كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
بِالْوَطْءِ لِيَسْتَعِفَّ بِهِ وَيَحْصُلَ لِنَفْسِهَا صِفَةُ الْإِحْصَانِ بِسَبَبِهِ ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالْخَلْوَةِ إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ : حَدُّ الْخَلْوَةِ الصَّحِيحَةِ أَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ مَانِعٌ يَمْنَعُهُ مِنْ وَطْئِهَا طَبْعًا وَلَا شَرْعًا ، حَتَّى إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا مَرِيضًا مَرَضًا يَمْنَعُ الْجِمَاعَ أَوْ صَائِمًا فِي رَمَضَانَ أَوْ مُحْرِمًا أَوْ كَانَتْ هِيَ حَائِضًا لَا تَصِحُّ الْخَلْوَةُ لِقِيَامِ الْمَانِعِ طَبْعًا أَوْ شَرْعًا ، وَفِي صَوْمِ الْقَضَاءِ رِوَايَتَانِ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ تَصِحُّ الْخَلْوَةُ ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَجِبُ بِالْفِطْرِ قَضَاءُ يَوْمٍ وَهُوَ يَسِيرٌ كَمَا فِي صَوْمِ النَّفْلِ .
وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَا تَصِحُّ الْخَلْوَةُ اعْتِبَارًا لِلْقَضَاءِ بِالْأَدَاءِ ، وَفِي صَوْمِ النَّفْلِ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ أَيْضًا أَنَّهُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْخَلْوَةِ بِمَنْزِلَةِ حَجِّ النَّفْلِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ رَتْقَاءَ أَوْ قَرْنَاءَ لَا يَحْصُلُ التَّسْلِيمُ لِقِيَامِ الْمَانِعِ حِسًّا ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ مَجْبُوبًا أَوْ عِنِّينًا وَقَدْ بَيِّنَاهُ ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا ثَالِثٌ لَا تَصِحُّ الْخَلْوَةُ لِقِيَامِ الْمَانِعِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الثَّالِثُ مِمَّنْ لَا يَشْعُرُ بِذَلِكَ كَصَغِيرٍ لَا يَعْقِلُ أَوْ مُغْمًى عَلَيْهِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ ، وَإِنْ خَلَا بِزَوْجَتِهِ وَهُنَاكَ أَمَتُهُ وَكَانَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : لَا تَصِحُّ الْخَلْوَةُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ هُنَاكَ أَمَتَهَا ؛ لِأَنَّهُ يَحِلُّ لَهُ وَطْءُ أَمَتِهِ دُونَ أَمَتِهَا ثُمَّ رَجَعَ ، وَقَالَ لَا تَصِحُّ الْخَلْوَةُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهَا اللَّهُ تَعَالَى - ؛ لِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ مِنْ غَشَيَانِهَا بَيْنَ يَدَيْ أَمَتِهِ طَبْعًا ، وَعَلَى هَذَا لَوْ خَلَا بِزَوْجَتَيْهِ لَمْ تَصِحَّ الْخَلْوَةُ لِمَا قُلْنَا ، وَالْمَكَانُ الَّذِي لَا تَصِحُّ الْخَلْوَةُ فِيهِ أَنْ يَأْمَنَا فِيهِ اطِّلَاعَ غَيْرِهِمَا عَلَيْهِمَا بِغَيْرِ إذْنٍ كَالدَّارِ وَالْبَيْتِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، وَلِهَذَا لَا تَصِحُّ الْخَلْوَةُ فِي الْمَسْجِدِ وَالطَّرِيقِ
الْأَعْظَمِ وَالسَّطْحِ الَّذِي لَيْسَ عَلَى جَوَانِبِهِ سُتْرَةٌ ، وَبَعْدَ صِحَّةِ الْخَلْوَةِ إذَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا لَا يَكُونَا مُحْصَنَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْخَلْوَةَ إنَّمَا تُجْعَلُ كَالِاسْتِيفَاءِ فِيمَا هُوَ مِنْ حُكْمِ الْعَقْدِ ، وَالْإِحْصَانُ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ ، فَإِنْ أَقَرَّا بِالْجِمَاعِ لَزِمَهُمَا حُكْمُ الْإِحْصَانِ ، وَإِنْ أَقَرَّ بِهِ أَحَدُهُمَا صُدِّقَ عَلَى نَفْسِهِ دُونَ صَاحِبِهِ .
وَلَا يُحْصَنُ الْخَصِيُّ إذَا كَانَ لَا يُجَامِعُ ، وَكَذَلِكَ الْمَجْبُوبُ وَالْعِنِّينُ ، فَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ حَتَّى ثَبَتَ بِهِ النَّسَبُ مِنْ الزَّوْجِ فَفِي الْخَصِيِّ وَالْعِنِّينِ يَكُونَا مُحْصَنَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِثُبُوتِ النَّسَبِ حُكْمٌ بِالدُّخُولِ ، وَفِي الْمَجْبُوبِ ذَكَرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ عَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هِيَ تَصِيرُ مُحْصَنَةً لَمَّا حَكَمْنَا بِثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْ الزَّوْجِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تَصِيرُ هِيَ مُحْصَنَةً ؛ لِأَنَّهُ لَا تَصَوُّرَ لِلْجِمَاعِ بِدُونِ الْآلَةِ ، وَالْحُكْمُ بِثُبُوتِ النَّسَبِ بِطَرِيقِ الْإِنْزَالِ بِالسَّحْقِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ الْجِمَاعِ فِي شَيْءٍ ، وَثُبُوتُ حُكْمِ الْإِحْصَانِ يَتَعَلَّقُ بِعَيْنِ الْجِمَاعِ ، الرَّتْقَاءُ لَا تُحْصِنُ الرَّجُلَ لِانْعِدَامِ الْجِمَاعِ مَعَ الرَّتْقِ ، وَلَا إحْصَانَ بِالْجِمَاعِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ ؛ لِأَنَّ الْإِحْصَانَ عِبَارَةٌ عَنْ كَمَالِ الْحَالِ ، فَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِوَطْءٍ هُوَ نِعْمَةٌ بَلْ نِهَايَةٌ فِي النِّعْمَةِ ، حَتَّى لَا يَحْصُلَ بِالْوَطْءِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ ، وَالْوَطْءُ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ حَرَامٌ ، فَلَا يُوجِبُ الْإِحْصَانَ .
( قَالَ : ) وَإِذَا دَخَلَ الْخُنْثَى بِامْرَأَتِهِ أَوْ دَخَلَ بِالْخُنْثَى زَوْجُهَا فَهُمَا مُحْصَنَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا حُكِمَ بِكَوْنِهِ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً فَالْجِمَاعُ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ تَحَقَّقَ بَيْنَهُمَا فَيَثْبُتُ بِهِ حُكْمُ الْإِحْصَانِ .
( قَالَ : ) وَلَوْ دَخَلَ مُسْلِمٌ بِامْرَأَتِهِ الْمُسْلِمَةِ ثُمَّ ارْتَدَّا - وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَعَالَى - بَطَلَ إحْصَانُهُمَا ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ تُحْبِطُ الْعَمَلَ وَيَلْحَقُ الْمُرْتَدُّ بِمَنْ لَمْ يَزَلْ كَافِرًا ، فَكَمَا أَنَّ الْكَافِرَ الْأَصْلِيَّ لَا يَكُونُ مُحْصَنًا فَالْمُرْتَدُّ كَذَلِكَ .
فَإِنْ أَسْلَمَا جَمِيعًا لَمْ يَكُونَا مُحْصَنَيْنِ إلَّا بِجِمَاعٍ جَدِيدٍ بِمَنْزِلَةِ زَوْجَيْنِ حَرْبِيَّيْنِ أَوْ ذِمِّيَّيْنِ أَسْلَمَا
وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ مَعَ امْرَأَتِهِ الْأَمَةِ إذَا أَعْتَقَهَا لَمْ يَكُونَا مُحْصَنَيْنِ حَتَّى يُجَامِعَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ ، فَإِنْ جَامَعَهَا فَهُمَا مُحْصَنَانِ عَلِمَا بِالْعِتْقِ أَوْ لَمْ يَعْلَمَا عَلِمَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّ لَهَا الْخِيَارُ أَوْ لَمْ تَعْلَمْ ، فَإِذَا جَامَعَهَا قَبْلَ أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا فَقَدْ جَامَعَهَا بِنِكَاحٍ صَحِيحٍ بَعْدَمَا كَمُلَ حَالُهُمَا بِالْعِتْقِ فَكَانَا مُحْصَنَيْنِ .
( قَالَ : ) وَإِذَا وَلَدَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ الرَّجُلِ وَهُمَا يُنْكِرَانِ الدُّخُولَ فَهُمَا مُحْصَنَانِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ شَاهِدٌ عَلَى الدُّخُولِ بَيْنَهُمَا وَهُوَ أَقْوَى مِنْ شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ ، فَإِذَا كَانَ الْإِحْصَانُ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ فَبِثُبُوتِ النَّسَبِ أَوْلَى ، وَهَذَا لِأَنَّهُمَا مُكَذَّبَانِ فِي إنْكَارِهِمَا الدُّخُولَ شَرْعًا ، وَالْمُكَذَّبُ شَرْعًا لَا يُعْتَبَرُ إنْكَارُهُ .
( قَالَ : ) وَإِذَا أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ أَنَّ زَوْجَهَا قَدْ جَامَعَهَا وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ ثُمَّ فَارَقَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا حَلَّ لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ الَّذِي كَانَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا أَنْ يَصْدُقَهَا وَيَتَزَوَّجَهَا ؛ لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْ مِنْ أَمْرٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَبِّهَا وَهُوَ حِلُّهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ ، وَلَا حَقَّ لِلزَّوْجِ الثَّانِي فِي ذَلِكَ ، فَإِنْكَارُهُ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ وُجُودًا وَعَدَمًا بِمَنْزِلَةٍ ، وَكَذَلِكَ إنْ أَخَبَرهُ بِذَلِكَ ثِقَةٌ ، وَلَوْ أَنْكَرَتْ الدُّخُولَ بَعْدَ إقْرَارِهَا وَقَدْ تَزَوَّجَهَا الزَّوْجُ الْأَوَّلُ لَمْ تُصَدَّقْ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهَا مُنَاقِضَةٌ ، وَلَوْ كَانَ زَوْجُهَا الَّذِي فَارَقَهَا هُوَ الَّذِي أَقَرَّ بِالْجِمَاعِ وَلَمْ تُقِرَّ هِيَ لَمْ يَحِلَّ لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ، وَلَا يُصَدَّقُ الزَّوْجُ الثَّانِي عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي حِلِّهَا وَحُرْمَتِهَا لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ ، وَلَا قَوْلَ لَهُ فِي ذَلِكَ أَصْلًا ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ خَلَا بِهَا أَوْ لَمْ يَخْلُ بِهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَصِيرُ مُحْصَنَةً بِإِقْرَارِ الزَّوْجِ الثَّانِي أَنَّهُ قَدْ جَامَعَهَا إذَا أَنْكَرَتْ هِيَ ، فَكَذَلِكَ لَا تَصِيرُ مُحَلَّلَةً لِلزَّوْجِ الْأَوَّلِ .
( قَالَ : ) وَإِذَا قَالَتْ : طَلَّقَنِي زَوْجِي أَوْ مَاتَ عَنَى وَانْقَضَتْ عِدَّتِي حَلَّ لِخَاطِبِهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَيُصْدِقَهَا ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ مِنْ حَقِّ الشَّرْعِ وَكُلُّ مُسْلِمٍ أَمِينٌ مَقْبُولُ الْقَوْلِ فِيمَا هُوَ مِنْ حَقِّ الشَّرْعِ ، إنَّمَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ إذَا أَكْذَبَهُ مَنْ لَهُ الْحَقُّ ، وَلَا حَقَّ لِأَحَدٍ هُنَا فِيمَا أَخْبَرَتْ بِهِ ، فَلِهَذَا جَازَ قَبُولُ خَبَرِهَا فِي ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ ( قَالَ : ) بَلَغْنَا { عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَحَلَّ الْمُتْعَةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ الدَّهْرِ فِي غَزَاةٍ غَزَاهَا اشْتَدَّ عَلَى النَّاسِ فِيهَا الْعُزُوبَةُ ثُمَّ نَهَى عَنْهَا } ، وَتَفْسِيرُ الْمُتْعَةِ أَنْ يَقُولَ لِامْرَأَتِهِ : أَتَمَتَّعُ بِكَ كَذَا مِنْ الْمُدَّةِ بِكَذَا مِنْ الْبَدَلِ ، وَهَذَا بَاطِلٌ عِنْدَنَا جَائِزٌ عِنْدَ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } وَلِأَنَّا اتَّفَقْنَا عَلَى أَنَّهُ كَانَ مُبَاحًا وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ يَبْقَى حَتَّى يَظْهَرَ نَسْخُهُ وَلَكِنْ قَدْ ثَبَتَ نَسْخُ هَذِهِ الْإِبَاحَةِ بِالْآثَارِ الْمَشْهُورَةِ ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ { أَنَّ مُنَادِيَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَادَى يَوْمَ خَيْبَرَ أَلَّا إنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ الْمُتْعَةِ } وَمِنْهُ حَدِيثُ الرَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { أَحَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتْعَةَ عَامَ الْفَتْحِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، فَجِئْتُ مَعَ عَمٍّ لِي إلَى بَابِ امْرَأَةٍ وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا بُرْدَةٌ وَكَانَ بُرْدَةُ عَمِّي أَحْسَنَ مِنْ بُرْدَتِي فَخَرَجَتْ امْرَأَةٌ كَأَنَّهَا دُمْيَةٌ عَيْطَاءُ فَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إلَى شَبَابِي وَإِلَى بُرْدَتِهِ ، وَقَالَتْ هَلَّا بُرْدَةٌ كَبُرْدَةِ هَذَا أَوْ شَبَابٌ كَشَبَابِ هَذَا ثُمَّ آثَرَتْ شَبَابِي عَلَى بُرْدَتِهِ فَبِتُّ عِنْدَهَا فَلَمَّا أَصْبَحْتُ إذَا مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَادِي أَلَّا إنَّ اللَّهَ تَعَالَى - وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ الْمُتْعَةِ فَانْتَهَى النَّاسُ عَنْهَا } ثُمَّ الْإِبَاحَةُ الْمُطْلَقَةُ لَمْ تَثْبُتْ فِي الْمُتْعَةِ قَطُّ إنَّمَا ثَبَتَتْ الْإِبَاحَةُ مُؤَقَّتَةً بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، فَلَا يَبْقَى ذَلِكَ بَعْدَ مُضِيِّ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ حَتَّى يُحْتَاجَ
إلَى دَلِيلِ النَّسْخِ وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ نَسَخَتْهَا آيَةُ الطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ وَالْمِيرَاثِ وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ لَوْ كُنْت تَقَدَّمْت فِي الْمُتْعَةِ لَرَجَمْت ، وَقَالَ جَابِرُ بْنُ يَزِيدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا خَرَجَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ الدُّنْيَا حَتَّى رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ فِي الصَّرْفِ وَالْمُتْعَةِ فَثَبَتَ النَّسْخُ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَلَمَّا سُئِلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَتْ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى وَتَلَتْ قَوْله تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } الْآيَةَ ، وَهَذِهِ لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ لَهُ ، وَلَا مِلْكِ يَمِينٍ لَهُ ، وَبَيَانُ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ لَا يَرِثُ أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ بِالزَّوْجِيَّةِ ، وَلَا يَقَعُ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ وَالظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ وَاسْتَكْثَرَ مِنْ الشَّوَاهِدِ لِذَلِكَ فِي الْكِتَابِ ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : { فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ } الزَّوْجَاتُ فَإِنَّهُ بِنَاءً عَلَى قَوْلِهِ { أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ } وَالْمُحْصِنُ النَّاكِحُ
( قَالَ : ) وَإِنْ قَالَ : تَزَوَّجْتُكِ شَهْرًا فَقَالَتْ : زَوَّجْتُ نَفْسِي مِنْكَ ، فَهَذَا مُتْعَةٌ وَلَيْسَ بِنِكَاحٍ عِنْدَنَا ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ نِكَاحٌ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ التَّوْقِيتَ شَرْطٌ فَاسِدٌ ، فَإِنَّ النِّكَاحَ لَا يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ ، وَالشَّرْطُ الْفَاسِدُ لَا يُبْطِلُ النِّكَاحَ بَلْ يَصِحُّ النِّكَاحُ وَيَبْطُلُ الشَّرْطُ ، كَاشْتِرَاطِ الْخَمْرِ وَغَيْرِهَا ، تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ لَوْ شَرَطَ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ شَهْرٍ صَحَّ النِّكَاحُ وَبَطَلَ الشَّرْطُ ، فَكَذَا إذَا تَزَوَّجَهَا شَهْرًا ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا أُوتَى بِرَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً إلَى أَجَلٍ إلَّا رَجَمْتُهُ ، وَلَوْ أَدْرَكْتُهُ مَيِّتًا لَرَجَمْتُ قَبْرَهُ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ النِّكَاحَ لَا يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ إنَّمَا التَّوْقِيتُ فِي الْمُتْعَةِ ، فَإِذَا وَقَّتَا فَقَدْ وُجِدَ مِنْهُمَا التَّنْصِيصُ عَلَى الْمُتْعَةِ ، فَلَا يَنْعَقِدُ بِهِ النِّكَاحُ ، وَإِنْ ذَكَرَ لَفْظَ النِّكَاحِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يَنْعَقِدَ الْعَقْدُ مُؤَبَّدًا أَوْ فِي مُدَّةٍ الْأَوَّلُ بَاطِلٌ فَإِنَّهُمَا لَمْ يَعْقِدَا الْعَقْدَ فِيمَا وَرَاءَ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ ، وَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِانْعِقَادِ الْعَقْدِ فِيمَا وَرَاءَ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ ، وَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِانْعِقَادِ الْحُكْمِ فِي زَمَانٍ لَمْ يَعْقِدَا فِيهِ الْعَقْدَ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ أَضَافَا النِّكَاحَ إلَى مَا بَعْدَ شَهْرٍ لَمْ يَنْعَقِدْ فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يَعْقِدَاهُ فِي الْحَالِ فَكَذَلِكَ هُنَا ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْعَقِدَ فِي الْمُدَّةِ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ ، وَهَذَا يُبَيِّنُ أَنَّ التَّوْقِيتَ لَيْسَ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ ، وَلَكِنْ يَنْعَدِمُ بِالتَّوْقِيتِ أَصْلُ الْعَقْدِ فِي الزَّمَانِ الَّذِي لَمْ يَعْقِدَاهُ فِيهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا شَرَطَ أَنْ يُطَلِّقَهَا بَعْدَ شَهْرٍ ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ قَاطِعٌ لِلنِّكَاحِ فَاشْتِرَاطُ الْقَاطِعِ بَعْدَ شَهْرٍ لِيَنْقَطِعَ بِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمَا
عَقَدَا الْعَقْدَ مُؤَبَّدًا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ الشَّرْطُ هُنَاكَ لَا يَبْطُلُ النِّكَاحُ بَعْدَ مُضِيِّ شَهْرٍ ، وَهُنَا لَوْ صَحَّ التَّوْقِيتُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا عَقْدٌ بَعْدَ مُضِيِّ الْوَقْتِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ ذَكَرَا مِنْ الْوَقْتِ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُمَا لَا يَعِيشَانِ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ كَمِائَةِ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ يَكُونُ النِّكَاحُ صَحِيحًا ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا تَأْكِيدَ مَعْنَى التَّأْبِيدِ ، فَإِنَّ النِّكَاحَ يُعْقَدُ لِلْعُمْرِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا ذَكَرَا مُدَّةً قَدْ يَعِيشَانِ أَكْثَرَ مِنْ تِلْكَ الْمُدَّةِ ، وَعِنْدَنَا الْكُلُّ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ التَّأْبِيدَ مِنْ شَرْطِ النِّكَاحِ فَالتَّوْقِيتُ يُبْطِلُهُ طَالَتْ الْمُدَّةُ أَوْ قَصُرَتْ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .
بَابُ الدَّعْوَى فِي النِّكَاحِ ( قَالَ : ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِذَا ادَّعَى الرَّجُلُ نِكَاحَ امْرَأَةٍ وَأَقَامَ عَلَيْهَا الْبَيِّنَةَ وَأَقَامَتْ أُخْتُهَا عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ وَأَنَّهُ أَتَاهَا بِزَوْجٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّجُلِ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَتُهُ صَدَّقَتْهُ أَوْ لَمْ تُصَدِّقْهُ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ عَلَى الْمَرْأَةِ لِلزَّوْجِ ، وَلِهَذَا كَانَ الْبَدَلُ عَلَيْهِ لَهَا فَالزَّوْجُ يَثْبُتُ بِبَيِّنَتِهِ مَا هُوَ حَقُّهُ ، وَالْأُخْتُ الْأُخْرَى تَثْبُتُ بِبَيِّنَتِهَا حَقٌّ لِزَوْجٍ وَهُوَ مِلْكُ النِّكَاحِ لَهُ عَلَيْهَا ، وَبَيِّنَةُ الْمَرْءِ عَلَى حَقِّ نَفْسِهِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ ، وَلِأَنَّ عِنْدَ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ لَا وَجْهَ لِلْعَمَلِ بِبَيِّنَةِ الْأُخْتِ فِي إثْبَاتِ نِكَاحِهَا ، فَلَوْ قَبِلْنَاهَا إنَّمَا نَقْبَلُهَا فِي نَفْيِ النِّكَاحِ عَلَى امْرَأَةٍ أَثْبَتَ الزَّوْجُ نِكَاحَهَا ، وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِثْبَاتِ لَا لِلنَّفْيِ ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ دَعْوَى الزَّوْجِ نِكَاحَ إحْدَى الْأُخْتَيْنِ إقْرَارٌ مِنْهُ بِحُرْمَةِ الْأُخْرَى عَلَيْهِ فِي الْحَالِ ، وَإِقْرَارُهُ مُوجِبٌ لَلْفُرْقَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلْقَضَاءِ بِنِكَاحِ الْأُخْرَى فَبَقِيَتْ تِلْكَ الْبَيِّنَةُ قَائِمَةً عَلَى النَّفْيِ ، وَلَا مَهْرَ لِلْأُخْرَى إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا ؛ لِأَنَّ أَصْلَ نِكَاحِهَا لَمْ يَثْبُتْ .
وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ تَزَوَّجَ إحْدَاهُمَا ، وَلَا تُعْرَفُ بِعَيْنِهَا غَيْرَ أَنَّ الزَّوْجِ قَالَ هِيَ هَذِهِ ، فَإِنْ صَدَّقَتْهُ ، فَهِيَ امْرَأَتُهُ لِتَصَادُقِهِمَا ، فَإِنَّ تَصَادُقَهُمَا فِي حَقِّهِمَا أَقْوَى مِنْ الْبَيِّنَةِ ، فَإِنْ جَحَدَتْ ذَلِكَ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ لَمْ يَشْهَدُوا عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ ، وَالشَّهَادَةُ بِالْمَجْهُولِ لَا تَكُونُ حُجَّةً وَلِأَنَّهُ إمَّا أَنْ تَزَوَّجَ إحْدَاهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا فَيَكُونُ ذَلِكَ بَاطِلًا أَوْ تَزَوَّجَ إحْدَاهُمَا بِعَيْنِهَا ثُمَّ نَسِيَهَا الشُّهُودُ فَقَدْ ضَيَّعُوا شَهَادَتَهُمْ ، فَإِذَا بَطَلَتْ الشَّهَادَةُ بَقِيَ دَعْوَى الزَّوْجِ ، وَلَا يَثْبُتُ النِّكَاحُ بِدَعْوَتِهِ ، وَلَا يَمِينَ لَهُ عَلَى الَّتِي يَدَّعِي النِّكَاحَ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى الِاسْتِحْلَافَ فِي النِّكَاحِ ، وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ لِامْرَأَةٍ بِعَيْنِهَا أَنَّ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ تَزَوَّجَهَا ، وَلَا يَعْرِفُونَ أَيَّهمَا هُوَ وَالرَّجُلَانِ يُنْكِرَانِ ذَلِكَ فَهُوَ بَاطِلٌ ، وَلَا مَهْرَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَإِنْ ادَّعَتْ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ عَلَى أَحَدِهِمَا ، فَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهَا دَعْوَى النِّكَاحِ .
وَإِنْ ادَّعَتْ أَنَّهُ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَأَنَّ لَهَا عَلَيْهِ نِصْفَ الْمَهْرِ اسْتَحْلَفَتْهُ عَلَى نِصْفِ الْمَهْرِ ؛ لِأَنَّ دَعْوَاهَا الْآنَ دَعْوَى الْمَالِ وَالِاسْتِحْلَافُ مَشْرُوعُ فِي دَعْوَى الْمَالِ ، فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ ذَلِكَ ، وَلَا يَثْبُتُ النِّكَاحُ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ كَانَ فِي الْمَالِ لَا فِي النِّكَاحِ ، وَإِنَّمَا يُقْضَى عِنْدَ النُّكُولِ بِمَا اُسْتُحْلِفَ فِيهِ خَاصَّةً كَمَا فِي دَعْوَى السَّرِقَةِ إذَا اُسْتُحْلِفَ فَنَكَلَ يُقْضَى بِالْمَالِ دُونَ الْقَطْعِ .
( قَالَ : ) وَإِنْ ادَّعَتْ أُخْتَانِ أَنَّهُ تَزَوَّجَهُمَا جَمِيعًا وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تُقِيمُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا أَوَّلًا كَانَ ذَلِكَ إلَى الزَّوْجِ فَأَيُّهُمَا قَالَ هِيَ الْأُولَى فَهِيَ الْأُولَى ، وَهِيَ امْرَأَتُهُ ؛ لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ قَدْ تَحَقَّقَتْ وَالْعَمَلُ بِهِمَا غَيْرُ مُمْكِنٍ لِحُرْمَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ نِكَاحًا ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الثَّابِتَ أَحَدُهُمَا وَهُوَ السَّابِقُ مِنْهُمَا ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ بَيَانُ السَّابِقِ مِنْهُمَا إلَى الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ النَّاسِ بِهَا وَلِأَنَّهُ صَاحِبُ الْمِلْكِ ، وَإِمَّا أَنْ يُقَالَ تَصْدِيقُهُ إحْدَاهُمَا يُرَجِّحُ بَيِّنَتَهَا ، فَإِذَا ظَهَرَ الرُّجْحَانُ فِي بَيِّنَةِ إحْدَاهُمَا قَضَى بِنِكَاحِهَا وَانْدَفَعَتْ بَيِّنَةُ الْأُخْرَى ، وَلَا مَهْرَ لَهَا عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ، فَإِنْ جَحَدَ الزَّوْجُ ذَلِكَ كُلَّهُ ، وَقَالَ : لَمْ أَتَزَوَّجْ وَاحِدَةً مِنْهُمَا أَوْ قَالَ : تَزَوَّجْتُهُمَا جَمِيعًا ، وَلَا أَدْرَى أَيَّتَهُمَا الْأُولَى فَهُوَ سَوَاءٌ وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْبَيِّنَتَيْنِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ، فَلَا تَرْجِيحَ لِإِحْدَاهُمَا فَتَعَيَّنَ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا وَعَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ بَيْنَهُمَا إنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُبَيِّنَ ، فَإِذَا تَجَاهَلَ فِي ذَلِكَ لَمْ يَبْرَأْ مِنْ الْمَهْرِ ، وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ نِكَاحَ إحْدَاهُمَا صَحِيحٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ بَيَّنَ الزَّوْجُ أَنَّ هَذِهِ هِيَ الْأُولَى حَكَمْنَا بِصِحَّةِ نِكَاحِهَا ، فَإِذَا أَبَى أَنْ يُبَيِّنَ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ اكْتِسَابِ سَبَبِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الَّتِي صَحَّ نِكَاحُهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَيَلْزَمُهُ نِصْفُ الْمَهْرِ ، وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى ، فَلِهَذَا كَانَ نِصْفُ الْمَهْرِ بَيْنَهُمَا ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - مَنْ قَالَ : جَمَعَ فِي السُّؤَالِ بَيْنَ فَصْلَيْنِ وَأَجَابَ عَنْ أَحَدِهِمَا ، فَإِنَّ هَذَا الْجَوَابَ
عَمَّا إذَا قَالَ : تَزَوَّجْتُهُمَا جَمِيعًا ، وَلَا أَدْرِي أَيَّتَهُمَا الْأُولَى ، أَمَّا إذَا قَالَ : لَمْ أَتَزَوَّجْ وَاحِدَةً مِنْهُمَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْمَهْرِ ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِالْبَيِّنَتَيْنِ تَعَذَّرَ لِلتَّعَارُضِ وَهُوَ مُنْكِرٌ ، وَلَا يَجِبُ الْمَهْرُ إلَّا بِحُجَّةٍ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ هَذَا جَوَابُ الْفَصْلَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ فِي حُكْمِ الْحِلِّ دُونَ الْمَهْرِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ لَوْ قَامَتَا بَعْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ عُمِلَ بِهِمَا فِي حَقِّ الْمَهْرِ وَالْمِيرَاثِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ وَالْمُعَارَضَةُ فِي حُكْمِ الْمَهْرِ وَجَبَ نِصْفُ الْمَهْرِ فِي حَقِّ الزَّوْجِ وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى فَكَانَ بَيْنَهُمَا ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْأَمَالِي لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ لَهُ بِالْمَهْرِ مِنْهُمَا مَجْهُولٌ ، وَجَهَالَةُ الْمَقْضِيِّ لَهُ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْقَضَاءِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ : يُقْضَى بِجَمِيعِ الْمَهْرِ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَمْ يَرْتَفِعْ بِجُحُودِهِ فَيُقْضَى بِمَهْرٍ كَامِلٍ لِلَّتِي صَحَّ نِكَاحُهَا .
( قَالَ : ) وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِإِحْدَاهُمَا كَانَ لَهَا الْمَهْرُ وَهِيَ امْرَأَتُهُ لِتَرَجُّحِ جَانِبِهَا بِالدُّخُولِ ، فَإِنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ إذَا تَعَارَضَتَا عَلَى الْعَقْدِ تَتَرَجَّحُ إحْدَاهُمَا بِالْقَبْضِ كَمَا لَوْ ادَّعَى رَجُلَانِ تَلَقِّي الْمِلْكَ فِي عَيْنٍ مِنْ ثَالِثٍ بِالشِّرَاءِ وَأَحَدُهُمَا قَابِضٌ وَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ كَانَتْ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ أَوْلَى ، وَلِأَنَّ فِعْلَ الْمُسْلِمِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ وَالْحِلِّ مَا أَمْكَنَ ، وَالْإِمْكَانُ ثَابِتٌ هُنَا بِأَنْ يَجْعَلَ نِكَاحَ الَّتِي دَخَلَ بِهَا سَابِقًا ، فَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ : هِيَ الْأَخِيرَةُ وَتِلْكَ الْأُولَى فُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا لِإِقْرَارِهِ بِحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ ، وَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اكْتِسَابِ سَبَبِ الْفُرْقَةِ بَعْدَ الدُّخُولِ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ ، حَتَّى يَلْزَمُهُ الْمَهْرُ
الْمُسَمَّى لَهَا ، وَلَا يُصْدِقُ عَلَى أَنْ يَنْقُصَهَا عَنْ ذَلِكَ وَكَانَتْ الْأُخْرَى امْرَأَتَهُ أَيْضًا لِتَصَادُقِهِمَا عَلَى النِّكَاحِ بِإِقْرَارِ الزَّوْجِ أَنَّهَا هِيَ الْأُولَى .
( قَالَ : ) وَلَوْ تَنَازَعَ رَجُلَانِ فِي امْرَأَةٍ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّهَا امْرَأَتُهُ وَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ ، فَإِنْ كَانَتْ فِي بَيْتِ أَحَدِهِمَا وَكَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا ، فَهِيَ امْرَأَتُهُ لِمَا أَنَّ التَّرْجِيحَ يَحْصُلُ بِالْيَدِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْبَيِّنَتَيْنِ عَلَى الْعَقْدِ ، وَلِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الدُّخُولِ بِهَا أَوْ مِنْ نَقْلِهَا إلَى بَيْتِهِ دَلِيلُ سَبْقِ عَقْدِهِ وَدَلِيلُ التَّارِيخِ كَالتَّصْرِيحِ بِالتَّارِيخِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا قَبْلَهُ فَحِينَئِذٍ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الدَّلِيلِ فِي مُقَابَلَةِ التَّصْرِيحِ بِالسَّبْقِ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَأَيُّهُمَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَوَّلٌ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا ؛ لِأَنَّ شُهُودَهُ شَهِدُوا بِسَبْقِ التَّارِيخِ فِي عَقْدِهِ وَالثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ أَوْ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةٌ فَأَيُّهُمَا أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهَا تَزَوَّجَتْهُ قَبْلَ الْآخَرِ ، فَهِيَ امْرَأَتُهُ ، إمَّا لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ تَتَرَجَّحُ بِإِقْرَارِهَا لَهُ كَمَا بَيَّنَّا فِي جَانِبَ الزَّوْجِ ، أَوْ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ لَمَّا تَعَارَضَتَا وَتَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهِمَا بَقِيَ تَصَادُقُ أَحَدِ الرَّجُلَيْنِ مَعَ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّكَاحِ فَيَثْبُتُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا بِتَصَادُقِهِمَا ، وَإِنْ لَمْ تُقِرَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَهَا ؛ لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ وَالْمُسَاوَاةَ قَدْ تَحَقَّقَتْ ، وَالْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْحِلِّ لَا يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيَبْطُلُ نِكَاحُهُمَا ، بِخِلَافِ مِلْكِ الْيَمِينِ ، فَإِنَّ الْمِلْكَ يَتَحَمَّلُ الشَّرِكَةَ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِالْبَيِّنَتَيْنِ هُنَاكَ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ ، وَهَذَا لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمِلْكِ هُوَ التَّصَرُّفُ ، وَذَلِكَ يَثْبُتُ مَعَ الشَّرِكَةِ وَهُنَا الْمَقْصُودُ اسْتِبَاحَةُ الْوَطْءِ وَالنَّسْلِ ، وَهَذَا يَفُوتُ بِالشَّرِكَةِ ، فَإِذَا تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِهِمَا
وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ يَتَعَيَّنُ الْبُطْلَانُ فِيهِمَا ، فَإِنْ كَانَا لَمْ يَدْخُلَا بِهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَثْبُتْ ، وَلِأَنَّ الْفُرْقَةَ بِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهَا ، فَلَا مَهْرَ لَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَإِنْ كَانَا قَدْ دَخَلَا بِهَا جَمِيعًا وَلَا يُدْرَى أَيُّهُمَا أَوَّلُ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْأَقَلُّ مِمَّا سَمَّى ، وَمِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنْ تَقَدَّمَ نِكَاحُهُ تَأَكَّدَ الْمُسَمَّى بِالدُّخُولِ ، وَإِنْ تَأَخَّرَ فَلَهَا مَهْرُ الْمِثْلِ بِالدُّخُولِ لِسُقُوطِ الْحَدِّ بِشُبْهَةِ الْعَقْدِ ، غَيْرَ أَنَّ الْمَالَ بِالشَّكِّ لَا يَجِبُ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ وَالْمُتَيَقَّنُ هُوَ الْأَقَلُّ ، فَلِهَذَا كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى ، وَمِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ .
( قَالَ : ) فَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لَزِمَهُمَا جَمِيعًا وَكَانَ وَلَدَهُمَا يَعْقِلَانِ عَنْهُ بِنَاءً عَلَى قَوْلِنَا : إنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ مِنْ رَجُلَيْنِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الدَّعْوَى ، وَيَرِثَانِهِ مِيرَاثَ أَبٍ وَاحِدٍ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ؛ لِأَنَّ الْأَبَ فِي الْحَقِيقَةِ أَحَدُهُمَا وَهُوَ مِنْ حَقِّ الْوَلَدِ مِنْ مَائِهِ فَيَجِبُ مِيرَاثُ أَبٍ وَاحِدٍ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَيَرِثُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِيرَاثَ ابْنٍ كَامِلٍ عِنْدَنَا ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَرِثُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَ مِيرَاثِ ابْنٍ ؛ لِأَنَّهُ ابْنُ أَحَدِهِمَا فَكَمَا أَنَّ فِي جَانِبِهِمَا يَرِثَانِهِ مِيرَاثَ أَبٍ وَاحِدٍ ، فَكَذَلِكَ فِي جَانِبِهِ يَرِثُ مِنْهُمَا مِيرَاثَ ابْنٍ وَاحِدٍ وَلَكِنَّا نَقُولُ : هُوَ ابْنٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَمَا قَالَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا هُوَ ابْنُهُمَا وَيَرِثُهُمَا ، وَهَذَا لِأَنَّ الْبُنُوَّةَ لَا تَتَحَمَّلُ التَّجَزُّؤَ إلَّا أَنَّ فِي جَانِبِهِمَا تَحَقَّقَتْ الْمُزَاحَمَةُ فَتَثْبُتُ الْمُنَاصَفَةُ ، وَفِي
جَانِبِهِ لَا مُزَاحَمَةَ فَيَرِثُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِيرَاثَ ابْنٍ كَامِلٍ ، حَتَّى لَوْ انْعَدَمَتْ الْمُزَاحَمَةُ فِي جَانِبِهِمَا بِأَنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْغُلَامِ أَحْرَزَ الثَّانِي مِنْ مَالِ الْغُلَامِ مِيرَاثَ أَبٍ كَامِلٍ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا وَهُوَ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا ، وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ أَقَرَّتْ أَنَّ أَحَدَ الرَّجُلَيْنِ هُوَ الزَّوْجُ لَزِمَهُ الْوَلَدُ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْمُقَرِّ لَهُ قَدْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِمَا ، وَثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ مِنْهُ بِاعْتِبَارِ الْفِرَاشِ ، وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ الْفِرَاشِ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ ، فَلِهَذَا ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ ، فَإِنْ لَمْ تُقِرَّ بِذَلِكَ حَتَّى مَاتَتْ كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ مَا سَمَّى لَهَا مِنْ الْمَهْرِ ، وَكَانَ مِيرَاثُ الزَّوْجِ مِنْ تَرِكَتِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ أَحَدِهِمَا صَحِيحٌ مُنْتَهٍ بِالْمَوْتِ فَيَكُونُ لَهُ الْمِيرَاثُ وَعَلَيْهِ الْمُسَمَّى لَهَا وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَلِذَلِكَ تَنَصَّفَ بَيْنَهُمَا الْمِيرَاثُ وَالْمَهْرُ الْمُسَمَّى ، وَهَذَا لِأَنَّ تَعَذُّرَ الْعَمَلِ بِالْبَيِّنَتَيْنِ وَوُجُوبُ التَّوَقُّفِ لِمَعْنَى الْحِلِّ ، وَذَلِكَ يَزُولُ بِمَوْتِهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ مِنْ الرَّجُلَيْنِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَجَبَ الْعَمَلُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، فَكَذَلِكَ إذَا مَاتَتْ بَعْدَ إقَامَةِ الْبَيِّنَتَيْنِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ النِّكَاحِ بَعْدَ الْمَوْتِ الْمِيرَاثُ وَهُوَ مَالٌ يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ ، وَفِي حَالِ الْحَيَاةِ الْمَقْصُودُ هُوَ الْحِلُّ وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لِلشَّرِكَةِ .
( قَالَ : ) وَلَوْ لَمْ تَمُتْ هِيَ وَلَكِنْ مَاتَ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ ، فَإِنْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ : هَذَا الْمَيِّتُ هُوَ الْأَوَّلُ فَلَهَا فِي مَالِهِ الْمَهْرُ وَالْمِيرَاثُ ، فَإِنَّ تَصْدِيقَهَا بَعْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ كَتَصْدِيقِهَا فِي حَيَاتِهِ فَيَثْبُتُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا فَيَنْتَهِي بِالْمَوْتِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ أَقَرَّ بِنِكَاحِ
امْرَأَةٍ فَصَدَّقَتْهُ بَعْدَ الْمَوْتِ كَانَ تَصْدِيقُهَا صَحِيحًا ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ بِمَوْتِ الزَّوْجِ يَرْتَفِعُ إلَى خُلْفٍ وَهُوَ الْعِدَّةُ .
( قَالَ ) وَإِذَا تَزَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَيْنِ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ كَانَ النِّكَاحُ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ لَا يَحْتَمِلُ الِاشْتِرَاكَ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ ، وَلَا خِيَارَ لَهَا فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْخِيَارِ يَنْبَنِي عَلَى صِحَّةِ السَّبَبِ وَلَمْ يَصِحَّ السَّبَبُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِاقْتِرَانِ الْمُنَافِي بِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ ذِمِّيَّةً أَوْ حَرْبِيَّةً ثُمَّ أَسْلَمُوا ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُتَّجَهُ عِنْدَ أَحَدٍ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ مِلَّةً فَحُكْمُ أَهْلِ الْمِلَلِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ .
( قَالَ : ) وَلَوْ كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ كَانَ نِكَاحُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ نِسْوَةٌ مِنْهُمَا جَائِزًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْفَرَدَ نِكَاحُ الَّذِي لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ لَمْ يَصِحَّ ، وَلَوْ انْفَرَدَ نِكَاحُ الْآخَرِ كَانَ صَحِيحًا ، فَإِذَا اجْتَمَعَا صَحَّ نِكَاحُ مَنْ يَصِحُّ نِكَاحُهُ عِنْدَ الِانْفِرَادِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ لَا تَتَحَقَّقُ بَيْنَ مَا لَهُ صِحَّةٌ وَبَيْنَ مَا لَا صِحَّةَ لَهُ ، وَإِذَا صَحَّ نِكَاحُ أَحَدِهِمَا فَعَلَيْهِ جَمِيعُ مَا سُمِّيَ لَهَا إنْ كَانَا سَمَّيَا أَلْفَ دِرْهَمٍ ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ظَاهِرٌ ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ وَإِحْدَاهُمَا لَا تَحِلُّ لَهُ بِمَهْرٍ وَاحِدٍ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - يُفَرِّقَانِ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ تِلْكَ فَيَقُولَانِ : الْأَلْفُ هُنَا بِمُقَابَلَةِ بُضْعِهَا وَقَدْ سَلَّمَ ذَلِكَ لِلَّذِي صَحَّ نِكَاحُهُ بِكَمَالِهِ ، فَأَمَّا هُنَاكَ الْأَلْفُ مُسَمًّى بِمُقَابَلَةِ بُضْعَيْنِ ، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ إلَّا أَحَدُهُمَا لَا يَلْزَمُهُ إلَّا مِقْدَارُ حِصَّتِهِ مِنْ الْمَهْرِ ، وَإِنْ كَانَ سَمَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِنَفْسِهِ خَمْسَمِائَةٍ لَمْ يَلْزَمْ هَذَا الزَّوْجَ إلَّا خَمْسُمِائَةٍ ؛ لِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ إلَّا هَذَا الْمِقْدَارَ ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْمَهْرِ إلَّا قَدْرُ مَا الْتَزَمَهُ ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ، فَإِنَّ هُنَاكَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ سَمَّى جَمِيعَ الْأَلْفِ بِمُقَابَلَةِ بُضْعِهَا ، فَإِذَا سَلَّمَ ذَلِكَ لِأَحَدِهِمَا لَزِمَهُ جَمِيعُ الْمَهْرِ .
( قَالَ : ) وَالنِّكَاحُ الْفَاسِدُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَسِيسٌ أَوْ نَظَرٌ لَا يُثْبِتُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ إنَّمَا يُقَامُ مَقَامَ الْوَطْءِ فِي إثْبَاتِ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ ؛ لِأَنَّهُ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الْوَطْءِ شَرْعًا ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ ، فَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ أَصْلُهُ غَيْرُ مُنْعَقِدٍ فَالسَّبَبُ الْفَاسِدُ لَا يُثْبِتُ إلَّا الْمِلْكَ الْحَرَامَ ، وَمُوجِبُ النِّكَاحِ مِلْكُ الْحِلِّ ، وَبَيْنَ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ مُنَافَاةٌ ، فَإِذَا انْعَدَمَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ الْحَلَالِ بِالسَّبَبِ الْفَاسِدِ وَالْمِلْكِ الْحَرَامِ بِالنِّكَاحِ لَا يَكُونُ خَلَا السَّبَبُ عَنْ الْحُكْمِ ، وَالْأَسْبَابُ الشَّرْعِيَّةُ إنَّمَا تُعْتَبَرُ لِأَحْكَامِهَا فَكُلُّ سَبَبٍ خَلَا عَنْ الْحُكْمِ كَانَ لَغْوًا ، وَإِذَا أَقَامَتْ الْمَرْأَةُ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّكَاحِ وَالزَّوْجُ جَاحِدٌ يَثْبُتُ نِكَاحُهَا وَلَمْ يَفْسُدْ بِجُحُودِهِ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ الثَّابِتَ لَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِالطَّلَاقِ وَجُحُودُهُ لَيْسَ بِطَلَاقٍ ، فَإِنَّ الطَّلَاقَ قَطْعٌ لِلنِّكَاحِ ، وَالْجُحُودُ نَفْيٌ لِلنِّكَاحِ أَصْلًا ، فَلَا يَصِيرُ بِهِ قَاطِعًا ، فَلِهَذَا قُضِيَ بِالنِّكَاحِ بَيْنَهُمَا وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصِّدْقِ وَالصَّوَابِ .
