَاتَبُ قَبْلَ الْقَضَاءِ ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ وَقْتُ الْقَضَاءِ لَا وَقْتُ التَّوْكِيلِ ؛ لِأَنَّ الْإِلْزَامَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْقَضَاءِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ ذَلِكَ سَبَبٌ مُمَكِّنٌ لِلتُّهْمَةِ كَانَ الْقَضَاءُ نَافِذًا وَإِلَّا فَلَا .
وَإِذَا كَانَ ابْنُ الْقَاضِي وَصِيًّا لِيَتِيمٍ لَمْ يَجُزْ قَضَاؤُهُ فِي أَمْرِ الْيَتِيمِ ؛ لِأَنَّ فِيمَا يَقْضِي بِهِ لِلْيَتِيمِ حَقَّ الْقَبْضِ يَثْبُتُ لِلْوَصِيِّ ، فَإِذَا كَانَ الْوَصِيُّ ابْنَ الْقَاضِي ، كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَضَائِهِ لِابْنِهِ مِنْ وَجْهٍ ؛ فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ وَكَالَةِ وَصِيِّ الْيَتِيمِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَيَجُوزُ لِوَصِيِّ الْيَتِيمِ أَنْ يُوَكِّلَ فِي كُلِّ مَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْمَلَهُ بِنَفْسِهِ مِنْ أُمُورِ الْيَتِيمِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ الْوَصِيِّ وَالْوَكِيلِ مَعَ أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْحَقِيقَةِ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ مُفَوَّضٌ إلَيْهِ الْأَمْرُ عَلَى الْعُمُومِ ، وَلَوْ فَوَّضَ إلَى الْوَكِيلِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ بِأَنْ قَالَ : مَا صَنَعْتَ مِنْ شَيْءٍ ، فَهُوَ جَائِزٌ ، كَانَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ ، فَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ ، فَإِنْ بَلَغَ الْيَتِيمُ قَبْلَ أَنْ يَصْنَعَ الْوَكِيلُ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ ؛ لِأَنَّ حَقَّ التَّصَرُّفِ لِلْوَكِيلِ بِاعْتِبَارِ حَقِّ التَّصَرُّفِ لِلْوَصِيِّ ، وَبِبُلُوغِ الْيَتِيمِ عَنْ عَقْلٍ انْعَزَلَ الْوَصِيُّ حَتَّى لَا يَمْلِكَ التَّصَرُّفَ ، فَكَذَلِكَ وَكِيلُهُ ؛ وَلِأَنَّ اسْتِدَامَةَ الْوَكَالَةِ بَعْدَ بُلُوغِ الْيَتِيمِ كَإِنْشَائِهَا ، وَلَوْ وَكَّلَهُ الْوَصِيُّ بَعْدَ بُلُوغِ الْيَتِيمِ ، لَمْ يَجُزْ فَكَذَلِكَ لَا تَبْقَى وَكَالَتُهُ ،
وَإِذَا وَكَّلَ الْيَتِيمُ بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِهِ وَكِيلًا لَمْ يَجُزْ إلَّا بِإِجَازَةِ وَصِيِّهِ ، كَمَا لَوْ بَاشَرَ ذَلِكَ التَّصَرُّفَ بِنَفْسِهِ ، لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِجَازَةِ وَصِيِّهِ
فَإِنْ كَانَ لِلْيَتِيمِ وَصِيَّانِ فَوَكَّلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَجُلًا عَلَى حِدَةٍ بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا ، قَامَ وَكِيلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقَامَهُ ، وَجَازَ لَهُ مَا يَجُوزُ لَهُ ؛ لِأَنَّ بِالتَّوْكِيلِ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ ، وَهُوَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مُسْتَبِدٌّ بِالتَّصَرُّفِ ، فَيَقُومُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَكِيلَيْنِ مَقَامَ مُوَكِّلِهِ ، ثُمَّ إنَّ الْخِلَافَ مَعْرُوفٌ فِي أَنَّ أَحَدَ الْوَصِيَّيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - إلَّا فِي أَشْيَاءَ مَعْدُودَةٍ خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَكَذَلِكَ وَكِيلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
قَالَ : وَإِذَا كَانَ الصَّبِيُّ فِي حِجْرِ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ يَعُولُهُ ، وَلَيْسَ بِوَصِيٍّ لَهُ لَمْ يَجُزْ عَلَيْهِ بَيْعٌ ، وَلَا شِرَاءٌ ، وَلَا خُصُومَةٌ ، وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ نُفُوذَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ يَعْتَمِدُ الْوِلَايَةَ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْيَتِيمِ ، فَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيمَا سِوَى إجَارَتِهِ ، وَقَبْضِ الصَّدَقَةِ ، وَالْهِبَةِ لَهُ اسْتِحْسَانًا ، أَمَّا إجَارَةُ نَفْسِهِ فَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهَا تُعْقَدُ عَلَى مَنَافِعِ نَفْسِهِ ، وَيَلْزَمُهُ بِحُكْمِ ذَلِكَ الْعَقْدِ تَسَلُّمُ نَفْسِهِ ، وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ : الْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْإِجَارَةِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الصَّبِيُّ مَا يَكْتَسِبُ بِهِ ؛ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ وَهُوَ مَنْفَعَةٌ مَحْضَةٌ لَهُ ، لَوْ أَرَادَ مَنْ يَعُولُهُ أَنْ يُعَلِّمَهُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَيَسْتَخْدِمَهُ فِي ذَلِكَ لِيَتَعَلَّمَ جَازَ ذَلِكَ ، فَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَى غَيْرِهِ لِيُعَلِّمَهُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ يَحْصُلُ لَهُ ، فَإِذَا أَجَّرَهُ لِذَلِكَ لَحَصَلَ لَهُ عِوَضٌ بِإِزَاءِ مَنَافِعِهِ ، فَكَانَ إلَى الْجَوَازِ أَقْرَبَ ، وَإِلْزَامُ التَّسْلِيمِ بِحُكْمِ هَذَا الْعَقْدِ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْيَتِيمِ لِأَنَّهُ يَبْقَى مَحْفُوظًا بِيَدِ مَنْ يَحْفَظُهُ ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى الْحَافِظِ ، فَإِذَنْ قَبْضُ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ لَا يَسْتَدْعِي الْوِلَايَةَ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَبْضَ لِلصَّبِيِّ ، وَلَهُ أَنْ يَقْبِضَ بِنَفْسِهِ ، إذَا كَانَ يَعْقِلُ ذَلِكَ هُوَ ؛ لِأَنَّهُ مَحْضُ مَنْفَعَةٍ لَا يَشُوبُهَا ضَرَرٌ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْوِلَايَةِ فِيهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ يَعُولُهُ يَحْفَظُهُ ، وَيَحْفَظُ مَا مَعَهُ مِنْ مَالِهِ ، فَكَذَلِكَ يَحْفَظُ مَا يُوهَبُ لَهُ وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ، وَإِنْ أَجَّرَ عَبْدَهُ أَوْ دَابَّتَهُ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ نَوْعُ بَيْعٍ يَعْتَمِدُ الْوِلَايَةَ ، وَلَا مَقْصُودَ فِيهِ سِوَى أَسْبَابِ الْمَالِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ بَيْعِ الرَّقَبَةِ
