كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
شَيْئًا ؛ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ لَا تُوجِبُ شَيْئًا بِدُونِ الْقَضَاءِ ، وَلَا يَقْضِي الْقَاضِي بِهَا إلَّا إذَا تَرَتَّبَتْ عَلَى خُصُومَةٍ صَحِيحَةٍ ، وَقَدْ سَقَطَ اعْتِبَارُ خُصُومَتِهِ لِلتَّنَاقُضِ ، وَلِأَنَّهُ صَارَ مُكَذِّبًا كُلَّ فَرِيقٍ بِتَصْدِيقِ الْآخَرِ كَالْمُدَّعِي إذَا أَكْذَبَ شَاهِدَهُ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُ لَهُ
( قَالَ ) رَجُلٌ قَالَ : لِآخَرَ سَرَقْت مِنْك كَذَا وَكَذَا ، فَقَالَ : كَذَبْت لَمْ تَسْرِقْ مِنِّي وَلَكِنَّك غَصَبْته غَصْبًا ، وَإِنَّمَا أَرَدْت بِذِكْرِ السَّرِقَةِ أَنْ تَبْرَأَ مِنْ الضَّمَانِ فَفِي الْقِيَاسِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ كَذَّبَهُ ثُمَّ ادَّعَى عَلَيْهِ غَصْبًا مُبْتَدَأً فَبَطَلَ إقْرَارُهُ بِالتَّكْذِيبِ ، وَلَمْ يَثْبُتُ مَا ادَّعَاهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ : لَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ مَوْصُولٌ ، وَفِي آخِرِهِ بَيَانُ أَنَّ مُرَادَهُ التَّكْذِيبُ فِي جِهَةِ السَّرِقَةِ لَا فِي أَصْلِ الْمَالِ الْمَضْمُونِ عَلَيْهِ وَالْبَيَانُ الْمُغَيِّرُ صَحِيحٌ إذَا كَانَ مُوصِلًا بِالْكَلَامِ ثُمَّ الْمُقَرُّ لَهُ انْتَدَبَ بِمَا صَنَعَ إلَى مَا نُدِبَ إلَيْهِ فِي الشَّرْعِ مِنْ إبْقَاءِ السِّتْرِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَالِاحْتِيَالِ لِدَرْءِ الْعُقُوبَةِ عَنْهُ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مُسْقِطًا حَقَّهُ فِي الْمَالِ ، وَإِنْ قَالَ : سَرَقْت مِنْك كَذَا فَقَالَ الطَّالِبُ : غَصَبْته غَصْبًا فَهُوَ مُسْتَهْلَكٌ فَعَلَيْهِ ضَمَانُهُ ؛ لِأَنَّهُ كَمَا صَدَّقَهُ فِي الْإِقْرَارِ بِمِلْكِ أَصْلِ الْمَالِ لَهُ ، فَقَدْ صَدَّقَهُ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ فِي ذِمَّتِهِ ؛ لِأَنَّ الْغَصْبَ وَالسَّرِقَةَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سَبَبٌ لِلضَّمَانِ وَالْأَسْبَابُ مَطْلُوبَةٌ لِأَحْكَامِهَا لَا لِأَعْيَانِهَا فَمَعَ التَّصْدِيقِ فِي الْحُكْمِ لَا يُعْتَبَرُ التَّكْذِيبُ فِي السَّبَبِ ، وَإِنْ قَالَ غَصَبْتُك كَذَا فَقَالَ سَرَقْته مِنِّي فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ ؛ لِأَنَّهُ صَدَّقَهُ فِيمَا أَقَرَّ لَهُ بِهِ وَادَّعَى زِيَادَةَ جِهَةِ السَّرِقَةِ ، وَلَمْ يُثْبِتْ لَهُ تِلْكَ الزِّيَادَةَ بِدَعْوَاهُ فَعَلَيْهِ ضَمَانُ الْقِيمَةِ ، وَالْقَوْلُ فِي مِقْدَارِ الْقِيمَةِ قَوْلُ الضَّامِنِ مَعَ يَمِينِهِ لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ الَّتِي يَدَّعِيهَا الطَّالِبُ
وَإِنْ قَالَ : سَرَقْت مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانٍ ثَوْبًا وَأَحَدُهُمَا غَائِبٌ لَمْ يَكُنْ لِلْحَاضِرِ أَنْ يَقْطَعَهُ ، وَلَكِنْ يُقْضَى لَهُ بِنِصْفِ الثَّوْبِ إنْ كَانَ قَائِمًا وَبِنِصْفِ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا ؛ لِأَنَّ التَّصْدِيقَ مِنْ الْغَائِبِ لَمْ يُعْرَفْ ، فَإِذَا حَضَرَ رُبَّمَا يُكَذِّبُهُ فَيَبْقَى نِصْفُ الثَّوْبِ عَلَى مِلْكِهِ ، فَلَوْ قَطَعْنَاهُ لَقَطَعْنَا فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ : زَنَيْت بِفُلَانَةَ وَفُلَانَةَ فَكَذَّبَتْهُ إحْدَاهُمَا وَصَدَّقَتْهُ الْأُخْرَى يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مُتَمَيِّزٌ عَنْ فِعْلِهِ بِالْأُخْرَى ، وَهُنَا إنَّمَا أَقَرَّ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ فِي ثَوْبٍ بَيْنَهُمَا ، وَلَمْ يَثْبُتْ بِإِقْرَارِهِ السَّرِقَةُ فِي نَصِيبِ الْغَائِبِ قَبْلَ تَصْدِيقِهِ فَلَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ بِالسَّرِقَةِ فِي نَصِيبِ الْحَاضِرِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ فِعْلَ السَّرِقَةِ فِي نِصْفِ الثَّوْبِ شَائِعًا لَا يَتَحَقَّقُ مُنْفَرِدًا عَنْ النِّصْفِ الْآخَرِ ، فَلِهَذَا لَمْ يُقْطَعْ .
فَإِذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقَطْعِ ظَهَرَ حُكْمُ الْمَالِ فَيُقْضَى لِلْحَاضِرِ بِمَا أَقَرَّ لَهُ بِهِ ، وَذَلِكَ نِصْفُ الثَّوْبِ إنْ كَانَ قَائِمًا وَنِصْفُ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا فَإِنْ كَانَا حَاضِرَيْنِ فَقَالَ : أَحَدُهُمَا كَذَبْتَ لَمْ تَسْرِقْهُ ، وَلَكِنَّك غَصَبْته أَوْ اسْتَوْدَعْنَاكَهُ أَوْ أَعَرْنَاكَهُ أَوْ قَالَ : هُوَ ثَوْبُك لَا حَقَّ لَنَا فِيهِ لَمْ يُقْطَعْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إمَّا لِلشَّرِكَةِ لَهُ فِي الثَّوْبِ بِإِقْرَارِ أَحَدِهِمَا لَهُ بِالْمِلْكِ أَوْ لِانْتِفَاءِ فِعْلِ السَّرِقَةِ عَنْ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا بِتَكْذِيبِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ فِعْلُ السَّرِقَةِ فِي نَصِيبِ الْآخَرِ مِنْ الثَّوْبِ مُنْفَرِدًا ، وَلَكِنْ يُقْضَى بِنِصْفِ الْآخَرِ أَوْ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ إنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فِي حَقِّ الثَّانِي يَنْبَنِي الْقَضَاءُ عَلَى مَا أَقَرَّ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ وَأَحَدُهُمَا غَائِبٌ فَقُضِيَ لِلْحَاضِرِ بِنِصْفِ الثَّوْبِ أَوْ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ
ثُمَّ جَاءَ الْغَائِبُ وَادَّعَى السَّرِقَةَ يُقْضَى لَهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ فِي إثْبَاتِ الْمِلْكِ قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ ، وَلَكِنْ لَا يُقْطَعُ السَّارِقُ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ حِينَ قَضَى بِنِصْفِ الثَّوْبِ لِلْأَوَّلِ أَوْ بِنِصْفِ قِيمَتِهِ ، فَقَدْ دَرَأَ الْقَطْعَ عَنْهُ فِي نَصِيبِهِ إذْ الْقَاضِي لَا يَشْتَغِلُ بِالضَّمَانِ إلَّا بَعْدَ دَرْءِ الْحَدِّ ، وَلِأَنَّهُ بِالضَّمَانِ مَلَكَ ذَلِكَ النِّصْفَ ، وَاعْتِرَاضُ الْمِلْكِ فِي الْبَعْضِ كَاعْتِرَاضِهِ فِي الْجَمِيعِ فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهُ .
وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ حَاضِرًا وَقْتَ الْخُصُومَةِ فَقَالَ : الثَّوْبُ وَدِيعَةٌ أَوْ عَارِيَّةٌ لَنَا عِنْدَك لَمْ يَقْضِ لَهُ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ أَكْذَبَ شُهُودَهُ ، فَإِنَّهُمْ شَهِدُوا بِالسَّرِقَةِ وَإِكْذَابُ الْمُدَّعِي شَاهِدَهُ يُبْطِلُ الشَّهَادَةَ فِي حَقِّهِ وَلَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي تِلْكَ الْخُصُومَةِ ؛ لِأَنَّهُ أَبْطَلَ حَقَّ نَفْسِهِ بِإِكْذَابِهِ شُهُودَهُ وَصَارَ كَمَا لَوْ أَبْرَأهُ عَنْ نَصِيبِهِ مِنْ الضَّمَانِ وَبَعْدَ الْإِبْرَاءِ لَا يَبْقَى لَهُ حَقُّ مُشَارَكَةِ الْآخَرِ فِيمَا يَقْبِضُ
( قَالَ ) رَجُلَانِ أَقَرَّا أَنَّهُمَا سَرَقَا هَذَا الثَّوْبَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَالرَّجُلُ يَدَّعِي ذَلِكَ فَلَمَّا أَمَرَ الْحَاكِمُ بِقَطْعِهِمَا قَالَ أَحَدُهُمَا : الثَّوْبُ ثَوْبُنَا لَمْ نَسْرِقْهُ قَالَ يُدْرَأُ الْقَطْعُ عَنْهُمَا ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَرِضَ مِنْ دَعْوَى الْمِلْكِ مِنْ أَحَدِهِمَا كَالْمُقْتَرِنِ بِالسَّبَبِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ ادَّعَيَا جَمِيعًا الْمِلْكَ بَعْدَ الْقَضَاءِ كَانَ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ بِمَنْزِلَةِ الْمُقْتَرِنِ بِالسَّبَبِ ، فَكَذَلِكَ إذَا ادَّعَى ذَلِكَ أَحَدُهُمَا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ وَجَبَ عَلَيْهِمَا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ ، وَقَدْ آلَ الْأَمْرُ إلَى الْخُصُومَةِ وَالِاسْتِحْلَافِ فِي ذَلِكَ الشَّيْءِ ، وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا قَالَ : سَرَقْنَا هَذَا الثَّوْبَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَقَالَ الْآخَرُ : كَذَبْت لَمْ نَسْرِقْهُ ، وَلَكِنَّهُ لِفُلَانٍ قَالَ : يُقْطَعُ الْمُقِرُّ بِالسَّرِقَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ : أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يُقْطَعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا .
وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا : سَرَقْنَاهُ وَقَالَ الْآخَرُ : لَمْ أَسْرِقْ مَعَك ، وَلَا أَعْرِفُك ، وَلَا أَعْرِفُ هَذَا الثَّوْبَ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ ، وَقَدْ كَانَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوَّلًا يَقُولُ كَقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ رَجَعَ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْمُقِرَّ مِنْهُمَا أَقَرَّ بِسَرِقَةِ شَيْءٍ وَاحِدٍ ، وَقَدْ تَعَذَّرَ إيجَابُ الْقَطْعِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِإِنْكَارِهِ فَصَارَ ، كَمَا لَوْ تَعَذَّرَ إيجَابُ الْحَدِّ عَلَيْهِ لِدَعْوَاهُ الْمِلْكَ لِنَفْسِهِ فَيَكُونُ شُبْهَةً فِي دَرْءِ الْحَدِّ عَنْهُمَا .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْمُقِرَّ أَقَرَّ بِالْفِعْلِ الْمُوجِبِ لِلْعُقُوبَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى غَيْرِهِ ، وَقَدْ انْعَدَمَ أَصْلُ الْفِعْلِ فِي حَقِّ الْآخَرِ لِتَكْذِيبِهِ فَلَا يُوجِبُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي الْفِعْلِ الثَّابِتِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ
بِإِقْرَارِهِ ، وَلَا فِي مُوجِبِهِ ، كَمَا لَوْ قَالَ : قَتَلْتُ أَنَا وَفُلَانٌ فُلَانًا ، وَقَالَ الْآخَرُ : أَنَا مَا قَتَلْت فَالْقِصَاصُ وَاجِبٌ عَلَى الْمُقِرِّ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : زَنَيْت أَنَا وَفُلَانٌ بِفُلَانَةَ وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ كَانَ عَلَى الْمُقِرِّ الْحَدُّ بِخِلَافِ مَا لَوْ ادَّعَى الْآخَرُ الْمِلْكَ ، فَإِنَّ أَصْلَ الْفِعْلِ ثَبَتَ هُنَاكَ مُشْتَرَكًا لِاتِّفَاقِهِمَا ثُمَّ امْتَنَعَ وُجُوبُ الْقِصَاصِ عَلَى أَحَدِهِمَا لِلشُّبْهَةِ فَيَمْتَنِعُ وُجُوبُهُ عَلَى الْآخَرِ لِلشَّرِكَةِ ، كَمَا فِي الْمُقِرِّينَ بِالْقَتْلِ إذَا زَعَمَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ كَانَ مُخْطِئًا .