بَابُ الْغُرُورِ فِي الْمَمْلُوكَةِ ( قَالَ : ) رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا ، فَإِذَا هِيَ مُكَاتَبَةٌ قَدْ أَذِنَ لَهَا مَوْلَاهَا فِي التَّزَوُّجِ أَخَذَتْ عُقْرَهَا وَقِيمَةَ وَلَدِهَا إلَّا فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ : لَا تَجِبُ قِيمَةُ الْوَلَدِ أَصْلًا لِأَنَّهَا تَسْعَى لِتَحْصِيلِ الْحُرِّيَّةِ لِنَفْسِهَا وَوَلَدِهَا ، وَفِي هَذَا تَحْصِيلُ بَعْضِ مَقْصُودِهَا ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَقُولُ : هَذَا إنْ لَوْ دَخَلَ الْوَلَدُ فِي كِتَابَتِهَا وَلَمْ يَدْخُلْ ؛ لِأَنَّهُ عَلِقَ حُرًّا فَوَجَبَ الْعُقْرُ ، وَقِيمَةُ الْوَلَدِ لَهَا كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْمَغْرُورِ ، وَهِيَ بِالْكِتَابَةِ صَارَتْ أَحَقَّ بِأَجْزَائِهَا وَمَنَافِعِهَا ، فَمَا هُوَ بَدَلُ جُزْءٍ مِنْهَا فَهُوَ لَهَا ثُمَّ يَرْجِعُ الْأَبُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى الَّذِي غَرَّهُ إنْ كَانَ رَجُلٌ حُرٌّ غَرَّهُ بِأَنْ زَوَّجَهَا مِنْهُ عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ ، فَإِنْ كَانَتْ الْمُكَاتَبَةُ هِيَ الَّتِي غَرَّتْهُ بِأَنْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ ، فَلَا شَيْءَ لَهَا عَلَيْهِ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهَا لَوْ رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ رَجَعَ هُوَ عَلَيْهَا بِذَلِكَ بِسَبَبِ الْغُرُورِ ، فَلَا يَكُونُ مُفِيدًا ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لَهَا أَنْ تَأْخُذَ قِيمَةَ الْوَلَدِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ عَلَيْهَا بَعْدَ الْعِتْقِ ، فَإِنَّ ضَمَانَ الْغُرُورِ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الْكَفَالَةِ فَيَتَأَخَّرُ إلَى مَا بَعْدَ عِتْقِهَا ، وَالْقِيمَةُ لَهَا عَلَيْهِ فِي الْحَالِ فَكَانَ الرُّجُوعُ مُفِيدًا ، وَإِنْ مَاتَ مَوْلَاهَا ، وَهِيَ مُكَاتَبَةٌ عَلَى حَالِهَا فَوَرِثَهُ أَبُ الْوَلَدِ خُيِّرَتْ بَيْنَ أَنْ تُبْطِلَ الْكِتَابَةَ وَبَيْنَ أَنْ تَمْضِيَ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهَا إنْ أَبْطَلَتْ الْكِتَابَةَ صَارَتْ مَمْلُوكَةً لِأَبِ الْوَلَدِ بِالْمِيرَاثِ وَلَهَا مِنْهُ وَلَدٌ ثَابِتُ النَّسَبِ فَتَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ فَقَدْ تَلَقَّاهَا جِهَتَا
حُرِّيَّةٍ إحْدَاهُمَا مُؤَجَّلَةٌ بِغَيْرِ بَدَلٍ وَهُوَ الِاسْتِيلَادُ وَالْأُخْرَى مُعَجَّلَةٌ بِبَدَلٍ وَهُوَ الْكِتَابَةُ ، فَإِنْ مَضَتْ عَلَى الْكِتَابَةِ فَعَتَقَتْ بِالْأَدَاءِ ، فَإِنَّمَا عَتَقَتْ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى الْأَوَّلِ وَكَانَ وَلَاؤُهَا لَهُ ، وَإِنْ مَاتَ أَبُ الْوَلَدِ قَبْلَ أَنْ تُؤَدِّيَ عَتَقَتْ وَبَطَلَتْ عَنْهَا الْمُكَاتَبَةُ ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ فَتُعْتَقُ بِمَوْتِ السَّيِّدِ ، فَإِنْ قِيلَ : هُوَ لَمْ يَمْلِكْ رَقَبَتَهَا إذَا اخْتَارَتْ الْمُضِيَّ عَلَى الْكِتَابَةِ .
( قُلْنَا : ) نَعَمْ ، وَلَكِنَّهُ صَارَ أَحَقَّ النَّاسِ بِهَا حَتَّى لَوْ أَعْتَقَهَا نَفَذَ عِتْقُهُ ، فَكَذَلِكَ إذَا مَاتَ ؛ لِأَنَّ عِتْقَ أُمِّ الْوَلَدِ مُتَعَلِّقٌ بِمَوْتِ الْمَوْلَى شَرْعًا عَلَى أَنْ يَصِيرَ الْمَوْلَى كَالْمُعْتِقِ لَهَا ، وَلِأَنَّهَا إنَّمَا اخْتَارَتْ الْكِتَابَةَ لِمَا فِي الْعِتْقِ بِجِهَةِ الِاسْتِيلَادِ مِنْ التَّأْخِيرِ ، فَإِذَا تَعَجَّلَ ذَلِكَ بِمَوْتِ الْمَوْلَى فَالظَّاهِرُ أَنَّهَا تَخْتَارُ هَذِهِ الْجِهَةَ ، فَإِذَا عَتَقَتْ سَقَطَ عَنْهَا بَدَلُ الْكِتَابَةِ إمَّا لِانْفِسَاخِ الْعَقْدِ بِرِضَاهَا أَوْ لِوُقُوعِ الِاسْتِغْنَاءِ لَهَا عَنْ أَدَاءِ الْبَدَلِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَهَبَ لَهَا الْمُكَاتَبَةَ ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ حَقَّ الْمُسْتَوْلِدِ فِيهَا إلَى مَوْتِهِ فَبِالْمَوْتِ يَصِيرُ مُسْقِطًا حَقَّهُ ، فَكَأَنَّهُ أَبْرَأهَا عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ ، وَالْوَارِثُ إذَا كَانَ وَاحِدًا فَإِبْرَاءُ الْمُكَاتَبِ عَنْ الْمُكَاتَبَةِ يَصِحُّ إبْرَاؤُهُ وَيُعْتَقُ ، وَلِهَذَا لَوْ كَانَ مَعَهُ شَرِيكٌ فِي الْمِيرَاثِ سَعَتْ فِي مُكَاتَبَتِهَا عَلَى حَالِهَا ؛ لِأَنَّ إبْرَاءَ أَحَدِ الْوَارِثَيْنِ عَنْ نَصِيبِهِ مِنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ لَا يُوجِبُ عِتْقَ شَيْءٍ مِنْهَا ، وَإِنَّمَا جَعَلْنَاهُ كَالْمُبْرِئِ لِتُعْتَقَ ، فَإِذَا كَانَتْ لَا تُعْتَقُ هُنَا لَمْ يَكُنْ مُبَرِّئًا ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ لَهَا الْعِتْقَ مَجَّانًا فِي الْحَالِ فَبَقِيَتْ عَلَى اخْتِيَارِهَا الْأَوَّلِ وَهُوَ الْمُضِيُّ عَلَى الْكِتَابَةِ ، فَلِهَذَا سَعَتْ فِي مُكَاتَبَتِهَا وَكَانَ الْوَلَاءُ
لِلْأَوَّلِ إذَا أَدَّتْ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا وَرِثَهُ رَجُلَانِ فَأَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا كَانَ عِتْقُهُ بَاطِلًا ، وَلَوْ كَانَتْ الْمُكَاتَبَةُ حِينَ وَرِثَهَا رَجُلَانِ اخْتَارَتْ أَنْ تَكُونَ أُمَّ وَلَدٍ بَطَلَتْ الْكِتَابَةُ وَيَضْمَنُ أَبُ الْوَلَدِ نِصْفَ قِيمَتِهَا لِشَرِيكِهِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الِاسْتِيلَادِ كَمَا ثَبَتَ فِي نَصِيبِهِ ثَبَتَ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ فَصَارَ هُوَ مُتَمَلِّكًا نَصِيبَ شَرِيكِهِ بِضَمَانِ الْقِيمَةِ ، وَضَمَانُ التَّمَلُّكِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ .
( قَالَ : ) أَمَةٌ غَرَّتْ رَجُلَيْنِ مِنْ نَفْسِهَا فَتَزَوَّجَاهَا عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ فَوَلَدَتْ لَهُمَا أَوْلَادًا ثُمَّ مَلَكَاهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُمَا لِأَنَّهُمَا مَلَكَاهَا وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَدٌ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْهَا ، وَإِنْ مَلَكَهَا أَحَدُهُمَا ، فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لَهُ لِهَذَا الْمَعْنَى ، وَهَذَا لِأَنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ لَمَّا ثَبَتَ بِشُبْهَةِ النِّكَاحِ كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِيلَادِ بَعْدَ الْمِلْكِ فِي ثُبُوتِ حَقِّ الْوَلَدِ فِي حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ ، فَكَذَلِكَ فِي ثُبُوتِ حَقِّهَا فِي أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا تَبَعٌ لِحَقِّ الْوَلَدِ ، فَإِنْ كَانَتْ قَدْ وَلَدَتْ عِنْدَ الْمَوْلَى أَوْلَادًا بَعْدَ ذَلِكَ فَمَلَكَهَا أَحَدُهُمَا مَعَ أَوْلَادِهَا كَانَ أَوْلَادُهَا مِنْ غَيْرِهِ أَرِقَّاءَ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ حَقِّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ فِيهَا بَعْدَ مَا تَمَلَّكَهَا الْمُسْتَوْلِدُ ، فَإِنَّ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ كَحَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ فِي اسْتِدْعَائِهِ مِلْكَ الْحِلِّ ، وَقَدْ انْفَصَلَ الْأَوْلَادُ قَبْلَ ثُبُوتِ الْحَقِّ فِيهَا ، فَلَا يَسْرِي ذَلِكَ الْحَقُّ إلَيْهِمْ .
( قَالَ : ) وَإِذَا غَرَّتْ الْأَمَةُ رَجُلًا مِنْ نَفْسِهَا وَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا أَمَةٌ لِهَذَا الرَّجُلِ فَاشْتَرَاهَا مِنْهُ فَوَلَدَتْ لَهُ أَوْلَادًا ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ أَخَذَهَا وَعُقْرَهَا وَقِيمَةَ وَلَدِهَا كَانَ لِأَبِ الْوَلَدِ أَنْ يَرْجِعَ بِالثَّمَنِ وَبِقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى الَّذِي بَاعَهُ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْغُرُورِ مُبَاشَرَةُ الْبَيْعِ ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ الْبَائِعِ وَمَتَى مَلَكَهَا الْمَغْرُورُ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ لِثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ مِنْهُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ النِّكَاحِ فِي الْعُقُودِ الْمُتَفَرِّقَةِ ( قَالَ : ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ بِالنِّكَاحِ إلَّا عَلَى قَوْلِ الرَّوَافِضِ ، فَإِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ الْجَمْعَ بَيْنَ تِسْعِ نِسْوَةٍ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى : { مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } وَالْوَاوُ لِلْجَمْعِ ، فَإِذَا جَمَعْتَ بَيْنَ هَذِهِ الْأَعْدَادِ كَانَ تِسْعًا { وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ بَيْنَ تِسْعِ نِسْوَةٍ وَهُوَ قُدْوَةُ الْأُمَّةِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } فَمَا يَجُوزُ لَهُ يَجُوزُ لِأُمَّتِهِ ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } وَالْمُرَادُ أَحَدُ هَذِهِ الْأَعْدَادِ قَالَ الْفَرَّاءُ : رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا وَجْهَ لِحَمْلِ هَذَا عَلَى الْجَمْعِ ؛ لِأَنَّ الْعِبَارَةَ عَنْ التِّسْعِ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ الْعِيِّ فِي الْكَلَامِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى : { أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } وَالْمُرَادُ أَحَدُ هَذِهِ الْأَعْدَادِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مَخْصُوصًا بِسَبَبِ إبَاحَةِ تِسْعِ نِسْوَةٍ لَهُ وَهُوَ اتِّسَاعُ حِلِّهِ بِفَضِيلَةِ النُّبُوَّةِ ، فَإِنَّ بِزِيَادَةِ الْفَضِيلَةِ يَزْدَادُ الْحِلُّ كَمَا بَيْنَ الْأَحْرَارِ وَالْمَمَالِيكِ وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَا بَعْدَهُ إلَى يَوْمِنَا هَذَا أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ نِكَاحًا ، وَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَتَزَوَّجُ الْعَبْدُ ثِنْتَيْنِ وَيُطَلِّقُ تَطْلِيقَتَيْنِ } مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ لَا يَتَزَوَّجُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ ؛ لِأَنَّ حَالَ الْمَمْلُوكِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ حَالِ الْحُرِّ وَلَهُ أَنْ يَتَسَرَّى عَلَى الْأَرْبَعِ مَا بَدَا لَهُ مِنْ السَّرَارِي مَا خَلَا امْرَأَةً ذَاتَ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا مِنْ نَسَبٍ أَوْ رِضَاعٍ لِحَدِيثِ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ
الْحَرَائِرِ شَيْئًا إلَّا وَقَدْ حَرَّمَ مِنْ الْإِمَاءِ مِثْلَهُ إلَّا رَجُلًا يَجْمَعُهُنَّ يُرِيدُ بِهِ الْعَدَدَ إذْ التَّسَرِّي غَيْرُ مَحْصُورٍ بِعَدَدٍ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ إنَّمَا كَانَ مَحْصُورًا بِعَدَدٍ لِوُجُوبِ الْعَدْلِ وَالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُنَّ فِي الْقَسْمِ ، وَعِنْدَ كَثْرَةِ الْعَدَدِ يَعْجِزُ عَنْ ذَلِكَ ، وَفِي الْإِمَاءِ لَا يَلْزَمُهُ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُنَّ فِي الْقَسْمِ ، فَلِهَذَا لَا يَكُونُ مَحْصُورًا بِالْعَدَدِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْله تَعَالَى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } فَأَمَّا سَائِرُ أَسْبَابِ الْحُرْمَةِ كَالرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ وَالْمَحْرَمِيَّةِ لَا تَخْتَلِفُ بِالْمَنْكُوحَةِ وَالْمَمْلُوكَةِ .
( قَالَ : ) رَجُلٌ تَزَوَّجَ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ بِالْكُوفَةِ ثُمَّ طَلَّقَ إحْدَاهُنَّ بِغَيْرِ عَيْنِهَا بِمَكَّةَ ثُمَّ تَزَوَّجَ مَكِّيَّةً ثُمَّ طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ ثُمَّ تَزَوَّجَ بِالطَّائِفِ أُخْرَى ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يَدْخُلْ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَنَقُولُ : الْعُقُودُ كُلُّهَا قَدْ صَحَّتْ مِنْهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَزَوَّجَ الْمَكِّيَّةَ بَعْدَ مَا طَلَّقَ إحْدَى الْكُوفِيَّاتِ قَبْلَ الدُّخُولِ ، فَحِينَ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَكُنْ فِي نِكَاحِهِ إلَّا ثَلَاثُ نِسْوَةٍ ، فَإِنْ قِيلَ : أَلَيْسَ أَنَّ الطَّلَاقَ الْمُبْهَمَ يُجْعَلُ كَالْمُتَعَلِّقِ بِخَطَرِ الْبَيَانِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَصِحَّ نِكَاحُ الْمَكِّيَّةِ .
( قَالَ : ) هَذَا فِي حَقِّ الْمَحَلِّ لِوُجُودِ النَّكِيرِ فِي الْمَحَلِّ ، فَأَمَّا فِي جَانِبِ الْمُطَلِّقِ لَا إبْهَامَ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَيَّنٌ فِي نَفْسِهِ ، وَحُكْمُ الْعَدَدِ يَنْبَنِي عَلَى الْعَدَدِ فِي جَانِبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ تَزَوَّجَ الْمَكِّيَّةَ وَلَيْسَ فِي نِكَاحِهِ إلَّا ثَلَاثُ نِسْوَةٍ ثُمَّ تَزَوَّجَ الطَّائِفِيَّةَ وَلَيْسَ فِي نِكَاحِهِ إلَّا ثَلَاثُ نِسْوَةٌ ثُمَّ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى حُكْمِ الْمَهْرِ وَالْمِيرَاثِ وَالْعِدَّةِ ، أَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْمَهْرِ أَنَّ لِلطَّائِفِيَّةِ مَهْرًا كَامِلًا ؛ لِأَنَّ نِكَاحَهَا قَدْ صَحَّ وَلَمْ يَحْدُثْ بَعْدَ نِكَاحِهَا طَلَاقٌ فَيَتَقَرَّرُ مَهْرُهَا بِالْمَوْتِ ، وَلِلْمَكِّيَّةِ سَبْعَةُ أَثْمَانِ الْمَهْرِ لِأَنَّهُ بَعْدَ مَا تَزَوَّجَهَا طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ الْأَرْبَعِ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَذَلِكَ مُسْقِطٌ نِصْفَ مَهْرِ الْمِثْلِ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ ثَلَاثٍ مِنْ الْكُوفِيَّاتِ فَيَتَوَزَّعُ النُّقْصَانُ عَلَيْهِنَّ أَرْبَاعًا فَيُصِيبُهَا نُقْصَانُ نِصْفِ رُبْعِ صَدَاقٍ ، وَذَلِكَ ثُمُنُ صَدَاقٍ فَبَقِيَ لَهَا سَبْعَةُ أَثْمَانِ صَدَاقٍ ، وَأَمَّا الْكُوفِيَّاتُ فَلَهُنَّ ثَلَاثَةُ أَصْدِقَةٍ وَثُمُنُ صَدَاقٍ بَيْنَهُنَّ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ طَلَّقَ إحْدَاهُنَّ أَوَّلًا فَقَدْ سَقَطَ بِهَذَا الطَّلَاقُ نِصْفُ مَهْرٍ ، وَمِنْ الطَّلَاقِ الثَّانِي أَصَابَهُنَّ أَيْضًا نُقْصَانُ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ نِصْفِ مَهْرٍ ، وَذَلِكَ
ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ مَهْرٍ ، وَفِي الْأَصْلِ لَهُنَّ أَرْبَعَةُ أَصْدِقَةٍ ، فَإِذَا نَقَصَتْ مِنْ ذَلِكَ مَرَّةً نِصْفَ صَدَاقٍ وَمَرَّةً ثَلَاثَةَ أَثْمَانِ صَدَاقٍ بَقِيَ ثَلَاثَةُ أَصْدِقَةٍ وَثُمُنُ صَدَاقٍ ، وَحَالُهُنَّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ، فَيُقْسَمُ بَيْنَهُنَّ بِالسَّوِيَّةِ أَرْبَاعًا ، وَأَمَّا الْمِيرَاثُ فَلِلطَّائِفِيَّةِ رُبُعُ مِيرَاثِ النِّسَاءِ ثُمُنًا كَانَ أَوْ رُبُعًا ؛ لِأَنَّهَا إحْدَى نِسَائِهِ بِيَقِينٍ وَلِلْمَكِّيَّةِ رُبْعُ مَا بَقِيَ ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مِيرَاثِ النِّسَاءِ لَا يُزَاحِمُهَا فِيهِ إلَّا ثَلَاثٌ مِنْ الْكُوفِيَّاتِ وَحَالُهُنَّ فِيهِ سَوَاءٌ فَلَهَا رُبْعُ ذَلِكَ وَالْبَاقِي بَيْنَ الْكُوفِيَّاتِ بِالسَّوِيَّةِ لِاسْتِوَاءِ حَالِهِنَّ فِي ذَلِكَ ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا ، أَمَّا فِي حَقِّ الطَّائِفِيَّةِ فَلِلتَّيَقُّنِ بِانْتِهَاءِ نِكَاحِهَا بِالْمَوْتِ ، وَفِي حَقِّ الْبَوَاقِي لِاحْتِمَالِ ذَلِكَ وَالْعِدَّةُ يُحْتَاطُ لِإِيجَابِهَا .
( قَالَ : ) وَلَوْ كَانَ بَعْدَ مَا تَزَوَّجَ الطَّائِفِيَّةَ طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ ثُمَّ مَاتَ فَنَقُولُ : أَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْمَهْرِ أَنَّ لِلطَّائِفِيَّةِ هُنَا سَبْعَةَ أَثْمَانِ مَهْرِهَا ؛ لِأَنَّهُ طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ بَعْدَ مَا تَزَوَّجَهَا فَانْتَقَصَ بِهِ نِصْفُ صَدَاقٍ ، وَإِنَّمَا يُصِيبُهَا مِنْ ذَلِكَ النُّقْصَانِ الرُّبْعُ فَبَقِيَ لَهَا سَبْعَةُ أَثْمَانِ صَدَاقٍ ، وَلِلْمَكِّيَّةِ سِتَّةُ أَثْمَانِ مَهْرٍ وَرُبُعُ ثُمُنِ مَهْرٍ ؛ لِأَنَّ مِنْ النُّقْصَانِ الْحَاصِلِ بِالتَّطْلِيقَةِ الْأَخِيرَةِ إنَّمَا يُصِيبُهَا رُبُعُ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ نِصْفِ صَدَاقٍ ، فَإِنَّ هَذَا النُّقْصَانَ يَدُورُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ ثَلَاثٍ مِنْ الْكُوفِيَّاتِ ، وَرُبُعُ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ النِّصْفِ يَكُونُ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ ثُمُنِ الصَّدَاقِ فَقَدْ أَصَابَهَا بِالتَّطْلِيقَةِ الثَّانِيَةِ نُقْصَانُ ثُمُنِ صَدَاقٍ كَمَا قُلْنَا وَبِالتَّطْلِيقَةِ الثَّالِثَةِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ ثُمُنٍ فَبَقِيَ لَهَا سِتَّةُ أَثْمَانٍ وَرُبُعُ ثُمُنٍ ، فَإِذَا جَمَعْتَ ذَلِكَ كَانَ مَهْرًا وَثُمُنَ مَهْرٍ وَرُبُعَ
ثُمُنِ مَهْرِ صَدَاقٍ وَلِلْكُوفِيَّاتِ مَهْرَانِ وَسِتَّةُ أَثْمَانٍ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ ثُمُنِ صَدَاقٍ لِأَنَّهُ انْتَقَصَ مِنْ مُهُورِهِنَّ بِالطَّلَاقِ الْأَوَّلِ نِصْفُ صَدَاقٍ وَبِالطَّلَاقِ الثَّانِي ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ صَدَاقٍ وَبِالطَّلَاقِ الثَّالِثِ ثُمُنَانِ وَرُبُعُ ثُمُنٍ ، فَإِذَا جَمَعْتَ ذَلِكَ كَانَ مَهْرًا وَثُمُنَ مَهْرٍ وَرُبُعَ ثُمُنِ مَهْرٍ ، فَإِذَا نَقَصْتَ ذَلِكَ مِنْ أَرْبَعَةِ مُهُورٍ بَقِيَ مَهْرَانِ وَسِتَّةُ أَثْمَانٍ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ ثُمُنٍ ، وَفِي حُكْمِ الْمِيرَاثِ وَالْعِدَّةِ هَذَا وَالْأَوَّلُ فِي التَّخْرِيجِ سَوَاءٌ .
( قَالَ : ) وَإِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي عُقْدَةٍ وَامْرَأَتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ وَثَلَاثًا فِي عُقْدَةٍ ، وَلَا يَعْلَمُ أَيَّتَهنَّ الْأُولَى ، فَأَمَّا الْوَاحِدَةُ فَنِكَاحُهَا صَحِيحٌ بِيَقِينٍ ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ الْعَقْدَيْنِ الْأَخِيرِينَ أَحَدُهُمَا وَنِكَاحُ الْوَاحِدَةِ صَحِيحٌ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ فِي الثَّلَاثِ وَالثِّنْتَيْنِ أَيَّتُهُنَّ قَالَ هِيَ الْأُولَى ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ صَحِيحٌ وَهُوَ السَّابِقُ وَالزَّوْجُ هُوَ الَّذِي يَعْرِفُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ بَاشَرَ الْعُقُودَ فَيَعْرِفُ السَّابِقَ مِنْ الْمُتَأَخِّرِ وَلِأَنَّهُ صَاحِبُ مِلْكٍ فَإِلَيْهِ بَيَانُ مَحَلِّ مِلْكِهِ ، وَلِأَنَّ حُقُوقَ النِّكَاحِ تَجِبُ عَلَيْهِ فَإِلَيْهِ بَيَانُ مَنْ يَسْتَوْجِبُ الْحَقَّ عَلَيْهِ ، وَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ مَاتَ وَالزَّوْجُ حَيٌّ فَقَالَ هِيَ الْأُولَى وَرِثَهُنَّ وَأَعْطَى مُهُورَهُنَّ وَفُرِّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوَاخِرِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْبَيَانِ الثَّابِتِ لَهُ لَا يَبْطُلُ بِمَوْتِهِنَّ فَإِنَّ الْمَوْتَ مِنْهُ لِلنِّكَاحِ مُقَرِّرٌ لِإِحْكَامِهِ ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهِنَّ كُلِّهِنَّ ثُمَّ قَالَ فِي صِحَّتِهِ أَوْ عِنْدَ مَوْتِهِ لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ هَؤُلَاءِ الْأُوَلُ فَهُوَ الْأُوَلُ وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَوَاخِرِ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ الْأَقَلُّ مِنْ مَهْرِ مِثْلِهَا ، وَمِمَّا سَمَّى لَهَا لِدُخُولِهِ بِهَا بِحُكْمِ نِكَاحٍ فَاسِدٍ ، وَمُرَادُهُ بِهَذَا الْفَصْلِ أَنَّ دُخُولَهُ بِهِنَّ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْبَيَانِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ مَنْ دَخَلَ بِهَا أَوَّلًا ؛ لِأَنَّ حَالَ الْفَرِيقَيْنِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ، وَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ : لَا أَدْرِي أَيَّتَهنَّ الْأُولَى حُجِبَ عَنْهُنَّ إلَّا عَنْ الْوَاحِدَةِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ صَحَّ نِكَاحُهَا مِنْهُنَّ ، وَنِكَاحُ الْوَاحِدَةِ صَحِيحٌ فَيُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا ، وَلَمْ يَتَيَقَّنْ مَنْ صَحَّ نِكَاحُهُ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ الْآخَرَيْنِ فَيَكُونُ مَحْجُوبًا عَنْهُنَّ مُخَيَّرًا عَلَى أَنْ يُبَيِّنَ الْأَوَّلَ مِنْ الْآخِرَ ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ فَفِي الْمَسْأَلَةِ
بَيَانُ حُكْمِ الْمِيرَاثِ وَالْمَهْرِ وَالْعِدَّةِ .
أَمَّا بَيَانُ حُكْمِ الْمَهْرِ إنَّ لِلْوَاحِدَةِ مَا سَمَّى لَهَا مِنْ الْمَهْرِ بِكَمَالِهِ ؛ لِأَنَّ نِكَاحَهَا صَحِيحٌ بِيَقِينٍ وَلِلثَّلَاثِ مَهْرٌ وَنِصْفٌ بَيْنَهُنَّ وَلِلثِّنْتَيْنِ مَهْرٌ وَاحِدٌ بَيْنَهُمَا عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ ، فَإِنَّ أَصْلَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ اعْتِبَارُ الْجُمْلَةِ وَالتَّخْرِيجُ عَلَى ذَلِكَ فَنَقُولُ : أَكْثَرُ مَالِهِنَّ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ بِأَنْ يَكُونَ السَّابِقُ نِكَاحَ الثَّلَاثِ ، وَأَقَلُّ مَالِهِنَّ مَهْرَانِ بِأَنْ يَكُونَ السَّابِقُ نِكَاحَ الْمَثْنَى ، فَالتَّرَدُّدُ فِي مَهْرٍ وَاحِدٍ يَثْبُتُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ ، فَكَانَ لَهُنَّ مَهْرَانِ وَنِصْفٌ ، ثُمَّ لَا خُصُومَةَ لِلثِّنْتَيْنِ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى مَهْرَيْنِ فَيُسَلِّمُ ذَلِكَ لِلثَّلَاثِ وَهُوَ نِصْفُ مَهْرٍ يَبْقَى مَهْرَانِ اسْتَوَتْ فِيهِ مُنَازَعَةُ الْفَرِيقَيْنِ فَكَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَيَحْصُلُ لِلثَّلَاثِ مَهْرٌ وَنِصْفٌ وَلِلثِّنْتَيْنِ مَهْرٌ وَاحِدٌ ، وَأَصْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ اعْتِبَارُ الْأَحْوَالِ فِي حَقِّ كُلِّ فَرِيقٍ عَلَى حِدَةٍ فَيَقُولُ : أَمَّا الثَّلَاثُ فَإِنْ صَحَّ نِكَاحُهُنَّ فَلَهُنَّ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَلَا شَيْءَ لَهُنَّ ، فَلَهُنَّ نِصْفُ ذَلِكَ وَهُوَ مَهْرٌ وَنِصْفٌ ، وَأُمًّا الْمَثْنَى فَإِنْ صَحَّ نِكَاحُهُمَا فَلَهُمَا مَهْرَانِ ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَلَا شَيْءَ لَهُمَا ، فَلَهُمَا نِصْفُ ذَلِكَ وَنِكَاحُهُمَا يَصِحُّ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَلَهُمَا مَهْرٌ وَاحِدٌ ، وَأَمَّا حُكْمُ الْمِيرَاثِ فَنَقُولُ : لِلْوَاحِدَةِ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ مِنْ مِيرَاثِ النِّسَاءِ رُبُعًا كَانَ أَوْ ثُمُنًا ؛ لِأَنَّ نِكَاحَهَا صَحِيحٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ ، فَإِنْ صَحَّ نِكَاحُهَا مَعَ الثَّلَاثِ فَلَهَا رُبُعُ مِيرَاثِ النِّسَاءِ ، وَإِنْ صَحَّ مَعَ الثِّنْتَيْنِ فَلَهَا ثُلُثٌ ، وَالرُّبْعُ بِيَقِينٍ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ يَثْبُتُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ ، فَنَحْتَاجُ إلَى حِسَابٍ لَهُ
ثُلُثٌ وَرُبُعٌ ، وَذَلِكَ اثْنَا عَشَرَ ثُمَّ يَتَنَصَّفُ السَّهْمُ الزَّائِدُ عَلَى الرُّبْعِ إلَى تَمَامِ الثُّلُثِ فَيَتَكَسَّرُ بِالْأَنْصَافِ فَيُضَعَّفُ الْحِسَابُ فَيَكُونُ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ .
فَإِنْ صَحَّ نِكَاحُهَا مَعَ الثَّلَاثِ فَلَهَا سِتَّةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ ، وَإِنْ صَحَّ نِكَاحُهَا مَعَ الْمَثْنَى فَلَهَا ثَمَانِيَةٌ فَالتَّرَدُّدُ فِي سَهْمَيْنِ فَيَثْبُتُ أَحَدُهُمَا وَيَسْقُطُ الْآخَرُ فَكَانَ لَهَا سَبْعَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ وَمَا بَقِيَ وَهُوَ سَبْعَةَ عَشَرَ سَهْمًا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ الْآخَرَيْنِ نِصْفَيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - لِلْمَثْنَى مِنْ ذَلِكَ ثَمَانِيَةُ أَسْهُمٍ وَلِلثَّلَاثِ تِسْعَةُ أَسْهُمٍ ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ السَّهْمَ الزَّائِدَ عَلَى سِتَّةَ عَشَرَ لَا مُنَازَعَةَ فِيهِ لِلْمَثْنَى ؛ لِأَنَّهُ إنْ صَحَّ نِكَاحُهُمَا فَلَهُمَا ثُلُثَا الْمِيرَاثِ سِتَّةَ عَشَرَ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ فَيُسَلَّمُ ذَلِكَ السَّهْمُ لِلثَّلَاثِ ، وَقَدْ اسْتَوَتْ مُنَازَعَةُ الْفَرِيقَيْنِ فِي سِتَّةَ عَشَرَ فَكَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ أَوْ يُعْتَبَرُ حَالُ كُلِّ فَرِيقٍ فَنَقُولُ : إنْ صَحَّ نِكَاحُ الثَّلَاثِ فَلَهُنَّ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمِيرَاثِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَلَا شَيْءَ لَهُنَّ فَلَهُنَّ نِصْفُ ذَلِكَ وَهُوَ تِسْعَةٌ ، وَإِنْ صَحَّ نِكَاحُ الْمَثْنَى فَلَهُمَا ثُلُثَا الْمِيرَاثِ سِتَّةَ عَشَرَ ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَلَا شَيْءَ لَهُمَا فَلَهُمَا نِصْفُ ذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : مَا بَقِيَ مِنْ مِيرَاثِ النِّسَاءِ بَعْدَ مَا أَخَذَتْ الْوَاحِدَةُ نَصِيبَهَا بِمَنْزِلَةِ جَمِيعِ مِيرَاثِ النِّسَاءِ إنْ لَوْ لَمْ تَكُنْ الْوَاحِدَةُ أَصْلًا ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْوَاحِدَةُ أَصْلًا كَانَ جَمِيعُ مِيرَاثِ النِّسَاءِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ نِصْفَيْنِ ، فَكَذَلِكَ مَا بَقِيَ ، وَهَذَا لِأَنَّ عِلَّةَ الِاسْتِحْقَاقِ فِي حَقِّ الْفَرِيقَيْنِ سَوَاءٌ ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَحِقٌّ إذَا كَانَ سَابِقًا ،
مَحْرُومٌ إذَا كَانَ مَسْبُوقًا ، وَقَوْلُهُمَا إنَّ الْمَثْنَى لَا يَدَّعِيَانِ السَّهْمَ الْوَاحِدَ ، فَإِنَّمَا لَا يَدَّعِيَانِ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ اسْتِحْقَاقِ الْوَاحِدَةِ لِذَلِكَ السَّهْمِ ، فَأَمَّا بِدُونِ اسْتِحْقَاقِهِمَا فَهُمَا يَدَّعِيَانِ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ وَقَدْ خَرَجَ ذَلِكَ السَّهْمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَقًّا لِلْوَاحِدَةِ فَكَانَ دَعْوَاهُمَا دَعْوَى الثَّلَاثِ فِي اسْتِحْقَاقِ مَا فَرَغَ مِنْ اسْتِحْقَاقِ الْوَاحِدَةِ سَوَاءً ، فَلِهَذَا قُسِمَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ نِصْفَيْنِ .
( قَالَ : ) وَعَلَيْهِنَّ عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ احْتِيَاطًا لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهِنَّ كُلِّهِنَّ ، وَلَا يَعْرِفُ الْأَوَّلَ وَالْآخِرَ فَعَلَى الثَّلَاثِ وَالثِّنْتَيْنِ عِدَّةُ الْوَفَاةِ وَالْحَيْضُ جَمِيعًا عَلَى مَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ تَعْتَدُّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا تَسْتَكْمِلُ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَ حِيَضٍ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ وَجْهٍ عَلَيْهِنَّ عِدَّةُ الْوَفَاةِ ، وَهُوَ مَا إذَا صَحَّ نِكَاحُهُنَّ ، وَمِنْ وَجْهٍ الْحَيْضُ وَهُوَ مَا إذَا فَسَدَ نِكَاحُهُنَّ فَتَجِبُ الْعِدَّةُ بِالْحَيْضِ لِأَجْلِ الدُّخُولِ فَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا احْتِيَاطًا ، فَأَمَّا عَلَى الْوَاحِدَةِ عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا لَا حَيْضَ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ نِكَاحَهَا صَحِيحٌ بِيَقِينٍ ثُمَّ إنْ كَانَ مَهْرُ مِثْلِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الثَّلَاثِ وَالثِّنْتَيْنِ أَقَلَّ مِنْ الْمُسَمَّى فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ، وَنِصْفُ الْفَضْلِ إلَى تَمَامِ الْمُسَمَّى ؛ لِأَنَّ فِي وُجُوبِ الْأَقَلِّ وَهُوَ مَهْرُ الْمِثْلِ إمَّا بِالْعَقْدِ أَوْ بِالدُّخُولِ يَقِينًا مَا زَادَ عَلَيْهِ إلَى تَمَامِ الْمُسَمَّى تَسْتَحِقُّهُ كُلُّ وَاحِدَةٍ إنْ صَحَّ نِكَاحُهَا ، وَنِكَاحُهَا يَصِحُّ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ ، فَلِهَذَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ نِصْفُ ذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ حَيًّا فَجَامَعَ امْرَأَةً مِنْهُنَّ أَوْ طَلَّقَهَا أَوْ ظَاهَرَ مِنْهَا كَانَ هَذَا إقْرَارًا مِنْهُ بِأَنَّهَا ، وَمَنْ مَعَهَا الْأُولَى ؛ لِأَنَّ الْبَيَانَ تَارَةً يَحْصُلُ بِالتَّصْرِيحِ وَتَارَةً بِالدَّلِيلِ فَإِقْدَامُهُ عَلَى الظِّهَارِ
وَالطَّلَاقِ فِي إحْدَاهُنَّ بَيَانٌ مِنْهُ أَنَّ نِكَاحَهَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ مَا بَاشَرَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ مُخْتَصٌّ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ ، وَكَذَلِكَ إنْ جَامَعَ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُسْلِمِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ وَالْحِلِّ مَا أَمْكَنَ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ وَطْؤُهُ إيَّاهَا حَلَالًا إذَا كَانَ صَحَّ نِكَاحُهَا ، فَلِهَذَا كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْبَيَانِ مِنْهُ أَنَّ السَّابِقَ عَقْدُهَا .
( قَالَ : ) وَإِنْ كَانَتْ إحْدَى الثَّلَاثِ أُمَّ إحْدَى الثِّنْتَيْنِ وَلَمْ يَدْخُلْ بِشَيْءٍ مِنْهُنَّ فَالْجَوَابُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ نِكَاحُ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ وَهُوَ السَّابِقُ مِنْهُمَا ، وَفِي هَذَا لَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا مَحْرَمِيَّةٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ .
( قَالَ : ) وَلَوْ كَانَ مَعَ الثَّلَاثِ أَمَةٌ كَانَ نِكَاحُ الْأَمَةِ فَاسِدًا عَلَى كُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّهُ إنْ تَقَدَّمَ هَذَا الْعَقْدُ فَنِكَاحُ الْحَرَائِرِ بِهَذَا الْعَقْدِ صَحِيحٌ ، وَمَتَى صَحَّ نِكَاحُ الْحَرَائِرِ بَطَلَ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْمَضْمُومَةِ إلَيْهِنَّ ، وَإِنْ تَأَخَّرَ نِكَاحُهُنَّ فَهُوَ فَاسِدٌ ، وَلِهَذَا كَانَ نِكَاحُ الْأَمَةِ فَاسِدًا عَلَى كُلِّ حَالٍ .
( قَالَ : ) وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ إحْدَى الثِّنْتَيْنِ أَمَةً فَنِكَاحُهَا فَاسِدٌ بِيَقِينٍ لِمَا قُلْنَا ، فَإِنْ مَاتَ الزَّوْجُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهِنَّ وَقَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ الْأُولَى مِنْهُنَّ وَإِحْدَى الثَّلَاثِ أَمَةٌ وَإِحْدَى الثِّنْتَيْنِ أَمَةٌ فَنِكَاحُ الْأَمَتَيْنِ فَاسِدٌ وَنِكَاحُ الْحَرَائِرِ كُلِّهِنَّ جَائِزٌ ، أَمَّا فَسَادُ نِكَاحِ الْأَمَتَيْنِ لِمَا قُلْنَا ، وَعِنْدَ فَسَادِ نِكَاحِهِمَا الْحَرَائِرُ أَرْبَعٌ فَيَجُوزُ نِكَاحُهُنَّ ، الْمُتَقَدِّمُ وَالْمُتَأَخِّرُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ، وَإِنْ كَانَتْ إحْدَى الثَّلَاثِ أَمَةً وَالثِّنْتَانِ حُرَّتَانِ وَقَدْ تَزَوَّجَ الْوَاحِدَةَ الْحُرَّةَ قَبْلَهُنَّ يَعْلَمُ ذَلِكَ فَنِكَاحُ الْأَمَةِ فَاسِدٌ لِعِلْمِنَا أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى حُرَّةٍ ، وَنِكَاحُ الْأَمَةِ عَلَى الْحُرَّةِ فَاسِدٌ ، وَلِلْحُرَّةِ الْمُنْفَرِدَةِ الْمَهْرُ وَثُلُثُ مِيرَاثِ النِّسَاءِ ؛ لِأَنَّ
نِكَاحَهَا صَحِيحٌ بِيَقِينٍ ، وَإِنَّمَا يُزَاحِمُهَا فِي الْمِيرَاثِ امْرَأَتَانِ ، أَمَّا الْمُنْفَرِدَتَانِ أَوْ اللَّتَانِ كَانَتَا مَعَ الْأَمَةِ فَلَهَا ثُلُثُ مِيرَاثِ النِّسَاءِ ، وَلِكُلِّ حُرَّتَيْنِ نِصْفُ مَا بَقِيَ مِنْ الْمِيرَاثِ لِاسْتِوَاءِ حَالِ الْفَرِيقَيْنِ فِي ذَلِكَ ، فَإِنَّ كُلَّ فَرِيقٍ إنْ تَقَدَّمَ نِكَاحُهَا اسْتَحَقَّ ذَلِكَ ، وَإِنْ تَأَخَّرَ لَا ، وَيَكُونُ لِلْفَرِيقَيْنِ مَهْرَانِ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ لِاسْتِوَاءِ حَالِ الْفَرِيقَيْنِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمَهْرَيْنِ عَلَى مَا قُلْنَا .
( قَالَ : ) وَإِنْ كَانَتْ إحْدَى الثِّنْتَيْنِ أَمَةً وَالثَّلَاثُ حَرَائِرُ ، وَلَا يَعْلَمُ أَيَّ النِّسَاءِ تَزَوَّجَ أَوَّلًا فَنِكَاحُ الْأَمَةِ فَاسِدٌ لِلتَّيَقُّنِ بِضَمِّهَا إلَى الْحُرَّةِ ، وَالْمِيرَاثُ بَيْنَ الْحَرَائِرِ الْخَمْسِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْهُمٍ لِلثَّلَاثِ مِنْ ذَلِكَ سَهْمٌ وَنِصْفٌ وَلِلْمُنْفَرِدَتَيْنِ نِ سَهْمَانِ وَنِصْفٌ ، وَهَذَا فِي الْحُكْمِ كَرَجُلٍ تَزَوَّجَ ثَلَاثًا فِي عُقْدَةٍ ، وَوَاحِدَةً فِي عُقْدَةٍ ، وَوَاحِدَةً فِي عُقْدَةٍ ، وَلَا يَدْرِي أَيَّتَهُنَّ أَوَّلُ ، بَلْ هِيَ تِلْكَ الْمَسْأَلَةُ بِعَيْنِهَا ، وَوَجْهُ التَّخْرِيجِ أَنَّ الثَّلَاثَ إنْ صَحَّ نِكَاحُهُنَّ بِأَنْ تَقَدَّمَ أَوْ كَانَ بَعْدَ الْوَاحِدَةِ مِنْ الْمُنْفَرِدَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مِيرَاثِ النِّسَاءِ ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ مَعَهُنَّ نِكَاحَ الْوَاحِدَةِ مِنْ الْمُنْفَرِدَتَيْنِ سَابِقًا أَوْ مُتَأَخِّرًا وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَلَا شَيْءَ لَهُنَّ بِأَنْ كَانَ نِكَاحُهُنَّ بَعْدَ نِكَاحِ الْمُنْفَرِدَتَيْنِ فَلَهُنَّ نِصْفُ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ الْمِيرَاثِ ، وَذَلِكَ سَهْمٌ وَنِصْفٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَمَا بَقِيَ بَيْنَ الْمُنْفَرِدَتَيْنِ لِاسْتِوَاءِ حَالِهِمَا ، وَلِأَنَّهُمَا يَسْتَحِقَّانِ جَمِيعَ الْمِيرَاثِ فِي حَالٍ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ نِكَاحُهُمَا سَابِقًا وَالرُّبُعُ فِي حَالٍ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ نِكَاحُ الثَّلَاثِ سَابِقًا فَالرُّبْعُ لَهُمَا بِيَقِينٍ وَهُوَ سَهْمٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ ، وَثَلَاثَةٌ تَثْبُتُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ ، فَلِهَذَا كَانَ لَهُمَا سَهْمَانِ وَنِصْفٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ ،
وَحَالُهُمَا فِي اسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ سَوَاءٌ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَلِلثَّلَاثِ مَهْرٌ وَنِصْفٌ ؛ لِأَنَّهُ إنْ صَحَّ نِكَاحُهُنَّ فَلَهُنَّ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَلَا شَيْءَ لَهُنَّ ، فَلَهُنَّ نِصْفُ نِصْفِ ذَلِكَ وَهُوَ مَهْرٌ وَنِصْفٌ وَلِلْمُنْفَرِدَتَي نِ مَهْرٌ وَنِصْفٌ ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ إحْدَاهُمَا صَحِيحٌ بِيَقِينٍ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ ، فَيَتَيَقَّنُ لَهَا بِمَهْرٍ ، وَالْأُخْرَى إنْ صَحَّ نِكَاحُهَا فَلَهَا مَهْرٌ ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَلَا شَيْءَ لَهَا فَيَتَنَصَّفُ مَهْرُهَا ، وَلَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى بِشَيْءٍ ، فَمَا اجْتَمَعَ لَهُمَا وَهُوَ مَهْرٌ وَنِصْفٌ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ .
( قَالَ : ) وَإِذَا تَزَوَّجَ وَاحِدَةً فِي عُقْدَةٍ وَثِنْتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ وَثَلَاثًا فِي عُقْدَةٍ وَأَرْبَعًا فِي عُقْدَةٍ ثُمَّ مَاتَ وَلَا يُعْرَفُ أَيَّتُهُنَّ أَوَّلُ ، فَنَقُولُ : مِيرَاثُ النِّسَاءِ رُبُعًا كَانَ أَوْ ثُمُنًا بَيْنَ الثِّنْتَيْنِ وَالثَّلَاثِ وَالْأَرْبَعِ أَثْلَاثًا ؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ إنَّمَا يَتَوَزَّعُ عَلَى الْأَحْوَالِ ، وَالْأَحْوَالُ ثَلَاثَةٌ بِيَقِينٍ ، إمَّا أَنْ يَصِحَّ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ أَوْ نِكَاحُ الثَّلَاثِ مَعَ الْوَاحِدَةِ أَوْ نِكَاحُ الثِّنْتَيْنِ مَعَ الْوَاحِدَةِ ، وَلَيْسَ هُنَا حَالَةٌ رَابِعَةٌ ، وَبِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ كُلُّ فَرِيقٍ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ مُسَاوٍ لِلْفَرِيقَيْنِ الْآخَرَيْنِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إنْ تَقَدَّمَ نِكَاحُهُ اسْتَحَقَّ الْمِيرَاثَ وَإِلَّا فَلَا ، فَلِهَذَا كَانَ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا لَا مُزَاحَمَةَ لِلْوَاحِدَةِ مَعَ الْأَرْبَعِ فِي الثُّلُثِ الَّذِي صَارَ لَهُنَّ ؛ لِأَنَّ نِكَاحَهَا لَا يَجُوزُ مَعَهُنَّ ، وَإِنَّمَا أَخَذْنَ مَا أَخَذْنَ بِاعْتِبَارِ جَوَازِ نِكَاحِهِنَّ ، وَلَكِنَّهَا تَدْخُلُ مَعَ الثَّلَاثِ فَتَأْخُذُ ثُمُنَ مَا أَصَابَهُنَّ ؛ لِأَنَّهُنَّ إنَّمَا أَخَذْنَ مَا أَخَذْنَ بِاعْتِبَارِ جَوَازِ نِكَاحِهِنَّ ، وَنِكَاحُ الْوَاحِدَةِ يَجُوزُ مَعَهُنَّ إلَّا أَنَّ فِي نِكَاحِ الْوَاحِدَةِ تَرَدُّدًا ، فَإِنَّهُ إمَّا أَنْ يَجُوزَ مَعَ الثَّلَاثِ أَوْ مَعَ الثِّنْتَيْنِ ، فَإِنْ جَازَ مَعَ الثَّلَاثِ كَانَ لَهَا رُبُعُ مَا فِي يَدَيْ الثَّلَاثِ ، وَإِنْ جَازَ مَعَ الثِّنْتَيْنِ لَمْ يَكُنْ لَهَا شَيْءٌ مِمَّا فِي يَدَيْ الثَّلَاثِ ، فَتَأْخُذُ مِمَّا فِي يَدَيْ الثَّلَاثِ نِصْفَ الرُّبْعِ وَهُوَ الثُّمُنُ وَالْبَاقِي بَيْنَ الثَّلَاثِ أَثْلَاثًا ، ثُمَّ تَدْخُلُ مَعَ الثِّنْتَيْنِ فَتَأْخُذُ سُدُسَ مَا فِي يَدَيْهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا أَخَذَنَا بِاعْتِبَارِ جَوَازِ نِكَاحِهِمَا ، وَنِكَاحُ الْوَاحِدَةِ يَجُوزُ مَعَ نِكَاحِهِمَا ، فَإِنْ كَانَ جَوَازُ نِكَاحِهِمَا مَعَهُمَا كَانَ لَهَا ثُلُثُ مَا فِي أَيْدِيهِمَا ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الثَّلَاثِ لَمْ يَكُنْ لَهَا شَيْءٌ مِمَّا فِي أَيْدِيهِمَا ، فَلِهَذَا تَأْخُذُ مِنْهُمَا نِصْفَ الثُّلُثِ
وَهُوَ سُدُسُ مَا فِي أَيْدِيهِمَا وَالْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ، وَأَمَّا حُكْمُ الْمَهْرِ فَنَقُولُ : عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُنَّ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ وَنِصْفُ مَهْرٍ ؛ لِأَنَّهُ إنْ جَازَ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ فَلَهُنَّ أَرْبَعَةُ مُهُورٍ ، وَإِنْ جَازَ نِكَاحُ الثَّلَاثِ مَعَ الْوَاحِدَةِ فَكَذَلِكَ .
وَإِنْ كَانَ جَازَ نِكَاحُ الثِّنْتَيْنِ مَعَ الْوَاحِدَةِ فَلَهُنَّ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ ، فَثَلَاثَةُ مُهُورٍ لَهُنَّ بِيَقِينٍ وَالْمَهْرُ الرَّابِعُ يَثْبُتُ فِي حَالَيْنِ ، وَلَا يَثْبُتُ فِي حَالٍ ، وَلَكِنَّ أَحْوَالَ الْإِصَابَةِ حَالَةٌ وَاحِدَةٌ فَكَأَنَّهُ ثَبَتَ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ ، فَلِهَذَا كَانَ لَهُنَّ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ وَنِصْفُ مَهْرٍ ، فَأَمَّا نِصْفُ مَهْرٍ مِنْ ذَلِكَ فَلِلْأَرْبَعِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ وَلِلثَّلَاثِ رُبُعُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَازَعَةَ لِلثِّنْتَيْنِ فِي هَذَا النِّصْفِ ، وَالْأَرْبَعُ يَدَّعِينَ ذَلِكَ لِأَنْفُسِهِنَّ وَالثَّلَاثُ يَدَّعِينَ ذَلِكَ بِانْضِمَامِ الْوَاحِدَةِ إلَيْهِنَّ ، وَانْضِمَامُ الْوَاحِدَةِ إلَيْهِنَّ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ ، فَبِاعْتِبَارِ الْحَالَيْنِ يَكُونُ لِلثَّلَاثِ نِصْفُ نِصْفِ هَذَا وَهُوَ الرُّبُعُ ، وَلِلْأَرْبَعِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ ، فَأَمَّا مَهْرُ وَاحِدٍ فَلِلْأَرْبَعِ مِنْهُ سُدُسَانِ وَنِصْفُ سُدُسٍ ، وَلِلثَّلَاثِ سُدُسَانِ وَنِصْفُ سُدُسٍ ، وَلِلثِّنْتَيْنِ سُدُسٌ ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ وَالْأَرْبَعَ يَدَّعِينَ هَذَا الْمَهْرَ لِأَنْفُسِهِنَّ ، وَالثِّنْتَانِ لَا يَدَّعِيَانِ ذَلِكَ إلَّا بِانْضِمَامِ الْوَاحِدَةِ إلَيْهِمَا ، وَانْضِمَامُ الْوَاحِدَةِ إلَيْهِمَا فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ ، فَفِي حَالَةِ الِانْضِمَامِ لَهُمَا ثُلُثُ ذَلِكَ ، وَفِي غَيْرِ حَالَةِ الِانْضِمَامِ لَا شَيْءَ لَهُمَا فَلَهُمَا نِصْفُ الثُّلُثِ وَهُوَ السُّدُسُ ، وَالْبَاقِي وَهُوَ خَمْسَةُ أَسْدَاسٍ اسْتَوَتْ فِيهِ مُنَازَعَةُ الثَّلَاثِ وَالْأَرْبَعِ فَكَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِكُلِّ فَرِيقٍ سُدُسَانِ وَنِصْفُ سُدُسٍ ، وَأَمَّا الْمَهْرَانِ فَقَدْ اسْتَوَتْ فِي ذَلِكَ مُنَازَعَةُ الْفِرَقِ الثَّلَاثِ فَكَانَ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا لِكُلِّ فَرِيقٍ ثُلُثَا
مَهْرٍ ، فَأَمَّا الْأَرْبَعُ فَقَدْ أَصَابَهُنَّ مَرَّةً ثُلُثَا مَهْرٍ وَمَرَّةً سُدُسَانِ وَنِصْفُ سُدُسٍ وَمَرَّةً ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ النِّصْفِ ، فَيُجْمَعُ ذَلِكَ كُلُّهُ وَيُقَسَّمُ بَيْنَهُنَّ بِالسَّوِيَّةِ ، إذْ لَا مُزَاحَمَةَ لِلْوَاحِدَةِ مَعَهُنَّ ، وَأَمَّا الثَّلَاثُ فَقَدْ أَصَابَهُنَّ مَرَّةً ثُمُنُ مَهْرٍ وَمَرَّةً سُدُسَانِ وَنِصْفُ سُدُسٍ وَمَرَّةً ثُلُثَا مَهْرٍ فَيُجْمَعُ ذَلِكَ كُلُّهُ ثُمَّ الْوَاحِدَةُ تَأْخُذُ ثُمُنَ جَمِيعِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إنْ صَحَّ نِكَاحُهَا مَعَهُنَّ فَلَهَا رُبْعُ ذَلِكَ .
وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَلَا شَيْءَ لَهَا فَتَأْخُذُ ثُمُنَ ذَلِكَ ، وَالْبَاقِي بَيْنَ الثَّلَاثِ بِالسَّوِيَّةِ ، وَأَمَّا الثِّنْتَانِ فَإِنَّهُمَا أَصَابَهُمَا مَرَّةً ثُلُثَا مَهْرٍ وَمَرَّةً سُدُسُ مَهْرٍ فَتَدْخُلُ الْوَاحِدَةُ مَعَهُمَا وَتَأْخُذُ سُدُسَ مَا فِي أَيْدِيهِمَا ؛ لِأَنَّهُ إنْ جَازَ نِكَاحُهَا مَعَهَا فَلَهَا ثُلُثُ ذَلِكَ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَهَا ، فَتَأْخُذُ نِصْفَ الثُّلُثِ وَهُوَ السُّدُسُ ثُمَّ الْبَاقِي بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ، وَإِذَا أَرَدْتَ تَصْحِيحَ الْحِسَابِ فَالطَّرِيقُ فِيهِ ضَرْبُ هَذِهِ الْمَخَارِجِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ وَهُوَ وَاضِحٌ لَا يُشْتَغَلُ بِهِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ التَّطْوِيلِ ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلْأَرْبَعِ مَهْرٌ وَثُلُثُ مَهْرٍ وَلِلثَّلَاثِ مَهْرٌ وَلِلِاثْنَتَيْنِ ثُلُثَا مَهْرٍ وَلِلْوَاحِدَةِ نِصْفُ مَهْرٍ ، فَجُمْلَةُ ذَلِكَ أَيْضًا ثَلَاثَةُ مُهُورٍ وَنِصْفٌ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَوَجْهُ التَّخْرِيجِ أَنَّ الْأَحْوَالَ ثَلَاثَةٌ فَيَجِبُ اعْتِبَارُ كُلِّ حَالَةٍ ، فَيَقُولُ : نِكَاحُ الْأَرْبَعِ يَصِحُّ فِي حَالٍ ، وَلَا يَصِحُّ فِي حَالَيْنِ ، فَإِنْ صَحَّ نِكَاحُهُنَّ فَلَهُنَّ أَرْبَعَةُ مُهُورٍ ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَلَا شَيْءَ لَهُنَّ ، وَأَحْوَالُ الْحِرْمَانِ أَحْوَالٌ فَلَهُنَّ ثُلُثُ ذَلِكَ وَهُوَ مَهْرٌ وَثُلُثُ مَهْرٍ بَيْنَهُنَّ بِالسَّوِيَّةِ ، وَالثَّلَاثُ إنْ صَحَّ نِكَاحُهُنَّ فَلَهُنَّ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَلَا شَيْءَ لَهُنَّ ، وَنِكَاحُهُنَّ يَصِحُّ فِي حَالٍ وَلَا يَصِحُّ فِي
حَالَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثُ ذَلِكَ وَهُوَ مَهْرٌ وَاحِدٌ ، وَالثِّنْتَانِ إنْ صَحَّ نِكَاحُهُمَا فَلَهُمَا مَهْرَانِ وَنِكَاحُهُمَا صَحِيحٌ فِي حَالٍ دُونَ حَالَيْنِ فَلَهُمَا ثُلُثُ ذَلِكَ ، وَذَلِكَ ثُلُثَا مَهْرٍ ، وَالْوَاحِدَةُ يَصِحُّ نِكَاحُهَا فِي حَالَيْنِ إمَّا مَعَ الثَّلَاثِ أَوْ مَعَ الثِّنْتَيْنِ ، وَلَا يَصِحُّ نِكَاحُهَا فِي حَالٍ وَهُوَ مَا إذَا تَقَدَّمَ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ ، لَكِنَّ أَحْوَالَ الْإِصَابَةِ حَالَةٌ وَاحِدَةٌ فَكَانَ نِكَاحُهَا يَصِحُّ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَكَانَ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا احْتِيَاطًا .
( قَالَ : ) فَإِنْ كَانَتْ إحْدَى الْأَرْبَعِ أَمَةً وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَنِكَاحُ الْأَمَةِ فَاسِدٌ بِيَقِينٍ لِانْضِمَامِهَا إلَى الْحَرَائِرِ ، وَلَا حَظَّ لَهَا مِنْ الْمَهْرِ وَلَا مِنْ الْمِيرَاثِ ، وَنِكَاحُ الْمُنْفَرِدَةِ هُنَا صَحِيحٌ عَلَى كُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ فِي الْحَاصِلِ ثَلَاثٌ وَثَلَاثٌ وَاثْنَتَانِ وَوَاحِدَةٌ ، فَيَتَيَقَّنُ بِصِحَّةِ نِكَاحِ الْوَاحِدَةِ إمَّا مَعَ الثِّنْتَيْنِ أَوْ مَعَ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ مِنْ الثَّلَاثِ ، ثُمَّ بَيَانُ حُكْمِ الْمَهْرَانِ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُنَّ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ وَنِصْفٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنْ أَكْثَرَ مَالِهِنَّ أَرْبَعَةُ مُهُورٍ وَأَقَلَّ مَالِهِنَّ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ ، فَيَتَوَزَّعُ الْمَهْرُ الرَّابِعُ نِصْفَيْنِ ثُمَّ لِلْمُنْفَرِدَةِ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَهْرٌ كَامِلٌ ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِصِحَّةِ نِكَاحِهَا بَقِيَ مَهْرَانِ وَنِصْفٌ ، فَأَمَّا نِصْفُ مَهْرٍ مِنْ ذَلِكَ لَا مُنَازَعَةَ فِيهِ لِلثِّنْتَيْنِ ، وَكُلُّ فَرِيقٍ مِنْ الثَّلَاثِ يَدَّعِينَ ذَلِكَ فَيَكُونُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ نِصْفَيْنِ ، بَقِيَ مَهْرَانِ اسْتَوَتْ فِيهِمَا مُنَازَعَةُ الْفِرَقِ الثَّلَاثَةِ فَكَانَ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا لِكُلِّ فَرِيقٍ ثُلُثَا مَهْرٍ ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ فَلِلْوَاحِدَةِ مَهْرٌ كَامِلٌ لِمَا قُلْنَا وَلِكُلِّ فَرِيقٍ مِنْ الثَّلَاثِ مَهْرٌ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ كُلِّ فَرِيقٍ يَصِحُّ فِي حَالٍ وَلَا يَصِحُّ فِي حَالَيْنِ ،
وَفِي حَالَةِ الصِّحَّةِ لَهُنَّ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ ، وَأَحْوَالُ الْحِرْمَانِ أَحْوَالٌ فَكَانَ لِكُلِّ فَرِيقٍ ثُلُثُ ذَلِكَ وَهُوَ مَهْرٌ وَاحِدٌ ، وَنِكَاحُ الثِّنْتَيْنِ يَصِحُّ فِي حَالٍ وَلَا يَصِحُّ فِي حَالَيْنِ ، وَفِي حَالَةِ الصِّحَّةِ لَهُمَا مَهْرَانِ فَلَهُمَا ثُلُثُ ذَلِكَ وَهُوَ ثُلُثَا مَهْرٍ ، وَمِيرَاثُ النِّسَاءِ بَيْنَهُنَّ لِلْوَاحِدَةِ مِنْ ذَلِكَ سَبْعَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ ؛ لِأَنَّ نِكَاحَهَا صَحِيحٌ بِيَقِينٍ ، فَإِنْ صَحَّ مَعَ الثِّنْتَيْنِ فَلَهَا ثُلُثُ الْمِيرَاثِ ثَمَانِيَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ ، وَإِنْ صَحَّ مَعَ الثَّلَاثِ فَلَهَا رُبْعُ الْمِيرَاثِ سِتَّةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ ، فَقَدْرُ سِتَّةٍ يَقِينٌ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ يَثْبُتُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ ، فَلِهَذَا كَانَ لَهَا سَبْعَةٌ ، وَلَا يُقَالُ سِتَّةٌ لَهَا فِي حَالَيْنِ بِأَنْ يَصِحَّ نِكَاحُهَا مَعَ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثِ أَوْ مَعَ الْفَرِيقِ الْآخَرِ ، فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ تُعْتَبَرَ الْحَالَتَانِ فِي حَقِّهَا لِأَنَّهُمَا حَالَتَا حِرْمَانِ الزِّيَادَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي حَقِّهَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ صِحَّةُ نِكَاحِهَا مَعَ هَذَا الْفَرِيقِ أَوْ مَعَ الْفَرِيقِ الْآخَرِ ، وَاعْتِبَارُ الْأَحْوَالِ لَا يَتَفَاوَتُ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ فِي حَقِّهَا تَفَاوُتٌ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ فَهُمَا حَالَةٌ وَاحِدَةٌ .
( قَالَ : ) وَلَهُمْ وَاحِدٌ مِنْ الْبَاقِي وَهُوَ سَبْعَةَ عَشَرَ بَيْنَ الثَّلَاثِ نِصْفَانِ ؛ لِأَنَّ الثِّنْتَيْنِ لَا يَدَّعِيَانِ أَكْثَرَ مِنْ ثُلُثَيْ الْمِيرَاثِ ، وَمَا بَقِيَ وَهُوَ سِتَّةَ عَشَرَ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا لِاسْتِوَاءِ حَالِهِنَّ فِي اسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ ، وَلَكِنَّ هَذَا الْجَوَابَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْبَاقِي بَعْد نَصِيبِ الْوَاحِدَةِ كُلُّهُ مَقْسُومٌ بَيْنَ الْفِرَقِ أَثْلَاثًا لِاسْتِوَاءِ حَالِهِنَّ فِي اسْتِحْقَاقِ مَا يَفْرُغُ مِنْ حَقِّ الْوَاحِدَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ نَظَائِرِهِ
( قَالَ : ) وَلَوْ كَانَ طَلَّقَ اثْنَتَيْنِ مِنْ نِسَائِهِ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا كَانَ لَهُنَّ مَهْرَانِ وَنِصْفٌ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَقَطَ بِطَلَاقِ الثِّنْتَيْنِ قَبْلَ الدُّخُولِ مَهْرُ وَاحِدٍ وَقَدْ كَانَ الثَّابِتُ لَهُنَّ قَبْلَ الطَّلَاقِ ثَلَاثَةَ مُهُورٍ وَنِصْفًا ، فَإِذَا سَقَطَ مَهْرٌ كَانَ الْبَاقِي مَهْرَيْنِ وَنِصْفًا ، فَأَمَّا الْوَاحِدَةُ فَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ لَهَا رُبْعُ ثَلَاثَةِ مُهُورٍ بِأَنْ كَانَ صَحَّ نِكَاحُهَا مَعَ الثَّلَاثِ وَوَجَبَ أَرْبَعَةُ مُهُورٍ ثُمَّ سَقَطَ مَهْرٌ بِالطَّلَاقِ بَقِيَ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ لَهَا رُبْعُ ذَلِكَ ، وَأَقَلُّ مَا يَكُونُ لَهَا ثُلُثُ مَهْرَيْنِ بِأَنْ يَكُونَ نِكَاحُهَا صَحَّ مَعَ الثِّنْتَيْنِ ، فَكَانَ الْوَاجِبُ ثَلَاثَةَ مُهُورٍ سَقَطَ مَهْرٌ بِالطَّلَاقِ وَبَقِيَ مَهْرَانِ فَلَهَا ثُلُثُ ذَلِكَ ، وَذَلِكَ ثُلُثَا مَهْرٍ ، فَقَدْرُ ثُلُثَيْ مَهْرٍ لَهَا بِيَقِينٍ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ مَهْرٍ ، وَذَلِكَ نِصْفُ سُدُسِ مَهْرٍ يَثْبُتُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ فَيَكُونُ لَهَا ثُلُثَا مَهْرٍ وَرُبْعُ سُدُسِ مَهْرٍ ، وَمَا بَقِيَ يَكُونُ بَيْنَ الْفِرَقِ الثَّلَاثَةِ أَثْلَاثًا لِاسْتِوَاءِ حَالِهِنَّ فِي دَعْوَى ذَلِكَ وَالْمِيرَاثُ عَلَى مَا وَصَفْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ، قَالَ الْحَاكِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْجَوَابُ لَيْسَ بِسَدِيدٍ فِي حُكْمِ الْمَهْرِ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ يُبَيِّنْ الْجَوَابَ الصَّوَابَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلَكِنَّ بَيَانَ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِهِ أَنْ نَقُولَ : لَمَّا كَانَ الْوَاجِبُ لَهُنَّ مَهْرَيْنِ وَنِصْفًا ، فَأَمَّا نِصْفُ مَهْرٍ مِنْ ذَلِكَ تَأْخُذُهُ الْوَاحِدَةُ ؛ لِأَنَّ الثِّنْتَيْنِ لَا يَدَّعِيَانِ ذَلِكَ أَصْلًا ، وَالثَّلَاثُ إنَّمَا يَدَّعِينَ ذَلِكَ بِالْوَاحِدَةِ ، فَأَمَّا بِدُونِ الْوَاحِدَةِ فَلَا يَدَّعِينَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَكَانَتْ الْوَاحِدَةُ بِذَلِكَ أَوْلَى مِمَّنْ يَدَّعِي الِاسْتِحْقَاقَ بِهَا ، فَلِهَذَا تَأْخُذُ الْوَاحِدَةُ نِصْفَ مَهْرٍ بَقِيَ مَهْرَانِ .
فَأَمَّا
نِصْفُ مَهْرٍ مِنْ ذَلِكَ فَالثَّلَاثُ يَدَّعِينَ ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِنَّ وَالْمَثْنَى يَدَّعِيَانِ ذَلِكَ بِالْوَاحِدَةِ ، وَالْوَاحِدَةُ مَضْمُومَةٌ إلَيْهِنَّ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَكَانَ سُدُسُ هَذَا النِّصْفِ لِلْمَثْنَى وَلِكُلِّ فَرِيقٍ مِنْ الثَّلَاثِ سُدُسَانِ وَنِصْفُ سُدُسٍ ، بَقِيَ مَهْرٌ وَنِصْفٌ اسْتَوَتْ مُنَازَعَةُ الْفِرَقِ الثَّلَاثِ فِيهِ فَكَانَ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا ، فَقَدْ أَصَابَ الثِّنْتَيْنِ مَرَّةً نِصْفُ مَهْرٍ وَمَرَّةً سُدُسُ النِّصْفِ فَذَلِكَ سَبْعَةٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ ، وَأَصَابَ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْ الثَّلَاثِ مَرَّةً نِصْفُ مَهْرٍ وَمَرَّةً سَهْمَانِ وَنِصْفُ سُدُسٍ مِنْ سِتَّةٍ مِنْ النِّصْفِ الْآخَرِ فَذَلِكَ ثَمَانِيَةٌ وَنِصْفٌ ، ثُمَّ الْوَاحِدَةُ إنْ كَانَ يَصِحُّ نِكَاحُهَا مَعَ الثِّنْتَيْنِ فَلَهَا ثُلُثَا مَهْرٍ وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهَا نِصْفُ مَهْرٍ بَقِيَ إلَى تَمَامِ حَقِّهَا سُدُسُ مَهْرٍ ، وَنِكَاحُهَا مَعَ الثِّنْتَيْنِ صَحِيحٌ فِي حَالٍ دُونَ حَالَيْنِ فَتَأْخُذُ مِنْهُمَا ثُلُثَ سُدُسِ مَهْرٍ ثُمَّ تَجِيءُ إلَى كُلِّ فَرِيقٍ مِنْ الثَّلَاثِ ، فَإِنْ صَحَّ نِكَاحُهَا مَعَ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْ الثَّلَاثِ فَلَهَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَهْرٍ ، وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهَا نِصْفُ مَهْرٍ بَقِيَ إلَى تَمَامِ حَقِّهَا سُدُسٌ وَنِصْفُ سُدُسٍ فَتَأْخُذُ مِنْ كُلِّ فَرِيقٍ ثُلُثَ ذَلِكَ ، فَيَجْتَمِعُ لَهَا ثُلُثَا مَهْرٍ وَثُلُثُ سُدُسِ مَهْرٍ وَمَا بَقِيَ فِي يَدِ كُلِّ فَرِيقٍ مَقْسُومٌ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ .
( قَالَ : ) وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ امْرَأَةً وَابْنَتَيْهَا فِي عُقَدٍ مُتَفَرِّقَةٍ ثُمَّ مَاتَ ، وَلَا يَعْلَمْ أَيَّتَهنَّ أَوَّلُ فَلَهُنَّ مَهْرٌ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ نِكَاحُ الْوَاحِدَةِ وَهِيَ السَّابِقَةُ مِنْهُنَّ أَيَّتَهنَّ كَانَتْ ، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى نِصْفُ هَذَا الْمَهْرِ لِلْأُمِّ وَنِصْفُهُ لِلْبِنْتَيْنِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ، وَكَذَلِكَ الْمِيرَاثُ نِصْفُهُ لِلْأُمِّ وَنِصْفُهُ لِلْبِنْتَيْنِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - الْمَهْرُ وَالْمِيرَاثُ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا فَطَرِيقُهُمَا وَاضِحٌ ، فَإِنَّ حُجَّةَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِثْلُ حُجَّةِ صَاحِبَتَيْهَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ إنْ تَقَدَّمَ نِكَاحُهَا اسْتَحَقَّتْ ذَلِكَ ، وَإِنْ تَأَخَّرَ فَلَا شَيْءَ لَهَا .
وَالْمُسَاوَاةُ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ يُوجِبُ الْمُسَاوَاةَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُنَّ لَوْ كُنَّ امْرَأَةً وَأُمَّهَا وَابْنَتَهَا ، أَوْ امْرَأَةً وَأُمَّهَا وَأُخْتَ أُمِّهَا ، كَانَ الْمِيرَاثُ وَالْمَهْرُ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا ، فَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَهُ فِي الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَانِ أَشَارَ فِي الْكِتَابِ إلَى أَحَدِهِمَا فَقَالَ مِنْ قَبْلُ : إنَّهُ لَا يَثْبُتُ نِكَاحُ إحْدَى الْبِنْتَيْنِ بِيَقِينٍ ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّا تَيَقَّنَّا بِبُطْلَانِ نِكَاحِ إحْدَى الْبِنْتَيْنِ وَأَنَّ الْأُمَّ لَا يُزَاحِمُهَا إلَّا إحْدَى الْبِنْتَيْنِ ، فَلِهَذَا كَانَ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ وَنِصْفُ الْمِيرَاثِ وَقَدْ اسْتَوَى فِي النِّصْفِ الْآخَرِ حَالُ الْبِنْتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَتْ إحْدَاهُمَا بِتَعْيِينِ جِهَةِ الْبُطْلَانِ فِي نِكَاحِهَا بِأَوْلَى مِنْ الْأُخْرَى ، فَلِهَذَا كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَطَرِيقٌ آخَرُ أَنَّ سَبَبَ بُطْلَانِ النِّكَاحِ فِي حَقِّ الْأُمِّ وَاحِدٌ وَهُوَ الْمُصَاهَرَةُ ؛ لِأَنَّهُ سَوَاءٌ تَزَوَّجَ الْكُبْرَى مِنْ الْبِنْتَيْنِ أَوَّلًا أَوْ الصُّغْرَى فَقَدْ حَرُمَتْ الْأُمُّ بِالْمُصَاهَرَةِ ، فَأَمَّا السَّبَبُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبِنْتَيْنِ مُخْتَلِفٌ ؛ لِأَنَّ فَسَادَ نِكَاحِهَا
مَرَّةً فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَمَرَّةً بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ ، وَأَحَدُهُمَا غَيْرُ الْآخَرِ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الثِّنْتَيْنِ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، وَالتَّوَزُّعُ عَلَى أَسْبَابِ الْحُرْمَةِ ، فَإِذَا كَانَ سَبَبُ الْحُرْمَةِ فِي حَقِّ الْأُمِّ وَاحِدًا ، وَفِي حَقِّ الْبِنْتَيْنِ مُتَعَدِّدًا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُسَاوَاةٌ فِي الْحِرْمَانِ بَلْ حَالُهَا أَحْسَنُ فَكَانَ لَهَا ضِعْفُ مَا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، فَأَمَّا مَا اسْتَشْهَدَا بِهِ فَقَدْ قِيلَ : الْكُلُّ عَلَى الِاخْتِلَافِ ، وَقَدْ يَسْتَشْهِدُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْمُخْتَلِفِ عَلَى الْمُخْتَلِفِ .
وَالصَّحِيحُ الْفَرْقُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَا يَقِينَ فِي بُطْلَانِ نِكَاحِ وَاحِدَةٍ بَلْ حَالُ الْأُمِّ وَالْجَدَّةِ وَالنَّافِلَةِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ، وَكَذَلِكَ السَّبَبُ الْمُتَعَدِّدُ فِي حُرْمَةِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِاعْتِبَارِ اخْتِلَافِ الِاسْمِ ، كَالْأُمِّ وَالْجَدَّةِ وَالْأُمِّ وَالْخَالَةِ ، أَوْ الْأُمِّ وَالْبِنْتِ ، فَلَمَّا اسْتَوَى حَالُهُنَّ كَانَ الْوَاجِبُ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا بِالسَّوِيَّةِ ، وَإِنْ مُتْنَ جَمِيعًا وَالزَّوْجُ حَيٌّ فَالْقَوْلُ فِي الْأُولَى مِنْهُنَّ ، قَوْلُهُ كَمَا فِي حَالِ حَيَاتِهِنَّ الْقَوْلُ فِي بَيَانِ الْأُولَى قَوْلُهُ لِأَنَّ الْمِلْكَ حَقُّهُ ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِنَّ الْقَوْلُ فِي بَيَانِ الْأُولَى قَوْلُهُ ، وَإِنْ مَاتَ الزَّوْجُ بَعْدَهُنَّ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ فَلَهُ ثُلُثُ مِيرَاثِ زَوْجٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ، وَعَلَيْهِ ثُلُثُ مَا سَمَّى لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مِنْ الْمَهْرِ بِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ كُلِّ وَاحِدَةٍ صَحِيحٌ فِي حَالٍ دُونَ حَالَيْنِ فَلَهَا ثُلُثُ مَا سَمَّى لَهَا ، وَبِاعْتِبَارِ صِحَّةِ نِكَاحِهَا لَهُ مِيرَاثُ زَوْجٍ مِنْهَا وَالصِّحَّةُ فِي حَالٍ دُونَ حَالَيْنِ فَلَهُ ثُلُثُ مِيرَاثِ زَوْجٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ .
( قَالَ : ) فَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَ الْبِنْتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ فَنِكَاحُهُمَا بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّا نَتَيَقَّنُ بِبُطْلَانِ نِكَاحِهِمَا بِسَبَبِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ سَوَاءٌ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ ، وَعِنْدَ التَّيَقُّنِ بِبُطْلَانِ نِكَاحِهِمَا نَتَيَقَّنُ بِصِحَّةِ نِكَاحِ الْأُمِّ ، فَهِيَ امْرَأَتُهُ تَقَدَّمَ نِكَاحُهَا أَوْ تَأَخَّرَ .
( قَالَ : ) وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهِنَّ جَمِيعًا ثُمَّ مَاتَ ، وَلَا يُدْرَى أَيَّتُهُنَّ دَخَلَ بِهَا أَوَّلًا فَنَقُولُ : إمَّا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْبِنْتَيْنِ الْأَقَلُّ مِمَّا سَمَّى لَهَا وَمِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَ بِهِمَا بِحُكْمِ نِكَاحٍ فَاسِدٍ ، وَلَا مِيرَاثَ لَهُمَا لِفَسَادِ نِكَاحِهِمَا ، وَكَذَلِكَ لَا مِيرَاثَ لِلْأُمِّ ؛ لِأَنَّ نِكَاحَهَا قَدْ بَطَلَ فِي حَالِ حَيَاتِهِ بِالدُّخُولِ بِالْبِنْتَيْنِ سَابِقًا أَوْ مُتَأَخِّرًا ، فَإِنَّ الدُّخُولَ بِالْبِنْتِ يُحَرِّمُ الْأُمَّ عَلَى التَّأْبِيدِ ، وَأَمَّا الْمَهْرُ فَفِي الْقِيَاسِ لِلْأُمِّ مَهْرٌ وَرُبْعُ مَهْرٍ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَهَا مَهْرٌ وَاحِدٌ ، وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ نِكَاحَ الْأُمِّ صَحِيحٌ بِيَقِينٍ ، فَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِإِحْدَى الْبِنْتَيْنِ قَبْلَ الْأُمِّ فَقَدْ حَرُمَتْ الْأُمُّ بِذَلِكَ وَوَجَبَ لَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ قَبْلَ الدُّخُولِ ، ثُمَّ دَخَلَ بِالْأُمِّ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَجِبُ لَهَا بِالدُّخُولِ مَهْرٌ فَكَانَ لَهَا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ مَهْرٌ وَنِصْفٌ ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِالْأُمِّ أَوَّلًا فَلَهَا مَهْرٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْمُسَمَّى ثُمَّ حَرُمَتْ عَلَيْهِ بِالدُّخُولِ بِالْبِنْتِ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ لَهَا فِي وَجْهٍ مَهْرٌ وَنِصْفٌ ، وَفِي وَجْهٍ مَهْرٌ فَلَهَا مَهْرٌ بِيَقِينٍ وَالنِّصْفُ يَثْبُتُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ ، وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ فَقَالَ لَهَا : مَهْرٌ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ يُجْعَلُ كَأَنَّهُ دَخَلَ بِالْأُمِّ أَوَّلًا ، فَإِنَّ فِعْلَهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْحِلِّ مَا أَمْكَنَ ، وَأَوَّلُ فِعْلِهِ يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْوَطْءِ الْحَلَالِ ثُمَّ لَا إمْكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَلِهَذَا
جَعَلْنَا كَأَنَّهُ وَطِئَ الْأُمَّ أَوَّلًا حَتَّى يُعْلَمَ غَيْرُ ذَلِكَ ، وَالثَّانِي أَنَّ الْمَهْرَ وَالنِّصْفَ وُجُوبُهُمَا بِاعْتِبَارِ سَبَبَيْنِ : أَحَدُهُمَا الْعَقْدُ الصَّحِيحُ ، وَالْآخَرُ الْوَاطِئُ بِالشُّبْهَةِ ، وَلَمْ يَظْهَرْ السَّبَبَانِ إنَّمَا الظَّاهِرُ سَبَبٌ وَاحِدٌ وَهُوَ الْعَقْدُ الصَّحِيحُ ، فَأَمَّا الْوَطْءُ تَصَرُّفٌ فِي الْمِلْكِ بَعْدَهُ وَبِاعْتِبَارِ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ لَا يَجِبُ إلَّا مَهْرٌ وَاحِدٌ ، فَلِهَذَا كَانَ لَهَا مَهْرٌ وَاحِدٌ ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثَلَاثُ حِيَضٍ لِدُخُولِهِ بِهِنَّ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِالْأُمِّ وَدَخَلَ بِالْبِنْتَيْنِ أَوْ إحْدَاهُمَا فَلِلْأُمِّ نِصْفُ الْمُسَمَّى لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ بَعْدَ صِحَّةِ نِكَاحِهَا ، وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَلِلْمَدْخُولِ بِهَا مِنْ الْبِنْتَيْنِ الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى وَمِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ بِثَلَاثِ حِيَضٍ .
( قَالَ : ) وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهُنَّ فِي عُقَدٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَلَمْ يَدْخُلْ بِشَيْءٍ مِنْهُنَّ حَتَّى قَالَ : إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ ، فَهَذَا الْكَلَامُ لَغْوٌ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ السَّابِقَ مِنْهُنَّ امْرَأَتُهُ وَالْأُخْرَيَانِ أَجْنَبِيَّتَانِ ، وَمَنْ جَمَعَ بَيْنَ امْرَأَتِهِ وَأَجْنَبِيَّتَيْنِ وَقَالَ : إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ .
( قَالَ : ) وَإِنْ قَالَ : إحْدَى نِسَائِهِ طَالِقٌ وَقَعَ عَلَى امْرَأَتِهِ مِنْهُنَّ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الطَّلَاقَ إلَى امْرَأَتِهِ ، فَإِنَّ فِي نِكَاحِهِ امْرَأَةً وَاحِدَةً ، وَمَنْ كَانَ فِي نِكَاحِهِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ إذَا قَالَ : إحْدَى نِسَائِي طَالِقٌ وَقَعَ الطَّلَاقُ بِذَلِكَ اللَّفْظِ عَلَى امْرَأَتِهِ ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ هُنَاكَ أَوْقَعَ الطَّلَاقَ عَلَى إحْدَى الْمُعَيَّنَاتِ بِغَيْرِ عَيْنِهَا ، وَفِيهِنَّ مَنْ لَيْسَتْ بِمَنْكُوحَةٍ لَهُ ، فَلَا تَتَعَيَّنُ امْرَأَتُهُ لِذَلِكَ الطَّلَاقِ ، وَإِذَا وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَى امْرَأَتِهِ فَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ ثُمَّ الْخِلَافُ فِي نِصْفِ الْمَهْرِ هُنَا كَالْخِلَافِ فِي جَمِيعِ الْمَهْرِ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ، وَلَا مِيرَاثَ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ
لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ .
( قَالَ : ) وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَ الْبِنْتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ ثُمَّ قَالَ : إحْدَى نِسَائِي طَالِقٌ طَلُقَتْ الْأُمُّ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ نِكَاحُ الْأُمِّ وَهُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ مُوقِعُ الطَّلَاقِ عَلَى مَنْ صَحَّ النِّكَاحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا ، فَلِهَذَا طَلُقَتْ الْأُمُّ وَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ ، وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَلَا مِيرَاثَ لَهَا ، وَإِنْ قَالَ : إحْدَاكُنَّ طَالِقٌ لَمْ يَقَعْ الطَّلَاقُ عَلَى الْأُمِّ إلَّا أَنْ يَنُوبَهَا ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ امْرَأَتِهِ وَأَجْنَبِيَّتَيْنِ وَأَوْقَعَ الطَّلَاقَ عَلَى إحْدَاهُنَّ ، فَلَا يَتَعَيَّنُ لِذَلِكَ امْرَأَتُهُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهَا بِقَلْبِهِ ، وَلَوْ كَانَ تَزَوَّجَهُنَّ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ فَنِكَاحُهُنَّ فَاسِدٌ بِعِلَّةِ الْجَمْعِ ، فَإِنْ كَانَ فِيهِنَّ أَمَةٌ جَازَ نِكَاحُ الْأَمَةِ ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْحُرَّتَيْنِ مِنْهُنَّ بَاطِلٌ بِيَقِينٍ ، فَإِنَّ الْحُرَّتَيْنِ إنْ كَانَتَا ابْنَتَيْنِ بَطَلَ نِكَاحُهُمَا لِلْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ ، وَإِنْ كَانَتَا أُمًّا وَبِنْتًا بَطَلَ نِكَاحُهُمَا لِلْجَمْعِ أَيْضًا ، وَمَتَى كَانَ نِكَاحُ الْحُرَّتَيْنِ بَاطِلًا بِيَقِينٍ لَا يَبْطُلُ بِهِ نِكَاحُ الْأَمَةِ ؛ لِأَنَّ بُطْلَانَ نِكَاحِ الْأَمَةِ بِضَمِّهَا إلَى الْحُرَّةِ ، وَذَلِكَ عِنْدَ صِحَّةِ نِكَاحِ الْحُرَّةِ لَا عِنْدَ بُطْلَانِ نِكَاحِهَا .
( قَالَ : ) وَإِنْ كَانَ فِيهِنَّ أَمَتَانِ جَازَ نِكَاحُ الْحُرَّةِ ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْأَمَتَيْنِ بَاطِلٌ بِيَقِينٍ ، فَإِنَّهُمَا إمَّا أُخْتَانِ أَوْ أُمٌّ وَبِنْتٌ ، وَإِذَا بَطَلَ نِكَاحُهُمَا كَانَ ضَمُّهُمَا إلَى الْحُرَّةِ لَغْوًا فَجَازَ نِكَاحُ الْحُرَّةِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَتْ اثْنَتَانِ مِنْهُمَا ذَوَاتَيْ زَوْجٍ أَوْ فِي عِدَّةٍ مِنْ زَوْجٍ ، وَلَمَّا بَطَلَ نِكَاحُهُمَا صَحَّ نِكَاحُ الْفَارِغَةِ مِنْهُنَّ .
( قَالَ : ) وَإِنْ تَزَوَّجَ خَمْسَ حَرَائِرَ وَأَرْبَعَ إمَاءٍ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ جَازَ نِكَاحُ الْإِمَاءِ وَبَطَلَ نِكَاحُ الْحَرَائِرِ ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْحَرَائِرِ لَوْ انْفَرَدَ كَانَ بَاطِلًا ، وَلَوْ انْفَرَدَ نِكَاحُ الْإِمَاءِ كَانَ صَحِيحًا ، فَعِنْدَ الْجَمْعِ يَصِحُّ نِكَاحُ مَنْ يَصِحُّ نِكَاحُهُ عِنْدَ الِانْفِرَادِ ، وَبِمِثْلِهِ لَوْ تَزَوَّجَ أَرْبَعَ إمَاءٍ وَأَرْبَعَ حَرَائِرَ فِي عُقْدَةٍ جَازَ نِكَاحُ الْحَرَائِرِ ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْحَرَائِرِ وَلَوْ انْفَرَدَ هُنَا كَانَ صَحِيحًا فَيَنْدَفِعُ بِنِكَاحِهِنَّ نِكَاحُ الْإِمَاءِ ، كَمَا لَوْ تَزَوَّجَ حُرَّةً وَأَمَةً فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَالْأَصْلُ الَّذِي تَدُورُ عَلَيْهِ الْمَسَائِلُ أَنَّهُ مَتَى جَمَعَ فِي الْعَقْدِ بَيْنَ الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ نَظَرَ ، فَإِنْ كَانَ نِكَاحُ الْحُرَّةِ يَجُوزُ عِنْدَ الِانْفِرَادِ يَبْطُلُ نِكَاحُ الْأَمَةِ ؛ لِأَنَّهُ تَحَقَّقَ ضَمُّهَا إلَى الْحُرَّةِ فِي النِّكَاحِ ، وَإِنْ كَانَ نِكَاحُ الْحُرَّةِ لَا يَجُوزُ عِنْدَ الِانْفِرَادِ يَصِحُّ نِكَاحُ الْأَمَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ انْضِمَامُهَا إلَى الْحُرَّةِ فِي النِّكَاحِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحُرَّةَ لَوْ كَانَتْ ذَاتَ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَجَمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَمَةٍ فِي النِّكَاحِ جَازَ نِكَاحُ الْأَمَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقْ ضَمُّهَا إلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ حِينَ لَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِ نِكَاحِ الْحُرَّةِ .
( قَالَ : ) وَإِنْ تَزَوَّجَ حُرَّةً وَأَمَةً فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ وَإِحْدَاهُمَا بِنْتُ الْأُخْرَى جَازَ نِكَاحُ الْحُرَّةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ لَوْ انْفَرَدَ نِكَاحُهَا هُنَا يَصِحُّ فَيَتَحَقَّقُ ضَمُّ الْأَمَةِ إلَى الْحُرَّةِ ، فَلِهَذَا جَازَ نِكَاحُ الْحُرَّةِ دُونَ الْأَمَةِ .
( قَالَ : ) وَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَتَزَوَّجَ خَامِسَةً وَدَخَلَ بِهَا فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا لِبُطْلَانِ نِكَاحِهَا وَعَلَيْهِ لَهَا الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى ، وَمِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ وَلَمْ يَقْرَبْ الْأَرْبَعَ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ الْخَامِسَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَرِبَهُنَّ كَانَ جَامِعًا مَاءَهُ فِي رَحِمِ خَمْسِ نِسْوَةٍ بِالنِّكَاحِ ، وَلِأَنَّ عِدَّةَ تِلْكَ الْوَاحِدَةِ يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ نِكَاحِ الْأَرْبَعِ إذَا اقْتَرَنَ بِنِكَاحِهِنَّ فَيَمْنَعُ الْوَطْءَ إذَا طَرَأَ عَلَى نِكَاحِهِنَّ ، كَعِدَّةِ الْأُخْتِ لَمَّا مَنَعَتْ نِكَاحَ الْأُخْتِ إذَا اقْتَرَنَتْ بِهِ مَنَعَتْ الْوَطْءَ إذَا طَرَأَتْ عَلَيْهِ ، حَتَّى إذَا وَطِئَ أُخْتَ امْرَأَتِهِ بِشُبْهَةٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَطَأَ امْرَأَتَهُ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ أُخْتِهَا .
