كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
، وَلَا يَجُوزُ تَحْوِيلُ الْيَمِينِ عَنْ مَوْضِعِهَا الَّذِي وَضَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ ، وَالْمُشْتَرِي مُدَّعٍ هُنَا حَقَّ الْفَسْخِ فَلَا يَمِينَ فِي جَانِبِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْيَمِينَ فِي مَوْضِعِهَا لِإِبْقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ وَالْمُدَّعِي يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ حَقٍّ غَيْرِ ثَابِتٍ لَهُ فَلَا يَكُونُ الْيَمِينُ حُجَّةً فِي جَانِبِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْيَمِينَ مَشْرُوعَةٌ لِلنَّفْيِ فِي مَوْضِعِهِ لَا يَثْبُتُ بِهَا حُكْمُ النَّفْيِ حَتَّى لَوْ أَوْجَدَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ فَأَقَامَهَا وَقَضَى لَهُ بَعْدَ الْيَمِينِ فَهِيَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا لِأَنَّهَا لَا يَثْبُتُ بِهَا مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا أَوَّلًا .
وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ شَيْئًا فَادَّعَى رَجُلٌ فِيهِ دَعْوَى حَلَفَ الْمُشْتَرِي أَلْبَتَّةَ عِنْدَنَا ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى عَلَى الْعِلْمِ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُحَلِّفُ الْبَائِعَ فِي الْمِلْكِ كَمَا أَنَّ الْوَارِثَ يُحَلِّفُ الْمُوَرِّثَ ثُمَّ فِيمَا يُدَّعَى فِي التَّرِكَةِ إنَّمَا يُسْتَحْلَفُ الْوَارِثُ عَلَى الْعِلْمِ فَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي وَهَذَا لِأَنَّ أَصْلَ الدَّعْوَى عَلَى الْبَائِعِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمُدَّعِيَ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ صَارَ الْبَائِعُ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ حَتَّى رَجَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ فَكَانَ هَذَا فِي مَعْنَى الِاسْتِحْلَافِ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ فَيَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الشِّرَاءَ سَبَبٌ مُتَجَدِّدٌ لِلْمِلْكِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِهِ مِلْكٌ مُتَجَدِّدٌ لِلْمُشْتَرِي وَصَارَ ثُبُوتُ هَذَا الْمِلْكِ لَهُ بِالشِّرَاءِ كَثُبُوتِهِ بِالِاصْطِيَادِ وَالِاسْتِرْقَاقِ ثُمَّ هُنَاكَ إذَا ادَّعَى إنْسَانٌ فِي الْمَمْلُوكِ دَعْوَى يَسْتَحْلِفُ الْمَالِكَ عَلَى الثَّبَاتِ فَهَذَا مِثْلُهُ بِخِلَافِ الْإِرْثِ فَإِنَّ مَوْتَ الْمُوَرِّثِ لَيْسَ بِسَبَبٍ مُتَجَدِّدٍ لِإِثْبَاتِ مِلْكِ الْوَارِثِ ، ثُمَّ يَقُولُ الْمُدَّعِي يَدَّعِي عَلَى الْمُشْتَرِي وُجُوبَ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ إلَيْهِ وَأَنَّهُ غَاصِبٌ فِي أَخْذِهِ وَمَنْعِهِ مِنْهُ وَلَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ غَصَبَهُ مِنْهُ كَانَ الِاسْتِحْلَافُ عَلَى الثَّبَاتِ فَهُنَا كَذَلِكَ أَيْضًا وَهَكَذَا يَقُولُ فِي الْوَارِثِ إذَا أَخَذَ عَيْنَ التَّرِكَةِ فَادَّعَى إنْسَانٌ أَنَّ الْعَيْنَ مِلْكُهُ يُسْتَحْلَفُ عَلَى الثَّبَاتِ لِهَذَا الْمَعْنَى وَهَذَا لِأَنَّ أَصْلَ الِاسْتِحْلَافِ عَلَى الثَّبَاتِ ، وَإِنَّمَا الْيَمِينُ عَلَى الْعِلْمِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْخَصْمِ فِي مَوْضِعٍ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُحَلِّفَهُ عَلَى الثَّبَاتِ ، وَلَمَّا كَانَ الشِّرَاءُ مِنْ ذِي الْيَدِ شَيْئًا مُوجِبًا لِلْمِلْكِ لَهُ كَانَ ذَلِكَ مُطْلَقًا لَهُ الْيَمِينُ عَلَى دَعْوَى الْمُدَّعِي فَلَا حَاجَةَ إلَى اسْتِحْلَافِهِ ، قَالَ وَالْبَرَاءَةُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ جَائِزَةٌ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ بَاعَ
عَبْدًا لَهُ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ بِالْبَرَاءَةِ فَطَعَنَ الْمُشْتَرِي بِعَيْبٍ فَخُوصِمَ إلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَقَالَ يَمِينُك مَا بِعْتَهُ وَبِهِ عَيْبٌ عَلِمْتَهُ وَكَتَمْتَهُ فَأَبَى أَنْ يَحْلِفَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ فَصَلُحَ عِنْدَهُ فَبَاعَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ بَاعَ بِالْبَرَاءَةِ وَعَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ لَا يَبْرَأُ مِنْهُ حَتَّى يُسَمِّيَ كُلَّ عَيْبٍ وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ لَا يَبْرَأُ حَتَّى يُسَمِّيَ الْعُيُوبَ بِأَسْمَائِهَا وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ وَالصُّلْحِ وَفِيهَا حِكَايَةٌ قَالَ : إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَابْنَ أَبِي لَيْلَى اجْتَمَعَا فِي مَجْلِسِ أَبِي جَعْفَرٍ الدَّوَالِقِيِّ فَأَمَرَهُمَا بِالْمُنَاظَرَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَكَانَ مِنْ مَذْهَبِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَنَّهُ لَا يَبْرَأُ حَتَّى يَرَى الْمُشْتَرِي مَوْضِعَ الْعَيْبِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ أَرَأَيْتَ لَوْ بَاعَ جَارِيَةً حَسْنَاءَ فِي مَوْضِعِ الْمَأْتِيِّ مِنْهَا عَيْبٌ أَكَانَ يَحْتَاجُ الْبَائِعُ إلَى كَشْفِ عَوْرَتِهَا لِيُرِيَ الْمُشْتَرِيَ ذَلِكَ الْعَيْبَ ، .
أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ بَعْضَ حَرَمِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بَاعَ غُلَامًا حَبَشِيًّا عَلَى رَأْسِ ذَكَرِهِ بَرَصٌ أَكَانَ يَحْتَاجُ إلَى كَشْفِ ذَلِكَ لِيُرِيَهُ الْمُشْتَرِيَ فَمَا زَالَ يُشَنِّعُ عَلَيْهِ بِمِثْلِ هَذَا حَتَّى أَفْحَمَهُ وَضَحِكَ الْخَلِيفَةُ فَجَعَلَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى بَعْدَ ذَلِكَ يَقُولُ : يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُسَمِّيَ الْعُيُوبَ بِأَسْمَائِهَا لِأَنَّ صِفَةَ الْمَبِيعِ وَمَاهِيَّتَهُ إنَّمَا تَصِيرُ مَعْلُومَةً بِتَسْمِيَةِ مَا بِهِ مِنْ الْعُيُوبِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْإِبْرَاءُ عَنْ الْعُيُوبِ إسْقَاطٌ لِلْحَقِّ وَالْمُسْقِطُ يَكُونُ مُتَلَاشِيًا فَالْجَهَالَةُ لَا تَمْنَعُ صِحَّتَهُ ، ثُمَّ الْبَائِعُ بِهَذَا الشَّرْطِ يُمْنَعُ مِنْ الْتِزَامِ تَسْلِيمِ الْعَيْنِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ فَرُبَّمَا يَلْحَقُهُ الْجَرْحُ فِي تَسْمِيَةِ الْعُيُوبِ وَالْجَرْحُ مَدْفُوعٌ وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ يُمْكِنُ
جَهَالَةً فِي الصِّفَةِ بِتَرْكِ تَسْمِيَةِ الْعُيُوبِ وَلَكِنَّ الْبَائِعَ يُلَاقِي الْعَيْنَ دُونَ الصِّفَةِ فَيَصِحُّ الْبَيْعُ بِشَرْطِ الْبَرَاءَةِ عَنْ الْعُيُوبِ وَيَصِحُّ الْإِبْرَاءُ عَنْ الْجَهَالَةِ لِكَوْنِهِ إسْقَاطًا .
وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ مَالٌ مِنْ ثَمَنِ بَيْعٍ قَدْ حَلَّ فَأَخَّرَهُ عَنْهُ إلَى أَجَلٍ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِي الْأَجَلِ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الصُّلْحِ بَيْنَهُمَا وَذَهَبَ فِي ذَلِكَ أَنَّ التَّأْجِيلَ مُعْتَادٌ جَرَى فِيمَا بَيْنَهُمَا أَنْ لَا يُطَالِبَهُ بِالْمَالِ إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ ، وَالْمَوَاعِيدُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي عَقْدٍ لَازِمٍ ، وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ الْأَجَلُ فِي الْقَرْضِ وَالْعَارِيَّةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَشْرُوطٍ فِي عَقْدٍ لَازِمٍ فَكَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ فِي الثَّمَنِ وَغَيْرِهِ مِنْ الدُّيُونِ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَرْطًا فِي عَقْدٍ لَازِمٍ .
وَكَذَلِكَ الصُّلْحُ أَوْ أَصْلُ الْبَيْعِ إذَا ذُكِرَ فِيهِ الْأَجَلُ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لَوْ بَاعَهُ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فِي الِابْتِدَاءِ يَثْبُتُ الْأَجَلُ فَكَذَلِكَ إذَا أَجَّلَهُ فِي الثَّمَنِ فِي الِانْتِهَاءِ لِأَنَّ هَذَا التَّأْجِيلَ يَلْتَحِقُ بِأَصْلِ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ الزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ بِأَصْلِ الْعَقْدِ وَيَصِيرُ كَالْمَذْكُورِ فِيهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْأَجَلَ بِمَنْزِلَةِ الْخِيَارِ لِأَنَّهُ يُؤَثِّرُ فِي تَغَيُّرِ حُكْمِ الْعَقْدِ فَإِنَّ تَوَجُّهَ الْمُطَالَبَةِ فِي الْحَالِ مِنْ حُكْمِ الْعَقْدِ وَيَتَغَيَّرُ بِالْأَجَلِ وَثُبُوتُ الْمِلْكِ فِي الْحَالِ مِنْ حُكْمِ الْعَقْدِ وَيَتَغَيَّرُ بِشَرْطِ الْخِيَارِ ، ثُمَّ الْخِيَارُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا فِي أَصْلِ الْعَقْدِ أَوْ يَجْعَلَهُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْأَجَلِ وَهَذَا لِأَنَّ الْعَقْدَ قَائِمٌ بَيْنَهُمَا يَمْلِكَانِ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِالرَّفْعِ وَالْإِبْقَاءِ فَيَمْلِكَانِ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِمَا يُغَيِّرُ حُكْمَهُ عَلَى وَجْهٍ هُوَ مَشْرُوعٌ وَتُعْتَبَرُ حَالَةُ الِانْتِهَاءِ بِحَالَةِ الِابْتِدَاءِ وَبِهَذِهِ الْمَعَانِي يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ الثَّمَنِ وَبَدَلِ الْقَرْضِ .
وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ مَالٌ فَتَغَيَّبَ حَتَّى حَطَّ الطَّالِبُ بَعْضَهُ ثُمَّ ظَهَرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيمَا حَطَّ عَنْهُ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ لِأَنَّهُ كَانَ مُضْطَرًّا فِي هَذَا الْحَطِّ فَإِنَّهُ كَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ خَصْمِهِ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْهُ كَمَالَ حَقِّهِ ، وَبِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الضَّرُورَةِ يَنْعَدِمُ تَمَامُ الرِّضَا مِنْهُ بِالْحَطِّ كَمَا يَنْعَدِمُ بِالْإِكْرَاهِ فَكَمَا أَنَّهُ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْحَطِّ لَمْ يَصِحَّ حَطُّهُ لِعَدَمِ تَمَامِ الرِّضَا فَكَذَلِكَ هُنَا ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْحَطُّ إسْقَاطٌ وَهُوَ يَتِمُّ بِالْمُسْقِطِ وَحْدَهُ فَإِذَا أَسْقَطَهُ وَهُوَ طَائِعٌ صَحَّ ذَلِكَ مِنْهُ فَلَا رُجُوعَ لَهُ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْقِطَ يَكُونُ مُتَلَاشِيًا وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ الرُّجُوعُ فِي الْقَائِمِ دُونَ الْمُتَلَاشِي وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ إسْقَاطَ الْبَعْضِ مُعْتَبَرٌ بِإِسْقَاطِ الْكُلِّ وَلَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ جَمِيعِ دَيْنِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ وَإِنْ ظَهَرَ خَصْمُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا حَطَّ بَعْضَهُ .
وَقَوْلُهُ إنَّهُ مُضْطَرٌّ ، قُلْنَا : لَا كَذَلِكَ فَإِنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَنْ يَصِيرَ إلَى أَنْ يَظْهَرَ خَصْمُهُ فَالتَّأْخِيرُ لَا يُفَوِّتُ شَيْئًا مِنْ حَقِّهِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ يَفْعَلُ كَانَ مُخْتَارًا طَائِعًا فِي الْحَطِّ وَالصُّلْحِ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ إذَا أَخَذَ الْقِيمَةَ بَعْدَ مَا أَبَقَ الْمَغْصُوبُ ثُمَّ عَادَ مِنْ إبَاقِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْعَبْدِ سَبِيلٌ وَلِهَذَا الْمَعْنَى صَحَّحْنَا إبْرَاءَهُ عَنْ الْكُلِّ وَفَرَّقْنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُكْرَهَ عَلَى الْإِبْرَاءِ فَكَذَلِكَ الْحَطُّ .
وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ ثَمَرًا قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ مِنْ أَصْنَافِ الثِّمَارِ كُلِّهَا أَوْ اشْتَرَى طَلْعًا حِينَ يَخْرُجُ جَازَ الْعَقْدُ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا خِيَارَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَاسْتَدَلَّ فِي ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا } وَفِي رِوَايَةٍ حَتَّى تُشَقِّحَ أَيْ تُدْرِكَ وَفِي رِوَايَةٍ حَتَّى تَزْهُوَ أَيْ تَنْجُوَ مِنْ الْعَاهَةِ وَهَذَا بِالْإِدْرَاكِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ بَاعَ نَخْلًا مُؤَبَّرَةً فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ } وَالْمُؤَبَّرَةُ هِيَ الَّتِي يَخْرُجُ طَلْعُهَا فَإِذَا شَرَطَ الْمُبْتَاعُ ذَلِكَ فَقَدْ صَارَ مُشْتَرِيًا الثَّمَرَةَ مَقْصُودَةً فَإِنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ فِي الْعَقْدِ إلَّا بِالذِّكْرِ فَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهَا قَبْلَ الْإِدْرَاكِ وَلِأَنَّ مَحَلَّ الْبَيْعِ عَيْنٌ هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ وَالْمَالِيَّةُ بِالتَّمَوُّلِ التَّقَوُّمُ بِكَوْنِهِ مُنْتَفِعًا بِهِ شَرْعًا وَعُرْفًا وَقَدْ تَمَّ هَذَا كُلُّهُ فِي الثِّمَارِ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ ، وَالْعَقْدُ مَتَى صَدَرَ مِنْ أَهْلِهِ فِي مَحَلِّهِ كَانَ صَحِيحًا وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ إلَّا بِالْقَطْعِ وَفِيهِ ضَرَرٌ فَيَكُونُ ذَلِكَ مُفْسِدًا لِلْعَقْدِ كَبَيْعِ الْجِذْعِ فِي السَّقْفِ لِأَنَّ الْبَائِعَ قَادِرٌ عَلَى التَّسْلِيمِ مِنْ غَيْرِ ضَرَرٍ يَلْحَقُهُ فِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَلْحَقُ الضَّرَرُ الْمُشْتَرِيَ وَهُوَ قَدْ رَضِيَ بِالْتِزَامِ هَذَا الضَّرَرِ فَلَا يَمْتَنِعُ صِحَّةُ الْعَقْدِ بِسَبَبِهِ ، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُرَادَ بَيْعُهَا مُدْرِكَةً قَبْلَ الْإِدْرَاكِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ { أَرَأَيْتَ لَوْ أَذْهَبَ اللَّهُ تَعَالَى الثَّمَرَةَ بِمَ يَسْتَحِلُّ أَحَدُكُمْ مَالَ أَخِيهِ } وَالْمُرَادُ بِهِ السَّلَمُ فِي الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ { لَا تَتَلَقَّوْا فِي الثِّمَارِ حَتَّى
يَبْدُوَ صَلَاحُهَا } فَيُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ لِيَكُونَ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا رَوَيْنَا .
فَإِنْ كَانَتْ الثِّمَارُ قَدْ تَلِفَتْ يَعْنِي انْتَهَى عِظَمُهَا فَاشْتَرَاهَا بِشَرْطِ التَّرْكِ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى الْعَقْدُ صَحِيحٌ هَكَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا إذَا شَرَطَ التَّرْكَ مُدَّةً يَسِيرَةً لِأَنَّهُ بَعْدَ مَا يَتَنَاهَى عِظَمُهَا لَا تَزْدَادُ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَإِنَّمَا تُنْضِجُهَا الشَّمْسُ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَأْخُذُ اللَّوْنَ مِنْ الْقَمَرِ وَالذَّوْقَ مِنْ النُّجُومِ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَيْسَ فِي هَذَا اشْتِرَاطُ شَيْءٍ مَجْهُولٍ مِنْ مِلْكِ الْبَائِعِ وَهُوَ شَرْطٌ مُتَعَارَفٌ بَيْنَ النَّاسِ فَيَكُونُ سَالِمًا لِلْعَقْدِ بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ وَبِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعُرْفَ فِيهِ تَقْرِيبٌ إلَى مَقْصُودِ الْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَى بَغْلًا وَشِرَاكَيْنِ بِشَرْطِ أَنْ يَحْدُوَهَا الْبَائِعُ أَوْ اشْتَرَى حَطَبًا فِي الْمِصْرِ بِشَرْطِ أَنْ يُوفِيَهُ فِي مَنْزِلِهِ ، وَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّ هَذِهِ إعَارَةٌ أَوْ إجَارَةٌ مَشْرُوطَةٌ فِي الْبَيْعِ فَيَبْطُلُ بِهَا الْبَيْعُ { لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ } وَبَيَانُهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ التَّرْكِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْبَدَلِ فَهِيَ إجَارَةٌ مَشْرُوطَةٌ فِي الْبَيْعِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِمُقَابِلِهَا شَيْءٌ مِنْ الْبَدَلِ فَهِيَ إعَارَةٌ مَشْرُوطَةٌ فِي الْبَيْعِ وَالْعُرْفُ إنَّمَا يُعْتَبَرُ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ .
فَأَمَّا مَعَ وُجُودِ النَّصِّ فَلَا إذْ الْعُرْفُ لَا يُعَارِضُ النَّصَّ وَهَكَذَا كَانَ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ لَا يَجُوزَ الْعَقْدُ فِيمَا اسْتَشْهَدَ بِهِ وَلَكِنْ تَرَكْنَا الْقِيَاسَ هُنَاكَ لِلْعُرْفِ فَإِنَّهُ لَا نَصَّ فِيهِ بِخِلَافِهِ .
ثُمَّ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ لِأَنَّ فِي هَذَا الشَّرْطِ حَيْلُولَةً بَيْنَ الْبَائِعِ وَبَيْنَ مَا لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَ الْعَقْدِ مِنْ مِلْكِهِ وَهُوَ النَّخِيلُ وَمِثْلُ هَذَا الشَّرْطِ لَا يُلَائِمُ الْعَقْدَ وَفِيهِ يُعْتَبَرُ مَا يَتَنَاوَلُهُ الْعَقْدُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اشْتَرَى
حِنْطَةً بِشَرْطِ أَنْ يَطْحَنَهَا الْبَائِعُ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ فَكَذَلِكَ هُنَا إذَا شَرَطَ التَّرْكَ إلَى مُدَّةٍ يَفْسُدُ بِهَا الْعَقْدُ .
وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ مِائَةَ ذِرَاعٍ مُكَسَّرَةٍ مِنْ أَذْرُعٍ مَقْسُومَةٍ أَوْ عَشَرَةَ أَجْرِبَةٍ مِنْ أَرْضٍ غَيْرِ مَقْسُومَةٍ لَمْ يَجُزْ الشِّرَاءُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى هُوَ جَائِزٌ وَبِهِ أَخَذَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْبُيُوعِ أَنَّ الذِّرَاعَ اسْمٌ لِجُزْءٍ شَائِعٍ عِنْدَهُمْ بِمَنْزِلَةِ السَّهْمِ إلَّا أَنَّ السَّهْمَ غَيْرُ مَعْلُومِ الْمِقْدَارِ فِي نَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِالْإِضَافَةِ فَسَهْمٌ مِنْ سَهْمَيْنِ النِّصْفُ وَسَهْمٌ مِنْ عَشَرَةٍ الْعُشْرُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُبَيِّنَ سَهْمًا مِنْ كَذَا سَهْمًا وَالذِّرَاعُ مَعْلُومُ الْمِقْدَارِ فِي نَفْسِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ يَقُولَ مِنْ كَذَا كَذَا ذِرَاعًا وَالْجَرِيبُ كَذَلِكَ مَعْلُومُ الْمِقْدَارِ بِالذِّرَاعِ فَإِنْ اشْتَرَى عَشَرَةَ أَجْرِبَةٍ وَجُمْلَةُ الْأَرْضِ مِائَةُ جَرِيبٍ فَإِنَّمَا اشْتَرَى عُشْرَهَا وَذَلِكَ مُسْتَقِيمٌ .
وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَى مِائَةَ ذِرَاعٍ فَإِذَا ذَرَعَ الْكُلَّ فَكَانَ أَلْفَ ذِرَاعٍ عَرَفْنَا أَنَّهُ اشْتَرَى عُشْرَهَا ، وَالْمُكَسَّرَةُ الْمَعْرُوفَةُ مِنْ الذِّرَاعِ بَيْنَ النَّاسِ سُمِّيَتْ مُكَسَّرَةً لِأَنَّهَا كُسِرَتْ مِنْ ذِرَاعِ الْمِلْكِ قَبْضَةً وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ الذِّرَاعُ اسْمٌ لِجُزْءٍ مُعَيَّنٍ مِنْ الْأَرْضِ وَهُوَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الذِّرَاعُ فَإِذَا اشْتَرَى مِائَةَ ذِرَاعٍ أَوْ عَشَرَةَ أَجْرِبَةٍ فَإِنَّمَا سَمَّى فِي الْعَقْدِ جُزْءًا مُعَيَّنًا وَهُوَ عُشْرٌ مَعْلُومٌ فِي نَفْسِهِ فَإِنَّ جَوَانِبَ الْأَرْضِ تَخْتَلِفُ فِي الْجَوْدَةِ وَالْمَالِيَّةِ فَتَتَمَكَّنُ الْمُنَازَعَةُ بِهَذَا السَّبَبِ بَيْنَ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي فِي التَّسْلِيمِ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى بَيْتًا مِنْ بُيُوتِ الدَّارِ ، ثُمَّ إذَا جَازَ الْعَقْدُ عِنْدَهُمْ فَإِنْ كَانَتْ مِائَةَ ذِرَاعٍ فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي ، وَإِنْ كَانَتْ مِائَتَيْ ذِرَاعٍ فَالْمُشْتَرِي يَكُونُ شَرِيكًا بِقَدْرِ مِائَةِ ذِرَاعٍ ، وَإِنْ كَانَتْ دُونَ مِائَةِ ذِرَاعٍ فَلِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّهَا إنْ شَاءَ لِتَغْيِيرِ شَرْطِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ وَإِنْ شَاءَ
أَخَذَهَا بِحِصَّتِهَا مِنْ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ سَمَّى جُمْلَةَ الثَّمَنِ بِمُقَابَلَةِ مِائَةِ ذِرَاعٍ فَإِذَا لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ إلَّا خَمْسُونَ ذِرَاعًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ إلَّا نِصْفُ الثَّمَنِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ اشْتَرَى الْأَرْضَ عَلَى أَنَّهَا مِائَةُ ذِرَاعٍ فَوَجَدَهَا خَمْسِينَ ذِرَاعًا وَاخْتَارَ أَخْذَهَا لَزِمَهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ لِأَنَّ هُنَاكَ الثَّمَنُ بِمُقَابَلَةِ الْعَيْنِ وَذُكِرَ الذِّرَاعُ عَلَى وَجْهِ بَيَانِ الصِّفَةِ وَهُنَا الثَّمَنُ بِمُقَابَلَةِ مَا سُمِّيَ مِنْ الذِّرَاعِ هُنَا لِبَيَانِ مِقْدَارِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَإِذَا لَمْ يُسَلَّمْ لَهُ إلَّا نِصْفُ الْمُسَمَّى لَا يَلْزَمُهُ إلَّا نِصْفُ الثَّمَنِ كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَشَرَةَ أَقْفِزَةٍ حِنْطَةً فَوَجَدَهَا خَمْسَةَ أَقْفِزَةٍ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا يَجُوزُ عِتْقُ مَنْ قَدْ فَلَّسَهُ الْقَاضِي وَحَبَسَهُ فِي الدَّيْنِ ، وَعِنْدَنَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ إلَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا سِعَايَةَ عَلَى الْعَبْدِ وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ يَلْزَمُهُ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ لِلْغُرَمَاءِ وَهُوَ بِنَاءٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْحَجْرِ .
فَأَمَّا ابْنُ أَبِي لَيْلَى قَالَ : إنَّ مَالَهُ بِالتَّفْلِيسِ وَالْحَبْسِ صَارَ حَقًّا لِغُرَمَائِهِ فَإِعْتَاقُهُ صَادَفَ مَحَلًّا هُوَ حَقُّ الْغَيْرِ وَفِيهِ إضْرَارٌ بِمَنْزِلَةِ الْحَقِّ فَلَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ صَاحِبِ الْحَقِّ عَمَلًا بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ } وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْمَرْهُونِ أَنَّهُ لَا يَنْفُذُ عِتْقُ الرَّاهِنِ لِاشْتِغَالِهِ بِحَقِّ الْمُرْتَهِنِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الرَّهْنِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْعَبْدُ لَا يَزُولُ عَنْ مِلْكِهِ بِالتَّفْلِيسِ وَالْحَبْسِ فِي الدَّيْنِ وَلَا يَصِيرُ مَمْلُوكًا لِلْغَرِيمِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ شَيْئًا مِنْ تَصَرُّفَاتِ الْغَرِيمِ لَا يَنْفُذُ فَإِذَا بَقِيَ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ نَفَذَ عِتْقُهُ فِيهِ لِأَنَّ شَرْطَ نُفُوذِ الْعِتْقِ مِلْكُ الْمَحَلِّ وَالْأَهْلِيَّةُ فِي الْعِتْقِ وَبَعْدَ وُجُودِهِمَا لَا يَمْتَنِعُ نُفُوذُهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْغَيْرِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ عِتْقَ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ يَنْفُذُ فِي نَصِيبِهِ وَإِنْ كَانَ يَتَضَرَّرُ بِهِ صَاحِبُهُ وَكَذَلِكَ عِتْقُ الْمُشْتَرِي فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَنْفُذُ وَإِنْ كَانَ يَتَضَرَّرُ بِهِ الْبَائِعُ خُصُوصًا إذَا كَانَ الْمُشْتَرِي مُفْلِسًا .
وَإِذَا أَعْطَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ مَتَاعًا يَبِيعُهُ لَهُ وَلَمْ يُسَمِّ بِالنَّقْدِ وَلَا بِالنَّسِيئَةِ فَبَاعَهُ بِالنَّسِيئَةِ فَالْبَيْعُ جَائِزٌ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْبَائِعِ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى الْبَائِعُ ضَامِنٌ لِقِيمَةِ الْمَتَاعِ يَدْفَعُهَا إلَى الْآمِرِ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ بِالْبَيْعِ مُعْتَبَرٌ بِمُطْلَقِ إيجَابِ الْبَيْعِ وَذَلِكَ مُنْصَرِفٌ إلَى النَّقْدِ خَاصَّةً فَكَذَلِكَ هَذَا وَإِذَا انْصَرَفَ إلَى النَّقْدِ كَانَ هُوَ مُخَالِفًا إذَا بَاعَهُ بِالنَّسِيئَةِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ ضَامِنًا قِيمَتَهُ لِلْآمِرِ وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِبَيْعِ مَتَاعِهِ لِحَاجَتِهِ إلَى الثَّمَنِ إمَّا لِقَضَاءِ الدَّيْنِ أَوْ لِلْإِنْفَاقِ عَلَى عِيَالِهِ وَالثَّابِتُ بِالْعُرْفِ كَالثَّابِتِ بِالنَّصِّ وَلَوْ صَرَّحَ بِهَذَا لِلْوَكِيلِ كَانَ هُوَ مُخَالِفًا فِي بَيْعِهِ بِالنَّسِيئَةِ فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ بِالْعُرْفِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْأَمْرُ مُطْلَقٌ فَتَقْيِيدُهُ بِالْبَيْعِ بِالنَّقْدِ يَكُونُ زِيَادَةً وَمِثْلُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ وَالْعُرْفُ لَا يَصْلُحُ مُقَيَّدًا لِهَذَا فَالْعُرْفُ مُشْتَرَكٌ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِالْبَيْعِ لِلِاسْتِرْبَاحِ ، وَالرِّبْحُ إنَّمَا يَحْصُلُ أَكْثَرُهُ بِالْبَيْعِ بِالنَّسِيئَةِ ثُمَّ يَفْسُدُ الْمُطْلَقُ فِي مَعْنَى نَسْخِ حُكْمِ الْإِطْلَاقِ فَلَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الْعُرْفِ لِأَنَّ الْعُرْفَ لَا يُعَارِضُ النَّصَّ وَالشَّيْءُ لَا يَنْسَخُهُ مَا دُونَهُ بِخِلَافِ مَا إذَا نَصَّ عَلَى التَّقْيِيدِ وَلَيْسَ هَذَا نَظِيرَ إيجَابِ الْبَيْعِ لِأَنَّ الْعَمَلَ هُنَاكَ بِالْإِطْلَاقِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَإِنَّ الْبَيْعَ لَا يَكُونُ إلَّا بِثَمَنٍ مُقَيَّدٍ بِوَصْفٍ إمَّا النَّقْدُ أَوْ النَّسِيئَةُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ قَالَ بِعْتُهُ مِنْكَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ إنْ شِئْتَ بِالنَّقْدِ وَإِنْ شِئْتَ بِالنَّسِيئَةِ ؛ لَمْ يَجُزْ الْعَقْدُ بِخِلَافِ التَّوْكِيلِ فَإِنَّ الْعَمَلَ بِالْإِطْلَاقِ هُنَا مُمْكِنٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ : بِعْهُ بِالنَّقْدِ أَوْ بِالنَّسِيئَةِ كَانَ صَحِيحًا وَهَذَا
لِأَنَّ الْبَيْعَ قَدْ نَفَذَ بِسَبَبِ حَرَامٍ وَهَذِهِ الْحُرْمَةُ كَانَتْ لِحَقِّ الْأَمْرِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ الْفَضْلَ إلَى الْآمِرِ ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ لَمْ يَرْجِعْ الْبَائِعُ عَلَى الْآمِرِ بِشَيْءٍ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَضَرَّ بِنَفْسِهِ حِينَ بَاعَهُ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ عَلَى وَجْهٍ صَارَ مُخَالِفًا وَهُوَ الْبَيْعُ بِالنَّسِيئَةِ فَيَكُونُ الْخُسْرَانُ عَلَيْهِ .
وَإِذَا بَاعَ الرَّجُلُ جَارِيَةً بِجَارِيَةٍ وَتَقَابَضَا ثُمَّ وَجَدَ أَحَدُهُمْ بِالْجَارِيَةِ الَّتِي قَبَضَ عَيْبًا فَإِنَّهُ يَرُدُّهَا وَيَأْخُذُ جَارِيَتَهُ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَرُدُّهَا وَيَأْخُذُ قِيمَتَهَا صَحِيحَةً .
وَكَذَلِكَ هَذَا فِي كُلِّ حَيَوَانٍ أَوْ عَرْضٍ .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْعِوَضِ الَّذِي مِنْ جِهَةِ صَاحِبِهِ مُشْتَرًى اشْتَرَاهُ بِعِوَضِهِ وَفِي الْعِوَضِ الَّذِي مِنْ جَانِبِهِ بَائِعٌ وَالْبَيْعُ غَيْرُ الشِّرَاءِ فَإِذَا وَجَدَ عَيْبًا بِمَا اشْتَرَى فَرَدَّهُ يَبْطُلُ الشِّرَاءُ وَلَكِنْ لَا يَبْطُلُ الْبَيْعُ وَإِذَا بَقِيَ الْعَقْدُ فِي الْعِوَضِ الْآخَرِ كَانَ عَلَى صَاحِبِهِ تَسْلِيمُ الْبَدَلِ إلَيْهِ كَمَا الْتَزَمَهُ بِالْعَقْدِ صَحِيحًا وَقَدْ عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ فَيَلْزَمُهُ رَدُّ قِيمَتِهِ كَمَا فِي النِّكَاحِ إذَا وَجَدَتْ الْمَرْأَةُ بِالصَّدَاقِ عَيْبًا فَاحِشًا فَرَدَّتْ رَجَعَتْ عَلَى الزَّوْجِ بِقِيمَتِهِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ فَإِذَا كَانَ هُنَاكَ حُكْمُ الرَّدِّ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَرْدُودِ وَلَا يَتَعَدَّى إلَى الْعِوَضِ الْآخَرِ فَكَذَلِكَ هُنَا يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْقِيمَةَ سُمِّيَتْ قِيمَةً لِقِيَامِهَا مَقَامَ الْعَيْنِ فَصَارَتْ قُدْرَتُهُ عَلَى تَسْلِيمِ قِيمَتِهَا صَحِيحَةً كَقُدْرَتِهِ عَلَى تَسْلِيمِ عَيْنِهَا فَيَبْقَى الْعَقْدُ فِي الْبَدَلِ الْمَوْجُودِ عَلَى شَرْطِ الْعَقْدِ بِقِيمَةِ الْآخَرِ .
وَجْهُ قَوْلِنَا إنَّ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ يَنْفَسِخُ الْقَبْضُ فِي الْمَرْدُودِ مِنْ الْأَصْلِ وَيَتَحَقَّقُ عَجْزُ بَائِعِهَا عَنْ تَسْلِيمِهَا كَمَا أَوْجَبَهُ الْعَقْدُ وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلْعَقْدِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ يَبْطُلُ الْعَقْدُ فِيهِمَا جَمِيعًا فَكَذَلِكَ إذَا رُدَّتَا بِالْعَيْبِ ، وَبِهِ فَارَقَ النِّكَاحَ فَإِنَّ هُنَاكَ لَوْ تَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ بِالْهَلَاكِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَزِمَهُ قِيمَتُهُ فَكَذَلِكَ إذَا تَعَذَّرَ التَّسْلِيمُ بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَهَذَا لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ التَّسْلِيمِ فِي الِابْتِدَاءِ هُنَاكَ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ
وَالتَّسْمِيَةُ بِأَنْ يُزَوِّجَ امْرَأَةً عَلَى عَبْدِ الْغَيْرِ فَإِنَّ التَّسْمِيَةَ تَصِحُّ .
وَإِذَا عَجَزَ عَنْ تَسْلِيمِ الْمُسَمَّى يَجِبُ قِيمَتُهُ فَهُنَالِكَ الْعَجْزُ فِي الِانْتِهَاءِ وَهُنَا الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ فِي الِابْتِدَاءِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ فَإِنَّهُ لَوْ اشْتَرَى جَارِيَةً بِعَبْدِ الْغَيْرِ لَا يَصِحُّ الشِّرَاءُ فَكَذَلِكَ إذَا عَجَزَ عَنْ التَّسْلِيمِ فِي الِانْتِهَاءِ بَطَلَ الْعَقْدُ فَيَلْزَمُهُ رَدُّ الْمَقْبُوضِ بِحُكْمِهِ ، ثُمَّ الْقِيمَةُ إنَّمَا تَقُومُ مَقَامَ الْعَيْنِ ، وَالْحَاجَةُ هُنَا إلَى تَسْلِيمِ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ وَهِيَ جَارِيَةٌ صَحِيحَةٌ لَا إلَى تَسْلِيمِ الْعَيْنِ لِأَنَّ الْعَيْنَ قَدْ كَانَتْ مُسَلَّمَةً إلَيْهِ فَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّهُ يَأْخُذُ قِيمَتَهَا لَكَانَ يَأْخُذُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِالْعَقْدِ الْقِيمَةَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فَلِهَذَا لَا يَبْقَى الْعَقْدُ بَعْدَ رَدِّهَا بِالْعَيْبِ ، وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَاهَا بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ رَدَّهَا بِالْعَيْبِ اسْتَرَدَّ دَرَاهِمَهُ وَلَمْ يَرْجِعْ بِقِيمَتِهَا فَهَذَا مِثْلُهُ .
وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ سِلْعَةً فَطَعَنَ فِيهَا بِعَيْبٍ قَبْلَ أَنْ يَنْقُدَ الثَّمَنَ فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْعَيْبِ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ شُهُودٍ عَلَى الْعَيْبِ حَتَّى يَنْقُدَ الثَّمَنَ لِأَنَّ قَبُولَ الْبَيِّنَةِ يَنْبَنِي عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ وَإِنَّمَا تَصِحُّ الدَّعْوَى مِنْ الْمُشْتَرِي عِنْدَ وُجُودِ الْعَيْبِ لِأَنَّهُ يُطَالِبُ الْبَائِعَ بِرَدِّ الثَّمَنِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ قَبْلَ إنْقَادِ الثَّمَنِ وَبِدُونِ دَعْوَى صَحِيحَةٍ لَا يَقْبَلُ مِنْهُ الْبَيِّنَةَ .
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الرَّدَّ بِخِيَارِ الْعَيْبِ كَالرَّدِّ بِخِيَارِ الشَّرْطِ وَالرُّؤْيَةِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ ؛ إذْ الرَّدُّ بِحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ مُعْتَبَرٌ بِالرَّدِّ بِالْإِقْرَارِ ، وَلَوْ أَقَرَّ الْبَائِعُ بِالْعَيْبِ كَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِ قَبْلَ نَقْدِ الثَّمَنِ فَكَذَلِكَ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ
عَلَى الْعَيْبِ ، قَوْلُهُ بِأَنَّ دَعْوَاهُ لَا يَصِحُّ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ فَإِنَّهُ يُطَالِبُ الْبَائِعَ بِتَسْلِيمِ الْجُزْءِ الْفَائِتِ وَذَلِكَ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ لَهُ بِالْعَقْدِ فَيَصِحُّ مِنْهُ دَعْوَى الْمُطَالَبَةِ بِالتَّسْلِيمِ ثُمَّ إذَا تَحَقَّقَ عَجْزُ الْبَائِعِ عَنْ تَسْلِيمِهِ رُدَّ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ ، ثُمَّ هُوَ يَدَّعِي بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ عَنْ الثَّمَنِ بَعْدَ رَدِّ الْعَيْنِ عَلَيْهِ ، وَدَعْوَى سَبَبِ الْبَرَاءَةِ مِنْ الدُّيُونِ دَعْوَى صَحِيحَةٌ فَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ عَلَى ذَلِكَ وَالْعَقْدُ لَازِمٌ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهُوَ يَدَّعِي انْعِدَامَ لُزُومِهِ فِي جَانِبِهِ بِسَبَبِ الْعَيْبِ وَهَذِهِ دَعْوَى صَحِيحَةٌ مِنْهُ كَدَعْوَى شَرْطِ الْخِيَارِ .
وَإِذَا بَاعَ الرَّجُلُ عَلَى ابْنِهِ وَهُوَ كَبِيرٌ دَارًا أَوْ مَتَاعًا مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ وَلَا عُذْرَ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى بَيْعُهُ جَائِزٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيكَ } وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنَّ أَطْيَبَ مَا يَأْكُلُ الرَّجُلُ مِنْ كَسْبِهِ وَإِنَّ وَلَدَهُ لَمِنْ كَسْبِهِ فَكُلُوا مِنْ كَسْبِ أَوْلَادِكُمْ } فَفِي الْحَدِيثَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَالَ الْوَلَدِ مَمْلُوكٌ لِلْوَالِدِ بِمَنْزِلَةِ مَالِ نَفْسِهِ فَيَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ ، فَفِي الْحَقِيقَةِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى هَذَا فَإِنَّ عِنْدَهُ مَالَ الْوَلَدِ فِي حُكْمِ الْمَمْلُوكِ لِلْوَالِدِ وَلِهَذَا قَالَ : لَهُ أَنْ يَطَأَ جَارِيَةَ ابْنِهِ إذَا لَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ ، وَعِنْدَنَا لَا مِلْكَ لَهُ فِي مَالِ وَلَدِهِ وَلَا حَقَّ مِلْكٍ لِأَنَّ الْكَسْبَ إنَّمَا يُمْلَكُ بِمِلْكِ الْكَاسِبِ وَلَيْسَ لَهُ فِي وَلَدِهِ مِلْكٌ فَكَذَلِكَ فِي كَسْبِ وَلَدِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْوَلَدَ مَالِكٌ لِكَسْبِهِ حَقِيقَةً حَتَّى يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ مِنْ الْوَطْءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَيَنْفُذُ فِيهِ إعْتَاقُهُ ، وَإِنَّمَا يَخْلُفُ الْكَاسِبَ غَيْرُهُ فِي الْمِلْكِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ هُوَ مِنْ أَهْلِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ لَا يَمْلِكُ غَيْرُهُ الْكَسْبَ عَلَى وَجْهِ الْخِلَافَةِ عَنْهُ وَلَا يَمْلِكُهُ ابْتِدَاءً لِأَنَّ ثُبُوتَ الْمِلْكِ ابْتِدَاءً يَسْتَدْعِي سَبَبًا لَهُ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ وَإِنَّمَا كَانَ يَتَصَرَّفُ فِي حَالِ ضَرِّهِ بِوِلَايَتِهِ عَلَيْهِ نَظَرًا لِلْوَلَدِ لِأَنَّهُ كَانَ عَاجِزًا عَنْ التَّصَرُّفِ وَالنَّظَرِ وَقَدْ زَالَ هَذَا الْمَعْنَى بِبُلُوغِهِ فَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ تَصَرُّفَهُ فِي نَفْسِهِ بِالتَّزْوِيجِ كَانَ يَنْفُذُ قَبْلَ بُلُوغِهِ لِحَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ ثُمَّ لَا يَنْفُذُ بَعْدَ الْبُلُوغِ لِانْعِدَامِ الْحَاجَةِ فَكَذَلِكَ فِي مَالِهِ .
وَإِذَا بَاعَ الرَّجُلُ مَتَاعًا لِرَجُلٍ وَهُوَ حَاضِرٌ سَاكِتٌ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى سُكُوتُهُ إقْرَارٌ بِالْبَيْعِ أَيْ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْإِجَازَةِ فَيَنْفُذُ بِهِ الْبَيْعُ لِنَفْسِهِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَعَيَّنْ جِهَةُ الرِّضَا بِسُكُوتِهِ تَضَرَّرَ بِهِ الْمُشْتَرِي وَصَارَ الْمَالِكُ بِسُكُوتِهِ كَالْغَارِّ لَهُ وَالْغُرُورُ حَرَامٌ وَالضَّرَرُ مَدْفُوعٌ فَهُوَ قِيَاسُ سُكُوتِ الْمَوْلَى عَنْ النَّهْيِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ تَصَرُّفَ الْعَبْدِ أَنَّهُ يَجْعَلُ إذْنًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ لِهَذَا الْمَعْنَى وَلِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ صَاحِبَ الْمَالِ لَا يَسْكُتُ إذَا رَأَى غَيْرَهُ يَبِيعُ مَا أَمَرَ بِتَسْلِيمِهِ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِهِ الرِّضَا بِهِ فَبِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ يُجْعَلُ سُكُوتُهُ دَلِيلَ الرِّضَا .
وَكَذَلِكَ لَا يَحِلُّ لَهُ السُّكُوتُ شَرْعًا إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ قَصْدِهِ الرِّضَا وَفِعْلُ الْمُسْلِمِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَحِلُّ شَرْعًا فَجُعِلَ سُكُوتُهُ دَلِيلَ الرِّضَا لِهَذَا كَمَا جَعَلَ الشَّرْعُ سُكُوتَ الْبِكْرِ رِضًا مِنْهَا بِالنِّكَاحِ .
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ سُكُوتَهُ مُحْتَمَلٌ قَدْ يَكُونُ بِطَرِيقِ الرِّضَا وَقَدْ يَكُونُ بِطَرِيقِ التَّهَاوُنِ وَقِلَّةِ الِالْتِفَاتِ إلَى تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ وَقَدْ يَكُونُ بِطَرِيقِ التَّعَجُّبِ أَيْ لِمَاذَا يَفْعَلُ هَذَا فِي مِلْكِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَإِلَى مَاذَا تَئُولُ عَاقِبَةُ فِعْلِهِ وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً وَمِلْكُ الْمَالِكِ ثَابِتٌ فِي الْعَيْنِ بِيَقِينٍ فَلَا يَجُوزُ إزَالَتُهُ بِدَلِيلٍ مُحْتَمَلٍ وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ فِيمَا اُسْتُشْهِدَ بِهِ مِنْ سُكُوتِ الْمَوْلَى وَسُكُوتِ الْبِكْرِ إلَّا أَنَّا تَرَكْنَا الْقِيَاسَ فِي سُكُوتِ الْبِكْرِ بِالنَّصِّ ، وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ فَإِنَّ الْحَيَاءَ يَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ التَّصْرِيحِ بِالْإِجَازَةِ هُنَاكَ وَلَيْسَ هُنَا مَا يَحُولُ الْحَيَاءُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النُّطْقِ ، وَلَوْ تَعَيَّنَ جِهَةُ الرِّضَا فِي سُكُوتِ الْمَوْلَى لَمْ يَلْزَمْهُ بِذَلِكَ شَيْءٌ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ الْإِذْنِ لِلْعَبْدِ فِي التِّجَارَةِ لَا يَجِبُ عَلَى
الْمَوْلَى شَيْءٌ وَلَا يَبْطُلُ مِلْكُهُ عَنْ شَيْءٍ ؛ فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْحَجْرِ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَلْحَقَهُ دَيْنٌ ، وَهُنَا لَوْ تَعَيَّنَ جِهَةُ الرِّضَا زَالَ مِلْكُ الْمَالِكِ وَلَزِمَهُ حُكْمُ تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ ، وَحَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ هُنَاكَ لَوْ لَمْ يُجْعَلْ السُّكُوتُ رِضًا تَضَرَّرَ بِهِ مَنْ عَامَلَ الْعَبْدَ وَلَوْ جَعَلْنَا السُّكُوتَ إذْنًا لَمْ يَتَضَرَّرْ بِهِ الْمَوْلَى فِي الْحَالِ فَرَجَّحْنَا جَانِبَ دَفْعِ الضَّرَرِ ، وَهُنَا لَوْ جَعَلْنَا السُّكُوتَ رِضًا تَضَرَّرَ بِهِ الْمَالِكُ وَلَزِمَهُ حُكْمُ تَصَرُّفِ الْفُضُولِيِّ لِأَنَّ مِلْكَهُ يَزُولُ ، وَلَوْ لَمْ نَجْعَلْهُ رِضًا تَضَرَّرَ بِهِ الْمُشْتَرِي فَرَجَّحْنَا جَانِبَ الْمَالِكِ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي الْعَيْنِ أَسْبَقُ وَالْمُشْتَرِي هُوَ الْمُقِرُّ حِينَ لَمْ يَسْأَلْ الْمَالِكَ أَنَّ الْبَائِعَ وَكَّلَهُ أَمْ لَا وَاعْتَمَدَ سُكُوتًا مُحْتَمَلًا ، ثُمَّ الْحَاجَةُ هُنَا إلَى التَّوْكِيلِ لِأَنَّ الْمُتَصَرِّفَ يَكُونُ نَائِبًا عَنْ الْمَالِكِ وَلِهَذَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْعُهْدَةِ ، وَالتَّوْكِيلُ بِالسُّكُوتِ لَا يَثْبُتُ .
