كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي

عُمَرَ وَعَائِشَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ قَالُوا : عَزِيمَةُ الطَّلَاقِ مُضِيُّ الْمُدَّةِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ ، وَلَكِنَّهُ يُوقَفُ بَعْدَ الْمُدَّةِ حَتَّى يَفِيءَ إلَيْهَا أَوْ يُفَارِقَهَا فَإِنْ أَبَى أَنْ يَفْعَلَ فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا ، وَكَانَ تَفْرِيقُهُ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً .
وَالْكَلَامُ فِي فَصْلَيْنِ ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ عِنْدَهُ الْفَيْءُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبَّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } فَبَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ لِلزَّوْجِ لَا عَلَيْهِ وَإِنَّمَا تَكُونُ الْمُدَّةُ لَهُ إذَا كَانَ الْأَمْرُ مُوَسَّعًا عَلَيْهِ ، وَالتَّضْيِيقُ بَعْدَهُ فَأَمَّا إذَا كَانَ مُطَالَبًا بِالْجِمَاعِ فِي الْمُدَّةِ فَلَا تَكُونُ الْمُدَّةُ لَهُ ثُمَّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِنْ فَاءُوا } وَحَرْفُ الْفَاءِ لِلتَّعْقِيبِ .
عَرَفْنَا أَنَّ الْفَيْءَ الَّذِي يُؤْمَرُ بِهِ الزَّوْجُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَعِنْدَنَا الْفَيْءُ فِي الْمُدَّةِ بِقِرَاءَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ( فَإِنْ فَاءُوا فِيهِنَّ ) .
وَقِرَاءَتُهُ لَا تَتَخَلَّفُ عَنْ سَمَاعِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالتَّقْسِيمُ فِي قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفَيْءَ فِي الْمُدَّةِ وَعَزِيمَةَ الطَّلَاقِ بَعْدَهُ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } ، وَالْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ بِالْمُجَامَعَةِ فِي الْمُدَّةِ ، وَالتَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ بِتَرْكِهَا حَتَّى تَبِينَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ ، وَهَذَا التَّرَبُّصُ مَشْرُوعٌ لِلزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ كَانَ طَلَاقًا مُعَجَّلًا فَجَعَلَ الشَّرْعُ لِلزَّوْجِ فِيهِ مُدَّةَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ حَتَّى مَكَّنَهُ مِنْ التَّدَارُكِ فِي الْمُدَّةِ وَجَعَلَ الطَّلَاقَ مُؤَخَّرًا إلَى مَا بَعْدَ الْمُدَّةِ .
( وَالْفَصْلُ الثَّانِي ) أَنَّ الْفُرْقَةَ عِنْدَهُ ، لَا تَقَعُ إلَّا بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا أَوْ بِإِيقَاعِ الزَّوْجِ الطَّلَاقَ ؛ لِأَنَّ

اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } .
وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ عَزِيمَةَ الطَّلَاقِ بِمَا هُوَ مَسْمُوعٌ وَذَلِكَ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ أَوْ تَفْرِيقِ الْقَاضِي ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَهُمَا لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا عِنْدَ فَوْتِ الْإِمْسَاكِ بِالْمَعْرُوفِ ، فَلَا يَقَعُ إلَّا بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي كَفُرْقَةِ الْعِنِّينِ ، فَإِنَّ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ هُنَاكَ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ إلَّا بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ هُنَاكَ مَعْذُورٌ وَهُنَا هُوَ ظَالِمٌ مُتَعَنِّتٌ ، وَالْقَاضِي مَنْصُوبٌ لِإِزَالَةِ الظُّلْمِ فَيَأْمُرُهُ أَنْ يُوَفِّيَهَا حَقَّهَا ، أَوْ يُفَارِقَهَا ، فَإِنْ أَبِي نَابَ عَنْهُ فِي إيقَاعِ الطَّلَاقِ وَهُوَ نَظِيرُ التَّفْرِيقِ بِسَبَبِ الْعَجْزِ عَنْ النَّفَقَةِ عَلَى قَوْلِهِ .
( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ } فَذَكَرَ عَزِيمَةَ الطَّلَاقِ بَعْدَ ذِكْرِ الْمُدَّةِ ، فَهُوَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ تَرْكَ الْفَيْءِ فِي الْمُدَّةِ عَزِيمَةُ الطَّلَاقِ عِنْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { عَزِيمَةُ الطَّلَاقِ مُضِيُّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } وَقَدْ أَضَافَ إلَى الزَّوْجِ فَدَلَّ أَنَّ الطَّلَاقَ يَتِمُّ بِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى قَضَاءِ الْقَاضِي ، وَمَعْنَى قَوْله تَعَالَى { فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } سَمِيعٌ لِإِيلَائِهِ عَلِيمٌ بِقَصْدِهِ الْإِضْرَارَ ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْمُدَّةَ مُدَّةُ تَرَبُّصٍ بَعْدَمَا أَظْهَرَ الزَّوْجُ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مَرِيدٍ لَهَا فَتَبِينُ بِمُضِيِّهَا كَمُدَّةِ الْعِدَّةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ ، وَلَا فَرْقَ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الزَّوْجُ بِالطَّلَاقِ يُظْهِرُ كَرَاهِيَةَ صُحْبَتِهَا فَيَصِيرُ فِي الْمَعْنَى كَأَنَّهُ عَلَّقَ الْبَيْنُونَةَ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ قَبْلَ أَنْ يُرَاجِعَهَا ، وَهُنَا هُوَ بِيَمِينِهِ يُظْهِرُ كَرَاهِيَتَهَا فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ عَلَّقَ الْبَيْنُونَةَ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ قَبْلَ أَنْ يَفِيءَ إلَيْهَا ، وَلِهَذَا جَعَلْنَا الْوَاقِعَةَ تَطْلِيقَةً

بَائِنَةً ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ دَفْعُ ضَرَرِ التَّعْلِيقِ عَنْهَا ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِالتَّطْلِيقَةِ الرَّجْعِيَّةِ ، وَلَكِنَّ الْعِدَّةَ هُنَا تَجِبُ هُنَا بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بَعْدَهُ ، وَهُنَاكَ الطَّلَاقُ كَانَ وَاقِعًا فَجَعَلْنَا الْأَقْرَاءَ مَحْسُوبَةً مِنْ الْعِدَّةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَقْرَبُهَا أَبَدًا ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَانَ مَتَى ذُكِرَ مُضَافًا إلَى النِّسَاءِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْجِمَاعُ ، وَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ لَمْ أَعْنِ الْجِمَاعَ لَمْ يُصَدَّقَ فِي الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ تَغْيِيرَ اللَّفْظِ عَنْ الظَّاهِرِ الْمُتَعَارَفِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ هُنَا ، وَلَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ مَعْنَى الْجِمَاعِ هُوَ الِاجْتِمَاعُ فَفِيمَا نَوَى بِهِ مِمَّا سِوَى الْجِمَاعِ هُوَ مُحْتَمَلٌ فَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهَا وَقَالَ : لَمْ أَعْنِ الْجِمَاعَ فَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ الدُّخُولَ عَلَيْهَا لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ يُسْتَعْمَلُ فِي الْجِمَاعِ وَالزِّيَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ فَالْمَنْوِيُّ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِلظَّاهِرِ ، وَحَرْفُ الصِّلَةِ يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ " عَلَى " فَإِنَّهُ إذَا كَانَ الْمُرَادُ الْجِمَاعُ يُقَال : دَخَلَ بِهَا .
وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَيَغِيظَنَّهَا أَوْ لَيَسُؤَنَّهَا ، أَوْ لَا يَجْمَعُ رَأْسَهُ وَرَأْسَهَا شَيْءٌ ، أَوْ لَا يَمَسُّهَا ، وَفِي نُسَخِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَوْ لَا يُلَامِسُهَا فَهَذِهِ الْأَلْفَاظُ تُطْلَقُ فِي الْجِمَاعِ ، وَغَيْرِ الْجِمَاعِ فَإِنْ نَوَى بِهَا الْجِمَاعَ كَانَ مُولِيًا وَإِنْ نَوَى غَيْرَ الْجِمَاعَ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا ، لِأَنَّ الْمُولِي مَنْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْجِمَاعِ فِي الْمُدَّةِ ، إلَّا بِشَيْءٍ يَلْزَمُهُ حَتَّى يَتَحَقَّقَ إضْرَارُهُ بِمَنْعِ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَمَسُّ جِلْدُهُ جِلْدَهَا وَعَنَى بِهِ حَقِيقَةَ الْمَسِّ ، فَالْحِنْثُ هُنَا يَحْصُلُ بِدُونِ الْجِمَاعِ فَلَا يَكُونُ إيلَاءً وَيُمْكِنُهُ أَنْ يُجَامِعَهَا مِنْ

غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ بِأَنْ يَلُفَّ آلَتَهُ فِي حَرِيرَةٍ ، ثُمَّ يَدُسَّهُ فِيهَا وَقَالَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ : رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا حَلَفَ لَا يَأْتِيهَا وَعَنَى الْجِمَاعَ فَهُوَ مُولٍ ، وَإِنْ قَالَ لَمْ أَعْنِ الْجِمَاعَ صُدِّقَ فِي الْقَضَاءِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ قَدْ يُرَادُ بِهِ الْجِمَاعُ ، وَيُرَادُ بِهِ الزِّيَارَةُ أَوْ الضَّرْبُ فَكَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمَلًا ، وَالْمُحْتَمَلُ لَا يُوجِبُ شَيْئًا بِدُونِ النِّيَّةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَغْشَاهَا فَهُوَ مَدِينٌ فِي الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ الْغِشْيَانَ يُرَادُ بِهِ الْجِمَاعُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَلَمَّا تَغَشَّاهَا } وَيُرَادُ بِهِ غَيْرُ الْجِمَاعِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ .
} وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَقْرَبُ فِرَاشَهَا فَلَفْظُ الْقُرْبِ إضَافَةٌ إلَى فِرَاشِهَا لَا إلَيْهَا ، وَلِذَلِكَ يُحْتَمَلُ الْجِمَاعُ وَغَيْرُهُ ، فَإِنْ عَنَى الْجِمَاعَ فَهُوَ مُولٍ وَإِلَّا فَلَيْسَ بِمُولٍ ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يُجَامِعَهَا مِنْ غَيْرِ حِنْثٍ إمَّا عَلَى الْأَرْضِ أَوْ بِأَنْ تَدْخُلَ هِيَ فِرَاشَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْرَبَ هُوَ فِرَاشَهَا ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يُبَاضِعُهَا فَهُوَ مُولٍ ، وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ اللَّفْظِ لِلْجِمَاعِ ، فَإِنَّ الْمُبَاضَعَةَ إدْخَالُ الْبُضْعِ فِي الْبُضْعِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي صَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَغْتَسِلُ مِنْهَا مِنْ جَنَابَةٍ ؛ لِأَنَّ الِاغْتِسَالَ مِنْهَا إنَّمَا يَكُونُ بِالْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ خَاصَّةً فَأَمَّا الْجِمَاعُ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ يَكُونُ اغْتِسَالًا مِنْ الْإِنْزَالِ لَا مِنْهَا ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ لَفْظِهِ لِلْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ لَمْ يُصَدَّقْ فِي صَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ وَكَانَ مُولِيًا بِمَنْعِهِ حَقَّهَا بِيَمِينِهِ .
فَإِنَّ حَقَّهَا فِي الْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ لَا فِيمَا دُونَهُ .

( قَالَ ) : وَإِذَا حَلَفَ لَا يَقْرَبُهَا أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا عِنْدَنَا .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى هُوَ مُولٍ ، إنْ تَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بَانَتْ بِالتَّطْلِيقَةِ .
وَهَكَذَا كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي الِابْتِدَاءِ فَلَمَّا بَلَغَهُ فَتْوَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا : ( لَا إيلَاءَ فِيمَا دُونَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ) رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ .
وَابْنُ أَبِي لَيْلَى اسْتَدَلَّ بِظَاهِرِ الْآيَةِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ } وَالْإِيلَاءُ : هُوَ الْيَمِينُ .
فَتَقْيِيدُ الْيَمِينِ بِمُدَّةِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ يَكُونُ زِيَادَةً .
وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُولِي مَنْ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَ امْرَأَتِهِ فِي الْمُدَّةِ إلَّا بِشَيْءٍ يَلْزَمُهُ ، وَإِذَا عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى شَهْرٍ فَهُوَ يَتَمَكَّنُ مِنْ قُرْبَانِهَا بَعْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ فَلَمْ يَكُنْ مُولِيًا كَمَا فِي تَرْكِ مُجَامَعَتِهَا مُدَّةً بِغَيْرِ يَمِينٍ .
( قَالَ ) : وَكُلُّ مَا حَلَفَ بِهِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا مِمَّا يَكُونُ بِهِ حَالِفًا فَهُوَ مُولٍ عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : إذَا عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّ تَضْيِيقَ الْأَمْرِ عِنْدَهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ ، فَإِذَا كَانَتْ الْمُدَّةُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَنْتَهِي الْيَمِينُ بِمُضِيِّهَا فَلَا يُمْكِنُ تَضْيِيقُ الْأَمْرِ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ قُرْبَانِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ ، وَإِذَا كَانَتْ الْمُدَّةُ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَتَضْيِيقُ الْأَمْرِ عَلَيْهِ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ مُمْكِنٌ ، وَعِنْدَنَا مُجَرَّدُ مُضِيِّ الْمُدَّةِ عَزِيمَةُ الطَّلَاقِ ، فَإِذَا كَانَتْ الْمُدَّةُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ يَتِمُّ مَعْنَى الْإِيلَاءِ بِهِ ، وَتَقَعُ الْفُرْقَةُ بِمُضِيِّهِ ثُمَّ الْيَمِينُ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا - مَا يُقْصَدُ بِهِ تَعْظِيمُ الْمُقْسَمِ بِهِ :

وَالثَّانِي - الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ ، وَالْأَوَّلُ يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ ، فَأَمَّا الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ يَمِينٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ ، وَلَا يَعْرِفُهُ أَهْلُ اللُّغَةِ ، وَبِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّوْعَيْنِ يَثْبُتُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ فَإِذَا قَالَ : أَحْلِفُ ، أَوْ أَحْلِفُ بِاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك فَهُوَ مُولٍ عِنْدَنَا .
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ : أَحْلِفُ بِاَللَّهِ كَذَلِكَ ، فَأَمَّا فِي قَوْلِهِ أَحْلِفُ عِنْدَهُ لَا يَكُونُ يَمِينًا ، وَلَكِنَّهُ وَعْدٌ أَنْ يَحْلِفَ بِهَذَا اللَّفْظِ .
( وَلَكِنَّا ) نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ } فَدَلَّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَمِينٌ ، سَوَاءٌ ذَكَرَ قَوْلَهُ بِاَللَّهِ أَوْ أَطْلَقَ ؛ لِأَنَّ الْحَلِفَ فِي الظَّاهِرِ يَكُونُ بِاَللَّهِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَشْهَدُ أَوْ أَشْهَدُ بِاَللَّهِ فَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلُهُ أَشْهَدُ لَا يَكُونُ يَمِينًا ، بَلْ يَكُونُ هَذَا اللَّفْظُ لِلشَّهَادَةِ ، فَإِذَا قَالَ بِاَللَّهِ يَمِينًا .
وَلَكِنَّا نَقُولُ : كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ اللَّفْظَيْنِ يَمِينٌ سَوَاءٌ ذَكَرَ قَوْلَهُ بِاَللَّهِ أَوْ أَطْلَقَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ } إلَى قَوْلِهِ { اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } فَقَدْ سَمَّى شَهَادَتَهُمْ يَمِينًا وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ } .
وَاللِّعَانُ يَمِينٌ قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْلَا الْأَيْمَانُ الَّتِي سَبَقَتْ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ } ؛ وَلِأَنَّ قَوْلَ الشَّاهِدِ بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي أَشْهَدُ فِي مَعْنَى الْيَمِينِ ، وَلِهَذَا عَظُمَ الْوِزْرُ فِي شَهَادَةِ الزُّورِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْيَمِينِ الْغَمُوسِ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ أُقْسِمُ أَوْ أُقْسِمُ بِاَللَّهِ فَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلُهُ أُقْسِمُ لَا يَكُونُ يَمِينًا كَقَوْلِهِ أَحْلِفُ .
وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إذْ أَقْسَمُوا لِيَصْرِمُنَّهَا

مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ ، } وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي الْيَمِينِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَقْسَمُوا بِاَللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : أَعْزِمُ أَوْ أَعْزِمُ بِاَللَّهِ فَإِنَّ الْعَزْمَ آكَدُ مَا يَكُونُ مِنْ الْعَهْدِ ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْيَمِينِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : عَلَيَّ نَذْرٌ أَوْ نَذْرٌ لِلَّهِ قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( النَّذْرُ يَمِينٌ وَكَفَّارَتُهُ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ ) وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ عَهْدُ اللَّهِ عَلَيَّ فَالْعَهْدُ يَمِينٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَأَوْفَوْا بِعَهْدِ اللَّهِ إذَا عَاهَدْتُمْ } مَعْنَاهُ إذَا حَلَفْتُمْ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : عَلَيَّ ذِمَّةُ اللَّهِ ؛ لِأَنَّ الذِّمَّةَ عِبَارَةٌ عَنْ الْعَهْدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلًّا وَلَا ذِمَّةً } وَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَرَادُوكُمْ أَنْ تُعْطُوهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ فَلَا تُعْطُوهُمْ } وَأَهْلُ الذِّمَّةِ هُمْ أَهْلُ الْعَهْدِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ هُوَ يَهُودِيٌّ ، أَوْ نَصْرَانِيٌّ ، أَوْ مَجُوسِيٌّ ، أَوْ بَرِيءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ إنْ قَرُبْتُك فَهُوَ مُولٍ .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَكُونُ مُولِيًا بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ عَيْنُ مَا الْتَزَمَ عِنْدَ الْقُرْبَانِ فَلَا يَلْزَمُهُ غَيْرُهُ كَمَا لَوْ قَالَ : هُوَ مُسْتَحِلٌّ الْمَيْتَةَ إنْ قَرُبْتُك وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَسْأَلَةِ تَحْرِيمِ الْحَلَالِ ، فَإِنَّ تَحْرِيمَ الْحَلَالِ عِنْدَنَا يَمِينٌ فَتَحْلِيلُ الْحَرَامِ ، كَذَلِكَ ، وَتَحْرِيمُ الْكُفْرِ بَاتَّةٌ مُصْمِتَةٌ ، فَاسْتِحْلَالُهَا يَمِينٌ لِمَا عَلَّقَهُ بِالْقُرْبَانِ بِخِلَافِ اسْتِحْلَالِ الْمَيْتَةِ فَإِنَّ حُرْمَتَهَا لَيْسَتْ بِبَاتَّةٍ وَلَكِنَّهَا تَنْكَشِفُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ ، وَسَنُقَرِّرُ هَذَا الْفَصْلَ فِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ .
- إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - .
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : وَعَظَمَةِ اللَّهِ أَوْ وَعِزَّةِ اللَّهِ أَوْ

وَقُدْرَةِ اللَّهِ فَهَذَا وَقَوْلُهُ وَاَللَّهِ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ : وَاَللَّهِ الْعَظِيمِ وَاَللَّهِ الْعَزِيزِ ، وَاَللَّهِ الْقَادِرِ وَسَنُقَرِّرُ حُكْمَ الْيَمِينِ بِصِفَاتِ اللَّهِ تَعَالَى .
وَكَذَلِكَ إنْ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ بِعِتْقٍ أَوْ طَلَاقٍ فَهُوَ مُولٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قُرْبَانِهَا فِي الْمُدَّةِ بِشَيْءٍ لَا يَلْزَمُهُ ؛ وَلِأَنَّ الشَّرْطَ وَالْجَزَاءَ يَمِينٌ قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( مَنْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ ) فَقَدْ سَمَّاهُ حَالِفًا ، وَكَذَلِكَ إنْ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ بِحَجٍّ أَوْ هَدْيٍ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ صَوْمٍ جَعَلَ لِلَّهِ عَلَيْهِ إنْ قَرُبَهَا ؛ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ بِهَذَا مَنْعُ الْقُرْبَانِ حِينَ عَلَّقَ بِالْقُرْبَانِ مَا يَكُونُ مُمْتَنِعًا مِنْ الْتِزَامِهِ عَادَةً وَتَلْحَقُهُ مَشَقَّةٌ فِي أَدَائِهِ .
وَإِذَا قَالَ وَالْقُرْآنِ لَا أَقْرَبُك لَا يَكُونُ مُولِيًا ؛ لِأَنَّ النَّاسَ لَمْ يَتَعَارَفُوا الْحَلِفَ بِالْقُرْآنِ ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْأَيْمَانِ الْعُرْفُ ، فَكُلُّ لَفْظٍ لَمْ يَكُنْ الْحَلِفُ بِهِ مُتَعَارَفًا لَا يَكُونُ يَمِينًا ، وَهَذَا اللَّفْظُ إنَّمَا يُذْكَرُ فِي الْكِتَابِ خَاصَّةً وَقَدْ طَعَنَ عَلَيْهِ بَعْضُ النَّاسِ فَقَالُوا : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالْكَلَامُ صِفَةُ الْمُتَكَلِّمِ فَلِمَاذَا لَمْ يُجْعَلْ الْحَلِفُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَمِينًا ؟ وَلَكِنَّا نَقُولُ : كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى صِفَتُهُ وَلَكِنَّ الْحَلِفَ بِهِ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ وَعِلْمِ اللَّهِ .
عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي الْأَيْمَانِ .
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ : هُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْقُرْآنِ إنْ قَرُبْتُك فَهُوَ مُولٍ ؛ لِأَنَّ الْبَرَاءَةَ مِنْ الْقُرْآنِ كُفْرٌ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : هُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْإِسْلَامِ إنْ قَرُبْتُك ، وَإِنْ قَالَ : وَالْكَعْبَةِ أَوْ الصَّلَاةِ ، أَوْ الزَّكَاةِ لَا أَقْرَبُك أَوْ حَلَفَ عَلَى ذَلِكَ بِشَيْءٍ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ ، أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ ، لَا يَكُونُ مُولِيًا ؛ لِأَنَّهُ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ أَلَا تَرَى أَنَّ رَسُولَ

اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمَّا سَمِعَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَقُولُ : وَأَبِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ وَلَا بِالطَّوَاغِيتِ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ فَلْيَذَرْ } فَدَلَّ أَنَّ الْحَلِفَ بِغَيْرِ اللَّهِ لَا يَكُونُ يَمِينًا شَرْعًا ، وَإِنْ قَالَ بِاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك فَهُوَ مُولٍ ، وَحُرُوفُ الْيَمِينِ ثَلَاثَةٌ : الْبَاءُ ، وَالْوَاوُ ، وَالتَّاءُ .
فَأَعَمَّهَا الْبَاءُ ، حَتَّى تَدْخُلَ فِي اسْمِ اللَّهِ وَفِي غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَفِي الْمُضْمَرِ ، وَالْمُظْهَرِ .
وَالْوَاوُ أَخَصُّ مِنْهَا فَإِنَّهَا تَدْخُلُ فِي الْمُظْهَرِ دُونَ الْمُضْمَرِ ، وَلَكِنَّهَا تَدْخُلُ فِي اسْمِ اللَّهِ ، وَفِي غَيْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالتَّاءُ أَخَصُّ مِنْهَا فَإِنَّهَا لَا تَدْخُلُ إلَّا فِي اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى مُظْهَرًا .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ } وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ وَأَيْمُ اللَّهِ ، أَوْ لَعَمْرِو اللَّهِ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ تَعَارَفُوا الْحَلِفَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ ، وَقِيلَ مَعْنَى قَوْلُهُ وَأَيْمُ اللَّهِ أَيْ وَأَيْمُنُ اللَّهِ فَيَكُونُ جَمْعُ الْيَمِينِ ، وَلِعَمْرِو اللَّهِ أَيْ وَاَللَّهِ الْبَاقِي ، وَفِي قَوْلِهِ لَعَمْرُكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يَمِينٌ ، وَإِنْ قَالَ آللَّهِ لَا أَقْرَبُك فَهُوَ مُولٍ أَيْضًا وَالْكَسْرَةُ فِي الْهَاءِ دَلِيلٌ عَلَى مَحْذُوفٍ ، وَهُوَ الْقَسَمُ وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْحُكْمِ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْإِيلَاءَ ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ ، وَإِنْ قَالَ قَوْلًا لَا يَقْرَبُهَا وَلَمْ يَحْلِفْ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ هَكَذَا نُقِلَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا ، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ } وَالْإِيلَاءُ يَمِينٌ فَبِدُونِ يَمِينِهِ كَانَ كَلَامُهُ وَعْدًا ، وَالْمَوَاعِيدُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ فَهُوَ يَتَمَكَّنُ مِنْ قُرْبَانِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ وَإِنْ حَلَفَ لَا يَقْرَبُهَا فِي مَكَانِ كَذَا أَوْ فِي مِصْرِ كَذَا أَوْ قَالَ فِي

أَرْضِ الْعِرَاقِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : هُوَ مُولٍ ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ الْإِضْرَارَ وَالتَّعَنُّتَ بِيَمِينِهِ فَلَزِمَهُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْيَمِينُ إذَا وُقِّتَتْ بِمَكَانٍ تَوَقَّتَتْ بِهِ ، فَهُوَ يَتَمَكَّنُ مِنْ قُرْبَانِهَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَكَانِ فِي الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ بِهِ مَنْعُ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ .

( قَالَ ) : وَلَوْ حَلَفَ لَا يَقْرَبُهَا وَهِيَ حَائِضٌ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا ؛ لِأَنَّهُ حَلَفَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، فَإِنَّ الْحَيْضَ لَا يَمْتَدُّ إلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ؛ وَلِأَنَّهُ لَا حَظَّ لَهَا فِي الْجِمَاعِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ ، فَلَا يَكُونُ مَانِعًا حَقَّهَا بِهَذِهِ الْيَمِينِ فَإِنْ قِيلَ : فَعَلَى هَذَا لَوْ حَلَفَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ يَنْبَغِي أَنْ لَا تُعْتَبَرَ مُدَّةُ الْحَيْضِ فَيَبْقَى يَمِينُهُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةٍ أَشْهُرٍ قُلْنَا : هَذَا أَنْ لَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْمُدَّةُ ثَابِتَةً بِالْمَعْنَى ، وَثُبُوتُهَا بِالنَّصِّ ، فَلَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا بِالرَّأْيِ ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى يَقْدُمَ فُلَانٌ ، أَوْ حَتَّى يَفْعَلَ هُوَ شَيْئًا يَقْدِرُ عَلَى فِعْلِهِ قَبْلَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَلَيْسَ بِمُولٍ : لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُجَامِعَهَا بَعْدَ وُجُودِ مَا جَعَلَهُ غَايَةً قَبْلَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ ، وَإِنْ تَأَخَّرَ ذَلِكَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ لَمْ يَضُرَّهُ ؛ لِأَنَّهُ بِأَصْلِ الْيَمِينِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا فَلَا يَصِيرُ مُولِيًا بِتَرْكِ الْمُجَامَعَةِ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا لَوْ تَرَكَ الْمُجَامَعَةَ بِغَيْرِ يَمِينٍ ، وَإِنْ حَلَفَ لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى يَفْعَلَ شَيْئًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، فَهُوَ مُولٍ مَعْنَاهُ حَتَّى يَمَسَّ السَّمَاءَ أَوْ يُحَوِّلَ هَذَا الْحَجَرَ ذَهَبًا ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَقْدُورِهِ ذَلِكَ الْفِعْلُ كَانَ مَقْصُودُهُ مِنْ جَعْلِهِ غَايَةَ تَحْقِيقِ مَعْنَى التَّأْبِيدِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك حَتَّى تَخْرُجَ الدَّابَّةُ أَوْ الدَّجَّالُ أَوْ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا فَهُوَ مُولٍ اسْتِحْسَانًا ، وَفِي الْقِيَاسِ لَيْسَ بِمُولٍ ؛ لِأَنَّهُ مَا جَعَلَهُ غَايَةً يُتَوَهَّمُ وُجُودُهُ قَبْلَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ .
وَلَكِنَّا نَقُولُ مَقْصُودُ الزَّوْجِ بِهَذَا الْمُبَالَغَةُ فِي النَّفْيِ لَا التَّوْقِيتُ فَيَتَحَقَّقُ بِهِ مَعْنَى الْإِيلَاءِ .

( قَالَ ) : وَإِذَا حَلَفَ لَا يَقْرَبُهَا سَنَةً إلَّا يَوْمًا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا عِنْدَنَا .
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ مُولٍ ؛ لِأَنَّ الْيَوْمَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ آخِرِ السَّنَةِ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ ، وَالْآجَالِ ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا فِي الْمُدَّةِ إلَّا بِكَفَّارَةٍ تَلْزَمُهُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ سَنَةً بِنُقْصَانِ يَوْمٍ كَانَ مُولِيًا فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : إلَّا يَوْمًا .
وَلَكِنَّا نَقُولُ : اسْتَثْنَى يَوْمًا مُنَكَّرًا فَمَا مِنْ يَوْمٍ بَعْدَ يَمِينِهِ إلَّا وَيُمْكِنُهُ أَنْ يَجْعَلَهُ الْيَوْمَ الْمُسْتَثْنَى فَيَقْرَبُهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ وَاَلَّذِي قَالَ إنَّ الْيَوْمَ مِنْ آخِرِ السَّنَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مُنَكَّرٌ فَلَوْ جَعَلْنَاهُ مِنْ آخِرِ السَّنَةِ لَمْ يَكُنْ مُنَكَّرًا ، وَتَغْيِيرُ كَلَامِهِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لَا يَجُوزُ ، وَفِي الْآجَالِ وَالْإِجَارَةِ دَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَا الْيَوْمَ مُنَكَّرًا فِيهِمَا لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ لِلْجَهَالَةِ ، وَلَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ ، وَهُوَ تَأَخُّرُ الْمُطَالَبَةِ ، وَالتَّمَكُّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ ، وَهُنَا لَا حَاجَةَ ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ لَا تَمْنَعُ انْعِقَادَ الْيَمِينِ فَلِهَذَا جَعَلْنَا الْيَوْمَ الْمُسْتَثْنَى مُنَكَّرًا كَمَا نَكَّرَهُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ بِنُقْصَانِ يَوْمِ ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ لَا يَكُونُ إلَّا مِنْ آخِرِ الْمُدَّةِ ، وَذَلِكَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى آخِرَ يَوْمٍ مِنْ السَّنَةِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُولٍ عِنْدَنَا قُلْنَا إذَا قَرُبَهَا فِي يَوْمٍ فَهَذَا الْيَوْمُ هُوَ الْيَوْمُ الْمُسْتَثْنَى فَلَا يَكُونُ مُولِيًا حَتَّى يَمْضِيَ ذَلِكَ الْيَوْمُ ثُمَّ يُنْظَرُ بَعْدَ مُضِيِّهِ فَإِنْ كَانَ الْبَاقِي مِنْ السَّنَةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ ، فَهُوَ مُولٍ وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي دُونَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَلَيْسَ بِمُولٍ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ قَدْ ارْتَفَعَ وَصَارَتْ الْيَمِينُ مُطْلَقَةً فِي بَقِيَّةِ الْمُدَّةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك سَنَةً

إلَّا مَرَّةً لَمْ يَكُنْ مُولِيًا ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ قُرْبَانِهَا بِسَبَبِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَ شَيْءٌ فَإِذَا قَرُبَهَا مَرَّةً ارْتَفَعَ الِاسْتِثْنَاءُ ، وَصَارَتْ الْيَمِينُ مُطْلَقَةً ، فَإِنْ بَقِيَ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْجِمَاعِ مِنْ السَّنَةِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرُ ، فَهُوَ مُولٍ ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي دُونَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا فَإِنْ وَصَلَ قَوْلُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ بِيَمِينِهِ ، لَمْ يَكُنْ مُولِيًا ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ يُخْرِجُ الْكَلَامَ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَإِنْ اشْتَرَطَ مَشِيئَتَهَا وَمَشِيئَةَ فُلَانٍ فَهُوَ عَلَى الْمَجْلِسِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الظِّهَارِ .

( قَالَ ) : وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنَا مِنْكِ مُولٍ وَعَنَى الْإِيجَابَ فَهُوَ مُولٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ أَنَا مِنْك مُظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ لَفْظَهُ إلَى مَحَلِّهِ فَإِنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ مُولِيًا مِنْ امْرَأَتِهِ وَإِنْ قَالَ عَنَيْت الْخَبَرَ بِالْكَذِبِ لَمْ يُدَنْ فِي الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِهِ إيجَابٌ وَهُوَ مَدِينٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ صِيغَةَ الْإِيجَابِ وَالْإِخْبَارِ فِي الْإِيلَاءِ وَاحِدٌ وَالْمُخْبَرُ عَنْهُ إذَا كَانَ كَذِبًا فَبِالْإِخْبَارِ لَا يَصِيرُ صِدْقًا .
( قَالَ ) وَإِذَا حَلَفَ عَلَى أَرْبَعِ نِسْوَةٍ لَا يَقْرَبُهُنَّ فَهُوَ مُولٍ مِنْهُنَّ ، إنْ تَرَكَهُنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بِنَّ بِالْإِيلَاءِ عِنْدَنَا .
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : لَا يَكُونُ مُولِيًا حَتَّى يَقْرَبَ ثَلَاثًا مِنْهُنَّ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُولِيًا مِنْ الرَّابِعَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ قُرْبَانَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ فَلَمْ يَكُنْ مُولِيًا حَتَّى يَقْرَبَ ثَلَاثًا مِنْهُنَّ فَحِينَئِذٍ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَ الرَّابِعَةِ إلَّا بِكَفَّارَةٍ تَلْزَمُهُ ؛ لِأَنَّهُ يُتِمُّ شَرْطَ الْحِنْثِ بِقُرْبَانِهَا فَيَكُونُ مُولِيًا مِنْهَا وَيَكُونُ مَعْنَى كَلَامِهِ إنْ قَرُبْتُ ثَلَاثًا مِنْكُنَّ ، فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ الرَّابِعَةَ .
( وَجْهُ قَوْلِنَا ) أَنَّهُ مُضَارٌّ مُتَعَنِّتٌ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُنَّ بِمَنْعِ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ فَيَكُونُ مُولِيًا مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ كَمَا لَوْ عَقَدَ يَمِينَهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عَلَى الِانْفِرَادِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ بِقُرْبَانِ بَعْضِهِنَّ ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ مُوجِبُ الْحِنْثِ فَلَا تَجِبُ مَا لَمْ يَتِمَّ شَرْطُ الْحِنْثِ ، وَلَكِنْ عِنْدَ تَمَامِ الشَّرْطِ لَا يَكُونُ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ بِقُرْبَانِ الْآخِرَةِ فَقَطْ بَلْ بِقُرْبَانِهِنَّ جَمِيعًا فَأَمَّا وُقُوعُ الطَّلَاقِ بِاعْتِبَارِ الْبِرِّ ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ، فَهُنَا بِنَّ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ إنْ قَرُبْتُ ثَلَاثًا مِنْكُنَّ فَوَاَللَّهِ

، لَا أَقْرَبُ الرَّابِعَةَ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ مَا عَقَدَ الْيَمِينَ فِي الْحَالِ بَلْ عَلَّقَهُ بِشَرْطٍ فَلَا يَنْعَقِدُ يَمِينُهُ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ ، فَإِنْ جَامَعَ بَعْضَهُنَّ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ سَقَطَ عَمَّنْ جَامَعَ مِنْهُنَّ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ فَاءَ إلَيْهَا فِي الْمُدَّةِ ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ تَمَامِ شَرْطِ الْحِنْثِ فَإِذَا تَمَّتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ بَانَتْ الَّتِي لَمْ يُجَامِعْهَا ؛ لِأَنَّ الْفَيْءَ فِي حَقِّهَا لَمْ يُوجِبْ فَبَقِيَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ فِي حَقِّهَا فَتَبِينُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ ، وَلَوْ لَمْ يُجَامِعْ شَيْئًا مِنْهُنَّ ، وَلَكِنْ طَلَّقَ إحْدَاهُنَّ ثَلَاثًا كَانَ مُولِيًا عَلَى حَالِهِ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ مُنْتَظِرٌ ، إنْ جَامَعَهُنَّ حَنِثَ إذْ لَيْسَ فِي يَمِينِهِ تَقْيِيدُ الْجِمَاعِ بِمَا قَبْلَ الطَّلَاقِ ، وَإِنْ لَمْ يُطَلِّقْ وَلَكِنْ مَاتَتْ إحْدَاهُنَّ بَطَلَ الْإِيلَاءُ عَنْهُنَّ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ حِنْثِهِ قَدْ فَاتَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْنَثُ بِجِمَاعِ مَنْ بَقِيَ بَعْدَ هَذَا وَلَا بِجِمَاعِ الْمَيِّتَةِ ، وَالْيَمِينُ لَا يَبْقَى بَعْدَ فَوَاتِ شَرْطِ الْحِنْثِ فَلِهَذَا لَا يَبْطُلُ الْإِيلَاءُ عَنْهُنَّ .
( قَالَ ) : وَإِنْ حَلَفَ لَا يَقْرَبُ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ فَهُوَ مُولٍ مِنْهُنَّ فَإِنْ مَضَتْ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرِ بِنَّ جَمِيعًا .
وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : يَكُونُ مُولِيًا مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ حَتَّى إذَا مَضَتْ الْمُدَّةُ طَلُقَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ بِغَيْرِ عَيْنِهَا ؛ لِأَنَّهُ مَنَعَ نَفْسَهُ عَنْ قُرْبَانِ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَرُبَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ ، وَحُكْمُ الطَّلَاقِ يَنْبَنِي عَلَى الْمَنْعِ مِنْ الْقُرْبَانِ فَعِنْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ يَقَعُ الطَّلَاقُ عَلَى إحْدَاهُنَّ بِغَيْرِ عَيْنِهَا كَمَا لَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُ إحْدَاكُنَّ ، وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ ذَكَرَ الْوَاحِدَةَ مُنَكِّرًا فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَانَ مَنْفِيٌّ ، وَالنَّكِرَةُ فِي مَوْضِعِ

النَّفْيِ تَعُمُّ بِخِلَافِ النَّكِرَةِ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ ، فَإِنَّ الرَّجُلَ إذَا قَالَ رَأَيْت الْيَوْمَ رَجُلًا يَقْتَضِي رُؤْيَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، وَلَوْ قَالَ مَا رَأَيْت الْيَوْمَ رَجُلًا يَقْتَضِي نَفْيَ رُؤْيَةِ جَمِيعِ الرِّجَالِ ، وَهَذَا لِأَنَّ مَعْنَى التَّنْكِيرِ فِي مَحَلِّ الْفَيْءِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِالتَّعْمِيمِ فَفِيمَا يَنْبَنِي عَلَى نَفْيِ الْقُرْبَانِ وَهُوَ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عِنْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ يَتَنَاوَلُهُنَّ كَلَامُهُ جَمِيعًا وَفِيمَا يَنْبَنِي عَلَى وُجُودِ الْقُرْبَانِ وَهِيَ الْكَفَّارَةُ يَتَنَاوَلُ كَلَامُهُ إحْدَاهُنَّ فَلِهَذَا إذَا قَرُبَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ ، وَسَقَطَ الْإِيلَاءُ عَنْهُنَّ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ تَمَامِ الشَّرْطِ وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ إحْدَاكُنَّ فَإِنَّ مَعْنَى التَّعْمِيمِ هُنَاكَ لَا يَتَحَقَّقُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَرَنَ بِكَلَامِهِ حَرْفَ كُلٍّ بِأَنْ قَالَ : كُلُّ إحْدَاكُنَّ لَا يَتَنَاوَلُهُنَّ جَمِيعًا ، وَهُنَا لَوْ قَرَنَ بِكَلَامِهِ حَرْفَ كُلٍّ فَقَالَ : كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْكُنَّ تَنَاوَلَهُنَّ جَمِيعًا فَكَذَلِكَ بِسَبَبِ التَّنْكِيرِ ، وَإِنْ كَانَ نَوَى وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا دُونَ غَيْرِهَا فَهُوَ مُولٍ مِنْهَا خَاصَّةً فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ مَا نَوَاهُ مُحْتَمِلٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ طَلَّقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ وَنَوَى وَاحِدَةً بِعَيْنِهَا صَحَّتْ نِيَّتُهُ فَكَذَلِكَ فِي الْإِيلَاءِ ، وَلَكِنْ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ .

( قَالَ ) : وَإِذَا آلَى مِنْ وَاحِدَةٍ لَمْ يُسَمِّيهَا ، وَلَمْ يَنْوِهَا فَهُوَ بِالْخِيَارِ يُوقِعُ الطَّلَاقَ عَلَى أَيَّتِهِنَّ شَاءَ فَتَبِينُ بِهِ وَحْدَهَا وَلَوْ أَرَادَ التَّعْيِينَ قَبْلَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ لَمْ يَمْلِكْ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَغْيِيرَ حُكْمِ الْيَمِينِ فَإِنَّهُ قَبْلَ التَّعْيِينِ يَحْنَثُ بِقُرْبَانِ وَاحِدَةٍ أَيَّتُهُنَّ قَرُبَ ، وَبَعْدَ التَّعْيِينِ لَا يَحْنَثُ بِقُرْبَانِ الْبَوَاقِي وَكَمَا لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حُكْمِ الْيَمِينِ لَا يَمْلِكُ تَغْيِيرَهُ ، فَأَمَّا بَعْدَ وُقُوعِ الطَّلَاقِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ مَلَكَ تَعْيِينَ الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا تَغْيِيرُ حُكْمِ الْيَمِينِ ، وَلَكِنَّهُ تَعْيِينُ الطَّلَاقِ الْمُبْهَمِ وَذَلِكَ إلَى الزَّوْجِ ثُمَّ إذَا عَيَّنَ الطَّلَاقَ فِي إحْدَاهُنَّ لَا يَتَعَيَّنُ يَمِينُهُ فِيهَا إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ .

( قَالَ ) : وَإِذَا آلَى الرَّجُلُ مِنْ امْرَأَتِهِ ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهَا مَسِيرَةُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ أَجْزَأَهُ إنْ فَاءَ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَاجِزَ عَنْ الْجِمَاعِ فِي الْمُدَّةِ يَكُونُ فَيْؤُهُ بِاللِّسَانِ عِنْدَنَا ، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الْفَيْءُ بِاللِّسَانِ لَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِالْفَيْءِ حُكْمَانِ : وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ ، وَامْتِنَاعُ حُكْمِ الْفُرْقَةِ ثُمَّ الْفَيْءُ بِاللِّسَانِ لَا يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ وَهُوَ الْكَفَّارَةُ ، فَكَذَلِكَ فِي الْحُكْمِ الْآخَرِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْكَفَّارَةُ تَجِبُ بِالْحِنْثِ وَالْحِنْثُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْفَيْءِ بِاللِّسَانِ ، فَأَمَّا وُقُوعُ الطَّلَاقِ عِنْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْإِضْرَارِ وَالتَّعَنُّتِ وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ فِي الْفَيْءِ بِاللِّسَانِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْفَيْءِ بِالْجِمَاعِ فَكَانَ الْفَيْءُ بِالْجِمَاعِ أَصْلًا وَبِاللِّسَانِ بَدَلًا عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْفَيْءَ عِبَارَةٌ عَنْ الرُّجُوعِ ، وَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْجِمَاعِ فَإِنَّمَا قَصَدَ الْإِضْرَارَ وَالتَّعَنُّتَ بِمَنْعِ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ فَفَيْؤُهُ بِالرُّجُوعِ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ يُجَامِعَهَا وَإِذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْجِمَاعِ لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ الْإِضْرَارَ بِمَنْعِ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهَا فِي الْجِمَاعِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ ، وَإِنَّمَا قَصَدَ الْإِضْرَارَ بِإِيحَاشِهَا بِلِسَانِهِ فَفَيْؤُهُ بِالرُّجُوعِ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ يُرْضِيَهَا بِلِسَانِهِ ؛ لِأَنَّ التَّوْبَةَ بِحَسَبِ الْجِنَايَةِ ، ثُمَّ الْعَجْزُ عَنْ الْجِمَاعِ تَارَةً يَكُونُ بِبُعْدِ الْمَسَافَةِ وَتَارَةً بِالْمَرَضِ فَإِذَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرُ فَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ جِمَاعِهَا فِي الْمُدَّةِ فَيَكُونُ فَيْؤُهُ بِقَلْبِهِ وَلِسَانِهِ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْجِمَاعِ فَلَا يَكُونُ فَيْؤُهُ إلَّا بِالْجِمَاعِ ؛

لِأَنَّ حُكْمَ الْبَدَلِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْأَصْلِ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَرِيضًا حِينَ آلَى فَفَيْؤُهُ الرِّضَا بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ إنْ تَمَّتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ ، وَهُوَ مَرِيضٌ ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْجِمَاعِ لِمَرَضِهِ وَكَذَلِكَ إنْ اتَّصَلَ مَرَضُهُ بِالْإِيلَاءِ فَإِنْ كَانَ صَحِيحًا حِينَ آلَى وَبَقِيَ صَحِيحًا بَعْدَ إيلَائِهِ مِقْدَارَ مَا يَسْتَطِيعُ فِيهِ أَنْ يُجَامِعَهَا ثُمَّ مَرِضَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فَيْؤُهُ إلَّا بِالْجِمَاعِ ، وَقَالَ زُفَرُ فَيْؤُهُ بِاللِّسَانِ لِتَحَقُّقِ عَجْزِهِ عَنْ الْجِمَاعِ وَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُ آخِرُ الْمُدَّةِ كَمَا لَوْ كَانَ وَاجِدًا لِلْمَاءِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ فَلَمْ يَتَوَضَّأْ حَتَّى عَدِمَ الْمَاءَ جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ وَلَكِنَّا نَقُولُ لَمَّا تَمَكَّنَ مِنْ جِمَاعِهَا فَقَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُ الْإِضْرَارُ ، وَالتَّعَنُّتُ بِمَنْعِ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ فَلَا يَكُونُ رُجُوعُهُ إلَّا بِإِيفَاءِ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ فَأَمَّا إذَا كَانَ مَرِيضًا حِينَ آلَى ثُمَّ صَحَّ قَبْلَ تَمَامِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَكُنْ فَيْؤُهُ إلَّا بِالْجِمَاعِ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ فَاءَ إلَيْهَا فِي مَرَضِهِ أَوْ لَمْ يَفِئْ ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ فَإِنَّ تَمَامَ الْمَقْصُودِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ ، وَسَقَطَ اعْتِبَارُ حُكْمِ الْبَدَلِ بِهَذِهِ الْقُدْرَةِ كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَرِيضَةً أَوْ صَغِيرَةً لَا تُجَامَعُ فَفَيْؤُهُ الرِّضَا بِاللِّسَانِ وَذَكَرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - : أَنَّ الزَّوْجَ إذَا كَانَ مَرِيضًا حِينَ آلَى ثُمَّ مَرِضَتْ الْمَرْأَةُ ثُمَّ صَحَّ الزَّوْجُ قَبْلَ مُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَفَيْؤُهُ الرِّضَا بِاللِّسَانِ عِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ مَرَضِهَا فِي الْمَنْعِ مِنْ الْجِمَاعِ كَتَأْثِيرِ مَرَضِهِ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ : لَا يَكُونُ فَيْؤُهُ إلَّا بِالْجِمَاعِ ؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ الَّذِي كَانَ لِأَجْلِهِ فَيْؤُهُ الرِّضَا

بِاللِّسَانِ قَدْ زَالَ قَبْلَ تَمَامِ الْمُدَّةِ فَكَانَ ذَلِكَ كَالْمَعْلُومِ أَصْلًا ، وَلَوْ كَانَا مُحْرِمَيْنِ بِالْحَجِّ أَوْ أَحَدُهُمَا فَآلَى وَقْتَ أَدَاءِ الْحَجِّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَكُنْ فَيْؤُهُ إلَّا بِالْجِمَاعِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : فَيْؤُهُ الرِّضَا بِاللِّسَانِ ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ جِمَاعِهَا فِي الْمُدَّةِ شَرْعًا فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَ مَمْنُوعًا حِسًّا بِبُعْدِ الْمَسَافَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ خَلَى بِامْرَأَتِهِ وَأَحَدُهُمَا مُحْرِمٌ بِالْحَجِّ لَمْ تَصِحَّ الْخَلْوَةُ كَمَا لَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا ثَالِثٌ وَمَتَى وَطِئَهَا بَعْدَ الْفَيْءِ بِاللِّسَانِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ ؛ لِأَنَّ الْفَيْءَ بِاللِّسَانِ يَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ ، وَلَا يَرْتَفِعُ الْيَمِينُ فَيَتَحَقَّقُ شَرْطُ الْحِنْثِ مَتَى جَامَعَهَا .

( قَالَ ) : وَإِيلَاءُ النَّائِمِ وَالصَّبِيِّ ، وَالْمَجْنُونِ ، وَالْمَعْتُوهِ الَّذِي يَهْذِي بَاطِلٌ بِمَنْزِلَةِ طَلَاقِ هَؤُلَاءِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْيَمِينَ مِنْ هَؤُلَاءِ لَا يَنْعَقِدُ فَإِنَّ قَوْلَهُمْ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي اللُّزُومِ

( قَالَ ) : وَإِذَا آلَى الرَّجُلُ مِنْ امْرَأَتِهِ أَنَّهُ لَا يَقْرَبُهَا أَبَدًا ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا بَطَلَ الْإِيلَاءُ عِنْدَنَا خِلَافًا لِزُفَرَ ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ طَلَاقٌ مُؤَجَّلٌ فَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ عَلَى التَّطْلِيقَاتِ الْمَمْلُوكَةِ وَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْهَا بَعْدَ وُقُوعِ الثَّلَاثِ عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ لَوْ بَانَتْ بِالْإِيلَاءِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ وَإِنْ قَرُبَهَا كَفَّرَ يَمِينَهُ ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ وَإِنْ لَمْ يَبْقَ فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ لِنَفَاذِ مِلْكِ الطَّلَاقِ فَقَدْ بَقِيَتْ الْيَمِينُ فَإِذَا قَرُبَهَا تَمَّ شَرْطُ الْحِنْثِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ بَقَاءِ الْيَمِينِ حُكْمُ الْإِيلَاءِ كَمَا لَوْ قَالَ لِأَجْنَبِيَّةٍ : وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا وَإِنْ قَرُبَهَا كَفَّرَ يَمِينَهُ وَإِنْ كَانَ طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً بَائِنَةً فَإِنْ تَمَّتْ الْأَرْبَعَةُ الْأَشْهُرِ وَهِيَ فِي الْعِدَّةِ وَقَعَتْ عَلَيْهَا تَطْلِيقَةٌ بِالْإِيلَاءِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي الْعِدَّةِ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْمُولِي فِي الْمَعْنَى كَالْمُعَلِّقِ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً بِمُضِيِّ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ قَبْلَ أَنْ يَفِيءَ إلَيْهَا وَقَدْ صَحَّ ذَلِكَ فِي الْمِلْكِ فَلَا يَبْطُلُ بِالْبَيْنُونَةِ ، وَلَكِنَّ الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهَا إلَّا فِي الْعِدَّةِ فَإِذَا تَمَّتْ الْعِدَّةُ وَهِيَ مَحَلٌّ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا طَلُقَتْ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَحَلًّا بِأَنْ كَانَتْ مُنْقَضِيَةَ الْعِدَّةِ لَمْ تَطْلُقْ فَإِنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا فَهُوَ مُولٍ مِنْهَا وَتَسْتَأْنِفُ شُهُورَ الْإِيلَاءِ مِنْ حِينِ تَزَوَّجَهَا ، وَلَا يَحْتَسِبُ بِمَا مَضَى مِنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ لَا تَنْعَقِدُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إذْ لَيْسَ لَهُ عَلَى الْمَحَلِّ مِلْكٌ وَلَا يَدٌ فَإِنَّمَا يَكُونُ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنْ حِينِ تَزَوَّجَهَا وَلَوْ كَانَ تَزَوَّجَهَا فِي الْعِدَّةِ يَحْتَسِبُ بِمَا مَضَى مِنْهَا ؛ لِأَنَّهَا مَا بَقِيَتْ فِي الْعِدَّةِ فَهِيَ

مَحَلٌّ لِوُقُوعِ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا فَيَبْقَى حُكْمُ الْمُدَّةِ ، أَرَأَيْتَ لَوْ تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ أَكَانَ يَبْقَى حُكْمُ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ ، وَكَذَلِكَ بَعْدَ مَا حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ بِانْقِضَاءِ مُدَّةِ الْعِدَّةِ .

( قَالَ ) : وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً ثُمَّ آلَى مِنْهَا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا وَإِنْ انْعَقَدَتْ يَمِينُهُ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِيلَاءِ بِمَنْعِ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ ، وَلَا حَقَّ لَهَا فِي الْجِمَاعِ بَعْدَ مَا بَانَتْ ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْإِيلَاءِ إزَالَةُ ظُلْمِ التَّعْلِيقِ عَنْهَا وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَلَامُهُ فِي الْأَصْلِ إيلَاءً لَا يَصِيرُ إيلَاءً وَإِنْ تَزَوَّجَهَا كَمَا فِي الْأَجْنَبِيَّةِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ كَلَامِهِ هُنَاكَ كَانَ إيلَاءً صَحِيحًا فَلَا يَبْطُلُ بِالْبَيْنُونَةِ وَانْقِضَاءُ الْعِدَّةِ وَإِنْ بَطَلَتْ الْمُدَّةُ لِخُرُوجِهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِطَلَاقِهِ فَإِذَا تَزَوَّجَهَا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا مِنْهَا وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ فَصْلًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ فَبَانَتْ بِمُضِيِّ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ هَلْ تَنْعَقِدُ مُدَّةٌ أُخْرَى قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا أَمْ لَا وَكَانَ أَبُو سَهْلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ تَنْعَقِدُ حَتَّى إذَا تَمَّتْ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَقَعَتْ تَطْلِيقَةً أُخْرَى ، وَكَذَلِكَ الثَّالِثَةُ ، قَالَ : لِأَنَّ مَعْنَى الْإِيلَاءِ كُلَّمَا مَضَتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَلَمْ أَقْرَبْكِ فِيهِنَّ فَأَنْتِ طَالِقٌ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً ، وَلَوْ صَرَّحَ بِهَذَا كَانَ الْحُكْمُ مَا بَيَّنَّا .
وَفِقْهُهُ أَنَّ انْعِقَادَ الْمُدَّةِ مِنْ حُكْمِ بَقَاءِ الْيَمِينِ هُنَا ، وَابْتِدَاءُ الْيَمِينِ لَا يَنْعَقِدُ إيلَاءً بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ وَلَكِنَّهَا تَبْقَى بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَمَّتْ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَهُوَ مَجْنُونٌ ثُمَّ زَوَّجَهَا وَلِيُّهُ مِنْهُ انْعَقَدَتْ مُدَّةُ الْإِيلَاءِ وَإِنْ كَانَ ابْتِدَاءُ الْيَمِينِ مِنْ الْمَجْنُونِ لَا يَصِحُّ ، وَكَانَ الْكَرْخِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : لَا تَنْعَقِدُ الْمُدَّةُ الثَّانِيَةُ مَا لَمْ يَتَزَوَّجْهَا وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ ؛ لِأَنَّ فِي انْعِقَادِ الْمُدَّةِ ابْتِدَاءً لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ مَعْنَى الْإِضْرَارِ ، وَذَلِكَ لَا يَتَقَرَّرُ بَعْدَ

الْبَيْنُونَةِ مَا لَمْ يَتَزَوَّجْهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهَا فِي الْجِمَاعِ فَلِهَذَا لَمْ تَنْعَقِدْ الْمُدَّةُ مَا لَمْ يَتَزَوَّجْهَا .

( قَالَ ) : وَلَوْ آلَى مِنْ أَمَتِهِ أَوْ أُمِّ وَلَدِهِ لَا يَكُونُ مُولِيًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبَّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } وَهَذِهِ لَيْسَتْ مِنْ نِسَائِهِ ؛ وَلِأَنَّ الْإِيلَاءَ طَلَاقٌ مُؤَجَّلٌ وَالْمَمْلُوكَةُ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِلطَّلَاقِ .
وَلِأَنَّ حُكْمَ الْإِيلَاءِ مَنْعُ الْقُرْبَانِ الْمُسْتَحَقِّ ، وَالْأَمَةُ لَا تَسْتَحِقُّ ذَلِكَ عَلَى الْمُولِي ، وَكَذَلِكَ لَوْ آلَى مِنْ أَجْنَبِيَّةٍ فَهُوَ بَاطِلٌ لِهَذِهِ الْمَعَانِي بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ إنْ تَزَوَّجْتُك فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك فَتَزَوَّجَهَا كَانَ مُولِيًا ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْإِيلَاءَ بِالتَّزَوُّجِ ، وَالْمُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ .

وَإِنْ حَلَفَ لَا يَقْرَبُ امْرَأَتَهُ إلَّا فِي أَرْضِ كَذَا وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ تِلْكَ الْأَرْضِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ فَهُوَ مُولٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا فِي الْمُدَّةِ إلَّا بِحِنْثٍ يَلْزَمُهُ فَإِنَّ الْمُسْتَثْنَى مَكَانٌ لَا يَصِلُ إلَيْهِ فِي الْمُدَّةِ فَلِهَذَا كَانَ مُولِيًا

( قَالَ ) : وَلَوْ آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ وَهُوَ فِي سِجْنٍ أَوْ حَبْسٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَيْءٌ إلَّا الْجِمَاعُ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ أَنْ يَخْرُجَ إلَيْهَا فَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ تَدْخُلَ إلَيْهِ لِيُجَامِعَهَا فَإِنَّ السِّجْنَ مَوْضِعٌ لِلْمُجَامَعَةِ وَمَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ لَا عِبْرَةَ لِلْبَدَلِ

( قَالَ ) : وَإِنْ أَصَابَ الْمُولِي مِنْ امْرَأَتِهِ مَا دُونَ الْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فَيْئًا ؛ لِأَنَّ حَقَّهَا فِي الْجِمَاعِ فِي الْفَرْجِ فَلَا يَتَأَدَّى بِمَا دُونَهُ وَالْفَيْءُ مَا فِيهِ إيفَاءُ حَقِّهَا وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ قَدْ جَامَعَهَا فَإِنْ ادَّعَى فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَإِنْ ادَّعَى ذَلِكَ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الْمَعْرُوفِ أَنَّهُ مَتَى أَقَرَّ بِمَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ لَا يَكُونُ مُتَّهَمًا ، فَلَوْ أَقَامَ شَاهِدَيْنِ عَلَى مَقَالَتِهِ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ أَنَّهُ قَدْ جَامَعَهَا فَهِيَ امْرَأَتُهُ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ مِنْ إقْرَارِهِ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَهِيَ مِنْ أَعْجَبِ الْمَسَائِلِ أَنْ لَا يُقْبَلَ إقْرَارُهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ ، ثُمَّ يَتَمَكَّنُ مِنْ إثْبَاتِهِ بِالْبَيِّنَةِ وَكَذَلِكَ إنْ صَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ فَالْحَقُّ لَهُمَا لَا يَعْدُوهُمَا ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَسَعُهَا أَنْ تُقِيمَ مَعَهُ إذَا كَانَتْ تَعْلَمُ كَذِبَهُ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ عَلِمَ بِذَلِكَ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَإِذَا عَلِمَتْ هِيَ عَلَيْهَا أَنْ تَمْنَعَ نَفْسَهَا مِنْهُ بِأَنْ تَهْرَبَ أَوْ تَفْتَدِيَ بِمَالِهَا إلَّا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا نِكَاحًا جَدِيدًا .

( قَالَ ) : وَلَوْ آلَى مِنْهَا بَعْدَ مَا طَلَّقَهَا تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً فَهُوَ مُولٍ ؛ لِأَنَّ جِمَاعَهَا لَهُ حَلَالٌ ، فَإِنْ انْقَضَتْ الْعِدَّةُ سَقَطَ حُكْمُ الْإِيلَاءِ لِخُرُوجِهَا مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِطَلَاقِهِ فَإِذَا تَزَوَّجَهَا يَسْتَقْبِلُ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ مِنْ حِينِ تَزَوَّجَهَا .
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ .
.

( قَالَ ) : وَإِذَا آلَى الرَّجُلُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ تَكْرَارَ يَمِينٍ وَاحِدَةً فَعَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ إذَا قَرُبَهَا ، وَلَا يَقَعُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ إلَّا تَطْلِيقَةٌ وَاحِدَةٌ إنْ لَمْ يَقْرَبْهَا ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ لِوَاحِدٍ قَدْ يُكَرَّرُ وَلَا يُرَادُ حُكْمُهُ بِالتَّكْرَارِ ، وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ التَّغْلِيظَ وَالتَّجْدِيدَ فَإِنْ قَرُبَهَا فَعَلَيْهِ ثَلَاثُ كَفَّارَاتٍ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّغْلِيظِ تَجَدُّدُ عَقْدِ الْيَمِينِ فَكَانَ حَالِفًا بِثَلَاثَةِ أَيْمَانٍ وَبِالْقُرْبَانِ مَرَّةً يَتِمُّ شَرْطُ الْحِنْثِ فِي الْأَيْمَانِ كُلِّهَا ، وَإِنْ لَمْ يَقْرَبْهَا حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ فَفِي الْقِيَاسِ تَطْلُقُ ثَلَاثًا يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا .
وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - حَتَّى إذَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا لَا يَقَعُ إلَّا وَاحِدَةً ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - تَبِينُ بِتَطْلِيقَةٍ وَاحِدَةٍ سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا .
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ ابْتِدَاءَ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ مِنْ الْوَقْتِ الْمُتَّصِلِ بِعَقْدِ الْيَمِينِ وَفِي الْإِيلَاءِ الْمُعْتَبَرُ أَوَّلُ الْمُدَّةِ فَقَدْ انْعَقَدَتْ بِاعْتِبَارِ كُلِّ يَمِينٍ مُدَّةً فَيَقَعُ عِنْدَ تَمَامِ كُلِّ مُدَّةٍ تَطْلِيقَةً حَتَّى تَبِينَ بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ كَمَا لَوْ كَانَتْ الْأَيْمَانُ فِي مَجَالِسَ مُخْتَلِفَةٍ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ يَتَأَخَّرُ انْعِقَادُ الْمُدَّةِ بَعْدَ الْيَمِينِ إلَى حَالِ افْتِرَاقِهِمَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ حَلَفَ بِيَمِينٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ بَقِيَا فِي الْمَجْلِسِ يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ فَتَمَّتْ الْمُدَّةُ مِنْ حِينِ حَلَفَ بَانَتْ بِتَطْلِيقَةٍ ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَجْلِسَ وَالْمَجَالِسَ فِي هَذَا الْحُكْمِ سَوَاءٌ كَمَا فِي حُكْمِ الْحِنْثِ ، وَهُوَ الْكَفَّارَةُ وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَجْلِسَ الْوَاحِدَ يَجْمَعُ الْكَلِمَاتِ الْمُتَفَرِّقَةَ وَيَجْعَلُهَا كَالْمَوْجُودِ جُمْلَةً بِدَلِيلِ الْقَبُولِ مَعَ الْإِيجَابِ إذَا وُجِدَا فِي الْمَجْلِسِ يَجْعَلُ

كَأَنَّهُمَا وُجِدَا مَعًا وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ لَوْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا طَلِّقْنِي ثَلَاثًا بِأَلْفٍ فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ جَعَلَ كَأَنَّهُ أَوْقَعَ الثَّلَاثَ جُمْلَةً حَتَّى يَسْتَحِقَّ جَمِيعَ الْأَلْفِ فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا قُلْنَا : حَالَةُ الْمَجْلِسِ كَحَالَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَلَا يَنْعَقِدُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ إلَّا مُدَّةً وَاحِدَةً فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ الْأَيْمَانُ كَمَا لَوْ قَالَ إذَا جَاءَ غَدٌ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك ثُمَّ قَالَ ذَلِكَ ثَانِيًا ، وَثَالِثًا ثُمَّ جَاءَ الْغَدُ تَنْعَقِدُ ثَلَاثَةَ أَيْمَانٍ فِي حُكْمِ الْكَفَّارَةِ ، وَمُدَّةً وَاحِدَةً فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ أَحَدَ الْحُكْمَيْنِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِالْآخَرِ وَعَلَى عَكْسِ هَذَا لَوْ قَالَ كُلَّمَا دَخَلْتُ الدَّارَ فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك فَدَخَلَ الدَّارَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ تَنْعَقِدُ ثَلَاثَ إيلَاءَاتٍ فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ ، وَلَوْ قَرُبَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا كَفَّارَةً وَاحِدَةً وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ الْأَيْمَانُ فِي مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ هُنَاكَ مَا يَجْمَعُ الْأَحْوَالَ فَاعْتَبَرْنَا كُلَّ حَالَةٍ عَلَى حِدَةٍ فَانْعَقَدَتْ مُدَّةٌ جَدِيدَةٌ لِتَجْدِيدِ الْيَمِينِ فِي كُلِّ حَالَةٍ .

( قَالَ ) : وَلَوْ قَالَ لَهَا : إنْ قَرُبْتُك فَعَلَيَّ يَمِينٌ أَوْ عَلَيَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَهُوَ مُولٍ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فَعَلَيَّ يَمِينٌ كَفَّارَةُ يَمِينٍ فَإِنَّ مُوجِبَ الْيَمِينِ الْكَفَّارَةُ عِنْدَ الْحِنْثِ فَقَدْ صَارَتْ بِحَيْثُ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا فِي الْمُدَّةِ إلَّا بِكَفَّارَةٍ تَلْزَمُهُ

( قَالَ ) : وَإِيلَاءُ الْحُرَّةِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ تَحْتَ حُرٍّ كَانَتْ أَوْ تَحْتَ عَبْدٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } وَاَلَّذِينَ يَتَنَاوَلُ الْأَحْرَارَ وَالْعَبِيدَ ، وَإِيلَاءُ الْأَمَةِ شَهْرَانِ عِنْدَنَا ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لِظَاهِرِ الْآيَةِ ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْمُدَّةَ فُسْحَةٌ لِلزَّوْجِ لَا عَلَيْهِ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِرِقِّهَا وَلَا بِحُرِّيَّتِهَا ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : مُدَّةُ الْإِيلَاءِ مَذْكُورَةٌ فِي الْقُرْآنِ بِلَفْظِ التَّرَبُّصِ ، وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالنِّكَاحِ فَيَتَنَصَّفُ بِالرِّقِّ كَمُدَّةِ الْعِدَّةِ وَفِي الْعِدَّةِ مَعْنَى الْفُسْحَةِ لِلزَّوْجِ خُصُوصًا مِنْ عِدَّةٍ فِي طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ ثُمَّ تُنَصَّفُ بِرِقِّهَا

( قَالَ ) : وَالْمَرِيضُ الَّذِي يَهْذِي فِي الْإِيلَاءِ كَالنَّائِمِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ .

( قَالَ ) : وَإِيلَاءُ الْأَخْرَسِ جَائِزٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْكُنْيَةَ وَالْإِشَارَةَ مِنْهُ إذَا كَانَتْ تُعْرَفُ بِمَنْزِلَةِ عِبَارَةِ النَّاطِقِ

( قَالَ ) : وَإِنْ قَالَ إنْ قَرُبْتُك فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي فَهُوَ مُولٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا فِي الْمُدَّةِ إلَّا بِظِهَارٍ يَلْزَمُهُ ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ إنْ قَرُبْتُك فَأَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ وَهُوَ يَنْوِي الطَّلَاقَ بِذَلِكَ فَهُوَ مُولٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا فِي الْمُدَّةِ إلَّا بِطَلَاقٍ يَلْزَمُهُ وَإِنْ كَانَ يَنْوِي الْيَمِينَ فَهُوَ مُولٍ أَيْضًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَلَا يَكُونُ مُولِيًا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - مَا لَمْ يُقِرَّ بِهَا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ عِنْدَ إرَادَةِ الْيَمِينِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك حَتَّى لَوْ أَرْسَلَهُ كَانَ بِهِ مُولِيًا فِي الْحَالِ فَإِذَا عَلَّقَهُ بِالْقُرْبَانِ لَا يَصِيرُ بِهِ مُولِيًا إلَّا بَعْدَ الْقُرْبَانِ كَمَا لَوْ قَالَ إنْ قَرُبْتُك فَوَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : صَارَ مَمْنُوعًا عَنْ قُرْبَانِهَا فِي الْمُدَّةِ حِينَ عَلَّقَ بِالْقُرْبَانِ حُرْمَتَهَا عَلَيْهِ فَيَكُونُ مُولِيًا فِي الْحَالِ كَمَا لَوْ قَالَ إنْ قَرُبْتُك فَأَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي ؛ لِأَنَّ الظِّهَارَ مُوجِبُهُ التَّحْرِيمِ إلَى وَقْتِ الْكَفَّارَةِ وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ عَلَيَّ كَالْمَيْتَةِ أَوْ كَالدَّمِ يَعْنِي التَّحْرِيمَ فَهُوَ مُولٍ ؛ لِأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِمُحَرَّمَةِ الْعَيْنِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ .

( قَالَ ) : وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ عَلَيَّ كَامْرَأَةِ فُلَانٍ وَقَدْ كَانَ فُلَانٌ آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ يَنْوِي الْإِيلَاءَ كَانَ مُولِيًا ؛ لِأَنَّهُ شَبَّهَهَا بِامْرَأَةِ فُلَانٍ ، وَقَدْ يَكُونُ التَّشْبِيهُ فِي وَصْفٍ خَاصٍّ فَإِذَا نَوَى التَّحْرِيمَ أَوْ الْإِيلَاءَ فَقَدْ نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ كَلَامُهُ فَيَكُونُ مُولِيًا ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِشَيْءٍ .

( قَالَ ) : وَإِنْ آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ قَالَ لِامْرَأَةٍ لَهُ أُخْرَى : قَدْ أَشْرَكْتُك فِي إيلَاءِ هَذِهِ كَانَ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّ الْإِشْرَاكَ يُغَيِّرُ حُكْمَ يَمِينِهِ فَإِنَّ قَبْلَ الْإِشْرَاكِ كَانَ يَحْنَثُ بِقُرْبَانِ الْأُولَى ، وَبَعْدَ الْإِشْرَاكِ لَا يَحْنَثُ بِقُرْبَانِ الْأُولَى مَا لَمْ يَقْرَبْهُمَا كَمَا لَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُكُمَا وَهُوَ لَا يَمْلِكُ تَغْيِيرَ حُكْمِ الْيَمِينِ مَعَ بَقَائِهِ ، وَلَوْ صَحَّ مِنْهُ هَذَا الْإِشْرَاكَ لَكَانَ يُشْرِكُ أَجْنَبِيَّةً مَعَ امْرَأَتِهِ ، ثُمَّ يَقْرَبُ امْرَأَتَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ، وَبِهَذَا فَارَقَ الظِّهَارَ ؛ لِأَنَّ إشْرَاكَ الثَّانِيَةِ لَا يُغَيِّرُ حُكْمَ الظِّهَارِ فِي الْأُولَى ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ فِي الْإِيلَاءِ لِلْمَرْأَةِ الثَّانِيَةِ : أَنْتِ عَلَيَّ مِثْلَ هَذِهِ يَنْوِي الْإِيلَاءَ فِيهَا فَبِهَذَا لَا يَتَغَيَّرُ حُكْمُ الْإِيلَاءِ فِي حَقِّ الْأُولَى ، وَيَصِحُّ مِنْهُ عَقْدُ الْإِيلَاءِ فِي حَقِّ الثَّانِيَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ .

( قَالَ ) : وَإِذَا آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ ، وَهِيَ أَمَةٌ ثُمَّ أُعْتِقَتْ قَبْلَ انْقِضَاءِ شَهْرَيْنِ لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى تَسْتَكْمِلَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ آلَى ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ الْإِيلَاءِ نَظِيرُ مُدَّةِ الْعِدَّةِ مِنْ طَلَاقِ رَجْعِيٍّ مِنْ حَيْثُ إنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ لَا يَرْتَفِعُ مَعَ بَقَائِهَا ، وَالْمُعْتَقَةُ بَعْدَ الطَّلَاقِ هُنَاكَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرَّةِ عِنْدَ الطَّلَاقِ وَكَذَلِكَ هُنَا وَهَذَا ؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ تَمَّ عَلَيْهَا لَمَّا تَمَّ حِلُّهَا بِالْعِتْقِ ، وَلَا يَزُولُ الْمِلْكُ التَّامُّ إلَّا بِمُدَّةٍ تَامَّةٍ .

( قَالَ ) : وَلَوْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا فِي الشَّهْرَيْنِ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً ثُمَّ أُعْتِقَتْ فِيهِمَا كَانَتْ عِدَّتُهَا لِلطَّلَاقِ عِدَّةَ الْأَمَةِ ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا أُعْتِقَتْ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ ، وَمُدَّةُ إيلَائِهَا مُدَّةُ الْحُرَّةِ ؛ لِأَنَّهَا أُعْتِقَتْ قَبْلَ تَمَامِ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ فَكَانَ فِي حُكْمِ الْإِيلَاءِ هَذَا وَمَا لَوْ كَانَتْ حُرَّةً حِينَ آلَى مِنْهَا سَوَاءٌ ، وَقَدْ طَعَنَ بَعْضُهُمْ الْجَوَابَ فَقَالُوا لَمْ يَتِمَّ مِلْكُهُ عَلَيْهَا بِهَذَا الْعِتْقِ ؛ لِأَنَّهَا عَتَقَتْ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ مُدَّةُ إيلَائِهَا شَهْرَيْنِ كَمَا فِي حُكْمِ الْعِدَّةِ .
وَلَكِنَّا نَقُولُ : الطَّلَاقُ الْوَاقِعُ لَيْسَ مِنْ حُكْمِ الْإِيلَاءِ فِي شَيْءٍ فَالْبَائِنُ وَالرَّجْعِيُّ فِيهِ سَوَاءٌ ، وَلَوْ كَانَ رَجْعِيًّا صَارَتْ مُدَّةُ إيلَائِهَا بِالْعِتْقِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بِالنَّصِّ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ بَائِنَةً بِخِلَافِ الْعِدَّةِ ؛ لِأَنَّهَا تَعْقُبُ الطَّلَاقَ فَيُعْتَبَرُ فِيهَا صِفَةُ الطَّلَاقِ ؛ وَلِأَنَّ فِي زِيَادَةِ مُدَّةِ الْعِدَّةِ بِالْعِتْقِ إضْرَارًا بِهَا ؛ لِأَنَّهَا تُمْنَعُ مِنْ الْأَزْوَاجِ فِي الْعِدَّةِ وَلَيْسَ فِي زِيَادَةِ مُدَّةِ الْإِيلَاءِ بِالْعِتْقِ إضْرَارٌ بِهَا فَلِهَذَا كَانَ الْمُعْتَبَرُ حُصُولُ الْعِتْقِ مَعَ بَقَاءِ الْمُدَّةِ .

( قَالَ ) : وَإِنْ حَلَفَ لَا يَقْرَبُ امْرَأَتَهُ وَامْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً مَعَهَا حُرَّةً أَوْ أَمَةً لَمْ يَكُنْ مُولِيًا مِنْ امْرَأَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ وَهُوَ لَيْسَ بِمُولٍ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيَّةِ ، فَلَا يُعْتَبَرُ قُرْبَانُ الْأَجْنَبِيَّةِ فِي حُكْمِ الْإِيلَاءِ مِنْ امْرَأَتِهِ ، وَإِنْ اعْتَبَرَ حَالَ امْرَأَتِهِ وَحْدَهَا وَهُوَ يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا مِنْهَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ : لِامْرَأَتَيْنِ لَهُ لَا أَقْرَبُكُمَا لِأَنَّهُمَا مُسْتَوِيَتَانِ فِي حُكْمِ الْإِيلَاءِ هُنَاكَ فَيُجْعَلَانِ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَهُمَا إلَّا بِكَفَّارَةٍ تَلْزَمُهُ فَكَانَ مُولِيًا مِنْهُمَا بِقَوْلِهِ ، فَإِنْ جَامَعَ الْأَجْنَبِيَّةَ صَارَ مُولِيًا مِنْ امْرَأَتِهِ مِنْ السَّاعَةِ الَّتِي جَامَعَ فِيهَا تِلْكَ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِحَالٍ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا إلَّا بِكَفَّارَةٍ تَلْزَمُهُ فَيَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْإِضْرَارِ وَالتَّعَنُّتِ فِي حَقِّهَا الْآنَ فَيَكُونُ مُولِيًا مِنْهَا وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك إذَا أَتَيْتُ مَكَانَ كَذَا لَا يَكُونُ مُولِيًا مَا لَمْ يَأْتِ ذَلِكَ الْمَكَانِ أَوْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : وَاَللَّهِ لَا أَقْرَبُك إذَا جَامَعْت هَذِهِ الْأَجْنَبِيَّةَ فَإِذَا جَامَعَهَا كَانَ مُولِيًا مِنْ امْرَأَتِهِ .

( قَالَ ) : وَإِنْ آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ ثُمَّ ارْتَدَّتْ وَلَحِقَتْ بِدَارُ الْحَرْبِ ثُمَّ سُبِيَتْ فَأَسْلَمَتْ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَهُوَ مُولٍ مِنْهَا إنْ مَضَى شَهْرَانِ مِنْ يَوْمِ تَزَوَّجَهَا بَانَتْ بِالْإِيلَاءِ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ لَا يَبْطُلُ بِلَحَاقِهَا فَإِنَّ شَرْطَ الْحِنْثِ مُنْتَظَرٌ بَعْدُ .
وَأَصْلُ كَلَامِهِ كَانَ إيلَاءً صَحِيحًا ، فَإِذَا تَزَوَّجَهَا مَعَ بَقَاءِ تِلْكَ الْيَمِينِ كَانَ مُولِيًا مِنْهَا حِينَ تَزَوَّجَهَا ، وَإِنَّمَا انْعَقَدَتْ الْمُدَّةُ الثَّانِيَةُ ، وَهِيَ أَمَةٌ ، وَمُدَّةُ إيلَاءِ الْأَمَةِ شَهْرَانِ .

( قَالَ ) : وَإِنْ آلَى مِنْ امْرَأَتِهِ وَهِيَ أَمَةٌ ثُمَّ اشْتَرَاهَا سَقَطَ الْإِيلَاءُ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِحَيْثُ لَا يَقَعُ طَلَاقُهَا عَلَيْهَا ، وَمُوجِبُ الْمُدَّةِ الْمُنْعَقِدَةُ وُقُوعُ الطَّلَاقِ عِنْدَ مُضِيِّهَا فَإِذَا خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِذَلِكَ سَقَطَ حُكْمُ تِلْكَ الْمُدَّةِ ، كَمَا لَوْ أَبَانَهَا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَإِنْ بَاعَهَا أَوْ أَعْتَقَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ، فَهُوَ مُولٍ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ بِحَالٍ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا ، وَالْيَمِينُ بَاقِيَةٌ فَتَنْعَقِدُ الْمُدَّةُ مِنْ حِينِ تَزَوَّجَهَا ، وَكَذَلِكَ الْحُرَّةُ إذَا اشْتَرَتْ زَوْجَهَا فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ عِصْمَةَ النِّكَاحِ تَنْقَطِعُ بِالْمِلْكِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقَعُ طَلَاقُهُ عَلَيْهَا ، فَإِنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ مَحَلًّا لِطَلَاقِهِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الْيَدِ لَهُ عَلَيْهَا ، وَمِلْكُ الْيَمِينِ كَمَا يُنَافِي أَصْلَ مِلْكِ النِّكَاحِ يُنَافِي مِلْكَ الْيَدِ الثَّابِتِ بِالنِّكَاحِ ، وَلِهَذَا لَا تَسْتَوْجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى فِي عِدَّتِهَا .

( قَالَ ) وَإِذَا حَلَفَ الْعَبْدُ بِالْعِتْقِ أَوْ الصَّدَقَةِ أَنْ لَا يَقْرَبَ امْرَأَتَهُ لَا يَكُونُ مُولِيًا ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ ، فَإِنَّهُ لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ ، وَمُرَادُهُ مِنْ الصَّدَقَةِ أَنْ يَلْتَزِمَ الصَّدَقَةَ بِمَالٍ بِعَيْنِهِ ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ الْمَالَ فَيَكُونُ الْتِزَامُهُ التَّصَدُّقَ بِهِ لَغْوًا .
( قَالَ ) : وَإِنْ حَلَفَ بِحَجٍّ أَوْ صَوْمٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ كَانَ مُولِيًا ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ صَحِيحٌ مِنْهُ كَمَا يَصِحُّ مِنْ الْحُرِّ ، فَإِذَا عَلَّقَهَا بِالْقُرْبَانِ فَهُوَ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا فِي الْمُدَّةِ إلَّا بِشَيْءٍ يَلْزَمُهُ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ عَلَّقَ بِالْقُرْبَانِ الْتِزَامَ الصَّدَقَةِ فِي ذِمَّتِهِ .

( قَالَ ) : وَإِذَا حَلَفَ الذِّمِّيُّ أَنْ لَا يَقْرَبَ امْرَأَتَهُ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : فِي وَجْهٍ يَكُونُ مُولِيًا بِالِاتِّفَاقِ ، وَهُوَ مَا إذَا حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ وَالطَّلَاقَ يَصِحُّ مِنْهُ كَمَا يَصِحُّ مِنْ الْمُسْلِمِ ، وَفِي وَجْهٍ لَا يَكُونُ مُولِيًا بِالِاتِّفَاقِ ، وَهُوَ مَا إذَا حَلَفَ بِحَجٍّ أَوْ صَوْمٍ أَوْ صَدَقَةٍ ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِنْهُ لَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّهَا قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ وَمَا فِيهِ مِنْ الشِّرْكِ يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِذَلِكَ وَقَعَ فِي بَعْضِ الْكُتُبِ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الْإِيلَاءَ مِنْهُ بِالْحَجِّ صَحِيحٌ فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ ، وَإِنْ لَمْ يَصِحَّ فِي حُكْمِ الْتِزَامِ الْحَجِّ ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْحُكْمَيْنِ يَنْفَصِلُ عَنْ الْآخَرِ عِنْدَهُ كَمَا فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، وَلَا يُعْتَمَدُ عَلَى هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَأَمَّا إيلَاؤُهُ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى يَنْعَقِدُ فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، حَتَّى لَوْ تَرَكَهَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ بَانَتْ بِالْإِيلَاءِ وَلَوْ قَرُبَهَا لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْقِسْمِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا فِي الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْإِيلَاءِ ، وَهُوَ قَصْدُ الْإِضْرَارِ بِمَنْعِ حَقِّهَا فِي الْجِمَاعِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى لِوُجُوبِ تَعْظِيمِ الْمُقْسَمِ بِهِ وَمَعَ الشِّرْكِ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ هَذَا التَّعْظِيمُ كَمَا لَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ هَذَا الِالْتِزَامُ الْتِزَامُ الْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : إنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ فِيهَا ذِكْرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ مُعْتَبَرٌ مِنْ الذِّمِّيِّ حَتَّى تَحِلَّ ذَبِيحَةُ الْكِتَابِيِّ إذَا ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى

وَكَذَلِكَ يُسْتَحْلَفُ فِي الْمَظَالِمِ وَالْخُصُومَاتِ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْكُفَّارِ أَيْمَانًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ } وقَوْله تَعَالَى { وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ } وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْيَمِينِ صَارَ هُوَ بِحَيْثُ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا إلَّا بِحِنْثٍ يَلْزَمُهُ فَيَكُونَ مُولِيًا ثُمَّ يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا الْحِنْثِ ، وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا ، وَلَكِنَّ حُكْمَ الطَّلَاقِ يَنْفَصِلُ عَنْ حُكْمِ الْكَفَّارَةِ فِي الْإِيلَاءِ كَمَا لَوْ قَالَ لِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ لَهُ : لَا أَقْرَبُكُنَّ يَكُونُ مُولِيًا مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ وَإِنْ كَانَ لَوْ قَرُبَ ثَلَاثًا مِنْهُنَّ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ؛ وَلِأَنَّ لِهَذِهِ الْيَمِينِ حُكْمَيْنِ .
أَحَدُهُمَا الطَّلَاقُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ وَالْآخَرُ الْكَفَّارَةُ ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْحُكْمَيْنِ مَقْصُودٌ بِهَذَا الْيَمِينِ فَامْتِنَاعُ ثُبُوتِ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ الْحُكْمِ الثَّانِي مَعَ وُجُودِ الْأَهْلِيَّةِ .

( قَالَ ) : وَإِذَا حَلَفَ الرَّجُلُ بِعِتْقِ عَبْدِهِ لَا يَقْرَبُ امْرَأَتَهُ فَهُوَ مُولٍ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَقُولُ : يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا فِي الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ ، بِأَنْ يَبِيعَ عَبْدَهُ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ هُوَ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا إلَّا بِعِتْقٍ يَلْزَمُهُ فَيَكُونَ مُولِيًا ، وَلَا يُعْتَبَرُ تَمَكُّنُهُ مِنْ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَتِمُّ بِهِ وَحْدَهُ وَرُبَّمَا لَا يَجِدُ مُشْتَرِيًا يَشْتَرِيهِ مِنْهُ فَإِنْ بَاعَ الْعَبْدَ سَقَطَ عَنْهُ الْإِيلَاءُ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِحَالٍ يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ فَإِنْ اشْتَرَاهُ لَزِمَهُ الْإِيلَاءُ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ ؛ لِأَنَّ الْمُدَّةَ الْأُولَى قَدْ بَطَلَتْ فَيَسْتَأْنِفُ الْمُدَّةَ مِنْ وَقْتِ الشِّرَاءِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِحَالٍ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا إلَّا بِعِتْقٍ يَلْزَمُهُ ، وَلَوْ كَانَ جَامَعَهَا بَعْدَمَا بَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ قَدْ سَقَطَتْ بِوُجُودِ شَرْطِ الْحِنْثِ بَعْدَ بَيْعِ الْعَبْدِ فَهُوَ يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ ، وَإِذَا مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يَبِيعَهُ سَقَطَ الْإِيلَاءُ ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ قُرْبَانِهَا بَعْدَ مَوْتِ الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ عَلَى إيلَاءِ هَذِهِ بِطَلَاقِ أُخْرَى ثُمَّ مَاتَتْ تِلْكَ أَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا بَعْدَ هَذَا ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْرَبَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ ، وَإِنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا مِنْ هَذِهِ أَيْضًا إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ عَلَى تَطْلِيقَاتِ ذَلِكَ الْمِلْكِ وَلَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْهَا بَعْدَ إيقَاعِ الثَّلَاثِ وَكَذَلِكَ لَوْ طَلَّقَ هَذِهِ الَّتِي آلَى مِنْهَا ثَلَاثًا سَقَطَ الْإِيلَاءُ ؛ لِأَنَّ إيلَاءَهُ فِي حُكْمِ الطَّلَاقِ بِاعْتِبَارِ التَّطْلِيقَاتِ الْمَمْلُوكَةِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا شَيْءٌ بَعْدَ إيقَاعِ الثَّلَاثِ ، وَلَوْ لَمْ يُطَلِّقْهَا ،

وَلَكِنَّهُ جَامَعَهَا طَلُقَتْ الْأُخْرَى لِوُجُودِ شَرْطِ الْوُقُوعِ عَلَيْهَا وَارْتَفَعَتْ الْيَمِينُ ، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَعُدْ الْإِيلَاءُ ، وَإِنْ لَمْ يُجَامِعْهَا وَلَكِنَّهُ طَلَّقَ الْأُخْرَى ، وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا سَقَطَ الْإِيلَاءُ عَنْ هَذِهِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِنْ قُرْبَانِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ ، وَهَذَا وَبَيْعُهُ الْعَبْدَ سَوَاءٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا .

( قَالَ ) : وَإِذَا حَلَفَ لَا يَقْرَبُ امْرَأَتَهُ حَتَّى يَمُوتَ هُوَ أَوْ تَمُوتَ هِيَ فَهُوَ مُولٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا فِي الْمُدَّةِ إلَّا بِحِنْثٍ يَلْزَمُهُ وَبَعْدَ مَوْتِ أَحَدُهُمَا لَا يَبْقَى النِّكَاحُ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : لَا أَقْرَبُكِ مَا دُمْتِ فِي نِكَاحِي وَيَتِمُّ بِهَذَا مَنْعُ حَقِّهَا فِي الْقُرْبَانِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَا أَقْرَبُك حَتَّى يَمُوتَ فُلَانٌ ؛ لِأَنَّ مَوْتَ فُلَانٍ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا ، وَهُوَ مَوْهُومٌ فِي الْمُدَّةِ فَيُتَوَهَّمُ أَنْ يَقْرَبَهَا فِي الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ بَعْدَ مَوْتِ فُلَانٍ فَلِهَذَا لَا يَكُونُ مُولِيًا ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ فِي قَوْلِهِ : حَتَّى يَخْرُجَ الدَّجَّالُ أَوْ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا ، وَإِنْ قَالَ حَتَّى الْقِيَامَةِ ، فَهُوَ مُولٍ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا ، وَهَذَا وَقَوْلُهُ أَبَدًا سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَصَوُّرَ لِبَقَاءِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا بَعْدَ وُجُودِ مَا جَعَلَهُ غَايَةً ، بِخِلَافِ خُرُوجِ الدَّجَّالِ عَلَى طَرِيقَةِ الْقِيَاسِ .

( قَالَ ) : وَلَوْ حَلَفَ لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى تَفْطِمَ صَبِيًّا لَهَا وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفِطَامِ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا ؛ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ أَنْ يَقْرَبَهَا بَعْدَ الْفِطَامِ فِي الْمُدَّةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ ، وَلَمَّا كَانَ مَا جَعَلَهُ غَايَةً لِيَمِينِهِ يُوجَدُ قَبْلَ تَمَامِ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ كَانَتْ هَذِهِ الْيَمِينُ بِمَنْزِلَةِ الْيَمِينِ عَلَى الْقُرْبَانِ فِي أَقَلَّ مِنْ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ ؛ لِأَنَّ بَعْدَ وُجُودِ الْغَايَةِ لَا يَبْقَى الْيَمِينُ وَإِنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْفِطَامِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرُ وَهُوَ يَنْوِي ذَلِكَ الْفِطَامَ لَا يَنْوِي دُونَهُ فَهُوَ مُولٍ ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ انْعَقَدَتْ مُوجِبَةً لِلْمَنْعِ مِنْ الْقُرْبَانِ فِي الْمُدَّةِ وَلَوْ مَاتَ الصَّبِيُّ قَبْلَ أَنْ يَمْضِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ سَقَطَ الْإِيلَاءُ لِفَوَاتِ مَا جَعَلَهُ غَايَةً لِيَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ لَا يَبْقَى بَعْدَ فَوَاتِ الْغَايَةِ إلَّا فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الْأَيْمَانِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ حَلَفَ لَا يَقْرَبُهَا حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ فُلَانٌ فَمَاتَ فُلَانٌ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ بَطَلَتْ الْيَمِينُ لِفَوَاتِ الْغَايَةِ ، وَلَوْ بَقِيَ فُلَانٌ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَلَمْ يَكُنْ قَرُبَهَا لَمْ يَكُنْ مُولِيًا أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَتَمَكَّنُ مِنْ قُرْبَانِهَا إذَا أَذِنَ لَهُ فُلَانٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ وَفِي الْكِتَابِ قَالَ : يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَكُونَ مُولِيًا وَلَمْ يَذْكُرْ شَيْئًا سِوَى هَذَا فَلَيْسَ مُرَادُهُ : أَنَّ هَذَا اسْتِحْسَانٌ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ قِيَاسُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْفُصُولِ .

( قَالَ ) : وَلَوْ قَالَ إنْ قَرُبْتُكِ فَكُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ فِيمَا أَسْتَقْبِلُ فَهُوَ حُرٌّ فَهُوَ مُولٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : لَا يَكُونُ مُولِيًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ بِالْقُرْبَانِ شَيْءٌ ، وَهُوَ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ لَا يَتَمَلَّكَ مَمْلُوكًا بَعْدَهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - قَالَا : لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قُرْبَانِهَا إلَّا بِيَمِينٍ بِالْعِتْقِ يَلْزَمُهُ فَيَكُونَ مُولِيًا كَمَا لَوْ قَالَ إنْ قَرُبْتُك فَهَذَا الْمُدَبَّرُ حُرٌّ ، إنْ دَخَلَ الدَّارَ يَكُونُ مُولِيًا مِنْهَا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَكُونُ مُمْتَنِعًا مِنْ الْيَمِينِ بِالْعِتْقِ كَمَا يَكُونُ مُمْتَنِعًا مِنْ مُوجِبِ الْيَمِينِ فَيَصِيرُ بِهَذَا اللَّفْظِ مَانِعًا حَقَّهَا : يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمِلْكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ قَدْ يَحْصُلُ لَهُ مِنْ غَيْرِ صَنْعَةٍ ، كَالْمِيرَاثِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ رَدِّهِ ، وَلَوْ قَالَ إنْ قَرُبْتُك فَعَلَيَّ حَجَّةٌ بَعْدَمَا أَقْرَبُك بِسَنَةٍ أَوْ قَبْلَ أَنْ أَقْرَبَك بِيَوْمٍ فَهُوَ مُولٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قُرْبَانِهَا إلَّا بِحَجَّةٍ تَلْزَمُهُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا

( قَالَ ) : وَإِذَا قَالَ : إنْ قَرُبْتُكِ فَعَلَيَّ صَوْمُ هَذَا الشَّهْرِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ لَا يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمُدَّةِ ، فَإِنَّ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ يَسْقُطُ الْيَمِينُ وَيَصِيرُ بِحَيْثُ يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْزَمَهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ الصَّوْمِ مُضَافًا إلَى الزَّمَانِ الْمَاضِي لَا يَصِحُّ فَيَصِيرُ عِنْدَ الْقُرْبَانِ كَأَنَّهُ قَالَ عَلَيَّ صَوْمُ أَمْسِ ، وَذَلِكَ لَغْوٌ وَلَوْ قَالَ إنْ قَرُبْتُكِ فَعَلَيَّ طَعَامُ مِسْكِينٍ ، أَوْ صَوْمُ يَوْمٍ ، أَوْ صَدَقَةٌ ، أَوْ حَجٌّ ، أَوْ هَدْيٌ ، فَهُوَ مُولٍ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ قَالَ : فَعَلَيَّ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ فَهُوَ مُولٍ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَوَّلِ ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ : لَا يَكُونُ مُولِيًا .
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ عَلَّقَ بِالْقُرْبَانِ الْتِزَامَ مَا هُوَ قُرْبَةٌ فَيَكُونُ مُولِيًا كَمَا فِي الْحَجِّ قَالَ مُحَمَّدٌ فِي الْأَمَالِي : وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى الْحَجِّ إلَّا بِمَالٍ وَيَتَوَصَّلُ إلَى الصَّلَاةِ بِدُونِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ إنْ قَرُبْتُكِ فَلِلَّهِ عَلَيَّ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ يَكُنْ مُولِيًا عِنْدَهُمَا ، وَهُوَ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى مَا الْتَزَمَ إلَّا بِالْمَالِ .
وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ بِهَذَا اللَّفْظِ لَا يَتَحَقَّقُ مَنْعُ الْقُرْبَانِ الْمُسْتَحَقِّ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكُونُ مُمْتَنِعًا مِنْ الْتِزَامِ صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ إذْ لَا يَلْحَقُهُ فِي أَدَائِهَا مَشَقَّةٌ ، وَلَا خُسْرَانٌ فِي مَالِهِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْقُرَبِ : تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ إنْ عَلَّقَ بِالْقُرْبَانِ إطْعَامَ مِسْكِينٍ فَهُوَ مُوجِبُ الْيَمِينِ ، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةَ ، وَالصَّوْمَ وَكَذَلِكَ الْهَدْيَ وَالْحَجَّ ، فَإِنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى أَدَائِهِمَا إلَّا بِمَالٍ .
وَالتَّكْفِيرُ بِالْمَالِ مُوجِبٌ الْيَمِينَ عِنْدَ الْحِنْثِ فَهُوَ كَمَا لَوْ عَلَّقَ الْيَمِينَ بِالْقُرْبَانِ .

فَأَمَّا الصَّلَاةُ لَيْسَتْ بِمُوجِبٍ الْيَمِينَ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ ؛ لِأَنَّ الْمَكَانَ لَا يَتَعَيَّنُ لِأَدَاءِ الْمَنْذُورِ مِنْ الصَّلَاةِ ، وَإِنْ قَالَ إنْ قَرُبْتُكِ فَعَبْدِي فُلَانٌ حُرٌّ عَنْ ظِهَارِي ، وَقَدْ ظَاهَرَ أَوْ لَمْ يُظَاهِرْ فَهُوَ مُولٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ قُرْبَانَهَا إلَّا بِعِتْقٍ يَتَنَجَّزُ فِي الْعَبْدِ ، وَتَنَجُّزُ الْعِتْقِ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِلظِّهَارِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ إنْ قَرُبْتُكِ فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَعْتِقَ فُلَانًا عَنْ ظِهَارِي وَهُوَ مُظَاهِرٌ فَلَيْسَ بِمُولٍ ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ بِالْقُرْبَانِ وُجُوبَ الْعِتْقِ عَلَيْهِ عَنْ الظِّهَارِ وَهُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقُرْبَانِ فَلَا يَكُونُ مُلْتَزِمًا بِالْقُرْبَانِ شَيْئًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابُ اللِّعَانِ اعْلَمْ بِأَنَّ مُوجِبَ قَذْفِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ كَانَ هُوَ الْحَدُّ فِي الِابْتِدَاءِ كَمَا فِي الْأَجْنَبِيَّةِ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } الْآيَةَ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ { أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كُنَّا جُلُوسًا فِي الْمَسْجِدِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ إذْ دَخَلَ رَجُلٌ أَنْصَارِيٌّ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْت الرَّجُلَ يَجِدُ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَإِنْ قَتَلَ قَتَلْتُمُوهُ ، وَإِنْ تَكَلَّمَ جَلَدْتُمُوهُ وَإِنْ سَكَتَ سَكَتَ عَلَى غَيْظٍ ، ثُمَّ قَالَ : اللَّهُمَّ افْتَحْ فَنَزَلَتْ آيَةُ اللِّعَانِ .
} { وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِين قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاء : ائْتِ بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِك وَإِلَّا فَحَدٌّ عَلَى ظَهْرِك } ، وَقَالَتْ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : الْآنَ يُجْلَدُ هِلَالُ بْنُ أُمَيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ فَثَبَتَ أَنَّ مُوجِبَ الْقَذْفِ كَانَ هُوَ الْحَدُّ ، ثُمَّ انْتَسَخَ ذَلِكَ بِاللِّعَانِ فِي حَقِّ الزَّوْجَيْنِ وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى أَنَّ مُوجِبَ قَذْفِ الزَّوْجِ الزَّوْجَةَ - اللِّعَانُ بِشَرَائِطَ نَذْكُرُهَا ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ مُوجِبُهُ الْحَدُّ ، وَلَكِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ إسْقَاطِ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ بِاللِّعَانِ حَتَّى لَوْ امْتَنَعَ الزَّوْجُ مِنْ اللِّعَانِ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ وَعِنْدَنَا يُحْبَسُ حَتَّى يُلَاعِنَ وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ } .
ثُمَّ فِي آيَةِ اللِّعَانِ بَيَانُ الْمَخْرَجِ لِلزَّوْجِ بِأَنْ تُقَامَ كَلِمَاتُ اللِّعَانِ مَقَامَ أَرْبَعَةٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ ؛ لِأَنَّ فِي كَلِمَاتِ اللِّعَانِ لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ وَهِيَ شَهَادَاتٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالْأَيْمَانِ ، مُزَكَّاةٌ بِاللَّعْنِ ، مُؤَكَّدَةٌ بِالظَّاهِرِ ، وَهُوَ أَنَّ الزَّوْجَ لَا يُلَوِّثُ الْفِرَاشَ عَلَى نَفْسِهِ كَاذِبًا وَلِهَذَا قُلْت بِلِعَانِهِ يَجِبُ حَدُّ الزِّنَا عَلَيْهَا ثُمَّ

تَتَمَكَّنُ هِيَ مِنْ إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْ نَفْسِهَا بِلِعَانِهَا عَلَى أَنْ يَكُونَ لِعَانُهَا مُعَارِضًا لِحُجَّةِ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَاتٌ مُؤَكَّدَةٌ بِالْأَيْمَانِ ، مُزَكَّاةٌ بِالْتِزَامِ الْغَضَبِ ، مُؤَيِّدَةٌ بِالظَّاهِرِ ، وَهُوَ أَنَّ الْمُسْلِمَةَ تَمْتَنِعُ مِنْ ارْتِكَابِ الْحَرَامِ ، وَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى إشَارَةٌ إلَى هَذَا فَإِنَّهُ قَالَ : { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ } أَيْ يَسْقُطُ الْحَدُّ الْوَاجِبُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ .
( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } فَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ جَمِيعَ مُوجِبِ قَذْفِ الزَّوْجَةِ ، وَذَلِكَ يَنْفِي أَنْ يَكُونَ الْحَدُّ مُوجِبَ هَذَا الْقَذْفِ مَعَ اللِّعَانِ ، وَلَوْ وَجَبَ الْحَدُّ عَلَيْهِ لَمْ يَسْقُطْ إلَّا بِحُجَّةٍ ، وَكَلِمَاتُ اللِّعَانِ قَذْفٌ أَيْضًا فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْقَذْفُ مُسْقِطًا لِمُوجِبِ الْقَذْفِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ هُوَ الْمُوجِبُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْتِزَامِ اللَّعْنِ ، وَإِنْ امْتَنَعَ مِنْهُ يُحْبَسُ حَتَّى يُلَاعِنَ ؛ لِأَنَّ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ إيفَاءِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ لَا تَجْرِي النِّيَابَةُ فِي إيفَائِهِ - يُحْبَسُ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا حَدٌّ بِلِعَانِهِ ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ لَا تَكُونُ حُجَّةً فِي اسْتِحْقَاقِ مَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ عَلَى الْغَيْرِ ابْتِدَاءً فَكَيْف تَكُونُ حُجَّةً فِي اسْتِحْقَاقِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَاتِ ، وَإِنْ تَكَرَّرَتْ مِنْ وَاحِدٍ لَيْسَ بِخَصْمٍ لَا تَتِمُّ الْحُجَّةُ بِهَا فَمِنْ الْخَصْمِ أَوْلَى .
وَالْعَجَبُ مِنْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَقُولُ : لَوْ شَهِدَ الزَّوْجُ مَعَ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ عَلَى زَوْجَتِهِ بِالزِّنَا لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَيْهَا فَكَيْفَ يَجِبُ الْحَدُّ بِشَهَادَتِهِ وَحْدَهُ ، وَلَكِنَّ اللِّعَانَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهَا كَمَا هُوَ عَلَى الزَّوْجِ فَإِذَا امْتَنَعَتْ حُبِسَتْ .
وَالْمُرَادُ مَنْ قَوْله تَعَالَى { وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ } الْحَبْسُ لَا الْحَدُّ .
إذَا عَرَفْنَا هَذَا

فَنَقُولُ : مِنْ شَرَائِطِ اللِّعَانِ عِنْدَنَا - كَوْنُ الزَّوْجَيْنِ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ هَذَا لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَلَكِنْ كُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الطَّلَاقِ عِنْدَهُ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ ، وَهَذَا مِنْهُ تَنَاقُضٌ ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ كَلِمَاتِ اللِّعَانِ شَهَادَاتٍ فِي وُجُوبِ الْحَدِّ بِهَا ثُمَّ لَا يَشْتَرِطُ الْأَهْلِيَّةَ لِلشَّهَادَةِ ، وَلَكِنْ يَقُولُ : اللِّعَانُ مِنْ كَلَامِ الزَّوْجِ مُوجِبٌ لِلْفُرْقَةِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ .
( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ مَا بَدَأَ بِهِ الْبَابَ فَقَالَ : بَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { لَا لِعَانَ بَيْنَ أَهْلِ الْكُفْرِ وَأَهْلِ الْإِسْلَامِ ، وَلَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَامْرَأَتِهِ } ، وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يَرْوُونَ هَذَا بِلَفْظٍ آخَرَ وَقَدْ ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْمُشَافَهَاتِ فِي تَفْسِيرِهِ ( أَرْبَعَةٌ لَا لِعَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ نِسَائِهِمْ الْمُسْلِمُ إذَا كَانَ تَحْتَهُ كَافِرَةٌ وَالْكَافِرُ إذَا كَانَ تَحْتَهُ مُسْلِمَةٌ وَالْحُرُّ إذَا كَانَ تَحْتَهُ أَمَةٌ وَالْعَبْدُ إذَا كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ ) فَذَلِكَ تَنْصِيصٌ عَلَى اشْتِرَاطِ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ فِيهِمَا وَفِي الْآيَةِ إشَارَةٌ إلَى هَذَا فَإِنَّهُ قَالَ : ( وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إلَّا أَنْفُسُهُمْ ) وَالْمُرَادُ بِالشُّهَدَاءِ مَنْ يَكُونُ أَهْلًا لِلشَّهَادَةِ مُطْلَقًا ، وَالْمُسْتَثْنَى مِنْ جِنْسِ الْمُسْتَثْنَى مِنْهُ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ } وَهَذَا شَأْنُ شَهَادَةٍ شَرْعِيَّةٍ ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ مِمَّنْ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلشَّهَادَةِ ، ثُمَّ الْمُسْلِمُ إذَا كَانَ تَحْتَهُ كَافِرَةٌ فَهِيَ لَيْسَتْ بِمُحْصَنَةٍ وَكَمَا أَنَّ قَذْفَ الْأَجْنَبِيَّةِ إذَا لَمْ تَكُنْ مُحْصَنَةً لَا يُوجِبُ الْحَدَّ ، فَكَذَلِكَ قَذْفُ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ إذَا لَمْ تَكُنْ مُحْصَنَةً لَا يُوجِبُ اللِّعَانَ وَكَذَلِكَ الْحُرُّ إذَا كَانَ تَحْتَهُ أَمَةٌ فَأَمَّا الْكَافِرُ إذَا كَانَ تَحْتَهُ مُسْلِمَةٌ بِأَنْ أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ فَقَذَفَهَا قَبْلَ أَنْ

يُعْرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ ، فَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إذَا كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ فَلَا يَكُونُ قَذْفُهُ إيَّاهَا مُوجِبًا لِلِّعَانِ ، وَلَكِنَّهُ يَكُونُ مُوجِبًا حَدَّ الْقَذْفِ ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ بِالزِّنَا لَا يَنْفَكُّ عَنْ مُوجِبٍ فَإِذَا خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلِّعَانِ لِمَعْنًى فِي الْقَاذِفِ كَانَ مُوجِبًا لِلْحَدِّ ، وَكَذَلِكَ الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ إذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ ؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ قَامَتْ لَنَا عَلَى أَنَّ إقَامَةَ حَدِّ الْقَذْفِ عَلَيْهِ مُبْطِلٌ لِشَهَادَتِهِ ، وَمُخْرِجٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ مَحْدُودَةً فِي قَذْفٍ فَلَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فِي جَانِبِهَا إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَتْ هِيَ الْمَحْدُودَةُ فِي الْقَذْفِ فَلَا حَدَّ عَلَى الزَّوْجِ ، وَلَا لِعَانَ ؛ لِأَنَّ قَذْفَهُ بِاعْتِبَارِ حَالِهِ مُوجِبٌ لِلِّعَانِ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْحَدِّ إذْ لَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْمُوجِبَيْنِ وَلَكِنْ امْتَنَعَ جَرَيَانَ اللِّعَانِ لِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهَا فَهُوَ كَمَا لَوْ صَدَقَتْ الزَّوْجَ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْمَحْدُودُ ؛ لِأَنَّ قَذْفَهُ بِاعْتِبَارِ حَالِهِ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلِّعَانِ فَكَانَ مُوجِبًا لِلْحَدِّ إذْ هِيَ مُحْصَنَةٌ .
وَلَوْ كَانَا مَحْدُودَيْنِ فِي قَذْفٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ قَذْفَهُ بِاعْتِبَارِ حَالِهِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلِّعَانِ فَيَكُونُ مُوجِبًا لِلْحَدِّ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ امْتِنَاعُ جَرَيَانِ اللِّعَانِ هُنَا لِكَوْنِهَا مَحْدُودَةً ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْقَذْفِ يَكُونُ مِنْ الرَّجُلِ وَإِنَّمَا يَظْهَرُ حُكْمُ الْمَانِعِ فِي جَانِبِهَا بَعْدَ قِيَامِ الْأَهْلِيَّةِ فِي جَانِبِ الرَّجُلِ فَأَمَّا بِدُونِ الْأَهْلِيَّةِ فِي جَانِبِهِ لَا مُعْتَبَرَ بِحَالِهَا ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ يَقْذِفُ الْحُرَّةَ الْمَحْدُودَةَ تَحْتَهُ لِأَنَّهَا مُحْصَنَةٌ وَإِنْ قَذَفَ الْعَبْدُ امْرَأَتَهُ ، وَهِيَ مَمْلُوكَةً أَوْ مُكَاتَبَةً فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا وَلَا لِعَانَ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُحْصَنَةٍ

وَكَذَلِكَ الْحُرُّ يَقْذِفُ امْرَأَتَهُ وَهِيَ أَمَةٌ ، أَوْ مُدَبَّرَةٌ أَوْ أُمُّ وَلَدٍ أَوْ مُكَاتَبَةٌ أَوْ مُسْتَسْعَاةٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبَةِ فَلَا تَكُونُ مُحْصَنَةً مَعَ قِيَامِ الرِّقِّ ، وَلَكِنَّهُ يُعْذَرُ لِذَلِكَ أَسْوَاطًا ؛ لِأَنَّ قَذْفَ الْمَمْلُوكِ يُوجِبُ التَّعْزِيرَ لِمَعْنَى هَتْكِ السِّتْرِ ، وَإِشَاعَةِ الْفَاحِشَةِ ، وَالْعَبْدُ إذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ الْحُرَّةَ الْمُسْلِمَةَ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّ قَذْفَهُ بِاعْتِبَارِ حَالِهِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلِّعَانِ فَيَلْزَمُهُ الْحَدُّ لِكَوْنِهَا مُحْصَنَةً .

( قَالَ ) : إذَا قَذَفَ الْأَعْمَى امْرَأَتَهُ ، وَهِيَ عَمْيَاءُ وَالْفَاسِقُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ فَعَلَيْهِمَا اللِّعَانُ ؛ لِأَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ ، وَلَكِنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِعَدَمِ ظُهُورِ رُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ ، وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّثَبُّتِ فِي خَبَرِهِ ، وَالتَّثَبُّتُ غَيْرُ الرَّدِّ .
بِخِلَافِ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ فَإِنَّهُ مَحْكُومٌ بِبُطْلَانِ شَهَادَتِهِ ، كَمَا قَالَتْ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَتَبْطُلُ شَهَادَتُهُ فِي الْمُسْلِمِينَ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْفَاسِقَ إذَا شَهِدَ فِي حَادِثَةٍ فَرَدَّ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ ثُمَّ أَعَادَهَا بَعْدَ التَّوْبَةِ لَمْ تُقْبَلْ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَرْدُودُ شَهَادَةً لَكَانَتْ مَقْبُولَةً بَعْدَ التَّوْبَةِ .
وَكَذَلِكَ الْأَعْمَى مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ إلَّا أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ؛ لِنُقْصَانٍ فِي ذَاتِهِ وَهُوَ أَنَّهُ لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الْمَشْهُودِ لَهُ وَالْمَشْهُودِ عَلَيْهِ إلَّا بِالصَّوْتِ وَالنَّغْمَةِ ؛ وَلِأَنَّ شَهَادَتَهُ جَائِزَةٌ فِي قَوْلِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ يَعْنِي إذَا تَحَمَّلَ ، وَهُوَ بَصِيرٌ ثُمَّ أَدَّى بَعْدَ الْعَمَى تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، فَإِذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ كَانَ مِنْ أَهْلِ اللِّعَانِ أَيْضًا .

( قَالَ ) : وَإِذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ وَقَدْ زَنَتْ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَلَا لِعَانَ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِمُحْصَنَةٍ ، وَهُوَ صَادِقٌ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا ، وَكَذَلِكَ إنْ وُطِئَتْ وَطْئًا حَرَامًا يُرِيدُ بِهِ الْوَطْءَ بِشُبْهَةٍ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : يُلَاعِنُهَا ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ؛ لِأَنَّ هَذَا الْوَطْءَ مُثْبِتٌ لِلنَّسَبِ مُوجِبٌ لِلْعِدَّةِ وَالْمَهْرِ فَلَا يَسْقُطُ بِهِ الْإِحْصَانُ كَوَطْءِ الْمَنْكُوحَةِ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَلَكِنَّا نَقُولُ : وَطْءُ غَيْرِ مَمْلُوكٍ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الزِّنَا فَيَسْقُطُ بِهِ الْإِحْصَانُ وَلَكِنْ لَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ .
وَالشُّبْهَةُ تَصْلُحُ لِإِسْقَاطِ الْحَدِّ لَا لِإِيجَابِهِ فَلَوْ أَوْجَبْنَا عَلَى قَاذِفِهَا الْحَدَّ وَاللِّعَانَ كَانَ فِيهِ إيجَابُ الْحَدِّ بِالشُّبْهَةِ ، وَبِهَذَا فَارَقَ حُكْمَ النَّسَبِ وَالْعِدَّةِ ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ .

( قَالَ ) : وَإِذَا قَذَفَهَا وَهِيَ صَغِيرَةٌ أَوْ هُوَ صَغِيرٌ فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ ، أَمَّا الصَّبِيُّ فَقَوْلُهُ هَدَرٌ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ ، وَالصَّغِيرَةُ لَيْسَتْ بِمُحْصَنَةٍ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مَجْنُونًا أَوْ مَعْتُوهًا ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا أَخْرَسُ أَمَّا إذَا كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الْأَخْرَسُ فَقَذْفُهُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ ، وَلَا اللِّعَانَ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُوجِبُ ؛ لِأَنَّ إشَارَةَ الْأَخْرَسِ كَعِبَارَةِ النَّاطِقِ وَلَكِنَّا نَقُولُ : لَا بُدَّ مِنْ التَّصْرِيحِ بِلَفْظِ الزِّنَا لِيَكُونَ قَذْفًا مُوجِبًا لِلْحَدِّ ، أَوْ اللِّعَانِ ، وَلَا يَتَأَتَّى هَذَا التَّصْرِيحُ فِي إشَارَةِ الْأَخْرَسِ ، فَإِنَّ إشَارَتَهُ دُونَ عِبَارَةِ النَّاطِقِ بِالْكِتَابَةِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ لَفْظِ الشَّهَادَةِ فِي اللِّعَانِ حَتَّى أَنَّ النَّاطِقَ لَوْ قَالَ : أَحْلِفُ مَكَانَ قَوْلِهِ أَشْهَدُ لَا يَكُونُ صَحِيحًا .
وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَرْتَكِبُونَ هَذَا ، وَلَكِنَّهُ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ ، فَإِذًا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ لَفْظِ الشَّهَادَةِ ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ بِإِشَارَةِ الْأَخْرَسِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ هِيَ خَرْسَاءُ ؛ لِأَنَّ قَذْفَ الْخَرْسَاءِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَى الْأَجْنَبِيِّ لِجَوَازِ أَنْ تَصْدُقَهُ لَوْ كَانَتْ تَنْطِقُ ، وَلَا تَقْدِرُ عَلَى إظْهَارِ هَذَا التَّصْدِيقِ بِإِشَارَتِهَا ، وَإِقَامَةُ الْحَدِّ مَعَ الشُّبْهَةِ لَا يَجُوزُ .

( قَالَ ) : وَإِذَا قَذَفَ الْحُرُّ الْمُسْلِمُ امْرَأَتَهُ الْحُرَّةَ الْمُسْلِمَةَ بِالزِّنَا ، فَإِنْ كَفَّتْ عَنْ مُرَافَعَتِهِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ زِنَاهَا لَا يُنَافِي بَقَاءَ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا فَالنَّسَبُ إلَى الزِّنَا أَوْلَى ، وَاللِّعَانُ هُنَا كَالْحَدِّ فِي قَذْفِ الْأَجَانِبِ ، وَذَلِكَ لَا يُسْتَوْفَى إلَّا بِطَلَبِ الْمَقْذُوفِ فَهَذَا مِثْلُهُ ، وَإِنْ دَفَعَتْهُ بَدَأَ الْإِمَامُ بِالرَّجُلِ فَأَمَرَهُ أَنْ يُلَاعِنَ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ .
يَقُومُ فَيَشْهَدُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا وَالْخَامِسَةَ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا ثُمَّ تَقُومُ الْمَرْأَةُ فَتَشْهَدُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَاهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا أَمَّا قِيَامُهُمَا لَيْسَ بِشَرْطٍ فَسَّرَهُ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : لَا يَضُرُّهُ اللِّعَانُ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ شَهَادَةٌ أَوْ يَمِينٌ فَالْقَائِمُ وَالْقَاعِدُ فِيهِ سَوَاءٌ .
وَذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ إنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُكِ بِهِ مِنْ الزِّنَا ، وَهِيَ تَقُولُ أَنْتَ مِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْتَنِي بِهِ مِنْ الزِّنَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا ذُكِرَ بِلَفْظَةِ الْغَائِبَةِ يَتَمَكَّنُ فِيهِ شُبْهَةٌ وَاحْتِمَالٌ فَلَا بُدَّ مِنْ لَفْظِ الْخِطَابِ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَمْ يَعْتَبِرْ هَذَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُشِيرُ إلَى صَاحِبِهِ ، وَالْإِشَارَةُ أَبْلَغُ أَسْبَابَ التَّعْرِيفِ فَإِذَا فَرَغَا مِنْ اللِّعَانِ ، فَرَّقَ الْإِمَامُ بَيْنَهُمَا لِحَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا لَاعَنَ بَيْنَ الْعَجْلَانِيِّ وَامْرَأَتِهِ فَقَالَ

الْعَجْلَانَيْ : كَذَبْتُ عَلَيْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ أَمْسَكْتُهَا ، فَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا فَفَارَقَهَا قَبْلَ أَنْ يَأْمُرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُفَارِقَهَا } فَكَانَتْ سُنَّةً فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا .
ثُمَّ الْفُرْقَةُ لَا تَقَعُ عِنْدَنَا إلَّا بِتَفْرِيقِ الْقَاضِي ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ تَقَعُ بِنَفْسِ لِعَانِ الزَّوْجِ ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقَعُ الْفُرْقَةُ بِلِعَانِهِمَا فَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : سَبَبُ هَذِهِ الْفُرْقَةِ قَوْلٌ مِنْ الزَّوْجِ مُخْتَصٌّ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ فَيَتِمُّ بِهِ كَالطَّلَاقِ وَزُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَسْتَدِلُّ بِقَوْلِهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا } فَنَفْيُ الِاجْتِمَاعِ بَعْدَ التَّلَاعُنِ تَنْصِيصٌ عَلَى وُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا فَإِنَّ الْعَجْلَانِيَّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَوْقَعَ الثَّلَاثَ عَلَيْهَا بَعْدَ التَّلَاعُنِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَوْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا لَأَنْكَرَ عَلَيْهِ فَإِنْ قِيلَ : قَدْ أَنْكَرَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ اذْهَبْ فَلَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهَا ( قُلْنَا ) ذَاكَ مُنْصَرِفٌ إلَى طَلَبِهِ رَدَّ الْمَهْرَ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : { إنْ كُنْتَ صَادِقًا فَهُوَ لَهَا بِمَا اسْتَحْلَلْتَ مِنْ فَرْجِهَا وَإِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَابْعُدْ اذْهَبْ فَلَا سَبِيلَ لَك عَلَيْهَا } ؛ وَلِأَنَّ الرَّاوِيَ قَالَ فَذَلِكَ السُّنَّةُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَدَلَّ أَنَّهُ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ إلَّا بِالتَّفْرِيقِ ، وَكَانَ التَّفْرِيقُ هُنَا بِمَنْزِلَةِ فَسْخِ الْبَيْعِ بِسَبَبِ التَّحَالُفِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فِي الثَّمَنِ ثُمَّ هُنَاكَ لَا يَنْفَسِخُ الْبَيْعُ مَا لَمْ يَفْسَخْ الْقَاضِي ، فَكَذَلِكَ هُنَا ، وَهَذَا لِأَنَّ مُجَرَّدَ اللِّعَانِ غَيْرُ مَوْضُوعٍ لِلْفُرْقَةِ ، وَلَا هُوَ مُنَافٍ لِلنِّكَاحِ إلَّا

أَنَّ الْفُرْقَةَ بَيْنَهُمَا لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ ، وَالْخُصُومَةِ ، وَفَوَاتِ الْمَقْصُودِ بِالنِّكَاحِ مَعَ إصْرَارِهِمَا عَلَى كَلَامِهِمَا فَلَا يَتِمُّ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَأَمَّا قَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا } حَقِيقَةُ هَذَا اللَّفْظِ حَالَ تَشَاغُلِهِمَا بِاللِّعَانِ كَالْمُتَقَاتَلِينَ وَالْمُتَضَارَبِينَ فَزُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُوَافِقُنَا ، أَنَّ فِي حَالِ تَشَاغُلِهِمَا بِاللِّعَانِ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا .
ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ إبْرَاهِيمَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ : اللِّعَانُ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ وَإِذَا أَكْذَبَ الْمُلَاعِنُ عَنْ نَفْسِهِ جُلِدَ الْحَدَّ وَكَانَ خَاطِبًا مِنْ الْخُطَّابِ وَبِهِ أَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - فَقَالَا : الْفُرْقَةُ بِاللِّعَانِ تَكُونُ فُرْقَةً بِالطَّلَاقِ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : تَكُونُ فُرْقَةً بِغَيْرِ طَلَاقٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَثْبُتُ بِاللِّعَانِ الْحُرْمَةُ الْمُؤَبَّدَةُ بَيْنَهُمَا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - لَا تَتَأَبَّدُ الْحُرْمَةُ بِسَبَبِ اللِّعَانِ : حَجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُتَلَاعِنَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا } وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ سَبَبَ هَذِهِ الْفُرْقَةِ يَشْتَرِكُ فِيهِ الزَّوْجَانِ وَالطَّلَاقُ يَخْتَصُّ بِهِ الزَّوْجُ فَمَا يَشْتَرِكُ الزَّوْجَانِ فِيهِ لَا يَكُونُ طَلَاقًا .
وَمِثْلُ هَذَا السَّبَبِ مَتَى كَانَ مُوجِبًا لِلْحُرْمَةِ كَانَتْ مُؤَبَّدَةً كَالْحُرْمَةِ بِالرَّضَاعِ : تَوْضِيحُهُ أَنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ هُنَا بِاللِّعَانِ نَظِيرُ حُرْمَةِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ بَعْدَ الْحَدِّ فِي قَذْفِ الْأَجْنَبِيِّ ، وَذَلِكَ يَتَأَبَّدُ فَكَذَلِكَ هُنَا وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ الثَّابِتَ بِالنَّصِّ اللِّعَانُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ

فَلَوْ أَثْبَتنَا بِهِ الْحُرْمَةَ الْمُؤَبَّدَةَ كَانَ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ خُصُوصًا فِيمَا كَانَ طَرِيقُهُ الْعُقُوبَاتُ ، ثُمَّ هَذِهِ فُرْقَةٌ تَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْحُكْمِ وَلَا يَتَقَرَّرُ سَبَبُهُ إلَّا فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ فَيَكُونُ فُرْقَةً بِطَلَاقٍ كَالْفُرْقَةِ بِسَبَبِ الْجُبِّ وَالْعُنَّةِ .
وَهَذَا ؛ لِأَنَّ بِاللِّعَانِ يَفُوتُ الْإِمْسَاكُ بِالْمَعْرُوفِ فَيَتَعَيَّنُ التَّسْرِيحُ بِالْإِحْسَانِ .
فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْهُ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ فَيَكُونُ فِعْلُ الْقَاضِي كَفِعْلِ الزَّوْجِ وَإِذًا ثَبَتَ أَنَّهُ طَلَاقٌ ، وَالْحُرْمَةُ بِسَبَبِ الطَّلَاقِ لَا تَتَأَبَّدُ ، فَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حَقِيقَةَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ حَالَ تَشَاغُلِهِمَا بِاللِّعَانِ وَمِنْ حَيْثُ الْمَجَازِ إنَّمَا يُسَمَّيَانِ مُتَلَاعِنَيْنِ مَا بَقِيَ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا حُكْمًا وَعِنْدَنَا لَا يَجْتَمِعَانِ مَا بَقِيَ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا حُكْمًا وَإِنَّمَا تَجُوزُ الْمُنَاكَحَةُ بَيْنَهُمَا إذَا لَمْ يَبْقَ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا حُكْمًا ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ لِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِالْتِزَامِ الْحَدِّ ، وَمِنْ ضَرُورَةِ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ بُطْلَانُ اللِّعَانِ ، وَلَا يَبْقَى أَهْلًا لِلِّعَانِ بَعْدَ إقَامَةِ الْحَدِّ ، وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ بِالزِّنَا فَقَدْ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ أَهْلًا لِلِّعَانِ ، وَكَذَلِكَ إنْ قَذَفَتْ رَجُلًا فَأُقِيمَ عَلَيْهَا الْحَدُّ فَعَرَفْنَا أَنَّ حِلَّ الْمُنَاكَحَةِ بَيْنَهُمَا بَعْدَ مَا بَطَلَ حُكْمُ اللِّعَانِ فَلَا يَكُونُ فِي هَذَا إثْبَاتُ الِاجْتِمَاعِ بَيْنَ الْمُتَلَاعِنَيْنِ .

( قَالَ ) : وَإِذَا أَنْكَرَ الزَّوْجُ الْقَذْفَ فَأَقَامَتْ الْمَرْأَةُ بِهِ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ وَجَبَ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يُلَاعِنُ وَيُحَدُّ ، أَمَّا اللِّعَانُ ؛ فَلِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : إنْكَارُهُ بِمَنْزِلَةِ إكْذَابِهِ نَفْسَهُ فَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَلَكِنَّا نَقُولُ إنْكَارُهُ نَفْيُ الْقَذْفِ وَإِكْذَابُهُ نَفْسَهُ تَقْرِيرُ الْقَذْفِ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ إقَامَةَ إنْكَارِهِ مُقَامَ إكْذَابِهِ نَفْسِهِ فَلِهَذَا لَا يُحَدُّ .

( قَالَ ) : وَإِذَا نَفَى الرَّجُلُ حَبَلَ امْرَأَتِهِ فَقَالَ هُوَ مَنْ زِنًا فَلَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا وَلَا حَدَّ قَبْلَ الْوَضْعِ فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُلَاعِنُهَا لِحَدِيثِ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ بِنَفْيِ الْحَمْلِ وَقَدْ لَاعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا ؛ وَلِأَنَّ الْحَبَلَ يُعْرَفُ وُجُودُهُ بِالظَّاهِرِ وَيَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامٌ شَرْعًا نَحْوُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، وَالْمِيرَاثِ ، وَالْوَصِيَّةِ بِهِ وَلَهُ فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ حُكْمُ اللِّعَانِ بِنَفْيِهِ .
( وَحُجَّتُنَا ) مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ أَنَّ نَفْيَ الْحَبَلِ لَيْسَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ رِيحٌ ، وَاللِّعَانُ فِي قَذْفِ الزَّوْجِ زَوْجَتَهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَدِّ فِي قَذْفِ الْأَجْنَبِيَّةِ فَلَا يَجُوزُ إقَامَتُهُ مَعَ الشُّبْهَةِ بِخِلَافِ حُكْمِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ ، وَالْإِرْثُ وَالْوَصِيَّةُ تَتَوَقَّفُ عَلَى انْفِصَالِ الْوَلَدِ وَلَا تَتَقَرَّرُ فِي الْحَالِ ، فَأَمَّا الْحَدِيثُ مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : إنَّهُ قَذَفَهَا بِالزِّنَا نَصًّا فَإِنَّهُ قَالَ : وَجَدْت شَرِيكَ ابْنَ سَحْمَاءَ عَلَى بَطْنِهَا يَزْنِي بِهَا ، ثُمَّ نَفْيُ الْحَبَلِ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَعِنْدَنَا إذَا قَذَفَهَا بِالزِّنَا نَصًّا يُلَاعِنُهَا عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَفَ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ أَنَّهَا حُبْلَى حَتَّى قَالَ { إنْ جَاءَتْ بِهِ أُحَيْمِرَ عَلَى نَعْتِ كَذَا ، فَهُوَ لِهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَسْوَدَ جَعْدًا حَمَالِيًا فَهُوَ لِشَرِيكٍ فَجَاءَتْ بِهِ عَلَى النَّعْتِ الْمَكْرُوهِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْلَا الْأَيْمَانُ الَّتِي سَبَقَتْ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ } وَمِثْلُ هَذَا لَا يُعْرَفُ إلَّا بِطَرِيقِ الْوَحْيِ ، وَلَا يَتَحَقَّقُ مِثْلُهُ فِي زَمَانِنَا ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ : إذَا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْ الزَّوْجِ ، وَلَا يَجْرِي اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا بِذَلِكَ

النَّفْيِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - إذَا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مُنْذُ نُفِيَ فَكَذَلِكَ ، وَإِنْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لَاعَنَ ، وَلَزِمَ الْوَلَدُ أُمَّهُ ، لِأَنَّا تَيَقَّنَّا أَنَّ الْحَبَلَ كَانَ مَوْجُودًا حِينَ نَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ فَكَانَ هَذَا وَنَفْيُهُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ سَوَاءٌ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حُكْمُ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ لِتَيَقُّنِنَا أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا وَقْتَ السَّبَبِ .
وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : أَصْلُ هَذَا الْقَذْفِ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلِّعَانِ فَلَا يَصِيرُ مُوجِبًا بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ هَذَا فِي مَعْنَى قَذْفٍ مُضَافٍ ، وَالْقَذْفُ لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ ، وَلَا التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَبِهِ فَارَقَ الْوَصِيَّةَ وَالْمِيرَاثَ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ عَلَى سَبِيلِ التَّوَقُّفِ وَالْإِضَافَةِ إلَى مَا بَعْدَ الِانْفِصَالِ : يُقَرِّرُهُ أَنَّهُ لَوْ لَاعَنَهَا قَبْلَ الْوَضْعِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ يُحْكَمُ عَلَى الْحَبَلِ بِقَطْعِ نَسَبِهِ مِنْ الزَّوْجِ ، إذْ النَّسَبُ مِنْ حَقِّ الْوَلَدِ ، وَإِلْزَامُ الْحُكْمُ عَلَى الْحَمْلِ لَا يَجُوزُ فَإِذَا تَعَذَّرَ نَفْيُ النَّسَبِ عِنْدَ النَّفْيِ لَا يَصِيرُ مُحْتَمَلًا لِلنَّفْيِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَلَوْ لَاعَنَهَا بَعْدَ الْوَضْعِ لَنُفِيَ النَّسَبُ عَنْهُ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَإِذَا تَعَذَّرَ نَفْيُ النَّسَبِ يَتَعَذَّرُ اللِّعَانُ كَمَا لَوْ وَلَدَتْ وَلَدًا مَيِّتًا ، وَإِذَا لَاعَنَهَا بِغَيْرِ وَلَدٍ فَلَهَا النَّفَقَةُ ، وَالسُّكْنَى فِي الْعِدَّةِ ؛ لِأَنَّ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ ، وَلِهَذَا كَانَ طَلَاقًا فَإِذَا جَاءَتْ بِوَلَدِ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ سَنَتَيْنِ لَزِمَهُ الْوَلَدُ ؛ لِأَنَّهَا جَاءَتْ بِهِ لِمُدَّةٍ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْعُلُوقَ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا عِدَّةٌ لَزِمَهُ الْوَلَدُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، كَمَا لَوْ وَقَعْت الْفُرْقَةُ

بَيْنَهُمَا بِسَبَبٍ آخَرَ ، وَلَوْ نَفَى هَذَا الْوَلَدَ لَمْ يَجْرِ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا عِنْدَنَا .
وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَجْرِي اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عِنْدَهُ أَنَّ اللِّعَانَ يَجْرِي لِنَفْيِ الْوَلَدِ مَقْصُودًا ، وَلِهَذَا قَالَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ : إذَا دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَنَفَاهُ يَجْرِي اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا لِنَفْيِ الْوَلَدِ مَقْصُودًا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى أَنْ يَنْفِيَ عَنْ نَفْسِهِ نَسَبًا لَيْسَ مِنْهُ ، وَاللِّعَانُ مَشْرُوعٌ لِحَاجَتِهِ فَأَمَّا عِنْدَنَا حُكْمُ اللِّعَانِ ثَبَتَ بِالنَّصِّ فِي الزَّوْجَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } وَلَا زَوْجِيَّةَ فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَلَا بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ جَرَى اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا إنَّمَا يَجْرِي لِنَفْيِ الْوَلَدِ ، وَقَدْ حَكَمَ الشَّرْعُ بِثُبُوتِ نَسَبِ الْوَلَدِ مِنْهُ حِينَ أَوْجَبَ الْمَهْرَ وَالْعِدَّةَ بِالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ ، وَبَعْدَ الْحُكْمِ بِثُبُوتِ النَّسَبِ لَا يُتَصَوَّرُ نَفْيَهُ : تَوْضِيحُهُ أَنَّ نَفْيَ النَّسَبِ تَبَعٌ لِقَطْعِ الزَّوْجِيَّةِ ، وَالتَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا ، وَقِيَامِ التَّبَعِ بِالْمَتْبُوعِ فَإِذَا تَعَذَّرَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ بِقَطْعِ الزَّوْجِيَّةِ يَمْتَنِعُ جَرَيَانُ اللِّعَانِ بَيْنَهَا .

