كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
وَلَوْ خَنَقَ رَجُلًا فَمَاتَ ، أَوْ طَرَحَهُ فِي بِئْرٍ ، أَوْ أَلْقَاهُ عَلَى ظَهْرِ جَبَلٍ ، أَوْ سَطْحٍ فَمَاتَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ قِصَاصٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا إذَا كَانَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ يُعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ مِنْ مِثْلِهِ ، فَهُوَ عَمْدٌ مَحْضٌ يَجِبُ بِهِ الْقِصَاصُ ، وَإِنْ كَانَ خِنَاقًا مَعْرُوفًا قَدْ خَنَقَ غَيْرَ وَاحِدٍ فَعَلَيْهِ الْقَتْلُ ؛ لِأَنَّهُ سَاعٍ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ ، وَالْإِمَامُ يَقْتُلُ السَّاعِيَ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ حَدًّا لَا قِصَاصًا .
وَذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ أَنَّهُ لَوْ حَبَسَهُ فِي الْبَيْتِ فَطَبَّقَ عَلَيْهِ الْبَابَ حَتَّى مَاتَ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَلَكِنْ يُعَزَّرُ عَلَى مَا صَنَعَ وَعِنْدَهُمَا يَضْمَنُ دِيَتَهُ ؛ لِأَنَّهُ مُسَبِّبٌ لِإِتْلَافِهِ عَلَى وَجْهٍ مُتَعَدٍّ فِيهِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ حَافِرِ الْبِئْرِ فِي الطَّرِيقِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ حَبْسُهُ وَتَطْبِيقُ الْبَابِ عَلَيْهِ لَا يُوجِبُ إتْلَافَهُ ، وَإِنَّمَا يُتْلِفُهُ مَعْنَى آخَرُ ، وَهُوَ الْجُوعُ الَّذِي هَاجَ مِنْ طَبْعِهِ وَبُعْدُ الطَّعَامِ عَنْهُ وَلَا صُنْعَ لِلْجَانِي فِي ذَلِكَ فَلَوْ ضَمِنَ إنَّمَا يَضْمَنُ بِجِنَايَتِهِ عَلَيْهِ بِتَأْخِيرِ حَبْسِهِ ، وَالْحُرُّ لَا يَضْمَنُ بِالْيَدِ .
وَلَوْ سَقَى رَجُلًا سُمًّا ، أَوْ أَوْجَرَهُ إيجَارًا فَقَتَلَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ قِصَاصٌ ، وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ قَالَ : سَقَاهُ سُمًّا أَوْ أَوْجَرَهُ إيجَارًا ، فَقَدْ صَارَ مُتْلِفًا لَهُ وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ إذَا دَفَعَهُ إلَيْهِ حَتَّى شَرِبَ بِنَفْسِهِ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ الشَّارِبَ مُخْتَارٌ بِهِ فِي شُرْبِهِ فَيَكُونُ قَاتِلًا نَفْسَهُ ، وَمَنْ أَعْطَاهُ غَرَّهُ حِينَ لَمْ يُخْبِرْهُ بِمَا فِيهِ مِنْ السُّمِّ ، وَلَكِنْ بِالْغُرُورِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ ضَمَانُ النَّفْسِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ { الْيَهُودِيَّةَ حِينَ أَتَتْ بِالشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ هَدِيَّةً إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَكَلَ مِنْ ذَلِكَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ فَمَاتَ ، ثُمَّ لَمْ يُضَمِّنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِيَتَهُ } ؛ لِأَنَّ تَنَاوُلَهُ بِاخْتِيَارِهِ فَأَمَّا إذَا أَوْجَرَهُ إيجَارًا ، فَقَدْ صَارَ مُتْلِفًا لَهُ فَيَكُونُ ضَامِنًا دِيَتَهُ وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ سُمًّا قَدْ يَقْتُلُ وَقَدْ لَا يَقْتُلُ فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْخَطَإِ فَأَمَّا إذَا كَانَ سُمًّا ذُعَافًا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَقْتُلُهُ لَا مَحَالَةَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ بِمَنْزِلَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْفِعْلِ الَّذِي لَا يَلْبَثُ .
وَإِذَا جَرَحَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ عَمْدًا بِالسَّيْفِ فَأَشْهَدَ الْمَجْرُوحُ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّ فُلَانًا لَمْ يَجْرَحْهُ ، ثُمَّ مَاتَ الْمَجْرُوحُ مِنْ ذَلِكَ فَلَا شَيْءَ عَلَى فُلَانٍ وَلَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّ قَبُولَ الْبَيِّنَةِ يُبْنَى عَلَى دَعْوًى صَحِيحَةٍ ، وَالْوَارِثُ فِي الدَّعْوَى قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ فَكَمَا لَا تَصِحُّ الدَّعْوَى مِنْ الْمُوَرِّثِ بَعْدَ إقْرَارِهِ أَنَّهُ لَمْ يُجْرَحْ فَكَذَلِكَ لَا تَصِحُّ مِنْ الْوَارِثِ ؛ لِأَنَّهُ نَفَى أَصْلَ الْجُرْحِ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ نَفْيُ الْقَتْلِ وَلَوْ لَمْ يُقِرَّ الْمَجْرُوحُ بِذَلِكَ ، وَلَكِنَّهُ عَفَى عَنْ الْجَارِحِ قَبْلَ مَوْتِهِ ، ثُمَّ مَاتَ فَفِي الْقِيَاسِ عَفْوُهُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ إنَّمَا يَجِبُ بَعْدَ مَوْتِهِ وَيَكُونُ لِلْوَارِثِ لَا لِلْمُوَرِّثِ ، فَالْوَارِثُ هُوَ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ دُونَ الْمُوَرِّثِ فَيَكُونُ الْمُوَرِّثُ بِعَفْوِهِ مُسْقِطًا حَقَّ الْغَيْرِ وَمُسْقِطًا لِلْحَقِّ قَبْلَ الْوُجُوبِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ عَفْوَ الْوَارِثِ قَبْلَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ عَنْ الْقِصَاصِ صَحِيحٌ وَلَوْ كَانَ الْقِصَاصُ يَجِبُ لِلْمُوَرِّثِ لَا يَصِحُّ عَفْوُ الْوَارِثِ كَالْإِبْرَاءِ عَنْ الدَّيْنِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْوِرَاثَةَ خِلَافُهُ .
وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقِصَاصُ لِلْوَارِثِ عَلَى وَجْهِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْمُوَرِّثِ لَا ابْتِدَاءً ؛ وَلِهَذَا لَوْ انْقَلَبَ مَالًا يَقْضِي مِنْهُ دَيْنَ الْمُوَرِّثِ وَتَنْفُذُ وَصَايَا فَاصِلِ الْحَقِّ كَأَنَّهُ ثَابِتٌ لِلْمُوَرِّثِ فَيَصِحُّ بَعْدَ مَا وُجِدَ سَبَبُ وُجُوبِ الْحَقِّ ، وَإِنْ لَمْ يَجِبْ بَعْدُ كَمَا يَجُوزُ التَّكْفِيرُ بَعْدَ الْجُرْحِ قَبْلَ زُهُوقِ الرُّوحِ ، ثُمَّ عَفْوُهُ فِي الِانْتِهَاءِ كَإِذْنِهِ فِي الِابْتِدَاءِ وَإِذْنُهُ فِي الِابْتِدَاءِ مُسْقِطٌ لِلْقَوَدِ عَنْ الْجَانِي حَتَّى إذَا قَالَ : اقْطَعْ يَدِي فَقَطَعَهُ فَسَرَى لَا يَجِبُ شَيْءٌ كَذَلِكَ عَفْوُهُ فِي الِانْتِهَاءِ وَلَوْ عَفَا الْوَلِيُّ قَبْلَ مَوْتِ الْمَجْرُوحِ فَفِي الْقِيَاسِ لَا يَصِحُّ عَفْوُهُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْنِ حَقُّهُ
بَعْدُ فَإِنَّ ثُبُوتَ حَقِّهِ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ ، وَإِذَا أَسْقَطَ حَقَّهُ قَبْلَ أَوَانِهِ كَانَ بَاطِلًا كَمَا إذَا أَبْرَأَ عَنْ دَيْنٍ وَاجِبٍ لِمُوَرِّثِهِ فِي حَيَاتِهِ وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ السَّبَبَ يُجْعَلُ قَائِمًا مَقَامَ حَقِيقَةِ وُجُوبِ الْحَقِّ فِي صِحَّةِ الْعَفْوِ وَهَذَا السَّبَبُ انْعَقَدَ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ لِلْوَارِثِ ، وَإِنْ كَانَ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْمُوَرِّثِ فَيُقَامُ مَقَامَ حَقِيقَةِ وُجُوبِ الْحَقِّ فِي تَصْحِيحِ عَفْوِهِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ بِاعْتِبَارِ أَصْلِ السَّبَبِ الْحَقُّ لِلْمُوَرِّثِ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ جِنَايَةٌ عَلَى حَقِّهِ ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَجِبَ لَهُ الْحَقُّ بَعْدَ هَذَا السَّبَبِ وَبِاعْتِبَارِ نَفْسِ الْوَاجِبِ الْحَقُّ لِلْوَارِثِ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ لَمْ يَجِبْ إلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ وَبَعْدَ الْمَوْتِ الْمُوَرِّثُ لَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يَجِبَ لَهُ الْحَقُّ فَيَجِبُ لِلْوَارِثِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْجَانِبَيْنِ مُرَاعًى فَلِمُرَاعَاةِ السَّبَبِ صَحَّحْنَا عَفْوَ الْمُوَرِّثِ اسْتِحْسَانًا وَلِمُرَاعَاةِ الْوَاجِبِ بِالسَّبَبِ صَحَّحْنَا عَفْوَ الْوَارِثِ اسْتِحْسَانًا وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } وَقَالَ { فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ } فَيَجِبُ تَصْحِيحُهُ مَا أَمْكَنَ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ ) الْعَفْوُ عَنْ الْقَطْعِ ، وَالضَّرْبَةِ ، وَالشَّجَّةِ ، وَالْجِرَاحَةِ يَكُونُ عَفْوًا عَنْ السِّرَايَةِ وَبَيَانُهُ أَنَّ مَنْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ ، أَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةً فَقَالَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَفَوْت عَنْ الْقَطْعِ ، أَوْ عَنْ الشَّجَّةِ ، فَإِنْ اقْتَصَرَ جَازَ الْعَفْوُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ سَرَى إلَى النَّفْسِ ، فَالْعَفْوُ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَفِي الْقِيَاسِ يَلْزَمُهُ النُّقْصَانُ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تَلْزَمُهُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ الْعَفْوُ صَحِيحٌ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَأَمَّا إذَا قَالَ : عَفَوْتُك عَنْ الْجِنَايَةِ ، أَوْ الشَّجَّةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا ، أَوْ عَنْ الْقَطْعِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ صَحَّ الْعَفْوُ بِالِاتِّفَاقِ وَهُمَا يَقُولَانِ عَفَا عَنْ حَقِّهِ ؛ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ عَدَّ السِّرَايَةِ الْحَقَّ ثَابِتٌ فِي الطَّرَفِ فَقَبْلَ السِّرَايَةِ أَوْلَى .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَفْوَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ اقْتَصَرَ فِيهِمَا جَمِيعًا لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا ، ثُمَّ الْإِذْنُ فِي الِابْتِدَاءِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ يُسْقِطُ ضَمَانَ السِّرَايَةِ فَكَذَلِكَ الْعَفْوُ فِي الِانْتِهَاءِ ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الْعَفْوُ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ هُوَ أَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ الْحَقِّ الشَّجَّةُ وَلَوْلَاهُ لَمَا صَحَّ الْعَفْوُ عَنْ الْجِنَايَةِ ، أَوْ عَنْ الْجِرَاحَةِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهَا ، فَإِذَا عُفِيَ عَنْ الشَّجَّةِ صَارَ أَصْلُ السَّبَبِ هَدَرًا ، فَالسِّرَايَةُ الَّتِي تَنْبَنِي عَلَيْهِ تَكُونُ هَدَرًا أَيْضًا ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ عَفَوْتُك عَنْ الشَّجَّةِ أَيْ عَنْ مُوجَبِ هَذِهِ الشَّجَّةِ وَمُوجَبُهَا الْقِصَاصُ فِي الشَّجَّةِ إذَا اقْتَصَرَ وَفِي النَّفْسِ إذَا سَرَى فَيُصْرَفُ الْعَفْوُ إلَيْهِمَا كَمَا لَوْ قَالَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ لِلْغَاصِبِ أَبْرَأْتُك عَنْ الْغَصْبِ يَكُونُ ذَلِكَ إبْرَاءً عَنْ الضَّمَانِ الْوَاجِبِ بِالْغَصْبِ ، وَهُوَ رَدُّ الْعَيْنِ عِنْدَ قِيَامِهَا وَرَدُّ الْقِيمَةِ بَعْدَ هَلَاكِهَا .
وَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي إذَا أَبْرَأَ الْبَائِعَ عَنْ الْعَيْبِ يَكُونُ ذَلِكَ إبْرَاءً عَنْ مُوجَبِ الْعَيْبِ ، وَهُوَ الرَّدُّ عِنْدَ الْإِمْكَانِ ، وَالرُّجُوعُ بِالنُّقْصَانِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّدِّ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَوْ أَنَّ عَبْدًا قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ فَصَالَحَ مَوْلَاهُ عَنْ الْقَطْعِ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ الْعَبْدَ إلَيْهِ فَأَعْتَقَهُ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ ، ثُمَّ مَاتَ قَالَ : الْعِتْقُ نَافِذٌ ، وَالْعَبْدُ صَلَحَ بِالْجِنَايَةِ ، فَإِذَا كَانَ الصُّلْحُ عَلَى الْقَطْعِ صُلْحًا عَنْ السِّرَايَةِ فَكَذَلِكَ الْعَفْوُ وَقَالَ فِي الزِّيَادَاتِ لَوْ ادَّعَى رَجُلٌ شَجَّةً مَعَ السِّرَايَةِ وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ أَحَدُهُمَا بِالشَّجَّةِ ، وَالْآخَرُ بِهَا وَبِالسِّرَايَةِ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا عَلَى الشَّجَّةِ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ الشَّجَّةُ حَقَّهُ بَعْدَ السِّرَايَةِ لَمَا قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ لِاخْتِلَافِ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ عَفَا عَنْ غَيْرِ حَقِّهِ فَلَا يَصِحُّ ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ إسْقَاطُ الْحَقِّ فَإِذْ صَادَفَ مَا لَيْسَ بِحَقِّهِ كَانَ بَاطِلًا وَبَيَانُهُ إنْ عَفَا عَنْ الْيَدِ وَحَقِّهِ فِي النَّفْسِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ بِالسِّرَايَةِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ أَصْلَ الْفِعْلِ كَانَ قَتْلًا وَمُوجَبُ الْقَتْلِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ دُونَ الْيَدِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْجِنَايَاتِ مَآلُهَا لَا حَالُهَا ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ أَصْلَ الْفِعْلِ قَدْ يَكُونُ مُوجِبًا لِلْقِصَاصِ وَبِالسِّرَايَةِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ كَانَ غَيْرَ مُوجِبٍ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَهُ مِنْ الْمَفْصِلِ فَسَرَى إلَى نِصْفِ السَّاعِدِ فَبِاعْتِبَارِ الْمَآلِ هَاهُنَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَقُّهُ فِي الْيَدِ قِصَاصًا .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ بَعْدَ السِّرَايَةِ لَوْ قَالَ الْوَلِيُّ : عَفَوْتُك عَنْ الْيَدِ لَمْ يَصِحَّ ، فَكَذَلِكَ قَبْلَ السِّرَايَةِ وَلَوْ قَالَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ ، عَفَوْتُك عَنْ الْقَتْلِ ، ثُمَّ اقْتَصَرَ لَمْ يَصِحَّ فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : عَفَوْتُك عَنْ الْيَدِ فَسَرَى وَلَا مَعْنَى لِمَا قَالَ أَنَّهُ عَفَا عَنْ مُوجَبِ
الْيَدِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ : عَفَوْتُك عَنْ الْقَطْعِ فَمَعْنَاهُ عَنْ قَطْعِ وَاجِبٍ مُقَابِلَ هَذَا الْقَطْعِ لَا عَنْ هَذَا الْقَطْعِ الَّذِي تَحَقَّقَ ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنْهُ لَا يَتَحَقَّقُ ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَطْعَ وَاجِبٍ بِمُقَابَلَةِ هَذَا الْقَطْعِ وَقَوْلُهُ بِأَنَّ هَذَا الْقَطْعَ سَبَبُ حَقِّهِ قُلْنَا الْقَطْعُ سَبَبُ حَقِّهِ فِي الْيَدِ لَا سَبَبُ حَقِّهِ فِي النَّفْسِ ، بَلْ حَقُّهُ فِي النَّفْسِ الْقَتْلُ ؛ لِأَنَّ الْقَطْعَ السَّارِي لَا يَقُولُ أَنَّهُ قَطْعٌ ، ثُمَّ قَتْلٌ أَوْ قَطْعٌ يَصِيرُ قَتْلًا بِمَنْزِلَةِ قَنْصٍ يَصِيرُ صَيْدًا ، وَلَكِنَّهُ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ كَانَ قَتْلًا فِي الْأَصْلِ ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ فِعْلٌ مُزْهِقٌ لِلرُّوحِ ، وَإِنَّمَا انْزَهَقَ هَذَا الرُّوحُ عَقِيبَ هَذَا الْفِعْلِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ قَتْلٌ ؛ وَلِهَذَا صَحَّ الْعَفْوُ بِلَفْظِ الْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْجِنَايَةِ يَتَنَاوَلُ الْقَتْلَ وَمَا دُونَهُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ قَالَ : لَا جِنَايَةَ فِي قَتْلِ فُلَانٍ ، ثُمَّ ادَّعَى عَلَيْهِ النَّفْسَ ، أَوْ مَا دُونَ النَّفْسِ لَمْ تُسْمَعْ بِخِلَافِ الْقَطْعِ ، فَهُوَ اسْمٌ حَائِزٌ لِمَا دُونَ النَّفْسِ حَتَّى لَوْ قَالَ : لَا قَطْعَ لِي قِبَلَ فُلَانٍ ، ثُمَّ ادَّعَى عَلَيْهِ النَّفْسَ صَحَّتْ الدَّعْوَى ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : عَفَوْتُك عَنْ الْقَطْعِ وَمَا يَحْدُثُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ النَّفْسِ ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ حَقَّهُ كَانَ فِي النَّفْسِ فَصَحَّ الْعَفْوُ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ فِي الِابْتِدَاءِ ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ صَادَفَ مَحَلًّا هُوَ حَقُّهُ فَيَصِيرُ الْمَأْذُونُ قَائِمًا مَقَامَ الْإِذْنِ فِي إقَامَةِ الْفِعْلِ فِيهِ فَكَأَنَّهُ فَعَلَ بِنَفْسِهِ وَبِخِلَافِ مَا لَوْ اقْتَصَرَ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ هُنَاكَ أَنَّ فِعْلَهُ كَانَ قَطْعًا ، وَأَنَّ حَقَّهُ فِي قَطْعٍ وَاجِبٍ بِمُقَابَلَةِ هَذَا الْقَطْعِ فَأَمَّا إذَا دُفِعَ الْعَبْدُ بِالْيَدِ ، فَالصُّلْحُ هُنَاكَ بَاطِلٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا سَرَى قَبْلَ أَنْ يَعْتِقَهُ إلَّا أَنَّ عِتْقَهُ إنَّمَا يَنْفُذُ ؛ لِأَنَّهُ مَقْبُوضٌ بِحُكْمِ صُلْحٍ فَاسِدٍ فَيَصِيرُ
مَمْلُوكًا فَيَنْفُذُ فِيهِ الْعِتْقُ ، ثُمَّ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرِ إنَّمَا دُفِعَ الْعَبْدُ بِالْيَدِ ، وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى قَصَدَ الْمَوْلَى دَفْعَهُ بِالْجِنَايَةِ ، فَإِذَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهِ مَا لَا يُمْكِنُ فَسْخُهُ ، وَهُوَ الْعِتْقُ اعْتَبَرْنَا الظَّاهِرَ وَقُلْنَا إذَا سَرَى ، فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ ، وَإِذَا اتَّصَلَ بِهِ مَا لَا يُمْكِنُ فَسْخُهُ اعْتَبَرْنَا الْمَقْصُودَ ، وَهُوَ الدَّفْعُ بِالْجِنَايَةِ فَقُلْنَا الْعِتْقُ نَافِذٌ ، وَالْعَبْدُ صَلَحَ بِالْجِنَايَةِ .
يُوَضِّحُهُ أَنَّ هُنَاكَ نَفَذَ الْعِتْقُ لِكَوْنِهِ مَمْلُوكًا لَهُ ، وَإِنْ كَانَ بِسَبَبٍ فَاسِدٍ وَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِمَوْلَاهُ ، ثُمَّ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ يَسْتَوْجِبُ الْقِيمَةَ عَلَى الْمَوْلَى أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَهُ عَلَى وَجْهٍ لَمْ يَصِرْ بِهِ مُخْتَارًا فَكَانَ مُسْتَهْلَكًا فَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ فَتَقَعُ الْمُقَاصَّةُ بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ ؛ فَلِهَذَا قَالَ : الْعِتْقُ نَافِذٌ ، وَالْعَبْدُ صَلَحَ بِالْجِنَايَةِ وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْجَامِعِ فَقِيلَ أَنَّهُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ ، ثُمَّ إنَّمَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْحَقَّ فِي النَّفْسِ إذَا ثَبَتَتْ السِّرَايَةُ وَلَمْ تَثْبُتْ ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ بِهَا وَاحِدٌ وَبِدُونِ السِّرَايَةِ الْحَقُّ فِي الشَّجَّةِ ، وَقَدْ اتَّفَقَ الشَّاهِدَانِ عَلَيْهِ وَلَا يُقَالُ الْمُدَّعِي يَتَبَرَّأُ مِنْ الشَّجَّةِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَبَرَّأُ مِنْهَا إذَا ثَبَتَ حَقُّهُ فِي النَّفْسِ وَلَمْ يَثْبُتْ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ ادَّعَى بَيْعَ عَيْنٍ مِنْ إنْسَانٍ بِثَمَنٍ وَأَنْكَرَ الْمُشْتَرِي وَحَلَفَ بِنَفْيِ الْعَيْنِ عَنْ مِلْكِ الْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَبَرَّأُ مِنْ مِلْكِ الْعَيْنِ إذْ ثَبَتَ حَقُّهُ فِي الْيَمِينِ وَلَمْ يَثْبُتْ ، ثُمَّ فِي الْقِيَاسِ يَجِبُ الْقِصَاصُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ لَمَّا حَصَلَ مِنْ غَيْرِ حَقِّهِ كَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ ، وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ قَالَ : حَقُّهُ فِي الصُّورَةِ عِنْدَ الْعَفْوِ وَمَا أَضَافَ إلَيْهِ الْعَفْوَ ، وَإِنْ تَبَيَّنَ فِي الْأَخِيرَةِ أَنَّهُ غَيْرُهُ .
وَكَذَلِكَ مَا أَضَافَ إلَيْهِ الْعَفْوَ هُوَ السَّبَبُ لِثُبُوتِ
حَقِّهِ فِي النَّفْسِ ظَاهِرًا ؛ لِيَصِيرَ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي رَدِّ الْقَوَدِ ، وَقَدْ قَالَ فِي مَسْأَلَةِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ لَوْ لَمْ يَعْتِقْ الْعَبْدُ حَتَّى سَرَى ، فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ ، وَالْقِصَاصُ وَاجِبٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ قِيلَ مَا ذِكْرُ هَذَا حَقٌّ بِسَبَبِ الْقِيَاسِ وَقِيلَ ، بَلْ أَبُو حَنِيفَةَ يُفَرِّقُ فَيَقُولُ هُنَاكَ الصُّلْحُ مُضَافًا إلَى الْعَبْدِ ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِثُبُوتِ حَقِّهِ فِي النَّفْسِ فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ ، ثُمَّ بَنَى عَلَى هَذَا الْفَصْلِ مَسْأَلَةَ التَّزْوِيجِ عَلَى الْجِرَاحَةِ بِالْجِنَايَةِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهَا فِي كِتَابِ الصُّلْحِ .
، وَالْعَفْوُ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ جَائِزٌ فِي الْمَرَضِ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ دَمَ الْعَمْدِ لَيْسَ بِمَالٍ وَبِالْمَرَضِ إنَّمَا يَلْحَقُهُ الْحَجْرُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ لِحَقِّ وَرَثَتِهِ فَفِيمَا لَيْسَ بِمَالٍ : الْمَرَضُ ، وَالصِّحَّةُ فِيهِ سَوَاءٌ ، وَالْقَاتِلُ وَغَيْرُ الْقَاتِلِ فِيهِ سَوَاءٌ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ أَعَانَ إنْسَانًا بِيَدَيْهِ لَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الرَّجُلُ قَاتِلًا لَهُ .
وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ عَفْوُهُ فِي الْقِصَاصِ صَحِيحٌ ، وَلَكِنْ فِي حَقِّ الْمَالِ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْعَمْدَ عِنْدَهُ مُوجِبٌ لِلْمَالِ وَلَا وَصِيَّةَ لِلْقَاتِلِ ، وَالْعَفْوُ عَنْ أَحَدِ الْقَاتِلَيْنِ لَا يُبْطِلُ الْقَوَدَ عَنْ الْآخَرِ ، وَكَذَلِكَ الصُّلْحُ مَعَ أَحَدِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَزِمَهُمَا بِالْقَتْلِ ، ثُمَّ سَقَطَ أَحَدُهُمَا بِالْعَفْوِ وَدَمُ أَحَدِهِمَا مُتَمَيِّزٌ عَنْ دَمِ الْآخَرِ فَسُقُوطُهُ عَنْ أَحَدِهِمَا لَا يُورِثُ شُبْهَةً فِي حَقِّ الْآخَرِ بِخِلَافِ مَا لَمْ إذَا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ عَلَى أَحَدِ الْقَاتِلَيْنِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ الْفِعْلَانِ اجْتَمَعَا فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ وَأَحَدُهُمَا مُوجِبٌ ، وَالْآخَرُ غَيْرُ مُوجِبٍ ، وَدَمُ الْمَقْتُولِ لَا يَتَمَيَّزُ بَعْضُهُ عَنْ بَعْضٍ قَالَ : وَلِكُلِّ وَارِثٍ فِي دَمِ الْعَمْدِ نَصِيبٌ بِمِيرَاثِهِ يَجُوزُ فِيهِ عَفْوُهُ وَصُلْحُهُ أَمَّا الدِّيَةُ إذَا وَجَبَتْ بِالْقَتْلِ فَلِكُلِّ وَارِثٍ فِيهَا نَصِيبٌ عِنْدَنَا .
وَقَالَ مَالِكٌ لَا يَرِثُ الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ مِنْ الدِّيَةِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ وُجُوبَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَالزَّوْجِيَّةُ تَنْقَطِعُ بِالْمَوْتِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ { الضَّحَّاكِ بْنِ سُفْيَانَ الْكِلَابِيِّ أَنَّهُ أَتَاهُ كِتَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُ أَنْ يُوَرِّثَ امْرَأَةَ أَشْيَمَ الضَّبَابِيِّ مِنْ عَقْلِ زَوْجِهَا أَشْيَمَ ، وَقَدْ كَانَ عُمَرُ يَقُولُ لَا مِيرَاثَ لِلزَّوْجِ ، وَالزَّوْجَةِ مِنْ الدِّيَةِ ، ثُمَّ رَجَعَ إلَى هَذَا الْحَدِيثِ } ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُقَسِّمُ الدِّيَةَ عَلَى
مَنْ أَحْرَزَ الْمِيرَاثَ وَعَنْهُ قَالَ : إذَا أَوْصَى الرَّجُلُ بِثُلُثِهِ دَخَلَتْ دِيَتُهُ فِي تِلْكَ الْوَصِيَّةِ وَلِأَنَّ بَدَلَ نَفْسِهِ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ حَتَّى يَقْضِيَ مِنْهُ دَيْنَهُ فَيَرِثُ مِنْهُ جَمِيعُ وَرَثَتِهِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ ، وَكَذَلِكَ يَثْبُتُ حَقُّ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ فِي الْقِصَاصِ عِنْدَنَا وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى لَا يَثْبُتُ حَقُّهُمَا فِي الْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِهَا الْعَقْدُ ، وَالْقِصَاصُ لَا يُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ حَقَّ الْمُوصَى لَهُ لَا يَثْبُتُ فِي الْقِصَاصِ ، وَهَذَا لَا ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ فِي الْقِصَاصِ التَّشَفِّي ، وَالِانْتِقَامُ وَذَلِكَ يَخْتَصُّ بِهِ الْأَقَارِبُ الَّذِينَ يَنْصُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ تَرَكَ مَالًا ، أَوْ حَقًّا فَلِوَرَثَتِهِ } ، وَالْقِصَاصُ حَقُّهُ ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ نَفْسِهِ فَيَكُونُ مِيرَاثًا لِجَمِيعِ وَرَثَتِهِ كَالدِّيَةِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْإِرْثِ بِالزَّوْجِيَّةِ كَاسْتِحْقَاقِهِ بِالْقَرَابَةِ حَتَّى لَا يَتَوَقَّفَ عَلَى الْقَبُولِ وَلَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ وَبِهِ فَارَقَ الْوَصِيَّةَ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لَيْسَ بِالْعَقْدِ .
وَإِذَا كَانَ دَمُ الْعَمْدِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَعُفِيَ أَحَدُهُمَا فَلَا قَوَدَ عَلَى الْقَاتِلِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ هَذِهِ الْحَادِثَةَ وَقَعَتْ فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَشَاوَرَ فِيهَا ابْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ أَرَى هَذَا قَدْ أَحْيَا بَعْضَ نَفْسِهِ فَلَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يُتْلِفَهُ فَأَمْضَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْقَضَاءَ عَلَى رَأْيِهِ ، وَهُوَ الْمَعْنَى فَإِنَّ الْعَافِيَ أَسْقَطَ حَقَّهُ ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْقَاطِ فَصَحَّ إسْقَاطُهُ وَبِإِسْقَاطِهِ حَقَّ بَعْضِ نَفْسِ الْقَاتِلِ ، وَالْآخَرُ يَعْجَزُ عَنْ اسْتِيفَاءِ حَقِّهِ ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ فِي نَفْسٍ وَاحِدَةٍ اسْتِيفَاءً ، ثُمَّ الْقِصَاصُ فِي نَفْسٍ وَاحِدَةٍ كَمَا لَا يَتَجَزَّأُ وُجُوبًا لَا يَتَجَزَّأُ سُقُوطًا وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْآخَرَ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ قُلْنَا إنَّمَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاؤُهُ لِمَعْنًى فِي الْقَاتِلِ ، وَهُوَ مُرَاعَاةُ الْحُرْمَةِ لِبَعْضِ نَفْسِهِ فَكَانَ فِي مَعْنَى الْخَطَأِ فَيَجِبُ الْمَالُ لِلْآخَرِ وَلَا يَجِبُ لِلْعَافِي شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ تَعَذُّرَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي حَقِّهِ كَانَ بِإِسْقَاطِهِ ، ثُمَّ لِلْآخَرِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِ الْقَاتِلِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَهُ الْعَمْدُ الْمَحْضُ وَيَكُونُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ فِي سَنَتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ مَا وَجَبَ لِلْآخَرِ إلَّا نِصْفُ الدِّيَةِ وَنِصْفُ الدِّيَةِ يَكُونُ مُؤَجَّلًا فِي سَنَتَيْنِ كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ إنْسَانٍ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ حَقُّهُمَا فِي بَدَلِ النَّفْسِ وَبَدَلُ النَّفْسِ مُؤَجَّلٌ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ إذَا وَجَبَ بِالْقَتْلِ كَالْأَبِ إذَا قَتَلَ ابْنَهُ عَمْدًا وَاَلَّذِي وَجَبَ لِلْآخَرِ جُزْءٌ مِنْ بَدَلِ النَّفْسِ فَكُلُّ جُزْءٍ مِنْهُ كَذَلِكَ .
وَإِذَا كَانَ دَمُ الْعَمْدِ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ أَنَّهُ قَدْ عُفِيَ فَهَذَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ إنْ صَدَّقَهُ فِي ذَلِكَ الْقَاتِلُ ، وَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَلِلشَّاهِدِ نِصْفُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْعَفْوِ مِنْ الْآخَرِ بِتَصَادُقِهِمَا عَلَيْهِ كَثُبُوتِهِ بِالْمُعَايَنَةِ ، وَإِنْ كَذَّبَاهُ فِي ذَلِكَ فَلِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَلَا شَيْءَ لِلشَّاهِدِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ اسْتِيفَاءُ نَصِيبِهِ مِنْ الْقَوَدِ لَا لِمَعْنَى مِنْ جِهَتِهِ ، بَلْ بِشَهَادَةِ الشَّرِيكِ عَلَيْهِ بِالْعَفْوِ ، وَهُوَ فِيمَا يَشْهَدُ بِهِ عَلَيْهِ مُتَّهَمٌ فَيَكُونُ كَاذِبًا فِي حَقِّهِ وَيُجْعَلُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ الْعَفْوِ مِنْ الشَّاهِدِ فَيَسْقُطُ حَقُّ الشَّاهِدِ وَيَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ صَدَّقَهُ الْقَاتِلُ وَكَذَّبَهُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِ الْقَاتِلِ .
أَمَّا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ لِمَا قُلْنَا فَإِنَّ الْقَاتِلَ وَالشَّاهِدَ لَا يُصَدِّقَانِ عَلَيْهِ فِي إسْقَاطِ حَقِّهِ وَأَمَّا الشَّاهِدُ ، فَقَدْ زَعَمَ أَنَّ نَصِيبَهُ انْقَلَبَ مَالًا بِعَفْوِ شَرِيكِهِ وَصَدَّقَهُ الْقَاتِلُ بِذَلِكَ وَأَمَّا إذَا كَذَّبَهُ الْقَاتِلُ وَصَدَّقَهُ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَفِي الْقِيَاسِ لَا شَيْءَ لَوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْقَاتِلِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الشَّاهِدِ قَدْ سَقَطَ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَإِنَّ شَهَادَتَهُ بِالْعَفْوِ فِي حَقِّ مَنْ كَذَّبَهُ ، وَهُوَ الْقَاتِلُ بِمَنْزِلَةِ إنْشَاءِ الْعَفْوِ وَأَمَّا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَلِأَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ بِالْعَفْوِ الْمُسْقِطِ لِحَقِّهِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجِبُ نِصْفُ الدِّيَةِ لِلشَّاهِدِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَذَّبَ الْقَاتِلُ الشَّاهِدَ ، فَقَدْ وَجَبَ نِصْفُ الدِّيَةِ عَلَى الْقَاتِلِ لِلْمَشْهُودِ عَلَيْهِ بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ لَوْ لَمْ يُصَدِّقْ الشَّاهِدَ كَانَ لَهُ مِنْ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ عَلَى الْقَاتِلِ نِصْفُ الدِّيَةِ ، فَالْمَشْهُودُ عَلَيْهِ بِهَذَا التَّصْدِيقِ حَوَّلَ ذَلِكَ النِّصْفَ إلَى
الشَّاهِدِ وَزَعَمَ أَنَّ نِصْفَ الدِّيَةِ لِلشَّاهِدِ عَلَى الْقَاتِلِ لَا لَهُ .
وَمَنْ أَقَرَّ لِإِنْسَانٍ بِشَيْءٍ فَأَقَرَّ الْمُقَرُّ لَهُ لِغَيْرِهِ بِهِ لَا يَصِيرُ رَدُّ الْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ ، وَلَكِنْ يُخَوَّلُ الْحَقُّ إلَى الثَّانِي بِإِقْرَارِهِ أَوْ كَانَ شَهِدَ مَعَهُ آخَرُ ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ مِنْ الْوَلِيَّيْنِ بِشَهَادَتِهِ عَلَى الْعَفْوِ مُتَّهَمٌ فَإِنَّهُ يَقْصِدُ بِشَهَادَتِهِ أَنْ يُحَوِّلَ نَصِيبَهُ إلَى الْمَالِ فَلَمْ يَكُنْ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ وَبِشَهَادَةِ الْوَاحِدِ لَا يَثْبُتُ الْعَفْوُ عَلَى الشَّرِيكِ وَلَوْ شَهِدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ أَنَّهُ قَدْ عَفَا ، وَالْقَاتِلُ لَا يَدَّعِي ذَلِكَ وَلَا يُنْكِرُهُ ، فَإِنْ شَهِدَا عَلَى التَّعَاقُبِ فَاَلَّذِي شَهِدَ أَوَّلَ مَرَّةٍ قَدْ بَطَلَ حَقُّهُ ؛ لِأَنَّ شَهَادَتَهُ بِمَنْزِلَةِ عَفْوِهِ وَوَجَبَ لِصَاحِبِهِ نِصْفُ الدِّيَةِ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِشَهَادَتِهِ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى شَرِيكِهِ بِالْعَفْوِ ، وَإِنْ شَهِدَا مَعًا فَلَا شَيْءَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي هَذَا الْفَصْلِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْعَافِي فَيَسْقُطُ حَقُّهُمَا مِنْهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَذَّبَهُمَا الْقَاتِلُ ، وَإِنْ صَدَّقَ الْقَاتِلُ أَحَدَهُمَا وَكَذَّبَ الْآخَرَ أُعْطِيَ الَّذِي صَدَّقَ نِصْفَ الدِّيَةِ وَبَطَلَ حَقُّ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي لِنَفْسِهِ نِصْفَ الدِّيَةِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ صَدَّقَ أَحَدَهُمَا فَيَلْزَمُهُ نِصْفُ الدِّيَةِ لَهُ وَكَذَّبَ الْآخَرَ ، وَهُوَ قَدْ صَارَ فِي حَقِّهِ كَالْعَافِي ، وَإِنْ صَدَّقَهُمَا أَنَّهُمَا قَدْ عَفَوَا يَنْبَغِي فِي قِيَاسِ هَذَا الْقَوْلِ أَنْ يَضْمَنَ الدِّيَةَ لَهُمَا ؛ لِأَنَّهُ صَارَ يُقِرُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِ الدِّيَةِ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا إذَا صَدَّقَ أَحَدَهُمَا ، وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ فِي تَصْدِيقِهِ إيَّاهُمَا تَكْذِيبُهُمَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَزْعُمُ أَنَّهُ مَا عَفَا ، وَإِنَّمَا عَفَا شَرِيكُهُ ، وَهُوَ إذَا زَعَمَ أَنَّهُمَا عَفَوَا ، فَقَدْ صَارَ مُكَذِّبًا لِكُلِّ وَاحِدٍ
مِنْهُمَا وَقَدْ يُثْبِتَانِ أَنَّهُ لَوْ كَذَّبَهُمَا جَمِيعًا لَمْ يَكُنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ .
وَلَوْ كَانَ الدَّمُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ فَشَهِدَ اثْنَانِ عَلَى الثَّالِثِ أَنَّهُ قَدْ عَفَا فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّهُمَا يَجُرَّانِ إلَى أَنْفُسِهِمَا نَفْعًا بِشَهَادَتِهِمَا فَإِنَّ نَصِيبَهُمَا مِنْ الْقِصَاصِ يَنْقَلِبُ مَالًا بِهَا ، وَقَدْ سَقَطَ الْقَوَدُ لِإِقْرَارِهِمَا بِذَلِكَ ، فَإِنْ كَذَّبَهُمَا الْقَاتِلُ أُعْطِيَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ ثُلُثَ الدِّيَةِ وَلَمْ يَكُنْ لِلشَّاهِدَيْنِ شَيْءٌ لِمَا بَيَّنَ أَنَّ شَهَادَتَهُمَا كَإِنْشَاءِ الْعَفْوِ مِنْهُمَا ، وَإِنْ صَدَّقَهُمَا أَعْطَاهُمَا الدِّيَةَ أَثْلَاثًا لِإِقْرَارِهِ لِلشَّاهِدَيْنِ بِمَا ادَّعَيَا عَلَيْهِ مِنْ ثُلُثَيْ الدِّيَةِ ، وَإِنْ لَمْ يُصَدِّقْ وَلَمْ يُكَذِّبْ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ التَّكْذِيبِ ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الصُّلْحِ بِذَلِكَ كَالشَّهَادَةِ عَلَى الْعَفْوِ ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ شَرِيكٌ رَابِعٌ لَمْ يَشْهَدْ وَلَمْ يَشْهَدْ عَلَيْهِ فَلَهُ حِصَّتُهُ مِنْ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اسْتِيفَاءُ الْقَوَدِ لَا بِمَعْنًى مِنْ جِهَتِهِ مَعَ بَقَاءِ الْمَحَلِّ ، ثُمَّ الْعَفْوُ عَنْ الْقَوَدِ مِمَّا يَثْبُتُ مَعَ الشَّهَادَةِ فَيَثْبُتُ بِالْأَبْذَالِ مَعَ الْحُجَجِ كَالْمَالِ .
وَإِنْ ادَّعَى الْقَاتِلُ الْعَفْوَ عَلَى الْوَرَثَةِ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ حَلَفَ الْوَارِثُ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ ، فَإِنْ حَلَفَ أَحَدٌ بِالْقِصَاصِ لَا يَحْلِفُ ، بَلْ بِالْقَتْلِ السَّابِقِ ، وَلَكِنْ يُحَلِّفُهُ كَمَا انْتَفَى مَا ادَّعَاهُ مِنْ الْعَفْوِ ، وَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ بَطَلَ حَقُّهُ ؛ لِأَنَّ نُكُولَهُ كَإِقْرَارِهِ وَلِشُرَكَائِهِ حِصَّتُهُمْ مِنْ الدِّيَةِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ النَّاكِلُ الْعَفْوَ .
وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ لِلْقَاتِلِ أَنَّهُ صَالَحَ عَلَى الدِّيَةِ ، وَأَنَّهُمَا كَفَلَا عَنْهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي غَيْرِ صُلْحٍ ، وَالْوَلِيُّ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا إنْ ذَكَرَا أَنَّ الْكَفَالَةَ كَانَتْ فِي الصُّلْحِ ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ الْمَشْرُوطَ فِيهِ كَفَالَةُ الْكَفِيلِ بِعَيْنِهِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِقَبُولِهِ فَإِنَّمَا يَشْهَدَانِ عَلَى عَقْدٍ تَمَّ بِهِمَا ، وَهُوَ الصُّلْحُ الَّذِي تَمَّ بِكَفَالَتِهِمَا فَيَكُونُ هَذَا شَهَادَةً عَلَى فِعْلِ أَنْفُسِهِمَا فَلَا تُقْبَلُ ، وَإِنْ ذَكَرَا أَنَّهَا بَعْدَ الصُّلْحِ فَشَهَادَتُهُمَا عَلَى الصُّلْحِ جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّهُمَا أَجْنَبِيَّانِ لَا تُهْمَةَ فِي شَهَادَتِهِمَا وَيُؤْخَذَانِ بِالْكَفَالَةِ بِإِقْرَارِهِمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَلَا يَرْجِعَانِ بِذَلِكَ عَلَى الَّذِي كَفَلَا عَنْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُمَا بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ بِغَيْرِ الْأَمْرِ مُتَبَرِّعٌ فِيمَا يَلْزَمُ وَيُؤَدِّي ، وَإِنْ ادَّعَى الْوَلِيُّ شَهَادَتَهُمَا وَجَحَدَ ذَلِكَ الْقَاتِلُ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْقَوَدَ قَدْ سَقَطَ بِدَعْوَى الْوَلِيِّ الصُّلْحَ ، وَقَدْ أَقَرَّ بِوُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِمَا وَعَلَى الْقَاتِلِ وَيَلْزَمُهُمَا مَا أَقَرَّا بِهِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَلَا يَرْجِعَانِ عَلَى الْقَاتِلِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ إقْرَارَهُمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَيْهِ .
وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى الْعَفْوِ وَقَضَى الْقَاضِي ، ثُمَّ رَجَعَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا ؛ لِأَنَّ الْقَوَدَ لَيْسَ بِمَالٍ ، وَالشَّاهِدُ عِنْدَ الرُّجُوعِ إنَّمَا يَضْمَنُ مَا أَتْلَفَ مِنْ الْمَالِ
بِشَهَادَتِهِ فَأَمَّا مَا لَيْسَ بِمَالٍ فِيمَا هُوَ مُبْتَذَلٌ لَا يَكُونُ مَضْمُونًا بِالْمَالِ عِنْدَ الْإِتْلَافِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَاتِ ، وَإِنْ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِشَهَادَتِهِمَا حَتَّى رَجَعَا ، فَالْقِصَاصُ كَمَا هُوَ عَلَى حَالِهِ ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُوجِبُ شَيْئًا مَا لَمْ يَتَّصِلْ بِهَا الْقَضَاءُ ، فَإِذَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي هَاهُنَا لَمْ يَسْقُطْ الْقَوَدُ فَانْعَدَمَ الْمَانِعُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ وَاخْتِلَافُ شُهُودِ الْعَفْوِ فِي الْوَقْتِ ، وَالْمَكَانِ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ قَوْلٌ يُعَادُ وَيُكَرَّرُ فَيَكُونُ الثَّانِي هُوَ الْأَوَّلُ وَلَوْ شَهِدَا عَلَى أَحَدِ الْوَرَثَةِ بِالْعَفْوِ وَلَمْ يَعْرِفُوا أَنَّهُ هُوَ فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ وَجَهَالَتُهُ تَمْنَعُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ فَيَبْقَى الْقِصَاصُ كَمَا كَانَ وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عَفَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ عَفَا عَلَى غَيْرِ جَعْلٍ ، فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ ، وَهُوَ نَظِيرُ الطَّلَاقِ ، وَالْعَتَاقِ إذَا اخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ فِيهِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالصُّلْحِ بِأَلْفٍ وَالْآخَرُ بِخَمْسِمِائَةٍ ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ لَا بُدَّ أَنْ يَدَّعِيَ شَهَادَةَ أَحَدِهِمَا ، وَهُوَ الَّذِي شَهِدَ بِخَمْسِمِائَةٍ فَيَكُونُ مُكَذِّبًا شَهَادَةَ الْآخَرِ ، وَهُوَ شَهَادَةُ مَنْ شَهِدَ بِأَلْفٍ ، وَإِنْ لَمْ يَدَّعِهِ الْقَاتِلُ وَادَّعَاهُ وَلِيُّ الدَّمِ ، فَقَدْ جَازَ الْعَفْوُ بِإِقْرَارِ الْوَلِيِّ بِسُقُوطِ حَقِّهِ فِي الْقَوَدِ ، ثُمَّ لَا يَقْضِي بِشَيْءٍ مِنْ الْمَالِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُدَّعِيَ مُكَذِّبٌ أَحَدَ الشَّاهِدَيْنِ وَعِنْدَهُمَا يُقْبَلُ فِي الْأَقَلِّ ؛ لِأَنَّ مُدَّعِيَ أَلْفٍ مُدَّعٍ بِخَمْسِمِائَةٍ ضَرُورَةً فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ اخْتِلَافِهِمْ فِي دَعْوَى الْمَالِ مُطْلَقًا .
وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالصُّلْحِ عَلَى عَبْدٍ وَالْآخَرُ بِالصُّلْحِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ
؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَهِدَ بِعَقْدٍ آخَرَ ، وَالْمُدَّعِي لَا بُدَّ أَنْ يَدَّعِيَ أَحَدَ الْعَقْدَيْنِ فَيَكُونُ مُكَذِّبًا شَهَادَةَ الْآخَرِ .