فَأَمَّا الْإِذْنُ فِي التِّجَارَةِ إسْقَاطٌ مِنْ الْمَوْلَى حَقَّهُ فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّصَرُّفِ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَصِيرُ نَائِبًا عَنْ الْمَوْلَى فِي التَّصَرُّفِ وَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْعُهْدَةِ وَسُكُوتُهُ إعْرَاضٌ مِنْهُ عَنْ الرَّدِّ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ إسْقَاطًا لِحَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ التَّصْرِيحِ بِالْإِذْنِ .
وَإِذَا بَاعَ الرَّجُلُ نَصِيبًا فِي دَارٍ غَيْرِ مَقْسُومٍ فَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِوُجُوهِهَا فِي آخِرِ الشُّفْعَةِ وَلَكِنْ هُنَاكَ ذِكْرُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَحْدَهُ وَأَنَّ الْبَيْعَ جَائِزٌ إنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي بِنَصِيبِ الْبَائِعِ وَلَهُ الْخِيَارُ إذَا عَلِمَ بِهِ وَذَكَرَ هُنَا قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَعَنْ مُحَمَّدٍ فِيهِ رِوَايَتَانِ قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : إذَا كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ أَجَزْتُ بَيْعَ النَّصِيبِ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ وَإِنْ كَانَتْ سِهَامًا كَثِيرَةً لَمْ أُجِزْهُ حَتَّى يُسَمِّيَ لِأَنَّ عِنْدَ كَثْرَةِ الشُّرَكَاءِ تَتَفَاحَشُ الْجَهَالَةُ وَالتَّفَاوُتُ إذَا لَمْ يَكُنْ نَصِيبُ الْبَائِعِ مَعْلُومًا لِلْمُشْتَرِي ، وَعِنْدَ قِلَّةِ الشُّرَكَاءِ يَقِلُّ التَّفَاوُتُ وَالْجَهَالَةُ وَفِي الْبَيْعِ تَفْصِيلٌ بَيْنَ الْجَهَالَةِ الْمُتَفَاحِشَةِ وَالْجَهَالَةِ الْيَسِيرَةِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ بَيْعَ أَحَدِ الْأَثْوَابِ الثَّلَاثَةِ مَعَ اشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لِلْمُشْتَرِي إذَا سَمَّى ثَمَنَ كُلِّ ثَوْبٍ مِنْهَا يَجُوزُ وَفِيمَا زَادَ عَلَى الثَّلَاثَةِ لَا يَجُوزُ وَكَانَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ تَفَاحُشِ الْجَهَالَةِ وَقِلَّةِ الْجَهَالَةِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْبَيْعُ إنَّمَا يَتَنَاوَلُ نَصِيبَ الْبَائِعِ ، وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِكَثْرَةِ الشُّرَكَاءِ وَقِلَّةِ الشُّرَكَاءِ فَقَدْ يَقِلُّ نَصِيبُهُ مَعَ قِلَّةِ الشُّرَكَاءِ وَقَدْ يَكْثُرُ نَصِيبُهُ مَعَ كَثْرَةِ الشُّرَكَاءِ فَلَا مَعْنَى لِلْفَرْقِ بَيْنَهُمَا ، وَالْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عِنْدَ كَثْرَةِ الشُّرَكَاءِ جَهَالَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عَلَى وُجُوهٍ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ بَيْنَ الْبَائِعِ وَبَيْنَ الْمُشْتَرِي ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ عِنْدَ قِلَّةِ الشُّرَكَاءِ ؛ فَالْمُشْتَرِي يَقُولُ : نَصِيبُ الْبَائِعِ النِّصْفُ وَالْبَائِعُ يَقُولُ نَصِيبِي مِنْ الدَّارِ الْعُشْرُ فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ ، وَشِرَاءُ أَحَدِ الْأَثْوَابِ الثَّلَاثِ مُسْتَحْسَنٌ مِنْ الْقِيَاسِ فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ ثُمَّ الْجَهَالَةُ هُنَاكَ لَا تُفْضِي إلَى
الْمُنَازَعَةِ إذَا شُرِطَ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي .
وَإِذَا خَتَمَ الرَّجُلُ عَلَى شِرَاءٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَسْلِيمًا لِلْبَيْعِ عِنْدَنَا .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى هُوَ تَسْلِيمٌ لِلْبَيْعِ وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ الرَّجُلَ إذَا شَهِدَ عَلَى بَيْعِ الدَّارِ فَكَتَبَ شَهَادَتَهُ وَخَتَمَهَا ثُمَّ ادَّعَى بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ الدَّارَ لَهُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَإِنَّ بَيِّنَتَهُ تَكُونُ مَقْبُولَةً عَلَى الْمُشْتَرِي عِنْدَنَا وَيُقْضَى لَهُ بِالْمِلْكِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى الدَّارُ سَالِمَةٌ لِلْمُشْتَرِي وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ عَلَى أَصْلِهِ لَمَّا جُعِلَ السُّكُوتُ مِنْ الْمَالِكِ رِضًى بِالْبَيْعِ فَخَتْمُ الشَّهَادَةِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ رِضًا بِالْبَيْعِ ، قَالَ كَتْبُهُ الشَّهَادَةَ لِلتَّوَثُّقِ وَهَذَا التَّوَثُّقُ إنَّمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ إذَا صَحَّ شِرَاؤُهُ فَيَجْعَلُ إقْدَامَ الشَّاهِدِ عَلَى ذَلِكَ إقْرَارًا مِنْهُ بِصِحَّةِ شِرَاءِ الْمُشْتَرِي ، وَلَكِنَّا نَقُولُ كَتْبُهُ الشَّهَادَةَ مُحْتَمَلٌ قَدْ يَكُونُ عَلَى وَجْهِ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَقَدْ يَكُونُ لِلتَّعَجُّبِ حَتَّى يَنْظُرَ كَيْفَ يَقْدِرُ الْبَائِعُ عَلَى تَسْلِيمِ مِلْكِهِ أَوْ تُحْمَلُ الشَّهَادَةِ عَلَى مَعْنَى التَّوَثُّقِ إذَا بَدَا لَهُ أَنْ يُجِيزَ الْمَبِيعَ أَوْ يَحْتَمِلَ أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ لَمْ يَعْلَمْ عِنْدَ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ أَنَّ الْمَبِيعَ دَارُهُ فَلَعَلَّهُ ظَنَّ أَنَّ الْمَبِيعَ دَارٌ أُخْرَى حُدُودُهَا تُوَافِقُ حُدُودَ دَارِهِ وَبِالْمُحْتَمَلِ لَا يَزُولُ الْمِلْكُ فَلَا يُجْعَلُ ذَلِكَ تَسْلِيمًا مِنْهُ لِلْبَيْعِ .
وَإِذَا بِيعَ الرَّقِيقُ أَوْ الْمَتَاعُ فِي عَسْكَرِ الْخَوَارِجِ وَذَلِكَ مِنْ مَالِ أَهْلِ الْعَدْلِ غَلَبُوهُمْ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ الْبَيْعُ عِنْدَنَا ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى هُوَ جَائِزٌ وَإِنْ قَتَلَ الْخَوَارِجَ قَبْلَ أَنْ يَبِيعُوهُ وَهُوَ بِعَيْنِهِ رُدَّ عَلَى أَهْلِهِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا فَابْنُ أَبِي لَيْلَى جَعَلَ مَنْعَهُ لِلْخَوَارِجِ كَمَنْعِهِ أَهْلَ الْحَرْبِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُقَابَلَةَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ تَتَنَاوَلُ الدَّيْنَ ، وَالتَّأْوِيلُ الَّذِي لِلْخَوَارِجِ أَقْرَبُ إلَى الصِّحَّةِ مِنْ تَأْوِيلِ الْكُفَّارِ فَإِذًا كَانَ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ الْمَنَعَةِ وَالتَّأْوِيلِ يَمْلِكُونَ مَا أَخَذُوا مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُمْ فِيهِ فَكَذَلِكَ الْخَوَارِجُ يَمْلِكُونَ ذَلِكَ حَتَّى يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُمْ فِيهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا قَتَلَ الْخَوَارِجَ فَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ مَنَعَةً ، وَثُبُوتُ هَذَا الْحُكْمِ كَانَ بِاعْتِبَارِ الْمَنَعَةِ فَإِذَا لَمْ يَبْقَ وَجَبَ رَدُّهَا عَلَى أَهْلِهَا وَبِهَذَا لَا يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَهَا كَمَا لَوْ اسْتَوْلَى الْمُشْرِكُونَ عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ وَقَعَتْ فِي الْغَنِيمَةِ فَوَجَدَهَا أَصْحَابُهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ ، رُدَّتْ عَلَيْهِمْ مُحَابَاةً وَإِنْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ قَدْ مَلَكُوهَا فَهَذَا مِثْلُهُ وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّسْوِيَةِ أَنَّ الْخَوَارِجَ لَا يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوا مِنْ أَمْوَالِ أَهْلِ الْعَدْلِ وَنُفُوسِهِمْ ، كَمَا لَا يَضْمَنُ أَهْلُ الْحَرْبِ ذَلِكَ لِلْمُسْلِمِينَ فَإِذَا سَوَّى بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْمِلْكِ ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ حُكْمَ الْإِسْلَامِ ثَابِتٌ فِي حَقِّ الْخَوَارِجِ فَهَذَا اسْتِيلَاءُ الْمُسْلِمِ عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِ فَلَا يُوجِبُ الْمِلْكَ كَغَصْبِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ مَالَ بَعْضِهِمْ ، وَتَقْرِيرُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ مَنَعَةَ الْخَوَارِجِ مِنْ جُمْلَةِ دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَالْمِلْكُ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ لَا يَثْبُتُ مَا لَمْ يَتِمَّ الْقَهْرُ وَتَمَامُهُ بِالْإِحْرَازِ بِدَارٍ تُخَالِفُ دَارَ صَاحِبِ الْمَالِ
وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ بَعْدَ إحْرَازِ الْخَوَارِجِ الْمَالَ بِمَنَعَتِهِمْ بِخِلَافِ أَهْلِ الْحَرْبِ فَإِنَّ قَهْرَهُمْ يَتِمُّ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِهِمْ ، وَمَا كَانَ مَنَعَةُ الْخَوَارِجِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إلَّا كَمَنَعَةِ أَهْلِ الْحَرْبِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَهُمْ لَا يَمْلِكُونَ أَمْوَالَنَا مَا دَامُوا فِي دَارِنَا وَإِنْ كَانُوا مَمْنُوعِينَ فَكَذَلِكَ الْخَوَارِجُ فَلَا فَرْقَ فَإِنَّا لَوْ قَدَرْنَا عَلَى الْخَوَارِجِ اسْتَبَيْنَاهُمْ وَرَدَدْنَا الْمَالَ عَلَى صَاحِبِهِ كَمَا لَوْ أَنَّا قَدَرْنَا عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عَرَضْنَا عَلَيْهِمْ الْإِسْلَامَ وَرَدَدْنَا الْمَالَ عَلَى صَاحِبِهِ ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمَالَ مَا دَامَ مُحْرَزًا بِدَارِ الْإِسْلَامِ لَا يُمْلَكُ بِالْقَهْرِ لِأَنَّهُ بِالْإِحْرَازِ مَعْصُومٌ وَالْقَهْرُ يُوجِبُ الْمِلْكَ فِي مَحَلٍّ مُبَاحٍ لَا فِي مَحَلٍّ مَعْصُومٍ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الصَّيْدَ الْمُبَاحَ يُمْلَكُ بِالْأَخْذِ وَالصَّيْدَ الْمَمْلُوكَ لَا يُمْلَكُ بِالْأَخْذِ ، فَبِإِحْرَازِ الْمُشْرِكِينَ الْمَالَ بِدَارِهِمْ يَبْطُلُ حُكْمُ الْإِحْرَازِ وَالْعِصْمَةِ فِي ذَلِكَ الْمَالِ فَلِهَذَا لَا يَمْلِكُونَهُ بِإِحْرَازِ الْخَوَارِجِ الْمَالَ بِمَنَعَتِهِمْ وَلَا يَبْطُلُ حُكْمُ الْإِحْرَازِ وَالْعِصْمَةِ فِي ذَلِكَ الْمَالِ فَلِهَذَا لَا يَمْلِكُونَهُ وَلِهَذَا لَوْ قَتَلَ الْخَوَارِجَ وَهُوَ بَاقٍ بِعَيْنِهِ رُدَّ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَلَوْ صَارَ ذَلِكَ مَمْلُوكًا لَهُمْ لَكَانَ مِيرَاثًا عَنْهُمْ إذَا قُتِلُوا .
فَأَمَّا سُقُوطُ الضَّمَانِ فَهُوَ حُكْمٌ ثَبَتَ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ الزُّهْرِيِّ قَالَ وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَوَافِرُونَ فَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ كُلَّ دَمٍ أُرِيقَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ وَكُلَّ فَرْجٍ اُسْتُحِلَّ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ وَكُلَّ مَالٍ أُتْلِفَ بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ ، وَهَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ الْمَنْصُوصِ فَإِنَّ مَعَ بَقَاءِ الْإِحْرَازِ الْقِسْمَةُ قَدْ تَسْقُطُ بِالضَّمَانِ بِأَسْبَابٍ
وَلَكِنَّ بَقَاءَ الْإِحْرَازِ وَالْعِصْمَةِ لَا يُمَلِّكُ الْمَالَ بِحَالٍ .
ثُمَّ ذَكَرَ مَسْأَلَةَ الشَّهَادَاتِ إذَا بَاعَ مُسْلِمٌ دَابَّةً مِنْ نَصْرَانِيٍّ فَاسْتَحَقَّهَا نَصْرَانِيٌّ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي بِبَيِّنَةٍ مِنْ النَّصَارَى وَقَدْ بَيَّنَّا خِلَافَ أَبِي يُوسُفَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ وَقَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ .
وَإِذَا اسْتَهْلَكَ الرَّجُلُ الْغَنِيُّ مَالَ وَلَدِهِ الْكَبِيرِ فَهُوَ ضَامِنٌ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَنْبَنِي عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ أَنَّ عِنْدَهُ الْأَبُ مَالِكٌ مَالَ وَلَدِهِ شَرْعًا ، وَإِتْلَافُ الْإِنْسَانِ مِلْكَهُ لَا يُوجِبُ الضَّمَانَ عَلَيْهِ ، وَعِنْدَنَا لَيْسَ لَهُ فِي مَالِ وَلَدِهِ مِلْكٌ وَلَا حَقُّ مِلْكٍ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ إذَا أَتْلَفَهُ ، وَإِنْ ثَبَتَ لَهُ شَرْعًا حَقُّ التَّنَاوُلِ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَذَلِكَ لَا يَنْفِي الضَّمَانَ عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ كَالْمَرْأَةِ فَإِنَّ لَهَا أَنْ تُنْفِقَ مِنْ مَالِ زَوْجِهَا بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ أَتْلَفَتْ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ بِدُونِ الْحَاجَةِ كَانَتْ ضَامِنَةً فَالْأَبُ كَذَلِكَ .
وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ عَبْدًا مَعَ الْجَارِيَةِ وَزَادَ مَعَهَا مِائَةَ دِرْهَمٍ ثُمَّ وَجَدَ بِالْعَبْدِ عَيْبًا وَقَدْ مَاتَتْ الْجَارِيَةُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يَرُدُّ الْعَبْدَ وَيَأْخُذُ الْمِائَةَ وَقِيمَةَ الْجَارِيَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْجَارِيَةُ هِيَ الَّتِي وُجِدَ بِهَا الْعَيْبُ وَقَدْ مَاتَ الْعَبْدُ رُدَّتْ الْجَارِيَةُ وَقُسِمَتْ قِيمَةُ الْعَبْدِ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ وَعَلَى قِيمَةِ الْجَارِيَةِ فَيَكُونُ لَهُ مَا أَصَابَ الْمِائَةَ وَيَرُدُّ مَا أَصَابَ مِنْ قِيمَةِ الْجَارِيَةِ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى إنْ وَجَدَ بِالْعَبْدِ عَيْبٌ رَدَّهُ وَأَخَذَ قِيمَتَهُ صَحِيحَةً وَكَانَتْ الدَّرَاهِمُ لِلَّذِي هِيَ فِي يَدَيْهِ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّ عِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى بِرَدِّ الْعَبْدِ بِالْعَيْبِ لَا يُنْتَقَضُ الْبَيْعُ فِي الْجَارِيَةِ وَلَكِنْ يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ .
وَإِذَا بَقِيَ الْعَقْدُ فِي حِصَّةِ الْجَارِيَةِ مِنْ الْعَبْدِ عِنْدَنَا يَبْقَى فِي حِصَّةِ الْمِائَةِ أَيْضًا لِأَنَّ الْعَقْدَ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ مِنْ الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ بِيعَ بِدَرَاهِمَ وَلَكِنَّهُ بَيْعٌ كَبَيْعِ الْمُقَابَضَةِ وَحُكْمُ التَّبَعِ حُكْمُ الْأَصْلِ فَلِهَذَا لَا فَيَبْطُلُ الْعَقْدُ فِيهِ وَيَأْخُذُ قِيمَتَهُ لَمَّا تَعَذَّرَ عَلَى بَائِعِ الْعَبْدِ تَسْلِيمُ عَيْنِهِ صَحِيحًا .
فَأَمَّا عِنْدَ الْعَقْدِ فِي الْجَارِيَةِ يَبْطُلُ مَا يُقَابِلُهُ مِنْ الْعَبْدِ بِالْعَيْبِ فَإِذَا بَطَلَ الْعَقْدُ وَجَبَ عَلَى قَابِضِ الْجَارِيَةِ رَدُّهَا وَقَدْ تَعَذَّرَ الرَّدُّ بِهَلَاكِهَا فِي يَدِهِ فَيَرُدُّ قِيمَتَهَا بِمَنْزِلَةِ الْمُشْتَرَاةِ شِرَاءً فَاسِدًا إذَا هَلَكَتْ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي .
وَأَمَّا فِي حِصَّةِ الْمِائَةِ فَالْعَبْدُ كَانَ بِيعَ بِالدَّرَاهِمِ فَإِذَا رُدَّ الْمَعِيبُ بِالْعَيْبِ وَجَبَ الرُّجُوعُ بِمَا يُقَابِلُهُ مِنْ الثَّمَنِ ، وَإِنْ كَانَ الْعَيْبُ بِالْجَارِيَةِ فَرُدَّتْ وَقَدْ مَاتَ الْعَبْدُ فَقَدْ اُنْتُقِضَ الْعَقْدُ فِيمَا يُقَابِلُ الْجَارِيَةَ مِنْ الْعَبْدِ لِأَنَّ فِي بَيْعِ الْمُقَابَضَةِ هَلَاكُ أَحَدِ الْعِوَضَيْنِ لَا يَمْنَعُ فَسْخَ
الْعَقْدِ بِرَدِّ الْآخَرِ بِالْعَيْبِ فَإِنَّ الْعَقْدَ إنَّمَا يَنْفَسِخُ فِي الْمَرْدُودِ مَقْصُودًا وَيَثْبُتُ حُكْمُ الْفَسْخِ فِيمَا بَقِيَ وَلَا يَنْفَسِخُ فِي الْمَرْدُودِ مَقْصُودًا وَيَثْبُتُ حُكْمُ الْفَسْخِ فِيمَا بَقِيَ وَلَا يَنْفَسِخُ الْعَقْدُ فِي حِصَّةِ الْمِائَةِ مِنْ الْعَبْدِ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِيَعًا بِالدَّرَاهِمِ وَقَدْ هَلَكَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَلَا يُمْكِنُ فَسْخُ الْعَقْدِ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلِهَذَا يُقَسَّمُ الْعَبْدُ عَلَى الْمِائَةِ وَعَلَى قِيمَةِ الْجَارِيَةِ فَيَغْرَمُ مُشْتَرِي الْعَبْدِ مَا أَصَابَ قِيمَةَ الْجَارِيَةِ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَيَسْقُطُ عَنْهُ مَا أَصَابَ الْمِائَةَ الدِّرْهَمَ لِبَقَاءِ الْبَيْعِ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ .
وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ ثَوْبَيْنِ وَقَبَضَهُمَا فَهَلَكَ أَحَدُهُمَا وَوَجَدَ بِالْآخَرِ عَيْبًا فَرَدَّهُ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ فَالْقَوْلُ فِيهَا قَوْلُ الْبَائِعِ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي زِيَادَةً فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي وَالْمُشْتَرِي يُنْكِرُ تِلْكَ الزِّيَادَةِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ وَلِأَنَّ الْبَائِعَ يَدَّعِي زِيَادَةً فِي حَقِّهِ قِبَلَ الْمُشْتَرِي بَعْدَ رَدِّ الثَّوْبِ الْآخَرِ فَيَقُولُ قِيمَةُ الْمَرْدُودِ أَلْفٌ وَقِيمَةُ الْهَالِكِ فِي يَدِي أَلْفٌ فَلِي عَلَيْك نِصْفُ الثَّمَنِ وَالْمُشْتَرِي يَقُولُ قِيمَةُ الْهَالِكِ فِي يَدِي كَانَ خَمْسَمِائَةٍ فَإِنَّمَا هَلَكَ عَلَى ثُلُثِ الثَّمَنِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ كَمَا لَوْ قَبَضَ أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ وَهَلَكَ الْآخَرُ فِي يَدِ الْبَائِعِ ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي قِيمَةِ الْهَالِكِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي لِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الثَّمَنَ كُلَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِقَبْضِ ثَوْبَيْنِ ثُمَّ رَدُّ أَحَدِهِمَا بِالْعَيْبِ يُسْقِطُ عَنْهُ حِصَّتَهُ مِنْ الثَّمَنِ فَالْمُشْتَرِي يَدَّعِي زِيَادَةً فِيمَا سَقَطَ عَنْهُ مِنْ الثَّمَنِ لِأَنَّهُ يَقُولُ كَانَ قِيمَةُ الْهَالِكِ فِي يَدِي خَمْسَمِائَةٍ وَقِيمَةُ الْمَرْدُودِ أَلْفًا فَسَقَطَ عَنْهُ ثُلُثَا الثَّمَنِ وَالْبَائِعُ يَقُولُ قِيمَةُ الْهَالِكِ فِي يَدِكَ كَانَ أَلْفًا فَإِنَّمَا يَسْقُطُ عَنْك نِصْفُ الثَّمَنِ وَبَعْدَ مَا تَقَرَّرَ الثَّمَنُ عَلَى الْمُشْتَرِي لَوْ أَنْكَرَ الْبَائِعُ سُقُوطَ شَيْءٍ مِنْ الثَّمَنِ عَنْهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَنْكَرَ سُقُوطَ الزِّيَادَةِ عَنْهُ وَاعْتِبَارُ هَذَا الْجَانِبِ أَوْلَى لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَيْسَ هُوَ عَيْنُ قِيمَةِ الْهَالِكِ بَلْ الْمَقْصُودُ سُقُوطُ الثَّمَنِ عَنْ الْمُشْتَرِي بِالرَّدِّ وَتَقَرُّرِهِ عَلَيْهِ بِالْهَلَاكِ فِي يَدِهِ فَإِنَّمَا يَنْظُرُ إلَى الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ ،
وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا هَلَكَ أَحَدُ الثَّوْبَيْنِ فِي يَدِ الْبَائِعِ وَالْآخَرُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي لِأَنَّ هُنَاكَ أَنَّ جَمِيعَ الثَّمَنِ لَمْ يَتَقَرَّرْ عَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّ تَقَرُّرَ الثَّمَنِ عَلَيْهِ بِالْقَبْضِ وَهُوَ مَا قَبَضَ جَمِيعَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَالِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ مَا تَقَرَّرَ عَلَى الْمُشْتَرِي مِنْ الثَّمَنِ فَالْبَائِعُ يَدَّعِي عَلَيْهِ الزِّيَادَةَ وَهُوَ يُنْكِرُهَا لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ هُنَاكَ فِي مِقْدَارِ مَا قَبَضَ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَلَوْ أَنْكَرَ الْقَبْضَ أَصْلًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَنْكَرَ قَبْضَ الزِّيَادَةِ ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ فِي مِقْدَارِ مَا رُدَّ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلَوْ أَنْكَرَ الْبَائِعُ رَدَّ شَيْءٍ عَلَيْهِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَنْكَرَ رَدَّ الزِّيَادَةَ .
وَإِذَا اشْتَرَى دَارًا وَبَنَى فِيهَا بِنَاءً ثُمَّ حَضَرَ الشَّفِيعُ فَإِنَّهُ يَنْقُضُ بِنَاءَ الْمُشْتَرِي وَيَأْخُذُ الدَّارَ عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يَأْخُذُ الشَّفِيعُ الدَّارَ وَالْبِنَاءَ وَيُعْطِي الثَّمَنَ وَقِيمَةَ الْبِنَاءِ إنْ شَاءَ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ .
وَإِذَا وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ لِلْيَتِيمِ وَعَلِمَ بِهَا الْوَصِيُّ أَوْ الْأَبُ فَلَمْ يَطْلُبْهَا فَلَيْسَ لِلْيَتِيمِ شُفْعَةٌ إذَا أَدْرَكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ لَهُ الشُّفْعَةُ إذَا أَدْرَكَ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِي الشُّفْعَةِ ، وَالصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ جَائِزٌ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الصُّلْحِ .
وَكَذَلِكَ إذَا صَالَحَ رَجُلٌ عَنْ الْمَطْلُوبِ وَالْمَطْلُوبُ مُتَغَيِّبٌ أَوْ أَخَّرَ الطَّالِبُ عَنْهُ الدَّيْنَ وَهُوَ مُتَغَيِّبٌ جَازَ عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ تَبَرُّعٌ عَنْ الْمَطْلُوبِ بِالْأَجَلِ وَلَوْ تَبَرَّعَ عَلَيْهِ بِالْمَالِ لَمْ يَتِمَّ فِي حَالِ غَيْبَتِهِ فَكَذَلِكَ إذَا تَبَرَّعَ عَلَيْهِ بِالْأَجَلِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ التَّأْجِيلُ إسْقَاطٌ لِلْمُطَالَبَةِ إلَى مُدَّةٍ وَالْإِسْقَاطُ يَتِمُّ بِالْمُسْقِطِ وَحْدَهُ بِمَنْزِلَةِ الْإِبْرَاءِ وَهَذَا لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ مِنْ الطَّالِبِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَإِنَّ الْمُطَالَبَةَ خَالِصُ حَقِّهِ وَلَيْسَ فِي التَّأْجِيلِ إلَّا إسْقَاطُ الْمُطَالَبَةِ فَإِذَا كَانَ تَصَرُّفُهُ لَا يَمَسُّ جَانِبَ الْمَطْلُوبِ كَانَ صَحِيحًا مَعَ غَيْبَتِهِ كَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ فِي حَالِ غَيْبَةِ الْقَاتِلِ وَإِيقَاعِ الطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فِي حَالِ غَيْبَةِ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ .
وَكَذَلِكَ الصُّلْحُ مِنْ الْفُضُولِيِّ لَا يَمَسُّ الْمَطْلُوبَ فَإِنَّ الطَّالِبَ يَسْقُطُ حَقُّهُ بِعِوَضٍ يَلْزَمُهُ الْمُتَوَسِّطُ وَقَدْ صَحَّ الْتِزَامٌ مِنْ الْمُتَوَسِّطِ لِأَنَّ ذَلِكَ تَصَرُّفٌ مِنْهُ فِي ذِمَّتِهِ أَوْ فِي مَالِهِ فَغَيْبَةُ الْمَطْلُوبِ لَا تَمْنَعُ صِحَّتَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ عَلَى مَالٍ شَرَطَهُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ وَضَمِنَ الْأَجْنَبِيُّ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَقَعُ الطَّلَاقُ مَعَ غَيْبَةِ الْمَرْأَةِ وَيَجِبُ الْمَالُ عَلَى الضَّامِنِ .
وَإِذَا صَالَحَ الرَّجُلُ عَنْ صُلْحٍ أَوْ بَاعَ بَيْعًا أَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الطَّالِبَ أَكْرَهَهُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ قَالَ ذَلِكَ جَائِزٌ وَلَا أَقْبَلُ الْبَيِّنَةَ بِأَنَّهُ أَكْرَهَهُ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى أَقْبَلُ بَيِّنَتَهُ عَلَى ذَلِكَ وَأَرُدُّهُ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ إذَا كَانَ ذَلِكَ إكْرَاهًا فِي مَوْضِعِهِ قُبِلَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ وَهَذِهِ تَنْبَنِي عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْإِكْرَاهِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْإِكْرَاهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ مِنْ السُّلْطَانِ فَإِكْرَاهُ الرَّعِيَّةِ لَيْسَ بِإِكْرَاهٍ وَعِنْدَهُمَا يَتَحَقَّقُ الْإِكْرَاهُ مِمَّنْ يَكُونُ قَادِرًا عَلَى إيقَاعِ مَا هَدَّدَ بِهِ سُلْطَانًا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ فَيَقُولَا الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَلَوْ غَائِبًا أَوْ أَكْرَهَ مَنْ عَامَلَهُ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَمْتَنِعْ نُفُوذُهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا يَمْتَنِعُ نُفُوذُهُ فَكَذَلِكَ إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ بِالْبَيِّنَةِ إلَّا أَنَّ عِنْدَهُمَا إنَّمَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَى هَذَا إذَا كَانَ فِي مَوْضِعِهِ بِأَنْ كَانَ يَتَصَوَّرُ الْإِكْرَاهَ مِنْ مِثْلِهِ لَهُ .
وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ عَلَى ذَلِكَ عَلَى كُلِّ حَالٍ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ السَّبَبَ الْمُبْطِلَ لِلْعَقْدِ أَوْ لِلدَّفْعِ لِصِفَةِ اللُّزُومِ بِالْبَيِّنَةِ وَالثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِاتِّفَاقِ الْخَصْمِ وَلَوْ سَاعَدَهُ الْخَصْمُ عَلَى ذَلِكَ بَطَلَ الصُّلْحُ وَالْبَيْعُ فَكَذَلِكَ إذَا أُثْبِتَ بِالْبَيِّنَةِ .
وَإِذَا اخْتَصَمَ رَجُلَانِ عِنْدَ الْقَاضِي فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِحَقِّ صَاحِبِهِ بَعْدَ مَا قَامَا مِنْ عِنْدِهِ وَقَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ بِإِقْرَارِهِ وَهُوَ يَجْحَدُ فَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ لَا إقْرَارَ لِمَنْ خَاصَمَ إلَّا عِنْدِي وَلَا صُلْحَ لَهُمْ إلَّا عِنْدِي وَكَانَ لَا يَقْبَلُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْإِقْرَارِ وَالصُّلْحِ بَعْدَ مَا قَامَا مِنْ عِنْدِهِ قَالَ لِأَنَّ الْقَاضِيَ سَمِعَ إنْكَارَ الْخَصْمِ وَصَارَ لَهُ فِي ذَلِكَ عِلْمُ يَقِينٍ فَكَيْفَ يَسْمَعُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا يَعْلَمُ يَقِينًا بِخِلَافِهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُمَا لَمَّا خَاصَمَا بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَدْ ثَبَتَ لَهُ وِلَايَةُ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا بِمَا هُوَ مُوجَبُ الشَّرْعِ وَهَذَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ وَفِي الصُّلْحِ وَالْإِقْرَارِ مِنْ الْخَصْمِ إبْطَالُ هَذِهِ الْوِلَايَةِ لَهُ فَلَا يَكُونُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْهُ وَلَا يَكُونُ صَحِيحًا فَهَذَا أَوْلَى .
وَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّهُ لَوْ أَقَامَ الْخَصْمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى إقْرَارِ خَصْمِهِ أَوْ عَلَى الصُّلْحِ بَيْنَهُمَا فِي الْمَجْلِسِ الْأَوَّلِ كَانَتْ بَيِّنَتُهُ مَقْبُولَةً فَكَذَلِكَ إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ فِي الْمَجْلِسِ الثَّانِي لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَلَوْ عَايَنَ الْقَاضِي صُلْحَهُمَا أَوْ إقْرَارَ الْخَصْمِ يَقْضِي بِذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا أَثْبَتَهُ بِالْبَيِّنَةِ قَوْلُهُ إذَا كَانَ عَلِمَ إنْكَارَهُ قُلْنَا نَعَمْ وَلَكِنْ بَقَاؤُهُ عَلَى ذَلِكَ الْإِنْكَارِ غَيْرُ مَعْلُومٍ لِلْقَاضِي إلَّا بِطَرِيقِ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَالْبَيِّنَةُ أَقْوَى مِنْ اسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَقَوْلُهُ : إنَّهُ ثَبَتَ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ الْحُكْمِ بِمُوجَبِ الشَّرْعِ قُلْنَا نَعَمْ وَلَكِنَّ الْحُكْمَ عَلَيْهِ بِالْإِقْرَارِ الثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ ، وَالصُّلْحُ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ مِنْ مُوجَبِ الشَّرْعِ فَيَكُونُ هَذَا رَاجِعًا إلَى تَقْرِيرِ وِلَايَةِ الْقَاضِي وَهَذَا لِأَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَ الْقَاضِيَ أَنْ لَا يَقْضِيَ بِشَيْءٍ مِمَّا غَابَ
عَنْهُ عِلْمُهُ إلَّا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ وَهَذَا الصُّلْحُ وَالْإِقْرَارُ مِمَّا غَابَ عَنْهُ عِلْمُهُ فَإِذَا ثَبَتَ عِنْدَهُ شَهَادَةُ شَاهِدَيْنِ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ بِهَا بِمَنْزِلَةِ صُلْحٍ أَوْ إقْرَارٍ كَانَ مِنْهُمَا قَبْلَ الْخُصُومَةِ أَوْ يَجْعَلُ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى إذَا كَفَلَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ بِدَيْنٍ لَهُ عَلَى آخَرَ فَلَيْسَ لِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَصْلَ بِالْمَالِ مَا لَمْ يَتْوَ عَلَى الْكَفِيلِ وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ أَخَذَ بِهِ أَيَّهُمَا شَاءَ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْكَفَالَةِ أَنَّ الْكَفَالَةَ عِنْدَنَا لَا تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ وَلِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ وَعِنْدَهُ مُطْلَقُ الْكَفَالَةِ بِمَنْزِلَةِ الْحَوَالَةِ فَإِنَّمَا يُطَالِبُ الْكَفِيلَ بِالْمَالِ وَلَا يُطَالِبُ الْأَصِيلَ مَا لَمْ يَتْوَ الْمَالُ عَلَى الْكَفِيلِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ فَحِينَئِذٍ يُطَالِبُ أَيَّهُمَا شَاءَ بِالْمَالِ لِمَكَانِ الشَّرْطِ وَبَعْدَ مَا طَالَبَ أَحَدَهُمَا لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْآخَرَ وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ شُبْرُمَةَ إذَا اشْتَرَطَ هَذَا الشَّرْطَ ثُمَّ طَالَبَ أَحَدَهُمَا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْآخَرَ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَيَجْعَلُ اخْتِيَارَهُ مُطَالَبَةَ أَحَدِهِمَا إبْرَاءً لِلْآخَرِ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ مَعَ صَاحِبِ الْمَغْصُوبِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ أَنْ يُؤَاخِذَهُمَا جَمِيعًا فَحِينَئِذٍ بَعْدَ مَا طَالَبَ أَحَدَهُمَا لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْآخَرَ ، قَالَ : وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا أَيْضًا وَقِيلَ هُوَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إنْ شَرَطَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ ثُمَّ اخْتَارَ أَحَدَهُمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَعُودَ عَلَى الْآخَرِ إلَّا أَنْ يُفْلِسَ هَذَا ، أَوْ يَمُوتَ وَلَا يَتْرُكَ شَيْئًا وَقَدْ بَيَّنَّا وُجُوهَ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ فِي كِتَابِ الْكَفَالَةِ فَإِنَّ مُحَمَّدًا ذَكَرَ هُنَاكَ صَكًّا يَشْتَمِلُ عَلَى هَذِهِ الشَّرَائِطِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ إنَّمَا شَرَطَ هَذِهِ الزِّيَادَاتِ لِلتَّحَرُّزِ مِنْ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ فِي كِتَابِ الْكَفَالَةِ قَالَ : وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا يُجَوِّزُ الضَّمَانَ بِشَيْءٍ مَجْهُولٍ غَيْرِ مُسَمًّى كَقَوْلِهِ مَا كَانَ لَك عَلَيْهِ مِنْ حَقٍّ فَهُوَ عَلَيَّ أَوْ مَا قَضَى لَك الْقَاضِي عَلَيْهِ فَهُوَ عَلَيَّ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْمَالَ بِعَقْدٍ مُعْتَمَدٍ تَمَامُ
الرِّضَا فَمَعَ الْجَهَالَةِ الْمُتَفَاحِشَةِ لَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِمَنْزِلَةِ الِالْتِزَامِ بِسَائِرِ الْمُعَاوَضَاتِ وَبَيَانُ الْجَهَالَةِ الْمُتَفَاحِشَةِ هُنَا أَنَّهُ مَجْهُولُ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ وَالصِّفَةِ وَلَا جَهَالَةَ أَبْلَغُ مِنْ هَذَا وَلَكِنَّا نَقُولُ الْجَهَالَةُ هُنَا لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الِالْتِزَامِ وَلَكِنَّهَا جَهَالَةٌ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ لَا تُفْضِي إلَى تَمَكُّنِ الْمُنَازَعَةِ فَإِنَّ الطَّالِبَ لَا يُطَالِبُ الْكَفِيلَ إلَّا بِمَا ثَبَتَ لَهُ عَلَى الْأَصِيلِ وَلَا تَتَمَكَّنُ الْمُنَازَعَةُ بَعْدَ مَا ثَبَتَ لَهُ الْحَقُّ عَلَى الْأَصِيلِ بِالْحُجَّةِ أَوْ بَعْدَ مَا قَضَى الْقَاضِي بِهِ عَلَيْهِ ثُمَّ الِالْتِزَامُ بِالْكَفَالَةِ بِمَنْزِلَةِ الِالْتِزَامِ بِالْإِقْرَارِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمُقَابَلَةِ عِوَضٍ يَجِبُ لِلْكَفِيلِ عَلَى الطَّالِبِ وَجَهَالَةُ الْمُقِرِّ بِهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِقْرَارِ فَكَذَلِكَ جَهَالَةُ الْمَكْفُولِ بِهِ ثُمَّ ذَكَرَ مَسْأَلَةَ الْكَفَالَةِ عَنْ الْمَيِّتِ الْمُفْلِسِ وَبَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فِيهِ كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَقَدْ بَيَّنَّاهَا وَقَالَ : عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إنْ كَانَ تَرَكَ الْأَصِيلُ شَيْئًا ضَمِنَ الْكَفِيلُ بِقَدْرِ مَا تَرَكَ لِأَنَّ صِحَّةَ الضَّمَانِ عِنْدَهُ بِاعْتِبَارِ الْوَفَاءِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يَجْعَلُ الْمَالَ خَلَفًا عَنْ الذِّمَّةِ فِي بَقَاءِ الْوَاجِبِ بِاعْتِبَارِهِ لِأَنَّ الْمَالَ مَحَلٌّ صَالِحٌ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُ وَالْوُجُوبُ غَيْرُ مَطْلُوبٍ لِعَيْنِهِ بَلْ لِلِاسْتِيفَاءِ فَإِنَّ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَالِ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ بِقَدْرِ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ تَرِكَةً خَلَفًا وَصِحَّةُ الْكَفَالَةِ بِاعْتِبَارِ بَقَاءِ الْمَالِ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا فَلِهَذَا لَا يَصِحُّ ضَمَانُهُ إلَّا بِقَدْرِ تَرِكَةِ الْأَصِيلِ
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى كَفَالَةُ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ جَائِزَةٌ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ مِنْ صَنِيعِ التِّجَارَةِ وَهُوَ مُنْفَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِيمَا هُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ وَلِأَنَّهُ الْتِزَامٌ بِعِوَضٍ فَإِنَّ الْكَفِيلَ يَرْجِعُ عَلَى الْأَصِيلِ بِمَا يُؤَدِّي وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ مِنْ أَهْلِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الِالْتِزَامِ وَقَدْ جَعَلَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْكَفَالَةَ مِنْ جِنْسِ التِّجَارَةِ فَقَالَ إذَا كَفَلَ أَحَدُ الْمُتَعَاوِضَيْنِ بِمَالٍ يَلْزَمُ شَرِيكَهُ فَلَمَّا جُعِلَ فِي حَقِّ الْمُتَعَاوِضَيْنِ هَذَا بِمَنْزِلَةِ التِّجَارَةِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ وَلَكِنَّا نَقُولُ لَا تَصِحُّ كَفَالَةُ الْمَأْذُونِ فِي حَالَةِ رِقِّهِ لِأَنَّ الْحَاجِزَ وَهُوَ الرِّقُّ قَائِمٌ وَإِنَّمَا أَصْلُ الْحَجْرِ عَنْهُ بِالْإِذْنِ فِيمَا هُوَ تِجَارَةٌ أَوْ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ وَالْكَفَالَةُ لَيْسَتْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَإِنَّ التُّجَّارَ يَتَحَرَّزُونَ عَنْ الْكَفَالَةِ غَايَةَ التَّحَرُّزِ لِهَذَا قِيلَ : الْكَفَالَةُ أَوَّلُهَا مَلَامَةٌ وَأَوْسَطُهَا نَدَامَةٌ وَآخِرُهَا غَرَامَةٌ ، فَبَقِيَ مَحْجُورًا عَنْهُ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ الْإِذْنِ ثُمَّ الْكَفَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَاضِ فَإِنَّهُ تَبَرُّعٌ فِي الِالْتِزَامِ وَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْأَدَاءِ يَرْجِعُ كَمَا أَنَّ الْمُقْرِضَ تَبَرَّعَ بِأَدَاءِ الْمَالِ وَإِنْ كَانَ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ فِي الْمَالِ وَالْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَا يَمْلِكُ الْإِقْرَاضَ فِي حَقِّ مَوْلَاهُ فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ الْكَفَالَةَ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُتَعَاوِضَيْنِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ فِي الِابْتِدَاءِ تَبَرُّعٌ وَلَكِنْ فِي الِانْتِهَاءِ مُعَاوَضَةٌ وَلَا بُدَّ مِنْ تَصْحِيحِهِ مِنْ الْمُعَاوِضِ الَّذِي بَاشَرَهُ وَإِنْ كَانَ تَبَرُّعًا فَإِذَا صَحَّ مِنْهُ انْقَلَبَ مُعَاوَضَةً فَيُطَالِبُ بِهِ الشَّرِيكَ أَمَّا هُنَا بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ تَبَرُّعًا لَا يَصِحُّ مِنْ الْعَبْدِ الْمَأْذُونِ فِي الِابْتِدَاءِ فَلَا يَنْقَلِبُ مُعَاوَضَةً .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى إذَا أَفْلَسَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ رَجَعَ الطَّالِبُ عَلَى الْمُحِيلِ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى
مَا سَبَقَ أَنَّ عِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى التَّفْلِيسُ وَالْحَجْرُ يَتَحَقَّقُ وَقَوْلُهُ فِيهِ كَقَوْلِهِمَا أَوْ أَبْلَغُ مِنْهُ لِأَنَّ عِنْدَهُ بَعْدَ التَّفْلِيسِ وَالْحَبْسِ لَا يَنْفُذُ عِتْقُ الْمَدْيُونِ فِي عَبْدِهِ فَيَتَحَقَّقُ بِالتَّوَى بِالتَّفْلِيسِ عَلَى قَوْلِهِ .
وَإِذَا تَوَى الْمَالُ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ كَانَ لِلطَّالِبِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُحِيلِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لَا تَوًى عَلَى مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ } .
فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ التَّوَى لَا يَتَحَقَّقُ لِأَنَّ التَّوَى أَنْ يَهْلِكَ عَيْنُ الشَّيْءِ أَوْ مَحَلُّهُ الَّذِي كَانَ قَائِمًا بِهِ وَالدَّيْنُ لَا يُتَصَوَّرُ هَلَاكُهُ حَقِيقَةً وَمَحَلُّهُ قَائِمٌ بَعْدَ الْإِفْلَاسِ بِبَقَاءِ الذِّمَّةِ مَحَلًّا صَالِحًا لِالْتِزَامِ الْحُقُوقِ وَإِنَّمَا يَتَأَخَّرُ الِاسْتِيفَاءُ بِالْإِفْلَاسِ وَهَذَا تَأْخِيرٌ يَزُولُ سَاعَةً فَسَاعَةً لِأَنَّ الْمَالَ غَادٍ وَرَائِحٌ بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ فَإِنَّ مَحَلَّ الدَّيْنِ خَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَالِحًا لِالْتِزَامِ الْحُقُوقِ وَإِنَّمَا يَتَأَخَّرُ الِاسْتِيفَاءُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا بِخِلَافِ مَا لَوْ جَحَدَ وَحَلَفَ لِأَنَّ الدَّيْنَ هُنَاكَ صَارَ تَاوِيًا حُكْمًا حَتَّى انْقَطَعَ طَرِيقُ الْوُصُولِ إلَيْهِ عَنْ بَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارِ الْخَصْمِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ بِمَا وُكِّلَ بِهِ إذَا مَرِضَ أَوْ أَرَادَ سَفَرًا فَأَمَّا إذَا كَانَ حَاضِرًا صَحِيحًا فَلَا وَعِنْدَنَا بِمُطْلَقِ الْوَكَالَةِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَالَ لَهُ مَا صَنَعْتَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ حَاضِرًا صَحِيحًا أَوْ غَائِبًا أَوْ مَرِيضًا وَجْهُ قَوْلِهِ إنَّ الْوَكِيلَ بِقَبُولِ الْوَكَالَةِ قَدْ الْتَزَمَ أَدَاءَ هَذِهِ الْأَمَانَةِ وَتَحْصِيلَ مَقْصُودِ الْمُوَكِّلِ ؛ فَلَا يَمْلِكُ أَنْ يُنِيبَ غَيْرَهُ مَنَابَهُ فِي ذَلِكَ إلَّا فِي حَالَةِ الْعُذْرِ مِنْ مَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ بِمَنْزِلَةِ شَاهِدِ الْأَصْلِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُؤَدِّيَ الشَّهَادَةَ بِالثَّابِتِ وَهُوَ شَاهِدُ الْفَرْعِ إلَّا عِنْدَ السَّفَرِ أَوْ الْمَرَضِ فَهَذَا .
