كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي

يَكُونُ عِنْدَ الْمُسَاوَاةِ فَعِنْدَ عَدَمِ الْمُسَاوَاةِ جَعَلْنَا النَّسَبَ مِنْ أَقْوَى الْفِرَاشَيْنِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ الْعَبْدُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ هَذِهِ الْأَمَةِ وَهِيَ زَوْجَتُهُ ، وَأَقَامَ الْمَوْلَى الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْهَا فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْعَبْدِ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ إثْبَاتِ النِّكَاحِ ؛ وَلِكَوْنِ فِرَاشِ النِّكَاحِ أَقْوَى مِنْ فِرَاشِ الْمِلْكِ فِي حُكْمِ النَّسَبِ إلَّا أَنَّهُ يُعْتَقُ بِإِقْرَارِ الْمَوْلَى بِحُرِّيَّتِهِ وَتَصِيرُ الْجَارِيَةُ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ قَالَ : وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ ، وَالْمَوْلَى مَيِّتَيْنِ فَأَقَامَ الْغُلَامُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ ابْنُ الْمَوْلَى مِنْ أَمَتِهِ وَهِيَ مَيِّتَةٌ ، وَأَقَامَ وَرَثَةُ الْمَوْلَى الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ ابْنُ الْعَبْدِ مِنْ أَمَةِ الْمَوْلَى زَوَّجَهَا الْمَوْلَى مِنْهُ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي بَيِّنَةِ الْوَرَثَةِ هُنَا إثْبَاتُ النِّكَاحِ فَقَدْ انْقَطَعَ ذَلِكَ بِمَوْتِهِمَا ، وَكَذَلِكَ لَا يُثْبِتُونَ النَّسَبَ لِأَنْفُسِهِمْ إنَّمَا يُثْبِتُونَ لِلْعَبْدِ وَمَقْصُودُهُمْ ذَلِكَ نَفْيُ النَّسَبِ عَنْ الْمَوْلَى وَالْبَيِّنَةُ عَلَى النَّفْيِ لَا تُقْبَلُ وَفِي بَيِّنَةِ الْعَبْدِ إثْبَاتُ النَّسَبِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْمِيرَاثِ فَكَانَ هُوَ أَوْلَى

قَالَ : وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا فَأَقَامَ الْغُلَامُ الْمُحْتَلِمُ بَيِّنَةً أَنَّهُ ابْنُ الْمَيِّتِ مِنْ أَمَتِهِ فُلَانَةَ ، وَلَدَتْهُ فِي مِلْكِهِ ، وَأَقَرَّ بِذَلِكَ ، وَأَقَامَ رَجُلٌ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْغُلَامَ عَبْدُهُ وَأُمُّهُ أَمَتُهُ زَوَّجَهَا مِنْ عَبْدِهِ فُلَانٍ فَوَلَدَتْ هَذَا الْغُلَامَ عَلَى فِرَاشِهِ وَالْعَبْدُ حَيٌّ يَدَّعِي قَضَيْتُ لِلْعَبْدِ بِالنَّسَبِ ، وَقَضَيْتُ بِالْأَمَةِ إنْ كَانَتْ حَيَّةً لِلْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّ فِي الْأَمَةِ الْبَيِّنَتَيْنِ قَامَتَا عَلَى مُطْلَقِ الْمِلْكِ فَبَيِّنَةُ الْخَارِجِ أَوْلَى وَفِي حَقِّ النَّسَبِ الْخَارِجُ وَالْعَبْدُ بَيِّنَتَانِ يُشَبَّهُ بِفِرَاشِ النِّكَاحِ ، وَهُوَ أَنَّهُ إنَّمَا يُثْبِتُ نَسَبَ نَفْسِهِ بِفِرَاشِ الْمِلْكِ ، وَفِرَاشُ النِّكَاحِ أَقْوَى فَلِهَذَا كَانَ الْعَبْدُ بِهِ أَوْلَى ؛ وَلِأَنَّ الْعَبْدَ يُثْبِتُ النِّكَاحَ عَلَى الْأَمَةِ لِنَفْسِهِ بِالْبَيِّنَةِ فَوَجَبَ قَبُولُ بَيِّنَتِهِ عَلَى ذَلِكَ ، وَإِذَا ثَبَتَ النِّكَاحُ كَانَ الْوَلَدُ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مَيِّتًا أُثْبِتَ نَسَبُ الْغُلَامِ مِنْ الْحُرِّ وَهُوَ الْمَيِّتُ الَّذِي أَقَامَ الْغُلَامُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ ابْنُهُ مِنْ أَمَتِهِ هَذِهِ ؛ لِأَنَّ الْخَارِجَ لَيْسَ يُثْبِتُ النَّسَبَ لِنَفْسِهِ إنَّمَا يُثْبِتُ لِلْعَبْدِ وَالِابْنُ يُثْبِتُ حَقَّ نَفْسِهِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي بَيِّنَةِ الْخَارِجِ هُنَا النِّكَاحُ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ مَيِّتٌ وَالنِّكَاحُ بِمَوْتِهِ مُرْتَفِعٌ فَبَقِيَ التَّرْجِيحُ مِنْ حَيْثُ إنَّ فِي أُمِّيَّةِ الْغُلَامِ إثْبَاتَ الْحُرِّيَّةِ وَالْمِيرَاثِ فَهُوَ أَوْلَى بِالْقَبُولِ ، وَكَذَلِكَ حَقُّ الْأَمَةِ تَتَرَجَّحُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ لِلْمُدَّعِي إثْبَاتُ الْمِلْكِ فَقَطْ ، وَفِي هَذِهِ الْبَيِّنَةِ إثْبَاتُ الْحُرِّيَّةِ لَهَا بِجِهَةِ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ فَكَانَ أَوْلَى .

قَالَ : غُلَامٌ وَأَمَةٌ فِي يَدَيْ رَجُلٍ فَأَقَامَ الْحُرُّ الْبَيِّنَةَ أَنَّ هَذِهِ الْأَمَةَ أَمَتُهُ وَلَدَتْ هَذَا الْوَلَدَ مِنْهُ عَلَى فِرَاشِهِ ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا أَمَتُهُ وَلَدَتْ هَذَا الْغُلَامَ عَلَى فِرَاشِهِ فَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ اسْتَوَيَا فِي إثْبَاتِ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ لِلْوَلَدِ وَحَقِّ الْحُرِّيَّةِ لِلْأُمِّ وَفِي مِثْلِهِ تَتَرَجَّحُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ ؛ لِأَنَّ إثْبَاتَ الْوَلَاءِ عَلَيْهَا دُونَ الْمِلْكِ ، وَقَدْ اسْتَوَى الْبَيِّنَتَانِ فِي الْإِثْبَاتِ عَلَيْهَا فَيَتَرَجَّحُ جَانِبُ ذِي الْيَدِ ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْغُلَامُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا مُصَدَّقًا لِذِي الْيَدِ فَإِنْ كَانَ كَبِيرًا يَدَّعِي أَنَّهُ ابْنُ الْآخَرِ فَإِنِّي أَقْضِي بِالْغُلَامِ وَالْأَمَةِ لِلْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ فَإِذَا صَدَّقَ الْمُدَّعِي كَانَ هُوَ كَالْمُقِيمِ لِتِلْكَ الْبَيِّنَةِ فَيَتَرَجَّحُ جَانِبُهُ لِحَقِيقَةِ الْيَدِ ؛ وَلِكَوْنِهِ مُثْبِتًا حَقَّ نَفْسِهِ بِالْبَيِّنَةِ فَإِنَّ النَّسَبَ مِنْ حَقِّهِ

قَالَ حُرَّةٌ لَهَا وَلَدٌ وَهُمَا فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا فَوَلَدَتْ مِنْهُ هَذَا الْغُلَامَ ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ وَالْغُلَامُ يَدَّعِي أَنَّ ذَا الْيَدِ أَبُوهُ فَإِنِّي أَقْضِي بِبَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ أَنَّهُ يَتَرَجَّحُ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ فِي دَعْوَى النِّكَاحِ عَلَيْهَا ، وَفِي دَعْوَى النَّسَبِ يَدَّعِي الْغُلَامُ ؛ لِأَنَّهُ ابْنُهُ ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ فَإِنَّمَا أَثْبَتَ حَقَّ نَفْسِهِ بِتِلْكَ الْبَيِّنَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ ذُو الْيَدِ ذِمِّيًّا ، وَشُهُودُهُ مُسْلِمُونَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَا أَقَامَ مِنْ الْبَيِّنَةِ حُجَّةٌ عَلَى الْخَصْمِ الْمُسْلِمِ ، وَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا فِي وَقْتٍ ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ عَلَى وَقْتٍ دُونَهُ فَإِنِّي أَقْضِي بِهَا لِلْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّ تَارِيخَهُ أَسْبَقُ ، وَقَدْ أَثْبَتَ نِكَاحَهُ فِي ، وَقْتٍ لَا يُنَازِعُهُ الْآخَرُ فَإِنَّمَا أَثْبَتَ الْآخَرُ بَعْدَ ذَلِكَ نِكَاحَ الْمَنْكُوحَةِ ، وَهُوَ بَاطِلٌ .
وَلَوْ أَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ تَزَوَّجَهَا فَوَلَدَتْ هَذَا الْوَلَدَ عَلَى فِرَاشِهِ ، وَأَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا أَمَتُهُ وَلَدَتْ هَذَا الْغُلَامَ عَلَى فِرَاشِهِ مِنْهُ فَإِنِّي أَقْضِي بِهِ لِلزَّوْجِ ، وَأُثْبِتُ نَسَبَهُ مِنْهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فِرَاشَ النِّكَاحِ يَتَرَجَّحُ عَلَى فِرَاشِ الْمِلْكِ فِي حُكْمِ النَّسَبِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْحُرَّ أَثْبَتَ بِبَيِّنَتِهِ مِلْكَ نَفْسِهِ فِي الْمَرْأَةِ ، وَلَيْسَ بِمُقَابَلَتِهِ مَا يُوجِبُ حُرِّيَّتَهَا مِنْ الْحُجَّةِ فَيَقْضِي بِالْأَمَةِ مِلْكًا لِلْمُدَّعِي فَيَكُونُ الْوَلَدُ حُرًّا بِالْقِيمَةِ إنْ شَهِدَ شُهُودُ الزَّوْجِ أَنَّهَا عَرِيَّةٌ مِنْ نَفْسِهَا ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدُوا بِذَلِكَ جَعَلْتُ الْأَمَةَ ، وَابْنَهَا مَمْلُوكَيْنِ لِلْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ فِي الْمِلْكِ وَالْمُوجِبُ لِحُرِّيَّةِ الْوَلَدِ الْغُرُورُ فَإِذَا لَمْ يُثْبِتْ الْغُرُورَ كَانَ مَمْلُوكًا لِلْمُدَّعِي ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِي

أَقَرَّ أَنَّهُ ابْنُهُ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ فَتَكُونُ أُمُّهُ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ ، وَلَا يُقَالُ عِنْدَ إثْبَاتِ الْغُرُورِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَغْرَمَ الزَّوْجُ قِيمَةَ الْوَلَدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ ، وَإِنَّمَا عَتَقَ بِإِقْرَارِ الْمُدَّعِي بِحُرِّيَّتِهِ فَإِنَّ هَذَا يَكُونُ بَعْدَ ثُبُوتِ الرِّقِّ فِيهِ ، وَلَمْ يَثْبُتْ فَإِنَّ وَلَدَ الْمَغْرُورِ يَكُونُ حُرًّا مِنْ الْأَصْلِ فَلِهَذَا كَانَ عَلَى الزَّوْجِ قِيمَةُ الْوَلَدِ لِمَوْلَاهَا .

قَالَ : أَمَةٌ مَعَ وَلَدِهَا فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا أَمَةُ أَبِيهِ وَلَدَتْ هَذَا الْغُلَامَ عَلَى فِرَاشِ أَبِيهِ فِي مِلْكِهِ ، وَأَبُوهُ مَيِّتٌ ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا أَمَتُهُ وَلَدَتْ هَذَا الْوَلَدَ مِنْهُ عَلَى فِرَاشِهِ فِي مِلْكِهِ قَضَيْتُ بِالْوَلَدِ لِلْمَيِّتِ الَّذِي لَيْسَ فِي يَدَيْهِ ؛ لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْبَيِّنَةِ إثْبَاتَ حَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ لَهَا وَفِي بَيِّنَةِ ذِي الْيَدِ إثْبَاتَ رِقِّهَا ؛ لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ لَا تُعْتَقُ إلَّا بِمَوْتِ الْمَوْلَى وَالتَّرْجِيحُ بِالْحُرِّيَّةِ أَقْوَى مِنْ التَّرْجِيحِ بِالْيَدِ فَكَيْفَ يَسْتَقِيمُ أَنْ تَكُونَ أَمَةٌ لِذِي الْيَدِ يَطَؤُهَا بِالْمِلْكِ ، وَقَدْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى حُرِّيَّتِهَا فَلِهَذَا قَضَيْنَا بِوَلَائِهَا لِلْمَيِّتِ ، وَيَكُونُ الْوَلَدُ ثَابِتَ النَّسَبِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ وَارِثَهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي إثْبَاتِ مَا هُوَ مِنْ حَقِّهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ

بَابُ دَعْوَى الْعَتَاقِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَمَةٌ ادَّعَتْ أَنَّهَا وَلَدَتْ مِنْ مَوْلَاهَا ، وَأَقَامَتْ الْبَيِّنَةَ ، وَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْ مَوْلَاهَا آخُذُ بَيِّنَةَ الْوِلَادَةِ ) ؛ لِأَنَّ فِيهِ إثْبَاتَ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ لَهَا ، وَحَقُّ الْحُرِّيَّةِ كَحَقِيقَةِ الْحُرِّيَّةِ فَإِذَا اقْتَرَنَ بِالشِّرَاءِ مَنَعَ صِحَّةَ الشِّرَاءِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي قَدْ قَبَضَهَا فَالْجَوَابُ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ بَيِّنَةَ الْوِلَادَةِ سَابِقَةٌ مَعْنَى فَإِنَّ ثُبُوتَ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ لَهَا مِنْ وَقْتِ الْعُلُوقِ وَذَلِكَ كَانَ سَابِقًا عَلَى الشِّرَاءِ وَالْقَبْضِ ؛ وَلِأَنَّ فِي هَذِهِ الْبَيِّنَةِ زِيَادَةَ إثْبَاتِ نَسَبِ الْوَلَدِ وَحُرِّيَّتِهِ ، وَإِنْ وَقَّتَتْ بَيِّنَةُ الْمُشْتَرِي وَقْتًا لِلشِّرَاءِ قَبْلَ الْحَبَلِ بِثَلَاثِ سِنِينَ أَجَزْتُ الشِّرَاءَ ، وَأَبْطَلْتُ النَّسَبَ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ الْمِلْكُ فِيهَا لِلْمُشْتَرِي مِنْ وَقْتِ الَّذِي أَرَّخَ شُهُودُهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ اسْتَوْلَدَ مَا لَا يَمْلِكُهُ فَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ .
وَكَذَلِكَ الْوَقْتُ فِي الْبَيْعِ وَالْعِتْقِ وَالتَّدْبِيرِ يُؤْخَذُ بِالْوَقْتِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مُزَاحَمَةَ لِلْآخَرِ مَعَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ .

قَالَ وَإِذَا أَقَامَ عَبْدٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّ فُلَانًا أَعْتَقَهُ ، وَفُلَانٌ يُنْكِرُ أَوْ يُقِرُّ ، وَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ قَضَيْتُ بِهِ لِلَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ ؛ لِأَنَّ شُهُودَ الْعَبْدِ مَا شَهِدُوا بِالْمِلْكِ لِلْمُعْتَقِ إنَّمَا شَهِدُوا بِالْعِتْقِ فَقَطْ وَالْعِتْقُ يَتَحَقَّقُ مِنْ الْمَالِكِ ، وَغَيْرِ الْمَالِكِ ، وَلَكِنْ لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ لَا تُعَارِضُ يَدَ ذِي الْيَدِ فَإِنَّ مَنْ ادَّعَى عَبْدًا فِي يَدِ إنْسَانٍ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ لَا يُقْضَى لَهُ بِشَيْءٍ فَلِئَلَّا يَكُونَ مُعَارِضَةً لِبَيِّنَةِ الْمِلْكِ كَانَ أَوْلَى ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ أَعْتَقَهُ ، وَهُوَ فِي يَدَيْهِ إذْ لَيْسَ فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ مَا يُوجِبُ نُفُوذَ الْعِتْقِ ؛ لِأَنَّ نُفُوذَهُ بِمِلْكِ الْمَحَلِّ لَا بِالْيَدِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ أَمْسِ لَمْ تُقْبَلْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَلَوْ شَهِدُوا أَنَّهُ أَعْتَقَهُ وَهُوَ يَمْلِكُهُ يَوْمَئِذٍ أَخَذْتُ بِبَيِّنَةِ الْعِتْقِ ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَتَيْنِ اسْتَوَتَا فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ ، وَفِي أَحَدِهِمَا زِيَادَةُ الْعِتْقِ فَكَانَ أَوْلَى

قَالَ : وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِ رَجُلٍ فَادَّعَى آخَرُ أَنَّهُ لَهُ ، وَأَقَامَ الْعَبْدُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ فُلَانًا كَاتَبَهُ ، وَهُوَ يَمْلِكُهُ ، وَفُلَانٌ جَاحِدٌ لِذَلِكَ أَوْ مُقِرٌّ بِهِ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهِ لِلَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ ؛ لِأَنَّ بَيِّنَتَهُ تُثْبِتُ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ ، وَالْعَبْدُ إنَّمَا يُثْبِتُ الْمِلْكَ لِغَيْرِهِ وَمَنْ يُثْبِتُ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ فَبَيِّنَتُهُ أَوْلَى بِالْقَبُولِ فَإِنْ ( قِيلَ ) الْعَبْدُ يُثْبِتُ حَقَّ الْعِتْقِ لِنَفْسِهِ بِإِثْبَاتِ الْكِتَابَةِ .
( قُلْنَا ) لَا كَذَلِكَ فَعَقْدُ الْكِتَابَةِ عِنْدَنَا لَا يُوجِبُ حَقَّ الْعِتْقِ لِلْمُكَاتَبِ ؛ وَلِهَذَا جَازَ عِتْقُ الْمَكَاتِبِ عَنْ الْكَفَّارَةِ ؛ وَلِهَذَا احْتَمَلَ عَقْدُ الْكِتَابَةِ الْفَسْخَ ، وَإِنَّمَا الثَّابِتُ لِلْمُكَاتَبِ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ مِلْكُ الْيَدِ وَالْبَيِّنَةُ الَّتِي تُثْبِتُ مِلْكَ الْيَدِ لَا تُعَارِضُ الْبَيِّنَةَ الَّتِي تُثْبِتُ مِلْكَ الرَّقَبَةِ .
قَالَ : وَإِنْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ غَصَبَهُ مِنْهُ ذُو الْيَدِ ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ دَبَّرَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ وَهُوَ يَمْلِكُهُ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهِ عَبْدًا لِلْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّ فِي بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي مَا يَدْفَعُ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ وَهُوَ إثْبَاتُ كَوْنِهِ غَاصِبًا لَا مَالِكًا ، وَالْإِعْتَاقُ وَالتَّدْبِيرُ مِنْ الْغَاصِبِ لَا يَكُونُ صَحِيحًا وَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ عَلَى أَصْلِ الْمِلْكِ لَا تَكُونُ مُعَارِضَةً لِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُدَّعِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَارِيَّةٌ لَهُ فِي يَد ذِي الْيَدِ أَوْ وَدِيعَةٌ أَوْ إجَارَةٌ أَوْ رَهْنٌ قُضِيَ بِالْمِلْكِ لَهُ لِمَا بَيَّنَّا

قَالَ : عَبْدٌ فِي يَدَيْ رَجُلٍ أَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ أَعْتَقَهُ ، وَأَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ وُلِدَ فِي مِلْكِهِ فَبَيِّنَةُ الْمُدَّعِي أَوْلَى ؛ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ الْحُرِّيَّةَ وَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ تُثْبِتُ الرِّقَّ فَالْمُثْبِتُ لِلْحُرِّيَّةِ مِنْ الْبَيِّنَتَيْنِ أَوْلَى .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى الْخَارِجُ أَنَّهُ ابْنُهُ تَرَجَّحَتْ بَيِّنَتُهُ لِمَا فِيهَا مِنْ إثْبَاتِ النَّسَبِ ، وَالْحُرِّيَّةِ فَكَذَلِكَ هُنَا تَتَرَجَّحُ بَيِّنَتُهُ ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ إثْبَاتِ الْوَلَاءِ الَّذِي هُوَ مُشَبَّهٌ بِالنَّسَبِ مَعَ الْحُرِّيَّةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ الْخَارِجُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَهُ وَدَبَّرَهُ فَهُوَ أَوْلَى لِمَا فِي بَيِّنَتِهِ مِنْ إثْبَاتِ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ ، وَقَدْ ذَكَرَ قَبْلَ هَذَا بِخِلَافِ هَذَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ الرِّوَايَتَيْنِ ثَمَّةَ ، وَلَوْ كَانَ شُهُودُ ذِي الْيَدِ شَهِدُوا أَنَّهُ أَعْتَقَهُ ، وَهُوَ يَمْلِكُهُ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ بَيِّنَةِ الْخَارِجِ عَلَى الْعِتْقِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا إثْبَاتُ الْوَلَاءِ عَلَى الْعَبْدِ وَالْوَلَاءُ كَالنَّسَبِ ، وَإِنَّمَا يُثْبِتُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْعَبْدِ فَلَمَّا اسْتَوَتْ الْبَيِّنَاتُ فِي الْإِثْبَاتِ تَرَجَّحَ جَانِبُ ذِي الْيَدِ بِيَدِهِ ، وَإِنْ شَهِدَ شُهُودُ ذِي الْيَدِ بِالتَّدْبِيرِ وَشُهُودُ الْمُدَّعِي بِالْعِتْقِ الثَّابِتِ قَضَيْتُ بِالْعِتْقِ الثَّابِتِ ؛ لِأَنَّ فِيهَا إبْطَالَ الرِّقِّ وَالْمِلْكِ فِي الْحَالِ يَتَرَجَّحُ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ أَمَةً لَكَانَتْ تُوطَأُ مَعَ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ عَلَى حُرِّيَّتِهَا .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَامَ أَحَدُ الْخَارِجِينَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْعِتْقِ الثَّانِي وَالْآخَرُ عَلَى التَّدْبِيرِ فَبَيِّنَةُ الْعِتْقِ أَوْلَى بِالْقَبُولِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَلَوْ أَقَامَ الْخَارِجُ وَذُو الْيَدِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْأَمَة لَهُ كَاتَبَهَا قَضَيْتُ بِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ لَيْسَتْ فِي يَدِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَلْ هِيَ فِي يَدِ نَفْسِهَا فَتَحَقَّقَتْ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَ الْبَيِّنَتَيْنِ فَقُضِيَ

بِهَا بَيْنَهُمَا فَإِنْ .
( قِيلَ ) كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُرْجَعَ إلَى قَوْلِهَا .
( قُلْنَا ) الْمُكَاتِبَةُ أَمَةٌ ، وَلَا قَوْلَ لِلْأَمَةِ فِي تَعْيِينِ مَالِكِهَا بَعْدَ مَا أَقَرَّتْ بِالرِّقِّ ، وَإِنْ شَهِدَ شُهُودُ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ دَبَّرَهَا ، وَهُوَ يَمْلِكُهَا وَشُهُودُ الْآخَرِ أَنَّهُ كَاتَبَهَا ، وَيَمْلِكُهَا فَالتَّدْبِيرُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ يُثْبِتُ حَقَّ الْحُرِّيَّةِ ، وَهُوَ لَازِمٌ لَا يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ .

قَالَ : وَلَوْ ادَّعَتْ أَمَةٌ أَنَّ وَلَدَهَا مِنْ مَوْلَاهَا ، وَأَنَّهُ أَقَرَّ بِذَلِكَ ، وَأَرَادَتْ يَمِينَهُ فَلَا يَمِينَ عَلَى الْمَوْلَى فِي ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا عَلَيْهِ الْيَمِينُ ، وَهَذِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَعْدُودَةِ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَرَى الِاسْتِحْلَافَ فِي النِّكَاحِ وَالنَّسَبِ ، وَالرَّجْعَةِ وَالْفَيْءِ فِي الْإِيلَاءِ وَالرِّقِّ ، وَالْوَلَاءِ ؛ لِأَنَّ النُّكُولَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَدَلِ فَمَا لَا يَعْمَلُ فِيهِ الْبَدَلُ لَا يَجْرِي فِيهِ الِاسْتِحْلَافُ وَعِنْدَهُمَا النُّكُولُ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ ، وَلَكِنَّ فِيهِ ضَرْبَ شُبْهَةٍ فَكُلُّ مَا يَثْبُتُ بِالشُّبُهَاتِ يَجْرِي فِيهِ الِاسْتِحْلَافُ وَالْقَضَاءُ بِالنُّكُولِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ النِّكَاحِ وَهُنَا دَعْوَاهُ عَلَى الْمَوْلَى دَعْوَى النَّسَبِ فَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لَا يُسْتَحْلَفُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَتْ أَنَّهَا أَسْقَطَتْ مِنْ الْمَوْلَى سِقْطًا مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ لَهَا تَبَعٌ لِنَسَبِ الْوَلَدِ فَكَمَا لَا يُسْتَحْلَفُ الْمَوْلَى عِنْدَ دَعْوَى النَّسَبِ فَكَذَلِكَ فِي دَعْوَى أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يُسْتَحْلَفُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ ، وَلَوْ أَقَرَّ الْمَوْلَى بِذَلِكَ لَزِمَهُ فَيُسْتَحْلَفُ فِيهِ إذَا أَنْكَرَ وَكَذَلِكَ لَوْ جَاءَتْ الزَّوْجَةُ بِصَبِيٍّ فَادَّعَتْ أَنَّهَا وَلَدَتْهُ ، وَأَنْكَرَ الزَّوْجُ فَفِي اسْتِحْلَافِهِ خِلَافٌ كَمَا بَيَّنَّا ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ الْمَوْلَى أَوْ الزَّوْجَ جَاءَ بِصَبِيٍّ وَادَّعَى أَنَّهَا ، وَلَدَتْهُ مِنْهُ ، وَأَرَادَ اسْتِحْلَافَهَا فَلَا يَمِينَ عَلَيْهَا عِنْدَهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الِابْنُ هُوَ الَّذِي ادَّعَى النَّسَبَ عَلَى الْأَبِ أَوْ الْأَبُ عَلَى الِابْنِ وَطَلَبَ يَمِينَ الْمُنْكِرِ فَلَا يَمِينَ فِي الْوَجْهَيْنِ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ بِذَلِكَ مِيرَاثًا قِبَلَ صَاحِبِهِ فَحِينَئِذٍ يُسْتَحْلَفُ عَلَى الْمِيرَاثِ دُونَ النَّسَبِ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ مِمَّا يَعْمَلُ فِيهِ الْبَدَلُ فَيَجُوزُ الْقَضَاءُ

فِيهِ بِالنُّكُولِ بِخِلَافِ النَّسَبِ ، وَإِذَا اسْتَحْلَفَهُ فَنَكَلَ قُضِيَ بِالْمَالِ دُونَ النَّسَبِ ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الْحُكْمَيْنِ يَنْفَصِلُ عَنْ الْآخَرِ وَعِنْدَ النُّكُولِ إنَّمَا يُقْضَى بِمَا جَرَى فِيهِ الِاسْتِحْلَافُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى سَرِقَةَ مَالٍ عَلَى رَجُلٍ فَاسْتُحْلِفَ فَنَكَلَ يُقْتَضَى بِالْمَالِ دُونَ الْقَطْعِ فَهَذَا مِثْلُهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى مِيرَاثًا بِالْوَلَاءِ فَهُوَ وَدَعْوَاهُ الْمِيرَاثَ بِالنَّسَبِ سَوَاءٌ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ

قَالَ : وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا وَرِثَ دَارًا مِنْ أَبِيهِ فَادَّعَى آخَرُ أَنَّهُ أَخُوهُ لِأَبِيهِ قَدْ وَرِثَ أَبَاهُ مَعَهُ هَذِهِ الدَّارِ وَجَحَدَ ذُو الْيَدِ ذَلِكَ لَمْ يُسْتَحْلَفْ عَلَى النَّسَبِ هُنَا بِالِاتِّفَاقِ أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُشْكِلُ ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا كُلُّ نَسَبٍ لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَمْ يَصِحَّ لَا يُسْتَحْلَفُ عَلَى ذَلِكَ إذَا أَنْكَرَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ النُّكُولَ عِنْدَهُمَا قَائِمٌ مَقَامَ الْإِقْرَارِ ، وَالْأُخُوَّةُ لَا تَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ لَوْ أَقَرَّ بِهَا فَكَذَلِكَ لَا يُسْتَحْلَفُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْأُبُوَّةِ ، وَالْبُنُوَّةِ ، وَلَكِنَّهُ يُسْتَحْلَفُ بِاَللَّهِ الْعَظِيمِ مَا يَعْلَمُ لَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ نَصِيبًا كَمَا يَدَّعِي الْمَالَ ، وَالِاسْتِحْلَافُ يَجْرِي فِي الْمَالِ إلَّا أَنَّهُ اسْتِحْلَافٌ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الْإِرْثَ مِنْ الْمَيِّتِ بِسَبَبٍ بَيْنَهُمَا وَالِاسْتِحْلَافُ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ يَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ لَا عَلَى الثَّبَاتِ .

قَالَ : جَارِيَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فِي بَطْنَيْنِ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا الْأَكْبَرَ ، ثُمَّ ادَّعَى الْآخَرُ الْأَصْغَرَ لَمْ تَجُزْ دَعْوَةُ صَاحِبِ الْأَصْغَرِ ؛ لِأَنَّ الْعُلُوقَ بِهِمَا حَصَلَ فِي مِلْكِهِمَا فَحِينَ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْأَكْبَرَ صَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ مِنْ حِينَ عَلِقَتْ بِالْأَكْبَرِ ، ثُمَّ الْأَصْغَرُ وَلَدُ أُمِّ وَلَدِهِ وَالشَّرِيكُ أَجْنَبِيٌّ عَنْهُ ، وَمَنْ ادَّعَى وَلَدَ أُمِّ وَلَدِ الْغَيْرِ لَمْ تَصِحَّ دَعْوَتُهُ ، وَلَوْ كَانَ صَاحِبُ الْأَصْغَرِ ادَّعَى الْأَصْغَرَ أَوَّلًا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهَا مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَهُمَا مَعَ الْوَلَدَيْنِ حِينَ ادَّعَى مُدَّعِي الْأَصْغَرِ ، وَمَا ادَّعَاهُ يَحْتَاجُ إلَى النَّسَبِ فَيَثْبُتُ نَسَبُ الْأَصْغَرِ مِنْهُ وَصَارَتْ الْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَضَمِنَ نِصْفَ قِيمَتِهَا وَنِصْفَ عُقْرِهَا لِشَرِيكِهِ ، وَتَصِحُّ دَعْوَةُ مُدَّعِي الْأَكْبَرِ لِلْأَكْبَرِ ؛ لِأَنَّهُ نَفْيٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَإِنَّ أُمِّيَّةَ الْوَلَدِ لَهَا إنَّمَا يَثْبُتُ مِنْ حِينَ عَلِقَتْ بِالْأَصْغَرِ وَالْأَكْبَرُ مُنْفَصِلٌ عَنْهَا قَبْلَ ذَلِكَ فَلِهَذَا بَقِيَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَإِنْ ادَّعَاهُ مُدَّعِي الْأَكْبَرِ ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى النَّسَبِ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَضَمِنَ نِصْفَ قِيمَتِهِ لِشَرِيكِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا ؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ بِالدَّعْوَةِ وَالْإِتْلَافِ فَتَكُونُ دَعْوَتُهُ إيَّاهُ بِمَنْزِلَةِ إعْتَاقِهِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ مُدَّعِيَ الْأَكْبَرِ هَلْ يَغْرَمُ شَيْئًا مِنْ الْعُقْرِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَغْرَمَ نِصْفَ الْعُقْرِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِوَطْءِ الْأَمَةِ حَالَ مَا كَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا فَيَغْرَمُ نِصْفَ الْعُقْرِ لِشَرِيكِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُثْبِتْ أُمِّيَّةَ الْوَلَدِ لَهَا مِنْ جِهَتِهِ قَالَ : وَلَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْهُمَا مَعًا وَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ الْمُدَّعِي الْأَكْبَرِ ؛ لِأَنَّهُ سَابِقٌ بِالدَّعْوَةِ مَعْنًى فَإِنَّ الْعُلُوقَ بِالْأَكْبَرِ كَانَ سَابِقًا فَصَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ مِنْ حِينِ عَلِقَتْ بِالْأَكْبَرِ ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا تَصِحُّ دَعْوَةُ مُدَّعِي الْأَصْغَرِ

؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى وَلَدَ أُمِّ وَلَدِ الْغَيْرِ كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ .
وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ بَيِّنَةُ الْأَصْغَرِ مِنْ مُدَّعِي الْأَصْغَرِ ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الدَّعْوَةِ كَانَ الْأَصْغَرُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فِي الظَّاهِرِ مُحْتَاجًا إلَى النَّسَبِ ، وَكَذَلِكَ الْجَارِيَةُ حِينَ عَلِقَتْ بِالْأَصْغَرِ كَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا فِي الظَّاهِرِ فَبَعْدَ أَنْ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لِمُدَّعِي الْأَكْبَرِ صَارَ مُدَّعِي الْأَصْغَرِ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْرُورِ ، وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ فَكَانَ جَمِيعُ قِيمَةِ الْأَصْغَرِ لِمُدَّعِي الْأَكْبَرِ ، وَذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَنَّ عَلَيْهِ جَمِيعَ قِيمَةِ الْأَصْغَرِ لِمُدَّعِي الْأَكْبَرِ وَذَكَرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَنَّ عَلَيْهِ نِصْفَ الْعُقْرِ وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا اخْتِلَافٌ ، وَلَكِنْ حَيْثُ قَالَ عَلَيْهِ نِصْفُ الْعُقْرِ إنَّمَا أَجَابَ بِالْحَاصِلِ فَإِنَّ نِصْفَ الْعُقْرِ بِنِصْفِ الْعُقْرِ قِصَاصٌ ، وَإِنَّمَا يَبْقَى فِي الْحَاصِلِ نِصْفُ الْعُقْرِ عَلَى مُدَّعِي الْأَصْغَرِ لِمُدَّعِي الْأَكْبَرِ

قَالَ : رَجُلٌ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنَيْنِ وَجَارِيَةً فَظَهَرَ بِهَا حَبَلٌ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّ الْحَبَلَ مِنْ أَبِيهِ وَادَّعَى الْآخَرُ أَنَّ الْحَبَلَ مِنْهُ ، وَكَانَتْ الدَّعْوَةُ مِنْهُمَا مَعًا فَالْحَبَلُ مِنْ الَّذِي ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَحْمِلُ نَسَبَ الْوَلَدِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَأَخُوهُ إنَّمَا يَحْمِلُ نَسَبَ الْوَلَدِ عَلَى أَبِيهِ ، وَمُجَرَّدُ قَوْلِهِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ مِنْ أَبِيهِ فَلِهَذَا كَانَ الَّذِي ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ أَوْلَى فَإِنْ ( قِيلَ ) : الَّذِي ادَّعَى الْحَبَلَ مِنْ أَبِيهِ كَلَامُهُ أَسْبَقُ مَعْنًى فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَرَجَّحَ بِالسَّبْقِ .
( قُلْنَا ) : هَذَا إنْ لَوْ كَانَ قَوْلُهُ حُجَّةً فِي إثْبَاتِ الْعُلُوقِ مِنْ أَبِيهِ فِي حَيَاتِهِ ، وَقَوْلُهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي ذَلِكَ وَيَغْرَمُ الَّذِي ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ نِصْفَ قِيمَتِهَا وَنِصْفَ عُقْرِهَا لِشَرِيكِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُهَا بِالِاسْتِيلَادِ عَلَى شَرِيكِهِ فَإِنْ ( قِيلَ ) : كَيْفَ يَضْمَنُ لِشَرِيكِهِ ، وَقَدْ أَقَرَّ الشَّرِيكُ أَنَّهَا حُرَّةٌ مِنْ قِبَلِ الْمَيِّتِ .
( قُلْنَا ) : لِأَنَّ الْقَاضِيَ كَذَّبَهُ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ حِينَ جَعَلَهَا أُمَّ وَلَدٍ لِلْآخَرِ ، وَالْمُكَذَّبُ فِي إقْرَارِهِ حُكْمًا لَا يَبْقَى إقْرَارُهُ حُجَّةً عَلَيْهِ كَالْمُشْتَرِي إذَا أَقَرَّ بِالْمِلْكِ لِلْبَائِعِ ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّ مِنْ يَدِهِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الَّذِي ادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ سَبَقَ بِالدَّعْوَةِ ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي ادَّعَى الْحَبَلَ لِلْأَبِ بَدَا بِالْإِقْرَارِ لَمْ يَثْبُتْ مِنْ الْأَبِ بِقَوْلِهِ ، وَلَكِنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ نَصِيبُهُ مِنْ الْأُمِّ وَمِمَّا فِي بَطْنِهَا لِإِقْرَارِهِ بِحُرِّيَّتِهَا وَيَجُوزُ دَعْوَةُ الْآخَرِ ، وَيَثْبُتُ نَسَبُ الْوَلَدِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى النَّسَبِ ، وَالنِّصْفُ مِنْهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ فَإِنَّ إقْرَارَ الْأَوَّلِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي إبْطَالِ مِلْكِهِ ، وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ صَارَ كَالْمُسْتَسْعَى عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَتَصِحُّ دَعْوَتُهُ فِيهِ ، وَلَا يَضْمَنُ مِنْ قِيمَةِ الْأُمِّ شَيْئًا ؛

لِأَنَّهُ لَا يَتَمَلَّكُ عَلَى شَرِيكِهِ نَصِيبَهُ مِنْ الْأُمِّ فَقَدْ عَتَقَ نَصِيبُهُ مِنْ الْأُمِّ بِالْإِقْرَارِ السَّابِقِ ، وَيَضْمَنُ نِصْفَ عُقْرِهَا إنْ طَلَب ذَلِكَ أَخُوهُ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِوَطْئِهَا سَابِقًا عَلَى إقْرَارِ أَخِيهِ وَهِيَ مُشْتَرَكَةُ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَيَكُونُ مُقِرًّا بِنِصْفِ الْعُقْرِ لِأَخِيهِ بِسَبَبٍ لَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ السَّبَبُ بِإِقْرَارِ أَخِيهِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُصَدِّقَهُ فَيَسْتَوْفِيَ ذَلِكَ مِنْهُ إنْ شَاءَ

قَالَ : عَبْدٌ صَغِيرٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَعْتَقَهُ أَحَدُهُمَا ، ثُمَّ ادَّعَاهُ الْآخَرُ فَهُوَ ابْنُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ الْعِتْقَ يَتَجَزَّأُ قَضَيْتُ لِلْآخَرِ بِادِّعَاءِ مِلْكِهِ فَلِهَذَا صَحَّتْ دَعْوَتُهُ ، وَنِصْفُ وَلَائِهِ لِلْمُعْتِقِ بِإِعْتَاقِهِ فَإِنَّ ثُبُوتَ نَسَبِهِ مِنْ الْآخَرِ لَا يَنْتَفِي مَا صَارَ مُسْتَحِقًّا مِنْ الْوَلَاءِ لِلْأَوَّلِ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ وُلِدَ عِنْدَهُمَا أَوْ لَمْ يُولَدْ ، وَإِنْ كَانَ الْغُلَامُ كَبِيرًا فَأَقَرَّ بِذَلِكَ فَهُوَ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ الْمُدَّعِي فَإِذَا ادَّعَاهُ الَّذِي أَعْتَقَهُ الْآخَرُ فَإِنْ جَحَدَ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ دَعْوَةُ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْهُ ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ لَهُ فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ الْعِتْقُ لَا يَتَجَزَّأُ فَلَا يَجُوزُ دَعْوَةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا بِتَصْدِيقِ الْغُلَامِ لَهُ فِي ذَلِكَ

قَالَ : وَإِذَا تَصَادَقَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ الْحُرَّةُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا أَنَّهُ ابْنُهُمَا وَالْمَرْأَةُ امْرَأَةُ الرَّجُلِ ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ إقْرَارِهِمَا بِنَسَبِ الْوَلَدِ مَحْمُولٌ عَلَى وَلَدٍ صَحِيحٍ بَيْنَهُمَا شَرْعًا ، وَهُوَ النِّكَاحُ فَكَانَ تَصَادُقُهُمَا عَلَى نَسَبِ الْوَلَدِ تَصَادُقًا مِنْهُمَا عَلَى النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا ، وَمُطْلَقُهُ يَنْصَرِفُ إلَى النِّكَاحِ الصَّحِيحِ فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ لَا تَعْرِفُ أَنَّهَا حُرَّةٌ فَقَالَتْ أَنَا أُمُّ وَلَدٍ لَك ، وَهَذَا ابْنِي مِنْك ، وَقَالَ الرَّجُلُ هُوَ ابْنِي مِنْك ، وَأَنْتِ امْرَأَتِي فَهُوَ ابْنُهُمَا لِتَصَادُقِهِمَا عَلَى نَسَبِ الْوَلَدِ ، وَلَكِنَّهَا أَقَرَّتْ لَهُ بِالرِّقِّ ، وَهُوَ كَذَّبَهَا فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَثْبُتْ الرِّقُّ عَلَيْهَا وَهُوَ قَدْ ادَّعَى عَلَيْهَا النِّكَاحَ وَهِيَ قَدْ كَذَّبَتْهُ فَلَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِكَاحٌ ، وَلَكِنْ بِتَكَاذُبِهِمَا فِي السَّبَبِ الْمُثْبِتِ لِلْفِرَاشِ لَا يَمْنَعُ الْعَمَلَ بِمَا تَصَادَقَا عَلَيْهِ مِمَّا هُوَ حُكْمُ الْفِرَاشِ وَهُوَ ثُبُوتُ نَسَبِ الْوَلَدِ مِنْهُمَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَتْ أَنَّهَا زَوْجَتُهُ ، وَقَالَ الرَّجُلُ هِيَ أُمُّ وَلَدِي فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ لِمَا بَيَّنَّا .
وَلَوْ قَالَ الرَّجُلُ هَذَا ابْنِي مِنْك مِنْ نِكَاحٍ ، وَقَالَتْ صَدَقْتَ هُوَ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمَا فِي دَعْوَى صِحَّةِ النِّكَاحِ وَفَسَادِهِ وَتَصَادُقِهِمَا عَلَى أَصْلِ النِّكَاحِ يَكُونُ إقْرَارًا مِنْهُمَا بِصِحَّتِهِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِي الْفَسَادَ بَعْدَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مُنَاقِضًا .
وَلَوْ قَالَ الزَّوْجُ هُوَ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ ، وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ هُوَ مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ فَنَسَبُ الْوَلَدِ ثَابِتٌ وَسُئِلَ الزَّوْجُ عَنْ الْفَسَادِ مَا هُوَ فَإِذَا أَخْبَرَ بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْفَسَادِ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا بِإِقْرَارِهِ بِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ وَجُعِلَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ إيقَاعِهِ الطَّلَاقَ الْبَائِنَ حَتَّى يَكُونَ لَهَا نَفَقَةُ الْعِدَّةِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ فِي فَسَادِ أَصْلِ

الْعَقْدِ غَيْرُ مَقْبُولٍ لِمَا بَيَّنَّا ، وَلَكِنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَنْ يُفَارِقَهَا فَيُجْعَلُ إقْرَارُهُ بِذَلِكَ كَإِنْشَاءِ التَّفْرِيقِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ الْغُرُورِ ( قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ ذُكِرَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُصَيْطٍ قَالَ بِعْتُ أَمَةً فَأَبَتْ بَعْضُ الْقَبَائِلِ فَانْتَمَتْ إلَى بَعْضِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ فَتَزَوَّجَهَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي عُذْرَةَ فَنَثَرَتْ لِهَذَا بَطْنَهَا ، ثُمَّ جَاءَ مَوْلَاهَا فَرَفَعَ ذَلِكَ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَضَى بِهَا لِمَوْلَاهَا ، وَقَضَى عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ أَنْ تَفْدِيَ الْأَوْلَادَ الْغُلَامَ بِالْغُلَامِ ، وَالْجَارِيَةَ بِالْجَارِيَةِ وَفِي هَذَا دَلِيلُ أَنَّ ، وَلَدَ الْمَغْرُورِ يَكُونُ حُرًّا بِعِوَضٍ يَأْخُذُهُ الْمُسْتَحِقُّ مِنْ الْمَغْرُورِ فَأَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ بِظَاهِرِهِ فَقَالُوا مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ الْغُلَامُ بِالْغُلَامِ وَالْجَارِيَةُ بِالْجَارِيَةِ ، وَعِنْدَنَا هُوَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ ، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ الْغُلَامُ بِقِيمَةِ الْغُلَامِ ، وَالْجَارِيَةُ بِقِيمَةِ الْجَارِيَةِ وَالْمُرَادُ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْمَالِيَّةِ لَا فِي الصُّورَةِ ) ، فَإِنَّهُ ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّ الْحَيَوَانَ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَبْدِ بَيْنَ اثْنَيْنِ يُعْتِقُهُ أَحَدُهُمَا إنْ كَانَ مُوسِرًا ضَمِنَ نِصْفَ قِيمَتِهِ نَصِيبَ شَرِيكِهِ ، وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ تَأْوِيلُ حَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ بَعْدَ هَذَا عَنْ الشَّعْبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى جَارِيَةً فَوَلَدَتْ مِنْهُ فَاسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ وَرَفَعَ ذَلِكَ إلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَضَى بِالْجَارِيَةِ لِمَوْلَاهَا ، وَقَضَى لِلْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ أَنْ يَفُكَّ وَلَدَهُ بِمَا عَزَّ وَهَانَ ، وَلَمْ يُرِدْ بِقَوْلِهِ قَضَى بِأَوْلَادِهَا لِمَوْلَاهَا أَنْ يُسَلِّمَ الْأَوْلَادَ إلَيْهِ وَإِنَّمَا الْمُرَادُ جَعْلُ الْأَوْلَادِ فِي حَقِّهِمْ كَأَنَّهُمْ مَمْلُوكِينَ لَهُ حَيْثُ أَوْجَبَ لَهُ الْقِيمَةَ عَلَى الْمَغْرُورِ ، وَأَضَافَ ذَلِكَ إلَى الْبَائِعِ بِطَرِيقِ أَنَّ قَوَدَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِمَا غَرِمَ

