كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي

وَيُنْقِصُ مِنْ مَالِ الْآخَرِ ، فَقَدْ تَعَذَّرَ قِسْمَةُ الثَّمَنِ عَلَى قِيمَةِ مِلْكِهِمَا وَقْتَ الْخَلْطِ ؛ لِتَيَقُّنِنَا بِزِيَادَةِ مِلْكُ أَحَدِهِمَا ، وَنُقْصَانِ مِلْكِ الْآخَرِ ، فَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ وَقْتَ الْقِسْمَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ عِنْدَ الْخَلْطِ مِلْك كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ، فَيُجْعَلُ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْدَ الْخَلْطِ كَالْبَاقِي فِي الْمِثْلِ إلَى وَقْتِ الْقِسْمَةِ ، فَيُقَسَّمُ الثَّمَنُ عَلَى مَا هُوَ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَخْلِطْهُ ؛ لِأَنَّ تَقْوِيمَ مِلْكِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقْتَ الْبَيْعِ .

( قَالَ ) فَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا أَلْفُ دِرْهَمٍ وَلِلْآخِرِ مِائَةُ دِينَارٍ فَخُلِطَا أَوْ لَمْ يُخْلَطَا ؛ فَهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّهُمَا لَا يَخْتَلِطَانِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ خَلْطَ الْمَالَيْنِ فِي النُّقُودِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِصِحَّةِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ ، فَأَيُّهُمَا هَلَكَ هَلَكَ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ عَلَى مِلْكِهِ بَعْدَ عَقْدِ الشَّرِكَةِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمِينٌ فِي رَأْسِ مَالِ صَاحِبِهِ سَوَاءٌ هَلَكَ فِي يَدِهِ أَوْ فِي يَدِ صَاحِبِهِ ؛ يَكُونُ هَلَاكُهُ عَلَيْهِ .
ثُمَّ الشَّرِكَةُ تَبْطُلُ بِهَلَاكِ أَحَدِ الْمَالَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالشَّرِكَةِ التَّصَرُّفُ بِهَا ، لَا عَيْنُهَا .
فَإِذَا اعْتَرَضَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ مَا لَوْ اقْتَرَنَ بِالْعَقْدِ كَانَ مَانِعًا مِنْ الْعَقْدِ ، فَكَذَلِكَ إذَا اعْتَرَضَ يَكُونُ مُبْطِلًا كَالتَّخَمُّرِ فِي الْعَصِيرِ الْمُشْتَرَى قَبْلَ الْقَبْضِ ، وَالْكَسَادِ فِي الْفُلُوسِ .
وَانْعِدَامُ رَأْسِ الْمَالِ لِأَحَدِهِمَا لَوْ اقْتَرَنَ بِالْعَقْدِ كَانَ مَانِعًا ، فَكَذَا إذَا اعْتَرَضَ .
وَالْمُشْتَرَى بِالْمَالِ الْبَاقِي بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ لِصَاحِبِهِ خَاصَّةً ، هَكَذَا يَقُولُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ .
وَفِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ يَقُولُ : إذَا اشْتَرَى الْآخَرُ بِمَالِهِ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرَى عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ مَا نَقَدَ مِنْ الثَّمَنِ ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْجَوَابُ لِاخْتِلَافِ الْمَوْضُوعِ .
فَحَيْثُ قَالَ : يَكُونُ الْبَاقِي مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ خَاصَّةً ، وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا أَطْلَقَا الشَّرِكَةَ ؛ فَيَكُونُ الْمُشْتَرَى بِمَالِ أَحَدِهِمَا مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا عِنْدَ الْإِطْلَاقِ مِنْ قَضِيَّةِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ ، وَقَدْ بَطَلَتْ بِهَلَاكِ مَالِ أَحَدِهِمَا ؛ فَيَكُونُ الْآخَرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ .
وَحَيْثُ قَالَ : الْمُشْتَرَى بِمَالٍ آخَرَ ، لَا بَيْنَهُمَا .
وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا إذَا صَرَّحَا عِنْدَ عَقْدِ الشَّرِكَةِ عَلَى أَنَّ مَا اشْتَرَاهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَالِهِ هَذَا يَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا .
وَعِنْدَ

هَذَا التَّصْرِيحِ الشَّرِكَةُ فِي الْمُشْتَرَى مِنْ قَضِيَّةِ الْوَكَالَةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ وَكَّلَ صَاحِبَهُ بِالشِّرَاءِ بِمَالِهِ نَصًّا عَلَى أَنْ يَكُونَ نِصْفُ الْمُشْتَرَى لَهُ .
وَالشَّرِكَةُ وَإِنْ بَطَلَتْ بِهَلَاكِ أَحَدِ الْمَالَيْنِ فَالْوَكَالَةُ بَاقِيَةٌ ؛ فَلِهَذَا كَانَ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى لَهُ النِّصْفَ بِحُكْمِ الْوَكَالَةِ ، وَنَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ، فَيَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ .
وَإِذَا تَأَمَّلْتَ مَوْضُوعَ الْمَسْأَلَةِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَتَبَيَّنُ لَكَ صِحَّةُ الْجَوَابِ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى الْفَرْقِ ، وَمِنْ غَيْرِ تَنَاقُضٍ فِي الْجَوَابِ .

قَالَ : ( فَإِنْ اشْتَرَيَا مَتَاعًا عَلَى الْمَالِ فَنَقَدَا الثَّمَن مِنْ الدَّرَاهِمِ ، ثُمَّ هَلَكَتْ الدَّنَانِيرُ فَإِنَّهَا تَهْلِكُ مِنْ مَالِ صَاحِبِهَا خَاصَّةً ) ؛ لِبَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِالدَّرَاهِمِ ، وَالْمُشْتَرَى بِالدَّرَاهِمِ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمَا ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ كَانَتْ قَائِمَةً بَيْنَهُمَا حِينَ اشْتَرَيَا بِالدَّرَاهِمِ وَصَارَ الْمُشْتَرَى مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا ؛ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِهَلَاكِ الدَّنَانِيرِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَلَكِنْ يَرْجِعُ صَاحِبُ الدَّرَاهِمِ عَلَى صَاحِبِ الدَّنَانِيرِ مِنْ ثَمَنِ الْمَتَاعِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ مِنْ الْمَتَاعِ ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَى ذَلِكَ الْقَدْرَ لَهُ بِوَكَالَتِهِ ، وَنَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ .
وَإِنَّمَا رَضِيَ بِذَلِكَ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ الْآخَرُ بِالدَّنَانِيرِ لَهُمَا ، وَيَنْقُدُ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ .
فَإِذَا فَاتَ ذَلِكَ رَجَعَ بِمَا نَقَدَ مِنْ ثَمَنِ حِصَّتِهِ مِنْ دَرَاهِمِهِ ، ( ثُمَّ ) لَمْ يَذْكُرْ أَنَّ شَرِكَتَهُمَا فِي الْمَتَاعِ الْمُشْتَرَى شَرِكَةُ عَقْدٍ أَوْ شَرِكَةُ مِلْكٍ ، وَفِيهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَالْحَسَنِ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - " فَعِنْدَ مُحَمَّدٍ هِيَ شَرِكَةُ عَقْدٍ حَتَّى إذَا بَاعَهُ أَحَدُهُمَا نَفَذَ بَيْعُهُ فِي الْكُلِّ ، " وَعِنْدَ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ " هِيَ شَرِكَةُ مِلْكٍ حَتَّى لَا يَنْفُذَ بَيْعُ أَحَدِهِمَا إلَّا فِي حِصَّتِهِ ؛ لِأَنَّ شَرِكَةَ الْعَقْدِ قَدْ بَطَلَتْ بِهَلَاكِ الدَّنَانِيرِ كَمَا لَوْ هَلَكَتْ قَبْلَ الشِّرَاءِ بِالدَّرَاهِمِ ، وَإِنَّمَا بَقِيَ مَا هُوَ حُكْمُ الشِّرَاءِ - وَهُوَ الْمِلْكُ - ؛ فَكَانَتْ شَرِكَتُهُمَا فِي الْمَتَاعِ شَرِكَةَ مِلْكٍ .
وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هَلَاكَ الدَّنَانِيرِ كَانَ بَعْدَ حُصُولِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالدَّرَاهِمِ - وَهُوَ الشِّرَاءُ بِهَا - ؛ فَلَا يَكُونُ مُبْطِلًا شَرِكَةَ الْعَقْدِ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ كَمَا لَوْ كَانَ الْهَلَاكُ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِالْمَالَيْنِ جَمِيعًا .

قَالَ : ( فَإِنْ اشْتَرَيَا بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ جَمِيعًا مَتَاعًا فَالْمَتَاعُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمَا ) .
وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي شَرْطِ الرِّبْحِ يُعْتَبَرُ قِيمَةُ رَأْسِ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقْتَ عَقْدِ الشَّرِكَةِ ، وَفِي وُقُوعِ الْمِلْكِ لِلْمُشْتَرِي يُعْتَبَرُ قِيمَةُ رَأْسِ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقْتَ الشِّرَاءِ ، وَفِي ظُهُورِ الرِّبْحِ فِي نَصِيبِهِمَا أَوْ فِي نَصِيبِ أَحَدِهِمَا يُعْتَبَرُ قِيمَةُ رَأْسِ الْمَالِ وَقْتَ الْقِسْمَةِ ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَحْصُلْ رَأْسُ الْمَالِ لَا يَظْهَرُ الرِّبْحُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ الْجَامِعِ .

قَالَ : ( وَإِنْ اشْتَرَيَا بِالْأَلْفِ مَتَاعًا ، ثُمَّ اشْتَرَيَا بَعْدَ ذَلِكَ بِالدَّنَانِيرِ مَتَاعًا ، فَوَضَعَا فِي أَحَدِ الْمَتَاعَيْنِ وَرَبِحَا فِي الْآخَرِ ، فَذَلِكَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمَا ) ؛ لِأَنَّ الْوَضِيعَةَ هَلَاكُ جُزْءٍ مِنْ الْمَالِ ، وَالرِّبْحُ كَالْمَالِ ، فَيَكُونُ عَلَى قَدْرِ رَأْسِ الْمَالِ مَا لَمْ يُغَيَّرْ ذَلِكَ بِشَرْطٍ صَحِيحٍ .
( وَكَذَلِكَ ) رَجُلَانِ اشْتَرَيَا مَتَاعًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَكُرِّ حِنْطَةٍ عَلَى أَنَّ لِأَحَدِهِمَا مِنْ الْمَتَاعِ بِحِصَّةِ الْأَلْفِ ، وَلِلْآخَرِ بِحِصَّةِ الْكُرِّ ، وَدَفَعَا الثَّمَنَ ، فَهَذَا الشَّرْطُ مُعْتَبَرٌ ؛ لِمُقْتَضَى مُطْلَقِ السَّبَبِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الشِّرَاءِ يَكُونُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ مِنْ الْمُبْدَلِ بِقَدْرِ مَا نَقَدَهُ مِنْ الْبَدَلِ .
( وَكَذَلِكَ ) لَوْ اشْتَرَيَا مَتَاعًا بِكُرِّ حِنْطَةٍ وَكُرِّ شَعِيرٍ ، فَكَالَ أَحَدُهُمَا كُرَّ حِنْطَةٍ عَلَى أَنَّ لَهُ مِنْ الْمَتَاعِ بِحِصَّتِهِ ، وَكَالَ الْآخَرُ الشَّعِيرَ عَلَى أَنَّ لَهُ مِنْ الْمَتَاعِ بِحِصَّتِهِ ، ثُمَّ بَاعَا ذَلِكَ بِدَرَاهِمَ ؛ فَإِنَّهُمَا يَقْتَسِمَانِ الثَّمَنَ عَلَى قِيمَةِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ يَوْمَ يَقْتَسِمَانِ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ ، قَالَ عِيسَى رَحِمَهُ اللَّهُ : هَذَا غَلَطٌ ، وَالصَّوَابُ أَنْ يَقْتَسِمَا ذَلِكَ عَلَى الْقِيمَةِ يَوْمَ الشِّرَاءِ ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فِي وُقُوعِ الْمِلْكِ فِي الْمُشْتَرَى يُعْتَبَرُ قِيمَةُ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَوْمَ الشِّرَاءِ .
فَإِنَّمَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْمَتَاعِ الْمُشْتَرَى بِقَدْرِ رَأْسِ مَالِهِ عِنْدَ الشِّرَاءِ .
ثُمَّ إذَا بَاعَ ذَلِكَ فَثَمَنُ حِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَكُونُ لَهُ كَمَا فِي الْعُرُوضِ لَوْ اشْتَرَيَا مَتَاعًا بِعَرَضَيْنِ أَحْضَرَاهُمَا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَرَضٌ ، ثُمَّ بَاعَا ذَلِكَ الْمَتَاعَ بِدَرَاهِمَ اقْتَسَمَا الثَّمَنَ عَلَى قِيمَةِ عَرَضِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقْتَ الشِّرَاءِ بِهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ تَأْوِيلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُمَا بَاعَا الْمَتَاعَ مُرَابَحَةً ،

فَحِينَئِذٍ الثَّمَنُ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ فَيُقَسَّمُ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ رَأْسِ مَالِهِمَا وَقْتَ الْقِسْمَةِ بِخِلَافِ الْعُرُوضِ ؛ فَإِنَّ الْمُشْتَرَى بِالْعُرُوضِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مُرَابَحَةً إنَّمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمُرَابَحَةِ فِي الْمُشْتَرَى بِمَالِهِ مِثْلٌ مِنْ جِنْسِهِ ، فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى قَدْرِ قِيمَةِ الْعُرُوضِ وَقْتَ الشِّرَاءِ بِهَا ، وَلَكِنَّ هَذَا التَّأْوِيلَ بَعِيدٌ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ : ثُمَّ بَاعَا ذَلِكَ بِدَرَاهِمَ ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى حُكْمِ بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ بَعْدَ هَذَا .

فَقَالَ : إذَا اشْتَرَيَا بِالْمَكِيلِ ، وَالْمَوْزُونِ ، وَبَاعَاهُ مُرَابَحَةً اسْتَوْفَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَأْسَ مَالِهِ الَّذِي كَالَهُ ، أَوْ وَزَنَهُ ، ثُمَّ اقْتَسَمَا الرِّبْحَ عَلَى قِيمَةِ رَأْسِ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إنْ بَاعَاهُ مُرَابَحَةً بِمَالٍ مُسَمًّى ، وَإِنْ بَاعَاهُ بِرِبْحِ عَشَرَةِ أَحَدَ عَشَرَ ، كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَأْسُ مَالِهِ ، وَحِصَّتُهُ مِنْ الرِّبْحِ عَلَى مَا بَاعَا لِأَنَّهُمَا إذَا بَاعَا بِرِبْحِ عَشَرَةِ أَحَدَ عَشَرَ ، فَالرِّبْحُ مِنْ جِنْسِ أَصْلِ رَأْسِ الْمَالِ بِصِفَتِهِ ، وَإِذَا بَاعَاهُ مُرَابَحَةً بِمَالٍ مُسَمًّى ، فَالرِّبْحُ مَبْنِيٌّ عَلَى الثَّمَنِ الْأَوَّلِ فَيُقَسَّمُ عَلَى قِيمَةِ رَأْسِ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا .
بَيَانُ هَذَا فِيمَا قَالَ فِي كِتَابِ الْمُضَارَبَةِ : لَوْ اشْتَرَى شَيْئًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، نَقْدِ بَيْتِ الْمَالِ ، ثُمَّ بَاعَهُ مُرَابَحَةً بِرِبْحِ مِائَةِ دِرْهَمٍ ، فَالرِّبْحُ الْغَلَّةُ ، وَلَوْ بَاعَهُ بِرِبْحِ عَشَرَةِ أَحَدَ عَشَرَ ، فَالرِّبْحُ مِنْ نَقْدِ بَيْتِ الْمَالِ كَأَصْلِ الثَّمَنِ .
وَبِهَذَا الْفَصْلِ يَتَبَيَّنُ ضَعْفُ التَّأْوِيلِ الَّذِي قُلْنَا فِي مَسْأَلَةِ الطَّعْنِ ؛ فَإِنَّهُ قَالَ هُنَاكَ : يَقْتَسِمَانِ الثَّمَنَ عَلَى قِيمَةِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ يَوْمَ يَقْتَسِمَانِ ، فَاعْتُبِرَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ الثَّمَنُ دُونَ الرِّبْحِ .
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَاَلَّذِي تَخَايَلَ لِي بَعْدَ التَّأَمُّلِ فِي تَصْحِيحِ جَوَابِ الْكِتَابِ أَنَّهُ بُنِيَ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَنَّ شَرِكَةَ الْعَقْدِ بِالْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ ثَبَتَتْ عِنْدَ خَلْطِ الْمَالِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا إلَّا أَنَّ الْخَلْطَ إذَا كَانَ فِي أَصْلِ رَأْسِ الْمَالِ يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ بِاتِّحَادِ الْجِنْسِ ، وَخِلَافِ الْجِنْسِ ؛ لِأَنَّ تَمَامَ الِاخْتِلَاطِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ .
فَأَمَّا الْخَلْطُ هُنَا بِاعْتِبَارِ الْمُشْتَرَى .
وَالْمُشْتَرَى مُخْتَلَطٌ بَيْنَهُمَا - سَوَاءٌ اتَّفَقَ جِنْسُ رَأْسِ الْمَالِ أَوْ اخْتَلَفَ - فَكَانَ الْمُشْتَرَى مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا شَرِكَةَ عَقْدٍ ، وَرَأْسُ مَالِ

كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا أَدَّاهُ ، وَهُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ ؛ فَيَجِبُ تَحْصِيلُهُ عِنْدَ الْقِسْمَةِ .
فَلِهَذَا قَالَ : يُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ يَوْمَ يَقْتَسِمَانِ بِخِلَافِ الْعُرُوضِ ؛ فَإِنَّ شَرِكَةَ الْعَقْدِ لَا تَثْبُتُ بِالْعُرُوضِ بِحَالٍ ، وَلَا يَكُونُ حَقُّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مِثْلِ عَرَضِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مِثْلَ لَهُ ، فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ قِيمَةَ عَرَضِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقْتَ الشِّرَاءِ .

قَالَ : ( وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَعْطَى رَجُلًا دَنَانِيرَ مُضَارَبَةً فَعَمِلَ بِهَا ، ثُمَّ أَرَادَا الْقِسْمَةَ كَانَ لِرَبِّ الْمَالِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ دَنَانِيرَ ، أَوْ يَأْخُذَ مِنْ الْمَالِ بِقِيمَتِهَا يَوْمَ يَقْتَسِمُونَ ) ؛ لِأَنَّ الْمُضَارِبَ شَرِيكٌ فِي الرِّبْحِ ، وَلَا يَظْهَرُ الرِّبْحُ إلَّا بَعْدَ وُصُولِ كَمَالِ رَأْسِ الْمَالِ إلَى رَبِّ الْمَالِ إمَّا بِاعْتِبَارِ الْعَيْنِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْقِيمَةِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي إظْهَارِ الرِّبْحِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ قِيمَةُ رَأْسِ الْمَالِ فِي وَقْتِ الْقِسْمَةِ .
وَإِنَّمَا أَوْرَدَ فَصْلَ الْمُضَارَبَةِ لِإِيضَاحِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الشَّرِكَةِ .
قَالَ : ( وَيَنْبَغِي لِمَنْ خَالَفَ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ : يَأْخُذُ قِيمَتَهَا يَوْمَ أَعْطَاهُ ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَنْ الْمُخَالِفُ قَبْلَ الْمُخَالَفِ ) زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : لَا يَجُوزُ شَرِكَةُ الْعَقْدِ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ ؛ لِاخْتِلَافِ جِنْسِ رَأْسِ الْمَالِ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ مِلْكِ الْمُشْتَرِي بِقَدْرِ مَا أَعْطَى مِنْ مَالِهِ ؛ فَلِهَذَا يُعْتَبَرُ قِيمَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقْتَ الْإِعْطَاءِ .

وَفِي النَّوَادِرِ : لَوْ دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يَعْمَلَ بِهَا عَلَى أَنَّ لَهُ رِبْحَهَا ، وَعَلَيْهِ الْوَضِيعَةَ ، فَهَلَكَتْ قَبْلَ الشِّرَاءِ ، فَالْقَابِضُ ضَامِنٌ لَهَا ؛ لِأَنَّ الْمُعْطِيَ مُقْرِضُ الْمَالِ مِنْهُ حِينَ شَرَطَ أَنَّ الرِّبْحَ كُلَّهُ لَهُ وَالْوَضِيعَةَ عَلَيْهِ ، فَهُوَ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ يَعْمَلُ بِهَا لِنَفْسِهِ ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ الْإِقْرَاضِ .
وَالْقَبْضُ بِحُكْمِ الْقَرْضِ قَبْضُ ضَمَانٍ ، وَلَوْ قَالَ : اعْمَلْ بِهَا عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَنَا وَالْوَضِيعَةَ بَيْنَنَا ، فَهَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ بِهَا ؛ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ " فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ " ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْعَمَلِ بِهَا عَلَى وَجْهِ الشَّرِكَةِ .
وَالْمَالُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الشَّرِيكِ ، وَثُبُوتُ حُكْمِ الْقَرْضِ فِي النِّصْفِ هُنَا بِمُقْتَضَى الشِّرَاءِ ؛ لِأَنَّهُ فِي النِّصْفِ يَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ ، فَمَا يُنْقَدُ فِيهِ الثَّمَنُ يَكُونُ قَرْضًا عَلَيْهِ ؛ فَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ قَبْلَ الشِّرَاءِ ، " وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ " هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ .
فَإِذَا هَلَكَتْ قَبْلَ الشِّرَاءِ بِهَا فَعَلَيْهِ ضَمَانُ نِصْفِهَا لِلْمُعْطَى - اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ - ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ شَرَطَ الْوَضِيعَةَ عَلَيْهِ فِي النِّصْفِ ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِطَرِيقِ الْإِقْرَاضِ ؛ فَإِنَّ الْمُضَارِبَ لَيْسَ عَلَيْهِ مِنْ الْوَضِيعَةِ شَيْءٌ ، فَجَعَلْنَاهُ مُقْرِضًا نِصْفَ الْمَالِ مِنْهُ ، وَضَمَانُ الْقَرْضِ يَثْبُتُ بِالْقَرْضِ .

قَالَ : ( وَإِذَا جَاءَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ فَاشْتَرَكَا بِهَا وَخَلَطَاهَا ، كَانَ مَا هَلَكَ مِنْهَا هَالِكًا مِنْهُمَا ، وَمَا بَقِيَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا ) ؛ لِأَنَّ الْمَخْلُوطَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا ، وَمَا يَهْلِكُ مِنْ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ يَهْلِكُ عَلَى الشَّرِكَةِ ؛ إذْ لَيْسَ صَرْفُ الْهَالِكِ إلَى نَصِيبِ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ صَرْفِهِ إلَى نَصِيبِ الْآخَرِ إلَّا أَنْ يُعْرَفَ شَيْءٌ مِنْ الْهَالِكِ أَوْ الْبَاقِي مِنْ مَالِ أَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ ؛ فَيَكُونَ ذَلِكَ لَهُ وَعَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَاطَ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ لَمْ يَتَحَقَّقْ .
وَإِنَّمَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ مَالُ أَحَدِهِمَا صِحَاحًا ، وَالْآخَرُ مَكْسُورًا ، فَمَا كَانَ بَاقِيًا مِنْ الصِّحَاحِ يُعْلَمُ أَنَّهُ مِلْكُ صَاحِبِهَا ، وَالْحَالُ فِي هَذَا قَبْلَ الِاخْتِلَاطِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ .
فَأَمَّا إذَا لَمْ يُعْرَفْ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الْهَالِكَ وَالْقَائِمَ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ مَا اخْتَلَطَ مِنْ رُءُوسِ أَمْوَالِهِمَا لِيَتَحَقَّقَ الِاخْتِلَاطُ فِي ذَلِكَ .

قَالَ : ( وَإِذَا اشْتَرِكَا بِغَيْرِ رَأْسِ مَالٍ عَلَى أَنَّ مَا اشْتَرَيَا مِنْ الرَّقِيقِ بَيْنَهُمَا ، فَهَذَا جَائِزٌ ) .
وَهَذَا يُفْسِدُ شَرِكَةَ الْوُجُوهِ فِي الرَّقِيقِ خَاصَّةً .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ شَرِكَةَ الْوُجُوهِ تَكُونُ مُفَاوَضَةً تَارَةً ، وَعَنَانًا أُخْرَى ، وَالْعَنَانُ مِنْهَا يَكُونُ عَامًّا وَخَاصًّا ، كَالْعَنَانِ فِي الشَّرِكَةِ بِالْمَالِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ جَوَازَهَا بِاعْتِبَارِ الْوَكَالَةِ ، وَالتَّوْكِيلُ بِشِرَاءِ نَوْعٍ خَاصٍّ صَحِيحٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَا فِي هَذَا الشَّهْرِ لِأَنَّهُ تَوْقِيتٌ فِي التَّوْكِيلِ ، وَالْوَكَالَةُ تَقْبَلُ التَّخْصِيصَ فِي الْوَقْتِ وَالْعَمَلِ جَمِيعًا .

قَالَ : ( فَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا قَدْ اشْتَرَيْت مَتَاعًا فَهَلَكَ مِنِّي ، وَطَالَبَ شَرِيكَهُ بِنِصْفِ ثَمَنِهِ لَمْ يَصْدُقْ عَلَى شَرِيكِهِ بِذَلِكَ الْقَدْرِ ) ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلُ صَاحِبِهِ بِالشِّرَاءِ ، إذَا لَمْ يَكُنْ الثَّمَنُ مَدْفُوعًا إلَيْهِ ، فَقَالَ : اشْتَرَيْته وَهَلَكَ فِي يَدِي لَا يَصْدُقُ فِي إلْزَامِ الثَّمَنِ فِي ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ .
بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الثَّمَنُ مَدْفُوعًا إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ أَمِينٌ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي بَرَاءَتِهِ عَنْ الضَّمَانِ ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي إلْزَامِ الدَّيْنِ لِنَفْسِهِ فِي ذِمَّةِ الْمُوَكِّلِ ؛ لِأَنَّهُ فِي ذَلِكَ غَيْرُ أَمِينٍ ، وَلَكِنْ إذَا دَخَلَ فِي مِلْكِهِ ظَاهِرًا مِثْلُ مَا لَزِمَهُ صَحَّ إلْزَامُهُ إيَّاهُ ، وَذَلِكَ بِمُبَاشَرَةِ الشِّرَاءِ لَا بِإِقْرَارِهِ .
فَكَذَلِكَ هُنَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مُبَاشَرَةِ الشِّرَاءِ يَلْزَمُ ذِمَّةَ صَاحِبِهِ مِثْلُ مَا يُدْخِلُهُ فِي مِلْكِهِ ظَاهِرًا ، فَأَمَّا فِي الْإِقْرَارِ لَا يُدْخِلُ شَيْئًا فِي مِلْكِ شَرِيكِهِ ظَاهِرًا ؛ فَلَا يَصْدُقُ فِي إلْزَامِ شَيْءٍ فِي ذِمَّتِهِ .
وَالْقَوْلُ قَوْلُ الشَّرِيكِ لِإِنْكَارِهِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ ، وَإِنَّمَا يَحْلِفُ عَلَى الْعِلْمِ لِأَنَّهُ اسْتِحْلَافٌ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ - وَهُوَ شِرَاءُ الْمُدَّعِي - وَالْحَلِفُ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ يَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ ، كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ الْقَسَامَةِ { : يَحْلِفُ لَكُمْ الْيَهُودُ خَمْسِينَ يَمِينًا بِاَللَّهِ مَا قَتَلُوهُ وَلَا عَلِمُوا لَهُ قَاتِلًا } .
قَالَ : ( وَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الشِّرَاءِ وَالْقَبْضِ ، ثُمَّ ادَّعَى هَلَاكَ الْمَتَاعِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى الْهَلَاكِ ) ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ ، ثُمَّ هُوَ أَمِينٌ فِي الْمَقْبُوضِ مِنْ نَصِيبِ صَاحِبِهِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فِي الْهَلَاكِ مَعَ يَمِينِهِ ، وَيَتْبَعُ شَرِيكَهُ فِي نِصْفِ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ هَلَاكَ الْمُشْتَرَى فِي يَدِ الْوَكِيلِ إذَا لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ الْمُوَكِّلِ

كَهَلَاكِهِ فِي يَدِ الْمُوَكِّلِ .
وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَيَا مَتَاعًا وَقَبَضَاهُ ، ثُمَّ قَبَضَهُ أَحَدُهُمَا لِيَبِيعَهُ ، وَقَالَ قَدْ هَلَكَ ، فَهُوَ مُصَدَّقٌ مَعَ يَمِينِهِ ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ بِالْبَيْعِ فِي نِصْفِ صَاحِبِهِ ، وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ أَمِينٌ فِيمَا فِي يَدِهِ ؛ فَالْقَوْلُ فِي هَلَاكِهِ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ .

قَالَ : ( وَإِذَا اشْتَرَكَا بِغَيْرِ مَالٍ عَلَى أَنَّ مَا اشْتَرَيَاهُ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَلِأَحَدِهِمَا بِعَيْنِهِ ثُلُثَا الرِّبْحِ ، وَلِلْآخَرِ الثُّلُثُ : فَالشَّرِكَةُ جَائِزَةٌ ، وَالشَّرْطُ بَاطِلٌ ) ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ جُزْءًا مِنْ رِبْحِ مِلْكِ صَاحِبِهِ ، وَهُوَ غَيْرُ ضَامِنٍ لِشَيْءٍ مِنْ نَصِيبِ صَاحِبِهِ ، وَقَدْ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رِبْحِ مَا لَمْ يَضْمَنْ .
وَلَكِنَّ أَصْلَ الشَّرِكَةِ لَا تَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ ؛ فَيَجُوزُ بَيْعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا اشْتَرَى ، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ عَلَى قَدْرِ مِلْكِهِمَا فِي الْمُشْتَرَى .

قَالَ : ( وَإِذَا اشْتَرَكَا شَرِكَةَ عَنَانٍ بِأَمْوَالِهِمَا ، أَوْ بِوُجُوهِهِمَا ، فَاشْتَرَى أَحَدُهُمَا مَتَاعًا ، فَقَالَ الشَّرِيكُ الَّذِي لَمْ يَشْتَرِهِ : هُوَ مِنْ شَرِكَتِنَا .
وَقَالَ الْمُشْتَرِي هُوَ لِي خَاصَّةً ، وَإِنَّمَا اشْتَرَيْته بِمَالِي لِنَفْسِي قَبْلَ الشَّرِكَةِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي ) ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ ، وَالْأَصْلُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ أَحَدٍ عَامِلًا لِنَفْسِهِ مَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى عَمَلِهِ لِغَيْرِهِ ، وَلِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ لَهُ فِي الْمُشْتَرَى ظَاهِرٌ ، وَالْآخَرُ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ بَعْضِ مَا فِي يَدِهِ عَلَيْهِ ؛ فَكَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ بِاَللَّهِ مَا هُوَ مِنْ شَرِكَتِنَا .
( فَإِنْ قِيلَ ) : قِيَامُ عَقْدِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِي هَذَا النَّوْعِ دَلِيلٌ ظَاهِرٌ عَلَى أَنَّ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا ، فَهُوَ فِي قَوْلِهِ اشْتَرَيْته قَبْلَ عَقْدِ الشَّرِكَةِ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ تَارِيخًا سَابِقًا فِي الشِّرَاءِ ، وَمِثْلُ هَذَا التَّارِيخِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِحُجَّةٍ .
( قُلْنَا ) : نَعَمْ هَذَا نَوْعٌ ظَاهِرٌ يَشْهَدُ لِلْآخَرِ ، وَلَكِنَّ الظَّاهِرَ حُجَّةٌ لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ ؛ فَلَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ بِهَا .
وَحَاجَةُ الْآخَرِ إلَى إثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ ، فَلَا يَكْفِيهِ الظَّاهِرُ لِذَلِكَ ، فَأَمَّا حَاجَةُ الْمُشْتَرِي إلَى دَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ لِلْآخَرِ عَمَّا فِي يَدِهِ ، فَالظَّاهِرُ يَكْفِيهِ لِذَلِكَ .

قَالَ : ( رَجُلٌ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَشْتَرِيَ عَبْدًا بِعَيْنِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ، فَقَالَ الْمَأْمُورُ : نَعَمْ ، ثُمَّ ذَهَبَ فَاشْتَرَاهُ ، وَأَشْهَدَ أَنَّهُ يَشْتَرِيهِ لِنَفْسِهِ خَاصَّةً : فَالْعَبْدُ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرِكَةِ ) ؛ لِأَنَّهُ وَكِيلٌ مِنْ جِهَةِ الْآخَرِ فِي شِرَاءِ نِصْفِ الْعَبْدِ لَهُ ، وَالْوَكِيلُ لَا يَعْزِلُ نَفْسَهُ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ الْمُوَكِّلِ ، كَمَا أَنَّ الْمُوَكِّلَ لَا يَعْزِلُ وَكِيلَهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ مِنْهُ ؛ لِمَا فِي فِعْلِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْإِلْزَامِ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ ، وَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ عِلْمِهِ - كَخِطَابِ الشَّرْعِ لَا يَلْزَمُ الْمُخَاطَبَ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ - وَلِأَنَّهُ قَصَدَ عَزْلَ نَفْسِهِ هُنَا فِي امْتِثَالِ أَمْرِ الْآمِرِ ، فَإِنَّمَا عَزَلَهُ فِي مُخَالِفَتِهِ أَمْرَهُ لِكَيْ لَا يَنْفُذَ تَصَرُّفُهُ عَلَيْهِ .
فَأَمَّا فِي امْتِثَالِ أَمْرِهِ ، لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْزِلَ نَفْسَهُ .
وَعَلَى هَذَا إذَا اشْتَرَكَا عَلَى أَنَّ مَا اشْتَرَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْيَوْمَ فَهُوَ بَيْنَهُمَا : لَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدُهُمَا الْخُرُوجَ عَنْ الشَّرِكَةِ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلٌ لِصَاحِبِهِ ، وَلَوْ أَشْهَدَ الْمُوَكِّلُ عَلَى إخْرَاجِ الْوَكِيلِ عَمَّا وَكَّلَهُ بِهِ ، وَهُوَ غَيْرُ حَاضِرٍ : لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ .
حَتَّى إذَا تَصَرَّفَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ بِالْعَزْلِ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ عَلَى الْآمِرِ .
فَكَذَلِكَ فِي الشَّرِكَةِ .

قَالَ : ( رَجُلٌ أَمَرَ رَجُلًا أَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ عَبْدًا بِعَيْنِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَأْمُورِ ، فَقَالَ : نَعَمْ .
ثُمَّ لَقِيَهُ آخَرُ فَقَالَ : اشْتَرِ هَذَا الْعَبْدَ بَيْنِي وَبَيْنَك ، فَقَالَ الْمَأْمُورُ : نَعَمْ .
ثُمَّ ذَهَبَ الْمَأْمُورُ فَاشْتَرَى الْعَبْدَ ، فَالْعَبْدُ بَيْنَ الْآمِرَيْنِ نِصْفَيْنِ ، وَلَا شَيْءَ لِلْمُشْتَرِي فِيهِ ) ؛ لِأَنَّ الْآمِرَ الْأَوَّلَ وَكَّلَهُ بِشِرَاءِ نِصْفِهِ لَهُ ، وَقَدْ تَمَّتْ الْوَكَالَةُ بِقَبُولِهِ ، وَصَارَ بِحَالٍ لَا يَمْلِكُ شِرَاءَ ذَلِكَ النِّصْفِ لِنَفْسِهِ ، فَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ شِرَاءَهُ لِإِنْسَانٍ آخَرَ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْلِكُ الشِّرَاءَ لِغَيْرِهِ بِإِذْنِهِ فِيمَا يَمْلِكُ شِرَاءَهُ لِنَفْسِهِ ، وَلَمَّا أَمَرَهُ الثَّانِي بِأَنْ يَشْتَرِيَ الْعَبْدَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ، فَقَدْ أَمَرَهُ بِشِرَاءِ نِصْفِهِ لَهُ ، فَيَنْصَرِفُ هَذَا النِّصْفُ إلَى النِّصْفِ الْآخَرِ غَيْرِ النِّصْفِ الَّذِي قَبِلَ الْوَكَالَةَ فِيهِ مِنْ الْأَوَّلِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ وَإِنْ ذَكَرَ كُلَّ النِّصْفِ مُطْلَقًا ، وَلَكِنَّ مَقْصُودَهُمَا تَصْحِيحُ هَذَا التَّصَرُّفِ ، وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ إلَّا أَنْ يَتَعَيَّنَ فِي الْوَكَالَةِ مِنْ الثَّانِي النِّصْفُ الْآخَرُ ، وَهُوَ نَظِيرُ عَبْدٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ بَاعَ أَحَدُهُمَا نِصْفَهُ مُطْلَقًا ، يَنْصَرِفُ بَيْعُهُ إلَى حِصَّتِهِ خَاصَّةً .
فَهُنَا أَيْضًا يَنْصَرِفُ تَوْكِيلُ الثَّانِي إلَى النِّصْفِ الْآخَرِ خَاصَّةً ؛ فَلِهَذَا يُجْعَلُ مُشْتَرِيًا نِصْفَهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِوَكَالَتِهِ ، وَخَرَجَ مِنْ الْبَيْنِ .

قَالَ : ( رَجُلٌ اشْتَرَى عَبْدًا وَقَبَضَهُ ، فَطَلَبَ إلَيْهِ رَجُلٌ آخَرُ الشَّرِكَةَ ؛ فَأَشْرَكَهُ فِيهِ : فَلَهُ نِصْفُهُ ) ؛ لِأَنَّ الْإِشْرَاكَ تَمْلِيكٌ نِصْفَ مَا مَلَكَ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الَّذِي مَلَكَهُ بِهِ ، وَلَوْ مَلَّكَهُ مِنْهُ جَمِيعَ مَا مَلَكَ بَعْدَ مَا قَبَضَهُ ؛ بِأَنْ وَلَّاهُ الْبَيْعَ : كَانَ صَحِيحًا .
فَكَذَلِكَ إذَا مَلَّكَهُ نِصْفَهُ .
وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ مُطْلَقَ عَقْدِ الشَّرِكَةِ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مِيرَاثِ أَوْلَادِ الْأُمِّ { : فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ .
} اقْتَضَى التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ .
فَلَمَّا قَالَ هُنَا : أَشْرَكْتُك فِيهِ .
فَمَعْنَاهُ سَوِيَّتك بِنَفْسِي ، وَذَلِكَ تَمْلِيكٌ لِلنِّصْفِ مِنْهُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَشْرَكَ رَجُلَيْنِ فِيهِ صَفْقَةً وَاحِدَةً ، كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا ؛ لِأَنَّهُ سَوَّاهُمَا بِنَفْسِهِ ، وَإِنَّمَا تَتَحَقَّقُ التَّسْوِيَةُ إذَا كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا .

قَالَ : ( وَلَوْ اشْتَرَى رَجُلَانِ عَبْدًا فَأَشْرَكَا فِيهِ رَجُلًا ، فَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَ لِلرَّجُلِ نِصْفَهُ ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُشْتَرِيَيْنِ رُبْعَهُ ) ؛ لِأَنَّ الْإِشْرَاكَ تَمْلِيكٌ بِطَرِيقِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُشْتَرِي وَبَيْنَ مَنْ أَشْرَكَ ؛ عَلَى مَا رُوِيَ { أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا اشْتَرَى بِلَالًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ ، فَقَالَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - : أَشْرِكْنِي فِيهِ ، فَقَالَ : قَدْ أَعْتَقْته } .
فَعَرَفْنَا بِهَذَا أَنَّ الْإِشْرَاكَ تَمْلِيكٌ حَتَّى امْتَنَعَ مِنْهُ بِالْإِعْتَاقِ .
وَمُقْتَضَى لَفْظِ الْإِشْرَاكِ التَّسْوِيَةُ ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَارَ مُمَلِّكًا نِصْفَ نَصِيبِهِ مِنْهُ حِينَ سِوَاهُ بِنَفْسِهِ فِي نَصِيبِهِ فَيُجْمَعُ لَهُ نِصْفُ الْعَبْدِ ، وَيَبْقَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُبُعُهُ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ : يَكُونُ لَهُ ثُلُثُهُ ؛ لِأَنَّهُمَا حِينَ أَشْرَكَاهُ فَقَدْ سَوَّيَاهُ بِأَنْفُسِهِمَا فَيَقْتَضِي هَذَا اللَّفْظُ أَنْ يُسَوَّى بَيْنَهُمَا فِي مِلْكِ الْعَبْدِ .
وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إذَا صَارَ لَهُ ثُلُثُ الْعَبْدِ مِنْ جِهَة كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ ، وَيَبْقَى لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثُلُثُهُ .
يُوَضِّحُهُ : أَنَّهُمَا حِينَ أَشْرَكَاهُ فَقَدْ جَعَلَاهُ كَالْمُشْتَرِي لِلْعَبْدِ مَعَهُمَا كَانَ لَهُ ثُلُثُ الْعَبْدِ .

قَالَ : ( وَلَوْ أَشْرَكَهُ أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ فِي نَصِيبِهِ وَنَصِيبِ صَاحِبِهِ ، فَأَجَازَ شَرِيكُهُ ذَلِكَ : كَانَ لِلرَّجُلِ نِصْفُهُ ، وَلِلشَّرِيكَيْنِ نِصْفُهُ ) ؛ لِأَنَّ إشْرَاكَهُ فِي نَصِيبِهِ نَفَذَ فِي الْحَالِ ، وَفِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ تَوَقُّفٌ عَلَى إجَازَةِ الشَّرِيكِ .
وَعِنْدَ الْإِجَازَةِ يَصِيرُ الشَّرِيكُ مُشْرَكًا لَهُ فِي نَصِيبِهِ .
فَكَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَشْرَكَهُ فِي نَصِيبِهِ بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ .
( وَرَوَى ) ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ أَحَدَ الْمُشْتَرِيَيْنِ إذَا قَالَ لِرَجُلٍ أَشْرَكْتُك فِي هَذَا الْعَبْدِ ، فَأَجَازَ شَرِيكُهُ كَانَ الْعَبْدُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي الِانْتِهَاءِ كَالْإِذْنِ فِي الِابْتِدَاءِ ، وَلَوْ أَشْرَكَهُ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ كَانَ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمُجِيزَ صَارَ رَاضِيًا بِالسَّبَبِ لَا مُبَاشِرًا لَهُ .
وَالْحُكْمُ الثَّابِتُ عِنْدَ الْإِجَازَةِ يُسْنَدُ إلَى وَقْتِ الْعَقْدِ ، فَيَصِيرُ كَأَنَّهُمَا أَشْرَكَاهُ مَعًا ، فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا .
قَالَ : ( وَكَذَلِكَ إنْ أَشْرَكَهُ أَحَدُهُمَا فِي نَصِيبِهِ ، وَلَمْ يُسَمِّ فِي كَمْ أَشْرَكَهُ ، ثُمَّ أَشْرَكَهُ الْآخَرُ أَيْضًا فِي نَصِيبِهِ ) ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سِوَاهُ بِنَفْسِهِ فِي نَصِيبِهِ فِي عَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ ، فَيَصِيرُ مُمَلَّكًا نِصْفَ نَصِيبِهِ مِنْهُ .
وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ أَحَدَ الْمُشْتَرِيَيْنِ لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ : أَشْرَكْتُك فِي نِصْفِ هَذَا الْعَبْدِ ، كَانَ مُمَلَّكًا جَمِيعَ نَصِيبِهِ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ قَدْ أَشْرَكْتُك بِنِصْفِ هَذَا .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ كَانَ وَاحِدًا ، فَقَالَ لِرَجُلٍ : قَدْ أَشْرَكْتُك فِي نِصْفِهِ ، كَانَ لَهُ نِصْفُ الْعَبْدِ ، بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : أَشْرَكْتُك بِنِصْفِهِ - بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ : أَشْرَكْتُك فِي نَصِيبِي - ؛ فَإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ بِهَذَا اللَّفْظِ مُمَلَّكًا جَمِيعَ نَصِيبِهِ بِإِقَامَةِ حَرْفٍ فِي مَقَامِ حَرْفِ الْبَاءِ .
فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ : أَشْرَكْتُك بِنَصِيبِي ، كَانَ

بَاطِلًا ؛ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ نِصْفُ نَصِيبِهِ .

قَالَ : ( رَجُلٌ اشْتَرَى عَبْدًا وَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى أَشْرَكَ فِيهِ رَجُلًا ، لَمْ يَجُزْ ) ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَمْ يُقْبَضْ ، وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَلَّكَهُ الْكُلَّ قَبْلَ الْقَبْضِ بِطَرِيقِ التَّوْلِيَةِ لَمْ يَجُزْ ، فَكَذَلِكَ إذَا مَلَّكَهُ الْبَعْضَ بِالْإِشْرَاكِ .
فَإِنْ أَشْرَكَهُ بَعْدَ الْقَبْضِ ، فَهَلَكَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَيْهِ ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ ثَمَنُ مَا أَشْرَكَهُ فِيهِ ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَلَّاهُ ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ فِي حَقِّهِ بَائِعٌ ، وَهَلَاكُ الْمَبِيعِ فِي يَدِ الْبَائِعِ قَبْلَ التَّسْلِيمِ مُبْطِلٌ لِلْبَيْعِ ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي الْكِتَابِ لَوْ قَبَضَ نِصْفَ الْعَبْدِ ثُمَّ أَشْرَكَ فِيهِ غَيْرَهُ .
( وَالْجَوَابُ ) : أَنَّهُ يَصِحُّ إشْرَاكُهُ فِي نِصْفِ الْعَبْدِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ .
( فَإِنْ قِيلَ ) : كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَنْصَرِفَ إشْرَاكُهُ إلَى النِّصْفِ الَّذِي قَبَضَهُ خَاصَّةً تَصْحِيحًا لِتَصَرُّفِهِ بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ بَيْنَ شَرِيكَيْنِ بَاعَ أَحَدُهُمَا نِصْفَهُ مُطْلَقًا يَنْصَرِفُ الْبَيْعُ إلَى نَصِيبِهِ خَاصَّةً .
( قُلْنَا ) : الْإِشْرَاكُ يَقْتَضِي التَّسْوِيَةَ ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ إذَا انْصَرَفَ إشْرَاكُهُ إلَى الْكُلِّ .
ثُمَّ يَصِحُّ فِي الْمَقْبُوضِ لِوُجُودِ شَرْطِهِ ، وَلَا يَصِحُّ فِي غَيْرِ الْمَقْبُوضِ لِانْعِدَامِ شَرْطِهِ .
فَأَمَّا إذَا انْصَرَفَ إلَى تَمْلِيكِ الْمَقْبُوضِ خَاصَّةً ، لَا يَكُونُ تَسْوِيَةً بَيْنَهُمَا ، وَتَصْحِيحُ التَّصَرُّفِ يَجُوزُ عَلَى وَجْهٍ لَا يُخَالِفُ الْمَلْفُوظَ .
فَفِي تَعْيِينِ الْمَقْبُوضِ هُنَا مُخَالَفَةُ الْمَلْفُوظِ بِخِلَافِ مَا إذَا بَاعَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ نِصْفَ الْمَقْبُوضِ ، فَلَيْسَ فِي تَعْيِينِ نَصِيبِهِ هُنَاكَ لِتَصْحِيحِ الْعَقْدِ مُخَالَفَةُ الْمَلْفُوظِ .