مِثْلُهُ .
وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُوَكِّلُ إنَّمَا رَضِيَ بِرَأْيِ الْمُوَكِّلِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُقِيمَ رَأْيَ غَيْرِهِ مَقَامَ رَأْيِ نَفْسِهِ لِأَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي الرَّأْيِ وَمَقْصُودُ الْمُوَكِّلِ لَا يَحْصُلُ بِرَأْيِ غَيْرِهِ ثُمَّ الْعُذْرُ هُنَا لَا يَتَحَقَّقُ بِسَفَرِهِ وَمَرَضِهِ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ قَادِرٌ عَلَى النَّظَرِ لِنَفْسِهِ وَتَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ بِمُبَاشَرَتِهِ بِخِلَافِ شَاهِدِ الْأَصْلِ فَإِنَّ الْعُذْرَ هُنَاكَ يَتَحَقَّقُ عِنْدَ الْمَرَضِ وَالسَّفَرِ لِأَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إحْيَاءِ حَقِّهِ بِطَرِيقٍ آخَرَ وَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ شَاهِدَيْ الْأَصْلِ بِالْحُضُورِ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ عِنْدَ الْعُذْرِ فَلِهَذَا قُبِلَتْ شَهَادَةُ شُهُودِ الْفَرْعِ عَلَى شَهَادَتِهِ .
فَأَمَّا إذَا قَالَ مَا صَنَعْتَ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ جَائِزٌ فَقَدْ رَضِيَ هُنَاكَ بِرَأْيِهِ عَلَى الْعُمُومِ وَالتَّوْكِيلُ مِنْ رَأْيِهِ وَلَيْسَ الْوَكِيلُ فِي هَذَا كَالْوَصِيِّ لِأَنَّ الْوَصِيَّ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوصِي وَثَبَتَ لَهُ مِنْ الْوِلَايَةِ مَا كَانَ ثَابِتًا لِلْمُوصِي فَيَمْلِكُ بِوِلَايَتِهِ التَّوْكِيلَ وَالْإِيصَالَ إلَى الْغَيْرِ كَمَا كَانَ يَمْلِكُ الْمُوصِي وَلِهَذَا يَسْتَوِي فِيهِ
حَالَةُ الْعُذْرِ وَغَيْرُ حَالَةِ الْعُذْرِ .
وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا يُجَوِّزُ إقْرَارَ الْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى تُقْبَلُ الْوَكَالَةُ فِي الْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ فِي الِاسْتِيفَاءِ لَا فِي الْإِثْبَاتِ وَعِنْدَنَا لَا تُقْبَلُ الْوَكَالَةُ فِي الْقِصَاصِ وَالْحُدُودِ عَلَى مَعْنًى لَا يُسْتَوْفَى فِي حَالِ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ هُوَ لِكَوْنِ الْقِصَاصِ مَحْضَ حَقِّ الْعَبْدِ وَالتَّوْكِيلُ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ بِاسْتِيفَاءِ سَائِرِ حُقُوقِهِ صَحِيحٌ فَكَذَلِكَ بِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ وَالْحَدُّ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى يُقِيمُهُمَا الْإِمَامُ عِنْدَ ظُهُورِ السَّبَبِ عِنْدَهُ وَقَدْ ظَهَرَ بِخُصُومَةِ الْوَكِيلِ وَلَكِنَّا نَقُولُ لَوْ اسْتَوْفَى فِي حَالِ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ كَانَ اسْتِيفَاءً مَعَ تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ لِأَنَّهُ يَتَوَهَّمُ الْعَفْوَ عَنْ الْمُوَكِّلِ فِي الْقِصَاصِ وَالتَّصْدِيقِ مِنْ الْمَقْذُوفِ بِالْحَدِّ وَمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ لَا يَجُوزُ اسْتِيفَاؤُهُ مَعَ تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُقُوقِ الَّتِي ثَبَتَتْ مَعَ الشُّبُهَاتِ وَلَئِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهَذَا التَّوْكِيلِ الثَّبَاتَ فَقَدْ بَيَّنَّا الِاخْتِلَافَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ .
وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ مَالٌ وَلِلْمَطْلُوبِ عَلَى الطَّالِبِ مِثْلُهُ فَهُوَ قِصَاصٌ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا يَكُونُ قِصَاصًا حَتَّى يَتَرَاضَيَا بِهِ اعْتِبَارًا لِلدَّيْنِ الَّذِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ذِمَّةِ صَاحِبِهِ بِالْعَيْنِ الَّتِي لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ فِي يَدِ غَيْرِهِ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَلِآخَرَ فِي يَدِهِ مِثْلُ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا قِصَاصًا بِالْآخَرِ وَكَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُطَالِبَ صَاحِبَهُ بِمِلْكِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ بَلْ أَوْلَى فَإِنَّ مُبَادَلَةَ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ صَحِيحٌ وَمُبَادَلَةَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ بَاطِلٌ ؛ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ بِطَرِيقِ الْمُبَادَلَةِ لِأَنَّهُ مُبَادَلَةُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مُسْتَوْفِيًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ عَيْنُ حَقِّهِ لِأَنَّ مَا فِي ذِمَّتِهِ حَقُّ غَيْرِهِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ مُطَالَبَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ بِدَرَاهِمِهِ اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يُفِيدُ لِأَنَّهُ يُسْتَوْفَى مِنْ صَاحِبِهِ وَيَرُدُّ عَلَيْهِ مِنْ سَاعَتِهِ مَا كَانَ لَهُ قَبْلَهُ وَلَا يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ بِمَا لَا يُفِيدُ وَهَذَا بِخِلَافِ الْعَيْنِ لِأَنَّ فِي الْأَعْيَانِ لِلنَّاسِ أَغْرَاضًا وَلَا يُوجَدُ مِثْلُ ذَلِكَ الْغَرَضِ فِي الدَّيْنِ فَإِنَّ الدُّيُونَ تُقْضَى بِأَمْثَالِهَا لَا بِأَعْيَانِهَا فَلَا فَائِدَةَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مُطَالَبَةِ صَاحِبِهِ هُنَا لِأَنَّ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ مُتَحَقِّقٌ فِي مَعْنًى مِنْ الْمَعَانِي وَلَا يَتَحَقَّقُ التَّفَاوُتُ بَيْنَ الدَّيْنَيْنِ إذَا اسْتَوَيَا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ التَّفَاوُتُ إذَا اخْتَلَفَا فِي صِفَةِ الْجَوْدَةِ وَالْحُلُولِ وَلَا أَحَدٌ يَقُولُ عِنْدَ ذَلِكَ لَا تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بَيْنَهُمَا وَمُبَادَلَةُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ إنَّمَا تَجُوزُ فِيمَا لَا يَحْتَاجُ إلَى قَبْضٍ فِي الْمَجْلِسِ وَهُنَا يَحْتَاجُ إلَى الْقَبْضِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُمَا لَوْ تَرَاضَيَا عَلَى الْمُقَاصَّةِ كَانَ جَائِزًا وَمُبَادَلَةُ
الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ حَرَامٌ شَرْعًا وَإِنْ وُجِدَ التَّرَاضِي { لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ } .
وَإِذَا كَتَبَ الرَّجُلُ عَلَى نَفْسِهِ صَكَّ حَقٍّ يُعَوَّضُ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَصْلَهُ مُضَارَبَةٌ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى أَقْبَلُ بَيِّنَتَهُ وَأَجْعَلُهُ مُضَارَبَةً كَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِمَالٍ فِي صَكِّ حَقٍّ مِنْ ثَمَنِ مَتَاعٍ ثُمَّ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ رِبًا لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ عِنْدَنَا وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقْبَلُهَا مِنْهُ وَيَرُدُّهُ إلَى رَأْسِ الْمَالِ وَالْقِيَاسُ مَا قُلْنَا لِأَنَّ قَبُولَ الْبَيِّنَةِ يَنْبَنِي عَلَى صِحَّةِ الدَّعْوَى وَبَعْدَ مَا أَقَرَّ أَنَّ الْمَالَ عَلَيْهِ قَرْضًا لَا يَصِحُّ دَعْوَاهُ أَنَّهُ مُضَارَبَةٌ لِأَنَّهُ مُنَاقَضٌ فِي ذَلِكَ وَبِدُونِ الدَّعْوَى لَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ .
وَكَذَلِكَ بَعْدَ مَا أَقَرَّ أَنَّ الْمَالَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ مِنْ ثَمَنِ مَتَاعٍ لَا يَسْمَعُ دَعْوَاهُ أَنَّهُ رِبًا لِكَوْنِهِ مُنَاقَضًا فِي ذَلِكَ فَإِنَّ الرِّبَا لَا يَكُونُ وَاجِبًا عَلَيْهِ وَبِدُونِ الدَّعْوَى لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ وَاسْتَحْسَنَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا لِأَنَّهُ وَجَدَ فِي ذَلِكَ عُرْفًا ظَاهِرًا بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَكْتُبُونَ الْقَرْضَ لِلِاحْتِيَاطِ وَإِنْ كَانُوا دَفَعُوا الْمَالَ مُضَارَبَةً وَيُقِرُّونَ بِثَمَنِ الْمَتَاعِ وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْمُعَامَلَةِ قَرْضًا وَالزِّيَادَةُ رِبًا شُرِطَ عَلَيْهِ فَلِلْعُرْفِ الظَّاهِرِ قَالَ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنَّ هَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ فَهَذَا الْعُرْفُ يَدُلُّ عَلَى شَهَادَةِ الظَّاهِرِ لَهُ وَذَلِكَ دَلِيلُ قَبُولِ قَوْلِهِ مَعَ يَمِينِهِ لَا دَلِيلُ قَبُولِ بَيِّنَتِهِ وَبِالِاتِّفَاقِ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ لِمَا سَبَقَ مِنْ الْإِقْرَارِ فَكَذَلِكَ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ وَلَوْ أَقَرَّ بِمَالٍ فِي صَكِّ حَقٍّ مِنْ ثَمَنِ بَيْعٍ ثُمَّ قَالَ لَمْ أَقْبِضْ الْمَبِيعَ فَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ لَا يُصَدَّقُ وَصَلَ أَمْ فَصَلَ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ إنْ وَصَلَ صُدِّقَ وَإِنْ فَصَلَ لَا يُصَدَّقُ
ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ إذَا فَصَلَ يُسْأَلُ الْمُقَرُّ لَهُ عَنْ سَبَبِ وُجُوبِ الْمَالِ فَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ مِنْ ثَمَنِ بَيْعٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُقِرِّ إنِّي لَمْ أَقْبِضْ الْمَبِيعَ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَفِي قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى سَوَاءٌ فَصَلَ أَمْ وَصَلَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِأَنِّي لَمْ أَقْبِضْ الْمَبِيعَ وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ حَتَّى يَأْتِيَ الطَّالِبُ بِبَيِّنَةٍ عَلَى قَبْضِ الْمَتَاعِ لِلْعُرْفِ الظَّاهِرِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُقِرُّ بِوُجُوبِ الثَّمَنِ عَلَيْهِ بَعْدَ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَا يَكُونُ إقْدَامُهُ عَلَى الْإِقْرَارِ بِذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى قَبْضِهِ الْمَبِيعَ فَإِذَا قَالَ لَمْ أَقْبِضْ فَهُوَ مُنْكِرٌ لِلْقَبْضِ بِالْحَقِيقَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَعَلَى الطَّالِبِ الْبَيِّنَةُ عَلَى تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَلَكِنَّا نَقُولُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَبِيعُ مُعَيَّنًا فَثَمَنُهُ لَا يَكُونُ وَاجِبًا عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ وَفِي إقْرَارِهِ بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ دَلِيلُ الْإِقْرَارِ بِالْقَبْضِ فَإِذَا قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ أَقْبِضْ فَهُوَ مُنَاقَضٌ فِي كَلَامِهِ .
وَإِذَا شَهِدَتْ الشُّهُودُ عَلَى زِنًا قَدِيمٍ أَوْ سَرِقَةٍ قَدِيمَةٍ فَعَلَى قَوْلِنَا لَا يُقَامُ الْحَدُّ فِي ذَلِكَ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يُقَامُ الْحَدُّ وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي الْحُدُودِ وَفِيهِ حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ أَيُّمَا قَوْمٍ شَهِدُوا عَلَى حَدٍّ لَمْ يَشْهَدُوا عِنْدَ حَضْرَةِ ذَلِكَ فَإِنَّمَا شَهِدُوا عَلَى ضَغَنٍ فَلَا شَهَادَةَ لَهُمْ .
وَعَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى فِي حَدِّ السَّكْرَانِ إنْ أُتِيَ بِهِ وَهُوَ غَيْرُ سَكْرَانَ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِانْعِدَامِ الْعِلَّةِ الْمُوجِبَةِ لِلْحَدِّ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ هُوَ الشُّرْبُ إلَى غَايَةِ السُّكْرِ وَلَا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ وَإِنْ زَالَ مَا بِهِ مِنْ السُّكْرِ إلَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَإِنَّهُمَا يَشْتَرِطَا بَقَاءَ الرَّائِحَةِ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْحُدُودِ .
وَإِذَا ادَّعَى الرَّجُلُ دَيْنًا عَلَى مَيِّتٍ شَهِدَ لَهُ بِهِ شَاهِدَانِ ثُمَّ شَهِدَ هُوَ وَآخَرُ عَلَى دَيْنٍ لِرَجُلٍ آخَرَ فَشَهَادَتُهُمَا جَائِزَةٌ عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لِأَنَّ التَّرِكَةَ مَشْغُولَةٌ بِحَقِّ الْغُرَمَاءِ وَهِيَ كَالْمُسْتَحَقَّةِ لَهُمْ بِدَيْنِهِمْ فَهَذَا فِي مَعْنَى شَهَادَةِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ لِشَرِيكِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْغَرِيمُ يَتَضَرَّرُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ لِأَنَّ بِدُونِ هَذِهِ الشَّهَادَةِ كَانَ هُوَ أَحَقَّ بِالتَّرِكَةِ وَالْآنَ يَثْبُتُ لِغَيْرِهِ الْمُزَاحَمَةُ مَعَهُ فِي التَّرِكَةِ وَفِي هَذَا ضَرَرٌ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا تَتَمَكَّنُ التُّهْمَةُ فِي شَهَادَتِهِ إذَا كَانَ لِلشَّاهِدِ مَنْفَعَةٌ فِيهَا وَأَمَّا إذَا كَانَ عَلَيْهِ ضَرَرٌ فِي شَهَادَتِهِ فَالتُّهْمَةُ لَا تَتَمَكَّنُ فِيهَا فَيَجِبُ قَبُولُ الشَّهَادَةِ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ نَظَائِرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْوَصَايَا .
وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ بِالزِّنَا عِنْدَ غَيْرِ قَاضٍ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فَشَهِدَ بِهِ عَلَيْهِ الشُّهُودُ لَمْ يُحَدَّ عِنْدَنَا وَيُحَدُّ فِي قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ اعْتِبَارًا لِلْإِقْرَارِ بِالزِّنَا بِالْإِقْرَارِ بِسَائِرِ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ كَالْقَتْلِ وَالْقَذْفِ فَكَمَا أَنَّ هُنَاكَ تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَى إقْرَارِهِ بِذَلِكَ وَيُجْعَلُ الثَّابِتُ مِنْ إقْرَارِهِ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ فَكَذَلِكَ هُنَا وَلَكِنَّا نَقُولُ الرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ صَحِيحٌ فِي بَابِ الزِّنَا وَالْحُدُودِ الَّتِي هِيَ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى .
( أَلَا تَرَى ) { أَنَّ مَاعِزًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا هَرَبَ ثُمَّ أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَلَّا خَلَّيْتُمْ سَبِيلَهُ } وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ جَعَلَ هَرَبَهُ دَلِيلَ رُجُوعِهِ عَنْ الْإِقْرَارِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الرُّجُوعَ صَحِيحٌ هُنَا قُلْنَا الْبَيِّنَةُ لَا تُقْبَلُ إلَّا عَلَى مُنْكِرٍ وَإِنْكَارُهُ رُجُوعٌ عَمَّا سَبَقَ مِنْ الْإِقْرَارِ لَا مَحَالَةَ فَإِنَّمَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى إقْرَارٍ بَاطِلٍ وَبِهِ فَارَقَ الْقَتْلَ وَالْقَذْفَ فَالرُّجُوعُ عَنْ الْإِقْرَارِ فِيهِمَا لَا يَكُونُ صَحِيحًا يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْإِقْرَارَ بِالزِّنَا فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ وَلِهَذَا يُشْتَرَطُ فِيهِ عَدَدُ الْأَرْبَعِ وَيَصِحُّ الرُّجُوعُ عَنْهُ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ وَكَمَا أَنَّ الشَّهَادَةَ الَّتِي تَقُومُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ لَا يُقَامُ بِهَا الْحُدُودُ فَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي لَا يَجُوزُ إقَامَةُ الْحَدِّ بِهِ .
وَإِذَا شَهِدَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ أَنَّ ذَلِكَ الشَّاهِدَ فَاسِقٌ فَإِنَّ شَهَادَتَهُمْ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ تُقْبَلُ وَتُرَدُّ شَهَادَةُ الشَّاهِدِ لِأَنَّ فِسْقَهُ لَوْ صَارَ مَعْلُومًا لِلْقَاضِي بِخَبَرِ الْمُخْبِرِ رَدَّ شَهَادَتَهُ فَإِذَا صَارَ مَعْلُومًا لَهُ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ أَوْلَى وَلِأَنَّ الْفِسْقَ مَانِعٌ مِنْ الْعَمَلِ بِشَهَادَتِهِ بِمَنْزِلَةِ الرِّقِّ وَكَوْنُهُ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ وَلَوْ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ الْقَضَاءُ بِشَهَادَتِهِ فَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَ الشُّهُودُ بِفِسْقِهِ .
وَجْهُ قَوْلِنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ النَّفْيُ لَا الْإِثْبَاتُ وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِثْبَاتِ لَا لِلنَّفْيِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِشَهَادَتِهِ وَبِهِ فَارَقَ الرِّقَّ وَإِقَامَةَ الْحَدِّ عَلَيْهِ لِأَنَّ تِلْكَ الْبَيِّنَةَ تَقُومُ لِإِثْبَاتِ الرِّقِّ عَلَيْهِ وَلِإِثْبَاتِ فِعْلِ الْقَاضِي فِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ ثُمَّ يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ بُطْلَانَ شَهَادَتِهِ حُكْمًا يُوَضِّحُهُ أَنَّ صِفَةَ الْفِسْقِ لَيْسَتْ بِصِفَةٍ لَازِمَةٍ فَإِنَّ الْفَاسِقَ إذَا تَابَ لَا يَبْقَى فَاسِقًا فَالشَّاهِدُ لَا يَعْلَمُ بَقَاءَ هَذَا الْوَصْفِ فِيهِ عِنْدَ شَهَادَتِهِ حَقِيقَةً وَإِنَّمَا يَقُولُ ذَلِكَ بِاسْتِصْحَابِ الْحَالِ وَذَلِكَ يُطْلِقُ لَهُ الْخَبَرَ دُونَ الشَّهَادَةِ فَكَانَ مُحَارِفًا فِي هَذِهِ الشَّهَادَةِ بِخِلَافِ الرِّقِّ وَإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ صِفَةٌ لَازِمَةٌ لَهُ فَيَجُوزُ لِلشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ إذَا كَانَ قَدْ عَلِمَ سَبَبَهُ حَقِيقَةً وَلِأَنَّ الْفِسْقَ يَثْبُتُ بِأَسْبَابٍ يَخْتَلِفُ النَّاسُ فِي بَعْضِهَا فَلَعَلَّ الشَّاهِدَ بِذَلِكَ يَعْتَمِدُ لِسَبَبٍ عِنْدَهُ أَنَّ ذَلِكَ فِسْقٌ وَعِنْدَ الْقَاضِي لَيْسَ بِفِسْقٍ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ مُجَرَّدَ شَهَادَتِهِ أَنَّهُ فَاسِقٌ بِخِلَافِ الرِّقِّ وَإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ .
وَإِذَا سَافَرَ الْمُسْلِمُ فَحَضَرَهُ الْمَوْتُ وَأَشْهَدَ عَلَى وَصِيَّتِهِ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي شَيْءٍ إلَّا فِي الْوَصِيَّةِ وَلَا تُقْبَلُ فِي الْوَصِيَّةِ إلَّا فِي حَالَةِ السَّفَرِ وَقَدْ نُقِلَ ذَلِكَ عَنْ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } يَعْنِي مِنْ غَيْرِ أَهْلِ دِينِكُمْ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } وَلَكِنْ نُقِلَ عَنْ إبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ هَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ نَسَخَهَا قَوْله تَعَالَى { وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ } وَقَدْ نُقِلَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } أَيْ مِنْ غَيْرِ قَبِيلَتِكُمْ وَهَذَا لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ بَيْنَ الْقَبَائِلِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَتْ ظَاهِرَةً فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِهَا بَعْدَ الْإِسْلَامِ وَأَنَّ شَهَادَةَ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ مَقْبُولَةٌ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاَللَّهِ } وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ يُصَلُّونَ وَقَدْ صَحَّ الْحَدِيثُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ أَهْلِ مِلَّةٍ عَلَى أَهْلِ مِلَّةٍ أُخْرَى إلَّا الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ شَهَادَتَهُمْ مَقْبُولَةٌ عَلَى أَهْلِ الْمِلَلِ } كُلِّهَا وَالْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَيْنَا فِي سَائِرِ الْحُقُوقِ انْقِطَاعُ وِلَايَتِهِمْ عَنَّا وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي الْوَصِيَّةِ وَالْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِ فِي غَيْرِ حَالَةِ السَّفَرِ مَوْجُودٌ فِي حَالَةِ السَّفَرِ .
وَإِذَا اخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ فِي الْمَوَاطِنِ الَّتِي شَهِدَا فِيهَا عَلَى عَمَلٍ مِنْ قَتْلٍ أَوْ غَصْبٍ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا وَلَا يُعَزَّرَانِ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَنَا وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رُبَّمَا ضَرَبَهُمَا وَعَاقَبَهُمَا لِتَمَكُّنِ تُهْمَةِ الْكَذِبِ وَالْمُجَازَفَةِ فِي الشَّهَادَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ لَا نَدْرِي أَيَّهُمَا الْكَاذِبُ مِنْهُمَا فَضَرْبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَبَثٌ وَلَا بُدَّ مِنْ تَقَرُّرِ السَّبَبِ فِي حَقِّهِ حَتَّى يَجُوزَ الْإِقْدَامُ عَلَى ضَرْبِهِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا بِأَكْثَرَ مِمَّا ادَّعَى فَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يُؤَدَّبَانِ عَلَى ذَلِكَ لِتُهْمَةِ الْكَذِبِ وَالْمُجَازَفَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ لَعَلَّ الْمُدَّعِيَ هُوَ الْغَالِطُ وَالْكَاذِبُ وَالشُّهُودُ صَادِقُونَ فِي شَهَادَتِهِمْ وَبِدُونِ تَقَرُّرِ السَّبَبِ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ الْعُقُوبَةُ وَإِنْ كَانَ لَا يَعْمَلُ بِشَهَادَتِهِمْ لِتَكْذِيبِ الْمُدَّعِي إيَّاهُمْ .
وَإِذَا لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ فِي الشَّاهِدِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُسْأَلُ عَنْهُ الْقَاضِي وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يُسْأَلُ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لِأَنَّ السُّؤَالَ عَنْ الشُّهُودِ لِصِيَانَةِ قَضَائِهِ فَإِنَّهُ مَمْنُوعٌ شَرْعًا مِنْ الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ الْعَدَالَةُ ثَابِتَةٌ بِظَاهِرِ الْإِسْلَامِ كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } فَيَعْتَمِدُ الْقَاضِي هَذَا الظَّاهِرَ مَا لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ فَإِذَا طَعَنَ اشْتَغَلَ بِالسُّؤَالِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ حَالِ الطَّاعِنِ أَنَّهُ لَا يَكْذِبُ أَيْضًا فَإِنَّهُ مُسْلِمٌ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ بِفُصُولِهَا فِي أَدَبِ الْقَاضِي .
وَشَهَادَةُ الصِّبْيَانِ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً عِنْدَنَا وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يُجِيزُهَا فِي الْجِرَاحَاتِ وَتَمْزِيقِ الثِّيَابِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَهُمْ فِي الْمَلَاعِبِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقُوا فَإِنْ كَانُوا تَفَرَّقُوا لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمْ لِأَنَّ الْعُدُولَ قَلَّ مَا يَحْضُرُونَ مَلَاعِبَ الصِّبْيَانِ فَكَانَتْ الضَّرُورَةُ دَاعِيَةً إلَى قَبُولِ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ وَلَكِنَّ هَذَا مَا لَمْ يَتَفَرَّقُوا .
فَأَمَّا إذَا تَفَرَّقُوا وَعَادُوا إلَى بُيُوتِهِمْ فَإِنَّهُمْ يُلَقَّنُونَ الْكَذِبَ هَذَا هُوَ الْعَادَةُ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ لِذَلِكَ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ لَا تَكُونُ لَهُمْ شَهَادَةٌ عَلَى الْبَالِغِينَ انْقِطَاعُ الْوِلَايَةِ فَإِنَّ الصَّبِيَّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ عَلَى أَحَدٍ وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ .
وَالضَّرُورَةُ الَّتِي اعْتَادُوهَا لَا تَتَحَقَّقُ فَإِنَّا أُمِرْنَا أَنْ نَمْنَعَهُمْ مِنْ الِاجْتِمَاعِ لِلَّعِبِ فَتَنْدَفِعَ هَذِهِ الضَّرُورَةُ بِمَنْعِنَا إيَّاهُمْ عَنْ ذَلِكَ .
وَلَا يَسْتَحْلِفُ الْمُدَّعِي شُهُودَهُ عِنْدَنَا وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ عَلَيْهِ الْيَمِينُ مَعَ شُهُودِهِ عَلَى قَوْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَكِنَّا لَا نَأْخُذُ بِهِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمِينَ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي وَلِأَنَّ التَّقْسِيمَ الَّذِي ذَكَرَهُ صَاحِبُ الشَّرْعِ عَلَيْهِ السَّلَامُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمَا لَا يَجْتَمِعَانِ فِي جَانِبٍ وَاحِدٍ يَعْنِي الْبَيِّنَةَ وَالْيَمِينَ .
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي شُهُودٌ كَانَ الْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَإِنْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنَا أَرُدُّ الْيَمِينَ فَإِنَّهُ لَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى إذَا اتَّهَمْتَ الْمُدَّعِيَ رَدَدْتَ الْيَمِينَ عَلَيْهِ فِي دَعْوَى الدُّيُونِ لِأَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ لِدَفْعِ التُّهْمَةِ بِهَا وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْيَمِينُ لِإِبْقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ لَا لِإِثْبَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ وَحَاجَةُ الْمُدَّعِي إلَى إثْبَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا وَالْيَمِينُ لَا تَصْلُحُ حُجَّةً فِي ذَلِكَ ثُمَّ هُوَ مُخَالِفٌ لِلنَّصِّ فَإِنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْمُدَّعِي لَيْسَ لَك إلَّا هَذَا شَاهِدَاك أَوْ يَمِينُهُ } فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَمِينَ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي قَالَ وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ يَسْتَحْلِفُ عَلَى الصُّلْحِ فِي الْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ وَنَحْنُ نَقُولُ أَيْضًا يَسْتَحْلِفُ عَلَى الصُّلْحِ فِي الْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَحْلِفُ الْمُدَّعِيَ فَيَتَحَقَّقُ فِيهِ الْخِلَافُ أَوْ مُرَادُهُ أَنَّهُ كَانَ يُسْتَحْلَفُ فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ الْمُدَّعِي فَيَتَحَقَّقُ فِيهِ الْخِلَافُ لِأَنَّ عِنْدَنَا لَا يُسْتَحْلَفُ فِي ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ فَيَتَحَقَّقُ فِيهِ الْخِلَافُ لِأَنَّ عِنْدَنَا لَا يُسْتَحْلَفُ إلَّا عِنْدَ طَلَبِ الْمُدَّعِي فَإِنَّ الْيَمِينَ حَقُّ الْمُدَّعِي بِدَلِيلِ مَا رَوَيْنَا فِيهِ فَإِنَّمَا
يُسْتَحْلَفُ عِنْدَ طَلَبِهِ أَوْ يَكُونُ مُرَادُهُ أَنَّهُ يُسْتَحْلَفُ عَلَى الْعِلْمِ فِي الصُّلْحِ فِي الْمِيرَاثِ وَغَيْرِهِ وَعِنْدَنَا يُسْتَحْلَفُ عَلَى الثَّبَاتِ إذَا كَانَ يَدَّعِي عَلَيْهِ صُلْحًا بَاشَرَهُ لِأَنَّهُ اسْتِحْلَافٌ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ عَلَى الثَّبَاتِ .
وَإِذَا مَاتَ الرَّجُلُ وَتَرَكَ امْرَأَةً وَوَلَدًا وَلَمْ يُقِرَّ بِحَبَلِ امْرَأَتِهِ فَجَاءَتْ بِوَلَدٍ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَيَّامٍ وَشَهِدَتْ امْرَأَةٌ عَلَى وِلَادَتِهَا لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُهُ فَلَمْ يَرِثْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ وَهُوَ يَرِثُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْوِلَادَةِ فِي إثْبَاتِ النَّسَبِ إلَّا أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ حَبَلٌ ظَاهِرٌ أَوْ فِرَاشٌ قَائِمٌ أَوْ إقْرَارٌ مِنْ الزَّوْجِ بِالْحَبَلِ وَعِنْدَ انْعِدَامِ هَذِهِ الْمَعَانِي لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ إلَّا بِشَهَادَةِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ شَهَادَةُ الْقَابِلَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ حُجَّةٌ تَامَّةٌ لِإِثْبَاتِ النَّسَبِ بِدُونِ هَذِهِ الشُّرُوطِ وَقَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ كَقَوْلِهِمَا .
وَإِذَا كَانَ لِلرَّجُلِ عَبْدَانِ وُلِدَا فِي مِلْكِهِ مِنْ أَمَتِهِ فَأَقَرَّ فِي صِحَّتِهِ أَنَّ أَحَدَهُمَا ابْنُهُ ثُمَّ مَاتَ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَمْ يَثْبُتْ نَسَبُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَنَا وَيَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ .
وَكَذَلِكَ الْأَمَتَانِ وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ يَثْبُتُ نَسَبُ أَحَدِهِمَا وَيُوَرِّثُهُمَا مِيرَاثَ ابْنٍ وَاحِدٍ وَيُوجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السِّعَايَةَ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِأَنَّ النَّسَبَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الدَّفْعَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ فَالْإِقْرَارُ بِهِ لِلْمَجْهُولِ صَحِيحٌ كَالْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ فَإِنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِعِتْقِ أَحَدِ عَبْدَيْهِ أَوْ طَلَاقِ أَحَدِ الْمَرْأَتَيْنِ كَانَ ذَلِكَ صَحِيحًا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يُعْتِقُ أَحَدَهُمَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ بِاتِّفَاقٍ وَثُبُوتُ الْحُرِّيَّةِ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ صِحَّةِ الْإِقْرَارِ وَهُوَ إنَّمَا أَقَرَّ بِالنَّسَبِ فَلَوْ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ بِذَلِكَ لَمْ تَثْبُتْ الْحُرِّيَّةُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُمَّ قَدْ يَخْتَلِطُ وَلَدُهُ بِوَلَدِ أَمَتِهِ فَلَا يُعْرَفُ وَلَدُهُ الَّذِي هُوَ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْهُ مِنْ وَلَدِ أَمَتِهِ فَلَوْ لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ مَعَ هَذِهِ الْجَهَالَةِ أَدَّى إلَى إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ النَّسَبُ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ ، وَمَا لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ لَا يَصِحُّ إيجَابُهُ فِي الْمَجْهُولِ كَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِيجَابَ فِي الْمَجْهُولِ بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيقِ بِخَطَرِ الْبَيَانِ وَالنَّسَبُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِسَائِرِ الْأَخْطَارِ فَكَذَلِكَ بِخَطَرِ الْبَيَانِ بِخِلَافِ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ إلَّا أَنَّ إقْرَارَهُ وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي حَقِّ النَّسَبِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْعِتْقِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ لِمَنْ هُوَ مَعْرُوفُ النَّسَبِ مِنْ الْغَيْرِ أَنَّهُ ابْنُهُ لَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي حَقِّ النَّسَبِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْعِتْقِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ لِمَنْ هُوَ مَعْرُوفُ النَّسَبِ مِنْ
الْغَيْرِ أَنَّهُ ابْنُهُ لَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ وَإِنْ لَمْ يُعْتَبَرْ فِي حَقِّ النَّسَبِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُعْتَبَرًا فِي حَقِّ الْعِتْقِ تَمَيُّزُ أَحَدِهِمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَهُوَ عِتْقٌ فِي الصِّحَّةِ فَيَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ .
وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَمَّا ثَبَتَ نَسَبُ أَحَدِهِمَا ثَبَتَ الْعِتْقُ أَيْضًا وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيَسْعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ وَيَرِثَانِ مِيرَاثَ ابْنٍ وَاحِدٍ لِثُبُوتِ نَسَبِ أَحَدِهِمَا وَاعْتَبَرَا هَذَا بِوَلَدِ جَارِيَةٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ ادَّعَيَاهُ ثُمَّ مَاتَ الْوَلَدُ فَإِنَّهُمَا يَرِثَانِهِ مِيرَاثَ أَبٍ وَاحِدٍ إلَّا أَنْ نَقُولَ هُنَاكَ هُوَ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْهُمَا كَمَا قَالَ عُمَرُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ ابْنُهُمَا يَرِثُهُمَا وَيَرِثَانِهِ وَهُنَا لَا نَقُولُ بِأَنَّ نَسَبَهُمَا ثَابِتٌ مِنْهُ وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ نَسَبِ أَحَدِهِمَا بِغَيْرِ عَيْنِهِ وَالْمِيرَاثُ لَا يَكُونُ قَبْلَ ثُبُوتِ النَّسَبِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ فِي مَعْرُوفِ النَّسَبِ وَإِنْ ثَبَتَ الْعِتْقُ بِإِقْرَارِهِ لَا يَثْبُتُ الْمِيرَاثُ فَكَذَلِكَ هُنَا قَالَ وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا يُوَرِّثُ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ شَيْئًا وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ .
وَإِذَا اشْتَرَكَ الرَّجُلَانِ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ وَلِأَحَدِهِمَا أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلِلْآخَرِ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ فَعِنْدَنَا هَذِهِ لَيْسَتْ بِمُفَاوَضَةٍ لَكِنَّهَا عَنَانٌ عَامٌّ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى هِيَ مُفَاوَضَةٌ وَالْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَبَيْنَنَا وَبَيْنَهُ اتِّفَاقٌ أَنَّ مِنْ شَرْطِ الْمُفَاوَضَةِ الْمُسَاوَاةُ فِي رَأْسِ الْمَالِ وَقُلْنَا لَمَّا انْعَدَمَ مَا هُوَ شَرْطُ صِحَّةِ الْمُفَاوَضَةِ لَمْ تَكُنْ الشَّرِكَةُ مُفَاوَضَةً بَيْنَهُمَا وَلَكِنَّهُ عَنَانٌ عَامٌّ فَكَأَنَّهُمَا بَاشَرَا شَرِكَةَ الْعَنَانِ وَلَقَّبَاهَا بِلَقَبٍ فَاسِدٍ وَهُوَ يَقُولُ قَصْدًا بِصَحِيحِ الْمُعَاوَضَةِ وَلَا وَجْهَ لِتَصْحِيحِهِمَا إلَّا بَعْدَ أَنْ يَصِيرَ أَحَدُهُمَا مُمَلَّكًا بَعْضَ رَأْسِ مَالِهِ مِنْ صَاحِبِهِ لِيَسْتَوِيَ بِهِ فَيُجْعَلَ كَأَنَّهُ وَهَبَ مِنْهُ بَعْضَ رَأْسِ الْمَالِ حَتَّى يَحْصُلَ مَقْصُودُهُمَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ اعْتِقْ عَبْدَك عَنِّي عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ بِدَرْجِ التَّمَلُّكِ فِي كَلَامِهِ لِيَحْصُلَ مَقْصُودُهُمَا وَهَذَا مُسْتَقِيمٌ عَلَى أَصْلِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ هِبَةُ الْمَتَاعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ مِنْ الشَّرِيكِ وَهَذَا لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا لَمْ يَقْصِدَاهُ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْمُسَاوَاةِ فِي رَأْسِ الْمَالِ فِي هَذِهِ الشَّرِكَةِ مِنْ دَقَائِقِ الْعُلُومِ لَا يَعْرِفُهُ إلَّا الْخَوَاصُّ مِنْ النَّاسِ وَبَيْنَ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِيهِ اخْتِلَافٌ فَلَعَلَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَنَيَا هَذَا الْعَقْدَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى جَوَازَهُ مَعَ التَّفَاوُتِ فِي رَأْسِ الْمَالِ وَلَا يَجُوزُ إبْطَالُ شَيْءٍ مِنْ الْمِلْكِ عَلَى أَحَدِهِمَا بِالِاحْتِمَالِ .
قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ فِي عَبْدٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ كَاتَبَهُ أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ فَالْمُكَاتَبَةُ جَائِزَةٌ وَلَيْسَ لِلشَّرِيكِ أَنْ يَرُدَّهَا لِأَنَّ الْمُكَاتَبَةَ تُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الْوَلَاءِ وَالْعِتْقِ فَإِذَا نَفَذَ مِنْ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فِي مِلْكِهِ لَا يَجُوزُ لِلْآخَرِ أَنْ يُبْطِلَهُ كَحَقِيقَةِ الْإِعْتَاقِ وَالْكِتَابَةُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَعْتَمِدُ الْفَسْخَ وَيَعْتَمِدُ التَّرَاضِيَ وَلَا يَجُوزُ إلَّا بِتَسْمِيَةِ الْبَدَلِ فَكَمَا أَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ إذَا بَاعَ نَصِيبَهُ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يُبْطِلَهُ فَكَذَلِكَ الْكِتَابَةُ وَعِنْدَنَا لِلْآخَرِ أَنْ يَرُدَّ الْكِتَابَةَ لِأَنَّ فِي إبْقَاءِ هَذَا الْعَقْدِ ضَرَرًا عَلَى شَرِيكِهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِي نَصِيبِهِ وَتَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ بَعْدَ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَمَنْ تَصَرَّفَ فِي مِلْكِهِ تَصَرُّفًا يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِغَيْرِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ الْغَيْرَ يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ لِلشَّفِيعِ أَنْ يَأْخُذَ الشِّقْصَ بِالشُّفْعَةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ وَهَذَا الْعَقْدُ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ فَقُلْنَا يَدْفَعُ الشَّرِيكُ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِفَسْخِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا كَسَرَ نَجْمًا أَوْ نَجْمَيْنِ كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَفْسَخَ الْكِتَابَةَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ وَأَنَّ الْمُكَاتَبَ مَتَى عَجَزَ عَنْ أَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ وَبِهِ فَارَقَ حَقِيقَةَ الْعِتْقِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُحْتَمِلٍ لِلْفَسْخِ فَدَفْعُ الضَّرَرِ عَنْهُ يَكُونُ بِالتَّضْمِينِ هُنَاكَ وَبِهِ فَارَقَ الْبَيْعَ لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الشَّرِيكِ فِي إبْقَاءِ الْبَيْعِ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ فَإِذَا أَعْتَقَهُ الشَّرِيكُ الْآخَرُ نَفَذَ عِتْقُهُ فِي نَصِيبِهِ عِنْدَنَا لِبَقَاءِ مِلْكِهِ فِي نَصِيبِهِ بَعْدَ الْكِتَابَةِ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ وَعِنْدَ أَبِي لَيْلَى لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ حَتَّى يَنْظُرَ مَا
يَصْنَعُ الْمُكَاتَبُ فَإِنْ أَدَّى بَدَلَ الْكِتَابَةِ عَتَقَ وَعَلَى الَّذِي كَاتَبَهُ نِصْفُ قِيمَتِهِ وَالْوَلَاءُ كُلُّهُ لَهُ لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّ وَلَاءَهُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ فَلَا يَمْلِكُ الشَّرِيكُ إبْطَالَ هَذَا الِاسْتِحْقَاقِ عَلَيْهِ بِالْإِعْتَاقِ كَمَا لَا يَمْلِكُهُ بِفَسْخِ الْكِتَابَةِ عِنْدَهُ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تُجَزَّأُ فَإِذَا أَدَّى الْبَدَلَ عَتَقَ الْكُلَّ مِنْ جِهَتِهِ فَصَارَ ضَامِنًا نِصْفَ قِيمَتِهِ لِشَرِيكِهِ إمَّا لِأَنَّهُ يَمْلِكُ نَصِيبَ شَرِيكِهِ أَوْ لِأَنَّهُ أَفْسَدَ عَلَى شَرِيكِهِ نَصِيبَهُ وَإِنْ عَجَزَ الْمُكَاتَبُ نَفَذَ الْعِتْقُ مِنْ الْآخَرِ حِينَئِذٍ لِأَنَّ الْمَانِعَ قَدْ زَالَ وَهُوَ أَنَّ لِلْمُكَاتَبِ حَقَّ الْوَلَاءِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْكِتَابَةُ تُجَزَّأُ فَالْمُكَاتَبُ لَمْ يَصِرْ مُسْتَحِقًّا نَصِيبَ الشَّرِيكِ فَلِهَذَا نَفَذَ الْعِتْقُ مِنْ الشَّرِيكِ فِي نَصِيبِهِ وَيَسْعَى الْمُكَاتَبُ فِي بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَإِنْ شَاءَ فِي نِصْفِ قِيمَتِهِ لِلشَّرِيكِ الْآخَرِ وَهَذَا الْخِيَارُ عِنْدَهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعِتْقَ يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ .
وَلَوْ أَنَّ مَمْلُوكًا بَيْنَ اثْنَيْنِ دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَبِيعَ حِصَّتَهُ عِنْدَنَا وَلَهُ ذَلِكَ عِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْعِتْقِ يَثْبُتُ بِالتَّدْبِيرِ عِنْدَنَا حَتَّى يَمْتَنِعَ عَلَى الْمُدَبَّرِ بَيْعُ نَصِيبِهِ فَيَمْتَنِعُ عَلَى الشَّرِيكِ أَيْضًا بَيْعُ نَصِيبِهِ اعْتِبَارًا لِحَقِّ الْعِتْقِ بِحَقِيقَةِ الْعِتْقِ وَلِابْنِ أَبِي لَيْلَى أَحَدُ الطَّرِيقَيْنِ أَمَّا أَنْ يُقَالَ التَّدْبِيرُ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ بِالشَّرْطِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ اسْتِحْقَاقُ الْعِتْقِ وَلَا يَمْتَنِعُ الْبَيْعُ فِي نَصِيبِ الْمُدَبَّرِ وَلَا فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَوْ يَقُولُ اسْتِحْقَاقُ الْعِتْقِ بِالتَّدْبِيرِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ تَعْلِيقٌ بِمُطْلَقِ الْمَوْتِ وَهَذَا الْمَعْنَى وُجِدَ فِي حَقِّ الْمُدَبَّرِ خَاصَّةً فَلَا يَظْهَرُ الِاسْتِحْقَاقُ فِي حَقِّ الشَّرِيكِ وَلَكِنْ يُجْعَلُ فِي حَقِّ الشَّرِيكِ هَذَا كَالتَّعْلِيقِ بِسَائِرِ الشُّرُوطِ فَلَا يَمْتَنِعُ الْبَيْعُ وَعَلَى هَذَا قَالَ إذَا دَبَّرَهُ أَحَدُهُمَا ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْآخَرُ فَالْعِتْقُ جَائِزٌ وَالتَّدْبِيرُ بَاطِلٌ لِأَنَّ فِي حَقِّ الْمُعْتِقِ التَّدْبِيرُ بِمَنْزِلَةِ التَّعْلِيقِ بِشَرْطٍ آخَرَ وَالْعِتْقُ عِنْدَهُ لَا يَتَجَزَّأُ فَيَنْفُذُ الْعِتْقُ فِي جَمِيعِهِ وَمِنْ ضَرُورَةِ نُفُوذِ الْعِتْقِ بُطْلَانُ التَّدْبِيرِ فَيَضْمَنُ الْمُعْتِقُ نِصْفَ قِيمَتِهِ لِشَرِيكِهِ إنْ كَانَ مُوسِرًا كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ قَبْلَ التَّدْبِيرِ وَلَكِنْ قَدْ ثَبَتَ لَنَا أَنَّ بِالتَّدْبِيرِ يَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُ الْعِتْقِ كَمَا يَثْبُتُ بِالِاسْتِيلَادِ وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِي الْعِتْقِ كَمَا أَنَّهُ إذَا نَفَذَ الِاسْتِيلَادُ مِنْ أَحَدِهِمَا فِي نَصِيبِهِ لَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ بِإِعْتَاقِ الْآخَرِ فَكَذَلِكَ إذَا نَفَذَ التَّدْبِيرُ وَهَذَا لِأَنَّ الْوَلَاءَ بِالتَّدْبِيرِ صَارَ مُسْتَحَقًّا لَهُ حَتَّى إذَا عَتَقَ بَعْدَ مَوْتِهِ يَكُونُ وَلَاؤُهُ لَهُ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْآخَرُ مِنْ إبْطَالِ هَذَا الْوَلَاءِ عَلَيْهِ .
