كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي

وَإِذَا أَخَذَ الرَّجُلُ عَبْدَ أَخِيهِ أَوْ أُخْتَهُ أَوْ عَبْدَ أَبِيهِ أَوْ ابْنِهِ أَوْ عَبْدَ امْرَأَتِهِ أَوْ امْرَأَةٌ أَخَذَتْ عَبْدَ زَوْجِهَا فَالْقِيَاسُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ وَاحِدٌ أَنْ يَكُون لَهُ الْجُعْل إذَا لَمْ يَكُنْ فِي عِيَالِهِ ؛ لِأَنَّ مِلْك أَحَدهمَا مُنْفَصِل عَنْ مِلْكِ الْآخَرِ فَيَتَحَقَّقَ مِنْهُ إحْيَاءُ الْمَالِيَّةِ عَلَى الْمَالِكِ بِالرَّدِّ فَيَسْتَوْجِبُ الْجُعْل كَسَائِرِ الْأَجَانِب ، وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ فَقَالَ إذَا وَجَدَ عَبْدَ أَبِيهِ ، وَهُوَ فِي عِيَالِهِ ، فَلَا جُعْلَ لَهُ ؛ لِأَنَّ رَدَّ الْآبِقِ عَلَى أَبِيهِ مِنْ جُمْلَةِ خِدْمَتِهِ ، وَخِدْمَةُ الْأَبِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الِابْنِ دِينًا ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ دَيْنًا ؛ وَلِهَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ ابْنَهُ لِخِدْمَتِهِ لَمْ يَسْتَوْجِب الْأَجْر سَوَاء كَانَ فِي عِيَاله أَوْ لَمْ يَكُنْ فَكَذَلِكَ لَا يَسْتَوْجِب الْجُعْل بِرَدِّ آبِقِهِ ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ مَعَ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ مَبْسُوطَةُ الْيَدِ فِي مَالِ صَاحِبِهِ ، وَيَعُدُّ خَيْرَهُ خَيْرَ نَفْسِهِ ، وَلِأَنَّ خِدْمَةَ الزَّوْجِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْمَرْأَةِ دِينًا حَتَّى لَا يَسْتَأْجِرُهَا عَلَى ذَلِكَ ، وَالزَّوْجُ هُوَ الَّذِي يَطْلُبُ آبِقَ امْرَأَتِهِ عَادَةً .
فَأَمَّا إذَا وَجَدَ عَبْد ابْنه ، فَإِنْ كَانَ فِي عِيَال ابْنه ، فَلَا جُعْلَ لَهُ ؛ لِأَنَّ آبِق الرَّجُل إنَّمَا يَطْلُبُهُ مِنْ فِي عِيَاله عَادَة ؛ وَلِهَذَا يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ فَلَا يَسْتَوْجِبُ مَعَ ذَلِكَ جُعْلًا آخَرَ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْأَب فِي عِيَال الِابْن فَلَهُ الْجُعْلُ ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ الِابْنِ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَى الْأَبِ دِينًا ، وَلَا هُوَ سَائِغٌ لَهُ شَرْعًا ؛ وَلِهَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ أَبَاهُ لِيَخْدِمَهُ فَخَدَمَهُ اسْتَوْجَبَ الْأَجْرَ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ يَسْتَوْجِبُ الْجُعْلَ ، وَكَذَلِكَ الْأَخ لَهُ الْجُعْل إذَا لَمْ يَكُنْ فِي عِيَال أَخِيهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي عِيَاله فَلَا جُعْلَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَعُولُهُ ، وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ لِهَذَا وَنَحْوِهِ ، وَإِذَا أَبَقَ عَبْد الْيَتِيم فَجَاءَ بِهِ الْوَصِيُّ ، فَلَا جُعْلَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ

الَّذِي يَطْلُب آبِق الْيَتِيم عَادَة ، وَهُوَ الَّذِي يُمْسِكُ عَبْده ، فَلَا يَكُون لَهُ الرَّدّ عَلَى نَفْسه ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْيَتِيم فِي حِجْرِ رَجُلٍ .
يَعُولُهُ لَهُ فَجَاءَ بِهِ ذَلِكَ الرَّجُلُ ، فَلَا جُعْلَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَطْلُبُهُ عَادَة ، وَإِذَا صَالَحَ الَّذِي جَاءَ بِالْآبِقِ مَوْلَاهُ مِنْ الْجُعْلِ عَلَى عِشْرِينَ دِرْهَمًا جَازَ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ بِدُونِ حَقِّهِ ، وَأَحْسَنُ إلَيْهِ بِحَطِّ بَعْضِ مَا اسْتَوْجَبَهُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى خَمْسِينَ دِرْهَمًا ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الْجُعْلَ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا جَازَ مِنْهُ أَرْبَعُونَ ، وَيَطْرَحُ الْفَضْلَ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ مُقَدَّرٌ بِالْأَرْبَعِينَ شَرْعًا فَالزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ تَكُونُ رَبًّا ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ صَالَحَ الشَّرِيكُ الْمُعْتَقُ شَرِيكَهُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ قِيمَةِ نَصِيبِهِ كَانَ الْفَضْلُ بَاطِلًا لِمَا بَيَّنَّاهُ ، وَإِذَا أَبَقَتْ الْأَمَةُ ، وَلَهَا صَبِيٌّ رَضِيعٌ فَرَدَّهُمَا رَجُلٌ فَلَهُ جُعْلٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ الْإِبَاقَ مِنْ الرَّضِيعِ لَا يَتَحَقَّقُ ، فَإِنَّمَا رَدَّ آبِقًا وَاحِدًا ، وَهِيَ الْأَمَةُ ، وَإِنْ كَانَ ابْنُهَا غُلَامًا قَدْ قَارَبَ الْحُلُمَ فَلَهُ جُعْلَانِ ثَمَانُونَ دِرْهَمًا ؛ لِأَنَّ الْإِبَاقَ تَحَقَّقَ مِنْهُمَا ، فَإِنَّمَا أَحْيَا مَالِيَّةَ مَمْلُوكَيْنِ بِالرَّدِّ فَيَسْتَوْجِبُ جُعْلًا كَامِلًا بِاعْتِبَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَإِذَا رَجَعَ الْوَاهِبُ فِي الْهِبَةِ بَعْدَ مَا رَدَّ الْعَبْدَ مِنْ إبَاقِهِ ، وَسَلَّمَهُ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ فَلَهُ الْجُعْلُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَحْيَا الْمَالِيَّةَ لَهُ بِالرَّدِّ ، وَالْإِيصَالِ إلَيْهِ فَزَوَالُ مِلْكِهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِرُجُوعِ الْوَاهِبِ كَزَوَالِ مِلْكِهِ بِمَوْتِ الْعَبْدِ ، وَلَوْ مَاتَ لَمْ يَبْطُلْ حَقُّ الرَّادِّ فِي الْجُعْلِ فَكَذَلِكَ إذَا رَجَعَ فِيهِ الْوَاهِبُ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ ، وَتَعَالَى أَعْلَمُ

كِتَابُ الْمَفْقُودِ ( قَالَ ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ إمْلَاءً : الْمَفْقُودُ اسْمٌ لِمَوْجُودٍ هُوَ حَيٌّ بِاعْتِبَارِ أَوَّلِ حَالِهِ وَلَكِنَّهُ خَفِيُّ الْأَثَرِ كَالْمَيِّتِ بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ ، وَأَهْلُهُ فِي طَلَبِهِ يَجِدُّونَ ، وَلِخَفَاءِ أَثَرِ مُسْتَقَرِّهِ لَا يَجِدُونَ قَدْ انْقَطَعَ عَلَيْهِمْ خَبَرُهُ وَاسْتَتَرَ عَلَيْهِمْ أَثَرُهُ ، وَبِالْجِدِّ رُبَّمَا يَصِلُونَ إلَى الْمُرَادِ وَرُبَّمَا يَتَأَخَّرُ اللِّقَاءُ إلَى يَوْمِ التَّنَادِ وَالِاسْمُ فِي اللُّغَةِ مِنْ الْأَضْدَادِ يَقُولُ الرَّجُلُ : فَقَدْتُ الشَّيْءَ أَيْ أَضْلَلْتُهُ ، وَفَقَدَتْهُ أَيْ طَلَبْتُهُ وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ يَتَحَقَّقُ فِي الْمَفْقُودِ ، فَقَدْ ضَلَّ عَنْ أَهْلِهِ وَهُمْ فِي طَلَبِهِ ، وَحُكْمُهُ فِي الشَّرْعِ أَنَّهُ حَيٌّ فِي حَقِّ نَفْسِهِ حَتَّى لَا يُقْسَمُ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ ، مَيِّتٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ حَتَّى لَا يَرِثَ هُوَ إذَا مَاتَ أَحَدٌ مِنْ أَقْرِبَائِهِ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ حَيَاتِهِ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ فَإِنَّهُ عَلِمَ حَيَاتَهُ فَيَسْتَصْحِبُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ ، وَاسْتِصْحَابُ الْحَالِ مُعْتَبَرٌ فِي إبْقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ فِي إثْبَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا ، وَفِي الِامْتِنَاعِ مِنْ قِسْمَةِ مَالِهِ بَيْنَ وَرَثَتِهِ إبْقَاءُ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ ، وَفِي تَوْرِيثِهِ مِنْ الْغَيْرِ إثْبَاتُ أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا لَهُ ، وَلِأَنَّ حَيَاتَهُ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ ، وَالظَّاهِرُ حُجَّةٌ لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَلَيْسَ بِحُجَّةٍ لِلِاسْتِحْقَاقِ ، فَلَا يُسْتَحَقُّ بِهِ مِيرَاثُ غَيْرِهِ ، وَيَنْدَفِعُ بِهِ اسْتِحْقَاقُ وَرَثَتِهِ لِمَالِهِ بِهَذَا الظَّاهِرِ ؛ وَلِهَذَا لَا تَتَزَوَّجُ امْرَأَتُهُ عِنْدَنَا ، وَهُوَ مَذْهَبُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَمَا بَدَأَ بِهِ الْكِتَابُ مِنْ قَوْلِهِ فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ : إنَّهَا امْرَأَةٌ اُبْتُلِيَتْ فَلْتَصْبِرْ حَتَّى يَسْتَبِينَ مَوْتٌ أَوْ طَلَاقٌ ، وَبِهِ كَانَ يَأْخُذُ إبْرَاهِيمُ كَمَا قَالَ

: قَدْ سَمِعْنَا أَنَّ امْرَأَتَهُ تَتَرَبَّصُ أَرْبَعَ سِنِينَ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ هِيَ امْرَأَةٌ اُبْتُلِيَتْ فَلْتَصْبِرْ ، وَتَرَبُّصُ أَرْبَعِ سِنِينَ كَانَ يَقُولُ بِهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَالِكٌ كَانَ يَأْخُذُ بِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَيَقُولُ : الظَّاهِرُ أَنَّهُ يُوقَفُ عَلَى خَبَرِهِ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ أَنْ لَوْ كَانَ حَيًّا ، وَالْبِنَاءُ عَلَى الظَّاهِرِ وَاجِبٌ فِيمَا لَا يُوقَفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ ، خُصُوصًا إذَا وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا ، وَقَدْ مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا لِكَيْ لَا تَبْقَى مُعَلَّقَةً .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْعِنِّينِ وَامْرَأَتِهِ بَعْدَ مُضِيِّ سَنَةٍ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا ، وَبَيْنَ الْمَوْلَى وَامْرَأَتِهِ بَعْدَ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ لَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهَا ، وَلَكِنَّ عُذْرَ الْمَفْقُودِ أَظْهَرُ مِنْ عُذْرِ الْمَوْلَى وَالْعِنِّينِ فَيُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ الْمُدَّتَانِ فِي التَّرَبُّصِ ، وَذَلِكَ بِأَنْ تُجْعَلَ الشُّهُورُ سِنِينَ ، فَلِهَذَا تَتَرَبَّصُ وَلَا نَأْخُذُ بِهَذَا ؛ لِأَنَّ نِكَاحَهُ حَقُّهُ ، وَهُوَ حَيٌّ فِي إبْقَاءِ مِلْكِهِ وَحَقِّهِ عَلَيْهِ ، وَلَوْ مَكَّنَّا زَوْجَتَهُ مِنْ أَنْ تَتَزَوَّجَ كَانَ فِيهِ حُكْمٌ بِالْمَوْتِ ضَرُورَةً ، إذْ الْمَرْأَةُ لَا تَحِلُّ لِزَوْجَيْنِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَجِب قِسْمَةٌ مَالِهِ أَيْضًا ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ مَا لَمْ يَقُمْ عَلَى مَوْتِهِ دَلِيلٌ مُوجِبٌ لَهُ .
وَالتَّقْدِيرُ بِالْمُدَّةِ فِي حَقِّ الْمَوْلَى وَالْعِنِّينِ لِدَفْعِ ظُلْمِ التَّعْلِيقِ ، وَلَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الظُّلْمِ مِنْ الْمَفْقُودِ فَقُلْنَا : إنَّهَا امْرَأَةٌ اُبْتُلِيَتْ فَلْتَصْبِرْ ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَابْتَلَاهَا بِأَشَدَّ مِنْ هَذَا .
فَإِذَا لَمْ يَظْهَرْ خَبَرُهُ فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ أَقْرَانِهِ حَيًّا ، فَإِنَّهُ يَحْكُمُ بِمَوْتِهِ ؛ لِأَنَّ مَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى مَعْرِفَتِهِ فَطَرِيقُهُ فِي الشَّرْعِ الرُّجُوعُ إلَى أَمْثَالِهِ كَقِيَمِ

الْمُتْلَفَاتِ ، وَمَهْرُ مِثْلِ النِّسَاءِ وَبَقَاؤُهُ بَعْدَ مَوْتِ جَمِيعِ أَقْرَانِهِ نَادِرٌ ، وَبِنَاءُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى الظَّاهِرِ دُونَ النَّادِرِ .
وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : إذَا تَمَّ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً مِنْ مَوْلِدِهِ يُحْكَمُ بِمَوْتِهِ ، وَهَذَا يَرْجِعُ إلَى قَوْلِ أَهْلِ الطَّبَائِعِ وَالنُّجُومِ ، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعِيشَ أَحَدٌ أَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ ؛ لِأَنَّ اجْتِمَاعَ التَّحْسِينِ يَحْصُلُ لِلطِّبَاعِ الْأَرْبَعِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُضَادّ وَاحِدٌ مِنْ ذَلِكَ طَبْعَهُ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ فَيَمُوتُ ، وَلَكِنَّ خَطَأَهُمْ فِي هَذَا قَدْ تَبَيَّنَ لِلْمُسْلِمِينَ بِالنُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي طُولِ عُمْرِ بَعْضِ مَنْ كَانَ قَبْلنَا كَنُوحٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَغَيْرِهِ ، فَلَا يُعْتَمَدُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : إذَا مَضَى مِائَةُ سَنَةٍ مِنْ مَوْلِدِهِ يُحْكَمُ بِمَوْتِهِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ أَحَدًا فِي زَمَانِنَا لَا يَعِيشُ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةِ سَنَةٍ .
وَحُكِيَ أَنَّهُ لَمَّا سُئِلَ عَنْ مَعْنَى هَذَا قَالَ : أُبَيِّنُهُ لَكُمْ بِطَرِيقٍ مَحْسُوسٍ ، فَإِنَّ الْمَوْلُودَ إذَا كَانَ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ يَدُورُ حَوْلَ أَبَوَيْهِ هَكَذَا وَعَقَدَ عَشْرًا ، فَإِنْ كَانَ ابْنَ عِشْرِينَ سَنَةٍ فَهُوَ بَيْنَ الصِّبَا وَالشَّبَابِ هَكَذَا وَعَقَدَ عِشْرِينَ ، فَإِنْ كَانَ ابْنَ ثَلَاثِينَ سَنَةٍ يَسْتَوِي هَكَذَا وَعَقَدَ ثَلَاثِينَ ، فَإِذَا كَانَ ابْنَ أَرْبَعِينَ تُحْمَلُ عَلَيْهِ الْأَثْقَالُ هَكَذَا وَعَقَدَ أَرْبَعِينَ ، فَإِذَا كَانَ ابْنَ خَمْسِينَ يَنْحَنِي مِنْ كُثْرِ الْأَثْقَالِ وَالْأَشْغَالِ هَكَذَا وَعَقَدَ خَمْسِينَ ، فَإِذَا كَانَ ابْنَ سِتِّينَ يَنْقَبِضُ لِلشَّيْخُوخَةِ هَكَذَا وَعَقَدَ سِتِّينَ ، فَإِذَا كَانَ ابْنَ سَبْعِينَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَصًا هَكَذَا وَعَقَدَ سَبْعِينَ ، فَإِذَا كَانَ ابْنَ ثَمَانِينَ يَسْتَلْقِي هَكَذَا وَعَقَدَ ثَمَانِينَ ، فَإِذَا كَانَ ابْنَ تِسْعِينَ تَنْضَمُّ أَمْعَاؤُهُ هَكَذَا وَعَقَدَ تِسْعِينَ ، فَإِذَا كَانَ

ابْنَ مِائَةِ سَنَةٍ يَتَحَوَّلُ مِنْ الدُّنْيَا إلَى الْعُقْبَى كَمَا يَتَحَوَّلُ الْحِسَابُ مِنْ الْيُمْنَى إلَى الْيُسْرَى .
وَهَذَا يُحْمَلُ مِنْ أَبِي يُوسُفَ عَلَى طَرِيقِ الْمُطَايَبَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ يَعْرِفُ الْحُكْمَ بِمِثْلِ هَذَا ، وَهُوَ كَمَا نُقِلَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ بَنَاتِ الْعَشْرِ مِنْ النِّسَاءِ فَقَالَ : لَهْوُ اللَّاهِينَ ، فَسُئِلَ عَنْ بَنَاتِ الْعِشْرِينَ فَقَالَ : لَذَّةُ الْمُعَانِقِينَ ، فَسُئِلَ عَنْ بَنَاتِ الْخَمْسِينَ فَقَالَ : عَجُوزٌ فِي الْغَابِرِينَ ، وَسُئِلَ عَنْ بَنَاتِ السِّتِّينَ فَقَالَ : لَعْنَةُ اللَّاعِنِينَ .
وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ يُفْتِي فِي الْمَفْقُودِ بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ حَتَّى تَبَيَّنَ لَهُ خَطَؤُهُ فِي نَفْسِهِ ، فَإِنَّهُ عَاشَ مِائَةَ سَنَةٍ وَسَبْعَ سِنِينَ .
فَالْأَلْيَقُ بِطَرِيقِ الْفِقْهِ أَنْ لَا يُقَدَّرَ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ نَصْبَ الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ وَلَا نَصَّ فِيهِ ، وَلَكِنْ نَقُولُ : إذَا لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْ أَقْرَانِهِ يُحْكَمُ بِمَوْتِهِ اعْتِبَارًا لِحَالِهِ بِحَالِ نَظَائِرِهِ .
( وَذُكِرَ ) عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَ لَقِيتُ : الْمَفْقُودَ نَفْسَهُ فَحَدَّثَنِي حَدِيثَهُ قَالَ : أَكَلْت حَرِيرًا فِي أَهْلِي ثُمَّ خَرَجْتُ فَأَخَذَنِي نَفَرٌ مِنْ الْجِنِّ فَمَكَثْتُ فِيهِمْ ثُمَّ بَدَا لَهُمْ فِي عِتْقِي فَأَعْتَقُونِي ، ثُمَّ أَتَوْا بِي قَرِيبًا مِنْ الْمَدِينَةِ فَقَالُوا أَتَعْرِفُ النَّخْلَ فَقُلْتُ : نَعَمْ فَخَلُّوا عَنِّي فَجِئْتُ ، فَإِذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ أَبَانَ امْرَأَتِي بَعْدَ أَرْبَعِ سِنِينَ وَحَاضَتْ وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا وَتَزَوَّجَتْ فَخَيَّرَنِي عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيَّ وَبَيْنَ الْمَهْرِ .
وَأَهْلُ الْحَدِيثِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَرَوْنَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ هَمَّ بِتَأْدِيبِهِ حِينَ رَآهُ ، وَجَعَلَ يَقُولُ : يَغِيبُ أَحَدُكُمْ عَنْ زَوْجَتِهِ هَذِهِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ ، وَلَا يَبْعَثُ بِخَبَرِهِ فَقَالَ : لَا تَعْجَلْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، وَذَكَرَ لَهُ قِصَّتَهُ .

وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ لِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي أَنَّ الْجِنَّ قَدْ يَتَسَلَّطُونَ عَلَى بَنِي آدَمَ ، وَأَهْلُ الزَّيْغِ يُنْكِرُونَ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ .
فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : الْمُسْتَنْكَرُ دُخُولُهُمْ فِي الْآدَمِيِّ لِأَنَّ اجْتِمَاعَ الرُّوحَيْنِ فِي شَخْصٍ لَا يَتَحَقَّقُ ، وَقَدْ يُتَصَوَّرُ تَسَلُّطُهُمْ عَلَى الْآدَمِيِّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلُوا فِيهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُمْ أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ ، فَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَحْمِلُوا جِسْمًا كَثِيفًا مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : نَأْخُذُ بِمَا وَرَدَتْ بِهِ الْآثَارُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنْ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ } ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّهُ يَدْخُلُ فِي رَأْسِ الْإِنْسَانِ فَيَكُونُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِهِ } حَدِيثٌ فِيهِ طُولٌ ، وَهَذَا الْحَدِيثُ دَلِيلٌ لَنَا أَيْضًا فَنَتَّبِعُ الْآثَارَ ، وَلَا نَشْتَغِلُ بِكَيْفِيَّةِ ذَلِكَ ، وَكَأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّمَا رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ فِي امْرَأَةِ الْمَفْقُودِ لَمَّا تَبَيَّنَ مِنْ حَالِ هَذَا الرَّجُلِ ، وَأَمَّا تَخْيِيرُهُ إيَّاهُ بَيْنَ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَيْهِ وَبَيْنَ الْمَهْرِ فَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى مَذْهَبِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمَرْأَةِ إذَا نُعِيَ إلَيْهَا زَوْجُهَا فَاعْتَدَّتْ ، وَتَزَوَّجَتْ ثُمَّ أَتَى الزَّوْجُ الْأَوَّلُ حَيًّا إنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ تُرَدَّ عَلَيْهِ وَبَيْنَ الْمَهْرِ ، وَقَدْ صَحَّ رُجُوعُهُ عَنْهُ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ تُرَدُّ إلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْآخَرِ ، وَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا ، وَلَا يَقْرَبُهَا الْأَوَّلُ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْ الْآخَرِ وَبِهَذَا كَانَ يَأْخُذُ إبْرَاهِيمُ رَحِمَهُ اللَّهُ فَيَقُولُ : قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَبِهِ نَأْخُذُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا تَزَوَّجَتْ ، وَهِيَ

مَنْكُوحَةٌ وَمَنْكُوحَةُ الْغَيْرِ لَيْسَتْ مِنْ الْمُحَلَّلَاتِ بَلْ هِيَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ فِي حَقِّ سَائِرِ النَّاسِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ } فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ تَرْكُهَا مَعَ الثَّانِي ، وَإِذَا اخْتَارَ الْأَوَّلُ الْمَهْرَ ، وَلَكِنْ يَكُونُ النِّكَاحُ مُنْعَقِدًا بَيْنَهُمَا فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ دَفْعُ الْمَهْرِ إلَى الْأَوَّلِ ، وَهُوَ بَدَلُ بُضْعِهَا فَيَكُون مَمْلُوكًا لَهَا دُونَ زَوْجِهَا كَالْمَنْكُوحَةِ إذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهَا زَوْجَةُ الْأَوَّلِ ، وَلَكِنْ لَا يَقْرَبُهَا لِكَوْنِهَا مُعْتَدَّةً لِغَيْرِهِ كَالْمَنْكُوحَةِ إذَا وُطِئَتْ بِالشُّبْهَةِ .
وَذُكِرَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَجَعَ عَنْ ثَلَاثِ قَضِيَّاتٍ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنْ امْرَأَةِ أَبِي كَنَفٍ ، وَالْمَفْقُودِ زَوْجُهَا ، وَالْمَرْأَةِ الَّتِي تَزَوَّجَتْ فِي عِدَّتِهَا .
أَمَّا حُكْمُ الْمَفْقُودِ وَالْمُعْتَدَّةِ فَقَدْ بَيَّنَّا .
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي كَنَفٍ فَهُوَ مَا رَوَاهُ إبْرَاهِيمُ أَنَّ أَبَا كَنَفٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فَأَعْلَمَهَا وَرَاجَعَهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَلَمْ يُعْلِمْهَا ، فَجَاءَ وَقَدْ تَزَوَّجَتْ فَأَتَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ فَقَالَ لَهُ : إنْ وَجَدْتهَا لَمْ يُدْخَلُ بِهَا فَأَنْتَ أَحَقُّ بِهَا ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دُخِلَ بِهَا فَلَيْسَ لَك عَلَيْهَا سَبِيلٌ ، فَقَدِمَ وَقَدْ وَضَعَتْ الْقُصَّةَ عَلَى رَأْسِهَا فَقَالَ لَهُمْ : إنَّ لِي إلَيْهَا حَاجَةً فَخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَهَا ، فَوَقَعَ عَلَيْهَا وَبَاتَ عِنْدَهَا ، ثُمَّ غَدَا إلَى الْأَمِيرِ بِكِتَابِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَرَفُوا أَنَّهُ جَاءَ بِأَمْرٍ بَيِّنٍ وَهَذَا كَانَ مَذْهَبُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الِابْتِدَاءِ أَنَّهُ إذَا رَاجَعَهَا وَلَمْ يُعْلِمْهَا لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الرَّجْعَةِ فِي حَقِّهَا مَا لَمْ تَعْلَمْ حَتَّى إذَا اعْتَدَّتْ وَتَزَوَّجَتْ وَدَخَلَ بِهَا الثَّانِي لَمْ يَبْقَ لِلْأَوَّلِ عَلَيْهَا سَبِيلٌ لَدَفْعِ الضَّرَرِ

عَنْهَا ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ مُرَاجَعَتَهُ إيَّاهَا صَحِيحٌ بِغَيْرِ عِلْمِهَا ، وَهِيَ مَنْكُوحَةٌ سَوَاءٌ دَخَلَ بِهَا الثَّانِي أَوْ لَمْ يَدْخُلْ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَسْتَبِدُّ بِالرَّجْعَةِ كَمَا يَسْتَبِدُّ بِالطَّلَاقِ فَكَمَا يَصِحُّ إيقَاعُ الطَّلَاقِ عَلَيْهَا ، وَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ بِهِ فَكَذَلِكَ رَجْعَتُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ } فِي ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ أَحَقَّ إذَا كَانَ يَسْتَبِدُّ بِهِ .
وَالرَّجْعَةُ إمْسَاكٌ بِالنَّصِّ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ } وَالْمَالِكُ يَنْفَرِدُ بِإِمْسَاكِ مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى عِلْمِ غَيْرِهِ .

قَالَ : ( وَإِذَا فُقِدَ الرَّجُلُ فَارْتَفَعَ ، وَرَثَتُهُ إلَى الْقَاضِي وَأَقَرُّوا أَنَّهُ فُقِدَ ، وَسَأَلُوا قِسْمَةَ مَالِهِ ، فَإِنَّهُ لَا يَقْسِمُ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَوْتِهِ ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ حَيٌّ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، وَمَالُ الْحَيِّ لَا يُقْسَمُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ ، فَمَا لَمْ يَثْبُتْ مَوْتُهُ بِالْبَيِّنَةِ عِنْدَ الْقَاضِي لَا يُشْتَغَلُ بِقِسْمَةِ مَالِهِ ( فَإِنْ قِيلَ : ) كَيْفَ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ لِلْقَضَاءِ بِهَا عَلَى الْغَائِبِ ( قُلْنَا : ) بِأَنْ يَجْعَلَ مَنْ فِي يَدِهِ الْمَالُ خَصْمًا عَنْهُ أَوْ يُنَصِّبَ عَنْهُ قَيِّمًا فِي هَذِهِ الْوِلَايَةِ ، وَإِذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَنْ يُنَصِّبُهُ الْقَاضِي فِيمَا قَضَى بِمَوْتِهِ .
( فَإِنْ قِيلَ : ) كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَهُ مَيِّتًا حُكْمًا لِانْقِطَاعِ خَبَرِهِ فَيُقْسِمُ مَالَهُ ، وَإِنْ لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَوْتِهِ كَالْمُرْتَدِّ اللَّاحِقِ بِدَارِ الْحَرْبِ .
( قُلْنَا : ) هُنَاكَ ظَهَرَ دَلِيلُ الْحُكْمِ بِمَوْتِهِ ، وَهُوَ أَنَّهُ صَارَ حَرْبِيًّا ، وَأَهْلُ الْحَرْبِ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْمَيِّتِ ، وَلَمْ يَظْهَرْ هُنَا دَلِيلٌ مُوجِبٌ لِمَوْتِهِ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا ، وَلِأَنَّ هُنَاكَ لَوْ ظَفِرَ بِهِ الْإِمَامُ مَوَّتَهُ حَقِيقَةً بِأَنْ يَقْتُلَهُ ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ بِدُخُولِهِ دَارَ الْحَرْبِ مَوَّتَهُ حُكْمًا فَقَسَمَ مَالَهُ ، وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ الْمَعْنَى هُنَا قَالَ : ( وَتَفْسِيرُ الْمَفْقُودِ الرَّجُلُ يَخْرُجُ فِي سَفَرٍ وَلَا يُعْرَف مَوْتُهُ وَلَا حَيَاتُهُ وَلَا مَوْضِعُهُ ، وَلَا يَأْسِرُهُ الْعَدُوُّ ، وَلَا يَسْتَبِينُ مَوْتُهُ وَلَا قَتْلُهُ ) فَهَذَا مَفْقُودٌ لَا يَقْضِي الْقَاضِي فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِهِ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ مَاتَ أَوْ قُتِلَ .

وَمَنْ كَانَ مِنْ وَرَثَةِ الْمَفْقُودِ غَنِيًّا فَلَا نَفَقَةَ لَهُ فِي مَالِهِ مَا خَلَا الزَّوْجَةَ لِأَنَّ حَيَاتَهُ مَعْلُومٌ ، وَلَا يَسْتَحِقُّ أَحَدٌ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ النَّفَقَةَ فِي مَالِ الْحَيِّ سِوَى الزَّوْجَةِ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الزَّوْجَةِ بِالْعَقْدِ ، فَلَا يَخْتَلِفُ بِالْيَسَارِ وَالْعُسْرَةِ أَوْ بِكَوْنِهَا مَحْبُوسَةً بِحَقِّهِ ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ الْمَفْقُودِ ، فَأَمَّا اسْتِحْقَاقُ مَنْ سِوَاهَا فَبِاعْتِبَارِ الْحَاجَةِ ، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ بِغِنَى الْمُسْتَحِقِّ ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ غَلَّةٌ جَعَلَ الْقَاضِي فِيهَا مَنْ يَحْفَظُهَا ؛ لِأَنَّهُ نَاظِرٌ لِكُلِّ مَنْ عَجَزَ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ ، وَالْمَفْقُودُ عَاجِزٌ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ فَيُنَصِّبُ الْقَاضِي فِي غَلَّاتِهِ مَنْ يَجْمَعُهَا ، وَيَحْفَظُهَا عَلَيْهِ ، وَمَا كَانَ يَخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادَ مِنْ مَتَاعِهِ ، فَإِنَّ الْقَاضِي يَبِيعُهُ ؛ لِأَنَّ حِفْظَ عَيْنِهِ عَلَيْهِ مُتَعَذِّرٌ فَيَصِيرُ إلَى حِفْظِ مَالِيَّتِهِ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْبَيْعِ وَيُنْفِقُ عَلَى زَوْجَتِهِ وَأَوْلَادِهِ الصِّغَارِ أَوْ الْكِبَارِ مِنْ الْإِنَاثِ أَوْ الزَّمْنَى مِنْ الذُّكُورِ مِنْ مَالِهِ بِالْمَعْرُوفِ ، وَهَذَا إذَا كَانَ السَّبَبُ مَعْلُومًا عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَاضِرًا قَضَى بِالنَّفَقَةِ لَهُمْ عَلَيْهِ بِعِلْمِهِ ، فَإِنْ كَانَ غَائِبًا يَقْضِي بِذَلِكَ لَهُمْ فِي مَالِهِ أَيْضًا ، وَقِيلَ : هَذَا لَا يَكُونُ مِنْهُ قَضَاءً عَلَى الْغَائِبِ عَلَى الْحَقِيقَةِ بَلْ يَكُونُ تَمْكِينًا لِلْمُسْتَحِقِّ مِنْ أُخِذَ حَقِّهِ ، وَلَوْ تَمَكَّنُوا مِنْ ذَلِكَ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوهُ فَيُعِينُهُمْ الْقَاضِي عَلَى ذَلِكَ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِهِنْدَ امْرَأَةِ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : { خُذِي مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ } وَقِيلَ : بَلْ هُوَ قَضَاءٌ مِنْهُ ، وَلِلْقَاضِي وِلَايَةُ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ بِعِلْمِهِ ، كَمَا إذَا أَقَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ غَابَ .
ثُمَّ هَذَا نَظَرٌ مِنْهُ لِلْغَائِبِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ النِّكَاحِ حَقُّهُ فِي

زَوْجَتِهِ ، وَلَا يَبْقَى بِدُونِ النَّفَقَةِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا مِنْ مَالِهِ حِفْظًا لِمِلْكِهِ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ وَلَدُهُ جُزْءٌ مِنْهُ فَيُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ حِفْظًا لِنَسْلِهِ .
وَلِلْقَاضِي وِلَايَةٌ فِي مَالِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْحِفْظِ وَالنَّظَرُ ، وَإِنْ اسْتَوْثَقَ مِنْهُمْ بِكَفِيلٍ فَحَسَنٌ ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُمْ كَفِيلًا فَهُوَ مُسْتَقِيمٌ أَيْضًا إلَّا أَنَّ الْأَحْوَطَ أَنْ يَأْخُذَ الْكَفِيلَ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فَارَقَهَا قَبْلَ أَنْ يُفْقَدَ ، أَوْ كَانَ عَجَّلَ لَهَا النَّفَقَةَ لِمُدَّةٍ فَكَانَ تَمَامُ النَّظَرُ فِي الِاسْتِيثَاقِ بِالْكَفِيلِ ، وَهَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ هَذِهِ كَفَالَةٌ لِلْمَفْقُودِ وَهُوَ مَعْلُومٌ ، وَلَكِنْ لَا يَجِبُ عَلَى الْقَاضِي أَخْذُ الْكَفِيلِ مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ يَطْلُبُ ذَلِكَ ، وَلَيْسَ هُنَا خَصْمٌ طَالِبٌ ، فَلِهَذَا يَسَعُهُ أَنْ لَا يَأْخُذَ كَفِيلًا ، وَلَمْ يُنْفِقْ مِنْ مَالِهِ عَلَى غَيْرِ مَنْ سَمَّيْنَا مِنْ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ النَّفَقَةِ عَلَيْهِ لَهُمْ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي ، وَالْقَاضِي لَا يَقْضِي عَلَى الْغَائِبِ ، وَلِأَنَّ وِلَايَتَهُ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى النَّظَرِ لِلْمَفْقُودِ ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ ، وَلَا يَبِيعُ شَيْئًا مِمَّا لَا يَخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادَ مِنْ مَالِهِ فِي نَفَقَةٍ وَلَا غَيْرِهَا ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْبَيْعِ لِلنَّظَرِ لَهُ ، وَحِفْظُ الْعَيْنِ فِيمَا يَتَأَتَّى حِفْظُهُ نَظَرٌ لَهُ ، فَلَا يَبِيعُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ، وَهُوَ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى مَنْ سَمَّيْنَاهُمْ مُعِينٌ لَهُمْ عَلَى أَخْذِ حَقِّهِمْ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُمْ حَقُّ الْأَخْذِ إذَا ظَفِرُوا بِجِنْسِ حَقِّهِمْ ، وَلَا يَكُونُ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوا عُرُوضًا وَلَا غَيْرَهَا فَكَذَلِكَ الْقَاضِي لَا يَبِيعُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ إلَّا دَارٌ ، وَاحْتَاجَ زَوْجَتُهُ وَوَلَدُهُ إلَى النَّفَقَةِ لَمْ يَبِعْ لَهُمْ الدَّارَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ خَادِمٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادُ مِنْ مِلْكِهِ ، فَلَا

يَكُونُ بَيْعُهُ مَحْضَ الْحِفْظِ عَلَيْهِ ، فَلِهَذَا لَا يَبِيعُهُ بِخِلَافِ مَا يُخَافُ فَسَادُهُ .
وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَصِيِّ فِي حَقِّ الْوَارِثِ الْكَبِيرِ الْغَائِبِ ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْعُرُوضَ ؛ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ ثَابِتَةٌ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حَقِّ الْمُوصِي ، وَبَيْعُ الْعُرُوضِ فِيهِ مَعْنَى حَقِّهِ وَرُبَّمَا يَكُونُ حِفْظُ الثَّمَنِ لِلِاتِّصَالِ إلَى وَرَثَتِهِ أَيْسَرَ مِنْ حِفْظِ الْعَيْنِ ، وَهُنَا لَا وِلَايَةَ لِلْقَاضِي عَلَى الْمَفْقُودِ إلَّا فِي الْحِفْظِ فَقَطْ ، وَحِفْظُ عَيْنِ مِلْكِهِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ أَنْفَعُ لَهُ ؛ فَلِهَذَا لَا يَبِيعُ شَيْئًا مِنْ الْعُرُوضِ ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ كَانَ لَهُ أَبٌ مُحْتَاجٌ فَلِابْنِهِ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ مِنْ الْعُرُوضِ وَيُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْعَقَارَ وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ ، وَفِي الْقِيَاسِ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْعُرُوضَ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ أَنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَمَالِي وَقَالَ : هُوَ حَسَنٌ .
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْأَبِ فِي مَالِ وَلَدِهِ الْكَبِيرِ ، وَنُفُوذُ الْبَيْعِ يَعْتَمِدُ الْوِلَايَةَ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَبِيعُ عَقَارَهُ لِهَذَا ، وَلَا يَبِيعُ عُرُوضَهُ إذَا كَانَ حَاضِرًا ، وَالْحَاضِرُ وَالْغَائِبُ فِي حُكْمِ الْوِلَايَةِ لِلْأَبِ عَلَيْهِ سَوَاءٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ لَهُ وِلَايَةُ التَّمَلُّكِ بِالِاسْتِيلَادِ لَمْ يَفْتَرِقْ الْحَالُ بَيْنَ حُضُورِ الْوَلَدِ وَغِيبَتِهِ .
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ وِلَايَةَ الْأَبِ ، وَإِنْ زَالَتْ بِالْبُلُوغِ فَقَدْ بَقِيَ أَثَرُهَا حَتَّى يَصِحَّ مِنْهُ اسْتِيلَادُ جَارِيَةِ الِابْنِ لِحَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ ، وَحَاجَتُهُ إلَى النَّفَقَةِ لِبَقَاءِ نَفْسِهِ حَاجَتُهُ إلَى الِاسْتِيلَادُ لِبَقَاءِ نَسْلِهِ ، وَلِهَذَا يَتَمَلَّكُ هُنَاكَ بِضَمَانِ الْقِيمَةِ ، وَيُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ مَالِهِ بِغَيْرِ ضَمَانٍ ، وَإِذَا ثَبَتَ بَقَاءُ أَثَرِ وِلَايَتِهِ كَانَ حَالُهُ كَحَالِ الْوَصِيِّ فِي حَقِّ

الْوَارِثِ الْكَبِيرِ الْغَائِبِ ، وَهُنَاكَ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ بَيْعِ الْعُرُوضِ دُونَ بَيْعِ الْعَقَارِ ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْعُرُوضِ مِنْ الْحِفْظِ ، وَبَيْعَ الْعَقَارِ لَيْسَ مِنْ الْحِفْظِ ، فَإِنَّ الْعَقَارَاتِ مُحَصَّنَةٌ بِنَفْسِهَا ؛ وَلِهَذَا لَا يَبِيعُ حَالَ حُضُورِهِ ؛ لِأَنَّ بَيْعَهُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَيْسَ مِنْ الْحِفْظِ ، فَإِنَّ الِابْنَ حَافِظٌ لِمَالِهِ كَمَا لَا يَبِيعُ الْوَصِيُّ عُرُوضَ الْوَلَدِ الْكَبِيرِ الْحَاضِرِ ، وَلَا يَبْعُدُ زَوَالُ وِلَايَةِ الْأَبِ بِالْبُلُوغِ مَعَ بَقَاءِ أَثَرِهِ ، كَمَا لَوْ مَاتَ وَأَوْصَى إلَى رَجُلٍ زَالَتْ وِلَايَتُهُ بِالْمَوْتِ ، وَبَقِيَ أَثَرُهُ بِبَقَاءِ الْوَصِيِّ ، فَإِنْ كَانَ لِلْمَفْقُودِ دَنَانِيرُ أَوْ دَرَاهِمُ أَوْ ذَهَبٌ أَوْ فِضَّةٌ تِبْرًا أَنْفَقَ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا كَانَ يُخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادُ مِنْ غَلَّتِهِ وَمَتَاعِهِ فَإِنَّ الْقَاضِي يَبِيعُ ذَلِكَ وَيُنْفِقُ عَلَيْهِمْ مِنْهُ ، وَإِنْ بَاعَتْهُ زَوْجَتُهُ أَوْ الْوَلَدُ فَبَيْعُهُمَا بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مِنْ الْحِفْظُ ، وَلَيْسَ مِنْ اسْتِيفَاءِ النَّفَقَةِ فِي شَيْءٍ ، وَإِلَيْهِمَا حَقُّ اسْتِيفَاءِ النَّفَقَةِ دُونَ الْحِفْظِ ، وَأَمَّا الْقَاضِي فَلَهُ حَقُّ الْحِفْظِ فِي مَالِ الْمَفْقُودِ ، وَبَيْعُ مَا يَخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادُ مِنْ الْحِفْظِ ، وَبَعْدَ الْبَيْعِ الثَّمَنُ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِمْ فَيُنْفِقُ عَلَيْهِمْ مِنْهُ .

وَكَذَلِكَ الْوَدِيعَةُ تَكُونُ لَهُ عِنْدَ الرَّجُلِ ، فَإِنَّهُ يُنْفِقُ مِنْهَا عَلَيْهِمْ إذَا كَانَ الرَّجُلُ مُقِرًّا الْوَدِيعَةِ وَالزَّوْجِيَّةِ أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ مَعْلُومًا لِلْقَاضِي عِنْدَنَا .
وَقَالَ زُفَرُ : رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُنْفِقُ مِنْهَا عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمُودَعِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْغَيْبِ ، وَهُوَ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْ الْغَائِبِ ، وَلَا يُقْضَى عَلَى الْغَائِبِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَنْهُ خَصْمٌ حَاضِرٌ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْمُودَعُ مُقِرٌّ بِأَنَّ فِي يَدِهِ مِلْكُ الْغَائِبِ ، وَأَنَّ لِلزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ حَقُّ الْإِنْفَاقِ مِنْهُ ، وَإِقْرَارُ الْإِنْسَانِ فِيمَا فِي يَدِهِ مُعْتَبَرٌ فَيَنْتَصِبُ هُوَ خَصْمًا بِاعْتِبَارِ يَدِهِ فَيَتَعَدَّى الْقَضَاءُ مِنْهُ إلَى الْمَفْقُودِ .
وَكَذَلِكَ الدَّيْنُ يَكُونُ لِلْمَفْقُودِ عَلَى رَجُلٍ ، وَهُوَ مُقِرٌّ بِهِ فَهُوَ الْوَدِيعَةُ سَوَاءٌ ، وَالْكَلَامُ فِي الدَّيْنِ أَظْهَرُ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمَدْيُونِ يُلَاقِي مِلْكَ نَفْسِهِ ، فَإِنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا لَا بِأَعْيَانِهَا ، وَالْجَوَابُ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا اسْتِحْسَانٌ إذَا كَانَ مُقِرًّا بِالنَّسَبِ وَالْمَالِ ، فَإِنْ كَانَ جَاحِدًا لِأَحَدِهِمَا لَمْ تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ مِنْ طَالِبِ النَّفَقَةِ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ جَاحِدًا لِلْمَالِ فَطَالِبُ النَّفَقَةِ لَا يُثْبِتُ الْمِلْكَ فِي الْمَالِ لِنَفْسِهِ ، إنَّمَا يُثْبِتُهُ لِلْمَفْقُودِ ، حَتَّى إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْ الْمَفْقُودِ ، وَإِنْ كَانَ مُنْكِرًا لِلزَّوْجِيَّةِ ، فَإِنَّمَا يُثْبِتُ النِّكَاحَ عَلَى الْمَفْقُودِ الْمُودَعُ ، وَالْمَدْيُونُ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْهُ فِي إثْبَاتِ النِّكَاحِ عَلَيْهِ .
وَإِنْ كَانَتْ الزَّوْجِيَّةُ وَالْمَالِيَّةُ مَعْلُومِينَ لِلْقَاضِي فَعِلْمُ الْقَاضِي بِذَلِكَ أَقْوَى مِنْ إقْرَارِ الْمُودَعِ وَالْمَدْيُونِ ، وَإِنْ أَعْطَاهُمَا الْمَدْيُونُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي لَمْ يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ ، وَكَذَلِكَ إنْ أَعْطَاهُمَا الْمُودَعُ مِنْ الْوَدِيعَةِ .
فَهُوَ ضَامِنٌ ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ مَالَ الْغَيْرِ إلَى الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ،

بِخِلَافِ مَا إذَا دَفَعَ بِأَمْرِ الْقَاضِي ، فَإِنَّ أَمْرَ الْقَاضِي فِي حَقِّ الْمَفْقُودِ مُعْتَبَرٌ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حِفْظِ مِلْكِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِنْفَاقَ عَلَى الزَّوْجَةِ وَالْوَلَدِ مِنْ حِفْظ مِلْكِهِ وَحَقِّهِ عَلَيْهِ ، فَيَكُونُ أَمْرُ الْقَاضِي فِيهِ كَأَمْرِ الْمَفْقُودِ ، وَإِنْ طَلَبَتْ زَوْجَتُهُ وَوَلَدُهُ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يُنَصِّبَ وَكِيلًا يَتَقَاضَى دَيْنَهُ ، وَيَجْمَعُ غَلَّاتِهِ ، وَيُؤَاجِرُ رَقِيقَهُ فَعَلَى الْقَاضِي ذَلِكَ نَظَرًا مِنْهُ لِلْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ جَمِيعًا ، لِلْغَائِبِ بِحِفْظِ مَالِهِ وَجَمْعِهِ ، وَلِلْحَاضِرِ بِوُصُولِهِ إلَى حَقِّهِ ، وَهِيَ النَّفَقَةُ ، وَكَانَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَتَقَاضَى وَيَقْبِضَ وَيُخَاصِمَ مِنْ يَجْحَدُ حَقًّا مِنْ عَقْدٍ يَجْرِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّ مَا وَجَبَ بِعَقْدِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِقَبْضِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ظَهَرَ الْمَفْقُودُ كَانَ حَقُّ الْقَبْضِ فِي هَذَا الْمَالِ لِلْوَكِيلِ الَّذِي بَاشَرَ سَبَبَهُ ، فَأَمَّا كُلُّ دَيْنٍ كَانَ الْمَفْقُودُ تَوَلَّاهُ أَوْ نَصِيبٍ مِنْ عَقَارٍ أَوْ عَرْضٍ فِي يَدَيْ رَجُلٍ أَوْ حَقٍّ مِنْ الْحُقُوقِ ، فَإِنَّ الْوَكِيلَ لَا يُخَاصِمُ فِيهِ مَنْ جَحَدَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْ الْمَفْقُودِ ، إنَّمَا هُوَ حَافِظٌ لِمَالِهِ فَقَطْ ، وَحِفْظُهُ يَتَحَقَّقُ فِيمَا وَصَلَتْ يَدُهُ إلَيْهِ ، فَأَمَّا الْخُصُومَةُ وَإِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ فِيمَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ قَطُّ لَيْسَ مِنْ الْحِفْظِ ، فَيَكُونُ الْوَكِيلُ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي قَدْ وَلَّاهُ ذَلِكَ ، وَرَآهُ ، وَأَنْفَذَ الْخُصُومَةَ بَيْنَهُمْ فِيهِ فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا اخْتَلَفَ فِيهِ الْقُضَاةُ يَعْنِي بِهَذَا الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ بِالْبَيِّنَةِ ، فَإِنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فَيَنْفُذُ قَضَاءُ الْقَاضِي فِيهِ .

وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ غَرِيمٌ مِنْ غُرَمَائِهِ ، وَقَدْ أَقَرَّ لَهُ بِدَيْنِهِ فِي وَصِيَّتِهِ عَزَلْتَ حَقَّ الْمَفْقُودِ مِنْ ذَلِكَ وَجَعَلْتَهُ عَلَى يَدَيْ وَكِيلِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ الْحِفْظِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَوْصَى بِهِ ، وَعَلَيْهِ دُيُونٌ لِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ لِوَرَثَةِ الْمَفْقُودِ وَوَكِيلِهِ فِي ذَلِكَ خُصُومَةٌ ، إلَّا أَنْ يَرَاهُ الْقَاضِي فَيَقْضِيَ بِهِ ، فَحِينَئِذٍ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ لِكَوْنِهِ مُجْتَهِدًا فِيهِ .
( فَإِنْ قِيلَ : ) الْمُجْتَهِدُ فِيهِ نَفْسُ الْقَضَاءِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَى إمْضَاءِ قَاضٍ آخَرَ كَمَا لَوْ كَانَ الْقَاضِي مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ .
( قُلْنَا : ) لَا كَذَلِكَ بَلْ الْمُجْتَهِدُ فِيهِ سَبَبُ الْقَضَاءِ ، وَهُوَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ هَلْ تَكُونُ حُجَّةً مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ حَاضِرٍ أَمْ لَا ، فَإِذَا رَآهَا الْقَاضِي حُجَّةً ، وَقَضَى بِهَا نَفَذَ قَضَاؤُهُ ، كَمَا لَوْ قَضَى بِشَهَادَةِ الْمَحْدُودِ فِي قَذْفٍ .

وَإِنْ ادَّعَى إنْسَانٌ عَلَى الْمَفْقُودِ حَقًّا مِنْ دَيْنٍ أَوْ وَدِيعَةٍ أَوْ شَرِكَةٍ فِي عَقَارٍ أَوْ رَقِيقٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ رَدٍّ بِعَيْبٍ أَوْ مُطَالِبٍ بِاسْتِحْقَاقٍ لَمْ يُلْتَفَت إلَى دَعْوَاهُ ، وَلَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ ، وَلَمْ يَكُنْ هَذَا الْوَكِيلُ ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ وَرَثَتِهِ خَصْمًا لَهُ .
أَمَّا الْوَكِيلُ فَلِأَنَّهُ نُصِّبَ لِلْحِفْظِ ، وَأَمَّا الْوَرَثَةُ فَلِأَنَّهُمْ يَخْلُفُونَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَلَمْ يَظْهَرْ مَوْتُهُ ، فَإِنْ رَأَى الْقَاضِي سَمَاعَ الْبَيِّنَةِ ، وَحَكَمَ بِذَلِكَ نَفَذَ حُكْمُهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ أَمْضَى فَصْلًا مُخْتَلَفًا فِيهِ بِاجْتِهَادِهِ ، وَإِذَا رَجَعَ الْمَفْقُودُ حَيًّا لَمْ يَرْجِعْ فِي شَيْءٍ مِمَّا أَنْفَقَ الْقَاضِي أَوْ وَكِيلُهُ بِأَمْرِهِ عَلَى زَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ مِنْ مَالِهِ وَغَلَّتِهِ وَدَيْنِهِ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِي لَمَّا ثَبَتَ لَهُ وِلَايَةُ الْإِنْفَاقِ كَانَ فِعْلُهُ كَفِعْلِ الْمَفْقُودِ بِنَفْسِهِ ، وَكَذَلِكَ مَا أَنْفَقُوا هُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنْ دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ فِي وَقْتِ حَاجَتِهِمْ إلَى النَّفَقَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُمْ إذَا ظَفِرُوا بِجِنْسِ حَقِّهِمْ وَسِعَهُمْ أَخْذُهُ بِالْمَعْرُوفِ ، فَلَا يَضْمَنُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي مَالِهِ طَعَامٌ فَأَكَلُوهُ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِمْ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي مَالِهِ ثِيَابٌ فَلَبِسُوهَا لِلْكِسْوَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِ حَقِّهِمْ ، فَأَمَّا مَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْعُرُوضِ إنْ بَاعُوا شَيْئًا مِنْهُ كَانُوا ضَامِنِينَ لَهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَاضِي لَا يَبِيعُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِلْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ .
فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُونَ بَيْعَهُ ، وَإِنَّمَا لَا يَبِيعُ الْقَاضِي مَا لَا يُخَافُ عَلَيْهِ الْفَسَادُ فِي النَّفَقَةِ ؛ لِأَنَّ فِي بَيْعِ ذَلِكَ فِي النَّفَقَةِ حَجْرًا عَلَى الْغَائِبِ وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَرَى الْحَجْرَ عَلَيْهِ ، وَهُمَا وَإِنْ كَانَا يَرَيَانِ الْحَجْرَ عَلَى مَنْ لَزِمَهُ حَقٌّ فَذَلِكَ عِنْدَ ظُهُورِ تَعَنُّتِهِ وَامْتِنَاعِهِ ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَقُولُ : لَا يَقْضِي الْقَاضِي

دَيْنَ الْمَفْقُودِ مِنْ مَالِهِ .
وَكَذَلِكَ مَهْرُ امْرَأَتِهِ ، وَالنَّفَقَاتُ الْمُجْتَمِعَةُ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُفْقَدَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَرْجِعُ إلَى حِفْظِ مِلْكِهِ بَلْ فِيهِ نَوْعُ حَجْرٍ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَفْقُودِ مَالٌ ، وَطَلَبَتْ زَوْجَتُهُ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ لَهَا بِالنَّفَقَةِ عَلَى زَوْجِهَا هَلْ يُجِيبُهَا إلَى ذَلِكَ ، وَكَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ أَوَّلًا : يُجِيبُهَا إلَى ذَلِكَ ، وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ثُمَّ رَجَعَ إلَى قَوْلِ شُرَيْحٍ ، وَقَالَ : لَا يُجِيبُهَا إلَى ذَلِكَ .
فَالْحُجَّةُ لِقَوْلِهِ الْأَوَّلِ حَدِيثُ هِنْدَ كَمَا رَوَيْنَا ، وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَةِ لَا تَصِيرُ دَيْنًا إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يُوَجِّهَ الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ فَيُلْزِمُهُ بِقَضَائِهِ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ عَنْهُ ، وَهَذَا إذَا كَانَ النِّكَاحُ مَعْلُومًا لَهُ ، وَإِنْ أَرَادَتْ إثْبَاتَ النِّكَاحِ بِالْبَيِّنَةِ لَمْ يَسْمَعْ الْقَاضِي بَيِّنَتَهَا عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ لَا تَكُونُ حُجَّةً إلَّا عَلَى خَصْمٍ جَاحِدٍ فَمَا لَمْ يَحْضُرْ هُوَ أَوْ خَصْمٌ عَنْهُ لَا يَسْمَعُ الْقَاضِي بَيِّنَتَهَا عَلَيْهِ بِالنِّكَاحِ ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ تُسْمَعُ الْبَيِّنَةُ ، وَيَأْمُرُهَا بِأَنْ تَسْتَدِينَ وَتُنْفِقَ عَلَى نَفْسِهَا ، فَإِذَا حَضَرَ الزَّوْجُ كَلَّفَهَا إعَادَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ ، فَإِنْ أَعَادَتْ قَضَى عَلَى الزَّوْجِ بِمَا أَنْفَقَتْ فِي الْمُدَّةِ الْمَاضِيَةِ ، وَإِنْ لَمْ تُعِدْ الْبَيِّنَةَ عَلَى الزَّوْجِ لَمْ يَقْضِ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ ، وَهَذَا مِنْهُ نَوْعُ احْتِيَاطٍ فِي حَقِّ الْحَاضِرِ وَالْغَائِبِ جَمِيعًا .

( وَإِذَا ) أَجَّرَ الْمَفْقُودُ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يُفْقَدَ لَمْ تُنْتَقَضْ الْإِجَارَةُ بَعْدَ مَا يَصِيرُ مَفْقُودًا ؛ لِأَنَّهُ حَيٌّ فِي إبْقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ ، وَلَا يَبْرَأُ الْمُسْتَأْجِرُ بِدَفْعِ الْأُجْرَةِ إلَى زَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ الْقَاضِي بِذَلِكَ كَمَا فِي سَائِرِ الدُّيُونِ .

( وَإِذَا ) فُقِدَ الرَّجُلُ بِصِفِّينَ أَوْ بِالْجَمَلِ ثُمَّ اخْتَصَمَ وَرَثَتُهُ فِي مَالِهِ الْيَوْمَ ، فَإِنَّ هَذَا قَدْ مَاتَ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ أَدْرَكَ ذَلِكَ الزَّمَانَ ، فَإِذَا بَلَغَ الْمَفْقُودُ هَذِهِ الْمُدَّةَ فَهُوَ مَيِّتٌ يُقْسَمُ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ .
( وَالْجَمَلُ ) حَرْبٌ كَانَ بَيْنَ عَلِيٍّ وَعَائِشَةَ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ بِالْبَصْرَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ .
( وَصِفِّينَ ) كَانَ بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَبَيْنَ أَهْلِ الشَّامِ ، وَمِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ إلَى وَقْتِ تَصْنِيفِ هَذَا الْكِتَابِ كَانَ أَكْثَرُ مِنْ مِائَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً ، وَالرَّجُلُ الَّذِي فُقِدَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ ابْنَ عِشْرِينَ سَنَةٍ أَوْ أَكْثَرَ ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مُحَارِبًا ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَبْقَى فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ ظَاهِرًا .
فَإِنْ كَانَ لَهُ ابْنٌ مَاتَ زَمَانَ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَتَرَكَ أَخًا لِأُمِّهِ وَلِلْمَفْقُودِ عَصَبَةٌ ، فَإِنِّي أَنْظُرُ إلَى سِنِّ الْمَفْقُودِ يَوْمَ مَاتَ الِابْنُ ، فَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ يَعِيشُ إلَى ذَلِكَ الْوَقْتِ لَمْ أُوَرِّثْ الِابْنَ مِنْهُ شَيْئًا لِبَقَائِهِ حَيًّا بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ وَاسْتِصْحَابِ الْحَالِ ، وَلَمْ أُوَرِّثْهُ مِنْ أَبِيهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْوَارِثِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ شَرْطٌ لِوِرَاثَتِهِ عَنْهُ فَإِنَّ الْوِرَاثَةَ خِلَافَةٌ ، وَالْحَيُّ يَخْلُفُ الْمَيِّتَ ، فَأَمَّا الْمَيِّتُ فَلَا يَخْلُفُ الْمَيِّتَ ، وَمَا كَانَ شَرْطًا فَمَا لَمْ يَثْبُتْ بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ لَهُ لَا يُثْبِتُ الْحُكْمَ ، وَاسْتِصْحَابُ الْحَالِ دَلِيلٌ يَبْقَى لَا مُوجِبَ ، فَلِهَذَا لَا يَرِثُ الْمَفْقُودَ مِنْ أَبِيهِ ثُمَّ يَكُونُ مِيرَاثُ الْمَفْقُودِ لِعَصَبَتِهِ الْحَيِّ بَعْدَ مَا يَمْضِي مِنْ الْمُدَّةِ مَا لَا يَعِيشُ مِثْلُهُ إلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ لَا يَعِيشُ إلَى مِثْلِ تِلْكَ الْمُدَّةِ حِينَ مَاتَ ابْنُهُ جَعَلْتَ الْمِيرَاثَ لِابْنِهِ ؛ لِأَنَّ حَيَاتَهُ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ مَعْلُومٌ هُنَا بِدَلِيلِ شَرْعِيٍّ ، فَإِذَا صَارَ مَالُ الْمَفْقُودِ مِيرَاثًا لَهُ

كَانَ ذَلِكَ مَوْرُوثًا عَنْ ابْنِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ ، لِأَخِيهِ لِأُمِّهِ مِنْهُ السُّدُسُ ، وَالْبَاقِي لِعَصَبَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ مَاتَ بَعْضُ مَنْ يَرِثُهُ الْمَفْقُودُ قَبْلَ هَذَا فَنَصِيبُهُ مِنْ الْمِيرَاثِ يُوقَفُ إلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ حَالُهُ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَحْكُومٍ بِمَوْتِهِ ، وَلَكِنَّهُ يَشْتَبِهُ الْحَالُ بِمَنْزِلَةِ الْجَنِينِ فِي الْبَطْنِ فَيُوقَفُ نَصِيبُهُ ، فَإِنْ ظَهَرَ حَيًّا كَانَ ذَلِكَ مُسْتَحَقًّا لَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ حَالُهُ فَذَلِكَ مَرْدُودٌ إلَى وَرَثَةِ صَاحِبِ الْمَالِ عَلَى سِهَامِهِمْ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْقُوفِ لِلْجَنِينِ إذَا انْفَصَلَ الْجَنِينُ مَيِّتًا ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ شَرْطُ الِاسْتِحْقَاقِ لَهُ فَيَكُونُ مَوْرُوثًا عَنْ الْمَيِّتِ كَسَائِرِ وَرَثَتِهِ يَوْمَ مَاتَ .

وَإِذَا فُقِدَ الْمُكَاتَبُ وَلَهُ مَالٌ وَوَلَدٌ وُلِدُوا فِي الْمُكَاتَبَةِ وُقِفَ مَالُهُ حَتَّى يَظْهَرَ حَالُهُ ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ أَدَاءِ الْكِتَابَةِ مِنْ مَالِهِ إنَّمَا تَكُونُ بَعْدَ مَوْتِهِ لِيُحْكَمَ بِحُرِّيَّتِهِ مُسْتَنِدًا إلَى حَالِ حَيَاتِهِ ، وَلَمْ يَظْهَرْ مَوْتُهُ ، وَكَذَلِكَ اسْتِسْعَاءُ أَوْلَادِهِ فِي بَدَلِ الْكِتَابَةِ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ عَنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَلَمْ يَظْهَرْ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَسْعَى الْوَلَدُ إذَا كَانَ لَهُ مَالٌ بَعْدَ مَوْتِهِ حَقِيقَةً ، فَكَيْفَ يُسْتَسْعَى وَلَدُهُ بَعْدَ مَا يَصِيرُ مَفْقُودًا ، وَلَهُ مَالٌ ، وَيُنْفِقُ عَلَى وَلَدِهِ الصِّغَارِ وَبَنَاتِهِ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْمُكَاتَبَةِ ، وَعَلَى امْرَأَتِهِ مِنْ مَالِهِ ؛ لِأَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا يَسْتَحِقُّونَ عَلَيْهِ النَّفَقَةَ فِي كَسْبِهِ أَنْ لَوْ كَانَ حَاضِرًا فَكَذَلِكَ يُنْفَقُ عَلَيْهِمْ مِنْ مَالِهِ بَعْدَ مَا يَصِيرُ مَفْقُودًا كَوَلَدِ الْحُرِّ وَزَوْجَتِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ النَّفَقَةِ لِلزَّوْجَةِ بِعَقْدِ النِّكَاحِ ، وَالْحُرُّ وَالْمُكَاتَبُ فِيهِ سَوَاءٌ ، وَأَوْلَادُهُ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْمُكَاتَبَةِ هُوَ أَحَقُّ بِكَسْبِهِمْ فَتَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ ؛ لِأَنَّ الْغُرْمَ مُقَابَلٌ بِالْغُنْمِ ، فَإِنْ مَاتَ ابْنٌ لَهُ وُلِدَ فِي مُكَاتَبَتِهِ وَتَرَكَ مَالًا كَانَ مَالُهُ مَوْقُوفًا ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَفْقُودُ حَيًّا حِينَ اكْتَسَبَ هَذَا الْوَلَدُ فَكَسْبُهُ لِلْمَفْقُودِ ، وَإِنْ كَانَ مَيِّتَا فَكَسْبُهُ لِوَرَثَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُحْكَمُ بِحُرِّيَّتِهِ إذَا أُدِّيَتْ كِتَابَةُ أَبِيهِ مِنْ مَالِهِ مُسْتَنِدًا إلَى حَيَاةِ أَبِيهِ ، فَلِجَهَالَةِ الْمُسْتَحِقِّ بَقِيَ مَوْقُوفًا ، وَإِنْ كَانَ مَالُهُ فِي يَدِ أَخِيهِ لَمْ أُخْرِجْهُ مِنْ يَدِهِ ، وَلَمْ أَتَعَرَّضْ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي لِمَنْ هَذَا الْمَالُ ، وَمَا لَمْ يَظْهَرْ مُسْتَحِقٌّ لِلْمَالِ فَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَتَعَرَّضَ لِذِي الْيَدِ بِإِزَالَةِ يَدِهِ .
وَلَوْ أَقَرَّ وَلَدُ الْمُكَاتَبِ الَّذِينَ وُلِدُوا فِي الْمُكَاتَبَةِ وَهُمْ كِبَارٌ أَنَّ أَبُوهُمْ قَدْ مَاتَ وَمَالُهُ فِي أَيْدِيهِمْ ، وَأَقَرَّ الْمَوْلَى

بِذَلِكَ فَأَدَّوْا الْكِتَابَةَ وَقَسَمُوا الْمَالَ ثُمَّ اخْتَلَفُوا وَجَحَدَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَارْتَفَعُوا إلَى الْقَاضِي نَفَّذَ الْقَاضِي ذَلِكَ عَلَيْهِمْ لِتَقَدُّمِ الْإِقْرَارِ مِنْهُمْ بِذَلِكَ ، وَقِسْمَتُهُمْ عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمْ ، وَلِأَنَّ الَّذِي يَجْحَدُ بَعْدَ ذَلِكَ مُنَاقِضٌ لِكَلَامِهِ ، وَالْقَاضِي لَا يَلْتَفِتُ إلَى قَوْلِ الْمُنَاقِضِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَقْتَسِمُوا حَتَّى ارْتَفَعُوا إلَيْهِ ، وَأَقَرُّوا بِهِ عِنْدَهُ جَازَ إقْرَارُهُمْ عَلَيْهِ ، وَقَسَّمَ الْمَالَ بَيْنَهُمْ بَعْدَ أَدَاءِ الْكِتَابَةِ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَعْدُوهُمْ فَالثَّابِتُ بِإِقْرَارِهِمْ فِي حَقِّهِمْ كَالثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرُّوا بِدَيْنٍ عَلَيْهِ بَدَأَتْ بِهِ قَبْلَ الْمُكَاتَبَةِ ، كَمَا لَوْ ثَبَتَ مَوْتُهُ بِالْبَيِّنَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الدَّيْنَ أَقْوَى مِنْ الْمُكَاتَبَةِ حَتَّى إذَا عَجَزَ نَفْسُهُ سَقَطَتْ الْمُكَاتَبَةُ عَنْهُ دُونَ الدَّيْنِ ، وَعِنْدَ اجْتِمَاعِ الْحُقُوقِ فِي الْمَالِ يُبْدَأُ بِالْأَقْوَى فَالْأَقْوَى عُرِفَ ذَلِكَ بِقَضِيَّةِ الْعُقُولِ وَشَوَاهِدِ الْأُصُولِ .

وَكَذَلِكَ الْحُرُّ إذَا أَقَرَّ وَرَثَتُهُ أَنَّهُ قَدْ مَاتَ ، فَإِنَّهُ يَقْضِي دَيْنَهُ ، وَيَقْسِمُ الْمِيرَاثَ بَيْنَهُمْ إذَا كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْإِنْسَانِ فِيمَا فِي يَدِهِ مُعْتَبَرٌ مَا لَمْ يَظْهَرْ لَهُ خَصْمٌ يُنَازِعُهُ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْمَالُ فِي يَدِ غَيْرِهِمْ فَصَدَّقَهُمْ بِذَلِكَ .
وَإِنْ جَحَدَ مَوْتَهُ لَمْ أَنْزِعْهُ مِنْ يَدِهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ عَلَى مَوْتِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَدَّعُونَ اسْتِحْقَاقَ الْيَدِ فِي هَذَا الْمَالِ عَلَى ذِي الْيَدِ ، وَقَوْلُهُمْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَيْهِ فِي اسْتِحْقَاقِ يَدِهِ فَمَا لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَوْتِهِ لَا يُخْرِجُ الْقَاضِي الْمَالَ مِنْ يَدِ ذِي الْيَدِ .

وَلَوْ أَنَّ الْمَوْلَى أَعْتَقَ الْمُكَاتَبَ الْمَفْقُودَ ثُمَّ مَاتَ ابْنُ الْمُكَاتَبِ وَهُوَ حُرٌّ ، وَلَهُ إخْوَةٌ أَحْرَارٌ لَمْ يَقْضِ لَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ، حَتَّى يَعْلَمَ مَوْتَ الْمُكَاتَبِ قَبْلَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَفْقُودَ إنْ كَانَ حَيًّا فَقَدْ عَتَقَ بِإِعْتَاقِ الْمَوْلَى إيَّاهُ ، وَالْمِيرَاثُ لَهُ دُونَ الْإِخْوَةِ فَشَرْطُ تَوْرِيثِ الْإِخْوَةِ عَدَمُ أَبٍ هُوَ وَارِثٌ ، وَبِالظَّاهِرِ لَا يَثْبُتُ هَذَا الشَّرْطُ فَلِهَذَا لَا يَقْضِي لَهُمْ بِشَيْءٍ حَتَّى يَعْلَمَ مَوْتَ الْأَبِ قَبْلَهُ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَكَاتِبُ الْمُكَاتَبَ عَبْدًا ؛ لِأَنَّ إعْتَاقَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ الْمَفْقُودَ كَإِعْتَاقِهِ الْمُكَاتَبَ الْمَفْقُودَ ، وَلَا يُنْفِقْ عَلَى وَلَدِهِ الصِّغَارِ مِنْ هَذَا الْمَالِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي لِمَنْ هَذَا الْمَالُ ، فَإِنَّهُ كَمَا لَمْ يَثْبُتْ الِاسْتِحْقَاقُ فِيهِ لِلْإِخْوَةِ لَمْ يَثْبُتْ لِلْأَبِ الْمَفْقُودِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرِثُ مِنْ غَيْرِهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ حَيَاتَهُ حَقِيقَةً وَقْتَ مَوْتِ مُوَرِّثِهِ .

وَلَوْ ادَّعَى مَمْلُوكُ الْمَفْقُودِ الْعِتْقَ ، وَأَقَامَ بَيِّنَتَهُ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ لِانْعِدَامِ خَصْمٍ حَاضِرٍ .
( قَالَ : ) وَلَمْ أَدَعْ أَوْلَادَهُ يَبِيعُونَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَبِيعُوهُ فَبَعْدَهَا أَوْلَى ، وَمُرَادُهُ بَعْدُ مَا كَانُوا يُقِرُّونَ بِمَوْتِهِ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُمْ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ ، وَلِأَنَّهُ إنْ كَانَ مَيِّتًا فَالْوَلَدُ خَصْمٌ فِي الْبَيِّنَةِ الَّتِي أَقَامَهَا الْمَمْلُوكُ عَلَى الْعِتْقِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَتْ امْرَأَتُهُ الطَّلَاقَ أَوْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا لَمْ أَقْبَلْ بَيِّنَتَهَا عَلَى ذَلِكَ لِانْعِدَامِ الْخَصْمِ .

وَلَوْ أَوْصَى رَجُلٌ لِلْمَفْقُودِ بِوَصِيَّةٍ لَمْ أَقْضِ بِهَا لَهُ ، وَلَمْ أُبْطِلْهَا وَلَمْ أُنْفِقْ عَلَى وَلَدِهِ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ أُخْتُ الْمِيرَاثِ ، وَشَرْطٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْمُوصَى لَهُ بَقَاؤُهُ حَيًّا بَعْد مَوْتِ الْمُوصِي كَالْمِيرَاثِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يُوقَفُ نَصِيبُهُ مِنْ الْمِيرَاثِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَالُهُ ، وَلَا يُنْفَقُ عَلَى وَلَدِهِ مِنْهُ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ الْوَصِيَّةُ .

( رَجُلٌ ) مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَتَيْنِ وَابْنَ ابْنٍ وَبِنْتَ ابْنٍ ، وَتَرَكَ ابْنًا مَفْقُودًا ، وَتَرَكَ مَالًا فِي يَدِ الِابْنَتَيْنِ فَارْتَفَعُوا إلَى الْقَاضِي ، وَأَقَرُّوا أَنَّ الِابْنَ مَفْقُودٌ فَالْقَاضِي لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحَوِّلَ الْمَالَ مِنْ مَوْضِعِهِ ، وَلَا يُوقِفُ شَيْئًا مِنْهُ لِلْمَفْقُودِ ، وَمُرَادُهُ بِهَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُ لَا يُخْرِجُ شَيْئًا مِنْ أَيْدِيهِمَا ؛ لِأَنَّ الْقَاضِي لَا يَتَعَرَّضُ لِإِخْرَاجِ الْمَالِ مِنْ يَدِ ذِي الْيَدِ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ ، وَلَا خَصْمَ هُنَا ، فَإِنَّ أَوْلَادَ الْمَفْقُودِ لَا يَدَّعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ شَيْئًا ، وَلَا يَكُونُونَ خَصْمًا عَنْ الْمَفْقُودِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُدْرَى أَنَّ الْمَفْقُودَ حَيٌّ فَيَرِثُ أَوْ مَيِّتٌ فَلَا يَرِثُ فَلِهَذَا لَا يَخْرُجُ الْمَالُ مِنْ أَيْدِيهِمَا بِخِلَافِ مَالِ الْمَفْقُودِ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُ لَهُ ؛ لِأَنَّ حَقَّ أَوْلَادِهِ ثَابِتٌ فِي ذَلِكَ الْمَالِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ ، فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ النَّفَقَةَ فِي مِلْكِهِ ، وَاسْتِصْحَابُ الْحَالِ مُعْتَبَرٌ فِي إبْقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ ، وَكَذَلِكَ إنْ قَالَتْ الِابْنَتَانِ : قَدْ مَاتَ أَخُونَا ، وَقَالَ وَلَدُ الِابْنِ : هُوَ مَفْقُودٌ ؛ لِأَنَّ مَنْ فِي يَدِهِ الْمَالُ قَدْ أَقَرَّ لِوَلَدِ الِابْنِ بِبَعْضِ ذَلِكَ الْمَالِ ، وَهُمْ قَدْ رَدُّوا إقْرَارَهُمْ بِقَوْلِهِمْ : أَبُونَا مَفْقُودٌ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ ، وَلَوْ كَانَ مَالُ الْمَيِّتِ فِي يَدَيْ وَلَدِ الِابْنِ الْمَفْقُودِ ، وَطَلَبَتْ الِابْنَتَانِ مِيرَاثَهُمَا ، وَاتَّفَقُوا أَنَّ الِابْنَ مَفْقُودٌ ، فَإِنَّهُ يُعْطَى لِلِابْنَتَيْنِ النِّصْفُ ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِاسْتِحْقَاقِ النِّصْفِ لَهُمَا ، فَإِنَّ الْمَفْقُودَ إنْ كَانَ حَيًّا فَالْمِيرَاثُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ أَخِيهِمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَلَهُمَا النِّصْفُ ، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ وَالْبَاقِي لِوَلَدِ الِابْنِ فَيَدْفَعُ إلَيْهِمَا الْأَقَلَّ وَهُوَ النِّصْفُ ، وَيَتْرُكُ الْبَاقِي فِي يَدِ وَلَدِ الِابْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ لَهُمَا ، وَلَا لِأَبِيهِمَا ؛

لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَنْ الْمُسْتَحِقُّ لِهَذَا الْبَاقِي ، وَلَوْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِ أَجْنَبِيٍّ فَقَالَتْ الِابْنَتَانِ : مَاتَ أَخُونَا قَبْلَ أَبِينَا ، وَقَالَ وَلَدُ الِابْنِ : هُوَ مَفْقُودٌ فَإِنْ أَقَرَّ الَّذِي فِي - يَدِهِ الْمَالُ بِالْمَالِ لِلْمَيِّتِ ، وَبِأَنَّ الِابْنَ مَفْقُودٌ فَإِنَّهُ يُعْطَى لِلِابْنَتَيْنِ النِّصْفُ أَقَلُّ النَّصِيبَيْنِ لَهُمَا ، وَالْبَاقِي مَوْقُوفٌ عَلَى يَدِهِ حَتَّى يَظْهَرَ خَصْمُهُ ، وَمُسْتَحِقُّهُ بِظُهُورِ حَالِ الْمَفْقُودِ .
وَإِنْ قَالَ الَّذِي فِي يَدِهِ الْمَالُ قَدْ مَاتَ الْمَفْقُودُ قَبْلَ أَبِيهِ ، فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى دَفْع الثُّلُثَيْنِ إلَى الِابْنَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ ذِي الْيَدِ فِيمَا فِي يَدِهِ مُعْتَبَرٌ ، وَقَدْ أَقَرَّ بِأَنَّ ثُلُثَيْ مَا فِي يَدِهِ لِلِابْنَتَيْنِ فَيُجْبَرُ عَلَى تَسْلِيمِ ذَلِكَ إلَيْهِمَا ، وَلَا يَمْتَنِعُ صِحَّةُ إقْرَارِهِ يَقُولُ أَوْلَادُ الِابْنِ : أَبُونَا مَفْقُودٌ لِأَنَّهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ بِهَذَا الْقَوْلِ لَا يَدَّعُونَ شَيْئًا ، ثُمَّ يُوقَفُ الثُّلُثُ الْبَاقِي عَلَى يَدِ ذِي الْيَدِ حَتَّى يَظْهَرَ خَصْمُهُ وَمُسْتَحِقُّهُ .
وَلَوْ جَحَدَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ الْمَالُ أَنْ يَكُونَ الْمَالُ لِلْمَيِّتِ فَأَقَامَتْ الِابْنَتَانِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبَاهُمْ مَاتَ وَتَرَكَ هَذَا الْمَالَ مِيرَاثًا لَهُمَا وَلِأَخِيهِمَا الْمَفْقُودِ ، فَإِنْ كَانَ حَيًّا فَهُوَ الْوَارِثُ مَعَهُمَا ، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَوَلَدُهُ الْوَارِثُ مَعَهُمَا ، وَلَا يُعْلَمُ لَهُ غَيْرُ هَؤُلَاءِ ، فَإِنَّهُ يَدْفَعُ إلَى الِابْنَتَيْنِ النِّصْفَ ، وَهَذَا لِأَنَّهُمَا بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ يُثْبِتَانِ الْمِلْكَ لِأَبِيهِمَا فِي الْمَالِ ، وَالْأَبُ مَيِّتٌ ، وَأَحَدُ الْوَرَثَةِ يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْ الْمَيِّتِ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لَهُ بِالْبَيِّنَةِ ثُمَّ يَدْفَعُ إلَيْهِمَا الْقَدْرَ الْمُتَيَقَّنَ بِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ لَهُمَا ، وَهُوَ النِّصْفُ ، وَالْبَاقِي يَخْرُجُ مِنْ يَدِ ذِي الْيَدِ فَيُوضَعُ فِي يَدِ عَدْلٍ حَتَّى يَظْهَرَ مُسْتَحِقُّهُ ؛ لِأَنَّ ذَا الْيَدِ قَدْ جَحَدَهُ وَظَهَرَتْ جِنَايَتُهُ بِجُحُودِهِ ، فَلَا يُؤْتَمَنُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَإِنْ

كَانَ مَعْرُوفًا بِالْعَدَالَةِ ؛ لِأَنَّ الْعَدَالَةَ لَا تُتَحَرَّزُ زَمَنَ تَنَاوُلِ مَا يُزْعَمُ أَنَّهُ مِلْكٌ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ ، فَذُو الْيَدِ كَانَ هُنَاكَ مُقِرًّا بِأَنَّ الْمَالَ لِلْمَيِّتِ ، وَقَدْ انْتَفَتْ الْجِنَايَةُ مِنْهُ بِهَذَا الْإِقْرَارِ فَكَانَ تَرْكُ الْبَاقِي فِي يَدِهِ أَوْلَى لِظُهُورِ أَمَانَتِهِ بِالتَّجْرِبَةِ .
فَإِنْ ادَّعَى وَلَدُ الْمَفْقُودِ أَنَّهُ مَاتَ بَعْدَ شَهَادَةِ الشُّهُودِ لَمْ أَدْفَعْ .
إلَيْهِمْ شَيْئًا حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَوْتِهِ قَبْلَ أَبِيهِ ؛ لِأَنَّهُمْ يُرِيدُونَ اسْتِحْقَاقَ الْيَدِ عَلَى ذِي الْيَدِ ، وَمُجَرَّدُ قَوْلِهِمْ لَا يَكْفِي لِذَلِكَ ، وَلِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ لَهُمْ غَيْرُ مَعْلُومٍ ، فَإِنَّ أَبَاهُمْ إنْ مَاتَ قَبْلَ مَوْتِ الْجَدِّ فَهُمْ يَسْتَحِقُّونَ الثُّلُثَ مِيرَاثًا مِنْ الْجَدِّ ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ مَوْتِ الْجَدَّ فَهُمْ يَسْتَحِقُّونَ النِّصْفَ مِيرَاثًا مِنْ أَبِيهِمْ ، وَلَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ لَهُمْ بِشَيْءٍ قَبْلَ ظُهُورِ سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى مَوْتِهِ قَبْلَ أَبِيهِ أَوْ بَعْدَهُ ، وَلَا يُنْفَقُ عَلَيْهِمْ مِنْ ذَلِكَ الْمَالِ شَيْءٌ ، وَإِنْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي لِمَنْ هَذَا الْمَالُ ، وَنَفَقَتُهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ فِي مَالِ أَبِيهِمْ ، وَالْمِلْكُ لِأَبِيهِمْ فِي هَذَا الْمَالِ لَا يَثْبُتُ مَا لَمْ تُعْلَمْ حَيَاتُهُ بَعْدَ مَوْتِ الْجَدِّ .
فَإِنْ كَانَ الْمَالُ أَرْضًا فِي أَيْدِي الِابْنَتَيْنِ وَوَلَدِ الِابْنِ فَأَقَرُّوا جَمِيعًا أَنَّ الِابْنَ قَدْ مَاتَ قَبْلَ أَبِيهِ ، وَاقْتَسَمُوا الْأَرْضَ بَيْنَهُمْ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ ادَّعَوْا أَنَّهُ مَفْقُودٌ ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يُمْضِي الْقِسْمَةَ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهَا تَمَّتْ بِتَرَاضِيهِمْ ، وَقَوْلُهُمْ فِيمَا فِي أَيْدِيهِمْ مَقْبُولٌ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ مَاضِيَةً ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ إنَّهُ مَفْقُودٌ لِأَنَّهُمْ مُنَاقِضُونَ فِي ذَلِكَ ، وَالْقَاضِي لَا يَلْتَفِتُ إلَى قَوْلِ الْمُنَاقِضِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي وَلَدِ الِابْنِ رَجُلٌ غَائِبٌ لَمْ يَشْهَدْ الْقِسْمَةَ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ

مِنْ هَذِهِ الْأَرْضِ ثُمَّ قَدِمَ فَقَالَ : وَالِدِي مَفْقُودٌ ، وَأَرَادَ نَقْضَ الْقِسْمَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي لِنَفْسِهِ بِمُقَابِلَتِهِ ، وَإِنَّمَا يَدَّعِي الْمِلْكَ لِلْمَفْقُودِ ، وَهُوَ مُقِرٌّ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَكِيلٍ لَهُ ، وَلَا وَارِثَ لِأَنَّهُ حَيٌّ ، وَنَقْضُ الْقِسْمَةِ بِقَوْلِ مَنْ لَا يَدَّعِي لِنَفْسِهِ شَيْئًا لَا يَجُوزُ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ بَعْضُ الْأَرْضِ فِي يَدِهِ لِأَنَّهُ مُدَّعٍ لِنَفْسِهِ حَقًّا ، وَهُوَ إبْقَاءُ يَدِهِ فِيمَا فِي يَدِهِ ، وَقِسْمَتُهُمْ قَبْلَ حُضُورِهِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِمَا فِيهِ مِنْ اسْتِحْقَاقِ يَدِهِ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَكَانَ الْغَائِبِ صَغِيرٌ فَأَدْرَكَ ، وَإِنْ ادَّعَى أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ قَبْلَ جَدِّهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْقِسْمَةَ فَيَقْسِمُهَا الْقَاضِي بَيْنَهُمْ قِسْمَةً مُسْتَقْبَلَةً بِإِقْرَارِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ بَعْضَ الْمِلْكِ هُنَا ، وَيَدَّعِي بُطْلَانَ قِسْمَتِهِمْ ؛ لِأَنَّ تَرَاضِيهِمْ عَلَى الْقِسْمَةِ بَعْدَ مَوْتِ الْجَدِّ لَا يُعْمَلُ بِهِ فِي حَقِّ الْغَائِبِ وَالصَّغِيرِ ، وَهُمْ مُصَدِّقُونَ لَهُ فِيمَا يَدَّعِي ، فَلِهَذَا يَنْقُضُ الْقِسْمَةَ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْقَاضِي هُوَ الَّذِي قَسَمَهُ بَيْنَ الْحُضُورِ ، وَعَزَلَ نَصِيبَ الْغَائِبِ وَالصَّغِيرَةِ ، فَإِنَّهُ يُنَفِّذُ قِسْمَتَهُ فِي حَقِّهِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِ الْغَائِبِ وَالصَّغِيرِ مِنْ هَذَا الْمَالِ شَيْءٌ لِأَنَّ لِلْقَاضِي نَوْعَ وِلَايَةٍ فِي حَقِّ الْغَائِبِ وَالصَّغِيرِ ، وَلَيْسَ لِلْوَرَثَةِ تِلْكَ الْوِلَايَةُ فِي حَقِّ الْغَائِبِ وَالصَّغِيرِ ، وَلَوْ مَاتَتْ ابْنَةُ هَذَا الِابْنِ الْمَفْقُودِ فَإِنْ كَانَ مِيرَاثُهَا فِي يَدِ أَخِيهَا لَمْ أَتَعَرَّضْ لَهُ ، وَلَمْ أَقِفْ مِنْهُ شَيْئًا لِلْمَفْقُودِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُدْرَى أَحَيٌّ هُوَ فَيَكُونُ وَارِثًا أَوْ مَيِّتٌ فَلَا يَكُونُ وَارِثًا ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَتَعَرَّضُ لِيَدِ ذِي الْيَدِ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ .
وَإِنْ كَانَ مِيرَاثُهَا فِي يَدِ أَجْنَبِيٍّ لَمْ أَدْفَعْ إلَى أَخِيهَا مِنْهُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ شَرْطَ تَوْرِيثِ

الْأَخِ أَنْ يَكُونَ الْأَبُ مَيِّتًا فَمَا لَمْ يَصِرْ هَذَا الشَّرْطُ مَعْلُومًا بِالْحُجَّةِ لَا يُدْفَعُ إلَى الْأَخِ مِنْ الْمِيرَاث شَيْءٌ ، وَإِنْ كَانَ مِيرَاثُهَا فِي يَدِ أَخِيهَا وَأُخْتِهَا ، وَأَرَادُوا الْقِسْمَةَ وَهُمْ مُقِرُّونَ بِأَنَّ الْأَبَ مَفْقُودٌ لَمْ أَقْسِمْ بَيْنَهُمْ ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ تُبْنَى عَلَى ثُبُوتِ اسْتِحْقَاقِهِمْ بِالْمِيرَاثِ ، وَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ مَا لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَوْتِ الْأَبِ الْمَفْقُودِ قَبْلَ مَوْتِ الِابْنَةِ .

وَلَوْ كَانَ لِلْمَفْقُودِ امْرَأَةٌ فَمَاتَتْ ، وَمِيرَاثُهَا فِي يَدِ وَلَدِهَا لَمْ أَقْسِمْ لِلْمَفْقُودِ مِنْ ذَلِكَ نَصِيبًا ؛ لِأَنَّ حَيَاتَهُ بَعْدَ مَوْتِهَا غَيْرُ مَعْلُومٍ ، وَلَمْ أَقِفْ لَهُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ التَّعَرُّضَ لِيَدِ ذِي الْيَدِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ ، وَإِنْ أَرَادَ وَلَدُهَا قِسْمَةَ مِيرَاثِهَا وَهُوَ فِي أَيْدِيهِمْ لَمْ أَقْسِمْهُ بَيْنَهُمْ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَوْتِ الْمَفْقُودِ ، ثُمَّ يُعْزَلُ مِنْ ذَلِكَ مِثْلُ نَصِيبِ الْمَفْقُودِ ، فَيُوقَفُ حَتَّى يُعْلَمَ أَنَّهُ مَاتَ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا ، وَيُقْسَمُ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمْ .
أَمَّا قَبْلَ أَنْ تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَوْتِهِ فَالْقَاضِي لَا يَشْتَغِلُ بِالْقِسْمَةِ ؛ لِأَنَّ فِيهَا قَضَاءً عَلَى الْمَفْقُودِ ، وَهُوَ حَيٌّ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، فَلَا يُوَجِّهُ الْقَاضِي الْقَضَاءَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ ، وَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِهِ فَقَدْ ثَبَتَ لِلْقَاضِي وِلَايَةٌ تُوَجِّهُ الْقَضَاءَ عَلَيْهِ لَمَّا ظَهَرَ مَوْتُهُ فَيَعْزِلُ نَصِيبَهُ مِنْ الْقِسْمَةِ ، وَيَجْعَلُهُ مَوْقُوفًا حَتَّى يَتَبَيَّنَ مُسْتَحِقُّهُ بِظُهُورِ مَوْتِهِ قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا ، وَلَوْ كَانَ فِي يَدِ غَيْرِهِمْ قَضَيْتُ لَهُمْ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِاسْتِحْقَاقِهِمْ لِهَذَا الْمِقْدَارِ ، فَيُسَلَّمُ إلَيْهِمْ وَيُوقَفُ الرُّبْعُ عَلَى يَدِ ذِي الْيَدِ حَتَّى يَظْهَرَ حَالُ الْمَفْقُودِ ، بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَإِنَّ الْمَالَ هُنَاكَ فِي أَيْدِيهِمْ ، فَفِي الْقِسْمَةِ تَمْيِيزُ نَصِيبِ الْمَفْقُودِ عَنْ نَصِيبِهِمْ ، وَذَلِكَ قَضَاءٌ عَلَى الْمَفْقُودِ ، وَهُنَا الْمَالُ لَيْسَ فِي أَيْدِيهِمْ ، فَقَضَاؤُهُ لَهُمْ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِهِ لَا يَمَسُّ الْمَفْقُودَ ، وَهُوَ مُتَيَقِّنٌ اسْتِحْقَاقَهُ لَهُمْ .