وَقَدْ ذُكِرَ فِي الْحُدُودِ أَنَّهُ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ زَنَى بِامْرَأَةٍ وَكَذَّبَتْهُ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَعِنْدَهُمَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُسَوِّي بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ وَيَقُولُ : تَكْذِيبُ الْمُكَذِّبِ لَا يُؤَثِّرُ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا فَيَقُولُ : هُنَاكَ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَيْهِ وَهَا هُنَا لَا يُقَامُ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهَا فِي الزِّنَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ فِعْلِهِ ، فَإِنَّ فِعْلَهُ إيلَاجٌ وَفِعْلَهَا تَمْكِينٌ وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ مَحَلُّ الْفِعْلِ وَالْمُبَاشِرُ هُوَ الرَّجُلُ فَانْتِفَاؤُهُ فِي جَانِبِهَا بِتَكْذِيبِهَا لَا يُمَكِّنُ شُبْهَةَ الرَّجُلِ وَهَا هُنَا الْفِعْلُ مِنْ السَّارِقَيْنِ وَاحِدٌ وَالْمُشَارَكَةُ بَيْنَهُمَا تَتَحَقَّقُ فَانْتِفَاؤُهُ عَنْ أَحَدِهِمَا بِإِنْكَارِهِ يُمْكِنُ شُبْهَةً فِي حَقِّ الْآخَرِ ، كَمَا فِي الْقَتْلِ إذَا اشْتَرَكَ الْخَاطِئُ مَعَ الْعَامِدِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا أَيْضًا فَيَقُولُ هُنَاكَ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ وَهُنَا يُقَامُ عَلَى الْمُقِرِّ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الزِّنَا مِنْ الرَّجُلِ لَا يُتَصَوَّرُ بِدُونِ الْمَحِلِّ ، وَقَدْ انْعَدَمَ الْمَحِلُّ بِتَكْذِيبِهَا ، فَأَمَّا فِعْلُ السَّرِقَةِ مِنْ الْمُقِرِّ يَتَحَقَّقُ بِدُونِ الْآخَرِ فَانْتِفَاءُ الْفِعْلِ فِي حَقِّ الْآخَرِ بِإِنْكَارِهِ لَا
يَمْنَعُ تَقَرُّرِ الْفِعْلِ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ مُوجِبًا لِلْقَطْعِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .
بَابُ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ ( قَالَ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِذَا قَطَعَ قَوْمٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى قَوْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ الطَّرِيقَ فَقَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ قَالَ : يَقْطَعُ الْإِمَامُ أَيْدِيَهُمْ الْيُمْنَى وَأَرْجُلَهُمْ الْيُسْرَى مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُصَلِّبَهُمْ إنْ شَاءَ ، وَإِنَّمَا شَرْطُنَا أَنْ يَكُونُوا قَوْمًا ؛ لِأَنَّ قُطَّاعَ الطَّرِيقِ مُحَارِبُونَ بِالنَّصِّ ، وَالْمُحَارَبَةُ عَادَةً مِنْ قَوْمٍ لَهُمْ مَنَعَةٌ وَشَوْكَةٌ يَدْفَعُونَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَيَقْوَوْنَ عَلَى غَيْرِهِمْ بِقُوَّتِهِمْ ، وَلِأَنَّ السَّبَبَ هُنَا قَطْعُ الطَّرِيقِ ، وَلَا يَنْقَطِعُ الطَّرِيقُ إلَّا بِقَوْمٍ لَهُمْ مَنَعَةٌ ، وَشَرْطُ أَنْ يَكُونُوا مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِيَكُونُوا مِنْ أَهْلِ دَارِنَا عَلَى التَّأْبِيدِ ، فَإِنَّهُمْ إذَا كَانُوا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مُسْتَأْمَنِينَ فِي دَارِنَا فَفِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ خِلَافٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ ، وَشَرْطُ أَنْ يَقْطَعُوا الطَّرِيقَ عَلَى قَوْمٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لِتَكُونَ الْعِصْمَةُ الْمُؤَبَّدَةُ ثَابِتَةً فِي مَالِهِمْ ، فَإِنَّهُمْ إذَا قَطَعُوا الطَّرِيقَ عَلَى الْمُسْتَأْمَنِينَ لَا يُقَامُ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ لِانْعِدَامِ الْعِصْمَةِ الْمُؤَبَّدَةِ فِي مَالِهِمْ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي السَّرِقَةِ الصُّغْرَى فَهُوَ مِثْلُهُ فِي السَّرِقَةِ الْكُبْرَى .
ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ أَنَّ حَدَّ قَطْعِ الطَّرِيقِ عَلَى التَّرْتِيبِ بِحَسَبِ جِنَايَتِهِمْ عِنْدَنَا ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَإِبْرَاهِيمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَعِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ عَلَى التَّخْيِيرِ ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلَمْ نَأْخُذْ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَخَافَ السَّبِيلَ ، وَلَمْ يَقْتُلْ ، وَلَمْ يَأْخُذْ مَالًا قَدْ هَمَّ بِالْمَعْصِيَةِ وَالْقَتْلِ وَالْقَطْعُ أَغْلَظُ الْعُقُوبَاتِ فَلَا يَجُوزُ إقَامَتُهُ عَلَى مَنْ هَمَّ بِالْمَعْصِيَةِ وَلَمْ يُبَاشِرْ ، وَالْقَطْعُ جَزَاءُ أَخْذِ
الْمَالِ ، كَمَا فِي السَّرِقَةِ الصُّغْرَى إلَّا أَنَّ ذَاكَ دَخَلَهُ نَوْعُ تَخْفِيفٍ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُخْفِي فِعْلَهُ ، وَهَذَا يَغْلُظُ بِالْمُجَاهَرَةِ ، وَلِهَذَا وَجَبَ قَطْعُ عُضْوَيْنِ مِنْهُ مِنْ أَعْضَائِهِ ثُمَّ مَنْ هَمَّ بِالسَّرِقَةِ الصُّغْرَى ، وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ ، فَكَذَلِكَ مَنْ هَمَّ بِأَخْذِ الْمَالِ هَاهُنَا وَلَمْ يَأْخُذْ ، فَإِنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْإِمَامُ فِيهِمْ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ قَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ ثُمَّ قَتَلَهُمْ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ ، وَإِنْ شَاءَ صَلَبَهُمْ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْإِمَامُ يَصْلُبُهُمْ أَخْذًا فِيهِ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَلِأَنَّهُ اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ فِي النَّفْسِ وَمَا دُونَهُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِيهِ أَنْ يَدْخُلَ مَا دُونَ النَّفْسِ فِي النَّفْسِ ، كَمَا إذَا اجْتَمَعَ حَدُّ السَّرِقَةِ وَالشُّرْبِ وَالرَّجْمِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الزَّجْرُ ، وَذَلِكَ يَتِمُّ بِاسْتِيفَاءِ النَّفْسِ فَلَا فَائِدَةَ بِالِاشْتِغَالِ بِمَا دُونَهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَرْفَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَبْنَى هَذَا الْحَدِّ عَلَى التَّغْلِيظِ لِغِلَظِ جَرِيمَتِهِمْ وَالْقَطْعُ ثُمَّ الْقَتْلُ أَقْرَبُ إلَى التَّغْلِيظِ فَكَانَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَخْتَارَ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ أَقْرَبَ إلَى مَا لِأَجْلِهِ شُرِعَ هَذَا الْحَدُّ ، وَالثَّانِي أَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْقَطْعِ هُوَ أَخْذُ الْمَالِ ، وَقَدْ وُجِدَ مِنْهُمْ وَالسَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْقَتْلِ ، وَهُوَ قَتْلُ النَّفْسِ قَدْ وُجِدَ مِنْهُمْ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِثُبُوتِ السَّبَبِ وَالْكُلُّ حَدٌّ وَاحِدٌ ، وَلَا تَدَاخُلَ فِي الْحَدِّ الْوَاحِدِ كَالْجَلَدَاتِ فِي الزِّنَا إنَّمَا التَّدَاخُلُ فِي الْحُدُودِ .
( فَإِنْ قِيلَ ) هَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَقْتُلَهُمْ وَيَدَعَ الْقَطْعَ .
( قُلْنَا ) لَا بِطَرِيقِ التَّدَاخُلِ بَلْ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ فِي
أَجْزَاءِ حَدٍّ وَاحِدٍ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِالْقَتْلِ لِذَلِكَ ثُمَّ إذَا قَتَلَهُ فَلَا فَائِدَةَ فِي اشْتِغَالِهِ بِالْقَطْعِ بَعْدَهُ فَلَا يَشْتَغِلُ كَالزَّانِي إذَا ضُرِبَ خَمْسِينَ جَلْدَةً فَمَاتَ ، فَإِنَّهُ يَتْرُكُ مَا بَقِيَ ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي إقَامَتِهِ ثُمَّ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ هُوَ مُخَيَّرٌ فِي الصَّلْبِ إنْ شَاءَ فَعَلَهُ ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَفْعَلْهُ وَاكْتَفَى بِالْقَتْلِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ لَيْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَدَعَ الصَّلْبَ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ الْإِشْهَارُ لِيَعْتَبِرَ غَيْرُهُ فَيَنْزَجِرَ فَلَا يَتْرُكُهُ .
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ مَعْنَى الزَّجْرِ يَتِمُّ بِالْقَتْلِ ، وَلَمْ يُنْقَلْ فِي شَيْءٍ مِنْ الْآثَارِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَبَ أَحَدًا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ بِالْعُرَنِيِّينَ مَعَ الْمُبَالَغَةِ وَالِاسْتِقْصَاءِ فِي عُقُوبَتِهِمْ حَتَّى سَمَلَ أَعْيُنَهُمْ .