قَالَ : ( وَإِذَا اشْتَرَكَ الرَّجُلَانِ فِي عَبْدٍ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَاهُ ، فَقَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ : أَيُّنَا اشْتَرَى هَذَا الْعَبْدَ فَقَدْ أَشْرَكَ فِيهِ صَاحِبَهُ ، أَوْ قَالَ : فَصَاحِبُهُ فِيهِ شَرِيكٌ لَهُ .
فَهُوَ جَائِزٌ ) ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِيرُ مُوَكِّلًا لِصَاحِبِهِ بِأَنْ يَشْتَرِيَ نِصْفَ الْعَبْدِ لَهُ .
فَأَيُّهُمَا اشْتَرَاهُ كَانَ مُشْتَرِيًا نِصْفَهُ لِنَفْسِهِ وَنِصْفَهُ لِصَاحِبِهِ ؛ بِوَكَالَتِهِ .
فَإِذَا قَبَضَهُ فَذَلِكَ كَقَبْضِهِمَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ ، وَذَلِكَ إلَى الْعَاقِدِ .
ثُمَّ يَدُ الْوَكِيلِ كَيَدِ الْمُوَكِّل ، مَا لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْهُ ، حَتَّى إذَا مَاتَ كَانَ مِنْ مَالِهِمَا جَمِيعًا .
( فَإِنْ اشْتَرَيَاهُ مَعًا ، أَوْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا نِصْفَهُ قَبْلَ صَاحِبِهِ ، ثُمَّ اشْتَرَى صَاحِبُهُ النِّصْفَ الْبَاقِي : كَانَ بَيْنَهُمَا ) ؛ لِأَنَّهُمَا إنْ اشْتَرَيَاهُ مَعًا فَقَدْ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُشْتَرِيًا نِصْفَهُ لِنَفْسِهِ ، وَإِنْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا نِصْفَهُ فَقَدْ صَارَ مُشْتَرِيًا نِصْفَ هَذَا الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ وَنِصْفَهُ لِصَاحِبِهِ ، وَكَانَ الْعَبْدُ بَيْنَهُمَا ؛ فَإِنْ نَقَدَ أَحَدُهُمَا الثَّمَنَ بِأَمْرِ صَاحِبِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، وَقَدْ كَانَا اشْتَرِكَا فِيهِ قَبْلَ الشِّرَاءِ - عَلَى مَا وَصَفْت لَك - فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِنِصْفِ الثَّمَنِ عَلَى شَرِيكِهِ ؛ لِأَنَّ بِالْعَقْدِ السَّابِقِ بَيْنَهُمَا صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلَ صَاحِبِهِ فِي نَقْدِ الثَّمَنِ مِنْ مَالِهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اشْتَرَاهُ أَحَدُهُمَا ، وَنَقَدَ الثَّمَنَ رَجَعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِهِ ، بِحُكْمِ تِلْكَ الْوَكَالَةِ ، .
فَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَيَاهُ وَأَدَّى الثَّمَنَ أَحَدُهُمَا فَإِنَّمَا أَدَّى النِّصْفَ عَنْ نَفْسِهِ ، وَالنِّصْفَ عَنْ شَرِيكِهِ بِوَكَالَتِهِ ، فَيَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ .
قَالَ : ( فَإِنْ أَذِنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ فِي بَيْعِهِ ، ثُمَّ بَاعَهُ أَحَدُهُمَا عَلَى أَنَّ لَهُ نِصْفَهُ : كَانَ بَائِعًا لِنِصْفِ شَرِيكِهِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ ؛ فَإِنْ بَاعَهُ إلَّا نِصْفَهُ ، كَانَ

جَمِيعُ الثَّمَنِ وَنِصْفُ الْعَبْدِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ نِصْفَيْنِ ) فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ : الْبَيْعُ عَلَى نِصْفِ الْمَأْمُورِ خَاصَّةً .
فَيَحْتَاجُ فِي تَخْرِيجِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إلَى مَعْرِفَةِ فَصْلَيْنِ ( أَحَدُهُمَا ) : أَنَّ " عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ " الْوَكِيلُ بِبَيْعِ الْعَبْدِ يَمْلِكُ بَيْعَ نِصْفِهِ ، وَالْوَكِيلُ بِبَيْعِ نِصْفِ الْعَبْدِ يَمْلِكُ بَيْعَ نِصْفِ ذَلِكَ النِّصْفِ .
" وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ " لَا يَمْلِكُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ .
( وَالثَّانِي ) : أَنَّ الْعَبْدَ إذَا كَانَ لِوَاحِدٍ فَقَالَ لِرَجُلٍ : بِعْته مِنْك إلَّا نِصْفَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، كَانَ بَائِعًا لِلنِّصْفِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ، وَلَوْ قَالَ : بِعْته مِنْك بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنَّ لِي نِصْفَهُ ، كَانَ بَائِعًا لِلنِّصْفِ بِخَمْسِمِائَةٍ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ وَالْكَلَامَ الْمُقَيَّدَ بِالِاسْتِثْنَاءِ يَكُونُ عِبَارَةً عَمَّا وَرَاءَ الْمُسْتَثْنَى .
فَكَأَنَّهُ قَالَ : بِعْت مِنْك نِصْفَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ .
فَأَمَّا قَوْلُهُ : عَلَى أَنَّ لِي نِصْفَهُ ، لَيْسَ بِاسْتِثْنَاءٍ ، بَلْ هُوَ عَامِلٌ عَلَى سَبِيلِ الْمُعَارِضَةِ لِلْأَوَّلِ ؛ فَكَانَ الْإِيجَابُ الْأَوَّلُ مُتَنَاوِلًا لِجَمِيعِهِ ، وَبِالْمُعَارَضَةِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ جَعَلَ الْإِيجَابَ فِي نِصْفِهِ لِلْمُخَاطَبِ ، وَفِي نِصْفِهِ لِنَفْسِهِ ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْهُ إذَا كَانَ مُقَيَّدًا .
أَلَا تَرَى أَنَّ رَبَّ الْمَالِ يَشْتَرِي مَالَ الْمُضَارَبَةِ مِنْ الْمُضَارِبِ ، فَيَكُونُ صَحِيحًا ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَمْلُوكًا لَهُ ؛ لِكَوْنِهِ مُقَيَّدًا ، .
فَهُنَا أَيْضًا ضَمُّ نَفْسِهِ إلَى الْمُخَاطَبِ فِي شِرَاءِ الْعَبْدِ مُقَيَّدٌ فِي حَقِّ التَّقْسِيمِ ؛ فَلِهَذَا كَانَ بَائِعًا نِصْفَهُ مِنْ الْمُخَاطَبِ بِخَمْسِمِائَةٍ .
إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ : الْبَائِعُ مِنْهُمَا هُنَا بَائِعُ نِصْفِهِ بِحُكْمِ الْمِلْكِ ، وَفِي النِّصْفِ وَكِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ .
فَإِذَا قَالَ : بِعْته مِنْك عَلَى أَنَّ لِي نِصْفَهُ ، كَانَ إيجَابُهُ

مُتَنَاوِلًا لِلْكُلِّ .
ثُمَّ قَوْلُهُ : عَلَى أَنَّ لِي نِصْفَهُ مُعَارَضٌ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا فِي تَقْسِيمِ الثَّمَنِ ، وَفِي إبْقَاءِ نَصِيبِهِ عَلَى مِلْكِهِ ، وَيَبْقَى مُوجِبًا لِلْمُشْتَرِي نَصِيبَ شَرِيكِهِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ .
وَإِذَا قَالَ : بِعْته إلَّا نِصْفَهُ ؛ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : بِعْت نِصْفَهُ بِكَذَا .
" فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةِ " يَنْصَرِفُ إلَى النِّصْفِ مِنْ النَّصِيبَيْنِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ تَعَيُّنَ نَصِيبِهِ قَبْلَ الْوَكَالَةِ لِتَصْحِيحِ تَصَرُّفِهِ ، وَبَعْدَ الْوَكَالَةِ تَصَرُّفُهُ صَحِيحٌ - وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ لَهُ نَصِيبُهُ - لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ الْوَكِيلَ بِبَيْعِ نِصْفِ الْعَبْدِ يَمْلِكُ بَيْعَ نِصْفِ ذَلِكَ النِّصْفِ ؛ فَلِهَذَا كَانَ جَمِيعُ الثَّمَنِ وَنِصْفُ الْعَبْدِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ نِصْفَيْنِ .
" وَعِنْدَهُمَا " لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ تَصَرُّفِهِ فِي النَّصِيبَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْوَكِيلَ بِبَيْعِ نِصْفِ الْعَبْدِ لَا يَبِيعُ نِصْفَ ذَلِكَ النِّصْفِ ، فَيَنْصَرِفُ بَيْعُهُ إلَى نَصِيبِ نَفْسِهِ لِتَصْحِيحِ تَصَرُّفِهِ .

قَالَ : ( رَجُلٌ اشْتَرَى عَبْدًا وَقَبَضَهُ ، ثُمَّ قَالَ لِرَجُلٍ آخَرَ : قَدْ أَشْرَكْتُك فِي هَذَا الْعَبْدِ عَلَى أَنْ تَنْقُدَ الثَّمَنَ عَنِّي ، فَفَعَلَ : كَانَتْ هَذِهِ الشَّرِكَةُ فَاسِدَةً ) ؛ لِأَنَّهُ مَلَّكَهُ نِصْفَ الْعَبْدِ بَيْعًا بِنِصْفِ الثَّمَنِ ، وَشَرَطَ فِيهِ أَنْ يَنْقُدَ جَمِيعَ الثَّمَنِ عَنْهُ { .
وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ } .
؛ فَيَبْطُلُ هَذَا الْبَيْعُ بَيْنَهُمَا لِمَكَانِ الشَّرْطِ .
وَإِنْ نَقَدَ عَنْهُ الرَّجُلُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا نَقَدَ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ قَضَى دِينَهُ بِأَمْرِهِ ، وَلَا شَيْءَ لَهُ فِي الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ الْإِشْرَاكَ كَانَ فَاسِدًا ، وَالْبَيْعُ الْفَاسِدُ بِدُونِ الْقَبْضِ لَا يُوجِبُ شَيْئًا .

قَالَ : ( رَجُلٌ اشْتَرَى نِصْفَ عَبْدٍ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَاشْتَرَى رَجُلٌ آخَرُ نِصْفَ ذَلِكَ الْعَبْدِ الْبَاقِي بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ ، ثُمَّ بَاعَاهُ - مُسَاوَمَةً - بِثَلَثِمِائَةِ دِرْهَمٍ ، أَوْ بِمِائَتَيْ دِرْهَمٍ : فَالثَّمَنُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ .
وَلَوْ بَاعَاهُ - مُرَابَحَةً - بِرِبْحِ مِائَةِ دِرْهَمٍ ، أَوْ قَالَ : بِالْعَشَرَةِ أَحَدَ عَشَرَ : كَانَ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا ) .
وَكَذَلِكَ لَوْ وَلَّيَاهُ رَجُلًا بِرَأْسِ الْمَالِ ، أَوْ بَاعَاهُ بِوَضِيعَةِ كَذَا : فَالثَّمَنُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ فِي بَيْعِ الْمُسَاوَمَةِ بِمُقَابَلَةِ الْمِلْكِ هُوَ فِي الْمَحَلِّ دُونَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ ، حَتَّى لَوْ كَانَ مَوْهُوبًا ، أَوْ كَانَ مُشْتَرًى بِعَرَضٍ لَا مِثْلَ لَهُ : يَجُوزُ بَيْعُهُ مُسَاوَمَةً .
فَعَرَفْنَا أَنَّ الثَّمَنَ بِمُقَابَلَةِ الْمِلْكِ ، وَهُمَا يَسْتَوِيَانِ فِي مِلْكِ الْعَبْدِ ، فَيَسْتَوِيَانِ فِي ثَمَنِهِ .
وَأَمَّا بَيْعُ الْمُرَابَحَةِ وَالتَّوْلِيَةِ وَالْوَضِيعَةِ : بِاعْتِبَارِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا تَسْتَقِيمُ هَذِهِ الْبُيُوعُ فِي الْمَوْهُوبِ وَالْمَوْرُوثِ ، وَفِي الْمُشْتَرَى بِعَرَضٍ لَا مِثْلَ لَهُ ، .
وَالثَّمَنُ الْأَوَّلُ كَانَ أَثْلَاثًا بَيْنَهُمَا ، فَكَذَلِكَ الثَّانِي .
يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ فِي بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ لَوْ اعْتَبَرْنَا الْمِلْكَ فِي قِيمَةِ الثَّمَنِ دُونَ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ كَانَ الْبَيْعُ مُرَابَحَةً فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا ، وَضَيْعَةً فِي حَقِّ الْآخَرِ ، وَقَدْ نَصَّا عَلَى بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ فِي نَصِيبَيْهِمَا فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ كَذَلِكَ - بِخِلَافِ بَيْعِ الْمُسَاوِمَةِ - .

قَالَ : ( وَإِذَا اشْتَرَكَ الرَّجُلَانِ شَرِكَةَ عَنَانٍ فِي تِجَارَةٍ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَا وَيَبِيعَا بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ ، فَاشْتَرَى أَحَدُهُمَا شَيْئًا مِنْ غَيْرِ تِلْكَ التِّجَارَةِ : فَهُوَ لَهُ خَاصَّةً ) ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُكْمِ الشَّرِكَةِ يَصِيرُ وَكِيلَ صَاحِبِهِ ، وَالْوَكَالَةُ تَقْبَلُ التَّخْصِيصَ .
فَإِذَا خَصَّا نَوْعًا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي شِرَاءِ مَا سِوَى ذَلِكَ كَالْأَجْنَبِيِّ عَنْ صَاحِبِهِ ، فَيَكُونُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ خَاصَّةً .
فَأَمَّا فِي ذَلِكَ النَّوْعِ فَبَيْعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَشِرَاؤُهُ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ يَنْفُذُ عَلَى صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُمَا صَرَّحَا بِذَلِكَ .
وَهَكَذَا لَوْ لَمْ يُصَرِّحَا ؛ فَإِنَّ بِمُطْلَقِ التَّوْكِيلِ يَمْلِكُ الْوَكِيلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةُ عَلَى الْمُوَكِّلِ ، فَكَذَلِكَ بِمُطْلَقِ الشَّرِكَةِ .
إلَّا أَنَّهُ إذَا اشْتَرَى أَحَدُهُمَا بِالنَّسِيئَةِ بِالنُّقُودِ أَوْ الْمَكِيلِ أَوْ الْمَوْزُونِ ؛ فَإِنْ كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ جَازَ شِرَاؤُهُ عَلَى الشَّرِكَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَفَذَ شِرَاؤُهُ عَلَى الشَّرِكَةِ كَانَ مُسْتَدِينًا عَلَى الْمَالِكِ ، وَلَيْسَ لِلشَّرِيكِ شَرِكَةُ عَنَانٍ ، وَلَا لِلْمُضَارِبِ وِلَايَةُ الِاسْتِدَانَةِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ لِمُعَيَّنٍ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ صَحَّ اسْتِدَانَتُهُمَا زَادَ مَالُ الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ ، وَمَا رَضِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ بِتَصَرُّفِ صَاحِبِهِ إلَّا فِي مِقْدَارِ مَا جَعَلَاهُ رَأْسَ الْمَالِ .
فَلِهَذَا كَانَ شِرَاؤُهُ بِالنَّسِيئَةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ عَلَى نَفْسِهِ خَاصَّةً .

قَالَ : ( وَإِنْ كَانَ مَالُ الشَّرِكَةِ فِي يَدِهِ دَرَاهِمَ فَاشْتَرَى بِالنَّسِيئَةِ بِالدَّنَانِيرِ " عِنْدَنَا " يَصِيرُ مُشْتَرِيًا عَلَى الشَّرِكَةِ اسْتِحْسَانًا ) .
وَفِي الْقِيَاسِ " وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ " يَصِيرُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ بِنَاءً عَلَى أَصْلٍ مَعْرُوفٍ ، وَهُوَ أَنَّ الدَّرَاهِمَ وَالدَّنَانِيرَ فِي الْقِيَاسِ جِنْسَانِ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ كَجِنْسٍ وَاحِدٍ فِي ضَمِّ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ ، وَفِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ وَغَيْرِهِ .
ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ " عِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ " فِي حُكْمِ الشَّرِكَةِ هُمَا جِنْسَانِ ، حَتَّى لَا تَصِحُّ الشَّرِكَةُ إذَا كَانَ رَأْسُ مَالِ أَحَدِهِمَا دَرَاهِمَ ، وَرَأْسُ مَالِ الْآخَرِ دَنَانِيرَ .
فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الشِّرَاءِ بِالنَّسِيئَةِ ، " وَعِنْدَنَا " هُمَا كَجِنْسٍ وَاحِدٍ فِي صِحَّةِ الشَّرِكَةِ بِهِمَا ، فَكَذَلِكَ فِي الشِّرَاءِ بِالنَّسِيئَةِ عَلَى شَرِيكِهِ .

قَالَ : ( فَإِنْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِدَيْنٍ فِي تِجَارَتِهِمَا وَأَنْكَرَهُ الْآخَرُ : لَزِمَ الْمُقِرَّ جَمِيعُ الدَّيْنِ إنْ كَانَ هُوَ الَّذِي وَلِيَهُ ) ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ - وَكِيلًا كَانَ أَوْ مُبَاشِرًا لِنَفْسِهِ - .
وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُمَا وَلِيَاهُ لَزِمَهُ نِصْفُهُ ؛ لِأَنَّهُ فِي النِّصْفِ مُقِرٌّ عَلَى نَفْسِهِ ، وَفِي النِّصْفِ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَبِعَقْدِ الشَّرِكَةِ لَا يَثْبُتُ لَهُ وِلَايَةُ إلْزَامِ الدَّيْنِ فِي ذِمَّةِ صَاحِبِهِ بِإِقْرَارِهِ ، فَبَطَلَ إقْرَارُهُ .
وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّ صَاحِبَهُ وَلِيَهُ : لَمْ يَلْزَمْهُ مِنْهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى غَيْرِهِ ، وَلَا وِلَايَةَ لَهُ فِي إلْزَامِ الدَّيْنِ عَلَى غَيْرِهِ بِإِقْرَارِهِ .
وَهَذَا بِخِلَافِ شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ ، فَإِنَّهَا تَتَضَمَّنُ الْكَفَالَةَ وَالْوَكَالَةَ جَمِيعًا ، فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ بِمَا يَلْزَمُهُ .
فَإِذَا أَقَرَّ أَحَدُهُمَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُطَالَبًا بِجَمِيعِ ذَلِكَ الْمَالِ - بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ - .
فَأَمَّا شَرِكَةُ الْعَنَانِ تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ دُونَ الْكَفَالَةِ ، وَبِحُكْمِ الْوَكَالَةِ لَا يَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُطَالَبًا بِمَا عَلَى صَاحِبِهِ .

قَالَ : ( فَإِنْ كَانَ لِشَرِيكَيْ الْعَنَانِ ، عَلَى رَجُلٍ ، دَيْنٌ ، فَأَخَّرَهُ أَحَدُهُمَا : لَمْ يَجُزْ عَلَى صَاحِبِهِ ) - بِخِلَافِ شَرِيكَيْ الْمُفَاوَضَةِ - ؛ لِأَنَّ الْمُتَفَاوِضَيْنِ - فِيمَا هُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ - كَشَخْصٍ وَاحِدٍ ، وَالتَّأْجِيلُ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ ؛ فَمُبَاشَرَةُ أَحَدِهِمَا فِيهِ كَمُبَاشَرَتِهِمَا .
وَبِشَرِكَةِ الْعَنَانِ مَا صَارَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ ، وَلِأَنَّ فِي شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَقَّ الْمُطَالَبَةِ بِمَا وَجَبَ لِصَاحِبِهِ بِمُبَاشَرَتِهِ ؛ فَكَانَ لَهُ أَنْ يُؤَجَّلَ فِيهِ ، وَلَيْسَ لِشَرِيكِ الْعَنَانِ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِمَا وَجَبَ بِمُبَاشَرَةِ صَاحِبِهِ ؛ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُؤَجِّلَ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ .
وَفِي نَصِيبِ نَفْسِهِ اخْتِلَافٌ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَبَيْنَ صَاحِبَيْهِ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي صِحَّةِ التَّأْجِيلِ .
مَوْضِعُ بَيَانِهِ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ .

قَالَ : ( وَإِنْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا شَيْئًا مِنْ تِجَارَتِهِمَا فَوَجَدَ بِهِ عَيْبًا : لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَرُدَّهُ ) ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ ، وَذَلِكَ يَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ ، وَلِأَنَّ الْآخَرَ فِي النِّصْفِ أَجْنَبِيٌّ ، وَفِي النِّصْفِ مُوَكِّلٌ ، وَلَيْسَ لِلْمُوَكِّلِ أَنْ يُخَاصَمَ فِي الْعَيْبِ مَعَ الْبَائِعِ فِيمَا اشْتَرَاهُ وَكِيلُهُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَخَذَ أَحَدُهُمَا مَالًا مُضَارَبَةً ، فَرَبِحَ فِيهِ : كَانَ الرِّبْحُ لَهُ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ مَالَ الْمُضَارَبَةِ لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا فِي شَيْءٍ ؛ فَعَمَلُهُ فِيهِ يَكُونُ لِنَفْسِهِ خَاصَّةً دُونَ شَرِيكِهِ ، وَاسْتِحْقَاقُ الْمُضَارِبِ الرِّبْحَ بِعَمَلِهِ ، وَكُلُّ وَضَيْعَةٍ لَحِقَتْ أَحَدَهُمَا مِنْ غَيْرِ شَرِكَتِهِمَا فَهِيَ عَلَيْهِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ فِيمَا لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ .
وَعَلَى هَذَا : لَوْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ بِشَهَادَةٍ مِنْ غَيْرِ شَرِكَتِهِمَا فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ عَدْلٌ لَا تُهْمَةَ فِي شَهَادَتِهِ بِخِلَافِ مَا هُوَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا ؛ فَإِنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي شَهَادَتِهِ ؛ لِمَا لَهُ مِنْ النَّصِيبِ فِي الْمَشْهُودِ بِهِ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : لِشَرِيكِ الْعَنَانِ أَنْ يَضَعَ وَأَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً - وَإِنْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُ شَرِيكُهُ فِي ذَلِكَ - وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْمَالِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا كُلَّ شَيْءٍ يَجُوزُ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يَعْمَلَهُ .
وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - .
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فُصُولٍ ( أَحَدُهُمَا ) : أَنَّ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُوَكِّلَ بِالتَّصَرُّفِ ، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ ، وَفِي الْقِيَاسِ : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلُ صَاحِبِهِ ، وَلَيْسَ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ .
وَأَنَّ الْمُوَكِّلَ إنَّمَا رَضِيَ بِرَأْيِهِ وَلَمْ يَرْضَ بِرَأْيِ غَيْرِهِ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ : التَّوْكِيلُ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَجِدُ بُدًّا

مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِالتِّجَارَةِ الْحَاضِرَةِ وَالْغَائِبَةِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَاجِزٌ عَنْ مُبَاشَرَةِ النَّوْعَيْنِ لِنَفْسِهِ ، وَلَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِأَحَدِ النَّوْعَيْنِ لِيَحْصُلَ مَقْصُودُهُمَا - وَهُوَ الرِّبْحُ - فَيَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالْآذِنِ لِصَاحِبِهِ فِي ذَلِكَ دَلَالَةً .
وَلِأَنَّ الْوَكَالَةَ الَّتِي تَتَضَمَّنُهَا الشَّرِكَةُ بِمَنْزِلَةِ الْوَكَالَةِ الْعَامَّةِ ، وَلِهَذَا صَحَّتْ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ جِنْسِ الْمُشْتَرَى وَصِفَتِهِ .
وَفِي الْوَكَالَةِ الْعَامَّةِ : لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ ؛ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لِوَكِيلِهِ : اعْمَلْ بِرَأْيِك ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ .
( وَكَذَلِكَ ) لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يَضَعَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ عَادَةِ التُّجَّارِ ، وَلِأَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَ مَنْ يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ لَجَازَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلَى شَرِيكِهِ .
فَإِذَا وَجَدَ مَنْ يَتَصَرَّفُ بِغَيْرِ أَجْرٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَضَعَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى .
( وَكَذَلِكَ ) لَهُ أَنْ يُودِعَ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَحْفَظُ مَالَ الشَّرِكَةِ .
فَلَأَنْ يَكُونَ لَهُ أَنْ يُودِعَ لِيُحْفَظَ الْمُودَعُ بِغَيْرِ أَجْرٍ أَوْلَى .
وَلَهُ أَنْ يَدْفَعَ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ مُضَارَبَةً ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ بِأَجْرٍ مَضْمُونٍ فِي الذِّمَّةِ .
فَلَأَنْ يَكُونَ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مَنْ يَتَصَرَّفُ بِبَعْضِ مَا يَحْصُلُ مِنْ عَمَلِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَضْمُونًا فِي الذِّمَّةِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ هَذَا أَنْفَعُ لَهُمَا .
( وَرَوَى ) الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً ؛ لِأَنَّهُ إيجَابُ الشَّرِكَةِ لِلْمُضَارِبِ فِي الرِّبْحِ ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ عَقْدِ الشَّرِكَةِ ، وَلَيْسَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ يُشَارِكَ مَعَ غَيْرِهِ بِمَالِ الشَّرِكَةِ .
فَكَذَلِكَ لَا يَدْفَعُهُ مُضَارَبَةً .
وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَصَحُّ .
وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ

الشَّرِكَةِ وَالْمُضَارَبَةِ : أَنَّ مَا يُسْتَفَادُ بِعَقْدٍ فَهُوَ مِنْ تَوَابِعِ ذَلِكَ الْعَقْدِ ، وَإِنَّمَا يَتْبَعُ الشَّيْءَ مَا هُوَ دُونَهُ لَا مَا هُوَ مِثْلُهُ ، أَوْ فَوْقَهُ ، وَالْمُضَارَبَةُ دُونَ الشَّرِكَةِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمُضَارِبِ شَيْءٌ مِنْ الْوَضِيعَةِ ، وَأَنَّ الْمُضَارَبَةَ لَوْ فَسَدَتْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُضَارِبِ شَيْءٌ مِنْ الرِّبْحِ فَيُمْكِنُ جَعْلُ الْمُضَارَبَةِ مُسْتَفَادَةً بِعَقْدِ الشَّرِكَةِ ؛ لِأَنَّهُ دُونَهُ ، فَأَمَّا الِاشْتِرَاكُ مَعَ الْغَيْرِ مِثْلَ الْأَوَّل ؛ فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ تَوَابِعِهِ مُسْتَفَادًا بِهِ ؛ فَهُوَ نَظِيرٌ .
مَا يَقُولُ : إنَّ لِلْمُضَارِبِ أَنْ يُوَكِّلَ ؛ لِأَنَّ الْوَكَالَةَ دُونَ الْمُضَارَبَةِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ الْمَالَ مُضَارَبَةً ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ مِثْلُ الْأَوَّلِ ؛ فَلَا يَكُونُ مُسْتَفَادًا بِهِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِلْوَكِيلِ أَنْ يُوَكِّلَ بِمُطْلَقِ التَّوْكِيلِ ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ مِثْلُ الْأَوَّلِ ، وَلَكِنَّ هَذَا كُلَّهُ فِي حَقِّ الْغَيْرِ .
فَأَمَّا فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَيَجُوزُ أَنْ يُوجِبَ لِغَيْرِهِ مِثْلَ مَالِهِ .
وَلِهَذَا كَانَ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ يُكَاتِبَ ، وَلِلْمَأْذُونِ أَنْ يَأْذَنَ لِعَبْدِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَصَرِّفٌ لِنَفْسِهِ بِفَكِّ الْحَجْرِ عَنْهُ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ

بَابُ شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ ( رُوِيَ ) عَنْ ابْنِ سِيرِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : لَا تَجُوزُ شَرِكَةٌ بِعُرُوضٍ وَلَا بِمَالٍ غَائِبٍ .
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إحْضَارِ رَأْسِ الْمَالِ .
وَلَكِنْ إنْ وُجِدَ الْإِحْضَارُ عِنْدَ الشِّرَاءِ بِهَا فَهُوَ وَالْإِحْضَارُ عِنْدَ الْعَقْدِ سَوَاءٌ ، حَتَّى إذَا دَفَعَ إلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا وَبِأَلْفٍ مِنْ مَالِهِ ، وَعَقَدَا عَقْدَ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، فَأَحْضَرَ الرَّجُلُ الْمَالَ عِنْدَ الشِّرَاءِ : جَازَتْ الشَّرِكَةُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ التَّصَرُّفُ - لَا نَفْسُ الشَّرِكَةِ - فَإِذَا وُجِدَ إحْضَارُ الْمَالِ عِنْدَ الْمَقْصُودِ كَانَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْإِحْضَارِ عِنْدَ الْعَقْدِ .
( وَعَنْ ) الشَّعْبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : الرِّبْحُ عَلَى مَا اصْطَلَحَا عَلَيْهِ ، وَالْوَضِيعَةُ عَلَى الْمَالِ .
فَكَذَلِكَ فِي الشَّرِكَةِ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، وَبِهِ نَأْخُذُ .
وَتُعْتَبَرُ الشَّرِكَةُ بِالْمُضَارَبَةِ فَكَمَا أَنَّ الرِّبْحَ فِي الْمُضَارَبَةِ عَلَى الشَّرْطِ وَالْوَضِيعَةِ عَلَى الْمَالِ ، فَكَذَلِكَ فِي الشَّرِكَةِ .
( وَعَنْ ) عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ : لَيْسَ عَلَى مَنْ قَاسَمَ الرِّبْحَ ضَمَانٌ .
وَتَفْسِيرُ هَذَا أَنَّ الْوَضِيعَةَ عَلَى الْمَالِ فِي الْمُضَارَبَةِ وَالشَّرِكَةِ ؛ لِأَنَّ الْوَضِيعَةَ هَلَاكُ جُزْءٍ مِنْ الْمَالِ ، وَالْمُضَارِبُ وَالشَّرِيكُ أَمِينٌ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَالِ ، وَهَلَاكُ الْمَالِ فِي يَدِ الْأَمِينِ كَهَلَاكِهِ فِي يَدِ صَاحِبِهِ .

قَالَ : ( وَإِذَا اشْتَرَكَ الرَّجُلَانِ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ فَكَتَبَا بَيْنَهُمَا كِتَابًا بَيَّنَّا فِيهِ أَنَّهُمَا اشْتَرَكَا فِيهِ فِي كُلِّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ ، وَأَنَّ رَأْسَ مَالِهِمَا كَذَا وَكَذَا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ يَعْمَلُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِرَأْيِهِ ، فَإِذَا اشْتَرَكَا عَلَى هَذَا فَهُمَا مُتَفَاوِضَانِ ) ؛ وَهَذَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ اعْتِبَارَ الْمُسَاوَاةِ رُكْنُ الْمُفَاوَضَةِ .
فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ تُذْكَرَ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي رَأْسِ الْمَالِ وَالرِّبْحِ .
وَأَنَّ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا فِي كُلِّ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ ؛ لِأَنَّهُ إذَا اُخْتُصَّ أَحَدُهُمَا بِمِلْكِ مَالٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ ، لَا يَكُونُ الْعَقْدُ بَيْنَهُمَا مُفَاوَضَةً ؛ لِانْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ .
وَلَكِنْ إنْ اُخْتُصَّ أَحَدُهُمَا بِمِلْكِ عَرَضٍ أَوْ دَيْنٍ عَلَى إنْسَانٍ ، فَالشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا مُفَاوَضَةٌ ؛ لِأَنَّ الْعَرَضَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ ، وَالدِّينُ كَذَلِكَ .
وَهُوَ نَظِيرُ الِاخْتِصَاصِ بِالزَّوْجَةِ أَوْ الْوَلَدِ ؛ وَذَلِكَ لِانْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْمُفَاوَضَةِ ، وَنُصَّ فِي الْكِتَابِ عَلَى لَفْظَةِ الْمُفَاوَضَةِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذَا لَا بُدَّ مِنْهُ ، وَإِنْ كَانَا لَا يَعْرِفَانِ جَمِيعَ أَحْكَامِ الْمُفَاوَضَةِ ، وَبَعْدَ مَا صَارَا مُتَفَاوِضَيْنِ فَمَا اشْتَرَى أَحَدُهُمَا فَهُوَ جَائِزٌ عَلَيْهِ ، وَعَلَى صَاحِبِهِ يُؤْخَذُ بِهِ كُلُّهُ ؛ لِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَتَضَمَّنُ الْوَكَالَةَ وَالْكَفَالَةَ ، فَبِحُكْمِ الْوَكَالَةِ يُجْعَلُ شِرَاءُ أَحَدِهِمَا كَشِرَائِهِمَا ، وَبِحُكْمِ الْكَفَالَةِ يُجْعَلُ كُلٌّ مِنْهُمَا مُطَالَبًا بِمَا يَجِبُ عَلَى صَاحِبِهِ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ .

قَالَ : ( وَإِنْ كَانَ رَأْسُ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفَ دِرْهَمٍ فَاشْتَرَكَا ، وَلَمْ يَخْلِطَا الْمَالَ : فَالشَّرِكَةُ جَائِزَةٌ ) .
وَفِي النَّوَادِرِ قَالَ : فِي الْقِيَاسِ لَا تَكُونُ الشَّرِكَةُ مُفَاوَضَةً بَيْنَهُمَا قَبْلَ خَلْطِ الْمَالَيْنِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُخْتَصٌّ بِمِلْكِ مَالٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ ، وَذَلِكَ يَنْفِي الْمُفَاوَضَةَ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ : يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ مَوْجُودَةٌ بَيْنَهُمَا - وَإِنْ لَمْ يَخْلِطَا الْمَالَ - وَاخْتِصَاصُ أَحَدِهِمَا بِمِلْكِ مَالٍ غَيْرِ صَارِفٍ لِلْمُفَاوَضَةِ بِعَيْنِهِ ، بَلْ بِانْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ .
فَإِذَا كَانَتْ الْمُسَاوَاةُ مَوْجُودَةً : كَانَ الْخَلْطُ وَعَدَمُ الْخَلْطِ سَوَاءً ؛ فَإِنْ هَلَكَ أَحَدُ الْمَالَيْنِ يَهْلِكُ مِنْ مَالِ صَاحِبِهِ - عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ - وَتَبْطُلُ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا .
وَإِنْ اشْتَرَيَا بِأَحَدِ الْمَالَيْنِ : فِي الْقِيَاسِ تَبْطُلُ الْمُفَاوَضَةُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرَى صَارَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَالْآخَرُ مُخْتَصٌّ بِمِلْكِ رَأْسِ مَالِهِ ، فَتَنْعَدِمُ الْمُسَاوَاةُ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَبْطُلُ الْعَقْدُ .
وَلِلِاسْتِحْسَانِ وَجْهَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ الْمُسَاوَاةَ قَائِمَةٌ مَعْنًى ؛ لِأَنَّ الْآخَرَ ، وَإِنْ مَلَكَ نِصْفَ الْمُشْتَرَى فَقَدْ صَارَ نِصْفُ الثَّمَنِ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ لِصَاحِبِهِ ، وَنِصْفُ مَالِهِ مُسْتَحَقٌّ بِهِ لِصَاحِبِهِ .
( وَالثَّانِي ) أَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ يُجْعَلُ عَفْوًا ، وَلَا يُمْكِنُ التَّحَرُّرُ عَنْ هَذَا التَّفَاوُتِ عَادَةً .
فَقَلَّمَا يَجِدَانِ شَيْئًا وَاحِدًا يَشْتَرِيَانِهِ بِمَالِهِمَا .
وَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ بِأَحَدِ الْمَالَيْنِ قَبْلَ الْآخَرِ ، فَيُجْعَلُ هَذَا عَفْوًا لِعَدَمِ إمْكَانِ التَّحَرُّزِ عَنْهُ .
قَالَ : ( فَإِنْ كَانَتْ دَرَاهِمُ أَحَدِهِمَا بِيضًا وَدَرَاهِمُ الْآخَرِ سُودًا : فَهُوَ كَذَلِكَ ) ؛ لِأَنَّ السُّودَ وَالْبَيْضَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ .
وَبِتَفَاوُتِ الْوَصْفِ

يَنْعَقِدُ الِاخْتِلَاطُ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْخَلْطَ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فَضْلٌ فِي الصَّرْفِ ؛ فَلَا تَجُوزُ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ لِانْعِدَامِ التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا .
ثُمَّ تَكُونُ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا عَنَانًا ؛ لِأَنَّ تَحْصِيلَ مَقْصُودِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ وَاجِبٌ ، وَالْعَنَانُ قَدْ يَكُونُ عَامًّا وَقَدْ يَكُونُ خَاصًّا ، وَهَذَا عَنَانٌ عَامٌّ .
وَإِنْ لَقَّبَاهُ بِالْمُفَاوَضَةِ فَهُوَ لَقَبٌ فَاسِدٌ ؛ لِانْعِدَامِ شَرْطِ الْمُفَاوَضَةِ ، وَلَكِنْ لَا يَبْطُلُ بِهِ أَصْلُ الشَّرِكَةِ ؛ فَإِنْ كَانَ شِرَاءٌ يَوْمَ وَقَعَتْ الشَّرِكَةُ ، ثُمَّ صَارَ فِي أَحَدِهِمَا فَضْلٌ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَا شَيْئًا : فَسَدَتْ الْمُفَاوَضَةُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ اعْتَرَضَ بَعْدَ الْعَقْدِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ مَا يَمْنَعُ ابْتِدَاءَ الْعَقْدِ - وَهُوَ التَّفَاوُتُ فِي مِلْكِ الْمَالِ - فَيَكُونُ مُبْطِلًا لِلْعَقْدِ كَمَا لَوْ وُرِّثَ أَحَدُهُمَا مَالًا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ تَفْسُدُ بِهِ الْمُفَاوَضَةُ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بَعْدَ الشِّرَاءِ بِالْمَالَيْنِ جَمِيعًا ، فَالشَّرِكَةُ جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ قَدْ حَصَلَ حِينَ اشْتَرَيَا بِالْمَالَيْنِ ، فَلَا مُعْتَبَرَ بِمَا يَظْهَرُ مِنْ التَّفَاوُتِ فِي الْعُرْفِ بَعْدَ ذَلِكَ .
( فَإِنْ قِيلَ ) : أَلَيْسَ أَنَّهُ لَوْ وُرِّثَ أَحَدُهُمَا مَالًا بَعْدَ الشِّرَاءِ بِالْمَالَيْنِ ، أَوْ وُهِبَ لَهُ مَالٌ فَسَدَتْ الْمُفَاوَضَةُ .
( قُلْنَا ) : لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي مِلْكِ الْمَالِ مُنْعَدِمٌ هُنَاكَ بِمَا اخْتَصَّ بِهِ أَحَدُهُمَا ، وَهُنَا لَا يَنْعَدِمُ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُمَا تَحَوَّلَ مِنْ الدَّرَاهِمِ إلَى الْمُشْتَرَى ، وَالْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ .
( فَإِنْ قِيلَ ) : لَا كَذَلِكَ بَلْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ نِصْفُ رَأْسِ مَالِهِ دَيْنًا عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ هَلَكَ الْمُشْتَرَى يَرْجِعُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِ رَأْسِ مَالِهِ فَتَنْعَدِمُ الْمُسَاوَاةُ

أَيْضًا بِظُهُورِ الْفَصْلِ فِي النِّصْفِ .
( قُلْنَا ) : نَعَمْ ، وَلَكِنَّ مَا اسْتَوْجَبَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ دَيْنٌ عَلَيْهِ ، وَالدَّيْنُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ فَالتَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْمُفَاوَضَةِ ، كَمَا لَوْ وُرِّثَ أَحَدُهُمَا دَيْنًا أَوْ عَرَضًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ رَأْسُ مَالِ أَحَدِهِمَا أَلْفَ دِرْهَمٍ ، وَرَأْسُ مَالِ الْآخَرِ مِائَةَ دِينَارٍ .
فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهَا مِثْلَ الْأَلْفِ : فَالشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا مُفَاوَضَةٌ ، وَهَذَا فِي التَّفْرِيعِ كَالسُّودِ وَالْبَيْضِ ، وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الدَّنَانِيرِ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ دِرْهَمٍ لَمْ تَجُزْ الْمُفَاوَضَةُ لِانْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ ، وَكَانَتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا عَنَانًا حَتَّى لَا يُطَالَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا يَجِبُ عَلَى صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ حُكْمِ الْكَفَالَةِ الثَّابِتَةِ بِالْمُفَاوَضَةِ .

قَالَ : ( وَإِذَا اقْتَسَمَا ضَرَبَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِرَأْسِ مَالِهِ ، أَوْ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ يَقْتَسِمُونَ ) ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ قِيمَةُ رَأْسِ الْمَالِ وَقْتَ الْقِسْمَةِ لِإِظْهَارِ الرِّبْحِ ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِلْ إلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَمِيعُ رَأْسِ مَالِهِ لَا يَظْهَرُ الرِّبْحُ لِيَقْتَسِمَاهُ بَيْنَهُمَا

قَالَ : ( وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : بِعْتُك نَصِفَ مَالِي هَذَا بِنِصْفِ مَالِك هَذَا ، فَرَضِيَ بِذَلِكَ ، وَتَقَابَضَا كَانَا شَرِيكَيْنِ فِيهِمَا بِمَنْزِلَةِ الْمَالِ الْمُخْتَلَطِ ) ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الَّذِي جَرَى بَيْنَهُمَا عَقْدُ صَرْفٍ ، وَقَدْ تَمَّ بِالتَّقَابُضِ ؛ فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَالَيْنِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ .
فَإِنْ كَانَ رَأْسُ مَالِ أَحَدِهِمَا دَرَاهِمَ وَرَأْسُ مَالِ الْآخَرِ عُرُوضًا ، فَبَاعَهُ نَصِفَ الْعُرُوضِ بِنِصْفِ الدَّرَاهِمِ وَتَقَابَضَا ثُمَّ اشْتَرَكَا شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ ، أَوْ شَرِكَةَ عَنَانٍ : جَازَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الدَّرَاهِمَ بِهَذَا الْعَقْدِ صَارَتْ نِصْفَيْنِ بَيْنَهُمَا ، فَيَكُونُ ذَلِكَ رَأْسَ مَالِهِمَا ، ثُمَّ يَثْبُتُ فِي الشَّرِكَةِ حُكْمُ الْعُرُوضِ ، وَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ بَيْعًا ، وَقَدْ يَدْخُلُ فِي الْعَقْدِ بَيْعًا مَا لَا يَجُوزُ إيرَادُ الْعَقْدِ عَلَيْهِ قَصْدًا - كَالشُّرْبِ .
وَالطَّرِيقِ فِي الْبَيْعِ ، وَالْمَنْقُولَاتُ فِي الْوَقْفِ يَثْبُتُ فِيهَا حُكْمُ الْوَقْفِ تَبَعًا ، إذَا وَقَفَ قَرْيَةً بِمَا فِيهَا مِنْ الدَّوَابِّ وَالْمَمَالِيكِ وَآلَاتِ الْحِرَاثَةِ .
وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْوَقْفِ فِي الْمَنْقُولَاتِ قَصْدًا ، فَهَذَا مِثْلُهُ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشِّرَاءَ وَالْحِلَّ بِمَنْزِلَةِ الْعُرُوضِ فِي أَنَّهُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ .

قَالَ : ( وَإِنْ اشْتَرَكَا شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ بِغَيْرِ مَالٍ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَا بِوُجُوهِهِمَا ، فَهُوَ جَائِزٌ ) ، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ ، إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمُفَاوَضَةُ عَامَّةً .
وَمِثْلُهُ فِي الْوَكَالَةِ لَا يَجُوزُ ؛ فَإِنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ : اشْتَرِ بَيْنِي وَبَيْنَك ، لَا يَكُونُ ذَلِكَ صَحِيحًا مَا لَمْ يُعَيَّنْ الْمُشْتَرَى أَوْ يُخَصَّ بِذِكْرِ الْوَقْتِ ، أَوْ بِتَسْمِيَةِ الْجِنْسِ فِي الْعُرُوضِ وَالْقَدْرِ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ ، أَوْ بِتَسْمِيَتِهِ الثَّمَنَ وَتَفْوِيضِ الْأَمْرِ إلَى رَأْيِهِ عَلَى الْعُمُومِ .
وَفِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ يَجُوزُ ذَلِكَ بِدُونِ التَّخْصِيصِ ؛ لِأَنَّهَا تَشْتَمِلُ عَلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ، وَمَقْصُودُهُمَا الرِّبْحُ لَا عَيْنُ الْمُشْتَرَى ، وَمِثْلُهُ فِي الْوَكَالَةِ يَجُوزُ .
أَيْضًا لَوْ قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ : مَا اشْتَرَيْنَا مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَنَا نِصْفَانِ عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ وَيَقْسِمَ رِبْحَهُ نِصْفَيْنِ .
وَكَانَ ذَلِكَ تَفْسِيرًا لِلشَّرِكَةِ ، فَأَمَّا فِي الْوَكَالَةِ الْخَاصَّةِ الْمَقْصُودُ عَيْنُ الْمُشْتَرَى ، فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ مَعْنَى الْخُصُوصِ فِيهِ لِتَصْحِيحِ الْوَكَالَةِ .

