كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
قَالَ ( وَلَوْ تَصَدَّقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِهِ صَدَقَةً مَوْقُوفَةً عَلَى الْمَسَاكِينِ وَجَعَلَا الْوَالِيَ لِذَلِكَ رَجُلًا وَاحِدًا فَسَلَّمَاهَا إلَيْهِ جَمِيعًا جَازَ ) ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الصَّدَقَةِ بِالْقَبْضِ وَالْقَبْضُ مُجْتَمِعٌ فَقَدْ حَصَلَ قَبْضُ الْكُلِّ مِنْ وَاحِدٍ فِي مَحَلِّ عَيْنٍ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْقَبْضُ فِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ أَنَّهُ لَوْ بَاشَرَ ذَلِكَ مَعَ رَجُلٍ فِي النِّصْفِ ، ثُمَّ فِي النِّصْفِ ، ثُمَّ سَلَّمَ الْكُلَّ إلَيْهِ جَازَ ، وَلَوْ بَاشَرَهُ فِي الْكُلِّ ، ثُمَّ سَلَّمَ إلَيْهِ النِّصْفَ لَمْ يَجُزْ ، وَكَذَلِكَ إنْ جَعَلَاهَا جَمِيعًا إلَى رَجُلَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْوَالِيَيْنِ هُنَا كَوَالٍ وَاحِدٍ حَيْثُ جَعَلَهُمَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَالِيًا فِي صَدَقَةٍ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ هُنَاكَ مِنْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَصَدِّقَيْنِ خَصَّ وَاحِدًا مِنْ الْوَالِيَيْنِ فَجَعَلَهُ وَالِيًا فِي صَدَقَتِهِ فَإِنَّمَا يُلَاقِي قَبْضُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جُزْءًا شَائِعًا أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الرَّهْنِ لَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ رَهَنَا عَيْنًا مِنْ رَجُلَيْنِ بِدَيْنٍ لَهُمَا عَلَيْهِمَا جَازَ ، وَلَوْ قَالَ عَلَى أَنَّ نَصِيبَ أَحَدِ الرَّاهِنَيْنِ رَهْنٌ عِنْدَ أَحَدِهِمَا وَنَصِيبُ الْآخَرِ عِنْدَ الْآخَرِ لَمْ يَجُزْ ، وَكَذَلِكَ فِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ .
وَلَوْ وَهَبَا مِنْ رَجُلَيْنِ ، أَوْ تَصَدَّقَا عَلَيْهِمَا جَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَلَوْ قَالَا نَصِيبُ أَحَدِ الْوَاهِبَيْنِ لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ وَنَصِيبُ الْآخَرِ لِلْآخَرِ لَمْ يَجُزْ ، وَكَذَلِكَ فِي الصَّدَقَةِ الْمَوْقُوفَةِ ،
قَالَ ( وَلَوْ تَصَدَّقَا بِهَا عَلَى وَاحِدٍ فَوَكَّلَ الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ رَجُلَيْنِ بِقَبْضِهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقْبِضُ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا خَاصَّةً فَقَبَضَا ذَلِكَ مَعًا جَازَ ، وَإِنْ كَانَ الْقَابِضُ اثْنَيْنِ ) ؛ لِأَنَّهُمَا إنَّمَا قَبَضَاهَا لِوَاحِدٍ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلٌ مِنْ جِهَتِهِ وَقَبْضُ الْوَكِيلِ كَقَبْضِ الْمُوَكِّلِ فَكَانَ الْقَبْضُ مُجْتَمِعًا حُكْمًا .
وَإِنْ كَانَ مُتَفَرِّقًا صُورَةً ( فَإِنْ قِيلَ ) فَفِي الصَّدَقَةِ الْمَوْقُوفَةِ الْوَلِيَّانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقْبِضُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ ، وَإِنْ تَفَرَّقَ الْوَالِي لِاتِّحَادِ جِهَةِ الصَّرْفِ ( قُلْنَا ) لَا كَذَلِكَ بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَالِيَيْنِ عَامِلٌ لِمَنْ جَعَلَهُ وَالِيًا فِي صَدَقَتِهِ ؛ وَلِهَذَا لَوْ لَحِقَهُ عَهْدُهُ فِيمَا قَبَضَ رَجَعَ بِهِ عَلَيْهِ .
فَإِذَا اخْتَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي صَدَقَتِهِ قَيِّمًا عَلَى حِدَتِهِ كَانَ قَبْضُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي جُزْءٍ شَائِعٍ ، وَلَوْ تَصَدَّقَا بِهِ عَلَى رَجُلَيْنِ صَدَقَةً وَاحِدَةً فَوَكَّلَ الْمُتَصَدِّقُ عَلَيْهِمَا رَجُلَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقْبِضُ مَا تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ دُونَ الْآخَرِ فَقَبَضَ الْوَكِيلَانِ جَمِيعًا ، أَوْ أَحَدُهُمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ جَازَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْوَكِيلَيْنِ كَفِعْلِ الْمُوَكِّلَيْنِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَائِبُ وَكِيلِهِ فِي الْقَبْضِ ، وَلَوْ قَبَضَ الْمُوَكِّلَانِ مَعًا ، أَوْ أَحَدُهُمَا قَبْلَ صَاحِبِهِ جَازَ ذَلِكَ لِاتِّحَادِ الصَّدَقَةِ فِي جَانِبِ الْمُتَصَدِّقَيْنِ وَتَمَامِهَا عِنْدَ قَبْضِ الْآخَرِ مِنْهُمَا .
فَكَذَلِكَ الْوَكِيلَانِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُتَصَدِّقُ وَالْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ وَاحِدًا فَقَبَضَ النِّصْفَ ، ثُمَّ النِّصْفَ كَانَ هَذَا وَمَا لَوْ قَبَضَ الْكُلَّ جُمْلَةً سَوَاءٌ ، وَإِنْ قَبَضَا أَحَدَ النَّصِيبَيْنِ كَانَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ مَا لَمْ يَقْبِضَا نَصِيبَ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الصَّدَقَةِ بِتَمَامِ الْقَبْضِ ، وَلَا يَتِمُّ الْقَبْضُ فِي مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَلَمْ تَتِمَّ
بِهِ الصَّدَقَةُ وَكَانَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ كَمَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَإِنْ قَبَضَا نَصِيبَ الْآخَرِ قَبْلَ رُجُوعِ الْأَوَّلِ فِيهِ فَقَدْ تَمَّتْ الصَّدَقَةُ لِتَمَامِ الْقَبْضِ مِنْهُمَا فِي الْكُلِّ ، وَلَا رُجُوعَ فِيهِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ .
وَلَوْ تَصَدَّقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِهِ صَدَقَةً مَوْقُوفَةً عَلَى حِدَةٍ وَوَكَّلَا فِيهَا رَجُلًا وَاحِدًا فَقَبَضَ نَصِيبَهُمَا مُجْتَمِعًا ، أَوْ مُتَفَرِّقًا كَانَتْ الصَّدَقَةُ جَائِزَةً ؛ لِأَنَّهُ حِينَ قَبَضَ الْكُلَّ فَلَا شُيُوعَ فِي الْمَحِلِّ ، وَإِنْ كَانَ قَبَضَ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ مَا لَمْ يَقْبِضْ نَصِيبَ الْآخَرِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ قَبْضَهُ فِي نَصِيبِهِ لَاقَى جُزْءًا شَائِعًا فَلَا تَتِمُّ بِهِ الصَّدَقَةُ .
قَالَ ( فَإِنْ بَاعَهُ وَهُوَ فِي يَدِ الْوَكِيلِ جَازَ بَيْعُهُ ) ؛ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ فِي نَصِيبِهِ لَمْ تَتِمَّ حِينَ لَمْ يَقْبِضْ الْوَكِيلُ نَصِيبَ الْآخَرِ وَكَانَ وُجُودُ الْقَبْضِ فِي نَصِيبِهِ كَعَدَمِهِ ؛ فَلِهَذَا جَازَ بَيْعُهُ ، وَإِنْ مَاتَ فَهُوَ مِيرَاثٌ عَنْهُ فَإِنْ قَبَضَ الْوَكِيلُ نَصِيبَ الْآخَرِ بَعْدَ مَوْتِ الْأَوَّلِ فَقَبْضُهُ بَاطِلٌ وَالصَّدَقَةُ مَرْدُودَةٌ ؛ لِأَنَّ بِمَوْتِ الْأَوَّلِ بَطَلَتْ الصَّدَقَةُ فِي نَصِيبِهِ وَصَارَ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ فَلَوْ جَازَتْ الصَّدَقَةُ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ بِالْقَبْضِ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ ذَلِكَ فِي جُزْءٍ شَائِعٍ ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ .
وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ قَبَضَهُ بِإِذْنِ الثَّانِي ، أَوْ بِغَيْرِ إذْنِ الثَّانِي بِخِلَافِ مَا قَبْلَ مَوْتِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الصَّدَقَةِ فِي نَصِيبِ الْأَوَّلِ مَوْقُوفٌ عَلَى أَنْ تَتِمَّ بِتَمَامِ الْقَبْضِ ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِقَبْضِهِ نَصِيبَ الثَّانِي ؛ فَلِهَذَا تَمَّتْ الصَّدَقَةُ فِي الْكُلِّ .
قَالَ ( دَارٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ تَصَدَّقَ أَحَدُهُمَا بِنَصِيبِهِ مِنْهَا عَلَى رَجُلٍ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ ، أَوْ إلَى وَكِيلِهِ ، ثُمَّ تَصَدَّقَ الْآخَرُ أَيْضًا عَلَيْهِ بِنَصِيبِهِ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ ، أَوْ إلَى وَكِيلِهِ لَمْ يَجُزْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ) ؛ لِأَنَّهُمَا صَدَقَتَانِ مُتَفَرِّقَتَانِ فَإِنَّ تَمَامَ الصَّدَقَةِ بِالْقَبْضِ وَقَبْضُهُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّصِيبَيْنِ لَاقَى جُزْءًا شَائِعًا ، وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ نَصِيبَ الْأَوَّلِ حَتَّى تَصَدَّقَ الْآخَرُ بِنَصِيبِهِ عَلَيْهِ أَيْضًا ، وَقَدْ أَذِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَهُ فِي الْقَبْضِ فَقَبَضَهُمَا جُمْلَةً جَازَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَانِعَ افْتِرَاقُ الْقَبْضِ ، وَقَدْ قَبَضَ الْكُلَّ جُمْلَةً فَكَأَنَّ الصَّدَقَةَ مِنْهُمَا عَلَيْهِ كَانَتْ جُمْلَةً بِعَقْدٍ وَاحِدٍ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَبَضَ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ بِيَدِهِ ، أَوْ بِيَدِ وَكِيلِهِ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ تَمَّ حِينَ قَبَضَ نَصِيبَ الْآخَرِ مِنْهُمَا وَقَبْضُ وَكِيلِهِ لَهُ كَقَبْضِهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ هُنَاكَ حِينَ قَبَضَ نَصِيبَ الْأَوَّلِ مَا كَانَ حُكْمُ الصَّدَقَةِ ثَابِتًا فِي نَصِيبِ الْآخَرِ أَصْلًا فَتَعَيَّنَ جِهَةُ الْبُطْلَانِ فِي نَصِيبِ الْأَوَّلِ فَيَبْطُلُ حُكْمُ قَبْضِهِ فِي نَصِيبِ الثَّانِي بَعْدَ مَا بَطَلَ حُكْمُ الصَّدَقَةِ فِي نَصِيبِ الْأَوَّلِ وَبَطَلَ حُكْمُ قَبْضِهِ فِي نَصِيبِ الثَّانِي لِمُلَاقَاتِهِ جُزْءًا شَائِعًا وَهُنَا حِينَ قَبَضَ نَصِيبَ الْأَوَّلِ كَانَ حُكْمُ الصَّدَقَةِ ثَابِتًا فِي نَصِيبِ الْآخَرِ فَيَتَوَقَّفُ حُكْمُ تَمَامِ الصَّدَقَةِ فِي نَصِيبِ الْأَوَّلِ عَلَى تَمَامِ الْقَبْضِ ، وَقَدْ تَمَّ ذَلِكَ بِقَبْضِ الثَّانِي .
يُوَضِّحُهُ أَنَّ هُنَاكَ حِينَ قَبَضَ نَصِيبَ الْأَوَّلِ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ قَبْضِ نَصِيبِ الثَّانِي فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ حُكْمُ قَبْضِهِ فِيمَا تَمَكَّنَ مِنْهُ خَاصَّةً وَهُوَ جُزْءُ الشَّائِعِ وَهُنَا حِينَ قَبَضَ نَصِيبَ الْأَوَّلِ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ قَبْضِ نَصِيبِ الثَّانِي فَيُجْعَلُ مَا تَفَرَّقَ مِنْ قَبْضِهِ كَالْمُجْتَمِعِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ قَبْضِ الْكُلِّ .
قَالَ ( وَإِذَا كَانَتْ الْأَرْضُ لِرَجُلٍ ، أَوْ رَجُلَيْنِ فَتَصَدَّقَا بِهَا صَدَقَةً مَوْقُوفَةً وَسَلَّمَاهَا إلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ وَجَعَلَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مَوْقُوفًا عَلَى وَلَدِهِ وَوَلَدِ وَلَدِهِ أَبَدًا مَا تَنَاسَلُوا .
فَإِذَا انْقَرَضُوا كَانَتْ غَلَّتُهَا لِلْمَسَاكِينِ وَجَعَلَ الْآخَرُ نَصِيبَهُ وَقْفًا عَلَى إخْوَتِهِ وَأَهْلِ بَيْتِهِ .
فَإِذَا انْقَرَضُوا كَانَتْ غَلَّتُهُ فِي الْحَجِّ يَحُجُّ بِهَا فِي كُلِّ سَنَةٍ ، أَوْ كَانَ الْمُتَصَدِّقُ وَاحِدًا فَجَعَلَ نِصْفَ الْأَرْضِ مُشَاعًا عَلَى الْأَمْرِ الْأَوَّلِ وَنِصْفَهَا عَلَى الْأَمْرِ الْآخَرِ فَذَلِكَ جَائِزٌ ) ؛ لِأَنَّهَا صَدَقَةٌ وَاحِدَةٌ يَقْبِضُهَا وَالٍ وَاحِدٌ فَلَا يَضُرُّهُمْ عَلَى أَيِّ الْوُجُوهِ فَرَّقُوا غَلَّتَهَا وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ تَمَامَ الصَّدَقَةِ بِالْقَبْضِ .
وَإِذَا كَانَ الْوَالِي وَاحِدًا فَهُوَ يَقْبِضُ الْكُلَّ جُمْلَةً فَتَتِمُّ الصَّدَقَةُ بِالْكُلِّ بِقَبْضِهِ ، ثُمَّ بِتَفَرُّقِ جِهَاتِ الصَّدَقَةِ لَا تَتَفَرَّقُ الصَّدَقَةُ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُتَصَدِّقَ لَوْ كَانَ وَاحِدًا وَفَرَّقَ الْغَلَّةَ سِهَامًا بَعْضُهَا فِي الْحَجِّ وَبَعْضُهَا فِي الْغَزْوِ وَبَعْضُهَا فِي أَهْلِ بَيْتِهِ وَبَعْضُهَا فِي الْمَسَاكِينِ كَانَ ذَلِكَ صَدَقَةً جَائِزَةً .
فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْمُتَصَدِّقُ اثْنَيْنِ وَعَيَّنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِنَصِيبِهِ مَصْرِفًا ، وَهَذَا كُلُّهُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ .
فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ الصَّدَقَةُ الْمَوْقُوفَةُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّهُ يُجَوِّزُهَا غَيْرَ مَقْبُوضَةٍ .
فَكَذَلِكَ غَيْرَ مَقْسُومَةٍ ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ يُوَسِّعُ فِي أَمْرِ الصَّدَقَةِ الْمَوْقُوفَةِ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ غَايَةَ التَّوَسُّعِ .
وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ ضَيَّقَ فِيهَا غَايَةَ التَّضْيِيقِ كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَقَالَ لَا تَلْزَمُ فِي الْحَيَاةِ أَصْلًا وَتَوَسَّطَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا أَفْتَى عَامَّةُ الْمَشَايِخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِيهَا بِقَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمِمَّا تَوَسَّعَ فِيهِ أَبُو يُوسُفَ
رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَشْتَرِطُ التَّأْبِيدَ فِيهَا حَتَّى لَوْ وَقَفَهَا عَلَى جِهَةٍ يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُهَا يَصِحُّ عِنْدَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَجْعَلْ آخِرَهَا لِلْمَسَاكِينِ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَشْتَرِطُ التَّأْبِيدَ فِيهَا فَقَالَ إذَا كَانَتْ الْجِهَةُ بِحَيْثُ يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُهَا لَا تَصِحُّ الصَّدَقَةُ إذَا لَمْ يَجْعَلْ آخِرَهَا لِلْمَسَاكِينِ ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ الْوَقْفِ زَوَالُ الْمِلْكِ بِدُونِ التَّمْلِيكِ ، وَذَلِكَ يَتَأَبَّدُ كَالْعِتْقِ .
وَإِذَا كَانَتْ الْجِهَةُ يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُهَا فَلَمْ يَتَوَفَّرْ عَلَى الْعَقْدِ مُوجِبُهُ وَالتَّوْقِيتُ فِي هَذَا الْعَقْدِ كَالتَّوْقِيتِ فِي الْبَيْعِ فَكَانَ مُبْطِلًا وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ الْمَقْصُودُ هُوَ التَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالتَّقَرُّبُ تَارَةً يَكُونُ فِي الصَّرْفِ إلَى جِهَةٍ يُتَوَهَّم انْقِطَاعُهَا وَتَارَةً بِالصَّرْفِ إلَى جِهَةِ لَا يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُهَا لَا تَصِحُّ الصَّدَقَةُ لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِ الْوَاقِفِ ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ جَعَلَ مَصْرِفَ الْغَلَّةِ لِنَفْسِهِ مَا دَامَ حَيًّا فَذَلِكَ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ أَيْضًا اعْتِبَارًا لِلِابْتِدَاءِ بِالِانْتِهَاءِ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى جِهَةٍ يُتَوَهَّمُ انْقِطَاعُهَا .
وَإِذَا انْقَطَعَتْ عَادَتْ الْغَلَّةُ إلَيْهِ فِي الِانْتِهَاءِ فَكَمَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي الِانْتِهَاءِ .
فَكَذَلِكَ فِي الِابْتِدَاءِ لِجَوَازِ أَنْ يُقَدِّمَ نَفْسَهُ عَلَى غَيْرِهِ فِي الْغَلَّةِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّقَرُّبِ لَا يَنْعَدِمُ بِهَذَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى نَفْسِهِ صَدَقَةٌ } .
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { ابْدَأْ بِنَفْسِك ، ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ } .
فَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا جَعَلَهُ وَقْفًا عَلَى نَفْسِهِ ، أَوْ جَعَلَ شَيْئًا مِنْ الْغَلَّةِ لِنَفْسِهِ مَا دَامَ حَيًّا فَالْوَقْفُ بَاطِلٌ وَهُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ التَّقَرُّبَ بِإِزَالَةِ الْمِلْكِ وَاشْتِرَاطُ الْغَلَّةِ ، أَوْ بَعْضِهَا لِنَفْسِهِ يَمْنَعُ زَوَالَ مِلْكِهِ فَلَا
يَكُونُ ذَلِكَ صَحِيحًا .
وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ الْغَلَّةَ لِإِمَائِهِ فَهُوَ كَاشْتِرَاطِهِ لِنَفْسِهِ ، وَلَكِنْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ أَنَّهُ إذَا اشْتَرَطَ الْغَلَّةَ لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ فَذَلِكَ جَائِزٌ ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ غَيْرُ مُشْكِلٍ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ مُسْتَحْسَنٌ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ إذَا شَرَطَ فِي الْوَقْفِ أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِهِ أَرْضًا أُخْرَى إذَا شَاءَ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ الْوَقْفُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ لَا يُؤَثِّرُ فِي الْمَنْعِ مِنْ زَوَالِهِ وَالْوَقْفُ يَتِمُّ بِذَلِكَ ، وَلَا يَنْعَدِمُ بِهِ مَعْنَى التَّأْبِيدِ فِي أَصْلِ الْوَقْفِ فَيَتِمُّ الْوَقْفُ بِشُرُوطِهِ وَيَبْقَى الِاسْتِبْدَالُ شَرْطًا فَاسِدًا فَيَكُونُ بَاطِلًا فِي نَفْسِهِ كَالْمَسْجِدِ إذَا شَرَطَ الِاسْتِبْدَالَ بِهِ ، أَوْ شَرَطَ أَنْ يُصَلِّيَ فِيهِ قَوْمٌ دُونَ قَوْمٍ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ وَاِتِّخَاذُ الْمَسْجِدِ صَحِيحٌ فَهَذَا مِثْلُهُ .
قَالَ ( وَلَوْ شَرَطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْوَقْفِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْوَقْفُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ جَائِزٌ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ فِي التَّوَسُّعِ فِي الْوَقْفِ ) .
وَقَالَ هِلَالُ بْنُ يَحْيَى الْوَقْفُ بَاطِلٌ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ .
وَقَالَ يُوسُفُ بْنُ خَالِدٍ السَّمْتِيُّ الْوَقْفُ جَائِزٌ وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ إزَالَةُ مِلْكٍ لَا إلَى مَالِكٍ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْإِعْتَاقِ ، وَاشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِي الْعِتْقِ بَاطِلٌ وَالْعِتْقُ صَحِيحٌ ، وَكَذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ بَاطِلٌ وَاِتِّخَاذُهُ الْمَسْجِدَ صَحِيحٌ .
فَكَذَلِكَ فِي الْوَقْفِ .
وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ إنَّ تَمَامَ الْوَقْفِ يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا وَمَعَ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لَا يَتِمُّ الرِّضَا فَيَكُونُ ذَلِكَ مُبْطِلًا لِلْوَقْفِ بِمَنْزِلَةِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْوَقْفِ ، ثُمَّ تَمَامُ الْوَقْفِ عَلَى مَذْهَبِهِ بِالْقَبْضِ وَشَرْطُ الْخِيَارِ يَمْنَعُ تَمَامَ الْقَبْضِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ لَا يَتِمُّ الْقَبْضُ مَعَ شَرْطِ الْخِيَارِ ، وَبِهِ فَارَقَ الْمَسْجِدَ فَالْقَبْضُ هُنَاكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ إنَّمَا الشَّرْطُ إقَامَةُ الصَّلَاةِ فِيهِ بِالْجَمَاعَةِ ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ مَعَ شَرْطِ الْخِيَارِ ؛ فَلِهَذَا كَانَ مَسْجِدًا ، ثُمَّ شَرْطُهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي اتِّخَاذِ الْمَسْجِدِ فَلَا يَفْسُدُ بِفَسَادِ الشَّرْطِ وَشَرْطُهُ فِي الْوَقْفِ مُرَاعًى وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَائِزِ مِنْ الشَّرْطِ الْفَاسِدِ فَالْفَاسِدُ مِنْ الشُّرُوطِ يُبْطِلُهُ .
وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ الْوَقْتُ يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ وَيَحْتَمِلُ الْفَسْخُ بِبَعْضِ الْأَسْبَابِ وَاشْتِرَاطِ الْخِيَارُ لِلْفَسْخِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ اشْتِرَاطُ الْخِيَارِ فِيهِ ، وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي ذَكَرْنَا لَهُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَسْتَثْنِيَ الْوَاقِفُ الْغَلَّةَ لِنَفْسِهِ مَا دَامَ حَيًّا .
فَكَذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ الْخِيَارَ لِنَفْسِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِتَرَوِّي النَّظَرِ فِيهِ .
قَالَ ( فَإِنْ خَرِبَ مَا حَوْلَ الْمَسْجِدِ وَاسْتَغْنَى النَّاسُ عَنْ الصَّلَاةِ فِيهِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَعُودُ إلَى مِلْكِ الثَّانِي ، وَلَكِنَّهُ مَسْجِدٌ كَمَا كَانَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَعُودُ إلَى مِلْكِ الثَّانِي وَإِلَى مِلْكِ وَارِثِهِ ، وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا ) ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ هَذَا الْجُزْءَ مِنْ مِلْكِهِ مَصْرُوفًا إلَى قُرْبَةٍ بِعَيْنِهَا .
فَإِذَا انْقَطَعَ ذَلِكَ عَادَ إلَى مِلْكِهِ كَالْمُحْصَرِ إذَا بَعَثَ بِالْهَدْيِ ، ثُمَّ زَالَ الْإِحْصَارُ فَأَدْرَكَ الْحَجَّ كَانَ لَهُ أَنْ يَصْنَعَ بِهَدْيِهِ مَا شَاءَهُ .
قَالَ ( وَلَوْ اشْتَرَى حُصُرَ الْمَسْجِدِ ، أَوْ حَشِيشًا فَوَقَعَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَصْنَعَ بِهِ مَا شَاءَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ إذَا تَمَّ زَوَالُ الْعَيْنِ عَنْ مِلْكِهِ وَصَارَ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَعُودُ إلَى مِلْكِهِ بِحَالٍ ) كَمَا لَوْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْقُرْبَةَ الَّتِي قَصَدَهَا لَمْ تَنْعَدِمْ بِخَرَابِ مَا حَوْلَهَا فَإِنَّ النَّاسَ فِي الْمَسَاجِدِ شَرْعًا سَوَاءٌ فَيُصَلِّي فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الْمُسَافِرُونَ وَمَارَّةُ الطَّرِيقِ وَهَكَذَا يَقُولُ فِي الْحَصِيرِ وَالْحَشِيشِ أَنَّهُ لَا يَعُودُ إلَى مِلْكِهِ ، وَلَكِنْ يُصْرَفُ إلَى مَسْجِدٍ آخَرَ بِالْقُرْبِ مِنْ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ وَهَدْيُ الْإِحْصَارِ لَمْ يَزُلْ عَنْ مِلْكِهِ قَبْلَ الذَّبْحِ ، وَاسْتَدَلَّ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِالْكَعْبَةِ فَإِنَّ فِي زَمَانِ الْفَتْرَةِ قَدْ كَانَ حَوْلَ الْكَعْبَةِ عَبَدَةُ الْأَصْنَامِ ، ثُمَّ لَمْ يَخْرُجْ مَوْضِعُ الْكَعْبَةِ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعَ الطَّاعَةِ وَالْقُرْبَةِ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى .
فَكَذَلِكَ سَائِرُ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا يَنْبَنِي هَذَا عَلَى مَا بَيَّنَّا فَإِنَّ أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَشْتَرِطُ فِي الِابْتِدَاءِ إقَامَةَ الصَّلَاةِ فِيهِ لِيَصِيرَ مَسْجِدًا .
فَكَذَلِكَ فِي الِانْتِهَاءِ ، وَإِنْ تَرَكَ النَّاسُ الصَّلَاةَ فِيهِ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَسْجِدًا .
وَمُحَمَّدٌ يَشْتَرِطُ فِي الِابْتِدَاءِ إقَامَةَ الصَّلَاةِ فِيهِ بِالْجَمَاعَةِ لِيَصِيرَ مَسْجِدًا .
فَكَذَلِكَ فِي الِانْتِهَاءِ إذَا تَرَكَ النَّاسُ الصَّلَاةَ فِيهِ بِالْجَمَاعَةِ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَسْجِدًا ، وَحُكِيَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ مَرَّ بِمَزْبَلَةٍ فَقَالَ هَذَا مَسْجِدُ أَبِي يُوسُفَ يُرِيدُ بِهِ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقُلْ بِعَوْدِهِ إلَى مِلْكِ الثَّانِي يَصِيرُ مَزْبَلَةً عِنْدَ تَطَاوُلِ الْمُدَّةِ .
وَمَرَّ أَبُو يُوسُفَ بِإِصْطَبْلٍ فَقَالَ هَذَا مَسْجِدُ مُحَمَّدٍ يَعْنِي أَنَّهُ لَمَّا قَالَ يَعُودُ مِلْكًا فَرُبَّمَا يَجْعَلُهُ الْمَالِكُ إصْطَبْلًا بَعْدَ أَنْ كَانَ مَسْجِدًا
فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتَبْعَدَ مَذْهَبَ صَاحِبِهِ بِمَا أَشَارَ إلَيْهِ .
ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ بَعْضَ صُكُوكِ الْوَقْفِ وَشَرَحَ مَا هُوَ مِنْ رَسْمِ الصُّكُوكِ فِي ذَلِكَ بِذِكْرِهِ فِي كِتَابِ الشُّرُوطِ ، وَإِنَّمَا نَذْكُرُ هُنَا مِنْ ذَلِكَ مَا يَتَّصِلُ بِالْوَقْفِ .
فَمِنْهُ أَنَّهُ ذَكَرَ فِي الْمَصَارِفِ وَعَلَى ذَوِي الْحَاجَةِ مِنْ مَوَالِي فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ وَمَوْلَيَاتِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْأَسْفَلَ ، أَوْ الْأَعْلَى وَتَأْوِيلُ هَذَا إذَا كَانَ فُلَانٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْعَرَبِ لَا وَلَاءَ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ وَلَاءٌ فَالْوَقْفُ بِهَذَا اللَّفْظِ لَا يَصِحُّ مَا لَمْ يُبَيِّنْ الْأَعْلَى ، أَوْ الْأَسْفَلَ عَلَى قِيَاسِ الْوَصِيَّةِ فَإِنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِمَوَالِي فُلَانٍ وَلِفُلَانٍ مَوَالٍ أَعْتَقُوهُ وَأَعْتَقَهُمْ فَإِنَّهُ لَا تَصِحُّ الْوَصِيَّةُ مَا لَمْ يُبَيِّنْ الْأَسْفَلَ ، أَوْ الْأَعْلَى ، مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْوَصَايَا فِي الْجَامِعِ .
فَكَذَلِكَ الْوَقْفُ ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ يَشْتَرِطُ فِيهِ أَنْ يَرْفَعَ الْوَالِي مِنْ غَلَّتِهِ كُلَّ عَامٍ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِأَدَاءِ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِبَذْرِ الْأَرْضِ وَمُؤْنَتِهَا وَأَرْزَاقِ الْوُلَاةِ لَهَا وَوُكَلَائِهَا وَأُجُورِ وُكَلَائِهَا مِمَّنْ يَحْصُدُهَا وَيَدْرُسُهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ نَوَائِبِهَا ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْوَاقِفِ اسْتِدَامَةُ الْوَقْفِ وَأَنْ تَكُونَ الْمَنْفَعَةُ وَاصِلَةٌ إلَى الْجِهَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي كُلِّ وَقْتٍ ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِرَفْعِ هَذِهِ الْمُؤَنِ مِنْ رَأْسِ الْغَلَّةِ .
وَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ يُسْتَحَقُّ بِغَيْرِ الشَّرْطِ عِنْدَنَا إلَّا أَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ جَهْلُ بَعْضِ الْقُضَاةِ فَرُبَّمَا يَذْهَبُ رَأْيُ الْقَاضِي إلَى قِسْمَةِ جَمِيعِ الْغَلَّةِ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ .
وَإِذَا شَرَطَ ذَلِكَ يَقَعُ الْأَمْنُ بِالشَّرْطِ وَالْمَقْصُودُ بِالْكِتَابِ التَّوَثُّقُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُكْتَبَ عَلَى أَحْوَطِ الْوُجُوهِ فَيُتَحَرَّزُ فِيهِ مِنْ طَعْنِ كُلِّ طَاعِنٍ وَجَهْلِ كُلِّ جَاهِلٍ ، وَمِنْ ذَلِكَ قَالَ ، وَإِنْ مَاتَ الْقَيِّمُ فِيهِ فِي حَيَاةِ الْوَاقِفِ فَالْأَمْرُ فِيهِ إلَى الْمُوقِفُ يُقِيمُ فِيهِ مَنْ أَحَبَّ ، وَلَا شَكَّ فِي جَوَازِ
هَذَا الشَّرْطِ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ اشْتِرَاطُ الْوَاقِفِ الرَّأْيَ لِنَفْسِهِ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِالْوَقْفِ فَفِي نَصْبِ الْقَيِّمِ أَوْلَى ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ شَرْطُ الِاسْتِبْدَالِ بِالْوَقْفِ لِمَا فِيهِ مِنْ شَرْطِ إعَادَةِ الْعَيْنِ الْأُولَى إلَى مِلْكِهِ .
وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هُنَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقَيِّمَ نَائِبٌ عَنْ الْوَاقِفِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ لَهُ فِي نَصِيبِهِ لِيَعْمَلَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ جَعَلَ مَنْفَعَتَهُمْ كَمَنْفَعَتِهِ فَاشْتِرَاطُ رَأْيِهِ فِي نَصْبِ قَيِّمٍ آخَرَ بَعْدَ مَوْتِ الْأَوَّلِ يُحَقِّقُ الْمَقْصُودَ بِالْوَقْفِ ، وَلَا يُغَيِّرُهُ قَالَ ( فَإِنْ مَاتَ بَعْدَهُ فَأَوْصَى إلَى غَيْرِهِ فَوَصِيُّهُ بِمَنْزِلَتِهِ ) ؛ لِأَنَّ الْوَاقِفَ نَصَّبَهُ لِيَكُونَ نَاظِرًا لَهُ مُحَصِّلًا لِمَقْصُودِهِ ، وَقَدْ يَعْجِزُ عَنْ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ فَيَكُونُ آذِنًا لَهُ فِي الِاسْتِعَانَةِ بِغَيْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ كَمَا أَنَّ لِلْوَصِيِّ أَنْ يُوصِيَ إلَى غَيْرِهِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَخْفَى عَلَى بَعْضِ الْقُضَاةِ كَمَا خَفِيَ عَلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ فَلَمْ يُجَوِّزُوا لِلْوَصِيِّ أَنْ يُوصِيَ إلَى غَيْرِهِ فَيُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ هَذَا .
قَالَ ( وَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يُوصِ إلَى أَحَدٍ فَالرَّأْيُ فِيهِ إلَى الْقَاضِي ) ؛ لِأَنَّهُ نَصَّبَ نَاظِرًا لِكُلِّ مَنْ عَجَزَ بِنَفْسِهِ عَنْ النَّظَرِ وَالْوَاقِفُ مَيِّتٌ وَمُصْرِفُ الْغَلَّةِ عَاجِزٌ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي الْوَقْفِ لِنَفْسِهِ فَالرَّأْيُ فِي نَصْبِ الْقَيِّمِ إلَى الْقَاضِي ،
قَالَ ( وَلَا يَجْعَلُ الْقَيِّمَ مِنْ الْأَجَانِبِ مَا وَجَدَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ الْمُوقِفِ وَوَلَدِهِ مَنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ ) ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَذْكُرْ هَذَا الشَّرْطَ كَانَ لِلْقَاضِي أَنْ يُنَصِّبَ أَجْنَبِيًّا إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ وَمَقْصُودُ الْوَاقِفِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ وَوَلَدِهِ إمَّا لِيَكُونَ الْوَقْفُ مَنْسُوبًا إلَيْهِ ظَاهِرًا ، أَوْ ؛ لِأَنَّ وَلَدَهُ أَشْفَقُ عَلَى وَقْفِ أَبِيهِ مِنْ غَيْرِهِ وَيُذْكَرُ هَذَا فِي الْكِتَابِ لِيُتَحَرَّزَ الْقَاضِي عَنْ خِلَافِ شَرْطِهِ .
قَالَ ( وَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِيهِمْ مَنْ يَصْلُحُ لَهُ فَجَعَلَهُ إلَى أَجْنَبِيٍّ ، ثُمَّ صَارَ فِيهِمْ مَنْ يَصْلُحُ لِذَلِكَ صَرَفَهُ إلَيْهِ ) ؛ لِأَنَّهُ بِدُونِ الشَّرْطِ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ وَالِانْتِهَاءُ لَا يُعْتَبَرُ بِالِابْتِدَاءِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِدَّةَ تَمْنَعُ ابْتِدَاءَ النِّكَاحِ ، وَلَا تَمْنَعُ الْبَقَاءَ وَالْإِبَاقُ فِي الْمَبِيعِ كَذَلِكَ .
فَإِذَا ذَكَرَ هَذَا فِي كِتَابِهِ وَجَبَ عَلَيَّ الْقَاضِي ، مُرَاعَاةُ شَرْطِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنَّمَا إثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ } وَكَوْنُهُ فِي يَدِ وَلَدِهِ إذَا كَانَ يَصْلُحُ لِذَلِكَ أَنْفَعُ ، وَإِنْ خَافَ أَنْ يُبْطِلَ بَعْضُ الْقُضَاةِ وَقْفَهُ وَنَقْضَهُ فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُتَحَرَّزَ مِنْ ذَلِكَ .
وَفِيهِ طَرِيقَانِ ( أَحَدُهُمَا ) أَنْ يَكْتُبَ فِي صَكِّهِ ، وَإِنْ أَبْطَلَهُ قَاضٍ ، أَوْ غَيْرُهُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوه فَهَذِهِ الْأَرْضُ بِأَصْلِهَا وَجَمِيعِ مَا فِيهَا وَصِيَّةٌ مِنْ مَالِ فُلَانٍ تُبَاعُ فَيُتَصَدَّقُ بِثَمَنِهَا عَلَى مَنْ سَمَّيْنَا فِي كِتَابِنَا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا يُبْطِلُ عِنْدَ خُصُومَةِ وَارِثٍ ، أَوْ غَرِيمٍ لِاتِّصَالِ الْمَنْفَعَةِ إلَيْهِ ، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ بِمَا يَذْكُرُهُ الْمُوقِفُ فَلَا يَشْتَغِلُ أَحَدٌ بِإِبْطَالِهِ وَالْوَصِيَّةُ تَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ فَإِنَّهَا فِي الْأَصْلِ إثْبَاتُ الْخِلَافَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالتَّعْلِيقُ بِالشَّرْطِ يَلِيقُ بِهِ .
( وَالْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّ الْمُوقِفَ بَعْدَ
إتْمَامِ الْوَقْفِ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْمُتَوَلِّي يُخَاصِمُ فِيهِ إلَى قَاضٍ يَرَى إجَازَتَهُ وَيَطْلُبُ مِنْهُ إبْطَالَهُ حَتَّى يَقْضِيَ الْقَاضِي بِإِجَازَتِهِ فَيَنْفُذُ قَضَاؤُهُ ) ؛ لِأَنَّهُ قَضَى عَنْ اجْتِهَادٍ فِي مَجْلِسِهِ ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ بَعْدَ ذَلِكَ إبْطَالُهُ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ إجَازَتُهُ فِي نُسْخَةٍ عَلَى حِدَةٍ وَيُشْهِدَ الشُّهُودَ عَلَى ذَلِكَ وَيَكْتُبَ ذَلِكَ فِي آخِرِ صَكِّ الْوَقْفِ ، وَاَلَّذِي جَرَى الرَّسْمُ بِهِ الْآنَ أَنَّهُمْ يَكْتُبُونَ إقْرَارَ الْوَاقِفِ بِذَلِكَ وَالْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ فَإِقْرَارُهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِي حَقِّ الَّذِي يَرَى إبْطَالَهُ وَرُبَّمَا يَكْتُبُونَ ، وَقَدْ رَفَعَ هَذَا إلَى قَاضٍ مِنْ الْقُضَاةِ .
وَهَذَا كَذِبٌ إنْ لَمْ يَكُنْ رَفَعَ إلَى أَحَدٍ ، وَلَا رُخْصَةَ فِي الْكَذِبِ .
وَالْمَقْصُودُ لَا يَتِمُّ بِهِ أَيْضًا فَرُبَّمَا يَذْهَبُ اجْتِهَادُ قَاضٍ إلَى أَنَّ الْقَضَاءَ وَالْإِجَارَةَ مِنْ الْمَجْهُولِ لَا تُعْتَبَرُ فَإِنَّمَا يَتِمُّ الْمَقْصُودُ بِمَا ذَكَرْنَا .
قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوقَفَ عَلَى تَجْهِيزِ الرَّجُلِ بِالْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَالنَّفَقَاتِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي صَكٍّ ) ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْقُرْبَةِ وَالطَّاعَةِ فَإِنَّهُ جِهَادٌ بِالْمَالِ وَالْجِهَادُ سَنَامُ الدِّينِ وَهَذِهِ جِهَةٌ لَا انْقِطَاعَ لَهَا مَا بَقِيَتْ الدُّنْيَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الْجِهَادُ مَاضٍ مُنْذُ بَعَثَنِي اللَّهُ تَعَالَى إلَى أَنْ يُقَاتِلَ آخِرُ عِصَابَةٍ مِنْ أُمَّتِي الدَّجَّالَ } ؛ فَلِهَذَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَى هَذِهِ الْجِهَةِ .
قَالَ ( وَإِنْ كَانَ فِي الضَّيْعَةِ مَمَالِيكُ وَأَزْوَاجُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ يَعْمَلُونَ فِيهَا فَوَقَفَهَا بِمَنْ فِيهَا مِنْهُمْ وَسَمَّاهُمْ جَازَ ذَلِكَ ) ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ الْغَلَّةُ بِعَمَلِهِمْ يَحْصُلُ وَالْوَقْفُ فَإِنْ كَانَ يَخْتَصُّ بِالْعَقَارِ فَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ فِي الْمَنْقُولِ تَبَعًا لِلْعَقَارِ ، وَعَلَى هَذَا آلَاتُ الْحِرَاثَةِ إذَا ذَكَرَهَا فِي الْوَقْفِ يَثْبُتُ فِيهَا حُكْمُ الْوَقْفِ تَبَعًا وَهُوَ كَالشُّرْبِ وَالطَّرِيقُ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ تَبَعًا .
وَإِنْ كَانَ لَا يَجُوزُ الْبَيْعُ فِيهِ مَقْصُودًا ، ثُمَّ فِي وَقْفِ الْمَنْقُولِ مَقْصُودًا اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ذَكَرَهُ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ .
( وَالْجَوَابُ ) الصَّحِيحُ فِيهِ أَنَّ مَا جَرَى الْعُرْفُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْوَقْفِ فِيهِ مِنْ الْمَنْقُولَاتِ يَجُوزُ بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ ، وَذَلِكَ كَثِيَابِ الْجِنَازَةِ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْقُدُورِ وَالْأَوَانِي فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ وَالْمَصَاحِفِ وَالْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ لِلْجِهَادِ فَإِنَّهُ رُوِيَ أَنَّهُ اجْتَمَعَ فِي خِلَافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثَلَثُمِائَةِ فَرَسٍ مَكْتُوبٌ عَلَى أَفْخَاذِهَا حَبِيسٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهَذَا الْأَصْلُ مَعْرُوفٌ أَنَّ مَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ ، وَلَيْسَ فِي عَيْنِهِ نَصٌّ يُبْطِلُهُ فَهُوَ جَائِزٌ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ جَوَّزْنَا الِاسْتِبْضَاعَ فِيمَا فِيهِ تَعَامُلٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ حَسَنٌ .
}
قَالَ ( وَإِذَا وَقَفَهَا عَلَى أُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ فِي حَالِ وَقْفِهِ وَمَنْ يَحْدُثُ مِنْهُنَّ بَعْدَ ذَلِكَ وَسَمَّى لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ كُلَّ سَنَةٍ شَيْئًا مَعْلُومًا فِي حَيَاةِ فُلَانٍ ، وَبَعْدَ وَفَاتِهِ مَا لَمْ يَتَزَوَّجْنَ فَهُوَ جَائِزٌ ) وَعَلَى هَذَا أَصْلُ أَبِي يُوسُفَ ظَاهِرٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عِنْدَهُ لَوْ شَرَطَ بَعْضَ الْغَلَّةِ لِنَفْسِهِ فِي حَيَاتِهِ جَازَ فَلِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ أَوْلَى ، وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ لَا يُجَوِّزُ أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ وَاشْتِرَاطُهُ لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ فِي حَيَاتِهِ بِمَنْزِلَةِ الِاشْتِرَاطِ لِنَفْسِهِ ، وَلَكِنَّهُ جَوَّزَ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا لِلْعُرْفِ ، وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَصْحِيحِ هَذَا الشَّرْطِ لَهُنَّ ؛ لِأَنَّهُنَّ يُعْتَقْنَ بِمَوْتِهِ وَاشْتِرَاطُهُ لَهُنَّ كَاشْتِرَاطِهِ لِسَائِرِ الْأَجَانِبِ فَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ أَيْضًا تَبَعًا لِمَا بَعْدَ الْوَفَاةِ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ .
وَأَصْلُ الْوَقْفِ إذَا قَالَ فِي حَيَاتِي ، وَبَعْدَ مَمَاتِي مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ ، وَكَذَلِكَ إنْ سَمَّى فِي ذَلِكَ لِمُدَبَّرِيهِ ؛ لِأَنَّهُمْ يُعْتَقُونَ بِمَوْتِهِ كَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ بِخِلَافِ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ ، وَأَبُو يُوسُفَ يُجَوِّزُ ذَلِكَ كُلَّهُ ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ مَا لَمْ يَتَزَوَّجْنَ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِنَّ مَا دُمْنَ فِي بَيْتِهِ مَشْغُولَاتٍ بِخِدْمَةِ أَوْلَادِهِ ، وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ بِالتَّزَوُّجِ ، أَوْ مَقْصُودُهُ مِنْ ذَلِكَ التَّحَرُّزُ عَنْ ضَيَاعِهِنَّ لِعَجْزِهِنَّ عَنْ التَّكَسُّبِ وَيَخْتَصُّ ذَلِكَ بِمَا قَبْلَ التَّزَوُّجِ فَمَنْ تَزَوَّجَتْ مِنْهُنَّ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ عَلَى زَوْجِهَا ؛ فَلِهَذَا قَالَ مَا لَمْ يَتَزَوَّجْنَ .