مِنْ قِيمَةِ الْأَوْلَادِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ بِمَا عَزَّ وَهَانَ بِالْقِيمَةِ بَالِغَةً مَا بَلَغَتْ وَهُوَ الْأَصْلُ عِنْدَنَا وَفِي وَلَدِ الْمَغْرُورِ فَإِنَّهُ فِي حَقِّ الْمَغْرُورِ هُوَ حُرُّ الْأَصْلِ وَفِي حَقِّ الْمُسْتَحِقِّ كَأَنَّهُ رَقِيقٌ مَمْلُوكٌ لَهُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ ، وَهُوَ الْجَارِيَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَا وَجْهَ لِإِيجَابِ الضَّمَانِ لَهُ إلَّا هَذَا فَإِنَّ الْمَاءَ غَيْرُ مُتَقَوِّمٍ لِيُضْمَنَ بِالْإِتْلَافِ ، وَإِنَّمَا يُضْمَنُ الْمَمْلُوكُ بِالْمَنْعِ فَيَصِيرُ الْمَغْرُورُ مَانِعًا لِلْوَلَدِ بِمَا ثَبَتَ فِيهِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ حَقًّا لَهُ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ النَّظَرَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَاجِبٌ وَالنَّظَرُ فِي جَانِبِ الْمَغْرُورِ فِي حُرِّيَّةِ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِرِقِّ مَائِهِ ، وَالنَّظَرُ فِي جَانِبِ الْمُسْتَحِقِّ فِي رِقِّ الْوَلَدِ لَكِنَّهُ لَا يَبْطُلُ مِلْكِهِ عَمَّا هُوَ جُزْءٌ مِنْ مِلْكِهِ فَيَجِبُ ضَمَانُ الْمَالِيَّةِ عَلَى الْمَغْرُورِ يَمْنَعُهُ بُعْدُ الطَّلَبِ ؛ وَلِهَذَا اُعْتُبِرَ قِيمَتُهُ وَقْتَ الْخُصُومَةِ حَتَّى إنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ الْأَوْلَادِ قَبْلَ الْخُصُومَةِ لَمْ يَضْمَنْ مِنْ قِيمَتِهِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ الطَّلَبِ .
إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ أَمَةٌ غَرَّتْ رَجُلًا فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا حُرَّةٌ فَتَزَوَّجَهَا عَلَى ذَلِكَ فَوَلَدَتْ وَلَدًا ، ثُمَّ أَقَامَ مَوْلَاهَا الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا أَمَتُهُ ، وَقُضِيَ بِهَا لَهُ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِالْوَلَدِ أَيْضًا لِمَوْلَى الْجَارِيَةِ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَصْلِ سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْهُ فَإِنَّهُ فِي حُكْمِ الْجُزْءِ لَهُ ، وَقَدْ ظَهَرَ هَذَا السَّبَبُ عِنْدَ الْقَاضِي وَلَمْ يَظْهَرْ مَا يُوجِبُ حُرِّيَّةَ الْوَلَدِ وَهُوَ الْغُرُورُ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الزَّوْجُ بَيِّنَةً أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَثْبَتَ حُرِّيَّةَ الْأَوْلَادِ فَكَانَ الْوَلَدُ حُرًّا لَا سَبِيلَ عَلَيْهِ وَعَلَى أَبِيهِ قِيمَتُهُ وَادَّعَى مَالَهُ حَالًّا وَقْتَ الْقَضَاءِ بِهِ دُونَ مَالِ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْمَنْعُ وُجِدَ

مِنْ الْأَبِ دُونَ الْوَلَدِ ، وَلَا وَلَاءَ لِلْمُسْتَحِقِّ عَلَى الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهُ عَلِقَ جُزْءَ الْأَصْلِ ، وَإِنَّمَا قَدَّرْنَا الرِّقَّ فِيهِ لِضَرُورَةِ الْقَضَاءِ بِالْقِيمَةِ وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَعْدُو مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ .
وَإِنْ مَاتَ الْوَلَدُ قَبْلَ الْخُصُومَةِ فَلَيْسَ عَلَى الْأَبِ شَيْءٌ مِنْ قِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَوْ كَانَ مَمْلُوكًا عَلَى الْحَقِيقَةِ لَمْ يَكُنْ مَضْمُونًا فَإِنَّ وَلَدَ الْغَصْبِ أَمَانَةٌ عِنْدَنَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ مَضْمُونًا ، وَإِنْ قَبِلَ الِابْنُ فَأَخَذَ الْجَارِيَةَ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِمُسْتَحِقِّ الدِّيَةِ بَدَلِ نَفْسِهِ وَمَنْعُ الْبَدَلِ كَمَنْعِ الْأَصْلِ فَيَتَحَقَّقُ بِهِ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ ، وَإِنْ قَضَى لَهُ بِالدِّيَةِ فَلَمْ يَقْبِضْهَا لَمْ يُوجَدْ بِالْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ لَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا لَمْ يَصِلْ إلَى يَدِهِ مِنْ الْبَدَلِ فَإِنْ قَبَضَ مِنْ الدِّيَةِ قَدْرَ قِيمَةِ الْمَقْبُولِ قُضِيَ عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ لِلْمُسْتَحِقِّ ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ تَحَقَّقَ بِوُصُولِ يَدِهِ إلَى الْبَدَلِ وَيَكُونُ مَنْعُهُ قَدْرَ قِيمَةِ الْوَلَدِ كَمَنْعِ الْوَلَدِ فِي الْقَضَاءِ لِلْمُسْتَحِقِّ عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ فَلَوْ كَانَ لِلْوَلَدِ وَلَدٌ يُحْرِزُ مِيرَاثَهُ وَدِيَتَهُ فَخَرَجَ مِنْ الدِّيَةِ أَوْ دُونَهَا قَضَيْتُ عَلَى الْأَبِ بِمِثْلِ ذَلِكَ لِتَحَقُّقِ الْمَنْعِ فِي الْبَدَلِ ، وَلَا يُقْضَى بِهِ فِي الدِّيَةِ ، وَلَا فِي تَرِكَةِ الِابْنِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الضَّمَانَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْأَبِ يَمْنَعُهُ الْوَلَدُ بِالْحُرِّيَّةِ ، وَإِنَّمَا يُقْضَى مِنْ تَرِكَةِ الِابْنِ مَا يُقَرَّرُ دَيْنًا عَلَى الِابْنِ فَإِنْ كَانَ الْأَبُ مَيِّتًا قُضِيَ بِهِ فِي تَرِكَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ عَلَى الْأَبِ فَيُسْتَوْفَى مِنْ تَرِكَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى الْأَبِ دَيْنٌ خَاصٌّ مُسْتَحَقٌّ لِلْغُرَمَاءِ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّ دَيْنَهُ مِثْلُ دَيْنِهِمْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا عَلَى حُرَّةٍ فَطَلَبَ يَمِينَ الْمُسْتَحِقِّ عَلَى عِلْمِهِ حَلَّفْتُهُ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي

مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ فَإِذَا أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ عَلَيْهِ ، وَلَكِنَّهُ اسْتِحْلَافٌ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ ، وَكَانَ عَلَى الْعِلْمِ لَا عَلَى الثَّبَاتِ

قَالَ : وَلَوْ اسْتَوْلَدَهَا عَلَى شِرَاءٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَخَذَ الْمُسْتَحِقُّ الْجَارِيَةَ وَقِيمَةَ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْغُرُورِ مِلْكٌ مُطْلَقٌ لِلِاسْتِيلَادِ لَهُ فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ مَوْجُودٌ ، وَمَا هُوَ الظَّاهِرُ ، وَلَوْ كَانَ حَقِيقَةً كَانَ الْوَلَدُ حُرًّا فَبِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ يَثْبُتُ حُرِّيَّةُ الْوَلَدِ أَيْضًا وَيَرْجِعُ الْأَبُ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ ، وَقِيمَةِ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ وَبِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ اسْتَحَقَّ سَلَامَتَهَا لَهُ سَلِيمَةً عَنْ الْعَيْبِ ، وَلَا عَيْبَ فَوْقَ الِاسْتِحْقَاقِ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِمَا يَغْرَمُ بِهَذَا السَّبَبِ عَلَى الْبَائِعِ ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْعَقْدِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَرْجِعُ بِالْعُقْرِ كَمَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهُ ضَمَانٌ لَزِمَهُ بِسَبَبِ فَوْتِ السَّلَامَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ لَهُ بِالْعَقْدِ .
وَلَكِنَّا نَقُولُ : إنَّمَا لَزِمَهُ الْعُقْرُ عِوَضًا عَمَّا اسْتَوْفَى مِنْ مَنَافِعِ الْبُضْعِ فَلَوْ رَجَعَ بِهِ سَلَّمَ الْمُسْتَوْفَى لَهُ مَجَّانًا وَالْوَطْءُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسَلَّمَ لِلْوَاطِئِ مَجَّانًا ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْوَاهِبِ ، وَالْمُتَصَدِّقِ وَالْوَصِيِّ بِشَيْءٍ مِنْ قِيمَةِ الْأَوْلَادِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ الْغُرُورُ قَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُ بِإِيجَابِهِ الْمِلْكَ لَهُ فِي الْمَحَلِّ وَاخْتَارَ أَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ سَوَاءٌ كَانَ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ .
وَلَكِنَّا نَقُولُ : مُجَرَّدُ الْغُرُورِ لَا يَكْفِي لِإِثْبَاتِ حَقِّ الرُّجُوعِ فَإِنَّ مَنْ أَخْبَرَ إنْسَانًا أَنَّ هَذَا الطَّرِيقَ آمِنٌ وَسَلَكَ فِيهِ فَأَخَذَ اللُّصُوصُ مَتَاعَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمُخْبِرِ ، وَإِنَّمَا ثُبُوتُ حَقِّ الرُّجُوعِ بِاعْتِبَارِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ ؛ لِأَنَّ صِفَةَ السَّلَامَةِ تَصِيرُ مُسْتَحَقَّةً بِهِ ، فَأَمَّا بِعَقْدِ التَّبَرُّعِ لَا تَصِيرُ صِفَةَ السَّلَامَةِ مُسْتَحَقَّةً بِهِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ فِيهِ حَقُّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى

الْمُتَبَرِّعِ بِقِيمَةِ الْأَوْلَادِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ عَقْدَ التَّبَرُّعِ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْمُتَبَرِّعِ لِلْمُتَبَرَّعِ عَلَيْهِ ؛ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمِلْكَ لَا يَحْصُلُ بِهِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ

قَالَ : وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي بَاعَهَا مِنْ غَيْرِهِ فَوَلَدَتْ مِنْهُ ، ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ يَرْجِعُ الْمُشْتَرِي الثَّانِي عَلَى بَائِعِهِ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ ؛ وَلِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى بَائِعِهِ بِالثَّمَنِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى بَائِعِهِ .
حُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ الْأَوَّلَ أَوْجَبَ الْمِلْكَ فِيهَا لِلْغَيْرِ فَيُجْعَلُ الِاسْتِيلَادُ عَلَى مَنْ أَوْجَبَ لَهُ الْمِلْكَ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ اسْتِيلَادِهِ بِنَفْسِهِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ يُفَوِّتُ صِفَةَ السَّلَامَةِ الَّذِي صَارَ مُسْتَحَقًّا بِالْعَقْدِ ، وَهَذَا كَمَا تَقَرَّرَ بَيْنَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فَقَدْ تَقَرَّرَ بَيْنَ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ ، وَالْبَائِعِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ ، وَالثَّانِي لَوْ رَدَّهَا بِالْعَيْبِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ أَنْ يَرُدَّهَا عَلَى بَائِعِهِ فَكَذَلِكَ إذَا رَجَعَ عَلَيْهِ بِقِيمَتِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : إنَّ الْمُشْتَرِيَ الْأَوَّلَ أَنْشَأَ بِإِيجَابِهِ الْمِلْكَ فِيهَا لِغَيْرِهِ بِالْبَيْعِ فَرُجُوعُ الْمُشْتَرِي عَلَيْهِ بِمَا أَنْشَأَهُ مِنْ الْغُرُورِ لَا بِالْغُرُورِ الَّذِي سَبَقَ مِنْ الْبَائِعِ فَصَارَ مَا أَنْشَأَهُ مِنْ الْغُرُورِ نَاسِخًا لِغُرُورِ الْبَائِعِ الْأَوَّلِ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ حَفَرَ بِئْرًا عَلَى قَارِعَةِ الطَّرِيقِ فَأَلْقَى إنْسَانٌ غَيْرَهُ فِيهِ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُلْقِي ، وَلَا يَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْحَافِرِ فَهَذَا مِثْلُهُ .
يُوَضِّحُهُ أَنَّ الرُّجُوعَ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ الْخُصُومَةِ فِي الْعَيْبِ ، وَالْمُشْتَرِي إنَّمَا يُخَاصِمُ الْبَائِعَ فِي الْعَيْبِ إذَا كَانَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ قِبَلِهِ فَإِنَّمَا لَهُ ، وَهُنَا قَدْ انْفَسَخَ ذَلِكَ الْمِلْكُ بِمِلْكِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي وَلَمْ يَعُدْ إلَيْهِ بِالرُّجُوعِ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا رُدَّ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ الْمُسْتَفَادَ لَهُ مِنْ جِهَةِ

الْبَائِعِ قَدْ عَادَ إلَيْهِ ، وَنَظِيرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مَا ذَكَرَ فِي آخِرِ الصُّلْحِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ الثَّانِيَ إذَا وَجَدَ بِالْبَيْعِ عَيْبًا ، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ بِعَيْبٍ حَدِيثٍ عِنْدَهُ وَرَجَعَ عَلَى بَائِعِهِ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ لَمْ يَكُنْ لِبَائِعِهِ أَنْ يَرْجِعَ بِالنُّقْصَانِ عَلَى الْبَائِعِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَفَادَ لَهُ مِنْ قِبَلِهِ لَمْ يَعُدْ إلَيْهِ ، وَعِنْدَهُمَا يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ الْأَوَّلِ بِمَا غَرِمَ لِلْمُشْتَرِي الثَّانِي مِنْ نُقْصَانِ الْعَيْبِ ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِالنُّقْصَانِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ

قَالَ : رَجُلَانِ اشْتَرَيَا جَارِيَةً فَوَهَبَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ شَرِيكِهِ فَوَلَدَتْ ، ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا وَعُقْرَهَا وَقِيمَةَ ، وَلَدِهَا ، وَلَمْ يَرْجِعْ الْأَبُ بِنِصْفِ الثَّمَنِ ، وَنِصْفِ قِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ نِصْفَهَا مِنْ جِهَتِهِ بِحُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ ، وَالْجُزْءُ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْوَاهِبِ بِشَيْءٍ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ النِّصْفَ مِنْ جِهَتِهِ بِعَقْدِ التَّبَرُّعِ ، وَلَكِنَّ الْوَاهِبَ يَرْجِعُ بِنِصْفِ الثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهَا عَلَى مَنْ اسْتَفَادَ الْمِلْكَ فِيهَا مِنْ جِهَةِ الْوَاهِبِ يَكُونُ اسْتِحْقَاقًا عَلَى الْوَاهِبِ فَيَرْجِعُ بِثَمَنِ مَا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ عَلَى الْبَائِعِ ، وَلَمْ يَغْرَمْ الْوَاهِبُ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ شَيْئًا لِيَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْبَائِعِ

قَالَ : وَلَوْ كَانَتْ أَمَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَوَلَدَتْ فَادَّعَاهُ أَحَدُهُمَا وَغَرِمَ نِصْفَ قِيمَتِهَا وَنِصْفَ عُقْرِهَا لِشَرِيكِهِ ، ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ قُضِيَ لَهُ بِهَا وَبِقِيمَةِ الْوَلَدِ ، وَالْعُقْرُ لِلْمُسْتَحِقِّ ؛ لِأَنَّ الْغُرُورَ يَتَحَقَّقُ بِقِيَامِ الْمِلْكِ لَهُ فِي نِصْفِهَا ظَاهِرًا فَإِنَّ الِاسْتِيلَادَ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْقَدْرِ صَحِيحٌ فِي إثْبَاتِ حُرِّيَّةِ الْأَصْلِ لِلْوَلَدِ ، ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ وَنِصْفِ قِيمَةِ الْوَلَدِ لِمَا بَيَّنَّا وَيَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِمَا أَعْطَاهُ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهَا وَنِصْفِ عُقْرِهَا ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَتَمَلَّكْ عَلَى شَرِيكِهِ نَصِيبَهُ ، وَلَمْ يَحْصُلْ وَطْؤُهُ فِي مِلْكِهِ ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى شَرِيكِهِ بِشَيْءٍ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ مَغْرُورًا مِنْ جِهَةِ شَرِيكِهِ فَإِنَّ تَمَلُّكَهُ عَلَى شَرِيكِهِ مَا كَانَ بِاخْتِيَارٍ مِنْهُ وَيَرْجِعُ الشَّرِيكُ عَلَى بَائِعِهِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ لِاسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ عَلَيْهِ

قَالَ : وَإِذَا تَزَوَّجَ الْمُكَاتَبُ أَوْ الْعَبْدُ امْرَأَةً حُرَّةً بِإِذْنِ مَوْلَاهُ فَوَلَدَتْ لَهُ ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ وَقُضِيَ بِهَا لِلْمُسْتَحِقِّ فَالْوَلَدُ رَقِيقٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ الْعِتْقَ بِسَبَبِ الْغُرُورِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ، وَذَلِكَ مُتَحَقِّقٌ فِي حَقِّ الْعَبْدِ كَمَا هُوَ فِي حَقِّ الْحُرِّ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْمَخْلُوقُ مِنْ مَاءِ رَقِيقَيْنِ لَا يَكُونُ حُرًّا ، وَقَدْ بَيَّنَّا بَعْضَ هَذَا فِيمَا سَبَقَ قَالَ : وَكَذَلِكَ إذَا صَارَ الْمُكَاتَبُ مَغْرُورًا بِالشِّرَاءِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ إلَّا أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ هُنَاكَ الْوَلَدُ يَكُونُ حُرًّا وَهُنَا يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ أَبِيهِ مُكَاتَبًا

قَالَ : رَجُلٌ اشْتَرَى أُمَّ وَلَدٍ لِرَجُلٍ أَوْ مُكَاتَبَةً أَوْ مُدَبَّرَةً مِنْ أَجْنَبِيٍّ فَوَطِئَهَا فَوَلَدَتْ ، ثُمَّ اسْتَحَقَّهَا مَوْلَاهَا قُضِيَ لَهُ بِهَا ، وَعَلَى أَبِ الْوَلَدِ قِيمَةُ الْوَلَدِ لِمَوْلَى الْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ بِسَبَبِ الْغُرُورِ ، وَلَا يُقَالُ وَلَدُ أُمِّ الْوَلَدِ لَا مَالِيَّةَ فِيهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَأُمِّهِ فَكَيْفَ يُضْمَنُ بِالْغُرُورِ ؛ لِأَنَّ هَذَا بَعْدَ ثُبُوتِ أُمِّيَّةِ الْوَلَدِ وَلَمْ يَثْبُتْ فِي الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهُ عَلِقَ حُرَّ الْأَصْلِ فَلِهَذَا كَانَ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ ، وَعَلَى الْأَبِ قِيمَةُ الْوَلَدِ لِلْمُكَاتَبَةِ قَالَ : لِأَنَّ الَّذِي غَرَّهُ مِنْهَا ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْغُرُورُ مِنْهَا لَا يَسْتَوْجِبُ قِيمَةَ الْوَلَدِ ، وَفِيهِ قَوْلَانِ لِأَبِي يُوسُفَ مَعْرُوفٌ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْغُرُورُ مِنْ غَيْرِهَا وَجَبَ عَلَى الْأَبِ قِيمَةُ الْوَلَدِ وَيَكُونُ ذَلِكَ لِلْمُكَاتَبَةِ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ أَحَقَّ بِوَلَدِهَا لِكَوْنِهِ جُزْءًا مِنْهَا فَكَذَلِكَ بِبَدَلِ وَلَدِهَا .

قَالَ : مُكَاتَبٌ أَوْ عَبْدٌ مَأْذُونٌ بَاعَ أَمَةً فَاسْتَوْلَدَهَا الْمُشْتَرِي ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ رَجَعَ أَبُ الْوَلَدِ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى بَائِعِهِ ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ لِاسْتِحْقَاقِ صِفَةِ السَّلَامَةِ لَهُ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ عَلَى الْبَائِعِ ، وَالْمُكَاتَبُ وَالْمَأْذُونُ فِي هَذَا كَالْحُرِّ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ التِّجَارَةِ بِمَنْزِلَةِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، وَالرُّجُوعُ بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّدِّ عَلَيْهِ

قَالَ : رَجُلٌ وَرِثَ أَمَةً مِنْ أَبِيهِ فَاسْتَوْلَدَهَا ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ كَانَ الْوَلَدُ حُرًّا بِالْقِيمَةِ لِتَحَقُّقِ الْغُرُورِ فِي حَقِّ الْوَارِثِ فَإِنَّمَا اسْتَوْلَدَهَا عَلَى أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ إذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِكَوْنِهَا مُسْتَحَقَّةً ، ثُمَّ يَرْجِعُ بِالثَّمَنِ وَبِقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى الَّذِي كَانَ بَاعَهَا مِنْ الْمُوَرِّثِ ؛ لِأَنَّهُ يَخْلُفُ الْمُوَرِّثَ فِي مِلْكِهِ فَإِنَّمَا يَصِلُ إلَيْهِ الْمِلْكُ الَّذِي كَانَ لِمُوَرِّثِهِ لَا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِلْكًا جَدِيدًا لَهُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ يَرُدُّهُ بِالْعَيْبِ ، وَيَكُونُ فِيهِ كَالْمُوَرِّثِ فَكَذَلِكَ الرُّجُوعُ بِسَبَبِ الْغُرُورِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُوصَى لَهُ ، ثُمَّ اسْتَوْلَدَهَا ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ لَا يَرْجِعُ عَلَى بَائِعِ الْمُوصَى لَهُ بِعَقْدٍ مُتَجَدِّدٍ ، وَذَلِكَ الْمِلْكُ غَيْرُ الْمِلْكِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ الْبَائِعِ بِبَيْعِهِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَرُدُّهُ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ فَكَذَلِكَ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِضَمَانِ الْغُرُورِ .

قَالَ : رَجُلٌ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ أَنَّ هَذِهِ الْجَارِيَةَ وَدِيعَةٌ عِنْدَهُ لِفُلَانٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ أَوْ لَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَاسْتَوْلَدَهَا الْوَارِثُ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَقَدْ عَلِمَ بِإِقْرَارِ الْأَبِ ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ بِبَيِّنَةٍ فَإِنَّهُ يُقْضَى لِلْمُسْتَحِقِّ بِهَا وَبِوَلَدِهَا مَمْلُوكَيْنِ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ غَيْرُ مَغْرُورٍ هُنَا فَإِنَّهُ أَقْدَمَ عَلَى اسْتِيلَادِهَا مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهَا غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لَهُ ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ مَمْلُوكَةً لِمُوَرِّثِهِ فَصَارَ رَاضِيًا بِرِقِّ مَائِهِ ، وَكَانَ الْوَلَدُ مِلْكًا لِلْمُسْتَحِقِّ ، وَإِنْ لَمْ يُقِرَّ الْمَرِيضُ بِهَا لِغَيْرِهِ ، وَكَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ فَاسْتَوْلَدَهَا الْوَارِثُ قِيمَةَ الْوَلَدِ وَالْعُقْرِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْرُورِ فِيهَا فَإِنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ظَاهِرٌ فِي وُقُوعِ الْمِلْكِ لِلْوَارِثِ فِي التَّرِكَةِ الْمُسْتَغْرَقَةِ بِالدَّيْنِ فَمَنْ يَقُولُ لَا يَمْلِكُ يَقُولُ سَبَبُ الْمِلْكِ لَهُ فِيهَا تَامٌّ حَتَّى يَمْلِكَ اسْتِخْلَاصَهَا لِنَفْسِهِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ ، وَلَوْ أَعْتَقَهَا ، ثُمَّ سَقَطَ الدَّيْنُ نَفَذَ عِتْقُهُ ، وَلَوْ كَانَتْ أُمُّهُ فَتَزَوَّجَهَا لَمْ يَصِحَّ النِّكَاحُ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْغُرُورَ قَدْ تَحَقَّقَ فَكَانَ وَلَدُهُ حُرًّا بِالْقِيمَةِ وَتُبَاعُ الْأَمَةُ فِي الدَّيْنِ إنْ اُسْتُغْرِقَتْ التَّرِكَةُ بِالدَّيْنِ يُمْنَعُ عِتْقُ الْوَارِثِ فِيهَا فَكَذَلِكَ يُمْنَعُ ثُبُوتُ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ مِنْ جِهَةِ الْوَارِثِ فِيهَا ، وَوُجُوبُ الْعُقْرِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا وَطْءٌ حَصَلَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ ، وَقَدْ سَقَطَ الْحَدُّ لِشُبْهَةٍ فَيَغْرَمُ الْعُقْرَ فَإِنْ أَقَامَ رَجُلٌ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ قَضَيْتُ بِهَا لَهُ وَبِقِيمَةِ الْوَلَدِ ، وَالْعُقْرِ لِمَا بَيَّنَّا ، وَلَوْ كَانَتْ الْأَمَةُ لِلْمَيِّتِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَا يُحِيطُ بِقِيمَتِهَا فَوَطِئَهَا الْوَارِثُ فَوَلَدَتْ مِنْهُ وَضَمِنَ قِيمَتَهَا وَعُقْرَهَا ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُحِيطًا بِالتَّرِكَةِ لَا يَمْنَعُ مِلْكَ

الْوَارِثِ فَيَصِحُّ اسْتِيلَادُهُ فِيهَا ، وَلَكِنَّ حَقَّ الْغَرِيمِ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّهِ وَيَغْرَمُ قِيمَتَهَا لِحَقِّ الْغَرِيمِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسْتَهْلِكًا لِمَالِيَّتِهَا عَلَى الْغَرِيمِ بِالِاسْتِيلَادِ قَالَ : وَيَغْرَمُ عُقْرَهَا قَالَ عِيسَى رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا غَلَطٌ فَإِنَّ الِاسْتِيلَادَ حَصَلَ فِي مِلْكِهِ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْعُقْرِ عَلَيْهِ إذَا كَانَ فِي قِيمَتِهَا وَفَاءٌ بِالدَّيْنِ وَزِيَادَةٌ فَلَمْ يَغْرَمْ الْعُقْرَ ؛ وَلِمَاذَا يَغْرَمُ .
وَلَكِنَّا نَقُولُ : تَأْوِيلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْوَرَثَةَ كَانُوا عَدَدًا فَكَانَ هَذَا اسْتِيلَادَ الشُّرَكَاءِ لِلْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ ، وَهُوَ مُوجِبٌ لِلْعُقْرِ وَالْقِيمَةِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الشُّرَكَاءِ ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ ، وَهُوَ قَوْلُ بِشْرٍ يُقَدَّرُ الدَّيْنُ ، وَلَا يَصِيرُ مِلْكًا لِلْوَارِثِ أَيْضًا فَلِهَذَا لَزِمَهُ قِيمَتُهَا ، وَعُقْرُهَا يُقْضَى مِنْ ذَلِكَ الدَّيْنِ أَوَّلًا ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ مِيرَاثٌ بَيْنَ الْوَرَثَةِ يَسْقُطُ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ ، وَلَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الْوَلَدِ هُنَا ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَحَدَ الشُّرَكَاءِ إذَا اسْتَوْلَدَ الْجَارِيَةَ الْمُشْتَرَكَةَ لَمْ يَغْرَمْ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ شَيْئًا

قَالَ : رَجُلٌ اشْتَرَى جَارِيَةً مَغْصُوبَةً وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ الْبَائِعَ غَاصِبٌ أَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا حُرَّةٌ ، وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا كَاذِبَةٌ فَاسْتَوْلَدَهَا كَانَ الْوَلَدُ رَقِيقًا لِانْعِدَامِ الْغُرُورِ حِينَ كَانَ عَالِمًا بِحَقِيقَةِ الْحَالِ ؛ وَلِأَنَّهُ رَضِيَ بِرِقِّ مَائِهِ حِينَ اسْتَوْلَدَهَا مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِغَيْرِهِ ، وَلَوْ اشْتَرَاهَا مِنْ رَجُلٍ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهَا لِغَيْرِهِ فَقَالَ الْبَائِعُ : أَنَا صَاحِبُهَا وَكَّلَنِي بِبَيْعِهَا أَوْ مَاتَ ، وَقَدْ أَوْصَى إلَيَّ فَاسْتَوْلَدَهَا ، ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهَا ، وَأَنْكَرَ الْوَكَالَةَ وَالْوَصَايَا فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا جَارِيَتَهُ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ فِيهَا مَعْلُومٌ ، وَإِذْنُهُ فِي بَيْعِهَا لَمْ يَصِحَّ حِينَ أَنْكَرَهُ وَيَأْخُذُ عُقْرَهَا وَقِيمَةَ وَلَدِهَا ؛ لِأَنَّ الْغُرُورَ قَدْ تَحَقَّقَ بِمَا أَخْبَرَهُ الْبَائِعُ بِهِ فَإِنَّ مَا أَخْبَرَ بِهِ لَوْ كَانَ حَقًّا كَانَتْ هِيَ مَمْلُوكَةٌ لِلْمُشْتَرِي فَهَذَا وَقَوْلُهُ إنَّهَا مِلْكِي سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ يَلْتَزِمُ سَلَامَتَهَا لَهُ ، فَإِذَا غَرِمَ قِيمَةَ الْوَلَدِ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْبَائِعِ مَعَ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ مَا الْتَزَمَ .
وَلَوْ اشْتَرَى الْوَكِيلُ لِمُوَكِّلِهِ جَارِيَةً فَاسْتَوْلَدَهَا الْمُوَكِّلُ ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ أَخَذَهَا الْمُوَكِّلُ الْمُسْتَحِقُّ وَعُقْرَهَا ، وَقِيمَةَ وَلَدِهَا مِنْ الْمُسْتَوْلِدِ وَيَرْجِعُ بِالثَّمَنِ وَقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى الْبَائِعِ ، وَالْوَكِيلُ هُوَ الَّذِي يَلِي خُصُومَتَهُ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ الْتَزَمَ بِالْعَقْدِ صِفَةَ السَّلَامَةِ ، وَالْوَكِيلُ لَهُ الْيَدُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْخُصُومَةَ فِي الْعَيْبِ لِلْبَائِعِ دُونَ الْمُوَكِّلِ فَكَذَلِكَ الْخُصُومَةُ فِي الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ وَقِيمَةُ الْوَلَدِ عَلَى الْوَكِيلِ فَإِنْ قَالَ الْبَائِعُ لَمْ أَبِعْ مِنْ أَبِي الْوَلَدِ شَيْئًا أَوْ قَالَ لَمْ أَشْتَرِ هَذَا مِنِّي لَهُ فَأَقَامَ الْوَكِيلُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا لِفُلَانٍ بِأَمْرِهِ فَالثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ ، وَإِنْ

لَمْ يَشْهَدُوا بِأَمْرِهِ ، وَلَكِنْ شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ اشْتَرَاهَا لِفُلَانٍ بِمَالِهِ فَإِنْ كَانَ إقْرَارُهُ بِهَذَا قَبْلَ الشِّرَاءِ وَشَهِدَ الشُّهُودُ بِذَلِكَ فَهُوَ وَمَا سَبَقَ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّا لَوْ سَمِعْنَا إقْرَارَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ الشِّرَاءُ مُوجِبًا الْمِلْكَ لِلْمُوَكِّلِ فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ ، وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ أَقَرَّ بِذَلِكَ بَعْدَ الشِّرَاءِ قَبْلَ أَنْ تَلِدَ وَبَعْدَهُ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ شِرَاءَهُ مُوجِبٌ الْمِلْكَ لَهُ فَكُلُّ أَحَدٍ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ بِتَصَرُّفِهِ حَتَّى يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ يَعْمَلُ لِغَيْرِهِ بِإِقْرَارِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْبَائِعِ بِمَنْزِلَةِ الْإِيجَابِ الْمُبْتَدِئِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ فِي حَقِّهِ ، وَلَوْ مَلَكَهُ ابْتِدَاءً مِنْ هَذَا الْمُسْتَوْلِدِ لَمْ يَكُنْ لَهُ خُصُومَةٌ مَعَ الْبَائِعِ فِي الرُّجُوعِ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ هُنَا

وَلَوْ اسْتَوْلَدَ جَارِيَتَهُ فَاسْتَحَقَّهَا رَجُلٌ فَقَالَ الْمُسْتَوْلِدُ : اشْتَرَيْتهَا مِنْ فُلَانٍ بِكَذَا ، وَصَدَّقَهُ فُلَانٌ ، وَكَذَّبَهُمَا الْمُسْتَحِقُّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَحِقِّ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ مِلْكِ الْوَلَدِ ظَاهِرٌ ، وَهُوَ اسْتِحْقَاقُ الْجَارِيَةِ وَالْآخَرَانِ يُرِيدَانِ إبْطَالَ مِلْكِهِ فِي الْوَلَدِ بِقَوْلِهِمَا فَلَا يُصَدَّقَانِ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَكِنْ يَحْلِفُ الْمُسْتَحِقُّ بِاَللَّهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ اشْتَرَاهَا مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ كَانَ الْوَلَدُ حُرًّا فَإِذَا أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ عَلَيْهِ ، وَلَوْ أَنْكَرَ الْبَائِعُ وَصَدَّقَهُ الْمُسْتَحِقُّ فَالْوَلَدُ حُرٌّ لِإِقْرَارِ الْمُسْتَحِقِّ بِحُرِّيَّتِهِ وَعَلَى الْأَبِ قِيمَتُهُ لِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِالْقِيمَةِ لِلْمُسْتَحِقِّ ، وَلَا رُجُوعَ لَهُمَا عَلَى الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَيْهِ ، وَلَوْ أَنْكَرَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي ، وَأَقَرَّ بِهِ الْمُسْتَحِقُّ عَتَقَ الْوَلَدُ بِإِقْرَارِهِ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكَهُ فِي الظَّاهِرِ ، وَلَا قِيمَةَ لَهُ عَلَى الْأَبِ ؛ لِأَنَّهُ مُدَّعٍ لِنَفْسِهِ عَلَيْهِ بِالْقِيمَةِ فَلَا يَسْتَحِقُّهُ إلَّا بِحُجَّةٍ .

قَالَ : رَجُلٌ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ مُضَارَبَةً بِالنِّصْفِ فَاشْتَرَى بِهَا جَارِيَةً تُسَاوِي أَلْفَيْ دِرْهَمٍ فَاسْتَوْلَدَهَا الْمُضَارِبُ ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ فَالْوَلَدُ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ كَانَ مَالِكًا نِصْفَهَا فِي الظَّاهِرِ قَدْرَ حِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ فَيَتَحَقَّقُ الْغُرُورُ بِسَبَبٍ ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُضَارِبُ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ فَيَكُونُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ كَمَا كَانَ وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ أَيْضًا بِرُبُعِ قِيمَةِ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ الظَّاهِرِ ، وَذَلِكَ كَانَ بِقَدْرِ الرُّبُعِ فَيَرْجِعُ بِهِ عَلَى الْبَائِعِ وَيَكُونُ ذَلِكَ لَهُ خَاصَّةً ، وَلَا يَكُونُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ ؛ لِأَنَّهُ عِوَضٌ عَمَّا أَدَّى ، وَالْمُؤَدَّى لَمْ يَكُنْ مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأُمِّ فَضْلٌ أَخَذَ الْمُسْتَحِقُّ الْوَلَدَ مَعَ الْأُمِّ ، وَلَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ مِنْ الْمُضَارِبِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْلَدَهَا وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْهَا فَكَانَ لَا يَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ ، وَالْوَلَدُ رَقِيقٌ لِانْعِدَامِ التَّوَارُثِ حِينَ كَانَ عَالِمًا بِحَالِهَا .
وَإِنْ كَانَ هُوَ الَّذِي اسْتَوْلَدَهَا فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا فَضْلٌ كَانَ الْوَلَدُ حُرًّا وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ لِلْمُسْتَحِقِّ ؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِرَبِّ الْمَالِ فِي الظَّاهِرِ ، وَالْمُضَارِبُ اشْتَرَاهَا لَهُ بِأَمْرِهِ فَهَذَا ، وَفَضْلُ الْوَكِيلِ سَوَاءٌ فَيَكُونُ الْوَلَدُ حُرًّا بِالْقِيمَةِ وَيَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ ، وَقِيمَةِ الْوَلَدِ ، وَاَلَّذِي يَلِي خُصُومَةَ الْبَائِعِ فِي ذَلِكَ الْمُضَارِبُ فَيَكُونُ الثَّمَنُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ ، وَقِيمَةُ الْوَلَدِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ تُسَاوِي أَلْفَيْنِ فَالرُّجُوعُ عَلَى الْبَائِعِ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ قِيمَةِ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ لِلْمُسْتَوْلِدِ مِنْ جِهَتِهِ كَانَ هَذَا الْمُقَدَّرُ ، وَهُوَ قَدْرُ رَأْسِ الْمَالِ وَحِصَّتُهُ مِنْ الرِّبْحِ فَإِنَّمَا يُرْجَعُ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ فَيَكُونُ لِرَبِّ الْمَالِ خَاصَّةً ، وَيَرْجِعُ

بِالثَّمَنِ فَيَكُونُ عَلَى الْمُضَارَبَةِ

قَالَ : رَجُلَانِ اشْتَرَيَا مِنْ وَصِيِّ يَتِيمٍ أَمَةً فَاسْتَوْلَدَهَا أَحَدُهُمَا ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ قُضِيَ لَهُ بِهَا وَبِقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى الْأَبِ وَيَرْجِعُ الْأَبُ بِنِصْفِ تِلْكَ الْقِيمَةِ عَلَى الْوَصِيِّ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ نِصْفَهَا مِنْ جِهَةِ الْوَصِيِّ بِبَيْعِهِ فَبِقَدْرِهِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ مِنْ قِيمَةِ وَلَدِهَا ، ثُمَّ يَرْجِعُ بِهِ الْوَصِيُّ فِي مَالِ الْيَتِيمِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ عَامِلًا لِلْيَتِيمِ فِي ذَلِكَ فَإِذَا لَحِقَهُ عُهْدَةٌ يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْبَائِعُ أَبَا الصَّبِيِّ فَهُوَ وَالْوَصِيُّ فِي حُكْمِ الرُّجُوعِ سَوَاءٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْبَائِعُ وَكِيلًا أَوْ مُضَارِبًا إذَا كَانَ فِي الْمُضَارَبَةِ فَضْلٌ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى رَبِّ الْمَالِ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ إلَّا بِقَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ ، وَحِصَّتِهِ مِنْ الرِّبْحِ ؛ لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ عَامِلٌ لَهُ ، وَفِي حِصَّةِ نَفْسِهِ مِنْ الرِّبْحِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فَلَا رُجُوعَ بِهِ لَهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ .

قَالَ : وَلَوْ كَفَلَ رَجُلٌ لِلْمُشْتَرِي بِمَا أَدْرَكَهُ مِنْ دَرَكٍ لَمْ يَرْجِعْ الْمُشْتَرِي عَلَى الْكَفِيلِ بِقِيمَةِ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ بِدَرَكٍ فِي الْجَارِيَةِ إنَّمَا يَفُوتُ بِهَذَا مَا الْتَزَمَ بِصِفَةِ السَّلَامَةِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ عَيْبٍ يَجِدُهُ بِهَا فَيَرُدُّهَا وَهُنَاكَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْكَفِيلِ بِشَيْءٍ كَذَلِكَ هُنَا لَا يَرْجِعُ عَلَى الْكَفِيلِ بِشَيْءٍ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ

قَالَ : وَإِذَا غَرَّتْ الْأَمَةُ مِنْ نَفْسِهَا رَجُلًا أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا أَمَةٌ لِهَذَا الرَّجُلِ فَاشْتَرَاهَا مِنْهُ ، وَاسْتَوْلَدَهَا ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ رَجَعَ أَبُو الْوَلَدِ بِالثَّمَنِ وَقِيمَةِ الْوَلَدِ عَلَى الْبَائِعِ دُونَ الْأَمَةِ ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِاعْتِبَارِ الْتِزَامِ صِفَةِ السَّلَامَةِ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ ، وَالْبَائِعُ هُوَ الَّذِي الْتَزَمَ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي دُونَ الْأَمَةِ إنَّمَا الْأَمَةُ أَخْبَرَتْهُ بِخَبَرٍ كَذِبٍ ، وَمُجَرَّدُ هَذَا الْخَبَرِ لَا يُلْزِمُهُ ضَمَانَ قِيمَةِ الْوَلَدِ كَمَا بَيَّنَّاهُ

قَالَ : حُرَّةٌ وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ ، وَكَبُرَا وَاكْتَسَبَا مَالًا ، ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا ، وَتَرَكَ ابْنًا ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ وَادَّعَى أَنَّهُ زَوْجُ الْمَرْأَةِ ، وَأَنَّهُمَا ابْنَاهُ فَأَقَرَّتْ الْمَرْأَةُ بِذَلِكَ جَحَدَ الِابْنُ الْبَاقِي ، وَابْنُ الِابْنِ فَإِنَّ الرَّجُلَ وَالْمَرْأَةَ يُصَدَّقَانِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا دُونَ غَيْرِهِمَا فَيَثْبُتُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا بِتَصَادُقِهِمَا ، وَيَدْخُلُ فِي نَصِيبِ الْمَرْأَةِ مِنْ الْمِيرَاثِ لِإِقْرَارِهِمَا أَنَّهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي ذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ تَرَكَ أَبَوَيْنِ وَابْنًا فَلِلْأَبَوَيْنِ السُّدُسَانِ فَلِهَذَا قُسِمَ مَا فِي يَدِهَا بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَإِنْ أَقَرَّ ابْنُ الْمَرْأَةِ بِدَعْوَةِ الرَّجُلِ ثَبَتَ نَسَبُهُ بِإِقْرَارِهِ ، وَمِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ نَسَبِهِ ثُبُوتُ نَسَبِ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُمَا تَوْأَمٌ فَيَثْبُتُ نَسَبُهُمَا ، وَلَكِنَّهُ لَا يَرِثُ بِهَذَا مَعَ ابْنِ الْمَيِّتِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ الِابْنَ الْبَاقِيَ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِشَيْءٍ مِنْ مِيرَاثِ الْمَيِّتِ فَتَصْدِيقُهُ فِي حُكْمِ الْمِيرَاثِ وَتَكْذِيبُهُ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الْمِيرَاثَ مَالٌ يَنْفَصِلُ عَنْ النَّسَبِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ ثُبُوتًا وَسُقُوطًا .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ عَبْدَ الرِّقِّ وَاخْتِلَافَ الدِّينِ وَالنَّسَبَ ثَابِتٌ ، وَلَا مِيرَاثَ ، وَإِذَا أَقَرَّ أَحَدُ الْأَخَوَيْنِ بِأَخٍ آخَرَ فَالشَّرِكَةُ فِي الْمِيرَاثِ ثَابِتَةٌ ، وَلَا نَسَبَ وَمَا كَانَ طَرِيقُ ثُبُوتِهِ الضَّرُورَةُ فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ الْجُمْلَةُ فَإِذَا كَانَ أَحَدُ الْحُكْمَيْنِ يَنْفَصِلُ عَنْ الْآخَرِ فِي الْجُمْلَةِ لَمْ يُسْتَحَقَّ الْمِيرَاثُ بِإِقْرَارِهِ ، وَإِنْ ثَبَتَ نَسَبُهُ ، وَإِنْ أَقَرَّ ابْنُ الْمَيِّتِ بِدَعْوَةِ الرَّجُلِ ، وَقَدْ احْتَلَمَ ثَبَتَ نَسَبُهُمَا جَمِيعًا مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ فِي هَذَا التَّصْدِيقِ قَائِمٌ مَقَامَ أَبِيهِ وَثُبُوتُ نَسَبِ أَخِيهِ يَقْتَضِي ثُبُوتَ نَسَبِ الْآخَرِ ضَرُورَةً وَيَرِثُ مَعَهُ الرَّجُلُ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي الْمِيرَاثِ لَهُ ، وَقَدْ أَقَرَّ بِأَنَّ سُدُسًا مِنْ الْمِيرَاثِ ، وَهُوَ خُمُسُ مَا فِي يَدِهِ لِلْأَبِ فَيُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِهِ إلَيْهِ

قَالَ : وَلَوْ أَنَّ أَمَةً وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فِي بَطْنٍ وَاحِدٍ فَاشْتَرَى رَجُلٌ أَحَدَهُمَا ، وَأَعْتَقَهُ ، ثُمَّ مَاتَ الْمُعْتَقُ فَوَرِثَهُ مَوْلَاهُ ، ثُمَّ اشْتَرَى رَجُلٌ آخَرُ الِابْنَ الْبَاقِي مَعَ أُمِّهِ فَادَّعَى أَنَّهُ ابْنُهُ ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا لَا يُقِرُّ بِذَلِكَ إلَّا عَبْدٌ لَهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى تَصْدِيقِهِ فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ مِنْهُ وَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِ الْمَيِّتِ أَيْضًا مِنْهُ ، وَلَا يَكُونُ لَهُ الْمِيرَاثُ الَّذِي أَخَذَهُ الْمَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ النَّسَبِ اسْتِحْقَاقُ الْمَالِ ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا الْفَصْلَ إيضَاحًا لِمَا سَبَقَ فَإِنَّا لَوْ قُلْنَا يَسْتَحِقُّ الْمَالَ عَلَى الْمَوْلَى بِهَذَا الطَّرِيقِ كَانَ يَقْدِرُ كَوَاحِدٍ عَلَى إبْطَالِ حَقِّ الْمَوْلَى عَنْ الْمِيرَاثِ الْمُسْتَحَقِّ لَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ الِابْنَ الْآخَرَ فَيَدَّعِيَ نَسَبَهُ ، وَهَذَا بَعِيدٌ وَفِيهِ مِنْ الضَّرُورَةِ مَا لَا يَخْفَى فَقُلْنَا لَا يَسْتَحِقُّ الْمَالَ ، وَإِنْ ثَبَتَ نَسَبُ الْآخَرِ مِنْهُ ضَرُورَةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( قَالَ ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إمْلَاءً اعْلَمْ بِأَنَّ الْإِقْرَارَ خَبَرٌ مُتَمَثِّلٌ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَكَانَ مُحْتَمَلًا بِاعْتِبَارِ ظَاهِرِهِ وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً وَلَكِنَّهُ جُعِلَ حُجَّةً بِدَلِيلٍ مَعْقُولٍ وَهُوَ أَنَّهُ ظَهَرَ رُجْحَانُ جَانِبِ الصِّدْقِ عَلَى جَانِبِ الْكَذِبِ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِيمَا يُقِرُّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَفِي حَقِّ الْغَيْرِ رُبَّمَا تَحْمِلُهُ النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ كَاذِبًا وَرُبَّمَا يَمْنَعُهُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالصِّدْقِ وَفِي حَقِّ نَفْسِهِ النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ كَاذِبًا وَرُبَّمَا يَمْنَعُهُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالصِّدْقِ وَفِي حَقِّ نَفْسِهِ النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ لَا تَحْمِلُهُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالْكَذِبِ وَرُبَّمَا يَمْنَعُهُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالصِّدْقِ فَلِظُهُورِ دَلِيلِ الصِّدْقِ فِيمَا يُقِرُّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ جُعِلَ إقْرَارُهُ حُجَّةً وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ { بَلْ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَيْ شَاهِدٌ بِالْحَقِّ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ شَرْعًا قَوْله تَعَالَى { وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ } فَأَمْرُ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ بِالْإِقْرَارِ بِمَا عَلَيْهِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ وَالنَّهْيُ عَنْ الْكِتْمَانِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا } { وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إقْرَارَهُ حُجَّةٌ كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا نَهَى عَنْ كِتْمَانِ الشَّهَادَةِ كَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الشَّهَادَةَ حُجَّةٌ فِي الْأَحْكَامِ { وَرَجَمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاعِزًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ الْعَسْفِ { وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ إلَى امْرَأَةِ هَذَا

فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا } فَيَكُونُ الْإِقْرَارُ حُجَّةً فِي الْحُدُودِ الَّتِي تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ حُجَّةٌ فِيمَا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى ثُمَّ الْإِقْرَارُ صَحِيحٌ بِالْمَعْلُومِ وَالْمَجْهُولِ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْلُومُ ؛ لِأَنَّهُ إظْهَارٌ لِمَا عَلَيْهِ مِنْ الْحَقِّ وَقَدْ يَكُونُ مَا عَلَيْهِ مَجْهُولًا فَيَصِحُّ إظْهَارُهُ بِالْمَجْهُولِ كَالْمَعْدُومِ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْمَشْهُودِ بِهِ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلشَّاهِدِ { إذَا رَأَيْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا فَدَعْ } فَمَعَ الْجَهْلِ لَا حَاجَةَ إلَى الشَّهَادَةِ بَلْ هُوَ مَمْنُوعٌ عَنْ أَدَائِهَا فَأَمَّا مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ مُحْتَاجٌ إلَى إظْهَارِ مَا عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ مَعْلُومًا كَانَ عِنْدَهُ أَوْ مَجْهُولًا فَقَدْ يَعْلَمُ أَصْلَ الْوُجُوبِ وَيَجْهَلُ قَدْرَ الْوَاجِبِ وَصِفَتَهُ وَلِهَذَا صَحَّ إقْرَارُهُ بِالْمَجْهُولِ وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُوجِبُ حَقًّا إلَّا بِانْضِمَامِ الْقَضَاءِ إلَيْهَا وَالْقَاضِي لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَضَاءِ إلَّا بِالْمَعْلُومِ فَأَمَّا الْإِقْرَارُ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ قَبْلَ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهِ وَإِذَا احْتَمَلَ بِالْمَجْهُولِ أَمْكَنَ إزَالَةُ الْجَهَالَةِ بِالْإِجْبَارِ عَلَى الْبَيَانِ فَلِهَذَا صَحَّ الْإِقْرَارُ وَلِهَذَا لَا يُعْمَلُ بِالرُّجُوعِ عَنْ الْإِقْرَارِ وَيُعْمَلُ بِالرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ قَبْلَ اتِّصَالِ الْقَضَاءِ بِهَا إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ رَجُلٌ قَالَ غَصَبْتُ مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا فَالْإِقْرَارُ صَحِيحٌ وَيَلْزَمُهُ مَا بَيَّنَهُ وَلَا بُدَّ مِنْ تَبْيِينِ أَيِّ شَيْءٍ هُوَ لِأَنَّ الشَّيْءَ حَقِيقَةً اسْمٌ لِمَا هُوَ مَوْجُودٌ مَالًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ إلَّا أَنَّ لَفْظَ الْغَصْبِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَالِيَّةِ فِيهِ فَالْغَصْبُ لَا يَرِدُ إلَّا عَلَى مَا هُوَ مَالٌ وَمَا ثَبَتَ بِدَلَالَةِ اللَّفْظِ فَهُوَ كَالْمَلْفُوظِ كَقَوْلِهِ اشْتَرَيْتُ مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا

يَكُونُ إقْرَارًا بِشِرَاءِ مَا هُوَ مَالٌ لِأَنَّ الشِّرَاءَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِيهِ وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُبَيِّنَ مَا لَا يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ بَيْنَ النَّاسِ حَتَّى لَوْ فَسَّرَهُ بِحَبَّةِ حِنْطَةٍ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْغَصْبِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْهُ مِنْ صَاحِبِهِ حَتَّى غَلَبَ عَلَيْهِ فَغَصَبَهُ وَهَذَا مِمَّا يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ فَإِذَا تَبَيَّنَ شَيْئًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ قُبِلَ بَيَانُهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا بَيَانٌ مُقَرِّرٌ لِأَصْلِ كَلَامِهِ ، وَبَيَانُ التَّقْرِيرِ صَحِيحٌ مَوْصُولًا أَوْ مَفْصُولًا فَإِنْ سَاعَدَهُ الْمُقِرُّ عَلَى مَا بَيَّنَّهُ أَخَذَهُ وَإِنْ ادَّعَى غَيْرَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ مُوجَبِ إقْرَارِهِ بِمَا بَيَّنَ فَإِذَا كَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِيهِ صَارَ رَادًّا إقْرَارَهُ بِنَفْيِ دَعْوَاهُ شَيْئًا آخَرَ عَلَيْهِ وَهُوَ لِذَلِكَ مُنْكِرٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَيَسْتَوِي إنْ بَيَّنَ شَيْئًا يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ أَوْ يُضْمَنُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يَجْرِي فِيهِ التَّمَانُعُ حَتَّى الْمَغْصُوبِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَكَذَلِكَ إنْ بَيَّنَ أَنَّ الْمَغْصُوبَ دَارٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَإِنْ كَانَتْ الدَّارَ لَا يَضْمَنُ بِالْغَصْبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِيمَا إذَا بَيَّنَ الْمَغْصُوبُ زَوْجَتَهُ أَوْ وَلَدَهُ الصَّغِيرُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ بَيَانُهُ مَقْبُولٌ ؛ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِمُبْهَمِ كَلَامِهِ فَإِنَّ لَفْظَ الْغَصْبِ يُطْلَقُ عَلَى الزَّوْجِ وَالْوَلَدِ عَادَةً وَالتَّمَانُعُ فِيهِ يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ أَكْثَرَ مِمَّا يَجْرِي فِي الْأَمْوَالِ وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ بَيَانُهُ بِهَذَا ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْغَصْبِ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا فِيمَا هُوَ مَالٌ فَبَيَانُهُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ يَكُونُ إنْكَارًا لِحُكْمِ الْغَصْبِ بَعْدَ إقْرَارِهِ بِسَبَبِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ مِنْهُ وَفُرِّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْخُلْعِ فَإِنَّ مَنْ خَالَعَ امْرَأَتَهُ عَلَى مَا فِي بَيْتِهَا مِنْ شَيْءٍ

فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْبَيْتِ شَيْءٌ كَالْخُلْعِ مَجَازًا وَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ تَسْمِيَةَ الشَّيْءِ فِيهِ دَلِيلًا عَلَى الْمَالِيَّةِ بِخِلَافِ تَسْمِيَةِ الْمَتَاعِ ؛ لِأَنَّ الْخُلْعَ مِنْ أَسْبَابِ الْفُرْقَةِ وَالْفُرْقَةُ قَدْ تَكُونُ بِغَيْرِ بَدَلٍ فِي الْعَادَةِ فَلَا يَكُونُ فِيمَا صَرَّحَ دَلِيلًا عَلَى الْمَالِيَّةِ فِي الشَّيْءِ الْمَذْكُورِ فَأَمَّا الْغَصْبُ لَا يُطْلَقُ فِي الْعَادَةِ إلَّا فِيمَا هُوَ مَالٌ وَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ شَرْعًا إلَّا فِيمَا هُوَ مَالٌ فَالتَّنْصِيصُ عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى الْمَالِيَّةِ فِي الشَّيْءِ الْمَذْكُورِ وَالْعَصْرُ قَبْلَ التَّخَمُّرِ كَانَ مَالًا فَسَدَ تَقَوُّمُهُ بِالتَّخَمُّرِ شَرْعًا وَصَارَ الْمُسْلِمُ مَمْنُوعًا مِنْ تَمَوُّلِهِ مِنْ غَيْرِ انْعِدَامِ أَصْلِ الْمَالِيَّةِ فِيهِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ بِالتَّخَلُّلِ يَصِيرُ مَالًا مُتَقَوِّمًا وَهُوَ ذَلِكَ الْغَيْرُ فَلِهَذَا صَحَّ بَيَانُهُ ثُمَّ الْخَمْرُ مَحَلٌّ لِحُكْمِ الْغَصْبِ وَلِهَذَا كَانَ غَاصِبُ الْخَمْرِ مِنْ الذِّمِّيِّ ضَامِنًا لِهَذَا قَبْلَ بَيَانِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ غَصَبَ عَبْدًا فَهَذِهِ الْجَهَالَةُ دُونَ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ جِنْسَ الْمُقَرِّ بِهِ صَارَ مَعْلُومًا هُنَا ثُمَّ التَّوَسُّعُ فِي الْإِقْرَارِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الْخُلْعِ ، وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَالنِّكَاحِ وَتَسْمِيَةِ الْعَبْدِ مُطْلَقًا صَحِيحٌ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ فَفِي الْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ أَنَّ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ يَنْصَرِفُ إلَى الْوَسَطِ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَيَجِبُ النَّظَرُ فِيهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَذَلِكَ بِتَعَيُّنِ الْوَسَطِ الَّذِي هُوَ فَوْقَ الْوَكْسِ وَدُونَ الشَّطَطِ وَالْإِقْرَارُ لَا يُقَابِلُهُ شَيْءٌ فَلَا يَتَعَيَّنُ فِيهِ الْوَسَطُ بَلْ يَكُونُ الْمُقِرُّ فِيهِ مَقْبُولًا إذَا لَمْ يُخَالِفْ مَا يَلْفِظْ بِهِ سَوَاءٌ بَيْنَ الرَّدِيءِ أَوْ الْمَعِيبِ فَاسْمُ الْعَبْدِ أَوْلَى تَوْضِيحُ الْفَرْقِ أَنَّ الْغَصْبَ فِعْلٌ يَسْتَدْعِي مَحَلًّا هُوَ مَفْعُولٌ بِهِ وَلَأَنْ يَسْتَدْعِيَ صِفَةَ السَّلَامَةِ فِيهِ وَمِنْ حَيْثُ الْعَادَةُ أَيْضًا لَيْسَ لِلْغَاصِبِينَ اخْتِيَارُ الْوَسَطِ وَالتَّسْلِيمِ

وَإِنَّمَا يَغْصِبُ الْغَاصِبُ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَأَمَّا فِي عُقُودِ الْمُعَاوَضَاتِ لَهَا مُوجِبٌ شَرْعًا فِي اقْتِضَاءِ صِفَةِ السَّلَامَةِ وَكَذَلِكَ لِلنَّاسِ عَادَةٌ فِي إيرَادِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ دُونَ الْمَعِيبِ فَلِهَذَا يُصْرَفُ مُطْلَقُ الْعَقْدِ فِيهِ إلَى التَّسْلِيمِ فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ الَّذِي بِعَيْبِهِ مَنْصُوبًا فِي يَدِهِ قَائِمًا رَدَّهُ وَإِنْ كَانَ هَالِكًا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الْأَصْلِ فِي الْغَصْبِ رَدُّ الْعَيْنِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ } وَإِنَّمَا يُصَارُ إلَى الْقِيمَةِ عِنْدَ عَدَمِ رَدِّ الْعَيْنِ لِيَكُونَ خُلْفًا عَنْ الضَّمَانِ الْأَصْلِيِّ وَسُمِّيَتْ قِيمَةٌ لِقِيَامِهَا مَقَامَ الْعَيْنِ فَإِنْ وَقَعَتْ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ الْقِيمَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ مَعَ يَمِينِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِغَصْبِ شَاةٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ عَرَضٍ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ غَصَبَهُ دَارًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي تَعْيِينِهَا سَوَاءٌ عَيَّنَهَا فِي هَذِهِ الْبَلْدَةِ أَوْ فِي بَلْدَةٍ أُخْرَى ؛ لِأَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِمَا أُدِيرَ عَلَيْهِ الْحَائِطُ وَذَاكَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ فَكَانَ بَيَانُهُ مُطَابِقًا لِلَفْظِهِ .

وَلَوْ قَالَ هِيَ هَذِهِ الدَّارُ الَّتِي فِي يَدَيْ هَذَا الرَّجُلِ وَذُو الْيَدِ مُنْكِرٌ يَقُولُ الدَّارُ دَارِي فَالْقَوْلُ فِي تِلْكَ الدَّارِ قَوْلُ ذِي الْيَدِ ؛ لِأَنَّ دَعْوَى الْمُقِرِّ أَنَّهَا لِغَيْرِهِ كَدَعْوَاهُ أَنَّهَا لَهُ فَلَا يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ بِغَيْرِ حُجَّةٍ لَكِنَّهُ خَارِجٌ عَنْ عُهْدَةِ إقْرَارِهِ بِمَا بَيَّنَ فَإِنَّ بَيَانَهُ مُطَابِقٌ لِلَفْظِهِ ؛ لِأَنَّ مَا فِي يَدِ الْغَيْرِ مَالٌ مَحَلٌّ لِلْغَصْبِ ثُمَّ لَا يَضْمَنُ الْمُقِرُّ شَيْئًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَصِيرُ ضَامِنًا لِقِيمَتِهَا ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِبَعْضِهَا وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ أَنَّ الْعَقَارَ لَا يُضَمْنَ بِالْغَصْبِ وَهِيَ مَسْأَلَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ .

وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُهُ هَذِهِ الْأَمَةَ أَوْ هَذَا الْعَبْدَ فَادَّعَاهُمَا جَمِيعًا الْمُقَرُّ لَهُ فَإِنَّهُ يُقَالُ لِلْغَاصِبِ : قِرَّ بِأَيِّهِمَا شِئْتَ وَتَخَلَّفَتْ عَنْ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُ أَدْخَلَ حَرْفَ " أَوْ " فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ فَيَتَنَاوَلُ بَعْضَ الْمَذْكُورَيْنِ فَإِذَا أَقَرَّ بِأَحَدِهِمَا خَرَجَ بِهِ عَنْ عُهْدَةِ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ وَقَدْ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي ذَلِكَ حِينَ ادَّعَاهُمَا جَمِيعًا فَيَأْخُذُ الْمُقَرُّ لَهُ ذَلِكَ الشَّيْءَ عَيْنَهُ وَتَبْقَى دَعْوَاهُ الْآخَرَ فِي يَدِهِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ الْآخَرُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ وَإِنْ ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ أَحَدَهُمَا بِعَيْنِهِ لَمْ يَسْتَحِقَّ ذَلِكَ إذَا زَعَمَ الْمُقِرُّ أَنَّ الْمَغْصُوبَ هُوَ الْآخَرُ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِغَصْبٍ فِي مُنْكَرٍ ؛ وَلِأَنَّ ادِّعَاءَ الْمُقَرِّ لَهُ مُعَيَّنٌ ، وَالْمُعَيَّنُ عِنْدَ الْمُنْكِرِ فَلَمْ يَتَنَاوَلْ إقْرَارُهُ هَذَا الْمَحَلَّ بِعَيْنِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ ثُمَّ هُوَ بِالتَّعْيِينِ قَصَدَ إبْطَالَ حَقِّ الْبَيَانِ الثَّابِتِ لِلْمُقِرِّ فَإِنَّهُ هُوَ الْمُبْهَمُ وَمَنْ أَبْهَمَ شَيْئًا فَإِلَيْهِ بَيَانُهُ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ الْحَقِّ الثَّابِتِ لَهُ فَإِنْ بَيَّنَ الْمُقِرُّ الْآخَرُ صَحَّ بَيَانُهُ ؛ لِأَنَّهُ مُوَافِقٌ لِمُبْهَمِ كَلَامِهِ وَلَكِنَّ الْمُقَرَّ لَهُ كَذَّبَهُ فِي ذَلِكَ وَالْإِقْرَارُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ فَيَبْطُلُ إقْرَارُهُ بِهِ بِنَفْيِ دَعْوَى الْمُقَرِّ لَهُ الْآخَرِ عَلَيْهِ وَهُوَ جَاحِدٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ .

وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ غَصَبَ هَذَا الْعَبْدَ مِنْ هَذَا أَوْ مِنْ هَذَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِيهِ فَإِنْ اصْطَلَحَا عَلَى أَخْذِهِ ؛ أَخَذَهُ وَإِنْ لَمْ يَصْطَلِحَا اُسْتُحْلِفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَوْ لَا ؟ نَقُولُ : فُرِّقَ بَيْنَ هَذَا وَالْأَوَّلِ فَقَالَ هُنَاكَ يُقَالُ لَهُ قِرَّ بِأَيِّهِمَا شِئْتَ وَاحْلِفْ عَلَى الْآخَرِ وَهُنَا لَا يُقَالُ لَهُ قِرَّ لِأَيِّهِمَا شِئْتَ وَاحْلِفْ لِلْآخَرِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْإِقْرَارَ صَحِيحٌ مُلْزِمٌ فَإِنَّ الْمُسْتَحَقَّ مَعْلُومٌ إنَّمَا الْجَهَالَةُ فِي الْمُسْتَحِقِّ فَيُمْكِنُ إجْبَارُهُ عَلَى الْبَيَانِ لَمَّا صَحَّ إقْرَارُهُ وَهُنَا إقْرَارٌ غَيْرُ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ مَجْهُولٌ وَجَهَالَةُ الْمُقَرِّ لَهُ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَثْبُتُ لِلْمَجْهُولِ ؛ وَلِأَنَّ الْمَغْصُوبَ عِنْدَ الْغَصْبِ قَدْ بَيَّنَهُ حَالُهُ عَلَى الْغَاصِبِ أَنَّهُ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ وَلَكِنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ لَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ عَادَةً فَلَمْ يَكُنْ إقْرَارُهُ لِلْمَجْهُولِ حُجَّةً تَامَّةً فِي الِاسْتِحْقَاقِ حَتَّى يُجْبَرَ عَلَى الْبَيَانِ وَلَكِنَّهُمَا إنْ اصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَأْخُذَهُ أُمِرَ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ جَهَالَةٌ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ تَسْلِيمُهُ إلَيْهِ وَقَدْ يُزَالُ ذَلِكَ بِاصْطِلَاحِهِمَا فَإِنَّ أَحَدَهُمَا مَالِكٌ وَالْآخَرُ نَائِبٌ عَنْهُ وَكَمَا يُؤْمَرُ الْغَاصِبُ بِالرَّدِّ عَلَى نَائِبِهِ ؛ وَلِأَنَّهُ كَانَ مُقِرًّا أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْعَبْدِ مِنْهُمَا فَإِنَّ الْحَقَّ فِيهِ لَا يَعْدُوهُمَا وَإِنَّمَا لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ فِي الْتِزَامِ التَّسْلِيمِ إلَى أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى الْبَيَانِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ ثَابِتٍ بِإِقْرَارِهِ فَإِذَا اصْطَلَحَا فَقَدْ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ مِنْهُمَا يَأْمُرهُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يَصْطَلِحَا اسْتَحْلَفَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَيْنِهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي الْحَقَّ لِنَفْسِهِ عَيْنًا وَهُوَ لَمْ يُقِرَّ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا أَقَرَّ لِمُنْكَرٍ مِنْهُمَا وَالْمُنْكَرُ فِي

حَقِّ الْمُعَيَّنِ كَالْمَعْدُومِ وَلِلْقَاضِي الْخِيَارُ فِي الْبِدَايَةِ بِالِاسْتِحْلَافِ لِأَيِّهِمَا شَاءَ وَقِيلَ هَذَا بِالِاسْتِحْلَافِ لِمَنْ سَبَقَ بِالدَّعْوَى وَقِيلَ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا تَطْمِينًا لِقُلُوبِهِمَا فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ أَحَدُهُمَا يَأْمُرُهُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ مَا لَمْ يُحَلِّفْهُ الْآخَرُ بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ فَإِنَّهُ يَأْمُرهُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ الْحَقَّ لِنَفْسِهِ فَأَمَّا النُّكُولُ لَا يُوجِبُ الْحَقَّ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَالْقَاضِي لَا يَقْضِي إلَّا بَعْدَ النَّظَرِ لِكُلِّ قَسَمٍ وَمِنْ حُجَّةِ الْآخَرِ أَنْ يَقُولَ الْقَاضِي إنَّمَا نَكَلَ لَهُ ؛ لِأَنَّكَ بَدَأْتَ بِالِاسْتِحْلَافِ لَهُ وَلَوْ بَدَأْتَ بِالِاسْتِحْلَافِ لِي لَكَانَ يَنْكُلُ لِي وَفِي الْإِقْرَارِ لَا يُمْكِنُ الْآخَرُ أَنْ يَحْتَجَّ بِمِثْلِ هَذَا وَقَدْ زَعَمَ أَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ أَحَقُّ بِالْعَيْنِ مِنْهُ فَيَأْمُرُهُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ فَإِنْ حَلَفَ لِأَحَدِهِمَا وَنَكَلَ لِلْآخَرِ قَضَى الْقَاضِي بِهِ لِلَّذِي يَحِلُّ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ حَقُّ مَنْ حَلَفَ لَهُ وَقَدْ انْتَفَى بِيَمِينِهِ مَا لَمْ يَأْتِ بِحُجَّةٍ وَلَا حُجَّةَ لَهُ وَنُكُولُهُ فِي حَقِّ الْآخَرِ قَائِمٌ مَقَامَ إقْرَارِهِ فَيَأْمُرُهُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ وَإِنْ نَكَلَ لَهُمَا قَضَى الْقَاضِي بِالْعَبْدِ بَيْنَهُمَا وَبِقِيمَتِهِ أَيْضًا بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ بِنُكُولِهِ صَارَ عَقْرًا لَهُ وَغَصَبَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَمِيعَهُ وَمَا لَوْ قَدَرَ إلَّا عَلَى النِّصْفِ يَرُدُّهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى بِهِ مِنْ الْآخَرِ فَيَلْزَمُهُ رَدُّ نِصْفِ الْقِيمَةِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ إذَا تَعَذَّرَ رَدُّهُ وَلَوْ حَلَفَ لَهُمَا لَمْ يَكُنْ لَهُمَا عَلَيْهِ شَيْءٌ لِأَنَّ حَقَّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ انْتَفَى بِيَمِينِهِ إلَى أَنْ يَجِدَ الْحُجَّةَ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَصْطَلِحَا بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْآخَرَ وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا : لَهُمَا ذَلِكَ وَهُوَ

قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ حَقَّ الْأَخْذِ عِنْدَ الِاصْطِلَاحِ ثَبَتَ لَهُمَا بِهَذَا الْإِقْرَارِ بِدَلِيلِ أَنَّهُمَا لَوْ اصْطَلَحَا قَبْلَ الِاسْتِحْلَافِ فَإِنَّ لَهُمَا أَنْ يَأْخُذَاهُ وَالْحَقُّ الثَّابِتُ بِالْإِقْرَارِ لَا يَبْطُلُ بِالْيَمِينِ وَالْمَعْنَى الَّذِي فَاتَ لَهُمَا أَنْ يَأْخُذَاهُ قَبْلَ الِاسْتِحْلَافِ إذَا اصْطَلَحَا عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا مَالِكٌ وَالْآخَرُ نَائِبٌ عَنْهُ وَهَذَا مَوْجُودٌ بِالِاسْتِحْلَافِ ؛ وَلِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ هُوَ غَيْرُ مَحَلٍّ لِلْإِقْرَارِ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ كَانَ لِأَحَدِهِمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَالِاسْتِحْلَافَ كَانَ اسْتِحْقَاقَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَيْنِهِ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ حُكْمُ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ فَالْقَاضِي يَتَيَقَّنُ أَنَّهُ صَادِقٌ فِي يَمِينِهِ أَوْ كَاذِبٌ وَلَا تَأْخِيرَ لِلْيَمِينِ الْكَاذِبَةِ فِي إبْطَالِ الِاسْتِحْقَاقِ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ يَمِينَ الْمُقِرِّ يُبْطِلُ حَقَّ مَنْ حَلَفَ لَهُ كَمَا لَوْ حَلَفَ لِأَحَدِهِمَا يُبْطِلُ حَقَّهُ وَمُزَاحَمَتَهُ ثُمَّ التَّفَقُّهُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّ أَصْلَ الْإِقْرَارِ وَقَعَ فَاسِدًا لِجَهَالَةِ الْمُقَرِّ لَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْغَصْبَ يُوجِبُ رَدَّ الْعَيْنِ وَالْمُسْتَحِقُّ لِلرَّدِّ عَلَيْهِ بِهَذَا الْإِقْرَارِ غَيْرُ مَعْلُومٍ أَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ فَاسِدًا وَلَكِنْ أَرَادَ : مَنْعُهُ الْعِبَادَ بِرَفْعِ الْمُفْسِدِ بِالِاصْطِلَاحِ مُمْكِنٌ فَإِنْ أَزَالَ ذَلِكَ قَبْلَ تَقَرُّرِ الْفَسَادِ صَحَّ الْإِقْرَارُ وَأَمَرَ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِمَا وَإِنْ تَقَرَّرَ الْفَسَادُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا يُمْكِنُ إزَالَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِرَفْعٍ كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ بِخِيَارٍ مَجْهُولٍ أَوْ بِعَمَلٍ مَجْهُولٍ إذَا تَقَرَّرَتْ صِفَةُ الْفَسَادِ بِالْقَضَاءِ وَهُنَا لَمَّا اسْتَحْلَفَهُ الْقَاضِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَقَدْ حُكِمَ بِفَسَادِ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ فَلَا يَنْقَلِبُ صَحِيحًا بَعْدَ ذَلِكَ بِاصْطِلَاحِهِمَا .
( الثَّانِي ) أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمَّا طَلَبَ يَمِينَهُ فَقَدَ عَامِلَةَ الْمُنْكِرِينَ

فَصَارَ رَادُّ الْإِقْرَارِ يَرْتَدُّ بِرَدِّ الْمُقَرِّ لَهُ فَلَمْ يَبْقَ لَهُمَا حَقُّ الِاصْطِلَاحِ بَعْدَ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الِاسْتِحْلَافِ وَالثَّابِتُ بِالْإِقْرَارِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ : إمَّا الِاصْطِلَاحُ أَوْ الِاسْتِحْلَافُ فَكَمَا لَوْ أَقَرَّ عَلَى الِاصْطِلَاحِ كَانَا قَابِلَيْنِ لِإِقْرَارِهِ فَلَا يَبْقَى لَهُمَا حَقُّ الِاسْتِحْلَافِ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ عَلَى الِاسْتِحْلَافِ كَانَا رَادَّيْنِ لِإِقْرَارِهِ فَلَا يَبْقَى لَهُمَا حَقُّ الِاصْطِلَاحِ بَعْدَ ذَلِكَ وَقَوْلُهُ الِاسْتِحْلَافُ فِي غَيْرِ مَحَلٍّ لِإِقْرَارِهِ قُلْنَا مَحَلُّ الْإِقْرَارِ لَا يَعْدُوهُمَا فَإِذَا وُجِدَ الِاسْتِحْلَافُ مِنْهُمَا فَقَدْ تَيَقَّنَ بِوُجُودِهِ مِمَّنْ وَقَعَ الْإِقْرَارُ لَهُ فَكَانَ ذَلِكَ مُبْطِلًا لِحَقِّ الْإِقْرَارِ .

وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُ الْعَبْدَ مِنْ هَذَا لَا بَلْ مِنْ هَذَا فَهُوَ لِلْأَوَّلِ وَلِلْآخَرِ قِيمَتُهُ ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ " لَا بَلْ " لِلِاسْتِدْرَاكِ بِالرُّجُوعِ عَنْ الْأَوَّلِ ، وَإِقَامَةُ الثَّانِي مَقَامَهُ إثْبَاتٌ وَالرُّجُوعُ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ لِلْأَوَّلِ بَاطِلٌ وَإِثْبَاتُ مَا أَقَرَّ بِهِ لِلْأَوَّلِ فِي حَقِّ الثَّانِي صَحِيحٌ فَيَبْقَى الْعَبْدُ مُسْتَحَقًّا لِلْأَوَّلِ بِصَدْرِ كَلَامِهِ وَقَدْ صَارَ مُقِرًّا بِبَعْضِهِ مِنْ الثَّانِي وَهُوَ عَاجِزٌ عَنْ رَدِّ عَيْنِهِ حِينَ سَلَّمَهُ إلَى الْأَوَّلِ بِحُكْمِ الْحَاكِمِ فَكَانَ عَلَيْهِ لِلثَّانِي قِيمَتُهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ كَلِمَةَ " لَا بَلْ " مَوْضُوعَةٌ لِمَا قُلْنَا مِثْلُ قَوْلِ الرَّجُلِ جَاءَنِي زَيْدٌ لَا بَلْ عَمْرٌو يُفْهَمُ مِنْهُ الْإِخْبَارُ بِمَجِيءِ زَيْدٍ وَهُوَ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ هَذَا الْعَبْدُ لِفُلَانٍ بَلْ لِفُلَانٍ حَيْثُ يُؤْمَرُ بِتَسْلِيمِهِ إلَى الْأَوَّلِ وَلَا شَيْءَ لِلثَّانِي عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مَا أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِفِعْلٍ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ فِي حَقِّ الثَّانِي إنَّمَا شَهِدَ لَهُ بِالْمِلْكِ فِيمَا صَارَ مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ بِصَدْرِ كَلَامِهِ وَالشَّاهِدُ بِالْمِلْكِ إذَا أَرَدْتَ شَهَادَتَهُ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا وَهُنَا أَقَرَّ بِغَصْبِهِ مِنْ الثَّانِي وَهُوَ فِعْلٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ .

وَإِذَا أَقَرَّ بِغَصْبِ شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ كَائِنًا مَا كَانَ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ بَعِيدٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ مُسْلِمٍ أَوْ كَافِرٍ أَوْ مُرْتَدٍّ أَوْ مُسْتَأْمَنٍ أَوْ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ أَوْ تَاجِرٍ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إنْ كَانَ فَائِتًا وَإِنْ كَانَ قَائِمًا رَدَّهُ إلَى الَّذِي أَخَذَهُ مِنْهُ صَغِيرًا كَانَ الْمُغْتَصَبُ مِنْهُ أَوْ كَبِيرًا ؛ لِأَنَّ رَدَّ الْمَغْصُوبِ يُفْسَخُ مِنْ الْغَاصِبِ لِفِعْلِهِ فِيهِ وَحَقِيقَةُ انْفِسَاخِ فِعْلِهِ بِرَدِّهِ عَلَى مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُ فَكَانَتْ جِنَايَتُهُ بِإِزَالَةِ يَدٍ مُحْتَرَمَةٍ لِلْغَيْرِ فِي هَذِهِ الْعَيْنِ وَإِثْبَاتِ الْيَدِ فِي نَفْسِهِ فَإِذَا أَعَادَهُ إلَى مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُ فَقَدْ صَارَ بِهِ مُعِيدًا لِمَا أَخَذَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مَنْ أَخَذَ مِنْهُ خَصْمٌ لَهُ فِي الِاسْتِرْدَادِ فَيَبْرَأُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَتْ وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ انْتَزَعَ خَاتَمًا مِنْ أُصْبُعِ نَائِمٍ ثُمَّ أَعَادَهُ إلَى أُصْبُعِهِ قَبْلَ أَنْ يَنْتَبِهَ بَرِئَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ أَعَادَهُ كَمَا كَانَ بِخِلَافِ مَا إذَا انْتَبَهَ ثُمَّ نَامَ ثَانِيًا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا انْتَبَهَ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّهُ عَلَى الْمُنْتَبِهِ فَلَا يَبْرَأُ بَعْدَ ذَلِكَ بِإِعَادَتِهِ إلَى أُصْبُعِ النَّائِمِ .
كَمَا لَوْ غَصَبَهُ وَهُوَ مُنْتَبِهٌ ثُمَّ جَعَلَهُ فِي أُصْبُعِهِ فِي حَالِ نَوْمِهِ قَالَ : خَلَا الْوَلَدِ الصَّغِيرُ مَعَ أَبِيهِ الْغَنِيِّ فَلِأَنَّ الْأَبَ فِيمَا يَأْخُذُ مِنْ مَالِ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ لَا يَكُونُ غَاصِبًا وَلَكِنَّهُ إنْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ ؛ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ لِيَصْرِفَهُ إلَى حَاجَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجًا فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ لِحِفْظِهِ لَهُ فَلَا يَلْزَمُهُ رَدُّهُ عَلَى الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ وَلَا يَكُونُ جَانِبًا فِي حَقِّهِ إلَّا أَنْ يَسْتَهْلِكَهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ ضَامِنًا لَهُ وَكَذَلِكَ وَصِيُّ الصَّغِيرِ فِيمَا يَأْخُذُ مِنْ مَالِهِ لَا يَكُونُ غَاصِبًا ؛ لِأَنَّ وِلَايَةَ الْأَخْذِ لِحِفْظِهِ ثَابِتَةٌ وَإِنْ غَصَبَ الْمَوْلَى مِنْ مُكَاتَبِهِ أَوْ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ

الْمَدْيُونِ فَهُوَ يَرُدُّهُ أَوْ الضَّمَانَ عِنْدَ هَلَاكِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ أَخْذِهِ أَمَّا كَسْبُ الْمُكَاتَبِ صَارَ أَحَقَّ بِهِ وَصَارَ الْمُكَاتَبُ كَالْحُرِّ يَدًا فِي مَكَاسِبِهِ فَإِذَا أَبَقَ بِهِ عَلَيْهِ صَارَ ضَامِنًا وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَدْيُونُ ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ حَقُّ غُرَمَائِهِ وَالْمَوْلَى مَمْنُوعٌ مِنْ أَخْذِهِ مَا لَمْ يَسْقُطْ الدَّيْنُ فَكَانَ ضَامِنًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَكَسْبُهُ خَالِصُ حَقِّ الْمَوْلَى فَلَا يَكُونُ هُوَ فِي أَخْذِهِ مِنْهُ غَاصِبًا وَكَذَلِكَ يُغْصَبُ مِنْ مَوْلَاهُ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي مَالِ الْمَوْلَى وَلَهُ ذِمَّةٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي إيجَابِ الدَّيْنِ لِمَوْلَاهُ فَيَكُونُ ضَامِنًا غَصْبَهُ مِنْهُ وَالْعَبْدُ فِيمَا يَغْصِبُ مِنْ مَوْلَاهُ مَأْمُورٌ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ ضَامِنٍ ؛ لِأَنَّ لِلْعَبْدِ ذِمَّةً مُعْتَبَرَةً فِي إيجَابِ الدَّيْنِ فِيهَا لِلْمَوْلَى فَإِنَّ الدَّيْنَ لَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ إلَّا شَاغِلًا مَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ وَمَالِيَّةَ حَقِّ مَوْلَاهُ .

وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ أَمْسِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ اسْتِثْنَاؤُهُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَصِحُّ فِي الْإِنْشَاءَاتِ دُونَ الْإِخْبَارَاتِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ : الِاسْتِثْنَاءُ يُخْرِجُ الْكَلَامَ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَعْنَى الشَّرْطِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَالَ { سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا } وَلَمْ يَصْبِرْ عَلَى ذَلِكَ وَالْوَعْدُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ كَالْعَهْدِ مِنْ غَيْرِهِمْ فَدَلَّ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُخْرِجٌ لِلْكَلَامِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ اسْتَثْنَى فَلَهُ ثُنْيَاهُ } وَالْإِقْرَارُ لَا يَكُونُ مُلْزِمًا إلَّا كَلَامٌ هُوَ عَزِيمَةٌ لَكِنْ إنَّمَا يَعْمَلُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءُ إذَا كَانَ مَوْصُولًا بِالْكَلَامِ لَا إذَا كَانَ مَفْصُولًا إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ قَالَ يُعْمَلُ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَإِنْ كَانَ مَفْصُولًا اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَاَللَّهِ لَأَغْزُوَنَّ قُرَيْشًا ثُمَّ قَالَ بَعْدَ سَنَةٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى } وَلَنَا نَقُولُ : الِاسْتِثْنَاءُ مُخْرِجٌ لِكَلَامِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً فَكَانَ مُغَيِّرًا لِمُوجَبِ مُطْلَقِ الْكَلَامِ وَالتَّعْبِيرُ إنَّمَا يَصِحُّ مَوْصُولًا بِالْكَلَامِ لَا مَفْصُولًا فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْفَسْخِ وَالتَّبْدِيلِ وَالْمُقِرُّ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ فِي إقْرَارِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ الِاسْتِثْنَاءَ الْمَفْصُولَ وَهَذَا بِخِلَافِ الرُّجُوعِ مِنْ الْإِقْرَارِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ نَفْيٌ لِمَا أَثْبَتَهُ فَكَانَ تَنَاقُضًا مِنْهُ وَالتَّنَاقُضُ لَا يَصِحُّ مَفْصُولًا كَانَ أَوْ مَوْصُولًا أَمَّا هَذَا بَيَانٌ فِيهِ تَعْبِيرٌ فَإِنَّ الْكَلَامَ نَوْعَانِ لَغْوٌ وَعَزِيمَةٌ فَبِالِاسْتِثْنَاءِ تَبَيَّنَ أَنَّ كَلَامَهُ لَيْسَ بِعَزِيمَةٍ وَبَيَانُ التَّعْبِيرِ

يَصِحُّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ فَإِنَّهُ مُتَبَيَّنٌ أَنَّ صَدْرَ كَلَامِهِ لَمْ يَكُنْ إيقَاعًا بَعْدَ أَنْ كَانَ ظَاهِرًا مُقْتَضِيًا لِلْإِيقَاعِ فَصَحَّ ذَلِكَ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا وَأَمَّا الْحَدِيثُ قُلْنَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بَعْدَ سَنَةٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى } لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِثْنَاءِ إنَّمَا كَانَ عَلَى وَجْهِ الِامْتِثَالِ لِمَا أُمِرَ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَاذْكُرْ رَبَّكَ إذَا نَسِيتَ } .
.

وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُكَ هَذَا الْعَبْدَ أَمْسِ إلَّا نِصْفَهُ صُدِّقَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ إذَا قُيِّدَ بِالِاسْتِثْنَاءِ يَصِيرُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى لَا أَنْ يَكُونَ رُجُوعًا عَنْ الْقَدْرِ الْمُسْتَثْنَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا } مَعْنَاهُ تِسْعُمِائَةٍ وَخَمْسِينَ فَأَمَّا لَوْ جَعَلْنَاهُ فِي مَعْنَى الرُّجُوعِ كَانَ ذَلِكَ قَوْلًا بِالْغَلَطِ فَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ حَتَّى تَدَارَكَهُ بِالِاسْتِثْنَاءِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ثُمَّ هَذَا بَيَانٌ فِيهِ تَعْبِيرٌ ؛ لِأَنَّ صَدْرَ كَلَامِهِ إقْرَارٌ بِغَصْبِ مَا سُمِّيَ عَبْدًا وَبِالِاسْتِثْنَاءِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَغْصُوبَ لَمْ يَكُنْ عَبْدًا فَلَمَّا كَانَ تَعْبِيرًا صَحَّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ إلَّا مَلْبَسِهِ إلَّا عَلَى قَوْلِ الْقَرَّارِ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ الْأَكْثَرِ مِمَّا تَكَلَّمَ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَرَبَ لَمْ تَتَكَلَّمْ بِذَلِكَ وَلَكِنَّا نُجَوِّزُهُ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { قُمْ اللَّيْلَ إلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ أَوْ اُنْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا } ؛ وَلِأَنَّ طَرِيقَ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يُجْعَلَ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءِ الْمُسْتَثْنَى وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْأَقَلِّ وَالْأَكْثَرِ وَإِنْ لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ الْعَرَبُ لَمْ يَمْتَنِعْ صِحَّتُهُ إنْ كَانَ مُوَافِقًا لِطَرِيقِهِمْ كَاسْتِثْنَاءِ الْكُسُورِ لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ الْعَرَبُ وَكَانَ صَحِيحًا وَلَوْ قَالَ إلَّا الْعَبْدَ كُلَّهُ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ بِأَنْ جُعِلَ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءِ الْمُسْتَثْنَى فَإِنَّهُ لَا يَبْقَى وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى شَيْءٌ فَكَانَ هَذَا رُجُوعًا لَا اسْتِثْنَاءً وَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ بَاطِلٌ مَوْصُولًا كَانَ أَوْ مَفْصُولًا .

وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُكَ كَذَا وَكَذَا فَهُوَ إقْرَارٌ بِغَصْبِهِمَا فَإِنَّ حَرْفَ الْوَاوِ لِلْعَطْفِ وَالْعَطْفُ لِلِاشْتِرَاكِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْخَبَرِ فَيَقُولُ الرَّجُلُ جَاءَنِي زَيْدٌ وَعُمَرُ فَيَكُونُ إخْبَارًا بِمَجِيئِهِمَا .

فَإِذَا قَالَ غَصَبْتُهُ عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً كَانَ إقْرَارًا بِغَصْبِهَا ؛ لِأَنَّهُ خَبَرُ الْمَذْكُورِ أَوْ ؛ لِأَنَّهُ مَغْصُوبٌ وَلَمْ يُذْكَرْ لِلثَّانِي خَبَرٌ يَسْتَقِلُّ بِهِ فَكَانَ الْخَبَرُ الْأَوَّلُ خَبَرًا لَهُ وَكَذَا خَبَرُ أَنْ يَقُولَ دَابَّةً مَعَ سَرْجِهَا ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ مَعَ لِلْقِرَانِ فَقَدْ قَرَنَ بَيْنَهُمَا فِي الْإِقْرَارِ بِفِعْلِ الْغَصْبِ فِيهِمَا إذْ لَا تَتَحَقَّقُ الْمُقَارَنَةُ مِنْهُ إلَّا فِي هَذَا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ كَذَا بِكَذَا نَحْوَ أَنْ يَقُولَ غَصَبْتُهُ فَرَسًا بِلِجَامِهِ أَوْ عَبْدًا بِمِنْدِيلِهِ فَهُوَ إقْرَارٌ بِغَصْبِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ فَيَصِيرُ هُوَ مُلْصِقًا الثَّانِيَ بِالْأَوَّلِ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ فِعْلِ الْغَصْبِ وَيَكُونُ مَبْنِيًّا أَنَّ عِنْدَ غَصْبِهِ كَانَ اللِّجَامُ مُلْصَقًا بِالدَّابَّةِ وَلَنْ يَتَحَقَّقَ الْإِلْصَاقُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ غَاصِبًا لَهُمَا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ كَذَا فَكَذَا نَحْوَ أَنْ يَقُولَ غَصَبْتُ عَبْدًا فَجَارِيَةً فَإِنَّ الْفَاءَ لِلْوَصْلِ وَفِيهِ مَعْنَى الْعَطْفِ عَلَى سَبِيلِ التَّعْقِيبِ وَلَنْ تَتَحَقَّقَ هَذِهِ الْمَعَانِي إلَّا بَعْدَ أَنْ كَانَ غَاصِبًا لَهُمَا وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ كَذَا وَعَلَيْهِ كَذَا نَحْوَ أَنْ يَقُولَ غَصَبْتُهُ دَابَّةً عَلَيْهَا سَرْجُهَا ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمَغْصُوبَ مَحَلًّا لِمَا ذَكَرَهُ آخِرًا فَيَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ غَاصِبًا لَهُمَا .

وَإِنْ قَالَ كَذَا مِنْ كَذَا بِأَنْ قَالَ غَصَبْتُ مِنْدِيلًا مِنْ غُلَامِهِ أَوْ سَرْجًا مِنْ دَابَّتِهِ كَانَ إقْرَارًا بِالْغَصْبِ فِي الْأَوَّلِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ الِانْتِزَاعُ فَعَلَى أَنَّهُ انْتَزَعَ مَا أَقَرَّ بِغَصْبِهِ أَوَّلًا مِنْ مِلْكِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ يَقُولُ مِنْدِيلًا مِنْ رَأْسِهِ أَوْ ثَوْبًا مِنْ بَدَنِهِ فَلَا يُفْهَمُ الْإِقْرَارُ بِغَصْبِ الثَّوْبِ وَالْمِنْدِيلِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ كَذَا عَلَيَّ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ غَصَبْتُهُ إكَافًا عَلَى حِمَارِهِ فَيَكُونُ إقْرَارًا بِغَصْبِ الْإِكَافِ خَاصَّةً ، وَالْحِمَارُ مَذْكُورٌ لِبَيَانِ مَحَلِّ الْمَغْصُوبِ حِينَ أَخَذَهُ وَغَصْبُ الشَّيْءِ مِنْ مَحَلٍّ لَا يَكُونُ مُقْتَضِيًا غَصْبَ الْمَحَلِّ وَلَوْ قَالَ كَذَا فِي كَذَا وَإِنْ كَانَ الثَّانِي مِمَّا يَكُونُ وِعَاءً لِلْأَوَّلِ كَالْمَاءِ نَحْوَ ثَوْبٍ فِي مِنْدِيلٍ أَوْ طَعَامٍ فِي سَفِينَةٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ " فِي " حَقِيقَةً لِلظَّرْفِ فَهُوَ مُخْبِرٌ بِأَنَّ الثَّانِيَ كَانَ ظَرْفًا لِلْأَوَّلِ مَعَ غَصْبِهِ وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ إلَّا إذَا كَانَ غَصْبُهُ لَهُمَا وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَمْرًا فِي قَوْصَرَّةٍ أَوْ حِنْطَةٍ فِي جَوَالِقَ وَإِنْ كَانَ الثَّانِي هُوَ مِمَّا لَا يَكُونُ وِعَاءً لِلْأَوَّلِ نَحْوَ قَوْلِهِ غَصَبْتُكَ دِرْهَمَيْنِ فِي دِرْهَمٍ لَمْ يَلْزَمْهُ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ صَالِحٍ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِمَا أَقَرَّ بِغَصْبِهِ أَوَّلًا فَلُغِيَ آخِرُ كَلَامِهِ فَإِنْ ( قِيلَ ) كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ حَرْفَ " فِي " بِمَعْنَى حَرْفِ " مَعَ " ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَعْمُولٌ بِمَجَازِهِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْعَمَلِ بِحَقِيقَتِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَادْخُلِي فِي عِبَادِي } ( قُلْنَا ) إذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى الْمَجَازِ فَكَمَا يَحْتَمِلُ مَعْنَى " مَعَ " يَحْتَمِلُ مَعْنَى " عَلَى " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلِأُصَلِّبَنكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } أَيْ عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ فَإِنْ حُمِلَ عَلَيْهِ لَمْ يَلْزَمْ الثَّانِي وَإِنْ حُمِلَ عَلَى مَعْنَى " مَعَ " لَزِمَهُ وَالذِّمَّةُ فِي الْأَصْلِ بَرِيئَةٌ فَلَا يَجُوزُ شَغْلُهَا

بِالشَّكِّ .

