كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي

( قَالَ ) وَإِذَا ارْتَدَّ الْغُلَامُ الْمُرَاهِقُ عَنْ الْإِسْلَامِ لَمْ يُقْتَلْ ، وَهُنَا فَصْلَانِ إذَا أَسْلَمَ الْغُلَامُ الْعَاقِلُ الَّذِي لَمْ يَحْتَلِمْ فَإِسْلَامُهُ صَحِيحٌ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَصِحُّ إسْلَامُهُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ عَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ } ، وَمَنْ كَانَ مَرْفُوعَ الْقَلَمِ فَلَا يَنْبَنِي الْحُكْمُ فِي الدُّنْيَا عَلَى قَوْلِهِ ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِالْإِسْلَامِ مَا لَمْ يَبْلُغْ فَلَا يُحْكَمُ بِصِحَّةِ إسْلَامِهِ كَاَلَّذِي لَا يَعْقِلُ إذَا لُقِّنَ فَتَكَلَّمَ بِهِ ، وَتَقْرِيرُهُ مِنْ أَوْجُهٍ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ لَا عِبْرَةَ لِعَقْلِهِ قَبْلَ الْبُلُوغِ حَتَّى يَكُونَ تَبَعًا لِغَيْرِهِ فِي الدِّينِ وَالدَّارِ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي لَا يَعْقِلُ ، وَتَقْرِيرُ هَذَا أَنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ إذَا أَسْلَمَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ مَعَ كَوْنِهِ مُعْتَقِدًا لِلْكُفْرِ بِنَفْسِهِ ، فَإِذَا لَمْ يُعْتَبَرْ اعْتِقَادُهُ ، وَمَعْرِفَتُهُ فِي إبْقَاءِ مَا كَانَ ثَابِتًا فَكَيْفَ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي إثْبَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا ، وَبَيْنَ كَوْنِهِ أَصْلًا فِي حُكْمٍ ، وَتَبَعًا فِيهِ بِعَيْنِهِ مُغَايِرَةٌ عَلَى سَبِيلِ الْمُنَافَاةِ ، وَالثَّانِي : أَنَّهُ لَوْ صَحَّ إسْلَامُهُ بِنَفْسِهِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ فَرْضًا لِاسْتِحَالَةِ الْقَوْلِ بِكَوْنِهِ مُسْتَقِلًّا فِي الْإِسْلَامِ ، وَمِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهِ فَرْضًا أَنْ يَكُونَ مُخَاطَبًا بِهِ ، وَهُوَ غَيْرُ مُخَاطَبٍ بِاتِّفَاقٍ ، فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ تَصْحِيحُهُ فَرْضًا لَمْ يَصِحَّ أَصْلًا بِخِلَافِ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ ، فَإِنَّهُ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا جُعِلَ مُسْلِمًا تَبَعًا لِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْفَرْضِيَّةِ فِي الْأَصْلِ تُغْنِي عَنْ اعْتِبَارِهِ فِي التَّبَعِ كَالْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ ، وَالِاعْتِقَادِ بِالْقَلْبِ ، وَلِأَنَّ اعْتِبَارَ عَقْلِهِ قَبْلَ الْبُلُوغِ لِضَرُورَةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ ، وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِمَا

لَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ لَهُ مِنْ قِبَلِ غَيْرِهِ ، فَفِيمَا يُمْكِنُ تَحْصِيلُهُ لَهُ مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ لَا حَاجَةَ إلَى اعْتِبَارِ عَقْلِهِ فَلَا يُعْتَبَرُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَصِفْ الْإِسْلَامَ بَعْدَ مَا عَقَلَ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ ، وَلَوْ صَارَ عَقْلُهُ مُعْتَبَرًا فِي الدِّينِ لَوَقَعَتْ الْفُرْقَةُ إذَا لَمْ يُحْسِنْ أَنْ يَصِفَ كَمَا بَعْدَ الْبُلُوغِ ، وَلِأَنَّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِي الدُّنْيَا تَنْبِي عَلَى قَوْلِهِ ، وَقَوْلُهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ إقْرَارًا أَوْ شَهَادَةً ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمُ الشَّرْعِ كَسَائِرِ الْأَقَارِيرِ ، وَالشَّهَادَاتِ ، وَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ رَبِّهِ إذَا كَانَ مُعْتَقِدًا لِمَا يَقُولُ : فَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّ لَهُ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ مَا لِلْمُسْلِمِينَ .
( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهُ لِسَانُهُ إمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } ، وَقَدْ أَعْرَبَ هُنَا لِسَانُهُ شَاكِرًا شَكُورًا فَلَا نَجْعَلُهُ كَافِرًا كَفُورًا ، وَأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَسْلَمَ وَهُوَ صَبِيٌّ ، وَحَسُنَ إسْلَامُهُ حَتَّى افْتَخَرَ بِهِ فِي شِعْرِهِ قَالَ : سَبَقْتُكُمْ إلَى الْإِسْلَامِ طُرًّا غُلَامًا مَا بَلَغْتُ أَوَانَ حُلُمِي ، وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي سِنِّهِ حِينَ أَسْلَمَ ، وَحِينَ مَاتَ فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَسْلَمَ ، وَهُوَ ابْنُ خَمْسِ سِنِينَ ، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِيَةٍ وَخَمْسِينَ سَنَةً ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُ إلَى الْإِسْلَامِ فِي أَوَّلِ مَبْعَثِهِ ، وَمُدَّةُ الْبَعْثِ ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً ، وَالْخِلَافَةُ بَعْدَهُ ثَلَاثُونَ انْتَهَى بِمَوْتِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَإِذَا ضَمَمْتَ خَمْسًا إلَى ثَلَاثٍ وَخَمْسِينَ فَيَكُونُ ثَمَانِيَةً وَخَمْسِينَ ، وَقَالَ الْعُتَيْبِيُّ : أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ سَبْعِ سِنِينَ ، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ سِتِّينَ سَنَةً بِهَذَا الطَّرِيقِ أَيْضًا ، وَقَالَ الْجَاحِظُ : أَسْلَمَ وَهُوَ ابْنُ عَشْرِ سِنِينَ ، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ

ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ ، وَهَكَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ أَتَى بِحَقِيقَةِ الْإِسْلَامِ ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِهِ فَيُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ كَالْبَالِغِ ، وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْإِسْلَامَ اعْتِقَادٌ بِالْقَلْبِ ، وَاقَرَارٌ بِاللِّسَانِ ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الِاعْتِقَادِ ، وَمَنْ رَجَعَ إلَى نَفْسِهِ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ مُعْتَقِدًا لِلتَّوْحِيدِ قَبْلَ بُلُوغِهِ ، وَلِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ اعْتِقَادِ سَائِرِ الْأَشْيَاءِ وَالْمَعْرِفَةِ بِهِ ، وَمِنْ أَهْلِ مَعْرِفَةِ أَبَوَيْهِ وَالرُّجُوعِ إلَيْهِمَا إذَا حَزَبَهُ أَمْرٌ ، فَعَرَفْنَا ضَرُورَةَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ مَعْرِفَةِ خَالِقِهِ ، وَقَدْ سَمِعْنَا إقْرَارَهُ بِعِبَارَةٍ مَفْهُومَةٍ ، وَنَحْنُ نَرَى صَبِيًّا يُنَاظِرُ فِي الدِّينِ ، وَيُقِيمُ الْحُجَجَ الظَّاهِرَةَ حَتَّى إذَا نَاظَرَ الْمُوَحِّدِينَ أَفْهَمَ ، وَإِذَا نَاظَرَ الْمُلْحِدِينَ أَفْحَمَ ، فَلَا يُظَنُّ بِعَاقِلٍ أَنْ يَقُولَ : إنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْأَهْلِيَّةِ أَنَّهُ يُجْعَلُ مُسْلِمًا تَبَعًا لِغَيْرِهِ ، وَبِدُونِ الْأَهْلِيَّةِ لَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّهُ مَعَ الصِّبَا أَهْلٌ لِلرِّسَالَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا } فَعُلِمَ ضَرُورَةً أَنَّهُ أَهْلٌ لِلْإِسْلَامِ ثُمَّ بَعْدَ وُجُودِ الشَّيْءِ حَقِيقَةً أَنَّهُ أَنْ يَسْقُطَ اعْتِبَارُهُ بِحَجْرٍ شَرْعِيٍّ فَلَا يُظَنُّ ذَلِكَ هَهُنَا ، وَالنَّاسُ عَنْ آخِرِهِمْ دُعُوا إلَى الْإِسْلَامِ ، وَالْحَجْرُ عَنْ الْإِسْلَامِ كُفْرٌ أَوَّلًا يُحْكَمُ بِصِحَّتِهِ لِضَرَرٍ يَلْحَقُهُ ، وَلَا تَصَوُّرَ لِذَلِكَ فِي الْإِسْلَامِ ، فَإِنَّهُ سَبَبٌ لِلْفَوْزِ وَالسَّعَادَةِ الْأَبَدِيَّةِ فَيَكُونُ مَحْضَ مَنْفَعَةٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَإِنْ حُرِّمَ مِيرَاثُ مُوَرِّثِهِ الْكَافِرِ أَوْ بَانَتْ مِنْهُ زَوْجَتُهُ الْكَافِرَةُ ، فَإِنَّمَا يُحَالُ بِذَلِكَ عَلَى خُبْثِهَا لَا عَلَى إسْلَامِهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ يَثْبُتُ إذَا جُعِلَ تَبَعًا لِغَيْرِهِ ، وَالتَّبَعِيَّةُ فِيمَا يَتَمَحَّضَ مَنْفَعَةٌ لَا فِيمَا يَشُوبُهُ ضَرَرٌ ، وَإِنَّمَا جُعِلَ

تَبَعًا لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ ، وَفِي اعْتِبَارِ مَنْفَعَتِهِ مَعَ إبْقَاءِ التَّبَعِيَّةِ مَعْنَى تَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَتِحُ عَلَيْهِ بَابُ تَحْصِيلِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ بِطَرِيقَيْنِ فَكَانَ ذَلِكَ أَنْفَعَ ، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ الْجَمْعُ بَيْنَ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ وَالْأَصَالَةِ إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا مُضَادَّةٌ ، فَأَمَّا إذَا تَأَيَّدَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ فَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ كَالْمَرْأَةِ إذَا سَافَرَتْ مَعَ زَوْجِهَا وَنَوَتْ السَّفَرَ فَهِيَ مُسَافِرَةٌ بِنِيَّتِهَا مَقْصُودًا ، وَتَبَعًا لِزَوْجِهَا أَيْضًا ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعْتَبَرْ اعْتِقَادُهُ عِنْدَ إسْلَامِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ اعْتِقَادِهِ إذَا أَسْلَمَ مَعَ كُفْرِهِمَا لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ مُخَاطَبًا بِالْأَدَاءِ لِدَفْعِ الْحَرَجِ عَنْهُ إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْأَدَاءِ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يُحْكَمُ بِصِحَّتِهِ إذَا أَدَّى بِاعْتِبَارِ أَنَّ عِنْدَ الْأَدَاءِ يُجْعَلُ الْخِطَابُ كَالسَّابِقِ لِتَحْصِيلِ الْمَقْصُودِ كَالْمُسَافِرِ لَا يُخَاطَبُ بِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ ، فَإِذَا أَدَّى يُجْعَلُ ذَلِكَ فَرْضًا مِنْهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ ، وَهَذَا لِأَنَّ عَدَمَ تَوَجُّهِ الْخِطَابِ إلَيْهِ بِالْإِسْلَامِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ ، وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهِ إذَا أُدْرِجَ الْخِطَابُ بِهَذَا الطَّرِيقِ بَلْ تَتَوَفَّرُ الْمَنْفَعَةُ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهُ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ لِوُجُودِ حَقِيقَتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِصِفَتِهِ ، وَإِنَّمَا لَا تَبِينُ زَوْجَتُهُ مِنْهُ إذَا لَمْ يُحْسِنْ أَنْ يَصِفَ بَعْدَ مَا عَقَلَ لِبَقَاءِ مَعْنَى التَّبَعِيَّةِ ، وَلِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ ، وَلَا وَجْهَ لِاعْتِبَارِ هَذَا الْقَوْلِ بِسَائِرِ الْأَقَاوِيلِ ، أَلَا نَجْعَلُهُ فِيهَا كَاذِبًا أَوْ لَاغِيًا ، وَإِذَا أَقَرَّ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يُظَنُّ بِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ : إنَّهُ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ أَوْ لَاغٍ بَلْ يُتَيَقَّنُ بِأَنَّهُ صَادِقٌ فِي ذَلِكَ فَجَرَيْنَا الْحُكْمَ عَلَيْهِ ، فَأَمَّا إذَا ارْتَدَّ هَذَا الصَّبِيُّ

الْعَاقِلُ فَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : لَا تَصِحُّ رِدَّتُهُ ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهُوَ الْقِيَاسُ ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ تَضُرُّهُ ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مَعْرِفَتُهُ ، وَعَقْلُهُ فِيمَا يَنْفَعُهُ لَا فِيمَا يَضُرُّهُ .
أَلَا تَرَى أَنَّ قَبُولَ الْهِبَةِ مِنْهُ صَحِيحٌ ، وَالرَّدُّ بَاطِلٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا يُحْكَمُ بِصِحَّةِ رِدَّتِهِ اسْتِحْسَانًا لِعِلَّتِهِ لَا لِحُكْمِهِ ، فَإِنَّ مِنْ ضَرُورَةِ اعْتِبَارِ مَعْرِفَتِهِ وَالْحُكْمِ بِإِسْلَامِهِ بِنَاءً عَلَى عِلَّتِهِ اعْتِبَارَ رِدَّتِهِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ جَهْلٌ مِنْهُ بِخَالِقِهِ ، وَجَهْلُهُ فِي سَائِرِ الْأَشْيَاءِ مُعْتَبَرٌ حَتَّى لَا يُجْعَلَ عَارِفًا إذَا عُلِمَ جَهْلُهُ بِهِ فَكَذَلِكَ جَهْلُهُ بِرَبِّهِ ، وَلِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهِ أَهْلًا لِلْعَقْدِ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِرَفْعِهِ كَمَا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ أَهْلًا لِعَقْدِ الْإِحْرَامِ وَالصَّلَاةِ كَانَ أَهْلًا لِلْخُرُوجِ مِنْهُمَا ، وَإِنَّمَا لَمْ يَصِحَّ مِنْهُ رَدُّ الْهِبَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ نَقْلِ الْمِلْكِ إلَى غَيْرِهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ ضَرَرَ الرِّدَّةِ يَلْحَقُهُ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ إذَا ارْتَدَّ أَبَوَاهُ وَلَحِقَا بِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ ، وَضَرَرُ رَدِّ الْهِبَةِ لَا يَلْحَقُهُ مِنْ جِهَةِ أَبِيهِ ، فَبِهَذَا يَتَّضِحُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ، وَإِذَا حُكِمَ بِصِحَّةِ رِدَّتِهِ بَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ ، وَلَكِنَّهُ لَا يُقْبَلُ اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ عُقُوبَةٌ ، وَهُوَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَلْتَزِمَ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا بِمُبَاشَرَةِ سَبَبِهَا كَسَائِرِ الْعُقُوبَاتِ ، وَلَكِنْ لَوْ قَتَلَهُ إنْسَانٌ لَمْ يَغْرَمْ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ مِنْ ضَرُورَةِ صِحَّةِ رِدَّتِهِ إهْدَارُ دَمِهِ ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَتِهِ اسْتِحْقَاقُ قَتْلِهِ كَالْمَرْأَةِ إذَا ارْتَدَّتْ لَا تُقْتَلُ ، وَلَوْ قَتَلَهَا قَاتِلٌ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ .

وَهَذِهِ فُصُولٌ أَحَدُهَا فِي الَّذِي أَسْلَمَ تَبَعًا لِأَبَوَيْهِ إذَا بَلَغَ مُرْتَدًّا فِي الْقِيَاسِ يُقْتَلُ لِارْتِدَادِهِ بَعْدَ إسْلَامِهِ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُقْتَلُ ، وَلَكِنْ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ مُسْلِمًا مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ حُكْمُ الْإِسْلَامِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ ، فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَتْلِ عَنْهُ ، وَإِنْ بَلَغَ مُرْتَدًّا .
وَالثَّانِي : إذَا أَسْلَمَ فِي صِغَرِهِ ثُمَّ بَلَغَ مُرْتَدًّا فَهُوَ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ ، وَالِاسْتِحْسَانِ لِقِيَامِ الشُّبْهَةِ بِسَبَبِ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي صِحَّةِ إسْلَامِهِ فِي الصِّغَرِ .
وَالثَّالِثُ : إذَا ارْتَدَّ فِي صِغَرِهِ .
وَالرَّابِعُ : الْمُكْرَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ إذَا ارْتَدَّ ، فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّا حَكَمْنَا بِإِسْلَامِهِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ ، وَهُوَ أَنَّ الْإِسْلَامَ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ ، وَلَكِنَّ قِيَامَ السَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَتْلِ عَنْهُ ، وَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَلَوْ قَتَلَهُ قَاتِلٌ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ .

وَإِذَا ارْتَدَّ السَّكْرَانُ فِي الْقِيَاسِ تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ ؛ لِأَنَّ السَّكْرَانَ كَالصَّاحِي فِي اعْتِبَارِ أَقْوَالِهِ ، وَأَفْعَالِهِ حَتَّى لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ بَانَتْ مِنْهُ ، وَلَوْ بَاعَ أَوْ أَقَرَّ بِشَيْءٍ كَانَ صَحِيحًا مِنْهُ ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ ، وَقَالَ لَا تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ ؛ لِأَنَّ الرِّدَّةَ تَنْبَنِي عَلَى الِاعْتِقَادِ ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ السَّكْرَانَ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ لِمَا يَقُولُ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَنْجُو سَكْرَانُ مِنْ التَّكَلُّمِ بِكَلِمَةِ الْكُفْرِ فِي حَالِ سُكْرِهِ عَادَةً ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ { أَنَّ وَاحِدًا مِنْ كِبَارِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ سَكِرَ حِينَ كَانَ الشُّرْبُ حَلَالًا ، وَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ أَنْتُمْ إلَّا عَبِيدِي وَعَبِيدُ آبَائِي وَلَمْ يَجْعَلْ ذَلِكَ مِنْهُ كُفْرًا } وَقَرَأَ سَكْرَانُ سُورَةَ { قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ } فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَتَرَكَ اللاءات فِيهِ فَنَزَلَ فِيهِ قَوْله تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ } فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِرِدَّتِهِ فِي حَالِ سُكْرِهِ كَمَا لَا يُحْكَمُ بِهِ فِي حَالِ جُنُونِهِ فَلَا تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ .

وَالْمُكْرَهُ عَلَى الرِّدَّةِ فِي الْقِيَاسِ تَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ ، وَبِهِ أَخَذَ الْحَسَنُ ؛ لِأَنَّا لَا نَعْلَمُ مِنْ سِرِّهِ مَا نَعْلَمُ مِنْ عَلَانِيَتِهِ ، وَإِنَّمَا يَنْبَنِي الْحُكْمُ عَلَى مَا نَسْمَعُ مِنْهُ ، وَلِهَذَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ إنْ أَسْلَمَ مُكْرَهًا ، وَلَا أَثَرَ لِعُذْرِ الْإِكْرَاهِ فِي الْمَنْعِ مِنْ وُقُوعِ الْفُرْقَةِ كَمَا لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الطَّلَاقِ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ ؛ لِأَنَّ قِيَامَ السَّيْفِ عَلَى رَأْسِهِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَقِدٍ لِمَا يَقُولُ ، وَإِنَّمَا قَصَدَ بِهِ دَفْعَ الشَّرِّ عَنْ نَفْسِهِ ، وَالرِّدَّةُ نَنْبَنِي عَلَى الِاعْتِقَادِ ، وَبِخِلَافِ الْإِسْلَامِ فَهُنَاكَ بِمُقَابِلَةِ هَذَا الظَّاهِرِ ظَاهِرٌ آخَرُ ، وَهُوَ أَنَّ الْإِسْلَامَ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ بِخِلَافِ الطَّلَاقِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إنْشَاءٌ سَبَبُهُ التَّكَلُّمُ ، وَالْإِكْرَاهُ لَا يُنَافِي الْإِنْشَاءَ ، وَهَذَا إخْبَارٌ عَنْ اعْتِقَادِهِ ، وَالْإِكْرَاهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيهِ فَوْزٌ أَنَّهُ الْإِكْرَاهُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِالطَّلَاقِ .

وَإِذَا طَلَبَ وَرَثَةُ الْمُرْتَدِّ كَسْبَهُ الَّذِي اكْتَسَبَهُ فِي رِدَّتِهِ ، وَقَالُوا أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ فَعَلَيْهِمْ الْبَيِّنَةُ فِي ذَلِكَ ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْكَسْبَيْنِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ سَبَبَ حِرْمَانِهِمْ ظَاهِرٌ ، وَهُوَ رِدَّتُهُ عِنْدَ اكْتِسَابِهِ فَهُمْ يَدَّعُونَ عَارِضًا مُزِيلًا لِذَلِكَ ، وَهُوَ إسْلَامُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ فَعَلَيْهِمْ أَنْ يُثْبِتُوا ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ .

وَإِنْ نَقَضَ الذِّمِّيُّ الْعَهْدَ ، وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ عَمِلَ فِي تَرِكَتِهِ وَرَثَتُهُ مَا يُعْمَلُ فِي تَرِكَةِ الْمُرْتَدِّ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ حَرْبِيًّا حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَيَكُونُ كَالْمَيِّتِ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .

بَابُ الْخَوَارِجِ ( قَالَ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اعْلَمْ أَنَّ الْفِتْنَةَ إذَا وَقَعَتْ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَالْوَاجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَعْتَزِلَ الْفِتْنَةَ ، وَيَقْعُدَ فِي بَيْتِهِ ، هَكَذَا رَوَاهُ الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ فَرَّ مِنْ الْفِتْنَةِ أَعْتَقَ اللَّهُ رَقَبَتَهُ مِنْ النَّارِ } وَقَالَ لِوَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي الْفِتْنَةِ { كُنْ حِلْسًا مِنْ أَحْلَاسِ بَيْتِكَ ، فَإِنْ دَخَلَ عَلَيْكَ فَكُنْ عَبْدَ اللَّهِ الْمَقْتُولَ أَوْ قَالَ عِنْدَ اللَّهِ } مَعْنَاهُ كُنْ سَاكِنًا فِي بَيْتِكَ لَا قَاصِدًا .

فَإِنَّ كَانَ الْمُسْلِمُونَ مُجْتَمَعِينَ عَلَى وَاحِدٍ ، وَكَانُوا آمِنِينَ بِهِ ، وَالسَّبِيلُ آمِنَةً فَخَرَجَ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَى مَنْ يَقْوَى عَلَى الْقِتَالِ أَنْ يُقَاتِلَ مَعَ إمَامِ الْمُسْلِمِينَ الْخَارِجِينَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي } ، وَالْأَمْرُ حَقِيقَةً لِلْوُجُوبِ ، وَلِأَنَّ الْخَارِجِينَ قَصَدُوا أَذَى الْمُسْلِمِينَ وَإِمَاطَةَ الْأَذَى مِنْ أَبْوَابِ الدِّينِ ، وَخُرُوجُهُمْ مَعْصِيَةٌ ، فَفِي الْقِيَامِ بِقِتَالِهِمْ نَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ وَهُوَ فَرْضٌ ، وَلِأَنَّهُمْ يُهَيِّجُونَ الْفِتْنَةَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْفِتْنَةُ نَائِمَةٌ لَعَنَ اللَّهُ مَنْ أَيْقَظَهَا } فَمَنْ كَانَ مَلْعُونًا عَلَى لِسَانِ صَاحِبِ الشَّرْعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ يُقَاتِلُ مَعَهُ ، وَاَلَّذِي رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَغَيْرَهُ لَزِمَ بَيْتَهُ تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ طَاقَةٌ عَلَى الْقِتَالِ ، وَهُوَ فَرْضٌ عَلَى مَنْ يُطِيقُهُ ، وَالْإِمَامُ فِيهِ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ قَامَ بِالْقِتَالِ ، وَأَخْبَرَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِذَلِكَ بِقَوْلِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أُمِرْتُ بِقِتَالِ الْمَارِقِينَ ، وَالنَّاكِثِينَ ، وَالْقَاسِطِينَ ، وَلِهَذَا بَدَأَ الْبَابَ بِحَدِيثِ كَثِيرٍ الْحَضْرَمِيِّ حَيْثُ قَالَ : دَخَلْتُ مَسْجِدَ الْكُوفَةِ مِنْ قِبَلِ أَبْوَابِ كِنْدَةَ ، فَإِذَا نَفَرٌ خَمْسَةٌ يَشْتُمُونَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَفِيهِمْ رَجُلٌ عَلَيْهِ بُرْنُسٌ يَقُولُ : أُعَاهِدُ اللَّهَ لَأَقْتُلَنَّهُ فَتَعَلَّقْتُ بِهِ ، وَتَفَرَّقَ أَصْحَابُهُ فَأَتَيْتُ بِهِ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقُلْتُ : إنِّي سَمِعْتُ هَذَا يُعَاهِدُ اللَّهَ لَيَقْتُلَنَّكَ قَالَ : إذَنْ وَيْحَكَ مَنْ أَنْتَ قَالَ : أَنَا سِوَارُ الْمُنْقِرِيُّ فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَلِّ عَنْهُ .
فَقُلْتُ : أُخَلِّي عَنْهُ ، وَقَدْ عَاهَدَ اللَّهَ لَيَقْتُلَنَّكَ .
فَقَالَ : أَفَأَقْتُلُهُ وَلَمْ يَقْتُلْنِي .
قُلْتُ : وَإِنَّهُ قَدْ شَتَمَكَ .
قَالَ : فَاشْتُمْهُ إنْ شِئْتَ

أَوْ دَعْهُ ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ خُرُوجٌ فَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ ، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : مَا لَمْ يَعْزِمُوا عَلَى الْخُرُوجِ فَالْإِمَامُ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُمْ ، فَإِذَا بَلَغَهُ عَزْمُهُمْ عَلَى الْخُرُوجِ فَحِينَئِذٍ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُمْ فَيَحْبِسَهُمْ قَبْلَ أَنْ يَتَفَاقَمَ الْأَمْرُ لِعَزْمِهِمْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ وَتَهْيِيجِ الْفِتْنَةِ ، وَكَأَنَّ هَؤُلَاءِ لَمْ يَكُونُوا مُغَلِّبِينَ الْخُرُوجَ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَعْزِمُوا عَلَى ذَلِكَ أَوْ لَمْ يُصَدِّقْهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِيمَا أَخْبَرَهُ بِهِ مِنْ عَزْمِهِ عَلَى قَتْلِهِ ، فَلِهَذَا أَمَرَهُ بِأَنْ يُخَلِّيَ عَنْهُ ، وَلَيْسَ مُرَادُهُ مِنْ قَوْلِهِ فَاشْتُمْهُ إنْ شِئْت أَنْ يَنْسُبَهُ إلَى مَا لَيْسَ فِيهِ فَذَلِكَ كَذِبٌ وَبُهْتَانٌ لَا رُخْصَةَ فِيهِ ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ أَنْ يَنْسُبَهُ إلَى مَا عَلِمَهُ مِنْهُ ، فَيَقُولُ : يَا فَتَّانُ يَا شِرِّيرُ لِقَصْدِهِ إلَى الشَّرِّ وَالْفِتْنَةِ ، وَمَا أَشْبَهَهُ ذَلِكَ مِنْ الْكَلَامِ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى : { لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إلَّا مَنْ ظُلِمَ } .

( قَالَ ) ، وَبَلَغَنَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إذْ حَكَّمَتْ الْخَوَارِجُ مِنْ نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ لَنْ نَمْنَعَكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ تَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَ اللَّهِ ، وَلَنْ نَمْنَعَكُمْ الْفَيْءَ مَادَامَ أَيْدِيكُمْ مَعَ أَيْدِينَا ، وَلَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تُقَاتِلُونَا ثُمَّ أَخَذَ فِي خُطْبَتِهِ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ إذْ حَكَّمَتْ الْخَوَارِجُ أَيْ نَادَوْا الْحُكْمُ لِلَّهِ ، وَكَانُوا يَتَكَلَّمُونَ بِذَلِكَ إذَا أَخَذَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خُطْبَتِهِ لِيُشَوِّشُوا خَاطِرَهُ ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقْصِدُونَ بِذَلِكَ نِسْبَتَهُ إلَى الْكُفْرِ لِرِضَاهُ بِالْحُكْمَيْنِ ، وَتَفْوِيضِهِ الْحُكْمَ إلَى أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ يَعْنِي أَنَّ ظَاهِرَ قَوْلِ الْمَرْءِ الْحُكْمُ لِلَّهِ حَقٌّ ، وَلَكِنَّهُمْ يَقْصِدُونَ بِهِ الْبَاطِلَ ، وَهُوَ نِسْبَتُهُ إلَى الْكُفْرِ ، ثُمَّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ مَا لَمْ يَعْزِمُوا عَلَى الْخُرُوجِ ، فَالْإِمَامُ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُمْ بِالْحَبْسِ وَالْقَتْلِ ، فَإِنَّ الْمُتَكَلِّمِينَ بِذَلِكَ مَا كَانُوا عَازِمِينَ عَلَى الْخُرُوجِ عِنْدَ ذَلِكَ فَلِهَذَا قَالَ لَنْ نَمْنَعَكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ ، وَلَنْ نَمْنَعَكُمْ الْفَيْءَ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ بِالشَّتْمِ لَا يُوجِبُ التَّعْزِيرَ ، فَإِنَّهُ لَمْ يُعَزِّرْهُمْ ، وَقَدْ عَرَّضُوا بِنِسْبَتِهِ إلَى الْكُفْرِ ، وَالشَّتْمُ بِالْكُفْرِ مُوجِبٌ لِلتَّعْزِيرِ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخَوَارِجَ إذَا كَانُوا يُقَاتِلُونَ الْكُفَّارَ تَحْتَ رَايَةِ أَهْلِ الْعَدْلِ ، فَإِنَّهُمْ يَسْتَحِقُّونَ مِنْ الْغَنِيمَةِ مَا يَسْتَحِقُّهُ غَيْرُهُمْ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ دَفْعًا لِقِتَالِهِمْ ، فَإِنَّهُ قَالَ : وَلَنْ نُقَاتِلَكُمْ حَتَّى تُقَاتِلُونَا مَعْنَاهُ حَتَّى تَعْزِمُوا عَلَى الْقِتَالِ بِالتَّجَمُّعِ وَالتَّحَيُّزِ عَنْ أَهْلِ

الْعَدْلِ .

( قَالَ ) وَبَلَغَنَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ الْجَمَلِ لَا تَتْبَعُوا مُدْبِرًا ، وَلَا تَقْتُلُوا أَسِيرًا ، وَلَا تُدَفِّفُوا عَلَى جَرِيحٍ ، وَلَا يُكْشَفُ سِتْرٌ ، وَلَا يُؤْخَذُ مَالٌ ، وَبِهَذَا كُلِّهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ : إذَا قَاتَلَ أَهْلُ الْعَدْلِ أَهْلَ الْبَغْيِ فَهَزَمُوهُمْ فَلَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَتْبَعُوا مُدْبِرًا ؛ لِأَنَّا قَاتَلْنَاهُمْ لِقَطْعِ بَغْيِهِمْ ، وَقَدْ انْدَفَعَ حِينَ وَلَّوْا مُدْبِرِينَ ، وَلَكِنَّ هَذَا إذَا لَمْ يَبْقَ لَهُمْ فِئَةٌ يَرْجِعُونَ إلَيْهَا ، فَإِنَّ بَقِيَ لَهُمْ فِئَةٌ ، فَإِنَّهُ يُتْبَعُ مُدْبِرُهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ مَا تَرَكُوا قَصْدَهُمْ لِهَذَا حِينَ وَلَّوْا مِنْهُمْ مُنْهَزِمِينَ بَلْ تَحَيَّزُوا إلَى فِئَتِهِمْ لِيَعُودُوا فَيُتْبَعُونَ لِذَلِكَ ، وَلِهَذَا يُتْبَعُ الْمُدْبِرُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ لِبَقَاءِ الْفِئَةِ لِأَهْلِ الْحَرْبِ ، وَكَذَلِكَ لَا يَقْتُلُونَ الْأَسِيرَ إذَا لَمْ يَبْقَ لَهُمْ فِئَةٌ ، وَقَدْ كَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَحْلِفُ مَنْ يُؤْسَرُ مِنْهُمْ أَنْ لَا يَخْرُجَ عَلَيْهِ قَطُّ ثُمَّ يُخَلِّيَ سَبِيلَهُ ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ فِئَةٌ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقْتَلَ أَسِيرُهُمْ ؛ لِأَنَّهُ مَا انْدَفَعَ شَرُّهُ ، وَلَكِنَّهُ مَقْهُورٌ ، وَلَوْ تَخَلَّصَ انْحَازَ إلَى فِئَتِهِ ، فَإِذَا رَأَى الْإِمَامُ الْمَصْلَحَةَ فِي قَتْلِهِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْتُلَهُ ، وَكَذَلِكَ لَا يُجْهِزُوا عَلَى جَرِيحِهِمْ إذَا لَمْ يَبْقَ لَهُمْ فِئَةٌ ، فَإِنْ كَانَتْ بَاقِيَةً فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُجْهِزَ عَلَى جَرِيحِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ إذَا بَرِئَ عَادَ إلَى تِلْكَ الْفِتْنَةِ وَالشَّرِّ بِقُوَّةِ تِلْكَ الْفِئَةِ ، وَلِأَنَّ فِي قَتْلِ الْأَسِيرِ وَالتَّجْهِيزِ عَلَى الْجَرِيحِ كَسْرُ شَوْكَةِ أَصْحَابِهِ ، فَإِذَا بَقِيَتْ لَهُمْ فِئَةٌ فَهَذَا الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِذَلِكَ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَبْقَ لَهُمْ فِئَةٌ ، وَقَوْلُهُ لَا يُكْشَفُ سِتْرٌ قِيلَ : مَعْنَاهُ لَا يُسْبَى الذَّرَارِيُّ ، وَلَا يُؤْخَذُ مَالٌ عَلَى سَبِيلِ التَّمَلُّكِ بِطَرِيقِ الِاغْتِنَامِ ، وَبِهِ نَقُولُ لَا تُسْبَى نِسَاؤُهُمْ وَذَرَارِيُّهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ

مُسْلِمُونَ ، وَلَا يُتَمَلَّكُ أَمْوَالُهُمْ لِبَقَاءِ الْعِصْمَةِ فِيهَا بِكَوْنِهَا مُحْرَزَةً بِدَارِ الْإِسْلَامِ ، فَإِنَّ التَّمَلُّكَ بِالْقَهْرِ يَخُصُّ بِمَحَلٍّ لَيْسَ فِيهِ عِصْمَةُ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ .

( قَالَ ) وَمَا أَصَابَ أَهْلُ الْعَدْلِ مِنْ كُرَاعِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَسِلَاحِهِمْ فَلَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ احْتَاجُوا إلَى سِلَاحِ أَهْلِ الْعَدْلِ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوهُ لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ ، وَقَدْ { أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ صَفْوَانَ دُرُوعًا فِي حَرْبِ هَوَازِنَ ، وَكَانَ ذَلِكَ بِغَيْرِ رِضَاهُ حَيْثُ قَالَ : أَغَصْبًا يَا مُحَمَّدُ } ، فَإِذَا كَانَ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي سِلَاحِ مَنْ لَا يُقَاتِلُ فَفِي سِلَاحِ مَنْ يُقَاتِلُ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ أَوْلَى ، فَإِذَا وَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا رُدَّ جَمِيعُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ لِزَوَالِ الْحَاجَةِ ، وَكَذَلِكَ مَا أُصِيبَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ يُرَدُّ إلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُتَمَلَّكْ ذَلِكَ الْمَالُ عَلَيْهِمْ لِبَقَاءِ الْعِصْمَةِ وَالْإِحْرَازِ فِيهِ ، وَلِأَنَّ الْمِلْكَ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ لَا يَثْبُتُ مَا لَمْ يَتِمَّ ، وَتَمَامُهُ بِالْإِحْرَازِ بِدَارٍ تُخَالِفُ دَارَ الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ بَيْنَ أَهْلِ الْبَغْيِ وَأَهْلِ الْعَدْلِ ؛ لِأَنَّ دَارَ الْفِئَتَيْنِ وَاحِدَةٌ .
( قَالَ ) وَبَلَغَنَا عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَلْقَى مَا أَصَابَ مِنْ عَسْكَرِ أَهْلِ النَّهْرَوَانِ فِي الرَّحْبَةِ فَمَنْ عَرَفَ شَيْئًا أَخَذَهُ حَتَّى كَانَ آخِرُ مَنْ عَرَفَ شَيْئًا لِإِنْسَانٍ قَدْرَ حَدِيدٍ فَأَخَذَهَا ، وَلَمَّا قِيلَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْجَمَلِ ، أَلَا تُقَسِّمُ بَيْنَنَا مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْنَا قَالَ : فَمَنْ يَأْخُذُ مِنْكُمْ عَائِشَةَ ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ اسْتِبْعَادًا لِكَلَامِهِمْ وَإِظْهَارًا لِخَطَئِهِمْ فِيمَا طَلَبُوا .

وَإِذَا أُخِذَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ ، فَإِنْ كَانَتْ تُقَاتِلُ حُبِسَتْ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْهُمْ أَحَدٌ ، وَلَا تُقْتَلُ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُقْتَلُ عَلَى رِدَّتِهَا فَكَيْفَ تُقْتَلُ إذَا كَانَتْ بَاغِيَةً ، وَفِي حَالِ اشْتِغَالِهَا بِالْقِتَالِ إنَّمَا جَازَ قَتْلُهَا دَفْعًا ، وَقَدْ انْدَفَعَ ذَلِكَ حِينَ أُسِرَتْ كَالْوَلَدِ يَقْتُلُ وَالِدَهُ دَفْعًا إذَا قَصَدَهُ ، وَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بَعْدَ مَا انْدَفَعَ قَصْدُهُ ، وَلَكِنَّهَا تُحْبَسُ لِارْتِكَابِهَا الْمَعْصِيَةَ ، وَيَمْنَعُهَا مِنْ الشَّرِّ وَالْفِتْنَةِ .

وَإِذَا أُخِذَ رَجُلٌ حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ كَانَ يُقَاتِلُ ، وَكَانَ عَسْكَرُ أَهْلِ الْبَغْيِ عَلَى حَالِهِ قُتِلَ ؛ لِأَنَّهُ مِمَّنْ يُقَاتِلُ عَبْدًا كَانَ أَوْ حُرًّا ، وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَ قَتْلِ الْأَسِيرِ إذَا بَقِيَتْ لَهُ فِئَةٌ ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا يَخْدِمُ مَوْلَاهُ ، وَلَمْ يُقَاتِلْ حُبِسَ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ أَحَدٌ ، وَلَمْ يَقْتُلْ ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ مُقَاتِلًا ، وَالْقَتْلُ فِي حَقِّ أَهْلِ الْبَغْيِ لِلدَّفْعِ ، فَمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ ، وَلَمْ يَعْزِمْ عَلَى ذَلِكَ لَا يُقْتَلُ ، وَلَكِنَّهُ مَالُ الْبَاغِي ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يُوقَفُ حَتَّى لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنْهُمْ ، وَإِنَّمَا يُوقَفُ الْعَبْدُ بِحَبْسِهِ لِكَيْ لَا يَهْرَبَ فَيَعُودَ إلَى مَوْلَاهُ .

وَمَا أَصَابَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ مِنْ كُرَاعٍ أَوْ سِلَاحٍ ، وَلَيْسَ لَهُمْ إلَيْهِ حَاجَةٌ قَالَ : أَمَّا الْكُرَاعُ فَيُبَاعُ ، وَيُحْبَسُ الثَّمَنُ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى النَّفَقَةِ فَلَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ الْإِمَامُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِحْسَانِ إلَى صَاحِبِهِ الْبَاغِي ، وَلِأَنَّ حَبْسَ الثَّمَنِ أَهْوَنُ عَلَيْهِ مِنْ حَبْسِ الْكُرَاعِ فَلِهَذَا يَبِيعُهُ ، وَيُحْبَسُ ثَمَنُهُ حَتَّى يَتَفَرَّقَ جَمْعُهُمْ فَيُرَدُّ ذَلِكَ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَأَمَّا السِّلَاحُ فَيَمْسِكُهُ لِيَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ إذَا وَضَعَتْ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي الرَّدِّ فِي الْحَالِ إعَانَةً لَهُمْ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فَلِهَذَا يُوقَفُ لِتَفَرُّقِ الْجَمْعِ .

فَإِنَّ طَلَبَ أَهْلُ الْبَغْيِ الْمُوَادَعَةَ أُجِيبُوا إلَيْهَا إنْ كَانَ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُمْ قَدْ يَحْتَاجُونَ إلَى الْمُوَادَعَةِ لِحِفْظِ قُوَّةِ أَنْفُسِهِمْ إذَا لَمْ يَقْوَوْا عَلَى قِتَالِهِمْ ، وَكَمَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُرْتَدِّينَ يَجُوزُ فِي حَقِّ أَهْلِ الْبَغْيِ ، وَلَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُمْ عَلَيْهَا شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ ، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الْجِزْيَةِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا مِثْلَهُ فِي حَقِّ الْمُرْتَدِّينَ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ إذَا أُخِذُوا مُلِكُوا ؛ لِأَنَّهُمْ بَعْدَ مَا صَارُوا أَهْلَ حَرْبٍ تُغْنَمُ أَمْوَالُهُمْ ، وَهَهُنَا إنْ أُخِذُوا لَا يُمْلَكُونَ ؛ لِأَنَّ أَمْوَالَ الْخَوَارِجِ لَا تُغْنَمُ بِحَالٍ .

وَإِذَا تَابَ أَهْلُ الْبَغْيِ ، وَدَخَلُوا إلَى أَهْلِ الْعَدْلِ لَمْ يُؤْخَذُوا بِشَيْءٍ مِمَّا أَصَابُوا ، يَعْنِي بِضَمَانِ مَا أَتْلَفُوا مِنْ النُّفُوسِ ، وَالْأَمْوَالِ ، وَمُرَادُهُ إذَا أَصَابُوا ذَلِكَ بَعْدَ مَا تَجَمَّعُوا ، وَصَارُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ ، فَأَمَّا مَا أَصَابُوا قَبْلَ ذَلِكَ ضَامِنُونَ لِذَلِكَ ؛ لِأَنَّا أُمِرْنَا فِي حَقِّهِمْ بِالْمُحَاجَّةِ وَالْإِلْزَامِ بِالدَّلِيلِ ، فَلَا يُعْتَبَرُ تَأْوِيلُهُمْ الْبَاطِلُ فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ قَبْلَ أَنْ يَصِيرُوا أَهْلَ مَنَعَةٍ ، فَأَمَّا بَعْدَ مَا صَارَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ فَقَدْ انْقَطَعَ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ بِالدَّلِيلِ حِسًّا فَيُعْتَبَرُ تَأْوِيلُهُمْ ، وَإِنْ كَانَ بَاطِلًا فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ عَنْهُمْ كَتَأْوِيلِ أَهْلِ الْحَرْبِ بَعْدَ مَا أَسْلَمُوا ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ قَالَ : وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ ، وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا مُتَوَافِرِينَ فَأَنْفَقُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ دَمٍ أُرِيقَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ ، وَكُلَّ فَرْجٍ اُسْتُحِلَّ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ ، وَكُلَّ مَالٍ أُتْلِفَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ ، وَمَا كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فِي أَيْدِيهمْ فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَى صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوا ذَلِكَ بِالْأَخْذِ كَمَا أَنَّا لَا نَمْلِكُ عَلَيْهِمْ مَا لَهُمْ ، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْفِئَتَيْنِ الْمُتَقَاتِلَتَيْنِ بِتَأْوِيلِ الدِّينِ فِي الْأَحْكَامِ أَصْلٌ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ قَالَ : أُفْتِيهِمْ إذَا تَابُوا بِأَنْ يَضْمَنُوا مَا أَتْلَفُوا مِنْ النُّفُوسِ ، وَالْأَمْوَالِ ، وَلَا أُلْزِمُهُمْ ذَلِكَ فِي الْحُكْمِ وَهَذَا صَحِيحٌ ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُعْتَقِدِينَ الْإِسْلَامَ ، وَقَدْ ظَهَرَ لَهُمْ خَطَؤُهُمْ فِي التَّأْوِيلِ إلَّا أَنَّ وِلَايَةَ الْإِلْزَامِ كَانَ مُنْقَطِعًا لِلْمَنَعَةِ فَلَا يُجْبَرُ عَلَى أَدَاءِ الضَّمَانِ فِي الْحُكْمِ ، وَلَكِنْ يُفْتَى بِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ ، وَلَا يُفْتِي أَهْلُ الْعَدْلِ بِمِثْلِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ مُحِقُّونَ فِي قِتَالِهِمْ وَقَتْلِهِمْ مُمْتَثِلُونَ لِلْأَمْرِ .