( قَالَ : ) وَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ أُخْتَ أُمِّ وَلَدِهِ ؛ لِأَنَّ فِرَاشَ أُمِّ الْوَلَدِ ضَعِيفٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ مُجَوِّزٌ لِلنَّسَبِ غَيْرُ مُلْزِمٍ ، حَتَّى لَوْ نَفَى الْمَوْلَى وَلَدَهُ انْتَفَى بِمُجَرَّدِ نَفْيِهِ ، وَالنِّكَاحُ قَوِيٌّ مُلْزِمٌ بِنَفْسِهِ ، وَالضَّعِيفُ لَا يَكُونُ دَافِعًا لِلْقَوِيِّ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَوْلَى لَوْ زَوَّجَ أُمَّ وَلَدِهِ كَانَ النِّكَاحُ صَحِيحًا ، فَكَمَا أَنَّ فِرَاشَهَا لِضَعْفِهِ لَا يَمْنَعُ تَزْوِيجَهَا ، فَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْمَوْلَى نِكَاحَ أُخْتِهَا اعْتِبَارًا لِلْمَنْعِ فِي أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِالْمَنْعِ فِي الْجَانِبِ الْآخَرِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَ أُخْتَ مُدَبَّرَتِهِ أَوْ أُخْتَ أَمَةٍ لَهُ قَدْ كَانَ يَطَؤُهَا ، وَهَذَا أَظْهَرُ فَإِنَّهُ لَا فِرَاشَ لَهُمَا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَطَأَ الَّتِي تَزَوَّجَ حَتَّى يَمْلِكَ فَرْجَ الْأَمَةِ غَيْرُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ وَطِئَهَا صَارَ جَامِعًا مَاءَهُ فِي رَحِمِ أُخْتَيْنِ ، وَلِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي الِاسْتِفْرَاشِ الْحَقِيقِيِّ حَرَامٌ وَقَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُ اسْتِفْرَاشُ الْأُولَى ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَسْتَفْرِشَ الثَّانِيَةَ مَا لَمْ يَنْقَطِعْ حُكْمُ ذَلِكَ الِاسْتِفْرَاشِ ، وَانْقِطَاعُهُ بِالتَّزْوِيجِ أَوْ الْبَيْعِ فِي مَحَلِّ الْبَيْعِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَطِئَ أَمَتَهُ ، وَلَا مُدَبَّرَتَهُ ، فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَطَأَ امْرَأَتَهُ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْأَمَةَ وَالْمُدَبَّرَةَ بَعْدَ النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْكُوحَةَ بِالْعَقْدِ صَارَتْ فِرَاشًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَفْرِشَ الْأَمَةَ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَهُ أَنْ يَطَأَ الْمَنْكُوحَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَا فِرَاشَ لَهُ عَلَى الْمَمْلُوكَةِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا .
( قَالَ : ) وَلَوْ زَوَّجَ أُمَّ وَلَدِهِ ثُمَّ وَطِئَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ مَاتَ زَوْجُ أُمِّ الْوَلَدِ أَوْ فَارَقَهَا فَلَهُ أَنْ يَطَأَ امْرَأَتَهُ مَادَامَ أُمُّ وَلَدِهِ تَعْتَدُّ مِنْ زَوْجِهَا ؛ لِأَنَّ فَرْجَهَا حَرَامٌ عَلَيْهِ فِي حَالِ عِدَّتِهَا كَمَا هُوَ حَرَامٌ عَلَيْهِ فِي حَالِ نِكَاحِهَا ، فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا ، فَلَا يَنْبَغِي
لَهُ أَنْ يَطَأَ امْرَأَتَهُ حَتَّى يَمْلِكَ فَرْجَ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ قَدْ ارْتَفَعَ بِآثَارِهِ فَعَادَ الْحُكْمُ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ ، وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ وَالْمُدَبَّرَةُ إذَا كَانَ وَطِئَهَا قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْأُخْتَ فَحُكْمُهُمَا وَحُكْمُ أُمِّ الْوَلَدِ سَوَاءٌ .
( قَالَ : ) فَإِنْ أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدِهِ فَعَلَيْهَا أَنْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ عِنْدَنَا ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا حَيْضَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَمَذْهَبُهُ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَيَسْتَوِي إنْ أَعْتَقَهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا إلَّا عَلَى قَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ : لَا تَلْبِسُوا عَلَيْنَا سُنَّةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ إذَا مَاتَ عَنْهَا سَيِّدُهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ، وَهَذَا دَلِيلُنَا فَإِنَّهُ أَلْزَمَهَا عِدَّةَ الْحَرَائِرِ إلَّا أَنَّا نُوجِبُ الْحَيْضَ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْعِدَّةَ لَا تَجِبُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الدُّخُولِ وَتَوَهُّمِ اشْتِغَالِ الرَّحِمِ فَيُقَدَّرُ بِالْحَيْضِ فِي الْحَيَاةِ وَالْوَفَاةِ كَالْعِدَّةِ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ وَوَطْءِ شُبْهَةٍ ، احْتَجَّ الشَّافِعِيُّ فَقَالَ : عِدَّتُهَا أَثَرُ مِلْكِ الْيَمِينِ فَتُقَدَّرُ بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ كَالِاسْتِبْرَاءِ ، وَدَلِيلُ صِحَّةِ اعْتِبَارِهِ بِالِاسْتِبْرَاءِ أَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِالْحَيَاةِ وَالْوَفَاةِ ، وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ تَبَيُّنُ فَرَاغِ الرَّحِمِ لَا غَيْرُ ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْقُرْءِ الْوَاحِدِ وَلَكِنَّا نَقُولُ : هَذِهِ عِدَّةٌ وَجَبَتْ عَلَى حُرَّةٍ ، فَلَا يَكْتَفِي فِيهَا بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ كَعِدَّةِ النِّكَاحِ بَلْ أَوْلَى ، فَإِنْ عِدَّةَ النِّكَاحِ قَدْ تَجِبُ عَلَى الْأَمَةِ ، وَهَذِهِ الْعِدَّةُ لَا يَجِبُ إلَّا عَلَى الْحُرَّةِ ، وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ الْحُرَّةَ كَامِلَةُ الْحَالِ فَالْوَظِيفَةُ الَّتِي لَا تَجِبُ إلَّا عَلَى الْحُرَّةِ تَجِبُ بِصِفَةِ
الْكَمَالِ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَالُ وُجُوبِ الْعِدَّةِ لَا مَا كَانَ قَبْلَهُ وَبِهِ يَتَبَيَّنُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الِاسْتِبْرَاءِ ، فَإِنَّ الِاسْتِبْرَاءَ لَا يَجِبُ عَلَيْهَا وَلَكِنْ عَلَى الْمَوْلَى أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أَلَا لَا تُوطَأُ الْحَبَالَى حَتَّى يَضَعْنَ ، وَلَا الْحَيَالَى حَتَّى يَسْتَبْرِئْنَ بِحَيْضَةٍ } .
وَهَذَا خِطَابٌ لِلْمَوْلَى دُونَ الْأَمَةِ ، فَإِنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ لَا تَضْرِبْ فُلَانًا خِطَابٌ لِلضَّارِبِ دُونَ الْمَضْرُوبِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الِاسْتِبْرَاءِ حُدُوثُ مِلْكِ الْحِلِّ بِسَبَبِ مِلْكِ الْيَمِينِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَاهَا مِنْ صَبِيٍّ أَوْ امْرَأَةٍ يَجِبُ وَهُنَا سَبَبُ وُجُوبِ الْمُدَّةِ زَوَالُ الْفِرَاشِ ، وَالْعِدَّةُ الَّتِي تَجِبُ بِزَوَالِ الْفِرَاشِ لَا يُكْتَفَى فِيهَا بِحَيْضَةٍ وَاحِدَةٍ ، فَإِنْ تَزَوَّجَ الْمَوْلَى أُخْتَهَا فِي عِدَّتِهَا لَمْ يَجُزْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَجَازَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ أُخْتِهَا ، وَلَوْ تَزَوَّجَ أَرْبَعًا سِوَاهَا فِي عِدَّتِهَا جَازَ عِنْدَنَا وَلَهُ أَنْ يَقْرَبَهُنَّ ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : إنَّهَا مُعْتَدَّةٌ ، فَلَا يَتَزَوَّجُ أُخْتَهَا ، وَلَا أَرْبَعًا سِوَاهَا كَالْمُعْتَدَّةِ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ أَصْلَ فِرَاشِهِ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَالْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ مَا كَانَ مُوجِبًا لِلْحِلِّ لَهُ ، وَأَصْلُ الْفِرَاشِ هُنَا مُوجِبُ الْحِلِّ ، ثُمَّ الْعِدَّةُ الَّتِي هِيَ أَثَرُ الْفِرَاشِ هُنَاكَ تَمْنَعُ نِكَاحَ الْأُخْتِ وَالْأَرْبَعَ فَهُنَا أَوْلَى وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - قَالَا : عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ أَثَرُ فِرَاشِهَا وَأَثَرُ الشَّيْءِ لَا يَرْبُو عَلَى أَثَرِ أَصْلِهِ فِي الْمَنْعِ ، فَإِذَا كَانَ أَصْلُ فِرَاشِهَا لَا يَمْنَعُ الْمَوْلَى مِنْ نِكَاحِ
أُخْتِهَا وَأَرْبَعٍ سِوَاهَا فَكَذَلِكَ أَثَرُ فِرَاشِهَا ، وَأَصْلُ الْفِرَاشِ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ أَوْ الْفَاسِدِ بَعْدَ الدُّخُولِ يَمْنَعُ نِكَاحَ الْأُخْتِ وَالْأَرْبَعِ ، فَكَذَلِكَ أَثَرُهُ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ يَبْقَى بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ مِنْ الْمَنْعِ مَا كَانَ ثَابِتًا لَا أَنْ يَثْبُتَ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا ، وَهَذَا بِخِلَافِ تَزْوِيجِهَا مِنْ الْغَيْرِ ، فَإِنَّ أَصْلَ فِرَاشِهَا مَانِعٌ مِنْ التَّزْوِيجِ مِنْ الْغَيْرِ إذَا بَقِيَ حَتَّى لَوْ كَانَتْ حَامِلًا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْ غَيْرِهِ ، فَكَذَلِكَ أَثَرُ فِرَاشِهَا يَمْنَعُ ، إلَّا إنَّهَا إذَا كَانَتْ حَامِلًا فَلَهُ أَنْ يَقْطَعَ فِرَاشَهَا بِالتَّزْوِيجِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ عِدَّتَهَا لِحَقِّ الشَّرْعِ ، وَالْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمَا مِنْ وَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ بِسَبَبِ بَقَاءِ الْعِدَّةِ يَبْقَى الْفِرَاشُ ، حَتَّى إذَا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ ، وَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الْفِرَاشِ ، فَلَوْ تَزَوَّجَ أُخْتَهَا صَارَ جَامِعًا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي الْفِرَاشِ وَذَلِكَ حَرَامٌ ، وَإِذَا تَزَوَّجَ أَرْبَعًا سِوَاهَا صَارَ جَامِعًا بَيْنَ خَمْسِ نِسْوَةٍ فِي الْفِرَاشِ وَلَكِنْ بِسَبَبَيْنِ مُخْتَلِفِينَ ، وَذَلِكَ جَائِزٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ عِنْدَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ لَهُ أَنْ يَسْتَوْلِدَ مِنْ الْجَوَارِي مَا شَاءَ .
( وَالثَّانِي ) أَنَّ فِرَاشَهَا بِالْعِتْقِ يَتَقَوَّى حَتَّى يَثْبُتَ النَّسَبُ بَعْدَ الْعِتْقِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ نَفْيَهُ ، بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْعِتْقِ ، وَكَذَلِكَ بَعْدَ الْعِتْقِ لَا يَمْلِكُ تَزْوِيجَهَا ، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْعِتْقِ يَجُوزُ تَزْوِيجُهَا فَكُلُّ مَنْعٍ كَانَ ثَابِتًا فِي أَصْلِ فِرَاشِهَا يَتَقَوَّى ذَلِكَ بِعِتْقِهَا وَالْمَنْعُ مِنْ اسْتِفْرَاشِ الْأُخْتِ كَانَ ثَابِتًا فِي أَصْلِ فِرَاشِهَا حَتَّى لَا يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَطَأَ أُخْتَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ ، وَلَا يَمْلِكُ النِّكَاحَ فَيَتَقَوَّى ذَلِكَ الْمَنْعُ بِالْعِتْقِ فَيَمْنَعُ عَقْدَ النِّكَاحِ أَصْلًا ، وَلَمْ يَكُنْ هُوَ فِي أَصْلِ فِرَاشِهَا
مَمْنُوعًا مِنْ اسْتِفْرَاشِ الْأَرْبَعِ بِالنِّكَاحِ ، فَلَوْ صَارَ مَمْنُوعًا بَعْدَ الْعِتْقِ كَانَ هَذَا إثْبَاتَ مَنْعِ مُبْتَدَأٍ لَا إظْهَارَ قُوَّةٍ فِيمَا كَانَ ثَابِتًا ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالنِّكَاحِ الْوَطْءُ ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ هُوَ بِاعْتِبَارِ عِدَّتِهَا مَمْنُوعًا مِنْ وَطْءِ الْأَرْبَعِ بِالنِّكَاحِ بِأَنْ يَعْتِقَهَا وَتَحْتَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَطَأهُنَّ ، فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ مَمْنُوعًا مِنْ الْعَقْدِ عَلَيْهَا أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ الْمُعْتَدَّةِ بِالنِّكَاحِ .
( قَالَ : ) وَإِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ فِي عُقْدَةٍ وَثَلَاثًا فِي عُقْدَةٍ ثُمَّ طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنْ فَلَهُنَّ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَلِأَنَّ أَكْثَرَ مَالِهِنَّ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ وَنِصْفُ مَهْرٍ بِأَنْ صَحَّ نِكَاحُ الْأَرْبَعِ وَقَدْ سَقَطَ بِطَلَاقِ إحْدَاهُنَّ نِصْفُ مَهْرٍ ، وَأَقَلُّ مَالِهِنَّ مَهْرَانِ وَنِصْفُ مَهْرٍ بِأَنْ صَحَّ نِكَاحُ الثَّلَاثِ وَقَدْ سَقَطَ نِصْفُ مَهْرٍ بِطَلَاقِ إحْدَاهُنَّ ، فَقَدْرُ مَهْرَيْنِ وَنِصْفٌ يَقِينًا ، وَمَهْرُ آخَرَ يَثْبُتُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ ، فَكَانَ لَهُنَّ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ نِصْفُ مَهْرٍ مِنْ ذَلِكَ لِلْأَرْبَعِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ لَا يَدَّعِينَ ذَلِكَ وَاسْتَوَتْ مُنَازَعَةُ الْفَرِيقَيْنِ فِي الْمَهْرَيْنِ وَالنِّصْفِ ، فَكَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِكُلِّ فَرِيقٍ مَهْرٌ وَرُبْعٌ ، وَالْمِيرَاثُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ نِصْفَانِ لِاسْتِوَاءِ حَالِهِمَا فِي اسْتِحْقَاقِهِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعَ إنْ صَحَّ نِكَاحُهُنَّ فَلَهُنَّ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ وَنِصْفُ مَهْرٍ ؛ لِأَنَّهُ طَلَّقَ إحْدَاهُنَّ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُهُنَّ ، فَلَا شَيْءَ لَهُنَّ فَلَهُنَّ نِصْفُ ذَلِكَ وَهُوَ مَهْرٌ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعٍ ، وَالثَّلَاثُ إنْ صَحَّ نِكَاحُهُنَّ فَلَهُنَّ مَهْرَانِ وَنِصْفٌ ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَلَا شَيْءَ لَهُنَّ فَلَهُنَّ نِصْفُ ذَلِكَ وَهُوَ مَهْرٌ وَرُبْعُ مَهْرٍ
( قَالَ : ) وَلَوْ تَزَوَّجَ ثَلَاثَ نِسْوَةٍ فِي عُقْدَةٍ فَدَخَلَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَلَمْ يَدْخُلْ بِالثِّنْتَيْنِ ثُمَّ طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ وَاحِدَةً وَالْأُخْرَى ثَلَاثًا ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنْ فَلِلْمَدْخُولِ بِهَا مَهْرٌ تَامٌّ لِتَأَكُّدِ مَهْرِهَا بِالدُّخُولِ ، وَلِلَّتَيْنِ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا مَهْرٌ وَرُبْعُ مَهْرٍ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا يَكُونُ لَهُمَا مَهْرٌ وَنِصْفٌ ، بِأَنْ يَكُونَ أَحَدُ الطَّلَاقَيْنِ وَاقِعًا عَلَى الْمَدْخُولِ بِهَا وَالْآخِرُ عَلَى إحْدَاهُمَا ، وَأَقَلُّ مَالِهِمَا مَهْرٌ وَاحِدٌ بِأَنْ يَكُونَ الطَّلَاقَانِ وَقَعَا عَلَيْهِمَا فَمَهْرٌ وَاحِدٌ لَهَا بِيَقِينٍ وَنِصْفُ مَهْرٍ يَثْبُتُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ فَيَكُونُ لَهُمَا مَهْرٌ وَرُبْعُ مَهْرٍ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِلَّتَيْنِ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا مَهْرٌ وَثُلُثُ مَهْرٍ هَكَذَا ذَكَرَ فِي هَذَا الْكِتَابِ ، وَفِي الزِّيَادَاتِ يَقُولُ : لَهُمَا مَهْرٌ وَرُبْعُ مَهْرٍ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَلَكِنْ بِطَرِيقٍ آخَرَ وَهُوَ أَنَّ إحْدَاهُمَا مُطَلَّقَةٌ بِيَقِينٍ فَيَعْزِلُهَا بِنِصْفِ مَهْرٍ ، وَالْأُخْرَى إنْ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَيْهَا فَلَهَا نِصْفُ مَهْرٍ ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ فَلَهَا كَامِلٌ فَنِصْفُ مَهْرٍ لَهَا بِيَقِينٍ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ يَثْبُتُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ فَكَانَ لَهَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَهْرٍ ، فَإِذَا ضَمَمْتَ ذَلِكَ إلَى نِصْفِ مَهْرٍ يَكُونُ مَهْرًا وَرُبْعَ مَهْرٍ بَيْنَهُمَا ، وَوَجْهُ رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِشَيْءٍ مِنْهُنَّ لَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ مَهْرَيْنِ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثُلُثَا مَهْرٍ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَقَطَ بِالطَّلَاقَيْنِ مَهْرٌ وَاحِدٌ ، وَبِأَنْ دَخَلَ بِإِحْدَاهُنَّ حَتَّى لَمْ يُنْتَقَصْ مِنْ مَهْرِهَا شَيْءٌ لَمْ يُؤَثِّرْ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْأُخْرَيَيْنِ بَلْ يُجْعَلْ فِي حَقِّهِمَا كَأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ بِشَيْءٍ مِنْهُنَّ فَيَكُونُ لَهُمَا مَهْرٌ وَثُلُثُ مَهْرٍ
بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ثُلُثَا مَهْرٍ ، وَأَمَّا الْمِيرَاثُ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِلْمَدْخُولِ بِهَا خَمْسَةُ أَسْهُمٍ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا مِنْ مِيرَاثِ النِّسَاءِ وَلِلْأُخْرَيَيْنِ سَبْعَةُ أَسْهُمٍ ؛ لِأَنَّهُ يُلْغِي التَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ ، فَإِنَّ حَالَهُنَّ فِيهَا عَلَى السَّوَاءِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ عَلَى أَيَّتِهِنَّ وَقَعَتْ حُرْمَتُهَا بَقِيَتْ التَّطْلِيقَةُ الْوَاحِدَةُ ، فَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى الْمَدْخُولِ بِهَا فَلَهَا ثُلُثُ مِيرَاثِ النِّسَاءِ أَرْبَعَةٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ سَهْمًا .
وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى إحْدَى اللَّتَيْنِ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا فَلَهَا نِصْفُ الْمِيرَاثِ سِتَّةٌ ، فَمِقْدَارُ أَرْبَعَةٍ لَهَا بِيَقِينٍ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ سَهْمَانِ يَثْبُتُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ فَيَكُونُ لَهَا خَمْسَةٌ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ وَالْبَاقِي لِلَّتَيْنِ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا ، وَإِنْ وَقَعَ الطَّلَاقُ عَلَى إحْدَى اللَّتَيْنِ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا فَلَهُمَا نِصْفُ الْمِيرَاثِ ، وَإِنْ وَقَعَ عَلَى الْمَدْخُولِ بِهَا فَلَهُمَا ثُلُثَا الْمِيرَاثِ ، فَمِقْدَارُ سِتَّةٍ لَهُمَا بِيَقِينٍ وَسَهْمَانِ يَثْبُتُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ فَكَانَ لَهُمَا سَبْعَةٌ ، وَذَكَرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمِيرَاثِ كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ قَالَ : عِنْدَهُ لِلْمَدْخُولِ بِهَا خَمْسَةُ أَثْمَانِ مِيرَاثِ النِّسَاءِ ، وَلِلَّتَيْنِ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ مِيرَاثِ النِّسَاءِ ، وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ إحْدَى اللَّتَيْنِ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا مُطَلَّقَةٌ مَحْرُومَةٌ عَنْ الْمِيرَاثِ يَقِينًا فَعَزْلُهَا لِلْحِرْمَانِ ، وَإِنْ كَانَتْ مَعْزُولَةً بِوُقُوعِ الْوَاحِدَةِ عَلَيْهَا بَقِيَ الثَّلَاثُ عَلَى أَيَّتِهِمَا وَقَعَتْ حُرْمَتُهَا ، فَيَكُونُ الْمِيرَاثُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ نِصْفَيْنِ نِصْفُهُ لِلَّتِي دَخَلَ بِهَا وَنِصْفُهُ لِلَّتَيْنِ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَعْزُولَةُ لِلْحِرْمَانِ مَعْزُولَةً بِوُقُوعِ
الثَّلَاثِ عَلَيْهَا ، فَإِنْ وَقَعَتْ الْوَاحِدَةُ عَلَى غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا فَالْمِيرَاثُ كُلُّهُ لِلْمَدْخُولِ بِهَا ، وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى الْمَدْخُولِ بِهَا فَالْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ، فَيَثْبُتُ لِلْمَدْخُولِ بِهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمِيرَاثِ سِتَّةٌ مِنْ ثَمَانِيَةٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّ لَهَا النِّصْفَ فِي حَالٍ وَالْكُلَّ فِي حَالٍ ، وَقَدْ كَانَ لَهَا فِي الْحَالَةِ الْأُولَى أَرْبَعَةٌ ، فَأَرْبَعَةٌ لَهَا بِيَقِينٍ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ سِتَّةٍ يَثْبُتُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ ، فَلِهَذَا كَانَ لَهَا خَمْسَةٌ مِنْ ثَمَانِيَةٍ وَمَا بَقِيَ لِلَّتَيْنِ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا أَوْ لِأَنَّ لَهُمَا فِي الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ الرُّبْعَ ، وَفِي الْحَالَةِ الْأُولَى النِّصْفَ فَيَتَنَصَّفُ الرُّبْعُ بِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ فَلِهَذَا كَانَ لَهُمَا ثَلَاثَةُ أَثْمَانِ الْمِيرَاثِ ، وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهِ تَعَالَى - أَنْ لِلْمَدْخُولِ بِهَا ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْمِيرَاثِ .
وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ إحْدَى اللَّتَيْنِ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا مَحْرُومَةً عَنْ الْمِيرَاثِ فَيَعْزِلُهَا بِإِيقَاعِ الثَّلَاثِ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّا نَتَيَقَّنُ أَنَّ إيقَاعَ الثَّلَاثِ مُوجِبٌ حِرْمَانَ الْمِيرَاثِ ، وَلَا يُتَيَقَّنُ بِذَلِكَ فِي الْوَاحِدَةِ فَجَعَلْنَا الْمَعْزُولَةَ لِلْحِرْمَانِ كَأَنَّ الثَّلَاثَ وَقَعَتْ عَلَيْهَا ، بَقِيَتْ الْوَاحِدَةُ فَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى الْمَدْخُولِ بِهَا فَلَهَا نِصْفُ الْمِيرَاثِ ، وَإِنْ وَقَعَتْ عَلَى غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا فَلِلْمَدْخُولِ بِهَا جَمِيعُ الْمِيرَاثِ ، فَكَانَ لَهَا بِاعْتِبَارِ الْأَحْوَالِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمِيرَاثِ وَالْبَاقِي وَهُوَ رُبْعُ الْمِيرَاثِ لِلَّتَيْنِ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا ، وَلَوْ كَانَ دَخَلَ بِاثْنَتَيْنِ مِنْهُنَّ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ اللَّتَيْنِ دَخَلَ بِهِمَا مَهْرٌ كَامِلٌ لِتَأَكُّدِ مَهْرِهِمَا بِالدُّخُولِ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ ، وَلِلَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَهْرِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، فَإِنَّهَا إنْ
كَانَتْ مُطَلَّقَةً فَلَهَا نِصْفُ مَهْرٍ ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ فَلَهَا مَهْرٌ كَامِلٌ ، فَنِصْفُ مَهْرٍ لَهَا بِيَقِينٍ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ يَثْبُتُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ قَالَ : وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَيَنْبَغِي عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ لَهَا ثُلُثَا مَهْرٍ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا إنَّهُ لَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِشَيْءٍ مِنْهُنَّ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ثُلُثَا مَهْرٍ ، فَيُجْعَلُ فِي حَقِّ الَّتِي لَمْ يَدْخُلُ بِهَا كَأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ بِشَيْءٍ مِنْهُنَّ ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ بِغَيْرِهَا لَا يَزِيدُ فِي حَقِّهَا سَبَبًا ، فَأَمَّا الْمِيرَاثُ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لِلَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا سُدُسُ الْمِيرَاثِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ فَلَهَا ثُلُثُ الْمِيرَاثِ ، وَإِنْ وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ فَلَا شَيْءَ لَهَا فَلَهَا سُدُسُ الْمِيرَاثِ ، بِهِ عَلَّلَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكِتَابِ وَهُوَ غَلَطٌ ، فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ كَانَ لَهَا نِصْفُ الْمِيرَاثِ لِأَنَّهُ لَا يُزَاحِمُهَا فِي الْمِيرَاثِ إلَّا وَاحِدَةٌ ، فَإِنَّ مَنْ وَقَعَ عَلَيْهَا الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ مِنْ الْمَدْخُولَتَيْنِ مَحْرُومَةٌ عَنْ الْمِيرَاثِ ، وَلَكِنَّ الطَّرِيقَ فِي التَّخْرِيجِ أَنَّ الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا لَهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ إنْ وَقَعَ عَلَيْهَا وَاحِدَةٌ فَلَا شَيْءَ لَهَا .
وَإِنْ وَقَعَ عَلَيْهَا الثَّلَاثُ فَلَا شَيْءَ لَهَا ، وَإِنْ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ فَلَهَا نِصْفُ الْمِيرَاثِ ، فَلَهَا حَالَتَا حِرْمَانٍ وَحَالَةُ إصَابَةٍ ، فَلِهَذَا جَعَلَ لَهَا ثُلُثَ النِّصْفِ وَهُوَ السُّدُسُ قَالَ : وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي الْمِيرَاثِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ الْحَاكِمُ : رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِسَدِيدٍ بَلْ الصَّوَابُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَكُونَ لَهَا ثُمُنُ الْمِيرَاثِ وَهَكَذَا ذَكَرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ ؛ لِأَنَّ إحْدَى الْمَدْخُولَتَيْنِ وَارِثَةٌ فَيَعْزِلُهَا لِلِاسْتِحْقَاقِ ، فَإِنْ كَانَتْ
مَعْزُولَةً بِأَنْ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ لِلَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الطَّلَاقَيْنِ وَقَعَ عَلَيْهَا لَا مَحَالَةَ ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَعْزُولَةُ لِلِاسْتِحْقَاقِ مَعْزُولَةً بِوُقُوعِ الْوَاحِدَةِ عَلَيْهَا ، فَإِنْ وَقَعَ الثَّلَاثُ عَلَى الْأُخْرَى فَلِلَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا نِصْفُ الْمِيرَاثِ ، وَإِنْ وَقَعَ الثَّلَاثُ عَلَى الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَا شَيْءَ لَهَا مِنْ الْمِيرَاثِ ، فَإِذَا كَانَ لَهَا النِّصْفُ فِي حَالَةٍ وَفِي حَالَةٍ لَا شَيْءَ لَهَا كَانَ لَهَا الرُّبْعُ ، ثُمَّ هَذَا الرُّبْعُ لَهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ، وَلَا شَيْءَ لَهَا فِي الْحَالَةِ الْأُولَى ، فَلَهَا نِصْفُ الرُّبْعِ وَهُوَ الثُّمُنُ وَالْبَاقِي لِلَّتَيْنِ دَخَلَ بِهِمَا .
( قَالَ : ) وَإِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ وَثَلَاثًا فِي عُقْدَةٍ ثُمَّ قَالَ : قَدْ دَخَلْتُ بِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ فَلِلثِّنْتَيْنِ مَهْرٌ وَاحِدٌ وَلِلثَّلَاثِ مَهْرٌ وَنِصْفٌ ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَ إنْ صَحَّ نِكَاحُهُنَّ بِالسَّبْقِ وَقَدْ دَخَلَ بِهِنَّ فَلَهُنَّ ثَلَاثَةُ مُهُورٍ ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَلَا شَيْءَ لَهُنَّ فَلَهُنَّ مَهْرٌ وَنِصْفُ مَهْرٍ ، وَالثِّنْتَانِ إنْ صَحَّ نِكَاحُهُمَا ، فَإِنْ دَخَلَ بِهِمَا فَلَهُمَا مَهْرَانِ ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فَلَا شَيْءَ لَهُمَا فَلَهُمَا مَهْرٌ وَاحِدٌ ، وَالْمِيرَاثُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ نِصْفَانِ لِاسْتِوَاءِ حَالِهِمَا فِيهِ ، وَفِقْهُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ جَعَلَ إقْرَارَهُ بِالدُّخُولِ بِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ إقْرَارًا بِالدُّخُولِ بِمَنْ صَحَّ نِكَاحُهُ حَمْلًا لِفِعْلِهِ وَقَوْلِهِ عَلَى الصِّحَّةِ ، فَإِنَّ دِينَهُ وَعَقْلَهُ يَدْعُوَانِهِ إلَى الْإِقْدَامِ عَلَى الْوَطْءِ الْحَلَالِ وَيَمْنَعَانِهِ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى الْوَطْءِ الْحَرَامِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ ثَلَاثًا ؛ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ بِهَذَا اللَّفْظِ يَتَنَاوَلُ مَنْ صَحَّ نِكَاحُهَا ، فَإِنَّ مَنْ لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُهَا لَيْسَتْ مِنْ نِسَائِهِ وَإِيقَاعُ الثَّلَاثِ بَعْدَ الدُّخُولِ لَا يُسْقِطُ شَيْئًا مِنْ الصَّدَاقِ فَكَانَ هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءً ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِشَيْءٍ مِنْهُنَّ وَطَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ ثَلَاثًا فَلِلثَّلَاثِ مَهْرٌ وَرُبْعُ مَهْرٍ ؛ لِأَنَّهُ إنْ صَحَّ نِكَاحُهُنَّ فَلَهُنَّ مَهْرَانِ وَنِصْفُ مَهْرٍ ، فَإِنَّهُ قَدْ طَلَّقَ إحْدَاهُنَّ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَذَلِكَ يُسْقِطُ نِصْفَ مَهْرٍ ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُهُنَّ فَلَا شَيْءَ لَهُنَّ ، فَلِهَذَا كَانَ لَهُنَّ مَهْرٌ وَرُبْعُ مَهْرٍ وَلِلِاثْنَتَيْنِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَهْرٍ ؛ لِأَنَّهُ إنْ صَحَّ نِكَاحُهُمَا فَلَهُمَا مَهْرٌ وَنِصْفُ مَهْرٍ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَى إحْدَاهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ نِكَاحُهُمَا فَلَا شَيْءَ لَهُمَا فَكَانَ لَهُمَا ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ مَهْرٍ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ .
( قَالَ : ) وَلَوْ تَزَوَّجَ ثَلَاثَ نِسْوَةٍ فَدَخَلَ بِإِحْدَاهُنَّ وَلَا تُعْرَفُ بِعَيْنِهَا ثُمَّ طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ ثَلَاثًا وَالْأُخْرَى وَاحِدَةً ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنْ فَلَهُنَّ مَهْرَانِ وَرُبْعُ مَهْرٍ ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَوْقَعَ أَحَدَ الطَّلَاقَيْنِ عَلَى الْمَدْخُولِ بِهَا فَلَهُنَّ مَهْرَانِ وَنِصْفُ مَهْرٍ ، وَإِنْ أَوْقَعَ الطَّلَاقَيْنِ عَلَى اللَّتَيْنِ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا فَلَهُنَّ مَهْرَانِ لِسُقُوطِ مَهْرٍ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقَيْنِ عَلَى غَيْرِ الْمَدْخُولَيْنِ ، فَقَدْرُ الْمَهْرَيْنِ لَهُنَّ بِيَقِينٍ ، وَنِصْفُ مَهْرٍ يَثْبُتُ فِي حَالٍ دُونَ حَالٍ فَيَتَنَصَّفُ ، فَلِهَذَا كَانَ لَهُنَّ مَهْرَانِ وَرُبْعُ مَهْرٍ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا ؛ لِأَنَّ الْمَدْخُولَةَ مِنْهُنَّ غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ فَحَالُهُنَّ فِي اسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ سَوَاءٌ ، وَالْمِيرَاثُ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا لِهَذَا الْمَعْنَى ، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عِدَّةُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا تَسْتَكْمِلُ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَ حِيَضٍ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هِيَ الَّتِي دَخَلَ بِهَا ثُمَّ أَوْقَعَ الثَّلَاثَ عَلَيْهَا فَيَلْزَمُهَا الْعِدَّةُ بِالْحَيْضِ أَوْ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ فَيَلْزَمُهَا عِدَّةُ الْوَفَاةِ ، وَالْعِدَّةُ يُؤْخَذُ فِيهَا بِالِاحْتِيَاطِ ، فَلِهَذَا كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عِدَّةُ الطَّلَاقِ وَالْوَفَاةِ جَمِيعًا ، فَإِنْ عُرِفَتْ الْمَدْخُولُ بِهَا فَلَهَا الْمَهْرُ كَامِلًا لِتَأَكُّدِ مَهْرِهَا بِالدُّخُولِ وَلِلَّتَيْنِ لَمْ يَدْخُلْ بِهِمَا مَهْرٌ وَرُبْعُ مَهْرٍ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمَا مَهْرٌ وَثُلُثُ مَهْرٍ وَقَدْ بَيَّنَّا تَخْرِيجَ الْقَوْلَيْنِ وَبَيَّنَّا حُكْمَ تَخْرِيجِ الْمِيرَاثِ أَيْضًا عَلَى الْقَوْلَيْنِ ، وَإِنْ عُرِفَتْ الْمَدْخُولُ بِهَا وَقَدْ أَوْقَعَ تَطْلِيقَةً ثَانِيَةً عَلَى إحْدَاهُنَّ فَالْمِيرَاثُ بَيْنَهُنَّ أَثْلَاثًا ؛ لِأَنَّ حَالَهُنَّ فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ سَوَاءٌ ، فَإِنَّ الطَّلْقَةَ الثَّانِيَةَ عَلَى أَيَّتُهُنَّ وَقَعَتْ حَرَّمَتْهَا الْمَدْخُولُ بِهَا وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ
بِهَا سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ .
( قَالَ : ) وَإِذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ امْرَأَتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ وَثَلَاثًا فِي عُقْدَةٍ ثُمَّ مَاتَ فَنِكَاحُ الثَّلَاثِ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَتَزَوَّجُ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَتَيْنِ فَقَدْ تَيَقَّنَّا بِبُطْلَانِ نِكَاحِ الثَّلَاثِ تَقَدَّمَ نِكَاحُهُنَّ أَوْ تَأَخَّرَ ، وَنِكَاحُ الِاثْنَتَيْنِ صَحِيحٌ تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ ، فَإِنْ كَانَتْ إحْدَى الثَّلَاثِ أَمَةً فَنِكَاحُ الْأَمَةِ فَاسِدٌ لِانْضِمَامِ نِكَاحِهَا إلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ ، وَلَا مَهْرَ لَهَا لِبُطْلَانِ عَقْدِهَا وَلِلْحُرَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ مَعَهَا مَهْرٌ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّهُ إنْ سَبَقَ نِكَاحُهُمَا فَلَهُمَا مَهْرَانِ ، وَإِنْ تَأَخَّرَ نِكَاحُهُمَا فَلَا شَيْءَ لَهُمَا وَلِلْأُخْرَيَيْنِ مَهْرٌ وَاحِدٌ أَيْضًا لِهَذَا الْمَعْنَى ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى قَدْ أَعْتَقَ الْعَبْدَ ثُمَّ مَاتَ الْعَبْدُ فَالْمِيرَاثُ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ نِصْفَانِ لِاسْتِوَاءِ حَالِهِمَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِيرَاثِ ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّ عَقْدَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى يَتِمُّ بِالْعِتْقِ ، فَإِنَّ الْمَانِعَ حَقُّ الْمَوْلَى وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْعِتْقِ .
( قَالَ : ) وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً فَزَوَّجَهُ امْرَأَتَيْنِ فِي عُقْدَةٍ فَنِكَاحُهُمَا بَاطِلٌ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ ، وَقَوْلُ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - الْأَوَّلُ فِيهَا أَنَّ نِكَاحَ إحْدَاهُمَا بِغَيْرِ عَيْنِهَا صَحِيحٌ وَالْبَيَانُ إلَى الزَّوْجِ ، وَلَوْ كَانَ أَمَرَهُ أَنْ يُزَوِّجَهُ امْرَأَةً بِعَيْنِهَا فَزَوَّجَهَا إيَّاهُ وَأُخْرَى فِي عُقْدَةٍ جَازَ نِكَاحُ الَّتِي أَمَرَهُ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ فِي الْعَقْدِ عَلَيْهَا مُمْتَثِلٌ لِأَمْرِ الزَّوْجِ ، وَفِي الْعَقْدِ عَلَى الْأُخْرَى مُبْتَدِئٌ غَيْرُ مُمْتَثِلٍ لِأَمْرٍ سَبَقَ مِنْ الزَّوْجِ فَيَنْفُذُ عَقْدُهُ عَلَى الَّتِي امْتَثَلَ بِهَا أَمْرُ الزَّوْجِ فِي الْعَقْدِ عَلَيْهَا ، وَيَتَوَقَّفُ فِي الْأُخْرَى عَلَى إجَازَةِ الزَّوْجِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .
بَابُ النَّفَقَةِ ( قَالَ : ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اعْلَمْ بِأَنَّ نَفَقَةَ الْغَيْرِ تَجِبُ بِأَسْبَابٍ مِنْهَا الزَّوْجِيَّةُ ، وَمِنْهَا الْمِلْكُ ، وَمِنْهَا النَّسَبُ ، وَهَذَا الْبَابُ لِبَيَانِ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ } مَعْنَاهُ : أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ وُجْدِكُمْ ، وَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُوصِيكُمْ بِالنِّسَاءِ خَيْرًا ؛ فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ ، اتَّخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانَةِ اللَّهِ ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ ، وَإِنَّ لَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا ، وَأَنْ لَا يَأْذَنَّ فِي بُيُوتِكُمْ لِأَحَدٍ تَكْرَهُونَهُ ، فَإِذَا فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ ، وَإِنَّ لَهُنَّ عَلَيْكُمْ نَفَقَتُهُنَّ ، وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْدَ : { خُذِي مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ } ، وَلِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ لِحَقِّ الزَّوْجِ وَمُفَرِّغَةٌ نَفْسَهَا لَهُ فَتَسْتَوْجِبُ الْكِفَايَةَ عَلَيْهِ فِي مَالٍ ، كَالْعَامِلِ عَلَى الصَّدَقَاتِ لَمَّا فَرَّغَ نَفْسَهُ لِعَمَلِ الْمَسَاكِينِ اسْتَوْجَبَ كِفَايَتَهُ فِي مَالِهِمْ ، وَالْقَاضِي لَمَّا فَرَّغَ نَفْسَهُ لِعَمَلِهِ لِلْمُسْلِمِينَ اسْتَوْجَبَ الْكِفَايَةَ فِي مَالِهِمْ .
إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ طَرِيقُ إيصَالِ النَّفَقَةِ إلَيْهَا شَيْئَانِ التَّمْكِينُ أَوْ التَّمْلِيكُ ، حَتَّى إذَا كَانَ الرَّجُلُ صَاحِبَ مَائِدَةٍ وَطَعَامٍ كَثِيرٍ ، تَتَمَكَّنُ هِيَ مِنْ تَنَاوُلِ مِقْدَارِ كِفَايَتِهَا ، فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَالِبَ الزَّوْجَ بِفَرْضِ النَّفَقَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَخَاصَمَتْهُ فِي النَّفَقَةِ ، فُرِضَ لَهَا عَلَيْهِ مِنْ النَّفَقَةِ كُلَّ شَهْرٍ مَا يَكْفِيهَا
بِالْمَعْرُوفِ ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ مَشْرُوعَةٌ لِلْكِفَايَةِ .
فَإِنَّمَا يُفْرَضُ بِمِقْدَارِ مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ تَقَعُ بِهِ الْكِفَايَةُ .
وَيُعْتَبَرُ الْمَعْرُوفُ فِي ذَلِكَ ، وَهُوَ فَوْقَ التَّقْتِيرِ وَدُونَ الْإِسْرَافِ ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَذَلِكَ فِي الْمَعْرُوفِ ، وَكَذَلِكَ يُفْرَضُ لَهَا مِنْ الْكِسْوَةِ مَا يَصْلُحُ لَهَا لِلشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَإِنَّ بَقَاءَ النَّفْسِ بِهِمَا وَكَمَا لَا تَبْقَى النَّفْسُ بِدُونِ الْمَأْكُولِ عَادَةً لَا تَبْقَى بِدُونِ الْمَلْبُوسِ عَادَةً وَالْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَمْكِنَةِ فَيُعْتَبَرُ الْمَعْرُوفُ فِي ذَلِكَ .
فَإِنْ كَانَ لَهَا خَدَمٌ فَرَضَ الْقَاضِي لِخَادِمٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مُحْتَاجٌ إلَى الْقِيَامِ بِحَوَائِجِهَا وَأَقْرَبُ ذَلِكَ إصْلَاحُ الطَّعَامِ لَهَا وَخَادِمُهَا يَنُوبُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ ، فَيَلْزَمُهُ نَفَقَةُ خَادِمِهَا بِالْمَعْرُوفِ وَلَا تَبْلُغُ نَفَقَةُ خَادِمِهَا نَفَقَتَهَا ، حَتَّى قَالُوا يُفْرَضُ لِخَادِمِهَا أَدْنَى مَا يُفْرَضُ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ الْمُعْسِرِ ، وَلَا يُفْرَضُ إلَّا لِخَادِمٍ وَاحِدٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُفْرَضُ لِخَادِمَيْنِ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَحْتَاجُ إلَيْهِمَا لِيَقُومَ أَحَدُهُمَا بِأُمُورٍ دَاخِلَ الْبَيْتِ ، وَالْآخَرُ يَأْتِيهَا مِنْ خَارِجِ الْبَيْتِ بِمَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ .
وَهُمَا قَالَا : حَاجَتُهَا تَرْتَفِعُ بِالْخَادِمِ الْوَاحِدِ عَادَةً وَمَا زَادَ عَلَى الْوَاحِدِ فَلِلتَّجَمُّلِ وَالزِّينَةِ .
وَوُجُوبُ النَّفَقَةِ عَلَى الزَّوْجِ لِلْكِفَايَةِ ، فَكَمَا لَا يَزِيدُهَا عَلَى قَدْرِ الْكِفَايَةِ فِي نَفَقَتِهَا ، فَكَذَلِكَ فِي نَفَقَةِ خَادِمِهَا ، وَلَوْ فَرَضَ لِخَادِمَيْنِ لَفَرَضَ لِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، فَيُؤَدِّي إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى ، ثُمَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ حَالُ الزَّوْجِ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ فِي ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ } الْآيَةُ تُبَيِّنُ أَنَّ التَّكْلِيفَ بِحَسَبِ الْوُسْعِ ، وَأَنَّ النَّفَقَةَ عَلَى الرِّجَالِ بِحَسَبِ حَالِهِمْ .
وَذَكَرَ الْخَصَّافُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَالُهُمَا جَمِيعًا ، حَتَّى إذَا كَانَا مُوسِرَيْنِ فَلَهَا نَفَقَةُ الْمُوسِرِينَ ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ مُعْسِرَةٌ تَحْتَ زَوْجٍ مُوسِرٍ تَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ دُونَ مَا تَسْتَوْجِبُ إذَا كَانَتْ مُوسِرَةً ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ دُونَ ذَلِكَ يَكْفِيهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مُوسِرَةً وَالزَّوْجُ مُعْسِرًا تَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ فَوْقَ مَا تَسْتَوْجِبُ إذَا كَانَتْ مُعْسِرَةً ؛ لِتَحْصُلَ كِفَايَتُهَا
بِذَلِكَ .
وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَقُولُ : لَمَّا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا مِنْ مُعْسِرٍ فَقَدْ رَضِيَتْ بِنَفَقَةِ الْمُعْسِرِينَ ، فَلَا تَسْتَوْجِبُ عَلَى الزَّوْجِ إلَّا بِحَسَبِ حَالِهِ ، ثُمَّ لَيْسَ فِي النَّفَقَةِ تَقْدِيرٌ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : يُقَدَّرُ كُلُّ يَوْمٍ بِمُدَّيْنِ عَلَى الْمُوسِرِ وَبِمُدٍّ وَنِصْفٍ عَلَى وَسَطِ الْحَالِ وَبِمُدٍّ عَلَى الْمُعْسِرِ وَهَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ الْكِفَايَةُ وَذَلِكَ مِمَّا تَخْتَلِفُ فِيهِ طِبَاعُ النَّاسِ وَأَحْوَالُهُمْ مِنْ الشَّبَابِ وَالْهَرَمِ ، وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ أَيْضًا فَفِي التَّقْدِيرِ بِمِقْدَارِ إضْرَارٍ بِأَحَدِهِمَا ، وَاَلَّذِي قَالَ فِي الْكِتَابِ : إنْ كَانَ مُعْسِرًا فَرَضَ لَهَا مِنْ النَّفَقَةِ كُلَّ شَهْرٍ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ ، أَوْ خَمْسَةً ، وَلِخَادِمِهَا عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ أَوْ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ ، أَوْ أَكْثَرُ فَلَيْسَ هَذَا بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَسْعَارِ فِي الْغَلَاءِ وَالرُّخْصِ وَاخْتِلَافِ الْمَوَاضِعِ وَاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ ، فَلَا مُعْتَبَرَ بِالتَّقْدِيرِ بِالدَّرَاهِمِ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا بِنَاءً عَلَى مَا شَاهَدَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ .
وَاَلَّذِي يَحِقُّ عَلَى الْقَاضِي اعْتِبَارُ الْكِفَايَةِ بِالْمَعْرُوفِ فِيمَا يَفْرِضُ لَهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ وَمَكَانٍ ، وَكَمَا يُفْرَضُ لَهَا مِنْ قَدْرِ الْكِفَايَةِ مِنْ الطَّعَامِ ، فَكَذَلِكَ مِنْ الْإِدَامِ ؛ لِأَنَّ الْخُبْزَ لَا يُتَنَاوَلُ إلَّا مَأْدُومًا عَادَةً .
وَجَاءَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } أَنَّ أَعْلَى مَا يُطْعِمُ الرَّجُلُ أَهْلَهُ الْخُبْزُ وَاللَّحْمُ ، وَأَوْسَطَ مَا يُطْعِمُ الرَّجُلُ أَهْلَهُ الْخُبْزُ وَالزَّيْتُ ، وَأَدْنَى مَا يُطْعِمُ الرَّجُلُ أَهْلَهُ الْخُبْزُ وَاللَّبَنُ .
وَأَمَّا الدُّهْنُ ؛ فَلِأَنَّهُ لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ خُصُوصًا فِي دِيَارِ الْحَرِّ فَهُوَ مِنْ أَصْلِ الْحَوَائِجِ كَالْخُبْزِ .
( قَالَ : ) فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا خَادِمٌ لَمْ تُفْرَضْ نَفَقَةُ الْخَادِمِ عَلَيْهِ وَعَنْ زُفَرَ
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُفْرَضُ لِخَادِمٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَقُومَ بِمَصَالِحِ طَعَامِهَا وَحَوَائِجِهَا فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ أَعْطَاهَا نَفَقَةَ خَادِمٍ ، ثُمَّ تَقُومُ هِيَ بِذَلِكَ بِنَفْسِهَا ، أَوْ تَتَّخِذُ خَادِمًا فَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ اسْتِحْقَاقُهَا نَفَقَةَ الْخَادِمِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الْخَادِمِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا خَادِمٌ لَا تَسْتَوْجِبُ نَفَقَةَ الْخَادِمِ كَالْغَازِي إذَا كَانَ رَاجِلًا لَا يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفَارِسِ ، وَإِنْ أَظْهَرَ غَنَاءَ الْفَارِسِ فِي الْقِتَالِ
( قَالَ : ) وَالْكِسْوَةُ عَلَى الْمُعْسِرِ فِي الشِّتَاءِ دِرْعٌ وَمِلْحَفَةٌ زُطِّيَّةٌ وَخِمَارٌ سَابُورِيٌّ وَكِسَاءٌ كَأَرْخَصِ مَا يَكُونُ كِفَايَتُهَا مِمَّا يُدْفِئُهَا ، وَلِخَادِمِهَا قَمِيصُ كَرَابِيسَ وَإِزَارٌ وَكِسَاءٌ كَأَرْخَصِ مَا يَكُونُ ، وَلِلْخَادِمِ فِي الصَّيْفِ قَمِيصٌ مِثْلُ ذَلِكَ ، وَإِزَارٌ ، وَلِلْمَرْأَةِ دِرْعٌ وَمِلْحَفَةٌ وَخِمَارٌ ، وَإِنْ كَانَ مُوسِرًا فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِ لِلْمَرْأَةِ ثَمَانِيَةُ دَرَاهِمَ ، أَوْ تِسْعَةٌ وَلِخَادِمِهَا ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ أَوْ أَرْبَعَةٌ ، وَالْكِسْوَةُ لِلْمَرْأَةِ فِي الشِّتَاءِ دِرْعٌ يَهُودِيٌّ أَوْ هَرَوِيٌّ وَمِلْحَفَةٌ دِينَوَرِيَّةٌ وَخِمَارُ إبْرَيْسَمَ وَكِسَاءٌ أَذْرَبِيجَانِيٌّ وَلِخَادِمِهَا قَمِيصٌ زُطِّيٌّ وَإِزَارٌ كَرَابِيسُ وَكِسَاءٌ رَخِيصٌ ، وَفِي الصَّيْفِ لِلْمَرْأَةِ دِرْعٌ سَابُورِيٌّ وَمِلْحَفَةٌ كَتَّانٌ وَخِمَارٌ إبْرَيْسَمٌ ، وَلِخَادِمِهَا قَمِيصٌ مِثْلُ ذَلِكَ ، وَإِزَارٌ ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا ذُكِرَ مِنْ التَّقْدِيرِ بِالدَّرَاهِمِ لَا مُعْتَبَرَ بِهِ ؛ لِمَا قُلْنَا .
وَمَا ذُكِرَ مِنْ الثِّيَابِ فَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى عَادَتِهِمْ أَيْضًا وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْكِنَةِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ ، وَبِاخْتِلَافِ الْعَادَاتِ فِيمَا يَلْبَسُهُ النَّاسُ فِي كُلِّ وَقْتٍ ، فَيُعْتَبَرُ الْمَعْرُوفُ مِنْ ذَلِكَ فِيمَا يُفْرَضُ .
وَلَمْ يَذْكُرْ فِي كِسْوَةِ الْمَرْأَةِ الْإِزَارَ وَالْخُفَّ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَوَاضِعِ ، وَذَكَرَ الْإِزَارِ فِي كِسْوَةِ الْخَادِمِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْخُفَّ ، فَإِنْ كَانَتْ تَخْرُجُ لِلْحَوَائِجِ فَلَهَا الْخُفُّ ، أَوْ الْمُكْعَبُ ، بِحَسَبِ مَا يَكْفِيهَا ، فَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَمَأْمُورَةٌ بِالْقَرَارِ فِي الْبَيْتِ مَمْنُوعَةٌ مِنْ الْخُرُوجِ فَلَا تَسْتَوْجِبُ الْخُفَّ وَالْمُكْعَبَ عَلَى الزَّوْجِ ، وَكَذَلِكَ لَا تَسْتَوْجِبُ الْإِزَارَ ؛ لِأَنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِأَنْ تَكُونَ مُهَيِّئَةً نَفْسَهَا لِبِسَاطِ الزَّوْجِ ، فَلَيْسَ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَتَّخِذَ لَهَا مَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ حَقِّهِ فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ الْإِزَارَ فِي كِسْوَتِهَا ، ثُمَّ النَّفَقَةُ لِلْكِفَايَةِ فِي كُلِّ يَوْمٍ
فَأَمَّا الْكِسْوَةُ فَإِنَّمَا تُفْرَضُ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ فِي كُلِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مَرَّةً ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يُجَدِّدْ لَهَا الْكِسْوَةَ حَتَّى يَبْلُغَ ذَلِكَ الْوَقْتَ ، إلَّا أَنْ تَكُونَ لَبِسَتْ لُبْسًا مُعْتَادًا فَتَخَرَّقَ قَبْلَ مَجِيءِ ذَلِكَ الْوَقْتِ ، فَحِينَئِذٍ تَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ يَكْفِيهَا فَتُجَدَّدُ لَهَا الْكِسْوَةُ ، وَلَكِنْ إنْ أَخَذَتْ الْكِسْوَةَ وَرَمَتْ بِهَا حَتَّى جَاءَ الْوَقْتُ وَقَدْ بَقِيَتْ تِلْكَ الْكِسْوَةُ عِنْدَهَا يُفْرَضُ لَهَا كِسْوَةٌ أُخْرَى ؛ لِأَنَّهَا لَوْ لَبِسَتْ لَتَخَرَّقَ ذَلِكَ فَبِأَنْ لَمْ تَلْبَسْ لَا يَسْقُطُ حَقُّهَا ، وَيُجْعَلُ تَجَدُّدُ الْوَقْتِ كَتَجَدُّدِ الْحَاجَةِ .
وَهَذَا بِخِلَافِ كِسْوَةِ الْأَقَارِبِ فَالْمُعْتَبَرُ هُنَاكَ حَقِيقَةُ الْحَاجَةِ .
وَإِذَا بَقِيَتْ تِلْكَ الْكِسْوَةُ فَلَا حَاجَةَ .
وَهُنَا لَا مُعْتَبَرَ بِحَقِيقَةِ الْحَاجَةِ ، فَإِنَّهَا ، وَإِنْ كَانَتْ صَاحِبَةَ ثِيَابٍ تُسْتَوْجَبُ كِسْوَتُهَا عَلَى الزَّوْجِ ، فَلِهَذَا فَرَّقْنَا بَيْنَهُمَا ( قَالَ : ) وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْغِنَى الْمَشْهُورِينَ بِذَلِكَ فَلِامْرَأَتِهِ خَمْسَةَ عَشَرَ دِرْهَمًا كُلَّ شَهْرٍ وَلِخَادِمِهَا خَمْسَةٌ وَلَهَا مِنْ الْكِسْوَةِ فِي الشِّتَاءِ دِرْعٌ يَهُودِيٌّ وَمِلْحَفَةٌ هَرَوِيٌّ وَجُبَّةٌ فَرْوٌ ، أَوْ دِرْعٌ خَزٌّ وَخِمَارٌ إبْرَيْسَمُ ، وَلِخَادِمِهَا قَمِيصٌ يَهُودِيٌّ وَإِزَارٌ وَجُبَّةٌ وَكِسَاءٌ وَخُفَّيْنِ ، ثُمَّ قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : لَا يَنْبَغِي أَنْ تُوَقَّتَ النَّفَقَةُ عَلَى الدَّرَاهِمِ ؛ لِأَنَّ السِّعْرَ يَغْلُو وَيَرْخُصُ لَكِنْ تُجْعَلُ النَّفَقَةُ عَلَى الْكِفَايَةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ ، فَيُنْظَرُ إلَى قِيمَةِ ذَلِكَ فَيُفْرَضُ لَهَا عَلَيْهِ دَرَاهِمَ شَهْرًا شَهْرًا .
وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْفَصْلَ وَاَلَّذِي قَالَ : تُفْرَضُ شَهْرًا شَهْرًا إنَّمَا بَنَاهُ عَلَى عَادَتِهِمْ أَيْضًا .
وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا يَعْتَبِرُ فِي ذَلِكَ حَالَ الرَّجُلِ أَيْضًا ، فَإِنْ كَانَ مُحْتَرِفًا تُفْتَرَضُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ يَوْمًا يَوْمًا لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ أَدَاءُ
النَّفَقَةِ شَهْرًا دُفْعَةً وَاحِدَةً ، وَإِنْ كَانَ مِنْ التُّجَّارِ يُفْرَضُ الْأَدَاءُ شَهْرًا شَهْرًا ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الدَّهَاقِينَ تُفْرَضُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ سَنَةً سَنَةً ؛ لِأَنَّ تَيَسُّرَ الْأَدَاءِ عَلَيْهِ عِنْدَ إدْرَاكِ الْغَلَّاتِ فِي كُلِّ سَنَةٍ ، وَتَيَسُّرَ الْأَدَاءِ عَلَى التَّاجِرِ عِنْدَ اتِّخَاذِ أَجْرِ غَلَّاتِ الْحَوَانِيتِ وَغَيْرِهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ ، وَتَيَسُّرَ الْأَدَاءِ عَلَى الْمُحْتَرِفِ بِالِاكْتِسَابِ فِي كُلِّ يَوْمٍ .
وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ الزَّوْجِ كَفِيلٌ بِشَيْءٍ مِنْ النَّفَقَةِ أَمَّا نَفَقَةُ الْمُسْتَقْبَلِ فَلَمْ تَجِبْ بَعْدُ وَالْإِنْسَانُ لَا يُجْبَرُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ مَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ وَأَمَّا الْمَاضِي فَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الدُّيُونِ يُؤْمَرُ بِقَضَائِهَا وَلَا يُجْبَرُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ .
وَلَوْ خَاصَمَتْهُ امْرَأَتُهُ فِي نَفَقَةِ مَا مَضَى مِنْ الزَّمَانِ قَبْلَ أَنْ يَفْرِضَ الْقَاضِي عَلَيْهِ لَهَا النَّفَقَةَ لَمْ يَكُنْ لَهَا شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عِنْدَنَا .
وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُقْضَى لَهَا بِمَا لَمْ تَسْتَوْفِ مِنْ النَّفَقَةِ الْمَاضِيَةِ .
وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ النَّفَقَةَ لَا تَصِيرُ دَيْنًا إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، أَوْ التَّرَاضِي عِنْدَنَا .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تَصِيرُ دَيْنًا ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا بِالْعَقْدِ فَلَا تَحْتَاجُ إلَى الْقَضَاءِ ، أَوْ إلَى الرِّضَاءِ فِي صَيْرُورَتِهَا دَيْنًا بَعْدَ الْعَقْدِ كَالْمَهْرِ وَلِأَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ بِاعْتِبَارِ قِيَامِ الزَّوْجِ عَلَيْهَا بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَدْ تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَيَصِيرُ دَيْنًا بِدُونِ الْقَضَاءِ كَالْأُجْرَةِ يَصِيرُ دَيْنًا بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ النَّفَقَةَ صِلَةٌ وَالصِّلَاتُ لَا تَتَأَكَّدُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ مَا لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهَا مَا يُؤَكِّدُهَا ، كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ .
وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ النَّفَقَةَ لَيْسَتْ بِعِوَضٍ عَنْ الْبُضْعِ فَإِنَّ الْمَهْرَ عِوَضٌ عَنْ الْبُضْعِ ، وَلَا تَسْتَوْجِبُ عِوَضَيْنِ عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ ؛ وَلِأَنَّ مَا يَكُونُ عِوَضًا عَنْ الْبُضْعِ يَجِبُ جُمْلَةً ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْبُضْعِ يَحْصُلُ لِلزَّوْجِ جُمْلَةً .
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا عَنْ الِاسْتِمْتَاعِ وَالْقِيَامِ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ مِنْهُ فِي مِلْكِهِ فَلَا يُوجِبُ عَلَيْهِ عِوَضًا فَعَرَفْنَا أَنَّ طَرِيقَهُ طَرِيقُ الصِّلَةِ ، وَتَأَكُّدُهَا إمَّا بِالْقَضَاءِ ، أَوْ التَّرَاضِي وَلِأَنَّ هَذِهِ نَفَقَةٌ مَشْرُوعَةٌ لِلْكِفَايَةِ فَلَا تَصِيرُ دَيْنًا بِدُونِ الْقَضَاءِ ، كَنَفَقَةِ الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودِينَ لَا تَصِيرُ دَيْنًا بِمُجَرَّدِ مُضِيِّ الزَّمَانِ فَكَذَا هُنَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَدَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي ، أَوْ التَّرَاضِي ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهَا عَلَيْهِ وِلَايَةُ الِاسْتِدَانَةِ ، وَإِنَّمَا وِلَايَتُهَا عَلَى نَفْسِهَا
فَمَا اسْتَدَانَتْ يَكُونُ فِي ذِمَّتِهَا وَإِنْفَاقُهَا مِمَّا اسْتَدَانَتْ كَإِنْفَاقِهَا مِنْ سَائِرِ أَمْلَاكِهَا فَلَا تَرْجِعُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الزَّوْجِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي فَرَضَ لَهَا عَلَيْهِ نَفَقَةً كُلَّ شَهْرٍ ، أَوْ صَالَحَتْهُ عَلَى نَفَقَةٍ كُلَّ شَهْرٍ ، ثُمَّ غَابَ أَوْ حُبِسَ لِلنَّفَقَةِ عَلَيْهَا فَاسْتَدَانَتْ عَلَيْهِ ، أَوْ لَمْ تَسْتَدِنْ أَخَذَتْهُ بِنَفَقَةِ مَا مَضَى ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا تَأَكَّدَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، أَوْ بِالصُّلْحِ عَنْ تَرَاضٍ ؛ فَإِنَّ وِلَايَتَهُ عَلَى نَفْسِهِ فِي الِالْتِزَامِ فَوْقَ وِلَايَةِ الْقَاضِي فِي الْإِلْزَامِ وَذُكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ قَالَ : أَيُّمَا امْرَأَةٍ اسْتَدَانَتْ عَلَى زَوْجِهَا وَهُوَ غَائِبٌ فَإِنَّمَا اسْتَدَانَتْ عَلَى نَفْسِهَا .
وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ إذَا لَمْ يَفْرِضْ الْقَاضِي لَهَا النَّفَقَةَ ، أَوْ فَرَضَ لَهَا وَلَمْ يَأْمُرْهَا بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَى زَوْجِهَا ، فَأَمَّا إذَا أَمَرَهَا بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَيْهِ فَذَلِكَ عَلَى الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ عَلَيْهِ وِلَايَةٌ فَأَمْرُهَا بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَيْهِ كَأَمْرِ الزَّوْجِ بِنَفْسِهِ .
( قَالَ : ) وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : لَا أُجِيزُ الْفَرْضَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ غَائِبًا ؛ لِأَنَّ الْفَرْضَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ غَائِبًا إلْزَامٌ وَلَيْسَ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ عَلَى الْغَائِبِ .
وَإِنْ كَانَ لَهَا مِنْهُ وَلَدٌ فَطَلَبَتْ أَنْ يَفْرِضَ لِلْوَلَدِ مَعَهَا نَفَقَةً فَرَضَ عَلَيْهِ لِلصِّغَارِ وَالنِّسَاءِ وَالرِّجَالِ الزَّمْنَى ، فَأَمَّا الَّذِينَ لَا زَمَانَةَ بِهِمْ مِنْ الرِّجَالِ فَلَا نَفَقَةَ لَهُمْ عَلَيْهِ بَلْ يُؤْمَرُونَ بِالِاكْتِسَابِ وَالْإِنْفَاقِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ .
فَأَمَّا مَنْ كَانَ زَمِنًا مِنْهُمْ فَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ الِاكْتِسَابِ .
وَبِالنِّسَاءِ عَجْزٌ ظَاهِرٌ عَنْ الِاكْتِسَابِ .
وَفِي أَمْرِهَا بِالِاكْتِسَابِ فِتْنَةٌ ؛ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إذَا أُمِرَتْ بِالِاكْتِسَابِ ، اكْتَسَبَتْ بِفَرْجِهَا ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الصَّغِيرَةِ وَنَفَقَتُهَا فِي صِغَرِهَا عَلَى الْوَالِدِ لِحَاجَتِهَا ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ بُلُوغِهَا مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ ؛ لِأَنَّ بِبُلُوغِهَا تَزْدَادُ الْحَاجَةُ .
وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خُذِي مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ } وَلِأَنَّ مُؤْنَةَ الرَّضَاعِ عَلَى الْوَالِدِ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } إلَى قَوْلِهِ { ، وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى } وَذَلِكَ حَاجَةُ الْوَلَدِ مَا دَامَ رَضِيعًا فَيَكُونُ هَذَا دَلِيلًا عَلَى أَنَّ كِفَايَةَ الْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدِ مَا بَقِيَتْ حَاجَتُهُ ، ثُمَّ يَدْفَعُ نَفَقَةَ الْكِبَارِ مِنْ الْوَلَدِ إلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ حَقُّهُمْ وَلَهُمْ أَهْلِيَّةُ اسْتِيفَاءِ حُقُوقِهِمْ ، وَلَا وِلَايَةَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِمْ .
وَيَدْفَعُ نَفَقَةَ الصِّغَارِ إلَى الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ فِي حِجْرِهَا وَهِيَ الَّتِي تُصْلِحُ لَهُ طَعَامَهُ ، فَيَدْفَعُ نَفَقَتَهُ إلَيْهَا ، ثُمَّ بَيَّنَ نَفَقَةَ الصَّغِيرِ عَلَى الْمُعْسِرِ بِالدَّرَاهِمِ وَكِسْوَتَهُ بِالثِّيَابِ ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا ذَكَرْنَا فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مَا تَقَعُ بِهِ الْكِفَايَةُ ، وَهَذَا أَظْهَرُ هُنَا فَإِنَّ الْحَاجَةَ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ سِنِّ الصَّغِيرِ فَلَا عِبْرَةَ بِالتَّقْدِيرِ اللَّازِمِ فِيهِ ، وَلَكِنَّهُ إنْ كَانَ مُوسِرًا أُمِرَ بِأَنْ
يُوَسِّعَ عَلَيْهِ فِي النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَى الْحَاكِمُ فِيهِ ، وَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْمَعْرُوفُ فِي ذَلِكَ كَمَا يُعْتَبَرُ فِي نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ .
( قَالَ ) وَإِذَا صَالَحَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا عَلَى نَفَقَةٍ لَا تَكْفِيهَا فَلَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَنْ ذَلِكَ وَتُطَالِبَ بِالْكِفَايَةِ ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ إنَّمَا تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا .
فَرِضَاهَا بِدُونِ الْكِفَايَةِ إسْقَاطٌ مِنْهَا لِحَقِّهَا قَبْلَ الْوُجُوبِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ .
أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ أَبْرَأَتْهُ عَنْ النَّفَقَةِ لَمْ تُسْقِطْ بِذَلِكَ نَفَقَتَهَا ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْأُجْرَةِ فَإِنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْ بَعْضِ الْأُجْرَةِ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ يَجُوزُ بِلَا خِلَافٍ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ هُنَا وَهُوَ الْعَقْدُ مَوْجُودٌ فَيُقَامُ ذَلِكَ مُقَامَ حَقِيقَةِ الْوُجُوبِ فِي صِحَّةِ الْإِسْقَاطِ ، وَهُنَاكَ السَّبَبُ لَيْسَ هُوَ الْعَقْدُ وَلَكِنْ تَفْرِيغُهَا نَفْسَهَا لِخِدْمَةِ الزَّوْجِ ، وَذَلِكَ يَتَجَدَّدُ حَالًا فَحَالًا ، فَإِسْقَاطُهَا قَبْلَ وُجُودِ السَّبَبِ بَاطِلٌ .
تَوْضِيحُهُ أَنَّ النَّفَقَةَ مَشْرُوعَةٌ لِلْكِفَايَةِ وَفِي التَّرَاضِي عَلَى مَا لَا تَقَعُ بِهِ الْكِفَايَةُ تَفْوِيتُ الْمَقْصُودِ لَا تَحْصِيلُهُ فَكَانَ بَاطِلًا ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْقَاضِي قَضَى بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ فِي قَضَائِهِ حِينَ قَضَى بِمَا لَا يَكْفِيهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَدَارَكَ الْخَطَأَ بِالْقَضَاءِ لَهَا بِمَا يَكْفِيهَا .
( قَالَ : ) وَإِذَا فُرِضَ عَلَى الْمُعْسِرِ نَفَقَةُ الْمُعْسِرِينَ ، ثُمَّ أَيْسَرَ فَخَاصَمَتْهُ فَعَلَيْهِ نَفَقَةُ الْمُوسِرِينَ ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ النَّفَقَةَ تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَيُعْتَبَرُ حَالُهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ فَكَمَا لَا يُسْتَأْنَفُ الْقَضَاءُ بِنَفَقَةِ الْمُعْسِرِ بَعْدَ الْيَسَارِ ، فَكَذَلِكَ لَا يَسْتَدِيمُ ذَلِكَ - الْقَضَاءُ ، وَقَدْ كَانَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ بِنَفَقَةِ الْمُعْسِرِ لِعُذْرِ الْعُسْرَةِ فَإِذَا زَالَ الْعُذْرُ بَطَلَ ذَلِكَ : كَمَنْ شَرَعَ فِي صَوْمِ الْكَفَّارَةِ لِلْعُسْرَةِ ثُمَّ أَيْسَرَ كَانَ عَلَيْهِ التَّكْفِيرُ بِالْمَالِ .
( قَالَ : ) وَإِذَا تَغَيَّبَتْ الْمَرْأَةُ عَنْ زَوْجِهَا ، أَوْ أَبَتْ أَنْ تَتَحَوَّلَ مَعَهُ إلَى مَنْزِلِهِ ، أَوْ إلَى حَيْثُ يُرِيدُ مِنْ الْبُلْدَانِ وَقَدْ أَوْفَاهَا مَهْرَهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا ؛ لِأَنَّهَا نَاشِزَةٌ وَلَا نَفَقَةَ لِلنَّاشِزَةِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ فِي حَقِّ النَّاشِزَةِ بِمَنْعِ حَظِّهَا فِي الصُّحْبَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ } فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ تُمْنَعُ كِفَايَتَهَا فِي النَّفَقَةِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْحَظَّ فِي الصُّحْبَةِ لَهُمَا وَفِي النَّفَقَةِ لَهَا خَاصَّةً ، وَلِأَنَّهَا إنَّمَا تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ بِتَسْلِيمِهَا نَفْسَهَا إلَى الزَّوْجِ وَتَفْرِيغِهَا نَفْسَهَا لِمَصَالِحِهِ ، فَإِذَا امْتَنَعَتْ مِنْ ذَلِكَ صَارَتْ ظَالِمَةً وَقَدْ فَوَّتَتْ مَا كَانَ يُوجِبُ النَّفَقَةَ لَهَا بِاعْتِبَارِهِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَقِيلَ لِشُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : هَلْ لِلنَّاشِزَةِ نَفَقَةٌ فَقَالَ : نَعَمْ .
فَقِيلَ كَمْ قَالَ : جِرَابٌ مِنْ تُرَابٍ .
مَعْنَاهُ : لَا نَفَقَةَ لَهَا ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يُوَفِّهَا مَهْرَهَا فَأَبَتْ عَلَيْهِ ذَلِكَ حَتَّى يُوفِيَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ ؛ لِأَنَّهَا حَبَسَتْ نَفْسَهَا بِحَقٍّ فَلَا تَكُونُ مُفَوِّتَةً مَا بِهِ تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ حُكْمًا بَلْ الزَّوْجُ هُوَ الْمُفَوِّتُ بِمَنْعِهَا حَقَّهَا ، وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ حَقُّهَا وَالْمَهْرَ حَقُّهَا فَمُطَالَبَتُهَا بِأَحَدِ الْحَقَّيْنِ لَا يُسْقِطُ حَقَّهَا الْآخَرَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنَّهَا قَبْلَ الدُّخُولِ إذَا حَبَسَتْ نَفْسَهَا لِاسْتِيفَاءِ مَهْرِهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا وَكَأَنَّهُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ اعْتَبَرَ لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ انْتِقَالَهَا إلَى بَيْتِ الزَّوْجِ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ لَا تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ ابْتِدَاءً ، فَأَمَّا بَعْدَ مَا انْتَقَلَتْ إلَى بَيْتِهِ وَوَجَبَتْ لَهَا النَّفَقَةُ فَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ إلَّا بِمَنْعِهَا نَفْسَهَا بِغَيْرِ حَقٍّ .
وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَعْدَ صِحَّةِ الْعَقْدِ النَّفَقَةُ
وَاجِبَةٌ لَهَا ، وَإِنْ لَمْ تَنْتَقِلْ إلَى بَيْتِ زَوْجِهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ لَمْ يَطْلُبْ انْتِقَالَهَا إلَى بَيْتِهِ كَانَ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِالنَّفَقَةِ ، فَكَذَلِكَ إذَا حَبَسَتْ نَفْسَهَا لِاسْتِيفَاءِ الْمَهْرِ ، وَإِنْ رَجَعَتْ النَّاشِزَةُ إلَى بَيْتِ الزَّوْجِ فَنَفَقَتُهَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْقِطَ لِنَفَقَتِهَا نُشُوزُهَا وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { ، فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا }
( قَالَ : ) وَلَا نَفَقَةَ لِلصَّغِيرَةِ الَّتِي لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا عِنْدَنَا .
وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهَا النَّفَقَةُ ؛ لِأَنَّهَا مَالٌ يَجِبُ بِالْعَقْدِ فَالصَّغِيرَةُ وَالْكَبِيرَةُ فِيهِ سَوَاءٌ كَالْمَهْرِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ لِحَاجَتِهَا وَالصَّغِيرَةُ مُحْتَاجَةٌ إلَى ذَلِكَ كَالْكَبِيرَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ بِسَبَبِ مِلْكِ الْيَمِينِ تَجِبُ النَّفَقَةُ لِلصَّغِيرِ كَمَا تَجِبُ لِلْكَبِيرِ ، فَكَذَلِكَ بِسَبَبِ النِّكَاحِ ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّهَا غَيْرُ مُسَلِّمَةٍ نَفْسَهَا إلَى زَوْجِهَا فِي مَنْزِلِهِ فَلَا تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ عَلَيْهِ كَالنَّاشِزَةِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ جِدًّا لَا تَنْتَقِلُ إلَى بَيْتِ الزَّوْجِ بَلْ تُنْقَلُ إلَيْهِ وَلَا تُنْقَلُ إلَيْهِ لِلْقَرَارِ فِي بَيْتِهِ أَيْضًا فَتَكُونُ كَالْمُكْرَهَةِ إذَا حُمِلَتْ إلَى بَيْتِ الزَّوْجِ ، وَلِأَنَّ نَفَقَتَهَا عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ تَفْرِيغِهَا نَفْسَهَا لِمَصَالِحِهِ فَإِذَا كَانَتْ لَا تَصْلُحُ لِذَلِكَ لِمَعْنًى فِيهَا كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْعٍ جَاءَ مِنْ قِبَلِهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَى الزَّوْجِ ، بِخِلَافِ الْمَمْلُوكَةِ ، فَإِنَّ نَفَقَتَهَا لِأَجْلِ الْمِلْكِ فَقَطْ ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ بَلَغَتْ مَبْلَغًا يُجَامَعُ مِثْلُهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ عَلَى زَوْجِهَا صَغِيرًا كَانَ زَوْجُهَا ، أَوْ كَبِيرًا ؛ لِأَنَّهَا مُسَلِّمَةٌ نَفْسَهَا فِي مَنْزِلِهِ مُفَرِّغَةٌ نَفْسَهَا لِحَاجَتِهِ ، وَإِنَّمَا الزَّوْجُ هُوَ الْمُمْتَنِعُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ لِمَعْنًى فِيهِ ، فَلَا يَسْقُطُ بِهِ حَقُّهَا فِي النَّفَقَةِ ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ صَغِيرًا لَا مَالَ لَهُ لَمْ يُؤْخَذْ الْأَبُ بِنَفَقَةِ زَوْجَتِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ ضَمِنَهَا ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ النَّفَقَةِ عَلَى الزَّوْجِ كَاسْتِحْقَاقِ الْمَهْرِ ، فَكَمَا لَا يُؤْخَذُ أَبُوهُ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَهْرِ إذَا لَمْ يَضْمَنْ ذَلِكَ ، فَكَذَلِكَ لَا يُؤْخَذُ بِالنَّفَقَةِ .
( قَالَ : ) وَكُلُّ امْرَأَةٍ قُضِيَ لَهَا بِالنَّفَقَةِ عَلَى زَوْجِهَا وَهُوَ صَغِيرٌ ، أَوْ كَبِيرٌ مُعْسِرٌ لَا يَقْدِرُ
عَلَى شَيْءٍ فَإِنَّهَا تُؤْمَرُ بِأَنْ تَسْتَدِينَ ، ثُمَّ تَرْجِعَ عَلَيْهِ وَلَا يَحْبِسُهُ الْقَاضِي إذَا عَلِمَ عَجْزَهُ وَعُسْرَتَهُ ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ إنَّمَا يَكُونُ فِي حَقِّ مَنْ ظَهَرَ ظُلْمُهُ لِيَكُونَ زَاجِرًا لَهُ عَنْ الظُّلْمِ وَقَدْ ظَهَرَ هُنَا عُذْرُهُ لَا ظُلْمُهُ فَلَا يَحْبِسُهُ وَلَكِنْ يَنْظُرُ لَهَا بِأَنْ يَأْمُرَهَا بِالِاسْتِدَانَةِ فَإِذَا اسْتَدَانَتْ بِأَمْرِ الْقَاضِي كَانَ كَاسْتِدَانَتِهَا بِأَمْرِ الزَّوْجِ فَتَرْجِعُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ إذَا أَيْسَرَ ، وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي لَا يَعْلَمُ مِنْ الزَّوْجِ عُسْرَهُ فَسَأَلَتْ الْمَرْأَةُ حَبْسَهُ بِالنَّفَقَةِ لَمْ يَحْبِسْهُ الْقَاضِي فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ عُقُوبَةٌ لَا يَسْتَوْجِبُهَا إلَّا الظَّالِمُ وَلَمْ يَظْهَرْ حَيْفُهُ وَظُلْمُهُ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ فَلَا يَحْبِسُهُ وَلَكِنْ يَأْمُرُهُ بِأَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا وَيُخْبِرُهُ أَنَّهُ يَحْبِسُهُ إنْ لَمْ يَفْعَلْ ، فَإِنْ عَادَتْ إلَيْهِ مَرَّتَيْنِ ، أَوْ ثَلَاثًا حَبَسَهُ لِظُهُورِ ظُلْمِهِ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ إيفَاءِ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ ، فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ خَلَّى سَبِيلَهُ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِلنَّظِرَةِ إلَى مَيْسَرَةٍ بِالنَّصِّ وَلَيْسَ بِظَالِمٍ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ الْإِيفَاءِ مَعَ الْعَجْزِ .
( قَالَ : ) وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي إذَا حَبَسَ الرَّجُلَ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً فِي نَفَقَةٍ ، أَوْ دَيْنٍ أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ ذَكَرَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ .
وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَدَّرَ ذَلِكَ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ .
وَذَكَرَ الطَّحْطَاوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ أَدْنَى الْمُدَّةِ فِيهِ شَهْرٌ .
وَالْحَاصِلُ أَنْ لَيْسَ فِيهِ تَقْدِيرٌ لَازِمٌ ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ لِلْإِضْجَارِ وَذَلِكَ مِمَّا تَخْتَلِفُ فِيهِ أَحْوَالُ النَّاسِ عَادَةً ، فَالرَّأْيُ فِيهِ إلَى الْقَاضِي حَتَّى إذَا وَقَعَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ يَضْجَرُ بِهَذِهِ الْمُدَّةِ وَيُظْهِرُ مَالًا إنْ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ حَالِهِ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَذَكَرَ هِشَامٌ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ حَالِهِ بَعْدَ مَا حَبَسَهُ ، وَلَمْ يَعْتَبِرْ فِي ذَلِكَ مُدَّةً ، فَإِذَا سَأَلَ عَنْهُ فَأُخْبِرَ أَنَّهُ مُعْسِرٌ خَلَّى سَبِيلَهُ ؛ لِأَنَّ مَا صَارَ مَعْلُومًا بِخَبَرِ الْعُدُولِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ وَلَا يَحُولُ بَيْنَ الطَّالِبِ وَبَيْنَ مُلَازَمَتِهِ عِنْدَنَا ، وَكَانَ إسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّادٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ لَيْسَ لِلطَّالِبِ أَنْ يُلَازِمَهُ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ مُنْظَرٌ بِإِنْظَارِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَجَّلَهُ الْخَصْمُ ، أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ فَكَمَا لَا يُلَازِمُهُ هُنَاكَ ، فَكَذَلِكَ لَا يُلَازِمُهُ هُنَا .
وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اشْتَرَى مِنْ أَعْرَابِيٍّ بَعِيرًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فَلَمَّا حَلَّ الْأَجَلُ طَالَبَهُ الْأَعْرَابِيُّ فَقَالَ لَيْسَ عِنْدَنَا شَيْءٌ فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ : وَاغَدْرَاه ، فَهَمَّ بِهِ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعُوهُ فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ الْيَدُ وَاللِّسَانُ } وَالْمُرَادُ بِاللِّسَانِ : التَّقَاضِي ، وَبِالْيَدِ : الْمُلَازَمَةُ ،
وَلِأَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْمَدْيُونِ مِنْ كَسْبِهِ وَمَالِهِ فَكَمَا أَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ كَانَ لِلطَّالِبِ أَنْ يُطَالِبَهُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُ ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ لَهُ كَسْبٌ كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ كَسْبِهِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِالْمُلَازَمَةِ حَتَّى إذَا فَضَلَ مِنْ كَسْبِهِ شَيْءٌ عَنْ نَفَقَتِهِ أَخَذَهُ بِدَيْنِهِ .
وَلَسْنَا نَعْنِي بِهَذِهِ الْمُلَازَمَةِ أَنْ يُقْعِدَهُ فِي مَوْضِعٍ فَإِنَّ ذَلِكَ حَبْسٌ ، وَلَكِنْ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ بَلْ يَدُورُ مَعَهُ حَيْثُمَا دَارَ ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ السِّجْنِ أَبَدًا حَتَّى يُؤَدِّيَ النَّفَقَةَ وَالدَّيْنَ ، لِقَوْلِهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ } وَلِأَنَّهُ حَالَ بَيْنَ صَاحِبِ الْحَقِّ وَبَيْنَ حَقِّهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى إيفَائِهِ فَيُجَازَى بِمِثْلِهِ ، وَذَلِكَ بِالْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ وَتَصَرُّفِهِ حَتَّى يُوَفِّيَ مَا عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ أَخَذَ الْقَاضِي الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ مِنْ مَالِهِ وَأَدَّى مِنْهَا النَّفَقَةَ وَالدَّيْنَ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ إذَا ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ فَلِلْقَاضِي أَنْ يُعِينَهُ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا ، وَكَذَلِكَ إذَا ظَفِرَ بِطَعَامِهِ فِي النَّفَقَةِ ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْحَقِّ .
وَالْمَرْأَةُ تَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ إذَا قَدَرَتْ عَلَيْهِ ، فَيُعِينُهَا الْقَاضِي عَلَى ذَلِكَ .
وَلَا يَبِيعُ الْقَاضِي عُرُوضَهُ فِي النَّفَقَةِ وَالدَّيْنِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَبِيعُ ذَلِكَ كُلَّهُ ، وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الْحَجْرِ ، فَإِنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْقَاضِي لَا يَحْجُرُ عَلَى الْمَدْيُونِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ .
وَبَيْعُ الْمَالِ عَلَيْهِ نَوْعُ حَجْرٍ فَلَا يَفْعَلُهُ الْقَاضِي .
وَعِنْدَهُمَا الْقَاضِي يَحْجُرُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ فَيَبِيعُ عَلَيْهِ مَالَهُ وَاسْتَدَلَّا فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَجَرَ عَلَى مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبَاعَ عَلَيْهِ مَالَهُ وَقَسَمَ ثَمَنَهُ عَلَى غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ .
} وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خُطْبَتِهِ : أَيُّهَا النَّاسُ إيَّاكُمْ وَالدَّيْنَ فَإِنَّ أَوَّلَهُ هَمٌّ وَآخِرَهُ حَرْبٌ ، وَإِنَّ أُسَيْفِعَ جُهَيْنَةَ قَدْ رَضِيَ مِنْ دِينِهِ وَأَمَانَتِهِ أَنْ يُقَالَ لَهُ : سَبَقَ الْحَاجَّ ، فَادَّانَ مُعْرِضًا فَأَصْبَحَ وَقَدْ رِينَ بِهِ أَلَا إنِّي بَائِعٌ عَلَيْهِ مَالَهُ ، وَقَاسِمٌ ثَمَنَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ ، فَمَنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيَعُدْ .
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ قَضَاءَ الدَّيْنِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُحْبَسُ لِأَجْلِهِ فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مِمَّا تُجْرَى النِّيَابَةُ فِيهِ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ كَالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الْعِنِّينِ وَامْرَأَتِهِ .
وَبِالِاتِّفَاقِ يُبَادَلُ أَحَدُ النَّقْدَيْنِ بِالْآخَرِ بِهَذَا الطَّرِيقِ ، فَكَذَلِكَ يَبِيعُ الْعُرُوضَ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ مَا رُوِيَ { أَنَّ رَجُلًا مِنْ جُهَيْنَةَ أَعْتَقَ شِقْصًا مِنْ عَبْدٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آخَرَ فَحَبَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَاعَ غَنِيمَةً لَهُ وَأَدَّى ضَمَانَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ .
} وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّبِيَّ كَانَ عَلِمَ بِيَسَارِهِ حِينَ أَلْزَمَهُ ضَمَانَ الْعِتْقِ ، ثُمَّ اشْتَغَلَ بِحَبْسِهِ وَلَمْ يَبِعْ عَلَيْهِ مَالَهُ فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَاشْتَغَلَ بِهِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ نَظَرًا مِنْ
الْجَانِبَيْنِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ قَضَاءُ الدَّيْنِ وَلِقَضَاءِ الدَّيْنِ طُرُقٌ سِوَى بَيْعِ الْمَالِ فَلَيْسَ لِلْقَاضِي عَلَيْهِ وِلَايَةُ تَعْيِينِ هَذَا الطَّرِيقِ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا تُزَوَّجُ الْمَدْيُونَةُ لِتَقْضِيَ الدَّيْنَ مِنْ صَدَاقِهَا وَلَا يُؤَاجَرُ الْمَدْيُونُ لِيَقْضِيَ الدَّيْنَ مِنْ أُجْرَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ قَضَاءُ الدَّيْنِ عَلَيْهِ ، فَكَذَلِكَ لَا يَبِيعُ مَالَهُ ؛ لِأَنَّهُ تَعَيَّنَ طَرِيقُ قَضَاءِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ .
وَمُبَادَلَةُ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ بِالْآخَرِ لَا يَفْعَلُهُ فِي الْقِيَاسِ أَيْضًا وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ جُعِلَا كَجِنْسٍ وَاحِدٍ ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُمَا وَاحِدٌ فَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ جِنْسِ الْحَقِّ وَذَلِكَ مُتَعَيِّنٌ عَلَيْهِ لِصَاحِبِ الْحَقِّ ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ جِنْسَ حَقِّهِ فَكَذَلِكَ لِلْقَاضِي أَنْ يُعِينَهُ عَلَيْهِ وَأَمَّا { حَدِيثُ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَإِنَّمَا بَاعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالَهُ بِرِضَاهُ وَسُؤَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي مَالِهِ وَفَاءٌ بِدُيُونِهِ فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُبَاشِرَ بَيْعَ مَالِهِ لِيَنَالَ بَرَكَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَالُهُ فَيَصِيرَ فِيهِ وَفَاءٌ بِدَيْنِهِ } وَالْمَشْهُورُ مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إنِّي قَاسِمٌ مَالَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ ، فَإِنَّمَا يُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَالَهُ كَانَ مِنْ النُّقُودِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ عِنْدَهُمَا لَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَبِيعَ الْمَالَ إلَّا بِطَلَبٍ مِنْ الْخَصْمِ ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ طَلَبٌ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ الْحَقِّ ، أَوْ كَانَ فِيهِ نَوْعُ مَصْلَحَةٍ رَآهَا لِأُسَيْفِعِ جُهَيْنَةَ .
( قَالَ : ) وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ نِسْوَةٌ فُرِضَتْ النَّفَقَةُ لَهُنَّ عَلَيْهِ بِحَسَبِ الْكِفَايَةِ عَلَى مَا قُلْنَا ، فَإِنْ كَانَتْ إحْدَاهُنَّ كِتَابِيَّةً ، أَوْ أَمَةً قَدْ بَوَّأَهَا مَوْلَاهَا مَعَهُ بَيْتًا فُرِضَ عَلَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مَا يَكْفِيهَا وَلَا تُزَادُ الْحُرَّةُ الْمُسْلِمَةُ عَلَى الْأَمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ مَشْرُوعَةٌ لِلْكِفَايَةِ وَهَذَا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ وَلَا بِاخْتِلَافِ الْحَالِ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ ، فَإِنْ فُرِضَ ذَلِكَ وَهُوَ مُعْسِرٌ وَعَلِمَ الْقَاضِي ذَلِكَ مِنْهُ أَمَرَهُنَّ بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَيْهِ فَفِي هَذَا يَعْتَدِلُ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا ، فَقَدْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : أَوَلَا يَأْمُرُهُنَّ بِالِاسْتِدَانَةِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ يَعْلَمُ النِّكَاحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا يَفْعَلُ ذَلِكَ عِنْدَ حَضْرَتِهِ ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ : لَا يَأْمُرُ بِذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُهُمَا ؛ لِأَنَّ فِيهِ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ، وَإِنْ أَمَرَهُنَّ بِالِاسْتِدَانَةِ فَلَمْ يَجِدْنَ ذَلِكَ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ وَلَمْ يُجْبِرْهُ عَلَى طَلَاقِهِنَّ عِنْدَنَا .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ إذَا طَلَبْنَ ذَلِكَ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } وَالْمَعْرُوفُ فِي الْإِمْسَاكِ أَنْ يُوَفِّيَهَا حَقَّهَا مِنْ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ فَإِذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ تَعَيَّنَ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ ، وَهُوَ الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ ، فَإِنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ أَحَدُ الشَّيْئَيْنِ فَإِذَا تَعَذَّرَ أَحَدُهُمَا تَعَيَّنَ الْآخَرُ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا عَجَزَ عَنْ الْوُصُولِ إلَيْهَا بِسَبَبِ الْجَبِّ وَالْعُنَّةِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا لِفَوَاتِ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهَا إلَى النَّفَقَةِ أَظْهَرُ مِنْ حَاجَتِهَا إلَى قَضَاءِ الشَّهْوَةِ ، وَلَكِنْ لَمَّا تَعَيَّنَ التَّفْرِيقُ
لِإِيصَالِهَا إلَى حَقِّهَا مِنْ جِهَةِ عُسْرِهِ فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا ، فَكَذَلِكَ هُنَا تَعَيَّنَ التَّفْرِيقُ لِإِيصَالِهَا إلَى حَقِّهَا مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ ، وَبِهِ فَارَقَ الْمَهْرَ وَالنَّفَقَةَ الْمُجْتَمِعَةَ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ التَّفْرِيقَ لَيْسَ بِطَرِيقٍ لِإِيصَالِهَا إلَى ذَلِكَ الْحَقِّ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ .
فَأَمَّا نَفَقَةُ الْوَقْتِ تَصِلُ إلَيْهَا بَعْدَ التَّفْرِيقِ مِنْ جِهَةِ زَوْجٍ آخَرَ وَقَاسَ بِنَفَقَةِ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ فَإِنَّهُ يُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ بِسَبَبِ الْمِلْكِ فَإِذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ أَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَى إزَالَةِ الْمِلْكِ بِالْبَيْعِ فَهُنَا كَذَلِكَ ، وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَتَبَا إلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ أَنْ مُرُوا مَنْ قِبَلَكُمْ أَنْ تَبْعَثُوا بِنَفَقَةِ أَهْلِيكُمْ أَوْ بِطَلَاقِهِنَّ .
وَقِيلَ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَتُفَرِّقُ بَيْنَ الْعَاجِزِ عَنْ النَّفَقَةِ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ .
فَقِيلَ لَهُ : إنَّهُ سُنَّةٌ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ .
وَالسُّنَّةُ إذَا أُطْلِقَتْ يُفْهَمُ مِنْهَا سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { ، وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ } فَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْمُعْسِرَ مُنْظَرٌ ، وَلَوْ أَجَّلَتْهُ فِي ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُطَالِبَ بِالْفُرْقَةِ ، فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَحَقَّ النَّظِرَةَ شَرْعًا .
إلَّا أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالنَّصِّ التَّأَخُّرُ ، فَلَا يُلْحَقُ بِهِ مَا يَكُونُ إبْطَالًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فَوْقَ الْمَنْصُوصِ ، وَفِي حَقِّ الْمَمْلُوكِ يَكُونُ إبْطَالًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ لِلْمَمْلُوكِ عَلَى مَوْلَاهُ دَيْنٌ فَأَمَّا فِي حَقِّ الزَّوْجِيَّةِ يَكُونُ تَأْخِيرًا لَا إبْطَالًا ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ غَيْرُ عَاجِزٍ عَنْ مَعْرُوفٍ يَلِيقُ بِحَالِهِ وَهُوَ الِالْتِزَامُ فِي الذِّمَّةِ ، فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ فِي النَّفَقَةِ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ ، وَهُوَ الِالْتِزَامُ فِي الذِّمَّةِ مَعَ أَنَّ التَّسْرِيحَ طَلَاقٌ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْمُسْتَحَقُّ هُنَا هُوَ الْفَسْخُ بِسَبَبِ الْعَيْبِ حَتَّى إذَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا ، وَبِهِ نُجِيبُ عَنْ حَدِيثِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَعَ أَنَّهُمْ مَا كَانُوا عَاجِزِينَ عَنْ الْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ .
فَإِنَّ نَفَقَةَ عِيَالِ مَنْ هُوَ مِنْ الْجُنْدِ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ ، وَالْإِمَامُ هُوَ الَّذِي يُوصِلُ ذَلِكَ إلَيْهِمْ وَلَكِنَّهُمَا خَافَا عَلَيْهِنَّ الْفِتْنَةَ لِطُولِ غَيْبَةِ أَزْوَاجِهِنَّ فَأَمَرَاهُمْ أَنْ يَبْعَثُوا إلَيْهِنَّ مَا تَطِيبُ بِهِ قُلُوبُهُنَّ .
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ النَّفَقَةَ مَالٌ فَالْعَجْزُ عَنْهُ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْفُرْقَةِ كَالْمَهْرِ وَالنَّفَقَاتِ الْمُجْتَمِعَةِ بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَيْنٌ مُسْتَقِرٌّ ، وَنَفَقَةُ الْوَقْتِ لَمْ تَسْتَقِرَّ دَيْنًا بَعْدُ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالنِّكَاحِ غَيْرُ الْمَالِ فَكَانَ الْمَالُ زَائِدًا وَالْعَجْزُ عَنْ التَّبَعِ لَا يَكُونُ سَبَبًا لَرَفْعِ الْأَصْلِ وَكَمَا أَنَّ بِالْفُرْقَةِ لَا تَتَوَصَّلُ إلَى مَهْرِهَا الَّذِي عَلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا تَتَوَصَّلُ إلَى مِثْلِهِ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى ، فَكَذَلِكَ النَّفَقَةُ .
وَبِهِ فَارَقَ الْجَبَّ وَالْعُنَّةَ ؛ فَإِنَّ هُنَاكَ تَحَقُّقُ فَوَاتِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ ، مَعَ أَنَّ عِنْدَنَا هُنَاكَ لَا يُفْسَخُ الْعَقْدُ وَلَكِنْ يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِطَرِيقِ التَّسْرِيحِ بِالْإِحْسَانِ حَتَّى يَكُونَ ذَلِكَ طَلَاقًا لِإِزَالَةِ ظُلْمِ التَّعْلِيقِ عَنْهَا ، وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ هُنَاكَ قَدْ انْسَدَّ عَلَيْهَا بَابُ تَحْصِيلِ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ بِدُونِ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا وَهُنَا لَمْ يَنْسَدَّ عَلَيْهَا وُصُولُ النَّفَقَةِ بِدُونِ التَّفْرِيقِ بِأَنْ تَسْتَدِينَ فَتُنْفِقَ .
وَالثَّانِي : أَنَّ هُنَاكَ الزَّوْجُ يُمْسِكُهَا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ بِهِ إلَيْهَا فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَكَانَ ظَالِمًا وَهُنَا يُمْسِكُهَا مَعَ حَاجَتِهِ إلَيْهَا فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَلَا يَكُونُ ظَالِمًا ، وَلِأَنَّ هُنَاكَ فِي تَرْكِ التَّفْرِيقِ إبْطَالُ حَقِّهَا ؛ لِأَنَّ وَظِيفَةَ الْجِمَاعِ لَا تَصِيرُ دَيْنًا عَلَى الزَّوْجِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ وَلَوْ فَرَّقْنَا كَانَ فِيهِ إبْطَالُ مِلْكِ الزَّوْجِ فَاسْتَوَى الْجَانِبَانِ فِي ضَرَرِ الْإِبْطَالِ وَفِي جَانِبِهَا رُجْحَانٌ لِصِدْقِ حَاجَتِهَا وَهُنَا فِي تَرْكِ التَّفْرِيقِ تَأْخِيرُ حَقِّهَا ؛ لِأَنَّ
النَّفَقَةَ تَصِيرُ دَيْنًا عَلَى الزَّوْجِ وَفِي التَّفْرِيقِ إبْطَالُ الْمِلْكِ عَلَى الزَّوْجِ وَضَرَرُ التَّأْخِيرِ دُونَ ضَرَرِ الْإِبْطَالِ ، وَبِهِ يُفَرَّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْعَبْدِ فَالضَّرَرُ هُنَاكَ ضَرَرُ الْإِبْطَالِ ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ هُنَاكَ لَا تَصِيرُ دَيْنًا لِلْمَمْلُوكِ عَلَى الْمَالِكِ ، ثُمَّ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّهِ بِغَيْرِ بَدَلٍ ، وَفِي الْبَيْعِ إبْطَالُ مِلْكِ الْمَوْلَى بِبَدَلٍ ، فَكَانَ هَذَا الضَّرَرُ أَهْوَنَ حَتَّى أَنَّ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَكُونُ إبْطَالًا بِغَيْرِ بَدَلٍ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا عَجَزَ عَنْ نَفَقَةِ أُمِّ وَلَدِهِ لَمْ يَعْتِقْهَا الْقَاضِي عَلَيْهِ .
( قَالَ : ) وَالتَّبْوِئَةُ فِي الْأَمَةِ أَنْ يُخَلَّى بَيْنَ الْأَمَةِ وَزَوْجِهَا وَلَا يَسْتَخْدِمُهَا ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ تَفْرِيغُهَا نَفْسَهَا لِقِيَامِ مَصَالِحِ الزَّوْجِ وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ التَّبْوِئَةِ ، فَإِنْ اسْتَخْدَمَهَا بَعْدَ ذَلِكَ وَلَمْ يُخَلَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا ؛ لِأَنَّهُ أَزَالَ مَا بِهِ كَانَتْ تَجِبُ نَفَقَتُهَا عَلَيْهِ فَهِيَ كَالْحُرَّةِ النَّاشِزَةِ ، فَإِنْ قِيلَ : الْمَوْلَى إنَّمَا أَزَالَ ذَلِكَ بِحَقٍّ لَهُ فَلِمَاذَا لَا يَجْعَلُ هَذَا كَالْحُرَّةِ إذَا احْتَبَسَتْ نَفْسَهَا لِصَدَاقِهَا قُلْنَا كَمَا فِي الِابْتِدَاءِ فَإِنَّ الْحُرَّةَ إذَا احْتَبَسَتْ نَفْسَهَا بِالصَّدَاقِ كَانَ لَهَا أَنْ تَطْلُبَ النَّفَقَةَ وَالْمَوْلَى إذَا لَمْ يُبَوِّئْهَا بَيْتًا فِي الِابْتِدَاءِ لَمْ يَكُنْ لَهَا النَّفَقَةُ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْحُرَّةَ إذَا احْتَبَسَتْ نَفْسَهَا بِصَدَاقِهَا فَالتَّفْوِيتُ إنَّمَا جَاءَ مِنْ قِبَلِ الزَّوْجِ حِينَ امْتَنَعَ مِنْ إيفَاءِ مَا لَزِمَهُ لِتَنْتَقِلَ إلَى بَيْتِهِ ، فَأَمَّا هُنَا التَّفْوِيتُ لَيْسَ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ بَلْ مِنْ جِهَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ وَهُوَ الْمَوْلَى لِشَغْلِهِ إيَّاهَا بِخِدْمَةِ نَفْسِهِ ، فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا نَفَقَةٌ عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَتْ هِيَ تَجِيءُ فَتَخْدُمُهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَخْدِمَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِلْمَوْلَى ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ جِهَتِهِ تَفْوِيتٌ بَلْ الْمَوْجُودُ مِنْ جِهَتِهِ التَّسْلِيمُ ، فَإِنْ جَاءَتْ فِي وَقْتٍ وَالزَّوْجُ لَيْسَ فِي الْبَيْتِ فَاسْتَخْدَمُوهَا وَمَنَعُوهَا مِنْ الرُّجُوعِ إلَى بَيْتِهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا ؛ لِأَنَّ اسْتِخْدَامَ أَهْلِ الْمَوْلَى إيَّاهَا كَاسْتِخْدَامِ الْمَوْلَى .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِيهِ تَفْوِيتُ التَّبْوِئَةِ ، وَالتَّبْوِئَةُ شَرْطٌ لِاسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ وَبَعْدَ التَّفْوِيتِ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ لَا يَكُونُ لَهَا نَفَقَةٌ .
( قَالَ : ) وَنَفَقَةُ الْمَرْأَةِ وَاجِبَةٌ عَلَى الزَّوْجِ ، وَإِنْ مَرِضَتْ مِنْ قَبْلِ أَنَّهَا مُسَلِّمَةٌ نَفْسَهَا إلَى الزَّوْجِ فِي بَيْتِهِ ، وَلَا فِعْلَ مِنْهَا فِي الْمَرَضِ لِتَصِيرَ بِهِ مُفَوِّتَةً ، مَعَ أَنَّهُ لَا يُفَوِّتُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الِاسْتِئْنَاسِ وَغَيْرِهِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِمَقْصُودِ الْجِمَاعِ فِي حَقِّ النَّفَقَةِ ؛ فَإِنَّ الرَّتْقَاءَ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ عَلَى زَوْجِهَا مَعَ فَوَاتِ مَقْصُودِ الْجِمَاعِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الرَّتْقَاءَ لَا تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ عَلَى الزَّوْجِ إذَا لَمْ يَرْضَ الزَّوْجُ بِهَا وَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا إلَى أَهْلِهَا وَلَا يُنْفِقَ عَلَيْهَا .
وَفِي الْمَرِيضَةِ إنْ تَحَوَّلَتْ إلَى بَيْتِهِ وَهِيَ مَرِيضَةٌ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا إلَى أَنْ تَبْرَأَ ، وَإِنْ مَرِضَتْ فِي بَيْتِهِ بَعْدَ مَا تَحَوَّلَتْ إلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهَا ، بَلْ يُنْفِقُ عَلَيْهَا إلَّا أَنْ يَتَطَاوَلَ مَرَضُهَا .
( قَالَ : ) وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ يُعْقَدُ لِلصُّحْبَةِ وَالْأُلْفَةِ ، وَلَيْسَ مِنْ الْأُلْفَةِ أَنْ يَمْتَنِعَ عَنْ الْإِنْفَاقِ أَوْ يَرُدَّهَا لِقَلِيلِ مَرَضٍ فَإِذَا تَطَاوَلَ ذَلِكَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الرَّتَقِ الَّذِي لَا يَزُولُ عَادَةً .
وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهَا لِقِيَامِهِ عَلَيْهَا وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ بِمَنْسِيٍّ مِنْ جِهَتِهَا فَتَسْقُطُ نَفَقَتُهَا كَمَا إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا ، وَلَكِنْ قَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ إنَّ الصِّغَرَ يَزُولُ فَلَا يَنْعَدِمُ بِهِ اسْتِحْقَاقُ الْجِمَاعِ بِسَبَبِ الْعَقْدِ بِخِلَافِ الرَّتْقِ وَالْقَرْنِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ جُنَّتْ ، أَوْ أَصَابَهَا بَلَاءٌ يَمْنَعُهُ مِنْ الْجِمَاعِ أَوْ هَرِمَتْ حَتَّى لَا يَسْتَطِيعَ جِمَاعُهَا وَذَكَرَ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ لَوْ أَصَابَتْهَا هَذِهِ الْعَوَارِضُ مِنْ بَعْدِ مَا دَخَلَ بِهَا وَلَيْسَ مُرَادُهُ حَقِيقَةَ الْوَطْءِ بَلْ الْمُرَادُ انْتِقَالُهَا إلَى مَنْزِلِهِ وَسَوَاءٌ انْتَقَلَتْ أَوْ لَمْ تَنْتَقِلْ إذَا لَمْ تَكُنْ مَانِعَةً نَفْسَهَا ظَالِمَةً فَهِيَ
مُسْتَوْجِبَةٌ لِلنَّفَقَةِ عَلَى مَا قُلْنَا .
( قَالَ : ) وَلَا نَفَقَةَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَالْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ وَلَا فِي الْعِدَّةِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ مَا بِهِ تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ مَعْدُومٌ هُنَا وَهُوَ تَسْلِيمُهَا نَفْسَهَا إلَى الزَّوْجِ لِلْقِيَامِ بِمَصَالِحِهِ فَإِنَّ فَسَادَ النِّكَاحِ يَمْنَعُهَا مِنْ ذَلِكَ شَرْعًا ؛ وَلِهَذَا لَمْ تُجْعَلْ الْخَلْوَةُ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ تَسْلِيمًا فِي حَقِّ وُجُوبِ الْمَهْرِ فَكَذَا لَا تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ فِي التَّسْلِيمِ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ .
( قَالَ : ) وَإِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجُ وَالْمَرْأَةُ فَقَالَ الزَّوْجُ أَنَا فَقِيرٌ وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ هُوَ غَنِيٌّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ وَعَلَى الْمَرْأَةِ الْبَيِّنَةُ ؛ لِأَنَّ الْفَقْرَ فِي النَّاسِ أَصْلٌ وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ { يُولَدُ كُلُّ مَوْلُودٍ أَحْمَرَ لَيْسَ عَلَيْهِ غُبْرَةٌ أَيْ سُتْرَةٌ ، ثُمَّ يَرْزُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ فَضْلِهِ } فَالزَّوْجُ يَتَمَسَّكُ بِمَا هُوَ الْأَصْلُ وَالْمَرْأَةُ تَدَّعِي غِنًى عَارِضًا فَعَلَيْهَا الْبَيِّنَةُ وَعَلَيْهِ الْيَمِينُ لِإِنْكَارِهِ ، وَبِهِ أَجَابَ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ إذَا ادَّعَى الْمُعْتِقُ أَنَّهُ مُعْسِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فَأَمَّا مَا أَشَارَ فِي سَائِرِ الدُّيُونِ إنْ كَانَ وُجُوبُ الدَّيْنِ عَلَيْهِ بِبَيْعٍ ، أَوْ قَرْضٍ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ أَنَّهُ مُعْسِرٌ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ غَنِيًّا بِمَا دَخَلَ فِي مِلْكِهِ مِنْ الْمَالِ فَلَا قَوْلَ لَهُ فِي دَعْوَى الْفَقْرِ بَعْدَ تَيَقُّنِنَا بِزَوَالِ ذَلِكَ الْأَصْلِ ، وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي كُلِّ دَيْنٍ الْتَزَمَهُ بِالْعَقْدِ اخْتِيَارًا كَالْمَهْرِ وَدَيْنِ الْكَفَالَةِ فَإِقْدَامُهُ عَلَى الِالْتِزَامِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارٍ مِنْهُ أَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْأَدَاءِ فَإِنَّ الْعَاقِلَ لَا يَلْتَزِمُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهِ اخْتِيَارًا .
فَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي دَعْوَى الْعُسْرَةِ .
وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ مَشَايِخِنَا يَقُولُونَ يَحْكُمُ فِي ذَلِكَ زِيُّهُ ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ زِيُّ الْأَغْنِيَاءِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ أَنَّهُ مُعْسِرٌ ؛ لِأَنَّ الزِّيَّ دَلِيلٌ عَلَى غِنَاهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً } وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا { إنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ } فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ الْعَلَامَةِ يُجْعَلُ حُكْمًا إلَّا فِي الْفُقَهَاءِ وَالْعَلَوِيَّةِ فَإِنَّهُمْ يَتَكَلَّفُونَ الزِّيَّ مَعَ الْعُسْرَةِ لِيُعَظِّمَهُمْ النَّاسُ فَلَا يُجْعَلُ الزِّيُّ حُكْمًا فِي
حَقِّهِمْ لِظُهُورِ الْعَادَةِ بِخِلَافِهِ .
( قَالَ : ) فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا بَيِّنَةٌ عَلَى يَسَارِهِ وَسَأَلَتْ الْقَاضِيَ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ يَسَارِهِ فِي السِّرِّ فَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَى الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ دَلِيلًا يَعْتَمِدُهُ لِفَصْلِ الْحُكْمِ وَهُوَ التَّمَسُّكُ بِالْأَصْلِ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَ دَلِيلًا آخَرَ ، وَإِنْ فَعَلَهُ فَأَتَاهُ مَنْ أَخْبَرَ عَنْهُ أَنَّهُ مُوسِرٌ لَا يَعْتَمِدُ ذَلِكَ أَيْضًا إلَّا أَنْ يُخْبِرَهُ بِذَلِكَ رَجُلَانِ عَدْلَانِ وَيَكُونَا بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدَيْنِ يُخْبِرَانِ أَنَّهُمَا قَدْ عَلِمَا ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ لَوْ شَهِدَا عِنْدَهُ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ يَثْبُتُ يَسَارُهُ بِشَهَادَتِهِمَا ، وَكَذَلِكَ إنْ أَخْبَرَاهُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ عِلْمُ الْقَاضِي وَيَحْصُلُ لَهُ عِلْمٌ بِخَبَرِهِمَا كَمَا يَحْصُلُ بِشَهَادَتِهِمَا ، وَإِنْ أَخْبَرَا أَنَّهُمَا عَلِمَا ذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ رَاوٍ لَمْ يُؤْخَذْ بِقَوْلِهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا مَا أَخْبَرَاهُ عَنْ عِلْمٍ وَإِنَّمَا أَخْبَرَاهُ عَنْ ظَنٍّ ، أَوْ عَنْ خَبَرِ مَنْ يُعْتَمَدُ خَبَرُهُ ، وَالْخَبَرُ إذَا تَدَاوَلَتْهُ الْأَلْسِنَةُ تَتَمَكَّنُ فِيهِ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ عَادَةً فَلِهَذَا لَا يُعْتَمَدُ مِثْلُ هَذَا الْخَبَرِ .
( قَالَ : ) وَإِنْ أَقَامَتْ الْمَرْأَةُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ مُوسِرٌ وَأَقَامَ الزَّوْجُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ مُحْتَاجٌ أُخِذَ بِبَيِّنَةِ الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّهَا قَامَتْ عَلَى الْإِثْبَاتِ وَلِأَنَّ شُهُودَ الزَّوْجِ اعْتَمَدُوا فِي شَهَادَتِهِمْ مَا هُوَ الْأَصْلُ وَشُهُودُ الْمَرْأَةِ عَرَفُوا الْغِنَى الْعَارِضَ فَلِهَذَا يُفْرَضُ لَهَا عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْمُوسِرِينَ .
( قَالَ : ) وَإِذَا كَانَ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا دَيْنٌ فَقَالَ اُحْسُبُوا لَهَا نَفَقَتَهَا مِنْهُ كَانَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِي الْبَابِ أَنْ تَكُونَ النَّفَقَةُ لَهَا دَيْنًا عَلَيْهِ فَإِذَا الْتَقَى الدَّيْنَانِ تَسَاوَيَا قِصَاصًا ، أَلَا تَرَى أَنَّ لَهُ أَنْ يُقَاصَّ بِمَهْرِهَا فَالنَّفَقَةُ أَوْلَى
( قَالَ : ) وَإِذَا فُرِضَتْ النَّفَقَةُ لَهَا عَلَى زَوْجِهَا وَلَهَا عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ مَهْرِهَا فَأَعْطَاهَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ الزَّوْجُ هُوَ مِنْ الْمَهْرِ وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ بَلْ هُوَ مِنْ النَّفَقَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ أَنَّهُ مِنْ الْمَهْرِ ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي جَمِيعِ قَضَاءِ الدُّيُونِ إذَا كَانَ مِنْ وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُمَلِّكُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي بَيَانِ جِهَةِ التَّمْلِيكِ وَهُوَ الْمُحْتَاجُ إلَى تَفْرِيغِ ذِمَّتِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي أَنَّهُ تَفْرُغُ ذِمَّتُهُ بِهَذَا الْأَدَاءِ مِنْ كَذَا دُونَ كَذَا .
( قَالَ : ) وَإِذَا اخْتَلَفَا فِيمَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ ، أَوْ الْحُكْمُ بِهِ مِنْ النَّفَقَةِ فِي الْجِنْسِ أَوْ الْقَدْرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّهَا مُدَّعِيَةٌ الزِّيَادَةَ فَتَحْتَاجُ إلَى الْإِثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ ، وَالزَّوْجُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ الزَّوْجُ وَحَلَفَ عَلَيْهِ لَا يَكْفِيهَا بَلَغَ بِهَا الْكِفَايَةَ فِي الْمُؤْتَنَفِ ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ لِلْكِفَايَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا قَضَى بِهِ الْقَاضِي أَوَوَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ إنْ كَانَ لَا يَكْفِيهَا فَلَهَا أَنْ تُطَالِبَ بِمَا يَكْفِيهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، فَكَذَلِكَ مَا أَقَرَّ بِهِ الزَّوْجُ
( قَالَ : ) وَلَوْ أَخَذَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ زَوْجِهَا كَفِيلًا بِالنَّفَقَةِ كُلَّ شَهْرٍ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْكَفِيلِ إلَّا شَهْرٌ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ كَلِمَةَ كُلٍّ إلَّا مَا لَا يُعْرَفُ مُنْتَهَاهُ فَيَتَنَاوَلُ الْأَدْنَى كَمَنْ يَقُولُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ دِرْهَمٌ وَأَصْلُهُ فِي الْإِجَارَةِ إذَا اسْتَأْجَرَ دَارًا لِكُلِّ شَهْرٍ كَانَ لُزُومُ الْعَقْدِ فِي شَهْرٍ وَاحِدٍ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنَّهُ كَفِيلٌ بِنَفَقَتِهَا مَا عَاشَتْ وَبَقِيَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا اسْتِحْسَانًا ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْعُرْفِ الظَّاهِرِ وَلِأَنَّ قَصْدَ الْمَرْأَةِ التَّوَثُّقُ بِهَذَا الْجِنْسِ مِنْ حَقِّهَا ، فَكَأَنَّ الْكَفِيلَ صَرَّحَ لَهَا بِمَا هُوَ مَقْصُودُهَا فَقَالَ : فِي كَفَالَتِهِ أَبَدًا ، أَوْ مَا عَاشَتْ وَهُنَاكَ يَثْبُتُ حُكْمُ الْكَفَالَةِ بِهَذَا الْجِنْسِ مِنْ حَقِّهَا عَلَيْهِ عَامًّا ، فَكَذَا هُنَا وَلَوْ ضَمِنَ لَهَا نَفَقَةَ سَنَةٍ كَانَ جَائِزًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا ، وَلَكِنَّ إضَافَةَ الْكَفَالَةِ إلَى سَبَبِ الْوُجُوبِ صَحِيحٌ وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِتَسْمِيَةِ الْمُدَّةِ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَنَّ الزَّوْجَ هَلْ يُجْبَرُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ بِالنَّفَقَةِ أَمْ لَا فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ كَمَا لَا يُجْبَرُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ بِدَيْنٍ آخَرَ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ : إذَا قَالَتْ الْمَرْأَةُ إنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَغِيبَ وَلَا يَتْرُكَ لِي نَفَقَةً أَمَرَهُ الْقَاضِي أَنْ يَجْعَلَ لَهَا نَفَقَةَ شَهْرٍ ، أَوْ يُعْطِيَهَا كَفِيلًا بِنَفَقَةِ شَهْرٍ اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّهَا طَلَبَتْ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَنْظُرَ لَهَا فَيُجِيبَهَا عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْحَالَ حَالُ النَّظَرِ .
( قَالَ : ) وَإِذَا فَرَضَ الْقَاضِي لَهَا عَلَى الزَّوْجِ نَفَقَةً مَعْلُومَةً كُلَّ شَهْرٍ فَمَضَتْ أَشْهُرٌ لَمْ يُعْطِهَا حَتَّى مَاتَ أَوْ مَاتَتْ لَمْ يُؤْخَذْ بِشَيْءٍ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ تُسْتَحَقُّ اسْتِحْقَاقَ الصِّلَاتِ لَا اسْتِحْقَاقَ الْمُعَاوَضَاتِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ ، وَالصِّلَاتُ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ وَتَسْقُطُ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الْقَبْضِ .
وَشَبَّهَهُ فِي الْكِتَابِ بِمَنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ إذَا مَاتَ لَمْ تُسْتَوْفَ مِنْ تَرِكَتِهِ لِهَذَا وَلِأَنَّ السَّبَبَ قِيَامُ الزَّوْجِ عَلَيْهَا وَتَفْرِيغُهَا نَفْسَهَا لِمَصَالِحِهِ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ ، فَيَسْقُطُ حَقُّهَا كَمَا إذَا زَالَ الْعَيْبُ قَبْلَ رَدِّ الْمُشْتَرَى لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُرَدَّ بَعْدَ ذَلِكَ .
( قَالَ : ) وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ اسْتَعْجَلَتْ النَّفَقَةَ لِمُدَّةٍ ، ثُمَّ مَاتَتْ قَبْلَ مُضِيِّ تِلْكَ الْمُدَّةِ لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْ تَرِكَتِهَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِمَا قُلْنَا إنَّهَا صِلَةٌ وَحَقُّ الِاسْتِرْدَادِ فِي الصِّلَاتِ يَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ كَالرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَتْرُكُ مِنْ ذَلِكَ حِصَّةَ الْمُدَّةِ الْمَاضِيَةِ قَبْلَ مَوْتِهَا وَيَسْتَرِدُّ مَا وَرَاءَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا أَخَذَتْ ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ لِمَقْصُودٍ لَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ لَهُ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ مِنْهَا كَمَا لَوْ عَجَّلَ لَهَا نَفَقَةً لِيَتَزَوَّجَهَا فَمَاتَتْ قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ، وَرَوَى ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : إنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْ الْمُدَّةِ شَهْرًا ، أَوْ دُونَهُ لَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ فِي تَرِكَتِهَا ، وَإِنْ كَانَ فَوْقَ ذَلِكَ تَرَكَ لَهَا مِقْدَارَ نَفَقَةِ شَهْرٍ اسْتِحْسَانًا وَيَسْتَرِدُّ مِنْ تَرِكَتِهَا مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُعْطِيهَا النَّفَقَةَ شَهْرًا فَشَهْرًا عَادَةً فَفِي مِقْدَارِ نَفَقَةِ شَهْرٍ هِيَ مُسْتَوْفِيَةٌ حَقَّهَا وَفِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مُسْتَعْجِلَةٌ ( قَالَ : ) وَلَوْ كَانَا حَيَّيْنِ فَاخْتَلَفَا فِيمَا مَضَى مِنْ الْمُدَّةِ مِنْ وَقْتِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ وَإِنْكَارِهِ سَبْقَ التَّارِيخِ فِي الْقَضَاءِ ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ لِإِثْبَاتِهَا ذَلِكَ .
( قَالَ : ) وَإِذَا بَعَثَ إلَيْهَا بِثَوْبٍ فَقَالَتْ هُوَ هَدِيَّةٌ وَقَالَ الزَّوْجُ هُوَ مِنْ الْكِسْوَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُمَلِّكُ لِلثَّوْبِ مِنْهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي بَيَانِ جِهَتِهِ إلَّا أَنْ تُقِيمَ الْمَرْأَةُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ بَعَثَ بِهِ هَدِيَّةً ، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ بِبَيِّنَتِهِ فَرَاغَ ذِمَّتِهِ عَنْ حَقِّهَا مِنْ الْكِسْوَةِ ، أَوْ الْمَهْرِ ، وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ عَلَى إقْرَارِ الْآخَرِ بِمَا ادَّعَاهُ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ هُوَ الْمُدَّعِي لِلْقَضَاءِ فِيمَا عَلَيْهِ مِنْ الْحَقِّ فَمَعْنَى الْإِثْبَاتِ فِي بَيِّنَتِهِ أَظْهَرُ وَكَذَلِكَ إنْ بَعَثَ بِدَرَاهِمَ فَقَالَ : هِيَ نَفَقَةُ الْمَرْأَةِ وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ هَدِيَّةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِمَا بَيَّنَّا
( قَالَ : ) وَإِذَا أَعْطَاهَا كِسْوَةً فَعَجَّلَتْ تَمْزِيقَهَا ، أَوْ هَلَكَتْ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَكْسُوَهَا حَتَّى يَأْتِيَ الْوَقْتُ ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ أَحْوَالَ النَّاسِ تَخْتَلِفُ فِي صِيَانَةِ الثِّيَابِ وَتَمْزِيقِهَا فَيَتَعَذَّرُ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِحَقِيقَةِ تَجَدُّدِ الْحَاجَةِ فَيُقَامُ الْوَقْتُ مُقَامَهُ تَيْسِيرًا فَمَا لَمْ يَأْتِ الْوَقْتُ لَا تَتَجَدَّدُ الْحَاجَةُ فَلَا يَتَجَدَّدُ سَبَبُ الْوُجُوبِ لَهَا فَلَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِشَيْءٍ .
( قَالَ : ) وَكَذَلِكَ إنْ صَانَتْهَا وَلَبِسَتْ غَيْرَهَا فَإِذَا جَاءَ الْوَقْتُ الْمَعْلُومُ لَهَا أَنْ تُطَالِبَ بِالْكِسْوَةِ وَالْقَاضِي فِي الِابْتِدَاءِ يُوَقِّتُ مِنْ الْمُدَّةِ مَا يَتَمَزَّقُ فِيهِ الثَّوْبُ بِاللُّبْسِ .
الْمُعْتَادِ فَمَا لَمْ يَتَبَيَّنْ خَطَؤُهُ فِي ذَلِكَ التَّوْقِيتِ يَجِبْ بِنَاءُ الْحُكْمِ عَلَيْهِ ، وَلَا يُنْظَرْ إلَى تَعْجِيلِهَا التَّمْزِيقَ وَلَا إلَى صِيَانَتِهَا فَوْقَ الْمُعْتَادِ .
( قَالَ : ) وَكَذَلِكَ إنْ أَخَذَتْ نَفَقَةَ شَهْرٍ فَلَمْ تُنْفِقْ حَتَّى جَاءَ الشَّهْرُ الثَّانِي وَهِيَ مَعَهَا فَلَهَا أَنْ تُطَالِبَهُ بِنَفَقَةِ الشَّهْرِ الثَّانِي بِخِلَافِ نَفَقَةِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَإِنَّ هُنَاكَ الْمُعْتَبَرَ تَحَقُّقُ الْحَاجَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ لَمْ يَسْتَوْجِبْ النَّفَقَةَ عَلَى غَيْرِهِ وَالْحَاجَةُ مُرْتَفِعَةٌ بِبَقَاءِ الْمَأْخُوذِ مَعَهُ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ .
( قَالَ : ) وَإِذَا فَرَضَ الْقَاضِي لَهَا النَّفَقَةَ عَلَى زَوْجِهَا فَأَنْفَقَتْ مِنْ مَالِهَا وَلَمْ تَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا فَلَهَا أَنْ تَأْخُذَهُ بِمَا مَضَى مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ تَصِيرُ دَيْنًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، أَوْ الصُّلْحِ عَنْ التَّرَاضِي وَقَدْ بَيَّنَّاهُ .
( قَالَ : ) وَإِنْ كَانَ هَذَا فِي ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَأَنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مَالٍ آخَرَ بَعْدَ فَرْضِ الْقَاضِي لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الَّذِي فُرِضَ لَهُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ ؛ لِمَا مَضَى لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُنَا حَقِيقَةُ الْحَاجَةِ وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ بِمُضِيِّ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَلَا تَصِيرُ النَّفَقَةُ دَيْنًا وَأَوْرَدَ فِي بَابِ الزَّكَاةِ مِنْ الْجَامِعِ أَنَّ نَفَقَةَ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ تَصِيرُ دَيْنًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ الْمَوْضُوعِ فَوَضْعُ الْمَسْأَلَةِ هُنَاكَ فِيمَا إذَا اسْتَدَانَ الْمُنْفَقُ عَلَيْهِ وَأَنْفَقَ مِنْ ذَلِكَ فَتَكُونُ الْحَاجَةُ قَائِمَةً لِقِيَامِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ ، وَهُنَا وَضْعُ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا أَنْفَقَ مِنْ مَالٍ لَهُ ، أَوْ مِنْ صَدَقَةٍ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ وَالْحَاجَةُ لَا تَبْقَى بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الْجَامِعِ .
( قَالَ : ) وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ غَائِبًا وَلَهُ مَالٌ حَاضِرٌ فَطَلَبَتْ الْمَرْأَةُ النَّفَقَةَ ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي يَعْلَمُ بِالنِّكَاحِ بَيْنَهُمَا فَرَضَ لَهَا النَّفَقَةَ فِي ذَلِكَ الْمَالِ لِعِلْمِهِ بِوُجُودِ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لَهُ .
أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ ، ثُمَّ غَابَ قَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِذَلِكَ لِعِلْمِهِ بِهِ ، فَكَذَلِكَ النَّفَقَةُ وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَنْظُرَ لِلْغَائِبِ ، وَذَلِكَ فِي أَنْ يُحَلِّفَهَا أَنَّهُ لَمْ يُعْطِهَا النَّفَقَةَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ أَعْطَاهَا النَّفَقَةَ قَبْلَ أَنْ يَغِيبَ وَهِيَ تُلْبِسُ عَلَى الْقَاضِي لِتَأْخُذَ ثَانِيًا ، وَإِذَا حَلَفَتْ فَأَعْطَاهَا النَّفَقَةَ أَخَذَ مِنْهَا كَفِيلًا لِجَوَازِ أَنْ يَحْضُرَ الزَّوْجُ فَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ أَوْفَى نَفَقَتَهَا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ لِكُلِّ مَنْ عَجَزَ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ .
( قَالَ : ) وَإِذَا حَضَرَ الزَّوْجُ وَأَثْبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ كَانَ قَدْ أَوْفَاهَا ، أَوْ أَرْسَلَ إلَيْهَا بِشَيْءٍ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ أَمَرَهَا بِرَدِّ مَا أَخَذَتْ ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّهَا أَخَذَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ وَلِلزَّوْجِ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَهَا بِذَلِكَ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْكَفِيلَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا مَعْلُومًا لِلْقَاضِي فَأَرَادَتْ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ لَمْ يَقْبَلْ الْقَاضِي ذَلِكَ مِنْهَا عِنْدَنَا ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ بِالْبَيِّنَةِ .
وَعَنْ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَسْمَعُ مِنْهَا الْبَيِّنَةَ وَيُعْطِيهَا النَّفَقَةَ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلزَّوْجِ مَالٌ يَأْمُرُهَا بِالِاسْتِدَانَةِ ، فَإِنْ حَضَرَ الزَّوْجُ وَأَقَرَّ بِالنِّكَاحِ أَمَرَهُ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ ، وَإِنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ كَلَّفَهَا إعَادَةَ الْبَيِّنَةِ ، فَإِنْ لَمْ تُعِدْ أَمَرَهَا بِرَدِّ مَا أَخَذَتْ وَلَمْ يَقْضِ لَهَا بِشَيْءٍ مِمَّا اسْتَدَانَتْ عَلَى الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ فِي قَبُولِ الْبَيِّنَةِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ نَظَرًا لَهَا وَلَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى الْغَائِبِ
فَيُجِيبُهَا الْقَاضِي إلَى ذَلِكَ وَلَكِنَّا نَقُولُ فِيهِ قَضَاءٌ عَلَى الْغَائِبِ ؛ لِأَنَّ دَفْعَ مَالِهِ إلَيْهَا لِتُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهَا لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالزَّوْجِيَّةِ
( قَالَ : ) وَإِنْ أَحْضَرَتْ غَرِيمًا لِلزَّوْجِ أَوْ مُودَعًا فِي يَدِهِ مَالٌ لِلزَّوْجِ وَهُوَ مُقِرٌّ بِالْمَالِ وَالزَّوْجِيَّةِ أَمَرَهُ الْقَاضِي بِأَدَاءِ نَفَقَتِهَا مِنْ ذَلِكَ بِخِلَافِ دَيْنٍ آخَرَ عَلَى الْغَائِبِ فَإِنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ إذَا أَحْضَرَ غَرِيمًا ، أَوْ مُودَعًا لِلْغَائِبِ لَمْ يَأْمُرْهُ بِقَضَاءِ دَيْنِهِ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بِالْمَالِ وَبِدَيْنِهِ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا يَأْمُرُ فِي حَقِّ الْغَائِبِ بِمَا يَكُونُ نَظَرًا لَهُ وَحِفْظًا لِمِلْكِهِ عَلَيْهِ وَفِي الْإِنْفَاقِ عَلَى زَوْجَتِهِ مِنْ مَالِهِ حِفْظُ مِلْكِهِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ مَالِهِ حِفْظُ مِلْكِهِ عَلَيْهِ بَلْ فِيهِ قَضَاءٌ عَلَيْهِ بِقَوْلِ الْغَيْرِ ؛ فَلِهَذَا الْمَعْنَى تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا ( قَالَ : ) وَإِنْ جَحَدَ الْمَدْيُونُ ، أَوْ الْمُودَعُ الزَّوْجِيَّةَ بَيْنَهُمَا ، أَوْ كَوْنَ الْمَالِ فِي يَدِهِ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهَا عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، أَمَّا عَلَى الدَّيْنِ الْوَدِيعَةِ ؛ فَلِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْمِلْكَ لِلْغَائِبِ حَتَّى إذَا ثَبَتَ مِلْكُهُ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ حَقُّهَا فِيهِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِخَصْمٍ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِلزَّوْجِ فِي أَمْوَالِهِ ، وَأَمَّا إذَا جَحَدَا الزَّوْجِيَّةَ فَقَدْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ أَوَّلًا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهَا عَلَى الزَّوْجِيَّةِ ؛ لِأَنَّهَا تَدَّعِي حَقًّا فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ بِسَبَبٍ ، فَكَانَ خَصْمًا فِي إثْبَاتِ ذَلِكَ السَّبَبِ كَمَنْ ادَّعَى عَيْنًا فِي يَدِ إنْسَانٍ أَنَّهُ لَهُ اشْتَرَاهُ مِنْ فُلَانٍ الْغَائِبِ ، ثُمَّ رَجَعَ وَقَالَ : لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهَا عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ النِّكَاحَ عَلَى الْغَائِبِ ، وَالْمُودَعُ وَالْمَدْيُونُ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْ الْغَائِبِ فِي إثْبَاتِ النِّكَاحِ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ .
وَالِاشْتِغَالُ مِنْ الْقَاضِي بِالنَّظَرِ يَكُونُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالزَّوْجِيَّةِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَعْلُومًا لَهُ لَا يَشْتَغِلُ بِسَمَاعِ الْبَيِّنَةِ مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ ، وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ لَمْ يَفْرِضْ لَهَا النَّفَقَةَ بِطَرِيقِ الِاسْتِدَانَةِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ حَاضِرٌ فَحُضُورُ مَالِهِ بِمَنْزِلَةِ حُضُورِهِ اسْتِحْسَانًا .
( قَالَ : ) وَلَا يَبِيعُ الْعُرُوضَ فِي نَفَقَتِهَا أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَوْ كَانَ حَاضِرًا لَمْ يَبِعْ الْقَاضِي عُرُوضَهُ فِي ذَلِكَ فَإِذَا كَانَ غَائِبًا أَوْلَى ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا إنَّمَا يَبِيعُ عَلَى الْحَاضِرِ عُرُوضَهُ بَعْدَ مَا يَحْجُرُ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْحَجْرِ وَإِلْزَامُ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ ( قَالَ ) وَيُنْفِقُ عَلَيْهَا مِنْ غَلَّةِ الدَّارِ وَالْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهَا وَيُعْطِيهَا الْكِسْوَةَ مِنْ الثِّيَابِ إنْ كَانَتْ لَهُ وَالنَّفَقَةَ مِنْ طَعَامِهِ إنْ كَانَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهَا وَلَهَا أَنْ تَأْخُذَ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ كَمَا { قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْدَ خُذِي مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك بِالْمَعْرُوفِ } فَلَأَنْ يَقْضِيَ لَهَا الْقَاضِي بِذَلِكَ كَانَ أَوْلَى ، وَيَأْخُذَ مِنْهَا كَفِيلًا بِجَمِيعِ ذَلِكَ نَظَرًا مِنْهُ لِلْغَائِبِ فَإِذَا رَجَعَ الزَّوْجُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى وُصُولِ النَّفَقَةِ إلَيْهَا لِهَذَا الْوَقْتِ فَالْكَفِيلُ ضَامِنٌ لِمَا أَخَذَتْ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِالْكَفَالَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ وَحَلَفَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى ذَلِكَ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْكَفِيلِ ، وَإِنْ نَكَلَتْ عَنْ الْيَمِينِ وَنَكَلَ الْكَفِيلُ لَزِمَهَا وَلِلزَّوْجِ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يَأْخُذَهَا بِذَلِكَ ، أَوْ يَأْخُذَ الْكَفِيلَ ؛ لِأَنَّهُ كَفِيلٌ بِمَا لَزِمَهَا رَدُّهُ مِنْ النَّفَقَةِ وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِنُكُولِهَا وَلِهَذَا لَزِمَ كَفِيلَهَا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .
بَابُ نَفَقَةِ الْعَبْدِ ( قَالَ : ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِذَا كَانَ لِلْعَبْدِ ، أَوْ الْمُدَبَّرِ أَوْ الْمُكَاتَبِ امْرَأَةٌ حُرَّةٌ أَوْ أَمَةٌ قَدْ بُوِّئَتْ مَعَهُ بَيْتًا فَإِنَّهُ يُفْرَضُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا بِقَدْرِ مَا يَكْفِيهَا ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ النَّفَقَةِ الزَّوْجِيَّةُ وَهِيَ تَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ الْمَمْلُوكِ كَمَا تَتَحَقَّقُ فِي حَقِّ الْحُرِّ وَهُوَ تَسْلِيمُهَا إلَى الزَّوْجِ فِي مَنْزِلِهِ وَالْحُكْمُ يَنْبَنِي عَلَى السَّبَبِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَهْرَ بِالنِّكَاحِ يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ كَمَا يَجِبُ عَلَى الْحُرِّ ، ثُمَّ مَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ مِنْ الدُّيُونِ إذَا ظَهَرَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى تَعَلُّقٌ بِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ حَتَّى يُبَاعَ فِيهِ إلَّا أَنْ يَقْضِيَهُ الْمَوْلَى ، وَدَيْنُ النَّفَقَةِ ظَهَرَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ وَهُوَ النِّكَاحُ كَانَ بِرِضَاهُ فَإِذَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ مِنْ النَّفَقَةِ مَا يَعْجِزُ عَنْ أَدَائِهِ يُبَاعُ فِيهِ ، ثُمَّ إذَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ مَرَّةً أُخْرَى يُبَاعُ فِيهِ أَيْضًا وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ دُيُونِ الْعَبْدِ مَا يُبَاعُ فِيهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ إلَّا النَّفَقَةُ ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ يَتَجَدَّدُ وُجُوبُهَا بِمُضِيِّ الزَّمَانِ وَذَلِكَ فِي حُكْمِ دَيْنٍ حَادِثٍ وَأَمَّا الْمُدَبَّرُ لَا يُمْكِنُ بَيْعُهُ فِي النَّفَقَةِ وَلَكِنْ يُؤْمَرُ فِيهِ بِالسِّعَايَةِ ، وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ لَا يُمْكِنُ بَيْعُهُ مَعَ قِيَامِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ وَإِنَّمَا يُقْضَى بِالنَّفَقَةِ فِي كَسْبِهِ كَمَا يُقْضَى بِسَائِرِ دُيُونِهِ فِي كَسْبِهِ
فَإِنْ كَانَ لِلْعَبْدِ ، أَوْ الْمُدَبَّرِ وَلَدٌ مِنْ امْرَأَتِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا نَفَقَةُ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ أَمَةً فَالْوَلَدُ مِلْكٌ لِمَوْلَاهَا وَنَفَقَةُ الْمَمْلُوكِ عَلَى الْمَالِكِ دُونَ الْأَبِ ، وَإِنْ كَانَتْ حُرَّةً فَوَلَدُهَا يَكُونُ حُرًّا وَلَا تَجِبُ نَفَقَةُ الْحُرِّ عَلَى الْمَمْلُوكِ بِحَالٍ ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ لِمَوْلَاهُ وَنَفَقَةُ الْوَلَدِ الْحُرِّ لَيْسَتْ عَلَى الْمَوْلَى ، وَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ فِي كَسْبِهَا ، وَكَذَلِكَ الْمُكَاتَبُ لَا يَجِبُ فِي كَسْبِهِ نَفَقَةُ وَلَدٍ حُرٍّ وَلَا نَفَقَةُ وَلَدٍ هُوَ مَمْلُوكٌ لِلْغَيْرِ ، وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَتُهُ مُكَاتَبَةً مَعَهُ لِمَوْلًى وَاحِدٍ كَاتَبَهُمَا كِتَابَةً وَاحِدَةً فَنَفَقَةُ الْوَلَدِ عَلَى الْأُمِّ دُونَ الْأَبِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ تَابِعٌ لِلْأُمِّ فِي كِتَابَتِهَا .