وَإِنْ كَانَ الثَّانِي مِمَّا يَكُونُ الْأَوَّلُ وَسَطَهُ نَحْوَ أَنْ يَقُولَ غَصَبْتُكَ ثَوْبًا فِي عَشَرَةِ أَثْوَابٍ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا ثَوْبٌ وَاحِدٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَيَلْزَمُهُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَدَ عَشَرَ ثَوْبًا وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْعَشَرَةَ قَدْ تَكُونُ وِعَاءً لِلثَّوْبِ الْوَاحِدِ فَإِنَّ الثَّوْبَ النَّفِيسَ قَدْ يُلَفُّ عَادَةً فِي الثِّيَابِ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ حِنْطَةٌ فِي جُوَالِقٍ أَوْ يُحْمَلُ كَلَامُهُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ قَالَ عَشَرَةَ أَثْوَابٍ فِي ثَوْبٍ وَالثَّوْبُ الْوَاحِدُ يَكُونُ وِعَاءً لِلْعَشَرَةِ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِمَا صَرَّحَ بِهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَعُلِّلَ لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْجَوَابِ وَقَالَ : إنَّ الْعَشَرَةَ لَا تَكُونُ وِعَاءً مَعْنَاهُ أَنَّ الْوِعَاءَ غَيْرُ الْمُوعَى وَالثَّوْبُ إذَا لُفَّ فِي ثِيَابٍ فَكُلُّ ثَوْبٍ يَكُونُ مُوعًى فِي حَقِّ مَا وَرَاءَهُ فَلَا يَكُونُ وِعَاءً إلَّا الثَّوْبُ الَّذِي هُوَ ثَوْبٌ ظَاهِرٌ فَإِذَا كَانَ لَا يَتَحَقَّقُ كَوْنُ الْعَشَرَةِ وِعَاءً لِلثَّوْبِ الْوَاحِدِ كَانَ آخِرُ كَلَامِهِ لَغْوًا وَحَمْلُهُ عَلَى التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ لَا مَعْنَى لَهُ فَإِنَّهُ اشْتِغَالٌ بِإِيجَابِ الْمَالِ فِي ذِمَّتِهِ بِالْمُحْتَمَلِ وَبِتَأْوِيلٍ هُوَ مُخَالِفٌ لِلظَّاهِرِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ .

وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُهُ كِرْبَاسًا فِي عَشَرَةِ أَثْوَابٍ حَرِيرٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَلْزَمُهُ الْكِرْبَاسُ وَعَشَرَةُ أَثْوَابٍ حَرِيرٍ ؛ لِأَنَّ الْحَرِيرَ لَا يُجْعَلُ وِعَاءً لِلْكَرَابِيسِ عَادَةً .

وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُكَ طَعَامًا فِي بَيْتٍ كَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ طَعَامًا فِي سَفِينَةٍ ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ قَدْ يَكُونُ وِعَاءً لِلطَّعَامِ فَيَكُونُ إقْرَارًا بِغَصْبِ الْبَيْتِ وَالطَّعَامِ إلَّا أَنَّ الطَّعَامَ يَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ بِالْغَصْبِ وَالْبَيْتَ لَا يَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُنْقَلُ وَلَا يُحَوَّلُ وَالْغَصْبُ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ وَإِنْ قَالَ لَمْ أُحَوِّلْ الطَّعَامَ مِنْ مَوْضِعِهِ لَمْ يُصَدَّقْ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِغَصْبٍ تَامٍّ وَفِي الطَّعَامِ يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِالنَّقْلِ وَالتَّحْوِيلِ فَكَانَ هُوَ فِي قَوْلِهِ : لَمْ أَنْقُلْهُ رَاجِعًا عَمَّا أَقَرَّ بِهِ فَلَمْ يُصَدَّقْ وَكَانَ ضَامِنًا لِلطَّعَامِ وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ ضَامِنٌ لِلْبَيْتِ أَيْضًا وَمَسْأَلَةُ غَصْبِ الْعَقَارِ مَعْرُوفَةٌ .

وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُهُ يَوْمًا وَرَدَدْتُهُ عَلَيْهِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى الرَّدِّ وَإِنْ كَانَ كَلَامًا مَوْصُولًا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ إلَى بَيَانِ صَدْرِ الْكَلَامِ بَلْ هُوَ دَعْوَى مُبْتَدِئٍ أَيْ أَوْفَيْتُهُ مَا لَزِمَنِي مِنْ ضَمَانِ الْغَصْبِ وَإِقْرَارُهُ صَحِيحٌ فَأَمَّا دَعْوَاهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ لَا تَكُونُ صَحِيحَةً وَلَكِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمُنْكِرِ لِلرَّدِّ كَالْمُقِرِّ بِالدَّيْنِ إذَا ادَّعَى الْإِيفَاءَ وَالْإِبْرَاءَ كَلَامًا مَوْصُولًا

وَلَوْ قَالَ غَصَبْتُهُ ثَوْبًا مِنْ عَيْنِهِ أَوْ تَمْرًا مِنْ قَوْصَرَّةٍ أَوْ طَعَامًا مِنْ بَيْتٍ أَوْ ظَهْرَ دَابَّةٍ ضَمِنَ التَّمْرَ وَالثَّوْبَ وَالطَّعَامَ خَاصَّةً لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ آخِرَ كَلَامِهِ كَانَ لِبَيَانِ أَنَّ انْتِزَاعَ الْمَغْصُوبِ كَانَ بَيْنَ هَذَا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ غَصَبْتُهُ ثَوْبًا مِنْ يَدِهِ يَكُونُ إقْرَارُهُ بِالْغَصْبِ فِي الثَّوْبِ دُونَ يَدِهِ فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( بَابُ إقْرَارِ الْمُفَاوَضَةِ بِالدَّيْنِ ) .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِذَا أَقَرَّ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ بِدَيْنٍ فِي مَرَضِ مَوْتِهِ مِنْ تِجَارَتِهِمَا يُوَحَّدُ شَرِيكُهُ بِهِ فِي الْحَالِ وَفِيهِ طَرِيقَانِ لَنَا : أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُتَفَاوِضَيْنِ فِي حُقُوقِ التِّجَارَةِ صَارَا بِمَنْزِلَةِ شَخْصٍ وَاحِدٍ وَمُبَاشَرَةُ أَحَدِهِمَا سَبَبُ وُجُوبِ الدَّيْنِ كَمُبَاشَرَتِهِمَا وَالْإِقْرَارُ مِنْ بَابِ التِّجَارَةِ فَوُجُودُهُ مِنْ أَحَدِهِمَا كَوُجُودِهِ مِنْهُمَا وَالْأَصَحُّ أَنْ يَقُولَ وُجُوبُ الدَّيْنِ بِمُبَاشَرَةِ السَّبَبِ عَلَى مَنْ بَاشَرَهُ وَلَكِنَّ الشَّرِيكَ مُطَالَبٌ بِهِ بِسَبَبِ التَّحَمُّلِ الثَّابِتِ بِمُقْتَضَى صَدْرِ الْمُفَاوَضَةِ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُفَاوَضَةِ يَقْتَضِي الْوَكَالَةَ الْعَامَّةَ وَالْكَفَالَةَ الْعَامَّةَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ فِي دُيُونِ التِّجَارَةِ فَإِنَّهَا تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ بِهَذَا فَالْمُفَاوِضُ الْمُقِرُّ وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِإِقْرَارِهِ حَتَّى إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ فِي الصِّحَّةِ كَانَ مُطَالَبًا بِهِ فِي الْحَالِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فِي الصِّحَّةِ فَحَقُّ غَرِيمِ الصِّحَّةِ مُقَدَّمٌ وَلَكِنَّ حَقَّ الْمُقَرِّ لَهُ فِي الْمَرَضِ ثَابِتٌ أَيْضًا حَتَّى إذَا فَرَغَتْ التَّرِكَةُ مِنْ حَقِّ غَرِيمِ الصِّحَّةِ صَرَفَ الْمُقَرُّ لَهُ فِي الْمَرَضِ وَإِذَا ثَبَتَ الْوُجُوبُ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ صَارَ الشَّرِيكُ مُطَالَبًا بِهِ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ وَتَأَخُّرِهِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ لِمَكَانِ دَيْنِ الصِّحَّةِ لَا يُوجِبُ التَّأْخِيرَ فِي الشَّرِيكِ كَالْعَبْدِ الْمَحْجُورِ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِدَيْنٍ وَيَكْفُلُ الْبَيَانَ عَنْهُ ، يُؤَاخِذُ الْكَفِيلَ فِي الْحَالِ بِهِ وَإِنْ كَانَ مُؤَخَّرًا فِي حَقِّ الْأَصْلِ إلَى مَا بَعْدَ الْعِتْقِ وَهَذَا لَا تَأْجِيلَ فِي أَصْلِ الْمَالِ إنَّمَا التَّأْخِيرُ لِضَرُورَةِ انْعِدَامِ مَحَلِّ الْقَضَاءِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ فَيَكُونُ مُطَالَبًا فِي الْحَالِ بِإِيفَائِهِ وَلَوْ كَانَ الْمُفَاوِضُ الْمَرِيضَ أَقَرَّ لِوَارِثِهِ بِدَيْنٍ لَمْ يُلْزِمْهُ

شَرِيكَهُ .
وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الصَّحِيحَ هُوَ الطَّرِيقُ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ لَوْ جُعِلَ إقْرَارُ أَحَدِهِمَا لَصَارَ الشَّرِيكُ الْآخَرُ مُطَالَبًا بِالْمَالِ هُنَا وَلَكِنَّ إقْرَارَ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ بَاطِلٌ فَلَمْ يَجِبْ بِهِ الْمَالُ فِي ذِمَّةِ الْمُقِرِّ وَالْوُجُوبُ عَلَى الشَّرِيكِ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمَالُ وَاجِبًا عَلَى الْأَصِيلِ لَا يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ خِلَافَ الْأَوَّلِ فَإِنَّ إقْرَارَهُ لِلْأَجْنَبِيِّ صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَ مُؤَخَّرًا عَنْ حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ فَوَجَبَ بِهِ الْمَالُ عَلَى الْأَصِيلِ وَصَارَ الْكَفِيلُ مُطَالَبًا بِهِ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَفَلَ لِوَارِثِهِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ كَفَالَةَ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ بَاطِلَةٌ غَيْرُ مُوجِبَةٍ الْمَالَ عَلَيْهِ فَأَمَّا إذَا كَفَلَ لِلْأَجْنَبِيِّ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُؤَاخَذُ بِهِ شَرِيكُهُ سَوَاءٌ كَفَلَ بِأَمْرِ الْأَصِيلِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يُؤَاخَذُ الشَّرِيكُ بِهِ وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ بِكَفَالَةٍ فِي صِحَّتِهِ أَوْ مَرَضِهِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُؤَاخَذُ بِهِ شَرِيكُهُ وَعِنْدَهُمَا لَا يُؤَاخَذُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حُجَّتُهُمَا أَنَّ دَيْنَ الْكَفَالَةِ لَيْسَ مِنْ دَيْنِ التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ لَا يَنْزِعُ مَا هُوَ تَبَرُّعٌ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ مِنْ الْمَرِيضِ كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ الثُّلُثِ وَلَوْ حَصَلَ مِنْ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا وَمَا وَجَبَ عَلَى أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ لَا بِجِهَةِ التِّجَارَةِ لَا يَكُونُ شَرِيكُهُ مُطَالَبًا بِهِ كَمَا يَجِبُ مِنْ مَهْرِ امْرَأَتِهِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ بِجِنَايَتِهِ وَكَلَامُهُمَا يَتَّضِحُ فِي الْكَفَالَةِ بِغَيْرِ الْأَصْلِ فَإِنَّهُ تَبَرُّعٌ مَحْضٌ حَتَّى لَا يَسْتَوْجِبَ الْكَفِيلُ الرُّجُوعَ عَلَى الْأَصِيلِ عِنْدَ الْأَدَاءِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ طَرِيقَانِ : الْأَوَّلُ أَنَّ هَذَا الدَّيْنَ وَجَبَ بِمَا هُوَ مِنْ مُتَضَمَّنَاتِ عَقْدِ

الْمُفَاوَضَةِ فَيَكُونُ الشَّرِيكُ مُطَالَبًا بِهِ كَالْوَاجِبِ بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ إذَا تَوَكَّلَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْغَيْرِ بِالشِّرَاءِ وَبَيَانُهُ فِيمَا قُلْنَا أَنَّ عَقْدَ الْمُفَاوَضَةِ يَقْتَضِي الْوَكَالَةَ الْعَامَّةَ وَالْكَفَالَةَ الْعَامَّةَ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّ عَقْدَ الْمُفَاوَضَةِ يَتَضَمَّنُ مَا هُوَ مِنْ جِنْسِ التِّجَارَةِ .
الثَّانِي أَنَّ فِي الْكَفَالَةِ مَعْنَى الْبُيُوعِ فِي الِابْتِدَاءِ وَلَكِنَّهُ مُفَاوَضَةُ أَيِّهِمَا خُصُوصًا فِي الْكَفَالَةِ بِالْأَمْرِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِمَا يُؤَدِّي إلَى الْأَصِيلِ فَفِي حَقِّ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمَرِيضِ اعْتَبِرْنَا مَعْنَى التَّبَرُّعِ فِيهِ فِي الِابْتِدَاءِ فَلَمْ يَكُنْ صَحِيحًا وَفِي حَقِّ الْمُفَاوِضِ اعْتَبِرْنَا مَعْنَى الْمُفَاوَضَةِ فِي الِانْتِهَاءِ ؛ لِأَنَّهُ صَحِيحٌ فِي حَقِّ مَنْ بَاشَرَ سَبَبَهُ فَإِذَا صَحَّ انْقَلَبَتْ مُفَاوَضَةً فَعِنْدَ صَيْرُورَةِ الشَّرِيكِ الْآخَرِ مُطَالِبًا لَهُ فِي الْحَالِ وَتَأَخَّرَ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ عَنْ حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الشَّرِيكِ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ إقْرَارِهِ بِنَفْسِهِ وَهُوَ لَوْ أَقَرَّ بِنَفْسِهِ تَأَخَّرَ عَنْ حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ فَكَذَلِكَ مَا لَزِمَ بِإِقْرَارِ شَرِيكِهِ أَوْ يُجْعَلُ هَذَا كَإِقْرَارِهِمَا جَمِيعًا فَإِنْ ( قِيلَ ) كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي حَقِّ الْمَرِيضِ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِ كَانَ لِسَبَبِ الْكَفَالَةِ عَنْ شَرِيكِهِ وَكَفَالَةُ الْمَرِيضِ مُعْتَبَرَةٌ مِنْ ثُلُثِهِ ( قُلْنَا ) هَذَا إذْ لَوْ كَانَتْ مُبَاشَرَةُ الْكَفَالَةِ فِي الْمَرَضِ وَهُنَا الْكَفَالَةُ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الْمُفَاوَضَةِ فَإِنَّمَا كَانَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ فَالْوُجُودُ وَإِنْ حَصَلَ فِي حَالَةِ الْمَرَضِ لَمَا كَانَ سَبَبُهُ مَوْجُودًا فِي حَالِ الصِّحَّةِ فَالْوَاجِبُ كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ فَإِنْ ( قِيلَ ) إذَا كَانَ سَبَبُهُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَأَخَّرَ عَنْ حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ ( قُلْنَا ) وُجُوبُ الدَّيْنِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ

السَّبَبِ إنَّمَا حَصَلَ فِي الْمَرَضِ فَكَانَ ذَلِكَ مَزِيدَ الْمَرَضِ لِهَذَا الْمَرِيضِ ؛ وَلِأَنَّ إقْرَارَ الْغَيْرِ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ أَبْعَدَ مِنْ إقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَلَوْ أَقَرَّ الصَّحِيحُ لِوَارِثِ الْمَرِيضِ بِدَيْنٍ لَزِمَ الصَّحِيحَ كُلُّهُ دُونَ الْمَرِيضِ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الصَّحِيحِ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ كَإِقْرَارِهِ بِنَفْسِهِ وَإِقْرَارُهُ لِوَارِثِهِ بَاطِلٌ فَكَذَلِكَ إقْرَارُ الصَّحِيحِ فِي حَقِّهِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ امْتِنَاعِ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَى الْكَفِيلِ أَنْ لَا يَجِبَ عَلَى الْأَصِيلِ فَلِهَذَا وَجَبَ الْمَالُ عَلَى الصَّحِيحِ فَإِنْ ( قِيلَ ) إقْرَارُ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ إنَّمَا لَا يَصِحُّ لِتُهْمَةِ الْإِيثَارِ وَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي حَقِّ إقْرَارِ شَرِيكِهِ ( قُلْنَا ) لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يَتَمَكَّنُ تُهْمَةُ الْمُوَاضَعَةِ هُنَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ إقْرَارَهُ لِوَارِثِهِ بِنَفْسِهِ لَا يَصِحُّ لِشَرِيكِهِ لِتَقَرُّبِهِ لَهُ ثُمَّ يُسْتَوْفَى مِنْ مَالِ الْمَرِيضِ فَلْيُمَكِّنْ هَذِهِ التُّهْمَةَ ؛ ( قُلْنَا ) لَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ وَلَا تُهْمَةَ فِي مَا يُقِرُّ لَهُ الشَّرِيكُ عَلَى نَفْسِهِ فِي حَقِّهِ فَكَانَ هُوَ مُطَالَبًا بِالْمَالِ .

وَلَوْ كَانَ الْمُفَاوِضُ قَالَ لِرَجُلٍ مَا ذَابَ لَكَ عَلَى فُلَانٍ فَهُوَ عَلَيَّ أَوْ مَا وَجَبَ لَكَ عَلَيْهِ أَوْ مَا قُضِيَ لَكَ عَلَيْهِ ثُمَّ مَرِضَ ثُمَّ أَقَرَّ فُلَانٌ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لِذَلِكَ الرَّجُلِ وَقُضِيَ بِهَا لَهُ عَلَيْهِ لَزِمَ الْمَرِيضَ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ هَذَا الْمَالِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ بِطَرِيقِ الْكَفَالَةِ وَلَكِنْ صَحَّ سَبَبُهُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ وَلَزِمَ حَتَّى لَوْ أَرَادَ الرُّجُوعَ عَنْهُ لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الدُّيُونِ فِي كَوْنِهِ مُعْتَبَرًا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الصَّحِيحَ لَوْ ضَمِنَ الدَّرَكَ عَنْ رَجُلٍ فِي دَارٍ بَاعَهَا ثُمَّ مَرِضَ فَلَزِمَ الدَّرَكُ كَانَ مُطَالَبًا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ لَزِمَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ عَنْهُ فَكَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ لَزِمَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ هُنَا ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ مُسْتَنِدٌ إلَى سَبَبِهِ وَلَمَّا تَمَّ السَّبَبُ هُنَا وَلَزِمَهُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ اسْتَنَدَ حُكْمُ الْوُجُوبِ إلَيْهِ فَلِهَذَا كَانَ مُزَاحِمًا لِغُرَمَاءِ الصِّحَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( بَابُ الْإِقْرَارِ لِمَا فِي الْبَطْنِ ) .
( قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْإِقْرَارُ لِمَا فِي الْبَطْنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا أَنْ يُبَيِّنَ سَبَبًا صَالِحًا مُسْتَقِيمًا بِأَنْ يَقُولَ : لِمَا فِي بَطْنِ فُلَانَةَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ جِهَةِ مِيرَاثٍ وَرِثَهُ عَنْ أَبِيهِ فَاسْتَهْلَكَتْهُ أَوْ وَصِيَّةٌ أَوْصَى بِهَا بِمَا لَهُ فَاسْتَهْلَكَتْهُ فَهَذَا صَحِيحٌ ) ؛ لِأَنَّهُ بَيَّنَ سَبَبًا مُسْتَقِيمًا لَوْ عَايَنَهُ حَكَمْنَا بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ هَذَا ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ فِي الْحَقِيقَةِ لِلْمُوَرِّثِ وَالْمُوصِي فَإِنَّ الْمَالَ مَنْفِيٌّ عَلَى حَقِّهِ مَا لَمْ يَصْرِفْهُ إلَى وَارِثِهِ أَوْ إلَى مَنْ أَوْصَى لَهُ بِهِ وَكَذَلِكَ الْمُوَرِّثُ وَالْمُوصِي مِنْ أَهْلِ الْإِقْرَارِ لَهُ فَهُوَ نَظِيرُ مَا لَوْ قَالَ لِدَابَّةِ فُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ أَوْصَى لَهُ بِالْعَلَفِ فَاسْتَهْلَكَتْهُ ثُمَّ إنْ وَلَدَتْ وَلَدًا حَيًّا فَالْمُقَرُّ بِهِ لَهُ وَإِنْ وَلَدَتْهُ مَيِّتًا فَالْمَالُ مَرْدُودٌ عَلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ وَالْمُوصِي ، وَإِنْ جَاءَتْ بِوَلَدَيْنِ أَحَدُهُمَا ذَكَرٌ وَالْآخَرُ أُنْثَى فَفِي الْوَصِيَّةِ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَفِي الْمِيرَاثِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمُقِرِّ فِي بَيَانِ السَّبَبِ مَقْبُولٌ ، وَهَذَا إذَا وَضَعَتْهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ حِينِ مَاتَ الْمُوصِي وَالْمُوَرِّثُ حَتَّى عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَإِنْ وَضَعَتْهُ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ؛ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مُعْتَدَّةً فَحِينَئِذٍ إذَا جَاءَتْ بِالْوَلَدِ لِأَقَلَّ مِنْ سَنَتَيْنِ حَتَّى حُكِمَ بِثُبُوتِ السَّبَبِ فِي ذَلِكَ حُكْمًا بِوُجُودِهِ فِي الْبَطْنِ حِينَ مَاتَ الْمُوصِي وَالْمُوَرِّثُ .

الْوَجْهُ الثَّانِي أَنْ يُبَيِّنَ سَبَبًا بِمُسْتَحِيلٍ بِأَنْ يَقُولَ لِمَا فِي بَطْنِ فُلَانَةَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثَمَنُ بَيْعٍ بَايَعَتْهُ أَوْ قَرْضٍ أَقْرَضَتْهُ فَهَذَا بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْمُبَايَعَةَ وَالْإِقْرَاضَ لَا يُتَصَوَّرُ مِنْ الْجَنِينِ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا أَمَّا الْحَقِيقَةُ فَلَا يُشْكِلُ وَأَمَّا الْحُكْمُ فَلِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِأَحَدٍ عَلَى الْجَنِينِ حَتَّى يَكُونَ تَصَرُّفُهُ بِمَنْزِلَةِ تَصَرُّفِ الْجَنِينِ فَيَصِيرُ مُضَافًا إلَيْهِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَاذَا كَانَ مَا سَبَّبَهُ مِنْ السَّبَبِ مُحَالًا صَارَ كَلَامُهُ لَغْوًا فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فَإِنْ ( قِيلَ ) هَذَا يَكُونُ رُجُوعًا عَنْ إقْرَارِهِ بِإِذْنٍ وَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ لَا يَصِحُّ وَإِنْ كَانَ مَوْصُولًا ( قُلْنَا ) لَا كَذَلِكَ بَلْ هُوَ بَيَانُ السَّبَبِ مُحْتَمَلٌ فَقْدُ نَسَبِهِ عَلَى الْجَاهِلِ فَيَظُنُّ أَنَّ الْجَنِينَ يَثْبُتُ عَلَيْهِ الْوِلَايَةُ كَالْمُنْفَصِلِ فَيُعَامِلُهُ ثُمَّ يُقِرُّ بِذَلِكَ الْمَالِ لِلْجَنِينِ بِنَاءً عَلَى ظَنِّهِ وَتَبَيُّنِ سَبَبِهِ ثُمَّ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ السَّبَبَ كَانَ بَاطِلًا فَكَانَ كَلَامُهُ بَيَانًا لَا رُجُوعًا فَلِهَذَا كَانَ مَقْبُولًا مِنْهُ .

وَالثَّالِثُ أَنْ يُقِرَّ لِلْجَنِينِ بِمَالٍ مُطْلَقٍ مِنْ دَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ فَيَقُولُ لِمَا فِي بَطْنِ فُلَانَةَ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، أَوْ هَذَا الْعَيْنُ مِلْكٌ لِمَا فِي بَطْنِ فُلَانَةَ فَوَلَدَتْ لِمُدَّةٍ يُعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ فِي الْبَطْنِ وَقْتَ الْإِقْرَارِ فَالْإِقْرَارُ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ الْإِقْرَارُ صَحِيحٌ .
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ مُطْلَقَ كَلَامِ الْعَاقِلِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ ؛ لِأَنَّ عَقْلَهُ وَدِينَهُ يَدْعُو بِهِ إلَى التَّكَلُّمِ بِمَا هُوَ صَحِيحٌ لَا بِمَا هُوَ لَغْوٌ فَيُجْعَلُ مُطْلَقُ إقْرَارِهِ صَحِيحًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَيَّنَ سَبَبًا صَحِيحًا لِإِقْرَارِهِمَا وَهَذَا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ مَهْمَا أَمْكَنَ إعْمَالُهُ لَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ وَالْجَنِينُ جُعِلَ فِي حُكْمِ الْمُنْفَصِلِ حَتَّى يَصِحَّ الْإِقْرَارُ وَسَبَبُهُ وَيَصِحَّ إعْتَاقُهُ وَالْإِقْرَارُ يَعْتِقُهُ وَيَرِثُ وَيُوصِي لَهُ فَكَمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ لِلْمُنْفَصِلِ بِالْمَالِ مُطْلَقًا يَكُونُ إقْرَارًا صَحِيحًا فَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِهِ لِلْجَنِينِ وَلِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ مُطْلَقَ الْإِقْرَارِ بِالْمَالِ مَحْمُولٌ عَلَى الِالْتِزَامِ بِالْعَقْدِ فَكَأَنَّهُ أَقَرَّ بِهِ وَهَذَا لِأَنَّ دِينَهُ وَعَقْلَهُ يَمْنَعَانِهِ مِنْ الِاسْتِهْلَاكِ وَيَدْعُو بِهِ إلَى الِالْتِزَامِ بِالْعَقْدِ فَيَجِبُ حَمْلُ مُطْلَقِ إقْرَارِهِ عَلَيْهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ أَحَدَ الْمُتَفَاوِضَيْنِ إذَا أَقَرَّ بِمَالٍ مُطْلَقٍ يَلْزَمُ شَرِيكَهُ ، وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ إذَا أَقَرَّ بِالْمَالِ مُطْلَقًا يَصِحُّ إقْرَارُهُ وَيُؤْخَذُ بِهِ فِي الْحَالِ وَكَانَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ حَمْلِ مُطْلَقِ الْإِقْرَارِ عَلَى جِهَةِ التِّجَارَةِ فَكَذَلِكَ هُنَا يُحْمَلُ مُطْلَقُ إقْرَارِهِ عَلَى جِهَةِ التِّجَارَةِ فَكَأَنَّهُ بَيَّنَ جِهَةَ التِّجَارَةِ ؛ وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ ابْتِدَاءً هُنَا يَقَعُ لِلْجَنِينِ وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَثْبُتَ لَهُ حَقُّ ابْتِدَاءٍ مَا لَمْ يَنْفَصِلْ وَلِهَذَا لَا يَلِي عَلَيْهِ أَحَدٌ ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ مُخْتَبِئًا فِي

الْبَطْنِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْإِجْرَاءِ وَالْإِبْعَاضِ فَأَمَّا الْعِتْقُ وَالْوَصِيَّةُ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَيُجْعَلُ كَالْمُضَافِ إلَى مَا بَعْدَ الِانْفِصَالِ وَالْإِقْرَارُ بِالسَّبَبِ لَيْسَ بِإِيجَابِ حَقٍّ لَهُ ابْتِدَاءً بَلْ إخْبَارٌ بِأَنَّهُ عَلِقَ مِنْ مَائِهِ وَالْإِقْرَارُ بِاسْتِهْلَاكِ مِيرَاثٍ أَوْ وَصِيَّةٍ لَهُ لَا يَكُونُ إيجَابًا لِلْجَنِينِ ابْتِدَاءً بَلْ يَكُونُ إقْرَارًا لِلْمُوَرِّثِ وَالْمُوصِي ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَيْهِ بِسَبَبِ الْإِرْثِ وَالْوَصِيَّةِ إنْ انْفَصَلَ حَيًّا أَمَّا هَذَا إيجَابُ الْحَقِّ لِلْجَنِينِ ابْتِدَاءً وَهُوَ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِذَلِكَ فَلِهَذَا بَطَلَ إقْرَارُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( بَابُ الْخِيَارِ ) .
( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ رَجُلٌ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِدَيْنٍ مِنْ قَرْضٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ وَدِيعَةٍ أَوْ عَارِيَّةٍ قَائِمَةٍ أَوْ مُسْتَهْلَكَةٍ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَالْإِقْرَارُ جَائِزٌ وَالْخِيَارُ بَاطِلٌ أَمَّا جَوَازُ الْإِقْرَارِ فَلِوُجُودِ الصِّيغَةِ الْمُلْزِمَةِ بِقَوْلِهِ : عَلَيَّ أَوْ عِنْدِي لِفُلَانٍ وَأَمَّا الْخِيَارُ فَبَاطِلٌ ) ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بَاطِلٌ إنْ اخْتَارَ وَلَا يَلِيقُ بِهِ الْخِيَارُ ؛ لِأَنَّ الْخَبَرَ إنْ كَانَ صَادِقًا فَصُدِّقَ اخْتَارَهُ أَوْ لَمْ يَخْتَرْهُ وَإِنْ كَانَ كَذِبًا لَمْ يَتَعَيَّنْ بِاخْتِيَارِهِ وَعَدَمِ اخْتِيَارِهِ وَإِنَّمَا مَا يَبَرُّ يَشْتَرِطُ الْخِيَارَ فِي الْعُقُودِ بِالشَّرْطِ لِيَتَغَيَّرَ بِهِ صِفَةُ الْعَقْدِ وَيَتَخَيَّرَ مَنْ لَهُ بَيْنَ فَسْخِهِ وَإِمْضَائِهِ ؛ وَلِأَنَّ الْخِيَارَ فِي مَعْنَى التَّعْلِيقِ بِالشَّرْطِ فَمَا دَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ حُكْمُ الْعَقْدِ وَالْإِقْرَارِ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَكَذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ إلَّا أَنَّ التَّعْلِيقَ يَدْخُلُ عَلَى أَصْلِ السَّبَبِ فَمُنِعَ كَوْنُ الْكَلَامِ إقْرَارًا وَالْخِيَارُ يَدْخُلُ عَلَى حُكْمِ السَّبَبِ فَإِذَا لُغِيَ بَقِيَ حُكْمُ الْإِقْرَارِ وَهُوَ اللُّزُومُ ثَانِيًا وَهَذَا كَمَا أَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ يَمْنَعُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ وَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ لَا يَمْنَعُهُ وَيَسْتَوِي إنْ صَدَّقَهُ صَاحِبُهُ فِي الْخِيَارِ أَوْ كَذَّبَهُ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ بِدَيْنٍ مِنْ ثَمَنِ بَيْعٍ عَلَى أَنَّهُ فِيهِ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّ هُنَاكَ يَثْبُتُ الْخِيَارُ إذَا صَدَّقَهُ صَاحِبُهُ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الْوُجُوبِ عَقْدٌ يَقْبَلُ الْخِيَارَ فَإِذَا تَصَادَقَا عَلَيْهِ صَارَ ذَلِكَ كَالْمُعَايَنِ فِي حَقِّهِمَا وَإِنْ كَذَّبَهُ صَاحِبُهُ لَمْ يَثْبُتْ الْخِيَارُ ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْبَيْعِ اللُّزُومُ فَمَنْ ادَّعَى دَعْوَةً مُعْتَبَرَةً بِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ فِيهِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ فَأَمَّا مَا سَبَبُ وُجُوبِ الْمَالِ فِعْلًا مِنْ فَرْضٍ أَوْ غَصْبٍ أَوْ اسْتِهْلَاكٍ وَذَلِكَ لَا

يَلِيقُ بِهِ الْخِيَارُ وَلَوْ عَايَنَ اشْتِرَاطَ الْخِيَارِ فِيهِ كَانَ لَغْوًا فَلِهَذَا لَمْ يَثْبُتْ وَإِنْ تَصَادَقَا عَلَيْهِ .

وَإِنْ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ مِنْ كَفَالَةٍ عَلَى شَرْطِ مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ طَوِيلَةٍ أَوْ قَصِيرَةٍ فَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فَهُوَ كَمَا قَالَ وَالْخِيَارُ ثَابِتٌ لَهُ إلَى آخِرِ الْمُدَّةِ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ عَقْدٌ يَصِحُّ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ فَيُجْعَلُ مَا تَصَادَقَا عَلَيْهِ كَالْمُعَايَنِ فِي حَقِّهِمَا وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بَيْنَ الْبَيْعِ وَبَيْنَ الْكَفَالَةِ فَقَالَ فِي الْبَيْعِ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَفِي الْكَفَالَةِ يَجُوزُ ذَلِكَ وَإِنْ طَالَتْ الْمُدَّةُ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ عَقْدٌ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّوَسُّعِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِبَعْضِ الْأَخْطَارِ نَحْوَ قَوْلِهِ مَا ذَابَ لَكَ عَنْ فُلَانٍ فَهُوَ عَلَيَّ وَنَحْوَ الْكَفَالَةِ بِالدَّرَكِ فَإِنَّهُ تَعْلِيقٌ بِخَطَرِ الِاسْتِحْقَاقِ فَإِذَا كَانَ هُوَ مُحْتَمِلًا لِلتَّعْلِيقِ كَانَ الْخِيَارُ مُلَائِمًا لَهُ بِأَصْلِهِ فَيَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً قَصُرَتْ أَوْ طَالَتْ فَأَمَّا الْبَيْعُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعِتْقِ حَتَّى لَا يَحْتَمِلَ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ أَصْلًا فَلَمْ يَكُنْ الْخِيَارُ مُلَائِمًا لَهُ بِاعْتِبَارِ أَصْلِهِ فَقُلْنَا لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ إلَّا بِقَدْرِ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ وَذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَإِنْ كَذَّبَهُ صَاحِبُهُ بِالْخِيَارِ لَزِمَهُ الْمَالُ وَلَمْ تَصْدُقْ عَلَى شَرْطِ الْخِيَارِ ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى عَقْدِ الْكَفَالَةِ اللُّزُومُ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْبَيْعِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَجَلِ فَإِنَّهُ إذَا ادَّعَى الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ إلَى أَجَلٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْهُ صَاحِبُهُ ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْكَفَالَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مَنْ كَفَلَ بِمَالٍ مُوجَدٍ مُطْلَقًا يُثْبِتُ الْأَجَلَ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ وَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ تُوجِبُ الْمَالَ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ إذَا كَانَ يَأْمُرُهُ كَمَا يُوجِبُ لِلطَّالِبِ عَلَى الْكَفِيلِ وَمَا يَكُونُ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ مُؤَجَّلٌ أَنْ يُؤَدِّيَهُ عَنْهُ فَلَمَّا كَانَ الْأَصْلُ مِنْ

مُقْتَضَيَاتِ الْكَفَالَةِ جُعِلَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَ مَنْ يَدَّعِيهِ بِخِلَافِ الْخِيَارِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْكَفَالَةِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ مَنْ يَدَّعِيهِ إلَّا بِحُجَّةٍ .

وَإِقْرَارُ الصَّبِيِّ التَّاجِرِ جَائِزٌ فِي جَمِيعِ تِجَارَاتِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ صِيَغِ التُّجَّارِ وَهُوَ مِمَّا لَا يَسْتَغْنِي التَّاجِرُ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَى مَنْ يُعَامِلُهُ إشْهَادُ الشَّاهِدَيْنِ عَلَيْهِ كُلَّ مُعَامَلَةٍ فَإِذَا عَلِمَ أَنَّ إقْرَارَهُ لَهُ لَا يَكُونُ صَحِيحًا يَتَحَذَّرُ عَنْ الْمُعَامَلَةِ مَعَهُ فَلِهَذَا جَوَّزْنَا إقْرَارَهُ وَبِخِلَافِ إقْرَارِ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ صَحِيحًا لِعَدَمِ التَّصَوُّرِ فَإِنَّ الْإِقْرَارَ مَا يُقِرُّ الْمَرْءُ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَأَمَّا مَا يُقِرُّ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ يَكُونُ شَهَادَةً فَمِنْ الْأَبِ لَا يَتَحَقَّقُ الْإِقْرَارُ عَلَى الصَّبِيِّ وَيَتَحَقَّقُ مِنْ الصَّبِيِّ الْمَأْذُونِ الْإِقْرَارُ عَلَى نَفْسِهِ وَيَسْتَوِي إنْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ مِمَّا اكْتَسَبَهُ بِتِجَارَتِهِ أَوْ كَانَ مَوْرُوثًا لَهُ عَنْ أَبِيهِ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ فِيهِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ وَالْكُلُّ فِي حُكْمِ الْمِلْكِ سَوَاءٌ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ سَائِرَ تَصَرُّفَاتِهِ يَجُوزُ فِيهِمَا فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ وَذُكِرَ فِي الْمُجَرَّدِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ إقْرَارَهُ فِيمَا يَرِثُهُ مِنْ أَبِيهِ لَا يَكُونُ صَحِيحًا ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِهِ فِيمَا اكْتَسَبَهُ بِتِجَارَتِهِ لِوُقُوعِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيمَا وَرِثَهُ عَنْ أَبِيهِ وَالْأَصَحُّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ ؛ لِأَنَّ انْفِكَاكَ الْحَجْرِ عَنْهُ فِيمَا هُوَ مِنْ جُمْلَةِ التِّجَارَةِ بِالْإِذْنِ بِمَنْزِلَةِ انْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ فِيمَا هُوَ مِنْ جُمْلَةِ التِّجَارَةِ بِالْإِذْنِ بِمَنْزِلَةِ انْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْبُلُوغِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ التِّجَارَةِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ الصَّبِيُّ الْمَأْذُونُ عَلَى أَبِيهِ بِدَيْنٍ جَازَ إقْرَارُهُ ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ جَوَازِ الْإِقْرَارِ فَصَارَ انْفِكَاكُ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْإِذْنِ كَانْفِكَاكِ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْبُلُوغِ وَلَوْ أَقَرَّ بِدَيْنِ أَبِيهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ صَحَّ إقْرَارُهُ وَاسْتَوْفَى جَمِيعَ الدَّيْنِ مِنْ نَصِيبِهِ إنْ أَنْكَرَ

شُرَكَاؤُهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِهِ بَعْدَ الْإِذْنِ وَلَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمَهْرِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ وَدَيْنِ الْكَفَالَةِ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَسْبَابَ لَيْسَتْ بِتِجَارَةٍ وَقَدْ نُفِيَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ بِقِيَامِ الصِّغَرِ فِيمَا لَيْسَ بِتِجَارَةٍ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ أَحَدَ الْمُتَفَاوِضَيْنِ لَوْ أَقَرَّ بِالْمَهْرِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ يُؤَاخِذُ بِهِ شَرِيكَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّ بِالدَّيْنِ مُطْلَقًا فَهَذَا مِثْلُهُ .
فَالْكَفَالَةُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ بِمَنْزِلَةِ الْمَهْرِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ يُنْزَعُ ابْتِدَاءً بِخِلَافِ الْمُفَاوِضِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( بَابُ الْإِقْرَارِ بِالْعَارِيَّةِ ) ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّ هَذَا الثَّوْبَ أَوْ هَذِهِ الدَّارَ عِنْدَهُ عَارِيَّةٌ بِمِلْكِ فُلَانٍ أَوْ بِمِيرَاثِهِ أَوْ بِحَقِّ فُلَانٍ هَذَا كُلُّهُ إقْرَارٌ ) ؛ لِأَنَّ الْبَاءَ فِي الْأَصْلِ لِلْإِلْصَاقِ ، فَقَدْ جَعَلَ الْمُقَرَّ بِهِ مُلْصَقًا بِمِلْكِ فُلَانٍ وَمِيرَاثِهِ وَحَقِّهِ ، وَلَمْ يَتَحَقَّقْ هَذَا الْإِلْصَاقُ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مِمَّا لَهُ وَكَالَةٌ ، وَقَدْ تَكُونُ الْبَاءُ صِلَةً كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ } ، وَإِنْ حَمَلْنَاهُ عَلَى مَعْنَى الصِّلَةِ هُنَا كَانَ إقْرَارًا أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ تَقْدِيرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ مِلْكُ فُلَانٍ أَوْ مِيرَاثُ فُلَانٍ أَوْ حَقُّ فُلَانٍ ، وَقَدْ تَكُونُ الْبَاءُ لِلتَّبْعِيضِ أَيْضًا عِنْدَ بَعْضِهِمْ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ } اقْتَضَى الْمَسْحَ بِبَعْضِ الرَّأْسِ ، وَإِذَا حُمِلَ عَلَى هَذَا كَانَ إقْرَارًا أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْمُقَرَّ بِهِ بَعْضَ مِلْكِهِ وَمِيرَاثِهِ وَحَقِّهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ عَارِيَّةً عِنْدِي مِنْ مِلْكِ فُلَانٍ أَوْ مِنْ مِيرَاثِهِ أَوْ مِنْ حَقِّهِ ؛ لِأَنَّ " مِنْ " فِي الْأَصْلِ لِلتَّبْعِيضِ فَذَلِكَ إقْرَارٌ يَكُونُ الْمُقَرُّ بِهِ بَعْضَ مِلْكِهِ ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ صِلَةً كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ } وقَوْله تَعَالَى { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ } ، وَإِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى الصِّلَةِ فَهُوَ إقْرَارٌ أَيْضًا ، وَقَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى الْبَاءِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ } يَعْنِي بِأَمْرِ اللَّهِ فَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ ، وَقَدْ تَكُونُ " مِنْ " لِلتَّمْيِيزِ كَمَا يُقَالُ سَيْفٌ مِنْ حَدِيدٍ وَخَاتَمٌ مِنْ فِضَّةٍ ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ إقْرَارًا أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ مَيَّزَ الْمُقَرَّ بِهِ عَنْ سَائِرِ مَا فِي يَدِهِ بِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ لِلْمُقِرِّ .

وَلَوْ قَالَ عَارِيَّةٌ عِنْدِي لِمِلْكِ فُلَانٍ أَوْ لِمِيرَاثِهِ كَانَ إقْرَارًا أَيْضًا ، وَلَوْ قَالَ : وَالثَّوْبُ وَالدَّابَّةُ عَارِيَّةٌ عِنْدِي لِحَقِّ فُلَانٍ ، لَا يَكُونُ إقْرَارًا لِأَنَّ اللَّامَ قَدْ تَكُونُ لِلتَّأْكِيدِ ، وَقَدْ تَكُونُ لِلْوَقْتِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { لِدُلُوكِ الشَّمْسِ } وقَوْله تَعَالَى { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } .
وَقَدْ تَكُونُ لِلتَّمْلِيكِ ، وَقَدْ تَكُونُ لِلتَّعْلِيلِ فَعَلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ حُمِلَ قَوْلُهُ لِمِلْكِ فُلَانٍ أَوْ لِمِيرَاثِ فُلَانٍ إقْرَارًا مُؤَكَّدًا ، وَأَمَّا إذَا قَالَ لِحَقِّ فُلَانٍ فَنَقُولُ : اللَّامُ قَدْ تَكُونُ بِمَعْنَى الْمُجَازَاةِ كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِغَيْرِهِ أَكْرَمْتُكَ لِتُكْرِمَنِي وَزُرْتُكَ لِتَزُورَنِي ، وَقَدْ تَكُونُ لِبَيَانِ الْحُرْمَةِ كَالرَّجُلِ يُرِيدُ أَنْ يَضْرِبَ عَبْدَهُ فَنَهَاهُ الْغَيْرُ فَيَقُولُ تَرَكْتُهُ لَكَ أَيْ لِحُرْمَتِكَ وَشَفَاعَتِكَ فَهُنَا قَوْلُهُ لِحَقِّ فُلَانٍ يَحْتَمِلُ مَعْنَى الشَّفَاعَةِ وَالْحُرْمَةِ يَعْنِي لِأَجْلِ شَفَاعَتِهِ وَحُرْمَتِهِ إعَادَةُ صَاحِبِهِ ، فَهُنَا قَوْلُهُ " مِنِّي " فَلَمَّا احْتَمَلَ هَذَا الْمَعْنَى لَمْ يَجْعَلْ إقْرَارًا لَهُ بِالشَّكِّ بِخِلَافِ قَوْلِهِ لِمِلْكِ فُلَانٍ أَوْ لِمِيرَاثِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَحْتَمِلُ مَعْنَى الْحُرْمَةِ وَالشَّفَاعَةِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : هَذَا الْأَلْفُ مُضَارَبَةً عِنْدِي لِحَقِّ فُلَانٍ لَمْ يَكُنْ إقْرَارًا ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِمَعْنَى الْحُرْمَةِ وَالشَّفَاعَةِ أَيْ إنَّمَا رَفَعَهَا صَاحِبُهَا إلَى مُضَارَبَةٍ لِأَجْلِ شَفَاعَةِ فُلَانٍ وَحُرْمَتِهِ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِالْقَرْضِ لِحَقِّ فُلَانٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ إقْرَارًا ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ لَا تُجْزِئُ فِيهِ الشَّفَاعَةُ عَادَةً إنَّمَا تُجْزِئُ فِيهِ الْكَفَالَاتُ ، فَإِذَنْ انْتَفَى مَعْنَى الشَّفَاعَةِ فِي الْقَرْضِ فَبَقِيَ إقْرَارًا لِمِلْكِهِ بِخِلَافِ الْعَوَارِيِّ وَالْمُضَارَبَةِ فَإِنَّهُ تُجَزِّئُ فِيهِمَا الشَّفَاعَاتُ عَادَةً .

وَلَوْ قَالَ : هَذِهِ الدَّرَاهِمُ عِنْدِي عَارِيَّةٌ لِحَقِّ فُلَانٍ فَهَذَا إقْرَارٌ لَهُ بِهَا لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ فِي الدَّرَاهِمِ قَرْضٌ فَكَانَ هَذَا وَالْإِقْرَارُ بِالْقَرْضِ سَوَاءٌ بِخِلَافِ الدَّابَّةِ وَالثَّوْبِ .