وَإِنْ كَانَ أَهْلُ الْبَغْيِ قَدْ اسْتَعَانُوا بِقَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى حَرْبِهِمْ فَقَاتَلُوا مَعَهُمْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْهُمْ نَقْضًا لِلْعَهْدِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ لَيْسَ بِنَقْضٍ لِلْإِيمَانِ فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ نَقْضًا لِلْعَهْدِ ، وَهَذَا لِأَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ مُسْلِمُونَ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الطَّائِفَتَيْنِ بِاسْمِ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا ، فَاَلَّذِينَ انْضَمُّوا إلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَخْرُجُوا مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُلْتَزِمِينَ حُكْمَ الْإِسْلَامِ فِي الْمُعَامَلَاتِ ، وَأَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَلِهَذَا لَا يُنْتَقَضُ عَهْدُهُمْ بِذَلِكَ ، وَلَكِنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْبَغْيِ فِيمَا أَصَابُوا فِي الْحَرْبِ ؛ لِأَنَّهُمْ قَاتَلُوا تَحْتَ رَايَةِ الْبُغَاةِ فَحُكْمُهُمْ فِيمَا فَعَلُوا كَحُكْمِ الْبُغَاةِ .

وَيَنْبَغِي لِأَهْلِ الْعَدْلِ إذَا لَقُوا أَهْلَ الْبَغْيِ أَنْ يَدْعُوهُمْ إلَى الْعَدْلِ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ بَعَثَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إلَى أَهْلِ حَرُورَاءَ حَتَّى نَاظَرَهُمْ ، وَدَعَاهُمْ إلَى التَّوْبَةِ ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ رُبَّمَا يَحْصُلُ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ بِالْوَعْظِ وَالْإِنْذَارِ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَدَّمَ ذَلِكَ عَلَى الْقِتَالِ ؛ لِأَنَّ الْكَيَّ آخِرُ الدَّوَاءِ ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ عَلِمُوا مَا يُقَاتِلُونَ عَلَيْهِ فَحَالُهُمْ فِي ذَلِكَ كَحَالِ الْمُرْتَدِّينَ وَأَهْلِ الْحَرْبِ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ ، وَلِهَذَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ بِكُلِّ مَا يَجُوزُ الْقِتَالُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ كَالرَّمْيِ بِالنَّبْلِ ، وَالْمَنْجَنِيقِ ، وَارِسَالِ الْمَاءِ ، وَالنَّارِ عَلَيْهِمْ ، وَالْبَيَاتِ بِاللَّيْلِ لِأَنَّ قِتَالَهُمْ فَرْضٌ كَقِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ ، وَالْمُرْتَدِّينَ .

وَإِذَا وَقَعَتْ الْمُوَادَعَةُ بَيْنَهُمْ فَأَعْطَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ رَهْنًا عَلَى أَنَّهُ أَيُّهُمَا غَدَرَ فَقَتَلَ الرَّهْنَ فَدِمَاءُ الْآخَرِينَ لَهُمْ حَلَالٌ ، فَغَدَرَ أَهْلُ الْبَغْيِ ، وَقَتَلُوا الرَّهْنَ الَّذِينَ فِي أَيْدِيهِمْ لَمْ يَنْبَغِ لِأَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَقْتُلُوا الرَّهْنَ الَّذِينَ فِي أَيْدِيهمْ ، وَلَكِنَّهُمْ يَحْبِسُونَهُمْ حَتَّى يَهْلِكَ أَهْلُ الْبَغْيِ أَوْ يَتُوبُوا ؛ لِأَنَّهُمْ صَارُوا آمِنِينَ فِينَا ، إمَّا بِالْمُوَادَعَةِ أَوْ بِأَنْ أَعْطَيْنَاهُمْ الْأَمَانَ حِينَ أَخَذْنَاهُمْ رَهْنًا ، وَإِنَّمَا كَانَ الْغَدْرُ مِنْ غَيْرِهِمْ فَلَا يُؤَاخَذُونَ بِذَنْبِ الْغَيْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } وَلَكِنَّهُ لَا يُخَلِّي سَبِيلَهُمْ ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ فِتْنَتَهُمْ ، وَإِنْ يَعُودُوا إلَى فِئَتِهِمْ فَيُحَارِبُونَ أَهْلَ الْعَدْلِ ، فَلِهَذَا حُبِسُوا إلَى أَنْ يَتَفَرَّقَ جَمْعُهُمْ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ هَذَا الصُّلْحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فَغَدَرَ الْمُشْرِكُونَ حُبِسَ رَهْنُهُمْ فِي أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يُسْلِمُوا ، وَإِنْ أَبَوْا فَهُمْ ذِمَّةُ الْمُسْلِمِينَ يُوضَعُ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ ؛ لِأَنَّهُمْ حَصَلُوا فِي أَيْدِينَا آمِنِينَ فَلَا يَحِلُّ قَتْلُهُمْ بِغَدْرٍ كَانَ مِنْ غَيْرِهِمْ ، وَلَكِنَّهُمْ اُحْتُبِسُوا فِي دَارِنَا عَلَى التَّأْبِيدِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا رَاضِينَ بِالْمُقَامِ فِي دَارِنَا إلَى أَنْ يُرَدَّ عَلَيْنَا رَهْنُنَا ، وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ حِينَ قَتَلُوا رَهْنَنَا فَقُلْنَا : إنَّهُمْ يُحْتَبَسُونَ فِي دَارِنَا عَلَى التَّأْبِيدِ ، وَالْكَافِرُ لَا يُتْرَكُ فِي دَارِنَا مُقِيمًا إلَّا بِجِزْيَةٍ فَتُوضَعُ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ إنْ لَمْ يُسْلِمُوا ، وَيُحْكَى أَنَّ الدَّوَانِيقِيَّ كَانَ اُبْتُلِيَ بِهَذَا الصُّلْحِ مَعَ أَهْلِ الْمَوْصِلِ ، ثُمَّ إنَّهُمْ غَدَرُوا فَقَتَلُوا رَهْنَهُ فَجَمَعَ الْعُلَمَاءَ لِيَسْتَشِيرَهُمْ فِي رَهْنِهِمْ فَقَالُوا يُقْتَلُونَ كَمَا شَرَطُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ، وَفِيهِمْ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَاكِتٌ فَقَالَ لَهُ : مَا تَقُولُ .
قَالَ : لَيْسَ لَك ذَلِكَ

فَإِنَّكَ شَرَطْتَ لَهُمْ مَالًا يَحِلُّ ، وَشَرَطُوا لَكَ مَا لَا يَحِلُّ { ، وَكُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ } { وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى } فَاغْلُظْ عَلَيْهِ الْقَوْلِ ، وَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ عِنْدِهِ ، وَقَالَ : مَا دَعَوْتُكَ لِشَيْءٍ إلَّا أَتَيْتَنِي بِمَا أَكْرَهُ ثُمَّ جَمَعَهُمْ مِنْ الْغَدِ ، وَقَالَ قَدْ تَبَيَّنَ لِي أَنَّ الصَّوَابَ مَا قُلْتَ فَمَاذَا نَصْنَعُ بِهِمْ قَالَ : سَلْ الْعُلَمَاءَ فَسَأَلَهُمْ فَقَالُوا : لَا عِلْمَ لَنَا بِذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تُوضَعُ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةُ فَقَالَ : لِمَ وَهُمْ لَا يَرْضَوْنَ بِذَلِكَ قَالَ : لِأَنَّهُمْ رَضُوا بِالْمُقَامِ فِي دَارِنَا إلَى أَنْ يُرَدَّ عَلَيْنَا رَهْنُنَا ، وَقَدْ تَحَقَّقَ فَوْتُ ذَلِكَ فَكَانُوا رَاضِينَ بِالْمُقَامِ فِي دَارِنَا عَلَى التَّأْبِيدِ ، وَالْكَافِرُ إذَا رَضِيَ بِذَلِكَ تُوضَعُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ فَاسْتَحْسَنَ قَوْلَهُ وَاعْتَذَرَ إلَيْهِ وَرَدَّهُ إلَى بَيْتِهِ بِمَحْمَلٍ .

وَإِذَا أَمَّنَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ جَازَ أَمَانُهُ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ قَتْلِ الْبَاغِي لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ وُجُوبِ قَتْلِ الْمُشْرِكِ ثُمَّ هُنَاكَ يَصِحُّ أَمَانُ وَاحِدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ } فَكَذَلِكَ هَهُنَا ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُنَاظِرَهُ فَعَسَى أَنْ يَتُوبَ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ مَا لَمْ يَأْمَنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ ، وَكَذَا إنْ قَالَ : لَا سَبِيلَ عَلَيْكَ أَوْ أَمَّنَهُ بِالْفَارِسِيَّةِ أَوْ النَّبَطِيَّةِ ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَتَبَ إلَى أُمَرَاءِ الْأَجْنَادِ أَيُّمَا مُسْلِمٍ قَالَ لِكَافِرٍ مُبَرَّسٍ أَوْ لَا يُذْهِلُ أَوْلَادَهُ فَهُوَ أَمَانٌ ، وَكُلُّ مَنْ يَصِحُّ أَمَانُهُ لِلْحَرْبِيِّ يَصِحُّ أَمَانُهُ لِلْبَاغِي كَالْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ الَّذِي يُقَاتِلُ مَعَ مَوْلَاهُ ، فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ لَا يُقَاتِلُ مَعَ مَوْلَاهُ فَأَمَانُهُ لِأَهْلِ الْبَغْيِ عَلَى الْخِلَافِ .

وَلَا يَجُوزُ أَمَانُ الذِّمِّيِّ ، وَإِنْ كَانَ يُقَاتِلُ مَعَ أَهْلِ الْعَدْلِ كَمَا لَا يَجُوزُ أَمَانُهُ لِلْكُفَّارِ .

وَإِذَا قَاتَلَ النِّسَاءَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ أَهْلَ الْعَدْلِ ، وَسِعَهُمْ قَتْلُهُنَّ دَفْعًا لِقِتَالِهِنَّ ، فَإِذَا لَمْ يُقَاتِلْنَ لَمْ يَسْعَهُمْ قِتَالُهُنَّ كَمَا فِي حَقِّ أَهْلِ الْحَرْبِ بَلْ أَوْلَى ، فَهَذَا الْقِتَالُ دَفْعُ مَحْضٍ ، فَإِذَا قَاتَلْنَ قُتِلْنَ لِلدَّفْعِ ، وَإِذَا لَمْ يُقَاتِلْنَ فَلَا حَاجَةَ إلَى دَفْعِهِنَّ .

وَإِذَا كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فِي يَدِي أَهْلِ الْبَغْيِ تُجَّارٌ أَوْ أَسْرَى فَجَنَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْعَدْلِ لَمْ يُقْتَصَّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ ؛ لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ حَيْثُ لَا تَصِلْ إلَيْهِمْ يَدُ إمَامِ أَهْلِ الْعَدْلِ ، وَلَا يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُهُ فَكَأَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ .

وَلَا يَقْبَلُ قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ كِتَابَ قَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ فَسَقَةٌ ، وَمَا لَمْ يَخْرُجُوا فَفِسْقُهُمْ فِسْقُ اعْتِقَادٍ ، فَأَمَّا بَعْدَ مَا خَرَجُوا فَفِسْقُهُمْ فِسْقُ التَّعَاطِي ، فَكَمَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْفَاسِقِ فَكَذَلِكَ كِتَابُ الْفَاسِقِ ، وَلِأَنَّهُمْ يَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَنَا وَأَمْوَالَنَا ، فَرُبَّمَا حَكَمَ قَاضِي أَهْلِ الْبَغْيِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الِاسْتِحْلَالِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ .

وَإِنْ ظَهَرَ أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى مِصْرٍ فَاسْتَعْمَلُوا عَلَيْهِ قَاضِيًا مِنْ أَهْلِهِ ، وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ ، فَإِنَّهُ يُقِيمُ الْحُدُودَ ، وَالْقِصَاصَ ، وَالْأَحْكَامَ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ لَا يَسَعُهُ إلَّا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ شُرَيْحًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَقَلَّدَ الْقَضَاءَ مِنْ جِهَةِ بَعْضِ بَنِي أُمَيَّةَ وَالْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَذَلِكَ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ مَا اسْتَخْلَفَ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِقَضَاءِ الْقُضَاةِ الَّذِينَ تَقَلَّدُوا مِنْ جِهَةِ بَنِي أُمَيَّةَ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْحُكْمَ بِالْعَدْلِ ، وَدَفْعَ الظُّلْمِ عَنْ الْمَظْلُومِ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ، وَذَلِكَ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إلَّا أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ الرَّعِيَّةِ فَهُوَ غَيْرُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ إلْزَامِ ذَلِكَ ، فَإِذَا تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ بِقُوَّةِ مَنْ قَلَّدَهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بِمَا هُوَ فَرْضٌ عَلَيْهِ ، سَوَاءٌ كَانَ مَنْ قَلَّدَهُ بَاغِيًا أَوْ عَادِلًا ، فَإِنَّ شَرْطَ التَّقْلِيدِ التَّمَكُّنُ وَقَدْ حَصَلَ ، فَإِنَّ كَتَبَ هَذَا الْقَاضِي كِتَابًا إلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ بِحَقٍّ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ بِشَهَادَةِ مَنْ شَهِدَ عِنْدَهُ بِذَلِكَ أَجَازَهُ إذَا كَانَ هَذَا الْقَاضِي الَّذِي أَتَاهُ الْكِتَابُ يَعْرِفُ الشُّهُودَ الَّذِينَ شَهِدُوا عِنْدَ ذَلِكَ الْقَاضِي ، وَلَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ شَهِدُوا عِنْدَهُ بِذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ بِشَهَادَتِهِمْ ، فَكَذَلِكَ إذَا نَقَلَ الْقَاضِي بِكِتَابِهِ شَهَادَتَهُمْ إلَى مَجْلِسِهِ ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ لَا يُجِيزُ كِتَابَهُ كَمَا لَوْ شَهِدُوا عِنْدَهُ بِذَلِكَ لَمْ يَقْضِ بِشَهَادَتِهِمْ عَلَى مَا بَيَّنَّا ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لَا يَعْرِفُهُمْ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ فِي مَنَعَةِ أَهْلِ الْبَغْيِ أَنَّ مَنْ يَسْكُنُ فِيهِمْ فَهُوَ مِنْهُمْ فَمَا لَمْ يُعْلَمْ خِلَافُهُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَخْذُ بِالظَّاهِرِ .

( قَالَ ) وَمَا أَصَابَ أَهْلُ الْبَغْيِ مِنْ الْقَتْلِ وَالْأَمْوَالِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجُوا وَيُحَارِبُوا ثُمَّ صَالَحُوا بَعْدَ الْخُرُوجِ عَلَى إبْطَالِ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ ، وَأَخَذُوا بِجَمِيعِ ذَلِكَ مِنْ الْقِصَاصِ وَالْأَمْوَالِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ لَزِمَهُمْ لِلْعِبَادِ ، وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ وِلَايَةُ إسْقَاطِ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَكَانَ شَرْطُهُمْ إسْقَاطَ ذَلِكَ عَنْهُمْ شَرْطًا بَاطِلًا فَلَا يُوَفِّي بِهِ .

وَيُصْنَعُ بِقَتْلَى أَهْلِ الْعَدْلِ مَا يُصْنَعُ بِالشَّهِيدِ فَلَا يُغَسَّلُونَ ، وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ هَكَذَا فَعَلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَنْ قُتِلَ مِنْ أَصْحَابِهِ ، وَبِهِ أَوْصَى عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ ، وَحُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ ، وَزَيْدُ بْنُ صُوحَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ حِينَ اُسْتُشْهِدُوا ، وَقَدْ رَوَيْنَاهُ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ .

وَلَا يُصَلَّى عَلَى قَتْلَى أَهْلِ الْبَغْيِ ، وَلَا يُغَسَّلُونَ أَيْضًا ، وَلَكِنَّهُمْ يُدْفَنُونَ لِإِمَاطَةِ الْأَذَى هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَمْ يُصَلِّ عَلَى قَتْلَى النَّهْرَوَانِ ، وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِمْ الدُّعَاءُ لَهُمْ ، وَالِاسْتِغْفَارُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ } ، وَقَدْ مَنَعْنَا مِنْ ذَلِكَ فِي حَقِّ أَهْلِ الْبَغْيِ ، وَلِأَنَّ الْقِيَامَ بِغُسْلِهِمْ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ نَوْعُ مُوَالَاةٍ مَعَهُمْ ، وَالْعَادِلُ مَمْنُوعٌ مِنْ الْمُوَالَاةِ مَعَ أَهْلِ الْبَغْيِ فِي حَيَاةِ الْبَاغِي فَكَذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِهِ ، وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : هَذَا إذَا بَقِيَتْ لَهُمْ فِئَةٌ ، فَإِنْ لَمْ يَبْقَ لَهُمْ فَلَا بَأْسَ لِلْعَادِلِ بِأَنْ يُغَسِّلَ قَرِيبَهُ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ ، وَيُصَلِّيَ عَلَيْهِ ، وَجُعِلَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ قَتْلِ الْأَسِيرِ ، وَالتَّجْهِيزِ عَلَى الْجَرِيحِ ؛ لِأَنَّ فِي الْقِيَامِ بِذَلِكَ مُرَاعَاةَ حَقِّ الْقَرَابَةِ ، وَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ إذَا لَمْ يَبْقَ لَهُمْ فِئَةٌ .

( قَالَ ) وَأَكْرَهُ أَنْ تُؤْخَذَ رُءُوسُهُمْ فَيُطَافُ بِهَا فِي الْآفَاقِ ؛ لِأَنَّهُ مُثْلَةٌ ، وَقَدْ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُثْلَةِ ، وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ } ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَنَعَ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ مِنْ حُرُوبِهِ ، وَهُوَ الْمُتَّبَعُ فِي الْبَابِ ، وَلَمَّا حُمِلَ رَأْسُ يَبَابَ الْبِطْرِيقِ إلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَرِهَهُ فَقِيلَ : إنَّ الْفُرْسَ ، وَالرُّومَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ، فَقَالَ : لَسْنَا مِنْ الْفُرْسِ ، وَلَا الرُّومِ يَكْفِينَا الْكِتَابُ وَالْخَبَرُ ، وَقَدْ جَوَّزَ ذَلِكَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا إنْ كَانَ فِيهِ كَسْرُ شَوْكَتِهِمْ أَوْ طُمَأْنِينَةُ قَلْبِ أَهْلِ الْعَدْلِ اسْتِدْلَالًا بِحَدِيثِ { ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ حَمَلَ رَأْسَ أَبِي جَهْلٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ } .

وَإِذَا قَتَلَ الْعَادِلُ فِي الْحَرْبِ أَبَاهُ الْبَاغِي وَرِثَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَتْلٌ بِحَقٍّ فَلَا يُحْرِمُهُ الْمِيرَاثَ كَالْقَتْلِ رَجْمًا أَوْ فِي قِصَاصٍ ، وَهَذَا لِأَنَّ حِرْمَانَ الْمِيرَاثِ عُقُوبَةٌ شُرِعَتْ جَزَاءً عَلَى قَتْلِ مَحْظُورٍ فَالْقَتْلُ الْمَأْمُورُ بِهِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ سَبَبًا لَهُ ، وَكَذَلِكَ الْبَاغِي إذَا قَتَلَ مُوَرِّثَهُ الْعَادِلَ يَرِثُهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَلَا يَرِثُهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّهُ قَتْلٌ بِغَيْرِ حَقٍّ فَيُحْرِمُهُ الْمِيرَاثَ كَمَا لَوْ قَتَلَهُ ظُلْمًا مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ ، وَهَذَا لِأَنَّ اعْتِقَادَهُ تَأْوِيلُهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى مُوَرِّثِهِ الْعَادِلِ ، وَلَا عَلَى سَائِرِ وَرَثَتِهِ ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ خَاصَّةً يُوَضِّحُهُ أَنَّ تَأْوِيلَ أَهْلِ الْبَغْيِ عِنْدَ انْضِمَامِ الْمَنَعَةِ يُعْتَبَرُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُعْتَبَرُ فِي حَقِّ أَهْلِ الْحَرْبِ ، وَتَأْثِيرُ ذَلِكَ فِي إسْقَاطِ ضَمَانِ النَّفْسِ ، وَالْمَالِ لَا فِي حُكْمِ التَّوْرِيثِ إذْ لَا تَوَارُثَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ ، فَكَذَلِكَ تَأْوِيلُ أَهْلِ الْبَغْيِ ، وَهُمَا يَقُولَانِ : الْمُقَاتَلَةُ بَيْنَ الْفِئَتَيْنِ بِتَأْوِيلِ الدِّينِ فَيَسْتَوِيَانِ فِي الْأَحْكَامِ ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْآثَامِ كَمَا فِي سُقُوطِ الضَّمَانِ ، وَكَمَا فِي حَقِّ أَهْلِ الْحَرْبِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ ، وَكَمَا أَنَّ قَتْلَ الْبَاغِي مُوَرِّثَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَقَتْلُ الْحَرْبِيِّ كَذَلِكَ بِغَيْرِ حَقٍّ ثُمَّ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ ، حَتَّى إذَا جَرَحَ الْكَافِرُ مُوَرِّثَهُ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ مَاتَ مِنْ تِلْكَ الْجِرَاحَةِ وَرِثَهُ ، وَكَمَا أَنَّ اعْتِقَادَهُ لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْعَادِلِ فِي حُكْمِ التَّوْرِيثِ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ سُقُوطِ حَقِّهِ فِي الضَّمَانِ لَا يَكُونُ حُجَّةً ، وَلَكِنْ قِيلَ : لَمَّا انْقَطَعَتْ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ بِانْضِمَامِ الْمَنَعَةِ إلَى التَّأْوِيلِ جُعِلَ الْفَاسِدُ مِنْ التَّأْوِيلِ كَالصَّحِيحِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ

التَّوْرِيثِ .

وَيُكْرَهُ لِلْعَادِلِ أَنْ يَلِيَ قَتْلَ أَخِيهِ وَأَبِيهِ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ ، أَمَّا فِي حَقِّ الْأَبِ لَا يُشْكِلُ ، فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ قَتْلُ أَبِيهِ الْمُشْرِكِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : { وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا } فَالْمُرَادُ فِي الْأَبَوَيْنِ الْمُشْرِكَيْنِ كَذَلِكَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : { وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا } { وَلَمَّا اسْتَأْذَنَ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلِ أَبِيهِ الْمُشْرِكِ كَرِهَ لَهُ ذَلِكَ ، وَقَالَ يَكْفِيكَ ذَلِكَ غَيْرُكَ } ، وَكَذَلِكَ { لَمَّا اسْتَأْذَنَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلِ أَبِيهِ الْمُشْرِكِ نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ } ، وَلَا بَأْسَ بِقَتْلِ أَخِيهِ إذَا كَانَ مُشْرِكًا ، وَيُكْرَهُ إذَا كَانَ بَاغِيًا ؛ لِأَنَّ فِي حَقِّ الْبَاغِي اجْتَمَعَ حُرْمَتَانِ حُرْمَةُ الْقَرَابَةِ ، وَحُرْمَةُ الْإِسْلَامِ فَيَمْنَعُهُ ذَلِكَ مِنْ الْقَصْدِ إلَى قَتْلِهِ ، وَفِي حَقِّ الْكَافِرِ إنَّمَا وُجِدَ حُرْمَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَهُوَ حُرْمَةُ الْقَرَابَةِ ، فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْقَتْلِ كَالْحُرْمَةِ فِي حَقِّ الدِّينِ فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ .

فَإِنَّ قَصَدَهُ أَبُوهُ الْمُشْرِكُ أَوْ الْبَاغِي لِيَقْتُلَهُ كَانَ لِلِابْنِ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْهُ وَيَقْتُلَهُ ؛ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِفِعْلِهِ الدَّفْعَ عَنْ نَفْسِهِ لَا قَتْلَ أَبِيهِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَدْفَعَ قَصْدَ الْغَيْرِ عَنْ نَفْسِهِ .

وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فِي صَفِّ أَهْلِ الْبَغْيِ فَقَتَلَهُ رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِيهِ الدِّيَةُ كَمَا لَوْ كَانَ فِي صَفِّ أَهْلِ الْحَرْبِ ؛ لِأَنَّا أُمِرْنَا بِقِتَالِ الْفَرِيقَيْنِ فَكُلُّ مَنْ كَانَ وَاقِفًا فِي صَفِّهِمْ فَقِتَالُهُ حَلَالٌ وَالْقِتَالُ الْحَلَالُ لَا يُوجِبُ شَيْئًا ، وَلِأَنَّهُ أَهْدَرَ دَمَهُ حِينَ وَقَفَ فِي صَفِّ أَهْلِ الْبَغْيِ .

وَإِذَا دَخَلَ الْبَاغِي عَسْكَرَ أَهْلِ الْعَدْلِ بِأَمَانٍ فَقَتَلَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ كَمَا لَوْ قَتَلَ الْمُسْلِمُ مُسْتَأْمَنًا فِي دَارِنَا ، وَهَذَا لِبَقَاءِ شُبْهَةِ الْإِبَاحَةِ فِي دَمِهِ حِينَ كَانَ دُخُولُهُ بِأَمَانٍ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَجِبُ تَبْلِيغُهُ مَأْمَنَهُ لِيَعُودَ حَرْبًا ، فَالْقِصَاصُ يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَوُجُوبُ الدِّيَةِ لِلْعِصْمَةِ ، وَالتَّقَوُّمُ فِي دَمِهِ لِلْحَالِ .

( قَالَ ) وَإِذَا حَمَلَ الْعَادِلُ عَلَى الْبَاغِي فِي الْمُحَارَبَةِ فَقَالَ : قَدْ تُبْتُ وَأَلْقَى السِّلَاحَ كُفَّ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُقَاتِلُهُ لِيَتُوبَ ، وَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ فَهُوَ كَالْحَرْبِيِّ إذَا أَسْلَمَ ، وَلِأَنَّهُ يُقَاتِلُهُ دَفْعًا لِبَغْيِهِ وَقِتَالِهِ ، وَقَدْ انْدَفَعَ ذَلِكَ حِينَ أَلْقَى السِّلَاحَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ كُفَّ عَنِّي حَتَّى أَنْظُرَ فِي أَمْرِي فَلَعَلِّي أُتَابِعُكَ ، وَأُلْقِي السِّلَاحَ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْمَنَ لِيَنْظُرَ فِي أَمْرِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُجِيبَهُ إلَى ذَلِكَ رَجَاءً أَنْ يَحْصُلَ الْمَقْصُودُ بِدُونِ الْقِتَالِ ، وَفِي حَقِّ أَهْلِ الْحَرْبِ لَا يَلْزَمُهُ إعْطَاءُ الْأَمَانِ ؛ لِأَنَّ الدَّاعِيَ إلَى الْمُحَارَبَةِ هُنَاكَ شِرْكُهُ ، وَلَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ بِإِلْقَاءِ السِّلَاحِ ، وَهَهُنَا أَهْلُ الْبَغْيِ مُسْلِمُونَ ، وَإِنَّمَا يُقَاتَلُونَ لِدَفْعِ قِتَالِهِمْ ، فَإِذَا أَلْقَى السِّلَاحَ وَاسْتَمْهَلَهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُمْهِلَهُ ، وَلَوْ قَالَ أَنَا عَلَى دِينِكَ ، وَمَعَهُ السِّلَاحُ لَمْ يَكُفَّ عَنْهُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا قَالَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْبُغَاةَ مُسْلِمُونَ ، وَقَدْ كَانَ الْعَادِلُ مَأْمُورًا بِقِتَالِهِمْ مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِإِخْبَارِ إيَّاهُ بِذَلِكَ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ مَا دَامَ حَامِلًا لِلسِّلَاحِ فَهُوَ قَاصِدٌ لِلْقِتَالِ إنْ تَمَكَّنَ مِنْهُ فَيَقْتُلُهُ دَفْعًا لِقِتَالِهِ .

وَإِذَا غَلَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ عَلَى مَدِينَةٍ فَقَاتَلَهُمْ قَوْمٌ آخَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ فَهَزَمُوهُمْ فَأَرَادُوا أَنْ يَسْبُوا ذَرَارِيَّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَمْ يَسَعْ أَهْلُ الْمَدِينَةِ إلَّا أَنْ يُقَاتِلُوا دُونَ الذَّرَارِيِّ ؛ لِأَنَّ ذَرَارِيَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يُسْبَوْنَ ، فَإِنَّ الْبُغَاةَ ظَالِمُونَ فِي سَبْيِهِمْ ، وَعَلَى كُلِّ مَنْ يَقْوَى عَلَى دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ الْمَظْلُومِ أَنْ يَقُومَ بِهِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا حَتَّى تَأْخُذُوا عَلَى يَدِي الظَّالِمِ فَتَأْطُرُوهُ عَلَى الْحَقِّ أَطْرًا } .

وَإِذَا وَادَعَ أَهْلُ الْبَغْيِ قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَمْ يَسَعْ لِأَهْلِ الْعَدْلِ أَنْ يَغْزُوهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَمَانُ الْمُسْلِمِ إذَا كَانَ فِي فِئَةٍ مُمْتَنِعَةٍ نَافِذٌ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ ، فَإِنَّ غَدَرَ بِهِمْ أَهْلُ الْبَغْيِ فَسَبَوْهُمْ لَمْ يَشْتَرِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْعَدْلِ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ السَّبَايَا ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي مُوَادَعَةٍ وَأَمَانٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَاَلَّذِينَ غَدَرُوا بِهِمْ لَا يَمْلِكُونَهُمْ ، وَلَكِنَّهُمْ يُؤَمَّرُونَ بِإِعَادَتِهِمْ إلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ حَتَّى إذَا تَابَ أَهْلُ الْبَغْيِ أُمِرُوا بِرَدِّهِمْ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَهْلُ الْعَدْلِ هُمْ الَّذِينَ وَادَعُوهُمْ .

وَإِنْ ظَهَرَ أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ حَتَّى أَلْجَؤُهُمْ إلَى دَارِ الشِّرْكِ فَلَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوا مَعَ الْمُشْرِكِينَ أَهْلَ الْبَغْيِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ أَهْلِ الشِّرْكِ ظَاهِرٌ عَلَيْهِمْ أَنْ يَسْتَعِينُوا بِأَهْلِ الشِّرْكِ عَلَى أَهْلِ الْبَغْيِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إذَا كَانَ حُكْمُ أَهْلِ الشِّرْكِ هُوَ الظَّاهِرُ .

وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَسْتَعِينَ أَهْلُ الْعَدْلِ بِقَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى الْخَوَارِجِ إذَا كَانَ حُكْمُ أَهْلِ الْعَدْلِ ظَاهِرًا ؛ لِأَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ لِإِعْزَازِ الدِّينِ ، وَالِاسْتِعَانَةُ عَلَيْهِمْ بِقَوْمٍ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ كَالِاسْتِعَانَةِ عَلَيْهِمْ بِالْكِلَابِ .

وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِأَهْلِ الْبَغْيِ مَنَعَةٌ ، وَإِنَّمَا خَرَجَ رَجُلٌ أَوْ رَجُلَانِ مِنْ أَهْلِ مِصْرٍ عَلَى تَأْوِيلٍ يُقَاتِلَانِ ثُمَّ يَسْتَأْمِنَانِ أُخِذَا بِجَمِيعِ الْأَحْكَامِ ؛ لِأَنَّهُمَا بِمَنْزِلَةِ اللُّصُوصِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّأْوِيلَ إذَا تَجَرَّدَ عَنْ الْمَنَعَةِ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا لِبَقَاءِ وِلَايَةِ الْإِلْزَامِ بِالْمُحَاجَّةِ ، وَالدَّلِيلُ أَنَّهُمَا مُعْتَقِدَانِ الْإِسْلَامَ فَيَكُونَانِ كَاللِّصَّيْنِ فِي جَمِيعِ مَا أَصَابَا .

وَإِذَا اشْتَدَّ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ فِي الْمِصْرِ بِعَصَا أَوْ حَجَرٍ فَقَتَلَهُ الْمَشْدُودُ عَلَيْهِ بِحَدِيدَةٍ قُتِلَ بِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى : إذَا اشْتَدَّ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ لَوْ قَتَلَهُ بِهِ قَتَلَهُ فَقَتَلَهُ الْمَشْدُودُ عَلَيْهِ فَدَمُهُ هَدَرٌ ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى مَسْأَلَةِ كِتَابِ الدِّيَاتِ أَنَّ الْقَتْلَ بِالْحَجَرِ وَالْعَصَا لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا مَا لَا يَثْبُتُ مِنْ الْحَجَرِ الْكَبِيرِ وَالْعَصَا بِمَنْزِلَةِ السِّلَاحِ فِي أَنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ بِهِ ، بِخِلَافِ الْعَصَا الصَّغِيرِ ، ثُمَّ الْمَشْدُودُ عَلَيْهِ يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِ شَرِّ الْقَتْلِ عَنْ نَفْسِهِ إذَا صَارَ مَقْصُودًا بِالْقَتْلِ ، وَإِقْدَامُهُ عَلَى مَا هُوَ مُبَاحٌ لَهُ أَوْ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ شَرْعًا لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ شَيْئًا ، فَإِذَا كَانَ عِنْدَهُمَا الْحَجَرُ الْكَبِيرُ كَالسِّلَاحِ فَنَقُولُ : الشَّادُّ لَوْ حَقَّقَ مَقْصُودَهُ لَزِمَهُ الْقِصَاصُ ، فَبِمُجَرَّدِ قَصْدِهِ يُهْدَرُ دَمُهُ بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ هَدَرَ الدَّمِ وَابَاحَةَ الْقَتْلِ بِمُجَرَّدِ الْقَصْدِ أَسْرَعُ ثُبُوتًا حَتَّى كَانَ لِلِابْنِ أَنْ يَقْتُلَ أَبَاهُ إذَا قَصَدَهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ ، وَإِنْ كَانَ لَوْ حَقَّقَ مَقْصُودَهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقَوَدُ ، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ إذَا قَصَدَ قَتْلَ إنْسَانٍ بِالسِّلَاحِ يُبَاحُ قَتْلُهُ دَفْعًا ، وَإِنْ كَانَ لَوْ حَقَّقَ مَقْصُودَهُ لَا يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ ، ثُمَّ مَا لَا يَثْبُتُ عِنْدَهُمَا آلَةَ الْقَتْلِ كَالسِّلَاحِ ، فَالْمَقْصُودُ بِالْقَتْلِ دَفْعُ شَرِّ الْقَتْلِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْعَصَا وَالْحَجَرُ لَيْسَ بِآلَةِ الْقَتْلِ فَهُوَ لَا يَدْفَعُ الْقَتْلَ عَنْ نَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا يَدْفَعُ الْأَذَى عَنْ نَفْسِهِ ، وَبِالْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الْأَذَى لَا يُبَاحُ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْقَتْلِ ، وَلِأَنَّ الشَّادَّ لَوْ حَقَّقَ مَقْصُودَهُ لَا يَلْزَمُهُ

الْقِصَاصُ ، فَبِمُجَرَّدِ الْقَصْدِ أَيْضًا لَا يُهْدَرُ دَمُهُ .
( فَإِنْ قِيلَ ) إنْ كَانَ لَا يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ جِهَةِ الْقَتْلِ بِخِلَافِ الْجُرْحِ ، وَحُرْمَةُ أَطْرَافِهِ لَا تَكُونُ دُونَ حُرْمَةِ مَالِهِ ، وَلَوْ قَصَدَ مَالَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ دَفْعًا فَهُنَا أَوْلَى .
( قُلْنَا ) بِنَاءُ هَذَا الْحُكْمُ عَلَى قَصْدِهِ ، وَقَصْدُهُ هَهُنَا النَّفْسُ لَا الطَّرَفُ ، وَالْمَشْدُودُ عَلَيْهِ لَا يَخَافُ الْقَتْلَ مِنْ جِهَةٍ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْمِصْرِ بِالنَّهَارِ فَيَلْحَقُهُ الْغَوْثُ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ عَلَى نَفْسِهِ ، فَلِهَذَا لَا يُبَاحُ الْإِقْدَامُ عَلَى قَتْلِهِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ بِاللَّيْلِ أَوْ كَانَ بِاللَّيْلِ أَوْ كَانَ بِالْمَفَازَةِ ؛ لِأَنَّ الْغَوْثَ بِالْبُعْدِ مِنْهُ عَادَةً ، فَإِلَى أَنْ يَنْتَبِهَ النَّاسُ ، وَيَخْرُجُوا رُبَّمَا يَأْتِي عَلَى نَفْسِهِ فَكَانَ هُوَ دَافِعًا شَرَّ الْقَتْلِ عَنْ نَفْسِهِ ، وَبِخِلَافِ السِّلَاحِ فَإِنَّهُ آلَةُ الْقَتْلِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ جَارِحٌ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَأْتِي عَلَى نَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَلْحَقَهُ الْغَوْثُ فَيُبَاحُ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ دَفْعًا فَلَا يَلْزَمُهُ بِهِ شَيْءٌ ، وَلَا يَفْصِلُ بَيْنَ قَصْدِهِ إلَى الْمَالِ أَوْ إلَى النَّفْسِ بَلْ هُوَ عَلَى التَّقْسِيمِ الَّذِي قُلْنَا سَوَاءٌ أَرَادَ نَفْسَهُ أَوْ مَالَهُ ، وَمَقْصُودُهُ مِنْ إيرَادِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ هَهُنَا الْفَرْقُ بَيْنَ اللُّصُوصِ ، وَبَيْنَ أَهْلِ الْبَغْيِ ، فَإِنَّ فِي حَقِّ اللُّصُوصِ الْمَنَعَةَ تَجَرَّدَتْ عَنْ تَأْوِيلٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِي حَقِّ أَهْلِ الْبَغْيِ أَنَّ الْمُغَيِّرَ لِلْحُكْمِ اجْتِمَاعُ الْمَنَعَةِ وَالتَّأْوِيلِ ، وَأَنَّهُ إذَا تَجَرَّدَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ لَا يَتَغَيَّرُ الْحُكْمُ فِي حَقِّ ضَمَانِ الْمُصَابِ ، وَالْعَبْدُ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا كَالْحُرِّ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ لُصُوصًا غَيْرُ مُتَأَوِّلِينَ غَلَبُوا عَلَى مَدِينَةٍ فَقَتَلُوا الْأَنْفُسَ وَاسْتَهْلَكُوا الْأَمْوَالَ ، ثُمَّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْعَدْلِ أُخِذُوا بِجَمِيعِ ذَلِكَ لِتَجَرُّدِ الْمَنَعَةِ عَنْ التَّأْوِيلِ .

وَإِذَا غَلَبَ أَهْلُ الْبَغْيِ عَلَى مَدِينَةٍ فَاسْتَعْمَلُوا عَلَيْهَا قَاضِيًا فَقَضَى بِأَشْيَاءَ ، ثُمَّ ظَهَرَ أَهْلُ الْعَدْلِ عَلَى تِلْكَ الْمَدِينَةِ فَرُفِعَتْ قَضَايَاهُ إلَى قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ ، فَإِنَّهُ يَنْفُذُ مِنْهَا مَا كَانَ عَدْلًا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَقَضَهَا احْتَاجَ إلَى إعَادَةِ مِثْلِهَا ، وَالْقَاضِي لَا يَشْتَغِلُ بِمَا لَا يُفِيدُ ، وَلَا يَنْقُضُ شَيْئًا لِيُعِيدَهُ ، وَكَذَلِكَ إنْ قَضَى بِمَا رَآهُ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهَدَاتِ نَافِذٌ فَلَا يَنْقُضُ ذَلِكَ قَاضِي أَهْلِ الْعَدْلِ مِنْ قَضَايَا مَنْ تَقَلَّدَ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا لِرَأْيِهِ .

وَإِذَا اجْتَمَعَ عَسْكَرُ أَهْلِ الْعَدْلِ وَالْبَغْيِ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ فَغَنِمُوا غَنِيمَةً اشْتَرَكُوا فِيهَا ؛ لِأَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ اشْتَرَكُوا فِي الْقِتَالِ لِإِعْزَازِ الدِّينِ ، وَفِي إحْرَازِ الْفَيْءِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَنْ نَمْنَعَكُمْ الْفَيْءَ مَادَامَ أَيْدِيكُمْ مَعَ أَيْدِينَا ، وَيَأْخُذُ خُمُسَهَا أَهْلُ الْعَدْلِ لِيَصْرِفُوا ذَلِكَ إلَى الْمَصَارِفِ ، فَإِنَّ أَهْلَ الْبَغْيِ لَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَحِلُّونَ أَمْوَالَنَا ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَا يَصْرِفُونَ الْخُمُسَ إلَى مَصَارِفِهِ ، وَلِأَنَّ أَهْلَ الْعَدْلِ يُؤْمَرُونَ بِأَنْ يَتَكَلَّفُوا لِتَكُونَ الرَّايَةَ لَهُمْ ، وَإِنَّمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ إذَا كَانُوا هُمْ الَّذِينَ أَخَذُوا الْخُمُسَ ، وَكَذَلِكَ إنْ غَنِمَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ دُونَ الْآخَرِ اشْتَرَكُوا فِيهَا ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ رِدْءُ الْبَعْضِ ، وَقَدْ اشْتَرَكُوا فِي الْإِحْرَازِ .

وَكَذَلِكَ إذَا غَزَا الْإِمَامُ بِجُنْدِ الْمُسْلِمِينَ فَمَاتَ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ ، وَاخْتَلَفَ الْجُنْدُ فِيمَنْ يَسْتَخْلِفُونَهُ ، ثُمَّ غَنِمُوا أَوْ غَنِمَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ اشْتَرَكُوا فِيهَا ؛ لِأَنَّهُمْ مَعَ هَذَا الِاخْتِلَافِ يَجْتَمِعُونَ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِعْزَازِ الدِّينِ فَيَشْتَرِكُونَ فِي الْمُصَابِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ جَيْشًا لَهُمْ مَنَعَةٌ لَوْ دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ مِنْ غَيْرِ إذْن الْإِمَامِ خُمِّسَ مَا أَصَابُوا وَقُسِّمَ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمْ عَلَى سِهَامِ الْغَنِيمَةِ فَكَذَلِكَ حَالُ الَّذِينَ قَاتَلُوا بَعْدَ مَا مَاتَ الْإِمَامُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَخْلِفُوا غَيْرَهُ .

وَإِذَا اسْتَعَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ بِقَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الْعَدْلِ ، وَقَاتَلُوهُمْ فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْعَدْلِ قَالَ يُسْبَى أَهْلُ الْحَرْبِ ، وَلَيْسَتْ اسْتِعَانَةُ أَهْلِ الْبَغْيِ بِهِمْ بِأَمَانٍ لَهُمْ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنَ يَدْخُلُ دَارَ الْإِسْلَامِ تَارِكًا لِلْحَرْبِ ، وَهَؤُلَاءِ مَا دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ إلَّا لِيُقَاتِلُوا الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الْعَدْلِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُمْ غَيْرَ مُسْتَأْمَنِينَ ، وَلِأَنَّ الْمُسْتَأْمَنِينَ لَوْ تَجَمَّعُوا ، وَقَصَدُوا قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ ، وَنَاجَزُوهُمْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمْ نَقْضًا لِلْأَمَانِ ، فَلَأَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَعْنَى مَانِعًا ثُبُوتَ الْأَمَانِ فِي الِابْتِدَاءِ أَوْلَى .

وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْبَغْيِ إذَا دَعَوْا قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَأَعَانَ أُولَئِكَ الْقَوْمُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى أَهْلِ الْعَدْلِ فَقَاتَلُوهُمْ فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ أَهْلُ الْعَدْلِ ، فَإِنَّهُمْ يَسْبُونَهُمْ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مُوَادَعَةَ أَهْلِ الْبَغْيِ وَإِنْ كَانَتْ عَامِلَةً فِي حَقِّ أَهْلِ الْعَدْلِ فَهُمْ بِالْقَصْدِ إلَى مَالِ أَهْلِ الْعَدْلِ صَارُوا نَاقِضِينَ لِتِلْكَ الْمُوَادَعَةِ ، وَالْتَحَقُوا بِمَنْ لَا مُوَادَعَةَ لَهُمْ ، مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي حُكْمِ السَّبْيِ مَنْ لَحِقَ بِعَسْكَرِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَحَارَبَ مَعَهُمْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ حُكْمُ الْمُرْتَدِّ حَتَّى لَا يُقَسَّمُ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ ، وَلَا تَنْقَطِعُ الْعِصْمَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ ، فَإِنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فِي حَقِّ أَحَدٍ مِمَّنْ الْتَحَقَ مِنْ أَهْلِ عَسْكَرِهِ بِمَنْ خَالَفَ ، وَلَمَّا قَالَ لِلَّذِي أَتَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ يُخَاصِمُ فِي زَوْجَتِهِ : أَنْتَ الْمُمَالِئُ عَلَيْنَا عَدُوَّنَا .
قَالَ : أَوْ يَمْنَعُنِي ذَلِكَ عَدْلَكَ .
فَقَالَ : لَا ، وَقَضَى لَهُ بِزَوْجَتِهِ ، وَلِأَنَّ الْمَوْتَ الْحُكْمِيَّ إنَّمَا يَثْبُتُ بِتَبَايُنِ الدَّارَيْنِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ هَهُنَا فَمَنَعَةُ أَهْلِ الْبَغْيِ وَأَهْلِ الْعَدْلِ كُلُّهَا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، فَلِهَذَا لَا يُقَسَّمُ مَالُهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ ، وَلَا تَنْقَطِعُ الْعِصْمَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .

بَابٌ آخَرُ فِي الْغَنِيمَةِ ( قَالَ ) قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْمَقْطُوعُ فِي الْحَرْبِ وَصَاحِبُ الدُّيُونِ فِي الْغَنِيمَةِ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْغَنِيمَةِ قَالَ : { لِلَّهِ سَهْمٌ وَلِهَؤُلَاءِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ ، فَقَالَ السَّائِلُ : فَهَلْ أَحَدٌ أَحَقُّ بِشَيْءٍ مِنْ غَيْرِهِ .
؟ قَالَ : لَا حَتَّى لَوْ رُمِيتَ بِسَهْمٍ فِي جَنْبِكَ فَاسْتَخْرَجْتَهُ لَمْ تَكُنْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ صَاحِبِكَ } ، وَلِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْقَهْرُ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ فِيهِ إعْزَازُ الدِّينِ ، وَالْمُتَطَوِّعُ فِي ذَلِكَ كَصَاحِبِ الدُّيُون .

وَمَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ لِلتِّجَارَةِ وَهُوَ فِي عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا حَقَّ لَهُ فِي الْغَنِيمَةِ إلَّا أَنْ يَلْقَى الْمُسْلِمُونَ الْعَدُوَّ فَيُقَاتِلُ مَعَهُمْ فَيُشَارِكُهُمْ حِينَئِذٍ ؛ لِأَنَّ التَّاجِرَ مَا كَانَ قَصْدُهُ عِنْدَ الِانْفِصَالِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ الْقِتَالَ لِإِعْزَازِ الدِّينِ ، وَإِنَّمَا كَانَ قَصْدُهُ التِّجَارَةَ فَلَا يَكُونُ هُوَ مِنْ الْغُزَاةِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ إلَّا أَنْ يُقَاتِلَ فَحِينَئِذٍ يَتَبَيَّنُ بِفِعْلِهِ أَنَّ مَقْصُودَهُ الْقِتَالُ ، وَمَعْنَى التِّجَارَةِ تَبَعٌ فَلَا يَحْرُمُهُ ذَلِكَ سَهْمَهُ ، وَقِيلَ : نَزَلَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ } يَعْنِي التِّجَارَةَ فِي طَرِيقِ الْحِجِّ فَكَذَلِكَ فِي طَرِيقِ الْغَزْوِ .

وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَأَلْت أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ ، وَالصِّبْيَانِ ، وَالشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يُطِيقُ الْقِتَالَ ، وَاَلَّذِينَ بِهِمْ زَمَانَةٌ لَا يُطِيقُونَ الْقِتَالَ فَنَهَى عَنْ ذَلِكَ وَكَرِهَهُ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ { قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَأَى امْرَأَةً مَقْتُولَةً هَا مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ } فَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تُقْتَلُ ، وَالشَّيْخُ الْكَبِيرُ وَمَنْ بِهِ زَمَانَةٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، قَالُوا : وَهَذَا إذَا كَانَ لَا يُقَاتِلُ بِرَأْيِهِ ، وَأَمَّا إذَا كَانَ يُقَاتِلُ بِرَأْيِهِ فَفِي قَتْلِهِ كَسْرُ شَوْكَتِهِمْ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ ، فَإِنَّ دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ قُتِلَ يَوْمَ حُنَيْنٍ ، وَكَانَ ابْنَ مِائَةٍ وَسِتِّينَ سَنَةً وَقَدْ عَمِيَ ، وَكَانَ ذَا رَأْيٍ فِي الْحَرْبِ .

( قَالَ ) وَسَأَلْتُهُ عَنْ أَصْحَابِ الصَّوَامِعِ ، وَالرُّهْبَانِ فَرَأَى قَتْلَهُمْ حَسَنًا ، وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَا يُقْتَلُونَ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، وَقِيلَ لَا خِلَافَ فِي الْحَقِيقَةِ ، فَإِنَّهُمْ إنْ كَانُوا يُخَالِطُونَ النَّاسَ يُقْتَلُونَ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْمُقَاتِلَةَ يَصْدُرُونَ عَنْ رَأْيِهِمْ ، وَهُمْ الَّذِينَ يَحُثُّونَهُمْ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنْ كَانُوا طَيَّنُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ الْبَابَ ، وَلَا يُخَالِطُونَ النَّاسَ أَصْلًا ، فَإِنَّهُمْ لَا يُقْتَلُونَ ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ بِالْفِعْلِ ، وَلَا بِالْحَثِّ عَلَيْهِ ، وَقِيلَ : بَلْ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ فَهُمَا اسْتَدَلَّا بِوَصِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ حَيْثُ قَالَ : وَسَتَلْقَى أَقْوَامًا مِنْ أَصْحَابِ الصَّوَامِعِ ، وَالرُّهْبَانِ زَعَمُوا أَنَّهُمْ فَرَّغُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْعِبَادَةِ فَدَعْهُمْ وَمَا فَرَّغُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ ، وَالْقَتْلُ لِدَفْعِ الْقِتَالِ فَكَانُوا هُمْ فِي ذَلِكَ كَالنِّسَاءِ ، وَالصِّبْيَانِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : هَؤُلَاءِ مِنْ أَئِمَّةِ الْكُفْرِ قَالَ تَعَالَى { فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ } فَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُمْ فَرَّغُوا أَنْفُسَهُمْ لِلْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ ، وَالِاشْتِغَالِ بِمَا يُمْنَعُ عَنْهُ فِي الْإِسْلَامِ ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّاسَ يَقْتَدُونَ بِهِمْ فَهُمْ يَحْثُونَ النَّاسَ عَلَى الْقِتَالِ فِعْلًا ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَحُثُّونَهُمْ عَلَى ذَلِكَ قَوْلًا ، وَلِأَنَّهُمْ بِمَا صَنَعُوا لَا تَخْرُجُ بِنِيَّتِهِمْ مِنْ أَنْ تَكُونَ صَالِحَةً لِلْمُحَارَبَةِ ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَشْتَغِلُونَ بِالْمُحَارَبَةِ كَالْمَشْغُولِينَ بِالتِّجَارَةِ وَالْحِرَاثَةِ مِنْهُمْ ، بِخِلَافِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ .

( قَالَ ) وَسَأَلْته عَنْ الرَّجُلِ يَأْسِرُ الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ الْعَدُوِّ هَلْ يَقْتُلُهُ أَوْ يَأْتِي بِهِ الْإِمَامَ .
؟ قَالَ : أَيُّ ذَلِكَ فَعَلَ فَحَسَنٌ ؛ لِأَنَّ بِالْأَسْرِ مَا تَسْقُطُ الْإِبَاحَةُ مِنْ دَمِهِ حَتَّى يُبَاحَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ فَكَذَلِكَ يُبَاحُ لِمَنْ أَسَرَهُ كَمَا قَبْلُ أَخْذُهُ وَلَمَّا قُتِلَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ بَعْدَ مَا أُسِرَ يَوْمَ بَدْرٍ لَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُ ، وَإِنْ أُتِيَ بِهِ الْإِمَامُ فَهُوَ أَقْرَبُ إلَى تَعْظِيمِ حُرْمَةِ الْإِمَامِ ، وَالْأَوَّلُ أَقْرَبُ إلَى إظْهَارِ الشِّدَّةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ، وَكَسْرِ شَوْكَتِهِمْ فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتَارَ مِنْ ذَلِكَ مَا يَعْلَمُهُ أَنْفَعَ وَأَفْضَلَ لِلْمُسْلِمِينَ .

( قَالَ ) وَسَأَلْتُهُ عَنْ الرَّجُلِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ يَقْتُلُهُ الْمُسْلِمُونَ هَلْ يَبِيعُونَ جِيفَتَهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ قَالَ : لَا بَأْسَ فِي ذَلِكَ بِدَارِ الْحَرْبِ فِي غَيْرِ عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَكْرَهُ ذَلِكَ ، وَأَنْهَى عَنْهُ ، وَأَصْلُ الْخِلَافِ فِي عُقُودِ الرِّبَا بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ ، وَأَشَارَ إلَى الْمَعْنَى هَهُنَا فَقَالَ : أَمْوَالُ أَهْلِ الْحَرْبِ تَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ بِالْغَصْبِ فَبِطِيبِ أَنْفُسِهِمْ أَوْلَى ، مَعْنَاهُ أَنَّ غَيْرَ عَسْكَرِ الْمُسْلِمِينَ لَا أَمَانَ لَهُمْ فِي الْمَالِ الَّذِي جَاءُوا بِهِ ، فَإِنَّ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَأْخُذُوهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَا يَكُونُ هَذَا أَخْذًا بِسَبَبِ بَيْعِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ بَلْ بِطَرِيقِ الْغَنِيمَةِ ، وَلِهَذَا يُخَمَّسُ وَيُقَسَّمُ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمْ عَلَى طَرِيقِ الْغَنِيمَةِ .

وَسَأَلْتُهُ عَنْ الْمُسْلِمِينَ يَسْتَعِينُونَ بِأَهْلِ الشِّرْكِ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ قَالَ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إذَا كَانَ حُكْمُ الْإِسْلَامِ هُوَ الظَّاهِرُ الْغَالِبُ ؛ لِأَنَّ قِتَالَهُمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لِإِعْزَازِ الدِّينِ ، وَالِاسْتِعَانَةُ عَلَيْهِمْ بِأَهْلِ الشِّرْكِ كَالِاسْتِعَانَةِ بِالْكِلَابِ ، وَلَكِنْ يُرْضَخُ لِأُولَئِكَ ، وَلَا يُسْهَمُ ؛ لِأَنَّ السَّهْمَ لِلْغُزَاةِ ، وَالْمُشْرِكُ لَيْسَ بِغَازٍ ، فَإِنَّ الْغَزْوَ عِبَادَةٌ ، وَالْمُشْرِكُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا ، وَأَمَّا الرَّضْخُ لِتَحْرِيضِهِمْ عَلَى الْإِعَانَةِ إذَا احْتَاجَ الْمُسْلِمُونَ إلَيْهِمْ بِمَنْزِلَةِ الرَّضْخِ لِلْعَبِيدِ وَالنِّسَاءِ .

( قَالَ ) وَسَأَلْتُهُ عَنْ الْأَسِيرِ يُقْتَلُ أَوْ يُفَادَى قَالَ لَا يُفَادَى ، وَلَكِنَّهُ يُقْتَلُ أَوْ يُجْعَلُ فَيْئًا أَيُّ ذَلِكَ كَانَ خَيْرًا لِلْمُسْلِمِينَ فَعَلَهُ الْإِمَامُ .

وَالْكَلَامُ هَهُنَا فِي فُصُولٍ : ( أَحَدُهَا : ) مُفَادَاةُ الْأَسِيرِ بِمَالٍ يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَجُوزُ بِالْمَالِ الْعَظِيمِ ، وَذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ إذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ حَاجَةٌ إلَى الْمَالِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْأُسَارَى بِدَلِيلِ أَوَّلِ الْآيَةِ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ { ، وَلَمَّا شَاوَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فِي الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ أَشَارَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْمُفَادَاةِ ، فَمَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى ذَلِكَ } لَمَّا رَأَى مِنْ حَاجَةِ أَصْحَابِهِ إلَى الْمَالِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ اسْتِرْقَاقَ الْأَسِيرِ جَائِزٌ ، وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ حَيْثُ الْمَالِ ، فَإِذَا فَادُوهُ بِمَالٍ عَظِيمٍ فَمَنْفَعَةُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ حَيْثُ الْمَالِ فِي ذَلِكَ أَظْهَرُ فَيَجُوزُ ذَلِكَ ، وَلَا يَجُوزُ قَتْلُهُ ، وَفِيهِ إبْطَالُ الْغَانِمِينَ عَنْهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، فَلَأَنْ يَجُوزُ بِعِوَضٍ ، وَهُوَ الْمَالُ الَّذِي يُفَادَى بِهِ كَانَ أَوْلَى .
( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ قَتْلَ الْمُشْرِكِ عِنْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ فَرْضٌ مُحْكَمٌ ، وَفِي الْمُفَادَاةِ تَرْكُ إقَامَةِ هَذَا الْفَرْضِ ، وَسُورَةُ بَرَاءَةٍ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ فَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَاضِيَةً عَلَى قَوْله تَعَالَى { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } عَلَى مَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُفَادَاةِ الْأُسَارَى يَوْمَ بَدْرٍ كَيْفَ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى { لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَوْ نَزَلَ الْعَذَابُ مَا نَجَا مِنْهُ إلَّا عُمَرَ } ، فَإِنَّهُ

كَانَ أَشَارَ بِقَتْلِهِمْ وَاسْتَقْصَى فِي ذَلِكَ ، وَقَالَ تَعَالَى : { وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إخْرَاجُهُمْ } فَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ فَفَائِدَتُنَا أَنْ لَا نَفْعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلُوا ، وَحَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْأَسِيرِ حَيْثُ قَالَ لَا تُفَادُوهُ ، وَإِنْ أُعْطِيتُمْ بِهِ مُدَّيْنِ مِنْ ذَهَبٍ ، وَلِأَنَّهُ صَارَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا فَلَا يَجُوزُ إعَادَتُهُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ لِيَكُونَ حَرْبًا عَلَيْنَا بِمَالٍ يُؤْخَذُ مِنْهُ كَأَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَبِهِ فَارَقَ الِاسْتِرْقَاقَ ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَقْرِيرَ كَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا لَا لِمَقْصُودِ الْمَالِ كَأَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، وَلِأَنَّ تَخْلِيَةَ سَبِيلِ الْمُشْرِكِ لِيَعُودَ حَرْبًا لِلْمُسْلِمِينَ مَعْصِيَةٌ ، وَارْتِكَابُ الْمَعْصِيَةِ لِمَنْفَعَةِ الْمَالِ لَا يَجُوزُ ، وَقَتْلُ الْمُشْرِكِ فَرْضٌ ، وَلَوْ أَعْطَوْنَا مَالًا لِتَرْكِ الصَّلَاةِ لَا يَجُوزُ لَنَا أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ مَعَ الْحَاجَةِ إلَى الْمَالِ فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَرْكُ قَتْلِ الْمُشْرِكِ بِالْمُفَادَاةِ ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ فِي هَذَا تَقْوِيَةَ الْمُشْرِكِينَ بِمَعْنًى يَخْتَصُّ بِالْقِتَالِ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِمَنْفَعَةِ الْمَالِ كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ مِنْهُمْ بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ قُوَّةَ الْقِتَالِ بِالْمُقَاتِلِ أَظْهَرُ مِنْهُ بِآلَةِ الْقِتَالِ ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : لَا يَجُوزُ الْمُفَادَاةُ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ الَّذِي لَا يُرْجَى لَهُ نَسْلٌ ، وَلَا رَأْيَ لَهُ فِي الْحَرْبِ بِالْمَالِ ؛ لِأَنَّ مِثْلَهُ لَا يُقْتَلُ ، وَلَيْسَ فِي الْمُفَادَاةِ تَرْكُ الْقَتْلِ الْمُسْتَحَقِّ ، وَلَا تَقْوِيَةُ الْمُشْرِكِينَ بِإِعَادَةِ الْمُقَاتِلِ إلَيْهِمْ فَهُوَ كَبَيْعِ الطَّعَامِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَمْوَالِ مِنْهُمْ .

فَأَمَّا مُفَادَاةُ الْأَسِيرِ بِالْأَسِيرِ لَا يَجُوزُ فِي أَظْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّهُ جَوَّزَ ذَلِكَ ، وَهُوَ قَوْلُهُمَا ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا تَخْلِيصَ الْمُسْلِمِ مِنْ عَذَابِ الْمُشْرِكِينَ وَالْفِتْنَةِ فِي الدِّينِ ، وَذَلِكَ جَائِزٌ كَمَا تَجُوزُ الْمُفَادَاةُ فِي أُسَارَى الْمُسْلِمِينَ بِمَالٍ مِنْ كُرَاعٍ أَوْ سِلَاحٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ قَتْلَ الْمُشْرِكِينَ فَرْضٌ مُحْكَمٌ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ بِالْمُفَادَاةِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ إذْ اُبْتُلِيَ الْأَسِيرُ الْمُسْلِمُ بِعَذَابٍ أَوْ فِتْنَةٍ مِنْ جِهَتِهِمْ فَذَلِكَ لَا يَكُونُ مُضَافًا إلَى فِعْلِ الْمُسْلِمِ ، وَإِذَا خَلَّيْنَا سَبِيلَ الْمُشْرِكِ لِيَعُودَ حَرْبًا لَنَا فَذَلِكَ بِفِعْلٍ مُضَافٍ إلَيْنَا فَمُرَاعَاةُ هَذَا الْجَانِبِ أَوْلَى ، وَهَذَا لِأَنَّا أُمِرْنَا بِبَذْلِ النُّفُوسِ وَالْأَمْوَالِ لِنَتَوَصَّلَ إلَى قَتْلِهِمْ ، فَبَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ تَرْكُهُ لِلْخَوْفِ عَلَى الْأَسِيرِ الْمُسْلِمِ ، وَلِأَنَّ أَسِيرَهُمْ صَارَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيِّ ، فَكَمَا لَا يَجُوزُ إعَادَةُ الذِّمِّيِّ إلَيْهِمْ بِطَرِيقِ الْمُفَادَاةِ بِأَسِيرِ الْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ بِأَسِيرِهِمْ ، وَيَسْتَوِي إنْ طَلَبَ مُفَادَاةَ أَسِيرٍ أَوْ أَسِيرَيْنِ بِأَسِيرٍ مِنْهُمْ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُمْ إنَّمَا يَطْلُبُونَ ذَلِكَ لِقُوَّةِ قِتَالِ ذَلِكَ الْأَسِيرِ ، وَفِي الْمُفَادَاةِ تَقْوِيَتُهُمْ عَلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ مُمْتَنِعٌ شَرْعًا ، ثُمَّ قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَجُوزُ الْمُفَادَاةُ بِالْأَسِيرِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ، وَلَا يَجُوزُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ ؛ لِأَنَّ قَبْلَ الْقِسْمَةِ لَمْ يَتَقَرَّرْ كَوْنُهُ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا حَتَّى كَانَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ ذَلِكَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ حَتَّى لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الَّذِي بَعْدَ الْقِسْمَةِ ، وَجَعَلَ قَوْلَهُ { حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا }

كِنَايَةً عَنْ الْقِسْمَةِ ؛ لِأَنَّ تَحَقُّقَهُ يَكُونُ عِنْدَ ذَلِكَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُجَوِّزُ الْمُفَادَاةَ بِالْأَسِيرِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ جَوَّزْنَا ذَلِكَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ الْحَاجَةُ إلَى تَخْلِيصِ الْمُسْلِمِ مِنْ عَذَابِهِمْ ، وَهَذَا مَوْجُودٌ بَعْدَ الْقِسْمَةِ ، وَحَقُّهُمْ فِي الِاسْتِرْقَاقِ ثَابِتٌ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ، وَقَدْ صَارَ بِذَلِكَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا ، ثُمَّ تَجُوزُ الْمُفَادَاةُ بِهِ لِهَذِهِ الْحَاجَةِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْقِسْمَةِ ، وَقَالَ : لَوْ انْفَلَتَتْ إلَيْهِمْ دَابَّةُ مُسْلِمٍ فَأَخَذُوهَا فِي دَارِهِمْ ، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا أَخَذَهَا صَاحِبُهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ ، وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ بِالْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَ لِلدَّابَّةِ فِي نَفْسِهَا فَتَحَقَّقَ إحْرَازُ الْمُشْرِكِينَ إيَّاهَا بِالْأَخْذِ فِي دَارِهِمْ ، بِخِلَافِ الْآبِقِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ بَيَّنَّاهُ .

وَإِنْ خَرَجَ رَجُلٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِمَالِ أَصَابَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِيَبِيعَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا سَبِيلَ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ عَلَيْهِ كَمَا لَوْ أَسْلَمَ أَوْ صَارَ ذِمِّيًّا ؛ لِأَنَّا أَعْطَيْنَاهُ الْأَمَانَ فِيمَا مَعَهُ مِنْ الْمَالِ ، وَفِي أَخْذِ ذَلِكَ مِنْهُ تَرْكُ الْوَفَاءِ بِالْأَمَانِ إلَّا فِي الْعَبْدِ الْآبِقِ ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : يَأْخُذُهُ مَوْلَاهُ حَيْثُ مَا وَجَدَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوهُ ، وَإِنَّمَا أَعْطَيْنَاهُ الْأَمَانَ فِيمَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ .

وَإِذَا أَسَرَ الْمُشْرِكُونَ جَارِيَةً لِمُسْلِمٍ فَأَحْرَزُوهَا ، ثُمَّ اشْتَرَاهَا مِنْهُمْ مُسْلِمٌ فَعَمِيَتْ عِنْدَهُمْ لَمْ يَكُنْ لِمَوْلَاهَا أَنْ يَأْخُذَهَا إلَّا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا أَعْلَمُ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ الَّذِي يُعْطِيهِ الْمَالِكُ الْقَدِيمُ فِدَاءً ، وَلَيْسَ بِبَدَلٍ ، وَالْفِدَاءُ بِمُقَابَلَةِ الْأَصْلِ دُونَ الْوَصْفِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ الْجَانِيَ إذَا عَمِيَ عِنْدَ مَوْلَاهُ وَاخْتَارَ الْفِدَاءَ لَزِمَهُ الْفِدَاءُ بِجَمِيعِ الدِّيَةِ ، وَلِأَنَّ الْمَوْلَى إذَا اخْتَارَ الْأَخْذَ بِالثَّمَنِ يَصِيرُ الْمُشْتَرِي كَالْمَأْمُورِ مِنْ جِهَتِهِ بِالشِّرَاءِ لَهُ ، وَلَوْ كَانَ أَمْرُهُ بِذَلِكَ فَعَمِيَتْ عِنْدَهُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ فَهَذَا مِثْلُهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قُطِعَتْ يَدُهَا فَأَخَذَ الْمُشْتَرِي أَرْشَهَا ، فَإِنَّ مَوْلَاهَا يَأْخُذُهَا دُونَ الْأَرْشِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ الْأَرْشَ دَرَاهِمُ ، وَدَنَانِيرُ وَهِيَ لَا تُفْدَى ، فَإِذَا كَانَ حَقُّ الْمَوْلَى فِي الْأَرْشِ لَا يَثْبُتُ كَانَ هَذَا فِي حَقِّهِ ، وَمَا لَوْ سَقَطَتْ الْيَدُ بِآفَةٍ سَوَاءٌ فَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الْفِدَاءِ عَنْ الْمَوْلَى بِسَلَامَةِ الْأَرْشِ لِلْمُشْتَرِي .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ كَانَ هُوَ الَّذِي قَطَعَ يَدَهَا أَوْ فَقَأَ عَيْنَهَا لَمْ يَنْتَقِصُ شَيْءٌ مِنْ الْفِدَاءِ بِاعْتِبَارِهِ ، فَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرُهُ ؛ لِأَنَّ سَلَامَةَ الْبَدَلِ كَسَلَامَةِ الْأَصْلِ ، وَبِهِ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الشُّفْعَةِ ، فَإِنَّ هُنَاكَ لَوْ هَدَمَ الْمُشْتَرِي شَيْئًا مِنْ الْبِنَاءِ سَقَطَ عَنْ الشَّفِيعِ حِصَّتُهُ مِنْ الثَّمَنِ فَكَذَا إذَا فَعَلَهُ غَيْرُهُ يَسْلَمُ لِلْمُشْتَرِي بَدَلُهُ ، وَهَذَا لِأَنَّ مَا يُعْطِيهِ الشَّفِيعُ بَدَلٌ ، وَمَا صَارَ مَقْصُودًا مِنْ الْأَوْصَافِ يَكُونُ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الْبَدَلِ كَمَا لَوْ فَقَأَ الْبَائِعُ عَيْنَ الْمَبِيعَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَكَذَلِكَ إنْ وَلَدَتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي

فَأَعْتَقَ الْمُشْتَرِي الْأُمَّ أَوْ الْوَلَدَ أَخَذَ الْبَاقِيَ مِنْهُمَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ الْوَلَدَ فَاخْتَارَ الْأَخْذَ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْأُمَّ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مِنْ الْأَصْلِ فَإِتْلَافُ الْوَلَدِ كَإِتْلَافِ جُزْءٍ مِنْهَا ، وَإِذَا بَقِيَ الْوَلَدُ فَبَقَاءُ الْجُزْءِ فِي حُكْمِ الْفِدَاءِ كَبَقَاءِ الْأَصْلِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْخِلَافَ هَهُنَا فِيمَا إذَا أَتْلَفَ الْأُمَّ ، وَبَقِيَ الْوَلَدُ ، وَفِي ذَلِكَ اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ ، وَقَدْ قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الْجَامِعِ .

وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا بَاعَ أَمَةً مِنْ رَجُلٍ فَلَمْ يَقْبِضْهَا الْمُشْتَرِي ، وَلَمْ يَنْقُدْ الثَّمَنَ حَتَّى أَسَرَهَا أَهْلُ الْحَرْبِ فَاشْتَرَاهَا مِنْهُمْ رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ لِلْمُشْتَرِي عَلَيْهَا سَبِيلٌ حَتَّى يَأْخُذَهَا الْبَائِعُ ؛ لِأَنَّ قَبْلَ الْأَسْرِ كَانَ الْبَائِعُ أَحَقَّ بِهَا لِيَحْبِسَهَا بِالثَّمَنِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْأَسْرِ هُوَ أَحَقُّ بِأَنْ يَأْخُذَهَا بِالثَّمَنِ لِيُعِيدَ حَقَّهُ فِي الْحَبْسِ ، وَإِذَا أَخَذَهَا بِالثَّمَنِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَهَا بِالثَّمَنَيْنِ جَمِيعًا الثَّمَنِ الْأَوَّلِ الَّذِي اشْتَرَاهَا بِهِ وَالثَّانِي الَّذِي افْتَكَّهَا بِهِ ؛ لِأَنَّ قَصْدَهُ بِمَا أَدَّى مِنْ الْفِدَاءِ إحْيَاءُ حَقِّهِ ، وَكَانَ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى إحْيَاءِ حَقِّهِ إلَّا بِذَلِكَ فَلَمْ يَكُنْ مُتَبَرِّعًا فِيمَا أَدَّى .

وَكُلُّ حُرٍّ أَسَرَهُ أَهْلُ الْحَرْبِ ، ثُمَّ أَسْلَمُوا عَلَيْهِ فَهُوَ حُرٌّ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَمْلِكُوهُ بِالْأَسْرِ فَكَانُوا ظَالِمِينَ فِي حَبْسِهِ فَيُؤْمَرُونَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ بِتَخْلِيَةِ سَبِيلِهِ ، وَكَذَلِكَ أُمُّ الْوَلَدِ ، وَالْمُدَبَّرُ ، وَالْمُكَاتَبُ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ لَمْ يَمْلِكُوهُمْ لِمَا ثَبَتَ فِيهِمْ مِنْ حَقِّ الْحُرِّيَّةِ أَوْ الْيَدِ الْمُحْتَرَمَةِ لِلْمُكَاتَبِ فِي نَفْسِهِ ، وَلِهَذَا لَا يُمْلَكُونَ بِالْبَيْعِ فَكَذَلِكَ بِالْأَسْرِ ، وَلَوْ أَنَّ الْحُرَّ أَمَرَ تَاجِرًا فِي دَارِهِمْ فَاشْتَرَاهُ مِنْهُمْ كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِأَنْ يُعْطِيَ مَالَ نَفْسِهِ فِي عَمَلٍ يُبَاشِرُهُ لَهُ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كَمَا لَوْ أَمَرَهُ بِأَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى عِيَالِهِ ، وَالْمُكَاتَبُ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ ، وَأَمْرُهُ بِالْفِدَاءِ صَحِيحٌ فِي كَسْبِهِ كَأَمْرِ الْحُرِّ ، وَأَمَّا الْمُدَبَّرُ ، وَأُمُّ الْوَلَدِ ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِمَا بِالثَّمَنِ إذَا أَعْتَقَا ؛ لِأَنَّ كَسْبَهُمَا مِلْكُ مَوْلَاهُمَا ، وَأَمْرُهُمَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي حَقِّ الْمَوْلَى ، وَلَكِنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّهِمَا فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ كَفَالَةٍ أَوْ إقْرَارٍ مِنْهُمَا بِمَالٍ فَيُؤْخَذَانِ بِهِ بَعْدَ الْعِتْقِ ، وَإِنْ اشْتَرَاهُمْ بِغَيْرِ أَمْرِهِمْ لَمْ يَمْلِكْهُمْ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لَهُمْ فَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي لَا يَمْلِكُهُمْ ، وَبَطَلَ مَالُهُ ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فِيمَا فَدَى بِهِ غَيْرُ مُجْبَرٍ عَلَى ذَلِكَ شَرْعًا ، وَلَا مَأْمُورَ بِهِ مِنْ جِهَةِ مَنْ حَصَلَتْ لَهُ الْمَنْفَعَةُ فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ كَمَا لَوْ أَنْفَقَ عَلَى عِيَالِ رَجُلٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ .

وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا حُرًّا أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَشْتَرِيَ حُرًّا مِنْ دَارٍ الْحَرْبِ بِعَيْنِهِ بِمَالِ سَمَّاهُ فَاشْتَرَاهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْحُرِّ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِمَا فَعَلَ ، وَكَانَ لِلْمَأْمُورِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الَّذِي أَمَرَهُ إنْ كَانَ ضَمِنَ لَهُ الثَّمَنَ أَوْ قَالَ اشْتَرِهِ لِي ؛ لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَهُ ، وَضَمِنَ لَهُ مَا يُؤَدِّي مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَالَ لَهُ اشْتَرِهِ لِنَفْسِهِ ، وَاحْتَسِبْ فِيهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ أَشَارَ عَلَيْهِ بِمَا هُوَ تَبَرُّعٌ ، وَإِحْسَانٌ ، وَلَمْ يَسْتَعْمِلْهُ وَلَا ضَمِنَ لَهُ شَيْئًا ، وَالرُّجُوعُ عَلَيْهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ يَكُونُ .

وَإِذَا اشْتَرَى مِنْ الْمُشْرِكِينَ عَبْدًا كَانُوا أَسَرُوهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَرَهَنَهُ الْمُشْتَرِي ، ثُمَّ جَاءَ مَوْلَاهُ الْأَوَّلُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ سَبِيلٌ حَتَّى يَفْتَكَّهُ الرَّاهِنُ ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ بِعَقْدِ الرَّهْنِ أَوْجَبَ الْحَقَّ لِلْمُرْتَهِنِ فِي مَالِيَّتِهِ ، وَصَحَّ ذَلِكَ مِنْهُ بِمُصَادَفَةِ تَصَرُّفِهِ مِلْكَهُ ، وَلَا يَتَمَكَّنُ الْمَوْلَى مِنْ أَخْذِهِ مِنْ الْمُرْتَهِنِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ لَهُ ، وَلَا مِنْ الرَّاهِنِ قَبْلَ الْفِكَاكِ لِقُصُورِ يَدِهِ عَنْهُ بِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ ، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِأَدَاءِ الدَّيْنِ ، ثُمَّ يُعْطِيَ الرَّاهِنَ الثَّمَنَ فَذَلِكَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَوْصَلَ إلَى الْمُرْتَهِنِ حَقَّهُ ، وَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فِي الدَّيْنِ الَّذِي أَدَّى ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِقَضَاءِ الدَّيْنِ عَنْ الْغَيْرِ ، وَلِأَنَّهُ فَادَى مِلْكَ الْغَيْرِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْبَائِعِ ، فَإِنَّهُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِكِ يَدًا ، وَإِنَّمَا فَادَى حَقًّا لَهُ ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ هُنَاكَ لَا طَرِيقَ لَهُ فِي التَّوَصُّلِ إلَى إحْيَاءِ حَقِّهِ إلَّا بِمَا أَدَّى مِنْ الْفِدَاءِ فَلَا يُجْعَلُ مُتَبَرِّعًا فِيهِ ، وَهَهُنَا لِلْمَوْلَى الْقَدِيمِ طَرِيقٌ إلَى ذَلِكَ بِدُونِ قَضَاءِ الدَّيْنِ ، وَهُوَ أَنْ يَصْبِرَ حَتَّى يَفْتَكَّ الرَّاهِنُ فَيَأْخُذُهُ حِينَئِذٍ ( قَالَ ) ، وَلَا يُجْبَرُ الرَّاهِنُ عَلَى افْتِكَاكِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِحْيَاءَ لِحَقٍّ ثَابِتٍ فِي الْعَيْنِ فِي الْحَالِ ، وَلَا حَقَّ لِلْمَوْلَى الْقَدِيمِ فِي الْأَخْذِ مَا لَمْ يَسْقُطْ حَقُّ الْمُرْتَهِنِ ، فَلِهَذَا لَا يُجْبَرُ عَلَى افْتِكَاكِهِ ، وَلَوْ كَانَ أَجَّرَهُ الْمُشْتَرِي إجَارَةً كَانَ لِمَوْلَاهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالثَّمَنِ ، وَيُبْطِلَ الْإِجَارَةَ فِيمَا بَقِيَ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ عَقْدٌ ضَعِيفٌ يُنْقَضُ بِالْعُذْرِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهَا تُنْقَضُ بِالرَّدِّ بِسَبَبِ فَسَادِ الْبَيْعِ ، وَالرَّدُّ بِالْعَيْبِ بِخِلَافِ الرَّهْنِ فَكَذَلِكَ تُنْقَضُ بِالرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ الْقَدِيمِ بِالثَّمَنِ ، بِخِلَافِ الرَّهْنِ .

وَإِذَا غَلَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ عَلَى قَوْمٍ آخَرِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَاِتَّخَذُوهُمْ عَبِيدًا لِلْمَلِكِ ، ثُمَّ إنَّ الْمَلِكَ وَأَهْلَ أَرْضِهِ أَسْلَمُوا أَوْ صَارُوا ذِمَّةً فَأُولَئِكَ الْمَغْلُوبُونَ عَبِيدٌ لَهُ يَصْنَعُ بِهِمْ مَا شَاءَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُمْ نُهْبَةٌ ، فَالْمَقْهُورُونَ مِنْهُمْ صَارُوا مَمْلُوكِينَ لِلْقَاهِرِ بِإِحْرَازِهِ إيَّاهُمْ بِمَنَعَتِهِ ؛ لِأَنَّ قَهْرَهُ بِاَلَّذِينَ هُمْ جُنْدُهُ يُطِيعُونَهُ كَقَهْرِهِ بِنَفْسِهِ ، وَأَمَّا جُنْدُهُ الَّذِينَ غَلَبَ بِهِمْ فَهُمْ أَحْرَارٌ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ قَاهِرًا بِهِمْ لَا لَهُمْ فَكَانُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ أَحْرَارًا ، وَبِالْإِسْلَامِ تَتَأَكَّدُ حُرِّيَّتُهُمْ ، وَلَا تَبْطُلُ ، وَإِنْ حَضَرَ الْمَلِكَ الْمَوْتُ فَوَرَّثَ مَالَهُ بَعْضُ بَنِيهِ دُونَ بَعْضٍ أَوْ جَعَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ بَنِيهِ مَوْضِعًا مَعْلُومًا ، فَإِنْ كَانَ صَنَعَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ أَوْ يَصِيرَ ذِمَّةً ثُمَّ أَسْلَمَ ، وَلَدُهُ بَعْدَهُ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا صَنَعَ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ الَّذِي مَلَكَهُ أَبُوهُ صَارَ قَاهِرًا مَالِكًا لِمَا أَعْطَاهُ ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ بِقُوَّتِهِ بِنَفْسِهِ أَوْ أَتْبَاعِهِ كَانَ يَتِمُّ مِلْكُهُ فَكَذَلِكَ إذَا فَعَلَهُ بِقُوَّةِ أَبِيهِ وَمَنَعَتِهِ ، وَمَا كَانَ هُوَ مَالِكًا لَهُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ فَبِالْإِسْلَامِ يَتَأَكَّدُ مِلْكُهُ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فَعَلَهُ وَهُوَ مُوَادِعٌ لِلْمُسْلِمِينَ جَازَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ بِالْمُوَادَعَةِ لَا تَخْرُجُ أَمْوَالُهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ نُهْبَةً تُمْلَكُ بِالْقَهْرِ ، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ عَلَيْنَا أَخْذُهُ لِمَعْنَى الْغَدْرِ ، وَهَذَا لِأَنَّ بِالْمُوَادَعَةِ لَا يَصِيرُ مُحْرِزًا لَهُ ، فَإِنَّ دَارِهِ لَا تَصِيرُ دَارَ الْإِسْلَامِ ، فَكَانَ مَا فَعَلَهُ بَعْدَ الْمُوَادَعَةِ مِنْ تَخْصِيصِ بَعْضِ الْأَوْلَادِ بِتَمْلِيكِ الْمَالِ مِنْهُ كَالْمَفْعُولِ قَبْلَ الْمُوَادَعَةِ ، وَلِأَنَّهُ مَا الْتَزَمَ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ ، وَالْمَنْعُ مِنْ إيثَارِ بَعْضِ الْأَوْلَادِ عَلَى الْبَعْضِ مِنْ حُكْمِ الْإِسْلَام ، وَإِنْ كَانَ جَعَلَهُ لِابْنِهِ فَظَهَرَ

عَلَيْهِ ابْنٌ آخَرُ لَهُ بَعْدَهُ فَقَتَلَهُ أَوْ نَفَاهُ ، وَغَلَبَ عَلَى مَا فِي يَدِهِ ، ثُمَّ أَسْلَمَ كَانَ لِلِابْنِ الْقَاهِرِ مَا غَلَبَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ بِالْقَهْرِ يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا عَلَيْهِ ذَلِكَ الْمَالَ لِبَقَائِهِ عَلَى الْإِبَاحَةِ بَعْدَ الْمُوَادَعَةِ فِي حَقِّ مَا بَيْنَهُمْ ، فَإِنَّ فَعَلَ ذَلِكَ هَذَا الِابْنُ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ الِابْنُ الْمَقْهُورُ أَوْ صَارَ ذِمَّةً غَلَبَهُ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ ، وَأَخْرَجَ مِنْهُ أَخَاهُ ، فَإِنَّ صَنَعَهُ وَهُوَ مُحَارِبٌ فَجَمِيعُ مَا غَلَبَهُ عَلَيْهِ لَهُ إنْ أَسْلَمَ أَوْ صَارَ ذِمَّةً ؛ لِأَنَّهُ تَمَّ إحْرَازُهُ لِمَالِ الْمُسْلِمِ أَوْ الذِّمِّيِّ فَيَمْلِكُهُ ، وَيَتَأَكَّدُ مِلْكُهُ بِإِسْلَامِهِ ، وَإِنْ صَنَعَهُ وَهُوَ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ أُمِرَ بِرَدِّ ذَلِكَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُمْ جَمِيعًا مِنْ أَهْلِ دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَمْلِكُ بَعْضُهُمْ مَالَ بَعْضٍ بِالْقَهْرِ .
وَإِنْ صَنَعَ وَهُوَ مُحَارِبٌ ، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ ، فَإِنْ وَجَدَهُ الِابْنُ الْأَوَّلُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ ، وَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِالْقِيمَةِ ، وَإِنْ اشْتَرَاهُ مُسْلِمٌ مِنْهُمْ وَسِعَهُ ذَلِكَ ، وَكَانَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ بِالثَّمَنِ إنْ شَاءَ كَمَا هُوَ الْحُكْمُ فِي أَهْلِ الْحَرْبِ إذَا أَحْرَزُوا مَالَ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنْ كَانَ الِابْنُ الْقَاهِرُ صَنَعَ ذَلِكَ ، وَهُمَا مُسْلِمَانِ أَوْ ذِمِّيَّانِ فَلَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَشْتَرُوا مِنْهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ غَيْرُ مَالِكٍ ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالرَّدِّ ، وَلَا يَسَعُ أَحَدًا أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ، وَإِنْ اشْتَرَاهُ أَخَذَهُ مِنْهُ الْأَوَّلُ بِغَيْرِ ثَمَنٍ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا فَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ لَا يَكُونُ مَالِكًا بَلْ يُؤْمَرُ بِرَدِّهِ عَلَى الْمَالِكِ مَجَّانًا ، وَإِنْ ارْتَدَّ هَذَا الِابْنُ الْقَاهِرُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَمَنَعَ الدَّارَ ، وَأَجْرَى حُكْمَ الشِّرْكِ فِي دَارِهِ فَقَدْ تَمَّ إحْرَازُهُ ، وَصَارَتْ دَارُهُ دَارَ حَرْبٍ عِنْدَهُمَا

بِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الشِّرْكِ فِيهَا ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالشَّرَائِطِ الثَّلَاثَةِ كَمَا بَيَّنَّا ، فَإِنَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تِلْكَ الدَّارِ بَعْدَ ذَلِكَ أَخَذَ الِابْنُ الْمَقْهُورُ مَا وَجَدَ مِنْ مَالِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ ، وَمَا وَجَدَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ بِالْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ مَالُ مُسْلِمٍ أَحْرَزَهُ أَهْلُ الْحَرْبِ بِدَارِهِمْ ، ثُمَّ ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْحُكْمَ فِيهِ فِيمَا سَبَقَ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
انْتَهَى شَرْحُ السِّيَرِ الصَّغِيرِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى مَعْنًى أَثِيرٍ بِإِمْلَاءِ الْمُتَكَلِّمِ بِالْحَقِّ الْمُنِيرِ الْمَحْصُورِ لِأَجْلِهِ شَبَهُ الْأَسِيرِ الْمُنْتَظِرِ لِلْفَرَجِ مِنْ الْعَالِمِ الْقَدِيرِ السَّمِيعِ الْبَصِيرِ الْمُصَلِّي عَلَى الْبَشِيرِ الشَّفِيعِ لِأُمَّتِهِ النَّذِيرِ ، وَعَلَى كُلِّ صَاحِبٍ لَهُ وَوَزِيرٍ ، وَاَللَّهُ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِير .

كِتَابُ الِاسْتِحْسَانِ ( قَالَ ) : الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ الْأُسْتَاذُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ كَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ يَقُولُ : الِاسْتِحْسَانُ تَرْكُ الْقِيَاسِ وَالْأَخْذُ بِمَا هُوَ أَوْفَقُ لِلنَّاسِ وَقِيلَ : الِاسْتِحْسَانُ طَلَبُ السُّهُولَةِ فِي الْأَحْكَامِ فِيمَا يُبْتَلَى فِيهِ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ وَقِيلَ : الْأَخْذُ بِالسَّعَةِ وَابْتِغَاءُ الدَّعَةِ وَقِيلَ : الْأَخْذُ بِالسَّمَاحَةِ وَابْتِغَاءُ مَا فِيهِ الرَّاحَةُ وَحَاصِلُ هَذِهِ الْعِبَارَاتِ أَنَّهُ تَرْكُ الْعُسْرِ لِلْيُسْرِ وَهُوَ أَصْلٌ فِي الدِّينِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَيْرُ دِينِكُمْ الْيُسْرُ } { وَقَالَ لِعَلِيٍّ وَمُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا حِينَ وَجَّهَهُمَا إلَى الْيَمَنِ يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا قَرِّبَا وَلَا تُنَفِّرَا وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا إنَّ الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ وَلَا تُبَغِّضُوا عِبَادَ اللَّهِ عِبَادَةَ اللَّهِ فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى } وَالْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ فِي الْحَقِيقَةِ قِيَاسَانِ : أَحَدُهُمَا جَلِيٌّ ضَعِيفٌ أَثَرُهُ فَسُمِّيَ قِيَاسًا وَالْآخَرُ خَفِيٌّ قَوِيٌّ أَثَرُهُ فَسُمِّيَ اسْتِحْسَانًا أَيْ قِيَاسًا مُسْتَحْسَنًا فَالتَّرْجِيحُ بِالْأَثَرِ لَا بِالْخَفَاءِ وَالظُّهُورِ كَالدُّنْيَا مَعَ الْعُقْبَى فَإِنَّ الدُّنْيَا ظَاهِرَةٌ وَالْعُقْبَى بَاطِنَةٌ وَتَرَجَّحَتْ بِالصَّفَاءِ وَالْخُلُودِ وَقَدْ يَقْوَى أَثَرُ الْقِيَاسِ فِي بَعْضِ الْفُصُولِ فَيُؤْخَذُ بِهِ وَهُوَ نَظِيرُ الِاسْتِدْلَالِ مَعَ الطَّرْدِ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ وَالِاسْتِدْلَالُ بِالْمُؤَثِّرِ أَقْوَى مِنْهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ حَسَنٌ ثُمَّ أَمَرَ بِاتِّبَاعِ الْأَحْسَنِ وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ قَرْنِهَا إلَى قَدَمِهَا عَوْرَةٌ هُوَ الْقِيَاسُ

الظَّاهِرُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ { : الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ مَسْتُورَةٌ } ثُمَّ أُبِيحَ النَّظَرُ إلَى بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِنْهَا لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ فَكَانَ ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا لِكَوْنِهِ أَرْفَقَ بِالنَّاسِ كَمَا قُلْنَا

وَالْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ ذَكَرَ مَسَائِلَ هَذَا الْكِتَابِ وَسَمَّاهُ كِتَابَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ مَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنْ الْمَسِّ وَالنَّظَرِ وَلَوْ سَمَّاهُ كِتَابَ الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ كَانَ مُسْتَقِيمًا لِأَنَّهُ بَيَّنَ فِيهِ غَضَّ الْبَصَرِ وَمَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ مِنْ الْمَسِّ وَالنَّظَرِ وَهَذَا هُوَ الزُّهْدُ وَالْوَرَعُ ثُمَّ بَدَأَ الْكِتَابَ بِمَسَائِلِ النَّظَرِ وَهُوَ يَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ نَظَرُ الرَّجُلِ إلَى الرَّجُلِ وَنَظَرُ الْمَرْأَةِ إلَى الْمَرْأَةِ وَالْمَرْأَةِ إلَى الرَّجُلِ وَالرَّجُلِ إلَى الْمَرْأَةِ ، أَمَّا بَيَانُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى الرَّجُلِ إلَّا إلَى عَوْرَتِهِ وَعَوْرَتُهُ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ حَتَّى يُجَاوِزَ رُكْبَتَيْهِ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : عَوْرَةُ الرَّجُلِ مَا بَيْنَ سُرَّتِهِ إلَى رُكْبَتِهِ } وَفِي رِوَايَةٍ { مَا دُونَ سُرَّتِهِ حَتَّى يُجَاوِزَ رُكْبَتِهِ } وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ السُّرَّةَ لَيْسَتْ مِنْ الْعَوْرَةِ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ أَبُو عِصْمَةَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ أَنَّهُ أَحَدُ حَدَّيْ الْعَوْرَةِ فَيَكُونُ مِنْ الْعَوْرَةِ كَالرُّكْبَةِ بَلْ هُوَ أَوْلَى لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الِاشْتِهَاءِ فَوْقَ الرُّكْبَةِ .
( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ إذَا اتَّزَرَ أَبْدَى عَنْ سُرَّتِهِ { وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ لِلْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَرِنِي الْمَوْضِعَ الَّذِي كَانَ يُقَبِّلُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْك فَأَبْدَى عَنْ سُرَّتِهِ فَقَبَّلَهَا أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ } وَالتَّعَامُلُ الظَّاهِرُ فِيمَا بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُمْ إذَا اتَّزَرُوا فِي الْحَمَّامَاتِ أَبْدَوْا عَنْ السُّرَّةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ مُنْكِرٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ فَأَمَّا مَا دُونَ السُّرَّةِ عَوْرَةٌ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِلْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا

وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ إلَى مَوْضِعِ نَبَاتِ الشَّعْرِ لَيْسَ مِنْ الْعَوْرَةِ أَيْضًا لِتَعَامُلِ الْعُمَّالِ فِي الْإِبْدَاءِ عَنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ عِنْدَ الِاتِّزَارِ وَفِي النَّزْعِ عَنْ الْعَادَةِ الظَّاهِرَةِ نَوْعُ حَرَجٍ ؛ وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّ التَّعَامُلَ بِخِلَافِ النَّصِّ لَا يُعْتَبَرُ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ فَأَمَّا الْفَخِذُ عَوْرَةٌ عِنْدَنَا وَأَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ يَقُولُونَ : الْعَوْرَةُ مِنْ الرَّجُلِ مَوْضِعُ السُّرَّةِ وَأَمَّا الْفَخِذُ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا } وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْعَوْرَةُ وَفِي الْحَدِيثِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي حَائِطِ رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ وَقَدْ دَلَّى رُكْبَتَهُ فِي رَكِيَّةٍ وَهُوَ مَكْشُوفُ الْفَخِذِ إذْ دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَمْ يَتَزَحْزَحْ ثُمَّ دَخَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَمْ يَتَزَحْزَحْ ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَتَزَحْزَحَ وَغَطَّى فَخِذَهُ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : أَلَا أَسْتَحِي مِمَّنْ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ } فَلَوْ كَانَ الْفَخِذُ مِنْ الْعَوْرَةِ لَمَا كَشَفَهُ بَيْنَ يَدَيْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِرَجُلٍ يُقَالُ لَهُ جَرْهَدٌ وَهُوَ يُصَلِّي مَكْشُوفَ الْفَخِذِ فَقَالَ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : وَارِ فَخِذَك أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْفَخِذَ عَوْرَةٌ } وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَصَّ فِيهِ فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ فَقَدْ ذُكِرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ كَانَ مَكْشُوفَ الرُّكْبَةِ ثُمَّ تَأْوِيلُهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حِينَ دَخَلَا جَلَسَا فِي مَوْضِعٍ لَمْ يَقَعْ بَصَرُهُمَا عَلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي كَانَ مَكْشُوفًا مِنْهُ فَلَمَّا دَخَلَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَبْقَ إلَّا مَوْضِعٌ لَوْ جَلَسَ فِيهِ وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى رُكْبَتِهِ

فَلِهَذَا غَطَّاهُ فَأَمَّا الْآيَةُ فَالْمُرَادُ بِالسَّوْأَةِ الْعَوْرَةُ الْغَلِيظَةُ وَبِهِ نَقُولُ أَنَّ الْعَوْرَةَ الْغَلِيظَةَ هِيَ السَّوْأَةُ وَلَكِنَّ حُكْمَ الْعَوْرَةِ ثَبَتَ فِيمَا حَوْلَ السَّوْأَتَيْنِ بِاعْتِبَارِ الْقُرْبِ مِنْ مَوْضِعِ الْعَوْرَةِ فَيَكُونُ حُكْمُ الْعَوْرَةِ فِيهِ أَخَفَّ فَأَمَّا الرُّكْبَةُ فَهِيَ مِنْ الْعَوْرَةِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : لَيْسَتْ مِنْ الْعَوْرَةِ لِحَدِيثِ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { مَا أَبْدَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُكْبَتَهُ بَيْنَ يَدَيْ جَلِيسٍ قَطُّ } وَإِنَّمَا قَصَدَ بِهَذَا ذِكْرَ الشَّمَائِلِ فَلَوْ كَانَتْ الرُّكْبَةُ مِنْ الْعَوْرَةِ لَمْ يَكُنْ هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الشَّمَائِلِ لِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ فَرْضٌ وَلِأَنَّهُ حَدُّ الْعَوْرَةِ فَلَا يَكُونُ مِنْ الْعَوْرَةِ كَالسُّرَّةِ وَهَذَا لِأَنَّ الْحَدَّ لَا يَدْخُلُ فِي الْمَحْدُودِ .
( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : الرُّكْبَةُ مِنْ الْعَوْرَةِ } وَمَا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ { حَتَّى تُجَاوِزَ الرُّكْبَةَ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرُّكْبَةَ مِنْ الْعَوْرَةِ وَلِأَنَّ الرُّكْبَةَ مُلْتَقَى عَظْمِ السَّاقِ وَالْفَخِذِ وَعَظْمُ الْفَخِذِ عَوْرَةٌ وَعَظْمُ السَّاقِ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ فَقَدْ اجْتَمَعَ فِي الرُّكْبَةِ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِكَوْنِهَا عَوْرَةً وَكَوْنِهَا غَيْرَ عَوْرَةٍ فَتَرَجَّحَ الْمُوجِبُ لِكَوْنِهَا عَوْرَةً احْتِيَاطًا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ فِي شَيْءٍ إلَّا غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ } فَأَمَّا حَدِيثُ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَالْمَرْوِيُّ { مَا مَدَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِجْلَيْهِ بَيْنَ يَدَيْ جَلِيسٍ قَطُّ } وَهَذَا مِنْ الشَّمَائِلِ وَإِبْدَاءُ الرُّكْبَةِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ كِنَايَةٌ عَنْ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا ثُمَّ حُكْمُ الْعَوْرَةِ فِي الرُّكْبَةِ أَخَفُّ مِنْهُ فِي الْفَخِذِ لِتَعَارُضِ الْمَعْنَيَيْنِ فِيهِ

وَلِهَذَا قُلْنَا مَنْ رَأَى غَيْرَهُ مَكْشُوفَ الرُّكْبَةِ يُنْكِرُ عَلَيْهِ بِرِفْقٍ وَلَا يُنَازِعُ عَلَيْهِ إنْ لَجَّ وَإِنْ رَآهُ مَكْشُوفَ الْفَخِذِ أَنْكَرَ عَلَيْهِ بِعُنْفٍ وَلَا يَضْرِبُهُ إنْ لَجَّ وَإِنْ رَآهُ مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ أَمَرَهُ بِسَتْرِهَا وَأَدَّبَهُ عَلَى ذَلِكَ إنْ لَجَّ ؛ وَمَا يُبَاحُ إلَيْهِ النَّظَرُ مِنْ الرَّجُلِ فَكَذَلِكَ الْمَسُّ لِأَنَّ مَا لَيْسَ بِعَوْرَةٍ يَجُوزُ مَسُّهُ كَمَا يَجُوزُ النَّظَرُ إلَيْهِ

فَأَمَّا نَظَرُ الْمَرْأَةِ إلَى الْمَرْأَةِ فَهُوَ كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى الرَّجُلِ بِاعْتِبَارِ الْمُجَانَسَةِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تُغَسِّلُ الْمَرْأَةَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَمَا يُغَسِّلُ الرَّجُلُ الرَّجُلَ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ النَّاسِ : نَظَرُ الْمَرْأَةِ إلَى الْمَرْأَةِ كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ حَتَّى لَا يُبَاحُ لَهَا النَّظَرُ إلَى ظَهْرِهَا وَبَطْنِهَا لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى النِّسَاءَ مِنْ دُخُولِ الْحَمَّامَاتِ بِمِئْزَرٍ وَبِغَيْرِ مِئْزَرٍ } وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ : امْنَعُوا النِّسَاءَ مِنْ دُخُولِ الْحَمَّامَاتِ إلَّا مَرِيضَةً أَوْ نُفَسَاءَ وَلْتَدْخُلْ مُسْتَتِرَةً وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْمُرَادُ مَنْعُ النِّسَاءِ مِنْ الْخُرُوجِ وَبِالْقَرَارِ فِي الْبُيُوتِ وَبِهِ نَقُولُ وَالْعُرْفُ الظَّاهِرُ فِي جَمِيعِ الْبُلْدَانِ بِبِنَاءِ الْحَمَّامَاتِ لِلنِّسَاءِ وَتَمْكِينِهِنَّ مِنْ دُخُولِ الْحَمَّامَاتِ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا وَحَاجَةُ النِّسَاءِ إلَى دُخُولِ الْحَمَّامَاتِ فَوْقَ حَاجَةِ الرِّجَالِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَحْصِيلُ الزِّينَةِ وَالْمَرْأَةُ إلَى هَذَا أَحْوَجُ مِنْ الرَّجُلِ وَيَتَمَكَّنُ الرَّجُلُ مِنْ الِاغْتِسَالِ فِي الْأَنْهَارِ وَالْحِيَاضِ وَالْمَرْأَةُ لَا تَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ

فَأَمَّا نَظَرُ الْمَرْأَةِ إلَى الرَّجُلِ فَهُوَ كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى الرَّجُلِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ السُّرَّةَ وَمَا فَوْقَهَا وَمَا تَحْتَ الرُّكْبَةِ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ مِنْ الرَّجُلِ وَمَا لَا يَكُونُ عَوْرَةً فَالنَّظَرُ إلَيْهِ مُبَاحٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ كَالثِّيَابِ وَغَيْرِهَا وَأَشَارَ فِي كِتَابِ الْخُنْثَى إلَى أَنَّ نَظَرَ الْمَرْأَةِ إلَى الرَّجُلِ كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ حَتَّى لَا يُبَاحَ لَهَا أَنْ تَنْظُرَ إلَى ظَهْرِهِ وَبَطْنِهِ لِأَنَّهُ قَالَ : الْخُنْثَى أَلَّا يَنْكَشِفَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَلَا بَيْنَ النِّسَاءِ وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ النَّظَرِ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ غِلَظٌ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُبَاحُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُغَسِّلَ الرَّجُلَ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَوْ كَانَتْ هِيَ فِي النَّظَرِ كَالرَّجُلِ لَجَازَ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَإِنَّمَا يُبَاحُ النَّظَرُ إلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَشْتَهِي إنْ نَظَرَ وَلَا يَشُكُّ فِي ذَلِكَ فَأَمَّا إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَشْتَهِي أَوْ كَانَ عَلَى ذَلِكَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ لِأَنَّ النَّظَرَ عَنْ شَهْوَةٍ نَوْعُ زِنًا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : الْعَيْنَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالْيَدَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلَانِ تَزْنِيَانِ وَزِنَاهُمَا الْمَشْيُ وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ أَوْ يُكَذِّبُ } وَالزِّنَا حَرَامٌ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { النَّظَرُ عَنْ شَهْوَةٍ سَهْمٌ مِنْ سِهَامِ الشَّيْطَانِ }

فَأَمَّا نَظَرُ الرَّجُلِ إلَى الْمَرْأَةِ فَهُوَ يَنْقَسِمُ إلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ نَظَرُهُ إلَى زَوْجَتِهِ وَمَمْلُوكَتِهِ وَنَظَرُهُ إلَى ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ وَنَظَرُهُ إلَى إمَاءِ الْغَيْرِ وَنَظَرُهُ إلَى الْحُرَّةِ الْأَجْنَبِيَّةِ فَأَمَّا نَظَرُهُ إلَى زَوْجَتِهِ وَمَمْلُوكَتِهِ فَهُوَ حَلَالٌ مِنْ قَرْنِهَا إلَى قَدَمِهَا عَنْ شَهْوَةٍ أَوْ عَنْ غَيْرِ شَهْوَةٍ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : غُضَّ بَصَرَك إلَّا عَنْ زَوْجَتِك وَأَمَتِك { وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : كُنْت أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ وَكُنْت أَقُولُ بَقِّ لِي وَهُوَ يَقُولُ بَقِّ لِي } وَلَوْ لَمْ يَكُنْ النَّظَرُ مُبَاحًا مَا تَجَرَّدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَيْنَ يَدَيْ صَاحِبِهِ وَلِأَنَّ مَا فَوْقَ النَّظَرِ وَهُوَ الْمَسُّ وَالْغَشَيَانُ حَلَالٌ بَيْنَهُمَا قَالَ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } الْآيَةُ إلَّا أَنَّ مَعَ هَذَا الْأَوْلَى أَنْ لَا يَنْظُرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى عَوْرَةِ صَاحِبِهِ لِحَدِيثِ { عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : مَا رَأَيْت مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا رَأَى مِنِّي مَعَ طُولِ صُحْبَتِي إيَّاهُ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ أَهْلَهُ فَلْيَسْتَتِرْ مَا اسْتَطَاعَ وَلَا يَتَجَرَّدَانِ تَجَرُّدَ الْعِيرِ } وَلِأَنَّ النَّظَرَ إلَى الْعَوْرَةِ يُورِثُ النِّسْيَانَ وَفِي شَمَائِلِ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا نَظَرَ إلَى عَوْرَتِهِ قَطُّ وَلَا مَسَّهَا بِيَمِينِهِ فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي عَوْرَةِ نَفْسِهِ فَمَا ظَنُّك فِي عَوْرَةِ الْغَيْرِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا يَقُولُ : الْأَوْلَى أَنْ يَنْظُرَ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي تَحْصِيلِ مَعْنَى اللَّذَّةِ

فَأَمَّا نَظَرُهُ إلَى ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ فَنَقُولُ : يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَوْضِعِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ } الْآيَةُ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ عَيْنَ الزِّينَةِ فَإِنَّهَا تُبَاعُ فِي الْأَسْوَاقِ وَيَرَاهَا الْأَجَانِبُ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَوْضِعُ الزِّينَةِ وَهِيَ الرَّأْسُ وَالشَّعْرُ وَالْعُنُقُ وَالصَّدْرُ وَالْعَضُدُ وَالسَّاعِدُ وَالْكَفُّ وَالسَّاقُ وَالرِّجْلُ وَالْوَجْهُ فَالرَّأْسُ مَوْضِعُ التَّاجِ وَالْإِكْلِيلِ وَالشَّعْرُ مَوْضِعُ الْقِصَاصِ وَالْعُنُقُ مَوْضِعُ الْقِلَادَةِ وَالصَّدْرُ كَذَلِكَ فَالْقِلَادَةُ وَالْوِشَاحُ قَدْ يَنْتَهِي إلَى الصَّدْرِ وَالْأُذُنُ مَوْضِعُ الْقُرْطِ وَالْعَضُدُ مَوْضِعُ الدُّمْلُوجِ وَالسَّاعِدُ مَوْضِعُ السِّوَارِ وَالْكَفُّ مَوْضِعُ الْخَاتَمِ وَالْخِضَابِ وَالسَّاقُ مَوْضِعُ الْخَلْخَالِ وَالْقَدَمُ مَوْضِعُ الْخِضَابِ وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا دَخَلَا عَلَى أُمِّ كُلْثُومٍ وَهِيَ تَمْتَشِطُ فَلَمْ تَسْتَتِرْ وَلِأَنَّ الْمَحَارِمَ يَدْخُلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَلَا حِشْمَةٍ وَالْمَرْأَةُ فِي بَيْتِهَا تَكُونُ فِي ثِيَابِ مِهْنَتِهَا عَادَةً وَلَا تَكُونُ مُسْتَتِرَةً فَلَوْ أَمَرَهَا بِالتَّسَتُّرِ مِنْ ذَوِي مَحَارِمِهَا أَدَّى إلَى الْحَرَجِ وَكَمَا يُبَاحُ النَّظَرُ إلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ يُبَاحُ الْمَسُّ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَبِّلُ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَيَقُولُ : أَجِدُ مِنْهَا رِيحَ الْجَنَّةِ وَكَانَ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ بَدَأَ بِهَا فَعَانَقَهَا وَقَبَّلَ رَأْسَهَا } وَقَبَّلَ أَبُو بَكْرٍ رَأْسَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قَبَّلَ رِجْلَ أُمِّهِ فَكَأَنَّمَا قَبَّلَ عَتَبَةَ الْجَنَّةِ } وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ رَحِمَهُ اللَّهُ بِتّ أَغْمِزُ رِجْلَ أُمِّي وَبَاتَ أَخِي أَبُو بَكْرٍ يُصَلِّي وَمَا أُحِبُّ أَنْ تَكُونَ لَيْلَتِي بِلَيْلَتِهِ وَلَكِنْ إنَّمَا يُبَاحُ الْمَسُّ وَالنَّظَرُ

إذَا كَانَ يَأْمَنُ الشَّهْوَةَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَيْهَا فَأَمَّا إذَا كَانَ يَخَافُ الشَّهْوَةَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَيْهَا فَلَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ النَّظَرَ عَنْ شَهْوَةٍ وَالْمَسَّ عَنْ شَهْوَةٍ نَوْعُ زِنًا وَحُرْمَةُ الزِّنَا بِذَوَاتِ الْمَحَارِمِ أَغْلَظُ وَكَمَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُعَرِّضَ نَفْسَهُ لِلْحَرَامِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُعَرِّضَهَا لِلْحَرَامِ فَإِذَا كَانَ يَخَافُ عَلَيْهَا فَلْيَجْتَنِبْ ذَلِكَ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى ظَهْرِهَا وَبَطْنِهَا وَلَا أَنْ يَمَسَّ ذَلِكَ مِنْهَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْقَدِيمِ : لَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَجَعَلَ حَالَهُمَا كَحَالِ الْجِنْسِ فِي النَّظَرِ وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ فَإِنَّ حُكْمَ الظِّهَارِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي وَهُوَ مُنْكَرٌ مِنْ الْقَوْلِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَشْبِيهِ الْمُحَلَّلَةِ بِالْمُحَرَّمَةِ فَلَوْ كَانَ النَّظَرُ إلَى ظَهْرِ الْأُمِّ حَلَالًا لَهُ لَكَانَ هَذَا تَشْبِيهَ مُحَلَّلَةٍ وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا فِي الظَّهْرِ يَثْبُتُ فِي الْبَطْنِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الْمَأْتَى وَإِلَى أَنْ يَكُونَ مُشْتَهًى مِنْهَا وَالْجَنْبَانِ كَذَلِكَ وَذَوَاتُ الْمَحَارِمِ بِالنَّسَبِ كَالْأُمَّهَاتِ وَالْجَدَّاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَبَنَاتِ الْأَخِ وَبَنَاتِ الْأُخْتِ وَكُلُّ امْرَأَةٍ هِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ بِالْقَرَابَةِ عَلَى التَّأْبِيدِ فَهَذَا الْحُكْمُ ثَابِتٌ فِي حَقِّهَا وَكَذَلِكَ الْمُحَرَّمَةُ بِالرَّضَاعِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } وَلِحَدِيثِ { عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ أَفْلَحَ بْنَ أَبِي قُعَيْسٍ يَدْخُلُ عَلَيَّ وَأَنَا فِي ثِيَابِ فَضْلٍ فَقَالَ لِيَلِجَ عَلَيْك أَفْلَحُ فَإِنَّهُ عَمُّك مِنْ الرَّضَاعَةِ } وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ أُمِّ سَلَمَةَ وَهِيَ تَمْتَشِطُ فَيَأْخُذُ بِقُرُونِ رَأْسِهَا وَيَقُولُ أَقْبِلِي عَلَيَّ وَكَانَتْ أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَلِأَنَّ

الرَّضَاعَ لَمَّا جُعِلَ كَالنَّسَبِ فِي حُكْمِ الْحُرْمَةِ فَكَذَلِكَ فِي حِلِّ الْمَسِّ وَالنَّظَرِ وَكَذَلِكَ الْمُحَرَّمَةُ بِالْمُصَاهَرَةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَوَّى بَيْنَهُمَا بِقَوْلِهِ { فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا } إلَّا أَنَّ مَشَايِخَنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى يَخْتَلِفُونَ فِيمَا إذَا كَانَ ثُبُوتُ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ بِالزِّنَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَثْبُتُ بِهِ حِلُّ الْمَسِّ وَالنَّظَرِ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ عَلَى الزَّانِي لَا بِطَرِيقِ النِّعْمَةِ وَلِأَنَّهُ قَدْ جَرَّبَ مَرَّةً فَظَهَرَتْ خِيَانَتُهُ فَلَا يُؤْمَنُ ثَانِيًا وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ فَلَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إلَى مَحَاسِنِهَا كَمَا لَوْ كَانَ ثُبُوتُ حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ بِالنِّكَاحِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : ثُبُوتُ الْحُرْمَةِ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ هُنَاكَ لِأَنَّا إنَّمَا نُثْبِتُ الْحُرْمَةَ هُنَاكَ بِالْقِيَاسِ عَلَى النِّكَاحِ فَإِذَا جَعَلْنَاهَا بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ لَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْحُرْمَةَ .
وَإِثْبَاتُ الْحُرْمَةِ ابْتِدَاءً بِالرَّأْيِ لَا يَجُوزُ ؛ ثُمَّ يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَخْلُوَ بِهَؤُلَاءِ وَأَنْ يُسَافِرَ بِهِنَّ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ لَيْسَ مِنْهَا بِسَبِيلٍ فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ } مَعْنَاهُ لَيْسَتْ بِمَحْرَمٍ لَهُ فَدَلَّ أَنَّهُ يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَخْلُوَ بِذَوَاتِ مَحَارِمِهِ وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَأْمَنَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَيْهَا لِمَا رُوِيَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ مَذْعُورًا فَسُئِلَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : خَلَوْت بِابْنَتِي فَخَشِيت عَلَى نَفْسِي فَخَرَجْت وَكَذَلِكَ الْمُسَافِرَةُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا تُسَافِرُ الْمَرْأَةُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهَا إلَّا وَمَعَهَا زَوْجُهَا أَوْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهَا } فَدَلَّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ تُسَافِرَ مَعَ الْمَحْرَمِ وَإِنْ احْتَاجَ إلَى أَنْ يُعَالِجَهَا فِي الْإِرْكَابِ وَالْإِنْزَالِ فَلَا

بَأْسَ بِأَنْ يَمَسَّهَا وَرَاءَ ثِيَابِهَا وَيَأْخُذَ بِظَهْرِهَا وَبَطْنِهَا لِمَا رُوِيَ { أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَدْخَلَ يَدَهُ فِي هَوْدَجِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِيَأْخُذَهَا مِنْ الْهَوْدَجِ فَوَقَعَتْ يَدُهُ عَلَى صَدْرِهَا فَقَالَتْ : مَنْ الَّذِي وَضَعَ يَدَهُ عَلَى مَوْضِعٍ لَمْ يَضَعْهُ أَحَدٌ إلَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَنَا أَخُوك } وَرُوِيَ { أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّ أُمِّي كَانَتْ سَيِّئَةَ الْخُلُقِ فَغَضِبَ وَقَالَ : أَكَانَتْ سَيِّئَةَ الْخُلُقِ حِينَ حَمَلَتْك أَكَانَتْ سَيِّئَةَ الْخُلُقِ حِينَ أَرْضَعَتْك حَوْلَيْنِ الْحَدِيثُ إلَى أَنْ قَالَ الرَّجُلُ : أَرَأَيْت لَوْ حَمَلْتهَا عَلَى عَاتِقِي وَحَجَجْت بِهَا أَكُنْت قَاضِيًا حَقَّهَا فَقَالَ لَا وَلَا طَلْقَةَ } وَرَأَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَوْضِعِ الطَّوَافِ رَجُلًا قَدْ حَمَلَ أُمَّهُ عَلَى عَاتِقِهِ يَطُوفُ بِهَا فَلَمَّا رَأَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ارْتَجَزَ فَقَالَ : أَنَا لَهَا بَعِيرُهَا الْمُذَلَّلْ إذَا الرِّكَابُ ذَعَرَتْ لَمْ أَذْعَرْ حَمَلْتهَا مَا حَمَلَتْنِي أَكْثَرْ فَهَلْ تَرَى جَازَيْتهَا يَابْنَ عُمَرَ فَقَالَ : لَا وَلَا طَلْقَةَ يَا لُكَعُ وَلِأَنَّ بِسَبَبِ السَّتْرِ يَنْعَدِمُ مَعْنَى الْعَوْرَةِ وبالْمَحْرَمِيَّةِ يَنْعَدِمُ مَعْنَى الشَّهْوَةِ فَلَا بَأْسَ بِحَمْلِهَا وَمَسّهَا فِي الْإِرْكَابِ وَالْإِنْزَالِ كَمَا فِي حَقِّ الْجِنْسِ

وَأَمَّا النَّظَرُ إلَى إمَاءِ الْغَيْرِ وَالْمُدَبَّرَاتِ وَأُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ وَالْمُكَاتَبَاتِ فَهُوَ كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ } الْآيَةُ وَقَدْ كَانَتْ الْمُمَازَحَةُ مَعَ إمَاءِ الْغَيْرِ عَادَةً فِي الْعَرَبِ فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى الْحَرَائِرَ بِاِتِّخَاذِ الْجِلْبَابِ لِيُعْرَفْنَ بِهِ مِنْ الْإِمَاءِ فَدَلَّ أَنَّ الْإِمَاءَ لَا تَتَّخِذُ الْجِلْبَابَ وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا رَأَى أَمَةً مُتَقَنِّعَةً عَلَاهَا بِالدُّرَّةِ وَقَالَ : أَلْقِ عَنْك الْخِمَارَ يَا دِفَارِ وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ الْأَمَةَ أَلْقَتْ قُرُونَهَا مِنْ وَرَاءِ الْجِدَارِ أَيْ لَا تَتَقَنَّعُ قَالَ أَنَسٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كُنَّ جِوَارِي عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَخْدُمْنَ الضِّيفَانَ كَاشِفَاتِ الرُّءُوسِ مُضْطَرِبَاتِ الْبَدَنِ وَلِأَنَّ الْأَمَةَ تَحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ لِحَوَائِجِ مَوْلَاهَا وَإِنَّمَا تَخْرُجُ فِي ثِيَابِ مِهْنَتِهَا وَحَالُهَا مَعَ جَمِيعِ الرِّجَالِ فِي مَعْنَى الْبَلْوَى بِالنَّظَرِ وَالْمَسِّ كَحَالِ الرَّجُلِ فِي ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى ظَهْرِهَا وَبَطْنِهَا كَمَا فِي حَقِّ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ الرَّازِيّ يَقُولُ : لَا يُنْظَرُ إلَى مَا بَيْنَ سُرَّتِهَا إلَى رُكْبَتِهَا وَلَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إلَى مَا وَرَاءِ ذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ قَالَ : وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً فَلْيَنْظُرْ إلَيْهَا إلَّا إلَى مَوْضِعِ الْمِئْزَرِ وَلَكِنَّ تَأْوِيلَ هَذَا الْحَدِيثِ عِنْدَنَا أَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَتَّزِرُ عَلَى الصَّدْرِ فَهُوَ مُرَادُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكُلُّ مَا يُبَاحُ النَّظَرُ إلَيْهِ مِنْهَا يُبَاحُ مَسُّهُ مِنْهَا إذَا أَمِنَ الشَّهْوَةَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَيْهَا لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ مَرَّ بِجَارِيَةٍ تُبَاعُ فَضَرَبَ فِي صَدْرِهَا وَمَسَّ ذِرَاعَهَا ثُمَّ قَالَ : اشْتَرُوا فَإِنَّهَا رَخِيصَةٌ فَهَذَا وَنَحْوُهُ

لَا بَأْسَ بِهِ لِمَنْ يُرِيدُ الشِّرَاءَ أَوْ لَا يُرِيدُ وَهَذَا لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ فِي حُكْمِ الْمَسِّ وَلِأَنَّهُ كَمَا يَحْتَاجُ إلَى النَّظَرِ يَحْتَاجُ إلَى الْمَسِّ لِيَعْرِفَ لِينَ بَشَرَتِهَا فَيَرْغَبُ فِي شِرَائِهَا وَتَحِلُّ الْخَلْوَةُ وَالْمُسَافَرَةُ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ إلَّا أَنَّ عِنْدَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ لَهُ أَنْ يُعَالِجَهَا فِي الْإِرْكَابِ وَالْإِنْزَالِ لِأَنَّ مَعْنَى الْعَوْرَةِ وَإِنْ انْعَدَمَ بِالسَّتْرِ فَمَعْنَى الشَّهْوَةِ بَاقٍ فِيهَا فَإِنَّهَا مِمَّنْ يَحِلُّ لَهُ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إذَا أَمِنَ الشَّهْوَةَ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَيْهَا لِأَنَّ الْمَوْلَى قَدْ يَبْعَثُهَا فِي حَاجَتِهِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ وَلَا تَجِدُ مَحْرَمًا لِيُسَافِرَ مَعَهَا وَهِيَ تَحْتَاجُ إلَى مَنْ يُرَكِّبُهَا وَيُنَزِّلُهَا فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَكَذَلِكَ لَا بِأَنْ يَخْلُوَ بِهَا كَالْمَحَارِمِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ جَارِيَةَ الْمَرْأَةِ قَدْ تَغْمِزُ رِجْلَ زَوْجِهَا وَتَخْلُو بِهِ وَلَا يَمْتَنِعُ أَحَدٌ مِنْ ذَلِكَ وَالْمُدَبَّرَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبَةُ فِي هَذَا كَالْأَمَةِ الْقِنَّةِ لِقِيَامِ الرِّقِّ فِيهِنَّ وَالْمُسْتَسْعَاةُ فِي بَعْضِ الْقِيمَةِ كَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : إذَا بَلَغَتْ الْأَمَةُ لَمْ يَنْبَغِ أَنْ تُعْرَضَ فِي إزَارٍ وَاحِدٍ قَالَ مُحَمَّدٌ : وَكَذَلِكَ إذَا بَلَغَتْ أَنْ تُجَامِعَ وَتَشْتَهِيَ لِأَنَّ الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ مِنْهَا عَوْرَةٌ لِمَعْنَى الِاشْتِهَاءِ فَإِذَا صَارَتْ مُشْتَهَاةً كَانَتْ كَالْبَالِغَةِ لَا تُعْرَضُ فِي إزَارٍ وَاحِدٍ

فَأَمَّا النَّظَرُ إلَى الْأَجْنَبِيَّاتِ فَنَقُولُ : يُبَاحُ النَّظَرُ إلَى مَوْضِعِ الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ مِنْهُنَّ دُونَ الْبَاطِنَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ : مَا ظَهَرَ مِنْهَا الْكُحْلُ وَالْخَاتَمُ وَقَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : إحْدَى عَيْنَيْهَا وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : خُفُّهَا وَمِلَاءَتُهَا وَاسْتَدَلَّ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : النِّسَاءُ حَبَائِلُ الشَّيْطَانِ بِهِنَّ يَصِيدُ الرِّجَالُ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَا تَرَكْت بَعْدِي فِتْنَةً أَضَرَّ عَلَى الرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ } { وَجَرَى فِي مَجْلِسِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمٌ مَا خَيْرُ مَا لِلرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ وَمَا خَيْرُ مَا لِلنِّسَاءِ مِنْ الرِّجَالِ فَلَمَّا رَجَعَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى بَيْتِهِ أَخْبَرَ فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِذَلِكَ فَقَالَتْ : خَيْرُ مَا لِلرِّجَالِ مِنْ النِّسَاءِ أَنْ لَا يَرَاهُنَّ وَخَيْرُ مَا لِلنِّسَاءِ مِنْ الرِّجَالِ أَنْ لَا يَرَيْنَهُنَّ فَلَمَّا أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ قَالَ هِيَ بِضْعَةٌ مِنِّي } فَدَلَّ أَنَّهُ لَا يُبَاحُ النَّظَرُ إلَى شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهَا وَلِأَنَّ حُرْمَةَ النَّظَرِ لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ وَعَامَّةُ مَحَاسِنِهَا فِي وَجْهِهَا فَخَوْفُ الْفِتْنَةِ فِي النَّظَرِ إلَى وَجْهِهَا أَكْثَرُ مِنْهُ إلَى سَائِرِ الْأَعْضَاءِ وَبِنَحْوِ هَذَا تَسْتَدِلُّ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا وَلَكِنَّهَا تَقُولُ : هِيَ لَا تَجِدُ بُدًّا مِنْ أَنْ تَمْشِيَ فِي الطَّرِيقِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تَفْتَحَ عَيْنَهَا لِتُبْصِرَ الطَّرِيقَ فَيَجُوزَ لَهَا أَنْ تَكْشِفَ إحْدَى عَيْنَيْهَا لِهَذَا الضَّرُورَةِ وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ لَا يَعْدُو مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ وَلَكِنَّا نَأْخُذُ بِقَوْلِ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا فَقَدْ جَاءَتْ الْأَخْبَارُ فِي الرُّخْصَةِ بِالنَّظَرِ إلَى وَجْهِهَا وَكَفِّهَا مِنْ ذَلِكَ مَا رُوِيَ {

أَنَّ امْرَأَةً عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَظَرَ إلَى وَجْهِهَا فَلَمْ يَرَ فِيهَا رَغْبَةً } وَلَمَّا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خُطْبَتِهِ : أَلَا لَا تُغَالُوا فِي أَصْدِقَةِ النِّسَاءِ فَقَالَتْ امْرَأَةٌ سَفْعَاءُ الْخَدَّيْنِ : أَنْتَ تَقُولُهُ بِرَأْيِك أَمْ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّا نَجِدُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِخِلَافِ مَا تَقُولُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا } فَبَقِيَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَاهِتًا وَقَالَ : كُلُّ النَّاسِ أَفْقَهُ مِنْ عُمَرَ حَتَّى النِّسَاءُ فِي الْبُيُوتِ فَذَكَرَ الرَّاوِي أَنَّهَا كَانَتْ سَفْعَاءَ الْخَدَّيْنِ .
وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّهَا كَانَتْ مُسْفِرَةً عَنْ وَجْهِهَا { وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَفَّ امْرَأَةٍ غَيْرَ مَخْضُوبٍ فَقَالَ : أَكَفُّ رَجُلٍ هَذَا } وَلَمَّا نَاوَلَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَحَدَ وَلَدَيْهَا بِلَالًا أَوْ أَنَسًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ أَنَسٌ : رَأَيْت كَفَّهَا كَأَنَّهُ فِلْقَةُ قَمَرٍ فَدَلَّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إلَى الْوَجْهِ وَالْكَفِّ فَالْوَجْهُ مَوْضِعُ الْكُحْلِ وَالْكَفُّ مَوْضِعُ الْخَاتَمِ وَالْخِضَابِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى { إلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا } وَخَوْفُ الْفِتْنَةِ قَدْ يَكُونُ بِالنَّظَرِ إلَى ثِيَابِهَا أَيْضًا قَالَ الْقَائِلُ وَمَا غَرَّنِي الْإِخْضَابُ بِكَفِّهَا وَكُحْلٌ بِعَيْنَيْهَا وَأَثْوَابُهَا الصُّفْرُ ثُمَّ لَا شَكَّ أَنَّهُ يُبَاحُ النَّظَرُ إلَى ثِيَابِهَا وَلَا يُعْتَبَرُ خَوْفُ الْفِتْنَةِ فِي ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إلَى وَجْهِهَا وَكَفِّهَا وَرَوَى الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُبَاحُ النَّظَرُ إلَى قَدَمِهَا أَيْضًا وَهَكَذَا ذَكَرَ الطَّحْطَاوِيُّ لِأَنَّهَا كَمَا تُبْتَلَى بِإِبْدَاءِ وَجْهِهَا فِي الْمُعَامَلَةِ مَعَ الرِّجَالِ وَبِإِبْدَاءِ كَفِّهَا فِي الْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ تُبْتَلَى بِإِبْدَاءِ قَدَمَيْهَا إذَا مَشَتْ حَافِيَةً أَوْ مُتَنَعِّلَةً وَرُبَّمَا لَا تَجِدُ الْخُفَّ

فِي كُلِّ وَقْتٍ وَذُكِرَ فِي جَامِعِ الْبَرَامِكَةِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يُبَاحُ النَّظَرُ إلَى ذِرَاعَيْهَا أَيْضًا لِأَنَّهَا فِي الْخَبَرِ وَغَسْلِ الثِّيَابِ تُبْتَلَى بِإِبْدَاءِ ذِرَاعَيْهَا أَيْضًا قِيلَ : وَكَذَلِكَ يُبَاحُ النَّظَرُ إلَى ثَنَايَاهَا أَيْضًا لِأَنَّ ذَلِكَ يَبْدُو مِنْهَا فِي التَّحَدُّثِ مَعَ الرِّجَالِ وَهَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ النَّظَرُ عَنْ شَهْوَةٍ فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ إنْ نَظَرَ اشْتَهَى لَمْ يَحِلَّ لَهُ النَّظَرُ إلَى شَيْءٍ مِنْهَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ نَظَرَ إلَى مَحَاسِنِ أَجْنَبِيَّةٍ عَنْ شَهْوَةٍ صُبَّ فِي عَيْنَيْهِ الْآنُكُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } { وَقَالَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا تُتْبِعْ النَّظْرَةَ بَعْدَ النَّظْرَةِ فَإِنَّ الْأُولَى لَك وَالْأُخْرَى عَلَيْك } يَعْنِي بِالْأُخْرَى أَنْ يَقْصِدَهَا عَنْ شَهْوَةٍ .
{ وَجَاءَ رَجُلٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنِّي نَظَرْت إلَى امْرَأَةٍ فَاشْتَهَيْتُهَا فَأَتْبَعْتُهَا بَصَرِي فَأَصَابَ رَأْسِي جِدَارٌ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَجَّلَ عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنْيَا } وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ إنْ نَظَرَ اشْتَهَى لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ فِيمَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ كَالْيَقِينِ وَذَلِكَ فِيمَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ وَكَذَلِكَ لَا يُبَاحُ لَهَا أَنْ تَنْظُرَ إلَيْهِ إذَا كَانَتْ تَشْتَهِي أَوْ كَانَ عَلَى ذَلِكَ أَكْبَرُ رَأْيِهَا لِمَا رُوِيَ { أَنَّ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ اسْتَأْذَنَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ لَهُمَا : احْتَجِبَا فَقَالَتَا : أَنَّهُ أَعْمَى يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ : أَوَأَعْمَيَانِ أَنْتُمَا } وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَمَسَّ وَجْهَهَا وَلَا كَفَّهَا وَإِنْ كَانَ يَأْمَنُ الشَّهْوَةَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ مَسَّ كَفَّ امْرَأَةٍ لَيْسَ مِنْهَا بِسَبِيلٍ وُضِعَ فِي كَفِّهِ جَمْرَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ

الْخَلَائِقِ } وَلِأَنَّ حُكْمَ الْمَسِّ أَغْلَظُ حَتَّى أَنَّ الْمَسَّ عَنْ شَهْوَةٍ يُثْبِتُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ وَالنَّظَرُ إلَى غَيْرِ الْفَرْجِ لَا يُثْبِتُ وَالصَّوْمُ يَفْسُدُ بِالْمَسِّ عَنْ شَهْوَةٍ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْإِنْزَالُ وَلَا يَفْسُدُ بِالنَّظَرِ فَالرُّخْصَةُ فِي النَّظَرِ لَا يَكُونُ دَلِيلَ الرُّخْصَةِ فِي الْمَسِّ وَالْبَلْوَى الَّتِي تَتَحَقَّقُ فِي النَّظَرِ تَتَحَقَّقُ فِي الْمَسِّ أَيْضًا وَعَلَى هَذَا نَقُولُ : لِلْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ أَنْ تَنْظُرَ إلَى مَا سِوَى الْعَوْرَةِ مِنْ الرَّجُلِ وَلَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تَمَسَّ ذَلِكَ مِنْهُ لِأَنَّ حُكْمَ الْمَسِّ أَغْلَظُ وَهَذَا إذَا كَانَتْ شَابَّةً تُشْتَهَى .
فَإِذَا كَانَتْ عَجُوزًا لَا تَشْتَهِي فَلَا بَأْسَ بِمُصَافَحَتِهَا وَمَسَّ يَدِهَا لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصَافِحُ الْعَجَائِزَ فِي الْبَيْعَةِ وَلَا يُصَافِحُ الشَّوَابَّ وَلَكِنْ كَانَ يَضَعُ يَدَهُ فِي قَصْعَةِ مَاءٍ ثُمَّ تَضَعُ الْمَرْأَةُ يَدَهَا فِيهَا فَذَلِكَ بَيْعَتُهَا } إلَّا أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنْكَرَتْ هَذَا الْحَدِيثَ وَقَالَتْ : مَنْ زَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَسَّ امْرَأَةً أَجْنَبِيَّةً فَقَدْ أَعْظَمَ الْفِرْيَةَ عَلَيْهِ وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ فِي خِلَافَتِهِ يَخْرُجُ إلَى بَعْضِ الْقَبَائِلِ الَّتِي كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِيهَا فَكَانَ يُصَافِحُ الْعَجَائِزَ وَلَمَّا مَرِضَ الزُّبَيْرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَكَّةَ اسْتَأْجَرَ عَجُوزًا لِتُمَرِّضَهُ فَكَانَتْ تَغْمِزُ رِجْلَيْهِ وَتُفَلِّي رَأْسَهُ وَلِأَنَّ الْحُرْمَةَ لِخَوْفِ الْفِتْنَةِ فَإِذَا كَانَتْ مِمَّنْ لَا تُشْتَهَى فَخَوْفُ الْفِتْنَةِ مَعْدُومٌ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ هُوَ شَيْخًا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَيْهَا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُصَافِحَهَا وَإِنْ كَانَ لَا يَأْمَنُ عَلَيْهَا أَنْ تَشْتَهِيَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يُصَافِحَهَا فَيُعَرِّضَهَا لِلْفِتْنَةِ كَمَا لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ إذَا خَافَ عَلَى نَفْسِهِ فَأَمَّا النَّظَرُ إلَيْهَا عَنْ شَهْوَةٍ لَا يَحِلُّ بِحَالٍ إلَّا عِنْدَ