وَإِذَا وَرِثَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ مَالًا ؛ فَهُوَ لَهُ دُونَ شَرِيكِهِ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى هُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِأَنَّ مُقْتَضَى عَقْدِ الْمُفَاوَضَةِ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْمِلْكِ الَّذِي يَحْدُثُ لِأَحَدِهِمَا بَعْدَهُ كَمَا لَوْ مَلَكَ أَحَدُهُمَا شَيْئًا بِسَبَبِ التِّجَارَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ عَقْدُ الْمُفَاوَضَةِ إنَّمَا يُوجِبُ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا فِيمَا يَحْصُلُ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ وَكِيلًا لِصَاحِبِهِ فِي ذَلِكَ التَّصَرُّفِ وَهَذَا فِي الْإِرْثِ لَا يَتَحَقَّقُ ثُمَّ الْمِلْكُ بِالْمِيرَاثِ لَيْسَ بِحَادِثٍ فَإِنَّ الْوِرَاثَةَ خِلَافَةٌ فَيَبْقَى لِلْوَارِثِ الْمِلْكُ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا لِلْمُوَرَّثِ وَسَبَبُ هَذِهِ الْخِلَافَةِ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّ الشَّرِيكِ وَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تُوجِبُ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَوْهُوبِ وَالْمَوْرُوثِ لَبَطَلَتْ فِي نَفْسِهَا لِأَنَّهَا تَصِيرُ فِي مَعْنَى الْقِمَارِ وَالْمُخَاطَرَةِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ شَرْعًا .
وَإِذَا كَانَ الْمَوْرُوثُ لِلْوَارِثِ خَاصَّةً فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ النُّقُودِ الَّتِي تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ بَطَلَتْ الْمُفَاوَضَةُ لِوُجُودِ التَّفَاوُتِ فِي رَأْسِ الْمَالِ وَالطَّارِئُ بَعْدَ الْعِتْقِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ كَالْمُقْتَرِنِ بِالسَّبَبِ .
وَإِذَا كَاتَبَ الرَّجُلُ عَبْدًا وَلِلْعَبْدِ مَالٌ فَمَالُهُ لِمَوْلَاهُ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُكَاتَبُ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى الْمَالُ لِلْمُكَاتَبِ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَعْقِدُ الْكِتَابَةَ بِقَصْدِ تَمْكِينِهِ مِنْ التَّصَرُّفِ لِيُؤَدِّيَ بَدَلَ الْكِتَابَةِ مِنْ الْكَسْبِ الْحَاصِلِ بِتَصَرُّفِهِ وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَرُّفِ إلَّا بِرَأْسِ الْمَالِ فَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى يُجْعَلُ كَأَنَّهُ شَرَطَ لَهُ مَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ بِخِلَافِ بَيْعِهِ مِنْ غَيْرِهِ فَالْمَقْصُودُ هُنَاكَ تَمْلِيكُ الْعَيْنِ وَذَلِكَ حَاصِلٌ وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ مَالُهُ فِي الْعَقْدِ وَهُوَ نَظِيرُ الشُّرْبِ وَالطَّرِيقُ يَدْخُلُ فِي الْإِجَازَةِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِهِ وَهُوَ الِانْتِفَاعُ وَإِنْ كَانَ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ إلَّا بِالذِّكْرِ وَقِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى { وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ } أَنَّ الْمُرَادَ هَذَا وَهُوَ أَنْ يَتْرُكَ لَهُ مَا فِي يَدِهِ مِنْ الْكَسْبِ لِيَتَصَرَّفَ فِيهِ .
لَكِنَّا نَقُولُ : مَا اكْتَسَبَهُ قَبْلَ عَقْدِ الْكِتَابَةِ مِلْكُ الْمَوْلَى فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَالٍ آخَرَ لِلْمَوْلَى فِي يَدِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّهُ الْمُكَاتَبُ بِمُطْلَقِ الْكِتَابَةِ وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْعَقْدِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِيمَا يُضَافُ إلَيْهِ الْعَقْدُ وَإِنَّمَا أُضِيفَ الْعَقْدُ هُنَا إلَى رَقَبَتِهِ دُونَ مَالِهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْمَالَ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَنَحْنُ نُسَلِّمُ أَنَّهُ بِعَقْدِ الْكِتَابَةِ يُمَكِّنُهُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَلَكِنْ يُمَكِّنُهُ مِنْ ذَلِكَ لِمَنَافِعِهِ لَا لِمَالِهِ وَبِعَقْدِ الْكِتَابَةِ يَصِيرُ هُوَ أَحَقَّ بِمَنَافِعِ نَفْسِهِ عِنْدَنَا ثُمَّ يَجُوزُ فَسْخُ الْكِتَابَةِ عِنْدَ غَيْرِ الْقَاضِي عِنْدَنَا كَمَا يَجُوزُ عَقْدُ الْكِتَابَةِ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَا يَكُونُ رَدُّ الْمُكَاتَبِ فِي الرِّقِّ إلَّا عِنْدَ الْقَاضِي لِأَنَّهُ يَنْبَنِي عَلَى الْعَجْزِ عِنْدَهُ أَدَاءُ بَدَلِ الْكِتَابَةِ وَلَا يَتَحَقَّقُ الْعَجْزُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الْمُكَاتَبِ وَقَوْلُ ابْنِ
أَبِي لَيْلَى كَقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يُرَدُّ إلَى الرِّقِّ حَتَّى يَجْتَمِعَ عَلَيْهِ نَجْمَانِ .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى كَفَالَةُ الْمُكَاتَبِ وَنِكَاحُهُ بَاطِلَانِ لِأَنَّ النِّكَاحَ يَعْتَمِدُ الْوِلَايَةَ وَالرِّقَّ يُبْقِي الْوِلَايَةَ ، وَعِنْدَنَا لَا يَمْلِكُ أَنْ يُزَوِّجَ نَفْسَهُ وَلَا عَبْدَهُ وَلَكِنْ يَمْلِكُ أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ اكْتِسَابِ الْمَالِ وَبُطْلَانِ كَفَالَتِهِ عِنْدَهُ لَيْسَ بِطَرِيقِ أَنَّهُ يَنْزِعُ وَلَكِنْ بِطَرِيقِ انْعِدَامِ الْمَحَلِّيَّةِ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ الْتِزَامُ الْمَالِ فِي الذِّمَّةِ عِنْدَهُ وَلِهَذَا يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصْلِ ، وَقِيَامُ الرِّقِّ فِيهِ يُخْرِجُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِالْتِزَامِ الْمَالِ فِي ذِمَّتِهِ عِنْدَهُ فَلِهَذَا قَالَ لَا تَنْفُذُ كَفَالَتُهُ بَعْدَ مَا عَتَقَ بِخِلَافِ الْإِعْتَاقِ وَالْهِبَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْهُ مَوْقُوفٌ عِنْدَهُ فَإِنْ عَتَقَ بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ نَفَذَ ذَلِكَ كُلُّهُ وَإِنْ عَجَزَ فَرَدَّ رَقِيقًا بَطَلَ ذَلِكَ كُلُّهُ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ لَهُ فِي كَسْبِهِ حُكْمُ مِلْكٍ وَحَقِيقَةُ الْمِلْكِ فِيهِ مَوْقُوفَةٌ فَإِنْ عَتَقَ تَمَّ لَهُ الْمِلْكُ بِذَلِكَ السَّبَبِ الَّذِي بَاشَرَهُ فَنَفَذَ تَصَرُّفُهُ فَإِنْ عَجَزَ تَمَّ الْمِلْكُ لِلْمَوْلَى فَتَبَيَّنَ أَنَّ تَصَرُّفَهُ لَا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ .
فَأَمَّا عِنْدَنَا عِتْقُهُ وَهِبَتُهُ بَاطِلَانِ عَجَزَ أَوْ عَتَقَ لِأَنَّ نُفُوذَ هَذَا التَّصَرُّفِ بِاعْتِبَارِ حَقِيقَةِ الْمِلْكِ وَالرِّقِّ يُنَافِي الْأَهْلِيَّةَ لِذَلِكَ .
وَأَمَّا كَفَالَتُهُ فَلَا تَكُونُ صَحِيحَةً مَا لَمْ يَعْتِقْ فَإِذَا عَتَقَ نَفَذَ بِمَنْزِلَةِ كَفَالَةِ الْعَبْدِ فَإِنَّ ذِمَّتَهُ خَالِصُ حَقِّهِ وَلَكِنَّ الدَّيْنَ لَا يَجِبُ فِي ذِمَّةِ الرَّقِيقِ إلَّا شَاغِلًا مَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ وَذَلِكَ حَقُّ الْمَوْلَى فَبِاعْتِبَارِ أَنَّ تَصَرُّفَهُ لَاقَى مَحَلًّا هُوَ حَقُّهُ كَانَ صَحِيحًا فِي حَقِّهِ وَبِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مُعَلَّقٌ بِمَالِيَّةِ الْمَوْلَى قُلْنَا ثَانِيَةً تُؤَخَّرُ الْمُطَالَبَةُ عَنْهُ إلَى حَالَةِ الْعِتْقِ وَلَوْ كَفَلَ إنْسَانٌ عَنْهُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ لِمَوْلَاهُ لَمْ يَجُزْ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تَسْتَدْعِي دَيْنًا صَحِيحًا وَقِيَامُ الرِّقِّ يَمْنَعُ
وُجُوبَ دَيْنٍ صَحِيحٍ لِلْمَوْلَى عَلَى مَمْلُوكِهِ لِأَنَّهُ الْتِزَامٌ لِلْمُطَالَبَةِ وَالْمُطَالَبَةُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ لَا تَقْوَى فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ وَلِهَذَا يَمْلِكُ أَنْ يُعَجِّزَ نَفْسَهُ .
وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى الْكَفَالَةُ صَحِيحَةٌ بِمَنْزِلَةِ التَّبَرُّعِ بِالْأَدَاءِ لِأَنَّ عِنْدَهُ الْكَفَالَةَ تُوجِبُ أَصْلَ الْمَالِ فِي ذِمَّةِ الْكَفِيلِ فَكَمَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُتَبَرِّعُ مُؤَدِّيًا بَدَلَ الْكِتَابَةِ عَنْ الْمُكَاتَبِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُلْتَزِمًا بَدَلَ الْكِتَابَةِ فِي ذِمَّةِ نَفْسِهِ لِلْمَوْلَى .
رَجُلٌ قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ بِعْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ فَبَاعَهُ لَمْ يَعْتِقْ عِنْدَنَا ، وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَعْتِقُ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ أَنَّ فِي الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ عِنْدَنَا يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْمِلْكِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ لِحُصُولِ الْجَزَاءِ وَعِنْدَهُ لَا يُشْتَرَطُ وَيُعْتَبَرُ قِيَامُ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ بِالْأَهْلِيَّةِ فِي الْمُتَصَرِّفِ وَذَلِكَ لَا يُشْتَرَطُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ حَتَّى أَنَّ مَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ جُنَّ الْحَالِفُ ثُمَّ وُجِدَ الشَّرْطُ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَأْثِيرَ الْأَهْلِيَّةِ أَكْثَرُ مِنْ تَأْثِيرِ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ .
فَأَمَّا إذْ كَانَ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْأَهْلِيَّةِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَلِأَنَّهُ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ أَوْلَى ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُتَعَلِّقُ بِالشَّرْطِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ كَالْمُنَجَّزِ فَكَمَا أَنَّ تَنْجِيزَ الْعِتْقِ لَا يَصِحُّ إلَّا عِنْدَ قِيَامِ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ فَكَذَلِكَ بِزَوَالِ الْجَزَاءِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ إلَّا أَنَّهُ يَصِيرُ كَالْمُنَجَّزِ بِذَلِكَ الْكَلَامِ السَّابِقِ وَذَلِكَ الْكَلَامُ صَحَّ مِنْهُ فِي حَالِ إقَامَتِهِ وَالْجُنُونُ إنَّمَا يُنَافِي الْأَهْلِيَّةَ لِلتَّكَلُّمِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ إيقَاعًا فِي حَقِّهِ وَهَذَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ إذَا قَالَ إنْ بِعْتُكَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَهَذَا التَّعْلِيقُ عِنْدَهُ صَحِيحٌ لِأَنَّ الْمِلْكَ عِنْدَ التَّعْلِيقِ مَوْجُودٌ وَلَا يُشْتَرَطُ وُجُودُ الْمِلْكِ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ عَلَى مَذْهَبِهِ وَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ هُنَا بِالْبَيْعِ فَيُتْرَكُ الْعِتْقُ بِالسَّبَبِ الَّذِي صَحَّ مِنْهُ قَبْلَ الْبَيْعِ وَيَصِيرُ بِهِ مُعَلِّقًا رَقَبَتَهُ فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ وَيُعْتَقُ مِنْ مَالِ الْبَائِعِ وَعِنْدَنَا يُشْتَرَطُ قِيَامُ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ عِنْدَ نُزُولِ الْجَزَاءِ لِأَنَّ الْإِيجَابَ إنَّمَا يَتَّصِلُ بِالْمَحَلِّ
بَعْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَالشَّرْطُ هُنَا هُوَ الْبَيْعُ فَإِذَا زَالَ مِلْكُهُ بِالْبَيْعِ فَقَدْ انْعَدَمَ الْمِلْكُ فِي الْمَحَلِّ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فَيَنْحَلُّ الْيَمِينُ وَلَا يُعْتَقُ الْعَبْدُ بَلْ يَبْقَى عَلَى مِلْكِ الْمُشْتَرِي وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ لَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ كَلَّمْتَ فُلَانًا فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ بَاعَهُ ثُمَّ كَلَّمَ فُلَانًا أَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إنْ كَلَّمْتِ فُلَانًا ثُمَّ طَلَّقَهَا وَاحِدَةً بَائِنَةً وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ كَلَّمَتْ فُلَانًا عِنْدَنَا لَا يَقَعُ الثَّلَاثُ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يَقَعُ .
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً إلَى مَكَان فَجَاوَزَ بِهَا الْمَكَانَ ثُمَّ عَطِبَتْ بَعْدُ ضَمِنَ قِيمَتَهَا عِنْدَنَا وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْأَجْرُ وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْأَجْرِ لِأَنَّ الْأَجْرَ وَالضَّمَانَ لَا يَجْتَمِعَانِ وَقَدْ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ وَلِأَنَّهُ بِالضَّمَانِ مَلَكَ الْمَضْمُونَ وَلَا يُوجِبُ عَلَيْهِ الْأَجْرَ بِسَبَبِ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِ نَفْسِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ لَمَّا انْتَهَى إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ فَقَدْ انْتَهَى الْعَقْدُ نِهَايَتَهُ وَتَقَرَّرَ الْأَجَلُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ بِالْمُجَاوَزَةِ صَارَ غَاصِبًا ضَامِنًا فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْأَجْرُ بِذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ رَدَّهَا عَلَى صَاحِبِهَا ثُمَّ غَصَبَهَا مِنْهُ وَهَذَا لِأَنَّ الْمِلْكَ بِالضَّمَانِ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ مِنْ وَقْتِ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ وَذَلِكَ بَعْدَ الْمُجَاوَزَةِ وَالْأَجْرُ إنَّمَا لَزِمَهُ بِمُقَابَلَةِ مَنَافِعَ اسْتَوْفَاهَا قَبْلَ ذَلِكَ .
وَإِذَا أَدْرَكَ الرَّجُلُ الْإِمَامَ وَهُوَ رَاكِعٌ فَكَبَّرَ مَعَهُ وَلَمْ يَرْكَعْ حَتَّى رَفَعَ رَأْسَهُ فَعِنْدَنَا يَسْجُدُ مَعَهُ وَلَا يَعْتَدُّ بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ وَيَعْتَدُّ بِهَا لِأَنَّ حَالَةَ الرُّكُوعِ بِمَنْزِلَةِ حَالَةِ الْقِيَامِ فَإِنَّ الْقَائِمَ إنَّمَا يُفَارِقُ الْقَاعِدَ فِي اسْتِوَاءِ النِّصْفِ الْأَسْفَلِ مِنْهُ دُونَ النِّصْفِ الْأَعْلَى وَالرَّاكِعُ فِي هَذَا وَالْمُنْتَصِفُ سَوَاءٌ وَلِهَذَا لَوْ رَكَعَ مَعَهُ كَانَ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ فَكَانَ إدْرَاكُهُ إيَّاهُ فِي حَالَةِ الرُّكُوعِ وَإِدْرَاكُهُ فِي حَالَةِ الْقِيَامِ سَوَاءً وَلَوْ أَدْرَكَهُ قَائِمًا ثُمَّ سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَإِنَّهُ يُتَابِعُهُ يَرْكَعُ وَيَسْجُدُ وَيَكُونُ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ فَكَذَلِكَ هُنَا وَلَكِنَّا نَقُولُ شَرْطُ إدْرَاكِ الرَّكْعَةِ أَنْ يُشَارِكَ الْإِمَامَ فِي حَقِيقَةِ الْقِيَامِ أَوْ فِيمَا هُوَ مُشَبَّهٌ بِالْقِيَامِ وَهُوَ الرُّكُوعُ حَتَّى يَكُونَ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ فَإِذَا رَفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ هُوَ فَقَدْ انْعَدَمَتْ الْمُشَارَكَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْقِيَامِ أَوْ فِيمَا هُوَ مُشَبَّهٌ بِالْقِيَامِ وَهُوَ الرُّكُوعُ فَإِذَا أَدْرَكَهُ قَائِمًا فَقَدْ شَارَكَهُ فِي حَقِيقَةِ الْقِيَامِ وَكَانَ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ .
وَأَمَّا إذَا أَدْرَكَهُ رَاكِعًا فَهُوَ لَمْ يُشَارِكْهُ فِي حَقِيقَةِ الْقِيَامِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُشْرِكَهُ فِيمَا هُوَ مُشَبَّهٌ بِالْقِيَامِ وَهُوَ الرُّكُوعُ حَتَّى يَكُونَ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ فَإِذَا رَفَعَ الْإِمَامُ رَأْسَهُ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ فَقَدْ انْعَدَمَتْ الْمُشَارَكَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْقِيَامِ وَفِيمَا هُوَ مُشْبِهٌ لِلْقِيَامِ فَلَا يَعْتَدُّ بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ كَمَا لَوْ أَدْرَكَ فِي السُّجُودِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمَسْبُوقَ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقْضِيَ مَا فَاتَهُ قَبْلَ أَنْ يُشَارِكَ الْإِمَامَ فِيمَا أَدْرَكَ مَعَهُ وَذَلِكَ عَمَلٌ بِالْمَنْسُوخِ فَيَكُونُ مُفْسِدًا لِصَلَاتِهِ فَلِهَذَا يَسْجُدُ وَلَا يَعْتَدُّ بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ .
فَأَمَّا إذَا رَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ الْإِمَامُ
رَأْسَهُ فَهُوَ مُشَارِكٌ لِلْإِمَامِ فِي الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ جَمِيعًا أَمَّا فِي الرُّكُوعِ فَلَا يُشْكِلُ وَفِي الْقِيَامِ لِأَنَّ حَالَةَ الرُّكُوعِ كَحَالَةِ الْقِيَامِ فَبِهَذَا الْحَرْفِ يَقَعُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ .
فَإِذَا أَهَلَّ الرَّجُلُ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ أَفْسَدَهَا فَقَدِمَ مَكَّةَ فَقَضَاهَا فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ أَنْ يَقْضِيَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا يُجْزِئُهُ أَنْ يَقْضِيَهَا لَا مِنْ وَقْتِ بِلَادِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَقْضِي مَا فَاتَهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَهَا كَمَا فَاتَهُ ثُمَّ الْقَضَاءُ بِصِفَةِ الْأَدَاءِ فَإِذَا كَانَ هُوَ فِي أَدَاءِ هَذِهِ الْعُمْرَةِ إنَّمَا أَحْرَمَ لَهَا مِنْ الْمِيقَاتِ فَكَذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ { عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَإِنَّهَا لَمَّا حَاضَتْ بِسَرِفٍ بَعْدَمَا أَحْرَمَتْ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارْفِضِي عُمْرَتَكِ وَاصْنَعِي جَمِيعَ مَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ ثُمَّ أَمَرَ أَخَاهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُعْمِرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ مَكَانَ عُمْرَتِهَا الَّتِي فَاتَتْهَا } وَلِأَنَّ مَا يَلْزَمُهُ بِالشُّرُوعِ مُعْتَبَرٌ بِمَا يَلْزَمُهُ بِالنَّذْرِ وَمَنْ نَذَرَ عُمْرَةً فَأَدَّاهَا مِنْ التَّنْعِيمِ خَرَجَ عَنْ مُوجَبِ نَذْرِهِ وَلِأَنَّهُ وَصَلَ إلَى مَكَّةَ بِالْإِحْرَامِ الْفَاسِدِ فَيُجْعَلُ كَمَا لَوْ وَصَلَ إلَيْهَا بِإِحْرَامٍ صَحِيحٍ فَكَمَا أَنَّ هُنَاكَ يَكُونُ هُوَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ مَكَّةَ فِي الْإِحْرَامِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ، الْوَاجِبُ وَغَيْرُ الْوَاجِبِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ فَكَذَلِكَ هُنَا هُوَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ مَكَّةَ فِي حُكْمِ قَضَاءِ هَذِهِ الْعُمْرَةِ .
وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَخْرُجَ الرَّجُلُ مِنْ تُرَابِ الْحَرَمِ وَحِجَارَتِهِ إلَى الْحِلِّ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى أَكْرَهُ ذَلِكَ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَرِهَا ذَلِكَ وَلَكِنَّا نَقُولُ مَا جَازَ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي الْحَرَمِ يَجُوزُ إخْرَاجُهُ مِنْ الْحَرَمِ كَالنَّبَاتِ وَمَا لَا يَجُوزُ إخْرَاجُهُ مِنْ الْحَرَمِ لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي الْحَرَمِ كَالصَّيْدِ وَبِالْإِجْمَاعِ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِالْحِجَارَةِ وَالتُّرَابِ فِي الْحَرَمِ فَيَكُونُ لَهُ أَيْضًا إخْرَاجُ ذَلِكَ مِنْ الْحَرَمِ وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا شَاذٌّ فَقَدْ ظَهَرَ عَمَلُ النَّاسِ بِخِلَافِهِ فَإِنَّهُمْ تَعَارَفُوا إخْرَاجَ الْقُدُورِ مِنْ الْحَرَمِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ مُنْكِرٍ وَإِخْرَاجِ التُّرَابِ الَّذِي يَجْمَعُونَهُ مِنْ كَنْسِ سَطْحِ الْبَيْتِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَيَتَبَرَّكُوا بِذَلِكَ وَكُلُّ أَثَرٍ شَاذٍّ يَكُونُ عَمَلُ النَّاسِ ظَاهِرًا بِخِلَافِهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ حَجَّةً .
وَأَمَّا إذَا اقْتَتَلَ الْقَوْمُ فَأَحَلُّوا عَنْ قَتِيلٍ وَلَا يُعْلَمُ أَيُّهُمْ أَصَابَهُ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَبِيلَةِ الَّذِينَ اقْتَتَلُوا جَمِيعًا وَإِلَيْهِ رَجَعَ أَبُو يُوسُفَ ذَكَرْنَا هُنَا قَوْلَهُ وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي الدِّيَاتِ .
وَإِذَا قَتَلَ الرَّجُلُ رَجُلًا ضَرَبَهُ بِعَصَا أَوْ حَجَرٍ أَوْ ضَرَبَهُ ضَرَبَاتٍ حَتَّى مَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : لَا قِصَاصَ بَيْنَهُمَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى بَيْنَهُمَا الْقِصَاصُ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَإِذَا وَقَعَ مَوْقِعَ السِّلَاحِ وَقَدْ بَيَّنَّا الْمَسْأَلَةَ فِي الدِّيَاتِ إلَّا أَنَّ هُنَاكَ يُذْكَرَانِ عِنْدَهُمَا إنَّمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلِ بِالْحَجَرِ الْكَبِيرِ وَالْعَصَا الْكَبِيرِ .
فَأَمَّا الْقَتْلُ بِالْعَصَا الصَّغِيرِ بِالضَّرْبِ بِالْمُوَالَاةِ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا يَجِبُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَهُنَا نَصٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَيْضًا وَهَكَذَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَانَ الطَّحَاوِيُّ إنَّمَا اعْتَمَدَ هَذِهِ الرِّوَايَةَ فِيمَا أَوْرَدَهُ فِي كِتَابِهِ وَهُوَ الْأَصَحُّ فَالْمُعْتَبَرُ عِنْدَهُمَا الْقَصْدُ إلَى الْقَتْلِ بِمَا لَا تُطِيقُ النَّفْسُ احْتِمَالَهُ وَالْعَصَا الصَّغِيرُ مَعَ الْمُوَالَاةِ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْعَصَا الْكَبِيرِ .
إذَا عَضَّ رَجُلٌ يَدَ رَجُلٍ فَانْتَزَعَ الْمَعْضُوضُ يَدَهُ مِنْ فَمِ الْعَاضِّ فَقَلَعَ شَيْئًا مِنْ أَسْنَانِهِ فَعِنْدَنَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي السِّنِّ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى هُوَ ضَامِنٌ الْعَضَّةَ لِأَنَّهُ صَارَ قَالِعًا سِنَّهُ بِنَزْعِ الْيَدِ مِنْ فَمِهِ إلَّا أَنَّهُ مَعْذُورٌ فِي ذَلِكَ وَذَلِكَ لَا يُسْقِطُ الضَّمَانَ عَنْهُ كَالْخَاطِئِ وَالْمُضْطَرِّ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ جَنَى عَلَى مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ جَسَدِهِ لِيَدْفَعَ بِهِ أَذَاهُ عَنْ نَفْسِهِ كَانَ ضَامِنًا فَكَذَلِكَ إذَا نَزَعَ يَدَهُ مِنْ فَمِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ هُوَ فِيمَا صَنَعَ دَافِعٌ لِلْأَذَى غَيْرُ مُبَاشِرٍ لِلْجِنَايَةِ فَلَا يَكُونُ ضَامِنًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَصَدَ قَتْلَهُ فَدَفَعَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَسَقَطَ فَمَاتَ يُوَضِّحُهُ أَنَّ صَاحِبَ السِّنِّ هُوَ الْجَانِي بِعَضِّهِ يَدَ غَيْرِهِ عَلَى وَجْهٍ يُسْقِطُ سِنَّهُ بِنَزْعِ الْيَدِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا جَنَى عَلَى مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ جَسَدِهِ لِأَنَّ الْمَعْضُوضَ يَدُهُ هُوَ الْمُبَاشِرُ لِتِلْكَ الْجِنَايَةِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ فَإِنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِ الْأَذَى عَنْ نَفْسِهِ بِنَزْعِ الْيَدِ مِنْ فَمِهِ فَإِذَا اشْتَغَلَ بِالْجِنَايَةِ عَلَى جَسَدِهِ فِي مَحَلٍّ آخَرَ كَانَ ضَامِنًا لِذَلِكَ وَهُنَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِ الْأَذَى إلَّا بِنَزْعِ الْيَدِ مِنْ فَمِهِ .
وَإِذَا قَالَ الْخَصْمُ لِلْقَاضِي لَا أُقِرُّ وَلَا أُنْكِرُ فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ لَا يُجْبِرُهُ الْقَاضِي عَلَى ذَلِكَ وَلَكِنْ يَدْعُو الْمُدَّعِي بِشُهُودِهِ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا أَدَعُهُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ لِأَنَّ الْجَوَابَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ إيفَاءِ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى ذَلِكَ أَجْبَرَهُ الْقَاضِي عَلَى إيفَائِهِ بِالْحَبْسِ ثُمَّ شَرْطُ قَبُولِ الْبَيِّنَةِ إنْكَارُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُجْبِرَهُ الْقَاضِي حَتَّى يُجِيبَ بِالْإِقْرَارِ فَيَتَوَصَّلَ بِهِ الْمُدَّعِي إلَى حَقِّهِ أَوْ بِالْإِنْكَارِ فَيَتَمَكَّنَ مِنْ إثْبَاتِ حَقِّهِ بِالْبَيِّنَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْإِنْكَارُ حَقُّ الْمُنْكِرِ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ بِهِ الْمُدَّعِي عَنْ نَفْسِهِ وَيُثْبِتُ بِهِ حَقَّ نَفْسِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْبَرَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهِ ثُمَّ السُّكُوتُ قَائِمٌ مَقَامَ الْإِنْكَارِ لِأَنَّ الْمُنْكِرَ مَانِعٌ وَالسَّاكِتَ كَذَلِكَ وَالْإِنْكَارُ مُنَازَعَةٌ بِالْقَوْلِ وَفِي السُّكُوتِ مُنَازَعَةٌ بِالْفِعْلِ وَهُوَ الِامْتِنَاعُ عَنْ التَّسْلِيمِ وَمِنْ الْجَوَابِ بَعْدَ مَا طُولِبَ بِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ قَائِمًا مَقَامَ إنْكَارِهِ وَيَتَمَكَّنُ الْمُدَّعِي مِنْ إثْبَاتِ حَقِّهِ بِالْبَيِّنَةِ عِنْدَ ذَلِكَ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَسْتَحْلِفُهُ عَلَى حَقِّ الْمُدَّعِي وَيُجْبِرُهُ أَنَّهُ يُلْزِمُهُ الْقَضَاءَ إنْ لَمْ يَحْلِفْ فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ قَضَى عَلَيْهِ بِالنُّكُولِ وَإِنْ حَلَفَ دَعَا الْمُدَّعِي شُهُودَهُ فَهُمَا يَجْعَلَانِ سُكُوتَهُ أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ إنْكَارٍ إلَّا أَنَّ عَلَى قَوْلِهِمَا إذَا طَلَبَ الْمُدَّعِي يَمِينَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ اسْتَحْلَفَهُ الْقَاضِي فَإِنْ زَعَمَ الْمُدَّعِي أَنَّ لَهُ شُهُودًا عَلَى حَقِّهِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّمَا يَشْتَغِلُ بِالِاسْتِحْلَافِ إذَا قَالَ الْمُدَّعِي لَا بَيِّنَةَ لِي .
فَأَمَّا إذَا كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ لَا يَشْتَغِلُ بِالِاسْتِحْلَافِ لِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْمُدَّعِي أَلَكَ بَيِّنَةٌ قَالَ لَا فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
إذًا لَك يَمِينُهُ } وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يُشْتَغَلُ بِالِاسْتِحْلَافِ فِي مَوْضِعٍ يَنْقَطِعُ الْمُنَازَعَةُ بِالْيَمِينِ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ لَهُ بَيِّنَةٌ فَالْمُنَازَعَةُ لَا تَنْقَطِعُ بِالِاسْتِحْلَافِ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ بَعْدَهُ فَلَيْسَ فِي الِاشْتِغَالِ بِالِاسْتِحْلَافِ هُنَا فَائِدَةُ قَطْعِ الْخُصُومَةِ وَهُمَا يَقُولَانِ الْبَيِّنَةُ وَالْيَمِينُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقُّ الْمُدَّعِي فَلَهُ فِي الِاسْتِحْلَافِ مَقْصُودٌ صَحِيحٌ وَهُوَ وُصُولُهُ إلَى حَقِّهِ فِي أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ لِعِلْمِهِ أَنَّ الْخَصْمَ لَا يَحْلِفُ كَاذِبًا فَكَانَ لَهُ أَنْ يَطْلُبَهُ بِذَلِكَ وَعَلَى الْقَاضِي إجَابَتُهُ إلَيْهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ يَسْأَلُهُ الْجَوَابَ فِي الِابْتِدَاءِ رَجَاءَ أَنْ يُقِرَّ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ رَجَاءَ أَنْ يَنْكُلَ عَنْ الْيَمِينِ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ .
وَإِذَا أَنْكَرَ الْخَصْمُ الدَّعْوَى ثُمَّ جَاءَ بِالشُّهُودِ عَلَى الْحَرَجِ مِنْهَا فَإِنَّ ذَلِكَ مَقْبُولٌ مِنْهُ عِنْدَنَا وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَا يَقْبَلُهُ وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنْ يَدَّعِيَ قِبَلَهُ مَالًا فَيَقُولَ مَا لَهُ قِبَلِي شَيْءٌ ثُمَّ يُقِيمُ الطَّالِبُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَالِهِ وَيُقِيمُ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَدْ أَوْفَاهُ فَابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقُولُ هُوَ مُنَاقَضٌ فِي دَعْوَاهُ الْإِيفَاءَ بَعْدَ إنْكَارِهِ أَصْلَ الْمَالِ خُصُوصًا إذَا قَالَ مَا كَانَ لَهُ عَلَيَّ سَاقِطٌ ، وَقَبُولُ الْبَيِّنَةِ يَنْبَنِي عَلَى دَعْوَى صَحِيحَةٍ وَمَعَ التَّنَاقُضِ لَا تَصِحُّ الدَّعْوَى .
.
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ قَالَ مَا كَانَ لَهُ عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ وَلَا أَعْرِفُهُ لَمْ تُقْبَلْ مِنْهُ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْإِيفَاءِ بَعْدَ ذَلِكَ لِهَذَا الْمَعْنَى وَلَكِنَّا نَقُولُ دَعْوَاهُ الْإِيفَاءَ بَعْدَ جُحُودِ أَصْلِ الْمَالِ دَعْوَى صَحِيحَةٌ إمَّا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ أَوْ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ قَطُّ لَكِنَّهُ ادَّعَى مَرَّةً هَذِهِ الدَّعْوَى الْبَاطِلَةَ وَاسْتَوْفَى الْمَالَ بِهَا فَإِذَا كَانَتْ الدَّعْوَى صَحِيحَةً بِهَذَا الطَّرِيقِ مِنْ التَّوَثُّقِ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ إثْبَاتِهَا بِالْبَيِّنَةِ ثُمَّ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ مَا كَانَ لَهُ عَلَيَّ شَيْءٌ قَطُّ وَلَا أَعْرِفُهُ لِأَنَّ مَعَ ذَلِكَ الزِّيَادَةُ فِي الْإِنْكَارِ مُتَعَذِّرُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ كَلَامَيْهِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا .
وَإِذَا ادَّعَى الرَّجُلُ قِبَلَ رَجُلٍ دَعْوَى وَقَالَ : عِنْدِي مِنْهَا الْمَخْرَجُ فَلَيْسَ هَذَا بِإِقْرَارٍ مِنْهُ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى هُوَ إقْرَارٌ لِأَنَّ الْمَخْرَجَ مِنْهَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهَا فَكَانَ هَذَا وَقَوْلُهُ أَوْفَيْتُهَا إيَّاهُ أَوْ أَبْرَأَنِي مِنْهَا سَوَاءً وَذَاكَ إقْرَارٌ بِأَصْلِ الْمَالِ .
وَلَكِنَّا نَقُولُ هُوَ ادَّعَى الْمَخْرَجَ مِنْ دَعْوَاهُ لَا مِنْ الْمَالِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إقْرَارًا بِالْمَالِ صَرِيحًا وَلَا دَلَالَةً وَهَكَذَا يَقُولُ فِي الْإِبْرَاءِ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ أَبْرَأَنِي مِنْ هَذِهِ الدَّعْوَى لَا يَكُونُ ذَلِكَ إقْرَارًا بِالْمَالِ ثُمَّ الْمَخْرَجُ مِنْ الدَّعْوَى بِبَيَانِ وَجْهِ الْفَسَادِ فِيهِ وَوَجْهُ الْفَسَادِ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ قَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِبَيَانِ أَنَّهُ مَا كَانَ وَاجِبًا قَطُّ وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِبَيَانِ الْمُسْقِطِ بَعْدَ الْوُجُوبِ وَمَعَ الِاحْتِمَالِ لَا يَجِبُ الْمَالُ .
وَإِذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ عِنْدَ الْقَاضِي بِشَيْءٍ فَلَمْ يَقْضِ بِهِ وَلَمْ يُثْبِتْهُ فِي دِيوَانِهِ ثُمَّ خُوصِمَ إلَيْهِ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَعِنْدَنَا الْقَاضِي يَقْضِي بِهِ إذَا كَانَ يَذْكُرُهُ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَا يَقْضِي بِذَلِكَ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ ذَاكِرًا حَتَّى يُثْبِتَهُ فِي دِيوَانِهِ وَالْقِيَاسُ مَا قُلْنَا لِأَنَّ الْقَاضِيَ حِينَ سَمِعَ إقْرَارَهُ بِذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ لَوْ طَلَبَ الْخَصْمُ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَا مَضَى عَلَى ذَلِكَ مُدَّةٌ إذَا كَانَ الْقَاضِي يَذْكُرُ ذَلِكَ وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْإِثْبَاتِ فِي دِيوَانِهِ أَنْ يَتَذَكَّرَ ذَلِكَ بِالنَّظَرِ فِيهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَإِذَا كَانَ ذَاكِرًا فَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ حَاصِلٌ وَلَكِنْ اسْتَحْسَنَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ الْقَاضِي لِكَثْرَةِ اشْتِغَالِهِ رُبَّمَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلِهَذَا يُثْبِتُهُ فِي دِيوَانِهِ لِيَرْجِعَ إلَيْهِ فَيَنْبَغِي لَهُ الشُّهُودُ فَإِذَا لَمْ يُثْبِتْهُ فِي دِيوَانِهِ لَوْ قَضَى بِهِ كَانَ قَضَاءً مَعَ تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ وَرُبَّمَا يُنْسَبُ بِهِ إلَى الْمِيلِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْتَاطَ فِي ذَلِكَ وَلَا يَقْضِيَ بِمُجَرَّدِ كَوْنِهِ ذَاكِرًا حَتَّى يُثْبِتَهُ فِي دِيوَانِهِ .
وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ لَسْتَ مِنْ بَنِي فُلَانٍ وَأُمُّهُ أَمَةٌ أَوْ نَصْرَانِيَّةٌ وَأَبُوهُ مُسْلِمٌ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى : عَلَيْهِ الْحَدُّ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْحُدُودِ أَنَّ قَوْلَهُ لِغَيْرِهِ لَسْتَ مِنْ بَنِي فُلَانٍ يَكُونُ قَذْفًا لِأُمِّهِ عِنْدَنَا فَإِذَا كَانَتْ أُمُّهُ أَمَةً أَوْ نَصْرَانِيَّةً فَهِيَ غَيْرُ مُحْصَنَةٍ وَقَذْفُ غَيْرِ الْمُحْصَنَةِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى هَذَا قَذْفٌ لَهُ فِي نَفْسِهِ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ الْعَارُ بِكَوْنِهِ وَلَدَ الزِّنَا كَمَا يَلْحَقُهُ الْعَارُ بِنِسْبَتِهِ إلَى الزِّنَا فَكَمَا أَنَّهُ لَوْ نَسَبَهُ إلَى الزِّنَا يَكُونُ قَاذِفًا لَهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَنْفَاهُ مِنْ أَبِيهِ يَكُونُ قَاذِفًا لَهُ وَهُوَ مُحْصَنٌ فِي نَفْسِهِ فَعَلَى قَاذِفِهِ الْحَدُّ .
وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ يَا ابْنَ الزَّانِيَيْنِ وَقَدْ مَاتَ أَبَوَاهُ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْمُغَلَّبَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ عِنْدَنَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى فَعِنْدَ الِاجْتِمَاعِ يَتَدَاخَلُ وَالْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِإِقَامَةِ حَدٍّ وَاحِدٍ وَهُوَ مَعْنَى الزَّجْرِ لِلْقَاذِفِ وَدَفْعِ الْعَارِ عَنْ الْمَقْذُوفِ وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى يَضْرِبُ حَدَّيْنِ لِأَنَّ عِنْدَهُ الْمُغَلَّبُ فِي حَدِّ الْقَذْفِ حَقُّ الْعَبْدِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْحُدُودِ وَذَكَرَ أَنَّ ابْنَ أَبِي لَيْلَى فَعَلَ ذَلِكَ فِي مَقَامٍ وَاحِدٍ فِي الْمَسْجِدِ وَهَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيهَا : إنَّ الْقَاضِيَ أَخْطَأَ فِيهَا فِي سَبْعِ مَوَاضِعَ فَإِنَّ مَعْتُوهَةً كَانَتْ بِالْكُوفَةِ آذَاهَا رَجُلٌ فَقَالَتْ لَهُ يَا ابْنَ الزَّانِيَيْنِ فَأَتَى بِهَا إلَى ابْنِ أَبِي لَيْلَى فَاعْتَرَفَتْ فَأَقَامَ عَلَيْهَا حَدَّيْنِ فَذُكِرَ ذَلِكَ لِأَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ إنَّهُ أَخْطَأَ فِي سَبْعِ مَوَاضِعَ ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ فَقَالَ بَنَى الْحُكْمَ عَلَى إقْرَارِ الْمَعْتُوهَةِ وَإِقْرَارُهَا هَدَرٌ وَأَلْزَمَهَا الْحَدَّ وَالْمَعْتُوهَةُ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْعُقُوبَةِ وَأَقَامَ عَلَيْهَا حَدَّيْنِ وَمَنْ قَذَفَ جَمَاعَةً لَا يُقَامُ عَلَيْهِ إلَّا حَدٌّ وَاحِدٌ وَأَقَامَ حَدَّيْنِ مَعًا وَمَنْ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ حَدَّانِ لَا يُوَالِي بَيْنَهُمَا وَلَكِنْ يَضْرِبُ أَحَدَهُمَا ثُمَّ يُتْرَكُ حَتَّى يَبْرَأَ ثُمَّ يُقَامُ الْآخَرُ وَأَقَامَ الْحَدَّ فِي الْمَسْجِدِ وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُقِيمَ الْحَدَّ فِي الْمَسْجِدِ وَضَرَبَهَا قَائِمَةً وَإِنَّمَا تُضْرَبُ الْمَرْأَةُ قَاعِدَةً وَضَرَبَهَا لَا بِحَضْرَةِ وَلِيِّهَا وَإِنَّمَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى الْمَرْأَةِ بِحَضْرَةِ وَلِيِّهَا حَتَّى إذَا انْكَشَفَ شَيْءٌ مِنْ بَدَنِهَا فِي اضْطِرَابِهَا سَتَرَ الْوَلِيُّ ذَلِكَ عَلَيْهَا فَانْتَشَرَ بِالْكُوفَةِ أَنَّ الْقَاضِيَ أَخْطَأَ فِي مَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ فِي سَبْعِ مَوَاضِعَ .
وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ لَا حَاجَةَ لِي فِيكِ وَأَرَادَ الطَّلَاقَ لَمْ تَطْلُقْ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى هِيَ تَطْلُقُ ثَلَاثًا لِأَنَّهُ نَفَى حَاجَتَهُ فِيهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ وَحَقِيقَةُ ذَلِكَ إذَا صَارَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ وَأَمَّا مَا دَامَتْ مُحَلَّلَةً فِي حَقِّهِ فَلَهُ فِيهَا حَاجَةٌ طَبْعًا أَوْ شَرْعًا لِأَنَّ النِّسَاءَ خُلِقْنَ لِحَوَائِجِ الرِّجَالِ إلَيْهِنَّ فَكَانَ هَذَا وَقَوْلُهُ أَنْتِ مُحَرَّمَةٌ عَلَيَّ سَوَاءً .
وَلَكِنَّا نَقُولُ : قَوْلُهُ لَا حَاجَةَ لِي فِيكِ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لَا أَشْتَهِيكِ وَلَا أُرِيدُكِ وَلَا أَهْوَاكِ وَلَا أُحِبُّكِ وَلَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ مَا يَدُلُّ عَلَى الطَّلَاقِ ، وَالنِّيَّةُ مَتَى تَجَرَّدَتْ عَنْ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ كَانَ بَاطِلًا وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ { أَنَّ امْرَأَةً عَرَضَتْ نَفْسَهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرْغَبْهَا رَغْبَةً فَقَالَ : لَا حَاجَةَ لِي إلَى النِّسَاءِ } الْحَدِيثَ .
وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَا كَانَ الطَّلَاقُ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ لَفْظِهِ ذَلِكَ .
وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ غَائِبٌ لَا يَدْرِي أَحَيٌّ هُوَ أَمْ مَيِّتٌ أَوْ فُلَانٌ مَيِّتٌ عَلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تَطْلُقْ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى هِيَ طَالِقٌ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ مَشِيئَةُ فُلَانٍ بَعْدَ مَوْتِهِ وَيَبْقَى أَصْلُ الْإِيقَاعِ فَيَقَعُ الطَّلَاقُ وَلَكِنَّا نَقُولُ التَّعْلِيقُ بِشَرْطٍ لَا يَكُونُ لَهُ تَحْقِيقًا لِلنَّفْيِ فَيَخْرُجُ بِهِ كَلَامُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ إيقَاعًا وَهَذَا لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ يُخْرِجُ كَلَامَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ إيقَاعًا إلَى أَنْ يُوجَدَ الشَّرْطُ فَإِذَا كَانَ الشَّرْطُ مِمَّا يَتَحَقَّقُ كَوْنُهُ يُخْرِجُ كَلَامَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ إيقَاعًا إلَى أَنْ يُوجَدَ الشَّرْطُ وَإِذَا كَانَ مِمَّا لَا يَتَحَقَّقُ كَوْنُهُ يَخْرُجُ كَلَامَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ إيقَاعًا أَصْلًا .
وَكَذَلِكَ إذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَقَالَ مَوْلَاهُ طَلِّقْهَا فَهَذَا لَا يَكُونُ إجَازَةً لِلنِّكَاحِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى هُوَ إجَازَةٌ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِإِيقَاعِ الطَّلَاقِ وَالطَّلَاقُ لَا يَقَعُ إلَّا بَعْدَ صِحَّةِ النِّكَاحِ وَلَكِنَّا نَقُولُ قَوْلُهُ طَلِّقْهَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ فَارِقْهَا أَوْ دَعْهَا أَوْ اُتْرُكْهَا أَوْ خَلِّ سَبِيلَهَا وَشَيْءٌ مِنْ هَذَا لَا يَكُونُ إجَازَةً لِلنِّكَاحِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الطَّلَاقَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْإِطْلَاقِ الْإِرْسَالِ وَفِي إجَازَةِ النِّكَاحِ إثْبَاتُ الْقَيْدِ فَالْأَمْرُ بِالْإِرْسَالِ لَا يَكُونُ إثْبَاتًا لِلْقَيْدِ مِنْهُ .