وَلَوْ قَالَ : أَخَذْتُ هَذَا الثَّوْبَ مِنْكَ عَارِيَّةً ، وَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ : بَلْ أَخَذْتُهُ مِنِّي بَيْعًا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآخِذِ مَعَ يَمِينِهِ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّ الْأَخْذَ حَصَلَ بِإِذْنِ الْمَالِكِ ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْآخِذِ بِاعْتِبَارِ عَقْدِ الضَّمَانِ ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لَهُ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ .
وَهَذَا إذَا لَمْ يَلْبَسْهُ ، فَإِنْ لَبِسَهُ فَهَلَكَ كَانَ ضَامِنًا لَهُ ؛ لِأَنَّ لُبْسَ ثَوْبِ الْغَيْرِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى اللَّابِسِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِإِذْنٍ مِنْ صَاحِبِهِ ، وَاللَّابِسُ وَصَاحِبُهُ مُنْكِرَانِ ، فَإِنْ ( قِيلَ ) لَا كَذَلِكَ فَإِنَّ بَيْعَ الثَّوْبِ مِنْ الْغَيْرِ تَسْلِيطٌ مِنْهُ عَلَى لُبْسِهِ فَلَمَّا أَقَرَّ صَاحِبُهُ بِالْبَيْعِ ، فَقَدْ ثَبَتَ الْإِذْنُ فِي اللُّبْسِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَضْمَنَ اللَّابِسُ كَمَا قُلْنَا فِي الْآخِذِ ( قُلْنَا ) التَّسْلِيطُ بِإِيجَابِ الْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ التَّمْلِيكُ لِيَلْبَسَ مِلْكَ نَفْسِهِ ، فَإِذَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لَهُ لِإِنْكَارِهِ لَمْ يَثْبُتْ تَسْلِيطُ صَاحِبِهِ إيَّاهُ عَلَى لُبْسِهِ ، وَهُوَ فِي اللُّبْسِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ ، وَذَلِكَ سَبَبٌ مُوجِبٌ الضَّمَانَ عَلَيْهِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِخِلَافِ الْآخِذِ ، فَقَدْ يَكُونُ فِي الْآخِذِ عَامِلًا لِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ كَالْمُودِعِ فِي أَخْذِ الْوَدِيعَةِ لِيَحْفَظَهَا فَلَا يَتَقَرَّرُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ بِالْإِقْرَارِ بِالْأَخْذِ إذَا لَمْ يُنْكِرْ صَاحِبُهُ أَصْلَ الْإِذْنِ

الْإِذْنِ وَلَوْ قَالَ : أَقْرَضَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ ، فَقَالَ الْمُقَرُّ لَهُ : لَا بَلْ غَصَبَنِي فَالْمُقِرُّ ضَامِنٌ لَهَا ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى كَوْنِ الْمَالِ مَضْمُونًا عَلَيْهِ لِلْمُقَرِّ لَهُ ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي سَبَبِهِ وَالْأَسْبَابُ مَطْلُوبَةٌ لِأَحْكَامِهَا لَا لِأَعْيَانِهَا فَعِنْدَ التَّصَادُقِ عَلَى الْحُكْمِ لَا يُنْظَرُ إلَى اخْتِلَافِ السَّبَبِ ، وَهَذَا لِأَنَّ قَوْلَ الْمُقَرِّ لَهُ " لَا بَلْ غَصَبَنِي " لَا يَكُونُ رَدًّا لِأَصْلِ الْوَاجِبِ إنَّمَا يَكُونُ رَدًّا لِلسَّبَبِ فَيَبْقَى إقْرَارُهُ مُعْتَبَرًا فِي وُجُوبِ الْمَالِ لِتَصْدِيقِ الْمُقَرِّ لَهُ إيَّاهُ فِي أَنَّهُ وَاجِبٌ .
وَإِنْ كَانَتْ الدَّرَاهِمُ بِعَيْنِهَا فَلِلْمُقَرِّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى مِلْكِ الْعَيْنِ لِلْمُقَرِّ لَهُ فَبَعْدَ ذَلِكَ الْمُقِرُّ بِدَعْوَى الْقَرْضِ يَدَّعِي مِلْكَهَا عَلَيْهِ فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ .

وَلَوْ قَالَ : هَذِهِ الدَّرَاهِمُ فِي يَدِي عَارِيَّةٌ لِفُلَانٍ أَوْ مِنْ فُلَانٍ أَيْ أَوْ مِنْ قِبَلِ فُلَانٍ فَهَذَا إقْرَارٌ لَهُ بِهَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعَارِيَّةَ فِي الدَّرَاهِمِ قَرْضٌ فَإِنَّ الِانْتِفَاعَ بِهَا لَا يَتَأَتَّى فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ إلَّا بِاسْتِهْلَاكِ عَيْنِهَا فَكَانَتْ الْإِعَارَةُ فِيهَا تَسْلِيطًا بِشَرْطِ ضَمَانِ الرَّدِّ ، وَذَلِكَ حُكْمُ الْقَرْضِ .

وَإِنْ قَالَ هَذِهِ الدَّرَاهِمُ عَارِيَّةٌ بِيَدِي عَلَى يَدَيْ فُلَانٍ فَلَيْسَ هَذَا بِإِقْرَارٍ ، وَذَكَرَ بَعْدَ هَذَا أَنَّهُ إقْرَارٌ .
وَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ قَوْلَهُ " عَلَى يَدَيْ فُلَانٍ " مَعْنَاهُ أَرْسَلَهَا صَاحِبُهَا إلَيَّ عَارِيَّةً عَلَى يَدَيْ فُلَانٍ فَإِنَّمَا إقْرَارُهُ فُلَانًا كَانَ رَسُولًا فِيهَا فَلَا يَصِيرُ مُقِرًّا بِالْمِلْكِ لَهُ .
وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّهُ أَقَرَّ بِأَنَّ وُصُولَهَا إلَى يَدِهِ كَانَ مِنْ يَدِ فُلَانٍ ، وَالْمُتَعَيِّنُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ الرَّدُّ عَلَى مَنْ أَخَذَ مِنْهُ كَمَا يَلْزَمُ الرَّدُّ الْمُكَارِيَ الَّذِي أَخَذَ مِنْهُ فَوَجَبَ عَلَيْهِ بِحُكْمِ هَذَا الْإِقْرَارِ رَدُّهَا عَلَى فُلَانٍ فَلِهَذَا كَانَ مِنْهُ إقْرَارًا لِفُلَانٍ .

( بَابُ الْإِقْرَارِ بِالدَّرَاهِمِ عَدَدًا ) ( قَالَ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : رَجُلٌ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ عَدَدًا ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ هِيَ وَزْنُ خَمْسَةٍ أَوْ سِتَّةٍ ، وَكَانَ الْإِقْرَارُ مِنْهُ بِالْكُوفَةِ فَعَلَيْهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَزْنُ سَبْعَةٍ وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى النُّقْصَانِ إلَّا إنْ بَيَّنَ الْوَزْنَ مَوْصُولًا بِكَلَامِهِ لِأَنَّ ذِكْرَ الدَّرَاهِمِ عِبَارَةٌ عَنْ ذِكْرِ الْوَزْنِ فَإِنَّهُ لَا طَرِيقَ لِمَعْرِفَةِ الْوَزْنِ فِيهِ إلَّا بِذِكْرِ الْعَدَدِ مِنْ الدَّرَاهِمِ وَمُطْلَقُ ذِكْرِ الْوَزْنِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ مِنْهُ ، فَإِذَا كَانَ إقْرَارُهُ بِالْكُوفَةِ فَالْمُتَعَارَفُ بِهَا فِي الدَّرَاهِمِ سَبْعَةٌ وَكَمَا يَنْصَرِفُ مُطْلَقُ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بِالدَّرَاهِمِ إلَيْهِ فَكَذَلِكَ مُطْلَقُ الْإِقْرَارِ يَنْصَرِفُ إلَيْهِ فَقَوْلُهُ وَزْنُ خَمْسَةٍ بَيَانٌ مُعْتَبَرٌ لِمَا اقْتَضَاهُ مُطْلَقُ إقْرَارِهِ ، فَقَدْ بَيَّنَّا بَيَانَهُ ، وَالتَّعْبِيرُ يَصِحُّ مَوْصُولًا بِالْكَلَامِ وَلَا يَصِحُّ مَفْصُولًا وَمَعْنَى قَوْلِنَا وَزْنُ سَبْعَةٍ أَنَّ كُلَّ عَشَرَةٍ مِنْهَا وَزْنُ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ وَكُلُّ دِرْهَمٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قِيرَاطًا ، وَإِذَا كَانَ الدِّرْهَمُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قِيرَاطًا تُبْنَى عَلَيْهِ أَحْكَامُ الزَّكَاةِ وَنِصَابُ السَّرِقَةِ وَغَيْرِهَا .
وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْأَوْزَانَ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَهْدِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَتْ مُخْتَلِفَةً فَمِنْهَا مَا كَانَ الدِّرْهَمُ عِشْرِينَ قِيرَاطًا ، وَمِنْهَا مَا كَانَ عَشَرَةَ قَرَارِيطَ ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى وَزْنَ خَمْسَةٍ وَمِنْهَا مَا كَانَتْ اثْنَيْ عَشَرَ قِيرَاطًا ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى وَزْنُ سِتَّةٍ فَلَمَّا كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ طَلَبُوا مِنْهُ أَنْ يَجْمَعَ النَّاسَ عَلَى نَقْدٍ وَاحِدٍ فَأَخَذَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ مِنْ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ دِرْهَمًا ، وَكَانَ الْكُلُّ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ قِيرَاطًا وَأَمَرَ أَنْ يُضْرَبَ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ مُتَسَاوِيَةٌ فَكُلُّ دِرْهَمٍ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قِيرَاطًا ،

وَهُوَ وَزْنُ سَبْعَةٍ الَّتِي جَمَعَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَيْهَا النَّاسَ وَبَقِيَ كَذَلِكَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا .
وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ يَتَبَايَعُونَ عَلَى دَرَاهِمَ مَعْرُوفَةِ الْوَزْنِ بَيْنَهُمْ يَنْقُصُ مِنْ وَزْنِ سَبْعَةٍ صُدِّقَ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ تَعْيِينَ وَزْنِ سَبْعَةٍ لَمْ يَكُنْ نَصٌّ مِنْ لَفْظِهِ إنَّمَا كَانَ بِالْعُرْفِ الظَّاهِرِ فِي مُعَامَلَةِ النَّاسِ بِهِ ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبُلْدَانِ وَالْأَوْقَاتِ فَيُعْتَبَرُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ عُرْفُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ كَمَا فِي سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ سِوَى الْإِقْرَارِ .
وَإِنْ اُدُّعِيَ وَزْنٌ دُونَ الْمُتَعَارَفِ كَمَا فِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا إذَا ذَكَرَهُ مَوْصُولًا بِكَلَامِهِ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ نُقُودٌ مُخْتَلِفَةٌ ، فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ مِنْهَا نَقْدًا بِعَيْنِهِ يَنْصَرِفُ مُطْلَقُ الْإِقْرَارِ إلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْبَعْضُ غَالِبًا عَلَى الْبَعْضِ يَنْصَرِفُ إقْرَارُهُ إلَى الْأَقَلَّ ؛ لِأَنَّ الْأَقَلَّ مُتَيَقَّنٌ بِهِ ، وَعِنْدَ التَّعَارُضِ لَا يُقْضَى إلَّا بِقَدْرِ الْمُتَيَقَّنِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُقِرَّ بَيَّنَ الْأَوَّلَ ؛ لِأَنَّ الْأَقَلَّ مُتَيَقَّنٌ بِهِ ، وَعِنْدَ التَّعَارُضِ لَا يُقْضَى إلَّا بِقَدْرِ الْمُتَيَقَّنِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُقِرَّ بَيَّنَ الْأَوَّلَ لَا مَحَالَةَ .
وَهَذَا بَيَانُ التَّفْسِيرِ حِينَ اسْتَوَتْ النُّقُودُ فِي الرَّوَاجِ ، وَبَيَانُ التَّفْسِيرِ صَحِيحٌ مَفْصُولًا كَانَ أَوْ مَوْصُولًا كَبَيَانِ الزَّوْجِ فِي كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ .

وَلَوْ قَالَ بِالْكُوفَةِ : عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ بِيضٌ عَدَدًا ، ثُمَّ قَالَ : هِيَ تَنْقُصُ دَانِقًا لَمْ يُصَدَّقْ ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ لَفْظِهِ انْصَرَفَ إلَى الْإِقْرَارِ بِوَزْنِ سَبْعَةٍ فَدَعْوَاهُ النُّقْصَانَ بِمَنْزِلَةِ الِاسْتِثْنَاءِ لِبَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ ، وَالِاسْتِثْنَاءُ لَا يَصِحُّ إلَّا مَوْصُولًا .

وَلَوْ قَالَ : عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ إسبهبدية عَدَدًا ، ثُمَّ قَالَ عَنَيْتُ هَذِهِ الصِّغَارَ فَعَلَيْهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَزْنُ سَبْعَةٍ مِنْ الإسبهبدية ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ إسبهبدية يَرْجِعُ إلَى بَيَانِ النَّوْعِ كَقَوْلِهِ " سُودٌ " يَرْجِعُ إلَى بَيَانِ الصِّفَةِ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ الْوَزْنُ والإسبهدية فَارِسِيَّةٌ مُعَرَّبَةٌ مَعْنَاهُ اسبه سالادية .
وَالصِّغَارُ هُوَ الَّذِي تُسَمِّيهِ النَّاسُ مَهْرًا تَكُونُ سِتَّةٌ مِنْهُ بِوَزْنِ دِرْهَمٍ ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ نُقْصَانِ الْوَزْنِ مَفْصُولًا عَلَى مَا بَيَّنَّا .

وَلَوْ قَالَ لَهُ : عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ مِنْ السُّودِ الْخِيَارِ ، ثُمَّ قَالَ هِيَ وَزْنُ سَبْعَةٍ ، وَقَالَ الطَّالِبُ : هِيَ مَثَاقِيلُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ مَعَ يَمِينِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ تَسْمِيَةَ الدَّرَاهِمِ بَيَانٌ لِلْوَزْنِ ، وَقَوْلُهُ " مِنْ السُّودِ " بَيَانٌ لِلصِّفَةِ ، وَقَوْلُهُ " الْخِيَارِ " بَيَانُ الْعَرْضِ وَبِهِ لَا يَزْدَادُ الْوَزْنُ ، فَإِنْ ادَّعَى الْمُقَرُّ لَهُ زِيَادَةً عَلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ : عَلَيَّ دِرْهَمٌ صَغِيرٌ فَهُوَ عَلَى وَزْنِ سَبْعَةٍ وَوَصْفُهُ بِالصِّغَرِ إمَّا لِلْأَثْقَالِ أَوْ لِصِغَرِ الْحَجْمِ وَبِهِ لَا يُنْتَقَصُ الْوَزْنُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ عَلَيَّ دِرْهَمٌ كَبِيرٌ .

وَلَوْ قَالَ : عَلَيَّ دَرَاهِمُ فَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِلَفْظِ الْجَمْعِ وَأَدْنَى الْجَمْعِ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ وَلَا غَايَةَ لِأَقْصَاهُ فَيَنْصَرِفُ إلَى الْأَدْنَى ؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِقْرَارَ إيجَابٌ لَا يُقَابِلُهُ الِاسْتِيجَابُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ فِي أَنَّهُ يُؤْخَذُ بِالْأَقَلِّ مِمَّا يُلْفَظُ بِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ دُرَيْهِمَاتٌ فَهُوَ تَصْغِيرٌ بِجَمْعِ الدَّرَاهِمِ ، وَهَذَا التَّصْغِيرُ لَا يَنْقُضُ الْوَزْنَ فَعَلَيْهِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ : عَلَيَّ فُلَيْسٌ أَوْ قُفَيْزٌ أَوْ رُطَيْلٌ فَهُوَ وَقَوْلُهُ " فَلْسٌ ، وَقَفِيزٌ ، وَرِطْلٌ " سَوَاءٌ يَنْصَرِفُ ذَلِكَ إلَى التَّمَامِ مِنْ ذَلِكَ وَزْنًا وَكَيْلًا .

وَلَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ مَثَاقِيلَ كَمَا قَالَ وَكَانَ عَلَيْهِ مِائَةُ مِثْقَالٍ عَنْ الدَّرَاهِمِ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى وَزْنٍ هُوَ أَكْثَرُ مِمَّا اقْتَضَاهُ مُطْلَقُ كَلَامِهِ وَلَوْ نَصَّ عَلَى وَزْنٍ هُوَ دُونَهُ قُبِلَ مِنْهُ إذَا كَانَ مَوْصُولًا فَكَذَلِكَ إذَا نَصَّ عَلَى وَزْنٍ هُوَ أَكْثَرُ إلَّا أَنَّ فِي هَذَا لَا يَلْحَقُهُ التُّهْمَةُ فَيَصِحُّ سَوَاءٌ ذَكَرَهُ مَوْصُولًا أَوْ مَفْصُولًا .

وَلَوْ قَالَ لَهُ : عَلَيَّ رُبْعُ حِنْطَةٍ فَعَلَيْهِ رُبْعُ حِنْطَةٍ بِرُبْعِ الْبَلَدِ الْأَكْبَرِ ، وَإِنْ قَالَ : عَنَيْتُ الرُّبْعَ الصَّغِيرَ لَمْ يُصَدَّقْ .
وَالرُّبْعُ اسْمٌ لِمِكْيَالٍ كَالْقَفِيزِ وَالصَّاعِ ، وَالْمُتَعَارَفُ فِي الْمُعَامَلَاتِ بِهِ الْأَكْبَرُ فَيَنْصَرِفُ مُطْلَقُ الْإِقْرَارِ إلَيْهِ عَلَى قِيَاسِ مَا بَيَّنَّا فِي الْوَزْنِ .

ثَوْبٌ فِي يَدَيْ رَجُلٍ ، فَقَالَ : وَهَبَهُ لِي فُلَانٌ ، فَقَالَ : نَعَمْ أَوْ أَجَلْ أَوْ بَلَى أَوْ صَدَقْتَ أَوْ قَالَ ذَلِكَ بِالْفَارِسِيَّةِ فَهُوَ إقْرَارٌ ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي مَوْضِعِ الْجَوَابِ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَفْهُومِ الْمَعْنَى ، وَهُوَ مِمَّا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ جَوَابًا وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخِطَابِ يَصِيرُ كَالْمُعَادِ لِلْجَوَابِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ } أَيْ نَعَمْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى } أَيْ بَلَى أَنْتَ رَبُّنَا فَهُنَا أَيْضًا يَصِيرُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَقْدِ الْهِبَةِ مُعَادًا فِي الْجَوَابِ فَيَثْبُتُ الْعَقْدُ بِإِقْرَارِهِ وَالْقَبْضُ مَوْجُودٌ فَيُجْعَلُ صَادِرًا عَنْ ذَلِكَ الْعَقْدِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ الثَّوْبُ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ ، وَلَكِنَّهُ فِي يَدِ الْوَاهِبِ فَادَّعَى الْمَوْهُوبُ لَهُ الْهِبَةَ وَالتَّسْلِيمَ وَجَحَدَ ذَلِكَ الْوَاهِبُ ، فَإِنْ شَهِدَ الشُّهُودُ بِمُعَايَنَةِ الْقَبْضِ قُبِلَ بِالِاتِّفَاقِ ، وَكَانَ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ .
وَإِنْ شَهِدُوا عَلَى إقْرَارِ الْوَاهِبِ بِالتَّسْلِيمِ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ أَوَّلًا : لَا يُقْبَلُ ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْهِبَةِ يُقْبَضُ بِحُكْمٍ ، وَالْقَبْضُ فِعْلٌ لَا يَصِيرُ مَوْجُودًا بِالْإِقْرَارِ بِهِ كَذِبًا فَإِنَّ الْمُخْبَرَ عَنْهُ إذَا كَانَ بَاطِلًا فَبِالْإِخْبَارِ عَنْهُ لَا يَصِيرُ حَقًّا كَقَرِيَّةِ الْمُقِرِّينَ وَجُحُودِ الْمُبْطِلِينَ ، فَإِذَا لَمْ يَشْهَدُوا بِهِبَةٍ تَامَّةٍ لَا تُقْبَلُ الشَّهَادَةُ ، ثُمَّ رَجَعَ ، وَقَالَ : الشَّهَادَةُ مَقْبُولَةٌ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ إقْرَارِهِ بِالْبَيِّنَةِ كَثُبُوتِهِ بِالْمُعَايَنَةِ ، وَالْقَبْضُ وَإِنْ كَانَ فِعْلًا هُوَ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ بِإِقْرَارِهِ كَالْقَتْلِ وَالْغَصْبِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ بِإِقْرَارِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ .

فَإِنْ أَقَرَّ الْوَاهِبُ بِالْهِبَةِ وَالْقَبْضِ ، ثُمَّ أَنْكَرَ التَّسْلِيمَ بَعْدَ ذَلِكَ وَأَرَادَ اسْتِحْلَافَ الْمَوْهُوبِ لَهُ لَمْ يُحَلِّفْهُ الْقَاضِي فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَيُحَلِّفْهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ اسْتِحْسَانًا ، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ الْبَائِعُ إذَا أَقَرَّ بِقَبْضِ الثَّمَنِ ، ثُمَّ جَحَدُوا أَرَادَ اسْتِحْلَافَ الْمُشْتَرِي لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ عِنْدَهُمَا ، وَهُوَ لِأَنَّهُ مُنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ رَاجِعٌ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ مِنْ الْقَبْضِ ، وَالْمُنَاقِضُ لَا قَوْلَ لَهُ وَالِاسْتِحْلَافُ يَنْبَنِي عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ ، وَاسْتَحْسَنَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِمَا عُرِفَ مِنْ الْعَادَةِ الظَّاهِرَةِ أَنَّ الْبَائِعَ يُقِرُّ بِالثَّمَنِ لِلْإِشْهَادِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبَضَهُ حَقِيقَةً فَلِلِاحْتِيَاطِ لِحَقِّهِ يَسْتَحْلِفُ الْخَصْمَ إذَا طَلَبَ هُوَ ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( بَابٌ مِنْ الْإِقْرَارِ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةٍ ) ( قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ رَجُلٌ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَعَلَيْهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ عِنْدَنَا ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ عِشْرُونَ ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ دُرْجٍ : عَلَيْهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ ، وَجْهُ قَوْلِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْعَشَرَةَ فِي الْعَشَرَةِ عِنْدَ أَهْلِ الْحِسَابِ تَكُونُ مِائَةً فَإِقْرَارُهُ بِهَذَا اللَّفْظِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الْحِسَابِ ) .
وَلَنَا أَنْ نَقُولَ : إنَّ حِسَابَ الضَّرْبِ فِي الْمَمْسُوحَاتِ لَا فِي الْمَوْزُونَاتِ مَعَ أَنَّ عَمَلَ الضَّرْبِ فِي تَكْثِيرِ الْآخَرِ لَا فِي زِيَادَةِ الْمَالِ ، وَعَشَرَةُ دَرَاهِمَ وَزْنًا وَإِنْ تَكَثَّرَتْ أَجْزَاؤُهَا لَا تَصِيرُ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةٍ وَزُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ حَرْفُ " فِي " بِمَعْنَى حَرْفِ " نُونٍ " ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَادْخُلِي فِي عِبَادِي } أَيْ مَعَ عِبَادِي فَيُحْمَلُ عَلَى هَذَا تَصْحِيحًا لِكَلَامِهِ وَكُنَّا نَقُولُ حَرْفُ " فِي " لِلظَّرْفِ ، وَالدَّرَاهِمُ لَا تَكُونُ ظَرْفًا لِلدَّرَاهِمِ وَجَعْلُهُ بِمَعْنَى " مَعَ " مَجَازٌ ، وَالْمَجَازُ قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى حَرْفِ " مَعَ " ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى حَرْفِ " عَلَى " قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلِأُصَلِّبَنكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ } أَيْ عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ فَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ بَقِيَ الْمُعْتَبَرُ حَقِيقَةُ كَلَامِهِ فَيَلْزَمُ عَشَرَةٌ بِأَوَّلِ كَلَامِهِ ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي آخِرِهِ لَغْوٌ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : وَعَشَرَةُ دَنَانِيرَ إلَّا أَنْ يَقُولَ : عَنَيْتُ هَذِهِ وَهَذِهِ فَحِينَئِذٍ يَعْمَلُ بَيَانُهُ بَيَّنَ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ فِي بِمَعْنَى مَعَ أَوْ بِمَعْنَى وَاوِ الْعَطْفِ ، وَفِيهِ تَسْدِيدٌ عَلَيْهِ فَيَصِحُّ بَيَانُهُ .

وَلَوْ قَالَ لَهُ : عَلَيَّ دِرْهَمٌ فِي قَفِيزِ حِنْطَةٍ لَزِمَهُ الدِّرْهَمُ وَالْقَفِيزُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُجْعَلُ وِعَاءً لِلدِّرْهَمِ عَادَةً فَلَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ حَقِيقَةِ حَرْفِ الظَّرْفِ فِيهِ فَيَلْغُو آخِرُ كَلَامِهِ ، وَلِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ : عَلَيَّ ، وَقَدْ أَقَرَّ بِهِ وَبِالدِّرْهَمِ ، وَلَمْ يَعْطِفْ عَلَيْهِ الْقَفِيزَ لِيُعْتَبَرَ كَالْمُقْتَرِنِ بِهِ حُكْمًا فَلِهَذَا لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا الدِّرْهَمُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : عَلَيَّ قَفِيزُ حِنْطَةٍ فِي دِرْهَمٍ لَزِمَهُ الْقَفِيزُ وَبَطَلَ الدِّرْهَمُ ؛ لِأَنَّ الدِّرْهَمَ لَا يَكُونُ ظَرْفًا لِلْقَفِيزِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ : عَلَيَّ فِرْقُ زَيْتٍ فِي عَشَرَةِ مَخَاتِيمَ حِنْطَةٍ لَزِمَهُ الزَّيْتُ وَالْحِنْطَةُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ الْحِنْطَةَ لَا تَكُونُ ظَرْفًا لِلزَّيْتِ .

وَلَوْ أَقَرَّ أَنَّ عَلَيْهِ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ فِي ثَوْبٍ يَهُودِيٍّ ، ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ الثَّوْبُ الْيَهُودِيُّ هُوَ الدَّيْنُ وَالْخَمْسَةُ دَرَاهِمَ أَسْلَمَهَا إلَيَّ فِيهِ فَهَذَا بَيَانٌ ، وَلَكِنْ فِيهِ يُعْتَبَرُ ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ أَوَّلِ كَلَامِهِ كَوْنُ الْخَمْسَةِ دَيْنًا عَلَيْهِ ، وَبِمَا ذَكَرَهُ الْآنَ تَبَيَّنَ أَنَّ الثَّوْبَ دَيْنٌ عَلَيْهِ دُونَ الْخَمْسَةِ ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ لَا يَكُونُ دَيْنًا عَلَى الْمُسْلَمِ إلَيْهِ حَالَ قِيَامِ الْعَقْدِ ، وَبَيَانُ التَّعْبِيرِ لَا يَصِحُّ مَفْصُولًا إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ الطَّالِبُ فِي ذَلِكَ ، فَإِنْ صَدَّقَهُ قُلْنَا الْحَقُّ لَا يَدِينُهُمَا فَيَثْبُتُ مَا تَصَادَقَا عَلَيْهِ ، وَإِنْ جَحَدَ كَانَ لِلْمُقِرِّ أَنْ يُحَلِّفَهُ وَلِيُّهُ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ عَقْدَ السَّلَمِ وَلَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ ، فَإِنْ أَنْكَرَ اُسْتُحْلِفَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ حَلَفَ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمُقِرُّ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ كَمَا أَقَرَّ بِهِ .

وَلَوْ قَالَ لَهُ : عَلَيَّ دِرْهَمٌ مَعَ دِرْهَمٍ فَالْأَصْلُ فِي جِنْسِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّهُ مَتَى ذُكِرَ الْوَصْفُ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ ، فَإِنْ أُلْحِقَ بِهِ حَرْفُ الْهَاءِ يَكُونُ الْوَصْفُ مُنْصَرِفًا إلَى الْمَذْكُورِ آخِرًا ، وَإِنْ لَمْ يُقْرَنْ بِهِ حَرْفُ الْهَاءِ يَكُونُ نَعْتًا لِلْمَذْكُورِ أَوَّلًا كَالرَّجُلِ يَقُولُ : جَاءَنِي زَيْدٌ قَبْلَ عَمْرٍو وَيَكُونُ قَبْلُ نَعْتًا لِمَجِيءِ زَيْدٍ ، وَلَوْ قَالَ : جَاءَنِي زَيْدٌ قَبْلَهُ عَمْرٍو يَكُونُ " قَبْلُ " نَعْتًا لِمَجِيءِ عَمْرٍو إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ إذَا قَالَ لَهُ : عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مَعَ أَوْ مَعَهُ دِرْهَمٌ فَكَلِمَةُ مَعَ الضَّمُّ وَالْقِرَانُ سَوَاءٌ جُعِلَ نَعْتًا لِلْمَذْكُورِ أَوَّلًا أَوْ آخِرًا وَصَارَ مُقِرًّا بِهِمَا لِضَمِّهِ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ فِي الْإِقْرَارِ .

وَلَوْ قَالَ لَهُ : عَلَيَّ دِرْهَمٌ قَبْلَ دِرْهَمٍ يَلْزَمُهُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّ قَبْلَ نَعْتٌ لِلْمَذْكُورِ أَوَّلًا فَكَأَنَّهُ قَالَ قَبْلَ دِرْهَمٍ آخَرَ يَجِبُ عَلَيَّ ، وَلَوْ قَالَ قَبْلَهُ دِرْهَمٌ فَعَلَيْهِ دِرْهَمَانِ لِأَنَّهُ نَعْتٌ لِلْمَذْكُورِ آخِرًا أَيْ قَبْلَهُ دِرْهَمٍ قَدْ وَجَبَ عَلَيَّ .

وَلَوْ قَالَ : دِرْهَمٌ بَعْدَ دِرْهَمٍ أَوْ بَعْدَهُ دِرْهَمٌ يَلْزَمُهُ دِرْهَمَانِ ؛ لِأَنَّ بَعْدَ دِرْهَمٍ قَدْ وَجَبَ عَلَيَّ أَوْ بَعْدَهُ دِرْهَمٌ قَدْ وَجَبَ لَا يُفْهَمُ مِنْ الْكَلَامِ إلَّا هَذَا .
وَكَذَلِكَ لَوْ سَمَّى أَحَدَهُمَا دِينَارًا أَوْ قَفِيزَ حِنْطَةٍ ، وَفِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ دِرْهَمٌ الْإِقْرَارُ مُخَالِفٌ لِلطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ بَعْدَ الطَّلَاقِ هُنَاكَ لَا يَقَعُ وَالدِّرْهَمُ بَعْدَ الدِّرْهَمِ يَجِبُ دَيْنًا .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : دِرْهَمٌ ؛ لِأَنَّ الْوَاوَ لِلْعَطْفِ وَمُوجَبُ الْعَطْفِ الِاشْتِرَاكُ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْخَبَرِ فَصَارَ مُقِرًّا بِهِمَا .

وَلَوْ قَالَ : دِرْهَمٌ فَدِرْهَمٌ يَلْزَمُهُ دِرْهَمَانِ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَا يَلْزَمُهُ إلَّا دِرْهَمٌ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّ الْفَاءَ لَيْسَتْ لِلْعَطْفِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الِاشْتِرَاكُ بَلْ مَعْنَى قَوْلِهِ " فَدِرْهَمٌ " أَيْ فَعَلَيَّ ذَلِكَ الدِّرْهَمُ وَكُنَّا نَقُولُ الْفَاءُ لِلْوَصْلِ وَالتَّعْقِيبِ ، فَقَدْ جُعِلَ الثَّانِي مَوْصُولًا بِالْأَوَّلِ وَلَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الْوَصْلُ إلَّا بِوُجُوبِهِمَا ، وَكَانَ هَذَا الْوَصْلُ فِي مَعْنَى الْعَطْفِ .
وَكَذَلِكَ التَّعْقِيبُ يَتَحَقَّقُ فِي الْوُجُوبِ بَيْنَهُمَا إنْ كَانَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْوَاجِبِ فَكَانَ مَعْنَى كَلَامِهِ أَنَّ وُجُوبَ الثَّانِي بَعْدَ الْأَوَّلِ فِي هَذَا عَمَلٌ بِحَقِيقَةِ كَلَامِهِ فَهُوَ أَوْلَى مِنْ الْإِضْمَارِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْخَصْمُ ؛ لِأَنَّ الْإِضْمَارَ فِي الْكَلَامِ لِلْحَاجَةِ وَلَا حَاجَةَ هُنَا .

وَلَوْ قَالَ : دِرْهَمٌ دِرْهَمٌ لَزِمَهُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّهُ كَرَّرَ لَفْظَهُ الْأَوَّلِ وَالتَّكْرَارُ لَا يُوجِبُ الْمُغَايَرَةَ إذَا لَمْ يَتَخَلَّلْهَا حَرْفُ الْعَطْفِ بِخِلَافِ مَا إذَا تَخَلَّلْهَا حَرْفُ الْوَاوِ فَإِنَّ الْمَعْطُوفَ غَيْرُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : دِرْهَمٌ بِدِرْهَمٍ فَعَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ لِأَنَّ حَرْفَ الْبَاءِ يَصْحَبُ الْأَعْوَاضَ فَكَانَ مَعْنَى كَلَامِهِ بِدِرْهَمٍ اسْتَقْرَضْتُهُ أَوْ بِدِرْهَمٍ اشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا دِرْهَمٌ وَاحِدٌ .

وَلَوْ قَالَ لَهُ : عَلَيَّ دِرْهَمٌ عَلَيَّ دِرْهَمٍ لَزِمَهُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ مِنْهُمْ مَنْ يَذْكُرْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عَلَيَّ دِرْهَمٌ عَلَيَّ دِرْهَمٌ ، وَالْأَصَحُّ مَا قُلْنَا أَنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَيَّ دِرْهَمٌ عَلَيَّ دِرْهَمٌ ، وَقَدْ أَعَادَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ قَوْلَهُ لَهُ فِي الْكَلَامِ الثَّانِي ، فَقَالَ لَهُ : عَلَيَّ دِرْهَمٌ ، وَبِهَذَا تَرْتَفِعُ الشُّبْهَةُ وَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا دِرْهَمٌ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّهُ كَرَّرَ كَلَامَهُ الْأَوَّلِ وَبِالتَّكْرَارِ لَا يَزْدَادُ الْوَاجِبُ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ خَبَرٌ وَالْخَبَرُ يُكَرَّرُ وَيَكُونُ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى } .

وَلَوْ قَالَ لَهُ : عَلَيَّ دِرْهَمٌ ، ثُمَّ دِرْهَمَانِ لَزِمَهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ " ثُمَّ " لِلتَّعْقِيبِ مَعَ التَّرَاخِي ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّعْقِيبَ فِي الْوُجُوبِ بَيْنَ الْمَذْكُورَيْنِ يَتَحَقَّقُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْوَاجِبِ فَصَارَ مُقِرًّا بِهِمَا عَلَى أَنَّ وُجُوبَ الدِّرْهَمَيْنِ عَلَيْهِ كَانَ بَعْدَ وُجُوبِ الدِّرْهَمِ فَيَلْزَمُهُ ثَلَاثَةٌ .

وَلَوْ قَالَ : مِائَةُ دِرْهَمٍ لَا بَلْ مِائَتَانِ فِي الْقِيَاسِ يَلْزَمُهُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِهِ قَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَلْزَمُهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ كَلِمَةَ " لَا بَلْ " لِاسْتِدْرَاكِ الْغَلَطِ بِالرُّجُوعِ عَنْ الْأَوَّلِ وَإِقَامَةِ الثَّانِي مَقَامَ الْأَوَّلِ فَرُجُوعُهُ عَنْ الْإِقْرَارِ بِالْمِائَةِ بَاطِلٌ ، وَإِقْرَارُهُ بِالْمِائَتَيْنِ عَلَى وَجْهِ الْإِقَامَةِ مَقَامَ الْأَوَّلِ صَحِيحٌ فَيَلْزَمُهُ الْمَالَانِ كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ : عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ لَا بَلْ مِائَةُ دِينَارٍ ، أَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً لَا بَلْ اثْنَيْنِ يَقَعُ ثَلَاثُ تَطْلِيقَاتٍ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْإِقْرَارَ إخْبَارٌ وَالْغَلَطُ يَتَمَكَّنُ فِي الْخَبَرِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَهُ بِذِكْرِ الْمَالِ الثَّانِي اسْتِدْرَاكُ الْغَلَطِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْمَالِ الْأَوَّلِ لَا ضَمُّ الثَّانِي إلَى الْأَوَّلِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الرَّجُلَ يَقُولُ سِنِّي خَمْسُونَ لَا بَلْ سِتُّونَ كَانَ إخْبَارَ السِّتِّينَ فَقَطْ ، وَيَقُولُ : حَجَجْتُ حَجَّةً لَا بَلْ حَجَّتَيْنِ كَانَ إخْبَارًا بِحَجَّتَيْنِ فَقَطْ بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَ جِنْسُ الْمَالَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْغَلَطَ فِي مِثْلِ هَذَا يَقَعُ فِي الْقَدْرِ عَادَةً لَا فِي الْجِنْسِ ، وَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ كَأَنَّهُ أَعَادَ الْقَدْرَ الْأَوَّلَ فَزَادَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ مَا أَقَرَّ بِهِ أَوَّلًا غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي كَلَامِهِ الثَّانِي بِخِلَافِ مَا إذَا اتَّفَقَ الْجِنْسُ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَا يَقُولُ : حَجَجْتُ حَجَّةً لَا بَلْ عُمْرَتَيْنِ وَيَقُولُ : حَجَجْتُ حَجَّةً لَا بَلْ حَجَّتَيْنِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ بِصِيغَةِ الْإِخْبَارِ فَهُوَ إيقَاعٌ وَإِنْشَاءَاتٌ ، وَفِي الْإِنْشَاءَاتِ لَا يَقَعُ الْغَلَطُ فَلَا يُمْكِنُ حَمْلُ الثَّانِي عَلَى الِاسْتِدْرَاكِ حَتَّى لَوْ خَرَجَ الْكَلَامُ هُنَا مَخْرَجَ الْإِخْبَارِ ، وَقَالَ : كُنْتُ طَلَّقْتُهَا أَمْسِ وَاحِدَةً لَا بَلْ اثْنَتَيْنِ كَانَ إقْرَارًا بِاثْنَتَيْنِ اسْتِحْسَانًا كَمَا فِي هَذِهِ

الْمَسْأَلَةِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لَهُ : عَلَيَّ مِائَتَانِ لَا بَلْ مِائَةٌ فَعَلَيْهِ أَزْيَدُ الْمَالَيْنِ ، وَهُوَ الْمِائَتَانِ ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ اسْتِدْرَاكَ الْغَلَطِ بِالرُّجُوعِ عَنْ بَعْضِ مَا أَقَرَّ بِهِ أَوَّلًا فَلَمْ يَعْمَلْ ، وَفِي الْقِيَاسِ يَلْزَمُهُ الْمَالَانِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ لَهُ : عَلَيَّ مِائَةٌ جِيَادٌ لَا بَلْ زُيُوفٌ ، أَوْ قَالَ لَهُ : عَلَيَّ مِائَةٌ زُيُوفٌ لَا بَلْ جِيَادٌ فِي جَوَابِ الِاسْتِحْسَانِ يَلْزَمُهُ أَفْضَلُ الْمَالَيْنِ فَقَطْ ، وَفِي الْقِيَاسِ يَلْزَمُهُ الْمَالَانِ لِأَنَّ الْجِنْسَ وَاحِدٌ وَالتَّفَاوُتُ فِي الْجِنْسِ بِمَنْزِلَةِ التَّفَاوُتِ فِي الْعَدَدِ .

وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فِي مَوْطِنٍ وَأَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ ، ثُمَّ أَقَرَّ لَهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ فِي مَوْطِنٍ آخَرَ وَأَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ آخَرَيْنِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَلْزَمُهُ الْمَالَانِ جَمِيعًا ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا مَالٌ وَاحِدٌ ، وَذُكِرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ يَقُولُ أَوَّلًا بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، ثُمَّ يَرْجِعُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْإِقْرَارَ خَبَرٌ ، وَهُوَ مِمَّا يَتَكَرَّرُ وَيَكُونُ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ فَلَا يَلْزَمُهُ بِالتَّكْرَارِ مَالٌ آخَرُ بَلْ قَصْدُهُ مِنْ هَذَا التَّكْرَارِ أَنْ يُؤَكِّدَ حَقَّهُ بِالزِّيَادَةِ فِي الشُّهُودِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْإِقْرَارَيْنِ لَوْ كَانَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَشْهَدَ عَلَى كُلِّ إقْرَارٍ شَاهِدًا وَاحِدًا أَوْ لَمْ يُشْهِدْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ الْإِقْرَارَيْنِ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا مَالٌ وَاحِدٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرَادَ صَكًّا عَلَى الشُّهُودِ وَأَقَرَّ بِهِ عِنْدَ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ أَوْ أَقَرَّ بِالْمِائَةِ وَأَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ ، ثُمَّ قَدَّمَهُ إلَى الْقَاضِي فَأَقَرَّ بِهِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا مَالٌ وَاحِدٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ ذِكْرُ الْمِائَةِ فِي كَلَامِهِ مُنَكَّرٌ ، وَالْمُنَكَّرُ إذَا أُعِيدَ مُنَكَّرًا كَانَ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } فَإِنَّ الثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ حَتَّى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنَ فَصَارَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَتَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَكًّا عَلَى حِدَةٍ وَأَشْهَدَ عَلَى كُلِّ صَكٍّ شَاهِدَيْنِ ، وَهَذَا لِأَنَّ كَلَامَ الْعَاقِلِ مَهْمَا أَمْكَنَ حَمْلُهُ عَلَى الْإِفَادَةِ لَا يَحْمِلُ التَّكْرَارَ وَالْإِعَادَةَ فَإِذَا صَارَ الْمَالُ الْأَوَّلُ مُسْتَحْكِمًا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ فَلَوْ حَمَلْنَا إقْرَارَهُ الثَّانِي عَلَى

ذَلِكَ الْمَالِ كَانَ تَكْرَارًا غَيْرَ مُفِيدٍ وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى مَالٍ آخَرَ كَانَ مُفِيدًا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَشْهَدَ عَلَى كُلِّ إقْرَارٍ شَاهِدًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ بِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ الْمَالُ لَا يَصِيرُ مُسْتَحْكِمًا فَفَائِدَةُ إعَادَتِهِ اسْتِحْكَامُ الْمَالِ بِإِتْمَامِ الْحُجَّةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِهِ ثَانِيًا بَيْنَ يَدَيْ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْإِعَادَةِ إسْقَاطُ مُؤْنَةِ الْإِثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ عَنْ الْمُدَّعِي مَعَ أَنَّ الْمُدَّعِي ادَّعَى تِلْكَ الْمِائَةَ فَأَعَادَهُ مُعَرَّفًا لَا مُنَكَّرًا وَالْمُنَكَّرُ إذَا أُعِيدَ مُعَرَّفًا كَانَ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { كَمَا أَرْسَلْنَا إلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ } وَبِخِلَافِ مَا إذَا أَرَادَ الصَّكَّ عَلَى الشُّهُودِ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ هُنَا كَانَ مُعَرَّفًا بِالْمَالِ الثَّابِتِ فِي الصَّكِّ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُنَكَّرَ إذَا أُعِيدَ مُعَرَّفًا كَانَ الثَّانِي عَيْنَ الْأَوَّلِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْإِقْرَارُ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ فِي الْقِيَاسِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَلْزَمُهُ مَالَانِ ، وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ ، فَقَالَ : لِلْمَجْلِسِ أَنْ يَتَبَصَّرَ فِي جَمِيعِ الْكَلِمَاتِ الْمُتَفَرِّقَةِ وَجَعَلَهَا فِي حُكْمِ كَلَامٍ وَاحِدٍ ( أَلَا تَرَى ) الْأَقَارِيرَ فِي الزِّنَا فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ بِخِلَافِ مَا إذَا اخْتَلَفَ الْمَجْلِسُ فَكَذَلِكَ هُنَا ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ أَقَرَّ بِمِائَةٍ فِي مَجْلِسٍ وَأَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ ، ثُمَّ ثَمَانِينَ وَأَشْهَدَ شَاهِدَيْنِ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ أَوْ بِمِائَتَيْنِ ، ثُمَّ بِمِائَةٍ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَلْزَمُهُ الْمَالَانِ وَعِنْدَهُمَا يَدْخُلُ الْأَقَلُّ فِي الْأَكْثَرِ فَعَلَيْهِ أَكْثَرُ الْمَالَيْنِ فَقَطْ .

وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عِنْدِي مِائَةُ دِرْهَمٍ بِضَاعَةً قَرْضًا فَهَذَا دَيْنٌ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ عِبَارَةٌ عَنْ الْقُرْبِ ، وَهُوَ يَحْتَمِلُ الْقُرْبَ مِنْ يَدِهِ فَيَكُونُ إقْرَارًا بِالْأَمَانَةِ وَمِنْ ذِمَّتِهِ فَيَكُونُ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ بَقِيَ لَفْظَانِ أَحَدُهُمَا لِلْأَمَانَةِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ بِضَاعَةٌ وَالْآخَرُ لِلدَّيْنِ خَاصَّةً ، وَهُوَ الْقَرْضُ وَمَتَى جُمِعَ بَيْنَ لَفْظَيْنِ أَحَدُهُمَا يُوجِبُ الْأَمَانَةَ وَالْآخَرُ الدَّيْنَ يَتَرَجَّحُ الدَّيْنُ ؛ لِأَنَّ صَيْرُورَتَهُ دَيْنًا يَعْتَرِضُ عَلَى كَوْنِهِ أَمَانَةً فَإِنَّ الْمُودَعَ إذَا اسْتَهْلَكَ أَوْ خَالَفَ وَاسْتَقْرَضَ صَارَ دَيْنًا عَلَيْهِ وَالْأَمَانَةُ لَا تُطْرِي عَلَى الدَّيْنِ فَإِنَّ مَا كَانَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ لَا يَصِيرُ أَمَانَةً عِنْدَهُ بِحَالٍ ، فَإِذَا اجْتَمَعَا يُرَدُّ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَإِنْ قَالَ لَهُ : عَلَيَّ مِائَةٌ دِرْهَمٍ فَهَذَا إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ عَلَيَّ خَاصَّةٌ لِلْإِخْبَارِ وَاسْتِحْقَاقِهِ " مِنْ " ، وَإِنَّمَا يَعْلُوهُ إذَا كَانَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ قَضَائِهِ لِيَخْرُجَ عَنْهُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ قَبْلُ فَهُوَ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ عِبَارَةٌ عَنْ اللُّزُومِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الصَّكَّ الَّذِي هُوَ حُجَّةُ الدَّيْنِ يُسَمَّى مَالًا وَأَنَّ الْكَفِيلَ يُسَمَّى بِهِ قَبِيلًا لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لِلْمَالِ ، وَإِنْ قَالَ : عِنْدِي فَهَذَا إقْرَارٌ الْوَدِيعَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُحْتَمَلًا كَمَا بَيَّنَّا لَمْ يَثْبُتْ بِهِ الْأَقَلُّ ، وَهُوَ الْوَدِيعَةُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : مَعِي أَوْ فِي يَدِي أَوْ فِي بَيْتِي أَوْ كِيسِي أَوْ صُنْدُوقِي فَهَذَا كُلُّهُ إقْرَارٌ الْوَدِيعَةِ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَوَاضِعَ إنَّمَا تَكُونُ مُحْتَمَلًا لِلْعَيْنِ لَا لِلدَّيْنِ فَإِنَّ الدَّيْنَ مَحِلُّهُ الذِّمَّةُ .