قَالَ وَإِذَا وَكَّلَ وَصِيُّ الْمَيِّتِ وَكِيلًا فِي خُصُومَةِ الْيَتِيمِ ، أَوْ بَيْعٍ ، أَوْ شِرَاءٍ ، ثُمَّ مَاتَ الْوَصِيُّ بَطَلَتْ الْوَكَالَةُ ؛ لِأَنَّ نُفُوذَ تَصَرُّفِ الْوَكِيلِ بِاعْتِبَارِ وِلَايَةِ الْوَصِيِّ وَرَأْيِهِ ، وَقَدْ انْقَطَعَ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ فَتَبْطُلُ الْوَكَالَةُ أَيْضًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابُ الْوَكَالَةِ بِالْقِيَامِ عَلَى الدَّارِ وَقَبْضِ الْغَلَّةِ وَالْبَيْعِ قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : وَإِذَا وَكَّلَ وَكِيلًا بِالْقِيَامِ عَلَى دَارِهِ وَإِجَارَتِهَا وَقَبْضِ غَلَّتِهَا ؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ وَلَا يَرُمَّ شَيْئًا مِنْهَا ؛ لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ وَرَاءَ مَا أُمِرَ بِهِ ، وَأَنَّهُ إنَّمَا أُمِرَ بِحِفْظِ عَيْنِهَا ، وَالِاعْتِيَاضِ عَنْ مَنَافِعِهَا ، وَالْبِنَاءُ وَالتَّرْمِيمُ لَيْسَا مِنْ هَذَا فِي شَيْءٍ ، بَلْ هُوَ إحْدَاثُ شَيْءٍ آخَرَ فِيهَا فَلَا يُمْكِنُهُ بِدُونِ أَمْرِ صَاحِبِهَا ، وَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ وَكِيلًا فِي خُصُومَتِهَا ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِحِفْظِهَا كَالْمُودَعِ ؛ وَلَا يَكُونُ الْمُودَعُ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ لِمَنْ يَدَّعِي فِي الْوَدِيعَةِ حَقًّا ، فَكَذَلِكَ هَذَا ، وَلَوْ هَدَمَ رَجُلٌ مِنْهَا بَيْتًا كَانَ وَكِيلًا بِالْخُصُومَةِ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمُودَعِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْهَادِمَ اسْتَهْلَكَ شَيْئًا مِمَّا فِي يَدِهِ ، وَقَدْ أُمِرَ بِحِفْظِهِ ، وَحِفْظُ الشَّيْءِ بِإِمْسَاكِ عَيْنِهِ حَالَ بَقَائِهِ ، وَلَا بَدَلَ لَهُ عِنْدَ اسْتِهْلَاكِ الْعَيْنِ وَلَا يَتَوَصَّلُ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِأَنْ يُخَاصِمَ الْمُسْتَهْلِكَ ؛ لِيَسْتَرِدَّ فَكَانَ خَصْمًا فِي ذَلِكَ كَمَا يَكُونُ خَصْمًا لِلْغَاصِبِ فِي اسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَجَّرَهَا مِنْ رَجُلٍ ، فَجَحَدَ ذَلِكَ الرَّجُلُ الْإِجَارَةَ كَانَ خَصْمًا لَهُ حَتَّى يُثْبِتَهَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي بَاشَرَ الْعَقْدَ ، وَالْإِجَارَةُ أَحَدُ الْبَيْعَيْنِ ، وَالْمُبَاشِرُ لِلْبَيْعِ هُوَ الْخَصْمُ فِي إثْبَاتِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ ، وَكَذَلِكَ الْمُبَاشِرُ لِلْإِجَارَةِ ، وَإِنْ وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى إثْبَاتِ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ إلَيْهِ كَانَ الْخَصْمُ لَهُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُسَلِّمُهَا ، وَكَذَلِكَ إنْ سَكَنَهَا الْمُسْتَأْجِرُ ، وَجَحَدَ الْأَجْرَ فَإِنَّمَا كَانَ وُجُوبُ الْأَجْرِ بِعَقْدِ الْوَكِيلِ وَقَبْضِ الْحَقِّ إلَيْهِ فَكَانَ خَصْمًا فِي إثْبَاتِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ مِنْ الْعُقُودِ الَّتِي تَتَعَلَّقُ الْحُقُوقُ فِيهَا بِالْعَاقِدِ ، وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَدَّعِي
شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الدَّارِ لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّهُ وَكِيلٌ فِيهَا ، وَذَلِكَ يَهْدِمُ دَعْوَاهُ ، فَإِنَّ بَيْنَ كَوْنِهِ مَالِكًا لِلْعَيْنِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ وَكِيلًا فِيهَا مُنَافَاةً ، فَإِقْرَارُهُ بِالْوَكَالَةِ يَجْعَلُهُ مُنَاقِضًا فِي دَعْوَاهُ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ ، وَلَيْسَ لِهَذَا الْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ بِهَا غَيْرَهُ ،
وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِهِ إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَإِنَّهُ يَقُولُ : لَمَّا مَلَكَ الْوَكِيلُ التَّصَرُّفَ بِنَفْسِهِ بَعْدَ الْمُوَكِّلِ مَلَكَ التَّفْوِيضَ إلَى غَيْرِهِ بِالْوَكَالَةِ ، كَمَا فِي حُقُوقِ نَفْسِهِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْمُوَكِّلُ وَصِيٌّ بِرَأْيِ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ ، وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي الرَّأْيِ ، فَلَا يَكُونُ رِضَاهُ بِرَأْيِهِ فِيمَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ رِضًا بِرَأْيِ غَيْرِهِ ، وَكَانَ هُوَ فِي تَوْكِيلِ الْغَيْرِ بِهِ مُبَاشِرًا غَيْرَ مَا أَمَرَهُ بِهِ الْمُوَكِّلُ وَمُتَصَرِّفًا عَلَى خِلَافِ مَا رَضِيَ بِهِ ، فَلَا يَجُوزُ إلَّا أَنْ يَبِيعَ الْوَكِيلُ الثَّانِي بِمَحْضَرٍ مِنْ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ ، فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا ، وَعِنْدَ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : لَا يَجُوزُ ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ إنَّمَا تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ وَالْمُوَكِّلُ ، إنَّمَا رَضِيَ بِأَنْ تَتَعَلَّقَ الْحُقُوقُ بِالْوَكِيلِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي ، وَلَوْ جَازَ بَيْعُ الثَّانِي بِمَحْضَرٍ مِنْ الْأَوَّلِ تَعَلَّقَتْ الْحُقُوقُ بِهِ دُونَ الْأَوَّلِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : مَقْصُودُ الْمُوَكِّلِ مِنْ هَذَا أَنْ يَكُونَ تَمَامُ الْعَقْدِ بِرَأْيِ الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ ؛ وَإِنْ كَانَ هُوَ حَاضِرًا فَإِتْمَامُ الْعَقْدِ بِرَأْيِهِ فَكَانَ مَقْصُودُهُ حَاصِلًا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ عَامًّا ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا كَانَ حَاضِرًا يَصِيرُ كَأَنَّهُ هُوَ الْمُبَاشِرُ لِلْعَقْدِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَبَ إذَا زَوَّجَ ابْنَتَهُ الْبَالِغَةَ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَاحِدٍ بِحَضْرَتِهَا يُجْعَلُ كَأَنَّهَا هِيَ الَّتِي بَاشَرَتْ الْعَقْدَ ، حَتَّى يَصْلُحَ الْأَبُ أَنْ يَكُونَ شَاهِدًا ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْعَقْدِ فَإِنَّهُ لَوْ بَاعَهُ غَيْرُهُ فَأَجَازَ الْوَكِيلُ جَازَ ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْعَقْدِ بِرَأْيِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ حُقُوقُ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْمُبَاشِرِ عِنْدَ الْإِجَازَةِ فَكَذَلِكَ إذَا بَاعَ بِمَحْضَرٍ مِنْهُ .