قَالَ : ( وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَكَ خَيَّاطَانِ فِي الْخِيَاطَةِ مُفَاوَضَةً ، أَوْ خَيَّاطٌ وَقَصَّارٌ ، أَوْ شِبْهُ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْمَالِ الْمُخْتَلِفَةِ ، أَوْ الْمُتَّفِقَةِ ، حَتَّى إذَا تَقَبَّلَ أَحَدُهُمَا عَمَلًا أَخَذَ الْآخَرُ بِهِ - وَإِنْ كَانَ عَمَلُهُ غَيْرَ ذَلِكَ الْعَمَلِ ) - ؛ لِأَنَّ بِشَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ صَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلَ صَاحِبِهِ فِي تَقَبُّلِ الْعَمَلِ لَهُ ، وَكَفِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ ؛ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَأْخُوذًا بِمَا يَقْبَلُهُ الْآخَرُ ، وَلَا يَمْتَنِعُ صِحَّةُ التَّقَبُّلِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ عَمَلِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إقَامَةُ مَا يَقْبَلُ بِبَدَنِهِ ، وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يُقِيمَهُ بِأَعْوَانِهِ وَأَحْزَابِهِ ، وَهُوَ يَقْدِرُ لَهُ عَلَى إبْقَاءِ مَا الْتَزَمَهُ بِهَذَا الطَّرِيقِ ؛ فَلِهَذَا كَانَ مُطَالَبًا بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ ، وَاَللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَعْلَمُ

بَابُ بِضَاعَةِ الْمُفَاوِضِ قَالَ : ( وَلِأَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ أَنْ يَبِيعَ بِضَاعَةً مَعَ رَجُلٍ ، وَأَنْ يَدْفَعَ مُضَارَبَةً ، وَأَنْ يُودِعَ ) ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ شَرِيكَ الْعَنَانِ يَمْلِكُ هَذَا ؛ فَالْمُفَاوِضُ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَعْلَمُ تَصَرُّفًا مِنْهُ .
قَالَ : ( وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقْرِضَ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَاضَ تَبَرُّعٌ ) ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ إنَّمَا قَامَ مَقَامَ صَاحِبِهِ فِي التِّجَارَةِ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ دُونَ التَّبَرُّعِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْهِبَةَ وَلَا الصَّدَقَةَ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ ، .
فَالِاقْتِرَاضُ فِي كَوْنِهِ تَبَرُّعًا كَالصَّدَقَةِ أَوْ فَوْقَهُ .
قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - { : الصَّدَقَةُ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهَا ، وَالْقَرْضُ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ } .
وَقِيلَ : إنَّمَا جَعَلَ الثَّوَابَ فِي الْقَرْضِ أَكْثَرَ ؛ لِأَنَّ مُلْتَمِسَ الْقَرْضِ لَا يَأْتِيك إلَّا مُحْتَاجًا ، وَالسَّائِلُ لِلصَّدَقَةِ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ مُحْتَاجٍ .
( وَذَكَرَ ) الْحَسَنُ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : لِأَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ أَنْ يَقْرِضَ مَالَ الْمُفَاوَضَةِ مِنْ رَجُلٍ ، وَيَأْخُذَ مِنْهُ مَا يَتَحَقَّقُهُ بِهِ .
" وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى " : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ .
وَجَعَلَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فِي الْأَدَاءِ ، وَلَكِنْ يَرْجِعُ بِمِثْلِهِ .
كَمَا أَنَّ الْكَفِيلَ مُتَبَرِّعٌ فِي الِالْتِزَامِ ، وَلَكِنْ يُرْجِعُ بِمِثْلِ مَا يُؤَدِّي .
ثُمَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ أَحَدَ الْمُتَفَاوِضَيْنِ إذَا كَفَلَ بِمَالٍ يَلْزَمُ شَرِيكَهُ ، وَيُجْعَلُ مَعْنَى الْمُفَاوَضَةِ فِي ذَلِكَ رَاجِحًا لِذَلِكَ الْإِقْرَارِ .
" وَعِنْدَهُمَا " : كَفَالَةُ أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ لَا يَلْزَمُ شَرِيكَهُ .
وَجَعَلَا مَعْنَى التَّبَرُّعِ فِيهِ رَاجِحًا لِذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ .
قَالَ : ( فَإِنْ أَقْرَضَ أَحَدُهُمَا فَهُوَ ضَامِنٌ نَصِفَ مَا أَقْرَضَ لِشَرِيكِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ بِتَصَرُّفِهِ فِي الْمَالِ عَلَى غَيْرِ مَا هُوَ مُقْتَضَى

الشَّرِكَةِ ، وَلَكِنْ لَا يُفْسِدُ ذَلِكَ الْمُفَاوَضَةَ ؛ لِأَنَّ الْمَضْمُونَ لَهُ إنَّمَا اُخْتُصَّ بِمِلْكِ دَيْنٍ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُفْسِدٍ لِلْمُفَاوَضَةِ مَا لَمْ يَقْبِضْهُ ، وَلِأَنَّ الْمُقْتَرِضَ مُسْتَوْجِبٌ مِثْلَ ذَلِكَ عَنْ الْمُسْتَقْرِضِ ؛ فَكَانَتْ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا قَائِمَةً .

قَالَ : ( وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُعِيرَ دَابَّةً بِغَيْرِ رَأْيِهِ مِنْ شَرِكَتِهِمَا ، فِي الْقِيَاسِ ) ؛ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ تَبَرُّعٌ بِالْمَنْفَعَةِ بِغَيْرِ بَدَلٍ ، فَهُوَ كَالتَّبَرُّعِ بِالْعَيْنِ بِغَيْرِ بَدَلٍ - كَالْهِبَةِ - وَذَلِكَ خِلَافُ مَا تَقْتَضِيه الْمُفَاوَضَةُ .
قَالَ : ( فَإِذَا فَعَلَ فَعَطِبَتْ الدَّابَّةُ تَحْتَ الْمُسْتَعِيرِ ؛ كَانَ الْمُعِيرُ ضَامِنًا نَصِفَ قِيمَةِ الدَّابَّةِ لِشَرِيكِهِ ، فِي الْقِيَاسِ ) ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي نَصِيبِهِ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْمُسْتَعِيرِ .
وَلَكِنْ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ : لَهُ أَنْ يُعِيرَ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْإِعَارَةَ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ ، فَإِنَّ التَّاجِرَ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَتَاهُ مَنْ يُعَامِلُهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يُعِيرَهُ ثَوْبًا ؛ لِيَلْبَسَ ، أَوْ وِسَادَةً يَجْلِسُ عَلَيْهَا .
وَلَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ إعَارَةِ الْمِيزَانِ وَصَنَجَاتِهِ مِنْ بَعْضِ الْجِيرَانِ ؛ فَإِنَّ مَنْ لَا يُعِيرُ لَا يُعَارُ عِنْدَ حَاجَتِهِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالِكٌ لِلتِّجَارَةِ فِي هَذَا الْمَالِ فَيَمْلِكُ مَا هُوَ مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَأْذُونَ يُعِيرُ ، وَالْمُفَاوِضُ أَعَمُّ تَصَرُّفًا مِنْ الْمَأْذُونِ حَتَّى أَنَّ الْمُفَاوِضَ يُكَاتِبُ وَالْمَأْذُونَ لَا يُكَاتِبُ .
وَعَلَّلَ فِي بَعْضِ النَّوَادِرِ فَقَالَ : التَّاجِرُ فِي الْمَالِ - وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَالِكًا لِشَيْءٍ مِنْهُ - فَلَهُ أَنْ يُعِيرَ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ الْمَأْذُونَ .
فَالتَّاجِرُ الَّذِي يَمْلِكُ النِّصْفَ يَكُونُ شَرِيكًا فِي الرِّبْحِ ؛ لِأَنَّ تَمَلُّكَ الْإِعَارَةِ أَوْلَى .

قَالَ : ( وَلَوْ أَبْضَعَ أَحَدُهُمَا بِضَاعَةً مَعَ رَجُلٍ لَمْ يُفَرَّقْ الْمُتَفَاوِضَانِ .
ثُمَّ اشْتَرَى الْمُسْتَبْضِعُ بِالْبِضَاعَةِ شَيْئًا ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ تَوَفُّرَهُمَا ؛ فَشِرَاؤُهُ جَائِزٌ عَلَى الْآمِرِ وَعَلَى شَرِيكِهِ ) ؛ لِأَنَّ الْإِبْضَاعَ تَوْكِيلٌ ، وَمُبَاشَرَةُ أَحَدِهِمَا فِيهِ حَالَ قِيَامِ الْمُفَاوَضَةِ كَمُبَاشَرَتِهِمَا .
ثُمَّ افْتِرَاقُهُمَا عَزْلٌ مِنْهُمَا إيَّاهُ عَنْ التَّصَرُّفِ قَصْدًا ، وَحُكْمُ الْعَزْلِ لَا يَثْبُتُ قَصْدًا فِي حَقِّ الْوَكِيلِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ ؛ فَلِهَذَا نَفَذَ شِرَاؤُهُ عَلَيْهِمَا ، وَلَوْ كَانَ أَمَرَهُ بِالشِّرَاءِ ، وَلَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ مَالًا ؛ كَانَ مَا اشْتَرَى لِلْآمِرِ خَاصَّةً ، لِأَنَّ عَمَلَ أَحَدِهِمَا فِيمَا هُوَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا كَعَمَلِهِمَا .
وَإِذَا دَفَعَ إلَيْهِ مَالًا مِنْ شَرِكَتِهِمَا ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ بِهَا فَإِنَّمَا وُجِدَ عَمَلُ أَحَدِهِمَا فِيمَا هُوَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا .
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ دَفَعَ إلَيْهِ مَالًا فَإِنَّمَا عَمِلَ أَحَدُهُمَا بِالتَّوْكِيلِ وَالْإِنَابَةِ ، فِيمَا لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا ، إلَّا أَنَّ الْمُفَاوَضَةَ إذَا بَقِيَتْ بَيْنَهُمَا حَتَّى اشْتَرَى الْوَكِيلُ جُعِلَ شِرَاؤُهُ كَشِرَاءِ الْمُوَكِّلِ ، وَكَانَ الْمُشْتَرَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ بِهَذَا الطَّرِيقِ .
وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ إذَا افْتَرَقَا قَبْلَ شِرَاءِ الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ شِرَاءِ الْوَكِيلِ لَوْ اشْتَرَاهُ الْمُوَكِّلُ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ ، وَكَذَلِكَ الْوَكِيلُ يَكُونُ مُشْتَرِيًا لِلْآمِرِ خَاصَّةً .
يُوَضِّحُهُ : أَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ الْوَكِيلِ وَاجِبٌ ، وَإِذَا كَانَ الْمَالُ مَدْفُوعًا إلَيْهِ لَوْ جَعَلْنَاهُ مُشْتَرِيًا لِلْآمِرِ خَاصَّةً كَانَ ضَامِنًا لِلْآخَرِ نَصِيبَهُ مِنْ الْمَالِ .
فَلِدَفْعِ هَذَا الضَّرَرِ جَعَلْنَاهُ مُشْتَرَيًا بَيْنَهُمَا إذَا لَمْ يُعْرَفْ افْتِرَاقُهُمَا ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِيمَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْمَالُ مَدْفُوعًا إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَضْمَنُ لِلشَّرِيكِ شَيْئًا - وَإِنْ صَارَ مُشْتَرَيًا لِلْآمِرِ - وَلَكِنْ يَجِبُ الشِّرَاءُ بِالثَّمَنِ فِي ذِمَّتِهِ ، وَيُرْجَعُ بِهِ عَلَى الْآمِرِ

، وَقَدْ رَضِيَ بِذَلِكَ حِينَ قَبِلَ الْوَكَالَةَ .
قَالَ : ( أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَاتَ الَّذِي لَمْ يُبْضِعُ ثُمَّ اشْتَرَى الْمُسْتَبْضَعُ الْمَتَاعَ لَزِمَ الْحَيَّ خَاصَّةً ) ، إلَّا أَنَّ فِي فَضْلِ الْمَوْتِ إذَا كَانَ الْمَالُ مَدْفُوعًا إلَى الْمُسْتَبْضَعِ فَوَرِثَهُ الْمَيِّتِ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءُوا ضَمَّنُوا الْمُسْتَبْضَعَ ، وَإِنْ شَاءُوا ضَمَّنُوا الْآمِرَ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَوْتَ يُوجِبُ عَزْلَ الْوَكِيلِ حُكْمًا بِطَرِيقِ أَنَّهُ يَنْقُلُ الْمِلْكَ إلَى الْوَرَثَةِ ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الرِّضَا بِتَصَرُّفِ الْوَكِيلِ ، وَالْعَزْلُ الْحُكْمِيُّ يَثْبُتُ فِي حَقِّ الْوَكِيلِ ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ بِهِ - بِخِلَافِ افْتِرَاقِهِمَا - فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ الَّذِي لَمْ يُبْضِعْ عَزْلَ الْوَكِيلِ فِي نَصِيبِهِ قَصْدًا ؛ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُهُ فِي حَقِّهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ - وَإِنْ كَانَ لِلْوَرَثَةِ حَقُّ تَضْمِينِ الْمُسْتَبْضَعِ - ؛ لِأَنَّهُ جَانٍ فِي نَصِيبِهِمْ مِنْ الْمَالِ بِالدَّفْعِ إلَى الْبَائِعِ مِنْ غَيْرِ رِضَاهُمْ .
ثَمَّ فَلَهُمْ أَنْ يُضَمِّنُوهُ إنْ شَاءُوا ، وَإِنْ شَاءُوا الْآمِرَ ؛ لِأَنَّ دَفْعَهُ كَانَ بِإِذْنِ الْآمِرِ فَيَكُونُ كَدَفْعِ الْآمِرِ بِنَفْسِهِ ، فَإِنْ ضَمِنُوا الْمُسْتَبْضَعَ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْآمِرِ ؛ لِأَنَّهُ غُرْمٌ لِحَقِّهِ فِي عَمَلٍ بَاشَرَهُ لَهُ بِأَمْرِهِ ، وَلِأَنَّ جَمِيعَ الْمَتَاعِ صَارَ لِلْآمِرِ فَيَكُونُ عَلَيْهِ جَمِيعُ الثَّمَنِ ، وَقَدْ نَقَدَ نَصِفَ الثَّمَنِ مِنْ مَالِهِ وَنِصْفَهُ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ ، وَقَدْ اسْتَحَقَّ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِمِثْلِهِ .

قَالَ : ( وَإِذَا وَكَّلَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ رَجُلًا بِشِرَاءِ جَارِيَةٍ بِعَيْنِهَا ، أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهَا بِثَمَنٍ مُسَمًّى ، ثُمَّ إنَّ الْآخَرَ نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ : فَنَهْيُهُ جَائِزٌ ) ؛ لِأَنَّ عَزْلَ الْوَكِيلِ مِنْ صَنِيعِ التِّجَارَةِ كَالتَّوْكِيلِ ، فَكَمَا جُعِلَ فِعْلُ أَحَدِهِمَا فِي التَّوْكِيلِ كَفِعْلِهِمَا ، فَكَذَلِكَ يُجْعَلُ نَهْيُ أَحَدِهِمَا إيَّاهُ كَنَهْيِهِمَا ، وَإِنْ اشْتَرَاهُ الْوَكِيلُ فَهُوَ مُشْتَرٍ لِنَفْسِهِ ؛ فَإِنَّ الْوَكَالَةَ قَدْ بَطَلَتْ بِعَزْلِ أَحَدِهِمَا إيَّاهُ ، فَإِنْ لَمْ يَنْهَهُ حَتَّى اشْتَرَاهَا كَانَ مُشْتَرِيًا لَهُمَا جَمِيعًا فَيَرْجِعُ بِالثَّمَنِ عَلَى أَيُّهَا شَاءَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يُطَالَبُ بِمَا وَجَبَ عَلَى صَاحِبِهِ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ ، وَقَدْ كَانَ تَوْكِيلُ أَحَدِهِمَا كَتَوْكِيلِهِمَا جَمِيعًا فَيَسْتَوْجِبُ الْوَكِيلُ الرُّجُوعَ عَلَيْهَا بِالثَّمَنِ فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ بِجَمِيعِهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي النِّصْفِ أَصِيلٌ وَفِي النِّصْفِ كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ .
وَكَذَا إنْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا شَيْئًا ، وَقَبَضَهُ كَانَ لِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ شَرِيكَهُ بِالثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ كَفِيلٌ عَنْ الْمُشْتَرِي بِمَا يَلْزَمُهُ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ .
وَإِنْ كَانَ بِالْمَتَاعِ عَيْبٌ كَانَ لِلشَّرِيكِ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الْبَائِعِ بِعَيْنِهِ ؛ لِأَنَّ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ مِنْ حُقُوقِ التِّجَارَةِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ فِيمَا يَجِبُ بِالتِّجَارَةِ لَهُ وَعَلَيْهِ .
وَكَذَلِكَ إنْ بَاعَ أَحَدُهُمَا مَتَاعًا فَوَجَدَ الْمُشْتَرِي بِهِ عَيْبًا كَانَ لَهُ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَى الَّذِي لَمْ يَبِعْ ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ فِيمَا يَلْزَمُهُ بِالتِّجَارَةِ ، وَالْخُصُومَةُ فِي الْعَيْبِ إنَّمَا لَزِمَتْهُ بِالتِّجَارَةِ ، فَكَانَ الْآخَرُ قَائِمًا مَقَامَ الْبَائِعِ فِي ذَلِكَ فَرُدَّ عَلَيْهِ .
قَالَ : ( أَرَأَيْت لَوْ كَانَا قَصَّارَيْنِ مُتَفَاوِضَيْنِ ، فَأَسْلَمَ رَجُلٌ إلَى أَحَدِهِمَا ثَوْبًا ، أَمَا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْآخَرَ بِعَمَلِهِ ذَلِكَ ؟ لَهُ ذَلِكَ .
) وَلِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِالْأَجْرِ إذَا فَرَغَ مِنْ

الْعَمَلِ .
فَحُكْمُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ كَذَلِكَ .

قَالَ : ( وَإِذَا أَبْضَعَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ بِضَاعَةً لَهُ وَلِشَرِيكٍ لَهُ شَارَكَهُ شَرِكَةَ عَنَانٍ ، فَأَبْضَعَ أَلْفَ دِرْهَمٍ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ مَعَ رَجُلٍ يَشْتَرِي لَهُ بِهَا مَتَاعًا ، فَرَضِيَ الشَّرِيكُ فَمَاتَ الدَّافِعُ ، ثُمَّ اشْتَرَى الْمُسْتَبْضَعُ بِذَلِكَ مَتَاعًا : فَالْمَتَاعُ لِلْمُشْتَرِي أَوَّلًا ) .
يَقُولُ : فِيمَا ذَكَرْنَا بَيَانُ أَنَّ لِأَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ أَنْ يُشَارِكَ مَعَ رَجُلٍ شَرِكَةَ عَنَانٍ ، وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يُجَابُ إلَى الشَّرِكَةِ لِلْغَيْرِ فِي الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ .
وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِشَرِيكِ الْعَنَانِ أَنْ يُشَارِكَ غَيْرَهُ ، فَكَذَلِكَ فِي الْمُفَاوِضِ .
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْعَنَانَ دُونَ الْمُفَاوَضَةِ ؛ فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ مِنْ تَوَابِعِ الْمُفَاوَضَةِ مُسْتَفَادًا بِهَا كَالْمُضَارَبَةِ وَشَرِكَةِ الْعَنَانِ .

قَالَ : ( وَإِنْ شَارَكَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ رَجُلًا شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ عَلَى شَرِيكِهِ ) فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ مِثْلُ الْأَوَّلِ ، فَلَا يَكُونُ مِنْ تَوَابِعِ الْأَوَّلِ مُسْتَفَادًا بِهِ .
كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ لِشَرِيكِ الْعَنَانِ أَنْ يُشَارِكَ غَيْرَهُ فَكَذَلِكَ ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَجُوزُ ذَلِكَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْمُتَفَاوِضَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ ؛ فَيَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِعْلِهِمَا .
إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ : الْمُسْتَبْضَعُ وَكِيلٌ لِلدَّافِعِ ؛ فَيُعْزَلُ بِمَوْتِ الدَّافِعِ - عَلِمَ بِهِ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ - ؛ لِأَنَّ هَذَا عَزْلٌ مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ .
فَإِذَا اشْتَرَى الْمَتَاعَ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ ، فَإِذَا نَقَدَ الثَّمَنَ بِالْمَالِ الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ فَقَدْ قَضَى بِمَالِ الْغَيْرِ دَيْنًا عَلَيْهِ ؛ فَيَكُونُ ضَامِنًا مِثْلَ ذَلِكَ الْمَالِ لِصَاحِبِ الْمَالِ ، وَنِصْفُ هَذَا الْمَالِ لِشَرِيكِ الْعَنَانِ فَيَضْمَنُ لَهُ ذَلِكَ ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لِلْمُفَاوَضِ الْحَيِّ وَلِوَرَثَةِ الْمَيِّتِ فَيَضْمَنُ لَهُمَا ذَلِكَ .
وَإِنَّمَا قُلْنَا : إنَّهُ يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ الدَّافِعِ أَمَّا فِي حَقِّهِ لَا يُشْكِلُ ، وَفِي حَقِّ الشَّرِيكَيْنِ الْآخَرَيْنِ ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ قَدْ انْقَطَعَتْ مِنْ الدَّافِعِ ، وَبِينَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَوْتِهِ ، وَاعْتِبَارُ أَمْرِهِ فِي حَقِّهِمَا كَانَ بِعَقْدِ الشَّرِكَةِ ؛ فَلَا يَبْقَى بَعْدَ انْتِقَاضِهَا .
وَلَوْ كَانَ الدَّافِعُ حَيًّا وَمَاتَ شَرِيكُ الْعَنَانِ ثُمَّ اشْتَرَى الْمُسْتَبْضَعُ الْمَتَاعَ ؛ كَانَ الْمَتَاعُ كُلُّهُ لِلْمُتَفَاوِضَيْنِ ، لِأَنَّ شَرِكَةَ الدَّافِعِ مَعَ شَرِيكِ الْعَنَانِ قَدْ انْتَقَضَتْ بِمَوْتِهِ ، وَانْقَطَعَتْ الْوَكَالَةُ الَّتِي كَانَتْ بَيْنَهُمَا ، فَلَا يَثْبُتُ لَهُ الْمِلْكُ فِي الْمَتَاعِ بِشِرَاءِ الْوَكِيلِ ؛ لِأَنَّ شِرَاءَ الْوَكِيلِ كَشِرَاءِ الْمُوَكِّلِ بِنَفْسِهِ ، وَالدَّافِعُ لَوْ اشْتَرَى الْمَتَاعَ بِنَفْسِهِ كَانَ

الْمَتَاعُ كُلُّهُ لِلْمُتَفَاوِضَيْنِ ، فَكَذَلِكَ وَكِيلُهُ .
وَيَرْجِعُ وَرَثَةُ الْمَيِّتِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الْمَالِ إنْ شَاءُوا عَلَى الْمُسْتَبْضَعِ ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ مَا صَارَ مِيرَاثًا لَهُمْ إلَى الْبَائِعِ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُسْتَبْضَعُ بِهِ عَلَى أَيِّ الْمُتَفَاوِضَيْنِ شَاءُوا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ عَنْ صَاحِبِهِ مَا يَلْزَمُهُ بِحُكْمِ قِيَامِ الْمُفَاوَضَةِ بَيْنَهُمَا ، وَقَدْ صَارَ الدَّافِعُ ضَامِنًا لِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ وَكِيلِهِ بِأَمْرِهِ كَأَدَائِهِ بِنَفْسِهِ ، فَإِنْ لَمْ يَمُتْ هَذَا وَلَكِنَّ الْمُتَفَاوِضَ الْآخَرَ مَاتَ ، ثُمَّ اشْتَرَى الْمُسْتَبْضَعُ الْمَتَاعَ ؛ فَنِصْفُ الْمَتَاعِ لِشَرِيكِ الْعَنَانِ لِقِيَامِ الشَّرِكَةِ بَيْنَ الدَّافِعِ وَبَيْنَ شَرِيكِ الْعَنَانِ ، وَلِأَنَّ شِرَاءَ وَكِيلِهِ لَهُ كَشِرَائِهِ بِنَفْسِهِ ، وَنِصْفُ الْمَتَاعِ لِلْآمِرِ لَا شَيْءَ لَهُ مِنْهُ لِوَرَثَةِ الْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ قَدْ انْتَقَضَتْ بَيْنَ الدَّافِعِ وَبَيْنَ الْمَيِّتِ .
وَلَوْ اشْتَرَى بِنَفْسِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ الْمُشْتَرَى لِوَرَثَةِ الْمَيِّتِ ، فَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى وَكِيلُهُ .
وَلِوَرَثَةِ الْمَيِّتِ الْخِيَارُ إنْ شَاءُوا ضَمَّنُوا نَصِيبَهُمْ مِنْ الْمَالِ الْمُفَاوَضِ الْحَيَّ ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ وَكِيلِهِ كَأَدَائِهِ بِنَفْسِهِ ، وَإِنْ شَاءُوا ضَمَّنُوهُ الْمُسْتَبْضَعَ ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ مَالَهُمْ إلَى الْبَائِعِ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ .
ثُمَّ يَرْجِعُ الْمُسْتَبْضَعُ بِهِ عَلَى الْآمِرِ ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ فِيمَا أَدَّى بِأَمْرِهِ ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا يَلْحَقُ مِنْ الْعُهْدَةِ وَلَا يَرْجِعُ بِهَا عَلَى شَرِيكِهِ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا عَنَانٌ ؛ فَلَا يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُطَالَبًا بِمَا يَجِبُ عَلَى الْآخَرِ .

( قَالَ : وَإِنْ أَخَذَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ مِنْ رَجُلٍ مَالًا عَلَى بَيْعٍ فَاسِدٍ فَاشْتَرَى بِهِ وَبَاعَ ؛ كَانَ الْبَيْعُ لَهُمَا وَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا ) ؛ لِأَنَّ مَا حَصَلَ إنَّمَا يَحْصُلُ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ ، وَمَا وَجَبَ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْفَاسِدَ مِنْ الْبَيْعِ مُعْتَبَرٌ بِالْجَائِزِ فِي الْأَحْكَامِ .
وَفِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي التِّجَارَةِ كَفِعْلِهِمَا فِيمَا يَجِبُ بِهِ عَلَيْهِمَا ، وَفِيمَا يَحْصُلُ بِهِ لَهُمَا .

( قَالَ : وَإِذَا أَمَرَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ رَجُلَيْنِ بِأَنْ يَشْتَرِيَا عَبْدًا لَهُمَا ، وَسَمَّى جِنْسَهُ وَثَمَنَهُ ، فَاشْتَرَيَاهُ وَافْتَرَقَا عَنْ الشَّرِكَةِ فَقَالَ الْآمِرُ : اشْتَرَيَاهُ بَعْدَ التَّفْرِيقِ ؛ فَهُوَ لِي خَاصَّةً .
وَقَالَ الْآخَرُ اشْتَرَيَاهُ قَبْلَ الْفُرْقَةِ ؛ فَهُوَ بَيْنَنَا .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْآمِرِ مَعَ يَمِينِهِ ) ؛ لِأَنَّ الشِّرَاءَ حَادِثٌ ، فَيُحَالُ حُدُوثُهُ إلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ .
وَمَنْ ادَّعَى فِيهِ تَارِيخًا سَابِقًا فَعَلَيْهِ إثْبَاتُهُ بِالْبَيِّنَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ يَجْحَدُ التَّارِيخَ مَعَ يَمِينِهِ ، وَلِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ فِي الْمُشْتَرَى أَظْهَرُ لِلْآمِرِ ؛ فَإِنَّ فِعْلَ وَكِيلِهِ كَفِعْلِهِ بِنَفْسِهِ .
وَالْآخَرُ يَدَّعِي اسْتِحْقَاقَ الْمُشْتَرَى عَلَيْهِ ، وَهُوَ يُنْكِرُ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ، وَعَلَى الْآخَرِ الْبَيِّنَةُ ، فَإِنْ أَقَامَا الْبَيِّنَةَ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ إثْبَاتَ التَّارِيخِ ، فَإِثْبَاتُ الِاسْتِحْقَاقِ لَهُ ، وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِثْبَاتِ ، فَتَتَرَجَّحُ بِزِيَادَةِ الْإِثْبَاتِ وَلَا تُقْبَلُ فِيهِ شَهَادَةُ الْوَكِيلَيْنِ لِأَنَّهُمَا خَصْمَانِ فِي ذَلِكَ يَشْهَدَانِ عَلَى فِعْلِ أَنْفُسِهِمَا ، فَإِنْ قَالَ الشَّرِيكَانِ : لَا نَدْرِي مَتَى اشْتَرَيَاهُ فَهُوَ لِلْآمِرِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُحَالُ بِالشِّرَاءِ عَلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ لِمَا يُعْلَمُ فِيهِ تَارِيخٌ سَابِقٌ .
وَإِذَا قَالَ الْآمِرُ : اشْتَرَيَاهُ قَبْلَ الْفُرْقَةِ ، وَقَالَ الْآخَرُ : اشْتَرَيَاهُ بَعْدَ الْفُرْقَةِ .
فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي لَمْ يَأْمُرْ لِإِنْكَارِهِ التَّارِيخَ ، وَإِنْكَارِهِ وُقُوعَ الْمِلْكِ لَهُ ، وَوُجُوبَ شَيْءٍ مِنْ الثَّمَنِ عَلَيْهِ ، وَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْآمِرِ ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ .

بَابُ خُصُومَةِ الْمُفَاوِضَيْنِ فِيمَا بَيْنَهُمَا .
قَالَ : ( وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ شَارَكَهُ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ ، وَجَحَدَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، وَالْمَالُ فِي يَدِ الْجَاحِدِ ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْجَاحِدِ مَعَ يَمِينِهِ وَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ ) ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي الْعَقْدَ ، وَاسْتِحْقَاقَ نِصْفِ مَا فِي يَدِهِ - وَذُو الْيَدِ مُنْكِرٌ - فَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ ، وَعَلَى الْمُنْكِرِ الْيَمِينُ .
وَإِنْ أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ فَشَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّهُ مُفَاوَضَةٌ ، أَوْ زَادُوا عَلَى هَذَا فَقَالُوا : الْمَالُ الَّذِي فِي يَدِهِ مِنْ شَرِكَتِهِمَا ، أَوْ قَالُوا : هُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ فَإِنَّهُ يُقْضَى لِلْمُدَّعَى بِنِصْفِهِ ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ ، وَلِأَنَّهُمَا إنْ قَالَا : الْمَالُ الَّذِي فِي يَدِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ، أَوْ هُوَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا فَقَدْ صَرَّحَا بِالشَّهَادَةِ لِلْمُدَّعَى بِمِلْكِ نِصْفِ مَا فِي يَدِ ذِي الْيَدِ ، وَإِنْ قَالَا : هُوَ مُفَاوَضَةٌ فَمُقْتَضَى الْمُفَاوَضَةِ هَذَا ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَا مُسْتَوِيَيْنِ فِي مِلْكِ الْمَالِ شَرِيكَيْنِ فِيهِ فَإِذَا قَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ ، ثُمَّ ادَّعَى ذُو الْيَدِ عَيْنًا مِمَّا فِي يَدِهِ أَنَّهُ مِيرَاثٌ لَهُ ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ : إنْ كَانَ شُهُودُ الْمُدَّعِي شَهِدُوا بِأَنَّهُ مُفَاوَضَةٌ فَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ مَقْبُولَةٌ ، وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّ الْمَالَ الَّذِي فِي يَدِهِ مِنْ شَرِكَتِهِمَا ، أَوْ هُوَ بَيْنَهُمَا ؛ فَلَا تُقْبَلُ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَاحْتَجَّ فِي ذَلِكَ فَقَالَ : الْقَاضِي يَقْضِي بِمَا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ فَإِذَا شَهِدُوا بِمُطْلَقِ الْمُفَاوَضَةِ قَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ أَيْضًا .
وَمُطْلَقُ الْمُفَاوَضَةِ لَا يَنْفِي احْتِمَالَ كَوْنِ بَعْضِ مَا فِي يَدِهِ مِيرَاثًا لَهُ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَقْدَ لَوْ كَانَ ظَاهِرًا بَيْنَهُمَا ، وَوَرِثَ أَحَدُهُمَا مَالًا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ كَانَ

ذَلِكَ لَهُ خَاصَّةً ، وَتَبْقَى الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَهُمَا إلَّا أَنَّا إنَّمَا نَجْعَلُ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاعْتِبَارِ مُقْتَضَى الْمُفَاوَضَةِ ، وَهَذَا ظَاهِرٌ نَعْتَبِرُهُ ، وَالظَّاهِرُ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ إذَا قَامَ الدَّلِيلُ بِخِلَافَةِ فَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى عَيْنٍ أَنَّهُ مِيرَاثٌ لَهُ فَقَدْ ظَهَرَ الدَّلِيلُ الْمَانِعُ مِنْ اعْتِبَارِ الظَّاهِرِ فِي هَذَا الْعَيْنِ ، فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِذَلِكَ الدَّلِيلِ بِخِلَافِ مَا إذَا شَهِدُوا بِالشَّرِكَةِ فِيمَا فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ قَضَى بِالشَّرِكَةِ بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ لِذَلِكَ .
فَإِقَامَةُ الْبَيِّنَةِ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى عَيْنٍ أَنَّهُ مِيرَاثٌ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ حُكْمِ الْحَاكِمِ ، وَبَيِّنَةُ الْمَقْضِيّ عَلَيْهِ عَلَى إبْطَالِ الْقَضَاءِ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً .
وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ حَالَةِ الْإِطْلَاقِ وَالْبَيَانِ أَنَّ شَاهِدَيْنِ لَوْ شَهِدَا بِدَارِ فِي يَدِ رَجُلٍ لِإِنْسَانٍ ، وَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ ، ثُمَّ زَعَمَ الْمُدَّعِي أَنَّ الْبِنَاءَ كَانَ مِلْكَ الْمَقْضِيّ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَبْطُلُ قَضَاءُ الْقَاضِي بِالْأَرْضِ لَهُ .
وَلَوْ كَانَ الشُّهُودُ شَهِدُوا لَهُ بِالْبِنَاءِ وَالْأَرْضِ مُفَسِّرًا ، ثُمَّ أَقَرَّ الْمُدَّعِي أَنَّ الْبِنَاءَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَكُونُ ذَلِكَ إكْذَابًا مِنْهُ لِشُهُودِهِ ، وَيَبْطُلُ بِهِ قَضَاءُ الْقَاضِي لَهُ ، وَالْفَرْقُ مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْبِنَاءَ تَبَعٌ فَاسْتِحْقَاقُهُ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ إلَى اسْتِحْقَاقِهِ الْأَصْلَ .
وَعِنْدَ التَّفْسِيرِ وَالْبَيَانِ اسْتِحْقَاقُهُ الْبِنَاءَ بِالْحُجَّةِ ، فَإِذَا أَكْذَبَ شُهُودَهُ فِي ذَلِكَ بَطَلَتْ شَهَادَتُهُمْ لَهُ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ ذَا الْيَدِ صَارَ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِنِصْفِ مَا فِي يَدِهِ لِصَاحِبِهِ ، وَبَيِّنَةُ الْمَقْضِيّ عَلَيْهِ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ لَا تُقْبَلُ إلَّا أَنْ يَدَّعِي تَلَقِّي الْمِلْكَ مِنْ جِهَةِ الْمَقْضِيّ لَهُ ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الشَّهَادَةُ مُفَسَّرَةً ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْأَسْبَابَ غَيْرُ مَطْلُوبَةٍ لِأَعْيَانِهَا بَلْ

لِأَحْكَامِهَا ، وَالْمُفَاوَضَةُ سَبَبٌ ، وَحُكْمُهَا الشَّرِكَةُ فِي الْمَالِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ دَعْوَى الْمُفَاوَضَةِ لَا تَصِحُّ بِدُونِ دَعْوَى الشَّرِكَةِ فِي الْمَالِ ، فَكَذَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا إنَّمَا تُقْبَلُ بِاعْتِبَارِ الْحُكْمِ .
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُصَرِّحَ الشَّاهِدُ بِالْحُكْمِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَذْكُرَ السَّبَبَ فِي أَنَّ الْقَاضِيَ يَقْضِي بِالْحُكْمِ وَالسَّبَبِ جَمِيعًا بِالشَّهَادَةِ ، كَمَا لَوْ شَهِدُوا بِالشِّرَاءِ ، أَوْ بِالشِّرَاءِ وَالْمِلْكِ جَمِيعًا لِلْمُشْتَرِي ، ثُمَّ عِنْدَ التَّفْسِيرِ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ يَعْتَبِرُونَ بِهِ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ ، فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْإِبْهَامِ .

قَالَ : ( فَإِنْ ادَّعَى ذُو الْيَدِ عَيْنًا فِي يَدِهِ أَنَّهُ لَهُ خَاصَّةً ، وَهَبَهُ شَرِيكُهُ مِنْهُ حِصَّتَهُ فِيهِ ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْهِبَةِ وَالْقَبْضِ قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ ) وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَسْتَدِلُّ بِهَذَا عَلَى أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِيهِ عَلَى أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ هُنَا بَيِّنَتَهُ مَقْبُولَةٌ - سَوَاءٌ فَسَّرَ شُهُودُ الْمُدَّعِي بِشَهَادَتِهِمْ أَوْ لَمْ يُفَسِّرُوا - .
ثُمَّ الْفَرْقُ أَنَّهُ لَيْسَ فِي قَبُولِ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ إبْطَالُ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ فِي هَذَا الْعَيْنِ بَلْ فِيهَا تَقْرِيرُ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ الْأَوَّلَ بِالْمِلْكِ لِلْمُدَّعِي ، وَإِنَّمَا تَصِحُّ الْهِبَةُ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ مَعَ قَبُولِ الْبَيِّنَةِ هُنَاكَ إبْطَالُ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ فِيمَا تَنَاوَلَهُ الْقَضَاءُ .
قَالَ : أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا أَنَّ هَذَا الْعَبْدَ الَّذِي فِي يَدِهِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا ، وَقَضَى الْقَاضِي بِذَلِكَ ثُمَّ أَقَامَ ذُو الْيَدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمُدَّعِي وَهَبَهُ لَهُ ، أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ .
وَلَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ وَرِثَهُ عَنْ أَبِيهِ وَهُوَ يَمْلِكُهُ ، أَوْ أَنَّ رَجُلًا آخَرَ وَهَبَهُ مِنْهُ ؛ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ عَلَى ذَلِكَ ، وَالْفَرْقُ مَا بَيَّنَّا .
فَكَذَلِكَ فِي الْمُفَاوَضَةِ .
وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ شَرِيكُهُ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ ، وَالْمَالُ فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ، فَأَقَرَّ لَهُ بِالْمُفَاوَضَةِ وَقَضَى عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ ، ثُمَّ ادَّعَى عَبْدًا مِمَّا كَانَ فِي يَدِهِ أَنَّهُ مِيرَاثٌ لَهُ ، أَوْ وَهَبَهُ مِنْ فُلَانٍ فَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ ؛ قُبِلَ ذَلِكَ وَقُضِيَ لَهُ بِالْعَبْدِ ، وَهُوَ دَلِيلٌ لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَيْضًا مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا أَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ .
وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا لِأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ وَجْهَيْنِ ( أَحَدُهُمَا ) : أَنَّ ذَا الْيَدِ هُنَا مُقِرٌّ بِالْمُفَاوَضَةِ مُدَّعٍ الْمِيرَاثَ

، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا ، وَقَدْ أَثْبَتَ دَعْوَاهُ بِالْبَيِّنَةِ فَوَجَبَ قَبُولُ بَيِّنَتِهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ لَمَا كَانَ يَسْتَحْلِفُ خَصْمَهُ ، وَفِي الْأَوَّلِ ذُو الْيَدِ جَاحِدٌ مُدَّعًى عَلَيْهِ ، وَقَدْ صَارَ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِحُجَّةِ صَاحِبِهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى الْمِيرَاثَ ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ خَصْمَهُ ، فَعَرَفْنَا بِهَذَا أَنَّهُ مُنْكِرٌ ، وَالْمُنْكِرُ لَا يَكُونُ مُدَّعِيًا ؛ فَلِهَذَا لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ .
( وَالثَّانِي ) أَنَّ الْإِقْرَارَ مُوجِبٌ الْحَقَّ بِنَفْسِهِ بِدُونِ الْقَضَاءِ ، وَإِنَّمَا يَقْضِي الْقَاضِي بِالْإِقْرَارِ فَقَطْ ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا : إنْ اسْتِحْقَاقَ الْمِلْكِ بِالْإِقْرَارِ لَا يَظْهَرُ فِي حَقِّ الزَّوَائِدِ الْمُنْفَصِلَةِ ، فَأَمَّا الْبَيِّنَةُ لَا تُوجِبُ إلَّا بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، وَإِنَّمَا يَقْضِي الْقَاضِي بِمَا هُوَ الْمَقْصُودُ ، وَهُوَ كَوْنُ الْمَالِ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا ؛ فَلِهَذَا لَا يَقْبَلُ بَيِّنَةَ ذِي الْيَدِ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدَيْهِمَا جَمِيعًا ، وَهُمَا مُقِرَّانِ بِالْمُفَاوَضَةِ فَادَّعَى أَحَدُهُمَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَهُ مِيرَاثٌ ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُبِلَتْ بَيِّنَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ مُدَّعٍ أَثْبَتَ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ اُسْتُحْلِفَ صَاحِبُهُ ؛ لِأَنَّهُ مُنْكِرُهَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ يَلْزَمُهُ ، وَلَا إشْكَالَ فِي هَذَا الْفَصْلِ أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى تَمَلُّكَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ عَلَيْهِ بِالْهِبَةِ ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ بَيِّنَتَهُ تَكُونُ مَقْبُولَةً .

( وَإِنْ ادَّعَى رَجُلٌ قَبْلَ رَجُلٍ شِرْكًا فِي عَبْدٍ لَهُ خَاصَّةً ، وَجَحَدَ ذُو الْيَدِ وَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْعَبْدَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ؛ فَإِنَّهُ يُقْضَى لَهُ بِنِصْفِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ نَوَّرَ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ ، وَلَا تُقْبَلُ مِنْ ذِي الْيَدِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ ادَّعَى مِيرَاثًا فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ مَقْضِيٌّ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ فِي نِصْفِهِ ، وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ إلَّا أَنْ يَدَّعِي تَلَقِّي الْمِلْكِ مِنْ جِهَةِ الْمَقْضِيّ لَهُ .

قَالَ : ( وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ وَالْمَالُ فِي يَدِ الْبَاقِي مِنْهُمَا ، فَادَّعَى وَرَثَةُ الْمَيِّتِ الْمُفَاوَضَةَ ، وَجَحَدَ ذَلِكَ الْحَيُّ ، فَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبُوهُمْ كَانَ شَرِيكَهُ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ : لَمْ يُقْضَ لَهُمْ بِشَيْءٍ مِمَّا فِي يَدِ الْحَيِّ ) ؛ لِأَنَّهُمْ شَهِدُوا بِعَقْدٍ قَدْ عَلِمْنَا ارْتِفَاعَهُ بِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَنْتَقِضُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا ، وَلِأَنَّهُ لَا حُكْمَ لِمَا شَهِدُوا بِهِ فِي الْمَالِ الَّذِي فِي يَدِهِ فِي الْحَالِ ؛ لِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ فِيمَا مَضَى لَا تُوجِبُ أَنْ يَكُونَ مَا فِي يَدِهِ فِي الْحَالِ مِنْ شَرِكَتِهِمَا ، إلَّا أَنْ يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ فِي حَيَاةِ الْمَيِّتِ ، وَأَنَّهُ مِنْ شَرِكَةِ مَا بَيْنَهُمَا ؛ فَحِينَئِذٍ يُقْضَى لَهُمْ بِنِصْفِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ أَثْبَتُوا الِاسْتِحْقَاقَ بِالْحُجَّةِ .
أَمَّا إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ كَانَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا ، فَقَدْ شَهِدُوا بِالنِّصْفِ لِلْمَيِّتِ ، وَوَرَثَتُهُ خُلَفَاؤُهُ فِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ فِي حَيَاةِ الْمَيِّتِ ، فَالْيَدُ الثَّابِتَةُ لَهُ فِي حَالِ قِيَامِ الشَّرِكَةِ كَالْيَدِ الثَّابِتَةِ بِالْمُعَايَنَةِ أَوْ بِإِقْرَارِ الْخَصْمِ ، وَذَلِكَ مُوجَبُ مِلْكِ الْمَيِّتِ فِي نِصْفِهِ ، وَوَرَثَتُهُ فِي ذَلِكَ يَخْلُفُونَهُ .
( فَإِنْ أَقَامَ الْحَيُّ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ مِيرَاثٌ لَهُ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ ) ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ قَدْ فَسَرُّوا ، وَقَضَى الْقَاضِي عَلَيْهِ بِالنِّصْفِ لِلْوَرَثَةِ بِشَهَادَتِهِمْ قَالُوا : وَهَذَا إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ مِنْ شَرِكَةِ مَا بَيْنَهُمَا ، فَأَمَّا إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ فِي حَيَاةِ الْمَيِّتِ فَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْمَسْأَلَةُ عَلَى الْخِلَافِ كَمَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ ، وَلَوْ كَانَ الْمَالُ فِي يَدِ الْوَرَثَةِ وَجَحَدُوا الشَّرِكَةَ ، فَأَقَامَ الْحَيُّ الْبَيِّنَةَ عَلَى شَرِكَةِ الْمُفَاوَضَةِ ، وَأَقَامَ الْوَرَثَةُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ أَبُوهُمْ مَاتَ وَتَرَكَ هَذَا مِيرَاثًا مِنْ غَيْرِ شَرِكَةٍ بَيْنَهُمَا : لَمْ أَقْبَلْ مِنْهُمْ الْبَيِّنَةَ

عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمْ جَاحِدُونَ لِلشَّرِكَةِ ، وَإِنَّمَا يُقِيمُونَ الْبَيِّنَةَ عَلَى النَّفْيِ ، وَقَدْ أَثْبَتَ الْمُدَّعِي الشَّرِكَةَ فِيمَا فِي أَيْدِيهِمْ بِالْبَيِّنَةِ فَيُقْضَى لَهُ بِنِصْفِهِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُمْ حِينَ زَعَمُوا أَنَّ أَبَاهُمْ مَاتَ ، وَتَرَكَ مِيرَاثًا فَقَدْ أَقَرُّوا أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِ أَبِيهِمْ حَالَ قِيَامِ الشَّرِكَةِ ، وَهَذَا الْفَصْلُ أَيْضًا حَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى الْخِلَافِ ، وَالْأَصَحُّ فِي الْفَصْلَيْنِ أَنَّهُ قَوْلُهُمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الْمَوْتِ قُبِلَتْ الْبَيِّنَةُ لِلْحُكْمِ لَا لِلسَّبَبِ ، فَالسَّبَبُ قَدْ انْتَقَضَ بِالْمَوْتِ .
وَلِهَذَا يُسَوَّى بَيْنَ مَا إذَا فَسَّرَ الشُّهُودُ أَنَّهُ مِنْ شَرِكَتِهِمَا ، أَوْ لَمْ يُفَسِّرُوا ذَلِكَ بِخِلَافِ حَالِ الْحَيَاةِ .
( وَلَوْ قَالَ وَرَثَةُ الْمَيِّتِ : مَاتَ جَدُّنَا وَتَرَكَ مِيرَاثًا لِأَبِينَا ، وَأَقَامُوا الْبَيِّنَةَ عَلَى هَذَا لَمْ يُقْبَلْ ) فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقُبِلَتْ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الْمُفَاوِضُ حَيًّا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ بَعْدَ مَا شَهِدَ الشُّهُودُ عَلَيْهِ بِالْمُفَاوَضَةِ الْمُطْلَقَةِ .
فَإِنْ كَانَ شُهُودُ الْحَيِّ شَهِدُوا عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ أَنَّهُ مِنْ شَرِكَتِهِمَا لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَةُ الْوَرَثَةِ فِي ذَلِكَ ، كَمَا لَا تُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ فِيهِ مِنْ الْمُوَرِّثِ لَوْ كَانَ حَيًّا .