وَلَوْ قَالَ لَهُ فِي مَالِي مِائَةُ دِرْهَمٍ فَهَذَا إقْرَارٌ لَهُ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ إقْرَارٌ بِمَا أَدَّى ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ إنْ كَانَ مَالُهُ مَحْصُورًا فَهُوَ إقْرَارٌ لَهُ بِالشَّرِكَةِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالُهُ مَحْصُورًا فَهُوَ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ مَالَهُ ظَرْفًا لِمَا أَقَرَّ بِهِ ، فَقَدْ خَلَطَهُ بِمَالٍ كَانَ مُسْتَهْلِكًا لَهُ فَكَانَ دَيْنًا عَلَيْهِ ، وَإِنْ لَمْ يَخْلِطْهُ فَقَوْلُهُ فِي مَالِي بَيَانُ أَنَّ مَحَلَّ قَضَاءِ مَا أَقَرَّ بِهِ مَالُهُ وَإِنَّمَا يَكُونُ مَالُهُ مَحِلًّا لِقَضَاءِ مَا هُوَ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ عَلَى كُلِّ حَالٍ سَوَاءٌ كَانَ مَالُهُ مَحْصُورًا أَوْ غَيْرَ مَحْصُورٍ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ الْمُشْتَرَكَ لَا يُضَافُ إلَى أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ خَاصَّةً فَلَا يُحْمَلُ قَوْلُهُ فِي مَالِي إلَّا عَلَى بَيَانِ مَحَلِّ الْقَضَاءِ .

وَلَوْ قَالَ لَهُ مِنْ مَالِي أَلْفُ دِرْهَمٍ أَوْ مِنْ دَرَاهِمِي هَذِهِ دِرْهَمٌ فَهَذِهِ هِبَةٌ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ وَالدَّفْعِ إلَيْهِ لِأَنَّ كَلِمَةَ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ فَإِنَّمَا جَعَلَ لَهُ بَعْضَ مَالِهِ كَلَامُهُ ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِإِنْشَاءِ الْهِبَةِ وَلَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ وَالْقِسْمَةِ .

وَإِنْ قَالَ مِنْ مَالِي أَلْفُ دِرْهَمٍ لَا حَقَّ لِي فِيهَا فَهَذَا إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ ؛ لِأَنَّهُ بَيَّنَ تَأْخِيرُ كَلَامِهِ أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ أَوَّلِهِ لَيْسَ الْهِبَةَ فَأَخْبَرَ بِانْتِهَاءِ حَقِّهِ عَنْهُ وَلَا يَنْتَفِي حَقُّهُ عَنْ الْمَوْهُوبِ مَا لَمْ يُسَلِّمْ فَعَرَفْنَا بِآخِرِ كَلَامِهِ أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ أَوَّلِهِ الْإِقْرَارُ وَأَنَّ مِنْ لِلتَّمَيُّزِ لَا لِلتَّبْعِيضِ فَجَعَلَ ذَلِكَ الْقَدْرَ مُمَيَّزًا مِنْ مَالِهِ بِإِقْرَارِهِ لِفُلَانٍ لَا حَقَّ لِي فِيهِ .

وَإِنْ قَالَ : لَهُ عِنْدِي مِائَةُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةٌ قَرْضٌ أَوْ مُضَارَبَةُ قَرْضٍ فَهُوَ قَرْضٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْوَدِيعَةَ وَالْمُضَارَبَةَ قَدْ تَنْقَلِبُ قَرْضًا ، فَأَمَّا الْقَرْضُ لَا يَنْقَلِبُ وَدِيعَةً وَلَا مُضَارَبَةً .

وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَوْ قِبَلِي أَلْفُ دِرْهَمٍ وَدِيعَةٌ فَهِيَ وَدِيعَةٌ ؛ لِأَنَّ آخِرَ كَلَامِهِ تَفْسِيرٌ لِلْأَوَّلِ ، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِمَا فَسَّرَهُ فَإِنَّ قَوْلَهُ عَلَيَّ أَيْ حِفْظُهَا لَا عَيْنُهَا ؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ مُلْتَزِمٌ حِفْظَ الْوَدِيعَةِ وَمَتَى فُسِّرَ كَلَامُهُ بِمَا يَحْتَمِلُ كَانَ مَقْبُولًا مِنْهُ ، وَإِنْ قَالَ : لَهُ عِنْدِي أَلْفُ دِرْهَمٍ دَيْنٌ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ عِنْدِي مُحْتَمَلٌ ، وَقَدْ فَسَّرَهُ بِأَحَدِ الْمُحْتَمَلَيْنِ فَكَانَ .

وَإِنْ قَالَ : قِبَلِي لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ دَيْنٌ وَدِيعَةٌ أَوْ وَدِيعَةٌ دَيْنٌ فَهُوَ دَيْنٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ أَحَدَ اللَّفْظَيْنِ إذَا كَانَ لِلْأَمَانَةِ وَالْآخَرِ لِلدَّيْنِ ، فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْإِقْرَارِ يَتَرَجَّحُ الدَّيْنُ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( بَابُ الْإِقْرَارِ بِالزُّيُوفِ ) ( قَالَ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : رَجُلٌ قَالَ لِفُلَانٍ : عَلَيَّ دِرْهَمٌ مِنْ ثَمَنِ مَتَاعٍ إلَّا أَنَّهَا زُيُوفٌ أَوْ نَبَهْرَجَةٌ لَمْ يُصَدَّقْ فِي دَعْوَى الزِّيَافَةِ وَصَلَ أَوْ فَصَلَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا يُصَدَّقُ إنْ وَصَلَ وَلَا يُصَدَّقُ إنْ فَصَلَ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الزُّيُوفِ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ حَتَّى يَحْصُلَ بِهَا الِاسْتِيفَاءُ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ فَكَانَ آخِرُ كَلَامِهِ بَيَانًا ، وَلَكِنْ فِيهِ تَعْبِيرٌ لِمَا اقْتَضَاهُ أَوَّلُ الْكَلَامِ مِنْ حَيْثُ الْعَادَةُ ؛ لِأَنَّ بِيَاعَاتِ النَّاسِ تَكُونُ بِالْجِيَادِ دُونَ الزُّيُوفِ وَمِثْلُ هَذَا الْبَيَانِ يَكُونُ صَحِيحًا إذَا كَانَ مَوْصُولًا كَقَوْلِهِ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَفُلَانٍ خَمْسَةٌ .
تَوْضِيحُهُ أَنَّ قَوْلَهُ إلَّا أَنَّهَا زُيُوفٌ اسْتِثْنَاءً لِلْوَصْفِ ، وَكَانَ بِمَنْزِلَةِ بَعْضِ الْمِقْدَارِ بِأَنْ قَالَ : الْأَمَانَةُ ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ إذَا كَانَ مَوْصُولًا فَهَذَا مِثْلُهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : الزِّيَافَةُ فِي الدَّرَاهِمِ عَيْبٌ وَمُطْلَقُ الْعَقْدِ لَا يَقْتَضِي سَلَامَةَ الثَّمَنِ عَنْ الْعَيْبِ فَلَا يُصَدَّقُ هُوَ فِي دَعْوَى كَوْنِ الثَّمَنِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ مُعَيَّنًا كَمَا لَوْ ادَّعَى الْبَائِعُ أَنَّ الْمَبِيعَ مَعِيبٌ ، وَقَدْ كَانَ الْمُشْتَرِي عَالِمًا بِهِ فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ إذَا أَنْكَرَهُ الْمُشْتَرِي ، وَهَذَا لِأَنَّ دَعْوَاهُ الْعَيْبَ رُجُوعٌ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ ؛ لِأَنَّ بِإِقْرَارِهِ بِالْعَقْدِ مُطْلَقًا يَصِيرُ مُلْتَزِمًا مَا هُوَ مُقْتَضٍ لِمُطْلَقِ الْعَقْدِ ، وَهُوَ السَّلَامَةُ عَنْ الْعَيْبِ ، وَفِي قَوْلِهِ كَانَ مَعِيبًا يَصِيرُ رَاجِعًا وَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ غَيْرُ صَحِيحٍ مَوْصُولًا كَانَ أَوْ مَفْصُولًا ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ ؛ لِأَنَّ الصِّفَةَ مِمَّا يَتَنَاوَلُهُ اسْمُ الدَّارِ مُطْلَقًا حَتَّى يُسْتَثْنَى مِنْ الْكَلَامِ ، وَلَكِنَّ ثُبُوتَ صِفَةِ الْجَوْدَةِ بِمُقْتَضَى مُطْلَقِ الْعَقْدِ بِخِلَافِ اسْتِثْنَاءِ بَعْضِ الْمِقْدَارِ لِأَنَّ

أَوَّلَ كَلَامِهِ يَتَنَاوَلُ الْقَدْرَ وَاسْتِثْنَاءُ الْمَلْفُوظِ صَحَّ لِيَصِيرَ الْكَلَامُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى ، وَلِأَنَّ الصِّفَةَ بَيْعٌ لِلْأَصْلِ فَثُبُوتُهُ بِثُبُوتِ الْأَصْلِ ، فَأَمَّا بَعْضُ الْمِقْدَارِ لَا يَتْبَعُ النَّقْضَ فَيَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ بَعْضِ الْقَدْرِ وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ إلَّا أَنَّهَا وَزْنُ خَمْسَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِبَيَانٍ لِلْعَيْبِ بَلْ هُوَ فِي مَعْنَى اسْتِثْنَاءِ بَعْضِ الْمِقْدَارِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ .

وَلَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ قَرْضٍ إلَّا أَنَّهَا زُيُوفٌ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَقْرِضَ مَضْمُونٌ بِالْمِثْلِ فَكَانَ هُوَ وَثَمَنُ الْبَيْعِ سَوَاءً ، وَالِاسْتِقْرَاضُ مُتَعَامَلٌ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ كَالْبَيْعِ ، وَذَلِكَ فِي الْجِيَادِ عَادَةً وَذُكِرَ فِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْأُصُولِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هُنَا يُصَدَّقُ إذَا وَصَلَ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَقْرِضَ إنَّمَا يَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَى الْمُسْتَقْرَضِ بِالْقَبْضِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْغَصْبِ .

وَلَوْ أَقَرَّ بِأَلْفِ رَدُّهُمْ غَصْبٌ فَادَّعَى أَنَّهَا زُيُوفٌ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَذَلِكَ هُنَا إلَّا أَنَّ هُنَا لَا يُصَدَّقُ إذَا فَصَلَ لِمَا فِيهِ مِنْ شِبْهِ الْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ الْمُعَامَلَةُ بَيْنَ النَّاسِ بِخِلَافِ الْغَصْبِ .

وَلَوْ قَالَ : لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ زُيُوفٌ ، فَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ : هُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ يَنْصَرِفُ إلَى الِالْتِزَامِ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ فَهُوَ مَا لَوْ بَيَّنَ سَبَبَ التِّجَارَةِ سَوَاءٌ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هُنَا يُصَدَّقُ إذَا وَصَلَ بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّ صِفَةَ الْجَوْدَةِ إنَّمَا تَصِيرُ مُسْتَحَقَّةً بِمُقْتَضَى عَقْدِ التِّجَارَةِ ، فَإِذَا لَمْ يُصَرِّحْ فِي كَلَامِهِ بِجِهَةِ التِّجَارَةِ لَا تَصِيرُ صِفَةُ الْجُودَةِ مُسْتَحَقَّةً عَلَيْهِ ، وَهَذَا لِأَنَّا لَوْ حَمَلْنَا مُطْلَقَ إقْرَارِهِ عَلَى جِهَةِ التِّجَارَةِ لَمْ يَصِحَّ قَوْلُهُ إلَّا أَنَّهَا زُيُوفٌ وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى جِهَةٍ أُخْرَى يَصِحُّ ذَلِكَ مِنْهُ فَحَمْلُ كَلَامِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَصِحُّ أَوْلَى .

وَإِذَا أَقَرَّ بِالْمَالِ غَصْبًا أَوْ وَدِيعَةً ، وَقَالَ هُوَ نَبَهْرَجَةٌ أَوْ زُيُوفٌ صَدَقَ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْغَصْبِ الْوَدِيعَةِ مُوجِبٌ فِي الْجِيَادِ دُونَ الزُّيُوفِ ، وَلَكِنَّ الْغَاصِبَ يَغْصِبُ مَا يَجِدُ وَالْمُودِعَ إنَّمَا يُودِعُ غَيْرَهُ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَى الْحِفْظِ فَلَمْ يَكُنْ فِي قَوْلِهِ أَنَّهَا زُيُوفٌ مُعْتَبَرٌ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ فَلِهَذَا صَحَّ مَوْصُولًا كَانَ أَوْ مَفْصُولًا وَلَوْ قَالَ فِي الْغَصْبِ الْوَدِيعَةِ إلَّا أَنَّهَا سَتُّوقَةٌ أَوْ رَصَاصٌ ، فَإِنْ قَالَ مَوْصُولًا صُدِّقَ ، وَإِنْ قَالَ مَفْصُولًا لَمْ يُصَدَّقْ ؛ لِأَنَّ السَّتُّوقَةَ لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الدَّرَاهِمِ حَقِيقَةً ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ التَّحَوُّرُ بِهَا فِي بَابِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ فَكَانَ فِي هَذَا الْبَيَانِ تَعْبِيرًا لِمَا اقْتَضَاهُ أَوَّلُ كَلَامِهِ مِنْ تَسْمِيَةِ الدَّرَاهِمِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ اللَّفْظَ يَتَنَاوَلُ الدَّرَاهِمَ صُورَةً وَحَقِيقَةً وَتَأْخِيرُ كَلَامِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ مُرَادَهُ الدَّرَاهِمُ صُورَةً لَا حَقِيقَةً ، وَبَيَانُ التَّعْبِيرِ صَحِيحٌ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فَإِنَّ الزُّيُوفَ دَرَاهِمُ صُورَةً وَحَقِيقَةً فَلَيْسَ فِي بَيَانِهِ تَعْبِيرٌ لِأَوَّلِ كَلَامِهِ .

وَلَوْ قَالَ : لَهُ كُرْ حِنْطَةً مِنْ ثَمَنِ بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ ، ثُمَّ قَالَ هُوَ رَدِيءٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ ؛ لِأَنَّ الرَّدَاءَةَ فِي الْحِنْطَةِ لَيْسَتْ بِعَيْبٍ فَإِنَّ الْعَيْبَ مَا يَخْلُو عَنْهُ أَصْلُ الْفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ وَالْحِنْطَةُ قَدْ تَكُونُ رَدِيئَةً فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ فَهُوَ فِي مَعْنَى بَيَانِ النَّوْعِ ، وَلَيْسَ لِمُطْلَقِ الْعَقْدِ مُقْتَضًى فِي نَوْعٍ دُونَ نَوْعٍ وَلِهَذَا صَحَّ الشِّرَاءُ بِالْحِنْطَةِ مَا لَمْ يُبَيِّنْ أَنَّهَا جَيِّدَةٌ أَوْ وَسَطٌ أَوْ رَدِيئَةٌ فَلَيْسَ فِي بَيَانِهِ هَذَا تَعْبِيرٌ مُوجِبٌ أَوَّلَ كَلَامِهِ فَيَصِحُّ مَوْصُولًا كَانَ أَوْ مَفْصُولًا .
وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْمَوْزُونَاتِ وَالْمَكِيلَاتِ عَلَى هَذَا فَالرَّدَاءَةُ لَيْسَتْ بِعَيْبٍ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا ، وَإِنْ كَانَ الْجَيِّدُ أَفْضَلَ فِي الْمَالِيَّةِ لِزِيَادَةٍ الرَّغْبَةِ فِيهِ ، وَلَكِنَّ تِلْكَ الزِّيَادَةَ لَا تَصِيرُ مُسْتَحَقَّةً بِمُطْلَقِ التَّسْمِيَةِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِكُرِّ حِنْطَةٍ غَصْبٍ أَوْ وَدِيعَةٍ ، ثُمَّ قَالَ هُوَ رَدِيءٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صُدِّقَ فِي ثَمَنِ الْبَيْعِ فَفِي الْغَصْبِ الْوَدِيعَةِ أَوْلَى .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَتَى بِطَعَامٍ ، قَدْ أَصَابَهُ الْمَاءُ وَعَفَنَ ، فَقَالَ هَذَا الَّذِي غَصَبْتُهُ أَوْ أُودِعْتُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ لِلْغَصْبِ الْوَدِيعَةِ مُوجِبٌ فِي التَّسْلِيمِ مِنْهُ دُونَ الْعَيْبِ ، وَلَكِنَّهُ بِحَسَبِ مَا يُتَّفَقُ فَكَانَ بَيَانُهُ مُطْلَقًا لِلَفْظِهِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ قَالَ : غَصَبْتُهُ ثَوْبًا يَهُودِيًّا ، ثُمَّ جَاءَ بِثَوْبٍ مُنْخَرِقٍ خَلَقٍ ، فَقَالَ هُوَ هَذَا كَانَ مُصَدَّقًا فِي ذَلِكَ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ اسْتَوْدَعَنِي عَبْدًا ، ثُمَّ جَاءَ بِعَبْدٍ مَعِيبٍ ، فَقَالَ هُوَ هَذَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ مَتَى وَقَعَ فِي صِفَةِ الْمَقْبُوضِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْقَابِضِ أَمِينًا كَانَ أَوْ ضَمِينًا .
وَكَذَلِكَ إذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي عَيْنِهِ لِأَنَّ الْقَابِضَ يُنْكِرُ قَبْضَهُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ سِوَى مَا عَيَّنَهُ

وَالْقَبْضُ عَلَى وَجْهِ الْعَيْبِ الْوَدِيعَةِ يَتَحَقَّقُ فِيمَا عَيَّنَهُ فَيَخْرُجُ بِهِ عَنْ عُهْدَةِ إقْرَارِهِ ، وَإِذَا خَرَجَ بِهِ عَنْ عُهْدَةِ إقْرَارِهِ كَانَ الْقَوْلُ فِي إنْكَارِ قَبْضِ مَا عَيَّنَهُ فِي قَوْلِهِ .

وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ عَشَرَةُ أَفْلُسٍ قَرْضٌ أَوْ ثَمَنُ بَيْعٍ ، ثُمَّ قَالَ هِيَ مِنْ الْفُلُوسِ الْكَاسِدَةِ لَمْ يُصَدَّقْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ ؛ لِأَنَّ الْمُعَامَلَاتِ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ فِي الْفُلُوسِ الرَّائِجَةِ فَدَعْوَاهُ الْجِيَادَ فِي الْفُلُوسِ كَدَعْوَى الزِّيَافَةِ فِي الدَّرَاهِمِ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي الْقَرْضِ هُوَ مُصَدَّقٌ إذَا وَصَلَ كَمَا لَوْ ادَّعَى الزِّيَافَةَ فِي الدَّرَاهِمِ فَإِنَّ الْكَاسِدَةَ مِنْ جِنْسِ الْفُلُوسِ وَبِالْجِيَادِ نُقِلَ رَغَائِبُ النَّاسِ فِيهَا كَمَا نُقِلَ بِالزِّيَافَةِ فِي الدَّرَاهِمِ .
فَأَمَّا فِي الْبَيْعِ كَانَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ أَوَّلًا لَا يُصَدَّقُ ، وَإِنْ وَصَلَ ؛ لِأَنَّ هَذَا بَيَانٌ يُفْسِدُ الْبَيْعَ فَإِنَّ مَنْ اشْتَرَى بِفُلُوسٍ فَكَسَدَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ فَسَدَ الْبَيْعُ وَإِقْرَارُهُ بِمُطْلَقِ الْبَيْعِ يَكُونُ إقْرَارَ الصِّحَّةِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي دَعْوَى الْفَسَادِ مَوْصُولًا كَانَ أَوْ مَفْصُولًا كَمَا لَوْ ادَّعَى الْفَسَادَ لِجِيَادٍ أَوْ أَجَلٍ مَجْهُولٍ بِخِلَافِ الزِّيَافَةِ فِي الدَّرَاهِمِ فَلَيْسَ فِي هَذَا دَعْوَى فَسَادِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يَدَّعِي فَسَادَ الْبَيْعِ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَيْسَ لَهُ عَلَيَّ فُلُوسٌ وَبِأَوَّلِ كَلَامِهِ صَارَ مُقِرًّا بِوُجُوبِهَا عَلَيْهِ ، وَكَانَ رُجُوعًا وَبِهِ فَارَقَ الْقَرْضُ ؛ لِأَنَّ بِدَعْوَى الْكَسَادِ هُنَاكَ لَا يَصِيرُ مُدَّعِيًا أَنَّهُ لَا فُلُوسَ عَلَيْهِ فَإِنَّ بِالْكَسَادِ لَا يَبْطُلُ الْقَرْضُ ، ثُمَّ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَقَالَ يُصَدَّقُ فِي الْبَيْعِ إذَا وَصَلَ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ الْمَبِيعِ ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الْكَاسِدَةَ مِنْ الْفُلُوسِ مِنْ جِنْسِ الرَّائِجَةِ مِنْهَا وَإِنَّمَا يَنْعَدِمُ صِفَةُ الثَّمِينَةِ لِيَثْبُتَ الْكَسَادُ فَهُوَ وَدَعْوَاهُ الزِّيَافَةَ فِي الدَّرَاهِمِ سَوَاءٌ ، ثُمَّ فَسَادُ الْبَيْعِ وَسُقُوطُ الْفُلُوسِ هُنَا كَانَ لِمَعْنًى حُكْمِيٍّ لَا بِسَبَبٍ مِنْ جِهَةِ الْمُقِرِّ فَلَا يَصِيرُ كَلَامُهُ بِهِ رُجُوعًا بِخِلَافِ

مَا إذَا ادَّعَى شَرْطًا مُفْسِدًا ؛ لِأَنَّ فَسَادَ الْعَقْدِ هُنَاكَ بِالشَّرْطِ الَّذِي ذَكَرَهُ ، وَإِذَا صُدِّقَ هُنَا صَارَ الثَّابِتُ بِإِقْرَارِهِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَلَوْ عَايَنَاهُ اسْتَوَى بِفُلُوسٍ ، ثُمَّ كَسَدَتْ قَبْلَ الْقَبْضِ كَانَ عَلَيْهِ رَدُّ الْمَبِيعِ إنْ كَانَ قَائِمًا ، وَإِنْ هَلَكَ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ كَذَلِكَ هُنَا .
وَكَذَلِكَ الِاخْتِلَافُ فِي قَوْلِهِ لَهُ عَلَيَّ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ سَتُّوقَةٌ مِنْ قَرْضٍ أَوْ ثَمَنِ بَيْعٍ لِأَنَّ السَّتُّوقَةَ كَالْفُلُوسِ فَإِنَّهُ مُمَوَّهٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَقَوْلُهُ سَتُّوقَةٌ فَارِسِيَّةٌ مُعَرَّبَةُ سِرْطَاقَةَ : الطَّاقُ الْأَعْلَى وَالْأَسْفَلُ فِضَّةٌ وَالْأَوْسَطُ صُفْرٌ وَالزُّيُوفُ اسْمٌ لِمَا زَيَّفَهُ بَيْتُ الْمَالِ وَالنَّبَهْرَجَةُ التِّجَارَةُ .

وَلَوْ قَالَ : غَصَبْتُهُ عَشَرَةَ أَفْلُسٍ أَوْ قَالَ أَوْدَعْتُهَا ، ثُمَّ قَالَ مِنْ الْفُلُوسِ الْكَاسِدَةِ كَانَ مُصَدَّقًا فِي ذَلِكَ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ ؛ لِأَنَّ الْكَاسِدَةَ مِنْ الْفُلُوسِ مِنْ جِنْسِ الْفُلُوسِ حَقِيقَةً وَصُورَةً ، وَلَيْسَ لِلْغَصْبِ الْوَدِيعَةِ مُوجِبٌ فِي الرَّائِجَةِ فَلَمْ يَكُنْ فِي بَيَانِهِ تَعْبِيرٌ لِأَوَّلِ كَلَامِهِ فَصَحَّ مِنْهُ مَوْصُولًا كَانَ أَوْ مَفْصُولًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( بَابُ مَا يَكُونُ الْإِقْرَارُ ) ( قَالَ ) رَحِمَهُ اللَّهُ : رَجُلُ قَالَ لِآخَرَ : اقْضِي الْأَلْفَ الَّتِي عَلَيْكَ ، فَقَالَ : نَعَمْ ، فَقَدْ أَدَّيْتُهَا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ نَعَمْ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مَخْرَجَ الْجَوَابِ ، وَهُوَ صَالِحٌ لِلْجَوَابِ فَيَصِيرُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْخِطَابِ كَالْمُعَادِ فِيهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ نَعَمْ أُعْطِيكَ الْأَلْفَ الَّتِي لَكَ عَلَيَّ .
وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ يَنْبَنِي بَعْضُ مَسَائِلِ الْبَابِ وَبَعْضُ الْمَسَائِلِ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّهُ مَتَى ذَكَرَ فِي مَوْضِعِ الْجَوَابِ كَلَامًا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ وَيَكُونُ مَفْهُومَ الْمَعْنَى يُجْعَلُ مُبْتَدِئًا فِيهِ لَا مَحَالَةَ إلَّا أَنْ يَذْكُرَ فِيهِ مَا هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ الْمَالِ الْمَذْكُورِ فَحِينَئِذٍ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْجَوَابِ ، وَبَيَانُ ذَلِكَ إذَا قَالَ سَأُعْطِيكَهَا أَوْ غَدًا أُعْطِيكَهَا أَوْ سَوْفَ أُعْطِيكَهَا فَإِنَّ الْهَاءَ وَالْأَلِفَ كِنَايَةٌ عَنْ الْأَلْفِ الْمَذْكُورَةِ فَصَارَتْ إعَادَتُهُ بِلَفْظِ الْكِنَايَةِ كَإِعَادَتِهِ بِلَفْظِ الصَّرِيحِ بِأَنْ يَقُولَ سَأُعْطِيكَ الْأَلْفَ الَّتِي لَكَ عَلَيَّ .
وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ فَأَقْعِدْهَا فَأَثِّرْ بِهَا فَانْتَقِدْهَا فَأَقْبِضْهَا أَوْ لَمْ يَقُلْ أَقْعِدْ ، وَلَكِنْ قَالَ أَبِرَّهَا أَوْ انْتَقِدْهَا أَوْ خُذْهَا ؛ لِأَنَّ الْهَاءَ وَالْأَلِفَ فِي هَذَا كُلِّهِ كِنَايَةٌ عَنْ الْمَالِ الْمَذْكُورِ فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ كَلَامِهِ عَلَى الْجَوَابِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ : أَثِّرْنَ أَوْ انْتَقِدْ أَوْ خُذْ فَلِهَذَا لَا يَكُونُ إقْرَارًا ؛ لِأَنَّ هَذَا الْكَلَامَ يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ الْمَالِ الْمَذْكُورِ فَيُحْمَلُ عَلَى الِابْتِدَاءِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مُبْتَدِئٌ بِالْكَلَامِ حَقِيقَةً فَتَرْكُ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ إلَى أَنْ يُجْعَلَ كَلَامُهُ لِلْجَوَابِ لِضَرُورَةٍ وَلَا ضَرُورَةَ هُنَا فَجَعَلْنَا ابْتِدَاءً وَمَعْنَى قَوْلِهِ أَثِّرْنَ أَيْ اُقْعُدْ وَأَرْثِ لِلنَّاسِ وَاكْتَسِبْ بِهِ وَلَا تُؤْذِينِي بِدَعْوَى الْبَاطِلِ .
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ ابْتَعِدْ وَقَوْلُهُ خُذْ أَيْ خُذْ حِذْرَكَ

مِنِّي فَلَا أُعْطِيكَ شَيْئًا بِدَعْوَى الْبَاطِلِ فَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ ابْتِدَاءً ، وَلَوْ قَالَ لَمْ تَحِلَّ بَعْدُ فَهَذَا إقْرَارٌ فَإِنَّ التَّاءَ فِي قَوْلِهِ لَمْ تَحِلَّ كِنَايَةٌ عَنْ الْأَلْفِ فَكَانَ كَلَامُهُ جَوَابًا ، وَهَذَا اللَّفْظُ مِنْهُ دَعْوَى التَّأْجِيلِ وَلَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ أَصْلِ الْمَالِ فَلِهَذَا كَانَ مُقِرًّا بِأَصْلِ الْمَالِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ غَدًا ؛ لِأَنَّ هَذَا غَيْرُ مَفْهُومِ الْمَعْنَى بِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْجَوَابِ وَهَذَا اسْتِمْهَالٌ لِلْقَضَاءِ إلَى الْغَدِ وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ الْمَالِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَرْسِلْ غَدًا مَنْ يَزِنُهَا أَوْ مَنْ يَقْبِضُهَا ؛ لِأَنَّ الْهَاءَ وَالْأَلِفَ كِنَايَةٌ عَنْ الْأَلْفِ فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ كَلَامِهِ عَلَى الْجَوَابِ وَمُطَالَبَتِهِ بِإِرْسَالِ مَنْ يَسْتَوْفِي مِنْهُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَيْسَتْ الْيَوْمَ عِنْدِي ؛ لِأَنَّ التَّاءَ كِنَايَةٌ عَنْ الْمَالِ الْمَذْكُورِ وَالتَّعَلُّلُ بِالْعَشَرَةِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ الْمَالِ فَكَانَ مُقِرًّا بِهَا .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَيْسَتْ بِمُهَيَّأَةٍ الْيَوْمَ بِمُيَسَّرَةٍ الْيَوْمَ ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ لَيْسَتْ بِمُيَسَّرَةٍ الْيَوْمَ فَهُوَ جَوَابٌ ؛ لِأَنَّ التَّاءَ كِنَايَةٌ عَنْ الْأَلْفِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَجِّلْنِي فِيهَا فَطَلَبَ التَّأْجِيلَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ الْمَالِ ، وَالْهَاءُ وَالْأَلِفُ كِنَايَةٌ عَنْ الْمَالِ الْمَذْكُورِ فَكَانَ كَلَامُهُ جَوَابًا .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ مَا أَكْثَرَ مَا يَتَقَاضَى بِهَا .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَعَمَمْتَنِي بِهَا أَوْ أَبْرَمْتَنِي بِهَا أَوْ أَدَّيْتَنِي فِيهَا ؛ لِأَنَّ التَّبَرُّمَ مِنْ كَثْرَةِ الْمُطَالَبَةِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ الْمَالِ فَإِنَّهُ لَا يَتَحَمَّلُ هَذَا الْأَذَى وَلَا انْتِقَادَ لِهَذِهِ الْمُطَالَبَةِ إلَّا إذَا كَانَ الْمَالُ وَاجِبًا .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : وَاَللَّهِ لَا يَكُونُ لَا أَفُضَّكَهَا وَلَا أَزِنُهَا لَكَ الْيَوْمَ أَوْ لَا يَأْخُذُهَا مِنِّي الْيَوْمَ ،

الْكِنَايَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي حَرْفِ الْجَوَابِ ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ الْقَضَاءُ وَالْوَزْنُ وَالْأَخْذُ فِي وَقْتٍ بِعَيْنِهِ ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ أَصْلِ الْمَالِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ أَصْلُ الْمَالِ وَاجِبًا فَالْقَضَاءُ يَكُونُ مُنْتَفِيًا أَبَدًا فَلَا يَحْتَاجُ إلَى تَأَكُّدِ نَفْيِ الْقَضَاءِ بِالْيَمِينِ ؛ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مُنْتَفٍ ، وَلَوْ قَالَ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيَّ مَالِي أَوْ حَتَّى يَقْدَمَ عَلَيَّ غُلَامِي فَهَذَا إقْرَارٌ ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ غَيْرُ مُسْتَقِلٍّ بِنَفْسِهِ فَإِنَّ حَتَّى لِلْغَايَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ شَيْءٍ آخَرَ لِيَكُونَ مَا ذُكِرَ غَايَةً لَهُ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا بِالْمَالِ الْمُدَّعَى فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا أَفُضَّكَهَا حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيَّ مَالِي .

وَلَوْ قَالَ : أَقْضِي الْمِائَةَ الَّتِي لِي عَلَيْكَ فَإِنَّ غُرَمَائِي لَا يَدَعُونِي ، فَقَالَ أَحِلْ عَلَيَّ بِهَا بَعْضَهُمْ أَوْ مَنْ تَسَبَّبَ مِنْهُمْ أَوْ ائْتِنِي مِنْهُمْ أَضْمَنَهَا لَهُ أَوْ احْتَالَ عَلَيَّ بِهَا فَهَذَا كُلُّهُ إقْرَارٌ بِذِكْرِ حَرْفِ الْكِنَايَةِ فِي مَوْضِعِ الْجَوَابِ ، وَلِأَنَّهُ أَمَرَ بِالْحَوَالَةِ الْمُقَيَّدَةِ ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ لِلْمُحِيلِ أَوْ يَكُونُ مِلْكٌ لَهُ فِي يَدِهِ لَهُ بِتَقَيُّدِ الْحَوَالَةِ بِهَا .

وَلَوْ قَالَ : قَدْ قَضَيْتُهَا فَهَذَا إقْرَارٌ بِذِكْرِ حَرْفِ الْكِنَايَةِ ، وَلِأَنَّهُ ادَّعَى الْقَضَاءَ وَقَضَاءُ الدَّيْنِ لَا يَسْبِقُ وُجُوبَهُ فَصَارَ بِهِ مُقِرًّا بِالْوُجُوبِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَبْرَأْتَنِي مِنْهَا ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ ، وَهُوَ يَعْقُبُ الْوُجُوبَ وَلَا يَسْبِقُهُ فَدَعْوَاهُ الْإِسْقَاطَ يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِوُجُوبِ سَابِقٍ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ قَدْ حَسَبْتُهَا لَكَ ؛ لِأَنَّ هَذَا فِي الْحَقِيقَةِ دَعْوَى الْقَضَاءِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ قَدْ حَلَلْتَنِي مِنْهَا فَهَذَا بِمَعْنَى دَعْوَى الْإِبْرَاءِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ قَدْ وَهَبْتَهَا إلَيَّ أَوْ تَصَدَّقْتَ بِهَا عَلَيَّ فَهَذَا دَعْوَى التَّمْلِيكِ مِنْهُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ الْمَالِ فِي ذِمَّتِهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : قَدْ أَحَلْتُكَ بِهَا ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ تَحْوِيلُ الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّةِ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ فَدَعْوَاهُ الْحَوَالَةَ يَتَضَمَّنُ الْإِقْرَارَ بِوُجُوبِهَا لَا مَحَالَةَ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ غَصَبْتَنِي هَذَا الْعَبْدَ فَادْفَعْهُ إلَيَّ أَوْ قَالَ هَذَا الْعَبْدُ وَدِيعَةٌ فِي يَدِكَ أَوْ عَارِيَّةٌ فَادْفَعْهُ إلَيَّ أَوْ قَالَ هَذَا الْعَبْدُ وَدِيعَةٌ فِي يَدِكَ أَوْ عَارِيَّةٌ فَادْفَعْهُ إلَيَّ ، فَقَالَ : غَدًا ، فَقَدْ أَقَرَّ لَهُ بِهِ ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي مَوْضِعِ الْجَوَابِ غَيْرُ مَفْهُومِ الْمَعْنَى بِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْجَوَابِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ سَأُعْطِيكَهَا ؛ لِأَنَّ الْهَاءَ كِنَايَةٌ عَنْ الْعَبْدِ فَمَعَ ذِكْرِ حَرْفِ الْكِنَايَةِ لَا بُدَّ مِنْ حَمْلِ كَلَامِهِ عَلَى الْجَوَابِ .

وَلَوْ قَالَ بِعْ مِنِّي عَبْدِي هَذَا أَوْ اسْتَأْجِرْهُ مِنِّي أَوْ قَالَ أَكْرَيْتُكَ دَارِي هَذِهِ أَوْ أَعَرْتُكَ دَارِي هَذِهِ ، فَقَالَ نَعَمْ فَهَذَا كُلُّهُ إقْرَارٌ لَهُ بِالْمِلْكِ ؛ لِأَنَّ نَعَمْ غَيْرُ مَفْهُومِ الْمَعْنَى بِنَفْسِهِ فَيَكُونُ مَحْمُولًا عَلَى الْجَوَابِ مَا تَقَدَّمَ يَصِيرُ مُعَادًا فِيهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ ادْفَعْ إلَيَّ حُلَّةَ عَبْدِي هَذَا أَوْ أَعْطِنِي ثَوْبَ عَبْدِي هَذَا ، فَقَالَ نَعَمْ ، فَقَدْ أَقَرَّ لَهُ بِالثَّوْبِ وَالْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ نَعَمْ غَيْرُ مَفْهُومِ الْمَعْنَى بِنَفْسِهِ فَكَانَ مَحْمُولًا عَلَى الْجَوَابِ فَكَأَنَّهُ قَالَ أُعْطِيكَ ثَوْبَ عَبْدِكَ ، وَذَلِكَ إقْرَارٌ لَهُ بِالْمِلْكِ فِي الْعَبْدِ نَصًّا ، وَفِي الثَّوْبِ دَلَالَةٌ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ الثَّوْبَ إلَى الْعَبْدِ الَّذِي أَضَافَهُ إلَيْهِ بِالْمِلْكِيَّةِ فَتَرْكُ إضَافَتِهِ إلَى مَمْلُوكِهِ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ إضَافَتِهِ إلَيْهِ فَصَارَ بِهِمَا .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ افْتَحْ بَابَ دَارِي هَذِهِ أَوْ خَصِّصْ دَارِي هَذِهِ أَوْ أَسْرِجْ دَابَّتِي هَذِهِ أَوْ أَلْجِمْ بَغْلِي هَذَا أَوْ أَعْطِنِي سَرْجَ بَغْلِي هَذَا أَوْ لِجَامَ بَغْلِي هَذَا ، فَقَالَ نَعَمْ فَهَذَا إقْرَارٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ نَعَمْ غَيْرُ مَفْهُومِ الْمَعْنَى بِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْجَوَابِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَيْهِ صَارَ لَغْوًا وَكَلَامُ الْعَاقِلِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ وَلَا يُحْمَلُ عَلَى اللَّغْوِ إلَّا إذَا تَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى الصِّحَّةِ ، وَلَوْ قَالَ لَا فِي جَمِيعِ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ إقْرَارًا ، وَفِي بَعْضِ نُسَخِ كِتَابِ الْإِقْرَارِ قَالَ يَكُونُ إقْرَارًا .
أَمَّا إذَا قَالَ لَا أُعْطِيكَهَا الْيَوْمَ أَوْ قَالَ لَا أُعْطِيكَهَا أَبَدًا فَهَذَا إقْرَارٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ كِتَابِ الْإِقْرَارِ ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِنَفْيِ الْإِعْطَاءِ إمَّا مُؤَبَّدًا أَوْ مُؤَقَّتًا ، وَالْكِنَايَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي كَلَامِهِ تَنْصَرِفُ إلَى مَا سَبَقَ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا أُعْطِيكَ سَرْجَ بَغْلِكَ أَوْ لِجَامَ بَغْلِكَ وَلَوْ صَرَّحَ بِهَذَا كَانَ إقْرَارًا بِمِلْكِ الْعَيْنِ لَهُ ،

وَأَمَّا إذَا أَطْلَقَ حَرْفَ لَا فَفِي بَعْضِ النُّسَخِ قَالَ هَذَا نَفْيٌ لِمَا طَلَبَهُ مِنْهُ وَإِنَّمَا طَلَبَ مِنْهُ الْإِعْطَاءَ فَكَانَ هَذَا نَفْيًا لِلْإِعْطَاءِ فَيُجْعَلُ إقْرَارًا بِمِلْكِ الْعَيْنِ لَهُ كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ .
وَوَجْهُ مَا ذُكِرَ فِي عَامَّةِ النُّسَخِ أَنْ لَا جَوَابُ هُوَ نَفْيٌ فَيَكُونُ مُوجَبُهُ ضِدَّ مُوجَبِ جَوَابٍ هُوَ إثْبَاتٌ ، وَهُوَ قَوْلُهُ نَعَمْ ، فَإِذَا جُعِلَ ذَلِكَ إقْرَارًا عَرَفْنَا أَنَّ هَذَا لَا يَكُونُ إقْرَارًا ، وَهَذَا لِأَنَّهُ نَفْيُ جَمِيعِ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ فَكَأَنَّهُ قَالَ لَا أُعْطِيكَ ، وَلَيْسَ الْبَغْلُ وَالسَّرْجُ وَاللِّجَامُ لَكَ ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ صَالِحٌ لِنَفْيِ جَمِيعِ ذَلِكَ بِخِلَافِ قَوْلِهِ لَا أُعْطِيكَهَا وَلَوْ قَالَ الْآخَرُ إنَّمَا لَكَ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ فَهَذَا إقْرَارٌ بِالْمِائَةِ ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ إنَّمَا لِتَقْرِيرِ الْحُكْمِ فِي الْمَذْكُورِ وَنَفْيِهِ عَمَّا عَدَاهُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { إنَّمَا اللَّهُ إلَهٌ وَاحِدٌ } وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ حَرْفَ التَّقْرِيرِ فِي الْمِائَةِ ، وَلَكِنْ قَالَ : لَكَ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ كَانَ إقْرَارًا فَعِنْدَ ذِكْرِ حَرْفِ التَّقْرِيرِ أَوْلَى .
وَلَوْ قَالَ : لَيْسَ لَكَ عَلَيَّ مِائَةٌ وَلَكِنْ دِرْهَمٌ فَلَمْ يُقِرَّ لَهُ بِشَيْءٍ لِأَنَّ كَلِمَةَ لَيْسَ لِلنَّفْيِ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْإِثْبَاتِ وَلَا يُقَالُ لِمَا خَصَّ الْمِائَةَ بِالنَّفْيِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ مَا دُونَهُ ثَابِتٌ ؛ لِأَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ بِالذِّكْرِ لَا يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ مَا عَدَاهُ عِنْدَنَا وَالْمَفْهُومُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَلَا يُجْعَلُ هَذَا اللَّفْظُ إقْرَارًا بِشَيْءٍ بِاعْتِبَارِ الْمَنْظُومِ وَلَا بِاعْتِبَارِ الْمَفْهُومِ .

وَلَوْ قَالَ فَعَلْتُ كَذَا إذَا كَانَ لَكَ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ كَانَ إقْرَارًا بِالْمِائَةِ ؛ لِأَنَّ كَلِمَةَ إذَا لِلْمَاضِي وَكَلِمَةَ إذَا لِلْمُسْتَقْبِلِ وَمَعْنَاهُ فِي الْوَقْتِ الَّذِي كَانَ لَكَ عَلَيَّ مِائَةٌ ، فَقَدْ عُرِفَ وَقْتٌ فَعَلَيْهِ بِالْمَالِ الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ الْمَالِ فَصَارَ مُقِرًّا بِوُجُوبِهَا .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ فَعَلْت كَذَا يَوْمَ أَقْرَضْتَنِي مِائَةَ دِرْهَمٍ ، فَقَدْ عُرِفَ الْوَقْتُ الَّذِي أَخْبَرَ عَنْ الْفِعْلِ فِيهِ بِالزَّمَانِ الَّذِي أَقْرَضَهُ فِيهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ ، وَذَلِكَ إقْرَارٌ بِالْإِقْرَاضِ لَا مَحَالَةَ ، وَهُوَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ .

وَلَوْ قَالَ أَقْرَضْتُكَ مِائَةَ دِرْهَمٍ ، فَقَالَ لَا أَعُودُ لَهَا وَلَا أَعُودُ بَعْدَ ذَلِكَ فَهَذَا إقْرَارٌ لِوُجُودِ حَرْفِ الْكِنَايَةِ فِي كَلَامِهِ ، وَهُوَ الْهَاءُ وَلَا يَكُونُ الْعَوْدُ إلَّا بَعْدَ الْبَدْءِ فَيَضْمَنُ هَذَا الْإِقْرَارَ بِابْتِدَاءِ إقْرَاضِهِ مِائَةَ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ فِي هَذَا إظْهَارُ سُوءِ مُعَامَلَتِهِ وَقِلَّةِ مُسَامَحَتِهِ مَعَ غُرَمَائِهِ ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ الْمَالِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَخَذْتُ مِنِّي مِائَةَ دِرْهَمٍ ، فَقَالَ لَا أَعُودُ لَهَا فَهَذَا بَيَانٌ لِلْأَخْذِ عِنْدَ نَفْيِ الْعَوْدِ عَلَى مَنْ أَخَذَ ضَمَانَ الْمَأْخُوذِ إلَى أَنْ يَرُدَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ } .

وَلَوْ قَالَ لَمْ أَغْصِبْكَ إلَّا هَذِهِ الْمِائَةَ كَانَ إقْرَارًا بِالْمِائَةِ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { مَا فَعَلُوهُ إلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ } وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ آكَدُ مَا يَكُونُ مِنْ الْإِثْبَاتِ ، دَلِيلُهُ كَلِمَةُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَيَكُونُ مُقِرًّا بِغَصْبِ الْمِائَةِ بِمَا هُوَ آكَدُ الْأَلْفَاظِ ، وَغَيْرُ وَسِوَى مِنْ حُرُوفِ الِاسْتِثْنَاءِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ " إلَّا " .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَا أَغْصِبُكَ بَعْدَ هَذِهِ الْمِائَةِ شَيْئًا فَهَذَا إقْرَارٌ بِالْمِائَةِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ بَعْدَ غَصْبِي مِنْكَ هَذِهِ الْمِائَةَ لَا أَغْصِبُكَ شَيْئًا فَهَذَا إظْهَارٌ لِلتَّوْبَةِ مِنْ غَصْبٍ بَاشَرَهُ وَوَعْدٌ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ لَا يَعُودَ إلَى مِثْلِهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَمْ أَغْصِبْكَ مَعَ هَذِهِ الْمِائَةِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ مَعَ لِلضَّمِّ وَالْقِرَانِ ، فَقَدْ نَفَى انْضِمَامَ شَيْءٍ إلَى الْمِائَةِ فِي حَالِ غَصْبِهِ إيَّاهَا ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا بَعْدَ غَصْبِ الْمِائَةِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَمْ أُغْصَبْ أَحَدًا بَعْدَكَ أَوْ قَبْلَكَ أَوْ مَعَكَ فَهَذَا كُلُّهُ إقْرَارٌ بِأَنَّهُ قَدْ غَصَبَهُ إيَّاهُ لِمَا بَيَّنَّا .