وَإِذَا فُقِدَ الْمُرْتَدُّ وَلَمْ يُعْلَمْ أَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَمْ لَا ، فَإِنَّهُ يُوقَفُ مِيرَاثُهُ كَمَا يُوقَفُ مِيرَاثُ الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّ اللَّحَاقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ الْمَوْتِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ ، فَكَمَا يُوقَفُ مِيرَاثُ الْمَفْقُودِ الْمُسْلِمِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ مَوْتُهُ فَكَذَلِكَ يُوقَفُ مِيرَاثُ الْمَفْقُودِ الْمُرْتَدِّ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لُحُوقُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ .
وَإِنْ مَاتَ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِهِ قُسِمَ مِيرَاثُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ ، وَلَمْ يُحْبَسْ لِلْمَفْقُودِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ مَحْرُومٌ عَنْ الْمِيرَاثِ بِكَوْنِهِ مُرْتَدًّا ، فَإِنَّ الْمُرْتَدَّ لَا يَرِثُ أَحَدًا ، وَإِسْلَامُهُ بَعْدَ الرِّدَّةِ مَوْهُومٌ ، وَالْمَوْهُومُ لَا يُقَلِّلُ الْمَعْلُومَ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَبَ الْمَفْقُودَ لَوْ كَانَ عَبْدًا لَمْ يُحْبَسْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ مِيرَاثِ وَلَدِهِ ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ الَّذِي يَحْرِمُهُ مَعْلُومٌ ، وَالْعِتْقُ بَعْدَ ذَلِكَ مَوْهُومٌ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مِيرَاثُهُ فِي يَدِ أَجْنَبِيٍّ ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ الْمُرْتَدَّةُ ، فَإِنَّهَا لَا تَرِثُ أَحَدًا ، وَكَذَلِكَ الذِّمِّيُّ يُفْقَدُ ، وَلَهُ بَنُونَ مُسْلِمُونَ فَمَاتَ أَحَدُهُمْ لَمْ يُوقَفْ لِلْأَبِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ حِرْمَانِهِ مَعْلُومٌ ، فَإِنَّ الْكَافِرَ لَا يَرِثُ الْمُسْلِمَ .
وَكَذَلِكَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ فُقِدَ وَلَهُ بَنُونَ كُفَّارٌ ، فَمَاتَ أَحَدُهُمْ قَسَمْتُ مِيرَاثَهُ بَيْنَ إخْوَتِهِ ، وَلَمْ أَوْقِفْ عَلَى أَبِيهِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَرِثُ الْكَافِرَ ، فَسَبَبُ حِرْمَانِهِ مُتَيَقَّنٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

كِتَابُ الْغَصْبِ ( قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ السَّرَخْسِيُّ إمْلَاءً : ) ( اعْلَمْ ) بِأَنَّ الِاغْتِصَابَ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ بِمَا هُوَ عُدْوَانٌ مِنْ الْأَسْبَابِ ، وَاللَّفْظُ مُسْتَعْمَلٌ لُغَةً فِي كُلِّ بَابٍ مَالًا كَانَ الْمَأْخُوذُ أَوْ غَيْرَ مَالٍ .
يُقَالُ : غُصِبَتْ زَوْجَةُ فُلَانٍ وَوَلَدُهُ ، وَلَكِنَّ فِي الشَّرْعِ تَمَامَ حُكْمِ الْغَصْبِ يَخْتَصُّ بِكَوْنِ الْمَأْخُوذِ مَالًا مُتَقَوِّمًا .
ثُمَّ هُوَ فِعْلٌ مُحَرَّمٌ ؛ لِأَنَّهُ عُدْوَانٌ وَظُلْمٌ ، وَقَدْ تَأَكَّدَتْ حُرْمَتُهُ فِي الشَّرْعِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } وَقَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةِ نَفْسٍ مِنْهُ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { سِبَابُ الْمُسْلِمِ فِسْقٌ ، وَقِتَالُهُ كُفْرٌ ، وَحُرْمَةُ مَالِهِ كَحُرْمَةِ نَفْسِهِ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ : { أَلَا إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِي هَذَا فِي شَهْرِي هَذَا فِي مَقَامِي هَذَا } ( فَثَبَتَ ) أَنَّ الْفِعْلَ عُدْوَانٌ مُحَرَّمٌ فِي الْمَالِ كَهُوَ فِي النَّفْسِ ؛ وَلِهَذَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْمَأْثَمُ فِي الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ غَصَبَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ طَوَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ } إلَّا إنَّ الْمَأْثَمَ عِنْدَ قَصْدِ الْفَاعِلِ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ مُخْطِئًا بِأَنْ ظَنَّ الْمَأْخُوذَ مَالَهُ أَوْ كَانَ جَاهِلًا بِأَنْ اشْتَرَى عَيْنًا ثُمَّ ظَهَرَ اسْتِحْقَاقُهُ لَمْ يَكُنْ آثِمًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ } وَالْمُرَادُ الْمَأْثَمُ .
فَأَمَّا

حُكْمُهُ فِي الدُّنْيَا فَثَابِتٌ سَوَاءٌ كَانَ آثِمًا فِيهِ أَوْ غَيْرَ آثَمْ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ ذَلِكَ لِحَقِّ صَاحِبِهِ وَحَقُّهُ مَرْعِيٌّ ، وَإِنَّ الْآخِذَ مَعْذُورٌ شَرْعًا لِجَهْلِهِ وَعَدَمِ قَصْدِهِ ، وَالْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ الثَّابِتُ بِالْغَصْبِ وُجُوبُ رَدِّ الْعَيْنِ عَلَى الْمَالِكِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ مَتَاعَ أَخِيهِ لَاعِبًا ، وَلَا جَادًّا ، فَإِنْ أَخَذَهُ فَلْيَرُدَّهُ عَلَيْهِ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ } وَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهِ أَحَقَّ بِالْعَيْنِ وُجُوبُ الرَّدِّ عَلَى الْآخِذِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ مُفَوِّتٌ عَلَيْهِ يَدَهُ بِالْأَخْذِ ، وَالْيَدُ لِصَاحِبِ الْمَالِ فِي مَالِهِ مَقْصُودٌ بِهِ يَتَوَصَّلُ إلَى التَّصَرُّفِ وَالِانْتِفَاعِ وَيُحَصِّلُ ثَمَرَاتِ الْمِلْكِ ، فَعَلَى الْمُفَوِّتِ بِطَرِيقِ الْعُدْوَانِ نَسْخُ فِعْلِهِ لِيَنْدَفِعَ بِهِ الضَّرَرُ وَالْخُسْرَانُ عَنْ صَاحِبِهِ .
وَأَتَمُّ وُجُوهِهِ رَدُّ الْعَيْنِ إلَيْهِ فَفِيهِ إعَادَةُ الْعَيْنِ إلَى يَدِهِ كَمَا كَانَ فَهُوَ الْوَاجِبُ الْأَصْلِيُّ لَا يُصَارُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ بِهَلَاكِهِ فِي يَدِهِ بِفِعْلِهِ أَوْ بِغَيْرِ فِعْلِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الْمِثْلِ جُبْرَانًا لِمَا فَوَّتَ عَلَى صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّ تَفْوِيتَ الْيَدِ الْمَقْصُودَةِ كَتَفْوِيتِ الْمِلْكِ عَلَيْهِ بِالِاسْتِهْلَاكِ .
( ثُمَّ ) الْمِلْكُ نَوْعَانِ كَامِلٌ وَقَاصِرٌ ، فَالْكَامِلُ هُوَ الْمِثْلُ صُورَةً وَمَعْنًى .
وَالْقَاصِرُ هُوَ الْمِثْلُ مَعْنًى أَيْ فِي صِفَةِ الْمَالِيَّةِ ، فَيَكُونُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ هُوَ الْمِثْلُ التَّامُّ إلَّا إذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ الْمِثْلُ الْقَاصِرُ خَلَفًا عَنْ الْمِثْلِ التَّامِّ فِي كَوْنِهِ وَاجِبًا عَلَيْهِ .
وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ الْمَغْصُوبَ إذَا كَانَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَعَلَيْهِ الْمِثْلُ عِنْدَنَا .
وَقَالَ نُفَاةُ

الْقِيَاسِ : عَلَيْهِ رَدُّ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فِي الْعَيْنِ وَالْمَالِيَّةِ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ إيصَالُ الْعَيْنِ إلَيْهِ فَيَجِبُ إيصَالُ الْمَالِ إلَيْهِ ، وَوُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الْغَاصِبِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ ، وَمَالِيَّةُ الشَّيْءِ عِبَارَةٌ عَنْ قِيمَتِهِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْوَاجِبُ هُوَ الْمِثْلُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ } وَتَسْمِيَةُ الْفِعْلِ الثَّانِي اعْتِدَاءً بِطَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ مَجَازًا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا } وَالْمُجَازَاةُ لَا تَكُونُ سَيِّئَةً ، وَقَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ أَمْثَالٌ مُتَسَاوِيَةٌ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ } وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْجُبْرَانُ ، وَذَلِكَ فِي الْمِثْلِ أَتَمُّ ؛ لِأَنَّ فِيهِ مُرَاعَاةَ الْجِنْسِ وَالْمَالِيَّةِ ، وَفِي الْقِيمَةِ مُرَاعَاةُ الْمَالِيَّةِ فَقَطْ ، فَكَانَ إيجَادُ الْمِثْلِ أَعْدَلَ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ ذَلِكَ بِالِانْقِطَاعِ مِنْ أَيْدِي النَّاسِ فَحِينَئِذٍ يُصَارُ إلَى الْمِثْلِ الْقَاصِرِ ، وَهُوَ الْقِيمَةُ لِلضَّرُورَةِ ، ثُمَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ وَقْتَ الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ التَّحَوُّلَ إلَيْهِ الْآنَ يَكُونُ ، فَإِنَّ الْمِثْلَ وَاجِبٌ فِي الذِّمَّةِ ، وَهُوَ مَطْلُوبٌ لَهُ حَتَّى لَوْ صَبَرَ إلَى مَجِيءِ أَوَانِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالْمِثْلِ ، فَإِنَّمَا يَتَحَوَّلُ إلَى الْقِيمَةِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْعَجْزِ عَنْ الْمِثْلِ ، وَذَلِكَ وَقْتَ الْخُصُومَةِ وَالْقَضَاءِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْمَغْصُوبُ أَوْ الْمُسْتَهْلَكُ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْمِثْلُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِأَدَاءِ الْمِثْلِ بَلْ هُوَ مُطَالَبٌ بِأَدَاءِ الْقِيمَةِ بِأَصْلِ السَّبَبِ فَيُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ عِنْدَ ذَلِكَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : لَمَّا انْقَطَعَ الْمِثْلُ فَقَدْ الْتَحَقَ

بِمَا لَا مِثْلَ لَهُ فِي وُجُوبِ اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ ، وَالْخَلَفُ إنَّمَا يَجِبُ بِالسَّبَبِ الَّذِي يَجِبُ بِهِ الْأَصْلُ وَذَلِكَ الْغَصْبُ ، فَيُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْغَصْبِ وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ : أَصْلُ الْغَصْبِ أَوْجَبَ الْمِثْلَ خَلَفًا عَنْ رَدِّ الْعَيْنِ ، وَصَارَ ذَلِكَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ ، فَلَا يُوجِبُ الْقِيمَةَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْوَاحِدَ لَا يُوجِبُ ضَمَانَيْنِ ، وَلَكِنَّ الْمَصِيرَ إلَى الْقِيمَةِ لِلْعَجْزِ عَنْ أَدَاءِ الْمِثْلِ ، وَذَلِكَ بِالِانْقِطَاعِ عَنْ أَيْدِي النَّاسِ فَيُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ بِآخِرِ يَوْمٍ كَانَ مَوْجُودًا فِيهِ فَانْقَطَعَ .

وَإِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ مِنْ الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ كَالْجَوْزِ ، وَالْبَيْضِ ، وَالْفُلُوسِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الْمِثْلِ عِنْدَنَا ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ عَلَيْهِ ضَمَانُ الْقِيمَةِ ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى الِاخْتِلَافِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ فِي جَوَازِ السَّلَمِ فِيهَا عَدَدًا ، ثُمَّ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : الْمِثْلُ فِيمَا يُؤَدَّى بِهِ الضَّمَانُ مَنْصُوصٌ عَلَى اعْتِبَارِهِ ، وَالْمُمَاثَلَةُ فِي الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ غَيْرُ ثَابِتَةٍ بِالنَّصِّ بَلْ بِالِاجْتِهَادِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَجْرِي فِيهَا الرِّبَا ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِأَمْثَالٍ مُتَسَاوِيَةٍ قَطْعًا ، وَمَا كَانَ ثَابِتًا بِالنَّصِّ فَهُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ ، فَلَا يُؤَدَّى بِمَا هُوَ مُجْتَهَدٌ فِيهِ ، وَلَكِنْ لَا يُصَارُ إلَى الْقِيمَةِ لِتَعَذُّرِ أَدَاءِ الْمِثْلِ كَمَا فِي الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْمُمَاثَلَةُ فِي آحَادِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ثَابِتَةٌ بِالْعُرْفِ فَهُوَ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ ، وَهُوَ جُبْرَانُ حَقِّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فِي مُرَاعَاةِ الْجِنْسِ وَالْمَالِيَّةِ عَلَيْهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ آحَادَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا تَتَفَاوَتُ فِي الْمَالِيَّةِ إنَّمَا تَتَفَاوَتُ أَنْوَاعُهَا كَالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ .
وَإِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ مِنْ الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ كَالثِّيَابِ وَالدَّوَابِّ .

وَالْوَاجِبُ عَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُ الْقِيمَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدُّ الْعَيْنِ عِنْدَنَا وَقَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ : رَحِمَهُمُ اللَّهُ الْوَاجِبُ هُوَ الْمِثْلُ لِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ : { كُنْتُ فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ الْحِجَابُ فَأُتِيَ بِقَصْعَةٍ مِنْ ثَرِيدٍ مِنْ عِنْدِ بَعْضِ أَزْوَاجِهِ فَضَرَبَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا الْقَصْعَةَ بِيَدِهَا فَانْكَسَرَتْ فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْكُلُ مِنْ الْأَرْضِ وَيَقُولُ : غَارَتْ أُمُّكُمْ غَارَتْ أُمُّكُمْ ، ثُمَّ جَاءَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا بِقَصْعَةٍ مِثْلِ تِلْكَ الْقَصْعَةِ فَرَدَّتْهَا ، وَاسْتَحْسَنَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْغَيْرَةِ } وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمَغْرُورِ : يُفَكُّ الْغُلَامُ بِالْغُلَامِ ، الْجَارِيَةُ بِالْجَارِيَةِ وَلَكِنَّا نَحْتَجُّ بِحَدِيثٍ مَعْرُوفٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { قَالَ فِي عَبْدٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ يَعْتِقُهُ أَحَدُهُمَا : فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا ضَمِنَ قِيمَةَ نَصِيبِ شَرِيكِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا سَعَى الْعَبْدُ فِي قِيمَةِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ غَيْرَ مَشْقُوقٍ عَلَيْهِ } فَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْقِيمَةِ فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ .
وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الرَّدَّ كَانَ عَلَى طَرِيقِ الْمُرُوءَةِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ لَا عَلَى طَرِيقِ الضَّمَانِ ، وَقَدْ كَانَتْ الْقَصْعَتَانِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعْنَى قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُفَكُّ الْغُلَامُ بِالْغُلَامِ يَعْنِي بِقِيمَةِ الْغُلَامِ ، فَقَدْ صَحَّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَضَيَا فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ أَنَّهُ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ .
ثُمَّ بَدَأَ مُحَمَّدٌ الْكِتَابَ بِحَدِيثِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَ : مَنْ كَسَرَ عَصَى فَهِيَ لَهُ ، وَعَلَيْهِ مِثْلُهُ ، وَذَكَرَ

بَعْدَهُ عَنْ الْحَكَمِ عَنْ شُرَيْحٍ قَالَ : مَنْ كَسَرَ عَصَى فَهِيَ لَهُ ، وَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا ، فَأَمَّا أَنْ يَقُولَ : مُرَادُهُ بِالْمِثْلِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْمَالِيَّةِ خَاصَّةً وَذَلِكَ فِي الْقِيمَةِ أَوْ يُحْمَلُ الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ عَلَى الْعِصِيّ الصَّغِيرَةِ ، فَإِنَّهَا مِنْ الْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَقَارِبَةِ لَا تَتَفَاوَتُ آحَادُهَا فِي الْمَالِيَّةِ كَالسِّهَامِ ، وَمَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ الثَّانِي مَحْمُولٌ عَلَى الْعِصِيّ الْكَبِيرَةِ ، فَإِنَّهَا كَالْعَدَدِيَّاتِ الْمُتَفَاوِتَةِ ؛ لِأَنَّ آحَادَهَا تَتَفَاوَتُ فِي الْمَالِيَّةِ .
ثُمَّ الْمُرَادُ بِالْكَسْرِ مَا يَكُونُ فَاحِشًا حَتَّى لَا يُمْكِنَ التَّقَضِّي بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْكَسْرُ يَسِيرًا فَلَيْسَ عَلَى الْكَاسِرِ إلَّا ضَمَانُ النُّقْصَانِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفَوِّتٍ لِلْمَنْفَعَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْ الْعَيْنِ ، وَإِنَّمَا يُمَكِّنُ نُقْصَانًا فِي مَالِيَّتِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ النُّقْصَانِ ، وَفِي الْكَسْرِ الْفَاحِشِ هُوَ مُسْتَهْلِكٌ مِنْ وَجْهٍ لِفَوَاتِ الْمَنْفَعَةِ الْمَطْلُوبَةِ مِنْ الْعَيْنِ ، فَكَانَ لِصَاحِبِهَا حَقُّ تَضْمِينِ الْقِيمَةِ إنْ شَاءَ ، وَهَذَا الْحُكْمُ فِي كُلِّ عَيْنٍ إلَّا فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ ، فَإِنَّ التَّعْيِيبَ هُنَاكَ فَاحِشًا كَانَ أَوْ يَسِيرًا يُثْبِتُ لِصَاحِبِهَا الْخِيَارَ بَيْنَ أَنْ يُمْسِكَ الْعَيْنَ وَلَا يَرْجِعَ عَلَى الْغَاصِبِ بِشَيْءٍ ، وَبَيْنَ أَنْ يُسَلِّمَ الْعَيْنَ إلَيْهِ وَيُضَمِّنَهُ مِثْلَهُ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّ تَضْمِينَ النُّقْصَانِ مُتَعَذِّرٌ ، فَإِنَّهُ يَتَعَدَّى إلَى الرِّبَا ؛ لِأَنَّهُ يُسَلِّمُ لَهُ قَدْرَ مِلْكِهِ وَزِيَادَةً ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ النُّقْصَانَ ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ لِلْجَوْدَةِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ قِيمَةً كَمَا فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ لَهَا قِيمَةً إذَا قُوبِلَتْ بِخِلَافِ جِنْسِهَا ، وَلَهَا قِيمَةٌ فِي إثْبَاتِ الْخِيَارِ لِصَاحِبِهَا عِنْدَ تَفْوِيتِ الْغَاصِبِ الْجَوْدَةَ ، وَمَا لَا يُتَقَوَّمُ شَرْعًا .

فَالْجِنْسُ وَغَيْرُ الْجِنْسِ فِيهِ سَوَاءٌ ، كَالْخَمْرِ وَالصَّنْعَةِ مِنْ الْمَلَاهِي وَالْمَعَازِفِ ، ثُمَّ وُجُوبُ ضَمَانِ النُّقْصَانِ لَا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا ، فَإِنَّ حُكْمَ الرِّبَا يَجْرِي بِالْمُقَابَلَةِ عَلَى طَرِيقِ الْمُعَادَلَةِ ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هُنَا خُصُوصًا عَلَى أَصْلِهِ ، فَإِنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ عِنْدَهُ لَا يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي الْمَضْمُونِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : لَا قِيمَةَ لِلْجَوْدَةِ فِي هَذِهِ الْأَمْوَالِ مُنْفَرِدَةً عَنْ الْأَصْلِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { جَيِّدُهَا وَرَدِيئُهَا سَوَاءٌ } يَعْنِي فِي الْمَالِيَّةِ الَّتِي يَنْبَنِي عَلَيْهَا الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْ هَذِهِ الْجَوْدَةِ حَتَّى لَوْ بَاعَ قَفِيزَ حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ بِقَفِيزِ حِنْطَةٍ رَدِيئَةٍ وَدِرْهَمٍ لَا يَجُوزُ ، وَمَا يَكُونُ مُتَقَوِّمًا شَرْعًا فَالِاعْتِيَاضُ عَنْهُ جَائِزٌ ، وَبِهَذَا فَارَقَ حَالَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ ، وَثُبُوتُ الْخِيَارِ عِنْدَنَا لَيْسَ لِفَوَاتِ الْجَوْدَةِ بَلْ لِلتَّغَيُّرِ الْمُتَمَكِّنِ بِفِعْلِهِ فِي الْعَيْنِ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِلْجَوْدَةِ مُنْفَرِدَةً عَنْ الْأَصْلِ قُلْنَا : لَوْ ضَمَّنَهُ النُّقْصَانَ كَانَ فِيهِ إقْرَارٌ بِجَوْدَتِهِ عَنْ الْأَصْلِ ، فَأَمَّا إذَا سَلَّمَ الْعَيْنَ إلَيْهِ ، فَلَا يَكُونُ فِيهِ إقْرَارٌ بِجَوْدَتِهِ عَنْ الْأَصْلِ ، وَهِيَ مُتَقَوِّمَةٌ مَعَ الْأَصْلِ تَبَعًا ، فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ الْمِثْلَ ، وَقَوْلُ شُرَيْحٍ هُوَ دَلِيلٌ لَهُ عَلَى أَنَّ الْمَغْصُوبَ يَصِيرُ مِلْكًا لِلْغَاصِبِ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا وَذُكِرَ عَنْ أَبِي الْبُحْتُرِيِّ أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : إنَّ بَنِي عَمِّكَ عَدَوْا عَلَى إبِلِي فَقَطَعُوا أَلْبَانَهَا ، وَأَكَلُوا فِصْلَانَهَا فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ : رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إذًا نُعْطِيكَ إبِلًا مِثْلَ إبِلِكَ ، وَفِصْلَانًا مِثْلَ فِصْلَانِكَ ، قَالَ : إذًا تَنْقَطِعُ أَلْبَانُهَا ، وَيَمُوتُ فِصْلَانُهَا حَتَّى تَبْلُغَ الْوَادِي ، فَغَمَزَهُ بَعْضُ الْقَوْمِ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ

مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
فَقَالَ : بَيْنِي ، وَبَيْنَكَ عَبْدُ اللَّهِ ، فَقَالَ عُثْمَانُ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَعَمْ ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَرَى أَنْ يَأْتِيَ هَذَا وَادِيهِ فَيُعْطَى ثَمَّةَ إبِلًا مِثْلَ إبِلِهِ ، وَفِصْلَانًا مِثْلَ فِصْلَانِهِ فَرَضِيَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِذَلِكَ وَأَعْطَاهُ وَبِظَاهِرِ الْحَدِيثِ يَسْتَدِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ فِي أَنَّ الْحَيَوَانَ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ عِنْدَ الْغَصْبِ وَالْإِتْلَافِ فَقَدْ اتَّفَقَ عَلَيْهِ عُثْمَانُ وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إلَّا أَنَّا نَقُولُ : لَمْ يَكُنْ هَذَا عَلَى طَرِيقِ الْقَضَاءِ بِالضَّمَانِ ، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الصُّلْحِ بِالتَّرَاضِي ؛ لِأَنَّ الْمُتْلِفَ لَمْ يَكُنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَوُجُوبُ الضَّمَانِ عَلَى الْمُتْلِفِ ، وَالْإِنْسَانُ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ بِجِنَايَةِ بَنِي عَمِّهِ إلَّا أَنَّ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَتَبَرَّعُ بِأَدَاءِ مِثْلِ ذَلِكَ عَنْ بَنِي عَمِّهِ ، وَيَقُولُ إنَّ قُوَّتَهُمْ وَنُصْرَتَهُمْ بِي ، وَهَذَا لِأَنَّهُ كَانَ بِهِ فَرْطُ الْمَيْلِ إلَى أَقَارِبِهِ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ ذَكَرَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الشُّورَى فَقَالَ : إنَّهُ كُلِّفَ بِأَقَارِبِهِ وَكَانَ ذَلِكَ ظَاهِرًا مِنْهُ ؛ وَلِهَذَا جَاءَ الْأَعْرَابِيُّ يُطَالِبُهُ ، وَإِنَّمَا غَمَزَهُ بَعْضُ الْقَوْمِ بِعَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِمَا كَانَ بَيْنَ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَبَيْنَهُ مِنْ النُّفْرَةِ ، وَسَبَبُ ذَلِكَ مَعْلُومٌ .
ثُمَّ فِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ التَّحْكِيمِ وَأَنَّ الْإِمَامَ إذَا كَانَ يُخَاصِمُهُ غَيْرُهُ فَلَهُ أَنْ يُحَكِّمَ بِرِضَى الْخَصْمِ مَنْ يَنْظُرُ بَيْنَهُمَا كَمَا فَعَلَهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ رَدَّ مِثْلِ الْمَغْصُوبِ أَوْ الْمُسْتَهْلَكِ يَجِبُ فِي مَوْضِعِ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ ؛ لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَكَمَ بِذَلِكَ وَانْقَادَ لَهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْجُبْرَانُ ،

وَرَفْعُ الْخُسْرَانِ عَنْ صَاحِبِ الْمَالِ ، وَذَلِكَ بِرَدِّ الْعَيْنِ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَأَدَاءِ الضَّمَانِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا : إنَّ مُؤْنَةَ الرَّدِّ تَكُونُ عَلَى الْغَاصِبِ .
وَذُكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ مُسْلِمًا كَسَرَ دِنًّا مِنْ خَمْرٍ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَضَمَّنَهُ شُرَيْحٌ قِيمَةَ الْخَمْرِ ، وَبِهِ نَأْخُذُ ، فَإِنَّ الْخَمْرَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ عِنْدَنَا فِي حَقِّهِمْ لِتَمَامِ إحْرَازِهَا مِنْهُمْ بِحِمَايَةِ الْإِمَامِ ، فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ فِيهَا الْمَالِيَّةَ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمَالُ مُتَقَوِّمًا بِالْإِحْرَازِ ، وَالْإِمَامُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَكُفَّ عَنْهُمْ الْأَيْدِي الْمُتَعَرِّضَةَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ لِمَكَانِ عَقْدِ الذِّمَّةِ فَيَتِمُّ إحْرَازُهَا مِنْهُمْ بِذَلِكَ ، وَسَنُقَرِّرُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ .
( ثُمَّ ) فِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْمُسْلِمَ يَضْمَنُ قِيمَةَ الْخَمْرِ لِلذِّمِّيِّ عِنْدَ الْإِتْلَافِ دُونَ الْمِثْلِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ عَاجِزٌ عَنْ تَمْلِيكِ الْخَمْرِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَعِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ رَدِّ الْمِثْلِ يَكُونُ الْوَاجِبُ هُوَ الْقِيمَةُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ تَضْمِينَ قِيمَةِ الدَّنِّ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُشْكِلٍ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الرَّاوِي مَا هُوَ الْمُشْكِلُ ، وَهُوَ تَضْمِينُهُ قِيمَةَ الْخَمْرِ .

( وَإِذَا ) غَصَبَ الرَّجُلُ جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ فَازْدَادَتْ عِنْدَهُ فَالزِّيَادَةُ نَوْعَانِ مُنْفَصِلَةٌ مُتَوَلِّدَةٌ مِنْهَا كَالْوَلَدِ وَالْعُقْرِ ، وَمُتَّصِلَةٌ كَالسِّمَنِ وَانْجِلَاءِ الْبَيَاضِ عَنْ الْعَيْنِ ، وَفِي الْكِتَابِ بَدَأَ بِبَيَانِ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ ، وَلَكِنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَبْدَأَ بِبَيَانِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ فَيَقُولُ : هَذِهِ الزِّيَادَةُ تَحْدُثُ أَمَانَةً فِي يَدِهِ عِنْدَنَا حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ مِنْ غَيْرِ صُنْعِهِ لَمْ يَضْمَنْ قِيمَتَهَا عِنْدَنَا .
( وَقَالَ ) الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَحْدُثُ مَضْمُونَةً ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا تَوَلَّدَتْ مِنْ أَصْلٍ مَضْمُونٍ بِيَدٍ مُتَعَدِّيَةٍ فَتَحْدُثُ مَضْمُونَةً كَزَوَائِدِ الصَّيْدِ الْمُخْرَجِ مِنْ الْحَرَمِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُتَوَلِّدَ مِنْ الْأَصْلِ يَكُونُ بِصِفَةِ الْأَصْلِ ، وَالْأَصْلُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ مَا تَوَلَّدَ مِنْهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الزِّيَادَةَ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ كَالْأَصْلِ .
( ثُمَّ ) لَهُ فِي بَيَانِ الْمَذْهَبِ طَرِيقَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ الزِّيَادَةَ مَغْصُوبَةٌ بِمُبَاشَرَةٍ مِنْ الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّ حَدَّ الْغَصْبِ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ لِنَفْسِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَقَدْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَتَمَلَّكُونَ بِهَذِهِ الْيَدِ ، وَيُسَمُّونَهُ غَصْبًا ، فَالشَّرْعُ أَبْطَلَ حُكْمَ الْمِلْكِ بِهَا فِي كُلِّ مُحْتَرَمٍ ، وَأَثْبَتَ الضَّمَانَ ، وَبَقِيَ حُكْمُ الْمِلْكِ بِهَا فِي كُلِّ مُبَاحٍ كَالصَّيْدِ ، ثُمَّ إنَّمَا يُمْلَكُ الصَّيْدُ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ يَجِبُ الضَّمَانُ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ مُثْبِتٌ يَدَهُ عَلَى الْوَلَدِ حَتَّى لَوْ نَازَعَهُ فِيهِ إنْسَانٌ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ .
( وَالثَّانِي ) هُوَ أَنَّهُ غَاصِبٌ لِلْوَلَدِ تَسْبِيبًا ، فَإِنَّ غَصْبَ الْأُمِّ وَإِمْسَاكَهَا إلَى وَقْتِ الْوِلَادَةِ سَبَبٌ لِحُصُولِ الْوَلَدِ فِي يَدِهِ وَهُوَ مُعْتَادٌ ؛ لِأَنَّ أَصْحَابَ السَّوَائِمِ يُمْسِكُونَ الْأُمَّهَاتِ لِتَحْصِيلِ الْأَوْلَادِ ، وَهَذَا تَسْبِيبٌ هُوَ فِيهِ مُتَعَدٍّ فَيَنْزِلُ

مَنْزِلَةَ الْمُبَاشَرَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ تَارَةً وَبِالْغَصْبِ أُخْرَى ، وَفِي الْإِتْلَافِ الْمُسَبِّبُ إذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا يُجْعَلُ كَالْمُبَاشِرِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ كَحَفْرِ الْبِئْرِ وَوَضْعِ الْحَجَرِ فِي الطَّرِيقِ فَكَذَلِكَ فِي الْغَصْبِ .
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ وُجُوبَ ضَمَانِ الْغَصْبِ لَا يَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ تَحَقُّقِ الْغَصْبِ ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ ؛ وَلِهَذَا يُضَافُ إلَيْهِ الْحُكْمُ ، وَلَا يَثْبُتُ بِدُونِ السَّبَبِ ، وَلَمْ يُوجَدْ الْغَصْبُ فِي الزِّيَادَةِ تَسْبِيبًا وَلَا مُبَاشَرَةً ؛ لِأَنَّ حَدَّ الْغَصْبِ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ لِنَفْسِهِ عَلَى وَجْهٍ تَكُونُ يَدُهُ مُفَوِّتًا لِيَدِ الْمَالِكِ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ وَاجِبٌ بِطَرِيقِ الْجُبْرَانِ ، فَلَا يَجِبُ إلَّا بِتَفْوِيتِ شَيْءٍ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ فِي الْغَصْبِ تَفْوِيتُ الْعَيْنِ ، فَعَرَفْنَا أَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ بِاعْتِبَارِ تَفْوِيتِ الْيَدِ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّ التَّفْوِيتَ بِإِزَالَةِ يَدِهِ عَمَّا كَانَ فِي يَدِهِ أَوْ بِإِزَالَةِ تَمَكُّنِهِ مِنْ أَخْذِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ ، وَمَا كَانَ الْوَلَدُ فِي يَدِ الْمَالِكِ قَطُّ ، وَلَا زَالَ تَمَكُّنُهُ مِنْ أَخْذِهِ لِحُصُولِهِ فِي دَارِ الْغَاصِبِ مَا لَمْ يَمْنَعْهُ الْغَاصِبُ مِنْهُ ، فَلَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ لِانْعِدَامِ سَبَبِ الضَّمَانِ حَتَّى يُطَالِبَهُ بِالرَّدِّ ، فَإِذَا مَنَعَهُ يَتَحَقَّقُ التَّفْوِيتُ بِقَصْرِ يَدِهِ عَنْهُ بِالْمَنْعِ ، فَيَكُونُ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَالثَّوْبِ إذَا هَبَّتْ بِهِ الرِّيحُ وَأَلْقَتْهُ فِي حِجْرِهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الِاسْتِيلَاءِ الْمُوجِبِ لِلْمِلْكِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ حُكْمٌ مَقْصُودٌ عَلَى الْمَحِلِّ فَيَتِمُّ سَبَبُهُ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَى الْمَحِلِّ ، وَالضَّمَانُ جُبْرَانٌ لِحَقِّ الْمَالِكِ ، فَلَا يَتِمُّ سَبَبُهُ إلَّا بِتَفْوِيتِ شَيْءٍ عَلَيْهِ ، وَبِخِلَافِ ضَمَانِ صَيْدِ الْحَرَمِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ ضَمَانٌ إتْلَافُ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فِيهِ ، فَإِنَّهُ بِالْحَرَمِ أَمَّنَ الصَّيْدَ ، وَمَعْنَى

الصَّيْدِيَّةِ فِي تَنْفِيرِهِ وَاسْتِيحَاشِهِ وَبُعْدِهِ عَنْ الْأَيْدِي ، فَإِثْبَاتُ الْيَدِ عَلَيْهِ يَكُونُ إتْلَافًا لِمَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فِيهِ حُكْمًا ، وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ فِي الْوَلَدِ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهِ .
فَأَمَّا الْأَمْوَالُ فَمَحْفُوظَةٌ بِالْأَيْدِي ، فَلَا يَكُونُ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَى الْمَالِ إتْلَافًا لِشَيْءٍ عَلَى الْمَالِكِ .
يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ الْحَقَّ فِي صَيْدِ الْحَرَمِ لِلشَّرْعِ ، وَالشَّرْعُ يُطَالِبُهُ بِرَدِّ الْأَصْلِ مَعَ وَلَدِهِ إلَى مَأْمَنِهِ ، فَإِنَّمَا وُجِدَ الْمَنْعُ مِنْهُ بَعْدَ الطَّلَبِ ، وَذَلِكَ سَبَبُ الضَّمَانِ .
وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ يَقُولُ : إذَا هَلَكَ الْوَلَدُ قَبْلَ تَمَكُّنِهِ مِنْ الرَّدِّ إلَى الْحَرَمِ لَا يَضْمَنُ ، وَعَلَى الطَّرِيقِ الْأَوَّلِ هُوَ ضَامِنٌ ، وَلَا وَجْهَ لِإِثْبَاتِ حُكْمِ الضَّمَانِ فِي الزِّيَادَةِ بِتَوَلُّدِهَا مِنْ الْأَصْلِ الْمَضْمُونِ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ لَيْسَ فِي الْعَيْنِ بَلْ هُوَ فِي ذِمَّةِ الْغَاصِبِ ، وَإِنَّمَا تُوصَفُ الْعَيْنُ بِهِ مَجَازًا .
كَمَا يُقَالُ : فُلَانٌ مَغْصُوبٌ عَلَيْهِ ، وَالْغَصْبُ صِفَةٌ لِلْغَاصِبِ بِخِلَافِ الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّهُ وَصْفٌ لِلْمَحِلِّ ، فَإِنَّهُ يُوصَفُ بِأَنَّهُ مَمْلُوكُهُ حَقِيقَةً فَيَتَعَدَّى ذَلِكَ إلَى الْوَلَدِ ، وَإِنْ بَاعَ الْغَاصِبُ الْوَلَدَ وَسَلَّمَهُ أَوْ أَتْلَفَهُ فَهُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ لِوُجُودِ التَّعَدِّي مِنْهُ عَلَى الْأَمَانَةِ كَمَا لَوْ بَاعَ الْمُودِعُ الْوَدِيعَةَ .
( فَإِنْ قِيلَ : ) فَلَيْسَ فِي الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ تَفْوِيتُ يَدِ الْمَالِكِ فِي الْوَلَدِ .
( قُلْنَا : ) بَلْ فِيهِ تَفْوِيتُ يَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَخْذِهِ مِنْ الْغَاصِبِ ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِبَيْعِهِ وَتَسْلِيمِهِ ، فَلِوُجُودِ التَّفْوِيتِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ ضَامِنًا ، فَأَمَّا الزِّيَادَةُ الْمُتَّصِلَةُ فَهِيَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْغَاصِبِ عِنْدَنَا حَتَّى لَوْ هَلَكَتْ الْجَارِيَةُ بَعْدَ الزِّيَادَةِ ضَمِنَ قِيمَتَهَا وَقْتَ الْغَصْبِ ، وَلَا يَضْمَنُ الزِّيَادَةَ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَضْمُونَةٌ كَالزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ

عِنْدَهُ ، وَيَزْعُمُ أَنَّ كَلَامَهُ هُنَا أَظْهَرُ ، فَإِنَّ الزِّيَادَةَ تَصِيرُ مَغْصُوبَةً بِالْوُقُوعِ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ، وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَا تَنْفَصِلُ عَنْ الْأَصْلِ فَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ يَدِهِ عَلَى الْأَصْلِ يَدَ غَصْبٍ أَنْ تَكُونَ عَلَى الزِّيَادَةِ يَدَ غَصْبٍ أَيْضًا ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ فِي الْأَصْلِ لَيْسَ هُوَ يَدُ الْغَصْبِ بَلْ الْيَدُ الْغَاصِبَةِ ؛ لِأَنَّ لِيَدِ الْغَصْبِ حُكْمَ الْغَصْبِ ، وَإِنَّمَا يُحَالُ بِالضَّمَانِ عَلَى أَصْلِ السَّبَبِ لَا عَلَى حُكْمِهِ فَأَصْلُ السَّبَبِ الْيَدُ الْغَاصِبَةُ الْمُفَوِّتَةُ لِيَدِ الْمَالِكِ ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فِي الزِّيَادَةِ ، وَإِنْ مَنَعَهَا بَعْدَ الطَّلَبِ فَفِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ الزِّيَادَةُ تَصِيرُ مَضْمُونَةً بِالْمَنْعِ ؛ لِأَنَّ قَصْرَ يَدِ الْمَالِكِ عَنْهَا يَثْبُتُ بِالْمَنْعِ ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَا تَصِيرُ مَضْمُونَةً ؛ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ بِالرَّدِّ فِي حَقِّ الزِّيَادَةِ لَا تَتَحَقَّقُ مُنْفَرِدَةً عَنْ الْأَصْلِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ رَدُّهَا بِدُونِ الْأَصْلِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِهَذَا الْمَنْعِ فِي حَقِّ الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ مَضْمُونٌ بِدُونِ هَذَا الْمَنْعِ فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ بِالْمَنْعِ بَعْدَ الطَّلَبِ بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ .
وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ لَوْ ازْدَادَتْ قِيمَتُهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فِي بَدَنِهَا ، ثُمَّ هَلَكَتْ لَمْ يَضْمَنْ الْغَاصِبُ إلَّا قِيمَتَهَا وَقْتَ الْغَصْبِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا وَقْتَ الْهَلَاكِ ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ إثْبَاتُ الْيَدِ ، وَالْيَدُ مُسْتَدَامٌ ، وَالْأَصْلُ أَنَّ مَا يُسْتَدَامُ فَإِنَّهُ يُعْطَى لِاسْتِدَامَتِهِ حُكْمَ إنْشَائِهِ ، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَصِيرُ كَالْمُجَدِّدِ لِلْغَصْبِ عِنْدَ الْهَلَاكِ .
وَعِنْدَنَا سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ تَفْوِيتُ يَدِ الْمَالِكِ ، وَذَلِكَ بِابْتِدَاءِ الْغَصْبِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا عِنْدَ ذَلِكَ ، فَإِنْ بَاعَهَا وَسَلَّمَهَا بَعْدَ مَا صَارَتْ قِيمَتُهَا أَلْفَيْنِ بِالزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ

فَهَلَكَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي ، ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهَا فَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهَا يَوْمَ قَبْضِ الْعَيْنِ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِي مُتَعَدٍّ بِقَبْضِهَا لِنَفْسِهِ عَلَى طَرِيقِ التَّمَلُّكِ ، وَفِي هَذَا الْقَبْضِ تَفْوِيتُ يَدِ الْمَالِكِ حُكْمًا عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ اسْتِرْدَادِهَا مِنْ الْغَاصِبِ ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِقَبْضِ الْمُشْتَرِي عَلَى طَرِيقِ التَّمَلُّكِ لِنَفْسِهِ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهَا حَالَ قَبْضِهِ ، وَذَلِكَ أَلْفَا دِرْهَمٍ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ غَصَبَهَا غَاصِبٌ مِنْ الْأَوَّلِ بَعْدَ الزِّيَادَةِ ، فَإِنَّ لِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَ الْغَاصِبَ الثَّانِي قِيمَتَهَا وَقْتَ غَصْبِهِ .
وَفِيهِ طَرِيقَانِ : أَحَدُهُمَا مَا بَيَّنَّا ، وَالثَّانِي أَنَّ الْمَوْلَى بِاخْتِيَارِهِ تَضْمِينَ الْغَاصِبِ الثَّانِي يَكُونُ مُبَرِّئًا لِلْغَاصِبِ الْأَوَّلِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَبِهَذَا الْإِبْرَاءِ تَصِيرُ يَدُهُ يَدَ الْمَالِكِ ، وَالْغَاصِبُ الثَّانِي مُفَوِّتٌ لِهَذِهِ الْيَدِ ، فَإِذَا صَارَتْ كَيَدِ الْمَالِكِ كَانَ هُوَ ضَامِنًا بِتَفْوِيتِهِ يَدَ الْمَالِكِ حُكْمًا ، فَإِنْ اخْتَارَ تَضْمِينَ الْبَائِعِ ، فَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا وَقْتَ الْغَصْبِ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهَا وَقْتَ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ خِلَافًا فِي الْكِتَابِ .
( وَرَوَى ) الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْغَاصِبَ وَقْتَ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ قِيمَتَهَا .
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَهُوَ قَوْلُهُمَا أَنَّ الزِّيَادَةَ حَصَلَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ أَمَانَةً ، وَقَدْ تَعَدَّى عَلَيْهَا بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ فَيَكُونُ ضَامِنًا لَهَا بِزِيَادَتِهَا كَمَا لَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةً ، وَكَمَا لَوْ قَتَلَهَا بَعْدَ حُدُوثِ الزِّيَادَةِ ، وَلِأَنَّهُ وُجِدَ مِنْ الْغَاصِبِ سَبَبَانِ مُوجِبَانِ لِلضَّمَانِ الْغَصْبُ وَالتَّسْلِيمُ بِحُكْمِ

الْبَيْعِ ، فَلِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَهُ بِأَيِّ الشَّيْئَيْنِ شَاءَ كَمَا لَوْ قَتَلَهَا بَعْدَ الْغَصْبِ .
وَتَحْقِيقُ هَذَا أَنَّ الْبَيْعَ وَالتَّسْلِيمَ اسْتِهْلَاكٌ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ ادَّعَى عَيْنًا فِي يَدِ إنْسَانٍ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ فُلَانًا بَاعَهُ وَسَلَّمَهُ مِنْهُ إلَيْهِ ، فَإِنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِالْمِلْكِ لَهُ ، كَمَا لَوْ شَهِدُوا بِالْمِلْكِ لَهُ ، فَهُوَ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ بَاشَرَ سَبَبًا لَوْ أَثْبَتَهُ الْمُشْتَرِي بِالْبَيِّنَةِ قَضَى الْقَاضِي بِالْمِلْكِ لَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ اسْتِهْلَاكًا لِلْمِلْكِ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ حُكْمًا ، وَالِاسْتِهْلَاكُ بَعْدَ الْغَصْبِ يَتَحَقَّقُ ، وَيَكُونُ سَبَبًا لِلضَّمَانِ كَالِاسْتِهْلَاكِ بِالْقَتْلِ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ ضَمَانَ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ ضَمَانُ غَصْبٍ ، وَالْغَصْبُ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَغْصُوبِ لِوَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ الْغَصْبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ لَا يَكُونُ إلَّا بِتَفْوِيتِ يَدِ الْمَالِكِ ، وَالتَّفْوِيتُ بَعْدَ التَّفْوِيتِ مِنْ وَاحِدٍ لَا يَتَحَقَّقُ .
( وَالثَّانِي ) أَنَّ الْأَسْبَابَ مَطْلُوبَةٌ لِأَحْكَامِهَا ، وَتَكْرَارُ الْغَصْبِ مِنْ وَاحِدٍ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ غَيْرُ مُفِيدٍ شَيْئًا ، فَلَا يُعْتَبَرُ كَتَكْرَارِ الْبَيْعِ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا : إنَّ ضَمَانَ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ ضَمَانُ غَصْبٍ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ بَاقٍ بَعْدَ بَيْعِ الْغَاصِبِ كَمَا بَعْدَ غَصْبِهِ .
وَالِاسْتِهْلَاكُ إمَّا أَنْ يَكُونَ بِتَفْوِيتِ الْعَيْنِ حَقِيقَةً أَوْ بِتَفْوِيتِ الْمِلْكِ فِيهِ حُكْمًا ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحُرَّ لَا يَضْمَنُ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ كَمَا لَا يَضْمَنُ بِالْغَصْبِ ، وَالْحُرُّ يَضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ ، وَكَذَلِكَ الْعَقَارُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ آخِرًا رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَضْمَنُ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ كَمَا لَا يَضْمَنُ بِالْغَصْبِ ، وَهُوَ مَضْمُونٌ بِالْإِتْلَافِ .
( فَإِذَا ) ثَبَتَتْ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ فَنَقُولُ : السَّبَبُ الثَّانِي لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ فِي

الْأَصْلِ لِمَا قُلْنَا : إنَّ الْغَصْبَ بَعْدَ الْغَصْبِ لَا يَتَحَقَّقُ مَعَ بَقَاءِ حُكْمِ الْأَوَّلِ ، وَلَا وَجْهَ لِإِبْطَالِ حُكْمِ الضَّمَانِ الثَّابِتِ بِالْغَصْبِ الْأَوَّلِ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْقِطَ لِلضَّمَانِ عَنْهُ نَسَخَ فِعْلَهُ بِإِعَادَتِهِ إلَى يَدِ الْمَالِكِ لَا اكْتِسَابِ غَصْبٍ آخَرَ ، وَلَا وَجْهَ لِاعْتِبَارِ السَّبَبِ الثَّانِي فِي الزِّيَادَةِ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ تَابِعَةٌ لِلْأَصْلِ ، فَلَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهَا إلَّا بِثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ ، وَلِأَنَّ الزِّيَادَةَ الْمُتَّصِلَةَ لَا تُفْرَدُ بِالْغَصْبِ ، فَلَا تُفْرَدُ بِضَمَانِ الْغَصْبِ ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا ضَمِنَ الْأَصْلَ بِالْغَصْبِ مَلَكَ الْأَصْلَ بِزِيَادَتِهِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاعَ مِلْكَ نَفْسِهِ ؛ وَلِهَذَا نَفَذَ بَيْعُهُ هُنَا ، وَبَيْعُ مِلْكِ نَفْسِهِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَنْهُ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَتَلَهَا ؛ لِأَنَّ ذَاكَ ضَمَانُ إتْلَافٍ ، وَالزِّيَادَةُ تُفْرَدُ بِالْإِتْلَافِ ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ السَّبَبِ الثَّانِي هُنَاكَ مُفِيدٌ فِي حَقِّ الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ بِالْقَتْلِ يَجِبُ مُؤَجَّلًا عَلَى الْعَاقِلَةِ وَبِالْغَصْبِ يَجِبُ عَلَى الْغَاصِبِ ، فَيَجِبُ اعْتِبَارُ السَّبَبِ الثَّانِي فِي حَقِّ الْأَصْلِ لِكَوْنِهِ مُفِيدًا ، ثُمَّ يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ الزِّيَادَةِ تَبَعًا لِلْأَصْلِ إلَّا أَنَّهُ إذَا ضَمِنَ الْأَصْلَ بِالْقَتْلِ لَا يَمْلِكُهَا ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْقَتْلِ لَا يُوجِبُ الْمِلْكَ ، فَلَا يَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّ الزِّيَادَةَ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ ، وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا أَنَّ الْمَغْصُوبَةَ لَوْ كَانَتْ دَابَّةً فَاسْتَهْلَكَهَا الْغَاصِبُ بَعْدَ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ هَلْ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا زَائِدَةً ، ذَكَرَ فِي كِتَابِ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَاتِ أَنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا زَائِدَةً ، فَظَنَّ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ الْجَوَابَ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا ، وَجَعَلَ يُفَرِّقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الِاسْتِهْلَاكَ بَعْدَ الْغَصْبِ يَتَحَقَّقُ فِي الْأَصْلِ فَيَكُونُ مُوجِبًا

لِلضَّمَانِ ، وَأَمَّا الْغَصْبُ بَعْدَ الْغَصْبِ فَلَا يَتَحَقَّقُ .
قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْفَصْلَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَإِنَّهُ كَمَا لَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ ثَمَّةَ لَمْ يَذْكُرْ هُنَا قَالَ : وَقَدْ رَأَيْتُ فِي بَعْضِ النَّوَادِرِ بَيَانَ الْخِلَافِ فِي الشَّاةِ إذَا ذَبَحَهَا الْغَاصِبُ وَأَكَلَهَا بَعْدَ الزِّيَادَةِ أَنَّهُ لَا يَضْمَنُ قِيمَتَهَا زَائِدَةً ، وَهَذَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ السَّبَبَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا كَانَ مُفِيدًا ، وَحُكْمُ الِاسْتِهْلَاكِ فِي الدَّوَابِّ ، وَحُكْمُ الْغَاصِبِ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْمُسْتَهْلِكِ حَالًا ، وَيَمْلِكُ الْمَضْمُونَ بِهِ ، فَالِاسْتِهْلَاكُ وَإِنْ تَحَقَّقَ ، فَلَا فَائِدَةَ فِي اعْتِبَارِهِ فِي حَقِّ الْأَصْلِ بِخِلَافِ الْقَتْلِ فِي الْآدَمِيِّ ، فَإِنَّ حُكْمَ ضَمَانِ الْقَتْلِ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ ضَمَانِ الْغَصْبِ فَكَانَ اعْتِبَارُ السَّبَبِ الثَّانِي مُفِيدًا ، وَهَذَا بِخِلَافِ صَيْدِ الْحَرَمِ إذَا بَاعَهَا ، وَسَلَّمَهَا بَعْدَ الزِّيَادَةِ ؛ لِأَنَّا نُثْبِتُ بِهَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْبَيْعَ وَالتَّسْلِيمَ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِلضَّمَانِ بَعْدَ الْغَصْبِ ، وَهُنَاكَ الزِّيَادَةُ كَانَتْ مَضْمُونَةً عَلَيْهِ قَبْلَ هَذَا إلَّا أَنْ تَصِيرَ مَضْمُونَةً بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ ، وَإِنْ اخْتَارَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ تَضْمِينَ الْمُشْتَرِي بَطَلَ الْبَيْعُ ، وَرَجَعَ بِالثَّمَنِ عَلَى الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّ اسْتِرْدَادَ الْقِيمَةِ مِنْهُ كَاسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ ، وَلِأَنَّ مِلْكَ الْعَيْنِ لَمْ يُسَلَّمْ لِلْمُشْتَرِي بِالْبَيْعِ ، وَإِنَّمَا سُلِّمَ لَهُ بِضَمَانِ الْقِيمَةِ ، فَلَا يُسَلَّمُ الثَّمَنُ لِلْبَائِعِ أَيْضًا ، فَلِهَذَا اسْتَرَدَّ الثَّمَنَ مِنْ الْبَائِعِ .