وَلَوْ كَانَا وَكِيلَيْنِ فِي إجَارَةٍ أَوْ بَيْعٍ ، فَفَعَلَ ذَلِكَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ رَضِيَ بِرَأْيِهِمَا ، وَرَأْيُ أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ بِرَأْيِهِمَا ؛ وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكِيلَيْنِ بِالْخُصُومَةِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ يَتَعَذَّرُ اجْتِمَاعُهُمَا عَلَى الْخُصُومَةِ ، فَيَكُونُ الْمُوَكِّلُ رَاضِيًا بِخُصُومَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ ، وَهُنَا اجْتِمَاعُهُمَا فِي الْعَقْدِ يَتَيَسَّرُ ، وَهَذَا عَقْدٌ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ ، فَلَا يَنْفَرِدُ بِهِ أَحَدُهُمَا إذَا رَضِيَ الْمُوَكِّلُ بِرَأْيِهِمَا ، وَكَذَلِكَ الْمَرَمَّةُ وَالْبِنَاءُ فِي هَذَا ،
وَلَوْ بَاعَهُ الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ مِنْ ابْنٍ لَهُ صَغِيرٍ لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ صَرَّحَ الْمُوَكِّلُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ فِي بَابِ الْبَيْعِ إذَا بَاشَرَ الْعَقْدَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ يُؤَدِّي إلَى تَضَادِّ الْأَحْكَامِ ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُسْتَرِدًّا مُسْتَقْضِيًا قَابِضًا مُسَلِّمًا مُخَاصِمًا فِي الْعَيْبِ وَمُخَاصِمًا ، وَفِيهِ مِنْ التَّضَادِّ مَا لَا يَخْفَى ، وَلَوْ بَاعَهُ لَهُ مِنْ ابْنٍ لَهُ كَبِيرٍ أَوْ امْرَأَتِهِ أَوْ وَاحِدٍ مِمَّنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِمُطْلَقِ الْوَكَالَةِ أَيْضًا ، وَيَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - إلَّا مِنْ عَبْدِهِ وَمُكَاتَبِهِ ، هَكَذَا أَطْلَقَ الْجَوَابَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ وَالْوَكَالَةِ ، وَفِي الْمُضَارَبَةِ يَقُولُ : بَيْعُهُ مِنْ هَؤُلَاءِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ يَجُوزُ ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي الْبُيُوعِ بِالْغَبْنِ الْبَيِّنِ ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ يَقُولُ : مَنْ يَقِيسُ هُنَاكَ يَقِيسُ فِي الْوَكَالَةِ أَيْضًا ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الْوَكِيلَيْنِ وَالْمُضَارِبِ ، ثُمَّ وَجَّهَ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَكِيلِ فِيمَا يَشْتَرِي هَؤُلَاءِ مِلْكٌ وَلَا حَقُّ مِلْكٍ ، فَبَيْعُهُ مِنْهُمْ كَبَيْعِهِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ ، بِخِلَافِ الْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ ، فَإِنَّ كَسْبَ عَبْدِهِ لَهُ ، وَفِي كَسْبِ مُكَاتَبِهِ لَهُ حَقُّ الْمِلْكِ ، فَتَلْحَقُهُ التُّهْمَةُ بِالْبَيْعِ مِنْهُمَا ، فَلَا يَمْلِكُ ذَلِكَ كَمَا لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ مِنْ نَفْسِهِ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ : الْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ يُوجِبُ الْحَقَّ لِلْمُشْتَرِي فِي مِلْكِ الْغَيْرِ ، وَالْإِنْسَانُ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ ابْنِهِ وَامْرَأَتِهِ فِيمَا يُوجِبُهُ لَهُمَا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ لَهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ، وَجُعِلَ بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِ لِنَفْسِهِ ، أَوْ لِعَبْدِهِ ، أَوْ مُكَاتَبِهِ فَكَذَلِكَ إذَا بَاعَهُ مِنْهُ ، ثُمَّ إنْ كَانَ الْخِلَافُ فِي
الْبَيْعِ بِالْغَبْنِ الْيَسِيرِ ، فَكَلَامُ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَاضِحٌ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ إنَّمَا جَعَلَ الْغَبْنَ الْيَسِيرَ عَفْوًا ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَكِيلِ سَبَبٌ يَجُرُّ إلَيْهِ تُهْمَةَ الْمَيْلِ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِ ذَلِكَ فَأَمَّا مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ ابْنِهِ أَوْ أَبِيهِ فَسَبَبٌ يَجُرُّ تُهْمَةَ الْمَيْلِ لِنُفُوذِ الْوَكَالَةِ ، وَإِنْ أُجْرِيَتْ عَلَى إطْلَاقِهَا فَتَخْصِيصُهَا بِالتُّهْمَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ مِنْ هَؤُلَاءِ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِذَا دَخَلَهُ الْخُصُوصُ حُمِلَ عَلَى أَخَصِّ الْخُصُوصِ ، وَهُوَ جَعْلُ الْخِلَافِ عَلَى الْبَيْعِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُضَارِبِ وَالْوَكِيلِ أَنَّ الْمُضَارِبَ كَالْمُتَصَرِّفِ لِنَفْسِهِ مِنْ وَجْهٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ نَهْيُهُ عَنْ التَّصَرُّفِ بَعْدَ مَا صَارَ الْمَالُ عُرُوضًا ، وَأَنَّهُ شَرِيكُهُ فِي الرِّبْحِ فَلَا تَلْحَقُهُ التُّهْمَةُ فِي الْبَيْعِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ مِنْ هَؤُلَاءِ ؛ لِأَنَّهُ إنْفَاذٌ فِي الْعَيْنِ دُونَ الْمَالِيَّةِ ، وَفِي الْغَبْنِ هُوَ كَالْمُتَصَرِّفِ لِنَفْسِهِ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ بِالْغَبْنِ ، فَإِنَّهُ إيثَارٌ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَالِيَّةِ ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ نَائِبٌ مَحْضٌ فَأَمَّا الْوَكِيلُ فَفِي الْعَيْنِ وَالْمَالِيَّةِ جَمِيعًا نَائِبٌ ؛ فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ هَؤُلَاءِ بِمِثْلِ الْقِيمَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ قَدْ أَجَازَ لَهُ فِي الْوَكَالَةِ ، بِأَنْ قَالَ لَهُ : بِعْ مِمَّنْ شِئْتَ الْعُمُومَ ، فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ هَؤُلَاءِ ، وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لَمْ يَذْكُرْهَا هُنَا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا فَوَّضَ الْأَمْرَ إلَيْهِ عَلَى الْعُمُومِ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ التَّنْصِيصِ عَلَى الْبَيْعِ مِنْ هَؤُلَاءِ ، فَإِنَّ اللَّفْظَ الْعَامَّ يَكُونُ نَصًّا فِي كُلِّ مَا يَتَنَاوَلُهُ ؛ فَلِهَذَا أَجَازَ بَيْعُهُ مِنْ هَؤُلَاءِ بَعْدَ هَذِهِ الزِّيَادَةِ إلَّا مِنْ عَبْدِهِ الَّذِي لَا دَيْنَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا نَصَّ عَلَى بَيْعِهِ مِنْهُ فَلَمْ يَجُزْ فَإِنَّ
كَسْبَهُ مِلْكُ مَوْلَاهُ فَبَيْعُهُ مِنْ نَفْسِهِ ، فَأَمَّا عِنْدَ إطْلَاقِ الْوَكَالَةِ فَلَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ مِنْ هَؤُلَاءِ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ مُطْلَقٌ وَالْمُطْلَقُ غَيْرُ الْعَامِّ ، فَلَمْ يَكُنْ إطْلَاقُهُ بِمَنْزِلَةِ التَّنْصِيصِ عَلَى كُلِّ بَيْعٍ يُبَاشِرُهُ ؛ فَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْبَيْعَ مِنْ هَؤُلَاءِ لِتَمَكُّنِ سَبَبِ التُّهْمَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ كَمَا لَا يَبِيعُهُ مِنْ مُكَاتَبِهِ
قَالَ وَإِذَا بَاعَ الْوَكِيلُ الدَّارَ وَالْخَادِمَ فَطَعَنَ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ فَخُصُومَتُهُ فِي الْعَيْبِ مَعَ الْوَكِيلِ حَتَّى يَرُدَّهُ ، وَكَذَلِكَ الْخُصُومَةُ فِي الْعَيْنِ إلَى الْوَكِيلِ حَتَّى يَقْبِضَهُ عِنْدَنَا ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ عِنْدَنَا تَتَعَلَّقُ بِالْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : حُقُوقُ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْمُوَكِّلِ ، وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ نَائِبٌ فِي التَّصَرُّفِ عَنْ الْمُوَكِّلِ مُعَبِّرٌ عَنْهُ ، فَلَا تَتَعَلَّقُ حُقُوقُ الْعَقْدِ بِهِ كَالْوَكِيلِ بِالنِّكَاحِ ، وَدَلِيلُ الْوَصْفِ أَنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ وَهُوَ الْمِلْكُ يَثْبُتُ لِلْمُوَكِّلِ دُونَ الْوَكِيلِ ؛ وَلَنَا أَنَّ الْعَاقِدَ لِغَيْرِهِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ كَالْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ ، لِأَنَّ مُبَاشَرَتَهُ الْعَقْدَ بِالْوِلَايَةِ الْأَصْلِيَّةِ الثَّابِتَةِ لَهُ ، إلَّا أَنَّهُ كَانَ لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ بِهَذِهِ الْوِلَايَةِ فِي مَحَلٍّ هُوَ مَمْلُوكٌ لِلْغَيْرِ إلَّا بِرِضَا الْمَالِكِ بِهِ ، فَالتَّوْكِيلُ لِتَنْفِيذِ حُكْمِ التَّصَرُّفِ فِي مَحَلِّ الْإِثْبَاتِ وَالْوِلَايَةِ لَهُ ، وَإِذَا كَانَ تَصَرُّفُهُ بِالْوِلَايَةِ الْأَصْلِيَّةِ كَانَ عَقْدُهُ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ سَوَاءً فِيمَا هُوَ مِنْ حُقُوقِهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْمُوَكِّلِ فَإِنَّ الْوَكِيلَ بِشِرَاءِ شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَوْ لَمْ يُضِفْ الْعَقْدَ إلَى الْمُوَكِّلِ ؛ يَقَعُ لِلْمُوَكِّلِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ حَتَّى إذَا أَضَافَهُ إلَى نَفْسِهِ كَانَ الْعَقْدُ لَهُ دُونَ الْمُوَكِّلِ ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مُعَبِّرٌ عَنْهُ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالنِّكَاحِ لَيْسَ لَهُ قَبْضُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ
وَالْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ لَهُ قَبْضُ السِّلْعَةِ ، وَحَقِيقَةُ الْفَرْقِ أَنَّ كُلَّ عَقْدٍ يَجُوزُ أَنْ يَنْتَقِلَ مُوجَبُهُ مِنْ شَخْصٍ إلَى شَخْصٍ فَالْوَكِيلُ فِيهِ كَالْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ ، وَكُلُّ عَقْدٍ لَا يَجُوزُ أَنْ يَنْتَقِلَ مُوجَبُهُ مِنْ شَخْصٍ إلَى شَخْصٍ فَالْوَكِيلُ فِيهِ يَكُونُ مُغَايِرًا ، فَمُوجَبُ النِّكَاحِ مِلْكُ الْبُضْعِ ، وَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْلَ ، وَمُوجَبُ الشِّرَاءِ مِلْكُ الرَّقَبَةِ وَهُوَ يَحْتَمِلُ النَّقْلَ ، فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْوَكِيلَ يَمْلِكُهُ بِالشِّرَاءِ ، ثُمَّ مَلَكَهُ مِنْ الْمُوَكِّلِ هَذَا عَلَى طَرِيقَةِ الْكَرْخِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَيْثُ يَقُولُ : الْمِلْكُ أَوَّلًا فَأَمَّا عَلَى طَرِيقَةِ أَبِي طَاهِرٍ الدَّبَّاسِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْمِلْكُ يَقَعُ لِلْمُوَكِّلِ وَلَكِنْ يَعْقِدُهُ الْوَكِيلُ عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ عَنْهُ ، وَمِلْكُ النِّكَاحِ لَا يَحْتَمِلُ مِثْلَ هَذِهِ الْخِلَافَةِ ، فَأَمَّا مِلْكُ الْمَالِ فَيَحْتَمِلُ أَلَا تَرَى أَنَّ بِعَقْدِ الْعَبْدِ الْمِلْكَ ، يَقَعُ لِمَوْلَاهُ ، وَبِعَقْدِ الْمُوَرِّثِ يَقَعُ لِوَارِثِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْوَكِيلُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ وَإِذَا رَدَّ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ بِغَيْرِ قَضَاءِ قَاضٍ بِعَيْبٍ يَحْدُثُ مِثْلُهُ أَوْ لَا يَحْدُثُ لَزِمَهُ دُونَ الْآمِرِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ فِي هَذَا فِي الْإِقْرَارِ .