أَلَا تَرَى أَنَّ كَسْبَ الْوَلَدِ يَكُونُ لَهَا وَلَوْ جَنَى عَلَيْهِ كَانَ أَرْشُ الْجِنَايَةِ لَهَا ، وَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ وَتَرَكَ مَالًا فَذَلِكَ كُلُّهُ لَهَا ، فَكَذَلِكَ نَفَقَةُ الْوَلَدِ تَكُونُ عَلَيْهَا وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا وَطِئَ الْمُكَاتَبُ أَمَتَهُ فَوَلَدَتْ فَإِنَّ نَفَقَةَ ذَلِكَ الْوَلَدِ عَلَى الْمُكَاتَبِ ؛ لِأَنَّهُ دَاخِلٌ فِي كِتَابَتِهِ حَتَّى كَانَ كَسْبُهُ لَهُ وَأَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ لَهُ أَيْضًا لَيْسَ لِلْأُمِّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهَا أَمَةٌ وَلَوْ كَانَ لِلْأُمِّ فَالْأُمُّ أَمَةٌ لَهُ أَيْضًا ؛ فَلِهَذَا كَانَتْ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهُ فَإِذَا تَبِعَهُ فِي الْعَقْدِ كَانَتْ نَفَقَتُهُ بِمَنْزِلَةِ نَفَقَةِ نَفْسِهِ
( قَالَ : ) وَلَوْ تَزَوَّجَ الْعَبْدُ ، أَوْ الْمُدَبَّرُ أَوْ الْمُكَاتَبُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِمْ وَلَا مَهْرَ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ وَالْمَهْرِ يَكُونُ بَعْدَ صِحَّةِ الْعَقْدِ ، وَنِكَاحُهُمْ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَإِنْ عَتَقَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ جَازَ نِكَاحُهُ حِينَ يَعْتِقُ لِسُقُوطِ حَقِّ الْمَوْلَى وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْمَهْرُ وَالنَّفَقَةُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَالْمُسْتَسْعَى فِي بَعْضِ الْقِيمَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَالْمُكَاتَبِ
( قَالَ : ) وَإِنْ كَانَتْ الْمُدَبَّرَةُ أَوْ الْأَمَةُ ، أَوْ أُمُّ الْوَلَدِ تَحْتَ حُرٍّ ، أَوْ عَبْدٍ فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِمَا مَا لَمْ يُبَوِّئْهَا مَعَهُ بَيْتًا لِانْعِدَامِ التَّسْلِيمِ قَبْلَ التَّبْوِئَةِ ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا ، أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ؛ لِأَنَّ بِالدُّخُولِ إنَّمَا يُوجَدُ تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ فِي النَّفَقَةِ فَإِنَّ تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مُقَرِّرٌ لِلْبَدَلِ وَالنَّفَقَةُ لَيْسَتْ بِبَدَلٍ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّتْقَاءَ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ وَقَدْ انْعَدَمَ مِنْهَا تَسْلِيمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي النَّفَقَةِ تَفْرِيغُهَا نَفْسَهَا لِحَقِّ الزَّوْجِ وَذَلِكَ يَكُونُ بِالتَّبْوِئَةِ ، فَإِنْ بَوَّأَهَا مَعَهُ بَيْتًا فَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ ، وَإِنْ انْتَزَعَهَا مِنْهُ وَاحْتَاجَ إلَى خِدْمَتِهَا فَلَا نَفَقَةَ عَلَى الزَّوْجِ مَا دَامَتْ عِنْدَ مَوْلَاهَا ، وَإِنْ أَعَادَهَا إلَيْهِ وَبَوَّأَهَا مَعَهُ بَيْتًا فَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ كَالْحُرَّةِ إذَا هَرَبَتْ مِنْ زَوْجِهَا ، ثُمَّ عَادَتْ إلَى بَيْتِهِ ، تَوْضِيحُهُ : أَنَّ الْأَمَةَ مَحْبُوسَةٌ عِنْدَ مَوْلَاهَا لِحَقِّ الْمَوْلَى فِي خِدْمَتِهَا فَكَانَتْ كَالْمَحْبُوسَةِ فِي الدَّيْنِ وَلَا نَفَقَةَ لِلْمَحْبُوسَةِ بِالدَّيْنِ إذَا كَانَ الزَّوْجُ مَمْنُوعًا مِنْهَا ، فَإِذَا قَضَتْ الدَّيْنَ وَعَادَتْ إلَى بَيْتِ الزَّوْجِ كَانَ لَهَا النَّفَقَةُ ، وَإِنْ كَانَ لَهَا مِنْهُ وَلَدٌ فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ لِلْوَلَدِ ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْأَمَةِ مَمْلُوكٌ لِمَوْلَاهَا فَنَفَقَتُهُ تَكُونُ عَلَى مَالِكِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مُكَاتَبَةً وَقَدْ بَوَّأَهَا مَعَهُ بَيْتًا ، أَوْ لَمْ يُبَوِّئْهَا مِنْهُ فَهُوَ سَوَاءٌ وَلَهَا النَّفَقَةُ وَلِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ فِي يَدِ نَفْسِهَا كَالْحُرَّةِ وَلَيْسَ لِمَوْلَاهَا أَنْ يَسْتَخْدِمَهَا فَكَانَتْ هِيَ كَالْحُرَّةِ فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ عَلَى الزَّوْجِ إذَا لَمْ تَحْبِسْ نَفْسَهَا عَنْهُ ظَالِمَةً ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .
بَابُ نَفَقَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ ( قَالَ : ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيُفْرَضُ عَلَى الذِّمِّيِّ نَفَقَةُ امْرَأَتِهِ بِالْمَعْرُوفِ كَمَا يُفْرَضُ عَلَى الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّهَا كِفَايَةٌ مَشْرُوعَةٌ لِلْحَاجَةِ وَسَبَبُهَا وَهُوَ الزَّوْجِيَّةُ يَتَحَقَّقُ فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ كَمَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ وَذَلِكَ فِي دِينِهِمْ نِكَاحٌ فَطَلَبَتْ نَفَقَتَهَا مِنْهُ مِنْ قِبَلِ النِّكَاحِ فُرِضَ لَهَا مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِ كَمَا يُفْرَضُ فِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ لِهَذِهِ الْأَنْكِحَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ حُكْمُ الصِّحَّةِ ، وَإِنْ رَفَعَ أَحَدُهُمَا الْأَمْرَ إلَى الْقَاضِي لَا يُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا فَيَقْضِي لَهَا بِالنَّفَقَةِ وَعِنْدَهُمَا لَيْسَ لِهَذِهِ الْأَنْكِحَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ حُكْمُ الصِّحَّةِ وَبِرَفْعِ أَحَدِهِمَا لِأَمْرِ الْقَاضِي يُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا فَلَا يَقْضِي لَهَا بِالنَّفَقَةِ .
وَلَا خِلَافَ فِي النِّكَاحِ بِغَيْرِ شُهُودٍ أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي لَهَا بِالنَّفَقَةِ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ بِغَيْرِ شُهُودٍ صَحِيحٌ فِيمَا بَيْنَهُمْ فَإِنَّ الْإِشْهَادَ مِنْ حَقِّ الشَّرْعِ وَهُمْ لَا يُخَاطَبُونَ بِذَلِكَ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يُقَرُّونَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ
( قَالَ : ) وَإِذَا أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ وَامْرَأَتُهُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَأَبَتْ الْإِسْلَامَ وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا فِي الْعِدَّةِ ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا بِسَبَبٍ هِيَ عَاصِيَةٌ فِي ذَلِكَ وَهُوَ إبَاءُ الْإِسْلَامِ بَعْدَ مَا عُرِضَ عَلَيْهَا وَلِهَذَا لَا مَهْرَ لَهَا إذَا كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَيْسَ لَهَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ أَيْضًا إلَّا أَنَّ فِي الْمَهْرِ إذَا جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ سَقَطَ الْمَهْرُ عَنْهُ سَوَاءٌ كَانَ بِحَقٍّ ، أَوْ بِغَيْرِ حَقٍّ ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ الْمَهْرِ بِتَفْوِيتِهَا الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ عَلَى الزَّوْجِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْحَالَيْنِ فَأَمَّا سُقُوطُ النَّفَقَةِ بِاعْتِبَارِ حَبْسِهَا نَفْسَهَا فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ النَّفَقَةِ حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ وَهُنَاكَ إنْ حَبَسَتْ نَفْسَهَا ظُلْمًا كَالنَّاشِزَةِ لَمْ يَكُنْ لَهَا النَّفَقَةُ ، وَإِنْ حَبَسَتْ نَفْسَهَا بِحَقٍّ لَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهَا كَمَا لَوْ حَبَسَتْ نَفْسَهَا لِاسْتِيفَاءِ صَدَاقِهَا ، فَكَذَلِكَ فِي نَفَقَةِ الْعِدَّةِ إنْ كَانَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ جِهَتِهَا بِسَبَبٍ هِيَ عَاصِيَةٌ فِي ذَلِكَ ؛ فَلَيْسَ لَهَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَاصِيَةً فِي ذَلِكَ فَلَهَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ ( قَالَ : ) وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي أَسْلَمَتْ فَأَبَى الزَّوْجُ أَنْ يُسْلِمَ فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا كَانَ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى مَادَامَ فِي الْعِدَّةِ ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ وَهُوَ إبَاؤُهُ عَنْ الْإِسْلَامِ وَذَلِكَ مِنْهُ تَفْوِيتُ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ فَتَعَيَّنَ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ ، وَالْإِحْسَانُ فِي التَّسْرِيحِ أَنْ يُوفِيَهَا مَهْرَهَا وَنَفَقَةَ عِدَّتِهَا
( قَالَ ) : وَإِذَا خَرَجَ أَحَدُ الْحَرْبِيِّينَ مُسْلِمًا ثُمَّ خَرَجَ الْآخَرُ بَعْدَهُ فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ لَهَا قَالَ : لِأَنَّ الْعِصْمَةَ انْقَطَعَتْ فِيمَا بَيْنَهُمَا بِخُرُوجِ أَوَّلِهِمَا وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ وُجُوبَ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الْيَدِ الثَّابِتِ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا فِي حَالَةِ الْعِدَّةِ وَلِهَذَا لَا تَجِبُ النَّفَقَةُ فِي الْعِدَّةِ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ وَلَا فِي عِدَّةِ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ الْمَوْلَى وَتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ كَمَا يَقْطَعُ عِصْمَةَ النِّكَاحِ يَقْطَعُ مِلْكَ الْيَدِ الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ ، ثُمَّ إنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْخَارِجُ فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهَا حَرْبِيَّةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي خَرَجَتْ ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعِنْدَهُمَا عَلَيْهَا الْعِدَّةُ لِحَقِّ الشَّرْعِ لَا لِحَقِّ الزَّوْجِ فَلَا تَكُونُ نَفَقَةُ الْعِدَّةِ عَلَيْهِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .
بَابُ النَّفَقَةِ فِي الطَّلَاقِ وَالْفُرْقَةِ وَالزَّوْجِيَّةِ ( قَالَ : ) وَلِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ بِثَلَاثٍ أَوْ وَاحِدَةٍ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ ، أَمَّا الْمُطَلَّقَةُ الرَّجْعِيَّةُ ؛ فَلِأَنَّهَا فِي بَيْتِهِ مَنْكُوحَةٌ لَهُ كَمَا كَانَتْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّمَا أَشْرَفَ النِّكَاحُ عَلَى الزَّوَالِ عِنْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْقِطٍ لِلنَّفَقَةِ كَمَا لَوْ آلَى مِنْهَا ، أَوْ عَلَّقَ طَلَاقَهَا بِمُضِيِّ شَهْرٍ فَأَمَّا الْمَبْتُوتَةُ فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ عِنْدَنَا .
وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهَا السُّكْنَى وَلَا نَفَقَةَ لَهَا إلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا نَفَقَةَ لِلْمَبْتُوتَةِ فِي الْعِدَّةِ وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ { فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلَاثًا فَلَمْ يَجْعَلْ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى } إلَّا أَنَّ فِي صِحَّةِ هَذَا الْحَدِيثِ كَلَامًا ؛ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّ زَوْجَ فَاطِمَةَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ إذَا سَمِعَ مِنْهَا هَذَا الْحَدِيثَ رَمَاهَا بِكُلِّ شَيْءٍ فِي يَدِهِ .
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ تِلْكَ الْمَرْأَةُ فَتَنَتْ الْعَالَمَ ، أَيْ بِرِوَايَتِهَا هَذَا الْحَدِيثَ .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ " لَا نَدَعُ كِتَابَ رَبِّنَا وَلَا سُنَّةَ نَبِيًّا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي أَصَدَقَتْ أَمْ كَذَبَتْ حَفِظَتْ أَمْ نَسِيَتْ .
سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : لِلْمُطَلَّقَةِ الثَّلَاثَ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ " وَتَأْوِيلُهُ إنْ ثَبَتَ مِنْ وَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ زَوْجَهَا كَانَ غَائِبًا فَإِنَّهُ خَرَجَ إلَى الْيَمَنِ وَوَكَّلَ أَخَاهُ بِأَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا خُبْزَ الشَّعِيرِ فَأَبَتْ هِيَ ذَلِكَ وَلَمْ يَكُنْ الزَّوْجُ حَاضِرًا لِيَقْضِيَ
عَلَيْهِ بِشَيْءٍ آخَرَ .
( وَالثَّانِي ) أَنَّهَا كَانَتْ بَذِيئَةَ اللِّسَانِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ تُؤْذِي أَحْمَاءَ زَوْجِهَا حَتَّى أَخْرَجُوهَا .
فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ ، رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَظَنَّتْ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا نَفَقَةً وَلَا سُكْنَى ، ثُمَّ لَا خِلَافَ فِي اسْتِحْقَاقِهَا السُّكْنَى ؛ فَإِنَّهُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ } الْآيَةَ وَقَالَ تَعَالَى { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ } فَعُلَمَاؤُنَا قَالُوا : النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقٌّ مَالِيٌّ مُسْتَحَقٌّ لَهَا بِالنِّكَاحِ ، وَهَذِهِ الْعِدَّةُ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ فَكَمَا يَبْقَى بِاعْتِبَارِ هَذَا الْحَقِّ مَا كَانَ لَهَا مِنْ اسْتِحْقَاقِ السُّكْنَى ، فَكَذَلِكَ النَّفَقَةُ وَبِاسْتِحْقَاقِ السُّكْنَى يَتَبَيَّنُ بَقَاءُ مِلْكِ الْيَدِ لِلزَّوْجِ عَلَيْهَا مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ وَكَمَا يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُ النَّفَقَةِ بِسَبَبِ مِلْكِ الْيَمِينِ يَثْبُتُ بِسَبَبِ مِلْكِ الْيَدِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ نَفَقَةَ رَقِيقِ الْمُكَاتَبِ عَلَيْهِ فِي كَسْبِهِ لِمَالِهِ فِيهِ مِنْ مِلْكِ الْيَدِ ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ الْمَرْهُونِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ مَعَ مِلْكِ الْيَدِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْيَدِ لِلْمُرْتَهِنِ فِي الْمَالِيَّةِ دُونَ الْعَيْنِ فَإِنَّ يَدَهُ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ وَذَلِكَ فِي الْمَالِيَّةِ دُونَ الْعَيْنِ
فَأَمَّا إذَا كَانَتْ حَامِلًا فَلَهَا النَّفَقَةُ بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } وَمِنْ أَصْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ تَعْلِيقَ الْحُكْمِ بِالشَّرْطِ كَمَا يَدُلُّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ .
وَعِنْدَنَا تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالشَّرْطِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْحُكْمِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ ؛ لِأَنَّ مَفْهُومَ النَّصِّ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَلِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ ثَابِتًا قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ بِعِلَّةٍ أُخْرَى .
أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ قَالَ : لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ إذَا جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ ، ثُمَّ قَالَ : أَنْتَ حُرٌّ غَدًا يَبْقَى ذَلِكَ التَّعْلِيقُ صَحِيحًا حَتَّى لَوْ أَزَالَهُ مِنْ مِلْكِهِ الْيَوْمَ فَمَضَى الْغَدُ ، ثُمَّ اشْتَرَاهُ ، ثُمَّ جَاءَ رَأْسُ الشَّهْرِ يَعْتِقُ وَلَوْ بَقِيَ فِي مِلْكِهِ حَتَّى الْغَدِ يَعْتِقُ أَيْضًا كَيْفَ وَقَدْ قَالَ { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ } وَفِي قِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ وَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ مِنْ وُجْدِكُمْ .
وَقِرَاءَتُهُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ مَسْمُوعَةً مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّفَقَةَ مُسْتَحَقَّةٌ لَهَا بِسَبَبِ الْعِدَّةِ .
وَأَنَّ قَوْلَهُ { ، وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ } لِإِزَالَةِ إشْكَالٍ كَانَ عَسَى أَنْ يَقَعَ فَإِنَّ مُدَّةَ الْحَمْلِ تَطُولُ عَادَةً فَكَانَ يُشْكِلُ أَنَّهَا هَلْ تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ بِسَبَبِ الْعِدَّةِ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ ، وَإِنْ طَالَتْ فَأَزَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْإِشْكَالَ بِقَوْلِهِ { حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } ثُمَّ النَّفَقَةُ إذَا كَانَتْ حَامِلًا تَجِبُ لَهَا لَا لِلْوَلَدِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا تَجِبُ فِي مَالِ الْوَلَدِ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ أَوْصَى لَهُ بِهِ ، وَأَنَّهَا لَا تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْوَلَدِ وَأَنَّهَا إذَا كَانَتْ أَمَةً فَنَفَقَتُهَا عَلَى زَوْجِهَا وَنَفَقَةُ
الْوَلَدِ عَلَى مَوْلَاهُ كَمَا بَعْدَ الِانْفِصَالِ
وَأَنَّ الْمَنْكُوحَةَ إذَا حَبِلَتْ لَا تَتَضَاعَفُ نَفَقَتُهَا وَلَوْ كَانَ الْحَمْلُ يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ لَتَضَاعَفَتْ نَفَقَةُ الْمَنْكُوحَةِ إذَا حَبِلَتْ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ النَّفَقَةَ لَهَا فَقُلْنَا : لَا بُدَّ مِنْ سَبَبٍ لِاسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الزَّوْجِ ، وَلَا سَبَبَ لِذَلِكَ سِوَى الْعِدَّةِ وَالْحَامِلُ وَالْحَائِلُ فِي هَذَا السَّبَبِ سَوَاءٌ .
وَلَا تَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهَا لَيْلًا وَلَا نَهَارًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا يَخْرُجْنَ إلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ } قَالَ إبْرَاهِيمُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خُرُوجُهَا مِنْ بَيْتِهَا فَاحِشَةٌ .
وَلِأَنَّهَا مَكْفِيَّةُ الْمُؤْنَةِ ؛ لَا حَاجَةَ لَهَا إلَى الْخُرُوجِ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا ، بِخِلَافِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا ؛ فَإِنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا فِي تَرِكَةِ الزَّوْجِ ؛ فَهِيَ تَحْتَاجُ إلَى أَنْ تَخْرُجَ بِالنَّهَارِ فِي حَوَائِجِهَا .
وَالْبَائِنَةُ بِالْخُلْعِ وَالْإِيلَاءِ وَاللِّعَانِ وَرِدَّةِ الزَّوْجِ وَمُجَامَعَةِ أُمِّهَا سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْفُرْقَةَ كُلَّهَا بِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ بَعْدَ أَنْ كَانَتْ مُسْتَحِقَّةً لِلنَّفَقَةِ فِي أَصْلِ النِّكَاحِ فَيَبْقَى ذَلِكَ الْحَقُّ بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ ، فَإِنْ اشْتَرَطَ الزَّوْجُ فِي الْخُلْعِ أَنْ لَا سُكْنَى فِي الْعِدَّةِ وَلَا نَفَقَةَ فَعَلَيْهِ السُّكْنَى وَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ خُرُوجَهَا مِنْ بَيْتِهَا مَعْصِيَةٌ وَاشْتِرَاطُ الْمَعْصِيَةِ فِي الْخُلْعِ بَاطِلٌ ؛ وَلِأَنَّ النَّفَقَةَ حَقُّهَا وَإِسْقَاطُهَا حَقَّ نَفْسِهَا صَحِيحٌ فَأَمَّا السُّكْنَى مِنْ حَقِّ الشَّرْعِ وَإِسْقَاطُ مَا هُوَ حَقُّ الشَّرْعِ بَاطِلٌ .
أَلَا تَرَى أَنَّ إسْقَاطَهَا لِمَا زَادَ عَلَى الْعَشَرَةِ مِنْ الْمَهْرِ عِنْدَ الْعَقْدِ صَحِيحٌ بِخِلَافِ الْعَشَرَةِ حَتَّى لَوْ أَبْرَأَتْ زَوْجَهَا مِنْ مُؤْنَةِ السُّكْنَى وَرَضِيَتْ أَنْ تَكُونَ فِي بَيْتِ نَفْسِهَا ، أَوْ تَلْتَزِمَ مُؤْنَةَ السُّكْنَى مِنْ مَالِهَا كَانَ صَحِيحًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّهَا
( قَالَ : ) وَإِذَا طَلَّقَ امْرَأَتَهُ طَلَاقًا بَائِنًا وَهِيَ أَمَةٌ وَقَدْ بَوَّأَهَا مَعَهُ بَيْتًا فَعَلَى الزَّوْجِ النَّفَقَةُ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُسْتَحِقَّةً لِلنَّفَقَةِ حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ فَيَبْقَى ذَلِكَ بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ ، فَإِنْ أَخْرَجَهَا الْمَوْلَى إلَيْهِ لِخِدْمَتِهِ بَطَلَتْ النَّفَقَةُ عَنْ الزَّوْجِ كَمَا فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ إذَا شَغَلَهَا بِخِدْمَتِهِ ، فَإِنْ أَعَادَهَا إلَى بَيْتِ الزَّوْجِ وَتَرَكَ اسْتِخْدَامَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ كَمَا فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ عِنْدَ الطَّلَاقِ فِي بَيْتِ الْمَوْلَى يَسْتَخْدِمُهَا ثُمَّ عَادَتْ إلَى بَيْتِ الزَّوْجِ بَعْدَ الطَّلَاقِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا عِنْدَنَا .
وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهَا النَّفَقَةُ كَمَا لَوْ كَانَ اسْتِخْدَامُهُ إيَّاهَا بَعْدَ الطَّلَاقِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ النَّفَقَةِ بِعَارِضٍ فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ الْعَارِضُ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْحُرَّةَ إذَا كَانَتْ نَاشِزَةً هَارِبَةً مِنْ الزَّوْجِ حِينَ طَلَّقَهَا ثُمَّ عَادَتْ إلَى بَيْتِهِ كَانَ لَهَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ ؛ لِهَذَا الْمَعْنَى .
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ بِاعْتِبَارِ الْعِدَّةِ يَبْقَى مَا كَانَ ثَابِتًا وَلَا يَثْبُتُ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا ؛ لِأَنَّ الثُّبُوتَ ابْتِدَاءٌ يَسْتَدْعِي قِيَامَ الْمِلْكِ مُطْلَقًا فَأَمَّا ثُبُوتُ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ عِنْدَ الْفُرْقَةِ ، فَإِنْ كَانَتْ فِي بَيْتِ الزَّوْجِ عِنْدَ ذَلِكَ كَانَتْ مُسْتَحِقَّةً لِلنَّفَقَةِ فَيَبْقَى ذَلِكَ بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ ، فَإِنْ اعْتَرَضَ بَعْدَ ذَلِكَ مُسْقِطٌ ، ثُمَّ زَالَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ ، وَإِذَا لَمْ تَكُنْ مُسْتَحِقَّةً لِلنَّفَقَةِ عِنْدَ الْفُرْقَةِ فَلَوْ جَعَلْنَا لَهَا النَّفَقَةَ فِي الْعِدَّةِ كَانَ هَذَا إثْبَاتَ النَّفَقَةِ لَهَا ابْتِدَاءً فِي الْعِدَّةِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ ، وَهَذَا الْمَعْنَى وَهُوَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّبْوِئَةِ أَنْ تَتَفَرَّغَ لِلْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الزَّوْجِ وَذَلِكَ فِي قِيَامِ النِّكَاحِ فَإِذَا بَوَّأَهَا بَيْتًا فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ اسْتَحَقَّتْ النَّفَقَةَ فَيَبْقَى
ذَلِكَ بِبَقَاءِ الْعِدَّةِ فَأَمَّا إذَا كَانَ ابْتِدَاءُ التَّبْوِئَةِ فِي الْعِدَّةِ لَا يَحْصُلُ بِهِ هَذَا الْمَقْصُودُ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقُومُ بِمَصَالِحِ الزَّوْجِ ، وَالْقِيَاسُ فِي النَّاشِزَةِ هَكَذَا وَلَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا فِيهَا ؛ لِأَنَّ الْحُرَّةَ مُسْتَحِقَّةٌ فِي أَصْلِ النِّكَاحِ ، وَالْعَارِضُ الْمُسْقِطُ عِنْدَ الْفُرْقَةِ وَبَعْدَهَا فِي حَقِّهَا سَوَاءٌ إذَا زَالَ صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِخِلَافِ الْأَمَةِ .
وَإِنْ جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِ الْمَرْأَةِ بِالْمَعْصِيَةِ كَالرِّدَّةِ وَمُطَاوَعَةِ ابْنِ الزَّوْجِ عَلَى الْجِمَاعِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا إنْ أَصَرَّتْ عَلَى ذَلِكَ ، أَوْ رَجَعَتْ وَتَابَتْ مِنْ الرِّدَّةِ ، أَمَّا السُّكْنَى فَوَاجِبَةٌ لَهَا ؛ لِأَنَّ الْقَرَارَ فِي الْبَيْتِ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهَا فَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ بِمَعْصِيَتِهَا ، أَمَّا النَّفَقَةُ فَوَاجِبَةٌ لَهَا فَتَسْقُطُ بِمَجِيءِ الْفُرْقَةِ مِنْ قِبَلِهَا بِالْمَعْصِيَةِ .
( قَالَ : ) وَإِنْ كَانَتْ أَمَةٌ قَدْ بَوَّأَهَا الْمَوْلَى بَيْتًا فَعَتَقَتْ وَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ فِي الْعِدَّةِ ؛ لِأَنَّ اخْتِيَارَهَا كَانَ سَبَبَ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ لَهَا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ النَّفَقَةَ لَا تَسْقُطُ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ إذَا حَبَسَتْ نَفْسَهَا بِحَقٍّ ، فَكَذَلِكَ إذَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِسَبَبِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ لَهَا
( قَالَ : ) وَإِذَا لَمْ تُخَاصِمْ الْمُعْتَقَةُ فِي نَفَقَتِهَا حَتَّى انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا ، وَكَذَلِكَ الَّتِي طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْعِدَّةِ لَا تَكُونُ أَوْجَبَ مِنْ نَفَقَةِ النِّكَاحِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ نَفَقَةَ النِّكَاحِ لَا تَصِيرُ دَيْنًا بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ قَبْلَ الْفَرْضِ وَلَا يَكُونُ لَهَا أَنْ تُطَالِبَ بِهَا بَعْدَ زَوَالِ النِّكَاحِ فَنَفَقَةُ الْعِدَّةِ أَوْلَى وَهَذَا ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ مِلْكُ الْيَدِ وَالْمُسْتَحَقُّ بِهَذَا السَّبَبِ فِي حُكْمِ الصِّلَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ السَّبَبِ لِثُبُوتِ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا أَسْلَمَ وَعَلَيْهِ خَرَاجُ رَأْسِهِ لَمْ يُطَالَبْ بِشَيْءٍ مِنْهُ لِزَوَالِ السَّبَبِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ فَلِهَذَا مِثْلُهُ
( قَالَ : ) وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا فَاسْتَدَانَتْ عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَدِمَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَهَذَا وَنَفَقَةُ النِّكَاحِ سَوَاءٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَوَّلِ اسْتِدَانَتُهَا عَلَى الزَّوْجِ ، صَحِيحٌ ، وَعَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ إنَّمَا اسْتَدَانَتْ عَلَى نَفْسِهَا وَلَيْسَ عَلَى الزَّوْجِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ ، فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ نَفَقَةِ الْعِدَّةِ .
( قَالَ : ) وَإِذَا تَطَاوَلَتْ الْعِدَّةُ بِالْمَرْأَةِ فَالنَّفَقَةُ لَهَا وَاجِبَةٌ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ بِالْحَيْضِ ، أَوْ بِالشُّهُورِ عِنْدَ الْإِيَاسِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ قَائِمٌ فَيَبْقَى الِاسْتِحْقَاقُ بِبَقَاءِ السَّبَبِ طَالَتْ الْمُدَّةُ أَوْ قَصُرَتْ .
أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ يُسَوَّى بَيْنَ أَنْ تَطُولَ مُدَّةُ الْحَيْضِ ، أَوْ تَقْصُرَ وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ عَلْقَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَارْتَفَعَ حَيْضُهَا سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا ، ثُمَّ مَاتَتْ فَوَرَّثَهُ مِنْهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَبَسَ مِيرَاثَهَا عَلَيْك .
( قَالَ : ) وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا ؛ لِأَنَّ مَا فِي رَحِمِهَا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهَا فَتَكُونُ أَمِينَةً فِيهِ مَقْبُولَةَ الْقَوْلِ ، هَكَذَا قَالَ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ الْأَمَانَةِ أَنْ تُؤَمَّنَ الْمَرْأَةُ عَلَى مَا فِي رَحِمِهَا وَلِأَنَّهَا مُتَمَسِّكَةٌ بِالْأَصْلِ وَالْأَصْلُ بَقَاءُ الْعِدَّةِ ، وَاسْتِحْقَاقُ النَّفَقَةِ كَانَ ثَابِتًا لَهَا فَيَبْقَى مَا لَمْ يَظْهَرْ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ ، وَبِقَوْلِ الزَّوْجِ ذَلِكَ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّهَا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَيْهَا ، فَإِنْ أَقَامَ الزَّوْجُ الْبَيِّنَةَ عَلَى إقْرَارِهَا بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بَرِئَ مِنْ النَّفَقَةِ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ إقْرَارِهَا بِالْبَيِّنَةِ كَثُبُوتِهِ بِالْمُعَايَنَةِ .
( قَالَ : ) وَإِذَا جَامَعَتْ ابْنَ زَوْجِهَا مُطَاوِعَةً فِي عِدَّتِهَا لَمْ تَبْطُلْ بِذَلِكَ نَفَقَتُهَا إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَقُولُ : النَّفَقَةُ تَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا فَكَمَا أَنَّهَا لَوْ طَاوَعَتْ ابْنَ الزَّوْجِ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ لَمْ يَكُنْ لَهَا النَّفَقَةُ ، فَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَتْ ذَلِكَ فِي الْعِدَّةِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : لَا تَأْثِيرَ لِفِعْلِهَا هُنَا فِي الْفُرْقَةِ ؛ فَإِنَّ الْفُرْقَةَ بَيْنَهُمَا قَدْ وَقَعَتْ قَبْلَ فِعْلِهَا وَلَا تَأْثِيرَ لِهَذَا الْفِعْلِ فِي إسْقَاطِ الْعِدَّةِ فَتَبْقَى النَّفَقَةُ مُسْتَحَقَّةً لَهَا بِخِلَافِ مَا إذَا فَعَلَتْ حَالَ قِيَامِ النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ هُنَاكَ وَقَعَتْ بِفِعْلِهَا وَهِيَ عَاصِيَةٌ فِي ذَلِكَ فَأَمَّا إذَا ارْتَدَّتْ فِي الْعِدَّةِ سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا لَا لِعَيْنِ الرِّدَّةِ وَلَكِنْ لِأَنَّهَا تُحْبَسُ فَلَا تَكُونُ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَالْمَحْبُوسَةُ بِحَقٍّ عَلَيْهَا لَا تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ فَكَذَلِكَ لَا تَسْتَوْجِبُ النَّفَقَةَ فِي الْعِدَّةِ ، وَإِنْ تَابَتْ وَرَجَعَتْ إلَى بَيْتِهِ كَانَ لَهَا النَّفَقَةُ لِزَوَالِ الْعَارِضِ وَهُوَ الْحَبْسُ بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بِرِدَّتِهَا فَإِنَّ هُنَاكَ لَا نَفَقَةَ لَهَا وَإِنْ تَابَتْ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْفُرْقَةِ كَانَ مِنْ جِهَتِهَا بِمَعْصِيَةٍ وَلَوْ لَحِقْت بِدَارِ الْحَرْبِ مُرْتَدَّةً فَقَدْ انْقَطَعَتْ الْعِصْمَةُ بَيْنَهُمَا حَتَّى إذَا جَاءَتْ مُسْلِمَةً ، أَوْ تَائِبَةً أَوْ سُبِيَتْ فَأُعْتِقَتْ ، أَوْ لَمْ تُعْتَقْ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ النَّفَقَةِ بِاعْتِبَارِ بَقَاءِ الْعِصْمَةِ وَتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ قَاطِعٌ لِلْعِصْمَةِ .
( قَالَ : ) وَلَوْ أَنَّ مُسْتَأْمَنًا فِي دَارِنَا تَزَوَّجَ ذِمِّيَّةً وَدَخَلَ بِهَا وَطَلَّقَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ فِي قَوْلِ مَنْ يُوجِبُ عَلَى الذِّمِّيَّةِ الْعِدَّةَ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِيهِ شَبَهَ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَمَنْ أَوْجَبَ عَلَيْهَا يَقُولُ : النَّفَقَةُ لَمَّا كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ لَهَا يَبْقَى الْعِدَّةُ وَلَا يُشْبِهُ هَذَا لِذِمِّيٍّ الَّذِي لَهُ أَبَوَانِ حَرْبِيَّانِ بِأَمَانٍ فَإِنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهُمَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُمَا ، وَإِنْ كَانَا فِي دَارِنَا صُورَةً فَهُمَا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مُتَمَكِّنَانِ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَنَفَقَةُ الْأَقَارِبِ بِمَنْزِلَةِ الصِّلَةِ وَلَا يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُ الصِّلَةِ لِلْحَرْبِيِّ عَلَى مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَهَذَا ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الصِّلَةَ لِإِبْقَائِهِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَهُوَ بِهِ مُسْتَوْجِبٌ لِلْقَتْلِ غَيْرُ مُسْتَوْجِبٍ لِلْإِبْقَاءِ ، وَكَمَا لَا تَجِبُ نَفَقَتُهَا عَلَى الذِّمِّيِّ لَا تَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى .
( قَالَ : ) وَإِنْ كَانَ لِمُسْلِمِ أَبٌ ذِمِّيٌّ مُعْسِرٌ فَفِي الْقِيَاسِ لَا نَفَقَةَ لَهُ عَلَيْهِ لِاخْتِلَافِ الدِّينَيْنِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ التَّوَارُثَ بَيْنَهُمَا مُنْقَطِعٌ ، فَكَذَلِكَ اسْتِحْقَاقُ النَّفَقَةِ وَهُوَ نَظِيرُ سَائِرِ الْأَقَارِبِ حَتَّى لَا يَسْتَوْجِبُوا النَّفَقَةَ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ فِي حَقِّ الْأَبِ الذِّمِّيِّ وَالْأُمِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } وَهَذَا فِي الْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { ، وَإِنْ جَاهَدَاك عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي } وَلَيْسَ مِنْ الْمُصَاحَبَةِ بِالْمَعْرُوفِ أَنْ يَتْرُكَهُمَا يَمُوتَانِ جُوعًا ، ثُمَّ اسْتِحْقَاقُ النَّفَقَةِ فِيمَا بَيْنَ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ بِسَبَبِ الْوِلَادَةِ وَذَلِكَ مُتَحَقِّقٌ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَقَارِبِ فَإِنَّ الِاسْتِحْقَاقَ هُنَا بِسَبَبِ الْوِرَاثَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } وَبِاخْتِلَافِ الدِّينِ يَنْقَطِعُ التَّوَارُثُ وَبِمَعْرِفَةِ حُدُودِ كَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ يَحْسُنُ الْفِقْهُ .
أَلَا تَرَى أَنَّ حُكْمَ الْعِتْقِ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ وَحُرْمَةِ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ لَمَّا تَعَلَّقَ بِالْمَحْرَمِيَّةِ شَرْعًا لَمْ يَخْتَلِفْ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ .
( قَالَ : ) رَجُلٌ أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدِهِ فَلَا نَفَقَةَ لَهَا فِي الْعِدَّةِ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ النَّفَقَةِ كَانَ لَهَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ وَالْعِتْقُ مُنَافٍ لِلْمِلْكِ وَمَا عَلَيْهَا مِنْ الْعِدَّةِ نَظِيرُ الْعِدَّةِ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ أَوْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِالْحَيَاةِ وَالْوَفَاةِ وَبِمِثْلِ هَذِهِ الْعِدَّةِ لَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ
( قَالَ : ) وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّ نِكَاحَ امْرَأَتِهِ عَلَيْهِ حَرَامٌ وَقَدْ دَخَلَ بِهَا فَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا فَلَهَا الْمُسَمَّى مِنْ الْمَهْرِ وَنَفَقَةُ الْعِدَّةِ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ النِّكَاحِ كَانَ صَحِيحًا بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ وَهُوَ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِي إقْرَارِهِ بِالْحُرْمَةِ فِي حَقِّهَا وَإِنَّمَا يُصَدَّقُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ بِإِبْطَالِ مِلْكِهِ عَنْهَا فَيُجْعَلُ هَذَا فِي حَقِّهَا كَالطَّلَاقِ فَلَهَا جَمِيعُ الْمُسَمَّى وَنَفَقَةُ الْعِدَّةِ
( قَالَ : ) وَاَلَّتِي زَوَّجَهَا عَمُّهَا إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَقَدْ دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ فَلَهَا النَّفَقَةُ مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ مِنْ جِهَتِهَا بِسَبَبِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ لَهَا ، وَكَذَلِكَ إذَا فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بَعْدَ الدُّخُولِ لِعَدَمِ الْكَفَاءَةِ فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ النِّكَاحِ كَانَ صَحِيحًا يَتَوَارَثَانِ بِهِ إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا وَالْفُرْقَةُ إذَا جَاءَتْ بِسَبَبِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ لَا تَسْقُطُ بِهِ نَفَقَتُهَا
( قَالَ : ) وَإِذَا فَرَضَ الْقَاضِي لِلْمَرْأَةِ عَلَى زَوْجِهَا النَّفَقَةَ فَأَعْطَاهَا فَسُرِقَ مِنْهَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يُعْطِيَهَا مَرَّةً أُخْرَى مَا لَمْ يَمْضِ الْوَقْتُ ؛ لِأَنَّهَا قَدْ اسْتَوْفَتْ حَقَّ نَفْسِهَا فَدَخَلَ الْمُسْتَوْفِي فِي ضَمَانِهَا كَمَا إذَا اسْتَوْفَتْ الْمَهْرَ وَيَكُونُ الْهَلَاكُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهَا دُونَ الزَّوْجِ وَلَوْ أَرْسَلَ بِهَا إلَيْهَا رَسُولًا فَقَالَ الرَّسُولُ قَدْ أَعْطَيْتهَا إيَّاهَا وَجَحَدَتْ هِيَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا ؛ لِأَنَّ رَسُولَ الزَّوْجِ نَائِبُهُ فَدَعْوَاهُ أَنَّهُ أَعْطَاهَا كَدَعْوَى الزَّوْجِ ذَلِكَ عَلَيْهَا وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ أَعْطَيْتهَا نَفَقَتَهَا وَأَنْكَرَتْ هِيَ الِاسْتِيفَاءَ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهَا مَعَ يَمِينِهَا ، فَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى الرَّسُولُ أَنَّهُ أَعْطَاهَا وَلَوْ أَقَرَّتْ بِالِاسْتِيفَاءِ ، ثُمَّ مَاتَتْ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَفِي حَقِّ الزَّوْجِ فِي الِاسْتِرْدَادِ مِنْ التَّرِكَةِ خِلَافٌ كَمَا بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَقْبُوضُ بِعَيْنِهِ قَائِمًا ، أَوْ يَكُونَ مُسْتَهْلَكًا عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ
بَابُ حُكْمِ الْوَلَدِ عِنْدَ افْتِرَاقِ الزَّوْجَيْنِ اعْلَمْ بِأَنَّ الصِّغَارَ لِمَا بِهِمْ مِنْ الْعَجْزِ عَنْ النَّظَرِ لِأَنْفُسِهِمْ وَالْقِيَامِ بِحَوَائِجِهِمْ ؛ جَعَلَ الشَّرْعُ وِلَايَةَ ذَلِكَ إلَى مَنْ هُوَ مُشْفِقٌ عَلَيْهِمْ فَجَعَلَ حَقَّ التَّصَرُّفِ إلَى الْآبَاءِ لِقُوَّةِ رَأْيِهِمْ مَعَ الشَّفَقَةِ وَالتَّصَرُّفِ يَسْتَدْعِي قُوَّةَ الرَّأْيِ وَجَعَلَ حَقَّ الْحَضَانَةِ إلَى الْأُمَّهَاتِ لِرِفْقِهِنَّ فِي ذَلِكَ مَعَ الشَّفَقَةِ وَقُدْرَتِهِنَّ عَلَى ذَلِكَ بِلُزُومِ الْبُيُوتِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأُمَّ أَحْفَى وَأَشْفَقُ مِنْ الْأَبِ عَلَى الْوَلَدِ فَتَتَحَمَّلُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَشَقَّةِ مَا لَا يَتَحَمَّلُهُ الْأَبُ وَفِي تَفْوِيضِ ذَلِكَ إلَيْهَا زِيَادَةُ مَنْفَعَةٍ لِلْوَلَدِ وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ { أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ إنَّ وَلَدِي هَذَا قَدْ كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً وَأَنَّ هَذَا يُرِيدُ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنِّي فَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَتَزَوَّجِي } وَلَمَّا خَاصَمَ عُمَرُ أُمَّ عَاصِمٍ بَيْن يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لِيَنْتَزِعَ عَاصِمًا مِنْهَا قَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ رِيحُهَا خَيْرٌ لَهُ مِنْ سَمْنٍ وَعَسَلٍ عِنْدَك وَفِي رِوَايَةٍ رِيقُهَا خَيْرٌ لَهُ يَا عُمَرُ فَدَعْهُ عِنْدَهَا حَتَّى يَشِبَّ وَفِي رِوَايَةٍ دَعْهُ فَرِيحُ لِفَاعِهَا خَيْرٌ لَهُ مِنْ سَمْنٍ وَعَسَلٍ عِنْدَك إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ إذَا فَارَقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَلَهُمَا وَلَدٌ فَالْأُمُّ أَحَقُّ بِالْوَلَدِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهَا حَتَّى يَسْتَغْنِيَ عَنْهَا ، فَإِنْ كَانَ غُلَامًا فَحَتَّى يَأْكُلَ وَحْدَهُ وَيَشْرَبَ وَحْدَهُ وَيَلْبَسَ وَحْدَهُ وَفِي نَوَادِرِ دَاوُد بْنِ رَشِيدٍ وَيَسْتَنْجِيَ وَحْدَهُ ، وَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً فَهِيَ أَحَقُّ بِهَا حَتَّى تَحِيضَ وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ يَسْتَوِيَ الْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ فِي ذَلِكَ وَإِذَا
اسْتَغْنَيَا يَكُونُ الْأَبُ أَحَقَّ بِهِمَا ؛ لِأَنَّ لِلْأُمِّ حَقَّ الْحَضَانَةِ وَذَلِكَ يَنْتَهِي إذَا اسْتَغْنَى عَنْ ذَلِكَ وَالْحَاجَةُ إلَى الْحِفْظِ بَعْدَ ذَلِكَ وَالْأَبُ أَقْدَرُ عَلَى الْحِفْظِ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تَعْجِزُ عَنْ حِفْظِ نَفْسِهَا وَتَحْتَاجُ إلَى مَنْ يَحْفَظُهَا عَلَى مَا قِيلَ النِّسَاءُ لَحْمٌ عَلَى وَضَمٍ إلَّا مَا ذَبَّ عَنْهُنَّ فَكَيْف تَقْدِرُ عَلَى حِفْظِ غَيْرِهَا وَلَكِنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ فَقُلْنَا الْجَارِيَةُ .