وَإِذَا طَلَّقَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا فِي صِحَّتِهِ فَجَحَدَ ذَلِكَ الزَّوْجُ وَادَّعَتْهُ الْمَرْأَةُ ثُمَّ مَاتَ الرَّجُلُ بَعْدَ أَنْ اسْتَحْلَفَهُ الْقَاضِي عَلَى ذَلِكَ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا مِنْهُ عِنْدَنَا لِوُجُودِ الْإِقْرَارِ مِنْهَا بِارْتِفَاعِ النِّكَاحِ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ وَلِأَنَّهَا تَعْلَمُ أَنَّ سَبَبَ الْإِرْثِ غَيْرُ مُتَحَقِّقٍ وَهُوَ انْتِهَاءُ النِّكَاحِ بِالْوَفَاةِ وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَهَا الْمِيرَاثُ مِنْهُ إلَّا أَنْ يُقِرَّ بَعْدَ مَوْتِهِ أَنَّهُ قَدْ كَانَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا لِأَنَّ الزَّوْجَ لَمَّا حَلَفَ وَقَضَى الْقَاضِي بِقِيَامِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا كَانَ ذَلِكَ تَكْذِيبًا مِنْهُ لَهَا فِي ذَلِكَ الْإِقْرَارِ وَالْمُقِرُّ مَتَى صَارَ مُكَذِّبًا شَرْعًا فِي إقْرَارِهِ يَبْطُلُ حُكْمُ ذَلِكَ الْإِقْرَارِ فَلِهَذَا كَانَ لَهَا الْمِيرَاثُ إلَّا أَنْ يُقِرَّ بَعْدَ مَوْتِهِ إقْرَارًا مُسْتَقْبَلًا أَنَّهُ كَانَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَلَكِنَّا نَقُولُ الْقَاضِي بَعْدَ يَمِينِ الزَّوْجِ لَا يَقْضِي بِالنِّكَاحِ وَلَا يُبْطِلُ الطَّلَاقَ الْوَاقِعَ وَلَكِنْ يَمْنَعُهَا مِنْ الْمُنَازَعَةِ وَالْخُصُومَةِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ وَيَبْقَى مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ فَلَا يَتَضَمَّنُ ذَلِكَ الْحُكْمُ تَكْذِيبَهَا فِي الدَّعْوَى .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْبَيِّنَةَ بَعْدَ الْيَمِينِ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى كَانَ الْإِقْرَارُ السَّابِقُ مِنْهَا وَالْمَوْجُودُ بَعْدَ مَوْتِ الزَّوْجِ فِي الْحُكْمِ سَوَاءً .
وَإِذَا قَالَ الزَّوْجُ لِامْرَأَتِهِ إنْ ضَمَمْتُ إلَيْكِ أُخْرَى فَأَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً فَطَلَّقَهَا وَاحِدَةً وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ تَزَوَّجَ امْرَأَةً أُخْرَى ثُمَّ تَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ هَذِهِ الَّتِي حَلَفَ عَلَيْهَا فَإِنَّهَا لَا تَطْلُقُ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى تَطْلُقُ لِأَنَّ عِنْدَهُ الْيَمِينُ انْعَقَدَ صَحِيحًا فِي الْمِلْكِ وَالشَّرْطُ وُجِدَ فِي الْمِلْكِ أَيْضًا لِأَنَّ الشَّرْطَ ضَمَّ امْرَأَةً أُخْرَى إلَيْهَا وَهَذَا الضَّمُّ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا اجْتَمَعَتَا فِي نِكَاحِهِ وَذَلِكَ بَعْدَ مَا تَزَوَّجَ بِهَا ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : قَوْلُهُ إنْ ضَمَمْتُ إلَيْكِ امْرَأَةً أُخْرَى بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : إنْ تَزَوَّجْتُ عَلَيْكِ وَهَذَا لِأَنَّ ضَمَّ غَيْرِهَا إلَيْهَا إنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا تَزَوَّجَ الْأُخْرَى وَهِيَ فِي نِكَاحِهِ .
فَأَمَّا إذَا تَزَوَّجَ الْأُخْرَى بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا فَإِنَّمَا ضَمَّهَا هِيَ إلَى الْأُخْرَى .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الشَّرْعَ حَرَّمَ ضَمَّ الْأَمَةِ إلَى الْحُرَّةِ فِي النِّكَاحِ وَلَوْ تَزَوَّجَ أَمَةً ثُمَّ تَزَوَّجَ حُرَّةً بَقِيَ نِكَاحُ الْأَمَةِ صَحِيحًا بِخِلَافِ مَا إذَا تَزَوَّجَ حُرَّةً ثُمَّ تَزَوَّجَ عَلَيْهَا أَمَةً .
وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ فَدَخَلَتْ الدَّارَ لَمْ تَطْلُقْ عِنْدَنَا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى أَيْضًا لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ وَاسْتَثْنَى ؛ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ } وَلِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمَوْصُولَ يُخْرِجُ الْكَلَامَ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً ؛ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا } وَلَمْ يَصْبِرْ وَلَمْ يُعَاتَبْ عَلَى ذَلِكَ وَالْوَعْدُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ كَالْعَهْدِ مِنْ غَيْرِهِمْ وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا فِي الْأَيْمَانِ .
وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَلَمْ يَقُلْ إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ فَكَذَلِكَ عِنْدَنَا وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَقَعُ الطَّلَاقُ هُنَا .
وَكَذَلِكَ الْعَتَاقُ وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ إنَّمَا يَعْمَلُ عِنْدَهُ فِي الْيَمِينِ بِالطَّلَاقِ وَبِالْعَتَاقِ .
وَقَوْلُهُ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ أَنْتِ حُرَّةٌ لَيْسَ بِيَمِينٍ ثُمَّ قَوْلُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ فِي مِثْلِ هَذَا إنَّمَا يُرَادُ بِهِ التَّحْقِيقُ وَلَا يُرَادُ التَّعْلِيقُ لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ أَنْتِ حُرَّةٌ ذِكْرُ وَصْفٍ فَيَلِيقُ بِهِ مَعْنَى التَّحْقِيقِ وَلَا يَلِيقُ بِهِ مَعْنَى التَّعْلِيقِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : قَوْلُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَأْثِيرُهُ فِي إخْرَاجِ الْكَلَامِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَزِيمَةً وَالْإِيقَاعُ فِي هَذَا وَالتَّعْلِيقُ سَوَاءٌ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ } .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ لَا بَأْسَ بِنَثْرِ السُّكَّرِ وَالْجَوْزِ اللَّوْزِ فِي الْعُرْسِ وَالْخِتَانِ وَأَخَذَ ذَلِكَ إذَا أَذِنَ لَكَ أَهْلُهُ فِيهِ وَإِنَّمَا يُكْرَهُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَأْخُذَ بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِهِ وَبِهِ نَأْخُذُ وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى يَكْرَهُ نَثْرَ ذَلِكَ وَأَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ شَيْءٌ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ وَالْقِيَاسُ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ أَبِي لَيْلَى قَالَ : هَذَا تَمْلِيكٌ مِنْ الْمَجْهُولِ لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَنْ يَأْخُذُ وَأَيُّ مِقْدَارٍ يَأْخُذُ وَالتَّمْلِيكُ مِنْ الْمَجْهُولِ بَاطِلٌ .
وَإِذَا بَطَلَ التَّمْلِيكُ كَانَ النَّثْرُ تَضْيِيعًا لِلْمَالِ وَلَكِنْ تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ بِمَا رَوَيْنَا فِيهِ مِنْ الْآثَارِ ، وَفِي التَّعَامُلِ الظَّاهِرِ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ وَلَمْ يُنْقَلْ مِنْ أَحَدٍ أَنَّهُ تَحَرَّزَ عَنْ نَثْرِ ذَلِكَ أَوْ عَنْ تَحَرُّزِ أَخْذِهِ وَفِي الْأَخْذِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ فِي هَذَا إيقَاعُ النَّاسِ فِي الْحَرَجِ وَقَدْ أُمِرْنَا بِتَرْكِ الْعُسْرِ لِلْيُسْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ } وَعَلَى هَذَا قُلْنَا لَا بَأْسَ بِالشُّرْبِ مِنْ مَاءِ السِّقَايَةِ فَقَدْ يَكُونُ الْوَاضِعُ عِنْدَ الْوَضْعِ آذِنًا لِلنَّاسِ بِالتَّنَاوُلِ وَلَا بَأْسَ بِالتَّنَاوُلِ مِمَّا لَا يَجْرِي بَيْنَ النَّاسِ فِيهِ الشُّحُّ وَالظِّنَّةُ كَالثَّوْبِ وَنَحْوِ ذَلِكَ فَإِنَّ مَنْ غَرَسَ الشَّجَرَةَ عَلَى ضِفَّةِ نَهْرٍ فِي الطَّرِيقِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَذِنَ لِلنَّاسِ فِي الْإِصَابَةِ مِنْ ثَمَرِهَا فِيمَا لَا يَجْرِي فِيهِ الشُّحُّ بَيْنَ النَّاسِ فَيَجُوزُ التَّنَاوُلُ مِنْهُ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الظَّاهِرِ وَكَذَلِكَ الْتِقَاطُ النَّوَى وَقُشُورِ الرُّمَّانِ وَقَدْ بَيَّنَّا بَعْضَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللُّقَطَةِ قَالَ وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ يَكْرَهُ النَّبِيذَ فِي الْمُزَفَّتِ وَالنَّقِيرِ لِلنَّهْيِ الْوَارِدِ فِي الْبَابِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِوُرُودِ النَّسْخِ وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ { كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ
الشُّرْبِ فِي الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ فَاشْرَبُوا فِي الظُّرُوفِ وَلَا تَشْرَبُوا سُكْرًا } وَفِي رِوَايَةٍ فَإِنَّ الظَّرْفَ لَا يُحِلُّ شَيْئًا وَلَا يُحَرِّمُهُ فَلِثُبُوتِ النَّسْخِ قُلْنَا : لَا بَأْسَ بِالشُّرْبِ فِي هَذِهِ الْأَوَانِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : اعْلَمْ بِأَنَّ عِلْمَ الشُّرُوطِ مِنْ آكَدِ الْعُلُومِ ، وَأَعْظَمِهَا صَنْعَةً فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - أَمَرَ بِالْكِتَابِ فِي الْمُعَامَلَاتِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ { إذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ } وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالْكِتَابِ فِي الْمُعَامَلَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ عَامَلَهُ ، وَأَمَرَ بِالْكِتَابِ فِيمَا قَلَّدَ فِيهِ عُمَّالَهُ مِنْ الْأَمَانَةِ وَأَمَرَ بِالْكِتَابِ فِي الصُّلْحِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ ، وَالنَّاسُ تَعَامَلُوهُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا ، وَلَا يُتَوَصَّلُ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِعِلْمِ الشَّرْطِ فَكَانَ مِنْ آكَدِ الْعُلُومِ وَفِيهِ الْمَنْفَعَةُ مِنْ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : صِيَانَةُ الْأَمْوَالِ ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِصِيَانَتِهَا وَنُهِينَا عَنْ إضَاعَتِهَا .
وَالثَّانِيَةُ : قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ فَإِنَّ الْكِتَابَ يَصِيرُ حَكَمًا بَيْنَ الْمُتَعَامِلَيْنِ وَيَرْجِعَانِ إلَيْهِ عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ فَيَكُونُ سَبَبًا لِتَسْكِينِ الْفِتْنَةِ ، وَلَا يَجْحَدُ أَحَدُهُمَا حَقَّ صَاحِبِهِ مَخَافَةَ أَنْ يُخْرِجَ الْكِتَابَ وَتَشْهَدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فَيَفْتَضِحَ فِي النَّاسِ .
وَالثَّالِثَةُ : التَّحَرُّزُ عَنْ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَامِلَيْنِ رُبَّمَا لَا يَهْتَدِيَانِ إلَى الْأَسْبَابِ الْمُفْسِدَةِ لِلْعَقْدِ لِيَتَحَرَّزَا عَنْهَا فَيَحْمِلُهُمَا الْكَاتِبُ عَلَى ذَلِكَ إذَا رَجَعَا إلَيْهِ لِيَكْتُبَ .
وَالرَّابِعَةُ : رَفْعُ الِارْتِيَابِ فَقَدْ يَشْتَبِهُ عَلَى الْمُتَعَامِلَيْنِ إذَا تَطَاوَلَ الزَّمَانُ مِقْدَارَ الْبَدَلِ وَمِقْدَارَ الْأَجَلِ فَإِذَا رَجَعَا إلَى الْكِتَابِ لَا يَبْقَى لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا رِيبَةٌ ، وَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِمَا تَقَعُ الرِّيبَةُ لِوَارِثِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنَاءً عَلَى مَا ظَهَرَ مِنْ عَادَةِ أَكْثَرِ النَّاسِ فِي أَنَّهُمْ لَا يُؤَدُّونَ
الْأَمَانَةَ عَلَى وَجْهِهَا فَعِنْدَ الرُّجُوعِ إلَى الْكِتَابِ لَا تَبْقَى الرِّيبَةُ بَيْنَهُمْ فَيَنْبَغِي لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَصْرِفَ هِمَّتَهُ إلَى تَعَلُّمِ الشُّرُوطِ لِعِظَمِ الْمَنْفَعَةِ فِيهَا وَلِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - عَظَّمَهَا بِقَوْلِهِ - جَلَّ جَلَالُهُ - : { وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ } فَقَدْ أَضَافَ اللَّهُ - تَعَالَى - تَعْلِيمَ الشُّرُوطِ إلَى نَفْسِهِ كَمَا أَضَافَ تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ إلَى نَفْسِهِ فَقَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - : { الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ } وَأَضَافَ تَعْلِيمَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى نَفْسِهِ فَقَالَ - جَلَّ جَلَالُهُ - : { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ سَبَقَ الْعُلَمَاءَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ بِبَيَانِ عِلْمِ الشُّرُوطِ ، وَبِذَلِكَ يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّ مَذْهَبَهُ أَقْوَى الْمَذَاهِبِ فَإِنَّهُ يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ : الْمُبْتَدِئُ بِبَيَانِ مَا أَخْبَرَ اللَّهُ - تَعَالَى - أَنَّهُ هُوَ الْمُعَلِّمُ لَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى غَيْرِ صَوَابٍ .
ثُمَّ بَدَأَ الْكِتَابَ فَقَالَ : إذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَشْتَرِيَ دَارًا كَتَبَ : هَذَا مَا اشْتَرَى فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ مِنْ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ ، وَبَعْضُ أَهْلِ الشُّرُوطِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ لَمْ يَسْتَحْسِنْ هَذَا اللَّفْظَ ، وَقَالَ : هَذَا إشَارَةٌ إلَى الْبَيَاضِ الَّذِي كُتِبَ فِيهِ فَظَاهِرُهُ يُوهِمُ أَنَّ الْمُشْتَرَى ذَلِكَ الْبَيَاضُ وَلَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ هَذَا كِتَابٌ فِيهِ ذِكْرُ مَا اشْتَرَى ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : إنَّمَا اخْتَارَ أَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ هَذَا اللَّفْظَ اقْتِدَاءً بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَالَ : { هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ } وَلَمْ يَقُلْ هَذَا كِتَابٌ فِيهِ ذِكْرُ مَا تُوعَدُونَ وَلَمَّا { اشْتَرَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعَدَّاءِ عَبْدًا كَتَبَ مَا اشْتَرَى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ الْحَنَفِيِّ } وَلَا شَكَّ أَنَّ الْأَحْسَنَ مَا وَافَقَ الْكِتَابَ
وَالسُّنَّةَ ثُمَّ فِي هَذَا إيجَازٌ وَحَذْفٌ لِمَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فَكُلُّ أَحَدٍ يَعْرِفُ أَنَّ الْمُرَادَ هَذَا كِتَابٌ فِيهِ ذِكْرُ مَا اشْتَرَى ، وَقَوْلُهُ : فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ مِنْ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ الِاكْتِفَاءُ بِهَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَإِنَّ عِنْدَهُ التَّعْرِيفَ يَتِمُّ بِذِكْرِ اسْمِ الرَّجُلِ وَاسْمِ أَبِيهِ ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَتِمُّ التَّعْرِيفُ إلَّا بِذِكْرِ اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَاسْمِ جَدِّهِ أَوْ اسْمِ أَبِيهِ وَذِكْرِ قَبِيلَتِهِ ، وَاحْتَجَّ أَبُو يُوسُفَ بِمَا رُوِيَ { فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ كَتَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا مَا صَالَحَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَسَهْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ } فَقَدْ اكْتَفَى بِذِكْرِ اسْمِ الْأَبِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ : أَنَّ التَّعْرِيفَ يَتِمُّ بِمَا يَمْتَازُ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ وَبِمُجَرَّدِ اسْمِهِ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ فَالْمُسَمَّى بِذَلِكَ الِاسْمِ كَثِيرٌ فِي النَّاسِ ، فَإِذَا ضَمَّ إلَى اسْمِهِ اسْمَ أَبِيهِ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ فَإِنَّهُ لَا يَتَّفِقُ اسْمُ رَجُلَيْنِ وَاسْمُ أَبِيهِمَا إلَّا نَادِرًا فَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ النَّادِرُ لِبَقَاءِ ذَلِكَ مَعَ ذِكْرِ اسْمِ الْجَدِّ فَإِنَّهُ كَمَا يُتَوَهَّمُ اتِّفَاقُ اسْمَيْنِ يُتَوَهَّمُ اتِّفَاقُ أَسَامٍ ثَلَاثَةٍ ، وَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْعَادَةِ ، فَكَذَلِكَ هَذَا ، وَهُمَا يَسْتَدِلَّانِ بِمَا رَوَيْنَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ : هَذَا مَا اشْتَرَى مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْعَدَّاءِ بْنِ خَالِدِ بْنِ هَوْذَةَ } فَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّ مَنْ كَانَ مَشْهُورًا يُكْتَفَى فِي تَعْرِيفِهِ بِذِكْرِ اسْمِهِ وَنَعْتِهِ ، كَمَا ذَكَرَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَأَنَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا فَإِتْمَامُ تَعْرِيفِهِ بِذِكْرِ اسْمِ أَبِيهِ وَاسْمِ جَدِّهِ ، كَمَا ذَكَرَهُ فِي حَقِّ الْعَدَّاءِ ، وَلَا يُعَارِضُ هَذَا حَدِيثَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ مَا كَانَ فِي ذَلِكَ
الْوَقْتِ إلَّا وَاحِدًا ، فَكَانَ لَا يَقَعُ الِالْتِبَاسُ فِيهِ فَيَحْتَاجُ إلَى تَمَامِ التَّعْرِيفِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ فِي نَظَرِهِ قَدْ اكْتَفَى بِذِكْرِ الِاسْمِ أَيْضًا ، وَهُوَ { فِيمَا كَتَبَهُ لِأُكَيْدِرَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَقَالَ : هَذَا مَا كَتَبَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُكَيْدِرَ حِينَ أَجَابَ إلَى الْإِسْلَامِ ، وَخَلَعَ الْأَنْدَادَ وَالْأَصْنَامَ ثُمَّ أَتَمَّ الْكِتَابَ } ؛ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَقَعُ الِاشْتِبَاهُ فِي ذَلِكَ فَاكْتَفَى بِذِكْرِ اسْمِهِ ، وَفِي الْمُعَامَلَةِ لَمَّا كَانَ يَقَعُ الِاشْتِبَاهُ ذَكَرَ اسْمَ مَنْ عَامَلَهُ وَاسْمَ أَبِيهِ وَاسْمَ جَدِّهِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ تَمَامَ التَّعْرِيفِ بِمَا قُلْنَا أَنَّ مَنْ لَهُ أَبٌ وَاحِدٌ فِي الْإِسْلَامِ لَا يَكُونُ كُفُؤًا لِمَنْ لَهُ أَبَوَانِ فِي الْإِسْلَامِ وَمَنْ لَهُ أَبَوَانِ فِي الْإِسْلَامِ يَكُونُ كُفُؤًا لِمَنْ لَهُ عَشَرَةُ آبَاءٍ فِي الْإِسْلَامِ وَقِيلَ : الْمُعْتَبَرُ مَا يَتِمُّ بِهِ التَّعْرِيفُ فِي الْإِسْلَامِ ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْأَبِ وَالْجَدِّ ، وَلَا يَحْصُلُ بِالْأَبِ وَحْدَهُ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ قَدْ يَتَّفِقُ اسْمُ رَجُلَيْنِ وَاسْمُ أَبِيهِمَا فِي الْعَادَةِ فَلَا يَمْتَازُ أَحَدُهُمَا مِنْ الْآخَرِ إلَّا بِذِكْرِ اسْمِ الْجَدِّ أَوْ بِذِكْرِ الْقَبِيلَةِ .
وَالتَّعْرِيفُ فِي حَقِّ الْغَائِبِ وَالْمَيِّتِ بِمَا يَمْتَازُ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ فَإِذَا كَانَ تَمَامُ الِامْتِيَازِ بِمَا قُلْنَا كَانَ عَلَى الْكَاتِبِ أَنْ يَكْتُبَ ذَلِكَ ، وَيُكَنِّيَهُ فِي الْكِتَابِ أَيْضًا إنْ كَانَ مَعْرُوفًا بِكُنْيَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ لَهُ لَقَبٌ لَا يَغِيظُهُ ذَلِكَ ، وَلَا يَشِينُهُ يَذْكُرُ ذَلِكَ أَيْضًا لِزِيَادَةِ التَّعْرِيفِ فَأَمَّا ذِكْرُ الصِّنَاعَةِ ذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي التَّعْرِيفِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَحَوَّلُ مِنْ صِنَاعَةٍ إلَى صِنَاعَةٍ قَالَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : وَأَمَّا نَحْنُ فَنَعْتَبِرُ ذَلِكَ كَمَا اعْتَبَرَ الْمَالِكُ فِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ لِلتَّعْرِيفِ أَنْ يَكْتُبَ مُكَاتَبَ فُلَانٍ وَقَدْ يَتَحَوَّلُ مِنْهُ إلَى الْعِتْقِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : مُرَادُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالَ : لَيْسَ مَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بَلْ مُرَادُهُ أَنَّهُ لَيْسَ الْمَقْصُودُ بِالصِّنَاعَاتِ التَّعْرِيفَ فَلَا يَذْكُرُ ذَلِكَ عِنْدَ التَّعْرِيفِ ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُ مَا يَكُونُ الْمَقْصُودُ بِهِ التَّعْرِيفَ ، وَهُوَ الِاسْمُ وَالنَّسَبُ وَأَمَّا كَتْبُهُ الْحِلْيَةَ فَهُوَ حَسَنٌ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّعْرِيفِ ، وَلَكِنْ لَا يَحْصُلُ بِهِ أَصْلُ التَّعْرِيفِ ؛ لِأَنَّ الْحِلْيَةَ تُشْبِهُ الْحِلْيَةَ كَمَا أَنَّ النِّعْمَةَ تُشْبِهُ النِّعْمَةَ .
ثُمَّ قَالَ : اشْتَرَى مِنْهُ جَمِيعَ الدَّارِ فِي بَنِي فُلَانٍ ، وَإِنَّمَا أَعَادَ لَفْظَةَ الشِّرَاءِ ؛ لِأَنَّ مِنْ عَادَةِ أَهْلِ اللِّسَانِ أَنَّهُ إذَا تَخَلَّلَ بَيْنَ الْخَبَرِ وَالْمُخْبَرِ عَنْهُ كَلَامٌ آخَرُ فَإِنَّهُ يُعَادُ الْخَبَرُ لِلتَّأْكِيدِ ، وَقَوْلُهُ : جَمِيعُ الدَّارِ لِلتَّأْكِيدِ أَيْضًا فَإِنَّ الْمَقْصُودَ يَحْصُلُ بِقَوْلِهِ : الدَّارُ الَّتِي فِي بَنِي فُلَانٍ ، وَلَكِنْ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَعْضَهَا فَذَكَرَ الْجَمِيعَ لِقَطْعِ هَذَا الْوَهْمِ ثُمَّ كَمَا لَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ لَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِ الْمُشْتَرَى ، وَتَعْرِيفُ الْمُشْتَرَى إذَا كَانَ مَحْدُودًا بِذِكْرِ الْحُدُودِ
وَالْبَلْدَةِ إلَّا أَنَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عِنْدَنَا يُبْدَأُ بِالْأَعَمِّ مِنْ ذَلِكَ ، وَهُوَ ذِكْرُ الْبَلْدَةِ ثُمَّ الْمَحَلَّةِ ثُمَّ الْحُدُودِ وَأَبُو زَيْدٍ الْبَغْدَادِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَذْكُرُ فِي شُرُوطِهِ أَنَّ الْأَحْسَنَ أَنْ يَبْدَأَ بِالْأَخَصِّ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ يَتَرَقَّى إلَى الْأَعَمِّ بِمَنْزِلَةِ التَّعْرِيفِ بِالنَّسَبِ فَإِنَّهُ يَبْدَأُ بِاسْمِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَخَصُّ بِهِ ثُمَّ بِاسْمِ أَبِيهِ ثُمَّ بِاسْمِ جَدِّهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْعَامُّ يُعَرَّفُ بِالْخَاصِّ وَالْخَاصُّ لَا يُعَرَّفُ بِالْعَامِّ فَكَانَتْ الْبِدَايَةُ بِالْأَعَمِّ أَحْسَنَ لِهَذَا الْمَعْنَى .
وَفِي الْحَقِيقَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ النَّسَبِ ، فَإِنَّ هُنَاكَ يَبْدَأُ بِاسْمِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَعَمُّ ، فَالْمُسَمَّى بِذَلِكَ الِاسْمِ يَكْثُرُ فِي النَّاسِ عَادَةً ثُمَّ بِذِكْرِ اسْمِ أَبِيهِ يَصِيرُ أَخَصَّ بِهِ ثُمَّ بِذِكْرِ اسْمِ جَدِّهِ يَصِيرُ أَخَصَّ فَكَذَلِكَ يَبْدَأُ بِذِكْرِ الْبَلْدَةِ ثُمَّ بِذِكْرِ الْمَحَلَّةِ لِيَصِيرَ أَخَصَّ ثُمَّ بِذِكْرِ الْحُدُودِ .
وَإِذَا ذَكَرَ الْحُدُودَ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يَقُولَ : أَحَدُ حُدُودِهَا يَنْتَهِي إلَى كَذَا ، وَبَعْضُ أَهْلِ الشُّرُوطِ يَكْتُبُ : أَحَدُ حُدُودِهَا لَزِيقُ كَذَا أَوْ يُلَاصِقُ كَذَا ، وَإِنَّمَا ذَكَرُوا هَذِهِ الْأَلْفَاظَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَتَبَ : أَحَدُ حُدُودِهَا دَارُ فُلَانٍ ثُمَّ كَتَبَ اشْتَرَاهَا بِحُدُودِهَا دَخَلَتْ الْحُدُودُ فِي الْبَيْعِ .
وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَكْتُبَ : أَحَدُ حُدُودِهَا الدَّاخِلَةِ أَوْ الطَّرِيقُ الْعَامُّ ثُمَّ يَكْتُبَ : اشْتَرَاهَا بِحُدُودِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسْبَقُ إلَى وَهْمِ أَحَدٍ بِهَذَا اللَّفْظِ لِشِرَاءِ الدِّجْلَةِ وَمَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْبَيْعِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ اسْتَحْسَنَ فِي آخَرِ عُمْرِهِ أَنْ يَكْتُبَ : أَحَدُ حُدُودِهَا يَلِي كَذَا ، وَلَكِنْ مَا ذَكَرْنَا أَحْسَنُ ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ قَدْ يَلِي الشَّيْءَ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَّصِلُ بِهِ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { لِيَلِيَنِّي مِنْكُمْ أُولُو الْأَرْحَامِ وَالنُّهَى } ،
وَالْمُرَادُ بِهِ : الْقُرْبُ دُونَ الِاتِّصَالِ فَإِذَا قُلْنَا : يَنْتَهِي إلَى كَذَا أَوْ يُلَاصِقُ كَذَا يُفْهَمُ الِاتِّصَالُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ لَا مَحَالَةَ .
ثُمَّ ذَكَرَ الْحُدُودَ الْأَرْبَعَةَ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الِاخْتِلَافِ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ : إنَّ التَّعْرِيفَ يَحْصُلُ بِذِكْرِ حَدٍّ وَاحِدٍ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَحْصُلُ بِذِكْرِ حَدَّيْنِ وَعِنْدَنَا يَحْصُلُ بِذِكْرِ ثَلَاثِ حُدُودٍ وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِذِكْرِ الْحُدُودِ الْأَرْبَعَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الشَّهَادَاتِ وَالْكِتَابُ يُكْتَبُ عَلَى أَحْوَطِ الْوُجُوهِ وَيُتَحَرَّزُ فِيهِ عَنْ مَوَاضِعِ الْخِلَافِ فَلِهَذَا يُكْتَبُ فِيهِ الْحُدُودُ الْأَرْبَعَةُ ثُمَّ قَالَ : اشْتَرَى مِنْهُ هَذِهِ الدَّارَ الْمَحْدُودَ فِي كِتَابِنَا هَذَا ، وَمِنْ أَهْلِ الشُّرُوطِ مَنْ يَقُولُ : الْأَحْسَنُ أَنْ يَقُولَ فِي هَذَا الْكِتَابِ هُوَ اخْتِيَارُ هِلَالٍ وَأَبِي يُوسُفَ بْنِ خَالِدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ فِي كِتَابِنَا : فَظَاهِرُهُ يُوهِمُ أَنَّ الْكِتَابَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا فَرُبَّمَا يَحُولُ الْبَائِعُ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَبَيْنَ الْكِتَابِ احْتِجَاجًا بِهَذَا اللَّفْظِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : هَذَا مِمَّا لَا يَسْبِقُ إلَى الْأَوْهَامِ ، وَاللَّفْظُ الْمَذْكُورُ فِي الْكِتَابِ أَقْرَبُ إلَى مُوَافَقَةِ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى { هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ } ثُمَّ قَالَ بِحُدُودِهَا كُلِّهَا .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : لَا أَرَى أَنْ يَكْتُبَ بِحُدُودِهَا ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ غَيْرُ الْمَحْدُودِ ، وَالْمُشْتَرَى الْمَحْدُودُ دُونَ الْحَدِّ فَإِذَا قَالَ : اشْتَرَاهَا بِحُدُودِهَا دَخَلَ فِي الْعَقْدِ الْحُدُودُ الَّتِي تُسَمَّى ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ إذَا كَتَبَ : أَحَدُ حُدُودِهَا يَنْتَهِي إلَى كَذَا فَقَوْلُهُ : اشْتَرَاهَا بِحُدُودِهَا يَنْصَرِفُ إلَى الْمُنْتَهِي دُونَ الْمُنْتَهَى إلَيْهِ وَالْمُنْتَهِي دَاخِلٌ فِي الْعَقْدِ فَيَسْتَقِيمُ أَنْ يَكْتُبَ اشْتَرَاهَا بِحُدُودِهَا ، وَعَلَى مَا قَالَهُ أَبُو
حَنِيفَةَ إذَا كَانَتْ الْحُدُودُ مِمَّا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْعَقْدِ فَلَا يَسْبِقُ إلَى وَهْمِ أَحَدِ ذَلِكَ فَيَكْتُبُ اشْتَرَاهَا بِحُدُودِهَا كُلِّهَا وَأَرْضِهَا وَبِنَائِهَا وَسُفْلِهَا وَعُلْوِهَا ، وَمِنْ أَصْحَابِ الشُّرُوطِ مَنْ يَخْتَارُ سُفْلَهُ وَعُلْوَهُ ، وَقَالَ : السُّفْلُ وَالْعُلْوُ لِلْبِنَاءِ لَا لِلدَّارِ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يَكْتُبَ : وَمِنْهَا سُفْلُهُ وَعُلْوُهُ ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ مَذْكُورٌ لَكِنَّ الْأَوَّلَ أَحْسَنُ ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ فِي الْأَرْضِ سِرْدَابٌ ، فَإِذَا قَالَ : سُفْلُهُ وَعُلْوُهُ لَا يَدْخُلُ السِّرْدَابُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِبِنَاءٍ وَالْبِنَاءُ مَا يَكُونُ عَلَى الْأَرْضِ ، فَإِذَا قَالَ : سُفْلُهَا وَعُلْوُهَا دَخَلَ جَمِيعُ ذَلِكَ فَإِنْ قِيلَ : إذَا قَالَ : سُفْلُهَا وَعُلْوُهَا يَدْخُلُ الْهَوَاءُ فِي ظَاهِرِ هَذَا اللَّفْظِ ، وَبَيْعُ الْهَوَاءِ لَا يَجُوزُ فَيَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ قُلْنَا : هَذَا لَا يَسْبِقُ إلَيْهِ وَهْمُ أَحَدٍ وَيُعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْعَقْدِ دُونَ مَا لَا يَدْخُلُ فِيهِ
ثُمَّ قَالَ : طَرِيقُهَا وَمَرَافِقُهَا وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الشُّرُوطِ يَذْكُرُونَ الطَّرِيقَ وَالْمُخْتَارُ عِنْدَنَا تَرْكُهُ ، وَكَذَلِكَ الْمَسِيلُ ؛ لِأَنَّهُمْ إنْ ذَكَرُوا الطَّرِيقَ مُطْلَقًا يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ الطَّرِيقُ الْعَامَّ الَّذِي لَا يَحُوزُهُ ، وَكَذَلِكَ الْمِيزَابُ رُبَّمَا يَصُبُّ فِي جُزْءٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَامَّةِ ، فَإِذَا أَطْلَقَ ذَلِكَ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ مَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فَيَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ ، وَإِنْ كَانَ قَالَ وَطَرِيقُهَا ، وَسَبِيلُ مَائِهَا الَّذِي مِنْ حُقُوقِهَا فَرُبَّمَا لَا يَكُونُ لِلدَّارِ طَرِيقٌ خَاصٌّ هُوَ مِنْ حُقُوقِهَا فَيَصِيرُ جَامِعًا فِي الْعَقْدِ بَيْنَ الْمَعْدُومِ وَالْمَوْجُودِ .
وَالْأَحْسَنُ : أَنْ لَا يَذْكُرَ الطَّرِيقَ وَالْمَسِيلَ أَصْلًا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ حَاصِلٌ بِذِكْرِ الْمَرَافِقِ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ لَهَا طَرِيقٌ خَاصٌّ أَوْ مَسِيلُ مَاءٍ خَاصٌّ دَخَلَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ بِذِكْرِ الْمَرَافِقِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ هَذَا اللَّفْظُ إلَى مَا وَرَاءَهُمَا مِنْ الْمَرَافِقِ ثُمَّ قَالَ : وَكُلُّ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ هُوَ فِيهَا أَوْ مِنْهَا وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا يَكْتُبُ هَذَا اللَّفْظَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَتَبَ هَذَا دَخَلَ فِي الْعَقْدِ الْأَمْتِعَةُ الْمَوْضُوعَةُ فِيهَا فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِمَّا يَحْتَمِلُ الْبَيْعَ ، وَعِنْدَ زُفَرَ بِذِكْرِ هَذَا اللَّفْظِ يَدْخُلُ مَا يَحْتَمِلُ الْبَيْعُ ، وَمَا لَا يَحْتَمِلُ مِنْ زَوْجَةٍ أَوْ وَلَدٍ لِلْبَائِعِ ، وَمِنْ حَشَرَاتٍ هِيَ فِيهَا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ الَّتِي فِيهَا فَزُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَعْتَبِرُ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ ، وَأَبُو يُوسُفَ يَعْتَبِرُ مَا يَكُونُ صَالِحًا لِلْعَقْدِ مَحَلًّا لَهُ ؛ لِأَنَّ قَصْدَ الْمُتَعَاقِدَيْنِ إيرَادُ الْعَقْدِ عَلَى مَا يَكُونُ مَحَلًّا لَهُ قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَرَى أَنْ يُقَيَّدَ ذَلِكَ الْكِتَابُ فَيَقُولَ بِمَا هُوَ فِيهَا أَوْ مِنْهَا مِنْ حُقُوقِهَا فَبِهَذَا الْقَيْدِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُرَادَ مَا يَكُونُ مِنْ حُقُوقِ الْمَبِيعِ دُونَ مَا لَيْسَ مِنْ حُقُوقِهِ مِنْ الْأَمْتِعَةِ الْمَوْضُوعَةِ
فِي الدَّارِ ثُمَّ فِي هَذَا الْكِتَابِ يَقُولُ بِكُلِّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ هَكَذَا ذُكِرَ فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ ، وَفِي كِتَابِ الْوَقْفِ قَالَ : بِكُلِّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ ، وَاَلَّذِي ذُكِرَ هُنَا أَحْسَنُ ؛ لِأَنَّ أَوْ لِلشَّكِّ ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ عِنْدَ ذِكْرِ حَرْفٍ أَوْ أَحَدِ الْمَذْكُورَيْنِ لَا كِلَاهُمَا ، ثُمَّ قَالَ : وَكُلُّ حَقٍّ هُوَ لَهَا دَاخِلٌ فِيهَا وَخَارِجٌ مِنْهَا وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدَنَا أَنْ يَكْتُبَ بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهَا دَاخِلٌ فِيهَا وَكُلُّ حَقٍّ هُوَ لَهَا خَارِجٌ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهُ إذَا قَالَ وَخَارِجٌ مِنْهَا فَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ هَذَا شَيْئًا وَاحِدًا مَنْعُوتًا بِالنَّعْتَيْنِ جَمِيعًا ، وَهَذَا لَا يُتَصَوَّرُ وَالْمَشْرُوطُ فِي الْعَقْدِ خَارِجٌ مِنْهَا بِخِلَافِ قَوْلِهِ : وَكُلُّ كَثِيرٍ وَقَلِيلٍ ؛ لِأَنَّ الْقَلِيلَ جُزْءٌ مِنْ الْكَثِيرِ فَلَا حَاجَةَ إلَى أَنْ يَقُولَ بِكُلِّ قَلِيلٍ وَكُلِّ كَثِيرٍ ، وَهُنَا الْحُقُوقُ الدَّاخِلَةُ غَيْرُ الْحُقُوقِ الْخَارِجَةِ ؛ فَلِهَذَا يَذْكُرُهُمَا جَمِيعًا عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا .
ثُمَّ قَالَ كَذَا بِكَذَا دِرْهَمًا وَزْنُ سَبْعَةٍ ، وَهَذَا إذَا كَانَ فِي الْبَلَدِ نَقْدٌ وَاحِدٌ فَيَنْصَرِفُ مُطْلَقُ تَسْمِيَةِ الدَّرَاهِمِ إلَى ذَلِكَ النَّقْدِ ، وَيَحْتَاجُ إلَى بَيَانِ مِقْدَارِهِ وَبَيَانِ وَزْنِهِ ، وَأَنَّهُ وَزْنُ سَبْعَةٍ أَيْ كُلُّ عَشَرَةٍ مِنْهَا وَزْنُ سَبْعَةِ مَثَاقِيلَ ، وَإِنْ كَانَتْ النُّقُودُ مُخْتَلِفَةً ، وَكُلُّهَا فِي الرَّوَاجِ سَوَاءٌ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ صِفَةِ الدَّرَاهِمِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ لَا يَجُوزُ بِدُونِهِ ثُمَّ قَالَ : وَقَدْ نَقَدَهُ فُلَانٌ الثَّمَنَ كُلَّهُ وَافِيًا ، وَبَرِئَ إلَيْهِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ يَقُولُ : لَا يَسْتَفِيدُ الْمُشْتَرِي الْبَرَاءَةَ بِقَبْضِ الْبَائِعِ إذَا لَمْ يَنْقُدْهُ الْمُشْتَرِي فَيَكْتُبُ هَذَا اللَّفْظَ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ قَوْلِ ذَلِكَ الْقَائِلِ ثُمَّ قَالَ : فَمَا أَدْرَكَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ مِنْ دَرَكِ أَبِي فِي هَذِهِ الدَّارِ فَعَلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ خَلَاصُهُ حَتَّى يُسَلِّمَهُ لَهُ ، وَذَكَرَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ الدَّرَكَ عَلَى وَجْهِ الشَّرْطِ فَيَقُولَ عَلَى أَنْ مَا أَدْرَكَ فُلَانٌ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَتَبَ : فَمَا أَدْرَكَ فُلَانٌ يَكُونُ ذَلِكَ ابْتِدَاءَ كَلَامٍ لَا عَلَى وَجْهِ الشَّرْطِ ، فَيَذْكُرُ عَلَى وَجْهِ الشَّرْطِ وَلَكِنَّ الْأَوَّلَ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ بِالدَّرَكِ لَا يَكُونُ بِاعْتِبَارِ الشَّرْطِ ، وَلَكِنَّهُ سَوَاءٌ شَرَطَ أَوْ لَمْ يَشْرُطْ فَحَقُّ الرُّجُوعِ بِالدَّرَكِ ثَابِتٌ ، وَإِنَّمَا الِاخْتِلَافُ فِيمَا يَرْجِعُ بِهِ عِنْدَ لُحُوقِ الدَّرَكِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ فِي مَوْضِعِهِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْأَحْسَنَ أَنْ يَكْتُبَ فَمَا أَدْرَكَ مَنْ يَحِقَّ لَهُ الرُّجُوعُ مِنْ دَرَكٍ وَلَا يُسَمَّى الْمُشْتَرَى لِجَوَازِ أَنْ يَلْحَقَ الدَّرَكُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّمَا يَكُونُ الرُّجُوعُ لِوَارِثِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ : حَقُّ الرُّجُوعِ بِالدَّرَكِ يَثْبُتُ بِالْعَقْدِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِمَنْ بَاشَرَ الْعَقْدَ ، وَالدَّرَكُ هُوَ الِاسْتِحْقَاقُ الَّذِي يَسْبِقُ الْعَقْدَ فَأَمَّا الِاسْتِحْقَاقُ
بِسَبَبٍ يَعْتَرِضُ بَعْدَ الْعَقْدِ لَا يُسَمَّى دَرَكًا وَبِالسَّبَبِ الَّذِي يَسْبِقُ الْعَقْدَ فَإِنَّمَا يَلْحَقُ الدَّرَكُ الْمُشْتَرِيَ حَيًّا كَانَ أَوْ مَيِّتًا فَلِهَذَا كَتَبَ فَمَا أَدْرَكَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ مِنْ دَرَكٍ فِي هَذِهِ الدَّارِ ، وَمِنْ أَهْلِ الشُّرُوطِ مَنْ يَزِيدُ مِنْ دِرْهَمٍ فَمَا فَوْقَهَا تَحَرُّزًا عَنْ قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّ ضَمَانَ الدَّرَكِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِتَسْمِيَةِ الْمِقْدَارِ فَلِلتَّحَرُّزِ عَنْ قَوْلِهِ : يَكْتُبُونَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ ، ثُمَّ قَالَ : فَعَلَى فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ خَلَاصُهُ حَتَّى يُسَلِّمَهُ لَهُ .
مَعْنَاهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ ثَمَنَ مَا لَحِقَ الدَّرَكُ فِيهِ فَهُوَ الْمُرَادُ بِالْخَلَاصِ عِنْدَنَا عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ .
ثُمَّ قَالَ : شَهِدَ أَيْ شَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ الْمُسَمَّوْنَ ، وَمِنْ أَهْلِ الشُّرُوطِ مَنْ يَكْتُبُ هَذَا اللَّفْظَ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فَيَقُولُ : هَذَا مَا شَهِدَ عَلَيْهِ الشُّهُودُ ، وَالْأَحْسَنُ عِنْدَنَا : أَنْ يَذْكُرَهُ فِي الْكِتَابِ ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ إنَّمَا تَكُونُ شَهَادَتُهُمْ فِي آخِرِ الْكِتَابِ فَالْأَحْسَنُ ذِكْرُ هَذَا اللَّفْظِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يُثْبِتُ الشُّهُودُ فِيهِ أَسَامِيَهُمْ فَإِنْ أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِالدَّرَكِ كَتَبَ فَمَا أَدْرَكَ فُلَانٌ مِنْ دَرَكٍ فِي هَذِهِ الدَّارِ فَعَلَى فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ وَفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ خَلَاصُ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا اخْتَرْنَا لَفْظَ الدَّرَكِ دُونَ لَفْظِ الْعَهْدِ كَمَا يَكْتُبُهُ بَعْضُ أَهْلِ الشُّرُوطِ فَمَا لَحِقَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ عُهْدَةٍ ؛ لِأَنَّ الْعُهْدَةَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ اسْمٌ لِلصَّكِّ ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ اسْمٌ لِلْعَقْدِ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُمَا فَاخْتَرْنَا لَفْظَ الدَّرَكِ لِهَذَا وَالْمُرَادُ بِالْخَلَاصِ الْمَذْكُورِ رَدُّ الثَّمَنِ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْمَبِيعِ عِنْدَنَا ، وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ : مَنْ شَرَطَ الْخَلَاصَ فَهُوَ أَحْمَقُ سَلِّمْ مَا بِعْت أَوْ رُدَّ مَا قَبَضْت ، وَلَا خَلَاصَ وَكَانَ سَوَّارُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ يُجَوِّزُ اشْتِرَاطَ الْخَلَاصِ وَيَقُولُ : إنْ عَجَزَ الْبَائِعُ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ فَعَلَيْهِ تَسْلِيمُ مِثْلِهِ فِيمَا لَهُ مِثْلٌ وَتَسْلِيمُ قِيمَتِهِ فِيمَا لَا مِثْلَ لَهُ إذَا شُرِطَ الْخَلَاصُ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا قَضَيَا بِالْخَلَاصِ ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الْقَاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : عَلَيْهِ أَنْ يُخَلِّصَ الْمَبِيعَ مِنْ يَدِ الْمُسْتَحِقِّ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بِتَسْلِيمِهِ إلَى الْمُشْتَرِي إذَا شُرِطَ الْخَلَاصُ ، وَهَذَا كُلُّهُ غَيْرُ صَحِيحٍ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّ الْتِزَامَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ بِالْعَقْدِ لَا يَصِحُّ ، فَإِنَّمَا عَلَيْهِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ ، وَرَدُّ الثَّمَنِ إنْ عَجَزَ عَنْهُ ، وَمِنْ الْعُلَمَاءِ
رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ يَقُولُ : إنْ أَقَرَّ الْبَائِعُ أَنَّ الْمَبِيعَ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ وَاشْتَرَطَ الْخَلَاصَ فَعَلَيْهِ تَسْلِيمُهُ أَوْ تَسْلِيمُ مِثْلِهِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ ، فَإِنْ زَعَمَ أَنَّهُ مَلَكَهُ فَعَلَيْهِ رَدُّ الثَّمَنِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ ثُمَّ يَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ فِي ضَمَانِ الدَّرَكِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ شَرْطًا بَيْنَهُمَا فِي الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا شَرَطَ كَفَالَةَ إنْسَانٍ بِالدَّرَكِ فَفِي الْقِيَاسِ يَفْسُدُ بِهِ الْعَقْدُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ إذَا كَانَ فُلَانٌ حَاضِرًا فِي الْمَجْلِسِ ، وَكَفَلَ يَصِحُّ ، وَإِنْ كَانَ غَائِبًا عَنْ الْمَجْلِسِ لَا يَصِحُّ فَلِلتَّحَرُّزِ عَنْ ذَلِكَ يَكْتُبُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي الْعَقْدِ .