( رَجُلٌ ) غَصَبَ جَارِيَةً فَوَلَدَتْ عِنْدَهُ ، ثُمَّ مَاتَ الْوَلَدُ فَعَلَى الْغَاصِبِ رَدُّ الْجَارِيَةِ مَعَ نُقْصَانِ الْوِلَادَةِ ؛ لِأَنَّهَا دَخَلَتْ فِي ضَمَانِهِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا ، وَقَدْ فَاتَ جُزْءٌ مَضْمُونٌ مِنْهَا ، وَلَوْ فَاتَتْ كُلُّهَا ضَمِنَ الْغَاصِبُ قِيمَتَهَا ، وَالْجُزْءُ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ ، وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ حَيًّا فَعَلَيْهِ رَدُّهُمَا ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مِنْ الْأَصْلِ فَيَكُونُ مَمْلُوكًا لِمَالِكَ الْأَصْلِ ، وَمُؤْنَةُ الرَّدِّ فِي الْوَلَدِ عَلَى الْغَاصِبِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا عَلَيْهِ كَمُؤْنَةِ الرَّدِّ فِي الْمُسْتَعَارِ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا عَلَيْهِ ، فَإِذَا رَدَّهُمَا وَفِي قِيمَةِ الْوَلَدِ وَفَاءً بِنُقْصَانِ الْوِلَادَةِ لَمْ يَضْمَنْ الْغَاصِبُ مِنْ نُقْصَانِ الْوِلَادَةِ شَيْئًا عِنْدَنَا ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ ضَامِنٌ لِذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي قِيمَةِ الْوَلَدِ وَفَاءٌ بِالنُّقْصَانِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا زَادَ عَلَى قِيمَةِ الْوَلَدِ مِنْ النُّقْصَانِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ زُفَرَ هُوَ ضَامِنٌ لِجَمِيعِ النُّقْصَانِ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ النُّقْصَانِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ بِفَوَاتِ جُزْءٍ مَضْمُونٍ مِنْهَا ، فَلَا يَسْقُطُ إلَّا بِالْأَدَاءِ أَوْ الْإِبْرَاءِ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ ، وَقَدْ انْعَدَمَ الْإِسْقَاطُ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ ، وَهُوَ بِرَدِّ الْوَلَدِ لَا يَكُونُ مُؤَدِّيًا لِلضَّمَانِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ مِلْكُ الْمَضْمُونِ لَهُ ، وَأَدَاءُ الضَّمَانِ مِلْكُ غَيْرِ الْمَضْمُونِ لَهُ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ لِجُبْرَانِ مَا فَاتَ عَلَيْهِ ، وَمِلْكَهُ لَا يَكُونُ جَابِرًا لِمِلْكِهِ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَلَدُ قَائِمًا مَقَامَ الْجُزْءِ الْفَائِتِ بِالْوِلَادَةِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ أَمَانَةٌ فِي يَدِهِ ، وَالْفَائِتُ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ فَكَيْفَ تَكُونُ الْأَمَانَةُ خَلَفًا عَنْ الْمَضْمُونِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ دَخَلَهَا عَيْبٌ آخَرُ فِي يَدِهِ ، وَفِي قِيمَةِ الْوَلَدِ وَفَاءٌ بِنُقْصَانِ ذَلِكَ الْعَيْبِ لَمْ يَكُنِ الْوَلَدُ جَابِرًا لِذَلِكَ النُّقْصَانِ .
وَشَبَّهَ هَذَا بِمَنْ قَطَعَ قَوَائِمَ شَجَرَةِ إنْسَانٍ

فَنَبَتَ مَكَانَهَا أُخْرَى لَمْ يَسْقُطْ الضَّمَانُ عَنْ الْقَاطِعِ بِمَا نَبَتَ ؛ لِأَنَّ النَّابِتَ مِلْكُ الْمَضْمُونِ لَهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ قُطِعَتْ يَدُهَا فَأَخَذَ الْغَاصِبُ الْأَرْشَ فَرَدَّهَا مَعَ الْأَرْشِ ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ مَا تَوَلَّدَ مِنْ مِلْكِ الْمَضْمُونِ لَهُ ، فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُؤَدِّيًا لِلضَّمَانِ بِهِ ، وَبِخِلَافِ مَا لَوْ قَلَعَ سِنَّهَا فَنَبَتَ مَكَانَهَا أُخْرَى أَوْ صَارَتْ مَهْزُولَةً ثُمَّ سَمِنَتْ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ انْعَدَمَ سَبَبُ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ إفْسَادُ الْمَنْبَتِ لَا مُجَرَّدُ الْقَلْعِ ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَا أَفْسَدَ الْمَنْبَتَ ؛ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ نَبَاتُ السِّنِّ بَعْدَ الرَّدِّ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْغَاصِبِ شَيْءٌ أَيْضًا ، وَهُنَا السَّبَبُ وَهُوَ النُّقْصَانُ قَائِمٌ مُشَاهَدٌ ، وَالْوَلَدُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ قَائِمًا مَقَامَ ذَلِكَ النُّقْصَانِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَفَاءَ بِقِيمَتِهِ لَوْ حَصَلَ بَعْدَ الرَّدِّ لَمْ يَتَخَيَّرْ بِهِ فَكَذَلِكَ قَبْلَهُ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ سَبَبَ الضَّمَانِ مُنْعَدِمٌ هُنَا حُكْمًا ، وَالنَّابِتُ حُكْمًا كَالثَّابِتِ حِسًّا أَوْ أَقْوَى مِنْهُ .
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَلَدَ خَلَفٌ عَنْ الْجُزْءِ الْفَائِتِ بِالْوِلَادَةِ بِطَرِيقِ اتِّحَادِ السَّبَبِ ، وَهُوَ أَنَّ الْوِلَادَةَ أَوْجَبَتْ فَوَاتَ جُزْءٍ مِنْ مَالِيَّةِ الْأَصْلِ وَحُدُوثَ مَالِيَّةِ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا قَبْلَ الِانْفِصَالِ فَلَمْ يَكُنْ مَالًا بَلْ كَانَ عَيْبًا فِي الْأُمِّ أَوْ كَانَ وَصْفًا لَهَا ، وَإِنَّمَا صَارَ مَالًا مَقْصُودًا بَعْدَ الِانْفِصَالِ ، وَالسَّبَبُ الْوَاحِدُ مَتَى أَثَّرَ فِي النُّقْصَانِ وَالزِّيَادَةِ كَانَتْ الزِّيَادَةُ خَلَفًا عَنْ النُّقْصَانِ كَالْبَيْعِ لَمَّا زَالَ الْمَبِيعُ عَنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَأَدْخَلَ الثَّمَنَ فِي مِلْكِهِ كَانَ الثَّمَنُ خَلَفًا عَنْ مَالِيَّةِ الْمَبِيعِ لَهُ بِاتِّحَادِ السَّبَبِ ، حَتَّى لَوْ شَهِدَ الشَّاهِدَانِ عَلَيْهِ بِبَيْعِ شَيْءٍ بِمِثْلِ قِيمَتِهِ ، ثُمَّ رَجَعَا لَمْ يَضْمَنَا شَيْئًا ، وَكَذَلِكَ الْأَرْشُ خَلَفٌ عَنْ مَالِيَّةِ الْيَدِ الْمَقْطُوعَةِ

بِاتِّحَادِ السَّبَبِ ، فَكَمَا يَنْعَدِمُ النُّقْصَانُ إذَا رُدَّ ذَلِكَ الْجُزْءُ بِعَيْنِهِ بِأَنْ غَصَبَ بَقَرَةً فَقَطَعَ جُزْءًا مِنْهَا ، ثُمَّ رَدَّ ذَلِكَ الْجُزْءَ مَعَ الْأَصْلِ فَكَذَلِكَ يَنْعَدِمُ النُّقْصَانُ بِرَدِّ الْخَلَفِ ؛ لِأَنَّ الْخَلَفَ عَنْ الشَّيْءِ يَقُومُ مَقَامَهُ عِنْدَ فَوَاتِهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ فَصْلُ السِّمَنِ وَالسِّنِّ ، فَإِنَّ الْحَادِثَ هُنَاكَ يُجْعَلُ خَلَفًا عَنْ الْفَائِتِ بِاتِّحَادِ الْمَحِلِّ ؛ لِأَنَّهُ حَادِثٌ فِي مَحَلِّ النُّقْصَانِ ، وَتَأْثِيرُ السَّبَبِ فِي الْخِلَافَةِ أَكْثَرُ مِنْ تَأْثِيرِ الْمَحِلِّ ، فَإِذَا جُعِلَ بِاتِّحَادِ الْمَحِلِّ هُنَاكَ الْحَادِثُ خَلَفًا عَنْ الْفَائِتِ حَتَّى يَنْعَدِمَ بِهِ سَبَبُ الضَّمَانِ فَهَذَا أَوْلَى ، وَبِهَذَا ظَهَرَ الْجَوَابُ عَنْ كَلَامِهِ ، فَإِنَّا لَا نَجْعَلُ الْغَاصِبَ مُؤَدِّيًا لِلضَّمَانِ بِرَدِّ الْوَلَدِ ، وَلَكِنْ نُبَرِّئُهُ بِانْعِدَامِ سَبَبِ الضَّمَانِ ، فَإِنَّمَا يَنْعَدِمُ سَبَبُ الضَّمَانِ بِرَدِّ مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فَيَكُونُ الْمَرْدُودُ مِلْكُهُ يُقَرِّرُ هَذَا الْمَعْنَى .
( فَإِنْ قِيلَ : ) كَيْف يَسْتَقِيمُ هَذَا ، وَالْوَلَدُ يَبْقَى مِلْكًا لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ بَعْدَ انْعِدَامِ النُّقْصَانِ .
( قُلْنَا : ) لِأَنَّهُ فِي الْمِلْكِ لَمْ يَكُنْ خَلَفًا إنَّمَا كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ بِكَوْنِهِ مُتَوَلِّدًا مِنْ مِلْكِهِ وَذَلِكَ بَاقٍ ، وَإِنَّمَا كَانَ خَلَفًا فِي حُكْمِ الِانْجِبَارِ ، فَلَا جَرَمَ بَعْدَ ارْتِفَاعِ النُّقْصَانِ لَا يَكُونُ الْوَلَدُ جَابِرًا لِلنُّقْصَانِ ، وَهُوَ كَالتُّرَابِ خَلَفٌ عَنْ الْمَاءِ فِي حُكْمِ الطَّهَارَةِ لَا فِي الْمِلْكِ ، فَبَعْدَ وُجُودِ الْمَاءِ يَبْقَى التُّرَابُ مَمْلُوكًا لَهُ ، وَلَا يَكُونُ خَلَفًا فِي حُكْمِ الطَّهَارَةِ .
( وَإِذَا ) ثَبَتَ هَذَا فِيمَا إذَا كَانَ فِي قِيمَةِ الْوَلَدِ وَفَاءٌ بِالنُّقْصَانِ عِنْدَ الْوِلَادَةِ فَكَذَلِكَ إذَا صَارَ فِيهِ وَفَاءٌ بَعْدَ الْوِلَادَةِ قَبْلَ الرَّدِّ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْخِلَافَةِ بِاتِّحَادِ السَّبَبِ لَمَّا انْعَقَدَ فِيهِ فَالْحَادِثُ فِيهِ بَعْدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ يَلْتَحِقُ بِالْمَوْجُودِ وَقْتَ السَّبَبِ ، كَالزَّوَائِدِ فِي

الْمَبِيعِ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ تَلْتَحِقُ بِالْمَوْجُودِ وَقْتَ الْعَقْدِ ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الْخِلَافَةَ فِي حُكْمِ الِانْجِبَارِ لِيَكُونَ رَدُّ الْخَلَفِ كَرَدِّ الْأَصْلِ ، وَهَذَا يَنْتَهِي بِالرَّدِّ ، فَالزِّيَادَةُ فِيهِ بَعْدَ الرَّدِّ لَا تُجْعَلُ كَالْمَوْجُودِ عِنْدَ السَّبَبِ لِهَذَا كَالزِّيَادَةِ فِي الْمَبِيعِ بَعْدَ الْقَبْضِ لَا تُعْتَبَرُ فِي انْقِسَامِ الثَّمَنِ ، فَأَمَّا فِي السِّنِّ يَتَبَيَّنُ انْعِدَامُ سَبَبِ الضَّمَانِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْحَادِثَ خَلَفٌ عَنْ الْفَائِتِ بِاتِّحَادِ الْمَحِلِّ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ ، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى عَدَمُ إفْسَادِ الْمَنْبَتِ ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ بَعْدَ الرَّدِّ كَمَا يَتَحَقَّقُ قَبْلَهُ .
وَيُوَضِّحُهُ أَنَّ هُنَاكَ لَا يُشْتَرَطُ لِإِيجَابِ الضَّمَانِ بِالْقَلْعِ كَوْنُ الْأَصْلِ فِي ضَمَانِهِ عِنْدَ الْقَلْعِ ، فَكَذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ لِانْعِدَامِ السَّبَبِ بِالنَّبَاتِ بَقَاءُ الْأَصْلِ فِي ضَمَانِهِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ ، وَفِي قَطْعِ قَوَائِمِ الشَّجَرَةِ الْوَاجِبُ ضَمَانُ عَيْنِ مَا ذَهَبَ بِهِ الْقَاطِعُ وَهُوَ الْجُزْءُ الْمَقْطُوعُ ، وَذَلِكَ لَا يَنْعَدِمُ بِنَبَاتِ مِثْلِهِ .
ثُمَّ النَّبَاتُ هُنَاكَ لَيْسَ بِسَبَبِ الْقَطْعِ بَلْ بِبَقَاءِ الشَّجَرَةِ الْخَضِرَةِ النَّامِيَةِ ، وَالِانْجِبَارُ بِحُكْمِ اتِّحَادِ السَّبَبِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا فَإِنْ مَاتَتْ الْأُمُّ ، وَبِالْوَلَدِ وَفَاءً بِقِيمَتِهَا فَفِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ : رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُبَرَّأُ بِرَدِّ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَى الْغَاصِبِ لِجُبْرَانِ حَقِّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِالْوَفَاءِ فِي قِيمَةِ الْوَلَدِ ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ يُجْبَرُ بِالْوَلَدِ قَدْرَ نُقْصَانِ الْوِلَادَةِ ، وَيَضْمَنُ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ قِيمَةِ الْأُمِّ ؛ لِأَنَّ الْوِلَادَةَ لَا تُوجِبُ الْمَوْتَ فَالنُّقْصَانُ يَكُونُ بِسَبَبِ الْوِلَادَةِ ، فَأَمَّا مَوْتُ الْأُمِّ لَا يَكُونُ بِسَبَبِ الْوِلَادَةِ ، وَرَدُّ الْقِيمَةِ كَرَدِّ الْعَيْنِ ، وَلَوْ رَدَّ عَيْنَ الْجَارِيَةِ كَانَ النُّقْصَانُ مُنْجَبِرًا

بِالْوَلَدِ ، فَكَذَلِكَ إذَا رَدَّ قِيمَتَهَا ، ( وَفِي ) ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَلَيْهِ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْغَصْبِ كَامِلَةً لِوَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّهَا لَمَّا مَاتَتْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوِلَادَةَ كَانَتْ مَوْتًا مِنْ أَصْلِهِ كَالْجُرْحِ إذَا اتَّصَلَ بِهِ زَهُوقُ الرُّوحِ يَكُونُ قَتْلًا مِنْ أَصْلِهِ لَا أَنْ يَكُونَ جُرْحًا ، ثُمَّ قَتْلًا بِنَاءً عَلَيْهِ ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّ الْوِلَادَةَ مَوْتٌ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلزِّيَادَةِ ، وَهَذَا بِخِلَافِهِ بِحُكْمِ اتِّحَادِ السَّبَبِ ، فَإِذَا انْعَدَمَ هُنَاكَ لَمْ يَكُنِ الْوَلَدُ جَابِرًا لِلنُّقْصَانِ بِالْوِلَادَةِ ، وَلَا قَائِمًا مَقَامَ الْأُمِّ ؛ لِأَنَّا نَجْعَلُ اتِّحَادَ السَّبَبِ كَاتِّحَادِ الْمَحِلِّ ، وَهُنَاكَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الْحَادِثُ خَلَفًا عَنْ الْفَائِتِ إذَا كَانَ الْفَائِتُ بَعْضَ الْأَصْلِ كَالسِّمَنِ وَالسِّنِّ لَا مَا إذَا كَانَ الْفَائِتُ جَمِيعَ الْأَصْلِ ، فَكَذَلِكَ بِسَبَبِ اتِّحَادِ السَّبَبِ يُجْعَلُ الْحَادِثُ خَلَفًا عَنْ الْفَائِتِ إذَا كَانَ الْفَائِتُ بَعْضَ الْأَصْلِ لَا مَا إذَا كَانَ الْفَائِتُ كُلَّهُ ؛ لِأَنَّ الْحَادِثَ تَبَعٌ وَالتَّبَعُ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْأَصْلِ إنَّمَا يَقُومُ مَقَامَ تَبَعٍ مِثْلِهِ .
يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَمَّا ضَمِنَ الْأَصْلَ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ مَلَكَ الْأَصْلَ بِالضَّمَانِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ النُّقْصَانَ حَادِثٌ عَلَى مِلْكِهِ ، فَلَا حَاجَةَ إلَى مَا يُجْبِرُهُ ، بِخِلَافِ مَا إذَا رَدَّ الْأَصْلَ فَالْحَاجَةُ إلَى رَدِّ جَابِرِ النُّقْصَانِ هُنَا مُتَقَرِّرٌ ، وَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْحَاجَةِ يُجْعَلُ الْوَلَدُ خَلَفًا فِي حُكْمِ الِانْجِبَارِ بِهِ .

( قَالَ : ) وَإِذَا جَاءَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ يَدَّعِي جَارِيَتَهُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ، وَهُوَ مُنْكِرٌ فَأَقَامَ شَاهِدًا أَنَّهَا جَارِيَتُهُ غَصَبَهَا هَذَا إيَّاهُ ، وَأَقَامَ شَاهِدًا آخَرَ عَلَى إقْرَارِ الْغَاصِبِ بِذَلِكَ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا حِينَ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْقَوْلِ ، وَالْآخَرُ بِالْفِعْلِ ، إذْ الْفِعْلُ غَيْرُ الْقَوْلِ ، وَبِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ لَا يَثْبُتُ وَاحِدٌ مِنْ الْأَمْرَيْنِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْمِلْكِ لَهُ ، وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى إقْرَارِ الْغَاصِبِ لَهُ بِالْمِلْكِ ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ مُخْتَلِفٌ ، وَلَيْسَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ ، وَإِنْ شَهِدَا لَهُ بِالْمِلْكِ وَزَادَ أَحَدُهُمَا ذِكْرَ الْغَصْبِ فَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي ، وَتَفَرَّدَ إحْدَاهُمَا بِالشَّهَادَةِ بِالْغَصْبِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَيَقْضِي الْقَاضِي بِمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ ، وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا جَارِيَتُهُ ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهَا كَانَتْ جَارِيَتَهُ قَضَيْتُ بِهَا لَهُ ؛ لِأَنَّهُمَا اتَّفَقَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ ، وَهُوَ الْمَالِكُ لِلْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ لَهُ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ أَبَدًا حَتَّى يُخْرِجَهُ مِنْ مِلْكِهِ بِحَقٍّ ، وَلَمْ يَظْهَرْ سَبَبُ ذَلِكَ ، فَعَرَفْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَهِدَ لَهُ بِالْمِلْكِ فِي الْحَالِ وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهَا جَارِيَتُهُ اشْتَرَاهَا مِنْ فُلَانٍ ، وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهَا جَارِيَتُهُ وَرِثَهَا عَنْ أَبِيهِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا شَهِدَ لَهُ بِمِلْكٍ هُوَ أَصْلٌ فِيهِ مُسْتَفَادٌ بِسَبَبٍ أَحْدَثَهُ وَهُوَ الشِّرَاءُ ، وَالْآخَرُ شَهِدَ لَهُ بِمِلْكٍ هُوَ خَلَفٌ عَنْ مُوَرِّثِهِ فِيهِ ، وَأَحَدُ الْمِلْكَيْنِ مُتَبَايِنٌ عَنْ الْآخَرِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَارِثَ يَرُدُّ بِالْعَيْبِ عَلَى بَائِعِ مُوَرِّثِهِ ، وَيَصِيرُ مَغْرُورًا بِشِرَاءِ مُوَرِّثِهِ ، وَالْمُشْتَرِي لَا يَرُدُّ عَلَى بَائِعٍ بَائِعَهُ ، وَلَا يَصِيرُ مَغْرُورًا بِسَبَبِ شِرَاءِ بَائِعِهِ .
( وَإِذَا ) اخْتَلَفَ

الْمَشْهُودُ بِهِ حُكْمًا لَمْ يَتَمَكَّنْ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِشَيْءٍ .
وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالشِّرَاءِ مِنْ رَجُلٍ ، وَالْآخَرُ بِالشِّرَاءِ مِنْ رَجُلٍ آخَرَ أَوْ بِهِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ وَهُوَ السَّبَبُ ، إمَّا لِأَنَّ الصَّدَقَةَ وَالْهِبَةَ غَيْرُ الشِّرَاءِ ، أَوْ لِأَنَّ الشِّرَاءَ مِنْ زَيْدٍ غَيْرُ الشِّرَاءِ مِنْ عَمْرٍو ، وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهَا جَارِيَتُهُ غَصَبَهَا إيَّاهُ هَذَا وَقَدْ بَاعَهَا الْغَاصِبُ مِنْ رَجُلٍ فَسَلَّمَ رَبُّ الْجَارِيَةِ الْبَيْعَ بَعْدَ ذَلِكَ قَالَ : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ انْعَقَدَ مِنْ الْغَاصِبِ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ ، فَإِنَّ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ مَالَهُ مُجِيزٌ حَالَ وُقُوعِهِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِجَازَةِ ، وَأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَلَكِنَّ الشَّرْطَ لِتَمَامِ الْعَقْدِ بِالْإِجَازَةِ بَقَاءُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَالْمُجِيزِ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ بَاقٍ هُنَا .
( وَقَدْ ) ذُكِرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّ الْمُدَّعِيَ إذَا طَلَبَ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ لَهُ بِالْمِلْكِ فَفَعَلَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُجِيزَ الْبَيْعَ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ طَلَبَ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يُقَرِّرَ مِلْكَهُ ، وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ دَفْعَ السَّبَبِ الْمُزِيلِ فَيُجْعَلُ نَاسِخًا لِلْبَيْعِ بِهَذَا .
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمِلْكَ الَّذِي ظَهَرَ لَهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ مِلْكٍ ظَاهِرٍ لَهُ ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْبَيْعِ مَوْقُوفًا ، فَلَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْبَيْعِ إذَا ظَهَرَ بِالْقَضَاءِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ، فَإِنْ كَانَ الْغَاصِبُ قَدْ قَبَضَ الثَّمَنَ فَهَلَكَ عِنْدَهُ هَلَكَ مِنْ مَالِ رَبِّ الْجَارِيَةِ ؛ لِأَنَّ بِنُفُوذِ الْبَيْعَ صَارَ الْغَاصِبُ كَالْوَكِيلِ مِنْ جِهَتِهِ بِالْبَيْعِ بِطَرِيقِ أَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَحَقُّ قَبْضِ الثَّمَنِ إلَى الْوَكِيلِ ، وَهُوَ أَمِينٌ فِيمَا يَقْبِضُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ عِنْدَهُ بَعْدَ الْإِجَازَةِ لَمْ يَضْمَنْ

فَكَذَلِكَ إذَا هَلَكَ قَبْلَ الْإِجَازَةِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ لِنُفُوذِ الْعَقْدِ بِالْإِجَازَةِ بَقَاءُ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَعْقُودٌ بِهِ ، وَلَا يُشْتَرَطُ وُجُودُهُ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي لِصِحَّةِ الْبَيْعِ بَعْدَ ابْتِدَاءٍ فَكَذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ بَقَاؤُهُ لِنُفُوذِ الْبَيْعِ بِالْإِجَازَةِ ، وَكُلُّ مَا حَدَثَ لِلْجَارِيَةِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي مِنْ وَلَدٍ أَوْ كَسْبٍ أَوْ أَرْشُ جِنَايَةٍ ، وَمَا شَابَهَهَا فَهُوَ لِلْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ عِنْدَ إجَازَتِهِ يَنْفُذُ الْبَيْعُ ، وَيَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمُشْتَرِي مِنْ وَقْتِ الْبَيْعِ ، فَإِنَّ سَبَبَ مِلْكِهِ هُوَ الْعَقْدُ ، وَكَانَ تَامًّا فِي نَفْسِهِ ، وَلَكِنْ امْتَنَعَ ثُبُوتُ الْمِلْكِ بِهِ لِمَانِعٍ ، وَهُوَ حَقُّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ ، فَإِذَا ارْتَفَعَ ذَلِكَ بِالْإِجَازَةِ ثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُ مِنْ وَقْتِ السَّبَبِ ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الزَّوَائِدَ حَدَثَتْ عَلَى مِلْكِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ الْمَبِيعَ ، وَأَخَذَهَا أَخَذَ جَمِيعَ ذَلِكَ مَعَهَا ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ مِلْكُهُ مُقَرَّرًا فِيهَا ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْكَسْبَ وَالْأَرْشَ وَالْوَلَدَ بِمِلْكِ الْأَصْلِ ، فَإِنْ أَعْتَقَهَا الْمُشْتَرِي لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ قَبْلَ أَنْ يُجِيزَ الْمَالِكُ الْبَيْعَ عِنْدَنَا .
( وَقَالَ ) ابْنُ أَبِي لَيْلَى عِتْقُهُ نَافِذٌ ، وَالْغَاصِبُ ضَامِنٌ قِيمَتَهَا لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ قَبْضٌ بِطَرِيقِ الْإِتْلَافِ ، فَإِنَّهُ يَنْعَدِمُ بِهِ مَحَلِّيَّةُ الْبَيْعِ كَمَا بِالْإِتْلَافِ حَقِيقَةً ، فَهُنَاكَ الْغَاصِبُ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا ، وَيَنْفُذُ الْبَيْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي إذَا ضَمِنَ قِيمَتَهَا ، فَهُنَا كَذَلِكَ اعْتِبَارًا لِلْحُكْمِيِّ بِالْحَقِيقِيِّ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : حُصُولُ الْقَبْضِ وَالْإِتْلَافِ بِنُفُوذِ الْعِتْقِ لَا بِالتَّكَلُّمِ بِهِ ، وَشَرْطُ نُفُوذِ الْعِتْقِ مِلْكُ الْمَحِلِّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ } وَالْبَيْعُ الْمَوْقُوفُ ضَعِيفٌ فِي نَفْسِهِ ، فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِهِ قَبْلَ الْإِجَازَةِ

كَالْهِبَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، فَإِنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ لَوْ أَعْتَقَ الْمَوْهُوبَ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ لَمْ يُعْتَقْ ، وَلَا يَصِيرُ قَابِضًا بِهِ ، فَهَذَا مِثْلُهُ ، بِخِلَافِ الْإِتْلَافِ فَإِنَّهُ حِسِّيٌّ يَتَحَقَّقُ فِي الْمِلْكِ وَغَيْرِ الْمِلْكِ ، وَلَا نَقُولُ : الْمُشْتَرِي بِالْإِتْلَافِ يَصِيرُ مَالِكًا مَتَى كَانَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُشْتَرِي إنْ شَاءَ ، فَإِنْ أَجَازَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْبَيْعَ بَعْدَ مَا أَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْجَارِيَةَ جَازَ الْبَيْعُ ، وَلَمْ يَنْفُذْ عِتْقُ الْمُشْتَرِي فِي الْقِيَاسِ ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَنْفُذُ عِتْقُهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، هَكَذَا يَرْوِيهِ مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، ( قَالَ ) أَبُو سُلَيْمَانَ : وَكُنَّا سَمِعْنَا مِنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ هَذَا عِتْقٌ تَرَتَّبَ عَلَى عَقْدٍ تَوَقَّفَ نُفُوذُهُ لِحَقِّ الْمَالِكِ ، فَلَا يَنْفُذُ بِنُفُوذِ الْعَقْدِ كَالْمُشْتَرِي بِشَرْطِ الْخِيَارِ أَقْوَى مِنْ الْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ ، فَإِنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَى جَوَازِهِ ، وَيَتِمُّ بِمَوْتِ الْبَائِعِ وَبِسُكُوتِهِ حَتَّى تَمْضِيَ الْمُدَّةُ .
وَالْبَيْعُ الْمَوْقُوفُ مُخْتَلَفٌ فِي جَوَازِهِ ، وَهُوَ يَبْطُلُ بِمَوْتِ الْعَاقِدِ وَبِمَوْتِ الْمَالِكِ ، وَلَا يَتِمُّ بِدُونِ الْإِجَازَةِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعِتْقَ تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَةِ مَالِكِ ظَاهِرِ الْمِلْكِ ، فَإِنَّ الْمَالِكَ لَوْ أَجَازَ الْعِتْقَ عَنْ نَفْسِهِ عَتَقَ مِنْ جِهَتِهِ ، فَلَا يَنْفُذُ مِنْ جِهَةِ مَنْ يَحْدُثُ لَهُ بِالْمِلْكِ كَالْمُشْتَرِي مِنْ الْمُكْرَهِ إذَا أَعْتَقَ قَبْلَ الْقَبْضِ ، ثُمَّ رَضِيَ الْمُكْرَهُ بِالْبَيْعِ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُ الْمُشْتَرِي .
يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْبَيْعَ وَالْعِتْقَ تَوَقَّفَا عَلَى إجَازَةِ الْمَالِكِ ، ثُمَّ لَوْ أَجَازَ الْعِتْقَ بَطَلَ الْبَيْعُ فَكَذَلِكَ لَوْ أَجَازَ الْبَيْعَ يَبْطُلُ الْعِتْقُ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُنَافَاةِ فِي حَقِّهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ

الْغَاصِبَ لَوْ أَعْتَقَ ثُمَّ ضَمِنَ الْقِيمَةَ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ ، وَالْمِلْكُ الثَّابِتُ لَهُ بِالضَّمَانِ أَقْوَى مِنْ الْمِلْكِ الثَّابِتِ لِلْمُشْتَرِي هُنَا حَتَّى يَنْفُذَ بَيْعُهُ لَوْ كَانَ بَاعَهُ هُنَاكَ ، وَلَا يَنْفُذُ بَيْعُ الْمُشْتَرِي هُنَا لَوْ كَانَ بَاعَهُ ، ثُمَّ هُنَاكَ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ فَهُنَا يُتَقَوَّمُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْغَاصِبِ أَعْتَقَ ، ثُمَّ إنَّ الْمَالِكَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ حَتَّى نَفَذَ بَيْعُهُ لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُ الْمُشْتَرِي فَكَذَلِكَ إذَا نَفَذَ الْبَيْعُ بِإِجَازَةِ الْمَالِكِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذَا عِتْقٌ تَرَتَّبَ عَلَى سَبَبِ مِلْكٍ تَامٍّ فَيَنْفُذُ بِدُونِ السَّبَبِ بِالْإِجَازَةِ ، كَالْوَارِثِ إذَا أَعْتَقَ عَبْدًا مِنْ التَّرِكَةِ ، وَهِيَ مُسْتَغْرِقَةٌ بِالدَّيْنِ ، ثُمَّ يَسْقُطُ الدَّيْنُ أَوْ الْمُشْتَرِي مِنْ الْوَارِثِ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ .
وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْعَقْدَ الْمَوْقُوفَ سَبَبٌ تَامٌّ فِي نَفْسِهِ ، وَانْعِقَادُهُ بِكَلَامِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ، وَلَهُمَا وِلَايَةٌ عَلَى أَنْفُسِهِمَا ، فَإِذَا أَطْلَقَا الْعَقْدَ انْعَقَدَ بِصِفَةِ التَّمَامِ ؛ لِأَنَّ الْمُمْتَنِعَ مَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمَالِكُ ، وَكَمَا لَا ضَرَرَ عَلَى الْمَالِكِ بِانْعِقَادِ السَّبَبِ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي تَمَامِ السَّبَبِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ إتْمَامِ السَّبَبِ اتِّصَالُ الْحُكْمِ بِهِ فَقَدْ يَتَرَاخَى عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْأَسْبَابَ الشَّرْعِيَّةَ لَا تَنْعَقِدُ خَالِيَةً عَنْ الْحُكْمِ ، وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَتَأَخَّرَ الْحُكْمُ عَنْ السَّبَبِ ، وَالضَّرَرُ عَلَى الْمَالِكِ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَتِهِ زَوَالَ مِلْكِهِ فَيَتَأَخَّرُ ذَلِكَ إلَى وَقْتِ الْإِجَازَةِ ، وَيَبْقَى السَّبَبُ تَامًّا ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى النِّكَاحِ يُعْتَبَرُ وَقْتَ الْعَقْدِ لَا عِنْدَ الْإِجَازَةِ ، وَالنِّكَاحُ يَنْعَقِدُ مَعَ التَّوَقُّفِ ، وَمَا يَمْنَعُ تَمَامَ السَّبَبِ فَالنِّكَاحُ لَا يَحْتَمِلُهُ كَخِيَارِ الشَّرْطِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْغَاصِبَيْنِ إذَا تَصَارَفَا وَتَقَابَضَا

وَافْتَرَقَا ثُمَّ أَجَازَ الْمَالِكَانِ فَمُحَمَّدٌ يُوَافِقُنَا أَنَّهُ يَجُوزُ ، وَمَا يَمْنَعُ تَمَامَ السَّبَبِ لَا يَكُونُ عَفْوًا فِي الصَّرْفِ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ كَخِيَارِ الشَّرْطِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى تَمَامِ السَّبَبِ أَنَّهُ يَمْلِكُ الْمَبِيعَ عِنْدَ الْإِجَازَةِ بِزَوَائِدِهِ الْمُنْفَصِلَةِ وَالْمُتَّصِلَةِ .
( وَإِذَا ) ثَبَتَ أَنَّ السَّبَبَ تَامٌّ فَنَقُولُ : الْعِتْقُ قَبْضٌ حَتَّى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا أَعْتَقَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ يَصِيرُ قَابِضًا ، وَالْقَبْضُ بَعْدَ تَمَامِ السَّبَبِ يَتَوَقَّفُ بِتَوَقُّفِ السَّبَبِ ، وَيَنْفُذُ بِنُفُوذِهِ كَالْقَبْضِ الْحَقِيقِيِّ فِي الْمَبِيعِ أَوْ الثَّمَنِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ رَجُلًا لَوْ قَالَ لِلْغَاصِبِ : أَعْتِقْ هَذَا الْعَبْدَ عَنِّي بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَعْتَقَهُ ثُمَّ أَجَازَ الْمَالِكُ نَفَذَ بِالْإِجَازَةِ الْعِتْقُ وَالْبَيْعُ جَمِيعًا ، فَهَذَا مِثْلُهُ بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ هُنَاكَ مُضْمَرٌ ، وَهُنَا مُفْصَحٌ بِهِ ، وَلَا وَجْهَ لِمَنْعِ هَذَا ، فَإِنَّهُ لَوْ الْتَمَسَ هَذَا مِنْ الْمَالِكِ فَأَجَابَهُ إلَيْهِ كَانَ نَافِذًا فَكَذَلِكَ إذَا الْتَمَسَ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ فَأَجَابَهُ إلَيْهِ وَأَجَازَهُ الْمَالِكُ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُنَاكَ غَيْرُ تَامٍّ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ عَلَى أَنِّي بِالْخِيَارِ مَقْرُونٌ بِالْعَقْدِ نَصًّا ، وَتَعْلِيقُ الْعَقْدِ بِالشَّرْطِ يَمْنَعُ كَوْنَهُ سَبَبًا قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ قِيَاسًا ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ الشَّرْطَ عَلَى السَّبَبِ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُجْعَلُ الشَّرْطُ دَاخِلًا عَلَى حُكْمِ السَّبَبِ فَيَنْعَقِدُ أَصْلُ الْعَقْدِ ، وَيَكُونُ فِي حَقِّ الْحُكْمِ كَالْمُتَعَلِّقِ بِالشَّرْطِ ، وَالْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : إذَا جَاءَ عَبْدِي فَلِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ فَتَصَدَّقَ بِهِ الْيَوْمَ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ : لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَتَصَدَّقَ بِدِرْهَمٍ غَدًا فَتَصَدَّقَ بِهِ الْيَوْمَ يَجُوزُ ، فَعَرَفْنَا أَنَّ التَّوَقُّفَ لَا

يَمْنَعُ تَمَامَ السَّبَبِ ، وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ يَمْنَعُ مِنْهُ ، يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ فِي الْعَقْدِ الْمَوْقُوفِ يُثْبِتُ مِلْكًا يَلِيقُ بِالسَّبَبِ ، وَهُوَ الْمِلْكُ الْمَوْقُوفُ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ لَا يُزِيلُ مِلْكَ الْمَالِكِ ، وَلَا يَتَضَرَّرُ بِهِ ، فَإِنَّمَا تَرَتَّبَ عَلَى مِلْكٍ مَوْقُوفٍ فَيَتَوَقَّفُ بِتَوَقُّفِهِ ، وَيَنْفُذُ بِنُفُوذِهِ ، فَأَمَّا الشَّرْطُ فِي مَسْأَلَةِ الْخِيَارِ كَمَا يَمْنَعُ الْمِلْكَ التَّامَّ يَمْنَعُ الْمِلْكَ الْمَوْقُوفَ فَلَمْ يَتَرَتَّبْ عِتْقُ الْمُشْتَرِي عَلَى مِلْكٍ فِي الْمَحِلِّ أَصْلًا ، وَمَسْأَلَةُ الْمُكْرَهِ قَدْ مَنَعَهَا بَعْضُ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَالْأَصَحُّ أَنْ نَقُولَ : بَيْعُ الْمُكْرَهِ فَاسِدٌ ؛ وَلِهَذَا لَوْ أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي بَعْدَ الْقَبْضِ يَنْفُذُ عِتْقُهُ ، وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ قَبْلَ الْقَبْضِ ضَعِيفٌ غَيْرُ تَامٍّ فِي حُكْمِ الْمِلْكِ كَالْهِبَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، فَلَا يَثْبُتُ بِهِ مِلْكٌ تَامٌّ وَلَا مَوْقُوفٌ فِي الْمَحِلِّ ؛ فَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ ، وَعِتْقُ الْمُشْتَرِي مُخَالِفٌ لِبَيْعِهِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَيْسَ بِقَبْضٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَصِيرُ بِهِ قَابِضًا ، وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ بَعْدَ تَمَامِ السَّبَبِ مَا هُوَ مِنْ حُقُوقِهِ ، وَالْعِتْقُ مِنْ حُقُوقِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ قَبْضٌ ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّ الشِّرَاءَ مُوجِبٌ ، وَهُوَ شِرَاءُ الْقَرِيبِ ، فَإِنَّهُ إعْتَاقٌ بِخِلَافِ الْبَيْعِ .
يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْبَيْعَ قَاطِعٌ لِلْمِلْكِ ، وَالْعِتْقَ مُنْهٍ لَهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ بَاعَ الْمَبِيعَ ، ثُمَّ اطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ بِهِ لَا يَرْجِعُ عَلَى بَائِعِهِ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ مِنْ الثَّمَنِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَعْتَقَهُ فَلِكَوْنِ الْعِتْقِ مُنْهِيًا لِلْمِلْكِ يَتَوَقَّفُ بِتَوَقُّفِ الْمِلْكِ حَتَّى إذَا تَمَّ انْتَهَى بِهِ ، وَالْبَيْعُ لِكَوْنِهِ قَاطِعًا لِلْمِلْكِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَقَّفَ بِتَوَقُّفِ الْمِلْكِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَجَازَ الْمَالِكُ الْعِتْقَ ؛ لِأَنَّهُ بِإِجَازَةِ الْعِتْقِ عَنْ نَفْسِهِ يَبْطُلُ مَحَلُّ الْبَيْعِ ،

فَلَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُ الْبَيْعِ بِهِ ، وَبِإِجَازَةِ الْبَيْعِ يَمْتَدُّ مَحَلُّ الْعِتْقِ لِلْمُشْتَرِي ، وَهُوَ الْمَالِكُ فَيَنْفُذُ الْعِتْقُ مِنْ جِهَتِهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْغَاصِبِ إذَا أَعْتَقَ ، ثُمَّ ضَمِنَ الْقِيمَةَ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَنِدَ لَهُ حُكْمُ الْمِلْكِ لَا حَقِيقَةُ الْمِلْكِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَسْتَحِقُّ الزَّوَائِدَ الْمُنْفَصِلَةَ ، وَحُكْمُ الْمِلْكِ يَكْفِي لِنُفُوذِ الْبَيْعِ دُونَ الْعِتْقِ ، كَحُكْمِ مِلْكِ الْمُكَاتَبِ فِي كَسْبِهِ ، وَهَذَا الثَّابِتُ لِلْمُشْتَرِي مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ حَقِيقَةُ الْمِلْكِ ؛ وَلِهَذَا اسْتَحَقَّ الزَّوَائِدَ الْمُنْفَصِلَةَ وَالْمُتَّصِلَةَ .
فَأَمَّا إذَا أَعْتَقَهُ الْمُشْتَرِي ثُمَّ نَفَذَ الْبَيْعُ بِتَضْمِينِ الْغَاصِبِ فَالْأَصَحُّ أَنَّهُ يَنْفُذُ الْعِتْقُ أَيْضًا ، هَكَذَا ذَكَرَ هِلَالٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ فَقَالَ : يَنْفُذُ وَقْفُهُ عَلَى طَرِيقَةِ الِاسْتِحْسَانِ فَالْعِتْقُ يُتَقَوَّمُ ، وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ يَقُولُ : هُنَاكَ الْمُشْتَرِي يَمْلِكُهُ مِنْ جِهَةِ الْغَاصِبِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَسْتَنِدُ لِلْغَاصِبِ حَقِيقَةُ الْمِلْكِ فَكَيْف يَسْتَنِدُ لِمَنْ يَمْلِكُ مِنْ جِهَتِهِ فَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ ، وَهُنَا إنَّمَا يَسْتَنِدُ الْمِلْكُ لَهُ إلَى وَقْتِ الْعَقْدِ مِنْ جِهَةِ الْمُجِيزِ ، وَالْمُجِيزُ كَانَ مَالِكًا لَهُ حَقِيقَةً فَيُمْكِنُ إثْبَاتُ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قُلْنَا : فَلِهَذَا نَفَذَ عِتْقُهُ .

وَإِنْ مَاتَتْ الْجَارِيَةُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي ، ثُمَّ أَجَازَ الْمَالِكُ الْبَيْعَ لَمْ يَتِمَّ ؛ لِأَنَّ إجَازَتَهُ إنَّمَا تَصِحُّ فِي حَالٍ يَصِحُّ إذْنُهُ بِالْبَيْعِ ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ لَا يَصِحُّ إذْنُهُ بِالْبَيْعِ ، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي يَثْبُتُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ مَقْصُودًا بِسَبَبِهِ .
وَإِنْ كَانَ يَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ الْعَقْدِ ، وَالْمَيِّتُ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ مَقْصُودًا بِسَبَبِهِ .
وَإِنْ لَمْ يَمُتْ وَلَمْ يُسَلِّمْ رَبُّ الْجَارِيَةِ الْمَبِيعَ ، وَلَكِنَّ الْغَاصِبَ اشْتَرَاهَا مِنْهُ لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ إقْدَامَ الْمَالِكِ عَلَى بَيْعِهَا مِنْ الْغَاصِبِ إبْطَالٌ مِنْهُ لِلْبَيْعِ الْأَوَّلِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَنْفِيذُ الْبَيْعِ الْأَوَّلِ مِنْ الْغَاصِبِ بِهَذَا الشِّرَاءِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ حَادِثٌ ، وَالْبَيْعُ الْمَوْقُوفُ إذَا تَمَّ أَوْجَبَ الْمِلْكَ لِلْمُشْتَرِي مِنْ وَقْتِ الْعَقْدِ ، وَلِأَنَّهُ مَا تَوَقَّفَ عَلَى حَقِّهِ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الرِّضَا بِتَمْلِيكِ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ ؛ فَلِهَذَا لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ الْأَوَّلُ بَعْدَ شِرَاءِ الْغَاصِبِ ، وَكَذَلِكَ إنْ أَجَازَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ طَرَأَ مِلْكٌ نَافِذٌ عَلَى مِلْكٍ مَوْقُوفٍ فَكَانَ مُبْطِلًا لِلْمَوْقُوفِ إذْ لَا يُتَصَوَّرُ اجْتِمَاعُهُمَا فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ ، وَالْبَيْعُ بَعْدَ مَا بَطَلَ لَا يَلْحَقُهُ الْإِجَازَةُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَهَبَهَا مَوْلَاهَا لِلْغَاصِبِ أَوْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِ أَوْ مَاتَتْ فَوَرِثَهَا مِنْهُ ، فَهَذَا كُلُّهُ مُبْطِلٌ لِلْمِلْكِ الْمَوْقُوفِ بِطَرَيَانِ الْمِلْكِ النَّافِذِ فِي الْمَحِلِّ .