الضَّرُورَةِ وَهُوَ مَا إذَا دُعِيَ إلَى الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا أَوْ كَانَ حَاكِمًا يَنْظُرُ لِيُوَجِّه الْحُكْمَ عَلَيْهَا بِإِقْرَارِهَا أَوْ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ عَلَى مَعْرِفَتِهَا لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ النَّظَرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَالضَّرُورَاتُ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ وَلَكِنْ عِنْدَ النَّظَرِ يَنْبَغِي أَنْ يَقْصِدَ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ أَوْ الْحُكْمَ عَلَيْهَا وَلَا يَقْصِدَ قَضَاءَ الشَّهْوَةِ لِأَنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَى التَّحَرُّزِ فِعْلًا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّزَ فَكَذَلِكَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّزَ بِالنِّيَّةِ إذَا عَجَزَ عَنْ التَّحَرُّزِ فِعْلًا كَمَا لَوْ تَتَرَّسَ الْمُشْرِكُونَ بِأَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ فَعَلَى مَنْ يَرْمِيهِمْ أَنْ يَقْصِدَ الْمُشْرِكِينَ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُصِيبُ الْمُسْلِمَ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا دُعِيَ إلَى تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ إنْ نَظَرَ إلَيْهَا اشْتَهَى فَمِنْهُمْ مَنْ جَوَّزَ لَهُ ذَلِكَ أَيْضًا بِشَرْطِ أَنْ يَقْصِدَ تَحَمُّلَ الشَّهَادَةِ لَا قَضَاءَ الشَّهْوَةِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ شُهُودَ الزِّنَا لَهُمْ أَنْ يَنْظُرُوا إلَى مَوْضِعِ الْعَوْرَةِ عَلَى قَصْدِ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ عِنْدَ التَّحَمُّلِ فَقَدْ يُوجَدُ مَنْ يَتَحَمَّلُ الشَّهَادَةَ وَلَا يَشْتَهِي بِخِلَافِ حَالَةِ الْأَدَاءِ فَقَدْ الْتَزَمَ هَذِهِ الْأَمَانَةَ بِالتَّحَمُّلِ وَهُوَ مُتَعَيَّنٌ لِأَدَائِهَا وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَشْتَهِيهَا لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً : أَبْصِرْهَا فَإِنَّهُ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا } { وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ أُمِّ سَلَمَةَ يُطَالِعُ بُنَيَّةً تَحْتَ إجَارٍ لَهَا فَقِيلَ لَهُ : أَتَفْعَلُ ذَلِكَ وَأَنْتَ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : إذَا أَلْقَى اللَّهُ خِطْبَةَ

امْرَأَةٍ فِي قَلْبِ رَجُلٍ أُحِلَّ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهَا } وَلِأَنَّ مَقْصُودَهُ إقَامَةُ السُّنَّةِ لَا قَضَاءُ الشَّهْوَةِ ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ لَا مَا يَكُونُ تَبَعًا وَإِنْ كَانَ عَلَيْهَا ثِيَابٌ فَلَا بَأْسَ بِتَأَمُّلِ جَسَدِهَا ؛ لِأَنَّ نَظَرَهُ إلَى ثِيَابِهَا لَا إلَى جَسَدِهَا ، فَهُوَ كَمَا لَوْ كَانَتْ فِي بَيْتٍ فَلَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إلَى جُدْرَانِهِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى امْرَأَةً عَلَيْهَا شَارَةٌ حَسَنَةٌ فَدَخَلَ بَيْتَهُ ثُمَّ خَرَجَ وَعَلَيْهِ أَثَرُ الِاغْتِسَالِ فَقَالَ : إذَا هَاجَتْ بِأَحَدِكُمْ الشَّهْوَةُ فَلْيَضَعْهَا فِيمَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ } وَهَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ ثِيَابُهَا بِحَيْثُ تَلْصَقُ فِي جَسَدِهَا وَتَصِفُهَا حَتَّى يَسْتَبِينَ جَسَدُهَا فَإِنْ كَانَ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَغُضَّ بَصَرَهُ عَنْهَا لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا تُلْبِسُوا نِسَاءَكُمْ الْكَتَّانَ وَلَا الْقَبَاطِيَّ فَإِنَّهَا تَصِفُ وَلَا تَشِفُّ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ ثِيَابُهَا رَقِيقَةً لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : لَعَنَ اللَّهُ الْكَاسِيَاتِ الْعَارِيَّاتِ } يَعْنِي الْكَاسِيَاتِ الثِّيَابَ الرِّقَاقَ اللَّاتِي كَأَنَّهُنَّ عَارِيَّاتٌ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : صِنْفَانِ مِنْ أُمَّتِي فِي النَّارِ رِجَالٌ بِأَيْدِيهِمْ السِّيَاطُ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ الْبَقَرِ يَضْرِبُونَ بِهَا النَّاسَ ، وَنِسَاءٌ كَاسِيَاتٌ عَارِيَّاتٌ مَائِلَاتٌ مُتَمَايِلَاتٌ كَأَسْنِمَةِ الْبُخْتِ } وَلِأَنَّ مِثْلَ هَذَا الثَّوْبِ لَا يَسْتُرُهَا فَهُوَ كَشَبَكَةٍ عَلَيْهَا فَلَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهَا وَهَذَا فِيمَا إذَا كَانَتْ فِي حَدِّ الشَّهْوَةِ فَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً لَا يُشْتَهَى مِثْلُهَا فَلَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إلَيْهَا وَمَنْ مَسِّهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ لِبَدَنِهَا حُكْمُ الْعَوْرَةِ وَلَا فِي النَّظَرِ وَالْمَسِّ مَعْنَى خَوْفِ الْفِتْنَةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُقَبِّلُ

زُبَّ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا وَهُمَا صَغِيرَانِ } وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْ أَحَدِهِمَا فَيَجُرَّهُ وَالصَّبِيُّ يَضْحَكُ وَلِأَنَّ الْعَادَةَ الظَّاهِرَةَ تَرْكُ التَّكَلُّفِ لِسَتْرِ عَوْرَتِهَا قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ حَدَّ الشَّهْوَةِ

وَأَمَّا النَّظَرُ إلَى الْعَوْرَةِ حَرَامٌ لِمَا رُوِيَ عَنْ سَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : لَأَنْ أَخِرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَانْقَطَعَ نِصْفَيْنِ أَحَبَّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَنْظُرَ إلَى عَوْرَةِ أَحَدٍ أَوْ يَنْظُرَ أَحَدٌ إلَى عَوْرَتِي { وَلَمَّا ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَعِيدَ فِي كَشْفِ الْعَوْرَةِ قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ فَإِذَا كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحَى مِنْهُ } { وَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى إبِلِ الصَّدَقَةِ فَرَأَى رَاعِيَهَا تَجَرَّدَ فِي الشَّمْسِ فَعَزَلَهُ وَقَالَ : لَا يَعْمَلُ لَنَا مَنْ لَا حَيَاءَ لَهُ } وَلَكِنْ مَعَ هَذَا إذَا جَاءَ الْعُذْرُ فَلَا بَأْسَ بِالنَّظَرِ إلَى الْعَوْرَةِ لِأَجْلِ الضَّرُورَةِ فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْخَاتِنَ يَنْظُرُ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ وَالْخَافِضَةُ كَذَلِكَ تَنْظُرُ لِأَنَّ الْخِتَانَ سُنَّةٌ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْفِطْرَةِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ لَا يُمْكِنُ تَرْكُهُ وَهُوَ مَكْرُمَةٌ فِي حَقِّ النِّسَاءِ أَيْضًا وَمِنْ ذَلِكَ عِنْدَ الْوِلَادَةِ الْمَرْأَةُ تَنْظُرُ إلَى مَوْضِعِ الْفَرْجِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْمَرْأَةِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ قَابِلَةٍ تَقْبَلُ الْوَلَدَ وَبِدُونِهَا يُخَافُ عَلَى الْوَلَدِ وَقَدْ { جَوَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهَادَةَ الْقَابِلَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ } فَذَاكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُبَاحُ لَهَا النَّظَرُ وَكَذَلِكَ يَنْظُرُ الرَّجُلُ إلَى مَوْضِعِ الِاحْتِقَانِ عِنْدَ الْحَاجَةِ أَمَّا عِنْدَ الْمَرَضِ فَلِأَنَّ الضَّرُورَةَ قَدْ تَحَقَّقَتْ وَالِاحْتِقَانُ مِنْ الْمُدَاوَاةِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : تَدَاوَوْا عِبَادَ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَخْلُقْ دَاءً إلَّا وَخَلَقَ لَهُ دَوَاءً إلَّا الْهَرَمَ } وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا كَانَ بِهِ هُزَالٌ فَاحِشٌ وَقِيلَ لَهُ : إنَّ الْحُقْنَةَ تُزِيلُ مَا بِك مِنْ الْهُزَالِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُبْدِيَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ لِلْمُحْتَقِنِ وَهَذَا صَحِيحٌ فَإِنَّ الْهُزَالَ الْفَاحِشَ نَوْعُ مَرَضٍ يَكُونُ آخِرُهُ

الدِّقَّ وَالسُّلَّ وَحُكِيَ عَنْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : إذَا قِيلَ لَهُ أَنَّ الْحُقْنَةَ تُقَوِّيكَ عَلَى الْمُجَامَعَةِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ أَيْضًا وَلَكِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تَتَحَقَّقُ بِهَذَا وَكَشْفُ الْعَوْرَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ لِمَعْنَى الشَّهْوَةِ لَا يَجُوزُ وَإِذَا أَصَابَ امْرَأَةً قُرْحَةٌ فِي مَوْضِعٍ لَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ لَا يَنْظُرُ إلَيْهِ وَلَكِنْ يُعْلِمُ امْرَأَةً دَوَاءَهَا لِتُدَاوِيهَا لِأَنَّ نَظَرَ الْجِنْسِ إلَى الْجِنْسِ أَخَفُّ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرْأَةَ تُغَسِّلُ الْمَرْأَةَ بَعْدَ مَوْتِهَا دُونَ الرَّجُلِ وَكَذَلِكَ فِي امْرَأَةِ الْعِنِّينِ يَنْظُرُ إلَيْهَا النِّسَاءُ فَإِنْ قُلْنَ : هِيَ بِكْرٌ فَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا وَإِنْ قُلْنَ : هِيَ ثَيِّبٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ مَعَ يَمِينِهِ وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ إبَاحَةِ النَّظَرِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَأَمَّا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْأَخْبَارِ بِبَكَارَتِهَا وَثِيَابَتِهَا لَيْسَ مِنْ مَسَائِلِ هَذَا الْكِتَابِ وَحَاصِلُهُ أَنَّ شَهَادَتَهُنَّ مَتَى تَأَيَّدَتْ بِمُؤَيِّدٍ كَانَتْ حُجَّةً وَالْبَكَارَةُ فِي النِّسَاءِ أَصْلٌ فَإِذَا قُلْنَ أَنَّهَا بِكْرٌ تَأَيَّدَتْ شَهَادَتُهُنَّ بِمَا هُوَ الْأَصْلُ وَإِنْ قُلْنَ هِيَ ثَيِّبٌ تَجَرَّدَتْ شَهَادَتُهُنَّ عَنْ مُؤَيِّدٍ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُسْتَحْلَفَ الزَّوْجُ حَتَّى يَنْضَمَّ نُكُولُهُ إلَى شَهَادَتِهِنَّ وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنَّهَا بِكْرٌ فَقَبَضَهَا وَقَالَ : وَجَدْتُهَا ثَيِّبًا فَإِنَّ النِّسَاءَ يَنْظُرْنَ إلَيْهَا لِلْحَاجَةِ إلَى فَصْلِ الْخُصُومَةِ بَيْنَهُمَا فَإِنْ قُلْنَ هِيَ بِكْرٌ فَلَا يَمِينَ عَلَى الْبَائِعِ لِأَنَّ شَهَادَتَهُنَّ قَدْ تَأَيَّدَتْ بِأَصْلِ الْبَكَارَةِ وَبِمُقْتَضَى الْبَيْعِ وَهُوَ اللُّزُومُ ؛ وَإِنْ قُلْنَ ثَيِّبٌ يُسْتَخْلَفُ الْبَائِعُ لِتَجَرُّدِ شَهَادَتِهِنَّ عَنْ مُؤَيِّدٍ فَإِذَا انْضَمَّ نُكُولُ الْبَائِعِ إلَى شَهَادَتِهِنَّ رُدَّتْ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَجِدُوا امْرَأَةً تُدَاوِي تِلْكَ الْقُرْحَةَ وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى امْرَأَةٍ تَعْلَمُ ذَلِكَ إذَا

عُلِّمَتْ وَخَافُوا أَنْ تَهْلِكَ أَوْ يُصِيبَهَا بَلَاءٌ أَوْ وَجَعٌ لَا تَحْتَمِلُهُ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَسْتُرُوا مِنْهَا كُلَّ شَيْءٍ إلَّا مَوْضِعَ تِلْكَ الْقُرْحَةِ ثُمَّ يُدَاوِيهَا رَجُلٌ وَيَغُضُّ بَصَرَهُ مَا اسْتَطَاعَ إلَّا عَنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِأَنَّ نَظَرَ الْجِنْسِ إلَى غَيْرِ الْجِنْسِ أَغْلَظُ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ تَحَقُّقُ الضَّرُورَةِ وَذَلِكَ لِخَوْفِ الْهَلَاكِ عَلَيْهَا وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يُبَاحُ إلَّا بِقَدْرِ مَا تَرْتَفِعُ الضَّرُورَةُ بِهِ وَذَوَاتُ الْمَحَارِمِ وَغَيْرُهُمْ فِي هَذَا سَوَاءٌ لِأَنَّ النَّظَرَ إلَى مَوْضِعِ الْعَوْرَةِ لَا يَحِلُّ بِسَبَبِ الْمَحْرَمِيَّةِ فَكَانَ الْمَحْرَمُ وَغَيْرُ الْمَحْرَمِ فِيهِ سَوَاءٌ

( قَالَ ) وَالْعَبْدُ فِيمَا يَنْظُرُ مِنْ سَيِّدَتِهِ كَالْحُرِّ الْأَجْنَبِيِّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَّا وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا عِنْدَنَا وَقَالَ مَالِكٌ : نَظَرُهُ إلَيْهَا كَنَظَرِ الرَّجُلِ إلَى ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ عَلَى الْإِمَاءِ لِأَنَّ ذَلِكَ دَخَلَ فِي قَوْله تَعَالَى { أَوْ نِسَائِهِنَّ } وَلِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُشْكَلُ لِأَنَّ لِلْأَمَةِ أَنْ تَنْظُرَ إلَى مَوْلَاتِهَا كَمَا لِلْأَجْنَبِيَّاتِ فَإِنَّمَا يُحْمَلُ الْبَيَانُ عَلَى مَوْضِعِ الْإِشْكَالِ { وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّهُ كَانَ لَهَا مُكَاتَبٌ فَلَمَّا انْتَهَى إلَى آخِرِ النُّجُومِ قَالَتْ لَهُ : أَتَقْدِرُ عَلَى الْأَدَاءِ ، فَقَالَ : نَعَمْ ، فَاحْتَجَبَتْ وَقَالَتْ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : إذَا كَانَ لِإِحْدَاكُنَّ مُكَاتَبٌ فَأَدَّى آخِرَ النُّجُومِ فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ } وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ بَيْنَهُمَا سَبَبَ مَحْرَمٍ لِلنِّكَاحِ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْمَحْرَمِيَّةِ بَيْنَهُمَا وَإِبَاحَةُ النَّظَرِ عِنْدَ الْمَحْرَمِيَّةِ لِأَجْلِ الْحَاجَةِ وَهُوَ دُخُولُ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَلَا حِشْمَةَ وَهَذَا يَتَحَقَّقُ فِيمَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَمَوْلَاتِهِ .
( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا : لَا يَغُرَّنكُمْ سُورَةُ النُّورِ فَإِنَّهَا فِي الْإِنَاثِ دُونَ الذُّكُورِ وَمُرَادُهُمَا قَوْله تَعَالَى { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } وَالْمَوْضِعُ مَوْضِعُ الْإِشْكَالِ لِأَنَّ حَالَ الْأَمَةِ يَقْرَبُ مِنْ حَالِ الرَّجُلِ حَتَّى تُسَافِرَ بِغَيْرِ مَحْرَمٍ فَكَانَ يُشْكَلُ أَنَّهُ هَلْ يُبَاحُ لَهَا الْكَشْفُ بَيْنَ يَدَيْ أَمَتِهَا ؟ وَلَمْ يَزُلْ هَذَا الْإِشْكَالُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَوْ نِسَائِهِنَّ } لِأَنَّ مُطْلَقَ هَذَا اللَّفْظِ يَتَنَاوَلُ الْحَرَائِرَ دُونَ الْإِمَاءِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا زَوْجِيَّةٌ وَلَا مَحْرَمِيَّةٌ وَحِلُّ النَّظَرِ

إلَى مَوَاضِعِ الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ يَنْبَنِي عَلَى هَذَا السَّبَبِ وَحُرْمَةُ الْمُنَاكَحَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا بِعَارِضٍ عَلَى شَرَفِ الزَّوَالِ فَكَانَتْ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ مَنْكُوحَةِ الْغَيْرِ أَوْ مُعْتَدَّتِهِ وَلِأَنَّ وُجُوبَ السَّتْرِ عَلَيْهَا وَحُرْمَةَ الْخَلْوَةِ بِالرَّجُلِ لِمَعْنَى خَوْفِ الْفِتْنَةِ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ هَهُنَا وَإِنَّمَا يَنْعَدِمُ بِالْمَحْرَمِيَّةِ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ الْمُؤَبَّدَةَ تُقَلِّلُ الشَّهْوَةَ فَأَمَّا الْمِلْكُ لَا يُقَلِّلُ الشَّهْوَةَ بَلْ يَحْمِلُهَا عَلَى رَفْعِ الْحِشْمَةِ وَمَعْنَى الْبَلْوَى لَا يَتَحَقَّقُ لِأَنَّ اتِّخَاذَ الْعَبِيدِ لِلِاسْتِخْدَامِ خَارِجَ الْبَيْتِ لَا دَاخِلَ الْبَيْتِ عَلَى مَا قِيلَ مَنْ اتَّخَذَ عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ دَاخِلَ بَيْتِهِ فَهُوَ كَشْخَانُ وَحَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَحْمُولٌ عَلَى الِاحْتِجَابِ لِمَعْنَى زَوَالِ الْحَاجَةِ فَإِنَّ قَبْلَ ذَلِكَ تَحْتَاجُ إلَى الْمُعَامَلَةِ مَعَهُ بِالْأَخْذِ وَالْإِعْطَاءِ فَتُبْدِي وَجْهَهَا وَكَفَّهَا لَهُ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْأَدَاءِ فَلْتَحْتَجِبْ مِنْهُ ؛ ثُمَّ خَصِيًّا أَوْ فَحْلًا هَكَذَا نُقِلَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ الْخُصَى مُثْلَةٌ فَلَا يُبِيحُ مَا كَانَ مُحَرَّمًا قَبْلَهُ وَلِأَنَّ الْخَصِيَّ فِي الْأَحْكَامِ مِنْ الشَّهَادَاتِ وَالْمَوَارِيثِ كَالْفَحْلِ وَقَطْعُ تِلْكَ الْآلَةِ مِنْهُ كَقَطْعِ عُضْوٍ آخَرَ وَمَعْنَى الْفِتْنَةِ لَا يَنْعَدِمُ فَالْخَصِيُّ قَدْ يُجَامِعُ وَقَدْ قِيلَ هُوَ أَشَدُّ النَّاسِ جِمَاعًا فَإِنَّهُ لَا تَفْتُرُ آلَتُهُ بِالْإِنْزَالِ وَكَذَلِكَ الْمَجْبُوبُ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَحِقُّ فَيُنْزِلُ .
وَإِنْ كَانَ مَجْبُوبًا قَدْ جَفَّ مَاؤُهُ فَقَدْ رَخَّصَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا فِي حَقِّهِ بِالِاخْتِلَاطِ بِالنِّسَاءِ لِوُقُوعِ الْأَمْنِ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ وَمَنْ رَخَّصَ فِيهِ تَأَوَّلَ قَوْله تَعَالَى { أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ } وَبَيَّنَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ كَلَامًا فِي مَعْنَى هَذَا فَقِيلَ : هُوَ الْمَجْبُوبُ الَّذِي جَفَّ مَاؤُهُ وَقِيلَ : هُوَ الْمُخَنَّثُ

الَّذِي لَا يَشْتَهِي النِّسَاءَ وَالْكَلَامُ فِي الْمُخَنَّثِ عِنْدَنَا أَنَّهُ إذَا كَانَ مُخَنَّثًا فِي الرَّدَى مِنْ الْأَفْعَالِ فَهُوَ كَغَيْرِهِ مِنْ الرِّجَالِ بَلْ مِنْ الْفُسَّاقِ يُنَحَّى عَنْ النِّسَاءِ وَأَمَّا مَنْ كَانَ فِي أَعْضَائِهِ لِينٌ وَفِي لِسَانِهِ تَكَسُّرٌ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ وَلَا يَشْتَهِي النِّسَاءَ وَلَا يَكُونُ مُخَنَّثًا فِي الرَّدَى مِنْ الْأَفْعَالِ فَقَدْ رَخَّصَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا فِي تَرْكِ مِثْلِهِ مَعَ النِّسَاءِ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ مُخَنَّثًا كَانَ يَدْخُلُ بَعْضَ بُيُوتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَمِعَ مِنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلِمَةً فَاحِشَةً } { قَالَ لِعُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ : لَئِنْ فَتَحَ اللَّهُ الطَّائِفَ عَلَى رَسُولِهِ لَأَدُلَّنَّكَ عَلَى مَاوِيَةَ بِنْتِ غَيْلَانَ فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ وَتُدْبِرُ بِثَمَانٍ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا كُنْت أَعْلَمُ أَنَّهُ يَعْرِفُ مِثْلَ هَذَا أَخْرِجُوهُ } وَقِيلَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَوْ التَّابِعِينَ } الْأَبْلَهُ الَّذِي لَا يَدْرِي مَا يَصْنَعُ بِالنِّسَاءِ إنَّمَا هَمُّهُ بَطْنُهُ وَفِي هَذَا كَلَامٌ عِنْدَنَا فَقِيلَ : إذَا كَانَ شَابًّا يُنَحَّى عَنْ النِّسَاءِ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ إذَا كَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ مَاتَتْ شَهْوَتُهُ فَحِينَئِذٍ يُرَخَّصُ فِي ذَلِكَ وَالْأَصَحُّ أَنْ نَقُولَ قَوْله تَعَالَى أَوْ التَّابِعِينَ مِنْ الْمُتَشَابِهِ وقَوْله تَعَالَى { قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا } مُحْكَمٌ فَنَأْخُذُ بِالْمُحْكَمِ فَنَقُولُ : كُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ الرِّجَالِ فَلَا يَحِلُّ لَهَا أَنْ تُبْدِيَ مَوْضِعَ الزِّينَةِ الْبَاطِنَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ صَغِيرًا فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ }

فَأَمَّا جِمَاعُ الْحَائِضِ فِي الْفَرْجِ حَرَامٌ بِالنَّصِّ يَكْفُرُ مُسْتَحِلُّهُ وَيَفْسُقُ مُبَاشِرُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } وَفِي قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ } دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحُرْمَةَ تَمْتَدُّ إلَى الطُّهْرِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ أَتَى امْرَأَةً فِي غَيْرِ مَأْتَاهَا أَوْ أَتَاهَا فِي حَالَةِ الْحَيْضِ أَوْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُهُ بِالْوَطْءِ سِوَى التَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ : إنْ وَطِئَهَا فِي أَوَّلِ الْحَيْضِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِدِينَارٍ وَإِنْ وَطِئَهَا فِي آخِرِ الْحَيْضِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِنِصْفِ دِينَارٍ وَرَوَى فِيهِ حَدِيثًا شَاذًّا وَلَكِنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَثْبُتُ بِمِثْلِهِ .
( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ : إنِّي رَأَيْت فِي الْمَنَامِ كَأَنِّي أَبُولُ دَمًا فَقَالَ : أَتَصْدُقُنِي قَالَ : نَعَمْ قَالَ : إنَّك تَأْتِي امْرَأَتَك فِي حَالَةِ الْحَيْضِ فَاعْتَرَفَ بِذَلِكَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : اسْتَغْفِرْ اللَّهَ وَلَا تَعُدْ وَلَمْ يُلْزِمْهُ الْكَفَّارَةَ وَاخْتَلَفُوا فِيمَا سِوَى الْجِمَاعِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : لَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ بِمَا فَوْقَ الْمِئْزَرِ وَلَيْسَ لَهُ مَا تَحْتَهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : يَجْتَنِبُ شِعَارَ الدَّمِ وَلَهُ مَا سِوَى ذَلِكَ وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَذَكَرَ الطَّحْطَاوِيُّ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ مَعَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { قُلْ هُوَ أَذًى } فَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْحُرْمَةَ لِمَعْنَى اسْتِعْمَالِ الْأَذَى وَذَلِكَ فِي مَحَلٍّ مَخْصُوصٍ وَرُوِيَ فِي الْكِتَابِ عَنْ الصَّلْتِ بْنِ دِينَارٍ

عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ قُرَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ سَأَلْت عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا مَا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مِنْ امْرَأَتِهِ وَهِيَ حَائِضٌ قَالَتْ : يَتَجَنَّبُ شِعَارَ الدَّمِ وَلَهُ مَا سِوَى ذَلِكَ وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مِنْ امْرَأَتِهِ الْحَائِضِ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّكَاحَ يَعْنِي الْجِمَاعَ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مِلْكَ الْحِلِّ بَاقٍ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ وَحُرْمَةُ الْفِعْلِ لِمَعْنَى اسْتِعْمَالِ الْأَذَى فَكُلُّ فِعْلٍ لَا يَكُونُ فِيهِ اسْتِعْمَالُ الْأَذَى فَهُوَ حَلَالٌ مُطْلَقٌ كَمَا كَانَ قَبْلَ الْحَيْضِ وَقَاسَهُ بِالِاسْتِمْتَاعِ فَوْقَ الْمِئْزَرِ وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْله تَعَالَى { فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ } فَظَاهِرُهُ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ الِاسْتِمْتَاعِ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا فَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْآثَارُ صَارَ مَخْصُوصًا مِنْ هَذَا الظَّاهِرِ وَبَقِيَ مَا سِوَاهُ عَلَى الظَّاهِرِ .
وَرُوِيَ { أَنَّ وَفْدًا سَأَلُوا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَمَّا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ مِنْ امْرَأَتِهِ الْحَائِضِ وَعَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي الْبُيُوتِ وَعَنْ الِاغْتِسَالِ مِنْ الْجَنَابَةِ فَقَالَ : أَسَحَرَةٌ أَنْتُمْ لَقَدْ سَأَلْتُمُونِي عَمَّا سَأَلْت عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : لِلرَّجُلِ مِنْ امْرَأَتِهِ مَا فَوْقَ الْمِئْزَرِ وَلَيْسَ لَهُ مَا تَحْتَهُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ نُورٌ فَنَوِّرْ بَيْتَك مَا اسْتَطَعْت وَذَكَرَ الِاغْتِسَالَ مِنْ الْجَنَابَةِ } وَفِي حَدِيثِ { أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَ : كُنْت فِي فِرَاشِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَحِضْت فَانْسَلَلْت مِنْ الْفِرَاشِ فَقَالَ مَالَك أَنَفِسْت قُلْت : نَعَمْ قَالَ : ائْتَزِرِي وَعُودِي إلَى مَضْجَعِك فَفَعَلْت فَعَانَقَنِي طُولَ اللَّيْلِ } وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ فِي مَوْضِعِ الْفَرْجِ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ وَإِذَا قَرُبَ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَلَا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُوَاقِعَ الْحَرَامَ فَلْيَجْتَنِبْ مِنْ ذَلِكَ بِالِاكْتِفَاءِ بِمَا فَوْقَ الْمِئْزَرِ

وَكَانَ هَذَا نَوْعَ احْتِيَاطٍ ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا إنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى وَحِمَى اللَّهِ مَحَارِمُهُ فَمَنْ رَتَعَ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ } وَمُحَمَّدٌ أَخَذَ بِالْقِيَاسِ وَقَالَ : لَيْسَ الْمُرَادُ بِالِاتِّزَارِ حَقِيقَةَ الِاتِّزَارِ بَلْ الْمُرَادُ مَوْضِعُ الْكُرْسُفِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَبَيْنَ التَّابِعِينَ اخْتِلَافٌ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَا فَوْقَ الْمِئْزَرِ فَكَانَ إبْرَاهِيمُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : الْمُرَادُ بِهِ الِاسْتِمْتَاعُ بِالسُّرَّةِ وَمَا فَوْقَهَا وَكَانَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ الْمُرَادُ : أَنْ يَتَدَفَّأَ بِالْإِزَارِ وَيَقْضِيَ حَاجَتَهُ مِنْهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ فَوْقَ الْإِزَارِ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْتَزِلَ فِرَاشَهَا لِأَنَّ ذَلِكَ تَشَبُّهٌ بِالْيَهُودِ وَقَدْ نُهِينَا عَنْ التَّشَبُّهِ بِهِمْ وَرُوِيَ { أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَعَلَ ذَلِكَ فَبَلَغَ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَأَنْكَرَتْ عَلَيْهِ وَقَالَتْ : أَتَرْغَبُ عَنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُضَاجِعُنَا فِي فِرَاشٍ وَاحِدٍ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ }

وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ جَارِيَةً فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْظُرَ إلَى شَعْرِهَا وَصَدْرِهَا وَسَاقِهَا وَإِنْ اشْتَهَى لِأَنَّ الْمَالِيَّةَ مَطْلُوبَةٌ بِالشِّرَاءِ فَلَا يَصِيرُ مِقْدَارُهُ مَعْلُومًا إلَّا بِالنَّظَرِ إلَى هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فَلِلْحَاجَةِ جَازَ النَّظَرُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَمَسَّ إنْ اشْتَهَى أَوْ كَانَ ذَلِكَ أَكْبَرَ رَأْيِهِ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِ إلَى الْمَسِّ فَمِقْدَارُ الْمَالِيَّةِ يَصِيرُ مَعْلُومًا بِدُونِهِ وَلِأَنَّ حُكْمَ الْمَسِّ أَغْلَظُ مِنْ النَّظَرِ كَمَا قَرَرْنَا

وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ حُكْمَ غُسْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَمَا فِيهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ وَحُكْمُ غُسْلِ أُمِّ الْمَوْلَى لِمَوْلَاهَا وَإِذَا مَاتَتْ الْمَرْأَةُ مَعَ الرِّجَالِ وَلَا امْرَأَةَ مَعَهُمْ لَمْ يُغَسِّلُوهَا وَإِنْ كَانُوا مَحَارِمَهَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : لِابْنِهَا أَوْ أَبِيهَا أَنْ يُغَسِّلَهَا بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ الظَّهْرَ وَالْبَطْنَ فِي حَقِّ الْمَحْرَمِ لَيْسَ بِعَوْرَةٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ نَظَرِ الْجِنْسِ عِنْدَهُ وَعِنْدَنَا الظَّهْرُ وَالْبَطْنُ عَوْرَةٌ فِي حَقِّ الْمَحَارِمِ وَبِالْمَوْتِ تَتَأَكَّدُ الْحُرْمَةُ وَلَا تَرْتَفِعُ وَلِأَنَّ هَذِهِ الْحُرْمَةَ لِحَقِّ الشَّرْعِ وَالْآدَمِيُّ مُحْتَرَمٌ شَرْعًا حَيًّا وَمَيِّتًا وَلِهَذَا لَا يُغَسِّلُهَا الْمَحْرَمُ وَلَا غَيْرُ الْمَحْرَمِ وَلَكِنَّهَا تُيَمَّمُ بِالصَّعِيدِ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ امْرَأَةٍ مَاتَتْ مَعَ الرِّجَالِ لَيْسَ مَعَهُمْ امْرَأَةٌ قَالَ تُيَمَّمُ بِالصَّعِيدِ } وَلِأَنَّهُ تَعَذَّرَ غُسْلُهَا لِانْعِدَامِ مَنْ يُغَسِّلُهَا فَصَارَ كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ غُسْلُهَا لِانْعِدَامِ مَا تُغَسَّلُ بِهِ وَإِنْ كَانَ مَنْ يُيَمِّمُهَا مَحْرَمًا لَهَا يَمَّمَهَا بِغَيْرِ خِرْقَةٍ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مَحْرَمٍ لَهَا يَمَّمَهَا بِخِرْقَةٍ يَلُفُّهَا عَلَى كَفِّهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَمَسَّهَا فِي حَالِ حَيَاتِهَا فَكَذَلِكَ بَعْدَ وَفَاتِهَا بِخِلَافِ الْمَحْرَمِ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَنْظُرَ إلَى وَجْهِهَا وَيَعْرِضَ بِوَجْهِهِ عَنْ ذِرَاعَيْهَا كَمَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى وَجْهِهَا دُونَ ذِرَاعَيْهَا وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ زَوْجُهَا لِأَنَّهُ الْتَحَقَ بِالْأَجْنَبِيِّ كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي امْرَأَةٍ لَهُ هَلَكَتْ : نَحْنُ أَحَقُّ بِهَا حِينَ كَانَتْ حَيَّةً فَأَمَّا إذْ مَاتَتْ فَأَوْلِيَاؤُهَا أَحَقُّ بِهَا

وَإِنْ مَاتَ رَجُلٌ مَعَ نِسَاءٍ لَيْسَ فِيهِنَّ امْرَأَتُهُ يَمَّمْنَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا إلَّا أَنَّ مَنْ تُيَمِّمُهُ إذَا كَانَتْ حُرَّةً تُيَمِّمُهُ بِخِرْقَةٍ تَلُفُّهَا عَلَى كَفِّهَا لِأَنَّهُ مَا كَانَ لَهَا أَنْ تَمَسَّهُ فِي حَيَاتِهِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ وَإِنْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً تُيَمِّمُهُ بِغَيْرِ خِرْقَةٍ لِأَنَّهُ كَانَ لَهَا أَنْ تَمَسَّهُ فِي حَيَاتِهِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّ الْأَمَةَ بِمَنْزِلَةِ الْمَحْرَمِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَأَمَتُهُ وَأَمَةُ غَيْرِهِ فِي هَذَا سَوَاءٌ لِأَنَّ مِلْكَهُ قَدْ انْتَقَلَ إلَى وَارِثِهِ بِمَوْتِهِ فَإِنْ كَانَ مَعَهُنَّ رَجُلٌ كَافِرٌ عَلَّمْنَهُ الْغُسْلَ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَعَ الرِّجَالِ أَمَةٌ كَافِرَةٌ عَلَّمُوهَا الْغُسْلَ لِتُغَسِّلَهَا لِأَنَّ نَظَرَ الْجِنْسِ إلَى الْجِنْسِ لَا يَخْتَلِفُ بِالْمُوَافَقَةِ فِي الدِّينِ وَالْمُخَالَفَةِ إلَّا أَنَّ الْكَافِرَ لَا يَعْرِفُ سُنَّةَ غُسْلِ الْمَوْتَى فَيُعَلَّمُ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَعَهُنَّ صِبْيَةٌ صِغَارٌ لَمْ يَبْلُغُوا حَدَّ الشَّهْوَةِ عَلَّمُوهُمْ غُسْلَ الْمَوْتَى لِيُغَسِّلُوهَا وَهَذَا عَجِيبٌ فَالرِّجَالُ قَدْ يَعْجِزُونَ عَنْ غُسْلِ الْمَيِّتِ فَكَيْفَ يَقْوَى عَلَيْهِ الصِّغَارُ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا حَدَّ الشَّهْوَةِ وَلَكِنَّ مُرَادَ مُحَمَّدٍ بَيَانُ الْحُكْمِ أَنْ تُصُوِّرَ

فَإِنْ ارْتَدَّتْ امْرَأَتُهُ عَنْ الْإِسْلَامِ بَعْدَ مَوْتِهِ ثُمَّ رَجَعَتْ إلَى الْإِسْلَامِ أَوْ فَجَرَبِهَا ابْنُهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَهَا ذَلِكَ لِأَنَّ حِلَّ الْمَسِّ وَالْغُسْلِ هَهُنَا بِاعْتِبَارِ الْعِدَّةِ حَتَّى لَوْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ وَبِمَا اعْتَرَضَ لَمْ يَتَغَيَّرْ حُكْمُ الْعِدَّةِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْعَارِضُ قَبْلَ مَوْتِهِ لِأَنَّ الْحِلَّ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ النِّكَاحِ وَقَدْ ارْتَفَعَ بِهَذَا الْعَارِضِ .
( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ : إنَّ رِدَّتَهَا وَفِعْلَ ابْنِ الزَّوْجِ بِهَا لَوْ صَادَفَ حِلًّا مُطْلَقًا كَانَ رَافِعًا لَهُ فَكَذَلِكَ إذَا صَادَفَ مَا بَقِيَ مِنْ الْحِلِّ بَعْدَ مَوْتِهِ وَهُوَ حِلُّ الْغُسْلِ وَالْمَسِّ فَيَكُونُ رَافِعًا لَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَلَا نَقُولُ أَنَّ هَذَا الْحِلَّ لِأَجْلِ الْعِدَّةِ فَإِنَّ الْعِدَّةَ مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ وَالْوَطْءُ بِالشُّبْهَةِ لَا يُفِيدُ حِلَّ الْغُسْلِ وَالْمَسِّ وَذُكِرَ فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ أَنَّ الْمَجُوسِيَّ لَوْ أَسْلَمَ وَمَاتَ ثُمَّ أَسْلَمَتْ امْرَأَتُهُ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُغَسِّلَهُ عِنْدَ زُفَرَ وَلَهَا ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَزُفَرُ يَعْتَبِرُ وَقْتَ الْمَوْتِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا حِلُّ الْغُسْلِ وَالْمَسِّ عِنْدَ الْمَوْتِ لَا يَثْبُتُ بَعْدَ ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَسْلَمَتْ قَبْلَ مَوْتِهِ أَوْ انْقَضَتْ عِدَّةُ الْأُخْتِ وَقَاسَ بِحُكْمِ الْفِرَارِ فِي الْمِيرَاثِ فَإِنَّهَا لَوْ أُعْتِقَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ أَوْ أَسْلَمَتْ لَمْ تَرِثْ مِنْهُ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَسْلَمَتْ فِي حَالِ الْحَيَاةِ أَوْ أُعْتِقَتْ ثُمَّ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ الْحِلُّ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا بَعْدَ وَطْءِ الْأُخْتِ وَلَكِنَّ عِدَّتَهَا مَانِعَةٌ وَلَوْ زَالَ هَذَا الْمَانِعُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ ثَبَتَ حِلُّ الِاسْتِمْتَاعِ مُطْلَقًا فَكَذَلِكَ إذَا زَالَ بَعْدَ مَوْتِهِ ثَبَتَ مِنْ الْحِلِّ بِقَدْرِ مَا يَقْبَلُهُ الْمَحَلُّ وَهُوَ حِلُّ الْغُسْلِ وَالْمَسِّ

وَأَمَّا الصَّغِيرُ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الشَّهْوَةِ إذَا مَاتَ مَعَ النِّسَاءَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُغَسِّلْنَهُ وَكَذَلِكَ الصَّغِيرَةُ مَعَ الرِّجَالِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ لِعَوْرَتِهِ حُكْمُ الْعَوْرَةِ فِي الْحَيَاةِ حَتَّى لَا يَجِبَ سُتْرَةٌ وَيُبَاحُ النَّظَرُ إلَيْهِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْمَوْتِ وَالْمَعْتُوهَةُ كَالْعَاقِلَةِ لِأَنَّهَا تُشْتَهَى

وَإِذَا حَضَرَ الْمُسَافِرَ الصَّلَاةُ وَلَمْ يَجِدْ مَاءً إلَّا فِي إنَاءٍ أَخْبَرَهُ رَجُلٌ أَنَّهُ قَذِرٌ وَهُوَ عِنْدَهُ مُسْلِمٌ مَرْضِيٌّ لَا يَتَوَضَّأُ بِهِ وَهَذَا لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ حُجَّةٌ فِي أَمْرِ الدِّينِ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ عِنْدَنَا بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ مَا لَا يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ لَا يُوجِبُ الْعَمَلَ أَيْضًا فَإِنَّ الْعَمَلَ بِغَيْرِ عِلْمٍ لَا يَجُوزُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَك بِهِ عِلْمٌ } .
( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ } وَمِنْ ضَرُورَةِ وُجُوبِ الْبَيَانِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ وُجُوبُ الْقَبُولِ مِنْهُ وَفَائِدَةُ الْقَبُولِ مِنْهُ الْعَمَلُ بِهِ قَالَ تَعَالَى { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ } وَاسْمُ الطَّائِفَةِ يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ فَصَاعِدًا { وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ إلَى قَيْصَرَ لِيَدْعُوَهُ إلَى الْإِسْلَامِ وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُنَيْسٍ إلَى كِسْرَى وَمَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كِتَابٌ } فَلَوْ لَمْ يَكُنْ خَبَرُ الْوَاحِدِ مُلْزِمًا لَمَا اكْتَفَى بِبَعْثِ الْوَاحِدِ { وَبَعَثَ عَلِيًّا وَمُعَاذًا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا إلَى الْيَمَنِ } وَالْآثَارُ فِي خَبَرِ الْوَاحِدِ كَثِيرَةٌ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ بَعْدَ هَذَا بَعْضَهَا وَلَيْسَ مِنْ شَرْطِ وُجُوبِ الْعَمَلِ أَنْ يَكُونَ الْخَبَرُ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ جَوَازِ الْعَمَلِ بِمَا يُخْبَرُ فِي الْمُعَامَلَاتِ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ حَتَّى يُكْتَفَى فِيهَا بِخَبَرِ الْوَاحِدِ بِالِاتِّفَاقِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ وُجُوبُ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ وَغَالِبُ الرَّأْيِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مُوجِبًا عِلْمَ الْيَقِينِ .
إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ : هَذَا الْمُخْبِرُ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَدْلًا مَرْضِيًّا أَوْ فَاسِقًا أَوْ مَسْتُورًا فَإِنْ كَانَ عَدْلًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِذَلِكَ الْمَاءِ لِتَرْجِيحِ جَانِبِ