وَإِنْ اسْتَغْنَتْ عَنْ التَّرْبِيَةِ فَقَدْ احْتَاجَتْ إلَى تَعَلُّمِ الْغَزْلِ وَالطَّبْخِ وَغَسْلِ الثِّيَابِ وَالْأُمُّ عَلَى ذَلِكَ أَقْدَرُ وَإِذَا دُفِعَتْ إلَى الْأَبِ اخْتَلَطَتْ بِالرِّجَالِ فَيَقِلُّ حَيَاؤُهَا وَالْحَيَاءُ فِي النِّسَاءِ زِينَةٌ وَإِنَّمَا يَبْقَى ذَلِكَ إذَا كَانَتْ تَحْتَ ذَيْلِ أُمِّهَا فَكَانَتْ أَحَقَّ بِهَا حَتَّى تَحِيضَ فَإِذَا بَلَغَتْ احْتَاجَتْ إلَى التَّزْوِيجِ وَوِلَايَةُ التَّزْوِيجِ إلَى الْأَبِ وَصَارَتْ عُرْضَةً لِلْفِتْنَةِ وَمَطْمَعَةً لِلرِّجَالِ وَبِالرِّجَالِ مِنْ الْغَيْرَةِ مَا لَيْسَ لِلنِّسَاءِ فَيَتَمَكَّنُ الْأَبُ مِنْ حِفْظِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا تَتَمَكَّنُ الْأُمُّ مِنْ ذَلِكَ وَفِي نَوَادِرِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا بَلَغَتْ حَدَّ الشَّهْوَةِ فَالْأَبُ أَحَقُّ بِهَا لِلْمَعْنَى الَّذِي أَشَرْنَا إلَيْهِ وَهُوَ قُوَّةُ غَيْرَةِ الرِّجَالِ فَإِنَّ الْأُمَّ رُبَّمَا تُخْدَعُ فَتَقَعُ فِي فِتْنَةٍ وَلَا تَشْعُرُ الْأُمُّ بِذَلِكَ وَيُؤْمَنُ ذَلِكَ عَلَى الْأَبِ فَأَمَّا الْغُلَامُ إذَا اسْتَغْنَى فَقَدْ احْتَاجَ إلَى تَعَلُّمِ أَعْمَالِ الرِّجَالِ وَالْأَبُ عَلَى ذَلِكَ أَقْدَرُ وَاحْتَاجَ إلَى مَنْ يُثَقِّفَهُ وَيُؤَدِّبَهُ وَالْأَبُ هُوَ الَّذِي يَقْوَى عَلَى ذَلِكَ وَلِأَنَّ صُحْبَةَ النِّسَاءِ مَفْسَدَةٌ لِلرِّجَالِ فَإِذَا تُرِكَ عِنْدَهَا يَنْكَسِرُ لِسَانُهُ وَيَمِيلُ طَبْعُهُ إلَى طَبْعِ النِّسَاءِ فَرُبَّمَا يَجِيءُ مُخَنَّثًا فَلِهَذَا يُدْفَعُ إلَى الْأَبِ بَعْدَ ذَلِكَ وَهَذَا مَذْهَبُنَا فَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُخَيَّرُ بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ فَيُدْفَعُ إلَى مِنْ اخْتَارَ الْغُلَامُ
صُحْبَتَهُ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيَّرَ غُلَامًا بَيْنَ الْأَبَوَيْنِ } وَلَكِنَّا نَقُولُ فِي هَذَا بِنَاءُ الْإِلْزَامِ وَالْحُكْمِ عَلَى قَوْلِ الصَّبِيِّ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَلِأَنَّ الصَّبِيَّ فِي الْعَادَةِ يَخْتَارُ مَا يَضُرُّهُ ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَارُ مِنْ لَا يُؤَدِّبُهُ وَلَا يَمْنَعُهُ شَهْوَتَهُ وَاَلَّذِي رُوِيَ مِنْ الْأَثَرِ فَقَدْ دَعَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِذَلِكَ الْغُلَامِ فَقَالَ : اللَّهُمَّ سَدِّدْهُ فَبِبَرَكَةِ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اخْتَارَ مَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُ وَلَا يُوجَدُ مِثْلُهُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ
وَالرَّضَاعُ وَالنَّفَقَةُ عَلَى الْوَالِدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ } يَعْنِي مُؤْنَةَ الرَّضَاعِ وَهَذَا بِخِلَافِ حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا فَإِنَّهَا لَا تَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ عَلَى إرْضَاعِ الْوَلَدِ ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّ فِي حَالِ بَقَاءِ النِّكَاحِ الرَّضَاعَ مِنْ الْأَعْمَالِ الْمُسْتَحَقَّةِ عَلَيْهَا دِينًا وَبَعْدَ الْفُرْقَةِ لَيْسَ ذَلِكَ بِمُسْتَحَقٍّ عَلَيْهَا دِينًا وَلَا دُنْيَا وَكَمَا أَنَّ النَّفَقَةَ بَعْدَ الْفِطَامِ عَلَى الْأَبِ لَا يُشَارِكُهُ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مِنْهُ وَالْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ كَالْإِنْفَاقِ عَلَى نَفْسِهِ ، فَكَذَلِكَ قَبْلَ الْفِطَامِ مُؤْنَةُ الرَّضَاعِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ كَانَ يَجِدُ مِنْ يُرْضِعُهُ بِأَقَلَّ مِمَّا تَرْضِعُهُ الْمَرْأَةُ وَلَمْ تَأْخُذْهُ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ اسْتَأْجَرَ الظِّئْرَ لِتُرْضِعَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى } وَلِأَنَّهَا قَصَدَتْ الْإِضْرَارَ بِالزَّوْجِ فِي التَّحَكُّمِ عَلَيْهِ وَطَلَبِ الزِّيَادَةِ إلَّا أَنَّ الظِّئْرَ تَأْتِي فَتُرْضِعُهُ عِنْدَ أُمِّهِ وَلَيْسَ لِلْأَبِ أَنْ يَأْخُذَ الْوَلَدَ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحَضَانَةِ لَهَا فَلَا يَمْلِكُ الْأَبُ إبْطَالَ حَقِّهَا وَإِنْ أَخَذَتْهُ الْأُمُّ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَهِيَ أَحَقُّ بِهِ ؛ لِأَنَّهَا أَشْفَقُ عَلَى الْوَلَدِ مِنْ الظِّئْرِ وَلَبَنُهَا أَوْفَقُ لَهُ وَالْأَبُ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ قَاصِدٌ إلَى الْإِضْرَارِ وَالتَّعَنُّتِ حِينَ رَضِيَ بِدَفْعِ مِقْدَارٍ إلَى الظِّئْرِ وَلَا رَضِيَ بِدَفْعِ مِثْلِ ذَلِكَ إلَى الْأُمِّ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَقَعَ بَيْنَهُمَا فُرْقَةٌ فَلَا أَجْرَ لَهَا عَلَى الرَّضَاعِ ، وَإِنْ أَبَتْ أَنْ تَرْضِعَ لَمْ تُكْرَهْ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهَا بِالنِّكَاحِ تَسْلِيمُ النَّفْسِ إلَى الزَّوْجِ لِلِاسْتِمْتَاعِ وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَعْمَالِ تُؤْمَرُ بِهِ تَدَيُّنًا وَلَا تُجْبَرُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ نَحْوِ كَنْسِ الْبَيْتِ وَغَسْلِ الثِّيَابِ وَالطَّبْخِ وَالْخَبْزِ فَكَذَلِكَ إرْضَاعُ الْوَلَدِ
( قَالَ : ) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلصَّبِيِّ أَبٌ وَكَانَ لَهُ أُمٌّ وَعَمٌّ فَالرَّضَاعُ عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا عَلَى قَدْرِ مِيرَاثِهِمَا إنْ كَانَا مُوسِرِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } فَقَدْ اُعْتُبِرَ صِفَةُ الْوِرَاثَةِ فِي حَقِّ غَيْرِ الْأَبِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ عَلَى الْوَرَثَةِ بِحَسَبِ الْمِيرَاثِ وَلَكِنْ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَلَى الْوَارِثِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنَّ قِرَاءَتَهُ لَا تَخْتَلِفُ عَنْ رِوَايَتِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ هَذَا إلَّا سَمَاعًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي النَّفَقَةِ بَعْدَ الْفِطَامِ الْجَوَابُ هَكَذَا ، وَكَذَلِكَ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ النَّفَقَةِ قَبْلَ الْفِطَامِ فَأَمَّا الرَّضَاعُ فَإِنَّهُ كُلُّهُ عَلَى الْأُمِّ ؛ لِأَنَّهَا مُوسِرَةٌ بِاللَّبَنِ وَالْعَمُّ مُعْسِرٌ فِي ذَلِكَ وَلَكِنْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَالَ : قُدْرَةُ الْعَمِّ عَلَى تَحْصِيلِ ذَلِكَ بِمَالِهِ يَجْعَلُهُ مُوسِرًا فِيهِ فَلِهَذَا كَانَ عَلَيْهِمَا إثْلَاثًا وَالْأُمُّ أَحَقُّ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهَا حَتَّى يَبْلُغَ مَا وَصَفْنَا ، فَإِنْ كَانَ الْعَمُّ فَقِيرًا وَالْأُمُّ غَنِيَّةً فَالرَّضَاعُ وَالنَّفَقَةُ عَلَى الْأُمِّ ؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ عَلَى الْعَمِّ مُسْتَحَقَّةٌ فِي مَالِهِ لَا فِي كَسْبِهِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي نَفَقَةِ ذَوِي الْأَرْحَامِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْمُعْسِرُ لَيْسَ لَهُ مَالٌ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِنْ النَّفَقَةِ بَلْ هُوَ كَالْمَعْدُومِ فَكَانَتْ النَّفَقَةُ عَلَى الْأُمِّ
فَإِنْ كَانَ لَهُ أُمٌّ وَأَخٌ لِأَبٍ وَأُمٌّ وَعَمٌّ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ فَالرَّضَاعُ عَلَى الْأُمِّ وَالْأَخِ أَثْلَاثًا بِحَسَبِ الْمِيرَاثِ وَلَا شَيْءَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْعَمِّ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَارِثٍ مَعَ الْأَخِ وَالْغُرْمُ مُقَابَلٌ بِالْغُنْمِ وَإِنَّمَا يُسْتَحَقُّ عَلَى مَنْ يَكُونُ الْغُنْمُ لَهُ إذَا مَاتَ الْوَلَدُ وَالْحَاصِلُ أَنَّ بَعْدَ الْأَبِ النَّفَقَةُ عَلَى كُلِّ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ إذَا كَانُوا أَغْنِيَاءَ عَلَى حَسَبِ الْمِيرَاثِ وَمَنْ كَانَ مِنْهُمْ فَقِيرًا لَمْ يُجْبَرْ عَلَى النَّفَقَةِ فَإِنْ تَطَوَّعَ بِشَيْءٍ فَهُوَ أَفْضَلُ
فَإِنْ كَانَتْ الْأُمُّ فَقِيرَةً وَلِلْوَلَدِ عَمَّةٌ وَخَالَةٌ غَنِيَّتَانِ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا أَثْلَاثًا عَلَى الْعَمَّةِ الثُّلُثَانِ وَعَلَى الْخَالَةِ الثُّلُثُ ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ الْفَقِيرَةَ كَالْمَعْدُومَةِ وَبَعْدَهَا الْمِيرَاثُ بَيْنَ الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ أَثْلَاثًا فَكَذَا النَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ لَهُ ابْنُ عَمٍّ هُوَ وَارِثُهُ فَإِنَّ ابْنَ الْعَمِّ لَيْسَ بِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ النَّفَقَةِ بَلْ يُجْعَلُ هُوَ فِي حَقِّ النَّفَقَةِ كَالْمَعْدُومِ وَتَكُونُ النَّفَقَةُ عَلَى الْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ أَثْلَاثًا وَإِنْ كَانَ الْمِيرَاثُ لِابْنِ الْعَمِّ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ عَصَبَةٍ لَيْسَ بِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ فَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمِيرَاثُ لَهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ عَصَبَةٌ فِي حَقِّ الْمِيرَاثِ وَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ ، فَكَذَلِكَ مَنْ لَيْسَ بِمُجَرَّدٍ مِنْ الْأَقَارِبِ
( قَالَ : ) وَيُؤْمَرُ الْمُوسِرُ وَالْوَسَطُ لِوَلَدِهِ إذَا كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ بِخَادِمٍ ، فَإِنْ لَمْ يَكْفِهِمْ فَخَادِمَانِ يَقُومَانِ عَلَيْهِمْ فِي خِدْمَتِهِمْ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ كِفَايَتِهِمْ فَتَكُونُ عَلَى الْأَبِ كَالنَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ إلَّا أَنَّ الْمُعْسِرَ عَاجِزٌ عَنْ ذَلِكَ وَالتَّكْلِيفُ بِحَسَبِ الْوُسْعِ فَأَمَّا الْمُوسِرُ وَوَسَطُ الْحَالِ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ فَيُؤْمَرُ مِنْ ذَلِكَ بِمَا تَقَعُ بِهِ الْكِفَايَةُ .
( قَالَ ) فَإِنْ تَزَوَّجَتْ الْأُمُّ فَلِلْأَبِ أَنْ يَأْخُذَ الْوَلَدَ مِنْهَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا لَمْ تَتَزَوَّجِي } فَإِنَّمَا جَعَلَ الْحَقَّ لَهَا إلَى أَنْ تَتَزَوَّجَ وَحُكْمُ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ مُخَالِفٌ لِمَا قَبْلَ ذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّهَا لَمَّا تَزَوَّجَتْ فَقَدْ اشْتَغَلَتْ بِخِدْمَةِ زَوْجِهَا فَلَا تَتَفَرَّغُ لِتَرْبِيَةِ الْوَلَدِ وَالْوَلَدُ فِي الْعَادَةِ يَلْحَقُهُ الْجَفَاءُ وَالْمَذَلَّةُ مِنْ زَوْجِ الْأُمِّ فَكَانَ لِلْأَبِ أَنْ لَا يَرْضَى بِذَلِكَ فَيَأْخُذَ الْوَلَدَ مِنْهَا .
( قَالَ : ) وَأُمُّ الْأُمِّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ بَعْدَهَا ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحَضَانَةِ بِسَبَبِ الْأُمُومَةِ وَهِيَ أُمٌّ تُدْلِي بِأُمٍّ فَهِيَ أَوْلَى مِنْ أُمِّ الْأَبِ ؛ لِأَنَّهَا تُدْلِي بِقَرَابَةِ الْأَبِ ، وَقَرَابَةُ الْأُمِّ فِي الْحَضَانَةِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى قَرَابَةِ الْأَبِ .
( قَالَ : ) وَيَسْتَوِي إنْ كَانَتْ الْأُمُّ مُسْلِمَةً ، أَوْ كِتَابِيَّةً أَوْ مَجُوسِيَّةً ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْحَضَانَةِ لَهَا لِلشَّفَقَةِ عَلَى الْوَلَدِ وَلَا يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ عَلَى مَا قِيلَ : كُلُّ شَيْءٍ يُحِبُّ وَلَدَهُ حَتَّى الْحُبَارَى .
وَمِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ يَقُولُ : إذَا كَانَتْ كَافِرَةً فَعَقَلَ الْوَلَدُ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهَا جَارِيَةً كَانَتْ ، أَوْ غُلَامًا ؛ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ بِإِسْلَامِ الْأَبِ وَإِنَّهَا تُعَلِّمُهَا الْكُفْرَ فَلَا تُؤْمَنُ مِنْ الْفِتْنَةِ إذَا تُرِكَتْ عِنْدَهَا فَلِهَذَا تُؤْخَذُ مِنْهَا ، فَإِنْ كَانَ لِأُمِّ الْأُمِّ زَوْجٌ نَظَرْنَا ، فَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا جَدُّ الْوَلَدِ فَهِيَ أَحَقُّ بِهِ ؛ لِأَنَّ جَدَّ الْوَلَدِ يَكُونُ مُشْفِقًا عَلَيْهِ وَلَا يَلْحَقُهُ الْأَذَى وَالْجَفَاءُ مِنْ جِهَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا فَلَا حَقَّ لَهَا فِي الْوَلَدِ كَالْأُمِّ إذَا تَزَوَّجَتْ أَجْنَبِيًّا .
( قَالَ : ) وَأُمُّ الْأَبِ بَعْدَهَا أَحَقُّ بِهِمْ عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْأُخْتُ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ ، أَوْ مِنْ الْأُمِّ ، أَوْ الْخَالَةُ أَحَقُّ مِنْ الْجَدَّةِ أَمِّ الْأَبِ ؛ لِأَنَّهَا تُدْلِي بِقَرَابَةِ
الْأَبِ ، وَمَنْ سَمَّيْنَا بِقَرَابَةِ الْأُمِّ .
وَاسْتِحْقَاقُ الْحَضَانَةِ بِاعْتِبَارِ قَرَابَةِ الْأُمِّ .
وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذِهِ أُمٌّ فِي نَفْسِهَا كَأُمِّ الْأُمِّ ، وَالْأُمُّ مُقَدَّمَةٌ عَلَى غَيْرِهَا فِي الْحَضَانَةِ ، ثُمَّ أَصْلُ الشَّفَقَةِ بِاعْتِبَارِ الْوِلَادِ وَذَلِكَ لِلْجَدَّاتِ دُونَ الْأَخَوَاتِ وَالْخَالَاتِ فَلِهَذَا كَانَتْ أُمُّ الْأَبِ أَحَقُّ ، وَإِنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ ، فَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا جَدُّ الْوَلَدِ ، فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا أَجْنَبِيًّا ، أَوْ كَانَتْ هِيَ مَيِّتَةً فَحَقُّ الْحَضَانَةِ إلَى الْأَخَوَاتِ وَالْأُخْتُ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْلَى مِنْ الْأُخْتِ لِأُمٍّ .
وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُمَا مُسْتَوِيَتَانِ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ هَذَا الْحَقِّ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ وَهُمَا سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ وَلَكِنَّا نَقُولُ قَرَابَةُ الْأُخْتِ لِأَبٍ وَأُمٍّ مِنْ جِهَتَيْنِ ، وَالشَّفَقَةُ بِالْقَرَابَةِ ، فَذُو الْقَرَابَتَيْنِ يَكُونُ أَشْفَقَ فَكَانَ بِالْحَضَانَةِ أَحَقَّ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقَعَ التَّرْجِيحُ بِمَا لَا يَكُونُ عِلَّةَ الِاسْتِحْقَاقِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَخَ لِأَبٍ وَأُمٍّ مُقَدَّمٌ فِي الْعُصُوبَةِ عَلَى الْأَخِ لِأَبٍ بِسَبَبِ قَرَابَةِ الْأُمِّ ، وَقَرَابَةُ الْأُمِّ لَيْسَتْ بِسَبَبٍ لِاسْتِحْقَاقِ الْعُصُوبَةِ بِهَا ثُمَّ الْأُخْتُ لِأُمٍّ تُقَدَّمُ عَلَى الْأُخْتِ لِأَبٍ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْحَضَانَةِ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ وَهِيَ تُدْلِي بِقَرَابَةِ الْأُمِّ وَالْأُخْرَى إنَّمَا تُدْلِي بِقَرَابَةِ الْأَبِ ، ثُمَّ بَعْدَ الْأُخْتِ لِأُمٍّ قَالَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ الْأُخْتُ لِأَبٍ أَوْلَى مِنْ الْخَالَةِ وَفِي كِتَابِ الطَّلَاقِ قَالَ : الْخَالَةُ أَوْلَى مِنْ الْأُخْتِ لِأَبٍ فَفِي رِوَايَةِ كِتَابِ النِّكَاحِ اعْتَبَرَ قُرْبَ الْقَرَابَةِ ، وَالْأُخْتُ لِأَبٍ أَقْرَبُ ؛ لِأَنَّهَا وَلَدُ الْأَبِ وَالْخَالَةُ وَلَدُ الْجَدِّ وَفِي كِتَابِ الطَّلَاقِ اعْتَبَرَ الْمُدْلِي بِهِ فَقَالَ : الْخَالَةُ تُدْلِي بِالْأُمِّ وَالْأُخْتُ لِأَبٍ تُدْلِي بِالْأَبِ وَالْأُمُّ فِي حَقِّ الْحَضَانَةِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْأَبِ ، فَكَذَلِكَ مَنْ يُدْلِي بِقَرَابَةِ الْأُمِّ يَكُونُ
مُقَدَّمًا عَلَى مِنْ يُدْلِي بِقَرَابَةِ الْأَبِ ، ثُمَّ بَعْدَ الْأَخَوَاتِ بَنَاتُهُنَّ عَلَى التَّرْتِيبِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْأَخَوَاتِ .
وَبَنَاتُ الْأَخَوَاتِ فِي الْحَضَانَةِ أَحَقُّ مِنْ بَنَاتِ الْإِخْوَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُدْلِي بِهِ فِي بَنَاتِ الْإِخْوَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقٌّ فِي الْحَضَانَةِ بِخِلَافِ بَنَاتِ الْأَخَوَاتِ ، ثُمَّ بَعْدَهُنَّ الْخَالَةُ لِأَبٍ وَأُمٍّ ، ثُمَّ بَعْدَهَا الْخَالَةُ لِأَبٍ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِ حَقِّ الْحَضَانَةِ لِلْخَالَاتِ مَا رُوِيَ { أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَجَعْفَرًا وَزَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ اخْتَصَمُوا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ابْنَةِ حَمْزَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِنْتُ عَمِّي فَأَنَا أَحَقُّ بِهَا وَقَالَ جَعْفَرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ابْنَةُ عَمِّي وَخَالَتُهَا عِنْدِي وَقَالَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ابْنَةُ أَخِي آخَيْت بَيْنِي وَبَيْنَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَضَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِجَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ } فَقَالَ الْخَالَةُ أُمٌّ .
وَالتَّرْتِيبُ فِي الْخَالَاتِ عَلَى قِيَاسِ التَّرْتِيبِ فِي الْأَخَوَاتِ وَهُنَّ أَحَقُّ بِالْحَضَانَةِ مِنْ الْعَمَّاتِ ؛ لِأَنَّ الْخَالَةَ تُدْلِي بِالْأُمِّ وَالْعَمَّةُ تُدْلِي بِالْأَبِ وَاسْتِحْقَاقُ الْحَضَانَةِ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ فَلِهَذَا قُدِّمَتْ الْخَالَةُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْعَمَّةِ ، ثُمَّ بَعْدَ الْخَالَاتِ الْعَمَّاتُ فَاَلَّتِي مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ تُقَدَّمُ ، ثُمَّ بَعْدَهَا الَّتِي مِنْ الْأُمِّ ، ثُمَّ الَّتِي مِنْ الْأَبِ عَلَى قِيَاسِ الْخَالَاتِ وَبِنْتُ الْأَخِ أَوْلَى مِنْ الْعَمَّاتِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا تُدْلِي بِمَنْ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْحَضَانَةِ وَلَكِنْ بِنْتُ الْأَخِ أَقْرَبُ وَالْخَالَةُ أَوْلَى مِنْ بِنْتِ الْأَخِ ؛ لِأَنَّ الْخَالَةَ تُدْلِي بِمَنْ لَهَا حَقٌّ فِي الْحَضَانَةِ وَهِيَ الْأُمُّ وَابْنَةُ الْأَخِ تُدْلِي بِمَنْ لَيْسَ لَهُ حَقٌّ فِي الْحَضَانَةِ فَلِهَذَا كَانَتْ الْخَالَةُ أَحَقَّ .
( قَالَ : ) وَلَيْسَ لِمَنْ سِوَى
الْأُمِّ وَالْجَدَّتَيْنِ حَقٌّ فِي الْوَلَدِ إذَا أَكَلَ وَشَرِبَ وَلَبِسَ وَحْدَهُ جَارِيَةً كَانَتْ ، أَوْ غُلَامًا ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْجَارِيَةِ عِنْدَ الْأُمِّ وَالْجَدَّتَيْنِ لِتَعْلِيمِ أَعْمَالٍ دَاخِلَ الْبَيْتِ وَإِنَّمَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ بِالِاسْتِخْدَامِ وَلِلْأُمِّ وَالْجَدَّتَيْنِ حَقُّ الِاسْتِخْدَامِ وَلَيْسَ لِغَيْرِهِنَّ مِمَّنْ سَمَّيْنَا حَقُّ الِاسْتِخْدَامِ وَلَا يَحْصُلُ مَقْصُودُ تَعْلِيمِ الْأَعْمَالِ إلَّا بِذَلِكَ فَلِهَذَا أُخِذَ مِنْهُنَّ ، ثُمَّ بَعْدَمَا اسْتَغْنَى الْغُلَامُ ، أَوْ حَاضَتْ الْجَارِيَةُ عِنْدَ الْأُمِّ وَالْجَدَّتَيْنِ ، أَوْ اسْتَغْنَتْ عِنْدَ غَيْرِهِنَّ فَالْأَبُ أَحَقُّ بِالْوَلَدِ ، ثُمَّ بَعْدَهُ الْجَدَّاتُ لِأَبٍ ، ثُمَّ الْأَخُ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ ، ثُمَّ الْأَخُ مِنْ الْأَبِ ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الضَّمِّ إلَى نَفْسِهِ بَعْدَ هَذَا بِاعْتِبَارِ الْعُصُوبَةِ فَمَنْ يَكُونُ مُقَدَّمًا فِي الْعُصُوبَةِ مِنْ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ أَوْلَى بِذَلِكَ وَقَدْ بَيَّنَّا تَرْتِيبَ الْعَصَبَاتِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ وَلَا حَقَّ لِابْنِ الْعَمِّ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ رَحِمٌ غَيْرُ مَحْرَمٍ فَلَا يُؤْمَنُ مِنْهُ أَنْ يَطْمَعَ فِيهَا فَلِهَذَا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَضُمَّهَا ، وَإِنْ كَانَتْ وِلَايَةُ التَّزْوِيجِ لَهُ بِاعْتِبَارِ الْعُصُوبَةِ .
( قَالَ : ) وَإِذَا اجْتَمَعَ إخْوَةٌ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَأَفْضَلُهُمْ صَلَاحًا وَوَرَعًا أَحَقُّ بِهِ ؛ لِأَنَّ ضَمَّهُ إلَى أَقْرَبِ الْعَصَبَاتِ لِمَنْفَعَةِ الْوَلَدِ ؛ وَلِهَذَا قُدِّمَ الْأَقْرَبُ .
وَضَمُّهُ إلَى أَبْيَنِهِمْ صَلَاحًا أَنْفَعُ لِلْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَخَلَّقُ بِأَخْلَاقِهِ فَإِنْ كَانُوا فِي ذَلِكَ سَوَاءً فَأَكْبَرُهُمْ أَحَقُّ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْكِبَرُ الْكِبَرُ } وَلِأَنَّ حَقَّ أَكْبَرِهِمْ أَسْرَعُ ثُبُوتًا فَعِنْدَ التَّعَارُضِ يَتَرَجَّحُ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الْأَعْمَامُ بَعْدَ الْإِخْوَةِ ثُمَّ الْغُلَامُ إذَا بَلَغَ رَشِيدًا فَلَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالسُّكْنَى وَلَيْسَ لِلْأَبِ أَنْ يَضُمَّهُ إلَى نَفْسِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُفْسِدًا مَخُوفًا عَلَيْهِ فَحِينَئِذٍ لَهُ أَنْ يَضُمَّهُ إلَى نَفْسِهِ
اعْتِبَارًا لِنَفْسِهِ بِمَالِهِ فَإِنَّهُ بَعْدَ مَا بَلَغَ رَشِيدًا لَا يَبْقَى لِلْأَبِ يَدٌ فِي مَالِهِ فَكَذَلِكَ فِي نَفْسِهِ وَإِذَا بَلَغَ مُبَذِّرًا كَانَ لِلْأَبِ وِلَايَةُ حِفْظِ مَالِهِ ، فَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يَضُمَّهُ إلَى نَفْسِهِ إمَّا لِدَفْعِ الْفِتْنَةِ ، أَوْ لِدَفْعِ الْعَارِ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّهُ يُعَيَّرُ بِفَسَادِ وَلَدِهِ .
فَأَمَّا الْجَارِيَةُ إذَا كَانَتْ بِكْرًا فَلِلْأَبِ أَنْ يَضُمَّهَا إلَى نَفْسِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَخْتَبِرْ الرِّجَالَ فَتَكُونُ سَرِيعَةَ الِانْخِدَاعِ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ ثَيِّبًا فَلَهَا أَنْ تَنْفَرِدَ بِالسُّكْنَى ؛ لِأَنَّهَا قَدْ اخْتَبَرَتْ الرِّجَالَ وَعَرَفَتْ كَيْدَهُمْ وَمَكْرَهُمْ فَلَيْسَ لِلْأَبِ أَنْ يَضُمَّهَا إلَى نَفْسِهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ قَدْ زَالَتْ بِالْبُلُوغِ وَإِنَّمَا بَقِيَ حَقُّ الضَّمِّ فِي الْبِكْرِ ؛ لِأَنَّهَا عُرْضَةٌ لِلْفِتْنَةِ وَلِلِانْخِدَاعِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ } وَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الثَّيِّبُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا } يَعْنِي فِي التَّفَرُّدِ بِالسُّكْنَى وَلَكِنَّ هَذَا إذَا كَانَتْ مَأْمُونَةً عَلَى نَفْسِهَا .
وَذَكَرَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ أَنَّ الثَّيِّبَ إذَا كَانَتْ مَخُوفَةً عَلَى نَفْسِهَا لَا يُوثَقُ بِهَا فَلِلْأَبِ أَنْ يَضُمَّهَا إلَى نَفْسِهِ لِبَقَاءِ الْخَوْفِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ وِلَايَةَ الضَّمِّ فِي الْبِكْرِ لِكَوْنِهَا مَخُوفًا عَلَيْهَا فَإِذَا وُجِدَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الثَّيِّبِ كَانَ لَهُ أَنْ يَضُمَّهَا إلَى نَفْسِهِ وَأَمَّا الْبِكْرُ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَبٌ وَلَا جَدٌّ وَكَانَ لَهَا أَخٌ ، أَوْ عَمٌّ فَلَهُ أَنْ يَضُمَّهَا إلَيْهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ مُشْفِقٌ عَلَيْهَا فَيَقُومُ بِحِفْظِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَبْلُغُ شَفَقَتُهُ شَفَقَةَ الْأَبِ بِمَنْزِلَةِ وِلَايَةِ التَّزْوِيجِ يَثْبُتُ لِلْعَمِّ وَالْأَخِ بَعْدَ الْأَبِ وَالْجَدِّ ، فَإِنْ كَانَ أَخُوهَا ، أَوْ عَمُّهَا مُفْسِدًا مَخُوفًا لَمْ يُخَلَّ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا ؛ لِأَنَّ ضَمَّهَا إلَيْهِ لِدَفْعِ الْفِتْنَةِ فَإِذَا كَانَ سَبَبًا لِلْفِتْنَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقُّ ضَمِّهَا إلَيْهِ بَلْ يُجْعَلُ هُوَ كَالْمَعْدُومِ فَتَكُونُ وِلَايَةُ النَّظَرِ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي يَنْظُرُ امْرَأَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثِقَةً فَيَضَعُهَا عِنْدَهَا وَكَمَا يَثْبُتُ لِلْقَاضِي
وِلَايَةُ النَّظَرِ فِي مَالِهَا عِنْدَ عَجْزِهَا عَنْ ذَلِكَ ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ نَفْسِهَا ، فَإِنْ كَانَتْ الْبِكْرُ قَدْ دَخَلَتْ فِي السِّنِّ فَاجْتَمَعَ لَهَا رَأْيُهَا وَعَقْلُهَا وَأَخُوهَا أَوْ عَمُّهَا مَخُوفٌ عَلَيْهَا فَلَهَا أَنْ تَنْزِلَ حَيْثُ شَاءَتْ فِي مَكَان لَا يُخَافُ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ الضَّمَّ كَانَ لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ بِسَبَبِ الِانْخِدَاعِ وَفَرْطِ الشَّبَقِ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ حِينَ دَخَلَتْ فِي السِّنِّ وَاجْتَمَعَ لَهَا رَأْيُهَا وَعَقْلُهَا
( قَالَ : ) وَأُمُّ الْوَلَدِ إذَا أَعْتَقَهَا مَوْلَاهَا فِي الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرَّةِ الْمُطَلَّقَةِ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ هَذَا الْحَقِّ لِلْأُمِّ بِاعْتِبَارِ شَفَقَتِهَا عَلَى الْوَلَدِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ أُمِّ الْوَلَدِ ، بَلْ شَفَقَتُهُنَّ عَلَى أَوْلَادِهِنَّ أَظْهَرُ مِنْ شَفَقَةِ الْحَرَائِرِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ كَانَ سَبَبَ عِتْقِهَا إلَّا أَنَّ قَبْلَ الْعِتْقِ لَيْسَ لَهَا حَقُّ الْحَضَانَةِ لِاشْتِغَالِهَا بِخِدْمَةِ مَوْلَاهَا وَلِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَا عَلَى نَفْسِهَا وَحَقُّ الْحَضَانَةِ نَوْعُ وِلَايَةٍ فَكَمَا لَا يَثْبُتُ سَائِرُ الْوِلَايَاتِ لِلرَّقِيقِ ، فَكَذَلِكَ فِي الْحَضَانَةِ وَهَذَا الْمَعْنَى يَزُولُ بِالْعِتْقِ فَكَانَتْ فِي الْحَضَانَةِ بَعْدَ الْعِتْقِ كَالْحُرَّةِ الْأَصْلِيَّةِ ( قَالَ : ) وَالْأَمَةُ إذَا فَارَقَهَا زَوْجُهَا فَإِنَّ الْوَلَدَ رَقِيقٌ لِمَوْلَى الْأَمَةِ يَأْخُذُهُمْ الْمَوْلَى وَهُوَ أَوْلَى بِهِمْ مِنْ الْأَبِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ تَبَعُ الْأُمِّ فِي الْمِلْكِ وَالْمَمْلُوكُ مَالِكُهُ أَحَقُّ مِنْ غَيْرِهِ ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا لَمْ يُفَارِقْ أُمَّهُ فَالْمَوْلَى أَوْلَى بِالْوَلَدِ لِكَوْنِهِ مَمْلُوكًا وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ الْوَلَدِ الصَّغِيرِ وَبَيْنَ أُمِّهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدَهَا فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ
بَابُ مَتَاعِ الْبَيْتِ ( قَالَ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِذَا اخْتَلَفَ الزَّوْجَانِ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ فَمَا كَانَ لِلنِّسَاءِ كَالدِّرْعِ وَالْخِمَارِ وَالْمَغَازِلِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ وَمَا كَانَ لِلرِّجَالِ كَالسِّلَاحِ وَالْقَبَاءِ وَالْقَلَنْسُوَةِ وَالْمِنْطَقَةِ وَالطَّيْلَسَانِ وَالسَّرَاوِيلِ وَالْفَرَسِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ وَمَا كَانَ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ كَالْخَادِمِ وَالْعَبْدِ وَالشَّاةِ وَالْفُرُشِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ كَانَا حَيَّيْنِ ، وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا وَوَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْحَيِّ مِنْهَا وَوَرَثَةِ الْمَيِّتِ فَهُوَ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا أَيِّهِمَا كَانَ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ إنْ كَانَ حَيًّا وَلِوَرَثَتِهِ إنْ كَانَ مَيِّتًا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تُعْطَى الْمَرْأَةُ جِهَازَ مِثْلِهَا وَالْبَاقِي لِلرَّجُلِ ، اُسْتُحْسِنَ ذَلِكَ ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : مَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَهُوَ لِلزَّوْجِ إنْ كَانَ حَيًّا وَلِوَرَثَتِهِ إنْ كَانَ مَيِّتًا وَإِنَّمَا لَهَا مَا يَصْلُحُ لِلنِّسَاءِ خَاصَّةً .
وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ شُبْرُمَةَ الْمَتَاعُ كُلُّهُ لِلرَّجُلِ إلَّا مَا عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ ثِيَابِ بَدَنِهَا .
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْمَتَاعُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ إذَا لَمْ تَقُمْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَحَدُ أَقَاوِيلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَفِي قَوْلٍ آخَرَ الْمُشْكِلُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَعَلَى قَوْلِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ إنْ كَانَ الْبَيْتُ بَيْتَ الْمَرْأَةِ فَالْمَتَاعُ كُلُّهُ لَهَا إلَّا مَا عَلَى الزَّوْجِ مِنْ ثِيَابِ بَدَنِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ بَيْتَ الزَّوْجِ فَالْمَتَاعُ كُلُّهُ لَهُ ؛ لِأَنَّ يَدَ صَاحِبِ الْبَيْتِ عَلَى مَا فِي الْبَيْتِ أَقْوَى وَأَظْهَرُ مِنْ يَدِ غَيْرِهِ ؛ وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ سَاكِنَةُ الْبَيْتِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُسَمَّى قَعِيدَةً فَإِذَا كَانَ الْبَيْتُ لَهَا فَالْبَيْتُ
مَعَ مَا فِيهِ فِي يَدِهَا وَعِنْدَ دَعْوَى مُطْلَقِ الْمِلْكِ الْقَوْلُ قَوْلُ ذِي الْيَدِ وَمَنْ يَقُولُ الْمَتَاعُ كُلُّهُ لِلزَّوْجِ قَالَ : لِأَنَّ الْمَرْأَةَ فِي يَدِ الزَّوْجِ فَمَا فِي بَيْتِهَا يَكُونُ فِي يَدِ الزَّوْجِ أَيْضًا .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ صَاحِبُ الْبَيْتِ وَأَنَّ الْمَنْزِلَ يُضَافُ إلَيْهِ وَلِهَذَا لَوْ تَنَازَعَ رَجُلَانِ فِي امْرَأَةٍ وَهِيَ فِي بَيْتِ أَحَدِهِمَا فَأَقَامَا الْبَيِّنَةَ كَانَتْ بَيِّنَةُ صَاحِبِ الْيَدِ أَوْلَى ، وَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ مَعَ الْمُسْتَأْجِرِ إذَا اخْتَلَفَا فِي مَتَاعِ الْحَانُوتِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ وَلَيْسَ لِلْأَجِيرِ إلَّا مَا عَلَيْهِ مِنْ ثِيَابِ بَدَنِهِ ، فَهَذَا مِثْلُهُ ، وَمَنْ يَقُولُ : الْكُلُّ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ يَقُولُ : اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ ؛ لِأَنَّهُمَا سَاكِنَانِ فِي الْبَيْتِ فَالْبَيْتُ مَعَ مَا فِيهِ يَكُونُ فِي يَدِهِمَا وَلَا مُعْتَبَرَ فِي الدَّعْوَى وَالْخُصُومَاتِ بِالشَّبَهِ أَلَا تَرَى أَنَّ إسْكَافًا وَعَطَّارًا لَوْ تَنَازَعَا فِي آلَاتِ الْأَسَاكِفَةِ ، أَوْ آلَاتِ الْعَطَّارِينَ وَهُوَ فِي أَيْدِيهِمَا قُضِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَلَا يُنْظَرُ إلَى مَا يَصْلُحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتَّخِذُ الشَّيْءَ لِاسْتِعْمَالِهِ وَقَدْ يَتَّخِذُهُ لِيَتَّجِرَ فِيهِ ، فَكَذَلِكَ هَذَا وَمَنْ يَقُولُ : إنَّ الْمُشْكِلَ بَيْنَهُمَا ، يَقُولُ : لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا يَصْلُحُ لَهُ نَوْعُ تَرْجِيحٍ مِنْ حَيْثُ إنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي اتَّخَذَهُ لِاسْتِعْمَالِهِ فَيَتَرَجَّحُ بِهِ ، كَمَا لَوْ تَنَازَعَ صَاحِبُ الدَّارِ مَعَ سُكَّانِهَا فِي لَوْحٍ مَوْضُوعٍ فِي الدَّارِ وَنَقْشُهُ يُشْبِهُ نَقْشَ الْأَلْوَاحِ الَّتِي فِي السَّقْفِ وَمَوْضِعُهُ مِنْ السَّقْفِ ظَاهِرٌ فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ صَاحِبِ الدَّارِ لِأَجْلِ شَهَادَةِ الظَّاهِرِ لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ السَّاكِنِ كَسَائِرِ الْأَمْتِعَةِ فَأَمَّا فِي الْمُشْكِلِ لَا تَرْجِيحَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْمُسَاوَاةُ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ فَيَكُونُ بَيْنَهُمَا
نِصْفَانِ .
وَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : الْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ الْكُلُّ لِلزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَعَ مَا فِي يَدِهَا فِي يَدِ الزَّوْجِ إلَّا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا لَا تُزَفُّ إلَى بَيْتِ زَوْجِهَا إلَّا مَعَ جِهَازِ مِثْلِهَا فَفِي مِقْدَارِ جِهَازِ مِثْلِهَا يُتْرَكُ الْقِيَاسُ لِلْعُرْفِ الظَّاهِرِ وَيُجْعَلُ ذَلِكَ لَهَا وَفِيمَا زَادَ عَلَى الْقَوْلِ قَوْلُ الزَّوْجِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ الَّذِي قُلْنَا .
وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : مَا يَصْلُحُ لِلرِّجَالِ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ اسْتِعْمَالِ الرَّجُلِ وَمَا يَصْلُحُ لِلنِّسَاءِ فَهُوَ قَرِيبٌ مِنْ اسْتِعْمَالِهَا وَالِاسْتِعْمَالُ يَدٌ حَتَّى لَوْ تَنَازَعَ رَجُلَانِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَأَحَدُهُمَا لَابِسُهُ وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِذَيْلِهِ ، أَوْ تَنَازَعَا فِي دَابَّةٍ وَأَحَدُهُمَا رَاكِبُهَا وَالْآخَرُ مُتَعَلِّقٌ بِلِجَامِهَا يُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُسْتَعْمِلِ فَكَانَتْ يَدُ الْمُسْتَعْمِلِ هُنَا أَقْوَى فِيمَا هُوَ صَالِحٌ لِأَحَدِهِمَا فَأَمَّا فِيمَا يَصْلُحُ لَهُمَا فَيَتَرَجَّحُ جَانِبُ الرَّجُلِ فِي الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ الْبَيْتِ فَقَدْ كَانَتْ هِيَ مَعَ الْمَتَاعِ فِي يَدِهِ فَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَثَةُ الزَّوْجِ يَقُومُونَ مَقَامَ الزَّوْجِ فَكَمَا أَنَّ فِي الْمُشْكِلِ الْقَوْلَ قَوْلُهُ فِي حَيَاتِهِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ الْقَوْلُ قَوْلُ وَرَثَتِهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : يَدُ الْبَاقِي مِنْهُمَا إلَى الْمَتَاعِ أَسْبَقُ ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ إنَّمَا يُثْبِتُ يَدَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ ، وَكَمَا يَقَعُ التَّرْجِيحُ هُنَا بِقُوَّةِ الْيَدِ لِصَلَاحِيَّةِ الِاسْتِعْمَالِ فَكَذَا يَقَعُ التَّرْجِيحُ بِسَبْقِ الْيَدِ وَلِأَنَّ يَدَ الْبَاقِي مِنْهُمَا يَدُ نَفْسِهِ وَيَدُ الْوَارِثِ قَائِمَةٌ مَقَامَ يَدِ مُوَرِّثِهِ فَلِهَذَا النَّوْعِ مِنْ التَّرْجِيحِ كَانَ الْمُشْكِلُ لِلْبَاقِي مِنْهُمَا أَيِّهِمَا كَانَ .
وَمَا كَانَ مِنْ مَتَاعِ التِّجَارَةِ وَالرَّجُلُ مَعْرُوفٌ بِتِلْكَ التِّجَارَةِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ ،
وَالْجُبَّةُ الْمَحْشُوَّةُ وَجُبَّةُ الْقَزِّ وَالْخَزِّ وَالْبُرْدِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ إذَا كَانَتْ ذَاتَ لَبَّةٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يَسْتَعْمِلُهُ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ .
وَالْمُسْتُقَةُ وَالْبُرُّ كَانَ الْمَعْلَمُ مِمَّا يَكُونُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ حُرًّا وَالْآخَرُ مَمْلُوكًا ، أَوْ مُكَاتَبًا فَالْمَتَاعُ لِلْحُرِّ مِنْهُمَا أَيِّهِمَا كَانَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى هَذَا وَمَا لَوْ كَانَا حُرَّيْنِ سَوَاءٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ قَوْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْمَمْلُوكَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ فِي الِاسْتِحْقَاقِ بِالْيَدِ ؛ لِأَنَّ لَهُ يَدًا مُعْتَبَرَةً .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَنَازَعَ حُرٌّ وَمَمْلُوكٌ فِي مَتَاعٍ فِي يَدِهِمَا كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَلَا تَتَرَجَّحُ يَدُ الْحُرِّ بِحُرِّيَّتِهِ ، فَكَذَلِكَ هَذَا .
وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ يَدُ الْحُرِّ أَقْوَى فَإِنَّهَا يَدُ مِلْكٍ وَيَدُ الْعَبْدِ لَيْسَتْ بِيَدِ مِلْكٍ فَكَمَا يَقَعُ التَّرْجِيحُ هُنَا بِقُوَّةِ الْيَدِ يَقَعُ بِالْقُرْبِ مِنْ الِاسْتِعْمَالِ بِخِلَافِ سَائِرِ الدَّعَاوَى وَالْخُصُومَاتِ ، فَكَذَلِكَ يَقَعُ التَّرْجِيحُ هُنَا بِقُوَّةِ الْيَدِ بِالْحُرِّيَّةِ ، تَوْضِيحُهُ أَنَّ يَدَ الْحُرِّ يَدُ نَفْسِهِ وَيَدَ الْعَبْدِ مِنْ وَجْهٍ كَأَنَّهَا يَدُ مَوْلَاهُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّرْجِيحَ هُنَا بِاعْتِبَارِ أَنَّ يَدَهُ يَدُ نَفْسِهِ كَمَا بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا كَافِرًا وَالْآخَرُ مُسْلِمًا فَالْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّهُمَا فِي قُوَّةِ الْيَدِ يَسْتَوِيَانِ فَإِنَّ يَدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدُ نَفْسِهِ وَهِيَ يَدُ مِلْكٍ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَيَسْتَوِي إنْ وَقَعَتْ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ ، أَوْ بَعْدَ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِأَيِّ وَجْهٍ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