( قَالَ ) : وَإِذَا لَاعَنَهَا بِوَلَدٍ ثُمَّ جَاءَتْ بِوَلَدٍ بَعْدَ ذَلِكَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ السَّنَتَيْنِ لَزِمَهُ هَذَا الْوَلَدُ ؛ لِأَنَّ الْعُلُوقَ بِهِ مَوْهُومٌ أَنَّهُ كَانَ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ .

( قَالَ ) : وَإِذَا وَلَدَتْ الْمَرْأَةُ وَلَدَيْنِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ فَأَقَرَّ بِالْأَوَّلِ وَنَفَى الثَّانِيَ لَزِمَهُ الْوَلَدَانِ وَيُلَاعِنَانِ فَإِنْ نَفَى الْأَوَّلَ ، وَأَقَرَّ بِالثَّانِي لَزِمَاهُ وَيُحَدُّ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِنَسَبِ أَحَدِهِمَا إقْرَارٌ بِنَسَبِهِمَا ، فَإِنَّهُمَا تَوْأَمٌ لَا يَنْفَصِلُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ فِي حُكْمِ النَّسَبِ لِعِلْمِنَا أَنَّهُمَا خُلِقَا مِنْ مَاءٍ وَاحِدٍ ، فَإِذَا أَقَرَّ بِالْأَوَّلِ كَانَ هَذَا كَإِقْرَارِهِ بِهِمَا ثُمَّ فِي نَفْيِ الثَّانِي هُوَ قَاذِفٌ لَهَا بِالزِّنَا فَيُلَاعِنُهَا ، وَإِنْ نَفَى الْأَوَّلَ فَقَدْ صَارَ قَاذِفًا لَهَا بِالزِّنَا وَحِينَ أَقَرَّ بِالثَّانِي فَقَدْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ فَيَلْزَمُهُ الْحَدُّ ، وَنَسَبُ الْوَلَدَيْنِ ثَابِتٌ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِأَحَدِهِمَا كَإِقْرَارِهِ بِهِمَا وَإِنْ نَفَاهُمَا ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ اللِّعَانِ فَإِنَّهُ يُلَاعِنُ عَلَى الْحَيِّ مِنْهُمَا وَهُمَا وَلَدَاهُ ؛ لِأَنَّ الَّذِي مَاتَ قَدْ لَزِمَهُ نَسَبُهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَرِثُهُ لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ ، وَأَنَّهُ لَوْ قُتِلَ كَانَ لَهُ الْمِيرَاثُ مِنْ دِيَتِهِ .
وَالْحُكْمُ بِثُبُوتِ نَسَبِ أَحَدِهِمَا مِنْهُ حُكْمٌ بِثُبُوتِ نَسَبِهِمَا فَلَا يُحْتَمَلُ النَّفْيُ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّهُ لَوْ قَطَعَ نَسَبَ هَذَا الْحَيِّ مِنْهُ قَطَعَ نَسَبَ الْمَيِّتِ أَيْضًا وَالنَّسَبُ كَمَا لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ بِالدَّعْوَةِ لَا يُمْكِنُ قَطْعُهُ بِالنَّفْيِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ إلْزَامَ الْحُكْمِ عَلَى الْمَيِّتِ مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ عَنْهُ فَإِنَّ الْأَخَ لَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ أَخِيهِ ، وَلَكِنْ لَا يَمْتَنِعُ جَرَيَانُ اللِّعَانِ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَهَا بِالزِّنَا وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ اللِّعَانِ قَطْعُ النَّسَبِ وَالنَّسَبُ إنَّمَا لَزِمَهُ حُكْمًا فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ إكْذَابِهِ نَفْسَهُ فِي مَنْعِ جَرَيَانِ اللِّعَانِ بَيْنَهُمَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ وَلَدَتْ أَحَدَهُمَا مَيِّتًا فَنَفَاهُمَا ؛ لِأَنَّ الْمَوْلُودَ مَيِّتًا ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْهُ حَتَّى لَوْ ضَرَبَ إنْسَانٌ بَطْنَهَا فَلَزِمَتْهُ الْغُرَّةُ كَانَ

لِلْوَالِدِ مِنْهُ الْمِيرَاثُ ، وَإِذَا لَزِمَهُ نَسَبُ أَحَدِهِمَا لَزِمَهُ نَسَبُهُمَا .

( قَالَ ) : وَإِنْ وَلَدَتْ وَلَدًا فَنَفَاهُ وَلَاعَنَ بِهِ ثُمَّ وَلَدَتْ مِنْ الْغَدِ وَلَدًا آخَرَ لَزِمَهُ الْوَلَدَانِ جَمِيعًا ، وَاللِّعَانُ مَاضٍ ؛ لِأَنَّ نَسَبَ الَّذِي كَانَ فِي الْبَطْنِ لَمْ يَثْبُتُ فِيهِ حُكْمُ الْحَاكِمِ لِمَا فِيهِ مِنْ إلْزَامِ الْحُكْمِ عَلَى الْحَمْلِ ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَى الِانْفِصَالِ فَإِذَا انْفَصَلَ كَانَ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْهُ ، وَهُمَا تَوْأَمٌ إذْ لَيْسَ بَيْنَهُمَا مُدَّةُ حَبَلٍ تَامٍّ ، وَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ نَسَبِ أَحَدِهِمَا ثُبُوتُ نَسَبِ الْآخَرِ ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ جَانِبِ الَّذِي كَانَ مُنْفَصِلًا وَقْتَ اللِّعَانِ يُوجِبُهُ نَفْيُ النَّسَبِ ، وَاعْتِبَارُ جَانِبِ الْآخَرِ يَثْبُتُ النَّسَبُ ، وَإِنَّمَا يُحْتَاطُ لِإِثْبَاتِ النَّسَبِ لَا لِنَفْيِهِ فَإِنْ قَالَ هُمَا ابْنَايَ كَانَ صَادِقًا ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ نَسَبَهُمَا مِنْهُ يَثْبُتُ شَرْعًا ، فَهُوَ بِهَذَا اللَّفْظِ يُخْبِرُ عَمَّا يَلْزَمُهُ شَرْعًا فَلَا يَكُونُ إكْذَابًا مِنْهُ نَفْسَهُ : تَوْضِيحُهُ أَنَّ كَلَامَهُ مُحْتَمِلٌ ، يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْإِكْذَابَ بِدَعْوَى النَّسَبِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْإِخْبَارَ بِمَا لَزِمَهُ شَرْعًا ، وَالْحَدُّ لَا يَجِبُ مَعَ الِاحْتِمَالِ ، وَإِنْ قَالَ لَيْسَا بِابْنَيَّ كَانَا ابْنَيْهِ ؛ لِأَنَّ نَسَبَهُمَا لَزِمَهُ حُكْمًا فَلَا يَمْلِكُ نَفْيَهُ ، وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ بِهَذَا اللَّفْظِ كَرَّرَ الْقَذْفَ الَّذِي لَاعَنَهَا بِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ بِالتَّكْرَارِ حَدٌّ .
وَلَوْ قَالَ كَذَبْتُ فِي اللِّعَانِ وَفِيمَا قَذَفْتُهَا بِهِ كَانَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِإِكْذَابِهِ نَفْسَهُ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَيْهِ .

( قَالَ ) : وَلَوْ نَفَى وَلَدَ زَوْجَةٍ مَحْدُودَةٍ ، أَوْ كِتَابِيَّةٍ ، أَوْ مَمْلُوكَةٍ وَالزَّوْجُ حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ كَانَ نَفْيُهُ بَاطِلًا وَيَلْزَمُ الْوَلَدُ إيَّاهُ ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ قَدْ ثَبَتَ مِنْهُ بِالْفِرَاشِ فَلَا يَنْقَطِعُ إلَّا بِاللِّعَانِ وَقَدْ تَعَذَّرَ إثْبَاتٌ بَيْنَهُمَا لِانْعِدَامِ أَهْلِيَّةِ الشَّهَادَةِ فِيهِمَا أَوْ فِي أَحَدِهِمَا فَيَبْقَى النَّسَبُ ثَابِتًا مِنْهُ ، وَلَا حَدَّ عَلَى الزَّوْجِ وَلَا لِعَانَ وَقَدْ أَجْمَلَ هَذَا الْجَوَابَ ؛ لِأَنَّهُ فِي السُّؤَالِ ذَكَرَ الزَّوْجَ الْعَبْدَ وَالْمَرْأَةَ الْمَحْدُودَةَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الْعَبْدَ إذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ الْمَحْدُودَةَ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ فَيُحْمَلُ هَذَا الْجَوَابُ عَلَى مَا إذَا كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا مُسْلِمًا حَتَّى يَمْتَنِعَ جَرَيَانُ اللِّعَانِ مِنْ قِبَلِهَا فَحِينَئِذٍ لَا يَجِبُ الْحَدُّ ، وَلَا اللِّعَانُ .

( قَالَ ) : وَإِذَا الْتَعَنَ الرَّجُلُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ وَالْتَعَنَتْ الْمَرْأَةُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا فَقَدْ أَخْطَأَ السُّنَّةَ ، وَالْفُرْقَةُ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - حُكْمُهُ بِخِلَافِ السُّنَّةِ بَاطِلٌ ، فَلَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ بِخِلَافِ النَّصِّ ، فَإِنَّ اللِّعَانَ بِالْكِتَابِ ، وَالسُّنَّةِ خَمْسُ مَرَّاتٍ وَالْحُكْمُ بِخِلَافِ النَّصِّ بَاطِلٌ كَمَا لَوْ حَكَمَ بِشَهَادَةٍ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ فِي حَدِّ الزِّنَا أَوْ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ بِالْمَالِ .
( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ : أَنَّ هَذَا حُكْمٌ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ فَيَجُوزُ وَيَنْفُذُ كَالْحُكْمِ بِشَهَادَةِ الْمَحْدُودِ فِي الْقَذْفِ وَنَحْوِهَا وَبَيَانَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا - أَنَّ مَا شُرِعَ مُكَرَّرًا مِنْ وَاحِدٍ فَقَدْ يُقَامُ الْأَكْثَرُ مِنْهُ مَقَامَ الْكُلِّ .
وَالثَّانِي - أَنَّ تَكْرَارَ اللِّعَانِ لِلتَّغْلِيظِ وَمَعْنَى التَّغْلِيظِ يَحْصُلُ بِأَكْثَرِ كَلِمَاتِ اللِّعَانِ ؛ لِأَنَّهُ جَمْعٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَأَدْنَى الْجَمْعِ كَأَعْلَاهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ ، فَإِذَا اجْتَهَدَ الْقَاضِي وَأَدَّى اجْتِهَادُهُ إلَى هَذَا الْحُكْمِ نَفَذَ حُكْمُهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ لِعَانِ الزَّوْجِ قَبْلَ لِعَانِ الْمَرْأَةِ يَنْفُذُ حُكْمُهُ لِكَوْنِهِ مُجْتَهِدًا فِيهِ فَبَعْدَ مَا أَتَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَكْثَرِ كَلِمَاتِ اللِّعَانِ أَوْلَى .
وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَضَاءَهُ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْفُرْقَةِ ، وَمَحَلَّهَا غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي النَّصِّ وَهَذَا الِاجْتِهَادُ فِي مَحَلِّ الْفُرْقَةِ ، فَإِنَّ مَنْ أَبْطَلَ هَذَا الْقَضَاءَ يَقُولُ : لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ وَإِنْ أَتَمَّتْ الْمَرْأَةُ اللِّعَانَ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ وَإِنْ أَتَمَّ الزَّوْجُ اللِّعَانَ وَإِنَّمَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ عِنْدَهُ بِلِعَانِ الزَّوْجِ ، وَلَوْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بَعْدَمَا الْتَعَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَرَّتَيْنِ لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ أَكْثَرِ

اللِّعَانِ كَبَقَاءِ جَمِيعِهِ فَهَذَا حُكْمٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ ، فَإِنَّ أَقَلَّ الشَّيْءِ لَا يَقُومُ مَقَامَ كَمَالِهِ .

( قَالَ ) : وَلَوْ فَرَغَا مِنْ اللِّعَانِ فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا حَتَّى مَاتَ أَحَدُهُمَا تَوَارَثَا ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ عِنْدَنَا لَا تَقَعُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، فَإِنَّمَا انْتَهَى النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا بِالْمَوْتِ

( قَالَ ) : وَلَوْ أَخْطَأَ الْقَاضِي فَأَمَرَ الْمَرْأَةَ فَبَدَأَتْ بِاللِّعَانِ ثُمَّ الْتَعَنَ الرَّجُلُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَ الْمَرْأَةَ بِإِعَادَةِ اللِّعَانِ ؛ لِأَنَّهَا الْتَعَنَتْ قَبْلَ أَوَانِهِ ، فَإِنَّ اللِّعَانَ مَشْرُوعٌ فِي جَانِبِهَا لِمُعَارَضَةِ لِعَانِ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهَا لَا يَثْبُتُ بِلِعَانِهَا شَيْءٌ عَلَى الزَّوْجِ ، وَمَا حَصَلَ قَبْلَ أَوَانِهِ لَا يُعْتَدُّ بِهِ فَيَأْمُرُهَا بِاسْتِقْبَالِ اللِّعَانِ فَإِنْ لَمْ يَأْمُرْهَا بِذَلِكَ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ كَمَا لَوْ الْتَعَنَ الزَّوْجُ وَلَمْ تَلْتَعِنْ الْمَرْأَةُ حَتَّى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ حُكْمٌ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ ؛ لِأَنَّ فِيمَا طَرِيقُهُ عَلَى طَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ ، لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَسْبِقَ هَذَا أَوْ ذَاكَ ، وَفِي بَابِ التَّحَالُفِ لَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِيَمِينِ أَيِّهِمَا شَاءَ ؛ وَلِأَنَّهُمَا مُتَلَاعِنَانِ سَوَاءٌ بَدَأَتْ هِيَ أَوْ هُوَ وَحُكْمُهُ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ نَافِدٌ .

( قَالَ ) : وَإِذَا قَذَفَ أَجْنَبِيَّةً ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَقَذَفَهَا فَرَافَعَتْهُ فِيهِمَا جُلِدَ الْحَدَّ ، وَدُرِئَ اللِّعَانُ ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ قَذْفِهِ قَبْلَ التَّزَوُّجِ الْحَدُّ ، وَمُوجِبَ قَذْفِهِ بَعْدَ التَّزَوُّجِ اللِّعَانُ ، وَلَكِنْ مَتَى اجْتَمَعَ الْحَدَّانِ عِنْدَ الْإِمَامِ - وَفِي الْبِدَايَةِ بِأَحَدِهِمَا إسْقَاطُ الْآخَرِ - بُدِئَ بِمَا فِيهِ إسْقَاطُ الْآخَرِ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ ، وَلَوْ بَدَأَ بِاللِّعَانِ هُنَا لَمْ يَسْقُطْ الْحَدُّ وَلَوْ بَدَأَ بِالْحَدِّ يَسْقُطُ اللِّعَانُ ؛ لِأَنَّ الْمَحْدُودَ فِي الْقَذْفِ لَا يُلَاعِنُ امْرَأَتَهُ فَلِهَذَا يُبْدَأُ بِالْحَدِّ ، وَلَوْ أَخَذَتْهُ بِالْآخَرِ وَتَرَكَتْ الْأَوَّلَ لَاعَنَهَا ؛ لِأَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يُقَامُ إلَّا بِطَلَبِ الْمَقْذُوفِ فَإِذَا لَمْ يَطْلُبْ صَارَ الْقَذْفُ الْأَوَّلُ كَالْمَعْدُومِ فِي حَقِّ الثَّانِي وَقَدْ وُجِدَ مِنْهَا الْخُصُومَةُ فِي الثَّانِي فَيُلَاعِنُهَا فَإِنْ أَخَذَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْأَوَّلِ ضُرِبَ الْحَدَّ ؛ لِأَنَّ بِتَرْكِ الطَّلَبِ زَمَانًا لَا يَسْقُطُ حَقُّهَا فِي الْمُطَالَبَةِ بِحَدِّ الْقَذْفِ بَعْدَ تَقَرُّرِ الْمُوجِبِ لِحَدِّ الْقَذْفِ .
وَإِنْ بَدَأَتْ بِالْأَوَّلِ حُدَّ لَهَا فَإِنْ أَخَذَتْهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالْآخَرِ لَمْ يَلْزَمْهُ حَدٌّ وَلَا لِعَانٌ ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ الثَّانِيَ كَانَ مُوجِبًا لِلِّعَانِ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ إقَامَتُهُ حِينَ صَارَ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ ، وَلَوْ كَانَ مُوجِبًا لِلْحَدِّ لَا يُقَامُ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ وَقَدْ أُقِيمَ ذَلِكَ بَعْدَ الْقَذْفَيْنِ .

( قَالَ ) : وَإِذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ مَرَّاتٍ فَعَلَيْهِ لِعَانٌ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ فِي كَوْنِهِ مُوجِبَ قَذْفِ الزَّوْجَاتِ كَالْحَدِّ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيَّاتِ وَالْحَدُّ لَا يَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِ الْقَذْفِ لِشَخْصٍ وَاحِدٍ .

( قَالَ ) : وَإِذَا قَذَفَ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ ، أَوْ فِي كَلِمَاتٍ مُتَفَرِّقَةٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يُلَاعِنَ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ عَلَى حِدَةٍ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَذَفَ أَجْنَبِيَّاتٍ ، فَإِنَّهُ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ لَهُنَّ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِإِقَامَةِ حَدٍّ وَاحِدٍ وَهُوَ دَفْعُ عَارِ الزِّنَا عَنْهُنَّ وَهُنَا لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِلِعَانٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ الْجَمْعُ بَيْنَهُنَّ فِي كَلِمَاتِ اللِّعَانِ فَقَدْ يَكُونُ صَادِقًا فِي بَعْضِهِنَّ دُونَ الْبَعْضِ ، وَالْمَقْصُودُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِاللِّعَانِ مَعَ بَعْضِهِنَّ فَلِهَذَا يُلَاعِنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُنَّ عَلَى حِدَةٍ حَتَّى لَوْ كَانَ مَحْدُودًا فِي الْقَذْفِ كَانَ عَلَيْهِ حَدٌّ وَاحِدٌ لَهُنَّ ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ قَذْفِهِ لَهُنَّ الْحَدُّ هُنَا وَالْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِحَدٍّ وَاحِدٍ كَمَا فِي الْأَجْنَبِيَّاتِ .

( قَالَ ) : وَلَوْ قَذَفَ رَجُلًا فَضُرِبَ بَعْضَ الْحَدِّ ثُمَّ قَذَفَ امْرَأَةَ نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ لِعَانٌ ، وَعَلَيْهِ تَمَامُ الْحَدِّ لِذَلِكَ الرَّجُلِ ؛ لِأَنَّ قَذْفَهُ إيَّاهَا مُوجِبٌ لِلِّعَانِ ، فَإِنَّ بِإِقَامَةِ بَعْضِ الْحَدِّ عَلَيْهِ لَا تَبْطُلُ شَهَادَتُهُ ، وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ إكْمَالِ الْحَدِّ لِذَلِكَ الرَّجُلِ أَوَّلًا ؛ لِأَنَّ فِي الْبِدَايَةِ بِهِ إسْقَاطُ اللِّعَانِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ فَيُبْدَأُ بِإِكْمَالِ الْحَدِّ الْأَوَّلِ لِهَذَا .
وَلَوْ كَانَ قَذْفُهُ إيَّاهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مُوجِبًا لِلْحَدِّ لَمْ يَجِبْ إلَّا كَمَالُ الْحَدِّ الْأَوَّلِ ، كَمَا لَوْ قَذَفَ أَجْنَبِيًّا آخَرَ .

( قَالَ ) : وَإِذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ بَانَتْ مِنْهُ بِطَلَاقٍ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ، وَلَا لِعَانَ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِاللِّعَانِ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ بَعْدِ الْبَيْنُونَةِ فَلَا مَعْنَى لِلِّعَانِ بَعْدَ فَوَاتِ الْمَقْصُودِ بِهِ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ قَذْفَهُ كَانَ مُوجِبًا لِلِّعَانِ ، وَالْقَذْفُ الْوَاحِدُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّيْنِ ، وَلَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ لَمْ يُضْرَبْ الْحَدَّ أَيْضًا لِهَذَا الْمَعْنَى بِخِلَافِ مَا لَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بَعْدَمَا لَاعَنَهَا ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ اللِّعَانِ هُنَاكَ بِأَصْلِ الْقَذْفِ ، وَالْحَدُّ بِكَلِمَاتِ اللِّعَانِ فَقَدْ نَسَبَهَا فِيهَا إلَى الزِّنَا وَانْتَزَعَ مَعْنَى الشَّهَادَةِ بِإِكْذَابِهِ نَفْسَهُ فَيَكُونُ هَذَا نَظِيرُ الشُّهُودِ بِالزِّنَا ، فَأَمَّا هُنَا لَمْ تُوجَدْ كَلِمَاتُ اللِّعَانِ فَلِهَذَا لَا يُحَدُّ ، وَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ .

( قَالَ ) : وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا يَا زَانِيَةً كَانَ عَلَيْهِ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّهَا بَانَتْ بِالتَّطْلِيقَاتِ الثَّلَاثِ فَإِنَّمَا قَذَفَهَا بِالزِّنَا بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَلَوْ قَالَ يَا زَانِيَةً - أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا لَمْ يَلْزَمْهُ حَدٌّ وَلَا لِعَانٌ ؛ لِأَنَّهُ قَذَفَهَا ، وَهِيَ مَنْكُوحَةٌ ، ثُمَّ أَبَانَهَا بِالتَّطْلِيقَاتِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ بَعْدَمَا قَذَفَهَا إذَا أَبَانَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ حَدٌّ وَلَا لِعَانٌ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ ذَكَرَ كَلَامَهُ عَلَى سَبِيلِ النِّدَاءِ فَقَدْ نَسَبَهَا بِهِ إلَى الزِّنَا ؛ لِأَنَّ النِّدَاءَ لِلتَّعْرِيفِ ، وَتَعْرِيفُهَا بِهَذَا الْوَصْفِ نِسْبَتُهَا إلَيْهِ بِأَبْلَغِ الْجِهَاتِ .

قَالَ ) : وَإِذَا عَلَّقَ الْقَذْفَ بِشَرْطٍ لَمْ يَجِبْ حَدٌّ ، وَلَا لِعَانٌ ؛ لِأَنَّ الْقَذْفَ مِمَّا لَا يُحْلَفُ بِهِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّرْطِ ؛ وَلِأَنَّ التَّعَلُّقَ بِالشَّرْطِ يَمْنَعُ تَحَقُّقَ نِسْبَتِهَا إلَى الزِّنَا فِي الْحَالِ ؛ وَلِأَنَّ مَنْ لَا تَكُونُ زَانِيَةً قَبْلَ دُخُولِ الدَّارِ لَا تَكُونُ زَانِيَةً بِدُخُولِ الدَّارِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : إذَا تَزَوَّجْتُك ، فَأَنْتِ زَانِيَةٌ أَوْ أَنْتِ زَانِيَةٌ إنْ شَاءَ فُلَانٌ فَهُوَ بَاطِلٌ لِمَا قُلْنَا .

( قَالَ ) : وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ قَدْ زَنَيْتِ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ أَوْ رَأَيْتُك تَزْنِينَ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ ، فَهُوَ قَاذِفٌ الْيَوْمَ وَعَلَيْهِ اللِّعَانُ ، لِأَنَّ الْقَذْفَ نِسْبَتُهَا إلَى الزِّنَا ، وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ فِي الْحَالِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ قَذَفْتُك بِالزِّنَا قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَكَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ بِإِقْرَارِهِ قَذْفٌ قَبْلَ التَّزَوُّجِ فَهُوَ كَمَا لَوْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهَا زَنَيْتِ ، وَأَنْتِ صَغِيرَةٌ ، فَإِنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ ، وَلَا لِعَانَ فَإِنَّ فِعْلَ الصَّغِيرَةِ لَا يَكُونُ زِنًا شَرْعًا فَقَدْ نَسَبَهَا إلَى مَا لَا يَتَحَقَّقُ شَرْعًا فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ نَسَبَهَا إلَى مَا لَا يَتَحَقَّقُ أَصْلًا بِأَنْ قَالَ : زَنَيْتِ قَبْلَ أَنْ تُخْلَقِي فَأَمَّا مَا قَبْلَ التَّزَوُّجِ يَتَحَقَّقُ مِنْهَا فِعْلُ الزِّنَا شَرْعًا ؛ وَلِأَنَّ الصَّغِيرَةَ لَا يَلْحَقُهَا الْعَارُ وَلَا الْإِثْمُ شَرْعًا ، وَالْقَذْفُ بِالزِّنَا يَتَعَيَّرُ بِهِ الْمَقْذُوفُ ، وَقَدْ يَكُونُ فِيهِ آثِمًا شَرْعًا ، وَإِنْ قَالَ لَهَا فَرْجُك زَانٍ أَوْ جَسَدُك زَانٍ أَوْ بَدَنُك زَانٍ فَهُوَ قَذْفٌ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ بِخِلَافِ الرِّجْلِ ، وَالْيَدِ ، وَبِأَيِّ لُغَةٍ رَمَاهَا بِالزِّنَا ، فَهُوَ قَاذِفٌ ؛ لِأَنَّ مَا يَلْحَقُهَا مِنْ الْعَارِ وَالشَّنَارِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الزِّنَا لَا يَخْتَلِفُ بَيْنَ الْعَرَبِيَّةِ وَالْفَارِسِيَّةِ وَإِذَا قَالَ وَجَدْتُ رَجُلًا مَعَهَا يُجَامِعُهَا لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا ؛ لِأَنَّ الْجِمَاعَ قَدْ يَكُونُ حَلَالًا وَشُبْهَةً وَبِدُونِ التَّصْرِيحِ بِالزِّنَا لَا يَكُونُ الْقَذْفُ مُوجِبًا كَمَا فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ مَا لَمْ يُصَرِّحْ بِالزِّنَا لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْحَدِّ .

( قَالَ ) : رَجُلٌ قَالَ لِامْرَأَتِهِ يَا زَانِيَةً فَقَالَتْ : بَلْ أَنْتِ فَإِنَّهَا تُحَدُّ لَهُ وَيُدْرَأُ اللِّعَانُ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهَا لَا بَلْ أَنْتَ الزَّانِي ، وَقَذْفُهَا إيَّاهُ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ وَفِي الْبِدَايَةِ بِهِ إسْقَاطُ اللِّعَانِ ؛ لِأَنَّهَا تَصِيرُ مَحْدُودَةً فِي قَذْفٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ مَتَى كَانَ فِي الْبِدَايَةِ بِأَحَدِ الْحَدَّيْنِ إسْقَاطُ الْآخَرِ يُبْدَأُ بِهِ ، وَذَكَرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ : لِامْرَأَتِهِ يَا زَانِي فَعَلَيْهِ اللِّعَانُ ؛ لِأَنَّهُ قَاذِفٌ لَهَا وَإِنْ أَسْقَطَ الْهَاءَ مِنْ كَلَامِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِسْقَاطَ لِلتَّرْخِيمِ عَادَةَ الْعَرَبِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ يَا زَانِيَةً لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَدٌّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْحُدُودِ ، وَقَذْفُ الْأَصَمِّ امْرَأَتَهُ يُوجِبُ اللِّعَانَ ؛ لِأَنَّ التَّصْرِيحَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الزِّنَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْأَصَمِّ بِخِلَافِ الْأَخْرَسِ وَلَوْ قَذَفَ الرَّجُلُ امْرَأَةَ رَجُلٍ فَقَالَ الزَّوْجُ : صَدَقْتَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَدٌّ ، وَلَا لِعَانٌ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِتَصْرِيحٍ بِالنِّسْبَةِ لَهَا إلَى الزِّنَا فَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّ مُرَادَهُ صَدَقْتَ ، هِيَ امْرَأَتُهُ ، وَهَذَا اللَّفْظُ لَا يَكُونُ قَذْفًا فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الزَّوْجَةِ .

( قَالَ ) : وَإِنْ قَالَ يَا زَانِيَةً فَقَالَتْ زَنَيْتُ بِكَ ، فِي الْقِيَاسِ يُلَاعِنُهَا ؛ لِأَنَّ كَلَامَهَا لَيْسَ بِإِقْرَارٍ بِالزِّنَا مِنْهَا فَإِنَّ فِعْلَ الْمَرْأَةِ بِزَوْجِهَا لَا يَكُونُ زِنًا وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا حَدٌّ ، وَلَا لِعَانٌ ؛ لِأَنَّهَا بِأَوَّلِ كَلَامِهَا صَارَتْ مُصَدِّقَةً لَهُ حِينَ قَالَتْ زَنَيْت ؛ وَلِأَنَّ كَلَامَهَا مُحْتَمِلٌ : لَعَلَّهَا أَرَادَتْ زَنَيْت بِك قَبْلَ النِّكَاحِ ، وَلَعَلَّهَا أَرَادَتْ بَعْدَ النِّكَاحِ فَلِاحْتِمَالِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ يَسْقُطُ اللِّعَانُ ، وَلِاحْتِمَالِ الْوَجْهِ الثَّانِي لَا تَكُونُ هِيَ قَاذِفَةً لَهُ فَلَا يَلْزَمُهَا الْحَدُّ وَإِنْ قَالَ يَا زَانِيَةً فَقَالَتْ أَنْتَ أَزْنَى مِنِّي فَعَلَيْهِ اللِّعَانُ ؛ لِأَنَّ كَلَامَهَا لَيْسَ بِقَذْفٍ لَهُ ، فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَنْتَ أَقْدَرُ عَلَى الزِّنَا مِنِّي ، وَلِهَذَا لَوْ قَذَفَ الْأَجْنَبِيُّ بِهَذَا اللَّفْظِ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ الزَّوْجُ أَنْتِ أَزْنَى مِنْ فُلَانَةَ أَوْ أَنْتِ أَزْنَى النَّاسِ فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ أَنْتِ أَقْدَرُ عَلَى الزِّنَا أَوْ أَكْثَرُ شَبَقًا فَلَا يَتَحَقَّقُ نِسْبَتُهَا إلَى الزِّنَا بِهَذَا اللَّفْظِ ، وَإِذَا قَذَفَهَا أَوْ نَفَى نَسَبَ وَلَدِهَا فَصَدَّقَتْهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا حَدٌّ وَلَا لِعَانٌ ؛ لِأَنَّهَا بِتَصْدِيقِ الزَّوْجِ فِيمَا نَسَبَهَا إلَيْهِ مِنْ الزِّنَا تَخْرُجُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُحْصَنَةً ، وَالْوَلَدُ وَلَدُهُ ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ مِنْهُ بِالْفِرَاشِ فَلَا يَنْتَفِي إلَّا بِاللِّعَانِ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ اللِّعَانُ بَيْنَهُمَا فَإِنْ قَذَفَ امْرَأَةَ رَجُلٍ فَقَالَ الرَّجُلُ : صَدَقْت هِيَ كَمَا قُلْت كَانَ قَاذِفًا لَهَا ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِآخِرِ كَلَامِهِ أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ التَّصْدِيقِ أَوَّلُ الْكَلَامِ ، وَمَعْنَاهُ هِيَ زَانِيَةٌ كَمَا قُلْت بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ مُطْلَقًا صَدَقْت ، وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : يَا زَانِيَةً بِنْتَ الزَّانِيَةِ فَقَدْ صَارَ قَاذِفًا لَهَا وَلِأُمِّهَا ، وَقَذْفُهُ أُمَّهَا مُوجِبٌ لِلْحَدِّ ، وَقَذْفُهُ إيَّاهَا مُوجِبٌ لِلِّعَانِ فَإِذَا

رَفَعَتْهُ هِيَ وَأُمُّهَا بُدِئَ بِالْحَدِّ لِمَا فِي الْبِدَايَةِ بِهِ مِنْ إسْقَاطِ اللِّعَانِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْأُمُّ مَيِّتَةً فَلِلْبِنْتِ أَنْ تُخَاصِمَ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ ؛ لِأَنَّ الْعَارَ يَلْحَقُهَا بِزِنَا أُمِّهَا فَإِذَا خَاصَمَتْ فِي ذَلِكَ حُدَّ لَهَا ، وَدُرِئَ اللِّعَانُ ، وَإِنْ قَالَ زَنَيْت مُسْتَكْرَهَةً أَوْ زَنَى بِك صَبِيٌّ لَمْ يَكُنْ قَاذِفًا لَهَا ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَكْرَهَةَ لَا تَكُونُ زَانِيَةً شَرْعًا فَإِنَّ الْفِعْلَ يَنْعَدِمُ مِنْهَا ، وَهُوَ التَّمْكِينُ فِي الْإِكْرَاهِ وَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهَا الْحَدُّ ، وَكَذَلِكَ فِعْلُ الصَّبِيِّ لَا يَكُونُ زِنًا شَرْعًا وَهِيَ بِالتَّمْكِينِ مِنْ غَيْرِ الزِّنَا لَا تَكُونُ زَانِيَةً ، فَلَا يَكُونُ قَاذِفًا لَهَا وَلَوْ قَذَفَهَا ثُمَّ وُطِئَتْ وَطْئًا حَرَامًا سَقَطَ اللِّعَانُ ؛ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُحْصَنَةً ، وَالْعَارِضُ فِي الْحُدُودِ قَبْلَ الْإِقَامَةِ كَالْمُقْتَرِنِ بِأَصْلِ السَّبَبِ .

( قَالَ ) : وَإِذَا وَلَدَتْ الْمَرْأَةُ وَلَدًا ثُمَّ نَفَى الْوَلَدَ بَعْدَ سَنَةٍ لَاعَنَهَا وَلَمْ يَنْتِفْ الْوَلَدُ إنَّمَا اسْتَحْسَنَ إذَا نَفَاهُ حِينَ يُولَدُ أَوْ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ أَنْ يَنْتَفِيَ بِاللِّعَانِ فَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلَمْ يَكُنْ وَقَّتَ فِيهِ وَقْتًا وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - : الْوَقْتُ فِيهِ أَيَّامُ النِّفَاسِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا : وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ مُدَّةَ النِّفَاسِ كَحَالَةِ الْوِلَادَةِ .
بِدَلِيلِ أَنَّهَا لَا تَصُومُ فِيهِ ، وَلَا تُصَلِّي وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْوَلَدُ مِنْهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَسْكُتَ عَنْ نَفْيِهِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَيَكُونُ سُكُوتُهُ عَنْ النَّفْيِ دَلِيلُ الْقَبُولِ ، وَكَذَلِكَ يُهَنَّى بِالْوَلَدِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ فَقَبُولُهُ بِالتَّهْنِئَةِ إقْرَارٌ مِنْهُ أَنَّ الْوَلَدَ مِنْهُ ، وَكَذَلِكَ يَشْتَرِي مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِإِصْلَاحِ الْوَلَدِ عَادَةً وَبَعْدَ وُجُودِ دَلِيلِ الْقَبُولِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ ، وَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يَصِحَّ نَفْيُهُ إلَّا عَلَى فَوْرِ الْوِلَادَةِ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ : لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَرْوِيَ النَّظَرَ لِئَلَّا يَكُونَ مُجَازِفًا فِي النَّفْيِ قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ نَفَى نَسَبَ وَلَدِهِ وَهُوَ يَنْظُرُ إلَيْهِ فَهُوَ مَلْعُونٌ } ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَرْوِيَ النَّظَرَ إلَّا بِمُدَّةٍ فَجَعَلْنَا لَهُ مِنْ الْمُدَّةِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ سَبْعَةَ أَيَّامٍ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ يَسْتَعِدُّ لِلْعَقِيقَةِ ، وَإِنَّمَا تَكُونُ الْعَقِيقَةُ بَعْدَ سَبْعَةِ أَيَّامٍ وَلَكِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّ نَصْبَ الْمِقْدَارَ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ .

( قَالَ ) : وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا حِينَ وَلَدَتْهُ فَحَضَرَ بَعْدَ مُدَّةٍ يُجْعَلُ مِنْ حَقِّهِ فِي حُكْمِ النَّفْيِ كَأَنَّهَا وَلَدَتْهُ الْآنَ إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : إنْ حَضَرَ قَبْلَ الْفِصَالِ فَلَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ إلَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةٍ وَلَوْ حَضَرَ بَعْدَ الْفِصَالِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ ؛ لِأَنَّهُ يُقْضَى بِنَفَقَتِهِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ الَّذِي خَلَفَهُ ، وَلَوْ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ بَعْدَ الْفِصَالِ لَكَانَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ بَعْدَ مَا صَارَ شَيْخًا ، وَهَذَا قَبِيحٌ .
هَذَا كُلُّهُ إنْ لَمْ يَقْبَلْ التَّهْنِئَةَ فَأَمَّا إذَا هُنِّئَ فَسَكَتَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ سُكُوتَهُ عِنْدَ التَّهْنِئَةِ بِمَنْزِلَةِ قَبُولِهِ التَّهْنِئَةِ ، وَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِنَسَبِهِ إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا هُنِّئَ بِوَلَدِ الْأَمَةِ فَسَكَتَ لَمْ يَكُنْ قَبُولًا بِخِلَافِ وَلَدِ الْمَنْكُوحَةِ ؛ لِأَنَّ وَلَدَ الْأَمَةِ غَيْرُ ثَابِتِ النَّسَبِ مِنْهُ فَالْحَاجَةُ إلَى الدَّعْوَةِ ، وَالسُّكُوتُ لَيْسَ بِدَعْوَةٍ فَأَمَّا نَسَبُ وَلَدِ الْمَنْكُوحَةِ ثَابِتٌ مِنْهُ فَسُكُوتُهُ يَكُونُ مُسْقِطًا حَقَّهُ فِي النَّفْيِ .

( قَالَ ) : وَإِذَا لَاعَنَ بِوَلَدٍ وَلَزِمَ أُمَّهُ ثُمَّ مَاتَ الْوَلَدُ عَنْ مَالِ فَادَّعَاهُ الْأَبُ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى النَّسَبِ ، وَالْمِيرَاثِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ بِالْمَوْتِ قَدْ اسْتَغْنَى عَنْ النَّسَبِ فَكَانَ هَذَا مِنْهُ دَعْوَى الْمِيرَاثِ ، وَهُوَ مُنَاقِضٌ فِي دَعْوَاهُ لَكِنْ يُضْرَبُ الْحَدَّ ؛ لِأَنَّهُ أَكْذَبَ نَفْسَهُ وَأَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ قَاذِفًا لَهَا فِي كَلِمَاتِ اللِّعَانِ ، فَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ ابْنًا لَهُ فَمَاتَ وَتَرَكَ وَلَدًا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْ الْمُدَّعِي ، وَوَرِثَ الْأَبُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ الْبَاقِي مُحْتَاجٌ إلَى النَّسَبِ فَبَقَاؤُهُ كَبَقَاءِ الْوَلَدِ الْأَوَّلِ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ وَلَدُ الْمُلَاعَنَةِ بِنْتًا فَمَاتَتْ عَنْ وَلَدٍ ثُمَّ أَكْذَبَ الْمُلَاعِنُ نَفْسَهُ ، فَكَذَا الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعِنْدَهُمَا لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ هُنَا ؛ لِأَنَّ نَسَبَ الْوَلَدِ الْقَائِمِ مِنْ جَانِبِ أَبِيهِ لَا مِنْ جَانِبِ أُمِّهِ قَالَ الْقَائِلُ : وَإِنَّمَا أُمَّهَاتُ النَّاسِ أَوْعِيَةٌ مُسْتَوْدَعَاتٌ وَلِلْأَنْسَابِ آبَاءٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّ أَوْلَادَ الْخُلَفَاءِ مِنْ الْإِمَاءِ يَصْلُحُونَ لِلْخِلَافَةِ ، وَهَذَا ، وَمَا لَوْ مَاتَتْ لَا عَنْ وَلَدٍ سَوَاءٌ ، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : الْوَلَدُ يَتَعَيَّرُ بِانْتِفَاءِ نَسَبِ أُمِّهِ كَمَا يَتَعَيَّرُ بِانْتِفَاءِ نَسَبِ أَبِيهِ فَكَانَ هَذَا الْوَلَدُ مُحْتَاجًا إلَى إثْبَاتِ نَسَبِ أُمِّهِ لِيَصِيرَ كَرِيمَ الطَّرَفَيْنِ ، فَيَكُونُ بَقَاؤُهُ كَبَقَائِهَا كَمَا لَوْ كَانَ وَلَدُ الْمُلَاعَنَةِ ذَكَرًا ، وَإِذَا ثَبَتَ النَّسَبُ فَالْمِيرَاثُ يَنْبَنِي عَلَيْهِ حُكْمًا .