قَالَ ( فَإِنْ جَعَلَ الرَّأْيَ فِي تَوْزِيعِ الْغَلَّةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ ، أَوْ الْقَرَابَةِ فِي الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ إلَى الْقَيِّمِ جَازَ ذَلِكَ ) ؛ لِأَنَّ رَأْيَ الْقَيِّمِ قَائِمٌ مَقَامَ رَأْيِهِ وَكَانَ لَهُ فِي ذَلِكَ التَّفْضِيلِ عِنْدَ الْوَقْفِ رَأْيًا فَيَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ ذَلِكَ فِي الْقَيِّمِ بَعْدَهُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمَصَارِفَ تَتَفَاوَتُ فِي الْحَاجَةِ بِاخْتِلَافِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَمْكِنَةِ فَمَقْصُودُهُ أَنْ تَكُونَ الْغَلَّةُ مَصْرُوفَةً إلَى الْمُحْتَاجِينَ فِي كُلِّ وَقْتٍ ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِالزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ بِحَسَبِ حَاجَتِهِمْ وَالصَّرْفُ إلَى الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ إذَا اسْتَغْنَى الْبَعْضُ عَنْهُ ؛ فَلِهَذَا جُوِّزَ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ الرَّأْيَ فِي ذَلِكَ إلَى الْقَيِّمِ ، وَإِنْ كَتَبَ لِأُمَّهَاتِ أَوْلَادِهِ وَجَوَارِيهِ اللَّاتِي جُعِلْنَ حَرَائِرَ بَعْدَ مَوْتِهِ كِتَابًا أَنَّهُ تَصَدَّقَ عَلَيْهِنَّ فِي حَيَاتِهِ وَجَعَلَ لَهُنَّ بَعْدَ وَفَاتِهِ سُكْنَى مَنَازِلَ وَسَمَّاهُنَّ وَبَيَّنَ حُدُودَهَا وَمَوَاضِعَهَا تَسْكُنُ كُلُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ مَا يَكْفِيهَا مَا عَاشَتْ وَأَيُّ امْرَأَةٍ مِنْهُنَّ تَزَوَّجَتْ .
أَوْ خَرَجَتْ مُنْتَقِلَةً إلَى غَيْرِ هَذِهِ الْمَنَازِلِ فَلَا حَقَّ لَهَا فِي السُّكْنَى وَنَصِيبُهَا مَرْدُودٌ عَلَى مَنْ بَقِيَتْ مِنْهُنَّ فَذَلِكَ جَائِزٌ اعْتِبَارًا لِلسُّكْنَى بِالْغَلَّةِ فَإِنَّ الْغَلَّةَ تَدُلُّ عَلَى الْمَنْفَعَةِ .
وَإِذَا صَحَّ مِنْهُ هَذَا الشَّرْطُ لَهُنَّ فِي الْغَلَّةِ .
فَكَذَلِكَ فِي الْمَنْفَعَةِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ اتِّصَالُ حَاجَتِهِنَّ إلَيْهِنَّ لِكَيْ لَا يَضِعْنَ بَعْدَهُ وَرُبَّمَا تَكُونُ حَاجَتُهُنَّ إلَى السُّكْنَى دُونَ الْغَلَّةِ ، وَقَدْ أَعْطَاهُنَّ فِي حَيَاتِهِ مِنْ الْمَالِ مَا يَكْفِيهِنَّ ، وَإِنَّمَا وَضَعَ هَذِهِ الْمَسَائِلَ فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ فِي الزَّوْجَاتِ الْحَرَائِرِ بِخِلَافِهِ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَاتِ يَرْجِعْنَ إلَى قَرَابَاتِهِنَّ ، وَلَا قَرَابَةَ لِأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ؛ فَلِهَذَا ذَكَرَ الْمَسَائِلَ فِيهِنَّ .
قَالَ وَإِنْ لَمْ يَحْتَجْ مِنْ بَقِيَ مِنْهُنَّ كَانَ ذَلِكَ مِيرَاثًا عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى ) ، وَلَكِنْ هَذَا الشَّرْطُ يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يَتَوَسَّعُ فِي أَمْرِ الْوَقْفِ فَلَا يَشْتَرِطُ التَّأْبِيدَ وَاشْتِرَاطُ الْعَوْدِ إلَى الْوَرَثَةِ عِنْدَ زَوَالِ حَاجَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ لَا يُفَوِّتُ مُوجِبَ الْعَقْدِ عِنْدَهُ .
فَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ التَّأْبِيدُ شَرْطٌ لِلُّزُومِ الْوَقْفِ فِي الْحَيَاةِ فَاشْتِرَاطُ الْعَوْدِ إلَى الْوَرَثَةِ يُعْدِمُ هَذَا الشَّرْطَ فَيَكُونُ مُبْطِلًا لِلْوَقْفِ إلَّا أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ وَصِيَّةً مِنْ ثُلُثِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ لِمَعْلُومٍ بِسُكْنَى دَارِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ مُدَّةً مَعْلُومَةً فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ مِنْ ثُلُثِهِ وَيَعُودُ إلَى الْوَرَثَةِ إذَا سَقَطَ حَقُّ الْمُوصَى لَهُ .
فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ إذَا سَمَّاهُنَّ ، وَإِنْ كَتَبَ أَنَّهُ جَعَلَ لَهُنَّ فِي حَيَاتِهِ وَأَوْصَى لَهُنَّ مِنْ بَعْدِ وَفَاتِهِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِخَدَمِهَا وَمَتَاعِهَا وَحُلِيِّهَا وَثِيَابِهَا وَجَوْهَرِهَا وَسَمَّى مَا جَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مِنْ ذَلِكَ وَبَيَّنَ قِيمَتَهُ وَوَزْنَهُ وَأَنَّهُ قَدْ جَعَلَ لَهَا فِي حَيَاتِهِ وَصِحَّتِهِ ذَلِكَ وَدَفَعَهُ إلَيْهَا وَأَوْصَى لَهَا بَعْدَ وَفَاتِهِ فَإِنَّهُ تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ مِنْ الثُّلُثِ ، وَلَا تَجُوزُ فِي الْحَيَاةِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا .
وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُشْكِلُ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ يُمَلِّكُهُنَّ الْأَعْيَانَ هُنَا وَالْمَمْلُوكَةُ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ التَّمْلِيكِ فَلَا يَصِحُّ التَّمْلِيكُ مِنْهُنَّ إلَّا بِاعْتِبَارِ حُرِّيَّتِهِنَّ ، وَذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ تَمْلِيكٌ مُضَافٌ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَيَكُونُ وَصِيَّةً مِنْ الثُّلُثِ ، وَفِيمَا سَبَقَ لَا يَمْلِكُ بِالْوَقْفِ أَحَدٌ شَيْئًا ، وَلَكِنْ يُخْرِجُ الْعَيْنَ عَنْ مِلْكِهِ فَيَجْعَلُهُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِنَّ
لِحَاجَتِهِنَّ إلَى السُّكْنَى ، وَذَلِكَ يَتِمُّ مِنْهُ فِي الْحَالِ .
فَإِذَا كَانَ صَحِيحًا حِينَ أَخْرَجَ الْوَقْفَ مِنْ مِلْكِهِ تَمَّ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ .
وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ هَكَذَا يَقُولُ فِيمَا لَا يَعُودُ إلَيْهِ وَإِلَى وَرَثَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِحَالٍ بِأَنْ جَعَلَ آخِرَ وَقْفِهِ عَلَى جِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يَعُودُ إلَيْهِ وَإِلَى وَرَثَتِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَا يَتِمُّ زَوَالُهُ عَنْ مِلْكِهِ فَإِنَّمَا يَبْقَى تَمْلِيكُهُ مِنْهُنَّ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي حَيَاتِهِ ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالسُّكْنَى تُعْتَبَرُ بِالثُّلُثِ مِنْ مَالِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
كِتَابُ الْهِبَةِ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ ، وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إمْلَاءً : اعْلَمْ بِأَنَّ الْهِبَةَ عَقْدٌ جَائِزٌ ثَبَتَ جَوَازُهُ بِالْكِتَابِ ، وَالسُّنَّةِ .
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { : وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } ، وَالْمُرَادُ بِالتَّحِيَّةِ : الْعَطِيَّةُ ، وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِالتَّحِيَّةِ : السَّلَامُ ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ ؛ فَإِنَّ قَوْلَهُ : أَوْ رُدُّوهَا يَتَنَاوَلُ رَدَّهَا بِعَيْنِهَا ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي الْعَطِيَّةِ .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا } .
وَإِبَاحَةُ الْأَكْلِ بِطَرِيقِ الْهِبَةِ دَلِيلُ جَوَازِ الْهِبَةِ .
وَالسُّنَّةُ : حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ { : الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ - مَا لَمْ يُثْبَتْ مِنْهَا } - .
وَلِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِحْسَانِ ، وَاكْتِسَابِ سَبَبِ التَّوَدُّدِ بَيْنَ الْإِخْوَانِ ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ بَعْدَ الْإِيمَانِ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ { تَهَادَوْا تَحَابُّوا } .
ثُمَّ الْمِلْكُ لَا يَثْبُتُ فِي الْهِبَةِ بِالْعَقْدِ قَبْلَ الْقَبْضِ - عِنْدَنَا - وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَثْبُتُ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ تَمْلِيكٍ ؛ فَلَا يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ بِهِ عَلَى الْقَبْضِ كَعَقْدِ الْبَيْعِ ، بَلْ : أَوْلَى ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْحَاجَةُ إلَى إثْبَاتِ الْمِلْكِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَمِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ أَوْلَى ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - { : لَا تَجُوزُ الْهِبَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً } مَعْنَاهُ : لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ ، وَهُوَ الْمِلْكُ ؛ إذْ الْجَوَازُ ثَابِتٌ قَبْلَ الْقَبْضِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَالصَّحَابَةُ اتَّفَقُوا عَلَى هَذَا ؛ فَقَدْ ذَكَرَ أَقَاوِيلَهُمْ فِي الْكِتَابِ ؛ وَلِأَنَّ هَذَا عَقْدُ تَبَرُّعٍ ، فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِيهِ بِمُجَرَّدِ الْقَبُولِ كَالْوَصِيَّةِ ، وَتَأْثِيرُهُ : أَنَّ عَقْدَ التَّبَرُّعِ ضَعِيفٌ فِي نَفْسِهِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ صِفَةُ اللُّزُومِ .
وَالْمِلْكُ الثَّابِتُ لِلْوَاهِبِ كَانَ قَوِيًّا ؛ فَلَا يَزُولُ بِالسَّبَبِ الضَّعِيفِ حَتَّى يَنْضَمَّ إلَيْهِ مَا يَتَأَيَّدُ بِهِ : وَهُوَ مَوْتُهُ فِي الْوَصِيَّةِ ؛ لِكَوْنِ الْمَوْتِ مُنَافِيًا لِمِلْكِهِ ، وَتَسْلِيمُهُ فِي الْهِبَةِ لِإِزَالَةِ يَدِهِ عَنْهُ بَعْدَ إيجَابِ عَقْدِ التَّمْلِيكِ لِغَيْرِهِ ، يُوَضِّحُهُ : أَنَّ لَهُ فِي مَالِهِ مِلْكَ الْعَيْنِ وَمِلْكَ الْيَدِ .
فَتَبَرُّعُهُ بِإِزَالَةِ مِلْكِ الْعَيْنِ بِالْهِبَةِ لَا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ مَا لَمْ يَتَبَرَّعْ بِهِ عَلَيْهِ - وَهُوَ الْيَدُ - .
وَلَوْ أَثْبَتْنَا الْمِلْكَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ وَجَبَ عَلَى الْوَاهِبِ تَسْلِيمُهُ إلَيْهِ ، وَذَلِكَ يُخَالِفُ مَوْضُوعَ التَّبَرُّعِ - بِخِلَافِ الْمُعَاوَضَاتِ - ، وَالصَّدَقَةُ كَالْهِبَةِ - عِنْدَنَا - فِي أَنَّهُ لَا يُوجَبُ الْمِلْكُ لِلْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ إلَّا بِالْقَبْضِ خِلَافًا لِمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَفِي الصَّدَقَةِ خِلَافٌ بَيْن الصَّحَابَةِ ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ ، وَكَانَ عَلِيٌّ وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولَانِ : إذَا أَعْلَمْت الصَّدَقَةَ جَازَتْ
، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُعَاذٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَقُولَانِ لَا تَجُوزُ الصَّدَقَةُ إلَّا مَقْبُوضَةً .
وَعَنْ شُرَيْحٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - فِيهِ رِوَايَتَانِ ذَكَرَهُمَا فِي الْكِتَابِ ؛ فَأَخَذْنَا بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَحَمَلْنَا قَوْلَ عَلِيٍّ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَلَى صَدَقَةِ الرَّجُلِ عَلَى وَلَدِهِ الصَّغِيرِ ، وَذَلِكَ بِالْإِعْلَامِ يَتِمُّ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ قَابِضًا لَهُ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { يَقُولُ ابْنُ آدَم : مَالِي مَالِي ، وَهَلْ لَك مِنْ مَالِكَ إلَّا مَا أَكَلْت فَأَفْنَيْت ، أَوْ لَبِسْت فَأَبْلَيْت ، أَوْ تَصَدَّقْت فَأَمْضَيْت ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ مَالُ الْوَارِثِ } .
فَقَدْ شَرَطَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْإِمْضَاءَ فِي الصَّدَقَةِ ، وَذَلِكَ بِالْقَبْضِ يَكُونُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الْوَقْفِ .
ثُمَّ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ قَدْ تَكُونُ مِنْ الْأَجَانِبِ ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ الْقَرَابَاتِ ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ ؛ لِمَا فِيهِ مَنْ صِلَةِ الرَّحِمِ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : { أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاسِحِ } .
وَلِهَذَا بَدَأَ الْكِتَابُ بِحَدِيثٍ رَوَاهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : مَنْ وَهَبَ لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ هِبَةً ؛ فَقَبَضَهَا ؛ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا .
وَذُكِرَ بَعْدَ هَذَا عَنْ عَطَاءٍ ، وَمُجَاهِدٍ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَنْ وَهَبَ هِبَةً لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ ؛ فَقَبَضَهَا : فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا ، وَمَنْ وَهَبَ هِبَةً لِغَيْرِ ذِي رَحِمٍ : فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا - مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا - .
وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ : قَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ يَفْتَرِضُ صِلَةَ الْقَرَابَةِ الْمُتَأَبِّدَةِ بِالْمَحْرَمِيَّةِ دُونَ الْقَرَابَةِ الْمُتَحَرِّزَةِ عَنْ الْمَحْرَمِيَّةِ ، وَهُوَ كَمَا يُتْلَى فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - { وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ } أَيْ : اتَّقُوا الْأَرْحَامَ أَنْ تَقْطَعُوهَا ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ } .
وَالْمُرَادُ : الرَّحِمُ الْمُتَأَبِّدُ بِالْمَحْرَمِيَّةِ .
ثُمَّ إنَّ الْحَدِيثَ دَلِيلُ أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ ؛ لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ الْقَبْضَ لِلْمَنْعِ عَنْ الرُّجُوعِ ، وَهُوَ دَلِيلٌ لَنَا أَنَّ الْوَالِدَ إذَا وَهَبَ لِوَلَدِهِ هِبَةً لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا كَالْوَلَدِ إذَا وَهَبَ لِوَالِدِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الرُّجُوعِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ - وَهُوَ صِلَةُ الرَّحِمِ - أَوْ لِمَا فِي الرُّجُوعِ وَالْخُصُومَةِ فِيهِ مِنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ ، وَالْوِلَادُ فِي ذَلِكَ أَقْوَى مِنْ الْقَرَابَةِ الْمُتَأَبِّدَةِ بِالْمَحْرَمِيَّةِ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ : مَنْ وَهَبَ لِأَجْنَبِيٍّ هِبَةً
فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا - مَا لَمْ يُعَوَّضْ مِنْهَا - لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا لَمْ يُثَبْ ، وَالْمُرَادُ بِالثَّوَابِ : الْعِوَضُ فَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إمَامُنَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ يُحْتَجُّ بِقَوْلِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْخَصْمِ ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - { : أَيْنَمَا دَارَ الْحَقُّ فَعُمَرُ مَعَهُ ، وَإِنَّ مَلَكًا يَنْطِقُ عَلَى لِسَانِ عُمَرَ } .
( وَعَنْ ) عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : نَحَلَنِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جُذَاذَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِهِ بِالْعَالِيَةِ ، فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ : يَا بُنَيَّةُ إنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إلَيَّ غِنًى أَنْتِ ، وَأَعَزَّهُمْ عَلَيَّ فَقْرًا أَنْتِ ، وَإِنِّي كُنْت نَحَلْتُك جُذَاذَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِي بِالْعَالِيَةِ ، وَإِنَّك لَمْ تَكُونِي قَبَضْتِيهِ ، وَلَا حُزْتِيهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مَالُ الْوَرَثَةِ ، وَإِنَّمَا هُمَا أَخَوَاك ، وَأُخْتَاك قَالَتْ : فَقُلْت : فَإِنَّمَا هِيَ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ - يَعْنِي أَسْمَاءَ - قَالَ : إنَّهُ أُلْقِيَ فِي نَفْسِي أَنَّ فِي بَطْنِ بِنْتِ خَارِجَةَ جَارِيَةً .
ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَحَلَهَا أَرْضًا لَهُ ، وَفِي هَذَا دَلِيلُ أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ وَأَنَّهُ يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْأَجْنَبِيُّ ، وَالْوَلَدُ إذَا كَانَا بَالِغَيْنِ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقِسْمَةِ - فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ - ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَبْطَلَ لِعَدَمِ الْقَبْضِ ، وَالْحِيَازَةِ جَمِيعًا بِقَوْلِهِ : وَإِنَّك لَمْ تَكُونِي قَبَضْتِيهِ ، وَلَا حُزْتِيهِ ، وَالْمُرَادُ بِالْحِيَازَةِ : الْقِسْمَةُ ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ : حَازَ كَذَا ، أَيْ : جَعَلَهُ فِي حَيْزِهِ بِقَبْضِهِ .
وَحَازَ كَذَا ، أَيْ : جَعَلَهُ فِي حَيْزِهِ بِالْقِسْمَةِ .
وَلَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى الْقَبْضِ هُنَا كَانَ تَكْرَارًا ، وَحَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى مَا يُسْتَفَادُ بِهِ فَائِدَةٌ
جَدِيدَةٌ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى التَّكْرَارِ .
وَفِيهِ دَلِيلٌ : أَنَّ هِبَةَ الْمَشَاعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لَا تَكُونُ بَاطِلَةً ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَاشَرَهَا ، وَلَكِنْ لَا يَحْصُلُ الْمِلْكُ إلَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ ، كَمَا لَا يَحْصُلُ الْمِلْكُ إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ ، وَلَا نَقُولُ : الْهِبَةُ قَبْلَ الْقَبْضِ بَاطِلَةٌ ، وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّ التَّسْلِيمَ كَالتَّمْلِيكِ الْمُبْتَدَإِ ؛ لِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ لِمَرَضِهِ ؛ فَإِنَّ الْمَرِيضَ مَمْنُوعٌ مِنْ إيثَارِ بَعْضِ وَرَثَتِهِ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ ، وَلَكِنْ طَيَّبَ قَلْبَهَا بِمَا قَالَ انْتِدَابًا إلَى مَا نَدَبَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ : { رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَعَانَ وَلَدَهُ عَلَى بِرِّهِ } بَدَأَ كَلَامَهُ بِالْحَمْدِ وَالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَكُلُّ مُسْلِمٍ مَنْدُوبٌ إلَى ذَلِكَ - خُصُوصًا فِي وَصِيَّتِهِ - ثُمَّ يُسْتَدَلُّ بِقَوْلِهِ : إنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إلَيَّ غِنًى : أَنْتِ ، وَأَعَزَّهُمْ عَلَيَّ فَقْرًا : أَنْتِ ، أَيْ : أَشَدُّهُمْ مِنْ تَفْضِيلِ الْغَنِيِّ الشَّاكِرِ عَلَى الْفَقِيرِ الصَّابِرِ .
وَلَا شَكَّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُحِبُّ لَهَا أَعْلَى الدَّرَجَاتِ ، وَلَكِنَّ الْمَذْهَبَ عِنْدَنَا : أَنَّ الْأَفْضَلَ مَا اخْتَارَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا ، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْفَقْرُ أَزْيَنُ بِالْمُؤْمِنِ مِنْ الْعَذَارِ الْجِيدِ عَلَى خَدِّ الْفَرَسِ } .
وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اخْتَارَ الْفَقْرَ لِنَفْسِهِ حِينَ أَنْفَقَ جَمِيعَ مَالِهِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَرَفْنَا أَنَّهُ إنَّمَا قَالَ ذَلِكَ تَطْيِيبًا لِقَلْبِهَا ، أَوْ أَحَبَّ الْغِنَى لَهَا ؛ لِعَجْزِهَا عَنْ الْكَسْبِ ، أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهَا
الصَّبْرُ عَلَى الْفَقْرِ ؛ فَلِهَذَا قَالَ : أَحَبُّ النَّاسِ إلَيَّ غِنًى : أَنْتِ ، وَإِنِّي كُنْت نَحَلْتُكِ جُذَاذَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِي بِالْعَالِيَةِ - وَذَلِكَ اسْمُ مَوْضِعٍ - وَقَدْ كَانَ وَهَبَ لَهَا قَدْرَ عِشْرِينَ وَسْقًا مِنْ مَالِهِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ قَالَ : وَإِنَّمَا هُوَ مَالُ الْوَرَثَةِ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ حَقَّ الْوَارِثِ يَتَعَلَّقُ بِمَالِ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ مَالُ الْوَارِثِ ، أَوْ قَالَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مَآلَهُ إلَى ذَلِكَ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : { إنَّك مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } .
وَإِنَّمَا هُمَا أَخَوَاك وَأُخْتَاك ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ لِتَطْيِيبٍ قَلْبِهَا ، أَنَّهُ كَانَ لَا يَسْلَمُ لَك فَلَا يَبْعُدُ عَنْك فَأَشْكَلَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَوْلُهُ : وَأُخْتَاكِ ؛ لِأَنَّهَا مَا عُرِفَتْ لَهَا إلَّا أُخْتًا وَاحِدَةً ، وَهِيَ أُمُّ عَبْدِ اللَّهِ .
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّهُ أُلْقِيَ فِي نَفْسِي أَنَّ فِي بَطْنِ بِنْتِ خَارِجَةَ جَارِيَةً - يَعْنِي أُمَّ حَبِيبٍ امْرَأَتَهُ ، وَكَانَتْ حَامِلًا - وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّ الْحَمْلَ مِنْ جُمْلَةِ الْوَرَثَةِ ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمِثْلِ هَذَا بِطَرِيقِ الْفِرَاسَةِ ؛ فَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ ذَلِكَ بِفِرَاسَتِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُ رَجْمًا بِالْغَيْبِ ، فَإِنَّ مَا فِي الرَّحِمِ لَا يَعْلَمُ حَقِيقَتَهُ إلَّا اللَّهُ - تَعَالَى - كَمَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - { : وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ } .
وَلِهَذَا قِيلَ : أَفَرَسُ النَّاسِ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ حَيْثُ تَفَرَّسَ فِي حَبَلِ امْرَأَتِهِ : أَنَّهَا جَارِيَةٌ ، فَكَانَ كَمَا تَفَرَّسَ ، وَتَفَرَّسَ فِي عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ اسْتَخْلَفَهُ بَعْدَهُ .
( وَعَنْ ) عُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا : إذَا وَهَبَ الرَّجُلُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ هِبَةً فَأَعْلَمَهَا فَهُوَ جَائِزٌ ، وَبِهِ نَأْخُذُ ؛ فَإِنَّ حَقَّ الْقَبْضِ فِيمَا يُوهَبُ : لِهَذَا الصَّغِيرِ إلَى الْأَبِ - لَوْ كَانَ الْوَاهِبُ أَجْنَبِيًّا - فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ الْوَاهِبُ يَصِيرُ قَابِضًا لَهُ مِنْ نَفْسِهِ فَتَتِمُّ الْهِبَةُ بِالْقَبْضِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْإِعْلَامِ لِيَحْصُلَ الْمَقْصُودُ بِهِ ؛ فَالْوَلَدُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْمُطَالَبَةِ بِهِ مَا لَمْ يَكُنْ مَعْلُومًا لَهُ ، وَهُوَ مَعْنَى مَا رَوَى شُرَيْحٌ أَنَّهُ سُئِلَ : مَا يَجُوزُ لِلصَّبِيِّ مَنْ نَحْلِ أَبِيهِ ؟ قَالَ : الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ ، وَالْمُرَادُ : الْإِعْلَامُ ؛ فَالْإِشْهَادُ فِي الْهِبَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلْإِتْمَامِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ لِلتَّوَثُّقِ حَتَّى يَتَمَكَّنَ الْوَلَدُ مَنْ إثْبَاتِ مِلْكِهِ بِالْحَجَّةِ بَعْدَ مَوْتِهِ عَلَى سَائِرِ الْوَرَثَةِ .
( وَعَنْ ) إبْرَاهِيمَ قَالَ : الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ بِمَنْزِلَةِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ إذَا وَهَبَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ هِبَةً : لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا ، وَبِهِ نَأْخُذُ ؛ فَإِنَّ مَا بَيْنَهُمَا مَنْ الزَّوْجِيَّةِ نَظِيرُ الْقَرَابَةِ الْقَرِيبَةِ ؛ وَلِهَذَا يَتَعَلَّقُ بِهَا التَّوَارُثُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بِغَيْرِ حَجْبٍ ، وَيَمْتَنِعُ قَبُولُ شَهَادَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حَصَلَ بِالْهِبَةِ وَهُوَ تَحْقِيقُ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ مَعْنَى السَّكَنِ وَالِازْدِوَاجِ ، وَفِي الرُّجُوعِ إيقَاعُ الْعَدَاوَةِ فِيمَا بَيْنَهُمَا وَالنَّفْرَةِ .
وَالزَّوْجِيَّةُ بِمَعْنَى الْأُلْفَةِ وَالْمَوَدَّةِ ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا الْإِقْدَامُ عَلَى مَا يُضَادُّهُ ، وَهَذَا كَانَ مَانِعًا مِنْ الرُّجُوعِ فِيمَا بَيْنَ الْقَرَابَاتِ .
( وَقَالَ ) فِي الرَّجُلِ يَهَبُ لِامْرَأَتِهِ أَوْ لِبَعْضِ وَلَدِهِ ، وَقَدْ أَدْرَكَ وَهُوَ فِي عِيَالِهِ أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ إذَا أَعْلَمَهُ - وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ ذَلِكَ الْمَوْهُوبُ لَهُ ، وَبِهِ يَأْخُذُ ابْنُ أَبِي لَيْلَى ؛ فَيَقُولُ : إذَا كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ فِي عِيَالِهِ فَيَدُهُ فِي قَبْضِ الْهِبَةِ كَيَدِهِ كَمَا فِي الصِّغَارِ ، وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نَوْعِ وِلَايَةٍ لَهُ ؛ لِيَجْعَلَ قَبْضَهُ بِذَلِكَ كَقَبْضِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْبُلُوغِ - وَإِنْ كَانَ يَعُولُهُمْ - ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْغَنِيَّ يَعُولُ بَعْضَ الْمَسَاكِينِ فَيُنْفِقُ عَلَيْهِمْ ، ثُمَّ لَوْ تَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ لَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِالْإِعْلَامِ مَا لَمْ يُسْلِمُهُ إلَيْهِ .
( وَعَنْ ) عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ عَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَنَّهُ سَأَلَهُ عَنْ الْحَبِيسِ فَقَالَ : إنَّمَا أَقْضِي وَلَسْت أُفْتِي ، فَأَعَدْت عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ فَقَالَ : لَا حَبِيسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَبِهِ يَأْخُذُ مَنْ يَقُولُ : لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُفْتِيَ ، وَهَذَا فَصْلٌ تَكَلَّمَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : فِي الْعِبَادَاتِ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُفْتِيَ ، وَفِي الْمُعَامَلَاتِ لَا يُفْتِي لِكَيْ لَا يَقِفُ الْخَصْمُ عَلَى مَذْهَبِهِ ؛ فَيَشْتَغِلُوا بِالْحِيَلِ عَلَى مَذْهَبِهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : لَا يُفْتِي فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ ، وَلَهُ أَنْ يُفْتِيَ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اشْتَغَلَ بِهَا فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ - وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمْرٌ عَظِيمٌ - فَرُبَّمَا يَتَمَكَّنُ الْخَلَلُ فِي أَحَدِهِمَا ، وَهُوَ مُتَعَيَّنٌ لِلْقَضَاءِ فَيَشْتَغِلُ بِمَا تَعَيَّنَ لَهُ وَيَدَعُ الْفَتْوَى لِغَيْرِهِ .
وَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا : أَنَّهُ لَا بَأْسَ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ إذَا كَانَ أَهْلًا لِذَلِكَ ، وَقَدْ كَانَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَقْضُونَ بَيْنَ النَّاسِ وَيُفْتُونَ ، وَالْقَضَاءُ فِي الْحَقِيقَةِ فَتْوَى ، إلَّا أَنَّهُ فَتْوَى فِيهِ إلْزَامٌ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْقَاضِي فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ يُسَمَّى مُفْتِيًا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ شُرَيْحًا أَفْتَى لَمَّا أَعَادَ السُّؤَالَ بِقَوْلِهِ : لَا حَبِيسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى .
فَهُوَ دَلِيلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيَّنَّاهُ فِي الْوَقْفِ ( وَعَنْ ) ابْنِ عَبَّاسٍ وَشُرَيْحٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا : { جَاءَ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِبَيْعِ الْحَبِيسِ } وَهَكَذَا عَنْ الشَّعْبِيِّ ، وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفًا - فِيمَا بَيْنَهُمْ - أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ ( وَعَنْ ) عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : مَا بَالُ أَحَدِكُمْ يَتَصَدَّقُ عَلَى وَلَدِهِ
بِصَدَقَةٍ لَا يَحُوزُهَا وَلَا يَقْسِمُهَا ، يَقُولُ : إنْ أَنَا مِتّ كَانَتْ لَهُ ، وَإِنْ مَاتَ هُوَ رَجَعَتْ إلَيَّ ، وَاَيْمُ اللَّهِ : لَا يَتَصَدَّقُ مِنْكُمْ رَجُلٌ عَلَى وَلَدِهِ بِصَدَقَةٍ لَمْ يَحُزْهَا وَلَمْ يَقْسِمْهَا ، ثُمَّ مَاتَ إلَّا صَارَتْ مِيرَاثًا لِوَرَثَتِهِ ، وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ وَالْقِسْمَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْحِيَازَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ : الْقَبْضُ ، فَإِنَّهَا قُرِنَتْ بِالْقِسْمَةِ فَلَوْ حَمَلْنَا الْحِيَازَةَ عَلَى الْقِسْمَةِ : كَانَتْ تَكْرَارًا ، وَلَوْ حَمَلْنَاهَا عَلَى الْقَبْضِ : كُنَّا قَدْ اسْتَفَدْنَا بِكُلِّ لَفْظٍ فَائِدَةً جَدِيدَةً وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّهُ إذَا مَاتَ بَعْدَ مَا تَصَدَّقَ عَلَى وَلَدِهِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَهَا إلَيْهِ ؛ فَهُوَ مِيرَاثٌ لِلْوَرَثَةِ ، وَتَأْوِيلُهُ : إذَا كَانَ الْوَلَدُ بَالِغًا فَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى ابْنِ أَبِي لَيْلَى ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي عِيَالِ الْأَبِ أَوْ لَا يَكُونُ - وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ الْوَلَدَ الصَّغِيرَ - فَإِذَا لَمْ يَقْسِمْهَا لَمْ يَثْبُتْ الْمِلْكُ لِلْوَلَدِ فَكَانَ مِيرَاثًا عَنْ الْأَبِ بَعْدَ مَوْتِهِ .
( وَعَنْ ) عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : إذَا وَهَبَتْ الْمَرْأَةُ لِزَوْجِهَا هِبَةً ، فَإِنْ شَاءَتْ رَجَعَتْ فِيهَا إذَا هِيَ ادَّعَتْ أَنَّهُ اسْتَكْرَهَهَا ، وَإِنْ وَهَبَ هُوَ لَهَا شَيْئًا ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ ، وَلَيْسَ مُرَادَهُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الرُّجُوعِ - بِحُكْمِ الزَّوْجِيَّةِ - وَإِنَّمَا مُرَادُهُ : أَنَّ الدَّعْوَى مِنْ الْمَرْأَةِ أَنَّهَا كَانَتْ مُكْرَهَةً : مَسْمُوعٌ ، وَمِنْ الزَّوْجِ : لَا ؛ لِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الزَّوْجَ يَتَمَكَّنُ مِنْ إكْرَاهِ زَوْجَتِهِ ، وَالْمَرْأَةُ لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ إكْرَاهِ زَوْجِهَا ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَرْأَةَ تَخَافُ عَلَى نَفْسِهَا مَنْ جِهَةِ الزَّوْجِ بِمَا يَثْبُتُ بِهِ الْإِكْرَاهُ مِنْ الضَّرْبِ وَالْحَبْسِ ، وَالزَّوْجُ لَا يَخَافُ ذَلِكَ مَنْ جِهَةِ امْرَأَتِهِ .
وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْهِبَةَ مِنْ الْمُكْرَهِ لَا تَصِحُّ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْهِبَةِ تَمَامُ الرِّضَا ، وَالْإِكْرَاهُ يَعْدِمُ الرِّضَا .
قَالَ : وَمَنْ وَهَبَ هِبَةً مَقْسُومَةً لِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ ، وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ ؛ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا ، وَإِنْ وَهَبَهَا لِأَجْنَبِيٍّ ، أَوْ لِذِي رَحِمٍ لَيْسَ بِمَحْرَمٍ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا ، وَهُمَا فَصْلَانِ ، أَحَدُهُمَا : إذَا وَهَبَ لِأَجْنَبِيٍّ شَيْئًا ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ عِنْدَنَا - مَا لَمْ يُعَوَّضْ مِنْهَا فِي الْحُكْمِ - وَإِنْ كَانَ لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الدَّيَّانَة ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا ؛ لِقَوْلِهِ : { عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا يَرْجِعُ الْوَاهِبُ فِي هِبَتِهِ إلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يَهَبُ لِوَلَدِهِ } ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : لَا يَحِلُّ ، فَقَدْ نَفَى الرُّجُوعَ أَوْ حَرَّمَ ، وَلَا يَجُوزُ الْإِقْدَامُ عَلَى ارْتِكَابِ الْحَرَامِ شَرْعًا ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْعَائِدِ فِي قَيْئِهِ } ، وَفِي رِوَايَةٍ : { كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ } ، وَالْعَوْدُ فِي الْقَيْءِ حَرَامٌ ، فَكَذَلِكَ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ : الْهِبَةَ عَقْدُ تَمْلِيكٍ فَمُطْلَقُهُ لَا يَقْتَضِي الرُّجُوعَ فِيهِ كَالْبَيْعِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الرُّجُوعَ يُضَادُّ الْمَقْصُودَ بِالتَّمْلِيكِ ، وَالْعَقْدُ لَا يَنْعَقِدُ مُوجِبًا مَا يُضَادُّ الْمَقْصُودَ بِهِ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حَقُّ الرُّجُوعِ قَبْلَ تَمَامِهِ كَمَا فِيمَا بَيْنَ الْوَالِدِ وَالْوَلَدِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْوَلَدَ كَسْبُهُ - عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ - أَوْ أَنَّهُ بَعْضُهُ ، فَلَا يَتِمُّ إخْرَاجُهُ عَنْ مِلْكِهِ لِمَا جَعَلَهَا مُحْرَزَةً ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِيمَا بَيْنَ الْأَجَانِبِ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ لَيْسَ بَيْنَ الْوَاهِبِ وَالْمَوْهُوبِ لَهُ حُزُونَةٌ ، فَلَا يَرْجِعُ أَحَدُهُمَا فِيمَا يَهَبُ لِصَاحِبِهِ كَالْأَخَوَيْنِ ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ : حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - { قَالَ الْوَاهِبُ أَحَقُّ بِهِبَتِهِ - مَا لَمْ يُثَبْ } مِنْهَا - .
وَالْمُرَادُ : حَقُّ الرُّجُوعِ بَعْدَ
التَّسْلِيمِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ هِبَةً حَقِيقِيَّةً قَبْلَ التَّسْلِيمِ ، وَإِضَافَتُهَا إلَى الْوَاهِبِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهَا كَانَتْ لَهُ كَالرَّجُلِ يَقُولُ : أَكَلْنَا خُبْزَ فُلَانٍ الْخَبَّازِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ اشْتَرَاهُ مِنْهُ ؛ وَلِأَنَّهُ مَدَّ هَذَا الْحَقَّ إلَى وُصُولِ الْعِوَضِ إلَيْهِ ، وَذَلِكَ فِي حَقِّ الرُّجُوعِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ ، وَفِي قَوْله تَعَالَى : { فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا } مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّحِيَّةِ : الْعَطِيَّةُ ، قَالَ الْقَائِلُ : تَحِيَّتُهُمْ بِيضُ الْوَلَائِدِ بَيْنَهُمْ يُرِيدُ عَطَايَاهُمْ .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ وَهَبَ هِبَةً ، ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا فَلِيُوقِفْ وَلِيَعْرِفْ قُبْحَ فِعْلِهِ } .
وَفِي رِوَايَةٍ : حُسْنَ فِعْلِهِ فَإِنْ أَبَى يَرُدُّ عَلَيْهِ ، وَالْمُرَادُ : حُسْنُ فِعْلِهِ فِي الْهِبَةِ ، وَقُبْحُ فِعْلِهِ فِي الرُّجُوعِ ( وَعَنْ ) فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ أَنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَمَا إلَيْهِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا : إنِّي وَهَبْت لِهَذَا بَازِيًا ؛ لِيُثِيبَنِي وَلَمْ يُثِبْنِي ، فَأَنَا أَرْجِعُ فِيهِ .
فَقَالَ فَضَالَةُ : لَا يَرْجِعُ فِي الْهِبَةِ إلَّا النِّسَاءُ وَالشِّرَارُ مِنْ النَّاسِ ؛ اُرْدُدْ ( وَعَنْ ) أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : الْوَاهِبُونَ ثَلَاثَةٌ : رَجُلٌ وَهَبَ عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا ، وَرَجُلٌ اُسْتُوْهِبَ فَوَهَبَ ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا - مَا لَمْ يُعَوَّضْ - وَرَجُلٌ وَهَبَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ فَهِيَ دَيْنٌ لَهُ فِي حَيَاتِهِ ، وَبَعْدَ مَوْتِهِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّهُ يُمْكِنُ الْخَلَلُ فِي الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ ، فَيَتَمَكَّنُ الْعَاقِدُ مِنْ الْفَسْخِ كَالْمُشْتَرِي إذَا وَجَدَ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا .
وَبَيَانُ ذَلِكَ : أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْهِبَةِ لِلْأَجَانِبِ الْعِوَضُ وَالْمُكَافَأَةُ ، وَالْمَرْجِعُ فِي ذَلِكَ إلَى الْعُرْفِ .
وَالْعَادَةُ الظَّاهِرَةُ أَنَّ الْإِنْسَانَ يُهْدِي إلَى مَنْ فَوْقَهُ ؛ لِيَصُونَهُ بِجَاهِهِ ،
وَإِلَى مَنْ دُونَهُ ؛ لِيَخْدُمَهُ ، وَإِلَى مَنْ يُسَاوِيهِ ؛ لِيُعَوِّضَهُ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَوْلِهِ لِوَفْدِ ثَقِيفٍ لَمَّا أَتَوْهُ بِشَيْءٍ أَصَدَقَةٌ أَمْ هِبَةٌ ؟ .
فَالصَّدَقَةُ يُبْتَغَى بِهَا وَجْهُ اللَّهِ - تَعَالَى - وَالْهِبَةُ يُبْتَغَى فِيهَا وَجْهُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَقَضَاءُ الْحَاجَةِ .
وَمِنْهُ يُقَالُ : لِلْأَيَادِي قُرُوضٌ ، وَقَالَ الْقَائِلُ : وَإِذَا جُوزِيت قَرْضًا فَاجْزِهِ إنَّمَا يَجْزِي الْفَتَى لَيْسَ الْحَمَلُ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ حَقَّ الرُّجُوعِ لَيْسَ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ عِنْدَنَا ، بَلْ لِتَمَكُّنِ الْخَلَلِ فِي الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ الْمَعْرُوفَ كَالْمَشْرُوطِ ، وَلَا يُقَالُ : إنَّمَا يُقْصَدُ الْعِوَضُ بِالتِّجَارَاتِ ، فَأَمَّا الْمَقْصُودُ بِالْهِبَةِ : إظْهَارُ الْجُودِ وَالسَّخَاءِ ، وَالتَّوَدُّدِ وَالتَّحَبُّبِ ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْعِوَضَ فِي التِّجَارَاتِ مَشْرُوطٌ ، وَفِي التَّبَرُّعَاتِ مَقْصُودٌ ، وَمَعْنَى إظْهَارِ الْجُودِ أَيْضًا مَقْصُودٌ ، فَإِنَّمَا يُمْكِنُ الْخَلَلُ فِي بَعْضِ الْمَقْصُودِ ، وَذَلِكَ يَكْفِي لِلْفَسْخِ مَعَ أَنَّ إظْهَارَ الْجُودِ مَقْصُودُ كَرِيمِ الْخُلُقِ ، وَلِهَذَا يَقُولُ : الرَّاجِعُ فِي الْهِبَةِ لَا يَكُونُ كَرِيمَ الْخُلُقِ فَأَمَّا مَقْصُودُ طِيبَةِ النَّفْسِ الْعِوَضُ ، وَمَعْنَى التَّوَدُّدِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالْعِوَضِ - كَمَا قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { تَهَادَوْا تَحَابُّوا } .
فَإِنَّ التَّفَاعُلَ يَقْتَضِي ، وُجُودَ الْفِعْلِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَالْمُفَاعَلَةِ فَأَمَّا الْحَدِيثُ فَالْمُرَادُ بِهِ أَنْ لَا يَنْفَرِدَ بِالرُّجُوعِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضًا .
إلَّا الْوَالِدُ إذَا احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ فَيَنْفَرِدُ بِالْأَخْذِ لِحَاجَتِهِ ، وَسُمِّيَ ذَلِكَ رُجُوعًا بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رُجُوعًا فِي الْحُكْمِ .
كَمَا رُوِيَ { أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ حَمَلَ عَلَى فَرَسٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ رَأَى ذَلِكَ الْفَرَسَ يُبَاعُ فَأَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَهُ فَسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : لَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِكِ } .
وَالشِّرَاءُ لَا يَكُونُ رُجُوعًا فِي الصَّدَقَةِ حُكْمًا ، وَالْمُرَادُ : لَا يَحِلُّ الرُّجُوعُ بِطَرِيقِ الدِّيَانَةِ وَالْمُرُوءَةِ ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ ، وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَبِيتَ شَبْعَانَ ، وَجَارُهُ إلَى جَنْبِهِ طَاوٍ .
أَيْ : } لَا يَلِيقُ ذَلِكَ بِالدِّيَانَةِ وَالْمُرُوءَةِ ، وَإِنْ كَانَ جَائِزًا فِي الْحُكْمِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حَقَّ وَاجِبٍ ، وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ الْآخَرِ : التَّنْبِيهُ فِي مَعْنَى الِاسْتِقْبَاحِ ، وَالِاسْتِقْذَارِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ : شُبِّهَ بِعَوْدِ الْكَلْبِ فِي قَيْئِهِ ، وَفِعْلُ الْكَلْبِ يُوصَفُ بِالْقُبْحِ لَا بِالْحُرْمَةِ ، وَبِهِ نَقُولُ ، وَأَنَّهُ يُسْتَقْبَحُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا ، وَبَيْنَ الْأَخَوَيْنِ ، وَالزَّوْجَيْنِ لِحُصُولِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ هُنَاكَ ، وَتَمَكُّنِ الْخَلَلِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا ؛ وَلِهَذَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَضَاءِ ، أَوْ الرِّضَا فِي الرُّجُوعِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْقَبْضِ مِنْ حَيْثُ إنَّ السَّبَبَ تَمَكُّنُ الْخَلَلِ فِي الْمَقْصُودِ ، فَلَا يَتِمُّ إلَّا بِقَضَاءٍ ، أَوْ رِضًا ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
( وَالْفَصْلُ الثَّانِي ) : إذَا وَهَبَ الْوَالِدُ لِوَلَدِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ - عِنْدَنَا - وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَهُ ذَلِكَ - لِمَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يَهَبُ لِوَلَدِهِ } ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ النَّفْيِ إثْبَاتٌ ، وَمِنْ التَّحْرِيمِ إبَاحَةٌ ، وَفِي حَدِيثِ نُعْمَانَ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { نَحَلَنِي أَبِي غُلَامًا ، وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ فَأَبَتْ أَمِّي إلَّا أَنْ يَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَمَلَنِي أَبِي عَلَى عَاتِقِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ : أَلَكَ وَلَدٌ سِوَاهُ فَقَالَ : نَعَمْ فَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَوَكُلُّ وَلَدِك نَحَلْته مِثْلَ هَذَا فَقَالَ : لَا ، فَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ هَذَا جَوْرٌ ، وَإِنَّا لَا نَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ ؛ اُرْدُدْ .
} فَقَدْ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالرُّجُوعِ فِيهِ ، وَأَقَلُّ أَحْوَالِ الْأَمْرِ أَنْ يُفِيدَ الْإِبَاحَةَ ؛ وَلِأَنَّهُ جَادَ بِكَسْبِهِ عَلَى كَسْبِهِ فَيَتَمَكَّنَ مِنْ الرُّجُوعِ فِيهِ كَمَا لَوْ وَهَبَ لِعَبْدِهِ ، وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْوَلَدَ كَسْبُهُ ، قِيلَ : فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ } : وَمَا وَلَدَ وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : وَإِنَّ وَلَدَهُ مِنْ كَسْبِهِ } .