الصِّدْقِ فِي خَبَرِهِ لِظُهُورِ عَدَالَتِهِ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا فَلَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ بِذَلِكَ الْمَاءِ لِتَرْجِيحِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِي خَبَرِهِ فَإِنَّ اعْتِبَارَ دِينِهِ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ فِي خَبَرِهِ وَاعْتِبَارَ تَعَاطِيهِ الْكَذِبَ وَارْتِكَابِهِ مَا يَعْتَقِدُ الْحُرْمَةَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى كَذِبِهِ فِي خَبَرِهِ فَتَتَحَقَّقُ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَهُمَا وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّوَقُّفِ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَتَبَيَّنُوا } وَعِنْدَ الْمُعَارَضَةِ الْأَصْلُ فِي الْمَاءِ الطَّهَارَةُ فَيَتَمَسَّكُ بِهِ وَيَتَوَضَّأُ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُعَامَلَاتِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْأَخْذُ فِيهَا بِخَبَرِ الْفَاسِقِ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ هُنَاكَ تَتَحَقَّقُ - فَالْعَدْلُ لَا يُوجَدُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَلَا دَلِيلَ هُنَاكَ يُعْمَلُ بِهِ سِوَى الْخَبَرِ وَهُنَا لَا ضَرُورَةَ وَمَعَنَا دَلِيلٌ آخَرُ يُعْمَلُ بِهِ سِوَى الْخَبَرِ وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَاءِ الطَّهَارَةُ .
( فَإِنْ قِيلَ ) : أَلَيْسَ أَنَّ خَبَرَ الْفَاسِقِ لَا يُقْبَلُ فِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ وَلَيْسَ هُنَاكَ دَلِيلٌ سِوَى الْخَبَرِ .
( قُلْنَا ) : الضَّرُورَةُ هُنَاكَ لَا تَتَحَقَّقُ لِأَنَّ فِي الْعُدُولِ الَّذِينَ يَرْوُونَ ذَلِكَ الْخَبَرَ كَثْرَةٌ يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ الْخَبَرَ فِي الْمُعَامَلَاتِ غَيْرُ مُلْزِمٍ فَيَسْقُطُ فِيهِ اعْتِبَارُ شَرْطِ الْعَدَالَةِ وَفِي الدِّيَانَاتِ الْخَبَرُ مُلْزِمٌ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ شَرْطِ الْعَدَالَةِ فِيهِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ مَسْتُورًا فَأُلْحِقَ الْمَسْتُورُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ بِالْفَاسِقِ وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : الْمَسْتُورُ فِي هَذَا الْخَبَرِ كَالْعَدْلِ وَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَى مَذْهَبِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِشَهَادَةِ الْمَسْتُورِينَ إذَا لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ مَا ذَكَرَهُ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ أَحَدِ شَرْطَيْ الشَّهَادَةِ لِيَكُونَ الْخَبَرُ مُلْزِمًا وَقَدْ سَقَطَ اعْتِبَارُ الْعَدَدِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا اعْتِبَارُ الْعَدَالَةِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْعَدَالَةَ شَرْطٌ قُلْنَا

مَا كَانَ شَرْطًا لَا يَكْتَفِي بِوُجُودِهِ ظَاهِرًا كَمَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ : إنْ لَمْ تَدْخُلْ الدَّارَ الْيَوْمَ فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ مَضَى الْيَوْمُ فَقَالَ الْعَبْدُ لَمْ أَدْخُلْ وَقَالَ الْمَوْلَى : دَخَلْت فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى لِأَنَّ عَدَمَ الدُّخُولِ شَرْطٌ فَلَا يَكْتَفِي بِثُبُوتِهِ ظَاهِرًا لِنُزُولِ الْعِتْقِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُخْبِرُ عَبْدًا لِأَنَّ فِي أُمُورِ الدِّينِ خَبَرَ الْعَبْدِ كَخَبَرِ الْحُرِّ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ وَهَذَا لِأَنَّهُ يُلْزِمُهُ نَفْسَهُ ثُمَّ يَتَعَدَّى مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ هَذَا مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ عَلَى الْغَيْرِ وَبِالرِّقِّ يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ فَأَمَّا فِيمَا هُوَ إلْزَامٌ يُسَوَّى بَيْنَ الْعَبْدِ وَالْحُرِّ لِكَوْنِهِ مُخَاطَبًا وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمُخْبِرُ امْرَأَةً حُرَّةً أَوْ أَمَةً كَمَا فِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ وَهَذَا لِأَنَّهَا تَلْتَزِمُ كَالرَّجُلِ ثُمَّ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهَا وَرِوَايَةُ النِّسَاءِ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانَتْ مَقْبُولَةً كَرِوَايَةِ الرِّجَالِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَأْخُذُونَ شَطْرَ دِينِكُمْ مِنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا } ثُمَّ بَيَّنَ فِي الْفَاسِقِ وَالْمَسْتُورِ أَنَّهُ يُحَكِّمُ رَأْيَهُ فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ تَيَمَّمَ وَلَا يَتَوَضَّأُ بِهِ لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ فِيمَا بُنِيَ عَلَى الِاحْتِيَاطِ كَالْيَقِينِ وَإِنْ أَرَاقَهُ ثُمَّ تَيَمَّمَ كَانَ أَحْوَطَ وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ تَوَضَّأَ بِهِ وَلَمْ يَتَيَمَّمْ .
( فَإِنْ قِيلَ ) : كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَتَيَمَّمَ احْتِيَاطًا لِمَعْنَى التَّعَارُضِ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ كَمَا قُلْنَا فِي سُؤْرِ الْحِمَارِ أَنَّهُ يُجْمَعُ بَيْنَ التَّوَضُّؤِ وَبَيْنَ التَّيَمُّمِ لِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ فِي سُؤْرِ الْحِمَارِ .
( قُلْنَا ) : حُكْمُ التَّوَقُّفِ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ مَعْلُومٌ بِالنَّصِّ وَفِي الْأَمْرِ بِالتَّيَمُّمِ هُنَا عُمِلَ بِخَبَرِهِ مِنْ وَجْهٍ فَكَانَ بِخِلَافِ النَّصِّ وَلَمَّا ثَبَتَ التَّوَقُّفُ فِي خَبَرِهِ بَقِيَ أَصْلُ الطَّهَارَةِ

لِلْمَاءِ فَلَا حَاجَةَ إلَى ضَمِّ التَّيَمُّمِ إلَيْهِ وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حِينَ وَرَدَ مَاءَ حِيَاضٍ مَعَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ عُمَرُ لِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْمَاءِ : أَخْبِرْنَا عَنْ السِّبَاعِ أَتَرِدُ مَاءَكُمْ هَذَا فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا تُخْبِرْنَا عَنْ شَيْءٍ فَلَوْلَا أَنَّ خَبَرَهُ عُدَّ خَبَرًا لِمَا نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ وَعَمْرُو بْنِ الْعَاصِ بِالسُّؤَالِ قَصَدَ الْأَخْذَ بِالِاحْتِيَاطِ وَقَدْ كَرِهَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لِوُجُودِ دَلِيلِ الطَّهَارَةِ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مَا بَقِيَ هَذَا الدَّلِيلُ فَلَا حَاجَةَ إلَى احْتِيَاطٍ آخَرَ وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَخْبَرَهُ بِنَجَاسَةِ الْمَاءِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَقْبَلْ قَوْلَهُ لَا لِأَنَّ الْكُفْرَ يُنَافِي مَعْنَى الصِّدْقِ فِي خَبَرِهِ وَلَكِنْ لِأَنَّهُ ظَهَرَ مِنْهُمْ السَّعْيُ فِي إفْسَادِ دِينِ الْحَقِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا } أَيْ لَا يُقَصِّرُونَ فِي إفْسَادِ أَمْرِكُمْ فَكَانَ مُتَّهَمًا فِي هَذَا الْخَبَرِ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ كَمَا لَا يُقْبَلُ شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِوَالِدِهِ لِمَعْنَى التُّهْمَةِ يَقُولُ : فَإِنْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يُرِيقَ الْمَاءَ ثُمَّ يَتَيَمَّمَ وَإِنْ تَوَضَّأَ بِهِ وَصَلَّى أَجْزَأَهُ وَفِي خَبَرِ الْفَاسِقِ قَالَ : وَإِذَا وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ تَيَمَّمَ وَلَا يَتَوَضَّأُ بِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْفَاسِقَ أَهْلٌ لِلشَّهَادَةِ وَلِهَذَا نَفَذَ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ فَيَتَأَيَّدُ ذَلِكَ بِأَكْبَرِ رَأْيِهِ وَلَيْسَ الْكَافِرُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْكَافِرَ يُلْزِمُ الْمُسْلِمَ ابْتِدَاءً بِخَبَرِهِ وَلَا يَلْتَزِمُ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْمُسْلِمِ فَأَمَّا الْفَاسِقُ الْمُسْلِمُ يَلْتَزِمُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ .
( قَالَ ) وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ وَالْمَعْتُوهُ إذَا عَقَلَا مَا يَقُولَانِ مِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَقُولُ : مُرَادُهُ بِهَذَا الْعَطْفِ أَنَّ

الصَّبِيَّ كَالْبَالِغِ إذَا كَانَ مَرْضِيًّا وَلِأَنَّهُ كَانَ فِي الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ مَنْ سَمِعَ فِي صِغَرِهِ وَلَوْ رَوَى كَانَ مَقْبُولًا مِنْهُ وَكَمَا سَقَطَ اعْتِبَارُ الْحُرِّيَّةِ وَالذُّكُورَةِ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْبُلُوغِ كَمَا فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ مُرَادَهُ الْعَطْفُ عَلَى الذِّمِّيِّ وَأَنَّ خَبَرَ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ فِي هَذَا كَخَبَرِ الذِّمِّيِّ لِأَنَّهُمَا لَا يَلْتَزِمَانِ شَيْئًا وَلَكِنْ يُلْزِمَانِ الْغَيْرَ ابْتِدَاءً فَإِنَّهُمَا غَيْرُ مُخَاطَبَيْنِ فَلَيْسَ لَهُمَا وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ فَكَانَ خَبَرُهُمَا فِي مَعْنَى خَبَرِ الْكَافِرِ

رَجُلٌ دَخَلَ عَلَى قَوْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَأْكُلُونَ طَعَامًا وَيَشْرَبُونَ شَرَابًا فَدَعَوْهُ إلَيْهِ فَقَالَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ ثِقَةٌ قَدْ عَرَفَهُ : هَذَا اللَّحْمُ ذَبِيحَةُ مَجُوسِيٍّ وَهَذَا الشَّرَابُ قَدْ خَالَطَهُ الْخَمْرُ وَقَالَ الَّذِينَ دَعَوْهُ إلَى ذَلِكَ : لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا قَالَ وَهُوَ حَلَالٌ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إلَى حَالِهِمْ فَإِنْ كَانُوا عُدُولًا لَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلِ ذَلِكَ الْوَاحِدِ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُعَارِضُ خَبَرَ الْجَمَاعَةِ فَإِنَّ خَبَرَ الْجَمَاعَةِ حُجَّةٌ فِي الدِّيَانَاتِ وَالْأَحْكَامِ وَخَبَرَ الْوَاحِدِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي الْأَحْكَامِ وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ لَا يَأْكُلُونَ ذَبِيحَةَ الْمَجُوسِيِّ وَلَا يَشْرَبُونَ مَا خَالَطَهُ الْخَمْرُ فَخَبَرُ الْوَاحِدِ فِي مُعَارَضَةِ خَبَرِهِمْ خَبَرٌ مُسْتَنْكَرٌ فَلَا يُقْبَلُ ، وَإِنْ كَانُوا مُتَّهَمِينَ أُخِذَ بِقَوْلِهِ وَلَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَقْرَبَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ خَبَرَهُ بِاعْتِبَارِ حَالِهِمْ مُسْتَقِيمٌ صَالِحٌ وَلَا مُعْتَبَرَ بِخَبَرِهِمْ لِفِسْقِهِمْ فِي حُكْمِ الْعَمَلِ بِهِ وَلِأَنَّ خَبَرَ الْعَدْلِ بِالْحُرْمَةِ يُرِيبُهُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِاعْتِبَارِ حَالِهِمْ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك } وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الْمُخْبِرُ بِالْحُرْمَةِ حُرًّا أَوْ مَمْلُوكًا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِأَمْرٍ دِينِيٍّ فَإِنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ مِنْ بَابِ الدِّينِ وَلَوْ كَانَ فِي الْقَوْمِ رَجُلَانِ مَرْضِيَّانِ أُخِذَ بِقَوْلِهِمَا لِأَنَّ الْحُجَّةَ فِي الْأَحْكَامِ تَتِمُّ بِخَبَرِ الْمَثْنَى فَلَا يُعَارِضُ خَبَرُهُمَا خَبَرَ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ ثِقَةٌ وَاحِدٌ عُمِلَ فِيهِ عَلَى أَكْبَرِ رَأْيِهِ لِاسْتِوَاءِ الْخَبَرَيْنِ عِنْدَهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهِ رَأْيٌ وَاسْتَوَى الْحَالَانِ عِنْدَهُ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ ذَلِكَ وَشُرْبِهِ وَكَذَلِكَ الْوُضُوءُ مِنْهُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ أَمَّا الْمَصِيرُ إلَى غَالِبِ الرَّأْيِ فَلِلْمُعَارَضَةِ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ لِأَنَّ عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ لَا بُدَّ مِنْ

تَرْجِيحِ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ وَغَالِبُ الرَّأْيِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا لِلْعَمَلِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَلَأَنْ يَصْلُحَ لِلتَّرْجِيحِ أَوْلَى فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ رَأْيٌ تَمَسَّكَ بِأَصْلِ الطَّهَارَةِ .
( فَإِنْ قِيلَ ) : لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا يَنْفِي الْحُرْمَةَ وَالْآخَرَ يُثْبِتُ وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ ( قُلْنَا ) : هَذَا فِي الشَّهَادَاتِ فَأَمَّا فِي الْأَخْبَارِ الْمُعَارَضَةُ تَتَحَقَّقُ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ مَقْبُولٌ .
( فَإِنْ قِيلَ ) : لَا كَذَلِكَ فِي الشَّاهِدِ إذَا زَكَّاهُ أَحَدُ الْمُزَكِّينَ وَجَرَّحَهُ الْآخَرُ كَانَ الْجَرْحُ أَوْلَى لِأَنَّ الْجَرْحَ مُثْبِتٌ وَالْآخَرَ نَافٍ .
( قُلْنَا ) : نَعَمْ ، وَلَكِنْ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَا يَكُونُ النَّافِي مُعْتَمِدًا لِدَلِيلٍ فِي خَبَرِهِ تَتَحَقَّقُ الْمُعَارَضَةُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَا يَكُونُ النَّافِي مُعْتَمِدًا لِدَلِيلٍ يَتَرَجَّحُ الْمُثْبِتُ فَهُنَا النَّافِي مُعْتَمِدٌ لِدَلِيلٍ لِأَنَّ طَهَارَةَ الْمَاءِ وَنَجَاسَتَهُ تُعْلَمُ حَقِيقَةً وَكَذَلِكَ حِلُّ الطَّعَامِ وَحُرْمَتُهُ فَلِهَذَا تَحَقَّقَتْ الْمُعَارَضَةُ وَاَلَّذِي زَكَّى الشَّاهِدَ لَا يُعْتَمَدُ دَلِيلًا فِي خَبَرِهِ لِأَنَّ نَفْيَ أَسْبَابِ الْجَرْحِ لَا يُعْلَمُ حَقِيقَةً فَلِهَذَا يُرَجَّحُ الْمُثْبِتُ هُنَاكَ عَلَى النَّافِي فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَخْبَرَهُ بِأَنَّهُ حَلَالٌ مَمْلُوكَانِ ثِقَتَانِ وَاَلَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ حَرَامٌ وَاحِدٌ حُرٌّ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ لِأَنَّ فِي الْخَبَرِ الدِّينِيِّ الْمَمْلُوكَ وَالْحُرَّ سَوَاءٌ وَلَا تَتَحَقَّقُ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَ الْوَاحِدِ وَالْمَثْنَى فِي الْخَبَرِ لِأَنَّهُ يَحْصُلُ مِنْ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ بِخَبَرِ الِاثْنَيْنِ مَا لَا يَحْصُلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَ الَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ حَرَامٌ مَمْلُوكَانِ ثِقَتَانِ وَاَلَّذِي زَعَمَ أَنَّهُ حَلَالٌ حُرٌّ وَاحِدٌ ثِقَةٌ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَأْكُلَهُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ مُعَارِضًا لِخَبَرِ

الِاثْنَيْنِ وَكَذَلِكَ لَوْ أَخْبَرَهُ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ عَبْدٌ ثِقَةٌ وَبِالْآخِرِ حُرٌّ ثِقَةٌ يَعْمَلُ بِأَكْبَرِ رَأْيِهِ فِيهِ لِأَنَّ الْحُجَّةَ لَا تَتِمُّ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ بِخَبَرِ حُرٍّ وَاحِدٍ وَمِنْ حَيْثُ الدِّينِ خَبَرُ الْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ سَوَاءٌ فَلِتَحَقُّقِ الْمُعَارَضَةِ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ يَصِيرُ إلَى التَّرْجِيحِ بِأَكْبَرِ الرَّأْيِ وَإِنْ أَخْبَرَهُ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ مَمْلُوكَانِ ثِقَتَانِ وَبِالْأَمْرِ الْآخَرِ حُرَّانِ ثِقَتَانِ أَخَذَ بِقَوْلِ الْحُرَّيْنِ لِأَنَّ الْحُجَّةَ تَتِمُّ بِقَوْلِ الْحُرَّيْنِ وَلَا تَتِمُّ بِقَوْلِ الْمَمْلُوكَيْنِ فَعِنْدَ التَّعَارُضِ يَتَرَجَّحُ قَوْلُ الْحُرَّيْنِ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِمَا زِيَادَةَ إلْزَامٍ فَإِنَّ الْإِلْزَامَ بِقَوْلِ الْمَمْلُوكَيْنِ يَنْبَنِي عَلَى الْإِلْزَامِ اعْتِقَادًا وَالْإِلْزَامُ فِي قَوْلِ الْحُرَّيْنِ لَا يَنْبَنِي عَلَى الْإِلْزَامِ اعْتِقَادًا حَتَّى كَانَ مُلْزَمًا فِيمَا لَا يَكُونُ الْمَرْءُ مُعْتَقِدًا لَهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ فِي خَبَرِهِمَا زِيَادَةَ إلْزَامٍ فَالتَّرْجِيحُ بِقُوَّةِ السَّبَبِ صَحِيحٌ قَالَ : أَلَا تَرَى { أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَهِدَ عِنْدَهُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى الْجَدَّةَ أُمَّ الْأُمِّ السُّدُسَ فَقَالَ : ائْتِ مَعَك بِشَاهِدٍ آخَرَ فَجَاءَ بِمُحَمَّدِ بْنِ سَلَمَةَ فَشَهِدَ عَلَى مِثْلِ شَهَادَتِهِ فَأَعْطَاهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ السُّدُسَ وَهَذَا مِنْ أَمْرِ الدِّينِ } { وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَهِدَ عِنْدَهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : إذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤَذَّنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ ائْتِ مَعَك بِشَاهِدٍ آخَرَ فَشَهِدَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مِثْلِ شَهَادَتِهِ } قَالَ مُحَمَّدٌ : فَهَذَا إنَّمَا فَعَلَاهُ لِلِاحْتِيَاطِ وَالْوَاحِدُ يُجْزِي وَكَانَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ يَقُولُ : بَلْ إنَّمَا طَلَبْنَا شَاهِدًا آخَرَ عَلَى طَرِيقِ الشَّرْطِ لِأَنَّ طُمَأْنِينَةَ

الْقَلْبِ تَحْصُلُ بِقَوْلِ الْمَثْنَى دُونَ الْوَاحِدِ وَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ضَرُورَةٌ فِي الِاكْتِفَاءِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ لِكَثْرَةِ الرُّوَاةِ فَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَقَدْ تَحَقَّقَ مَعْنَى الضَّرُورَةِ فِي الِاكْتِفَاءِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْأَصَحُّ مَا أَشَارَ إلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمَا طَلَبَا ذَلِكَ لِلِاحْتِيَاطِ وَكَانَا يَقْبَلَانِ ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ شَاهِدٌ آخَرُ .
أَلَا تَرَى أَنَّ { عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَبِلَ شَهَادَةَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ حِينَ شَهِدَ عِنْدَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : سُنُّوا بِالْمَجُوسِ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ وَلَمْ يَطْلُبْ شَاهِدًا آخَرَ وَأَجَازَ قَوْلَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الطَّاعُونِ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الشَّامَ وَبِهَا الطَّاعُونُ فَاسْتَشَارَهُمْ فَأَشَارَ عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُهَاجِرِينَ بِالدُّخُولِ فَقَالَ لَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : إنِّي سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : إذَا وَقَعَ هَذَا الرِّجْزُ بِأَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِ وَإِذَا وَقَعَ وَأَنْتُمْ فِيهَا فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهَا فَأَخَذَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ وَرَجَعَ } وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُشْكَلِ الْآثَارِ هَذَا الْحَدِيثَ فَقَالَ : تَأْوِيلُهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ بِحَالٍ لَوْ دَخَلَ فَابْتُلِيَ وَقَعَ عِنْدَهُ أَنَّهُ اُبْتُلِيَ بِدُخُولِهِ وَلَوْ خَرَجَ فَنُجِّيَ وَقَعَ عِنْدَهُ أَنَّهُ نُجِّيَ بِخُرُوجِهِ فَلَا يَدْخُلُ وَلَا يَخْرُجُ صِيَانَةً لِاعْتِقَادِهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ وَأَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ إلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ تَعَالَى فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَدْخُلَ وَيَخْرُجَ .
وَاسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَيْضًا بِحَدِيثِ { عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ

عَنْهُ فَأَنَّهُ كَانَ لَا يُوَرِّثُ الْمَرْأَةَ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا حَتَّى شَهِدَ عِنْدَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ الْكِلَابِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ إلَيْهِ أَنْ وَرِّثْ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا أَشْيَمَ فَأَخَذَ بِقَوْلِهِ } { وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِحْيَةَ الْكَلْبِيَّ إلَى قَيْصَرَ بِكِتَابِهِ يَدْعُوهُ إلَى الْإِسْلَامِ فَكَانَ حُجَّةً عَلَيْهِ } فَهَذَا كُلُّهُ دَلِيلُ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ فِي أَمْرِ الدِّينِ كَانَ مُلْزَمًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَمَا هُوَ الْيَوْمُ وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كُنْت إذَا لَمْ أَسْمَعْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ حَدِيثًا فَحَدَّثَنِي بِهِ غَيْرُهُ اسْتَحْلَفْتُهُ عَلَى ذَلِكَ وَحَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَصَدَقَ أَبُو بَكْرٍ وَهَذَا مَذْهَبٌ تَفَرَّدَ بِهِ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ كَانَ يُحَلِّفُ الشَّاهِدَ وَيُحَلِّفُ الْمُدَّعِيَ مَعَ الْبَيِّنَةِ وَيُحَلِّفُ الرَّاوِيَ وَلَمْ يُتَّبَعْ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ أَنَّ خَبَرَهُ يَصِيرُ مُزَكًّى بِيَمِينِهِ كَالشَّهَادَاتِ فِي بَابِ اللِّعَانِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ حَتَّى تَصِيرَ مُزَكَّاةً بِالْيَمِينِ وَمَنْ لَمْ يُعْصَمْ عَنْ الْكَذِبِ لَا يَكُونُ خَبَرُهُ حُجَّةً مَا لَمْ يَصِرْ مُزَكًّى بِيَمِينِهِ إلَّا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّ تَسْمِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إيَّاهُ الصِّدِّيقَ كَافٍ فِي جَعْلِ خَبَرِهِ مُزَكًّى وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا الْقَوْلِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا بِاسْتِشْهَادِ شَاهِدَيْنِ وَبِطَلَبِ الْعَدَالَةِ فِي الشُّهُودِ فَاشْتِرَاطُ الْيَمِينِ مَعَ ذَلِكَ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَى مَا فِي الْكِتَابِ وَقَدْ وَقَعَتْ الدَّعَاوَى وَالْخُصُومَاتُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ حَلَّفَ أَحَدًا مِنْ الشُّهُودِ وَلَا حَلَّفَ الْمُدَّعِيَ مَعَ الْبَيِّنَةِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ : إنَّهُمْ قَدْ تَرَكُوا نَقْلَهُ لِأَنَّ

هَذَا لَا يُظَنُّ بِهِمْ خُصُوصًا فِيمَا تَعُمُّ الْبَلْوَى فَقَدْ نَقَلُوا كُلَّ مَا دَقَّ وَجَلَّ مِنْ أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ .

( قَالَ ) : وَبَلَغَنَا { أَنَّ نَفَرًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ أَبُو طَلْحَةَ كَانُوا يَشْرَبُونَ شَرَابًا لَهُمْ مِنْ الْفَضِيخِ فَأَتَاهُمْ آتٍ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ يَا : أَنَسُ قُمْ إلَى هَذِهِ الْجِرَارِ فَاكْسِرْهَا فَقُمْت إلَيْهَا فَكَسَرْتُهَا حَتَّى أَهْرَاقَ مَا فِيهَا } وَلَوْ لَمْ يَكُنْ خَبَرُ الْوَاحِدِ حُجَّةً مَا وَسِعَهُمْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ وَتَأْوِيلُ كَسْرِ الْجِرَارِ أَنَّ الْخَمْرَ كَانَتْ تُشْرَبُ فِيهَا فَلَا تَصْلُحُ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا بِوَجْهٍ آخَرَ وَكَانَ ذَلِكَ لِإِظْهَارِ الِانْقِيَادِ وَتَحْقِيقِ الِانْزِجَارِ عَنْ الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِكَسْرِ الدِّنَانِ وَشَقِّ الرَّوَايَا } وَذَكَرَ حَدِيثَ عِكْرِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبِلَ شَهَادَةَ أَعْرَابِيٍّ وَحْدَهُ عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ حِينَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَأَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُ رَآهُ فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَصُومُوا بِشَهَادَتِهِ } فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ فِي الدِّينِ مَقْبُولَةٌ وَلَا يُقْبَلُ فِي هِلَالِ الْفِطْرِ أَقَلُّ مِنْ شَاهِدَيْنِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَالْكَلَامُ فِي هَذَا الْفَصْلِ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ فِي نَوَادِرِهِ قَالَ : قُلْت لِمُحَمَّدٍ فَإِذَا قَبِلْت شَهَادَةَ الْوَاحِدِ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ وَأَمَرْت بِالصَّوْمِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَمْ يَرَوْا الْهِلَالَ أَلَيْسَ أَنَّهُمْ يُفْطِرُونَ وَهَذَا فِطْرٌ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ فَقَالَ : لَا أَتَّهِمُ الْمُسْلِمَ بِتَبْدِيلِ يَوْمٍ مَكَانَ يَوْمٍ وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ هَذَا فَيُقَالُ : الْفِطْرُ غَيْرُ ثَابِتٍ بِشَهَادَتِهِ وَإِنْ كَانَتْ تُفْضِي إلَيْهِ شَهَادَتُهُ كَمَا لَوْ شَهِدَتْ الْقَابِلَةُ بِالنَّسَبِ يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُ الْمِيرَاثِ وَلَا يُسْتَحَقُّ الْمَالُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ

وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ .
فَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا يُفْطِرُونَ وَإِنْ صَامُوا ثَلَاثِينَ يَوْمًا إذَا لَمْ يَرَوْا الْهِلَالَ قَالَ الْحَاكِمُ : وَهِلَالُ الْأَضْحَى كَهِلَالِ الْفِطْرِ ذَكَرَهُ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ وَفِي النَّوَادِرِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى هِلَالِ الْأَضْحَى كَالشَّهَادَةِ عَلَى هِلَالِ رَمَضَانَ لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مِنْ أَمْرٍ دِينِيٍّ وَهُوَ ظُهُورُ وَقْتِ الْحَاجِّ وَذَلِكَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى .
فَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَالَ : هَذَا فِي مَعْنَى هِلَالِ الْفِطْرِ لِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لِلنَّاسِ هُنَا مِنْ حَيْثُ التَّوَسُّعِ بِلُحُومِ الْأَضَاحِيِّ فِي الْيَوْمِ الْعَاشِرِ كَمَا فِي هِلَالِ الْفِطْرِ وَلَا يُقْبَلُ فِي هِلَالِ رَمَضَانَ قَوْلُ مُسْلِمٍ وَلَا مُسْلِمَيْنِ مِمَّنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمْ لِلتُّهْمَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ خَبَرَ الْفَاسِقِ فِي أَمْرِ الدِّينِ غَيْرُ مُلْزِمٍ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ شَهَادَةَ الْوَاحِدِ عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ مَقْبُولٌ عَدْلًا كَانَ أَوْ غَيْرَ عَدْلٍ قِيلَ : الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ غَيْرَ عَدْلٍ أَنْ يَكُونَ مَسْتُورًا فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِرِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْمَسْتُورِ وَقِيلَ : بَلْ مُرَادُهُ الْفَاسِقُ وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ التُّهْمَةَ مُنْتَفِيَةٌ عَنْ خَبَرِهِ هَذَا لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ مِنْ الصَّوْمِ مَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ فَأَمَّا عَبْدٌ مُسْلِمٌ ثِقَةٌ أَوْ أَمَةٌ مُسْلِمَةٌ أَوْ امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ حُرَّةٌ فَشَهَادَتُهُمْ فِي ذَلِكَ جَائِزَةٌ لِأَنَّ فِي الْخَبَرِ الدِّينِيِّ الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ وَالْأَحْرَارَ وَالْمَمَالِيكَ سَوَاءٌ وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدَ وَاحِدٌ عَلَى شَهَادَةِ وَاحِدٍ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ خَبَرٌ لَا شَهَادَةٌ حَتَّى لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ لَفْظُ الشَّهَادَةِ وَذُكِرَ أَنَّهُ إذَا كَانَ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ قَدْ حَسُنَتْ تَوْبَتُهُ فَشَهَادَتُهُ جَائِزَةٌ أَيْضًا وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ

شَهَادَتَهُ لَا تُقْبَلُ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِكَذِبِهِ وَإِذَا كَانَتْ شَهَادَةُ الْمُتَّهَمِ بِالْكَذِبِ لَا تُقْبَلُ هُنَا فَالْمَحْكُومُ بِالْكَذِبِ أَوْلَى وَوَجْهُ هَذِهِ الرِّوَايَةِ أَنَّ خَبَرَ الْمَحْدُودِ فِي أَمْرِ الدِّينِ مَقْبُولٌ .
أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا بَكْرَةَ بَعْدَمَا أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ كَانَتْ تُعْتَمَدُ رِوَايَتُهُ وَهَذَا لِأَنَّ رَدَّ شَهَادَتِهِ لِحَقِّ الْمَقْذُوفِ وَهُوَ دَفْعُ الْعَارِ عَنْهُ بِإِهْدَارِ قَوْلِهِ وَذَلِكَ فِي الْأَحْكَامِ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِهَا حُقُوقُ الْعِبَادِ وَيَنْعَدِمُ هَذَا الْمَعْنَى فِي أُمُورِ الدِّينِ فَكَانَ الْمَحْدُودُ فِيهِ كَغَيْرِهِ يَقُولُ فَإِذَا كَانَ الَّذِي شَهِدَ بِذَلِكَ فِي الْمِصْرِ وَلَا عِلَّةَ فِي السَّمَاءِ مِنْ ذَلِكَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّ الَّذِي يَقَعُ فِي الْقَلْبِ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ بَاطِلٌ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الصَّوْمِ أَقَاوِيلَ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذَا الْفَصْلِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ اعْتَبَرَ فِيهِ عَدَدَ الْخَمْسِينَ عَلَى قِيَاسِ الْأَيْمَانِ فِي الْقَسَامَةِ وَفِيمَا ذُكِرَ هُنَاكَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ إذَا جَاءَ مِنْ خَارِجِ الْمِصْرِ فَإِنَّهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فَقَدْ ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا أَيْضًا أَوْ جَاءَ مِنْ مَكَان آخَرَ وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ وَهَكَذَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ لِأَنَّهُ يَتَّفِقُ مِنْ الرُّؤْيَةِ فِي الصَّحَارِي مَا لَا يَتَّفِقُ فِي الْأَمْصَارِ لِمَا فِيهَا مِنْ كَثْرَةِ الْغُبَارِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ فِي الْمِصْرِ عَلَى مَوْضِعٍ مُرْتَفِعٍ فَقَدْ يَتَّفِقُ لَهُ مِنْ الرُّؤْيَةِ مَا لَا يَتَّفِقُ لِمَنْ هُوَ دُونَهُ فِي الْمَوْقِفِ

رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَجَاءَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ ثِقَةٌ أَوْ امْرَأَةٌ فَأَخْبَرَ أَنَّهُمَا ارْتَضِعَا مِنْ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَحَبُّ إلَيَّ التَّنَزُّهُ عَنْهَا فَيُطَلِّقُهَا وَيُعْطِيهَا نِصْفَ الصَّدَاقِ إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا وَالْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا فِي الْحُكْمِ ، وَالْآخَرُ فِي التَّنَزُّهِ أَمَّا فِي الْحُكْمِ فَالْحُرْمَةُ لَا تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الرَّضَاعِ عِنْدَنَا مَا لَمْ يَشْهَدْ بِهِ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ كَمَا هُوَ مَذْهَبُهُ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ وَزَعَمَ أَنَّ الرَّضَاعَ لَا يَحِلُّ مُطَالَعَتُهُ لِلْأَجَانِبِ مِنْ الرِّجَالِ وَلَكِنْ نَقُولُ الْإِرْضَاعُ يَكُونُ بِالثَّدْيِ وَذَلِكَ مِمَّا يَحِلُّ مُطَالَعَتُهُ لِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ ثُمَّ قَدْ يَكُونُ بِالْإِيجَارِ وَذَلِكَ مِمَّا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الْأَجَانِبُ ، وَمَالِكٌ كَانَ يَقُولُ : يُكْتَفَى بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ لِإِثْبَاتِ الْحُرْمَةِ بِالرَّضَاعِ وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاسْتَدَلَّ فِيهِ بِحَدِيثِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ بْنِ عُقْبَةَ { أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ الْحَارِثِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا تَزَوَّجَ بِنْتَ إهَابٍ فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ فَأَخْبَرَتْ أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُمَا جَمِيعًا فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ هَذَا الْقَدْرُ } ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يَرْوُونَ { فَفَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمَا } فَهُوَ حُجَّةُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عِكْرِمَةَ بْنِ خَالِدٍ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا يُقْبَلُ عَلَى الرَّضَاعِ أَقَلُّ مِنْ شَاهِدَيْنِ وَلِأَنَّ هَذِهِ شَهَادَةٌ تَقُومُ لِإِبْطَالِ الْمِلْكِ وَلَا تَتِمُّ الْحُجَّةُ فِيهِ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ كَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ فَأَمَّا الْحَدِيثُ فَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى

التَّنَزُّهِ بِقَوْلِهِ كَيْفَ وَقَدْ قِيلَ وَلَوْ ثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ بِخَبَرِهَا لَمَا أَشَارَ إلَى التَّنَزُّهِ بِهَذَا اللَّفْظِ وَالزِّيَادَةُ الَّتِي يَرْوِيهَا أَهْلُ الْحَدِيثِ لَمْ تَثْبُتْ عِنْدَنَا وَالدَّلِيلُ عَلَى ضَعْفِهِ مَا رُوِيَ { عَنْ عُقْبَةَ بْنِ الْحَارِثِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ : تَزَوَّجْت بِنْتَ أَبِي إهَابٍ فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ سَوْدَاءُ تَسْتَطْعِمُنَا فَأَبَيْنَا أَنْ نُطْعِمَهَا فَجَاءَتْ مِنْ الْغَدِ تَشْهَدُ عَلَى الرَّضَاعِ } وَمِثْلُ هَذِهِ الشَّهَادَةِ تَكُونُ عَنْ ضِغْنٍ فَلَا تَتِمُّ الْحُجَّةُ بِهَا فَأَمَّا بَيَانُ وَجْهِ التَّنَزُّهِ أَنَّ الْمُخْبِرَ إذَا كَانَ ثِقَةً فَاَلَّذِي يَقَعُ فِي قُلُوبِ السَّامِعِينَ أَنَّهُ صَادِقٌ فِيهِ فَصُحْبَتُهَا تَرِيبُهُ وَمُفَارَقَتُهَا لَا تَرِيبُهُ وَلَوْ أَمْسَكَهَا رُبَّمَا يَطْعَنُ فِيهِ أَحَدٌ وَيَتَّهِمُهُ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَقِفَنَّ مَوَاقِفَ التُّهَمِ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إيَّاكَ وَمَا يَسْبِقُ إلَى الْقُلُوبِ إنْكَارُهُ وَإِنْ كَانَ عِنْدَك اعْتِذَارُهُ فَلَيْسَ كُلُّ سَامِعٍ نُكْرًا تُطِيقُ أَنْ تُوسِعَهُ عُذْرًا } وَلَأَنْ يَدَعَ وَطْئًا حَلَالًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَقْدُمَ عَلَى وَطْءٍ حَرَامٍ وَلَكِنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا لِأَنَّهَا مَنْكُوحَتُهُ فِي الْحُكْمِ فَإِذَا لَمْ يُطَلِّقْهَا لَا تَقْدِرُ عَلَى التَّزَوُّجِ بِغَيْرِهِ فَتَبْقَى مُعَلَّقَةً ثُمَّ يُعْطِيهَا نِصْفَ الصَّدَاقِ بَعْدَ الطَّلَاقِ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا لِأَنَّهَا اسْتَوْجَبَتْ فِي الْحُكْمِ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمْنَعَهَا بِنَظَرِهِ لِنَفْسِهِ وَالْمُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ لَا تَأْخُذَ شَيْئًا إنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُخْبِرُ صَادِقًا وَالنِّكَاحُ لَمْ يَكُنْ مُنْعَقِدًا بَيْنَهُمَا وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَأْخُذَ مِقْدَارَ مَهْرِ مِثْلِهَا بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا وَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَأْخُذَ الزِّيَادَةَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ الْمُسَمَّى وَلَكِنْ تُبْرِيهِ عَنْ

ذَلِكَ لِأَنَّهُ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ لَهَا فِي الْحُكْمِ فَلَا يَسْقُطُ إلَّا بِإِسْقَاطِهَا وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يُنْدَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى مَا قُلْنَا كَمَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْبَتَ نِصْفَ الصَّدَاقِ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ ثُمَّ نَدَبَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ إلَى الْعَفْوِ وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يَشْتَرِي الْجَارِيَةَ فَيُخْبِرُهُ عَدْلٌ أَنَّهَا حُرَّةُ الْأَبَوَيْنِ أَوْ أَنَّهَا أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعِ فَإِنْ تَنَزَّهَ عَنْ وَطْئِهَا فَهُوَ أَفْضَلُ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَسِعَهُ ذَلِكَ وَفَرَّقَ بَيْنَ هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَأَثْبَتَ الْحُرْمَةَ هُنَاكَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ الْعَدْلِ وَلَمْ يَثْبُتْ هُنَا لِأَنَّ حِلَّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ يَثْبُتُ بِالْإِذْنِ بِدُونِ الْمِلْكِ حَتَّى لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ كُلْ طَعَامِي هَذَا أَوْ تَوَضَّأْ بِمَائِي هَذَا أَوْ اشْرَبْهُ وَسِعَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ الْحُرْمَةُ تَثْبُتُ بِمَا لَا يَبْطُلُ بِهِ الْمِلْكُ وَحِلُّ الْوَطْءِ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ الْمِلْكِ حَتَّى لَوْ قَالَ طَأْ جَارِيَتِي هَذِهِ فَقَدْ أَذِنْت لَك فِيهِ أَوْ قَالَتْ لَهُ ذَلِكَ حُرَّةٌ فِي نَفْسِهَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ الْوَطْءُ فَكَذَلِكَ الْحُرْمَةُ تَثْبُتُ بِمَا لَا يَبْطُلُ بِهِ الْمِلْكُ وَهُوَ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَتَقْرِيرُ هَذَا الْفَرْقِ مِنْ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّ الْحِلَّ وَالْحُرْمَةَ فِيمَا سِوَى الْبُضْعِ مَقْصُودٌ بِنَفْسِهِ لِمَا كَانَ يَثْبُتُ بِدُونِ مِلْكِ الْحِلِّ وَتَثْبُتُ الْحُرْمَةُ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ فَكَانَ هَذَا خَبَرًا بِأَمْرٍ دِينِيٍّ وَقَوْلُ الْوَاحِدِ فِيهِ مُلْزِمٌ فَأَمَّا فِي الْوَطْءِ الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ يَثْبُتُ حُكْمًا لِلْمَلْكِ وَزَوَالُهُ لَا يَثْبُتُ مَقْصُودًا بِنَفْسِهِ .
وَقَوْلُ الْوَاحِدِ فِي إبْطَالِ الْمِلْكِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فَكَذَلِكَ فِي الْحِلِّ الَّذِي يَنْبَنِي عَلَيْهِ وَالثَّانِي أَنَّ فِي الْوَطْءِ مَعْنَى الْإِلْزَامِ عَلَى الْغَيْرِ لِأَنَّ الْمَنْكُوحَةَ يَلْزَمُهَا الِانْقِيَادُ لِلزَّوْجِ فِي الِاسْتِفْرَاشِ وَالْمَمْلُوكَةُ يَلْزَمُهَا الِانْقِيَادُ لِمَوْلَاهَا وَخَبَرُ

الْوَاحِدِ لَا يَكُونُ حُجَّةً فِي إبْطَالِ الِاسْتِحْقَاقِ الثَّابِتِ لِشَخْصٍ عَلَى شَخْصٍ فَأَمَّا حِلُّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَلَيْسَ فِيهِ اسْتِحْقَاقُ حَقٍّ عَلَى أَحَدٍ يَبْطُلُ ذَلِكَ بِثُبُوتِ الْحُرْمَةِ وَإِنَّمَا ذَلِكَ أَمْرٌ دِينِيٌّ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ فِي مِثْلِهِ حُجَّةٌ

مُسْلِمٌ اشْتَرَى لَحْمًا فَلَمَّا قَبَضَهُ أَخْبَرَهُ مُسْلِمٌ ثِقَةٌ أَنَّهُ ذَبِيحَةُ مَجُوسِيٍّ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهُ لِأَنَّهُ أُخْبِرَ بِحُرْمَةِ الْعَيْنِ وَهُوَ أَمْرٌ دِينِيٌّ فَتَتِمُّ الْحُجَّةُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِيهِ وَكَمَا لَا يَأْكُلُهُ لَا يُطْعِمُهُ غَيْرَهُ { لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي نَظِيرِهِ أَتُطْعِمِينَ مَا لَا تَأْكُلِينَ } وَلَا يَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ لِأَنَّ فَسْخَ الْبَيْعِ مُعْتَبَرٌ بِنَفْسِ الْبَيْعِ وَكَمَا لَا تَتِمُّ الْحُجَّةُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فِي الْبَيْعِ فَكَذَلِكَ فِيمَا يَفْسَخُهُ وَلَا يَسْتَحِلُّ مَنْعَ الْبَائِعِ ثَمَنَهُ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَوْجَبَهُ بِالْعَقْدِ قَبْلَهُ وَقَوْلُ الْوَاحِدِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي إسْقَاطِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ لِلْعِبَادِ وَلِأَنَّ الْعَيْنَ قَدْ بَقِيَ مَمْلُوكًا لَهُ مُتَقَوِّمًا لِأَنَّ نَقْضَ الْمِلْكِ فِيهِ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ لَا يَجُوزُ فَعَلَيْهِ أَدَاءُ ثَمَنِهِ ( فَإِنْ قِيلَ ) الْحِلُّ هُنَا إنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمًا لِلْمَالِكِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا تَثْبُتَ الْحُرْمَةُ إلَّا بِمَا يَبْطُلُ بِهِ الْمِلْكُ كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الْوَطْءِ ( قُلْنَا ) لَا كَذَلِكَ بَلْ ثُبُوتُ حِلِّ التَّنَاوُلِ بِالْإِذْنِ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْبَيْعِ إذْنُ الْمُشْتَرِي فِي التَّنَاوُلِ مُسَلَّطًا لَهُ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ كَافٍ لِثُبُوتِ الْحِلِّ فِي هَذَا الْعَيْنِ فَمَا زَادَ عَلَيْهِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي حُكْمِ الْحِلِّ وَبِنَحْوِهِ عَلَّلَ فِي الْبُيُوعِ فِي تَنْفِيذِ تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي بِشِرَاءٍ فَاسِدٍ فَقَالَ لِأَنَّ الْبَائِعَ سَلَّطَهُ عَلَى ذَلِكَ وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا تَمَامُ الْبَيْعِ بِهَذَا اللَّفْظِ حَتَّى لَوْ قَالَ كُلْ هَذَا الطَّعَامَ بِدِرْهَمٍ لِي عَلَيْك فَأَكَلَهُ كَانَ هَذَا بَيْعًا وَكَانَ قَدْ أَكَلَهُ حَلَالًا بِخِلَافِ الْوَطْءِ فَإِنَّ الْحُرَّةَ لَوْ قَالَتْ طَأْنِي بِكَذَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ وَلَا يَنْعَقِدُ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا لَوْ فَعَلَهُ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الْجُمْلَةُ دُونَ الْأَحْوَالِ وَإِذَا كَانَ حِلُّ الطَّعَامِ فِي الْجُمْلَةِ