( رَجُلٌ ) غَصَبَ مِنْ رَجُلٍ جَارِيَةً فَعَيَّبَهَا فَأَقَامَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَدْ غَصَبَ جَارِيَةً لَهُ ، فَإِنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يَجِيءَ بِهَا وَيَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا ، ( وَكَانَ ) أَبُو بَكْرٍ الْأَعْمَشُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ : تَأْوِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الشُّهُودَ شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِ الْغَاصِبِ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ مِنْ إقْرَارِهِ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ ، فَأَمَّا الشَّهَادَةُ عَلَى فِعْلِ الْغَصْبِ لَا تُقْبَلُ مَعَ جَهَالَةِ الْمَغْصُوبِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي فِي الْمَغْصُوبِ ، وَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِالْمَجْهُولِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْإِشَارَةِ إلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالدَّعْوَى فِي الشَّهَادَةِ ، وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ هَذِهِ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةَ صَحِيحَةٌ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ ، فَإِنَّ الْغَاصِبَ يَكُونُ مُمْتَنِعًا مِنْ إحْضَارِ الْمَغْصُوبِ عَادَةً ، وَحِينَ يَغْصِبُ فَإِنَّمَا يَتَأَتَّى مِنْ الشُّهُودِ مُعَايَنَةُ فِعْلِ الْغَاصِبِ دُونَ الْعِلْمِ بِأَوْصَافِ الْمَغْصُوبِ ، فَسَقَطَ اعْتِبَارُ عِلْمِهِمْ بِالْأَوْصَافِ ؛ لِأَجْلِ التَّعَذُّرِ ، وَيَثْبُتُ بِشَهَادَتِهِمْ فِعْلُ الْغَصْبِ فِي مَحَلٍّ هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ ، فَصَارَ ثُبُوتُ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ كَثُبُوتِهِ بِإِقْرَارِهِ فَيُحْبَسُ حَتَّى يَجِيءَ بِهِ ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ الرَّدِّ عَلَى الْغَاصِبِ ثَابِتٌ بِنَفْسِ الْفِعْلِ ، وَهَذَا مَعْلُومٌ مِنْ شَهَادَتِهِمْ ، فَيَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِهِ ؛ فَلِهَذَا يَحْبِسُهُ حَتَّى يَجِيءَ بِهَا وَيَرُدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا ، فَإِنْ قَالَ الْغَاصِبُ : قَدْ مَاتَتْ أَوْ قَدْ بِعْتُهَا وَلَا أَقْدِرُ عَلَيْهَا تَلَوَّمَ الْقَاضِي فِي ذَلِكَ زَمَانًا ، وَلَمْ يُعَجِّلْ بِالْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ بِقَضَائِهِ يَتَحَوَّلُ الْحَقُّ مِنْ الْعَيْنِ إلَى الْقِيمَةِ ، وَفِيهِ نَوْعُ ضَرَرٍ عَلَى صَاحِبِهَا ، فَعَيْنُ الْمِلْكِ مَقْصُودٌ لِصَاحِبِهَا كَمَالِيَّتُهَا ، وَرُبَّمَا يَتَعَلَّلُ الْغَاصِبُ بِذَلِكَ لِتَسَلُّمِ الْعَيْنِ عِنْدَ أَدَاءِ الْقِيمَةِ ؛ فَلِهَذَا لَا

يُعَجِّلُ بِالْقَضَاءِ بِهَا ، وَلَيْسَ لِمُدَّةِ التَّلَوُّمِ مِقْدَارٌ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ مَوْكُولًا إلَى رَأْيِ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ نَصْبَ الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ ، وَهَذَا التَّلَوُّمُ إذَا لَمْ يَرْضَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِالْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ لَهُ ، فَأَمَّا إذَا رَضِيَ بِذَلِكَ أَوْ تَلَوَّمَ لَهُ الْقَاضِي فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْجَارِيَةِ ، فَإِنْ اتَّفَقَا فِي قِيمَتِهَا عَلَى شَيْءٍ أَوْ أَقَامَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا يَدَّعِي مِنْ قِيمَتِهَا قَضَى لَهُ الْقَاضِي بِذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ يَدَّعِي الزِّيَادَةَ وَهُوَ مُنْكِرٌ لَهَا .
فَإِنْ اُسْتُحْلِفَ فَنَكِلَ كَانَ نُكُولُهُ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ بِمَا يَدَّعِيهِ الْمَالِكُ ، وَإِنْ حَلَفَ قُضِيَ لَهُ بِمَا أَقَرَّ بِهِ الْغَاصِبُ ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ انْتَفَى عَنْهُ بِيَمِينِهِ مَا لَمْ يُقِمْ الْمَالِكُ حُجَّةً عَلَيْهِ ، فَإِنْ ظَهَرَتْ الْجَارِيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ الْقَضَاءُ بِالْقِيمَةِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِالنُّكُولِ أَوْ بِالْإِقْرَارِ مِنْ الْغَاصِبِ بِمَا ادَّعَى الْمَالِكُ فَالْجَارِيَةُ لَهُ لَا سَبِيلَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَ الْقَضَاءُ بِالْقِيمَةِ بِزَعْمِ الْغَاصِبِ بَعْدَ مَا يَحْلِفُ يُخَيَّرُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ ، فَإِنْ شَاءَ اسْتَرَدَّهَا وَرَدَّ مَا قَبَضَ عَلَى الْغَاصِبِ ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ تِلْكَ الْقِيمَةَ ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا .
قَالَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهَا بَعْدَ مَا ظَهَرَتْ أَكْثَرَ مِمَّا قَالَ الْغَاصِبُ ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ قِيمَتُهَا مِثْلَ مَا قَالَ الْغَاصِبُ ، فَلَا خِيَارَ لَهُ فِي اسْتِرْدَادِهَا ؛ لِأَنَّهُ يُوَفِّرُ عَلَيْهِ بَدَلَ مِلْكِهِ بِكَمَالِهِ .
وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْجَوَابُ مُطْلَقٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ رِضَاهُ بِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْ الْعَيْنِ إذَا لَمْ يُعْطَ مَا يَدَّعِيهِ مِنْ الْقِيمَةِ ، وَثُبُوتُ الْخِيَارِ لَهُ لِانْعِدَامِ تَمَامِ الرِّضَا مِنْ جِهَتِهِ ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ

بِاخْتِلَافِ قِيمَتِهَا فَقَدْ لَا يَرْضَى الْإِنْسَانُ بِزَوَالِ الْعَيْنِ عَنْ مِلْكِهِ بِقِيمَتِهِ ، وَهَذَا كُلُّهُ مَذْهَبُنَا ، أَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَالْجَارِيَةُ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ مَوْلَاهَا فَيَسْتَرِدُّهَا إذَا ظَهَرَتْ ، وَيَرُدُّ مَا قَبَضَ مِنْ الْقِيمَةِ .
( وَبَعْضُ ) الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَقُولُ : سَبَبُ الْمِلْكِ عِنْدَنَا يُقَرِّرُ الضَّمَانَ عَلَى الْغَاصِبِ لِكَيْ لَا يَجْتَمِعَ الْبَدَلُ ، وَالْمُبْدَلُ فِي مِلْكِ رَجُلٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ : الْمَضْمُونَاتُ تُمْلَكُ بِالضَّمَانِ ، وَلَكِنَّ هَذَا غَلَطٌ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ عِنْدَنَا يَثْبُتُ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ ؛ وَلِهَذَا نَفَذَ بَيْعُ الْغَاصِبِ وَسُلِّمَ الْكَسْبُ لَهُ .
( وَبَعْضُ ) الْمُتَأَخِّرِينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ : يَقُولُ الْغَصْبُ هُوَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْمِلْكِ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ ، وَهَذَا أَيْضًا وَهْمٌ ، فَإِنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ عِنْدَ أَدَاءِ الضَّمَانِ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ لِلْغَاصِبِ حَقِيقَةً ؛ وَلِهَذَا لَا يُسَلَّمُ لَهُ الْوَلَدُ .
وَلَوْ كَانَ الْغَصْبُ هُوَ السَّبَبُ لِلْمِلْكِ لَكَانَ إذَا تَمَّ لَهُ الْمِلْكُ بِذَلِكَ السَّبَبِ يَمْلِكُ الزَّوَائِدَ الْمُتَّصِلَةَ وَالْمُنْفَصِلَةَ كَالْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ إذَا تَمَّ بِالْإِجَازَةِ يَمْلِكُ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِزَوَائِدِهِ الْمُتَّصِلَةِ وَالْمُنْفَصِلَةِ ، وَمَعَ هَذَا فِي هَذِهِ الْعِبَارَةِ بَعْضُ الشُّنْعَةِ فَالْغَصْبُ هُوَ عُدْوَانٌ مَحْضٌ ، وَالْمِلْكُ حُكْمٌ مَشْرُوعٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ ، فَيَكُونُ سَبَبُهُ مَشْرُوعًا مَرْغُوبًا فِيهِ ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُجْعَلَ الْعُدْوَانُ الْمَحْضُ سَبَبًا لَهُ ، فَإِنَّهُ تَرْغِيبٌ لِلنَّاسِ فِيهِ لِتَحْصِيلِ مَا هُوَ مَرْغُوبٌ لَهُمْ بِهِ ، وَلَا يَجُوزُ إضَافَةُ مِثْلِهِ إلَى الشَّرْعِ ، فَالْأَسْلَمُ أَنْ يَقُولَ : الْغَصْبُ مُوجِبٌ رَدَّ الْعَيْنِ وَرَدَّ الْقِيمَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ بِطَرِيقِ الْجُبْرَانِ مَقْصُودًا بِهَذَا السَّبَبِ ، ثُمَّ يَثْبُتُ الْمِلْكُ بِهِ لِلْغَاصِبِ شَرْطًا لِلْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ لَا حُكْمًا ثَابِتًا بِالْغَصْبِ

مَقْصُودًا ؛ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْوَلَدَ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ كَانَ شَرْطًا لِلْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ ، وَالْوَلَدُ غَيْرُ مَضْمُونٍ بِالْقِيمَةِ ، وَهُوَ بَعْدَ الِانْفِصَالِ لَيْسَ يَتْبَعُ ، فَلَا يَثْبُتُ هَذَا الْحُكْمُ فِيهِ بِخِلَافِ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ ، فَإِنَّهُ تَبَعٌ مَحْضٌ ، وَالْكَسْبُ كَذَلِكَ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ فَيَكُونُ تَبَعًا مَحْضًا ، وَثُبُوتُ الْحُكْمِ فِي التَّبَعِ كَثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ سَوَاءٌ ثَبَتَ فِي الْمَتْبُوعِ مَقْصُودًا بِسَبَبِهِ أَوْ شَرْطًا لِغَيْرِهِ .
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ الِاسْتِدْلَال بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } فَاَللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ أَكْلَ مَالِ الْغَيْرِ قِسْمَيْنِ قِسْمٌ بِالْبَاطِلِ ، وَقِسْمٌ بِالتِّجَارَةِ عَنْ تَرَاضٍ ، وَهَذَا لَيْسَ بِتِجَارَةٍ عَنْ تَرَاضٍ فَيَكُونُ أَكْلًا بِالْبَاطِلِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْغَصْبَ عُدْوَانٌ مَحْضٌ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ بِوَجْهٍ مَا ، فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْمِلْكِ كَالْقَتْلِ .
وَتَأْثِيرُهُ مَا قُلْنَا : أَنَّ الْمِلْكَ حُكْمٌ مَشْرُوعٌ فَيَسْتَدْعِي سَبَبًا مَشْرُوعًا ، وَالْعُدْوَانُ الْمَحْضُ ضِدُّ الْمَشْرُوعِ ، فَأَدْنَى دَرَجَاتِ الْمَشْرُوعِ أَنْ يَكُونَ مَرْضِيًّا بِهِ ، وَأَنْ يَكُونَ مُبَاحًا ، وَالْعُدْوَانُ الْمَحْضُ ضِدُّهُ ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُثْبِتَ الْمِلْكَ بِضَمَانِ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ هَذَا ضَمَانُ جُبْرَانٍ فَيَكُونُ بِمُقَابَلَةِ الْفَائِتِ بِالْغَصْبِ ، وَالْفَائِتُ بِالْغَصْبِ يَدُ الْمَالِكِ لَا مِلْكُهُ .
فَعَرَفْنَا أَنَّ هَذَا الضَّمَانَ بِمُقَابَلَةِ النُّقْصَانِ الَّذِي حَلَّ بِيَدِ الْغَاصِبِ لَا أَنْ يَكُونَ بَدَلًا عَنْ الْعَيْنِ ؛ وَلِهَذَا قُلْتُمْ : لَوْ هَشَّمَ قُلْبَ فِضَّةٍ لِإِنْسَانٍ ، وَقَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ ، ثُمَّ افْتَرَقَا مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ لَا يَبْطُلُ الْقَضَاءُ ، وَلَوْ كَانَ بَدَلًا عَنْ الْعَيْنِ كَانَ صَرْفًا فَيَبْطُلُ بِالِافْتِرَاقِ مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّ هَذَا الضَّمَانَ بِطَرِيقِ الْجُبْرَانِ ، فَلَا

يَكُونُ الْجُبْرَانُ بِتَفْوِيتِ مَا هُوَ قَائِمٌ بَلْ هُوَ بِإِحْيَاءِ مَا هُوَ فَائِتٌ ، وَمِلْكُهُ فِي الْعَيْنِ كَانَ قَائِمًا ، فَلَوْ جَعَلْنَاهُ زَائِلًا بِالْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ لَهُ كَانَ هَذَا تَفْوِيتًا لَا جُبْرَانًا ، وَلَا كَانَتْ الْقِيمَةُ بَدَلًا عَنْ الْعَيْنِ فَهُوَ حَلِفٌ يُصَارُ إلَيْهِ عِنْدَ وُقُوعِ الْيَأْسِ عَنْ رَدِّ الْعَيْنِ ، وَمِثْلُ هَذَا الْحَلِفِ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ عِنْدَ ظُهُورِ الْعَيْنِ كَمَا لَوْ قَلَعَ سِنَّ إنْسَانٍ فَاسْتُوْفِيَ بِهِ حَوْلًا كَامِلًا ، ثُمَّ قَضَى لَهُ بِالْأَرْشِ فَقَبَضَ ، ثُمَّ نَبَتَ سِنُّهُ يَلْزَمُهُ رَدُّ الْمَقْبُوضِ مِنْ الْأَرْشِ بِهَذَا الْمَعْنَى ، وَاعْتِمَادُهُمْ عَلَى فَصْلِ الْمُدَبَّرِ ، وَبِهَذَا يَتَّضِحُ جَمِيعُ مَا قُلْنَا ، فَإِنَّ الْغَصْبَ يَتَحَقَّقُ فِي الْمُدَبَّرِ ، وَسَبَبُ الْمِلْكِ عِنْدَكُمْ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمُدَبَّرِ ، وَبِقَضَاءِ الْقَاضِي بِالْقِيمَةِ لَا يَزُولُ عَنْ مِلْكِهِ ، وَلَوْ كَانَ شَرْطُ الْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ انْعِدَامَ مِلْكِهِ فِي الْعَيْنِ أَوْ كَانَتْ الْعَيْنُ بَدَلًا عَنْ الْعَيْنِ لَمَا قَضَى الْقَاضِي بِهَا فِي مَحَلٍّ لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ هَذَا الشَّرْطُ ، وَإِنْ تَمَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي يَنْبَغِي أَنْ يَزُولَ مِلْكُهُ عَنْ الْمُدَبَّرِ ، كَمَا لَوْ قَضَى بِجَوَازِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ .
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ { قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشَّاةِ الْمَغْصُوبَةِ الْمَصْلِيَّةِ : أَطْعِمُوهَا الْأَسَارَى } فَقَدْ أَمَرَهُمْ بِالتَّصَدُّقِ بِهَا ، وَلَوْ لَمْ يَمْلِكُوهَا لَمَا أَمَرَهُمْ بِالتَّصَدُّقِ بِهَا ؛ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ بِمِلْكِ الْغَيْرِ إذَا كَانَ مَالِكُهُ مَعْلُومًا لَا يَجُوزُ ، وَلَكِنْ يُحْفَظُ عَلَيْهِ عَيْنُ مِلْكِهِ ، فَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ يُبَاعُ ، وَيُحْفَظُ عَلَيْهِ ثَمَنُهُ .
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْغَصْبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ مُخْتَصٌّ بِمَحِلٍّ هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فَيَثْبُتُ الْمِلْكُ بِهِ إذَا أَمْكَنَ كَالْبَيْعِ وَالصُّلْحِ .
وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ غَصْبَ الْحُرِّ لَا يَتَحَقَّقُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالٍ ، وَكَذَلِكَ غَصْبُ الْخَمْرِ مِنْ

الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ ، وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ اخْتِصَاصَ السَّبَبِ بِمَحِلٍّ لَا يَكُونُ إلَّا لِاخْتِصَاصِهِ بِحُكْمٍ يَخْتَصُّ بِذَلِكَ الْمَحِلِّ ، فَالْمَحِلُّ الَّذِي هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ يَخْتَصُّ بِصِحَّةِ التَّمْلِيكِ فِيهِ ، فَلَمَّا اخْتَصَّ الْغَصْبُ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ بِهِ عَرَفْنَا أَنَّهُ إنَّمَا اخْتَصَّ بِهَذَا الْحُكْمِ ، فَإِنَّ الْفِعْلَ الَّذِي هُوَ عُدْوَانٌ مَحْضٌ ، وَإِزَالَةُ الْيَدِ الْمُحْتَرَمَةِ لَا تَخْتَصُّ بِمَحِلٍّ هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ .
ثُمَّ حَقِيقَةُ الْمَعْنَى أَنَّ الضَّمَانَ الْوَاجِبَ عَلَى الْغَاصِبِ بَدَلُ الْعَيْنِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُقَوِّمُ الْعَيْنَ بِهِ ، وَأَنَّهُ يُسَمِّي الْوَاجِبَ قِيمَةَ الْعَيْنِ ، وَيَتَقَدَّرُ بِمَالِيَّةِ الْعَيْنِ ، وَلِأَنَّ الضَّمَانَ بِمُقَابَلَةِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ ، وَمَقْصُودُ صَاحِبِ الدَّرَاهِمِ عَيْنُ الدَّرَاهِمِ لِامْتِلَاءِ كِيسِهِ بِهَا ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الضَّمَانَ بَدَلُ الْعَيْنِ ، وَإِنَّمَا يُقْضَى بِهَا جُبْرَانًا ، وَالْجُبْرَانُ يَسْتَدْعِي الْفَوَاتَ لَا مَحَالَةَ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُجِيزُ الْفَائِتَ دُونَ الْقَائِمِ ، فَكَانَ مِنْ ضَرُورَةِ الْقَضَاءِ بِقِيمَةِ الْعَيْنِ انْعِدَامُ مِلْكِهِ فِي الْعَيْنِ فَيَكُونُ جُبْرَانًا لِمَا هُوَ فَائِتٌ ، وَمَا لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ إلَّا بِشَرْطٍ ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى إثْبَاتِهِ يُقَدَّمُ شَرْطُهُ عَلَيْهِ لَا مَحَالَةَ ، كَمَا إذَا قَالَ لِغَيْرِهِ : أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فَأَعْتَقَهُ ، يُقَدَّمُ التَّمْلِيكُ مِنْهُ عَلَى نُفُوذِ الْعِتْقِ مِنْهُ ضَرُورَةَ كَوْنِهِ شَرْطًا فِي الْمَحِلِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ : أَعْتِقْهُ عَنِّي سَبَبًا لِلتَّمْلِيكِ مَقْصُودًا .
إذَا تَقَرَّرَ هَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالْعُدْوَانِ الْمَحْضِ مَا هُوَ حَسَنٌ مَشْرُوعٌ بِهِ ، وَهُوَ الْقَضَاءُ بِالْقِيمَةِ جُبْرَانًا لِحَقِّهِ فِي الْفَائِتِ ، ثُمَّ انْعِدَامُ الْمِلْكِ فِي الْعَيْنِ لَمَّا كَانَ مِنْ شَرْطِهِ هَذَا الْمَشْرُوعُ يَثْبُتُ بِهِ ، وَيَكُونُ حَسَنًا بِجِنْسِهِ ؛ وَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ التَّقَابُضُ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ التَّقَابُضِ

فِيمَا هُوَ سَبَبٌ لِلْمِلْكِ مَقْصُودٌ إلَّا فِيمَا يَثْبُتُ شَرْطًا لِغَيْرِهِ ، كَمَا لَا يُشْتَرَطُ الْقَبُولُ فِي قَوْلِهِ : أَعْتِقْ عَبْدَكَ عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْقَبُولِ فِي سَبَبِ مِلْكٍ مَقْصُودٍ لَا فِيمَا هُوَ شَرْطٌ لِغَيْرِهِ ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا : إنَّ الْمَغْصُوبَ ، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا عِنْدَ الْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ يَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّ الْهَالِكَ مِمَّا لَا يَقْبَلُ التَّمْلِيكَ مَقْصُودٌ بِسَبَبِهِ لَا شَرْطًا لِغَيْرِهِ ، وَكَذَلِكَ يَقُولُ : إذَا أَخَذَ الْقِيمَةَ بِزَعْمِ الْغَاصِبِ فَالْعَيْنُ لَا تَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ ، وَلَكِنْ يَتَخَيَّرُ عِنْدَ ظُهُورِهِ لِعَدَمِ تَمَامِ الرِّضَى بِهِ ، كَالْمُشْتَرِي إذَا وَجَدَ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا .
( فَأَمَّا ) الْمُدَبَّرُ فَفِي تَخْرِيجِهِ طَرِيقَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ هُنَاكَ لَا يَقُولُ بِبَقَاءِ الْعَيْنِ عَلَى مِلْكِهِ بَعْدَ تَقَرُّرِ حَقِّهِ فِي الْقِيمَةِ بَلْ يُجْعَلُ زَائِلًا عَنْ مِلْكِهِ لِتَحْقِيقِ هَذَا الشَّرْطِ ؛ وَلِهَذَا لَوْ لَمْ يَظْهَرْ الْمُدَبَّرُ بَعْدَ ذَلِكَ وَظَهَرَ لَهُ كَسْبٌ فَذَلِكَ الْكَسْبُ يَكُونُ لِلْغَاصِبِ دُونَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ إلَّا أَنَّهُ إذَا ظَهَرَ الْمُدَبَّرُ يُعَادُ إلَيْهِ صِيَانَةً لِحَقِّ الْمُدَبَّرِ ، فَإِنَّ حَقَّ الْعِتْقِ ثَبَتَ لَهُ بِالتَّدْبِيرِ عِنْدَنَا .
الثَّانِي : أَنَّ فِي الْمُدَبَّرِ الْقِيمَةَ لَيْسَتْ بِبَدَلٍ عَنْ الْعَيْنِ ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ شَرْطُهُ وَهُوَ انْعِدَامُ الْمِلْكِ فِي الْعَيْنِ مُتَعَذِّرٌ فِي الْمُدَبَّرِ ، فَيُجْعَلُ هَذَا خَلَفًا عَنْ النُّقْصَانِ الَّذِي حَلَّ بِيَدِهِ ، وَلَكِنَّ هَذَا عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَفِي كُلِّ مَحَلٍّ يُمْكِنُ اتِّحَادُ الشَّرْطِ لَا تَتَحَقَّقُ الضَّرُورَةُ فَيُجْعَلُ بَدَلًا عَنْ الْعَيْنِ ، وَإِذَا تَعَذَّرَ اتِّحَادُ الشَّرْطِ يُجْعَلُ خَلَفًا عَنْ النُّقْصَانِ الَّذِي حَلَّ بِيَدِهِ ، وَنَظِيرُهُ فَصْلَانِ : أَحَدُهُمَا ضَمَانُ الْعِتْقِ ، فَإِنَّهُ بِمُقَابَلَةِ الْعَيْنِ فِي كُلِّ مَحَلٍّ يُمْكِنُ اتِّحَادُ الشَّرْطِ ، وَهُوَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ ، وَفِيمَا لَا يَحْتَمِلُ اتِّحَادَ هَذَا الشَّرْطِ كَالْمُدَبَّرِ ، وَأُمِّ

الْوَلَدِ عِنْدَهُمْ لَا يُجْعَلُ بَدَلًا عَنْ الْعَيْنِ ، وَكَذَلِكَ ضَمَانُ الصُّلْحِ ، فَإِنَّهُ إذَا أَخَذَ الْقِيمَةَ بِالتَّرَاضِي كَانَ الْمَأْخُوذُ بَدَلًا عَنْ الْعَيْنِ فِي كُلِّ مَحَلٍّ يَحْتَمِلُ تَمْلِيكَ الْعَيْنِ ، وَفِي كُلِّ مَحَلٍّ لَا يَحْتَمِلُ تَمْلِيكَ الْعَيْنِ يُجْعَلُ الْمَأْخُوذُ بِمُقَابَلَةِ الْجِنَايَةِ الَّتِي حَلَّتْ بِيَدِهِ ، وَكَذَلِكَ إذَا أَخَذَ الْقِيمَةَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، وَفِيمَا تَلَا مِنْ الْآيَةِ بَيَانُ أَنَّ الْأَكْلَ بِالتِّجَارَةِ عَنْ تَرَاضٍ جَائِزٌ لَا أَنْ يَكُونَ الْجَوَازُ مَقْصُودًا عَلَيْهِ ، ثُمَّ مَعْنَى التِّجَارَةِ عَنْ تَرَاضٍ يَنْدَرِجُ هُنَا مِنْ وَجْهٍ ، فَإِنَّ الْمَالِكَ هُنَا مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَنْ يَصْبِرَ حَتَّى تَظْهَرَ الْعَيْنُ فَيَأْخُذَهَا .
فَحِينَ طَالَبَ بِالْقِيمَةِ مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ انْعِدَامَ مِلْكِهِ فِي الْعَيْنِ ، فَقَدْ صَارَ رَاضِيًا بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَنْ طَلَبَ شَيْئًا لَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِشَرْطٍ كَانَ رَاضِيًا بِالشَّرْطِ كَمَا يَكُونُ رَاضِيًا بِمَطْلُوبِهِ .

( رَجُلٌ ) غَصَبَ مِنْ رَجُلٍ جَارِيَةً فَوَطِئَهَا فَوَلَدَتْ مِنْهُ ، ثُمَّ حَضَرَ صَاحِبُهَا فَادَّعَاهَا ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَأَقَرَّ لَهُ بِهَا ذُو الْيَدِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَيْهَا وَلَا عَلَى وَلَدِهَا ؛ لِأَنَّ حَقَّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ لَهَا ، وَحَقِيقَةُ الْحُرِّيَّةِ لِلْوَلَدِ تَثْبُتُ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ ، فَإِنَّ مَنْ فِي يَدِهِ شَيْءٌ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مِلْكُهُ ؛ وَلِهَذَا لَوْ نَازَعَهُ غَيْرُهُ فِيهِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، فَلَا يُصَدِّقُهُ فِي إبْطَالِ حَقِّهِمَا ، وَلَكِنَّهُ مُصَدَّقٌ فِيمَا يُقِرُّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَقَدْ أَقَرَّ أَنَّهَا كَانَتْ مَغْصُوبَةً فِي يَدِهِ ، وَأَنَّهُ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ عَيْنِهَا ، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّ الْعَيْنِ بِفِعْلِهِ فَلِهَذَا يَلْزَمُهُ قِيمَتُهَا لِلْمُقَرِّ لَهُ ( قَالَ : ) وَلَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الْوَلَدِ ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِلْعُقْرِ ، وَذَكَرَ الْمَسْأَلَةَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ عَلَى أَنَّ قَوْلَ زُفَرَ يَضْمَنُ قِيمَةَ الْوَلَدِ وَالْعُقْرِ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا يَضْمَنُ ذَلِكَ .
وَجْهُ قَوْلِ زُفَرَ أَنَّهُ أَقَرَّ بِوُجُوبِ الْعُقْرِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ وَطِئَهَا ، وَهِيَ مَغْصُوبَةٌ فِي يَدِهِ ، وَالْوَطْءُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لَا يَنْفَكُّ عَنْ حَدٍّ أَوْ عُقْرٍ ، وَقَدْ سَقَطَ الْحَدُّ بِشُبْهَةٍ فَيَجِبُ الْعُقْرُ ، كَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ أَنَّ الْوَلَدَ مِلْكُ الْمُقَرِّ لَهُ ، وَقَدْ اُحْتُبِسَ عِنْدَهُ بِفِعْلِهِ كَالْأُمِّ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ يَضْمَنُ قِيمَةَ الْوَلَدِ بِالْمَبِيعِ أَوْ يُجْعَلُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْمَغْرُورِ ، وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ ، وَعَلَى الْمَغْرُورِ عُقْرُهَا لِلْمُسْتَحِقِّ فَهَذَا مِثْلُهُ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الضَّمَانِ إنَّمَا يَلْزَمُهُ بِإِقْرَارِهِ ، وَهُوَ مَا أَقَرَّ بِوُجُوبِ الْعُقْرِ عَلَيْهِ إنَّمَا أَقَرَّ بِوُجُوبِ الْحَدِّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ وَطْءَ الْجَارِيَةِ الْمَغْصُوبَةِ يُوجِبُ الْحَدَّ عَلَى الْغَاصِبِ دُونَ الْمُقِرِّ .
وَكَذَلِكَ وَلَدُ الْمَغْصُوبَةِ

لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْغَاصِبِ إلَّا بِمَنْعٍ مِنْهُ ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ مِنْهُ فِي الْوَلَدِ ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ رَدُّهُ لِحُرِّيَّتِهِ شَرْعًا فَهُوَ كَمَا لَوْ امْتَنَعَ رَدُّهُ بِمَوْتِهِ ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مَا أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِوُجُوبِ الْعُقْرِ وَلَا بِوُجُوبِ قِيمَةِ الْوَلَدِ ، فَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ الْمُدَّعِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا جَارِيَتُهُ غَصَبَهَا هَذَا مِنْهُ ، قُضِيَ لَهُ بِهَا وَبِوَلَدِهَا ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْعُقْرَ وَيَنْبَغِي أَنْ يَقْضِيَ لَهُ بِالْعُقْرِ ؛ لِأَنَّ ذَا الْيَدِ لَمَّا أَنْكَرَ فَقَدْ صَارَ إنْكَارُهُ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهُ ، وَقَدْ أَثْبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ وَطِئَ مِلْكَ الْغَيْرِ فَيَلْزَمُهُ الْعُقْرُ ، فَإِنْ لَمْ يَقُلْ الشُّهُودُ غَصَبَهَا وَلَمْ يُقِرَّ الَّذِي هِيَ فِي يَدَيْهِ ، وَلَكِنَّهُ قَالَ : اشْتَرَيْتُهَا مِنْ فُلَانٍ فَأَرَدْتُ أَنْ يَقْضِيَ بِالْجَارِيَةِ لِلَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ ، هَلْ يَسْتَحْلِفُهُ بِاَللَّهِ مَا بِعْتُهُ وَلَا أَذِنْتُ لَهُ فِيهِ ، وَلَمْ يَدَّعِ ذُو الْيَدِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ( قَالَ : ) لَا أَسْتَحْلِفُهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الَّذِي هِيَ فِي يَدَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ نُصِّبَ لِفَصْلِ الْخُصُومَاتِ لَا لِتَهْيِيجِهَا ، وَلِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ يَتَرَتَّبُ عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ ، فَإِنْ لَمْ يَدَّعِ ذُو الْيَدِ ذَلِكَ ، فَلَا مَعْنَى لِلِاسْتِحْلَافِ ، وَإِذَا ادَّعَاهُ فَحِينَئِذٍ يُسْتَحْلَفُ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ .
( وَرُوِيَ ) عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّ الْقَاضِي يَسْتَحْلِفُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ ذُو الْيَدِ ذَلِكَ صِيَانَةً لِقَضَاءِ نَفْسِهِ .
وَإِنْ أَقَامَ الَّذِي هِيَ فِي يَدَيْهِ الْبَيِّنَةَ عَلَى تَسْلِيمِهِ الْمَبِيعَ أَخَذَ رَبُّ الْجَارِيَةِ الثَّمَنَ مِنْ الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ ، وَلِأَنَّ إجَازَةَ الْبَيْعِ فِي الِانْتِهَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ .
فَإِنْ تَصَادَقَ

الْأَوَّلُ وَالْجَارِيَةُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَعْتَقَهَا قَبْلَ هَذَا الْبَيْعِ لَمْ يُصَدَّقَا عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مَمْلُوكَةً لِلْمُشْتَرِي بِمَا أَثْبَتَ مِنْ الْبَيْعِ وَإِجَازَةِ الْمَالِكِ بِالْبَيِّنَةِ ، فَلَا يُصَدَّقَانِ عَلَى إبْطَالِ مِلْكِهِ ، وَلَكِنْ إنْ أَقَامَتْ الْجَارِيَةُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْأَوَّلَ كَانَ أَعْتَقَهَا قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا هَذَا فَإِنَّهَا تُعْتَقُ ؛ لِأَنَّهَا أَثْبَتَتْ حُرِّيَّتَهَا بِإِعْتَاقِ مَنْ كَانَ يَمْلِكُهَا بِالْحُجَّةِ ، ثُمَّ يَتَبَيَّنُ بُطْلَانُ الْبَيْعِ فَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ ، وَعَلَى الْمُشْتَرِي الْعُقْرُ لِلْجَارِيَةِ ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَهَا بِشُبْهَةِ الْمِلْكِ ، وَهِيَ حُرَّةٌ وَالْوَلَدُ وَلَدُهُ بِغَيْرِ قِيمَةٍ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الْحُرِّيَّةِ ، وَقَدْ ثَبَتَتْ حُرِّيَّتُهَا بِالْبَيِّنَةِ فَيَنْفَصِلُ الْوَلَدُ عَنْهَا حُرًّا بِذَلِكَ السَّبَبِ لَا بِالْغُرُورِ ، فَلِهَذَا لَا يَغْرَمُ قِيمَةَ الْوَلَدِ .

وَلَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَلَدَتْ لَهُ ثُمَّ جَاءَ أَخُوهُ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْجَارِيَةَ لَهُ قَضَيْتُ بِهَا لَهُ ، وَبِقِيمَةِ الْوَلَدِ وَالْعُقْرِ ؛ لِأَنَّ حُرِّيَّةَ الْوَلَدِ هُنَا بِسَبَبِ الْغُرُورِ لَا بِسَبَبِ مِلْكِ الْأَخِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُعْتَقُ ابْنُ الْأَخِ عَلَى عَمِّهِ بَعْدَ تَمَلُّكِهِ ، وَهُنَا الْوَلَدُ كَانَ حُرَّ الْأَصْلِ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي مِلْكِ الْمُدَّعِي حَتَّى يُجْعَلَ عِتْقُهُ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ .
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ حُرِّيَّةَ الْوَلَدِ بِسَبَبِ الْغُرُورِ فَوَلَدُ الْمَغْرُورِ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ ، بِهِ قَضَى عُمَرُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ وَقِيمَةِ الْوَلَدِ لِأَجْلِ الْغُرُورِ ، وَلَا يَرْجِعُ بِالْعُقْرِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا لَزِمَهُ بِمَا نَالَ مِنْ لَذَّةِ الْوَطْءِ ، فَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ .

( رَجُلٌ ) غَصَبَ جَارِيَةً أَوْ شَاةً أَوْ بَقَرَةً فَوَلَدَتْ وَلَدًا ، ثُمَّ ذَبَحَ الْوَلَدَ أَوْ بَاعَهُ أَوْ اسْتَخْدَمَهُ حَتَّى إذَا مَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَتِهِ يَوْمَ مَاتَ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ كَانَ أَمَانَةً عِنْدَهُ ، وَقَدْ أَتْلَفَهُ بِالذَّبْحِ أَوْ الِاسْتِخْدَامِ حَتَّى مَاتَ مِنْهُ ، وَصَارَ مُتَعَدِّيًا عَلَيْهِ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ كَالْمُودِعِ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ الْوَدِيعَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ، وَلَكِنَّ الْأُمَّ مَاتَتْ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ الْأُمِّ يَوْمَ غَصَبَهَا وَيَأْخُذَ الْأَوْلَادَ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْأُمِّ يَثْبُتُ لِلْغَاصِبِ شَرْعًا لِتَقَرُّرِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُتَعَدٍّ إلَى الْوَلَدِ ، فَإِنَّ الثَّابِتَ بِالضَّرُورَةِ لَا يَعْدُو مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ السَّبَبِ لِلضَّمَانِ هُوَ الْغَصْبُ ، وَوُجُوبُهُ حَقِيقَةً بَعْدَ مَوْتِ الْأُمِّ ، فَأَمَّا قَبْلَ مَوْتِهَا الْوَاجِبُ رَدُّ الْعَيْنِ ، فَالْمِلْكُ يَثْبُتُ بِهِ كَذَلِكَ ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ وَقْتَ الْغَصْبِ إنَّمَا يُثْبِتُ لَهُ حُكْمَ الْمِلْكِ لَا حَقِيقَةَ الْمِلْكِ ، وَذَلِكَ يَكْفِي لِسَلَامَةِ الْكَسْبِ دُونَ الْوَلَدِ ، كَحُكْمِ الْمِلْكِ الثَّابِتِ لِلْمُكَاتَبِ بِالْكِتَابَةِ ، حَتَّى أَنَّ كَسْبَهُ لَا يَكُونُ مَمْلُوكًا لِلْمَوْلَى ، وَوَلَدُهُ يَكُونُ مَمْلُوكًا لَهُ يَنْفُذُ عِتْقُهُ فِيهِ .

( رَجُلٌ ) غَصَبَ جَارِيَةً قِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ فَصَارَتْ قِيمَتُهَا أَلْفَيْنِ ، ثُمَّ قَتَلَهَا رَجُلٌ خَطَأً فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِي مَالِهِ حَالًّا ، وَإِنْ شَاءَ أَتْبَعَ عَاقِلَةَ الْقَاتِلِ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَانٍ فِي حَقِّهِ فَلَهُ الْخِيَارُ فِي التَّضْمِينِ ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ ، فَإِنَّمَا يُضَمِّنُهُ بِاعْتِبَارِ الْغَصْبِ فَيَنْظُرُ إلَى قِيمَتِهَا عِنْدَ ذَلِكَ ، وَضَمَانُ الْغَصْبِ يَجِبُ حَالًّا عَلَى الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ ، ثُمَّ الْغَاصِبُ يَرْجِعُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ مُؤَجَّلًا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ يَمْلِكُ بِالضَّمَانِ فَيَظْهَرُ أَنَّ الْقَاتِلَ جَانٍ عَلَى مِلْكِهِ ، فَلِهَذَا يَرْجِعُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ، أَوْ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَمَّا ضَمَّنَهُ فَقَدْ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي الرُّجُوعِ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ .
وَهُوَ لَوْ اخْتَارَ الرُّجُوعَ عَلَيْهِمْ أَخَذَ مِنْهُمْ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ قِيمَتَهَا وَقْتَ الْقَتْلِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بِاعْتِبَارِ الْقَتْلِ بَدَلُ النَّفْسِ فَيَكُونُ عَلَى الْعَاقِلَةِ مُؤَجَّلًا ، فَكَذَلِكَ الْغَاصِبُ يَرْجِعُ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، ثُمَّ يُسَلِّمُ لَهُ مِمَّا يَقْبِضُ أَلْفًا قَدْرَ مَا ضَمِنَ ، وَيَتَصَدَّقُ بِالْأَلْفِ الْأُخْرَى ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ ، وَهُوَ الْغَصْبُ الْمُتَقَدِّمُ ، وَلِأَنَّهُ رِبْحٌ حَصَلَ لَا عَلَى مِلْكِهِ فَيَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِهِ كَالرِّبْحِ الْحَاصِلِ لَا عَلَى ضَمَانِهِ ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْجَارِيَةِ يَوْمَ غَصَبَهَا عَشْرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ ، وَيَوْمَ قَتَلَهَا الْقَاتِلُ كَذَلِكَ ، فَمَوْلَاهَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ عَشْرَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فِي مَالِهِ حَالَّةً بِسَبَبِ الْغَصْبِ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ عَاقِلَةَ الْقَاتِلِ خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ بِسَبَبِ الْقَتْلِ ؛ لِأَنَّ

الْوَاجِبَ بِهَذَا السَّبَبِ بَدَلُ النَّفْسِ ، وَبَدَلُ نَفْسِ الْأَمَةِ لَا يَزِيدُ عَلَى خَمْسَةِ آلَافٍ كَبَدَلِ نَفْسِ الْحُرَّةِ ، وَيُنْقِصُ لِلرِّقِّ مِنْ ذَلِكَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ، وَفِي رِوَايَةٍ خَمْسَةً ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ يَرْجِعُ الْغَاصِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ بِخَمْسَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ إلَّا عَشَرَةَ دَرَاهِمَ ، إمَّا لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ أَوْ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّ جِنَايَةَ الْقَاتِلِ كَانَتْ عَلَى مِلْكِهِ .
فَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ هِيَ الَّتِي قَتَلَتْ رَجُلًا خَطَأً أَخَذَهَا مَوْلَاهَا وَدَفَعَهَا أَوْ فَدَاهَا ؛ لِأَنَّهَا بَعْدَ الْغَصْبِ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ مَوْلَاهَا ، وَمُوجِبُ جِنَايَةِ الْمَمْلُوكِ أَنْ يُخَيَّرَ مَوْلَاهَا بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ ، وَأَيُّ ذَلِكَ فَعَلَ رَجَعَ عَلَى الْغَاصِبِ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهَا وَمِنْ الْفِدَاءِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنَّمَا لَزِمَهُ بِسَبَبٍ كَانَ مِنْهَا فِي يَدِ الْغَاصِبِ ، وَجِنَايَتُهَا فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ كَجِنَايَةِ الْغَاصِبِ عَلَيْهَا ، وَلِأَنَّ الرَّدَّ لَمْ يُسَلَّمْ حِينَ اُسْتُحِقَّتْ مِنْ يَدِ الْمَوْلَى بِسَبَبٍ كَانَ عِنْدَ الْغَاصِبِ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَرُدَّهَا فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْفِدَاءُ أَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ بِالْأَقَلِّ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْتِزَامِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَقَلِّ مُخْتَارٌ ، فَإِنَّهُ كَانَ يَتَخَلَّصُ بِاخْتِيَارِ الْأَقَلِّ ، فَإِنْ كَانَتْ مَاتَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ بَعْدَ الْجِنَايَةِ أَخَذَ الْمَوْلَى قِيمَتَهَا مِنْ الْغَاصِبِ بِسَبَبِ الْغَصْبِ فَيَدْفَعُهَا إلَى أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ مُسْتَحَقَّةً لَهُمْ بِالْجِنَايَةِ ، وَقَدْ فَاتَتْ ، وَاخْتَلَفَتْ بَدَلًا فَيَسْتَحِقُّونَ بَدَلَهَا بِاسْتِحْقَاقِهَا ، وَإِذَا دَفَعَ الْقِيمَةَ إلَيْهِمْ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْغَاصِبِ مَرَّةً أُخْرَى ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ اُسْتُحِقَّ مِنْ يَدِهِ بِسَبَبٍ كَانَ عِنْدَ الْغَاصِبِ ، وَلِأَنَّ اسْتِرْدَادَ الْقِيمَةِ كَاسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ ، وَلَوْ اسْتَرَدَّهَا وَدَفَعَهَا بِالْجِنَايَةِ رَجَعَ عَلَى الْغَاصِبِ بِقِيمَتِهَا

فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَرَدَّ قِيمَتَهَا ، وَدَفَعَهَا بِالْجِنَايَةِ .