وَتَأْثِيرُهُ كَمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَتَمَيَّزُ عَنْ مِلْكِهِ إذَا كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ كَسْبًا لَهُ ، كَالْمَوْهُوبِ بِهِ ، وَإِذَا كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ جُزْءًا مِنْهُ ، فَلَا يَشْكُل أَنَّهُ لَا يَتِمُّ خُرُوجُهُ عَنْ مِلْكِهِ ، وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَخْتَصَّ الْوَالِدُ بِمَا لَا يُشَارِكُهُ الْوَلَدُ فِيهِ كَالتَّمَلُّكِ بِالِاسْتِيلَادِ ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لِلْأَبِ فِي جَارِيَةِ ابْنِهِ ، وَلَا يَثْبُتُ لِلِابْنِ فِي جَارِيَةِ أَبِيهِ ، وَحُجَّتُنَا : مَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ فَهُوَ الْإِمَامُ لَنَا فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ ، وَلِأَنَّ
الْهِبَةَ قَدْ تَمَّتْ لِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِلْكًا وَعَقْدًا ، فَلَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ فِيهِ ، كَالِابْنِ إذَا وَهَبَ لِأَبِيهِ أَوْ الْأَخِ لِأَخِيهِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَدْ حَصَلَ وَهُوَ صِلَةُ الرَّحِمِ ، وَلِأَنَّ فِي الرُّجُوعِ مَعْنَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ ، وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي حَقِّ الْوَالِدِ مَعَ وَلَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ بِالرُّجُوعِ يَحْمِلُهُ عَلَى الْعُقُوقِ وَإِنَّمَا أَمَرَ الْوَالِدَ أَنْ يَحْمِل وَلَدَهُ عَلَى بِرِّهِ ، وَلَا يُقَالُ : مَقْصُودُ الْوَالِدِ أَنْ يَخْدُمَهُ الْوَلَدُ ، وَلَمَّا رَجَعَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَمْ يَنَلْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ شَفَقَةَ الْأُبُوَّةِ تَمْنَعُهُ مِنْ الرُّجُوعِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى خَفِيٌّ لَا يَنْبَنِي الْحُكْمُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْوَلَدِ إذَا وَهَبَ لِوَالِدِهِ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ قَصَدَ أَنْ يَخُصَّهُ بِإِكْرَامٍ ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنَلْ ذَلِكَ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِمَا ذَكَرَ مِنْ الْكَسْبِ ، فَإِنَّهُ لَوْ وَهَبَ لِمُكَاتَبِهِ ، أَوْ لِمُعْتَقِهِ : لَا يَرْجِعُ فِيهِ ، وَهُوَ كَسْبُهُ أَيْضًا ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْوَلَدَ كَسْبُهُ - لَا مِلْكُهُ - بِخِلَافِ عَبْدِهِ ، فَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَدْ قِيلَ : مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ إلَّا الْوَالِدَ : وَلَا الْوَالِدَ ، فَإِنَّ كَلِمَةَ ( إلَّا ) تُذْكَرُ بِمَعْنَى ( وَلَا ) .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : إلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ } أَيْ ، وَلَا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ، وقَوْله تَعَالَى { : وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلَّا خَطَأً } أَيْ : وَلَا خَطَأً .
أَوْ الْمُرَادُ : إلَّا الْوَالِدَ ؛ فَإِنَّهُ يَنْفَرِدُ بِأَخْذِهِ عِنْدَ حَاجَتِهِ - عَلَى مَا قَرَّرْنَا - .
وَحَدِيثُ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قِيلَ : قَوْلُهُ : وَأَنَا ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ ، وَقَوْلُهُ : فَحَمَلَنِي أَبِي عَلَى عَاتِقِهِ ، لَمْ يُنْقَلْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَشَاهِيرِ ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ بَالِغًا ، وَلَمْ يُسَلِّمُهُ إلَيْهِ ، وَعِنْدَنَا : فِي مِثْلِهِ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَانَ
صَغِيرًا ، وَلَكِنْ كَانَ فَوَّضَ ذَلِكَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِيَهَبَهُ لَهُ إنْ رَآهُ صَوَابًا ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اُرْدُدْ أَيْ : أَمْسِكْ مَالَك ، وَارْجِعْ إلَى رَحْلِك ، وَقِيلَ : كَانَ هَذَا مِنْهُ بِطَرِيقِ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ مَوْتِهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ اعْتَبَرَ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْأَوْلَادِ ، وَإِنَّمَا تَجِبُ التَّسْوِيَةُ فِي الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَأَمَّا فِي الْهِبَةِ فِي الصِّحَّةِ ، فَلَا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ خَصَّ عَائِشَةَ بِالْهِبَةِ لَهَا فِي صِحَّتِهِ - كَمَا رَوَيْنَا - وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ : أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ فَرَجَعَ أَبِي فِي وَصِيَّتِهِ ، وَفِي هَذَا التَّأْوِيلِ كَلَامٌ فَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْوَالِدِ أَنْ يُسَوِّي بَيْنَ الْأَوْلَادِ فِي الْعَطِيَّةِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى سَبِيلِ الْإِرْثِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُسَوَّى بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ قَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { سَاوُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ حَتَّى فِي الْقَبْلِ ، وَلَوْ كُنْت مُفَضِّلًا أَحَدًا لَفَضَّلْت الْإِنَاثَ } .
وَالِاعْتِمَادُ : عَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ .
وَذُو الرَّحِمِ الَّذِي لَيْسَ بِمَحْرَمٍ كَالْأَجْنَبِيِّ فِي حَقِّ الْهِبَةِ ؛ لِأَنَّ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْقَرَابَةِ لَا يُفْتَرَضُ وَصْلُهَا ؛ وَلِهَذَا لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اسْتِحْقَاقُ الْعِتْقِ وَحِرْمَة النِّكَاحِ ، وَكَذَلِكَ الْمَحْرَمُ الَّذِي لَيْسَ بِرَحِمٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلرَّضَاعِ وَالْمُصَاهَرَةِ فِي اسْتِحْقَاقِ الصِّلَةِ ؛ فَكَانَتْ الْهِبَةُ بَيْنَهُمَا لِمَقْصُودِ الْعِوَضِ فَإِذَا لَمْ يُنَلْ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا إنْ كَانَتْ قَائِمَةً لَمْ يَزْدَدْ خَيْرًا
، وَالْمَوَانِعُ مِنْ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ : إمَّا أَخْذُ الْعِوَضِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ قَدْ تَمَّ ، وَفِي قَوْلِهِ : مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا ، دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا رُجُوعَ بَعْدَ نَيْلِ الْعِوَضِ ، وَأَنْ يَزْدَادَ الْمَوْهُوبُ فِي نَدَمِهِ خَيْرًا ، فَإِنَّ حَقَّ الرُّجُوعِ فِيمَا تَتَنَاوَلُهُ الْهِبَةُ ، وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ لَمْ تَتَنَاوَلْهَا الْهِبَةُ ، وَلَا يَتَأَتَّى الرُّجُوعُ فِي الْأَصْلِ بِدُونِ الزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ زَادَ فِي سِعْرِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِزِيَادَةٍ فِي الْعَيْنِ ، فَإِنَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ كَثْرَةِ رَغَبَاتِ النَّاسِ فِيهِ ، فَأَمَّا الْعَيْنُ عَلَى حَالِهِ كَمَا كَانَ .
وَمِنْهَا أَنْ يَخْرُجَ الْمَوْهُوبُ مِنْ مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ ؛ لِأَنَّ تَبَدُّلَ الْمِلْكِ كَتَبَدُّلِ الْعَيْنِ ؛ وَلِأَنَّ حَقَّ الرُّجُوعِ فِي الْمِلْكِ الْمُسْتَفَاد فِي الْهِبَةِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ بِالرُّجُوعِ يَنْتَهِي ذَلِكَ الْمِلْكُ ، فَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ فِي مِلْكٍ آخَرَ .
وَمِنْهَا أَنْ يَمُوتَ الْوَاهِبُ فَلَيْسَ لِوَارِثِهِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ التَّمْلِيكَ بِعَقْدِ الْهِبَةِ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ ، فَلَا يَخْلِفُ مُوَرِّثهُ فِيمَا لَمْ يَكُنْ عَلَى مِلْكِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ .
وَمِنْهَا أَنْ يَمُوتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ ، فَإِنَّ الْمِلْكَ يَنْتَقِلُ مِنْ الْمَوْهُوبِ إلَى وَارِثِهِ ، وَلَوْ انْتَقَلَ الْمِلْكُ فِي حَيَاتِهِ إلَى غَيْرِهِ لَمْ يَرْجِعْ الْوَاهِبُ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ
قَالَ : فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا إمَّا الْوَاهِبُ أَوْ الْمَوْهُوبُ لَهُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ : بَطَلَتْ الْهِبَةُ ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْهِبَةِ بِالْقَبْضِ ، وَكَانَ الْقَبْضُ فِي الْهِبَةِ كَالْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ بِهِ ، فَكَمَا أَنَّ مَوْتَ أَحَدِهِمَا بَعْدَ الْإِيجَابِ قَبْلَ الْقَبُولِ يُبْطِلُ الْبَيْعَ فَكَذَلِكَ الْهِبَةُ .
قَالَ : ( وَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ حَاضِرًا فِي الْمَجْلِسِ فَقَبَضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ مِلْكَهُ ، وَإِنْ قَبَضَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ فِي الْقِيَاسِ : لَا يَمْلِكُهُ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ : يَمْلِكُهُ ، نُصَّ عَلَى ذَلِكَ فِي الزِّيَادَاتِ ) .
وَجْهُ الْقِيَاسِ : أَنَّ الْعَيْنَ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ الْوَاهِبِ ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَقْبِضَ مِلْكَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَكَانَ مُتَعَدِّيًا فِي الْقَبْضِ - لَا مُتَمَلِّكًا - ؛ وَلِأَنَّ إيجَابَ الْعَقْدِ لَا يَكُونُ إذْنًا فِي الْقَبْضِ كَالْبَيْعِ ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِي لَوْ قَبَضَ الْمَبِيعَ بِغَيْرِ إذْنِ الْبَائِعِ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ لَمْ يَكُنْ هَذَا قَبْضًا بِإِذْنٍ ، وَإِنْ كَانَ الْمَبِيعُ حَاضِرًا حَتَّى لَا يَسْقُطُ حَقُّ الْبَائِعِ فِي الْحَبْسِ بَلْ أَوْلَى ؛ فَإِنَّ هُنَاكَ قَدْ مَلِكَهُ الْمُشْتَرِي بِالْعَقْدِ ، فَإِنَّمَا يَقْبِضُ مِلْكَ نَفْسِهِ ، وَهُنَا الْمَوْهُوبُ لَهُ لَمْ يُمَلَّكْ بِالْعَقْدِ ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ : أَنْ الْقَبْضَ فِي الْهِبَةِ كَالْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ ثُمَّ إيجَابُ الْبَيْعِ يَكُونُ إذْنًا فِي الْقَبُولِ فَكَذَلِكَ إيجَابُ الْهِبَةِ يَكُونُ إذْنًا فِي الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْمُوجِبِ إتْمَامُ تَبَرُّعِهِ ، وَذَلِكَ يَكُونُ بِالْقَبْضِ فَكَانَ فِي الْقَبْضِ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِ فَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ مُسَلَّطًا لِلْمَوْهُوبِ لَهُ .
عَلَى ذَلِكَ إذَا كَانَ الْمَوْهُوبُ حَاضِرًا بِخِلَافِ الْبَيْعِ ، وَالْقَبْضُ هُنَاكَ لِإِسْقَاطِ حَقِّهِ فِي الْحَبْسِ ، وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَقْصُودَهُ بِالْبَيْعِ ، وَإِنَّمَا كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ يُسَلِّمَ الْعِوَضَ لَهُ فَلِهَذَا لَا يَجْعَلُهُ بِإِيجَابِ الْبَيْعِ رَاضِيًا بِسُقُوطِ حَقِّهِ فِي الْحَبْسِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَوْهُوبُ حَاضِرًا فِي الْمَجْلِسِ فَقَبَضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ بَعْدَ مَا افْتَرَقَا بِغَيْرِ إذْنِ الْوَاهِبِ لَا يَمْلِكُهُ ، وَإِنْ قَبَضَهُ بِإِذْنِ الْوَاهِبِ فَقِيَاسُ الِاسْتِحْسَانِ الْأَوَّلِ أَنْ لَا يَمْلِكَهُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ هُنَا بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ فِي الْبَيْعِ وَالْقَبُولُ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ لَا يُوجِبُ الْمِلْكَ بِإِذْنِ
الْمُوجِبِ كَانَ ، أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَكَذَلِكَ الْقَبْضُ هُنَا ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ : يَمْلِكُهُ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ انْعَقَدَ لِوُجُودِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ ، وَالْقَبْضُ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ لِيَتَقَوَّى بِهِ السَّبَبُ فَيَكُونُ مُوجِبًا لِلْمِلْكِ ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ ، وَإِذْنُهُ يَحْتَاجُ فِي الْقَبْضِ إلَى إذْنِ الْمَالِكِ صَرِيحًا ، أَوْ دَلَالَةً فَإِذَا كَانَ الْمَوْهُوبُ غَائِبًا لَمْ يَثْبُتْ الْإِذْنُ بِقَبْضِهِ دَلَالَةً فَلَا بُدَّ مِنْ التَّصْرِيحِ بِذَلِكَ فَإِذَا قَبَضَهُ بِإِذْنِهِ مُلِّكَهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا نَحَرَ هَدَايَاهُ قَالَ : مَنْ شَاءَ أَنْ يَقْتَطِعَ فَلْيَقْتَطِعْ .
وَانْصَرَفَ } فَكَانَ إذْنًا بِالْقَبْضِ لِمَجْهُولٍ يُمَلَّكُهُ بِالْقَبْضِ فَلَأَنْ يَصِحَّ ذَلِكَ لِلْمَعْلُومِ كَانَ أَوْلَى ، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا أُذِنَ لَهُ فِي قَبْضِهِ ، أَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ وَمُرَادُهُ التَّفَرُّدُ بِالرُّجُوعِ ، فَإِنَّ الْمِلْكَ لَمْ يَحْصُلْ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ ؛ فَكَانَ الرَّاجِعُ مُسْتَدِيمًا لِمِلْكِهِ ، وَالْمَالِكُ يَنْفَرِدُ بِاسْتِدَامَةِ مِلْكِهِ فَأَمَّا بَعْدَ الْقَبْضِ لَا يَرْجِعُ فِي الْهِبَةِ إلَّا بِقَضَاءٍ أَوْ رِضًا بِمَنْزِلَةِ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّ الرَّاجِعَ يُعِيدُ إلَى نَفْسِهِ مِلْكًا هُوَ لِغَيْرِهِ ، فَلَا يَنْفَرِدُ بِهِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ ، وَلَا رِضًا ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ هُوَ يَطْلُبُ لِحَقِّهِ فَالْمَوْهُوبُ لَهُ يَمْنَعُ تَمَلُّكهُ فَكَانَ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا إلَى الْقَاضِي كَمَا فِي الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ وَالْفُرْقَةِ بَيْنَ الْعِنِّينِ وَامْرَأَتِهِ .
قَالَ : ( وَإِذَا أَوْدَعَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ شَيْئًا ثُمَّ لَقِيَهُ فَوَهَبَهُ لَهُ ، وَلَيْسَ الشَّيْءُ بِحَضْرَتِهِمَا فَالْهِبَةُ جَائِزَةٌ إذَا قَالَ الْمَوْهُوبُ لَهُ : قَبِلْت وَلَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى قَبْضٍ جَدِيدٍ ) ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ ، وَالْيَدُ مُسْتَدَامَةٌ فَاسْتِدَامَتُهَا كَإِنْشَائِهَا بَعْدَ قَبُولِ الْهِبَةِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْقَبْضَ بِحُكْمِ الْهِبَةِ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِلضَّمَانِ ؛ فَيَدُ الْأَمَانَةِ تَنُوبُ عَنْهُ - بِخِلَافِ الشِّرَاءِ - فَإِنَّ الْمُودَع إذَا اشْتَرَى الْوَدِيعَةَ مِنْ الْمُودِعِ ، وَهِيَ لَيْسَتْ بِحَاضِرَةٍ لَا يَصِيرُ قَابِضًا بِنَفْسِ الشِّرَاءِ ، فَإِنَّ الْقَبْضَ بِحُكْمِ الشِّرَاءِ قَبْضُ ضَمَانٍ ، وَقَبْضُ الْأَمَانَةِ دُونَ قَبْضِ الضَّمَانِ ، وَالضَّعِيفُ لَا يَنُوبُ عَنْ الْقَوِيِّ ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْعَارِيَّةِ وَالْإِجَارَةِ ؛ لِأَنَّ قَبْضَ الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجَر قَبْضُ أَمَانَةٍ كَقَبْضِ الْمُودَعِ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ ، قَالَ : ( ، وَالنَّحْلَى وَالْعُمْرَى ، وَالْعَطِيَّةُ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ فِيمَا ذَكَرْنَا ) ؛ لِأَنَّ هَذِهِ عِبَارَاتٌ عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ التَّمْلِيكُ بِطَرِيقِ الْهِبَةِ ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ الْمَقْصُودُ لَا الْعِبَارَةُ عَنْهُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ لَفْظَ الْفَارِسِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ فِيهِ سَوَاءٌ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَازَ الْعُمْرَى ، وَأَبْطَلَ الشَّرْطَ ، يَعْنِي : شَرْطَ الْعَوْدِ إلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِ الْمَوْهُوبِ لَهُ .
أَمَّا الصَّدَقَةُ إذَا تَمَّتْ بِالْقَبْضِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا سَوَاءٌ كَانَتْ لِقَرَابَتِهِ ، أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالصَّدَقَةِ نِيلُ الثَّوَابِ ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ ، وَلَا رُجُوعَ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِتَمَامِهِ ؛ وَلِأَنَّ الْمُتَصَدِّقَ يَجْعَلُ ذَلِكَ الْمَالَ لِلَّهِ تَعَالَى ثُمَّ يَصْرِفُهُ إلَى الْفَقِيرِ فَيَكُونُ كِفَايَةً لَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُعْطِي فِيهِ مِنَّةٌ عَلَى الْقَابِضِ ، وَإِنَّمَا لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ فِي مِلْكِ ذَلِكَ الْمَالِ الْمُتَمَلَّكِ مِنْ جِهَتِهِ ، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ فِي الصَّدَقَةِ ؛ فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ فِيهَا .
وَيَسْتَوِي فِي الْهِبَةِ حُكْمُ الرُّجُوعِ إنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَخْتَلِفُ بِذَلِكَ ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا فَالْمَقْصُودُ : الْعِوَضُ ، وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا لَهُ فَالْمَقْصُودُ : صِلَةُ الرَّحِمِ ، وَفِي هَذَا الْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ سَوَاءٌ .
قَالَ : ( وَإِذَا وَهَبَ عَبْدًا لِأَخِيهِ ، وَلِأَجْنَبِيٍّ ، وَقَبَضَاهُ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي نَصِيبِ الْأَجْنَبِيِّ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ ) ؛ وَهَذَا لِأَنَّ فِي نَصِيبِ الْأَجْنَبِيِّ : مَقْصُودُهُ : الْعِوَضُ ، وَلَمْ يَنَلْ ذَلِكَ .
قَالَ : ( وَإِنْ وَهَبَ لِأَخِيهِ هِبَةً ، وَهُوَ عَبْدٌ فَقَبَضَهَا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا ) ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ بِالْهِبَةِ وَقَعَ لِلْمَوْلَى ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ ، وَالْمَوْلَى أَجْنَبِيٌّ فَعَرَفْنَا أَنَّ مَقْصُودَهُ الْعِوَضُ وَالْمُكَافَأَةُ ، وَلَمْ يَنَلْ ذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يُخَاصِمُ فِي الرُّجُوعِ الْمَوْلَى بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمِلْكَ وَالْيَدَ لَهُ ، فَلَا يَتَمَكَّنُ بَيْنَهُمَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ إذَا كَانَ الْمَوْلَى أَجْنَبِيًّا .
قَالَ : ( وَإِنْ وَهَبَ لِعَبْدَ أَخِيهِ هِبَةً فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ) ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا : أَنَّ الْمِلْكَ بِحُكْمِ الْهِبَةِ وَقَعَ لِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فَلَا رُجُوعَ فِيهَا كَمَا كَانَ وَهَبَ لِلْمَوْلَى ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ ، وَإِنْ أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى الْعَبْدِ فَالْمَقْصُودُ : الْمَوْلَى ، وَهُوَ قَرِيبُهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ مَقْصُودَهُ صِلَةُ الرَّحِمِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى لِعَبْدِ وَارِثه ، أَوْ لِعَبْدِ قَاتَلَهُ كَانَ ذَلِكَ كَالْوَصِيَّةِ لِمَوْلَاهُ حَتَّى لَا يَصِحَّ ؛ وَلِأَنَّهُ فِي الرُّجُوعِ يُخَاصَمُ الْمَالِك ، وَهُوَ قَرِيبٌ لَهُ ، وَفِي مُخَاصِمَتِهِ فِي الرُّجُوعِ فِيهَا قَطِيعَةُ الرَّحِمِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : الصِّلَةُ مَا تَمَّتْ لِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ عَقْدًا ، وَمِلْكًا فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا كَمَا لَوْ كَانَ وَهَبَ لِأَخِيهِ ، وَهُوَ عَبْدٌ لِغَيْرِهِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِاعْتِبَارِ الْعَقْدِ وَالْمِلْكِ حَتَّى إذَا كَانَ الْعَقْدُ مُعَاوَضَةً فَلَيْسَ فِيهِ حَقُّ الرُّجُوعِ ، وَبَعْدَ زَوَالِ الْمِلْكِ لَا رُجُوعَ ، وَالْعَقْدُ هُنَا لِلْعَبْدِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَبُولَ وَالرَّدَّ يُعْتَبَرُ مِنْهُ دُونَ الْمَوْلَى ، وَأَنَّ الْمُعْتَبَرَ مِنْهُ : دِينُ الْعَبْدِ حَتَّى إذَا كَانَ الْمَوْهُوبُ خَمْرًا صَحَّتْ الْهِبَةُ إذَا كَانَ الْعَبْدُ كَافِرًا - وَإِنْ كَانَ مَوْلَاهُ مُسْلِمًا - وَالْمِلْكُ بِحُكْمِ الْهِبَةِ يَقَعُ لِلْعَبْدِ عَلَى أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ إنَّمَا يَثْبُتُ لِمَنْ بَاشَرَ سَبَبَهُ ، وَلِهَذَا يُقَدِّمُ فِيهِ حَاجَةَ الْعَبْدِ حَتَّى يَقْضِيَ مِنْهُ دُيُونَهُ ثُمَّ يَنْتَقِلُ إلَى الْمَوْلَى عِنْدَ اسْتِغْنَاءِ الْعَبْدِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِرَقَبَتِهِ فَيَخْلُفُهُ فِي كَسْبِهِ خِلَافَةَ الْوَارِثِ الْمُوَرِّثِ ، وَعَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ : الْمِلْكُ يَقَعُ لِلْمَوْلَى ، وَلَكِنْ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْمِلْكِ فَيَخْلُفُ
الْقَاتِلَ فِي ذَلِكَ مَوْلَاهُ ، وَهُوَ نَظِيرُ الطَّرِيقَيْنِ فِي الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ ، إذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ : لَمَّا وَقَعَ الْعَقْدُ لِلْعَبْدِ - وَهُوَ أَجْنَبِيٌّ - فَلَا يَنْفَكُّ هَذَا الْعَقْدُ عَنْ مَقْصُودِ الْعِوَضِ فَيَثْبُتُ حَقُّ الرُّجُوعِ فِيهِ إذَا لَمْ يُعَوَّضْ .
( فَإِنْ قِيلَ ) : فَإِذَا وَقَعَ الْمِلْكُ لِلْعَبْدِ ثُمَّ انْتَقَلَ مِنْهُ إلَى الْمَوْلَى يَنْبَغِي أَنْ لَا يَثْبُتَ حَقُّ الرُّجُوعِ فِيهِ ( قُلْنَا ) : هَذَا أَنْ لَوْ كَانَ الثَّابِتُ لَهُ مِلْكًا مُسْتَقِرًّا ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ ، وَعِنْدَ الْعَقْدِ هَذَا الِانْتِقَالُ كَانَ مَعْلُومًا ، فَلَا يَكُونُ مَانِعًا مِنْ الرُّجُوعِ ، ( فَإِنْ قِيلَ ) : كَيْفَ يُقْصَدُ بِالْهِبَةِ مِنْ الْعَبْدِ الْعِوَضَ ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعِوَضِ ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَثْبُتُ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ مِنْ الْعَبْدِ - أَصْلًا - لِعِلْمِنَا أَنَّهُ لَمْ يُقْصَدُ الْعِوَضُ بِهِ كَمَا لَا يُرْجَعُ فِي الْهِبَةِ مِنْ الْفَقِيرِ ، ( قُلْنَا ) : الْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ أَنْ يُعَوَّضَ بِمَنَافِعِهِ وَخِدْمَتِهِ ، وَمِنْ أَهْلِ أَنْ يُعَوَّضَ بِكَسْبِهِ عِنْدَ إذْنِ الْمَوْلَى فَكَانَ الْمَقْصُودُ بِالْهِبَةِ مِنْهُ : مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْهِبَةِ مِنْ الْحُرِّ - وَهُوَ الْعِوَضُ - وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ .
فَالْبُطْلَانُ هُنَاكَ لِإِيثَارِ بَعْض الْوَرَثَةِ ، وَذَلِكَ بِالْمِلْكِ لَا بِالْعَقْدِ فَاعْتَبَرْنَا مِنْ يَقَعُ لَهُ الْمِلْكُ ، وَهُنَا الرُّجُوعُ لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ بِالْعَقْدِ ، فَإِنَّ الْعِوَضَ مَقْصُودٌ بِعَقْدِ التَّبَرُّعِ أَيْضًا ، فَإِنَّمَا يُنْظَرُ إلَى مَنْ وَقَعَ الْعَقْدُ أَوْ الْمِلْكُ لَهُ فَأَيُّهُمَا كَانَ أَجْنَبِيًّا ثَبَتَ حَقُّ الرُّجُوعِ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْفَكَّ عَنْ قَصْدِ الْعِوَضِ ، فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى وَالْعَبْدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ بِأَنْ كَانَ أَخُوهُ لِأَبِيهِ عَبْدًا لِأَخِيهِ لِأُمِّهِ فَقَدْ ذَكَرَ الْكَرْخِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ لَا يَرْجِعَ فِيهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ
بِقَرَابَةِ الْعَبْدِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الرُّجُوعِ بِدَلِيلِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَكَانَ هَذَا - وَمَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ أَجْنَبِيًّا - سَوَاءً ، وَكَانَ أَبُو جَعْفَرَ الْهِنْدُوَانِي رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : لَا يَرْجِعُ هُنَا ، وَهُوَ الصَّحِيحُ - عِنْدَنَا - ؛ لِأَنَّا عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْعِوَضَ بِهَذَا الْعَقْدِ ، فَإِنَّ تَخْصِيصَهُ هَذَا الْعَبْدَ مِنْ بَيْنِ عَبِيدِ مَوْلَاهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ قَصَدَ صِلَةَ الرَّحِمِ دُونَ الْعِوَضِ ، وَكَذَلِكَ تَخْصِيصُهُ عِنْدَ هَذَا الْمَوْلَى دَلِيلٌ عَلَى قَصْدِ صِلَةِ رَحِمِ مَوْلَاهُ ، فَسَوَاءٌ اعْتَبَرْنَا الْعَقْدَ أَوْ الْمِلْكَ ، أَوْ اعْتَبَرْنَاهُمَا ، فَالْمَقْصُودُ : صِلَةُ الرَّحِمِ دُونَ الْعِوَضِ .
قَالَ : ( حَرْبِي دَخَلَ عَلَيْنَا بِأَمَانٍ ، وَلَهُ عِنْدَنَا أَخ مُسْلِمٌ ، فَوَهَبَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ شَيْئًا ، وَسَلَّمَهُ ، فَلَا رُجُوعَ لَهُ فِيهِ ) ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَخْتَلِفُ بِكَوْنِ أَحَدِهِمَا مُسْلِمًا ، أَوْ مُسْتَأْمَنًا ؛ وَلِأَنَّ الرَّحِمَ مَعَ الْمَحْرَمِيَّةِ مَانِعٌ مِنْ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ ، كَمَا أَنَّهُ مُوجِبٌ الْعِتْقَ عِنْدَ دُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الْمُسْتَأْمَنُ وَالذِّمِّيُّ ، وَالْمُسْلِمُ ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الرُّجُوعِ ، فَإِنْ لَمْ يَقْبَضْ الْمَوْهُوب لَهُ حَتَّى رَجَعَ الْحَرْبِيُّ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ، بَطَلَتْ الْهِبَةُ ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ حَرْبِيًّا كَمَوْتِهِ ، فَإِنَّ مَنْ فِي دَارِ الْحَرْبِ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَالْمَيِّتِ ، وَمَوْتُ الْمَوْهُوبِ لَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ يُبْطِلُ الْهِبَةَ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْحَرْبِيُّ هُوَ الْوَاهِبُ فَقَدْ بَطَلَتْ الْهِبَةُ ، وَبَقِيَ الْمَالُ عَلَى مِلْكِهِ فَيُوقَفُ حَتَّى يَحْضُرَ هُوَ ، أَوْ نَائِبُهُ فَيَأْخُذَ ، وَلَا يَبْعَثَ بِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ مَالٍ خَلَّفَهُ فِي دَارِنَا ، وَهَذَا لِبَقَاءِ حُكْمِ الْأَمَانِ فِي الْمَالِ الَّذِي خَلَّفَهُ هُنَا ، فَإِنْ كَانَ الْحَرْبِيُّ أَذِنَ لِلْمُسْلِمِ فِي قَبْضِهِ ، وَقَبَضَهُ بَعْدَ رُجُوعِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ : جَازَ - اسْتِحْسَانًا - وَفِي الْقِيَاسِ : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا صَارَ بِمَنْزِلَةِ الْمَيِّتِ بَطَلَتْ الْهِبَةُ ، وَلَا يَبْقَى حُكْمُ إذْنِهِ فِي الْقَبْضِ ، كَمَا لَوْ مَاتَ حَقِيقَةً بَعْدَ الْإِذْنِ فِي الْقَبْضِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي قَبْضٍ مُتَمِّمٍ لِلْهِبَةِ ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ بَقَائِهِ حَيًّا حَقِيقَةً وَحُكْمًا ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ : أَنَّ إذْنَهُ فِي الْقَبْضِ بَاقٍ بَعْدَ لَحَاقِهِ ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَ إذْنِهِ فِي قَبْضِ هَذَا الْمَالِ بَعْدَ لَحَاقِهِ مُعْتَبَرٌ ، فَإِنَّهُ لَوْ أَرْسَلَ هَذَا الرَّجُلَ لِيَأْخُذَ مَالَهُ يَجِبُ تَسْلِيمُهُ إلَيْهِ ، فَلَأَنْ يَبْقَى إذْنُهُ كَانَ أَوْلَى ، وَإِذَا بَقِيَ إذْنُهُ : يُجْعَلُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ
سَلَّمَهُ إلَيْهِ بِنَفْسِهِ .
وَحَقِيقَةُ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَالْمَوْتِ الْحَقِيقِيِّ : أَنَّ هُنَاكَ الْمَالَ صَارَ حَقًّا لِوَارِثِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ إذْنٌ مُعْتَبَرٌ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ ، وَهَذَا الْمَالُ بَقِيَ مَوْقُوفًا عَلَى حَقِّهِ ، فَكَانَ إذْنُهُ فِيهِ مُعْتَبَرًا ؛ فَلِهَذَا يُمَلَّكُ بِالْقَبْضِ بِإِذْنِهِ اسْتِحْسَانًا .
قَالَ : ( رَجُلٌ وَهَبَ لِامْرَأَةٍ هِبَةً ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا ) ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً مِنْهُ - حِينَ وَهَبَ لَهَا - عَلِمْنَا أَنَّ مَقْصُودَهُ الْعِوَضُ ، وَلَمْ يَنَلْ ذَلِكَ ( فَإِنْ قِيلَ ) : بَلْ كَانَ مَقْصُودُهُ أَنْ تُزَوِّج نَفْسَهَا مِنْهُ - وَقَدْ فَعَلَتْ - ؛ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ ، قُلْنَا : هَذَا لَيْسَ بِمَقْصُودٍ شَرْعِيٍّ فِيمَا شُرِعَتْ الْهِبَةُ لَهُ ، فَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ ، وَبِالنِّكَاحِ ، وَإِنْ حَصَلَ لَهُ الْمِلْكُ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْبَدَلُ ، فَلَا يَعْتَبِرُ ذَلِكَ فِي الْمَنْعِ مِنْ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ .
قَالَ : ( وَإِنْ وَهَبَ لِامْرَأَتِهِ هِبَةً ، ثُمَّ أَبَانَهَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا ) ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَمَّا كَانَتْ فِي حَالِ قِيَامِ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهُمَا عَرَفْنَا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودُهُ الْعِوَضَ فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ فِيهَا .
قَالَ : رَجُلٌ وَهَبَ لِابْنِهِ الْكَبِير عَبْدًا ، وَهُوَ فِي عِيَالِهِ ، وَلَمْ يُسَلِّمْهُ إلَيْهِ أَوْ وَهَبَ لِزَوْجَتِهِ لَمْ تَجُزْ الْهِبَةُ إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ، فَإِنَّهُ يَقُولُ : مَنْ فِي عِيَالِهِ تَحْتَ يَدِهِ فَيَقُومُ قَبْضُهُ لَهُمْ مَقَامَ قَبْضِهِمْ - كَمَا لَوْ وَهَبَ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ - وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ : أَنَّ الصَّغِيرَ إذَا كَانَ فِي عِيَالِ أَجْنَبِيٍّ فَوَهَبَ - هُوَ - لَهُ - أَوْ غَيْرُهُ - هِبَةً ، وَقَبَضَهُ مَنْ يَعُولُهُ : تَمَّتْ الْهِبَةُ ، وَلَا نَسَبَ بَيْنَهُمَا سِوَى أَنَّهُ يَعُولُهُ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لَا وِلَايَة لَهُ عَلَى وَلَدِهِ الْبَالِغِ وَلَا عَلَى زَوْجَتِهِ فِيمَا وَرَاءَ حُقُوقِ النِّكَاحِ وَقَبْضِ الْهِبَةِ لَيْسَ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ فِي شَيْءٍ ، وَكَانَ هُوَ وَالْأَجْنَبِيُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ؛ وَلِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى وَلَدِهِ الْبَالِغِ ، فَهُوَ كَالْغَنِيِّ إذَا تَبَرَّعَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَى بَعْضِ الْمَسَاكِينِ وَيَعُولُهُمْ ، فَلَا يَنُوبُ قَبْضُهُ عَنْ قَبْضِهِمْ فِي إتْمَامِ الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ ، بِخِلَافِ الْأَبِ فِي حَقِّ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ ، فَإِنَّهُ وَلِيُّهُ ، وَهَكَذَا نَقُولُ فِيمَنْ يَعُولُ يَتِيمًا : إنَّمَا يُعْتَبَرُ قَبْضُهُ لَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْيَتِيمِ وَلِيٌّ يَقْبِضُ لَهُ ، وَهُنَا الْمَوْهُوبُ لَهُ وَلِيُّ نَفْسِهِ ، فَلَا حَاجَةَ إلَى قَبْضِ مَنْ يَعُولُهُ فِي حَقِّهِ ، كَمَا إذَا كَانَ الصَّغِيرُ فِي عِيَالِ أَجْنَبِيٍّ ، وَلَهُ أَبٌ أَوْ جَدٌّ ، فَإِنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ قَبْضُ مَنْ يَعُولُهُ فِي إتْمَامِ الْهِبَةِ لَهُ قَالَ : وَكُلُّ شَيْءٍ وَهَبَهُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ وَأَشْهَد عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ الشَّيْءُ مَعْلُومٌ : فَهُوَ جَائِزٌ ، وَالْقَبْضُ فِيهِ بِإِعْلَامِ مَا وَهَبَهُ لَهُ ، وَالْإِشْهَادُ عَلَيْهِ وَالْإِشْهَادُ لَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، بَلْ الْهِبَةُ تَتِمُّ بِالْإِعْلَامِ .
إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ الْإِشْهَادَ احْتِيَاطًا لِلتَّحَرُّزِ عَنْ جُحُودِ سَائِرِ الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، أَوْ عَنْ جُحُودِهِ بَعْدَ إدْرَاكِ الْوَلَدِ .
أَمَّا إذَا اتَّفَقُوا عَلَى ذَلِكَ فَالْهِبَةُ تَامَّةٌ بِدُونِ الْإِشْهَادِ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ هَذَا الْوَلَدُ فِي عِيَالِ أُمِّهِ ؛ لِأَنَّ لَهَا عَلَيْهِ نَوْعَ وِلَايَةٍ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَحْفَظُهُ وَتَحْفَظُ مَالَهُ ، وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْوِلَايَةِ يَكْفِي لِقَبْضِ الْهِبَةِ .
وَالصَّدَقَةُ فِي قِيَاسِ الْهِبَةِ ؛ لِأَنَّ تَمَامَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْقَبْضِ .
قَالَ : ( وَإِنْ كَانَ الْيَتِيمُ فِي عِيَالٍ أُمِّهِ فَوَهَبَتْ لَهُ عَبْدًا ، وَأَشْهَدَتْ عَلَيْهِ وَأَبُوهُ مَيْتٌ ، وَلَا وَصِيَّ لَهُ : جَازَتْ الْهِبَةُ ، وَقَبْضُ الْأُمِّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ لَوْ كَانَ حَيًّا ) ؛ لِأَنَّ فِي الْقَبْضِ مَعْنَى الْإِحْرَازِ - كَالْحِفْظِ - وَلِلْأُمِّ وِلَايَةُ حِفْظِ مَالِ الْيَتِيمِ ، فَكَانَتْ فِي قَبْضِ الْهِبَةِ كَالْأَبِ .
قَالَ : ( وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْيَتِيمُ فِي عِيَالٍ عَمِّهِ ، فَقَبَضَهُ الْعَمُّ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ أَخ ، أَوْ أُمٌّ فَقَبَضَ الْعَمُّ لَهُ قَبَضَ أَيْضًا ) ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَوِي بِالْأَخِ فِي ثُبُوتِ وِلَايَةِ الْحِفْظِ لَهُ فِي مَالِهِ فَكَانَ ذَلِكَ مَحْضُ مَنْفَعَةٍ لَهُ ، وَبِسَبَبِ قَرَابَتِهِ الْقَرِيبَةِ يَثْبُتُ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْوِلَايَةِ كَقَرَابَةِ الْعَمِّ لِقَرَابَةِ الْأَخِ ثُمَّ تَأَيَّدَتْ قَرَابَةُ الْعَمِّ بِكَوْنِ الْيَتِيمِ فِي عِيَالِهِ ؛ فَتَتِمُّ الْهِبَةُ لَهُ بِقَبْضِهِ قَالَ : وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لَهُ ، وَصِيٌّ فَوَهَبَ لَهُ هِبَةً - وَهُوَ فِي عِيَالِهِ - وَأَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ ، وَأَعْلَمَهُ : جَازَ ، وَقَبِلَ مُرَادَهُ وَصِيُّ الْأُمِّ أَوْ الْأَخُ فَأَمَّا وَصِيُّ الْأَبِ وَالْجَدِّ فَلَهُ أَنْ يَقْبِضَ مَا يُوهَبُ لَهُ - سَوَاءٌ كَانَ فِي عِيَالِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ - ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْوَصِيِّ فِي الْوِلَايَةِ فِي مَالِهِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الْوَاهِبُ لَهُ أَوْ غَيْرُهُ .
قَالَ : ( فَإِنْ كَانَ رَجُلٌ أَجْنَبِيٌّ يَعُولُ يَتِيمًا ، وَلَيْسَ بِوَصِيٍّ لَهُ ، وَلَا بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ ، وَلَيْسَ لِهَذَا الْوَصِيِّ أَحَدٌ سِوَاهُ : جَازَ لَهُ مَا يُوهَبُ لَهُ - اسْتِحْسَانًا - ) ، وَفِي الْقِيَاسِ : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ مُتَبَرِّعٌ فِي تَرْبِيَتِهِ ، وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ فَكَانَ كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ فِيمَا يَنْبَنِي عَلَى الْوِلَايَةِ ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ : فِيمَا يَتَمَحَّضُ مَنْفَعَةٌ لِلْيَتِيمِ ، فَمَنْ يَعُولُهُ خَلَفٌ عَنْ وَلِيِّهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ أَحَقُّ بِحِفْظِهِ وَتَرْبِيَتِهِ .
لَوْ أَرَادَ أَجْنَبِيٌّ آخَر أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنْ يَدِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ، وَأَنْ يُسَلِّمَهُ فِي تَعْلِيمِ الْأَعْمَالِ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ وَلِيِّهِ ، وَالْخَلَفُ يَعْمَلُ عَمَلَ الْأَصْلِ عِنْدَ عَدَمِ الْأَصْلِ ، وَإِنَّمَا أَثْبَتْنَا هَذِهِ الْخِلَافَةَ تَوْفِيرًا لِلْمَنْفَعَةِ عَلَى الصَّغِيرِ ؛ لِأَنَّهُ يُقَرِّبُ إلَى الْمَنَافِعِ ، وَيُبْعِدُ عَنْ الْمَضَارِّ ، وَفِي قَبْضِ الْهِبَةِ مَحْضُ مَنْفَعَةٍ لَهُ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ هِبَةَ الْغَيْرِ لَهُ ، فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ هُوَ الْوَاهِبُ فَأَعْمَلَهَا وَأَبَانَهَا : فَهُوَ جَائِزٌ ، وَقَبْضُهُ لَهُ قَبْضٌ ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الصَّبِيُّ يَعْقِلُ أَوْ لَا يَعْقِلُ .
وَفِيهِ نَوْعُ إشْكَال ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يَعْقِلُ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَقْبِضَ بِنَفْسِهِ ؛ فَلَا حَاجَةَ إلَى اعْتِبَارِ الْخُلْفِ هَاهُنَا وَلَكِنَّ الْجَوَابَ أَنْ يَقُولَ : يَقْبِضُ لَا بِاعْتِبَارِ الْوِلَايَةِ عَلَى نَفْسِهِ فَالصَّغِيرُ تَبْقَى وِلَايَتُهُ عَنْ نَفْسِهِ ، وَلَكِنَّ لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ ، وَفِي اعْتِبَارِ قَبْضِ مَنْ يَعُولُهُ مَعَ ذَلِكَ مَعْنَى تَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ أَظْهَرُ ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَتِحُ عَلَيْهِ بَابَانِ لِتَحْصِيلِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ بِخِلَافِ الْوَلَدِ الْكَبِيرِ ؛ لِأَنَّهُ يَقْبِضُ هُنَاكَ بِوِلَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ ، وَوِلَايَةُ الْغَيْرِ خَلَفٌ ، فَلَا يَظْهَرُ عِنْدَ ظُهُورِ الْأَصْلِ .
قَالَ : ( وَكُلُّ يَتِيمٍ فِي حِجْرِ أَخٍ أَوْ عَمٍّ يَعُولُهُ فَوَهَبَ لَهُ رَجُلٌ هِبَةً ، فَإِنَّمَا يَقْبِضُهَا الَّذِي يَعُولُهُ إذَا كَانَ هُوَ صَغِيرًا لَا يُحْسِنُ الْقَبْضَ ) ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَاقِلًا يُحْسِنُ الْقَبْضَ فَقَبَضَ لَهُ مَنْ يَعُولُهُ : جَازَ - لِمَا بَيَّنَّا - وَإِنْ قَبَضَ الصَّغِيرُ بِنَفْسِهِ فَفِي الْقِيَاسِ : لَا يَجُوزُ قَبْضُهُ - وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ قَبْلَ الْبُلُوغِ خُصُوصًا فِيمَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ لَهُ بِغَيْرِهِ ، فَإِنَّ اعْتِبَارَ عَقْلِهِ : لِلضَّرُورَةِ ، وَذَلِكَ فِيمَا لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ لَهُ بِغَيْرِهِ ، فَأَمَّا فِيمَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ لَهُ بِغَيْرِهِ ، فَلَا تَتَحَقَّقُ الضَّرُورَةُ وَلِهَذَا لَمْ يَعْتَبِرْ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ عَقْلَهُ فِي صِحَّةِ إسْلَامِهِ وَاعْتَبَرَهُ فِي وَصِيَّتِهِ ، وَاخْتِيَارِهِ أَحَدَ الْأَبَوَيْنِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ لَهُ بِغَيْرِهِ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ : أَنَّهُ إنَّمَا لَا يَعْتَبِرُ عَقْلَهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَتِمُّ نَظَرُهُ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ بِمَا لَهُ مِنْ الْعَقْلِ النَّاقِصِ قَبْلَ بُلُوغِهِ ، وَهَذَا فِيمَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْمَضَرَّةِ ، وَالْمَنْفَعَةِ فَأَمَّا فِيمَا يَتَمَحَّضُ مَنْفَعَتَهُ لَا يَتَحَقَّقُ هَذَا الْمَعْنَى ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِي اعْتِبَارِ عَقْلِهِ تَوْفِيرَ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ ، وَإِذَا كَانَ فِيمَا لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ لَهُ بِغَيْرِهِ إذَا كَانَ مَحْضَ مَنْفَعَةٍ يُعْتَبَرُ عَقْلُهُ لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ بِطَرِيقَتَيْنِ ، ثُمَّ الْعَادَةُ الظَّاهِرَةُ بَيْنَ النَّاسِ التَّصَدُّقُ عَلَى الصِّبْيَانِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مُنْكَرٍ ، وَتَعَامُلُ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مُنْكَرٌ أَصْلٌ مِنْ الْأُصُولِ كَبِيرٌ ؛ وَلِأَنَّ حَقِيقَةَ الْقَبْضِ تُوجَدُ مِنْهُ - وَهُوَ مَحْبُوسٌ - فَإِنَّمَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ فِي حَقِّ حُكْمِهِ ؛ لِحَجْرٍ شَرْعِيٍّ ، وَلَا حَجْرَ عَلَيْهِ فِيمَا يَتَمَحَّضُ مَنْفَعَتَهُ لَهُ .
قَالَ : وَالصَّبِيَّةُ الَّتِي دَخَلَ بِهَا زَوْجُهَا ، فَإِنَّ زَوْجَهَا يَقْبِضُ الْهِبَةَ لَهَا ؛ لِأَنَّهُ يَعُولُهَا ، ( فَإِنْ قِيلَ ) : الْوِلَايَةُ عَلَيْهَا لِلْأَبِ دُونَ الزَّوْجِ قُلْنَا نَعَمْ ، وَلَكِنَّ الْأَبَ أَقَامَ الزَّوْجَ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي حِفْظِهَا ، وَحِفْظِ مَالِهَا ؛ إذْ زَفَّهَا إلَى بَيْتِ الزَّوْجِ ، وَقَبْض الْهِبَة مِنْ بَابِ الْحِفْظِ ؛ فَيَقُومُ الزَّوْجُ فِيهِ مَقَامَ الْأَبِ ، وَلَكِنْ لِهَذَا لَا تَنْعَدِمُ وِلَايَةُ الْأَبِ فَإِذَا قَبَضَهَا الْأَبُ صَحَّ قَبْضه لِقِيَامِ وِلَايَتِهِ ، وَإِنْ قَبَضَتْ بِنَفْسِهَا : جَازَ ؛ لِأَنَّهَا تَعْقِلُ الْقَبْضَ ، وَإِنْ قَبَضَ الزَّوْجُ : جَازَ - لِمَا بَيَّنَّا - وَلَا يَكُونُ الزَّوْجُ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ سَلَّمَ الْأَبُ ، وَلَدَهُ الصَّغِيرَ إلَى مَنْ يَعُولُهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يَقُومُ فِيهِ مَقَامَ الْأَبِ وَالزَّوْج فَحُكْمُ النِّكَاحِ يَثْبُتُ لَهُ عَلَيْهَا اسْتِحْقَاقُ الْيَدِ حَتَّى يَصِيرَ أَوْلَى بِهَا مِنْ أَبِيهَا ، وَإِنْ كَانَتْ لَمْ تُزَفَّ إلَى زَوْجِهَا لَمْ يَعْتَبِرْ قَبْضَ الزَّوْجِ لَهَا ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ ذَلِكَ بِحُكْمِ أَنَّهُ يَعُولُهَا ، وَإِنَّ لَهُ عَلَيْهَا يَدًا مُسْتَحَقَّةً ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ قَبْلُ .