يَثْبُتُ بِغَيْرِ مِلْكٍ فَكَذَلِكَ الْحُرْمَةُ تَثْبُتُ مَعَ قِيَامِ الْمِلْكِ وَلَوْ لَمْ يَبِعْهُ هَذَا الرَّجُلُ وَلَكِنْ أَذِنَ لَهُ فِي التَّنَاوُلِ فَأَخْبَرَهُ مُسْلِمٌ ثِقَةٌ أَنَّهُ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ تَنَاوُلُهُ فَكَذَلِكَ إذَا بَاعَهُ يُوَضِّحُهُ أَنَّ قَبْلَ الْبَيْعِ إنَّمَا لَا يَحِلُّ لَهُ تَنَاوُلُهُ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْعَيْنِ تَثْبُتُ فِي حَقِّهِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَالْبَيْعُ لَيْسَ لَهُ تَأْثِيرٌ فِي إزَالَةِ حُرْمَةٍ ثَابِتَةٍ لِلْعَيْنِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَاهُ بَعْدَ الْإِذْنِ أَوْ مَلَكَهُ بِسَبَبٍ آخَرَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ تَنَاوُلُهُ فَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَاهُ قَبْلَ الْإِذْنِ فَأَخْبَرَهُ عَدْلٌ بِأَنَّهُ مُحَرَّمُ الْعَيْنِ

وَلَوْ اشْتَرَى طَعَامًا أَوْ جَارِيَةً أَوْ مَلَكَ ذَلِكَ بِهِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ فَجَاءَ مُسْلِمٌ ثِقَةٌ فَشَهِدَ أَنَّ هَذَا لِفُلَانٍ الْفُلَانِيِّ غَصَبَهُ مِنْهُ الْبَائِعُ أَوْ الْوَاهِبُ أَوْ الْمَيِّتُ فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَتَنَزَّهَ عَنْ أَكْلِهِ وَشُرْبِهِ وَالْوُضُوءِ مِنْهُ وَوَطْءِ الْجَارِيَةِ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُمَكِّنُ رِيبَةً فِي قَلْبِهِ وَالتَّنَزُّهُ عَنْ مَوَاضِعِ الرِّيبَةِ أَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَتَنَزَّهْ كَانَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُخْبِرَ هُنَا لَمْ يُخْبِرْ بِحُرْمَةِ الْعَيْنِ وَإِنَّمَا أَخْبَرَ أَنَّ مَنْ تَمَلَّكَ مِنْ جِهَتِهِ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا وَهُوَ مُكَذَّبٌ فِي هَذَا الْخَبَرِ شَرْعًا فَإِنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ صَاحِبَ الْيَدِ مَالِكًا بِاعْتِبَارِ يَدِهِ وَلِهَذَا لَوْ نَازَعَهُ فِيهِ غَيْرُهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ وَعَلَى هَذَا أَيْضًا لَوْ أَذِنَ لَهُ ذُو الْيَدِ فِي تَنَاوُلِ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ فَأَخْبَرَهُ ثِقَةٌ أَنَّ هَذَا الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ فِي يَدِهِ غَصْبٌ مِنْ فُلَانٍ وَذُو الْيَدِ يُكَذِّبُهُ وَهُوَ مُتَّهَمٌ غَيْرُ ثِقَةٍ فَإِنْ تَنَزَّهَ عَنْ تَنَاوُلِهِ كَانَ أَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَتَنَزَّهْ كَانَ فِي سَعَةٍ وَفِي الْمَاءِ إذَا لَمْ يَجِدْ وَضُوءًا غَيْرَهُ تَوَضَّأَ بِهِ وَلَمْ يَتَيَمَّمْ لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ ذِي الْيَدِ فِيمَا فِي يَدِهِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا سَبَقَ لِأَنَّ هُنَاكَ الْمُخْبِرُ إنَّمَا أَخْبَرَ بِمِلْكِ الْغَيْرِ فِي الْمَحَلِّ وَخَبَرُهُ فِي هَذَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَهُنَاكَ أَخْبَرَ بِحُرْمَةٍ ثَابِتَةٍ فِي الْمَحَلِّ لِحَقِّ الشَّرْعِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ فِيهِ حُجَّةٌ .
( فَإِنْ قِيلَ ) الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ لَيْسَ بِصِفَةٍ لِلْمَحَلِّ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا هُوَ صِفَةٌ لِلْفِعْلِ الصَّادِرِ مِنْ الْمُخَاطَبِ وَهُوَ التَّنَاوُلُ وَقَدْ أَخْبَرَهُ بِحُرْمَةِ التَّنَاوُلِ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا ( قُلْنَا ) هَذَا شَيْءٌ تَوَهَّمَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا وَهُوَ غَلَطٌ عَظِيمٌ فَإِنَّا لَوْ جَعَلْنَا الْحُرْمَةَ صِفَةً لِلْفِعْلِ حَقِيقَةً ثُمَّ تُوصَفُ الْعَيْنُ بِهِ مَجَازًا كَانَ مَشْرُوعًا فِي الْمَحَلِّ مِنْ

وَجْهٍ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ بَعْدَ ثُبُوتِ حُرْمَةِ الْأُمَّهَاتِ وَحُرْمَةِ الْمَيْتَةِ بِالنَّصِّ وَلَكِنْ نَقُولُ الْحُرْمَةُ صِفَةُ الْعَيْنِ حَقِيقَةً بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ خَرَجَ شَرْعًا مِنْ أَنْ يَكُونَ مَحَلًّا لِلْفِعْلِ الْحَلَالِ وَكَذَلِكَ حَقِيقَةً مُوجِبُهُ النَّفْيُ وَالنَّسْخُ ثُمَّ يَنْتَفِي الْفِعْلُ بِاعْتِبَارِ انْعِدَامِ الْمَحَلِّ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا فِي الْمَحَلِّ كَالْقَتْلِ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْمَيِّتِ وَكَانَ هَذَا إقَامَةَ الْعَيْنِ مَقَامَ الْفِعْلِ فِي أَنَّ صِفَةَ الْحُرْمَةِ تَثْبُتُ لَهُ حَقِيقَةً وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ بِالتَّأَمُّلِ فِي مَوْرِدِ الشَّرْعِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي مَالِ الْغَيْرِ نَهَى عَنْ الْأَكْلِ فَإِنَّهُ قَالَ تَعَالَى { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ } إلَى قَوْلِهِ { لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ } فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُحَرَّمَ هُوَ الْأَكْلُ وَفِي الْمَيْتَةِ قَالَ تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ } فَقَدْ جَعَلَ الْحُرْمَةَ صِفَةً لِلْعَيْنِ وَكَذَلِكَ قَالَ { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } وَبِمَعْرِفَةِ حُدُودِ كَلَامِ صَاحِبِ الشَّرْعِ يَحْسُنُ الْفِقْهُ وَكَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْأَحْكَامُ مَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ عَلَيَّ كَالْمَيْتَةِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ : أَنْتَ عَلَيَّ كَمَتَاعِ فُلَانٍ فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا قُلْنَا : الْحُرْمَةُ الثَّابِتَةُ صِفَةً لِلْعَيْنِ مَحْضُ حَقِّ الشَّرْعِ فَتَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ إلَّا بِإِذْنِ الشَّرْعِ وَحُرْمَةُ التَّنَاوُلِ فِي طَعَامِ الْغَيْرِ ثَابِتَةٌ لِحَقِّ الْغَيْرِ وَلِهَذَا يَسْقُطُ بِإِذْنِهِ وَحَقُّ الْغَيْرِ لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَلَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ أَيْضًا

وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا مُسْلِمًا شَهِدَ عِنْدَهُ رَجُلٌ أَنَّ هَذِهِ الْجَارِيَةَ الَّتِي هِيَ فِي يَدِ فُلَانٍ وَهِيَ مُقِرَّةٌ لَهُ بِالرِّقِّ أَمَةٌ لِفُلَانٍ غَصَبَهَا وَاَلَّذِي هِيَ فِي يَدِهِ يَجْحَدُ ذَلِكَ وَهُوَ غَيْرُ مَأْمُونٍ عَلَى مَا ذَكَرَ فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَشْتَرِيَهَا وَإِنْ اشْتَرَاهَا وَوَطِئَهَا فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُخْبِرَ مُكَذَّبٌ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ شَرْعًا وَالْقَوْلُ قَوْلُ ذِي الْيَدِ أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لَهُ فَلَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ الدَّلِيلَ الشَّرْعِيَّ فَيَشْتَرِيَهَا وَإِنْ احْتَاطَ فَلَمْ يَشْتَرِهَا كَانَ أَوْلَى لَهُ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ تَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ بِغَيْرِهَا وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ فِي مِثْلِهِ : كُنَّا نَدَعُ تِسْعَةَ أَعْشَارِ الْحَلَالِ مَخَافَةَ الْحَرَامِ وَلَوْ أَخْبَرَهُ أَنَّهَا حُرَّةُ الْأَصْلِ أَوْ أَنَّهَا كَانَتْ أَمَةً لِهَذَا الَّذِي فِي يَدِهِ فَأَعْتَقَهَا وَهُوَ مُسْلِمٌ ثِقَةٌ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُخْبِرَ مُكَذَّبٌ شَرْعًا وَإِنَّ تَصَادُقَهُمَا عَلَى أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِذِي الْيَدِ حُجَّةٌ شَرْعًا فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لَهُ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَعْتَمِدَ الْحُجَّةَ الشَّرْعِيَّةَ وَالتَّنَزُّهُ أَفْضَلُ لَهُ .
( فَإِنْ قِيلَ ) فِي هَذَا الْمَوْضِعِ أَخْبَرَ بِحُرْمَةِ الْمَحَلِّ حِينَ زَعَمَ أَنَّهَا مُعْتَقَةٌ أَوْ حُرَّةٌ فَلَوْ جَعَلْت هَذَا نَظِيرَ مَا سَبَقَ ( قُلْنَا ) : لَا كَذَلِكَ فَحُرْمَةُ الْمَحَلِّ هُنَا لِعَدَمِ الْمِلْكِ وَالْمِلْكُ ثَابِتٌ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ وَمَعَ ثُبُوتِ الْمِلْكِ لَا حُرْمَةَ فِي الْمَحَلِّ وَفِي الْكِتَابِ قَالَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ النِّكَاحِ الَّذِي يُشْهَدُ فِيهِ بِالرَّضَاعِ وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى مَا قُلْنَا أَنَّ حِلَّ الْوَطْءِ لَا يَكُونُ إلَّا بِمِلْكٍ وَالْمِلْكُ الْمَحْكُومُ بِهِ شَرْعًا لَا يَبْطُلُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَكَذَلِكَ مَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ مِنْ الْحِلِّ وَإِذَا كَانَتْ الْجَارِيَةُ لِرَجُلٍ فَأَخَذَهَا رَجُلٌ آخَرُ وَأَرَادَ بَيْعَهَا لَمْ يَنْبَغِ لِمَنْ عَرَّفَهَا لِلْأَوَّلِ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْ هَذَا حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا قَدْ

خَرَجَتْ مِنْ مِلْكِهِ وَانْتَقَلَتْ إلَى مِلْكِ ذِي الْيَدِ بِسَبَبٍ صَحِيحٍ أَوْ يَعْلَمَ أَنَّهُ وَكَّلَهُ بِبَيْعِهَا لِأَنَّ دَلِيلَ الْمِلْكِ الْأَوَّلِ ظَهَرَ عِنْدَهُ فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلثَّانِي فِي حَقِّهِ إلَّا بِدَلِيلٍ يُوجِبُ النَّقْلَ إلَيْهِ وَالشِّرَاءُ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ لَا يَحِلُّ إلَّا بِإِذْنِ الْمَالِكِ وَلَوْ عَلِمَ الْقَاضِي مَا عَلِمَهُ هُوَ كَانَ يَحِقُّ عَلَيْهِ تَقْرِيرُهُ عَلَى مِلْكِ الْأَوَّلِ حَتَّى يُثْبِتَ الثَّانِي سَبَبَ الْمِلْكِ لِنَفْسِهِ فَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَهُ هَذَا الَّذِي يُرِيدُ شِرَاءَهُ فَإِنْ سَأَلَ ذَا الْيَدِ فَقَالَ : إنِّي قَدْ اشْتَرَيْتُهَا مِنْهُ أَوْ وَهَبَهَا لِي أَوْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيَّ أَوْ وَكَّلَنِي بِبَيْعِهَا فَإِنْ كَانَ ثِقَةً فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُصَدِّقَهُ عَلَى ذَلِكَ وَيَشْتَرِيَهَا مِنْهُ وَيَطَأَهَا لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ مُسْتَقِيمٍ صَالِحٍ فَيَكُونَ خَبَرُهُ مَحْمُولًا عَلَى الصِّدْقِ مَا لَمْ يُعَارِضْهُ مَانِعٌ يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ وَالْمُعَارِضُ إنْكَارُ الْأَوَّلِ وَلَمْ يُوجَدْ وَلَوْ كَلَّفْنَاهُ الرُّجُوعَ إلَى الْأَوَّلِ لِيَسْأَلَهُ كَانَ فِي ذَلِكَ نَوْعُ حَرَجٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ غَائِبًا أَوْ مُخْتَفِيًا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ إلَّا أَنَّ أَكْبَرَ رَأْيِهِ فِيهِ أَنَّهُ صَادِقٌ فَكَذَلِكَ أَيْضًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فِي الْمُعَامَلَاتِ لَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْعَدَالَةِ فِي كُلِّ خَبَرٍ لِمَعْنَى الْحَرَجِ وَالضَّرُورَةِ لِأَنَّ الْخَبَرَ غَيْرُ مُلْزِمٍ إيَّاهُ شَرْعًا مَعَ أَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ إذَا انْضَمَّ إلَى خَبَرِ الْفَاسِقِ تَأَيَّدَ بِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الْأَخْبَارِ الدِّينِيَّةِ فَهَهُنَا أَوْلَى وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ فِيمَا لَا يُوقَفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ كَالْيَقِينِ وَلَوْ تَيَقَّنَ بِكَذِبِهِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ خَبَرَهُ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ فِي ذَلِكَ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ { قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ضَعْ

يَدَك عَلَى صَدْرِك وَاسْتَفْتِ قَلْبَك فِيمَا حَاكَ فِي صَدْرِك فَهُوَ السَّالِمُ وَإِنْ أَفْتَاك النَّاسُ بِهِ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : الْإِثْمُ حَزَّازُ الْقُلُوبِ } أَيْ عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَتْرُكَ مَا حَزَّ فِي قَلْبِهِ تَحَرُّزًا عَنْ الْإِثْمِ وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ لِغَيْرِ الَّذِي هُوَ فِي يَدَيْهِ حَتَّى أَخْبَرَهُ الَّذِي فِي يَدَيْهِ أَنَّهُ لِغَيْرِهِ وَأَنَّهُ وَكَّلَهُ بِبَيْعِهِ أَوْ وَهَبَهُ لَهُ أَوْ اشْتَرَاهُ مِنْهُ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْمِلْكِ لِلْغَيْرِ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ شَرْعًا فَهَذَا فِي حَقِّ السَّامِعِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ عَلِمَ مِلْكَ الْغَيْرِ بِأَنْ عَايَنَهُ فِي يَدِهِ فَإِنْ كَانَ الْمُخْبِرُ ثِقَةً صَدَّقَهُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ سَبَبِ الْوِلَايَةِ لَهُ فِي بَيْعِهِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ فِيهِ صَدَّقَهُ أَيْضًا وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ وَلَمْ يَشْتَرِهِ وَإِنْ كَانَ لَمْ يُخْبِرْهُ أَنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ لِغَيْرِهِ فَلَا بَأْسَ بِشِرَائِهِ مِنْهُ وَقَبُولِ هِبَتِهِ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ لِأَنَّ دَلِيلَ الْمِلْكِ شَرْعًا ثَابِتٌ لَهُ وَهُوَ الْيَدُ وَالْفَاسِقُ وَالْعَدْلُ فِي هَذَا الدَّلِيلِ سَوَاءٌ حَتَّى إذَا نَازَعَهُ غَيْرُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَيَحِلُّ لِمَنْ رَآهُ فِي يَدِهِ أَنْ يَشْهَدَ لَهُ بِالْمِلْكِ وَالْمَصِيرُ إلَى أَكْبَرِ الرَّأْيِ عِنْدَ انْعِدَامِ دَلِيلٍ ظَاهِرٍ كَمَا لَا يُصَارُ إلَى الْقِيَاسِ عِنْدَ وُجُودِ النَّصِّ .
( قَالَ ) إلَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلُهُ لَا يَتَمَلَّكُ مِثْلَ ذَلِكَ الْعَيْنِ فَأُحِبُّ أَنْ يَتَنَزَّهَ عَنْهُ وَلَا يَتَعَرَّضَ لَهُ بِالشِّرَاءِ أَوْ غَيْرِهِ وَذَلِكَ كَدُرَّةٌ يَرَاهَا فِي يَدِ فَقِيرٍ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا أَوْ رَأَى كِتَابًا فِي يَدِ جَاهِلٍ وَلَمْ يَكُنْ فِي آبَائِهٍ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِذَلِكَ فَاَلَّذِي سَبَقَ إلَى قَلْبِ كُلِّ أَحَدٍ أَنَّهُ سَارِقٌ لِذَلِكَ الْعَيْنِ فَكَانَ التَّنَزُّهُ عَنْ شِرَائِهِ مِنْهُ أَفْضَلَ وَإِنْ اشْتَرَى أَوْ قَبِلَ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ لِغَيْرِهِ

رَجَوْت أَنْ يَكُونَ فِي سَعَةٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ مَالِكٌ وَالْقَوْلُ قَوْلُهُ شَرْعًا فَالْمُشْتَرِي مِنْهُ يَعْتَمِدُ دَلِيلًا شَرْعِيًّا وَذَلِكَ وَاسِعٌ لَهُ إلَّا أَنَّهُ مَعَ هَذَا لَمْ يَبُتَّ الْجَوَابَ وَعَلَّقَهُ بِالرَّجَاءِ لِمَا ظَهَرَ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ وَلِمَا سَبَقَ إلَى وَهْمِ كُلِّ أَحَدٍ أَنَّ مِثْلَهُ لَا يَكُونُ مَالِكًا لِهَذِهِ الْعَيْنِ فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَتَاهُ بِهِ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ وَلَا يَقْبَلَهُ حَتَّى يَسْأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُنَافِيَ لِلْمِلْكِ وَهُوَ الرِّقُّ مَعْلُومٌ فِيهِ فَمَا لَمْ يُعْلَمْ دَلِيلًا مُطْلَقًا لِلتَّصَرُّفِ فِي حَقِّ مَنْ رَآهُ فِي يَدِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ الشِّرَاءُ مِنْهُ لِأَنَّهُ عَالِمٌ أَنَّهُ لِغَيْرِهِ وَالْيَدُ فِي حَقِّ الْمَمْلُوكِ لَيْسَ بِمُطْلَقٍ لِلتَّصَرُّفِ وَإِنَّ الرِّقَّ مَانِعٌ لَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ مَا لَمْ يُوجَدْ الْإِذْنُ فَإِنْ سَأَلَهُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ مَوْلَاهُ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِيهِ وَهُوَ ثِقَةٌ مَأْمُونٌ فَلَا بَأْسَ بِشِرَائِهِ مِنْهُ وَقَبُولِهِ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ مُسْتَقِيمٍ صَالِحٍ وَهُوَ مُحْتَمَلٌ فِي نَفْسِهِ فَيُعْتَمَدُ خَبَرُهُ إذَا كَانَ ثِقَةً وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ فَهُوَ عَلَى مَا يَقَعُ فِي قَلْبِهِ فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا قَالَ صَدَّقَهُ بِقَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ لَمْ يُعْرَضْ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ .
وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ لَا رَأْيَ لَهُ فِيمَا قَالَ لِأَنَّ الْحَاجِزَ لَهُ عَنْ التَّصَرُّفِ ظَاهِرٌ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ مَعَهُ بِمُجَرَّدِ خَبَرِهِ مَا لَمْ يَتَرَجَّحْ جَانِبُ الصِّدْقِ فِيهِ بِنَوْعِ دَلِيلٍ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ الْغُلَامُ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا فِيمَا يُخْبِرُ أَنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي بَيْعِهِ أَوْ أَنَّ فُلَانًا بَعَثَ مَعَهُ إلَيْهِ هَدِيَّةً أَوْ صَدَقَةً فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ وَسِعَهُ أَنْ يُصَدِّقَهُ وَهَذَا لِلْعَادَةِ الظَّاهِرَةِ فِي بَعْثِ الْهَدَايَا عَلَى أَيْدِي الْمَمَالِيكِ وَالصِّبْيَانِ وَفِي التَّوَرُّعِ عَنْهُ مِنْ

الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَقْبَلَ شَيْئًا لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ فِيمَا لَا يُوقَفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ كَالْيَقِينِ

( قَالَ ) : وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : الصَّبِيُّ إذَا أَتَى بَقَّالًا بِفُلُوسٍ يَشْتَرِي مِنْهُ شَيْئًا وَأَخْبَرَهُ أَنَّ أُمَّهُ أَمَرَتْهُ بِذَلِكَ فَإِنْ طَلَبَ الصَّابُونَ وَنَحْوَهُ فَلَا بَأْسَ بِبَيْعِهِ مِنْهُ وَإِنْ طَلَبَ الزَّبِيبَ وَمَا يَأْكُلُهُ الصِّبْيَانُ عَادَةً فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَبِيعَهُ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِيمَا يَقُولُ وَقَدْ عَثَرَ عَلَى فُلُوسِ أُمِّهِ فَيُرِيدُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا حَاجَةَ نَفْسِهِ وَإِنْ قَالَ الصَّبِيُّ : هَذَا لِي وَقَدْ أَذِنَ لِي أَبَى فِي أَنْ أَهَبَهُ لَك أَوْ أَتَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْك لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَبِ وِلَايَةُ الْإِذْنِ بِهَذَا التَّصَرُّفِ لِوَلَدِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ أَبِي بَعَثَهُ إلَيْك عَلَى يَدَيَّ صَدَقَةً أَوْ هِبَةً لِأَنَّ لِلْأَبِ هَذِهِ الْوِلَايَةَ فِي مَالِ نَفْسِهِ فَكَانَ مَا أَخْبَرَهُ مُسْتَقِيمًا وَكَذَلِكَ الْفَقِيرُ إذَا أَتَاهُ عَبْدٌ أَوْ أَمَةٌ بِصَدَقَةٍ مِنْ مَوْلَاهُ

وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا عَلِمَ أَنَّ جَارِيَةً لِرَجُلٍ يَدَّعِيهَا ثُمَّ رَآهَا فِي يَدِ رَجُلٍ آخَرَ يَبِيعُهَا وَيَزْعُمُ أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ فُلَانٍ وَذَلِكَ الرَّجُلُ يَدَّعِي أَنَّهَا لَهُ وَكَانَتْ مُقِرَّةً لَهُ بِالْمِلْكِ غَيْرَ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهَا كَانَتْ فِي يَدِ فُلَانٍ وَذَلِكَ الرَّجُلُ يَدَّعِي أَنَّهَا لَهُ وَكَانَتْ مُقِرَّةً لَهُ بِالْمِلْكِ غَيْرَ أَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهَا كَانَتْ لِي وَإِنَّمَا أَمَرَتْهُ بِذَلِكَ الْأَمْرِ خُفْيَةً وَصَدَّقَتْهُ الْجَارِيَةُ بِذَلِكَ وَالرَّجُلُ ثِقَةٌ مُسْلِمٌ فَلَا بَأْسَ بِشِرَائِهَا مِنْهُ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ مُسْتَقِيمٍ مُحْتَمَلٍ وَلَوْ كَانَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مَعْلُومًا لِلسَّامِعِ كَانَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ وَلَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ فِي رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا وَلَا يَقْبَلَهَا لِأَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَهُ أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِلْأَوَّلِ فَإِنَّ إقْرَارَ ذِي الْيَدِ بِأَنَّ الْأَوَّلَ كَانَ يَدَّعِي أَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ حِينَ كَانَتْ فِي يَدِهِ يُثْبِتُ الْمِلْكَ لَهُ وَكَذَلِكَ سَمَاعُ هَذَا الرَّجُلِ مِنْهُ أَنَّهَا لَهُ دَلِيلٌ فِي حَقِّ إثْبَاتِ الْمِلْكِ لَهُ وَاَلَّذِي أَخْبَرَهُ الْمُخْبِرُ بِخِلَافِ ذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ حِينَ كَانَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي ذَلِكَ وَلَوْ لَمْ يَقُلْ هَذَا وَلَكِنَّهُ قَالَ : ظَلَمَنِي وَغَصَبَنِي وَأَخَذْتهَا مِنْهُ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِشِرَاءٍ وَلَا قَبُولٍ إنْ كَانَ الْمُخْبِرُ ثِقَةً أَوْ غَيْرَ ثِقَةٍ وَالْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ أَخْبَرَ هُنَاكَ بِخَبَرٍ مُسْتَنْكَرٍ فَإِنَّ الظُّلْمَ وَالْغَصْبَ مِمَّا يَمْنَعُ كُلَّ أَحَدٍ عَنْهُ عَقْلُهُ وَدِينُهُ فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ بِخَبَرِهِ غَصْبُ ذَلِكَ الرَّجُلِ بَقِيَ قَوْلُهُ أَخَذْتهَا مِنْهُ وَهَذَا أَخْذٌ بِطَرِيقِ الْعُدْوَانِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ عَايَنَ ذَلِكَ مِنْهُ أَمَرَهُ بِرَدِّهِ عَلَيْهِ حَتَّى يَثْبُتَ مَا يَدَّعِيهِ وَإِذَا سَقَطَ اعْتِبَارُ يَدِهِ بَقِيَ دَعْوَاهُ الْمِلْكَ فِيمَا لَيْسَ فِي يَدِهِ وَذَلِكَ

لَا يُطْلَقُ الشِّرَاءُ مِنْهُ وَفِي الْأَوَّلِ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ مُسْتَقِيمٍ كَمَا قَرَرْنَا فَإِنَّ دِينَهُ وَعَقْلَهُ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ التَّلْجِئَةِ عِنْدَ الْخَوْفِ وَالثَّانِي أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ عِنْدَ الْمَسْأَلَةِ حُجَّةٌ وَعِنْدَ الْمُنَازَعَةِ لَا يَكُونُ حُجَّةً لِأَنَّهُ يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الْإِلْزَامِ وَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَفِي الْفَصْلِ الثَّانِي أَخْبَرَ عَنْ حَالِ مُنَازَعَةٍ بَيْنَهُمَا فِي غَصْبِ الْأَوَّلِ مِنْهُ وَاسْتِرْدَادِ هَذَا فَلَا يَكُونُ خَبَرُهُ حُجَّةً وَفِي الْأَوَّلِ أَخْبَرَ عَنْ حَالِ مُسَالَمَةٍ وَمُوَاضَعَةٍ كَانَ بَيْنَهُمَا فَيُعْتَمَدُ خَبَرُهُ إنْ كَانَ ثِقَةً وَإِنْ قَالَ : إنَّهُ كَانَ ظَلَمَنِي وَغَصَبَنِي ثُمَّ رَجَعَ عَنْ ظُلْمِهِ فَأَقَرَّ لِي بِهَا وَدَفَعَهَا إلَيَّ فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ ثِقَةٌ فَلَا بَأْسَ بِشِرَائِهَا وَقَبُولِهَا مِنْهُ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ عَنْ مُسَالَمَةٍ وَهُوَ إقْرَارُهُ لَهُ بِهَا وَدَفَعَهَا إلَيْهِ وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ لَوْ عَايَنَ مَا أَخْبَرَهُ بِهِ قَضَى بِالْمِلْكِ لَهُ فَيَجُوزُ لِلسَّامِعِ أَنْ يَعْتَمِدَ خَبَرَهُ إنْ كَانَ ثِقَةً وَفِي الْأَوَّلِ لَوْ عَايَنَ الْقَاضِي أَخْذَهَا مِنْهُ قَهْرًا أَوْ أَمَرَهُ بِالرَّدِّ وَلَمْ يُلْتَفَتْ إلَى قَوْلِهِ كَانَ غَصَبَنِي وَكَذَلِكَ إنْ قَالَ : خَاصَمْتُهُ إلَى الْقَاضِي فَقَضَى لِي بِهَا بِبَيِّنَةٍ أَقَمْتُهَا عَلَيْهِ أَوْ بِنُكُولِهِ عَنْ الْيَمِينِ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِخَبَرٍ مُسْتَقِيمٍ وَهُوَ إثْبَاتُهُ مِلْكَ نَفْسِهِ بِالْحُجَّةِ ثُمَّ الْأَخْذُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَذَلِكَ أَقْوَى مِنْ الْأَخْذِ بِتَسْلِيمِ مَنْ كَانَ فِي يَدِهِ إلَيْهِ بَعْدَ إقْرَارِهِ لَهُ بِهَا وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ لَمْ يَشْتَرِهَا مِنْهُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ فِي هَذَا كَالْيَقِينِ .
وَإِنْ قَالَ : قَضَى لِي بِهَا الْقَاضِي وَأَخَذَهَا مِنْهُ فَدَفَعَهَا إلَيَّ أَوْ قَالَ : قَضَى لِي بِهَا وَأَخَذْتُهَا مِنْ مَنْزِلِهِ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَهَذَا وَمَا سَبَقَ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ أَنَّ أَخْذَهُ كَانَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي أَوْ أَنَّ

الْقَاضِيَ دَفَعَهَا إلَيْهِ وَهَذَا خَبَرٌ مُسْتَقِيمٌ صَالِحٌ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ حَالَةِ الْمُسَالَمَةِ مَعْنًى لِأَنَّ كُلَّ ذِي دِينٍ يَكُونُ مُسْتَسْلِمًا لِقَضَاءِ الْقَاضِي وَإِنْ قَالَ : قَضَى لِي بِهَا فَجَحَدَنِي قَضَاهُ فَأَخَذْتهَا مِنْهُ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْهُ لِأَنَّهُ لَمَّا جَحَدَ الْقَضَاءَ فَقَدْ جَاءَتْ الْمُنَازَعَةُ فَإِنَّمَا أَخْبَرَ بِالْأَخْذِ فِي حَالَةِ الْمُنَازَعَةِ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ فِي هَذَا لَا يَكُونُ حُجَّةً لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِلْزَامِ وَلِأَنَّ الْقَضَاءَ سَبَبٌ مُطْلَقٌ لِلْأَخْذِ لَهُ كَالشِّرَاءِ وَلَوْ قَالَ : اشْتَرَيْتهَا وَنَقَدْته الثَّمَنَ ثُمَّ جَحَدَنِي الشِّرَاءَ فَأَخَذْتهَا مِنْهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ خَبَرَهُ وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : جَحَدَنِي الْقَضَاءَ وَهَذَا لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ الْجَاحِدِ فَيَكُونُ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهِ عِنْدَ جُحُودِ الْآخَرِ كَالْمَعْدُومِ مَا لَمْ يُثْبِتْهُ بِالْبَيِّنَةِ يَبْقَى قَوْلُهُ أَخَذْتهَا مِنْهُ وَلَوْ قَالَ : اشْتَرَيْتُهَا مِنْ فُلَانٍ وَقَبَضْتُهَا بِأَمْرِهِ وَنَقَدْتُهُ الثَّمَنَ وَكَانَ ثِقَةً عِنْدَهُ مَأْمُونًا فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ آخَرُ : إنَّ فُلَانًا جَحَدَ هَذَا الشِّرَاءَ وَزَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَبِعْ مِنْهُ شَيْئًا وَاَلَّذِي قَالَ هَذَا أَيْضًا ثِقَةٌ مَأْمُونٌ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِشِرَاءٍ وَلَا غَيْرِهِ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَوْ أَخْبَرَ أَنَّهُ جَحَدَ الشِّرَاءَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا فَكَذَلِكَ إذَا أَخْبَرَهُ غَيْرُهُ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُعَارَضَةَ تَحَقَّقَتْ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ فِي الْأَمْرِ بِالْقَبْضِ وَعَدَمِ الْأَمْرِ وَالْجُحُودِ وَالْإِقْرَارِ فَالْأَصْلُ فِيهِ الْجُحُودُ .
وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَخْبَرَهُ الثَّانِي غَيْرَ ثِقَةٍ إلَّا أَنَّ أَكْبَرَ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ لِأَنَّ خَبَرَ الْفَاسِقِ يَتَأَيَّدُ بِأَكْبَرِ رَأْيِ السَّامِعِ وَإِنْ كَانَ رَأْيُهُ أَنَّهُ كَاذِبٌ وَهُوَ غَيْرُ ثِقَةٍ فَلَا بَأْسَ بِشِرَائِهَا مِنْهُ لِأَنَّ خَبَرَهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ إذَا كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِ السَّامِعِ بِخِلَافِهِ فَكَانَ

الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ خَبَرَ الْعَدْلِ كَانَ مَقْبُولًا لِتَرَجُّحِ جَانِبِ الصِّدْقِ فِيهِ بِأَكْبَرِ الرَّأْيِ لَا بِطَرِيقِ الْيَقِينِ فَإِنَّ الْعَدْلَ غَيْرُ مَعْصُومٍ مِنْ الْكَذِبِ فَإِذَا وُجِدَ مِثْلُهُ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ كَانَ خَبَرُهُ كَخَبَرِ الْعَدْلِ وَإِنْ كَانَا جَمِيعًا غَيْرَ ثِقَةٍ وَأَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّ الثَّانِيَ صَادِقٌ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الثَّانِي ثِقَةً وَفِي الْكِتَابِ قَالَ : لِأَنَّ هَذَا مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَعَلَيْهِ أُمُورُ النَّاسِ وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ كُلَّ ذِي دِينٍ مُعْتَقِدٌ لِمَا هُوَ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ فَتَتِمُّ الْحُجَّةُ بِخَبَرِ الثِّقَةِ لِوُجُودِ الِالْتِزَامِ مِنْ السَّامِعِ اعْتِقَادًا وَالتَّعَامُلُ الظَّاهِرُ بَيْنَ النَّاسِ اعْتِمَادُ هَذِهِ الْأَخْبَارِ وَلَوْ لَمْ يُعْمَلْ فِي مِثْلِ هَذِهِ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ لَضَاقَ الْأَمْرُ عَلَى النَّاسِ فَلِدَفْعِ الْحَرَجِ يُعْتَمَدُ فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ كَمَا جَعَلَ الشَّرْعُ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ حُجَّةً تَامَّةً لِدَفْعِ الضِّيقِ وَالْحَرَجِ

( قَالَ ) : أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ تَاجِرًا قَدِمَ بَلَدًا بِجَوَارٍ وَطَعَامٍ وَثِيَابٍ فَقَالَ : أَنَا مُضَارِبُ فُلَانٍ أَوْ أَنَا مُفَاوِضُهُ وَسِعَ النَّاسَ أَنْ يَشْتَرُوا مِنْهُ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ يَقْدَمُ بَلَدًا بِتِجَارَةٍ وَيَدَّعِي أَنَّ مَوْلَاهُ قَدْ أَذِنَ لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَإِنَّ النَّاسَ يَعْتَمِدُونَ خَبَرَهُ وَيُعَامِلُونَهُ وَلَوْ لَمْ يُطْلِقْ لَهُمْ ذَلِكَ كَانَ فِيهِ مِنْ الْحَرَجِ مَا لَا يَخْفَى وَاسْتَدَلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثٍ رَوَاهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ أَنَّ عَامِلًا لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَهْدَى إلَيْهِ جَارِيَةً فَسَأَلَهَا أَفَارِغَةٌ أَنْتِ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ لَهَا زَوْجًا فَكَتَبَ إلَى عَامِلِهِ أَنَّك بَعَثْت بِهَا إلَيَّ مَشْغُولَةً قَالَ : أَفَتَرَى أَنَّهُ كَانَ مَعَ الرَّسُولِ شَاهِدَانِ أَنَّ عَامِلَك أَهْدَى هَذِهِ إلَيْك وَقَدْ سَأَلَهَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا فَلَمَّا أَخْبَرَتْهُ أَنَّ لَهَا زَوْجًا صَدَّقَهَا وَكَفَّ عَنْهَا وَلَمْ يَسْأَلْهَا عَنْ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهَا لَوْ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا فَارِغَةٌ لَمْ يَرَ بَأْسًا بِوَطْئِهَا

( قَالَ ) : وَأَكْبَرُ الرَّأْيِ وَالظَّنِّ مُجَوِّزٌ لِلْعَمَلِ فِيمَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ هَذَا كَالْفُرُوجِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ فَإِنَّ مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَلَمْ يَرَهَا فَأَدْخَلَهَا عَلَيْهِ إنْسَانٌ وَأَخْبَرَهُ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ وَسِعَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ خَبَرَهُ إذَا كَانَ ثِقَةً أَوْ كَانَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ فَيَغْشَاهَا وَكَذَلِكَ لَوْ دَخَلَ عَلَى غَيْرِهِ لَيْلًا وَهُوَ شَاهِرٌ سَيْفَهُ أَوْ مَادٌّ رُمْحَهُ يَشْتَدُّ نَحْوُهُ وَلَا يَدْرِي صَاحِبُ الْمَنْزِلِ أَنَّهُ لِصٌّ أَوْ هَارِبٌ مِنْ اللُّصُوصِ فَإِنَّهُ يُحَكِّمُ رَأْيَهُ فَإِنْ كَانَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ لِصٌّ قَصَدَهُ لِيَأْخُذَ مَالَهُ وَيَقْتُلَهُ إنْ مَنَعَهُ وَخَافَهُ إنْ زَجَرَهُ أَوْ صَاحَ بِهِ أَنْ يُبَادِرَهُ بِالضَّرْبِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَشُدَّ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْبَيْتِ بِالسَّيْفِ فَيَقْتُلَهُ وَإِنْ كَانَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ هَارِبٌ مِنْ اللُّصُوصِ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يُعَجِّلَ عَلَيْهِ وَلَا يَقْتُلَهُ وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا لِإِيضَاحِ مَا تَقَدَّرَ أَنَّ أَهَمَّ الْأُمُورِ الدِّمَاءُ وَالْفَرْجُ فَإِنَّ الْغَلَطَ إذَا وَقَعَ فِيهِمَا لَا يُمْكِنُ التَّدَارُكُ ثُمَّ جَازَ الْعَمَلُ فِيهِمَا بِأَكْبَرِ الرَّأْيِ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَفِيمَا دُونَ ذَلِكَ أَوْلَى وَإِنَّمَا يُتَوَصَّلُ إلَى أَكْبَرِ الرَّأْيِ فِي حَقِّ الدَّاخِلِ عَلَيْهِ بِأَنْ يُحَكِّمَ رَأْيَهُ وَهَيْئَتَهُ فَإِنْ كَانَ قَدْ عَرَفَهُ قَبْلَ ذَلِكَ بِالْجُلُوسِ مَعَ أَهْلِ الْخَيْرِ فَيَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ هَارِبٌ مِنْ اللُّصُوصِ وَإِنْ عَرَفَهُ بِالْجُلُوسِ مَعَ السُّرَّاقِ اسْتَدَلَّ عَلَيْهِ أَنَّهُ سَارِقٌ وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ : إنَّ فُلَانًا أَمَرَنِي بِبَيْعِ جَارِيَتِهِ الَّتِي هِيَ فِي مَنْزِلِهِ وَدَفَعَهَا إلَى مُشْتَرِيهَا فَلَا بَأْسَ بِشِرَائِهَا مِنْهُ وَقَبَضَهَا مِنْ مَنْزِلِ مَوْلَاهَا بِأَمْرِ الْبَائِعِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ أَوْ إذَا أَوْفَاهُ ثَمَنَهَا وَكَانَ الْبَائِعُ ثِقَةً أَوْ كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ وَوَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ لِأَنَّ الْجَارِيَةَ لَوْ كَانَتْ فِي يَدِهِ جَازَ شِرَاؤُهَا مِنْهُ لَا بِاعْتِبَارِ

يَدِهِ بَلْ بِإِخْبَارِهِ أَنَّهُ وَكِيلٌ بِالْبَيْعِ فَإِنَّ هَذَا خَبَرٌ مُسْتَقِيمٌ صَالِحٌ وَهَذَا مَوْجُودٌ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِي يَدِهِ وَبَعْدَ صِحَّةِ الشِّرَاءِ لَهُ أَنْ يَقْبِضَهَا إذَا أَوْفَى الثَّمَنَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحْتَاجَ إلَى إذْنِ أَحَدٍ فِي ذَلِكَ .
وَإِنْ كَانَ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ قَبْلَ الشِّرَاءِ أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِشَيْءٍ حَتَّى يَسْتَأْمِرَ مَوْلَاهَا فِي أَمْرِهَا لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ بِمَنْزِلَةِ الْيَقِينِ فِي حَقِّهِ فَإِنْ ظَهَرَ كَذِبُهُ قَبْلَ الشِّرَاءِ فَهُوَ مَانِعٌ لَهُ مِنْ الشِّرَاءِ وَإِنْ ظَهَرَ بَعْدَ الشِّرَاءِ فَهُوَ مَانِعٌ لَهُ مِنْ الْقَبْضِ بِحُكْمِ الشِّرَاءِ لِأَنَّ مَا يَمْنَعُ الْعَقْدَ إذَا اقْتَرَنَ بِهِ يَمْنَعُ الْقَبْضَ بِحُكْمِهِ أَيْضًا كَالتَّخَمُّرِ فِي الْعَصِيرِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَبَضَهَا وَوَطِئَهَا ثُمَّ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّ الْبَائِعَ كَذَبَ فِيمَا قَالَ وَكَانَ عَلَيْهِ أَكْبَرُ ظَنِّهِ فَإِنَّهُ يَعْتَزِلُ وَطْأَهَا حَتَّى يَتَعَرَّفَ خَبَرَهَا لِأَنَّ كُلَّ وَطْأَةٍ فِعْلٌ مُسْتَأْنَفٌ مِنْ الْوَاطِئِ وَلَوْ ظَهَرَ لَهُ هَذَا قَبْلَ الْوَطْأَةِ الْأُولَى لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا فَكَذَلِكَ بَعْدَهَا وَهَكَذَا أَمْرُ النَّاسِ مَا لَمْ يَجِئْ التَّجَاحُدُ مِنْ الَّذِي كَانَ يَمْلِكُ الْجَارِيَةَ فَإِذَا جَازَ ذَلِكَ لَمْ يَقْرَبْهَا وَرَدَّهَا عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَهُ فِيهَا ثَابِتٌ بِتَصَادُقِهِمْ وَتَوْكِيلُهُ لَمْ يَثْبُتْ بِقَوْلِ الْبَائِعِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّهَا وَيَتْبَعُ الْبَائِعَ بِالثَّمَنِ لِبُطْلَانِ الْبَيْعِ بَيْنَهُمَا عِنْدَ جُحُودِ التَّوْكِيلِ وَيَنْبَغِي لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَدْفَعَ الْعُقْرَ إلَى مَوْلَى الْجَارِيَةِ لِأَنَّهُ وَطِئَهَا وَهِيَ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لَهُ وَقَدْ سَقَطَ الْحَدُّ بِشُبْهَةٍ فَيَلْزَمُهُ الْعُقْرُ وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي حِينَ اشْتَرَاهَا شَهِدَ عِنْدَهُ شَاهِدَا عَدْلٍ أَنَّ مَوْلَاهَا قَدْ أَمَرَهُ بِبَيْعِهَا ثُمَّ حَضَرَ مَوْلَاهَا فَجَحَدَ أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ بِبَيْعِهَا فَالْمُشْتَرِي فِي سَعَةٍ مِنْ إمْسَاكِهَا وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا حَتَّى

يُخَاصِمَهُ إلَى الْقَاضِي لِأَنَّ شَهَادَةَ الشَّاهِدَيْنِ حُجَّةٌ حُكْمِيَّةٌ وَلَوْ شَهِدَا عِنْدَ الْقَاضِي لَمْ يَلْتَفِتْ الْقَاضِي إلَى جُحُودِ الْمَالِكِ وَقَضَى بِالْوَكَالَةِ وَبِصِحَّةِ الْبَيْعِ فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَا عِنْدَهُ فَإِذَا خَاصَمَ إلَى الْقَاضِي فَقَضَى لَهُ بِهَا لَمْ يَسَعْهُ إمْسَاكُهَا بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي أَنْفَذُ مِنْ الشَّهَادَةِ الَّتِي لَمْ يُقْضَ بِهَا وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الشَّهَادَةَ لَمْ تَكُنْ مُلْزِمَةً بِدُونِ الْقَضَاءِ وَقَضَاءُ الْقَاضِي يُلْزِمُهُ بِنَفْسِهِ وَالضَّعِيفُ لَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَةِ الْقَوِيِّ