وَعَفْوُ الْأَبِ ، وَالْوَصِيِّ عَنْ قِصَاصٍ وَاجِبٍ لِلصَّغِيرِ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ فَوَّضَ إلَيْهِمَا اسْتِيفَاءَ حَقِّهِ شَرْعًا لَا إسْقَاطَهُ وَإِسْقَاطُهُ الْقِصَاصَ كَإِسْقَاطِهِ دَيْنًا وَاجِبًا لِلصَّبِيِّ فَأَمَّا اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ فَيَئُولُ لِلْأَبِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ الْوَاجِبَ لِلصَّغِيرِ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَ النَّفْسِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الِابْنَ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ وَاسْتِيفَاءِ الدِّيَةِ ، وَالْأَبُ بِهَذَا الِاسْتِيفَاءِ يَقْطَعُ عَلَيْهِ خِيَارَهُ وَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ مِنْهُ ، ثُمَّ الْمَقْصُودُ مِنْ الْقِصَاصِ التَّشَفِّي ، وَالِانْتِقَامُ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ لِلصَّغِيرِ بِاسْتِيفَاءِ أَبِيهِ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الصَّغِيرَ إذَا بَلَغَ رُبَّمَا يَمِيلُ إلَى الْعَفْوِ فَلَوْ اسْتَوْفَاهُ الْأَبُ كَانَ ذَلِكَ اسْتِيفَاءً مَعَ شُبْهَةِ الْعَفْوِ وَأَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَقُولُونَ وِلَايَةُ الْأَبِ عَلَى وَلَدِهِ الصَّغِيرِ فِي اسْتِيفَاءِ حُقُوقِهِ كَوِلَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ يَجْمَعُ الْمَالَ ، وَالنَّفْسَ جَمِيعًا ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ لَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ نَظَرًا لِلصَّبِيِّ وَفِي اسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ نَظَرًا لَهُ ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَفُوتُ بِمَوْتِ الْقَاتِلِ ، أَوْ بِهَرَبِهِ ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَسْتَوْفِ الْقِصَاصَ عَلَى فَوْرِ الْقَتْلِ فَعَلَ مَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَائِهِ بَعْدَ ذَلِكَ ، ثُمَّ الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ لِلصَّبِيِّ بِاسْتِيفَاءِ أَبِيهِ إذَا بَلَغَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَرَ قَاتِلَ وَلِيِّهِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَعَلِمَ أَنَّهُ قُتِلَ قِصَاصًا حَصَلَ التَّشَفِّي نَظِيرَ مَا لَوْ زَوَّجَهُ الْأَبُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ لَهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ أَنْ يَنْدَفِعَ عَنْهُ شَرُّ الْقَتْلِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِاسْتِيفَاءِ أَبِيهِ فِي الْحَالِ وَشُبْهَةُ عَفْوٍ بِتَوَهُّمِ وُجُودِهِ فِي الْحَالِ تَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْقَوَدِ .
فَأَمَّا شُبْهَةُ عَفْوٍ بِتَوَهُّمِ اعْتِرَاضِهِ فِي الثَّانِي فَلَا يَمْنَعُ ؛
لِأَنَّهُ مَا مِنْ وَلِيٍّ إلَّا وَيُتَوَهَّمُ أَنْ يَبْدُوَ لَهُ فَيَعْفُوَ وَلَا مَعْنًى لِمَا قَالَ : أَنَّ فِيهِ قَطْعَ خِيَارِهِ ؛ لِأَنَّ لِلْأَبِ أَنْ يَبِيعَ مَالَ وَلَدِهِ وَلَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ قَبْلَ الْبَيْعِ كَانَ مُخَيَّرًا بَيْنَ اسْتِيفَاءِ الْعَيْنِ وَبَيْنَ إزَالَتِهِ بِالْبَيْعِ ، ثُمَّ لَمْ يَكُنْ بَيْعُهُ قَطْعًا لِخِيَارِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ ، وَلَيْسَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ فِي النَّفْسِ ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْوَلِيِّ مَقْصُورٌ عَلَى الْمَالِ ، وَالْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ لَيْسَ بِمَالٍ وَفِي اسْتِيفَاءِ الْوَصِيِّ الْقِصَاصَ فِي الطَّرَفِ رِوَايَتَانِ أَظْهَرُهُمَا أَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ ؛ لِأَنَّ الطَّرَفَ يُسْلَكُ بِهِ مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهِ التَّسَاوِي فِي الْبَدَلِ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِي ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ فِي الطَّرَفِ لَيْسَ بِمَالٍ كَالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ ، فَإِنْ صَالَحَ الْأَبُ عَلَى ابْنِهِ جَازَ صُلْحُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ الِاسْتِيفَاءَ ، وَهُوَ فِي ذَلِكَ كَالْقِصَاصِ الْوَاجِبِ لَهُ فَكَذَلِكَ الصُّلْحُ عَلَى الدِّيَةِ ، وَإِنْ حَطَّ مِنْ الدِّيَةِ لَمْ يَجُزْ حَطُّهُ ، وَالْيَسِيرُ وَالْفَاحِشُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ بِخِلَافِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ هُنَاكَ غَيْرُ مُقَدَّرٍ شَرْعًا وَهُنَا مُقَدَّرٌ ، وَهُوَ الدِّيَةُ ، فَالنُّقْصَانُ عَنْهُ يَكُونُ إسْقَاطًا فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ وَصُلْحُ الْوَصِيِّ عَنْ النُّقْصَانِ فِي النَّفْسِ عَلَى الدِّيَةِ يَجُوزُ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ وَلَا يَجُوزُ فِي رِوَايَةِ الصُّلْحِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الرِّوَايَتَيْنِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمَقْتُولِ وَلِيٌّ سِوَى السُّلْطَانِ ، فَقَدْ بَيَّنَّا الْكَلَامَ فِيهِ فِي اللَّقِيطِ .
وَإِنْ كَانَ لِلدَّمِ وَلِيَّانِ أَحَدُهُمَا غَائِبٌ فَادَّعَى الْقَاتِلُ أَنَّ الْغَائِبَ عَفَا عَنْهُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ وَأَبَى قَتْلَهُ وَأُجِيزَ الْعَفْوُ مِنْ الْغَائِبِ ؛ لِأَنَّ الْحَاضِرَ خَصْمٌ عَنْ الْغَائِبِ فَانْتَصَبَ هُنَا الْحَاضِرُ خَصْمًا عَنْ الْغَائِبِ ، وَإِذَا قَضَى بِالْعَفْوِ ، ثُمَّ حَضَرَ الْغَائِبُ لَمْ يَعُدْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ اتَّصَلَ بِالْبَيِّنَةِ عَلَى مَنْ هُوَ خَصْمٌ وَيَكُونُ لِلْحَاضِرِ حِصَّتُهُ مِنْ الدِّيَةِ ، وَإِذَا ادَّعَى عَفْوَ الْغَائِبِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَحْلِفَ فَإِنَّهُ يُؤَخَّرُ حَتَّى يَقْدُمَ الْغَائِبُ فَيَحْلِفَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَحْلَفَ الْحَاضِرَ عَلَى ذَلِكَ كَانَ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ ، وَالنِّيَابَةُ لَا تَجْرِي فِي الْأَيْمَانِ ، وَلَيْسَ لِلْحَاضِرِ اسْتِيفَاءُ الْقَوَدِ مَا لَمْ يَقْدُمْ الْغَائِبُ قَبْلَ دَعْوَى الْعَفْوِ فَبَعْدَ دَعْوَى الْعَفْوِ أَوْلَى ، فَإِذَا قَدِمَ فَحَلَفَ اُقْتُصَّ مِنْهُ ، فَإِنْ ادَّعَى بَيِّنَةً حَاضِرَةً عَلَى الْعَفْوِ أَجَّلَهُ الْحَاكِمُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ الْحُجَّةِ إلَّا بِمُهْلَةٍ ، وَإِنَّمَا لَمْ يُحْضِرْ شُهُودَهُ فِي الْمَجْلِسِ الْأَوَّلِ عَلَى ظَنِّ أَنَّ الْخَصْمَ لَا يُنْكِرُ الْعَفْوَ فَلَا بُدَّ مِنْ إمْهَالِهِ إلَى الْمَجْلِسِ الثَّانِي ، وَقَدْ كَانَ الْقَاضِي فِيهِمْ يَجْلِسُ بِنَفْسِهِ فِي كُلِّ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إذْ الثَّلَاثَةُ مُدَّةٌ حَسَنَةٌ لِإِيلَاءِ الْأَعْذَارِ كَمَا فِي شَرْطِ الْخِيَارِ ، فَإِنْ مَضَتْ الثَّلَاثَةُ وَلَمْ يَأْتِ بِهِمْ وَادَّعَى بَيِّنَةً غَائِبَةً فَهُمَا سَوَاءٌ فِي الْقِيَاسِ وَيَنْبَغِي فِي قِيَاسِ قَوْلِنَا أَنْ يَمْضِيَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ كَمَا فِي الْمَالِ إذَا ادَّعَى بَيِّنَةً غَائِبَةً عَلَى الْإِبْرَاءِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُطْلَقَ لِاسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ قَدْ ظَهَرَ ، وَالْمَانِعُ مَوْهُومٌ ، وَالْمَوْهُومُ لَا يُعَارِضُ الْمُتَحَقِّقَ فَلَيْسَ كُلُّ غَائِبٍ يَئُوبُ قَالَ : وَلَكِنِّي أَسْتَعْظِمُ وَلَا أُعَجِّلُ فِيهِ بِالْقِصَاصِ حَتَّى أُثْبِتَ فِيهِ وَأَسْتَأْنِي بِهِ وَلَا
أُعَجِّلُهُ ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ إذَا وَقَعَ الْغَلَطُ فِيهِ لَا يُمْكِنُ التَّدَارُكُ وَالتَّلَافِي ، وَعَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَتَثَبَّتَ فِي مِثْلِهِ ، ثُمَّ الْقِصَاصُ لَا يُسْتَوْفَى مَعَ الشُّبْهَةِ فَبِاعْتِبَارِ تَوَهُّمِ حُضُورِ شُهُودِهِ يَتَأَنَّى فِيهِ الْقَاضِي حَتَّى لَا يَكُونَ مُسْتَوْفِيًا مَعَ الشُّبْهَةِ بِخِلَافِ الْمَالِ .
وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى أَحَدِ الْوَرَثَةِ بِعَيْنِهِ بِالْعَفْوِ ، أَوْ بِأَنَّهُ أَقَرَّ أَنَّ فُلَانًا لَمْ يَقْتُلْ ، فَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَلَوْ عَايَنَاهُ عَفَا ، أَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ سَقَطَ الْقِصَاصُ سَوَاءً أَقَرَّ بِذَلِكَ فِي صِحَّتِهِ ، أَوْ مَرَضِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنْ الْقَوَدِ لَيْسَ بِمَالٍ .
وَإِذَا كَانَ الدَّمُ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا ، ثُمَّ قَتَلَهُ الْآخَرُ عَمْدًا ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِعَفْوِ الشَّرِيكِ ، أَوْ عَلِمَ بِذَلِكَ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ بِعَفْوِ أَحَدِهِمَا يَسْقُطُ الْقَوَدُ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً فِي مَالِهِ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ ، وَإِنْ كَانَ فَقِيهًا يَعْلَمُ أَنَّ الْقَوَدَ يَسْقُطُ بِعَفْوِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ أَمَّا زُفَرُ فَيَقُولُ الْقَوَدُ سَقَطَ بِعَفْوِ أَحَدِهِمَا عَلِمَ الْآخَرُ ، أَوْ لَمْ يَعْلَمْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ حَالُهُ أَوْلَمَ يَشْتَبِهْ فَإِنَّمَا بَقِيَ مُجَرَّدُ الظَّنِّ فِي حَقِّ الْآخَرِ ، وَالظَّنُّ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ وُجُوبِ الْقِصَاصِ بَعْدَ مَا تَقَرَّرَ سَبَبُهُ كَمَا لَوْ قَتَلَ رَجُلًا عَلَى ظَنٍّ أَنَّهُ قَتَلَ وَلِيَّهُ ، ثُمَّ جَاءَ وَلِيُّهُ حَيًّا كَانَ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ عَلِمَ وُجُوبَ الْقِصَاصِ وَمَا عُلِمَ ثُبُوتُهُ ، فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ مَا لَمْ يَعْرِفْ الْمُسْقِطَ ، فَإِذَا لَمْ يَعْلَمْ الْعَفْوَ كَانَ الْقِصَاصُ وَاجِبًا فِي حَقِّهِ ظَاهِرًا ، وَالظَّاهِرُ يَصِيرُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ بِالْعَفْوِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْقَوَدَ سَقَطَ بِهِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ تَصَرُّفَ الْغَيْرِ فِي حَقِّهِمْ غَيْرُ نَافِذٍ وَسُقُوطَ الْقَوَدِ عِنْدَ عَفْوِ أَحَدِهِمَا بِاعْتِبَارِ مَعْنًى خَفِيٍّ ، وَهُوَ أَنَّ الْقِصَاصَ لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ فَإِنَّمَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ حُكْمٌ قَدْ يَشْتَبِهُ فَيَصِيرُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الظَّاهِرِ فِي إيرَاثِ الشُّبْهَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ بِالْعَفْوِ فَإِنَّ هُنَاكَ قَدْ ظَهَرَ الْمُسْقِطُ عِنْدَهُ وَأَقْدَمَ عَلَى الْقَتْلِ مَعَ الْعِلْمِ بِالْحُرْمَةِ ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَسْقُطَ الْقَوَدُ بِاعْتِبَارِ ظَنِّهِ كَمَا لَوْ رَمَى إلَى شَخْصٍ ظَنَّهُ كَافِرًا ، فَإِذَا هُوَ مُسْلِمٌ ، وَإِذَا سَقَطَ الْقَوَدُ عَنْهُ بِالشُّبْهَةِ لَزِمَهُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ عَمْدٌ ، ثُمَّ يُحْسَبُ لَهُ مِنْهَا نِصْفُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ بِعَفْوِ الشَّرِيكِ وَجَبَ لَهُ نِصْفُ
الدِّيَةِ عَلَى هَذَا الَّذِي قَتَلَهُ فَيَكُونُ نِصْفُ الدِّيَةِ قِصَاصًا بِنِصْفِ الدِّيَةِ وَيُؤَدِّي مَا بَقِيَ .
وَإِذَا وَجَبَ الْقِصَاصُ عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ وَلِيُّ الدَّمِ بِسَيْفٍ ، أَوْ عَصَا ، أَوْ وَقَعَ فِي بِئْرٍ حَفَرَهَا فِي الطَّرِيقِ أَوْ عَثَرَ بِحَجَرٍ وَضَعَهُ فِي الطَّرِيقِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ دَمَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ كَالْمُبَاحِ فَإِنَّ الدَّمَ لَا يُمْلَكُ ، وَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ بِطَرِيقِ الْإِبَاحَةِ وَذَلِكَ يَمْنَعُ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ إذَا صَارَ قَاتِلًا لَهُ بِالْمُبَاشَرَةِ ، أَوْ بِالسَّبَبِ ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ مِنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِطَرِيقِهِ ؛ لِأَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ بِفِعْلٍ يَتَّصِلُ بِهِ زَهُوقُ الرُّوحِ ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ مِنْهُ بِطَرِيقِ التَّسَبُّبِ ، أَوْ بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ .
فَإِنْ كَانَ لَهُ وَلِيَّانِ فَعَفَا أَحَدُهُمَا ، ثُمَّ أَصَابَهُ هَذَا الْأَحَدُ بَعْدَ الْعَفْوِ فَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ إلَّا بِالسَّيْفِ فَإِنَّهَا فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّ الْقَوَدَ سَقَطَ بِعَفْوِ أَحَدِهِمَا وَصَارَ فِي حُكْمِ الْقَتْلِ الْمُوجِبِ لِلْمَالِ عَلَيْهِ كَأَنَّ مَا سَبَقَ لَمْ يَكُنْ ، فَإِذَا أَخَذَ الدِّيَةَ أَوْلِيَاءُ الْقَتِيلِ خَطَأً رَجَعَ هَذَا الْقَاتِلُ خَطَأً بِنِصْفِ الدِّيَةِ الَّتِي أَخَذَهَا أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ خَطَأً ؛ لِأَنَّهُ بِعَفْوِ شَرِيكِهِ انْقَلَبَ نَصِيبُهُ مَالًا وَكَانَ ذَلِكَ فِي ذِمَّةِ الْقَاتِلِ وَبَدَلُ نَفْسِهِ بِمَنْزِلَةِ تَرِكَتِهِ فَيُسْتَوْفَى مِنْهُ مَا كَانَ وَاجِبًا لَهُ فِي ذِمَّتِهِ وَلَا مُقَاصَّةَ هَاهُنَا لِاخْتِلَافِ الْمَحَلِّ ، فَإِنَّ بَدَلَ نَفْسِهِ عَلَى عَاقِلَةِ وَلِيِّ الدَّمِ الَّذِي لَمْ يَعْفُ ، وَلَوْ قَتَلَهُ غَيْرُ الْوَلِيِّ بِغَيْرِ أَمْرِ الْوَلِيِّ عَمْدًا ، أَوْ خَطَأً بَطَلَ دَمُ الْأَوَّلِ وَلَا شَيْءَ لِوَلِيِّهِ وَيَكُونُ عَلَى الْقَاتِلِ الْآخَرِ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ ، وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي الْخَطَأِ ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ نَفْسِهِ فِي حَقِّ غَيْرِ الْوَلِيِّ قَائِمَةٌ كَمَا كَانَتْ وَسَقَطَ حَقُّ الْمَوْلَى لِفَوَاتِ مَحَلِّهِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الثَّابِتَ فِي
حَقِّهِ إبَاحَةُ الِاسْتِيفَاءِ أَوْ الْمِلْكِ فِي حَقِّ الِاسْتِيفَاءِ خَاصَّةً وَذَلِكَ لَا يَتَحَوَّلُ إلَى الْبَدَلِ كَمِلْكِ الزَّوْجِ فِي زَوْجَتِهِ لَا يَثْبُتُ فِيهِ الْبَدَلُ إذَا وُطِئَتْ بِالشُّبْهَةِ ، وَإِذَا قَتَلَهُ فَقَالَ الْوَلِيُّ أَنَا كُنْت أَمَرْتُهُ ، فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى هَذَا فَلَا شَيْءَ عَلَى الْقَاتِلِ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ ، وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي الْخَطَأِ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا لَا يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَهُ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ قَدْ سَقَطَ لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ ، فَهُوَ فِيمَا يَدَّعِي بَعْدَ ذَلِكَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ ، وَبَدَلُ نَفْسِ الْمَقْتُولِ الثَّانِي وَاجِبٌ لِوَرَثَتِهِ لَا قَوْلَ لِوَلِيِّ الْأَوَّلِ فِي إسْقَاطِ حَقِّهِمْ قِصَاصًا كَانَ ، أَوْ مَالًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
( قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ ) رَجُلٌ قَتَلَ رَجُلًا خَطَأً ، فَالدِّيَةُ بَيْنَ جَمِيعِ الْوَرَثَةِ ، وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ كَسَائِرِ التَّرِكَةِ ؛ لِأَنَّ الدِّيَةَ مَالٌ هُوَ بَدَلُ نَفْسِهِ فَيَكُونُ تَرْكُهُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ كَسَائِرِ أَمْوَالِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الِاخْتِلَافَ فِي الزَّوْجِ ، وَالزَّوْجَةِ ، وَقَدْ كَانَ فِي السَّلَفِ مَنْ يَقُولُ لَا شَيْءَ لِلْأُخْوَةِ لِلْأُمِّ مِنْ الدِّيَةِ ، وَإِنَّمَا الدِّيَةُ لِلْعَصَبَاتِ خَاصَّةً وَقِيلَ هُوَ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْأَوَّلُ ؛ وَلِهَذَا ذَكَرَ فِي الْأَصْلِ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَنْسُبُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى الظُّلْمِ مَعَ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيْنَمَا دَارَ عُمَرُ ، فَالْحَقُّ مَعَهُ } وَفِي رِوَايَةٍ { أَيْنَمَا دَارَ الْحَقُّ فَعُمَرُ مَعَهُ } ، وَقَدْ صَحَّ رُجُوعُ عُمَرَ عَنْ هَذَا حَيْثُ رَوَى لَهُ الضَّحَّاكُ بْنُ سُفْيَانَ الْكِلَابِيُّ الْحَدِيثَ كَمَا رَوَيْنَا وَلَا حَقَّ لِلْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ فِي دَمِ الْعَمْدِ ؛ لِأَنَّ مُوجِبَهُ الْقِصَاصُ ، وَلَيْسَ بِمَالٍ وَلَا يَحْتَمِلُ التَّمْلِيكَ بِالْعَقْدِ وَكَمَا لَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الشَّرِكَةِ فِي الِاسْتِيفَاءِ فَكَذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ عَفْوُهُ فِيهِ ، فَإِنْ صُولِحَ الْقَاتِلُ عَلَى مَالِ دَخَلَ فِيهِ الْمُوصَى لَهُ ؛ لِأَنَّهُ الْوَاجِبُ بَدَلَ نَفْسِهِ فَيَكُونُ تَرِكَةً لَهُ يَقْضِي مِنْهُ دُيُونَهُ وَيَنْفُذُ وَصَايَاهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَاجِبِ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ ، ثُمَّ هُوَ شَرِيكُ الْوَرَثَةِ فِي التَّرِكَةِ فَيَجُوزُ عَفْوُهُ بَعْدَ الصُّلْحِ فِي نَصِيبِهِ كَمَا يَجُوزُ عَفْوُ الْوَارِثِ .
، وَلَيْسَ لِلْغُرَمَاءِ عَفْوٌ فِي عَمْدٍ وَلَا خَطَإٍ أَمَّا الْعَمْدُ فَلِأَنَّ مُوجِبَهُ لَيْسَ بِمَالٍ وَلَا حَقَّ لِلْغُرَمَاءِ فِيهِ وَأَمَّا الْخَطَأُ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي عَفْوِهِمْ عَنْ الدِّيَةِ إسْقَاطُ شَيْءٍ مِنْ دِيَتِهِمْ ، وَإِنَّمَا وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ لَهُمْ فِي مَحَلِّ حَقِّهِمْ ، فَإِذَا لَمْ يُلَاقِ هَذَا التَّصَرُّفُ مِنْهُمْ مَحَلَّ حَقِّهِمْ كَانَ بَاطِلًا .
وَإِذَا عَفَا الرَّجُلُ عَنْ دَمِهِ ، وَهُوَ خَطَأٌ ثُلُثُهُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ جَازَ عَفْوُهُ مِنْ ثُلُثِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ فَيَكُونُ عَفْوُهُ وَصِيَّةً مِنْهُ لِلْعَاقِلَةِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْ ثُلُثِهِ وَمَا فِيهِ مِنْ الْإِشْكَالِ بَيَّنَّاهُ فِي الْوَصَايَا ، فَإِنْ كَانَ أَوْصَى مَعَ ذَلِكَ بِوَصَايَا تَحَاصَّ أَهْلُ الْوَصَايَا ، وَالْعَاقِلَةُ فِي ثُلُثِهِ فَسَقَطَ عَنْ الْعَاقِلَةِ حِصَّتُهُمْ وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ نَصِيبِ أَصْحَابِ الْوَصَايَا ، وَالْوَرَثَةِ يَكُونُ مُؤَجَّلًا عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَهَذَا تِبْيَانُ أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْعَاقِلَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقَاتِلَ لَكَانَ الْأَجَلُ سَقَطَ بِمَوْتِهِ ، فَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدًا بُدِئَ بِهِ مِنْ الثُّلُثِ ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ أَقْوَى سَبَبًا مِنْ سَائِرِ الْوَصَايَا ، وَمِنْ الْعَفْوِ فَإِنَّهُ إسْقَاطٌ لِلرِّقِّ بِمَنْزِلَةِ الْإِبْرَاءِ عَنْ دَيْنٍ آخَرَ ، وَإِنْ لَمْ يَعْفُ الْمَيِّتُ ، وَلَكِنْ عَفَا بَعْضُ الْوَرَثَةِ بَطَلَتْ حِصَّةُ الْعَافِي إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ مُسْتَغْرِقٌ ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْإِبْرَاءِ عَنْ دَيْنٍ آخَرَ .
إذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ مِنْ الْوَرَثَةِ عَلَى بَعْضِهِمْ أَنَّهُ عَفَا عَنْ حِصَّتِهِ ، وَالْقَتْلُ خَطَأٌ فَشَهَادَتُهُمَا جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَجُرَّانِ إلَى أَنْفُسِهِمَا شَيْئًا بِشَهَادَتِهِمَا بِخِلَافِ الْعَمْدِ فَهُنَاكَ يَنْقُلَانِ حَقَّهُمَا مِنْ الْقِصَاصِ إلَى الدِّيَةِ بِشَهَادَتِهِمَا وَلَوْ كَانَ الشَّاهِدَانِ أَخَذَا طَائِفَةً مِنْ الدِّيَةِ ، ثُمَّ شَهِدَا بِذَلِكَ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا يَدْفَعَانِ حَقَّ الثَّالِثِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا ، وَقَدْ كَانَ لِلْوَارِثِ الْآخَرِ حَقُّ الْمُشَارَكَةِ مَعَهُمَا فِيمَا أَخَذَا ، وَإِنَّمَا يُسْقِطَانِ ذَلِكَ بِشَهَادَتِهِمَا ؛ لِأَنَّهُمَا وَلَوْ لَمْ يَأْخُذَا شَيْئًا حَتَّى شَهِدَا عَلَى الثَّالِثِ أَنَّهُ أَخَذَ مَالًا وَصَالَحَ عَلَيْهِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا يَجُرَّانِ بِهَا إلَى أَنْفُسِهِمَا مَغْنَمًا فَإِنَّهُ يَثْبُتُ لَهُمَا حَقُّ الْمُشَارَكَةِ مَعَ الْقَابِضِ فِي الْمَقْبُوضِ وَشَهَادَةُ جَارِّ الْمَغْنَمِ ، أَوْ دَافِعِ الْمَغْرَمِ لَا تُقْبَلُ .
وَإِنْ شَهِدَ وَارِثَانِ عَلَى الْمَقْتُولِ أَنَّهُ عَفَا عِنْدَ مَوْتِهِ عَنْ الْقَاتِلِ فَشَهَادَتُهُمَا جَائِزَةٌ ، وَالْعَفْوُ مِنْ ثُلُثِهِ فَإِنَّهُ لَا تُهْمَةَ فِي شَهَادَتِهِمَا ، فَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى عَفْوِ الْوَرَثَةِ وَهُمْ كِبَارٌ فَأَجَازَهُ الْقَاضِي وَأَبْرَأَ الْقَاتِلَ ، ثُمَّ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا ضُمِّنَا الدِّيَةَ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ كَانَ هُوَ الْمَالُ لِلْوَرَثَةِ ، وَقَدْ أَتْلَفَا ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِشَهَادَتِهِمَا فَيُضَمَّنَانِ عِنْدَ الرُّجُوعِ كَمَا لَوْ شَهِدَا بِالْإِبْرَاءِ عَنْ دَيْنٍ آخَرَ .
وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ فِي دَمِ الْعَمْدِ عَلَى أَحَدِ الْوَرَثَةِ بِعَيْنِهِ أَنَّهُ أَخَّرَ الْقَاتِلَ الْيَوْمَ إلَى اللَّيْلِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَفْوًا وَلَا مَالَ لَهُ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ ، وَلَيْسَ فِي هَذَا التَّأْخِيرِ إسْقَاطُ شَيْءٍ مِنْ الْقَوَدِ وَالْقَوَدُ الْوَاجِبُ لَهُ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ ، فَالتَّأْجِيلُ فِيهِ يَكُونُ بَاطِلًا وَلَا مَالَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ لَمْ يَسْتَفِدْ شَيْئًا بِهَذَا التَّأْخِيرِ ، وَإِنْ شَهِدَا أَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ فَهَذَا عَفْوٌ ، وَهُوَ صُلْحٌ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ إسْقَاطٌ لِلْقَوَدِ ، وَهُوَ لَا يَقْبَلُ التَّوْقِيتَ فَيَلْغُو التَّوْقِيتُ مِنْهُ وَيَصِحُّ الْعَفْوُ بِالْمَالِ الْمُسَمَّى بِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ وَذُكِرَ عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ قَالَ : وَجَدَ رَجُلٌ مَعَ امْرَأَتِهِ رَجُلًا فَقَتَلَهُمَا بِالسَّيْفِ فَاسْتَحْيَا بَعْضُ إخْوَتِهَا مِمَّا فَعَلَتْ فَعَفَا عَنْهُ ، فَجَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلَّذِي لَمْ يَعْفُ حِصَّتَهُ مِنْ الدِّيَةِ .
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَخَذَ السِّكِّينَ فَوَجَأَ بِهِ رَأْسَ إنْسَانٍ فَأَوْضَحَهُ ، ثُمَّ جَرَّ السِّكِّينَ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَهَا حَتَّى شَجَّهُ أُخْرَى فَهَذِهِ مُوضِحَةٌ وَاحِدَةٌ وَعَلَيْهِ فِيهَا الْقِصَاصُ إنْ كَانَتْ عَمْدًا وَأَرْشُ مُوضِحَةٍ وَاحِدَةٍ إنْ كَانَتْ خَطَأً ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ وَاحِدٌ لِاتِّحَادِ مَحَلِّهِ ، فَالتَّوَسُّعُ مُبَالَغَةٌ مِنْهُ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ فَلَا يُعْطَى لَهُ حُكْمُ فِعْلٍ آخَرَ وَلَوْ رَفَعَ السِّكِّينَ ، ثُمَّ وَجَأَ إلَى جِهَةٍ أُخْرَى اتَّصَلَ ، أَوْ لَمْ يَتَّصِلْ فَهَذِهِ مُوضِحَةٌ أُخْرَى : اُقْتُصَّ مِنْهُ فِي الْعَمْدِ وَعَلَيْهِ أَرْشُ مُوضِحَتَيْنِ فِي الْخَطَأِ ؛ لِأَنَّهُمَا فِعْلَانِ مُخْتَلِفَانِ بِاخْتِلَافِ الْمَحَلِّ وَاخْتِلَافِ الْمُبَاشَرَةِ فَكَأَنَّهُمَا حَصَلَا مِنْ اثْنَيْنِ ، ثُمَّ اتِّصَالُ أَحَدِهِمَا بِالْأُخْرَى عَلَى وَجْهَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِفِعْلِهِ فَلَا شَكَّ أَنَّ عَلَيْهِ الْقِصَاصَ فِيهِمَا ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِأَنْ تَآكَلَ مَا بَيْنَهُمَا حَتَّى اتَّصَلَتْ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا قِصَاصَ فِيهِمَا وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ يَجِبُ الْقِصَاصُ ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ فَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ بِاعْتِبَارِ السِّرَايَةِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ يَمْتَنِعُ وُجُوبُ الْقِصَاصِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ وَفِي مَجْلِسٍ ؛ لِأَنَّ الْعَمْدَ الْمَحْضَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ لَا يَتَحَقَّقُ بِالسَّرَايَةِ وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ إذَا كَانَتْ السِّرَايَةُ بِحَيْثُ يُمْكِنُ إيجَابُ الْقِصَاصِ فِيهَا لَمْ يَمْتَنِعْ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ بِسَبَبِهَا وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا إذَا قَطَعَ أُصْبُعًا فَشُلَّتْ إلَى جَنْبِهَا أُخْرَى ، أَوْ سَقَطَتْ .
وَإِذَا فَقَأَ الرَّجُلُ عَيْنَ الرَّجُلِ وَفِي عَيْنِ الْفَاقِئِ نَقْصٌ ، فَالْمَفْقُوءَةُ عَيْنُهُ بِالْخِيَارِ ؛ لِأَنَّ نُقْصَانَ الْبَصَرِ فِي الْعَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الشَّلَلِ أَوْ فَوَاتِ الْأُصْبُعِ فِي الْيَدِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هُنَاكَ إنْ كَانَ النُّقْصَانُ فِي جَانِبِ الْجَانِي ، فَالْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ وَبَيْنَ اسْتِيفَاءِ الدِّيَةِ ، وَإِنْ كَانَ النُّقْصَانُ فِي جَانِبِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ فَهَذَا مِثْلُهُ ، وَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْقِصَاصُ كَانَ الْوَاجِبُ فِيهَا حُكْمُ عَدْلٍ ؛ لِأَنَّ كَمَالَ الْأَرْشِ بِاعْتِبَارِ تَفْوِيتِ الْبَصَرِ الْكَامِلِ وَلَمْ يُوجَدْ ، وَالْقَدْرُ الْبَاقِي مِنْ الْبَصَرِ مَعَ النُّقْصَانِ غَيْرُ مَعْلُومٍ فَيَكُونُ الْوَاجِبُ فِيهِمَا حُكْمُ عَدْلٍ كَمَنْ قَطَعَ يَدًا شَلَّاءَ .
وَلَوْ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ وَفِيهَا ظُفْرٌ مُسَوَّدٌ لَوْ خَرَجَ لَا يَنْقُصُهَا فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّ مَا حَدَثَ فِي يَدِهِ لَمْ يُنْقِصْ مِنْ مَنْفَعَةِ الْبَطْشِ شَيْئًا وَمِثْلُهُ لَا يُمَكِّنُ نُقْصَانًا فِي بَدَلِهِ كَالصِّغَرِ وَسَوَادِ الْيَدِ أَصْلًا ، وَإِذَا ثَبَتَتْ الْمُسَاوَاةُ فِي الْأَرْشِ ثَبَتَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ .
وَإِذَا قَطَعَ الرَّجُلُ مِنْ كَفِّ الرَّجُلِ أَظْفَارَ يَدِهِ فَفِيهَا حُكْمُ عَدْلٍ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْجِنَايَةَ لَا تُفَوِّتُ مَنْفَعَةَ الْبَطْشِ ، وَلَكِنْ يَتَمَكَّنُ فِيهَا نُقْصَانٌ فَيَجِبُ بِاعْتِبَارِهِ حُكْمُ عَدْلٍ ، وَإِذَا عُلِمَ أَنَّ الْوَاجِبَ حُكْمُ الْعَدْلِ ظَهَرَ أَنَّهُ لَا قِصَاصَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ يَنْبَنِي عَلَى مَعْرِفَةِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْبَدَلِ حَقِيقَةً وَلَوْ قَطَعَ مِنْ كَفِّ رَجُلٍ أُصْبُعًا زَائِدًا فَفِيهَا حُكْمُ عَدْلٍ ؛ لِأَنَّ الْأُصْبُعَ الزَّائِدَةَ نُقْصَانُ مَعْنًى فَتَفْوِيتُهَا لَا يُمَكِّنُ نُقْصَانًا فِي الْبَطْشِ ، وَإِنَّمَا يُلْحِقُ بِهِ أَلَمًا وَشَيْنًا فِي الظَّاهِرِ بِاعْتِبَارِ الْأَثَرِ فَيَجِبُ حُكْمُ عَدْلٍ بِاعْتِبَارِهِ وَلَا قِصَاصَ فِيهَا وَإِنْ كَانَ لِلْقَاطِعِ مِثْلُ تِلْكَ الْأُصْبُعِ لِانْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْبَدَلِ فَبَدَلُ الْيَدِ يَنْقَسِمُ عَلَى الْأَصَابِعِ الْخَمْسِ أَخْمَاسًا وَلَا يَنْقَسِمُ عَلَى الْأُصْبُعِ الزَّائِدَةِ ، وَإِنَّمَا الْأُصْبُعُ الزَّائِدَةُ كَالثُّؤْلُولِ ، وَإِنْ قَطَعَ الْكَفَّ كُلَّهُ ، فَإِنْ كَانَتْ تِلْكَ الْأُصْبُعُ تُوهِي الْكَفَّ وَتَنْقُصُهَا فَلَا قِصَاصَ فِيهَا وَفِيهَا حُكْمُ عَدْلٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا نَوْعُ شَلَلٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُمَكِّن نُقْصَانًا فِي مَنْفَعَةِ الْبَطْشِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُنْقِصُهَا وَلَا يُوهِيهَا فَفِيهَا الْقِصَاصُ وَفِي الْخَطَأِ الْأَرْشُ كَامِلًا ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُمَكِّنُ نُقْصَانًا فِي مَنْفَعَةِ الْبَطْشِ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الصِّغَرِ ، وَالضَّعْفِ بِسَبَبِ الْمَرَضِ .
وَإِذَا قَطَعَ الرَّجُلُ يَدَ الرَّجُلِ مِنْ الْمَفْصِلِ وَبَرَأَتْ وَاقْتَصَّ وَبَرَأَ الْمُقْتَصُّ مِنْهُ ، ثُمَّ قَطَعَ أَحَدُهُمَا ذِرَاعَ صَاحِبِهِ مِنْ تِلْكَ الْيَدِ فَلَا قِصَاصَ فِيهِ ، وَإِنْ كَانَا سَوَاءً إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ : إذَا اسْتَوَيَا يَجِبُ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّهُ قَطْعٌ مِنْ الْمَفْصِلِ فَيُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ فِيهِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْوَاجِبُ فِي الذِّرَاعِ بَعْدَ قَطْعِ الْكَفِّ حُكْمُ عَدْلٍ فَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ التَّقْوِيمُ فَلَا يُعْلَمُ بِهِ حَقِيقَةُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي الْبَدَلِ وَبِدُونِ ذَلِكَ لَا يَجِبُ الْقِصَاصُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
( قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ ) إذَا شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ ضَرَبَ رَجُلًا بِالسَّيْفِ فَلَمْ يَزَلْ صَاحِبَ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ إبْرَاهِيمَ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ ، فَقَدْ ظَهَرَ بِمَوْتِهِ هَذَا السَّبَبُ وَلَمْ يُعَارِضْهُ سَبَبٌ آخَرُ فَيَجِبُ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَيْهِ ، وَالرُّوحُ لَا يُمْكِنُ أَخْذُهُ مُشَاهَدَةً ، وَإِنَّمَا طَرِيقُ الْوُصُولِ إلَى إزْهَاقِ الرُّوحِ هَذَا ، وَهُوَ أَنْ يَجْرَحَهُ فَيَمُوتَ قَبْلَ أَنْ يَبْرَأَ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ لَا طَرِيقَ لَنَا إلَى حَقِيقَةِ مَعْرِفَةِ كَوْنِ الْمَوْتِ مِنْ الضَّرْبَةِ وَمَا لَا طَرِيقَ لَنَا إلَى مَعْرِفَتِهِ لَا تَنْبَنِي عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ ، وَإِنَّمَا يَنْبَنِي عَلَى الظَّاهِرِ الْمَعْرُوفِ ، وَهُوَ أَنَّهُ يَضْرِبُهُ وَيَكُونُ صَاحِبَ فِرَاشٍ بَعْدَهُ حَتَّى يَمُوتَ وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَ الشُّهُودَ هَلْ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ أَمْ لَا لَا فِي الْعَمْدِ وَلَا فِي الْخَطَأِ ؛ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لَهُمْ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ وَلَوْ شَهِدُوا بِذَلِكَ كَانُوا قَدْ شَهِدُوا بِمَا يَعْلَمُ الْقَاضِي أَنَّهُمْ فِيهِ كَذَبَةٌ فَكَيْفَ يَحْمِلُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ بِالسُّؤَالِ عَنْ ذَلِكَ ، وَلَكِنَّهُمْ إنْ شَهِدُوا أَنَّهُ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ تَبْطُلْ شَهَادَتُهُمْ وَجَازَتْ إنْ كَانُوا عُدُولًا ؛ لِأَنَّهُمْ اعْتَدُّوا فِي ذَلِكَ دَلِيلًا شَرْعِيًّا ، وَهُوَ الظَّاهِرُ كَمَا قَرَّرْنَا ، وَإِنْ كَانَ بِهَذَا الطَّرِيقِ يَحْصُلُ عِلْمُ الْقَضَاءِ وَيَحْصُلُ لَهُ أَيْضًا عِلْمُ الشَّهَادَةِ إلَّا أَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِالْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَعْرِفُ ذَلِكَ بِدُونِ شَهَادَتِهِمْ فَلَا يَسْأَلُهُمْ عَنْهُ وَلَوْ شَهِدُوا بِهِ لَمْ يُبْطِلْ شَهَادَتَهُمْ ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ الْكَلَامُ الْأَوَّلُ فَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لَا تَكُونُ قَدَحًا فِيهَا بِمَنْزِلَةِ شَهَادَةِ الشُّهُودِ عَلَى أَنَّ هَذَا ابْنُهُ وَوَارِثُهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ .
وَإِذَا شَهِدُوا أَنَّهُ ضَرَبَهُ بِالسَّيْفِ حَتَّى مَاتَ وَلَمْ يَزِيدُوا عَلَى ذَلِكَ فَهَذَا عَمْدٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ فَاعِلٍ يَكُونُ قَاصِدًا إلَى فِعْلِهِ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي بَاشَرَ الْفِعْلَ فِيهِ إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا سَأَلَهُمَا أَتَعَمَّدَ ذَلِكَ ، فَهُوَ أَوْثَقُ ؛ لِأَنَّ صِفَةَ الْعَمْدِيَّةِ ، وَإِنْ ثَبَتَتْ بِأَوَّلِ كَلَامِهِمَا مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ ، وَلَكِنْ لَمْ يَنْقَطِعْ احْتِمَالُ الْخَطَأِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الشُّهُودَ لَوْ بَيَّنُوا أَنَّ ذَلِكَ كَانَ خَطَأً كَانَ ذَلِكَ بَيَانًا مُوَافِقًا لِأَوَّلِ الْكَلَامِ فَسُؤَالُهُمَا عَنْ الْعَمْدِيَّةِ لِإِزَالَةِ هَذَا الِاحْتِمَالِ يَكُونُ أَوْثَقَ وَهَكَذَا يُوَثِّقُ فِيمَا إذَا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ ، وَالْقَاضِي مَنْدُوبٌ إلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدَا أَنَّهُ طَعَنَهُ بِرُمْحٍ ، أَوْ رَمَاهُ بِسَهْمٍ ، أَوْ نُشَّابَةٍ فَهَذَا كُلُّهُ عَمْدٌ ( أَرَأَيْت ) لَوْ شَهِدَا أَنَّهُ ذَبَحَهُ ، أَوْ شَقَّ بَطْنَهُ بِالسِّكِّينِ حَتَّى مَاتَ أَمَّا كَانَ ذَلِكَ عَمْدًا فَكَذَلِكَ مَا سَبَقَ ؛ لِأَنَّ الْأَسْلِحَةَ فِي كَوْنِهَا آلَةَ الْقَتْلِ سَوَاءٌ ، وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ قَتَلَهُ بِسَيْفٍ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ طَعَنَهُ بِرُمْحٍ ، أَوْ أَنَّهُ ذَبَحَهُ بِالسِّكِّينِ ، أَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ رَمَاهُ بِسَهْمٍ ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ رَمَاهُ بِنُشَّابَةٍ ، أَوْ اخْتَلَفَا فِي مَكَانِ الْقَتْلِ ، أَوْ وَقْتِهِ ، أَوْ مَوْضِعِ الْجِرَاحَةِ مِنْ بَدَنِهِ ، فَالشَّهَادَةُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْآلَةِ ، وَالْمَحَلِّ ، وَالْوَقْتِ ، وَالْمَكَانِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّكْرَارَ وَلَمْ يُوجَدْ عَلَى كُلِّ فِعْلٍ إلَّا شَهَادَةَ شَاهِدٍ وَاحِدٍ .
وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ قَطَعَ يَدَهُ عَمْدًا مِنْ مَفْصِلِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ أَنَّهُ قَطَعَ رِجْلَهُ مِنْ الْمَفْصِلِ ، ثُمَّ شَهِدُوا جَمِيعًا أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ صَاحِبَ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ ، وَالْوَلِيُّ يَدَّعِي ذَلِكَ كُلَّهُ عَمْدًا فَإِنِّي أَقْضِي عَلَى الْقَاتِلِ بِنِصْفِ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الرِّجْلِ لَمْ يَثْبُتُ عِنْدَ الْقَاضِي فَإِنَّ الشَّاهِدَ بِهِ وَاحِدٌ ، وَقَدْ ثَبَتَ قَطْعُ الْيَدِ مِنْ الْمَفْصِلِ عِنْدَ الْقَاضِي بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ ، وَلَكِنْ قَدْ أَقَرَّ الْوَلِيُّ أَنَّهُ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ ، وَمِنْ فِعْلٍ آخَرَ لَمْ يَعْلَمْ فَاعِلَهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ وَيَتَوَزَّعُ بَدَلُ النَّفْسِ نِصْفَيْنِ فَيَلْزَمُهُ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ كَانَ عَمْدًا فَلَا يَعْقِلُهُ الْعَاقِلَةُ وَاقَرَارُ الْوَلِيِّ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فِي حَقِّهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ عَلَى الرَّجُلِ شَاهِدَانِ فَلَمْ يُزَكِّيَا ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ فِي الرَّجُلِ لَا تَتِمُّ بِدُونِ عَدَالَةِ الشُّهُودِ فَهُمَا وَمَا لَوْ كَانَ الشَّاهِدُ بِهِ وَاحِدًا سَوَاءٌ وَلَوْ زُكِّيَ أَحَدُ شَاهِدَيْ الْيَدِ وَأَحَدُ شَاهِدَيْ الرِّجْلِ لَمْ يُؤْخَذْ الْقَاتِلُ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ وَاحِدًا مِنْ الْفِعْلَيْنِ لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَ الْقَاضِي فَإِنَّ الْعَدْلَ مِنْ الشُّهُودِ بِكُلِّ فِعْلٍ وَاحِدٍ وَلَا يُقَالُ قَدْ اتَّفَقَ الْعَدْلَانِ عَلَى الْحُكْمِ ، وَهُوَ الْقِصَاصُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَقْضِيَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ بِالْحُكْمِ إلَّا بَعْدَ الْقَضَاءِ بِالسَّبَبِ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ الْقَضَاءُ بِذَلِكَ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلٌ أَنَّهُ قَطَعَ أُصْبُعًا لَهُ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ اسْتَهْلَكَ لَهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِشَيْءٍ ، فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى وُجُوبِ الْأَلْفِ لَهُ فِي مَالِهِ ، فَإِنْ نَكَلُوا جَمِيعًا قَضَيْت عَلَيْهِ بِالْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَيْنِ ظَهَرَا بِالْحَجْرِ عِنْدَ الْقَاضِي ، فَإِنْ طَلَبَ الْوَلِيُّ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ الْيَدِ ، وَالرِّجْلِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا
اتَّصَلَتْ بِفِعْلِهِ السِّرَايَةُ كَانَ ذَلِكَ قَتْلًا فَيَكُونُ حَقُّهُ فِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ مَقْصُودًا دُونَ الْأَطْرَافِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا خِلَافَ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا .
وَلَوْ شَهِدَ الشَّاهِدَانِ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَطَعَ يَدَهُ مِنْ الْمَفْصِلِ عَمْدًا ، ثُمَّ قَتَلَهُ عَمْدًا كَانَ لِوَارِثِهِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْ يَدِهِ ، ثُمَّ يَقْتُلَهُ ، فَإِنْ قَالَ الْقَاضِي لَهُ اُقْتُلْهُ وَلَا تَقْتَصَّ مِنْ يَدِهِ فَذَلِكَ حَسَنٌ أَيْضًا وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَأْمُرُهُ بِقَتْلِهِ وَلَا يَجْعَلُ لَهُ الْقِصَاصَ فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّ الْجِنَايَتَيْنِ تَوَالَيَا مِنْ وَاحِدٍ وَهُمَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ فَيَكُونَانِ كَجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ فِي الْخَطَأَ لَوْ قَطَعَ يَدَهُ ، ثُمَّ قَتَلَهُ قَبْلَ الْبُرْءِ لَا تَجِبُ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ لِهَذَا الْمَعْنَى وَهَذَا ؛ لِأَنَّ قَبْلَ الْبُرْءِ الْجِنَايَةُ الْأُولَى كَانَتْ مَوْقُوفَةً فِي حَقِّ الْحُكْمِ عَلَى السِّرَايَةِ ، فَالْفِعْلُ الثَّانِي يَكُونُ إتْمَامًا لِمَا يُوقَفُ عَلَيْهِ الْجِنَايَةُ الْأُولَى فَيُجْعَلَانِ كَجِنَايَةٍ وَاحِدَةٍ بِخِلَافِ مَا إذَا تَخَلَّلَ بَيْنَ الْجِنَايَتَيْنِ بُرْءٌ فَإِنَّ هُنَاكَ الْأُولَى قَدْ انْتَهَتْ وَاسْتَقَرَّ حُكْمُهَا بِالْبُرْءِ فَتَكُونُ الثَّانِيَةُ جِنَايَةً أُخْرَى بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ جُعِلَتْ عَلَى نَفْسٍ أُخْرَى وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْجَانِي اثْنَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ مِنْ الْأَوَّلِ مَا تَوَقَّفَ عَلَى أَنْ يَصِيرَ بِالسِّرَايَةِ فِعْلًا مُضَافًا إلَى شَخْصٍ آخَرَ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الثَّانِي إتْمَامًا لِلْأَوَّلِ وَبِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَحَدُ الْفِعْلَيْنِ عَمْدًا ، وَالْآخَرُ خَطَأً ؛ لِأَنَّ بِاخْتِلَافِ صِفَةِ الْفِعْلِ يَخْتَلِفُ الْمُوجِبُ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الثَّانِي إتْمَامًا لِلْأَوَّلِ كَمَا إذَا اخْتَلَفَ الْفَاعِلُ ، أَوْ مَحَلُّ الْفِعْلِ .