وَإِنْ أَدْرَكْتَ لَمْ يَجُزْ قَبْضُ الزَّوْجِ لَهَا ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ ذَلِكَ بِحُكْمِ أَنَّهُ يَعُولُهَا ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ وَلِيَّةَ نَفْسِهَا حِينَ بَلَغَتْ عَاقِلَةً .
قَالَ : ( وَلَا يَجُوزُ قَبْضُ الْأَخِ وَالْجَدّ عَلَى الصَّغِيرِ إذَا كَانَ الْأَبُ حَيًّا حَاضِرًا ) ؛ لِأَنَّ مَنْ هُوَ الْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْوِلَايَةِ حَاضِرًا ، فَلَا حَاجَةَ إلَى اعْتِبَارِ مَنْ هُوَ خَلَفٌ فِي ذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ الْأَبُ غَائِبًا غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً فَقَدْ خَرَجَ الصَّغِيرُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُنْتَفِعًا بِرَأْيِ الْأَبِ ؛ فَيَصِيرُ هُوَ كَالْمَعْدُومِ ، فَتَكُونُ وِلَايَةُ الْقَبْضِ لِلْأَخِ إذَا كَانَ الصَّغِيرُ فِي عِيَالِهِ ، وَهَذَا نَظِيرُ وِلَايَةِ التَّزْوِيجِ ، وَنَظِيرُ حَقِّ الْحَضَانَةِ وَالْإِنْفَاق مِنْ الْمَالِ فَإِنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ مَالَ الْجَدِّ - مَا دَامَ الصَّغِيرُ مُنْتَفِعًا بِمَالِ الْأَبِ - فَإِذَا انْعَدَمَ ذَلِكَ بِغَيْبَةِ مَالِهِ : جُعِلَ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومِ أَصْلًا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ التَّيَمُّمَ لَمَّا جُعِلَ خَلَفًا عَنْ الْمَاءِ فِي حُكْمِ الطَّهَارَةِ ، فَحَالُ عَدَمِ الْمَاءِ وَحَالُ نَجَاسَةِ الْمَاءِ الْمَوْجُودِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ - وَهُوَ الطَّهَارَةُ - لَا يَحْصُلُ بِالْمَاءِ النَّجَسِ ، فَإِنْ كَانَ الْأَبُ دَفَعَهُ إلَى غَيْرِ الْأَخِ وَغَابَ غَيْبَةً مُنْقَطِعَةً فَكَانَ فِي حِجْرِ الرَّجُلِ ، وَعِيَالِهِ : جَازَ لَهُ قَبْضُ الْهِبَةِ .
وَلَوْ قَبَضَ الْأَخُ ، لَمْ يَجُزْ قَبْضُهُ ؛ لِأَنَّ الْأَبَ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي النَّظَرِ لَهُ ، فَكَانَ هُوَ مُنْتَفِعًا بِرَأْيِهِ قَائِمًا مَقَامَهُ ، وَلَوْ كَانَ مُنْتَفِعًا بِرَأْيِهِ - بِأَنْ كَانَ حَاضِرًا - : لَمْ يَجُزْ قَبْضُ الْأَخِ ، فَهَذَا مِثْلُهُ ، وَهَذَا - لِمَا بَيَّنَّا - أَنَّ مُجَرَّدَ قَرَابَةِ الْأَخِ لَا تَثْبُتُ لَهُ الْوِلَايَةُ بِدُونِ الْيَدِ .
وَإِذَا كَانَ فِي عِيَالِ مَنْ اخْتَارَهُ الْأَبُ ، فَلَيْسَ لِلْأَخِ عَلَيْهِ يَدٌ مَوْجُودَةٌ وَلَا مُسْتَحَقَّةٌ ، حَتَّى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِمَّنْ يَعُولُهُ ، فَكَانَ كَالْأَجْنَبِيِّ وَلِمَنْ يَعُولُهُ يَدٌ مُسْتَحَقَّةٌ - مَا لَمْ يَحْضُرْ الْأَبُ - فَهُوَ الَّذِي يَقْبِضُ الْهِبَةَ لَهُ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ مَا يَجُوزُ مِنْ الْهِبَةِ وَمَا لَا يَجُوزُ قَالَ : ( وَإِذَا وَهَبَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ نَصِيبًا مُسَمًّى مِنْ دَارٍ غَيْرِ مَقْسُومَةٍ ، وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ مُشَاعًا ، أَوْ سَلَّمَ إلَيْهِ جَمِيعَ الدَّارِ : لَمْ يَجُزْ ) يَعْنِي : لَا يَقَعُ الْمِلْكُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ بِالْقَبْضِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ - عِنْدَنَا - وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : يَقَعُ الْمِلْكُ وَتَتِمُّ الْهِبَةُ ؛ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - { لَمَّا دَخَلَ الْمَدِينَةَ ، نَظَرَ إلَى مَوْضِعِ الْمَسْجِدِ ، فَوَجَدَهُ بَيْنَ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ ، وَبَيْنَ رَجُلَيْنِ مِنْ قَوْمِهِ ، فَوَهَبَ أَسْعَدُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَصِيبَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ وَهَبَ الرَّجُلَانِ نَصِيبَهُمَا مِنْهُ - أَيْضًا - فَبَنَى الْمَسْجِدَ } { ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِلرَّجُلِ الَّذِي أَتَاهُ بِكُبَّةِ مِنْ شَعْرٍ .
فَقَالَ : أَخَذْت هَذِهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ ؛ لِأَخِيطَ بِهَا بَرْدَعَةَ بَعِيرٍ لِي ، أَمَّا نَصِيبِي مِنْهَا : فَهُوَ لَك } .
فَقَدْ وَهَبَ الْمُشَاعَ ، ( وَعَنْ ) أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ جَوَّزَ الْهِبَةَ فِي الْمُشَاعِ ؛ وَلِأَنَّهُ عَقْدُ تَمْلِيكٍ لِلْمَالِ ، فَيَصِحُّ فِي الْمُشَاعِ كَالْبَيْعِ ، وَتَأْثِيرُهُ : أَنَّ الْجُزْءَ الْمُشَاعَ مَحِلٌّ لِمَا هُوَ مُوجِبُ هَذَا الْعَقْدِ - وَهُوَ الْمِلْكُ - وَإِنَّمَا يَشْتَرِطُ فِي الْمَحِلِّ الْمُضَافِ إلَيْهِ الْعَقْدُ كَوْنُهُ مَحِلًّا لِحُكْمِ الْعَقْدِ ، وَبِهِ فَارَقَ الصُّوفَ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ ، فَإِنَّهُ مَمْلُوكٌ ، وَصْفًا وَتَبَعًا لَا مَقْصُودًا ، وَمُوجِبُ الْهِبَةِ : الْمِلْكُ مَقْصُودًا ؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إضَافَةُ الْبَيْعِ إلَيْهِ بِخِلَافِ الْجُزْءِ الشَّائِعِ ؛ وَلِأَنَّ الشُّيُوعَ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لَا يَمْنَعُ تَمَامَ الْهِبَةِ ، وَمَا يُؤْثَرُ فِيهِ الشُّيُوعُ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ، وَمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فِيهِ سَوَاءٌ كَالرَّهْنِ - عِنْدَكُمْ - وَالنِّكَاحِ - عِنْدِي - ؛ وَلِأَنَّ الْهِبَةَ عَقْدُ تَبَرُّعٍ فَتَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْقَرْضِ
وَالْوَصِيَّةِ .
وَالشُّيُوعُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْوَصِيَّةِ ، وَهِيَ تَبَرُّعٌ بَعْدَ الْمَوْتِ ، فَكَذَلِكَ التَّبَرُّعُ فِي الْحَيَاةِ ، وَلَا يَمْنَعُ الْقَرْضَ أَيْضًا ؛ فَإِنَّهُ لَوْ دَفَعَ أَلْفَ دِرْهَمٍ إلَى رَجُلٍ عَلَى أَنْ يَكُونَ نِصْفُهَا قَرْضًا عَلَيْهِ وَيَعْمَلُ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ بِشَرِكَتِهِ : يَجُوزُ ذَلِكَ ، وَبِفَضْلِ الْقَرْض يَبْطُلُ اعْتِمَادُكُمْ عَلَى اشْتِرَاطِ الْقَبْضِ .
فَأَصْلُ الْقَبْضِ شَرْطٌ لِوُقُوعِ الْمِلْكِ فِي الْقَرْضِ ، ثُمَّ لَا تُشْتَرَطُ الْقِسْمَةُ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْقَبْضَ مَعَ الشُّيُوعِ يَتِمُّ : أَنَّهُ يَنْتَقِلُ الضَّمَانُ إلَى الْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ مَعَ الشُّيُوعِ ، وَيُمْلَكُ الْمُشَاعُ عِنْدَكُمْ بِالْبَيْعِ الْفَاسِدِ ، وَالْمُشَاعُ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالِ السَّلَمِ ، وَبَدَلَ الصَّرْفِ .
وَاعْتِمَادُنَا فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى إجْمَاعِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَقَدْ رَوَيْنَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ شَرْطَ الْقِسْمَةِ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَنْ وَهَبَ ثُلُثَ كَذَا أَوْ رُبُعَ كَذَا : لَا يَجُوزُ حَتَّى يُقَاسِمَ .
وَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّ شَرْطَ الْقَبْضِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْهِبَةِ ؛ فَيُرَاعَى وُجُودُهُ عَلَى أَكْمَلِ الْجِهَاتِ الَّتِي تُمْكِنُ - كَشَرْطِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَاةِ - لَمَّا كَانَ مَنْصُوصًا عَلَيْهِ ، يَشْتَرِط ذَلِكَ فِيهِ - حَتَّى لَوْ اسْتَقْبَلَ الْحَطِيمَ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ - وَالْحَطِيمُ مِنْ الْبَيْتِ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الثَّابِتَ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ لَا يَكُونُ ثَابِتًا مُطْلَقًا ، وَبِدُونِ الْإِطْلَاقِ لَا يَثْبُتُ الْكَمَالُ ، ثُمَّ الْقَبْضُ مَعَ الشُّيُوعِ ثَابِتٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ عِبَارَةٌ عَنْ الْحِيَازَةِ ، وَهُوَ : أَنْ يَصِيرَ الشَّيْءُ فِي حَيِّزِ الْقَابِضِ ، وَالْمُشَاعُ فِي حَيِّزِهِ مِنْ وَجْهٍ ، وَفِي حَيِّز شَرِيكِهِ مِنْ وَجْهٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُشَارَ إلَى شَيْءٍ مِنْهُ بِعَيْنِهِ .
فَيُقَالُ أَنَّهُ فِي يَدِ هَذَا دُونَ هَذَا ؛
وَلِأَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ تَتِمَّةِ الْقَبْضِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّفِيعَ لَا يَنْقُضُ قِسْمَةَ الْمُشْتَرِي ، كَمَا لَا يَنْقُضُ قَبْضَهُ ، وَلَهُ نَقْضُ تَصَرُّفَاتِ الْمُشْتَرِي ، فَإِنَّ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُطَالِبَ الْبَائِعَ بِالْقِسْمَةِ بَعْدَ الشِّرَاءِ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِالْقَبْضِ بِالشِّرَاءِ .
فَعَرَفْنَا أَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ تَتِمَّةِ الْقَبْضِ ، فَبِدُونِهَا لَا يَتِمُّ ، وَلَكِنَّ هَذَا فِيمَا يَتَأَتَّى فِيهِ الْقِسْمَةُ ، فَأَمَّا فِيمَا لَا يَقْسِمُ الْقِسْمَةَ : لَا يَكُونُ حِيَازَةً ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ : الِانْتِفَاعُ .
وَبِالْقِسْمَةِ يَتَلَاشَى .
فَعَرَفْنَا أَنَّ الْقِسْمَةَ فِيهِ لَيْسَتْ مِنْ تَتِمَّةِ الْقَبْضِ ؛ وَلِأَنَّ اشْتِرَاطَ أَصْلِ الْقَبْضِ فِي وُقُوعِ الْمِلْكِ هُنَا لِمَعْنًى .
ذَلِكَ الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْقِسْمَةِ ، وَهُوَ أَنْ لَا يَصِيرَ عَقْدُ التَّبَرُّعِ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ لِلْمُتَبَرَّعِ عَلَيْهِ عَلَى الْمُتَبَرِّعِ فِي عَيْنِ مَا تَبَرَّعَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَلَكَ قَبْلَ الْقَبْضِ طَالَبَهُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَلَكَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ طَالَبَهُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ فَكَذَلِكَ لَوْ مَلَكَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ طَالَبَهُ بِالْقِسْمَةِ ؛ فَيَصِيرُ عَقْدُ التَّبَرُّعِ مُوجِبًا ضَمَانَ الْقِسْمَةِ عَلَيْهِ ، وَهُوَ خِلَافُ مَوْضُوعِ التَّبَرُّعِ بِخِلَافِ مَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ، فَإِنَّهُ لَا يَسْتَوْجِبُ بِهِ حَقَّ الْمُطَالَبَةِ بِالْقِسْمَةِ .
( فَإِنْ قِيلَ ) : يَسْتَوْجِبُ بِهِ الْمُهَايَأَةَ ( قُلْنَا ) : الْمُهَايَأَةُ قِسْمَةُ الْمَنْفَعَةِ ، وَعَقْدُ التَّبَرُّعِ لَاقَى الْعَيْنَ ، فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ ضَمَانًا فِي عَيْنِ مَا تَبَرَّعَ بِهِ ، وَلَا يُرَدُّ عَلَى هَذَا مَا لَوْ أَتْلَفَ الْوَاهِبُ الْمَوْهُوبَ بَعْدَ التَّسْلِيمِ ضَمِنَ قِيمَتَهُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الضَّمَانَ يَلْزَمُهُ بِالْإِتْلَافِ لَا بِعَقْدِ التَّبَرُّعِ ، وَضَمَان الْمُقَاسَمَةِ هُنَا وَإِنْ كَانَ بِالْمِلْكِ فَذَلِكَ الْمِلْكُ حُكْمُ الْهِبَةِ ، فَلَا يَمْنَعُ إضَافَةَ الضَّمَانِ إلَى الْهِبَةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ شِرَاءَ
الْقَرِيبِ إعْتَاق ، وَإِنْ كَانَ الْعِتْقُ بِسَبَبِ الْمِلْكِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمِلْكَ حُكْمُ الشِّرَاءِ ، وَبِهِ فَارَقَ الْبَيْعَ ، فَإِنَّهُ عَقْدُ ضَمَانٍ ، فَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ ضَمَانُ الْمُقَاسَمَةِ ؛ وَلِأَنَّ أَصْلَ الْقَبْضِ هُنَاكَ لَا يُشْتَرَطُ لِوُقُوعِ الْمِلْكِ فَذَلِكَ مَا يُتَمِّمُهُ ، وَبِهِ فَارَقَ الْوَصِيَّةَ .
فَأَصْلُ الْقَبْضِ هُنَاكَ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِلْمِلْكِ فَكَذَلِكَ مَا يُتَمِّمُهُ ، وَكَمَا يَسْتَحِقُّ هُنَاكَ ضَمَانُ التَّسْلِيمِ عَلَى الْمَالِكِ يَسْتَحِقُّ ضَمَانَ الْمُقَاسَمَةِ أَيْضًا .
وَالْقَرْضُ تَبَرُّعٌ - مِنْ وَجْهٍ - وَمِنْ وَجْهٍ : هُوَ عَقْدُ الضَّمَانِ حَتَّى كَانَ الْمُسْتَقْرِضُ مَضْمُونًا بِالْمِثْلِ فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ ضَمَانُ الْمُقَاسَمَةِ ، وَشَرْطُ الْقَبْضِ هُنَاكَ لَيْسَ بِمَنْصُوصٍ لِيُرَاعَى وُجُودهُ عَلَى أَكْمَلِ الْجِهَاتِ ، ثُمَّ لِشَبَهِهِ بِالتَّبَرُّعِ شَرْطنَا فِيهِ الْقَبْض ، وَلِشَبَهِهِ بِعَقْدِ الضَّمَانِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقِسْمَةُ ، وَذَلِكَ اعْتِبَارٌ صَحِيحٌ فِيمَا لَهُ سَبَبَانِ .
وَحَدِيثُ الْكُبَّةِ فَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى وَجْهِ الْمُبَالَغَةِ فِي النَّهْيِ عَنْ الْغُلُولِ ، أَيْ : لَا أَمْلِكُ إلَّا نَصِيبِي .
فَكَيْفَ أُطَيِّبُ لَك هَذِهِ الْكُبَّةَ مِنْ الْغَنِيمَةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْ الْغَانِمِينَ أَنْ يَهَبَ نَصِيبَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَقَعُ نَصِيبُهُ ، أَوْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ، فَالْكُبَّةُ مِنْ الشَّعْرِ إذَا قُسِّمَتْ عَلَى جُنْدٍ عَظِيمٍ لَا يُصِيبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ .
وَحَدِيثُ الْمَسْجِدِ فَذَكَرَ الْوَاقِدَيْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُوَ الَّذِي اشْتَرَى مَوْضِعَ الْمَسْجِدِ بِاثْنَيْ عَشَرَ دِينَارًا وَلَئِنْ تَثْبُت الْهِبَةُ ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّ أَسْعَدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهَبَ نَصِيبَهُ ، وَلَمْ يُسْلِم حَتَّى وَهَبَ الرَّجُلَانِ نَصِيبَهُمَا ثُمَّ سَلَّمُوا جُمْلَةً ، وَعِنْدَنَا : هَذَا يَجُوزُ ؛ فَإِنَّ الْمُؤْثَرَ : الشُّيُوع عِنْدَ الْقَبْضِ
، لَا عِنْدَ الْعَقْدِ حَتَّى لَوْ وَهَبَ الْكُلَّ ، وَسَلَّمَ النِّصْفَ : لَا يَجُوزُ .
وَلَوْ وَهَبَ النِّصْفَ ثُمَّ النِّصْفَ وَسَلَّمَ الْكُلَّ : جَازَ .
قَالَ : ( وَلَوْ وَهَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ مِنْ شَرِيكِهِ مَشَاعًا فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ : لَا يَجُوزُ - عِنْدَنَا أَيْضًا - ) ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : يَجُوزُ ؛ - لِقَوْلِهِ تَعَالَى - { : فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ } .
فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الصَّدَاقَ إذَا كَانَ عَيْنًا يَتَنَصَّفُ بِالطَّلَاقِ ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ تُنْدَبُ إلَى أَنْ تَتْرُكَ الْكُلَّ لِلزَّوْجِ ، وَالزَّوْجُ يُنْدَب إلَى أَنْ يُسَلِّمَ الْكُلَّ إلَيْهَا ، وَذَلِكَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هِبَةٌ فِي الْمُشَاعِ ، ( وَعَنْ ) أَبِي السِّبَاعِ مَوْلَى عَطَاءٍ قَالَ أَقْرَضْت ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ فَقَضَانِي فِي كِيسٍ فَوَجَدْته يَزِيدُ عَلَى حَقِّي ثَمَانِينَ فَقُلْت فِي نَفْسِي : لَعَلَّهُ جَرَّبَنِي بِهَذَا فَأَتَيْته ، وَأَخْبَرْته بِذَلِكَ فَقَالَ هُوَ لَك فَهَذَا كَانَ مِنْهُ هِبَةً لِلْمُشَاعِ فِي تِلْكَ الزِّيَادَةِ مِنْ الشَّرِيكِ ؛ وَلِأَنَّ الْمَانِعَ اسْتِحْقَاق ضَمَانِ الْمُقَاسَمَةِ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي الْهِبَةِ مِنْ الشَّرِيكِ ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا بَيَّنَّا أَنَّ اشْتِرَاطَ الْقِسْمَةِ فِي الْهِبَةِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ كَاشْتِرَاطِ الْقَبْضِ ، وَفِي ذَلِكَ يَسْتَوِي الْهِبَةُ مِنْ الشَّرِيكِ وَمِنْ الْأَجْنَبِيِّ ، فَكَذَلِكَ فِي الْقِسْمَةِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْقَبْضَ فِي الْهِبَةِ لَا يُتِمُّ فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ فَقَبْضُ الشَّرِيكِ لَا يَتِمُّ بِاعْتِبَارِ مَا لَاقَاهُ فِي الْهِبَةِ ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ بِهِ وَبِغَيْرِهِ ، وَهُوَ مَا كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ ، وَمَا يُشْتَرَطُ لِإِتْمَامِ الْعَقْدِ ، فَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ ثَانِيًا فِيمَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ - دُونَ غَيْرِهِ - .
فَأَمَّا الِاسْتِدْلَال بِالْآيَةِ قُلْنَا : الْعَفْوُ حَقِيقَتُهُ : إسْقَاطٌ ، وَذَلِكَ فِي الدَّيْنِ - دُونَ الْعَيْنِ - ثُمَّ فِي الْعَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْدُوبٌ إلَى الْعَفْوِ عِنْدَنَا ، وَلَكِنْ بِطَرِيقَةٍ ، وَذَلِكَ فِي أَنْ يَهَبَ نَصِيبَهُ مِنْ صَاحِبِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ ، وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَمْنَعُ ذَلِكَ ،
وَهُوَ تَأْوِيلُ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَمَنْ ، وَجَدَ مَا يَسْتَوْفِي أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ يُمَيِّزُ لَهُ الْفَضْلَ ، وَيَأْتِي بِهِ لِيَرُدَّهُ فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ فَوَهَبَهُ لَهُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَعِنْدَنَا : هَذَا يَجُوزُ .
قَالَ : ( وَلَوْ وَهَبَ دَارًا لِرَجُلَيْنِ ، وَسَلَّمَهَا إلَيْهِمَا فَالْهِبَةُ لَا تَجُوزُ ، فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : يَجُوزُ ) ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ وَالتَّسْلِيمَ لَاقَى مَقْسُومًا ، فَإِنَّهُ حَصَلَ فِي الدَّارِ جُمْلَةً ، فَيَجُوزُ ، كَمَا لَوْ وَهَبَهَا لِرَجُلٍ وَاحِدٍ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ تَمَكُّنَ الشُّيُوعِ بِاعْتِبَارِ تَفَرُّقِ الْمَالِكِ ، وَالْمِلْكُ هُنَا حُكْمُ الْهِبَةِ ، وَحُكْمُ الشَّيْءِ يَعْقُبُهُ .
فَالشُّيُوعُ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَى مِلْكٍ يَقَعُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُمَا لَا يَكُونُ مُقْتَرِنًا بِالْعَقْدِ وَلَا تَأْثِيرَ لِلشُّيُوعِ الطَّارِئِ فِي الْهِبَةِ كَمَا لَوْ رَجَعَ الْوَاهِبُ بِالنِّصْفِ ؛ وَلِأَنَّ الْمَعْنَى اسْتِحْقَاقُ ضَمَانِ الْمُقَاسَمَةِ عَلَى الْمُتَبَرِّعِ - وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هُنَا - ؛ فَالْعَيْنُ تَخْرُجُ مِنْ مِلْكِ الْمُتَبَرِّعِ جُمْلَةً ، وَإِنَّمَا ضَمَانُ الْمُقَاسَمَةِ بَيْنَ الْمَوْهُوبِ لَهُمَا بِاعْتِبَارِ تَفَرُّقِ مِلْكِهِمَا ؛ وَلِأَنَّ تَأْثِيرَ الشُّيُوعِ فِي الرَّهْنِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي الْهِبَةِ حَتَّى لَا يَجُوزَ الرَّهْنُ فِي مُشَاعٍ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ بِخِلَافِ الْهِبَةِ ثُمَّ لَوْ رَهَنَ مِنْ رَجُلَيْنِ : جَازَ فَالْهِبَةُ أَوْلَى ، وَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا تَصِحُّ مَعَ الشُّيُوعِ ، ثُمَّ إذَا أَجَّرَ دَارِهِ مِنْ رَجُلَيْنِ : يَجُوزُ ، فَكَذَلِكَ الْهِبَةُ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : قَبْضُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَاقَى جُزْءًا شَائِعًا ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْمِلْكِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ بِحُكْمِ الْهِبَةِ ، كَمَا لَوْ وَهَبَ النِّصْفَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ تَأْثِيرَ الشُّيُوعِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْقَبْضَ لَا يَتِمُّ مَعَهُ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ هُنَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَقْبِضُ إلَّا نَصِيبَهُ ، وَلَا يَتِمُّ قَبْضُهُ مَعَ الشُّيُوعِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَانِعَ تَمَكَّنَ الشُّيُوع فِي الْمِلْكِ الْمُسْتَفَادِ بِعَقْدِ الْهِبَةِ ، حَتَّى لَوْ وَهَبَ مِنْ
رَجُلٍ النِّصْفَ ثُمَّ النِّصْفَ ، وَسَلَّمَ الْكُلَّ جُمْلَةً : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ لَا شُيُوعَ فِي الْمِلْكِ الْمُسْتَفَادِ بِعَقْدِ الْهِبَةِ .
وَلَوْ وَهَبَ رَجُلَانِ مِنْ وَاحِدٍ : يَجُوزُ مَعَ وُجُودِ الشُّيُوعِ فِي الْوَاهِبَيْنِ ، وَأَنَّهُ لَا شُيُوعَ فِي الْمِلْكِ الْمُسْتَفَادِ بِالْهِبَةِ ، وَإِنْ وَهَبَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ زَيْدٍ ، وَالْآخَرُ نَصِيبَهُ مِنْ عَمْرٍو : لَا يَجُوزُ لِتَمَكُّنِ الشُّيُوعِ فِي الْمِلْكِ الْمُسْتَفَادِ بِالْهِبَةِ فَثَبَتَ أَنَّ الْمَانِعَ هَذَا ، وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي الْهِبَةِ مِنْ رَجُلَيْنِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ جَانِبُ الْمُتَمَلِّكِ دُونَ الْمُمَلَّكِ حُكْمُ الشُّفْعَةِ ، فَإِنَّ رَجُلَيْنِ لَوْ اشْتَرَيَا دَارًا مِنْ وَاحِدٍ لَمْ يَكُنْ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ نَصِيبَ أَحَدِ الْمُشْتَرِيَيْنِ بِالشُّفْعَةِ لَتَفَرَّقَ الْمِلْك فِي جَانِبِ الْمُتَمَلِّكِ فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ جَانِبُ الْمُتَمَلِّكِ لَا جَانِبَ الْمُمَلَّكِ ، وَلَا اعْتِمَادَ عَنْ انْتِفَاءِ ضَمَانِ الْمُقَاسَمَةِ عَنْ الْوَاهِبِ ، فَإِنَّ رَجُلَيْنِ لَوْ وَهَبَا مِنْ رَجُلَيْنِ عَلَى أَنْ يَكُونَ نَصِيبُ أَحَدِهِمَا لِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ وَنَصِيبُ الْآخَرِ لِلْآخَرِ : لَا يَجُوزُ ، وَلَيْسَ عَلَى الْوَاهِبِينَ ضَمَانُ الْمُقَاسَمَةِ وَلَيْسَ هَذَا كَالرَّهْنِ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ هُنَاكَ تَمَكُّنُ الشُّيُوعِ فِي الْمَحِلِّ فَإِنَّ مُوجِبَ الرَّهْنِ الْحَبْسُ ، وَالْحَبْسُ فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ لَا يَتَأَتَّى ، وَفِي الرَّهْنِ مِنْ رَجُلَيْنِ لَا شُيُوعَ فِي الْحَبْسِ ؛ لِأَنَّ الْحَبْسَ ثَبَتَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْكُلِّ حَتَّى لَوْ قَضَى دَيْنَ أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ شَيْئًا مِنْ الرَّهْنِ مَا لَمْ يَقْبِضْ دِينَ الْآخِرِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ لَا مُضَايِقَةَ فِي الْحَبْسِ فَكَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ الْوَاحِدُ كُلُّهُ مَحْبُوسًا بِدَيْنِ زَيْدٍ وَكُلُّهُ مَحْبُوسًا بِدَيْنِ عَمْرٍو فَكَذَلِكَ الْعَيْنُ الْوَاحِدَةُ ، وَهُنَا مُوجِبُ الْعَقْدِ الْمِلْكُ ، وَلَا يَتَأَتَّى إثْبَاتُهُ بِكَمَالِهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَعَرَفْنَا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَتَمَلَّكُ جَزْءًا شَائِعًا ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ .
فَالْمَانِعُ هُنَاكَ تَعَذُّرُ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ الَّتِي تَنَاوَلَهَا
الْعَقْدُ مِنْ الْجُزْءِ الشَّائِعِ ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْإِجَارَةِ مِنْ الرَّجُلَيْنِ ، أَوْ الْمَانِعُ اسْتِحْقَاقُ عَوْدِ الْمُسْتَأْجَرِ إلَى يَدِ الْمُؤَجَّرِ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ بِحُكْمِ الْمُهَايَأَةِ ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ ، وَفِي الْإِجَارَةِ مِنْ الرَّجُلَيْنِ ، وَلِهَذَا : جَازَتْ إجَارَةُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ مِنْ شَرِيكِهِ بِخِلَافِ الْهِبَةِ ثُمَّ قَالَ فِي الْأَصْلِ : وَكَذَلِكَ فِي الصَّدَقَةِ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ إذَا تَصَدَّقَ بِمَا يَقْسِم عَلَى رَجُلَيْنِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَالْهِبَةِ ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَالَ لَوْ تَصَدَّقَ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ عَلَى فَقِيرَيْنِ : يَجُوزُ .
قَالَ الْحَاكِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ مِنْ قَوْلِهِ : وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ عَلَى الْغَنِيِّينَ فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ لِأَنَّ الْهِبَةَ مِنْ الْفَقِيرِ صَدَقَةٌ ، وَالصَّدَقَةُ عَلَى الْغَنِيِّ تَكُونُ هِبَةً ، وَإِلَّا ظَهَرَ أَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ رِوَايَتَيْنِ ، وَجْهُ رِوَايَةِ الْأَصْلِ مَا بَيَّنَّا أَنَّ تَمَامَ الصَّدَقَةِ بِالْقَبْضِ كَالْهِبَةِ ، وَقَبْضُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُلَاقِي جُزْءًا شَائِعًا ، فَلَا يَتِمُّ بِهِ الصَّدَقَةُ كَمَا لَا تَتِمُّ بِهِ الْهِبَةُ ، وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ الْمُتَصَدِّقَ يَجْعَلُ مَالَهُ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا ، وَلَا يُمَلِّكُهُ الْفَقِيرَ مِنْ جِهَةِ نَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا يُمَلَّكُهُ الْفَقِيرُ لِيَكُونَ كِفَايَةً لَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى بَعْدَ مَا تَمَّتْ الصَّدَقَةُ مِنْ جِهَتِهِ ، وَإِذَا تَصَدَّقَ عَلَى رَجُلَيْنِ فَلَا شُيُوعَ فِي الصَّدَقَةِ ؛ لِأَنَّهُ جَعَلَ جَمِيعَ الْعَيْنِ لِلَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - خَالِصًا بِخِلَافِ الْهِبَةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَهَالَةَ فِي الْمَصْرُوفِ إلَيْهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّدَقَةِ حَتَّى إذَا أَوْصَى بِثُلُثِ مَالِهِ صَدَقَةً عَلَى الْفُقَرَاءِ : يَجُوزُ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَوْصَى بِهِ لِقَوْمٍ يُحْصُونَ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ ، وَكَذَلِكَ إذَا أَوْصَى بِعَيْنٍ لِلْفُقَرَاءِ ، أَوْ لِفُلَانٍ ، وَنِصْفُهُ لِفُلَانِ ،
وَاعْتُبِرَ لِلْفُقَرَاءِ سَهْمٌ وَاحِدٌ بِالِاعْتِبَارِ أَنَّ الصَّدَقَةَ لِلَّهِ تَعَالَى لَا لِلْفُقَرَاءِ .
قَالَ : ( وَإِنْ وَهَبَ رَجُلٌ دَارًا لِرَجُلَيْنِ لِأَحَدِهِمَا ثُلُثَاهَا ، وَلِلْآخَرِ ثُلُثُهَا ، وَقَبَضَاهَا لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَيَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ) ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يَشْكُلُ ، فَإِنَّهُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ : لَا يَجُوزُ هَذَا الْإِطْلَاقُ فَعِنْدَ التَّفْصِيلِ أَوْلَى ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَهُمَا لَوْ قَالَ عَلَى أَنْ يَكُونَ النِّصْفُ لِهَذَا ، وَالنِّصْفِ لِهَذَا يَجُوزُ عِنْدَهُمَا ذَكَرَهُ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ فَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ حَالَةُ التَّفْصِيلِ مَتَى كَانَتْ لَا تُخَالِفُ حَالَةَ الْإِجْمَالِ فَالتَّفْصِيلُ لَغْوٌ ، وَمَتَى كَانَتْ تُخَالِفُ حَالَةَ الْإِجْمَالِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ التَّفْصِيلِ ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الْعَاقِلِ مُعْتَبَرٌ لِفَائِدَتِهِ لِعَيْنِهِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا لَا يُعْتَبَرُ ، وَإِذَا نُصَفّ بَيْنَهُمَا فَالتَّفْصِيلُ لَا يُخَالِفُ الْإِجْمَالَ ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الْعَقْدِ عِنْدَ الْإِجْمَالِ أَنْ يَمْلِكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفَ ، فَلَا يُعْتَبَرُ تَفْصِيلُهُ ، وَإِذَا تَفَاوَتَ بَيْنَهُمَا فَالتَّفْصِيلُ يُخَالِفُ الْإِجْمَالَ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ فَإِذَا اُعْتُبِرَ بِتَفَرُّقِ الْعَقْدِ فَكَأَنَّهُ أَوْجَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْعَقْدَ فِي جُزْءٍ شَائِع عَلَى حِدَةٍ ، وَقَاسَ الرَّهْنَ ، فَإِنَّهُ لَوْ رَهَنَ مِنْ رَجُلَيْنِ مُطْلَقًا : يَجُوزُ ، وَإِذَا فَصَلَ : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ بِالتَّفْصِيلِ يَتَفَرَّقُ الْعَقْدُ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يَسْتَوِي إنْ فَصْلَ ، أَوْ سَوَّى فِي التَّفْصِيلِ لِمُخَالِفَةِ حَالَةِ التَّفْصِيلِ حَالَةَ الْإِجْمَالِ فِي الْوَجْهَيْنِ ، فَإِنَّ عِنْدَ الْإِجْمَالِ يَثْبُتُ حَقُّ الْحَبْسِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْكُلِّ ، وَعِنْدَ التَّفْصِيلِ : لَا يَثْبُتُ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : الْعَقْدُ وَالتَّسْلِيمُ مِنْ الْوَاهِبِ جُمْلَةٌ وَإِنْ فُصِّلَ وَفُصِّلَ : يَجُوزُ إذَا أَطْلَقَ أَوْ سَوَّى فِي التَّفْصِيلِ ، وَهَذَا لِوَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ الْإِطْلَاقَ فِي الْهِبَةِ كَالتَّفْصِيلِ
حَتَّى لَوْ وَهَبَ لِرَجُلَيْنِ عَيْنًا لَا تَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَقَبِلَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ : لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ فَرَّقَ الْعَقْد .
وَالثَّانِي أَنَّ الْعَقْدَ مَتَى كَانَ جُمْلَةً عِنْدَ الْإِطْلَاقِ .
فَبِالتَّفْصِيلِ لَا يَتَفَرَّقُ فِي عُقُودِ التَّمَلُّكَاتِ كَمَا فِي الْبَيْعِ ، فَإِنَّ رَجُلًا لَوْ بَاعَ ثَوْبَيْنِ مِنْ رَجُلٍ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا فَقَبِلَ الْمُشْتَرِي الْعَقْدَ فِي أَحَدِهِمَا : لَا يَجُوزُ ، وَلَوْ قَبِلَ فِيهِمَا ثُمَّ نَقَدَ الثَّمَنَ فِي أَحَدِهِمَا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَقْبِضَ مَا نَقَدَ ثَمَنَهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ فَصْلَ ، وَسَمَّى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَمَنَهُ ، فَعَرَفْنَا أَنَّ بِالتَّفْصِيلِ لَا يَتَفَرَّقُ الْعَقْدَ .
فَالشُّيُوعُ بِاعْتِبَارِهِ لَا يُفَرَّقُ الْعَقْد ، وَإِنَّمَا يَكُونُ طَارِئًا بَعْدَ مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُمَا ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُؤَثِّر فِي الْمَنْعِ مِنْ الْهِبَةِ فَأَمَّا فِي الرَّهْنِ فَالْمَانِعُ تَمَكُّنُ الشُّيُوعِ فِي الْمَحِلِّ فِيمَا هُوَ مُوجِب الْعَقْد ، وَهُوَ الْحَبْسُ ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ عِنْدَ التَّفْصِيلِ ، وَإِنْ كَانَتْ الصَّفْقَةُ وَاحِدَةً ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَهَبَهُ عَيْنًا بِدَيْنَيْنِ نِصْفَهُ بِأَحَدِ الدَّيْنَيْنِ وَنِصْفُهُ بِالدَّيْنِ الْآخَرِ : لَا يَجُوزُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِي الْهِبَةِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْعَقْدِ لَا يَمْنَعُ صِحَّتهُ لِتَمَكُّنِ الشُّيُوعِ فِيمَا هُوَ مُوجِب الْعَقْد ، وَهُوَ الْمِلْكُ الْمُسْتَفَادُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
قَالَ : ( وَلَوْ وَهَبَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نَصِيبَهُ مِنْ الدَّارِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ لَمْ يَجُزْ ) ؛ لِأَنَّ الْإِيجَابَ ، وَالتَّسْلِيم لَاقَى جُزْءًا شَائِعًا ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا الْإِشْكَال ، وَهُوَ أَنَّ ضَمَانَ الْمُقَاسَمَةِ هُنَالِكَ لَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الْمُتَبَرِّعِ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الشَّرِيكِ ، وَلَكِنْ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَمَشَّى فِي جَمِيعِ الْفُصُولِ كَالْهِبَةِ مِنْ الشَّرِيكِ ، وَيَجُوزُ ذَلِكَ وَإِنَّ الْحَرْفَ الَّذِي يَتَمَشَّى : أَنَّ الْقَبْضَ لَا يَتِمُّ مَعَ الشُّيُوعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ .
قَالَ : ( وَإِنْ وَهَبَ رَجُلٌ لِرَجُلَيْنِ أَلْفَ دِرْهَمٍ لِأَحَدِهِمَا سِتَّمِائَةٍ ، وَلِلْآخَرِ أَرْبَعَمِائَةٍ فَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةِ وَأَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - وَيَجُوزُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ) .
وَهَذَا وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ هِبَةِ الدَّارِ إذَا فَصَلِّ وَفَصْل سَوَاءٌ .
قَالَ : ( رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ دِينَارًا لَهُ عَلَى رَجُلٍ ، وَأَمَرَهُ بِقَبْضِهِ : جَازَ ذَلِكَ - اسْتِحْسَانًا - ) ، وَفِي الْقِيَاسِ : لَا يَجُوزُ ، وَهُوَ قَوْلُ زَفَرَ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَيْسَ بِمَالٍ ، حَتَّى أَنَّ مَنْ حَلَفَ وَلَا مَالَ لَهُ ، وَلَهُ دِينٌ عَلَى إنْسَانٍ : لَا يَحْنَثُ فِي يَمِينه .
وَالْهِبَةُ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ لِتَمْلِيكِ الْمَالِ فَإِذَا أُضِيفَ إلَى مَا لَيْسَ بِمَالٍ لَا يَصِحُّ بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ كَمَا لَوْ ، وُهِبَ مُسْلِمٌ خَمْرًا مِنْ مُسْلِمٍ لَا يَصِحُّ بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ ، وَهُوَ التَّحَلُّلُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ : أَنَّ بَيْعَ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مِنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ مَشْرُوعٌ لِتَمْلِيكِ الْمَالِ ، فَالْهِبَةُ مِثْلُهُ أَوْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ ، وَقَبْضُ مَا فِي ذِمَّةِ الْغَيْرِ لَا يُتَصَوَّرُ ، وَلَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِهِ إذَا قَبَضَهُ ؛ لِأَنَّ تَمَامَ عَقْدِ الْهِبَةِ بِقَبْضِ مَا أُضِيفَ إلَيْهِ الْعَقْدُ إلَى الدَّيْنِ ، وَالْمَقْبُوضُ عَيْنٌ ، وَالْعَيْنُ غَيْرُ الدَّيْنِ وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ أَنَابَهُ فِي الْقَبْضِ مَنَابَ نَفْسِهِ فَيَجْعَلُ قَبَضَ الْمَوْهُوبِ لَهُ كَقَبْضِ الْوَاهِبِ ، وَلَوْ قَبَضَهُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ وَهَبَهُ ، وَسَلَّمَهُ : جَازَ وَكَذَلِكَ إذَا أَمَرَ أَنْ يَقْبِضَهُ لَهُ ثُمَّ لِنَفْسِهِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ فِي بَابِ الْهِبَةِ : الْمُعْتَبَر وَقْت الْقَبْضِ ، فَإِنَّ الْمِلْكَ عِنْدَهُ يَثْبُتُ ، دَلِيلُ مَا بَيَّنَّا مِنْ فَصْلِ الشُّيُوعِ ، وَعِنْدَ الْقَبْضِ هُوَ مَالٌ قَابِلٌ لِلتَّمْلِيكِ كَسَائِرِ الْأَسْبَابِ فَكَذَلِكَ بِالْهِبَةِ وَالْمَقْبُوضِ ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ الدَّيْنِ حَقِيقَةً جُعِلَ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ هُوَ بِدَلِيلِ جَوَازِ الْقَبْضِ فِي الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ مَعَ حُرْمَةِ الِاسْتِبْدَالِ فِيهِمَا ، وَلَيْسَ الْبَيْعُ نَظِيرَ الْهِبَةِ ، فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ وَقْتَ الْعَقْدِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَيْنَ مَالٍ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ مَعَ أَنَّ الدَّيْنَ فِي الذِّمَّةِ يَقْبَلُ التَّمْلِيكَ بِالْعَقْدِ ، فَإِنَّهُ لَوْ
بَاعَهُ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْن بِعِوَضٍ : جَازَ وَلَوْ ، وَهَبَهُ مِنْهُ : جَازَ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مَالٌ قَابِلٌ لِلتَّمْلِيكِ حُكْمًا ، وَلِهَذَا تَجِبُ الزَّكَاةُ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَالشَّرْطُ فِي عَقْدِ التَّمْلِيكِ أَنْ يُضَافَ إلَى مَحِلٍّ قَابِلٍ لَهُ ، وَقَدْ وَجَدْتُمْ لُزُومَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَعِنْدَ الْقَبْضِ بِحُكْمِ الْهِبَةِ هُوَ عَيْنٌ فَيَتِمُّ الْعَقْدُ .
قَالَ : ( رَجُلٌ رَهَنَ عَبْدَهُ مِنْ رَجُلٍ ، وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ ثُمَّ وَهَبَهُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ لَمْ يَجُزْ ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِهِ فَالْيَدُ بِعَقْدِ الرَّهْنِ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ لِلْمُرْتَهِنِ ، فَلَا يَكُونُ الْأَبُ قَابِضًا لِوَلَدِهِ مَا لَيْسَ فِي يَدِهِ ؛ وَلِأَنَّهُ يَبْطُلُ بِهِ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ ، وَهُوَ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ ، فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ غَصَبَ عَبْدَهُ غَاصِبٌ فَوَهَبَهُ لِابْنِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي يَدِ الْمَغْصُوب مِنْهُ حَقِيقَةً ، وَلَا حُكْمًا ، فَإِنَّهُ مَضْمُونٌ عَلَى الْغَاصِبِ ، وَإِنَّمَا يُضْمَنُ بِتَفْوِيتِ يَدِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ - بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ إذَا وَهَبَهَا مِنْ أَبِيهِ - ؛ لِأَنَّ يَدَ الْمُودَعِ فِي الْحُكْمِ كَيَدِ الْمُودِعِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ قَابِضًا لِوَلَدِهِ بِالْيَدِ الَّتِي هِيَ قَائِمَةٌ مَقَامَ يَدِهِ ، فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ قُلْتُمْ إذَا وَهَبَ الْوَدِيعَةَ مِنْ الْمُودَعِ : جَازَ ، وَلَوْ كَانَتْ يَدُهُ كَيَدِ الْمُودِعِ لَمْ يَكُنْ قَابِضًا لِنَفْسِهِ بِحُكْمِ يَدِهِ ( قُلْنَا ) : فِي الْحَقِيقَةِ : الْيَدُ لِلْمُودِعِ ، فَبِاعْتِبَارِ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ يَجْعَلُهُ قَابِضًا لِنَفْسِهِ ، ثُمَّ إنَّمَا قَامَتْ يَدُهُ مَقَامَ يَدِ الْمُودِعِ مَا دَامَ هُوَ فِي الْحِفْظِ عَامِلًا لِلْمُودِعِ ، وَذَلِكَ قَبْلَ التَّمْلِيكِ بِالْهِبَةِ فَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ ، وَلَوْ بَاعَهُ بَيْعًا فَاسِدًا ، وَسَلَّمَهُ أَوْ بَاعَهُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي ثُمَّ وَهَبَهُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْ مِلْكِهِ بِتَصَرُّفَاتِهِ ، فَإِنَّمَا وَهَبَ مَا لَا يَمْلِكُ ، وَلِأَنَّ الْيَدَ لِغَيْرِهِ حَقِيقَةً ، وَحُكْمًا حِينَ كَانَ فِي ضَمَانِ الْغَيْرِ .
قَالَ : ( وَلَا يَجُوزُ هِبَةُ الْمُكَاتَبِ كَمَا لَا يَجُوزُ عِتْقُهُ ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ مَحْضٌ ، وَلَوْ أَجَازَهُ الْمَوْلَى فَكَذَلِكَ ) ؛ لِأَنَّ إجَازَةَ الْمَوْلَى إنَّمَا يُعْمَلُ فِيهَا بِمِلْكٍ الْمَوْلَى أَنْشَأَهُ ، وَهُوَ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ فِي كَسْبِ الْمُكَاتَبِ .