قَالَ : ( وَإِذَا افْتَرَقَ الْمُتَفَاوِضَانِ ، ثُمَّ ادَّعَى أَحَدُهُمَا أَنَّ صَاحِبَهُ كَانَ شَرِيكَهُ بِالثُّلُثِ ، وَادَّعَى صَاحِبُهُ النِّصْفَ ، وَكِلَاهُمَا مُقِرٌّ بِالْمُفَاوَضَةِ ، فَجَمِيعُ الْمَالِ مِنْ الْعَقَارِ وَغَيْرِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ) ؛ لِأَنَّ مُوجَبَ الْمُفَاوَضَةِ الْمُسَاوَاةُ فِي مِلْكِ الْمَالِ .
فَاتِّفَاقُهُمَا عَلَى الْمُفَاوَضَةِ يَكُونُ اتِّفَاقًا عَلَى حُكْمِهَا ، وَهُوَ أَنَّ الْمَالَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ، ثُمَّ مُدَّعِي التَّفَاوُتِ يَكُونُ رَاجِعًا بَعْدَ الْإِقْرَارِ ، وَمُنَاقِضًا فِي كَلَامِهِ ، وَلِأَنَّ مُطْلَقَ الْإِقْرَارِ بِالْعَقْدِ يَتَنَاوَلُ الصَّحِيحَ مِنْ الْعَقْدِ ، وَلَا تَصِحُّ الْمُفَاوَضَةُ إلَّا بَعْدَ التَّسَاوِي بَيْنَهُمَا فِي الْمَالِ إلَّا مَا كَانَ مِنْ ثِيَابِ كِسْوَةٍ ، أَوْ مَتَاعِ بَيْتٍ ، أَوْ رِزْقِ الْعِيَالِ أَوْ خَادِمٍ يَطَؤُهَا فَإِنِّي أَجْعَلُ ذَلِكَ لِمَنْ يَكُونُ فِي يَدَيْهِ ، وَلَا أَجْعَلُهُ فِي الشَّرِكَةِ - اسْتِحْسَانًا - وَفِي الْقِيَاسِ : يَدْخُلُ هَذَا فِي الشَّرِكَةِ ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا ، وَهُوَ حَاصِلٌ بِالتَّصَرُّفِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي التَّصَرُّفِ قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ .
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ عَقْدِ الشَّرِكَةِ لِعِلْمِنَا بِوُقُوعِ الْحَاجَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ إلَيْهَا مُدَّةَ الْمُفَاوَضَةِ .
وَلِهَذَا لَوْ عَايَنَّاهُ اشْتَرَى ذَلِكَ جَعَلْنَاهُ مُشْتَرِيًا لِنَفْسِهِ فَإِذَا صَارَ مُسْتَثْنًى لَمْ يَتَنَاوَلْهُ مُطْلَقُ الْمُفَاوَضَةِ ، فَيُنْفَى ظَاهِرُ الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارِ ، وَيُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَ ذِي الْيَدِ ؛ لِإِنْكَارِهِ .
وَكَذَلِكَ الْخَادِمُ يَطَؤُهَا ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَحِلُّ شَرْعًا وَلَا يَحِلُّ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى وَطْئِهَا إلَّا إذَا كَانَ مُخْتَصًّا بِمِلْكِهَا .
أَرَأَيْت لَوْ كَانَتْ مُدَبَّرَةً أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَمَا كَانَ الْقَوْلُ فِيهَا قَوْلَ ذِي الْيَدِ ، وَكَذَلِكَ الْأُمَّةُ .
وَلِذَلِكَ لَوْ لَمْ يَفْتَرِقَا ، وَلَكِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِ الشَّرِكَةِ ، فَهُوَ عَلَى

النِّصْفِ ؛ لِأَنَّا عَلِمْنَا بِوُجُودِ الْمَالِ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فِي حَالِ قِيَامِ الْمُفَاوَضَةِ وَتَأْثِيرِ مَوْتِ أَحَدِهِمَا فِي نَقْضِ الْعَقْدِ ، فَهُوَ وَافْتِرَاقُهُمَا سَوَاءٌ .
( وَلَوْ كَانَا حَيَّيْنِ وَالْمَالُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِلشَّرِكَةِ وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ شَرِيكُهُ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ لَهُ الثُّلُثَانِ ، وَلِلَّذِي فِي يَدِهِ الثُّلُثُ ؛ فَهَذِهِ الشَّهَادَةُ فِي الْقِيَاسِ لَا تُقْبَلُ ) ، لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْمُفَاوَضَةِ إقْرَارٌ بِالْمُنَاصَفَةِ فِي الْمَالِ ، وَذَلِكَ إكْذَابٌ مِنْهُ لِشُهُودِهِ فِيمَا شَهِدُوا بِهِ مِنْ الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ ، وَالْمُدَّعِي إذَا كَذَّبَ شَاهِدَهُ تَبْطُلُ شَهَادَتُهُ لَهُ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ شَهَادَتُهُمْ عَلَى أَصْلِ الْمُفَاوَضَةِ مَقْبُولَةٌ وَالْمَالُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ بِهِمْ إلَى إتْمَامِ الشَّهَادَةِ إلَى مَا ذَكَرُوا مِنْ الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ فَتُلْغَى تِلْكَ الشَّهَادَةُ فَتَبْقَى شَهَادَتُهُمْ عَلَى أَصْلِ الْمُفَاوَضَةِ ، وَلِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : مَعَ التَّفَاوُتِ فِي الْمَالِ تَصِحُّ الْمُفَاوَضَةُ .
فَلَعَلَّ الشُّهُودَ مِمَّنْ يَعْتَمِدُونَ ذَلِكَ فَفَسَّرُوا بِنَاءً عَلَى اعْتِقَادِهِمْ ، وَلَكِنَّ الْقَاضِيَ يَبْنِي مَا ثَبَتَ عِنْدَهُ عَلَى اعْتِقَادِهِ - لَا عَلَى اعْتِقَادِ الشُّهُودِ - فَتَبَيَّنَ بِهَذَا الْفِعْلِ ضَعْفُ كَلَامِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ مَا إذَا فَسَّرَ الشُّهُودُ أَوْ أَبْهَمُوا ؛ فَإِنَّ تَفْسِيرَهُمْ لَمَّا لَمْ يُعْتَبَرْ فِي قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ عَلَى الْمُفَاوَضَةِ ، فَكَذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ تَفْسِيرُهُمْ فِي الْمَنْعِ مِنْ قَبُولِ بَيِّنَةِ أَحَدِهِمَا عَلَى مَتَاعٍ فِي يَدِهِ أَنَّهُ مِيرَاثٌ .
بَلْ الْمُبْهَمُ وَالْمُفَسَّرُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُدَّعِي مَيِّتًا وَأَقَامَ وَارِثُهُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ خَلِيفَةُ مُوَرِّثِهِ قَائِمٌ مَقَامَهُ .

قَالَ : ( وَإِذَا افْتَرَقَ الْمُتَفَاوِضَانِ فَأَقَامَ أَحَدُهُمَا الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمَالَ كُلَّهُ كَانَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ ، وَأَنَّ قَاضِيَ كَذَا قَدْ قَضَى بِذَلِكَ عَلَيْهِ وَقَسَمُوا الْمَالَ ، وَأَنَّهُ قَضَى بِهِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنْ ذَلِكَ الْقَاضِي بِعَيْنِهِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ .
فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ قَاضٍ وَاحِدٍ وَعَلِمْنَا التَّارِيخَ مِنْ الْقَضَاءَيْنِ أَخَذْنَا بِالْآخَرِ ، وَهُوَ رُجُوعٌ عَنْ الْأَوَّلِ ) ؛ لِأَنَّهُ عَالِمٌ بِقَضَاءِ نَفْسِهِ ؛ فَإِنَّمَا يَقْضِي ثَانِيًا بِخِلَافِ مَا قَضَى بِهِ أَوَّلًا إذَا تَبَيَّنَ لَهُ الْخَطَأُ فِي الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ ؛ فَلِهَذَا جَعَلْنَا الثَّانِيَ نَقْضًا لِلْأَوَّلِ ، وَهُوَ كَمَا لَوْ تَبَايَعَا بِأَلْفٍ ، ثُمَّ تَبَايَعَا بِمِائَةِ دِينَارٍ يُجْعَلُ الثَّانِي نَقْضًا لِلْأَوَّلِ ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ التَّارِيخُ بَيْنَهُمَا ، أَوْ كَانَ الْقَضَاءُ مِنْ قَاضِيَيْنِ لَزِمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْقَضَاءُ الَّذِي لَا نَعُدُّهُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَحِيحٌ ظَاهِرٌ ، وَأَنَّهُ قَضَى بِالْحُجَّةِ مِمَّنْ لَهُ وِلَايَةُ الْقَضَاءِ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ بِالشَّكِّ ؛ إذْ لَيْسَ أَحَدُهُمَا بِالْإِبْطَالِ أَوْلَى مِنْ الْآخَرِ .
( وَإِذَا كَانَ مِنْ قَاضِيَيْنِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَمْلِكُ نَقْضَ قَضَاءِ الْآخَرِ وَلَا يَقْصِدُ ذَلِكَ ، إنَّمَا يَقْضِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا شَهِدَ عِنْدَهُ الشُّهُودُ بِهِ وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهُمَا ) ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَعْضُ مَالِ الشَّرِكَةِ ، فَظَنَّ كُلُّ فَرِيقٍ أَنَّ ذَلِكَ جَمِيعُ مَالِ الشَّرِكَةِ ، فَيُحَاسِبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ بِمَا عَلَيْهِ ، وَيَتَرَادَّانِ الْفَضْلَ .

قَالَ : ( وَلَا يَلْزَمُ الْمُفَاوِضَ مَا عَلَى شَرِيكِهِ مِنْ مَهْرٍ أَوْ أَرْشِ جِنَايَةٍ ) ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُلْتَزَمٌ لِمَا وَجَبَ لِطَرِيقِ التِّجَارَةِ .
وَالنِّكَاحُ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ ؛ فَالْمَهْرُ الْوَاجِبُ بِهِ لَا يَكُونُ وَاجِبًا بِسَبَبِ التِّجَارَةِ ، وَلِأَنَّهُ بَدَلٌ مِمَّا لَا يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ .
وَكَفَالَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ بِدَيْنٍ هُوَ بَدَلُ مَا يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ حَتَّى يَكُونَ مَنْفَعَةً مُبَاشَرَةً بِسَبَبِ الِالْتِزَامِ لَهُمَا ، وَأَرْشُ الْجِنَايَةِ وَاجِبٌ بِطَرِيقِ الْعُدْوَانِ دُونَ التِّجَارَةِ .
فَهُوَ بَدَلُ مَا لَا يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا .
وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّ إقْرَارَ الْمَأْذُونِ بِالْمَهْرِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ غَيْرُ صَحِيحٍ فِي حَقِّ الْمَوْلَى بِخِلَافِ إقْرَارِهِ بِدُيُونِ التِّجَارَةِ .

قَالَ : ( وَلَا يُشَارِكُ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فِيمَا يَرِثُ مِنْ مِيرَاثٍ ، وَلَا جَائِزَةٍ يُجِيزُهَا السُّلْطَانُ لَهُ أَوْ هِبَةٍ ، أَوْ هَدِيَّةٍ ) إلَّا " عِنْدَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ " فَإِنَّهُ يَقُولُ : مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ الْمُسَاوَاةُ .
وَقَدْ بَقِيَتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا فَيَثْبُتُ مَا هُوَ مُقْتَضَاهَا ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ فِي الِابْتِدَاءِ لَوْ كَانَ رَأْسُ مَالِهِمَا عَلَى التَّفَاوُتِ يُجَوِّزُ الشَّرِكَةَ ، وَيَصِيرُ رَأْسُ الْمَالِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، فَكَذَلِكَ فِي الِانْتِهَاءِ .
وَلَكِنَّا نَقُولُ : لَا بُدَّ لِلْمِلْكِ مِنْ سَبَبٍ ، وَسَبَبُ الْإِرْثِ الْقَرَابَةُ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي حَقِّ الشَّرِيكِ ، وَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْوَارِثِ مُمَلَّكًا نِصْفَهُ مِنْ شَرِيكِهِ بِعَقْدِ الشَّرِكَةِ ؛ لِأَنَّ تَمَامَ سَبَبِ الْمِلْكِ لَهُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوَرِّثِ ، وَالتَّمْلِيكُ لَا يَسْبِقُ سَبَبَهُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُجْعَلُ كَالْوَكِيلِ عَنْ صَاحِبِهِ فِيمَا يَحْتَمِلُهُ ، وَيُجَوِّزُ الْمِيرَاثَ يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْوَارِثِ بِغَيْرِ صُنْعِهِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَائِبًا عَنْ شَرِيكِهِ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ ؛ فَإِنَّ مَعَ إضَافَةِ مُوجَبِ الْعَقْدِ إلَيْهِ لَا يُمْكِنُ جَعْلُهُ نَائِبًا عَنْ شَرِيكِهِ .
قَالَ : ( وَلَا يُفْسِدُ ذَلِكَ الْمُفَاوَضَةَ إلَّا أَنْ يَكُونَ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ ، وَقَدْ قَبَضَهُ ) مَعْنَاهُ : لَمْ يَكُنْ دَيْنًا ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مَتَى اخْتَصَّ أَحَدُهُمَا بِمِلْكِ مَالٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالِ الشَّرِكَةِ يَنْعَدِمُ بِهِ مُوجَبُ الْمُفَاوَضَةِ فَتَبْطُلُ الْمُفَاوَضَةُ .

قَالَ : ( وَكُلُّ وَدِيعَةٍ كَانَتْ عِنْدَ أَحَدِهِمَا فَهِيَ عِنْدَهُمَا جَمِيعًا ) ؛ لِأَنَّهُمَا بِعَقْدِ الْمُفَاوَضَةِ صَارَ الشَّخْصُ وَاحِدًا فِيمَا يَلْتَزِمُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِسَبَبٍ هُوَ مِنْ صَنِيعِ التِّجَارَةِ .
وَيَقُولُ : الْوَدِيعَةُ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ ، فَإِنْ مَاتَ الْمُسْتَوْدَعُ قَبْلَ أَنْ يُبَيِّنَ لَزِمَهُمَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ إذَا مَاتَ مُجْهِلًا لِلْوَدِيعَةِ يَصِيرُ مُتَمَلِّكًا لِلْوَدِيعَةِ .
فَهَذَا ضَمَانُ مَا أَوْجَبَ بِتَمَلُّكِ أَحَدِهِمَا مَا يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ ، فَيَكُونُ مُلْزِمًا صَاحِبَهُ .
( فَإِنْ قِيلَ ) : وُجُوبُ هَذَا الضَّمَانِ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَلَا مُفَاوَضَةَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ الْمَوْتِ .
( قُلْنَا ) : لَا كَذَلِكَ وَلَكِنَّهُ لَمَّا أَشْرَفَ عَلَى الْمَوْتِ ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ الْبَيَانِ قَدْ تَحَقَّقَ التَّجْهِيلُ ، وَصَارَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ قَبْلَ مَوْتِهِ .
فَإِنْ قَالَ الْحَيُّ : ضَاعَتْ فِي يَدِ الْمَيِّتِ قَبْلَ مَوْتِهِ ؛ لَمْ يُصَدَّقْ لِأَنَّهُ لَا عَقْدَ بَيْنَهُمَا بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا ، وَإِنَّمَا يُجْعَلُ قَوْلُ أَحَدِهِمَا كَقَوْلِ صَاحِبِهِ بِسَبَبِ الْعَقْدِ الْقَائِمِ بَيْنَهُمَا .
وَلِأَنَّ الْمُودِعَ بِنَفْسِهِ بَعْدَ مَا صَارَ ضَامِنًا بِالْجُحُودِ ، وَلَوْ زَعَمَ أَنَّهُ كَانَ هَلَكَ فِي يَدِهِ لَمْ يُصَدَّقْ .
فَكَذَلِكَ قَوْلُ شَرِيكِهِ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمَرْءِ مَقْبُولٌ فِيمَا هُوَ أَمِينٌ فِيهِ لِنَفْيِ الضَّمَانِ عَنْهُ .
فَأَمَّا فِي إسْقَاطِ الضَّمَانِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ .
وَإِنْ كَانَ الْحَيُّ هُوَ الْمُسْتَوْدِعُ صَدَقَ ؛ لِأَنَّهُ مَا صَارَ مُتَمَلِّكًا وَلَا ضَامِنًا لِلْوَدِيعَةِ مَا دَامَ حَيًّا بَعْدَ مَوْتِ شَرِيكِهِ فَإِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى مَا الْتَزَمَهُ .
فَلِهَذَا كَانَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا .
( فَإِنْ قِيلَ ) : أَلَيْسَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا يَلْزَمُهُمَا مَقْبُولُ الْوَدِيعَةِ مِثْلَ صَاحِبِهِ ؟ ( قُلْنَا ) : نَعَمْ ، وَلَكِنَّ التَّمْلِيكَ عِنْدَ الْمَوْتِ بِاعْتِبَارِ الْيَدِ ؛ لِأَنَّ الْأَيْدِيَ الْمَجْهُولَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ تَنْقَلِبُ يَدَ مِلْكٍ ، الْوَدِيعَةُ فِي يَدِ الْمُودَعِ

حَقِيقَةً لَا فِي يَدِ شَرِيكِهِ .
( وَإِنْ قَالَ : أَكَلْتهَا قَبْلَ مَوْتِ صَاحِبِي لَزِمَهُ الضَّمَانُ خَاصَّةً ، وَلَمْ يُصَدَّقْ عَلَى صَاحِبِهِ ) ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ ، وَعِنْدَ الْإِقْرَارِ لَا مُفَاوَضَةَ بَيْنَهُمَا ، وَهُوَ فِي الِانْتِهَاءِ غَيْرُ مُصَدَّقٍ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَنْفَقَهَا فِي حَيَاةِ الْمَيِّتِ .
وَالثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ ؛ فَيَكُونُ عَلَيْهِمَا ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - " وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ " هُوَ عَلَيْهِ خَاصَّةً .
وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ إذَا وَجَبَ عَلَى أَحَدِهِمَا ضَمَانٌ بِغَصْبٍ أَوْ اسْتِهْلَاكِ مَالٍ : " فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ " هَذَا نَظِيرُ أَرْشِ الْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ بِسَبَبٍ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ ، وَلِأَنَّهُ بَدَلُ الْمُسْتَهْلَكِ ، وَالْمُسْتَهْلَكُ لَا يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ .
وَهُمَا قَالَا : ضَمَانُ الْغَصْبِ الِاسْتِهْلَاكُ ضَمَانُ تِجَارَةٍ بِدَلِيلِ صِحَّةِ إقْرَارِ الْمَأْذُونِ بِهِ وَكَوْنِهِ مُؤَاخَذًا بِهِ فِي الْحَالِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ بَدَلُ مَالٍ مُحْتَمِلٍ لِلشَّرِكَةِ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بِأَصْلِ السَّبَبِ .
وَعِنْدَ ذَلِكَ الْمَحَلُّ قَابِلٌ لِلْمِلْكِ ، وَلِهَذَا مِلْكُ الْمَغْصُوبِ وَالْمُسْتَهْلَكِ بِالضَّمَانِ .

قَالَ : ( وَإِذَا أَوْدَعَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ مِنْ مَالِهِمَا وَدِيعَةً عِنْدَ رَجُلٍ فَادَّعَى الْمُسْتَوْدَعُ أَنَّهُ قَدْ رَدَّهَا إلَيْهِ أَوْ إلَى صَاحِبِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ مُسَلَّطٌ عَلَى الرَّدِّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمِينٌ فِيهِ فَإِنَّهُ كَمَا يَقُومُ أَحَدُهُمَا مَقَامَ صَاحِبِهِ فِي الْإِيدَاعِ ، فَكَذَلِكَ فِي الِاسْتِرْدَادِ .
فَلِهَذَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُودَعِ مَعَ يَمِينِهِ فَإِنْ جَحَدَ الَّذِي ادَّعَى عَلَيْهِ ذَلِكَ لَمْ يَضْمَنْ ؛ لِقَوْلِهِ لِشَرِيكِهِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ قَوْلَ الْمُودَعِ مَقْبُولٌ فِي بَرَاءَةِ نَفْسِهِ عَنْ الضَّمَانِ لَا فِي وُصُولِ الْمَالِ إلَى مَنْ أَخْبَرَ بِدَفْعِهِ إلَيْهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُودِعَ لَوْ كَانَ وَصِيًّا فَادَّعَى الْمُودَعُ الرَّدَّ عَلَيْهِ لَا يَعْزِمُ الْوَصِيُّ لِلْيَتِيمِ شَيْئًا .
وَكَذَلِكَ لَوْ أَمَرَهُ أَنْ يَقْضِيَ الْوَدِيعَةِ دَيْنَهُ ، فَقَالَ : قَدْ فَعَلْت ، وَقَالَ صَاحِبُ الدَّيْنِ : مَا قَضَيْت شَيْئًا ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُودَعِ فِي بَرَاءَتِهِ ، وَدَيْنُ الطَّالِبِ عَلَى الْمُودِعِ بِحَالِهِ .
وَلَكِنْ يَحْلِفُ الشَّرِيكُ الَّذِي ادَّعَى الْمُودَعُ الرَّدَّ إلَيْهِ بِاَللَّهِ مَا قَبَضْته ؛ لِأَنَّ شَرِيكَهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ ضَمَانَ نَصِيبِهِ بِجُحُودِهِ الْقَبْضَ ، وَلَوْ أَقَرَّ بِذَلِكَ لَزِمَهُ ، فَإِذَا أَنْكَرَ حَلِفَهُ عَلَيْهِ .
( وَكَذَلِكَ ) لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ ادَّعَى الْمُسْتَوْدَعُ أَنَّهُ كَانَ دَفَعَهُ إلَى الْمَيِّتِ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَ أَمِينًا بَعْدَ مَوْتِهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ فِي الرَّدِّ مَقْبُولٌ فِي حَقِّ وَرَثَةِ الْمُودِعِ ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ .
ثُمَّ يُسْتَحْلَفُ الْوَرَثَةُ عَلَى الْعِلْمِ ؛ لِأَنَّ الْمُوَرِّثَ لَوْ كَانَ حَيًّا ، وَأَنْكَرَ الْقَبْضَ اُسْتُحْلِفَ لِشَرِيكِهِ ، فَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِهِ .
إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ حَيًّا فَإِنَّمَا يُسْتَحْلَفُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ ، وَالْوَرَثَةُ يُسْتَحْلَفُونَ عَلَى فِعْلِ الْمُوَرِّثِ بِالْقَبْضِ .
فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الِاسْتِحْلَافَ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ يَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ ، فَإِنْ

ادَّعَى أَنَّهُ دَفَعَهُ إلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ فَكَذَّبُوهُ ، وَحَلَفُوا أَنَّهُمْ مَا قَبَضُوهُ ، فَهُوَ ضَامِنٌ لِنِصْفِ حِصَّةِ الْحَيِّ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ فِي نَصِيبِ الْمَيِّتِ كَانَ لَهُ حَقُّ الدَّفْعِ إلَى وَرَثَتِهِ ، وَقَدْ أَخْبَرَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِي ذَلِكَ .
فَأَمَّا نَصِيبُ الْحَيِّ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ إلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّهُمْ خُلَفَاءُ الْمَيِّتِ فِي حَقِّهِ خَاصَّةً ، وَلِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ قَدْ انْقَضَتْ بِالْمَوْتِ ، فَهُوَ فِي نَصِيبِ الْحَيِّ مُقِرٌّ بِوُجُوبِ الضَّمَانِ لَهُ عَلَى نَفْسِهِ يَدْفَعُهُ إلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ ، ثُمَّ يَكُونُ ذَلِكَ النِّصْفُ بَيْنَ الْحَيِّ وَوَرَثَةِ الْمَيِّتِ نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمُودَعَ لَمْ يُصَدَّقْ فِي وُصُولِ شَيْءٍ مِنْ الْمَالِ إلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ ، وَإِنَّمَا يُصَدَّقُ فِي بَرَاءَتِهِ عَنْ الضَّمَانِ ، فَيُجْعَلُ ذَلِكَ النِّصْفُ كَالنَّاوِي ، وَالْمَالُ الْمُشْتَرَكُ مَا يُنْوَى مِنْهُ يُنْوَى عَلَى الشَّرِكَةِ ، وَمَا يَبْقَى يَبْقَى عَلَى الشَّرِكَةِ .
( وَلَوْ قَالَ : دَفَعْت الْمَالَ إلَى الَّذِي أَوْدَعَنِي بَعْدَ مَوْتِ الَّذِي يُودِعُنِي ، وَحَلَفَ عَلَى ذَلِكَ ؛ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ الضَّمَانِ ) ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي أَدَاءَ الْأَمَانَةِ فِي الْكُلِّ ، فَإِنَّ لِلْمُودَعِ حَقَّ الرَّدِّ عَلَى مَنْ قَبَضَ مِنْهُ - مَالِكًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَالِكٍ - فَرَدُّهُ عَلَيْهِ بَعْدَ انْتِقَاضِ الْمُفَاوَضَةِ بَيْنَهُمَا كَرَدِّهِ فِي حَالِ قِيَامِ الْمُفَاوَضَةِ .
وَلَا يَصْدُقُ عَلَى إلْزَامِ الْحَيِّ شَيْئًا بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ ( مَا قَبَضَهُ ) .
فَإِنْ كَانَ الْمُودِعُ مَيِّتًا ، فَقَالَ الْمُسْتَوْدَعُ : قَدْ دَفَعْت الْمَالَ إلَيْكُمَا جَمِيعًا ، إلَى الْحَيِّ نِصْفَهُ وَإِلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ نِصْفَهُ ، وَجَحَدُوا ذَلِكَ ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَوْدَعِ مَعَ يَمِينِهِ .
وَهُوَ بَرِيءٌ ؛ لِأَنَّهُ يُخْبِرُ عَنْ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ بِإِيصَالِ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَيْهِ .
فَإِنْ أَقَرَّ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ بِقَبْضِ النِّصْفِ شَرَكَهُ الْفَرِيقُ الْآخَرُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ بِإِقْرَارِهِ يَثْبُتُ وُصُولُ النِّصْفِ إلَيْهِ ،

وَبِدَعْوَى الْمُودِعِ لَمْ يَثْبُتْ وُصُولُ النِّصْفِ الْآخَرِ إلَى صَاحِبِهِ فِيمَا يَثْبُتُ الْقَبْضُ فِيهِ يَكُونُ مُشْتَرَكًا ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ يَكُونُ نَاوِيًا .
قَالَ : ( وَإِنْ كَانَا حَيَّيْنِ وَقَالَ الْمُسْتَوْدَعُ : قَدْ دَفَعْت الْمَالَ إلَيْهِمَا فَأَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِذَلِكَ وَجَحَدَهُ الْآخَرُ : فَالْمُسْتَوْدَعُ بَرِيءٌ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ ) ؛ لِأَنَّ تَصْدِيقَ أَحَدِهِمَا إيَّاهُ فِي حَالِ قِيَامِ الْمُفَاوَضَةِ كَتَصْدِيقِهِمَا ، وَلَوْ صَدَّقَاهُ لَمْ يَكُنْ يَمِينٌ .
وَإِنْ افْتَرَقَا ، ثُمَّ قَالَ الْمُسْتَوْدَعُ : دَفَعْته إلَى الَّذِي أَوْدَعَنِي فَهُوَ بَرِيءٌ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الرَّدِّ عَلَى الْمُودَعِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْوُصُولَ إلَى يَدِهِ كَانَ مِنْ جِهَتِهِ لَا بِقِيَامِ الْمُفَاوَضَةِ بَيْنَهُمَا .
وَإِنْ قَالَ : دَفَعْته إلَى الْآخَرِ وَكَذَّبَهُ ذَلِكَ ضَمِنَ نَصِفَ ذَلِكَ الْمَالِ لِلَّذِي أَوْدَعَهُ ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الْفُرْقَةِ لَيْسَ لَهُ حَقُّ دَفْعِ نَصِيبِ الْمُودِعِ إلَى شَرِيكِهِ ، وَلَهُ حَقُّ دَفْعِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ إلَيْهِ ، فَكَانَ هُوَ فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ مُخْبِرًا بِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ ، وَفِي نَصِيبِ الْمُودِعِ مُقِرًّا بِالضَّمَانِ عَلَى نَفْسِهِ يَدْفَعُهُ إلَى غَيْرِهِ .
ثُمَّ مَا يَقْبِضُهُ الْمُودِعُ يَكُونُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمُودِعَ غَيْرُ مُصَدِّقٍ فِي وُصُولِ نَصِيبِ الشَّرِيكِ إلَيْهِ لَمَّا كَذَبَهُ ، فَجُعِلَ ذَلِكَ كَالنَّاوِي ، فَكَانَ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ .
وَإِنْ صَدَّقَهُ الشَّرِيكُ بِذَلِكَ فَالْمُودِعُ بِالْخِيَارِ : إنْ شَاءَ ضَمَّنَ شَرِيكَهُ نَصِيبَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ ، وَلَا حَقَّ لَهُ فِيهِ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُودَعَ ؛ لِأَنَّهُ دَفَعَ نَصِيبَهُ إلَى شَرِيكٍ بَعْدَ انْتِقَاضِ الْمُفَاوَضَةِ بَيْنَهُمَا ، وَالدَّافِعُ بِغَيْرِ حَقٍّ ضَامِنٌ كَالْقَابِضِ .

قَالَ : ( وَعَارِيَّةُ الْمُفَاوِضِ وَأَكْلُ طَعَامِهِ وَقَبُولُ هَدِيَّتِهِ فِي الْمَطْعُومِ ، وَإِجَابَةُ دَعْوَتِهِ بِغَيْرِ أَمْرِ شَرِيكِهِ جَائِزٌ لَا بَأْسَ بِهِ ) وَلَا ضَمَانَ عَلَى الدَّاعِي وَلَا عَلَى الْآكِلِ - اسْتِحْسَانًا - وَفِي الْقِيَاسِ : لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ بِخِلَافِ مَا أَمَرَهُ بِهِ فَإِنَّهُ أَمَرَهُ بِالتِّجَارَةِ ، وَالْعَارِيَّةُ وَالْإِهْدَاءُ وَاِتِّخَاذُ الدَّعْوَةِ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ : هَذَا مِنْ تَوَابِعِ التِّجَارَةِ ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَجِدُ التَّاجِرُ مِنْهُ بُدًّا .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ يَدْعُو الْمُجَاهِدِينَ إلَى طَعَامِهِ ، وَيُهْدِي إلَيْهِمْ الْمَطْعُومَ لِيَجْتَمِعُوا عِنْدَهُ ، وَالْمَأْذُونُ غَيْرُ مَالِكٍ لِشَيْءٍ مِنْ الْمَالِ إنَّمَا هُوَ تَاجِرٌ ، وَالْمُفَاوَضُ تَاجِرٌ مَالِكٌ لِنِصْفِ الْمَالِ ، فَلَأَنْ يَمْلِكَ ذَلِكَ كَانَ أَوْلَى .
وَذَكَرَ حَدِيثَ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { أَهْدَيْت لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا عَبْدٌ قَبْلَ أَنْ أُكَاتَبَ فَقَبِلَ ذَلِكَ مِنِّي } .
وَحَدِيثُ الْأَخْرَسِ بْنِ حَكِيمٍ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَجَابَ دَعْوَةَ عَبْدٍ } .
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ مَوْلَى أَبِي أُسَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : عَرَّسْت وَأَنَا عَبْدٌ فَدَعَوْت رَهْطًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِيهِمْ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَعَنْهُمْ فَأَجَابُونِي .

قَالَ : ( وَلَوْ كَسَا الْمُفَاوَضُ رَجُلًا ثَوْبًا ، أَوْ وَهَبَ لَهُ دَابَّةً ، أَوْ وَهَبَ لَهُ الْفِضَّةَ وَالذَّهَبَ وَالْأَمْتِعَةَ ، وَالْحُبُوبَ كُلَّهَا لَمْ يَجُزْ فِي حِصَّةِ شَرِيكِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ تَبَرُّعٌ ، وَإِنَّمَا اُسْتُحْسِنَ ذَلِكَ فِي الْفَاكِهَةِ وَاللَّحْمِ وَالْخُبْزِ وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ ، مِمَّا يُؤْكَلُ ؛ لِأَنَّهُ إهْدَاءُ ذَلِكَ إلَى الْمُجَاهِدِينَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ فَأَمَّا فِي سَائِرِ الْأَمْوَالِ الْهِبَةُ لَيْسَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ .
وَالْمَرْجِعُ فِي مَعْرِفَةِ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا إلَى الْعُرْفِ .

قَالَ : ( وَلَوْ أَعَارَ أَحَدُهُمَا دَابَّةً فَرَكِبَهَا الْمُسْتَعِيرُ ، ثُمَّ اخْتَلَفَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي رَكِبَهَا إلَيْهِ ، وَقَدْ عَطِبَتْ الدَّابَّةُ ؛ فَإِنَّهَا صَدَقَةٌ فِي الْإِعَارَةِ إلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، وَبَرِيءَ الْمُسْتَعِيرُ مِنْ ضَمَانِهَا ) لِأَنَّ إقْرَارَ أَحَدِهِمَا فِيمَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُمَا بِحُكْمِ الْمُفَاوَضَةِ كَإِقْرَارِهِمَا .

قَالَ : ( وَلَوْ اسْتَعَارَ أَحَدُهُمَا دَابَّةً لِيَرْكَبَهَا إلَى مَكَان مَعْلُومٍ ، فَرَكِبَهَا شَرِيكُهُ فَعَطِبَتْ ، فَهُمَا ضَامِنَانِ ) ؛ لِأَنَّ رُكُوبَ الدَّابَّةِ يَتَفَاوَتُ فِيهِ النَّاسُ ، وَصَاحِبُهَا إنَّمَا رَضِيَ بِرُكُوبِ الْمُسْتَعِيرِ دُونَ غَيْرِهِ ، فَالْآخَرُ فِي رُكُوبِهَا غَاصِبٌ ضَامِنٌ إذَا هَلَكَتْ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا يَجِبُ مِنْ الضَّمَانِ عَلَى أَحَدِهِمَا بِحُكْمِ الْغَصْبِ فَالْآخَرُ مُطَالَبٌ بِهِ ؛ فَإِنْ كَانَ رَكِبَهَا فِي حَاجَتِهِمَا ، فَالضَّمَانُ فِي مَالِهِمَا لِأَنَّ مَنْفَعَةَ رُكُوبِهِ تَرْجِعُ إلَيْهِمَا فِيمَا يَجِبُ مِنْ الضَّمَانِ بِسَبَبِهِ يَكُونُ فِي مَالِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْغُرْمَ مُقَابَلٌ بِالْغُنْمِ .
وَإِنْ رَكِبَ فِي حَاجَةِ نَفْسِهِ فَهُمَا ضَامِنَانِ ؛ لِمَا قُلْنَا ، إلَّا أَنَّهُمَا إنْ أَذِنَاهُ مِنْ مَالِ الشَّرِيكِ رَجَعَ الشَّرِيكُ عَلَى الرَّاكِبِ بِنَصِيبِهِ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الرُّكُوبِ حَصَلَتْ لِلرَّاكِبِ ، فَكَانَ قَرَارُ الضَّمَانِ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ غَصْبٍ اغْتَصَبَهُ ، أَوْ طَعَامٍ اشْتَرَاهُ فَأَكَلَهُ ، وَقَدْ أَدَّى الثَّمَنَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا فَبَقِيَ الثَّمَنُ دَيْنًا عَلَيْهِ .

قَالَ : ( وَإِذَا اسْتَعَارَ أَحَدُهُمَا دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا طَعَامًا لَهُ خَاصَّةً لِرِزْقِهِ إلَى مَقَامٍ مَعْلُومٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا شَرِيكُهُ مِثْلَ ذَلِكَ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ مِنْ شَرِكَتِهِمَا ، أَوْ لِخَاصَّتِهِمَا ؛ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ) مِنْ قِبَلِ أَنَّ التَّقْيِيدَ الَّذِي لَيْسَ بِمُفِيدٍ لَا يَكُونُ مُعْتَبَرًا .
وَالضَّرَرُ عَلَى الدَّابَّةِ لَا يَخْتَلِفُ بِحَمْلِ مَا عُيِّنَ مِنْ الطَّعَامِ أَوْ مِثْلِهِ ، وَفِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْحَمْلِ كَفِعْلِ صَاحِبِهِ .
ثُمَّ الْمُسْتَعِيرُ لَوْ حَمَلَ عَلَيْهَا طَعَامًا مِنْ شَرِكَتِهِمَا أَوْ لِغَيْرِهِمَا لَمْ يَضْمَنْ ، فَكَذَلِكَ شَرِيكُهُ .
أَلَا تَرَى أَنَّ رَجُلًا لَوْ اسْتَعَارَ مِنْ رَجُلٍ دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ حِنْطَةً ، فَبَعَثَ بِالدَّابَّةِ مَعَ وَكِيلٍ لَهُ لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا الطَّعَامَ ، فَحَمَلَ الْوَكِيلُ طَعَامًا لِنَفْسِهِ أَنَّهُ لَا يُضَمِّنُهُ ، فَالْمُفَاوَضَةُ أَوْجَبُ مِنْ الْوَكَالَةِ ، وَكَذَلِكَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ إذَا اسْتَعَارَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا عَدْلَ زُطِّيٍّ ، فَحَمَلَ عَلَيْهَا شَرِيكُهُ مِثْلَ ذَلِكَ الْعَدْلِ لَمْ يَضْمَنْ ، وَلَوْ حَمَلَ عَلَيْهَا طَيَالِسَةً أَوْ أَكْسِيَةً كَانَ ضَامِنًا ؛ لِاخْتِلَافِ الْجِنْسِ وَلِلتَّفَاوُتِ فِي الضَّرَرِ عَلَى الدَّابَّةِ .
قَالَ : ( وَلَوْ حَمَلَ الْمُسْتَعِيرُ عَلَيْهَا ذَلِكَ ضَمِنَهُ ، فَكَذَلِكَ شَرِيكُهُ ) إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ تِجَارَتِهِمَا فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا لِحُصُولِ الْمَنْفَعَةِ لَهُمَا ، وَإِنْ كَانَتْ بِضَاعَة عِنْدَ الَّذِي حَمَلَ ؛ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّ الَّذِي حَمَلَ عَنْهُ غَاصِبٌ ، وَالْآخَرُ عَنْهُ كَفِيلٌ ضَامِنٌ ، ثُمَّ يَرْجِعُ الشَّرِيكُ عَلَى الَّذِي حَمَلَ بِنِصْفِ ذَلِكَ إذَا أَدَّيَا مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ لَهُ فِي هَذَا الْحَمْلِ ، فَلَا يَكُونُ عَلَيْهِ مِنْ قَرَارِ الضَّمَانِ شَيْءٌ ، وَلَوْ اسْتَعَارَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ حِنْطَةٍ فَحَمَلَ عَلَيْهَا شَرِيكُهُ عَشَرَةَ مَخَاتِيمَ شَعِيرٍ مِنْ شَرِكَتِهِمَا ؛ لَمْ يَضْمَنْ لِأَنَّ هَذَا أَخَفُّ عَلَى

الدَّابَّةِ فَلَا يَصِيرُ الْحَامِلُ بِهِ مُخَالِفًا فِي حَقِّ صَاحِبِ الدَّابَّةِ سَوَاءٌ كَانَ الْمُسْتَعِيرُ هُوَ الَّذِي حَمَلَهُ أَوْ شَرِيكُهُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَا شَرِيكَيْنِ شَرِكَةَ عَنَانٍ فَاسْتَعَارَهَا ، فَالْجَوَابُ فِي هَذَا كَالْجَوَابِ فِي الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الضَّمَانِ بِاعْتِبَارِ زِيَادَةِ الضَّرَرِ عَلَى الدَّابَّةِ فِي الْحَمْلِ ، وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ .
وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ اسْتَعَارَهَا لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا حِنْطَةً - رِزْقًا لِأَهْلِهِ - فَحَمَلَ عَلَيْهَا شَرِيكُهُ شَعِيرًا لَهُ خَاصَّةً ؛ كَانَ ضَامِنًا لِأَنَّهُ مُسْتَعْمِلٌ لَهَا بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهَا ، وَبِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ الْمُسْتَعِيرِ ؛ فَإِنَّ الْمُسْتَعِيرَ يَنْوِي عِنْدَ الِاسْتِعَارَةِ أَنَّهُ يَسْتَعِيرُهَا لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ مَا أَعَدَّهُ رِزْقًا لِأَهْلِهِ يَكُونُ مِلْكًا لَهُ خَاصَّةً ، وَذَلِكَ بِعَدَمِ رِضَاهُ بِانْتِفَاعِ الشَّرِيكِ بِهَا ؛ فَلِهَذَا كَانَ ضَامِنًا .

قَالَ : ( وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ أَنَّ أَحَدَ الْمُتَفَاوِضَيْنِ بَاعَهُ خَادِمًا ، فَجَحَدَ ذَلِكَ الْمُتَفَاوِضَانِ ؛ فَلِلْمُدَّعِي أَنْ يُحَلِّفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيْعَ عَلَى الثَّبَاتِ وَشَرِيكَهُ عَلَى الْعِلْمِ ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَوْ أَقَرَّ بِمَا ادَّعَاهُ الْمُدَّعِي كَانَ إقْرَارُهُ مُلْزِمًا إيَّاهُمَا ، فَإِذَا أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِرَجَاءِ نُكُولِهِ إلَّا أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْبَيْعَ يُسْتَحْلَفُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ ، فَيَكُونُ يَمِينُهُ عَلَى الثَّبَاتِ ، وَصَاحِبُهُ يُسْتَحْلَفُ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ ، فَيَكُونُ يَمِينًا عَلَى الْعِلْمِ .
وَأَيُّهُمَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ قُضِيَ بِالْجَارِيَةِ لِلْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ الَّذِي ادَّعَاهُ ؛ لِأَنَّ نُكُولَهُ كَإِقْرَارِهِ ، وَإِقْرَارُ أَحَدِهِمَا مُلْزَمٌ إيَّاهُمَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى تَوْلِيَةً أَوْ شَرِكَةً أَوْ إجَارَةً أَوْ تَسْلِيمَ دَيْنٍ أَوْ تَسْلِيمَ دَارٍ بِالشُّفْعَةِ ؛ لِأَنَّ فِيمَا هُوَ مِنْ عَمَلِ التِّجَارَةِ فِعْلُ أَحَدِهِمَا كَفِعْلِهِمَا ، وَإِقْرَارُ أَحَدِهِمَا مُلْزِمٌ لِلْآخَرِ فَيَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِدَعْوَى الْمُدَّعِي ؛ فَإِنْ ادَّعَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْبَتَّةَ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْآنَ يَحْلِفُ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ فَأَيُّهُمَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ أَمْضَى الْأَمْرَ عَلَيْهِمَا .
وَإِنْ ادَّعَى عَلَى ذَلِكَ أَحَدُهُمَا ، وَهُوَ غَائِبٌ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْحَاضِرَ عَلَى عَمَلِهِ ، فَإِنْ حَلَفَ ثُمَّ قَدِمَ الْغَائِبُ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ أَلْبَتَّةَ كَمَا لَوْ كَانَا حَاضِرَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُفَاوَضُ هُوَ الَّذِي ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ، وَحَلَّفَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ أَرَادَ شَرِيكُهُ أَنْ يُحَلِّفَهُ أَيْضًا ؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ .
وَالْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ ( أَحَدُهُمَا ) : أَنَّ الْمُفَاوَضَ الْمُدَّعِي يَكُونُ نَائِبًا عَنْ صَاحِبِهِ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ ، وَبَعْدَمَا اسْتَحْلَفَ بِخُصُومِهِ الْوَكِيلَ لَا يَسْتَحْلِفُ بِخُصُومَةِ الْمُوَكِّلِ

؛ لِأَنَّ النِّيَابَةَ فِي الِاسْتِحْلَافِ صَحِيحَةٌ .
وَإِذَا كَانَتْ الدَّعْوَى عَلَيْهِمَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ الْمُفَاوَضُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ نَائِبًا عَنْ صَاحِبِهِ فِي الْحَلِفِ ؛ لِأَنَّ النِّيَابَةَ لَا تُجْرَى فِي الْيَمِينِ .
فَلِهَذَا كَانَ لِلْمُدَّعِي أَنْ يُحَلِّفَ الْآخَرَ .
( وَالثَّانِي ) : أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالِاسْتِحْلَافِ فِيمَا إذَا كَانَ مُفِيدًا فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا فَلَا يُشْتَغَلُ بِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ الدَّعْوَى مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ فَاسْتُحْلِفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِخُصُومَةِ أَحَدِهِمَا ؛ فَلَا فَائِدَةَ فِي اسْتِحْلَافِهِ لِخُصُومَةِ الْآخَرِ لِأَنَّهُ بَعْدَمَا حَلَفَ فِي حَادِثَةٍ لِخُصُومَةِ إنْسَانٍ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ الْيَمِينِ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ لِخُصُومَةِ الْآخَرِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الدَّعْوَى عَلَيْهِمَا وَحَلَفَ أَحَدُهُمَا ؛ كَانَ اسْتِحْلَافُ الْآخَرِ مُفِيدًا لِأَنَّ أَحَدَهُمَا قَدْ لَا يُبَالِي مِنْ الْيَمِينِ ، وَالْآخَرُ يَمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ ؛ إذْ النَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي الْجُرْأَةِ عَلَى الْيَمِينِ .
فَلِهَذَا كَانَ لِلْمُدَّعِي أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْآخَرَ بَعْدَ مَا حَلَفَ أَحَدُهُمَا لِرَجَاءِ نُكُولِهِ .