رَجُلٌ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَتَّى غَابَ عَنْهَا فَأَخْبَرَهُ مُخْبِرٌ أَنَّهَا قَدْ ارْتَدَّتْ عَنْ الْإِسْلَامِ وَالْمُخْبِرُ ثِقَةٌ عِنْدَهُ وَهُوَ حُرٌّ أَوْ مَمْلُوكٌ أَوْ مَحْدُودٌ فِي قَذْفٍ وَسِعَهُ أَنْ يُصَدِّقَهُ وَيَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا سِوَاهَا لِأَنَّهُ أَخْبَرَهُ بِأَمْرٍ دِينِيٍّ وَهُوَ حِلُّ نِكَاحِ الْأَرْبَعِ لَهُ وَهَذَا أَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ وَكَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ لِأَنَّ خَبَرَ الْفَاسِقِ يَتَأَكَّدُ بِأَكْبَرِ الرَّأْيِ وَلِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ غَيْرُ مُلْزِمٍ إيَّاهُ شَيْئًا وَالْمُعْتَبَرُ فِي مِثْلِهِ التَّمْيِيزُ دُونَ الْعَدَالَةِ وَإِنَّمَا اعْتِبَارُ الْعَدَالَةِ فِي خَبَرٍ مُلْزِمٍ وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ كَاذِبٌ لَمْ يَتَزَوَّجْ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ لِأَنَّ خَبَرَ الْفَاسِقِ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ بِمُعَارَضَةِ أَكْبَرِ الرَّأْيِ بِخِلَافِهِ وَلَوْ كَانَ الْمُخْبِرُ أَخْبَرَ الْمَرْأَةَ أَنَّ زَوْجَهَا قَدْ ارْتَدَّ فَلَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِزَوْجٍ آخَرَ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ أَيْضًا وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ يَقُولُ : لَيْسَ لَهَا ذَلِكَ حَتَّى يَشْهَدَ عِنْدَهَا بِذَلِكَ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ قَالَ : لِأَنَّ رِدَّةَ الزَّوْجِ أَغْلَظُ حَتَّى يَتَعَلَّقَ بِهَا اسْتِحْقَاقُ الْقَتْلِ بِخِلَافِ رِدَّةِ الْمَرْأَةِ وَمَا ذُكِرَ هُنَا أَصَحُّ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِخْبَارُ بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ لَا إثْبَاتَ مُوجِبِ الرِّدَّةِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهَا تَثْبُتُ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَالْقَتْلُ بِمِثْلِهِ لَا يَثْبُتُ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ صَغِيرَةً فَأَخْبَرَ أَنَّهَا قَدْ رَضَعَتْ مِنْ أُمِّهِ أَوْ أُخْتِهِ لَوْ أَخْبَرَ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا يَوْمَ تَزَوَّجَهَا وَهِيَ مُرْتَدَّةٌ أَوْ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَالْمُخْبِرُ ثِقَةٌ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا سِوَاهَا مَا لَمْ يَشْهَدْ بِذَلِكَ عِنْدَهُ شَاهِدَا عَدْلٍ لِأَنَّهُ أَخْبَرَ بِفَسَادِ عَقْدٍ حَكَمْنَا بِصِحَّتِهِ وَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَفِي الْأَوَّلِ مَا أَخْبَرَ بِفَسَادِ أَصْلِ

النِّكَاحِ بَلْ أَخْبَرَ بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ يُوَضِّحُهُ أَنَّ إخْبَارَهُ بِأَنَّ أَصْلَ النِّكَاحِ كَانَ فَاسِدًا مُسْتَنْكَرٌ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُبَاشِرُ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ عَادَةً فَأَمَّا إخْبَارُهُ بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بِسَبَبٍ عَارِضٍ غَيْرِ مُسْتَنْكَرٍ وَإِنْ شَهِدَ عِنْدَهُ شَاهِدَا عَدْلٍ بِذَلِكَ وَسِعَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا لِأَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا بِذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي حَكَمَ بِبُطْلَانِ النِّكَاحِ فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَا بِهِ عِنْدَ الزَّوْجِ وَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ امْرَأَةً غَابَ عَنْهَا زَوْجُهَا فَأَخْبَرَهَا مُسْلِمٌ ثِقَةٌ أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا أَوْ مَاتَ عَنْهَا أَوْ كَانَ غَيْرَ ثِقَةٍ فَأَتَاهَا بِكِتَابٍ مِنْ زَوْجِهَا بِالطَّلَاقِ وَلَا تَدْرِي أَنَّهُ كِتَابُهُ أَمْ لَا إلَّا أَنَّ أَكْبَرَ رَأْيِهَا أَنَّهُ حَقٌّ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ تَعْتَدَّ وَتَتَزَوَّجَ وَلَوْ أَتَاهَا فَأَخْبَرَهَا أَنَّ أَصْلَ نِكَاحِهَا كَانَ فَاسِدًا وَأَنَّ زَوْجَهَا كَانَ أَخَاهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ أَوْ مُرْتَدًّا لَمْ يَسَعْهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بِقَوْلِهِ وَإِنْ كَانَ ثِقَةً لِأَنَّهُ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَخْبَرَهَا بِخَبَرٍ مُسْتَنْكَرٍ وَقَدْ أَلْزَمَهَا الْحُكْمَ بِخِلَافِهِ وَفِي الْأَوَّلِ أَخْبَرَهَا بِخَبَرٍ مُحْتَمَلٍ وَهُوَ أَمْرٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَبِّهَا فَلَهَا أَنْ تَعْتَمِدَ ذَلِكَ الْخَبَرَ وَتَتَزَوَّجَ وَهِيَ نَظِيرُ امْرَأَةٍ قَالَتْ لِرَجُلٍ قَدْ طَلَّقَنِي زَوْجِي ثَلَاثًا وَانْقَضَتْ عِدَّتِي وَوَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهَا صَادِقَةٌ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَزَوَّجَهَا بِقَوْلِهَا وَكَذَلِكَ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا إذَا قَالَتْ لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ انْقَضَتْ عِدَّتِي وَتَزَوَّجْت بِزَوْجٍ آخَرَ وَدَخَلَ بِي ثُمَّ طَلَّقَنِي وَانْقَضَتْ عِدَّتِي فَلَا بَأْسَ عَلَى زَوْجِهَا الْأَوَّلِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا إذَا كَانَتْ عِنْدَهُ ثِقَةً أَوْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهَا صَادِقَةٌ لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْ بِحِلِّهَا لَهُ بِأَمْرٍ مُحْتَمَلٍ وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّهَا لَوْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا الْأَوَّلِ : حَلَلْت لَك لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مَا لَمْ يَسْتَفْسِرْهَا

لِاخْتِلَافٍ بَيْنَ النَّاسِ فِي حِلِّهَا لَهُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ مُطْلَقَ خَبَرِهَا بِالْحِلِّ حَتَّى تُفَسِّرَهُ

وَلَوْ أَنَّ جَارِيَةً صَغِيرَةً لَا تُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهَا فِي يَدِ رَجُلٍ يَدَّعِي أَنَّهَا لَهُ فَلَمَّا كَبِرَتْ لَقِيَهَا رَجُلٌ مِنْ بَلَدٍ آخَرَ فَقَالَتْ : أَنَا حُرَّةُ الْأَصْلِ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّهَا كَانَتْ مَمْلُوكَةً لِذِي الْيَدِ فَإِنَّ الْيَدَ فِيمَنْ لَا يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ دَلِيلُ الْمِلْكِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ ذِي الْيَدِ أَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ فَإِخْبَارُهَا بِخِلَافِ الْمَعْلُومِ لَا يَكُونُ حُجَّةً لَهُ وَهُوَ خَبَرٌ مُسْتَنْكَرٌ وَإِنْ قَالَتْ : كُنْت أَمَةً لَهُ فَأَعْتَقَنِي وَكَانَتْ عِنْدَهُ ثِقَةً أَوْ وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهَا صَادِقَةٌ لَمْ أَرَ بَأْسًا بِأَنْ يَتَزَوَّجَهَا لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْ بِحِلِّهَا لَهُ بِسَبَبٍ مُحْتَمَلٍ لَمْ يَعْلَمْ هُوَ خِلَافَهُ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ خَبَرَهَا وَكَذَلِكَ الْحُرَّةُ نَفْسُهَا لَوْ تَزَوَّجَتْ رَجُلًا ثُمَّ أَتَتْ غَيْرَهُ فَأَخْبَرَتْهُ أَنَّ نِكَاحَهَا الْأَوَّلَ كَانَ فَاسِدًا وَأَنَّ زَوْجَهَا كَانَ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَنْبَغِ لِهَذَا أَنْ يُصَدِّقَهَا وَلَا يَتَزَوَّجَهَا لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ بِخَبَرٍ مُسْتَنْكَرٍ يَعْلَمُ هُوَ خِلَافَ ذَلِكَ وَإِنْ قَالَتْ : إنَّهُ طَلَّقَنِي بَعْدَ النِّكَاحِ أَوْ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ وَسِعَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ خَبَرَهَا وَيَتَزَوَّجَهَا لِأَنَّهَا أَخْبَرَتْ بِحِلِّهَا لَهُ بِسَبَبٍ مُحْتَمَلٍ فَمَتَى أَقَرَّتْ بَعْدَ النِّكَاحِ أَنَّهُ كَانَ مُرْتَدًّا حِينَ تَزَوَّجَنِي أَوْ أَنِّي كُنْت أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ لَا يَعْتَمِدُ خَبَرَهَا لِأَنَّهُ خِلَافُ الْمَعْلُومِ وَإِذَا أَخْبَرَتْ بِالْحُرْمَةِ بِسَبَبٍ عَارِضٍ بَعْدَ النِّكَاحِ مِنْ رَضَاعٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَثَبَتَتْ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ كَانَتْ ثِقَةً مَأْمُونَةً أَوْ غَيْرَ ثِقَةٍ إلَّا أَنَّ أَكْبَرَ رَأْيِهِ أَنَّهَا صَادِقَةٌ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَزَوَّجَهَا وَفِيهِ شُبْهَةٌ فَإِنَّ الْمِلْكَ الثَّابِتَ لِلْغَيْرِ فِيهَا لَا يَبْطُلُ بِخَبَرِهَا وَقِيَامُ الْمِلْكِ لِلْغَيْرِ يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا وَلَكِنَّ قِيَامَ الْمِلْكِ لِلْغَيْرِ فِي الْحَالِ لَيْسَ بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ بَلْ

بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ فَمَا عُرِفَ ثُبُوتُهُ فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ أَقْوَى مِنْ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ فَأَمَّا صِحَّةُ النِّكَاحِ فِي الِابْتِدَاءِ بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ لَهُ وَهُوَ الْعَقْدُ الَّذِي عَايَنَهُ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ { بَرِيرَةَ أَنَّهَا أَتَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِهَدِيَّةٍ إلَيْهَا فَأَخْبَرَتْهَا أَنَّهَا صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهَا فَكَرِهَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنْ تَأْكُلَهُ حَتَّى تَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ } فَقَدْ صَدَّقَ بَرِيرَةُ بِقَوْلِهَا وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ الْعَيْنَ كَانَ مَمْلُوكًا لِغَيْرِهَا وَصَدَّقَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِقَوْلِهَا أَيْضًا حِينَ تَنَاوَلَ مِنْهَا وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى : أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ

بَابُ الرَّجُلِ يَرَى الرَّجُلَ يَقْتُلُ أَبَاهُ أَوْ يَرَهُ ( قَالَ ) : وَإِذَا رَأَى الرَّجُلُ رَجُلًا يَقْتُلُ أَبَاهُ مُتَعَمِّدًا فَأَنْكَرَ الْقَاتِلُ أَنْ يَكُونَ قَتَلَهُ أَوْ قَالَ لِابْنِهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ إنِّي قَتَلْتُهُ لِأَنَّهُ قَتَلَ وَلِيَّ فُلَانًا عَمْدًا أَوْ لِأَنَّهُ ارْتَدَّ عَنْ الْإِسْلَامِ وَلَا يَعْلَمْ الِابْنُ مِمَّا قَالَ الْقَاتِلُ شَيْئًا وَلَا وَارِثَ لِلْمَقْتُولِ غَيْرُهُ فَالِابْنُ فِي سَعَةٍ مِنْ قَتْلِ الْقَاتِلِ لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِحِلِّ دَمِهِ لِلْقَاتِلِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ مُعْتَمِدًا عَلَى قَوْله تَعَالَى { فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا } وَعَلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْعَمْدُ قَوَدٌ } وَحَاصِلُ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا إذَا عَايَنَ قَتْلَهُ وَالثَّانِي إذَا أَقَرَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ قَتَلَهُ فَهَذَا وَمُعَايَنَةُ الْقَتْلِ سَوَاءٌ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ حَتَّى لَا يَمْلِكَ الْمُقِرُّ الرُّجُوعَ عَنْ إقْرَارِهِ فَهَذَا وَمُعَايَنَةُ السَّبَبِ سَوَاءٌ وَالثَّالِثُ أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ بِأَنَّهُ قَتَلَ أَبَاهُ فَيَقْضِيَ لَهُ الْقَاضِي بِالْقَوَدِ فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ قَتْلِهِ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي مُلْزِمٌ فَيَثْبُتُ بِهِ السَّبَبُ الْمُطْلَقُ لِاسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ لَهُ .
وَالرَّابِعُ أَنْ يَشْهَدَ عِنْدَهُ شَاهِدَا عَدْلٍ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ قَتَلَ أَبَاهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ بِشَهَادَةٍ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُوجِبُ الْحَقَّ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا قَضَاءُ الْقَاضِي فَلَا يَتَقَرَّرُ عِنْدَهُ السَّبَبُ الْمُطْلَقُ لِاسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ بِمُجَرَّدِ الشَّهَادَةِ مَا لَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ الْقَضَاءُ وَاَلَّذِي بَيَّنَّا فِي الِابْنِ كَذَلِكَ فِي غَيْرِهِ إذَا عَايَنَ الْقَتْلَ أَوْ سَمِعَ إقْرَارَ الْقَاتِلِ بِهِ أَوْ عَايَنَ قَضَاءَ الْقَاضِي بِهِ كَانَ فِي سَعَةٍ مِنْ أَنْ يُعِينَ الِابْنَ عَلَى قَتْلِهِ لِأَنَّهُ يُعِينُهُ عَلَى اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ وَذَلِكَ مِنْ بَابِ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَوْ شَهِدَ عِنْدَهُ بِذَلِكَ شَاهِدَانِ لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يُعِينَهُ

عَلَى قَتْلِهِ بِشَهَادَتِهِمَا حَتَّى يَقْضِيَ الْقَاضِي لَهُ بِذَلِكَ وَإِنْ أَقَامَ الْقَاتِلُ عِنْدَ الِابْنِ شَاهِدَيْنِ عَدْلَيْنِ أَنَّ أَبَاهُ كَانَ قَتَلَ أَبَا هَذَا الرَّجُلِ عَمْدًا فَقَتَلَهُ بِهِ لَمْ يَنْبَغِ لِلِابْنِ أَنْ يُعَجِّلَ بِقَتْلِهِ حَتَّى يَنْظُرَ فِيمَا شَهِدَا بِهِ لِأَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا بِذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي حَكَمَ بِبُطْلَانِ حَقِّهِ فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَا عِنْدَهُ وَكَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي لِغَيْرِهِ أَنْ يُعِينَهُ عَلَى ذَلِكَ إذَا شَهِدَ عِنْدَهُ عَدْلَانِ لِمَا قُلْنَا أَوْ بِأَنَّهُ كَانَ مُرْتَدًّا حَتَّى يَتَثَبَّتَ فِيهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْقَتْلَ إذَا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ فَيَتَثَبَّتُ فِيهِ حَتَّى يَكُونَ إقْدَامُهُ عَلَيْهِ عَنْ بَصِيرَةٍ وَإِنْ شَهِدَ بِذَلِكَ عِنْدَهُ مَحْدُودَانِ فِي قَذْفٍ أَوْ عَبْدَانِ أَوْ نِسْوَةٌ عُدُولٌ لَا رَجُلَ مَعَهُنَّ أَوْ فَاسِقَانِ فَهُوَ فِي سَعَةٍ مِنْ قَتْلِهِ لِأَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا بِذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ قَتْلِهِ بَلْ يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدُوا عِنْدَهُ .
وَإِنْ تَثَبَّتَ فِيهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ فَإِنَّ الْقَتْلَ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ إذَا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ وَفَرَّقَ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَحَدِّ الْقَذْفِ فَقَالَ الْقَاذِفُ إذَا أَقَامَ أَرْبَعَةً مِنْ الْفُسَّاقِ يَشْهَدُونَ عَلَى صِدْقِ مَقَالَتِهِ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ الْقَذْفِ وَالْقَاتِلُ إذَا أَقَامَ فَاسِقَيْنِ عَلَى الْعَفْوِ أَوْ عَلَى أَنَّ قَتْلَهُ كَانَ بِحَقٍّ لَا يَسْقُطُ الْقَوَدُ عَنْهُ وَالْفَرْقُ أَنَّ هُنَاكَ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْحَدِّ لَمْ يَتَقَرَّرْ فَإِنَّ نَفْسَ الْقَذْفِ لَيْسَ بِمُوجِبٍ لِلْحَدِّ لِأَنَّهُ خَبَرٌ مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ مُوجِبًا بِعَجْزِهِ عَنْ إقَامَةِ أَرْبَعَةٍ مِنْ الشُّهَدَاءِ وَلَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ الْعَجْزُ لِأَنَّ لِلْفُسَّاقِ شَهَادَةً وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَقْبُولَةً وَالْمُوجِبُ لِلْقَوَدِ هُوَ الْقَتْلُ وَقَدْ تَقَرَّرَ ذَلِكَ فَالْعَفْوُ بَعْدَهُ مُسْقِطٌ وَهَذَا الْمُسْقِطُ لَا يَظْهَرُ إلَّا بِقَبُولِ

شَهَادَتِهِ وَلَيْسَ لِلْفَاسِقِ شَهَادَةٌ مَقْبُولَةٌ وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { وَاَلَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ } وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الشَّرْطِ شَرْطٌ وَفِي بَابِ الْقَتْلِ أَوْجَبَ الْقَوَدَ بِنَفْسِ الْقَتْلِ فَقَالَ تَعَالَى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى } ثُمَّ قَالَ { : فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } فَعَرَفْنَا أَنَّ الْعَفْوَ مُسْقِطٌ بَعْدَ الْوُجُوبِ لَا أَنْ يَكُونَ عَدَمُ الْعَفْوِ مُقَرِّرًا سَبَبَ الْوُجُوبِ وَإِنْ شَهِدَ بِذَلِكَ عِنْدَهُ شَاهِدٌ عَدْلٌ مِمَّنْ يَجُوزُ شَهَادَتُهُ فَقَالَ الْقَاتِلُ : عِنْدِي شَاهِدٌ آخَرُ مِثْلُهُ فَفِي الْقِيَاسِ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُ لِأَنَّ الْمَانِعَ لَا يَظْهَرُ بِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُعَجِّلُ بِقَتْلِهِ حَتَّى يَنْظُرَ أَيَأْتِيهِ بِآخَرَ أَمْ لَا لِأَنَّهُ لَوْ أَقَامَ شَاهِدَ عَدْلٍ عِنْدَ الْقَاضِي وَادَّعَى أَنَّ لَهُ شَاهِدًا آخَرَ حَاضِرًا أَمْهَلَهُ إلَى آخِرِ مَجْلِسِهِ فَكَذَلِكَ الْوَلِيُّ يُمْهِلُهُ حَتَّى يَأْتِيَ بِشَاهِدٍ آخَرَ وَإِنْ قَتَلَهُ كَانَ فِي سَعَةٍ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُثْبِتَ لِحَقِّهِ مُقَرَّرٌ وَالْمَانِعُ لَمْ يَظْهَرْ

وَعَلَى هَذَا مَالٌ فِي يَدَيْ رَجُلٍ شَهِدَ عَدْلَانِ عِنْدَ رَجُلٍ أَنَّ هَذَا الْمَالَ كَانَ لِأَبِيك غَصَبَهُ هَذَا الرَّجُلُ مِنْهُ وَلَا وَارِثَ لِلْأَبِ غَيْرُهُ فَلَهُ أَنْ يَدَّعِيَ بِشَهَادَتِهِمْ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ الْمَالَ مَا لَمْ تَقُمْ الْبَيِّنَةُ عِنْدَ الْقَاضِي وَيَقْضِيَ لَهُ بِذَلِكَ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تَكُونُ مُلْزِمَةً بِدُونِ الْقَضَاءِ وَفِي الْأَخْذِ قَصْرُ يَدِ الْغَيْرِ وَلَيْسَ فِي الدَّعْوَى إلْزَامُ أَحَدٍ شَيْئًا فَيَتَمَكَّنُ مِنْ الدَّعْوَى بِشَهَادَتِهِمَا وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَخْذِ حَتَّى يَقْضِيَ لَهُ الْقَاضِي بِذَلِكَ لِأَنَّ ذَا الْيَدِ مُزَاحِمٌ لَهُ بِيَدِهِ وَلَا تَزُولُ مُزَاحَمَتُهُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَكَذَلِكَ لَا يَسَعُ غَيْرَ الْوَارِثِ أَنْ يُعِينَ الْوَارِثَ عَلَى أَخْذِهِ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ الْقَضَاءُ وَإِنْ كَانَ الْوَارِثُ عَايَنَ أَخْذَهُ مِنْ أَبِيهِ وَسِعَهُ أَخْذُهُ مِنْهُ وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ الْآخِذُ عِنْدَهُ بِالْأَخْذِ لِأَنَّ إقْرَارَهُ مُلْزِمٌ فَهُوَ كَمُعَايَنَةِ السَّبَبِ أَوْ قَضَاءِ الْقَاضِي لَهُ بِهِ وَيَسَعُهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ يَسَعُ مَنْ عَايَنَ ذَلِكَ إعَانَتُهُ عَلَيْهِ وَإِنْ أَتَى ذَلِكَ عَلَى نَفْسِهِ إذَا امْتَنَعَ وَهُوَ فِي مَوْضِعٍ لَا يَقْدِرُ فِيهِ عَلَى سُلْطَانٍ يَأْخُذُ لَهُ بِحَقِّهِ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ مِلْكُهُ وَكَمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَ دَفْعًا عَنْ مِلْكِهِ إذَا قَصَدَ الظَّالِمُ أَخْذَهُ مِنْهُ فَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يُقَاتِلَ فِي اسْتِرْدَادِهِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ }

وَإِذَا شَهِدَ عَدْلَانِ عِنْدَ امْرَأَةٍ أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَهُوَ يَجْحَدُ ذَلِكَ ثُمَّ مَاتَا أَوْ غَابَا قَبْلَ أَنْ يَشْهَدَا عِنْدَ الْقَاضِي بِذَلِكَ لَمْ يَسَعْ امْرَأَتَهُ أَنْ تُقِيمَ عِنْدَهُ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ سَمَاعِهَا لَوْ سَمِعَتْهُ يُطَلِّقُهَا ثَلَاثًا لِأَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا بِهَذَا عِنْدَ الْقَاضِي حَكَمَ بِحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَا بِذَلِكَ عِنْدَهَا وَهَذَا بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ الْقَتْلَ وَأَخْذَ الْمَالِ قَدْ يَكُونُ بِحَقٍّ وَقَدْ يَكُونُ بِغَيْرِ حَقٍّ فَأَمَّا التَّطْلِيقَاتُ الثَّلَاثُ لَا تَكُونُ إلَّا مُوجِبَةً لِلْحُرْمَةِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ فَقَدْ يُطَلِّقُ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ طَلَاقًا ( قُلْنَا ) هَذَا عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ إمَّا أَنْ تَكُونَ امْرَأَتُهُ فَيَكُونَ الطَّلَاقُ وَاقِعًا عَلَيْهَا أَوْ تَكُونَ غَيْرَ امْرَأَتِهِ فَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا وَحَاصِلُ الْفَرْقِ أَنَّ هُنَاكَ الشُّبْهَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) احْتِمَالُ الْكَذِبِ فِي شَهَادَتِهِمَا وَالْآخَرُ كَوْنُ الْقَتْلِ بِحَقٍّ فَيَصِيرُ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى مَا لَا يُمْكِنُهُ تَدَارُكُهُ وَهُنَا الشُّبْهَةُ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ احْتِمَالُ الْكَذِبِ فِي شَهَادَتِهِمَا فَأَمَّا إذَا كَانَا صَادِقَيْنِ فَلَا مَدْفَعَ لِلطَّلَاقِ وَبِظُهُورِ عَدَالَتِهِمَا عِنْدَهَا يَنْعَدِمُ هَذَا الِاحْتِمَالُ حُكْمًا كَمَا يَنْعَدِمُ عِنْدَ الْقَاضِي .
( فَإِنْ قِيلَ ) كَمَا أَنَّ فِي شَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ احْتِمَالَ الْكَذِبِ فَفِي إقْرَارِ الْمُقِرِّ ذَلِكَ وَقَدْ قُلْتُمْ يَسَعُهُ أَنْ يَقْتُلَهُ إذَا سَمِعَ إقْرَارَهُ ( قُلْنَا ) هَذَا الِاحْتِمَالُ يَدْفَعُهُ عَقْلُ الْمُقِرِّ فَالْإِنْسَانُ لَا يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِسَفْكِ دَمِهِ كَاذِبًا إذَا كَانَ عَاقِلًا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَاقِلًا فَلَا مُعْتَبَرَ بِإِقْرَارِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا عَلَى رَضَاعٍ بَيْنَهُمَا لَمْ يَسَعْهَا الْمَقَامُ عَلَى ذَلِكَ النِّكَاحِ لِأَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا بِذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَا

عِنْدَهَا فَإِنْ مَاتَ الشَّاهِدَانِ وَجَحَدَ الزَّوْجُ وَحَلَفَ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَفْتَدِيَ بِمَالِهَا أَوْ تَهْرُبَ مِنْهُ وَلَا تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ لِأَنَّهُ تَمْكِينٌ مِنْ الزِّنَا وَكَانَ إسْمَاعِيلُ الزَّاهِدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ تُسْقِيهِ مَا تَنْكَسِرُ بِهِ شَهْوَتُهُ فَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ قَتَلَتْهُ إذَا قَصَدَهَا لِأَنَّهُ لَوْ قَصَدَ أَخْذَ مَالِهَا كَانَ لَهَا أَنْ تَقْتُلَهُ دَفْعًا عَنْ مَالِهَا فَإِذَا قَصَدَ الزِّنَا بِهَا أَوْلَى أَنْ يَكُونَ لَهَا أَنْ تَقْتُلَهُ دَفْعًا عَنْ نَفْسِهَا وَلَوْ هَرَبَتْ مِنْهُ لَمْ يَسَعْهَا أَنْ تَعْتَدَّ وَتَتَزَوَّجَ لِأَنَّهَا فِي الْحُكْمِ زَوْجَةُ الْأَوَّلِ فَلَوْ تَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ كَانَتْ مُمَكِّنَةً مِنْ الْحَرَامِ فَعَلَيْهَا أَنْ تَكُفَّ عَنْ ذَلِكَ قَالُوا : وَهَذَا فِي الْقَضَاءِ فَأَمَّا فِيمَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا

وَلَا يُشْتَبَهُ مَا وَصَفْت لَك قَضَاءُ الْقَاضِي فِيمَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْفُقَهَاءُ مِمَّا يَرَى الزَّوْجُ فِيهِ خِلَافَ مَا يَرَى الْقَاضِي وَبَيَانُ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ : اخْتَارِي فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا وَهُوَ يَرَى أَنَّ ذَلِكَ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ وَالْمَرْأَةُ لَا تَرَى ذَلِكَ فَاخْتَصَمَا فِي النَّفَقَةِ وَالْقَاضِي يَرَاهُ تَطْلِيقَةً رَجْعِيَّةً فَقَضَى الْقَاضِي بِأَنَّهُ يَمْلِكُ رَجْعَتَهَا جَازَ قَضَاؤُهُ وَوَسِعَ الرَّجُلَ أَنْ يُرَاجِعَهَا فَيُمْسِكَهَا وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الَّتِي تَرَاهُ تَطْلِيقَةً بَائِنَةً فَرَاجَعَهَا الزَّوْجُ وَحَكَمَ الْقَاضِي لَهُ بِذَلِكَ وَسِعَهَا الْمَقَامُ بِذَلِكَ مَعَهُ وَلَمْ يَسَعْهَا أَنْ تُفَارِقَهُ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي هُنَا اعْتَمَدَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا وَفِي الْأَوَّلِ قَضَى بِالنِّكَاحِ لِعَدَمِ ظُهُورِ الدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لِلْحُرْمَةِ فَكَانَ إبْقَاءً لِمَا كَانَ لَا قَضَاءً بِالْحِلِّ بَيْنَهُمَا حَقِيقَةً ثُمَّ حَاصِلُ الْكَلَامِ فِي الْمُجْتَهِدَاتِ أَنَّ الْمُبْتَلَى بِالْحَادِثَةِ إذَا كَانَ غَائِبًا لَا رَأْيَ لَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتْبَعَ قَضَاءَ الْقَاضِي سَوَاءٌ قَضَى الْقَاضِي لَهُ بِالْحِلِّ أَوْ بِالْحُرْمَةِ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا مُجْتَهِدًا فَقَضَى الْقَاضِي بِخِلَافِ اجْتِهَادِهِ فَإِنْ كَانَ هُوَ يَعْتَقِدُ الْحِلَّ وَقَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالْحُرْمَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَيَدَعَ رَأْيَ نَفْسِهِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ رَأْيُ نَفْسِهِ لِأَنَّ الْقَضَاءَ مُلْزِمٌ لِلْكَافَّةِ وَرَأْيُهُ لَا يَعْدُوهُ وَإِنْ قَضَى لَهُ بِالْحِلِّ وَهُوَ يَعْتَقِدُ الْحُرْمَةَ فَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ أَنْ يَتْبَعَ رَأْيَ نَفْسِهِ وَفِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَأْخُذُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُعَارِضُ الْقَضَاءَ .
أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْقَاضِي وِلَايَةَ نَقْضِ اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِ وَالْقَضَاءَ عَلَيْهِ بِخِلَافِهِ وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ نَقْضِ الْقَضَاءِ فِي الْمُجْتَهِدَاتِ وَالْقَضَاءُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ وَالضَّعِيفُ لَا يَظْهَرُ مَعَ

الْقَوِيِّ وَأَبُو يُوسُفَ يَقُولُ : اجْتِهَادُهُ مُلْزِمٌ فِي حَقِّهِ وَقَضَاءُ الْقَاضِي يَكُونُ عَنْ اجْتِهَادٍ فَمِنْ حَيْثُ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ مَا يَقْضِي بِهِ الْقَاضِي أَقْوَى وَمِنْ حَيْثُ حَقِيقَةُ الِاجْتِهَادِ يَتَرَجَّحُ مَا عِنْدَهُ فِي حَقِّهِ عَلَى مَا عِنْدَ غَيْرِهِ فَتَتَحَقَّقُ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَهُمَا فَيَغْلِبُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا اجْتَمَعَ الْحَرَامُ وَالْحَلَالُ فِي شَيْءٍ إلَّا غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ } يُوَضِّحُهُ أَنَّ عِنْدَهُ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي لَيْسَ بِصَوَابٍ وَلَوْ كَانَ مَا عِنْدَهُ غَيْرُ الْقَاضِي لَمْ يَقْضِ بِالْحِلِّ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ ذَلِكَ عِنْدَهُ لَا يَعْتَقِدُ فِيهِ الْحِلَّ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إلَى الْحُكَّامِ } الْآيَةُ فَفِي هَذَا بَيَانٌ أَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي لَا يَحِلُّ لِلْمَرْءِ مَا يَعْتَقِدُ فِيهِ الْحُرْمَةَ وَعَلَى هَذَا الْأَمْوَالُ فَإِنَّ الْقَاضِيَ لَوْ قَضَى بِالْمِيرَاثِ لِلْجَدِّ دُونَ الْأَخِ وَالْأَخُ فَقِيهٌ يَعْتَقِدُ فِيهِ قَوْلَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتْبَعَ رَأْيَ الْقَاضِي وَإِنْ قَضَى الْقَاضِي بِالْمُقَاسَمَةِ عَلَى قَوْلِ زَيْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَالْأَخُ يَعْتَقِدُ مَذْهَبَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ وَعَلَى هَذَا الطَّلَاقُ الْمُضَافُ إذَا كَانَ الزَّوْجُ يَعْتَقِدُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ فَقَضَى الْقَاضِي بِخِلَافِهِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ غَائِبًا أَوْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الطَّلَاقَ غَيْرُ وَاقِعٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتْبَعَ رَأْيَ الْقَاضِي أَوْ قَضَى بِخِلَافِ اعْتِقَادِهِ وَعَلَى هَذَا لَوْ اسْتَفْتَى الْعَامِّيُّ أَقْوَى الْفُقَهَاءِ عِنْدَهُ فَأَفْتَى لَهُ بِشَيْءٍ فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اجْتِهَادِهِ لِأَنَّهُ وَسِعَ مِثْلَهُ ثُمَّ فِيمَا يَقْضِي الْقَاضِي بَعْدَ ذَلِكَ بِخِلَافِهِ حُكْمُهُ

كَحُكْمِ الْمُجْتَهِدِ فِي جَمِيعِ مَا بَيَّنَّا وَكَذَلِكَ لَوْ حَكَّمْنَا فَقِيهًا فَحُكْمُهُ كَفَتْوَاهُ لِأَنَّ سَبَبَهُ تَرَاضِيهِمَا لَا وِلَايَةً ثَابِتَةً لَهُ حُكْمًا فَكَانَ تَرَاضِيهِمَا عَلَى تَحْكِيمِهِ كَسُؤَالِهِمَا إيَّاهُ وَالْفَتْوَى لَا تُعَارِضُ قَضَاءَ الْقَاضِي فَإِذَا قَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِخِلَافِ ذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتْبَعَ رَأْيَ الْقَاضِي .
أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ بِخِلَافِ حُكْمِ الْحَكَمِ فِي الْمُجْتَهِدَاتِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِخِلَافِ مَا قَضَى بِهِ غَيْرُهُ فِي الْمُجْتَهِدَاتِ وَلَوْ قَضَى بِهِ لَمْ يَنْفُذْ قَضَاؤُهُ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِنَا حُكْمُ الْحَكَمِ فِي حَقِّهِمَا كَفَتْوَاهُ وَعَلَى هَذَا لَوْ شَهِدَ عَدْلَانِ عِنْدَ جَارِيَةٍ أَنَّ مَوْلَاهَا أَعْتَقَهَا أَوْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَعْتَقَهَا لَمْ يَسَعْهَا أَنْ تَدَعَهُ يُجَامِعُهَا إنْ قَضَى الْقَاضِي بِهِ أَوْ لَمْ يَقْضِ لِأَنَّ حُجَّةَ حُرْمَتِهَا عَلَيْهِ تَمَّتْ عِنْدَهَا فَهُوَ وَالطَّلَاقُ سَوَاءٌ وَلَا يَسَعُهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ إذَا كَانَ الْمَوْلَى يَجْحَدُ الْعِتْقَ وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَا بِعِتْقِ الْعَبْدِ وَالْمَوْلَى يَجْحَدُ لَمْ يَسَعْ الْعَبْدَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِشَهَادَتِهِمَا حَتَّى يَقْضِيَ لَهُ الْقَاضِي بِالْعِتْقِ لِأَنَّهُمَا مَمْلُوكَانِ لَهُ فِي الْحُكْمِ فَلَوْ تَزَوَّجَا بِغَيْرِ إذْنِهِ كَانَا مُرْتَكِبَيْنِ لِلْحَرَامِ عِنْدَ الْقَاضِي وَعِنْدَ النَّاسِ وَالتَّحَرُّزُ عَنْ ارْتِكَابِ الْحَرَامِ فَرْضٌ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .

كِتَابُ التَّحَرِّي ( قَالَ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اعْلَمْ بِأَنَّ التَّحَرِّيَ لُغَةً هُوَ الطَّلَبُ وَالِابْتِغَاءُ كَقَوْلِ الْقَائِلِ لِغَيْرِهِ أَتَحَرَّى مَسَرَّتَك أَيْ أَطْلُبُ مَرْضَاتَك قَالَ تَعَالَى { فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا } وَهُوَ وَالتَّوَخِّي سَوَاءٌ إلَّا أَنَّ لَفْظَ التَّوَخِّي يُسْتَعْمَلُ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالتَّحَرِّي فِي الْعِبَادَاتِ { قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرَّجُلَيْنِ الَّذِينَ اخْتَصَمَا فِي الْمَوَارِيثِ إلَيْهِ : اذْهَبَا وَتَوَخَّيَا وَاسْتَهِمَا وَلْيُحَلِّلْ كُلٌّ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعِبَادَاتِ { : إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ } وَفِي الشَّرِيعَةِ : عِبَارَةٌ عَنْ طَلَبِ الشَّيْءِ بِغَالِبِ الرَّأْيِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَتِهِ ، وَقَدْ مَنَعَ بَعْضُ النَّاسِ الْعَمَلَ بِالتَّحَرِّي لِأَنَّهُ نَوْعُ ظَنٍّ وَالظَّنُّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا وَلَا يَنْتَفِي الشَّكُّ بِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَمَعَ الشَّكِّ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ وَلَكِنَّا نَقُولُ : التَّحَرِّي غَيْرُ الشَّكِّ وَالظَّنِّ فَالشَّكُّ أَنْ يَسْتَوِيَ طَرَفُ الْعِلْمِ بِالشَّيْءِ وَالْجَهْلِ بِهِ وَالظَّنُّ أَنْ يَتَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ دَلِيلٍ وَالتَّحَرِّي أَنْ يَتَرَجَّحَ أَحَدُهُمَا بِغَالِبِ الرَّأْيِ وَهُوَ دَلِيلٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى طَرَفِ الْعِلْمِ وَإِنْ كَانَ لَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى مَا يُوجِبُ حَقِيقَةَ الْعِلْمِ وَلِأَجْلِهِ سُمِّيَ تَحَرِّيًا ، فَالْحَرُّ اسْمٌ لِجَبَلٍ عَلَى طَرَفِ الْمَفَاوِزِ وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ } وَذَلِكَ بِالتَّحَرِّي وَغَالِبِ الرَّأْيِ فَقَدْ أَطْلَقَ عَلَيْهِ الْعِلْمَ ، وَالسُّنَّةُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُؤْمِنُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فِرَاسَةُ الْمُؤْمِنِ لَا تُخْطِئُ } { وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَابِصَةَ ضَعْ يَدَك عَلَى صَدْرِك

فَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي قَلْبِك وَإِنْ أَفْتَاك النَّاسُ } وَشَيْءٌ مِنْ الْمَعْقُولِ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّ الِاجْتِهَادَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ جَائِزٌ لِلْعَمَلِ بِهِ وَذَلِكَ عَمَلٌ بِغَالِبِ الرَّأْيِ ثُمَّ جُعِلَ مَدْرَكًا مِنْ مَدَارِكِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ بِهِ ابْتِدَاءً ، فَكَذَلِكَ التَّحَرِّي مَدْرَكٌ مِنْ مَدَارِكِ التَّوَصُّلِ إلَى أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْعِبَادَةُ لَا تَثْبُتُ بِهِ ابْتِدَاءً ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَمْرُ الْحُرُوبِ ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ الْعَمَلُ فِيهَا بِغَالِبِ الرَّأْيِ مَعَ مَا فِيهَا مِنْ تَعْرِيضِ النَّفْسِ الْمُحْتَرِمَةِ لِلْهَلَاكِ .
( فَإِنْ قِيلَ ) : ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ وَتَتَحَقَّقُ الضَّرُورَةُ لَهُمْ فِي ذَلِكَ كَمَا فِي قِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ وَنَحْوِهَا وَنَحْنُ إنَّمَا أَنْكَرْنَا هَذَا فِي الْعِبَادَاتِ الَّتِي هِيَ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ( قُلْنَا ) : فِي هَذَا أَيْضًا مَعْنَى حَقِّ الْعَبْدِ وَهُوَ التَّوَصُّلُ إلَيَّ إسْقَاطِ مَا لَزِمَهُ أَدَاؤُهُ ، وَكَذَلِكَ فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ فَإِنَّ التَّحَرِّيَ لِمَعْرِفَةِ حُدُودِ الْأَقَالِيمِ وَذَلِكَ مِنْ حَقِّ الْعَبْدِ ، وَفِي الزَّكَاةِ التَّحَرِّي لِمَعْرِفَةِ صِفَةِ الْعَبْدِ فِي الْفَقْرِ وَالْغِنَى فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ غَالِبُ الرَّأْيِ طَرِيقًا لِلْوُصُولِ إلَيْهِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ : بَدَأَ الْكِتَابُ بِمَسَائِلِ الزَّكَاةِ وَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَبْدَأَ بِمَسَائِلِ الصَّلَاةِ لِأَنَّهَا مُبْتَدَأَةٌ فِي الْقُرْآنِ ، وَكَأَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِأَنَّ مَعْنَى حَقِّ الْعَبْدِ فِي الصَّدَقَةِ أَكْثَرُ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ بِهَا سَدُّ خَلَّةِ الْمُحْتَاجِ أَوْ لِأَنَّهُ وَجَدَ فِي بَابِ الصَّدَقَةِ نَصًّا وَهُوَ حَدِيثُ يَزِيد السُّلَمِيِّ عَلَى مَا بَيَّنَهُ فَبَدَأَ بِمَا وَجَدَ فِيهِ النَّصَّ ثُمَّ عَطَفَ عَلَيْهِ مَا كَانَ مُجْتَهِدًا فِيهِ ، وَمَسْأَلَةُ الزَّكَاةِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا أَنْ يُعْطِيَ زَكَاةَ مَالِهِ رَجُلًا مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلَا تَحَرٍّ وَلَا سُؤَالٍ فَهَذَا يُجْزِيهِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ أَنَّهُ غَنِيٌّ لِأَنَّ مُطْلَقَ فِعْلِ

الْمُسْلِمِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَصِحُّ شَرْعًا وَعَلَى مَا يَصِحُّ فِيهِ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِ وَعَلَى مَا هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ ، فَإِنَّ الْفَقْرَ فِي الْقَابِضِ أَصْلٌ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ يُولَدُ وَلَا شَيْءَ لَهُ ، وَالتَّمَسُّكُ بِالْأَصْلِ حَتَّى يَظْهَرَ خِلَافُهُ جَائِزٌ شَرْعًا ، فَالْمُعْطِي فِي الْإِعْطَاءِ يَعْتَمِدُ دَلِيلًا شَرْعِيًّا فَيَقَعُ الْمُؤَدَّى مَوْقِعَهُ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ غَنِيٌّ فَإِذَا ، عَلِمَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لِأَنَّ الْجَوَازَ كَانَ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ وَلَا مُعْتَبَرَ بِالظَّاهِرِ إذَا تَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ فَإِنْ شَكَّ فِي أَمْرِهِ بِأَنْ كَانَ عَلَيْهِ هَيْئَةُ الْأَغْنِيَاءِ أَوْ كَانَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ غَنِيٌّ وَمَعَ ذَلِكَ دَفَعَ إلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يُجْزِيهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ فَقِيرٌ ، لِأَنَّ بَعْدَ الشَّكِّ لَزِمَهُ التَّحَرِّي .
فَإِذَا تَرَكَ التَّحَرِّيَ بَعْدَمَا لَزِمَهُ لَمْ يَقَعْ الْمُؤَدَّى مَوْقِعَ الْجَوَازِ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ فَقِيرٌ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ لِأَنَّ التَّحَرِّيَ كَانَ لِمَقْصُودٍ وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ الْمَقْصُودُ بِدُونِهِ فَسَقَطَ وُجُوبُ التَّحَرِّي كَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ لِمَقْصُودٍ وَهُوَ أَدَاءُ الْجُمُعَةِ فَإِذَا تَوَصَّلَ إلَى ذَلِكَ بِأَنْ حُمِلَ إلَى الْجَامِعِ مُكْرَهًا سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ السَّعْيِ ، وَالثَّالِثُ أَنْ يَتَحَرَّى بَعْدَ الشَّكِّ وَيَقَعَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ غَنِيٌّ فَدَفَعَ إلَيْهِ مَعَ ذَلِكَ فَهَذَا لَا يُشْكِلُ أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِفَقْرِهِ فَإِذَا عَلِمَ فَهُوَ جَائِزٌ وَهُوَ الصَّحِيحُ ، وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ عَلَى قِيَاسِ مَا نُبَيِّنُهُ فِي الصَّلَاةِ وَالْأَصَحُّ هُوَ الْفَرْقُ فَإِنْ الصَّلَاةَ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ مَعَ الْعِلْمِ لَا تَكُونُ طَاعَةً فَإِذَا كَانَ عِنْدَهُ أَنَّ فِعْلَهُ مَعْصِيَةٌ لَا يُمْكِنُ إسْقَاطُ الْوَاجِبِ عَنْهُ ، فَأَمَّا التَّصَدُّقُ عَلَى الْغَنِيِّ صَحِيحٌ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96