وَلَوْ قَالَ أَقْرَضْتُكَ مِائَةَ دِرْهَمٍ ، فَقَالَ مَا اسْتَقْرَضْتُ مِنْ أَحَدٍ سِوَاكَ أَوْ مِنْ أَحَدِ غَيْرَكَ أَوْ مِنْ أَحَدٍ قَبْلَكَ أَوْ لَا أَسَتَقْرِضُ مِنْ أَحَدٍ بَعْدَكَ أَوْ لَمْ أَسْتَقْرِضُ مِنْ أَحَدٍ مَعَكَ فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا كُلِّهِ إقْرَارًا ؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ لَا اسْتَقْرَضْتُ مِنْكَ وَلَوْ صَرَّحَ بِهَذَا اللَّفْظِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ فَكَذَلِكَ إذَا أَتَى بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا ؛ لِأَنَّ الِاسْتِقْرَاضَ طَلَبُ الْقَرْضِ فَإِنَّ أَهْلَ النَّحْوِ يُسَمُّونَ هَذِهِ السِّينَ سِينُ السُّؤَالِ ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ طَلَبَ شَيْئًا وَجَدَهُ وَلَا مَنْ سُئِلَ شَيْئًا أَعْطَى فَلَمْ يَكُنْ فِي كَلَامِهِ مَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ وَهَذِهِ مِنْ أَعْجَبْ الْمَسَائِلِ فَإِنَّ إقْرَارَهُ بِفِعْلِ الْغَيْرِ بِهَذَا اللَّفْظِ مُوجِبٌ لِلْمَالِ عَلَيْهِ بِأَنْ يَقُولَ أَقْرَضَنِي مِائَةَ دِرْهَمٍ وَإِقْرَارُهُ بِفِعْلِ نَفْسِهِ لَا يَكُونُ مُوجِبًا بِأَنْ يَقُولَ اسْتَقْرَضْتُ مِنْكَ .

وَلَوْ قَالَ مَا لَكَ عَلَيَّ مِائَةُ دِرْهَمٍ أَوْ سِوَى مِائَةُ دِرْهَمٍ فَهَذَا إقْرَارٌ بِالْمِائَةِ لِأَنَّهُ اسْتِثْنَاءٌ مِنْ النَّفْيِ ، وَذَلِكَ دَلِيلُ الْإِثْبَاتِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ مَا لَكَ عَلَيَّ أَكْثَرُ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّ نَفْيَهُ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمِائَةِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْمِائَةِ وَمَا ثَبَتَ بِالدَّلَالَةِ فَهُوَ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ .

وَلَوْ قَالَ مَا لَكَ عَلَيَّ أَكْثَرُ مِنْ مِائَةِ دِرْهَمٍ وَلَا أَقَلُّ لَمْ يَكُنْ هَذَا إقْرَارٌ ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ هَذَا إقْرَارًا بِالْمِائَةِ ؛ لِأَنَّهُ نَفَى أَنْ يَكُونَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ مِائَةٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْ مِائَةٍ ، وَذَلِكَ إقْرَارٌ بِالْمِائَةِ ، وَلَكِنَّهُ اعْتَبَرَ الْفَرْقَ الظَّاهِرِ ، وَقَالَ فِي الْعَادَةِ نَفْيُ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ يَكُونُ مُبَالَغَةً فِي النَّفْيِ كَمَنْ يَقُولُ لَيْسَ لَكَ عَلَيَّ قَلِيلٌ أَوْ كَثِيرٌ وَلَا قَلِيلَ وَلَا كَثِيرَ فَهَذَا لَا يَكُونُ مِسَاسًا ، ثُمَّ فِي كَلَامِهِ تَصْرِيحٌ بِنَفْيِ أَنْ يَكُونَ مَا دُونَ الْمِائَةِ وَاجِبًا ، وَذَلِكَ بِنَفْيِ أَنْ يَكُونَ الْمِائَةُ وَاجِبَةً ضَرُورَةً ؛ لِأَنَّ الْمِائَةَ إذَا وَجَبَتْ كَانَ مَا دُونَهَا وَاجِبًا وَإِنَّمَا قُلْنَا أَنَّهُ تَصْرِيحٌ بِنَفْيِ وُجُوبِ مَا دُونَ الْمِائَةِ لِأَنَّ قَوْلَهُ وَلَا أَقَلُّ عَطْفٌ وَحُكْمُ الْعَطْفِ حُكْمُ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ ، فَإِذَا كَانَ الْمَعْطُوفُ عَلَيْهِ نَفْيًا لِلْوُجُوبِ فَكَذَلِكَ الْمَعْطُوفُ .

وَلَوْ قَالَ لِي عَلَيْكَ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، فَقَالَ بَلْ تِسْعُمِائَةٍ كَانَ إقْرَارًا بِتِسْعِمِائَةٍ ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ لَا يَسْتَقِلُّ بِنَفْسِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْجَوَابِ مَعْنَاهُ بَلْ الْوَاجِبُ تِسْعُمِائَةٍ وَكَلِمَةُ بَلْ لِاسْتِدْرَاكِ الْغَلَطِ ، فَقَدْ اسْتَدْرَكَ غَلَطَهُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ فِي دَعْوَاهُ ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُوبِ هَذَا الْمِقْدَارِ فَلِهَذَا كَانَ مُقِرًّا بِتِسْعِمِائَةٍ .

رَجُلٌ قَالَ لِآخَرَ : أَخْبِرْ فُلَانًا أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ كَانَ هَذَا إقْرَارً ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إقْرَارٌ تَامٌّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ الْآمِرُ بِالْإِخْبَارِ فَكَذَلِكَ إذَا انْضَمَّ إلَيْهِ الْآمِرُ بِالْإِخْبَارِ وَفَائِدَتُهُ طُمَأْنِينَةُ قَلْبِ صَاحِبِ الْحَقِّ أَنَّهُ غَيْرُ جَاحِدٍ لِحَقِّهِ بَلْ هُوَ يُظْهِرُ لِذَلِكَ عِنْدَ النَّاسِ حِينَ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يُخْبِرُوهُ بِذَلِكَ الْإِقْرَارِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : أَعْلِمْ فُلَانًا أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ بَشِّرْهُ أَوْ قُلْ لَهُ أَوْ أَشْهِدْ فُلَانًا أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَهَذَا مِثْلُ الْأَوَّلِ بَلْ أَظْهَرُ فَإِنَّ الْخَبَرَ قَدْ يَكُونُ صِدْقًا ، وَقَدْ يَكُونُ كَذِبًا ، وَالْإِعْلَامُ وَالْبِشَارَةُ وَالْإِشْهَادُ لَا يَكُونُ إلَّا بِمَا هُوَ صِدْقٌ وَكَلِمَةُ الْإِقْرَارِ فِي هَذَا كُلِّهِ قَوْلُهُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ .

وَلَوْ قَالَ أَخْبِرْ فُلَانًا أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيْكَ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ أَعْلِمْهُ أَوْ أَبْشِرْهُ أَوْ أَقُولُ لَهُ أَوْ اشْهَدْ ، فَقَالَ نَعَمْ فَهَذَا كُلُّهُ إقْرَارٌ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ نَعَمْ لَيْسَ بِمَفْهُومِ الْمَعْنَى بِنَفْسِهِ ، وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي مَوْضِعِ الْجَوَابِ فَصَارَ مَا سَبَقَ مِنْ الْخِطَابِ مُعَادًا فِيهِ فَلِهَذَا كَانَ إقْرَارًا .

وَلَوْ قَالَ وَجَدْتُ كِتَابِي أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ وَجَدْتُ فِي ذِكْرِي أَوْ حِسَابِي أَوْ بِخَطِّي أَوْ قَالَ كَتَبْتُ بِيَدِي أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ حَكَى مَا وَجَدَهُ فِي كِتَابِهِ وَمَا وَجَدَهُ مَكْتُوبًا فِي كِتَابِهِ قَدْ يَكُونُ غَيْرُهُ كَاتِبًا لَهُ ، وَقَدْ يَكُونُ هُوَ الْكَاتِبَ لِتَجْزِئَةِ الْخَيْطِ وَالْعِلْمِ وَالْبَيَاضِ فَلَا يَتَعَيَّنُ جِهَةُ الْإِقْرَارِ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ لِأَنَّ قَوْلَهُ هُنَاكَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ كَلَامُ إنْشَاءٍ وَالتَّكَلُّمُ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنَّهُ حُكِيَ عَنْ غَيْرِهِ أَوْ عَنْ مَوْضِعٍ وَجَدَهُ فِيهِ ، وَكَانَ إقْرَارًا .

وَجَمَاعَةُ أَئِمَّةِ بَلْخِي رَحِمَهُمُ اللَّهُ قَالُوا فِي يذكار الْبَاعَةِ : إنَّ مَا يُوجَدُ فِيهِ مَكْتُوبًا بِخَطِّ الْبَيَّاعِ فَهُوَ لَازِمٌ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُكْتَبُ فِي يذكاره إلَّا مَا لَهُ عَلَى النَّاسِ وَمَا لِلنَّاسِ عَلَيْهِ لِيَكُونَ صِيَانَةً لَهُ عَنْ النِّسْيَانِ كَذَلِكَ بِقَلَمِهِ ، وَالنَّبَأُ فِي الْعَادَةِ الظَّاهِرَةِ وَاجِبٌ فَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ قَالَ الْبَيَّاعُ وَجَدْتُ فِي يذكاري بِخَطِّي أَوْ كَتَبْتُ فِي يذكاري بِيَدِي أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ كَانَ هَذَا إقْرَارًا مُلْزِمًا إيَّاهُ .

وَإِنْ قَالَ بِيَدِي لِفُلَانٍ عَلَيَّ صَكٌّ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَهَذَا إقْرَارٌ ؛ لِأَنَّ الصَّكَّ اسْمٌ خَاصٌّ لِمَا هُوَ وَثِيقَةٌ بِالْحَقِّ الْوَاجِبِ ، وَقَدْ عَابُوا عَلَى مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ كَتَبْتُ بِيَدِي فَقَالُوا الْكِتَابَةُ لَا تَكُونُ إلَّا بِالْيَدِ فَأَيُّ فَائِدَةٍ فِي هَذَا اللَّفْظِ وَكُنَّا نَقُولُ : مِثْلُ هَذَا يُذْكَرُ لِلتَّأْكِيدِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } وَهَذَا لِأَنَّ الْكِتَابَةَ قَدْ تُضَافُ إلَى الْآمِرِ بِهَا عَادَةً ، وَإِنْ لَمْ يَكْتُبْ بِنَفْسِهِ فَكَانَ قَوْلُهُ بِيَدِي بَيَانًا يَزُولُ بِهِ هَذَا الِاحْتِمَالُ .

وَلَوْ كَتَبَ لِفُلَانٍ عَلَى نَفْسِهِ صَكًّا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَالْقَوْمُ يَنْظُرُونَ إلَيْهِ ، فَقَالَ لَهُمْ : اشْهَدُوا عَلَيَّ بِهَذَا كَانَ إقْرَارًا جَائِزًا ؛ لِأَنَّهُ أَشْهَدَهُمْ عَلَى مَا أَظْهَرَهُ بِبَيَانِهِ فَكَأَنَّهُ أَشْهَدَهُمْ بِبَيَانِهِ وَلَا يَكُونُ الْإِشْهَادُ إلَّا مَا هُوَ الْوَثِيقَةُ بِالْحَقِّ الْوَاجِبِ .

رَجُلٌ قَالَ لِآخَرَ : لَا تَشْهَدْ عَلَيَّ لِفُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَمْ يَكُنْ هَذَا إقْرَارًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ اشْهَدْ عَلَيَّ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ كَانَ إقْرَارًا وَقَوْلُهُ لَا تَشْهَدْ ضِدٌّ لِقَوْلِهِ اشْهَدْ فَكَانَ مُوجَبُهُ ضِدَّ مُوجَبِ قَوْلِهِ اشْهَدْ ، وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ نَهَاهُ عَنْ الشَّهَادَةِ بِالزُّورِ ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ عَلَيَّ شَيْءٌ فَلَا يَشْهَدُ لَهُ بِالزُّورِ عَلَيَّ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَيَكُونُ هَذَا نَفْيًا لِلْمَالِ عَلَى نَفْسِهِ لَا إقْرَارًا بِهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : مَا لِفُلَانِ عَلَيَّ شَيْءٌ فَلَا يُخْبِرْهُ أَنَّ لَهُ عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ لَا يَقُلْ لَهُ أَنَّ لَهُ عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ لَمْ يَكُنْ هَذَا إقْرَارًا ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِهِ فِي الِابْتِدَاءِ بِالنَّفْيِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَهُ عَلَيَّ أَنَّهُ لَا شَيْءَ لَهُ عَلَيْهِ فَكَانَ مُرَادُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُخْبِرْهُ بِمَا هُوَ بَاطِلٌ وَلَا يَقُلْ لَهُ مَا هُوَ زُورٌ لَا أَصْلَ لَهُ ، وَآخِرُ الْكَلَامِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَوَّلِهِ خُصُوصًا إذَا وَصَلَهُ بِحَرْفِ الْفَاءِ ، فَإِذَا كَانَ أَوَّلُهُ نَفْيًا عَرَفْنَا أَنَّ آخِرَهُ لَيْسَ بِإِقْرَارٍ .

وَلَوْ ابْتِدَاءً ، فَقَالَ لَا يُخْبِرْ فُلَانًا أَنَّ لَهُ عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ لَا يَقُلْ لِفُلَانٍ أَنَّ لَهُ عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ كَانَ هَذَا إقْرَارًا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَذْكُرْ النَّفْيَ فِي الِابْتِدَاءِ كَانَ قَوْلُهُ لَا يُخْبِرْ وَلَا يَقُلْ اسْتِكْتَامًا مِنْهُ لَهُ فَيَكُونُ إقْرَارًا وَمَعْنَاهُ أَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ لَهُ عَلَى سِرٍّ بَيْنِي وَبَيْنَكَ فَلَا تُظْهِرْهُ بِاخْتِيَارِكَ أَوْ قَوْلِكَ لِفُلَانٍ ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا فِي آخِرِ الْبَابِ قَوْلَهُ لَا يُخْبِرْ بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَخْبَرُوا وَعَلَّلَ ، فَقَالَ لَا تُخْبِرْ نَفْيٌ وَقَوْلُهُ أَخْبِرْ إقْرَارٌ فَحَصَلَ فِي قَوْلِهِ أَخْبِرْ رِوَايَتَانِ ، وَفِي قَوْلِهِ لَا تَشْهَدْ أَيْ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ الرِّوَايَةُ وَاحِدَةٌ أَنَّهُ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِخِلَافِ قَوْلِهِ اشْهَدْ فَمِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ قَالَ الصَّحِيحُ فِي الْإِخْبَارِ هَكَذَا أَنَّ قَوْلَهُ لَا تُخْبِرْ لَا يَكُونُ إقْرَارًا كَمَا فَسَّرَهُ فِي آخِرِ الْبَابِ وَاَلَّذِي وَقَعَ هُنَا غَلَطٌ .
وَمِنْهُمْ مَنْ صَحَّحَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وَفَرَّقَ بَيْنَ قَوْلِهِ لَا تُخْبِرْ ابْتِدَاءً وَبَيْنَ قَوْلِهِ لَا تَشْهَدْ ، فَقَالَ الشَّهَادَةُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الْحَقِّ ، قَوْلُهُ لَا تَشْهَدْ مَعْنَاهُ لَيْسَ لَهُ عَلَيَّ شَيْءٌ فَإِيَّاكَ أَنْ يَكْتَسِبَ سَبَبَ الْوُجُوبِ بِالشَّهَادَةِ لَهُ عَلَيَّ بِالزُّورِ ، فَأَمَّا الْخَبَرُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِوُجُوبِ الْمَالِ فَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ لَا يُخْبِرُ نَهْيًا عَنْ اكْتِسَابِ سَبَبِ الْوُجُوبِ ، وَلَكِنَّهُ اسْتِكْتَامُ ذَلِكَ وَدَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ .

وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ لِحَقِّهِ أَوْ بِحَقِّهِ أَوْ مِنْ حَقِّهِ أَوْ لِمِيرَاثِهِ أَوْ بِمِيرَاثِهِ أَوْ مِنْ مِيرَاثِهِ أَوْ لِمِلْكِهِ أَوْ بِمِلْكِهِ أَوْ مِنْ مِلْكِهِ أَوْ لِأَجْلِهِ أَوْ مِنْ أَجْلِهِ أَوْ لِشَرِكَتِهِ أَوْ بِشَرِكَتِهِ أَوْ مِنْ شَرِكَتِهِ أَوْ لِبِضَاعَتِهِ أَوْ بِبِضَاعَتِهِ أَوْ مِنْ بِضَاعَتِهِ فَهَذَا كُلُّهُ إقْرَارٌ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إقْرَارٌ تَامٌّ بِالدَّيْنِ وَهَذَا كُلُّهُ يَرْجِعُ إلَى تَأْكِيدِ مَا عَلَيْهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا التَّأْكِيدَ لَا يَنْفِي أَصْلَ الْإِقْرَارِ وَأَنَّ الشَّفَاعَاتِ لَا تَجِيءُ فِي الدُّيُونِ لِيُحْمَلَ مَعْنَى اللَّامِ عَلَى الشَّفَاعَةِ فَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ إقْرَارًا بِالْمَالِ .

وَإِذَا قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ مَتَاعٍ اشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ وَلَمْ أَقْبِضْهُ ، فَقَالَ ذَلِكَ مَوْصُولًا بِإِقْرَارِهِ لَمْ يُصَدَّقْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يُصَدَّقُ إذَا كَانَ مَوْصُولًا وَلَا يُصَدَّقُ إذَا كَانَ مَفْصُولًا ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ حَرْفٍ مِنْهُ ، وَقَالَ إذَا كَانَ مَفْصُولًا لَا يُسْأَلُ الْمُقَرُّ لَهُ عَنْ الْمَالِ أَهُوَ ثَمَنُ بَيْعٍ أَمْ لَا ؟ فَإِنْ قَالَ مِنْ ثَمَنِ الْبَيْعِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ : إنِّي لَمْ أَقْبِضْهُ ، وَإِنْ قَالَ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى سِوَى الْبَيْعَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرُّ لَهُ وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ بِرُجُوعٍ ، وَلَكِنَّهُ تَفْصِيلٌ فِيمَا أَجْمَلَهُ مِنْ الِابْتِدَاءِ ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ قَوْلَهُ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ إقْرَارٌ بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ مِنْ ثَمَنِ بَيْعٍ اشْتَرَيْتُهُ مِنْهُ بَيَانٌ لِسَبَبِ الْوُجُوبِ ، فَإِذَا صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فِي هَذَا السَّبَبِ ثَبَتَ السَّبَبُ بِتَصَادُقِهِمَا ، ثُمَّ الْمَالُ بِهَذَا السَّبَبِ يَكُونُ وَاجِبًا قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَإِنَّمَا يَتَأَكَّدُ بِالْقَبْضِ فَصَارَ الْبَائِعُ مُدَّعِيًا عَلَيْهِ تَسْلِيمَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَجَعَلْنَا الْقَوْلَ قَوْلَ الْمُنْكِرِ فِي إنْكَارِهِ الْقَبْضَ وَإِنْ كَذَّبَهُ فِي السَّبَبِ فَهَذَا بَيَانٌ مُعَبِّرٌ لِمُقْتَضَى مُطْلَقِ الْكَلَامِ لِأَنَّ مُقْتَضَى أَوَّلِ الْكَلَامِ أَنْ يَكُونَ مُطَالَبًا بِالْمَالِ فِي الْحَالِ ، وَلَكِنْ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ مُطَالَبًا بِهِ حَتَّى يُحْضِرَ الْمَتَاعَ فَكَانَ بَيَانُهُ مُعَبِّرًا إلَى هَذَا النَّوْعِ مِنْ الِاحْتِمَالِ ، وَبَيَانُ التَّغْيِيرِ صَحِيحٌ إذَا كَانَ مَوْصُولًا وَلَا يَكُونُ صَحِيحًا إذَا كَانَ مَفْصُولًا .
تَوْضِيحُهُ أَنَّ هَذَا بَيَانٌ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ مَا يَجِبُ بِالْكَلَامِ الْأَوَّلِ لَوْلَا هَذَا الْبَيَانُ لِأَنَّ ثَمَنَ الْمَتَاعِ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مُعَيَّنٍ لَا يَكُونُ وَاجِبًا قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَالْبَيَانُ الَّذِي فِيهِ

مَعْنَى الْإِبْطَالِ صَحِيحٌ إذَا كَانَ مَوْصُولًا وَلَا يَصِحُّ إذَا كَانَ مَفْصُولًا كَالِاسْتِثْنَاءِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ هَذَا رُجُوعٌ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ وَالرُّجُوعُ بَاطِلٌ مَوْصُولًا كَانَ أَوْ مَفْصُولًا ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ أَقَرَّ بِوُجُوبِ ثَمَنِ مَتَاعٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ عَلَيْهِ ، وَثَمَنُ مَتَاعٍ يَكُونُ بِغَيْرِ عَيْنِهِ لَا يَكُونُ وَاجِبًا عَلَى الْمُشْتَرِي إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلَكِ إذْ لَا طَرِيقَ لِلتَّوَصُّلِ إلَيْهِ فَإِنَّهُ مَا مِنْ مَتَاعٍ يُحْضِرُهُ إلَّا وَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَقُولَ الْمَبِيعُ غَيْرُ هَذَا وَتَسْلِيمُ الثَّمَنِ لَا يَجِبُ إلَّا بِإِحْضَارِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَفَرَّقْنَا أَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلَكِ وَثَمَنُ الْمَبِيعِ الْمُسْتَهْلَكِ لَا يَكُونُ وَاجِبًا إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ فَكَأَنَّهُ أَقَرَّ بِالْقَبْضِ ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْهُ .
تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِالْمَالِ وَادَّعَى لِنَفْسِهِ أَجَلًا إلَى غَايَةٍ ، وَهُوَ إحْضَارُ الْمَتَاعِ وَلَا طَرِيقَ لِلْبَائِعِ إلَى ذَلِكَ ، وَلَوْ ادَّعَى أَجَلَ ذَلِكَ شَهْرًا وَنَحْوَ ذَلِكَ لَمْ يُصَدَّقْ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ ، فَإِذَا ادَّعَى أَجَلًا مُؤَبَّدًا أَوْلَى أَنْ لَا يَكُونَ مُصَدَّقًا فِي ذَلِكَ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ لَمْ يُصَدَّقْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ ؛ لِأَنَّهُ رُجُوعٌ فَثَمَنُ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ لَا يَكُونُ وَاجِبًا عَلَى الْمُسْلِمِ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَصِحُّ إذَا وَصَلَ ؛ لِأَنَّهُ بَيَانُ السَّبَبِ ، وَفِيهِ مَعْنَى الْإِبْطَالِ فَيَصِحُّ مَوْصُولًا كَالِاسْتِثْنَاءِ ، وَلِأَنَّ الْخَمْرَ مُتَمَوَّلٌ يَجْرِي فِيهِ الشُّحُّ وَالضِّنَةُ ، وَقَدْ اعْتَادَ الْفَسَقَةُ شِرَاءَهَا وَأَدَاءَ ثَمَنِهَا فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ بَنَى إقْرَارَهُ عَلَى هَذِهِ الْعَادَةِ فَكَانَ آخِرُ كَلَامِهِ بَيَانًا هُوَ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ كَلَامِهِ ، وَلَكِنْ فِيهِ تَعْبِيرٌ فَيَصِحُّ مَوْصُولًا كَمَا فِي الْفَصْلِ

الْأَوَّلِ عَلَى قَوْلِهِمَا .

وَلَوْ قَالَ : ابْتَعْتُ مِنْهُ شَيْئًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ قَالَ لَمْ أَقْبِضْهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ وَإِقْرَارُهُ بِالْعَقْدِ لَا يَكُونُ إقْرَارًا بِالْقَبْضِ فَهُوَ فِي قَوْلِهِ لَمْ أَقْبِضْهُ مُنْكِرٌ لِمَا ادَّعَاهُ صَاحِبُهُ لَا رَاجِعًا عَمَّا أَقَرَّ بِهِ .

وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ مِنْ ثَمَنِ هَذَا الْعَبْدِ الَّذِي هُوَ فِي يَدِ الْمُقَرِّ لَهُ ، فَإِنْ أَقَرَّ الطَّالِبُ وَسَلَّمَهُ لَهُ أَخَذَهُ بِالْمَالِ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِتَصَادُقِهَا كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ ، وَإِنْ قَالَ الْعَبْدُ عَبْدُكَ لَمْ أَبِعْكَهُ إنَّمَا بِعْتُكَ غَيْرَهُ فَالْمَالُ لَازِمٌ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ أَخْبَرَ بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ عِنْدَ تَسْلِيمِ الْعَبْدِ لَهُ ، وَقَدْ سَلَّمَ الْعَبْدَ لَهُ حِينَ أَقَرَّ ذُو الْيَدِ أَنَّهُ مَلَكَهُ فَيَلْزَمُهُ الْمَالُ ، ثُمَّ الْأَسْبَابُ مَطْلُوبَةٌ لِأَحْكَامِهَا لَا لِأَعْيَانِهَا فَلَا يُعْتَبَرُ التَّكَاذُبُ فِي السَّبَبِ بَعْدَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى وُجُوبِ أَصْلِ الْمَالِ فَلِهَذَا لَزِمَهُ الْمَالُ وَلَوْ قَالَ الْعَبْدُ عَبْدِي مَا بِعْتُهُ مِنْكَ إنَّمَا بِعْتُكَ غَيْرَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَقَرَّ لَهُ بِالْمَالِ بِشَرْطِ أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ الْعَبْدَ ، وَلَمْ يُسَلِّمْ لَهُ الْعَبْدَ وَالْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرْطِ مَعْدُومٌ قَبْلَهُ ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى دَعْوَى صَاحِبِهِ ، وَهُوَ قَوْلُهُمَا ، وَإِذَا حَلَفَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْمَالُ ، وَهُوَ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ ادَّعَى عَلَيْهِ الْبَيْعَ فِي هَذَا الْعَبْدِ ، وَهُوَ مُنْكِرٌ فَيَحْلِفُ عَلَيْهِ وَالْمُقَرُّ لَهُ يَدَّعِي وُجُوبَ الْمَالِ لِنَفْسِهِ بِسَبَبِ بَيْعِ مَتَاعٍ قَدْ سَلَّمَهُ إلَيْهِ وَالْمُقَرُّ لِذَلِكَ مُنْكِرٌ فَيَحْلِفُ عَلَى دَعْوَاهُ ، وَلِأَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَبِيعِ وَالِاخْتِلَافُ فِي الْمَبِيعِ يُوجِبُ التَّحَالُفَ كَالِاخْتِلَافِ فِي الثَّمَنِ ، فَإِذَا تَحَالَفَا انْتَفَتْ دَعْوَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ فَلِهَذَا لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَالِ وَالْعَبْدُ سَالِمٌ لِمَنْ هُوَ فِي يَدِهِ .

وَلَوْ قَالَ : لِفُلَانٍ عِنْدِي وَدِيعَةٌ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ قَالَ اقْبِضْهَا فَهُوَ لَهَا ضَامِنٌ ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ كَلَامِهِ صَرِيحٌ بِإِقْرَارِهِ بِالْقَبْضِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مُودِعًا وَلَا يَحْصُلُ الْمَالُ عِنْدَهُ مَا لَمْ يَقْبِضْهُ فَكَانَ قَوْلُهُ لَمْ أَقْبِضْهَا رُجُوعًا .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهُ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ قَرْضٌ ، ثُمَّ قَالَ لَمْ أَقْبِضْهَا لَمْ يُصَدَّقْ وَهَذَا رُجُوعٌ كَمَا بَيَّنَّا .

وَلَوْ قَالَ أَقْرَضْتَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ أَوْدَعْتَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ أَسْلَفْتَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ أَعْطَيْتَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ ، وَلَكِنِّي لَمْ أَقْبِضْهَا ، فَإِنْ قَالَ مَوْصُولًا كَلَامُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ كَلَامِهِ إقْرَارٌ بِالْعَقْدِ ، وَهُوَ الْقَرْضُ وَالسَّلَمُ وَالسَّلَفُ وَالْعَطِيَّةُ فَكَانَ قَوْلُهُ لَمْ أَقْبِضْهَا بَيَانًا لَا رُجُوعًا ، وَإِنْ قَالَ ذَلِكَ مَفْصُولًا فِي الْقِيَاسِ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ أَيْضًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ إقْرَارٌ بِالْعَقْدِ فَكَانَ هَذَا وَقَوْلُهُ ابْتَعْتُ مِنْ فُلَانٍ بَيْعًا سَوَاءً .
تَوْضِيحُهُ أَنَّهُ أَقَرَّ بِفِعْلِ الْغَيْرِ فَإِنَّهُ أَضَافَ الْفِعْلَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ فَيَكُونُ الْقَوْلُ فِي إنْكَارِهِ الْقَبْضَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ قَوْلَهُ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْغَيْرِ لَيْسَ بِسَبَبٍ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ ، فَقَالَ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْقَبْضِ .
وَكَذَلِكَ السَّلَمُ وَالسَّلَفُ أَخْذٌ عَاجِلٌ بِآجِلٍ .
وَكَذَلِكَ الْإِعْطَاءُ فِعْلٌ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ فَكَانَ كَلَامُهُ إقْرَارًا بِالْقَبْضِ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْأَلْفَاظُ عِبَارَةً عَنْ الْعَقْدِ مَجَازًا فَقَوْلُهُ بَيَانُ تَعْبِيرٍ فَيَصِحُّ مَوْصُولًا لَا مَفْصُولًا .

وَلَوْ قَالَ نَقَدْتَنِي أَلْفَ دِرْهَمٍ أَوْ دَفَعْتَ إلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، وَلَكِنْ لَمْ أَقْبِضْ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ وَالْإِعْطَاءَ سَوَاءٌ كَمَا ثَبَتَ فِي قَوْلِهِ أَعْطَيْتَنِي فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ دَفَعْتَ إلَيَّ وَبَعَّدَتْنِي ؛ لِأَنَّهُ إخْبَارٌ بِفِعْلِ الْغَيْرِ وَهَذَا لَا يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُودِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ ، وَإِذَا قَالَ مَوْصُولًا لَمْ أَقْبِضْهُ كَانَ مُنْكِرًا لَا رَاجِعًا ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُصَدَّقُ ، وَإِنْ وَصَلَ ؛ لِأَنَّ النَّقْدَ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بِالْقَبْضِ .
وَكَذَلِكَ الدَّفْعُ يَسْتَدْعِي مَدْفُوعًا فَقَوْلُهُ لَمْ أَقْبِضْ رُجُوعٌ فَلِهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا صَحِيحًا بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَعْطَيْتَنِي فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُسْتَعَارُ لِلْعَقْدِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْهِبَةَ تُسَمَّى عَطِيَّةً فَجَعَلْنَا كَلَامَهُ عِبَارَةً عَنْ الْعَقْدِ إذَا قَالَ مَوْصُولًا لَمْ أَقْبِضْهُ وَلَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي النَّقْدِ وَالدَّفْعِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( بَابُ الْإِقْرَارِ فِي الْمَرَضِ ) ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ : إذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ فِي مَرَضِهِ بِدَيْنٍ لِرَجُلٍ غَيْرِ وَارِثٍ فَإِنَّهُ جَائِزٌ ، وَإِنْ أَحَاطَ ذَلِكَ بِمَالِهِ ، وَإِنْ أَقَرَّ لِوَارِثٍ فَهُوَ بَاطِلٌ ) إلَّا أَنْ تُصَدِّقَهُ الْوَرَثَةُ وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى - فِي الْفَصْلَيْنِ ، وَقَالُوا : إقْرَارُ الْمَرِيضِ لِلْأَجْنَبِيِّ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ صَحِيحٌ وَإِقْرَارُهُ لِلْوَارِثِ بَاطِلٌ وَهَذَا الْبَابُ لِبَيَانِ إقْرَارِهِ لِلْأَجْنَبِيِّ فَيَقُولُ : إنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ جِنْسِ التِّجَارَةِ وَلِهَذَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ وَلَا يَلْحَقُهُ الْحَجْرُ عَنْ التِّجَارَةِ مَعَ الْأَجَانِبِ فَكَانَ إقْرَارُهُ لِلْأَجْنَبِيِّ بِدَيْنٍ أَوْ بِعَيْنٍ فِي الْمَرَضِ بِمَنْزِلَتِهِ فِي الصِّحَّةِ فَيَكُونُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مِنْ حَوَائِجِ الْمَيِّتِ فَإِنَّهُ يُحْتَاجُ إلَى إظْهَارِ مَا عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ لِيَفُكَّ رَقَبَتَهُ ، وَحَاجَتُهُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى حَقِّ وَرَثَتِهِ ، وَلِهَذَا اُعْتُبِرَ اسْتِيلَادُهُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ وَاعْتُبِرَ الْجِهَازُ وَالْكَفَنُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِ أَوْ يَقُولُ صِحَّةُ إقْرَارِهِ لِلْأَجْنَبِيِّ عَلَى قِيَاسِ صِحَّةِ وَصِيَّتِهِ لَهُ فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ يَتَمَكَّنُ الْمَرْءُ مِنْ تَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ بِهِ آنِسًا لَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي إقْرَارِهِ فَيَكُونُ صَحِيحًا وَمَتَى لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ بِطَرِيقِ الْإِنْسَاءِ كَانَ مُتَّهَمًا فِي الْإِقْرَارِ بِهِ فَلَا يَصِحُّ فِي حَقِّ الْغَيْرِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ قَبْلَ الْعَزْلِ إذَا قَالَ : كُنْتُ بِعْتُ كَانَ إقْرَارُهُ صَحِيحًا بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْعَزْلِ وَالْمُطْلَقُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ رَاجِعٌ صَحَّ إقْرَارُهُ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ وَالْمَوْلَى قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ إذَا قَالَ فِئْتُ إلَيْهَا كَانَ إقْرَارُهُ

صَحِيحًا بِخِلَافِ مَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ هُوَ مَالِكٌ لِإِيجَابِ مِقْدَارِ الثُّلُثِ لِلْأَجْنَبِيِّ بِطَرِيقِ الْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ فَتَنْتَفِي التُّهْمَةُ عَنْ الْإِقْرَارِ لَهُ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ ، وَإِذَا صَحَّ إقْرَارُهُ بَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَيْسَ مِنْ جُمْلَةِ مَالِهِ فَيَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي ثُلُثِ مَا بَقِيَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَمْلِكُ الْحَقَّ فِيهِ بِطَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ ، ثُمَّ لَا يَزَالُ يَدُورُ هَكَذَا حَتَّى يَأْتِيَ عَلَى جَمِيعِ الْمَالِ إلَى مَا لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهُ فَلِهَذَا صَحَّحْنَا إقْرَارَهُ لِلْأَجْنَبِيِّ بِجَمِيعِ الْمَالِ .

وَإِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِدَيْنٍ ، ثُمَّ مَاتَ فِي مَرَضِهِ ذَلِكَ تَحَاصَّ الْغُرَمَاءُ فِي مَالِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْإِقْرَارُ مِنْهُ فِي كَلَامٍ مُتَّصِلٍ أَوْ مُنْفَصِلٍ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَيْنِ تَجْمَعُهُمَا حَالَةٌ وَاحِدَةٌ هِيَ حَالُ الْمَرَضِ فَكَأَنَّهُمَا وُجِدَا مَعًا لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَالِهِ بِمَوْتِهِ وَيَسْتَنِدُ إلَى أَوَّلِ الْمَرَضِ ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْمَوْتِ وَالْحُكْمُ إذَا انْفَرَدَ اسْتَنَدَ إلَى سَبَبِهِ فَهُنَا تَعَلَّقَ الدَّيْنَانِ جَمِيعًا بِمَالِهِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ عِنْدَ الْمَوْتِ وَاسْتَنَدَ إلَى سَبَبٍ وَاحِدٍ ، وَهُوَ الْمَرَضُ فَاسْتَوَيَا فِيهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَمَا يَصِيرُ بِسَبَبِ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ مَحْجُورًا عَلَيْهِ عَنْ التَّبَرُّعِ عِنْدَ الْإِقْرَارِ الثَّانِي يَصِيرُ بِسَبَبِ الْإِقْرَارِ الثَّانِي مَحْجُورًا عَلَيْهِ عَنْ التَّبَرُّعِ عِنْدَ الْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ أَوَّلًا ، ثُمَّ وَهَبَ شَيْئًا لَمْ تَصِحَّ هِبَتُهُ حَتَّى يَقْضِيَ الدَّيْنَ .
وَكَذَلِكَ لَوْ وَهَبَ أَوَّلًا فِي مَرَضِهِ ، ثُمَّ أَقَرَّ بِدَيْنٍ لَمْ يَصِحَّ هِبَتُهُ حَتَّى يَقْضِيَ الدَّيْنَ فَيَتَبَيَّنُ بِهَذَا أَنَّ الدَّيْنَيْنِ اسْتَوَيَا فِي الْقُوَّةِ وَأَنَّ سَبَبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَثْبُتُ الْحَجْرُ عَنْ التَّبَرُّعِ عِنْدَ الْإِقْرَارِ الْآخِرِ فَيَتَحَاصَّانِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ ، ثُمَّ بِوَدِيعَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَبَقَ الْإِقْرَارُ بِالدَّيْنِ ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي ذِمَّتِهِ عَلَى أَنْ يَتَعَلَّقَ بِتَرِكَتِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ وَمَا فِي يَدِهِ تَرِكَتُهُ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ فَإِقْرَارُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِوَدِيعَةٍ بِعَيْنِهَا لَا يَكُونُ صَحِيحًا فِي إبْطَالِ مَا كَانَ بِفَرْضِ الثُّبُوتِ فَهُوَ كَالثَّابِتِ لِتَقَرُّرِ سَبَبِهِ وَتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِالْمَالِ عِنْدَ الْمَوْتِ لِخَرَابِ الذِّمَّةِ وَسَبَبُ الْمَوْتِ هُوَ الْمَرَضُ فَيَسْتَنِدُ حُكْمُ الْخَرَابِ إلَى أَوَّلِ الْمَرَضِ وَيَصِيرُ كَأَنَّ الدَّيْنَ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِهَذِهِ الْعَيْنِ حِينَ أَقَرَّ بِأَنَّهُ وَدِيعَةٌ فَلَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ فِي إبْطَالِ

حَقِّ الْغَرِيمِ عَنْهُ ، وَإِذَا لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ بِذَلِكَ صَارَ هُوَ مُسْتَهْلِكًا لِلْوَدِيعَةِ بِتَقْدِيمِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ عَلَيْهَا وَالْإِقْرَارُ الْوَدِيعَةِ الْمُسْتَهْلَكَةِ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ فَكَأَنَّهُ أَقَرَّ بِدِينَيْنِ فَيَتَحَاصَّانِ .

وَلَوْ أَقَرَّ الْوَدِيعَةِ أَوَّلًا ، ثُمَّ بِالدَّيْنِ فَالْوَدِيعَةُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَقَرَّ بِهَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ فِيهَا حَقٌّ ثَابِتٌ وَلَا كَانَ يُعْرَضُ الثُّبُوتُ فَصَحَّ إقْرَارُهُ بِالْعَيْنِ مُطْلَقًا وَتَبَيَّنَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِتَرِكَتِهِ ، ثُمَّ إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ شَاغِلًا لِتَرِكَتِهِ لَا لِمَا لَمْ يَكُنْ مِنْ جُمْلَةِ مِلْكِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا وَهَبَ عَيْنًا وَسَلَّمَ ، ثُمَّ أَقَرَّ بِالدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ ، وَإِنْ نَفَّذَهَا فِي مَرَضِهِ صَارَ كَالْمُضَافِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ حَتَّى تُعْتَبَرَ مِنْ ثُلُثِهِ وَلَا يَتَبَيَّنُ بِالْهِبَةِ أَنَّ الْمَوْهُوبَ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لَهُ ، فَيَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغَرِيمِ الْمُقَرِّ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَانَ هُوَ أَوْلَى مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ .
فَأَمَّا إقْرَارُهُ الْوَدِيعَةِ لَمْ يَصِرْ كَالْمُضَافِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ بَلْ ثَبَتَ بِنَفْسِهِ كَمَا أَقَرَّ بِهِ وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذِهِ الْعَيْنَ لَمْ تَكُنْ مِلْكًا لَهُ فَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ حَقُّ الْمُقَرِّ لَهُ بِالْعَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ فِيهِ .

وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فِي الصِّحَّةِ وَأَقَرَّ فِي مَرَضِهِ بِدَيْنٍ أَوْ وَدِيعَةٍ كَانَ دَيْنُ الصِّحَّةِ مُقَدَّمًا عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ فِي الْمَرَضِ عِنْدَنَا ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ مَا أَقَرَّ بِهِ فِي الصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ مِنْ الدَّيْنِ فَهُوَ سَوَاءٌ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ جِنْسِ التِّجَارَةِ وَبِسَبَبِ الْمَرَضِ إنَّمَا يَلْحَقُهُ الْحَجْرُ عَنْ التَّبَرُّعِ لَا عَنْ التِّجَارَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ سَائِرَ تَصَرُّفَاتِهِ مِنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ صَحِيحٌ فِي مَرَضِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَصِحُّ فِي صِحَّتِهِ .
وَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إظْهَارٌ لِلْحَقِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ مِنْ أُصُولِ حَوَائِجِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حَاجَتَهُ مُقَدَّمَةٌ فِي مَالِهِ بِخِلَافِ التَّبَرُّعِ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ حَوَائِجِهِ وَلِهَذَا كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ وَالْإِقْرَارُ يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي جَمِيعِ مَالِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْإِقْرَارَ خَبَرٌ مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَإِنَّمَا جُعِلَ حُجَّةً لِيَتَرَجَّحَ جَانِبُ الصِّدْقِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ عَقْلَهُ وَدِينَهُ يَدْعُوَانِهِ إلَى الصِّدْقِ وَيَمْنَعَانِهِ مِنْ الْكَذِبِ .
وَكَذَلِكَ شَفَقَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ تَحْمِلُهُ عَلَى الصِّدْقِ وَتَمْنَعُهُ مِنْ الْكَذِبِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا تَخْتَلِفُ بَيْنَ الصِّحَّةِ وَالْكَذِبِ بَلْ يَزْدَادُ مَعْنَى رُجْحَانِ جَانِبِ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ ، وَلِأَنَّ فِي حَالِ الصِّحَّةِ كَانَ الْأَمْرُ مُوَسَّعًا عَلَيْهِ فَرُبَّمَا يُؤْثِرُ هَوَاهُ عَلَى مَا هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ فَيُقِرُّ بِالْكَذِبِ وَبِالْمَرَضِ يَضِيقُ الْأَمْرُ عَلَيْهِ فِي الْخُرُوجِ عَنْ الْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ فَلَا يُؤْثِرُ هَوَاهُ عَلَى صَرْفِ الْمَالِ عَلَى مَا هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ ، وَهُوَ مَعْنَى مَا قِيلَ إنَّ الْمَرَضَ حَالَ التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ يُصَدَّقُ فِيهِ الْكَاذِبُ وَيَبَرُّ فِيهِ الْفَاجِرُ فَتَنْتَفِي تُهْمَةُ الْكَذِبِ عَنْ إقْرَارِهِ وَيَكُونُ الثَّابِتُ

بِالْإِقْرَارِ فِي هَذِهِ الْحَالِ كَالثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ فَكَانَ مُزَاحِمًا لِغُرَمَاءِ الصِّحَّةِ .
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ أَحَدَ الْإِقْرَارَيْنِ وُجِدَ فِي حَالِ الْإِطْلَاقِ وَالْآخَرَ فِي حَالِ الْحَجْرِ فَيُقَدَّمُ مَا وُجِدَ فِي حَالِ الْإِطْلَاقِ عَلَى مَا وُجِدَ فِي حَالِ الْحَجْرِ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ لِأَنَّ بِسَبَبِ الْمَرَضِ يَلْحَقُهُ الْحَجْرُ لِيَتَعَلَّقَ حَقُّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ بِمَالِهِ حَتَّى لَا يَجُوزَ تَبَرُّعُهُ بِشَيْءٍ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطًا وَبِمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ لِتَعَلُّقِ حَقِّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ ، وَلِأَنَّا نَقُولُ بِأَنَّ الْحَجْرَ يَلْحَقُهُ عَنْ التَّبَرُّعِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ بَلْ ؛ لِأَنَّهُ مُبْطِلٌ حَقَّ الْغُرَمَاءِ عَنْ بَعْضِ مَالِهِ وَكَمَا يُبْطِلُ حَقَّهُمْ عَنْ بَعْضِ مَالِهِ بِالتَّبَرُّعِ فَكَذَلِكَ يُبْطِلُ حَقَّهُمْ بِإِثْبَاتِ الْمُزَاحَمَةِ لِلْمُقَرِّ لَهُ فِي الْمَرَضِ مَعَهُمْ فَكَانَ مَجْحُورًا عَنْ الْإِقْرَارِ لَحَقِّهِمْ بِخِلَافِ سَائِرِ التِّجَارَاتِ فَإِنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا يَتَعَلَّقُ حَقُّهُمْ بِهِ فَإِنَّهُ تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِالْمَالِيَّةِ وَالتِّجَارَةِ لَا سِيَّمَا الْمَالُ فَلَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ شَيْءٍ مِنْ حَقِّهِمْ حَتَّى لَوْ كَانَ الْبَيْعُ بِمُحَابَاةٍ لَمْ تَصِحَّ الْمُحَابَاةُ فِي حَقِّهِمْ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهِمْ عَنْ بَعْضِ الْمَالِيَّةِ ، وَلِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ ، وَإِنْ كَانَ يَتَعَلَّقُ بِالْمَوْتِ بِمَالِهِ يَسْتَنِدُ حُكْمُ التَّعْلِيقِ إلَى أَوَّلِ الْمَرَضِ ؛ لِأَنَّهُ سَبَبُ الْمَوْتِ كَالْبَيْعِ بِشَرْطِ الْخِيَارِ إذَا أَخْبَرَ اسْتَنَدَ حُكْمُ الْمِلْكِ إلَى أَوَّلِ الْبَيْعِ حَتَّى يَسْتَحِقَّ الْمُشْتَرِي الزَّوَائِدَ فَيَتَبَيَّنُ بِهَذَا أَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ الصِّحَّةُ تَعَلَّقَ بِمَالِهِ بِأَوَّلِ الْمَرَضِ وَصَارَ مَالُهُ كَالْمَرْهُونِ فِي حَقِّهِمْ فَبَعْدَ ذَلِكَ إقْرَارُهُ فِي الْمَرَضِ غَيْرُ صَحِيحٍ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى إبْطَالِ حَقِّهِمْ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَ الْمُقِرِّ مَحْمُولٌ عَلَى

الصِّدْقِ فِي حَقِّهِ حَتَّى يَكُونَ حُجَّةً عَلَيْهِ .
فَأَمَّا فِي حَقِّ الْغَيْرِ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَذِبِ لِكَوْنِهِ مُتَّهَمًا فِي حَقِّ الْغَيْرِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ السَّبَبِ الْمُعَايَنِ مِنْ غَصْبٍ أَوْ اسْتِهْلَاكٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا تُمَكَّنُ فِيهِ التُّهْمَةُ فَيَظْهَرُ السَّبَبُ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ كَمَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ الثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ فِي مَرَضِهِ وَقَوْلُهُ بِأَنَّ الْمَرَضَ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِهِ فِي إقْرَارِهِ قُلْنَا هَذَا فِي حَقِّ مَنْ تَرَجَّحَ أَمْرُ دَيْنِهِ عَلَى هَوَاهُ عَلَى أَمْرِ دَيْنِهِ فَهَذِهِ الْحَالُ حَالُ الْمُبَادَرَةِ إلَى مَا كَانَ يُرِيدُهُ وَيَهْوَاهُ مَا كَانَ قَدِمَ بِعَيْنِهِ فِيهَا فَلَمَّا آيِسَ مِنْ نَفْسِهِ آثَرَ مَنْ يَهْوَاهُ عَلَى مَا هُوَ الْمُسْتَحِقُّ بِمَالِهِ ، وَلَيْسَ مُعْتَادًا كَنَدْرِ تَمْيِيزِ إحْدَى الْحَالَيْنِ عَنْ الْأُخْرَى فَجَعَلْنَا الدَّلِيلَ مَعْنًى شَرْعِيًّا ، وَهُوَ إذَا كَانَ مُمْكِنًا مِنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ لِطَرِيقِ الْإِنْسَاءِ لَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي إقْرَارِهِ فَفِي حَالِ الصِّحَّةِ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ لِطَرِيقِ الْإِنْسَاءِ فَلَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي إقْرَارِهِ ، فَأَمَّا إذَا مَرِضَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَهُوَ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ مَا لِإِنْسَاءٍ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ مُقَدَّمٌ عَلَى تَبَرُّعِهِ فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى الْإِقْرَارِ كَاذِبًا لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَلِهَذَا لَا يُصَدِّقُهُ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ .

وَلَوْ اسْتَقْرَضَ فِي مَرَضِهِ مَالًا أَوْ اشْتَرَى شَيْئًا وَعَايَنَ الشُّهُودُ قَبْضَهُ ذَلِكَ فَهَذَا يُحَاصُّ غُرَمَاءَ الصِّحَّةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِيمَا يَثْبُتُ بِمُعَايَنَةِ الشُّهُودِ ، وَلَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ عَنْ شَيْءٍ بَلْ فِيهِ تَحْوِيلُ حَقِّهِمْ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ بِعِدْلِهِ فَظَهَرَ هَذَا السَّبَبُ فِي حَقِّهِمْ ، وَكَانَ صَاحِبُهُ مُزَاحِمًا لَهُمْ فِي الشَّرِكَةِ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ التَّرِكَةُ إلَّا عَيْنَ الْمَالِ الَّذِي أَخَذَهُ قَرْضًا أَوْ بَيْعًا فَهُوَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ بِالْقَبْضِ تَمَّ مِلْكُهُ فَكَانَ مِنْ جُمْلَةِ تَرِكَتِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ جَمِيعِ غُرَمَائِهِ وَالْبَائِعُ إنَّمَا يَكُونُ أَحَقَّ بِالْمَبِيعِ مَا لَمْ يُسَلِّمْ ، فَأَمَّا إذَا سَلَّمَ ، فَقَدْ أَبْطَلَ حَقَّهُ فِي الِاخْتِصَاصِ كَالْمُرْتَهِنِ إذَا رَدَّ الرَّهْنَ كَانَ مُسَاوِيًا لِسَائِرِ الْغُرَمَاءِ فِيهِ وَلَمَّا الْتَحَقَ مَا وَجَبَ بِالسَّبَبِ الْمُعَايِنِ فِي الْمَرَضِ بِالْوَاجِبِ فِي حَالِ الصِّحَّةِ حَتَّى اسْتَوَى بِهِ كَانَ مُقَدَّمًا عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ فِي الْمَرَضِ بِمَنْزِلَةِ دَيْنِ الصِّحَّةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُعَايِنَ أَوْ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ وَالْحُكْمُ يَثْبُتُ بِحَسَبِ السَّبَبِ وَالْحُقُوقُ تَتَرَتَّبُ بِحَسَبِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْكَفَنَ مُقَدَّمٌ عَلَى الدَّيْنِ فِي التَّرِكَةِ لِقُوَّةِ سَبَبِهِ ، ثُمَّ الدَّيْنُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ فَكَذَلِكَ هُنَا ، وَلَوْ قَضَى دَيْنَ هَذَا الَّذِي أَخَذَ مِنْهُ فِي الْمَرَضِ كَانَ جَائِزًا ، وَهُوَ لَهُ دُونَ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ ؛ لِأَنَّهُ حَوَّلَ حَقَّ الْغُرَمَاءِ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ بِعِدْلِهِ فَلَيْسَ فِي هَذَا الْقَضَاءِ لَفْظًا إبْطَالُ حَقِّهِمْ عَنْ شَيْءٍ فَكَانَتْ مُبَاشَرَتُهُ فِي الْمَرَضِ وَالصِّحَّةِ سَوَاءٌ أَرَأَيْتَ لَوْ رَدَّ مَا اسْتَقْرَضَ بِعَيْنِهِ أَوْ فَسَخَ الْبَيْعَ وَرَدَّ الْمَبِيعَ بِعَيْبٍ أَكَانَ يَمْتَنِعُ سَلَامَتُهُ لِلْمَرْدُودِ عَلَيْهِ لِحَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ ؟

لَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا رَدَّ بَدَلَهُ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْبَدَلِ حُكْمُ الْمُبَدَّلِ .

وَلَوْ قَضَى بَعْضُ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ دَيْنَهُ ، ثُمَّ مَاتَ لَمْ يُسَلِّمْ الْمَقْبُوضَ الْقَابِضُ بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ بِالْحِصَصِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُسَلِّمُ لَهُ ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ بِسَبَبِ الْمَرَضِ لَا يَلْحَقُهُ الْحَجْرُ عَنْ السَّعْيِ فِي فِكَاكِ رَقَبَتِهِ ، وَقَضَاءُ الدَّيْنِ سَعْيٌ مِنْهُ فِي فِكَاكِ رَقَبَتِهِ فَكَانَ فِعْلُهُ فِي الْمَرَضِ وَالصِّحَّةِ سَوَاءٌ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ نَاظِرٌ لِنَفْسِهِ فِيمَا يَصْنَعُ فَإِنَّهُ قَضَى دَيْنَ مَنْ كَانَ حَاجَتُهُ أَظْهَرَ وَمَنْ يَخَافُ أَنْ لَا يُسَامِحَهُ بِالْإِبْرَاءِ بَعْدَ مَوْتِهِ بَلْ يُخَاصِمُهُ فِي الْآخَرِ وَتَصَرُّفُهُ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ مِنْهُ لِنَفْسِهِ يَكُونُ صَحِيحًا لَا يُرَدُّ وَلَنَا أَنَّ حَقَّ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ تَعَلَّقَ بِمَالِهِ بِالْمَرَضِ فَهُوَ بِقَضَاءِ دَيْنِ بَعْضِهِمْ مُبْطِلٌ حَقَّ سَائِرِ الْغُرَمَاءِ عَمَّا دَفَعَهُ إلَى هَذَا ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ إبْطَالَ حَقِّ الْغُرَمَاءِ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِهِ كَمَا لَوْ وَهَبَ شَيْئًا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَضَاءِ الثَّمَنِ وَبَدَلَ الْقَرْضِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إبْطَالُ حَقِّ الْغُرَمَاءِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الْمَالِيَّةِ كَمَا قَدَّرْنَا .
تَوْضِيحُهُ أَنَّ هَذَا إيثَارٌ مِنْهُ لِبَعْضِ الْغُرَمَاءِ بَعْدَ مَا تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ جَمِيعًا بِمَالِهِ فَهُوَ نَظِيرُ إيثَارِهِ بَعْضَ الْوَرَثَةِ بِالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةُ لَهُ بَعْدَ مَا تَعَلَّقَ حَقُّ الْوَرَثَةِ بِمَالِهِ ، وَذَلِكَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ مُرَاعَاةً لِحَقِّ سَائِرِ الْوَرَثَةِ فَكَذَلِكَ هَذَا .

وَلَوْ قَرَضَ ، وَفِي يَدِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، وَلَيْسَ فِي يَدِهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنُ الصِّحَّةِ فَأَقَرَّ بِدَيْنِ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ أَقَرَّ بِأَنَّ الْأَلْفَ الَّتِي فِي يَدِهِ وَدِيعَةٌ لِفُلَانٍ ، ثُمَّ أَقَرَّ بِدَيْنِ أَلْفُ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ مَاتَ قُسِّمَتْ الْأَلْفُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا لِأَنَّهُ لَمَّا قَدَّمَ الْإِقْرَارَ بِالدَّيْنِ فَإِقْرَارُهُ الْوَدِيعَةِ بَعْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ فَكَأَنَّهُ أَقَرَّ بِثَلَاثَةِ دُيُونٍ فِي مَرَضِهِ فَيُقَسَّمُ مَا فِي يَدِهِ بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ ، وَلَوْ قَالَ صَاحِبُ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ : لَا حَقَّ لِي قِبَلَ الْمَيِّتِ أَوْ قَدْ أَبْرَأْتُهُ مِنْ دَيْنِي كَانَتْ الْأَلْفُ بَيْنَ صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ وَبَيْنَ الْغَرِيمِ الْآخَرِ نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ مُزَاحِمَةَ الثَّالِثِ قَدْ زَالَتْ فَيَتَحَاصَّانِ فِيهِ وَلَا يَبْطُلُ حَقُّ الْغَرِيمِ الْآخَرِ بِمَا قَالَ الْغَرِيمُ الْأَوَّلُ أَمَّا إذَا أَبْرَأَهُ فَظَاهِرٌ لِأَنَّ بِالْإِبْرَاءِ لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّ دَيْنَهُ لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا .
وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ لَا حَقَّ لِي عَلَى الْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُ كَانَ صَحِيحًا مُلْزِمًا مَا لَمْ يَرُدَّهُ الْمُقَرُّ لَهُ ، وَذَلِكَ كَانَ مَانِعًا مِنْ سَلَامَةِ الْعَيْنِ لِلْمُقِرِّ الْوَدِيعَةِ ، وَقَدْ ثَبَتَتْ الْمُزَاحَمَةُ لِلْغَرِيمِ الْآخَرِ مَعَهُ ، فَإِذَا رَدَّ الْمُقَرُّ لَهُ الْأَوَّلُ وَرَدُّهُ عَامِلٌ فِي حَقِّهِ لَا فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغَرِيمِ الْأَوَّلِ فَكَانَ فِي حَقِّهِ وُجُودُ هَذَا الرَّدِّ وَعَدَمُهُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ فَلِهَذَا كَانَتْ الْأَلْفُ بَيْنَ صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ وَالْغَرِيمِ الْآخَرِ نِصْفَيْنِ .

رَجُلٌ قَالَ : لِفُلَانٍ عَلَى أَبِي أَلْفُ دِرْهَمٍ وَجَحَدَ ذَلِكَ وَجَحَدَ الْمُقَرُّ عَلَيْهِ ، ثُمَّ مَرِضَ الْمُقِرُّ وَمَاتَ الْجَاحِدُ وَالْمُقِرُّ وَارِثُهُ ، وَعَلَى الْمُقِرِّ دَيْنٌ فِي الصِّحَّةِ ، ثُمَّ مَاتَ وَتَرَكَ أَلْفًا وَرِثَهَا عَنْ الْجَاحِدِ .
( قَالَ ) غُرَمَاءُ الْمُقِرِّ فِي صِحَّتِهِ أَحَقُّ بِهَذَا الْأَلْفِ مِنْ غُرَمَاءِ الْجَاحِدِ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْإِقْرَارِ مِنْ الْمُقِرِّ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا لِكَوْنِهِ حَاصِلًا عَلَى غَيْرِهِ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْغَيْرِ ، فَإِذَا مَاتَ الْجَاحِدُ وَالْمُقِرُّ وَارِثُهُ الْآنَ صَحَّ إقْرَارُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ تَرِكَتَهُ صَارَتْ مَمْلُوكَةً لِلْمُقِرِّ إرْثًا وَيُجْعَلُ هُوَ كَالْمَحْدُودِ لِإِقْرَارِهِ فِي هَذِهِ الْحَالِ ، وَهُوَ فِي هَذِهِ الْحَالِ مَرِيضٌ لَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يَكُنْ الْمُقَرُّ لَهُ مُزَاحِمًا لِغُرَمَاءِ الصِّحَّةِ ، فَإِذَا أَقَرَّ عَلَى مُوَرِّثِهِ أَوَّلًا أَنْ يَكُونَ الْمُقَرَّ لَهُ مُزَاحِمًا لِغُرَمَاءِ الصِّحَّةِ ، وَلِأَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِهِ عَلَى مُوَرِّثِهِ لَمَّا كَانَ بِاعْتِبَارِ مَا فِي يَدِهِ مِنْ التَّرِكَةِ صَارَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ مِنْهُ بِالْعَيْنِ .
وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ يَصِحُّ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ عَلَى مُوَرِّثِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ جُعِلَ كَالْمُحَدِّدِ لِلْإِقْرَارِ فِي الْحَالِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَقَرَّ عَلَى مُوَرِّثِهِ بِعِتْقِ عَبْدِهِ ، ثُمَّ مَاتَ الْمُوَرِّثُ حَتَّى نَفَذَ إقْرَارُهُ كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ ثُلُثِ مَالِ الْمَرِيضِ وَجُعِلَ كَأَنَّهُ آنِسًا لِلْإِقْرَارِ بِالْعِتْقِ فِي الْحَالِ فَكَذَلِكَ هُنَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُ الْإِقْرَارُ فَلَا يُزَاحِمُ الْمُقَرُّ لَهُ الْغُرَمَاءَ فِي حَالِ الصِّحَّةِ .

وَإِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ بِعَيْنِهَا أَنَّهَا لُقَطَةٌ عِنْدَهُ لَيْسَ لَهُ مَالٌ غَيْرَهَا فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ بِثُلُثِهَا فَيَتَصَدَّقُ بِالثُّلُثِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ لَمْ تُصَدِّقْهُ الْوَرَثَةُ فَهِيَ مِيرَاثٌ كُلُّهَا لَا يَتَصَدَّقُ بِشَيْءٍ مِنْهَا .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ أَقَرَّ بِالْمِلْكِ فِيهَا لِمَجْهُولٍ وَالْإِقْرَارُ لِلْمَجْهُولِ بَاطِلٌ كَمَا لَوْ أَقَرَّ لِوَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ بِعَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ ، وَإِذَا بَطَلَ الْإِقْرَارُ صَارَ كَأَنَّ لَمْ يُوجَدْ تَمَّ إقْرَارُهُ بِأَنَّهَا لُقَطَةٌ لَا يَتَضَمَّنُ الْأَمْرُ بِالتَّصَدُّقِ بِهَا ؛ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ بِاللُّقَطَةِ لَيْسَ بِلَازِمٍ وَلِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يُمْسِكَهَا وَلَا يَتَصَدَّقَ بِهَا ، وَإِنْ طَالَتْ الْمُدَّةُ ، وَإِنَّمَا يُرَخَّصُ لَهُ فِي التَّصَدُّقِ بِهَا أَنْ بَيَّنَّا حِفْظًا عَلَى الْمَالِكِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اتِّصَالُ عَيْنِهَا إلَيْهِ يُوصَلُ ثَوَابُهَا إلَيْهِ بِالتَّصَدُّقِ بِهَا ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ شَرْعًا ( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ حَضَرَ الْمَالِكُ بَعْدَ مَا تَصَدَّقَ بِهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَضْمَنَهُ فَيَثْبُتَ أَنَّ إقْرَارَهُ بِاللُّقَطَةِ لَا يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَ بِالتَّصَدُّقِ بِهَا لَا مَحَالَةَ فَلِهَذَا لَا يَجِبُ عَلَى الْوَرَثَةِ التَّصَدُّقُ بِشَيْءٍ مِنْهَا وَلِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ مِلْكَهُ عَنْ هَذَا الْمَالِ مُسْتَحَقٌّ ، وَالْإِرْثُ عَنْهُ مُنْتَفٍ لِقُرْبَةٍ تَعَلَّقَتْ بِهِ حَقًّا لِلشَّرْعِ فَوَجَبَ تَقْيِيدُ تِلْكَ الْقُرْبَةِ عِنْدَ إقْرَارِهِ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِمَالٍ فِي يَدِهِ أَنَّهُ صَدَقَةٌ لِلْمَسَاكِينِ بِزَكَاةٍ وَاجِبَةٍ عَلَيْهِ أَوْ عُشْرٍ أَوْ نَذْرٍ وَجَبَ تَقَيُّدُهُ مِنْ الثُّلُثِ وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ السَّبِيلَ فِي اللُّقَطَةِ التَّصَدُّقُ بِهَا عِنْدَ تَعَذُّرِ اتِّصَالِهَا إلَى مَالِكِهَا ، وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تَصَدَّقَ بِمَالٍ فِي يَدِهِ لِغَائِبٍ ، ثُمَّ قَالَ هَكَذَا يُصْنَعُ

بِاللُّقَطَةِ وِلَايَةً فِي التَّصَدُّقِ بِهَا فِي الْمُلْتَقَطِ ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِهِ عَمَّا لَزِمَهُ عَنْ عُهْدَةِ الْحِفْظِ وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ مَعْمُولٌ بِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى حَاجَةِ خُرُوجِهِ عَمَّا لَزِمَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ وَلَا طَرِيقَ لَهُ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِالتَّصَدُّقِ بِهَا فَصَارَ إقْرَارُهُ كَالْأَمْرِ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يَتَصَدَّقُوا بِهِ دَلَالَةً وَمَا يَثْبُتُ بِدَلَالَةِ النَّصِّ فَهُوَ كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِمْ أَوْ يَتَصَدَّقُوا بِهِ مِنْ ثُلُثِهِ يُقَرِّرُهُ أَنَّهُمْ لَوْ صَدَّقُوهُ فِي ذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَصَدَّقُوا بِهَا ، وَفِي مِقْدَارِ الثُّلُثِ الْمَرِيضُ مُسْتَغْنٍ عَنْ تَصْدِيقِ الْوَرَثَةِ فِيمَا هُوَ مُوجِبٌ تَصَرُّفَهُ ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَ تَصْدِيقِهِمْ يَجِبُ التَّصَدُّقُ بِهِ بِحُكْمِ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ تَصْدِيقِهِمْ يَجِبُ التَّصْدِيقُ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ .

وَإِذَا تَزَوَّجَ الْمَرِيضُ امْرَأَةً عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَهِيَ مَهْرُ مِثْلِهَا كَانَتْ الْمَرْأَةُ اسْتَوَتْ لِغُرَمَاءِ الصِّحَّةِ فِي مَهْرِهَا ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ دَيْنِهَا بِسَبَبٍ لَا تُهْمَةَ فِيهِ ، وَهُوَ النِّكَاحُ ، ثُمَّ هَذَا السَّبَبُ مِنْ حَوَائِجِ الْمَرِيضِ ؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ فِي الْأَصْلِ عَقْدُ مَصْلَحَةٍ مَشْرُوعٌ لِلْحَاجَةِ وَبِمَرَضِهِ تَزْدَادُ حَاجَتُهُ إلَى مَا يَتَعَاهَدُهُ ، وَهُوَ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَنْ الْتِزَامِ الدَّيْنِ بِمُبَاشَرَةِ مَا هُوَ مِنْ حَوَائِجِهِ كَاسْتِئْجَارِ الْأَطِبَّاءِ وَشِرَاءِ الْأَدْوِيَةِ ، ثُمَّ مَهْرُ الْمِثْلِ لَا يَجِبُ بِالتَّسْمِيَةِ بَلْ إنَّمَا يَجِبُ شَرْعًا بِصِحَّةِ النِّكَاحِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ بِدُونِ التَّسْمِيَةِ يَجِبُ فَلَا يَكُونُ الْمَرِيضُ بِالتَّسْمِيَةِ قَاصِدًا إلَى إبْطَالِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ عَنْ شَيْءٍ مِمَّا يَتَعَلَّقُ حَقُّهُمْ بِهِ فَلِهَذَا صَحَّ مِنْهُ ، وَكَانَتْ مُزَاحِمَةُ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ مُقَدَّمَةً عَلَى مَا أَقَرَّ مَا بِهِ فِي مَرَضِهِ مِنْ دَيْنٍ أَوْ وَدِيعَةٍ لِقُوَّةِ سَبَبِ حَقِّهَا ، وَلَوْ أَوْفَاهَا الْمَهْرَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فِي الصِّحَّةِ لَمْ يُسَلِّمْ لَهَا مَا قَبَضَتْ ؛ لِأَنَّهُ خَصَّهَا بِقَضَاءِ دَيْنِهَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَرِيضَ لَا يَمْلِكُ تَخْصِيصَ بَعْضِ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَهْرَ بِمُقَابَلَةِ الْبُضْعِ وَالْبُضْعُ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ فَكَانَ هَذَا فِي حَقِّ الْغُرَمَاءِ إبْطَالًا لَحَقِّهِمْ بِإِيثَارِهَا بِقَضَاءِ دَيْنِهَا بِخِلَافِ بَدَلِ الْمُسْتَقِرِّ أَوْ الْمُسْتَقْرَضِ ؛ لِأَنَّ مَا وَصَلَ إلَيْهِ بِمُقَابَلَةِ مَالٍ يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْغُرَمَاءِ فَلَمْ يَكُنْ فِي تَصَرُّفِهِ إبْطَالُ حَقِّهِ عَنْ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ فَلِهَذَا كَانَ صَحِيحًا ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

( بَابُ الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَرِيضِ ) ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ بِدَيْنٍ أَوْ عَيْنٍ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ فَكَانَ قَدْرُ الثُّلُثِ فِي حَقِّ الْوَارِثِ بِمَنْزِلَةِ مَا زَادَ عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ إقْرَارَهُ بِالْوَارِثِ صَحِيحٌ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ لِلْوَارِثِ ) ؛ لِأَنَّ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْإِقْرَارَيْنِ إصْرَارٌ بِالْوَارِثِ الْمَعْرُوفِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ } وَلَا الْإِقْرَارُ بِالدَّيْنِ إلَّا أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ سَائِرَةٌ غَيْرُ مَشْهُورَةٍ ، وَإِنَّمَا الْمَشْهُورُ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِمَا رَوَيْنَا ، وَقَوْلُ الْوَاحِدِ مِنْ فُقَهَاءِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عِنْدَنَا مُقَدَّمٌ عَلَى الْقِيَاسِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ آثَرَ بَعْضَ وَرَثَتِهِ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ كَمَا لَوْ أَوْصَى لَهُ بِشَيْءٍ ، وَهَذَا لِأَنَّ مَحَلَّ الْوَصِيَّةِ هُوَ الثُّلُثُ فَإِنَّهُ خَالِصُ حَقِّ الْمَيِّتِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ فِي آخِرِ أَعْمَارِكُمْ زِيَادَةً عَلَى أَعْمَالِكُمْ } ثُمَّ لَمْ يُجِزْ وَصِيَّتَهُ بِهِ لِلْوَارِثِ مَعَ أَنَّهُ خَالِصُ حَقِّهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ مَحْجُورٌ عَنْ اتِّصَالِ الْمَنْفَعَةِ إلَى الْوَارِثِ وَإِقْرَارُ الْمَحْجُورِ لَا يَصِحُّ كَإِقْرَارِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ إلَّا أَنَّ هَذَا الْحَجْرَ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ ، فَإِذَا صَدَّقُوهُ نَفَذَ كَمَا إذَا أَجَازُوا وَصِيَّتَهُ تَوْضِيحُهُ أَنَّ جَمِيعَ الْمَالِ مَحَلُّ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ كَمَا أَنَّ الثُّلُثَ مَحَلُّ الْوَصِيَّةِ ، ثُمَّ لَمْ يَجُزْ تَصَرُّفُهُ مَعَ الْوَارِثِ بِالْوَصِيَّةِ فِي مَحَلِّهَا .
وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ مَعَ الْوَارِثِ بِالْإِقْرَارِ فِي مَالِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ حَقَّ

الْوَرَثَةِ قَدْ تَعَلَّقَ بِمَا لَهُ بِمَرَضِهِ فَيَكُونُ إقْرَارُهُ لِبَعْضِهِمْ إيثَارًا مِنْهُ لِلْمُقَرِّ لَهُ بَعْدَ مَا تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ جَمِيعًا بِهِ فَلَا يَصِحُّ وَيُجْعَلُ إقْرَارُهُ مَحْمُولًا عَلَى الْكَذِبِ فِي حَقِّهِمْ ، وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ وَإِنْ كَانَ إخْبَارًا فِي الْحَقِيقَةِ ، فَقَدْ جُعِلَ كَالْإِيجَابِ مِنْ وَجْهٍ حَتَّى أَنَّ مَنْ أَقَرَّ لِإِنْسَانٍ بِجَارِيَةٍ لَا يَسْتَحْقِقُ أَوْلَادَهَا ، فَإِذَا كَانَ كَالْإِيجَابِ مِنْ وَجْهٍ فَهُوَ إيجَابُ مَالٍ لَا يُقَابِلُهُ مَالٌ وَالْمَرِيضُ مَمْنُوعٌ عَنْ مَيْلِهِ مَعَ الْوَارِثِ أَصْلًا فَرَجَّحْنَا هَذَا الْجَانِبَ فِي حَقِّ الْوَارِثِ وَرَجَّحْنَا جَانِبَ الْإِقْرَارِ فِي حَقِّ الْأَجْنَبِيِّ وَصَحَّحْنَاهُ فِي جَمِيعِ الْمَالِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْبَابِ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّ صِحَّةَ إقْرَارِهِ لِلْأَجْنَبِيِّ بِاعْتِبَارِ وَصِيَّتِهِ لَهُ ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْوَارِثِ ، فَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِالْوَارِثِ فَلَمْ يُلَاقِ مَحِلًّا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقُّ الْوَرَثَةِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَرَثَةِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَالِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّكَ إنْ تَدَعْ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءً خَيْرٌ لَكَ مِنْ أَنْ تَدَعْهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ } ، وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالسَّبَبِ مِنْ حَوَائِجِ الْمَيِّتِ كَيْ لَا يَضِيعَ مَاؤُهُ فَكَانَ مُقَدَّمًا عَلَى حَقِّ وَرَثَتِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْحَجْرَ بِسَبَبِ الْمَرَضِ ، وَكَمَا لَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَرِيضِ بِالدَّيْنِ لِوَارِثِهِ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنِهِ مِنْ وَارِثِهِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ، فَقَالَ الْوَارِثُ لَمَّا عَامَلَهُ فِي الصِّحَّةِ ، فَقَدْ اسْتَحَقَّ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ عِنْدَ إقْرَارِهِ بِاسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ الِاسْتِحْقَاقُ بِمَرَضِهِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ كَانَ دَيْنُهُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ فَأَقَرَّ بِاسْتِيفَائِهِ فِي مَرَضِهِ كَانَ صَحِيحًا فِي حَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ ، وَإِنْ كَانَ إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ لَا يَصِحُّ فِي حَقِّ غُرَمَاءِ

الصِّحَّةِ .
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ إقْرَارَهُ بِالِاسْتِيفَاءِ فِي الْحَاصِلِ إقْرَارٌ بِالدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ الدُّيُونَ يُقْضَى بِأَمْثَالِهَا فَيَجِبُ لِلْمَدْيُونِ عَلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ عِنْدَ الْقَبْضِ مِثْلُ مَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ ، ثُمَّ يَصِيرُ قِصَاصًا بِدَيْنِهِ فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ لِلْوَارِثِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْهُ ، وَهَذَا بِخِلَافِ إقْرَارِهِ بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ هُنَاكَ لِحَقِّ غُرَمَاءِ الصِّحَّةِ وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ عِنْدَ الْمَرَضِ لَا يَتَعَلَّقُ بِالدَّيْنِ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِمَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ دُيُونِهِ مِنْهُ وَالدَّيْنُ لَيْسَ بِمَالٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَلَا يُمْكِنُ اسْتِيفَاءُ دُيُونِهِ مِنْهُ فَإِقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ لَمْ يُصَادِفْ مَحِلًّا يَتَعَلَّقُ حَقُّهُمْ بِهِ ، فَأَمَّا حَقُّ الْوَرَثَةِ يَتَعَلَّقُ بِالْعَيْنِ وَالدَّيْنِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْوَرَثَةَ خِلَافَةٌ وَالْمَنْعُ مِنْ الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ إنَّمَا كَانَ لِحَقِّ الْوَرَثَةِ وَإِقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ فِي هَذَا كَالْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ ؛ لِأَنَّهُ يُصَادِفُ مَحِلًّا هُوَ مَشْغُولٌ بِحَقِّ الْوَرَثَةِ .

وَإِذَا أَقَرَّ الْمَرِيضُ لِوَارِثِهِ بِدَيْنٍ فَلَمْ يَمُتْ الْمَرِيضُ حَتَّى صَارَ الْوَارِثُ غَيْرَهُ بِأَنْ كَانَ أَقَرَّ لِأَخِيهِ فَوُلِدَ لَهُ ابْنٌ أَوْ كَانَ ابْنُهُ كَافِرًا أَوْ رَقِيقًا فَأَسْلَمَ أَوْ عَتَقَ وَصَارَ هُوَ الْوَارِثَ دُونَ الْأَخِ جَازَ إقْرَارُهُ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ كَوْنُهُ وَارِثَهُ وَالْوِرَاثَةُ إنَّمَا تَثْبُتُ عِنْدَ الْمُوَرِّثِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ وَرَثَتِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ كَانَ هُوَ وَالْأَجَانِبُ سَوَاءً .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ تَبَرَّعَ عَلَيْهِ بِهِبَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ جَازَ مِنْ ثُلُثِهِ ، وَلِأَنَّ الْإِقْرَارَ مِنْ الْمُقِرِّ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِ حَتَّى إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ سِوَى الْمُقَرُّ لَهُ جَازَ الْإِقْرَارُ ، وَكَانَ هُوَ مُؤَاخَذًا بِمَا أَقَرَّ بِهِ مَا لَمْ يَمُتْ لِأَنَّ بُطْلَانَ إقْرَارِهِ بِمَرَضِ الْمَوْتِ وَلَا يَدْرِي أَيَمُوتُ فِي هَذَا الْمَرَضِ أَوْ يَبْرَأُ فَعَرَفْنَا أَنَّ إقْرَارَهُ لِلْحَالِ صَحِيحٌ إنَّمَا يَبْطُلُ عِنْدَ مَوْتِهِ بِاعْتِبَارِ صِفَةِ الْوِرَاثَةِ فِي الْمُقَرِّ لَهُ ، فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ نَفْيٌ صَحِيحٌ وَجُعِلَ خُرُوجُ الْمُقَرِّ لَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَمْ يُقِرَّ فِي مَرَضِهِ .

وَإِنْ كَانَ أَقَرَّ لَهُ ، وَهُوَ غَيْرُ وَارِثٍ ، ثُمَّ صَارَ وَارِثًا يَوْمَ مَوْتِهِ بِأَنْ أَقَرَّ لِأَخِيهِ وَلَهُ ابْنٌ ، ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ قَبْلَهُ حَتَّى صَارَ الْأَخُ وَارِثًا بَطَلَ إقْرَارُهُ لَهُ عِنْدَنَا ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : إقْرَارُهُ لَهُ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ الْحَقَّ بِنَفْسِهِ فَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى حَالِ الْإِقْرَارِ ، وَقَدْ حَصَلَ لِمَنْ لَيْسَ بِوَارِثٍ فَلَا يَبْطُلُ بِصَيْرُورَتِهِ وَارِثًا بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا لَوْ أَقَرَّ لَهُ فِي صِحَّتِهِ ، ثُمَّ مَرِضَ وَكَمَا لَوْ أَقَرَّ لِأَجْنَبِيَّةٍ ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَبِهَذَا فَارَقَ الْهِبَةَ وَالْوَصِيَّةَ لِأَنَّهَا مُضَافَةٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ وَهَبَ لِأَجْنَبِيَّةٍ ، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا ، ثُمَّ مَاتَ لَمْ تَصِحَّ الْهِبَةُ وَنُظِرَ فِيهِ إلَى وَقْتِ الْمَوْتِ لَا إلَى وَقْتِ الْهِبَةِ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ فَكَذَلِكَ هُنَا وَلَنَا أَنَّهُ وَرِثَ بِسَبَبٍ كَانَ يَثْبُتُ قَائِمًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ فَيَتَبَيَّنُ أَنَّ إقْرَارَهُ حَصَلَ لِوِرَاثَةِ ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحُكْمَ مُضَافٌ إلَى سَبَبِهِ ، فَإِذَا كَانَ السَّبَبُ قَائِمًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ تَثْبُتُ صِفَةُ الْوَارِثَةِ لِلْمُقَرِّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيَّةِ إذَا تَزَوَّجَهَا ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ وَارِثَةً بِسَبَبٍ حَادِثٍ بَعْدَ الْإِقْرَارِ ، وَالْحُكْمُ لَا يَسْبِقُ سَبَبَهُ فَلَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْإِقْرَارَ حِينَ حَصَلَ كَانَ لِلْوَارِثِ وَبِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ فِي الصِّحَّةِ ، ثُمَّ حَصَلَ لَهُ مَرَضٌ حَادِثٌ بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَالْحَجْرُ بِسَبَبِهِ لَا يَسْتَنِدُ إلَى وَقْتِ الْإِقْرَارِ ، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِقْرَارِ وَالْوَصِيَّةِ أَوْ الْهِبَةِ فِي حَقِّ مَنْ صَارَ وَارِثًا بِسَبَبٍ حَادِثٍ مِنْ مُوَالَاتِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ أَنَّ الْإِقْرَارَ مُلْزِمٌ بِنَفْسِهِ وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُقَرَّ بِهِ لَيْسَ مِنْ تَرِكَتِهِ فَالْوِرَاثَةُ الثَّابِتَةُ بِسَبَبٍ حَادِثٍ بَعْدَهُ لَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِيهِ .
فَأَمَّا الْهِبَةُ وَالْوَصِيَّةُ كَالْمُضَافِ إلَى مَا

بَعْدَ الْمَوْتِ ، فَإِذَا صَارَ مِنْ وَرَثَتِهِ بِسَبَبٍ حَادِثٍ كَانَ الْمَانِعُ قَائِمًا وَقْتَ لُزُومِهِ فَلِهَذَا لَا يَصِحُّ ، وَهُوَ نَظِيرُ إقْرَارِ الْمَرِيضِ الْوَدِيعَةِ مَعَ الْهِبَةِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْبَابِ الْمُتَقَدِّمِ .

وَإِنْ كَانَ يَوْمٌ أَقَرَّ لَهُ وَارِثُهُ بِمُوَالَاتِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ وَيَوْمٌ مَاتَ وَارِثُهُ ، وَقَدْ خَرَجَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَارِثُهُ يُثْبِتُونَهُ أَوْ فَسَخَ الْمُوَالَاةَ فَالْإِقْرَارُ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهُوَ دَائِرٌ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّهُ إنَّمَا وَرِثَ بِسَبَبٍ حَادِثٍ بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَلَا يُؤَثِّرُ ذَلِكَ فِي إبْطَالِ الْإِقْرَارِ كَمَا فِي الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ ، وَهَذَا لِأَنَّ عَقْدَ الْأَوَّلِ قَدْ ارْتَفَعَ ، وَلَمْ يَرِثْ بِهِ فَكَانَ وُجُودُهُ عِنْدَ الْإِقْرَارِ كَعَدَمِهِ وَالْعَقْدُ الثَّانِي مُتَجَدِّدٌ ، وَهُوَ غَيْرُ الْأَوَّلِ وَلَا أَثَرَ لَهُ فِي إبْطَالِ الْإِقْرَارِ ، وَهُوَ قِيَاسُ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ فِي مَرَضِهِ ، ثُمَّ صَحَّ ، ثُمَّ مَرِضَ وَمَاتَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : الْإِقْرَارُ حَصَلَ لِلْوَارِثِ وَتَثْبُتُ لَهُ هَذِهِ الصِّفَةُ عِنْدَ الْمَوْتِ ، وَكَانَ الْإِقْرَارُ بَاطِلًا كَمَا لَوْ وَرِثَ بِأُخُوَّةٍ كَانَتْ قَائِمَةً وَقْتَ الْإِقْرَارِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْإِقْرَارَ إنَّمَا لَا يَصِحُّ لَيُمَكِّنَ تُهْمَةَ الْإِيثَارِ ، فَإِذَا كَانَ سَبَبُ الْوِرَاثَةِ مُوجَدًا وَقْتَ الْإِقْرَارِ كَانَتْ هَذِهِ التُّهْمَةُ مُتَمَكِّنَةً وَالْعَقْدُ الْمُتَجَدِّدُ قَامَ مَقَامَ الْعَقْدِ الْأَوَّلِ فِي تَقَرُّرِ صِفَةِ الْوِرَاثَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الْأَوَّلَ قَائِمٌ لَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا انْعَدَمَتْ صِفَةُ الْوِرَاثَةِ عِنْدَ الْإِقْرَارِ ؛ لِأَنَّ تُهْمَةَ الْوِرَاثَةِ غَيْرُ مُتَقَرِّرَةٍ ثَمَّةَ فَصَحَّ الْإِقْرَارُ مُطْلَقًا .

وَلَوْ أَقَرَّ لِوَارِثِهِ أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ ، ثُمَّ مَاتَ الْمُقَرُّ لَهُ ، ثُمَّ مَاتَ الْمَرِيضُ وَوَارِثُ الْمُقَرِّ لَهُ مِنْ وَرَثَةِ الْمَرِيضِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ الْإِقْرَارُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْإِقْرَارَ حَصَلَ ، وَسَبَبُ الْوِرَاثَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُقَرِّ لَهُ قَائِمٌ وَحُكْمُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ فَإِنَّمَا يَتِمُّ لِمَنْ هُوَ وَارِثُهُ فَلَمْ يَجُزْ الْإِقْرَارُ لِتَمَكُّنِ تُهْمَةَ الْإِيثَارِ وَوَارِثُ الْمُقَرِّ لَهُ حَلَفَ عَنْهُ قَائِمٌ فِيمَا هُوَ حُكْمُ الْإِقْرَارِ ، فَإِذَا كَانَ هُوَ وَارِثًا لِلْمُقِرِّ جُعِلَ بَقَاؤُهُ عِنْدَ مَوْتِ الْمُقِرِّ كَبَقَاءِ الْمُقَرِّ لَهُ بِنَفْسِهِ .
وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ حَيَاةَ الْوَارِثِ عِنْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ شَرْطٌ لِيَتَحَقَّقَ لَهُ صِفَةُ الْوِرَاثَةِ وَهُنَا الْمُقَرُّ لَهُ لَمَّا مَاتَ قَبْلَهُ ، فَقَدْ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْإِقْرَارَ حَصَلَ لِغَيْرِ الْوَارِثِ فَيَكُونُ صَحِيحًا وَوَارِثُ الْمُقَرِّ لَهُ لَيْسَ بِمِلْكِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُقِرِّ إنَّمَا يَمْلِكُهُ بِسَبَبِ الْوِرَاثَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُقِرِّ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُبْطِلٍ لِلْإِقْرَارِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِعَيْنٍ لِأَجْنَبِيٍّ فَبَاعَهُ الْأَجْنَبِيُّ مِنْ وَارِثِ الْمُقِرِّ أَوْ وَهَبَهُ لَهُ أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ كَانَ الْإِقْرَارُ صَحِيحًا فَكَذَلِكَ هُنَا .
وَكَذَلِكَ إقْرَارُ الْمَرِيضِ بِعَبْدٍ فِي يَدَيْهِ أَنَّهُ لِأَجْنَبِيٍّ ، فَقَالَ الْأَجْنَبِيُّ بَلْ هُوَ لِفُلَانٍ وَارِثِ الْمَرِيضِ لَمْ يَكُنْ لِي فِيهِ حَقٌّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ إقْرَارُ الْمَرِيضِ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ لَمَّا حَوَّلَهُ إلَى وَارِثِ الْمَرِيضِ صَارَ كَأَنَّ الْمَرِيضَ أَقَرَّ لِوَارِثِهِ ابْتِدَاءً ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا مَلَكَهُ بِسَبَبٍ أَنْسَاهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِلْكٌ آخَرُ يَحْدُثُ لِلْوَارِثِ بِسَبَبٍ مُتَجَدِّدٍ غَيْرِ الْمِلْكِ الْحَاصِلِ بِإِقْرَارِ الْمَرِيضِ ، فَأَمَّا هُنَا إنَّمَا يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ

الْمِلْكُ الثَّابِتُ بِإِقْرَارِ الْمَرِيضِ ؛ لِأَنَّهُ حَوَّلَهُ بِعَيْنِهِ إلَى وَارِثِ الْمَرِيضِ وَنَفَاهُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ يَقُولُ الْإِقْرَارُ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ وَارِثَ الْمَرِيضِ لَمْ يَمْلِكْهُ بِإِقْرَارِ الْمَرِيضِ ، وَإِنَّمَا يَمْلِكْهُ بِإِقْرَارِ الْأَجْنَبِيِّ لَهُ بِالْمِلْكِ وَإِقْرَارُهُ لَهُ بِالْمِلْكِ صَحِيحٌ وَقَوْلُهُ الْآخَرُ أَقْرَبُ إلَى الْقِيَاسِ مِنْ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَخْذًا بِالِاحْتِيَاطِ لِتَمَكُّنِ تُهْمَةِ الْمُوَاضَعَةِ بَيْنَ الْمَرِيضِ وَالْأَجْنَبِيِّ عَلَى أَنْ يُقِرَّ الْمَرِيضُ لَهُ لِيُقِرَّ هُوَ لِوَارِثِهِ فَيَحْصُلَ مَقْصُودُهُ فِي الْإِيثَارِ بِهَذَا الطَّرِيقِ .

وَلَوْ أَقَرَّ الْأَجْنَبِيُّ أَنَّ الْعَبْدَ حُرُّ الْأَصْلِ وَأَنَّ الْمَرِيضَ كَانَ أَعْتَقَهُ فِي صِحَّتِهِ عَتَقَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْقَوْلَيْنِ جَمِيعًا ، أَمَّا عَلَى قَوْلِهِ الْآخَرِ فَغَيْرُ مُشْكِلٍ ، وَعَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ كَذَلِكَ لِأَنَّ إعْتَاقَهُ مِنْ جِهَةِ الْمَرِيضِ هُنَا غَيْرُ مُمْكِنٍ فَإِنَّهُ يَعْقُبُ الْوَلَاءَ ، وَلَيْسَ لِلْمُقَرِّ لَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُجْعَلَ كَالْقَاتِلِ لِإِقْرَارِهِ ، ثُمَّ الْعِتْقُ بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ فَهُنَاكَ يُمْكِنُ تَحْوِيلُ الْمِلْكِ الثَّابِتِ لَهُ بِالْإِقْرَارِ إلَى الْوَارِثِ عَلَى أَنْ يَتَقَدَّمَ عَلَيْهِ فَيَحْصُلَ الْمِلْكُ لَهُ بِإِقْرَارِ الْمَرِيضِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْصُلَ لِلْمُقَرِّ لَهُ الْأَوَّلِ ، وَإِقْرَارُهُ بِالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ بِالْعِتْقِ مِنْ حَيْثُ إنْ يُجْعَلَ كَالْقَابِلِ لِإِقْرَارِ الْمَرِيضِ ، ثُمَّ الْمُسْتَثْنَى لِلْكِتَابَةِ وَالتَّدْبِيرِ مِنْ جِهَتِهِ .

وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُ الْمَرِيضِ لِقَاتِلِهِ بِدَيْنٍ إذَا مَاتَ فِي ذَلِكَ مِنْ جِنَايَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لِلْقَاتِلِ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ فَإِنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ اتِّصَالِ النَّفْعِ إلَيْهِ بِإِنْسَاءِ التَّبَرُّعِ ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ وَالْوَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ لَا تَصِحُّ كَمَا لَا يَصِحُّ لِلْوَارِثِ فَيَكُونُ مُتَّهَمًا فِي إخْرَاجِ الْكَلَامِ مَخْرَجَ الْإِقْرَارِ ، فَإِنْ ( قِيلَ ) الْعَاقِلُ لَا يُؤْثِرُ قَاتِلَهُ عَلَى وَرَثَتِهِ بِالْإِقْرَارِ لَهُ كَاذِبًا فَتَنْتَفِي تُهْمَةُ الْكَذِبِ عَنْ إقْرَارِهِ هُنَا ( قُلْنَا ) قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ فِي إقْرَارِهِ لَا يُعْرَفُ حَقِيقَةً فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيهِ الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ ، وَهُوَ تَمَكُّنُهُ مِنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ بِإِنْسَاءِ التَّبَرُّعِ وَعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ ذَلِكَ ، وَهَذَا لِأَنَّ أَحْوَالَ النَّاسِ مُخْتَلِفَةٌ فِي هَذَا ، فَقَدْ يُؤْثِرُ الشَّخْصُ قَاتِلَهُ لِمَثَلٍ فِي قَلْبِهِ إلَيْهِ أَوْ قَصْدِهِ إلَى مَجَازَاتِ إسَاءَتِهِ بِالْإِحْسَانِ فَتَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى ، وَلَكِنَّ الشَّرْطَ أَنْ يَمُوتَ مِنْ جِنَايَتِهِ لِأَنَّهُ إذَا مَاتَ مِنْ غَيْرِ جِنَايَتِهِ لَمْ يَكُنْ قَابِلًا لَهُ بَلْ يَكُونُ خَارِجًا لَهُ ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْإِقْرَارُ لِلْقَاتِلِ صَحِيحٌ عَلَى قِيَاسِ مَذْهَبِهِ فِي الْإِقْرَارِ لِلْوَارِثِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَوْمَ أَقَرَّ صَاحِبَ فِرَاشٍ جَازَ إقْرَارُهُ ؛ لِأَنَّ الْمَرِيضَ إنَّمَا يُفَارِقُ الصَّحِيحَ بِكَوْنِهِ صَاحِبَ فِرَاشٍ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَلَّ مَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ مَرَضٍ عَادَةً وَلَا يُعْطَى لَهُ حُكْمُ الْمَرِيضِ مَا لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ فِرَاشٍ ، فَإِذَا صَارَ بِجِنَايَتِهِ صَاحِبَ فِرَاشٍ فَهُوَ مَرِيضٌ ، وَإِذَا لَمْ يَصِرْ صَاحِبَ فِرَاشٍ فَهُوَ صَحِيحٌ ، وَالْإِقْرَارُ الصَّحِيحُ جَائِزٌ لِقَاتِلِهِ وَلِوَارِثِهِ كَمَا يَجُوزُ تَبَرُّعُهُ عَلَيْهِ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ مِنْ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ إذَا كَانَ خَطَا بِنَفْسِهِ ثَلَاثَ خُطُوَاتٍ أَوْ أَكْثَرَ فَهُوَ لَيْسَ بِمَرِيضٍ فِي حُكْمِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96