( قَالَ ) وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَصْلُبَ فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَصْلُبُهُمْ أَحْيَاءَ ثُمَّ يَطْعَنُ تَحْتَ ثَنْدُوَتِهِمْ الْأَيْسَرِ لِيَمُوتُوا ، فَإِنَّ الْمَقْصُودَ الزَّجْرُ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَحْصُلُ إذَا صَلَبَهُمْ أَحْيَاءَ لَا بَعْدَ مَوْتِهِمْ ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ أَنَّهُ لَا يَصْلُبُهُمْ أَحْيَاءَ ؛ لِأَنَّهُ مُثْلَةٌ { وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُثْلَةِ ، وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ } ، وَلَكِنَّهُ يَقْتُلُهُمْ فَبِهِ يَتِمُّ مَعْنَى الزَّجْرِ وَالْعُقُوبَةِ فِي قَتْلِهِمْ ثُمَّ يَصْلُبُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لِلِاشْتِهَارِ حَتَّى يَعْتَبِرَ بِهِمْ غَيْرُهُمْ ، وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ الْمَذْهَبِ يَتْرُكُهُمْ عَلَى الْخَشَبِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ يُخَلِّي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهَالِيهِمْ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُمْ كَذَلِكَ تَغَيَّرُوا وَتَأَذَّى بِهِمْ الْمَارَّةُ فَيُخَلِّي بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهَالِيهِمْ بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِيُنْزِلُوهُمْ فَيَدْفِنُوهُمْ
( قَالَ ) وَإِذَا وُجِدَ مِنْهُمْ الْقَتْلُ وَأَخَذَ الْمَالِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِالْجِرَاحَاتِ فِي تَعَلُّقِ الْأَرْشِ وَالْقِصَاصِ بِهَا ؛ لِأَنَّهُمْ اسْتَوْجَبُوا أَتَمَّ مَا يَكُونُ مِنْ الْحَدِّ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ مَا دُونَ ذَلِكَ مِنْ الْجِرَاحَاتِ وَعَفْوُ الْأَوْلِيَاءِ فِي ذَلِكَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا حَدٌّ يُقَامُ لِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَإِسْقَاطُ الْأَوْلِيَاءِ إنَّمَا يَعْمَلُ فِيمَا هُوَ حَقُّهُمْ وَيَكُونُ اسْتِيفَاؤُهُ إلَيْهِمْ أَوْ يُسْتَوْفَى بِطَلَبِهِمْ ، فَأَمَّا مَا يَسْتَوْفِيهِ الْإِمَامُ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا عَفْوَ فِيهِ لِلْأَوْلِيَاءِ ، وَلَا لِلْإِمَامِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَاحِبِ الْحَقِّ بَلْ هُوَ نَائِبٌ فِي الِاسْتِيفَاءِ فَهُوَ فِي الْعَفْوِ كَغَيْرِهِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رَوَيْنَا { لَا يَنْبَغِي لِوَالِي حَدٍّ ثَبَتَ عِنْدَهُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَقَامَهُ } ثُمَّ الْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْقَتْلُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمْ الْقِصَاصُ مُتَحَتِّمٌ لَا يَعْمَلُ فِيهِ عَفْوُ الْوَلِيِّ ؛ لِأَنَّ هَذَا قَتْلٌ لَا يُسْتَحَقُّ إلَّا بِالْقَتْلِ وَالْقَتْلُ الْمُسْتَحَقُّ يَكُونُ قِصَاصًا إلَّا أَنَّهُ تَأَكَّدَ بِانْضِمَامِ حَقِّ الشَّرْعِ إلَيْهِ فَلَا يَعْمَلُ فِيهِ الْإِسْقَاطُ كَالْعِدَّةِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْقَطْعُ وَالْقَتْلُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْقَتْلِ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ كُلِّهِ حَدٌّ وَاحِدٌ ثُمَّ الْقَطْعُ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى ، فَكَذَلِكَ الْقَتْلُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهُ جَزَاءً وَالْجَزَاءُ الْمُطْلَقُ مَا يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى بِمُقَابَلَةِ الْفِعْلِ ، فَأَمَّا الْقِصَاصُ وَاجِبٌ بِطَرِيقِ الْمُسَاوَاةِ ، وَفِيهِ مَعْنَى الْمُقَابَلَةِ بِالْمَحَلِّ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ سَبَبَ هَذَا الْقَتْلِ مَا قَالَ فِي قَوْله تَعَالَى { يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } وَمَا يَجِبُ بِمِثْلِ هَذَا السَّبَبِ يَكُونُ لِلَّهِ تَعَالَى وَسَمَّاهُ خِزْيًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا } فَعَرَفْنَا أَنَّهُ حَدٌّ وَاحِدٌ لِلَّهِ تَعَالَى