أَمَّا وَكِيلُ الْإِجَارَةِ فَلَهُ أَنْ يَقْبَلَ بِدُونِ الْقَاضِي ، وَإِذَا قَبِلَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - مَنْ قَالَ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ فِي الْإِجَارَةِ لَا يَصِيرُ مَقْبُوضًا بِقَبْضِ الدَّارِ ؛ وَلِهَذَا لَوْ تَلِفَ بِانْهِدَامِ الدَّارِ كَانَ فِي ضَمَانِ الْأَجِيرِ ، فَيَكُونُ هَذَا مِنْ الْبَيْعِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَبِلَهُ الْوَكِيلُ بِالْعَيْبِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَهُنَاكَ يَلْزَمُ الْآمِرَ ، فَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ ، فَأَمَّا فِي الْكِتَابِ فَعُلِّلَ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ ، وَقَالَ : لِأَنَّ فَسْخَ الْإِجَارَةِ لَيْسَ
بِإِجَارَةٍ ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْقَوْلَ بِالْعَيْبِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِيَ فِي الْبَيْعِ ، يُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ عَقْدٍ مُبْتَدَإٍ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، وَالْمُوَكِّلُ غَيْرُهُمَا ، فَصَارَ فِي حَقِّهِ كَأَنَّ الْوَكِيلَ اشْتَرَاهُ ابْتِدَاءً فَيَلْزَمُهُ دُونَ الْآمِرِ ، وَفِي الْإِجَارَةِ لَا يُجْعَلُ هَكَذَا ، لِأَنَّ عَلَى أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ الْإِجَارَةَ فِي مَعْنَى عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ يَتَجَدَّدُ انْعِقَادُهَا بِحَسَبِ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ ، فَبَعْدَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ يَمْتَنِعُ الِانْعِقَادُ ، لَا أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ عَقْدًا مُبْتَدَأً بَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْوَكِيلِ ، وَعَلَى الطَّرِيقَةِ الْأُخْرَى الْعَقْدُ مُنْعَقِدٌ بِاعْتِبَارِ إقَامَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَنْفَعَةُ ، وَهَذَا حُكْمٌ ثَبَتَ لِلضَّرُورَةِ ، وَلَا ضَرُورَةَ إلَى أَنْ يُجْعَلَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ عَقْدًا مُبْتَدَأً لِيُقَامَ رَقَبَةُ الدَّارِ فِيهِ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ .
قَالَ : وَلِلْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ أَنْ يَبِيعَ بِالنَّسِيئَةِ ؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِالْبَيْعِ مُطْلَقًا ، وَمَنْ اُعْتُبِرَ أَمْرُهُ فِي شَيْءٍ بِغَيْرِ إطْلَاقٍ جُعِلَ أَمْرُهُ كَأَوَامِرِ الشَّرْعِ ، فَالِامْتِثَالُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِأَصْلِ الْبَيْعِ لَا بِصِفَةِ النَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ ، لِأَنَّ ذَلِكَ قُيِّدَ وَالْمُطْلَقُ غَيْرُ الْمُقَيَّدِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّكْفِيرَ لَمَّا كَانَ بِتَحْرِيرِ رَقَبَةٍ مُطْلَقَةٍ اسْتَوَى فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ .
وَلِلْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ ، أَنْ يَأْخُذَ بِالثَّمَنِ رَهْنًا أَوْ كَفِيلًا ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ وَثِيقَةٌ لِجَانِبِ الِاسْتِيفَاءِ ؛ فَإِنَّ مُوجَبَهُ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ .
وَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الثَّمَنَ وَالْكَفَالَةَ ؛ وَثِيقَةً لِجَانِبِ اللُّزُومِ ؛ لِأَنَّهُ يَزْدَادُ بِهِ لِمُطْلَقِ الْمُطَالَبَةِ ، فَإِنَّهُ يُطَالِبُ الْكَفِيلَ بَعْدَ الْكَفَالَةِ مَعَ بَقَاءِ الْكَفَالَةِ وَالْمُطَالَبَةِ عَلَى الْأَصِيلِ كَمَا كَانَتْ ، وَالْمُطَالَبَةُ مِنْ حُقُوقِ الْوَكِيلِ ، وَلَهُ أَنْ يَحْتَالَ بِالثَّمَنِ إنْ كَانَ قَالَ لَهُ مَا صَنَعْت مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْحَوَالَةِ يُحَوِّلُ الثَّمَنَ مِنْ ذِمَّةِ الْمُحِيلِ إلَى ذِمَّةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ جُوِّزَ بِصِيغَةِ الْعُمُومِ نَفَذَ هَذَا التَّصَرُّفُ مِنْهُ عَلَى الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ صُنْعِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَالَ لَهُ هَذَا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - : يَجُوزُ قَبُولُ الْحَوَالَةِ فِي حَقِّ بَرَاءَةِ الْمُشْتَرِي ، وَيَكُونُ الْوَكِيلُ ضَامِنًا الثَّمَنَ لِلْمُوَكِّلِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ .
وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْإِبْرَاءِ أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ إذَا أَبْرَأَ الْمُشْتَرِيَ مِنْ الثَّمَنَ جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَصَارَ ضَامِنًا لِلْمُوَكِّلِ قِيَاسًا ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ إبْرَاؤُهُ اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي مِلْكٌ لِلْمُوَكِّلِ ، فَإِنَّهُ بَدَلُ مِلْكِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ الْبَدَلَ بِمِلْكِ الْأَصْلِ ، فَإِبْرَاءُ الْوَكِيلِ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ عَلَى خِلَافِ مَا أَمَرَهُ بِهِ فَلَا يَنْفُذُ .
كَمَا لَوْ قَبَضَ الثَّمَنَ ثُمَّ وَهَبَهُ مِنْ الْمُشْتَرِي ، وَدَلِيلُ الْخِلَافِ أَنَّهُ يَصِيرُ ضَامِنًا عِنْدَهُمَا .
وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ لِحَقِّ الْقَبْضِ ، وَالْقَبْضُ خَالِصُ حَقِّ الْوَكِيلِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُوَكِّلَ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ ذَلِكَ ،
وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَقْبِضَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، فَكَانَ هُوَ فِي الْإِبْرَاءِ عَنْ الْقَبْضِ مُسْقِطًا حَقَّ نَفْسِهِ ، فَيَصِحُّ مِنْهُ إلَّا أَنَّ بِقَبْضِهِ يَتَعَيَّنُ مِلْكُ الْآمِرِ فِي الْمَقْبُوضِ ، فَإِذَا انْسَدَّ عَلَيْهِ هَذَا الْبَابُ فَبِإِبْرَائِهِ صَارَ ضَامِنًا بِمَنْزِلَةِ الرَّاهِنِ يُعْتِقُ الْمَرْهُونَ يَنْفُذُ إعْتَاقُهُ ؛ لِمُصَادَفَتِهِ مِلْكَهُ ، وَلَكِنَّهُ يَضْمَنُ لِلْمُرْتَهِنِ ؛ لِانْسِدَادِ بَابِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ مَالِيَّةِ الْعَبْدِ عَلَيْهِ بِهَذَا الْإِعْتَاقِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فِي الْإِبْرَاءِ قُلْنَا : الْحَوَالَةُ إبْرَاءُ الْمُشْتَرِي بِتَحْوِيلِ الْحَقِّ إلَى ذِمَّةِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ ، فَلَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّهُ تَصَرَّفَ فِي حَقِّ الْمُوَكِّلِ بِخِلَافِ مَا أَمَرَهُ بِهِ ، وَيَجُوزُ عِنْدَهُمَا وَيَكُونُ الْوَكِيلُ ضَامِنًا .