قَالَ : ( وَإِنْ ادَّعَى عَلَى أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ جِرَاحَةً خَطَأً لَهَا أَرْشٌ وَاسْتَحْلَفَهُ أَلْبَتَّةَ ، فَحَلَفَ لَهُ ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَسْتَحْلِفَ شَرِيكَهُ ؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَلَا خُصُومَةَ لَهُ مَعَ شَرِيكِهِ ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فِيمَا لَزِمَهُ بِسَبَبِ التِّجَارَةِ .
فَأَمَّا مَا يَلْزَمُ بِسَبَبِ الْجِنَايَةِ لَا يَكُونُ الْآخَرُ كَفِيلًا بِهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ ثَبَتَتْ الْجِنَايَةُ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِمُعَايَنَةِ السَّبَبِ لَمْ يَكُنْ عَلَى الشَّرِيكِ شَيْءٌ مِنْ مُوجَبِهِ ، وَلَا خُصُومَةَ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ مَعَهُ .
فَذَلِكَ لَا يُحَلِّفُهُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِحْلَافَ لِرَجَاءِ النُّكُولِ وَإِقْرَارُهُ بِالْجِنَايَةِ عَلَى شَرِيكِهِ بَاطِلٌ .
وَكَذَلِكَ الْمَهْرُ وَالْجُعْلُ فِي الْخُلْعِ ، وَالصُّلْحُ مِنْ جِنَايَةِ الْعَمْدِ إذَا ادَّعَاهُ عَلَى أَحَدِهِمَا ، وَحَلِفُهُ عَلَيْهِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُحَلِّفَ الْآخَرُ ؛ لِمَا بَيَّنَّا .

قَالَ : ( وَإِنْ ادَّعَى عَلَى أَحَد الْمُتَفَاوِضَيْنِ مَالًا مِنْ كَفَالَةٍ ، وَحَوَّلَهُ عَلَيْهِ ؛ فَلَهُ أَنْ يُحَلِّفَ شَرِيكَهُ عَلَيْهِ أَيْضًا ) فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَفِي قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ .
وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ أَحَدَ الْمُتَفَاوِضَيْنِ إذَا كَفَلَ بِمَالٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يَلْزَمُ شَرِيكَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ .
وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَلْزَمُ شَرِيكَهُ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا : إنَّ الْكَفَالَةَ تَبَرُّعٌ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِمَّنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ ، كَالْمَأْذُونِ وَالْمُكَاتَبِ ، وَأَنَّهُ إذَا حَصَلَ مِنْ الْمَرِيضِ كَانَ مُعْتَبَرًا مِنْ ثَلَاثَةٍ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فِيمَا يَلْزَمُهُ بِالتِّجَارَةِ دُونَ التَّبَرُّعِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْهِبَةَ وَالصَّدَقَةَ مِنْ أَحَدِهِمَا لَا تَصِحُّ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ ، فَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ طَرِيقَانِ ( أَحَدُهُمَا ) : أَنَّ الْكَفَالَةَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْمُفَاوَضَةِ ؛ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ يَكُونُ كَفِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ كَمَا يَكُونُ وَكِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ فِيمَا يَجِبُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِالْكَفَالَةِ دَيْنٌ وَاجِبٌ بِمَا هُوَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْمُفَاوَضَةِ ، فَيَكُونُ مُلْزِمًا شَرِيكَهُ .
كَمَا لَوْ تَوَكَّلَ أَحَدُهُمَا عَنْ إنْسَانٍ بِشِرَاءِ شَيْءٍ كَانَ شَرِيكُهُ مُطَالَبًا بِثَمَنِهِ .
( وَالثَّانِي ) : أَنَّ الْكَفَالَةَ تَبَرُّعٌ فِي الِابْتِدَاءِ وَلَكِنَّهَا إذَا صَحَّتْ انْقَلَبَتْ مُفَاوَضَةً .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَفِيلَ يَرْجِعُ بِمَا يُؤَدِّي عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ إذَا كَفَلَ بِأَمْرِهِ ، وَقَدْ صَحَّتْ الْكَفَالَةُ هُنَا وَاَلَّذِي كَفَلَ صَارَ مُطَالَبًا بِالْمَالِ ، وَلَمَّا صَحَّتْ الْكَفَالَةُ انْقَلَبَتْ مُفَاوَضَةً ، وَمَا يُوجَبُ عَلَى أَحَدِهِمَا بِمُفَاوَضَةِ مَالٍ بِمَالٍ يُطَالَبُ بِهَا الشَّرِيكُ كَالدَّيْنِ الْوَاجِبِ بِالشِّرَاءِ بِخِلَافِ كَفَالَةِ الْمَدْيُونِ وَالْمُكَاتَبِ

وَالْمَأْذُونِ وَالْمَرِيضِ فِيمَا زَادَ عَلَى الثُّلُثِ ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ أَصْلًا ، فَلَا يَكُونُ مُفَاوَضَةً .
وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَبَرُّعًا فِي الِابْتِدَاءِ ، مُفَاوَضَةً فِي الِانْتِهَاءِ ، كَالْهِبَةِ بِشَرْطِ الْعِوَضِ ؛ فَإِنَّهُ تَبَرُّعٌ فِي الِابْتِدَاءِ ، ثُمَّ إذَا اتَّصَلَ بِهِ الْقَبْضُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ كَانَ مُفَاوَضَةً .
وَإِذًا ثَبَتَ أَنَّ كَفَالَةَ أَحَدِهِمَا يَلْزَمُ شَرِيكَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .

قَالَ : ( يَحْلِفُ الشَّرِيكُ عَلَى دَعْوَى الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُمَا جَمِيعًا .
فَإِذَا أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ عَلَيْهِ ) لِأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِالْمَالِ ، لَوْ ثَبَتَتْ الْكَفَالَةُ عَلَى شَرِيكِهِ بِالْبَيِّنَةِ ، فَيُسْتَحْلَفُ عَلَيْهِ إذَا أَنْكَرَ - بِخِلَافِ الْمَهْرِ وَالْأَرْشِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِهِ - .
وَإِذَا ثَبَتَ السَّبَبُ عَلَى شَرِيكِهِ بِالْبَيِّنَةِ فَلَا يُسْتَحْلَفُ عَلَيْهِ أَيْضًا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَوْ ثَبَتَتْ الْكَفَالَةُ عَلَى شَرِيكِهِ بِالْبَيِّنَةِ لَمْ يَكُنْ هُوَ مُطَالَبًا بِالْمَالِ ، فَلَا يُسْتَحْلَفُ عَلَيْهِ أَيْضًا .
قَالَ : ( وَإِنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ مِنْ أَحَدِهِمَا بِالنَّفْسِ لَمْ يَلْزَمْ شَرِيكَهُ ، وَلَا يُسْتَحْلَفُ عَلَى ذَلِكَ إذَا أَنْكَرَهُ - بِالِاتِّفَاقِ ) - ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ لَيْسَتْ بِمَالٍ ، وَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ مَعْنَى الْمُفَاوَضَةِ بِحَالٍ ، فَحُكْمُهُ مُقْتَصِرٌ عَلَى مَنْ بَاشَرَ سَبَبَهُ ؛ لِأَنَّ كَفَالَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ بِالْمَالِ الَّذِي يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ ، وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ لَا تَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ .

قَالَ : ( وَلَا تَجُوزُ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ) وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : يَجُوزُ ذَلِكَ ، وَهِيَ مَكْرُوهَةٌ .
وَوَجْهُ قَوْلِهِ : إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ أَهْلِ الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَتَصِحُّ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَهُمَا كَالْمُسْلِمِينَ وَالذِّمِّيِّينَ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ مُقْتَضَى الْمُفَاوَضَةِ وَالْكَفَالَةِ الْوَكَالَةُ .
فَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ أَهْلِيَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي ذَلِكَ ، ثُمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالِكٌ لِلتَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ ؛ فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ أَهْلِ الْمُفَاوَضَةِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَصِحُّ بَيْنَ الذِّمِّيِّينَ وَالْمُسْلِمِينَ ، فَكَذَلِكَ تَصِحُّ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِتَفَاوُتِهِمَا فِي التَّصَرُّفِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَتَصَرَّفُ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ ، وَالذِّمِّيَّ يَتَصَرَّفُ فِي ذَلِكَ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الذِّمِّيَّ الَّذِي هُوَ شَرِيكُ الْمُسْلِمِ مُفَاوَضَةً لَا يَتَصَرَّفُ " عِنْدِي " فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ .
ثُمَّ لَا مُعْتَبَرَ بِالْمُسَاوَاةِ فِي التَّصَرُّفِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُفَاوَضَةَ تَصِحُّ بَيْنَ الْكِتَابِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ ، وَالْمَجُوسِيُّ يَتَصَرَّفُ فِي الْمَوْقُوذَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ فِيهَا الْمَالِيَّةَ ، وَالْكِتَابِيُّ لَا يَفْعَلُ ، وَكَذَلِكَ الْمُفَاوَضَةُ تَصِحُّ بَيْنَ حَنَفِيِّ الْمَذْهَبِ وَشَافِعِيِّ الْمَذْهَبِ ، وَإِنْ كَانَ الْحَنَفِيُّ يَتَصَرَّفُ فِي الْمُثَلَّثِ النَّبِيذِ ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ فِيهِ الْمَالِيَّةَ .
وَشَافِعِيُّ الْمَذْهَبِ يَتَصَرَّفُ فِي مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَقِدُ فِيهَا الْمَالِيَّةَ .
ثُمَّ هَذَا التَّفَاوُتُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْمُفَاوَضَةِ بَيْنَهُمَا ، فَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُ وَالذِّمِّيُّ وَهُمَا يَقُولَانِ : مَبْنَى الْمُفَاوَضَةِ عَلَى الْمُسَاوَاةِ ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالذِّمِّيِّ فِي التَّصَرُّفِ وَلَا فِي مَحَلِّ التَّصَرُّفِ - وَهُوَ الْمَالِ - فَإِنَّ الْخَمْرَ

وَالْخِنْزِيرَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ فِي حَقِّ أَهْلِ الذِّمَّةِ يَجُوزُ تَصَرُّفُهُمْ فِيهَا بَيْعًا وَشِرَاءً وَسَلَمًا ، فِي الْخَمْرِ وَهِيَ لَيْسَتْ بِمَالٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ ؛ فَتَنْعَدِمُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا ، وَبِدُونِ الْمُسَاوَاةِ لَا تَكُونُ الشَّرِكَةُ مُفَاوَضَةً .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُفَاوَضَةَ لَا تَصِحُّ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ لِانْعِدَامِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا ، قَالَ : قَوْلُهُ : بِأَنَّهُ لَا يَتَصَرَّفُ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ إذَا كَانَ مُفَاوِضًا لِلْمُسْلِمِ ، قُلْنَا : الْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ كَانَ يَنْفُذُ تَصَرُّفُهُ فِي الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ إذَا كَانَ مُفَاوِضًا لِلْمُسْلِمِ هُوَ اعْتِقَادُ الْمَالِيَّةِ وَالتَّقَوُّمِ فِيهِ ، وَذَلِكَ لَا يَنْعَدِمُ بِالْمُفَاوَضَةِ مَعَ الْمُسْلِمِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَوْلِ بِنُفُوذِ التَّصَرُّفِ عَلَيْهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُفَاوَضَةِ بَيْنَ الْكِتَابِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ ؛ لِأَنَّ مَنْ يَجْعَلُ الْمَوْقُوذَةَ مَالًا مُتَقَوِّمًا فِي حَقِّهِمْ لَا يَفْصِلُ بَيْنَ الْكِتَابِيِّ وَالْمَجُوسِيِّ ، فَتَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي التَّصَرُّفِ .
( فَإِنْ قِيلَ ) : لَا تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ ، فَإِنَّ الْكِتَابِيَّ يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ لِلذَّبْحِ وَالتَّضْحِيَةِ ، وَالْمَجُوسِيُّ لَا يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ لِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ ذَبِيحَتَهُ لَا تَحِلُّ .
( قُلْنَا ) : لَا كَذَلِكَ ، بَلْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَقَبَّلَ ذَلِكَ الْعَمَلَ عَلَى أَنْ يُقِيمَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِنَائِبِهِ .
وَإِجَارَةُ الْمَجُوسِيِّ نَفْسَهُ لِلذَّبْحِ صَحِيحٌ يَسْتَوْجِبُ بِهِ الْأَجْرَ - وَإِنْ كَانَ لَا تَحِلُّ ذَبِيحَتَهُ - .
فَأَمَّا بَيْنَ الْحَنَفِيِّ وَالشَّافِعِيِّ تَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ ؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ قَامَتْ عَلَى أَنَّ مَتْرُوكَ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا لَيْسَ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ ، وَلَا يَجُوزُ التَّصَرُّفُ فِيهِ مِنْ الْحَنَفِيِّ وَالشَّافِعِيِّ جَمِيعًا لِثُبُوتِ وِلَايَةِ الْإِلْزَامِ بِالْمُحَاجَّةِ لَهُ وَالدَّلِيلِ ؛ فَتَتَحَقَّقُ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي الْمَالِ وَالتَّصَرُّفِ .
وَإِنَّمَا كَرِهَهُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ فِي

الْمُفَاوَضَةِ الْوَكَالَةَ .
وَيُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ تَوْكِيلُ الذِّمِّيِّ بِالتَّصَرُّفِ لَهُ .

قَالَ : ( وَلَا تَجُوزُ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَلَا بَيْنَ الْعَبْدَيْنِ وَلَا بَيْنَ الْحُرِّ وَالْمُكَاتَبِ ، وَلَا بَيْنَ الْمُكَاتَبَيْنِ وَلَا بَيْنَ الصَّبِيَّيْنِ - وَإِنْ أَذِنَ لَهُمَا أَبَوَاهُمَا - ) ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الْمُفَاوَضَةِ عَلَى الْكَفَالَةِ ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ يَكُونُ كَفِيلًا عَنْ صَاحِبِهِ ، وَالْعَبْدُ وَالْمُكَاتَبُ وَالصَّبِيُّ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِ الْكَفَالَةِ ؛ فَلِهَذَا لَا تَجُوزُ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مَالِكٍ لِلتَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ : فَإِنَّ الْعَبْدَ يَحْجُرُ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ ، وَالصَّبِيَّ يَحْجُرُ عَلَيْهِ وَلِيُّهُ ، وَالْمُكَاتَبَ يَعْجِزُ فَيُرَدُّ فِي الرِّقِّ .
وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْمُفَاوَضَةِ التَّصَرُّفُ وَالِاسْتِرْبَاحُ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَالِكًا لِلتَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ لَا تَجُوزُ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَهُمَا .
ثُمَّ تَكُونُ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا عَنَانًا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ ؛ لِأَنَّهُمَا أَهْلُ الشَّرِكَةِ .
وَإِنَّمَا فَسَدَتْ الْمُفَاوَضَةُ خَاصَّةً ؛ فَيَبْقَى الْعَنَانُ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعَنَانَ قَدْ يَكُونُ عَامًّا وَقَدْ يَكُونُ خَاصًّا .

قَالَ : ( وَإِنْ تَفَاوَضَ الذِّمِّيَّانِ جَازَ ذَلِكَ - وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا نَصْرَانِيًّا وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا - ) ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا فِي الْمِلْكِ وَالتَّصَرُّفِ تَتَحَقَّقُ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ أَهْلِ الْوَكَالَةِ وَالْكَفَالَةِ ؛ فَصَحَّتْ بَيْنَهُمَا .

قَالَ : ( وَإِنْ شَارَكَ الْمُسْلِمُ الْمُرْتَدَّ شَرِكَةَ عَنَانٍ أَوْ مُفَاوَضَةٍ ) ؛ فَهُوَ مَوْقُوفٌ " عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ " إنْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ بَطَلَ ، وَإِنْ أَسْلَمَ جَازَ ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِ أَنَّ التَّصَرُّفَاتِ تَتَوَقَّفُ بِالرِّدَّةِ عَلَى أَنْ يَنْفُذَ بِالْإِسْلَامِ أَوْ تَبْطُلُ إذَا قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ، وَالشَّرِكَةُ مِنْ جُمْلَةِ تَصَرُّفَاتِهِ .
فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ شَرِكَةُ الْعَنَانِ مِنْهُ صَحِيحَةٌ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ تَصَرُّفَ الْمُرْتَدِّ بَعْدَ رِدَّتِهِ قَبْلَ لَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ نَافِذٌ ، فَإِنْ قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ انْقَطَعَتْ الشَّرِكَةُ ؛ لِأَنَّ فِي الْقَتْلِ مَوْتًا ، وَلُحُوقُهُ بِدَارِ الْحَرْبِ كَمَوْتِهِ ، وَالْمَوْتُ مُبْطِلٌ لِلشَّرِكَةِ .
وَأَمَّا الْمُفَاوَضَةُ فَعَلَى مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُرَادُ بِهِ تَوَقُّفُ أَصْلِ الشَّرِكَةِ " عِنْدَهُمَا " بَلْ الْمُرَادُ تَوَقُّفُ صِحَّةِ الْمُفَاوَضَةِ .
فَأَمَّا أَصْلُ الشَّرِكَةِ صَحِيحٌ " عِنْدَهُمَا " ، وَإِنَّمَا تُوقَفُ صِفَةُ الْمُفَاوَضَةِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ عِنْدَهُ فِي التَّصَرُّفَاتِ كَالْمَرِيضِ ، وَكَفَالَةُ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ مُعْتَبَرَةٌ مِنْ ثُلُثِهِ ، فَلَا يَكُونُ الْمُرْتَدُّ مِنْ أَهْلِ الْكَفَالَةِ الْمُطْلَقَةِ إلَّا أَنْ يُسْلِمَ ؛ فَلِهَذَا تُوقَفُ صِفَةُ الْمُفَاوَضَةِ عَلَى إسْلَامِهِ .
وَعَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ الْكَفَالَةُ ، وَإِنْ كَانَتْ تَصِحُّ مِنْ الْمُرْتَدِّ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الصَّحِيحِ فِي التَّصَرُّفِ إلَّا أَنَّ نَفْسَهُ تُوقَفُ بَيْنَ أَنْ تَسْلَمَ لَهُ بِالْإِسْلَامِ ، أَوْ تَتْلَفَ عَلَيْهِ إذَا أَصَرَّ عَلَى الرِّدَّةِ فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الْمُكَاتَبِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ .
وَالْمُكَاتَبُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْمُفَاوَضَةِ ؛ فَلِهَذَا تُوقَفُ الْمُفَاوَضَةُ مِنْهُ .

قَالَ : ( وَإِنْ شَارَكَ الْمُسْلِمُ الْمُرْتَدَّةَ شَرِكَةَ عَنَانٍ أَوْ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ ؛ جَازَتْ شَرِكَةُ الْعَنَانِ وَلَمْ تَجُزْ شَرِكَةُ الْمُفَاوَضَةِ إلَّا أَنْ تُسْلِمَ ) ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمُرْتَدَّةِ نَافِذٌ ، فَإِنَّ الْمَالَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهَا لِأَنَّ نَفْسَهَا لَمْ تَتَوَقَّفْ بِالرِّدَّةِ حَتَّى لَا تُقْبَلَ .
فَكَذَلِكَ فِي مَالِهَا إلَّا أَنَّهَا كَافِرَةٌ فَهِيَ كَالذِّمِّيَّةِ .
وَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ الْمُفَاوَضَةَ لَا تَصِحُّ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ ، وَتَصِحُّ شَرِكَةُ الْعَنَانِ وَهِيَ مَكْرُوهَةٌ .
فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُرْتَدَّةِ .
قَالَ : ( وَيَنْبَغِي فِي قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنْ تَكُونَ الْمُفَاوَضَةُ جَائِزَةً مَعَ الْكَرَاهَةِ ) ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالذِّمِّيَّةِ .
فَكَذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمَةِ وَالْمُرْتَدَّةِ ، وَذَكَرَ عِيسَى بْنُ أَبَانَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ مُفَاوَضَتَهُمَا تَتَوَقَّفُ كَمَا تَتَوَقَّفُ مُفَاوَضَةُ الْمُرْتَدِّ مَعَ الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّهَا - وَإِنْ كَانَتْ لَا تُقْبَلُ - فَإِنَّهَا تُسْتَرَقُّ ، وَإِذَا أُلْحِقَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ فَنَفْسُهَا مَوْقُوفَةٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ ؛ فَلِهَذَا تَتَوَقَّفُ مُفَاوَضَتُهُمَا .

قَالَ : ( وَلِأَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ أَنْ يُكَاتِبَ عَبْدًا مِنْ تِجَارَتِهِمَا ) ؛ لِأَنَّ الْمُفَاوَضَةَ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ أَعَمُّ تَصَرُّفًا مِنْ الْوَصِيِّ فِي حَقِّ الْيَتِيمِ ، وَلِلْوَصِيِّ أَنْ يُكَاتِبَ ؛ فَلِلْمُفَاوِضِ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى .
وَبَيَانُ هَذَا : أَنَّ إقْرَارَ أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ صَحِيحٌ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ ، وَإِقْرَارَ الْوَصِيِّ بِالدَّيْنِ عَلَى الْيَتِيمِ غَيْرُ صَحِيحٍ .
ثُمَّ الْكِتَابَةُ مِنْ عُقُودِ الِاكْتِسَابِ ، وَهُوَ أَنْفَعُ مِنْ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يُزِيلُ الْمِلْكَ بِنَفْسِهِ ، وَالْكِتَابَةُ لَا تُزِيلُ الْمِلْكَ قَبْلَ الْأَدَاءِ .
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِهِ فِي اكْتِسَابِ الْمَالِ .
وَإِنْ كَانَتْ الْكِتَابَةُ مِنْ التَّاجِرِ الَّذِي لَا يَمْلِكُ شَيْئًا مِنْ الْعَبْدِ - وَهُوَ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ - صَحِيحَةٌ ، فَصِحَّتُهَا مِنْ التَّاجِرِ الَّذِي يَمْلِكُ نِصْفَ الْعَبْدِ - وَهُوَ الْمُفَاوِضُ - أَوْلَى ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُكَاتِبَ : فَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ - بِطَرِيقِ الْأَوْلَى - فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَكَّ الْحَجْرَ ، وَالْكِتَابَةُ لَازِمَةٌ ، وَالْإِذْنُ فِي التِّجَارَةِ لَيْسَ بِلَازِمٍ .
وَلِهَذَا كَانَ لِلْمَأْذُونِ أَنْ يَأْذَنَ لِعَبْدِهِ فِي التِّجَارَةِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُكَاتِبَ ، وَالْإِذْنُ فِي التِّجَارَةِ مِنْ صَنِيعِ التِّجَارَةِ وَمِمَّا يُقْصَدُ بِهِ تَحْصِيلُ الْمَالِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ فِي ذَلِكَ يَقُومُ مَقَامَ صَاحِبِهِ .

قَالَ : ( وَلَيْسَ لِأَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ أَنْ يُعْتِقَ عَبْدًا بِمَالٍ أَوْ بِغَيْرِ مَالٍ ) ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ تَبَرُّعٌ .
أَمَّا الْعِتْقُ بِغَيْرِ مَالٍ فَلَا إشْكَالَ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ بِمَالٍ لِأَنَّ ذَلِكَ يَتَعَجَّلُ زَوَالَ الْمِلْكِ عَنْ الْعَبْدِ فِي الْحَالِ وَالْمَآلِ فِي ذِمَّةٍ مُفْلِسَةٍ لَا يُدْرَى أَيَقْدِرُ عَلَى الْأَدَاءِ أَوْ لَا يَقْدِرُ ؟ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ عُقُودِ الِاكْتِسَابِ ؛ فَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْمُفَاوِضُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ ، وَكَذَلِكَ لَا يُزَوِّجُ عَبْدًا مِنْ تَرِكَتِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي تَزْوِيجِ الْعَبْدِ تَحْصِيلُ الْمَالِ ، بَلْ فِيهِ تَعْيِيبُ رَقَبَتِهِ مِنْ حَيْثُ الِاشْتِغَالِ بِالْمَهْرِ وَالنَّفَقَةِ .
فَلَا يُمَلَّكُ أَحَدُهُمَا فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ بِدُونِ إذْنِهِ .
وَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَ الْأَمَةَ ؛ لِأَنَّ تَزْوِيجَ الْأَمَةِ مِنْ عُقُودِ الِاكْتِسَابِ ، فَإِنَّهُ يَكْتَسِبُ بِهِ الْمَهْرَ ، وَتَسْقُطُ نَفَقَتُهَا عَنْ نَفْسِهِ ؛ وَلِهَذَا يَمْلِكُ الْأَبُ وَالْوَصِيُّ تَزْوِيجَ أَمَةِ الْيَتِيمِ ، وَلَا يَمْلِكَانِ تَزْوِيجَ عَبْدِ الْيَتِيمِ .

قَالَ : ( وَلَيْسَ لِشَرِيكِ الْعَنَانِ أَنْ يُكَاتِبَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلُ صَاحِبِهِ فِي التِّجَارَةِ ، وَالْكِتَابَةُ لَيْسَتْ مِنْ التِّجَارَةِ ) وَمَا يَكُونُ مُعْتَادًا بَيْنَ التُّجَّارِ ، وَالْكِتَابَةُ لَيْسَتْ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ .
وَكَذَلِكَ لَا يَمْلِكُ أَحَدُهُمَا تَزْوِيجَ الْأَمَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَمْلِكُ ذَلِكَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ .

قَالَ : ( وَإِذَا كَانَ لِلْمُتَفَاوِضَيْنِ عَبْدٌ تَاجِرٌ فَأَدَانَهُ أَحَدُهُمَا دَيْنًا مِنْ تِجَارَتِهِمَا ؛ لَمْ يَلْزَمْهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ ) لِأَنَّ فِعْلَ أَحَدِهِمَا فِي الْإِدَانَةِ كَفِعْلِهِمَا ، وَلِأَنَّ مَالِيَّةَ الْعَبْدِ مِنْ شَرِكَتِهِمَا .
وَمَا أَدَانَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا فَهُوَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا أَيْضًا ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِيجَابِ فِي ذِمَّتِهِ ، فَلَا يَشْتَغِلُ بِمَا لَا يُفِيدُهُ شَرْعًا .
( وَكَذَلِكَ فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ : كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلُ صَاحِبِهِ فِي الْبَيْعِ بِالنَّقْدِ وَالنَّسِيئَةِ ) وَالْإِدَانَةُ بَيْعٌ بِالنَّسِيئَةِ ، وَلَا فَائِدَةَ فِي إيجَابِ ذَلِكَ فِي ذِمَّتِهِ مُتَعَلِّقًا بِمَالِيَّتِهِ ؛ لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ مِنْ شَرِكَتِهِمَا .
أَمَّا إذَا كَانَا شَرِيكَيْنِ فِي عَبْدٍ لَهُمَا خَاصَّةً ، فَأَذِنَ لَهُمَا فِي التِّجَارَةِ ثُمَّ أَدَانَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا دَيْنًا ؛ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ نَصِفُ دَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حِصَّةِ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ حِصَّةِ صَاحِبِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ حَتَّى لَا يَمْلِكَ التَّصَرُّفَ فِيهِ فَمَا أَدَانَهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفَهُ فِي مِلْكِهِ .
وَالْمَوْلَى لَا يَسْتَوْجِبُ عَلَى مَمْلُوكِهِ دَيْنًا ، وَنِصْفُهُ فِي مِلْكِ شَرِيكِهِ ، وَهُوَ يَسْتَوْجِبُ الدَّيْنَ فِيهِ لِكَوْنِهِ مُقَيَّدًا ؛ فَإِنَّهُ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ ، وَيَجْعَلُ كُلَّ نِصْفٍ مِنْ الْعَبْدِ كَعَبْدٍ عَلَى حِدَةٍ ( وَمَنْ أَدَانَ عَبْدَهُ وَعَبْدَ غَيْرِهِ يَثْبُتُ مِنْ دَيْنِهِ مَا يَخُصُّ عَبْدَ غَيْرِهِ دُونَ مَا يَخُصُّ عَبْدَهُ ) .

قَالَ : ( وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ التَّاجِرُ بَيْنَ الْمُتَفَاوِضَيْنِ فَبَاعَهُ أَحَدُهُمَا ثَوْبًا مِنْ مِيرَاثٍ وَرِثَهُ ؛ لَزِمَهُ نَصِفُ ذَلِكَ الدَّيْنِ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ ) ؛ لِأَنَّ مَا أَدَانَهُ لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا ، وَفِيمَا لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ .

قَالَ : ( وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ مِيرَاثًا لِأَحَدِهِمَا فَأَذِنَ لَهُ الْآخَرُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ ؛ لَمْ يَجُزْ ) لِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا ، فَإِذْنُ صَاحِبِهِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ كَإِذْنِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ ، فَإِنْ أَذِنَ لَهُ مَوْلَاهُ ثُمَّ أَدَانَهُ الْآخَرُ دَيْنًا مِنْ مِيرَاثِهِ خَاصَّةً لَزِمَهُ ذَلِكَ ، كَمَا لَوْ أَدَانَهُ أَجْنَبِيٌّ آخَرُ ؛ لِأَنَّ مَا أَدَانَهُ لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا ، وَإِنْ أَدَانَاهُ مِنْ التِّجَارَةِ لَزِمَهُ نَصِفُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ أَحَدِهِمَا فِي الْإِدَانَةِ مِنْ مَالِ التِّجَارَةِ كَفِعْلَيْهِمَا ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ نَصِيبُ الْإِذْنِ لِأَنَّهُ مِلْكُهُ ، وَلَا يَسْتَوْجِبُ الْمَوْلَى الدَّيْنَ عَلَى عَبْدِهِ ، وَيَلْزَمُهُ نَصِيبُ الْآخَرِ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ عَنْ مَالِيَّتِهِ .

قَالَ : ( وَإِذَا اسْتَأْجَرَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ أَجِيرًا فِي تِجَارَتِهِمَا ، أَوْ دَابَّةٍ أَوْ شَيْئًا مِنْ الْأَشْيَاءِ ؛ فَلِلْمُؤَجَّرِ أَنْ يَأْخُذَ بِالْأَجْرِ أَيَّهُمَا شَاءَ ) لِأَنَّ الْإِجَارَةَ مِنْ عُقُودِ التِّجَارَةِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ بِمَا يَلْزَمُهُ بِالتِّجَارَةِ .
وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرَهُ لِحَاجَةِ نَفْسِهِ ، أَوْ اسْتَأْجَرَ إبِلًا لِحَجٍّ إلَى مَكَّةَ ، فَحَجَّ عَلَيْهَا فَلِلْمُكْرِي أَنْ يَأْخُذَ بِهِ أَيَّهُمَا شَاءَ ، إنْ شَاءَ الْمُسْتَأْجِرَ بِالْتِزَامِهِ بِالْعَقْدِ ، وَإِنْ شَاءَ شَرِيكَهُ بِكَفَالَتِهِ عَنْهُ .
إلَّا أَنَّ شَرِيكَهُ إذَا أَدَّى ذَلِكَ مِنْ خَالِصِ مَالِهِ يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَدَّى مَا كَفَلَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ ، وَإِنْ أَدَّى مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِنَصِيبِهِ مِنْ الْمُؤَدَّى - وَهُوَ النِّصْفُ - .
وَأَمَّا فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ غَيْرُ الَّذِي اسْتَأْجَرَهُ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُلْتَزِمُ بِالْعَقْدِ ، وَصَاحِبُهُ لَيْسَ بِكَفِيلٍ عَنْهُ ؛ فَإِنَّ شَرِكَةَ الْعَنَانِ لَا تَتَضَمَّنُ الْكَفَالَةَ .
( وَإِنْ أَدَّى الْعَاقِدُ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ رَجَعَ شَرِيكُهُ بِنِصْفِ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، إذَا كَانَ اسْتَأْجَرَهُ لِخَاصَّةِ نَفْسِهِ ، وَإِنْ كَانَ اسْتَأْجَرَهُ لِتِجَارَتِهِمَا وَأَدَّى الْأَجْرَ مِنْ خَالِصِ مَالِهِ ؛ رَجَعَ عَلَى شَرِيكِهِ بِنِصْفِهِ ) لِأَنَّهُ وَكِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فِي هَذَا الِاسْتِئْجَارِ ، وَقَدْ أَدَّى الْأَجْرَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ .
وَلَوْ كَانَتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا فِي شَيْءٍ خَاصٍّ - شَرِكَةِ مِلْكٍ - لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ مِمَّا أَدَّى ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَكِيلٍ عَنْ صَاحِبِهِ فِي هَذَا الِاسْتِئْجَارِ .

قَالَ : ( وَلَوْ أَجَّرَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ عَبْدًا مِنْ تِجَارَتِهِمَا كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَجْرَ ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ فِيمَا يَجِبُ لَهُمَا بِالتِّجَارَةِ ، وَفِعْلُ أَحَدِهِمَا كَفِعْلِ صَاحِبِهِ ، وَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِتَسْلِيمِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ مَضْمُونٌ عَلَى الْآخَرِ ، وَالْآخَرُ مُطَالَبٌ عَنْهُ بِكَفَالَتِهِ بِمَا يَلْتَزِمُهُ بِالتِّجَارَةِ .
وَإِنْ أَجَّرَ أَحَدُهُمَا عَبْدًا لَهُ خَاصَّةً مِنْ الْمِيرَاثِ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ الْأَجْرَ ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مَا لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ بَاعَ هَذَا الْعَبْدَ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ الثَّمَنَ ، وَحُكْمُ الْمَنْفَعَةِ حُكْمُ الْعَيْنِ ، وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِتَسْلِيمِ الْعَبْدِ ؛ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فِيمَا لَيْسَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ صَاحِبِهِ كَالْأَجْنَبِيِّ ، وَلَا تَفْسُدُ الْمُفَاوَضَةُ ، وَإِنْ كَانَ الْأَجْرُ دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ حَتَّى يَقْبِضَهَا ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا إنَّمَا فَضَلَ صَاحِبَهُ بِمِلْكِ دَيْنٍ ، وَالدَّيْنُ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ ، فَإِذَا قَبَضَهَا فَسَدَتْ الْمُفَاوَضَةُ لِأَنَّهُ اُخْتُصَّ بِمِلْكِ مَالٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ ، وَذَلِكَ بِعَدَمِ الْمُسَاوَاةِ .
وَكَذَلِكَ كُلُّ شَيْءٍ ، مِمَّا هُوَ لَهُ خَاصَّةً ، بَاعَهُ فَلَيْسَ لِشَرِيكِهِ أَنْ يُطَالِبَ بِهِ ، وَلَا تَفْسُدُ الْمُفَاوَضَةُ مَا لَمْ يَقْبِضْ الثَّمَنَ ، فَإِذَا قَبَضَ وَكَانَ مِنْ النُّقُودِ فَسَدَتْ الْمُفَاوَضَةُ لِمَا قُلْنَا .

قَالَ : ( وَلِأَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ أَنْ يُشَارِكَ رَجُلًا شَرِكَةَ عَنَانٍ بِبَعْضِ مَالِ الشَّرِكَةِ فَيَجُوزُ عَلَيْهِ وَعَلَى شَرِيكِهِ - كَانَ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ - ) وَإِنْ شَارَكَهُ شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ بِإِذْنِ شَرِيكِهِ ؛ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَيْهِمَا كَمَا لَوْ فَعَلَا ذَلِكَ .
وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ لَمْ تَكُنْ مُفَاوَضَةً وَكَانَتْ شَرِكَةَ عَنَانٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الرِّوَايَاتِ فِي هَذَا الْفَصْلِ ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الَّذِي شَارَكَهُ أَبَاهُ أَوْ ابْنَهُ أَوْ أَجْنَبِيًّا عَنْهُ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الشَّرِكَةِ وَاحِدٌ فَلَا يُمْكِنُ التُّهْمَةُ فِيهِ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ .
( وَذَكَرَ ) الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا - أَنَّ أَحَدَ شَرِيكَيْ الْعَنَانِ إذَا شَارَكَ إنْسَانًا آخَرَ شَرِكَةَ الْمُفَاوَضَةِ ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِمَحْضَرٍ مِنْ شَرِيكِهِ ؛ تَصِحُّ مُفَاوَضَتُهُ وَتَبْطُلُ بِهِ شَرِكَتُهُ مَعَ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْ شَرِيكِهِ ؛ لَمْ تَصِحَّ مُفَاوَضَتُهُ لِأَنَّ مُبَاشَرَتَهُ الْمُفَاوَضَةَ مَعَ الثَّانِي نَقْصٌ مِنْهُ لِشَرِكَةِ الْعَنَانِ مَعَ الْأَوَّلِ ، فَإِنَّ الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمَا لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِهِ ، وَنَقْضُ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ الشَّرِكَةَ بِمَحْضَرٍ مِنْ صَاحِبِهِ صَحِيحٌ ، وَبِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْهُ بَاطِلٌ .

قَالَ : ( وَإِذَا أَجَّرَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ نَفْسَهُ لِحِفْظِ شَيْءٍ أَوْ خِيَاطَةِ ثَوْبٍ ، أَوْ عَمَلٍ مَعْلُومٍ بِأَجْرٍ ، وَاكْتَسَبَ بِهَذَا الطَّرِيقِ ؛ فَهُوَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ لِتَقَبُّلِ ذَلِكَ الْعَمَلِ ، وَهُوَ صَحِيحٌ مِنْهُ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ ) فَمَا يَكْتَسِبُ بِهِ يَكُونُ بَيْنَهُمَا ، وَيُجْعَلُ فِعْلُ أَحَدِهِمَا فِيهِ كَفِعْلِهِمَا - بِخِلَافِ مَا إذَا أَجَّرَ نَفْسَهُ لِلْخِدْمَةِ - ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ هُنَاكَ يَسْتَوْجِبُهُ بِتَسْلِيمِ النَّفْسِ ، وَنَفْسُهُ لَيْسَتْ مِنْ شَرِكَتِهِمَا ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَجَّرَ عَبْدًا لَهُ مِيرَاثًا ، وَأَمَّا شَرِيكُ الْعَنَانِ إذَا اكْتَسَبَ بِتَقَبُّلِ الْعَمَلِ وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا ؛ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ خَاصَّةً ، وَلِأَنَّهُ وَكِيلُ صَاحِبِهِ فِي التَّصَرُّفِ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ ، وَتَقَبُّلُ هَذَا الْعَمَلِ لَيْسَ بِتَصَرُّفٍ مِنْهُ فِي مَالِ الشَّرِكَةِ ، وَكَانَ شَرِيكُهُ فِي ذَلِكَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ .

قَالَ : ( وَلِأَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ أَنْ يَرْهَنَ عَبْدًا مِنْ مَالِ الْمُفَاوَضَةِ بِدَيْنٍ مِنْ مَالِ الْمُفَاوَضَةِ ، وَبِدَيْنٍ عَلَيْهِ خَاصَّةً مِنْ مَهْرٍ أَوْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ ) لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الرَّهْنِ قَضَاءُ الدَّيْنِ ، فَإِنَّ مُوجَبَ الرَّهْنِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمُرْتَهِنِ .
وَلَهُ أَنْ يُوَفِّيَ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ هَذَا الدَّيْنَ ، وَكَذَلِكَ يَرْهَنُ بِهِ إلَّا أَنَّهُ إذَا هَلَكَ الرَّهْنُ حَتَّى صَارَ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا لِلدَّيْنِ ، فَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مِنْ شَرِكَتِهِمَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ خَاصَّةً يَرْجِعُ شَرِيكُهُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ قَضَى دَيْنًا عَلَيْهِ مِنْ مَالٍ مُشْتَرَكٍ .
وَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الرَّهْنِ أَكْثَرَ مِنْ الدَّيْنِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الزِّيَادَةِ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى قَدْرِ الدَّيْنِ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ .
فَإِنَّ لِأَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ أَنْ يُودِعَ ، وَلِأَنَّ الْأَبَ لَوْ رَهَنَ بِدَيْنِ الْوَلَدِ عَيْنًا قِيمَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ الدَّيْنِ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا لِلزِّيَادَةِ ، وَكَذَلِكَ الْمُفَاوِضُ ، وَإِنْ رَهَنَ عَبْدًا لَهُ خَاصَّةً بِدَيْنٍ مِنْ الْمُفَاوَضَةِ وَقِيمَتُهُ مِثْلُ الدَّيْنِ فَهَلَكَ ؛ فَهُوَ بِمَا فِيهِ ، وَيَرْجِعُ بِنِصْفِهِ عَلَى شَرِيكِهِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَاضِيًا دَيْنَ الْمُفَاوَضَةِ بِخَالِصِ مِلْكِهِ ، وَهُوَ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ وَكِيلٌ عَنْهُ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا أَدَّى مِنْ دَيْنِهِ مِنْ خَالِصِ مِلْكِهِ .
قَالَ : ( وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ مِنْ تِجَارَتِهِمَا عَلَى رَجُلٍ فَارْتَهَنَ أَحَدُهُمَا بِهِ رَهْنًا ؛ جَازَ ) سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الَّذِي وَلِيَ الْمُبَايَعَةَ أَوْ صَاحِبُهُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ فِي اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ الْوَاجِبِ بِالتِّجَارَةِ ، وَكَذَلِكَ فِي الِارْتِهَانِ بِهِ .
وَأَمَّا فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَرْهَنَ شَيْئًا مِنْ الشَّرِكَةِ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ خَاصَّةً ، إلَّا بِرِضَا صَاحِبِهِ ، كَمَا لَيْسَ لَهُ أَنْ يُوَفِّيَ ذَلِكَ الدَّيْنَ مِنْ مَالِ

الشَّرِكَةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلُ صَاحِبِهِ فِي التِّجَارَةِ فِي ذَلِكَ الْمَالِ لَهُ لَا فِي صَرْفِهِ إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ .

قَالَ : ( وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْتَهِنَ رَهْنًا بِدَيْنٍ لَهُمَا مِنْ الشَّرِكَةِ عَلَى رَجُلٍ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ الَّذِي وَلِيَ الْمُبَايَعَةَ ، أَوْ يَأْمُرُ مَنْ وَلِيَهُ مِنْهُمَا ) اعْتِبَارًا لِلِارْتِهَانِ بِالِاسْتِيفَاءِ وَلَيْسَ لَهُ حَقُّ الْمُطَالَبَةِ بِالِاسْتِيفَاءِ لِمَا وَلِيَهُ صَاحِبُهُ إلَّا بِإِذْنِهِ ، فَكَذَلِكَ الِارْتِهَانُ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِيفَاءَ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ ، فَيَكُونُ إلَى الْعَاقِدِ وَكِيلًا كَانَ أَوْ مَالِكًا .
قَالَ : ( وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يَرْتَهِنَ رَهْنًا بِدَيْنٍ وَلِيَاهُ جَمِيعًا ) لِأَنَّ فِيمَا وَجَبَ بِعَقْدِ صَاحِبِهِ هُوَ لَا يَمْلِكُ الِاسْتِيفَاءَ ، فَلَا يَصِحُّ ارْتِهَانُهُ بِهِ .
وَلَوْ جَازَ فِي نَصِيبِهِ كَانَ مُشَاعًا ، وَالشُّيُوعُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الرَّهْنِ .
فَإِنْ فَعَلَ وَهَلَكَ الرَّهْنُ ، وَقِيمَتُهُ مِثْلُ الدَّيْنِ ؛ ذَهَبَ نِصْفُ الدَّيْنِ وَضَمِنَ نِصْفَ الرَّهْنِ فِي مَالِهِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ مِنْ الرَّهْنِ مُعْتَبَرٌ بِالْجَائِزِ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ ، فَكَمَا أَنَّ الْمَقْبُوضَ بِحُكْمِ الرَّهْنِ الْجَائِزِ يَكُونُ مَضْمُونًا بِقَدْرِ الدَّيْنِ ، فَكَذَلِكَ الْمَقْبُوضُ بِحُكْمِ الرَّهْنِ الْفَاسِدِ .
( وَطَعَنَ ) عِيسَى رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَقَالَ : الصَّحِيحُ أَنْ يَذْهَبَ نِصْفُ الدَّيْنِ وَلَا يَضْمَنَ شَيْئًا آخَرَ ؛ لِأَنَّهُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ أَجْنَبِيٌّ ، وَضَمَانُ الرَّهْنِ يَنْبَنِي عَلَى يَدِ الِاسْتِيفَاءِ .
فَإِذَا لَمْ تَثْبُتْ لَهُ يَدُ الِاسْتِيفَاءِ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ ؛ لَا يَثْبُتُ الضَّمَانُ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ ، كَمَنْ ارْتَهَنَ بِدَيْنٍ لِرَجُلٍ عَلَى آخَرَ أَنْ يَكُونَ هُوَ عَدْلًا فِيهِ ، إنْ أَجَازَهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ ضَمِنَهُ ، وَإِنْ لَمْ يُجِزْهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، فَهَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ قَبْلَ أَنْ يُجِيزَهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ ؛ لَمْ يَضْمَنْ الْقَابِضُ شَيْئًا .
وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَ الرَّهْنَ هُنَا عَلَى جِهَةِ اسْتِيفَاءِ الدَّيْنِ ، فَلَا يَكُونُ صَاحِبُهُ رَاضِيًا بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ بِدُونِ هَذِهِ الْجِهَةِ ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْعَدْلِ

بِشَرْطِ أَنَّهُ لَمْ يُخْبِرْ صَاحِبَهُ ؛ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَبِاعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ يَتَحَقَّقُ رِضَا صَاحِبِ الرَّهْنِ بِقَبْضِهِ لَا عَلَى وَجْهِ الِاسْتِيفَاءِ .
فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ شَيْئًا ثُمَّ يَكُونُ لِلْآخَرِ أَنْ يُطَالِبَ الْمَدْيُونَ بِنَصِيبِهِ مِنْ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ نَصِيبُهُ مِنْ الدَّيْنِ مُسْتَوْفًى بِهَلَاكِ الرَّهْنِ .