( قَالَ ) : وَلَوْ وَلَدَتْ امْرَأَةُ الرَّجُلِ فَقَالَ الزَّوْجُ لَمْ تَلِدْهُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ، وَلَا لِعَانَ ؛ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ وِلَادَتَهَا وَذَلِكَ لَا يَتَضَمَّنُ نِسْبَتَهَا إلَى الزِّنَا ، وَلَوْ شَهِدْت امْرَأَةٌ عَلَى الْوِلَادَةِ ثَبَتَ نِسْبَةٌ مِنْهَا لِقِيَامِ الْفِرَاشِ بَيْنَهُمَا ، فَإِذَا نَفَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَاعَنَهَا ، وَإِنْ قَالَ لَيْسَ هَذَا مِنِّي ، وَلَا مِنْك لَمْ يَكُنْ بِهَذَا قَاذِفًا لَهَا ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ وِلَادَتَهَا هَذَا الْوَلَدِ بِهَذَا اللَّفْظِ .

( قَالَ ) : وَإِذَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ ثُمَّ ارْتَدَّتْ ثُمَّ أَسْلَمَتْ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تَأْخُذَهُ بِذَلِكَ الْقَذْفِ ؛ لِأَنَّهَا بِالرِّدَّةِ خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُحْصَنَةً ، وَلِأَنَّهَا بَانَتْ مِنْهُ بِالرِّدَّةِ ، وَلَوْ بَانَتْ بِسَبَبٍ آخَرَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَدٌّ ، وَلَا لِعَانٌ فَإِذَا بَانَتْ بِالرِّدَّةِ أَوْلَى

( قَالَ ) : وَإِذَا لَاعَنَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ بِغَيْرِ وَلَدٍ ثُمَّ قَذَفَهَا هُوَ أَوْ غَيْرُهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّهَا بَقِيَتْ مُحْصَنَةً بَعْدَ اللِّعَانِ وَالتَّفْرِيقِ فَإِنَّ اللِّعَانَ بَيْنَهُمَا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهَا مُحْصَنَةً فَلَا تَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُحْصَنَةً .

( قَالَ ) : وَإِنْ لَاعَنَهَا بِوَلَدٍ ثُمَّ قَذَفَهَا هُوَ ، أَوْ غَيْرُهُ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ ، وَلَا لِعَانَ ؛ لِأَنَّهَا فِي صُورَةِ الزَّانِيَاتِ فَإِنَّ فِي حِجْرِهَا وَلَدًا لَا يُعْرَفُ لَهُ وَالِدٌ ، فَلَا تَكُونُ مُحْصَنَةً فَإِنْ ادَّعَى الزَّوْجُ الْوَلَدَ فَجُلِدَ الْحَدَّ ، وَأُلْزِمَ الْوَلَدُ ثُمَّ قَذَفَهَا قَاذِفٌ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي صُورَةِ الزَّانِيَاتِ حِينَ ثَبَتَ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْ الزَّوْجِ ، وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ كَانَ قَذَفَهَا قَبْلَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ حَالَ وُجُودِ السَّبَبِ فِي الْحُدُودِ مُعْتَبَرُ لَا مَحَالَةَ ، وَقَدْ كَانَتْ عِنْدَ الْقَذْفِ فِي صُورَةِ الزَّانِيَاتِ .

( قَالَ ) : وَلَوْ ادَّعَى الْوَلَدَ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُحَدَّ ثَبَتَ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ بِالدَّعْوَى ، وَضُرِبَ مَنْ قَذَفَ الْمَرْأَةَ بَعْدَهُ الْحَدَّ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى الزَّوْجِ أَنَّهُ ادَّعَاهُ ، وَهُوَ يُنْكِرُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ ، وَضُرِبَ الْحَدَّ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى الزَّوْجِ أَنَّهُ ادَّعَاهُ كَالثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ ، وَمَنْ قَذَفَهَا بَعْدَ ذَلِكَ ضُرِبَ الْحَدَّ ؛ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ أَنْ تَكُونَ فِي صُورَةِ الزَّانِيَاتِ .

( قَالَ ) : وَإِذَا قَذَفَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ فَرَافَعَتْهُ فَأَقَامَتْ شَاهِدَيْنِ أَنَّهُ أَكْذَبَ نَفْسَهُ حُدَّ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ أَوْ بِالْمُعَايَنَةِ .

( قَالَ ) : وَإِذَا رَجَعَ الْمُلَاعِنَانِ إلَى حَالٍ لَا يَتَلَاعَنَانِ فِيهِ أَبَدًا فَإِنْ كَانَ بَعْدَ التَّفْرِيقِ حَلَّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَإِنْ كَانَ قَبْلَ التَّفْرِيقِ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ ، وَحَاصِلُ مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ التَّفْرِيقَ بَيْنَهُمَا وَالْحُرْمَةَ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ تَكْرَارِ اللِّعَانِ ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ الْمَعْنَى حِينَ صَارَ إلَى حَالٍ لَا يَتَلَاعَنَانِ فِيهِ أَبَدًا

( قَالَ ) : وَإِذَا أَسْلَمَتْ امْرَأَةُ الذِّمِّيِّ فَقَذَفَهَا ثُمَّ أَسْلَمَ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُحْصَنَةً حِينَ قَذَفَهَا فَكَانَ اللِّعَانُ مُمْتَنِعًا بِاعْتِبَارِ حَالِ الزَّوْجِ فَإِنَّهُ كَافِرٌ فَلَزِمَهُ الْحَدُّ ، ثُمَّ لَا يَسْقُطُ ذَلِكَ بَعْدَ إسْلَامِهِ ، وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ يَعْتِقُ بَعْدَمَا قَذَفَ امْرَأَتَهُ .

( قَالَ ) : وَلَوْ قَذَفَ الْحُرُّ امْرَأَتَهُ الذِّمِّيَّةَ ، أَوْ الْأَمَةَ ثُمَّ أَسْلَمَتْ ، أَوْ أُعْتِقَتْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَدٌّ ، وَلَا لِعَانٌ ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ جَرَيَانِ اللِّعَانِ بِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهَا عِنْدَ الْقَذْفِ فَلَا يَجْرِي اللِّعَانُ ، وَإِنْ ارْتَفَعَ الْمَعْنَى بَعْدَ ذَلِكَ ، وَإِذَا أَعْتَقَتْ الْمَرْأَةُ الْأَمَةُ ثُمَّ قَذَفَهَا الزَّوْجُ ، فَعَلَيْهِ اللِّعَانُ لِبَقَاءِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا عِنْدَنَا بَعْدَ مَا عَتَقَتْ فَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا بَطَلَ اللِّعَانُ لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا بِاخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا ، وَلَا مَهْرَ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ اخْتَارَتْ حَتَّى يُلَاعِنَهَا وَيُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا فَعَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ مُحَالٌ بِهَا عَلَى جَانِبِ الزَّوْجِ هُنَا ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - : اللِّعَانُ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ دَخَلَ بِهَا ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَلَهَا النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى فِي الْعِدَّةِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .

بَابُ الشَّهَادَةِ فِي اللِّعَانِ ( قَالَ ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِذَا شَهِدَ الزَّوْجُ ، وَثَلَاثَةُ نَفَرٍ عَلَى الْمَرْأَةِ بِالزِّنَا جَازَتْ شَهَادَتُهُمْ ، وَأُمْضِيَ عَلَيْهَا الْحَدُّ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الزَّوْجِ عَلَى زَوْجَتِهِ بِالزِّنَا لِأَنَّهُ خَصْمٌ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَصِيرُ قَاذِفًا لَهَا مُسْتَوْجِبًا لِلِّعَانِ ، وَلَا شَهَادَةَ لِلْخَصْمِ ، وَلِأَنَّهُ شَاهِدٌ طُعِنَ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَغِيظُهُ زِنَاهَا فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهَا لَا بِطَرِيقِ الْحِسْبَةِ وَلِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهَا الْجِنَايَةَ فِي أَمَانَتِهِ فَالْفِرَاشُ أَمَانَةُ الزَّوْجِ عِنْدَهَا ، وَلَا شَهَادَةَ لِلْمُدَّعِي ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : لَوْ شَهِدَ عَلَيْهَا بِحَقِّ آخَرَ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ لِظُهُورِ الْعَدَالَةِ ، وَانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ فَكَذَلِكَ بِالزِّنَا بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ انْتِفَاءَ التُّهْمَةِ هُنَا أَظْهَرُ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الزَّوْجَ يَسْتُرُ الزِّنَا عَلَى امْرَأَتِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَشِينُهُ وَمَعْنَى الْغَيْظِ الَّذِي قَالَ يَبْطُلُ بِالْأَبِ إذَا شَهِدَ عَلَى ابْنَتِهِ بِالزِّنَا تُقْبَلُ ، وَإِنْ كَانَ يَغِيظُهُ زِنَاهَا ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ إنَّهُ خَصْمٌ ؛ لِأَنَّ إخْرَاجَهُ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الشَّهَادَةِ فِي الِابْتِدَاءِ يَمْنَعُ كَوْنَهُ خَصْمًا مُسْتَوْجِبًا لِلِّعَانِ كَالْأَجْنَبِيِّ ، فَإِنَّ قَذْفَ الْأَجْنَبِيِّ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ ، ثُمَّ إذَا أَخْرَجَ الْكَلَامَ مَخْرَجَ الشَّهَادَةِ فِي الِابْتِدَاءِ لَمْ يَكُنْ مُسْتَوْجِبًا لِلْحَدِّ ، وَكَانَ مُحْتَسِبًا فِي الشَّهَادَةِ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَذَفَهَا أَوَّلًا ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَوْجِبًا لِلِّعَانِ فَإِنَّمَا يَقْصِدُ بِالشَّهَادَةِ بَعْدَ ذَلِكَ إسْقَاطَ اللِّعَانِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَالْحَدُّ الْوَاجِبُ بِزِنَاهَا يُخَلِّصُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الزَّوْجُ مُدَّعِيًا إذَا قَصَدَ بِشَهَادَتِهِ إثْبَاتَ حَقٍّ لِنَفْسِهِ ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ إثْبَاتُ حَقٍّ لَهُ وَلَوْ رُدَّتْ شَهَادَتُهُمْ بِأَنْ لَمْ يُعَدَّلُوا لَمْ يَجِبْ اللِّعَانُ عَلَى

الزَّوْجِ ، كَمَا لَا يَجِبُ الْحَدُّ عَلَى الْأَجَانِبِ لِتَكَامُلِ عَدَدِ الشُّهُودِ ، وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ : لَوْ قَذَفَهَا الزَّوْجُ ثُمَّ جَاءَ بِأَرْبَعَةٍ يَشْهَدُونَ عَلَيْهَا بِالزِّنَا فَلَمْ يُعَدَّلُوا لَاعَنَهَا الزَّوْجُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَوْجَبَ اللِّعَانَ بِقَذْفِهِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ إلَّا بِثُبُوتِ الزِّنَا عَلَيْهَا ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُلَاعِنُهَا ؛ لِأَنَّ الْقَاذِفَ لَوْ كَانَ أَجْنَبِيًّا فَأَقَامَ أَرْبَعَةً مِنْ الشُّهَدَاءِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يُحَدَّ ، وَكَذَلِكَ لَا يُلَاعِنُهَا الزَّوْجُ .
وَلَوْ شَهِدَ مَعَ الزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْعُمْيَانِ بِالزِّنَا عَلَيْهَا يُحَدُّ الْعُمْيَانُ ، وَيُلَاعِنُهَا الزَّوْجُ ؛ لِأَنَّهُ يَتَيَقَّنُ بِكَذِبِ الْعُمْيَانِ فِي الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا ، فَإِنَّ تَحَمُّلَ هَذِهِ الشَّهَادَةِ لَا يَكُونُ إلَّا عَنْ مُعَايَنَةٍ وَلَيْسَ لِلْعُمْيَانِ تِلْكَ الْآلَةِ فَلَا تُعْتَبَرُ شَهَادَتُهُمْ ، وَيَلْزَمُهُمْ الْحَدُّ بِالْقَذْفِ ، وَيُلَاعِنُهَا الزَّوْجُ بِقَذْفِهِ أَيْضًا بِخِلَافِ الْفُسَّاقِ فَإِنَّ لَهُمْ فِي الزِّنَا شَهَادَةً ؛ لِأَنَّا لَا نَتَيَقَّنُ بِكَذِبِهِمْ فِيهِ .

( قَالَ ) : وَإِذَا شَهِدَ لِلْمَرْأَةِ ابْنَاهَا عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ قَذَفَهَا لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ لِأُمِّهِمَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ أَبُ الْمَرْأَةِ ، وَابْنٌ لَهَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ لَهَا رَجُلٌ ، وَامْرَأَتَانِ بِالْقَذْفِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ هَذَا حَدٌّ فَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِي الْحُدُودِ هَكَذَا نُقِلَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ ، وَكَذَلِكَ لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي هَذَا ؛ لِأَنَّ فِي كِلَا النَّوْعَيْنِ ضَرْبَ شُبْهَةٍ ، وَالْحَدُّ لَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ وَلَكِنْ فِي هَذَا التَّعْلِيلِ كَلَامٌ ، فَإِنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - : اللِّعَانُ شَهَادَةٌ فِيهِ مَعْنَى الْيَمِينِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : يَمِينٌ فِيهِ مَعْنَى الْحَدِّ وَفَائِدَةُ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِيمَا إذَا عُزِلَ الْقَاضِي أَوْ مَاتَ بَعْدَ اللِّعَانِ قَبْلَ التَّفْرِيقِ عِنْدَهُمَا الْقَاضِي الثَّانِي يَسْتَقْبِلُ اللِّعَانَ ؛ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا الْحُكْمُ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَسْتَقْبِلُهُ ؛ لِأَنَّهَا يَمِينٌ فِي مَعْنَى الْحَدِّ ، وَالْيَمِينُ ، وَالْحَدُّ إذَا أَمْضَاهُمَا الْقَاضِي لَا يَسْتَقْبِلُهُمَا قَاضٍ آخَرَ .
وَاسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْلَا الْأَيْمَانُ الَّتِي سَبَقَتْ لَكَانَ لِي ، وَلَهَا شَأْنٌ } ؛ وَلِأَنَّ فِي كَلِمَاتِ اللِّعَانِ قَوْلُهُ بِاَللَّهِ ، وَهَذَا يَمِينٌ وَيَسْتَوِي فِي اللِّعَانِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا فِي الشَّهَادَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - اسْتَدَلَّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ } وَلِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ ، وَلَفْظِ الشَّهَادَةِ فَيَكُونُ شَهَادَةً فِيهَا مَعْنَى الْيَمِينِ لِقَوْلِهِ بِاَللَّهِ وَلِهَذَا سَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

يَمِينًا ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ ( لَوْلَا الشَّهَادَاتُ الَّتِي سَبَقَتْ ) وَفِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ يَسْتَوِي فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ حَتَّى تُقْبَلَ شَهَادَةُ امْرَأَةٍ ، وَاحِدَةٍ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ فَهُنَا كَذَلِكَ ثُمَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا التَّعْلِيلُ وَاضِحٌ ؛ لِأَنَّ فِي اللِّعَانِ مَعْنَى الْحَدِّ ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا مَعْنَى هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّ قَذْفَ زَوْجَتِهِ قَدْ يَكُونُ مُوجِبًا لِلْحَدِّ إذَا تَعَذَّرَ اللِّعَانُ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ فَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ بِالْحُجَّةِ الَّتِي فِيهَا شُبْهَةٌ .

( قَالَ ) : وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالزِّنَا ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَالَ لِوَلَدِهَا : هَذَا مِنْ الزِّنَا لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ لَفْظًا ، وَمَعْنًى فَإِنَّ نِسْبَةَ الْوَلَدِ إلَى أَنَّهُ مَخْلُوقٌ بِالزِّنَا غَيْرُ قَذْفِهَا بِالزِّنَا ، وَالْمُوَافَقَةِ بَيْنَ الشَّاهِدَيْنِ لَفْظًا ، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ مُعْتَبَرَةٌ وَلِهَذَا لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْعَرَبِيَّةِ وَالْآخَرُ أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالْفَارِسِيَّةِ لَا تُقْبَلُ ، وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَالَ لَهَا : زَنَى بِك فُلَانٌ ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ قَالَ لَهَا زَنَى بِك فُلَانٌ لِرَجُلٍ آخَرَ فَعَلَيْهِ اللِّعَانُ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهَا بِالزِّنَا هُوَ التَّمْكِينُ مِنْ فِعْلِ الزِّنَا وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْفَاعِلِ إذَا كَانَ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَاعِلَيْنِ زِنًا فَقَدْ اتَّفَقَ الشَّاهِدَانِ عَلَى أَنَّهُ قَذَفَهَا بِالزِّنَا لَفْظًا وَمَعْنًى ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَا فِيمَا لَا حَاجَةَ بِهِمَا إلَى ذِكْرِهِ وَلَوْ كَانَ قَذْفُهَا بِرَجُلٍ وَاحِدٍ ، وَجَاءَ ذَلِكَ الرَّجُلُ يَطْلُبُ حَدَّهُ جُلِدَ الْحَدَّ ، وَدُرِئَ اللِّعَانُ ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ عِنْدَ الْإِمَامِ حَدَّانِ فَإِنَّ قَذْفَهُ فِي حَقِّ الرَّجُلِ مُوجِبٌ لِلْحَدِّ ، وَفِي حَقِّهَا مُوجِبٌ لِلِّعَانِ ، وَمَتَى اجْتَمَعَ حَدَّانِ ، وَفِي الْبِدَايَةِ بِأَحَدِهِمَا إسْقَاطُ الْآخَرُ يُبْدَأُ بِذَلِكَ .

( قَالَ ) : وَإِذَا شَهِدَ الشَّاهِدَانِ عَلَى الزَّوْجِ بِالْقَذْفِ حَبَسَهُ حَتَّى يَسْأَلَ عَنْ الشَّاهِدَيْنِ ، وَلَمْ يَكْفُلْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا كَفَالَةَ فِي الْحُدُودِ ، وَهَذَا فِي مَعْنَى الْحَدِّ ، فَإِنْ قَالَا : نَشْهَدُ أَنَّهُ قَذَفَ امْرَأَتَهُ ، وَأُمَّنَا فِي كَلِمَةٍ ، وَاحِدَةٍ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ ؛ لِأَنَّهَا بَطَلَتْ فِي حَقِّ أُمِّهِمَا فَإِنَّهُمَا يَشْهَدَانِ لَهَا ، وَمَتَى بَطَلَتْ الشَّهَادَةُ فِي بَعْضِ الْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ بَطَلَ فِي كُلِّهَا ، وَإِنْ شَهِدَ ابْنَاهُ مِنْ غَيْرِهَا عَلَى قَذْفِهِ إيَّاهَا ، وَأُمُّهُمَا عِنْدَهُ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمْ لِمَا فِيهَا مِنْ نَفْعِ أُمِّهِمَا ، فَإِنَّهَا لَوْ قُبِلَتْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا بِاللِّعَانِ فَيَخْلُصُ الْفِرَاشُ لِأُمِّهِمَا ، وَهُوَ كَمَا لَوْ شَهِدَا عَلَيْهِ بِطَلَاقِ ضَرَّةِ أُمِّهِمَا قَالَ إلَّا أَنَّ الْأَبَ إذَا كَانَ عَبْدًا أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ فَتَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا عَلَيْهِ ، وَلَا يُضْرَبُ الْحَدَّ ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى أَبِيهِمَا بِالْحَدِّ ، وَلَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِأُمِّهِمَا .

( قَالَ ) ، وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ بِقَذْفِ امْرَأَتِهِ فَعُدِّلَا ، ثُمَّ غَابَا أَوْ مَاتَا قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا فَإِنَّهُ يُحْكَمُ بِاللِّعَانِ فَإِنَّ الْمَوْتَ ، وَالْغَيْبَةَ لَا تَقْدَحُ فِي عَدَالَتِهِمَا بِخِلَافِ مَا لَوْ عَمِيَا أَوْ ارْتَدَّا أَوْ فَسَقَا ، وَهَكَذَا الْجَوَابُ فِي كُلِّ حَدٍّ مَا خَلَا الرَّجْمَ ، فَإِنَّهُ لَا يُقَامُ بَعْدَ مَوْتِ الشُّهُودِ أَوْ فِسْقِهِمْ ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ فِيهِ أَنْ يَبْدَأَ الشُّهُودُ ، وَذَلِكَ يَفُوتُ .

( قَالَ ) : وَيُقْبَلُ تَوْكِيلُ الْمَرْأَةِ فِي إثْبَاتِ الْقَذْفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، كَمَا يُقْبَلُ تَوْكِيلُ الْمَقْذُوفِ إذَا كَانَ أَجْنَبِيًّا فِي إثْبَاتِ الْقَذْفِ فَإِذَا جَاءَ مَوْضِعُ الْإِقَامَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَحْضُرَ ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ لَا تَجْرِي فِيهِ النِّيَابَةُ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ بِالنَّائِبِ .

( قَالَ ) : وَإِذَا أَقَامَ الزَّوْجُ الْقَاذِفُ شَاهِدَيْنِ عَلَى إقْرَارِ الْمَرْأَةِ بِالزِّنَا يَسْقُطُ اللِّعَانُ عَلَى الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِإِقْرَارِهَا ، وَبِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ ، وَلَا يَلْزَمُهَا حَدُّ الزِّنَا كَمَا لَوْ أَقَرَّتْ مَرَّةً ، وَاحِدَةً فَإِنَّ الْأَقَارِيرَ الْأَرْبَعَةَ فِي مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا لِإِقَامَةِ حَدِّ الزِّنَا ، وَتَمْتَنِعُ الْإِقَامَةُ بِإِنْكَارِهَا بَعْدَ الْأَقَارِيرِ الْأَرْبَعَةِ ، وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهَا رَجُلٌ ، وَامْرَأَتَانِ بِذَلِكَ دَرَأْتُ اللِّعَانَ أَيْضًا اسْتِحْسَانًا ، وَفِي الْقِيَاسِ يُلَاعِنُهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا شَهَادَةَ لِلنِّسَاءِ فِي بَابِ الزِّنَا ، فَلَا يَكُونُ لَهُنَّ شَهَادَةً أَيْضًا فِي إثْبَاتِ الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ : الْمَقْصُودُ هُنَا دَرْءُ الْحَدِّ لَا إثْبَاتُهُ ، وَدَرْءُ الْحَدِّ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ ، فَتُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ ، وَلَوْ عَفَّتْ الْمَرْأَةُ عَنْ الْقَذْفِ كَانَ لَهَا أَنْ تُخَاصِمَ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَتُطَالِبَ بِاللِّعَانِ كَمَا فِي الْحُدُودِ فِي قَذْفِ الْأَجَانِبِ عِنْدَنَا .

( قَالَ ) : وَإِنْ شَهِدَ لِلزَّوْجِ ابْنَاهُ مِنْهَا أَنَّهَا أَقَرَّتْ بِالزِّنَا لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ لِأَبِيهِمَا بِإِسْقَاطِ اللِّعَانِ عَنْهُ ، وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ : أَنَّهُ قَذَفَهَا ، وَقَذَفَ امْرَأَتَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ قَبْلَهُ فِي كَلَامٍ مُتَفَرِّقٍ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا لِلْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّهُمَا فِي حَقِّ أَنْفُسِهِمَا مُدَّعِيَانِ ، وَفِي حَقِّ الْمَرْأَةِ شَاهِدَانِ فَإِذَا كَانَ الْكَلَامُ مُتَفَرِّقًا فَبُطْلَانُ شَهَادَتِهِمَا فِي أَحَدِ الْكَلَامَيْنِ لَا يُبْطِلُ شَهَادَتَهُمَا فِي الْكَلَامِ الْآخَرِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْكُلُّ فِي كَلَامٍ ، وَاحِدٍ

( قَالَ ) : وَإِذَا صَدَّقَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا عِنْدَ الْإِمَامِ فَقَالَتْ صَدَقَ ، وَلَمْ تَقُلْ زَنَيْت فَأَعَادَتْ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي مَجَالِسَ مُتَفَرِّقَةٍ لَمْ يَلْزَمْهَا حَدُّ الزِّنَا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهَا : صَدَقَ - كَلَامٌ مُحْتَمَلٌ ، وَمَا لَمْ تُفْصِحْ بِالْإِقْرَارِ بِالزِّنَا لَا يَلْزَمُهَا الْحَدُّ وَلَكِنْ يَبْطُلُ اللِّعَانُ ، وَلَا يُحَدُّ مِنْ قَذْفِهَا بَعْدَ هَذَا ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا صَدَّقَتْهُ فِي نِسْبَتِهَا إلَى الزِّنَا ، وَالظَّاهِرُ يَكْفِي لِإِسْقَاطِ إحْصَانِهَا .

( قَالَ ) : وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالْقَذْفِ فَقَالَ الزَّوْجُ : يَوْمئِذٍ كَانَتْ أَمَةً أَوْ كَافِرَةً فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يُنْكِرُ وُجُوبَ اللِّعَانِ عَلَيْهِ ، وَهِيَ تَدَّعِي وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ اللِّعَانَ بِمَنْزِلَةِ الْحَدِّ ، وَلَا يَمِينَ فِي الْحُدُودِ ، فَإِنَّهُ لَوْ اُسْتُحْلِفَ إنَّمَا يُسْتَحْلَفُ لِيُتَوَصَّلَ إلَى اللِّعَانِ بِنُكُولِهِ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، وَإِنْ كَانَتْ مَعْرُوفَةَ الْأَصْلِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْحُرِّيَّةِ فَعَرَفَ ذَلِكَ الْقَاضِي لَمْ يَلْتَفِتْ إلَى قَوْلِ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيمَا يَدَّعِي ، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ : الْمَرْأَةُ عَلَى حُرِّيَّتِهَا وَإِسْلَامِهَا ، وَالزَّوْجُ عَلَى كُفْرِهَا ، وَرِقِّهَا وَقْتَ الْقَذْفِ ، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُدَّعِيَةُ ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ اللِّعَانَ بِبَيِّنَتِهَا ، وَالزَّوْجُ يَنْفِي ذَلِكَ فَكَانَتْ بَيِّنَتُهَا أَوْلَى إلَّا أَنْ يُثْبِتَ شُهُودُ الزَّوْجِ رِدَّتَهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ الَّذِي شَهِدَ بِهِ شُهُودُهَا ، فَحِينَئِذٍ بَيِّنَتُهُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِثْبَاتِ فِي بَيِّنَتِهِ أَظْهَرُ .

( قَالَ ) : وَإِنْ ادَّعَى الزَّوْجُ بِأَنَّهَا زَانِيَةٌ أَوْ قَدْ وَطِئَتْ وَطْئًا حَرَامًا فَعَلَيْهِ اللِّعَانُ ؛ لِأَنَّ إحْصَانَهَا مَعْلُومٌ لِلْقَاضِي بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ .
وَالزَّوْجُ يَدَّعِي مَا يُسْقِطُ إحْصَانَهَا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ كَمَا لَوْ عَلِمَ الْقَاضِي حُرِّيَّتَهَا وَإِسْلَامَهَا ، فَإِنْ ادَّعَى الزَّوْجُ بَيِّنَةً عَلَى أَنَّهَا كَمَا قَالَ ، أُجِّلَ إلَى قِيَامِ الْقَاضِي فَإِنْ أَحْضَرَ بَيِّنَتَهُ وَإِلَّا لَاعَنَ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ اللِّعَانِ قَدْ ظَهَرَ ، وَلَكِنْ يُمَكَّنُ الزَّوْجُ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الدَّفْعِ بِقَدْرِ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وَذَلِكَ إلَى قِيَامِ الْقَاضِي ، وَلَا يُؤَجِّلُهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِهَا .

( قَالَ ) : وَإِنْ قَالَ الزَّوْجُ قَذَفْتهَا ، وَهِيَ صَغِيرَةٌ ، وَادَّعَتْ أَنَّهُ قَذَفَهَا بَعْدَ مَا أَدْرَكَتْ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ، وَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ ، فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمَرْأَةِ ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْمُدَّعِيَةُ وَلِأَنَّهُ لَا تَنَافِي بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ قَذَفَهَا مَرَّتَيْنِ .

( قَالَ ) : وَإِذَا ادَّعَتْ عَلَى الزَّوْجِ الْقَذْفَ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهَا بَيِّنَةٌ فَلَا يَمِينَ عَلَى الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهُ حَدٌّ ، وَلَا يَمِينَ فِي الْحُدُودِ .
وَكَذَلِكَ إنْ ادَّعَى الزَّوْجُ أَنَّهَا صَدَّقَتْهُ ، وَأَرَادَ يَمِينَهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا يَمِينٌ ؛ لِأَنَّ تَصْدِيقَهَا إقْرَارٌ مِنْهَا بِالزِّنَا ، وَلَا يَمِينَ فِي الْإِقْرَارِ بِالزِّنَا .

( قَالَ ) : فَإِنْ ادَّعَتْ قَذْفًا مُتَقَادِمًا ، وَأَقَامَتْ عَلَيْهِ شُهُودًا جَازَ ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الْقَذْفِ لَا يَبْطُلُ بِالتَّقَادُمِ كَالْحَدِّ فِي قَذْفِ الْأَجَانِبِ ، فَإِنْ أَقَامَ الزَّوْجُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ طَلَّقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ طَلَاقًا رَجْعِيًّا فَلَا لِعَانَ بَيْنَهُمَا ، وَلَا حَدَّ ؛ لِأَنَّ مَا يُثْبِتُهُ الزَّوْجُ بِالْبَيِّنَةِ كَالْمُعَايَنِ .
وَالْفُرْقَةُ بَعْدَ الْقَذْفِ مُسْقِطَةٌ لِلِّعَانِ فَيَتَمَكَّنُ الزَّوْجُ مِنْ إثْبَاتِهِ بِالْبَيِّنَةِ ، كَمَا لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى فُرْقَةٍ بِرِدَّتِهَا بَعْدَ الْقَذْفِ أَوْ بِسَبَبٍ آخَرَ ، وَإِذَا أَقَامَتْ الْمَرْأَةُ الْبَيِّنَةَ عَلَى إقْرَارِ الزَّوْجِ بِالْوَلَدِ ، وَهُوَ يُنْكِرُ ، وَقَدْ نَفَاهُ لَزِمَهُ الْوَلَدُ ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْفِيَهُ بَعْدَ إقْرَارِهِ ، هَكَذَا نُقِلَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَالشَّعْبِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالُوا : إذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ بِوَلَدِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ ، وَمَا لَمْ يُقِرَّ بِهِ فَلَهُ أَنْ يَنْفِيَهُ ، وَإِذَا نَفَاهُ قَبْلَ الْإِقْرَارِ لَاعَنَهَا ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَمَا أَثْبَتَ وِلَادَتَهَا يَكُونُ هُوَ بِنَفْيٍ الْوَلَدِ قَاذِفًا لَهَا بِالزِّنَا فَإِنْ قِيلُ : لَا كَذَلِكَ فَقَدْ يَكُونُ ، وَلَدُهَا مِنْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ قُلْنَا الْوَلَدُ مِنْ وَطْءٍ بِشُبْهَةٍ يَكُونُ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْ إنْسَانٍ ، وَاَلَّذِي لَا يَكُونُ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْ أَحَدٍ لَا يَكُونُ مِنْ زِنَا ، وَلَا نَسَبَ لِهَذَا الْوَلَدِ مِنْهُ فَإِذَا نَفَاهُ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا نَسَبَ لِوَلَدِهَا هَذَا فَيَكُونُ قَاذِفًا لَهَا بِالزِّنَا ، ثُمَّ كَيْفِيَّةُ اللِّعَانِ بِنَفْيِ الْوَلَدِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ : أَشْهَدُ أَنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتهَا بِهِ مِنْ نَفْيِ وَلَدِهَا ، وَهِيَ تَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنْ نَفْيِ وَلَدِي ، وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - قَالَ : يَقُولُ الزَّوْجُ : أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنِّي لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتهَا بِهِ مِنْ الزِّنَا

وَنَفْيِ وَلَدِهَا وَتَقُولُ الْمَرْأَةُ : أَشْهَدُ بِاَللَّهِ إنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَانِي بِهِ مِنْ الزِّنَا وَنَفْيِ وَلَدِي ، وَلَيْسَ هَذَا بِاخْتِلَافٍ فِي الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ ، فَجَوَابُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا إذَا قَذَفَهَا بِالزِّنَا ، وَنَفْيِ وَلَدِهَا وَجَوَابُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا إذَا نَفَى ، وَلَدَهَا فَقَطْ .
( قَالَ ) : وَإِذَا فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بَعْدَ اللِّعَانِ يَلْزَمُ الْوَلَدُ أُمَّهُ ، وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَقُولَ الْقَاضِي : فَرَّقْت بَيْنَكُمَا ، وَقَطَعْت نَسَبَ هَذَا الْوَلَدِ مِنْهُ حَتَّى ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لَا يَنْتَفِي النَّسَبُ عَنْهُ ، وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ التَّفْرِيقِ بِاللِّعَانِ نَفْيُ النَّسَبِ كَمَا بَعْدَ مَوْتِ الْوَلَدِ يُفَرِّقُ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بِاللِّعَانِ ، وَلَا يَنْتَفِي نَسَبُهُ عَنْهُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُصَرِّحَ الْقَاضِي بِنَفْيِ النَّسَبِ لِهَذَا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .
( قَالَ ) رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ هَذَا آخِرُ شَرْحِ كِتَابِ الطَّلَاقِ بِالْمُؤْثَرَةِ مِنْ الْمَعَانِي الدِّقَاقِ ، أَمْلَاهُ الْمَحْصُورُ عَنْ الِانْطِلَاقِ ، الْمُبْتَلَى بِوَحْشَةِ الْفِرَاقِ ، مُصَلِّيًا عَلَى صَاحِبِ الْبُرَاقِ وَآلِهِ ، وَصَحْبِهِ أَهْلُ الْخَيْرِ وَالسِّبَاقِ ، صَلَاةً تَتَضَاعَفُ وَتَدُومُ إلَى يَوْمِ التَّلَاقِ كَتَبَهُ الْعَبْدُ الْبَرِيُّ مِنْ النِّفَاقِ .

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( وَبِهِ نَسْتَعِينُ وَعَلَيْهِ نَتَوَكَّلُ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ ) .
كِتَابُ الْعَتَاقِ .
( قَالَ ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ ، وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : اعْلَمْ بِأَنَّ الْإِعْتَاقَ لُغَةً هُوَ إحْدَاثُ الْقُوَّةِ يُقَالُ : عَتَقَ الْفَرْخُ إذَا قَوِيَ فَطَارَ عَنْ ، وَكْرِهِ .
وَفِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَنْ إحْدَاثِ الْمَالِكِيَّةِ وَالِاسْتِبْدَادِ لِلْآدَمِيِّ ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ ، انْتِفَاءُ صِفَةِ الْمَمْلُوكِيَّةِ ، وَالرِّقِّ وَلِهَذَا يَتَعَقَّبُهُ الْوَلَاءُ الَّذِي هُوَ كَالنَّسَبِ ؛ لِأَنَّ الْأَبَ سَبَبٌ لِإِيجَادِ ، وَلَدِهِ فَيَكُونُ الْوَلَدُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ .
وَالْعِتْقُ مُسَبِّبٌ لِإِحْدَاثِ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ الَّتِي اخْتَصَّ الْآدَمِيُّ بِهَا فَصَارَ الْمُعْتَقُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ بِالْوَلَاءِ ، وَلِهَذَا نَدَبَ الشَّرْعُ إلَيْهِ بَيَانَهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَيُّمَا مُسْلِمٍ أَعْتَقَ مُؤْمِنًا أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْ النَّارِ } ، وَلِهَذَا اسْتَحَبُّوا لِلرَّجُلِ أَنْ يَعْتِقَ الْعَبْدَ ، وَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَعْتِقَ الْأَمَةَ لِيَتَحَقَّقَ مُقَابَلَةُ الْأَعْضَاءِ بِالْأَعْضَاءِ وَالتَّحْرِيرُ لُغَةً التَّخْلِيصُ يُقَالُ : طِينٌ حُرٌّ - أَيْ خَالِصٌ عَمَّا يَشُوبُهُ - وَأَرْضٌ حُرَّةٌ - أَيْ خَالِصَةٌ - لَا خَرَاجَ عَلَيْهَا ، وَلَا عُشْرَ ، وَفِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَنْ جَعْلِ الرَّقَبَةِ خَالِصَةً لِلَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنِّي نَذَرْت لَك مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا } وَلِهَذَا شُرِعَ التَّحْرِيرُ فِي التَّكْفِيرِ لِأَجْلِ التَّطْهِيرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } ، وَلِهَذَا نَدَبَ الشَّرْعُ إلَى فَكِّ الرَّقَبَةِ بِقَوْلِهِ : { وَمَا أَدْرَاك مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ } ، وَفِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ { أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : لَئِنْ أَوْجَزْت الْخُطْبَةَ فَقَدْ أَعْرَضْتَ الْمَسْأَلَةَ ، فَكُّ الرَّقَبَةِ وَعِتْقُ النَّسَمَةِ .
قَالَ : أَوْ لَيْسَا وَاحِدًا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : لَا عِتْقُ النَّسَمَةِ أَنْ تَنْفَرِدَ بِعِتْقِهَا ، وَفَكُّ الرَّقَبَةِ أَنْ تُعِينَ فِي ثَمَنِهَا .
} { وَسَأَلَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَفْضَلِ الرِّقَابِ فَقَالَ أَغْلَاهَا ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا ، } فَهَذِهِ الْآثَارُ تُبَيِّنُ أَنَّ الْإِعْتَاقَ مِنْ بَابِ الْبِرِّ ، وَالْإِرْفَاقِ ، وَأَنَّ أَفْضَلَ الرِّقَابِ أَعَزُّهَا عِنْدَ صَاحِبِهَا ثُمَّ بَدَأَ الْكِتَابَ بِحَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : مَنْ لَعِبِ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَيْهِ ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ { ، وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } } ، وَقَالَ عَمْرٌو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ تَكَلَّمَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ أَوْ نِكَاحٍ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَيْهِ أَيْ نَافِذٌ لَازِمٌ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْهَزْلَ بِهَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ جَدٌّ كَمَا قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ثَلَاثُ جَدُّهُنَّ جَدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ : النِّكَاحُ وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ } وَالْهَزْلُ ، وَاللَّعِبُ سَوَاءٌ ، فَإِنَّهُ اسْمٌ لِكَلَامٍ يَكُونُ عَلَى نَهْجِ كَلَامِ الصِّبْيَانِ لَا يُرَادُ بِهِ مَا وُضِعَ لَهُ ، وَنُفُوذُ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ بِوُجُودِ التَّكَلُّمِ بِهَا مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِهَا ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِقَصْدِهِ إلَى حُكْمِهَا ؛ لِأَنَّ بِانْعِدَامِ الْقَصْدِ إلَى الْحُكْمِ يَنْعَدِمُ الرِّضَا بِالْحُكْمِ ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ لُزُومَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ لَوْ قُرِنَ بِهَا شَرْطُ الْخِيَارِ .
وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا } الْأَحْكَامُ ، وَالْهُزْءُ اللَّعِبُ فَفِيهِ بَيَانٌ أَنَّهُ لَا لَعِبَ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ ،

وَذُكِرَ فِي الْأَصْلِ عَنْ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِعَبْدٍ فَسَاوَمَ بِهِ ، وَلَمْ يَشْتَرِهِ فَجَاءَ رَجُلٌ فَاشْتَرَاهُ فَأَعْتَقَهُ ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَخُوك ، وَمَوْلَاك فَإِنْ شَكَرَك فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَشَرٌّ لَك ، وَإِنْ كَفَرَك فَهُوَ شَرٌّ لَهُ ، وَخَيْرٌ لَك ، وَإِنْ مَاتَ ، وَلَمْ يَتْرُكْ ، وَارِثًا كُنْت أَنْتَ عَصَبَتَهُ } ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْمُسَاوَمَةِ لِمَنْ لَا يُرِيدُ الشِّرَاءَ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ : إنَّ هَذَا اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُفِيدُ .
فَإِنَّ فِيهِ فَائِدَةً ، وَهُوَ تَرْغِيبُ الْغَيْرِ فِي شِرَائِهِ ، وَالرَّجُلُ تَفَرَّسَ فِيهِ خَيْرًا حِينَ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاوَمَ بِهِ فَلِهَذَا اشْتَرَاهُ ، وَأَعْتَقَهُ ، وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ أَخُوك أَيْ فِي الدِّينِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ } ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْوَلَاءَ يَثْبُتُ بِالْعِتْقِ ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ الْمُعْتِقُ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ ، وَقَوْلُهُ فَإِنْ شَكَرَك أَيْ بِالْمُجَازَاةِ عَلَى مَا صَنَعْت إلَيْهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ انْتَدَبَ إلَى مَا نُدِبَ إلَيْهِ فِي الشَّرْعِ قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ أَزَلْت إلَيْهِ نِعْمَةً فَلِيَشْكُرْهَا ، وَشَرٌّ لَك ؛ لِأَنَّهُ يَصِلُ إلَيْك بَعْضُ الْجَزَاءِ فِي الدُّنْيَا فَيُنْتَقَصُ بِقَدْرِهِ مِنْ ثَوَابِك فِي الْآخِرَةِ ، وَإِنْ كَفَرَك فَهُوَ خَيْرٌ لَك ؛ لِأَنَّهُ يَبْقَى ثَوَابُ الْعَمَلِ كُلُّهُ لَكَ فِي الْآخِرَةِ ، وَشَرٌّ لَهُ ؛ لِأَنَّ كُفْرَانَ النِّعْمَةِ مَذْمُومٌ قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ لَمْ يَشْكُرْ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرْ اللَّهَ } ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُعْتِقَ يَكُونُ عَصَبَةً لِلْمُعْتَقِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ كُنْت أَنْتَ عَصَبَتَهُ ، وَيُسْتَدَلُّ بِالظَّاهِرِ مَنْ

يُؤَخِّرُ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ عَنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ ، وَلَمْ يَتْرُكْ وَارِثًا ، وَذَوُو الْأَرْحَامِ مِنْ جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ ، وَلَكِنْ عِنْدَنَا مَوْلَى الْعَتَاقَةِ آخِرُ الْعَصَبَاتِ مُقَدَّمٌ عَلَى ذَوِي الْأَرْحَامِ وَمَعْنَى الْحَدِيثِ لَمْ يَتْرُكْ ، وَارِثًا ، هُوَ عَصَبَةً بِدَلِيلِ قَوْلِهِ كُنْت أَنْتَ عَصَبَتَهُ ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا يَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ لَهُ بِذَلِكَ كِتَابًا ، وَالْمَقْصُودُ بِالْكِتَابِ التَّوْثِيقُ فَلْيَكْتُبْ عَلَى أَحْوَطِ الْوُجُوهِ ، وَيَتَحَرَّزْ فِيهِ عَنْ طَعْنِ كُلِّ طَاعِنٍ ، وَلِهَذَا ذَكَرَ فِيهِ أَنِّي أَعْتِقُك لِوَجْهِ اللَّهِ فَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ لَا يَنْفُذُ الْعِتْقُ إذَا لَمْ يَقْصِدْ الْمُعْتِقُ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِهَذَا حَتَّى لَوْ قَالَ : أَعْتِقُك لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ الشَّيْطَانِ نَفَذَ الْعِتْقُ .
وَالْحَدِيثُ الَّذِي بَدَأَ بِهِ الْكِتَابَ يَدُلُّ عَلَيْهِ ، وَلَكِنْ يُذْكَرُ هَذَا لِلتَّحَرُّزِ عَنْ جَهْلِ بَعْضِ الْقُضَاةِ ،

وَكَذَلِكَ يَكْتُبُ وَلِي وَلَاؤُك ، وَوَلَاءُ عِتْقِك مِنْ بَعْدِك ؛ لِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : لَا يَثْبُتُ الْوَلَاءُ إلَّا بِالشَّرْطِ فَيَذْكُرُهُ فِي الْكِتَابِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ هَذَا ، ثُمَّ الْأَلْفَاظُ الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا الْعِتْقُ نَوْعَانِ : صَرِيحٌ وَكِنَايَةٌ فَالصَّرِيحُ لَفْظُ الْعِتْقِ ، وَالْحُرِّيَّةِ ، وَالْوَلَاءِ وَيَسْتَوِي إنْ ذَكَرَ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ ، أَوْ الْوَصْفِ ، أَوْ النِّدَاءِ ، إمَّا بِصِيغَةِ الْخَبَرِ أَنْ يَقُولَ قَدْ أَعْتَقْتُك أَوْ حَرَّرْتُك ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الْعَاقِلِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ ، وَوَجْهُ الصِّحَّةِ هُنَا مُتَعَيَّنٌ ، وَهُوَ الْإِنْشَاءُ ، وَصِيغَةُ الْإِخْبَارِ وَالْإِنْشَاءِ فِي الْعِتْقِ ، وَاحِدٌ وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْوَصْفِ أَنْ يَقُولَ : أَنْتَ حُرٌّ أَنْتَ عَتِيقٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَصَفَهُ بِمَا يَمْلِكُ إيجَابَهُ فِيهِ جُعِلَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِيجَابِ مِنْهُ لِتَحْقِيقِ وَصْفِهِ فَإِنْ قَالَ : أَرَدْت الْكَذِبَ ، وَالْخَبَرَ بِالْبَاطِلِ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلِاحْتِمَالِ ، وَلَكِنَّهُ لَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي الظَّاهِرِ مَوْضُوعٌ لِإِيجَابِ الْعِتْقِ وَالْقَاضِي يَتْبَعُ الظَّاهِرَ ؛ لِأَنَّ مَا ، وَرَاءَ ذَلِكَ غَيْبٌ عَنْهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ يَا حُرُّ يَا عَتِيقُ ؛ لِأَنَّ النِّدَاءَ لِاسْتِحْضَارِ الْمُنَادَى ، وَذَلِكَ بِذَكَرِ ، وَصْفٍ لَهُ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِالنِّدَاءِ فَهَذَا ، وَوَصْفُهُ إيَّاهُ بِالْعِتْقِ سَوَاءٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ : هَذَا مَوْلَايَ أَوْ لِأَمَتِهِ : هَذِهِ مَوْلَاتِي ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى يُذْكَرُ بِمَعْنَى النَّاصِرِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا ، وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ } ، وَلَكِنَّ الْمَالِكَ لَا يَسْتَنْصِرُ بِمَمْلُوكِهِ عَادَةً ، وَيُذْكَرُ بِمَعْنَى ابْنِ الْعَمِّ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِنِّي خِفْت الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي } وَلَكِنَّ نَسَبَ الْعَبْدِ مَعْرُوفٌ فَلَا احْتِمَالَ لِهَذَا الْمَعْنَى هُنَا ، وَيُذْكَرُ

بِمَعْنَى الْمُوَالَاةِ فِي الدِّينِ ، وَلَكِنَّهُ نَوْعُ مَجَازٍ ، وَالْمَجَازُ لَا يُعَارِضُ الْحَقِيقَةَ ، وَيُذْكَرُ بِمَعْنَى الْمَوْلَى الْأَعْلَى وَذَلِكَ غَيْرُ مُحْتَمَلٍ عِنْدَ الْإِضَافَةِ إلَى الْعَبْدِ فَيَتَعَيَّنُ الْمَوْلَى الْأَسْفَلُ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ الْعِتْقِ فَلِهَذَا عَتَقَ بِهِ فِي الْقَضَاءِ .
وَإِنْ قَالَ : أَرَدْت بِهِ الْوِلَايَةَ فِي الدِّينِ أَوْ الْكَذِبَ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلِاحْتِمَالِ ، وَلَمْ يَدِنْ فِي الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَإِنْ قَالَ يَا مَوْلَايَ ، فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَنَا ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَعْتِقُ بِهَذَا اللَّفْظِ إلَّا بِالنِّيَّةِ ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي مَوْضِعِ النِّدَاءِ يُقْصَدُ بِهِ الْإِكْرَامُ دُونَ التَّحْقِيقِ يُقَالُ : يَا سَيِّدِي ، وَيَا مَوْلَايَ وَلَوْ قَالَ لَهُ : يَا سَيِّدِي ، وَيَا مَالِكِي لَا يَعْتِقُ بِهِ بِدُونِ النِّيَّةِ فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ يَا مَوْلَايَ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْكَلَامُ مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ مَا أَمْكَنَ ، وَحَقِيقَةُ قَوْلِهِ يَا مَوْلَايَ لَا يَكُونُ إلَّا بِوَلَاءٍ لَهُ عَلَيْهِ ، وَالْعِتْقُ مُتَعَيَّنٌ لِذَلِكَ فَهَذَا ، وَقَوْلُهُ يَا حُرُّ يَا عَتِيقُ سَوَاءٌ ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ يَا سَيِّدِي ، وَيَا مَالِكِي ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ مَا يَخْتَصُّ بِإِعْتَاقِهِ إيَّاهُ ، وَمِمَّا يَلْحَقُ بِالصَّرِيحِ هُنَا قَوْلُهُ لِمَمْلُوكِهِ ، وَهَبْت نَفْسَك مِنْك أَوْ بِعْت نَفْسَك مِنْك فَإِنَّهُ يَعْتِقُ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ هَذَا اللَّفْظِ إزَالَةُ مِلْكِهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا أَوْجَبَهُ لِإِنْسَانٍ آخَرَ يَكُونُ مُزِيلًا لِمِلْكِهِ إلَيْهِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى قَبُولِهِ .
وَإِذَا أَوْجَبَهُ لِلْعَبْدِ يَكُونُ مُزِيلًا بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ لَا إلَيْهِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى قَبُولِهِ ، وَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ .

فَأَمَّا بَيَانُ أَلْفَاظِ الْكِنَايَةِ : قَوْلُهُ لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك فَإِنَّهُ مُحْتَمَلٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك فِي اللَّوْمِ ، وَالْعُقُوبَةِ ؛ لِأَنَّك وَفَيْت بِمَا أَمَرْتُك بِهِ ، وَلَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك ؛ لِأَنِّي كَاتَبْتُك وَلَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك ؛ لِأَنِّي أَعْتَقْتُك ، وَالْمُحْتَمَلُ لَا تَتَعَيَّنُ جِهَةٌ فِيهِ بِدُونِ النِّيَّةِ فَلَا يَعْتِقُ بِهِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْعِتْقَ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ لَا مِلْكَ لِي عَلَيْك يُحْتَمَلُ لَا مِلْكَ لِي عَلَيْك لِأَنِّي بِعْتُك ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ قَدْ خَرَجْت مِنْ مِلْكِي يُحْتَمَلُ هَذَا الْمَعْنَى فَلَا يَعْتِقُ بِهِ مَا لَمْ يَنْوِ ، وَيَدِينُ فِي الْقَضَاءِ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَوْ قَالَ لَهُ أَطْلَقْتُك يَنْوِي بِهِ الْعِتْقَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْإِطْلَاقَ يُذْكَرُ بِمَعْنَى التَّحْرِيرِ يُقَالُ : أَطْلَقْتُهُ مِنْ السِّجْنِ ، وَحَرَّرْته إذَا خَلَّى سَبِيلَهُ ؛ وَلِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْإِطْلَاقَ مِنْ الرِّقِّ الَّذِي عَلَيْهِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ : لَا رِقَّ لِي عَلَيْك فَأَمَّا إذَا قَالَ لِأَمَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ ، أَوْ قَدْ طَلَّقْتُك ، وَنَوَى بِهِ الْعِتْقَ لَمْ تَعْتِقْ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَعْتِقْ ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ كَقَوْلِهِ قَدْ بِنْتِ مِنِّي أَوْ حُرِّمْت عَلَيَّ ، أَوْ أَنْتِ خَلِيَّةٌ ، أَوْ بَرِيَّةٌ ، أَوْ بَائِنٌ ، أَوْ بَتَّةٌ ، أَوْ اُخْرُجِي أَوْ اُغْرُبِي ، أَوْ اسْتَبْرِي ، أَوْ تَقَنَّعِي أَوْ اذْهَبِي أَوْ قُومِي أَوْ اخْتَارِي فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا أَوْ قَالَ ذَلِكَ لِعَبْدِهِ ، فَهُوَ كُلُّهُ عَلَى الْخِلَافِ ، وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ صَرِيحَ مَا يَسْرِي كِنَايَةٌ فِيمَا يَسْرِي كَلَفْظِ التَّحْرِيرِ فِي الطَّلَاقِ مَعْنَى صَرِيحِ مَا يَسْرِي مَا وُضِعَ لِمَا يَسْرِي بِطَرِيقِ الْمُطَابَقَةِ كِنَايَةً لِمَا هُوَ وَصْفٌ ، وَهُوَ كَوْنُهُ حُرًّا لِمَعْنَى آخَرَ هُوَ مُسَمًّى لِلَفْظٍ آخَرَ ، وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الِاسْتِعَارَةَ لِلِاتِّصَالِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مَعْنَى طَرِيقٍ صَحِيحٍ فِي

اللُّغَةِ يُقَالُ : لِلْبَلِيدِ حِمَارٌ وَلِلشُّجَاعِ أَسَدٌ لِلِاتِّصَالِ مَعْنًى ، وَهُوَ الشَّجَاعَةُ وَالْبَلَادَةُ ، وَبَيْنَ الْمِلْكَيْنِ اتِّصَالٌ مِنْ حَيْثُ الْمُشَابَهَةِ مَعْنًى ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ فِيهِ مَعْنَى الرِّقِّ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { النِّكَاحُ رِقٌّ } .
وَلِأَنَّهُ يُسْتَبَاحُ بِكُلِّ ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْوَطْءُ فِي مَحَلِّهِ ، وَبَيْنَ الْإِزَالَتَيْنِ الِاتِّصَالُ فِي الْمَعْنَى ؛ لِأَنَّ كُلَّ ، وَاحِدٍ مِنْهُمَا إبْطَالٌ لِلْمِلْكِ وَيَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ ، وَهُوَ يُنَبِّئُ عَنْ السِّرَايَةِ ، وَيَلْزَمُ عَلَى ، وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَإِذَا ثَبَّتَتْ الْمُشَابَهَةُ مَعْنًى قُلْنَا مَا كَانَ صَرِيحًا فِي إزَالَةِ مِلْكِ الْيَمِينِ ، وَهُوَ لَفْظُ التَّحْرِيرِ كَانَ كِنَايَةً فِي مِلْكِ النِّكَاحِ فَكَذَلِكَ مَا هُوَ صَرِيحٌ فِي مِلْكِ النِّكَاحِ يُجْعَلُ كِنَايَةً صَحِيحَةً فِي إزَالَةِ مِلْكِ الْيَمِينِ ، وَلِأَنَّ التَّحْرِيمَ مِنْ مُوجِبَاتِ التَّحْرِيرِ فَإِنَّ الْأَمَةَ إذَا أَعْتَقَتْ حُرِّمَتْ عَلَى مَوْلَاهَا وَذِكْرُ الْمُوجَبِ عَلَى سَبِيلِ الْكِنَايَةِ عَنْ الْمُوجِبِ صَحِيحٌ كَقَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ اعْتَدِّي بِنِيَّةِ الطَّلَاقِ ( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ أَنَّهُ نَوَى مَا لَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ لَهَا كُلِي ، وَاشْرَبِي وَنَوَى الْعِتْقَ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ اللَّفْظِ فَقَدْ تَجَرَّدَتْ النِّيَّةُ عَنْ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا مُشَابَهَةَ بَيْنَ الْعِتْقِ ، وَالطَّلَاقِ صُورَةً ، وَلَا مَعْنًى ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ إزَالَةُ الْمَانِعِ مِنْ الِانْطِلَاقِ ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ بَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ حُرَّةٌ مَحْبُوسَةٌ عِنْدَ الزَّوْجِ فَبِالْفُرْقَةِ - يَزُولُ الْمَانِعُ مِنْ الِانْطِلَاقِ .
وَالْإِعْتَاقُ إحْدَاثُ قُوَّةِ الِانْطِلَاقِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي الرَّقِيقِ صِفَةُ الْمَالِكِيَّةِ وَبِالْعِتْقِ يَحْدُثُ لَهُ صِفَةُ الْمَالِكِيَّةِ ، وَلَا مُشَابَهَةَ بَيْنَ إحْدَاثِ الْقُوَّةِ ، وَبَيْنَ إزَالَةِ الْمَانِعِ كَمَا لَا مُشَابَهَةَ بَيْنَ إحْيَاءِ الْمَيِّتِ

وَبَيْنَ رَفْعِ الْقَيْدِ عَنْ الْمُقَيَّدِ ، وَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ الْمُشَابَهَةَ فِي الْمَعْنَى طَرِيقُ الِاسْتِعَارَةِ ، وَلَكِنْ لَا فِي كُلِّ وَصْفٍ بَلْ فِي الْوَصْفِ الْخَاصِّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَالْوَصْفُ الْخَاصُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا بَيَّنَّا دُونَ مَا ذَكَرَهُ الْخَصْمُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُسْتَعَارُ الْأَسَدُ لِلْجَبَانِ ، وَالْحِمَارُ لِلذَّكِيِّ ، وَبَيْنَهُمَا مُشَابَهَةٌ فِي أَوْصَافٍ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَيَوَانٌ مَوْجُودٌ ، وَلَكِنْ لَمَّا انْعَدَمَتْ الْمُشَابَهَةُ فِي الْوَصْفِ الْخَاصِّ لَمْ تَجُزْ الِاسْتِعَارَةُ فَهَذَا مِثْلُهُ فَأَمَّا إذَا اسْتَعْمَلَ لَفْظَ التَّحْرِيرِ فِي الطَّلَاقِ فَلَيْسَ ذَلِكَ عِنْدَنَا لِلْمُشَابِهَةِ مَعْنًى بَلْ ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ النِّكَاحِ مِلْكُ الْمُتْعَةَ ، وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ فِي مَحَلِّ الْمُتْعَةِ يُوجِبُ مِلْكَ الْمُتْعَةِ فَمَا يُزِيلُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ يَكُونُ سَبَبًا لِإِزَالَةِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ فَيَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً عَنْهُ فَأَمَّا مَا يُزِيلُ مِلْكَ الْمُتْعَةِ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِإِزَالَةِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ فَلَا يَصْلُحُ كِنَايَةً عَنْهُ ، وَلِهَذَا قُلْنَا فِي طَرَفِ الِاسْتِجْلَابِ أَنَّ مَا وُضِعَ لِاسْتِجْلَابِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ ، وَهُوَ لَفْظُ النِّكَاحِ ، وَالتَّزْوِيجِ لَا يَثْبُتُ بِهِ مِلْكُ الرَّقَبَةِ وَمَا وُضِعَ لِاسْتِجْلَابِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ ، وَهُوَ لَفْظُ الْهِبَةِ ، وَالْبَيْعِ يَصْلُحُ لِإِيجَابِ مِلْكِ الْمُتْعَةِ ، وَهُوَ النِّكَاحُ ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ الْبَيْعُ فَإِنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ بِهِ الْإِجَارَةُ عَلَى مَا قَالَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ إذَا بَاعَ سُكْنَى دَارِهِ مِنْ إنْسَانٍ ، لَا يَجُوزُ وَإِنْ كَانَ بِهَذَا اللَّفْظِ ثَبَتَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ ، وَهُوَ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمُتْعَةِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَنَا : الْإِجَارَةُ تَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْبَيْعِ ، فَإِنَّ الْحُرَّ إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ بِعْت نَفْسِي مِنْك شَهْرًا بِدِرْهَمٍ لِعَمَلِ كَذَا يَكُونُ إجَارَةً صَحِيحَةً فَأَمَّا بَيْعُ السُّكْنَى إنَّمَا لَا يَجُوزُ لِانْعِدَامِ الْمَحَلِّ لِأَنَّ لَفْظَ الْبَيْعِ مَوْضُوعٌ لِلتَّمْلِيكِ ،

وَالْمَنَافِعُ مَعْدُومَةٌ لَا تَقْبَلُ التَّمْلِيكَ .
وَلِهَذَا لَوْ أَضَافَ لَفْظَةَ الْإِجَارَةِ إلَى الْمَنْفَعَةِ وَقَالَ أَجَّرْتُك مَنْفَعَةَ هَذِهِ الدَّارِ لَا يَجُوزُ ، وَإِذَا أَضَافَ لَفْظَ الْبَيْعِ إلَى عَيْنِ الدَّارِ فَهُوَ عَامِلٌ بِحَقِيقَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ قَابِلٌ لِلْبَيْعِ فَلَا تُجْعَلُ كِنَايَةً عَنْ الْإِجَارَةِ لِهَذَا وَلَا مَعْنَى لِمَا قَالَهُ : إنَّهُ ذَكَرَ الْمُوجَبَ ، وَعَنَى بِهِ الْمُوجِبَ ؛ لِأَنَّ الْمُوجَبَ حُكْمٌ ، وَالْحُكْمُ لَا يَصْلُحُ كِنَايَةً عَنْ السَّبَبِ ؛ لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ بِدُونِ السَّبَبِ ، وَالسَّبَبُ يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْحُكْمِ فَكَانَ الْحُكْمُ كَالتَّبَعِ ، وَالْأَصْلُ يُسْتَعَارُ لِلتَّبَعِ ، وَلَا يُسْتَعَارُ التَّبَعُ لِلْأَصْلِ لِافْتِقَارِ التَّبَعِ إلَى الْأَصْلِ وَاسْتِغْنَاءِ الْأَصْلِ عَنْ التَّبَعِ .
وَفِي قَوْلِهِ اعْتَدِّي ، وُقُوعُ الطَّلَاقِ لَيْسَ بِهَذَا الطَّرِيقِ بَلْ بِطَرِيقِ الْإِضْمَارِ حَتَّى يَقَعَ الطَّلَاقُ بِهِ عَلَى غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا عِدَّةٌ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ فَذَلِكَ اللَّفْظُ عَامِلٌ بِحَقِيقَتِهِ عِنْدَنَا لَا أَنْ يَكُونَ كِنَايَةً بِطَرِيقِ أَنَّهُ ذَكَرَ الْمُوجَبَ وَعَنَى بِهِ الْمُوجِبَ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ يُنَافِي النِّكَاحَ ابْتِدَاءً ، وَبَقَاءً ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هُنَا فَإِنَّ حُرْمَةَ الْأَمَةِ عَلَيْهِ لَا يُنَافِي الْمِلْكَ ابْتِدَاءً ، وَبَقَاءً كَمَا فِي الْمَجُوسِيَّةِ ، وَالْأُخْتِ مِنْ الرَّضَاعَةِ ، وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ : لَا سُلْطَانَ لِي عَلَيْك وَنَوَى الْعِتْقَ لَمْ يَعْتِقْ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ انْتِفَاءِ سُلْطَانِهِ عَنْهُ انْتِفَاءُ الْمِلْكِ ، كَالْمُكَاتَبِ ، فَإِنَّهُ لَا سُلْطَانَ لِلْمَوْلَى عَلَيْهِ وَهُوَ مَمْلُوكٌ بِخِلَافِ قَوْلِهِ لَا : سَبِيلَ لِي عَلَيْك فَإِنَّ مِنْ ضَرُورَةِ انْتِفَاءِ السَّبِيلِ عَنْهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ - الْعِتْقَ ؛ لِأَنَّ لَهُ عَلَى الْمُكَاتَبِ سَبِيلًا مِنْ حَيْثُ الْمُطَالَبَةِ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ حَتَّى إذَا انْتَفَى ذَلِكَ بِالْبَرَاءَةِ عَتَقَ ، وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ لِلَّهِ لَمْ

يَعْتِقْ ، وَإِنْ نَوَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي مَقَالَتِهِ .
فَالْمَخْلُوقَاتُ كُلُّهَا لِلَّهِ تَعَالَى فَهُوَ كَمَا لَوْ قَالَ أَنْتَ عَبْدُ اللَّهِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَعْتِقُ بِهِ إذَا نَوَى ؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ : أَنْتَ خَالِصٌ لِلَّهِ بِانْتِفَاءِ مِلْكِهِ عَنْهُ فَهُوَ كَقَوْلِهِ لَا مِلْكَ لِي عَلَيْك بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَنْتَ عَبْدُ اللَّهِ ، وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ يَا بُنَيَّ ، أَوْ لِأَمَتِهِ يَا بُنَيَّةُ لَمْ تَعْتِقْ ؛ لِأَنَّ هَذَا دُعَاءٌ ، وَلُطْفٌ مِنْهُ ، مَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي مَوْضِعِ النِّدَاءِ يُقْصَدُ بِهِ اسْتِحْضَارُ الْمُنَادَى وَإِكْرَامُهُ مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ يَا بُنَيَّ تَصْغِيرُ الِابْنِ ، وَلَوْ قَالَ يَا ابْنٌ لَا يَعْتِقُ ؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي مَقَالَتِهِ ، فَإِنَّهُ ابْنٌ لِأَبِيهِ ، وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ فِي قَوْلِهِ يَا ابْنِي وَلَا يَعْتِقُ بِهَذَا اللَّفْظِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ شَاذَّةٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ جَعَلَهُ كَقَوْلِهِ يَا حُرُّ ، وَلَكِنْ لَا يُعْتَمَدُ عَلَى تِلْكَ الرِّوَايَةِ ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ فِي مَوْضِعِ النِّدَاءِ لِاسْتِحْضَارِ الْمُنَادَى وَتَفْهِيمِهِ لِيَحْضُرَ ، وَذَلِكَ بِصُورَةِ اللَّفْظِ لَا بِمَعْنَاهُ ، وَوُقُوعُ الْعِتْقِ بِهَذَا اللَّفْظِ لِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْبُنُوَّةِ فَلِهَذَا لَا يَعْتِقُ بِهِ عِنْدَ النِّدَاءِ حَتَّى لَوْ جَعَلَ اسْمَ عَبْدِهِ حُرًّا ، وَكَانَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا عِنْدَ النَّاسِ ثُمَّ نَادَاهُ بِهِ فَقَالَ يَا حُرُّ لَمْ يَعْتِقْ أَيْضًا ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا الِاسْمِ مَعْرُوفًا لَهُ يَعْتِقُ بِهِ فِي الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّهُ نَادَاهُ بِوَصْفٍ يَمْلِكُ إيجَابَهُ بِخِلَافِ قَوْلِهِ يَا ابْنِي فَإِنَّهُ نَادَاهُ بِوَصْفٍ لَا يَمْلِكُ إيجَابَهُ فَيُنْظَرُ إلَى مَقْصُودِهِ فِيهِ ، وَهُوَ الْإِكْرَامُ دُونَ التَّحْقِيقِ ، وَإِنْ قَالَ هَذَا ابْنِي ، وَمِثْلُهُ يُولَدُ لِمِثْلِهِ عَتَقَ ، وَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ دَعْوَةُ النَّسَبِ ، وَهُوَ تَصَرُّفٌ يَمْلِكُهُ الْمَوْلَى فِي

مَمْلُوكِهِ .
فَإِذَا كَانَ الْمَحَلُّ مَحَلًّا قَابِلًا لِلنَّسَبِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى النَّسَبِ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ ، وَالنَّسَبُ لَا يَثْبُتُ مَقْصُورًا عَلَى الْحَالِ بَلْ يَثْبُتُ مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ مَلَكَ وَلَدَهُ فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ أَعْجَمِيًّا جَلِيبًا ، أَوْ مُوَلَّدًا ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ دَعْوَةِ الْمَوْلَى شَرْعًا بِوَصْلَةِ الْمِلْكِ وَحَاجَةِ الْمَمْلُوكِ إلَى النَّسَبِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : هَذَا أَبِي أَوْ كَانَتْ أَمَةً فَقَالَ : هَذِهِ أُمِّي ، وَمِثْلُهُمَا يَلِدُ مِثْلَهُ عِتْقًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبَوَانِ مَعْرُوفَانِ ، وَصَدَّقَاهُ فِي ذَلِكَ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُمَا فَقَدْ اُعْتُبِرَ تَصْدِيقُهُمَا فِي دَعْوَى الْأُبُوَّةِ ، وَالْأُمُومَةِ عَلَيْهِمَا وَلَمْ يُعْتَبَرْ فِي دَعْوَى الْبُنُوَّةِ ؛ لِأَنَّ النَّسَبَ مِنْ حَقِّ الْوَلَدِ ، فَإِنَّهُ يَشْرُفُ بِهِ فَمُدَّعِي الْبُنُوَّةِ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمَحْمُولِيَّةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى تَصْدِيقِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ يَلْزَمُ الْمُقِرَّ بِنَفْسِهِ فَأَمَّا مُدَّعِي الْأُبُوَّةِ ، وَالْأُمُومَةِ يَحْتَاجُ إلَى تَصْدِيقِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ يَحْمِلُ نَسَبَهُ عَلَى غَيْرِهِ فَيَكُونُ مُدَّعِيًا ، وَمُجَرَّدُ الدَّعْوَى لَا يَلْزَمُ شَيْئًا بِدُونِ الْحُجَّةِ فَلِهَذَا يَحْتَاجُ إلَى تَصْدِيقِهِمَا ؛ وَلِأَنَّ مُدَّعِي الْأُبُوَّةِ ، وَالْأُمُومَةِ يُخْبِرُ أَنَّهُ عَلِقَ مِنْ مَائِهِمَا ، وَهُوَ غَيْبٌ عَنْهُ فَلَا بُدَّ مِنْ تَصْدِيقِهِمَا ، وَمُدَّعِي الْبُنُوَّةِ يُخْبِرُ أَنَّهُ عَلِقَ مِنْ مَائِهِ وَقَدْ يَعْرِفُ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ عَاقِلًا عِنْدَ عُلُوقِهِ ، وَإِنْ كَانَ لِلْغُلَامِ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ ، فَقَالَ هَذَا ابْنِي يَعْتِقُ عَلَيْهِ ، وَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ ؛ لِأَنَّهُ مُكَذَّبٌ فِيمَا قَالَ شَرْعًا حِينَ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْ الْغَيْرِ ، وَلَكِنَّ هَذَا التَّكْذِيبِ فِي حُكْمِ النَّسَبِ دُونَ الْعِتْقِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْعِتْقِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا نَسَبَ لَهُ وَلِهَذَا قُلْنَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ إذَا قَالَ هَذَا أَبِي أَوْ أُمِّي ، وَكَذَّبَاهُ يَعْتِقُ ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ تَكْذِيبِهِمَا فِي حُكْمِ

النَّسَبِ دُونَ الْعِتْقِ : تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمَمْلُوكَ مُسْتَغْنٍ عَنْ النَّسَبِ إذَا كَانَ مَعْرُوفَ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُسْتَغْنٍ عَنْ الْحُرِّيَّةِ فَيَثْبُتُ بِكَلَامِهِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمَمْلُوكُ دُونَ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : هَذِهِ ابْنَتِي وَهِيَ مَعْرُوفَةُ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ فَإِنَّهُ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ صَارَ مُكَذَّبًا فِي حُكْمِ النَّسَبِ شَرْعًا ، وَلَوْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ بِأَنْ قَالَ : غَلِطْت لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا نَسَبٌ مَعْرُوفٌ فَكَذَلِكَ إذَا صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا ، وَهُنَا لَوْ أَكْذَبَ الْمَوْلَى نَفْسَهُ فِي حَقِّ مَنْ لَا نَسَبَ لَهُ كَانَ الْعِتْقُ ثَابِتًا فَكَذَلِكَ إذَا صَارَ مُكَذَّبًا فِي النَّسَبِ شَرْعًا .
وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ فِي قَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ هَذِهِ ابْنَتِي غَيْرُ مُقِرٍّ عَلَى نَفْسِهِ بِشَيْءٍ ، وَلَكِنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى الْمَحَلِّ بِصِفَةِ الْحُرْمَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مُوجِبَ لِلنَّسَبِ فِي مِلْكِهِ مِنْ حَيْثُ الْإِزَالَةِ ، وَإِنَّمَا مُوجِبُهُ حُرْمَةُ الْمَحَلِّ ثُمَّ يَنْتَفِي بِهِ الْمِلْكُ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ إقْرَارَهُ فِي حُرْمَةِ الْمَحَلِّ هُنَا لَمَّا كَانَتْ مَعْرُوفَةَ النَّسَبِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ لِعَبْدِهِ : هَذَا ابْنِي إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ لِلْبُنُوَّةِ مُوجَبًا فِي مِلْكِهِ ، وَهُوَ زَوَالُ الْمِلْكِ بِهِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ ابْنَهُ بِالشِّرَاءِ ثُمَّ يَعْتِقُ عَلَيْهِ فَيُعْتَبَرُ إقْرَارُهُ فِيمَا يُقِرُّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ عِتْقُهُ عَلَيْهِ مِنْ حِينِ دَخَلَ فِي مِلْكِهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ مِمَّنْ لَا يُولَدُ مِثْلُهُ لِمِثْلِ الْمَوْلَى فَقَالَ : هَذَا ابْنِي لَمْ يَعْتِقْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَوَّلِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَعَتَقَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْآخَرِ ، وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ كَلَامَهُ مُحَالٌ فَيَلْغُو كَمَا لَوْ قَالَ : أَعْتَقْتُك قَبْلَ

أَنْ أُخْلَقَ ، وَبَيَانُ الِاسْتِحَالَةِ أَنَّ قَوْلَهُ هَذَا ابْنِي أَيْ مَخْلُوقٌ مِنْ مَائِي ، وَابْنُ خَمْسِينَ سَنَةً يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا مِنْ مَاءِ ابْنِ عِشْرِينَ سَنَةً ، وَبِهِ فَارَقَ مَعْرُوفُ النَّسَبِ فَإِنَّ كَلَامَهُ مُحْتَمَلٌ هُنَاكَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَخْلُوقًا مِنْ مَائِهِ بِالزِّنَا أَوْ يَكُونَ مَخْلُوقًا مِنْ مَائِهِ بِالشُّبْهَةِ وَقَدْ اشْتَهَرَ نَسَبُهُ مِنْ الْغَيْرِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ أُمَّ الْغُلَامِ لَوْ كَانَتْ فِي مِلْكِهِ هُنَاكَ تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَهُنَا لَا تَصِيرُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ؛ وَلِأَنَّ الْحَقِيقَةَ تُكَذِّبُهُ فِي هَذَا الْخَبَرِ فَيَلْغُو خَبَرُهُ كَمَا لَوْ قَالَ لِصَبِيٍّ صَغِيرٍ فِي يَدِهِ هَذَا جَدِّي أَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ هَذِهِ ابْنَتِي ، أَوْ لِأَمَتِهِ هَذَا غُلَامِي ، وَفِي غَيْرِ هَذَا الْبَابِ لَوْ قَالَ : قَطَعْت يَدَ فُلَانٍ ، وَلَهُ عَلَيَّ الْأَرْشُ فَأَخْرَجَ فُلَانٌ يَدَهُ صَحِيحَةً لَمْ يَسْتَوْجِبْ شَيْئًا بِخِلَافِ مَعْرُوفِ النَّسَبِ فَإِنَّ الْحَقِيقَةَ لَا تُكَذِّبُهُ هُنَاكَ ، وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْآخَرِ أَنَّهُ أَقَرَّ بِنَسَبِ مَمْلُوكِهِ طَائِعًا فَيَعْتِقُ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ قَالَ لِمَعْرُوفِ النَّسَبِ : هَذَا ابْنِي وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ صَرِيحَ كَلَامِهِ مُحَالٌ كَمَا قَالَ ، وَلَكِنْ لَهُ مَجَازٌ صَحِيحٌ ، وَمَعْنَاهُ عَتَقَ عَلَيَّ مِنْ حِينِ مَلَكْته ؛ لِأَنَّ الْبُنُوَّةَ سَبَبٌ لِهَذَا فَإِنَّهُ إذَا مَلَكَ ابْنَهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ فَيُجْعَلُ هَذَا السَّبَبُ كِنَايَةً عَنْ مُوجِبِهِ مَجَازًا ، وَتَصْحِيحُ كَلَامِ الْعَاقِلِ وَاجِبٌ ، وَلِلْعَرَبِ لِسَانَانِ : حَقِيقَةٌ ، وَمَجَازٌ فَإِذَا تَعَذَّرَ تَصْحِيحُهُ بِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ يُصَحَّحُ بِاعْتِبَارِ الْمَجَازِ .
، أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَارِثَ إذَا أَعْتَقَ الْمُكَاتَبَ يُجْعَلُ إبْرَاءً مِنْهُ عَنْ بَدَلِ الْكِتَابَةِ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمَجَازِ إلَّا أَنَّهُمَا يَقُولَانِ الْمَجَازُ خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَكُونُ الْأَصْلُ مُتَصَوَّرًا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْمَجَازُ خَلَفًا عَنْهُ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْمُكَاتَبِ ، وَفِي

كُلِّ مَوْضِعٍ لَا يَكُونُ الْأَصْلُ مُتَصَوَّرًا لَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْمَجَازِ خَلَفًا عَنْهُ ، وَهُنَا لَا تَصَوُّرَ لِلْأَصْلِ بِخِلَافِ مَعْرُوفِ النَّسَبِ ، فَإِنَّ هُنَاكَ الْأَصْلُ مُتَصَوَّرٌ فَيَجُوزُ إثْبَاتُ الْمَجَازِ خَلَفًا عَنْهُ وَلَكِنَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : الْمَجَازُ خَلَفٌ عَنْ الْحَقِيقَةِ فِي التَّكَلُّمِ لَا فِي الْحُكْمِ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِ فِي إقَامَةِ كَلَامٍ مَقَامَ كَلَامٍ وَالْمَقْصُودُ تَصْحِيحُ الْكَلَامِ فَلَا يُعْتَبَرُ فِي تَصْحِيحِ الْمَجَازِ تَصَوُّرُ الْحُكْمِ لِإِثْبَاتِ الْخِلَافَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِحُرَّةٍ : اشْتَرَيْتُك بِكَذَا كَانَ نِكَاحًا صَحِيحًا ، وَالْحُرَّةُ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِأَصْلِ حُكْمِ الْبَيْعِ ، وَهُوَ مِلْكُ الرَّقَبَةِ ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى قُلْنَا إنَّ أُمَّ الْغُلَامِ لَوْ كَانَتْ فِي مِلْكِهِ لَا تَعْتِقُ ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ إذَا صَارَ مَجَازًا لِغَيْرِهِ سَقَطَ اعْتِبَارُ حَقِيقَتِهِ ، وَهَذَا مَجَازٌ عَنْ الْإِقْرَارِ بِحُرِّيَّتِهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ عَتَقَ عَلَيَّ مِنْ حِينِ مِلْكِهِ ، وَلَيْسَ لِهَذَا اللَّفْظِ مُوجِبٌ فِي الْأُمِّ فَأَمَّا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ هَذِهِ ابْنَتِي فَقَدْ ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِشْهَادِ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى ، وَمِنْ عَادَتِهِ الِاسْتِشْهَادُ بِالْمُخْتَلِفِ عَلَى الْمُخْتَلَفِ فَلَا نُسَلِّمُهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ نَقُولُ : الْأَصْلُ أَنَّ الْمُشَارَ إلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى فَالْعِبْرَةُ لِلْمُسَمَّى كَمَا لَوْ بَاعَ فَصًّا عَلَى أَنَّهُ يَاقُوتٌ فَإِذَا هُوَ زُجَاجٌ فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ وَالذُّكُورُ ، وَالْإِنَاثُ مِنْ بَنِي آدَمَ جِنْسَانِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمُشَارُ إلَيْهِ مِنْ جِنْسِ الْمُسَمَّى تَعَلَّقَ الْحُكْمُ بِالْمُسَمَّى ، وَهُوَ مَعْدُومٌ وَلَا يُتَصَوَّرُ تَصْحِيحُ الْكَلَامِ إيجَابًا ، وَلَا إقْرَارًا فِي الْمَعْدُومِ ، وَكَذَا قَوْلُهُ لِصَبِيٍّ صَغِيرٍ هَذَا جَدِّي فَإِنَّهُ ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِشْهَادِ هُنَا وَقَدْ مَنَعُوهُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ

اللَّهُ تَعَالَى ، وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ نَقُولُ : لَا مُوجِبَ لِذَلِكَ الْكَلَامِ فِي مِلْكِهِ إلَّا بِوَاسِطَةِ الْأَبِ ، وَتِلْكَ الْوَاسِطَةُ غَيْرُ ثَابِتَةٍ وَبِدُونِهَا لَا مُوجِبَ لِكَلَامِهِ حَتَّى يُجْعَلَ كِنَايَةً عَنْ مُوجِبِهِ مَجَازًا ، فَأَمَّا لِلْبُنُوَّةِ ، وَالْأُبُوَّةِ مُوجَبٌ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فَيُجْعَلُ كَلَامُهُ كِنَايَةً عَنْ مُوجِبِهِ ، وَبِخِلَافِ قَوْلِهِ أَعْتَقْتُك قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ ؛ لِأَنَّهُ لَا مُوجِبَ فِيمَا صَرَّحَ بِهِ ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ قَطَعْت يَدَك ؛ لِأَنَّهُ لَا مُوجِبَ لِلْجُرْحِ بَعْدَ الْبُرْءِ إذَا لَمْ يَبْقَ لَهُ أَثَرٌ فَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ كَلَامِهِ عَلَى أَنْ يُجْعَل كِنَايَةً عَنْ مُوجِبِهِ فَلِهَذَا كَانَ لَغْوًا .
وَإِنْ قَالَ لِعَبْدِهِ هَذَا أَخِي لَمْ يَعْتِقْ ، وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَعْتِقُ ؛ لِأَنَّ لِلْإِخْوَةِ فِي مِلْكِهِ مُوجِبًا ، وَهُوَ الْعِتْقُ فَيُجْعَلُ هَذَا اللَّفْظُ كِنَايَةً عَنْ مُوجِبِهِ ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْأُخُوَّةَ اسْمٌ مُشْتَرَكٌ قَدْ يُرَادُ بِهِ : الْأُخُوَّةُ فِي الدِّينِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ } ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الِاتِّحَادُ فِي الْقَبِيلَةِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا } ، وَقَدْ يُرَادُ بِهِ الْأُخُوَّةُ فِي النَّسَبِ .
وَالْمُشْتَرَكُ لَا يَكُونُ حُجَّةً بِدُونِ الْبَيَانِ حَتَّى لَوْ قَالَ هَذَا أَخِي لِأَبِي أَوْ لِأُمِّي نَقُولُ : يَعْتِقُ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ فَإِنْ قِيلُ : فَالْبُنُوَّةُ وَالْأُبُوَّةُ قَدْ تَكُونُ بِالرَّضَاعَةِ ثُمَّ أَثْبَتُّمْ الْعِتْقَ بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ قُلْنَا ؛ لِأَنَّ الْبُنُوَّةَ مِنْ الرَّضَاعِ مَجَازٌ وَالْمَجَازُ لَا يُعَارِضُ الْحَقِيقَةَ .
فَأَمَّا الْأُخُوَّةُ مُشْتَرَكَةٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ كَمَا بَيَّنَّا ؛ وَلِأَنَّ الْأُخُوَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا بِوَاسِطَةِ الْأَبِ أَوْ الْأُمِّ ؛ لِأَنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ مُجَاوَرَةٍ فِي صُلْبٍ أَوْ رَحِمٍ ، وَهَذِهِ الْوَاسِطَةُ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ ، وَلَا مُوجِبَ لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ بِدُونِ هَذِهِ الْوَاسِطَةِ

.
فَإِنْ قَالَ لِأَمَتِهِ فَرْجُك حُرٌّ أَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ رَأْسُك حُرٌّ يَعْتِقُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الطَّلَاقِ إنْ ذَكَرَ مَا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْ جَمِيعِ الْبَدَنِ ، كَذِكْرِ الْبَدَنِ بِخِلَافِ الْيَدِ أَوْ الرِّجْلِ فَهُوَ فِي الْعَتَاقِ كَذَلِكَ ، وَإِنْ قَالَ : نَوَيْت الْكَذِبَ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ ، أَنْتَ حُرٌّ ، وَإِنْ قَالَ لِعَبْدِهِ أَوْ لِأَمَتِهِ مَا أَنْتَ إلَّا حُرٌّ أَوْ مَا أَنْتِ إلَّا حُرَّةٌ ، فَإِنَّهُمَا يَعْتِقَانِ ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ اشْتَمَلَ عَلَى النَّفْيِ ، وَالْإِثْبَاتِ وَهَذَا آكَدُ مَا يَكُونُ مِنْ الْإِثْبَاتِ ، دَلِيلُهُ كَلِمَةُ الشَّهَادَةِ فَكَانَ هَذَا كَقَوْلِهِ أَنْتَ حُرٌّ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ أَنْتَ مِثْلُ الْحُرِّ ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لِلْمُشَابَهَةِ ، وَالْمُشَابَهَةُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ قَدْ يَكُونُ خَاصًّا وَقَدْ يَكُون عَامًّا فَلَا يَثْبُتُ الْعِتْقُ بِهِ بِدُونِ النِّيَّةِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : بَدَنُك حُرٌّ ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ بَدَنُك بَدَنٌ حُرٌّ .
وَفِي النَّوَادِرِ قَالَ لَوْ نَوَى فَقَالَ بَدَنُك بَدَنٌ حُرٌّ يَعْتِقُ ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ لِلْإِيجَابِ لَا لِلتَّشْبِيهِ ، وَلَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ : أَنْتَ حُرٌّ الْيَوْمَ مِنْ هَذَا الْعَمَلِ فَإِنَّهُ يَعْتِقُ فِي الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّهُ وَصَفَهُ بِالْحُرِّيَّةِ ، وَتَخْصِيصُهُ وَقْتًا أَوْ عَمَلًا لَا يُغَيِّرُ حُكْمَ مَا وَصَفَهُ بِهِ وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنْ كَانَ لَا يُرِيدُ الْعِتْقَ ، فَهُوَ عَبْدُهُ ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ لَا أُكَلِّفُك الْيَوْمَ هَذَا الْعَمَلَ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى مُطَّلِعٌ عَلَى ضَمِيرِهِ ، وَلَكِنَّهُ خِلَافُ الظَّاهِرِ فَإِنَّهُ جَعَلَ الْحُرِّيَّةَ صِفَةً لَهُ فِي الظَّاهِرِ فَلِهَذَا لَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصِّدْقِ وَالصَّوَابِ .