وَإِيضَاحُ جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا فِي فَصْلِ الْخَطَأِ أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ يَدَهُ ، ثُمَّ قَتَلَهُ قَبْلَ الْبُرْءِ لَا تَجِبُ إلَّا دِيَةٌ وَاحِدَةٌ كَذَا هُنَا وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ أَنَّ الْقِصَاصَ يُبْنَى عَلَى الْمُسَاوَاةِ فِي الْفِعْلِ ، وَالْمَقْصُودُ بِالْفِعْلِ فِي الْقَتْلِ وَالْقَطْعِ جَمِيعًا مُرَاعَاةُ الْمُسَاوَاةِ فِي صُورَةِ الْفِعْلِ جَمِيعًا فَيَتَخَيَّرُ الْوَلِيُّ بَيْنَهُمَا إلَى
أَنْ يَقْطَعَ الْإِمَامُ عَلَيْهِ هَذَا الْخِيَارَ بِأَنْ يَأْمُرَهُ بِاعْتِبَارِ الْمَقْصُودِ ، وَهُوَ الْقَتْلُ وَأَنْ يَتْرُكَ الِاسْتِيفَاءَ بِمُرَاعَاةِ الصُّورَةِ وَهَذَا مِنْهُ اجْتِهَادٌ فِي مَوْضِعِهِ فَعَلَيْهِ أَمْرُهُ بِهِ وَبِهِ فَارَقَ الْخَطَأَ ، فَالْمُعْتَبَرُ هُنَاكَ صِيَانَةُ الْمَحَلِّ عَنْ الْإِهْدَارِ لَا صُورَةُ الْفِعْلِ ؛ لِأَنَّ الْخَطَأَ مَوْضُوعٌ عَنَّا رَحْمَةً مِنْ الشَّرْعِ عَلَيْنَا ، ثُمَّ مَبْنِيٌّ الْعَمْدُ عَلَى التَّغْلِيظِ ، وَالتَّشْدِيدِ ؛ وَلِهَذَا يُقْتَلُ الْعَشَرَةُ بِالْوَاحِدِ وَفِيهِ مُرَاعَاةُ صُورَةِ الْفِعْلِ مَعَ التَّغْلِيظِ أَيْضًا فَيَجُوزُ اعْتِبَارُ ذَلِكَ فِي الْعَمْدِ بِخِلَافِ الْخَطَأِ فَإِنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْفِيفِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الدِّيَةَ لَا تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْقَاتِلِينَ وَفِي الْعَمْدِ الْمَقْصُودِ ، هُوَ التَّشَفِّي ، وَالِانْتِقَامُ وَفِي التَّمَكُّنِ مِنْ الْقَطْعِ ، وَالْقَتْلِ جَمِيعًا زِيَادَةُ تَحْقِيقٍ فِي هَذَا الْمَقْصُودِ وَكَمَا أَنَّ الْقَتْلَ بَعْدَ الْقَطْعِ يَكُونُ إتْمَامًا لِلْفِعْلِ الْأَوَّلِ مِنْ وَجْهٍ ، فَقَدْ يَكُونُ قَطْعًا لِمُوجِبِ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ بِمَنْزِلَةِ الْبُرْءِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمَحَلَّ يَفُوتُ بِهِ وَلَا تَصَوُّرَ لِلسِّرَايَةِ بَعْدَ فَوْتِ الْمَحَلِّ فَيُجْعَلُ كَالْبُرْءِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَلِلِاحْتِمَالِ أَثْبَتْنَا الْجَنَابَةَ لِلْأَوَّلِ تَغْلِيظًا لِحُكْمِ الْعَمْدِ وَلَا يُعْتَبَرُ ذَلِكَ فِي الْخَطَأِ ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْفِيفِ وَلَوْ كَانَتْ إحْدَى الْجِنَايَتَيْنِ خَطَأً ، وَالْأُخْرَى عَمْدًا أُخِذَ بِهِمَا جَمِيعًا ، فَإِنْ كَانَتْ الْأُولَى خَطَأً فَإِنَّهُ يَجِبُ دِيَةُ الْيَدِ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَيُقْتَلُ قِصَاصًا ، وَإِنْ كَانَتْ الثَّانِيَةُ خَطَأً فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ فِي الْيَدِ ، وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ فِي النَّفْسِ ؛ لِأَنَّهُ لَا احْتِمَال لِجَعْلِ الثَّانِي إتْمَامًا لِلْأَوَّلِ عِنْدَ اخْتِلَافِ صِفَةِ الْفِعْلِ وَمُوجِبِهِ فَيُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ تَخَلَّلَ بِالْجِنَايَتَيْنِ بُرْءٌ وَلَوْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْجِنَايَتَيْنِ جَانٍ عَلَى حِدَةٍ وَهُمَا جَمِيعًا
عَمْدٌ ، أَوْ خَطَأٌ ، أَوْ أَحَدُهُمَا عَمْدٌ ، وَالْأُخْرَى خَطَأٌ أُخِذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجِنَايَتِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْفِعْلَ الثَّانِيَ مِنْ غَيْرِ الْفَاعِلِ الْأَوَّلِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ إتْمَامًا لِلْأَوَّلِ فَكَأَنَّهُ تَخَلَّلَ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ بُرْءٌ فَيُؤْخَذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِجِنَايَتِهِ .
وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ هَذَا قَطَعَ يَدَهُ مِنْ مَفْصِلِ الْكَفِّ وَشَهِدَ آخَرُ عَلَى آخَرَ أَنَّهُ قَطَعَ تِلْكَ الْيَدَ مِنْ الْمِرْفَقِ ، ثُمَّ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ، وَالْقَطْعُ عَمْدٌ فَعَلَى قَاطِعِ الْكَفِّ الْقِصَاصُ فِي الْيَدِ وَعَلَى الْآخَرِ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ وَالشَّافِعِيُّ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مَقْتُولًا بِفِعْلَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَمْدٌ مَحْضٌ فَيَلْزَمُهُمَا الْقِصَاصُ كَمَا لَوْ قَطَعَ أَحَدُهُمَا يَدَهُ عَمْدًا ، وَالْآخَرُ رِجْلَهُ وَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ بِقَطْعِ يَدِهِ حَدَثَ فِي الْبَدَنِ آلَامٌ وَبِقَطْعِ الْآخَرِ الْيَدَ مِنْ الْمِرْفَقِ لَا تَنْعَدِمُ تِلْكَ الْآلَامُ ، بَلْ تَزْدَادُ ، وَإِنَّمَا حَصَلَتْ السِّرَايَةُ لِضَعْفِ الطَّبِيعَةِ عَنْ دَفْعِ الْآلَامِ الَّتِي تَوَالَتْ عَلَيْهِ وَفِي هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقْطَعَ الثَّانِي تِلْكَ الْيَدَ ، أَوْ يَقْطَعَ عُضْوًا آخَرَ وَأَصْحَابُنَا قَالُوا : فِعْلُ الثَّانِي بِمَنْزِلَةِ الْبُرْءِ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ تَنْقَطِعُ بِهِ سِرَايَةُ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ فَكَأَنَّهُ انْقَطَعَ بِالْبُرْءِ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ السِّرَايَةَ أَثَرُ الْفِعْلِ وَلَا يُتَصَوَّرُ بَقَاؤُهَا بِدُونِ بَقَاءِ مَحَلِّ الْفِعْلِ إذْ الْأَثَرُ لَا يَقُومُ بِنَفْسِهِ وَبِفِعْلِ الثَّانِي فَاتَ مَحَلُّ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ وَانْقِطَاعُ السِّرَايَةِ بِفَوَاتِ الْمَحَلِّ أَقْوَى مِنْ انْقِطَاعِهَا بِالْبُرْءِ ؛ لِأَنَّ الْبُرْءَ يَحْتَمِلُ النَّقْصَ وَفَوَاتُ الْمَحَلِّ لَا يَحْتَمِلُ النَّقْصَ بِهِ فَارَقَ مَا إذَا كَانَ فَعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مَحَلٍّ آخَرَ ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ مِنْ الثَّانِي فِي مَحَلٍّ آخَرَ لَا يُفَوِّتُ مَحَلَّ الْفِعْلِ الْأَوَّلِ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ كَالْبُرْءِ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْفِعْلَانِ خَطَأً كَانَتْ دِيَةُ الْيَدِ عَلَى الْأَوَّلِ وَدِيَةُ النَّفْسِ عَلَى الثَّانِي عِنْدَنَا ، وَالْعَمْدُ ، وَالْخَطَأُ فِي هَذَا سَوَاءٌ بِمَنْزِلَةِ الْبُرْءِ ، وَكَذَلِكَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ قَطَعَ أَحَدُهُمَا يَدَهُ
عَمْدًا ، ثُمَّ حَزَّ الْآخَرُ رَقَبَتَهُ بِالسَّيْفِ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ عَلَى الثَّانِي ، وَالْقِصَاصُ فِي الْيَدِ عَلَى الْأَوَّلِ وَعِنْدَ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ يَجِبُ عَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ ؛ لِأَنَّ الرُّوحَ انْزَهَقَتْ عَقِيبَ فِعْلِهِمَا فَيَكُونُ مُضَافًا إلَى فِعْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَا مُعْتَبَرَ بِالتَّفَاوُتِ فِي صِفَةِ الْفِعْلِ وَلَا فِي مِقْدَارِهِ كَمَا لَوْ قَطَعَ أَحَدُهُمَا أُصْبُعًا مِنْ أَصَابِعِهِ وَجَرَحَهُ الْآخَرُ عَشَرَ جِرَاحَاتٍ نَحْوَ قَطْعِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ عَلَيْهِمَا إذَا مَاتَ مِنْ ذَلِكَ لِلْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا وَأَصْحَابُنَا قَالُوا : حَزُّ الرَّقَبَةِ قَتْلٌ بِيَقِينٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا تَوَهُّمَ لِلْحَيَاةِ مَعَهُ فَأَمَّا قَطْعُ الْيَدِ فَقِيلَ يُشْتَرَطُ أَنْ تَتَّصِلَ السِّرَايَةُ بِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ السَّلَامَةُ فَإِنَّ الْقَطْعَ مَشْرُوعٌ فِي مَوْضِعٍ كَانَ الْقَتْلُ حَرَامًا ، وَهُوَ الْقِصَاصُ ، وَالتَّعَارُضُ لَا يَقَعُ بَيْنَ فِعْلَيْنِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَيُجْعَلُ الْقَتْلُ مُضَافًا إلَى مَا هُوَ مَشْرُوعٌ لَهُ بِيَقِينٍ ، وَهُوَ حَزُّ الرَّقَبَةِ وَيَكُونُ هَذَا فِي حَقِّ الْيَدِ بِمَنْزِلَةِ الْبُرْءِ لِتَفْوِيتِ الْمَحَلِّ بِهِ ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْقِصَاصُ فِي الْيَدِ عَلَى الْأَوَّلِ ، وَالْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ عَلَى الثَّانِي ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْأَوَّلُ خَطَأً ، وَالثَّانِي عَمْدًا كَانَ عَلَى الْأَوَّلِ دِيَةُ الْيَدِ وَعَلَى الثَّانِي الْقِصَاصُ .
وَلَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلَيْنِ أَنَّهُمَا قَتَلَا رَجُلًا : أَحَدِهِمَا بِسَيْفٍ ، وَالْآخَرِ بِعَصَا وَلَا يَدْرِيَانِ أَيُّهُمَا صَاحِبُ الْعَصَا لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُثْبِتَا بِشَهَادَتِهِمَا سَبَبًا يُمَكِّنُ الْقَاضِيَ مِنْ الْقَضَاءِ بِهِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ عَلَى صَاحِبِ الْعَصَا نِصْفُ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَعَلَى صَاحِبِ السَّيْفِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ فَلَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِشَيْءٍ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَيْنِهِ فِي مَالِهِ ، أَوْ عَلَى عَاقِلَتِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ وَاحِدٍ بِقَطْعِ أُصْبُعٍ وَعَلَى آخَرَ بِقَطْعِ أُخْرَى ، مِنْ تِلْكَ الْيَدِ وَلَا يُمَيِّزَانِ قَاطِعَ هَذِهِ الْأُصْبُعِ مِنْ قَاطِعِ الْأُخْرَى ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الْقَضَاءِ بِفِعْلٍ مُعَيَّنٍ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ بِدُونِ تَعْيِينِ مَحَلِّ فِعْلِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا عَلَيْهِمَا بِالْخَطَأِ لَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِالْحُكْمِ بِدُونِ السَّبَبِ .
وَلَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَطَعَ إبْهَامَ هَذَا عَمْدًا وَشَهِدَا عَلَى صَاحِبِ الْإِبْهَامِ أَنَّهُ قَطَعَ كَفَّ الْقَاطِعِ ذَلِكَ عَمْدًا ، ثُمَّ بَرِئَ فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ صَاحِبُ الْكَفِّ ، فَإِنْ شَاءَ قَطَعَ مَا بَقِيَ مِنْ يَدِ الْقَاطِعِ بِيَدِهِ ، وَإِنْ شَاءَ أَخَذَ دِيَةَ يَدِهِ وَبَطَلَتْ الْأُصْبُعُ أَمَّا بُطْلَانُ الْأُصْبُعِ فَلِفَوَاتِ مَحَلِّهَا بِالْفِعْلِ الثَّانِي وَأَمَّا ثُبُوتُ الْخِيَارِ لِلثَّانِي فَلِأَنَّ مَقْطُوعَ الْإِبْهَامِ قَطَعَ يَدَهُ الصَّحِيحَةَ وَيَدُ الْمَقْطُوعَةِ الْإِبْهَامِ نَاقِصَةٌ بِأُصْبُعٍ وَفِي هَذَا ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ لِلْمَقْطُوعَةِ يَدُهُ .
وَلَوْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَطَعَ يَدَ رَجُلٍ مِنْ الْمَفْصِلِ وَشَهِدَ آخَرَانِ أَنَّهُ جَرَحَهُ سَبُعٌ أَوْ سَبُعَانِ ، أَوْ جَرَحَ نَفْسَهُ ، أَوْ جَرَحَهُ عَبْدٌ لَهُ ، أَوْ عَثَرَ فَانْكَسَرَتْ رِجْلُهُ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَلَا قِصَاصَ عَلَى قَاطِعِ الْيَدِ وَعَلَيْهِ نِصْفُ دِيَةِ الْيَدِ ، وَالْأَصْلُ أَنَّ النَّفْسَ تَتَوَزَّعُ عَلَى عَدَدِ الْجُنَاةِ لَا عَلَى عَدَدِ الْجِنَايَاتِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَتْلَفُ بِجِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَقَدْ يَسْلَمُ مِنْ جِرَاحَاتٍ ، ثُمَّ مَا اتَّحَدَ حُكْمُهُ مِنْ الْجِرَاحَاتِ فِي كَوْنِهِ هَدَرًا يُجْعَلُ فِي حُكْمِ فِعْلٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْكُلِّ وَاحِدٌ ، وَهُوَ الْإِهْدَارُ ، وَإِذَا صَارَ بَعْضُ النَّفْسِ هَدَرًا امْتَنَعَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ فَيَجِبُ فِيمَا هُوَ مُعْتَبَرٌ حِصَّتُهُ مِنْ الدِّيَةِ وَعَلَى هَذَا يَخْرُجُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْمَسَائِلِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ رَجُلٌ يَدَ رَجُلٍ خَطَأً وَجَرَحَهُ سَبُعٌ وَجَرَحَهُ عَبْدٌ لَهُ وَجَرَحَ نَفْسَهُ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ فَعَلَى قَاطِعِ الْيَدِ رُبْعُ دِيَةِ الْيَدِ ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ تَلِفَتْ مِنْ أَفْعَالٍ أَرْبَعَةٍ مُخْتَلِفَةِ الْحُكْمِ فَإِنَّ جِرَاحَةَ السَّبُعِ هَدَرٌ غَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي حَقِّ الْإِثْمِ ، وَالْحُكْمِ جَمِيعًا .
وَجُرْحُهُ نَفْسَهُ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّ الْإِثْمِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي حَقِّ الْحُكْمِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِسَبَبِ الْحُكْمِ وَجُرْحُ عَبْدِهِ لَهُ مُعْتَبَرٌ فِي الْإِثْمِ وَالْحُكْمِ جَمِيعًا إذَا كَانَ عَمْدًا حَتَّى يَجِبَ الْقِصَاصُ ؛ فَلِهَذَا تَوَزَّعَ بَدَلُ نَفْسِهِ أَرْبَاعًا فَيَكُونُ رُبْعُهُ عَلَى قَاطِعِ الْيَدِ خَطَأً .
وَلَوْ جَرَحَهُ سَبُعٌ وَخَرَجَتْ بِهِ قُرْحَةٌ وَنَهَشَتْهُ حَيَّةً وَقَطَعَ رَجُلٌ يَدَهُ وَآخَرُ رِجْلَهُ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَعَلَى الرَّجُلَيْنِ ثُلُثُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ السَّبُعِ ، وَالْحَيَّةِ وَمَا خَرَجَ بِهِ مِنْ الْقُرْحَةِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ فَكُلُّ ذَلِكَ هَدَرٌ فِي حَقِّ الْإِثْمِ وَالْحُكْمِ ، وَإِنَّمَا تَتَوَزَّعُ النَّفْسُ أَثْلَاثًا فَيُهْدَرُ الثُّلُثُ مِنْ ذَلِكَ وَعَلَى الرَّجُلَيْنِ ثُلُثُ الدِّيَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَصَابَهُ حَجَرٌ وَضَعَهُ رَجُلٌ ، أَوْ حَائِطٌ تَقَدَّمَ إلَى أَهْلِهِ فِيهِ مَعَ جِرَاحَةِ الرَّجُلِ ، وَالسَّبُعِ فَعَلَى الرَّجُلِ ثُلُثُ الدِّيَةِ وَعَلَى صَاحِبِ الْحَجَرِ ثُلُثُ الدِّيَةِ ، وَالثُّلُثُ هَدَرٌ ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ تَلِفَتْ بِمَعَانٍ ثَلَاثَةٍ : جِرَاحَةِ الرَّجُلِ وَحُكْمُهُ مُعْتَبَرٌ ، وَإِصَابَةِ الْحَجَرِ ، أَوْ الْحَائِطِ وَحُكْمُ ذَلِكَ مُعْتَبَرٌ أَيْضًا وَفِعْلِ السَّبُعِ ، وَهُوَ هَدَرٌ فَيَتَوَزَّعُ بَدَلُ النَّفْسِ عَلَى ذَلِكَ أَثْلَاثًا .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَتُقْبَلُ الْوَكَالَةُ فِي إثْبَاتِ دَمِ الْعَمْدِ مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ لَا تُقْبَلُ .
وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ مُضْطَرَبٌ فِيهِ ذَكَرَهُ مَعَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ هَاهُنَا وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْوَكِيلَ نَائِبٌ عَنْ الْمُوَكِّلِ وَلَا مَدْخَلَ لِلنَّائِبِ فِي إثْبَاتِ دَمِ الْعَمْدِ حَتَّى لَا يَثْبُتَ بِكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي ، وَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَشَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الِاسْتِيفَاءُ ، ثُمَّ التَّوْكِيلُ بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ لَا يَجُوزُ هُنَا مَعَ أَنَّهُ يُجْزِئُ فِيهِ النِّسَاءُ فَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ ، إنَّمَا يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الْمَقْصُودِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ هَذَا أَحَدُ بَدَلَيْ النَّفْسِ فَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِإِثْبَاتِهِ كَالدِّيَةِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَحْضُ حَقِّ الْعِبَادِ ، وَالنِّسَاءُ تُجْزِئُ بَيْنَ الْعِبَادِ فِي حُقُوقِهِمْ لِحَاجَةِ صَاحِبِ الْحَقِّ إلَى ذَلِكَ ، فَقَدْ يَكُونُ عَاجِزًا عَنْ إثْبَاتِ حَقِّهِ بِنَفْسِهِ ، وَالْغَلَطُ مَتَى وَقَعَ فِي الْإِثْبَاتِ أَمْكَنَ تَدَارُكُهُ سَوَاءٌ كَانَ الثَّابِتُ الْقِصَاصَ أَوْ الْمَالَ وَبِهِ فَارَقَ الِاسْتِيفَاءَ فَإِنَّ هُنَاكَ إذَا وَقَعَ الْغَلَطُ فِيهِ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ وَتَلَافِيه ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجُزْ التَّوْكِيلُ فِيهِ حَالَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ .
فَأَمَّا إذَا وَكَّلَ بِاسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ فَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْمُوَكِّلِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ مَحْضُ حَقِّهِ وَيَدْخُلُهُ النِّيَابَةُ فِي الِاسْتِيفَاءِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْقِصَاصُ عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ فَلَا يَجُوزُ اسْتِيفَاؤُهَا مَعَ الشُّبْهَةِ وَيَجُوزُ فِي اسْتِيفَاءِ الْوَكِيلِ مَعَ غَيْبَةِ الْمُوَكِّلِ وَقَدْ تَتَمَكَّنُ شُبْهَةُ الْعَفْوِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ عَفَا ، وَالْوَكِيلُ لَا يُعْلِمُهُ بِذَلِكَ وَمَتَى وَقَعَ الْغَلَطُ فِي الِاسْتِيفَاءِ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُوَكِّلُ حَاضِرًا فَشُبْهَةُ الْعَفْوِ تَنْعَدِمُ بِحُضُورِهِ ، وَقَدْ تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ فَمِنْ النَّاسِ مَنْ لَا يَهْتَدِي إلَى الْقَتْلِ وَمِنْهُمْ مِنْ لَا يَتَجَاسَرُ عَلَيْهِ فَلِلْحَاجَةِ جَوَّزْنَا التَّوْكِيلَ بِالِاسْتِيفَاءِ عِنْدَ حَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ ، وَالْقِصَاصُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ كَالْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ فِي ذَلِكَ .
وَإِذَا أَقَرَّ وَكِيلُ الطَّالِبِ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّ صَاحِبَهُ يَطْلُبُ بَاطِلًا ، أَوْ أَنَّهُ قَدْ عَفَا صَحَّ إقْرَارُهُ بِأَنَّهُ قَدْ عَفَا ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ قَامَ مُقَامَ الْمُوَكِّلِ فِي الْإِقْرَارِ بَعْدَ صِحَّةِ الْوَكَالَةِ ، وَكَذَلِكَ وَكِيلُ الْمَطْلُوبِ لَوْ أَقَرَّ بِوُجُوبِ الْقِصَاصِ عَلَى صَاحِبِهِ فَفِي الْقِيَاسِ يَصِحُّ إقْرَارُهُ لِقِيَامِهِ مُقَامَ مُوَكِّلِهِ فِي الْإِقْرَارِ فِي مَجْلِسُ الْحُكْمِ ، وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ فَلَا نُوجِبُ الْقَوَدَ عَلَى الْمُوَكِّلِ بِإِقْرَارِ الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ فِي الْحَقِيقَةِ ضِدُّ الْخُصُومَةِ ، وَنَحْنُ وَإِنْ حَمَلْنَا مُطْلَقَ التَّوْكِيلِ عَلَى الْجَوَابِ الَّذِي هُوَ خُصُومَتُهُ مَجَازًا فَتَبْقَى الْحَقِيقَةُ شُبْهَةً ، وَالْقِصَاصُ يَسْقُطُ بِهِ فَفِي إقْرَارِ وَكِيلِ الطَّالِبِ إسْقَاطُ الْقَوَدِ وَذَلِكَ لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَفِي إقْرَارِ وَكِيلِ الْمَطْلُوبِ إيجَابُ الْقَوَدِ وَذَلِكَ يَنْدَرِئُ
بِالشُّبُهَاتِ وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُمْضِيَ الْقَضَاءَ بِالْقَوَدِ إلَّا بِحَضْرَةِ الْوَرَثَةِ كُلِّهِمْ إذَا كَانُوا بَالِغِينَ لِتَمَكُّنِ شُبْهَةِ الْعَفْوِ ، وَالصُّلْحِ لِمَنْ هُوَ غَائِبٌ مِنْهُمْ ، فَإِنْ مَاتَ أَحَدُ الْوَرَثَةِ ، وَالْقَاتِلُ وَارِثُهُ بَطَلَ الْقَوَدُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ تَحَوَّلَ إلَيْهِ نَصِيبُ مُوَرِّثِهِ مِنْ الْقَوَدِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ إذْ الْإِنْسَانُ كَمَا لَا يَجِبُ لَهُ الْقِصَاصُ عَلَى نَفْسِهِ لَا يُنْفَى ، وَعَلَيْهِ حِصَّةُ سَائِرِ الْوَرَثَةِ مِنْ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِمْ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِمْ لِمَعْنًى فِي الْقَاتِلِ ، وَهُوَ أَنَّهُ حَيٌّ بَعْضُ نَفْسِهِ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ عَفَا أَحَدُ الشُّرَكَاءِ ، وَإِنْ كَانَ وَرِثَهُ ابْنُ الْقَاتِلِ بَطَلَ الْقَوَدُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الِابْنَ كَمَا لَا يَسْتَوْجِبُ الْقِصَاصَ عَلَى أَبِيهِ ابْتِدَاءً لَا يَبْقَى لَهُ عَلَى أَبِيهِ قِصَاصٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَائِهِ بِحَالٍ ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ الدِّيَةُ لِجَمِيعِ الْوَرَثَةِ ، فَإِنَّ نَصِيبَ الِابْنِ هَاهُنَا يَتَحَوَّلُ إلَى الدِّيَةِ كَنَصِيبِ سَائِرِ الْوَرَثَةِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَسْتَوْجِبَ الْمَالَ عَلَى أَبِيهِ وَيَسْتَوْفِيَهُ .
وَالْوَكَالَةُ فِي دَمِ الْخَطَأِ وَفِي الْعَمْدِ مِنْ الْجِرَاحِ الَّتِي لَا قِصَاصَ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الْوَكَالَةِ بِالْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هَاهُنَا هُوَ الْمَالُ ، وَهُوَ مِمَّا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ ، وَإِذَا وَقَعَ فِيهِ الْغَلَطُ أَمْكَنَ تَدَارُكُهُ ، وَالْأَسْبَابُ مَطْلُوبَةٌ لِأَحْكَامِهَا وَعِنْدَ اعْتِبَارِ الْحُكْمِ هَذَا دَيْنٌ كَسَائِرِ الدُّيُونِ فَيَجُوزُ التَّوْكِيلُ بِإِثْبَاتِهِ وَاسْتِيفَائِهِ وَيَكُونُ إقْرَارُ الْوَكِيلِ بِهِ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ نَافِذًا عَلَى مُوَكِّلِهِ .
وَإِذَا قُتِلَ الرَّجُلُ عَمْدًا وَلَهُ وَرَثَةٌ صِغَارٌ وَكِبَارٌ فَلِلْكِبَارِ أَنْ يَقْتُلُوا الْقَاتِلَ قِصَاصًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى لَيْسَ لَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوهُ حَتَّى يَكْبَرَ الصِّغَارُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ ، وَقَوْلُ مَالِكٍ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ ، وَهُوَ أَنَّ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ بِاعْتِبَارِ الْوِلَايَةِ دُونَ الْوِرَاثَةِ ، وَالْوِلَايَةُ لِلْكَبِيرِ دُونَ الصَّغِيرِ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يُجْعَلْ لِلزَّوْجِ ، وَالزَّوْجَةِ ، وَالْإِخْوَةِ لِأُمٍّ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فَأَمَّا عِنْدَ أَصْحَابِنَا فَاسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ بِطَرِيقِ الْخِلَافَةِ إرْثًا ، ثُمَّ وَجْهُ قَوْلِهِمْ إنَّ الْقِصَاصَ أَحَدُ بَدَلَيْ الدَّمِ فَلَا يَنْفَرِدُ الْكَبِيرُ بِاسْتِيفَائِهِ كَالدِّيَةِ ، بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْمَالَ يَجْرِي فِيهِ مِنْ الْمُسَاهَلَةِ فِي الْإِثْبَاتِ ، وَالِاسْتِيفَاءِ مَا لَا يَجْرِي فِي الْعُقُوبَاتِ وَلِأَنَّ هَذَا قِصَاصٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ وَلَا وِلَايَةَ لِلْكَبِيرِ عَلَى الصَّغِيرِ فَلَا يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَهُ كَمَا لَوْ قَتَلَ عَبْدًا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُمَا لَوْ كَانَا كَبِيرَيْنِ وَأَحَدُهُمَا غَائِبٌ لَمْ يَكُنْ لِلْحَاضِرِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالِاسْتِيفَاءِ لِانْعِدَامِ وِلَايَتِهِ عَلَى الْغَائِبِ فَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا صَغِيرًا وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ قِصَاصٌ وَاحِدٌ فَإِنَّ الْمَقْتُولَ نَفْسٌ وَاحِدَةٌ فَيَجِبُ بِمُقَابِلَتِهَا قِصَاصٌ وَاحِدٌ وَيَكُونُ ذَلِكَ وَاجِبًا لِلْمَقْتُولِ بِمَنْزِلَةِ الدِّيَةِ ؛ وَلِهَذَا إذَا انْقَلَبَ مَالًا فَإِنَّهُ يُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ وَتُنَفَّذُ وَصَايَاهُ ، ثُمَّ الْوَرَثَةُ يَخْلُفُونَهُ فِي اسْتِيفَاءِ مَا وَجَبَ لَهُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الشَّطْرِ لِلْعِلَّةِ ، أَوْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا يَرِثُ جُزْءًا مِنْهُ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمِيرَاثِ سِهَامٌ مَنْصُوصٌ عَلَيْهَا يَسْقُطُ كَالنِّصْفِ ، وَالثُّلُثِ ، وَالرُّبُعِ وَبِمِلْكِ بَعْضِ الْقِصَاصِ لَا يَتَمَكَّنُ
مِنْ اسْتِيفَاءِ الْكُلِّ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ عَفَا أَحَدُهُمْ يَسْقُطُ الْقِصَاصُ وَلَوْ كَانَ الْوَاجِبُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قِصَاصًا كَامِلًا لَمَا تَعَذَّرَ الِاسْتِيفَاءُ عَلَى أَحَدِهِمْ بَعْدَ عَفْوِ الْآخَرِ وَبِالْعَفْوِ يَنْقَلِبُ نَصِيبُ الْآخَرِ مَالًا وَهَذَا الْكَلَامُ يَصِحُّ فِيمَا إذَا كَانَ الْقِصَاصُ وَاجِبًا لِلْمُوَرِّثِ فَمَاتَ وَوَرِثَهُ جَمَاعَةٌ ، وَالْخِلَافُ ثَابِتٌ فِي الْفَصْلَيْنِ وَلَا إشْكَالَ أَنَّ هَاهُنَا إنَّمَا يَرِثُ كُلُّ وَاحِدٍ بَعْضَ الْقِصَاصِ وَأَبُو حَنِيفَةَ اسْتَدَلَّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ مُلْجِمٍ لَمَّا قَتَلَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَتَلَهُ الْحَسَنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهِ قِصَاصًا ، وَقَدْ كَانَ فِي أَوْلَادِ عَلِيٍّ صِغَارٌ وَلَمْ يَنْتَظِرْ بُلُوغَهُمْ ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بِأَمْرِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ ابْنَ مُلْجِمٍ أُخِذَ قَالَ : لِلْحَسَنِ إنْ عِشْتُ رَأَيْت فِيهِ رَأْيِي ، وَإِنْ مِتُّ فَاقْتُلْهُ .
إنْ شِئْتُ وَقَالَ وَاضْرِبْهُ ضَرْبَةً كَمَا ضَرَبَنِي وَفِي رِوَايَةٍ : وَإِيَّاكَ ، وَالْمُثْلَةَ ، فَقَدْ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُثْلَةِ وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ } وَلَا يُقَالُ إنَّمَا قَتَلَهُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُرِيدًا مُسْتَحِلًّا لِقَتْلِ إمَامِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ قَتَلَهُ ، وَهُوَ يَتْلُو قَوْله تَعَالَى { ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ } ؛ لِأَنَّهُ ، وَإِنْ كَانَ إمَامَ الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ قَتْلُهُ ذَنْبًا عَظِيمًا فَلَا يَصِيرُ بِهِ الْقَاتِلُ مُرْتَدًّا إنَّمَا ذَلِكَ لِلْأَنْبِيَاءِ خَاصَّةً وَاسْتِحْلَالُهُ كَانَ بِالتَّأْوِيلِ فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِ الْبَغْيِ وَهُمْ يَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَ أَهْلِ الْعَدْلِ وَأَمْوَالَهُمْ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ عَلَّقَهُ عُتْبَةُ فَقَالَ اُقْتُلْهُ إنْ شِئْت ، وَأَخَّرَهُ إلَى مَا بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَلَوْ كَانَ مُرْتَدًّا لَمَا أَخَّرَ عَلِيٌّ قَتْلَهُ وَلَا يُقَالُ قَتَلَهُ حَدَّ السَّعْيِ فِي الْأَرْضِ بِالْفَسَادِ حَتَّى
قَتَلَ إمَامَ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّ السَّاعِيَ بِالْفَسَادِ بِقَتْلِ الْإِمَامِ لَا يُقْتَلُ قِصَاصًا .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ اعْتَبَرَ الْمُمَاثَلَةَ بِقَوْلِهِ فَاضْرِبْهُ ضَرْبَةً كَمَا ضَرَبَنِي ، وَقَدْ ذَكَرَ الْمُزَنِيّ عَنْ الشَّافِعِيِّ قَالَ : قَتَلَ ابْنُ مُلْجِمٍ عَلِيًّا مُتَأَوِّلًا فَأُقِيدَ بِهِ فَدَلَّ أَنَّهُ قُتِلَ قِصَاصًا وَلَا يُقَالُ قَتَلَهُ بِغَيْرِ رِضَا الْكِبَارِ مِنْ وَرَثَتِهِ ، فَقَدْ قَالَ لَهُ الْحُسَيْنُ لَا تَقْتُلْهُ بَيْنَنَا فَإِنَّا لَا نَجْعَلُهُ سَوَاءً بَيْنَنَا ، وَبِالِاتِّفَاقِ عِنْدَ إبَاءِ بَعْضِ الْكِبَارِ ، وَلَيْسَ لِلْبَعْضِ حَقُّ الِاسْتِيفَاءِ وَرُوِيَ أَنَّهُ مَثَّلَ بِهِ مَعَ نَهْيِ عَلِيٍّ إيَّاهُ عَنْ الْمُثْلَةِ فَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مَا قَتَلَهُ قِصَاصًا وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْحُسَيْنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّمَا قَالَ مَا قَالَ عَلَى وَجْهِ الْإِهَانَةِ ، وَالِاسْتِخْفَافِ بِهِ لَا عَلَى وَجْهِ كَرَاهَةِ قَتْلِهِ قِصَاصًا ، وَالْمُثْلَةُ مَا كَانَتْ عَنْ قَصْدٍ مِنْ الْحَسَنِ ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا رَفَعَ السَّيْفَ ؛ لِيَضْرِبَهُ أَبْقَاهُ بِيَدِهِ فَأَصَابَ السَّيْفُ أَصَابِعَهُ وَبِهَذَا لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ قَتَلَهُ إيَّاهُ اسْتِيفَاءً لِلْقِصَاصِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ حَقَّ الْكَبِيرِ ثَابِتٌ فِي اسْتِيفَاءِ جَمِيعِ الْقِصَاصِ ، وَلَيْسَ فِي اسْتِيفَائِهِ شُبْهَةُ عَفْوٍ مُتَحَقِّقٍ فَيَتَمَكَّنُ مِنْهُ كَمَا لَوْ كَانَ الْوَارِثُ وَاحِدًا ، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ يَجِبُ لِلْوَرَثَةِ عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْمُوَرِّثِ فَإِنَّ وُجُوبَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمَقْتُولِ ، وَقَدْ خَرَجَ الْمَقْتُولُ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِوُجُوبِ الْحَقِّ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ إلَّا أَنَّ مَا يَحْصُلُ فِيهِ مَقْصُودُهُ مِنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ وَتَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ يُجْعَلُ كَالْوَاجِبِ لَهُ حُكْمًا ، وَهُوَ الدِّيَةُ فَأَمَّا مَا لَمْ يَحْصُلْ بِهِ مَقْصُودُ الْمَقْتُولِ فَيَجْعَلُهُ وَاجِبًا لِلْوَارِثِ الَّذِي هُوَ قَائِمٌ مُقَامَهُ ، وَالْمَقْصُودُ بِالْقَوَدِ تَشَفِّي الْغَيْظِ وَدَفْعُ سَبَبِ الْهَلَاكِ عَنْ نَفْسِهِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ لِلْوَارِثِ فَعَرَفْنَا
أَنَّهُ يَجِبُ لَهُ لَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ انْعَقَدَ عَلَى حَقِّ الْمَيِّتِ .
وَقَدْ خَرَجَ عَنْ ثُبُوتِ الْحُكْمِ مِنْ أَنْ يَكُونَ أَهْلًا لِلْوُجُوبِ لَهُ فَيَجِبُ لِلْوَلِيِّ الْقَائِمِ مُقَامَهُ كَمَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِلْمَوْلَى فِي كَسْبِ الْعَبْدِ إثْبَاتًا عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ عَنْ الْعَبْدِ ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا إذَا انْقَلَبَ مَالًا ثَبَتَ فِيهِ حَقُّ الْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ حَوَائِجِهِ يَحْصُلُ بِهِ ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْقِصَاصِ ، فَإِذَا انْقَلَبَ مَالًا يَثْبُتُ حَقُّهُ فِيهِ وَأَيَّدَ مَا قُلْنَا قَوْله تَعَالَى { ، فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا } بَيَّنَ أَنَّ الْقِصَاصَ لِلْوَلِيِّ الْقَائِمِ مُقَامَ الْمَقْتُولِ إذَا ثَبَتَ هَذَا ، فَنَقُولُ : الْقِصَاصُ لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ وَقَدْ ثَبَتَ سَبَبٌ لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ فَإِمَّا أَنْ يَتَكَامَلَ فِيهِ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوْ يَنْعَدِمَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ مُتَجَزِّئًا وَلَمْ يَنْعَدِمْ بِاتِّفَاقٍ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ تَكَامَلَ فِيهِ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا عَلَى أَنَّهُ تَعَدُّدُ الْقِصَاصِ فِي الْمَحَلِّ ، وَلَكِنْ بِطَرِيقِ أَنَّهُ يَجْعَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ بِمَنْزِلَةِ الْأَوْلِيَاءِ فِي النِّكَاحِ يَنْفَرِدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالتَّزْوِيجِ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ اسْتَوْفَى مِنْ أَحَدِهِمْ الْقِصَاصَ فَإِنَّهُ لَمْ يَضْمَنْ لِلْبَاقِينَ شَيْئًا وَلَا لِلْقَاتِلِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ جَمِيعُ الْقِصَاصِ وَاجِبًا لَهُ لَكَانَ ضَامِنًا بِاسْتِيفَاءِ الْكُلِّ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا عَفَا أَحَدُهُمْ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ بَعْدَ الْعَفْوِ الْمَالُ لِلْبَاقِينَ ، وَالْمَالُ يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ فَيَظْهَرُ حُكْمُ التَّجَزُّؤِ عِنْدَ وُجُوبِ الْمَالِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّا لَوْ أَثْبَتنَا الْقِصَاصَ لِأَحَدِهِمَا بَعْدَ عَفْوِ الْآخَرِ كَانَ مِنْ ضَرُورَتِهِ تَعَدُّدُ الْقِصَاصِ الْوَاجِبِ فِي الْمَحَلِّ ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَعَدِّدٍ فِي الْمَحَلِّ فَأَمَّا قَبْلَ
الْعَفْوِ لَوْ قُلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَكُونُ مُتَمَكِّنًا مِنْ اسْتِيفَائِهِ لَا يَكُونُ مِنْ ضَرُورَتِهِ مُقَدِّرُ الْقِصَاصِ فِي الْمَحَلِّ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا غَائِبًا ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ جَمِيعَ الْقِصَاصِ وَاجِبٌ لِلْحَاضِرِ ، وَلَكِنْ فِي اسْتِيفَائِهِ شُبْهَةُ عَفْوٍ مَوْجُودٍ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ الْغَائِبُ عَفَا ، وَالْحَاضِرُ لَا يَشْعُرُ بِهِ وَعَفْوُ الْغَائِبِ صَحِيحٌ سَوَاءٌ عَلِمَ بِوُجُوبِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْغَائِبُ مَاتَ وَوَرِثَهُ الْقَاتِلُ لِسَبَبٍ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ كُنَّا لَا نَعْرِفُهُ فَلِأَجْلِ الشُّبْهَةِ يَمْتَنِعُ الِاسْتِيفَاءُ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ عِنْدَ صِغَرِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْعَفْوِ فَإِنَّمَا يُتَوَهَّمُ عَفْوُهُ بَعْدَ مَا يَبْلُغُ وَشُبْهَةُ عَفْوِهِ بِتَوَهُّمِ اعْتِرَاضِهِ لَا تَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْقِصَاصِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا قَتَلَ عَبْدًا مُشْتَرَكًا بَيْنَ الصَّغِيرِ ، وَالْكَبِيرِ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُنَاكَ الْمِلْكُ ، وَهُوَ غَيْرُ مُتَكَامِلٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَإِنَّ مِلْكَ الرَّقَبَةِ يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدِ الْمَوْلَيَيْنِ فِي الْأَمَةِ وِلَايَةُ تَزْوِيجِهَا بِانْفِرَادِهِ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ ، فَالسَّبَبُ هُنَاكَ الْقَرَابَةُ ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ التَّجَزُّؤَ ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي قِصَاصٍ كَانَ وَاجِبًا لِلْمُورِثِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ اسْتَحَقَّ جُزْءًا مِنْهُ بَعْدَ مَوْتِهِ بِالنَّصِّ وَذِكْرُ الْجُزْءِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي كَذِكْرِ الْكُلِّ فَيَثْبُتُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الْكُلُّ بِاعْتِبَارِ أَنَّ السَّبَبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، وَهُوَ الْقَرَابَةُ كَامِلٌ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَالِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْكَبِيرَ هُنَاكَ يَمْلِكُ اسْتِيفَاءَ نَصِيبِهِ خَاصَّةً وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الْقِصَاصِ ، ثُمَّ عِنْدَهُمَا الْإِمَامُ هُوَ الْوَلِيُّ فِي نَصِيبِ الصَّغِيرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ
لِلْأَخِ الْكَبِيرِ عَلَى الصَّغِيرِ فِي نَصِيبِهِ مِنْ الْمَالِ فَكَذَلِكَ فِي الْقِصَاصِ ، وَإِنَّمَا الْوِلَايَةُ لِلْإِمَامِ ، فَإِنْ شَاءَ صَالَحَ عَلَى الدِّيَةِ ، وَإِنْ شَاءَ انْتَظَرَ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي وَصِيِّ الْأَبِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْقَاضِي وَلَوْ كَانَ مَكَانَ الصَّغِيرِ مَعْتُوهٌ ، أَوْ مَجْنُونٌ ، فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مُغْمَى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْغَائِبِ ، وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْعَفْوِ وَلَوْ كَانَ الْوَصِيُّ وَصِيَّ الْأَبِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ مَعَ الْكِبَارِ فِي الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَرَادَ بِهِ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ لِلْكَبِيرِ أَنْ يَقْتَصَّ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ وَصِيٌّ ، فَإِنْ كَانَ مَعَهُ وَصِيٌّ ، فَهُوَ أَوْلَى أَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَلَيْسَ لِلْكَبِيرِ وِلَايَةُ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ قَبْلَ بُلُوغِ الصَّغِيرِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَصِيٌّ فَكَذَلِكَ مَعَ الْوَصِيِّ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْوَصِيِّ حَقُّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ .
وَإِنْ قُطِعَتْ يَدُ الصَّغِيرِ عَمْدًا كَانَ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَقْتَصَّ وَأَنْ يُصَالِحَ عَلَى أَرْشِ الْيَدِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ وَلَوْ كَانَ الْقِصَاصُ فِي النَّفْسِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْتَصَّ فِي الرِّوَايَاتِ كُلِّهَا وَلَا أَنْ يَعْفُوَ وَفِي الصُّلْحِ رِوَايَتَانِ ، وَكَذَا لَوْ قُتِلَ عَبْدُ الصَّغِيرِ لَمْ يَكُنْ لِلْوَصِيِّ أَنْ يَقِيَ وَأَمَّا الْأَبُ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ الثَّابِتَ لِلصَّغِيرِ فِي النَّفْسِ وَفِيمَا دُونَ النَّفْسِ وَلَهُ أَنْ يُصَالِحَ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ وَلَوْ صَالَحَ عَلَى أَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ لَمْ يَجُزْ وَكَانَ لِلصَّبِيِّ أَنْ يَرْجِعَ بِتَمَامِ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّهُ أُمِرَ بِقُرْبَانِ مَالِهِ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْأَبِ مَالَهُ بِأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَبَ اسْتَوْفَى بَعْضَ الْقِيمَةِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَوْفِيَ تَمَامَ الْقِيمَةِ بَعْدَ الْبُلُوغِ حَتَّى يَصِلَ إلَيْهِ تَمَامُ حَقِّهِ وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ .
فَإِذَا قُتِلَ الرَّجُلُ عَمْدًا فَأَقَامَ أَخُوهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ وَارِثُهُ لَا وَارِثَ لَهُ غَيْرُهُ وَأَقَامَ الْقَاتِلُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ ابْنًا فَإِنِّي لَا أُعَجِّلُ بِقَتْلِهِ حَتَّى أَنْظُرَ فِيمَا جَاءَ بِهِ الْقَاتِلُ وَأَبْلَوْا فِيهِ عُذْرًا لِأَعْلَمَ مِصْدَاقَهُ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ أَمْرٌ مُسْتَعْظَمٌ إذَا نَفَذَ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ ، فَإِنْ أَقَامَ الْقَاتِلُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ ابْنًا ، وَأَنَّهُ صَالَحَهُ عَلَى الدِّيَةِ ، وَأَنَّهُ قَبَضَهَا مِنْهُ دَرَأَتْ الْقِصَاصَ حَتَّى أَنْظُرَ فِيمَا قَالَ ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى الصُّلْحَ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ فِي حَقِّ سُقُوطِ الْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّ الْأَخَ بَنَى الْقِصَاصَ وَأَنْكَرَ أَنَّ لَهُ ابْنًا فَيُقْبَلُ فِي حَقِّ سُقُوطِ الْقِصَاصِ ، فَإِنْ جَاءَ الِابْنُ وَأَنْكَرَ الصُّلْحَ كَلَّفْتُ الْقَاتِلَ إقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى الصُّلْحِ وَلَا أُجْبِرُ الْبَيِّنَةَ الَّتِي قَامَتْ عَلَى الْأَخِ ؛ لِأَنَّ الْأَخَ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْ الِابْنِ فِي حَقِّ الصُّلْحِ فَلَمْ تُقْبَلْ فِي حَقِّ الصُّلْحِ وَقُبِلَتْ فِي حَقِّ سُقُوطِ الْقِصَاصِ وَبِمِثْلِهِ لَوْ كَانَا أَخَوَيْنِ فَأَقَامَ الْقَاتِلُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَحَدِهِمَا أَنَّهُ قَدْ صَالَحَ أَخَاهُ الْغَائِبَ عَلَى خَمْسِمِائَةِ دِرْهَمٍ أَجَزْت ذَلِكَ وَلَا أُكَلِّفُهُ إعَادَةَ الْبَيِّنَةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَصْمٌ فِي إثْبَاتِ الْقِصَاصِ ، فَالْبَيِّنَةُ قَامَتْ عَلَى خَصْمٍ حَاضِرٍ فَيَتَضَمَّنُ النَّفَاذَ عَلَى الْغَائِبِ وَلِلْغَائِبِ نِصْفُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ لَمْ يَثْبُتْ فِي حَقِّهِ أَمَّا الْأَخُ فَلِأَنَّهُ لَيْسَ بِخَصْمٍ مَعَ قِيَامِ الِابْنِ .