قَالَ : ( وَإِقْرَارُ أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ بِالرَّهْنِ وَالِارْتِهَانِ جَائِزٌ .
كَمَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالْإِيفَاءِ وَالِاسْتِيفَاءِ ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ فِي ذَلِكَ ، وَمَنْ مَلَكَ مُبَاشَرَةَ الشَّيْءِ بِالْإِقْرَارِ بِهِ لِانْتِفَاءِ التُّهْمَةِ فَإِنْ أَقَرَّ بِذَلِكَ بَعْدَ التَّصَرُّفِ أَوْ مَوْتِ أَحَدِهِمَا لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ عَلَى صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ قَدْ انْقَطَعَتْ بَيْنَهُمَا ، وَقِيَامُهُ مَقَامَ صَاحِبِهِ فِي الْإِقْرَارِ كَانَ بِحُكْمِ الشَّرِكَةِ ، فَلَا يَبْقَى بَعْدَ انْقِطَاعِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا .

قَالَ : ( وَيَجُوزُ إقْرَارُ شَرِيكِ الْعَنَانِ بِالِارْتِهَانِ فِيمَا تَوَلَّاهُ عَلَيْهِ وَعَلَى شَرِيكِهِ ) ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْقَبْضِ إلَيْهِ فِيمَا تَوَلَّى سَبَبهُ .
فَكَمَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ فِي نَصِيبِهِ وَنَصِيبِ صَاحِبِهِ ، فَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ بِالِارْتِهَانِ ، وَفِيمَا وَلِيَهُ صَاحِبُهُ ، وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ ، وَيَجُوزُ فِي نَصِيبِهِ - اسْتِحْسَانًا - لِأَنَّ الْمُوَكِّلَ إذَا أَقْبَضَ الثَّمَنَ بِتَسْلِيمِ الْمُشْتَرَى إلَيْهِ صَحَّ قَبْضُهُ - اسْتِحْسَانًا - وَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ بِالِاسْتِيفَاءِ حَقِيقَةً ، أَوْ بِالِارْتِهَانِ يَكُونُ صَحِيحًا فِي نَصِيبِهِ دُونَ نَصِيبِ صَاحِبِهِ .

قَالَ ( وَمَا غَصَبَهُ الْمُفَاوِضُ أَوْ اسْتَهْلَكَهُ أَوْ عَقَدَ دَابَّةً ، أَوْ أَحْرَقَ ثَوْبًا ؛ فَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَضْمَنَ أَيَّهُمَا شَاءَ ) وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا إلَّا أَنَّ حَاصِلَ الضَّمَانِ يَكُونُ عَلَى الْفَاعِلِ خَاصَّةً ، حَتَّى لَوْ أَدَّى الْآخَرُ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِهِ ، إلَّا أَنَّ هَذَا الْفِعْلَ لَمْ يَكُنْ هُوَ فِيهِ قَائِمًا مَقَامَ شَرِيكِهِ ، وَلَا مَأْذُونًا لَهُ مِنْ جِهَتِهِ فِيهِ ؛ فَإِنَّ الْغَصْبَ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ ، وَبِثُبُوتِ الْمِلْكِ فِي الْمَغْصُوبِ يَتَحَقَّقُ شَرْطُ تَقَرُّرِ الضَّمَانِ .
فَأَمَّا الْوَاجِبُ ضَمَانُ الْفِعْلِ ، فَيَكُونُ عَلَى الْفَاعِلِ خَاصَّةً ، وَإِذَا أَدَّى غَيْرَهُ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ رَجَعَ عَلَيْهِ ، بِخِلَافِ الشِّرَاءِ الْفَاسِدِ ؛ فَإِنَّ الضَّمَانَ الْوَاجِبَ بِهِ ضَمَانُ الْعَقْدِ ، وَالْفَاسِدُ مِنْ الْعَقْدِ مُعْتَبَرٌ بِالْجَائِزِ ، فَكَمَا أَنَّ مَا يَجِبُ بِالصَّحِيحِ مِنْ التِّجَارَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمَا ، وَإِذَا أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى صَاحِبِهِ ، فَكَذَلِكَ مَا يَجِبُ بِالشِّرَاءِ الْفَاسِدِ .
قَالَ : ( وَلَوْ كَانَ عِنْدَ أَحَدِهِمَا وَدِيعَةٌ فَعَمِلَ بِهَا ، أَوْ كَانَتْ مُضَارَبَةً فَخَالَفَ فِيهَا ؛ كَانَ الرِّبْحُ لَهُمَا ) لِأَنَّ حُصُولَ الرِّبْحِ بِطَرِيقِ التِّجَارَةِ ، وَفِعْلُ أَحَدِهِمَا فِيهِ كَفِعْلِهِمَا ، وَلِصَاحِبِهِ أَنْ يَضْمَنَ أَيَّهُمَا شَاءَ لِمَعْنَى الْكَفَالَةِ بَيْنَهُمَا كَمَا فِي ضَمَانِ الْغَصْبِ وَالِاسْتِهْلَاكِ .

قَالَ : ( وَإِذَا غَصَبَ شَرِيكُ الْعَنَانِ شَيْئًا أَوْ اسْتَهْلَكَهُ ؛ لَمْ يُؤْخَذْ بِهِ صَاحِبُهُ ) لِأَنَّ عَلَى صَاحِبِهِ لَيْسَ بِكَفِيلٍ عَنْهُ .
وَإِنْ اشْتَرَى شَيْئًا شِرَاءً فَاسِدًا فَهَلَكَ عِنْدَهُ ؛ ضَمِنَهُ وَرَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِنِصْفِهِ لِأَنَّهُ وَكِيلُ صَاحِبِهِ بِالشِّرَاءِ ، وَمَا يَجِبُ عَلَى الْوَكِيلِ بِالشِّرَاءِ الْفَاسِدِ وَالصَّحِيحِ يَسْتَوْجِبُ الرُّجُوعَ بِهِ عَلَى صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ بِأَمْرِهِ ، فَإِنَّ مُطْلَقَ التَّوْكِيلِ يَتَنَاوَلُ الْجَائِزَ وَالْفَاسِدَ مِنْ التَّصَرُّفِ .

قَالَ : ( وَلَوْ كَفَلَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ عَنْ رَجُلٍ بِمَهْرٍ أَوْ بِأَرْشِ جِنَايَةٍ ؛ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ كَفَالَتِهِ بِدَيْنٍ آخَرَ لَا يُؤْخَذُ بِهِ شَرِيكُهُ ) فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يُؤَاخَذُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى الْمُفَاوِضِ بِسَبَبِ الْكَفَالَةِ لَا بِسَبَبِ النِّكَاحِ .
وَالْجِنَايَةُ وَالْأَرْشُ وَالْمَهْرُ فِي حَقِّهِمَا كَسَائِرِ الدُّيُونِ بِخِلَافِ الْمَهْرِ وَالْأَرْشِ الْوَاجِبِ عَلَى أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ ؛ فَإِنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ بِسَبَبِ النِّكَاحِ وَالْجِنَايَةِ ، وَالشَّرِيكُ غَيْرُ مُتَحَمِّلٍ فِيهِ مَا يَجِبُ لِهَذَا السَّبَبِ ، وَلِهَذَا لَا يُؤَاخَذُ وَاحِدٌ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ بِنَفَقَةِ امْرَأَةِ شَرِيكِهِ وَلَا مُتْعَتِهَا ، وَلَا بِنَفَقَةٍ يَفْرِضُهَا الْحَاكِمُ عَلَيْهِ لِذَوِي أَرْحَامِهِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ بِسَبَبٍ لَا يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فِيمَا يَجِبُ بِاعْتِبَارِ سَبَبٍ يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ .

قَالَ : ( وَإِنْ أَقَرَّ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ بِدَيْنٍ عَلَيْهِ لِامْرَأَتِهِ غَيْرِ الْمَهْرِ - مِنْ شِرَاءٍ أَوْ قَرْضٍ - لَمْ يَلْزَمْ شَرِيكَهُ مِنْهُ شَيْءٌ ) فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيَلْزَمُ الْمُفَاوِضَ الْمُقِرَّ خَاصَّةً ، وَكَذَلِكَ إقْرَارُهُ لِكُلِّ مَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ - مِنْ آبَائِهِ وَأَوْلَادِهِ وَعَبِيدِهِ وَمُكَاتِبِيهِ - فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا - : إقْرَارُهُ لِهَؤُلَاءِ جَائِزٌ عَلَيْهِمَا مَا خَلَا عَبْدَهُ وَمُكَاتَبَهُ .
وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَبِيعُ بِمُطْلَقِ الْوَكَالَةِ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ هَؤُلَاءِ إلَّا مِنْ عَبْدِهِ وَمُكَاتَبِهِ ، فَمِنْ أَصْلِهِمَا أَنَّ الْأَمْلَاكَ بَيْنَهُمَا مُتَبَايِنَةٌ ، فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وِلَايَةُ إيجَابِ الْحَقِّ لِصَاحِبِهِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ عِنْدَ تَسْلِيطِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ كَمَا فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ ، وَلَا يَكُونُ مِنْهُمَا فِي ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْقَرَابَةِ - بِخِلَافِ الْعَبْدِ ، فَكَتْبُهُ مِلْكُ هَؤُلَاءِ - وَلِلْمَوْلَى حَقُّ الْكَسْبِ فِي مِلْكِ الْمُكَاتَبِ ؛ فَلَا يَكُونُ مُتَّهَمًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ ، فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ مُكَاتَبِهِ وَعَبْدِهِ .
وَبِخِلَافِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّ التَّسْلِيطَ مِمَّنْ لَهُ الْحَقُّ غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَاكَ .
إذَا ثَبَتَ هَذَا فِي التَّوْكِيلِ فَكَذَلِكَ فِي الْإِقْرَارِ ، أَوْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَفَاوِضَيْنِ يُوجِبُ الْحَقَّ لِلْمُقِرِّ لَهُ فِي مَالِ صَاحِبِهِ بِتَسْلِيطِهِ ، فَامْرَأَتُهُ وَأَبُوهُ فِي ذَلِكَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : هُوَ مُتَّهَمٌ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ بِدَلِيلِ أَنَّ شَهَادَتَهُ لَهُمْ لَا تَصِحُّ مُوجِبَةً لِلْحُكْمِ .
وَالْإِنْسَانُ إنَّمَا يُمَلِّكُ الْحَقَّ لِلْغَيْرِ فِي مَالِ الْغَيْرِ عِنْدَ تَسْلِيطِهِ بِصِفَةِ الْأَمَانَةِ ؛ فَلَا يُمَلِّكُ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ لِتَمَكُّنِ تُهْمَةِ الْمَيْلِ إلَيْهِمْ

- كَمَا فِي حَقِّ الْعَبْدِ وَالْمُكَاتَبِ - وَلَكِنْ هَذِهِ التُّهْمَةُ فِي نُفُوذِ إقْرَارِ الْمُفَاوِضِ عَلَى شَرِيكِهِ ، لَا فِي نُفُوذِ إقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ ؛ فَلِهَذَا لَزِمَ الْمَالَ الْمُقِرُّ خَاصَّةً .
قَالَ : ( وَكَذَلِكَ لَوْ أَقَرَّ لِامْرَأَتِهِ وَهِيَ بَائِنَةٌ مُعْتَدَّةٌ مِنْهُ ) وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَجُوزُ إقْرَارُهُ لَهَا فِي حَقِّ شَرِيكِهِ ، وَأَصْلُهُ فِي الشَّهَادَةِ .
فَإِنَّهُ إذَا شَهِدَ لِلْمُبَايَنَةِ وَهِيَ تَعْتَدُّ مِنْهُ ؛ قُبِلَتْ الشَّهَادَةُ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ لِانْقِطَاعِ السَّبَبِ الْمُمَكِّنِ لِلتُّهْمَةِ - وَهُوَ النِّكَاحُ - كَمَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ .
وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهَا ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ ، فَبَقَاؤُهَا كَبَقَاءِ أَصْلِ النِّكَاحِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ فِي نِكَاحِ أُخْتِهَا وَأَرْبَعٍ سِوَاهَا جُعِلَتْ هَذِهِ الْعِدَّةَ كَالنِّكَاحِ ، ( وَكَذَلِكَ ) فِي اسْتِحْقَاقِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى وَوُقُوعِ طَلَاقِهِ عَلَيْهَا ، فَكَذَلِكَ فِي الْمَنْعِ مِنْ قَبُولِ شَهَادَتِهِ لَهَا ، وَفِي امْتِنَاعِ صِحَّةِ إقْرَارِهِ لَهَا فِي حَقِّ الشَّرِيكِ .
قَالَ : ( وَلَوْ كَانَ النِّكَاحُ فَاسِدًا وَقَدْ دَخَلَ بِهَا : فَإِنْ أَقَرَّ لَهَا بِمَهْرِهَا يَلْزَمُ شَرِيكَهُ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَهْرِ بِسَبَبٍ لَا يَحْتَمِلُ الشَّرِكَةَ - فَاسِدًا كَانَ النِّكَاحُ أَوْ صَحِيحًا - ) .
وَإِنْ أَقَرَّ لَهَا بِدَيْنٍ غَيْرِ الْمَهْرِ ؛ لَزِمَهَا جَمِيعًا لِأَنَّ هَذِهِ الْعِدَّةَ لَيْسَتْ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ ، وَلَكِنَّهَا تَجِبُ لِاشْتِغَالِ الرَّحِمِ بِالْمَاءِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى بِاعْتِبَارِهَا ، وَأَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقُهُ ، ( وَكَذَلِكَ ) لَوْ أَعْتَقَ أُمَّ وَلَدِهِ ثُمَّ أَقَرَّ لَهَا بِدَيْنٍ ؛ لَزِمَهُمَا جَمِيعًا - وَإِنْ كَانَتْ فِي عِدَّتِهِ - لِأَنَّ هَذِهِ الْعِدَّةَ لَيْسَتْ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى بِاعْتِبَارِهِ ، وَكَذَلِكَ لَا تُمْنَعُ مِنْ الْخُرُوجِ

وَالسُّوقِ فِي هَذِهِ الْعِدَّةِ - بِخِلَافِ عِدَّةِ النِّكَاحِ - وَأَنَّهُ لَا يَقَعُ عَلَيْهَا طَلَاقُهُ ، وَلِلْمَوْلَى أَنْ يَتَزَوَّجَ أَرْبَعًا سِوَاهَا فِي هَذِهِ الْعِدَّةِ بِخِلَافِ عِدَّةِ النِّكَاحِ ؛ فَلِهَذَا كَانَتْ كَالْأَجْنَبِيَّةِ فِي حُكْمِ الشَّهَادَةِ وَالْإِقْرَارِ لَهَا حَتَّى يَثْبُتَ الْمُقِرُّ بِهِ فِي حَقِّهِمَا ، وَيَجُوزُ إقْرَارُهُ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا لِأُمِّ امْرَأَتِهِ وَوَلَدِهَا مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ الْإِقْرَارِ بِالشَّهَادَةِ .

قَالَ : ( وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُ الْمَرْأَةِ الْمُفَاوِضَةِ بِالدَّيْنِ لِزَوْجِهَا عَلَى شَرِيكِهَا ، كَمَا لَا يَجُوزُ شَهَادَتُهَا لَهُ ) وَيَجُوزُ إقْرَارُهَا بِالدَّيْنِ لِأَبَوَيْ زَوْجِهَا وَوَلَدِهِ مِنْ غَيْرِهَا عَلَيْهَا وَعَلَى شَرِيكِهَا ، كَمَا يَجُوزُ شَهَادَتُهَا .

قَالَ : ( وَإِذَا أَعْتَقَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ عَبْدًا مِنْ شَرِكَتِهِمَا ؛ فَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي غَيْرِ الْمُفَاوِضِ ) لِأَنَّ الْعِتْقَ لَيْسَ مِمَّا تَقْتَضِيهِ الْمُفَاوَضَةُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَ إعْتَاقِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ الْعَبْدَ الْمُشْتَرَكَ فِي كِتَابِ الْعَتَاقِ .

قَالَ : ( وَإِذَا افْتَرَقَ الْمُتَفَاوِضَانِ ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا : كُنْت كَاتَبْت هَذَا الْعَبْدَ فِي الشَّرِكَةِ ؛ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى ذَلِكَ ) لِأَنَّهُ أَقَرَّ عَلَى صَاحِبِهِ بِمَا لَا يَمْلِكُ إنْشَاءَهُ فِي الْحَالِ ، وَصِحَّةُ إقْرَارِ الْمُقِرِّ فِي حَقِّ الْغَيْرِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ لِلْإِنْشَاءِ ، وَلَكِنَّ إقْرَارَهُ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ صَحِيحٌ ، فَيَكُونُ ذَلِكَ كَإِنْشَاءِ مُكَاتَبَتِهِ ، وَلَيْسَ لِشَرِيكِهِ أَنْ يَرُدَّهُ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ بَعْدَ مَا يَحْلِفُ عَلَى عِلْمِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِمَا أَقَرَّ بِهِ عَلَى شَرِيكِهِ صَارَ الْعَبْدُ كُلُّهُ مُكَاتَبًا ، فَإِذَا أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ عَلَيْهِ ، وَلَكِنْ الِاسْتِحْلَافُ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ يَكُونُ عَلَى الْعِلْمِ ، فَيَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ كَاتَبَ فِي الْمُفَاوَضَةِ .
وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ فِي الشَّرِكَةِ مَعْنَاهُ أَنَّ إقْرَارَهُ يَصِحُّ فِي نَصِيبِ نَفْسِهِ خَاصَّةً ، وَلَا يَشْتَغِلُ بِاسْتِحْلَافِ الْآخَرِ هُنَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَنْشَأَ الْعِتْقَ فِي حَالِ بَقَاءِ الشَّرِكَةِ لَمْ يَنْفُذْ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ ، فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ بِهِ بَعْدَ الِافْتِرَاقِ بِخِلَافِ الْكِتَابَةِ .

قَالَ : ( فَإِنْ تَفَرَّقَا وَأَشْهَدَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ شَرِكَةٍ ، ثُمَّ قَالَ أَحَدُهُمَا : قَدْ كُنْت أَعْتَقْت هَذَا الْعَبْدَ فِي الشَّرِكَةِ وَقَدْ دَخَلَ نِصْفُ قِيمَتِهِ فِيمَا تَرَتَّبَ إلَيْك مَرَّةً ، فَصَدَّقَهُ الْآخَرُ فِي عِتْقِهِ وَقَالَ : كُنْت اخْتَرْت اسْتِسْقَاءَ الْعَبْدِ ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي لَمْ يُعْتِقْ ) لِأَنَّ الْخِيَارَ إلَيْهِ فِي تَعْيِينِ مَحَلِّ حَقِّهِ ، فَلَا يَمْلِكُ الْمُقِرُّ إبْطَالَ هَذَا الْحَقِّ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ مَالِيَّةَ نِصْفِ الْعَبْدِ عَرَفْنَاهُ حَقًّا لَهُ ، وَالْمُقِرُّ يُرِيدُ إسْقَاطَ حَقِّهِ بِمَا ذَكَرُ ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا بِحُجَّةٍ ، وَعَلَى الْمُنْكِرِ الْيَمِينُ ، فَإِذَا حَلَفَ كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَسْقِيَ الْعَبْدَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا شَيْءَ لَهُ عَلَى الشَّرِيكِ ؛ لِإِقْرَارِهِ أَنَّهُ بِاخْتِيَارِ الِاسْتِسْقَاءِ ، وَذَلِكَ مُوجَبُ بَرَاءَةِ الْمُعْتَقِ عَنْ الضَّمَانِ بِالْبَرَاءَةِ .
قَالَ : ( فَإِنْ قَالَ : قَدْ كُنْت اخْتَرْت ضَمَانَك ؛ فَقَدْ بَرِئَ مِنْ الضَّمَانِ بِالْبَرَاءَةِ ) لِأَنَّهُ حَقُّهُ تَقَرَّرَ فِي ذِمَّتِهِ بِزَعْمِهِ ، وَبَرِئَ الْعَبْدُ مِنْ ذَلِكَ ، وَقَدْ صَارَ مُبَرِّئًا شَرِيكَهُ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الْبَرَاءَةِ مِنْ كُلِّ شَرِكَةٍ .
وَإِنْ قَالَ : مَا كُنْت اخْتَرْت شَيْئًا فَأَنَا عَلَى خِيَارِي ؛ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لِأَنَّ الْخِيَارَ كَانَ ثَابِتًا لَهُ ، وَالِاخْتِيَارُ حَادِثٌ مِنْ قِبَلِهِ ، فَإِذَا أَنْكَرَهُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ ، وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَسْتَسْقِيَ الْعَبْدَ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَضْمَنَ الشَّرِيكَ لِأَجْلِ الْبَرَاءَةِ ، فَإِنَّهُ لَوْ تَقَرَّرَ ضَمَانُ نَصِيبِهِ فِي ذِمَّتِهِ بِاخْتِيَارِهِ تَضْمِينَهُ ؛ سَقَطَ ذَلِكَ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الْبَرَاءَةِ فَقِيلَ : تَقَرُّرُ الضَّمَانِ لَأَنْ يَسْتَفِيدَ الْبَرَاءَةَ مِنْهُ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الْبَرَاءَةِ أَوْلَى .
وَإِذَا سَقَطَ حَقُّهُ فِي تَضْمِينِهِ تَعَيَّنَ فِي اسْتِسْقَاءِ الْعَبْدِ - كَمَا لَوْ أَعْتَقَهُ بِرِضَاهُ - وَإِنْ أَقَامَ الْمُقِرُّ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ اخْتَارَ

ضَمَانَهُ جُعِلَ وَالثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ ؛ فَيَبْرَأُ هُوَ مِنْ ذَلِكَ ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْعَبْدِ .
وَإِنْ قَالَ الشَّرِيكُ : لَمْ يُعْتِقْهُ إلَّا بَعْدَ الْفُرْقَةِ ؛ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْإِعْتَاقَ حَادِثٌ ، فَيُحَالُ بِهِ عَلَى أَقْرَبِ الْأَوْقَاتِ ، وَلَا يُصَدَّقُ الْمُقِرُّ فِي الْإِسْنَادِ إلَّا بِحُجَّةٍ ، فَإِنْ أَقَامَ الْمُعْتَقُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ فِي الْمُفَاوَضَةِ ، وَضَمِنَ لَهُ نِصْفَ قِيمَتِهِ ، وَأَقَامَ الْآخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ بَعْدَ الْفُرْقَةِ ، وَاخْتَارَ سِقَايَةَ الْعَبْدِ ؛ فَالْبَيِّنَةُ بَيِّنَةُ الْمُعْتَقِ ، وَبَرِئَ هُوَ وَالْعَبْدُ مِنْ نِصْفِ قِيمَتِهِ ، لِأَنَّهُ أَثْبَتَ بَيِّنَتَهُ بِسَبْقِ التَّارِيخِ فِي الْإِعْتَاقِ ، وَأَبْقَى مَا لَزِمَهُ مِنْ الضَّمَانِ بِهِ ، وَالشَّرِيكَ بِبَيِّنَتِهِ يَبْغِي ذَلِكَ - وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِثْبَاتِ - فَيَتَرَجَّحُ بِزِيَادَةِ الْإِثْبَاتِ .

قَالَ : ( وَلَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ كَاتَبَ عَبْدًا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ فِي الشَّرِكَةِ وَقَبَضَهَا مِنْهُ وَمَاتَ الْعَبْدُ ؛ فَقَدْ دَخَلَ فِيمَا بَرِئْت إلَيْك مِنْهُ ، وَقَالَ الْآخَرُ : بَلْ كَاتَبْته بَعْدَ الْفُرْقَةِ ) فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي لَمْ يُكَاتَبْ ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ يَدَّعِي سَبْقَ التَّارِيخِ فِي عَقْدِهِ ، فَلَا يُصَدَّقْ إلَّا بِحُجَّةٍ ، وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُنْكِرِ مَعَ يَمِينِهِ عَلَى عِلْمِهِ ، فَإِذَا حَلَفَ يَأْخُذُ نِصْفَ الْأَلْفِ مِنْ الْمُقِرِّ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ ، وَقَدْ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا بَعْدَ الْفُرْقَةِ .
وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا كَثِيرًا ، فَقَالَ الْمُكَاتِبُ : كَاتَبْتُهُ بَعْدَ الْفُرْقَةِ وَأَنَا وَارِثُهُ ، وَقَالَ الْآخَرُ : كَاتَبْته فِي الْمُفَاوَضَةِ وَنَحْنُ وَارِثَاهُ جَمِيعًا ، وَلَمْ يَرُدَّ الْمُكَاتَبُ شَيْئًا بَعْدُ ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي لَمْ يُكَاتِبْ ، لِأَنَّ مِلْكَهُ فِي نِصْفِ الْمُكَاتَبِ كَانَ ظَاهِرًا ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْمِلْكَ لَهُ فِي نِصْفِ الْكَسْبِ ، فَالشَّرِيكُ بِمَا قَالَ يَدَّعِي بِمِلْكِ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ ، وَهُوَ مُنْكِرٌ ذَلِكَ ؛ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي لَمْ يُكَاتِبْ مَعَ يَمِينِهِ ، فَإِذَا حَلَفَ كَانَ مُكَاتَبًا بَيْنَهُمَا ، وَقَدْ مَاتَ فَيَأْخُذَانِ الْمُكَاتَبَةَ مِنْ تَرِكَتِهِ ، وَالْبَاقِي مِيرَاثٌ .
قَالَ : لِأَنَّ وَلَاءَهُ لَهُمَا .

قَالَ : ( وَلَوْ مَاتَ الْمُتَفَاوِضَانِ وَاقْتَسَمَ الْوَرَثَةُ جَمِيعَ التَّرِكَةِ ، ثُمَّ وَجَدُوا مَالًا كَثِيرًا ، فَقَالَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ : كَانَ هَذَا فِي قَسْمِنَا ؛ لَمْ يُصَدَّقُوا عَلَى ذَلِكَ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ) لِأَنَّهُمْ تَصَادَقُوا عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَالَ كَانَ مُشْتَرَكًا فِي الْأَصْلِ ، فَدَعْوَى أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ لِلِاخْتِصَاصِ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يُقْبَلُ فِي حَقِّ الْآخَرِ إلَّا بِحُجَّةٍ ، وَعَلَى الْفَرِيقِ الْآخَرِ الْيَمِينُ .
فَإِذَا حَلَفُوا كَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمْ صُدِّقُوا إنْ كَانُوا قَدْ أَشْهَدُوا بِالْبَرَاءَةِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ اخْتِصَاصِهِمْ بِمَا فِي أَيْدِيهِمْ قَدْ ظَهَرَ ، وَهُوَ الْإِشْهَادُ بِالْبَرَاءَةِ الْعَامَّةِ ، وَإِنْ كَانُوا لَمْ يَشْهَدُوا بِالْبَرَاءَةِ فَهُوَ بَيْنَهُمْ جَمِيعًا بَعْدَ مَا يَحْلِفُ الْآخَرُونَ مَا دَخَلَ هَذَا فِي قَسْمِ هَؤُلَاءِ ؛ لِأَنَّا عَرَفْنَاهُ مُشْتَرَكًا فِي الْأَصْلِ ، فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ ذُو الْيَدِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ مَا لَمْ نَعْلَمْ فِيهِ حَقًّا لِغَيْرِهِ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ مَعْلُومًا ، فَلَا يَسْتَحِقُّ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ ، بَلْ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الْبَرَاءَةِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ دَعْوَى الْبَعْضِ فِيمَا فِي يَدِ الْغَيْرِ كَدَعْوَى الدَّيْنِ فِي ذِمَّتِهِ .
وَبَعْدَ الْإِشْهَادِ عَلَى الْبَرَاءَةِ الْمُطْلَقَةِ لَا تُسْمَعُ مِنْهُ دَعْوَى مَا فِي ذِمَّتِهِ مُطْلَقًا ، فَكَذَلِكَ لَا تُسْمَعُ مِنْهُ دَعْوَى مَا فِي يَدِهِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْإِشْهَادِ عَلَى الْبَرَاءَةِ .

قَالَ : ( وَلَوْ كَانَ فِي يَدِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ مَالٌ فَقَالُوا : هَذَا لِأَبِينَا قَبْلَ الْمُفَاوَضَةِ ؛ لَمْ يُصَدَّقُوا عَلَى ذَلِكَ ) لِأَنَّهُمْ قَائِمُونَ مَقَامَ مُوَرِّثِهِمْ ، وَلَوْ ادَّعَى الْمُوَرِّثُ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ لَمْ يُسْمَعْ ذَلِكَ مِنْهُ ، وَكَانَ مَا فِي يَدِهِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ صَاحِبِهِ نِصْفَيْنِ - كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الْمُفَاوَضَةِ - فَكَذَلِكَ دَعْوَى الْوَرَثَةِ بَعْدَهُ ، فَإِنْ كَانُوا قَدْ شَهِدُوا بِالْبَرَاءَةِ مِمَّا كَانَ فِي الشَّرِكَةِ ثُمَّ أَقَرُّوا بِهَذَا ، وَلِلْفَرِيقِ الْآخَرِ نِصْفه ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ ، وَقَدْ زَعَمُوا أَنَّ هَذَا مَا لَمْ تَتَنَاوَلْهُ الْبَرَاءَةُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنْ الشَّرِكَةِ ، وَكَانَ حُكْمُ هَذَا الْمَالِ بَعْدَ الْإِشْهَادِ عَلَى الْبَرَاءَةِ كَمَا قَبْلَهُ ، وَإِنْ كَانَتْ الْبَرَاءَةُ مِمَّا كَانَ فِي الشَّرِكَةِ وَغَيْرِهِ ؛ فَلَا حَقَّ لَهُمْ فِيهِ لِأَنَّهُ دَخَلَ فِي الْبَرَاءَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ شَرِكَتِهِمَا أَوْ مِنْ غَيْرِ شَرِكَتِهِمَا .

قَالَ : ( وَكُلُّ مَا اشْتَرَى أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ مِنْ التِّجَارَةِ ، وَغَيْرِهَا فَهُوَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ شَرِيكِهِ ) إلَّا أَنِّي أَسْتَحْسِنُ فِي كِسْوَتِهِ وَكِسْوَةِ عِيَالِهِ وَقُوتِهِمْ مِنْ الطَّعَامِ وَالْإِدَامِ أَنْ يَكُونَ لَهُ خَاصَّةً - دُونَ شَرِيكِهِ - لِأَنَّ مُقْتَضَى الْمُفَاوَضَةِ الْمُسَاوَاةُ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ فِي التَّصَرُّفِ ، وَكَانَ شِرَاءُ أَحَدِهِمَا كَشِرَائِهِمَا جَمِيعًا ، وَالْقِيَاسُ فِي الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ وَالْإِدَامِ كَذَلِكَ ؛ فَإِنَّ شِرَاءَ ذَلِكَ مِنْ عُقُودِ التِّجَارَةِ ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَهُ فَقَالَ : هَذَا مُسْتَثْنًى مِنْ قَضِيَّةِ الْمُفَاوَضَةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حِينَ شَارَكَ صَاحِبَهُ كَانَ عَالِمًا بِحَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ فِي مُدَّةِ الْمُفَاوَضَةِ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَمْ يَقْصِدْ بِالْمُفَاوَضَةِ أَنْ تَكُونَ نَفَقَتُهُ وَنَفَقَةُ عِيَالِهِ عَلَى شَرِيكِهِ ، وَقَدْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَحْصِيلِ حَاجَتِهِ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِالشِّرَاءِ ، فَصَارَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُسْتَثْنِيًا هَذَا الْمِقْدَارَ مِنْ تَصَرُّفِهِ كَمَا هُوَ مِنْ مُقْتَضَى الْمُفَاوَضَةِ ، وَالِاسْتِثْنَاءُ الْمَعْلُومُ بِدَلَالَةِ الْحَالِ كَالِاسْتِثْنَاءِ بِالشَّرْطِ ، وَلِأَنَّ سَبَبَ الْمُفَاوَضَةِ إنَّمَا يُوجِبُ الْمُسَاوَاةَ شَرْعًا فِيمَا يَتَمَكَّنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْوِقَايَةِ ، وَذَلِكَ فِيمَا سِوَى الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ وَالْإِدَامِ .
فَإِنْ اشْتَرَى أَحَدُهُمَا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ؛ كَانَ لَهُ خَاصَّةً ، وَلِلْبَائِعِ أَنْ يُطَالِبَ بِالثَّمَنِ أَيَّهُمَا شَاءَ ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ بَاشَرَ سَبَبَ الِالْتِزَامِ ، وَالْآخَرُ كَفَلَ عَنْهُ مَا لَزِمَهُ بِالشِّرَاءِ بِسَبَبِ الشَّرِكَةِ .
فَإِذَا أَدَّاهُ أَحَدُهُمَا مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ ؛ رَجَعَ الْمُؤَدِّي عَلَى الْمُشْتَرِي بِقَدْرِ حِصَّتِهِ مِنْ ذَلِكَ ، لِأَنَّ الثَّمَنَ كَانَ عَلَيْهِ خَاصَّةً ، وَقَدْ قُضِيَ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ .
وَإِنْ كَانَتْ الْأَشْيَاءُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا فَجَحَدَ الْمُفَاوَضَةَ ؛ فَقَدْ وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ

لِجُحُودِهِ ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْفَرِدُ بِفَسْخِ الشَّرِكَةِ بِمَحْضَرٍ مِنْ صَاحِبِهِ ، فَجُحُودُهُ يَكُونُ فَسْخًا ؛ لِأَنَّهُ يَنْفِي بِالْجُحُودِ عَقْدَ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِيمَا مَضَى .
وَمِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ فِي الْحَالِ ، وَهُوَ ضَامِنٌ لِنِصْفِ جَمِيعِ مَا فِي يَدِهِ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُفَاوَضَةِ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَمِينًا فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ .
فَبِالْجُحُودِ يَصِيرُ ضَامِنًا - كَالْمُودَعِ إذَا جَحَدَ الْوَدِيعَةَ - .
وَكَذَلِكَ لَوْ جَحَدَ وَارِثُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْآخَرِ فِي يَدِ وَارِثِ الْمَيِّتِ أَمَانَةٌ ، فَبِالْجُحُودِ يَصِيرُ ضَامِنًا .
فَإِنْ مَاتَا وَأَوْصَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى رَجُلٍ فَوَصِيُّ كُلِّ وَاحِدِ مِنْهُمَا يُطَالَبُ بِمَا وَلَّى مُوصِيهِ مُبَايَعَتَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوصِي ، وَقَدْ انْقَطَعَتْ الشَّرِكَةُ بِمَوْتِهِمَا ، وَلَا يُطَالَبُ بِالدَّيْنِ إلَّا مَنْ هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ الَّذِي وَلِيَ الْمُبَايَعَةَ .
فَإِذَا قَبَضَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ، وَلَا عَلَى الْوَرَثَةِ بَعْدَ أَنْ يَكُونُوا مُقِرِّينَ بِالْمُفَاوَضَةِ ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمُوَصِّي قَبَضَ بِنَفْسِهِ ، وَهُوَ مُقِرٌّ بِالْمُفَاوَضَةِ ، كَانَ أَمِينًا فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ .

قَالَ : ( وَإِذَا اشْتَرَى أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ جَارِيَةً لِخَاصَّةِ نَفْسِهِ لِيَطَأَهَا : فَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهَا بِغَيْرِ أَمْرِ شَرِيكِهِ ؛ فَهِيَ بَيْنَهُمَا ) وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا ؛ لِأَنَّ هَذَا الشِّرَاءَ مَا صَارَ مُسْتَثْنًى مِنْ مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ ، وَأَنَّهُ مَا كَانَ يُعْلَمُ وُقُوعُ الْحَاجَةِ إلَيْهِ إلَّا عِنْدَ الشَّرِكَةِ ؛ فَيَقَعُ عَلَى مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ ، وَلَيْسَ لِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ وَطْءُ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ - وَإِنْ اشْتَرَاهَا بِإِذْنِ شَرِيكِهِ - وَلِلْبَائِعِ أَنْ يَأْخُذَ بِالثَّمَنِ أَيَّهُمَا شَاءَ ، وَيَحْتَسِبَانِ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُمَا مِنْ حِصَّةِ الَّذِي اشْتَرَاهَا بِمَنْزِلَةِ مَا يَشْتَرِيهِ مِنْ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ ، لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ .
( وَذُكِرَ ) فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَنَّ الْجَارِيَةَ لِلْمُشْتَرِي بِغَيْرِ شَيْءٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَهُ أَنْ يَطَأَهَا ، وَأَيُّهُمَا نَقَدَ الثَّمَنَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ مِنْهُ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا أَدَّيَا الثَّمَنَ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ ؛ فَلِلشَّرِيكِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُشْتَرِي بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ .
فَتَبَيَّنَ بِمَا ذُكِرَ هُنَاكَ أَنَّ الْجَوَابَ الْمَذْكُورَ فِي كِتَابِ الشَّرِكَةِ قَوْلُهُمَا .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ اُخْتُصَّ بِمِلْكِهَا بِالشِّرَاءِ فَيَلْزَمُهُ ثَمَنُهَا ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ بِمُقَابَلَةِ الْمِلْكِ ، فَإِذَا أَدَّاهُ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ رَجَعَ شَرِيكُهُ عَلَيْهِ بِحِصَّتِهِ مِنْ ذَلِكَ - كَمَا فِي الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ - ؛ وَهَذَا لِأَنَّ اعْتِبَارَ إذْنِ الشَّرِيكِ لِيَصِيرَ بِهِ هَذَا الْعَقْدُ مُسْتَثْنًى مِنْ مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ ، فَإِذَا وُجِدَ الْتَحَقَ بِالْمُسْتَثْنَى بِدُونِ إذْنِهِ - وَهُوَ الطَّعَامُ وَالْكِسْوَةُ - وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : صَارَ مُشْتَرِيًا الْجَارِيَةَ عَلَى الشَّرِكَةِ ، وَقَدْ نَقَدَ الثَّمَنَ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ ؛ فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ شَرِيكُهُ بِشَيْءٍ مِنْهُ .
كَمَا لَوْ اشْتَرَاهَا بِغَيْرِ أَمْرِ شَرِيكِهِ ؛ وَهَذَا لِأَنَّهُمَا لَا

يَمْلِكَانِ تَغْيِيرَ مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ مَعَ بَقَائِهَا .
أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ شَرَطَا التَّفَاوُتَ بَيْنَهُمَا فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي لَمْ يُعْتَبَرْ ذَلِكَ مَعَ عَقْدِ الشَّرِكَةِ ، وَلَكِنَّ تَأْثِيرَ إذْنِ شَرِيكِهِ فِي تَمْلِيكِ نَصِيبِهِ مِنْ الْمُشْتَرَى بَعْدَ الشَّرِكَةِ ، فَيَكُونُ وَاهِبًا لِنَصِيبِهِ مِنْ شَرِيكِهِ .
وَلَوْ أَنَّهُمَا اشْتَرَيَا جَارِيَةً ثُمَّ وَهَبَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ صَاحِبِهِ ؛ كَانَتْ الْجَارِيَةُ لَهُ خَاصَّةً يَطَؤُهَا ، وَالثَّمَنُ عَلَيْهِمَا ، فَهَذَا مِثْلُهُ .
يُقَرِّرُهُ : أَنَّ إذْنَ الشَّرِيكِ عَلَيْهِمَا مُعْتَبَرٌ فِيمَا لَا يَثْبُتُ بِدُونِ إذْنِهِ ، وَشِرَاءُ أَحَدِهِمَا صَحِيحٌ بِدُونِ إذْنِ شَرِيكِهِ ، وَكَذَلِكَ الْمِلْكُ فِي الْمُشْتَرَى يَكُونُ لَهُمَا ، وَالثَّمَنُ عَلَيْهِمَا بِدُونِ إذْنِ الشَّرِيكِ ؛ فَعَرَفْنَا أَنَّ اعْتِبَارَ إذْنِهِ فِي الْقَرَارِ الْمُشْتَرَى بِمِلْكِ الْجَارِيَةِ ، وَلِذَلِكَ طَرِيقَانِ : إمَّا بِنَفْسِ الشِّرَاءِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ مَعَ قِيَامِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا ، وَإِمَّا بِهِبَةِ أَحَدِهِمَا نَصِيبَهُ مِنْ صَاحِبِهِ ، وَذَلِكَ مُمْكِنٌ ، فَيَجِبُ تَحْصِيلُ مَقْصُودِهِمَا بِالطَّرِيقِ الْمُمْكِنِ ، وَيُجْعَلُ هَذَا الطَّرِيقَ الْمُتَعَيَّنَ لِتَحْصِيلِ مَقْصُودِهِمَا كَتَصْرِيحِهِمَا بِهِ - بِخِلَافِ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ - لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَثْنًى مِنْ مُقْتَضَى الشَّرِكَةِ ، فَكَانَ الْمِلْكُ فِي الْمُشْتَرَى لِلْمُشْتَرِي خَاصَّةً بِعَقْدِ الشِّرَاءِ ؛ فَلِهَذَا كَانَ الثَّمَنُ عَلَيْهِ خَاصَّةً .
قَالَ : ( فَإِنْ كَانَ اشْتَرَاهَا بِأَمْرِ صَاحِبِهِ فَوَطِئَهَا ، ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ لِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يَأْخُذَ بِالْعَقْدِ أَيَّهُمَا شَاءَ ) لِأَنَّهُ دَيْنٌ وَجَبَ عَلَى أَحَدِهِمَا بِسَبَبِ التِّجَارَةِ - وَهُوَ الشِّرَاءُ - فَإِنَّهُ لَوْلَا الشِّرَاءُ لَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ الْحَدَّ ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَوَطِئَهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْعُقْرِ عَلَيْهِ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ النِّكَاحِ ، وَالنِّكَاحُ لَيْسَ مِنْ التِّجَارَةِ فِي شَيْءٍ .
وَالدَّلِيلُ عَلَى الْفَرْقِ أَنَّ الْعَبْدَ الْمَأْذُونَ

يُؤَاخَذُ بِالْعُقْرِ بِسَبَبِ الشِّرَاءِ فِي الْحَالِ ، وَلَا يُؤَاخَذُ بِالْعُقْرِ بِسَبَبِ النِّكَاحِ حَتَّى يُعْتَقَ .

قَالَ : ( وَإِذَا بَاعَ أَحَدُهُمَا جَارِيَةً مِنْ تِجَارَتِهِمَا بِنَسِيئَةٍ ؛ لَمْ يَكُنْ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَشْتَرِيَهَا بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ الثَّمَنِ ) ؛ لِأَنَّ فِعْلَ أَحَدِهِمَا فِي الْبَيْعِ كَفِعْلِهِمَا ، وَلِأَنَّ أَحَدَهُمَا بَائِعٌ وَالْآخَرُ تَبَعٌ لَهُ ، وَمَنْ بَاعَ أَوْ بِيعَ لَهُ ؛ لَمْ يَجُزْ شِرَاؤُهُ بِأَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ قَبْلَ الْعَقْدِ .
وَإِنْ وَهَبَ الْبَائِعُ الثَّمَنَ لِلْمُشْتَرِي أَوْ أَبْرَأَهُ مِنْهُ ؛ جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَيَضْمَنُ نَصِيبَ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ وَكِيلٌ بِالْبَيْعِ ، وَالْوَكِيلُ بِالْبَيْعِ إذَا أَبْرَأَ الْمُشْتَرَى عَنْ الثَّمَنِ أَوْ وَهَبَهُ لَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَكَانَ ضَامِنًا مِثْلَهُ لِلْمُوَكِّلِ ، وَلَمْ يَجُزْ إبْرَاؤُهُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَكَذَلِكَ هَذَا فِي نَصِيبِ الشَّرِيكِ .
وَهَذَا لِأَنَّ الْهِبَةَ وَالْإِبْرَاءَ لَيْسَ مِمَّا تَقْتَضِيهِ الْمُفَاوَضَةُ ، وَإِنْ كَانَ الشَّرِيكُ هُوَ الَّذِي وَهَبَ الثَّمَنَ مِنْ الْمُشْتَرِي ؛ جَازَ فِي نِصْفِهِ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِنَصِيبِهِ ، فَيَجُوزُ إسْقَاطُ الثَّمَنِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ كَالْمُوَكِّلِ إذَا أَبْرَأَ الْمُشْتَرِي .
فَأَمَّا فِي نَصِيبِ الْبَائِعِ : الشَّرِيكُ لَيْسَ بِمَالِكٍ وَلَا عَاقِدٍ ؛ فَلَا تَصِحُّ هِبَتُهُ ، وَإِنْ أَقَالَهُ الْبَيْعَ جَازَ عَلَيْهِ وَعَلَى الَّذِي وَلِيَ الْبَيْعَ ؛ لِأَنَّ الْإِقَالَةَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ ، فَكَانَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ الْمُفَاوَضَةِ ، فَإِنَّ الْإِقَالَةَ كَالْبَيْعِ الْجَدِيدِ ، وَلِهَذَا تَصِحُّ مِنْ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ ، وَكَذَلِكَ تَصِحُّ مِنْ الْمُفَاوِضِ وَالشَّرِيكِ شَرِكَةَ عَنَانٍ .

قَالَ : ( وَلَوْ أَسْلَمَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ دَرَاهِمَ فِي طَعَامٍ ؛ جَازَ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا ) لِأَنَّهُ شِرَاءٌ بِنَسِيئَةٍ ، وَهُوَ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ ، فَفِعْلُ أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ كَفِعْلِهِمَا .
وَكَذَلِكَ لَوْ تَعَيَّنَ أَحَدُهُمَا عِينَةً عِينَةً ، وَصُورَةُ الْعِينَةِ أَنْ يَشْتَرِيَ عَيْنًا بِالنَّسِيئَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ لِيَبِيعَهُ بِقِيمَتِهِ بِالنَّقْدِ ، فَيَحْصُلَ لَهُ الْمَالُ ، وَهَذَا مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ بِفِعْلِ أَحَدِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ فِيهِ كَفِعْلِهِمَا ، وَهَذَا بِخِلَافِ أَحَدِ شَرِيكَيْ الْعَنَانِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هُنَاكَ إنَّمَا يَمْلِكُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الشِّرَاءَ بِالنَّسِيئَةِ إذَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ جِنْسُ ذَلِكَ الثَّمَنِ ، فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ فَشِرَاؤُهُ بِالنَّسِيئَةِ اسْتِدَانَةٌ عَلَى الْمَالِ ، وَوِلَايَةُ الِاسْتِدَانَةِ لَا تُسْتَفَادُ بِشَرِكَةِ الْعَنَانِ ، وَتُسْتَفَادُ بِالْمُفَاوَضَةِ .