( قَالَ ) فَإِنْ كَانَ فِيهِمْ عَبْدٌ أَوْ امْرَأَةٌ فَالْحُكْمُ فِيهِ كَالْحُكْمِ فِي الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ ، أَمَّا الْعَبْدُ فَلِأَنَّهُ مُخَاطَبٌ مُحَارِبٌ ، وَهُوَ فِي السَّرِقَةِ الصُّغْرَى يَسْتَوِي بِالْحُرِّ ، فَكَذَلِكَ فِي الْكُبْرَى ، وَالْمَرْأَةُ كَذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّحَاوِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي كِتَابِهِ : الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فِي حَقِّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ سَوَاءٌ ، كَمَا يَسْتَوِيَانِ فِي سَائِرِ الْحُدُودِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ قَتْلٌ وَقَطْعٌ ، وَفِي الْقَطْعِ الْوَاجِبِ جَزَاءُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ سَوَاءٌ كَالسَّرِقَةِ ، وَفِي الْقَتْلِ الْوَاجِبِ جَزَاءُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ سَوَاءٌ كَالرَّجْمِ وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ حَدَّ قَطْعِ الطَّرِيقِ لَا يَجِبُ عَلَى النِّسَاءِ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْمُحَارَبَةُ وَانْقِطَاعُ الطَّرِيقِ بِهِمْ وَالْمَرْأَةُ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ لَيْسَتْ بِمُحَارِبَةٍ كَالصَّبِيِّ ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي اسْتِحْقَاقِ مَا يُسْتَحَقُّ بِالْمُحَارَبَةِ ، وَهُوَ السَّهْمُ مِنْ الْغَنِيمَةِ لَا يُسَوَّى بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ، فَكَذَلِكَ فِي الْعُقُوبَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِالْمُحَارَبَةِ ، وَهُوَ السَّهْمُ مِنْ الْغَنِيمَةِ لَا يُسَوَّى بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ ، فَكَذَلِكَ فِي الْعُقُوبَةِ الْمُسْتَحَقَّةِ بِالْمُحَارَبَةِ ، وَلَكِنْ يَدْخُلُ عَلَى هَذَا الْعَبْدِ فَأَنَّهُ لَا يُسَاوِي الْحُرَّ فِي اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ ثُمَّ يُسَاوِيهِ فِي حَقِّ هَذَا الْحَدِّ ، وَفِي الصَّبِيَّانِ وَالْمَجَانِينِ لِانْعِدَامِ الْأَهْلِيَّةِ لِلْعُقُوبَةِ بِعَدَمِ التَّكْلِيفِ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَذَكَرَ هِشَامٌ فِي نَوَادِرِهِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إذَا قَطَعَ قَوْمٌ مِنْ الرِّجَالِ الطَّرِيقَ ، وَفِيهِمْ امْرَأَةٌ فَبَاشَرَتْ الْمَرْأَةُ الْقَتْلَ وَأَخَذَتْ الْمَالَ دُونَ الرِّجَالِ ، فَإِنَّهُ يُقَامُ الْحَدُّ عَلَيْهِمْ ، وَلَا يُقَامُ عَلَيْهَا ، وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُقَامُ عَلَيْهَا ، وَلَا يُقَامُ
عَلَيْهِمْ وَذَكَرَ ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُدْرَأُ عَنْهُمْ جَمِيعًا لِكَوْنِ الْمَرْأَةِ فِيهِمْ وَجَعَلَ الْمَرْأَةَ فِيهِمْ كَالصَّبِيِّ ، وَلَوْ كَانَ مَعَهُمْ صَبِيٌّ أَوْ مَجْنُونٌ لَا يُقَامُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ ، فَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ الرِّدْءُ تَبَعٌ لِلْمُبَاشِرِ فِي الْمُحَارَبَةِ وَالرِّجَالُ لَا يَصْلُحُونَ تَبَعًا لِلنِّسَاءِ فِي التَّنَاصُرِ وَالْمُحَارَبَةِ ، وَإِنَّمَا يُقَامُ عَلَيْهِمَا جَزَاءُ الْمُبَاشَرَةِ ، وَلَا يُقَامُ عَلَى الرِّجَالِ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ إنَّمَا يَتَأَتَّى هَذَا الْفِعْلُ مِنْهَا بِقُوَّتِهِمْ ، فَإِنَّ بِنْيَتَهَا لَا تَصْلُحُ لِلْمُحَارِبَةِ بِدُونِ الرِّجَالِ فَكَأَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَيُقَامُ الْحَدُّ عَلَيْهِمْ لَا عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ الْإِقَامَةِ عَلَيْهَا مَعْنًى فِيهَا لَا فِي فِعْلِهَا ، وَهُوَ أَنَّ بِنْيَتَهَا لَا تَصْلُحُ لِلْمُحَارِبَةِ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ ، فَإِنَّ الْمَانِعَ مَعْنًى فِي فِعْلِهِ ، وَهُوَ أَنَّ فِعْلَهُ لَا يَصِحُّ مُوجِبًا لِلْعُقُوبَةِ ، وَقَدْ تَحَقَّقَ الِاشْتِرَاكُ فِي الْفِعْلِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ فَلَا يُقَامُ الْحَدُّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ
( قَالَ ) وَالْمُبَاشِرُ وَغَيْرُ الْمُبَاشِرِ فِي حَدِّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ سَوَاءٌ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُقَامُ الْحَدُّ إلَّا عَلَى مَنْ بَاشَرَ الْقَتْلَ وَأَخَذَ الْمَالَ ؛ لِأَنَّهُ جَزَاءُ الْفِعْلِ فَلَا يَجِبُ إلَّا عَلَى مَنْ بَاشَرَ الْفِعْلَ كَحَدِّ الزِّنَا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَقْتُلُوا ، وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا لَمْ يُقَمْ الْحَدُّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَفِي حَقِّ الَّذِينَ لَمْ يَأْخُذُوا يُجْعَلُ كَأَنَّهُمْ جَمِيعًا لَمْ يَأْخُذُوا .