وَإِذَا ادَّعَى بَعْضُ الْوَرَثَةِ دَمَ أَبِيهِ عَلَى رَجُلٍ وَأَخُوهُ غَائِبٌ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَتَلَ أَبَاهُ عَمْدًا فَإِنِّي أَقْبَلُ ذَلِكَ وَأَحْبِسُ الْقَاتِلَ ، فَإِذَا قَدِمَ أَخُوهُ كَلَّفَهُمْ جَمِيعًا أَنْ يُعِيدُوا الْبَيِّنَةَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : لَا يُكَلِّفُهُمْ إعَادَةَ الْبَيِّنَةِ وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي دَمٍ خَطَإٍ لَمْ يُكَلَّفُوا إعَادَةَ الْبَيِّنَةِ فِي قَوْلِهِمْ جَمِيعًا وَأَجْمَعُوا أَنَّ الْحَاضِرَ لَا يَسْتَوْفِي الْقِصَاصَ لِتَوَهُّمِ الْعَفْوِ مِنْهُ لَهُمَا إذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْوَرَثَةِ خَصْمٌ عَنْ نَفْسِهِ ، وَعَنْ أَصْحَابِهِ فِيمَا يَدَّعِي لِلْمَيِّتِ وَيُدَّعَى عَلَيْهِ كَمَا فِي الْخَطَأِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْحُقُوقِ وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ الْمَيِّتِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ عَفَا عَنْ الْجَارِحِ صَحَّ وَانْقَلَبَ مَالًا تُقْضَى مِنْهُ دُيُونُهُ وَتُنَفَّذُ وَصَايَاهُ وَيُورَثُ عَنْهُ ؛ وَلِهَذَا لَوْ أَقَامَ الْقَاتِلُ الْبَيِّنَةَ عَلَى صُلْحِ الْغَائِبِ ، أَوْ عَفْوِهِ تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْحَقُّ لِلْمَيِّتِ لَمَا قُبِلَتْ لِمَا فِيهِ مِنْ الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ ، وَإِذَا كَانَ حَقُّ الْمَيِّتِ فَأَقَامَ الْوَاحِدُ مُقَامَ الْجَمِيعِ فَكَانَتْ الْبَيِّنَةُ قَائِمَةً عَلَى الْخَصْمِ فَلَا يُكَلَّفُ إعَادَتَهَا .
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْقِصَاصَ حَقُّ الْمَيِّتِ مِنْ وَجْهٍ وَحَقُّ الْوَرَثَةِ مِنْ وَجْهٍ وَلَوْ كَانَ كُلُّهُ حَقَّ الْوَرَثَةِ يُكَلَّفُ إعَادَةَ الْبَيِّنَةِ ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الْوَرَثَةِ لَا يَقُومُ مُقَامَ الْكُلِّ فِيمَا هُوَ مِنْ خَالِصِ حَقِّهِمْ وَلَوْ كَانَ حَقُّ الْمَيِّتِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَا يُكَلَّفُ إعَادَةَ الْبَيِّنَةِ فَلَمَّا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقٌّ كَانَ الْمَصِيرُ إلَى الِاحْتِيَاطِ اسْتِعْظَامًا لِأَمْرِ الدَّمِ وَاجِبًا وَلِأَنَّ الْقِصَاصَ مَعْدُولٌ بِهِ عَنْ سَائِرِ الْأَحْكَامِ لِلِاسْتِقْصَاءِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْقَاتِلَ إذَا ادَّعَى الْعَفْوَ وَقَالَ لِي بَيِّنَةٌ عَلَى ذَلِكَ وَأَجَّلَهُ الْقَاضِي أَيَّامًا وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى إقَامَتِهَا فَإِنَّهُ لَا يُعَجِّلُ
بِالْقِصَاصِ وَيَتَأَنَّى بَعْدَ ذَلِكَ أَيَّامًا هَكَذَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَصْلِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْحُقُوقِ ؛ وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ إقْرَارُ وَكِيلِ الْقَاتِلِ عَلَى مُوَكِّلِهِ بِالْقِصَاصِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْمَوَاضِعِ ، وَالِاحْتِيَاطُ أَنْ يَلْحَقَ هَذَا بِالْحُقُوقِ الَّتِي هِيَ لِلْوَرَثَةِ حَتَّى إنَّهُ يُؤْمَرُ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَرُبَّمَا يَعْجِزُ عَنْ إقَامَتِهَا فَيَسْقُطُ الْقِصَاصُ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا إنَّهُ يُشْبِهُ حَقَّ الْمَيِّتِ لِمَا ذُكِرَ وَبَيَانُ أَنَّهُ يُشْبِهُ حَقَّ الْوَرَثَةِ أَنَّهُمْ لَوْ عَفَوْا عَنْ الْجَارِحِ فِي حَيَاةِ الْمُورِثِ جَازَ عَفْوُهُمْ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ حَقٌّ لَا يَجُوزُ كَمَا لَوْ أُبْرِئَ عَنْ الدَّيْنِ فِي حَيَاتِهِ بِخِلَافِ الصُّلْحِ ، وَالْعَفْوِ ؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ ، وَالْقِصَاصُ مِنْ وَجْهٍ كَالْمُورِثِ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَهُ لِلْوَارِثِ عَلَى سَبِيلِ الْخِلَافَةِ ، وَمِنْ وَجْهٍ هُوَ ثَابِتٌ لِلْوَارِثِ ابْتِدَاءً وَمَا تَرَدَّدَ بَيْنَ أَصْلَيْنِ يُوَفِّرُ حَظَّهُ عَلَيْهِمَا فَفِيمَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ يَجْعَلُهُ كَالْمَوْرُوثِ وَفِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ تَجْعَلُهُ كَالْوَاجِبِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ابْتِدَاءً فَلَا يَكُونُ أَحَدٌ مِنْهُمَا خَصْمًا عَنْ الْآخَرِ فِي إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْخَطَأِ فَإِنَّ مُوجِبَهُ الْمَالُ ، وَهُوَ مَوْرُوثٌ لِلْوَرَثَةِ عَنْ الْمَيِّتِ بَعْدَ مَا تَفَرَّغَ عَنْ حَاجَتِهِ فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ الْوَرَثَةِ يُنْتَصَبُ كُلُّ وَارِثٍ خَصْمًا عَنْ الْمَيِّتِ ، وَعَنْ سَائِرِ الْوَرَثَةِ فِي إثْبَاتِهِ عَلَى أَنَّ الْخَطَأَ لَيْسَ مَبْنَاهُ عَلَى التَّغْلِيظِ بِدَلِيلِ قَبُولِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ وَالشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ .
وَلَوْ حَضَرَ الْوَرَثَةُ جَمِيعًا وَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ بِالْقَتْلِ الْعَمْدِ عَلَى رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا غَائِبٌ قُبِلَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْحَاضِرِ وَقُضِيَتْ عَلَيْهِ بِالْقَوَدِ ، فَإِذَا حَضَرَ الْغَائِبُ كَلَّفَهُمْ إعَادَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْحَاضِرَ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْ الْغَائِبِ ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ الْقَتْلِ عَلَيْهِ ثُبُوتُهُ عَلَى الْغَائِبِ ، وَإِنْ امْتَنَعَ الْقَضَاءُ بِهِ عَلَى الْغَائِبِ فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْقَوَدِ مِنْ الْحَاضِرِ كَمَا لَوْ عَفَا الْوَرَثَةُ عَنْ أَحَدِ الْقَاتِلِينَ ، أَوْ صَالَحُوهُ عَلَى مَالٍ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَقْتُلُوا الْحَاضِرَ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْقَاتِلِينَ يَهْرُبُونَ عَادَةً فَقَلَّ مَا يُظْفَرُ بِهِمْ جَمِيعًا فَلَوْ قُلْنَا بِأَنَّهُ يَمْتَنِعُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِسَبَبِ غَيْبَةِ مَنْ غَابَ أَدَّى ذَلِكَ إلَى سَدِّ بَابِ الْقِصَاصِ ، وَالْإِضْرَارِ بِصَاحِبِ الْحَقِّ ( أَرَأَيْت ) لَوْ مَاتَ الْغَائِبُ أَوْ فُقِدَ فَلَمْ يُوقَفْ عَلَى أَثَرِهِ أَكَانَ يَمْتَنِعُ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ مِنْ هَذَا الْحَاضِرِ وَلَا يُقَالُ فِي هَذَا اسْتِيفَاءٌ مَعَ الشُّبْهَةِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ لِلْغَائِبِ حُجَّةٌ يَدْرَأُ بِهَا الْقَتْلَ عَنْ نَفْسِهِ ، وَعَنْ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَا مِنْ حُجَّةٍ تُقْبَلُ مِنْ الْغَائِبِ إذَا حَضَرَ إلَّا وَهِيَ مَقْبُولَةٌ مِنْ الْحَاضِرِ لَوْ أَقَامَهَا .
وَلَوْ أَنَّ أَخَوَيْنِ أَقَامَا شَاهِدَيْنِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ قَتَلَ أَبَاهُمَا عَمْدًا فَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ وَقَتَلَاهُ ، ثُمَّ إنَّ أَحَدَهُمَا قَالَ : قَدْ شَهِدْت الشُّهُودُ بِالزُّورِ وَأَبُونَا حَيٌّ غَرَّمْته نِصْفَ الدِّيَةِ وَهَذَا عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّهُمَا أَقَرَّا أَنَّهُمَا تَعَمَّدَا قَتْلًا بِغَيْرِ حَقٍّ وَإِقْرَارُهُمَا حُجَّةٌ عَلَيْهِمَا فَيَلْزَمُهَا الْقِصَاصُ بِذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِهِ أَحَدُهُمَا ؛ لِأَنَّ الْمُقِرَّ يُعَامَلُ فِي حَقِّهِ كَأَنَّمَا أَقَرَّ بِهِ حَقٌّ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَصْدُقُ عَلَى غَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ قَضَاءُ الْقَاضِي شُبْهَةً فِي إسْقَاطِ الْقَوَدِ عَنْهُمَا ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي إنَّمَا يَكُونُ شُبْهَةً فِي حَقِّ مَنْ لَا يَعْلَمُ الْأَمْرَ بِخِلَافِ مَا قُضِيَ بِهِ فَأَمَّا فِي حَقِّ مَنْ يَعْلَمُ ذَلِكَ فَلَا يُعْتَبَرُ قَضَاءُ الْقَاضِي كَمَا لَوْ رَجَعَ أَحَدُ شُهُودِ الزِّنَا بَعْدَ مَا رُجِمَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ حَدُّ الْقَذْفِ وَلَا يَصِيرُ قَضَاءُ الْقَاضِي بِالرَّجْمِ شُبْهَةً فِي حَقِّهِ لِهَذَا الْمَعْنَى .
وَأَصْحَابُنَا قَالُوا : إنَّهُمَا قَتَلَاهُ بِشُبْهَةٍ ، وَالْقَتْلُ بِشُبْهَةٍ يُوجِبُ الْمَالَ دُونَ الْقِصَاصِ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُمَا قَتَلَاهُ بِنَاءً عَلَى قَضَاءِ الْقَاضِي لَهُمَا بِالْقَوَدِ وَهَذَا قَضَاءٌ لَوْ كَانَ حَقًّا لَكَانَ مُبِيحًا لَهُمَا الْقَتْلَ فَظَاهِرُهُ يُوجِبُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ مَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ كَالنِّكَاحِ الْفَاسِدِ يَكُونُ مُسْقِطًا لِلْحَدِّ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ صَحِيحًا كَانَ مُبِيحًا لِلْوَطْءِ فَطَاهِرُهُ يُورِثُ شُبْهَةً وَهَذَا الظَّاهِرُ يُورِثُ شُبْهَةً فِي حَقِّ مَنْ يَعْلَمُ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ وَفِي حَقِّ مَنْ لَا يَعْلَمُ كَمَا فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ لَمَّا كَانَ حَقِيقَةً مُبِيحًا فَظَاهِرُهُ يُمَكِّنُ شُبْهَةً فِي الْمَحَلِّ ، وَالشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ تُؤَثِّرُ فِي حَقِّ مَنْ يَعْلَمُ وَفِي حَقِّ مَنْ لَا يَعْلَمُ كَمَنْ وَطِئَ جَارِيَةَ أَبِيهِ لَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ ، وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ
حُرْمَتَهَا عَلَيْهِ وَهَذَا بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ فَإِنَّ حَقِيقَةَ الْقَضَاءِ بِالزِّنَا هُنَاكَ لَا تُبِيحُ شُبْهَةً مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ فَكَذَلِكَ ظَاهِرُهُ لَا يُورِثُ شُبْهَةً ، ثُمَّ الْفَرْقُ مَا بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الصَّوْمِ أَنَّ هُنَاكَ إنَّمَا يَلْزَمُهُ الْحَدُّ بِسَبَبٍ سَابِقٍ عَلَى الْقَضَاءِ ، وَهُوَ الشَّهَادَةُ عَلَى الزِّنَا ؛ لِأَنَّهُ نَسَبَهُ إلَى الزِّنَا لَمَّا انْتَزَعَ مَعْنَى الشَّهَادَةِ مِنْ كَلَامِهِ بِرُجُوعِهِ ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ سَابِقًا عَلَى الْقَضَاءِ هُنَاكَ فَأَمَّا هُنَا ، فَالسَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْقَوَدِ مُبَاشَرَةُ الْقَتْلِ وَذَلِكَ وُجِدَ مِنْهُمَا بَعْدَ الْقَضَاءِ فَيَكُونُ صُورَةُ الْقَضَاءِ شُبْهَةً .
وَيَتَّضِحُ كَلَامُنَا فِيمَا إذَا أَقَرَّ بِذَلِكَ أَحَدُ الِاثْنَيْنِ وَجَحَدَ الْآخَرُ ؛ لِأَنَّهُمَا بَاشَرَا الْقَتْلَ ، وَالْجَاحِدُ مِنْهُمَا مُحِقٌّ حَتَّى لَا يَلْزَمُهُ قِصَاصٌ وَلَا دِيَةٌ فَيَكُونُ هَذَا أَقْوَى فِي التَّأْثِيرِ مِنْ الْخَاطِئِ إذَا شَارَكَ الْعَامِدَ فِي الْقَتْلِ وَهُنَاكَ لَا يَجِبُ الْقَوَدُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَهُنَا أَوْلَى ، وَإِذَا سَقَطَ الْقَوَدُ وَجَبَ عَلَى الرَّاجِعِ مِنْهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ لِإِقْرَارِهِ بِالْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَمَا يَجِبُ بِالْإِقْرَارِ لَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ وَلَوْ كَانَ أَحَدُ الْأَخَوَيْنِ قَتَلَ الْقَاتِلَ قَبْلَ الْقَضَاءِ لَهُمَا عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ ، أَوْ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ لَهُمَا بَيِّنَةٌ عَلَى ذَلِكَ ، ثُمَّ أَقَرَّ هُوَ أَنَّهُ قَتَلَهُ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَأَنَّ الْأَبَ حَيٌّ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْتَرِنْ بِالسَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْقِصَاصِ عَلَيْهِ شُبْهَةُ قَضَاءٍ مَانِعٍ ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ هُوَ شَيْئًا ، وَلَكِنَّ الْآخَرَ قَالَ : قَدْ كُنْتُ عَفَوْتُ ، أَوْ كُنْت أُرِيدُ أَنْ أَعْفُوَ ، أَوْ كُنْتُ صَالَحْتُ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ عَلَى أَخِيهِ ؛ لِأَنَّ إقْرَاره بِذَلِكَ حِينَئِذٍ مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ ، وَالْكَذِبِ فَيُجْعَلُ فِي حَقِّ غَيْرِهِ كَذِبًا إذْ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى غَيْرِهِ فِي أَنَّهُ يُلْزِمُهُ شَيْئًا بِقَوْلٍ قَالَهُ
وَلَا شَيْءَ عَلَى أَخِيهِ .
وَإِنْ كَانَ أَخَذَ غَيْرَ حَقِّهِ مِنْ قِبَلِ الشَّرِكَةِ يَعْنِي أَنَّهُ إذَا كَانَ هَذَا بَعْدَ مَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ لَهُمَا عَلَى الْقَتْلِ وَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ ، ثُمَّ هُوَ ظَاهِرٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُ قَدْ وَجَبَ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي جَمِيعِ الْقَوَدِ كَأَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ غَيْرُهُ فَيَكُونُ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ وَعِنْدَهُمَا الْوَاجِبُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْضُ الْقَوَدِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِأَجْلِ الشَّرِكَةِ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ اسْتِيفَاءِ نَصِيبِهِ إلَّا بِاسْتِيفَاءِ مَا بَقِيَ وَفِعْلُهُ فِي نَصِيبِهِ اسْتِيفَاءٌ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ ، فَإِذَا خَرَجَ بَعْضُ فِعْلِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَاجِبًا مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ خَرَجَ جَمِيعُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ الْوَصْفَ بِالتَّجَزِّي وَبَعْدَ مَا لَمْ يَكُنْ أَصْلُ فِعْلِهِ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ لَا يَصِيرُ مُوجِبًا بِإِقْرَارِ أَخِيهِ ، فَإِنْ أَقَامَ وَرَثَةُ الْمَقْتُولِ بَيِّنَةً عَلَى هَذَا أَنَّهُ قَدْ كَانَ صَالَحَ عَلَى كَذَا قَبْلَ أَنْ يَقْتُلَ الْآخَرَ ، أَوْ كَانَ عَفَا أَجَزْت ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ الَّتِي يُقِيمُهَا مَنْ هُوَ خَصْمٌ كَالثَّابِتِ بِاتِّفَاقِ الْخُصُومِ ، ثُمَّ الْقَاتِلُ يَكُونُ ضَامِنًا لِلدِّيَةِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاشَرَ الْقَتْلَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ، وَقَدْ سَقَطَ الْقَوَدُ عَنْهُ لِلشُّبْهَةِ حِينَ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِصُلْحِ أَخِيهِ وَعَفْوِهِ وَيَجِبُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ نِصْفُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ بِعَفْوِ أَخِيهِ انْقَلَبَ نَصِيبُهُ مَالًا عَلَى الْقَاتِلِ ، وَقَدْ اسْتَوْجَبَ الْقَاتِلُ عَلَيْهِ كَمَالَ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ أَيْضًا فَيَكُونُ .
النِّصْفُ قِصَاصًا ، فَإِنْ كَانَ قَتَلَ بَعْدَ عَفْوِ أَخِيهِ ، أَوْ صُلْحِهِ وَبَعْدَ مَا عَلِمَ بِأَنَّ الدَّمَ قَدْ حَرُمَ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ الْقِصَاصُ لِانْتِفَاءِ الشُّبْهَةِ وَلَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِ الْقَاتِلِ ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ كَانَ انْقَلَبَ مَالًا لَوْ مَاتَ الْقَاتِلُ
فَيُسْتَوْفَى مِنْ تَرِكَتِهِ فَكَذَلِكَ إذَا قَتَلَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
( قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى رَجُلٍ بِقَتْلٍ عَمْدًا وَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُمَا ، ثُمَّ رَجَعَا فَعَلَيْهِمَا الدِّيَةُ فِي مَالِهِمَا فِي قَوْلِ عُلَمَائِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ عَلَيْهِمَا الْقِصَاصُ ، وَكَذَلِكَ إذَا رَجَعَ أَحَدُهُمَا وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ قَالَ لِشَاهِدَيْ السَّرِقَةِ حِينَ رَجَعَا لَوْ عَلِمْت أَنَّكُمَا تَعَمَّدْتُمَا لَقَطَعْت أَيْدِيَكُمَا ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُمَا بَاشَرَا قَتْلًا بِغَيْرِ حَقٍّ ؛ لِأَنَّهُمَا أَلْجَآ الْقَاضِيَ إلَى الْقَضَاءِ بِالْقَتْلِ فَإِنَّهُ يَخَافُ الْعُقُوبَةَ إذَا امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ ، وَالْمُلْجِئُ مُبَاشِرٌ حُكْمًا فِي وُجُوبِ الْقَوَدِ عَلَيْهِ كَالْمُكْرَهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ مُغَلَّظَةً فِي مَالِهِمَا عِنْدَكُمْ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِمُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ .
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الشَّاهِدَ سَبَبٌ لِلْقَتْلِ ، وَالسَّبَبُ لَا يُوجِبُ الْقِصَاصَ كَحَفْرِ الْبِئْرِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي الْقِصَاصِ الْمُسَاوَاةُ وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ السَّبَبِ وَالْمُبَاشَرَةِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ الْمُبَاشِرَ هُوَ الْوَالِي ، وَهُوَ طَائِعٌ مُخْتَارٌ فِي هَذِهِ الْمُبَاشَرَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الشَّاهِدَ غَيْرُ مُبَاشِرٍ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا وَلَا مَعْنَى لِمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْإِلْجَاءِ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا يَخَافُ الْعُقُوبَةَ فِي الْآخِرَةِ وَبِهِ لَا يَصِيرُ مَلْجَأً إلَى ذَلِكَ ، بَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ إلَى الْعَفْوِ شَرْعًا وَلَا نُسَلِّمُ أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ مُغَلَّظَةً عَلَى الشُّهُودِ فَكُلُّ وَاحِدٍ يُقِيمُ الطَّاعَةَ خَوْفًا مِنْ الْعُقُوبَةِ عَلَى تَرْكِهَا وَلَا يَصِيرُ بِهِ مُكْرَهًا ، ثُمَّ إنْ وُجِدَ هَذَا الْإِلْجَاءُ فِي حَقِّ الْقَاضِي فَبِمُجَرَّدِ الْقَضَاءِ مَا صَارَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ مَقْتُولًا ، وَإِنَّمَا صَارَ مَقْتُولًا بِاسْتِيفَاءِ الْوَلِيِّ ، وَهُوَ غَيْرُ مُلْجَأٍ إلَى ذَلِكَ ، بَلْ هُوَ مَنْدُوبٌ إلَى الْعَفْوِ شَرْعًا وَلَا يُسَلَّمُ أَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ مُغَلَّظَةً عَلَى الشُّهُودِ ، بَلْ إنَّمَا تَجِبُ
مُخَفَّفَةً بِمَنْزِلَةِ الْوَاجِبِ عَلَى حَافِرِ الْبِئْرِ إلَّا أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى الْحَافِرِ الْبِئْرَ فِي مَالِهِ ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِإِقْرَارِهِ وَإِقْرَارُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُمْ أَنَّ الشَّاهِدَ مُبَاشِرٌ حُكْمًا .
فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُبَاشِرَ حَقِيقَةً هَاهُنَا لَا يَلْزَمُهُ الْقِصَاصُ ، وَهُوَ الْوَلِيُّ لِشُبْهَةِ قَضَاءِ الْقَاضِي ، فَالْمُبَاشِرُ حُكْمًا أَوْلَى أَنْ لَا يَلْزَمَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ ، فَقَدْ صَحَّ مِنْ مَذْهَبِ عَلِيٍّ أَنَّ الْيَدَيْنِ لَا يُقْطَعَانِ وَاحِدَةً ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا فِي كِتَابِ الرُّجُوعِ ، فَإِذَا لَمْ يَجِبْ الْقَوَدُ عَلَيْهِمَا كَانَ عَلَيْهِمَا الدِّيَةُ إنْ رَجَعَا ، وَإِنْ رَجَعَ أَحَدُهُمَا فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِإِتْلَافِ نِصْفِ النَّفْسِ ، فَإِنْ رَجَعَ الْوَلِيُّ مَعَهُمَا ، أَوْ جَاءَ الْمَشْهُودُ بِقَتْلِهِ حَيًّا فَلِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ الْخِيَارُ بَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَ الشَّاهِدَيْنِ الدِّيَةَ وَبَيْنَ أَنْ يُضَمِّنَ الْقَاتِلَ ؛ لِأَنَّ الْقَاتِلَ مُتْلِفٌ لِلنَّفْسِ حَقِيقَةً ، وَالشُّهُودُ مُتْلِفُونَ لَهُ حُكْمًا ، وَالْإِتْلَافُ الْحُكْمِيُّ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ كَالْإِتْلَافِ الْحَقِيقِيِّ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ أَيَّهمَا شَاءَ ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْوَلِيَّ الدِّيَةَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الشَّاهِدَيْنِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ يُضَمِّنُ بِفِعْلٍ بَاشَرَهُ لِنَفْسِهِ بِاخْتِيَارِهِ .
وَإِنْ ضَمَّنَ الشَّاهِدَيْنِ لَمْ يَرْجِعَا عَلَى الْوَلِيِّ أَيْضًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ ثَبَتَ لَهُمَا حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْوَلِيِّ بِمَا ضَمِنَا ؛ لِأَنَّهُمَا ضَمِنَا بِشَهَادَتِهِمَا وَقَدْ كَانَا عَامِلَيْنِ فِيهِ لِلْوَلِيِّ فَيَرْجِعَانِ عَلَيْهِ بِمَا يَلْحَقُهُمَا مِنْ الضَّمَانِ كَمَا لَوْ شَهِدَا بِالْقَتْلِ الْخَطَأِ أَوَبِالْمَالِ فَقَضَى الْقَاضِي وَاسْتَوْفَى الْمَشْهُودَ لَهُ ، ثُمَّ رَجَعُوا جَمِيعًا وَضَمَّنَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ الشَّاهِدَيْنِ كَانَ لَهُمَا
أَنْ يَرْجِعَا عَلَى الْمَشْهُودِ لَهُ وَلَا يُقَالُ هُنَاكَ قَدْ مَلَكَ الْمَقْبُوضُ بِالضَّمَانِ وَهَاهُنَا لَمْ يَمْلِكَاهُ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ لَا يُمَلَّكُ بِالضَّمَانِ ، وَالْمَشْهُودُ بِهِ هُوَ الْقِصَاص وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُمَا ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكَا بَعْدَ ، فَقَدْ قَامَ مَقَامَ مَنْ ضَمِنَهُمَا فِي الرُّجُوعِ عَلَى الْقَاتِلِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ غَصَبَ مُدَبَّرًا فَغَصَبَهُ آخَرُ مِنْهُ ، ثُمَّ ضَمِنَ الْمَالِكُ الْغَاصِبَ الْأَوَّلَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِالضَّمَانِ عَلَى الثَّانِي ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكْ الْمُدَبَّرَ بِالضَّمَانِ ، وَلَكِنَّهُ قَامَ مَقَامَ مَنْ ضَمِنَهُ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ مِمَّا يُمَلَّكُ فِي الْجُمْلَةِ وَلَهُ بَدَلٌ مُتَقَوِّمٌ مُحْتَمَلُ التَّمْلِيكِ فَيَكُونُ السَّبَبُ مُعْتَبَرًا عَلَى أَنْ يَعْمَلَ فِي بَدَلِهِ عِنْدَنَا لِتَعَذُّرِ أَعْمَالَهُ فِي الْأَصْلِ كَالْيَمِينِ عَلَى أَنْ تَعْمَلَ فِي بَلَدِهِ حَتَّى يَرْجِعَ بِالضَّمَانِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَعَقِّدًا فِي إيجَابِ الْكَفَّارَةِ الَّتِي هِيَ خَلَفٌ عَنْ الْبِرِّ لَمَّا كَانَ الْأَصْلُ ، وَهُوَ الْبِرُّ مُتَوَهِّمَ الْوُجُودِ فِي الْجُمْلَةِ وَعَلَى هَذَا غَاصِبٌ الْمُدَبَّرِ فَإِنَّ الْمُدَبَّرَ مُتَقَوِّمٌ مَمْلُوكٌ فِي الْجُمْلَةِ فَيَنْعَقِدُ السَّبَبُ لِلْغَاصِبِ الْأَوَّلِ فِيهِ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ فِي بَدَلِهِ حَتَّى يَرْجِعَ بِالضَّمَانِ عَلَى الْغَاصِبِ الثَّانِي .
وَكَذَا شُهُودُ الْكِتَابَةِ إذَا رَجَعُوا وَضَمَّنَهُمْ الْوَلِيُّ الْقِيمَةَ كَانَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا عَلَى الْمُكَاتَبِ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ وَلَمْ يَمْلِكُوا رَقَبَةَ الْمُكَاتَبِ ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمُكَاتَبُ مَمْلُوكًا رَقَبَةً لِلْمُكَاتَبِ انْعَقَدَ السَّبَبُ فِي حَقِّهِمْ عَلَى أَنْ يَكُونَ عَامِلًا فِي بَدَلٍ ، وَهُوَ بَدَلُ الْكِتَابَةِ بِذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَمْلِكُوا رَقَبَةَ الْمُكَاتَبِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ الشُّهُودُ ضَمِنُوا لِإِتْلَافِهِمْ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ حُكْمًا ، وَالْمُتْلِفُ لَا يَرْجِعُ بِمَا يَضْمَنُ بِسَبَبِهِ عَلَى غَيْرِهِ كَالْوَلِيِّ وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُتْلِفِينَ مَا كَانُوا ضَامِنِينَ مَعَ مُبَاشَرَةِ
الْإِتْلَافِ ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ السَّبَبِ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ فِي مُقَابَلَةِ الْمُبَاشَرَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ إنْسَانٌ فِي بِئْرٍ حَفَرَهَا غَيْرُهُ فِي الطَّرِيقِ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْحَافِرِ وَلَوْ دَفَعَهُ غَيْرُهُ حَتَّى وَقَعَ فِيهِ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الدَّافِعِ دُونَ الْحَافِرِ وَهَاهُنَا لَمَّا ضَمِنَ الشُّهُودُ عَرَفْنَا أَنَّهُمْ جُنَاةٌ مُتْلِفُونَ لِلنَّفْسِ حُكْمًا ، وَإِنْ كَانَ تَمَامُ ذَلِكَ الْإِتْلَافِ عِنْدَ اسْتِيفَاءِ الْوَلِيِّ فَإِنَّ اسْتِيفَاءَ الْوَلِيِّ بِمَنْزِلَةِ شَرْطٍ بِقَدْرِ جِنَايَتِهِ ، وَمَنْ ضَمِنَ بِجِنَايَتِهِ عَلَى النَّفْسِ لَا يَرْجِعُ عَلَى غَيْرِهِ فَأَمَّا فِي الْخَطَأِ فَإِنَّمَا رَجَعَ ؛ لِأَنَّهُ مِلْكُ الْمَقْبُوضِ ، وَهُوَ الدِّيَةُ ، وَقَدْ أَتْلَفَهُ الْمُسْتَوْفِي بِصَرْفِهِ إلَى حَاجَتِهِ وَهَذَا سَبَبٌ آخَرُ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ لِلشَّاهِدِ ، وَكَذَلِكَ الشَّاهِدُ بِالْمَالِ قَوْلُهُمَا إنَّ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يُجْعَلُ هُوَ قَائِمًا مُقَامَ مَنْ ضَمِنَهُ قُلْنَا هَذَا أَنْ لَوْ بَقِيَ حَقُّ مَنْ ضَمِنَهُ قَبْلَ الْوَلِيِّ وَاخْتِيَارِهِ فَتَضْمِينُ الشَّاهِدِ إبْرَاءٌ مِنْهُ لِلْوَلِيِّ فَكَيْفَ يَقُومُ الشَّاهِدُ مُقَامَهُ فِي الرُّجُوعِ عَلَيْهِ وَقَوْلُهُ بِأَنَّهُ يَنْعَقِدُ السَّبَبُ مُوجِبًا لِلْمِلْكِ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِي بَدَلِهِ قُلْنَا هَذَا أَنْ لَوْ كُنَّا فِي الْأَصْلِ نَتَوَهَّمُ الْمِلْكَ فِي الضَّمَانِ ، وَلَيْسَ فِي الْقِصَاصِ تَوَهُّمُ الْمِلْكِ بِالضَّمَانِ بِحَالٍ فَلَا يَنْعَقِدُ السَّبَبُ بِاعْتِبَارِ الْحَلِفِ كَيَمِينِ الْغَمُوسِ ، ثُمَّ لَوْ كَانَ الْقِصَاصُ مِلْكًا لَهُمَا لَمْ يَضْمَنْهُ الْمُتْلِفُ عَلَيْهِمَا كَمَا إذَا شَهِدَا عَلَى الْوَلِيِّ بِالْعَفْوِ وَقَتَلَ مَنْ عَلَيْهِ الْقِصَاصُ إنْسَانٌ آخَرُ فَلَيْسَ لَهُ الْقِصَاصُ قَبْلَ الضَّمَانِ وَانْعِقَادُ السَّبَبِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ ثُبُوتِ الْمِلْكِ حَقِيقَةً ، وَإِذَا كَانَ الْمُتْلِفُ لِلْقِصَاصِ لَا يَضْمَنُهُ لِلْمَالِكِ ، فَكَيْف يَضْمَنُهُ لِمَنْ انْعَقَدَ لَهُ السَّبَبُ ؟ وَبِهِ فَارَقَ مَسْأَلَةَ غَصْبِ الْمُدَبَّرِ وَالْكِتَابَةِ ، فَإِنَّ هُنَاكَ لَوْ كَانَ
مَالِكًا حَقِيقَةً لَمْ يَضْمَنْهُ الْمُتْلِفُ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا جُعِلَ كَالْمَالِكِ حُكْمًا بِاعْتِبَارِ انْعِقَادِ السَّبَبِ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِالْبَدَلِ لِذَلِكَ .
وَلَوْ رَجَعَ الشَّاهِدَانِ دُونَ الْوَلِيِّ فَقَالَ الْوَلِيُّ أَنَا أَجِيءُ بِشَاهِدَيْنِ آخَرَيْنِ يَشْهَدَانِ عَلَى ذَلِكَ ، وَقَدْ قَتَلَ الْقَاتِلَ لَمْ أَلْتَفِتْ إلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ لَا يُثْبِتُ لِنَفْسِهِ شَيْئًا بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ فَإِنَّهُ قَدْ اسْتَوْفَى الْقِصَاصَ وَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مُصِرًّا عَلَى دَعْوَاهُ وَلَمْ يَظْهَرْ الْقَتِيلُ فَلَوْ قُبِلَتْ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ إنَّمَا تُقْبَلُ لِإِسْقَاطِ ضَمَانِ الدِّيَةِ عَلَى الرَّاجِعَيْنِ وَهُمَا لَا يَدَّعِيَانِ ذَلِكَ ، بَلْ يُكَذَّبَانِ الشَّاهِدَيْنِ وَيُقِرَّانِ عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِالدِّيَةِ لِنِسْبَتِهِمْ لِلْقَتْلِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَلَا فَائِدَةَ فِي قَبُولِ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ .
وَلَوْ شَهِدَ أَحَدُ شَاهِدَيْ الدَّمِ مَعَ آخَرَ عَلَى صَاحِبِهِ أَنَّهُ كَانَ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ ، أَوْ عَبْدًا فَشَهَادَتُهُمَا بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ تَقُومُ لِإِبْطَالِ قَضَاءِ الْقَاضِي لَا لِإِثْبَاتِ مِلْكٍ ، أَوْ حَقٍّ لِأَحَدٍ بِعَيْنِهِ ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى إبْطَالِ قَضَاءِ الْقَاضِي لَا تُقْبَلُ وَلَا شَيْءَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ الشَّاهِدَ بِهَذَا لَا يَصِيرُ رَاجِعًا ، فَقَدْ يَكُونُ هُوَ مُحِقًّا فِي شَهَادَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبُهُ عَبْدًا ، أَوْ مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ وَأَمَّا الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ ، فَهُوَ ثَابِتٌ عَلَى شَهَادَتِهِ مُنْكِرٌ لِمَا شَهِدَ بِهِ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ وَلَوْ شَهِدَ أَنَّهُ عَبْدٌ لِهَذَا الْمُدَّعِي فَيَصِيرُ بِهِ عَبْدًا لَهُ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْبَيِّنَةَ تَقُومُ لِإِثْبَاتِ الْمِلْكُ لِلْمُدَّعِي ، فَإِذَا قُبِلَتْ تَبَيَّنَ بُطْلَانُ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ ، وَأَنَّ الْقَاضِيَ أَخْطَأَ فِي قَضَائِهِ بِغَيْرِ حُجَّةٍ فَيَكُونُ ضَمَانُ ذَلِكَ عَلَى مَنْ وَقَعَ الضَّمَانُ لَهُ ، وَهُوَ الْوَلِيُّ وَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ مُخْطِئًا فِي الْقَتْلِ ، وَأَنَّمَا ظَهَرَ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَيْهِ وَعَلَى عَاقِلَتِهِ وَبِهَذَا الْفَصْلِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَرْجِعْ الشُّهُودُ ، وَالْوَلِيُّ ، وَلَكِنْ جَاءَ الْمَشْهُودُ بِقَتْلِهِ حَيًّا فَإِنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْوَلِيِّ ، وَالشُّهُودِ وَيُتَخَيَّرُ وَلِيُّ الْقَتِيلِ فِي ذَلِكَ وَهَكَذَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيَّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِي مَالِهِمْ إذَا رَجَعُوا ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ بِالِاعْتِرَافِ .
وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِالدَّمِ بِشَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ فَلَمْ يَقْتُلْ حَتَّى رَجَعَا اسْتَحْسَنْتُ أَنْ أَدْرَأَ الْقِصَاصَ عَنْهُ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ الْآخَرُ وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا يُسْتَوْفَى الْقِصَاصُ ، وَهُوَ الْقِيَاسُ ؛ لِأَنَّ الْقِصَاصَ مَحْضُ حَقِّ الْعَبْدِ فَيَتِمُّ الْقَضَاءُ بِنَفْسِهِ ، وَالرُّجُوعُ بَعْدَ الْقَضَاءِ لَا يَمْنَعُ الِاسْتِيفَاءَ كَالْمَالِ ، وَالنِّكَاحِ فَإِنَّ الْقَاضِيَ إذَا قَضَى بِالنِّكَاحِ ، ثُمَّ رَجَعَ الشُّهُودُ لَا يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْوَطْءِ عَلَى الزَّوْجِ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْقِصَاصِ يُحْتَاطُ فِي الِاسْتِيفَاءِ فَكَذَلِكَ فِي الْوَطْءِ وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ تَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَالْغَلَطُ فِيهِ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْحُدُودِ فَكَمَا أَنَّ فِي الْحُدُودِ لَا يَتِمُّ الْقَضَاءُ بِنَفْسِهِ وَيَجْعَلُ رُجُوعَ الشُّهُودِ مَعَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ بِمَنْزِلَةِ الرُّجُوعِ قَبْلَ الْقَضَاءِ فَكَذَلِكَ فِي الْقِصَاصِ بِخِلَافِ الْمَالِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ وَبِخِلَافِ النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ هُنَاكَ يَنْعَقِدُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ظَاهِرًا وَبَاطِنًا وَهَاهُنَا مَا لَمْ يَكُنْ وَاجِبًا مِنْ الْقِصَاصِ لَا يَصِيرُ وَاجِبًا بِقَضَاءِ الْقَاضِي وَلَا بُدَّ مِنْ قِيَامِ الْحُجَّةِ عِنْدَ الِاسْتِيفَاءِ وَأَصْلُ شَهَادَةِ الشُّهُودِ ، فَإِذَا لَمْ يَبْقَى حُجَّةٌ بَعْدَ رُجُوعِهِمْ يَمْتَنِعُ الِاسْتِيفَاءُ وَكُلُّ دِيَةٍ وَجَبَتْ بِغَيْرِ صُلْحٍ فَهِيَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ؛ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِالْقَتْلِ وَتَقَوُّمُ الدَّمِ بِالْمَالِ ثَابِتٌ شَرْعًا بِخِلَافِ الْقِيَاسِ ، وَإِنَّمَا قَوَّمَهُ الشَّرْعُ بِمَالٍ مُؤَجَّلٍ فَكَمَا لَا يُزَادُ فِي قَدْرِ ذَلِكَ بِحَالٍ فَكَذَلِكَ لَا يُزَادُ فِي صِفَتِهِ بِأَنْ يُجْعَلَ حَالًّا .
وَإِذَا شَهِدَ شَاهِدَانِ بِالدَّمِ فَاقْتُصَّ مِنْ الْقَاتِلِ ، ثُمَّ قَالَا : أَخْطَأْنَا إنَّمَا الْقَاتِلُ هَذَا لَمْ يُصَدَّقَا عَلَى الثَّانِي ؛ لِأَنَّهُمَا شَهِدَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا بِالْقَتْلِ وَغَرِمَا الدِّيَةَ لِلْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُمَا - رَجَعَا عَنْ الشَّهَادَةِ عَلَيْهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ إبْرَاهِيمَ يَعْنِي فِي السَّرِقَةِ .
وَلَوْ شَهِدَا بِدَمٍ عَلَى رَجُلَيْنِ فَقُتِلَا بِشَهَادَتِهِمَا ، ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُهُمَا فِي أَحَدِ الرَّجُلَيْنِ فَعَلَيْهِ نِصْفُ دِيَةِ هَذَا الرَّجُلِ الْوَاحِدِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ وَلَا يَضْمَنُ مِنْ دِيَةِ الْآخَرِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ شَهَادَتِهِ فِيهِ ، وَقَدْ بَقِيَ عَلَى الشَّهَادَةِ فِي حَقِّ الْآخَرِ مَنْ يُقَوِّمُ بِهِ نِصْفَ الْحَقِّ فَيَجِبُ عَلَى الرَّاجِعِ نِصْفُ دِيَتِهِ وَلَوْ لَمْ يَرْجِعْ وَادَّعَى عَلَيْهِ أَوْلِيَاءُ الْمُقْتَصِّ مِنْهُ أَنَّهُ رَجَعَ وَسَأَلُوا يَمِينَهُ عَلَى ذَلِكَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ يَمِينٌ ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ أَقَامُوا الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ بِالرُّجُوعِ لَمْ يُقْبَلْ فَكَيْفَ يُسْتَحْلَفُ عَلَيْهِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ فَكَانَتْ هَذِهِ دَعْوَى بَاطِلَةً مِنْهُمْ ، وَإِنْ رَجَعَ الشَّاهِدُ فَلَزِمَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَمَاتَ أُخِذَ ذَلِكَ مِنْ مَالِهِ حَالًا لِوُقُوعِ الِاسْتِغْنَاءِ لَهُ عَنْ الْأَجَلِ بِالْمَوْتِ ، وَإِنْ كَانَ الرُّجُوعُ مِنْهُ فِي الْمَرَضِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فِي الصِّحَّةِ بَيَّنَ ، بُدِئَ بِدَيْنِ الصِّحَّةِ ؛ لِأَنَّ - رُجُوعَهُ إقْرَارٌ عَلَى نَفْسِهِ بِالدِّيَةِ ، وَالْمَرِيضُ إذَا أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فِي صِحَّتِهِ بُدِئَ بِدَيْنِ الصِّحَّةِ .
وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى دَمٍ عَمْدٍ وَلَهُمَا عَلَى الْمَقْتُولِ دَيْنٌ أَجَزْتُ شَهَادَتَهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا يُثْبِتَانِ الْقَوَدَ بِشَهَادَتِهِمَا وَلَا مَنْفَعَةَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ الدَّمِ ، فَإِنْ رَجَعَا عَنْ شَهَادَتِهِمَا بَعْدَ الْقَتْلِ ضَمِنَا الدِّيَةَ وَيَقْبِضَانِ دَيْنَهُمَا مِنْ الثُّلُثِ ، فَإِنْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ سِوَى ذَلِكَ حَاصَّهُمْ فِيهِ قَالَ الْحَاكِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا تَصِحُّ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى أَنَّ الدَّيْنَ عَلَى الْمَقْتُولِ قِصَاصًا ، وَهُوَ كَمَا قَالَ فَإِنَّ الدَّيْنَ إذَا كَانَ لَهُمَا عَلَى الْأَوَّلِ ، وَالدِّيَةُ عِنْدَ الرُّجُوعِ تَجِبُ عَلَيْهِمَا لِلْمَقْتُولِ قِصَاصًا فَكَيْفَ يَسْتَوْفِيَانِ دَيْنَهُمَا مِنْ هَذِهِ الدِّيَةِ ، وَإِنْ كَانَ دَيْنُهُمَا عَلَى الْمَقْتُولِ قِصَاصًا فَبَدَلُ نَفْسِهِ وَاجِبٌ عَلَيْهِمَا عِنْدَ الرُّجُوعِ وَدَيْنُهُ يُقْضَى مِنْ بَدَلِ نَفْسِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
( قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَإِذَا أَمَرَ الصَّبِيُّ الْحُرُّ الصَّبِيَّ الْحُرَّ أَنْ يَقْتُلَ إنْسَانًا فَقَتَلَهُ ، فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ ، وَلَيْسَ عَلَى الْآمِرِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الصَّبِيِّ هَدَرٌ فِيمَا يَلْزَمُهُ الْغُرْمُ فَيَكُونُ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فَبَقِيَ مُبَاشَرَةُ الْقَتْلِ مِنْ الصَّبِيِّ الْقَاتِلِ .
وَلَوْ أَمَرَ رَجُلٌ صَبِيًّا فَقَتَلَ رَجُلًا كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ كَمُبَاشَرَتِهِ الْقَتْلَ بِاخْتِيَارِهِ يَرْجِعُونَ بِهَا عَلَى عَاقِلَةِ الْآمِرِ ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ جَانٍ فِي اسْتِعْمَالِهِ الصَّبِيَّ وَأَمْرِهِ إيَّاهُ بِالْقَتْلِ ، وَهُوَ الَّذِي تَسَبَّبَ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ فَثَبَتَ لَهُمْ حَقُّ الرُّجُوعِ بِهَا عَلَى عَاقِلَتِهِ ، فَإِنْ قِيلَ أَمْرُهُ قَوْلٌ وَمَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْءِ بِقَوْلِهِ مِنْ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ لَا تَعْقِلُهُ الْعَاقِلَةُ قُلْت مُتَمَثِّلًا نَعَمْ إذَا كَانَ ذَلِكَ الْقَوْلُ خَبَرًا مُحْتَمِلًا الصِّدْقَ ، وَالْكَذِبَ ؛ لِيَكُونَ مَحْمُولًا عَلَى الْكَذِبِ فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ فَأَمَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ أَمْرًا فَلَا تَرَدُّدَ فِي كَوْنِهِ تَسَبُّبًا وَاسْتِعْمَالًا ، وَإِذَا ثَبَتَ السَّبَبُ فِي حَقِّ الْعَاقِلَةِ ثَبَتَ الْحُكْمُ .
وَإِذَا أَعْطَى الرَّجُلُ صَبِيًّا عَصًا ، أَوْ سِلَاحًا يُمْسِكُهُ لَهُ وَلَمْ يَأْمُرْهُ فِيهِ بِشَيْءٍ فَعَطِبَ الصَّبِيُّ بِذَلِكَ بِأَنْ سَقَطَ مِنْ يَدِهِ فَوَقَعَ عَلَى رِجْلِهِ فَمَاتَ فَضَمَانُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّجُلِ ؛ لِأَنَّهُ جَانٍ فِي اسْتِعْمَالِ الصَّبِيِّ فِي إمْسَاكِ مَا دَفَعَ إلَيْهِ ، وَهُوَ سَبَبٌ لِهَلَاكِهِ مُتَعَدٍّ فِي ذَلِكَ السَّبَبِ ، وَإِنْ قَتَلَ الصَّبِيُّ نَفْسَهُ بِذَلِكَ ، أَوْ قَتَلَ رَجُلًا لَمْ يَضْمَنْ الدَّافِعُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِإِمْسَاكِهِ لَا بِاسْتِعْمَالِهِ ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الضَّمَانُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِاسْتِعْمَالِهِ ، وَهُوَ مُخْتَارٌ فِي ذَلِكَ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهِ مِنْ جِهَةِ الدَّافِعِ فَكَذَلِكَ إذَا قَتَلَ بِهِ نَفْسَهُ فَإِنَّمَا تَلِفَ بِاسْتِعْمَالِهِ لَا بِإِمْسَاكِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا وَقَعَ عَلَى رِجْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ ثَمَّةَ حَصَلَ الْهَلَاكُ لَا بِمُبَاشَرَتِهِ ، بَلْ بِإِمْسَاكِهِ الَّذِي هُوَ حُكْمُ دَفْعِ الدَّافِعِ ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي الدَّفْعِ فَيَضْمَنُ بِخِلَافِ مَا إذَا حَصَلَ التَّلَفُ بِمُبَاشَرَتِهِ وَحَدَثَ مِنْ جِهَةِ الصَّبِيِّ بِاخْتِيَارِهِ ؛ لِأَنَّهُ طَرَأَتْ الْمُبَاشَرَةُ عَلَى التَّسْبِيبِ فَيَنْقَطِعُ حُكْمُ التَّسْبِيبِ وَهَذِهِ الْمُبَاشَرَةُ لَيْسَتْ حُكْمَ ذَلِكَ التَّسْبِيبِ فَلَا يَثْبُتُ الرُّجُوعُ بِخِلَافِ مَا إذَا أَمَرَهُ بِالْقَتْلِ حُكْمًا .