قَالَ : ( وَلَوْ قَبِلَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ رَأْسَ مَالٍ أَسْلَمَ إلَيْهِ صَاحِبُهُ فِي طَعَامٍ ؛ كَانَ جَائِزًا عَلَى شَرِيكِهِ ) ؛ لِأَنَّ قَبُولَ السَّلَمِ مِنْ صَنِيعِ التُّجَّارِ .
( فَإِنْ قِيلَ ) : كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا ، وَالتَّوْكِيلُ بِقَبُولِ السَّلَمِ لَا يَصِحُّ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلٌ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ ، فَإِنَّمَا يَنْفُذُ مِنْ تَصَرُّفِهِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا يَنْفُذُ مِنْ الْوَكِيلِ عَلَى الْمُوَكِّلِ ؛ ( قُلْنَا ) : هَذَا فِي شَرِكَةِ الْعَنَانِ هَكَذَا ، فَأَمَّا الْمُفَاوَضَةُ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِهِ فِيمَا هُوَ مِنْ تِجَارَةٍ - وَقَبُولُ السَّلَمِ مِنْ التِّجَارَةِ - يُوَضِّحُهُ : أَنَّ قَبُولَ السَّلَمِ تَبَعُ مَا فِي ذِمَّتِهِ ، وَالْتِزَامُ ضَمَانِ مَا فِي الذِّمَّةِ بِمَالٍ يَأْخُذُهُ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَجَّرَ نَفْسَهُ بِعَمَلٍ - مِنْ خِيَاطَةٍ أَوْ نَحْوِهَا - .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ يَنْفُذُ مِنْهُ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ الْمُفَاوَضِ حَتَّى يُطَالَبَ بِهِ .
فَكَذَلِكَ قَبُولُ السَّلَمِ .

قَالَ : ( وَإِذَا بَاعَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ عَبْدًا بِنَسِيئَةٍ ثُمَّ مَاتَ ؛ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهِ أَنْ يُخَاصِمَ فِيهِ ) ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ انْقَطَعَتْ بَيْنَهُمَا بِالْمَوْتِ ، فَإِنَّمَا تَبْقَى وِلَايَةُ الْمُطَالَبَةِ وَالْخُصُومَةِ بِالْعَقْدِ ، وَذَلِكَ إلَى الْعَاقِدِ أَوْ إلَى مَنْ قَامَ مَقَامَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ وَصِيٍّ أَوْ وَارِثٍ ، وَلَكِنْ إنْ أَعْطَاهُ الْمُشْتَرِي نِصْفَ الثَّمَنِ ؛ بَرِئَ مِنْهُ لِأَنَّ نِصْفَ الثَّمَنِ مِلْكُهُ إذَا قَبَضَهُ وَصِيُّ الْمَيِّتِ يَلْزَمُهُ دَفْعُهُ إلَيْهِ ، فَإِذَا دَفَعَهُ الْمُشْتَرِي إلَيْهِ بِنَفْسِهِ ؛ بَرِئَ اسْتِحْسَانًا - كَالْمُشْتَرِي مِنْ الْوَكِيلِ إذَا دَفَعَ الثَّمَنَ إلَى الْمُوَكِّلِ يَبْرَأُ اسْتِحْسَانًا .

قَالَ : ( وَإِذَا بَاعَ أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ ثَوْبًا مِنْ الشَّرِكَةِ لِيَقْطَعَهُ ؛ جَازَ ) لِأَنَّ هَذَا بَيْعٌ مُقَيَّدٌ ، فَإِنَّ الثَّوْبَ قَبْلَ هَذَا الْبَيْعِ مِنْ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا ، وَبَعْدَ هَذَا الْبَيْعِ يَخْتَصُّ الْمُشْتَرِي بِمِلْكِهِ ، فَإِنَّهُ لَوْ اشْتَرَى ثَوْبًا لِكِسْوَتِهِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ يَخْتَصُّ بِمِلْكِهِ ، وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَاهُ مِنْ صَاحِبِهِ .
وَالشِّرَاءُ إذَا كَانَ مُقَيَّدًا كَانَ صَحِيحًا - كَالْمَوْلَى إذَا اشْتَرَى شَيْئًا مِنْ كَسْبِ عَبْدِهِ الْمَأْذُونِ الْمَدْيُونِ لِنَفْسِهِ ، أَوْ رَبِّ الْمَالِ إذَا اشْتَرَى شَيْئًا مِنْ مَالِ الْمُضَارَبَةِ مِنْ الْمُضَارِبِ كَانَ صَحِيحًا - .
قَالَ : ( وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ جَارِيَةً لِيَطَأَهَا ، أَوْ طَعَامًا يَجْعَلُهُ رِزْقًا لِأَهْلِهِ ؛ فَهَذَا الْبَيْعُ مُقَيَّدٌ يَجِبُ بِهِ الثَّمَنُ ) ، ثُمَّ نِصْفُ الثَّمَنِ لَهُ وَنِصْفُهُ لِشَرِيكِهِ ، كَمَا لَوْ بَاعَهُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ .
قَالَ : ( وَإِذَا اشْتَرَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَحَدُهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ لِلتِّجَارَةِ ؛ كَانَ بَاطِلًا ) لِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ غَيْرُ مُقَيَّدٍ ، فَإِنَّ الْعَيْنَ قَبْلَ هَذَا الْعَقْدِ مِنْ شَرِكَتِهِمَا ، وَبَعْدَهُ كَذَلِكَ ، وَالْعَقْدُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُقَيَّدًا كَانَ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّ الْعُقُودَ الشَّرْعِيَّةَ أَسْبَابٌ مَشْرُوعَةٌ لِلْفَائِدَةِ ، فَإِذَا خَلَتْ مِنْهَا كَانَتْ لَغْوًا ، وَاللَّغْوُ لَا يَكُونُ مَشْرُوعًا ، وَإِنْ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَبْدٌ مِيرَاثٌ فَاشْتَرَاهُ الْآخَرُ لِلتِّجَارَةِ ؛ كَانَ جَائِزًا لِأَنَّهُ مُفِيدٌ ، فَإِنَّهُ يَدْخُلُ بِهِ فِي الْمُفَاوَضَةِ مَا لَمْ يَكُنْ فِيهَا ، وَلَا يُفْسِدُ الْمُفَاوَضَةَ حَتَّى يَقْبِضَ الثَّمَنَ ؛ لِأَنَّ اخْتِصَاصَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ بِمِلْكِ الدَّيْنِ ، فَإِذَا قَبَضَ الثَّمَنَ فَقَدْ اُخْتُصَّ بِمِلْكِ مَالٍ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ رَأْسَ مَالٍ فِي الشَّرِكَةِ ، فَتَبْطُلُ الْمُفَاوَضَةُ .
( وَكَذَلِكَ ) إنْ كَانَتْ أَمَةً لِأَحَدِهِمَا مِيرَاثًا ، اشْتَرَاهَا الْآخَرُ مِنْهُ لِيَطَأَهَا .

قَالَ : ( وَإِذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ وَلَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ؛ انْقَطَعَتْ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَهُمَا ) لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا قَضَى بِلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ حَتَّى يُقَسِّمَ مَالَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ ، وَالْمُفَاوَضَةُ تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ حَقِيقَةً ، فَكَذَلِكَ إذَا فَقَدَ مَوْتَهُ حُكْمًا ، وَلِأَنَّهُ صَارَ حَرْبِيًّا ، وَلَا عِصْمَةَ بَيْنَ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَالسِّلْمِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ ابْتِدَاءَ الْمُفَاوَضَةِ بَيْنَهُمَا لَا يَجُوزُ ، وَكَذَلِكَ لَا يَبْقَى ، وَإِنْ رَجَعَ مُسْلِمًا قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الْقَاضِي بِلَحَاقِهِ ؛ كَانَ عَلَى الشَّرِكَةِ لِأَنَّ اللَّحَاقَ بِدَارِ الْحَرْبِ قَبْلَ أَنْ يَتَّصِلَ بِهِ قَضَاءُ الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ الْغِيبَةِ ؛ فَلَا تُقْطَعُ الشَّرِكَةُ ، وَلِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التَّوْكِيلِ لِصَاحِبِهِ ، وَالْوَكَالَةُ لَا تَبْطُلُ بِرِدَّةِ الْوَكِيلِ وَلَحَاقِهِ ، مَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِهِ ، وَكَذَلِكَ الْمُفَاوَضَةُ وَشَرِكَةُ الْعَنَانِ .
فَإِنْ حَكَمَ الْحَاكِمُ بِلَحَاقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ رَجَعَ مُسْلِمًا ؛ فَلَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهَا قَدْ انْقَطَعَتْ بِتَمْوِيتِ الْقَاضِي إيَّاهُ حِينَ قَضَى بِلَحَاقِهِ .
وَفِي رِدَّةِ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ اخْتِلَافٌ وَكَلَامٌ قَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْوَكَالَةِ .
قَالَ : ( وَإِذَا ارْتَدَّ وَلَمْ يَلْتَحِقْ بِدَارِ الْحَرْبِ ، ثُمَّ أَقَرَّ بِدَيْنٍ ثُمَّ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ ؛ لَمْ يَلْزَمْهُ ذَلِكَ الدَّيْنُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ) ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ تَصَرُّفٌ مِنْهُ فِي حَالِ رِدَّتِهِ ، وَكَانَ مَوْقُوفًا عِنْدَهُ ، وَيَبْطُلُ إذَا قُتِلَ - كَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ - وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - يَلْزَمُهُ كَمَا يَلْزَمُ شَرِيكَ الْعَنَانِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَهُمَا : شَرِكَةُ الْعَنَانِ تَصِحُّ مِنْ الْمُرْتَدِّ ، فَكَذَلِكَ تَبْقَى بَعْدَ رِدَّتِهِ .
وَأَمَّا الْمُفَاوَضَةُ فَتُوقَفُ مِنْ الْمُرْتَدِّ عِنْدَهُمَا إذَا بَاشَرَهُ ابْتِدَاءً .
وَكَذَلِكَ إذَا ارْتَدَّ بَعْدَ الْمُفَاوَضَةِ يَتَوَقَّفُ مِنْ

الْمُرْتَدِّ عِنْدَهُمَا تِلْكَ الزِّيَادَةُ ، فَإِذَا قُتِلَ أَوْ لَحِقَ بِدَارِ الْحَرْبِ ؛ بَطَلَتْ الزِّيَادَةُ .
وَإِنَّمَا بَقِيَتْ شَرِكَةُ الْعَنَانِ بَيْنَهُمَا إلَى وَقْتِ مَوْتِهِ .

قَالَ : ( وَبَيْعُ أَحَدِ شَرِيكَيْ الْعَنَانِ وَشِرَاؤُهُ وَإِقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ بِجِهَةِ التِّجَارَةِ جَائِزٌ عَلَى شَرِيكِهِ ) وَكَذَا إذَا فَعَلَ الْمُرْتَدُّ ذَلِكَ .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : إنْ أَقَرَّ الْمُسْلِمُ مِنْهُمَا بِدَيْنٍ ؛ لَزِمَهُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ ، وَتَوَقَّفَ أَمْرُ الْمُرْتَدِّ ، فَإِنْ أَسْلَمَ لَزِمَهُ مَا أَقَرَّ بِهِ الْمُسْلِمُ لِبَقَاءِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا ، وَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ ، وَكَذَلِكَ مَا أَقَرَّ بِهِ الْمُرْتَدُّ إلَّا أَنَّ أَصْلَهُ إقْرَار الْمُرْتَدِّ مَوْقُوفٌ ، وَإِذَا قُتِلَ بَطَلَ - كَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ - وَأَصْلُ إقْرَارِ الْمُسْلِمِ صَحِيحٌ فِي حَقِّهِ ، وَإِنَّمَا يَتَوَقَّفُ بِثُبُوتِ حُكْمِهِ فِي حَقِّ الْمُرْتَدِّ عَلَى إسْلَامِهِ ، فَإِذَا قُتِلَ أَوْ مَاتَ بَطَلَ ذَلِكَ ، وَيَبْقَى الْمُسْلِمُ مُطَالَبًا بِهِ .

قَالَ : ( وَإِذَا بَاعَ أَحَدُ الْمُتَفَاوِضَيْنِ مَتَاعًا ثُمَّ افْتَرَقَا ، وَلَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي بِافْتِرَاقِهِمَا ؛ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَقْبِضَ الثَّمَنَ كُلَّهُ ) لِأَنَّ بَيْعَ أَحَدِهِمَا فِي حَالِ قِيَامِ الْمُفَاوَضَةِ مُثْبَتٌ عَلَى حَقِّ قَبْضِ الثَّمَنِ لِصَاحِبِهِ ؛ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِافْتِرَاقِهِمَا ، مَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمُشْتَرِي ، حَتَّى إذَا قَضَى الثَّمَنَ أَحَدُهُمَا ، وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِالْفُرْقَةِ ؛ بَرِئَ ؛ لِأَنَّهُ بِالْعَقْدِ اسْتَحَقَّ بَرَاءَةَ ذِمَّتِهِ عِنْدَ دَفْعِ الثَّمَنِ إلَى أَحَدِهِمَا ، فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِافْتِرَاقِهِمَا مَا لَمْ يَعْلَم بِهِ .
وَهَذَا لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ مِنْ جِهَةِ الْبَائِعِ فِي تَسْلِيمِ الثَّمَنِ إلَى شَرِيكِهِ ، فَهُمَا بِالِافْتِرَاقِ قَصَدَا عَزْلَهُ عَنْ الْوَكَالَةِ ، وَعَزْلُ الْوَكَالَةِ قَصْدًا لَا يَثْبُتُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يُعْلَمْ بِهِ ، حَتَّى إذَا عَلِمَ بِالْفُرْقَةِ ؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ جَمِيعَ الْمَالِ إلَّا إلَى الَّذِي وَلِيَ الْبَيْعَ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْعَزْلِ يَثْبُتُ فِي حَقِّهِ ؛ لَمَّا عَلِمَ بِهِ ؛ إذْ لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ .
وَهُوَ بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ الْبَائِعُ ؛ لِأَنَّ مَوْتَ الْمُوَكِّلِ يُوجِبُ عَزْلَ الْوَكِيلِ حُكْمًا ؛ لِتَحَوُّلِ مِلْكِهِ إلَى وَارِثِهِ ، وَلَا يَتَوَقَّفُ بِثُبُوتِ حُكْمِهِ عَلَى الْعِلْمِ بِهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْوَكِيلَ يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ مُوَكِّلِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ ، - بِخِلَافِ مَا إذَا عَزَلَهُ قَصْدًا - .
قَالَ : ( وَإِنْ وَجَدَ الْمُشْتَرَى بِهِ عَيْبًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ إلَّا الَّذِي وَلِيَ الْبَيْعَ ) ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ قَدْ انْقَطَعَتْ ، وَالْخُصُومَةُ فِي الْعَيْبِ مِنْ حُقُوقِ الْعَقْدِ ، فَإِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ خَاصَّةً ثُمَّ يَرْجِعُ الْعَاقِدُ بِنِصْفِ ذَلِكَ عَلَى شَرِيكِهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي النِّصْفِ كَانَ وَكِيلًا ، فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ فِيهِ .
قَالَ : ( وَلَوْ كَانَ رَدُّهُ عَلَى شَرِيكِهِ بِالْعَيْبِ قَبْلَ الْفُرْقَةِ ، وَحُكِمَ لَهُ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ ، أَوْ

بِنُقْصَانِ الْعَيْبِ ، عِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّدِّ ، ثُمَّ افْتَرَقَا ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ ) ؛ لِأَنَّ هَذَا دَيْنٌ لَزِمَ أَحَدَهُمَا فِي حَالِ قِيَامِ الشَّرِكَةِ ، فَصَارَ الْآخَرُ مُطَالَبًا بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ .
فَافْتِرَاقُهُمَا لَا يُبْطِلُ حَقَّ صَاحِبِ الدَّيْنِ عَنْ مُطَالَبَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَسَائِرِ الدُّيُونِ .
قَالَ : ( وَلَوْ اسْتَحَقَّ الْعَبْد بَعْدَ الْفُرْقَةِ ، وَقَدْ كَانَ نَقَدَ الثَّمَنَ قَبْلَهَا ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِالثَّمَنِ أَيَّهُمَا شَاءَ ) ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي الْمُسْتَحَقِّ كَانَ مَوْقُوفًا ، فَيَبْطُلُ مِنْ الْأَصْلِ بِإِبْطَالِ الْمُسْتَحَقِّ ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ رَدَّ الثَّمَنِ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِمَا قَبْلَ افْتِرَاقِهِمَا ، وَكَانَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُطَالِبَ بِالثَّمَنِ أَيَّهُمَا شَاءَ .
فَأَمَّا بِالرَّدِّ بِالْعَيْبِ بَعْدَ الْفُرْقَةِ لَا يَتَبَيَّنُ بُطْلَانُ الْبَيْعِ مِنْ الْأَصْلِ ، وَلَكِنَّهُ كَانَ صَحِيحًا إلَى وَقْتِ الرَّدِّ ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الثَّمَنُ عَلَى الْبَائِعِ حِينَ رَدَّ عَلَيْهِ الْمَبِيعَ ، وَإِذَا كَانَ الرَّدُّ بَعْدَ الْفُرْقَةِ فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يُطَالِبَ بِهِ الْآخَرَ .

قَالَ : ( رَجُلٌ سَلَّمَ ثَوْبًا إلَى خَيَّاطٍ لِيَخِيطَهُ بِنَفْسِهِ ، وَلِلْخَيَّاطِ شَرِيكٌ فِي الْخِيَاطَةِ مُفَاوَضَةً ؛ فَلِصَاحِبِ الثَّوْبِ أَنْ يُطَالِبَ بِالْعَمَلِ أَيَّهُمَا شَاءَ مَا بَقِيَتْ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَهُمَا ) ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِهِ فِيمَا لَزِمَهُ مَا بَقِيَتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا .
( فَإِنْ قِيلَ ) : عَمَلُ الْخِيَاطَةِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى مَنْ بَاشَرَ السَّبَبَ ، وَالْآخَرُ بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِهِ الْكَفِيلِ عَنْهُ ، فَإِذَا شَرَطَ عَلَى الْخَيَّاطِ أَنْ يَخِيطَ بِنَفْسِهِ ؛ لَمْ تَجُزْ كَفَالَةُ الْغَيْرِ عَنْهُ ؛ فَلَا يُطَالَبُ الْكَفِيلُ بِهِ ؛ ( قُلْنَا ) : مَا بَقِيَتْ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَهُمَا فَهُمَا كَشَخْصٍ وَاحِدٍ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ فِيمَا تَقْتَضِيهِ الْمُفَاوَضَةُ ؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ الَّتِي هِيَ رُكْنُ الْمُفَاوَضَةِ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا بِهِ ؛ فَلَا تَظْهَرُ مَعْنَى الْكَفَالَةِ قَبْلَ الْفُرْقَةِ ، وَإِنَّمَا تَظْهَرُ بَعْدَ الْفُرْقَةِ ، فَلَا جَرَمَ إذَا تَفَرَّقَا أَوْ مَاتَ الَّذِي قَبَضَ الثَّوْبَ ؛ لَمْ يُؤَاخَذْ الْآخَرُ بِالْعَمَلِ ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلِاتِّحَادِ هُوَ الشَّرِكَةُ ، وَقَدْ انْقَطَعَتْ ، وَإِنَّمَا بَقِيَ مَعْنَى الْكَفَالَةِ ؛ فَكَانَ الشَّرْطُ عَلَى الْخَيَّاطِ ؛ فَلَا يُطَالَبُ الْآخَرُ بِحُكْمِ الْكَفَالَةِ .
وَإِذَا مَاتَ الَّذِي قَبِلَ ؛ بَطَلَ هَذَا التَّقَبُّلُ لِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ .
وَهَذَا نَظِيرُ مَا لَوْ دَفَعَ ثَوْبًا إلَى الْخَيَّاطِ لِيَخِيطَ بِنَفْسِهِ ، وَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِالْخِيَاطَةِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يَخِيطَ بِنَفْسِهِ ؛ جَازَتْ الْكَفَالَةُ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِمَضْمُونٍ بِمَا تُجْرَى النِّيَابَةُ فِي إيفَائِهِ صَحِيحٌ ، وَبِمَا لَا تُجْرَى النِّيَابَةُ فِي إيفَائِهِ بَاطِلٌ .
وَإِذَا شَرَطَ عَلَى الْخَيَّاطِ الْعَمَلَ بِنَفْسِهِ هَذَا لَا تُجْرَى النِّيَابَةُ فِي إيفَائِهِ ، وَإِذَا لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ عَلَيْهِ ، فَهَذَا تُجْرَى النِّيَابَةُ فِي إيفَائِهِ ؛ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ .
وَبَعْدَ صِحَّتِهَا : إذَا مَاتَ الْخَيَّاطُ ؛ بَرِئَ

الْكَفِيلُ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ قَدْ انْقَطَعَتْ بِمَوْتِ الْخَيَّاطِ ، وَبَرَاءَةُ الْأَصِيلِ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ .
وَكَذَلِكَ هَذَا فِي كِرَاءِ الْإِبِلِ ، إذَا مَاتَ الْجَمَّالُ ؛ بَرِئَ الْكَفِيلُ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ قَدْ انْقَطَعَتْ بِمَوْتِهِ .

قَالَ : ( وَإِذَا كَانَ بَيْنَ رَجُلَيْنِ كُرُّ حِنْطَةٍ ، وَكُرُّ شَعِيرٍ ، وَلَمْ يَأْمُرْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ بِبَيْعِهِ ، فَاسْتَعَارَ أَحَدُهُمَا دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا حِنْطَةً ، فَحَمَلَ عَلَيْهَا الْآخَرُ الشَّعِيرَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ؛ كَانَ ضَامِنًا لِلدَّابَّةِ ، وَلِحِصَّةِ صَاحِبِهِ مِنْ الشَّعِيرِ ) ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا شَرِكَةُ مِلْكٍ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي التَّصَرُّفِ كَالْأَجْنَبِيِّ مِنْ صَاحِبِهِ ؛ فَيَكُونُ غَاصِبًا لِلدَّابَّةِ وَلِنَصِيبِ شَرِيكِهِ مِنْ الشَّعِيرِ يَحْمِلُهُ عَلَى الدَّابَّةِ ؛ فَلِهَذَا يَضْمَنُ قِيمَةَ الدَّابَّةِ ، وَنَصِيبَ صَاحِبِهِ مِنْ الشَّعِيرِ إذَا تَلِفَتْ بِحَمْلِهِ ، وَلَيْسَ هَذَا كَشَرِيكِ الْعَنَانِ وَالْمُفَاوَضِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَكِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ فِي الْحَمْلِ ، كَمَا أَنَّهُ وَكِيلُ صَاحِبِهِ فِي التِّجَارَةِ ؛ فَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا .

ثُمَّ خَتَمَ الْبَابَ فِي الْأَصْلِ بِمَا إذَا اشْتَرَكَ الرَّجُلَانِ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ ، وَلَيْسَ لَهُمَا مَالٌ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَا بِوُجُوهِهِمَا ، أَوْ يَعْمَلَا بِأَبْدَانِهِمَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَ الْمُفَاوَضَةِ فِي هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مِنْ الشَّرِكَةِ ، كَالْعَنَانِ ، إلَّا أَنَّ فِي الْمُفَاوَضَةِ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ التَّفَاوُتِ بَيْنَهُمَا ، وَفِي الْعَنَانِ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ ، إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَا التَّفَاوُتَ فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي .
وَفِي التَّقَبُّلِ يَصِحُّ مِنْهُمَا اشْتِرَاطُ التَّفَاوُتِ ، وَبَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَقُولُ : لَا فَرْقَ .
وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ أَنَّهُ إنْ اشْتَرَطَا التَّفَاوُتَ فِي التَّقَبُّلِ ، فَأَمَّا مَعَ اشْتِرَاطِ التَّسَاوِي فِي أَصْلِ التَّقَبُّلِ ؛ لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا اشْتِرَاطُ التَّفَاوُتِ فِي الرِّبْحِ ، وَلَكِنَّ هَذَا بَعِيدٌ ؛ لِأَنَّهُ ذُكِرَ قَبْلَ هَذَا .
وَفِي النَّوَادِرِ أَيْضًا أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا عَلَى الشَّرْطِ ، وَالْوَضِيعَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ، وَلَوْ كَانَ التَّفَاوُتُ بَيْنَهُمَا فِي أَصْلِ التَّقَبُّلِ لَكَانَتْ الْوَضِيعَةُ عَلَى ذَلِكَ ، وَلَكِنْ الْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ ، ( أَحَدُهُمَا ) : أَنَّ فِي التَّقَبُّلِ هُمَا تَابِعَانِ لِلْعَمَلِ ، فَقَدْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا تَفَاوُتٌ فِي الْعَمَلِ ، فَيَصِحُّ مِنْهُمَا اشْتِرَاطُ التَّفَاوُتِ فِي الرِّبْحِ .
فَأَمَّا فِي شَرِكَةِ الْوُجُوهِ : هُمَا مُتَسَاوِيَانِ بِثَمَنٍ فِي ذِمَّتِهِمَا ، فَمَعَ التَّسَاوِي فِي مِلْكِ الْمُشْتَرِي لَا يَصِحُّ مِنْهُمَا شَرْطُ التَّفَاوُتِ فِي الرِّبْحِ .
وَتَوْضِيحُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمَنَافِعَ إنَّمَا تَتَقَوَّمُ بِالْعَقْدِ ، فَمَنْفَعَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَتَقَوَّمُ بِقَدْرِ مَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ مِنْ الرِّبْحِ ، بِخِلَافِ عَيْنِ الْمُشْتَرِي ؛ فَإِنَّهُ يَتَقَوَّمُ بِنَفْسِهِ ؛ فَلَا يَصِحُّ مِنْ أَحَدِهِمَا اشْتِرَاطُ شَيْءٍ مِنْ رِبْحِ مَالِ صَاحِبِهِ مِنْ غَيْرِ رَأْسِ مَالٍ ، وَلَا ضَمَانٍ .
وَإِذَا تَقَبَّلَ الْعَمَلَ أَحَدُهُمَا ، فَإِنْ كَانَا مُتَفَاوِضَيْنِ فَلَا إشْكَالَ أَنَّ الْآخَرَ مُطَالَبٌ

بِذَلِكَ .
فَأَمَّا إذَا كَانَتْ الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا مُطْلَقَةً ؛ فَقَدْ ذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ - قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا - فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي الْقِيَاسِ لَا يُطَالَبُ إلَّا مَنْ تَقَبَّلَ ؛ لِأَنَّ الشَّرِكَةَ بَيْنَهُمَا عَنَانٌ ، وَذَلِكَ لَا يَتَضَمَّنُ الْكَفَالَةَ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ أَحَدُهُمَا بِدَيْنٍ لِإِنْسَانٍ لَا يُطَالَبُ الْآخَرُ بِهِ ، فَكَذَلِكَ إذَا تَقَبَّلَ الْعَمَلَ .
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَكُونُ الْآخَرُ مُطَالَبًا بِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّقَبُّلَ مَقْصُودٌ بِالشَّرِكَةِ ، فَفِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ يَقُومُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقَامَ صَاحِبِهِ ، وَيَكُونَانِ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَفَاوِضَيْنِ .
وَعَلَى هَذَا : إذَا عَمِلَ أَحَدُهُمَا ؛ كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يُطَالِبَ بِالْأَجْرِ - اسْتِحْسَانًا - لِأَنَّهُ هُوَ الْمَقْصُودُ بِعَقْدِهِمَا .
وَبَيَانُ كَوْنِهِ مَقْصُودًا : أَنَّ الشَّرِكَةَ الَّتِي بَيْنَهُمَا لَا تَنْفَكُّ عَنْ هَذَا - بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ فِي الدَّيْنِ - .
وَذَكَرَ الشَّارِحُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ لِمَا جَنَتْ يَدُ أَحَدِهِمَا - اسْتِحْسَانًا أَيْضًا - وَأَنَّهُ لَوْ ادَّعَى عَيْنًا فِي يَدِهِمَا عَلَى أَحَدِهِمَا أَنَّهُ تَقَبَّلَ الْعَمَلَ فِيهِ ، فَأَقَرَّ بِهِ نَفَذَ إقْرَارُهُ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ - أَيْضًا اسْتِحْسَانًا - وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ يَأْخُذُ بِالْقِيَاسِ ، فَيَقُولُ : إقْرَارُهُ بِالْعَيْنِ كَإِقْرَارِهِ بِالدَّيْنِ ، وَمَا يَتْلَفُ بِجِنَايَةٍ فِي يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ غَصْبِهِ وَاسْتِهْلَاكِهِ ، وَالشَّرِكَةُ بَيْنَهُمَا قَدْ تَنْفَكُّ عَنْ ذَلِكَ ، فَلَا يُطَالَبُ الشَّرِيكُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَخَذَ بِالِاسْتِحْسَانِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ ضَمَانِ مَا جَنَتْ يَدُهُ بِاعْتِبَارِ الْعَمَلِ ، وَمَا فِي الْعَمَلِ كَالْمُتَفَاوِضِينَ فَكَذَلِكَ فِيمَا يَجِبُ بِاعْتِبَارِهِ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ الْإِقْرَارُ بِالْعَيْنِ فَإِنَّ الشَّرِكَةَ لَا تَنْفَكُّ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَنْ يُسَلِّمُ إلَى أَحَدِهِمَا الْعَمَلَ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ أَنْ

يُسَلِّمَ إلَيْهِ مَحَلَّ الْعَمَلِ ، وَمَا يَتَقَبَّلُهُ أَحَدُهُمَا يَثْبُتُ عَلَيْهِ يَدُهُمَا عِنْدَ إقَامَةِ الْعَمَلِ ، فَإِذَا لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ شَرِيكِهِ يُحَذِّرُ النَّاسَ مِنْ الْمُعَامَلَةِ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ فَلِهَذَا أَخَذْنَا بِالِاسْتِحْسَانِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

قَالَ : ( وَإِذَا اشْتَرَكَ الرَّجُلَانِ عَلَى أَنْ يَحْتَطِبَا الْحَطَبَ يَبِيعَانِهِ ، فَمَا بَاعَاهُ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ؛ كَانَتْ هَذِهِ الشَّرِكَةُ فَاسِدَةً ) ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الشَّرِكَةِ بِاعْتِبَارِ الْوَكَالَةِ ، فَلَا تَصِحُّ فِيمَا لَا تَجُوزُ الْوَكَالَةُ فِيهِ .
وَلَوْ وَكَّلَ إنْسَانًا بِأَنْ يَحْتَطِبَ لَهُ لَمْ يَصِحَّ التَّوْكِيلُ ، وَكَانَ الْحَطَبُ الَّذِي لَمْ يَحْتَطِبْ دُونَ الْمُوَكِّلِ ، فَكَذَلِكَ الشَّرِكَةُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا - فِي الْمَعْنَى - يُوَكِّلُ صَاحِبَهُ بِمُبَاشَرَةِ بَعْضِ ذَلِكَ الْعَمَلِ لَهُ ، وَلِأَنَّ الِاحْتِطَابَ اكْتِسَابٌ ، وَالِاكْتِسَابُ فِي الْمَحَلِّ الْمُبَاحِ يُوجِبُ الْمِلْكَ لِلْمُكْتَسِبِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَشْتَرِطُ لِنَفْسِهِ بَعْضَ كَسْبِ صَاحِبِهِ مِنْ غَيْرِ رَأْسِ مَالٍ ، وَلَا ضَمَانَ لَهُ فِيهِ .
أَوْ يَصِيرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالْمُفَاوَضِ مَعَ صَاحِبِهِ بِنِصْفِ مَا يَكْتَسِبُهُ صَاحِبُهُ ، وَهَذَا مُفَاوَضَةٌ فِي الْمَجْهُولِ ؛ فَلَا تَكُونُ صَحِيحَةً ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا احْتَطَبَ وَثَمَنُهُ إذَا بَاعَ ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ ، فَإِنْ احْتَطَبَ أَحَدُهُمَا ، وَأَعَانَهُ الْآخَرُ ؛ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ عَلَى الَّذِي احْتَطَبَ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَهُ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ ؛ فَيَلْزَمُهُ أَجْرُ مِثْلِهِ ، وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ نِصْفَ الثَّمَنِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ فَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : قَدْ رَضِيَ هَذَا بِنِصْفِ الْمُسَمَّى ، فَيُعْتَبَرُ رِضَاهُ فِي إسْقَاطِ حَقِّهِ فِي الْمُطَالَبَةِ بِالزِّيَادَةِ عَلَى ذَلِكَ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَ حَمَّالًا لِيَحْمِلَ لَهُ حِنْطَةً إلَى مَوْضِعِ كَذَا بِقَفِيزٍ مِنْهَا ، فَحَمَلَهَا كَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ مَا سَمَّى ؛ وَهَذَا لِأَنَّ تَقَدُّمَ الْمَنْفَعَةِ بِاعْتِبَارِ الْعَقْدِ وَالتَّسْمِيَةِ ؛ إذْ الْمَنَافِعُ لَا تَتَقَوَّمُ بِنَفْسِهَا بِغَيْرِ الْعَقْدِ ، وَفِيمَا زَادَ عَلَى الْمُسَمَّى لَمْ تُوجَدْ

التَّسْمِيَةُ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : الْمُسَمَّى مَجْهُولُ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ ، فَإِنَّهُ لَا يُدْرَى : أَيُّ نَوْعٍ مِنْ الْحَطَبِ يُصِيبَانِ ؟ وَهَلْ يُصِيبَانِ شَيْئًا أَمْ لَا ؟ .
وَالرِّضَا بِالْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ ، فَإِذَا سَقَطَ اعْتِبَارُ رِضَاهُ بَقِيَتْ مَنَافِعُهُ مُسْتَوْفَاةً بِعَقْدٍ فَاسِدٍ ، فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ ، فَإِذَا أَصَابَ شَيْئًا أَوْلَى ، بِخِلَافِ حَمْلِ الْحِنْطَةِ ، فَإِنَّ الْقَفِيزَ مِنْهَا مَعْلُومٌ ؛ فَاعْتُبِرَ رِضَاهُ بِالْمَعْلُومِ ؛ فَلِهَذَا لَا يُجَاوِزُ بِهِ الْمُسَمَّى ، وَعَلَى هَذِهِ الشَّرِكَةُ فِي سَائِرِ الْمُبَاحَاتِ ، نَحْوَ احْتِشَاشِ الْحَشِيشِ ، وَاجْتِنَاءِ الثِّمَارِ مِنْ الْجِبَالِ ، وَالْبَرَادِي مِنْ الْجَوْزِ ، وَالْفُسْتُقِ ، وَغَيْرِهِمَا فَإِذَا عَمِلَا ذَلِكَ ، وَخَلَطَاهُ ثُمَّ بَاعَا ؛ قُسِمَ الثَّمَنُ عَلَى كَيْلٍ وَوَزْنٍ مَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، إنْ كَانَ كَيْلِيًّا أَوْ وَزْنِيًّا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ مَالِكًا لِمَا أَصَابَهُ .
وَالثَّمَنُ فِي الْبَيْعِ إنَّمَا يُقْسَمُ عَلَى مَالِيَّةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَمَالِيَّةِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ تُعْرَفُ بِالْكَيْلِ وَالْوَزْنِ ؛ فَلِهَذَا قُسِمَ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا عَلَى ذَلِكَ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَيْلِيًّا أَوْ وَزْنِيًّا ؛ يُقْسَمُ الثَّمَنُ عَلَى قِيمَةِ مَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ مَعْرِفَةَ الْمَالِيَّةِ ، فِيمَا لَا يُكَالُ وَلَا يُوزَنُ ، بِمَعْرِفَةِ الْقِيمَةِ .
وَإِذَا لَمْ يُعْرَفْ مِقْدَارُ مَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَدَقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي النِّصْفِ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي الِاكْتِسَابِ - وَقَدْ كَانَ الْمُكْتَسَبُ فِي أَيْدِيهِمَا - وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي دَعْوَاهُ إلَى النِّصْفِ إنَّمَا يَدَّعِي مَا كَانَ فِي يَدِهِ ، وَالظَّاهِرُ يَشْهَدُ لَهُ فِي ذَلِكَ ؛ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ ، وَلَا يُصَدَّقُ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى النِّصْفِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي خِلَافَ مَا يَشْهَدُ لَهُ الظَّاهِرُ ، وَلِأَنَّهُ يَدَّعِي شَيْئًا كَانَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْمَرْءُ مَا فِي

يَدِ غَيْرِهِ بِدَعْوَاهُ إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ .
وَكَذَلِكَ الشَّرِكَةُ بِنَقْلِ الطِّينِ وَبَيْعِهِ مِنْ أَرْضٍ لَا يَمْلِكَانِهَا ، أَوْ الْجِصِّ أَوْ الْمِلْحِ أَوْ الْكُحْلِ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَا يَجُوزُ ؛ فَإِنَّهَا عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ ، وَالنَّاسُ فِيهَا سَوَاءٌ ، فَكَذَلِكَ الشَّرِكَةُ .
وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَكَا عَلَى أَنَّ مَا يُلْبِنَانِ مِنْ طِينٍ لَا يَمْلِكُهُ أَحَدٌ أَوْ يُطَبِّخَانِهِ آجِرًا ، أَوْ يُشْرِكَانِ عَلَى طَلَبِ الْكُنُوزِ ، أَوْ عَلَى الِاصْطِيَادِ ؛ فَهَذَا كُلُّهُ مِمَّا لَا يَصِحُّ التَّوْكِيلُ بِهِ ؛ لِكَوْنِ أَصْلِهِ مُبَاحًا غَيْرَ مَمْلُوكٍ ، فَكَذَلِكَ الشَّرِكَةُ فِيهِ .
قَالَ : ( وَإِنْ كَانَ مِنْ طِينِ النُّورَةِ مَمْلُوكًا ، فَاشْتَرَكَا عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَا مِنْهُ ، وَيَطْحَنَاهُ ؛ فَهُوَ جَائِزٌ ) ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ بَيْنَهُمَا رَأْسُ مَالٍ ؛ فَهُوَ شَرِكَةُ الْعَنَانِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ؛ فَهُوَ شَرِكَةُ الْوُجُوهِ فِي هَذَا النَّوْعِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَكَذَلِكَ سَهْلَةُ الزُّجَاجِ : إذَا اشْتَرَكَا عَلَى شَيْءٍ يَشْتَرِيَانِهِ مِنْ ذَلِكَ ؛ جَازَ .
وَإِنْ اشْتَرَكَا عَلَى شَيْءٍ لَا يَشْتَرِيَانِهِ بَلْ هُوَ مُبَاحُ الْأَصْلِ ؛ فَهُوَ فَاسِدٌ لِمَا قُلْنَا .

وَإِذَا اشْتَرَكَا فِي الِاصْطِيَادِ - فَنَصَبَا شَبَكَةً أَوْ أَرْسَلَا كَلْبًا لَهُمَا - ؛ فَالصَّيْدُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِلْمِلْكِ - وَهُوَ الِاصْطِيَادُ - .
وَإِنْ كَانَ الْكَلْبُ لِأَحَدِهِمَا فَأَرْسَلَاهُ جَمِيعًا ؛ فَالصَّيْدُ لِصَاحِبِ الْكَلْبِ خَاصَّةً ، وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَلْبٌ ، فَأَرْسَلَ كُلُّ وَاحِدٍ كَلْبَهُ ، فَإِنْ أَصَابَ كُلُّ كَلْبٍ صَيْدًا عَلَى حِدَةٍ ؛ كَانَ ذَلِكَ الصَّيْدُ لِصَاحِبِهِ ، وَإِنْ أَصَابَا صَيْدًا وَاحِدًا ؛ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ، وَإِنْ أَصَابَ أَحَدُهُمَا صَيْدًا ، فَأَثْخَنَهُ ، ثُمَّ جَاءَ الْآخَرُ ، فَأَعَانَهُ ؛ فَهُوَ لِصَاحِبِ الْكَلْبِ الْأَوَّلِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْأَوَّلُ أَثْخَنَهُ ، حَتَّى جَاءَ الْآخَرُ ، فَأَثْخَنَاهُ ؛ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ إذَا وُجِدَ مِنْ صَاحِبِ الْكَلْبِ فَقَدْ تَمَّ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْمِلْكِ - وَهُوَ الِاصْطِيَادُ - وَالْآخَرُ مُعِينٌ لَهُ فِي ذَلِكَ .
قَالَ : ( وَإِذَا أَرْسَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَلْبَهُ ، فَإِنْ أَصَابَا صَيْدًا وَاحِدًا فَقَدْ اسْتَوَى الْمَالِكَانِ فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ ، وَإِنْ أَصَابَهُ أَحَدُ الْكَلْبَيْنِ ، فَأَثْخَنَهُ ؛ فَقَدْ تَمَّ أَخْذُهُ ) ؛ لِأَنَّهُ أَخْرَجَهُ - بِفِعْلِهِ - مِنْ أَنْ يَكُونَ صَيْدًا ، وَإِنْ أَثْخَنَاهُ جَمِيعًا ؛ فَقَدْ تَقَرَّرَتْ الْمُسَاوَاةُ بَيْنَهُمَا فِي السَّبَبِ ؛ فَكَانَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ .

قَالَ : ( وَإِنْ اشْتَرَكَا وَلِأَحَدِهِمَا بَغْلٌ ، وَلِلْآخَرِ بَعِيرٌ عَلَى أَنْ يُؤَاجِرَا ذَلِكَ ، فَمَا رَزَقَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ؛ فَهَذَا فَاسِدٌ ) ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي الْمَعْنَى مُوَكِّلٌ لِصَاحِبِهِ بِأَنْ يُؤَاجِرَ دَابَّتَهُ ؛ لِيَكُونَ نِصْفُ الْأَجْرِ لَهُ ، وَهَذَا التَّوْكِيلُ بَاطِلٌ ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ : أَجِّرْ دَابَّتَك عَلَى أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْأَجْرِ لِي ؛ كَانَ بَاطِلًا ، فَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : عَلَى أَنْ يَكُونَ نِصْفُ الْأَجْرِ لِي ؛ وَهَذَا لِأَنَّ بَدَلَ الْمَنْفَعَةِ يُعْتَبَرُ بِبَدَلِ الْعَيْنِ .
وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ : بِعْ دَابَّتَك ، عَلَى أَنْ يَكُونَ نِصْفُ ثَمَنِهَا لِي ؛ كَانَ بَاطِلًا ، فَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ .
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ التَّوْكِيلَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا يَصِحُّ ، فَكَذَلِكَ الشَّرِكَةُ ، وَالْمَعْنَى فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ ، وَهُوَ أَنَّ التَّوْكِيلَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِيمَا لَا يَمْلِكُ الْوَكِيلُ مُبَاشَرَتَهُ قَبْلَ التَّوْكِيلِ ، وَالْمَالِكُ يَبِيعُ دَابَّتَهُ وَيُؤَاجِرُهَا قَبْلَ التَّوْكِيلِ ، وَكَذَلِكَ كُلُّ أَحَدٍ يَمْلِكُ عِنْدَ الْمُبَاحِ قَبْلَ التَّوْكِيلِ ؛ فَلِهَذَا بَطَلَ التَّوْكِيلُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ ؛ وَلِأَنَّ هَذَا فِي مَعْنَى الشَّرِكَةِ بِالْعُرُوضِ ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْعَيْنِ نَظَرُ الْغَبْنِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ فِي الْعَقْدِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشَّرِكَةَ فِي الْعُرُوضِ لَا تَصِحُّ ، فَإِنْ أَجَّرَهُمَا جَمِيعًا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ فِي عَمَلٍ مَعْلُومٍ ؛ قُسِمَ الْأَجْرُ بَيْنَهُمَا عَلَى مِثْلِ أَجْرِ الْبَغْلِ ، وَأَجْرِ الْبَعِيرِ ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ لِلدَّابَّتَيْنِ ، وَأَجْرُ الْمِثْلِ فِي الْمَنْفَعَةِ كَالْقِيمَةِ فِي الْعَيْنِ ، فَكَمَا لَوْ بَاعَا الدَّابَّتَيْنِ قُسِمَ الثَّمَنُ بَيْنَهُمَا عَلَى قِيمَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، فَكَذَلِكَ إذَا أَجَّرَهُمَا ، وَلَوْ تَقَبَّلَا حُمُولَةً مَعْلُومَةً بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ ، وَلَمْ يُؤْجَرْ الْبَغْلُ ، وَالْبَعِيرُ فَالْأَجْرُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ بِتَقَبُّلِ الْعَمَلِ ، وَقَدْ اسْتَوَيَا فِي

ذَلِكَ ، وَإِنْ أَجَّرَ الْبَعِيرَ بِعَيْنِهِ كَانَ الْأَجْرُ لِصَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مَنْفَعَةِ دَابَّتِهِ ، فَإِنْ كَانَ الْآخَرُ أَعَانَهُ عَلَى الْحُمُولَةِ وَالنُّقْلَانِ ؛ كَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ لَا يُجَاوِزُ بِهِ نِصْفَ الْأَجْرِ الَّذِي أَجَّرَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : عَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ ، وَهَذِهِ وَالْمَسْأَلَةُ الْأُولَى سَوَاءٌ .

قَالَ : ( وَلَيْسَتْ الشَّرِكَةُ فِي إجَارَةِ الدَّوَابِّ بِأَعْيَانِهَا مِثْلَ الشَّرِكَةِ فِي عَمِلَ أَيْدِيهِمَا بِأَدَائِهِمَا ) ، حَتَّى إذَا اشْتَرَكَ قَصَّارَانِ ، لِأَحَدِهِمَا أَدَاةُ الْقَصَّارِينَ ، وَلِلْآخَرِ بَيْتٌ عَلَى أَنْ يَعْمَلَا بِأَدَاةِ هَذَا فِي بَيْتِ هَذَا ، عَلَى أَنَّ الْكَسْبَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ؛ كَانَ جَائِزًا ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ هُنَاكَ بِاعْتِبَارِ تَقَبُّلِ الْعَمَلِ ، وَالْعَمَلُ بِالتَّقَبُّلِ يَصِيرُ مَضْمُونًا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَالتَّوْكِيلُ فِي ذَلِكَ صَحِيحٌ ، فَكَذَلِكَ الشَّرِكَةُ .
وَهُنَا اسْتِحْقَاقُ الْأَجْرِ بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ الدَّابَّةِ ، فَإِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُخْتَصًّا بِمِلْكِ مَنْفَعَةِ دَابَّتِهِ ؛ لَمْ يَجُزْ لِلشَّرِكَةِ بَيْنَهُمَا فِيهِمَا .