كَمَا لَوْ أَبْرَأَهُ بِغَيْرِ حَوَالَةٍ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ حَطَّ الْبَائِعُ عَنْ الْمُشْتَرِي بَعْضَ الثَّمَنِ بِعَيْبٍ أَوْ بِغَيْرِ عَيْبٍ فَإِنْ كَانَ قَالَ لَهُ : مَا صَنَعْت مِنْ شَيْءٍ ، فَهُوَ جَائِزٌ فَهَذَا مِنْ صُنْعِهِ ، فَيَجُوزُ فِي حَقِّ الْآمِرِ ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ لَهُ فَهُوَ جَائِزٌ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي ، وَيَكُونُ الْوَكِيلُ ضَامِنًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَلَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ
وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى الْوَكِيلُ مِنْ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ مَتَاعًا ، أَوْ كَانَ الثَّمَنُ دَنَانِيرَ فَأَخَذَ مِنْهُ بِهَا دَرَاهِمَ ، أَوْ صَالَحَ مِنْ الثَّمَنِ عَلَى مَتَاعٍ فَذَلِكَ كُلُّهُ جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فِي حَقِّ الْوَكِيلِ وَيَكُونُ ضَامِنًا الثَّمَنَ لِلْمُوَكِّلِ .
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِمَّا صَنَعَ فِي بَرَاءَةِ الْمُشْتَرِي وَالثَّمَنُ عَلَى الْمُشْتَرِي عَلَى حَالِهِ ، وَلَوْ قَبَضَ مِنْ الثَّمَنِ بَعْضَهُ ، وَاشْتَرَى بِبَعْضِهِ مَتَاعًا ، كَانَ مُؤْتَمَنًا فِيمَا يَقْبِضُ مِنْ الثَّمَنِ بِعَيْنِهِ ، .
كَمَا لَوْ قَبَضَ الْكُلَّ ، وَيَكُونُ ضَامِنًا حِصَّةَ مَا اشْتَرَى بِهِ الْآمِرُ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى بِالْكُلِّ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ ثَمَنَ الْمُشْتَرِي بِالْكُلِّ ، وَهَذَا لِأَنَّ ثَمَن الْمُشْتَرِي وَجَبَ عَلَيْهِ ثُمَّ صَارَ قَاضِيًا بِالثَّمَنِ دَيْنَ نَفْسِهِ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ ، وَإِنْ هَلَكَ الْمُشْتَرِي قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ ، لَمْ يَضْمَنْ الْمُشْتَرِي ثَمَنَهُ لِلْآمِرِ ؛ لِأَنَّ بِهَلَاكِ الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ انْفَسَخَ الْبَيْعُ مِنْ الْأَصْلِ ، وَكَانَ سُقُوطُ الثَّمَنِ عَنْ الْمُشْتَرِي بِانْفِسَاخِ السَّبَبِ لَا لِلْمُقَاصَّةِ بِالثَّمَنِ ، الَّذِي هُوَ لِلْآمِرِ .
قَالَ وَلِلْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ ، أَنْ يَبِيعَ بِقَلِيلِ الثَّمَنِ وَكَثِيرِهِ وَبِأَيِّ جِنْسٍ شَاءَ مِنْ الْأَجْنَاسِ لِلْأَمْوَالِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - : لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إلَّا بِالنَّقْدِ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ ، وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ : أَنَّ مُطْلَقَ الْوَكَالَةِ يَتَقَيَّدُ بِالْمُعْتَادِ ، وَالْبَيْعُ بِالْغَبَنِ الْفَاحِشِ لَيْسَ بِمُعْتَادٍ ، فَلَا يَنْصَرِفُ التَّوْكِيلُ إلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ التَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ ، ثُمَّ الْبَيْعُ بِالْمُحَابَاةِ الْفَاحِشَةِ بَيْعٌ فِيهِ هِبَةٌ ؛ وَلِهَذَا لَوْ حَصَلَ مِنْ الْمَرِيضِ كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ ثُلُثِهِ ، وَهُوَ وَكِيلٌ بِالْبَيْعِ دُونَ الْهِبَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَبَ وَالْوَصِيَّ لَا يَمْلِكَانِ الْبَيْعَ بِالْمُحَابَاةِ الْفَاحِشَةِ لِهَذَا ، وَأَمَّا الْبَيْعُ بِالْعُرُوضِ فَبَيْعٌ مِنْ وَجْهٍ ، شِرَاءٌ مِنْ وَجْهٍ ، وَهُوَ وَكِيلٌ بِمُطْلَقِ الْبَيْعِ ، وَمُطْلَقُ الْبَيْعِ يَكُونُ بِالنَّقْدِ دُونَ الْعُرُوضِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ بِالشِّرَاءِ لَا يَشْتَرِي لِلْآمِرِ إلَّا بِالنَّقْدِ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ : هُوَ مَأْمُورٌ بِمُطْلَقِ الْبَيْعِ ، وَقَدْ أَتَى بِبَيْعٍ مُطْلَقٍ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ اسْمٌ لِمُبَادَلَةِ مَالٍ بِمَالٍ ، وَذَلِكَ يُوجَدُ فِي الْبَيْعِ بِالْعُرُوضِ ، كَمَا يُوجَدُ فِي الْبَيْعِ بِالنُّقُودِ وَلَكِنْ مِنْ الْبَيْعِ مَا يَتَضَمَّنُ الشِّرَاءَ وَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ بَيْعًا مُطْلَقًا لَا يَضْمَنُ الشِّرَاءَ فِي جَانِبِ الْعُرُوضِ لَا فِي جَانِبِ الْمَبِيعِ ، وَأَمْرُهُ كَانَ بِاعْتِبَارِ الْمَبِيعِ ، وَالْعَقْدُ فِيهِ بَيْعٌ مُطْلَقٌ ، وَكَذَلِكَ الْبَيْعُ بِالْمُحَابَاةِ فَمَا مِنْ جُزْءٍ مِنْ الْبَيْعِ إلَّا وَيُقَابِلُهُ جُزْءٌ مِنْ الثَّمَنِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْكُلَّ بِالشُّفْعَةِ ، وَالشُّفْعَةُ فِي الْهِبَاتِ لَا تَثْبُتُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ أَنْ لَا يَبِيعَ فَبَاعَ بِالْمُحَابَاةِ يَحْنَثُ ، وَكَمَا يُرَاعَى الْعُرْفُ فِي الْوَكَالَاتِ يُرَاعَى فِي الْأَثْمَانِ ، ثُمَّ
جَعَلَ هَذَا بَيْعًا مُطْلَقًا فِي الْيَمِينِ ، وَكَذَلِكَ فِي الْوَكَالَةِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ مُشْتَرَكٌ ، فَقَدْ يَبِيعُ الْمَرْءُ الشَّيْءَ لِلْبِرِّ فِيهِ ، وَفِي هَذَا لَا يُنَافِي قِلَّةَ الثَّمَنِ وَكَثْرَتَهُ ، وَقَدْ يَبِيعُهُ لِلِاسْتِرْبَاحِ فَعِنْدَ إطْلَاقِ الْأَمْرِ لَا يَتَرَجَّحُ أَحَدُ الْمَقْصُودَيْنِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ الْمُطْلَقَ تُخَصِّصُهُ التُّهْمَةُ ، وَفِي الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ التُّهْمَةُ مُمْكِنَةٌ ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ اشْتَرَى لِنَفْسِهِ ، فَلَمَّا لَمْ يُعْجِبْهُ أَخْذُهُ فِي يَمِينِهِ أَرَادَ أَنْ يُحَوِّلَهُ إلَى الْآمِرِ ، وَلَا تَتَمَكَّنُ مِثْلُ هَذِهِ التُّهْمَةِ فِي الْأَمْرِ بِالْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ أَمْرَهُ بِالتَّوْكِيلِ بِالشِّرَاءِ يُلَاقِي مِلْكَ الْغَيْرِ ، وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةٌ مُطْلَقَةٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لِيَنْظُرَ إلَى إطْلَاقِ أَمْرِهِ ، وَأَمْرُهُ فِي الْبَيْعِ يُلَاقِي مِلْكَ نَفْسِهِ ، وَلَهُ وِلَايَةٌ مُطْلَقَةٌ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ وَلَوْ اعْتَبَرْنَا الْعُمُومَ فِي جَانِبِ الْوَكِيلِ اشْتَرَى ذَلِكَ الْمَتَاعَ بِجَمِيعِ مِلْكِ الْمُوَكِّلِ ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ الْمُوَكِّلَ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ ، فَإِذَا تَعَذَّرَ الْعُمُومُ حُمِلَ عَلَى أَخَصِّ الْخُصُوصِ ، وَفِي التَّوْكِيلِ بِالْبَيْعِ لَا يُعَدُّ ، وَتَصَرُّفُهُ مَا أُمِرَ بِبَيْعِهِ ، فَأَمْكَنَ اعْتِبَارُ إطْلَاقِ الْأَمْرِ فِيهِ .
وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فِي الْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ إذَا بَاعَ بِعَرَضٍ ، فَإِنْ كَانَ يُسَاوِيه جَازَ وَإِلَّا فَلَا ، وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ : أَنَّهُ فِي جَانِبِ الْعَرْضِ مُشْتَرٍ فَالْوَكِيلُ بِالشِّرَاءِ لَا يَشْتَرِي لِلْآمِرِ بِالْمُحَابَاةِ الْفَاحِشَةِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ فِي الْبَيْعِ بِالنَّسِيئَةِ فَهُوَ دَلِيلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَلَكِنْ قُبِلَ هَذَا عَلَى قَوْلِهِمَا إذَا بَاعَهُ بِأَجَلٍ مُتَعَارَفٍ ، فَأَمَّا بِأَجَلٍ غَيْرِ مُتَعَارَفٍ كَعِشْرِينَ سَنَةً وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ ، وَإِنَّ الْأَجَلَ الْمُتَعَارَفَ كَالْغَبْنِ الْيَسِيرِ ،
وَمَا لَيْسَ بِمُتَعَارَفٍ كَالْغَبْنِ الْفَاحِشِ .
وَلَوْ وَكَّلَهُ ، بِأَنْ يُعَاوِضَ عَبْدَهُ هَذَا فُلَانًا بِأَمَتِهِ هَذِهِ فَبَاعَ فُلَانٌ أُمَّتَهُ تِلْكَ مِنْ رَجُلٍ جَازَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُعَاوِضَ بِهَا ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُوَكِّلِ تَحْصِيلُ الْأَمَةِ لِنَفْسِهِ بِمُقَابَلَةِ الْعَبْدِ ، وَقَدْ حَصَلَ مَقْصُودُهُ بِتَصَرُّفِهِ مَعَ الثَّانِي ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ مِنْ فُلَانٍ ، فَإِنَّهُ لَا يَبِيعُ مِنْ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ هُنَاكَ الثَّمَنُ ، وَإِنَّمَا رَضِيَ أَنْ يَكُونَ الثَّمَنُ لَهُ فِي ذِمَّةِ مَنْ سَمَّاهُ وَيَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي مَلَاءَةِ الذِّمَّةِ ؛ فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِهِ .
قَالَ : وَلِلْوَكِيلِ بِالْإِجَارَةِ أَنْ يُؤَاجِرَ بِالنَّقْدِ ، وَالْمَكِيلِ ، وَالْمَوْزُونِ ، إذَا كَانَ مَعْلُومًا مَوْصُوفًا ، وَبِالْمُعَيَّنِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ وَبِالْمَوْصُوفِ الْمُؤَجَّلِ مِنْ الثِّيَابِ .
أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَهُوَ ظَاهِرٌ ، فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ ، وَهُمَا يُفَرِّقَانِ وَيَقُولَانِ بِتَخْصِيصِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ بِالنَّقْدِ ، بِدَلِيلِ الْعُرْفِ ، وَلَا عُرْفَ هُنَا فَإِنَّ الْأَرْضَ تُؤَاجَرُ بِغَيْرِ النَّقْدِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُدْفَعُ مُزَارَعَةً ، وَهِيَ إجَارَةٌ بِجُزْءٍ مِنْ الْخَارِجِ ، ثُمَّ التَّخْصِيصُ فِي الْبَيْعِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْآمِرِ ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ هُنَا بِاعْتِبَارِ الْإِطْلَاقِ ؛ لِأَنَّا إذَا جَعَلْنَا الْوَكِيلَ مُخَالِفًا ، كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ ، فَيَكُونُ الْأَجْرُ لَهُ وَلَا شَيْءَ لِلْآمِرِ عَلَيْهِ ؛ فَلِهَذَا اعْتَبَرْنَا الْأَمْرَ هُنَا .
وَإِنْ وَكَّلَ الْوَكِيلُ بِقَبْضِ الْأَجْرِ ، أَوْ الثَّمَنِ رَجُلًا لَيْسَ فِي عِيَالِهِ ، فَهُوَ جَائِزٌ ، وَالْمُسْتَأْجِرُ وَالْمُشْتَرِي بَرِيئَانِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْقَبْضِ لِلْوَكِيلِ يَمْلِكُ مُبَاشَرَتَهُ بِنَفْسِهِ ، فَيَمْلِكُ تَفْوِيضَهُ إلَى غَيْرِهِ ؛ وَلَكِنَّ الْوَكِيلَ ضَامِنٌ لِلْآخَرِ ؛ إنْ هَلَكَ الْمَقْبُوضُ فِي يَدِ وَكِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَى الْوَكِيلِ الْأَوَّلِ ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَبَضَ الثَّمَنَ بِنَفْسِهِ ، ثُمَّ دَفَعَهُ إلَى رَجُلٍ لَيْسَ فِي عِيَالِهِ ؛ لِأَنَّ قَبْضَ وَكِيلِهِ كَقَبْضِهِ لِنَفْسِهِ ، وَهُوَ فِي الْمَقْبُوضِ أَمِينٌ ، فَإِذَا دَفَعَهُ إلَى مَنْ لَيْسَ فِي عِيَالِهِ ؛ صَارَ ضَامِنًا لِلْآمِرِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَهَبَهَا الْوَكِيلُ لِلْمُسْتَأْجِرِ ، أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهَا ، أَوْ أَخَّرَهَا عَنْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَصَارَ ضَامِنًا لِلْآمِرِ .
وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : لَا يَجُوزُ هِبَتُهُ ، وَلَا إبْرَاؤُهُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ التَّأْجِيلَ ، فَقِيلَ : بِأَنَّ أَبَا يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ يُجَوِّزُ - تَأْجِيلَهُ .
كَمَا لَوْ بَاعَ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ ابْتِدَاءً ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي التَّأْجِيلِ إسْقَاطُ الثَّمَنِ ، بِخِلَافِ الْإِبْرَاءِ وَقِيلَ : بَلْ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فَقَدْ ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ : أَنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ ، يَصِيرُ الْوَكِيلُ بِهِ ضَامِنًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَلَا يَنْفُذُ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
بَابٌ مِنْ الْوَكَالَةِ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : الْأَصْلُ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْوَكِيلَ مَتَى قَدَرَ عَلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْمُوَكِّلِ ، بِمَا سَمَّى لَهُ ، جَازَ التَّوْكِيلُ ، وَإِلَّا فَلَا ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ لِعَيْنِهَا ، بَلْ الْمَقْصُودُ شَيْءٌ آخَرُ ، يَحْصُلُ لِلْمُوَكِّلِ ، فَإِذَا قَدَرَ عَلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ بِمَا سُمِّيَ لَهُ كَانَ هَذَا عَقْدًا مُقَيِّدًا لِلْمَقْصُودِ ، فَصَحَّ وَإِلَّا فَلَا .
وَأَصْلٌ آخَرُ أَنَّ مَا سَمَّاهُ فِي الْوَكَالَةِ ؛ إذَا كَانَ يَتَنَاوَلُ أَجْنَاسًا مُخْتَلِفَةً لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بِهِ سَوَاءٌ سُمِّيَ الثَّمَنُ أَوْ لَمْ يُسَمَّ ، لِأَنَّ جَهَالَةَ الْجِنْسِ جَهَالَةٌ مُتَفَاحِشَةٌ ، وَتَسْمِيَةُ الْجِنْسِ وَالثَّمَنِ لَا يُصَيِّرُ الْجِنْسَ مَعْلُومًا بِهَا ، فَإِنَّ كُلَّ جِنْسٍ فِيهِ مَا يُوجَدُ بِذَلِكَ الثَّمَنِ ، فَلَا يَقْدِرُ الْوَكِيلُ عَلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْمُوَكِّلِ ، وَإِذَا سَمَّى الْجِنْسَ اشْتَمَلَ عَلَى أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ ، فَإِنْ بَيَّنَ الثَّمَنَ ، أَوْ النَّوْعَ جَازَ التَّوْكِيلُ ، وَإِلَّا فَلَا ؛ لِأَنَّ بَيَانَ مِقْدَارِ الثَّمَنِ يُصَيِّرُ النَّوْعَ مَعْلُومًا .
وَإِنْ سَمَّى الْجِنْسَ وَالنَّوْعَ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ الصِّفَةَ جَازَتْ الْوَكَالَةُ سَوَاءٌ سُمِّيَ الثَّمَنُ ، أَوْ لَمْ يُسَمَّ وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ ، وَفِي الْقِيَاسِ : لَا يَجُوزُ مَا لَمْ يُبَيِّنْ الصِّفَةَ .