، وَإِذَا غَصَبَ الرَّجُلُ الصَّبِيَّ الْحُرَّ فَذَهَبَ بِهِ ، فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ إنْ قُتِلَ أَوْ أَصَابَهُ حَجَرٌ ، أَوْ أَكَلَهُ سَبُعٌ ، أَوْ تَرَدَّى مِنْ حَائِطٍ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ ضَمَانَ الْغَصْبِ يَخْتَصُّ بِمَا هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ ، وَالصَّبِيُّ الْحُرُّ لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فَلَا يَضْمَنُ بِالْغَصْبِ كَالْمَيْتَةِ ، وَالدَّمِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ أَوْ أَصَابَتْهُ حُمَّى فَمَاتَ ، أَوْ مَرِضَ فَمَاتَ أَوْ خَرَجَتْ بِهِ قُرْحَةٌ فَمَاتَ لَمْ يَضْمَنْ الْغَاصِبُ شَيْئًا بِالِاتِّفَاقِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ غَصَبَ مُكَاتَبًا صَغِيرًا فَمَاتَ فِي يَدِهِ بِبَعْضِ هَذِهِ الْأَسْبَابِ لَمْ يَضْمَنْ الْغَاصِبُ شَيْئًا ، فَالْحُرُّ أَوْلَى ، وَكَذَلِكَ لَا يَضْمَنُ أُمَّ الْوَلَدِ بِالْغَصْبِ ، وَإِنْ تَلِفَتْ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِرِقِّهَا قِيمَةُ فَلَأَنْ لَا يَضْمَنُ الْحُرُّ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ كَانَ أَوْلَى .
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ سَبَبٌ لِإِتْلَافِهِ بِغَيْرِ حَقٍّ ، وَالْمُسَبِّبُ إذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي سَبَبٍ ، فَهُوَ ضَامِنٌ ، وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ كَحَافِرِ الْبِئْرِ وَوَاضِعِ الْحَجَرِ فِي الطَّرِيقِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّهُ أَزَالَ يَدَ حَافِظِهِ عَنْهُ فِي حَالِ حَاجَتِهِ إلَى الْحِفْظِ وَلَمْ يَقُمْ بِحِفْظِهِ بِنَفْسِهِ فَكَانَ مُسَبِّبًا لِإِتْلَافِهِ ، وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ شَرْعًا مِنْ إزَالَةِ يَدِ حَافِظِهِ وَمَعْنَى قَوْلِنَا إنْ لَمْ يَقُمْ بِحِفْظِهِ بِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِأَمْرٍ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ فَلَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى تَرْكِهِ الْحِفْظَ ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ كَانَ سَبَبًا لِإِزَالَةِ حَافِظِهِ عَنْهُ فَأَمَّا التَّرَدِّي مِنْ الْحَائِطِ وَنَهْشُ الْحَيَّةِ وَإِصَابَةُ الْحَجَرِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الضَّمَانَ ضَمَانُ جِنَايَةٍ
لَا ضَمَانُ غَصْبٍ ، وَالْحُرُّ يَضْمَنُ بِالْجِنَايَةِ تَسْبِيبًا كَانَ ، أَوْ مُبَاشَرَةً وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ ؛ لِأَنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ صَغِيرًا كَانَ ، أَوْ كَبِيرًا ، فَهُوَ بِفِعْلِهِ مَا حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَفْسِهِ وَبِخِلَافِ أُمِّ الْوَلَدِ فَإِنَّهَا تَقُومُ بِحِفْظِ نَفْسِهَا فَلَا يَكُونُ هُوَ جَانِيًا بِإِزَالَةِ الْحِفْظِ عَنْهَا ؛ فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ نَقْصَهَا وَلَوْ قَتَلَ الصَّبِيُّ فِي يَدِ الْغَاصِبِ رَجُلًا فَلَيْسَ عَلَى الْغَاصِبِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْقَتْلِ ، وَلَكِنَّهُ أَنْشَأَ الْقَتْلَ بِاخْتِيَارِهِ فَلَوْ ثَبَتَ لِلْعَاقِلَةِ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الْغَاصِبِ كَانَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ عَلَى الصَّبِيِّ ، وَالْحُرُّ لَا يَضْمَنُ بِالْيَدِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَتَلَ الصَّبِيُّ نَفْسَهُ فِي يَدِ الْغَاصِبِ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْغَاصِبِ كَمَا لَوْ قَتَلَ غَيْرَهُ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ تَجِبُ دِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِسَبَبٍ يُمْكِنُ حِفْظُهُ مِنْ ذَلِكَ السَّبَبِ عَادَةً ، فَهُوَ كَمَا لَوْ نَهَشَتْهُ حَيَّةٌ .
وَإِذَا حَمَلَ الرَّجُلُ الصَّبِيَّ الْحُرَّ عَلَى دَابَّةٍ فَقَالَ لَهُ أَمْسِكْهَا لِي ، وَلَيْسَ بِيَدِهِ حَبْلٌ فَسَقَطَ عَنْ الدَّابَّةِ فَمَاتَ ، فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّجُلِ ؛ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِإِتْلَافِهِ حِينَ حَمَلَهُ عَلَى الدَّابَّةِ فَكَانَ مُتَعَدِّيًا فِي تَسْبِيبِهِ ، فَإِذَا تَلِفَ بِذَلِكَ السَّبَبِ كَانَ ضَامِنًا لِدِيَتِهِ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الصَّبِيُّ مِمَّنْ يَرْكَبُ ، أَوْ لَا يَرْكَبُ ، فَإِنْ سَارَ الصَّبِيُّ عَلَى الدَّابَّةِ فَأَوْطَأَ إنْسَانًا فَقَتَلَهُ ، فَإِنْ كَانَ هُوَ مِمَّنْ يَسْتَمْسِكُ عَلَيْهَا فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ ؛ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ لِلرَّجُلِ بِدَابَّتِهِ حِينَ أَوْطَأَهَا إيَّاهُ وَلَا شَيْءَ عَلَى عَاقِلَةِ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهُ أَحْدَثَ السَّيْرَ بِاخْتِيَارِهِ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ قَتَلَ رَجُلًا فِي يَدِ الْغَاصِبِ بِاخْتِيَارِهِ ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَسِيرُ عَلَى الدَّابَّةِ لِصِغَرِهِ وَلَا يَسْتَمْسِكُ عَلَيْهَا فَدَمُ الْقَتِيلِ هَدَرٌ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الدَّابَّةَ بِمَنْزِلَةِ الْمُنْفَلِتَةِ فَإِنَّهَا سَارَتْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسَيِّرَهَا أَحَدٌ وَالدَّابَّةُ الْمُنْفَلِتَةُ إذَا وَطِئَتْ إنْسَانًا فَدَمُهُ هَدَرٌ وَهَذَا الَّذِي حَمَلَ الصَّبِيَّ عَلَى الدَّابَّةِ لَمْ يُسَيِّرْهَا فَلَا يَكُونُ هُوَ قَائِدًا لِلدَّابَّةِ وَلَا سَائِقًا ، وَالصَّبِيُّ الَّذِي لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الدَّابَّةِ بِمَنْزِلَةِ مَتَاعٍ مَوْضُوعٍ عَلَيْهَا فَلَا يَكُونُ هُوَ مُسَيِّرًا لِلدَّابَّةِ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ يَسْتَمْسِكُ عَلَيْهَا ، وَإِذَا حَمَلَ الرَّجُلُ مَعَهُ الصَّبِيَّ عَلَى الدَّابَّةِ وَمِثْلُهُ لَا يُصَرِّفُهَا وَلَا يَسْتَمْسِكُ عَلَيْهَا فَوَطِئَتْ الدَّابَّةُ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ ، فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّجُلِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسَيِّرُ لِلدَّابَّةِ ، وَالصَّبِيُّ الَّذِي لَا يَسْتَمْسِكُ بِمَنْزِلَةِ الْمَتَاعِ مَعَهُ عَلَى الدَّابَّةِ ، فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ؛ لِأَنَّ الرَّاكِبَ يُجْعَلُ مُتْلِفًا لِمَا أَوْطَأَ بِدَابَّتِهِ مُبَاشَرَةً فَإِنَّهُ إنَّمَا تَلِفَ بِفِعْلِهِ ، وَالْكَفَّارَةُ جَزَاءُ
مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا فِي الْبَابِ الَّذِي يَلِي هَذَا وَلَوْ كَانَ الصَّبِيُّ يُصَرِّفُ الدَّابَّةَ وَيَسِيرُ عَلَيْهَا ، فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِمَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسَيِّرٌ لِلدَّابَّةِ هَاهُنَا فَكَانَا جَانِيَيْنِ عَلَى الرَّجُلِ فَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِمَا وَلَا تَرْجِعُ عَاقِلَةُ الصَّبِيِّ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّجُلِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ جِنَايَةِ الصَّبِيِّ بِيَدِهِ ، وَالرَّجُلُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ وَلَوْ سَقَطَ الصَّبِيُّ فَمَاتَ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّجُلِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَيْهَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حَامِلَ الصَّبِيِّ عَلَى الدَّابَّةِ ضَامِنٌ لِدِيَتِهِ إذَا سَقَطَ سَوَاءٌ كَانَ سُقُوطُهُ بَعْدَ مَا سَيَّرَ الدَّابَّةَ ، أَوْ قَبْلَ أَنْ يُسَيِّرَهَا وَكَانَ هُوَ مِمَّنْ يَسْتَمْسِكُ عَلَيْهَا ، أَوْ لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَيْهَا .
وَإِذَا حَمَلَ الْعَبْدُ صَبِيًّا حُرًّا عَلَى دَابَّةٍ فَوَقَعَ الصَّبِيُّ عَنْهَا فَمَاتَ فَدِيَتُهُ فِي عُنُقِ الْعَبْدِ يُدْفَعُ بِهِ ، أَوْ يُفْدَى ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُسَبِّبًا لِهَلَاكِهِ ، وَالْعَبْدُ يَضْمَنُ بِالْجِنَايَةِ تَسَبُّبًا كَانَ أَوَمُبَاشَرَةً ، وَمُوجَبُ جِنَايَةِ الْعَبْدِ الدَّفْعُ ، أَوْ الْفِدَاءُ ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ عَلَى الدَّابَّةِ فَسَارَا عَلَيْهَا فَوَطِئَتْ إنْسَانًا فَمَاتَ فَعَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ نِصْفُ الدِّيَةِ وَفِي عُنُقِ الْعَبْدِ نِصْفُهَا يُدْفَعُ بِهِ ، أَوْ يُفْدَى ؛ لِأَنَّهُمَا جَانِيَانِ عَلَى الْمَقْتُولِ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوجَبُ جِنَايَتِهِ وَيُجْعَلُ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ كَأَنَّهُ تَفَرَّدَ بِهِ ، وَإِذَا حَمَلَ الْحُرُّ الْكَبِيرُ الْعَبْدَ الصَّغِيرَ عَلَى الدَّابَّةِ وَمِثْلُهُ يُصَرِّفُهَا وَيَسْتَمْسِكُ عَلَيْهَا ، ثُمَّ أَمَرَهُ أَنْ يَسِيرَ عَلَيْهَا فَأَوْطَأَ إنْسَانًا فَذَلِكَ فِي عُنُقُ الْعَبْدِ يَدْفَعُهُ بِهِ مَوْلَاهُ أَوَيَفْدِيهِ بِمَنْزِلَةِ جِنَايَتِهِ بِيَدِهِ وَيَرْجِعُ مَوْلَاهُ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ ، وَمِنْ الْأَرْشِ عَلَى الْغَاصِبِ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ حَمَلَهُ عَلَى دَابَّتِهِ ، فَقَدْ صَارَ غَاصِبًا لَهُ وَيَبْقَى حُكْمُ غَصْبِهِ مَا بَقِيَ عَلَى الدَّابَّةِ وَالْعَبْدُ الْمَغْصُوبُ إذَا جُنِيَ فِي يَدِ الْغَاصِبِ كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْغَاصِبِ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ ، وَمِنْ أَرْشِ الْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ غَصَبَهُ فَارِغًا وَرَدَّهُ مَشْغُولًا بِالْجِنَايَةِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ ، فَالْمَحْمُولُ عَلَى الدَّابَّةِ هُنَاكَ حُرٌّ ، وَالْحُرُّ لَا يَضْمَنُ بِالْغَصْبِ وَلَوْ حَمَلَهُ عَلَيْهَا ، وَهُوَ لَا يُصَرِّفُ الدَّابَّةَ وَلَا يَسْتَمْسِكُ عَلَيْهِمَا فَسَارَتْ الدَّابَّةُ فَأَوْطَأَتْ إنْسَانًا فَدَمُهُ هَدَرٌ ؛ لِأَنَّ الَّذِي حَمَلَهُ عَلَيْهَا لَيْسَ بِقَائِدٍ لِلدَّابَّةِ وَلَا سَائِقٍ لَهَا ، وَإِنَّمَا هَذِهِ دَابَّةٌ مُنْفَلِتَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ وَاقِفَةً حَيْثُ أَوْقَفَهَا وَلَمْ تَسِرْ حَتَّى ضَرَبَتْ رَجُلًا بِيَدِهَا ، أَوْ رِجْلِهَا ، أَوْ بِذَنَبِهَا ، أَوْ كَدَمَتْهُ فَلَا شَيْءَ عَلَى الصَّبِيِّ ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ
بِمَنْزِلَةِ الْمَتَاعِ حِينَ كَانَ لَا يَسْتَمْسِكُ عَلَى الدَّابَّةِ وَعَلَى الَّذِي أَوْقَفَهَا الضَّمَانُ عَلَى عَاقِلَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا التَّسَبُّبِ فَإِنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ إيقَافِ الدَّابَّةِ فِي الطَّرِيقِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَوْقَفَهَا فِي مِلْكِهِ فَحِينَئِذٍ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي إيقَافِهَا فِي مِلْكِهِ ، وَالْمُتَسَبِّبُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا فِي تَسَبُّبِهِ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا كَمَنْ حَفَرَ بِئْرًا ، أَوْ وَضَعَ حَجَرًا فِي مِلْكِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
( قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَإِذَا سَارَ الرَّجُلُ عَلَى دَابَّةٍ أَيْ الدَّوَابُّ كَانَتْ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَوَطِئَتْ إنْسَانًا بِيَدٍ أَوْ رِجْلٍ وَهِيَ تَسِيرُ فَقَتَلَتْهُ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّاكِبِ ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا أَنَّ السَّيْرَ عَلَى الدَّابَّةِ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ مُبَاحٌ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمَشْيِ فَإِنَّ الْحَقَّ فِي الطَّرِيقِ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا يَكُونُ حَقًّا لِلْجَمَاعَةِ يُبَاحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ اسْتِيفَاؤُهُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُ فِي ذَلِكَ يُمَكِّنُهُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ وَدَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ الْغَيْرِ وَاجِبٌ عَلَيْهِ فَيُقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ ؛ لِيَعْتَدِلَ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ ، ثُمَّ إنَّمَا يُشْتَرَطُ عَلَيْهِ هَذَا الْقَيْدُ فِيمَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ دُونَ مَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ مَا يَسْتَحِقُّ عَلَى الْمَرْءِ شَرْعًا يُعْتَبَرُ فِيهِ الْوُسْعُ وَلِأَنَّا لَوْ شَرَطْنَا عَلَيْهِ السَّلَامَةَ عَمَّا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ الْمَشْيِ ، وَالسَّيْرِ عَلَى الدَّابَّةِ مَخَافَةَ أَنْ يُقْتَلَ بِمَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَأَمَّا مَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ لَوْ شَرْطنَا عَلَيْهِ صِفَةَ السَّلَامَةِ مِنْ ذَلِكَ لَا يُمْتَنَعُ عَلَيْهِ اسْتِيفَاءُ حَقِّهِ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ بِهِ نَوْعُ احْتِيَاطٍ فِي الِاسْتِيفَاءِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا ، فَنَقُولُ : التَّحَرُّزُ عَنْ الْوَطْءِ عَلَى شَيْءٍ فِي وُسْعِ الرَّاكِبِ إذَا أَمْعَنَ النَّظَرَ فِي ذَلِكَ ، فَإِذَا لَمْ يُسَلِّمْ كَانَ جَانِيًا وَهَذِهِ جِنَايَةٌ مِنْهُ بِطَرِيقِ الْمُبَاشَرَةِ ؛ لِأَنَّ الْقَتْلَ إنَّمَا حَصَلَ بِفِعْلِهِ حِينَ كَانَ هُوَ عَلَى الدَّابَّةِ الَّتِي وَطِئَتْ فَتَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ وَعَلَى عَاقِلَتِهِ الدِّيَةُ ، وَإِنْ نَفَحَتْهُ بِرِجْلِهَا وَهِيَ تَسِيرُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الرَّاكِبِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { الرِّجْلُ جُبَارٌ } أَيْ هَدَرٌ .
وَالْمُرَادُ نَفْحَةُ الدَّابَّةِ بِالرِّجْلِ وَهِيَ تَسِيرُ وَهَذَا
لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ التَّحَرُّزُ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ وَجْهَ الرَّاكِبِ أَمَامَ الدَّابَّةِ لَا خَلْفَهَا ، وَكَذَلِكَ النَّفْحَةُ بِالذَّنَبِ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ التَّحَرُّزُ عَنْ ذَلِكَ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى هُوَ ضَامِنٌ لِجَمِيعِ ذَلِكَ وَقَاسَ الَّذِي يَسِيرُ عَلَى الدَّابَّةِ بِاَلَّذِي أَوْقَفَ دَابَّتَهُ فِي الطَّرِيقِ فَنَفَحَتْ بِرِجْلِهَا ، أَوْ يَدِهَا فَكَمَا أَنَّ هُنَاكَ يَجِبُ ضَمَانُ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ فَكَذَلِكَ هُنَا ، وَلَكِنَّا نَقُولُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ إيقَافِ الدَّابَّةِ عَلَى الطَّرِيقِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُضِرٌّ بِالْمَارَّةِ وَلِأَنَّ الطَّرِيقَ مَا أُعِدَّ لِإِيقَافِ الدَّوَابِّ فِيهِ فَيَكُونُ هُوَ فِي شَغْلِ الطَّرِيقِ بِمَا لَمْ يُعَدَّ الطَّرِيقُ لَهُ مُتَعَدِّيًا ، وَالْمُتَعَدِّي فِي التَّسَبُّبِ يَكُونُ ضَامِنًا ؛ فَلِهَذَا يُسَوَّى فِيهِ بَيْنَ مَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ وَبَيْنَ مَا لَا يُمْكِنُ وَهَذَا لِأَنَّهُ إنْ كَانَ لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْ النَّفْحَةِ بِالرِّجْلِ ، وَالذَّنَبِ ، فَهُوَ يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْ إيقَافِ الدَّابَّةِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ السَّيْرَ عَلَى الدَّابَّةِ فِي الطَّرِيقِ مُبَاحٌ لَهُ ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ مُعَدٌّ لِذَلِكَ وَلِأَنَّهُ لَا يَضُرُّ بِغَيْرِهِ ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ فَرُبَّمَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْمَشْيِ فَيَسْتَعِينُ بِالسَّيْرِ عَلَى الدَّابَّةِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ نَفْسُ السَّيْرِ جِنَايَةً قُلْنَا لَا يَلْزَمُهُ ضَمَانُ مَا لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمَاشِيَ فِي الطَّرِيقِ لَا يَكُونُ ضَامِنًا لِمَا لَيْسَ فِي وُسْعِهِ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ بِخِلَافِ الْجَالِسِ ، وَالنَّائِمِ فِي الطَّرِيقِ وَلَوْ كَدَمَتْ ، أَوْ صَدَمَتْ ، أَوْ خَبَطَتْ ، أَوْ ضَرَبَتْ بِيَدِهَا إنْسَانًا ، وَهُوَ يَسِيرُ عَلَيْهَا فَذَلِكَ كُلُّهُ مِمَّا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَيَكُونُ مُوجِبًا لِلدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَطِئَتْ إلَّا أَنَّ هَذِهِ الْأَسْبَابَ لَا تُلْزِمُهُ الْكَفَّارَةَ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ جَزَاءُ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ فَلَا تَجِبُ
بِالتَّسَبُّبِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ ، وَإِنْ ضَرَبَتْ بِحَافِرِهَا حَصَاةً أَوْ نَوَاةً ، أَوْ حَجَرًا ، أَوْ شِبْهَ ذَلِكَ فَأَصَابَ إنْسَانًا وَهِيَ تَسِيرُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ التُّرَابِ ، وَالْغُبَارِ الْمُنْبَعِثِ مِنْ سَنَابِكِهَا إذَا فَقَأَ عَيْنَ إنْسَانٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ حَجَرًا كَبِيرًا فَيَضْمَنُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ ، وَإِنَّمَا يَنْبَعِثُ الْحَجَرُ الْكَبِيرُ بِخَرْقٍ مِنْهُ فِي السَّيْرِ .
وَلَوْ رَاثَتْ أَوْ بَالَتْ فِي السَّيْرِ فَعَطِبَ إنْسَانٌ بِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ضَمَانٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْ ذَلِكَ قَالُوا : وَكَذَلِكَ إذَا وَقَفَتْ لِتَبُولَ ، أَوْ لِتَرُوثَ ؛ لِأَنَّ مِنْ الدَّوَابِّ مَا لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ حَتَّى يَقِفَ فَهَذَا مِمَّا لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ ، وَكَذَلِكَ اللُّعَابُ يَخْرُجُ مِنْ فِيهَا وَلَوْ وَقَعَ سَرْجُهَا أَوْ لِجَامُهَا ، أَوْ شَيْءٌ مَحْمُولٌ عَلَيْهَا مِنْ أَدَاتِهَا ، أَوْ مَتَاعِ الرَّجُلِ الَّذِي مَعَهُ يَحْمِلُهُ فَأَصَابَ إنْسَانًا فِي السَّيْرِ كَانَ ضَامِنًا ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا سَقَطَ لِأَنَّهُ لَمْ يَشُدَّ عَلَيْهَا ، أَوْ لَمْ يُحْكِمْ ذَلِكَ فَكَأَنَّهُ أَلْقَاهُ بِيَدِهِ عَلَى الطَّرِيقِ ، وَكَذَلِكَ مَنْ عَطِبَ بِهِ بَعْدَ مَا وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ ، فَإِنْ عَثَرَ بِهِ ، أَوْ تَعَقَّلَ ، فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَضَعَهُ بِيَدِهِ عَلَى الطَّرِيقِ وَالرَّاكِبُ ، وَالرَّدِيفُ ، وَالسَّائِقُ ، وَالْقَائِدِ فِي الضَّمَانِ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الدَّابَّةَ فِي أَيْدِيهِمْ وَهُمْ يُسَيِّرُونَهَا وَيُصَرِّفُونَهَا كَيْفَ شَاءُوا وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَّا أَنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَى السَّائِقِ ، وَالْقَائِدِ فِيمَا وَطِئَتْ ؛ لِأَنَّهُمَا مُسَبِّبَانِ لِلْقَتْلِ ، وَالْكَفَّارَةُ جَزَاءُ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ فَأَمَّا الرَّاكِبُ ، وَالْمُرْتَدِفُ فَمُبَاشِرَانِ الْقَتْلَ بِفِعْلِهَا فَعَلَيْهِمَا الْكَفَّارَةُ كَالنَّائِمِ إذَا انْقَلَبَ عَلَى إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ .
وَإِذَا أَوْقَفَ دَابَّتَهُ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ ، أَوْ فِي دَارٍ لَا يَمْلِكُهَا بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِهَا فَمَا أَصَابَتْ بِيَدِ ، أَوْ رِجْلٍ ، أَوْ ذَنَبٍ ، أَوْ كَدَمَتْ ، أَوْ سَالَ مِنْ عِرْقِهَا ، أَوْ لُعَابِهَا عَلَى الطَّرِيقِ فَزَلِقَ بِهِ إنْسَانٌ فَضَمَانُ ذَلِكَ عَلَى عَاقِلَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا التَّسْبِيبِ فَإِنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ إيقَافِ الدَّابَّةِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَكَذَلِكَ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ إيقَافِ الدَّابَّةِ خُصُوصًا إذَا كَانَ يَضُرُّ بِالْمَارِّ ، وَلَكِنْ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِانْعِدَامِ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ مِنْهُ وَإِذَا أَرْسَلَ الرَّجُلُ دَابَّتَهُ فِي الطَّرِيقِ فَمَا أَصَابَتْ فِي وَجْهِهَا ، فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ كَمَا يَضْمَنُ الَّذِي سَارَ بِهِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ سَائِقٌ لَهَا مَا دَامَتْ تَسِيرُ عَلَى سَنَنِ إرْسَالِهِ ، فَإِذَا عَدَّتْ يَمِينًا أَوْ شِمَالًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهَا تَغَيَّرَتْ عَنْ حَالَتِهَا أَنْشَأَتْ سَيْرًا آخَرَ بِاخْتِيَارِهَا فَكَانَتْ كَالْمُنْفَلِتَةِ إلَّا أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا طَرِيقٌ غَيْرُ الَّذِي أَحْدَثَتْ فِيهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ ضَامِنًا عَلَى حَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا سَيَّرَهَا فِي الطَّرِيقِ الَّذِي يُمْكِنُهُ أَنْ يَسِيرَ فِيهِ ، وَإِنَّمَا سَارَتْ فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ فَكَانَ هُوَ سَائِقًا لَهَا وَوَقَفَتْ ، ثُمَّ سَارَتْ فِيهِ بَرِئَ الرَّجُلُ مِنْ الضَّمَانِ إذًا ؛ لِأَنَّهَا لَمَّا وَقَفَتْ ، فَقَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ إرْسَالِهِ ، ثُمَّ أَنْشَأَتْ بَعْدَ ذَلِكَ سَيْرًا بِاخْتِيَارِهَا فَهِيَ كَالْمُنْفَلِتَةِ ، فَإِنْ رَدَّهَا فَاَلَّذِي رَدَّهَا ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَتْ فِي فَوْرِهَا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ سَائِقٌ لَهَا فِي الطَّرِيقِ الَّذِي رَدَّهَا فِيهِ ، وَإِذَا حَلَّ عَنْهَا وَأَوْقَفَهَا ، ثُمَّ سَارَتْ هِيَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ فِعْلِهِ قَدْ انْقَطَعَ بِمَا أَنْشَأَتْ مِنْ السَّيْرِ بِاخْتِيَارِهَا .
قَالَ : وَإِذَا اصْطَدَمَ الْفَارِسَانِ فَوَقَعَا جَمِيعًا فَمَاتَا فَعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةُ صَاحِبِهِ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ عَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُ دِيَةِ صَاحِبِهِ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ وَجْهُ الْقِيَاسِ : أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنَّمَا مَاتَ بِفِعْلِهِ وَفِعْلِ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّ الِاصْطِدَامَ فِعْلٌ مِنْهُمَا جَمِيعًا فَإِنَّمَا وَقَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِقُوَّتِهِ وَقُوَّةِ صَاحِبِهِ فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ جَرَحَ نَفْسَهُ وَجَرَحَهُ غَيْرُهُ ، وَلَكِنَّا اسْتَحْسَنَّاهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ جَعَلَ دِيَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُصْطَدِمَيْنِ عَلَى عَاقِلَةِ صَاحِبِهِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْقِعٌ لِصَاحِبِهِ فَكَأَنَّهُ أَوْقَعَهُ عَنْ الدَّابَّةِ بِيَدِهِ وَهَذَا لِأَنَّ دَفْعَ صَاحِبِهِ إيَّاهُ عِلَّةٌ مُعْتَبَرَةٌ لِإِتْلَافِهِ فِي الْحُكْمِ فَأَمَّا قُوَّةُ الْمُصْطَدِمِ فَلَا تَصْلُحُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةً مُعَارِضَةً لِدَفْعِ الصَّادِمِ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ وَقَعَ فِي بِئْرٍ حَفَرَهَا رَجُلٌ فِي الطَّرِيقِ يَجِبُ الضَّمَانُ عَلَى الْحَافِرِ ، وَإِنْ كَانَ لَوْلَا مَشْيُهُ وَثِقَلُهُ فِي نَفْسِهِ لَمَا هَوَى فِي الْبِئْرِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَفَعَ إنْسَانٌ غَيْرَهُ فِي بِئْرٍ حَفَرَهَا رَجُلٌ فِي الطَّرِيقِ ، فَالضَّمَانُ عَلَى الدَّافِعِ دُونَ الْحَافِرِ ، وَإِنْ كَانَ لَوْلَا حَفْرُهُ لِذَلِكَ الْمَوْضِعِ لَمَا أَتْلَفَهُ بِدَفْعِهِ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَالُوا : لَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ تَجَاذَبَا حَبْلًا فَانْقَطَعَ الْحَبْلُ فَمَاتَا جَمِيعًا ، فَإِنْ مَاتَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِفِعْلِ صَاحِبِهِ بِأَنْ وَقَعَ عَلَى وَجْهِهِ فَعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دِيَةُ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا وَقَعَ عَلَى وَجْهِهِ بِجَذْبِ صَاحِبِهِ إيَّاهُ ، وَإِنْ وَقَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى قَفَاهُ فَلَا شَيْءَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ سُقُوطَهُ عَلَى قَفَاهُ بِقُوَّةِ نَفْسِهِ لَا بِجَذْبِ صَاحِبِهِ إيَّاهُ ، وَإِنْ سَقَطَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى وَجْهِهِ
، وَالْآخَرُ عَلَى قَفَاهُ فَدِيَةُ السَّاقِطِ عَلَى وَجْهِهِ عَلَى عَاقِلَةِ صَاحِبِهِ وَلَوْ قَطَعَ إنْسَانٌ الْحَبْلَ بَيْنَهُمَا فَسَقَطَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى قَفَاهُ وَمَاتَ فَدِيَتُهُمَا عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاطِعِ لِلْحَبْلِ ؛ لِأَنَّهُ كَالدَّافِعِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
وَلَوْ كَانَ الصَّبِيُّ فِي يَدِ أَبِيهِ فَجَذَبَهُ رَجُلٌ مِنْ يَدِهِ فَمَاتَ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَاذِبِ ؛ لِأَنَّ الْأَبَ مُحِقٌّ فِي إمْسَاكِهِ ، وَالْجَاذِبُ مُتَعَدٍّ فِي تَسْبِيبِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَجَاذَبَا صَبِيًّا يَدَّعِي أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ابْنُهُ ، وَالْآخَرُ يَدَّعِي أَنَّهُ عَبْدُهُ ، فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الَّذِي يَدَّعِي أَنَّهُ عَبْدُهُ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْقَوْلَ قَوْلَ مَنْ يَدَّعِيه ابْنَهُ فَيَكُونُ هُوَ مُحِقًّا فِي إمْسَاكِهِ ، وَالْآخَرُ مُتَعَدِّيًا فِي جَذْبِهِ وَلَوْ جَذَبَ ثَوْبًا مِنْ يَدِ إنْسَانٍ ، وَهُوَ يَدَّعِي أَنَّهُ مِلْكُهُ فَتَخَرَّقَ الثَّوْبُ مِنْ جَذْبِهِمَا ، ثُمَّ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ لَهُ فَلَهُ نِصْفُ قِيمَةِ الثَّوْبِ عَلَى صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَكْفِيه الْإِمْسَاكُ بِالْيَدِ وَمَا كَانَ يَحْتَاجُ إلَى الْجَذْبِ فَيُجْعَلُ التَّخْرِيقُ مُحَالًا بِهِ عَلَى فِعْلِهِمَا جَمِيعًا .
وَلَوْ عَضَّ ذِرَاعَ إنْسَانٍ فَنَزَعَ ذِرَاعَهُ مِنْ فِيهِ فَسَقَطَتْ أَسْنَانُ الْعَاضِّ ، فَهُوَ هَدَرٌ وَلَوْ انْقَطَعَ لَحْمُ صَاحِبِ الذِّرَاعِ فَأَرْشُ ذَلِكَ عَلَى الْعَاضِّ ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى جَذْبِ الذِّرَاعِ مِنْ فِيهِ فَإِنَّ الْعَضَّ يُؤْلِمُهُ ، وَهُوَ إنَّمَا قَصَدَ دَفْعَ الْأَلَمِ عَنْ نَفْسِهِ فَيَكُونُ مُحِقًّا فِي الْجَذْبِ ، وَالْآخَرُ مُتَعَدِّيًا فِي الْعَضِّ .
وَلَوْ أَخَذَ بِيَدِ إنْسَانٍ فَجَذَبَ صَاحِبُ الْيَدِ يَدَهُ فَعَطِبَتْ يَدُهُ ، فَإِنْ كَانَ أَخَذَ بِيَدِهِ لِيُصَافِحَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الَّذِي أَخَذَ ؛ لِأَنَّ الْجَاذِبَ مَا كَانَ يَحْتَاجُ إلَى مَا صَنَعَ فَيَكُونُ هُوَ الْجَانِي عَلَى يَدِ نَفْسِهِ ، وَإِنْ كَانَ أَخَذَ يَدَهُ ؛ لِيَعْصِرَهُ ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْآخِذِ ؛ لِأَنَّ الْجَاذِبَ مُحْتَاجٌ إلَى الْجَذْبِ لِدَفْعِ الْأَلَمِ عَنْ نَفْسِهِ .
وَلَوْ جَلَسَ عَلَى ثَوْبِ إنْسَانٍ فَقَامَ صَاحِبُهُ فَتَخَرَّقَ الثَّوْبُ مِنْ جَذْبِهِ ، فَالضَّمَانُ عَلَى الْجَالِسِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي الْجُلُوسِ عَلَى ذَيْلِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ .
وَاَلَّذِي بَيَّنَّا فِي اصْطِدَامِ الْفَارِسَيْنِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي اصْطِدَامِ الْمَاشِيَيْنِ ، فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا حُرًّا ، وَالْآخَرُ عَبْدًا فَقِيمَةُ الْعَبْدِ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ ، ثُمَّ يَأْخُذُهَا وَرَثَةُ الْحُرِّ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَارَ قَاتِلًا لِصَاحِبِهِ فَيَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ قِيمَةُ الْعَبْدِ ، ثُمَّ إنْ تَلِفَ الْعَبْدُ الْجَانِي وَأَخْلَفَ بَدَلًا فَيَكُونُ بَدَلُهُ لِوَرَثَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ ، وَهُوَ الْحُرُّ .
، وَإِذَا أَوْقَفَ الرَّجُلُ دَابَّتَهُ فِي مِلْكِهِ فَمَا أَصَابَتْ بِيَدٍ ، أَوْ رِجْلٍ ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي إيقَافِهَا فِي مِلْكِهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْمِلْكُ لَهُ وَلِغَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُوقِفَ دَابَّتَهُ فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ وَيَسْتَوِي إنْ قَلَّ نَصِيبُهُ فِيهَا أَوْ كَثُرَ ( أَرَأَيْت ) لَوْ قَعَدَ فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ ، أَوْ تَوَضَّأَ فَعَطِبَ إنْسَانٌ بِوُضُوئِهِ أَكُنْتُ أُضَمِّنُهُ ذَلِكَ لَا أُضَمِّنُهُ شَيْئًا مِنْ هَذَا .
وَإِذَا سَارَ الرَّجُلُ عَلَى دَابَّتِهِ فَضَرَبَهَا ، أَوْ كَبَحَهَا بِاللِّجَامِ فَنَفَحَتْ بِرِجْلِهَا ، أَوْ بِذَيْلِهَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى ضَرْبِهَا ، أَوْ كَبْحِهَا بِاللِّجَامِ فِي تَسْيِيرِهَا وَلَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْ النَّفْحَةِ بِالرِّجْلِ ، وَالذَّنَبِ وَلَوْ خَبَطَتْ بِيَدٍ أَوْ رِجْلٍ ، أَوْ كَدَمَتْ ، أَوْ صَدَمَتْ فَقَتَلَتْ إنْسَانًا ، فَالضَّمَانُ عَلَى الرَّاكِبِ سَوَاءٌ كَانَ يَمْلِكُهَا ، أَوْ لَا يَمْلِكُهَا ؛ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ هَذَا كُلِّهِ مُمْكِنٌ وَلَوْ سَقَطَ عَنْهَا ، ثُمَّ ذَهَبَتْ عَلَى وَجْهِهَا فَقَتَلَتْ إنْسَانًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهَا مُنْفَلِتَةٌ فَاَلَّذِي سَقَطَ مِنْهَا لَيْسَ بِرَاكِبٍ وَلَا قَائِدٍ وَلَا سَائِقٍ ، وَالْمُنْفَلِتَةُ جُرْحُهَا جُبَارٌ ؛ لِأَنَّهَا عَجْمَاءُ بَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : { الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ } وَهِيَ الْمُنْفَلِتَةُ عِنْدَنَا .
ذَكَرَهُ فِي الْأَصْلِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَإِذَا سَارَ الرَّجُلُ عَلَى دَابَّةٍ فِي الطَّرِيقِ فَنَخَسَهَا رَجُلٌ أَوْ ضَرَبَهَا فَنَفَحَتْ بِرِجْلِهَا رَجُلًا فَقَتَلَتْهُ كَانَ ذَلِكَ عَلَى النَّاخِسِ دُونَ الرَّاكِبِ لِأَنَّ نَخْسَهُ جِنَايَةٌ فَمَا تَوَلَّدَ مِنْهُ كَانَ مَضْمُونًا عَلَيْهِ وَإِنَّمَا تَكُونُ النَّفْحَةُ بِالرِّجْلِ جُبَارًا إذَا كَانَ يَسِيرُ فِي الطَّرِيقِ قَالَ : بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَإِنْ نَفَحَتْ النَّاخِسَ كَانَ دَمُهُ هَدَرًا لِأَنَّ ذَلِكَ تَوَلَّدَ مِنْ نَخْسِهِ فَصَارَ كَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَنَى عَلَى نَفْسِهِ وَلَوْ أَلْقَتْ الرَّاكِبَ مِنْ تِلْكَ النَّخْسَةِ فَقَتَلَتْهُ كَانَتْ دِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ النَّاخِسِ لِأَنَّهُ تَوَلَّدَ ذَلِكَ مِنْ نَخْسِهِ وَجِنَايَتِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ وَثَبَتَ مِنْ نَخْسِهِ عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَتْهُ أَوْ وَطِئَتْ رَجُلًا فَقَتَلَتْهُ لِأَنَّ ذَلِكَ تَوَلَّدَ مِنْ جِنَايَتِهِ وَالْوَاقِفَةُ فِي ذَلِكَ وَاَلَّتِي تَسِيرُ سَوَاءٌ لِأَنَّ ذَلِكَ تَوَلَّدَ مِنْ نَخْسِهِ فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَى عَاقِلَتِهِ .
قَالَ : وَلَوْ نَخَسَهَا بِإِذْنِ الرَّاكِبِ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ الرَّاكِبِ لَوْ نَخَسَهَا وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي نَفْحَتِهَا وَهِيَ تَسِيرُ لِأَنَّ النَّفْحَةَ فِي حَالِ السَّيْرِ هَدَرٌ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { : الرِّجْلُ جُبَارٌ } وَلَوْ وَطِئَتْ رَجُلًا فِي سَيْرِهَا وَقَدْ نَخَسَهَا هَذَا بِإِذْنِ الرَّاكِبِ كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا إذَا كَانَ فِي فَوْرِهَا الَّذِي نَخَسَهَا فِيهِ لِأَنَّهُ لَمَّا نَخَسَ بِإِذْنِ الرَّاكِبِ صَارَ بِمَنْزِلَةِ السَّائِقِ وَالرَّاكِبِ سَائِقًا وَرَاكِبًا كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ وَهَذَا إذَا كَانَ فِي ذَلِكَ الْفَوْرِ الَّذِي نَخَسَهَا فِيهِ فَأَمَّا إذَا انْقَطَعَ ذَلِكَ الْفَوْرُ كَمَا إذَا سَارَتْ سَاعَةً وَتَرَكَهَا مِنْ السَّوْقِ فَالضَّمَانُ عَلَى الرَّاكِبِ خَاصَّةً لِأَنَّ فِعْلَ النَّاخِسِ قَدْ انْقَطَعَ وَبَقِيَ فِعْلُ الرَّاكِبِ .
قَالَ : وَإِذَا نَخَسَ الرَّجُلُ الدَّابَّةَ وَلَهَا سَائِقٌ بِغَيْرِ إذْنِ السَّائِقِ فَنَفَحَتْ رَجُلًا فَقَتَلَتْهُ فَالضَّمَانُ عَلَى النَّاخِسِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لَهَا قَائِدٌ لِأَنَّ ذَلِكَ تَوَلَّدَ مِنْ نَخْسِهِ وَإِنْ نَخَسَ بِإِذْنِ السَّائِقِ أَوْ بِإِذْنِ الْقَائِدِ فَنَفَحَتْ رَجُلًا فَقَتَلَتْهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَيْهِمَا لِأَنَّ النَّاخِسَ صَارَ سَائِقًا وَالنَّفْحَةُ بِالرِّجْلِ جُبَارٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ .
قَالَ وَإِذَا قَادَ الرَّجُلُ الدَّابَّةَ فَنَخَسَهَا رَجُلٌ آخَرُ فَانْفَلَتَتْ مِنْ الْقَائِدِ ثُمَّ أَصَابَتْ فِي فَوْرِهَا ذَلِكَ فَضَمَانُ ذَلِكَ عَلَى النَّاخِسِ لِأَنَّ حُكْمَ قَوَدِهِ قَدْ انْقَطَعَ وَصَارَ النَّاخِسُ جَانِيًا فَضَمَانُ ذَلِكَ عَلَيْهِ .
قَالَ : وَإِنْ كَانَ النَّاخِسُ عَبْدًا فَجِنَايَةُ الدَّابَّةِ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ يُدْفَعُ بِهَا أَوْ يَفْدِي لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ جِنَايَتِهِ بِيَدِهِ .
وَإِنْ كَانَ النَّاخِسُ صَبِيًّا فَهُوَ كَالرَّجُلِ فِي أَنَّ ضَمَانَ الدِّيَةِ يَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِ .
وَإِنْ مَرَّتْ الدَّابَّةُ بِشَيْءٍ نُصِبَ فِي ذَلِكَ الطَّرِيقِ فَنَخَسَهَا ذَلِكَ الشَّيْءُ فَنَفَحَتْ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ فَهُوَ عَلَى الَّذِي نَصَبَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي نَصْبِ ذَلِكَ الشَّيْءَ فِي الطَّرِيقِ فَكَانَ نَخْسُ ذَلِكَ الشَّيْءِ لِلدَّابَّةِ بِمَنْزِلَةِ نَخْسِ الَّذِي نَصَبَهُ .
وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ يَسِيرُ فِي الطَّرِيقِ فَأَمَرَ عَبْدًا لِغَيْرِهِ فَنَخَسَ دَابَّتَهُ فَنَفَحَتْ فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمَا لِأَنَّ فِعْلَ الْمَأْمُورِ كَفِعْلِ الْآمِرِ عَبْدًا كَانَ الْمَأْمُورُ أَوْ حُرًّا فَإِنْ وَطِئَتْ فِي فَوْرِهَا ذَلِكَ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ فَعَلَى عَاقِلَةِ الرَّاكِبِ نِصْفُ الدِّيَةِ وَفِي عُنُقِ الْعَبْدِ نِصْفُ الدِّيَةِ يَدْفَعُهَا مَوْلَاهُ أَوْ يَفْدِيهِ بِمَنْزِلَةِ السَّائِقِ مَعَ الرَّاكِبِ إلَّا أَنَّ الْمَوْلَى يَرْجِعُ عَلَى الْآمِرِ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَمِنْ نِصْفِ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ صَارَ لِلْعَبْدِ غَاصِبًا بِاسْتِعْمَالِهِ إيَّاهُ فِي نَخْسِ الدَّابَّةِ فَإِذَا لَحِقَهُ ضَمَانٌ بِذَلِكَ السَّبَبِ كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَرْجِعَ بِهِ عَلَى الْمُسْتَعْمِلِ لَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَرَهُ بِالسَّوْقِ أَوْ بِقَوْدِ الدَّابَّةِ .
وَلَوْ كَانَ الرَّاكِبُ عَبْدًا فَأَمَرَ عَبْدًا آخَرَ فَسَاقَ دَابَّتَهُ فَأَوْطَأَتْ إنْسَانًا فَقَتَلَتْهُ فَالدِّيَةُ فِي أَعْنَاقِهِمَا نِصْفَيْنِ يُدْفَعَانِ بِهَا أَوْ يَفْدِيَانِ بِمَنْزِلَةِ السَّائِقِ مَعَ الرَّاكِبِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الرَّاكِبِ لِمَوْلَى الْعَبْدِ الْمَأْمُورِ إذَا كَانَ الرَّاكِبُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ حَتَّى يُعْتَقَ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ هَذَا الضَّمَانِ اسْتِعْمَالُهُ إيَّاهُ بِالْقَوْلِ وَالْمَحْجُورُ لَا يُؤَاخَذُ بِضَمَانِ الْقَوْلِ حَتَّى يُعْتَقَ وَإِذَا عَتَقَ كَانَ عَلَيْهِ قِيمَةُ الْمَأْمُورِ وَإِنْ كَانَ تَاجِرًا أَوْ مُكَاتَبًا فَهُوَ دَيْنٌ فِي عُنُقِهِ لِأَنَّهُ لَا يُؤَاخَذُ بِضَمَانِ الْقَوْلِ فَكَذَلِكَ السَّائِقُ فِي الْحَالِ
وَإِذَا أَقَادَ الرَّجُلُ قِطَارًا فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَمَا وَطِئَ أَوَّلُ الْقِطَارِ وَآخِرُهُ فَالْقَائِدُ ضَامِنٌ لَهُ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ سَائِقٌ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ الْقَائِدَ مُقَرِّبٌ مَا أَصَابَ بِالصَّدْمَةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ السَّائِقُ مُقَرِّبٌ مِنْ ذَلِكَ وَمُشْتَرِكَانِ فِي الضَّمَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي السَّبَبِ وَهَذَا لِأَنَّ السَّوْقَ وَالْقَوْدَ فِي الطَّرِيقِ مُبَاحٌ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ بِمَنْزِلَةِ الرُّكُوبِ فَكَمَا أَنَّ الرَّاكِبَ يُجْعَلُ ضَامِنًا بِمَا تَلِفَ بِسَبَبٍ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَكَذَلِكَ السَّائِقُ وَالْقَائِدُ وَالْمَعْنَى فِي الْكُلِّ أَنَّ الدَّابَّةَ فِي يَدِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُتَحَرَّزَ عَمَّا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فِي صَرْفِ الدَّابَّةِ بِسَوْقِهِ أَوْ بِقَوْدِهِ وَإِنْ كَانَ مَعَهَا سَائِقٌ لِلْإِبِلِ وَسَطَ الْقِطَارِ فَالضَّمَانُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا لِأَنَّ الَّذِي هُوَ فِي وَسَطِ الْقِطَارِ سَائِقٌ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّزَ عَمَّا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ مِنْ الْإِبِلِ قَائِدًا لِمَا خَلْفَهُ وَالسَّائِقُ وَالْقَائِدُ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ سَوَاءٌ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ يَكُونُ أَحْيَانَا وَسَطَهَا وَأَحْيَانَا يَتَقَدَّمُ وَأَحْيَانَا يَتَأَخَّرُ لِأَنَّهُ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْأَحْوَالِ سَائِقٌ لِلْقِطَارِ أَوْ قَائِدٌ .
وَلَوْ كَانَ الرَّجُلُ رَاكِبًا وَسَطَ الْقِطَارِ عَلَى بَعِيرٍ وَلَا يَسُوقُ مِنْهَا شَيْئًا لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا مِمَّا تُصِيبُ الْإِبِلُ الَّتِي بَيْنَ يَدَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِسَائِقٍ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ فَإِنْ ثَقُلَ السَّوْقُ فِي الزَّجْرِ عَلَى الْإِبِلِ وَالضَّرْبُ وَلَمْ يُوجَدْ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ مَعَهُمْ فِي الضَّمَانِ فِيمَا أَصَابَ الْبَعِيرُ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ وَمَا خَلْفَهُ أَمَّا مَا فِي الْبَعِيرِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ فَلِأَنَّهُ رَاكِبٌ وَالرَّاكِبُ شَرِيكُ السَّائِقِ وَالْقَائِدِ فِي الضَّمَانِ وَأَمَّا مَا خَلْفَهُ فَلِأَنَّهُ قَائِدٌ لِمَا خَلْفَهُ لِأَنَّ مَا خَلْفَهُ زِمَامُهُ مَرْبُوطٌ بِبَعِيرِهِ وَمَشْيُ الْبَعِيرِ الَّذِي هُوَ عَلَيْهِ
يُضَافُ إلَى الرَّاكِبِ فَيُجْعَلُ هُوَ بِهَذَا الْمَعْنَى كَالْقَائِدِ لِمَا خَلْفَهُ وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : هَذَا إذَا كَانَ زِمَامُ مَا خَلْفَهُ يَقُودُهُ بِيَدِهِ وَأَمَّا إذَا كَانَ هُوَ نَائِمًا عَلَى بَعِيرِهِ أَوْ قَاعِدًا لَا يَفْعَلُ شَيْئًا لَا يَكُونُ بِهِ قَائِدًا لِمَا خَلْفَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ وَهُوَ فِي حَقِّ مَا خَلْفَهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَتَاعِ الْمَوْضُوعِ عَلَى بَعِيرِهِ .