قَالَ : ( وَلَوْ اشْتَرَكَ رَجُلَانِ ، لِأَحَدِهِمَا دَابَّةٌ ، وَلِلْآخَرِ إكَافٌ وَجَوَالِيقُ ، عَلَى أَنْ يُؤَاجِرَ الدَّابَّةَ عَلَى أَنَّ الْأَجْرَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ؛ فَهَذِهِ شَرِكَةٌ فَاسِدَةٌ ) ؛ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الشَّرِكَةِ بِالْعُرُوضِ بِطَرِيقِ اعْتِبَارِ الْمَنْفَعَةِ بِالْعَيْنِ ، وَلِأَنَّ التَّوْكِيلَ فِي مِثْلِهِ لَا يَصِحُّ ، فَإِنْ أَجَّرَ الدَّابَّةَ ؛ كَانَ الْأَجْرُ لِصَاحِبِهَا ، وَلَا يُقْبَلُ مَعَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ الدَّابَّةِ ، فَإِنَّ الْحَمْلَ عَلَى الدَّابَّةِ هُوَ الْمَقْصُودُ ، فَأَمَّا الْإِكَافُ ، وَالْجَوَالِيقُ يَتَأَتَّى الْحَمْلُ بِدُونِهِمَا ، فَلَا يُقَابِلُهُمَا شَيْءٌ مِنْ الْبَدَلِ ؛ فَكَانَ الْأَجْرُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الدَّابَّةِ ، وَقَدْ أَعَانَهُ الْآخَرُ بِنَفْسِهِ وَأَدَائِهِ بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ ؛ فَلَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ بَالِغًا مَا بَلَغَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلَا يُجَاوِزُ بِهِ نِصْفَ أَجْرِ الدَّابَّةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .

قَالَ : ( رَجُلٌ دَفَعَ دَابَّتَهُ إلَى رَجُلٍ يُؤَجِّرُهَا عَلَى أَنَّ مَا أَجَّرَهَا بِهِ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ؛ فَهَذِهِ الشَّرِكَةُ فَاسِدَةٌ ) ؛ اعْتِبَارًا لِلْعَقْدِ الْوَارِدِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ بِهِ بِالْعَقْدِ الْوَارِدِ عَلَى الدَّيْنِ .
وَلَوْ دَفَعَ الدَّابَّةَ إلَيْهِ لِيَبِيعَهَا عَلَى أَنَّ الثَّمَنَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ؛ كَانَ فَاسِدًا ، فَكَذَلِكَ الْإِجَارَةُ ، وَالْأَجْرُ كُلُّهُ لِرَبِّ الدَّابَّةِ ؛ وَلِأَنَّ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ وَكِيلُهُ فِي إجَارَتِهَا ، وَإِجَارَةُ الْوَكِيلِ كَإِجَارَةِ الْمُوَكِّلِ ، وَلِلَّذِي أَجَّرَهَا أَجْرُ مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ ابْتَغَى عَنْ مَنَافِعِهَا عِوَضًا ، وَلَمْ يَنَلْ ذَلِكَ لِفَسَادِ الْعَقْدِ ؛ فَكَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ .
وَكَذَلِكَ السَّفِينَةُ وَالْبَيْتُ بِمَنْزِلَةِ الدَّابَّةِ فِي ذَلِكَ .

قَالَ : ( وَلَوْ دَفَعَ إلَيْهِ دَابَّةً يَبِيعُ عَلَيْهَا الْبُرَّ وَالطَّعَامَ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ؛ فَهَذِهِ شَرِكَةٌ فَاسِدَةٌ بِمَنْزِلَةِ الشَّرِكَةِ بِالْعُرُوضِ ) ؛ فَإِنَّ رَأْسَ مَالِ أَحَدِهِمَا عَرَضٌ ، وَرَأْسُ مَالِ الْآخَرِ مَنْفَعَةُ دَابَّتِهِ ، فَإِذَا فَسَدَتْ شَرِكَتُهُ فَالرِّبْحُ لِصَاحِبِ الْبُرِّ وَالطَّعَامِ ؛ لِأَنَّهُ بَدَلُ مِلْكِهِ فَإِنَّ الثَّمَنَ بَدَلُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا بَدَلَ مَا حُمِلَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَلِصَاحِبِ الدَّابَّةِ أَجْرُ مِثْلِهَا ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ لِنَفْسِهِ عِوَضًا عَنْ مَنْفَعَةِ دَابَّتِهِ ، وَلَمْ يَنَلْ ذَلِكَ الْعِوَضَ ؛ فَاسْتَوْجَبَ أَجْرَ الْمِثْلِ عَلَى مَنْ اسْتَوْفَى مَنْفَعَتَهَا بِحُكْمِ عَقْدٍ فَاسِدٍ .
وَكَذَلِكَ الْبَيْتُ وَالسَّفِينَةُ فِي هَذِهِ كَالدَّابَّةِ اعْتِبَارًا لِمَنْفَعَةِ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( كِتَابُ الصَّيْدِ ) قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إمْلَاءً : اعْلَمْ بِأَنَّ الِاصْطِيَادَ مُبَاحٌ فِي الْكِتَابِ ، وَالسُّنَّةِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } وَأَدْنَى دَرَجَاتِ صِفَةِ الْأَمْرِ الْإِبَاحَةُ ، وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ } الْآيَةَ ، وَالسُّنَّةُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَهُ } فَعَلَى هَذَا بَيَانُ أَنَّ الِاصْطِيَادَ مُبَاحٌ مَشْرُوعٌ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ حُكْمٌ مَشْرُوعٌ فَسَبَبُهُ يَكُونُ مَشْرُوعًا ، وَهُوَ نَوْعُ اكْتِسَابٍ وَانْتِفَاعٍ بِمَا هُوَ مَخْلُوقٌ لِذَلِكَ فَكَانَ مُبَاحًا ، وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ الصَّيْدُ مَأْكُولَ اللَّحْمِ أَوْ غَيْرَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ لِمَا فِي اصْطِيَادِهِ مِنْ تَحْصِيلِ الْمَنْفَعَةِ بِجِلْدِهِ أَوْ دَفْعِ أَذَاهُ عَنْ النَّاسِ .

وَالْحَيَوَانَاتُ نَوْعَانِ : نَوْعٌ مِنْهَا مَا لَا دَمَ لَهُ ، فَلَا يَحِلُّ تَنَاوُلُ شَيْءٍ مِنْهَا إلَّا السَّمَكَ ، وَالْجَرَادَ ؛ لِأَنَّ شَرْطَ تَنَاوُلِ الْحَيَوَانَاتِ الذَّكَاةُ شَرْعًا ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ لَهُ فِيمَا لَا دَمَ لَهُ ، إلَّا أَنَّ السَّمَكَ وَالْجَرَادَ مُسْتَثْنَى بِالنَّصِّ مِمَّا شُرِطَ فِيهِ الذَّكَاةُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ أَمَّا الْمَيِّتَتَانِ فَالسَّمَكُ وَالْجَرَادُ ، وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ } وَمَالَهُ دَمٌ نَوْعَانِ مُسْتَأْنَسٌ ، وَمُسْتَوْحِشٌ ، فَاَلَّذِي يَحِلُّ تَنَاوُلُهُ مِنْ الْمُسْتَأْنَسِ بِالِاتِّفَاقِ الْأَنْعَامُ ، وَهِيَ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ وَالدَّجَاجُ ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } وَقَالَ تَعَالَى : { جَعَلَ لَكُمْ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } وَفِيمَا سِوَاهَا مِنْ الْمُتَأَنَّسِ نُبَيِّنُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَالْمُسْتَوْحَشُ نَوْعَانِ : مِنْهَا صَيْدُ الْبَحْرِ لَا يَحِلُّ تَنَاوُلُ شَيْءٍ مِنْهَا سِوَى السَّمَكِ ، وَمِنْهَا صَيْدُ الْبَرِّ ، وَيَحِلُّ تَنَاوُلُهَا إلَّا مَا لَهُ نَابٌ أَوْ مِخْلَبٌ { لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ ، وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ } وَلِمَعْنَى الْخُبْثِ فِيهِمَا ، فَإِنَّ مِنْ طَبْعِهِمَا الِاخْتِطَافَ وَالِانْتِهَابَ ، فَلَا بُدَّ مِنْ ظُهُورِ أَثَرِ ذَلِكَ فِي خُلُقِ الْمُتَنَاوِلِ لِلْغِذَاءِ مِنْ الْأَثَرِ فِي ذَلِكَ ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تُرْضِعُ لَكُمْ الْحَمْقَاءُ ، فَإِنَّ اللَّبَنَ يُعْدِي } وَالْمُسْتَخْبَثُ حَرَامٌ بِالنَّصِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ } وَلِهَذَا حَرَّمَ تَنَاوُلَ الْحَشَرَاتِ ، فَإِنَّهَا مُسْتَخْبَثَةٌ طَبْعًا ، وَإِنَّمَا أُبِيحَ لَنَا أَكْلُ الطَّيِّبَاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا

رَزَقْنَاكُمْ } فَقَدْ أَكْرَمَ الْمُؤْمِنِينَ بِهَذَا الْخِطَابِ حَيْثُ خَاطَبَهُمْ بِمَا خَاطَبَ بِهِ الرُّسُلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ حَيْثُ قَالَ : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنْ الطَّيِّبَاتِ } الْآيَةَ .

ثُمَّ شَرَطَ حِلَّ التَّنَاوُلِ مِنْهَا فِيمَا يَحِلُّ مِنْهَا بِالذَّكَاةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ } وَزَعَمَ بَعْضُ الْعِرَاقِيِّينَ مِنْ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ الذَّبْحَ وَالتَّذْكِيَةَ مَحْظُورٌ بِالْعَقْلِ لِمَا فِيهَا مِنْ إيلَامِ الْحَيَوَانِ ، وَهَذَا عِنْدِي بَاطِلٌ فَقَدْ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَنَاوَلُ مِنْ اللَّحْمِ قَبْلَ مَبْعَثِهِ } وَلَا يُظَنُّ أَنَّهُ كَانَ يَتَنَاوَلُ ذَبَائِحَ الْمُشْرِكِينَ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَذْبَحُونَ بِاسْمِ الْأَصْنَامِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ يَذْبَحُ وَيَصْطَادُ بِنَفْسِهِ ، وَمَا كَانَ يَفْعَلُ مَا هُوَ مَحْظُورٌ عَقْلًا كَالظُّلْمِ وَالْكَذِبِ وَالسَّفَهِ ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُظَنَّ بِهِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ قَطُّ ، ثُمَّ فِي الذَّبْحِ وَالِاصْطِيَادِ تَحْصِيلُ مَنْفَعَةِ الْغِذَاءِ لِمَنْ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ وَهُوَ الْآدَمِيُّ .
فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا مُبَاحًا إلَيْهِ ، وَأَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ : { هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا } وَالْإِيلَامُ لِهَذَا الْمَقْصُودِ ، فَلَا يَكُونُ مَحْظُورًا عَقْلًا كَالْفَصْدِ وَالْحِجَامَةِ مَنْدُوبٌ ، وَشُرْبُ الْأَدْوِيَةِ الْكَرِيهَةِ فِي وَقْتِهَا .
وَالذَّكَاةُ لُغَةً التَّوَقُّدُ ، وَالتَّلَهُّبُ الَّذِي يَحْدُثُ فِي الْحَيَوَانِ بِحِدَّةٍ لِأَدِلَّةٍ سُمِّيَتْ الشَّمْسُ ذَكَاءً لِشِدَّةِ الْحَرَارَةِ ، وَسُمِّيَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي خَاطِرِهِ حِدَّةٌ ذَكِيًّا ، فَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ اشْتِرَاطَ الذَّكَاةِ لِتَطْيِيبِ اللَّحْمِ بِهِ ، فَإِنَّهُ نَوْعُ نُضْجٍ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْمُذَكَّى أَطْيَبَ لَحْمًا مِنْ الْمَيْتَةِ وَأَبْعَدَ مِنْ النَّسِيسِ وَالْفَسَادِ ، وَقِيلَ : الذَّكَاةُ عِبَارَةٌ عَنْ تَسْيِيلِ الدَّمِ الْفَاسِدِ النَّجِسِ ، فَإِنَّ الْمُحَرَّمَ فِي الْحَيَوَانِ الدَّمُ الْمَسْفُوحُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي جُمْلَةِ الْمُحَرَّمَاتِ : { أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا } فَكَانَتْ الذَّكَاةُ إزَالَةً لِلْخُبْثِ ، وَتَطْيِيبًا بِتَمْيِيزِ الطَّاهِرِ مِنْ النَّجَسِ ، وَهُوَ نَوْعَانِ : الذَّبْحُ فِي الْمَذْبَحِ عِنْدَ

الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الذَّكَاةُ مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ } ، وَبِالْجُرْحِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ أَصَابَهُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الذَّبْحِ فِي الْمَذْبَحِ ثُمَّ يَحْصُلُ بَعْضُ ذَلِكَ بِالْجَرْحِ وَالتَّكْلِيفِ بِحَسَبِ الْوُسْعِ ، فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَكُونُ الذَّبْحُ فِي الْمَذْبَحِ مَقْدُورًا لَهُ لَا يَثْبُتُ الْحِلُّ إلَّا بِهِ ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ تَعَذَّرَ يَقُومُ الْجُرْحُ مَقَامَهُ .

ثُمَّ حِلُّ التَّنَاوُلِ بِالِاصْطِيَادِ مُخْتَصٌّ بِشَرَائِطَ : ( أَحَدُهَا ) أَنْ يَكُونَ مَا يَصْطَادُ بِهِ مُعَلَّمًا .
( وَالثَّانِي ) أَنْ يَكُونَ جَارِحًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَمِمَّا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ } وَفِي مَعْنَى الْجَوَارِحِ قَوْلَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنْ يَكُونَ جَارِحًا حَقِيقَةً بِنَابِهِ وَمِخْلَبِهِ ، ( وَالثَّانِي ) الْكَوَاسِبُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ } أَيْ كَسَبْتُمْ ، وَيُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَيْهَا فَنَقُولُ : الشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْكَوَاسِبِ الَّتِي تَخْرُجُ .
( وَالثَّالِثُ ) الْإِرْسَالُ ثَبَتَ ذَلِكَ فِي السُّنَّةِ ، وَهُوَ { قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ : وَإِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلْ ، وَإِنْ شَارَكَ كَلْبُكَ كَلْبَ آخَرَ فَلَا تَأْكُلْ } .
فَلَمَّا حَرُمَ التَّنَاوُلُ عِنْدَ عَدَمِ الْإِرْسَالِ فِي أَحَدِ الْكَلْبَيْنِ دَلَّ أَنَّ الْإِرْسَالَ فِي ذَلِكَ شَرْطٌ ، وَلِأَنَّ التَّذْكِيَةَ إنَّمَا تَكُونُ مُوجِبًا لِلْحِلِّ إذَا حَصَلَ مِنْ الْآدَمِيِّ ، فَلَا بُدَّ مِنْ جَعْلِ آلَةِ الصَّيْدِ نَائِبًا عَنْ الْآدَمِيِّ لِيَحْصُلَ الْحِلُّ بِفِعْلِهِ ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْإِرْسَالِ ، وَاشْتِرَاطِ كَوْنِهِ مُعَلَّمًا لِتَحَقُّقِ الْإِرْسَالِ فِيهِ .
( وَالرَّابِعُ ) التَّسْمِيَةُ .
( وَالْخَامِسُ ) إمْسَاكُهُ عَلَى صَاحِبِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ } وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ مُفِيدٌ لِلْوُجُوبِ ، وَلَا يَجِبُ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الْأَكْلِ ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ عِنْدَ الْإِرْسَالِ .
( وَالسَّادِسُ ) أَنْ يَكُونَ الصَّيْدُ مِمَّا يُبَاحُ تَنَاوُلُهُ ، وَيَكُونُ مُمْتَنِعًا وَمُسْتَوْحِشًا .
( وَالسَّابِعُ ) أَنْ لَا يَتَوَارَى عَنْ بَصَرِهِ أَوْ لَا يَقْعُدَ عَنْ طَلَبِهِ حَتَّى يَجِدَهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا غَابَ عَنْ بَصَرِهِ ، فَلَا يَدْرِي لَعَلَّ مَوْتَهُ كَانَ بِسَبَبٍ آخَرَ سِوَى جُرْحِ مَا أَرْسَلَهُ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ ابْنُ

عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا بِقَوْلِهِ : كُلْ مَا أَمَمْتَ ، وَدَعْ مَا أَيْمَنْتَ وَالْإِمَاءُ مَا رَأَيْتَهُ ، وَالْإِيمَاءُ مَا غَابَ عَنْكَ ، وَإِذَا قَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ ، فَلَا يَدْرِي لَعَلَّهُ لَوْ تَبِعَهُ وَقَعَ فِي يَدِهِ حَيًّا ، وَقَدَرَ عَلَى ذَبْحِهِ فِي الْمَذْبَحِ ، وَتَرْكُ ذَلِكَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ مُحَرَّمٌ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ مَتَى اجْتَمَعَ فِي الصَّيْدِ لَعَلَّ وَعَسَى أَنْ لَا يَحِلَّ تَنَاوُلُهُ ، وَإِلَيْهِ { أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا وَقَعَتْ رَمْيَتُكَ فِي الْمَاءِ ، فَلَا تَأْكُلْ ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَنَّ الْمَاءَ قَتَلَهُ أَوْ سَهْمَكَ } إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ : كَمَا يُشْتَرَطُ فِيمَا أَرْسَلَهُ الصَّيَّادُ أَنْ يَكُونَ خَارِجًا فَكَذَلِكَ فِيمَا يُرْمَى بِهِ ، وَبِهَا الْكِتَابُ بِبَيَانِهِ مَرْوِيٌّ عَنْ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا خُرِقَ الْمِعْرَاضُ فَكُلْ ، وَإِذَا لَمْ يَخْرِقْ فَلَا تَأْكُلْ ، وَالْمِعْرَاضُ سَهْمٌ لَا نَصْلَ لَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ رَأْسُهُ مُحَدَّدًا ، وَقِيلَ : سَهْمٌ لَا رِيشَ لَهُ فَرُبَّمَا يُصِيبُ السَّهْمُ عَرْضًا يَنْدَقُّ وَلَا يَخْرُجُ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ { عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ صَيْدِ الْمِعْرَاضِ فَقَالَ : صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ مَا أَصَابَ بِحَدِّهِ فَجَرَحَ فَكُلْ ، وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ ، فَلَا تَأْكُلْ } وَالْحَرَقُ هُوَ الْخَرَقُ إلَّا أَنَّ لَفْظَةَ الْحَرَقِ تُسْتَعْمَلُ فِيمَا لَا حَيَاةَ لَهُ ، كَالثَّوْبِ وَنَحْوِهِ ، وَلَفْظَةُ الْخَرَقِ تُسْتَعْمَلُ فِي الْحَيَوَانِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحِلَّ بِاعْتِبَارِ تَسْيِيلِ الدَّمِ النَّجِسِ ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ إذَا خُرِقَ ، وَلَا يَحْصُلُ إذَا دُقَّ وَلَمْ يُخْرَقْ ، فَإِنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الْمَوْقُوذَةِ ، وَهُوَ حَرَامٌ بِالنَّصِّ ، وَذُكِرَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ : كَانَتْ لِبَعْضِ أَهْلِ الْحَيِّ نَعَامَةٌ فَضَرَبَهَا إنْسَانٌ فَوَقَذَهَا فَأَلْقَاهَا عَلَى كُنَاسَةٍ وَهِيَ حَيَّةٌ فَسَأَلْنَا سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ فَقَالَ : ذَكُّوهَا

وَكُلُوهَا ، وَبِهِ نَقُولُ ، فَإِنَّ الْمَوْقُوذَةَ إذَا أَدْرَكَ ذَكَاتَهَا جَازَ تَنَاوُلُهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ } وَلِحُصُولِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ ، وَهُوَ تَسْيِيلُ الدَّمِ النَّجِسِ ، وَمِنْهُ دَلِيلُ إبَاحَةِ تَنَاوُلِ النَّعَامَةِ .

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْكَلْبِ يَقْتُلُ الصَّيْدَ فَقَالَ : كُلْ ، وَإِنْ أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْهُ فَلَا تَأْكُلْ ، فَإِنَّهُ أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ يُضْرَبُ حَتَّى يَتْرُكَ الْأَكْلَ ، وَبِهِ أَخَذَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ قَالُوا : الْكَلْبُ إذَا أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ الَّذِي أَخَذَهُ يَحْرُمُ تَنَاوُلُهُ ، وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَحْرُمُ ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لِحَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ فِي صَيْدِ الْكَلْبِ : كُلْ وَإِنْ أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْهُ } ، وَلِأَنَّهُ تَنَاوَلَ اللَّحْمَ دُونَ الصَّيْدِ ؛ لِأَنَّهُ يَقْتُلُ الصَّيْدَ أَوَّلًا فَيَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَيْدًا وَتَنَاوُلُ الْكَلْبِ مِنْ لَحْمِ الصَّيْدِ لَا يَحْرُمُ مَا بَقِيَ مِنْهُ عَلَى صَاحِبِهِ ، كَمَا لَوْ فَتَّشَ فِي مِخْلَاةِ صَاحِبِهِ وَتَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْ الْقَدِيدِ مِنْ لَحْمِ الصَّيْدِ ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } وَحِينَ أَكَلَ مِنْهُ فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ لَا عَلَى صَاحِبِهِ حِينَ لَا يَتْرُكُهُ حَتَّى يَشْبَعَ مِنْهُ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، { فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ فَلَا تَأْكُلْ ، فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ } وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنْ صَحَّ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ ثُمَّ انْتَسَخَ أَوْ مُرَادُهُ إذَا وَلَغَ فِي دَمِ الصَّيْدِ ، وَعِنْدَنَا ذَلِكَ الْقَدْرُ لَا يُحَرِّمُ ، ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ثُبُوتَ الْحِلِّ بِفِعْلِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ نَائِبٌ عَنْ صَاحِبِهِ ، وَيَنْعَدِمُ ذَلِكَ إذَا أَكَلَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ سَعْيَهُ كَانَ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ انْعَدَمَ الْإِرْسَالُ أَصْلًا .
( ثُمَّ ) ذَكَرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي الْبَازِي يَقْتُلُ الصَّيْدَ

وَيَأْكُلُ مِنْهُ قَالَ : كُلْ ، وَقَالَ : تَعْلِيمُ الْبَازِي أَنْ تَدْعُوَهُ فَيُجِيبَكَ ، وَلَا تَسْتَطِيعَ أَنْ تَضْرِبَهُ حَتَّى يَتْرُكَ الْأَكْلَ وَبِهِ نَأْخُذُ ، وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْبَازِي وَالْكَلْبُ إذَا أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ لَا يَحِلُّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ يُمْسِكُ عَلَى نَفْسِهِ ، وَلَيْسَ بِنَائِبٍ عَنْ صَاحِبِهِ ، وَلَكِنَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا عِنْدَنَا عَلَى وَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ جُثَّةَ الْكَلْبِ تَحْتَمِلُ الضَّرْبَ فَيُمْكِنُ أَنْ يُضْرَبَ لِيَدَعَ الْأَكْلَ ، وَجُثَّةُ الْبَازِي لَا تَحْتَمِلُ الضَّرْبَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّكْلِيفَ بِحَسَبِ الْوُسْعِ .
( وَالثَّانِي ) أَنَّ الْكَلْبَ أُلُوفٌ ، وَعَلَامَتُهُ عِلْمُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِطَبْعِهِ ، وَإِجَابَتُهُ صَاحِبَهُ إذَا دَعَاهُ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِطَبْعِهِ ، فَلَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى عِلْمِهِ .
بَلْ يَكُونُ عَلَّامَةَ عِلْمِهِ تَرْكُ الْأَكْلِ عِنْدَ حَاجَتِهِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ خِلَافُ طَبْعِهِ ، فَإِذَا أَكَلَ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ مُعَلَّمًا ، وَالشَّرْطُ فِي صَيْدِ الْكَلْبِ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّمًا ، وَالْبَازِي مُنَفِّرٌ فَأَجَابَتْهُ صَاحِبَهُ إذَا دَعَاهُ خِلَافُ طَبْعِهِ فَيُجْعَلُ ذَلِكَ عَلَامَةَ عِلْمِهِ دُونَ تَرْكِ الْأَكْلِ ، فَهُوَ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ ، فَلَا يَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مُعَلَّمٍ ، وَلَكِنَّ هَذَا الْفَرْقَ لَا يَتَأَتَّى فِي الْفَهْدِ وَالنَّمِرِ ، فَإِنَّهُ مُسْتَوْحِشٌ كَالْبَازِي ، ثُمَّ الْحُكْمُ فِيهِ وَفِي الْكَلْبِ سَوَاءٌ فَالْمُعْتَمَدُ هُوَ الْأَوَّلُ .

وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي الْكَلْبِ يَشْرَبُ مِنْ دَمِ الصَّيْدِ وَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ فَقَالَ : لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الصَّيْدِ ، وَبِهِ نَأْخُذُ ، وَكَانَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : يَحْرُمُ بِذَلِكَ لِأَنَّ دَمَ الصَّيْدِ جُزْءٌ مِنْهُ كَلَحْمِهِ فَتَبَيَّنَ شُرْبُهُ مِنْ دَمِهِ أَنَّهُ أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : هَذَا دَلِيلُ حَذْقِهِ فِي كَوْنِهِ مُعَلَّمًا ؛ لِأَنَّهُ شَرِبَ مَا يَعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَرْغَبُ فِيهِ ، وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ ، وَأَمْسَكَ عَلَيْهِ مَا يَعْلَمُ رَغْبَتَهُ فِيهِ فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلَ عِلْمِهِ ، وَإِمْسَاكه عَلَى صَاحِبِهِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ صَاحِبُهُ ، وَلَا يَحْرُمُ تَنَاوُلُ الصَّيْدِ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَكَلَ مِنْ لَحْمِهِ .

وَعَنْ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كَلْبِ الْمَجُوسِيِّ أَوْ بَازِيهِ يَصِيدُ بِهِ الْمُسْلِمُ قَالَ : لَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِأَنَّ الصَّيَّادَ مُرْسِلُ الْكَلْبِ لَا مَالِكُ الْكَلْبِ ، وَمُرْسِلُ الْكَلْبِ مُسْلِمٌ مِنْ أَهْلِ التَّسْمِيَةِ ، وَالْكَلْبُ آلَةُ الِاصْطِيَادِ فَاصْطِيَادُ الْمُسْلِمِ بِهِ يُوجِبُ الْحِلَّ ، فَإِنْ كَانَ لِلْمَجُوسِيِّ فَهُوَ كَاصْطِيَادِهِ بِقَوْسِهِ وَسَهْمِهِ

( وَعَنْهُ ) فِي الرَّجُلِ يُرْسِلُ كَلْبَهُ فَيَذْهَبُ مَعَهُ كَلْبٌ آخَرُ غَيْرُ مُعَلَّمٍ فَيَرُدُّ عَلَيْهِ الصَّيْدَ وَيَأْخُذُ الصَّيَّادَ مَعَهُ قَالَ : لَا يُؤْكَلُ ، وَبِهِ نَأْخُذُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ : رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ وَإِنْ شَارَكَ كَلْبَكَ كَلْبٌ آخَرُ فَلَا تَأْكُلْ ، فَإِنَّكَ إنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ ، وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى كَلْبِ غَيْرِكَ } وَلِأَنَّ إرْسَالَ الْكَلْبِ مِنْ شَرَائِطِهِ الْحِلُّ ، وَانْعِدَامُهُ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ ، وَالصَّيْدُ صَارَ مَأْخُوذًا بِالْكَلْبَيْنِ ، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ مَتَى اجْتَمَعَ مُوجِبُ الْحِلِّ ، وَمُوجِبُ الْحُرْمَةِ يَغْلِبُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ فِي شَيْءٍ إلَّا غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ } .

وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ : مَنْ رَمَى صَيْدًا فَتَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَلَا يَأْكُلْهُ ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ التَّرَدِّي قَتَلَهُ ، وَإِنْ رَمَى طَيْرًا فَوَقَعَ فِي مَاءٍ فَلَا تَأْكُلْهُ ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ الْغَرَقُ قَتَلَهُ ، وَبِهِ نَأْخُذُ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { قَالَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ : رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إذَا وَقَعَتْ رَمْيَتُكَ فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْ ، فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَنَّ الْمَاءَ قَتَلَهُ أَمْ سَهْمُكَ } وَلِأَنَّ التَّرَدِّي وَجَبَ لِلْحُرْمَةِ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ جُمْلَةَ الْمُحَرَّمَاتِ الْمُتَرَدِّيَةِ ، وَعِنْدَ اجْتِمَاعِ مَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْحِلِّ وَمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْحُرْمَةِ يَغْلِبُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ رَمَى طَيْرًا فِي الْهَوَاءِ فَوَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ وَمَاتَ ، فَإِنَّهُ يُؤْكَلُ ، وَإِنْ كَانَ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّهُ مَاتَ بِوُقُوعِهِ عَلَى الْأَرْضِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ فَيَكُونُ عَفْوًا ، وَالتَّكْلِيفُ بِحَسَبِ الْوُسْعِ ، بِخِلَافِ الْوُقُوعِ فِي الْمَاءِ وَالتَّرَدِّي مِنْ مَوْضِعٍ ، فَإِنَّهُ يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ ، وَيَسْتَوِي فِي ذَلِكَ طَيْرُ الْمَاءِ وَغَيْرُهُ ؛ لِأَنَّ طَيْرَ الْمَاءِ يَعِيشُ فِي الْمَاءِ غَيْرَ مَجْرُوحٍ ، فَأَمَّا بَعْدَ الْجُرْحِ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ قَاتِلًا لَهُ ، كَمَا يُتَوَهَّمُ بِغَيْرِهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ ذَبَحَ شَاةً ، وَتَرَدَّى بَعْدَ الذَّبْحِ مِنْ مَوْضِعٍ ، أَوْ وَقَعَتْ فِي مَاءٍ ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْحُلْقُومِ وَالْأَوْدَاجِ ذَكَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ ، فَإِنَّهُ يُحَادِي بِالْمَوْتِ عَلَيْهِ دُونَ مَا يَتَعَرَّضُ بَعْدَهُ ، فَأَمَّا الرَّمْيُ لَيْسَ بِزَكَاةٍ مُسْتَقِرَّةٍ ، حَتَّى إذَا وَقَعَ الصَّيْدُ فِي يَدِ الرَّامِي حَيًّا لَمْ يَحِلَّ إلَّا بِالذَّبْحِ ؛ فَلِهَذَا كَانَ التَّرَدِّي مِنْ الْجَبَلِ ، وَالْوُقُوعُ فِي الْمَاءِ مُحَرِّمًا لَهُ .

وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ : سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنْ شَيْءٍ كَانَ قَوْمِي يَصِفُونَهُ بِالْبَادِيَةِ يَنْصِبُونَ السِّنَانَ فَيُصْبِحُ وَقَدْ قَتَلَ الضَّبُعَ ، فَقَالَ لِي : وَإِنَّكَ مِمَّنْ يَأْكُلُ الضَّبُعَ .
؟ قُلْتُ : مَا أَكَلْتُهَا قَطُّ ، فَقَالَ رَجُلٌ عِنْدَهُ : حَدَّثَنَا أَبُو الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي خَطْفَةٍ وَنُهْبَةٍ وَمُجَثَّمَةٍ وَعَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ } فَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ صَدَقْتَ ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الضَّبُعَ غَيْرُ مَأْكُولِ اللَّحْمِ ، وَهُوَ مَذْهَبُنَا ، وَقَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ الضَّبُعِ { لِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ الضَّبُعِ أَصَيْدٌ هُوَ .
؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَقِيلَ : يُؤْكَلُ لَحْمُهُ .
؟ قَالَ : نَعَمْ فَقِيلَ : أَشَيْءٌ سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
؟ قَالَ : نَعَمْ } وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا وَحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ { رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ ، وَمِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ } وَلِأَنَّهُ ذُو نَابٍ يُقَاتِلُ بِنَابِهِ ، فَلَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ كَالذِّئْبِ ، وَتَأْثِيرُهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ مُسْتَخْبَثٌ بِاعْتِبَارِ مَا فِيهِ مِنْ الْقَصْدِ إلَى الْأَذَى وَالْبَلَادَةِ ، فَيَدْخُلُ فِي جُمْلَةِ قَوْله تَعَالَى : { وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ } وَحَدِيثُ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إنْ صَحَّ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كَانَ فِي زَمَنِ الِابْتِدَاءِ ثُمَّ انْتَسَخَ بِنُزُولِ الْآيَةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحُرْمَةَ ثَابِتَةٌ شَرْعًا فَمَا يُرْوَى مِنْ الْحِلِّ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ ، وَلَا خِلَافَ فِي أَنَّ الضَّبُعَ صَيْدٌ بِحَسَبِ الْجَزَاءِ عَلَى الْمُحْرِمِ بِقَتْلِهِ عِنْدَنَا ؛

لِأَنَّهُ صَيْدٌ ، وَعِنْدَهُ لِأَنَّهُ مَأْكُولُ اللَّحْمِ ، فَأَمَّا مَعْنَى حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَالْمُرَادُ بِالْخَطْفِ مَا يَخْتَطِفُ بِمِخْلَبِهِ مِنْ الْهَوَاءِ كَالْبَازِي وَالْعُقَابِ وَالشَّاهِينِ ، وَالْمُنْهِبَةُ مَا يَنْتَهِبُ بِنَابِهِ مِنْ الْأَرْضِ كَالْأَسَدِ ، وَالذِّئْبِ وَالْفَهْدِ وَالنَّمِرِ ، وَفِي ذِكْرِ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ إشَارَةٌ إلَى مَعْنَى الْحُرْمَةِ حَتَّى لَا يَسْرِيَ إلَى الْأَكْلِ هَذَا الْخُلُقُ الرَّدِيءُ ، وَفِي الْمُحَتَّمَةِ رِوَايَتَانِ بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ ، وَمَعْنَى الرِّوَايَةِ بِالْفَتْحِ مَا يُحْتِمُ عَلَيْهِ الْكَلْبُ فَيَقْتُلُهُ غَمًّا لَا جُرْحًا ، فَذَلِكَ الصَّيْدُ حَرَامٌ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الذَّكَاةِ فِيهِ ، وَمَعْنَى الرِّوَايَةِ بِالْكَسْرِ مَا يُحْتِمُ عَلَى الصَّيُودِ كَالذِّئْبِ وَالْأَسَدِ وَالْفَهْدِ ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ { وَعَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ } مَا يَقْصِدُ بِنَابِهِ ، وَيَدْفَعُ بِهِ ، فَأَمَّا أَصْلُ النَّابِ يُوجَدُ لِكُلِّ صَيْدٍ ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُحَرَّمَ مَا بَيَّنَّا .

، وَعَنْ إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : كَانُوا يَكْرَهُونَ كُلَّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ ، وَمَا أَكَلَ الْجِيَفَ ، وَبِهِ نَأْخُذُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ كَالْفِرَاقِ وَالْغُرَابِ الْأَبْقَعِ مُسْتَخْبَثٌ طَبْعًا فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ { وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ } .
( وَعَنْ ) هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ { أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ أَكْلِ الْغُرَابِ فَقَالَ : وَمَنْ يَأْكُلُهُ بَعْدَ مَا سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسِقًا } يُرِيدُ بِهِ الْحَدِيثَ الْمَعْرُوفَ { خَمْسُ فَوَاسِقَ يَقْتُلُهُمْ الْمُحْرِمُ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ } وَذَكَرَ الْغُرَابَ مِنْ جُمْلَتِهَا ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ ، وَأَمَّا الْغُرَابُ الزَّرْعِيُّ الَّذِي يَلْتَقِطُ الْحَبَّ فَهُوَ طَيِّبٌ مُبَاحٌ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَخْبَثٍ طَبْعًا ، وَقَدْ يَأْلَفُ الْآدَمِيَّ كَالْحَمَامِ فَهُوَ وَالْعَقْعَقُ سَوَاءٌ ، وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ الْعَقْعَقِ ، فَإِنْ كَانَ الْغُرَابُ بِحَيْثُ يَخْلِطُ فَيَأْكُلُ الْجِيَفَ تَارَةً وَالْحَبَّ تَارَةً فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُكْرَهُ ؛ لِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ الْمُوجِبُ لِلْحِلِّ وَالْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ .
( وَعَنْ ) أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ عَلَى قِيَاسِ الدَّجَاجَةِ ، فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَكْلِهَا ، وَقَدْ أَكَلَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَهِيَ قَدْ تَخْلِطُ أَيْضًا ، وَهَذَا لِأَنَّ مَا يَأْكُلُ الْجِيَفَ فَلَحْمُهُ يَنْبُتُ مِنْ الْحَرَامِ فَيَكُونُ خَبِيثًا عَادَةً ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِيمَا يَخْلِطُ .

وَعَنْ ابْنِ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ أَنْ تُنْخَعَ الشَّاةُ إذَا ذُبِحَتْ } وَبِهِ نَأْخُذُ ، وَمَعْنَاهُ أَنْ يُبَالِغَ الذَّابِحُ بِالذَّبْحِ حَتَّى يَبْلُغَ بِالسِّكِّينِ النُّخَاعَ ، وَالنُّخَاعُ عِرْقٌ أَبْيَضُ فِي عَظْمِ الرَّقَبَةِ ، وَفِي هَذَا زِيَادَةُ إيلَامٍ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ ، وَالشَّرْعُ نَهَى عَنْ ذَلِكَ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ أَبِي الْأَشْعَثِ الصَّبْغَانِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ ، فَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأُحْسِنُوا الذِّبْحَةَ ، وَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأُحْسِنُوا الْقِتْلَةَ ، وَلْيَحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ ، وَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ } وَالنَّخْعُ لَيْسَ مِنْ الْإِحْسَانِ فِي شَيْءٍ ، وَكَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ ، وَرُوِيَ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا حَتَّى قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لَا تَجُرُّوا الْعَجْمَاءَ إلَى مَذْبَحِهَا بِرِجْلِهَا ، وَأَحِدُّوا الشَّفْرَةَ ، وَأَسْرِعُوا الْمَمَرَّ عَلَى الْأَوْدَاجِ ، وَلَا تَحُفُّوا .
( وَعَنْ ) مَكْحُولٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا ذَبَحَ لَمْ يَنْخَعْ ، وَلَمْ يَبْدُ بِسَلْخٍ حَتَّى تَبْرُدَ الشَّاةُ } وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْمَرْءِ أَنْ يَذْبَحَ بِنَفْسِهِ ، وَأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ تَرْكِ التَّرَحُّمِ فِي شَيْءٍ ، بِخِلَافِ مَا قَالَهُ جُهَّالُ الْمُتَقَشِّفَةِ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلذَّابِحِ أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ زِيَادَةِ إيلَامٍ غَيْرِ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ .
( وَعَنْ ) عِكْرِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : { نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى رَجُلٍ قَدْ أَضْجَعَ شَاةً وَهُوَ يُحِدُّ الشَّفْرَةَ ، وَهِيَ مُلَاحِظَةٌ فَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَرَدْتَ أَنْ تُمِيتَهَا مَوْتَاتٍ } وَبِهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ : يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يُحِدَّ الشَّفْرَةَ بَيْنَ

يَدَيْهَا لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ إيلَامٍ غَيْرِ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ ، وَضَرَبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ رَآهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِالدُّرَّةِ حَتَّى هَرَبَ وَشَرَدَتْ الشَّاةُ { وَرَأَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا وَقَدْ أَخَذَ أُذُنَ شَاةٍ ، وَهُوَ يَجُرُّهَا إلَى الْمَذْبَحِ فَقَالَ : قُدْهَا إلَى الْمَوْتِ قَوْدًا رَفِيقًا ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : خُذْ سَاقَهَا ، فَإِنَّ اللَّهَ يَرْحَمُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ } وَالْمَعْنَى أَنَّهَا تَعْرِفُ مَا يُرَادُ بِهَا ، كَمَا جَاءَ فِي الْخَبَرِ { مَا هِبْت الْبَهَائِمَ إلَّا عَنْ أَرْبَعَةٍ خَالِقِهَا ، وَرَازِقِهَا ، وَحَتْفِهَا ، وَسِفَادِهَا } فَإِذَا كَانَتْ تَعْرِفُ ذَلِكَ وَهُوَ يُحِدُّ الشَّفْرَةَ بَيْنَ يَدَيْهَا فَفِيهِ زِيَادَةُ إيلَامٍ غَيْرِ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يُحِدَّ الشَّفْرَةَ ، وَلَكِنَّ الشَّاةَ لَا تَحْرُمُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْ الذَّكَاةِ ، وَهِيَ تَسْيِيلُ الدَّمِ النَّجِسِ مِنْهَا قَدْ وُجِدَ ، وَالنَّهْيُ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ، فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلْحُرْمَةِ ، وَقَدْ وُجِدَ

( وَعَنْ ) رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَأَفْرَى الْأَوْدَاجَ فَكُلْ مَا عَدَا السِّنَّ وَالظُّفْرَ وَالْعَظْمَ فَإِنَّهَا مُدَى الْحَبَشَةِ } وَالْمُرَادُ بَيَانُ آلَةِ الذَّبْحِ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ لِلذَّكَاةِ آلَةٌ مُحَدَّدَةٌ يَحْصُلُ بِهَا إنْهَارُ الدَّمِ ، وَإِفْرَاءُ الْأَوْدَاجِ ، وَالْإِنْهَارُ التَّسْيِيلُ ، وَمِنْهُ سُمِّيَ النَّهْرُ ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَسِيلُ فِيهِ ، وَالنَّهَارُ تَجْرِي فِيهِ الشَّمْسُ بِمَرْأَى الْعَيْنِ مِنْ الْعِبَادِ ، وَالْإِفْرَاءُ الْقَطْعُ ، وَالْمُرَادُ بِالْأَوْدَاجِ الْحُلْقُومُ وَالْمَرِيءُ وَالْوَدَجَانِ ، وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ الذَّكَاةِ تَمْيِيزُ الطَّاهِرِ مِنْ النَّجِسِ بِتَسْيِيلِ الدَّمِ مِنْ الْحَيَوَانِ ، وَالْمُرَادُ بِمَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ السِّنِّ وَالظُّفْرِ الْمُرَكَّبِ ؛ لِأَنَّهُ بِاسْتِعْمَالِ ذَلِكَ يَصِيرُ قَاتِلًا لَا ذَابِحًا ، فَإِنَّهُمَا مِنْهُ ، وَآلَةُ الذَّبْحِ غَيْرُ الذَّابِحِ ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ بِانْقِطَاعِ الْأَوْدَاجِ بِالْقُوَّةِ لَا بِحِدَّةِ الْآلَةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ : فَإِنَّهَا مُدَى الْحَبَشَةِ ، وَهُمْ إنَّمَا يُعْتَادُونَ الذَّبْحَ بِسِنِّ أَنْفُسِهِمْ ، وَظُفُرِ أَنْفُسِهِمْ ، وَذَلِكَ يَحْرُمُ بِالِاتِّفَاقِ ، فَأَمَّا فِي الذَّبْحِ بِالسِّنِّ الْمَقْلُوعَةِ وَالظُّفُرِ الْمَنْزُوعَةِ وَالْعَظْمِ الْمُنْفَصِلِ إذَا كَانَ مَحْدُودًا اخْتِلَافٌ نُبَيِّنُهُ

( وَعَنْ ) عَامِرٍ قَالَ : لَا بَأْسَ بِذَبِيحَةِ الْأَخْرَسِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَبِهِ نَأْخُذُ ، فَإِنَّ إشَارَةَ الْأَخْرَسِ وَتَحْرِيكَهُ الشَّفَتَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْبَسْمَلَةِ مِنْ النَّاطِقِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِيرُ بِهِ شَارِعًا فِي الصَّلَاةِ ، كَمَا يَكُونُ النَّاطِقُ شَارِعًا بِالتَّكْبِيرِ ، ثُمَّ الْأَهْلِيَّةُ لِلذَّبْحِ يَكُونُ لِلذَّابِحِ مِنْ أَهْلِ تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ ، وَذَلِكَ بِاعْتِقَادِهِ التَّوْحِيدَ ، وَالْأَخْرَسُ مُعْتَقِدٌ لِذَلِكَ ثُمَّ الْمُحَرَّمُ بَعْدَهُ الْإِعْرَاضُ عَنْ التَّسْمِيَةِ ، وَلَا يَتَحَقَّقُ الْإِعْرَاضُ مِنْ الْأَخْرَسِ فَعُذْرُهُ أَبْلَغُ مِنْ عُذْرِ النَّاسِي ، وَإِذَا كَانَ بِعُذْرِ النِّسْيَانِ يَنْعَدِمُ الْإِعْرَاضُ ، فَبِعُذْرِ الْخَرَسِ أَوْلَى .

( وَعَنْ ) عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الرَّجُلِ إذَا ذَبَحَ الشَّاةَ أَوْ الطَّيْرَ فَقَطَعَ رَأْسَهُ قَالَ : لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ ، ( وَعَنْهُ ) أَنَّهُ قَالَ تِلْكَ ذَكَاةٌ وَحِيَّةٌ أَيْ سَرِيعَةٌ .
( وَعَنْ ) عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ ضَرَبَ عُنُقَ بَطَّةٍ بِالسَّيْفِ فَسَبَقَ فَأَمَاتَهُ قَالَ : يُؤْكَلُ وَبِهِ نَأْخُذُ ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ ، وَهُوَ قَطْعُ الْحُلْقُومِ وَالْأَوْدَاجِ ، وَزَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ بَدَأَ بِالْقَطْعِ مِنْ قِبَلِ الْحَلْقِ حَتَّى أَبَانَ رَأْسَهُ ، فَلَا يُشَكُّ فِي إبَاحَةِ أَكْلِهِ ، وَيُكْرَهُ هَذَا الصَّنِيعُ ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةُ إيلَامٍ غَيْرِ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ ، وَإِنْ بَدَأَ مِنْ قِبَلِ الْقَفَا ، فَإِنْ قَطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْأَوْدَاجَ قَبْلَ أَنْ تَمُوتَ الشَّاةُ حَلَّتْ ، فَإِنْ مَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تَقْطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْأَوْدَاجَ لَمْ تُؤْكَلْ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الذَّكَاةِ بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْأَوْدَاجِ عِنْدَ الْقُدْرَةِ ، وَإِنْ مَاتَتْ بِفِعْلٍ لَيْسَ بِذَكَاةٍ شَرْعًا ، وَذَلِكَ مُوجِبٌ لِلْحُرْمَةِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ قَبْلَ قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْأَوْدَاجِ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96