( رَجُلٌ ) غَصَبَ دَارَ رَجُلٍ وَسَكَنَهَا ، فَإِنْ انْهَدَمَتْ مِنْ سُكْنَاهُ أَوْ مِنْ عَمَلِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ لِمَا انْهَدَمَ بِفِعْلِهِ ، وَالْإِتْلَافُ يَتَحَقَّقُ فِي الْعَقَارِ كَمَا فِي الْمَنْقُولِ ، وَإِنْ انْهَدَمَتْ مِنْ غَيْرِ عَمَلِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ لَا يَتَحَقَّقُ عِنْدَهُمَا فِي الْعَقَارِ ، وَالْحُكْمُ يَنْبَنِي عَلَى السَّبَبِ وَأَصْلِ الْمَسْأَلَةِ ؛ لِأَنَّ الْعَقَارَ لَا يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ فِي الْقِيَاسِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُضْمَنُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
حُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ غَصَبَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ طَوَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ } فَقَدْ أَطْلَقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَفْظَ الْغَصْبِ عَلَى الْعَقَارِ .
وَكَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْعُرْفِ يُقَالُ : غَصَبَ دَارَ فُلَانٍ ، وَمِنْ حَيْثُ الْحُكْمِ دَعْوَى الْغَصْبِ فِي الْعَقَارِ تُسْمَعُ حَتَّى لَا تَنْدَفِعَ بِإِقَامَةِ ذِي الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّ يَدَهُ يَدُ أَمَانَةٍ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْغَصْبَ يَتَحَقَّقُ فِيهَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ حُكْمُهُ وَالْمَعْنَى فِيهِ .
أَمَّا الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَقُولُ : الْعَقَارُ يُمْلَكُ بِالِاسْتِيلَاءِ يَدًا فَيُضْمَنُ بِالْغَصْبِ يَدًا كَالْمَنْقُولِ .
وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْغُزَاةَ إذَا فَتَحُوا بَلْدَةً يَمْلِكُونَ عَقَارَهُمْ ، وَتَأْثِيرُهُ مَا بَيَّنَّا عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ حَدَّ الْغَصْبِ التَّعَدِّي بِإِثْبَاتِ الْيَدِ لِنَفْسِهِ عَلَى مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ فِي الْعَقَارِ وَالْمَنْقُولِ جَمِيعًا وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ : الْعَقَارُ يُضْمَنُ بِالْعَقْدِ الْجَائِزِ وَالْفَاسِدِ فَيُضْمَنُ بِالْغَصْبِ كَالْمَنْقُولِ ، وَتَحْقِيقُهُ هُوَ أَنَّ وُجُوبَ ضَمَانِ الْغَصْبِ

يَعْتَمِدُ تَفْوِيتَ يَدِ الْمَالِكِ بِالنَّقْلِ ، وَلَكِنْ فِيمَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِيهِ ، فَأَمَّا فِيمَا لَا يَتَأَتَّى يُقَامُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ ، وَهُوَ الِاسْتِيلَاءُ بِأَقْصَى مَا يُمْكِنُهُ بِالسُّكْنَى وَإِخْرَاجِ الْمَالِكِ عَنْهُ ، كَمَا أَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ الْإِشَارَةُ إلَى الْعَيْنِ فِي الْمَنْقُولِ الَّذِي يُمْكِنُ إحْضَارُهُ ، ثُمَّ فِي الْعَقَارِ لَمَّا تَعَذَّرَ ذَلِكَ يُقَامُ ذِكْرُ الْحُدُودِ مَقَامَهُ ، وَشَرْطُ تَمَامِ الْهِبَةِ الْقَبْضُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ فِيمَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْقِسْمَةُ ، ثُمَّ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ تُقَامُ التَّخْلِيَةُ مَقَامَهُ ؛ وَلِهَذَا سَمَّاهُ اسْتِحْسَانًا ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِكُمْ : إنَّ فِعْلَهُ فِي الْمَالِكِ هُنَا يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ مِلْكَهُ فَيَسْكُنُ ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِتَفْوِيتِ الْيَدِ ، وَهُوَ فَوْتُ مَنْفَعَةِ الْمِلْكِ وَثَمَرَاتِهِ عَلَيْهِ يَحْصُلُ بِهَذَا ، وَيَجُوزُ إقَامَةُ فِعْلِهِ فِي غَيْرِ الْمَضْمُونِ مَقَامَ فِعْلِهِ فِي الْمَضْمُونِ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ كَحَافِرِ الْبِئْرِ فِي الطَّرِيقِ فِعْلُهُ فِي الْأَرْضِ دُونَ الْمَارِّ ، ثُمَّ يُجْعَلُ ذَلِكَ قَائِمًا مَقَامَ فِعْلِهِ فِي الْمَارِّ الْوَاقِعِ فِي الْبِئْرِ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ ، فَهَذَا مِثْلُهُ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ .
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ الْحَدِيثُ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ جَزَاءَ غَاصِبِ الْعَقَارِ الْوَعِيدَ فِي الْآخِرَةِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الضَّمَانَ فِي الدُّنْيَا ، فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَذْكُورَ جَمِيعُ جَزَائِهِ ، وَلَوْ كَانَ الضَّمَانُ وَاجِبًا لَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُبَيِّنَ الضَّمَانَ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَيْهِ أَمَسُّ ، وَإِطْلَاقُ لَفْظِ الْغَصْبِ عَلَيْهِ لَا يَدُلُّ عَلَى تَحَقُّقِ الْغَصْبِ فِيهِ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ ؛ لِأَنَّ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ حَقِيقَةً وَمَجَازًا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَطْلَقَ لَفْظَ الْبَيْعِ عَلَى الْحُرِّ بِقَوْلِهِ : مَنْ بَاعَ حُرًّا ، وَهَذَا لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبَيْعَ الْمُوجِبَ لِحُكْمِهِ حَقِيقَةً يُتَصَوَّرُ فِي الْحُرِّ

، وَكَذَلِكَ فِي عُرْفِ اللِّسَانِ حَقِيقَةً وَمَجَازًا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يُطْلِقُونَ لَفْظَ السَّرِقَةِ عَلَى الْعَقَارِ كَمَا يُطْلِقُونَ لَفْظَ الْغَصْبِ ، وَقَدْ وَرَدَ الشَّرْعُ بِذَلِكَ أَيْضًا ، ثُمَّ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْعَقَارِ السَّرِقَةُ الْمُوجِبَةُ لِحُكْمِهَا عَلَى أَنَّا نَقُولُ : يَتَحَقَّقُ أَصْلُ الْغَصْبِ فِي الْعَقَارِ ، وَلَكِنَّ الْغَصْبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ لَا يَتَحَقَّقُ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُنْقَلُ وَلَا يُحَوَّلُ .
وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ جُبْرَانًا لِلْفَائِتِ مِنْ يَدِ الْمَالِكِ ، وَلَا يَتَحَقَّقُ تَفْوِيتُ الْيَدِ عَلَيْهِ بِفِعْلٍ فِي الْمَالِ بِدُونِ النَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمَالِكِ مَتَى كَانَتْ ثَابِتَةً عَلَى مَالِهِ فِي مَكَان تَبْقَى مَا يَبْقَى الْمَالُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ حُكْمًا إلَّا أَنْ يَنْقُلَهُ إلَى غَيْرِهِ بِمُبَاشَرَةِ سَبَبِهِ ، وَمِنْ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ الْغَاصِبُ وَإِنْ سَكَنَ الدَّارَ فَالْمَالِكُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ فَيَسْكُنَ ، فَإِنْ مَنَعَهُ فَذَلِكَ فِعْلٌ فِي الْمَالِكِ لَا فِي الْمِلْكِ ، وَفِعْلُهُ فِي الْمَالِكِ لَا يُفَوِّتُ يَدَهُ عَنْ الْمَالِ ، فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِلضَّمَانِ كَمَا لَوْ حُبِسَ الْمَالِكُ حَتَّى تَلِفَتْ مَوَاشِيهِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ الْمَنْقُولَ بِالتَّخَلِّي بِهِ قَبْلَ النَّقْلِ فَكَذَلِكَ الْعَقَارُ .
وَإِقَامَةُ الشَّيْءِ الْآخَرِ مَقَامَ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْحُكْمِ طَرِيقٌ فِيمَا يَأْذَنُ الشَّرْعُ فِيهِ أَنْ يُوجِبَهُ الْحُكْمُ ، فَأَمَّا الْغَصْبُ لَا يَأْذَنُ الشَّرْعُ فِيهِ ، وَالْحُكْمُ يَمْنَعُ مِنْهُ فَكَيْفَ يَثْبُتُ بِإِقَامَةِ غَيْرِهِ مَقَامَهُ حُكْمًا ، وَلَكِنْ إنْ صَادَفَ الْفِعْلُ مَحِلًّا يَتَحَقَّقُ فِيهِ يَثْبُتُ حُكْمُهُ ، وَإِنْ صَادَفَ مَحِلًّا لَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ كَمَنْ زَنَى بِرَتْقَاءَ ، وَأَتَى بِمَا فِي وُسْعِهِ مِنْ الْمُعَالَجَةِ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ ، وَإِنْ قَضَى شَهْوَتَهُ ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ حَدُّ فِعْلِ الزِّنَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي هَذَا الْمَحِلِّ ، فَلَا يَشْتَغِلُ بِإِقَامَةِ غَيْرِهِ مَقَامَهُ ، وَلَا يُنْظَرُ إلَى تَحْصِيلِ

الْمَقْصُودِ ، وَبِهِ فَارَقَ ضَمَانَ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوجِبُهُ الْحُكْمُ فَيَجُوزُ إثْبَاتُهُ بِطَرِيقٍ حُكْمِيٍّ ، وَالْعَقْدُ الْفَاسِدُ مُعْتَبَرٌ بِالْجَائِزِ ؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ أَصْلًا فِي مَعْرِفَةِ حُكْمِهِ ، فَإِنَّ الشَّرْعَ لَا يُرَدُّ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ ، وَكَذَلِكَ ذِكْرُ الْحُدُودِ فِي الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ يَجُوزُ أَنْ تَقُومَ مَقَامَ الْإِشَارَةِ فِي التَّعْرِيفِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُهُ الْحُكْمُ ، وَيَأْذَنُ فِيهِ الشَّرْعُ ، وَكَذَلِكَ الْقَبْضُ فِي بَابِ الْهِبَةِ ، فَإِنَّ الشَّرْعَ يَأْذَنُ فِيهِ فَيُصَارُ إلَى إيجَادِهِ بِطَرِيقِ التَّمَكُّنِ ، وَلَوْ كَانَ مَا قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ إقَامَةِ الْفِعْلِ فِي الْمَالِكِ مَقَامَ الْفِعْلِ فِي الْمَالِ صَحِيحًا لَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُصَارَ إلَيْهِ فِي الْمَنْقُولِ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى حِفْظِ الْمَنْقُولِ بِالْيَدِ أَظْهَرُ مِنْهُ إلَى حِفْظِ الْعَقَارِ ، وَلَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى الْحَافِرِ بِالطَّرِيقِ الَّذِي قَالَ بَلْ بِإِقَامَةِ الشَّرْطِ مَقَامَ السَّبَبِ لَمَّا تَعَذَّرَ تَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالسَّبَبِ ، وَهُوَ نَقْلُهُ فِي نَفْسِهِ ، وَمُسَبِّبُهُ إذَا كَانَ لَا يُعْلَمُ ، وَالْحَافِرُ أَوْجَدَ شَرْطَ الْوُقُوعِ بِإِزَالَةِ السِّكَّةِ ، وَإِقَامَةُ الشَّرْطِ مَقَامَ السَّبَبِ عِنْدَ تَعَذُّرِ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالسَّبَبِ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ ، وَالْإِتْلَافُ بِهَذَا الطَّرِيقِ يَتَحَقَّقُ ، فَأَمَّا هُنَا الْفِعْلُ فِي الْمَالِكِ لَيْسَ بِشَرْطٍ وَلَا سَبَبٍ ، وَلَا يَتَحَقَّقُ بِهِ تَفْوِيتُ الْيَدِ الثَّابِتَةِ حُكْمًا ، أَلَا تَرَى أَنَّ هُنَاكَ مَعَ أَنَّ الْإِتْلَافَ يَتَحَقَّقُ مِنْ الْحَافِرِ بِالْمُبَاشَرَةِ بِأَنْ يُلْقِيَهُ فِي الْبِئْرِ يُقَامُ الْحَفْرُ مَقَامَهُ ، وَهُنَا فِيمَا يَتَأَتَّى الْفِعْلُ حَقِيقَةً لَا يُقَامُ الْفِعْلُ فِي الْمَالِكِ مَقَامَ الْفِعْلِ فِي الْمَالِ .
وَلَا يَدْخُلُ عَلَى هَذَا مَا قَالَهُ فِي الزِّيَادَاتِ إذَا وَهَبَ الرَّجُلُ دَارًا بِمَا فِيهَا مِنْ الْأَمْتِعَةِ فَهَلَكَتْ الْأَمْتِعَةُ قَبْلَ أَنْ يَنْقُلَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ

فَلِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يُضَمِّنَ الْمَوْهُوبَ لَهُ ؛ لِأَنَّ فِي جَوَابِ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ نَظَرًا فَقِيلَ : هُوَ مَذْهَبُ مُحَمَّدٍ ، وَقِيلَ : لَا يَسْتَقِيمُ عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ يُوَافِقُنَا فِي الْمَنْقُولِ أَنَّهُ لَا يُضْمَنُ قَبْلَ النَّقْلِ ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ .
( ثُمَّ ) الْعُذْرُ أَنَّ الْوَاهِبَ نَقَلَ يَدَهُ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ ، وَيَدُ الْوَاهِبِ فِي الْأَمْتِعَةِ كَانَتْ مُفَوِّتَةً لِيَدِ الْمَالِكِ فَانْتَقَلَتْ بِصِفَتِهَا إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ .
( فَإِنْ قِيلَ : ) أَلَيْسَ أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَى مَنْقُولًا وَخُلِّيَ بَيْنَهُ فَهَلَكَ قَبْلَ النَّقْلِ ، ثُمَّ جَاءَ مُسْتَحِقٌّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُشْتَرِيَ ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِيهِ .
؟ ( قُلْنَا : ) لَا كَذَلِكَ فَالْبَيْعُ يُوجِبُ الْمِلْكَ ، وَالْيَدُ لِلْمُشْتَرِي ، فَلَا يَجْعَلُ يَدَهُ كَيَدِ الْبَائِعِ ، فَأَمَّا الْهِبَةُ لَا تُوجِبُ التَّسْلِيمَ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ فَيَسْتَقِيمُ أَنْ يُجْعَلَ الْوَاهِبُ بِالتَّسْلِيمِ مُحَوِّلًا يَدَهُ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ لِلْمَالِكِ أَنْ يُضَمِّنَ غَاصِبَ الْغَاصِبِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ حَوَّلَ إلَى نَفْسِهِ يَدَ الْغَاصِبِ الْأَوَّلِ ، وَهِيَ يَدٌ مُفَوِّتَةٌ لِيَدِ الْمَالِكِ فَتُحَوَّلُ إلَيْهِ بِصِفَتِهِ .

وَأَشَارَ فِي الْكِتَابِ إلَى حَرْفٍ آخَرَ فَقَالَ : ( لَوْ دَخَلَ دَارَ رَجُلٍ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَسَقَطَ مِنْهَا حَائِطٌ لَمْ يَضْمَنْ ، وَلَوْ رَكِبَ دَابَّةً فَعَطِبَتْ أَوْ لَبِسَ ثَوْبًا فَاحْتَرَقَ كَانَ ضَامِنًا ) ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْعَقَارَ لَوْ كَانَ يُضْمَنُ بِالِاسْتِيلَاءِ لَكَانَ يُضْمَنُ بِأَوَّلِ أَسْبَابِهِ ، وَهُوَ الدُّخُولُ كَالْمَنْقُولِ ، وَلَكِنَّ عُذْرَ مُحَمَّدٍ عَنْ هَذَا وَاضِحٌ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ إنَّمَا يَجِبُ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ بِطَرِيقِ الِاسْتِيلَاءِ ، وَذَلِكَ بِالدُّخُولِ لَا يَحْصُلُ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالسُّكْنَى ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ ادَّعَى دَارًا بِالْمِيرَاثِ فَشَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّ أَبَاهُ دَخَلَ هَذِهِ الدَّارَ فَمَاتَ فِيهَا لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهَا شَيْئًا ( وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ مَاتَ ، وَهُوَ سَاكِنٌ هَذِهِ الدَّارَ اسْتَحَقَّ الْقَضَاءَ لَهُ بِهَا ؛ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ بِالْيَدِ لِلْأَبِ عِنْدَ الْمَوْتِ ) بِخِلَافِ الثَّوْبِ وَالدَّابَّةِ فَبِمُجَرَّدِ الرُّكُوبِ وَاللُّبْسِ تَثْبُتُ يَدُهُ حَتَّى لَوْ شَهِدُوا أَنَّ أَبَاهُ مَاتَ ، وَهُوَ لَابِسٌ هَذَا الثَّوْبَ أَوْ رَاكِبٌ هَذِهِ الدَّابَّةَ اسْتَحَقَّ الْقَضَاءَ لَهُ بِهَا ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَلْبُوسَ تَبَعٌ لِلَّابِسِ ، وَالْمَرْكُوبَ تَبَعٌ لِلرَّاكِبِ ، فَظَهَرَ أَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ، فَإِنْ كَانَ الْغَاصِبُ لِلدَّارِ بَاعَهَا وَسَلَّمَهَا ، ثُمَّ أَقَرَّ بِذَلِكَ وَلَيْسَ لِرَبِّ الدَّارِ بَيِّنَةٌ ، فَإِقْرَارُهُ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ صَارَ مَالِكًا بِالشِّرَاءِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْبَائِعِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي إبْطَالِ مِلْكِهِ ، ثُمَّ لَا ضَمَانَ عَلَى الْغَاصِبِ لِلْمَالِكِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْغَصْبِ ، فَإِنَّ الْبَيْعَ وَالتَّسْلِيمَ غَصْبٌ ، وَالْغَصْبُ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ عِنْدَهُمَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْعَقَارِ .
وَقَدْ ذَكَرَ فِي كِتَابِ الرُّجُوعِ مِنْ الشَّهَادَاتِ أَنَّهُمْ إذَا شَهِدُوا بِدَارٍ لِإِنْسَانٍ وَقَضَى الْقَاضِي ، ثُمَّ رَجَعُوا ضَمَّنُوا

قِيمَتَهَا لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ فَقِيلَ : ذَلِكَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ تَسْلِيطَهُمَا الْغَيْرَ عَلَى الدَّارِ بِالشَّهَادَةِ كَتَسْلِيطِ الْغَاصِبِ عَلَى الدَّارِ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ ، وَقِيلَ : بَلْ هُوَ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ لَهُمَا أَنَّ هُنَاكَ إتْلَافُ الْمِلْكِ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ قَدْ حَصَلَ بِشَهَادَتِهِمَا حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ ، وَالْعَقَارُ يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ ، وَهُنَا إتْلَافُ الْمِلْكِ لَمْ يَحْصُلْ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ بَلْ بِعَجْزِ الْمَالِكِ عَنْ إثْبَاتِ مِلْكِهِ بِالْبَيِّنَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهَا مِلْكُهُ قُضِيَ لَهُ بِهَا ، فَلِهَذَا لَا يَكُونُ الْغَاصِبُ ضَامِنًا ، وَلَكِنْ يَدْخُلُ عَلَى هَذَا جُحُودُ الْوَدِيعَةِ ، فَإِنَّ الْعَقَارَ يُضْمَنُ بِالْجُحُودِ فِي الْوَدِيعَةِ ، وَلَيْسَ فِيهِ إتْلَافُ الْمِلْكِ حَتَّى لَوْ أَقَامَ الْمَالِكُ الْبَيِّنَةَ قُضِيَ لَهُ بِهَا ، وَالْأَصَحُّ أَنْ يَقُولَ : جُحُودُ الْوَدِيعَةِ بِمَنْزِلَةِ الْغَصْبِ ، فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ فِي الْعَقَارِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .

( رَجُلٌ ) غَصَبَ عَبْدًا أَوْ دَابَّةً فَأَجَّرَهُ ، وَأَصَابَ مِنْ غَلَّتِهِ فَالْغَلَّةُ لِلْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا بِعَقْدِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ اللُّقَطَةِ ، وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ ، وَالْعَاقِدُ هُوَ الْغَاصِبُ ، فَإِذًا هُوَ الَّذِي جَعَلَ مَنَافِعَ الْعَبْدِ بِعَقْدِهِ مَالًا فَكَانَ بَدَلُهُ لَهُ .
وَفِي الْأَصْلِ قَالَ : قُلْتُ : وَلِمَ لَا يَكُونُ لِصَاحِبِ الْعَبْدِ .
؟ قَالَ : لِأَنَّهُ كَانَ فِي ضَمَانِ غَيْرِهِ ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذَا التَّعْلِيلِ إلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ } فَحِينَ كَانَ فِي ضَمَانِ الْغَاصِبِ فَهُوَ الَّذِي الْتَزَمَ تَسْلِيمَهُ بِالْعَقْدِ دُونَ الْمَالِكِ فَكَانَ الْأَجْرُ لَهُ دُونَ الْمَالِكِ ، وَيُؤْمَرُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا ؛ لِأَنَّهَا حَصَلَتْ لَهُ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ ، فَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ فَالْغَاصِبُ ضَامِنٌ بِقِيمَتِهِ ، وَلَهُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِتِلْكَ الْغَلَّةِ فِي ضَمَانِ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّهَا مِلْكُهُ ، وَمَا فَضَلَ بَعْدَ ذَلِكَ تَصَدَّقَ بِهِ اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ .
( فَإِنْ قِيلَ : ) الْقِيمَةُ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ ، وَمَنْ قَضَى بِمَالِ الصَّدَقَةِ دَيْنَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمِثْلِهِ ( قُلْنَا : ) نَعَمْ ، وَلَكِنَّ التَّصَدُّقَ بِهَذَا لَمْ يَكُنْ حَتْمًا عَلَيْهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ الْغَلَّةَ إلَى الْمَالِكِ مَعَ الْعَبْدِ كَانَ لِلْمَالِكِ أَنْ يَتَنَاوَلَ ذَلِكَ ، وَلَيْسَ عَلَى الْغَاصِبِ شَيْءٌ آخَرُ فَهُوَ بِمَا صَنَعَ يَصِيرُ مُسْلِمًا إلَى الْمَالِكَ ، ثُمَّ يَصِيرُ الْمَالِكُ مُبْرِئًا لَهُ عَنْ ذَلِكَ الْقَدْرِ مِنْ الْقِيمَةِ بِمَا يَقْبِضُهُ فَيَزُولُ الْخَبَثُ بِهَذَا الطَّرِيقِ ، فَلَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقَ بِعِوَضِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْغَاصِبُ بَاعَ الدَّابَّةَ وَأَخَذَ ثَمَنَهَا فَاسْتَهْلَكَهُ ، وَمَاتَتْ الدَّابَّةُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَضَمَّنَ رَبُّ الدَّابَّةِ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهَا رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْغَاصِبِ بِالثَّمَنِ لِبُطْلَانِ الْبَيْعِ بِاسْتِرْدَادِ الْقِيمَةِ مِنْهُ ، ثُمَّ لَا يَسْتَعِينُ الْغَاصِبُ بِالْغَلَّةِ فِي

أَدَاءِ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ الْخَبَثَ فِي الْغَلَّةِ مَا كَانَ بِحَقِّ الْمُشْتَرِي ، فَلَا يَزُولُ بِالْوُصُولِ إلَى يَدِهِ ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ الْخَبَثَ لِحَقِّ الْمَالِكِ فَيَزُولُ بِوُصُولِ الْغَلَّةِ إلَى يَدِهِ ( قَالَ : ) إلَّا أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْغَاصِبِ مَا يُؤَدِّي بِهِ الثَّمَنَ ، فَلَا بَأْسَ حِينَئِذٍ أَنْ يُؤَدِّيَ مِنْ الْغَلَّةِ ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى تَفْرِيغِ ذِمَّتِهِ وَتَخْلِيصِ نَفْسِهِ عَنْ الْحَبْسِ ، وَحَاجَتُهُ تُقَدَّمُ عَلَى حَقِّ الْفُقَرَاءِ ، فَإِذَا أَصَابَ بَعْدَ ذَلِكَ مَالًا تَصَدَّقَ بِمِثْلِهِ إنْ كَانَ اسْتَهْلَكَ الثَّمَنَ يَوْمَ اسْتَهْلَكَهُ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا يَوْمَ اسْتَهْلَكَ الثَّمَنَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ اسْتِهْلَاكِهِ الثَّمَنَ ، وَلَوْ اسْتَهْلَكَ الْغَلَّةَ مَكَانَ الثَّمَنِ ، فَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِشَيْءٍ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمِثْلِهِ فَكَذَلِكَ فِي اسْتِهْلَاكِ الثَّمَنِ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا : ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْفُقَرَاءِ فِي هَذَا الْمَالِ بِمَنْزِلَةِ حَقِّهِمْ فِي اللُّقَطَةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ ، وَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى الْمَالِكِ إنْ شَاءَ .
( ثُمَّ ) الْمُلْتَقِطُ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا فَلَهُ أَنْ يَصْرِفَ اللُّقَطَةَ إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ غَنِيًّا فَكَذَلِكَ حُكْمُ هَذِهِ الْغَلَّةِ .
وَلَيْسَ عَلَى الْغَاصِبِ فِي سُكْنَى الدَّارِ وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ أَجْرٌ ، وَعَلَّلَ فَقَالَ : ( لِأَنَّهُ كَانَ ضَامِنًا ) ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ ضَمَانَ الْعَيْنِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ ، وَالْمَالِيَّةُ وَالتَّقَوُّمُ فِي الْعَيْنِ بِاعْتِبَارِ مَنَافِعِهِ ؛ وَلِهَذَا تَخْتَلِفُ قِيمَةُ الْعَيْنِ بِاخْتِلَافِ مَنْفَعَتِهِ ، فَإِذَا اُعْتُبِرَتْ الْمَنْفَعَةُ لِإِيجَابِ ضَمَانِ الْعَيْنِ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُهَا لِإِيجَابِ ضَمَانِهَا مَقْصُودًا ، وَالْمَنْفَعَةُ كَالْكَسْبِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْكَسْبِ أَنَّ الْخَرَاجَ

بِالضَّمَانِ فَكَذَلِكَ فِي الْمَنْفَعَةِ ، وَلَكِنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ يَتَقَاعَدُ فِي الدَّارِ ، فَإِنَّ السَّاكِنَ غَيْرُ ضَامِنٍ لِلدَّارِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَالْأَصَحُّ بِنَاءُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْأَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ ، فَإِنَّ الْمَنَافِعَ زَوَائِدُ تَحْدُثُ فِي الْعَيْنِ شَيْئًا فَشَيْئًا ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ زَوَائِدَ الْمَغْصُوبِ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى الْغَاصِبِ عِنْدَنَا ، وَيَكُونُ مَضْمُونًا لَهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَكَذَلِكَ الْمَنْفَعَةُ ، وَلِأَنَّ الْغَصْبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ عِنْدَهُ يَحْصُلُ بِإِثْبَاتِ الْيَدِ ، وَالْيَدُ عَلَى الْمَنْفَعَةِ تَثْبُتُ كَمَا تَثْبُتُ عَلَى الْعَيْنِ ، وَعِنْدَنَا لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِيَدٍ مُفَوِّتَةٍ لِيَدِ الْمَالِكِ ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَنَافِعِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَبْقَى وَقْتَيْنِ ، فَلَا يُتَصَوَّرُ كَوْنُهَا فِي يَدِ الْمَالِكِ ، ثُمَّ انْتِقَالُهَا إلَى يَدِ الْغَاصِبِ حَتَّى تَكُونَ يَدُهُ مُفَوِّتَةً لِيَدِ الْمَالِكِ فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ الْمَنَافِعَ بِالْغَصْبِ عِنْدَنَا .
فَأَمَّا الْإِتْلَافُ فَيَقُولُ : عِنْدَنَا الْمَنَافِعُ لَا تُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلَا شُبْهَةِ عَقْدٍ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ تُضْمَنُ ، وَمَنْفَعَةُ الْحُرِّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ حَتَّى لَوْ اسْتَسْخَرَ حُرًّا وَاسْتَعْمَلَهُ عِنْدَهُ يَضْمَنُ أَجْرَ مِثْلِهِ ، وَعِنْدَنَا يَأْثَمُ ، وَيُؤَدَّبُ عَلَى مَا صَنَعَ ، وَلَكِنَّهُ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا .
وَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فَيُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ كَالْعَيْنِ ، وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْمَالَ اسْمٌ لِمَا هُوَ مَخْلُوقٌ لِإِقَامَةِ مَصَالِحِنَا بِهِ مِمَّا هُوَ عِنْدَنَا ، وَالْمَنَافِعُ مِنَّا أَوْ مِنْ غَيْرِنَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، وَإِنَّمَا تُعْرَفُ مَالِيَّةُ الشَّيْءِ بِالتَّمَوُّلِ ، وَالنَّاسُ يَعْتَادُونَ تَمَوُّلَ الْمَنْفَعَةِ بِالتِّجَارَةِ فِيهَا ، فَإِنَّ أَعْظَمَ النَّاسِ تِجَارَةً الْبَاعَةُ ، وَرَأْسُ مَالِهِمْ الْمَنْفَعَةُ ، وَقَدْ

يَسْتَأْجِرُ الْمَرْءُ جُمْلَةً وَيُؤَجِّرُ مُتَفَرِّقًا لِابْتِغَاءِ الرِّبْحِ كَمَا يَشْتَرِي جُمْلَةً وَيَبِيعُ مُتَفَرِّقًا ، وَوَلِيُّ الصَّبِيِّ يُسْتَأْجَرُ لَهُ بِمَالِهِ فَيَصِحُّ مِنْهُ ، وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَنَافِعَ فِي الْمَالِيَّةِ مِثْلُ الْأَعْيَانِ ، وَالْمَنْفَعَةُ تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ صَدَاقًا ، وَشَرْطُ صِحَّةِ التَّسْمِيَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُسَمَّى مَالًا ، وَهَكَذَا يَقُولُهُ فِي مَنَافِعِ الْحُرِّ أَنَّهُ مَالٌ يُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ إلَّا أَنَّهُ إذَا حَبَسَ حُرًّا لَا يَضْمَنُ مَنَافِعَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْحَابِسِ إتْلَافُ مَنَافِعِهِ ، وَلَا إثْبَاتُ يَدِهِ عَلَيْهِ بَلْ مَنَافِعُ الْمَحْبُوسِ فِي يَدِهِ كَثِيَابِ بَدَنِهِ ، وَكَمَا لَا يَضْمَنُ ثِيَابَ بَدَنِهِ بِالْحَبْسِ فَكَذَلِكَ مَنَافِعُهُ ، وَلَئِنْ لَمْ تَكُنْ الْمَنْفَعَةُ مَالًا فَهِيَ مُتَقَوِّمَةٌ ؛ لِأَنَّهَا تُقَوِّمُ الْأَعْيَانَ فَيَسْتَحِيلُ أَنْ لَا تَكُونَ مُتَقَوِّمَةً بِنَفْسِهَا ، وَلِأَنَّهَا تُمْلَكُ بِالْعَقْدِ ، وَيُضْمَنُ بِهِ صَحِيحًا كَانَ الْعَقْدُ أَوْ فَاسِدًا ، وَإِنَّمَا يُمْلَكُ بِالْعَقْدِ مَا هُوَ مُتَقَوِّمٌ فَيُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالًا كَالنُّفُوسِ وَالْأَبْضَاعِ ، وَبِفَضْلِ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ يَتَبَيَّنُ الْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ فِي الْمَالِيَّةِ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ بِالْعَقْدِ الْفَاسِدِ يَتَقَدَّرُ بِالْمِثْلِ شَرْعًا كَمَا بِالْإِتْلَافِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ رَائِحَةِ الْمِسْكِ ، فَإِنَّ مَنْ اشْتَمَّ مِسْكَ غَيْرِهِ لَا يُضَمَّنُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ الرَّائِحَةَ لَيْسَتْ بِمَنْفَعَةٍ ، وَلَكِنَّهَا بُخَارٌ يَفُوحُ مِنْ الْعَيْنِ كَدُخَانِ الْحَطَبِ ؛ وَلِهَذَا لَا يُمْلَكُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ حَتَّى لَوْ اسْتَأْجَرَ مِسْكًا لِيَشُمَّهُ لَا يَجُوزُ ، وَلَا يَضْمَنُ بِالْعَقْدِ أَيْضًا صَحِيحًا كَانَ أَوْ فَاسِدًا .
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، فَإِنَّهُمَا حَكَمَا فِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ أَنَّهُ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ ، وَأَوْجَبَا عَلَى الْمَغْرُورِ رَدَّ الْجَارِيَةِ مَعَ عُقْرِهَا وَلَمْ يُوجِبَا قِيمَةَ الْخِدْمَةِ مَعَ

عِلْمِهِمَا أَنَّ الْمَغْرُورَ كَانَ يَسْتَخْدِمُهَا ، وَمَعَ طَلَبِ الْمُدَّعِي بِجَمِيعِ حَقِّهِ ، فَلَوْ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا لَهُ لَمَا حَلَّ لَهُمَا السُّكُوتُ عَنْ بَيَانِهِ ، وَبَيَانُ الْعُقْرِ مِنْهُمَا لَا يَكُونُ بَيَانًا لِقِيمَةِ الْخِدْمَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ ؛ وَلِهَذَا يَتَقَوَّمُ عِنْدَ الشُّبْهَةِ بِخِلَافِ الْمَنْفَعَةِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَيْسَتْ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ ، فَلَا تُضْمَنُ بِالْإِتْلَافِ كَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ .
وَبَيَانُهُ أَنَّ صِفَةَ الْمَالِيَّةِ لِلشَّيْءِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِالتَّمَوُّلِ ، وَالتَّمَوُّلُ صِيَانَةُ الشَّيْءِ وَادِّخَارِهِ لِوَقْتِ الْحَاجَةِ ، وَالْمَنَافِعُ لَا تَبْقَى وَقْتَيْنِ ، وَلَكِنَّهَا أَعْرَاضٌ كَمَا تَخْرُجُ مِنْ حَيِّزِ الْعَدَمِ إلَى حَيِّزِ الْوُجُودِ تَتَلَاشَى ، فَلَا يُتَصَوَّرُ فِيهَا التَّمَوُّلُ ؛ وَلِهَذَا لَا يُتَقَوَّمُ فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ حَتَّى أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا أَعَانَ إنْسَانًا بِيَدَيْهِ أَوْ أَعَارَهُ شَيْئًا فَانْتَفَعَ بِهِ لَا يُعْتَبَرُ خُرُوجُ تِلْكَ الْمَنْفَعَةِ مِنْ الثُّلُثِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُتَقَوِّمَ لَا يَسْبِقُ الْوُجُودَ ، فَإِنَّ الْمَعْدُومَ لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ مُتَقَوِّمٌ إذْ الْمَعْدُومُ لَيْسَ بِشَيْءٍ ، وَبَعْدَ الْوُجُودِ التَّقَوُّمُ لَا يَسْبِقُ الْإِحْرَازَ ، وَالْإِحْرَازُ بَعْدَ الْوُجُودِ لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا لَا يَبْقَى وَقْتَيْنِ فَكَيْفَ يَكُونُ مُتَقَوِّمًا ، وَعَلَى هَذَا نَقُولُ : الْإِتْلَافُ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْمَنْفَعَةِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْإِتْلَافِ لَا يُحِلُّ الْمَعْدُومَ .
وَبَعْدَ الْوُجُودِ لَا يَبْقَى لِحِلِّهِ فِعْلُ الْإِتْلَافِ ، وَإِثْبَاتُ الْحُكْمِ بِدُونِ تَحَقُّقِ السَّبَبِ لَا يَجُوزُ ، فَأَمَّا بِالْعَقْدِ يَثْبُتُ لِلْمَنْفَعَةِ حُكْمُ الْإِحْرَازِ ، وَالتَّقَوُّمُ شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ ، وَكَانَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ إقَامَةِ الْعَيْنِ الْمُنْتَفَعِ بِهِ مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ وَالْحَاجَةِ ، وَلَا تَتَحَقَّقُ مِثْلُ هَذِهِ الْحَاجَةِ فِي الْعُدْوَانِ فَتَبْقَى الْحَقِيقَةُ مُعْتَبَرَةً ،

وَبِاعْتِبَارِهَا يَنْعَدِمُ التَّقَوُّمُ وَالْإِتْلَافُ ، وَفِي الصَّدَاقِ وَاسْتِئْجَارِ الْوَلِيِّ إنَّمَا يَظْهَرُ حُكْمُ الْإِحْرَازِ وَالتَّقَوُّمِ بِالْعَقْدِ لِلْحَاجَةِ ، وَالْمَالُ اسْمٌ لِمَا هُوَ مَخْلُوقٌ لِإِقَامَةِ مَصَالِحِنَا بِهِ ، وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ التَّمَوُّلِ وَالْإِحْرَازِ ، وَكَمَا تَتَفَاوَتُ قِيمَةُ الْعَيْنِ بِتَفَاوُتِ الْمَنْفَعَةِ تَتَفَاوَتُ قِيمَةُ الطِّيبِ بِتَفَاوُتِ الرَّائِحَةِ ، وَلَمْ يَدُلَّ ذَلِكَ عَلَى كَوْنِهِ مَالًا مُتَقَوِّمًا ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمَنْفَعَةَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فَهُوَ دُونَ الْأَعْيَانِ فِي الْمَالِيَّةِ ، وَضَمَانُ الْعُدْوَانِ مُقَدَّرٌ بِالْمِثْلِ بِالنَّصِّ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَالَ لَا يُضْمَنُ بِالنِّسْبَةِ ، وَالدَّيْنُ لَا يُضْمَنُ بِالْعَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ فَوْقَهُ فَكَذَلِكَ الْمَنْفَعَةُ لَا تُضْمَنُ بِالْعَيْنِ ، وَبَيَانُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ عَرَضٌ يُقَوَّمُ بِالْعَيْنِ ، وَالْعَيْنُ جَوْهَرٌ يُقَوَّمُ بِهِ الْعَرَضُ ، وَلَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا ، وَالْمَنَافِعُ لَا تَبْقَى وَقْتَيْنِ ، وَالْعَيْنُ تَبْقَى أَوْقَاتًا ، وَبَيْنَ مَا يَبْقَى وَمَا لَا يَبْقَى تَفَاوُتٌ عَظِيمٌ ، وَالْعَيْنُ لَا تُضْمَنُ بِالْمَنْفَعَةِ قَطُّ ، وَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِ الشَّيْءِ مِثْلًا لِغَيْرِهِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْغَيْرُ مِثْلًا لَهُ أَيْضًا ، وَالْمَنْفَعَةُ لَا تُضْمَنُ بِالْمَنْفَعَةِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ حَتَّى أَنَّ الْحَجَرَ فِي خَانٍ وَاحِدٍ عَلَى تَقْطِيعٍ وَاحِدٍ لَا تَكُونُ مَنْفَعَةُ إحْدَاهُمَا مِثْلًا لِلْمَنْفَعَةِ الْأُخْرَى عِنْدَ الْإِتْلَافِ .
وَالْمُمَاثَلَةُ بَيْنَ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَنْفَعَةِ أَظْهَرُ مِنْ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ الْعَيْنِ وَالْمَنْفَعَةِ ، وَبِهَذَا فَارَقَ ضَمَانَ الْعَقْدِ ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى الْمُمَاثَلَةِ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ بَلْ عَلَى الْمُرَاضَاةِ ، وَكَيْفَ يَنْبَنِي عَلَى الْمُمَاثَلَةِ ، وَالْمَقْصُودُ بِالْعَقْدِ طَلَبُ الرِّبْحِ .
( ثُمَّ ) ضَمَانُ الْعَقْدِ مَشْرُوعٌ ، وَفِي الْمَشْرُوعِ يُعْتَبَرُ الْوُسْعُ وَالْإِمْكَانُ ؛ وَلِهَذَا يَجِبُ الضَّمَانُ بِاعْتِبَارِ التَّرَاضِي

فَاسِدًا كَانَ الْعَقْدُ أَوْ جَائِزًا فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ التَّفَاوُتِ الَّذِي لَيْسَ فِي وُسْعِنَا الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فِي ضَمَانِ الْعَقْدِ ، فَأَمَّا الْإِتْلَافُ فَمَحْظُورٌ غَيْرُ مَشْرُوعٍ ، وَضَمَانُهُ مُقَدَّرٌ بِالْمِثْلِ بِالنَّصِّ ، فَلَا يَجُوزُ إيجَابُ الزِّيَادَةِ عَلَى قَدْرِ الْمُتْلَفِ بِسَبَبِ الْإِتْلَافِ .
( فَإِنْ قِيلَ : ) يَسْقُطُ اعْتِبَارُ هَذَا التَّفَاوُتِ لِدَفْعِ الظُّلْمِ وَالزَّجْرِ عَنْ إتْلَافِ مَنَافِعِ أَمْوَالِ النَّاسِ ، وَلِأَنَّ الْمُتْلَفَ عَلَيْهِ مَظْلُومٌ يَسْقُطُ حَقُّهُ إذَا اُعْتُبِرَ هَذَا التَّفَاوُتُ ، وَمُرَاعَاةُ جَانِبِ الْمَظْلُومِ أَوْلَى مِنْ مُرَاعَاةِ جَانِبِ الظَّالِمِ مِنْ أَنَّ هَذَا التَّفَاوُتَ بِزِيَادَةِ وَصْفٍ لَوْ لَمْ نَعْتَبِرْهُ سَقَطَ بِهِ حَقُّ الْمُتْلَفِ عَنْ الصِّفَةِ ، وَلَوْ اعْتَبَرْنَاهُ أَسْقَطْنَا حَقَّ الْمُتْلَفِ عَلَيْهِ عَنْ أَصْلِ الْمَالِيَّةِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ إهْدَارِ أَحَدِهِمَا فَإِهْدَارُ الصِّفَةِ أَوْلَى مِنْ إهْدَارِ الْأَصْلِ ( قُلْنَا : ) قَدْ أَوْجَبْنَا لِلزَّجْرِ التَّعْزِيرَ وَالْحَبْسَ ، فَأَمَّا وُجُوبُ الضَّمَانِ لِلْجُبْرَانِ ، فَيَتَقَدَّرُ بِالْمِثْلِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ ، وَالظَّالِمُ لَا يُظْلَمُ بَلْ يُنْتَصَفُ مِنْهُ مَعَ قِيَامِ حُرْمَةِ مَالِهِ ، وَلَوْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ زِيَادَةً عَلَى مَا أَتْلَفَ كَانَ ذَلِكَ ظُلْمًا مُضَافًا إلَى الشَّرْعِ ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ هُوَ الشَّرْعُ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، وَإِذَا لَمْ يُوجِبْ الضَّمَانَ لِتَعَذُّرِ إيجَابِ الْمِثْلِ كَانَ ذَلِكَ لِضَرُورَةٍ ثَابِتَةٍ فِي حَقِّنَا ، وَهُوَ أَنَّا لَا نَقْدِرُ عَلَى الْقَضَاءِ بِالْمِثْلِ ، وَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ مَعَ أَنَّ حَقَّ الْمَظْلُومِ لَا يُهْدَرُ بَلْ يَتَأَخَّرُ إلَى الْآخِرَةِ .
وَلَوْ أَوْجَبْنَا الزِّيَادَةَ صَارَتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ هَدَرًا فِي حَقِّ الْمُتْلِفِ فَيَبْطُلُ حَقُّهُ عَنْهُ أَصْلًا ، فَكَانَ مَا قُلْنَاهُ مِنْ اعْتِبَارِ الْمُمَاثَلَةِ وَالْكَفِّ عَنْ الْقَضَاءِ بِالضَّمَانِ بِدُونِ اعْتِبَارِ الْمُمَاثَلَةِ أَعْدَلَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .

قَالَ : ( أَقَامَ رَبُّ الدَّابَّةِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا نَفَقَتْ عِنْدَ الْغَاصِبِ مِنْ رُكُوبِهِ ، وَأَقَامَ الْغَاصِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَدْ رَدَّهَا إلَيْهِ وَمَاتَتْ فِي يَدِهِ فَعَلَى الْغَاصِبِ الْقِيمَةُ ) ؛ لِأَنَّ رَبَّ الدَّابَّةِ يُثْبِتُ عَلَى الْغَاصِبِ سَبَبَ وُجُوبِ الْقِيمَةِ ، وَالْغَاصِبُ يَنْفِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَوْتَ الدَّابَّةِ فِي يَدِ مَالِكِهَا لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَى أَحَدٍ ، وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِثْبَاتِ دُونَ النَّفْي .
( فَإِنْ قِيلَ : ) سَبَبُ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْغَاصِبِ ظَاهِرٌ فَهُوَ يُثْبِتُ بِبَيِّنَتِهِ مَا يُبَرِّئُهُ عَنْ الضَّمَانِ وَهُوَ الرَّدُّ ، فَكَانَتْ بَيِّنَتُهُ أَوْلَى بِالْقَبُولِ ( قُلْنَا : ) نَعَمْ ، وَلَكِنَّ ثُبُوتَ الرَّدِّ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ بَيِّنَةِ الْمَالِكِ عَلَى هَلَاكِهَا مِنْ رُكُوبِ الْغَاصِبِ ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ رَكِبَهَا بَعْدَ الرَّدِّ فَمَاتَتْ مِنْ رُكُوبِهِ فَلِهَذَا جَعَلْنَا بَيِّنَتَهُ أَوْلَى بِالْقَبُولِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ شُهُودُ صَاحِبِهَا أَنَّ الْغَاصِبَ قَتَلَهَا أَوْ أَنَّهُ هَدَمَ الدَّارَ ، وَشُهُودُ الْغَاصِبِ أَنَّهُ رَدَّهَا إلَيْهِ عَلَى حَالِهَا ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ بَعْدَ الرَّدِّ يَتَحَقَّقُ مِنْ الْغَاصِبِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ هَدَمَ الدَّارَ بَعْدَ الرَّدِّ يَتَحَقَّقُ مِنْهُ فَيَجِبُ قَبُولُ بَيِّنَةِ صَاحِبِهَا فِي إثْبَاتِ سَبَبٍ مُتَجَدِّدٍ لِلضَّمَانِ عَلَى الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ بَيِّنَتُهُ تَنْفِي ذَلِكَ السَّبَبَ ، فَأَمَّا إذَا أَقَامَ صَاحِبُهَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا مَاتَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ، وَأَقَامَ الْغَاصِبُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ رَدَّهَا فَمَاتَتْ فِي يَدِ صَاحِبِهَا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ تُقْبَلُ بَيِّنَةُ صَاحِبِهَا كَمَا فِي الْفُصُولِ الْمُتَقَدِّمَةِ ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ بَعْدَ الرَّدِّ يَتَحَقَّقُ فَصَاحِبُهَا بِبَيِّنَتِهِ يُثْبِتُ سَبَبَ ضَمَانٍ مُتَجَدِّدٍ ، وَهُوَ غَصْبُهُ إيَّاهَا عِنْدَ الْمَوْتِ فَيَقْضِي لَهُ بِالضَّمَانِ لِهَذَا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْغَاصِبِ هُنَا لِمَا فِيهَا مِنْ إثْبَاتِ الرَّدِّ وَسُقُوطِ الضَّمَانِ عَنْهُ بِهِ ، ثُمَّ لَيْسَ فِي

بَيِّنَةِ صَاحِبِهَا هُنَا إثْبَاتُ سَبَبٍ مُتَجَدِّدٍ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ إنَّمَا شَهِدُوا بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِمْ الرَّدُّ ، وَقَدْ عَلِمُوا الْغَصْبَ فَاسْتَصْحَبُوا ذَلِكَ ، وَشَهِدُوا أَنَّهَا مَاتَتْ فِي يَدِ الْغَاصِبِ ، وَشُهُودُ الْغَاصِبِ عَلِمُوا الرَّدَّ ، وَقَدْ عَلِمُوا الْغَصْبَ فَشَهِدُوا بِهِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ ، فَإِنَّ الْقَتْلَ وَالْهَدْمَ وَالْإِتْلَافَ مِنْ الرُّكُوبِ سَبَبٌ مُتَجَدِّدٌ لَا يَشْهَدُونَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يُعَايِنُوهُ بِاعْتِبَارِ عِلْمِهِمْ بِالْغَصْبِ السَّابِقِ .

( وَإِذَا وَهَبَ الْغَاصِبُ الثَّوْبَ الْمَغْصُوبَ لِرَجُلٍ فَلَبِسَهُ حَتَّى تَخَرَّقَ أَوْ كَانَ طَعَامًا فَأَكَلَهُ ثُمَّ جَاءَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ وَضَمَّنَ الْمَوْهُوبَ لَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالضَّمَانِ عَلَى الْوَاهِبِ عِنْدَنَا ) ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَتِهِ حِينَ أَوْجَبَ الْمِلْكَ لَهُ بِالْعَقْدِ ، وَأَخْبَرَهُ أَنَّهُ يَهَبُ مِلْكَ نَفْسِهِ ، وَأَنَّهُ لَا يَلْحَقُهُ فِيهِ ضَمَانٌ مِنْ جِهَةِ أَحَدٍ ، وَالْمَغْرُورُ يَرْجِعُ عَلَى الْغَارِّ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّمَانِ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْمَوْهُوبُ لَهُ فِي الْقَبْضِ وَالْأَكْلِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ ، وَمَنْ عَمِلَ لِنَفْسِهِ فَلَحِقَهُ ضَمَانٌ بِسَبَبِهِ لَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى أَحَدٍ ، فَأَمَّا الْمَغْرُورُ قُلْنَا : مُجَرَّدُ الْغُرُورِ بِالْخَبَرِ لَا يُثْبِتُ لَهُ حَقَّ الرُّجُوعِ كَمَنْ أَخْبَرَ إنْسَانًا أَنَّ هَذَا الطَّرِيقَ آمِنٌ فَسَلَكَهُ فَأَخَذَ اللُّصُوصُ مَالَهُ أَوْ أَخْبَرَهُ أَنَّ هَذَا الطَّعَامَ طَيِّبٌ ، وَكَانَ مَسْمُومًا فَتَنَاوَلَهُ فَتَلِفَ .
وَإِنَّمَا الْغُرُورُ فِي عَقْدِ الضَّمَانِ هُوَ الْمُثْبِتُ لِلرُّجُوعِ لِمَعْنَيَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ بِعَقْدِ الضَّمَانِ يَسْتَحِقُّ صِفَةَ السَّلَامَةِ عَنْ الْعَيْبِ ، وَلَا عَيْبَ فَوْقَ الِاسْتِحْقَاقِ ، فَبِفَوَاتِ مَا هُوَ مُسْتَحِقٌّ لَهُ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ ، فَأَمَّا بِعَقْدِ التَّبَرُّعِ لَا يَسْتَحِقُّ الْمَوْهُوبُ لَهُ صِفَةَ السَّلَامَةِ ؛ وَلِهَذَا لَوْ وُجِدَ الْمَوْهُوبُ مَعِيبًا لَا يَرُدُّهُ بِالْعَيْبِ ، فَلَا يَرْجِعُ بِسَبَبِ الْغُرُورِ أَيْضًا .
( وَالثَّانِي ) وَهُوَ أَنَّ الْقَابِضَ بِحُكْمِ عَقْدِ الضَّمَانِ عَامِلٌ لِلْمَالِكِ مِنْ وَجْهٍ ، فَإِنَّهُ يَتَقَرَّرُ بِهِ حَقُّهُ فِي الْعِوَضِ ، وَهُوَ الثَّمَنُ ، فَإِذَا لَحِقَهُ ضَمَانٌ بِسَبَبِهِ رَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ ، فَأَمَّا الْمَوْهُوبُ لَهُ فِي الْقَبْضِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّ الْوَاهِبَ لَمْ يَشْتَرِطْ لِنَفْسِهِ شَيْئًا لِيَتَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَبْضِهِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ وَهَبَ لَهُ جَارِيَةً

فَاسْتَوْلَدَهَا ، ثُمَّ جَاءَ مُسْتَحِقٌّ ، وَاسْتَحَقَّهَا وَأَخَذَهَا وَعُقْرَهَا وَقِيمَةُ وَلَدِهَا لَمْ يَرْجِعْ الْمَوْهُوبُ لَهُ عَلَى الْوَاهِبِ بِشَيْءٍ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ اشْتَرَاهَا ، فَإِنَّ هُنَاكَ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَ لَهُ سَلَامَةَ الْوَلَدِ بِعَقْدِ الضَّمَانِ ، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا لَحِقَهُ ، وَلَا يَرْجِعُ بِالْعُقْرِ عِنْدَنَا .
وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَرْجِعُ بِالْعُقْرِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ قَدْ ضَمِنَ لَهُ سَلَامَةَ الْوَطْءِ أَيْضًا ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : وَجَبَ الْعُقْرُ بِمَا اسْتَوْفَى مِنْهَا ، وَهُوَ الَّذِي نَالَ تِلْكَ اللَّذَّةَ ، فَلَا يَرْجِعُ بِمَا لَحِقَهُ بِسَبَبِهِ عَلَى أَحَدٍ .
وَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ غَاصِبَ الدَّابَّةِ أَجَّرَهَا فَعَطِبَتْ عِنْدَ الْمُسْتَأْجِرِ ، ثُمَّ ضَمَّنَهُ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ قِيمَتَهَا رَجَعَ بِهَا عَلَى الْآخَرِ لِيَتَحَقَّقَ الْغُرُورُ بِمُبَاشَرَةِ عَقْدِ الضَّمَانِ ، وَلِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ فِي قَبْضِهَا عَامِلٌ لِلْآخَرِ مِنْ وَجْهٍ ، فَإِنَّهُ يَتَقَرَّرُ بِهِ حَقُّهُ فِي الْأَجْرِ ، فَأَمَّا الْمُسْتَعِيرُ إذَا ضَمَّنَ قِيمَةَ الدَّابَّةِ لِصَاحِبِهَا لَمْ يَرْجِعْ عَلَى أَحَدٍ بِالِاتِّفَاقِ عِنْدَنَا لِانْعِدَامِ عَقْدِ الضَّمَانِ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْهِبَةِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ ضَامِنٌ لِلْعَيْنِ فِي حَقِّ الْمُعِيرِ فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّمَانِ .

وَإِذَا اخْتَلَفَ رَبُّ الثَّوْبِ وَالْغَاصِبُ فِي قِيمَتِهِ ، وَقَدْ اسْتَهْلَكَهُ الْغَاصِبُ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الثَّوْبِ لِمَا فِيهَا مِنْ إثْبَاتِ الزِّيَادَةِ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِرَبِّ الثَّوْبِ بَيِّنَةٌ لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ ، وَإِنْ أَقَامَ الْغَاصِبُ بَيِّنَةً أَنَّ قِيمَةَ ثَوْبِهِ كَانَ كَذَا لَمْ يُلْتَفَتْ إلَى بَيِّنَتِهِ ، وَلَا يَسْقُطُ الْيَمِينُ بِهَا عَنْهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ الْقِيمَةِ ثَابِتٌ بِاتِّفَاقِهِمَا ، وَإِنَّمَا يَدَّعِي رَبُّ الثَّوْبِ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ ، وَالشُّهُودُ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِتِلْكَ الشَّهَادَةِ أَوْ نَفَوْا تِلْكَ الزِّيَادَةَ ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى النَّفْيِ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً فَلِهَذَا كَانَ لِرَبِّ الثَّوْبِ أَنْ يُحَلِّفَ الْغَاصِبَ عَلَى دَعْوَاهُ .
وَفِي الْأَصْلِ يَقُولُ رَبُّ الثَّوْبِ هُوَ الْمُدَّعِي ، وَالْغَاصِبُ هُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَالشَّرْعُ جَعَلَ الْبَيِّنَةَ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي فَقَالَ : الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي ، وَبِالْأَلِفِ وَاللَّامِ يَظْهَرُ أَنَّ جِنْسَ الْبَيِّنَةِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي ، وَجَعْلَ الْيَمِينِ فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَالْبَيِّنَةُ لَا تَصْلُحُ بَدَلًا عَنْ الْيَمِينِ ، فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْيَمِينُ بِمَا أَقَامَ مِنْ الْبَيِّنَةِ ، فَإِنْ شَهِدَ لِرَبِّ الثَّوْبِ شَاهِدٌ أَنَّ قِيمَةَ ثَوْبِهِ كَذَا ، وَشَهِدَ آخَرُ عَلَى إقْرَارِ الْغَاصِبِ بِذَلِكَ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمَا اخْتَلَفَا فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْقَوْلِ ، وَالْآخَرُ بِالْفِعْلِ ، وَلَا يَثْبُتُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا إلَّا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةُ فَأَرَدْت أَنْ تُحَلِّفَ الْغَاصِبَ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ : أَنَا أَرُدُّ الْيَمِينَ عَلَى رَبّ الثَّوْبِ ، وَأُعْطِيهِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَمَا كَانَ مُسْتَحَقًّا عَلَى الْمَرْءِ شَرْعًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُحَوِّلَهُ إلَى غَيْرِهِ .
( قَالَ : ) وَلَا أَدْرَأُ الْيَمِينَ ، وَلَا أُحَوِّلُهَا

عَنْ مَوْضِعِهَا الَّذِي وَضَعَهَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْيَمِينَ شَرْعًا فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إمَّا لِلنَّفْيِ أَوْ لِإِبْقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ ، وَهُوَ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ ، فَإِذَا حُوِّلَتْ إلَى جَانِبِ الْمُدَّعِي لَمْ يُعْمَلْ إلَّا بِهَذَا الْمِقْدَارِ ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الشَّيْءِ فِي مَحِلِّهِ أَقْوَى مِنْهُ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ ، وَبِهَذَا الْقَدْرِ لَا يَسْتَحِقُّ الْمُدَّعِي شَيْئًا بَلْ حَاجَتُهُ إلَى إثْبَاتِ مَا لَيْسَ بِثَابِتٍ لَهُ ، وَالْيَمِينُ لَا تَصْلُحُ لِهَذَا .
وَكَذَلِكَ إنْ رَضِيَ رَبُّ الثَّوْبِ بِذَلِكَ ، وَقَالَ : أَنَا أَحْلِفُ فَتَرَاضِيهِمَا عَلَى مَا يُخَالِفُ حُكْمَ الشَّرْعِ يَكُونُ لَغْوًا ، فَإِذَا جَاءَ الْغَاصِبُ بِثَوْبٍ زُطِّيٍّ فَقَالَ : هَذَا الَّذِي غَصَبْتُكَهُ ، وَقَالَ رَبُّ الثَّوْبِ : كَذَبْتَ بَلْ هُوَ ثَوْبٌ هَرَوِيٌّ أَوْ مَرْوِيٌّ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ مِنْهُمَا فِي تَعْيِينِ الْمَقْبُوضِ ، وَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْقَابِضِ أَمِينًا كَانَ أَوْ ضَامِنًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ الْقَبْضَ أَصْلًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، ثُمَّ ذَكَرَ صِفَةَ يَمِينِهِ ، وَقَالَ : ( يَحْلِفُ بِاَللَّهِ أَنَّ هَذَا ثَوْبُهُ الَّذِي غَصَبَهُ إيَّاهُ وَمَا غَصَبَهُ هَرَوِيًّا وَلَا مَرْوِيًّا ) ؛ لِأَنَّ فِي تَعْيِينِ الْمَقْبُوضِ الْقَوْلَ قَوْلُهُ ، وَمَنْ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَهُ شَرْعًا ، فَإِنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى مَا يَقُولُ كَالْمُودِعِ فِي رَدِّ الْوَدِيعَةِ أَوْ هَلَاكِهَا ، وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي عَلَيْهِ أَنَّهُ غَصَبَهُ هَرَوِيًّا أَوْ مَرْوِيًّا ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ الْيَمِينِ ، فَلِهَذَا جَمَعَ فِي الْيَمِينِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ ، فَإِذَا حَلَفَ قَضَيْتُ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ بِالثَّوْبِ ، وَأَبْرَأْتُ الْغَاصِبَ مِنْ دَعْوَى رَبِّ الثَّوْبِ ، وَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ يُقْضَى عَلَيْهِ بِمَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّ نُكُولَهُ كَإِقْرَارِهِ .
وَعِنْدَ النُّكُولِ لَا يُقْضَى لَهُ بِهَذَا الثَّوْبِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِي ثَوْبَيْنِ إنَّمَا يَدَّعِي

ثَوْبًا هَرَوِيًّا وَقَدْ اسْتَحَقَّهُ ، فَأَمَّا إذَا حَلَفَ فَهُوَ مَا اسْتَحَقَّ ثَوْبًا سِوَى هَذَا ، وَقَدْ كَانَ يَدَّعِي أَصْلَ الثَّوْبِ بِصِفَتِهِ ، وَلَمْ يُثْبِتْ لَهُ تِلْكَ الصِّفَةَ بِنَفْيِ دَعْوَاهُ أَصْلَ الثَّوْبِ فَيُقْضَى لَهُ بِهَذَا الثَّوْبِ بِاعْتِبَارِ دَعْوَاهُ ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ ، فَإِنْ جَاءَ بِثَوْبٍ هَرَوِيٍّ خَلَقٍ ، وَقَالَ : هَذَا الَّذِي غَصَبْتُكَهُ وَهُوَ عَلَى حَالِهِ ، وَقَالَ رَبُّ الثَّوْبِ : بَلْ كَانَ ثَوْبِي جَدِيدًا حِينَ غَصَبْتَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْغَاصِبِ مَعَ يَمِينِهِ لِإِنْكَارِهِ قَبْضَ الثَّوْبِ حِينَ كَانَ جَدِيدًا ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ ، فَإِنَّ صِفَةَ الثَّوْبِ فِي الْحَالِ مَعْلُومٌ ، وَعِنْدَ الْغَصْبِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَيُرَدُّ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ إلَى مَا هُوَ الْمَعْلُومُ فِي نَفْسِهِ ، وَلِأَنَّ الْغَصْبَ حَادِثٌ فَيُحَالُ بِحُدُوثِهِ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ .
فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ رَبِّ الثَّوْبِ أَنَّهُ غَصَبَهُ جَدِيدًا لِإِثْبَاتِهِ سَبْقَ التَّارِيخِ فِي غَصْبِهِ ، وَضَمَانُ النُّقْصَانِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ فَوَاتِ الصِّفَةِ عِنْدَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةٌ ، وَحَلَفَ الْغَاصِبُ ، وَأَخَذَ رَبُّ الثَّوْبِ ، ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ غَصَبَهُ إيَّاهُ جَدِيدًا ضَمِنَ الْغَاصِبُ فَضْلَ مَا بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِبَيِّنَةٍ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ ، وَيَمِينُ الْغَاصِبِ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ بَيِّنَةِ رَبِّ الثَّوْبِ بَعْدَ ذَلِكَ هَكَذَا نُقِلَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ : الْيَمِينُ الْفَاجِرَةُ أَحَقُّ أَنْ تُرَدَّ مِنْ الْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ مَا قَضَى بِأَنَّ الْمَغْصُوبَ كَانَ خَلَقًا وَقْتَ الْغَصْبِ ، وَلَكِنَّهُ امْتَنَعَ عَنْ الْقَضَاءِ بِأَنَّهُ كَانَ جَدِيدًا عِنْدَ ذَلِكَ لِعَدَمِ الْحُجَّةِ ، فَإِذَا قَامَتْ الْحُجَّةُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ بِهَا .
فَإِنْ كَانَ غَصَبَهُ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ أَحْمَرَ أَوْ أَصْفَرَ فَصَاحِبُ الثَّوْبِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ قِيمَةَ الثَّوْبِ أَبْيَضَ ،

وَكَانَ الثَّوْبُ لِلْغَاصِبِ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ ، وَضَمِنَ لِلْغَاصِبِ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الصَّبْغَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ ، وَهُوَ قَائِمٌ فِي الثَّوْبِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بِغَصْبِهِ لَا يُسْقِطُ حُرْمَةَ مَالِهِ فَأَصْلُ الثَّوْبِ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ ، وَالصَّبْغُ لِلْغَاصِبِ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ تَمْيِيزُ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ ، وَتَعَذَّرَ اتِّصَالُ مَنْفَعَةِ مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الِانْفِرَادِ إلَيْهِ إلَّا أَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ صَاحِبُ الْأَصْلِ ، وَالْغَاصِبُ صَاحِبُ الْوَصْفِ فَإِثْبَاتُ الْخِيَارِ لِصَاحِبِ الْأَصْلِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ ، وَقِيَامُ الْوَصْفِ بِالْأَصْلِ ، فَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ ثَوْبِهِ أَبْيَضَ ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَى عَيْنِ مِلْكِهِ بِدُونِ غُرْمٍ يَلْزَمُهُ ، وَلَهُ أَنْ لَا يَلْتَزِمَ الْغُرْمَ فَيُضَمِّنُهُ قِيمَةَ الثَّوْبِ أَبْيَضَ كَمَا غَصَبَهُ ، وَيَصِيرُ الثَّوْبُ لِلْغَاصِبِ بِالضَّمَانِ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمِنَ لَهُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ فَيَتَوَصَّلُ الْغَاصِبُ إلَى مَالِيَّةِ حَقِّهِ ، وَيَتَمَلَّكُ صَاحِبُ الثَّوْبِ عَلَيْهِ هَذَا الصَّبْغَ بِمَا يُؤَدَّى مِنْ الضَّمَانِ ، وَالْغَاصِبُ رَاضٍ بِذَلِكَ حِينَ جَعَلَ مِلْكَهُ وَصْفًا لِمِلْكِ الْغَيْرِ ، وَإِنْ شَاءَ رَبُّ الثَّوْبِ بَاعَ الثَّوْبَ فَيَضْرِبُ فِي ثَمَنِهِ بِقِيمَتِهِ أَبْيَضَ ، وَيَضْرِبُ الْغَاصِبُ بِمَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ أَنْ لَا يَمْلِكَ ثَوْبَهُ مِنْهُ بِقِيمَتِهِ ، وَأَنْ لَا يَغْرَمَ لَهُ قِيمَةَ الصَّبْغِ ، وَعِنْدَ امْتِنَاعِهِ مِنْهُمَا لَا طَرِيقَ لِتَمْيِيزِ حَقِّ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ إلَّا بِالْبَيْعِ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ هَبَّتْ الرِّيحُ بِثَوْبِ إنْسَانٍ فَأَلْقَتْهُ فِي صِبْغِ غَيْرِهِ فَانْصَبَغَ .
إلَّا أَنَّ هُنَاكَ لَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِ الصَّبْغِ لِانْعِدَامِ الصَّبْغِ مِنْهُ ، وَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ هُمَا سَوَاءٌ ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ إذَا كَانَ هَذَا الصَّبْغُ نُقْصَانًا فِي هَذَا الثَّوْبِ ، وَقَدْ يَكُونُ لَوْنُ الْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ نُقْصَانًا فِي بَعْضِ

الثِّيَابِ .

وَذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَ : لَوْ غَصَبَ ثَوْبًا يُسَاوِي ثَلَاثِينَ دِرْهَمًا فَصَبَغَهُ بِعُصْفُرٍ ، وَتَرَاجَعَ قِيمَتُهُ إلَى عِشْرِينَ دِرْهَمًا ، فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إلَى قِيمَةِ الصَّبْغِ فِي ثَوْبٍ يَزِيدُ بِهِ ، فَإِنْ كَانَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ فَلِصَاحِبِ الثَّوْبِ أَنْ يَأْخُذَ ثَوْبَهُ ، وَيَأْخُذَ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ مِنْ الْغَاصِبِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْجَبَ عَلَيْهِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ نُقْصَانَ قِيمَةِ ثَوْبِهِ ، وَاسْتَوْجَبَ الصَّبَّاغُ عَلَيْهِ قِيمَةَ الصَّبْغِ خَمْسَةً ، وَالْخَمْسَةُ دَرَاهِمُ بِالْخَمْسَةِ قِصَاصٌ ، وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا بَقِيَ مِنْ النُّقْصَانِ وَهُوَ خَمْسَةٌ .
فَإِنْ كَانَ الْغَصْبُ جَارِيَةً صَغِيرَةً فَرَبَّاهَا حَتَّى أَدْرَكَتْ وَكَبُرَتْ ، ثُمَّ أَخَذَهَا رَبُّ الْجَارِيَةِ لَمْ يَضْمَنْ لِلْغَاصِبِ مَا زَادَ فِي الْجَارِيَةِ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ مِنْ عَيْنِهَا ، وَهِيَ مَمْلُوكَةٌ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ ، بِخِلَافِ مَا بَيَّنَّا مِنْ الصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ فَهُوَ زِيَادَةٌ مِنْ مَالِ الْغَاصِبِ لَا مِنْ الْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ ، وَلَا يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَ عَلَى الْمَغْصُوبِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فِي الْإِنْفَاقِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، وَلِأَنَّهُ اسْتَخْدَمَهَا بِمَا أَنْفَقَ ، وَلِأَنَّهُ انْتَفَعَ بِهَذَا الْإِنْفَاقِ ؛ لِأَنَّهُ تَمَكَّنَ بِهَا مِنْ الرَّدِّ وَإِسْقَاطِ الضَّمَانِ عَنْ نَفْسِهِ .

وَإِذَا غَصَبَ سَوِيقًا فَلَتَّهُ بِسَمْنٍ فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ سَوِيقِهِ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ سَوِيقَهُ ، وَضَمِنَ لِلْغَاصِبِ مَا زَادَ السَّمْنُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ السَّمْنَ فِي السَّوِيقِ زِيَادَةُ وَصْفٍ مِنْ مَالِ الْغَاصِبِ كَالصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ .
وَكَذَلِكَ الدُّهْنُ إذَا خُلِطَ بِهِ مِسْكُهُ ، وَهَذَا إذَا كَانَ دُهْنًا يُطَيَّبُ بِالْمِسْكِ ، فَإِنْ كَانَ دُهْنًا مُنْتِنًا كَدُهْنِ الْبَرْزِ وَنَحْوِهِ أَخَذَهُ صَاحِبُهُ ، وَلَمْ يَضْمَنْ لِلْغَاصِبِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ الْمِسْكَ صَارَ مُسْتَهْلَكًا فِيهِ .
وَإِذَا غَصَبَ ثَوْبًا فَصَبَغَهُ أَسْوَدَ فَلِصَاحِبِ الثَّوْبِ أَنْ يَأْخُذَهُ ، وَلَا يُعْطِيهِ شَيْئًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ السَّوَادُ كَالْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ ، وَلَا اخْتِلَافَ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ أَجَابَ عَلَى مَا شَاهَدَ فِي عَصْرِهِ مِنْ عَادَةِ بَنِي أُمَيَّةَ ، وَقَدْ كَانُوا مُمْتَنِعِينَ مِنْ لُبْسِ السَّوَادِ ، وَهُمَا أَجَابَا عَلَى مَا شَاهَدَا فِي عَصْرِهِمَا مِنْ عَادَةِ بَنِي الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِلُبْسِ السَّوَادِ ، وَقَدْ كَانَ أَبُو يُوسُفَ يَقُولُ أَوَّلًا بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَلَمَّا قُلِّدَ الْقَضَاءَ وَأَمَرَ بِلُبْسِ السَّوَادِ ، وَاحْتَاجَ إلَى الْتِزَامِ مُؤْنَةٍ فِي ذَلِكَ رَجَعَ وَقَالَ : السَّوَادُ زِيَادَةٌ .
وَقِيلَ : السَّوَادُ يُزِيدُ فِي قِيمَةِ بَعْضِ الثِّيَابِ ، وَيُنْقِصُ مِنْ قِيمَةِ بَعْضِ الثِّيَابِ كَالْغَصْبِ وَنَحْوِهِ .
فَإِنْ كَانَ الْمَغْصُوبُ ثَوْبًا يَنْقُصُ بِالسَّوَادِ مِنْ قِيمَتِهِ فَالْجَوَابُ مَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَإِنْ كَانَ ثَوْبًا يَزِيدُ السَّوَادُ فِي قِيمَتِهِ فَالْجَوَابُ مَا قَالَا أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ ، وَإِنْ غَصَبَهُ ثَوْبًا فَقَطَعَهُ قَمِيصًا وَلَمْ يَخِطْهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمِنَ قِيمَتَهُ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ ، وَضَمَّنَهُ مَا نَقَصَهُ الْقَطْعُ ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ نُقْصَانٌ فَاحِشٌ فِي الثَّوْبِ ، فَإِنَّهُ قَبْلَ الْقَطْعِ كَانَ يَصْلُحُ لِاِتِّخَاذِ الْقَبَاءِ

وَالْقَمِيصِ ، وَبَعْدَ مَا قُطِعَ قَمِيصًا لَا يَصْلُحُ لِاِتِّخَاذِ الْقَبَاءِ مِنْهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ يَصْلُحُ قَبْلَ الْقَطْعِ .
فَكَانَ مُسْتَهْلَكًا مِنْ وَجْهٍ قَائِمًا مِنْ وَجْهٍ ، فَإِنْ شَاءَ مَالَ صَاحِبُهُ إلَى جَانِبِ الِاسْتِهْلَاكِ ، وَضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ ، وَإِنْ شَاءَ مَالَ إلَى جَانِبِ الْبَقَاءِ وَأَخَذَ عَيْنَ الثَّوْبِ ، وَضَمَّنَهُ نُقْصَانَ الْقَطْعِ ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ لَيْسَ بِمَالِ الرِّبَا ، وَتَضْمِينُ النُّقْصَانِ فِي مِثْلِهِ مَعَ أَخْذِ الْعَيْنِ جَائِزٌ شَرْعًا ، وَكَذَلِكَ إذَا نَقَصَهُ الصَّبْغُ الْأَسْوَدُ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ ، وَيُضَمِّنَهُ مَا نَقَصَهُ ؛ لِأَنَّ الصَّبْغَ الْأَسْوَدَ فِي مِثْلِهِ نُقْصَانٌ فَاحِشٌ ، وَهُوَ كَالِاسْتِهْلَاكِ مِنْ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّ قَبْلَهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ إحْدَاثِ أَيِّ لَوْنٍ شَاءَ فِيهِ ، وَقَدْ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِذَلِكَ ، وَالصَّبْغُ الْأَسْوَدُ مِنْ الثَّوْبِ لَا يُمْكِنُ قَلْعُهُ عَادَةً ، وَبِهِ يُفَرِّقُ أَبُو حَنِيفَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَائِرِ الْأَلْوَانِ .

وَلَوْ اغْتَصَبَ ثَوْبًا فَخَرَقَهُ ، فَإِنْ كَانَ خَرْقًا صَغِيرًا ضَمَّنَ الْغَاصِبَ النُّقْصَانَ فَقَطْ ، وَأَخَذَ صَاحِبُ الثَّوْبِ ثَوْبَهُ ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَبِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْخَرْقِ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِمَا كَانَ صَالِحًا قَبْلَهُ ، وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ فِي قِيمَتِهِ نُقْصَانٌ فَيَضْمَنُ ذَلِكَ النُّقْصَانَ ، وَإِنْ كَانَ الْخَرْقُ كَبِيرًا ، وَقَدْ أَفْسَدَ الثَّوْبَ فَصَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْغَاصِبَ قِيمَةَ ثَوْبِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَهْلَكٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، فَإِنَّهُ لَا يَصْلُحُ بَعْدَ هَذَا الْخَرْقِ لِجَمِيعِ مَا كَانَ صَالِحًا قَبْلَهُ لَهُ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الثَّوْبَ لِكَوْنِهِ قَائِمًا حَقِيقَةً ، وَضَمَّنَهُ مَا نَقَصَهُ فِعْلُ الْغَاصِبِ .
( وَأَمَّا ) الدَّابَّةُ إذَا غَصَبَهَا فَقَطَعَ يَدَهَا أَوْ رِجْلَهَا فَلِصَاحِبِهَا أَنْ يُضَمِّنَ الْغَاصِبَ قِيمَتَهَا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْمَغْصُوبُ عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً فَيَقْطَعُ مِنْهُ يَدًا أَوْ رِجْلًا فَهُنَاكَ يَأْخُذُهُ مَعَ أَرْشِ الْمَقْطُوعِ ؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ بِقَطْعِ طَرَفٍ مِنْهُ لَا يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا لِبَقَائِهِ صَالِحًا لِعَامَّةِ مَا كَانَ صَالِحًا لَهُ مِنْ قَبْلُ .
وَالدَّابَّةُ تَصِيرُ مُسْتَهْلَكَةً بِقَطْعِ طَرَفٍ مِنْهَا ، فَإِنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْحَمْلِ وَالرُّكُوبِ بَعْدَ هَذَا الْقَطْعِ ؛ فَلِهَذَا كَانَ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَتْرُكَهَا لِلْغَاصِبِ وَيُضَمِّنَهُ قِيمَتَهَا .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ بَقَرَةً أَوْ جَزُورًا فَقَطَعَ يَدَهَا أَوْ رِجْلَهَا أَوْ كَانَتْ شَاةً فَذَبَحَهَا ؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ اسْتِهْلَاكٌ مِنْ وَجْهٍ ، فَإِنَّهُ يَفُوتُ بِهِ بَعْضُ مَا كَانَ مَقْصُودًا مِنْ النَّسْلِ وَاللَّبَنِ فَلِصَاحِبِهَا أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهَا إنْ شَاءَ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْمَذْبُوحَ مَسْلُوخًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَسْلُوخٍ ، وَضَمَّنَ الْغَاصِبَ النُّقْصَانَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يُضَمِّنُهُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ وَالسَّلْخَ فِي الشَّاةِ زِيَادَةٌ ؛ وَلِهَذَا

يَلْتَزِمُ بِمُقَابَلَتِهِ الْعِوَضَ ، وَلَكِنْ مَا ذَكَرَهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ مِنْ حَيْثُ التَّقَرُّبِ إلَى الِانْتِفَاعِ بِاللَّحْمِ ، وَلَكِنَّهُ نُقْصَانٌ بِتَفْوِيتِ سَائِرِ الْأَغْرَاضِ مِنْ الْحَيَوَانِ ، وَلِأَجْلِهِ يَثْبُتُ الْخِيَارُ فَكَانَ هَذَا وَالْقَطْعُ فِي الثَّوْبِ سَوَاءٌ يُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ إنْ شَاءَ .
( وَإِذَا ) طَحَنَ الْغَاصِبُ الْحِنْطَةَ فَعَلَيْهِ مِثْلُهَا ، وَالدَّقِيقُ لَهُ عِنْدَنَا .
وَسِوَى هَذَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ رِوَايَتَانِ : ( إحْدَاهُمَا ) أَنَّ حَقَّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ لَا يَنْقَطِعُ عَنْ الدَّقِيقِ لَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ ، وَلَكِنْ يُبَاعُ فَيَشْتَرِي لَهُ بِهِ حِنْطَةً مِثْلَ حِنْطَتِهِ ، وَإِنْ مَاتَ الْغَاصِبُ فَالْمَغْصُوبُ مِنْهُ أَحَقُّ بِهِ مِنْ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ ؛ لِأَنَّهُ زَالَ مِلْكُهُ وَيَدُهُ بِسَبَبٍ لَمْ يَرْضَ بِهِ ، وَلَوْ زَالَ مِلْكُهُ بِسَبَبٍ هُوَ رَاضٍ بِهِ كَالْبَيْعِ لَا يَنْقَطِعُ حَقُّهُ ، وَإِذَا أُزِيلَتْ يَدُهُ بِغَيْرِ رِضَاهُ بِأَنْ قَبَضَ الْمُشْتَرِي الْمَبِيعَ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ فَهُنَا أَوْلَى أَنْ لَا يَنْقَطِعَ حَقُّهُ .
( وَالرِّوَايَةُ الْأُخْرَى ) أَنَّ مِلْكَهُ لَا يَزُولُ بَلْ لَهُ الْخِيَارُ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ الدَّقِيقَ ، وَضَمَّنَهُ حِنْطَةً مِثْلَ حِنْطَتِهِ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الدَّقِيقَ ، وَلَمْ يُضَمِّنْهُ شَيْئًا .
قَالَ : أَسْتَحْسِنُ ذَلِكَ وَأُخَالِفُ فِيهِ أَبَا حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَقْبَحَ أَنْ يَأْتِيَ مُفْلِسٌ إلَى كُرِّ حِنْطَةِ إنْسَانٍ فَيَطْحَنَهُ ثُمَّ يَهَبَ الدَّقِيقَ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ ، فَلَا يَتَوَصَّلُ صَاحِبُ الْحِنْطَةِ إلَى شَيْءٍ ، فَهَذَا قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْضًا إلَّا أَنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَأْخُذُ الدَّقِيقَ ، وَيُضَمِّنُهُ النُّقْصَانَ إنْ كَانَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ عَلَى أَصْلِهِ تَضْمِينُ النُّقْصَانِ مَعَ أَخْذِهِ الْعَيْنَ فِي أَمْوَالِ الرِّبَا جَائِزٌ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا .
وَوَجْهُ هَذَا أَنَّ الدَّقِيقَ عَيْنُ شَبَهٍ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ كَمَا قَبْلَ

الطَّحْنِ ، وَهَذَا لِأَنَّ عَمَلَ الطَّحْنِ فِي تَفْرِيقِ الْأَجْزَاءِ لَا لِإِحْدَاثِ مَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا ، وَتَفْرِيقُ الْأَجْزَاءِ لَا يُبَدِّلُ الْعَيْنَ كَالْقَطْعِ فِي الثَّوْبِ ، وَالذَّبْحِ وَالسَّلْخِ وَالتَّأْرِيبِ فِي الشَّاةِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الدَّقِيقَ جِنْسُ الْحِنْطَةِ ؛ وَلِهَذَا جَرَى الرِّبَا بَيْنَهُمَا ، وَلَا يَجْرِي الرِّبَا إلَّا بِاعْتِبَارِ الْمُجَانَسَةِ .
وَاسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي إمْلَاءِ الْكَيْسَانِيَّاتِ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبٍ الْجَرْمِيِّ عَنْ أَبِي مُرَّةَ عَنْ أَبِي مُوسَى { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي ضِيَافَةِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَدَّمَ إلَيْهِ شَاةً مَصْلِيَّةً فَأَخَذَ مِنْهَا لُقْمَةً فَجَعَلَ يَلُوكُهَا وَلَا يَسِيغُهَا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّهَا ذُبِحَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ : كَانَتْ شَاةَ أَخِي ، وَلَوْ كَانَتْ أَعَزَّ مِنْهَا لَمْ يَنْفَسْ عَلَيَّ بِهَا ، وَسَأُرْضِيهِ بِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهَا إذَا رَجَعَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَطْعِمُوهَا الْأَسَارَى } .
قَالَ مُحَمَّدٌ يَعْنِي الْمَحْبُوسِينَ ، فَأَمْرُهُ بِالتَّصَدُّقِ بِهَا بَيَانٌ مِنْهُ أَنَّ الْغَاصِبَ قَدْ مَلَكَهَا ؛ لِأَنَّ مَالَ الْغَيْرِ يُحْفَظُ عَلَيْهِ عَيْنُهُ إذَا أَمْكَنَ ، وَثَمَنُهُ بَعْدَ الْبَيْعِ إذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ حِفْظُ عَيْنِهِ ، وَلَمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالتَّصَدُّقِ بِهَا دَلَّ أَنَّهُ مَلَكَهَا ، وَالْخِلَافُ فِي الْفَصْلَيْنِ سَوَاءٌ قَالَ مُحَمَّدٌ وَهَذَا الْحَدِيثُ جَعَلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَصْلًا فِي أَكْثَرِ مَسَائِلِ الْغَصْبِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا الدَّقِيقَ غَيْرُ الْحِنْطَةِ ، وَهُوَ إنَّمَا غَصَبَ الْحِنْطَةَ ، فَلَا يَلْزَمُهُ رَدُّ الدَّقِيقِ كَمَنْ أَتْلَفَ حِنْطَةً لَا يَلْزَمُهُ رَدُّ الدَّقِيقِ .
وَبَيَانُ الْمُغَايَرَةِ أَنَّهُمَا غَيْرَانُ اسْمًا ، وَهَيْئَةً ، وَحُكْمًا ، وَمَقْصُودًا .
وَكَذَلِكَ يَتَعَذَّرُ إعَادَةُ الدَّقِيقِ

إلَى صِفَةِ الْحِنْطَةِ .
وَتَحْقِيقُهُ أَنَّ الْمَوْجُودَاتِ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ تُعْرَفُ بِصُورَتِهَا وَمَعْنَاهَا ، فَتَبَدُّلُ الْهَيْئَةِ وَالِاسْمِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُغَايَرَةَ صُورَةٌ ، وَتَبَدُّلُ الْحُكْمِ وَالْمَقْصُودِ دَلِيلٌ عَلَى الْمُغَايَرَةِ مَعْنًى ، وَإِذَا ثَبَتَتْ الْمُغَايَرَةُ فَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ الثَّانِي انْعِدَامُ الْأَوَّلِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ شَيْئَيْنِ ، وَإِذَا انْعَدَمَ الْأَوَّلُ بِفِعْلِهِ صَارَ ضَامِنًا مِثْلَهُ ، وَقَدْ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ فَيُجْعَلُ هَذَا الدَّقِيقُ حَادِثًا مِنْ مِلْكِهِ فَيَكُونُ مَمْلُوكًا لَهُ أَوْ يُجْعَلُ حَادِثًا بِفِعْلِهِ ، وَفِعْلُهُ سَبَبٌ صَالِحٌ لِحُكْمِ الْمِلْكِ فَيَصِيرُ مُضَافًا إلَيْهِ ، وَلَكِنْ بَيْنَ الدَّقِيقِ وَالْحِنْطَةِ شُبْهَةُ الْمُجَانَسَةِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ ، وَهُوَ أَنَّ عَمَلَ الطَّحْنِ صُورَةُ تَفْرِيقِ الْأَجْزَاءِ ، وَبَابُ الرِّبَا مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ لِبَقَاءِ شُبْهَةِ الْمُجَانَسَةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ جَرَى حُكْمُ الرِّبَا بِخِلَافِ الْقَطْعِ فِي الثَّوْبِ ، وَالذَّبْحِ فِي الشَّاةِ ، فَإِنَّ بِالذَّبْحِ لَا يَفُوتُ اسْمُ الْعَيْنِ يُقَالُ : شَاةٌ مَذْبُوحَةٌ ، وَشَاةٌ حَيَّةٌ ، فَبَقِيَتْ مَمْلُوكَةً لِصَاحِبِهَا ، ثُمَّ بِالسَّلْخِ وَالتَّأْرِيبِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَفُوتُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالذَّبْحِ بَلْ تَحَقُّقُ ذَلِكَ الْمَقْصُودِ ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلُ تَبْدِيلِ الْعَيْنِ ؛ فَلِهَذَا كَانَ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَأْخُذَهَا ، ثُمَّ عَلَى قَوْلِ زُفَرَ لِلْغَاصِبِ أَنْ يَأْكُلَ هَذَا الدَّقِيقَ ، وَيَنْتَفِعَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يُؤَدِّيَ الضَّمَانَ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ حَادِثٌ بِكَسْبِهِ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ ، وَهُوَ قَوْلُنَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِمَا مَا لَمْ يُؤَدِّ الضَّمَانَ بِالتَّرَاضِي أَوْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، أَوْ يُقْضَى عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةُ هَذِهِ أَجْزَاءُ مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ ، وَهَذِهِ الصُّورَةُ مُعْتَبَرَةٌ فِيمَا بُنِيَ عَلَى الِاحْتِيَاطِ ، وَالْأَكْلُ مَبْنِيٌّ عَلَى ذَلِكَ ، فَإِنَّمَا يَتِمُّ تَحَوُّلُ

حَقِّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ إلَى الضَّمَانِ بِالِاسْتِيفَاءِ أَوْ بِالْقَضَاءِ فَلِهَذَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ إلَّا بَعْدَهُ .

( وَإِذَا ) اسْتَهْلَكَ قُلْبَ فِضَّةٍ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ مِنْ الذَّهَبِ مَصُوغًا عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَضْمَنُ قِيمَتَهُ مِنْ جِنْسِهِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ لِلْجَوْدَةِ وَالصِّفَةِ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ قِيمَةً ، وَعِنْدَنَا لَا قِيمَةَ لَهَا عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهَا ، فَلَوْ أَوْجَبْنَا مِثْلَ قِيمَتِهَا مِنْ جِنْسِهَا أَدَّى إلَى الرِّبَا ، وَلَوْ أَوْجَبْنَا مِثْلَ وَزْنِهَا كَانَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَنْ الْجَوْدَةِ وَالصِّفَةِ ، فَلِمُرَاعَاةِ حَقِّهِ وَالتَّحَرُّزِ عَنْ الرِّبَا قُلْنَا : يَضْمَنُ الْقِيمَةَ مِنْ الذَّهَبِ مَصُوغًا .
وَإِنْ وَجَدَهُ صَاحِبُهُ مَكْسُورًا فَرَضِيَ بِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فَضْلُ مَا بَيْنَ الْمَكْسُورِ وَالصَّحِيحِ ؛ لِأَنَّهُ عَادَ إلَيْهِ عَيْنُ مَالِهِ فَبَقِيَتْ الصِّفَةُ مُنْفَرِدَةً عَنْ الْأَصْلِ ، وَلَا قِيمَةَ لَهَا فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَ لِلصِّفَةِ عِوَضًا كَانَ هَذَا فِي مَعْنَى مُبَادَلَةِ الْعَشَرَةِ بِأَحَدَ عَشَرَ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي الْأَمْوَالِ الرِّبَوِيَّةِ ، وَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْغَاصِبَ قِيمَتَهُ مَصُوغًا مِنْ الذَّهَبِ وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ النُّقْصَانُ بِالْكَسْرِ يَسِيرًا أَوْ فَاحِشًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ وَإِبْقَاءِ حَقِّهِ فِي الصِّفَةِ إلَّا بِذَلِكَ .
وَكَذَلِكَ كُلُّ إنَاءٍ مَصُوغٍ كَسَرَهُ رَجُلٌ ، فَإِنْ مِنْ فِضَّةٍ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ مَصُوغًا مِنْ الذَّهَبِ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ ذَهَبٍ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ مَصُوغًا مِنْ الْفِضَّةِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الرِّبَا مَعَ مُرَاعَاةِ حَقِّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ فِي الصِّفَةِ ، فَإِنْ كَسَرَ دِرْهَمًا أَوْ دِينَارًا فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ غَيَّرَهُ بِصُنْعِهِ ، وَلَا يَتِمُّ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ صَاحِبِهِ إلَّا بِإِيجَابِ الْمِثْلِ ، وَالْمَكْسُورُ لِلْكَاسِرِ إذَا ضَمِنَ مِثْلَهُ ، وَإِنْ شَاءَ صَاحِبُهُ أَخَذَهُ ، وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَتْ مَالِيَّةً انْتَقَصَتْ بِالْكَسْرِ أَوْ لَمْ تَنْتَقِصْ ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْعَيْنِ

بِغَيْرِ فِعْلِهِ ، وَذَلِكَ كَافٍ لِإِثْبَاتِ الْخِيَارِ لَهُ إلَّا فِيمَا يَكُونُ زِيَادَةً فِيهِ عَلَى مَا تَبَيَّنَ .

( وَإِذَا ) ادَّعَى دَارًا أَوْ ثَوْبًا أَوْ عَبْدًا فِي يَدِ رَجُلٍ ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَهُ ، وَقَالَ الَّذِي هُوَ فِي يَدَيْهِ : هُوَ عِنْدِي وَدِيعَةً فَهُوَ خَصْمٌ لِظُهُورِ الْعَيْنِ فِي يَدِهِ ، وَلَمْ يَثْبُتْ بِقَوْلِهِ أَنَّ يَدَهُ يَدُ غَيْرِهِ ، ( وَإِنْ ) أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ فُلَانًا اسْتَوْدَعَهَا إيَّاهُ أَوْ أَعَارَهَا أَوْ أَجَّرَهَا أَوْ رَهَنَهَا مِنْهُ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا خُصُومَةٌ ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ أَنَّ يَدَهُ يَدُ حِفْظٍ ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ مُخَمَّسَةٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ الدَّعْوَى .
وَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّ ذَا الْيَدِ غَصَبَهُ مِنْهُ لَمْ تَنْدَفِعْ الْخُصُومَةُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ خَصْمًا بِدَعْوَى الْفِعْلِ عَلَيْهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ دَعْوَاهُ الْخَصْمَ صَحِيحٌ عَلَى غَيْرِ ذِي الْيَدِ بِخِلَافِ دَعْوَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ .
إنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ ثَوْبُهُ غُصِبَ مِنْهُ فَقَدْ انْدَفَعَتْ الْخُصُومَةُ عَنْ ذِي الْيَدِ بِمَا أَقَامَ مِنْ الْبَيِّنَةِ ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ غَيْرُ مُدَّعًى عَلَيْهِ ، فَإِنَّ هَذَا فِعْلٌ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ ، فَإِنَّمَا كَانَ ذُو الْيَدِ خَصْمًا بِاعْتِبَارِ يَدِهِ ، وَقَدْ أَثْبَتَ أَنَّ يَدَهُ يَدُ حِفْظٍ .
وَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي : هَذَا ثَوْبِي سُرِقَ مِنِّي فَالْجَوَابُ كَذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، ( قَوْلُهُ : ) سُرِقَ مِنِّي ذِكْرُ فِعْلِ مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ ، فَلَا يَصِيرُ الْفِعْلُ بِهِ مُدَّعًى عَلَى ذِي الْيَدِ إنَّمَا كَانَ هُوَ خَصْمًا بِاعْتِبَارِ يَدِهِ كَمَا فِي الْغَصْبِ ، وَلَكِنْ اسْتَحْسَنَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَقَالَا : لَا تَنْدَفِعُ الْخُصُومَةُ عَنْ ذِي الْيَدِ ، وَلِلِاسْتِحْسَانِ وَجْهَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ قَوْلَهُ سُرِقَ مِنِّي مَعْنَاهُ سَرَقَهُ مِنِّي إلَّا أَنَّهُ اخْتَارَ هَذَا اللَّفْظَ انْتِدَابًا إلَى مَا نُدِبَ إلَيْهِ فِي الشَّرْعِ مِنْ التَّحَرُّزِ عَنْ إظْهَارِهِ الْفَاحِشَةَ وَالِاحْتِيَالَ لِدَرْءِ الْحَدِّ ، فَإِذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى أَنْ يُبْطِلَ

حَقَّهُ يَعُودُ فَيَدَّعِي عَلَيْهِ فِعْلَ السَّرِقَةِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي الْغَصْبِ ؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ تَجَاهَرَ بِمَا صَنَعَ ، وَلَا يُنْدَبُ إلَى السِّتْرِ عَلَى مَا تَجَاهَرَ بِفِعْلِهِ .
( وَالثَّانِي ) أَنَّ السَّارِقَ فِي الْعَادَةِ يَكُونُ بِالْبُعْدِ مِنْ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ فَيَشْتَبِهُ عَلَيْهِ فِي ظُلْمَةِ اللَّيْلِ أَنَّهُ فُلَانٌ أَوْ غَيْرُهُ فَهُوَ بِقَوْلِهِ : سُرِقَ مِنِّي يَتَحَرَّزُ عَنْ تَوَهُّمِ الْكَذِبِ ، وَلَهُ ذَلِكَ شَرْعًا فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ سَرَقْتَهُ مِنِّي بِخِلَافِ الْغَصْبِ .
وَلِأَنَّ السُّرَّاقَ قَلَّمَا يُوقَفُ عَلَى أَثَرِهِمْ لِخَوْفِهِمْ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ ، فَلَوْ انْدَفَعَتْ الْخُصُومَةُ عَنْ ذِي الْيَدِ بِهَذَا كَانَ إبْطَالًا لِحَقِّ الْمُدَّعِي لَا تَحْوِيلًا ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ أَوْدَعَهُ رَجُلٌ لَا يَعْرِفُهُ ، بِخِلَافِ الْغَاصِبِ فَإِنَّهُ يَكُون ظَاهِرًا فَيَكُونُ هَذَا مِنْ ذِي الْيَدِ تَحْوِيلًا لِلْخُصُومَةِ إلَيْهِ لَا إبْطَالًا لِحَقِّ الْمُدَّعِي .

( رَجُلٌ ) غَصَبَ ثَوْبَ رَجُلٍ فَاسْتَهْلَكَهُ فَضَمِنَ إنْسَانٌ عَنْ الْغَاصِبِ قِيمَتَهُ ، وَلَيْسَ لِرَبِّ الثَّوْبِ بَيِّنَةٌ عَلَى قِيمَتِهِ فَقَالَ الْكَفِيلُ : قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ ، وَقَالَ الْغَاصِبُ : عِشْرُونَ ، وَقَالَ صَاحِبُ الثَّوْبِ : ثَلَاثُونَ لَمْ يَلْزَمْ الْكَفِيلَ إلَّا عَشَرَةُ دَرَاهِمَ مَعَ يَمِينِهِ بِاَللَّهِ مَا قِيمَتُهُ إلَّا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ الْتِزَامٌ بِالْكَفَالَةِ قِيمَةِ الْمَغْصُوبِ ، فَالْقَوْلُ فِي بَيَانِ مِقْدَارِهِ قَوْلُهُ كَالْغَاصِبِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ عَلَى الْعَشَرَةِ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَقَدْ أَقَرَّ الْغَاصِبُ بِعَشَرَةٍ أُخْرَى فَهُوَ مُصَدِّقٌ عَلَى نَفْسِهِ غَيْرُ مُصَدِّقٍ عَلَى الْكَفِيلِ ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ وُجُوبِ الْعَشَرَةِ الْأُخْرَى عَلَيْهِ وُجُوبُهَا عَلَى الْكَفِيلِ ؛ فَلِهَذَا يَرْجِعُ عَلَى الْغَاصِبِ بِعَشَرَةٍ أُخْرَى مَعَ يَمِينِهِ بِاَللَّهِ مَا قِيمَتُهُ إلَّا عِشْرُونَ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الثَّوْبِ يَدَّعِي عَلَيْهِ عَشَرَةً أُخْرَى ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ .

( رَجُلٌ ) غَصَبَ جَارِيَةً شَابَّةً فَكَانَتْ عِنْدَهُ حَتَّى صَارَتْ عَجُوزًا ، فَإِنَّ صَاحِبَهَا يَأْخُذُهَا وَمَا نَقَصَهَا ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مَضْمُونَةً عَلَى الْغَاصِبِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا ، وَقَدْ فَاتَ وَصْفُ مَقْصُودٍ مِنْهَا ، وَهُوَ الشَّبَابُ ، فَعَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُ ذَلِكَ اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ .
وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَهُ غُلَامًا شَابًّا فَكَانَ عِنْدَهُ حَتَّى هَرِمَ ؛ لِأَنَّهُ فَاتَ بَعْضُ مَا هُوَ مَقْصُودٌ مِنْهُ ، وَهُوَ قُوَّةُ الشَّبَابِ ، وَالْهَرَمُ نُقْصَانٌ فِي الْعَيْنِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ غَصَبَهُ صَبِيًّا فَشَبَّ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ ازْدَادَ عِنْدَ الْغَاصِبِ بِمَا حَدَثَ لَهُ مِنْ قُوَّةِ الشَّبَابِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ نَبَتَ شَعْرُهُ عِنْدَ الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّهُ ازْدَادَ جَمَالًا عِنْدَهُ .
فَإِنَّ اللِّحْيَةَ جَمَالٌ ؛ وَلِهَذَا يَجِبُ بِحَلْقِهَا مِنْ الْحُرِّ عِنْدَ اقْتِبَالِ الْمَنْبِتِ كَمَالُ الدِّيَةِ ، وَالْغَاصِبُ بِالزِّيَادَةِ عِنْدَهُ لَا يَصِيرُ ضَامِنًا شَيْئًا .
وَلَوْ كَانَ مُحْتَرِفًا بِحِرْفَةٍ فَنَسِيَ ذَلِكَ عِنْدَ الْغَاصِبِ كَانَ ضَامِنًا لِلنُّقْصَانِ ؛ لِأَنَّهُ فَاتَ مَا كَانَ مَقْصُودًا مِنْهُ عِنْدَ الْغَاصِبِ ، وَمَا يَزِيدُ فِي مَالِيَّتِهِ ( فَإِنْ قِيلَ : ) عَدَمُ الْعِلْمِ بِالْحِرْفَةِ لَيْسَ بِنُقْصَانٍ فِي الْعَيْنِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ بِهِ حَقُّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ( قُلْنَا : ) نَعَمْ ، وَلَكِنْ إذَا وُجِدَ فَهُوَ زِيَادَةٌ فِي الْعَيْنِ ؛ وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ فِي الْبَيْعِ بِالشَّرْطِ ، وَيَثْبُتُ حَقُّ الرَّدِّ عِنْدَ فَوَاتِهِ فَيَضْمَنُ الْغَاصِبُ بِاعْتِبَارِهِ النُّقْصَانَ أَيْضًا .
وَكَذَلِكَ إنْ غَصَبَ ثَوْبًا مِنْ رَجُلٍ فَعَفِنَ عِنْدَهُ وَاصْفَرَّ فَقَدْ انْتَقَصَتْ مَالِيَّتُهُ بِمَا حَدَثَ فِي الْعَيْنِ عِنْدَ الْغَاصِبِ فَكَانَ ضَامِنًا لِلنُّقْصَانِ .
وَلَوْ غَصَبَ طَعَامًا حَدَثًا فَأَمْسَكَهُ حَتَّى عَفِنَ عِنْدَهُ فَعَلَيْهِ طَعَامُ مِثْلِهِ ، وَهَذَا الْفَاسِدُ لِلْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ الْمَالِكِ يَتَضَمَّنُ النُّقْصَانَ ، وَالنُّقْصَانُ هُنَا مُتَعَذِّرٌ فَيُصَارُ إلَى دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ بِتَضْمِينِ الْمِثْلِ إلَّا

أَنْ يَرْضَى الْمَالِكُ بِأَخْذِ الطَّعَامِ الْعَفِنِ فَيَأْخُذُهُ ، وَلَا شَيْءَ لَهُ سِوَاهُ .

( رَجُلٌ ) غَصَبَ مِنْ رَجُلٍ ثَوْبًا ، وَمِنْ آخَرَ عُصْفُرًا فَصَبَغَهُ بِهِ ، ثُمَّ حَضَرَا جَمِيعًا فَقَالَ : أَمَّا صَاحِبُ الْعُصْفُرِ فَيَأْخُذُهُ حَتَّى يُعْطِيَهُ عُصْفُرًا مِثْلَهُ أَوْ قِيمَتَهُ ؛ لِأَنَّ مَا غَصَبَهُ مِنْهُ صَارَ مُسْتَهْلَكًا بِفِعْلِهِ ، فَإِنَّهُ كَانَ عَيْنَ مَالٍ قَائِمٍ بِنَفْسِهِ ، وَقَدْ صَارَ وَصْفًا قَائِمًا بِمِلْكِ غَيْرِهِ ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ صَارَ مُسْتَهْلَكًا ، فَعَلَى الْغَاصِبِ ضَمَانُ مِثْلِهِ أَوْ قِيمَتُهُ إنْ كَانَ لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ ، وَالسَّوَادُ فِي هَذَا كَغَيْرِهِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ السَّوَادَ فِي نَفْسِهِ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ ، وَإِنَّمَا هُوَ نُقْصَانٌ فِي الثَّوْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِذَا ضَمِنَ لِصَاحِبِ الْعُصْفُرِ عُصْفُرَهُ مَلَكَ الْمَضْمُونَ .
وَصَارَ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ صَبَغَهُ بِعُصْفُرِ نَفْسِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ الْخِيَارِ فِيهِ ، وَلَوْ كَانَ غَصْبُ الثَّوْبِ وَالصَّبْغُ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ فَصَبَغَهُ بِهِ فَفِي الْقِيَاسِ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَهْلِكٌ لِلصَّبْغِ بِمَا صَنَعَ فَيَتَقَرَّرُ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ ، وَيَصِيرُ ذَلِكَ مَمْلُوكًا لَهُ ، وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ لِصَاحِبِ الثَّوْبِ هُنَا أَنْ يَأْخُذَ ثَوْبَهُ وَلَا يُعْطِيَ الصَّبَّاغَ شَيْئًا ، وَلَا يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ صِبْغِهِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ صَارَ وَصْفًا لِمِلْكِهِ ، فَلَا يَكُونُ مُسْتَهْلِكًا بِهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .
وَلِأَنَّهُ إذَا اخْتَارَ أَصْلَ الثَّوْبِ كَانَ مُجِيزًا لِفِعْلِهِ فِي الِانْتِهَاءِ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ كَالْإِذْنِ مِنْهُ فِي الِابْتِدَاءِ ؛ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الثَّوْبَ إنْ شَاءَ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ الصَّبْغَ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَهْلَكٌ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا ، وَإِذَا ضَمِنَهُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ صَبَغَ الثَّوْبَ بِصِبْغِ نَفْسِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَلَوْ كَانَ الثَّوْبُ مَغْصُوبًا مِنْ إنْسَانٍ ، وَالصَّبْغُ مِنْ آخَرَ وَصَبَغَهُ لِلْغَاصِبِ ثُمَّ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ ، فَفِي الْقِيَاسِ أَنْ يَأْخُذَ صَاحِبُ الثَّوْبِ ثَوْبَهُ ، وَلَا يَبْقَى لِصَاحِبِ الصَّبْغِ عَلَيْهِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ صَبْغَهُ مُسْتَهْلَكٌ بِفِعْلِ

الْغَاصِبِ ، وَضَمَانُهُ دَيْنٌ عَلَيْهِ ، وَلِلْغَاصِبِ عَلَى صَاحِبِ الثَّوْبِ قِيمَةُ الصَّبْغِ إذَا أَخَذَ الثَّوْبَ ، فَهَذَا الرَّجُلُ وَجَدَ مَدْيُونَ مَدْيُونِهِ ، فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهِ حَتَّى يَحْضُرَ خَصْمُهُ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ إذَا أَخَذَ الثَّوْبَ ضَمِنَ لَهُ مَا زَادَ الصَّبْغُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ عَيْنَ مَالِهِ قَدْ احْتَبَسَ عِنْدَهُ ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْ جِهَتِهِ صَبْغٌ فِيهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ انْصَبَغَ ثَوْبُ إنْسَانٍ بِصَبْغِ إنْسَانٍ ؛ وَلِهَذَا نُوجِبُ السِّعَايَةَ فِي الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ يَعْتِقُهُ أَحَدُهُمَا ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الشَّرِيكِ قَدْ احْتَبَسَ عِنْدَ الْعَبْدِ ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ صَبْغٌ فِي ذَلِكَ ، وَإِنْ شَاءَ صَاحِبُ الثَّوْبِ بَاعَهُ فَضَرَبَ هُوَ فِي الثَّمَنِ بِقِيمَةِ ثَوْبِهِ أَبْيَضَ ، وَصَاحِبُ الصَّبْغِ بِقِيمَةِ الصَّبْغِ كَمَا لَوْ صَبَغَهُ الْغَاصِبُ بِصِبْغِ نَفْسِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا .
فَإِنْ غَصَبَ مِنْ وَاحِدٍ حِنْطَةً ، وَمِنْ آخَرَ شَعِيرًا فَخَلَطَهُمَا ضَمِنَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا غَصَبَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْوُصُولُ إلَى عَيْنِ مِلْكِهِ ، فَإِنَّ تَمْيِيزَ الْحِنْطَةِ مِنْ الشَّعِيرِ مُتَعَسِّرٌ ، وَالْمُتَعَسِّرُ كَالْمُتَعَذِّرِ ، وَالْمُتَعَذِّرُ كَالْمُمْتَنِعِ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الْكِتَابِ حُكْمَ الْمَخْلُوطِ ، فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْمَخْلُوطُ يَصِيرُ مِلْكًا لِلْخَالِطِ سَوَاءٌ خَلَطَ الْحِنْطَةَ بِالْحِنْطَةِ أَوْ بِالشَّعِيرِ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَهُمَا الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَخَذَا الْمَخْلُوطَ فَكَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا بِقَدْرِ مِلْكِهِمَا ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَا الْمَخْلُوطَ ، وَضَمَّنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْخَالِطَ مِثْلَ مَالِهِ ؛ لِأَنَّ عَيْنَ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَاقٍ ، أَمَّا فِي الْخَلْطِ بِالْجِنْسِ فَلِأَنَّ الشَّيْءَ يَتَكَثَّرُ بِجِنْسِهِ ، وَكَذَلِكَ فِي الْخَلْطِ بِغَيْرِ الْجِنْسِ إذَا كَانَ بِحَيْثُ يَتَأَتَّى التَّمْيِيزُ فِي الْجُمْلَةِ إلَّا أَنَّهُ تَعَيَّبَ مِلْكُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَيْبِ الشَّرِكَةِ ؛ فَلِهَذَا

يَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّ التَّضْمِينِ إنْ شَاءَ ، وَإِنْ شَاءَ اعْتَبَرَ بَقَاءَ عَيْنِ الْمِلْكِ حَقِيقَةً فَيَخْتَارُ الشَّرِكَةَ فِي الْمَخْلُوطِ ، وَهُوَ نَظِيرُ غَاصِبِ الثَّوْبِ إذَا صَبَغَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ : بِالْخَلْطِ صَارَ مِلْكُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَهْلَكًا حُكْمًا ؛ لِأَنَّ الْمَخْلُوطَ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ شَيْءٌ آخَرُ سِوَى مَا كَانَ قَبْلَ الْخَلْطِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُبَدِّلُ اسْمَ الْعَيْنِ ، فَقَبْلَ ذَلِكَ كَانَ يُسَمَّى قَفِيزًا ، وَالْآنَ يُسَمَّى كُرًّا ، وَالْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ فِي حُكْمِ شَيْءٍ وَاحِدٍ ؛ وَلِهَذَا لَوْ وَجَدَ بِبَعْضِهِ عَيْبًا لَمْ يَرُدَّ بِالْعَيْبِ خَاصَّةً ، وَالْبَعْضُ مِنْ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ غَيْرُ كُلِّهِ ، فَعَرَفْنَا أَنَّ هَذَا الْمَخْلُوطَ حَادِثٌ بِفِعْلِ الْغَاصِبِ حُكْمًا فَيَكُونُ مَمْلُوكًا لَهُ ، وَمِنْ ضَرُورَتِهِ صَيْرُورَةُ مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَهْلَكًا حُكْمًا ؛ وَلِهَذَا ثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّ التَّضْمِينِ مَعَ إمْكَانِ التَّمْيِيزِ فِي الْجُمْلَةِ ، بِخِلَافِ الثَّوْبِ مَعَ الصَّبْغِ ، وَإِذَا صَارَ مِلْكُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُسْتَهْلَكًا تَقَرَّرَ الضَّمَانُ عَلَى الْغَاصِبِ ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْمِلْكَ لَهُ فِي الْمَضْمُونِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا حَصَلَ الِاخْتِلَاطُ مِنْ غَيْرِ صُنْعِ أَحَدٍ ، فَإِنَّ الْمَخْلُوطَ هُنَاكَ أَيْضًا هَالِكٌ إلَّا أَنَّهُ لَا ضَامِنَ لَهُ فَيَكُونُ لِأَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِ ، وَهُمَا الْمَالِكَانِ قَبْلَ الْخَلْطِ ، وَلِأَنَّ الْحُكْمَ يُضَافُ إلَى الْمَحَلِّ عِنْدَ تَعَذُّرِ إضَافَتِهِ إلَى السَّبَبِ ، وَلِأَنَّ الْمَحَلَّ بِمَعْنَى الشَّرْطِ ، وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى الشَّرْطِ وُجُودًا عِنْدَهُ كَمَا يُضَافُ إلَى السَّبَبِ ثُبُوتًا بِهِ ، فَإِذَا كَانَ الْخَلْطُ بِفِعْلِ آدَمِيٍّ ، وَهُوَ سَبَبٌ صَالِحٌ لِإِضَافَةِ الْمِلْكِ إلَيْهِ فِي الْمَخْلُوطِ يَصِيرُ مُضَافًا إلَيْهِ ، وَعِنْدَ انْعِدَامِ الْفِعْلِ يَكُونُ مُضَافًا إلَى الْمَحِلِّ فَلِهَذَا كَانَ الْمَخْلُوطُ لَهُمَا .
وَلَوْ غَصَبَ مِنْ آخَرَ كَتَّانًا فَغَزَلَهُ وَنَسَجَهُ فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ أَوْ

قِيمَتُهُ إنْ كَانَ لَا يُوجَدُ مِثْلُهُ ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الثَّوْبِ ، وَكَذَلِكَ إنْ غَصَبَ قُطْنًا فَغَزَلَهُ ، وَنَسَجَهُ أَوْ غَصَبَ غَزْلًا فَنَسَجَهُ ، وَهَذَا عِنْدَنَا ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلِصَاحِبِ الْكَتَّانِ وَالْقُطْنِ الْخِيَارُ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا فِي الْحِنْطَةِ إذَا طَحَنَهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ فِي الْمَعْنَى ، فَإِنَّ هُنَاكَ الْغَاصِبَ فَرَّقَ الْأَجْزَاءَ الْمُجْتَمِعَةَ بِالطَّحْنِ ، وَهُنَا جَمَعَ الْأَجْزَاءَ الْمُتَفَرِّقَةَ بِالنَّسْجِ ، فَكَمَا لَا تُبَدَّلُ الْعَيْنُ بِتَفْرِيقِ الْمُجْتَمِعِ فَكَذَلِكَ لَا تَتَبَدَّلُ بِجَمْعِ الْمُتَفَرِّقِ ، وَهُوَ كَمَا غَزَلَ الْقُطْنَ وَلَمْ يَنْسِجْهُ ، فَإِنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ صَاحِبِ الْقُطْنِ ، وَلَكِنْ يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : الثَّوْبُ غَيْرُ الْغَزْلِ وَالْقُطْنِ صُورَةً وَمَعْنًى .
أَمَّا الصُّورَةُ فَالْغَزْلُ خَيْطٌ مَمْدُودٌ ، وَالثَّوْبُ مُؤَلَّفٌ مُرَكَّبٌ لَهُ طُولٌ وَعَرْضٌ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْمُغَايَرَةِ تَبَدُّلُ الِاسْمِ ، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَالْحُكْمُ الْغَزْلُ وَالْقُطْنُ مَوْزُونٌ ، وَهُوَ مَالُ الرِّبَا ، وَالثَّوْبُ مَذْرُوعٌ لَيْسَ بِمَالِ الرِّبَا ، وَبَعْدَ النَّسْجِ لَا يُتَصَوَّرُ إعَادَتُهُ إلَى الْحَالَةِ الْأُولَى ، فَإِذَا ثَبَتَتْ الْمُغَايَرَةُ بَيْنَهُمَا فَمِنْ ضَرُورَةِ حُدُوثِ الثَّانِي انْعِدَامُ الْأَوَّلِ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ الْوَاحِدُ شَيْئَيْنِ ، ثُمَّ هَذَا حَادِثٌ بِعَمَلِ الْغَاصِبِ فَكَانَ مَمْلُوكًا لَهُ ، وَالْأَوَّلُ صَارَ مُسْتَهْلَكًا بِعَمَلِهِ فَصَارَ ضَامِنًا لَهُ ، فَأَمَّا الْقُطْنُ إذَا غَزَلَهُ فَالصَّحِيحُ مِنْ الْجَوَابِ أَنَّهُ يَنْقَطِعُ حَقُّ الْمَالِكِ أَيْضًا ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى حَيْثُ سَوَّى بَيْنَ الْقُطْنِ إذَا غَزَلَهُ ، وَبَيْنَ الْغَزْلِ إذَا نَسَجَهُ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ : الْقُطْنُ غَزْلٌ ؛ لِأَنَّهُ خُيُوطٌ رَقِيقَةٌ يَبْدُو ذَلِكَ لِمَنْ أَمْعَنَ النَّظَرَ فِيهِ ،

وَيَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الْإِبْرَيْسَمِ ، فَالْغَزْلُ إحْدَاثُ الْمُجَاوَرَةِ بَيْنَهُمَا ، وَلَيْسَ بِتَرْكِيبٍ وَتَأْلِيفٍ ، وَبِإِحْدَاثِ الْمُجَاوَرَةِ لَا تَتَبَدَّلُ الْعَيْنُ ؛ وَلِهَذَا بَقِيَ مَوْزُونًا يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا كَمَا كَانَ قَبْلَهُ بِخِلَافِ الْغَزْلِ إذَا نَسَجَهُ .

وَلَوْ غَصَبَ سَاجَةً فَجَعَلَهَا بَابًا أَوْ حَدِيدًا فَجَعَلَهُ سَيْفًا ضَمِنَ قِيمَةَ الْحَدِيدِ وَالسَّاجَةِ ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ لِلْغَاصِبِ عِنْدَنَا .
وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ سَاجَةً أَوْ خَشَبَةً ، وَأَدْخَلَهَا فِي بِنَائِهِ أَوْ آجُرًّا فَأَدْخَلَهُ فِي بِنَائِهِ أَوْ جِصًّا فَبَنَى بِهِ فَعَلَيْهِ فِي كُلِّ ذَلِكَ قِيمَتُهُ عِنْدَنَا ، وَلَيْسَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ نَقْضُ بِنَائِهِ ، وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْفُصُولِ لَا يَنْقَطِعُ حَقُّ صَاحِبِهَا فَزُفَرُ مَعَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي هَذَا النَّوْعِ ؛ لِأَنَّ الْحَادِثَ زِيَادَةُ وَصْفٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ مُسْتَهْلَكًا ، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ .
وَبَيَانُ هَذَا مَا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ إذَا اشْتَرَى حِنْطَةً فَطَحَنَهَا أَوْ غَزْلًا فَنَسَجَهُ ، ثُمَّ زَادَ الْبَائِعُ فِي الثَّمَنِ لَمْ يَجُزْ ، وَلَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَقَطَعَهُ وَخَاطَهُ ، ثُمَّ زَادَ فِي الثَّمَنِ يَجُوزُ ، فَوَجْهُ قَوْلِهِمْ فِي ذَلِكَ أَنَّ الْغَاصِبَ قَادِرٌ عَلَى رَدِّ عَيْنِ الْمَغْصُوبِ مِنْ غَيْرِ إيلَامِ حَيَوَانٍ ، فَيَجِبُ رَدُّهُ كَالسَّاجَةِ إذَا بَنَى عَلَيْهَا ، وَتَأْثِيرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْعَيْنَ بَاقٍ ، وَالرَّدُّ جَائِزٌ شَرْعًا ، فَإِنَّ بِالِاتِّفَاقِ لَوْ رَدَّهُ الْغَاصِبُ جَازَ ، وَلَوْ صَبَرَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ حَتَّى نَقَضَ الْغَاصِبُ الْبِنَاءَ وَالْخِيَاطَةَ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ ، فَدَلَّ أَنَّ الْعَيْنَ بَاقٍ ، وَرَدُّهُ عَيْنَ الْمَغْصُوبِ مُسْتَحَقٌّ شَرْعًا ، فَمَا دَامَ الرَّدُّ جَائِزًا يَبْقَى ذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقُ بِحَالِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا غَصَبَ خَيْطًا ، وَخَاطَ بِهِ بَطْنَ نَفْسِهِ أَوْ بَطْنَ عَبْدِهِ أَوْ لَوْحًا ، وَأَصْلَحَ بِهِ سَفِينَةً ، وَالسَّفِينَةُ فِي لُجَّةِ الْبَحْرِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ رَدُّهُ لِمَا فِيهِ مِنْ إيلَامِ الْحَيَوَانِ وَنَقْضِ الْبِنْيَةِ ، وَذَلِكَ مُحَرَّمٌ شَرْعًا ، وَمِنْ ضَرُورَةِ عَدَمِ جَوَازِ الرَّدِّ انْعِدَامُ اسْتِحْقَاقِ الرَّدِّ شَرْعًا .
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْعَيْنَ مِلْكُ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ ، وَمَا اتَّصَلَ بِهِ مِنْ الْوَصْفِ

مُتَقَوِّمٌ حَقًّا لِلْغَاصِبِ ، وَسَبَبُ ظُلْمِهِ لَا يُسْقِطُ قِيمَةَ مَا كَانَ مُتَقَوِّمًا مِنْ حَقِّهِ كَمَا فِي الثَّوْبِ إذَا صَبَغَهُ بِصِبْغِ نَفْسِهِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ الصِّبْغَ مُتَقَوِّمٌ بِنَفْسِهِ فَيُمْكِنُ إبْقَاءُ حَقِّ صَاحِبِ الثَّوْبِ فِي الثَّوْبِ مَعَ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْغَاصِبِ بِإِيجَابِ قِيمَةِ الصِّبْغِ لَهُ ، وَهَذَا الْوَصْفُ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ بِنَفْسِهِ مَقْصُودًا ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ وَاجِبٌ فَيَتَعَيَّنُ دَفْعُ الضَّرَرِ هُنَا بِإِيجَابِ الْمَغْصُوبِ حَقًّا لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ لِيَتَوَصَّلَ هُوَ إلَى مَالِيَّةِ مِلْكِهِ ، وَيَبْقَى حَقُّ صَاحِبِ الْوَصْفِ فِي الْوَصْفِ مَرْعِيًا ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِأَحَدِهِمَا إلَّا أَنَّ فِي الْإِضْرَارِ بِالْغَاصِبِ إهْدَارُ حَقِّهِ ، وَفِي قَطْعِ حَقِّ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِضَمَانِ الْقِيمَةِ تَوْفِيرُ الْمَالِيَّةِ عَلَيْهِ لَا إهْدَارُ حَقِّهِ ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ وَاجِبٌ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ ، وَضَرَرُ النَّقْلِ دُونَ ضَرَرِ الْإِبْطَالِ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَسْأَلَةِ الْخَيْطِ وَاللَّوْحِ ؛ وَلِهَذَا جَوَّزْنَا الرَّدَّ هَهُنَا ؛ لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْغَاصِبِ ، فَإِذَا رَضِيَ فَقَدْ الْتَزَمَ الضَّرَرَ ، ( فَإِنْ قِيلَ : ) صَاحِبُ الثَّوْبِ صَاحِبُ أَصْلٍ ، وَالْغَاصِبُ صَاحِبُ وَصْفٍ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مُرَاعَاةَ حَقِّ صَاحِبِ الْأَصْلِ أَوْلَى ، وَلَمْ يَجُزْ لِحَقِّ صَاحِبِ الْوَصْفِ وَهُوَ جَانٍ .
( قُلْنَا : ) لِأَنَّ هَذَا الْوَصْفَ قَائِمٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَالْأَصْلُ قَائِمٌ مِنْ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ كَانَ مِلْكًا لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ مَقْصُودًا ، وَالْآنَ صَارَ تَبَعًا لِمِلْكِ غَيْرِهِ ، وَالتَّبَعُ غَيْرُ الْأَصْلِ ؛ وَلِهَذَا صَارَ بِحَيْثُ يُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ بَعْدَ أَنْ كَانَ مَنْقُولًا لَا يُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ ، وَانْعَدَمَ مِنْهُ سَائِرُ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ سِوَى هَذَا ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ قَائِمٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ، وَالْقَائِمُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ يَتَرَجَّحُ عَلَى مَا هُوَ قَائِمٌ مِنْ وَجْهٍ مُسْتَهْلَكٍ مِنْ وَجْه ، وَإِنَّمَا يَتَرَجَّحُ الْأَصْلُ إذَا كَانَ قَائِمًا مِنْ

كُلِّ وَجْهٍ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ السَّاجَةِ ، فَإِنَّهَا قَائِمَةٌ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ صَالِحَةٌ لِمَا كَانَتْ صَالِحَةً لَهُ قَبْلَ الْبِنَاءِ تُسْتَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ كَمَا كَانَ مِنْ قَبْلُ ؛ فَلِهَذَا رَجَّحْنَا هُنَاكَ اعْتِبَارَ حَقِّ صَاحِبِ السَّاجَةِ .
وَلَا يَدْخُلُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا إذَا غَصَبَ ثَوْبًا فَقَصَّرَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْغَاصِبِ فِي الثَّوْبِ وَصْفٌ قَائِمٌ مُتَقَوِّمٌ ، وَالْقِصَارَةُ تُزِيلُ الدَّرَنَ وَالْوَسَخَ عَنْ الثَّوْبِ ، ثُمَّ لَوْنُ الْبَيَاضِ وَصْفٌ أَصْلِيٌّ لِلْقُطْنِ .
وَلَا يُقَالُ : أَلَيْسَ أَنَّ الْقَصَّارَ يُحْبَسُ بِالْأَجْرِ .
؟ ( قُلْنَا : ) نَعَمْ ، وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ أَثَرِ عَمَلِهِ فِي الْمَعْمُولِ لَا بِاعْتِبَارِ قِيَامِ الْوَصْفِ فِي الْعَمَلِ لِلْمَعْمُولِ بِعَمَلِهِ ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ فِي مَسْأَلَةِ السَّاجَةِ أَنَّ مَوْضِعَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا أَدْخَلَ السَّاجَةَ فِي بِنَائِهِ بِأَنْ بَنَى حَوْلَهَا لَا عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا بِالْبِنَاءِ فِي مِلْكِهِ ، فَأَمَّا إذَا بَنَى عَلَى السَّاجَةِ فَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا الْبِنَاءِ ، وَالسَّاجَةُ مِنْ وَجْهٍ كَالْأَصْلِ لِهَذَا الْبِنَاءِ فَيُهْدَمُ لِلرَّدِّ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ السَّاجَةِ ، وَلَكِنْ هَذَا ضَعِيفٌ فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الصَّرْفِ أَنَّهُ لَوْ غَصَبَ بَقَرَةً ، وَاِتَّخَذَ مِنْهَا عُرْوَةً مُزَادَةً انْقَطَعَ حَقُّ الْمَالِكِ عَنْهَا ، وَهُوَ فِي الْعَمَلِ هُنَا مُتَعَدٍّ ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ فَدَلَّ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ عَمَلُهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ أَوْ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ ، وَإِنَّ الصَّحِيحَ مَا قُلْنَا .

وَإِنْ غَصَبَ حِنْطَةً فَزَرَعَهَا ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهَا وَقَدْ أَدْرَكَ الزَّرْعُ أَوْ هُوَ بَقْلٌ فَعَلَيْهِ حِنْطَةٌ مِثْلُ حِنْطَتِهِ ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَى الزَّرْعِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الزَّرْعُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ مِلْكِهِ ، وَالْمُتَوَلِّدُ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ كَوَلَدِ الْجَارِيَةِ وَثَمَرَةِ الشَّجَرَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ فِعْلَ الزَّارِعِ حَرَكَاتُهُ ، وَالْأَجْسَامُ لَا تَتَوَلَّدُ مِنْ الْحَرَكَاتِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ التَّوَلُّدَ مِنْ الْأَصْلِ أَنَّ بِصِفَةِ الْأَصْلِ يَخْتَلِفُ الزَّرْعُ مَعَ اتِّحَادِ عَمَلِ الزَّارِعِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ بِغَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ بِأَنْ هَبَّتْ الرِّيحُ بِحِنْطَةِ إنْسَانٍ ، وَأَلْقَتْهُ فِي أَرْضِ الْغَيْرِ فَيَنْبُتُ كَانَ الزَّرْعُ لِصَاحِبِ الْحِنْطَةِ .
( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ أَنَّ الزَّرْعَ غَيْرُ الْحِنْطَةِ ؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ مَطْعُومُ بَنِي آدَمَ ، وَالزَّرْعَ بَقْلٌ هُوَ عَلَفُ الدَّوَابِّ ، وَهَذَا الزَّرْعُ حَادِثٌ ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَفْسُدْ الْحَبُّ فِي الْأَرْضِ لَا يَنْبُتُ الزَّرْعُ ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ حَادِثًا بِأَصْلِ الْحِنْطَةِ أَوْ بِقُوَّةِ الْأَرْضِ وَالْهَوَاءِ أَوْ بِعَمَلِ الزَّارِعِ ، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ حِنْطَةً لَيْسَ بِعِلَّةٍ لِبَقَائِهَا كَذَلِكَ حِنْطَةً فَكَيْفَ تَكُونُ عِلَّةً لِحُدُوثِ شَيْءٍ آخَرَ .
وَقُوَّةُ الْأَرْضِ وَالْهَوَاءِ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمَا مُسَخَّرَانِ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى لَا اخْتِيَارَ لَهُمَا ، فَلَا يَصْلُحُ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَيْهِمَا بِنَفْيِ عَمَلِ الزَّارِعِ ، وَهُوَ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ ؛ لِأَنَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَ الْبَذْرِ وَقُوَّةِ الْأَرْضِ وَالْهَوَاءِ بِعَمَلِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يُضَافُ الْحُكْمُ إلَى الشَّرْطِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْإِضَافَةِ إلَى الْعِلَّةِ كَمَا أَنَّ الْوَاقِعَ فِي الْبِئْرِ يُضَافُ هَلَاكُهُ إلَى الْحَافِرِ ، وَعَمَلُهُ فِي الشَّرْطِ ، وَلَكِنْ مَا كَانَ عِلَّةً ، وَهُوَ تَعِلَّةٌ ، وَمُشَبَّهٌ بِغَيْرِ عِلَّةٍ لَا يَصْلُحُ عَمَلُهُ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ ، فَيَكُونُ

مُضَافًا إلَى الشَّرْطِ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مُضَافٌ إلَى عَمَلِ الزَّارِعِ كَانَ هُوَ مُكْتَسِبًا لِلزَّارِعِ ، وَالْكَسْبُ مِلْكٌ لِلْمُكْتَسِبِ ، وَعَلَيْهِ ضَمَانُ مَا صَارَ مُسْتَهْلَكًا بِعَمَلِهِ ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُهُ .
وَلَكِنَّا نَقُولُ : دَخَلَ فِي كَسْبِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ اسْتَعْمَلَ فِي الِاكْتِسَابِ مِلْكَ الْغَيْرِ ، وَلِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ هَذَا مُتَوَلِّدٌ مِنْ ذَلِكَ الْأَصْلِ كَمَا قَالَهُ الْخَصْمُ ، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى وَالْحُكْمِ غَيْرُهُ فَلِاعْتِبَارِ الصُّورَةِ قُلْنَا : لَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ احْتِيَاطًا ، وَعَلَى هَذَا لَوْ غَصَبَ نَوَاةً فَأَنْبَتَهَا أَوْ تَالَّةً فَغَرَسَهَا إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ فِي التَّالَّةِ : لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا حَتَّى يُؤَدِّيَ الضَّمَانَ ، وَفِي الزَّرْعِ وَالنَّوَاةِ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْبَذْرَ وَالنَّوَاةَ تَفْسُدُ فِي الْأَرْضِ ، فَكَانَ الزَّرْعُ وَالشَّجَرَةُ كَسْبَ الْغَاصِبِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، فَيَجُوزُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ قَبْلَ أَدَاءِ الضَّمَانِ الْمُسْتَهْلَكِ ، وَأَمَّا التَّالَّةُ فَلَا تَفْسُدُ ، وَلَكِنَّهَا تَنْمُو ، وَإِنَّمَا جَعَلْنَا الشَّجَرَةَ غَيْرَ التَّالَّةِ مِنْ حَيْثُ الْحُكْمُ ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا قَبْلَ أَدَاءِ الضَّمَانِ كَمَا فِي الْحِنْطَةِ إذَا طَحَنَهَا .
وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْجَوَابُ فِي الْفَصْلَيْنِ سَوَاءٌ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ غَصَبَ بَيْضَةً وَحَضَّنَهَا تَحْتَ دَجَاجَةٍ لَهُ حَتَّى أَفْرَخَتْ ، فَهَذَا وَمَسْأَلَةُ الزَّرْعِ سَوَاءٌ ، وَالْمُغَايَرَةُ بَيْنَ الْفَرْخِ وَالْبَيْضَةِ لَا تُشْكِلُ عَلَى أَحَدٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا حَيَوَانٌ ، وَذَلِكَ مَوَاتٌ ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ هَذَا إذَا غَصَبَ شَجَرَةً وَقَلَعَهَا وَكَسَرَهَا ؛ لِأَنَّ الْقَلْعَ نُقْصَانٌ مَحْضٌ لَا يَتَبَدَّلُ بِهِ اسْمُ الْعَيْنِ ، ثُمَّ الْكَسْرُ تَحْقِيقُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالشَّجَرَةِ بَعْدَ

الْقَلْعِ ، وَهُوَ الْحَطَبُ فَهُوَ كَمَسْأَلَةِ الشَّاةِ إذَا ذَبَحَهَا وَسَلَخَهَا .

( مُسْلِمٌ ) غَصَبَ خَمْرًا مِنْ مُسْلِمٍ فَاسْتَهْلَكَهَا ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ ، فَإِنَّ الشَّرْعَ أَفْسَدَ تَقَوُّمَهُ حِينَ حَرَّمَ تَمَوُّلَهُ ، وَإِنْ جَعَلَهَا خَلًّا فَلِرَبِّ الْخَمْرِ أَنْ يَأْخُذَهَا ؛ لِأَنَّ بِفَسَادِ مَعْنَى التَّمَوُّلِ وَالتَّقَوُّمِ لَا تَخْرُجُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةً لِلْمُسْلِمِ ، إذْ الْمِلْكُ صِفَةٌ لِلْعَيْنِ ، وَالْعَيْنُ بَاقِيَةٌ ؛ وَلِهَذَا جَازَ لَهُ إمْسَاكُ الْخَمْرِ لِلتَّخَلُّلِ ، وَكَانَ أَحَقَّ بِهَا مِنْ غَيْرِهَا ، فَإِنْ خَلَّلَهَا الْغَاصِبُ مِنْ غَيْرِ إلْقَاءِ شَيْءٍ فِيهَا فَالْعَيْنُ بَاقِيَةٌ عَلَى حَالِهَا لِبَقَاءِ الْهَيْئَةِ كَمَا كَانَتْ ، وَإِنْ أَلْقَى فِيهَا مِلْحًا فَالْمِلْحُ صَارَ مُسْتَهْلَكًا أَيْضًا ، وَإِنْ صَبَّ فِيهَا خَلًّا فَهَذَا خَلْطٌ إلَّا أَنَّ الْخَلْطَ إنَّمَا يُزِيدُ مِلْكَ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ بِشَرْطِ الضَّمَانِ ، وَإِيجَابُ الضَّمَانِ هُنَا مُتَعَذِّرٌ ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ لَا يُضْمَنُ لِلْمُسْلِمِ بِالِاسْتِهْلَاكِ ؛ فَلِهَذَا كَانَ شَرِيكًا فِي الْمَخْلُوطِ بِقَدْرِ مِلْكِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ جِلْدَ مَيْتَةٍ فَدَبَغَهُ قَالُوا هَذَا عَلَى وَجْهَيْنِ : أَمَّا إذَا أَلْقَى الْجِلْدَ صَاحِبُهُ فَأَخَذَهُ إنْسَانٌ ، وَدَبَغَهُ فَهُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا أَلْقَاهُ تَارِكًا لَهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يُلْقِي النَّوَى وَقُشُورَ الرُّمَّانِ فَيَجْمَعُ ذَلِكَ إنْسَانٌ وَيَنْتَفِعُ بِهِ ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُبَاحًا لَهُ ، وَأَمَّا إذَا غَصَبَ الْجِلْدَ مِنْ صَاحِبِهِ ، وَدَبَغَهُ بِشَيْءٍ لَا قِيمَةَ لَهُ كَالتُّرَابِ وَالشَّمْسِ فَصَاحِبُهُ أَحَقُّ بِهِ ، وَيَأْخُذُهُ ، وَلَا يُعْطِي الْغَاصِبَ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ بَاقٍ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَلَمْ يُحْدِثْ الْغَاصِبُ فِيهِ زِيَادَةَ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ صَنْعَتَهُ إنَّمَا تُعْتَبَرُ إذَا أَمْكَنَ تَحْوِيلُ حَقِّ صَاحِبِ الْأَصْلِ إلَى الضَّمَانِ ، وَهَذَا غَيْرُ مُمْكِنٍ هُنَا ؛ لِأَنَّ جِلْدَ الْمَيْتَةِ لَا يُضْمَنُ بِالِاسْتِهْلَاكِ .
وَأَمَّا إذَا دَبَغَهُ بِشَيْءٍ لَهُ قِيمَةٌ كَالشَّبِّ وَالْقَرَظِ وَالْعَفْصِ ، وَمَا أَشْبَهَ

ذَلِكَ فَلِصَاحِبِ الْجِلْدِ أَنْ يَأْخُذَ جِلْدَهُ وَيَضْمَنَ مَا زَادَ الدَّبَّاغُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ مَالٍ قَائِمٍ لِلْغَاصِبِ بِمَنْزِلَةِ الصَّبْغِ فِي الثَّوْبِ ، وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَدَعَ الْجِلْدَ ، وَيُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ هُنَا ، بِخِلَافِ الثَّوْبِ ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ بِدُونِ الصَّبْغِ كَانَ مَالًا مُتَقَوِّمًا ، وَالْجِلْدُ قَبْلَ الدِّبَاغِ لَمْ يَكُنْ مَالًا مُتَقَوِّمًا ، حَتَّى ذَكَرَ فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ لَوْ غَصَبَهُ جِلْدًا ذَكِيًّا فَدَبَغَهُ بِشَيْءٍ لَهُ قِيمَةٌ ، فَإِنْ شَاءَ صَاحِبُ الْجِلْدِ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الْجِلْدِ غَيْرَ مَدْبُوغٍ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُ وَأَعْطَاهُ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْجِلْدَ الذَّكِيَّ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ قَبْلَ الدِّبَاغِ ، فَهُوَ وَمَسْأَلَةُ الثَّوْبِ سَوَاءٌ .
وَإِنْ غَصَبَهُ عَصِيرًا فَصَارَ عِنْدَهُ خَمْرًا فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَةَ الْعَصِيرِ ؛ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ كَانَ مَالًا مُتَقَوِّمًا ، وَبِالتَّخْمِيرِ يَصِيرُ هَذَا الْوَصْفُ مِنْهُ مُسْتَهْلَكًا .
وَمُرَادُهُ مِنْ قَوْلِهِ : يُضَمِّنُهُ قِيمَةَ الْعَصِيرِ أَنَّ الْخُصُومَةَ بَعْدَ انْقِطَاعِ أَوَانِ الْعَصِيرِ ، فَأَمَّا فِي أَوَانِهِ يُضَمِّنُهُ مِثْلَهُ ؛ لِأَنَّ الْعَصِيرَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ حَتَّى صَارَتْ خَلًّا ، فَإِنْ شَاءَ أَخَذَ الْخَلَّ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ قِيمَةَ الْعَصِيرِ ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ بَاقٍ بِبَقَاءِ الْهَيْئَةِ ، وَلَكِنَّهُ تَغَيَّرَ مِنْ صِفَةِ الْحَلَاوَةِ إلَى صِفَةِ الْحُمُوضَةِ .
فَإِنْ شَاءَ رَضِيَ بِهِ مُتَغَيِّرًا ، وَلَا يُضَمِّنُهُ شَيْئًا آخَرَ ؛ لِأَنَّ الْعَصِيرَ مَالُ الرِّبَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِيهِ حَقُّ تَضْمِينِ النُّقْصَانِ مَعَ أَخْذِ الْعَيْنِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا الْخِيَارَ قَبْلَ التَّخَلُّلِ ، فَمِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ يَقُولُ لَا خِيَارَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ هُنَاكَ لَكَانَ أَخْذُ الْخَمْرِ عِوَضًا عَمَّا اسْتَوْجَبَ مِنْ قِيمَةِ الْعَصِيرِ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ هُنَاكَ يَثْبُتُ الْخِيَارُ أَيْضًا بِطَرِيقِ أَنَّهُ يَكُونُ مُبْرِئًا عَنْ

الضَّمَانِ ، ثُمَّ يَأْخُذُ خَمْرَهُ لِيُخَلِّلَهُ كَمَا لَوْ كَانَ الْعَصِيرُ وَدِيعَةً لَهُ فِي يَدِهِ فَتَخَمَّرَ .

( رَجُلٌ ) لَهُ حِنْطَةٌ عِنْدَ رَجُلٍ وَشَعِيرٌ لِآخَرَ عِنْدَ ذَلِكَ الرَّجُلِ أَيْضًا وَدِيعَةً فَخَلَطَهُمَا مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، وَلَا يَعْرِفُ .
قَالَ : يُبَاعَانِ ، ثُمَّ يُقَسَّمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ ، وَهَذَا عِنْدَهُمَا وَهُوَ الِاسْتِحْسَانِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا ، فَأَمَّا فِي الْقِيَاسِ عَلَى قَوْلِهِ الْمَخْلُوطُ صَارَ مَمْلُوكًا لِلْخَالِطِ ، وَحَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ذِمَّتِهِ ، وَلَا وِلَايَةَ لَهُمَا عَلَيْهِ فِي بَيْعِ مِلْكِهِ لِحَقِّهِمَا ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَخْلُوطَ ، وَإِنْ صَارَ مَمْلُوكًا لِلْخَالِطِ ، وَلَكِنْ لَمْ يَنْقَطِعْ حَقُّهُمَا عَنْهُ بَلْ يَتَوَقَّفُ تَمَامُ انْقِطَاعِ حَقِّهِمَا عَلَى وُصُولِ الْبَدَلِ إلَيْهِمَا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْخَالِطِ الِانْتِفَاعُ بِالْمَخْلُوطِ مَا لَمْ يُؤَدِّ الْبَدَلَ إلَيْهِمَا ، وَإِذَا بَقِيَ حَقُّهُمَا فِيهِ قُلْنَا : يُبَاعُ لِإِيفَاءِ حَقِّهِمَا عِنْدَ تَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الضَّمَانِ مِنْ الْخَالِطِ كَالْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ ، يُبَاعُ فِي الثَّمَنِ إذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الْمُشْتَرِي لِغَيْبَتِهِ ، ثُمَّ يَضْرِبُ صَاحِبُ الْحِنْطَةِ فِي الثَّمَنِ بِقِيمَةِ حِنْطَتِهِ مَخْلُوطًا بِالشَّعِيرِ ، وَصَاحِبُ الشَّعِيرِ يَضْرِبُ بِقِيمَةِ شَعِيرِهِ غَيْرَ مَخْلُوطٍ بِالْحِنْطَةِ ؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ تَنْقُصُ بِالِاخْتِلَاطِ بِالشَّعِيرِ .
وَإِنَّمَا دَخَلَ فِي الْبَيْعِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، فَلَا يَضْرِبُ بِقِيمَتِهَا إلَّا بِالصِّفَةِ الَّتِي دَخَلَتْ فِي الْبَيْعِ ، وَالشَّعِيرُ تَزْدَادُ قِيمَتُهُ بِالِاخْتِلَاطِ بِالْحِنْطَةِ ، وَلَكِنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنْ مَالِ صَاحِبِ الْحِنْطَةِ ، فَلَا يُسْتَحَقُّ الضَّرْبُ بِهَا مَعَهُ ؛ فَلِهَذَا يَضْرِبُ بِقِيمَةِ الشَّعِيرِ غَيْرَ مَخْلُوطٍ .
( قَالَ : ) وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ يَعْنِي إذَا تَحَقَّقَ الْخَلْطُ عَلَى وَجْهٍ يَتَعَسَّرُ مَعَهُ التَّمْيِيزُ أَوْ يَتَعَذَّرُ ، فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي مَبْلَغِ كَيْلِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ ، وَقَدْ بَاعَهُمَا مُجَازَفَةً ، وَاسْتَهْلَكَهُمَا الْمُشْتَرِي ، فَالْقَوْلُ فِي

الْحِنْطَةِ قَوْلُ صَاحِبِ الشَّعِيرِ ، وَفِي الشَّعِيرِ قَوْلُ صَاحِبِ الْحِنْطَةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي زِيَادَةً فِي مِقْدَارِ مِلْكِهِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِيمَا يَدَّعِي لِنَفْسِهِ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْكِرٌ لِلزِّيَادَةِ الَّتِي يَدَّعِيهَا صَاحِبُهُ ، فَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ لِإِنْكَارِهِ ، وَبَعْدَ مَا حَلَفَ يُقَسَّمُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا عَلَى مِقْدَارِ مَا يَزْعُمُ صَاحِبُهُ الْمُنْكِرُ مِنْ مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .

( ثَوْبٌ ) فِي يَدَيْ رَجُلٍ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ثَوْبُهُ غَصَبَهُ إيَّاهُ هَذَا ، وَأَقَامَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ وَهَبَهُ لَهُ ( فَقَالَ : ) أَقْضِي لِلَّذِي هُوَ فِي يَدَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ سَبَبَ الْمِلْكِ الْحَادِثِ لِنَفْسِهِ ، وَصَاحِبُهُ يَنْفِي ذَلِكَ ، وَلِأَنَّا نَجْعَلُ كَأَنَّ الْأَمْرَيْنِ كَانَا ، وَالْهِبَةُ بَعْدَ الْغَصْبِ تَتَحَقَّقُ مُوجِبًا لِلْمِلْكِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْبَيْعِ مِنْهُ بِثَمَنٍ مُسَمَّى أَوْ عَلَى إقْرَارِهِ أَنَّهُ ثَوْبُهُ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ وَالْإِقْرَارَ بِالْمِلْكِ بَعْدَ الْغَصْبِ يَتَحَقَّقُ ، فَتُقْبَلُ الْبَيِّنَتَانِ جَمِيعًا .
( وَإِنْ ) كَانَ فِي أَيْدِيهِمَا جَمِيعًا فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ثَوْبُهُ غَصَبَهُ الْآخَرُ إيَّاهُ قَضَيْتُ بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُثْبِتُ عَلَى صَاحِبِهِ أَنَّهُ غَصَبَ مَا فِي يَدِهِ مِنْهُ ، وَفِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ فَكَانَ بَيِّنَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ ؛ فَلِهَذَا قَضَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالنِّصْفِ الَّذِي فِي يَدِ صَاحِبِهِ .
فَإِنْ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ثَوْبُهُ اسْتَوْدَعَهُ الْمَيِّتَ الَّذِي هَذَا وَارِثُهُ ، وَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ثَوْبُهُ غَصَبَهُ إيَّاهُ الْمَيِّتُ قَضَيْتُ بِهِ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثْبَتَ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ فِي جَمِيعِ الثَّوْبِ أَنَّ وُصُولَهُ إلَى يَدِ الْمَيِّتِ كَانَ مِنْ جِهَتِهِ فَاسْتَوَيَا ، وَلَا تَرَجُّحَ لِمُدَّعِي الْغَصْبِ فِي مَعْنَى الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ لِلْآخَرِ ثَابِتٌ أَيْضًا ، فَإِنَّ الْمُودِعَ إذَا مَاتَ مُجْهِلًا لِلْوَدِيعَةِ يَكُونُ ضَامِنًا ؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ إثْبَاتُ الْمِلْكِ فِي الْعَيْنِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِضَمَانِ الْقِيمَةِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْن ، وَإِنْ جَاءَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى دَرَاهِمَ بِعَيْنِهَا أَنَّهَا مَالُهُ غَصَبَهَا إيَّاهُ الْمَيِّتُ فَهُوَ أَحَقُّ بِهَا مِنْ غُرَمَاءِ الْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بِالْبَيِّنَةِ مِلْكَ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96