بَابُ عِتْقِ ذَوِي الْأَرْحَامِ ذِكْر عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ : مَنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَهُوَ حُرٌّ } .
وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ مَلَكَ قَرِيبَهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَهُوَ حُرٌّ جَزَاءً لِقَوْلِهِ مَنْ مَلَكَ مَعَ الْقَرَابَةِ ، فَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ حُرِّيَّةَ الْمَمْلُوكِ دُونَ الْمَالِكِ ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ : عَتَقَ عَلَيْهِ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ سَبَبَ الْعِتْقِ الْمِلْكُ مَعَ الْقَرَابَةِ ، فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا فِي لِسَانِ صَاحِبِ الشَّرْعِ بِمَعْنَى بَيَانِ السَّبَبِ كَمَا قَالَ : { مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } وَقَالَ تَعَالَى : { فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } وَلِهَذَا قَالَ عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ إذَا مَلَكَ أَبَاهُ ، أَوْ أُمَّهُ ، أَوْ ابْنَهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ ، وَقَالَ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ يَلْزَمُهُ أَنْ يَعْتِقَهُ ، وَلَكِنْ لَا يَعْتِقُ قَبْلَ إعْتَاقِهِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ عَنْ وَالِدِهِ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ } فَفِيهِ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ عَلَيْهِ إعْتَاقَهُ ، وَلَوْ عَتَقَ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ فَيُعْتِقُهُ مَعْنًى ؛ وَلِأَنَّ الْقَرَابَةَ لَا تَمْنَعُ ثُبُوتَ الْمِلْكِ ابْتِدَاءً فَلَا تَمْنَعُ الْبَقَاءَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَمَّا مَنَعَتْ بَقَاءَ مِلْكِ النِّكَاحِ مَنَعَتْ ثُبُوتَهُ ابْتِدَاءً .
( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا إنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ ، وَالْأَرْضِ إلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا } فَقَدْ نَفَى الْبُنُوَّةَ بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ الْخَلْقِ بِإِثْبَاتِ الْعُبُودِيَّةِ فَذَلِكَ تَنْصِيصٌ عَلَى الْمُنَافَاةِ بَيْنَهُمَا ، وَالْمُتَنَافِيَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ فَإِذَا كَانَتْ الْبُنُوَّةُ مُتَقَرِّرَةً انْتَفَتْ الْعُبُودِيَّةُ ، وَمُرَادُهُ عَلَيْهِ

الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنْ قَوْلِهِ فَيُعْتِقُهُ بِذَلِكَ الشِّرَاءُ لَا بِسَبَبٍ آخَرَ كَمَا يُقَالُ : أَطْعَمَهُ فَأَشْبَعَهُ وَسَقَاهُ فَأَرْوَاهُ ، وَضَرَبَ فَأَوْجَعَ ، وَكَتَبَهُ فَقَرْمَطَ وَإِنَّمَا أَثْبَتِنَا لَهُ الْمِلْكَ ابْتِدَاءً ؛ لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْعُبُودِيَّةِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بِهِ فَإِذَا لَمْ يَمْلِكْهُ لَا يَعْتِقُ بِخِلَافِ مِلْكِ النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إثْبَاتِ مِلْكِ النِّكَاحِ لَهُ عَلَى ابْنَتِهِ ثُمَّ إزَالَتِهِ ؛ لِأَنَّهَا تَعُودُ إلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ هَذَا الْعِتْقَ صِلَةٌ ، وَمُجَازَاةٌ فَلَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بَعْدَ الْمِلْكِ .
فَأَمَّا انْتِفَاءُ النِّكَاحِ بِحُرْمَةِ الْمَحَلِّ ، وَهُوَ مَوْجُودٌ قَبْلَ الْعَقْدِ ؛ وَلِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ لَيْسَ بِمِلْكِ الْحِلِّ فَيَخْتَصُّ بِمَحَلِّ الْحِلِّ ، وَالْأُمُّ وَالِابْنَةُ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ بِالنَّصِّ ، وَلَا تَصَوُّرَ لِلْمَلِكِ بِدُونِ الْمَحَلِّ فَأَمَّا هَذَا مِلْكُ مَالٍ ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ فِي الْمَحَلِّ ، فَيَثْبُتُ لَهُ نَسَبُهُ أَيْضًا إذْ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ إثْبَاتِهِ - الِاسْتِدَامَةُ ، وَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَيْضًا قَالَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - : إذَا مَلَكَ أَخَاهُ ، أَوْ أُخْتَهُ ، أَوْ أَحَدًا مِنْ ذَوِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْهُ أَنَّهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : لَا يَعْتِقُ إلَّا الْوَالِدَيْنِ وَالْمَوْلُودَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا بَعْضِيَّةٌ فَلَا يَعْتِقُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ كَبَنِي الْأَعْمَامِ بِخِلَافِ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ فَالْعِتْقُ هُنَاكَ لِلْبَعْضِيَّةِ ، وَالْجُزْئِيَّةِ ؛ وَلِأَنَّ الْقَرَابَةَ الَّتِي بَيْنَهُمَا فِي الْأَحْكَامِ كَقَرَابَةِ بَنِي الْأَعْمَامِ حَتَّى تُقْبَلَ شَهَادَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ ، وَيَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَضْعُ زَكَاةِ مَالِهِ فِي صَاحِبِهِ ، وَيَجْرِي الْقِصَاصُ بَيْنَهُمَا فِي الطَّرَفَيْنِ ، وَيَحِلُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَلِيلَةُ صَاحِبِهِ ، وَلَا يَسْتَوْجِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النَّفَقَةَ عَلَى صَاحِبِهِ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ ، وَلَا

يَتَكَاتَبُ أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِخِلَافِ الْوَالِدَيْنِ ، وَالْمَوْلُودَيْنِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُنَاكَحَةِ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهَا بِاسْمِ الْأُخْتِيَّةِ ، وَالْبِنْتِيَّةِ لَا بِمَعْنَى الْقَرَابَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَثْبُتُ بِالرَّضَاعِ ، وَلَا تَثْبُتُ بِالْقَرَابَةِ بِهَا ، وَلِهَذَا لَا يُعْتَبَرُ فِي الْحُرْمَةِ مَعْنَى قُرْبِ الْقَرَابَةِ وَبُعْدِهَا .
( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَقَالَ إنِّي وَجَدْت أَخِي يُبَاعُ فِي السُّوقِ فَاشْتَرَيْته ، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَعْتِقَهُ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ أَعْتَقَهُ اللَّهُ } ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْقَرَابَةَ الْمُتَأَيِّدَةَ بِالْمَحْرَمِيَّةِ عِلَّةُ الْعِتْقِ مَعَ الْمِلْكِ ، كَمَا فِي الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ لِهَذَا الْعِتْقِ بِطَرِيقِ الصِّلَةِ وَالْقَرَابَةِ الْمُتَأَيِّدَةِ بِالْمَحْرَمِيَّةِ تَأْثِيرًا فِي اسْتِحْقَاقِ الصِّلَةِ ؛ لِأَنَّهُ يُفْتَرَضُ وَصْلُهَا ، وَيَحْرُمُ قَطْعُهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ قَطِيعَةَ الرَّحِمِ مِنْ الْمَلَاعِنِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ } وَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ثَلَاثٌ مُعَلَّقَاتٌ بِالْعَرْشِ ، مِنْهَا الرَّحِمُ يَقُولُ : قُطِعْت ، وَلَمْ تُوصَلْ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ حُرْمَةَ الْمُنَاكَحَةِ تَثْبُتُ بِهَذِهِ الْقَرَابَةِ بِمَعْنَى الصِّيَانَةِ عَنْ ذُلِّ الِاسْتِفْرَاشِ ، وَالِاسْتِخْدَامِ قَهْرًا ، فَمِلْكُ الْيَمِينِ أَبْلَغُ فِي الِاسْتِذْلَالِ مِنْ الِاسْتِفْرَاشِ ، وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ نِكَاحًا صِيَانَةً لِلْقَرَابَةِ مِنْ الْقَطِيعَةِ بِسَبَبِ الْمُنَافَرَةِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ الضَّرَائِرِ وَمَعْنَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ فِي اسْتِدَامَةِ مِلْكِ الْيَمِينِ أَكْثَرُ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ لِلْمِلْكِ تَأْثِيرًا فِي اسْتِحْقَاقِ الصِّلَةِ فَيَثْبُتُ بِهَذَا التَّقْرِيرِ : أَنَّ عِلَّةَ الْعِتْقِ هَذَانِ الْوَصْفَانِ ، وَبَعْدَ هَذَا لَا

يَضُرُّ انْتِفَاءُ الْجُزْئِيَّةِ بَيْنَهُمَا ، لِمَا ثَبَتَ أَنَّ عِلَّةَ الْعِتْقِ هَذَا دُونَ الْجُزْئِيَّةِ ؛ لِأَنَّ التَّعْدِيَةَ بِمَعْنَى وَاحِدٍ ، قَدْ ظَهَرَ أَثَرُهُ مُسْتَقِيمٌ ؛ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْقَرَابَةَ فِي مَعْنَى الْقَرَابَةِ بَيْنَ الْجَدِّ ، وَالنَّافِلَةِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ اتِّصَالَ أَحَدِ الْأَخَوَيْنِ بِالْآخَرِ بِوَاسِطَةِ الْأَبِ كَمَا أَنَّ اتِّصَالَ النَّافِلَةِ بِالْجَدِّ بِوَاسِطَةِ الْأَبِ وَلِهَذَا ظَهَرَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ فِي الْمِيرَاثِ .
وَشَبَّهَ بَعْضُهُمْ الْجَدَّ مَعَ النَّافِلَةِ بِشَجَرَةٍ انْشَعَبَ مِنْهَا غُصْنٌ وَمِنْ ذَلِكَ الْغُصْنِ غُصْنٌ وَالْأَخَوَيْنِ بِغُصْنَيْنِ مِنْ شَجَرَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَشَبَّهَ بَعْضُهُمْ الْجَدَّ مَعَ النَّافِلَةِ بِوَادٍ تَشَعَّبَ مِنْهُ نَهْرٌ ، وَمِنْ النَّهْرِ جَدْوَلٌ ، وَالْأَخَوَيْنِ بِنَهْرَيْنِ تَشَعَّبَا مِنْ وَادٍ فَيَكُونُ مَعْنَى الْقُرْبِ بَيْنَهُمَا أَظْهَرُ ؛ لِأَنَّ تَفَرُّقَهُمَا بِشِعْبٍ ، وَاحِدٍ ، وَالْأَوَّلُ بِشِعْبَيْنِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْقَرَابَةَ الَّتِي بَيْنَهُمَا بِمَنْزِلَةِ قَرَابَةِ الْجَدِّ مَعَ النَّافِلَةِ ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْعِتْقِ مَعَ الْمِلْكِ ، إلَّا أَنَّ فِي حُكْمِ الْوِلَايَةِ لَمْ يُجْعَلْ الْأَخُ كَالْجَدِّ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِيهِ الشَّفَقَةُ مَعَ الْقَرَابَةِ ، وَشَفَقَةُ الْأَخِ لَيْسَتْ كَشَفَقَةِ الْجَدِّ ، وَفِي حُكْمِ الْإِرْثِ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ نَوْعُ وِلَايَةٍ فَإِنَّهُ خِلَافَةٌ فِي الْمِلْكِ وَالتَّصَرُّفِ ، وَبِهِ فَارَقَ بَنِي الْأَعْمَامِ فَالْوَاسِطَاتُ هُنَاكَ قَدْ كَثُرَتْ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ فَكَانَتْ الْقَرَابَةُ بَعِيدَةً بَيْنَهُمَا ، وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ بِهَا حُرْمَةُ النِّكَاحِ وَلَا حُرْمَةُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا فِي النِّكَاحِ .
فَأَمَّا الْمُكَاتَبُ فَلَا مِلْكَ لَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ ، وَهَذِهِ الْقَرَابَةُ مَعَ الْمِلْكِ عِلَّةٌ ، وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ بِعِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ يَنْعَدِمُ بِانْعِدَامِ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ ، إلَّا أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا مَلَكَ أَبَاهُ يَمْتَنِعُ

عَلَيْهِ بَيْعُهُ ، وَإِذَا مَلَكَ أَخَاهُ لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ بَيْعُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ لَهُ كَسْبٌ وَلَيْسَ لَهُ مِلْكٌ حَقِيقَةً ، وَحَقُّ الْآبَاءِ ، وَالْأَوْلَادِ يَثْبُتُ فِي الْكَسْبِ حَتَّى يَجِبَ عَلَيْهِ نَفَقَةُ أَبِيهِ إذَا كَانَ مُكْتَسِبًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُوسِرًا .
فَأَمَّا حَقُّ الْأَخِ لَا يَثْبُتُ فِي الْكَسْبِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِ نَفَقَةُ أَخِيهِ الزَّمِنَ إذَا كَانَ هُوَ مُعْسِرًا ، وَإِنْ كَانَ مُكْتَسِبًا وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمَالِكُ صَغِيرًا فَإِنَّهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ لِتَمَامِ عِلَّةِ الْعِتْقِ وَهُوَ الْمِلْكُ مَعَ الْقَرَابَةِ فَإِنَّ الصَّغِيرَ يَمْلِكُ حَقِيقَةً ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَثْبُتُ لَهُ صِفَةُ الْغِنَى بِمِلْكِهِ حَتَّى يَحْرُمَ عَلَيْهِ أَخْذُ الصَّدَقَةِ بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمَالِكُ كَافِرًا وَالْمَمْلُوكُ مُسْلِمًا ، أَوْ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ مَعَ الْقَرَابَةِ يَتَحَقَّقُ مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ ، وَبِهِمَا تَمَامُ عِلَّةِ الْعِتْقِ بِخِلَافِ اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ ، فَإِنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ ذَلِكَ بِصِفَةِ الْوِرَاثَةِ فَقَالَ تَعَالَى : { وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ } مَعْنَاهُ : وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ مَعْنَاهُ : وَعَلَى الْوَارِثِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ ، وَبِسَبَبِ اخْتِلَافِ الدِّينِ يَنْعَدِمُ صِفَةُ الْوِرَاثَةِ فَلِهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ بِخِلَافِ الْآبَاءِ وَالْأَوْلَادِ فَالِاسْتِحْقَاقُ هُنَاكَ بِالْوِلَادِ قَالَ تَعَالَى : { وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ } وَبِسَبَبِ اخْتِلَافِ الدِّينِ لَا يَنْعَدِمُ الْوِلَادُ ، فَهَذَا بَيَانُ مَعْنَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذِهِ الْفُصُولِ فَإِنْ مَلَكَهُ الرَّجُلُ مَعَ آخَرَ عَتَقَ نَصِيبُهُ مِنْهُ وَسَعَى الْعَبْدُ لَلشَّرِيكِ فِي نَصِيبِهِ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الَّذِي عَتَقَ مِنْ قِبَلِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ قِيمَةَ نَصِيبِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا ، وَيَسْعَى

الْعَبْدُ لِشَرِيكِهِ إنْ كَانَ مُعْسِرًا .
وَكَذَلِكَ لَوْ مَلَكَاهُ بِهِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ ، أَوْ وَصِيَّةٍ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ ، وَجْهُ قَوْلِهِمَا إنَّ الْقَرِيبَ بِالشِّرَاءِ صَارَ مُعْتِقًا لِنَصِيبِهِ ؛ لِأَنَّ شِرَاءَ الْقَرِيبِ إعْتَاقٌ ، وَلِهَذَا تَتَأَدَّى بِهِ الْكَفَّارَةُ ، وَالْمُعْتِقُ ضَامِنٌ لِنَصِيبِ شَرِيكِهِ إذَا كَانَ مُوسِرًا كَمَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ فَاشْتَرَى قَرِيبُ الْعَبْدِ نَصِيبَ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ مِنْهُ يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ الَّذِي لَمْ يَبِعْ إنْ كَانَ مُوسِرًا ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ ؛ لِأَنَّ شِرَاءَ الشَّرِيكِ مَعَهُ رِضًا مِنْهُ بِاَلَّذِي يَكُونُ بِهِ الْعِتْقُ وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ ضَمَانَ الْعِتْقِ يَجِبُ بِالْإِتْلَافِ وَالْإِفْسَادِ ، وَالرِّضَا بِالسَّبَبِ يَمْنَعُ وُجُوبَ مِثْلِ هَذَا الضَّمَانِ كَمَا لَوْ أَتْلَفَ مَالَ الْغَيْرِ بِإِذْنِهِ ، وَفِي إثْبَاتِ الرِّضَا هُنَا نَوْعَانِ مِنْ الْكَلَامِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَمَّا سَاعَدَ شَرِيكَهُ عَلَى الْقَبُولِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ قَبُولَ شَرِيكِهِ مُوجِبٌ لِلْعِتْقِ فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِعِتْقِهِ عَلَى شَرِيكِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ اسْتَأْذَنَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ صَاحِبِهِ فِي أَنْ يَعْتِقَ نَصِيبَهُ فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ ، وَالثَّانِي أَنَّ الْمُشْتَرِيَيْنِ صَارَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ لِاتِّحَادِ الْإِيجَابِ مِنْ الْبَائِعِ ، وَلِهَذَا لَوْ قَبِلَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ لَمْ يَصِحَّ قَبُولُهُ ، وَلَمْ يَمْلِكْ نَصِيبَهُ بِهِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَاضٍ بِالتَّمْلِيكِ فِي نَصِيبِهِ فَيَكُونُ رَاضِيًا بِالتَّمْلِيكِ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ أَيْضًا لِمَا سَاعَدَهُ عَلَى الْقَبُولِ بَلْ يَصِيرُ مُشَارِكًا لَهُ فِي السَّبَبِ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَالْمُشَارَكَةُ فِي السَّبَبِ فَوْقَ الرِّضَا بِهِ إلَّا أَنَّ بِهَذَا السَّبَبِ تَتِمُّ عِلَّةُ الْعِتْقِ فِي الْحَقِّ الْقَرِيبِ ، وَهُوَ الْمِلْكُ لَا تَتِمُّ عِلَّةُ الْعِتْقِ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ فَكَانَ الْقَرِيبُ مُعْتِقًا دُونَ الْأَجْنَبِيِّ وَلَكِنْ بِمُعَاوَنَةِ الْأَجْنَبِيِّ يَسْقُطُ

حَقُّهُ فِي تَضْمِينِهِ لَمَّا عَاوَنَهُ عَلَى السَّبَبِ ، وَفِي هَذَا يَتَّضِحُ الْكَلَامُ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي الشِّرَاءِ فِيمَا إذَا كَانَ الْعَبْدُ كُلُّهُ لِرَجُلٍ فَبَاعَ نِصْفَهُ مِنْ قَرِيبِهِ ، فَإِنَّ الْخِلَافَ ثَابِتٌ فِيهِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إيجَابَ الْبَائِعِ رِضًا مِنْهُ بِقَبُولِ الْمُشْتَرِي ، وَمَا يَنْبَنِي عَلَى قَبُولِ الْمُشْتَرِي يُحَالُ بِهِ عَلَى إيجَابِ الْبَائِعِ ، كَمَا لَوْ بَاعَ الْأَمَةَ الْمَنْكُوحَةَ مِنْ زَوْجِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ سَقَطَ جَمِيعُ الْمَهْرِ ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِ مَنْ لَهُ الْمَهْرُ ، وَهُوَ الْبَائِعُ فَأَمَّا فِي الْهِبَةِ ، وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ كِلَاهُمَا أَوْضَحُ ؛ لِأَنَّ قَبُولَ أَحَدِهِمَا فِي نَصِيبِهِ صَحِيحٌ بِدُونِ قَبُولِ الْآخَرِ ، وَلَكِنَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : هُمَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ أَيْضًا إلَّا أَنَّ فِي الْهِبَةِ ، وَالصَّدَقَةِ وَالْوَصِيَّةِ : قَبُولُ الشَّخْصِ الْوَاحِدِ فِي النِّصْفِ دُونَ النِّصْفِ صَحِيحٌ .
وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ مِنْ قَرِيبِهِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الشَّرِيكِ الْآخَرِ مَا يَكُونُ رِضًا مِنْهُ ، أَوْ مُعَاوَنَةً عَلَى السَّبَبِ وَبِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لِشَرِيكِهِ إنْ ضَرَبْته الْيَوْمَ سَوْطًا فَهُوَ حُرٌّ فَضَرَبَهُ سَوْطًا فَإِنَّ الْحَالِفَ يَضْمَنُ لِلضَّارِبِ إنْ كَانَ مُوسِرًا ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : مَوْضُوعُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الشَّرِيكَ قَالَ أَيْضًا إنْ لَمْ أَضْرِبْهُ الْيَوْمَ سَوْطًا فَهُوَ حُرٌّ فَإِقْدَامُهُ عَلَى الضَّرْبِ بَعْدَ هَذَا يَكُونُ لِدَفْعِ الْعِتْقِ عَنْ نَصِيبِهِ ، فَلَا يَصِيرُ بِهِ رَاضِيًا بِعِتْقِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ إنَّمَا يَعْتِقُ نَصِيبُ الشَّرِيكِ بِقَوْلِهِ هُوَ حُرٌّ ، وَذَلِكَ تَمَّ بِالْحَالِفِ مِنْ غَيْرِ رِضًا كَانَ مِنْ الضَّارِبِ فَأَمَّا الضَّرْبُ شَرْطٌ لِلْعِتْقِ ، وَالرِّضَا بِالشَّرْطِ لَا يَكُونُ رِضًا بِأَصْلِ السَّبَبِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ فَإِنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ بِالسَّبَبِ حِينَ شَارَكَهُ فِيهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ حُكْمِ الْفِرَارِ ،

فَإِنَّ الرِّضَا بِالشَّرْطِ مِنْ الْمَرْأَةِ كَالرِّضَا بِالسَّبَبِ فِي إسْقَاطِ حَقِّهَا عَنْ الْمِيرَاثِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مِلْكَ لَهَا قَبْلَ مَوْتِ الزَّوْجِ فِي مَالِهِ .
وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْفِرَارِ دَفْعًا لِقَصْدِ الزَّوْجِ الْإِضْرَارَ بِهَا ، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ بِالرِّضَا بِالشَّرْطِ كَمَا يَنْعَدِمُ بِالرِّضَا مِنْ السَّبَبِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ ، وَلَمْ يُفَصِّلْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الشَّرِيكُ عَالِمًا بِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ مَعَهُ قَرِيبُ الْعَبْدِ ، أَوْ لَا يَكُونَ عَالِمًا ، وَهَكَذَا رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الرِّضَا يَتَحَقَّقُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ فَهُوَ كَمَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ : كُلْ هَذَا الطَّعَامَ ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ طَعَامُهُ فَأَكَلَهُ الْمُخَاطَبُ فَلَيْسَ لِلْآذِنِ أَنْ يُضَمِّنَهُ شَيْئًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِشَرِيكِهِ : أَعْتِقْ هَذَا الْعَبْدَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا ، وَقَدْ رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ رِضَاهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا كَانَ عَالِمًا ، فَأَمَّا إذَا كَانَ لَا يَعْلَمُ بِذَلِكَ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّ نَصِيبَهُ بِالْعَيْبِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ رِضَاهُ ، وَقَبُولُهُ حِينَ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِأَنَّ شَرِيكَهُ مُعْتِقٌ ، وَبِدُونِ تَمَامِ الْقَبُولِ لَا يَعْتِقُ نَصِيبُ الشَّرِيكِ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْعَيْبِ فِي نَصِيبِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ .
وَاسْتَشْهَدَ فِي الْكِتَابِ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِمَا لَوْ أَعْتَقَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ لَا يَسْقُطُ حَقُّ الشَّرِيكِ فِي التَّضْمِينِ بِالْإِذْنِ ، وَهَذَا صَحِيحٌ عَلَى أَصْلِهِ لِأَنَّ ضَمَانَ الْعِتْقِ عِنْدَهُ ضَمَانُ التَّمَلُّكِ فَإِنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَجَزَّأُ عَلَى قَوْلِهِ ، وَضَمَانُ التَّمَلُّكِ لَا يَسْقُطُ بِالْإِذْنِ ، كَمَا لَوْ اسْتَوْلَدَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ الْجَارِيَةَ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ ، وَجْهُ ظَاهِرِ

الرِّوَايَةِ أَنَّ هَذَا الضَّمَانَ سَبَبُهُ الْإِفْسَادُ ، وَالْإِتْلَافُ فَسَقَطَ بِالْإِذْنِ كَضَمَانِ الْإِتْلَافِ الْحَقِيقِيِّ بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ هَذَا الضَّمَانَ يَسْقُطُ بِالْإِعْسَارِ ، وَبِخِلَافِ ضَمَانِ الْإِتْلَافِ الْحَقِيقِيِّ فَأَمَّا إذَا ، وَرِثَ مَعَ قَرِيبِهِ غَيْرَهُ عَتَقَ نَصِيبُهُ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِشَرِيكِهِ ؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ قَبُولِهِ ، وَالضَّمَانُ لَا يَجِبُ إلَّا بِاعْتِبَارِ الصُّنْعِ مِنْ جِهَتِهِ ، وَلِهَذَا لَوْ وَرِثَ قَرِيبَهُ لَمْ يُجْزِ عَنْ كَفَّارَتِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَوْلَدَ جَارِيَةً بِالنِّكَاحِ ، ثُمَّ وَرِثَهَا مَعَ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمُسْتَوْلِدَ يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا نَصِيبَ شَرِيكِهِ ، وَضَمَانُ التَّمَلُّكِ لَا يَعْتَمِدُ الصُّنْعَ ، وَلِهَذَا لَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ ، وَالْإِعْسَارِ هُنَاكَ وَلَوْ مَلَكَ مَحْرَمًا لَهُ بِرَضَاعٍ ، أَوْ مُصَاهَرَةٍ لَمْ يَعْتِقْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُمَا ، وَالْعِتْقُ صِلَةٌ تُسْتَحَقُّ بِالْقَرَابَةِ ، وَالرَّضَاعُ إنَّمَا جُعِلَ كَالنَّسَبِ فِي الْحُرْمَةِ خَاصَّةً ، وَلِهَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ ، وَالنَّفَقَةِ ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ الْعِتْقُ عَلَيْهِ إذَا مَلَكَهُ كَالْوَثَنِيَّةِ ، وَالْمَجُوسِيَّةِ ، وَكَذَلِكَ إنْ مَلَكَ ذَا رَحِمٍ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْقَرَابَةِ لَا يُفْتَرَضُ وَصْلُهَا ، وَلِهَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا حُرْمَةُ الْمُنَاكَحَةِ ، وَحُرْمَةُ الْجَمْعِ فِي النِّكَاحِ ، وَلَوْ مَلَكَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ صَاحِبَهُ لَمْ يَعْتِقْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ ؛ وَلِأَنَّ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الزَّوْجِيَّةِ يَرْتَفِعُ بِالْمِلْكِ ، وَإِذَا اشْتَرَى أَمَةً ، وَهِيَ حُبْلَى مِنْ أَبِيهِ عَتَقَ مَا فِي بَطْنِهَا ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ أَخَاهُ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْأَمَةَ حَتَّى تَضَعَ ؛ لِأَنَّ فِي بَطْنِهَا وَلَدًا حُرًّا كَمَا لَوْ أَعْتَقَ مَا فِي بَطْنِ أَمَتِهِ ، وَهَذَا الْوَلَدُ يَصِيرُ مُسْتَثْنَى بِالْعِتْقِ ، وَلَوْ اسْتَثْنَاهُ شَرْطًا فِي الْبَيْعِ بَطَلَ الْبَيْعُ

فَكَذَلِكَ إذَا صَارَ مُسْتَثْنَى بِالْعِتْقِ ، وَلَهُ أَنْ يَبِيعَهَا بَعْدَ الْوَضْعِ ؛ لِأَنَّ الْأَمَةَ مَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لِلِابْنِ فَإِنَّ الْمُسْتَوْلِدَ أَبُوهُ ، وَلَا يَصِيرُ الْأَبُ مُتَمَلِّكًا لَهَا عَلَى الِابْنِ ؛ لِأَنَّهَا مَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِلِابْنِ حِينَ عَلِقَتْ مِنْ الْأَبِ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهَا وَاَللَّهُ سُبْحَانه ، وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .

بَابٌ لِوُجُوهٍ مِنْ الْعِتْقِ ( قَالَ ) : رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ذُكِرَ عَنْ أَبِي قِلَابَةَ { أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ فَأَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُلُثَهُ ، وَاسْتَسْعَاهُ فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ } ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ : أَنَّ الْعِتْقَ فِي الْمَرَضِ يَكُونُ وَصِيَّةً وَأَنَّهُ يَنْفُذُ مِنْ ثُلُثِهِ وَأَنَّ مُعْتَقَ الْبَعْضِ يُسْتَسْعَى فِيمَا بَقِيَ مِنْ قِيمَتِهِ ، فَيَكُونُ دَلِيلًا لَنَا عَلَى الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرَى السِّعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ بِحَالٍ ، وَلَكِنَّهُ يَقُولُ يُسْتَدَامُ الرِّقُّ فِيمَا بَقِيَ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي مَسْأَلَةٍ تَجْزِيءِ الْعِتْقِ ، وَذُكِرَ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ { : أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ سِتَّةَ أَعْبُدٍ لَهُ عِنْدَ مَوْتِهِ فَأَقْرَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ فَأَعْتَقَ اثْنَيْنِ ، وَرَدَّ أَرْبَعَةً فِي الرِّقِّ } وَبِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ يَحْتَجُّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا فَإِنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَنَا أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ سِتَّةَ أَعْبُدٍ لَهُ فِي مَرَضِهِ ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُمْ ، وَقِيمَتُهُمْ سَوَاءٌ يُعْتَقُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثُهُ ، وَيَسْعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُجَزِّئُهُمْ الْقَاضِي ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ ، ثُمَّ يُقْرِعُ بَيْنَهُمْ فَيُعْتِقُ اثْنَيْنِ بِالْقُرْعَةِ ، وَيَرُدُّ أَرْبَعَةً فِي الرِّقِّ ، وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ ، وَرَجَّحَ مَذْهَبَهُ بِأَنَّ فِيهِ اعْتِبَارَ النَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَعْتَقَ مِنْ كُلِّ ، وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثَهُ تَعَجَّلَ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ ، وَتَأَخَّرَ اتِّصَالُ حَقِّ الْوَرَثَةِ إلَيْهِمْ ، بَلْ فِي هَذَا إبْطَالُ حَقِّ الْوَرَثَةِ مَعْنًى ؛ لِأَنَّ السِّعَايَةَ فِي مَعْنَى التَّاوِي فَإِنَّ الْمَالَ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ يَكُونُ تَاوِيًا فَإِذَا تَعَذَّرَ تَنْفِيذُ الْوَصِيَّةِ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَجَبَ جَمِيعُ الْعِتْقِ فِي شَخْصَيْنِ وَتَعْيِينُ الْمُسْتَحِقِّ

بِالْقُرْعَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ ، وَكَانَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } ، وَقَالَ : { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ } { ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ } ، وَالْقَاضِي إذَا قَسَّمَ الْمَالَ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى الْقِمَارِ ؛ لِأَنَّ فِي الْقِمَارِ تَعْلِيقُ أَصْلِ الِاسْتِحْقَاقِ بِخُرُوجِ الْقَدَحِ وَفِي هَذَا تَعْيِينُ الْمُسْتَحِقِّ فَأَمَّا أَصْلُ الِاسْتِحْقَاقِ ثَابِتٌ بِإِيجَابِ الْمُعْتِقِ .
( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعَبِيدَ اسْتَوَوْا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْمُسَاوَاةِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ فَلَا يَجُوزُ إعْطَاءُ الْبَعْضِ ، وَحِرْمَانُ الْبَعْضِ كَمَا لَوْ أَوْصَى بِرِقَابِهِمْ لِغَيْرِهِمْ لِكُلِّ رَجُلٍ بِرَقَبَةٍ بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْوَصِيَّةِ يَحْتَمِلُ الرُّجُوعَ مِنْ الْمُوصِي وَالرَّدَّ مِنْ الْمُوصَى لَهُ ، وَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ لَا تَحْتَمِلُ ذَلِكَ ، فَإِذَا لَمْ يَجُزْ حِرْمَانُ الْبَعْضِ هُنَاكَ فَهُنَا أَوْلَى ، ثُمَّ فِيمَا قَالَهُ الْخَصْمُ ضَرَرُ الْإِبْطَالِ فِي حَقِّ بَعْضِ الْمُوصَى لَهُمْ وَفِيمَا قُلْنَا ضَرَرُ التَّأْخِيرِ فِي حَقِّ الْوَرَثَةِ ، وَضَرَرُ التَّأْخِيرِ مَتَى قُوبِلَ بِضَرَرِ الْإِبْطَالِ كَانَ ضَرَرُ التَّأْخِيرِ أَهْوَنَ ، وَإِذَا لَمْ نَجِدْ بُدًّا مِنْ نَوْعِ ضَرَرٍ رَجَّحْنَا أَهْوَنَ الضَّرَرَيْنِ عَلَى أَعْظَمِهِمَا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا تَعْجِيلُ حَقِّ الْمُوصَى لَهُ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْمُسْتَسْعَى مُكَاتَبٌ فَلَا يَعْتِقُ شَيْءٌ مِنْهُمْ مَا لَمْ يَصِلْ إلَى الْوَرَثَةِ السِّعَايَةُ .
وَعَلَى قَوْلِهِمَا ،

وَإِنْ تَعَجَّلَ الْعِتْقَ لِلْعَبِيدِ ، وَذَلِكَ لَيْسَ بِصُنْعٍ مِنَّا بَلْ بِإِعْتَاقِ الْمُوصِي ، وَلُزُومِ تَصَرُّفِهِ شَرْعًا ، وَلَوْ أَبْطَلْنَا حَقَّ بَعْضِ الْعَبِيدِ كَانَ ذَلِكَ بِإِيجَابٍ مِنَّا ، ثُمَّ كَلَامُهُ يُشْكَلُ بِمَا لَوْ كَانَ مَالُهُ دَيْنًا عَلَى مُفْلِسٍ فَأَوْصَى بِهِ لَهُ ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ نَصِيبُهُ ، وَالْبَاقِي دَيْنٌ عَلَيْهِ إلَى أَنْ يَقْدِرَ عَلَى أَدَائِهِ ، وَلَا وَجْهَ لِتَعْيِينِ الْمُسْتَحِقِّ بِالْقُرْعَةِ ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ الْمُسْتَحِقِّ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الِاسْتِحْقَاقِ ، فَإِنَّ الِاسْتِحْقَاقَ فِي الْمَجْهُولِ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ كَأَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ فَكَمَا أَنَّ تَعْلِيقَ ابْتِدَاءِ الِاسْتِحْقَاقِ بِخُرُوجِ الْقُرْعَةِ يَكُونُ قِمَارًا فَكَذَلِكَ تَعْيِينُ الْمُسْتَحِقِّ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُ الْقُرْعَةِ عِنْدَنَا فِيمَا يَجُوزُ الْفِعْلُ فِيهِ بِغَيْرِ الْقُرْعَةِ كَمَا فِي الْقِسْمَةِ .
فَإِنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يُعَيِّنَ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ فَإِنَّمَا يُقْرِعُ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ ، وَنَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمَيْلِ عَنْ نَفْسِهِ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ كَانَ يُقْرِعُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ نِسَائِهِ إذَا أَرَادَ سَفَرًا ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِمَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ إذْ لَا حَقَّ لِلْمَرْأَةِ فِي الْقَسَمِ فِي حَالِ سَفَرِ الزَّوْجِ ، وَكَذَلِكَ يُونُسُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَرَفَ أَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ ، وَكَانَ لَهُ أَنْ يُلْقِيَ نَفْسَهُ فِي الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ إقْرَاعٍ ، وَلَكِنَّهُ أَقْرَعَ كَيْ لَا يُنْسَبَ إلَى مَا لَا يَلِيقُ بِالْأَنْبِيَاءِ ، وَكَذَلِكَ زَكَرِيَّا عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَحَقَّ بِضَمِّ مَرْيَمَ إلَى نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ خَالَتَهَا كَانَتْ تَحْتَهُ وَلَكِنَّهُ أَقْرَعَ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِ الْأَحْبَارِ ، مَعَ أَنَّ تِلْكَ كَانَتْ مُعْجِزَةً لَهُ فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَقْلَامَهُمْ كَانَتْ مِنْ الْحَدِيدِ ، وَكَانَ الشَّرْطُ أَنَّ مَنْ طَفَا قَلَمُهُ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا ، وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْقَصَبِ ، وَكَانَ الشَّرْطُ أَنَّ مَنْ

اسْتَقْبَلَ قَلَمُهُ جَرْيَ الْمَاءِ ، وَلَمْ يَجْرِ مَعَ الْمَاءِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا بَقِيَ اعْتِمَادُهُمْ عَلَى الْحَدِيثِ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : هَذَا الْحَدِيثُ غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ لَهُ سِتَّةُ أَعْبُدٍ قِيمَتُهُمْ سَوَاءٌ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَعَهُمْ شَيْءٌ آخَرُ ، وَهَذَا مِنْ أَنْدَرِ مَا يَكُونُ .
وَلَوْ ثَبَتَ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ الرَّجُلَ أَوْصَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَعْتِقَهُمْ ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : فَأَعْتِقْ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ ، وَكَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَعْتِقَ أَيَّ الِاثْنَيْنِ شَاءَ مِنْهُمْ فَأَقْرَعَ تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ ، وَذَكَرَ الْجَصَّاصُ : أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ : فَأَعْتِقْ اثْنَيْنِ أَيْ قَدْرَ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ ، وَبِهِ نَقُولُ ، فَإِنَّا إذَا أَعْتَقْنَا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ثُلُثِهِ فَقَدْ أَعْتَقْنَا قَدْرَ اثْنَيْنِ مِنْهُمْ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ فَأَقْرَعَ أَيْ دَقَّقَ النَّظَرَ يُقَالُ : فُلَانٌ قَرِيعُ دَهْرِهِ أَيْ دَقِيقُ النَّظَرِ فِي الْأُمُورِ وَدَقَّقَ الْحِسَابَ بِأَنْ جَعَلَ قَدْرَ الرَّقَبَتَيْنِ بَيْنَهُمْ أَسْدَاسًا ، هَذَا تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ إنْ صَحَّ ، وَعَنْ إسْمَاعِيل بْنِ خَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي رَجُلٍ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ قَالَ عَامِرٌ : قَالَ مَسْرُوقٌ هُوَ حُرٌّ كُلُّهُ جَعَلَهُ لِلَّهِ لَا أَرُدُّهُ ، وَقَالَ شُرَيْحٌ يَعْتِقُ ثُلُثُهُ ، وَيَسْعَى فِي الثُّلُثَيْنِ فَقُلْت لِعَامِرٍ أَيُّ الْقَوْلَيْنِ أَحَبُّ إلَيْك قَالَ : فُتْيَا مَسْرُوقٍ ، وَقَضَاءُ شُرَيْحٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - وَفِي هَذَا إشَارَةٌ أَنَّ الْعِتْقَ يَتَجَزَّأُ فِي الْحُكْمِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَأَنَّهُ يَجِبُ إتْمَامُهُ ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِدَامَةُ الرِّقِّ فِيمَا بَقِيَ مِنْهُ كَمَا هُوَ فَتْوَى مَسْرُوقٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ رَجُلًا أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ عِنْدَ الْمَوْتِ

وَعَلَيْهِ دَيْنٌ قَالَ يَسْعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَتِهِ ، وَعَنْ أَبِي يَحْيَى الْأَعْرَجِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْعَى الْعَبْدُ فِي الدَّيْنِ } ، وَالْمُرَادُ إذَا كَانَ الدَّيْنُ بِقَدْرِ قِيمَتِهِ ، وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَحْوُهُ ، فَإِنَّهُ قَالَ : تَسْعَى الْأَمَةُ فِي ثَمَنِهَا يَعْنِي فِي قِيمَتِهَا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ ، وَالْعِتْقُ فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةٌ فَوَجَبَ رَدُّهُ لِقِيَامِ الدَّيْنِ ، وَلَكِنَّ الْعِتْقَ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ ، وَالرِّقُّ بَعْدَ سُقُوطِهِ لَا يَحْتَمِلُ الْعَوْدَ فَكَانَ الرَّدُّ بِإِيجَابِ السِّعَايَةِ عَلَيْهِ .
وَعَنْ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : إذَا كَانَ وَصِيَّةٌ ، وَعِتْقٌ بُدِئَ بِالْعِتْقِ ، وَهَكَذَا عَنْ شُرَيْحٍ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ أَقْوَى سَبَبًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُ بِنَفْسِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ الرَّدَّ وَالرُّجُوعَ عَنْهُ ، وَالتَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ السَّبَبِ أَصْلٌ ، وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ نَصْرَانِيًّا يُدْعَى بُجَيْسُ ، وَقَالَ : لَوْ كُنْت عَلَى دِينِنَا لَاسْتَعَنَّا بِك عَلَى بَعْضِ أَعْمَالِنَا ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إعْتَاقَ النَّصْرَانِيِّ قُرْبَةٌ ، وَأَنَّهُمْ لَا يُؤْتَمَنُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُمْ لَا يُؤَدُّونَ الْأَمَانَةَ فِي ذَلِكَ وَقَدْ أَنْكَرَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ عَلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ فَإِنَّهُ قَالَ لَهُ : مُرْ كَاتِبَك لِيَكْتُبَ لَنَا كَذَا قَالَ : إنَّ كَاتِبِي لَا يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ قَالَ أَجُنُبٌ هُوَ قَالَ لَا ، وَلَكِنَّهُ نَصْرَانِيٌّ فَقَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ ، أَمَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ { : لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا } .
وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ نَصْرَانِيًّا فَمَاتَ الْعَبْدُ فَجَعَلَ مِيرَاثَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَرِثُ الْكَافِرَ ،

وَإِنْ مَاتَ ، وَلَا وَارِثَ لَهُ فَحِصَّةُ مَالِهِ لِبَيْتِ الْمَالِ ، وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ أَمَةً فَجَرَتْ فَوَلَدَتْ مِنْ الزِّنَا فَأَعْتَقَهَا ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَأَعْتَقَ وَلَدَهَا ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِعِتْقِ وَلَدِ الزِّنَا ، وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّهُ أَوْصَى بِوَلَدِ الزِّنَا خَيْرًا ، وَأَوْصَى بِهِمْ أَنْ يُعْتَقُوا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ لَهُ مِنْ الْحُرْمَةِ مَا لِسَائِرِ بَنِي آدَمَ وَلَا ذَنْبَ لَهُمْ ، وَإِنَّمَا الذَّنْبُ لِآبَائِهِمْ كَمَا ذُكِرَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ تَتَأَوَّلُ فِي أَوْلَادِ الزِّنَا { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } وَذُكِرَ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَعَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا لَا يُجْزِئُ وَلَدُ الزِّنَا فِي النَّسَمَةِ الْوَاجِبَةِ ، وَكَأَنَّهُمَا تَأَوَّلَا فِي ذَلِكَ { قَوْلَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَدُ الزِّنَا شَرُّ الثَّلَاثَةِ } وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِقَوْلِهِمَا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِتَحْرِيرِ الرَّقَبَةِ ، وَأَكْثَرُ الْمَمَالِيكُ لَا تُعْرَفُ آبَاؤُهُمْ عَادَةً ، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ : شَرُّ الثَّلَاثَةِ نَسَبًا فَإِنَّهُ لَا نَسَبَ لَهُ أَوْ قَالَ ذَلِكَ فِي ، وَلَدِ زِنًا بِعَيْنِهِ نَشَأَ مَرِيدًا فَكَانَ أَخْبَثَ مِنْ أَبَوَيْهِ .