وَيُكْتَبُ : وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ لِجَمِيعِ مَا أَدْرَكَ فُلَانٌ فِيهَا ، وَأَيُّهُمَا شَاءَ فُلَانٌ يَأْخُذُهُ بِذَلِكَ تَحَرُّزًا عَنْ قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى : إنَّ مُطْلَقَ الْكَفَالَةِ يُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ ، وَيَكْتُبُ : إنْ شَاءَ أَخَذَهُمَا جَمِيعًا ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ أَحَدَهُمَا تَحَرُّزًا عَنْ قَوْلِ ابْنِ شُبْرُمَةَ فَإِنَّ عَلَى قَوْلِهِ بَعْدَ مَا اخْتَارَ مُطَالَبَةَ أَحَدِهِمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْآخَرَ فَيَكْتُبَ مَنْ شَاءَ وَكَمَا شَاءَ تَحَرُّزًا مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ : إنَّهُ بَعْدَ مَا اخْتَارَ مُطَالَبَةَ أَحَدِهِمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْآخَرَ إلَّا أَنْ يَتْوَى حَقُّهُ عَلَى الَّذِي طَالَبَهُ بِهِ ثُمَّ يَكْتُبَ حَتَّى يُسَلِّمَا لَهُ هَذِهِ الدَّارَ أَوْ يَرُدَّا عَلَيْهِ ثَمَنَهَا ، وَهُوَ كَذَا دِرْهَمًا فَيَكُونَ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لِلْخَلَاصِ ، وَلِيَحْصُلَ بِهِ التَّحَرُّزُ عَنْ قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ : إنَّ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ الْمَجْهُولِ لَا تَصِحُّ ثُمَّ تَفْسِيرُ الدَّرَكِ أَنْ يَسْتَحِقَّ الْمَبِيعَ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ فَأَمَّا إذَا هَلَكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ أَوْ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ فَهَذَا لَا يَكُونُ دَرَكًا حَتَّى لَا يَرْجِعَ عَلَى ضَامِنِ الدَّرَكِ بِشَيْءٍ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ
قَالَ إذَا بَاعَ جَارِيَةً مِنْ إنْسَانٍ ، وَضَمِنَ لَهُ آخَرُ تَسْلِيمَهَا فَهَلَكَتْ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الضَّامِنِ بِالثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ الضَّامِنَ بِهَذَا اللَّفْظِ الْتَزَمَ مَا هُوَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْبَائِعِ ، وَالْمُسْتَحَقُّ عَلَى الْبَائِعِ تَسْلِيمُ الْمَبِيعِ بِالْمَالِ ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ يَرُدُّ الثَّمَنَ فَالضَّامِنُ بِهَذَا اللَّفْظِ يَكُونُ مُلْتَزِمًا ذَلِكَ أَيْضًا ، وَإِنْ ضَمِنَ الدَّرَكَ فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ عَلَيْهِ رَدُّ الثَّمَنِ .
وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي مِنْهُ رَجُلَيْنِ ، فَأَرَادَ أَنْ يَضْمَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا أَدْرَكَهُ فِيهِ كَتَبَ فُلَانٌ وَفُلَانٌ كَفِيلَانِ ضَامِنَانِ لِمَا أَدْرَكَ فُلَانٌ مِنْ دَرَكٍ فِي هَذِهِ الدَّارِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ ضَامِنٌ لِمَا أَدْرَكَ فُلَانٌ مِنْ دَرَكِ فُلَانٍ فِيهَا وَأَهْلُ الشُّرُوطِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَقُولُونَ : يُرِيدُ فِي هَذَا الْكِتَابِ اشْتَرَى مِنْهُمَا صَفْقَةً وَاحِدَةً لِأَنَّ حُكْمَ الْعَقْدِ يَخْتَلِفُ بِالشِّرَاءِ مِنْ رَجُلَيْنِ فِي اتِّحَادِ الصَّفْقَةِ وَاخْتِلَافِ الصَّفْقَةِ ، وَيَكْتُبُ أَيْضًا ، وَكَانَ الْعَقْدُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ فَإِنَّ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ يَنْصَرِفُ إيجَابُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ إلَى نَصِيبِهِ وَنَصِيبِ صَاحِبِهِ ، فَإِذَا لَمْ يَكْتُبْ هَذِهِ الزِّيَادَةَ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لَا يَنْفُذُ عَقْدُهُ عِنْدَهُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ وَيَكْتُبُ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ لَهُ مَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ ، أَوْ مَا أَدْرَكَهُ فِيهِ مِنْ دَرَكٍ ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَخْتَلِفُونَ فِي أَنَّ الرُّجُوعَ بِالْعُهْدَةِ يَكُونُ عَلَى الْوَكِيلِ أَوْ عَلَى الْمُوَكِّلِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ بِاعْتِبَارِ إذْنِ صَاحِبِهِ فَلِلتَّحَرُّزِ عَنْ هَذِهِ الْأَقَاوِيلِ يَكْتُبُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ : كَفِيلُ ضَامِنٍ فَهُوَ مُسْتَقِيمٌ أَيْضًا بِقَوْلِهِ فَمَا أَدْرَكَ فُلَانٌ مِنْ دَرَكٍ فِيهَا إنْ شَاءَ أَخَذَهُمَا بِذَلِكَ جَمِيعًا ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ أَحَدَهُمَا حَتَّى يُسَلِّمَا لَهُ الدَّارَ أَوْ يَرُدَّا عَلَيْهِ الثَّمَنَ ، وَهُوَ كَذَا كَذَا دِرْهَمًا فَإِنَّ هَذَا تَفْسِيرٌ لِلْكَفَالَةِ وَالضَّمَانِ وَبَعْدَ مَا صَرَّحَ بِمَعْنَى الْعَقْدِ فَلَا مَعْنَى لِلتَّصْرِيحِ بِلَفْظِ الْعَقْدِ .
وَإِنْ اشْتَرَى مَنْزِلًا فِي دَارِ كَتَبَ حُدُودَ الدَّارِ ثُمَّ ذَكَرَ حُدُودَ الْمَنْزِلِ ، وَمَوْضِعَهُ مِنْ الدَّارِ أَنَّهُ عَلَى يَمِينِ الدَّاخِلِ أَوْ عَلَى يَسَارِهِ أَوْ مُقَابِلِهِ ، وَوَصَفَ فِيمَا يَذْكُرُ مِنْ حُقُوقِ طَرِيقِهِ فِي سَاحَةِ الدَّارِ إلَى بَابِ الدَّارِ الْأَعْظَمِ مُسْلِمًا ، وَالْأَحْوَطُ أَنْ يُبَيِّنَ عَرْضَ الطَّرِيقِ وَطُولَهُ فَمِنْ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ يَقُولُ : إذَا لَمْ يُبَيِّنْ ذَلِكَ فَسَدَ الْعَقْدُ لِجَهَالَةِ مِقْدَارِ الطَّرِيقِ ، وَعِنْدَنَا : لَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِطَرِيقِ الْعُرْفِ ، وَلَكِنَّ الْأَحْوَطَ ذِكْرُهُ لِلتَّحَرُّزِ ، وَلَوْ كَتَبَ الْمَقْصُورَةَ ، وَهُوَ مَنْزِلٌ عَلَيْهِ حُجْرَةٌ عَلَى حِدَةٍ فَهَذَا مُسْتَقِيمٌ أَيْضًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَتَبَ الْمَسْكَنَ أَوْ كَتَبَ الْحُجْرَةَ وَالْأَبْيَاتَ الَّتِي فِيهَا ، وَهِيَ كَذَا كَذَا بَيْتًا ، فَذَلِكَ كُلُّهُ مُسْتَقِيمٌ ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِلْمَنْزِلِ ثُمَّ يُبَيِّنُ بَعْدَ هَذَا مَا يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ بِدُونِ ذِكْرِ الْحُقُوقِ ، وَمَا لَا يَدْخُلُ إلَّا بِذِكْرِ الْحُقُوقِ ، وَفِي الْحَاصِلِ هَذِهِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ : الدَّارُ وَالْمَنْزِلُ وَالْبَيْتُ ، فَإِنْ اشْتَرَى دَارًا ، وَلَمْ يَقُلْ بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهَا كَانَ لَهُ بِنَاؤُهَا وَالْجُذُوعُ وَالْأَبْوَابُ وَغَيْرُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الدَّارَ اسْمٌ لِمَا أُدِيرَ عَلَيْهِ الْحَائِطُ فَيَدْخُلُ فِيهِ السُّفْلُ وَالْعُلْوُ فَأَمَّا الظُّلَّةُ الَّتِي عَلَى الْهَوَاءِ أَحَدُ جَانِبَيْهَا عَلَى حَائِطِ الدَّارِ ، وَالْجَانِبُ الْآخَرُ عَلَى حَائِطِ دَارِ الْجَارِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَدْخُلُ إلَّا بِذِكْرِ الْحُقُوقِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إذَا كَانَتْ مُفَتَّحَةً فِي الدَّارِ فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْعَقْدِ بِدُونِ ذِكْرِ الْحُقُوقِ ، وَالطَّرِيقُ الْخَاصُّ لِهَذِهِ الدَّارِ فِي دَارِ قَوْمٍ لَا يَدْخُلُ إلَّا بِذِكْرِ الْحُقُوقِ ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَدْخُلُ أَيْضًا كَالظُّلَّةِ ، وَفِي الْأَمَالِي فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ : الظُّلَّةُ تَدْخُلُ فَأَمَّا الطَّرِيقُ الْخَاصُّ أَوْ مَسِيلٌ خَاصٌّ فِي دَارِ قَوْمٍ لَا
يَدْخُلُ إلَّا بِذِكْرِ الْحُقُوقِ ، وَالطَّرِيقُ الَّتِي فِي السِّكَّةِ الْعُظْمَى لِهَذِهِ الدَّارِ دَاخِلٌ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْحُقُوقَ .
وَإِنْ اشْتَرَى مَنْزِلًا ، فَإِنْ قَالَ بِحُقُوقِهِ دَخَلَ فِيهِ الْعُلْوُ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ الْعُلْوُ ، وَإِنْ اشْتَرَى بَيْتًا لَمْ يَدْخُلْ الْعُلْوُ سَوَاءٌ ذَكَرَ الْحُقُوقَ أَوْ لَمْ يَذْكُرْهَا مَا لَمْ يَنُصَّ عَلَى الْعُلْوِ وَالسُّفْلِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ اسْمٌ لِمُسْقَفٍ وَاحِدٍ يُبَاتُ فِيهِ وَالْعُلْوُ فِي هَذَا كَالسُّفْلِ فَلَا يَكُونُ أَحَدُهُمَا مِنْ حُقُوقِ الْآخِرِ وَمَرَافِقِهِ وَأَمَّا الْمَنْزِلُ فَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَسْكُنُهُ الْمَرْءُ بِأَهْلِهِ وَثِقَلِهِ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ السُّفْلُ وَلَكِنَّ تَمَامَ مَرَافِقِهِ بِالْعُلْوِ ، فَإِنْ ذَكَرَ الْحُقُوقَ وَالْمَرَافِقَ دَخَلَ فِيهِ الْعُلْوُ وَإِلَّا فَلَا .
ثُمَّ الْمَنْزِلُ دُونَ الدَّارِ وَفَوْقَ الْبَيْتِ فَلِكَوْنِهِ دُونَ الدَّارِ قُلْنَا : لَا يَدْخُلُ الْعُلْوُ إذَا أَطْلَقَ اسْمَ الْمَنْزِلِ وَلِكَوْنِهِ فَوْقَ الْبَيْتِ قُلْنَا بِأَنَّهُ يَدْخُلُ إذَا ذَكَرَ الْحُقُوقَ أَوْ الْمَرَافِقَ .
وَإِنْ اشْتَرَى نَصِيبًا مِنْ الدَّارِ غَيْرَ مُسَمًّى فَهُوَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ جَهَالَةً تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ .
وَإِنْ اشْتَرَى أَذْرُعًا مُسَمَّاةً مِنْ الدَّارِ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَفِي قَوْلِهِمَا يَجُوزُ وَتُذْرَعُ الدَّارُ فَيَكُونُ الْمُشْتَرِي شَرِيكًا بِتِلْكَ الْأَذْرُعِ الْمُسَمَّاةِ إنْ كَانَتْ ذِرَاعَانِ وَالدَّارُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَهُ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ سَمَّى لِكُلِّ ذِرَاعٍ ثَمَنًا فَحِينَئِذٍ يَأْخُذُ كُلَّ ذِرَاعٍ بِالثَّمَنِ الْمُسَمَّى ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْبُيُوعِ .
وَالْمَأْذُونُ وَإِنْ اشْتَرَى نَصِيبَ الْبَائِعِ مِنْ الدَّارِ ، فَإِنْ كَانَا يَعْلَمَانِ ذَلِكَ أَوْ يَعْلَمُهُ الْمُشْتَرِي جَازَ الْعَقْدُ ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ إذَا عَلِمَ نَصِيبَ الْبَائِعِ ، وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ مُضْطَرِبٌ ذُكِرَ هُنَا مَعَ أَبِي يُوسُفَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي آخِرِ الشُّفْعَةِ ، فَإِنْ كَانَ سَمَّى رُبْعًا أَوْ ثُلْثًا أَوْ سَهْمًا مِنْ كَذَا كَذَا سَهْمًا فَذَلِكَ جَائِزٌ ، وَكَذَلِكَ إنْ سَمَّى كَذَا أَجْزَأَ مِنْ كَذَا جُزْءًا بَعْدَ الثُّلْثِ أَوْ كَذَا سَهْمًا مِنْ كَذَا سَهْمًا بَعْدَ الرُّبْعِ فَهَذَا كُلُّهُ جَائِزٌ ، وَإِنْ سَمَّى كَذَا ذِرَاعًا مِنْ كَذَا ذِرَاعًا مِنْ دَارٍ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَجَازَ عِنْدَهُمَا ، وَكَذَلِكَ إنْ سَمَّى كَذَا جَرِيبًا مِنْ كَذَا جَرِيبًا ؛ لِأَنَّ الْجَرِيبَ مَعْلُومُ الْمِقْدَارِ بِالذِّرَاعِ فَكَانَ تَسْمِيَتُهُ كَتَسْمِيَةِ الذِّرَاعِ وَعِنْدَهُمَا تَسْمِيَةُ الذِّرَاعِ كَتَسْمِيَةِ السَّهْمِ ؛ لِأَنَّ ذِرَاعًا مِنْ ذِرَاعَيْنِ نِصْفُ الدَّارِ وَذِرَاعًا مِنْ عَشَرَةِ أَذْرُعٍ عُشْرُ الدَّارِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : الذِّرَاعُ اسْمٌ لِجُزْءٍ مَعْلُومٍ يَقَعُ عَلَيْهِ الذِّرَاعُ ، وَذَلِكَ يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ جَانِبِ الدَّارِ فَبَعْضُ الْجَوَانِبِ يَكُونُ عَامِرًا وَبَعْضُهَا غَامِرًا وَهَذِهِ الْجَهَالَةُ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ، فَبَطَلُ الْعَقْدُ بِهَا .
وَقَالَ يَكْتُبُ فِي شِرَاءِ نَصِيبِ دَارٍ مِنْ امْرَأَةٍ اشْتَرَى جَمِيعَ نَصِيبِهَا مِنْ هَذِهِ الدَّارِ الْمَحْدُودَةِ فِي كِتَابِنَا هَذَا ، وَهُوَ كَذَا سَهْمًا مِنْ كَذَا سَهْمًا مِنْ جَمِيعِ هَذِهِ الدَّارِ بِحُدُودِهِ كُلِّهِ وَأَرْضِهِ وَبِنَائِهِ وَطَرِيقِهِ وَمَرَافِقِهِ ، وَكُلِّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ هُوَ فِيهِ أَوْ مِنْهُ قُلْت لِمَ كَتَبَهُ بِحُدُودِهِ وَأَرْضِهِ ، وَلَمْ يَثْبُتْ بِحُدُودِهَا وَأَرْضِهَا كَمَا فِي الْكِتَابِ الْمُتَقَدِّمِ قَالَ : لِأَنَّ النَّصِيبَ مُذَكَّرٌ فَلَمَّا أَضَفْته إلَيْهِ ذَكَّرْته ، وَإِنْ كَتَبَ بِحُدُودِهَا أَرْضَهَا فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ الْإِضَافَةَ إلَى الدَّارِ ، وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ ، وَالْأَوَّلُ أَحَبُّهُمَا إلَيَّ وَأَوْضَحُهُمَا فَإِنَّ الْمُشْتَرَى النَّصِيبُ دُونَ الدَّارِ وَذَكَرَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِبَيَانِ الْمُشْتَرِي وَحُقُوقِهِ .
وَإِذَا اشْتَرَى مَنْزِلًا فِي دَارٍ وَفَوْقَهُ مَنْزِلٌ وَاشْتُرِطَ كُلُّ حَقٍّ هُوَ لَهُ ، وَكَانَ الْعُلْوُ لِغَيْرِهِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَخَذَ السُّفْلَ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُ ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ كُلِّ حَقٍّ فِي الْمَنْزِلِ اشْتِرَاطُ الْعُلْوِ فَكَأَنَّهُ شَرَطَ الْعُلْوَ أَيْضًا ، فَإِذَا ظَهَرَ اسْتِحْقَاقُ الْعُلْوِ فَقَدْ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ شَرْطُ عَقْدِهِ فَكَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْبَاقِي بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ كُلَّ حَقٍّ هُوَ لَهُ ، وَإِذَا اشْتَرَى الْبَيْتَ سَوَاءٌ ذَكَرَ كُلَّ حَقٍّ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ لَا يَدْخُلُ الْعُلْوُ ، فَإِذَا اسْتَحَقَّ الْعُلْوَ لَمْ يَكُنْ لَهُ خِيَارٌ فِي السُّفْلِ ، وَفِي الدَّارِ سَوَاءٌ ذَكَرَ كُلَّ حَقٍّ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ إذَا اسْتَحَقَّ الْعُلْوَ أَوْ بَعْضَهُ يُخَيَّرُ فِيمَا بَقِيَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ دَاخِلٌ فِي الْعَقْدِ بِمُطْلَقِ اسْمِ الدَّارِ .
وَإِنْ كَانَ لِلدَّارِ طَرِيقٌ خَاصٌّ فِي دَارِ إنْسَانٍ فَمَنَعَ صَاحِبُ تِلْكَ الدَّارِ الطَّرِيقَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَائِعُ الْبَيِّنَةَ ، فَحِينَئِذٍ يَثْبُتُ لَهُ اسْتِحْقَاقُ الطَّرِيقِ ، فَإِنْ كَانَ ذَكَرَ الْحُقُوقَ وَالْمَرَافِقَ كَانَ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي ، وَإِنْ عَجَزَ الْبَائِعُ عَنْ إقَامَةِ حَقِّ الْبَيِّنَةِ يَثْبُتُ لِلْمُشْتَرِي حَقُّ الْفَسْخِ ؛ لِأَنَّهُ تَغَيَّرَ عَلَيْهِ شَرْطُ عَقْدِهِ ، وَإِنْ كَانَ طَرِيقُ دَارٍ أُخْرَى لِلْبَائِعِ فِي هَذِهِ الدَّارِ ، فَإِذَا لَمْ يَذْكُرْهَا لَمْ يَسْتَحِقَّ الْبَائِعُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ أَوْجَبَ لِلْمُشْتَرِي مَا كَانَ لَهُ مِنْ الْمِلْكِ فِي هَذِهِ الْبُقْعَةِ فَيَدْخُلُ فِيهِ الطَّرِيقُ ، وَغَيْرُ الطَّرِيقِ إلَّا أَنْ يُسْتَثْنَى الطَّرِيقُ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الطَّرِيقُ لِغَيْرِ الْبَائِعِ ، فَإِنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا أَوْجَبَ لِلْمُشْتَرِي مَا هُوَ حَقُّهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي غَيْرَ عَالِمٍ لَمْ يَكُنْ الطَّرِيقُ لِغَيْرِهِ ، فَحِينَئِذٍ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ هَذَا يُعَدُّ فِي النَّاسِ عَيْبًا وَيَنْتَقِصُ - بِاعْتِبَارِهِ - الثَّمَنُ .
فَإِنْ اشْتَرَى بَيْتَ سُفْلٍ فِي دَارٍ لَيْسَ لَهُ عُلْوٌ كَتَبَ اشْتَرَى مِنْهُ جَمِيعَ الْبَيْتِ الَّذِي كَانَ فِي الدَّارِ - الَّتِي فِي بَنِي فُلَانٍ - أَحَدُ حُدُودِ هَذَا الْبَيْتِ فَيَذْكُرُ حُدُودَهُ ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ فِي الدَّارِ كَمَا أَنَّ الدَّارَ فِي الْمَحَلَّةِ فَكَمَا أَنَّ فِي شِرَاءِ الدَّارِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَذْكُرَ الْمَحَلَّةَ فَفِي شِرَاءِ الْبَيْتِ لَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِ الدَّارِ الَّتِي فِيهَا الْبَيْتُ ، وَإِعْلَامُهَا بِذِكْرِ حُدُودِهَا ثُمَّ الْعَقْدُ يَتَنَاوَلُ بُقْعَةً مَعْلُومَةً مِنْ الدَّارِ ، وَهُوَ مَوْضِعُ الْبَيْتِ فَلَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَمَكَّنُ بَيْنَهُمَا الْمُنَازَعَةُ وَإِعْلَامُهُ بِذِكْرِ حُدُودِهِ ثُمَّ يَكْتُبُ اشْتَرَى مِنْهُ هَذَا الْبَيْتَ الَّذِي حَدَّدْنَا فِي هَذِهِ الدَّارِ الْمَحْدُودَةِ فِي كِتَابِنَا هَذَا بِحُدُودِهِ كُلِّهِ وَأَرْضِهِ وَبِنَائِهِ وَطَرِيقِهِ فِي سَاحَةِ الدَّارِ إلَى بَابِ الدَّارِ الْأَعْظَمِ مُسْلِمًا ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرَى بَيْتٌ ، وَهُوَ مُذَكَّرٌ فَيَقُولُ بِحُدُودِهِ كُلِّهِ وَيَذْكُرُ طَرِيقَهُ فِي سَاحَةِ الدَّارِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَدْخُلُ بِالذِّكْرِ وَالِانْتِفَاعُ مِنْ حَيْثُ السُّكْنَى وَالْبَيْتُوتَةُ لَا يَتَأَتَّى إلَّا بِذَلِكَ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَرَى أَنْ يَكْتُبَ الْحُدُودَ الْحَدُّ الْأَوَّلُ ، وَمِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ دَارُ فُلَانٍ ، وَالْحَدُّ الثَّانِي فِي شَرْقِيِّ الدَّارِ دَارُ فُلَانٍ وَالْحَدُّ الثَّالِثُ : دُبُرُ الْقِبْلَةِ دَارُ فُلَانٍ وَالْحَدُّ الرَّابِعُ : الْغَرْبِيُّ دَارُ فُلَانٍ ؛ لِأَنَّ جِهَةَ الْقِبْلَةِ أَشْرَفُ الْجِهَاتِ فَالْبِدَايَةُ أَوْلَى مِنْهَا ، وَإِنْ شَاءَ بَدَأَ بِالْغَرْبِيِّ وَدَارَ عَلَيْهَا ، وَإِنْ شَاءَ بَدَأَ بِاَلَّذِي هُوَ دُبُرَ الْقِبْلَةِ ثُمَّ سَمَّى الَّذِي يَلِيهُ ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْضًا ، وَإِنْ لَمْ يَكْتُبْ ذَلِكَ أَيْضًا لَمْ يَضُرَّهُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْإِعْلَامُ وَبِذِكْرِ الْحُدُودِ صَارَ مَعْلُومًا ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ مِنْ قِبَلِ الْقِبْلَةِ أَوْ دُبُرِ الْقِبْلَةِ ، وَالْكَلَامُ فِي قَوْلِهِ أَحَدُ
حُدُودِهَا دَارُ فُلَانٍ وَانْتَهَى إلَى دَارِ فُلَانٍ أَوْ لَزِيقَ دَارِ فُلَانٍ كَمَا بَيَّنَّا .
وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرَى بَيْتًا عُلْوًا فِي الدَّارِ لَيْسَ لَهُ سُفْلٌ كَتَبَ اشْتَرَى مِنْهُ الْبَيْتَ الَّذِي فِي عُلْوِ الدَّارِ الَّتِي فِي بَنِي فُلَانٍ وَيَذْكُرُ حُدُودَ الدَّارِ ثُمَّ يَقُولُ : وَهَذَا الْبَيْتُ عَلَى الْبَيْتِ الَّذِي مِنْ هَذِهِ الدَّارِ فِي مَوْضِعِ كَذَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَنْهَدِمُ ذَلِكَ الْبَيْتُ فَيَحْتَاجُ الْمُشْتَرِي إلَى إعَادَتِهِ ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُهُ مِنْ الدَّارِ مَعْلُومًا ، وَإِعْلَامُ مَوْضِعِهِ بِإِعْلَامِ مَوْضِعِ الْبَيْتِ الَّذِي هَذَا عُلْوُهُ فَيَكْتُبُ ، وَهُوَ عُلْوٌ سُفْلُهُ لِفُلَانٍ أَحَدُ حُدُودِ الْبَيْتِ الَّذِي هَذَا الْبَيْتُ عَلَيْهِ ، وَالرَّابِعُ : أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعُلْوِ حُدُودٌ ، وَإِنَّمَا الْحُدُودُ لِلسُّفْلِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : هَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ حَوْلَ هَذَا الْعُلْوِ حُجْرَةٌ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَذْكُرَ حُدُودَ الْعُلْوِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ هُوَ الْعُلْوُ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ إعْلَامُ الْمَبِيعِ بِذِكْرِ حُدُودِهِ ، فَإِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ حُدُودِ الْمَبِيعِ ، ثُمَّ يَكْتُبُ أَشْتَرِي مِنْهُ هَذَا الْبَيْتَ الَّذِي حَدَّدْنَا سُفْلَهُ فِي هَذِهِ الدَّارِ الْمَحْدُودَةِ فِي كِتَابِنَا هَذَا بِحُدُودِهِ كُلِّهِ وَأَرْضِهِ وَبِنَائِهِ وَطَرِيقِهِ فِي الدَّرَجِ ، وَفِي سَاحَةِ الدَّارِ إلَى بَابِ الدَّارِ الْأَعْظَمِ ، وَإِلَى عُلْوِ الْبَيْتِ مُسَلَّمًا ، قَالُوا وَيَنْبَغِي أَنْ يُبَيِّنَ مَوْضِعَ الدَّرَجِ مِنْ الدَّارِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنْقَلُ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ فَرُبَّمَا يَنْتَفِعُ بِهِ صَاحِبُ الْعُلْوِ فِي جَانِبٍ وَيَتَضَرَّرُ بِهِ فِي جَانِبٍ آخَرَ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ نَرَى أَنْ يَكْتُبَ ، وَقَدْ نَقَدَ فُلَانُ بْنِ فُلَانٍ الثَّمَنَ كُلَّهُ ، وَقَبَضَهُ فُلَانٌ مِنْهُ ، وَهُوَ كَذَا دِرْهَمًا ؛ لِأَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ : لَا يُجْبَرُ الْبَائِعُ عَلَى قَبْضِ الثَّمَنِ إذَا نَقَدَهُ الْمُشْتَرِي وَلَا يَسْتَفِيدُ الْمُشْتَرِي بِالْبَرَاءَةِ مَا لَمْ يَقْبِضُهُ الْبَائِعُ مِنْهُ
فَلِلتَّحَرُّزِ عَنْ هَذَا الْقَوْلِ تُذْكَرُ هَذِهِ الزِّيَادَةُ .
وَإِنْ كَانَ بَيْتٌ فَوْقَهُ بَيْتٌ فَاشْتَرَاهُمَا جَمِيعًا كَتَبَ : أَشْتَرِي مِنْهُ بَيْتَيْنِ مِنْ الدَّارِ الَّتِي فِي بَنِي فُلَانٍ أَحَدُهُمَا فَوْقَ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الْبَيْتَيْنِ يَتَنَاوَلُ بَيْتَيْنِ مُتَلَاصِقَتَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سُفْلٌ فَيَذْكُرُ : أَحَدُهُمَا فَوْقَ الْآخَرِ ، وَيَكْتُبُ : هَذَا الْبُنْيَانُ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ مِنْ مَوْضِعِ كَذَا ، أَحَدُ حُدُودِ الْبَيْتِ الْأَسْفَلِ كَذَا ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ لِلْبَيْتِ السُّفْلِ وَبِذِكْرِهَا يَصِيرُ الْعُلْوُ مَعْلُومًا ثُمَّ يَكْتُبُ : اشْتَرَى مِنْهُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ اللَّذَيْنِ حَدَّدْنَا أَسْفَلَهُمَا فِي هَذِهِ الدَّارِ الْمَحْدُودَةِ فِي كِتَابِنَا هَذَا بِحُدُودِهَا كِلَاهُمَا وَأَرْضِهِمَا وَبِنَائِهِمَا وَطَرِيقِهِمَا فِي الدَّرَجِ ، وَفِي سَاحَةِ الدَّارِ ، وَيَحُدُّ بِهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَيْتَيْنِ أَصْلٌ هُنَا لَا يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ إلَّا بِالذِّكْرِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُسَمِّيَهُمَا عِنْدَ ذِكْرِ الْحُدُودِ وَالْمَرَافِقِ .
وَإِذَا اشْتَرَى دَارًا مِنْ رَجُلَيْنِ ، وَهِيَ صَحْرَاءُ كَتَبَ : اشْتَرَى مِنْهُمَا الدَّارَ الَّتِي فِي بَنِي فُلَانٍ أَحَدُ حُدُودِهَا ، وَالرَّابِعُ : اشْتَرَى مِنْهُمَا هَذِهِ الدَّارَ الْمَحْدُودَةَ فِي كِتَابِنَا هَذَا وَهِيَ صَحْرَاءُ لَيْسَ فِيهَا بِنَاءٌ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ يَتَنَاوَلُ الصَّحْرَاءَ كَمَا يَتَنَاوَلُ الْمَبْنَى بِدَلِيلِ مَسْأَلَةِ الْأَيْمَانِ إذَا حَلَفَ لَا يَدْخُلُ هَذِهِ الدَّارَ فَدَخَلَهَا بَعْدَ مَا صَارَتْ صَحْرَاءَ كَانَ حَانِثًا فِي يَمِينِهِ وَلَكِنْ فِي الْعُرْفِ إنَّمَا يُفْهَمُ الْمَبْنَى عِنْدَ إطْلَاقِ الِاسْمِ ، وَرُبَّمَا يَبْنِيهِمَا الْمُشْتَرِي فَيَسْتَحِقُّ بِنَاءَهُ ، فَإِمَّا أَنْ يَفْسَخَ الْعَقْدَ أَوْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ ، فَإِذَا لَمْ يُبَيِّنْ فِي صَكِّ الشِّرَاءِ أَنَّهَا كَانَتْ يَوْمئِذٍ صَحْرَاءَ رُبَّمَا يَقْضِي الْقَاضِي لَهُ بِذَلِكَ بِنَاءً عَلَى الْعُرْفِ الظَّاهِرِ فَلِهَذَا يَكْتُبُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ فِي هَذَا الْكِتَابِ .
قَالَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ نَرَى أَنْ يَكْتُبَ فِي الضَّمَانِ قِيمَةَ الْبِنَاءِ يَعْنِي إذَا اشْتَرَى هَذِهِ وَضَمِنَ لَهُ إنْسَانٌ الدَّرَكَ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ فِي آخِرِ الْكِتَابِ : وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ ضَامِنٌ بِجَمِيعِ مَا أَدْرَكَ فِي هَذِهِ الدَّارِ وَقِيمَةُ مَا بُنِيَ فِيهَا مِنْ بِنَاءٍ مِنْ بَيْنِ كَذَا إلَى كَذَا دِرْهَمًا ، وَإِنَّمَا اُسْتُحْسِنَ التَّنْصِيصُ عَلَى قِيمَةِ الْبِنَاءِ فِي الضَّمَانِ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فَإِنَّ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ الْمُشْتَرِي لَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ الَّذِي بَنَاهُ عَلَى الْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَائِعُ أَمَرَهُ بِالْبِنَاءِ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ لَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ وَالْأَشْجَارِ إلَّا إذَا ضَمِنَ الْبَائِعُ لَهُ ذَلِكَ نَصًّا ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ لَيْسَ بِمُتَوَلِّدٍ مِنْ عَيْنِ الْمَبِيعِ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْغُرُورِ فِي الْمَبِيعِ ، وَفِيمَا يَكُونُ مُتَوَلِّدًا مِنْهُ كَالْأَوَّلِ وَعِنْدَنَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ ، وَمِنْ غَيْرِ شَرْطٍ بِاعْتِبَارِ أَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَقْتَضِي صِفَةَ السَّلَامَةِ وَلَا عَيْبَ فَوْقَ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَالْبَائِعُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَصِيرُ ضَامِنًا لِلْمُشْتَرِي قَرَارَ الْبِنَاءِ ، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ ذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ فَلِلتَّحَرُّزِ عَنْ هَذَا الْخِلَافِ يَكْتُبُ ضَمَانَ قِيمَةِ الْبِنَاءِ وَيَنُصُّ أَيْضًا عَلَى مِقْدَارِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : مَا بَيْنَ كَذَا إلَى كَذَا دِرْهَمًا ؛ لِأَنَّ عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى الْكَفَالَةَ بِالْمَجْهُولِ لَا تَصِحُّ فَكَانَ بَيَانُ الْمِقْدَارِ فِي الْوَثِيقَةِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ ذَلِكَ ثُمَّ قَالَ إلَى كَذَا دِرْهَمًا بِقِيمَةِ عَدْلٍ يَوْمَ يَسْتَحِقُّ الدَّارَ مِنْ يَدِهِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الرُّجُوعِ إنَّمَا يَثْبُتُ لَهُ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ فَإِنَّ الْمُسْتَحِقَّ يَنْقُضُ بِنَاءَهُ فَإِنَّهُ يُسَلِّمُ النَّقْضَ إلَى الْبَائِعِ وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ مَبْنِيًّا وَقْتَ الِاسْتِحْقَاقِ ،
وَإِنَّمَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ عَدْلٍ ، وَهُوَ مَا فَوْقَ الْوَكْسِ وَدُونَ الشَّطَطِ .
، وَمِنْ أَهْلِ الشُّرُوطِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ اسْتَحْسَنَ أَيْضًا أَنْ يَكْتُبَ وَذَلِكَ الْبِنَاءُ قَائِمٌ يَسْتَحِقُّ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ يَبْنِي ثُمَّ يَنْهَدِمُ الْبِنَاءُ قَبْلَ الِاسْتِحْقَاقِ فَعِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ لَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ مَا انْهَدَمَ مِنْ الْبِنَاءِ الَّذِي أَحْدَثَهُ فَيَكْتُبُ ، وَذَلِكَ الْبِنَاءُ قَائِمٌ فِيمَا يَسْتَحِقُّ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَا يَقُولُ : فِي هَذِهِ الدَّارِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَسْتَحِقُّ نِصْفَ الدَّارِ ، فَإِنَّمَا يَكُونُ رُجُوعُهُ بِقِيمَةِ نِصْفِ الْبِنَاءِ عِنْدَ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ : الْعَقْدُ يَبْطُلُ كُلُّهُ بِاسْتِحْقَاقِ النِّصْفِ ، وَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ جَمِيعِ الْبِنَاءِ وَلَكِنَّ هَذَا فَاسِدٌ عِنْدَنَا ، فَإِنَّ الرُّجُوعَ بِحُكْمِ الِاسْتِحْقَاقِ ، فَإِنَّمَا يَثْبُتُ بِمِقْدَارِ مَا يُوجَدُ فِيهِ الِاسْتِحْقَاقُ ؛ فَلِهَذَا يَكْتُبُ بِقِيمَةِ مَا يَسْتَحِقُّ مِنْ ذَلِكَ ، وَبَعْضُ أَهْلِ الشُّرُوطِ يَكْتُبُ قِيمَةَ الْبِنَاءِ وَالْعَرْشِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، وَهَذَا غَيْرُ مُسْتَحَقٌّ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ هَذَا اللَّفْظَ مَا لَا رُجُوعَ لَهُ مِنْ مَرَمَّةٍ لَيْسَتْ بِعَيْنِ مَالٍ أَوْ حَفْرٍ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ إنَّمَا يَرْجِعُ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يُسَلِّمُ النَّقْضَ إلَى الْبَائِعِ وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ، فَاشْتِرَاطُهُ فِي الْعَقْدِ يُفْسِدُ الْعَقْدَ حَتَّى لَوْ قَالُوا لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الدَّارِ وَطَوَاهَا فَالْحَفْرُ لَيْسَ مِنْ الْبِنَاءِ فِي شَيْءٍ ، وَالْعُلْوُ مِنْ الْبِنَاءِ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ مَا هُوَ بِنَاءٌ مَطْوِيٌّ وَيَكْتُبُ بَعْضُ أَهْلِ الشُّرُوطِ الرُّجُوعَ بِمَا أَنْفَقَ فِي الْبِنَاءِ ، وَهَذَا مُسْتَحْسَنٌ عِنْدَنَا فَإِنَّ رُجُوعَ الْمُشْتَرِي بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَمْلِكُ النَّقْضَ مِنْ الْبَائِعِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ أَنْفَقَهُ لِنَفْسِهِ عَلَى مِلْكِهِ فَلَا يَرْجِعُ بِهِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْمُخْتَارُ اللَّفْظَ الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي
الْكِتَابِ ، وَإِنَّمَا يَكْتُبُ : إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ لِجَمِيعِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكْتُبْ هَذَا رَجَعَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَائِعَيْنِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْبِنَاءِ ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إنَّمَا بَاعَهُ النِّصْفَ ، وَإِنَّمَا ضَمِنَ لَهُ السَّلَامَةَ بِاعْتِبَارِ عَقْدِهِ فَلِمَعْنَى النَّظَرِ لِلْمُشْتَرِي يَكْتُبُ هَذَا اللَّفْظَ حَتَّى يَكُونَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى أَيِّهِمَا شَاءَ بِجَمِيعِ قِيمَةِ الْبِنَاءِ ؛ لِأَنَّ فِي النِّصْفِ هُوَ بَائِعٌ ، وَفِي النِّصْفِ الْآخِرِ هُوَ ضَامِنٌ عَنْ صَاحِبِهِ ، وَيَكُونُ ضَمَانُهُ كَضَمَانِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ .
وَإِنْ اشْتَرَى بَيْتَيْنِ مُتَفَرِّقَيْنِ فِي دَارِ وَاحِدَةٍ أَحَدُهُمَا عُلْوٌ ، وَالْآخَرُ سُفْلٌ كَتَبَ أَشْتَرِي مِنْهُ بَيْتَيْنِ فِي الدَّارِ الَّتِي فِي بَنِي فُلَانٍ ؛ أَحَدُ حُدُودِ هَذِهِ الدَّارِ الَّتِي فِيهَا هَذَانِ الْبَيْتَانِ وَالرَّابِعُ : وَأَحَدُ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ فِي مَوْضِعِ كَذَا مِنْ هَذِهِ الدَّارِ مِنْ سُفْلٍ عُلْوُهُ لَهُ ؛ لِأَنَّ أَحَدَ حُدُودِ الْبَيْتِ السُّفْلُ فَيَذْكُرُ حُدُودَهُ ثُمَّ يَذْكُرُ حُدُودَ الْبَيْتِ الْآخَرِ عُلْوَ سُفْلِهِ لِفُلَانٍ وَيُحِدُّ الْبَيْتَ فَيَذْكُرُ حُدُودَهُ ثُمَّ يُجْرِيهِ عَلَى مَا وَصَفْنَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي السُّفْلِ الْمُشْتَرَى وَحْدَهُ ، وَالْعُلْوِ الْمُشْتَرَى وَحْدَهُ بِدُونِ السُّفْلِ ، فَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى سُفْلَ بَيْتٍ وَعُلْوَ بَيْتٍ آخَرَ وَهُمَا فِي دَارِ وَاحِدَةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِذِكْرِ الْمَوْضِعِ وَالتَّحْدِيدِ وَإِعْلَامِ الْعُلْوِ وَبِتَحْدِيدِ السُّفْلِ إذَا لَمْ يَكُنْ حَوْلَ الْعُلْوِ بِنَاءٌ ، وَإِنْ كَانَ فَتَحْدِيدُهُ مُمْكِنٌ فِي نَفْسِهِ عَلَى مَا فَسَّرَهُ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَإِنْ اشْتَرَى مِنْهُ طَرِيقًا فِي دَارِ كَتَبَ أَشْتَرِي مِنْهُ طَرِيقًا مِنْ الدَّارِ الَّتِي فِي بَنِي فُلَانٍ وَيُحَدِّدُهَا ، وَهَذَا الطَّرِيقُ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ مَا بَيْنَ مَوْضِعِ كَذَا مِنْ دَارِ فُلَانٍ الَّتِي إلَى جَانِبِ هَذِهِ الدَّارِ إلَى بَابِ هَذِهِ الدَّارِ الْمَحْدُودَةِ فِي كِتَابِنَا هَذَا ، عَرْضُ هَذَا الطَّرِيقِ عَرْضُ بَابِ الدَّارِ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَإِعْلَامُ الطَّرِيقِ بِذِكْرِ طُولِهِ وَعَرْضِهِ ثُمَّ يَكْتُبُ : أَشْتَرِي مِنْهُ هَذَا الطَّرِيقَ الَّذِي ضَمَّنَا فِي هَذِهِ الدَّارِ الْمَحْدُودَةِ فِي كِتَابِنَا هَذَا بِحُدُودِهِ كُلِّهَا وَأَرْضِهِ مُسْلِمًا إلَى بَابِ الدَّارِ ، وَقَدْ اسْتَحْسَنَ بَعْضُ أَهْلِ الشُّرُوطِ أَنْ يُبَيِّنَ ذَلِكَ بِالذِّرَاعِ طُولًا وَعَرْضًا ؛ لِأَنَّ فِي قَوْلِهِ عَرْضُهُ عَرْضُ بَابِ الدَّارِ بَعْضَ الْإِبْهَامِ فَقَدْ يُبَدَّلُ بِالْبَابِ بَابٌ آخَرُ وَلَكِنْ يُجَوِّزُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ الْإِبْهَامِ ؛ لِأَنَّ عَرْضَ بَابِ الدَّارِ طَرِيقٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَعِنْدَ الْمُنَازَعَةِ يُرَدُّ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ إلَى الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ الطَّرِيقِ التَّطَرُّقُ ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ إنَّمَا يَتِمُّ إذَا كَانَ الطَّرِيقُ بِقَدْرِ عَرْضِ بَابِ الدَّارِ ، فَإِنَّ مَا لَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْبَابِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْمِلَهُ فِي الطَّرِيقِ قَالَ : وَلَوْ لَمْ يُسَمِّ عَرْضَ الطَّرِيقِ كَانَ يَجُوزُ أَيْضًا لِهَذَا الْمَعْنَى ، وَهُوَ أَنَّ التَّسْمِيَةَ لِلرُّجُوعِ إلَيْهِ وَقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ بِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ ، وَهَذَا حَاصِلٌ بِمَعْرِفَةِ بَابِ الدَّارِ فَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ عُلْوٌ لِغَيْرِهِ يَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ : عُلْوُهُ لِفُلَانِ لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ فَإِنَّ بِمُطْلَقِ التَّسْمِيَةِ يَسْتَحِقُّ الْمُشْتَرِي ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مِنْ الْأَرْضِ ، فَرُبَّمَا يَنْقُضُ الْعُلْوَ الَّذِي لِلْغَيْرِ عَلَيْهِ أَوْ يَمْنَعُ صَاحِبَ الْعُلْوِ مِنْ أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ عُلْوًا بَعْدَ الِانْهِدَامِ .
وَإِنْ اشْتَرَى حَائِطًا كَتَبَ : أَشْتَرِي مِنْهُ الْحَائِطَ الَّتِي فِي الدَّارِ الَّذِي فِي بَنِي فُلَانٍ ، وَهَذَا الْحَائِطُ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ فِي مَوْضِعِ كَذَا مَا بَيْنَ كَذَا إلَى كَذَا عَرْضُهُ كَذَا ؛ لِأَنَّ بِتَنَاوُلِ الطُّولِ وَالْعَرْضِ يَصِيرُ الْمُشْتَرَى - وَهُوَ الْبِنَاءُ وَمَوْضِعُهُ مِنْ الْأَرْضِ - مَعْلُومًا ، ثُمَّ يَقُولُ : أَشْتَرِي مِنْهُ هَذَا الْحَائِطَ الَّذِي سَمَّيْنَا بِحُدُودِهِ كُلِّهِ أَرْضَهُ وَبِنَاءَهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَنُصَّ عَلَى ذَلِكَ دَخَلَ فِيهِ اخْتِلَافُ شُبْهَةِ الْعُلَمَاءِ دُخُولَ الْأَصْلِ فِي الْبَيْعِ .
وَإِنْ اشْتَرَى دَارًا غَيْرَ بَيْتٍ فِيهَا كَتَبَ : أَشْتَرِي مِنْهُ الدَّارَ الَّتِي فِي بَنِي فُلَانٍ غَيْرَ بَيْتٍ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ ، وَطَرِيقِهِ ، وَهَذَا الْبَيْتُ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ مِنْ مَوْضِعِ كَذَا ، وَعَيَّنَ حُدُودَهُ ؛ لِأَنَّ الْبَيْتَ الْمُسْتَثْنَى بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْبَائِعِ ، وَلَا يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ إلَّا بِالطَّرِيقِ إلَيْهِ فِي حَاجَةِ الدَّارِ ، فَإِذَا لَمْ يَذْكُرْ الطَّرِيقَ فِيمَا يُسْتَثْنَى تَضَرَّرَ الْبَائِعُ فِي تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الِانْتِفَاعُ بِمَا لَيْسَ بِمَعْقُودٍ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ ؛ فَلِهَذَا يَقُولُ : غَيْرُ هَذَا الْبَيْتِ ، وَطَرِيقُهُ إلَى بَابِ الدَّارِ الْأَعْظَمِ ثُمَّ يَكْتُبُ فِي آخِرِهِ ، وَقَدْ رَأَى فُلَانٌ هَذَا الْبَيْتَ ، وَعَرَّفَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لَهُ الْخِيَارُ إذَا رَآهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَرَ الْمُسْتَثْنَى تَتَمَكَّنُ بِهِ جَهَالَةٌ فِي صِفَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ بُيُوتَ الدَّارِ تَخْتَلِفُ فِي الْمَنْفَعَةِ وَالْمَالِيَّةِ ؛ وَلِهَذَا لَوْ اشْتَرَى بَيْتًا مِنْ الدَّارِ بِغَيْرِ عَيْنِهِ لَا يَجُوزُ .
وَإِذَا اشْتَرَى بَيْتًا لَمْ يَرَهُ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ رَأَى مَا سِوَاهُ مِنْ الْبُيُوتِ فَكَذَلِكَ إذَا رَأَى الْمُسْتَثْنَى بَيْتًا لَمْ يَرَهُ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْبَاقِي .
وَإِنْ اشْتَرَى مَنْزِلًا فِي دَارٍ وَنِصْفَ سَاحَةِ تِلْكَ الدَّارِ وَنِصْفَ مَخْرَجِهَا وَالطَّرِيقَ كَتَبَ : أَشْتَرِي مِنْهُ مَنْزِلًا فِي الدَّارِ الَّتِي فِي بَنِي فُلَانٍ وَأَشْتَرِي مِنْهُ أَيْضًا نِصْفَ سَاحَةِ هَذِهِ الدَّارِ وَنِصْفَ مَخْرَجٍ فِيهَا سِوَى هَذَا الْمَنْزِلِ ثُمَّ يُحَدِّدُ هَذَا الدَّارَ ثُمَّ يَكْتُبُ ، وَهَذَا الْمَنْزِلُ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ فِي مَوْضِعِ كَذَا وَيَذْكُرُ حُدُودَ الْمَنْزِلِ ثُمَّ يَكْتُبُ ، وَهَذَا الْمَخْرَجُ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ فِي مَوْضِعِ كَذَا وَيَذْكُرُ حُدُودَهُ ثُمَّ يَذْكُرُ حُدُودَ سَاحَةِ الدَّارِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَتَنَاوَلُ كُلَّ ذَلِكَ إمَّا كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يُحَدِّدَ جَمِيعَ ذَلِكَ ثُمَّ يَكْتُبُ اشْتَرَى مِنْهُ هَذَا الْمَنْزِلَ الَّذِي حَدَّدْنَا وَنِصْفَ هَذَا الْمَخْرَجِ وَنِصْفَ سَاحَةِ هَذِهِ الدَّارِ بِحُدُودِهَا كُلِّهَا وَأَرْضِهَا وَبِنَائِهَا وَطَرِيقِهَا إلَى بَابِ الدَّارِ ، وَإِلَى الْمَخْرَجِ مُسَلِّمًا ثُمَّ يُجْرِيه عَلَى مَا وَصَفْنَا .
وَإِنْ اشْتَرَى دَارًا بِنَاؤُهَا لِلْمُشْتَرِي يَكْتُبُ عَلَى رَسْمِ مَا لَوْ اشْتَرَاهَا كُلَّهَا إلَّا أَنَّهُ لَا يَكْتُبُ وَبِنَاءَهَا ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ مَمْلُوكًا لَهُ وَشِرَاؤُهُ إنَّمَا يَتَنَاوَل مِلْكَ الْبَائِعِ لَا مِلْكَ نَفْسِهِ ، وَمِنْ أَهْلِ الشُّرُوطِ مَنْ يَقُولُ : الْأَحْسَنُ أَنْ يَكْتُبَ اشْتَرَى أَرْضَ دَارٍ بِنَاؤُهُ لِلْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّ اسْمَ الدَّارِ مُطْلَقًا فِي الْعُرْفِ يَتَنَاوَلُ الْمُسَمَّى وَالْأَوْلَى أَنْ يُسْتَعْمَلَ أَخَصُّ الْأَلْفَاظِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى إعْلَامِ الْمُشْتَرِي .
وَإِنْ اشْتَرَى نِصْفَ دَارٍ وَنِصْفُهَا الْآخَرُ لِلْمُشْتَرِي وَأَرَادَ أَنْ يُبَيِّنَهُ كَتَبَ أَشْتَرِي مِنْهُ نِصْفَ الدَّارِ الَّتِي فِي بَنِي فُلَانٍ وَهَذِهِ الدَّارُ الَّتِي نِصْفُهَا لِفُلَانٍ أَحَدُ حُدُودِهَا وَالرَّابِعُ ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُ حُدُودَ جَمِيعِ الدَّارِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرَى نِصْفُهَا ؛ لِأَنَّ تَحْدِيدَ نِصْفِ الدَّارِ غَيْرُ مُمْكِنٍ .
وَإِنْ اشْتَرَى دَارًا لِغَيْرِهِ وَأَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ اسْمَهُ فِي الشِّرَاءِ كَتَبَ اشْتَرَى فُلَانٌ لِفُلَانٍ مِنْ فُلَانٍ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الشُّرُوطِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَكْتُبُونَ اشْتَرَى لِفُلَانٍ بِأَمْرِهِ وَمَالِهِ وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحْسَنٍ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بِالشِّرَاءِ يَجِبُ فِي ذِمَّةِ الْمُشْتَرِي فَلَا يَتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُشْتَرِيًا بِمَالِ الْغَيْرِ ؛ لِأَنَّ مَا يَجِبُ فِي ذِمَّتِهِ بِعَقْدٍ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مَالًا لِلْغَيْرِ ثُمَّ فِي هَذَا ضَرَرٌ عَلَى الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ إذَا حَضَرَ وَأَنْكَرَ الْوَكَالَةَ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَالَ مِنْ الْبَائِعِ لِإِقْرَارِ الْبَائِعِ أَنَّ الْمَالَ لَهُ ثُمَّ هُوَ يَحْتَاجُ إلَى الرُّجُوعِ عَلَى الْمُشْتَرَى بِالثَّمَنِ وَرُبَّمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ قَالَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَفِيهِ إفْسَادٌ آخَرُ أَيْضًا ، وَهُوَ عَلَى أَنَّ قَوْلَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ النُّفُوذُ يَتَعَيَّنُ فِي الْعَقْدِ ، فَإِذَا أَنْكَرَ الْمُوَكِّلُ الْأَمْرَ وَرَجَعَ بِدَرَاهِمِهِ انْفَسَخَ الْعَقْدُ فَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذِهِ الرِّوَايَةَ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ اشْتَرَى فُلَانٌ لِفُلَانٍ مِنْ فُلَانٍ وَيَجْرِي الْكِتَابُ عَلَى رَسْمِهِ إلَى أَنْ يَكْتُبَ فِي آخِرِهِ فَمَا أَدْرَكَ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ مِنْ دَرَكٍ فِيمَا اشْتَرَى لَهُ فُلَانٌ فَعَلَى فُلَانٍ خَلَاصُهُ حَتَّى يُسَلِّمَهُ لَهُ فَقَدْ ذَكَرَ ضَمَانَ الدَّرَكِ لِلْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالْعَقْدِ فِيمَا هُوَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ وَلَكِنْ إنَّمَا ذَكَرَ هَذَا ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالتَّسْلِيمِ يُخْرِجُ مِنْ الْوَسَطِ فَالِاسْتِحْقَاقُ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ لِلْمُوَكِّلِ وَالدَّرَكُ إنَّمَا يَلْحَقُ الْمُوَكِّلَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُسْتَحِقِّ الْخُصُومَةُ مَعَ الْوَكِيلِ بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَذَكَرَ الْخَصَّافُ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ حِينَ كَانَ بِالرَّقَّةِ كَتَبَ لِلرَّشِيدِ كِتَابًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَكَتَبَ فَمَا أَدْرَكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ دَرَكٍ فَعَلَى
فُلَانٍ خَلَاصُهُ حَتَّى يُسَلِّمَهُ لَهُ أَوْ يَرُدَّ الثَّمَنَ عَلَى الْمُشْتَرِي ، وَهُوَ فُلَانٌ فَقَالَ لَهُ بَعْضُ مَنْ حَضَرَ الْمَجْلِسَ مِنْ أَصْحَابِهِ لِمَاذَا كَتَبْت الدَّرَكَ لِلْمُشْتَرَى لَهُ فَقَالَ هَكَذَا كَتَبَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ إذَا كَتَبَ الدَّرَكَ لَهُ فَلِمَاذَا لَمْ تَكْتُبْ رَدَّ الثَّمَنِ عَلَيْهِ قَالَ لِأَنَّ رَدَّ الثَّمَنِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ إنَّمَا يَكُونُ عَلَى مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الثَّمَنُ بِالْعَقْدِ وَالثَّمَنُ بِالْعَقْدِ وَجَبَ عَلَى الْوَكِيلِ دُونَ الْمُوَكِّلِ فَكَذَلِكَ الرَّدُّ يَكُونُ عَلَيْهِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ قِيلَ فَإِنْ كَتَبَ كَاتِبٌ أَوْ يَرُدَّ الثَّمَنَ عَلَى الْمُشْتَرَى لَهُ قَالَ أَكْرَهُ ذَلِكَ وَلَا أُفْسِدُ بِهِ الْعَقْدَ وَكَأَنَّهُ سَلَكَ فِي هَذَا طَرِيقَةَ الِاسْتِحْسَانِ عَلَى قِيَاسِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا قَبَضَ الْمُوَكِّلُ الثَّمَنَ بِنَفْسِهِ ، فَإِنْ كَتَبَ كَاتِبٌ فَمَا أَدْرَكَ فُلَانٌ الْمُشْتَرِي قَالَ أَكْرَهُ ذَلِكَ أَيْضًا وَلَا أُفْسِدُ بِهِ الْعَقْدَ ؛ لِأَنَّ الدَّرَكَ قَدْ يَلْحَقُ الْوَكِيلَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَى الْمُوَكِّلِ وَلَكِنْ لَوْ كَتَبَ فِي ضَمَانِ قِيمَةِ الْبِنَاءِ أَنَّهُ ضَامِنٌ لِقِيمَةِ مَا يَبْنِي الْمُشْتَرِي كَانَ ذَلِكَ يُفْسِدُ الْعَقْدَ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي الْبِنَاءِ فِي هَذِهِ الدَّارِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَإِنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبْنِيَ بِدُونِ رِضَا الْمُوَكِّلِ فَاشْتِرَاطُ ضَمَانِ بِنَائِهِ فِي الْعَقْدِ كَاشْتِرَاطِ ضَمَانِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ .
وَإِنْ اشْتَرَى دَارًا فِيهَا حَمَّامٌ كَتَبَ عَلَى نَحْوِ مَا وَصَفْنَا فِي شِرَاءِ الدَّارِ وَالدَّارَيْنِ قَالَ وَيُسَمِّي فِيهَا قِدْرَ الْحَمَّامِ ، وَهَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ قِدْرَ الْحَمَّامِ لَا تَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ بِخِلَافِ الْأَبْوَابِ وَالسُّرَرُ الْمُرَكَّبَةُ فِي شِرَاءِ الدَّارِ ؛ لِأَنَّ الْقِدْرَ لَا يُرَكَّبُ فِي مَوْضِعِهِ لِيَكُونَ عَلَى الْبِنَاءِ وَلَكِنَّهُ يُوضَعُ عَلَى الْأَبْوَابِ وَيُطَيَّنُ مَا حَوْلَهُ لِكَيْ لَا يُخْرِجَ النَّارَ وَالدُّخَانَ مِنْ جَوَانِبِهِ ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَتَاعِ الْمَوْضُوعِ لَا يَدْخُلُ إلَّا بِالتَّسْمِيَةِ وَأَكْثَرُ أَصْحَابِ الشُّرُوطِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَكْتُبُونَ بَعْدَ ذِكْرِ الْحَمَّامِ بِحُدُودِهَا وَقِدْرِهَا وَآنِيَتِهَا وَمَلْقَى رَمَادِهَا وَشُرُفَاتِهَا وَبِئْرِهَا وَالْبَكَرَةِ وَالدَّلْوِ وَالرِّشَاءِ الَّتِي فِيهَا وَمُسْتَنْقَعِ مَا فِيهَا مِنْ حُقُوقِهَا وَبَعْضُ هَذَا دَخَلَ فِي الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ وَلَكِنَّهُمْ يَذْكُرُونَهُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي ذِكْرِ مَا يَخْتَصُّ بِهِ الْحَمَّامُ مِنْ سَائِرِ الْمَحْدُودَاتِ .
وَإِنْ اشْتَرَى دَارًا مِنْ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ لِأَحَدِهِمْ نِصْفُهَا وَلِلْآخَرَيْنِ النِّصْفُ كَتَبَ بَعْدَ ذِكْرِ الْحُدُودِ أَشْتَرِي مِنْهُمْ هَذِهِ الدَّارَ الْمَحْدُودَةَ فِي كِتَابِنَا هَذَا ، وَمِنْ فُلَانٍ كَذَا ، وَمِنْ فُلَانٍ كَذَا ؛ لِأَنَّ الْأَنْصِبَاءَ قَدْ تَفَاوَتَتْ ، وَالْحُكْمُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ ذَلِكَ يَعْنِي فِيمَا يَسْتَوْجِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الثَّمَنَ فِيمَا يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي فِيمَا يَسْتَوْجِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ الثَّمَنِ ، وَفِيمَا يَكُونُ لِلْمُشْتَرِي مِنْ حَقِّ الرُّجُوعِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِنْدَ لُحُوقِ الدَّرَكِ فَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَفْسِهِ ثُمَّ يَكْتُبُ وَقَدْ نَقَدَهُمْ الثَّمَنَ كُلَّهُ وَبَرِئَ إلَيْهِمْ مِنْهُ فَقَبَضَ فُلَانٌ مِنْ ذَلِكَ كَذَا وَفُلَانٌ كَذَا ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ إنَّمَا يَرْجِعُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَا نَقَدَهُ مِنْ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُفَسِّرْهُ بِكَذَا رُبَّمَا يَدَّعِي صَاحِبُ النِّصْفِ أَنَّهُ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ إلَّا ثُلُثُ الثَّمَنِ وَيَحْتَجُّ بِمُطْلَقِ إقْرَارِهِ فَإِنَّهُ نَقَدَهُمْ الثَّمَنَ ثُمَّ قَالَ فَمَا أَدْرَكَ فُلَانٌ مِنْ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الدَّارِ فَعَلَى فُلَانٍ وَفُلَانٍ خَلَاصُ ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ أَنْصِبَائِهِمْ الَّتِي اشْتَرَى مِنْهُمْ حَتَّى يُسَلِّمُوهُ لَهُ عَلَى قَدْرِ مَا اشْتَرَى مِنْهُمْ .
وَإِنْ اشْتَرَى ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِنْ وَاحِدٍ كَتَبَ اشْتَرَوْا مِنْهُ هَذِهِ الدَّارَ الْمَحْدُودَةَ فِي كِتَابِنَا هَذَا اشْتَرَى مِنْهُ فُلَانٌ كَذَا وَفُلَانٌ كَذَا ، وَهَذَا عَلَى مَا عَلَيْهِ الْعَادَةُ مِنْ إعَادَةِ الْخَبَرِ إذَا تَخَلَّلَ بَيْنُهُ وَبَيْنَ الْمُخْبَرِ عَنْهُ كَلَامٌ آخَرُ فَيَكْتُبُ اشْتَرَى مِنْهُ فُلَانٌ كَذَا وَفُلَانٌ كَذَا وَيَكْتُبُ وَقَدْ نَقَدَهُ الثَّمَنَ كُلَّهُ وَافِيًا مِنْ أَمْوَالِهِمْ عَلَى قَدْرِ أَنْصِبَائِهِمْ الَّتِي اشْتَرَوْا مِنْهُ نَقَدَ فُلَانٌ مِنْ ذَلِكَ كَذَا وَفُلَانٌ كَذَا وَفُلَانٌ كَذَا وَبَرِئُوا إلَيْهِ مِنْهُ فَصَارَ لِفُلَانٍ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا وَلِفُلَانٍ كَذَا فَمَا أَدْرَكَهُمْ مِنْ ذَلِكَ فِي ذَلِكَ فَعَلَى فُلَانٍ خَلَاصُ ذَلِكَ إلَى آخِرِهِ .
وَإِنْ اشْتَرَى دَارًا لِابْنِهِ الصَّغِيرِ كَتَبَ اشْتَرَى فُلَانٌ لِابْنِهِ فُلَانٍ وَأَهْلُ الشُّرُوطِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَكْتُبُونَ اشْتَرَى لِابْنِهِ الصَّغِيرِ بِمَالِهِ وَبِوِلَايَتِهِ عَلَيْهِ مُمَيِّزًا لِمَالِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الشِّرَاءِ لِلْغَيْرِ أَنَّ الْأَحْسَنَ أَنْ لَا يَذْكُرَ الْمَالَ فَكَذَلِكَ فِي الشِّرَاءِ لِابْنِهِ وَاتَّفَقَ أَهْلُ الشُّرُوطِ هُنَا عَلَى أَنَّهُ يَكْتُبُ اسْمَ الْأَبِ قَبْلَ اسْمِ الِابْنِ ، وَفِي الشِّرَاءِ لِلْغَيْرِ مِنْهُمْ مَنْ يُقَدِّمُ اسْمَ الْمُوَكِّلِ فَيَكْتُبُ اشْتَرَى لِفُلَانٍ فُلَانٌ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُقَدِّمُ اسْمَ الْمُشْتَرِي فَيَكْتُبُ اشْتَرَى فُلَانٌ لِفُلَانٍ الْوَكِيلِ وَلَكِنْ يَكْتُبُ اشْتَرَى لِفُلَانٍ الْآمِرِ بِأَمْرِهِ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ وَأَهْلُ الشُّرُوطِ يَزِيدُونَ فِي هَذَا الْكِتَابِ عِنْدَ ذِكْرِ الثَّمَنِ ، وَهُوَ ثَمَنُ مِثْلِ هَذِهِ الدَّارِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الشُّرُوطِ بَنَوْا عَلَى أَنَّهُ اشْتَرَى بِمَالِ الصَّغِيرِ فَذَكَرُوا هَذِهِ الزِّيَادَةَ ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ بِمَالِهِ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ لَا يَنْفُذُ عَلَيْهِ ، وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يَذْكُرْ مَالَهُ أَصْلًا فَلِهَذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ لِهَذِهِ الزِّيَادَةِ فِي الِابْتِدَاءِ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ فِي آخِرِهِ ، وَقَدْ نَقَدَ فُلَانٌ الثَّمَنَ كُلَّهُ وَافِيًا ، وَمِنْ مَالِ ابْنِهِ فُلَانٍ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا لِيَكُونَ فِيهِ نَظَرٌ لِلْوَلَدِ فَرُبَّمَا يَدَّعِي الْأَبُ أَنَّهُ نَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَيَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ أَوْ يَدَّعِي ذَلِكَ سَائِرُ الْوَرَثَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُمْ فَلِهَذَا ذَكَرَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ ، وَيَكْتُبُ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ صَغِيرٌ فِي عِيَالِ أَبِيهِ ؛ لِأَنَّ مِنْ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ يَقُولُ : إذَا لَمْ يَكُنْ الْوَلَدُ فِي عِيَالِهِ فَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ صَغِيرًا فَلِلتَّحَرُّزِ عَنْ ذَلِكَ يَكْتُبُ هَذِهِ الزِّيَادَةَ ثُمَّ يَكْتُبُ فَمَا أَدْرَكَ فُلَانًا مِنْ دَرَكٍ فِيمَا اشْتَرَى لَهُ فُلَانٌ
فَعَلَى فُلَانٍ خَلَاصُهُ ؛ لِأَنَّ بَعْدَ بُلُوغِ الْوَلَدِ إنَّمَا يَلْحَقُ الِابْنَ دُونَ الْأَبِ ، وَقَدْ اسْتَحْسَنَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكْتُبَ هُنَا ، وَفِي الشِّرَاءِ لِلْغَيْرِ أَيْضًا ، وَقَدْ وَكَّلَ فُلَانٌ يَعْنِي الْمُشْتَرِيَ فُلَانًا بِالْخُصُومَةِ فِيمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ فِي هَذِهِ الدَّارِ إمَّا وَكَالَةٌ مُطْلَقَةٌ فِي الدَّارِ فِي الْحَالِ أَوْ مُضَافَةٌ إلَى مَا بَعْدَ الْبُلُوغِ فِي حَقِّ الْوَلَدِ وَيَزِيدُونَ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ كَلِمَةُ عِزٍّ لَهُ فَهُوَ وَكِيلٌ مِنْ جِهَتِهِ تَوْكِيلًا جَدِيدًا ، وَفِي هَذَا النَّوْعِ احْتِيَاطٌ لِلْمُوَكِّلِ وَلِلِابْنِ فَإِنَّهُ إذَا دَفَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى الْخُصُومَةِ بِالْعَيْبِ لَا يَتَمَكَّنُ الْمُوَكِّلُ وَلَا الِابْنُ مِنْ خُصُومَةِ الْبَائِعِ وَرُبَّمَا يَكُونُ الْمُشْتَرِي غَائِبًا أَوْ حَاضِرًا وَيَمْتَنِعُ مِنْ مُبَاشَرَةِ الْخُصُومَةِ بِنَفْسِهِ قَدْ ذَكَرَ هَذَا التَّوْكِيلَ لِكَيْ لَا يَتَعَذَّرَ عَلَى الْمُشْتَرِي لَهُ الْوُصُولُ إلَى حَقِّهِ .
وَإِذَا بَاعَ رَجُلٌ دَارِهِ مِنْ ابْنِهِ ، وَهُوَ صَغِيرٌ فِي عِيَالِهِ كَتَبَ هَذَا كِتَابٌ مِنْ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ ابْنِهِ إنِّي بِعْتُك الدَّارَ الَّتِي فِي بَنِي فُلَانٍ وَيُحَدِّدُهَا وَيَجْرِي الْكِتَابُ عَلَى الرَّسْمِ بِكَذَا دِرْهَمًا وَقَبَضْت الثَّمَنَ كُلَّهُ مِنْك وَبَرِئْتَ إلَيَّ مِنْهُ وَأَنْتَ يَوْمئِذٍ صَغِيرٌ فِي عِيَالِي فَمَا أَدْرَكَك مِنْ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الدَّارِ فَعَلَيَّ خَلَاصُهُ ، وَفِي هَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْأَبَ لَا يَحْتَاجُ إلَى لَفْظَيْنِ فِي الْبَيْعِ مِنْ وَلَدِهِ لِنَفْسِهِ .
وَيُحْكَى عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الشَّاشِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : يُحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ فِي جَانِبِ الْوَلَدِ فِيمَا يُعَامِلُ نَفْسَهُ فَيَكُونُ نَائِبًا وَلَا يَكُونُ كَالْمُبَاشِرِ لِلْعَقْدِ حَتَّى إنَّ الْعُهْدَةَ بَعْدَ الْبُلُوغِ فِيهِ تَكُونُ عَلَى الْوَلَدِ بِخِلَافِ مَا يُعَامِلُ غَيْرَهُ فَإِنَّ الْأَبَ فِيهِ مُبَاشِرٌ لِلْعَقْدِ وَالْعُهْدَةُ عَلَيْهِ بَعْدَ بُلُوغِ الْوَلَدِ ، وَهُوَ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مُبَاشِرًا لِلْعَقْدِ وَسَفِيرًا فَلَا بُدَّ مِنْ لَفْظٍ هُوَ يَكُونُ مُبَاشِرًا فِيهِ مِنْ جَانِبِ نَفْسِهِ ، وَمِنْ لَفْظٍ آخَرَ يَكُونُ هُوَ سَفِيرًا فِيهِ عَنْ الِابْنِ بِخِلَافِ الْمَوْلَى يُزَوِّجُ وَلِيَّتَهُ مِمَّنْ هُوَ وَلِيُّهُ فَالْعَاقِدُ فِي النِّكَاحِ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ السَّفِيرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، وَهُوَ بِاللَّفْظِ الْوَاحِدِ يَسْتَقِيمُ أَنْ يَكُونَ سَفِيرًا عَنْ جَمَاعَةٍ وَلَكِنَّ الْأَصَحُّ مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ فِي الزِّيَادَاتِ أَيْضًا أَنَّهُ فِي الْبَيْعِ يَتِمُّ بِقَوْلِهِ بِعْت مِنْهُ بِكَذَا ، وَفِي الشِّرَاءِ يَتِمُّ بِقَوْلِهِ اشْتَرَيْت مِنْهُ بِكَذَا ؛ لِأَنَّ اللَّفْظَ الَّذِي بِهِ يَلْتَزِمُ الْعُهْدَةَ ، وَيَكُونُ مُبَاشِرًا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ اللَّفْظِ الَّذِي يَكُونُ سَفِيرًا وَالْقَوِيُّ يَنْتَظِمُ الضَّعِيفَ وَلَا يَظْهَرُ فِي مُقَابَلَتِهِ فَفِي حَقِّ مَنْ يَكُونُ مُبَاشِرًا يَسْقُطُ اعْتِبَارُ اللَّفْظِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ مُعَبِّرًا عَنْ غَيْرِهِ فِي الْعَقْدِ حَتَّى
قَالُوا لَوْ ذُكِرَ اللَّفْظُ الَّذِي هُوَ سَفِيرٌ فِيهِ فَقَالَ اشْتَرَيْت مِنِّي هَذِهِ الدَّارَ بِكَذَا ، وَفِي الشِّرَاءِ قَالَ بِعْت هَذِهِ الدَّارَ لِابْنِي مِنْ نَفْسِي لَا يَتِمُّ ؛ لِأَنَّ الضَّعِيفَ لَا يَنْتَظِمُ الْقَوِيَّ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّصْرِيحِ بِاللَّفْظِ الَّذِي بِهِ يَلْتَزِمُ الْعُهْدَةَ وَذَلِكَ فِي الْبَيْعِ بِالْإِيجَابِ ، وَفِي الشِّرَاءِ بِالْقَبُولِ قَالَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا كَانَ فِي الرَّسْمِ لِفُلَانٍ فَكُلُّ شَيْءٍ أَضَفْته إلَيْهِ فَاجْعَلْهُ بِالْكَافِ وَلَا تَجْعَلْهُ بِالْيَاءِ ، وَإِذَا كَانَ الْكِتَابُ مِنْ رَجُلٍ فَكُلُّ شَيْءٍ أَضَفْته إلَيْهِ فَاجْعَلْهُ بِالْيَاءِ وَلَا تَجْعَلْهُ بِالْكَافِ وَالصَّوَابُ فَاجْعَلْهُ بِالْهَاءِ وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّهُ إذَا كَتَبَ : هَذَا الْكِتَابُ مِنْ فُلَانِ بْنُ فُلَانٍ ، يَكْتُبُ : إنِّي قَدْ بِعْتُك ، وَكَذَلِكَ مَا بَعْدَهُ كُلُّهُ بِالْكَافِ ، وَإِذَا كَتَبَ : هَذَا الْكِتَابُ مِنْ رَجُلٍ لِابْنِهِ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ أَنَّهُ بَاعَ مِنْهُ فَيَذْكُرُ هَذَا ، وَمَا بَعْدَهُ بِالْهَاءِ .
وَإِذَا اشْتَرَى رَجُلٌ دَارًا بِدَيْنٍ لَهُ عَلَى الْبَائِعِ كَتَبَ هَذَا كِتَابٌ لِفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ أَنَّهُ كَانَ لَك عَلَى هَذَا كَذَا دِرْهَمًا ، وَهُوَ جَمِيعُ مَا كَانَ لَك عَلَيَّ وَإِنِّي بِعْتُك بِذَلِكَ كُلِّهِ الدَّارَ الَّتِي فِي بَنِي فُلَانِ وَيُجْرِيهِ عَلَى الرَّسْمِ حَتَّى يَقُولَ : بِجَمِيعِ الدَّيْنِ الَّذِي لَك عَلَيَّ ، وَهُوَ كَذَا دِرْهَمًا وَلَا يَكْتُبُ ، وَقَدْ قَبَضْته مِنْك وَلَكِنْ يَكْتُبُ ، وَقَدْ بَرِئْت إلَيَّ مِنْ الثَّمَنِ كُلِّهِ ، وَلَمْ يَسْتَحْسِنْ بَعْضُ أَهْلِ الشُّرُوطِ هَذَا اللَّفْظَ أَيْضًا وَقَالُوا هَذَا إقْرَارٌ بِالْقَبْضِ ، وَفِي الشِّرَاءِ بِالدَّيْنِ يَسْقُطُ الدَّيْنُ إذَا تَمَّ الشِّرَاءُ إلَّا أَنْ يَصِيرَ الْمَدْيُونُ قَابِضًا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَابِضًا دَيْنَ الْغَيْرِ مِنْ نَفْسِهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَابِضًا دَيْنَ الْغَيْرِ مِنْ نَفْسِهِ لِلْغَيْرِ وَلَكِنْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَابِضًا لِنَفْسِهِ فَيَجْعَلَهُ قَابِضًا الثَّمَنَ لِنَفْسِهِ وَلَكِنْ قَبْضٌ حُكْمِيٌّ لَا حِسِّيٌّ فَيَكْتُبُ : وَقَدْ بَرِئْت إلَيَّ مِنْ الثَّمَنِ كُلِّهِ وَلَا يَكْتُبُ ، وَقَدْ قَبَضْته مِنْك ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ الْقَبْضِ الْحِسِّيِّ ثُمَّ يَكْتُبُ ، وَقَدْ قَبَضْت هَذِهِ الدَّارَ مِنِّي ، وَقَدْ بَرِئْت إلَيْك مِنْهَا وَبَرِئْت أَنَا مِمَّا كَانَ لَك عَلَيَّ مِنْ الدَّيْنِ وَهَذِهِ زِيَادَةٌ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا وَلَكِنْ مِنْ الْأَلْفَاظِ مَا جَرَى الرَّسْمُ بِذَكَرِهِ لِلتَّأْكِيدِ فَيَذْكُرُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ بَعْضَ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ كَمَا هُوَ عَادَةُ أَهْلِ الشُّرُوطِ ، فَإِنْ أَرَادَ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَنْ يَكْتُبَ بَرَاءَةً مِنْ الدَّيْنِ كَتَبَ هَذَا كِتَابٌ مِنْ فُلَانٍ أَنَّهُ كَانَ لِي عَلَيْك كَذَا ، وَهُوَ جَمِيعُ مَا كَانَ لِي عَلَيْك وَأَنَّك بِعْتنِي بِهِ دَارَ كَذَا وَقَبَضْتهَا مِنْك وَبَرِئْت إلَيَّ مِنْهُ فَمَا ادَّعَيْت قَبْلَك مِنْ دَعْوَى فِي هَذَا الدَّيْنِ أَوْ غَيْرِهِ بَعْدَ هَذِهِ الْبَرَاءَةِ فَإِنِّي فِيمَا ادَّعَيْت مِنْ ذَلِكَ مُبْطِلٌ وَأَنْتَ مِمَّا ادَّعَيْت مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ بَرِيءٌ وَهَذِهِ زِيَادَةُ
زِيَادَاتٍ لَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا ، وَلَمْ يَسْتَحْسِنْ بَعْضُ أَهْلِ الشُّرُوطِ قَوْلَهُ أَوْ غَيْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمُرَادُ غَيْرَ هَذَا الدَّيْنِ مِمَّا كَانَ وَاجِبًا لَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ مَا بَرِئَ مِنْ ذَلِكَ بِهَذَا الشِّرَاءِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ غَيْرَهُ مِمَّا يَجِبُ لَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ هَذَا الشِّرَاءِ فَهُوَ لَا يَبْرَأُ مِنْ ذَلِكَ بِهَذَا الشِّرَاءِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ غَيْرَهُ مِمَّا لَيْسَ بِوَاجِبٍ فَهُوَ مُبْطِلٌ فِي دَعْوَى ذَلِكَ كَتَبَ هَذَا أَوْ لَمْ يَكْتُبْ فَلَا فَائِدَةَ فِي هَذِهِ الزِّيَادَةِ وَلَكِنْ جَرَى الرَّسْمُ بِكَتْبِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ لِطُمَأْنِينَةِ الْقُلُوبِ .
وَإِذَا كَانَ الشِّرَاءُ مِنْ وَكِيلٍ كَتَبَ كِتَابَ الْوَكَالَةِ وَشَهَادَةَ الشُّهُودِ عَلَيْهَا عَلَى حِدَةٍ وَكَتَبَ كِتَابَ الشِّرَاءِ مِنْ الْوَكِيلِ بِاسْمِهِ مُجَرَّدًا وَجَعَلَ تَارِيخَهُ بَعْدَ تَارِيخِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ فَإِنَّ كِتَابَ الْوَكَالَةِ حُجَّةُ الْوَكِيلِ مِنْ وَجْهٍ وَكِتَابُ الشِّرَاءِ وَثِيقَةٌ لِلْمُشْتَرِي فَيَنْبَغِي أَنْ يُفْصَلَ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ ، وَإِنْ كَتَبَ الْكُلَّ فِي بَيَاضٍ وَاحِدٍ وَبَدَأَ بِكِتَابِ الْوَكَالَةِ ثُمَّ بِكِتَابِ الشِّرَاءِ فَهُوَ مُسْتَقِيمٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُمَا بِذَلِكَ يَحْصُلُ ، وَإِنَّمَا يَجْعَلُ تَارِيخَ كِتَابِ الشِّرَاءِ بَعْدَ تَارِيخِ كِتَابِ الْوَكَالَةِ ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْبَيْعِ تَنْبَنِي عَلَى صِحَّةِ الْوَكَالَةِ ، وَإِنَّمَا يَكْتُبُ كِتَابَ الشِّرَاءِ مِنْ الْوَكِيلِ بِاسْمِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِالْبَيْعِ بِمَنْزِلَةِ الْبَائِعِ لِنَفْسِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ عِنْدَ لُحُوقِ الْعُهْدَةِ إنَّمَا يُخَاصِمُ الْمُشْتَرِي الْوَكِيلَ خَاصَّةً وَلَا حَاجَةَ إلَى حَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ وَكِيلًا مِنْ قِبَلِ الْقَاضِي فِي بَيْعِ مَالِ الْمَيِّتِ أَوْ كَانَ وَصِيًّا لِمَيِّتٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا تَقَدَّمَ ؛ لِأَنَّ وَكِيلَ الْقَاضِي تَلْحَقُهُ الْعُهْدَةُ وَيُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْعَاقِدِ لِنَفْسِهِ وَالْوَصِيُّ كَذَلِكَ فَإِنَّ الْقَاضِيَ نَائِبٌ عَنْ الْمَيِّتِ فِي هَذَا التَّوْكِيلِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ تَوْكِيلِ الْمَيِّتِ إيَّاهُ فِي حَيَاتِهِ ، وَفِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ يَكْتُبُ اشْتَرَى مِنْهُ الدَّارَ الَّتِي فِي بَنِي فُلَانٍ وَلَا يَنْسُبُ الدَّارَ إلَى أَحَدٍ ؛ لِأَنَّ نِسْبَتَهَا إلَى الْعَاقِدِ تَكُونُ كَذِبًا فِي الْحَقِيقَةِ وَإِلَى غَيْرِهِ لَا يَكُونُ مُسْتَقِيمًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَجُزْ ذِكْرُ غَيْرِهِ فِي كِتَابِ الشِّرَاءِ .
وَإِذَا هَلَكَ صَكُّ الشِّرَاءِ فَطَلَبَ الْمُشْتَرِي مِنْ الْبَائِعِ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ كِتَابًا آخَرَ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكْتُبَ كِتَابَ الشِّرَاءِ كَمَا وَصَفْنَا وَيَكْتُبَ فِي آخِرِهِ وَقَدْ كُنْت كَتَبْت لَك هَذِهِ الدَّارَ شِرَاءً مِنِّي فِي صَكٍّ فَهَلَكَ ذَلِكَ وَسَأَلْتَنِي أَنْ أَشْهَدَ لَك عَلَى شِرَائِك هَذِهِ الدَّارِ مِنِّي فَكَتَبْتُ لَك هَذَا الْكِتَابَ وَأَشْهَدْتُ لَك عَلَيْهِ الشُّهُودَ الْمُسَمَّيْنَ فِي هَذَا الْكِتَابِ .
وَإِذَا ضَمِنَ رَجُلٌ لِلْمُشْتَرِي مَا أَدْرَكَهُ فِي الدَّارِ مِنْ دَرَكٍ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ فَعَلَى الضَّامِنِ رَدُّ الثَّمَنِ الَّذِي أَخَذَهُ الْبَائِعُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَةِ الْبِنَاءِ ؛ لِأَنَّهُ سَمَّى لَهُ فِي الضَّمَانِ الدَّرَكَ وَقِيمَةُ الْبِنَاءِ لَيْسَ بِضَمَانٍ فِي شَيْءٍ ، فَإِنْ صَرَّحَ بِهِ فِي الضَّمَانِ كَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِهِ ، وَإِنْ ذَكَرَ الدَّرَكَ خَاصَّةً لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِضَمَانِ قِيمَةِ الْبِنَاءِ ؛ لِأَنَّ رُجُوعَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ بِقِيمَةِ الْبِنَاءِ إنَّمَا يَكُونُ بِسَبَبِ الْغُرُورِ ، وَضَمَانُ الْغُرُورِ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الْعَيْبِ وَالْكَفِيلُ بِالدَّرَكِ لَا يَلْحَقُهُ شَيْءٌ بِسَبَبِ الْعَيْبِ فَكَذَلِكَ لَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الْبِنَاءِ وَلِأَنَّ الْبَائِعَ إنَّمَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الْبِنَاءِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يُمَلِّكُهُ النَّقْضَ إذَا رَجَعَ عَلَيْهِ ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ النَّقْضِ فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ قِيمَةِ الْبِنَاءِ ، وَإِنْ اسْتَحَقَّ مِنْ الدَّارِ سُدُسَهَا لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَرُدَّ مَا بَقِيَ ؛ لِأَنَّ التَّبْعِيضَ فِي الْأَمْلَاكِ الْمُجْتَمَعَةِ عَيْبٌ وَلَكِنَّهُ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْكَفِيلِ إلَّا بِسُدُسِ الثَّمَنِ ، وَهُوَ حِصَّةُ مَا اسْتَحَقَّ ؛ لِأَنَّ لُحُوقَ الدَّرَكِ كَانَ فِي ذَلِكَ الْجُزْءِ ، وَإِنَّمَا رَدَّ الْبَاقِي بِسَبَبِ الْعَيْبِ وَلَوْ رَدَّ الْكَفِيلُ بِالْعَيْبِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْكَفِيلِ بِشَيْءٍ مِنْ الثَّمَنِ وَلَوْ اسْتَحَقَّ الْكُلَّ رَجَعَ عَلَى الْكَفِيلِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ، فَإِذَا اسْتَحَقَّ الْبَعْضَ وَرَدَّ الْبَعْضَ يَجِبُ اعْتِبَارُ كُلِّ جُزْءٍ بِجُمْلَتِهِ .
وَإِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِلرَّجُلِ بِعْتُك هَذِهِ الدَّارِ كُلَّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمٍ عَلَى أَنَّهَا أَلْفُ ذِرَاعٍ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ بِبَيَانِ جُمْلَةِ الذُّرْعَانِ يَصِيرُ جُمْلَةُ الثَّمَنِ مَعْلُومًا وَلِأَنَّهُ سَمَّى بِمُقَابَلَةِ كُلِّ ذِرَاعٍ دِرْهَمًا ، وَإِنَّمَا يُذْرَعُ بِذِرَاعٍ وَسَطٍ ، وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى الذِّرَاعَ الْمُكَسَّرَةَ ؛ لِأَنَّ الذِّرَاعَ الْأَطْوَلَ ذِرَاعُ الْمِلْكِ وَلَكِنَّ النَّاسَ مَا اعْتَادُوا الذَّرْعَ بِهِ غَالِبًا وَمُطْلَقُ التَّسْمِيَةِ فِي الْعَقْدِ تَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ ، وَهُوَ الذِّرَاعُ الْوَسَطُ ، فَإِنْ ذَرَعَهَا وَوَجَدَهَا أَلْفَ ذِرَاعٍ فَهِيَ لَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ وَجَدَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ كَمَا شَرَطَ لَهُ ، وَإِنْ وَجَدَهَا أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ فَلَهُ الْخِيَارُ : إنْ شَاءَ أَخَذَهَا كُلَّ ذِرَاعٍ بِدِرْهَمِ ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ ؛ لِأَنَّهُ إنْ وَجَدَهَا أَقَلَّ فَقَدْ وَجَدَهَا أَضْيَقَ مِمَّا شَرَطَ لَهُ فِي الدَّارِ ، وَالسَّعَةُ فِي الدَّارِ مَقْصُودَةٌ فَبِتَغَيُّرِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي ، وَإِنْ وَجَدَهَا أَكْثَرَ فَلِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ زِيَادَةٌ فِي الثَّمَنِ ، وَهُوَ لَمْ يَرْضَ بِالْتِزَامِ هَذِهِ الزِّيَادَةِ فَرُبَّمَا لَا يَجِدُ مِنْ الْمَالِ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ فَهُوَ يَرْغَبُ فِي شِرَاءِ الدَّارِ بِهَا وَلَا يَرْغَبُ فِي شِرَائِهَا بِأَكْثَرَ مِنْ أَلْفٍ فَلِهَذَا يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ فِي الْوَجْهَيْنِ ، فَإِنْ اشْتَرَاهَا عَلَى أَنَّهَا أَلْفُ ذِرَاعٍ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَكَانَتْ أَلْفًا أَوْ أَكْثَرَ فَهِيَ لَازِمَةٌ لِلْمُشْتَرِي ؛ لِأَنَّهَا لَا تَلْزَمُهُ فِي الثَّمَنِ زِيَادَةٌ بِاعْتِبَارِ زِيَادَةِ الذَّرْعِ فَإِنَّهُ سَمَّى الثَّمَنَ جُمْلَةً بِمُقَابَلَةِ الدَّارِ وَالذَّرْعُ فِيهَا صِفَةٌ وَلَيْسَ بِمِقْدَارٍ ، وَإِنَّمَا يُقَابِلُ الثَّمَنُ الْعَيْنَ دُونَ الْوَصْفِ فَلَا يَزْدَادُ الثَّمَنُ بِزِيَادَةِ الْوَصْفِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَقَدْ جَعَلَ الذِّرَاعَ هُنَاكَ مَقْصُودًا حَتَّى سَمَّى بِإِزَاءِ كُلِّ ذِرَاعٍ دِرْهَمًا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ إذَا وَجَدَهَا
أَلْفَيْ ذِرَاعٍ فَلَوْ جَعَلْنَا الثَّمَنَ أَلْفًا كَانَ بِإِزَاءِ كُلِّ ذِرَاعٍ نِصْفُ دِرْهَمٍ ، وَهُوَ بِخِلَافِ مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْمُتَعَاقِدَانِ ، وَإِنْ وَجَدَهَا أَقَلَّ مِنْ أَلْفِ ذِرَاعٍ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ ؛ لِأَنَّهُ يُقِرُّ عَلَيْهِ شَرْطَهُ ، وَإِذَا أَخَذَهَا بِجَمِيعِ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ هُنَا بِمُقَابَلَةِ الْعَيْنِ وَبِنُقْصَانِ الذِّرَاعِ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ فِي الْوَصْفِ وَلَا يَسْقُطُ بِاعْتِبَارِهِ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى أَرْضًا مَعْلُومَةً عَلَى أَنَّهَا عِشْرُونَ جَرِيبًا وَعِشْرُونَ نَخْلَةً بِكَذَا دِرْهَمًا فَزَادَتْ الْأَرْضُ وَالنَّخْلُ فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي بِمَا سَمَّى ؛ لِأَنَّ النَّخْلَ صِفَةٌ فِي الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ الْبِنَاءِ حَتَّى أَنَّهَا تَدْخُلُ مِنْ غَيْرِ الذِّكْرِ وَزِيَادَةُ الصِّفَةِ لَا تُوجِبُ زِيَادَةً فِي الثَّمَنِ وَلَا تُثْبِتُ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي .
ثُمَّ بَعْدَ هَذَا ثَلَاثُ فُصُولٍ أَحَدُهَا أَنْ يَشْتَرِيَ بَرَاحَ أَرْضٍ فِيهَا نَخْلٌ مُطْلَقًا أَوْ يَشْتَرِيَهَا بِدُونِ النَّخْلِ أَوْ يَشْتَرِيَ النَّخْلَ الَّذِي فِيهَا دُونَهَا فَأَمَّا إذَا اشْتَرَاهَا مُطْلَقًا دَخَلَ فِي الْعَقْدِ مَا فِيهَا مِنْ النَّخْلِ وَالْأَشْجَارِ الْمُثْمِرَةِ وَغَيْرِ الْمُثْمِرَةِ وَالطَّرْفَاءِ وَالْحَطَبِ وَالْقَصَبِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْحُقُوقَ وَالْمَرَافِقَ وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقَصَبَ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ إلَّا بِذِكْرِ الْحُقُوقِ وَلَا خِلَافَ فِي قَصَبِ السُّكَّرِ وَالدَّرِيرَةِ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ بِدُونِ ذِكْرِ الْحُقُوقِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ رِيعِ الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ الزَّرْعِ وَلِهَذَا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ وَأَبُو يُوسُفَ أَلْحَقَ الْقَصَبَ الْفَارِسِيَّ بِقَصَبِ السُّكَّرِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُقْطَعُ إذَا أَدْرَكَ ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ الْقَصَبُ الْفَارِسِيُّ لَيْسَ مِنْ رِيعِ الْأَرْضِ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ يَدْخُلُ فِي الْبَيْعِ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ ، وَالثِّمَارُ الَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْأَشْجَارِ لَا تَدْخُلُ بِدُونِ ذِكْرِ الْحُقُوقِ وَالْمَرَافِقِ إلَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَعِنْدَ ذِكْرِ الْحُقُوقِ وَالْمَرَافِقِ يَدْخُلُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَدْخُلُ إلَّا بِالتَّنْصِيصِ عَلَيْهَا أَوْ بِذِكْرِ كُلِّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ هُوَ فِيهَا أَوْ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُولَ وَمِنْ حُقُوقِهَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ .
وَالزَّرْعُ الَّذِي فِي الْأَرْضِ لَا يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ بِدُونِ ذِكْرِ الْحُقُوقِ ، وَمَا عَلَيْهِ مِنْ الْحَمْلِ لَا يَدْخُلُ إلَّا بِذِكْرِ الْحُقُوقِ ؛ لِأَنَّ شَجَرَهُ لَا يُعَدُّ مِنْ زَرْعِ الْأَرْضِ وَلِهَذَا لَا يَجِبُ فِيهِ الْعُشْرُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ يُوجَدُ مِنْهُ جُمْلَةٌ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْطَعَ مِنْ أَصْلِهِ كَمَا يُؤْخَذُ الثَّمَرُ مِنْ الشَّجَرِ وَالْوَرْدُ مِنْ الشَّجَرَةِ فَكَمَا
أَنَّ شَجَرَ الْوَرْدِ وَالْيَاسَمِينِ يَدْخُلُ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ بِدُونِ ذِكْرِ الْحُقُوقِ وَلَا يَدْخُلُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْوَرْدِ وَالْيَاسَمِينِ فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ .
وَإِنْ اشْتَرَى الْأَرْضَ بِدُونِ النَّخْلِ فَالشِّرَاءُ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ النَّخْلَ فِي الْأَرْضِ بِمَنْزِلَةِ الْبِنَاءِ فَكَمَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ الْبِنَاءِ فِي الْأَرْضِ يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ النَّخْلِ ثُمَّ يَكْتُبُ أَنَّهُ اشْتَرَى الْبَرَاحَ بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ النَّخْلِ الَّتِي فِيهِ فِي مَوْضِعِ كَذَا ، وَهُوَ كَذَا نَخْلَةً فَإِنَّهَا لَمْ تَدْخُلْ فِيمَا اشْتَرَاهُ بِطَرِيقِهَا إلَى بَابِ الْبَرَاحِ ، وَإِنَّمَا يُسْتَثْنَى الطَّرِيقُ لِكَيْ لَا يَتَعَطَّلَ عَلَى الْبَائِعِ الِانْتِفَاعُ بِمِلْكِهِ الَّذِي اسْتَثْنَاهُ لِنَفْسِهِ ، وَهُوَ النَّخْلُ فَإِنَّ بِذِكْرِ النَّخْلِ يَصِيرُ مُسْتَثْنِيًا أُصُولَ النَّخْلِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ نَخْلًا إذَا كَانَتْ ثَابِتَةً عَلَى أُصُولِهَا فَأَمَّا بِدُونِ ذَلِكَ جُذُوعًا وَلِهَذَا لَوْ رَفَعَ الْبَائِعُ تِلْكَ النَّخْلَ كَانَ لَهُ أَنْ يَغْرِسَ فِي مَنَابِتِهَا نَخِيلًا آخَرَ أَوْ يَضَعَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أُسْطُوَانَةً أَوْ مَا أَحَبَّ .
وَإِنْ اشْتَرَى النَّخْلَ الَّذِي فِي الْأَرْضِ دُونَ الْأَرْضِ فَهُوَ جَائِزٌ بِمَنْزِلَةِ شِرَاءِ الْبِنَاءِ بِدُونِ الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّ مَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الْأَرْضِ يَجُوزُ إيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ مَقْصُودًا بِمَنْزِلَةِ الْجُزْءِ الشَّائِعِ ، وَمَا لَا يَجُوزُ إيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الْعَقْدِ بِمَنْزِلَةِ أَطْرَافِ الْعَبْدِ ثُمَّ يَكْتُبُ حُدُودَ الْبَرَاحِ فِي كِتَابِ الشِّرَاءِ وَحُدُودَ الْمَوْضِعِ الَّذِي فِيهِ النَّخْلُ وَيَكْتُبُ أَنَّهُ اشْتَرَى النَّخْلَ بِمَوَاضِعِهَا مِنْ الْأَرْضِ وَطَرِيقِهِ فِي الْبَرَاحِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَذْكُرْ : بِمَوَاضِعِهَا مِنْ الْأَرْضِ يَتَمَكَّنُ فِيهِ اخْتِلَافُ الرِّوَايَاتِ ، وَفِي النَّوَادِرِ يَذْكُرُ فِيهِ اخْتِلَافًا بَيْنَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي دُخُولِ مَوَاضِعِهَا مِنْ الْأَرْضِ عَلَى قَوْلَيْنِ أَحَدُهُمَا لَا يَدْخُلُ ؛ لِأَنَّهُ سَمَّى فِي الْعَقْدِ النَّخْلَ ، وَاسْمُ النَّخْلِ لَا يَتَنَاوَلُ الْأَرْضَ وَالنَّخْلُ تَبَعٌ لِلْأَرْضِ وَالْأَصْلُ لَا يَصِيرُ مَذْكُورًا بِذِكْرِ التَّبَعِ وَعَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ يَدْخُلُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى نَخْلًا إلَّا وَهُوَ ثَابِتٌ فِي الْأَرْضِ فَكَانَ دُخُولُهُ فِي الْأَرْضِ مِنْ ضَرُورَةِ مَا سَمَّاهُ فِي الْعَقْدِ فَلِهَذَا يَذْكُرُ مَوَاضِعَهَا مِنْ الْأَرْضِ حَتَّى لَا يَتَمَكَّنَ فِيهِ مُنَازَعَةٌ بَيْنَهُمَا ، وَلَمْ يَذْكُرْ هَذَا فِيمَا إذَا اشْتَرَى النَّخِيلَ وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ الْأَحْوَطُ أَنْ يَذْكُرَ ذَلِكَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَيَذْكُرَ طَرِيقَ النَّخْلِ فِي الْبَرَاحِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ الطَّرِيقَ بِدُونِ ذِكْرِ الْحُقُوقِ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْمُشْتَرِي مِنْ الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ وَيَذْكُرُ عَدَدَ النَّخَلَاتِ هُنَا ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مَقْصُودَةً بِالْعَقْدِ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهَا عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى بَيْنَهُمَا مُنَازَعَةٌ مَا بَعْدَ التَّسْلِيمِ وَالتَّسْلِيمُ لَا يَكُونُ إلَّا بِذِكْرِ عَدَدِ النَّخَلَاتِ وَرُبَّمَا يَقْلَعُ الْبَائِعُ بَعْضَهَا قَبْلَ التَّسْلِيمِ أَوْ يَسْتَحِقُّ بَعْضَهَا
فَيَسْقُطُ عَنْ الْمُشْتَرِي حِصَّةُ ذَلِكَ مِنْ الثَّمَنِ .
وَإِذَا اشْتَرَى أَرْضًا فِيهَا عُيُونُ النَّفْطِ وَالْغَازِ فَالْعَيْنُ تَدْخُلُ فِي الشِّرَاءِ عِنْدَنَا ، وَمَا هُوَ حَاصِلٌ مِنْ النَّفْطِ وَالْغَازِ لَا يَدْخُلُ إلَّا بِذِكْرٍ ؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الرِّيعِ لِلْأَرْضِ وَأَمَّا الْعَيْنُ فَهِيَ جُزْءٌ مِنْ الْأَرْضِ فَتَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ بِدُونِ ذِكْرٍ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَاءِ الَّذِي فِي الْبِئْرِ فَإِنَّهُ لَا يَدْخُلُ ذَلِكَ فِي شِرَاءِ الْأَرْضِ وَالدَّارِ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ قَبْلَ الْإِحْرَازِ لَا يَكُونُ مَمْلُوكًا لِأَحَدٍ فَلَا يَتَنَاوَلُهُ الْبَيْعُ ذُكِرَ أَوْ لَمْ يُذْكَرْ بِخِلَافِ النَّفْطِ وَالْغَازِ فَإِنَّهُ مَالٌ مَمْلُوكٌ بِمَنْزِلَةِ الْمِلْحِ فِي الْمَمْلَحَةِ ، وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ الْعَيْنُ لَا تَدْخُلُ فِي بَيْعِ الْأَرْضِ بِدُونِ الذِّكْرِ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْأَرْضِ يَتَنَاوَلُ الْمَوْضِعَ الَّذِي يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ بِالزِّرَاعَةِ أَوْ السُّكْنَى وَالْعَيْنُ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ فَلَا تَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ بِدُونِ الذِّكْرِ فَلِلتَّحَرُّزِ عَنْ هَذَا الْخِلَافِ ذَكَرَ أَنَّهُ يَكْتُبُ اشْتَرَى مِنْهُ الْأَرْضَ الَّتِي يُقَالُ لَهَا كَذَا وَالْعُيُونَ الَّتِي فِيهَا الْغَازُ وَالنَّفْطُ ، أَحَدُ حُدُودِ هَذِهِ الْأَرْضِ الَّتِي فِيهَا الْعُيُونُ اشْتَرَى مِنْهُ هَذِهِ الْأَرْضَ الْمَحْدُودَةَ فِي كِتَابِنَا هَذَا وَالْعُيُونَ الَّتِي فِيهَا النَّفْطُ وَالْغَازُ ، وَمَا فِي الْعُيُونِ مِنْ النَّفْطِ وَالْغَازِ بِحُدُودِهَا كُلِّهَا .
وَإِذَا قَالَ الْمُشْتَرِي لِلشَّفِيعِ : أَنَا أَبِيعُكَهَا بِمَا اشْتَرَيْتهَا بِهِ فَقَالَ : قَدْ قَبِلْت ذَلِكَ فَأَبَى الْمُشْتَرِي بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يُعْطِيَهُ فَلَا شُفْعَةَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَظْهَرَ الرَّغْبَةَ فِي شِرَاءٍ مُسْتَقْبَلٍ وَذَلِكَ يَتَضَمَّنُ إسْقَاطَ حَقِّهِ فِي الشُّفْعَةِ وَلَا يَتِمُّ الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا بِمَا جَرَى مِنْ اللَّفْظِ ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الْبَيْعِ بِلَفْظَيْنِ هُمَا عِبَارَةٌ عَنْ الْمَاضِي وَقَوْلُ الْمُشْتَرِي : أَبِعْتهَا عِبَارَةٌ عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ فَهُوَ وَعْدٌ لَا إيجَابٌ ، وَالْمَوَاعِيدُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ .
وَإِذَا اقْتَسَمَ الْقَوْمُ دَارًا فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَكْتُبُوا لِلْقِسْمَةِ بَيْنَهُمْ كِتَابًا ؛ لِأَنَّ فِي قِسْمَةِ الدَّارِ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُسَلِّمُ لِأَصْحَابِهِ بَعْضَ مِلْكِهِ عِوَضًا عَمَّا يَأْخُذُ مِنْهُمْ مِنْ أَنْصِبَائِهِمْ وَالْقِسْمَةُ تَكُونُ مُسْتَدَامَةً بَيْنَهُمْ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ مِنْهُمْ الْوَثِيقَةَ ، وَصِفَةُ ذَلِكَ : هَذَا مَا اقْتَسَمَ عَلَيْهِ فُلَانٌ وَفُلَانٌ وَفُلَانَةُ بَنُو فُلَانٍ اقْتَسَمُوا الدَّارَ الَّتِي هِيَ فِي بَنِي فُلَانٍ أَحَدُ حُدُودِهَا وَالرَّابِعُ اقْتَسَمُوهَا عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ - تَعَالَى - وَكَانَ ذَرْعُ جَمِيعِ هَذَا الدَّارِ كَذَا ذِرَاعًا مُكَسَّرَةً ، وَكَانَ جَمِيعُ الَّذِي لِفُلَانٍ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ بِكُلِّ حَقٍّ هُوَ لَهُ كَذَا ذِرَاعًا مُكَسَّرَةً فَأَصَابَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الْقِسْمَةِ فِي مَوْضِعِ كَذَا مِنْ هَذِهِ الدَّارِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ نَرَى أَنْ يَكْتُبَ مَا أَصَابَهُ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِ كَذَا مِنْ هَذِهِ الدَّارِ أَحَدُ حُدُودِ الَّذِي أَصَابَهُ كَذَا وَالرَّابِعُ ، وَهَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُخَالِفُهُمَا فِي تَحْدِيدِ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِنْدَ الْقِسْمَةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فِي مَعْنَى الْمُشْتَرِي لِذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَقَبْلَ هَذِهِ الْقِسْمَةِ كَانَ حَقُّهُ شَائِعًا فِي جَمِيعِ الدَّارِ ، وَقَدْ تَعَيَّنَ الْآنَ فِي مَوْضِعٍ مِنْهَا فَلَا بُدَّ مِنْ تَحْدِيدِ الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَتَّى يَصِيرَ مَعْلُومًا بِذِكْرِ الْحُدُودِ فَيَتِمُّ الْكِتَابُ وَتَنْقَطِعُ الْمُنَازَعَةُ .
وَإِذَا كَانَ الْحَائِطُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ نِصْفَيْنِ وَلِأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ خَشَبٌ كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَضَعَ عَلَيْهِ مِنْ الْخَشَبِ مِثْلَ مَا وَضَعَ صَاحِبُهُ ؛ لِأَنَّهُمَا لَمَّا اسْتَوَيَا فِي أَصْلِ الْمِلْكِ يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَوِيَا فِي الِانْتِفَاعِ بِالْمَمْلُوكِ ، فَالِانْتِفَاعُ بِالْحَائِطِ مِنْ حَيْثُ وَضَعُ الْخَشَبِ فَلِلشَّرِيكِ أَنْ يَضَعَ عَلَيْهِ مِنْ الْخَشَبِ مِثْلَ مَا وَضَعَ صَاحِبُهُ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ شَيْئًا مِنْ خَشَبِ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ ضَرَرًا بِصَاحِبِهِ مِنْ حَيْثُ هَدْمُ الْبِنَاءِ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا لَهُ حَقُّ الِانْتِفَاعِ بِالْمِلْكِ الْمُشْتَرَى وَلَا يَكُونُ لَهُ حَقُّ الْإِضْرَارِ بِشَرِيكِهِ وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ الْحَائِطُ بِحَيْثُ يَحْتَمِلُ مِثْلَ ذَلِكَ الْخَشَبِ أَنْ لَوْ وَضَعَهُ عَلَيْهِ .
فَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ ذَلِكَ ، وَهُمَا مُتَصَادِقَانِ فِي أَنَّ أَصْلَ الْحَائِطِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَأْمُرَ صَاحِبَهُ بِرَفْعِ بَعْضِ الْخَشَبِ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ مِنْ الْخَشَبِ مِثْلَ مَا يَبْقَى لِصَاحِبِهِ مَا يَحْتَمِلُهُ الْحَائِطُ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ إنْ وَضَعَ الزِّيَادَةَ بِغَيْرِ إذْنِ الشَّرِيكِ فَهُوَ غَاصِبٌ ، وَإِنْ وَضَعَهَا عَلَيْهِ بِإِذْنِهِ فَالشَّرِيكُ مُعِيرٌ نَصِيبَهُ مِنْ الْحَائِطِ مِنْهُ وَلِلْمُعِيرِ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْعَارِيَّةَ وَإِنْ أَرَادَ أَحَدُهُمَا أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهِ خَشَبَةً وَاحِدَةً عَلَى صَاحِبِهِ أَوْ بِفَتْحِ كُوَّةٍ أَوْ يَتَّخِذَ عَلَيْهِ سُتْرَةً أَوْ يَفْتَحَ فِيهِ بَابًا لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَصَرُّفٌ فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لَا يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَى ، وَإِنَّمَا يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً ، وَهَذِهِ التَّصَرُّفَاتُ لَمْ تَكُنْ فِي نَصِيبِهِ خَاصَّةً ، وَلِأَنَّ فِي هَذَا التَّصَرُّفِ ضَرَرًا مِنْ حَيْثُ تَوْهِينُ الْبِنَاءِ أَوْ زِيَادَةُ الْحَمْلِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ وِلَايَةُ إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِشَرِيكِهِ ؛ فَلِهَذَا كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ هَذِهِ
التَّصَرُّفَاتِ إلَّا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ .
وَإِذَا انْهَدَمَ الْحَائِطُ فَقَالَ أَحَدُهُمَا نَبْنِيهِ كَمَا كَانَ وَنَضَعُ عَلَيْهِ جُذُوعَنَا كَمَا كَانَتْ وَأَبَى الْآخَرُ لَمْ يُجْبَرْ الْآخَرُ عَلَى الْبِنَاءِ مَعَهُ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي الْبِنَاءِ إلَى الْإِنْفَاقِ بِمَالِهِ وَالْإِنْسَانُ لَا يُجْبَرُ عَلَى إتْلَافِ مَالِهِ فِي مِثْلِ ذَلِكَ فَإِنَّ صَاحِبَ الشَّرْعِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَمَّ الْإِنْفَاقَ فِي الْبِنَاءِ فَقَالَ { شَرُّ الْمَالِ مَا تُنْفِقُهُ فِي الْبُنْيَانِ } وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ { إنَّمَا يُتْلِفُ الْمَالَ الْحَرَامُ الرِّبَا وَالْبِنَاءُ } فَلِهَذَا لَا يُجْبَرُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ طَلَبِ الْآخَرِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ إنَّمَا يُجْبَرُ الْآخَرُ عِنْدَ طَلَبِ أَحَدِهِمَا عَلَى قِسْمَةِ الْمُشْتَرَكِ وَلَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمَا فِيمَا يُنْفِقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْبِنَاءِ مِنْ مِلْكِ نَفْسِهِ ، فَإِنْ قَالَ الطَّالِبُ : أَنَا أَبْنِيهِ بِنَفَقَتِي ، وَأَضَعُ عَلَيْهِ جُذُوعِي كَمَا كَانَتْ فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يُنْفِقُ مَالَهُ يَتَوَصَّلُ إلَى الِانْتِفَاعِ بِمِلْكِهِ ، وَلَا ضَرَرَ عَلَى شَرِيكِهِ فِي ذَلِكَ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ ، وَإِذَا مَنَعَهُ شَرِيكُهُ مِنْ ذَلِكَ يَكُونُ مُتَعَنِّتًا قَاصِدًا إلَى الْإِضْرَارِ بِهِ فَلَا يُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ ، فَإِنْ فَعَلَهُ فَأَرَادَ الْآخَرُ أَنْ يَضَعَ عَلَيْهِ جُذُوعَهُ ، كَمَا كَانَتْ فَلَهُ ذَلِكَ بَعْدَ مَا يَرُدُّ عَلَيْهِ نِصْفَ قِيمَةِ الْبِنَاءِ ؛ لِأَنَّ الْبِنَاءَ مِلْكُ الثَّانِي ، فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ صَاحِبَهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهِ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ نِصْفَ قِيمَتِهِ ، فَإِذَا رَدَّ ذَلِكَ يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا عَلَيْهِ نِصْفَ الْبِنَاءِ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ ، وَهُوَ نَظِيرُ الْعُلْوِ وَالسُّفْلِ إذَا انْهَدَمَا فَأَبَى صَاحِبُ السُّفْلِ أَنْ يَبْنِيَهُ كَانَ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ أَنْ يَبْنِيَ السُّفْلَ وَيَبْنِيَ فَوْقَهُ بَيْتَهُ ثُمَّ يَمْنَعَ صَاحِبَ السُّفْلِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِسُفْلِهِ حَتَّى يَرُدَّ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْبِنَاءِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الدَّعْوَى إشَارَةً هُنَا إلَى أَنَّهُ
اسْتِحْسَانٌ ، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْقِيَاسِ أَنْ يَبْنِيَ السُّفْلَ ؛ لِأَنَّهُ يَضَعُ الْبِنَاءَ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْغَيْرِ فِي وَضْعِ الْبِنَاءِ فِي مِلْكِهِ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ ذَلِكَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْهُ فَإِنَّهُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى بِنَاءِ عُلْوِهِ وَالِانْتِفَاعِ بِهِ مَا لَمْ يَبْنِ السُّفْلَ ، وَهَذَا الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ فِي الْحَائِطِ الْمُشْتَرَكِ أَيْضًا .
وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَاقْتَسَمَاهَا عَلَى نِصْفَيْنِ وَبَاعَ أَحَدُهُمَا حِصَّتَهُ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ حِصَّةُ الْآخَرِ قَالَ : يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ مَا بَاعَ يَعْنِي بِنِصْفِ قِيمَةِ مَا بَاعَ ؛ لِأَنَّ مَا أَخَذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَإِنَّمَا أَخَذَ نِصْفَهُ بِقَدِيمِ مِلْكِهِ وَنِصْفَهُ عِوَضًا عَمَّا سَلَّمَ لِصَاحِبِهِ مِنْ نَصِيبِهِ ، فَكَأَنَّهُ مَلَكَ ذَلِكَ عَلَى صَاحِبِهِ مِنْ جِهَةِ الْمُعَاوَضَةِ فَحِينَ اُسْتُحِقَّتْ حِصَّةُ أَحَدِهِمَا فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ نِصْفَ مَا أَخَذَهُ عِوَضًا عَمَّا هُوَ مُسْتَحَقٌّ ، وَبَدَلُ الْمُسْتَحَقِّ يُمْلَكُ بِالْقَبْضِ ، وَيَنْفُذُ تَصَرُّفُ الْقَابِضِ فِيهِ بِالْبَيْعِ ثُمَّ بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّهُ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ رَدُّ عَيْنِهِ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ مِلْكِهِ فَيَرُدُّ نِصْفَ قِيمَتِهِ لِهَذَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَاعَ رَجَعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ مَا فِي يَدِهِ مِنْ الدَّارِ ؛ لِأَنَّ الْمُعَاوَضَةَ قَدْ بَطَلَتْ بِالِاسْتِحْقَاقِ وَلِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَحَقَّ نَصِيبَ أَحَدِهِمَا فَقَدْ بَطَلَتْ الْقِسْمَةُ ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ بَيْنَهُمَا النِّصْفُ الَّذِي هُوَ فِي يَدِ الْآخَرِ فَرَجَعَ عَلَيْهِ شَرِيكُهُ بِنِصْفِ ذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يُسْتَحَقَّ إلَّا بَيْتٌ وَاحِدٌ أُعِيدَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى مَا بَقِيَ نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ بِاسْتِحْقَاقِ بَيْتٍ وَاحِدٍ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ كَانَ لَهُمَا فِي الدَّارِ شَرِيكًا فِي الْبِنَاءِ وَالْقِسْمَةُ لَا تَصِحُّ بِدُونِ رِضَاهُ ؛ لِأَنَّ فِيمَا يَخُصُّ الْبَيْتَ الْقِسْمَةُ تَبْطُلُ فَلَوْ بَقِيَتْ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ تَضَرَّرَ بِهِ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَتَفَرَّقُ نَصِيبُهُ فِي مَوْضِعَيْنِ وَالْقِسْمَةُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ فَلِهَذَا تُعَادُ الْقِسْمَةُ عَلَى مَا بَقِيَ نِصْفَيْنِ .
وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَاقْتَسَمَاهَا فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا الثُّلُثَ مِنْ مُقَدَّمِهَا بِجَمِيعِ نَصِيبِهِ وَأَخَذَ الْآخَرُ الثُّلُثَيْنِ مِنْ مُؤَخَّرِهَا بِنَصِيبِهِ ، وَبَاعَ صَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ نِصْفُ الثُّلُثِ قَالَ : يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ بِرُبُعِ قِيمَةِ الثُّلُثَيْنِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الثُّلُثَيْنِ ، وَيَكُونُ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّ قَوْلَ مُحَمَّدٍ مَعَ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَصْلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ أَنَّ بِاسْتِحْقَاقِ نِصْفِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا تَبْطُلُ الْقِسْمَةُ فِيمَا بَقِيَ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ فَإِنَّ ابْنَ سِمَاعَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَتَبَ إلَى مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَسْأَلُهُ عَنْ قَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَكَتَبَ إلَيْهِ فِي جَوَابِهِ أَنَّ قَوْلَهُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَبْطُلُ الْقِسْمَةُ بِاسْتِحْقَاقِ نِصْفِ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : لَوْ لَمْ يَبِعْ صَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ لَكَانَتْ الْقِسْمَةُ تَبْقَى وَيَتَخَيَّرُ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ رَدَّ مَا بَقِيَ فَتَبْطُلُ الْقِسْمَةُ فِي الْكُلِّ ، وَإِنْ شَاءَ أَمْضَى الْقِسْمَةَ وَرَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِرُبُعِ الثُّلُثَيْنِ ، فَإِذَا بَاعَ نَصِيبَهُ فَقَدْ تَعَذَّرَ نَقْضُ الْقِسْمَةِ لِإِخْرَاجِهِ نَصِيبَهُ مِنْ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ ، فَإِنَّمَا يَرْجِعُ صَاحِبُ الثُّلُثِ عَلَيْهِ بِمَا يَخُصُّ بِهِ الْمُسْتَحِقَّ مِنْ الثُّلُثَيْنِ وَلَوْ اسْتَحَقَّ جَمِيعَ نَصِيبِهِ رَجَعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الثُّلُثَيْنِ ، فَإِذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَ نَصِيبِهِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِرُبُعِ قِيمَةِ الثُّلُثَيْنِ وَعَلَى قَوْلِ
أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقِسْمَةُ تَبْطُلُ بِظُهُورِ شَرِيكٍ ثَالِثٍ لَهُمَا فِي الدَّارِ ، وَلَكِنَّ إخْرَاجَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ كَانَ صَحِيحًا فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقِيمَةِ نَصِيبِهِ مِنْ ذَلِكَ ، وَهُوَ نِصْفُ قِيمَةِ الثُّلُثَيْنِ ، وَيَكُونُ مَا بَقِيَ مِنْ الثُّلُثِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عَلَى أَصْلِ الشَّرِكَةِ .
وَلَوْ كَانَ عِشْرُونَ جَرِيبَ أَرْضٍ بَيْنَ رَجُلَيْنِ نِصْفَيْنِ فَاقْتَسَمَا فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا خَمْسَةَ عَشَرَ جَرِيبًا تُسَاوِي أَلْفَ دِرْهَمٍ ، وَأَخَذَ الْآخَرُ خَمْسَةَ أَجْرِبَةٍ تُسَاوِي أَلْفَ حِصَّتِهِ فَبَاعَ صَاحِبُ الْخَمْسَةَ عَشَرَ مَا فِي يَدِهِ وَاسْتَحَقَّ نِصْفَ مَا فِي يَدِ الْآخَرِ قَالَ : يَرُدُّ صَاحِبُ الْخَمْسَةَ عَشَرَ رُبُعَ قِيمَةِ مَا كَانَ فِي يَدِهِ عَلَى الْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَحَقَّ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ قِيمَةِ مَا فِي يَدِهِ فَإِنَّ بَدَلَ الْمُسْتَحَقِّ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ فَكَانَ بَيْعُهُ نَافِذًا فِيهِ ، فَإِذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَهُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِرُبُعِ قِيمَةِ مَا كَانَ فِي يَدِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ مَا أَخَذَهُ الْبَائِعُ كَانَ نِصْفُهُ لَهُ بِقَدِيمِ مِلْكِهِ ، وَأَخَذَ نِصْفَهُ مِنْ نَصِيبِ شَرِيكِهِ عِوَضًا عَمَّا سَلَّمَ لِصَاحِبِهِ مِنْ نَصِيبِهِ فِي الْخَمْسَةَ عَشَرَ الْأَجْرِبَةِ ، وَقَدْ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْخَمْسَةَ شَائِعًا فِيمَا كَانَ لِلْمُسْتَحَقِّ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ قَدِيمِ مِلْكِهِ ، وَفِيمَا أَخَذَهُ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِرُبُعِ قِيمَةِ مَا فِي يَدِهِ .
وَلَوْ كَانَتْ الْأَرْضُ خَمْسَةَ عَشَرَ جَرِيبًا بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا فَأَخَذَ صَاحِبُ الثُّلُثِ سَبْعَةَ أَجْرِبَةٍ بِحِصَّةٍ قِيمَتُهَا خَمْسُمِائَةٍ ، وَأَخَذَ صَاحِبُ الثُّلُثَيْنِ ثَمَانِيَةَ أَجْرِبَةٍ بِحِصَّةٍ قِيمَتُهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ فَبَاعَ صَاحِبُ الثُّلُثِ وَاسْتَحَقَّ نِصْفَ مَا فِي يَدِ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ وَبَاعَ مَا بَقِيَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِ الثُّلُثِ بِثُلُثِ قِيمَةِ مَا كَانَ فِي يَدِهِ وَذَلِكَ مِائَةٌ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ ، وَقَدْ سَلَّمَ لَهُ مِمَّا كَانَ فِي يَدِهِ خَمْسَمِائَةٍ فَجُمْلَةُ ذَلِكَ سِتُّمِائَةٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ وَثُلُثَانِ ، وَإِنَّمَا سَلَّمَ لِصَاحِبِ الثُّلُثِ ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ وَثُلُثًا وَبِالِاسْتِحْقَاقِ تَبَيَّنَ أَنَّ قِيمَةَ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا كَانَ أَلْفَ دِرْهَمٍ ، فَإِذَا سَلَّمَ لِصَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ مَا يُسَاوِي ثُلُثَيْ الْأَلْفِ وَلِلْآخَرِ مَا يُسَاوِي ثُلُثَ الْأَلْفِ اسْتَقَامَتْ الْقِسْمَةُ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ اسْتَحَقَّ جَمِيعَ مَا فِي يَدِ صَاحِبِ الثُّلُثَيْنِ رَجَعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِثُلُثَيْ قِيمَةِ مَا كَانَ فِي يَدِهِ ، فَإِذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَهُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ ذَلِكَ ، وَهُوَ ثُلُثُ قِيمَةِ مَا كَانَ فِي يَدِهِ وَلِأَنَّ مَا أَخَذَهُ صَاحِبُ الثُّلُثِ ، فَإِنَّمَا سَلَّمَ ثُلُثَهُ لَهُ بِقَدِيمِ مِلْكِهِ وَثُلُثَيْهِ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ ، وَقَدْ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الْعِوَضِ فَرَجَعَ بِمَا هُوَ عِوَضُ الْمُسْتَحِقِّ ، وَهُوَ ثُلُثُ قِيمَةِ مَا كَانَ فِي يَدِهِ ، وَفِي جَمِيعِ هَذِهِ الْفُصُولِ إذَا كَتَبَ الْكَاتِبُ بَيْنَهُمَا كِتَابَ الْقِسْمَةِ يَنْبَغِي أَنْ يُبَيِّنَ كَيْفِيَّةَ الْقِسْمَةِ بَيْنَهُمَا إنْ وَقَعَتْ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بَيَّنَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ ، وَإِنْ كَانَتْ بِتَرَاضِيهِمَا بَيَّنَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْقِسْمَةِ بِقَضَاءٍ أَوْ غَيْرِ قَضَاءٍ حَتَّى إنَّ فِي الْقِسْمَةِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي إذَا ظَهَرَ الْعَيْبُ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا تُرَدُّ الْقِسْمَةُ ، وَالْقِسْمَةُ بِالتَّرَاضِي لَا تُرَدُّ لِمَكَانِ الْعَيْبِ فَلِهَذَا يَنْبَغِي أَنْ يُبَيِّنَ صِفَةَ
الْقِسْمَةِ فِيمَا بَيْنَهُمَا .
وَإِذَا كَانَتْ الدَّرَاهِمُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ وَهِيَ مَوْضُوعَةٌ عِنْدَ أَحَدِهِمَا فَقَالَ لَهُ الْآخَرُ : اقْسِمْ مَا عِنْدَكَ فَأَعْطِنِي حِصَّتِي فَأَعْطَاهُ حِصَّتَهُ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ قِسْمَةٌ تَمَّتْ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَتَمَامُهَا بِدَفْعِ نَصِيبِ صَاحِبِهِ إلَيْهِ وَإِمْسَاكِهِ حِصَّةَ نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ أَخْذِهِ ابْتِدَاءً بِحُكْمِ الْقِسْمَةِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِدَامَةَ فِيمَا يُسْتَدَامُ بِمَنْزِلَةِ الْإِنْسَانِ ، وَإِنْ قَالَ خُذْ حِصَّتَك وَدَعْ مَا بَقِيَ حَتَّى أَقْبِضَهَا فَأَخَذَ حِصَّتَهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ قِسْمَةً حَتَّى لَوْ هَلَكَ مَا بَقِيَ كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ صَاحِبِهِ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لَا تَتِمُّ بِالْوَاحِدِ فَإِنَّ تَمَامَهَا بِالْحِيَازَةِ ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَيْنَ اثْنَيْنِ فَكَانَ شَرْطُ سَلَامَةِ الْمَقْبُوضِ لِلْقَابِضِ أَنْ يُسَلِّمَ مَا بَقِيَ لِلْآخَرِ ، فَإِذَا هَلَكَ فَقَدْ انْعَدَمَ الشَّرْطُ ، فَكَانَ مَا هَلَكَ مِنْ النَّصِيبَيْنِ ، وَمَا بَقِيَ مِنْ النَّصِيبَيْنِ .
وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ لِقَوْمٍ وَأَحَدُهُمْ شَاهِدٌ ، وَالْآخَرُونَ غُيَّبٌ ، فَأَرَادَ الشَّاهِدُ أَنْ يُسْكِنَهَا إنْسَانًا أَوْ يُؤَاجِرَهَا إيَّاهُ فَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ - تَعَالَى - لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَكُونُ مُعِيرًا أَوْ مُؤَجِّرًا نَصِيبَ شُرَكَائِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ ، وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِمْ وَكَمَا لَا يَتَصَرَّفُ فِي عَيْنِ مِلْكِهِمْ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ لَا يَتَصَرَّفُ فِي مَنْفَعَةِ مِلْكِهِمْ أَيْضًا ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ بِالْإِسْكَانِ وَالْإِجَارَةِ إلَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ ، وَالْقِسْمَةُ لَا تَتِمُّ بِالْوَاحِدِ ، وَأَمَّا فِي الْقَضَاءِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ خَصْمٌ يُخَاصِمُهُ لَمْ يَحُلْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لِفَصْلِ الْخُصُومَةِ لَا لِإِنْشَائِهَا ، وَإِذَا لَمْ يَحْضُرْ خَصْمٌ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ صَاحِبَ الْيَدِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيمَا فِي يَدِهِ بِالْإِسْكَانِ وَالْإِجَارَةِ ، وَلَكِنَّهُ إذَا عَلِمَ حَقِيقَةَ الْحَالِ أَفْتَاهُ بِالْكَفِّ عَنْ ذَلِكَ كَمَا يُفْتِيهِ بِهِ غَيْرُهُ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَسْكُنَهَا بِنَفْسِهِ فَفِي الْقِيَاسِ يُمْنَعُ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَوْفِيًا مَنْفَعَةَ نَصِيبِ شُرَكَائِهِ ، وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ ذَلِكَ شَرْعًا .
( أَلَا تَرَى ) لَوْ كَانُوا حَضَرُوا مَنَعُوهُ مِنْ ذَلِكَ ، فَإِذَا كَانُوا غُيَّبًا لَمْ يَبْطُلْ حَقُّهُمْ بِغَيْبَتِهِمْ ، فَكَانَ هُوَ مَمْنُوعًا مِنْ ذَلِكَ شَرْعًا ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يُرَخَّصُ لَهُ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ رَضُوا جَمِيعَ الدَّارِ فِي يَدِهِ وَلَيْسَ فِي سُكْنَاهُ إلَّا إثْبَاتُ الْيَدِ إلَيْهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مَنْ لَا يَضْمَنُ الْعَقَارَ بِالْيَدِ لَا يَضْمَنُهُ بِالسُّكْنَى أَيْضًا ؛ لِأَنَّ فِي سُكْنَاهُ مَنْفَعَةً لِشُرَكَائِهِ ؛ لِأَنَّ الدَّارَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا سَاكِنٌ فَإِنَّهَا تَخْرَبُ ، وَإِذَا سَكَنَهَا إنْسَانٌ كَانَتْ عَامِرَةً فَفِي هَذَا التَّصَرُّفِ مَنْفَعَةٌ لِشُرَكَائِهِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ ، فَإِنَّهُ بِالْإِسْكَانِ يُثْبِتُ يَدَ غَيْرِهِ عَلَى
الدَّارِ ، وَلَمْ يَرْضَ بِهِ شُرَكَاؤُهُ فَرُبَّمَا لَا يَتَمَكَّنُونَ إذَا حَضَرُوا مِنْ إرْجَاعِهِ وَاسْتِرْدَادِ أَنْصِبَائِهِمْ ، وَإِنْ أَجَرَهَا الْحَاضِرُ ، وَأَخَذَ الْآخَرُ حِصَّةَ نَصِيبِهِ مِنْ ذَلِكَ تَطِيبُ لَهُ ، وَحِصَّةُ نَصِيبِ شُرَكَائِهِ لَا تَطِيبُ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ يُؤَاجِرُ فِي حِصَّتِهِمْ فَلَا يَطِيبُ لَهُ الْأَجْرُ وَلَكِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ حَصَلَ لَهُ بِسَبَبٍ خَبِيثٍ ، وَيُعْطِي ذَلِكَ شُرَكَاءَهُ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّ تَمَكُّنَ الْخُبْثِ كَانَ لِمُرَاعَاةِ حَقِّهِمْ فَيَرْتَفِعُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي كِتَابِ الْغَصْبِ .
وَإِذَا بَاعَ الرَّجُلُ الْأَرْضَ لِيَزْرَعَهَا كَتَبَ إنَّك أَطْعَمْتنِي أَرْضَ كَذَا لِأَزْرَعَ فِيهَا مَا بَدَا لِي مِنْ غَلَّةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا كَتَبَ عَارِيَّةً فَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ يَكْتُبَ أَطْعَمْتَنِي ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ بِالْإِعَارَةِ يُجْعَلُ لَهُ مَنْفَعَةُ الْأَرْضِ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَالْعَارِيَّةُ اسْمٌ مَوْضُوعٌ لِتَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَمَا أَنَّ اسْتِعْمَالَ هَذَا اللَّفْظِ أَوْلَى مِنْ اسْتِعْمَالِ غَيْرِهِ مِمَّا لَمْ يُوضَعْ لِتَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ فِي الْأَصْلِ ، وَهُوَ نَظِيرُ إعَارَةِ الدَّارِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْأَعْيَانِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ : لَوْ كَتَبَ أَعَرْتنِي كَانَ الْمَفْهُومُ مِنْهُ الِانْتِفَاعَ بِهَا مِنْ حَيْثُ السُّكْنَى ، وَإِذَا كَتَبَ أَطْعَمْتنِي كَانَ الْمَفْهُومُ التَّمَكُّنَ مِنْ الزِّرَاعَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ لَا يُطْعَمُ عَيْنُهَا ، وَإِنَّمَا يُطْعَمُ مَا يَكُونُ مِنْهَا ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالزِّرَاعَةِ ، وَإِذَا كَانَتْ الْإِعَارَةُ لِلسُّكْنَى فَلَفْظُ الْإِعَارَةِ أَقْرَبُ فِي بَيَانِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ ، وَإِذَا كَانَتْ الْإِعَارَةُ لِلزِّرَاعَةِ فَلَفْظُ الطُّعْمَةِ أَقْرَبُ إلَى بَيَانِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي كُلِّ فَصْلٍ مَا هُوَ دَلِيلٌ عَلَى الْمَقْصُودِ ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَالَ :
وَخَرَاجُهَا عَلَى رَبِّهَا ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ النَّامِيَةِ ، وَجَوَابُهُ يَعْتَمِدُ التَّمَكُّنَ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ وَبِالْإِعَارَةِ لَا يَزُولُ تَمَكُّنُهُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِهَا ، وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهَا الْمُسْتَعِيرُ بِتَسْلِيطِ الْمُعِيرِ فَهُوَ كَانْتِفَاعِ الْمُعِيرِ بِهَا بِنَفْسِهِ ، فَإِنْ اشْتَرَطَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ أَدَاءَ الْخَرَاجِ ؛ فَبِهَذَا الشَّرْطِ يُخْرِجُهُ مِنْ الطُّعْمَةِ ، وَتَكُونُ إجَارَةً فَاسِدَةً ؛ لِأَنَّهُ لَا يَعْرِفُ خَرَاجَهَا ، وَمَعْنَى هَذَا : أَنَّ الْخَرَاجَ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ ، فَإِذَا شَرَطَهُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ فَكَأَنَّهُ شَرَطَ لِنَفْسِهِ عِوَضًا عَنْ الْمَنْفَعَةِ فَيَصِيرُ الْعَقْدُ بِهِ إجَارَةً ، وَفَسَادُهَا لِجَهَالَةِ الْخَرَاجِ قَبْلَ هَذَا فِي الْأَرَاضِي الصُّلْحِيَّةِ الَّتِي يَكُونُ خَرَاجُ الْحَمَاحِمِ وَالْأَرَاضِي جُمْلَةً ثُمَّ يُقْسِمُ عَلَى الْحَمَاحِمِ وَالْأَرَاضِي فَعِنْدَ قِلَّةِ الْحَمَاحِمِ تَزْدَادُ حِصَّةُ الْأَرْضِ ، وَعِنْدَ كَثْرَةِ الْحَمَاحِمِ تُنْتَقَصُ فَأَمَّا خَرَاجُ الْوَظِيفَةِ يَكُونُ مَعْلُومَ الْمِقْدَارِ ، وَقِيلَ : بَلْ الْمُرَادُ الْجَهَالَةُ فِي رَوَادِفِ الْخَرَاجِ فَإِنَّ وُلَاةَ الْجَوْرِ أَلْحَقُوا بِالْخَرَاجِ رَوَادِفَ ، وَذَلِكَ مَجْهُولٌ يَزْدَادُ ، وَيُنْتَقَصُ وَلِإِفْسَادِ هَذَا الْعَقْدِ عِلَّةٌ أُخْرَى ، وَهِيَ أَنَّ الْخَرَاجَ فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْأَرْضِ ، فَكَأَنَّهُ شَرَطَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَتَحَمَّلَ عَنْهُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْإِجَارَةِ ، وَإِذَا أَوْصَى الرَّجُلُ بِغَلَّةِ أَرْضِهِ ، فَالْخَرَاجُ عَلَى الْمُوصَى لَهُ بِالْغَلَّةِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهُ بِاعْتِبَارِ التَّمَكُّنِ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ ، وَالْمُوصَى لَهُ هُوَ الْمُتَمَكِّنُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْأَرْضِ دُونَ الْوَارِثِ ، وَبِهِ فَارَقَ الْإِعَارَةَ وَلِأَنَّ لِلْخَرَاجِ تَعَلُّقًا بِالْغَلَّةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ إنْ مَنَعَ الْخَرَاجَ لَمْ تَطِبْ لَهُ الْغَلَّةُ وَلِلْإِمَامِ أَنْ يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْغَلَّةِ لِيُؤَدِّيَ الْخَرَاجَ وَالْمُوصَى لَهُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالْغَلَّةِ فَيَكُونُ
الْخَرَاجُ عَلَيْهِ ، وَلَا وَجْهَ لِإِيجَابِ الْخَرَاجِ عَلَى الْوَرَثَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ زَرَعُوا الْأَرْضَ وَاصْطَلَمَ الزَّرْعَ آفَةٌ لَمْ يَلْزَمْهُمْ الْخَرَاجُ ، فَإِذَا لَمْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ زِرَاعَتِهَا أَوْلَى لَا يَلْزَمُهُ الْخَرَاجُ .
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ أَرْضًا مُدَّةً مَعْلُومَةً فَمَاتَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ مُضِيِّهَا ، وَلَمْ يَسْتَحْصِدْ الزَّرْعَ تُرِكَ الزَّرْعُ فِيهَا إلَى وَقْتِ الْإِدْرَاكِ اسْتِحْسَانًا ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْإِجَارَاتِ قَالَ : وَجَعَلَ الْمُسْتَأْجِرُ آخَرَ مَا تَرَكَ فِيهِ ، وَظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ أُجْرَةُ الْمِثْلِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ بَعْضِ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فَإِنَّ الْعَقْدَ قَدْ انْفَسَخَ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ ثُمَّ يَبْقَى الزَّرْعُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ وَدَفْعُ الضَّرَرِ وَاجِبٌ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا وَجَبَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِصَاحِبِهَا أَجْرُ الْمِثْلِ فِي مُدَّةِ التَّرْكِ وَالْأَصَحُّ : أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ حِصَّةُ هَذِهِ الْمُدَّةِ مِنْ الْمُسَمَّى ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا وَجَبَ ابْتِدَاءُ عَقْدِ الْإِجَارَةِ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُسْتَأْجِرِ فَلَأَنْ يَجِبَ عَلَيْهِمْ إبْقَاؤُهُ بَعْدَ ظُهُورِ السَّبَبِ الْمُفْسِدِ ، وَهُوَ الْمَوْتُ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الشَّيْءِ أَهْوَنُ مِنْ ابْتِدَائِهِ ، وَإِذَا بَقِيَ الْعَقْدُ الْأَوَّلُ ، فَإِنَّمَا يَجِبُ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ الْأَجْرُ الْمُسَمَّى فِيهِ وَإِنْ كَانَ فِيهَا كَرْمٌ أَوْ رَطْبَةٌ لَمْ يُتْرَكْ وَقُطِعَ ؛ لِأَنَّهُ لِانْتِهَاءِ ذَلِكَ مُدَّةٌ مَعْلُومَةٌ ، وَتَطُولُ مُدَّتُهَا فَفِي إبْقَاءِ الْعَقْدِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ إضْرَارٌ بِوَارِثِ الْمُؤَجِّرِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ لِإِدْرَاكِ الزَّرْعِ نِهَايَةً مَعْلُومَةً ، وَهِيَ مُدَّةٌ لَا تَطُولُ عَادَةً .
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ دَابَّةً ثُمَّ جَعَلَ عَلَيْهَا سَرْجًا وَأَجَّرَهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا اسْتَأْجَرَهَا طَابَ لَهُ الْفَضْلُ ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْأَجْرِ فِي الْعَقْدِ الثَّانِي بِإِزَاءِ مَنْفَعَةِ مَا زَادَ مِنْ عِنْدِهِ فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ رِبْحٌ إلَّا عَلَى ضَمَانِهِ ، وَقَبْلَ الزِّيَادَةِ إنَّمَا كَانَ لَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ ؛ لِأَنَّهُ رِبْحٌ حَصَلَ لَا عَلَى ضَمَانِهِ ، فَإِذَا انْعَدَمَ هَذَا الْمَعْنَى بِاعْتِبَارِ الزِّيَادَةِ كَانَ الْفَضْلُ طَيِّبًا لَهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ بَيْتًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَجَرَ نِصْفَهُ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ إلَّا دَانِقًا وَمُرَادُهُ : أَجَّرَ نِصْفًا مُعَيَّنًا مِنْهُ أَوْ نِصْفًا شَائِعًا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى جَوَازَ إجَارَةِ الْمُشَاعِ ، وَإِنَّمَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يَتَحَقَّقُ ، فَإِنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الدَّانِقُ حِصَّةَ النِّصْفِ الْآخَرِ لِيَكُونَ مِائَةَ دِرْهَمٍ إلَّا دَانِقًا حِصَّةَ الَّذِي أَجَرَهُ وَلَا يُقَالُ : قَدْ كَانَ بِمُقَابَلَةِ كُلِّ نِصْفٍ مِنْ الْبَيْتِ فِي الْعَقْدِ الْأَوَّلِ نِصْفُ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ بِاعْتِبَارِ تَنْصِيصِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَلْ بِاعْتِبَارِ الْمُعَاوَضَةِ وَالْمُسَاوَاةِ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْعَقْدِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُ أَجَرَ فِيهِ النِّصْفَ فَقَطْ ، وَالْحَاصِلُ : أَنَّ الْخُبْثَ الَّذِي يُمْكِنُ فِي إجَارَةِ الشَّيْءِ بِأَكْثَرَ مِمَّا اسْتَأْجَرَهُ بِهِ يَسِيرٌ فَيَنْعَدِمُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الْإِمْكَانِ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ وَلِهَذَا قُلْنَا لَوْ زَادَ مِنْ عِنْدِهِ شَيْئًا قَلِيلًا ثُمَّ أَجَرَهُ بِأَضْعَافٍ مِمَّا اسْتَأْجَرَهُ طَابَ لَهُ الْفَضْلُ فَكَذَلِكَ إذَا أَجَرَ بَعْضَهُ بِمَا دُونَ الْأَجْرِ الْأَوَّلِ وَالنُّقْصَانُ يَسِيرٌ قُلْنَا يَطِيبُ لَهُ الْفَضْلُ .