قَالَ : ( رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ مَا عَلَى ظَهْرِ غَنَمِهِ مِنْ الصُّوفِ ، أَوْ مَا فِي ضُرُوعِ غَنَمِهِ مِنْ اللَّبَنِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ ) ؛ لِأَنَّ الصُّوفَ وَاللَّبَنَ مَا دَامَ مُتَّصِلًا بِالْحَيَوَانِ فَهُوَ لَيْسَ بِمَالٍ مَقْصُودٍ بِنَفْسِهِ ، وَلَكِنَّهُ وَصْفُ الْحَيَوَانِ ، وَعَقْدُ التَّمْلِيكِ - مَقْصُودًا - لَا يَتِمُّ فِيمَا لَيْسَ بِمَالٍ مَقْصُودٍ ، فَإِنْ أَمَرَهُ بِجَزِّ الصُّوفِ وَحَلْبِ اللَّبَنِ وَقَبْضِ ذَلِكَ : اسْتَحْسَنْت أَنْ أُجِيزَهُ ، وَهَذَا لِوَجْهَيْنِ : إحْدَاهُمَا : أَنَّ الصُّوفَ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ وَاللَّبَنَ فِي الضَّرْعِ مَحِلٌّ لِلتَّمْلِيكِ بِدَلِيلِ جَوَازِ الْوَصِيَّةِ بِهِ ، وَجَوَازِ الصُّلْحِ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الصُّوفِ ، وَتَمَامُ عَقْدِ الْهِبَةِ بِالْقَبْضِ فَإِذَا كَانَ قَبَضَهُ بَعْدَ الْجُزَازِ ، وَهُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي هَذِهِ الْحَالِ يَتِمُّ فِيهِ الْهِبَةُ كَمَا بَيَّنَّا فِي الدَّيْنِ .
( وَالثَّانِي ) : أَنَّ امْتِنَاعَ جَوَازِ الْهِبَةِ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ مُتَّصِلٌ بِمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ مِنْ مِلْكِ الْوَاهِبِ - مَعَ إمْكَانِ الْفَصْلِ - فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الشَّائِعِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَوْ وَهَبَ شَيْئًا مُشَاعًا ثُمَّ قُسِّمَ ، وَسُلِّمَ مَقْسُومًا : تَمَّتْ الْهِبَةُ فَهَذَا مِثْلُهُ ، وَكَذَلِكَ ثَمَرُ الشَّجَرَةِ وَالزَّرْعِ إذَا حَصَدَهُ ، فَهُوَ عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ الَّذِي ذَكَرْنَا ، .
قَالَ : ( وَلَا يَجُوزُ هِبَةُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي التِّجَارَاتِ دُونَ التَّبَرُّعَاتِ ، فَإِنْ أَجَازَهُ مَوْلَاهُ ، وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ : جَازَ ) ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُ خَالِصُ حَقِّهِ يَمْلِكُ مُبَاشَرَةً الْهِبَةَ فِيهِ فَيَنْفُذُ بِإِجَازَتِهِ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دِينٌ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ ، وَإِنْ أَجَازَهُ الْمَوْلَى وَالْغُرَمَاءُ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ فِي دَيْنِهِمْ لَا يَسْقُطُ بِإِجَازَةِ الْهِبَةِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِإِجَازَتِهِمْ ، وَالْمَوْلَى لَا يُمَلَّكُ مُبَاشَرَةً الْهِبَةَ بِنَفْسِهِ ، فَلَا تُعْمَلُ إجَازَتُهُ أَيْضًا .
قَالَ : ( وَلَوْ وَهَبَ لَهُ مَا يُثْمِرُ النَّخِيلَ الْعَام لَمْ يَجُزْ ) ؛ لِأَنَّهُ مَعْدُومٌ فِي الْحَالِ ، وَالْمَعْدُومُ لَيْسَ بِشَيْءٍ بِنُفُوذِ الْعِتْقِ .
وَفِي الْهِبَةِ : لَوْ اسْتَثْنَى مَا فِي الْبَطْنِ قَصْدًا لَمْ تَبْطُلْ الْهِبَةُ .
فَكَذَلِكَ إذَا صَارَ مُسْتَثْنًى حُكْمًا ، وَذُكِرَ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ أَنَّهُ لَوْ دَبَّرَ مَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ ثُمَّ وَهَبَ الْجَارِيَةَ لَمْ يَجُزْ ، وَقِيلَ : فِي الْفَصْلَيْنِ رِوَايَتَانِ : فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لَا يَجُوزُ فِيهِمَا ؛ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ مَشْغُولٌ بِمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ فَهُوَ كَمَا لَوْ وَهَبَ دَارًا فِيهَا مَتَاعُ الْوَاهِبِ ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى : يَجُوزُ فِيهِمَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَثْنَى الْوَلَدَ قَصْدًا لَمْ تَبْطُلْ بِهِ الْهِبَةُ فِي الْأُمِّ .
فَكَذَلِكَ إذَا صَارَ مُسْتَثْنًى حُكْمًا ، وَالْأَصَحُّ هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ، فَإِنَّ التَّدْبِيرَ لَا يُزِيلُ مِلْك الْمُدْبِرِ ، وَالْمَوْهُوبُ مُتَّصِلٌ بِمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ فِي مِلْكِ الْوَاهِبِ فَكَانَ ذَلِكَ فِي مَعْنَى هِبَةِ الْمُشَاعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَأَمَّا الْعِتْقُ ، فَإِنَّهُ يُزِيلُ مِلْكَ الْمُعْتَقِ فَإِذَا وَهَبَ الْأُمَّ بَعْدَ إعْتَاق الْجَنِينِ فَالْمَوْهُوبُ غَيْرُ مُتَّصِلٍ بِمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ فِي مِلْكِ الْوَاهِبِ فَهُوَ كَمَا لَوْ وَهَبَ أَرْضًا فِيهَا ابْنُ الْوَاهِبِ وَاقِفٌ ، وَسَلَّمَهَا إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ تَمَّتْ الْهِبَةُ فَكَذَلِكَ هُنَا .
قَالَ : ( وَلَا يَجُوزُ لِلْأَبِ أَنْ يَهَبَ مِنْ مَالِ ابْنِهِ الصَّغِيرِ شَيْئًا ) ؛ لِأَنَّهُ صَارَ نَائِبًا عَنْ الصَّغِيرِ فِي التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ بِالتَّبَرُّعِ لَا يَحْصُلْ ؛ فَهُوَ كَسَائِرِ الْأَجَانِبِ كَمَا لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ .
قَالَ : ( عَبْدٌ مَأْذُونٌ ، عَلَيْهِ دَيْنٌ كَثِيرٌ وَهَبَهُ مَوْلَاهُ لِرَجُلٍ لَمْ تَجُزْ هِبَتُهُ ، وَالدَّيْنُ فِي رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهِ إلَّا أَنْ يُؤَدِّي عِنْدَ مَوْلَاهُ الَّذِي فِي يَدِهِ ) .
وَمَعْنَى قَوْلِهِ : لَمْ يَجُزْ أَنَّ الْهِبَةَ لَا تَتِمُّ ، وَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يُبْطِلُوا هِبَتَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مَالِكٌ لِرَقَبَتِهِ ، وَلَكِنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ سَابِقٌ عَلَى حَقِّهِ فِي مَالِيَّتِهِ ، وَفِي إتْمَامِ الْهِبَةِ إبْطَالُ هَذَا الْحَقِّ عَلَيْهِمْ ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِي أَصْلِ التَّمْلِيكِ إبْطَالُ حَقِّهِمْ فَيَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلْمَوْهُوبِ لَهُ مَشْغُولًا عَنْ الْغُرَمَاءِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ فِي مِلْكِ الْوَاهِبِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَهُ مَقَامَ نَفْسِهِ فِي مِلْكِ الرِّقْبَةِ ، وَلَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ فِيمَا هُوَ خَالِصُ حَقِّهِ ، وَلِهَذَا لَوْ قَضَى الْمَوْهُوبُ لَهُ دَيْنَهُ كَانَ سَالِمًا لَهُ ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَ الْغُرَمَاءِ مِنْ إبْطَالِ مِلْكِهِ لِقِيَامِ دَيْنِهِمْ ، وَقَدْ وَصَلَ إلَى الْغَرِيمِ حَقَّهُ .
قَالَ : ( فَإِنْ ذَهَبَ الْمَوْهُوب لَهُ بِالْعَبْدِ ، وَلَمْ يَقْدِر عَلَيْهِ فَلِلْغُرَمَاءِ أَنْ يَأْخُذُوا الْوَاهِب بِقِيمَتِهِ يَوْم وَهَبَ ) ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَتْلَفَ حَقّهمْ بِالتَّمْلِيكِ مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَالتَّسْلِيم فَيَصِير ضَامِنًا قِيمَته لَهُمْ كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ .
قَالَ : ( وَلَوْ وَهَبَ لَهُ مَا فِي بَطْنِ أَمَتِهِ ، وَسَلَّطَهُ عَلَى قَبْضِهِ بَعْدَ الْوَضْعِ فَقَبَضَهُ لَمْ يَجُزْ ) ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ هِبَةِ الدَّيْنِ ، وَالصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ ، وَفِي الْكِتَابِ قَالَ - مِنْ قَبْلُ - : أَنَّهُ وَهَبَ لَهُ مَا لَمْ يَكُنْ بَعْدُ ، فَإِنَّهُ وَهَبَ لَهُ الْوَلَدَ ، وَقَبْلَ الِانْفِصَالِ لَا يَكُونُ وَلَدًا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَهَبَ لَهُ دُهْنُ سِمْسِمٍ قَبْلَ أَنْ يَعْتَصِرَ ، وَسَلَّطَهُ عَلَى قَبْضِهِ إذَا عُصِرَ أَوْ وَهَبَ الزَّيْتَ فِي الزَّيْتُونِ ، وَالدَّقِيقَ فِي الْحِنْطَةِ قَبْلَ الطَّحْنِ ، وَالسَّمْنَ فِي اللَّبَنِ قَبْلَ أَنْ يَتَمَخَّضَ ، فَهَذَا كُلُّهُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ هِبَةٌ ، وَإِضَافَةُ عَقْدِ التَّمْلِيكِ إلَى غَيْرِ مَحِلِّهِ لَغْوٌ .
( فَإِنْ قِيلَ ) : لَا ، كَذَلِكَ فَالْوَصِيَّةُ بِمَا يُثْمِرُ نَخِيلُهُ الْعَام صَحِيحٌ ( قُلْنَا ) : الْوَصِيَّةُ لَيْسَتْ بِعَقْدِ تَمْلِيكِ مَالٍ ، وَإِنَّمَا شُرِّعَتْ لِلْخِلَافَةِ عَنْ الْمُوصِي ثُمَّ الْمِلْكُ مِنْ ثَمَرَاتِهِ ، وَلِهَذَا لَا يَتَوَقَّفُ ثُبُوتُ الْمِلْكِ فِيهِ عَلَى الْقَبْضِ ، وَهُنَا الْعَقْدُ عَقْدُ التَّمْلِيكِ ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ إضَافَتِهِ إلَى مَا هُوَ مَمْلُوكٌ لِيَعْتَبِرُوا الْمِلْك لَا يَسْبِقُ الْوُجُودَ ، وَبِهِ فَارَقَ مَا سَبَقَ مِنْ الصُّوفِ وَاللَّبَنِ ، فَإِنَّهُ مَوْجُودٌ مَمْلُوكٌ ، وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِالْحَيَوَانِ ، فَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ جَوَازُ بَيْعِهِ لِتَمَكُّنِ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا عِنْدَ التَّسْلِيمِ ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْهِبَةِ ، ثُمَّ الْجِزَازُ ، وَالْحَلْبُ ، وَالْقَبْضُ فِي اللَّبَنِ فِي وُسْعِهِ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَل فِيهِ نَائِبًا عَنْ الْوَاهِبِ ثُمَّ قَابِضًا لِنَفْسِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَأَمَّا الْإِيجَابُ فِي الثِّمَارِ لَيْسَ إلَيْهِ .
قَالَ : ( وَكَذَلِكَ لَوْ وَهَبَ لَهُ مَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ - وَهِيَ حُبْلَى - أَوْ مَا فِي بَطْنِ غَنَمِهِ ؛ فَهُوَ بَاطِلٌ ) مِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ يَقُولُ : إنْ أَمَرَهُ بِقَبْضِهِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَقَبَضَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ - اسْتِحْسَانًا - كَمَا فِي الصُّوفِ
وَاللَّبَنِ .
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ مَا فِي الْبَطْنِ لَيْسَ بِمَالٍ أَصْلًا ، وَلَا يُعْلَمُ وُجُودُهُ حَقِيقَةً ؛ وَلِأَنَّ إخْرَاجَ الْوَلَدِ مِنْ الْبَطْنِ لَيْسَ إلَيْهِ ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ فِي ذَلِكَ نَائِبًا عَنْ الْوَاهِبِ بِخِلَافِ الْجِزَازِ فِي الصُّوفِ ، وَالْحَلْبِ فِي اللَّبَنِ ، وَمَعْنَى هَذَا الْفَرْقِ : أَنَّ فِيمَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ - لَوْ جَازَ الْعَقْدُ بِاعْتِبَارِهِ - كَانَ تَعْلِيقًا لِلْهِبَةِ بِالْخَطَرِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ ، وَمَا فِي وُسْعِهِ يَكُونُ تَأْخِيرًا لِمِلْكِهِ إلَى قَبْضِهِ لَا تَعْلِيقًا لِلْهِبَةِ بِالْخَطَرِ ، وَذَلِكَ جَائِزٌ .
قَالَ : ( وَلَوْ أَعْتَقَ مَا فِي بَطْنِ جَارِيَتِهِ ثُمَّ وَهَبَهَا لِرَجُلٍ ، وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ : جَازَتْ الْهِبَةُ فِي الْأُمِّ ، فَإِنْ بَاعَهَا لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ ) ؛ لِأَنَّهُ لَوْ بَاعَ جَارِيَتَهُ ، وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ ، وَلَوْ وَهَبَهَا وَاسْتَثْنَى مَا فِي بَطْنِهَا : جَازَتْ الْهِبَةُ فِي الْأُمِّ وَالْوَلَدِ ، وَالِاسْتِثْنَاءُ بَاطِلٌ .
أَمَّا مَسْأَلَةُ اسْتِثْنَاءِ مَا فِي الْبَطْنِ تَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ ( قِسْمٌ مِنْهَا ) لَا يُجَوَّز أَصْل التَّصَرُّفِ ، وَهُوَ الْبَيْعُ وَالْإِجَارَةُ وَالرَّهْنُ ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَى الْأَمْرِ دُخُولُ الْوَلَدِ فِيهِ ، وَاسْتِثْنَاءُ مُوجِبِ الْعَقْدِ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فَاسِدٌ ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَائِزِ مِنْ الشَّرْطِ فَالشَّرْطُ الْفَاسِدُ يُبْطِلُهُ ، ( وَقِسْمٌ مِنْهَا ) يُجَوَّزُ التَّصَرُّف ، وَيُبْطِلُ الشَّرْط وَهُوَ النِّكَاحُ وَالْخُلْعُ وَالصُّلْحُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَالْهِبَةِ ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ لَا يُبْطِلُ هَذِهِ الْعُقُودَ بَلْ الْعَقْدُ صَحِيحٌ ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ أَجَازَ الْعُمْرَى وَأَبْطَلَ الرُّقْبَى .
( وَقِسْمٌ ) يُجَوِّزُ التَّصَرُّفَ وَالِاسْتِثْنَاءَ جَمِيعًا ، وَهُوَ الْوَصِيَّةُ ؛ لِأَنَّ فِي حُكْمِ الْوَصِيَّةِ مَا فِي الْبَطْنِ كَأَنَّهُ شَخْصٌ عَلَى حِدَةٍ حَتَّى يَجُوزَ إفْرَادُهُ بِالْوَصِيَّةِ ، فَيَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى السِّرَايَةِ بِخِلَافِ الْعِتْقِ ، فَإِذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ فِي الْبَيْعِ لَوْ اسْتَثْنَى مَا فِي الْبَطْنِ قَصْدًا لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ فَكَذَلِكَ إذَا صَارَ مُسْتَثْنًى حُكْمًا الْمَعْدُوم ، فَإِنَّ الدُّهْنَ حَادِثٌ بِالْعَصِيرِ ، وَالدَّقِيقَ بِالطَّحْنِ ، وَلِهَذَا لَوْ فَعَلَهُ الْغَاصِبُ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ قَبْلَ الطَّحْنِ فِي الْحِنْطَةِ ، وَالدَّقِيق غَيْر الْحِنْطَةِ ، وَكَوْنُ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ مُثَنًّى فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مُسْتَحِيلٌ ؛ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ
أَضَافَ الْعَقْدَ إلَى الْمَعْدُومِ ، وَكَانَ لَغْوًا ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ ، فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ يَجُوزُ فِي الْوَصِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُهُ ، وَلَيْسَ بِإِيجَابٍ لِلْمِلْكِ ، ثُمَّ قَالَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ : وَكَذَلِكَ اللَّبَنُ فِي ضَرْعِ الشَّاةِ ، وَالصُّوفُ عَلَى ظَهْرِهَا .
وَهَذَا غَلَطٌ فَقَدْ قِيلَ هَذَا فِي الصُّوفِ وَاللَّبَنِ إذَا أُذِنَ لَهُ فِي الْحَلْبِ ، وَالْجَزّ ، وَقَبَضَ ذَلِكَ : جَازَ - اسْتِحْسَانًا - وَبِمَا بَيَّنَّا يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا .
قَالَ : ( وَإِذَا وَهَبَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ نِصْفَ عَبْدٍ ، أَوْ ثُلُثَهُ ، وَسَلَّمَهُ : جَازَ ) ؛ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يُقَسِّمُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هِبَةَ الْمُشَاعِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ صَحِيحَةٌ فَإِذَا وَهَبَ جُزْءًا مُسَمًّى ، وَسَلَّمَهُ بِالتَّخْلِيَةِ : جَازَ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَمَسُّ إلَى إيجَابِ التَّبَرُّعِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ فَلَوْ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ ضَاقَ الْأَمْرُ عَلَى النَّاسِ لِإِبْطَالِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ التَّصَرُّفِ عَلَيْهِمْ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ أَصْلًا بِخِلَافِ مَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ، فَإِنَّهُ يَتَأَخَّرُ فِيهِ التَّصَرُّفُ إلَى الْقِسْمَةِ ، وَلَا يَبْطُلُ أَصْلًا ، فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الضَّرُورَةُ .
قَالَ : ( وَإِنْ وَهَبَ عَبْدَهُ لِرَجُلَيْنِ أَوْ وَهَبَ رَجُلَانِ لِرَجُلٍ ، أَوْ وَهَبَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ لِشَرِيكِهِ ، أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ ، وَسَلَّمَهُ فَهُوَ جَائِزٌ كُلُّهُ ) ؛ لِأَنَّ الْمَوْهُوبَ مَعْلُومٌ ، وَلَا أَثَرَ فِي الشُّيُوعِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْهِبَةِ فِي هَذَا الْمَحِلِّ ، وَإِنْ قَالَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لِرَجُلٍ : قَدْ وَهَبْت لَك نَصِيبِي مِنْ هَذَا الْعَبْدِ فَاقْبِضْهُ ، وَلَمْ يُسَمِّهِ لَهُ ، وَلَمْ يُعْلِمْهُ إيَّاهُ : لَمْ يَجُزْ ؛ لِجَهَالَةِ الْمَوْهُوبِ ، وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّرِيكِ الْآخَرِ ، وَلِأَنَّ الْمَجْهُول لَا يَجُوز تَمْلِيكه بِشَيْءٍ مِنْ الْعُقُودِ قَصْدًا .
قَالَ : ( وَلَوْ وَهَبَ رَجُلٌ لِرَجُلَيْنِ نِصْفَ عَبْدَيْنِ ، أَوْ نِصْفَ ثَوْبَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ ، أَوْ نِصْفَ عَشَرَةِ أَثْوَابٍ مُخْتَلِفَةٍ نَمَطِيٍّ ، وَمَرْوِيٍّ ، وَهَرَوِيٍّ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ : جَازَ ) ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الثِّيَابِ لَا تُقْسَمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً فَكَانَ وَاهِبًا لِنَصِيبِهِ مِنْ نِصْفِ كُلِّ ثَوْبٍ ، وَكُلُّ ثَوْبٍ لَيْسَ بِمُحْتَمِلٍ لِلْقِسْمَةِ فِي نَفْسِهِ ، وَكَذَلِكَ الدَّوَابُّ الْمُخْتَلِفَةُ عَلَى هَذَا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ لَمْ تَجُزْ هِبَتُهُ إلَّا مَقْسُومًا ؛ لِأَنَّ الثِّيَابَ إذَا كَانَتْ مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ تُقْسَمُ قِسْمَةً وَاحِدَةً ، وَالدَّوَابُّ كَذَلِكَ ، فَإِنَّمَا وَهَبَ النِّصْفَ مُشَاعًا فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ .
قَالَ : ( وَإِنْ وَهَبَ نَصِيبًا لَهُ فِي حَائِطٍ ، أَوْ طَرِيقٍ ، أَوْ حَمَّامٍ ، وَسُمِّيَ وَسَلَّطَهُ : فَهُوَ جَائِزٌ ) ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لِلْقِسْمَةِ ؛ فَإِنَّهُ إذَا قُسِمَ لَا يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ، وَهَذَا هُوَ صِفَةُ مَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ .
قَالَ : ( وَلَوْ وَهَبَ نِصْفَ دَارِهِ لِرَجُلٍ ، وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ ثُمَّ وَهَبَ نِصْفَهَا الْآخَرَ لِرَجُلٍ : لَمْ يَجُزْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ) ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَقْدَيْنِ لَوْ تَمَّ إنَّمَا يَتِمُّ فِي مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ، وَإِنْ لَمْ يُسَلِّمْ النِّصْفَ الْأَوَّلَ حَتَّى وَهَبَ النِّصْفَ الثَّانِي لِلثَّانِي ثُمَّ سَلَّمَ الدَّارَ إلَيْهِمَا : جَازَتْ الْهِبَةُ لَهُمَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَهَبَ الدَّارَ لَهُمَا جُمْلَةً ، ( وَإِنْ وَهَبَ لِرَجُلٍ نِصْفَهَا ثُمَّ قَسَمَهَا ، وَدَفَعَ النِّصْفَ إلَيْهِ : جَازَ ) ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ : عِنْدَ الْقَبْضِ ، وَلَا شُيُوعَ عِنْدَ ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
بَابُ الْعِوَضِ فِي الْهِبَةِ قَالَ : ( وَإِذَا عَوَّضَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْوَاهِبَ مِنْ هِبَتِهِ عِوَضًا ، وَقَبَضَهُ الْوَاهِبُ لَمْ يَكُنْ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ ، وَلَا لِلْمُعَوِّضِ أَنْ يَرْجِعَ فِي عِوَضِهِ ) .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعِوَضَ فِي الْهِبَةِ نَوْعَانِ : مُتَعَارَفٌ وَمَشْرُوطٌ .
فَبَدَأَ الْبَابُ بِبَيَانِ مَا هُوَ مُتَعَارَفٌ مِنْ الْعِوَضِ غَيْر مَشْرُوطٍ ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الْمُعَوِّضَ بِمَنْزِلَةِ الْوَاهِبِ حَتَّى يَشْتَرِطَ فِي الْعِوَضِ مَا يَشْتَرِطَ فِي ابْتِدَاءِ الْهِبَةِ ، فَلَا يَحْصُلُ الْمِلْكُ لِلْوَاهِبِ إلَّا بِالْقَبْضِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُعَوِّضَ مُتَبَرِّعٌ مُخْتَارٌ فِي هَذَا التَّمْلِيكِ - كَالْوَاهِبِ - وَبَعْدَ وُصُولِ الْعِوَضِ إلَى الْوَاهِبِ لَا رُجُوعَ لَهُ فِي الْهِبَةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : مَا لَمْ يُثَبْ مِنْهَا .
وَحُكْمُ مَا بَعْدَ الْغَايَةِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَهُ ؛ وَلِأَنَّ حَقَّ الرُّجُوعِ لَهُ فِي الْهِبَةِ كَانَ لِخَلَلٍ فِي مَقْصُودِهِ ، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ ؛ لِوُصُولِ الْعِوَضِ إلَيْهِ فَهُوَ كَالْمُشْتَرِي يَجِدُ بِالْمَبِيعِ عَيْبًا فَيَزُولُ الْعَيْبُ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ ، وَلَا يَرْجِعُ الْمُعَوِّضُ فِي عِوَضِهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ بِالتَّعْوِيضِ إسْقَاطُ حَقِّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ ، وَقَدْ نَالَ هَذَا الْمَقْصُودَ ؛ وَلِأَنَّهُ مُجَازًى فِي التَّعْوِيضِ ، وَبَقَاءُ جُزْءِ الشَّيْءِ بِبَقَاءِ أَصْلِهِ فَإِذَا كَانَ الْمَوْهُوبُ سَالِمًا لَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْجُزْءُ سَالِمًا لِصَاحِبِهِ أَيْضًا .
قَالَ : ( وَإِنْ وَهَبَ عَبْدًا لِرَجُلَيْنِ فَعَوَّضَهُ أَحَدُهُمَا مِنْ حِصَّتِهِ : كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي حِصَّةِ الْآخَرِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ الْعِوَضُ عَنْ حِصَّةِ الْآخَرِ ، وَالْجُزْءُ مُعْتَبَرٌ بِالْكُلِّ ، وَالرُّجُوعُ فِي النِّصْفِ شَائِعًا صَحِيحٌ بِخِلَافِ ابْتِدَاءِ الْهِبَةِ ؛ لِأَنَّ الرَّاجِعَ لَيْسَ يُتَمَلَّكُ بِالرُّجُوعِ بَلْ يُعِيدُهُ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ ، وَالشُّيُوعُ مِنْ ذَلِكَ لَا يُمْنَعُ ، وَبِالرُّجُوعِ فِي النِّصْفِ لَا تَبْطُلُ الْهِبَةُ فِيمَا بَقِيَ ؛ لِأَنَّهُ شُيُوعٌ طَرَأَ بَعْدَ تَمَامِ الْهِبَةِ ، فَلَا يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِيهِ ، فَإِنَّ مَا يُتَمِّمُ الْقَبْضَ مُعْتَبَرٌ بِأَصْلِ الْعَقْدِ .
وَعَوْدُ الْمَوْهُوبِ إلَى يَدِ الْوَاهِبِ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْهِبَةِ ، فَالشُّيُوعُ كَذَلِكَ فَإِنْ عَوَّضَهُ أَحَدُهُمَا عَنْ نَفْسِهِ ، وَعَنْ صَاحِبِهِ لَمْ يَكُنْ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ أَجْنَبِيٌّ ، وَالتَّعْوِيضُ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ صَحِيحٌ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَوْهُوبِ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الْمُعَوَّضِ فِي مِلْكِهِ ، وَإِنَّمَا يَسْقُطُ بِهِ حَقُّ الْوَاهِبُ فِي الرُّجُوعِ ، وَمِثْلُ هَذَا التَّصَرُّفِ يَصِحُّ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ كَصُلْحِ الْأَجْنَبِيِّ مَعَ صَاحِبِ الدَّيْنِ مِنْ دَيْنِهِ عَلَى مَالِ نَفْسِهِ ، يَجُوزُ ، وَيَسْقُطُ بِهِ الدَّيْن عَنْ الْمَدْيُونِ فَهَذَا مِثْلُهُ ، وَلَا يَكُونُ لِلْمُعَوِّضِ أَنْ يَرْجِعَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْعِوَضِ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ قَدْ حَصَلَ حَتَّى سَقَطَ حَقُّ الْوَاهِبِ عَنْ الرُّجُوعِ فِي الْكُلِّ ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ أَيْضًا بِشَيْءٍ سَوَاءٌ عَوَّضَهُ بِأَمْرِهِ ، أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ عَوَّضَهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْ الْهِبَةِ شَيْئًا أَمَّا إذَا كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَلَا يَشْكُلُ ، وَإِنْ كَانَ بِأَمْرِهِ فَالتَّعْوِيضُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَحَقًّا عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ ، فَإِنَّمَا أَمَره بِأَنْ يَتَبَرَّعَ بِمَالِ نَفْسِهِ عَلَى غَيْرِهِ ، وَذَلِكَ لَا يُثْبِتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ ضَمَانٍ ؛ وَلِأَنَّهُ مَالِكٌ لِلتَّعْوِيضِ
بِدُونِ أَمْرِهِ ، فَلَا مُعْتَبَرَ بِأَمْرِهِ فِيهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الدَّيْنِ ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ أَمَرَ إنْسَانًا بِقَضَاءِ دَيْنِهِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا أَدَّى ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ كَانَ مَعْلُومًا فِي ذِمَّتِهِ وَهُوَ كَانَ مُطَالَبًا بِهِ فَقَدْ أَمَرَهُ أَنْ يُسْقِط عَنْهُ الْمُطَالَبَةَ بِمَالٍ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ ، وَأَمَرَهُ أَنْ يُمَلِّكَهُ مَا فِي ذِمَّتِهِ بِعِوَضٍ ، وَلَوْ أَمَرَهُ أَنْ يُمَلِّكَهُ عَيْنًا بَعُوضٍ رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا أَدَّى فِيهِ مِنْ مِلْكِ نَفْسِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَهُنَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَاهِبِ فِي ذِمَّةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ مِلْكٌ فَالْمُعَوَّضُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ مِنْهُ ، وَلَا هُوَ مُسْقِطٌ عَنْهُ مُطَالَبَةً مُسْتَحَقَّةً ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ الْعِوَضَ ، إنَّمَا كَانَ لِلْوَاهِبِ حَقُّ الرُّجُوعِ فَقَطْ ، وَالْمَوْهُوبُ لَهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ إسْقَاطِ حَقِّهِ بِدُونِ التَّعْوِيضِ بِأَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهِ ؛ فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ الْمُعَوَّضُ بِأَمْرِهِ إذَا لَمْ يَضْمَنْ لَهُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ فِيمَا هُوَ فَوْقَ هَذَا لَا يَرْجِعُ بِالْأَمْرِ بِدُونِ الشَّرْطِ نَحْوَ مَا إذَا قَالَ : كَفِّرْ يَمِينِي مِنْ طَعَامِك ، أَوْ أَدِّ زَكَاةَ مَالِي بِمَالِك ، فَهَذَا أَوْلَى .
قَالَ : ( إذَا عَوَّضَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْوَاهِبَ مِنْ هِبَتِهِ عِوَضًا فَقَالَ : هَذَا عِوَضٌ مِنْ هِبَتِك ، أَوْ ثَوَابٌ مِنْ هِبَتِك ، أَوْ بَدَلَهَا أَوْ مَكَانَهَا : فَهَذَا كُلُّهُ عِوَضٌ ) ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ فِي التَّعْوِيضِ أَنْ يُضِيفَ إلَى الْمَوْهُوبِ لِيَنْدَفِعَ بِهِ الْغَرَرُ عَنْ الْوَاهِبِ ، وَيَعْلَمَ الْوَاهِبُ أَنَّهُ يُعْطِيهِ جَزَاءَ صُنْعِهِ ، وَإِتْمَامًا لِمَقْصُودِهِ ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ ، فَإِنَّمَا يَنْبَنِي الْحُكْمُ عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ فَإِذَا حَصَلَ ذَلِكَ فَالْعِبَارَاتُ فِيهِ سَوَاءٌ ، فَإِنْ اُسْتُحِقَّتْ الْهِبَةُ كَانَ لِلْمُعَوِّضِ أَنْ يَرْجِعَ فِي عِوَضِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا عَوَّضَهُ لِيُتِمّ سَلَامَة الْمَوْهُوبِ لَهُ بِإِسْقَاطِ حَقِّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ ، وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ عَلَيْهِ بِاسْتِحْقَاقِ الْمَوْهُوبِ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ فِي الْعِوَضِ ، أَوْ لِأَنَّ الْمُعَوِّضَ كَالْوَاهِبِ ، فَإِذَا اسْتَحَقَّ الْمَوْهُوبُ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ - بِمُقَابَلَةِ هِبَتِهِ - شَيْءٌ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالْهِبَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُعَوَّضُ هَالِكًا ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُضَمِّنُهُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ الْمُعَوِّضَ وَاهِبٌ ، وَقَبْضُ الْهِبَةِ لَيْسَ بِقَبْضِ ضَمَانٍ ؛ وَلِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَاهِبِ - ابْتِدَاءً - فَيَكُونُ حَقُّهُ فِي الرُّجُوعِ مَقْصُورًا عَلَى الْعَيْنِ لِحَقِّ الْوَاهِبِ ابْتِدَاءً .
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمُعَوَّضَ إنَّمَا رَضِيَ بِالتَّعْوِيضِ لِيُتِمّ لَهُ بِهِ سَلَامَة الْهِبَةِ .
فَإِذَا اسْتَحَقَّ فَقَدْ تَمَكَّنَ الْخَلَلُ فِي رِضَاهُ فَيُجْعَلُ كَمَا لَوْ قَبَضَ الْوَاهِبُ بِغَيْرِ رِضَاهُ ، وَهَلَكَ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الْقِيمَةِ ؛ وَلِأَنَّ الْوَاهِبَ عَادَ لَهُ فِي هِبَةِ الْمُسْتَحَقِّ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا عَوَّضَهُ ، وَلِلْمَغْرُورِ أَنْ يَدْفَعَ الْغَرَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِالرُّجُوعِ عَلَى الْغَارِّ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْخُسْرَانِ .
يُوَضِّحُهُ : أَنَّ التَّعْوِيضَ لَا يَكُونُ إلَّا مُضَافًا إلَى الْهِبَةِ ، وَالتَّمْلِيك مُضَافًا إلَى
بَدَلٍ مُسْتَحَقٍّ يَكُونُ فَاسِدًا ، فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاهِبَ قَبَضَهُ لِنَفْسِهِ بِسَبَبٍ فَاسِدٍ ، وَكَانَ مُسْتَحَقُّ الرَّدِّ عَلَيْهِ عِنْدَ قِيَامِهِ مَضْمُونًا بِالْقِيمَةِ بَعْدَ هَلَاكِهِ ، وَإِنْ اسْتَحَقَّ الْعِوَضَ كَانَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ إذَا كَانَتْ قَائِمَةً بِعَيْنِهَا لَمْ تَزْدَدْ خَيْرًا ؛ لِأَنَّ التَّعْوِيضَ بَطَلَ بِالِاسْتِحْقَاقِ مِنْ الْأَصْلِ فَظَهَرَ الْحُكْمُ الَّذِي كَانَ قَبْلَ التَّعْوِيضِ .
قَالَ : ( وَإِنْ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْهِبَةِ كَانَ لِلْمُعَوِّضِ أَنْ يَرْجِعَ فِي نِصْفِ الْعِوَضِ - اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ - وَإِنْ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْعِوَضِ فَلَيْسَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْهِبَةِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ أَنْ يَرُدَّ مَا بَقِيَ مِنْ الْعِوَضِ ، وَيَرْجِعُ فِي الْهِبَةِ فَيَكُونُ لَهُ ذَلِكَ ) ، وَقَالَ زُفَرُ : إذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْعِوَضِ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي نِصْفِ الْهِبَةِ - اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ ، وَاعْتِبَارًا لِلْعِوَضِ بِالْهِبَةِ - فَإِنَّهُ لَوْ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْهِبَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي نِصْفِ الْعِوَضِ ، فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْعِوَضِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِيرُ مُقَابَلًا بِالْآخَرِ فِي حُكْمِ سَلَامَتِهِ لِصَاحِبِهِ فَهُوَ كَبَيْعِ الْعِوَضِ بِالْعِوَضِ إذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَ أَحَدِهِمَا يَكُونُ لِلْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ مَا يُقَابِلُهُ .
وَجْهُ قَوْلِنَا : أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا فَيَصِيرُ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ ، وَلَوْ كَانَ عَوَّضَهُ فِي الِابْتِدَاءِ نِصْفَ الْعَبْدِ لَمْ يَرْجِعْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْهِبَةِ فَكَذَلِكَ هُنَا ؛ وَهَذَا لِأَنَّ مَا بَقِيَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا عَنْ الْكُلِّ ، وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ الْخَلَلُ فِي رِضَاءِ الْوَاهِب فَكَانَ تَأْثِيرُهُ فِي إثْبَاتِ الْخِيَار لَهُ ، فَإِنْ شَاءَ رَدَّ مَا بَقِيَ لِيَدْفَعَ الضَّرَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ مَا بَقِيَ ، وَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ .
( فَإِنْ قِيلَ ) : فِي الِابْتِدَاءِ يَجْعَلُ تَمْلِيك النِّصْفِ عِوَضًا لَهُ عَنْ جَمِيعِ الْهِبَةِ ، فَأَمَّا فِي الِاسْتِحْقَاقِ فَهُوَ قَدْ يَجْعَلُ تَمْلِيك الْكُلِّ عِوَضًا عَنْ جَمِيعِ الْهِبَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ تَنْصِيصًا مِنْهُ عَلَى أَنَّ النِّصْفَ عَوَّضَ نِصْفَ الْهِبَةِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ بِالِاسْتِحْقَاقِ النِّصْفَ عِوَضًا عَنْ الْجَمِيعِ ، ( قُلْنَا ) : هَذَا مُسْتَقِيمٌ فِي الْمُبَادَلَاتِ ؛ لِأَنَّ الْبَعْضَ يَنْقَسِمُ عَلَى الْبَعْضِ لِتَحَقُّقِ الْمُقَابِلَةِ ، وَهَذَا لَيْسَ بِمُبَادَلَةٍ عَلَى سَبِيلِ
الْمُقَابِلَةِ ، فَلَا يَثْبُتُ هَذَا التَّقْسِيمُ فِي حَقِّهِ ، وَلَكِنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ آخِرِ الْعِوَضِ يَكُونُ عِوَضًا عَنْ جَمِيعِ الْهِبَةِ ، فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي شَيْءٍ مِنْ الْهِبَةِ مَعَ سَلَامَةِ جُزْءِ الْعِوَضِ لَهُ ، ثُمَّ الْفَرْقُ بَيْنَ اسْتِحْقَاقِ نِصْفِ الْعِوَضِ ، وَنِصْفِ الْهِبَةِ بِهَذَا الْحَرْفِ ، وَهُوَ أَنَّ الْمُعَوَّضَ مَلَكَ الْعِوَض إلَّا جُزْءًا فَيُعْتَبَرُ حُكْمُ الْمُقَابِلَةِ فِي حَقِّهِ فَإِذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْهِبَةِ مِنْ يَدِهِ رَجَعَ بِنِصْفِ الْعِوَضِ فَأَمَّا الْوَاهِبُ فَقَدْ مَلَكَ الْهِبَةَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقَابِلَهُ شَيْءٌ ثُمَّ تَأْثِيرُ الْعِوَضِ فِي إسْقَاطِ حَقِّهِ فِي الرُّجُوعِ ، وَالْجُزْءُ مِنْ الْعِوَضِ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْكُلِّ إذَا تَمَّ رِضَاهُ بِهِ ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ لِلْعِوَضِ شَبَهَيْنِ شَبَهُ ابْتِدَاءَ الْهِبَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْعِوَضَ مُخْتَارٌ فِيهِ مُتَبَرِّعٌ ، وَشَبَهُ الْمُبَادَلَةَ لَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَلَكَهُ مُضَافًا إلَى الْهِبَةِ فَتَوَفَّرَ حَظُّهُ عَلَيْهِمَا فَنَقُولُ لِشَبَهِهِ بِالْمُبَادَلَاتِ إذَا اسْتَحَقَّ الْكُلّ رَجَعَ فِي الْهِبَةِ ، وَلِشَبَهِهِ بِابْتِدَاءِ الْهِبَةِ إذَا اسْتَحَقَّ النِّصْفَ لَا يَرْجِعُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْهِبَةِ إلَّا أَنْ يَرُدَّ مَا بَقِيَ .
قَالَ : ( وَسَوَاءٌ كَانَ الْعِوَضُ شَيْئًا قَلِيلًا ، أَوْ كَثِيرًا مِنْ جِنْسِ الْهِبَةِ ، أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا ) ؛ لِأَنَّ هَذِهِ لَيْسَتْ بِمُعَاوَضَةٍ مَحْضَةٍ ، فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهَا الرِّبَا ، وَإِنَّمَا تَأْثِيرُ الْعِوَضِ فِي قَطْعِ الْحَقِّ ، وَفِي الرُّجُوعِ لِتَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْقَلِيلِ ، وَالْكَثِيرِ إذَا بَيَّنَهُ لِلْوَاهِبِ ، وَرَضِيَ الْوَاهِبُ بِهِ .
قَالَ : ( فَإِنْ كَانَتْ الْهِبَةُ أَلْف دِرْهَمٍ ، وَالْعِوَضُ دِرْهَمٌ وَاحِدٌ مِنْ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ لَمْ يَكُنْ عِوَضًا ، وَكَانَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ ) ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْهِبَةُ دَارًا ، وَالْعِوَضُ بَيْتٌ مِنْهَا ، وَعَنْ زُفَرَ أَنَّ هَذَا يَكُونُ عِوَضًا ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمَوْهُوبِ لَهُ قَدْ تَمَّ فِي الْمَوْهُوبِ بِالْقَبْضِ ، وَالْتَحَقَ الْمَقْبُوضُ بِسَائِرِ أَمْوَالِهِ فَكَمَا يَصْلُحُ سَائِرُ أَمْوَالِهِ عِوَضًا عَنْ الْهِبَةِ - قَلَّ ذَلِكَ أَوْ كَثُرَ - فَكَذَلِكَ هَذَا وَجْهُ قَوْلِنَا إنَّ مَقْصُودَ الْوَاهِبِ بِهَذَا لَا يَحْصُلُ ؛ لِأَنَّا نَعْلَمُ يَقِينًا أَنَّهُ يَهَبُهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ مِنْهُ ، مَا قَصَدَ تَحْصِيلَ دِرْهَمٍ مِنْ تِلْكَ الدَّرَاهِمِ لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ سَالِمًا لَهُ ، وَسُقُوطُ حَقِّهِ فِي الرُّجُوعِ بِاعْتِبَارِ حُصُولِ مَقْصُودِهِ بِالْهِبَةِ ؛ وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ عِوَضًا بِالتَّرَاضِي فِي الِانْتِهَاءِ مَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ عِوَضًا شُرِطَ فِي الِابْتِدَاءِ ، فَكَذَلِكَ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يَجْعَلَ عِوَضًا فِي الِانْتِهَاءِ بِخِلَافِ مَالٍ آخَرَ مِنْ مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ .
قَالَ : ( وَلَوْ أَنَّ نَصْرَانِيًّا وَهَبَ لِلْمُسْلِمِ هِبَةً ، فَعَوَّضَهُ الْمُسْلِمُ مِنْهَا خَمْرًا ، أَوْ خِنْزِيرًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عِوَضًا ) ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا لَا يَصْلُحُ عِوَضًا شُرِطَ فِي الِابْتِدَاءِ ؛ وَلِأَنَّ الْمُعَوَّضَ مُمَلَّكٌ ابْتِدَاءً وَتَمْلِيكُ الْمُسْلِمِ الْخَمْرَ ، أَوْ الْخِنْزِيرَ مِنْ النَّصْرَانِيِّ بِالْعَقْدِ بَاطِلٌ ، وَإِذَا بَطَلَ التَّعْوِيضُ كَانَ لِلنَّصْرَانِيِّ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ .
قَالَ : ( عَبْدٌ مَأْذُونٌ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَهَبَ لِرَجُلٍ هِبَةً فَعَوَّضَهُ مِنْ هِبَتِهِ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ فِي الَّذِي لَهُ ) ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ مِنْ الْعَبْدِ بَاطِلَةٌ ؛ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُنْفَكٍّ عَنْهُ الْحَجْرُ بِالتَّبَرُّعِ ، وَبِالتَّعْوِيضِ الْهِبَةُ الْبَاطِلَةُ لَا تَنْقَلِبُ صَحِيحَةً ، وَإِنَّمَا تَأْثِيرُ الْعِوَضِ فِي إسْقَاطِ حَقِّ الرُّجُوعِ فِي هِبَةٍ صَحِيحَةٍ وَإِذَا رَجَعَ الْعَبْدُ فِي الْهِبَةِ - لِبُطْلَانِهَا - ؛ فَلِلْمُعَوَّضِ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْعِوَض ؛ لِأَنَّهُ عَوَّضَهُ لِيُسَلِّمَ لَهُ الْهِبَةَ ، وَلَمْ يُسَلِّمْ ، قَالَ : ( وَكَذَلِكَ وَالِدُ الصَّغِيرِ إذَا وَهَبَ مِنْ مَالِ ابْنِهِ شَيْئًا لِرَجُلٍ فَعَوَّضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ ) ؛ لِأَنَّ هَذَا تَعْوِيضٌ عَنْ هِبَةٍ بَاطِلَةٍ ، قَالَ : ( فَإِنْ كَانَ الْوَاهِبُ هُوَ الرَّجُلُ فَعَوَّضَهُ الْأَبُ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ : لَمْ يَجُزْ الْعِوَضُ ) ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ مَال الصَّغِيرِ بِالتَّبَرُّعِ ابْتِدَاءً ، وَلَيْسَ لِلْأَبِ ذَلِكَ فِي مَالِ الْوَلَدِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُعَوَّضَ كَالْوَاهِبِ ابْتِدَاءً ، وَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ الْعِوَض لِلْوَاهِبِ ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ كَمَا قَبْلَ التَّعْوِيضِ .
قَالَ : ( وَإِذَا تَصَدَّقَ الْمَوْهُوبُ لَهُ عَلَى الْوَاهِبِ بِصَدَقَةٍ ، أَوْ نَحَلَهُ ، أَوْ أَعْمَرَهُ فَقَالَ : هَذَا عِوَضٌ مِنْ هِبَتِك فَهُوَ عِوَضٌ ) ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَدْ حَصَلَ ، وَلَا مُعْتَبَرَ لِاخْتِلَافِ الْعِبَارَةِ بَعْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ فَبِأَيِّ لَفْظٍ مَلَّكَهُ الْعِوَضَ ، أَوْ أَعْلَمَهُ أَنَّهُ عِوَضٌ مِنْ هِبَتِهِ فَهُوَ عِوَضٌ .