وَإِذْ قَالَ الرَّجُلُ لِأَمَتِهِ : أَمْرُك بِيَدِك يَعْنِي فِي الْعِتْقِ فَإِنْ أَعْتَقَتْ نَفْسَهَا فِي مَجْلِسِهَا عَتَقَتْ ، وَإِنْ قَامَتْ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ تَعْتِقَ نَفْسَهَا فَهِيَ أَمَةٌ ؛ لِأَنَّهُ مَلَّكَهَا أَمْرَهَا ، وَأَهَمُّ أُمُورِهَا الْعِتْقُ فَتَعْمَلُ نِيَّتُهُ فِي الْعِتْقِ ، وَجَوَابُ التَّمْلِيكِ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الطَّلَاقِ ، وَذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَنْوِ الطَّلَاقَ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فَكَذَلِكَ هُنَا إذَا لَمْ يَنْوِ الْعِتْقَ ، وَكَذَلِكَ إنْ جَعَلَ أَمْرَهَا فِي يَدِ غَيْرِهَا ، وَإِنْ قَالَ لَهَا أَعْتِقِي نَفْسَك فَقَالَتْ قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي كَانَ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّ كَلَامَهَا يَصْلُحُ جَوَابًا لِلتَّخْيِيرِ ، وَالْمَوْلَى مَا خَيَّرَهَا ، إنَّمَا مَلَّكَهَا أَمْرَهَا ، وَقَوْلُهَا اخْتَرْت نَفْسِي لَا يَصْلُحُ لِلتَّصَرُّفِ بِحُكْمِ الْمِلْكِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَوْلَى يَمْلِكُ إعْتَاقَهَا وَلَوْ قَالَ لَهَا اخْتَرْتُك مِنْ نَفْسِي ، أَوْ اخْتَرْتُ نَفْسِي مِنْك لَا تَعْتِقُ فَكَذَلِكَ قَوْلُهَا اخْتَرْت نَفْسِي ؛ وَلِأَنَّ قَوْلَهُ أَعْتِقِي نَفْسَك إقَامَةٌ مِنْهُ إيَّاهَا مَقَامَ نَفْسِهِ فِي إيقَاعِ الْعِتْقِ فَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْإِيقَاعَ بِاللَّفْظِ الَّذِي كَانَ الْمَوْلَى مَالِكًا لِلْإِيقَاعِ بِهِ وَلَوْ قَالَ لَهَا : أَنْتِ حُرَّةٌ إنْ شِئْت فَإِنْ قَالَتْ فِي مَجْلِسِهَا قَدْ شِئْت كَانَتْ حُرَّةً ، وَلَوْ قَامَتْ قَبْلَ أَنْ تَقُولَ شَيْئًا ، فَهِيَ أَمَةٌ ، وَالتَّفْوِيضُ إلَى مَشِيئَتِهَا بِمَنْزِلَةِ التَّمْلِيكِ مِنْهَا فَتَقْتَصِرُ عَلَى الْجَوَابِ فِي الْمَجْلِسِ ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ إنْ أَرَدْت ، أَوْ هَوَيْت ، أَوْ أَحْبَبْت ، أَوْ قَالَ أَنْتِ حُرَّةٌ إنْ كُنْت تُحِبِّينَنِي ، أَوْ تَبْغَضِينَنِي فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهَا مَا دَامَتْ فِي مَجْلِسِهَا كَمَا فِي الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ عَلَى مَا فِي قَلْبِهَا إلَّا بِإِخْبَارِهَا فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيقِ بِالْإِخْبَارِ بِذَلِكَ .
وَإِنْ قَالَتْ فِي ذَلِكَ لَسْت أُحِبُّك ثُمَّ قَالَتْ : أَنَا أُحِبُّك لَمْ تُصَدَّقْ لِلتَّنَاقُضِ ؛ وَلِأَنَّ شَرْطَ الْبِرِّ قَدْ تَمَّ

بِقَوْلِهَا الْأَوَّلِ فَلَمْ يَبْقَ لَهَا قَوْلٌ مَقْبُولٌ بَعْدَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : إنْ كُنْت تُحِبِّينَ الْعِتْقَ فَأَنْتِ حُرَّةٌ ، وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ حُرَّةٌ إذَا حِضْت كَانَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهَا اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا مِنْ جِهَتِهَا وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَقْتَصِرُ عَلَى مَجْلِسِهَا ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى الْإِخْبَارِ بِالْحَيْضِ عَلَى وَجْهٍ تَكُونُ صَادِقَةً فِيهِ إلَّا بَعْدَ رُؤْيَةِ الدَّمِ ، وَرُبَّمَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ فَمَتَى قَالَتْ حِضْت عَتَقَتْ ، وَلَوْ قَالَ : أَنْتِ حُرَّةٌ ، وَفُلَانَةُ إنْ شِئْت فَقَالَتْ قَدْ شِئْت نَفْسِي لَمْ تَعْتِقْ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ إنْ شِئْت لَيْسَ بِكَلَامٍ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ جَعْلِهِ بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ ، فَيَكُونُ مَعْنَاهُ إنْ شِئْت عِتْقَكُمَا فَلَا يَتِمُّ الشَّرْطُ بِمَشِيئَتِهَا عِتْقَ نَفْسِهَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِأَمَتَيْهِ : أَنْتُمَا حُرَّتَانِ إنْ شِئْتُمَا فَشَاءَتْ إحْدَاهُمَا فَهُوَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ إنْ شِئْتُمَا عِتْقَكُمَا فَلَا يَتِمُّ الشَّرْطُ بِمَشِيئَةِ إحْدَاهُمَا وَلَا بِمَشِيئَتِهِمَا عِتْقَ إحْدَاهُمَا ، وَلَوْ قَالَ : أَيَّتُكُمَا شَاءَتْ الْعِتْقَ فَهِيَ حُرَّةٌ فَشَاءَتَا جَمِيعًا عَتَقَتَا ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ أَيٍّ تَتَنَاوَلُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ فَإِنْ شَاءَتْ إحْدَاهُمَا عَتَقَتْ الَّتِي شَاءَتْ ؛ لِأَنَّ مَشِيئَةَ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِهَذَا اللَّفْظِ شَرْطُ عِتْقِهِمَا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ : أَيَّتُكُمَا شَاءَتْ ، وَلَمْ يَقُلْ شَاءَتَا جَمِيعًا عَتَقَتَا فَإِنْ قَالَ : أَرَدْت إحْدَاهُمَا لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ ، وَيُصَدَّقُ فِيمَا بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ فَإِنْ كَانَ نَوَى إحْدَاهُمَا بِعَيْنِهَا عَتَقَتْ هِيَ ، وَإِنْ نَوَى إحْدَاهُمَا لَا بِعَيْنِهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ إحْدَاهُمَا فَيُعْتِقَهَا ، وَيُمْسِكَ الْأُخْرَى بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَعْتَقَ إحْدَاهُمَا لَا بِعَيْنِهَا .
وَلَوْ قَالَ : كُلُّ مَمْلُوكٍ

لِي فَهُوَ حُرٌّ ، وَلَهُ عَبِيدٌ ، وَأُمَّهَاتُ أَوْلَادٍ وَمُدَبَّرُونَ ، وَمُكَاتَبُونَ عَتَقُوا جَمِيعًا إلَّا الْمُكَاتَبِينَ فَإِنَّهُمْ لَا يَعْتِقُونَ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُمْ ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلٍّ تُوجِبُ التَّعْمِيمَ ، وَقَدْ أَوْجَبَ الْعِتْقَ لِكُلِّ مَمْلُوكٍ مُضَافٍ إلَيْهِ بِالْمِلْكِيَّةِ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِ لِي ، وَهَذَا يَتَحَقَّقُ فِي الْعَبِيدِ ، وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَالْمُدَبَّرِينَ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهُمْ رِقًّا ، وَيَدًا حَتَّى يَمْلِكَ اسْتِغْلَالَهُمْ وَاسْتِكْسَابَهُمْ ، وَهَذَا غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْمُكَاتَبِينَ ؛ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُمْ رِقًّا لَا يَدًا بَلْ الْمُكَاتَبُ كَالْحُرِّ يَدًا حَتَّى كَانَ أَحَقَّ بِمَكَاسِبِهِ ، وَلَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى إكْسَابَهُ ، وَالثَّابِتُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ لَا يَكُونُ ثَابِتًا مُطْلَقًا فَلِهَذَا لَا يَدْخُلُونَ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُمْ ، فَإِنْ نَوَاهُمْ فَنَقُولُ : الْمَنْوِيُّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ كَلَامِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُضِيفُ إلَى نَفْسِهِ مَا يَكُونُ مُضَافًا إلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ، وَإِنْ قَالَ : أَرَدْت الرِّجَالَ دُونَ النِّسَاءِ دِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَمْ يَدِنْ فِي الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ فِي اللَّفْظِ الْعَامِّ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ نَوَيْت السُّودَ مِنْهُمْ دُونَ الْبِيضِ فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ ، وَلَا فِيمَا بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ نَوَى التَّخْصِيصَ بِوَصْفٍ لَيْسَ فِي لَفْظِهِ ، وَلَا عُمُومَ لِمَا لَا لَفْظَ لَهُ ، فَلَا تَعْمَلُ فِيهِ نِيَّةُ التَّخْصِيصِ وَهُنَا نَوَى التَّخْصِيصَ فِيمَا فِي لَفْظِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ حَقِيقَةٌ لِلذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ ، فَإِنَّ الْأُنْثَى يُقَالُ لَهَا : مَمْلُوكَةٌ وَلَكِنْ عِنْدَ الِاخْتِلَاطِ يُسْتَعْمَلُ عَلَيْهِمْ لَفْظُ التَّذْكِيرِ عَادَةً فَإِذَا نَوَى الذَّكَرَ فَقَدْ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ ، وَلَكِنَّهُ خِلَافُ الْمُسْتَعْمَلِ ، فَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَا يَدِينُ فِي الْقَضَاءِ ، وَلِهَذَا قِيلُ : لَوْ قَالَ : نَوَيْت النِّسَاءَ دُونَ الرِّجَالِ كَانَتْ

نِيَّتُهُ لَغْوًا .
( قَالَ ) : وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَمْ أَنْوِ الْمُدَبَّرِينَ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ ، وَفِي كِتَابِ الْأَيْمَانِ يَقُولُ : إذَا قَالَ لَمْ أَنْوِ الْمُدَبَّرِينَ لَمْ يَدِنْ فِيمَا بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَا فِي الْقَضَاءِ ، فَفِيهِ رِوَايَتَانِ وَجْهُ تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ نَوَى التَّخْصِيصَ بِمَا لَيْسَ فِي لَفْظِهِ ؛ لِأَنَّ التَّدْبِيرَ ، وَإِنْ كَانَ يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْعِتْقِ فَلَا يُوجِبُ نُقْصَانًا فِي إضَافَتِهِ إلَيْهِ بِالْمِلْكِيَّةِ ، وَالْيَدِ ، وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ إضَافَتَهُ إلَى الْمَوْلَى بِرِقِّهِ ، وَالتَّدْبِيرُ يُمَكِّنُ نُقْصَانًا فِي الرِّقِّ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعِتْقِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ نُقْصَانٍ فِي رَقِّهِ ، وَلِهَذَا قِيلُ : الْمُدَبَّرُ مِنْ ، وَجْهٍ كَالْحُرِّ حَتَّى لَا يَحْتَمِلَ الْبَيْعَ فَكَانَ هُوَ كَالْمُكَاتَبِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ غَيْرُ مُضَافٍ إلَى الْمَوْلَى بِمُطْلَقِ الْمِلْكِ ، وَالرِّقِّ إلَّا أَنَّ النُّقْصَانَ هُنَا فِي الْإِضَافَةِ بِمَعْنًى خَفِيٍّ فَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى دُونَ الْقَضَاءِ ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْ الْكَلَامِ بِدُونِ النِّيَّةِ .
وَفِي الْمُكَاتَبِ النُّقْصَانُ بِسَبَبِ ظَاهِرٍ ، وَهُوَ مِلْكُ الْيَدِ لَهُ فِي مَكَاسِبِهِ فَلَا يَدْخُلُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ ، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ إنْشَاءُ الْعِتْقَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عِتْقَ الْمُدَبَّرِ مِنْ وَجْهِ تَعْجِيلٍ لِمَا اسْتَحَقَّهُ مُؤَجَّلًا فَلَا يَكُونُ إنْشَاءً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَإِذَا قَالَ لَمْ أَنْوِ الْمُدَبَّرِينَ فَقَدْ بَيَّنَ أَنَّهُ نَوَى مَا يَكُونُ إنْشَاءً مِنْ كُلِّ ، وَجْهٍ خَاصَّةً ، وَذَلِكَ أَمْرٌ فِي ضَمِيرِهِ خَاصَّةً فَيَدِينُ فِيمَا بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَوْ قَالَ لِعَبِيدِهِ أَنْتُمْ أَحْرَارٌ إلَّا فُلَانًا كَانَ كَمَا قَالَ ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الْمُقَيَّدِ بِالِاسْتِثْنَاءِ يَكُونُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الِاسْتِثْنَاءِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : لِعَبْدَيْنِ أَنْتُمَا حُرَّانِ إلَّا سَالِمًا ، وَهُوَ اسْمُ أَحَدِهِمَا كَانَ سَالِمٌ

عَبْدًا ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ عِبَارَةٌ عَمَّا ، وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى وَقَدْ بَقِيَ سِوَى الْمُسْتَثْنَى عَبْدٌ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ كَلَامُهُ عِبَارَةٌ عَنْهُ ، وَلَوْ قَالَ : سَالِمٌ حُرٌّ ، وَمَرْزُوقٌ حُرٌّ إلَّا سَالِمًا عَتَقَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ تَكَلَّمَ بِكَلَامَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ بِمَا ذُكِرَ لَهُ مِنْ الْخَبَرِ فَكَانَ قَوْلُهُ إلَّا سَالِمًا اسْتِثْنَاءً لِجَمِيعِ مَا تَنَاوَلَهُ أَحَدُ كَلَامَيْهِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ تَعْطِيلٌ ، وَالِاسْتِثْنَاءُ لِلتَّحْصِيلِ ، وَالْبَيَانِ ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا كَانَ يَبْقَى سِوَى الْمُسْتَثْنَى شَيْءٌ يَتَنَاوَلُهُ ذَلِكَ الْكَلَامُ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ سَالِمٌ ، وَمَرْزُوقٌ حُرَّانِ إلَّا سَالِمًا فَإِنَّ الِاسْتِثْنَاءَ صَحِيحٌ هُنَا ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ وَاحِدٌ هُنَا مَعْنًى حِينَ أَخَّرَ ذِكْرَ الْخَبَرِ حَتَّى عَطَفَ إحْدَاهُمَا عَلَى الْآخَرِ ، وَذَكَرَ مَا يَصْلُحُ خَبَرًا لِلْمُسْتَثْنَى فَعَرَفْنَا بِهِ أَنَّ كَلَامَهُ وَاحِدٌ مَعْنًى فَكَأَنَّهُ قَالَ هُمَا حُرَّانِ إلَّا سَالِمًا فَإِنْ قَالَ كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ أَبَدًا فَهُوَ حُرٌّ فَهَذَا اللَّفْظُ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَا يَمْلِكُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : أَبَدًا وَلَيْسَ لِلْأَبَدِ نِهَايَةٌ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَفِي الْعُرْفِ هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إلَى مَوْتِهِ ، وَمِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْعِتْقَ يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ إلَى الْمِلْكِ كَالطَّلَاقِ فَبِأَيِّ سَبَبٍ يَمْلِكُ الْمَمْلُوكَ مِنْ شِرَاءٍ ، أَوْ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَعْتِقُ ؛ لِأَنَّ الْمُضَافَ إلَى وَقْتٍ أَوْ الْمُعَلَّقَ بِشَرْطٍ عِنْدَ ، وُجُودِهِ كَالْمُنْجِزِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ إلَى ثَلَاثِينَ سَنَةً وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : كُلُّ مَمْلُوكٍ أَشْتَرِيه فَهُوَ حُرٌّ ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ سَبَبٌ لِلْمِلْكِ ، وَإِقَامَةُ السَّبَبِ مَقَامَ الْحُكْمِ صَحِيحٌ فَإِنْ أَمَرَ غَيْرَهُ فَاشْتَرِي مَمْلُوكًا لَمْ يَعْتِقْ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الشَّرْطَ شِرَاءً بِنَفْسِهِ ، وَلَمْ يُوجَدْ فَإِنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ إنَّمَا

تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ ، وَالْعَاقِدُ يَسْتَغْنِي عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْآمِرِ بِخِلَافِ النِّكَاحِ ، وَإِنْ كَانَ نَوَى أَنْ لَا يَشْتَرِيَ هُوَ ، وَلَا غَيْرُهُ عَتَقَ ؛ لِأَنَّهُ شَدَّدَ الْأَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ بِلَفْظٍ يَحْتَمِلُهُ فَإِنَّهُ نَوَى الْحُكْمَ ، وَهُوَ الْمِلْكَ بِمَا ذَكَرَ مِنْ سَبَبِهِ ، وَهُوَ الشِّرَاءُ قَالُوا : وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الرَّجُلُ مِمَّنْ يُبَاشِرُ الْعَقْدَ بِنَفْسِهِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْحَالِفُ مِمَّنْ لَا يُبَاشِرُ الشِّرَاءَ بِنَفْسِهِ عَادَةً فَأَمَرَ غَيْرَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ عَتَقَ ؛ لِأَنَّهُ بِالْيَمِينِ مَنَعَ نَفْسَهُ عَمَّا يُبَاشِرُهُ عَادَةً ، فَإِذَا كَانَ عَادَتُهُ الشِّرَاءُ بِهَذَا الطَّرِيقِ يَنْصَرِفُ يَمِينُهُ إلَيْهِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ ، وَإِنْ قَالَ : كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ يَوْمَ أُكَلِّمُ فُلَانًا ، وَلَيْسَ لَهُ مَمْلُوكٌ ثُمَّ اشْتَرَى مَمْلُوكًا ثُمَّ كَلَّمَهُ لَمْ يَعْتِقْ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَمْلِكُهُ ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا فِي الِاسْتِقْبَالِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْحَالُ فِي الِاسْتِعْمَالِ يُقَالُ : فُلَانٌ يَمْلِكُ كَذَا ، وَأَنَا أَمْلِكُ كَذَا يَعْنِي فِي الْحَالِ فَمَا لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لَهُ فِي الْحَالِ لَا يَتَنَاوَلُهُ كَلَامُهُ ؛ لِأَنَّ الْمُضَافَ إلَى وَقْتٍ ، وَالْمُعَلَّقَ بِالشَّرْطِ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْمُنَجَّزُ فَإِذَا كَانَ الْعِتْقُ الْمُنَجِّزُ بِهَذَا اللَّفْظِ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا مَا يَمْلِكُهُ فِي الْحَالِ فَكَذَا الْمُضَافُ إلَى وَقْتٍ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ ؛ لِأَنَّ الْإِضَافَةَ هُنَا فِي الْمِلْكِ لَا فِي الْحُرِّيَّةِ فَلِهَذَا يَتَنَاوَلُ مَا يَمْلِكُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ .
وَإِنْ كَانَ قَالَ يَوْمَ أُكَلِّمُ فُلَانًا فَكُلُّ مَمْلُوكٍ لِي يَوْمئِذٍ حُرٌّ عَتَقُوا ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ الْعِتْقَ لِمَا يَكُونُ فِي مِلْكِهِ وَقْتَ الْكَلَامِ ، وَمَا كَانَ مَوْجُودًا فِي مِلْكِهِ ، وَقْتَ الْيَمِينِ ، وَمَا اسْتَحْدَثَ الْمِلْكُ فِيهِ مَوْصُوفٌ ؛ بِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُ وَقْتَ الْكَلَامِ فَيَعْتِقُونَ جَمِيعًا ، وَإِنْ قَالَ : يَوْمَ أُكَلِّمُهُ فَكُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ أَبَدًا فَهُوَ حُرٌّ ثُمَّ اشْتَرَى

مَمْلُوكًا ثُمَّ كَلَّمَهُ لَمْ يَعْتِقْ ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنْجَزِ ، وَقَوْلُهُ : يَوْمَ أُكَلِّمُ فُلَانًا شَرْطٌ ، وَقَوْلُهُ : كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ أَبَدًا حُرٌّ فَيَصِيرُ عِنْدَ وُجُودِ الْكَلَامِ كَأَنَّهُ قَالَ : كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ أَبَدًا ، وَهَذَا اللَّفْظُ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَا يَمْلِكُهُ بَعْدَ الْكَلَامِ دُونَ مَا كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ قَبْلَ الْكَلَامِ وَالْمُشْتَرَى قَبْلَ الْكَلَامِ مَمْلُوكٌ لَهُ وَقْتَ الْكَلَامِ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ إيجَابُهُ ، وَإِنْ قَالَ : كُلُّ مَمْلُوكٍ أَمْلِكُهُ حُرٌّ يَوْمَ أُكَلِّمُ فُلَانًا ، وَهُوَ يُرِيدُ مَا يَمْلِكُهُ فِيمَا يَسْتَقْبِلُ فَاشْتَرَى مَمْلُوكًا ثُمَّ كَلَّمَهُ عَتَقَ ؛ لِأَنَّهُ نَوَى حَقِيقَةَ كَلَامِهِ فَإِنَّ حَقِيقَةَ قَوْلِهِ أَمْلِكُهُ لِلِاسْتِقْبَالِ ، وَلَكِنْ يَعْتِقُ فِي الْقَضَاءِ مَنْ كَانَ فِي مِلْكِهِ يَوْمَ حَلَفَ ؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ لَفْظِهِ يَتَنَاوَلُ الْمَمْلُوكَ لَهُ فِي الْحَالِ لِغَلَبَةِ الِاسْتِعْمَالِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي صَرْفِ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ ، وَذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ يُصَدَّقُ ؛ لِأَنَّ مَا نَوَى مِنْ حَقِيقَةِ كَلَامِهِ مُسْتَعْمَلٌ أَيْضًا ، وَإِنَّمَا لَا يُصَدَّقُ فِي صَرْفِ الْكَلَامِ عَنْ ظَاهِرِهِ إذَا كَانَ الْمَنْوِيُّ خِلَافَ الْمُسْتَعْمَلِ وَإِنْ قَالَ : كُلُّ مَمْلُوكٍ لِي حُرٌّ ، وَلَهُ عَبْدٌ بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ آخَرَ لَمْ يَعْتِقْ ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ الْعِتْقَ لِمَمْلُوكٍ مُضَافٍ إلَيْهِ بِالْمِلْكِ مُطْلَقًا ، وَالْمَمْلُوكُ اسْمٌ لِلْعَبْدِ ، وَهُوَ الْمُضَافُ إلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ ، وَإِلَى شَرِيكِهِ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ مُطْلَقُ كَلَامِهِ ، فَإِنْ نَوَاهُ عَتَقَ اسْتِحْسَانًا ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَعْتِقُ ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ مِنْ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ لَا يُسَمَّى عَبْدًا ، وَلَا مَمْلُوكًا فَقَدْ نَوَى خِلَافَ الْمَلْفُوظِ ، وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ يَقُولُ جُزْءٌ مِنْ الْعَبْدِ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ كَالْكُلِّ ، وَلِهَذَا صَحَّ إضَافَةُ التَّصَرُّفَاتِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْمِلْكِ إلَى الْجُزْءِ الشَّائِعِ فَإِذَا نَوَاهُ فَقَدْ شَدَّدَ عَلَى

نَفْسِهِ بِلَفْظٍ يَحْتَمِلُهُ ، وَبِدُونِ نِيَّتِهِ إنَّمَا لَمْ نُدْخِلْهُ لِلْعُرْفِ فَإِنَّ الْمَمْلُوكَ اسْمٌ لِلْعَبْدِ الْكَامِلِ عُرْفًا ، وَقَدْ سَقَطَ اعْتِبَارُ هَذَا الْعُرْفِ حِينَ نَوَى بِخِلَافِهِ : تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْعَبْدَ الْمُشْتَرَكِ مُضَافٌ إلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ فَيَكُونُ كَالْمُكَاتَبِ يَدْخُلُ بِنِيَّتِهِ .
وَإِنْ كَانَ لَهُ عَبْدٌ تَاجِرٌ لَهُ مَمَالِيكٌ ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ ، أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ عَتَقَ الْعَبْدُ التَّاجِرُ ؛ لِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ رَقَبَةً ، وَيَدًا فَيَتَنَاوَلُهُ مُطْلَقُ الْإِضَافَةِ فَأَمَّا مَمَالِيكُهُ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِرَقَبَتِهِ وَكَسْبِهِ لَمْ يَعْتِقْ مَمَالِيكَهُ نَوَاهُمْ ، أَوْ لَمْ يَنْوِهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَعْتِقْ مَمَالِيكَهُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُمْ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ فَإِنْ نَوَاهُمْ عَتَقُوا ، وَإِنْ لَمْ يَنْوِهِمْ لَا يَعْتِقُونَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ يَعْتِقُونَ إلَّا أَنْ يَسْتَثْنِيَهُمْ بِنِيتَةِ ، وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى أَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا فِي الْمَأْذُونِ أَنَّ الْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ إذَا كَانَ مُسْتَغْرِقًا بِالدَّيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَة رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا يَمْلِكُهُ وَالثَّانِي - فِي الْأَيْمَانِ أَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ لَا يَكُونُ مُضَافًا إلَى الْمَوْلَى فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَكُونُ حَتَّى لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ دَارَ فُلَانٍ فَدَخَلَ دَارَ عَبْدِهِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَحْنَثُ ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ هَذِهِ الْإِضَافَةِ لِلْمِلْكِ ، وَكَسْبُ الْعَبْدِ مَمْلُوكٌ لِمَوْلَاهُ وَعِنْدَهُمَا : الْإِضَافَةُ إلَى الْمَوْلَى مَجَازٌ ، وَإِلَى الْعَبْدِ حَقِيقَةٌ ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ بَاعَ عَبْدًا ، وَلَهُ مَالٌ }

وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَسْتَقِيمُ أَنْ تَنْفِيَ عَنْ الْمَوْلَى فَيُقَالُ : هَذِهِ لَيْسَتْ بِدَارِهِ بَلْ هِيَ دَارُ عَبْدِهِ ، وَالْعِبْرَةُ لِلْإِضَافَةِ لَا لِلْمِلْكِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ دَارًا يَسْكُنُهَا فُلَانٌ عَارِيَّةً ، أَوْ إجَارَةً كَانَ حَانِثًا إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ : أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَالْمَوْلَى لَا يَمْلِكُ كَسْبَ الْعَبْدِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ حَتَّى لَوْ أَعْتَقَهُ بِعَيْنِهِ لَمْ يَعْتِقْ فَكَذَلِكَ بِمُطْلَقِ كَلَامِهِ ، وَإِنْ نَوَاهُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَهُوَ غَيْرُ مُضَافٍ إلَيْهِ مُطْلَقًا فَلَا يَعْتِقُ بِمُطْلَقِ كَلَامِهِ ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ فَإِنْ نَوَاهُ عَتَقَ ؛ لِأَنَّ الْمَنْوِيَّ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ كَلَامِهِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ مَالِكٌ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ إلَّا أَنَّهُ غَيْرُ مُضَافٍ إلَيْهِ مُطْلَقًا فَلَا يَدْخُلُ فِي كَلَامِهِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ .
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْإِضَافَةُ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ ، وَهُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ فَيَعْتِقُ بِإِيجَابِهِ إلَّا أَنْ يَسْتَثْنِيَهُ بِنِيَّةٍ فَيَعْمَلُ اسْتِثْنَاؤُهُ ؛ لِأَنَّهُ نَوَى الْمُضَافَ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَهَذَا مُضَافٌ إلَيْهِ مِلْكًا ، وَلَكِنَّهُ مُضَافٌ إلَى عَبْدِهِ كَسْبًا ، أَوْ نَوَى تَخْصِيصَ لَفْظِهِ الْعَامِّ فَتَعْمَلُ نِيَّتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلِهَذَا لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ ، وَإِذَا دَعَا عَبْدَهُ سَالِمًا فَأَجَابَهُ مَرْزُوقٌ فَقَالَ : أَنْتَ حُرٌّ ، وَلَا نِيَّةَ لَهُ عَتَقَ الَّذِي أَجَابَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَتْبَعَ الْإِيقَاعُ الْجَوَابَ فَيَصِيرُ مُخَاطِبًا لِلْمُجِيبِ ، وَإِنْ قَالَ عَنَيْت سَالِمًا عَتَقَ سَالِمٌ بِنِيَّتِهِ لِكَوْنِ الْمَنْوِيِّ مِنْ مُحْتَمِلَاتِ كَلَامِهِ ، وَلَكِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ فِي الْقَضَاءِ فِي صَرْفِ الْعِتْقِ عَنْ مَرْزُوقٍ ؛ لِأَنَّ الْإِيقَاعَ تَنَاوَلَهُ فِي الظَّاهِرِ فَلَا يَدِينُ فِي صَرْفِهِ عَنْهُ فِي الْقَضَاءِ وَهُوَ مَدِينٌ فِيمَا

بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِنْ قَالَ : يَا سَالِمٌ أَنْتَ حُرٌّ ، وَأَشَارَ إلَى شَخْصٍ ظَنَّهُ سَالِمًا ، فَإِذَا هُوَ عَبْدٌ آخَرُ لَهُ ، أَوْ لِغَيْرِهِ عَتَقَ عَبْدُهُ سَالِمٌ ؛ لِأَنَّهُ أَتْبَعَ الْإِيقَاعُ النِّدَاءَ فَتَنَاوَلَ الْمُنَادَى خَاصَّةً ، وَلَا مُعْتَبَرَ لِظَنِّهِ فَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا ، وَإِذَا أَعْتَقَ الرَّجُلُ عَبْدَهُ ، أَوْ أَمَتَهُ ثُمَّ جَحَدَ الْعِتْقَ حَتَّى أَصَابَ مِنْ الْخِدْمَةِ وَالْغَلَّةِ مَا أَصَابَ ، ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ أَوَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي الْخِدْمَةِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ مُجَرَّدُ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ ، وَلَا تَتَقَوَّمُ الْمَنْفَعَةُ إلَّا بِعَقْدٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ غَصَبَ حُرًّا فَاسْتَخْدَمَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ سِوَى الْمَأْثَمِ عِنْدَنَا فَهَذَا مِثْلُهُ بَلْ عَيْنُهُ .
؛ لِأَنَّهَا تُبَيِّنُ أَنَّهَا كَانَتْ حُرَّةً حِينَ اسْتَخْدَمَهَا ، وَيَرُدُّ عَلَيْهَا مَا أَصَابَ مِنْ غَلَّتِهَا ، وَمُرَادُهُ إذَا كَانَتْ هِيَ الَّتِي أَجَّرَتْ نَفْسَهَا ، أَوْ اكْتَسَبَتْ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ حُرَّةً مَالِكَةً لِكَسْبِهَا فَعَلَى الْمَوْلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهَا مَا أَخَذَ مِنْهَا ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي أَجَّرَهَا فَمَا أَخَذَ مِنْ الْغَلَّةِ يَكُونُ مَمْلُوكًا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بَعْدِهِ ، وَلَكِنْ لَا يَطِيبُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ ، وَعَلَيْهِ فِي الْوَطْءِ لَهَا - مَهْرُ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَطِئَهَا وَهِيَ حُرَّةٌ ، وَالْوَطْءُ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ لَا يَنْفَكُّ فِي حَدٍّ ، أَوْ مَهْرٍ ، وَقَدْ سَقَطَ الْحَدُّ بِالشُّبْهَةِ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ يَوْمئِذٍ فِي الظَّاهِرِ فَوَجَبَ الْمَهْرُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ دُونَ الْمَنْفَعَةِ ، وَلِهَذَا يَخْتَصُّ إبَاحَةُ تَنَاوُلِهِ بِالْمِلْكِ ، وَلَا يَمْلِكُ بِالْعَقْدِ إلَّا مُؤَبَّدًا وَإِنْ كَانَ أَجْنَبِيٌّ جَنَى عَلَيْهِ ثُمَّ أَقَرَّ الْمَوْلَى أَنَّهُ كَانَ أَعْتَقَهُ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى إلْزَامِ الْجَانِي حُكْمَ أَرْشِ الْحُرِّ

؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّ الْجَانِي ، وَثُبُوتُ الْحُكْمِ بِحَسَبِ الْحُجَّةِ ، وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ خَاصَّةً ، فَمَا وَجَبَ مِنْ أَرْشِ الْمَمَالِيكِ يَكُونُ لَهَا ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى حَوَّلَ ذَلِكَ بِإِقْرَارِهِ إلَيْهَا ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ لِكَوْنِهِ مُقِرًّا بِهِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَإِنْ قَامَتْ بِهِ بَيِّنَةٌ لَزِمَ الْجَانِي حُكْمُ الْجِنَايَةِ عَلَى الْحُرِّ ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْكُلِّ ، وَالثَّابِتُ مِنْ الْحُرِّيَّةِ بِهَا قَبْلَ الْجِنَايَةِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً عَلَى الْحُرِّ .
وَلَمْ يَجُزْ عِتْقُ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فِي حَالِ جُنُونِهِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمَا هَدَرَ شَرْعًا خُصُوصًا فِيمَا يَضُرُّهُمَا ، وَلِأَنَّ الْعِتْقَ لَا يَنْفُذُ إلَّا بِقَوْلٍ مُلْزِمٍ لَا أَنَّهُ مُلْزِمٌ فِي نَفْسِهِ ، وَقَوْلُهُمَا غَيْرُ مُلْزِمٍ شَرْعًا ، وَإِنْ أَعْتَقَ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ مُخَاطِبٌ لَهُ قَوْلٌ مُلْزِمٌ ، وَهُوَ يَمْلِكُ الْعَبْدَ حَقِيقَةً فَيَنْفُذُ عِتْقُهُ وَإِنْ قَالَ أَعْتَقْت عَبْدِي ، وَأَنَا صَبِيٌّ ، وَأَنَا نَائِمٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ إقْرَارَهُ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ تُنَافِي إعْتَاقَهُ فَكَانَ إنْكَارًا لِلْعِتْقِ مَعْنًى ، وَإِقْرَارًا صُورَةً وَالْعِبْرَةُ لِلْمَعْنَى دُونَ الصُّورَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : أَعْتَقْته قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ أَوْ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ إلَى حَالَةٍ مَعْهُودَةٍ تُنَافِي تَصَوُّرَ الْإِعْتَاقِ فَيَكُونُ هَذَا أَبْلَغُ فِي النَّفْيِ مِنْ الْإِضَافَةِ إلَى حَالَةٍ تُنَافِي الْإِعْتَاقَ شَرْعًا ، وَإِذَا وَجَبَ تَصْدِيقُهُ هُنَاكَ فَهُنَا أَوْلَى وَإِذَا قَالَ : لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ مَتَى شِئْت ، أَوْ كُلَّمَا شِئْت ، أَوْ مَا شِئْت فَقَالَ الْعَبْدُ إلَّا أَشَاءُ ثُمَّ بَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ ثُمَّ شَاءَ الْعِتْقَ ، فَهُوَ حُرٌّ ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ عِتْقَهُ بِوُجُودِ مَشِيئَتِهِ فِي عُمْرِهِ ، وَلَمْ يَفُتْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ لَا أَشَاءُ ؛ لِأَنَّهُ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ الْمَشِيئَةُ بَعْدَهُ ، وَقَوْلُهُ لَا أَشَاءُ كَسُكُوتِهِ ، أَوْ قِيَامِهِ عَنْ الْمَجْلِسِ ، وَلَا يُجْعَلُ

قَوْلُهُ لَا أَشَاءُ رَدًّا لِأَصْلِ كَلَامِ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ تَعْلِيقَ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ يَتِمُّ بِالْمَوْلَى فَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّ الْعَبْدِ ، وَإِذَا بَقِيَ التَّعْلِيقُ نَزَلَ الْعِتْقُ لِوُجُودِ الشَّرْطِ بِمَشِيئَتِهِ .

( قَالَ ) : أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : أَنْتَ حُرٌّ إنْ دَخَلْت الدَّارَ ثُمَّ بَاعَهُ ثُمَّ اشْتَرَاهُ فَدَخَلَ الدَّارَ يَعْتِقُ وَهَذَا مَذْهَبُنَا فَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَعْتِقُ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ عِنْدَهُ كَمَا يُشْتَرَطُ لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ يُشْتَرَطُ لِبَقَائِهَا ، وَبِالْبَيْعِ زَالَ مِلْكُهُ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْمِلْكُ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِانْعِقَادِ الْيَمِينِ وَإِنَّمَا الشَّرْطُ ، وُجُودُ الْمَحْلُوفِ بِهِ فَلِهَذَا صَحَّحْنَا إضَافَةَ الْعِتْقِ إلَى الْمِلْكِ ، وَالْمَحْلُوفُ بِهِ هُوَ الْعِتْقُ وَمَحَلِّيَّةُ الْعَبْدِ لِلْعِتْقِ بِصِفَةِ الرِّقِّ ، وَذَلِكَ لَا يَنْعَدِمُ بِالْبَيْعِ ، إلَّا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ الْمِلْكُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لِنُزُولِ الْعِتْقِ ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ يَتَّصِلُ بِالْمَحَلِّ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ بَقَاءُ الْيَمِينِ بِبَقَاءِ ذِمَّتِهِ وَبَقَاءُ الْمَحْلُوفِ بِهِ لِكَوْنِهِ مَحَلًّا لِلْعِتْقِ فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ الْمِلْكِ فِيهِ .
وَإِنْ قَالَ : أَنْتَ حُرٌّ حَيْثُ شِئْت فَقَامَ مِنْ مَجْلِسِهِ بَطَلَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ حَيْثُ عِبَارَةٌ عَنْ الْمَكَانِ أَيْ أَنْتَ حُرٌّ فِي أَيِّ مَكَان شِئْت فَلَيْسَ فِي لَفْظِهِ مَا يُوجِبُ تَعْمِيمًا فِي الْوَقْتِ فَيَتَوَقَّفُ بِالْمَجْلِسِ كَقَوْلِهِ ، إنْ شِئْت وَإِنْ قَالَ أَنْتَ حُرٌّ كَيْفَ شِئْت عَتَقَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلَمْ يَعْتِقْ فِي قَوْلِهِمَا مَا لَمْ يَشَأْ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ مِنْ مَجْلِسِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الطَّلَاقِ ، وَالْعِتْقُ قِيَاسُهُ ، وَقَوْلُهُ كَيْفَ شِئْت فِي الْعِتْقِ لَيْسَ بِشَيْءٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ بَعْدَ نُزُولِ الْعِتْقِ لَا مَشِيئَةَ لِأَحَدٍ فِي تَغْيِيرِهِ مِنْ وَصْفٍ إلَى وَصْفٍ ، وَلِهَذَا لَوْ شَاءَ الْعَبْدُ عَتَقَا عَلَى مَالٍ ، أَوْ إلَى أَجَلٍ ، أَوْ بِشَرْطٍ أَوْ شَاءَ التَّدْبِيرَ فَذَلِكَ بَاطِلٌ كُلُّهُ ، وَهُوَ حُرٌّ ، وَإِنْ قَالَ عَبْدِي حُرٌّ ، وَلَيْسَ لَهُ إلَّا عَبْدٌ ، وَاحِدٌ عَتَقَ ؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ مَحَلَّ الْعِتْقِ بِإِضَافَتِهِ إلَى نَفْسِهِ ، فَكَأَنَّهُ عَرَفَهُ

بِالْإِشَارَةِ إلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ أَوْجَبَ مَا لَا يَتِمُّ إيجَابُهُ إلَّا فِي مِلْكِهِ فَتَعَيَّنَ مِلْكُهُ لَهُ فَإِنْ قَالَ لِي عَبْدٌ آخَرُ ، وَإِيَّاهُ عَنَيْت لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ تَنَاوَلَ ذَلِكَ الْعَبْدَ الَّذِي ظَهَرَ مِلْكُهُ فِيهِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ فَيَكُونُ هُوَ مُتَّهَمًا فِي صَرْفِهِ عَنْهُ إلَّا مَنْ لَا يَعْلَمُ فَلَا يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي إلَّا بِحُجَّةٍ ، وَلَوْ قَالَ : أَبِيعُك عَبْدًا بِكَذَا ، وَلَمْ يُسَمِّهِ ، وَلَمْ يَرَهُ الْمُشْتَرِي فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَهُ فِي مَجْهُولٍ ، وَإِيجَابُ الْبَيْعِ فِي الْمَجْهُولِ بَاطِلٌ ، وَهَذِهِ جَهَالَةٌ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا فَإِنْ اتَّفَقَا أَنَّهُ هَذَا ، فَالْبَيْعُ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ ، وَالْمُنَازَعَةَ قَدْ ارْتَفَعَتْ بِاتِّفَاقِهِمَا ، وَكَانَ بَيَانُهُمَا فِي الِانْتِهَاءِ بِمَنْزِلَةِ التَّعْيِينِ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَإِنْ قَالَ : أَبِيعُك عَبْدِي بِكَذَا ، وَلَمْ يُسَمِّ كَانَ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ ؛ لِأَنَّهُ عَرَفَهُ بِالْإِضَافَةِ إلَى نَفْسِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ التَّعْرِيفِ بِالْإِشَارَةِ إلَى مَكَانِهِ ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ مُسَمًّى بِذَلِكَ الِاسْمِ إلَّا وَاحِدٌ ، وَثُبُوتُ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي لِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ .
( قَالَ ) : وَلَيْسَ هَذَا كَالْعِتْقِ وَظَنَّ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ مُرَادُهُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي إثْبَاتِ خِيَارِ الرُّؤْيَةِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمُرَادُ هُوَ الْفَرْقُ ؛ لِأَنَّ إيجَابَ الْعِتْقِ فِي الْمَجْهُولِ صَحِيحٌ بِخِلَافِ إيجَابِ الْبَيْعِ حَتَّى لَوْ قَالَ أَعْتَقْت عَبْدًا ، وَلَيْسَ لَهُ إلَّا عَبْدٌ وَاحِدٌ يَعْتِقُ ذَلِكَ الْعَبْدُ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ : بِعْتُك عَبْدًا ؛ لِأَنَّ الْمُنَازَعَةَ تَتَمَكَّنُ بِسَبَبِ الْجَهَالَةِ فِي الْبَيْعِ دُونَ الْعِتْقِ ، وَالْبَيَانُ مِنْ الْمَوْلَى مَقْبُولٌ فِي الْعِتْقِ ؛ لِأَنَّهُ إيجَابٌ لَا يُقَابِلُهُ اسْتِيجَابٌ بِخِلَافِ الْبَيْعِ ، وَلَوْ قَالَ : أَحَدُ عَبْدَيَّ حُرٌّ ، أَوْ أَحَدُ عَبِيدِي حُرٌّ ، وَلَيْسَ لَهُ إلَّا عَبْدٌ ،

وَاحِدٌ عَتَقَ ذَلِكَ الْعَبْدُ ؛ لِأَنَّهُ عَرَفَ مَحَلَّ الْعِتْقِ بِإِضَافَتِهِ إلَى نَفْسِهِ بِالْمِلْكِيَّةِ ، وَإِذَا كَانَ الْمُضَافُ إلَيْهِ بِالْمِلْكِيَّةِ وَاحِدًا كَانَ مُتَعَيَّنًا لِإِيجَابِهِ ، وَلَوْ قَالَ لِعَبْدَيْهِ : أَحَدُ كَمَا حُرٌّ عَتَقَ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَيَصِحُّ إيجَابُهُ فِي الْمَجْهُولِ كَالطَّلَاقِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَلِّقَ بِالشَّرْطِ إنَّمَا يَنْزِلُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ ، وَالْإِيجَابُ فِي الْمَجْهُولِ فِي حَقِّ الْعَيْنِ كَالْمُتَعَلِّقِ بِشَرْطِ الْبَيَانِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَيَصِحُّ إيجَابُهُ فِي الْمَجْهُولِ ، فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا ، أَوْ قُتِلَ تَعَيَّنَ الْعِتْقُ فِي الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ الَّذِي مَاتَ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِإِيقَاعِ الْعِتْقِ عَلَيْهِ ، وَالْعِتْقُ الْمُبْهَمُ فِي حَقِّ الْمُعَيَّنِ كَالنَّازِلِ عِنْدَ الْبَيَانِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَقَاءٍ لِمَحَلٍّ ؛ لِيَبْقَى خِيَارُهُ فِي الْبَيَانِ ، وَعَدَمُ التَّعَيُّنِ فِي الْبَاقِي مِنْهُمَا كَانَ لِمُزَاحَمَةِ الْآخَرِ إيَّاهُ وَقَدْ زَالَتْ هَذِهِ الْمُزَاحَمَةُ بِخُرُوجِ أَحَدِهِمَا مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْعِتْقِ فَلِهَذَا يَتَعَيَّنُ فِي الْآخَرِ .
وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَوْ اشْتَرَى أَحَدَ الْعَبْدَيْنِ وَسَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنًا ، وَشَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا تَعَيَّنَ الْبَيْعُ فِي الْهَالِكِ ، وَهُنَا يَتَعَيَّنُ الْعِتْقُ فِي الْقَائِمِ قَالَ عَلِيٌّ الْقُمِّيُّ : وَفِي الْحَقِيقَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْهَالِكَ يَهْلِكُ عَلَى مِلْكِهِ فِي الْفَصْلَيْنِ ، وَالْأَصَحُّ أَنْ يَقُولَ هُنَاكَ حِينَ أَشْرَفَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْهَلَاكِ تَعَيَّنَ الْبَيْعُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ رَدُّهُ كَمَا قَبَضَ فَإِنَّمَا يَتَعَيَّنُ لِلْبَيْعِ ، وَهُوَ حَيٌّ لَا مَيِّتٌ ، وَهُنَا لَوْ تَعَيَّنَ الْعِتْقُ فِيهِ تَعَيَّنَ بَعْدَ الْمَوْتِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِشْرَافِ عَلَى الْهَلَاكِ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْعِتْقِ ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ هُوَ لَيْسَ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96