وَجْهُ الْقِيَاسِ : أَنَّ التَّوْكِيلَ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ، فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِبَيَانِ وَصْفِهِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّا نَجْعَلُ الْوَكِيلَ كَالْمُشْتَرِي لِنَفْسِهِ ، ثُمَّ الْبَائِعُ مِنْ الْمُوَكِّلِ .
وَكَانَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَأْخُذُ بِالْقِيَاسِ إلَى أَنْ نَزَلَ بِهِ ضَيْفٌ فَدَفَعَ الدَّرَاهِمَ إلَى إنْسَانٍ ؛ لِيَأْتِيَ لَهُ بِرُءُوسٍ مَشْوِيَّةٍ ، فَجَعَلَ يَصِفُهَا لَهُ ، فَعَجَزَ عَنْ عِلْمِهِ بِالصِّفَةِ ، فَقَالَ لَهُ : اصْنَعْ مَا بَدَا لَكَ ، فَذَهَبَ الرَّجُلُ ، وَاشْتَرَى الرُّءُوسَ ، وَحَمَلَهَا إلَى عِيَالِهِ ، وَعَادَ إلَى
بِشْرٍ بَعْدَ مَا أَكَلَهَا مَعَ عِيَالِهِ ، فَقَالَ لَهُ : أَيْنَ مَا قُلْت لَك عَنْهُ ، فَقَالَ : قُلْت لِي اصْنَعْ مَا بَدَا لَكَ ، وَقَدْ بَدَا لِي مَا فَعَلْتُ ، فَرَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ ، وَأَخَذَ بِالِاسْتِحْسَانِ .
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : أَنَّهُ دَفَعَ دِينَارًا إلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ صِفَتَهَا ، } ثُمَّ الْوَكَالَةُ عَقْدٌ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّوَسُّعِ ، وَالْجَهَالَةُ فِي الصِّفَةِ جَهَالَةٌ مُسْتَدْرَكَةٌ ، وَذَلِكَ عَفْوٌ فِي الْعُقُودِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى التَّوَسُّعِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْوَكَالَةَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ ، وَالْمَقْصُودُ بِهَا الرِّفْقُ بِالنَّاسِ ، وَفِي اشْتِرَاطِ بَيَانِ الْوَصْفِ بَعْضُ الْحَرَجِ ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ
؛ لِهَذَا إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ : رَجُلٌ وَكَّلَ رَجُلًا أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ جَارِيَةً .
أَوْ عَبْدًا لَمْ يَكُنْ ؛ لِأَنَّ الذُّكُورَ مِنْ بَنِي آدَمَ جِنْسٌ ، وَالْإِنَاثُ كَذَلِكَ ؛ وَلَكِنْ يَشْتَمِلُ عَلَى أَنْوَاعٍ : كَالْحَبَشِيِّ ، وَالسِّنْدِيِّ ، وَالْهِنْدِيِّ ، وَالتُّرْكِيِّ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ ، فَإِذَا لَمْ يُبَيِّنْ النَّوْعَ وَلَمْ يُسَمِّ مِقْدَارَ الثَّمَنِ كَانَتْ الْجَهَالَةُ مُتَفَاحِشَةً ، فَلَا يَتَمَكَّنُ الْوَكِيلُ مِنْ تَحْصِيلِهِ ، فَيَنْفَرِدُ الْآمِرُ بِمَا سَمَّى لَهُ ، وَإِنْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ عَبْدًا مُوَلَّدًا ، أَوْ حَبَشِيًّا ، أَوْ سِنْدِيًّا جَازَ ؛ لِأَنَّ النَّوْعَ صَارَ مَعْلُومًا بِالتَّسْمِيَةِ ؛ وَإِنَّمَا بَقِيَتْ الْجَهَالَةُ فِي الْوَصْفِ ، وَهِيَ جَهَالَةٌ مُسْتَدْرَكَةٌ ، فَإِنَّ الْأَوْصَافَ ثَلَاثَةٌ : الْجُودَةُ ، وَالْوَسَطُ ، وَالرَّدَاءَةُ ، وَهِيَ تَتَفَاوَتُ فِي نَوْعٍ وَاحِدٍ ، فَكَانَ الْوَكِيلُ قَادِرًا عَلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْآمِرِ ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يُسَمِّ النَّوْعَ وَسَمَّى الثَّمَنَ ؛ لِأَنَّ بِتَسْمِيَةِ الثَّمَنِ صَارَ النَّوْعُ مَعْلُومًا ، فَإِنَّ مِقْدَارَ ثَمَنِ كُلِّ نَوْعٍ مَعْلُومٌ عِنْدَ النَّاسِ ، فَيَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ
وَلَوْ وَكَّلَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ رَقَبَةً ، أَوْ مَمْلُوكًا ، لَا تَجُوزُ لَهُ الْوَكَالَةُ ، وَإِنْ بَيَّنَ الثَّمَنَ لِتَمَكُّنِ الْجَهَالَةِ فِي الْجِنْسِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الذُّكُورَ مَعَ الْإِنَاثِ مِنْ بَنِي آدَمَ .
جِنْسَانِ مُخْتَلِفَانِ ؛ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَنَافِعِ ، فَلَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ إلَّا بِبَيَانِ الْجِنْسِ ، وَإِذَا وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ جَارِيَةٍ وَسَمَّى جِنْسَهَا وَثَمَنَهَا فَاشْتَرَاهَا لَهُ عَوْرَاءَ ، أَوْ عَمْيَاءَ ، أَوْ مَقْطُوعَةَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ ، أَوْ إحْدَاهُمَا ؛ أَوْ مُقْعَدَةً ، فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى الْآمِرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إذَا اشْتَرَاهَا بِمِثْلِ الْقِيمَةِ ، أَوْ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ ، وَعِنْدَهُمَا كَذَلِكَ فِي قَطْعَاءِ الْيَدِ وَالْعَوْرَاءِ ، فَأَمَّا الْعَمْيَاءُ ، وَالْمَقْطُوعَةُ الْيَدَيْنِ ، وَالرِّجْلَيْنِ ، وَالْمُقْعَدَةُ ، فَلَا يَجُوزُ عَلَى الْآمِرِ ، وَيَكُونُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ ، فَإِنَّهُمَا يَعْتَبِرَانِ الْعُرْفَ وَالشِّرَاءَ ، وَالْعَمْيَاءُ وَالْمُقْعَدَةُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ بَيْنَ النَّاسِ ، فَأَمَّا الْعَوْرَاءُ فَمَعِيبَةٌ ، وَشِرَاءُ الْمَعِيبِ مُتَعَارَفٌ تَوْضِيحُهُ : أَنَّ الْعَمَى وَقَطْعَ الْيَدَيْنِ يُفَوِّتُ مَنْفَعَةَ الْجِنْسِ ، وَذَلِكَ اسْتِهْلَاكُ حُكْمٍ ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ التَّكْفِيرُ بِالرَّقَبَةِ الْعَمْيَاءِ ، فَأَمَّا الْعَوَرُ وَقَطْعُ إحْدَى الْيَدَيْنِ فَلَيْسَ بِاسْتِهْلَاكٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّكْفِيرَ بِهِ يَصِحُّ .
وَأَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَنَى عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْمُطْلَقَ يَجْرِي عَلَى إطْلَاقِهِ ، مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلُ التَّقْيِيدِ ، وَقَدْ سَمَّى لَهُ الْجَارِيَةَ مُطْلَقًا ، وَاسْمُ الْجَارِيَةِ حَقِيقَةٌ فِي الْعَمْيَاءِ ، وَمَقْطُوعَةِ ، الْيَدَيْنِ ، وَلَا يَثْبُتُ التَّقَيُّدُ بِالْعُرْفِ ، لِأَنَّ الْعُرْفَ مُشْتَرَكٌ ، فَقَدْ يَشْتَرِي الْمَرْءُ رَقَبَةً عَمْيَاءَ ، تَرَحُّمًا عَلَيْهَا ، لِابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - أَوْ قَصْدًا إلَى وَلَائِهَا ، أَوْ إلَى وَلَاءِ أَوْلَادِهَا ، بِخِلَافِ الرَّقَبَةِ فِي
كَفَّارَةِ الْيَمِينِ ، فَإِنَّ دَلِيلَ التَّقْيِيدِ هُنَاكَ قَدْ قَامَ ، وَهُوَ أَنَّ الْكَفَّارَاتِ أَجْزِيَةُ الْأَفْعَالِ ، وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ لِلزَّجْرِ عَنْ ارْتِكَابِ أَسْبَابِهَا ، وَلَا يَحْصُلُ الزَّجْرُ بِالْعَمْيَاءِ وَمَقْطُوعَةِ الْيَدَيْنِ .