قَالَ : ( رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ عَبْدًا عَلَى أَنْ يُعَوِّضَهُ عِوَضًا يَوْمًا ، أَوْ اتَّفَقَا عَلَى ذَلِكَ ، وَلَمْ يَقْبِضْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا حَتَّى امْتَنَعَ أَحَدُهُمَا مِنْهُ : فَلَهُ ذَلِكَ ، فَإِنْ تَقَابَضَا : جَازَ ذَلِكَ ) بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ ، وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ وَهَذَا مَذْهَبُنَا فَإِنَّ الْهِبَةَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ هِبَةُ ابْتِدَاءِ بَيْعٍ انْتِهَاءً ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ ابْتِدَاء وَانْتِهَاء بَيْعٍ .
وَفِي أَحَدِ أَقَاوِيلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : هُوَ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطٌ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ ، فَيَكُونُ مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ ، وَبَيَانُهُ : أَنَّ عَقْدَ الْهِبَةِ عَقْدُ تَبَرُّعٍ ، وَاشْتِرَاطُ الْعِوَضِ فِيهِ يُخَالِفُ مُقْتَضَاهُ وَزُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : هَذَا تَمْلِيكُ مَالٍ بِمَالٍ شَرْطًا ، وَكَانَ بَيْعًا فَاسِدًا ابْتِدَاءً كَمَا لَوْ عَقَدَ بِلَفْظِ الْبَيْعِ ، أَوْ التَّمْلِيكِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ فِي الْعُقُودِ يَعْتَبِرُ الْمَقْصُودُ ، وَعَلَيْهِ يَنْبَنِي الْحُكْمُ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ اشْتَرَيْت مِنْك كُرًّا مِنْ حِنْطَةٍ صِفَتُهَا كَذَا بِهَذَا الثَّوْبِ ، وَبَيْنَ شَرَائِط السَّلَمِ يَكُونُ سَلَمًا ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ لَفْظُ السَّلَمِ ، وَأَنَّهُ لَوْ وَهَبَ ابْنَتَهُ مِنْ رَجُلٍ : كَانَ نِكَاحًا ، وَلَوْ وَهَبَ امْرَأَتَهُ مِنْ نَفْسِهَا : كَانَ طَلَاقًا ، وَلَوْ وَهَبَ عَبْدَهُ مِنْ نَفْسِهِ : كَانَ عِتْقًا ، وَلَوْ وَهَبَ الدَّيْنَ مِمَّنْ عَلَيْهِ : كَانَ إبْرَاءً ، فَاللَّفْظُ وَاحِدٌ ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْعَقْدُ لِاخْتِلَافِ الْمَقْصُودِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ : أَنَّهُ لَوْ قَالَ وَهَبْت مِنْك مَنْفَعَةَ هَذِهِ الدَّارِ شَهْرًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِم يَكُونُ إجَارَةً يَلْزَمُ بِنَفْسِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : أَعَرْتُك ، وَالْإِعَارَةُ تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَإِذَا شَرَطَ فِيهِ الْبَدَلَ : كَانَ إجَارَةً ، فَكَذَلِكَ الْهِبَةُ تَمْلِيكُ الْمَوْهُوبِ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَإِذَا شَرَطَ الْعِوَضَ : يَكُونُ بَيْعًا ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ : أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ لَوْ بَاعَ :
كَانَ مُكْرَهًا ، وَكَذَلِكَ الْمُكْرَهُ عَلَى الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ إذَا وَهَبَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ - وَلَوْ لَمْ يَكُونَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءً - لَمْ يَكُنْ الْمُكْرَهُ عَلَى أَحَدِهِمَا مُكْرَهًا عَلَى الْآخَرِ ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ : أَنَّ هَذَا تَمْلِيكُ الْمَالِ بِلَفْظٍ يُخَالِفُ ظَاهِرُهُ مَعْنَاهُ ، فَيَكُونُ ابْتِدَاؤُهُ مُعْتَبَرًا بِلَفْظِهِ ، وَانْتِهَاؤُهُ مُعْتَبَرًا بِمَعْنَاهُ ، كَالْهِبَةِ فِي الْمَرَضِ ؛ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ تَمْلِيكٌ فِي الْحَالِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ ، وَمَعْنَاهُ مَعْنَى الْوَصِيَّةِ ، فَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاؤُهُ بِلَفْظِهِ حَتَّى يَبْطُلَ بِعَدَمِ الْقَبْضِ ، وَلَا يَتِمُّ مَعَ الشُّيُوعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ، وَانْتِهَاؤُهُ مُعْتَبَرٌ بِمَعْنَاهُ حَتَّى يَكُونَ مِنْ الثُّلُثِ بَعْدَ الدَّيْنِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَلْفَاظَ قَوَالِبُ الْمُعَانِي ، فَلَا يَجُوزُ إلْغَاءُ اللَّفْظِ - وَإِنْ وَجَبَ اعْتِبَارُ الْمَعْنَى - إلَّا إذَا تَعَذَّرَ الْجَمْعُ لِلْمُنَافَاةِ - وَلَا مُنَافَاةَ هُنَا - فَشَرْطُ الْعِوَضِ لَا يَكُونُ أَبْلَغَ مِنْ حَقِيقَةِ التَّعْوِيضِ ، وَبِحَقِيقَةِ التَّعْوِيضِ لَا يَنْتَفِي مَعْنَى الْهِبَةِ ، فَبِشَرْطِ الْعِوَض أَوْلَى بِخِلَافِ النِّكَاحِ ، وَالطَّلَاقِ ، وَالْعَتَاقِ ؛ فَإِنَّ هُنَاكَ بَيْن اللَّفْظِ وَالْمَعْنَى مُنَافَاةً ، وَقَدْ وَجَبَ اعْتِبَارُ الْمَعْنَى ؛ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ اللَّفْظِ - لِذَلِكَ - ثُمَّ انْعِقَادُ الْعَقْدِ بِاللَّفْظِ ، وَالْمَقْصُودُ هُوَ الْحُكْمُ ، وَأَوَانُهُ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ .
فَعِنْدَ الِانْعِقَادِ اعْتَبَرْنَا اللَّفْظَ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ بِهِ يَنْعَقِدُ ، وَعِنْدَ التَّمَامِ اُعْتُبِرَ الْمَقْصُودُ ، وَمَا تَرَدَّدَ بَيْنَ أَصْلَيْنِ تَوَفَّرَ حَظُّهُ عَلَيْهِمَا .
فَالْمُكَاتَبُ لَمَّا كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ مِنْ وَجْهٍ ، وَبِمَنْزِلَةِ الْمَمْلُوكِ مِنْ وَجْهٍ : اُعْتُبِرَ الشَّبَهَانِ .
فَأَمَّا لَفْظُ الْإِعَارَةِ ، أَوْ الْهِبَةِ فِي الْمَنْفَعَةِ فَقَدْ حُكِيَ عَنْ ابْنِ طَاهِرٍ الدَّبَّاسِ قَالَ : كُنَّا فِي تَدْبِيرِ جَوَابِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَوَجَدْت رِوَايَةً عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ : أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ قَبْلَ
اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ ، وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ ، يَقُولُ : هُنَاكَ يَتَعَذَّرُ اعْتِبَارُ الْجَانِبَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَا تَبْقَى وَقْتَيْنِ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْعَقْدِ عَلَيْهَا تَبَرُّعًا ابْتِدَاءً ، مُعَاوَضَةً انْتِهَاءً ؛ فَجَعَلْنَاهُ مُعَاوَضَةً ابْتِدَاءً - بِخِلَافِ الْعَيْنِ ، عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ - .
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْإِكْرَاهِ : قُلْنَا : الْمُكْرَهُ مُضَارٌّ مُتَعَنِّتٌ ، وَمَعْنَى الْإِضْرَار فِي حُكْمِ السَّبَبِ لَا فِي نَفْسِهِ ؛ فَلِهَذَا اسْتَوْفَى فِي حَقِّهِ الْبَيْعَ وَالْهِبَةَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ ، وَلِهَذَا جَعَلَ الْإِكْرَاهَ عَلَى الْهِبَةِ إكْرَاهًا عَلَى التَّسْلِيمِ ، وَبَعْدَ التَّسْلِيمِ الْبَيْع ، وَالْهِبَة بِشَرْطِ الْعِوَضِ سَوَاءٌ ، إذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ ، فَنَقُولُ قَبْلَ التَّقَابُضِ : الْعَقْدُ تَبَرُّعٌ ؛ فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ ، وَلَا يُمَلَّكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَتَاعَ صَاحِبِهِ - مَا لَمْ يَقْبِضْهُ - وَلَا يَجُوزُ فِي مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ، وَبَعْدَ التَّقَابُضِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ ، فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ وَيَجِبُ لِلشَّفِيعِ بِهِ الشُّفْعَة ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرُدَّ مَا فِي يَدِهِ بِعَيْبٍ - إنْ وُجِدَ فِيهِ ، كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي الْبَيْعِ - وَإِنْ اسْتَحَقَّ مَا فِي يَدِ أَحَدِهِمَا يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِمَا فِي يَدِهِ إنْ كَانَ قَائِمًا ، وَبِقِيمَتِهِ إنْ كَانَ هَالِكًا ؛ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ عَنْ مَتَاعِهِ إلَّا بِشَرْطِ سَلَامَة الْعِوَضِ لَهُ فَإِذَا لَمْ يُسْلِمْ رَجَعَ بِمَتَاعِهِ إنْ كَانَ قَائِمًا ، وَبِمَالِيَّتِهِ إنْ كَانَ هَالِكًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا - وَهُوَ مَعْنَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَهُوَ دَيْنٌ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ ، وَبَعْدَ مَوْتِهِ .
قَالَ : ( رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ ثَوْبًا لِغَيْرِهِ ، وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ فَأَجَازَ رَبُّ الثَّوْبِ : جَازَتْ الْهِبَةُ ) ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ بِمَنْزِلَةِ الْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتِمُّ رِضَا الْمَالِك بِهَا ، ثُمَّ الْعَاقِدُ فِي الْهِبَةِ يَكُونُ مُعِيرًا لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُقُوقُ الْعَقْدِ ، وَالْمُجِيزُ يَكُونُ كَالْمُبَاشِرِ لِعَقْدِ الْهِبَةِ ؛ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا لَا يُعَوِّضُهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ ، أَوْ يَكُون ذَا رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ ، وَإِنْ عَوَّضَ الرَّجُلُ الَّذِي وَهَبَ لَهُ ، أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ رَبَّ الثَّوْبِ مِنْ الرُّجُوعِ ؛ لِأَنَّ الْعَاقِدَ مُعْتَبَرٌ كَالرَّسُولِ ، فَلَا مُعْتَبَرَ بِحَالِهِ ، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ حَالُ الْمَالِكِ .
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا قَرَابَةٌ عَرَفْنَا أَنَّ مَقْصُودَهُ الْعِوَضُ مَا لَمْ يَنَلْ الْعِوَض كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ .
قَالَ : ( رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ خَمْسَةَ دَرَاهِمَ ، وَثَوْبًا ، وَقَبَضَ ذَلِكَ الْمَوْهُوب لَهُ ، ثُمَّ عَوَّضَهُ الثَّوْبَ أَوْ الدَّرَاهِمَ مِنْ جَمِيعِ الْهِبَةِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عِوَضًا ؛ لِأَنَّهَا هِبَةٌ وَاحِدَةٌ ) ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عَقْدَ الشَّيْءِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ لَا يَكُونُ عِوَضًا وَمُعَوَّضًا ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ مَقْصُودَ الْوَاهِبِ فِي الْهِبَةِ ، قَالَ : ( وَإِنْ كَانَا فِي عَقْدَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ فِي مَجْلِسٍ ، أَوْ مَجْلِسَيْنِ ، فَعَوَّضَهُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْأُخْرَى : فَهَذَا عِوَضٌ نَأْخُذُ فِيهِ بِالْقِيَاسِ ) .
وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : أَنَّهُ لَا يَكُونُ عِوَضًا لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْوَاهِبَ لَمْ يَقْصِدْ هَذَا ؛ فَقَدْ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ .
فَالْعَقْدُ الْوَاحِدُ وَالْعَقْدَانِ فِي هَذَا الْمَعْنَى سَوَاءٌ .
وَجْه ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ اخْتِلَافَ الْعَقْدِ كَاخْتِلَافِ الْعَيْنِ ، وَيَسْتَقِيمُ جَعْلُ أَحَدِهِمَا عِوَضًا عَنْ الْآخَرِ شَرْطًا عِنْدَ اخْتِلَافِ الْعَقْدِ ، فَكَذَلِكَ مَقْصُودًا ، وَقَدْ يَقْصِدُ الْوَاهِبُ هَذَا بِأَنْ يَهَبَ شَيْئًا ، ثُمَّ يَحْتَاجُ إلَيْهِ ، فَيَنْدَمَ ، فَيَسْتَقْبِحَ الرُّجُوعَ فِيهِ ، فَيَهَب مِنْهُ شَيْئًا آخَرَ - عَلَى أَنْ يُعَوِّضَهُ الْأَوَّل - فَيَحْصُلَ مِنْهُ مَقْصُودُهُ ، وَيَنْدَفِعَ عَنْهُ مَذَمَّةُ الرُّجُوعِ فِي الْهِبَةِ .
أَرَأَيْت لَوْ كَانَ الْأَوَّلُ مِنْهُمَا صَدَقَةً ، وَالْآخَرُ هِبَةٌ فَعَوَّضَهُ الصَّدَقَةَ عَنْ الْهِبَةِ ، أَمَا كَانَ ذَلِكَ عِوَضًا ، ، وَذُكِرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - : لَوْ وَهَبَ نِصْفَ دَارِهِ مِنْ رَجُلٍ ، وَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِنِصْفِهَا وَسَلَّمَ الْكُلَّ : لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ زُفَرَ ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ السَّبَبِ كَتَفَرُّقِ الْعَقْدِ وَالتَّسْلِيم فَكَأَنَّهُ وَهَبَ النِّصْفَ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ النِّصْف .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : التَّسْلِيمُ حَصَلَ جُمْلَةً وَاحِدَةً بِعَقْدٍ هُوَ تَبَرُّعٌ كُلُّهُ ؛ فَيَجُوزُ كَمَا لَوْ وَهَبَ الْكُلَّ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْفَرْقَ بَيْنَ الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ : فِي مَقْصُودِ
الْعِوَضِ .
فَفِي الصَّدَقَةِ ، الْمَقْصُودُ : الثَّوَابُ - دُونَ الْعِوَضِ - وَفِي الْهِبَةِ ، الْمَقْصُودُ : الْعِوَضُ .
فَأَمَّا فِي إخْرَاج الْعَيْنِ عَنْ مِلْكِهِ ، وَتَمْلِيكِ الْقَابِضِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ : لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا .
قَالَ : ( وَإِنْ وَهَبَ لَهُ حِنْطَةً ، فَطَحَنَ بَعْضَهَا ، وَعَوَّضَ دَقِيقَ تِلْكَ الْحِنْطَةِ : كَانَ جَائِزًا ) ؛ لِأَنَّ الدَّقِيقَ حَادِثٌ بِالطَّحْنِ ، وَهُوَ غَيْرُ الْحِنْطَةِ ، وَلِهَذَا يَكُونُ مَمْلُوكًا لِلْغَاصِبِ ، فَكَانَ تَعْوِيضُهُ دَقِيقَ هَذِهِ الْحِنْطَةِ ، وَدَقِيق حِنْطَةٍ أُخْرَى سَوَاءً ؛ وَلِأَنَّ حَقَّهُ فِي الرُّجُوعِ قَدْ انْقَطَعَ بِالطَّحْنِ ، فَتَعْوِيضُهُ إيَّاهُ لَا يَكُونُ رُجُوعًا .
فَأَمَّا قَبْلَ الطَّحْنِ : حَقُّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ ثَابِتٌ ، وَالرَّدُّ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ ، إذَا رَجَعَ فِيهِ الْوَاهِبُ ؛ فَيَقَعُ فِعْلُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمُسْتَحَقِّ .
وَعَلَى هَذَا : لَوْ وَهَبَ لَهُ ثِيَابًا ، فَصَبَغَ مِنْهَا ثَوْبًا بِعُصْفُرٍ ، أَوْ خَاطَهُ قَمِيصًا ، ثُمَّ عَوَّضَهُ ، أَوْ كَانَ وَهَبَ لَهُ سَوِيقًا فَلَتَّ بَعْضُهُ ، ثُمَّ عَوَّضَهُ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الرُّجُوعِ قَدْ انْقَطَعَ بِهَذَا الصُّنْعِ ، وَالْتَحَقَ هَذَا بِسَائِرِ أَمْوَالِ الْمَوْهُوبِ لَهُ .
فَكَمَا أَنَّهُ لَوْ عَوَّضَهُ مَالًا آخَرَ كَانَ ذَلِكَ عِوَضًا فَكَذَلِكَ هَذَا الْمَال .
قَالَ : ( وَإِذَا وَهَبَ لِلْوَاهِبِ شَيْئًا ، وَلَمْ يَقُلْ : هَذَا عِوَضٌ مِنْ هِبَتِك ، فَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يُضِفْ تَمْلِيكَهُ إلَى هِبَتِهِ ، كَانَ فِعْلُهُ هِبَةً مُبْتَدَأَةً - لَا تَعْوِيضًا - فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ ؛ وَلِأَنَّ سُقُوطَ حَقِّ الرُّجُوعِ لِحُصُولِ مَقْصُودِ الْوَاهِبِ ، وَإِنَّمَا يَعْلَمْ ذَلِكَ إذَا بَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عِوَضٌ ، وَيَرْضَى بِهِ ، فَأَمَّا بِدُونِهِ لَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ ، وَإِنْ قَالَ : قَدْ كَافِيَتك هَذَا مِنْ هِبَتِك ، أَوْ جَازَيْتُك ، أَوْ أَثَبْتُكَ : كَانَ عِوَضًا ) ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ وَالْغُرُور يَنْدَفِعُ .
قَالَ : ( وَإِنْ عَوَّضَ مِنْ نِصْفِ الْهِبَةِ شَيْئًا كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا بَقِيَ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ ) وَهَذَا ؛ لِأَنَّ التَّعْوِيضَ مِمَّا يَحْتَمِلُ التَّحَرِّي فِي الْمَوْهُوبِ فَإِذَا أَضَافَ الْعِوَضَ إلَى بَعْضِ الْهِبَةِ اقْتَصَرَ حُكْمُهُ عَلَيْهِ - بِخِلَافِ الطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّحَرِّي فِي الْمَحِلِّ - وَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ حَقُّ الرُّجُوعِ فِي النِّصْفِ دُونَ النِّصْفِ ابْتِدَاءً ، كَمَا لَوْ وَهَبَ مِنْهُ النِّصْفَ ، وَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِالنِّصْفِ .
فَلَأَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ بَقَاء أَوْلَى ، .
قَالَ : ( وَلَيْسَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ عِنْدَ غَيْرِ قَاضٍ ، إلَّا أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الْمَوْهُوب لَهُ ؛ فَيَجُوزُ ) ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ مُخْتَلَفٌ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ مِنْهُمْ مَنْ رَأَى ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَبَى .
وَفِي أَصْلِهِ وَهْيٌ فَيَكُونُ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا فِي الْقَضَاءِ وَالرِّضَا ؛ لِأَنَّ الْوَاهِبَ إنْ كَانَ يُطَالِبُ بِحَقِّهِ فَالْمَوْهُوبُ لَهُ يَمْنَعُ مِلْكَهُ ، وَالْمِلْكُ مُطْلَقٌ لَهُ ذَلِكَ ، فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ قَضَاءِ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا
قَالَ : ( وَلَوْ كَانَتْ الْهِبَةُ عَبْدًا ، فَبَاعَهُ الْمَوْهُوب لَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ ، قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ الْقَاضِي لِلْوَاهِبِ أَجَازَ مَا صَنَعَ الْمَوْهُوبُ لَهُ فِيهِ مِنْ ذَلِكَ ) ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ قَائِمٌ ، مَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالرُّجُوعِ ، وَالْمِلْكُ فِي الْمَحِلِّ مُنْفِذٌ لِلْبَيْعِ فِيهِ ، وَالْعِتْقُ إذَا صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحِلِّهِ يَنْفُذُ ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إنْ فَعَلَهُ بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالرَّدِّ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ ؛ لِأَنَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي عَادَ الْعَبْدُ إلَى مِلْكِ الْوَاهِبِ ، وَتَصَرُّفُ ذِي الْيَدِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لَا يَكُونُ نَافِذًا ، إلَّا أَنْ يُجِيزَ الْمَالِكُ ، قَالَ : ( وَإِنْ مَاتَ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ الْوَاهِبُ بَعْدَ مَا قَضَى الْقَاضِي لَهُ : لَمْ يَكُنْ لِلْوَاهِبِ أَنْ يُضَمِّنَهُ قِيمَتَهُ ) ؛ لِأَنَّ أَصْلَ قَبْضِهِ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا ضَمَانَ الْمَقْبُوضِ عَلَيْهِ ، وَاسْتِدَامَةُ الشَّيْءِ مُعْتَبَرٌ بِأَصْلِهِ ، وَكَذَلِكَ مَنْعُهُ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي مَنْعٌ بِسَبَبِ مِلْكِهِ ؛ فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يُوجَدْ بَعْدَ الْقَضَاءِ فِي الْمَوْهُوبِ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ ، وَالضَّمَانُ لَا يَجِبُ بِدُونِ السَّبَبِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَنِّعْهُ بَعْدَ الْقَضَاءِ ، وَقَدْ طَلَبَ مِنْهُ الْوَاهِبُ .
فَهَذَا الْمَنْعُ يَتَقَرَّرُ بِسَبَبِ الضَّمَانِ - وَهُوَ قَصْرُ يَدِ الْمَالِكِ عَنْ مِلْكِهِ بِإِزَالَةِ تَمَكُّنِهِ مِنْ أَخْذِهِ - وَهُوَ حَدُّ الْغَصْبِ الْمُوجِبُ لِلضَّمَانِ .
قَالَ : ( فَإِنْ كَانَتْ الْهِبَةُ هَالِكَةً ، أَوْ مُسْتَهْلَكَةً ، أَوْ خَارِجَةً مِنْ مِلْكِ الْمَوْهُوبِ لَهُ إلَى وَلَدِهِ الصَّغِيرِ أَوْ إلَى أَجْنَبِيٍّ بِهِبَةٍ ، أَوْ غَيْرِهَا ، أَوْ زَادَتْ عِنْدَهُ خَيْرًا : فَلَا رُجُوعَ فِيهَا لِلْوَاهِبِ ) .
، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَوَانِعَ ، وَالْفَرْق بَيْنَ زِيَادَةِ الْعَيْنِ ، وَزِيَادَةِ السِّعْرِ ، وَبَيْنَ الزِّيَادَةِ فِي الْبَدَنِ ، وَالنُّقْصَان فِي حُكْمِ الرُّجُوعِ .
قَالَ : ( وَإِنْ كَانَتْ الْهِبَةُ دَارًا ، أَوْ أَرْضًا فَبَنَى فِي طَائِفَةٍ مِنْهَا ، أَوْ غَرَسَ شَجَرًا ، أَوْ كَانَتْ جَارِيَةً صَغِيرَةً فَكَبِرَتْ ، وَازْدَادَتْ خَيْرًا ، أَوْ كَانَ غُلَامًا فَصَارَ رَجُلًا ، فَلَا رُجُوعَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ) ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الرُّجُوعِ كَانَ ثَابِتًا فِي الْأَصْلِ فَيَثْبُتُ فِي الْبَيْعِ فَإِنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ فِي الْبَيْعِ بِثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَبْطُلَ الْحُكْمُ الثَّابِتُ فِي الْأَصْلِ بِسَبَبِ الْمَنْعِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : حَقُّ الرُّجُوعِ لِلْوَاهِبِ مَقْصُورٌ عَلَى الْمَوْهُوبِ بِعَيْنِهِ ، فَلَا يَثْبُتُ فِيمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ - تَبَعًا كَانَ أَوْ أَصْلًا - وَهُنَا الْحَقُّ فِي الْأَصْلِ ضَعِيفٌ ، وَحَقُّ صَاحِبِ الزِّيَادَةِ فِي الزِّيَادَةِ قَوِيٌّ .
فَإِذَا تَعَذَّرَ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا : رَجَّحْنَا أَقْوَى الْحَقَّيْنِ ، وَجَعَلْنَا الضَّعِيفَ مَرْفُوعًا بِالْقَوِيِّ .
وَالْبِنَاء فِي بَعْضِ الْأَرْضِ كَالْبِنَاءِ فِي جَمِيعِهَا ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ فِي جَانِبٍ مِنْ الْأَرْضِ يُعَدُّ زِيَادَةً فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَزْدَادُ بِهِ مَالِيَّة الْكُلِّ ، وَهَذَا إذَا كَانَ مَا بُنِيَ بِحَيْثُ يُعَدُّ زِيَادَةً ، فَإِنْ كَانَ لَا يُعَدُّ زِيَادَةً - كَالْآرِي - أَوْ يُعَدُّ نُقْصَانًا - كَالتَّنُّورِ فِي الْكَاشَانَةُ - ؛ فَإِنَّهُ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ ؛ لِانْعِدَامِ الْمَانِعِ ، وَهُوَ زِيَادَةُ مَالِيَّة الْمَوْهُوبِ بِزِيَادَةٍ فِي عَيْنِهِ .
قَالَ : ( وَإِنْ كَانَتْ الْهِبَةُ دَارًا فَهَدَمَ بِنَاءَهَا : كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْأَرْضِ ) وَكَذَلِكَ فِي غَيْرِ الدَّارِ إذَا اُسْتُهْلِكَ بَعْضُ الْهِبَةِ بِبَيْعٍ ، أَوْ غَيْرِهِ ، وَبَقِيَ بَعْضُهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْبَاقِي - اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ - ؛ وَهَذَا لِأَنَّ مَا فَعَلَهُ مِنْ هَدْمِ الْبِنَاءِ نُقْصَانٌ فِي الْأَرْض ، وَلَيْسَ بِزِيَادَةٍ .
قَالَ : ( وَإِنْ كَانَتْ الْهِبَة ثَوْبًا فَصَبَغَهُ أَحْمَرَ ، أَوْ أَصْفَرَ ، وَخَاطَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ ) ؛ لِأَنَّ مَا فَعَلَهُ زِيَادَة وَصْفٍ قَائِمٍ فِي الْعَيْنِ ، وَلَوْ قَطَعَهُ ، وَلَمْ يَخِطْهُ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ قَبْلَ الْخِيَاطِ نُقْصَانٌ ، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا لَوْ صَبَغَهُ أَسْوَدَ ( وَالْجَوَابُ ) : أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ السَّوَادَ عِنْدَهُ نُقْصَانٌ ، وَعِنْدَهُمَا : لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعْ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ .
قَالَ : ( وَإِذَا وَهَبَ دَيْنًا لَهُ عَلَيْهِ ، فَقَبِلَهُ : لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ ) ؛ لِأَنَّهُ سَقَطَ عَنْهُ ؛ فَإِنَّهُ قَابِضٌ لِلدَّيْنِ بِذِمَّتِهِ ، فَيُمَلَّكُ بِالْقَبُولِ ، وَمَنْ مَلَكَ دَيْنًا عَلَيْهِ : سَقَطَ ذَلِكَ عَنْهُ ، وَالسَّاقِطُ يَكُونُ مُتَلَاشِيًا ، فَلَا يَتَحَقَّقُ الرُّجُوعُ فِيهِ - كَمَا لَوْ كَانَ عَيْنًا فَهَلَكَ عِنْدَهُ - قَالَ : ( فَإِنْ قَالَ الْمَوْهُوبُ لَهُ مَكَانَهَا : لَا أَقْبَلُهَا ، فَالدَّيْنُ عَلَيْهِ بِحَالِهِ ) ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هِبَةَ الدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبُولِ وَالْإِبْرَاءِ يَتِمُّ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ ، وَلَكِنْ لِلْمَدْيُونِ حَقُّ الرَّدِّ قَبْلَ مَوْتِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ ، وَعَنْ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا ، وَقَالَ : تَتِمُّ الْهِبَةُ وَالْإِبْرَاءُ قَبْلَ الْقَبُولِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ ، أَنَّهُ يَعْتَبِرُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ ، وَالْمَقْصُودُ فِي الْوَجْهَيْنِ : الْإِسْقَاطُ دُونَ التَّمْلِيكِ ؛ لِأَنَّ مَا فِي الذِّمَّةِ لَيْسَ بِمَحِلٍّ لِلتَّمْلِيكِ ، وَلَكِنَّهُ مُجَرَّدُ مُطَالَبَةٍ يَحْتَمِلُ الْإِسْقَاطَ ، وَلَكِنْ عِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ رَدَّهُ الْمَدْيُونُ صَحَّ رَدُّهُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا ، وَكَانَ ابْنُ شُجَاعٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : لَا يَعْمَلُ رَدَّهُ ؛ لِأَنَّ الْإِسْقَاطَ يَتِمُّ بِالْمُسْقِطِ ، وَالْمُسْقِطُ يَكُونُ مُتَلَاشِيًا فَلَا يَتَصَوَّرُ فِيهِ الرَّدَّ ، وَقَاسَ ذَلِكَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ ، وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : الدَّيْنُ مَمْلُوكٌ لِلطَّالِبِ فِي ذِمَّةِ الْمَدْيُونِ فَيَكُونُ قَابِلًا لِلتَّمَلُّكِ بِمِلْكِ الْعَيْنِ ، وَيَجْعَلُ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ ذَلِكَ الدَّيْنُ - خُصُوصًا فِي السَّلَمِ وَالصَّرْفِ - فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ قَابِلٌ لِلتَّمْلِيكِ - وَالْهِبَةُ عَقْدُ تَمْلِيكٍ - فَإِذَا ذَكَرَ لَفْظَ الْهِبَةِ ، وَجَب اعْتِبَار مَعْنَى التَّمْلِيكِ فِيهِ ، وَالتَّمْلِيكُ لَا يَتِمُّ بِالْمِلْكِ قَبْلَ قَبُولِ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَمْلِكُ إدْخَالَ الشَّيْءِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ ، قَصْدًا مِنْ غَيْرِ قَبُولِهِ .
وَهُوَ مُحْتَمِلٌ لِلْإِسْقَاطِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ لَيْسَ إلَّا مُجَرَّدَ حَقِّ الْمُطَالَبَةِ ، وَإِبْرَاء إسْقَاط ، إذَا ذَكَرَ لَفْظَ الْإِبْرَاءِ ، وَكَانَ تَصَرُّفُهُ إسْقَاطًا - وَالْإِسْقَاطُ تَصَرُّفٌ مِنْ الْمُسْقِطِ فِي خَالِصِ حَقِّهِ - ؛ فَلِهَذَا يَتِمُّ بِنَفْسِهِ ، وَلَكِنَّهُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى التَّمْلِيكِ مِنْ وَجْهٍ ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الدَّيْنَ مَمْلُوكٌ فِي ذِمَّتِهِ ؛ فَإِنَّمَا يَسْقُطُ عَنْهُ إذَا مُلِّكَهُ ، فَلِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى قُلْنَا : لَهُ إنْ يَرُدَّهُ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ ، وَالْعَتَاقِ ؛ فَإِنَّهُ إسْقَاطٌ مَحْضٌ لَا يَتَضَمَّنُ مَعْنَى التَّمْلِيكِ ، حَتَّى إنَّ الْإِبْرَاء لَوْ كَانَ إسْقَاطًا مَحْضًا لَمْ يَرْتَدَّ بِالرَّدِّ أَيْضًا ، وَهُوَ إبْرَاءُ الْكَفِيلِ ؛ فَإِنَّهُ إسْقَاطٌ مَحْضٌ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَبْقَى عَلَى الْأَصْلِ عَلَى حَالِهِ فَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّ الْكَفِيلِ - وَالْهِبَةُ مِنْ الْكَفِيلِ تَمْلِيكٌ مِنْهُ - حَتَّى يَرْجِعَ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ ، فَلَا يَتِمُّ إلَّا بِقَبُولِهِ .
فَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ غَائِبًا ، وَلَمْ يُعْلَمْ بِالْهِبَةِ ، حَتَّى مَاتَ : جَازَتْ الْهِبَةُ ، وَبَرِيءَ مِمَّا عَلَيْهِ ، وَهَذَا الِاسْتِحْسَانُ .
فَأَمَّا فِي الْقِيَاسِ : لَا يَبْرَأُ ، فَأَصْلُهُ فِي الْمُوصَى لَهُ ، إذَا مَاتَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي قَبْلَ قَبُولِهِ ، فِي الْقِيَاسِ : تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْقَبُولِ لَمْ يُمَلَّك وَإِنَّمَا يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِي مِلْكِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ : جَعَلَ مَوْتَهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَبُولِ ، فَكَذَلِكَ هُنَا فِي الِاسْتِحْسَانِ يُجْعَلُ مَوْتُ الْمَوْهُوبِ لَهُ بِمَنْزِلَةِ قَبُولِهِ قَالَ : ( وَإِنْ وَهَبَهُ لَهُ ، وَهُوَ مَعَهُ قَائِمٌ فَسَكَتَا حَتَّى افْتَرَقَا : جَازَتْ الْهِبَةُ ) ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ أَيْضًا فَإِنَّ سُكُوتَهُ عَنْ الرَّدِّ دَلِيلٌ عَلَى رِضَاهُ بِالْهِبَةِ مِنْهُ عُرْفًا ، وَدَلِيلُ الرِّضَا كَصَرِيحِ الرِّضَا ؛ أَلَا تَرَى أَنْ السُّكُوتَ مِنْ الْبِكْرِ جُعِلَ إجَازَةً لِعَقْدِ الْوَلِيِّ - اسْتِحْسَانًا - ، فَهَذَا مِثْلُهُ .
وَمِنْ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ
مَنْ بَنَى الْجَوَابَ فِي هَذَا الْفَصْلِ عَلَى الظَّاهِرِ ، وَيَقُولُ : هِبَةُ الدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِمَنْزِلَةِ الْإِبْرَاء يَتِمُّ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ حَقُّ الرَّدِّ فِيهَا ، فَالْمَوْتُ قَبْلَ الرَّدِّ يُبْطِلُ حَقّهُ فِي الرَّدِّ وَيَبْقَى تَامًّا فِي نَفْسِهِ ، وَكَذَلِكَ بِالسُّكُوتِ حَتَّى افْتَرَقَا يَنْعَدِمُ الرَّدُّ فَتَبْقَى الْهِبَةُ تَامَّةً وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ ، وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْهِبَةِ وَالْإِبْرَاء مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَصَحُّ ، وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ إبْرَاءِ الْكَفِيلِ ، وَبَيْنَ هِبَةِ الدَّيْنِ مِنْهُ .
قَالَ : ( رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ هِبَةً ، وَقَبَضَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ ، ثُمَّ وَهَبَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ لِآخَرَ وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ ، ثُمَّ رَجَعَ فِيهَا ، أَوْ رَدَّهَا عَلَيْهِ الْآخَرُ فَلِلْوَاهِبِ الْأَوَّلِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا ) .
أَمَّا إذَا رَجَعَ فِيهَا بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلِأَنَّ الْقَاضِي يَفْسَخُ بِقَضَائِهِ الْعَقْد الثَّانِي فَيَعُود إلَى الْأَوَّلِ مِلْكُهُ الْمُسْتَفَادُ بِالْهِبَةِ مِنْ الْأَوَّلِ ، وَقَدْ كَانَ حَقُّ الرُّجُوعِ ثَابِتًا لَهُ فِي ذَلِكَ الْمِلْكِ ، وَمَا سَقَطَ بِزَوَالِهِ تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ ؛ لِانْعِدَامِ مَحَلِّهِ فَإِذَا عَادَ الْمَحَلُّ كَمَا كَانَ عَادَ حَقُّهُ فِي الرُّجُوعِ ، وَإِنْ رَدَّهُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا .
وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَيْسَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَرْجِعَ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِلْكٌ حَادِثٌ لَهُ ثَابِتٌ بِتَرَاضِيهِمَا ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَهَبَهُ لَهُ ابْتِدَاءً ، أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ ، أَوْ أَوْصَى بِهِ لَهُ أَوْ مَاتَ فَوَرِثَهُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ رَدَّهُ فِي مَرَضِهِ بِغَيْرِ قَضَاءٍ ، وَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ اُعْتُبِرَ مِنْ ثُلُثِهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَضَاءِ وَالرِّضَا : الرَّدُّ بِالْعَيْبِ ، فَإِنَّهُ إذَا كَانَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي : كَانَ فَسْخًا ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ : فَهُوَ كَالْبَيْعِ الْمُبْتَدَإِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ حَقٌّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي كَانَ فَسْخًا ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ قَضَاءٍ فَهُوَ كَالْبَيْعِ الْمُبْتَدَإِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : حَقُّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ مَقْصُورٌ عَلَى الْعَيْنِ ، وَفِي مِثْلِهِ الْقَضَاءُ ، وَغَيْرُ الْقَضَاءِ سَوَاء كَالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُمَا فَعَلَا بِدُونِ الْقَاضِي عَيْنَ مَا يَأْمُرُ بِهِ الْقَاضِي ، أَنْ لَوْ رَفَعَا الْأَمْرَ إلَيْهِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّرَاضِي مُوجِبًا مِلْكًا مُبْتَدَأً إذَا تَرَاضَيَا عَلَى سَبَبٍ مُوجِبٍ لِلْمِلْكِ مِنْهُ : كَالْهِبَةِ ، وَالصَّدَقَةِ ، وَالْوَصِيَّةِ ، وَهُنَا تَرَاضَيَا عَلَى دَفْعِ السَّبَبِ الْأَوَّلِ ، وَذَلِكَ لَا يَصِحُّ مُوجِبًا مِلْكًا مُبْتَدَأً -
بِخِلَافِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ - فَحَقُّ الْمُشْتَرِي لَيْسَ فِي عَيْنِ الرَّدِّ ، بَلْ بِالْمُطَالَبَةِ فِي الْجُزْءِ الثَّابِتِ ؛ وَلِهَذَا لَوْ تَعَذَّرَ الرَّدُّ رَجَعَ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ مِنْ الثَّمَنِ .
وَهُنَا حَقُّ الْوَاهِبِ فِي فَسْخِ الْعَقْدِ مَقْصُورٌ عَلَى الْعَيْنِ .
قَالَ : ( وَإِذَا رَجَعَ فِي مَرَضِ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ - كِلَاهُمَا فِي الْكِتَابِ - ) ، فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ قَالَ : يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَة فِيهِ الْقِيَاسَ .
وَالِاسْتِحْسَانُ فِي الْقِيَاسِ : يُعْتَبَرُ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ ؛ لَا لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ ابْتِدَاءً ، وَلَكِنْ الرَّادّ فِي مَرَضِهِ بِاخْتِيَارِهِ يَتِمُّ بِالْقَصْدِ إلَى إبْطَالِ حَقِّ الْوَرَثَةِ ، كَمَا تَعَلَّقَ حَقُّهُمْ بِهِ ، فَلِرَدِّ قَصْدِهِ جُعِلَ مُعْتَبَرًا مِنْ ثُلُثِهِ .
قَالَ : ( رَجُلٌ وَهَبَ عَبْدًا لِرَجُلَيْنِ : فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا ، وَكَذَلِكَ إنْ جَعَلَ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا هِبَةً ، وَنَصِيبَ الْآخَرِ صَدَقَةً : كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ - اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ - ) .
وَهَذَا فِي الْعَبْدِ غَيْرُ مُشْكِلٍ ؛ فَإِنَّ الشُّيُوعَ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْهِبَةِ ، فَكَذَلِكَ الرُّجُوعُ .
وَفِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ كَالدَّارِ ، وَنَحْوِهَا : الْجَوَابُ كَذَلِكَ ، وَهُوَ دَلِيلُنَا عَلَى زُفَرَ ؛ فَإِنَّ الرُّجُوعَ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي لَوْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ ابْتِدَاءً لَمَا صَحَّ فِي مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ، وَحَيْثُ صَحَّ ، عَرَفْنَا أَنَّهُ فَسْخٌ ، وَأَنَّ الْعَقْدَ يَبْقَى فِي النِّصْفِ الْآخَرِ ؛ فَيَكُونُ ذَلِكَ شُيُوعًا طَارِئًا ، وَلَا أَثَرَ لِلشُّيُوعِ الطَّارِئِ فِي الْهِبَةِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ : أَنَّ بِالرَّدِّ بِالتَّرَاضِي يَعُودُ الْمِلْكُ إلَى الْوَاهِبِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَابْتِدَاءُ الْهِبَةِ لَا يُوجِبُ الْمِلْكَ إلَّا بِالْقَبْضِ ، وَهُوَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الشُّيُوعَ لَا يَمْنَعُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ الشُّيُوعِ فِي الْمَنْعِ مِنْ إتْمَامِ الْقَبْضِ ، فَلَا يُؤَثِّرُ فِيمَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَبْضُ .
قَالَ : ( فَإِنْ وُهِبَ لِمُكَاتَبٍ رَجُلٌ هِبَةً ، ثُمَّ عَتَقَ الْمُكَاتَبُ أَوْ عَجَزَ : فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ ، فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ) ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا إذْ أَعْتَقَ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا إذَا عَجَزَ ، فَلَا خِلَافَ أَنَّ قَبْلَ الْعِتْقِ ، وَالْعَجْز لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا ، وَفِيهِ نَوْعُ إشْكَال : فَالْمُكَاتَبُ فَقِيرٌ ، وَالْهِبَةُ مِنْ الْفَقِيرِ صَدَقَةٌ وَلَا رُجُوعَ فِيهَا ، قَالَ : ( وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْمُكَاتَبُ فَقِيرٌ مِلْكًا ، وَلَكِنَّهُ غَنِيّ يَدًا وَكَسْبًا ؛ فَالْهِبَةُ مِنْهُ لَا تَنْفَكُّ عَنْ قَصْدِ الْعِوَضِ ، إمَّا بِمَنَافِعِهِ ، أَوْ كَسْبِهِ - كَالْهِبَةِ مِنْ الْعَبْدِ - فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا إذَا لَمْ يَنَلْ الْعِوَضَ ) ، وَكَذَلِكَ بَعْدَ الْعِتْقِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الرُّجُوعِ ثَبَتَ لَهُ فِي مِلْكِ الْمُكَاتَبِ ، فَقَدْ تَقَرَّرَ ذَلِكَ بِعِتْقِهِ .
فَأَمَّا إذَا عَجَزَ : فَالْأَصْلُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ : يُقَرِّرُ مِلْك الْمَوْلَى فِي كَسْبِهِ كَمَا أَنَّ عِتْقَهُ يُقَرِّرُ مِلْكهُ ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّ الْمِلْكِ فِي الْكَسْبِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ عَجْزُ الْمُكَاتَبِ نَاقِلٌ لِلْمِلْكِ مِنْ كَسْبِهِ إلَى مَوْلَاهُ بِمَنْزِلَةِ مَوْتِ الْحُرِّ ، فَكَمَا أَنَّ مَوْتَ الْحُرِّ الْمَوْهُوب لَهُ يَقْطَعُ حَقَّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ ، فَكَذَلِكَ عَجْزُ الْمُكَاتَبِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ : أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا اسْتَبْرَأَ جَارِيَة مُحَيِّضَةً ، ثُمَّ عَتَقَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِيهَا اسْتِبْرَاءٌ جَدِيدٌ ، وَلَوْ عَجَزَ كَانَ عَلَى الْمَوْلَى أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا .
وَسَنُقَرِّرُ هَذَا الْأَصْلَ فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ - إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى - .
قَالَ : ( فَإِنْ كَانَ الْمُكَاتَبُ أَخ الْوَاهِبِ : لَمْ يَرْجِعْ فِيهَا فِي حَالِ قِيَامِ الْكِتَابَةِ ، وَلَا بَعْدَ عِتْقِهِ ) ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لِلْمُكَاتَبِ ، وَالْمَانِعُ مِنْ الرُّجُوعِ - وَهُوَ الْأُخُوَّة بَيْنَهُمَا - قَائِمٌ ، وَبَعْدَ الْعَجْزِ كَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَرْجِعُ فِيهَا بَعْدَ الْعَجْزِ ؛ لِأَنَّهُ يُقَرَّرُ الْمِلْكُ لِلْمَوْلَى ، وَالْمَوْلَى أَجْنَبِيٌّ عَنْهُ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَوْ وَهَبَ لِأَخِيهِ ، وَهُوَ عَبْدٌ : كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا وَالْمُكَاتَبُ بَعْدَ الْعَجْزِ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ .
وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ يَعْتَبِرُ مَعْنَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ بِسَبَبِ الْمُنَازَعَةِ فِي الرُّجُوعِ ؛ فَيَقُولُ : قَبْلَ الْعَجْزِ خُصُومَتهُ فِي الرُّجُوعِ مَعَ الْمُكَاتَبِ ؛ فَيُؤَدِّي إلَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ ، وَبَعْدَ الْعَجْزِ خُصُومَتهُ مَعَ الْمَوْلَى ، وَلَيْسَ فِيهِ قَطِيعَةُ الرَّحِمِ ؛ وَلِأَنَّ هِبَتَهُ تَنْفَكُّ عَنْ قَصْدِ الْعِوَضِ مَا دَامَ الْحَقُّ فِيهَا لِقَرِيبِهِ ، فَإِذَا تَقَرَّرَ الْحَقُّ لِأَجْنَبِيٍّ : لَمْ يَنْفَكَّ عَنْ قَصْدِ الْعِوَضِ .
قَالَ : ( رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ أَرْضًا فَبَنَى فِيهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ ، ثُمَّ أَرَادَ الرُّجُوعَ فِيهَا ، وَخَاصَمَهُ إلَى الْقَاضِي فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي : لَيْسَ لَك أَنْ تَرْجِعَ فِيهَا ، ثُمَّ هَدَمَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ ، فَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ : فَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا ؛ لِزَوَالِ الْمَانِعِ - وَهُوَ الْبِنَاءُ - ) .
وَفَرَّقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا اشْتَرَى عَبْدًا عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، فَحُمَّ الْعَبْدُ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ ، وَخَاصَمَهُ فِي الرَّدِّ فَأَبْطَلَ الْقَاضِي حَقَّهُ ؛ لِلْحُمَّى ، ثُمَّ أَقْلَعَتْ قَبْلَ مُضِيِّ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ : لَيْسَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ حَقَّهُ فِي الْخِيَارِ بِعَرْضِ السُّقُوطِ ، حَتَّى يَسْقُطَ بِإِسْقَاطِهِ ؛ فَكَذَلِكَ يَسْقُطُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي .
وَهُنَا : حَقُّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ لَيْسَ بِعَرْضِ السُّقُوطِ ؛ حَتَّى لَا يَسْقُطَ بِإِسْقَاطِهِ ، فَكَذَلِكَ الْقَاضِي لَا يَسْقُطُ بِقَضَائِهِ حَقّهُ فِي الرُّجُوعِ ، وَلَكِنْ يَكُفُّ عَنْ الْقَضَاءِ بِالرُّجُوعِ ؛ لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ بِسَبَبِ الْبِنَاءِ ، فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ ، فَقَدْ زَالَ الْمَانِعُ ، وَحَقُّهُ قَائِمٌ ، وَكَانَ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا .
يُوَضِّحُهُ : أَنَّ السَّبَبَ هُنَاكَ لِلْفَسْخِ عَدَمُ لُزُومِ الْعَقْدِ ، فَبِقَضَائِهِ يَصِيرُ لَازِمًا ؛ لِأَنَّ صِفَةَ اللُّزُومِ تَلِيقُ بِالْبَيْعِ ، وَهُنَا : السَّبَبُ : كَوْنُ الْعَقْدِ تَبَرُّعًا ، وَيُمْكِنُ الْخَلَلُ فِي مَقْصُودِهِ ، وَهُوَ الْعِوَضُ ، وَبِقَضَائِهِ لَا يَرْتَفِعُ هَذَا السَّبَبُ ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ إذَا زَالَ الْمَانِعُ .
قَالَ : ( رَجُلَانِ وَهَبَا لِرَجُلٍ عَبْدًا ، وَقَبَضَهُ ، ثُمَّ أَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَرْجِعَ فِي حِصَّتِهِ ، وَالْآخَرُ غَائِبٌ : فَلَهُ ذَلِكَ ) ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُبَاشِرٌ لِلتَّصَرُّفِ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ ، فَيَكُونُ مُتَمَكِّنًا مِنْ الرُّجُوعِ فِيهِ - كَمَا لَوْ انْفَرَدَ بِهِبَةِ نَصِيبِهِ - .
قَالَ : ( وَإِذَا أَرَادَ الْوَاهِبُ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ ، وَقَالَ الْمَوْهُوبُ لَهُ : أَنَا أَخُوك ، أَوْ قَالَ : قَدْ عَوَّضْتُك ، أَوْ قَالَ : إنَّمَا تَصَدَّقْت بِهَا عَلَيَّ ، وَكَذَّبَهُ الْوَاهِبُ : فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَاهِبِ ) ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُثْبِتَ لِحَقِّ الْوَاهِبِ فِي الرُّجُوعِ ظَاهِرٌ ، وَالْمَوْهُوبُ لَهُ يَدَّعِي الْمَانِعَ ؛ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُنْكِرِ ، ثُمَّ إذَا قَالَ : " تَصَدَّقْت عَلَيَّ " فَالتَّمْلِيكُ مِنْ جِهَةِ الْوَاهِبِ اتِّفَاقُهُمَا ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُمَلَّكِ فِي بَيَانِ سَبَبِ التَّمْلِيكِ ، وَإِذَا قَالَ : " عَوَّضْتُك " فَهُوَ يَدَّعِي تَسْلِيمَ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ إلَيْهِ ، وَهُوَ مُنْكِرٌ .
وَإِذَا قَالَ : أَنَا أَخُوك فَالْأُخُوَّة لَا تَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ ، وَلَا يَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَصْد الْوَاهِب الْعِوَض .
قَالَ : ( وَإِنْ كَانَتْ الْهِبَةُ خَادِمَةً فَقَالَ : وَهَبْتهَا لِي ، وَهِيَ صَغِيرَةٌ ، فَكَبِرَتْ عِنْدِي ، وَازْدَادَتْ خَيْرًا ، وَكَذَّبَهُ الْوَاهِبُ : فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَاهِبِ - عِنْدَنَا - ) ، وَقَالَ زُفَرُ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْهُوبِ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لَهَا فِي الْحَالِ ، وَهُوَ مُنْكِرٌ حَقَّ الْوَاهِبِ فِي الزِّيَادَةِ الْحَادِثَةِ فِيهَا ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ .
كَمَا إذَا كَانَ الْمَوْهُوبُ أَرْضًا ، وَفِيهَا بِنَاءٌ ، أَوْ شَجَرٌ ، وَقَالَ الْوَاهِبُ : وَهَبْتهَا لَك ، وَقَالَ الْمَوْهُوبُ لَهُ : لَمْ يَكُنْ فِيهَا بِنَاءٌ وَلَا شَجَرٌ حِينَ وَهَبْتهَا : فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْهُوبِ لَهُ .
وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْمَوْهُوبُ لَهُ يَدَّعِي تَارِيخًا سَابِقًا فِي الْهِبَةِ ، وَالْهِبَةُ حَادِثَةٌ ، فَمَنْ يَدَّعِي فِيهَا تَارِيخًا سَابِقًا : لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِحَجَّةٍ ، ثُمَّ لَيْسَ فِيهَا زِيَادَةٌ مِنْ غَيْرِهَا ، وَحَقُّ الْوَاهِبِ ثَابِتٌ فِي عَيْنِهَا - بِاتِّفَاقِهِمَا - فَكَأَنَّ الْمَوْهُوب لَهُ يَدَّعِي انْتِفَاءَ حَقِّهِ مِنْ الزِّيَادَةِ الْمُتَوَلِّدَةِ مِنْ الْعَيْنِ - مِثْلَ السِّمَنِ وَالْكِبَرِ - بِخِلَافِ الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ ؛ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَوَلَّدٌ مِنْ الْأَرْضِ ، وَلَكِنَّهُ مِلْكٌ مُبْتَدَأٌ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ فِي الْحَالِ ، وَهُوَ يُنْكِرُ تَمَلُّكَهُ مِنْ جِهَةِ الْوَاهِبِ ، وَثُبُوتُ حَقِّهِ فِيهِ يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ الْبِنَاءَ مِنْ وَجْهٍ أَصْلٌ ، حَتَّى يَجُوزَ إفْرَادُهُ بِالْبَيْعِ ، فَالظَّاهِرُ فِيهِ شَاهِدٌ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ دُونَ الْوَاهِبِ ، وَالسِّمَنُ وَالْكِبَرُ وَصْفٌ ، وَهُوَ بَيْعٌ مَحْضٌ ، وَثُبُوتُ الْحَقِّ فِي الْبَيْعِ بِثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ ، فَكَانَ الظَّاهِرُ شَاهِدًا لِلْوَاهِبِ .
وَذُكِرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : لَوْ وَهَبَ لَهُ عَبْدًا ، فَعَلَّمَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْكِتَابَةَ أَوْ الْخَبْزَ ؛ فَلَيْسَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ ، عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ .
وَقَالَ زُفَرُ : لَهُ أَنْ يَرْجِعَ ؛ لِأَنَّهُ لَا زِيَادَةَ فِي عَيْنِ الْمَوْهُوبِ ، فَهُوَ كَزِيَادَةِ الْقِيمَةِ بِتَغْيِيرِ السِّعْرِ .
وَقَالَ أَبُو
يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : تَعَلُّمُ الْكِتَابَةِ وَالْخَبْزِ مَعْنِيٌّ فِي الْعَبْدِ تَزْدَادُ بِهِ مَالِيَّتُهُ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ السَّمْنِ ، بِخِلَافِ زِيَادَةِ السِّعْرِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يَنْبَنِي عَلَى كَثْرَةِ الرَّغَائِبِ فِيهِ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْنِيٌّ فِي الْعَيْنِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ : أَنَّ صِفَةَ الْكِتَابَةِ وَالْخُبْزِ يَصِيرُ مُسْتَحَقًّا لِلْمُشْتَرِي بِالشَّرْطِ ، وَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ عِنْدَ فَوَاتِهِ بِمَنْزِلَةِ صِفَةِ السَّلَامَةِ عِنْدَ إطْلَاق الْعَقْدِ .
فَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ وَصْفٌ فِي الْعَيْنِ ، وَكُلُّ شَيْءٍ زَادَ فِيهِ مِنْ غَيْرِهِ - نَحْوَ الثَّوْبِ يَصْبُغُهُ ، وَالسَّوِيق يَلُتُّهُ ، وَالثَّوْبِ يَخِيطُهُ - فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمَوْهُوبِ لَهُ ، بِمَنْزِلَةِ الْبِنَاءِ وَالْغَرْسِ .
وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ حَيَوَانٍ : فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْوَاهِبِ بِمَنْزِلَةِ الْكِبَرِ فِي الْخَادِمِ .
قَالَ : ( وَإِذَا كَانَتْ الْهِبَةُ جَارِيَةً فَوَلَدَتْ عِنْدَ الْمَوْهُوبِ لَهُ - مِنْ زَوْجٍ أَوْ فُجُورٍ - فَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا دُونَ الْوَلَدِ ) ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ ، وَحَقُّ الرُّجُوعِ مَقْصُورٌ عَلَى عَيْنِ الْمَوْهُوبِ ، وَالْوِلَادَةُ فِي الْجَارِيَةِ نُقْصَانٌ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ النُّقْصَانَ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ ، وَالزِّيَادَةُ الْمُنْفَصِلَةُ لَيْسَتْ كَالزِّيَادَةِ الْمُتَّصِلَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُنَاكَ لَا يَتَمَيَّزُ عَنْ الزِّيَادَةِ ، لِيَرْجِعَ فِيهَا ، وَهُنَا : الزِّيَادَةُ مُنْفَصِلَةٌ عَنْ الْأَصْلِ ؛ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ .
وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَيْعِ ؛ فَإِنَّ بَعْدَ الزِّيَادَةِ الْمُنْفَصِلَةِ هُنَاكَ لَوْ رَدَّ الْأَصْلَ رَدَّهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فَيُسَلِّمُ لَهُ الْوَلَد مَجَّانًا بِحُكْمِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ ، وَذَلِكَ فِي الْمُعَاوَضَاتِ رِبًا ، وَفِي الْهِبَةِ يُسَلِّمُ لَهُ الْوَلَد مَجَّانًا ، وَهَذَا غَيْرُ مُمْتَنِعٍ فِي التَّبَرُّعَاتِ ، وَقَدْ كَانَ الْأَصْلُ سَالِمًا لَهُ مَجَّانًا .
قَالَ : ( وَإِذَا أَرَادَ الْوَاهِبُ الرُّجُوعَ ، وَهِيَ حُبْلَى ، فَإِنْ كَانَتْ قَدْ ازْدَادَتْ خَيْرًا : فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَتْ قَدْ ازْدَادَتْ شَرًّا : فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا ) .
وَالْجَوَارِي فِي هَذَا تَخْتَلِفُ فَمِنْهُنَّ مَنْ إذَا حُبِّلَتْ سَمِنَتْ وَحَسُنَ لَوْنُهَا ، فَكَانَ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي عَيْنِهَا فَيُمْنَعُ الرُّجُوعُ .
وَمِنْهُنَّ مَنْ إذَا حَبِلَتْ اصْفَرَّ لَوْنُهَا ، وَرَقَّ سَاقُهَا ؛ فَيَكُونُ ذَلِكَ نُقْصَانًا فِيهَا ؛ فَلَا يَمْنَعُ حَقّ الْوَاهِبِ مِنْ الرُّجُوعِ .
قَالَ : ( وَإِذَا وَهَبَ جَارِيَتَيْنِ ، فَوَلَدَتْ إحْدَاهُمَا ، فَعَوَّضَهُ الْوَلَد عَنْهُمَا : لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ) ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْوَاهِبِ فِي الْوَلَدِ ؛ فَهُوَ كَسَائِرِ أَمْلَاك الْمَوْهُوبِ لَهُ فِي صَلَاحِيَّة الْعِوَضِ .
فَإِذَا عَوَّضَهُ عَنْهُمَا ، وَرَضِيَ بِهِ الْوَاهِبُ ، فَقَدْ تَمَّ مَقْصُودُهُ .
قَالَ : ( وَإِنْ وَهَبَ لَهُ حَدِيدًا فَضَرَبَ مِنْهُ سَيْفًا أَوْ غَزْلًا ، فَنَسَجَهُ ، أَوْ وَهَبَ لَهُ دَفَاتِرَ ، فَكَتَبَ فِيهَا : لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَبَدًا ) ؛ إمَّا لِتَبَدُّلِ الْعَيْن ، أَوْ لِلزِّيَادَةِ الْحَادِثَةِ فِي الْعَيْنِ ، أَوْ فِي مَالِيَّتِهِ بِفِعْلِهِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ الرُّجُوعِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ الرُّقْبَى قَالَ : ( رَجُلٌ حَضَرَهُ الْمَوْتُ فَقَالَ : " دَارِي هَذِهِ حَبِيسٌ " : لَمْ تَكُنْ حَبِيسًا ، وَكَانَ ذَلِكَ مِيرَاثًا ) ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ " حَبِيسٌ " أَيْ : مَحْبُوسٌ ، فَعِيل بِمَعْنَى مَفْعُول ، كَالْقَتِيلِ بِمَعْنَى الْمَقْتُولِ ، وَمَعْنَاهُ : مَحْبُوسٌ عَنْ سِهَامِ الْوَرَثَةِ ، وَسِهَامُ الْوَرَثَةِ فِي مَالِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ حُكْمٌ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ ، فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إبْطَالِهِ بِقَوْلِهِ .
وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ شُرَيْحٍ : لَا حَبِيسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَجَاءَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِبَيْعِ الْحَبِيسِ .
وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ : دَارِي هَذِهِ حَبِيسٌ عَلَى عَقِبِي بَعْدَ مَوْتِي : فَهُوَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ مَحْبُوسٌ عَلَى مُلْكِهِمْ لَا يَتَصَرَّفُونَ فِيهِ بِالْإِزَالَةِ ، كَمَا يَفْعَلُهُ الْمَالِكُ ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِحُكْمِ الشَّرْعِ ؛ فَكَانَ بَاطِلًا .
قَالَ : ( وَلَوْ قَالَ دَارِي هَذِهِ لَك رُقْبَى : فَهُوَ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : هِيَ هِبَةٌ صَحِيحَةٌ إذَا قَبَضَهَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : لَك حَبِيسٌ ) ، فَأَبُو يُوسُفَ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَازَ الْعُمْرَى وَالرُّقْبَى .
} وَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّ قَوْلَهُ : " دَارِي لَك تَمْلِيكٌ " صَحِيحٌ .
وَقَوْلُهُ : " حَبِيسٌ أَوْ رُقْبَى " بَاطِلٌ .
فَكَأَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ .
يُوَضِّحُهُ : أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ : دَارِي لَك رُقْبَى ، مَلَّكْتُكَ دَارِي هَذِهِ ، فَأَرْقُبُ مَوْتَك ؛ لِتَعُودَ إلَيَّ ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعُمْرَى فِي مَعْنَى الِانْتِظَارِ وَالتَّعْلِيق بِالْعَوْدِ إلَيْهِ دُونَ التَّمْلِيكِ ، فَيَبْقَى التَّمْلِيكُ فِي الْحَالِ صَحِيحًا .
وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ : حَدِيثُ الشَّعْبِيِّ عَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ { أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَازَ الْعُمْرَى ، وَرَدَّ الرُّقْبَى } ، وَالْحَدِيثَانِ صَحِيحَانِ ؛ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّوْفِيقِ بَيْنَهُمَا ،
فَنَقُولُ : الرُّقْبَى قَدْ تَكُونُ مِنْ الْإِرْقَابِ ، وَقَدْ تَكُونُ مِنْ التَّرَقُّبِ ، حَيْثُ قَالَ : أَجَازَ الرُّقْبَى ، يَعْنِي : إذَا كَانَ مِنْ الْإِرْقَابِ ، بِأَنْ يَقُولَ : رَقَبَةُ دَارِي لَك .
وَحَيْثُ قَالَ : رَدُّ الرُّقْبَى إذَا كَانَ مِنْ التَّرَقُّبِ ، وَهُوَ أَنْ يَقُولَ : أُرَاقِبُ مَوْتَك ، فَرَاقِب مَوْتِي ، فَإِنْ مِتّ فَهِيَ لَك ، وَإِنْ مِتُّ فَهِيَ لِي ؛ فَيَكُونُ هَذَا تَعْلِيقُ التَّمْلِيكِ بِالْخَطَرِ ، وَهُوَ مَوْتُ الْمُمَلَّكِ قَبْلَهُ ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ ، ثُمَّ لَمَّا احْتَمَلَ الْمَعْنَيَانِ جَمِيعًا ، وَالْمِلْك لِذِي الْيَدِ فِيهَا يَقِينًا ، فَلَا يُزِيلُهُ بِالشَّكِّ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ قَوْلُهُ : " دَارِي لَك " تَمْلِيكًا ، إذَا لَمْ يُفَسِّرْ هَذِهِ الْإِضَافَة بِشَيْءٍ .
أَمَّا إذَا فَسَّرَهَا بِقَوْلِهِ : رُقْبَى أَوْ حَبِيسٌ ، يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَيْسَ بِتَمْلِيكٍ ، كَمَا لَوْ قَالَ : دَارِي لَكَ سُكْنَى تَكُونُ عَارِيَّةً ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُبْهَمَ إذَا تَعَقَّبَهُ تَفْسِيرٌ ، فَالْحُكْمُ لِذَلِكَ التَّفْسِيرِ .
قَالَ : ( رَجُلٌ قَالَ لِرَجُلَيْنِ : عَبْدِي هَذَا لِأَطْوَلِكُمَا حَيَاةً ، أَوْ حَبِيسٌ عَلَى أَطْوَلِكُمَا حَيَاةً ؛ فَهَذَا بَاطِلٌ ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرَادُ بِهَذَا اللَّفْظِ طُولَ الْحَيَاةِ فِيمَا مَضَى ، حَتَّى لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا شَابًّا وَالْآخَرُ شَيْخًا لَا يَتَعَيَّنُ الشَّيْخُ بِالتَّمْلِيكِ مِنْهُ بِهَذَا اللَّفْظِ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ : طُولُ الْحَيَاةِ فِي الْمُسْتَقْبِلِ .
مَعْنَاهُ : لِلَّذِي يَبْقَى مِنْكُمَا بَعْدَ مَوْتِ الْآخَرِ ، فَهُوَ تَعْلِيقُ التَّمْلِيكِ بِالْخَطَرِ ، وَهُوَ مَعْنَى الرُّقْبَى ، مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَأْمُرُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُرَاقِبَ مَوْتَ صَاحِبِهِ ؛ لِتَكُونَ الدَّارُ لَهُ وَذَلِكَ بَاطِلٌ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
بَابُ الشَّهَادَةِ فِي الْهِبَةِ قَالَ : ( وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى الْهِبَةِ وَمُعَايَنَةِ الْقَبْضِ : جَازَتْ الْهِبَةُ ) ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ ، وَالْهِبَةُ مَعَ الْقَبْضِ سَبَبُ مِلْكٍ تَامٍّ ، وَإِنْ شَهِدَا عَلَى إقْرَارِ الْوَاهِبِ بِالْقَبْضِ ، وَهُوَ يَجْحَدُهُ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ الْأَوَّلِ ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ : الشَّهَادَةُ جَائِرَةٌ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَالصَّدَقَةُ وَالرَّهْنُ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا .
وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ : إنَّ تَمَامَ هَذِهِ الْعُقُودِ بِقَبْضٍ يُوجَدُ ، وَهُوَ فِعْلٌ لَا قَوْلٌ ، وَالْإِقْرَارُ يَحْتَمِلُ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ ، وَالْمُخْبِرُ بِهِ إذَا كَانَ كَذِبًا ، فَبِالْإِخْبَارِ لَا يَصِيرُ صِدْقًا ، وَمَا لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا مِنْ الْقَبْضِ ، فَبِإِقْرَارِهِ لَا يَصِيرُ مَوْجُودًا ، فَظَهَرَ أَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ لَيْسَتْ بِمَا هُوَ سَبَب مِلْكٍ تَامٍّ .
وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ : أَنَّ الْقَبْضَ فِي هَذِهِ الْعُقُودِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ الْقَتْلِ وَالْغَصْبِ ، ثُمَّ فِعْلُ الْقَتْلِ وَالْغَصْبِ كَمَا يَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى مُعَايَنَتِهِ ، يَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الثَّابِتَ مِنْ الْإِقْرَارِ بِالْبَيِّنَةِ كَالْمَسْمُوعِ مِنْ الْمُقِرِّ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ ، وَلَوْ أَقَرَّ الْخَصْمُ بِأَنَّهُ وَهَبَهُ وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ : قُضِيَ بِالْمِلْكِ لَهُ .
فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ إقْرَارُهُ بِالْبَيِّنَةِ .
قَالَ : ( وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ ، فَشَهِدَ عَلَى إقْرَارِ الْوَاهِبِ بِالْهِبَةِ ، وَالْقَبْضِ : جَازَتْ الشَّهَادَةُ ، كَمَا لَوْ سَمِعَ الْقَاضِي إقْرَارَهُ بِذَلِكَ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْوَاهِبِ فَأَقْرٍ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّهُ وَهَبَهُ مِنْهُ ، وَسَلَّمَهُ إلَيْهِ أَخَذَ بِإِقْرَارِهِ ) ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْعَبْدِ فِي يَدِهِ لَا يُنَافِي مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ الْهِبَةِ ، وَقَبْضُ الْمَوْهُوبِ وَالْمُقِرّ يُعَامَلُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ كَأَنَّ مَا أَقَرَّ بِهِ حَقٌّ .
وَفَرَّقَ أَبُو حَنِيفَةَ - عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ - بَيْنَ مَا إذَا أَقَرَّ بِنَفْسِهِ ، وَبَيْنَ مَا إذَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى إقْرَارِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ ، وَالشَّهَادَةُ لَا تُوجِبُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، وَالْقَاضِي لَا يَقْضِي إلَّا أَنْ يَشْهَدُوا بِسَبَبِ مِلْكٍ تَامٍّ .
قَالَ : ( وَإِذَا اسْتَوْدَعَ الرَّجُلُ رَجُلًا وَدِيعَةً ، ثُمَّ وَهَبَهَا لَهُ ، ثُمَّ جَحَدَهُ فَشَهِدَ بِذَلِكَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ ، وَلَمْ يَشْهَدَا بِالْقَبْضِ : فَهُوَ جَائِزٌ ) ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ ، وَقَبْضُهُ مَعْلُومٌ بِالْمُعَايَنَةِ ؛ فَيَتِمُّ بِهِ سَبَبُ الْمِلْكِ .
قَالَ : ( فَإِنْ جَحَدَ الْوَاهِبُ أَنْ تَكُونَ فِي يَدِهِ يَوْمَئِذٍ ، وَقَدْ شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى الْهِبَةِ ، وَلَمْ يَشْهَدُوا عَلَى مُعَايَنَةِ الْقَبْضِ ، وَلَا عَلَى إقْرَارِ الْوَاهِبِ ، وَالْهِبَةُ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ يَوْمَ تَخَاصَمَ إلَى الْقَاضِي : فَذَلِكَ جَائِزٌ ، إذَا كَانَ الْوَاهِبُ حَيًّا ) ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَالِ قَابِضٌ ، وَقَدْ أَثْبَتَ عَقْدَهُ بِالْبَيِّنَةِ ؛ فَيَجْعَلُ قَبْضهُ صَادِرًا عَنْ ذَلِكَ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ حُكْمُ الْعَقْدِ ، أَوْ مُتَمِّمٌ لِلْعَقْدِ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْمِلْكِ ، وَالثَّابِتُ مِنْ الْعَقْدِ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً ، فَكَمَا يُجْعَلُ الْقَبْضُ هُنَاكَ مُتَمِّمًا لِلسَّبَبِ ، فَكَذَلِكَ هُنَا ، وَلَكِنْ هَذَا إذَا كَانَ الْوَاهِبُ حَيًّا ، فَإِنْ كَانَ مَيِّتًا فَشَهَادَتهُمَا بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْحَالِ لِلْوَارِثِ ، فَلَا يَكُونُ إثْبَاتُ الْعَقْدِ عَلَى الْوَاهِبِ بَعْدَ مَوْتِهِ سَبَبًا لِلْمِلْكِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَا دَامَ الْوَاهِبُ حَيًّا ، إذَا قَبَضَ الْمَوْهُوبُ بِإِذْنِهِ تَتِمُّ الْهِبَةُ ، وَيَمْلِكُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ لَا يَمْلِكُهُ بِالْقَبْضِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ ، إلَّا أَنْ يَشْهَدَا عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِهِ فِي حَيَاةِ الْوَاهِبِ ، أَوْ عَلَى إقْرَارِ الْوَاهِبِ بِذَلِكَ ، فَحِينَئِذٍ يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ .
قَالَ : ( رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ عَبْدًا ، وَقَبَضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ ، ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ اشْتَرَاهُ مِنْ الْوَاهِبِ قَبْلَ الْهِبَةِ وَالْقَبْض : أُبْطِلَتْ الْهِبَةُ ) ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الشِّرَاءَ مِنْ الْمَالِكِ ، وَالشِّرَاءُ يُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ ؛ فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّهُ وَهَبَ ، وَسَلَّمَ مَا لَا يُمَلَّكُ ، قَالَ : ( فَإِنْ شَهِدُوا عَلَى الشِّرَاءِ ، وَلَمْ يَذْكُرُوا أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْهِبَةِ : فَهُوَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ ) ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ ، وَالِاسْتِحْقَاقُ لَهُ ثَابِتٌ ، بِاعْتِبَارِ يَدِهِ ، وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْهِبَةِ مَا يُوجِبُ الِاسْتِحْقَاقَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ شِرَاءَهُ مُحْتَمَلٌ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ قَبْلَ الْهِبَةِ ثَبَتَ اسْتِحْقَاقُهُ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْهِبَةِ لَا يَثْبُتُ ، وَبِالِاحْتِمَالِ لَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ ، وَكَذَلِكَ إنْ أَرَّخَ شُهُود الشِّرَاءِ شَهْرًا أَوْ سَنَةً ؛ لِأَنَّ الْيَدَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ مُعَايَنٌ ، وَهُوَ دَلِيلٌ سَبَقَ عَقْدُهُ ؛ فَإِنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الْقَبْضِ دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ، وَالتَّأْرِيخُ فِي حَقِّ الْآخَرِ مَشْهُودٌ بِهِ ، وَلَيْسَ الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِ الْوَاهِبِ ، فَأَقَامَ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ وَهَبَهُ لَهُ ، وَقَبَضَهُ قَبْلَ الشِّرَاءِ ، وَأَقَامَ الْمُشْتَرِي الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اشْتَرَاهُ قَبْلَ الْهِبَةِ وَقَبَضَهُ : فَالْعَبْدُ لِصَاحِبِ الشِّرَاءِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ مِلْكِهِ أَقْوَى ، مِنْ حَيْثُ إنَّ الشِّرَاءَ يُوجِبُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ ، وَأَنَّهُ عَقْدُ ضَمَانٍ ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي الْبَدَلَيْنِ ، وَعِنْدَ الْمُعَاوَضَةِ يَتَرَجَّحُ أَقْوَى السَّبَبَيْنِ فَإِنَّ الضَّعِيفَ مَدْفُوعٌ بِالْقَوِيِّ ، وَلَا يَظْهَرُ عِنْدَ الْمُقَابِلَةِ بِالْقَوِيِّ .
قَالَ : ( رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ مَتَاعًا ، ثُمَّ قَالَ : إنَّمَا كُنْت اسْتَوْدَعْتُك فَالْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِ الْمَتَاعِ مَعَ الْيَمِينِ ) ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْدَعَ يَدَّعِي تَمَلُّكَ الْعَيْنِ عَلَيْهِ بِسَبَبٍ ، وَهُوَ مُنْكِرٌ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يُثْبِتَ السَّبَبَ بِالْبَيِّنَةِ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ الْيَمِينِ ، فَإِذَا حَلَفَ أَخَذَ الْمَتَاعَ .
وَإِنْ وَجَدَهُ هَالِكًا : فَإِنْ كَانَ قَدْ هَلَكَ بَعْدَ مَا ادَّعَى الْمُسْتَوْدَعُ الْهِبَةَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِلْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ بِدَعْوَى التَّمَلُّكِ بِالْهِبَةِ يَكُونُ جَاحِدًا لِلْوَدِيعَةِ ، وَالْمُودَعُ يَضْمَنُ الْوَدِيعَةَ بِالْجُحُودِ ؛ وَلِأَنَّهُ صَارَ مُفَوِّتًا لِلْيَدِ الْحَكِيمَةِ الَّتِي كَانَتْ لِلْمُودَعِ حِينَ زَعَمَ أَنَّهُ قَابِضٌ لِنَفْسِهِ مُتَمَلِّكٌ فَكَانَ ضَامِنًا الْقِيمَةَ ؛ لِهَذَا فَإِنْ قِيلَ ) : هَذَا أَنْ لَوْ ثَبَتَ الْإِيدَاعُ ، ( قُلْنَا ) : لَا حَاجَةَ إلَى ذَلِكَ بِقَبْضِ مَالِ الْغَيْرِ لِنَفْسِهِ عَلَى وَجْهِ التَّمَلُّكِ مُوجِب لِلضَّمَانِ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ تَمْلِيكٌ مِنْ صَاحِبِهِ إيَّاهُ ، وَلَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
بَابُ الصَّدَقَةِ قَالَ : ( الصَّدَقَةُ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ فِي الْمَشَاعِ ، وَغَيْرِ الْمَشَاعِ ، وَحَاجَتُهَا إلَى الْقَبْضِ ) ، وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فِيهَا إلَّا أَنَّهُ لَا رُجُوعَ فِي الصَّدَقَةِ إذَا تَمَّتْ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا نَيْلُ الثَّوَابِ - وَقَدْ حَصَلَ - وَإِنَّمَا الرُّجُوعُ عِنْدَ تَمَكُّنِ الْخَلَلِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ ، وَيَسْتَوِي إنْ تَصَدَّقَ عَلَى غَنِيٍّ ، أَوْ فَقِيرٍ فِي أَنَّهُ لَا رُجُوعَ لَهُ فِيهَا .
وَمِنْ أَصْحَابِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ يَقُولُ : الصَّدَقَةُ عَلَى الْغَنِيِّ وَالْهِبَةُ سَوَاءٌ إنَّمَا يَقْصِدُ بِهِ الْعِوَضَ - دُونَ الثَّوَابِ - ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي حَقِّ الْفَقِيرِ جَعَلَ الْهِبَة وَالصَّدَقَة سَوَاء فِي أَنَّ الْمَقْصُودَ الثَّوَابُ ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْغَنِيِّ : الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ سَوَاءٌ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ ، ثُمَّ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْهِبَةِ فَكَذَلِكَ فِي الصَّدَقَةِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : ذِكْرهُ لَفْظ الصَّدَقَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْعِوَضَ ، وَمُرَاعَاةُ لَفْظِهِ أَوْلَى مِنْ مُرَاعَاةِ حَالِ الْمُتَمَلِّكِ .
ثُمَّ التَّصَدُّقُ عَلَى الْغَنِيِّ يَكُونُ قُرْبَةً يَسْتَحِقُّ بِهَا الثَّوَابَ فَقَدْ يَكُونُ غَنِيًّا يَمْلِكُ نِصَابًا ، وَلَهُ عِيَالٌ كَثِيرَةٌ ، وَالنَّاسُ يَتَصَدَّقُونَ عَلَى مِثْلِ هَذَا لِنَيْلِ الثَّوَابِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ عِنْدَ اشْتِبَاهِ الْحَالِ يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ مِنْ الزَّكَاةِ بِالتَّصَدُّقِ عَلَيْهِ وَلَا رَهْنَ وَلَا رُجُوعَ فِيهِ - بِالِاتِّفَاقِ - فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْعِلْمِ بِحَالِهِ : لَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ .
قَالَ : ( رَجُلٌ تَصَدَّقَ عَلَى رَجُلٍ بِصَدَقَةٍ ، وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ ، ثُمَّ مَاتَ الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ ، وَالْمُتَصَدِّق وَارِثُهُ فَوَرَّثَهُ تِلْكَ الصَّدَقَةَ ، فَلَا بَأْسَ عَلَيْهِ فِيهَا ) بَلَغَنَا فِي الْأَثَرِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - { : أَنَّ رَجُلًا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ ، ثُمَّ مَاتَ الْمُتَصَدِّقُ عَلَيْهِ فَوَرَّثَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ تِلْكَ الصَّدَقَةِ } .
وَالْحَدِيثُ فِيهِ مَا رُوِيَ { أَنَّ طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ تَصَدَّقَ عَلَى أُمِّهِ بِحَدِيقَةٍ ، ثُمَّ مَاتَتْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَبِلَ مِنْك صَدَقَتَك ، وَرَدَّ عَلَيْك حَدِيقَتَك } .
وَفِي الْمَشْهُورِ : { أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيِّ إلَّا بِخَمْسَةٍ ، وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا : رَجُلًا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ ، ثُمَّ مَاتَ الْمُتَصَدِّقُ عَلَيْهِ فَوَرْثَ تِلْكَ الصَّدَقَةَ } .
قَالَ : ( رَجُلٌ قَالَ فِي صِحَّتِهِ : جَعَلْت غَلَّةَ دَارِي هَذِهِ صَدَقَة لِلْمَسَاكِينِ ، ثُمَّ مَاتَ ، أَوْ قَالَ : دَارِي هَذِهِ صَدَقَةٌ فِي الْمَسَاكِينِ ، ثُمَّ مَاتَ ، قَالَ : هِيَ مِيرَاثٌ عَنْهُ ) ؛ لِأَنَّهَا صَدَقَةٌ لَمْ تَتَّصِلْ بِهَذَا الْقَبْضِ ؛ وَلِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ النَّذْرِ ، سَوَاءٌ الْتَزَمَ الصَّدَقَةَ بِعَيْنِهَا ، أَوْ بِغَلَّتِهَا ، وَالْمَنْذُورُ لَا يَزُولُ عَنْ مِلْكِهِ قَبْلَ تَنْفِيذِ الصَّدَقَةِ فِيهِ ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ حَقًّا لِلَّهِ - تَعَالَى - وَلِهَذَا يُفْتَى بِهِ ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ ، وَمِثْلُهُ لَا يَمْنَعُ الْإِرْث ، فَلَا يَبْقَى بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَإِنْ كَانَ حَيًّا ، وَتَصَدَّقَ بِقِيمَتِهَا : أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّ مَا لَزِمَهُ مِنْ التَّصَدُّقِ فِي عَيْنِ مَالٍ بِالْتِزَامِهِ مُعْتَبَرٌ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ - وَهُوَ الزَّكَاةُ - وَالْوَاجِبُ هُنَاكَ يَتَأَدَّى بِالْقِيمَةِ ، كَمَا يَتَأَدَّى بِالْعَيْنِ ، فَهَذَا مِثْلُهُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي حَقِّ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ أَغِنَاؤُهُ ، وَسَدُّ خَلَّتِهِ .
قَالَ : ( فَإِنْ قَالَ جَمِيعُ مَا أَمْلِكُ صَدَقَةٌ فِي الْمَسَاكِينِ ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَا يَمْلِكُ مِنْ الصَّامِتِ ، وَأَمْوَالِ السَّوَائِمِ ، وَأَمْوَالِ الزَّكَاةِ ، وَلَا يَتَصَدَّقُ بِالْعَقَارِ ، وَالرَّقِيقِ ، وَغَيْرِ ذَلِكَ - اسْتِحْسَانًا - ) ، وَفِي الْقِيَاسِ : عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِجَمِيعِ ذَلِكَ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَزَعَمَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ فِي قَوْلِهِ : " جَمِيعُ مَا أَمْلِكُ " يَتَصَدَّقُ بِالْكُلِّ قِيَاسًا ، وَاسْتِحْسَانًا .
وَإِنَّمَا الْقِيَاسُ ، وَالِاسْتِحْسَانُ فِي قَوْلِهِ : مَالِي صَدَقَةٌ ، أَوْ جَمِيعُ مَالِي صَدَقَةٌ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ .
وَجْهُ الْقِيَاسِ : أَنَّ اسْمَ الْمِلْكِ حَقِيقَةٌ لِكُلِّ مَمْلُوكٍ لَهُ ، وَاسْم الْمَالِ لِكُلِّ مَا يَتَمَوَّلُهُ الْإِنْسَانُ ، وَمَالُ الزَّكَاةِ فِي ذَلِكَ ، وَغَيْر مَالِ الزَّكَاةِ سَوَاءٌ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْإِرْثِ وَالْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ يَسْتَوِي فِيهِ ذَلِكَ كُلُّهُ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ اللَّفْظ مَعْمُولٌ بِهِ فِي حَقِيقَتِهِ - مَا أَمْكَنَ - وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ ، فَقَالَ : إنَّمَا ذَكَرَ الْمَالَ وَالْمِلْكَ عِنْدَ ذِكْرِ الصَّدَقَةِ ، فَيَخْتَصُّ بِمَالِ الزَّكَاةِ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ ، وَهُوَ أَنَّ مَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ مُعْتَبَرٌ بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - عَلَيْهِ ، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - أَوْجَبَ الْحَقَّ فِي الْمَالِ ؛ وَلِذَلِكَ يَخْتَصُّ بِمَالِ الزَّكَاةِ ، فَكَذَلِكَ مَا يُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ - بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ - ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الصَّدَقَةَ - شَرْعًا - إنَّمَا تَكُونُ عَنْ غِنًى .
{ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى } .
وَالْغَنِيّ - شَرْعًا - يَخْتَصُّ بِمَالِ الزَّكَاةِ ، حَتَّى لَا يَكُونَ مَالِكُ الْعَقَارِ وَالرَّقِيقِ لِغَيْرِ التِّجَارَةِ غَنِيًّا شَرْعًا ؛ فَلِهَذَا الدَّلِيلِ تَرَكْنَا اعْتِبَارَ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ ، وَأَوْجَبْنَا عَلَيْهِ التَّصَدُّقَ بِمَالِ الزَّكَاةِ وَبِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ وَالْمِيرَاثِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ خِلَافُهُ وَالْحَاجَةُ إلَيْهِ فِي مَالِ
الزَّكَاةِ ، وَغَيْرِ مَالِ الزَّكَاةِ سَوَاءٌ ، ثُمَّ يُمْسِكُ مِنْ ذَلِكَ قُوتَهُ ، فَإِذَا أَصَابَ شَيْئًا بَعْدَ ذَلِكَ تَصَدَّقَ بِمَا أَمْسَكَ ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ فِي هَذَا الْقَدْرِ مُقَدَّمَةٌ ؛ إذْ لَوْ لَمْ يُمْسِكْ احْتَاجَ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ ، وَلَا يَحْسُنُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَالِهِ ، ثُمَّ يَسْأَلَ النَّاسَ مِنْ سَاعَتِهِ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ فِي الْكِتَابِ مِقْدَار مَا يُمْسِكُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِقِلَّةِ عِيَالِهِ ، وَكَثْرَةِ عِيَالِهِ .
وَقِيلَ : إنْ كَانَ مُحْتَرِفًا : فَإِنَّمَا يُمْسِكُ قُوتَ يَوْمٍ ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبَ غَلَّةٍ : أَمْسَكَ قُوتَ شَهْرٍ ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبَ ضَيَاعٍ : أَمْسَكَ قُوتَ سَنَةٍ ؛ لِأَنَّ يَدَ الدِّهْقَانِ إلَى مَا يُنْفِقُ إنَّمَا تَتَّصِلُ سَنَةً فَسَنَةً ، وَيَدُ صَاحِبِ الْغَلَّةِ شَهْرًا فَشَهْرًا ، وَيَدُ الْعَامِلِ يَوْمًا فَيَوْمًا .
قَالَ : ( رَجُلٌ وَهَبَ لِلْمَسَاكِينِ هِبَةً ، وَدَفَعَهَا إلَيْهِمْ لَمْ يَرْجِعْ فِيهَا - اسْتِحْسَانًا - وَفِي الْقِيَاسِ : يَرْجِعُ ) ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِطَرِيقِ الْهِبَةِ ، وَفِي أَسْبَابِ الْمِلْكِ : الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ سَوَاءٌ كَالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ - .
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ : أَنَّ قَصْدَهُ بِالْهِبَةِ مِنْ الْفَقِيرِ : الثَّوَابُ - دُونَ الْعِوَضِ - ؛ إذْ لَوْ كَانَ قَصْدُهُ الْعِوَضَ لَاخْتَارَ لِلْهِبَةِ مَنْ يَكُونُ أَقْدَرَ عَلَى أَدَاء الْعِوَضِ ، وَلَمَا اخْتَارَ الْفَقِيرَ مَعَ عَجْزِهِ عَنْ أَدَاء الْعِوَضِ ، عَرَفْنَا أَنَّ مَقْصُودَهُ الثَّوَابُ ، وَقَدْ نَالَ ذَلِكَ .
قَالَ : ( وَكَذَلِكَ إنْ أَعْطَى سَائِلًا أَوْ مُحْتَاجًا عَلَى وَجْهِ الْحَاجَةِ ) : فَإِنَّ الْعَطِيَّةَ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ ، وَإِنَّمَا قَصْدهُ بِفِعْلِهِ سَدُّ خَلَّة الْمُحْتَاج ؛ وَذَلِكَ يُفْعَلُ لِابْتِغَاءِ مَرْضَاة اللَّهِ - تَعَالَى - وَنُبْلِ ثَوَابِهِ وَهُوَ مَعْنَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَنْ وَهَبَ هِبَةً لِصِلَةِ رَحِمٍ ، أَوْ عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا .
قَالَ : ( رَجُلٌ جَعَلَ فِي دَارِهِ مَسْجِدًا يُصَلِّي فِيهِ النَّاسُ ، ثُمَّ مَاتَ .
قَالَ : هُوَ مِيرَاثٌ لِوَرَثَتِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُمَيِّزْهُ عَنْ مِلْكِهِ ، فَيَكُونُ هَذَا بِمَعْنَى صَدَقَةِ الْمُشَاعِ ، ثُمَّ الْأَصْلُ فِي الْمَسَاجِدِ : الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ ، وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَدْخُلُهُ مَنْ شَاءَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ ، وَهَذَا مِلْكُهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ جَانِبٍ مِنْهُ ، فَلَا يَتَمَكَّنُ أَحَدٌ مِنْ الدُّخُولِ فِيهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ .
فَإِنْ كَانَ أَخْرَجَهُ مِنْ دَارِهِ ، وَعَزَلَهُ وَجَعَلَهُ مَسْجِدًا ، وَأَظْهَرَهُ لِلنَّاسِ ، ثُمَّ مَاتَ : فَهُوَ مَسْجِدٌ لَا يُورَثُ ، ، وَقَدْ بَيَّنَّا تَمَامَ هَذَا الْفَصْلِ فِي كِتَابِ الْوَقْفِ .
قَالَ : ( وَإِنْ بَنَى عَلَى مَنْزِلِهِ مَسْجِدًا ، وَسَكَنَ أَسْفَلَهُ ، أَوْ جَعَلَهُ سِرْدَابًا ، ثُمَّ مَاتَ : فَهُوَ مِيرَاثٌ ) .
وَكَذَلِكَ إنْ جَعَلَ أَسْفَلَهُ مَسْجِدًا ، وَفَوْقَهُ مَسْكَنًا ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مَا يُحْرَزُ أَصْلُهُ عَنْ مِلْكِ الْعِبَادِ ، وَانْتِفَاعُهُمْ بِهِ عَلَى قِيَاسِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيمَا اتَّخَذَهُ - حِين اسْتَثْنَى الْعُلْوَ أَوْ السُّفْلَ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ - .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ : إنْ جَعَلَ السُّفْلَ مَسْجِدًا : جَازَ ، وَإِنْ جَعَلَ الْعُلْوَ مَسْجِدًا دُونَ السُّفْلِ : لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مَا لَهُ قَرَارٌ ، وَتَأْبِيدٌ فِي السُّفْلِ دُونَ الْعُلْوِ .
وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا دَخَلَ الْعُلْوُ مَسْجِدًا ، وَالسُّفْلُ مُسْتَغَلًّا لِلْمَسْجِدِ فَهَذَا يَجُوزُ - اسْتِحْسَانًا - .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ جَائِزٌ ، رَجَعَ إلَيْهِ حِينَ قَدِمَ بَغْدَادَ ، وَرَأَى ضِيقَ الْمَنَازِلِ بِأَهْلِهَا فَجَوَّزَ أَنْ يَجْعَلَ الْعُلْوَ مَسْجِدًا دُونَ السُّفْلِ وَالسُّفْلَ دُونَ الْعُلْوِ ، وَهُوَ مُسْتَقِيمٌ عَلَى أَصْلِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يُوَسِّعُ فِي الْوَقْفِ فَكَذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ .
قَالَ : ( رَجُلٌ وَهَبَ لِمِسْكِينٍ دِرْهَمًا ، وَسَمَّاهُ هِبَةً ، وَنَوَاهُ مِنْ زَكَاتِهِ : أَجْزَأَهُ ) ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فِي حَقِّ الْمِسْكَيْنِ لَفْظَة الْهِبَةِ كَلَفْظَةِ الصَّدَقَةِ ؛ وَلِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِاللَّفْظِ فِي أَدَاء الزَّكَاةِ ، إنَّمَا الْمُعْتَبَرُ : الْإِعْطَاءُ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَعْطَاهُ ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ بِشَيْءٍ : كَانَ ذَلِكَ زَكَاةً لَهُ ، فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِذَكَرِ الْهِبَةِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ الْعَطِيَّةِ ( وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِغَيْرِهِ قَدْ أَعْمَرْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ ، وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ : فَهِيَ هِبَةٌ صَحِيحَةٌ ) ؛ لِحَدِيثِ ابْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ : أَمْسِكُوا عَلَيْكُمْ أَمْوَالَكُمْ لَا ، تُعْمِرُوهَا ، فَمَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى فَهِيَ لِلْمُعْمَرِ لَهُ وَلِوَرَثَتِهِ بَعْدَهُ } .
وَرَوَى سَلِمَةُ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِالْعُمْرَى لِلْمُعْمَرِ لَهُ وَلِعَقِبِهِ بَعْدَهُ ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : مَنْ أَعْمَرَ عُمْرَى قَطَعَ قَوْلُهُ حَقَّهُ .
يَعْنِي قَطَعَ قَوْلَهُ : وَهَبْت لَك عُمْرَك حَقَّهُ فِي الرُّجُوعِ بَعْدَ مَوْتِهِ } ، وَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّهُ مَلَكَهُ فِي الْحَالِ ، وَالْوَارِثُ يَخْلُفُهُ فِي مِلْكِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ .
فَشَرْطُ الرُّجُوعِ إلَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ فَاسِدٌ ، وَالْهِبَةُ لَا تَبْطُلُ بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَةِ .
قَالَ : ( وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ نَحَلْتُك هَذَا الثَّوْبَ ، أَوْ أَعْطَيْتُك هَذَا الثَّوْبَ عَطِيَّةً فَهَذِهِ عِبَارَاتٌ عَنْ تَمْلِيكِ الْعَيْنِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ ؛ وَذَلِكَ يَكُونُ هِبَةً ) ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ قَدْ كَسَوْتُك هَذَا الثَّوْبَ فَإِنَّ هَذَا اللَّفْظَ لِتَمْلِيكِ الْعَيْنِ ، بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : { أَوْ كِسْوَتُهُمْ } فَالْكَفَّارَةُ لَا تَتَأَدَّى إلَّا بِتَمْلِيكِ الثَّوْبِ مِنْ الْمِسْكِينِ .
وَيُقَالُ فِي الْعُرْف : كَسَا الْأَمِيرُ فُلَانًا أَيْ : مَلَّكَهُ .
وَإِنْ قَالَ : حَمَلْتُكَ عَلَى هَذِهِ الدَّابَّةِ : كَانَتْ عَارِيَّةً لِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى الدَّابَّةِ إرْكَابٌ ، وَهُوَ تَصَرُّفٌ فِي مَنَافِعِهَا لَا فِي عَيْنِهَا فَتَكُونُ عَارِيَّةً إلَّا أَنْ يَقُولَ صَاحِبُ الدَّابَّةِ : أَرَدْت الْهِبَةَ لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ قَدْ يُذْكَرُ لِلتَّمْلِيكِ .
يُقَالُ : حَمَلَ الْأَمِيرُ فُلَانًا عَلَى فَرَسِهِ ، أَيْ : مَلَّكَهُ ، فَإِذَا نَوَى مَا يَحْتَمِلُهُ لَفْظُهُ ، وَفِيهِ تَشْدِيدٌ عَلَيْهِ عَمِلَتْ نِيَّتُهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : قَدْ أَخْدَمْتُك هَذِهِ الْجَارِيَةَ فَهِيَ عَارِيَّةٌ لِأَنَّ مَعْنَاهُ مَكَّنْتُك مِنْ أَنْ تَسْتَخْدِمَهَا وَذَلِكَ تَصَرُّفٌ فِي مَنَافِعِهَا لَا فِي عَيْنِهَا .
وَإِنْ قَالَ : قَدْ مَنَحْتُكَ هَذِهِ الْجَارِيَةَ ، أَوْ هَذِهِ الْأَرْضَ فَهِيَ عَارِيَّةٌ لِأَنَّ الْمِنْحَةَ بَدَلَ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ بَدَلٍ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ وَالْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ } .
فَيَكُونُ مَعْنَى كَلَامِهِ : جَعَلْت لَك مَنْفَعَةَ هَذِهِ الْعَيْنِ وَهُوَ نَفْسُ الْعَارِيَّةِ .
فَإِنْ قَالَ : قَدْ أَطْعَمْتُك هَذِهِ الْأَرْضَ ؛ فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ غَلَّتَهَا .
وَالرُّقْبَى لِصَاحِبِهَا ؛ لِأَنَّ عَيْنَهَا لَا تُطْعَمُ ، فَمَعْنَاهُ : أَطْعَمْتُك مَا يَحْصُلُ مِنْهَا فَيَكُونُ تَمْلِيكًا لِمَنْفَعَةِ الْأَرْضِ - دُونَ عَيْنِهَا - وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا مَتَى شَاءَ .
يَعْنِي : إذَا كَانَتْ فَارِغَةً .
فَأَمَّا بَعْدَ الزِّرَاعَةِ : إذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَرِدَّهَا ، فَإِنْ رَضِيَ الْمُسْتَعِيرُ بِأَنْ يَقْلَعَ زَرْعَهَا وَيَرُدَّهَا : فَلَهُ ذَلِكَ ، وَإِنْ
أَبَى تُرِكَتْ فِي يَدِهِ بِأُجْرَةِ مِثْلِهَا إلَى وَقْتِ إدْرَاكِ الْغَلَّةِ ؛ لِأَنَّهُ مُحِقٌّ فِي زِرَاعَتِهِمَا غَيْرُ مُتَعَدٍّ .
فَلَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ حَقِّهِ بِخِلَافِ الْغَاصِبِ وَإِنَّمَا يَعْتَدِلُ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بِأَنْ تُتْرَكَ فِي يَدِهِ بِأَجْرٍ إلَى إدْرَاكِ الْغَلَّةِ ، وَإِنْ قَالَ : قَدْ أَطْعَمْتُك هَذَا الطَّعَامَ فَاقْبِضْهُ ، فَقَبَضَهُ : فَهَذِهِ هِبَةٌ لِأَنَّ عَيْنَ الطَّعَامِ تُطْعَمُ فَإِضَافَةُ لَفْظَةِ الْإِطْعَامِ إلَى مَا يُطْعَمُ عَيْنُهُ يَكُونُ تَصَرُّفًا فِي الْعَيْنِ تَمْلِيكًا بِغَيْرِ عِوَضٍ ؛ وَذَلِكَ يَكُونُ هِبَةً ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : جَعَلْت هَذِهِ الدَّارَ لَك ، فَاقْبِضْهَا ؛ لِأَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ : مَلَّكْتُكَ هَذِهِ الدَّارَ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي التَّمْلِيكِ بِبَدَلٍ لَا فَرْقَ بَيْنَ لَفْظِ الْجُعْلِ ، وَالتَّمْلِيكِ فَكَذَلِكَ فِي التَّمْلِيكِ بِغَيْرِ بَدَلٍ .
فَإِنْ قَالَ : دَارِي لَك عُمْرَى سُكْنَى : فَهَذِهِ عَارِيَّةٌ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : سُكْنَى تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ : عُمْرَى .
وَالْكَلَامُ الْمُبْهَمُ إذَا تَعَقَّبَهُ تَفْسِيرٌ فَالْحُكْمُ لِلتَّفْسِيرِ ، وَبَيَانُ هَذَا وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ : لَك عُمْرَى ، يَحْتَمِلُ تَمْلِيكَ عَيْنِهَا مِنْهُ عُمْرَهُ ، وَيَحْتَمِلُ تَمْلِيكَ مَنْفَعَتِهَا .
فَكَانَ قَوْلُهُ : سُكْنَى ، تَفْسِيرًا ، أَيْ : لَك سُكْنَاهَا عُمْرَك ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : نُحْلَى سُكْنَى ، وَقَوْلُهُ : هِبَةٌ سُكْنَى ، أَوْ سُكْنَى هِبَةٌ ، أَوْ سُكْنَى صَدَقَةٌ ، فَهَذَا كُلُّهُ عَارِيَّةٌ ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ : سُكْنَى ، تَفْسِيرٌ لِلْمَحْمَلِ مِنْ كَلَامِهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ : هِيَ لَك فَاقْبِضْهَا : كَانَتْ هِبَةً ، وَلَوْ قَالَ : هِيَ لَك سُكْنَى كَانَتْ عَارِيَّةً ، وَجَعَلَ قَوْلَهُ : سُكْنَى تَفْسِيرًا ، وَكَذَلِكَ إذَا زَادَ لَفْظَةَ الْعُمْرَى وَالْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ ، وَإِنْ قَالَ : هِيَ لَك هِبَةٌ عَارِيَّةٌ ، أَوْ هِيَ عَارِيَّةٌ هِبَةٌ : فَهِيَ عَارِيَّةٌ .
قَدَّمَ لَفْظَةَ الْهِبَةَ ، أَوْ أَخَّرَهَا ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ هِبَةَ الْعَيْنِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ هِبَةَ
الْمَنْفَعَةِ .
وَقَوْلُهُ : عَارِيَّةٌ ، تَفْسِيرٌ لِذَلِكَ الْمُبْهَمِ ؛ لِأَنَّهُ فِي نَفْسِهِ مُحْكَمٌ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْمَنْفَعَةَ ، فَسَوَاءٌ قَدَّمَهُ أَوْ أَخَّرَهُ ، فَالْحُكْمُ لَهُ وَإِنْ قَالَ : هِيَ لَك هِبَةٌ إجَارَةٌ كُلُّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ أَوْ إجَارَةٌ هِبَةٌ فَهِيَ إجَارَةٌ فِي الْوَجْهَيْنِ لِأَنَّ لَفْظَةَ الْإِجَارَةِ فِي حَقِّ الْمَحَلِّ مُحْكَمٌ ؛ فَإِنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ إلَّا الْمَنْفَعَةَ ، وَلَفْظَةُ الْهِبَةِ تَحْتَمِلُ تَنَاوُلَ الْعَيْنِ تَارَةً ، وَالْمَنْفَعَةِ تَارَةً أُخْرَى ؛ فَكَانَ الْحُكْمُ لِلَّفْظِ الْمُحْكَمِ قَدَّمَهُ ، أَوْ أَخَّرَهُ ، وَتَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ إلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ تَكُونُ إجَارَةً .
وَإِنْ قَالَ : دَارِي هَذِهِ لَك عُمْرَى تَسْكُنُهَا ، وَسَلَّمَهَا إلَيْهِ : فَهِيَ هِبَةٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَسْكُنُهَا لَيْسَ بِتَفْسِيرٍ لِقَوْلِهِ : عُمْرَى ، فَالْفِعْلُ لَا يَصْلُحُ تَفْسِيرًا لِلِاسْمِ ، وَلَكِنَّهُ مَشُورَةٌ أَشَارَ عَلَيْهِ فِي مِلْكِهِ فَإِنْ شَاءَ : قَبِلَ مَشُورَتَهُ وَسَكَنَهَا ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبَلْ ، وَهُوَ بَيَانٌ لِمَقْصُودِهِ أَنَّهُ مَلَّكَهُ الدَّارَ عُمْرَهُ لِيَسْكُنَهَا ، وَهَذَا مَعْلُومٌ .
وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهُ ، فَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ حُكْمُ التَّمْلِيكِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : هَذَا الطَّعَامُ لَكَ تَأْكُلُهُ ، أَوْ هَذَا الثَّوْبُ لَك تَلْبَسُهُ .
قَالَ : ( وَإِنْ قَالَ : وَهَبْت لَك الْعَبْدَ - حَيَاتَك وَحَيَاتَهُ - وَقَبَضَهُ : فَهِيَ هِبَةٌ جَائِزَةٌ ) ؛ لِأَنَّهُ مُلْكَهُ فِي الْحَالِ بِقَوْلِهِ : وَهَبْت لَك .
وَقَوْلُهُ : حَيَاتَك وَحَيَاتَهُ ، فَضْلٌ مِنْ الْكَلَامِ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ ؛ فَكَانَ لَغْوًا ، أَوْ فِيهِ إيهَامُ شَرْطِ الرُّجُوعِ إلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ بَاطِلٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَعْمَرْتُكَ دَارِي هَذِهِ - حَيَاتَك - أَوْ أَعْطَيْتهَا - حَيَاتَك - أَوْ وَهَبْت لَك هَذَا الْعَبْدَ - حَيَاتَك - فَإِذَا مِتَّ فَهِيَ لِي ، وَإِذَا مِتّ أَنَا فَهِيَ لِوَرَثَتِي : فَهَذَا كُلُّهُ تَمْلِيكٌ صَحِيحٌ فِي الْحَالِ ، وَشَرْطُ الرُّجُوعِ إلَيْهِ أَوْ إلَى الْوَرَثَةِ بَاطِلٌ .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : هِيَ هِبَةٌ لَك ، وَلِعَقِبِك بَعْدَك ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ الْعَيْن بِأَوَّلِ كَلَامِهِ ، وَذِكْرُ الْعَقِبِ لَغْوٌ وَاشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُفِيدُ ؛ فَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ عَقِبَهُ مِنْ وَرَثَتِهِ يَخْلُفُهُ فِي مِلْكِهِ .
وَإِنْ قَالَ : أَسْكَنْتُك دَارِي هَذِهِ - حَيَاتَك - وَلِعَقِبِك مِنْ بَعْدِك : فَهَذِهِ عَارِيَّةٌ ؛ لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِلَفْظِ الْإِسْكَانِ ، وَهُوَ تَصَرُّفٌ فِي الْمَنْفَعَةِ - دُونَ الْعَيْنِ - .
وَقَوْلُهُ : لِعَقَبَتِك بَعْدَك ، عَطْفٌ ، وَالْعَطْفُ : لِلِاشْتِرَاكِ ، فَمَعْنَاهُ : سُكْنَاهَا لِعَقِبِك مِنْ بَعْدِك ؛ فَهِيَ هِبَةٌ لَهُ ، وَذِكْرُ الْعَقِبِ لَغْوٌ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : هِيَ لَك تَمْلِيكٌ لِعَيْنِهَا مِنْهُ ، وَبَعْدَ مَا هَلَكَ عَنْهَا مِنْهُ لَا يَبْقَى لَهُ وِلَايَةُ إيجَابِهَا لِغَيْرِهِ ، فَكَانَ قَوْلُهُ : " وَلِعَقِبِك مِنْ بَعْدِك " لَغْوٌ - بِخِلَافِ الْأَوَّلِ - فَإِنَّ بَعْدَ إيجَابِ الْمَنْفَعَةِ لَهُ بِطَرِيقِ الْعَارِيَّةِ يَبْقَى لَهُ وِلَايَةُ الْإِيجَابِ لِغَيْرِهِ ، فَكَانَ كَلَامُهُ عَارِيَّةً فِي حَقِّهِ وَفِي حَقِّ عَقِبِهِ بَعْدَهُ ، وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا - مَتَى شَاءَ - .
قَالَ : رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ عَبْدًا عَلَى أَنْ يُعْتِقَهُ وَيُسَلِّمَهُ إلَيْهِ : فَالْهِبَةُ جَائِزَةٌ ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْعِتْقِ عَلَيْهِ بَعْدَ تَمَامِ مِلْكِهِ فِي الْمَوْهُوبِ بَاطِلٌ ، وَلَكِنَّ الْهِبَةَ لَا تَبْطُلُ بِالشَّرْطِ - كَمَا قُلْنَا - .
قَالَ : رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ عَبْدًا مَرِيضًا بِهِ جُرْحٌ ، فَدَاوَاهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ ؛ فَبَرَأَ : لَمْ يَكُنْ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ ؛ لِلزِّيَادَةِ الْحَاصِلَةِ فِي الْعَيْنِ عِنْدَ الْمَوْهُوبِ لَهُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَصَمَّ أَوْ أَعْمَى ، فَسَمِعَ وَأَبْصَرَ ؛ لِأَنَّهُ زَوَالٌ لِلْعَيْنِ فَزَوَالُهُ يَكُونُ بِوُجُودِ ذَلِكَ الْجُزْءِ وَالزِّيَادَةُ فِي الْعَيْنِ تَمْنَعُ الرُّجُوعَ كَمَا لَوْ كَانَ مَهْرٌ ، وَلَمْ يُسَمَّ .
قَالَ : مَرِيضٌ وَهَبَ عَبْدَهُ لِرَجُلٍ ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ فَتَبِعَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ فَأَعْتَقَهُ ، أَوْ بَاعَهُ ، ثُمَّ مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ ، أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الْمَرِيضِ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي فِيهِ بِشَيْءٍ فَعِتْقهُ وَبَيْعُهُ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمَرِيضِ إذَا كَانَ عَلَى وَجْهٍ يَحْتَمِلُ النَّقْضَ بَعْدَ صِحَّتِهِ فَحُكْم بِصِحَّتِهِ فِي الْحَالِ ؛ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ الْمُطْلَقَة لِلتَّصَرُّفِ - وَهُوَ الْمِلْكُ - وَكَوْنُ الْمَانِعِ مُحْتَمَلًا ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ : مَرَض الْمَوْتِ وَهُوَ مَا يَتَّصِلُ بِهِ الْمَوْتُ ، وَلَا يُدْرَى أَنَّ مَرَضَهُ هَذَا يَتَّصِلُ بِهِ الْمَوْتُ أَمْ لَا ، وَالْمَوْهُوبُ لَا يُعَارِضُ الْمُتَحَقِّقَ فَحَكَمَ بِنُفُوذِ تَصَرُّفه لِهَذَا ، وَثَبَتَ الْمِلْكُ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ بِالْقَبْضِ وَإِنَّمَا تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ ، وَالْعِتْقِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ تَصَرُّفُهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَرِيضِ ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مَا فِيهِ أَنَّ الْهِبَةَ فُكَّتْ بِمَوْتِهِ فِي الْبَعْضِ ، أَوْ فِي الْكُلِّ ، وَفَسَادُ السَّبَبِ لَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْمِلْكِ عِنْدَ الْقَبْضِ ، فَلَا يَمْنَعُ بَقَاءَهُ - بِطَرِيقِ الْأَوْلَى - إلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالرَّدِّ ؛ لِاسْتِغْرَاقِ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ بِالْعَيْنِ ، فَحِينَئِذٍ يَبْطُلُ مِلْكُهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَلَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ إذَا نَفَذَ تَصَرُّفُهُ ، فَهُوَ ضَامِنٌ قِيمَةَ الْعَبْدِ إذَا كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ مُسْتَغْرَقٌ لِتَرِكَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةٌ ، فَيَتَأَخَّرُ عَنْ الدَّيْنِ ، وَلَزِمَهُ رَدُّ الْعَيْنِ ، لِرَدِّ الْوَصِيَّة ، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّهُ بِإِخْرَاجِهِ إيَّاهُ مِنْ مِلْكِهِ فَكَانَ ضَامِنًا قِيمَتَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، وَلَكِنْ لَا مَالَ لِلْمَيِّتِ سِوَاهُ ، فَقَدْ بَطَلَتْ الْوَصِيَّةُ فِي قَدْرِ الثُّلُثَيْنِ مِنْهُ ، فَيَضْمَنُ ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِوَرَثَةِ الْمَيِّتِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ مُعْسِرًا ، وَقَدْ كَانَ أَعْتَقَ الْعَبْدَ ، فَلَا سَبِيلَ لِغُرَمَاءِ الْوَاهِبِ وَلَا
لِوَرَثَتِهِ عَلَى الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ دَيْنٌ فِي ذِمَّةِ الْمَوْهُوبِ لَهُ لَزِمَهُ بِاكْتِسَابِ سَبَبِهِ - وَهُوَ الْإِتْلَافُ - وَدِينُ الْحُرِّ الصَّحِيحِ فِي ذِمَّتِهِ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِمِلْكِهِ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَة بَعْدَ الْعِتْقِ فِي دَيْنٍ كَانَ تَعَلَّقَ بِمَالِيَّتِهِ قَبْلَ الْعِتْقِ .
فَإِنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ أَعْتَقَهُ وَهُوَ مَرِيضٌ ، ثُمَّ مَاتَ وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرَهُ ، وَعَلَيْهِ دَيْنٌ ، فَعَلَى الْعَبْدِ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّ عِتْقَ الْمَوْهُوبِ لَهُ إيَّاهُ فِي مَرَضِهِ وَصِيَّةٌ ؛ فَيَجِبُ رَدُّهَا لِلدَّيْنِ الْمُسْتَغْرَقِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّ الرِّقْبَةِ بِالْعِتْقِ ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ ، وَتَكُونُ تِلْكَ الْقِيمَةُ بَيْنَ غُرَمَاءِ الْمَوْهُوبِ لَهُ ، وَغُرَمَاء الْوَاهِبِ يَضْرِبُ فِيهِ غُرَمَاءُ الْمَوْهُوبِ لَهُ بِدُيُونِهِمْ ، وَغُرَمَاء الْوَاهِبِ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ - لَا بِدُيُونِهِمْ - ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْقِيمَةَ تَرِكَةُ الْمَوْهُوبِ ، فَيُقْسَمُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ بِحَسَبِ دُيُونِهِمْ عَلَيْهِ ، وَدَيْن غُرَمَاءِ الْمَوْهُوبِ لَهُ كَانَ عَلَيْهِ ، فَأَمَّا دَيْنُ غُرَمَاءِ الْوَاهِبِ : أَصْلُهُ كَانَ عَلَى الْوَاهِبِ ، وَإِنَّمَا اسْتَوْجَبُوا عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ مِقْدَارَ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِإِتْلَافِ مَالِيَّةِ الرِّقْبَةِ عَلَيْهِمْ ؛ فَلِهَذَا ضَرَبُوا بِقِيمَةِ الْعَبْدِ ، وَتَعَلَّقَ حَقّ الْفَرِيقَيْنِ بِمَالِيَّةِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ بِاعْتِبَارِ مَرَضِ الْمَوْتِ لَهُ ؛ فَلِهَذَا : لَا يُقَدِّمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ .
قَالَ : رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ عَبْدًا ، وَسَلَّمَهُ ، فَدَبَرَهُ : فَلَيْسَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ بِالتَّدْبِيرِ يَجِبُ لَهُ حَقُّ الْعِتْقِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ مِنْ مِلْكٍ إلَى مِلْكٍ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِحَقِيقَةِ الْعِتْقِ فِي الْمَنْعِ مِنْ الرُّجُوعِ - وَإِنْ كَاتَبَهُ - ثُمَّ عَجَزَ فَرَدَّ رَقِيقًا ، فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ عَادَ قِنًّا - كَمَا كَانَ - .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بِالْكِتَابَةِ لَا يَبْطُلُ حَقُّ الرُّجُوعِ ، بَلْ يَتَعَذَّرُ لِمَعْنًى فِي الْمَحِلِّ ، فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ : صَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ .
وَإِنْ جَنَى الْعَبْدُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ : فَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ ، وَالْجِنَايَةُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ جَنَى كَانَ مَمْلُوكًا لِلْمَوْهُوبِ لَهُ ، وَجِنَايَةُ الْمَمْلُوكِ عَلَى مَالِكِهِ فِيمَا يُوجِبُ الْمَالَ تَكُونُ هَدَرًا .
وَبِالرُّجُوعِ لَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لَهُ حِينَ جَنَى ، فَالرُّجُوعُ مِنْ وَجْهٍ يُنْهِي الْمِلْكَ الْمُسْتَفَادَ بِالْهِبَةِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَطِئَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ ، ثُمَّ رَجَعَ فِيهَا الْوَاهِبُ ، فَلَا عُقْرَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ بَعْدَ رُجُوعِ الْوَاهِبِ فِيهَا ، وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ سَلَّمَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ بَعْدَ رُجُوعِ الْوَاهِبِ فِيهَا ، فَكَذَلِكَ لَا تُعْتَبَرُ جِنَايَتُهُ عَلَيْهِ بَعْدَ رُجُوعِ الْوَاهِبِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَبَقَ الْعَبْدُ عِنْدَ الْمَوْهُوبِ لَهُ ، فَرَدَّهُ رَادٌّ : فَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْإِبَاقَ عَيْبٌ ، وَالنُّقْصَانُ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ فِي الْهِبَةِ ، وَالْجُعْلُ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ رَدَّ عَلَيْهِ مِلْكَهُ ، وَإِنَّمَا يَسْتَوْجِبُ الْجُعَل بِإِحْيَاءِ الْمِلْكِ - بِالرَّدِّ - فَإِذَا أَحْيَاهُ مَلَكَ الْمَوْهُوب لَهُ كَانَ الْجُعْلُ عَلَيْهِ .
قَالَ رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ شَجَرَةً بِأَصْلِهَا ، فَقَطَعَهَا : فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا .
قَالَ أَبُو عِصْمَةَ : هَذَا غَلَطٌ ، إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ : بِأَصْلِهَا : بِعُرُوقِهَا ، وَيَأْذَن لَهُ فِي قَطْعِهَا ؛ لِأَنَّ اتِّصَالَ الْمَوْهُوبِ بِمَا لَيْسَ بِمَوْهُوبٍ فِي مِلْكِ الْوَاهِبِ فِي مَعْنَى الشُّيُوعِ ؛ فَلَا تَتِمُّ الْهِبَةُ إلَّا بَعْدَ الْقَطْعِ ، وَإِذَا تَمَّتْ الْهِبَةُ فِيهَا وَهِيَ مَقْطُوعَةٌ : فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا .
فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : بِأَصْلِهَا : بِعُرُوقِهَا مِنْ الْأَرْضِ - وَذَلِكَ مَعْلُومٌ - مُمَيَّزٌ ، فَالْهِبَةُ تَمَّتْ فِي الْحَالِ .
ثُمَّ الْقَطْعُ بَعْدَ ذَلِكَ يَجْعَلُ الشَّجَرَةَ فِي حُكْمِ شَيْءٍ آخَرَ ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ نَامِيَةً ، وَقَدْ صَارَتْ حَطَبًا ؛ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ : لَوْ قَطَعَهَا فَجَعَلَهَا أَبْوَابًا ، أَوْ جُذُوعًا ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا إذَا عَمِلَ فِيهَا شَيْئًا - قَلَّ أَوْ كَثُرَ - ؛ لِأَنَّهَا الْآن لَيْسَتْ بِشَجَرَةٍ كَمَا وَهَبَهَا لَهُ ، وَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي مَوْضِعِهَا مِنْ الْأَرْضِ ، وَلَكِنَّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْقَطْعِ فِي الشَّجَرَةِ نُقْصَانٌ - وَإِنْ كَانَ يَزِيدُ فِي مَالِيَّتِهَا - ؛ فَهُوَ - بِاعْتِبَارِ رَغَائِبِ النَّاسِ فِيهِ - بِمَنْزِلَةِ الذَّبْحِ فِي الشَّاةِ ، وَالنُّقْصَانُ فِي الْمَوْهُوبِ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الرُّجُوعِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا جَعَلَهَا أَبْوَابًا أَوْ جُذُوعًا : فَذَلِكَ زِيَادَةُ صِفَةٍ حَادِثَةٍ فِي الْمَوْهُوبِ بِفِعْلِ الْمَوْهُوبِ لَهُ ؛ فَيَمْنَعُهُ مِنْ الرُّجُوعِ فِيهَا .
قَالَ : وَلَوْ وَهَبَهَا لَهُ بِغَيْرِ أَصْلِهَا وَأَذِنَ لَهُ فِي قَبْضِهَا ، فَقَطَعَهَا ، وَقَبَضَهَا : كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ جَازَتْ وَهِيَ مَقْطُوعَةٌ ، وَفِي الْبَابِ الْأَوَّلِ جَازَ بِالْهِبَةِ وَهِيَ شَجَرَةٌ .
وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو عِصْمَةَ : أَنَّهُ بَعْدَ الْقَطْعِ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا إذَا تَمَّتْ الْهِبَةُ قَبْلَ الْقَطْعِ ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ فِيهَا إذَا كَانَ
تَمَامُ الْهِبَةِ بَعْدَ الْقَطْعِ .
قَالَ : وَإِنْ وَهَبَ لَهُ ثَمَرَةً فِي نَخْلٍ ، وَأَذِنَ لَهُ فِي قَبْضِهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا ؛ لِمَا بَيَّنَّا : أَنَّ تَمَامَ الْهِبَةِ إذَا كَانَ مَعْرِضَ الْفَصْلِ .
قَالَ : رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ عَبْدًا ، فَجَنَى عَبْدُ الْمَوْهُوبِ لَهُ جِنَايَةً بَلَغَتْ قِيمَتُهُ ، فَفَدَاهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ : فَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِي هِبَتِهِ ؛ لِأَنَّ بِالْفِدَاءِ يَظْهَرُ عَنْ الْجِنَايَةِ ، وَعَادَ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْجِنَايَةِ ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ فِي عَيْنِهِ زِيَادَةٌ ، فَكَانَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ ، وَلَا يَرُدَّ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ شَيْئًا مِنْ الْفِدَاءِ ؛ لِأَنَّهُ فَدَى مِلْكَهُ بِاخْتِيَارِهِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بِالرُّجُوعِ يَنْتَهِي مِلْكُهُ الْمُسْتَفَادُ بِالْهِبَةِ ، وَإِنْ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ يَفْدِيَهُ كَانَتْ الْجِنَايَةُ فِي عِتْقِ الْعَبْدِ يَدْفَعُهُ الْوَاهِبُ بِهَا أَوْ يَفْدِيه ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالْجِنَايَةِ نَفْسُ الْعَبْدِ ، وَاسْتِحْقَاقُ نَفْسِهِ بِالْجِنَايَةِ نُقْصَانٌ فِيهِ ، فَلَا يَمْنَع الْوَاهِب مِنْ الرُّجُوعِ ، ثُمَّ بِرُجُوعِهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي يَنْعَدِمُ مِلْكُ الْمَوْهُوبِ لَهُ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ ، فَلَا يَصِيرُ هُوَ مُسْتَهْلِكًا ، وَلَا مُخْتَارًا ، وَلَكِنَّ الْجِنَايَةَ تَبْقَى فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ فَيُخَاطَبُ مَالِكه بِالدَّفْعِ ، أَوْ الْفِدَاءِ ، وَمَالِكُهُ : الْوَاهِبُ فِي الْحَالِ ، فَهُوَ الْمُخَاطَبُ بِذَلِكَ ، كَمَا لَوْ مَاتَ مَوْلَى الْعَبْدِ الْجَانِي ، فَوَرْثهُ وَارِثهُ .
قَالَ : وَلَوْ وَهَبَهُ ثَوْبًا ، فَشَقَّهُ نِصْفَيْنِ ، فَخَاطَ نِصْفًا قَبَاءٍ ، وَنِصْفهُ الْآخَر عَلَى حَالِهِ : كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي ؛ لِأَنَّ الشِّقَّ نُقْصَانٌ فِي الثَّوْبِ ، وَخِيَاطَةُ الْقَبَاءِ زِيَادَةٌ فِي النِّصْفِ الَّذِي حَدَثَتْ الزِّيَادَةُ بِفِعْلِهِ فِيهِ تَعَذُّر الرُّجُوع .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تَعَذُّرَ الرُّجُوعِ فِي النِّصْفِ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الرُّجُوعِ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي .
وَإِنْ قَالَ : وَإِنْ وَهَبَ لَهُ شَاةٌ ، فَذَبَحَهَا : كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ نُقْصَانٌ فِي الْعَيْنِ ؛ فَإِنَّ عَمَلَهُ فِي إزْهَاقِ الْحَيَاةِ .
قَالَ : وَإِنْ ضَحَّى بِهَا أَوْ ذَبَحَهَا فِي هَدْيِ الْمُتْعَةِ : لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا ، فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ : يَرْجِعُ فِيهَا ، وَتُجْزِئُهُ الْأُضْحِيَّةُ ، وَالْمُتْعَةُ لِلذَّابِحِ ، وَلَمْ يَذْكُرُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقِيلَ : قَوْلُهُ : كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ ، أَمَّا مُحَمَّدٌ يَقُولُ : مِلْكُ الْمَوْهُوبِ لَهُ لَمْ يَزُلْ عَنْ عَيْنِهَا ، وَالذَّبْحُ نُقْصَانٌ فِيهَا ؛ فَلَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ فِيمَا بَقِيَ ، كَالشَّاةِ لِلْقَصَّابِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ مَعْنَى الْقِرْبَةِ فِي نِيَّتِهِ وَفِعْلِهِ دُونَ الْعَيْنِ ، وَالْمَوْجُودُ فِي الْعَيْنِ قَطْعُ الْحُلْقُومِ وَالْأَوْدَاجِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى نِيَّة اللَّحْمِ ، أَوْ نِيَّةِ الْقِرْبَةِ .
وَاَلَّذِي حَدَثَ فِي الْعَيْنِ أَنَّهُ تَعَلَّقَ بِهِ حُكْمُ الشَّرْعِ مِنْ حَيْثُ التَّصَدُّقِ بِهِ ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الرُّجُوعَ كَرُجُوعِ الزَّكَاةِ فِي الْمَالِ الْمَوْهُوبِ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ ، بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ التَّصَدُّقَ هُنَا لَيْسَ بِمُتَحَتِّمِ ، حَتَّى يَكُونَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهُ وَيُطْعِمَ مَنْ شَاءَ مِنْ الْأَغْنِيَاءِ - بِخِلَافِ الزَّكَاةِ - وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ فِي التَّضْحِيَةِ : جَعَلَهَا اللَّهُ - تَعَالَى - خَالِصًا ، وَقَدْ تَمَّ ذَلِكَ ، فَلَا يَرْجِعُ الْوَاهِبُ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمَوْهُوبُ لَهُ أَرْضًا فَجَعَلَهَا مَسْجِدًا .
وَبَيَانُ قَوْلِنَا : أَنَّ فِي التَّقَرُّبِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ ،
وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ سَرَقَ الْمَذْبُوح ، أَوْ هَلَكَ : كَانَ مُجْزِئًا عَنْهُ ، وَإِبَاحَة التَّنَاوُلِ مِنْهُ بِإِذْنِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ بِقَوْلِهِ : تَعَالَيَا أَفْطِرَا مِنْهَا .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجُوز لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ ، وَهُوَ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ وَيَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَوْ فَعَلَهُ كَانَ ضَامِنًا ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ تَمَّ مَعْنَى التَّقَرُّبِ بِهِ ، فَيَكُون نَظِير هَذَا مِنْ الزَّكَاةِ : مَا إذَا أَدَّاهُ إلَى الْفَقِيرِ بِنِيَّةِ الزَّكَاةِ ، وَلَيْسَ لِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَهَذَا الْفِعْلُ فِي صُورَةِ ذَبْحِ شَاةِ الْقَصَّابِ وَلَكِنْ فِي الْمَعْنَى وَالْحُكْمِ غَيْرُهُ وَلَا تُعْتَبَرُ الصُّوَرُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الذَّبْحَ يَتَحَقَّقُ مِنْ الْمُسْلِمِ ، وَالْمَجُوسِيِّ ، وَالتَّضْحِيَةُ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا مِمَّنْ هُوَ أَهْلٌ ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ فِي الْمَعْنَى غَيْر الذَّبْحِ .
ثُمَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ : بِرُجُوعِ الْوَاهِبِ لَا تَبْطُلُ التَّضْحِيَةُ ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ فِي الْقَائِمِ دُونَ مَا يُلَاشَى مِنْهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الرُّجُوعَ يُنْهِي مِلْكَ الْمَوْهُوبِ لَهُ ؛ فَإِنَّمَا انْعَدَمَ مِلْكِهِ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ ، وَهُوَ فِي حَقِّ نَظِير مَا لَوْ هَلَكَ بَعْدَ الذَّبْحِ .
قَالَ : رَجُلٌ وَهَبَ لِرَجُلٍ دِرْهَمًا ، فَقَبَضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ وَجَعَلَهُ صَدَقَةً لِلَّهِ تَعَالَى : فَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ مَا لَمْ يَقْبِضْهُ الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ فِيهِ الصَّدَقَةَ بِنَذْرِهِ ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ أَقْوَى مِنْ وُجُوبِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِ فِيهِ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهُوَ الزَّكَاةُ ؛ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الرُّجُوعِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ قَبْضَ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ لَا يُتِمُّ مَعْنَى الْعِبَادَةِ وَالتَّقَرُّبِ فِيهِ ، ( وَكَذَلِكَ ) لَوْ وَهَبَ لَهُ نَاقَةً ، فَجَعَلَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ بَدَنَة ، وَقَلَّدَهَا : فَلِلْوَاهِبِ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا قَبْلَ أَنْ يَنْحَرَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ .
وَفَرَّقَ أَبُو يُوسُفَ بَيْنَ هَذَا وَالْأَوَّلِ فَقَالَ : بِالتَّقْلِيدِ رَأَيْتُمْ ، جَعَلَهَا لِلَّهِ - تَعَالَى - أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَلَّدَهَا عَنْ هَدْيٍ وَاجِبٍ ، فَهَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَنْحَرَهَا : فَإِنَّهُ عَلَيْهِ أُخْرَى - بِخِلَافِ مَا بَعْدَ النَّحْرِ - وَإِنْ وَهَبَ لَهُ أَجْزَاعًا ، فَكَسَرَهَا ، وَجَعَلَهَا حَطَبًا : فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ هَذَا نُقْصَانٌ فِي الْعَيْنِ - وَإِنْ كَانَ يَزِيدُ فِي الْمَالِيَّةِ ، فَذَلِكَ بِزِيَادَةِ رَغَائِبِ النَّاسِ فِيهِ لَا لِمَعْنًى فِي الْعَيْنِ - فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا .
( وَكَذَلِكَ ) لَوْ وَهَبَ لَهُ لَبَنَهَا ، فَجَعَلَهُ طِينًا : فَهَذَا نُقْصَانٌ ، فَإِنْ أَعَادَهُ لَبَنًا لَمْ يَرْجِعْ فِيهَا ؛ لِأَنَّ هَذَا اللَّبَنَ حَادِثٌ بِفِعْلِهِ ، أَوْ ضَرْبُ اللَّبَنِ مِنْ الطِّينِ زِيَادَةٌ فِي عَيْنِهِ ، فَإِذَا كَانَ حَادِثًا فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ ؛ مَنَعَ ذَلِكَ الْوَاهِبَ مِنْ الرُّجُوعِ ، وَإِنْ وَهَبَ لَهُ نَجِيحًا فَجَعَلَهُ خَلًّا : لَمْ يَرْجِعْ فِيهِ ؛ لِأَنَّ مَالِيَّةَ الْخَلِّ غَيْرُ مَالِيَّةِ النَّجِيحِ ، وَهَذِهِ مَالِيَّةٌ حَدَثَتْ بِصَنْعَةٍ حَادِثَةٍ فِي الْعَيْنِ فِي يَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ .
وَإِنْ وَهَبَ لَهُ سَيْفًا فَجَعَلَهُ سَكَاكِينَ ، أَوْ سِكِّينًا : لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ السِّكِّينَ غَيْرُ السَّيْفِ .
( وَكَذَلِكَ ) إنْ كَسَرَهُ ، فَجَعَلَ
مِنْهُ سَيْفًا آخَرَ ؛ لِأَنَّ هَذَا الثَّانِي حَادِثٌ بِعِلْمِهِ ؛ أَلَا تَرَى أَنَّ الْغَاصِبَ لَوْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ ضَامِنًا قِيمَةَ السَّيْفِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ وَيَجْعَل مَا ضَرَبَهُ لَهُ .
قَالَ : وَإِنْ وَهَبَ لَهُ دَارًا ، فَبَنَاهَا عَلَى غَيْرِ ذَلِكَ الْبِنَاءِ ، وَتَرَكَ بَعْضَهَا عَلَى حَالِهَا : لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا ؛ لِأَنَّ مَا زَادَ فِي الْبِنَاءِ فِي جَانِبٍ مِنْهَا يَكُونُ زِيَادَةً فِي جَمِيعِهَا ، كَمَا فِي الْأَرْضِ إذَا بَنَى فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا .
قَالَ : وَإِنْ وَهَبَ لَهُ حَمَّامًا فَجَعَلَهُ مَسْكَنًا ، أَوْ وَهَبَ لَهُ شَيْئًا فَجَعَلَهُ حَمَّامًا : فَإِنْ كَانَ الْبِنَاءُ عَلَى حَالِهِ - لَمْ يَزِدْ فِيهِ شَيْءٌ - فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ فِي الْمَنْفَعَةِ - دُونَ الْعَيْنِ - وَالْمَانِعُ مِنْ الرُّجُوعِ زِيَادَةٌ فِي الْعَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ زَادَ عَلَيْهِ بِنَاء ، أَوْ غَلَّقَ عَلَيْهِ بَابًا ، أَوْ جَصَّصَهُ ، أَوْ أَصْلَحَهُ ، أَوْ جَعَلَهُ بِصَارُوجٍ ، أَوْ طِنْيَةٍ ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ زِيَادَةٌ فِي عَيْنِهَا .
قَالَ : مَرِيضٌ وَهَبَ لِصَحِيحٍ عَبْدًا يُسَاوِي أَلْفًا ، وَلَا مَالَ لَهُ غَيْرُهُ ، فَعَوَّضَهُ الصَّحِيح مِنْهُ عِوَضًا ، وَقَبَضَهُ الْمَرِيضُ ، ثُمَّ مَاتَ ، وَالْعِوَضُ عِنْدَهُ : فَإِنْ كَانَ الْعِوَضُ مِثْلَ ثُلُثَيْ قِيمَةِ الْعَبْدِ ، أَوْ أَكْثَرَ ؛ فَالْهِبَةُ مَاضِيَةٌ ، لِأَنَّ الْعِوَضَ الْمَقْبُوضَ بِمَنْزِلَةِ الْمَشْرُوطِ ، أَوْ أَقْوَى ، وَالثُّلُثُ مِنْهُ كَانَ مِنْ خَالِصِ حَقِّهِ ، وَالثُّلُثَانِ حَقُّ الْوَرَثَةِ ، فَإِذَا كَانَ الْعِوَضُ مِثْلَ ثُلُثَيْ قِيمَةِ الْعَبْدِ ، عَرَفْنَا أَنَّهُ لَمْ يَبْطُلْ شَيْئًا مِنْ حَقِّ الْوَرَثَةِ ، بِتَصَرُّفِهِ ، وَإِنَّمَا تَصَرَّفَ فِيمَا هُوَ خَالِص حَقِّهِ ، فَكَانَتْ الْهِبَةُ مَاضِيَةً ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُ قِيمَة الْعِوَضِ نِصْفَ قِيمَةِ الْهِبَةِ ، يَرْجِعُ وَرَثَةُ الْوَاهِبِ فِي سُدُسِ الْهِبَةِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي ثُلُثَيْ الْعَبْدِ ، وَقَدْ وَصَلَ إلَيْهِمْ مِنْ الْعِوَضِ بِقَدْرِ مَالِيَّةِ نِصْفِ الْعَبْدِ ، فَإِنَّمَا تَبَقَّى لِإِتْمَامِ حَقِّهِمْ سُدُسُ الْعَبْدِ ؛ فَلِهَذَا يَرْجِعُ الْوَارِثُ بِسُدُسِ الْهِبَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْعِوَضُ شَرْطًا فِي أَصْلِ الْهِبَةِ ، فَإِنْ شَاءَ الْمَوْهُوبُ لَهُ رَدَّ الْهِبَةَ كُلَّهَا وَأَخَذَ الْعِوَضَ ، وَإِنْ شَاءَ رَدَّ سُدُسَ الْهِبَةِ وَأَمْسَكَ الْبَاقِي ؛ لِأَنَّهُ مَا رَضِيَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ عَنْ عِوَضِهِ إلَّا بِأَنْ يُسَلِّمَ لَهُ جَمِيعَ الْمَوْهُوبِ ، وَلَمْ يُسَلِّم ؛ وَلِأَنَّ التَّبْعِيضَ فِي الْمِلْكِ الْمُجْتَمِعِ عَيْبٌ ، فَاسْتِحْقَاقُ جُزْءٍ مِنْ الْعَبْدِ - وَإِنْ قَلَّ - بِتَعَيُّبِ مَا بَقِيَ مِنْهُ ، وَحَقُّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ثَابِتٌ بَعْدَ التَّقَابُضِ إذَا كَانَ الْعِوَضُ مَشْرُوطًا ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ بِشَرْطِ الْعِوَضِ تَصِيرُ بَيْعًا بِالْقِيَاسِ ؛ فَلِهَذَا ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ فِي رَدِّ مَا بَقِيَ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْعِوَضُ مَشْرُوطًا فَإِنَّهُ لَا يَصِيرُ مُعَاوَضَةً بِالتَّقَابُضِ فِي حُكْمِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ ، فَيَرُدّ سُدُس الْهِبَةِ ، وَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْعِوَضَ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ عَلَى سَبِيلِ الْهِبَةِ ، وَقَدْ مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ ، فَلَا رُجُوعَ لَهُ فِيهِ
بَعْدَ ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ .
بَابُ هِبَةِ الْمَرِيضِ ( قَالَ : وَلَا يَجُوزُ هِبَةُ الْمَرِيضِ ، وَلَا صَدَقَتُهُ إلَّا مَقْبُوضَةً فَإِذَا قُبِضَتْ : جَازَتْ ) ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : تَجُوزُ غَيْرَ مَقْبُوضَةٍ ؛ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ بِدَلِيلِ أَنَّهَا تُعْتَبَرُ مِنْ الثُّلُثِ فَالْوَصِيَّةُ تَتَأَكَّدُ بِالْمَوْتِ - قُبِضَتْ أَوْ لَمْ تُقْبَضْ - وَلَا تَبْطُلُ بِهِ ، فَكَذَلِكَ الْهِبَةُ فِي الْمَرَضِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَرَضَ سَبَبُ الْمَوْتِ ، وَجَعَلَ مَا يُبَاشِرُهُ الْمَرِيضُ فِي الْحُكْمِ كَالثَّابِتِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، حَتَّى لَوْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ ثَلَاثًا ، وَرِثَتْهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِالْمَوْتِ ، فَهَذَا مِثْلُهُ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْمَعْنَى الَّذِي لَهُ وَلِأَجْلِهِ لَا تَتِمُّ الْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ مِنْ الصَّحِيحِ إلَّا بِالْقَبْضِ مَوْجُودٌ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ ، وَهُوَ أَنَّهُ تَمْلِيكٌ بِعَقْدِ تَبَرُّعٍ ؛ فَيَكُونُ ضَعِيفًا فِي نَفْسِهِ لَا يُفِيدُ حُكْمُهُ ، حَتَّى يَنْضَمَّ إلَيْهِ مَا يُؤَيِّدُهُ ، وَهَذَا فِي حَقِّ الْمَرِيضِ أَظْهَرُ ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ أَضْعَفُ مِنْ تَصَرُّفِ الصَّحِيحِ .
وَاعْتِبَارُهُ مِنْ الثُّلُثِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ ثَابِتٍ فِي الْحَالِ - كَكَفَالَتِهِ ، فَإِعْتَاقَهُ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ ؛ فَإِنَّهَا خِلَافَةٌ - ثُمَّ الْمِلْكُ مِنْ ثَمَرَاتِهَا ، وَالْخِلَافَةُ لَا تَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَهَذَا عَقْدُ تَمْلِيكٍ ، لَا يَحْتَمِلُ الْإِضَافَةَ ، فَإِذَا لَمْ يُتَّفَقْ قَبْلَ الْمَوْتِ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ ، كَالْبَيْعِ الْمَوْقُوفِ ، إذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْإِجَازَةُ حَتَّى مَاتَ أَحَدُهُمَا .
وَلَا يَقُولُ : الطَّلَاقُ يَصِيرُ كَالْمُضَافِ ، وَلَكِنْ تُقَامُ الْعِدَّةُ عِنْدَ الْمَوْتِ مَقَامَ حَقِيقَةِ النِّكَاحِ أَنَّهَا لِحَقِّهَا فِي مَالِهِ بَعْدَ تَعَلُّقِهِ ، وَلِهَذَا اعْتَبَرْنَا هِبَتَهُ مِنْ الثُّلُثِ هُنَا ، وَأَنَّ حَقَّ الْوَارِثِ تَعَلَّقَ بِثُلُثَيْ مَالِهِ بِمَرَضِهِ ، فَلِإِبْقَاءِ حَقِّهِمْ جَعَلْنَا هِبَتَهُ مِنْ الثُّلُثِ .