وَإِذَا أَتَى الرَّجُلُ بِبَعِيرٍ فَرَبَطَهُ إلَى الْقِطَارِ وَالْقَائِدُ لَا يَعْلَمُ وَلَيْسَ مَعَهَا سَائِقٌ فَأَصَابَ ذَلِكَ الْبَعِيرُ إنْسَانًا ضَمِنَ الْقَائِدُ لِأَنَّهُ قَائِدٌ لِذَلِكَ الْبَعِيرِ وَالْقَوْدُ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ وَمَعَ تَحَقُّقِ سَبَبِ الضَّمَانِ لَا يَسْقُطُ الضَّمَانُ لِجَهْلِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ الْقَائِدُ عَلَى الَّذِي رَبَطَ الْبَعِيرَ بِذَلِكَ الضَّمَانِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَلْزَمَهُ ذَلِكَ الضَّمَانَ حِين رَبَطَ الْبَعِيرَ بِقِطَارِهِ وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِيمَا صَنَعَ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّمَانِ وَلَوْ كَانَ الْبَعِيرُ وَاقِعًا حِينَ رَبَطَهُ بِالْقِطَارِ ثُمَّ قَادَ فَأَصَابَ ذَلِكَ الْبَعِيرُ شَيْئًا فَالضَّمَانُ عَلَى الْقَائِدِ وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الَّذِي رَبَطَ الْبَعِيرَ بِذَلِكَ الضَّمَانِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي رَبَطَ الْبَعِيرَ بِقِطَارِهِ كَانَ هُوَ السَّبَبُ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّمَانِ فَيَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الرُّجُوعِ بِهِ عَلَيْهِ وَفِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا إنْ عَلِمَ صَاحِبُ الْقِطَارِ وَقَادَ الْقِطَارَ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الرَّابِطِ بِشَيْءٍ مِنْ الضَّمَانِ لِأَنَّهُ بَعْدَ مَا عَلِمَ لَمَّا قَادَ الْقِطَارَ فَقَدْ صَارَ ضَامِنًا بِفِعْلِهِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّهُ رَبَطَ بِأَمْرِهِ .
وَلَوْ سَقَطَ شَيْءٌ مِمَّا يَحْمِلُ الْإِبِلُ عَلَى إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ أَوْ سَقَطَ بِالطَّرِيقِ فَعَثَرَ فَمَاتَ كَانَ الضَّمَانُ فِي ذَلِكَ عَلَى الَّذِي يَقُودُ الْإِبِلَ وَإِنْ كَانَ مَعَهُ سَائِقٌ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ هَذَا مِمَّا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ بِأَنْ يَشُدَّ الْحَمْلَ عَلَى الْبَعِيرِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَسْقُطُ وَإِنَّمَا يَسْقُطُ لِتَقْصِيرٍ كَانَ مِنْ الْقَائِدِ وَالسَّائِقِ فِي الشَّدِّ فَكَأَنَّهُ أَسْقَطَ ذَلِكَ بِيَدِهِ فَيَكُونُ ضَامِنًا لِمَا تَلِفَ بِسُقُوطِهِ عَلَيْهِ وَلِمَنْ يَعْثُرُ بِهِ بَعْدَ مَا سَقَطَ فِي الطَّرِيقِ لِأَنَّهُ شَيْءٌ أَحْدَثَهُ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ .
وَإِذَا سَارَ الرَّجُلُ عَلَى دَابَّتِهِ فِي الطَّرِيقِ فَعَثَرَ بِحَجَرٍ وَضَعَهُ رَجُلٌ أَوْ بُدٍّ كَانَ قَدْ بَنَاهُ رَجُلٌ أَوْ بِمَاءٍ قَدْ صَبَّهُ رَجُلٌ فَوَقَعَتْ عَلَى إنْسَانٍ فَمَاتَ فَالضَّمَانُ عَلَى الَّذِي أَحْدَثَ ذَلِكَ فِي الطَّرِيقِ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ إحْدَاثِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ الطَّرِيقَ مُعَدٌّ لِمُرُورِ النَّاسِ فِيهِ فَمَا يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ أَوْ يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُرُورِ فِيهِ يَكُونُ هُوَ مَمْنُوعًا مِنْ إحْدَاثِ ذَلِكَ وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَصِيرُ الْمُحْدِثُ كَالدَّافِعِ لِلدَّابَّةِ عَلَى مَا سَقَطَتْ عَلَيْهِ فَيَكُونُ الضَّمَانُ عَلَيْهِ دُونَ الرَّاكِبِ قَالُوا هَذَا إذَا لَمْ يَعْلَمْ الرَّاكِبُ بِمَا أُحْدِثَ فِي الطَّرِيقِ فَإِنْ عَلِمَ بِذَلِكَ وَسَيَّرَ الدَّابَّةَ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ قَصْدًا فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ طَرَأَ عَلَى فِعْلِ الَّذِي أَحْدَثَ فِعْلٌ آخَرُ مِمَّنْ هُوَ مُخْتَارٌ فَيُفْسَخُ بِهِ حُكْمُ فِعْلِ الْأَوَّلِ وَيَكُونُ الضَّمَانُ عَلَى الثَّانِي بِمَنْزِلَةِ مَنْ وَضَعَ حَجَرًا عَلَى الطَّرِيقِ فَزَحْزَحَهُ رَجُلٌ آخَرُ إلَى جَانِبٍ آخَرَ مِنْ الطَّرِيقِ ثُمَّ عَثَرَ بِهِ إنْسَانٌ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ .
وَلَوْ سَارَ عَلَى دَابَّتِهِ فِي مِلْكِهِ فَأَوْطَأَتْ إنْسَانًا بِيَدٍ أَوْ رِجْلٍ فَقَتَلَتْهُ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ جَمِيعًا لِأَنَّ الرَّاكِبَ مُبَاشِرٌ لِلْقَتْلِ فِيمَا أَوْطَأَتْ دَابَّتُهُ وَالْمُبَاشَرَةُ فِي مِلْكِهِ وَفِي غَيْرِ مِلْكِهِ سَوَاءٌ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ كَالرَّمْيِ فَإِنْ رَمَى فِي مِلْكِهِ فَأَصَابَ إنْسَانًا كَانَ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ وَإِنْ كَانَ سَائِقًا أَوْ قَائِدًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ بِتَقْرِيبِ الدَّابَّةِ مِنْ مَحَلِّ الْجِنَايَةِ وَالْمُتَسَبِّبُ إنَّمَا يَكُونُ ضَامِنًا إذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا بِسَبَبِهِ وَهُوَ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ لَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا فِي سَوْقِ الدَّابَّةِ وَلَا قَوْدِهَا فَهُوَ نَظِيرُ الْقَاعِدِ فِي مِلْكِهِ إذَا تَعَثَّرَ بِهِ إنْسَانٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّ السَّائِقَ وَالْقَائِدَ فِي الطَّرِيقِ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ لِانْعِدَامِ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ مِنْهُ وَالرَّاكِبُ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ .
وَلَوْ أَوْقَفَهَا فِي مِلْكِهِ فَأَصَابَتْ إنْسَانًا مِنْ أَهْلِهِ أَوْ أَجْنَبِيًّا دَخَلَ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي إيقَافِهَا فِي مِلْكِهِ وَكَذَلِكَ الْكَلْبُ الْعَقُورُ فِي دَارِ مُخَلَّى عَنْهُ أَوْ مَرْبُوطًا لِأَنَّ صَاحِبَ الْكَلْبِ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي إمْسَاكِهِ فِي مِلْكِهِ .
وَلَوْ رَبَطَ دَابَّتَهُ فِي الطَّرِيقِ فَجَالَتْ فِي رِبَاطِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَحِلَّهَا أَحَدٌ فَمَا أَصَابَتْ فَهُوَ عَلَى الَّذِي رَبَطَهَا لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي رَبْطِهَا فِي الطَّرِيقِ وَفِي أَيِّ مَوْضِعٍ وَقَفَتْ بَعْدَ أَنْ تَكُونَ مَرْبُوطَةً فَذَلِكَ يَكُون مُضَافًا إلَى مَنْ رَبَطَهَا لِأَنَّ الرَّابِطَ يَعْلَمُ حِينَ رَبَطَهَا أَنَّهُ تَحَوَّلَ فِي رِبَاطِهَا بِهَذَا الْقَدْرِ فَلَا يَكُونُ تَغْيِيرُهَا عَنْ حَالِهَا مُبْطِلًا الضَّمَانَ عَنْهُ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ الضَّمَانُ بِالرِّبَاطِ كَمَا هِيَ إلَّا أَنْ يَحِلَّ الرِّبَاطَ وَتَذْهَبَ فَحِينَئِذٍ تَكُونُ فِي مَعْنَى الْمُنْفَلِتَةِ وَكَذَلِكَ كُلُّ بَهِيمَةٍ مِنْ سَبْعٍ أَوْ غَيْرِهِ إذَا أَوْقَفَهُ رَجُلٌ عَلَى الطَّرِيقِ فَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا التَّسَبُّبِ حُكْمًا ضَامِنٌ لِمَا يَتْلَفُ بِهِ مَا لَمْ يَتَغَيَّرْ عَنْ حَالِهِ وَكَذَلِكَ لَوْ طَرَحَ بَعْضَ الْهَوَامِّ عَلَى رَجُلٍ فَلَدَغَهُ ذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا التَّسَبُّبِ وَلَا يُقَالُ قَدْ طَرَأَ عَلَى تَسَبُّبِهِ مُبَاشَرَةٌ وَهُوَ اللَّدْغُ مِنْ الْعَقْرَبِ أَوْ الْحَيَّةِ لِأَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ صَالِحٍ لِبِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ فَلَا يُقْطَعُ بِهِ حُكْمُ التَّسَبُّبِ الْمَوْجُودُ مِمَّنْ أَلْقَاهُ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ مَشْيِ الْمَاشِي وَفِعْلِهِ فِي نَفْسِهِ فِي مَسْأَلَةِ حَفْرِ الْبِئْرِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ نَاسِخًا لِلسَّبَبِ الْمَوْجُودِ مِنْ الْحَافِرِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَإِذَا وَضَعَ الرَّجُلُ فِي الطَّرِيقِ حَجَرًا أَوْ بَنَى فِيهِ بِنَاءً أَوْ أَخْرَجَ مِنْ حَائِطِهِ جِذْعًا أَوْ صَخْرَةً شَاخِصَةً فِي الطَّرِيقِ أَوْ أَشْرَعَ كَنِيفًا أَوْ حِيَاضًا أَوْ مِيزَابًا أَوْ وَضَعَ فِي الطَّرِيقِ جِذْعًا فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُسَبِّبٌ لِهَلَاكِ مَا تَلِفَ بِمَا أَحْدَثَهُ وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا التَّسَبُّبِ فَإِنَّهُ أَحْدَثَ فِي الطَّرِيقِ مَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمَارَّةُ أَوْ يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُرُورِ فِي الطَّرِيقِ الَّذِي هُوَ حَقُّهُمْ وَوُجُوبُ الضَّمَانِ لِصِيَانَةِ دَمِ الْمُتْلِفِ عَنْ الْهَدَرِ فَإِذَا أَمْكَنَ إيجَابُهُ عَلَى الْمُسَبِّبِ لِكَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا فِي تَسْبِيبِهِ نُوجِبُهُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَاتِلًا فِي الْحَقِيقَةِ حَتَّى لَا تَلْزَمَهُ الْكَفَّارَةُ عِنْدَنَا وَلَا يُحْرَمُ الْمِيرَاثُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَمَّا جُعِلَ التَّسَبُّبُ كَالْمُبَاشَرَةِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الْكَفَّارَةِ وَحِرْمَانِ الْمِيرَاثِ وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْكَفَّارَةُ وَحِرْمَانُ الْمِيرَاثِ جَزَاءُ قَتْلٍ مَحْظُورٍ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي التَّسَبُّبِ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ أَنْ يُجْعَلَ قَاتِلًا بِإِحْدَاثِ ذَلِكَ وَلَا مَقْتُولًا عِنْدَ إحْدَاثِهِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ قَاتِلًا عِنْدَ الْإِصَابَةِ فَلَعَلَّ الْمُحْدِثَ مَيِّتٌ عِنْدَ الْإِصَابَةِ وَكَيْفَ يَكُونُ الْمَيِّتُ قَاتِلًا ؟ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْقَتْلَ لَا يَكُونُ إلَّا بِفِعْلِ الْقَاتِلِ وَالْقَتْلُ نَوْعَانِ : عَمْدٌ وَخَطَأٌ فَفِي كُلِّ مَا يُتَصَوَّرُ الْعَمْدُ فِي جِنْسِهِ يُتَصَوَّرُ الْخَطَأِ أَيْضًا وَالْقَتْلُ الْعَمْدُ بِهَذَا الطَّرِيقِ لَا يَتَحَقَّقُ فَكَذَلِكَ الْخَطَأُ وَحِرْمَانُ الْمِيرَاثِ بِاعْتِبَارِ تَوَهُّمِ الْقَصْدِ إلَى اسْتِعْجَالِ الْمِيرَاثِ وَذَلِكَ فِي الْعَمْدِ لَا يُشْكِلُ وَفِي الْخَطَأِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْخَطَأُ أَظْهَرَ مِنْ نَفْسِهِ وَهُوَ قَاصِدٌ إلَى ذَلِكَ وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ : الْكَفَّارَةُ وَحِرْمَانُ
الْمِيرَاثِ لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ بِالْقَتْلِ لِأَنَّهُ جَزَاءُ قَتْلٍ مَحْظُورٍ وَفِعْلُ الصَّبِيِّ لَا يُوصَفُ بِذَلِكَ فَالْخَطَأُ شَرْعًا يُبْنَى عَلَى الْخِطَابِ وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ يُثْبِتُ الْكَفَّارَةَ وَحِرْمَانَ الْمِيرَاثِ فِي حَقِّهِمَا كَمَا تَثْبُتُ الدِّيَةُ وَعَلَى هَذَا قُلْنَا : إذَا قَضَى الْقَاضِي عَلَى مُورِثِهِ بِالْقِصَاصِ لَمْ يُحْرَمْ الْمِيرَاثُ وَإِنْ رَجَعُوا لَا تَلْزَمُهُمْ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ ذَلِكَ جَزَاءُ فِعْلٍ مَحْظُورٍ وَالْقَاضِي بِقَضَائِهِ لَا يَصِيرُ قَاتِلًا وَكَذَلِكَ شُهُودُ الْقِصَاصِ لَا يُحْرَمُونَ الْمِيرَاثَ وَإِنْ رَجَعُوا لَا تَلْزَمُهُمْ الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ ذَلِكَ جَزَاءُ قَتْلٍ مَحْظُورٍ وَهُمْ بِالشَّهَادَةِ مَا صَارُوا قَاتِلِينَ مُبَاشَرَةً فَإِنْ عَثَرَ بِمَا أَحْدَثَهُ فِي الطَّرِيقِ رَجُلٌ فَوَقَعَ عَلَى آخَرَ فَمَاتَا فَالضَّمَانُ عَلَى الَّذِي أَحْدَثَهُ فِي الطَّرِيقِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الدَّافِعِ لِمَنْ يَعْثُرُ بِمَا أَحْدَثَهُ فَكَأَنَّهُ دَفَعَهُ بِيَدِهِ عَلَى غَيْرِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الَّذِي عَثَرَ بِهِ لِأَنَّهُ مَدْفُوعٌ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَالْمَدْفُوعُ كَالْآلَةِ وَإِذَا نَحَّى رَجُلٌ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَنْ مَوْضِعِهِ فَعَطِبَ بِهِ آخَرُ فَالضَّمَانُ عَلَى الَّذِي نَحَّاهُ وَقَدْ خَرَجَ الْأَوَّلُ مِنْ الضَّمَانِ لِأَنَّ حُكْمَ فِعْلِهِ قَدْ انْفَسَخَ بِفَرَاغِ الْمَوْضِعِ الَّذِي شَغَلَهُ بِمَا أَحْدَثَ فِيهِ وَإِنَّمَا شُغِلَ بِفِعْلِ الثَّانِي فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَهُوَ كَالْمُحْدِثِ لِذَلِكَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَإِلْقَاءُ التُّرَابِ فِي الطَّرِيقِ وَاِتِّخَاذُ الطِّينِ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ إلْقَاءِ الْحَجَرِ وَالْخَشَبَةِ .
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا كَنَسَ الطَّرِيقَ فَعَطِبَ بِمَوْضِعٍ كَنَسَهُ إنْسَانٌ لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّهُ لَمْ يُحْدِثْ فِي الطَّرِيقِ شَيْئًا إنَّمَا كَنَسَ الطَّرِيقَ لِكَيْ لَا يَتَضَرَّرَ بِهِ الْمَارَّةُ وَلَا يُؤْذِيَهُمْ التُّرَابُ فَلَا يَكُونُ هَذَا مُتَعَدِّيًا فِي هَذَا السَّبَبِ .
وَلَوْ رَشَّ الطَّرِيقَ أَوْ تَوَضَّأَ فِي الطَّرِيقِ فَعَطِبَ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ إنْسَانٌ فَهُوَ ضَامِنٌ لِأَنَّ مَا أَحْدَثَ فِي الطَّرِيقِ مِنْ صَبِّ الْمَاءِ يُلْحِقُ الضَّرَرَ بِالْمَارَّةِ وَيَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُرُورِ مَخَافَةَ أَنْ تَزِلَّ أَقْدَامُهُمْ وَهَذَا كُلُّهُ فِي طَرِيقٍ هُوَ لِلْعَامَّةِ فَإِنْ كَانَ فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ وَاَلَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ السِّكَّةِ لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ شَرِكَةً خَاصَّةً وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَحَدَ الشُّرَكَاءِ إذَا أَحْدَثَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا .
وَإِذَا أَشْرَع الرَّجُلُ جَنَاحًا إلَى الطَّرِيقِ ثُمَّ بَاعَ الدَّارَ فَأَصَابَ الْجَنَاحُ رَجُلًا فَقَتَلَهُ فَالضَّمَانُ عَلَى الْبَائِعِ لِأَنَّهُ كَانَ جَانِيًا بِوَضْعِ الْجَنَاحِ فَإِنَّ سِوَاءَ الطَّرِيقِ كَرَقَبَةِ الطَّرِيقِ فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهِ شَيْئًا يَكُونُ جَانِيًا وَبِالْبَيْعِ لَمْ يُنْسَخْ حُكْمُ فِعْلِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْزِعْ الْمَوْضِعَ الَّذِي شَغَلَهُ بِمَا أَحْدَثَهُ فَبَقِيَ ضَامِنًا عَلَى حَالِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ وَضَعَ الْجَنَاحَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ كَانَ ضَامِنًا لِمَا تَلِفَ بِهِ فَلَمَّا كَانَ عَدَمُ الْمِلْكِ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ سَبَبِ الضَّمَانِ فَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُشْتَرِي لِأَنَّهُ مَا أَحْدَثَ فِي الطَّرِيقِ شَيْئًا وَكَذَلِكَ الْمِيزَابُ فَإِنْ سَقَطَ الْمِيزَابُ يُصْرَفَانِ فَإِنْ أَصَابَ مَا كَانَ مِنْهُ فِي الْحَائِطِ رَجُلًا فَقَتَلَهُ فَلَا ضَمَانَ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ لِأَنَّهُ إنَّمَا وَضَعَ ذَلِكَ الطَّرَفَ مِنْ الْمِيزَابِ فِي مِلْكِهِ وَإِحْدَاثُ شَيْءٍ فِي مِلْكِهِ لَا يَكُونُ تَعَدِّيًا وَإِنْ أَصَابَهُ مَا كَانَ خَارِجًا مِنْهُ مِنْ الْحَائِطِ فَالضَّمَانُ عَلَى الَّذِي وَضَعَهُ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي ذَلِكَ الطَّرَفِ فَإِنَّهُ شَغَلَ بِهِ هَوَاءَ الطَّرِيقِ فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَيَّهمَا أَصَابَهُ فَفِي الْقِيَاسِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ أَصَابَهُ الطَّرَفُ الدَّاخِلُ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا وَإِنْ أَصَابَهُ الطَّرَفُ الْخَارِجُ فَهُوَ ضَامِنٌ وَالضَّمَانُ بِالشَّكِّ لَا يَجِبُ لِأَنَّ فَرَاغَ ذِمَّتِهِ ثَابِتٌ يَقِينًا وَفِي الْإِشْغَالِ شَكٌّ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ هُوَ ضَامِنٌ لِلنِّصْفِ لِأَنَّهُ فِي حَالٍ هُوَ ضَامِنٌ لِلْكُلِّ وَفِي حَالٍ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فَيَتَوَزَّعُ الضَّمَانُ عَلَى الْأَحْوَالِ لِيَتَحَقَّقَ بِهِ مَعْنَى النَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ .
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ رَبُّ الدَّارِ الْفَعَلَةَ لِإِخْرَاجِ الْجَنَاحِ أَوْ الظُّلَّةِ فَوَقَعَ فَقَتَلَ إنْسَانًا فَإِنْ سَقَطَ مِنْ عَمَلِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغُوا مِنْهُ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمْ دُونَ رَبِّ الدَّارِ لِأَنَّهُ إنَّمَا سَقَطَ لِتَقْصِيرِهِمْ فِي الْإِمْسَاكِ فَكَأَنَّهُمْ أَلْقَوْا ذَلِكَ فَيَكُونُونَ قَاتِلِينَ مُبَاشَرَةً فَلِيَلْزَمْهُمْ الدِّيَةُ وَالْكَفَّارَةُ وَيُحْرَمُونَ الْمِيرَاثَ وَإِنْ سَقَطَ ذَلِكَ بَعْدَ فَرَاغِهِمْ مِنْ الْعَمَلِ فَالضَّمَانُ فِيهِ عَلَى رَبِّ الدَّارِ اسْتِحْسَانًا وَفِي الْقِيَاسِ هَذَا كَالْأَوَّلِ لِأَنَّهُمْ بَاشَرُوا إحْدَاثَ ذَلِكَ فِي الطَّرِيقِ وَصَاحِبُ الدَّارِ مَمْنُوعٌ مِنْ إحْدَاثِهِ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيمَا أَمَرَهُ فِي مَا لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ بِنَفْسِهِ وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ لِحَدِيثِ شُرَيْحٍ فَإِنَّهُ قَضَى بِالضَّمَانِ عَلَى مِثْلِهِ عَلَى رَبِّ الدَّارِ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ لَهُ وَلِهَذَا يَسْتَوْجِبُونَ الْأَجْرَ عَلَيْهِ وَقَدْ صَارَ عَمَلُهُمْ مُسَلَّمًا إلَيْهِ بِالْفَرَاغِ مِنْهُ فَكَأَنَّهُ عَمِلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْفَرَاغِ فَإِنَّهُ عَمَلُهُمْ لَمْ يَصِرْ مُسَلَّمًا إلَيْهِ بَعْدَ وَهَذَا لِأَنَّهُ إنَّمَا يَحْدُثُ ذَلِكَ فِي فِنَائِهِ وَيُبَاحُ لَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ إحْدَاثُ مِثْلِ ذَلِكَ فِي فِنَائِهِ إذَا كَانَ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ غَيْرُهُ وَلَكِنْ لِكَوْنِ الْفِنَاءِ غَيْرَ مَمْلُوكٍ لَمْ يَتَقَيَّدْ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ فَبِهَذَا اُعْتُبِرَ أَمْرُهُ فِي ذَلِكَ وَجُعِلَ هُوَ كَالْقَاتِلِ لِنَفْسِهِ .
وَلَوْ وَضَعَ سَاجَةً فِي الطَّرِيقِ أَوْ خَشَبَةً بَاعَهَا مِنْ رَجُلٍ وَبَرِئَ إلَيْهِ مِنْهَا فَتَرَكَهَا الْمُشْتَرِي حَتَّى عَطِبَ بِهَا إنْسَانٌ فَالضَّمَانُ عَلَى الَّذِي وَضَعَهَا لِأَنَّهُ كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي وَضْعِهَا فَمَا بَقِيَتْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ بَقِيَ حُكْمُ فِعْلِهِ وَكَمَا أَنَّ انْعِدَامَ مِلْكِهِ فِي الْخَشَبَةِ لَا يَمْنَعُ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِوَضْعِهَا فِي الطَّرِيقِ فَكَذَلِكَ زَوَالُ مِلْكِهِ بِالْبَيْعِ وَإِنْ كَانَ جَمِيعُ مَا ذَكَرْنَا فِي مِلْكِ قَوْمٍ أَشْرَعُوهُ فِي مِلْكِهِمْ فَلَا ضَمَانَ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ أَشْرَعَهُ بَعْضُهُمْ دُونَ بَعْضٍ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ يُرْفَعُ عَنْهُ بِحِصَّةِ مَا مَلَكَهُ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّ أَحَدَ الشُّرَكَاءِ لَا يَمْلِكُ الْبِنَاءَ فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ بِغَيْرِ رِضَا شُرَكَائِهِ فَهُوَ جَانٍ بِاعْتِبَارِ إرْضَائِهِمْ غَيْرُ جَانٍ بِاعْتِبَارِ نَصِيبِهِ فَيَتَوَزَّعُ الضَّمَانُ عَلَى ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ فِي الْجَارِيَةِ إذَا وَطِئَهَا يَلْزَمُهُ الْعُقْرُ وَيُرْفَعُ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ حِصَّتُهُ وَذَلِكَ بِخِلَافِ مَا لَوْ تَوَضَّأَ فِيهِ أَوْ صَبَّ فِيهِ مَاءً أَوْ وَضَعَ مَتَاعًا لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَمَكَّنُ مِنْ فِعْلِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشُّرَكَاءِ شَرْعًا فَيُسْتَحْسَنُ أَنْ لَا يَجْعَلَهُ ضَامِنًا بِهِ بِخِلَافِ الْبِنَاءِ .
وَإِذَا وَضَعَ فِي الطَّرِيقِ جَمْرًا فَأَحْرَقَ شَيْئًا فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي إحْدَاثِ النَّارِ فِي الطَّرِيقِ فَإِنْ حَرَّكَتْهُ الرِّيحُ فَذَهَبَ بِهِ إلَى مَوْضِعً آخَرَ ثُمَّ أَحْرَقَ شَيْئًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ حُكْمَ فِعْلِهِ قَدْ انْتَسَخَ بِالتَّحَوُّلِ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ قَالَ : وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْيَوْمُ يَوْمَ رِيحٍ فَإِنْ كَانَ رِيحًا فَهُوَ ضَامِنٌ لِأَنَّهُ كَانَ عَالِمًا حِين أَلْقَاهُ أَنَّ الرِّيحَ يَذْهَبُ بِهِ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ فَلَا يُنْسَخُ حُكْمُ فِعْلِهِ بِذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الدَّابَّةِ الَّتِي جَالَتْ بِرِبَاطِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : وَإِذَا مَالَ حَائِطُ الرَّجُلِ أَوْ وَهِيَ فَوَقَعَ عَلَى الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ فَقَتَلَ إنْسَانًا فَلَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ صُنْعٌ هُوَ تَعَدٍّ فَإِنَّهُ وَضَعَ الْبِنَاءَ فِي مِلْكِهِ فَلَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا فِي الْوَضْعِ وَلَا صُنْعَ لَهُ فِي مِثْلِ الْحَائِطِ وَلَكِنْ هَذَا إذَا كَانَ بِنَاءُ الْحَائِطِ مُسْتَوِيًا فَإِنْ كَانَ بَنَاهُ فِي الْأَصْلِ مَائِلًا إلَى الطَّرِيقِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَنْ يَسْقُطُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي شَغْلِ هَوَاءِ الطَّرِيقِ بِبِنَائِهِ وَهَوَاءُ الطَّرِيقِ كَأَصْلِ الطَّرِيقِ حَقُّ الْمَارَّةِ فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهِ شَيْئًا كَانَ مُتَعَدِّيًا ضَامِنًا فَأَمَّا إذَا بِنَاهٍ مُسْتَوِيًا فَإِنَّمَا شَغَلَ بِبِنَائِهِ هَوَاءَ مِلْكِهِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ تَعَدِّيًا مِنْهُ فَلَوْ أَشْهَدَ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْحَائِطِ الْمَائِلِ فَلَمْ يَهْدِمْهُ حَتَّى سَقَطَ وَأَصَابَ إنْسَانًا فَفِي الْقِيَاسِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ أَيْضًا وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ صُنْعٌ هُوَ تَعَدٍّ وَالْإِشْهَادُ فِعْلُ غَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ .
لَكِنْ اسْتَحْسَنَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ إيجَابَ الضَّمَانِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْ شُرَيْحٍ وَالنَّخَعِيِّ وَالشَّعْبِيِّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ وَهَذَا لِأَنَّ هَوَاءَ الطَّرِيقِ قَدْ اُشْتُغِلَ بِحَائِطِهِ وَحِينَ قَدْ أُشْهِدَ عَلَيْهِ فَقَدْ طُولِبَ بِالتَّفْرِيغِ وَالرَّدِّ فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ بَعْدَ مَا تَمَكَّنَ مِنْهُ كَانَ ضَامِنًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ هَبَّتْ الرِّيحُ بِثَوْبٍ أَلْقَتْهُ فِي حِجْرِهِ فَطَالَبَهُ صَاحِبُهُ بِالرَّدِّ عَلَيْهِ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى هَلَكَ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْإِشْهَادِ وَلِأَنَّهُ لَمْ يُطَالَبْ بِالتَّفْرِيغِ فَهُوَ نَظِيرُ الثَّوْبِ إذَا هَلَكَ فِي حِجْرِهِ قَبْلَ أَنْ يُطَالِبَهُ صَاحِبُهُ بِالرَّدِّ ثُمَّ لَا مُعْتَبَرَ بِالْإِشْهَادِ وَإِنَّمَا الْمُعْتَبَرُ التَّقَدُّمُ إلَيْهِ فِي هَدْمِ الْحَائِطِ فَالْمُطَالَبَةُ تَتَحَقَّقُ وَيَنْعَدِمُ بِهِ مَعْنَى
الْعُذْرِ فِي حَقِّهِ وَهُوَ الْجَهْلُ بِمَيْلِ الْحَائِطِ إلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ الْإِشْهَادَ احْتِيَاطًا حَتَّى إذَا جَحَدَ صَاحِبُ الْحَائِطِ التَّقَدُّمَ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ أَمْكَنَ إثْبَاتُهُ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ بِمَنْزِلَةِ الشَّفِيعِ فَالْمُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ طَلَبُ الشُّفْعَةِ وَلَكِنْ يُؤْمَرُ بِالْإِشْهَادِ عَلَى ذَلِكَ احْتِيَاطًا لِهَذَا الْمَعْنَى وَهَذَا التَّقَدُّمُ إلَيْهِ يَصِحُّ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّاسِ مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً لِأَنَّ النَّاسَ فِي الْمُرُورِ فِي الطَّرِيقِ شُرَكَاءُ وَالتَّقَدُّمُ إلَيْهِ صَحِيحٌ عِنْدَ السُّلْطَانِ وَعِنْدَ غَيْرِ السُّلْطَانِ لِأَنَّهُ مُطَالَبَةٌ بِالتَّفْرِيغِ وَغَيْرُ مُطَالَبَةٍ فِي الطَّرِيقِ وَلِكُلِّ أَحَدٍ حَقٌّ فِي الطَّرِيقِ فَيَنْفَرِدُ بِالْمُطَالَبَةِ بِتَفْرِيغِهِ وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ : إنَّ حَائِطَك هَذَا مَائِلٌ فَاهْدِمْهُ .
وَذَكَر عَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَمْشِي وَمَعَهُ رَجُلٌ فَقَالَ الرَّجُلُ : إنَّ هَذَا الْحَائِطَ لَمَائِلٌ وَهُوَ لِعَامِرٍ وَلَا يَعْلَمُ الرَّجُلُ أَنَّهُ عَامِرٌ فَقَالَ عَامِرٌ : مَا أَنْتَ بِاَلَّذِي يُفَارِقُنِي حَتَّى أَنْقُضَهُ فَبَعَثَ إلَى الْفَعَلَةِ فَنَقَضَهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْإِشْهَادَ بِهَذَا اللَّفْظِ يَتِمُّ وَبَعْدَ الْإِشْهَادِ إنْ تَلِفَ بِالْحَائِطِ مَالٌ فَالضَّمَانُ فِي مَالِهِ وَإِنْ تَلِفَ بِهِ نَفْسٌ فَضَمَانُ دِيَتِهِ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِأَنَّ هَذَا دُونَ الْخَطَأِ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ فِيهِ لِانْعِدَامِ مُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ مِنْهُ وَيَسْتَوِي إنْ شَهِدَ عَلَيْهِ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ فِي التَّقَدُّمِ إلَيْهِ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِهَذَا التَّقَدُّمِ مَا لَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَهُوَ الْمَالُ وَإِذَا بَاعَ الْحَائِطَ بَعْدَ مَا أَشْهَدَ عَلَيْهِ بَرِئَ مِنْ ضَمَانِهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا كَانَ جَانِيًا بِتَرْكِ الْهَدْمِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْهُ وَبِالْبَيْعِ زَالَ تَمَكُّنُهُ مِنْ هَدْمِ الْحَائِطِ فَيَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ جَانِيًا فِيهِ بِخِلَافِ الْجَنَاحِ فَهُنَاكَ كَانَ جَانِيًا بِأَصْلِ الْوَضْعِ .
يُوَضِّحُهُ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ لَا
يَصِحُّ إذَا لَمْ يَكُنْ هُوَ مَالِكًا لِلْحَائِطِ فَكَذَلِكَ لَا يَبْقَى حُكْمُ الْإِشْهَادِ بَعْدَ - زَوَالِ مِلْكِهِ بِخِلَافِ الْجَنَاحِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي الْحَائِطِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ إلَيْهِ فِي هَدْمِهِ فَحَالُهُ كَحَالِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ فِيهِ فَإِنْ شَهِدَ الْمُشْتَرِي فِي الْحَائِطِ فَإِنَّهُ لَا يَتَقَدَّمُ إلَيْهِ فِي هَدْمِهِ فَحَالُهُ كَحَالِ الْبَائِعِ قَبْلَ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ فِيهِ فَإِنْ أَشْهَدَ عَلَى الْمُشْتَرِي بَعْدَ شِرَائِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِتَرْكِهِ تَفْرِيغَ الطَّرِيقِ بَعْدَ مَا طُولِبَ بِهِ مَعَ تَمَكُّنِهِ مِنْ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ الْحَائِطُ رَهْنًا فَتَقَدَّمَ إلَى الْمُرْتَهِنِ فِيهِ لَمْ يَضْمَنْهُ الْمُرْتَهِنُ وَلَا الرَّاهِنُ لِأَنَّ الْمُرْتَهِنَ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنْ هَدْمِهِ فَلَا يَصِحُّ التَّقَدُّمُ فِيهِ إلَيْهِ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ إلَى الرَّاهِنِ فِيهِ وَإِنْ تَقَدَّمَ فِيهِ إلَى الرَّاهِنِ كَانَ ضَامِنًا لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ أَنْ يَقْضِيَ الدَّيْنَ وَيَسْتَرِدَّ الْحَائِطَ فَهَدَمَهُ فَيَصِحُّ التَّقَدُّمُ إلَيْهِ فِيهِ وَإِنْ تَقَدَّمَ إلَى السَّاكِنِ الدَّارَ فِي بَعْضِ الْحَائِطِ الْمَائِلِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِشَيْءٍ سَوَاءٌ كَانَ سَاكِنًا بِأَجْرٍ أَوْ بِغَيْرِ أَجْرٍ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنْ النَّقْضِ وَإِنْ تَقَدَّمَ إلَى رَبِّ الدَّارِ فَعَلَيْهِ الضَّمَانُ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ هَدْمِهِ فَإِذَا تَقَدَّمَ إلَى أَبِ الصَّبِيِّ أَوْ الْوَصِيِّ فِي ذَلِكَ فَلَمْ يَنْقُضْهُ حَتَّى سَقَطَ فَأَصَابَ شَيْئًا فَضَمَانُهُ عَلَى الصَّبِيِّ لِأَنَّ الْأَبَ وَالْوَصِيَّ يَقُومَانِ مَقَامَهُ وَيَمْلِكَانِ هَدْمَ الْحَائِطِ فَيَصِحُّ التَّقَدُّمُ إلَيْهِمَا فِيهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ كَالتَّقَدُّمِ إلَى الصَّبِيِّ بَعْدَ بُلُوغِهِ ثُمَّ هُمَا فِي تَرْكِ الْهَدْمِ يَعْمَلَانِ لِلصَّبِيِّ وَيَنْظُرَانِ لَهُ فَلِهَذَا كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ دُونَهُمَا .
وَإِذَا تَقَدَّمَ فِي الْحَائِطِ إلَى بَعْضِ الْوَرَثَةِ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ لِأَنَّ أَحَدَ الشُّرَكَاءِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ نَقْضِ الْحَائِطِ كَمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ بِنَائِهِ
وَلَمْ يُوجَدْ التَّقَدُّمُ إلَى الْبَاقِينَ فَلَا يَصِحُّ هَذَا الْإِشْهَادُ وَلَا يَكُونُ هُوَ مُتَعَدِّيًا فِي تَرْكِهِ التَّفْرِيغَ بَعْدَ هَذَا وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ فَنُضَمَّنُ هَذَا الَّذِي أَشْهَدَ عَلَيْهِ بِحِصَّةِ نَصِيبِهِ مِمَّا أَصَابَ الْحَائِطَ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَنْ يَطْلُبَ شُرَكَاءَهُ لِيَجْتَمِعُوا عَلَى هَدْمِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى جَمَاعَتِهِ يَتَعَذَّرُ عَادَةً فَلَوْ لَمْ يَصِحَّ الْإِشْهَادُ عَلَى بَعْضِهِمْ فِي نَصِيبِهِ أَدَّى إلَى الضَّرَرِ وَالضَّرَرُ مَدْفُوعٌ وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَالْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ وَالْحُرُّ وَالْمُكَاتَبُ فِي هَذَا الْإِشْهَادِ سَوَاءٌ لِأَنَّهُمْ فِي التَّطَرُّقِ فِي هَذَا الطَّرِيقِ سَوَاءٌ .
وَإِذَا تَقَدَّمَ إلَى الْعَبْدِ التَّاجِرِ فِي الْحَائِطِ فَأَصَابَ إنْسَانًا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ لَا دَيْنَ عَلَيْهِ فَهُوَ عَلَى عَاقِلَةِ مَوْلَاهُ لِأَنَّ الْعَبْدَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ هَدْمِ الْحَائِطِ فَيَصِحُّ التَّقَدُّمُ إلَيْهِ ثُمَّ الْحَائِطُ مِلْكُ الْمَوْلَى إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَالْمَوْلَى أَحَقُّ بِاسْتِخْلَاصِهِ لِنَفْسِهِ فَيُجْعَلُ فِي حُكْمِ الْجِنَايَةِ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الْمَالِكَ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا إذَا وُجِدَ الْقَتِيلُ فِي دَارِ الْعَبْدِ فَلِهَذَا كَانَ ضَمَانُ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَوْلَى وَإِنْ أَصَابَ مَالًا فَضَمَانُهُ فِي عُنُقِ الْعَبْدِ يُبَاعُ فِيهِ وَيَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْمَوْلَى كَضَمَانِ النَّفْسِ وَلَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا فَقُلْنَا : الْعَبْدُ بِالْتِزَامِ ضَمَانِ الْمَالِ كَالْحُرِّ فَإِنَّهُ مُنْفَكُّ الْحَجْرِ عَنْهُ فِي اكْتِسَابِ سَبَبِ ذَلِكَ وَفِي الْتِزَامِ ضَمَانِ الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ هُوَ كَالْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِأَنَّ فَكَّ الْحَجْرِ بِالْإِذْنِ لَمْ يَتَنَاوَلْ ذَلِكَ فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمَوْلَى .
وَإِذَا وَضَعَ الرَّجُلُ عَلَى حَائِطِهِ شَيْئًا فَوَقَعَ ذَلِكَ الشَّيْءُ فَأَصَابَ إنْسَانًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ لِأَنَّهُ وَضَعَهُ عَلَى مِلْكِهِ فَهُوَ لَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا فِيمَا يُحْدِثُهُ فِي مِلْكِهِ وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الْحَائِطُ مَائِلًا أَوْ غَيْرَ مَائِلٍ لِأَنَّهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لَا يَكُونُ مَمْنُوعًا مِنْ وَضْعِ مَتَاعَهُ عَلَى مِلْكِهِ .
وَإِذَا تَقَدَّمَ إلَى رَجُلٍ فِي حَائِطٍ مِنْ دَارِهِ فِي يَدِهِ فَلَمْ يَهْدِمْهُ حَتَّى سَقَطَ عَلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ فَأَنْكَرَتْ الْعَاقِلَةُ أَنْ تَكُونَ الدَّارُ لَهُ أَوْ قَالُوا : لَا نَدْرِي هِيَ لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ حَتَّى تَقُومَ الْبَيِّنَةُ عَلَى أَنَّ الدَّارَ لَهُ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْمِلْكِ لَهُ بِاعْتِبَارِ الْيَدِ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ وَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِاسْتِحْقَاقِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَهُوَ نَظِيرُ الْمُشْتَرِي لِلدَّارِ إذَا أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ مَا فِي يَدِ الشَّفِيعِ مِلْكَهُ كَانَ عَلَى الشَّفِيعِ إثْبَاتُ مِلْكِهِ بِالْبَيِّنَةِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ بِالْبَيِّنَةِ أَحَدُهَا أَنْ تَكُونَ الدَّارُ لَهُ وَالثَّانِي أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَيْهِ فِي هَدْمِ الْحَائِطِ وَالثَّالِثُ أَنَّ الْمَقْتُولَ إنَّمَا مَاتَ بِسُقُوطِ الْحَائِطِ عَلَيْهِ فَإِذَا ثَبَتَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ بِالْبَيِّنَةِ فَحِينَئِذٍ يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ فَإِنْ أَقَرَّ ذُو الْيَدِ أَنَّ الدَّارَ لَهُ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُقِرِّ أَيْضًا فِي الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَقَرَّ بِوُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَالْمُقِرُّ عَلَى الْغَيْرِ إذَا صَارَ مُكَذَّبًا فِي إقْرَارِهِ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ أَنْ نُضَمِّنَهُ الدِّيَةَ لِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِالتَّعَدِّي وَهُوَ تَرْكُ هَدْمِ الْحَائِطِ بَعْدَ مَا تَمَكَّنَ مِنْهُ وَإِنَّمَا هَذَا بِمَنْزِلَةِ جَنَاحٍ أَخْرَجَهُ فِي دَارِ فِي يَدِهِ إلَى الطَّرِيقِ فَوَقَعَ عَلَى إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ فَقَالَتْ الْعَاقِلَةُ : لَيْسَتْ الدَّارُ لَهُ وَإِنَّمَا أَخْرَجَ الْجَنَاحَ بِأَمْرِ رَبِّ الدَّارِ وَأَقَرَّ ذُو الْيَدِ أَنَّ الدَّارَ لَهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ ضَامِنًا الدِّيَةَ فِي مَالِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ .
وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ عَلَى حَائِطٍ لَهُ مَائِلٌ أَوْ غَيْرِ مَائِلٍ سَقَطَ بِهِ الْحَائِطُ فَأَصَابَ مِنْ غَيْرِ عِلْمِهِ إنْسَانًا فَقَتَلَهُ فَهُوَ ضَامِنٌ فِي الْحَائِطِ الْمَائِلِ إذَا كَانَ قَدْ تَقَدَّمَ إلَيْهِ فِيهِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا سِوَاهُ لِأَنَّهُ مَدْفُوعٌ بِالْحَائِطِ حِينَ سَقَطَ الْحَائِطُ وَسُقُوطُهُ عَلَى إنْسَانٍ بِمَنْزِلَةِ سُقُوطِ الْحَائِطِ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ وَلَوْ كَانَ هُوَ سَقَطَ مِنْ الْحَائِطِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْقُطَ الْحَائِطُ فَقَتَلَ إنْسَانًا كَانَ هُوَ ضَامِنًا لِأَنَّهُ غَيْرُ مَدْفُوعٍ هُنَا بِالْحَائِطِ فَإِنَّ الْحَائِطَ عَلَى حَالِهِ لَمْ يَسْقُطْ وَلَكِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ النَّائِمِ انْقَلَبَ عَلَى إنْسَانٍ فَقَتَلَهُ يَكُونُ ضَامِنًا لَهُ وَلَوْ مَاتَ السَّاقِطُ بِطَرِيقِ الْأَسْفَلِ فَإِنْ كَانَ يَمْشِي فِي الطَّرِيقِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي مَشْيِهِ فِي الطَّرِيقِ وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُتَحَرَّزَ عَنْ سُقُوطِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ وَاقِفًا فِي الطَّرِيقِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ نَائِمًا فَهُوَ ضَامِنٌ لِدِيَةِ السَّاقِطِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالْوُقُوفِ وَالْقُعُودِ وَالنَّوْمِ فَيَكُونُ ضَامِنًا لِمَا يَتْلَفُ بِهِ وَإِنْ كَانَ الْأَسْفَلُ فِي مِلْكِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي الْوُقُوفِ فِي مِلْكِهِ وَعَلَى الْأَعْلَى ضَمَانُ الْأَسْفَلِ فِي هَذِهِ الْحَالَاتِ لِأَنَّ الْأَعْلَى مُبَاشِرٌ بِقَتْلِ مَنْ سَقَطَ عَلَيْهِ وَفِي الْمُبَاشَرَةِ الْمِلْكُ وَغَيْرُ الْمِلْكِ سَوَاءٌ وَكَذَلِكَ إنْ تَعَقَّلَ فَسَقَطَ أَوْ نَامَ فَانْقَلَبَ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَ الْأَسْفَلَ لِأَنَّهُ تَلِفَ بِثِقَلِهِ فَكَأَنَّهُ قَتَلَهُ بِيَدِهِ وَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ فِي ذَلِكَ وَكَذَلِكَ لَوْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ إلَى رَجُلٍ فَقَتَلَهُ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ وَمِلْكُهُ وَغَيْرُ مِلْكِهِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَكَذَلِكَ لَوْ سَقَطَ فِي بِئْرٍ احْتَفَرَهَا فِي مِلْكِهِ وَفِيهَا إنْسَانٌ فَقَتَلَ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ كَانَ ضَامِنًا لِلْإِنْسَانِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَتَلَهُ - بِيَدِهِ وَإِنْ كَانَ الْبِئْرُ فِي الطَّرِيقِ كَانَ الضَّمَانُ
عَلَى رَبِّ الْبِئْرِ فِيمَا أَصَابَ السَّاقِطَ وَالْمَسْقُوطَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْحَافِرَ لِلْبِئْرِ إذَا كَانَ مُتَعَدِّيًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الدَّافِعِ لِمَنْ سَقَطَ فِي الْبِئْرِ وَالسَّاقِطُ بِمَنْزِلَةِ الْمَدْفُوعِ .
وَإِذَا شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ فِي حَائِطٍ مَائِلٍ شَاهِدَانِ فَأَصَابَ الْحَائِطُ أَحَدَ الشَّاهِدَيْنِ أَوْ أَبَاهُ أَوْ عَبْدًا لَهُ أَوْ مُكَاتَبًا لَهُ وَلَا شَاهِدَ عَلَى رَبِّ الْحَائِطِ غَيْرُهُمَا لَمْ تَجُزْ شَهَادَةُ هَذَا الَّذِي يَجُرُّ إلَى نَفْسِهِ أَوْ إلَى أَحَدٍ مِمَّنْ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ نَفْعًا لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ عَلَى صَاحِبِ الْحَائِطِ التَّقَدُّمُ إلَيْهِ فِي الْهَدْمِ وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَشَهَادَةُ الشُّهُودِ عَلَيْهِ بِهَذَا السَّبَبِ كَشَهَادَتِهِمْ عَلَيْهِ بِوُجُوبِ الضَّمَانِ بِسَبَبٍ آخَرَ .