وَإِنْ وَكَّلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ جَارِيَةً لِلْخِدْمَةِ ، أَوْ عَبْدًا لِيُسَلِّمَهُ إلَى خَبَّازٍ ، أَوْ عَمَلٍ مِنْ الْأَعْمَالِ ، فَاشْتَرَى أَعْمَى أَوْ مَقْطُوعَ الْيَدَيْنِ ، لَمْ يَجُزْ عَلَى الْآمِرِ ؛ لِقِيَامِ دَلِيلِ التَّقْيِيدِ فِي لَفْظِهِ ، وَهُوَ تَنْصِيصُهُ عَلَى عَمَلٍ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْمَى ، وَمَقْطُوعِ الْيَدَيْنِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : اشْتَرِ لِي جَارِيَةً أَطَؤُهَا ، فَاشْتَرَى مَحْرَمًا مِنْ الْآمِرِ لَمْ يَجُزْ عَلَى الْآمِرِ ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ التَّقْيِيدِ فِي لَفْظِهِ مُخْتَصٌّ أَمْرِهِ بِجَارِيَةٍ ، يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا .
قَالَ وَإِذَا وَكَّلَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ دَابَّةً ، لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ سَمَّى الثَّمَنَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الدَّابَّةَ اسْمٌ لِمَا دَبَّ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَهِيَ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ : كَالْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْجَهَالَةَ لِلْجِنْسِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَكَالَةِ ، وَأَنَّهَا لَا تَرْتَفِعُ بِتَسْمِيَةِ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ جِنْسٍ يُؤْخَذُ بِمَا سُمِّيَ مِنْ الثَّمَنِ .
وَإِنْ قَالَ : اشْتَرِ لِي حِمَارًا ، وَلَمْ يُسَمِّ الثَّمَنَ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ صَارَ مَعْلُومًا بِالتَّسْمِيَةِ ، وَإِنْ بَقِيَتْ الْجَهَالَةُ فِي الْوَصْفِ ، فَسَخَ الْوَكَالَةَ بِدُونِ تَسْمِيَةِ الثَّمَنِ ، فَإِنْ قِيلَ : لَا كَذَلِكَ ، فَإِنَّ الْحَمِيرَ أَنْوَاعٌ : مِنْهَا مَا يَصْلُحُ لِرُكُوبِ الْعُظَمَاءِ ، وَمِنْهَا مَا لَا يَصْلُحُ إلَّا لِلْحَمْلِ عَلَيْهَا ، قُلْنَا : هَذَا اخْتِلَافُ الْوَصْفِ مَعَ أَنَّ ذَلِكَ يَصِيرُ مَعْلُومًا بِمَعْرِفَةِ حَالِ الْمُوَكِّلِ ، حَتَّى قَالُوا بِأَنَّ الْقَاضِيَ إذَا أَمَرَ إنْسَانًا بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ حِمَارًا فَإِنَّهُ يَنْصَرِفُ إلَى مَا يَرْكَبُهُ مِثْلُهُ ، حَتَّى لَوْ اشْتَرَاهُ مَقْطُوعَ الذَّنَبِ ، أَوْ الْأُذُنَيْنِ ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَمَرَهُ الْفَالَيْرِيُّ بِذَلِكَ ، وَإِذَا أَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ ثَوْبًا ، لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ سَمَّى الثَّمَنَ ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ يَشْتَمِلُ عَلَى أَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ ، فَبِالتَّسْمِيَةِ لَا يَصِيرُ الْجِنْسُ مَعْلُومًا ، وَإِنْ قَالَ : اشْتَرِ لِي ثَوْبًا هَرَوِيًّا جَازَ عَلَى الْآمِرِ مَا اشْتَرَى مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ الثَّمَنَ ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ إنَّمَا بَقِيَتْ فِي الصِّفَةِ ، وَلَكِنْ إنَّمَا يَنْفُذُ عَلَى الْآمِرِ ، إذَا اشْتَرَاهُ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ ، فَإِنْ اشْتَرَاهُ بِمَا لَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِي مِثْلِهِ ، كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ تَنْفِيذُ شِرَائِهِ عَلَى الْآمِرِ ، لِمَا بَيَّنَّا ، وَأَمْكَنَ تَنْفِيذُهُ عَلَى الْعَاقِدِ ، فَصَارَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ ، وَإِنْ سَمَّى ثَمَنًا فَزَادَ عَلَيْهِ شَيْئًا ، لَمْ يَلْزَمْ الْآمِرَ ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ مَا سَمَّى لَهُ إلَى مَا هُوَ أَضَرُّ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ نَقَصَ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ مَقْصُودُ الْآمِرِ ، فَإِنَّ مَقْصُودَهُ ثَوْبٌ يَهُودِيٌّ يُشْتَرَى لَهُ بِالثَّمَنِ لَا بِمَا دُونَهُ ، وَالْجَيِّدُ يُشْتَرَى بِعَشَرَةٍ ، فَإِذَا اُشْتُرِيَ بِثَمَانِيَةٍ كَانَ رَدِيئًا ، إلَّا أَنْ يَكُونَ وَصَفَ لَهُ صِفَةً وَسَمَّى لَهُ ثَمَنًا ؛
فَاشْتَرَى بِتِلْكَ الصِّفَةِ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ ، فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ عَلَى الْآمِرِ ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ مَقْصُودُهُ حِينَ اشْتَرَاهُ بِتِلْكَ الصِّفَةِ ؛ وَخَالَفَهُ إلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ حِينَ اشْتَرَاهُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ ، وَهَذَا لَا يُعَدُّ فِي الْعُرْفِ خِلَافًا .
وَإِنْ دَفَعَ إلَيْهِ دَرَاهِمَ ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ بِهَا طَعَامًا ، فَاشْتَرَى بِهَا لَحْمًا وَفَاكِهَةً ، لَمْ يَجُزْ عَلَى الْآمِرِ اسْتِحْسَانًا ، وَفِي الْقِيَاسِ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ اسْمٌ لِمَا يُطْعَمُ ، وَالْفَاكِهَةُ وَاللَّحْمُ مَطْعُومٌ ، إلَّا أَنَّ جَوَازَهُ عَلَى طَرِيقَةِ النَّاسِ إنَّمَا يَكُونُ إذَا فَوَّضَ الْأَمْرَ لِرَأْيِهِ عَلَى الْعُمُومِ فِي شِرَاءِ الطَّعَامِ ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ ؛ لِأَنَّ الْمَطْعُومَ أَجْنَاسٌ مُخْتَلِفَةٌ ، وَبِتَسْمِيَةِ الثَّمَنِ لَا يَصِيرُ الْجِنْسُ مَعْلُومًا ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ التَّوْكِيلُ ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ : التَّوْكِيلُ صَحِيحٌ ، وَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ إلَى الْحِنْطَةِ وَدَقِيقِهَا ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ الطَّعَامَ عِنْدَ ذِكْرِ الشِّرَاءِ ، وَذَلِكَ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْحِنْطَةَ وَدَقِيقَهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ سُوقَ الطَّعَامِ مَا يُبَاعُ فِيهِ الْحِنْطَةُ وَدَقِيقُهَا ، وَبَائِعُ الطَّعَامِ فِي النَّاسِ مَنْ يَبِيعُ الْحِنْطَةَ وَدَقِيقَهَا دُونَ مَنْ يَبِيعُ الْفَوَاكِهَ ، فَصَارَ التَّقْيِيدُ الثَّابِتُ بِالْعُرْفِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ ، ثُمَّ إنْ قَلَّتْ الدَّرَاهِمُ فَلَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا خُبْزًا ، وَإِنْ كَثُرَتْ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا الْخُبْزَ ؛ لِأَنَّ ادِّخَارَهُ غَيْرُ مُمْكِنٍ ، إنَّمَا يُمْكِنُ الِادِّخَارُ فِي الْحِنْطَةِ فَعِنْدَ كَثْرَةِ الدَّرَاهِمِ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْخُبْزَ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ قَدْ اتَّخَذَ وَلِيمَةً ، فَحِينَئِذٍ يُعْلَمُ أَنَّ مُرَادَهُ الْخُبْزُ ، وَإِنْ كَثُرَتْ الدَّرَاهِمُ ، وَجَعَلَ الدَّقِيقَ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْخُبْزِ ، وَقَالَ : إنَّمَا يَنْصَرِفُ الْقَلِيلُ مِنْ الدَّرَاهِمِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ قَلَّ مَا يُدَّخَرُ عَادَةً ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى جَعَلَ الدَّقِيقَ كَالْحِنْطَةِ ؛ لِأَنَّ الْكَثِيرَ مِنْ الدَّرَاهِمِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَدَّخِرُ الدَّقِيقَ كَمَا تُدَّخَرُ الْحِنْطَةُ ، وَإِذَا لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ شَيْئًا وَقَالَ : اشْتَرِ لِي حِنْطَةً فَاشْتَرَاهَا لَمْ يَجُزْ