وَلَوْ شَهِدَ عَبْدَانِ أَوْ صَبِيَّانِ أَوْ كَافِرَانِ ثُمَّ عَتَقَ الْعَبْدُ وَأَسْلَمَ الْكَافِرُ وَأَدْرَكَ الصَّبِيَّانِ ثُمَّ وَقَعَ الْحَائِطُ فَأَصَابَ إنْسَانًا فَهُوَ ضَامِنٌ لِذَلِكَ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ السُّقُوطُ قَبْلَ أَنْ يُعْتِقَا أَوْ يُسْلِمَا أَوْ يُدْرِكَا ثُمَّ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ التَّقَدُّمُ إلَيْهِ وَالْإِشْهَادُ عِنْدَ ذَلِكَ مَحْضُ تَحَمُّلٍ فَيَكُونُ صَحِيحًا مِنْ هَؤُلَاءِ وَهُمْ أَهْلٌ لِلشَّهَادَةِ عِنْدَ الْأَدَاءِ فَوَجَبَ قَبُولُ شَهَادَتِهِمْ .
وَإِذَا شَهِدَ عَلَى اللَّقِيطِ فِي حَائِطِهِ ثُمَّ سَقَطَ فَقَتَلَ رَجُلًا فَدِيَتُهُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ هَدْمِ حَائِطِهِ فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ حَتَّى سَقَطَ كَانَ بِمَنْزِلَةِ جِنَايَتِهِ بِيَدِهِ فَتَكُونُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ إذَا لَمْ يُوَالِ أَحَدًا وَكَذَلِكَ الْكَافِرُ يُسْلِمُ وَلَمْ يُوَالِ أَحَدًا فَهُوَ كَاللَّقِيطِ يَعْقِلُ عَنْهُمَا جِنَايَتَهُمَا بَيْتُ الْمَالِ وَمِيرَاثُهُمَا لِبَيْتِ الْمَالِ
وَإِذَا مَالَ الْحَائِطُ عَلَى دَارِ قَوْمٍ فَأَشْهَدُوا عَلَيْهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَ عَلَيْهِ الْحَائِطُ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ لِأَنَّهُ بِمَيْلِ الْحَائِطِ شَغَلَ هَوَاءَ مِلْكِهِمْ فَتَكُونُ الْمُطَالَبَةُ بِالتَّفْرِيغِ إلَيْهِمْ فَإِذَا تَقَدَّمُوا إلَيْهِ أَوْ أَحَدُهُمْ صَحَّ التَّقَدُّمُ وَيَكُونُ هُوَ فِي تَرْكِهِ التَّفْرِيغَ بَعْدَ ذَلِكَ جَانِيًا وَكَذَلِكَ الْعُلْوُ إذَا وَهِيَ فَتَقَدَّمَ أَهْلُ السُّفْلِ فِيهِ إلَى أَهْلِ الْعُلْوِ وَكَذَلِكَ الْحَائِطُ يَكُونُ أَعْلَاهُ لِرَجُلٍ وَأَسْفَلُهُ لِآخَرَ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إذَا مَالَ الْحَائِطُ إلَى مِلْكِ إنْسَانٍ وَبَيْنَ مَا إذَا مَالَ إلَى الطَّرِيقِ فِي مَوْضِعَيْنِ : أَحَدُهُمَا التَّقَدُّمُ إلَيْهِ هَاهُنَا لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ الْمَالِكِ لِأَنَّهُ أَشْغَلَ بِالْحَائِطِ هَوَاءَ مِلْكِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي أَنَّ صَاحِبَ الْمِلْكِ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ إلَيْهِ لَوْ أَخَّرَهُ أَيَّامًا أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْ ذَلِكَ صَحَّ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ بِالْإِسْقَاطِ وَالتَّأْخِيرِ وَفِي الطَّرِيقِ لَوْ أَخَّرَهُ الَّذِي تَقَدَّمَ إلَيْهِ فِيهِ أَوْ أَبْرَأَهُ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ لِأَنَّ الْوَاحِدَ يَنُوبُ عَنْ الْعَامَّةِ فِي الْمُطَالَبَةِ بِحَقِّهِمْ لَا فِي إسْقَاطِ حَقِّهِمْ وَقَدْ صَحَّتْ الْمُطَالَبَةُ مِنْهُ فَلَا مُعْتَبَرَ بِإِسْقَاطِهِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا بِتَأْخِيرِهِ .
وَإِذَا مَالَ الْحَائِطُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ اثْنَيْنِ إلَى الطَّرِيقِ فَتَقَدَّمُوا فِيهِ إلَى أَحَدِهِمَا ثُمَّ سَقَطَ فَأَصَابَ إنْسَانًا فَإِنَّمَا يَضْمَنُ الَّذِي تُقُدِّمَ إلَيْهِ النِّصْفُ مِنْ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْحَائِطُ هُوَ الَّذِي أَصَابَهُ كُلَّهُ وَكَذَلِكَ الْعُلْوُ وَالسُّفْلُ إذَا وَهَيَا أَوْ مَالَا إلَى الطَّرِيقِ فَتُقُدِّمَ إلَى أَحَدِهِمَا فِيهِ وَهَذَا عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي الْوَرَثَةِ إذَا مَالَ حَائِطُ الرَّجُلِ بَعْضُهُ عَلَى الطَّرِيقِ وَبَعْضُهُ عَلَى دَارِ قَوْمٍ فَتَقَدَّمَ إلَيْهِ أَهْلُ الدَّارِ فِيهِ فَسَقَطَ مَا فِي الطَّرِيقِ مِنْهُ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ وَكَذَلِكَ لَوْ تَقَدَّمَ أَهْلُ الطَّرِيقِ إلَيْهِ فَسَقَطَ الْمَائِلُ إلَى الدَّارِ عَلَى أَهْلِ الدَّارِ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ لِأَنَّهُ حَائِطٌ وَاحِدٌ فَإِذَا أَشْهَدَ عَلَى بَعْضِهِ فَقَدْ أَشْهَدَ عَلَى جَمِيعِهِ وَإِذَا كَانَ الْمُتَقَدِّمُ إلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ فَتَقَدُّمُهُ إلَيْهِ صَحِيحٌ فِي جَمِيعِ الْحَائِطِ فِيمَا مَالَ إلَى الدَّارِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ الْمَالِكُ وَفِيمَا مَالَ إلَى الطَّرِيقِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْ النَّاسِ فَإِذَا كَانَ الَّذِي تَقَدَّمَ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الدَّارِ فَتَقَدُّمُهُ صَحِيحٌ فِيمَا مَالَ مِنْهُ إلَى الطَّرِيقِ فَإِذَا صَحَّ فِي بَعْضِهِ صَحَّ فِي كُلِّهِ وَإِذَا وَهَى بَعْضُ الْحَائِطِ وَمَا بَقِيَ مِنْهُ صَحِيحٌ غَيْرُ وَاهٍ فَتَقَدَّمَ إلَيْهِ فِيهِ فَسَقَطَ مَا وَهَى وَمَا لَمْ يَهِ فَقَتَلَ إنْسَانًا فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ لِأَنَّهُ حَائِطٌ وَاحِدٌ فَإِذَا وَهَى بَعْضُهُ وَهَى كُلُّهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ حَائِطًا طَوِيلًا بِحَيْثُ لَوْ وَهَى بَعْضُهُ لَمْ يَهِ مَا بَقِيَ مِنْهُ وَتَفَرَّقَ ذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَضْمَنُ مَا أَصَابَ الْوَاهِي مِنْهُ وَلَا يَضْمَنُ مَا أَصَابَ الَّذِي لَمْ يَهِ مِنْهُ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ حَائِطَيْنِ وَالتَّقَدُّمُ إلَيْهِ إنَّمَا يَصِحُّ فِي الْحَائِطِ الْمَائِلِ أَوْ الْوَاهِي دُونَ الْحَائِطِ الصَّحِيحِ فَإِذَا أَصَابَ الَّذِي لَمْ يَهِ مِنْهُ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ بِهِ عَلَيْهِ ضَمَانٌ لِأَنَّهُ لَمْ
تَتَوَجَّهْ عَلَيْهِ الْمُطَالَبَةُ بِالْهَدْمِ فِيهِ
قَالَ : وَإِذَا كَانَ سُفْلُ الْحَائِطِ لِرَجُلٍ وَعُلْوُهُ لِآخَرَ وَقَدْ وَهَى فَتَقَدَّمَ فِيهِ إلَيْهِمَا ثُمَّ سَقَطَ الْعُلْوُ فَقَتَلَ إنْسَانًا فَالضَّمَانُ عَلَى صَاحِبِ الْعُلْوِ لِأَنَّ الْعُلْوَ غَيْرُ مَدْفُوعٍ بِالسُّفْلِ وَلَكِنَّهُ سَاقِطٌ بِنَفْسِهِ وَقَدْ صَحَّ التَّقَدُّمُ فِيهِ إلَى صَاحِبِهِ فَيُجْعَلُ صَاحِبُهُ كَالْمُتْلِفِ لِمَا سَقَطَ عَلَيْهِ الْعُلْوُ
قَالَ : وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ أُجَرَاءَ يَهْدِمُونَ لَهُ حَائِطًا فَقَتَلَ الْهَدْمُ مِنْ فِعْلِهِمْ رَجُلًا مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمْ وَالْكَفَّارَةُ دُونَ رَبِّ الدَّارِ لِأَنَّهُمْ مُبَاشِرُونَ إتْلَافَ مَنْ سَقَطَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَيْدِيهِمْ فِي حَالَةِ الْعَمَلِ .
وَإِذَا تَقَدَّمَ إلَى الْمُشْتَرِي لِلدَّارِ فِي حَائِطٍ مِنْهَا مَائِلٍ وَهُوَ فِي خِيَارِ الشِّرَاءِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ رَدَّ الدَّارَ بِالْخِيَارِ بَطَلَ الْإِشْهَادُ لِأَنَّهُ أَزَالَ الْمِلْكَ بِفَسْخِ الْبَيْعِ فَكَأَنَّهُ أَزَالَهُ بِالْبَيْعِ وَلَوْ اسْتَوْجَبَ الْبَيْعُ لَمْ يَبْطُلْ الْإِشْهَادُ لِأَنَّ التَّقَدُّمَ إلَيْهِ حِينَ تَقَدَّمَ صَحِيحٌ إمَّا لِأَنَّهُ مَالِكٌ أَوْ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ هَدْمِ الْحَائِطِ وَقَدْ تَقَرَّرَ ذَلِكَ بِإِسْقَاطِ الْخِيَارِ وَلَوْ كَانَ أَشْهَدَ عَلَى الْبَائِعِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّ الْبَائِعَ غَيْرُ مُتَمَكِّنٍ مِنْ هَدْمِ الْحَائِطِ بَعْدَ مَا أَوْجَبْنَا الْبَيْعَ فِيهِ مُطْلَقًا وَلَوْ كَانَ الْخِيَارُ لِلْبَائِعِ فَتَقَدَّمَ إلَيْهِ فِيهِ فَإِنْ نَقَضَ الْبَيْعَ فَالْإِشْهَادُ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ كَانَ مَالِكًا مُتَمَكِّنًا مِنْ نَقْضِ الْحَائِطِ وَقَدْ تَقَرَّرَ ذَلِكَ حِينَ فَسَخَ الْبَيْعَ وَإِنْ أَوْجَبَهُ بَطَلَ الْإِشْهَادُ لِأَنَّهُ زَالَ الْحَائِطُ عَنْ مِلْكِهِ وَلَوْ تَقَدَّمَ إلَى الْمُشْتَرِي فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَمْ يَصِحَّ التَّقَدُّمُ لِأَنَّهُ مَا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ هَدْمِ الْحَائِطِ يَوْمئِذٍ حَتَّى إنَّ الْبَائِعَ وَإِنْ أَوْجَبَ لَهُ الْبَيْعَ لَمْ يَكُنْ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهِ ضَمَانٌ .
وَلَوْ تَقَدَّمَ إلَى رَجُلٍ فِي حَائِطٍ مَائِلٍ لَهُ عَلَيْهِ جَنَاحٌ شَاعَ قَدْ أَشْرَعهُ الَّذِي بَاعَ الدَّارَ فَسَقَطَ الْحَائِطُ وَالْجَنَاحُ فَإِنْ كَانَ الْحَائِطُ هُوَ الَّذِي طَرَحَ الْجَنَاحَ كَانَ صَاحِبُ الْحَائِطِ ضَامِنًا لِمَا أَصَابَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْجَنَاحَ مَدْفُوعٌ هَاهُنَا وَالْحَائِطَ بِمَنْزِلَةِ الدَّافِعِ لَهُ وَقَدْ صَحَّ التَّقَدُّمُ فِي الْحَائِطِ إلَى صَاحِبِهِ وَلَوْ كَانَ الْجَنَاحُ هُوَ السَّاقِطُ وَحْدَهُ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْبَائِعِ الَّذِي أَشَرَعَهُ لِأَنَّ الْبَائِعَ كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي وَضْعِ الْجَنَاحِ وَشَغْلِ هَوَاءِ الطَّرِيقِ بِهِ وَالْجَنَاحُ الْآنَ هُوَ السَّاقِطُ مَقْصُودًا فَكَانَ ضَمَانُ مَا تَلِفَ بِهِ عَلَى الَّذِي وَضَعَ الْجَنَاحَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : وَإِذَا احْتَفَرَ الرَّجُلُ بِئْرًا فِي طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ فِي غَيْرِ فِنَائِهِ فَوَقَعَ فِيهَا حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ فَمَاتَ فَضَمَانُ ذَلِكَ عَلَى عَاقِلَةِ الْحَافِرِ لِحَدِيثِ شُرَيْحٍ فَإِنَّ عَمْرَو بْنَ الْحَارِثِ حَفَرَ بِئْرًا عِنْدَ دَرْبِ أُسَامَةَ فَوَقَعَتْ فِيهَا بَغْلَةٌ فَضَمَّنَهُ شُرَيْحٌ قِيمَتَهَا وَكَانَ قَضَاؤُهُ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ ذَلِكَ وَلِأَنَّ الْحَافِرَ بِمَنْزِلَةِ الدَّافِعِ لِلْوَاقِعِ فِي مَهْوَاهُ فَإِنَّهُ بِفِعْلِهِ أَزَالَ الْمُسْكَةَ عَنْ الْأَرْضِ وَالْآدَمِيُّ لَا يُسْتَمْسَكُ إلَّا بِمُسْكَةٍ فَإِزَالَةُ مَا بِهِ كَانَ مُسْتَمْسِكًا إيجَادُ شَرْطِ الْوُقُوعِ .
وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى الشَّرْطِ مَجَازًا عِنْدَ إضَافَتِهِ إلَى السَّبَبِ وَالسَّبَبُ هَاهُنَا ثِقَلُ الْمَاشِي فِي نَفْسِهِ وَلَا يُمْكِنُ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَيْهِ إذْ لَا صُنْعَ لِأَحَدٍ مِنْ الْعِبَادِ فِيهِ فَيَصِيرُ مُضَافًا إلَى الشَّرْطِ وَلِأَنَّ الْحَافِرَ سَبَبٌ لِوُقُوعِهِ وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا السَّبَبِ لِأَنَّهُ أَحْدَثَ فِي الطَّرِيقِ مَا يَتَضَرَّرُ بِهِ الْمَارَّةُ وَيَخْرُجُ بِهِ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَمَرًّا لَهُمْ ثُمَّ الضَّمَانُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِأَنَّهُ دُونَ الْمُخْطِئِ وَفِعْلُ الْمُخْطِئِ اتَّصَلَ بِالْمُتْلَفِ وَفِعْلُ الْحَافِرِ اتَّصَلَ بِالْأَرْضِ فَمَا يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ مِنْ فِعْلِ الْمُخْطِئِ يَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ هَاهُنَا بِطَرِيقِ الْأُولَى وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عِنْدَنَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِقَاتِلٍ مُبَاشَرَةً وَقَدْ يَكُونُ الْحَافِرُ مَبْنِيًّا عَلَى وُقُوعِ الْوَاقِعِ فِي الْبِئْرِ فَلَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ فِي ذَلِكَ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَوْجَبَ الضَّمَانَ عَلَى الْحَافِرِ مُطْلَقًا وَقَالَ فِي النَّوَادِرِ هَذَا إذَا مَاتَ مِنْ وُقُوعِهِ فِي الْبِئْرِ فَإِنْ سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ فَمَاتَ جُوعًا أَوْ غَمًّا فَلَا شَيْءَ عَلَى الْحَافِرِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ إنْ مَاتَ جُوعًا فَكَذَلِكَ وَإِنْ مَاتَ غَمًّا فَالْحَافِرُ ضَامِنٌ لَهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ : هُوَ ضَامِنٌ فِي
الْوُجُوهِ كُلِّهَا فَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ : إنَّمَا يَصِيرُ هَلَاكُهُ مُضَافًا إلَى الْحَافِرِ إذَا هَلَكَ بِسَبَبِ الْوُقُوعِ فَيُجْعَلُ الْحَافِرُ كَالدَّافِعِ لَهُ فَأَمَّا إذَا طَرَأَ عَلَيْهِ سَبَبٌ آخَرُ لِهَلَاكِهِ كَالْجُوعِ الَّذِي هَاجَ مِنْ طَبْعِهِ أَوْ الْغَمُّ الَّذِي أَثَّرَ فِي قَلْبِهِ فَإِنَّمَا يَكُونُ هَلَاكُهُ مُضَافًا إلَى هَذَا السَّبَبِ وَلَا صُنْعَ لِلْحَافِرِ فِيهِ وَأَبُو يُوسُفَ لَمَا سَبَبٌ لِلْغَمِّ سِوَى الْوُقُوعِ فِي الْبِئْرِ فَأَمَّا الْجُوعُ فَلَهُ سَبَبٌ آخَرُ وَهُوَ بُعْدُ الطَّعَامِ عَنْهُ وَاحْتِرَاقُ مَعِدَتِهِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ مَوَادِّ الطَّعَامِ وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ : كُلُّ ذَلِكَ إنَّمَا حَدَثَ بِسَبَبِ الْوُقُوعِ فِي الْبِئْرِ لَوْلَاهُ لَكَانَ الطَّعَامُ قَرِيبًا مِنْهُ وَالْحَافِرُ مُتَعَدٍّ فِي ذَلِكَ السَّبَبِ وَالْحُكْمُ تَارَةً يُضَافُ إلَى السَّبَبِ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ وَتَارَةً بِوَاسِطَةٍ فَكَذَلِكَ يُضَافُ إلَى الشَّرْطِ تَارَةً بِوَاسِطَةٍ وَتَارَةً بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ فَإِنْ كَانَ اسْتَأْجَرَ عَلَيْهَا أُجَرَاءَ فَحَفَرُوهَا لَهُ فَذَلِكَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْآجِرِ إنْ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهَا فِي غَيْرِ فِنَائِهِ لِأَنَّ عَمْرَو بْنَ الْحَارِثِ كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الرُّؤَسَاءِ وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ مَا بَاشَرَ الْحَفْرَ بِنَفْسِهِ وَإِنَّمَا اسْتَأْجَرَ الْأُجَرَاءَ لِذَلِكَ ثُمَّ ضَمَّنَّهُ شُرَيْحٌ وَهَذَا لِأَنَّ الْأُجَرَاءَ يَعْمَلُونَ لَهُ وَلِهَذَا يَسْتَوْجِبُونَ عَلَيْهِ الْأَجْرَ وَقَدْ صَارُوا مَغْرُورِينَ مِنْ جِهَتِهِ حِينَ لَمْ يُعْلِمْهُمْ أَنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ لَيْسَ مِنْ فِنَائِهِ وَإِنَّمَا حَفَرُوا اعْتِمَادًا عَلَى أَمْرِهِ وَعَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ فِنَائِهِ فَلِدَفْعِ ضَرَرِ الْغُرُورِ انْتَقَلَ فِعْلُهُمْ إلَى الْآمِرِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ حَفَرَ بِنَفْسِهِ وَإِنْ كَانُوا يَعْلَمُونَ أَنَّهَا مِنْ غَيْرِ فِنَائِهِ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ جُنَاةٌ فِي الْحَفْرِ وَأَمْرُهُ إيَّاهُمْ بِالْحَفْرِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا لِأَنَّهُ غَيْرُ مَالِكٍ لِلْحَفْرِ بِنَفْسِهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ أَمْرُهُ لِإِثْبَاتِ
صِفَةِ الْحِلِّ بِهِ وَلِدَفْعِ الْغُرُورِ عَنْ الْحَافِرِ بِهِ وَقَدْ انْعَدَمَا جَمِيعًا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ أَمْرِهِ فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَى الَّذِينَ بَاشَرُوا الْحَفْرَ .
وَإِنْ كَانَ فِي فِنَائِهِ فَهُوَ عَلَى الْآمِرِ دُونَ الْأُجَرَاءِ عَلِمُوا أَوْ لَمْ يَعْلَمُوا لِأَنَّ أَمْرَهُ فِي فِنَائِهِ مُعْتَبَرٌ فَإِنَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَهُ أَنْ يَحْفِرَ فِي فِنَائِهِ إذَا كَانَ لَا يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ مَا لَمْ يَمْنَعْهُ مَانِعٌ وَهَذَا لِأَنَّ الْفِنَاءَ اسْمٌ لِمَوْضِعٍ اخْتَصَّ صَاحِبُ الْمِلْكِ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ مِنْ حَيْثُ كَسْرُ الْحَطَبِ وَإِيقَافُ الدَّوَابِّ وَإِلْقَاءُ الْكُنَاسَةِ فِيهِ فَكَانَ أَمْرُهُ مُعْتَبَرًا فِي الْحِلِّ وَانْتَقَلَ فِعْلُ الْآمِرِ إلَيْهِ بِهَذَا الْأَمْرِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ وَإِنْ سَقَطَتْ فِيهِ دَابَّةٌ فَعَطِبَتْ فَضَمَانُهُ فِي مَالِهِ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَعْقِلُ الْمَالَ وَإِنَّمَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ النُّفُوسَ مِنْ الْأَحْرَارِ وَالْمَمَالِيكِ بِدَلِيلِ حَالَةِ الْخَطَأِ وَإِذَا وَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ مُتَعَمِّدًا لِلسُّقُوطِ فِيهَا فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْحَافِرِ لِأَنَّهُ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا وَلَوْ أَوْقَعَهُ غَيْرُهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْحَافِرِ شَيْءٌ وَهَذَا لِأَنَّ وَضْعَهُ الْقَدَمَ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مَعَ عِلْمِهِ تَعَدٍّ مِنْهُ وَمُبَاشَرَةُ فِعْلِ إلْقَاءِ النَّفْسِ فِي الْمَهْلَكَةِ وَإِنَّمَا يُضَافُ الْحُكْمُ إلَى الشَّرْطِ إذَا تَعَذَّرَ إضَافَتُهُ إلَى السَّبَبِ فَأَمَّا مَعَ إمْكَانِ الْإِضَافَةِ إلَى السَّبَبِ فَلَا يُضَافُ إلَى الشَّرْطِ
قَالَ : وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ أَرْبَعَةَ رَهْطٍ يَحْفِرُونَ لَهُ بِئْرًا فَوَقَعَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ حَفْرِهِمْ فَقَتَلَتْ وَاحِدًا مِنْهُمْ فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ الْبَاقِينَ رُبْعُ دِيَتِهِ وَسَقَطَ الرُّبْعُ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانُوا أَعْوَانًا لَهُ لِأَنَّهُ إنَّمَا سَقَطَ عَلَيْهِمْ مَا سَقَطَ بِفِعْلِهِمْ فَكَانُوا مُبَاشِرِينَ لِسَبَبِ الْإِتْلَافِ وَالْقَتِيلُ أَحَدُ الْمُبَاشِرِينَ فَتُوَزَّعُ الدِّيَةُ عَلَيْهِمْ وَيَسْقُطُ مِنْهُ حِصَّةُ الْقَتِيلِ بِجِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَيَبْقَى حِصَّةُ الثَّلَاثَةِ بِجِنَايَتِهِمْ عَلَيْهِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ عَشَرَةَ نَفَرٍ مَدُّوا الْحِلَّةَ فَسَقَطَتْ عَلَى أَحَدِهِمْ فَقَتَلَتْهُ فَقَضَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ التِّسْعَةِ بِعُشْرِ الدِّيَةِ وَأَسْقَطَ الْعُشْرَ حِصَّةَ الْمَقْتُولِ وَعَنْ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَضَى فِي الْقَارِصَةِ وَالْوَاقِصَةِ وَالْقَامِصَةِ بِالدِّيَةِ أَثْلَاثًا وَتَفْسِيرُ ذَلِكَ أَنَّ ثَلَاثَ جَوَارٍ كُنَّ يَلْعَبْنَ فَرَكِبَتْ إحْدَاهُنَّ صَاحِبَتَهَا فَقَرَصَتْ الثَّالِثَةُ الْمَرْكُوبَةَ فَقَمَصَتْ الْمَرْكُوبَةُ وَوَقَعَتْ الرَّاكِبَةُ فَانْدَقَّتْ عُنُقُهَا فَقَضَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِثُلُثِ الدِّيَةِ عَلَى الْقَارِصَةِ وَبِالثُّلُثِ عَلَى الْقَامِصَةِ وَأَسْقَطَ الثُّلُثَ حِصَّةَ الْوَاقِصَةِ وَإِنْ كَانَ الَّذِي يَحْفِرُ بِئْرًا فِي فِنَائِهِ فَضَمَانُ مَا يَقَعُ فِيهَا عَلَى الْحَافِرِ وَلَوْ كَانَ فِي غَيْرِ فِنَائِهِ فَالضَّمَانُ فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ يَدْفَعُ بِهِ أَوْ يَفْدِي وَلَمْ يَفْصِلْ هَاهُنَا بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ عَالِمًا بِذَلِكَ أَوْ غَيْرَ عَالَمٍ بِخِلَافِ الْحُرِّ وَالْفَرْقُ هُنَاكَ لِمَعْنَى الْغُرُورِ وَلَا غُرُورَ بَيْنَ الْعَبْدِ وَسَيِّدِهِ فَإِنَّ قَرَارَ الضَّمَانِ فِي الْفَصْلَيْنِ عَلَى السَّيِّدِ فَلِهَذَا جَعَلَ فِعْلَ عَبْدِهِ بِأَمْرِهِ كَفِعْلِهِ بِنَفْسِهِ .
وَإِذَا حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَحَفَرَ مِنْهَا طَائِفَةً فِي أَسْفَلِهَا ثُمَّ وَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ فَمَاتَ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي فِي الْقِيَاسِ أَنْ يَضْمَنَ الْأَوَّلُ كَأَنَّهُ الدَّافِعُ وَبِهِ يَأْخُذُ مُحَمَّدٌ لِأَنَّ الْأَوَّلَ بِمَا حَفَرَ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ يَصِيرُ كَالدَّافِعِ لِمَنْ سَقَطَ فِي الْقَعْرِ الَّذِي حَفَرَهُ صَاحِبُهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ جَوَابَ الِاسْتِحْسَانِ فِيهِ وَالِاسْتِحْسَانُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ هَلَاكَهُ كَانَ بِسَبَبِ فِعْلِهِمَا فَإِنَّ الْوَاقِعَ فِي الْبِئْرِ إنَّمَا يَهْلِكُ عِنْدَ عُمْقِ الْبِئْرِ وَإِتْمَامُ ذَلِكَ بِفِعْلِ الثَّانِي وَقَدْ انْضَمَّ فِعْلُهُ إلَى فِعْلِ الْأَوَّلِ فِي إتْمَامِ شَرْطِ الْإِتْلَافِ فَيَكُونُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا وَلَكِنَّهُ أَخَذَ بِالْقِيَاسِ لِأَنَّ وَجْهَ الْقِيَاسِ أَقْوَى فَإِنَّ التَّعَدِّيَ فِي التَّسْبِيبِ مِنْ حِينِ إزَالَةِ الْمِسْكَةِ عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ وَإِخْرَاجُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَمَرًّا وَإِنَّمَا حَصَلَ ذَلِكَ بِفِعْلِ الْأَوَّلِ وَلَوْ وَسَّعَ أَحَدٌ رَأْسَهَا فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ فَمَاتَ كَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ وَتَأْوِيلُ هَذَا أَنَّ الثَّانِيَ وَسَّعَ رَأْسَهَا قَلِيلًا عَلَى وَجْهٍ يَعْلَمُ أَنَّ السَّاقِطَ إنَّمَا وَضَعَ قَدَمَهُ فِي مَوْضِعِ بَعْضِهِ مِنْ حَفْرِ الْأَوَّلِ وَبَعْضُهُ مِنْ فِعْلِ الثَّانِي فَأَمَّا إذَا وَسَّعَ رَأْسَهَا كَثِيرًا عَلَى وَجْهٍ يَعْلَمُ أَنَّهُ إنَّمَا وَضَعَ قَدَمَهُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي حَفَرَهُ الثَّانِي فَالضَّمَانُ عَلَى الثَّانِي لِأَنَّ الثَّانِيَ كَالدَّافِعِ لِلْوَاقِعِ بِمَا حَفَرَ فِي الْبِئْرِ الَّذِي حَفَرَهَا الْأَوَّلُ وَالضَّمَانُ عَلَى الدَّافِعِ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْوَاقِعَ إنَّمَا وَضَعَ قَدَمَهُ فِيمَا حَفَرَ الْأَوَّلُ خَاصَّةً فَالضَّمَانُ عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَوْجَدَ شَرْطَ وُقُوعِهِ حِينَ أَزَالَ الْمِسْكَةَ عَنْ الْمَوْضِعِ الَّذِي وَضَعَ فِيهِ قَدَمَهُ
وَلَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ ثُمَّ سَدَّهَا بِطِينٍ أَوْ تُرَابٍ أَوْ جِصٍّ فَجَاءَ آخَرُ فَاحْتَفَرَهَا فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ فَمَاتَ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الثَّانِي لِأَنَّ الْأَوَّلَ نَسَخَ فِعْلَهُ لِأَنَّهُ طَمَّهَا بِمَا تُطَمُّ بِهِ الْآبَارُ فَعَادَ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ أَرْضًا كَمَا كَانَ وَإِنَّمَا الثَّانِي هُوَ الْحَافِرُ لِلْبِئْرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَلَوْ سَدَّ الْأَوَّلُ رَأْسَهَا وَاسْتَوْثَقَ مِنْهَا فَجَاءَ الْآخَرُ فَنَقَضَ ذَلِكَ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ فِعْلَ الْأَوَّلِ مَا انْتَسَخَ فَإِنَّهَا بِئْرٌ وَإِنْ سَدَّ رَأْسَهَا إلَّا أَنَّهُ اسْتَتَرَ بِمَا فَعَلَ وَالثَّانِي إنَّمَا أَظْهَرَ فِعْلَ الْأَوَّلِ فَيَبْقَى الضَّمَانُ عَلَى الْأَوَّلِ وَهَذَا لِأَنَّ مَا فَعَلَهُ الثَّانِي مِنْ فَتْحِ رَأْسِ الْبِئْرِ غَيْرُ مُوجِبٍ لِهَلَاكِهِ لَوْ لَا الْبِئْرُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَمَا فَعَلَهُ الثَّانِي هُنَاكَ مُوجِبٌ هَلَاكَ الْوَاقِعِ فِي الْبِئْرِ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الْفِعْلُ مِنْ الْأَوَّلِ أَصْلًا وَكَذَلِكَ إذَا جَعَلَ فِيهَا طَعَامًا أَوْ مَتَاعًا أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا لَا تُسَدُّ بِهِ الْآبَارُ فَجَاءَ إنْسَانٌ وَاحْتَمَلَ ذَلِكَ ثُمَّ وَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ فَالضَّمَانُ عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ حُكْمَ فِعْلِهِ لَمْ يُنْسَخْ بِمَا صَنَعَ فَإِنَّ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ بِئْرٌ وَإِنْ جَعَلَ فِيهَا الطَّعَامَ وَفِعْلُ الْأَوَّلِ كَانَ حَفْرَ الْبِئْرِ وَمَا بَقِيَ اسْمُ الْبِئْرِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بَقِيَ حُكْمُ فِعْلِهِ فَكَانَ الضَّمَانُ عَلَيْهِ وَلَوْ تَعَقَّلَ بِحَجَرٍ فَسَقَطَ فِي الْبِئْرِ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى وَاضِعِ الْحَجَرِ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي إحْدَاثِ الْحَجَرِ فِي الطَّرِيقِ فَيَصِيرُ بِهِ كَالدَّافِعِ لِمَنْ وَقَعَ فِي الْبِئْرِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ دَفَعَهُ بِيَدِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَضَعَ الْحَجَرَ أَحَدٌ فَإِنْ كَانَ شَيْءٌ آخَرُ مِنْ شَفِيرِ الْبِئْرِ أَوْ جَاءَ بِهِ سَيْلٌ فَالضَّمَانُ عَلَى حَافِرِ الْبِئْرِ لِأَنَّ التَّعَقُّلَ بِالْحَجَرِ هَاهُنَا غَيْرُ صَالِحٍ لِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ حِينَ لَمْ يَكُنْ بِصُنْعِ أَحَدٍ مِنْ الْعِبَادِ
فَبَقِيَ الْحُكْمُ مُضَافًا إلَى الْبِئْرِ وَلَوْ وَضَعَ رَجُلٌ فِي هَذِهِ الْبِئْرِ حَجَرًا أَوْ حَدِيدًا فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ فَقَتَلَهُ الْحَجَرُ أَوْ الْحَدِيدُ كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الْحَافِرِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الدَّافِعِ لِلْوَاقِعِ عَلَى الْحَجَرِ أَوْ الْحَدِيدِ وَإِنَّمَا يُضَافُ الْإِتْلَافُ إلَى الدَّافِعِ .
وَإِذَا حَفَرَ إنْسَانٌ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَوَقَعَ فِيهَا رَجُلٌ فَقُطِعَتْ يَدُهُ ثُمَّ خَرَجَ مِنْهَا فَشَجَّهُ رَجُلَانِ فَمَرِضَ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ مَاتَ فَالدِّيَةُ عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا لِأَنَّ مَا حَصَلَ مِنْ الْجِرَاحَةِ بِالْوُقُوعِ فِي الْبِئْرِ مُضَافٌ إلَى الْحَافِرِ فَكَأَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِيَدِهِ وَالْمُعْتَبَرُ عَدَدُ الْجُنَاةِ لَا عَدَدُ الْجِنَايَاتِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ قَطَعَ يَدَيْهِ رَجُلَانِ وَشَجَّهُ رَجُلٌ آخَرُ فَمَاتَ مِنْ ذَلِكَ كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَيْهِمْ أَثْلَاثًا وَكَذَلِكَ لَوْ أَنَّ اللَّذَيْنِ قَطَعَا يَدَيْهِ شَجَّهُ أَحَدُهُمَا شَجَّةً أُخْرَى لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ عَدَدُ الْجُنَاةِ فَقَدْ يَتْلَفُ الْمَرْءُ مِنْ جِرَاحَةٍ وَاحِدَةٍ وَيَسْلَمُ مِنْ عَشْرِ جِرَاحَاتٍ وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمْ جَرَحَهُ جُرْحَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً وَجَرَحَهُ الْآخَرُ جِرَاحَةً صَغِيرَةً كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى عَدَدِ الرِّجَالِ وَلَا يَكُونُ عَلَى عِظَمِ الْجِرَاحَةِ وَلَا عَلَى صِغَرِهَا وَلَا عَلَى عَدَدِ جِرَاحِهَا لِأَنَّ كُلَّ جِرَاحَةٍ عِلَّةٌ تَامَّةٌ لِلْإِتْلَافِ وَبِكَثْرَةِ الْعِلَلِ فِي حَقِّ الْوَاحِدِ لَا يَزْدَادُ مَعْنًى بِإِضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهَا
وَإِذَا وَقَعَ الرَّجُلُ فِي بِئْرٍ فِي الطَّرِيقِ فَتَعَلَّقَ بِآخَرَ وَتَعَلَّقَ الْآخَرُ بِآخَرَ فَوَقَعُوا جَمِيعًا فَمَاتُوا وَلَمْ يَقَعْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَدِيَةُ الْأَوَّلِ عَلَى الَّذِي حَفَرَ الْبِئْرَ وَدِيَةُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ الْمُتَعَلِّقِ بِهِ وَدِيَةُ الثَّالِثِ عَلَى الثَّانِي وَالْحَاصِلُ إنَّ الْمَسْأَلَةَ عَلَى وَجْهَيْنِ .
: أَحَدُهُمَا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُمْ كَيْف مَاتُوا بِأَنْ خَرَجُوا مِنْ الْبِئْرِ أَحْيَاءَ وَأَخْبَرُوا بِذَلِكَ فَنَقُولُ فِي هَذَا الْوَجْهِ مَوْتُ الْأَوَّلِ عَلَى سَبْعَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ مَاتَ بِوُقُوعِهِ فِي الْبِئْرِ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْحَافِرِ لِأَنَّهُ كَالدَّافِعِ لَهُ فِي مَهْوَاهُ وَالثَّانِي أَنْ يَمُوتَ مِنْ وُقُوعِ الثَّانِي عَلَيْهِ فَدَمُهُ هَدَرٌ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَرَّ الثَّانِي عَلَى نَفْسِهِ فَيَكُونُ مُتْلِفًا نَفْسَهُ وَالثَّالِثُ أَنْ يَمُوتَ مِنْ وُقُوعِ الثَّالِثِ عَلَيْهِ فَتَكُونُ دِيَتُهُ عَلَى الثَّانِي لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَرَّ الثَّالِثَ وَالرَّابِعُ أَنْ يَمُوتَ مِنْ وُقُوعِهِ فِي الْبِئْرِ وَوُقُوعِ الثَّانِي عَلَيْهِ فَيَجِبُ نِصْفُ دِيَتِهِ عَلَيْهِ وَيُهْدَرُ نِصْفُهَا لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى نَفْسِهِ وَجَنَى عَلَيْهِ الْحَافِرُ وَالْخَامِسُ أَنْ يَمُوتَ بِوُقُوعِهِ فِي الْبِئْرِ وَوُقُوعِ الثَّالِثِ عَلَيْهِ فَتَكُونَ دِيَتُهُ عَلَى الْحَافِرِ وَعَلَى الثَّانِي نِصْفَيْنِ لِأَنَّ الثَّانِيَ جَانٍ عَلَيْهِ بِجَرِّ الثَّالِثِ وَالْحَافِرُ جَانٍ بِالْحَفْرِ وَالسَّادِسُ أَنْ يَمُوتَ مِنْ وُقُوعِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ عَلَيْهِ فَيُهْدَرُ نِصْفُ دَمِهِ وَيَجِبُ نِصْفُ دِيَتِهِ عَلَى الثَّانِي لِأَنَّهُ جَنَى عَلَى نَفْسِهِ وَجَنَى عَلَيْهِ الثَّانِي وَالسَّابِعُ أَنْ يَمُوتَ مِنْ وُقُوعِهِ فِي الْبِئْرِ وَمِنْ وُقُوعِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ عَلَيْهِ فَيَجِبُ ثُلُثُ دِيَتِهِ عَلَى الْحَافِرِ وَثُلُثُهَا عَلَى الثَّانِي بِجَرِّ الثَّالِثِ عَلَيْهِ وَيُهْدَرُ ثُلُثُهَا لِأَنَّهُ بِجِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِجَرِّهِ الثَّانِيَ عَلَيْهِ وَأَمَّا الثَّانِي فَلِمَوْتِهِ وُجُوهٌ ثَلَاثَةٌ أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ مَاتَ بِسَبَبِ الْوُقُوعِ فَتَكُونُ
دِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَرَّهُ إلَى مُهْوَاةٍ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الدَّافِعِ لَهُ وَالثَّانِي أَنْ يَمُوتَ مِنْ وُقُوعِ الثَّالِثِ عَلَيْهِ فَيَكُونَ دَمُهُ هَدَرًا لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَرَّ الثَّالِثَ عَلَى نَفْسِهِ وَالثَّالِثُ أَنْ يَمُوتَ مِنْ الْوُقُوعِ فِي الْبِئْرِ وَوُقُوعِ الثَّالِثِ عَلَيْهِ فَيَجِبُ نِصْفُ دِيَتِهِ عَلَى الْأَوَّلِ وَيُهْدَرُ نِصْفُ دِيَتِهِ بِجِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِمَوْتِهِ سَبَبٌ وَاحِدٌ وَهُوَ أَنْ يَمُوتَ بِوُقُوعِهِ فِي الْبِئْرِ فَتَكُونَ دِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الثَّانِي لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَرَّهُ فِي مُهْوَاةٍ .
وَأَمَّا الْوَجْهُ الثَّانِي وَهُوَ أَنَّهُ إذَا مَاتُوا فِي الْبِئْرِ وَلَا يُعْلَمُ كَيْف مَاتُوا فَإِنْ لَمْ يَقَعْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فَدِيَةُ الْأَوَّلِ عَلَى الَّذِي احْتَفَرَ الْبِئْرَ لِأَنَّهُ لَا سَبَبَ لِمَوْتِهِ سِوَى الْوُقُوعِ فِي الْبِئْرِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الَّذِي أَوْقَعَهُ حِينَ جَرَّهُ إلَى مُهْوَاةٍ وَإِنْ وُجِدَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مَوْتَى وَلَا يُعْلَمُ كَيْف كَانَ حَالُهُمْ فَالْقِيَاسُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَنَّ صَاحِبَ الْبِئْرِ يَضْمَنُ الْأَوَّلَ وَيَضْمَنُ الْأَوَّلُ الثَّانِيَ وَيَضْمَنُ الثَّانِي الثَّالِثَ عَلَى عَوَاقِلِهِمْ لِأَنَّ وُقُوعَ الْأَوَّلِ فِي الْبِئْرِ سَبَبٌ لِهَلَاكِهِ وَهُوَ أَسْبَقُ الْأَسْبَابِ وَقَدْ ظَهَرَ الْحُكْمُ عَقِيبَهُ فَيَكُونُ مُضَافًا إلَيْهِ وَلَا يُعْتَبَرُ احْتِمَالُ مَوْتِهِ مِنْ وُقُوعِ الثَّانِي أَوْ الثَّالِثِ عَلَيْهِ لِأَنَّ هَذَا الِاحْتِمَالَ تَرَجَّحَ بِالسَّبْقِ وَالسَّابِقُ وُقُوعُهُ فِي الْبِئْرِ وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الثَّانِي أَسْبَقُ الْأَسْبَابِ الْوُقُوعُ فِي الْبِئْرِ وَهُوَ مُضَافٌ إلَى الْأَوَّلِ وَفِي حَقِّ الثَّالِثِ لَا سَبَبَ لِمَوْتِهِ سِوَى الْوُقُوعِ فِي الْبِئْرِ وَهُوَ مُضَافٌ إلَى الْأَوَّلِ فَضَمَانُهُ عَلَى الثَّانِي وَقَالَ : وَفِيهَا قَوْلٌ آخَرُ وَلَمْ يُبَيِّنْ مَنْ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ وَقِيلَ : وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَقِيلَ : هُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا إنَّ دِيَةَ الْأَوَّلِ أَثْلَاثٌ فَثُلُثُهَا عَلَى الْحَافِرِ
وَثُلُثُهَا عَلَى الثَّانِي وَثُلُثُهَا هَدَرٌ لِأَنَّهُ ظَهَرَ بِمَوْتِهِ أَسْبَابٌ ثَلَاثَةٌ وُقُوعُهُ فِي الْبِئْرِ وَوُقُوعُ الثَّانِي وَالثَّالِثِ عَلَيْهِ وَلَيْسَتْ الْإِضَافَةُ إلَى الْبَعْضِ بِأَوْلَى مِنْ الْبَعْضِ فَالتَّرْجِيحُ فِي هَذَا لَا يَقَعُ بِالسَّبْقِ كَمَا فِي الْجِرَاحَاتِ فَيَكُونُ ثُلُثُ دِيَتِهِ عَلَى الْحَافِرِ وَثُلُثُهُ عَلَى الثَّانِي لِأَنَّهُ جَرَّ الثَّالِثَ إلَيْهِ وَثُلُثُهُ هَدَرٌ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي جَرَّ الثَّانِي عَلَيْهِ وَدِيَةُ الثَّانِي نِصْفَيْنِ نِصْفُهُ هَدَرٌ وَنِصْفُهُ عَلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ ظَهَرَ لِمَوْتِهِ سَبَبَانِ فَيُضَافُ إلَيْهِمَا وَدِيَةُ الثَّالِثِ عَلَى الثَّانِي كُلِّهَا لِأَنَّهُ لَا سَبَبَ لِمَوْتِهِ سِوَى جَرِّ الثَّانِي إيَّاهُ إلَى نَفْسِهِ قَالَ : فَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ مِنْ أَيِّ ذَلِكَ مَاتُوا يَبْطُلُ نِصْفُ ذَلِكَ وَيُؤْخَذُ بِالنِّصْفِ قِيلَ : لَيْسَ مُرَادُهُ حَقِيقَةَ الْمُنَاصَفَةِ بَلْ مُرَادُهُ التَّبْعِيضُ وَالِانْقِسَامُ فِي حَقِّ الْأَوَّلِ أَثْلَاثًا فَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ الْمُنَاصَفَةَ فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ حَقَّ الثَّانِي خَاصَّةً لِأَنَّهُ لَا شَكَّ أَنَّ جَمِيعَ دِيَةِ الثَّالِثِ وَاجِبٌ عَلَى الثَّانِي فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا قَالَ فِي الزَّوَائِدِ وَبِهَذَا الْقَوْلِ نَأْخُذُ .
وَإِذَا دَفَعَ رَجُلٌ رَجُلًا فِي بِئْرٍ فِي مِلْكِهِ أَوْ فِي الطَّرِيقِ فَالضَّمَانُ عَلَى الدَّافِعِ لِأَنَّهُ مُبَاشِرٌ لِإِتْلَافِهِ وَمُبَاشَرَةُ الْقَتْلِ لَا تَخْتَلِفُ فِي الْمِلْكِ وَغَيْرِ الْمِلْكِ كَالدَّمِ .
وَإِذَا سَقَطَ الرَّجُلُ فِي بِئْرٍ فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ الْحَافِرُ : أَلْقَى نَفْسَهُ فِيهَا عَمْدًا ، وَقَالَ وَرَثَةُ الرَّجُلِ : كَذَبَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْحَافِرِ وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرُ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَكَانَ يَقُولُ أَوَّلًا الْقَوْلُ قَوْلُ الْوَرَثَةِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَشْهَدُ لَهُمْ فَالْإِنْسَانُ لَا يُلْقِي نَفْسَهُ فِي الْبِئْرِ عَمْدًا فِي الْعَادَةِ فَعِنْدَ الْمُنَازَعَةِ الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ : الضَّمَانُ بِالشَّكِّ لَا يَجِبُ وَالظَّاهِرُ إنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ لَا لِإِثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ وَحَاجَةُ الْوَرَثَةِ هَاهُنَا إلَى الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ اسْتِحْقَاقُ الدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْحَافِرِ فَلَا يَكْفِيهِمْ الظَّاهِرُ لِذَلِكَ بَلْ يَحْتَاجُونَ إلَى إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى أَنَّهُ وَقَعَ فِيهَا بِغَيْرِ عَمْدٍ وَهَذَا الظَّاهِرُ يُقَابِلُهُ ظَاهِرٌ آخَرُ وَهُوَ أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْبَصِيرَ يَرَى الْبِئْرَ أَمَامَهُ فِي مَمْشَاهُ فَيَتَقَابَلُ الظَّاهِرَانِ وَيَبْقَى الِاحْتِمَالُ فِي سَبَبِ وُجُوبِ الضَّمَانِ فَلَا نُوجِبُهُ بِالشَّكِّ
وَإِذَا أَمَرَ الْمَوْلَى عَبْدَهُ أَنْ يَحْفِرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ لَيْسَ عِنْدَ دَارِهِ فَحَفَرَهَا كَانَ مَا وَقَعَ فِيهَا فِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ يَدْفَعُهُ بِهِ الْمَوْلَى أَوْ يَفْدِيهِ وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْحُرِّ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْغُرُورَ لَا يَتَمَكَّنُ بَيْنَ الْمَوْلَى وَبَيْنَ عَبْدِهِ .
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا مَحْجُورًا عَلَيْهِ وَحُرًّا وَمُكَاتَبًا يَحْفِرُونَ لَهُ بِئْرًا فَحَفَرُوهَا فَوَقَعَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ حَفْرِهِمْ فَمَاتُوا فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فِي الْحُرِّ وَالْمُكَاتَبِ وَهُوَ ضَامِنٌ لَقِيمَةِ الْعَبْدِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ يُؤَدِّيهَا إلَى مَوْلَاهُ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا لِلْعَبْدِ بِالِاسْتِعْمَالِ وَالْعَبْدُ الْمَحْجُورُ يُضْمَنُ بِالْغَصْبِ بِخِلَافِ الْحُرِّ وَالْمُكَاتَبِ فَهُوَ ضَامِنٌ فَإِذَا مَاتُوا فِي حَالَةِ مَا كَانَ مُسْتَعْمَلًا لَهُمْ كَانَ عَلَيْهِ ضَمَانُ قِيمَةِ الْعَبْدِ ثُمَّ هَذِهِ الْقِيمَةُ بَدَلٌ عَنْ الْعَبْدِ وَالْعَبْدُ الْجَانِي إذَا أَخْلَفَ بَدَلًا يَتَعَلَّقُ حَقُّ أَوْلِيَاءِ الْجِنَايَةِ بِذَلِكَ الْبَدَلِ .
فَنَقُولُ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْجِنَايَةِ : إنَّ مَوْتَهُمْ حَصَلَ مِنْ فِعْلِهِمْ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَكُونُ جَانِيًا عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى صَاحِبِهِ فَيَنْقَسِمُ فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَثْلَاثًا فَالْعَبْدُ الْمَحْجُورُ أَتْلَفَ ثُلُثَ الْحُرِّ فَيَرْجِعُ وَلِيُّهُ بِثُلُثِ دِيَةِ الْحُرِّ فِي قِيمَةِ الْعَبْدِ وَأَتْلَفَ ثُلُثَ الْمُكَاتَبِ فَيَرْجِعُ وَلِيُّ الْمُكَاتَبِ بِثُلُثِ قِيمَةِ الْمُكَاتَبِ فِي تِلْكَ الْقِيمَةِ فَيُقْسِمُونَ الْقِيمَةَ الَّتِي أَخَذَهَا مَوْلَاهُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْقِيمَةُ أَكْثَرَ فَيَكُونَ الْفَضْلُ لِلْمَوْلَى لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتَوْفَى كَمَالَ حَقِّهِ ثُمَّ يَرْجِعُ الْمَوْلَى عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ بِمَا أَخَذُوا مِنْهُ مِنْ الْقِيمَةِ لِأَنَّهُ كَانَ غَصَبَ الْعَبْدَ فَارِغًا وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ الْقِيمَةَ مَشْغُولًا بِجِنَايَةٍ كَانَتْ مِنْ الْعَبْدِ فِي يَدِهِ فَإِذَا اُسْتُحِقَّتْ بِذَلِكَ الشَّغْلِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِهَا مَرَّةً أُخْرَى لِتَسْلَمَ لَهُ قِيمَةُ عَبْدِهِ فَارِغًا ثُمَّ الْمُسْتَأْجِرُ قَدْ مَلَكَ الْعَبْدَ حِينَ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ مِنْ وَقْتِ الْغَصْبِ وَقَدْ تَلِفَ ثُلُثُ نَفْسِهِ بِجِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ فَيَكُونُ هَدَرًا وَثُلُثُهُ بِجِنَايَةِ الْحُرِّ عَلَيْهِ فَيَرْجِعُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ بِثُلُثِ قِيمَةِ الْعَبْدِ
وَكَذَلِكَ أَوْلِيَاءُ الْمُكَاتَبِ يَرْجِعُونَ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ بِثُلُثِ قِيمَةِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّ ثُلُثَ نَفْسِهِ تَلِفَ بِجِنَايَةِ الْحُرِّ فَيَجْمَعُ مَا أَخَذَ أَوْلِيَاءُ الْمُكَاتَبِ إلَى مَا تَرَكَهُ فَيَنْظُرُ قِيمَتَهُ مِنْ ذَلِكَ فَيُقَرِّرُ فَيَخْرُجُ وَيَضْرِبُ فِيهَا أَوْلِيَاءُ الْحُرِّ بِثُلُثِ دِيَةِ الْحُرِّ وَالْمُسْتَأْجِرُ بِثُلُثِ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ جَنَى عَلَى ثُلُثِ الْحُرِّ وَعَلَى ثُلُثِ الْعَبْدِ وَلَكِنَّ جِنَايَةَ الْمُكَاتَبِ تُوجِبُ عَلَيْهِ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَةِ نَفْسِهِ وَمِنْ الْأَرْشِ فَإِذَا كَانَتْ قِيمَةُ نَفْسِهِ أَقَلَّ كَانَ الْمُسْتَوْفِي مِنْ تَرِكَتِهِ قِيمَتَهُ يُضْرَبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيهَا بِجَمِيعِ حَقِّهِ .
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ حُرًّا وَعَبْدًا يَحْفِرَانِ لَهُ بِئْرًا فَوَقَعَتْ عَلَيْهِمَا فَمَاتَا وَلِلْعَبْدِ مَوْلَيَانِ قَدْ أَذِنَ لَهُ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ الْآخَرُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فِي الْحُرِّ وَلَا فِي نَصِيبِ الْآذِنِ مِنْ الْعَبْدِ وَهُوَ ضَامِنٌ لِنِصْفِ قِيمَةِ الْعَبْدِ نَصِيبَ الَّذِي لَمْ يَأْذَنْ لَهُ لِأَنَّ الْغَصْبَ بِالِاسْتِعْمَالِ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي هَذَا النِّصْفِ ثُمَّ يَرْجِعُ فِيهِ وَرَثَةُ الْحُرِّ بِرُبْعِ دِيَةِ الْحُرِّ لِأَنَّ الْعَبْدَ كُلَّهُ مُتْلِفٌ لِنُصَفَّ الْحُرّ فَإِنَّ مَوْتَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَصَلَ بِفِعْلِهِمَا جَمِيعًا فَهَذَا النِّصْفُ مِنْ الْعَبْدِ إنَّمَا جَنَى عَلَى رُبْعِ الْحُرِّ وَقَدْ مَاتَ وَأَخْلَفَ بَدَلَا فَتَرْجِعُ وَرَثَةُ الْحُرِّ فِي ذَلِكَ الْبَدَلِ بِرُبْعِ دِيَةِ الْحُرِّ وَيَرْجِعُ الْمَوْلَى الَّذِي لَمْ يَأْذَنْ لَهُ بِمَا أَخَذَ مِنْهُ مِنْ ذَلِكَ النِّصْفِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّهُ أَعْطَاهُ نِصْفَ الْقِيمَةِ مَشْغُولًا فَإِذَا اسْتَحَقَّ بِذَلِكَ بِشُغْلٍ صَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يُعْطِهِ شَيْئًا فَرَجَعَ بِهِ مَرَّةً أُخْرَى لِيُسَلِّمَ لَهُ نِصْفَ قِيمَةِ الْعَبْدِ فَارِغًا ثُمَّ الْمُسْتَأْجِرُ قَدْ مَلَكَ هَذَا النِّصْفَ بِالضَّمَانِ وَقَدْ تَلِفَ نِصْفُ هَذَا النِّصْفِ بِجِنَايَةِ الْحُرِّ فَيَرْجِعُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ بِرُبْعِ قِيمَةِ الْعَبْدِ فَيُسَلِّمُ لَهُ ذَلِكَ وَيَرْجِعُ الْآذِنُ لِلْعَبْدِ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ بِرُبْعِ قِيمَةِ الْعَبْدِ ثُمَّ هَذَا النِّصْفُ مِنْ الْعَبْدِ كَانَ جَنَى عَلَى رُبْعِ الْحُرِّ وَقَدْ فَاتَ وَأَخْلَفَ بَدَلًا فَيَرْجِعُ وَرَثَةُ الْحُرِّ فِي ذَلِكَ الرُّبْعِ بِرُبْعِ دِيَةِ الْحُرِّ وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ كَانَ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ لِأَنَّ مَعْنَى الْغَصْبِ هَاهُنَا قَدْ انْعَدَمَ وَإِنَّمَا يَبْقَى حُكْمُ الْجِنَايَةِ وَقَدْ جَنَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى نِصْفِ صَاحِبِهِ فَيَكُونُ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ نِصْفُ قِيمَةِ الْعَبْدِ ثُمَّ يَرْجِعُ بِذَلِكَ وَرَثَةُ الْحُرِّ عَلَى مَوْلَى الْعَبْدِ فَيَأْخُذُونَهُ بِنِصْفِ
الدِّيَةِ فَإِنَّ الْعَبْدَ قَدْ جَنَى عَلَى نِصْفِ الْحُرِّ وَقَدْ فَاتَ وَأَخْلَفَ هَذَا الْبَدَلَ وَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِأَنَّهُ كَانَ يَضْمَنُ فِيمَا سَبَقَ بِاعْتِبَارِ الْغَصْبِ وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ حِينَ كَانَ الْعَبْدُ مَأْذُونًا لَهُ .
وَلَوْ اسْتَأْجَرَ عَبْدَيْنِ أَحَدُهُمَا مَأْذُونٌ لَهُ وَالْآخَرُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فَحَفَرَا بِئْرًا فَوَقَعَتْ عَلَيْهِمَا فَمَاتَ فَإِنَّ الْمُسْتَأْجِرَ يَضْمَنُ قِيمَةَ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ لِمَوَالِيهِ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ لَهُ بِاسْتِعْمَالِهِ ثُمَّ يَرْجِعُ مَوْلَى الْمَأْذُونِ لَهُ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ فِي تِلْكَ الْقِيمَةِ لِأَنَّ الْمَحْجُورَ كَانَ جَنَى عَلَى نِصْفِ الْمَأْذُونِ وَقَدْ مَاتَ وَأَخْلَفَ قِيمَةً فَيَرْجِعُ مَوْلَى الْمَأْذُونِ فِي تِلْكَ الْقِيمَةِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْمَأْذُونِ ثُمَّ يَضْمَنُ الْمُسْتَأْجِرُ لِمَوْلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ مَا أَخَذَ مِنْهُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ اُسْتُحِقَّ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ الَّتِي كَانَتْ مِنْ الْعَبْدِ فِي يَدِهِ ثُمَّ الْمُسْتَأْجِرُ مَلَكَ الْعَبْدَ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ بِالضَّمَانِ وَقَدْ جَنَى الْمَأْذُونُ عَلَى نِصْفِهِ ثُمَّ مَاتَ الْمَأْذُونُ وَأَخْلَفَ نِصْفَ الْقِيمَةِ فَيَرْجِعُ الْمُسْتَأْجِرُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ قِيمَةِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ فِيمَا أَخَذَهُ مَوْلَى الْمَأْذُونِ حَتَّى يُسَلِّمَ لَهُ نِصْفَ قِيمَةِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ
وَإِذَا احْتَفَرَ الرَّجُلُ بِئْرًا فِي دَارٍ لَا يَمْلِكُهَا بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِهَا فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا وَقَعَ فِيهَا لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالْحَفْرِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ كَمَا هُوَ مُتَعَدٍّ بِالْحَفْرِ فِي الطَّرِيقِ فَإِنْ أَقَرَّ رَبُّ الدَّارِ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقِيَاسِ لِأَنَّ الضَّمَانَ قَدْ وَجَبَ عَلَى عَاقِلَةِ الْحُرِّ وَهُوَ بِقَوْلِهِ يُرِيدُ إسْقَاطَ ذَلِكَ الضَّمَانِ وَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ فِي إسْقَاطِ حَقِّهِمْ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الْقَوْلُ قَوْلُهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَى أَحَدٍ لِأَنَّ رَبَّ الدَّارِ أَقَرَّ بِمَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فَإِنَّهُ لَوْ أَذِنَ لَهُ بِالْحَفْرِ الْآنَ فِي مِلْكِهِ صَحَّ إذْنُهُ وَمَنْ أَقَرَّ بِمَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ يَكُونُ مُصَدَّقًا فِي ذَلِكَ فَكَانَ الثَّابِتُ مِنْ الْإِذْنِ بِإِقْرَارِهِ كَالثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ وَالْحَافِرُ يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَعَدِّيًا فَإِذَا احْتَفَرَ الرَّجُلُ بِئْرًا فِي طَرِيقِ مَكَّةَ أَوْ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْفَيَافِي فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ بِالْحَفْرِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إذْ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ أَحَدٌ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : يَمْلِكُ بِالْحَفْرِ مَوْضِعَ بِئْرِهِ وَمَا حَوْلَهُ مِنْ الْحَرِيمِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَذَلِكَ إذَا كَانَ حَفَرَ بِإِذْنِ الْإِمَامِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا الْحَفْرِ فَهُوَ كَالْحَافِرِ فِي مِلْكِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ ضَرَبَ هُنَاكَ فُسْطَاطًا أَوْ اتَّخَذَ تَنُّورًا يَخْبِزُ فِيهِ أَوْ رَبَطَ هُنَاكَ دَابَّتَهُ لَمْ يَضْمَنْ مَا أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ فَعَلَهُ فِي مِلْكِهِ وَهَذَا إذَا كَانَ فِي غَيْرِ الْمَحَجَّةِ فَأَمَّا إذَا احْتَفَرَ فِي مَحَجَّةِ الطَّرِيقِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا يَقَعُ فِيهِ لِأَنَّ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِلْعَامَّةِ فَالتَّصَرُّفُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ التَّصَرُّفِ فِي الْأَمْصَارِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : وَإِذَا احْتَفَرَ الرَّجُلُ نَهْرًا فِي مِلْكِهِ أَوْ جَعَلَ عَلَيْهِ جِسْرًا أَوْ قَنْطَرَةً فِي أَرْضِهِ فَعَطِبَ بِهِ إنْسَانٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَدٍّ فِيمَا أَحْدَثَهُ فِي مِلْكِهِ وَالْمُسَبِّبُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا لَا يَكُونُ ضَامِنًا وَإِذَا حَفَرَ الْبِئْرَ فِي أَرْضِ غَيْرِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبِئْرِ فَيَكُونُ ضَامِنًا لِكَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا فِي السَّبَبِ وَكَذَلِكَ لَوْ جَعَلَ عَلَيْهِ جِسْرًا أَوْ قَنْطَرَةً فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَالْجِسْرُ اسْمٌ لِمَا يُوضَعُ وَيُرْفَعُ فَلَا يَرْجِعُ وَالْقَنْطَرَةُ مَا يُحْكَمُ بِنَاؤُهُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا يَكُونُ ضَامِنًا فِي هَذَا وَإِنْ أَحْدَثَهُ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ إذَا كَانَ بِحَيْثُ لَا يَتَضَرَّرُ بِهِ غَيْرُهُ لِأَنَّهُ مُحْتَسِبٌ فِيمَا صَنَعَ فَإِنَّ النَّاسَ يَنْتَفِعُونَ بِمَا أَحْدَثَهُ فَلَا يَكُونُ هُوَ مُتَعَدِّيًا فِيهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ : إنَّمَا يَكُونُ مُحْتَسِبًا إذَا جَعَلَهُ بِإِذْنِ الْإِمَامِ بِمَنْزِلَةِ حَفْرِ الْبِئْرِ فَإِنَّهُ مُحْتَسِبٌ فِيهِ أَيْضًا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ النَّاسُ وَمَعَ ذَلِكَ إذَا فَعَلَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ كَانَ ضَامِنًا لِمَا يُعْطَبُ بِهِ فَإِنْ مَشَى عَلَى جِسْرِهِ إنْسَانٌ مُتَعَمِّدًا لِذَلِكَ فَانْخَسَفَ بِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ هَذَا تَعَمَّدَ الْمَشْيَ عَلَيْهِ فَيُعْتَبَرُ وُقُوعُهُ مُضَافًا إلَى فِعْلِهِ لَا إلَى تَسَبُّبِ مَنْ اتَّخَذَ الْجِسْرَ .
وَلَوْ حَفَرَ نَهْرًا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَانْشَقَّ مِنْ ذَلِكَ النَّهْرِ مَاءٌ فَغَرَق أَرْضًا أَوْ قَرْيَةً كَانَ ضَامِنًا لِذَلِكَ لِأَنَّهُ أَسَالَ الْمَاءَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ فَإِمَّا أَنْ يُقَالَ : هُوَ مُتَعَدٍّ فِيهِ أَوْ يُقَالُ هُوَ مُبَاحٌ لَهُ وَلَكِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ وَالتَّلَفُ بِهَذَا مِمَّا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَكَانَ ضَامِنًا كَالْمَشْيِ وَالسَّيْرِ عَلَى الدَّابَّةِ فِي الطَّرِيقِ وَلَوْ كَانَ فِي مِلْكِهِ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا لِأَنَّ ذَلِكَ مُبَاحٌ لَهُ مُطْلَقٌ .
وَكَذَلِكَ لَوْ سَقَى أَرْضَهُ فَخَرَجَ الْمَاءُ مِنْهَا إلَى غَيْرِهَا لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّ سَقْيَ أَرْضِهِ تَصَرُّفٌ فِي مِلْكِهِ وَذَلِكَ مُبَاحٌ لَهُ مُطْلَقًا .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَحْرَقَ حَشِيشًا فِي أَرْضِهِ أَوْ حَصَائِدَ أَوْ أَجَمَةً فَخَرَجَتْ النَّارُ إلَى أَرْضِ غَيْرِهِ وَأَحْرَقَتْ شَيْئًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِهِ مُبَاحٌ لَهُ مُطْلَقًا قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : هَذَا إذَا كَانَتْ الرِّيَاحُ سَاكِنَةً حِينَ أَوْقَدَ النَّارَ فَأَمَّا إذَا كَانَ الْيَوْمُ رِيحًا عَلَى وَجْهٍ يَعْلَمُ أَنَّ الرِّيحَ يَذْهَبُ بِالنَّارِ إلَى أَرْضِ جَارِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ اسْتِحْسَانًا بِمَنْزِلَةِ مَنْ صَبَّ الْمَاءَ فِي مِيزَابٍ لَهُ وَتَحْتَ الْمِيزَابِ مَتَاعٌ لِإِنْسَانٍ يَفْسُدُ بِهِ قَالَ : هُوَ ضَامِنٌ فَكَذَلِكَ النَّارُ يُوقِدُهَا الرَّجُلُ فِي دَارِهِ أَوْ تَنُّورِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا احْتَرَقَ لِأَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ فِي مِلْكِهِ مُبَاحٌ لَهُ مُطْلَقًا .
وَكَذَلِكَ لَوْ حَفَرَ نَهْرًا أَوْ بِئْرًا فِي دَارِهِ فَنَزَّتْ مِنْ ذَلِكَ أَرْضُ جَارِهِ لَمْ يَضْمَنْ بِهَذَا السَّبَبِ شَيْئًا وَلَا يُؤْمَرُ بِأَنْ يُحَوِّلَ ذَلِكَ عَنْ مَوْضِعِهِ لِأَنَّهُ أَحْدَثَهُ فِي مِلْكِهِ إلَّا أَنَّهُ بَقِيَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ أَنْ يَكُفَّ عَمَّا يُؤْذِي جَارَهُ فَأَمَّا الْحُكْمُ فَإِنَّهُ لَا يُؤْمَرُ أَنْ يُحَوِّلَهُ إلَّا أَنْ يَشَاءَ .
وَلَوْ صَبَّ الْمَاءَ فِي مِلْكِهِ فَخَرَجَ مِنْ صَبِّهِ ذَلِكَ إلَى مِلْكِ غَيْرِهِ فَأَفْسَدَهُ كَانَ هَذَا وَالْأَوَّلُ فِي الْقِيَاسِ سَوَاءً إلَّا أَنَّ صَبَّ الْمَاءِ فِي مِلْكِهِ مُبَاحٌ لَهُ مُطْلَقًا غَيْرَ أَنَّ الْأَخْذَ بِالْقِيَاسِ هَاهُنَا يَقْبُحُ لِأَنَّ الْمَاءَ سَيَّالٌ بِطَبْعِهِ فَإِذَا كَانَ عِنْدَ صَبِّ الْمَاءِ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسِيلُ إلَى مِلْكِ جَارِهِ يَكُونُ ضَامِنًا لِمَا يُفْسِدُ بِهِ اسْتِحْسَانًا .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ صَبَّهُ فِي مِيزَابٍ لَهُ فَأَفْسَدَ مَتَاعًا لَهُ تَحْتَهُ يَكُونُ ضَامِنًا وَيُعَدُّ ذَلِكَ مِنْ جِنَايَتِهِ بِمَنْزِلَةِ مُبَاشَرَتِهِ بِيَدِهِ وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِيمَا يُشْبِهُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : وَإِذَا احْتَفَرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ فِيهِ بِئْرًا لِمَاءِ الْمَطَرِ أَوْ وَضَعُوا فِيهِ حُبًّا فَصُبَّ فِيهِ الْمَاءُ أَوْ طَرَحُوا فِيهِ بَوَارِي أَوْ حَصَى أَوْ رَكَّبُوا فِيهِ بَابًا أَوْ عَلَّقُوا فِيهِ قَنَادِيلَ أَوْ ظَلَّلُوهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ فِيمَا عَطِبَ بِذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنْ التَّصَرُّفِ مُبَاحٌ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ فِي مَسْجِدِهِمْ مُطْلَقًا فَإِنَّ حَقَّ التَّدْبِيرِ فِي الْمَسْجِدِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْإِصْلَاحِ إلَيْهِمْ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَكُونُ لِلْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ فَكَمَا أَنَّ الْمَالِكَ لَا يَكُونُ جَانِيًا بِإِحْدَاثِ شَيْءٍ مِنْ هَذَا فِي مِلْكِهِ فَكَذَلِكَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ فِي مَسْجِدِهِمْ وَكَذَلِكَ إنْ فَعَلَهُ غَيْرُهُمْ بِإِذْنِهِمْ لَا يَكُونُ فِعْلُ الْمَأْذُونِ مِنْ جِهَتِهِمْ كَفِعْلِهِمْ وَإِنْ فَعَلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِمْ فَهُوَ ضَامِنٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْقِيَاسُ وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ إذَا كَانَ مَسْجِدٌ لِلْعَامَّةِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ اسْتِحْسَانًا إلَّا الْبِنَاءَ وَالْحَفْرَ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ هَذَا مِمَّا يَرْجِعُ إلَى إصْلَاحِ الْمَسْجِدِ وَعِمَارَةُ الْمَسْجِدِ مِمَّا نَدَبَ اللَّهُ إلَيْهَا كُلَّ مُسْلِمٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ } الْآيَةُ ثُمَّ بِتَعْلِيقِ الْقِنْدِيلِ وَبَسْطِ الْحُصْرِ يَتَمَكَّنُ النَّاسُ مِنْ إقَامَةِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ وَغَيْرُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ سَوَاءٌ فِي إقَامَةِ الصَّلَاةِ فِيهِ فَكَذَلِكَ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى التَّمَكُّنِ مِنْهُ إلَّا أَنَّ أَهْلَ الْمَسْجِدِ أَخَصُّ بِالتَّدْبِيرِ فَهُمْ فِي ذَلِكَ كَالْمُلَّاكِ وَغَيْرُهُمْ كَالسُّكَّانِ نَحْوُ الْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ فِي الدَّارِ ثُمَّ الْمُسْتَعِيرُ لَا يَكُونُ جَانِيًا فِي وَضْعِ الْأَمْتِعَةِ وَصَبِّ الْمَاءِ وَنَصْبِ الْقِنْدِيلِ فِي الدَّارِ وَيَكُونُ جَانِيًا فِي الْبِنَاءِ وَحَفْرِ الْبِئْرِ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِ الدَّارِ فَكَذَلِكَ غَيْرُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ فِي الْمَسْجِدِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَسْجِدَ مُعَدٌّ لِلصَّلَاةِ فِيهِ وَالْبِنَاءُ وَالْحَفْرُ يُخْرِجُ
ذَلِكَ الْمَوْضِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُصَلَّى فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّدْبِيرِ لَا مِنْ بَابِ التَّمْكِينِ مِنْ إقَامَةِ الصَّلَاةِ فِيهِ فَيَخْتَصُّ بِهِ أَهْلُ الْمَسْجِدِ دُونَ غَيْرِهِمْ فَيَكُونُ جَانِيًا إذَا فَعَلَهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِمْ وَإِذْنِهِمْ فَأَمَّا بَسْطُ الْحَصِيرِ وَنَصْبُ الْقِنْدِيلِ فَمِنْ بَابِ التَّمْكِينِ مِنْ إقَامَةِ الصَّلَاةِ فِيهِ فَغَيْرُ أَهْلِ الْمَسْجِدِ فِيهِ كَأَهْلِ الْمَسْجِدِ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ : اخْتَصَّ أَهْلُ الْمَسْجِدِ بِالتَّدْبِيرِ فِي هَذِهِ الْبُقْعَةِ فَغَيْرُهُمْ إذَا أَرَادَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ يُبَاحُ لَهُ فِعْلُهُ وَلَكِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمَشْيِ وَالسَّيْرِ عَلَى الدَّابَّةِ فِي الطَّرِيقِ وَالدَّلِيلُ عَلَى اخْتِصَاصِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ بِهِ أَنَّ التَّدْبِيرَ فِي فَتْحِ الْبَابِ وَإِغْلَاقِهِ وَنَصْبِ الْإِمَامِ وَالْمُؤَذِّنِ وَالْمُتَوَلِّي يَكُونُ إلَى أَهْلِ الْمَسْجِدِ دُونَ غَيْرِهِمْ فَإِنَّهُ لَوْ وُجِدَ فِي مَسْجِدِهِمْ قَتِيلٌ كَانَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِمْ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ الْبِنَاءُ وَالْحَفْرُ فَإِنَّ أَهْلَ الْمَسْجِدِ هُمْ الْمُخْتَصُّونَ بِذَلِكَ وَإِذَا فَعَلَهُ غَيْرُهُمْ وَكَانَ فِيهِ إصْلَاحٌ لِلْمَسْجِدِ كَانَ مُبَاحًا لَهُمْ وَلَكِنَّهُ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الْمُسْلِمُونَ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الصَّلَاةُ فِيهِ سَوَاءً ثُمَّ مَعَ ذَلِكَ يَخْتَصُّ أَهْلُهُ بِالتَّدْبِيرِ فِيهِ كَالْكَعْبَةِ فَالنَّاسُ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الطَّوَافُ سَوَاءٌ وَقَدْ اخْتَصَّ بَنُو شَيْبَةَ بِالتَّدْبِيرِ فِيهَا حَتَّى إنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا أَخَذَ الْمِفْتَاحَ مِنْهُمْ يَوْمَ الْفَتْحِ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ يَأْمُرُهُ بِالرَّدِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا } .
وَإِذَا قَعَدَ الرَّجُلُ فِي مَسْجِدٍ لِحَدِيثٍ أَوْ نَامَ فِيهِ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ أَوْ مَرَّ فِيهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا أَصَابَ كَمَا يَضْمَنُ فِي الطَّرِيقِ الْأَعْظَمِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مُصَلِّيًا فِي هَذِهِ الْبُقْعَةِ لَمْ يَضْمَنْ مَا يَعْطَبُ بِهِ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ جَالِسًا فِيهِ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ بِمَنْزِلَةِ الْجَالِسِ فِي مِلْكِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الِاعْتِكَافَ فِي الْمَسْجِدِ قُرْبَةٌ كَالصَّلَاةِ وَالْمُعْتَكِفُ يَتَحَدَّثُ وَيَنَامُ فِي الْمَسْجِدِ وَالْجُلُوسُ لِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { الْمُنْتَظِرُ لِلصَّلَاةِ فِي الصَّلَاةِ مَا دَامَ يَنْتَظِرُهَا } { وَنَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْجُلُوسِ فِي الْمَسْجِدِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ } وَكَذَلِكَ الْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ لِتَعْلِيمِ الْعِلْمِ وَتَعَلُّمِهِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ مُبَاحًا مُطْلَقًا وَالْمُبَاحُ الْمُطْلَقُ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى الْحُرِّ وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ : الْمَسْجِدُ مُعَدٌّ لِلصَّلَاةِ وَالْقُعُودُ وَالنَّوْمُ فِيهِ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ كَالطَّرِيقِ فَإِنَّهُ مُعَدٌّ لِلْمَشْيِ فِيهِ فَالْجُلُوسُ أَوْ النَّوْمُ فِيهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَضُرُّ بِالْمَارَّةِ يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ مَنْ يَجْلِسُ فِي الْمَسْجِدِ لِلصَّلَاةِ إذَا احْتَاجَ مَنْ يُصَلِّي فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ إلَى إزْعَاجِهِ لِيُصَلِّيَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ شَرْعًا وَلَيْسَ لِغَيْرِ الْمُصَلِّي أَنْ يُزْعِجَ الْمُصَلِّيَ عَنْ مَكَانِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مُعَدٌّ لِلصَّلَاةِ فِيهِ فَشَغْلُهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُبَاحًا أَوْ مَنْدُوبًا إلَيْهِ وَلَا يَكُونُ هَذَا أَقْوَى مِنْ الرَّمْيِ إلَى الْكَافِرِ أَوْ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ مُبَاحٌ أَوْ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَمَعَ ذَلِكَ إذَا أَصَابَ مُسْلِمًا كَانَ
ضَامِنًا لَهُ .
وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ إذَا مَشَى فِي الْمَسْجِدِ فَأَوْطَأَ إنْسَانًا أَوْ نَامَ فِيهِ فَانْقَلَبَ عَلَى إنْسَانٍ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ لِإِتْلَافِهِ وَبِمِثْلِ هَذَا السَّبَبِ يَضْمَنُ فِي مِلْكِهِ فَفِي الْمَسْجِدِ أَوْلَى .
وَإِذَا احْتَفَرَ الرَّجُلُ فِي سُوقِ الْعَامَّةِ بِئْرًا أَوْ بَنَى فِيهَا دُكَّانًا بِغَيْرِ أَمْرِ السُّلْطَانِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا عَطِبَ بِهِ مِنْ شَيْءٍ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا السَّبَبِ فَأُلْحِقَ بِالطَّرِيقِ الْعَامَّةُ وَمَا يَكُونُ حَقًّا لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ فَالتَّدْبِيرُ فِيهِ إلَى الْإِمَامِ فَإِذَا أَحْدَثَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ كَانَ مُتَعَدِّيًا وَإِذَا فَعَلَهُ بِأَمْرِ السُّلْطَانَ لَا يَكُونُ مُتَعَدِّيًا فِي هَذَا التَّسَبُّبِ فَلَا يَكُونُ ضَامِنًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَتَلَهُ بِمِلْكِهِ .
وَإِذَا أَوْقَفَ دَابَّةً فِي السُّوقِ فَمَا أَصَابَتْ دَابَّتُهُ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ وَلِأَنَّهُ مُتَعَدِّيًا بِإِيقَافِهَا فِي الطَّرِيقِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَارَّةِ وَالْمُرُورِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَإِنْ كَانَ مَوْقِفًا تَقِفُ فِيهِ الدَّوَابُّ لِلْبَيْعِ وَقَدْ أَذِنَ لَهُ السُّلْطَانُ فِي ذَلِكَ فَأَوْقَفَ فِيهِ الدَّابَّةَ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا فِيمَا أَصَابَتْ الدَّابَّةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ السُّلْطَانُ أَذِنَ فِيهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِأَنَّ بِإِذْنِ السُّلْطَانِ يَصِيرُ ذَلِكَ الْمَوْضِعُ مُعَدًّا لِإِيقَافِ الدَّوَابِّ فِيهِ فَيَكُونُ إيقَافُهَا فِيهِ بِمَنْزِلَةِ إيقَافِهَا فِي مِلْكِهِ فَأَمَّا بِدُونِ إذْنِ السُّلْطَانِ فَهُوَ مَمَرٌّ وَلَيْسَ بِمَوْضِعٍ لِإِيقَافِ الدَّابَّةِ فَإِذَا أَوْقَفَ فِيهِ دَابَّتَهُ أَوْ أَرْسَلَهَا فِيهِ كَانَ ضَامِنًا لِمَا تَلِفَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُوَ أَوْقَفَهَا وَلَا أَرْسَلَهَا فِيهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا دَابَّةٌ مُنْفَلِتَةٌ فَجُرْحُهَا هَدَرٌ وَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ مَعَ أَنَّهُ يُنْكِرُ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ فِي الْمَوْضِعِ الْمُعَدِّ لِإِيقَافِ الدَّوَابِّ إذَا سَارَ عَلَى دَابَّتِهِ فِيهِ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا لِلنَّفْحَةِ بِالرِّجْلِ وَالذَّنَبِ لِأَنَّ هَذَا جُزْءٌ مِنْ الطَّرِيقِ كَسَائِرِ أَجْزَاءِ الطَّرِيقِ فَالسَّيْرُ فِيهِ يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ فِيمَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ دُونَ مَا لَا يُمْكِنُ فَإِذَا أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ أَرْسَلَهَا فَهُوَ يُنْكِرُ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي ذَلِكَ فَكَانَ الْقَوْلُ فِيهِ قَوْلَهُ مَعَ يَمِينِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : وَإِذَا جَنَى الْعَبْدُ جِنَايَةً خَطَأً فَمَوْلَاهُ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ دَفَعَهُ بِهَا وَإِنْ شَاءَ فَدَاهُ بِالْأَرْشِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ جِنَايَتُهُ تَكُونُ دَيْنًا فِي رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهِ إلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْمَوْلَى دَيْنَهُ وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : يُخَيَّرُ الْمَوْلَى فِي خَطَأِ عَبْدِهِ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ وَمَذْهَبُهُ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَإِنَّهُمَا قَالَا : عَبِيدُ النَّاسِ أَمْوَالُهُمْ وَجِنَايَتُهُمْ فِي قِيَمِهِمْ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِالْقِيمَةِ الثَّمَنَ ، وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ هَذَا فِعْلٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ فَإِذَا تَحَقَّقَ مِنْ الْعَبْدِ كَانَ الضَّمَانُ الْوَاجِبُ بِهِ دَيْنًا فِي رَقَبَتِهِ يُبَاعُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ اسْتِهْلَاكِ الْأَمْوَالِ وَهَذَا لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا عَاقِلَةَ لَهُ وَضَمَانُ الْجِنَايَةِ فِي حَقِّ مَنْ لَا عَاقِلَةَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الْمَالِ فَيَكُونُ وَاجِبًا فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ وَيَكُونُ شَاغَلَا لِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ فَيُبَاعُ فِيهِ إلَّا أَنْ يَقْضِيَ الْمَوْلَى دَيْنَهُ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالْجِنَايَةِ عَلَى النُّفُوسِ نَفْسُ الْجَانِي إذَا أَمْكَنَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ فِي جِنَايَةِ الْعَمْدِ الْمُسْتَحَقُّ نَفْسُ الْجَانِي قِصَاصًا حُرًّا أَوْ عَبْدًا فَكَذَلِكَ فِي الْخَطَأِ إلَّا أَنَّ اسْتِحْقَاقَ النَّفْسِ نَوْعَانِ : أَحَدُهُمَا بِطَرِيقِ الْإِتْلَافِ عُقُوبَةً وَالْآخَرُ بِطَرِيقِ التَّمَلُّكِ عَلَى وَجْهِ الْجُبْرَانِ وَالْحُرُّ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَسْتَحِقَّ فِيهِ بِطَرِيقِ الْعُقُوبَةِ لَا بِطَرِيقِ التَّمْلِيكِ وَالْعَبْدُ مِنْ أَهْلِ أَنْ يَسْتَحِقَّ نَفْسَهُ بِالطَّرِيقَيْنِ جَمِيعًا فَيَكُونُ الْعَبْدُ مُسَاوِيًا لِلْحُرِّ فِي حَالَةِ الْعَمْدِ وَيَكُونُ مُفَارِقًا لَهُ فِي حَالَةِ الْخَطَأِ لِأَنَّ عُذْرَ الْخَطَأِ لَا يَمْنَعُ اسْتِحْقَاقَ نَفْسِهِ تَمْلِيكًا وَالسَّبَبُ يُوجِبُ الْحُكْمَ فِي مَحَلِّهِ وَفِي حَقِّ الْحُرِّ لَمْ يُصَادِفْ مَحَلَّهُ وَفِي حَقِّ الْعَبْدِ السَّبَبُ صَادَفَ مَحَلَّهُ فَيَكُونُ
مُقَيَّدًا حُكْمُهُ وَهُوَ أَنَّ نَفْسَهُ صَارَتْ مُسْتَحِقَّةً لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ تَمْلِيكًا لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى الصِّيَانَةِ عَنْ الْهَدَرِ إلَّا أَنْ يَخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ فَيَكُونُ لَهُ ذَلِكَ لَا مَقْصُودَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ يَحْصُلُ بِهِ وَبَدَلُ الْمُتْلَفِ يَصِلُ إلَيْهِ بِكَمَالِهِ بِخِلَافِ إتْلَافِ الْمَالِ فَالْمُسْتَحَقُّ بِهِ بَدَلُ الْمُتْلَفِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُتْلِفِ وَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ بَدَلَ الْمُتْلَفِ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُتْلِفِ وَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ نَفْسَ الْمُتْلَفِ بِحَالٍ وَالطَّرِيقُ الثَّانِي أَنَّ مُوجِبَ جِنَايَةِ الْخَطَأِ يَتَبَاعَدُ عَنْ الْجَانِي لِكَوْنِهِ مَعْذُورًا فِي ذَلِكَ وَيَكُونُ الْخَطَأُ مَوْضُوعًا شَرْعًا وَيَتَعَلَّقُ بِأَقْرَبِ النَّاسِ لِإِظْهَارِ صِيَانَةِ الْمَحَلِّ الْمُحْتَرَمِ وَالتَّخْفِيفِ عَلَى الْمُخْطِئِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ فِي حَقِّ الْحُرِّ تَجِبُ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِهَذَا الْمَعْنَى فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْعَبْدِ إلَّا أَنَّ عَاقِلَةَ الْعَبْدِ مَوْلَاهُ لِأَنَّ الْحُرَّ مُسْتَنْصِرٌ بِعَاقِلَتِهِ وَمُزَادٌ قُوَّةً وَجُرْأَةً بِهِمْ كَمَا أَنَّ الْمَمْلُوكَ يَسْتَنْصِرُ بِمَوْلَاهُ فَيَجِبُ ضَمَانُ جِنَايَتِهِ عَلَى الْمَوْلَى إلَّا أَنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يَقُولَ : إنَّمَا لَحِقَنِي هَذَا الْبَلَاءُ بِسَبَبِ مِلْكِي فِيهِ فَلِي أَنْ أَتَخَلَّصَ عَنْهُ بِنَقْلِ مِلْكِي فِيهِ إلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ فَأَدْفَعُهُ بِالْجِنَايَةِ فَإِذَا دَفَعَهُ صَارَ كَأَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ هُوَ الْمَالِكُ فَلَا يَجِبُ شَيْءٌ آخَرُ عَلَيْهِ بِالْجِنَايَةِ وَإِذَا لَمْ يَدْفَعْهُ كَانَ الرَّدُّ عَلَيْهِ بِخِلَافِ ضَمَانِ الْمَالِ فَإِنَّهُ يَجِبُ فِي ذِمَّةِ الْمُتْلِفِ وَلَا يُخَاطَبُ غَيْرُهُ كَمَا فِي حَقِّ الْحُرِّ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ : لَا شَيْءَ عَلَى الْمَوْلَى فِي ذَلِكَ حَتَّى يَظْهَرَ حَالُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا لِجِنَايَةِ الْعَبْدِ بِجِنَايَةِ الْحُرِّ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا يَتَأَتَّى فِي جِنَايَةِ الْحُرِّ لِأَنَّ مُوجِبَهَا يَخْتَلِفُ بِالسِّرَايَةِ وَعَدَمِ السِّرَايَةِ فَلَا يَصِيرُ ذَلِكَ مَعْلُومًا قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ
وَالْقَضَاءُ بِالْمَجْهُولِ غَيْرُ مُمْكِنٍ ثُمَّ الْوَاجِبُ هَاهُنَا الدَّفْعُ أَوْ الْفِدَاءُ وَالْمَوْلَى يُخَيَّرُ فِي ذَلِكَ وَاخْتِلَافُهُ بِالْبُرْءِ وَالسِّرَايَةِ وَالْخَطَأِ وَالْعَمْدِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ مَا لَمْ يَبْلُغْ النَّفْسَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا قِصَاصَ بَيْنَ الْعَبِيدِ وَالْأَحْرَارِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَيَكُونُ مُوجِبُ جِنَايَتِهِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ الْمَالُ بِكُلِّ حَالٍ فَلِهَذَا كَانَ الْعَمْدُ وَالْخَطَأُ فِيهِ سَوَاءً فَإِذَا بَلَغَ النَّفْسَ وَهُوَ عَمْدٌ فَفِيهِ الْقِصَاصُ وَوُجُوبُ الْقِصَاصِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ نَفْسٌ مُخَاطَبَةٌ وَالْمَمْلُوكُ فِي ذَلِكَ كَالْحُرِّ وَالْمُسْتَحَقُّ بِالْقِصَاصِ دَمُهُ وَالْمَمْلُوكُ فِي حُكْمِ الدَّمِ مُبْقَى عَلَى الْحُرِّيَّةِ وَلِهَذَا اسْتَحَقَّ الْمَوْلَى عَلَيْهِ الْقِصَاصَ إذَا تَقَرَّرَ سَبَبُهُ كَمَا يَسْتَحِقُّ غَيْرُهُ وَالصَّغِيرُ مِنْ الْجِرَاحَاتِ فِي ذَلِكَ وَالْكَبِيرُ سَوَاءٌ عَلَى الْحُرِّ وَالْمَمْلُوكِ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى بِمَنْزِلَةِ الْمَوْجُودِ مِنْ الْحُرِّ فَكَمَا أَنَّ هُنَاكَ لَا يَتْلَفُ مُوجِبُ الْجِنَايَةِ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ فَكَذَلِكَ بِجِنَايَةِ الْعَبْدِ .
.
وَلَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ شَيْئًا مِنْ جِنَايَةِ الْعَبْدِ وَالْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالْجِنَايَةِ نَفْسُهُ وَنَفْسُهُ غَيْرُ مَمْلُوكَةٍ لِلْعَاقِلَةِ وَالْمَوْلَى وَلِأَنَّ الْمَوْلَى فِي كَوْنِهِ مُخَاطَبًا بِجِنَايَةِ الْعَبْدِ بِمَنْزِلَةِ الْعَاقِلَةِ وَلَا يَتَحَمَّلُ غَيْرُ الْعَاقِلَةِ عَوَاقِلَهُمْ فَكَذَلِكَ لَا يَتَحَمَّلُ جِنَايَةَ الْعَبْدِ عَاقِلَةُ مَوْلَاهُ بَلْ سَبَبُ وُجُوبِ ذَلِكَ عَلَى الْمَوْلَى مِلْكُهُ رَقَبَتَهُ وَكَسْبَهُ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِذَلِكَ دُونَ عَوَاقِلِهِ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَوْلَى مُوجِبُ جِنَايَةِ الْمُكَاتَبِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ كَسْبَهُ بَلْ الْمُكَاتَبُ أَحَقُّ بِمَكَاسِبِهِ فَيَكُونُ مُوجِبُ جِنَايَتِهِ عَلَيْهِ دُونَ مَوْلَاهُ وَالْمُسْتَسْعَى فِي بَعْضِ قِيمَتِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَالْمُكَاتَبِ .
فَأَمَّا جِنَايَةُ الْعَبْدِ عَلَى الْحَيَوَانِ وَالْعُرُوضِ فَتَكُونُ دَيْنًا فِي عُنُقِهِ تُقْضَى مِنْ كَسْبِهِ أَوْ يُبَاعُ فِيهَا وَكَذَلِكَ لَوْ وَطِئَ امْرَأَةً مُكْرَهَةً فَذَلِكَ دَيْنٌ فِي عُنُقِهِ يُبَاعُ فِيهِ لِأَنَّ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ مِمَّا يُمْلَكُ بِالْعَقْدِ سَوَاءٌ كَانَ فِي حُكْمِ الْمَنْفَعَةِ أَوْ فِي حُكْمِ الْعَيْنِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُلْتَزِمُ بِذَلِكَ حُرًّا كَانَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ دُونَ عَوَاقِلِهِ بِأَنْ وَطِئَ امْرَأَةً بِشُبْهَةٍ أَوْ مُسْتَكْرَهَةً وَسَقَطَ الْحَدُّ لِلشُّبْهَةِ فَكَذَلِكَ الْعَبْدُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ يَكُونُ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَالدَّيْنُ عَلَيْهِ يَكُونُ شَاغِلًا لِمَالِيَّةِ رَقَبَتِهِ وَلَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ كَمَا لَوْ جَنَى عَلَى الْمَمَالِيكِ خَطَأً فِيهَا دُون النَّفْسِ وَإِنْ كَانَ الْجَانِي حُرًّا لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ الْقِصَاصُ بِحَالٍ لِأَنَّ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ الْمُتْلَفُ جُزْءٌ مِنْ الْجِسْمِ وَالْجِسْمُ يَدْخُلُ تَحْتَ الْقَهْرِ وَالِاسْتِيلَاءِ فَيَصِيرُ مَمْلُوكًا مَآلًا فَيَكُونُ إتْلَافُهُ فِي حُكْمِ إتْلَافِ الْمَالِ فَيَجِبُ فِيهِ الضَّمَانُ عَلَى الْمُتْلِفِ بَالِغًا مَا بَلَغَ وَيَكُونُ ذَلِكَ حَالًا فِي مَالِهِ وَلَا تَعْقِلُهُ الْعَاقِلَةُ بِمَنْزِلَةِ إتْلَافِ سَائِرِ الْأَمْوَالِ .
فَإِذَا بَلَغَ النَّفْسَ عَقَلَتْهُ الْعَاقِلَةُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ كَمَا هُوَ أَصْلُهُ وَقَدْ اعْتَبَرَهُ فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ عَلَى مَا بَيَّنَّا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ أَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَعْقِلُ نَفْسَ الْعَبْدِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَاسْتَدَلَّ فِيهِ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ { : وَلَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا } وَالْمُرَادُ أَنَّ نَفْسَ الْعَبْدِ لَا تَعْقِلُهَا الْعَاقِلَةُ وَهَذَا لِأَنَّ الْعَبْدَ يَحِلُّ لِلتَّمَلُّكِ بِالْعَقْدِ فَمَا يَجِبُ مِنْ الضَّمَانِ بِإِتْلَافِهِ يَكُونُ عَلَى الْمُتْلِفِ فِي مَالِهِ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ الْقِيمَةُ الْوَاجِبَةُ بِإِتْلَافِ نَفْسِ الْعَبْدِ بِمَنْزِلَةِ الدِّيَةِ الْوَاجِبَةِ بِإِتْلَافِ نَفْسِ الْحُرِّ وَذَلِكَ عَلَى الْعَاقِلَةِ مُؤَجَّلًا فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَهَذَا مِثْلُهُ وَهَذَا لِأَنَّ مَعْنَى النَّفْسِيَّةِ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْقَهْرِ فَلَا يَتَنَاوَلُهَا الْمُلَّك بَلْ الْعَبْدُ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ يَتَعَلَّقُ الْقِصَاصُ بِقَتْلِهِ عَمْدًا كَمَا يَتَعَلَّقُ بِقَتْلِ الْحُرِّ وَكَذَلِكَ الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَأِ وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِصَاصِ وَلَا كَفَّارَةً فِي ضَمَانِ الْأَمْوَالِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَالَ وَاجِبٌ هَاهُنَا بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ الْمَالَ لَا يَكُونُ مَثَلًا لِمَا لَيْسَ بِمَالِ وَمَا لَا يَكُونُ مَمْلُوكًا مِنْ الْآدَمِيِّ لَا يَكُونُ مَالًا وَإِنَّمَا وُجُوبُ الْمَالِ بِقَوْلِهِ { وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } إلَّا أَنَّ هَذِهِ الدِّيَةَ فِي حَقِّ الْعَبْدِ الْقِيمَةُ وَفِي حَقِّ الْحُرِّ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ كَمَا بَيَّنَهُ الشَّرْعُ وَالدِّيَةُ تَجِبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ مُؤَجَّلَةً فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فِي حَالَةِ الْخَطَأِ وَبِهَذَا الْمَعْنَى خَالَفَ النَّفْسَ مَا دُونَ النَّفْسِ لِأَنَّ مَا دُونَ النَّفْسِ لَا مَدْخَلَ فِيهِ لِلْكَفَّارَةِ وَالْقِصَاصِ وَتَأْوِيلُ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَعْقِلُ جِنَايَةَ الْعَبْدِ عَلَى نَفْسِ الْعَبْدِ وَبِهِ نَقُولُ ثُمَّ الْوَاجِبُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ الْمَمْلُوكِ