( وَحُجَّتُنَا ) فِيهِ أَنَّ هَذَا حُكْمٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُحَارَبَةِ فَيَسْتَوِي فِيهِ الرِّدْءُ وَالْمُبَاشِرُ كَاسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ فِي الْغَنِيمَةِ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّهُمْ جَمِيعًا مُبَاشِرُونَ السَّبَبَ ، وَهُوَ الْمُحَارَبَةُ وَقَطْعُ الطَّرِيقِ هَكَذَا يَكُونُ فِي الْعَادَةِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ اشْتَغَلُوا جَمِيعًا بِالْقِتَالِ خَفِيَ عَلَيْهِمْ طَرِيقُ الْإِصَابَةِ لِكَثْرَةِ الزَّحْمَةِ ، وَلَا يَسْتَقِرُّونَ إنْ زَلَّتْ قَدَمُهُمْ فَانْهَزَمُوا ، فَإِذَا كَانَ الْبَعْضُ رِدْءًا لَهُمْ الْتَجَئُوا إلَيْهِمْ وَتَنْكَسِرُ شَوْكَةُ الْخُصُومِ بِرُؤْيَتِهِمْ ، وَكَذَلِكَ فِي الْعَادَةِ إنَّمَا يَتَوَلَّى أَخْذَ الْمَالِ الْأَصَاغِرُ مِنْهُمْ وَالْأَكَابِرُ يَتَرَفَّعُونَ عَنْ ذَلِكَ وَانْقِطَاعُ الطَّرِيقِ يَكُونُ بِهِمْ جَمِيعًا فَعَرَفْنَا أَنَّهُمْ مُبَاشِرُونَ لِلسَّبَبِ ، فَأَمَّا أَخْذُ الْمَالِ وَالْقَتْلُ شَرْطٌ فِيهِ وَإِذَا صَارَ الشَّرْطُ مَوْجُودًا بِقُوَّتِهِمْ وَبَاشَرُوا السَّبَبَ بِأَجْمَعِهِمْ قُلْنَا : يُقَامُ الْحَدُّ عَلَيْهِمْ
( قَالَ ) وَإِنْ أَصَابُوا الْمَالَ ، وَلَمْ يَقْتُلُوا قُطِّعَتْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ ، وَلَمْ يُقَتَّلُوا ؛ لِأَنَّهُمْ بَاشَرُوا أَخْذَ الْمَالِ فَيُقَامُ عَلَيْهِمْ جَزَاؤُهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقَتْلَ شَرْطٌ لِوُجُوبِ الْقَطْعِ عَلَيْهِمْ وَالْحُكْمُ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ لَا يَثْبُتُ قَبْلَ وُجُودِ الشَّرْطِ
( قَالَ ) فَإِنْ لَمْ يُوجَدُوا طُلِبُوا إلَى أَنْ يُوجَدُوا أَوْ يَنْقَطِعَ أَذَاهُمْ وَيَأْمَنَ الْمُسَافِرُونَ مِنْهُمْ فِي طَرِيقِهِمْ ، وَذَلِكَ نَفْيُهُمْ مِنْ الْأَرْضِ فِي تَأْوِيلِ بَعْضِهِمْ فَإِنْ قَتَلُوا ، وَلَمْ يُصِيبُوا مَالًا قُتِلُوا ، وَلَمْ تُقْطَعْ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ ؛ لِأَنَّ جَزَاءَ أَخْذِ الْمَالِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِأَخْذِ الْمَالِ
( قَالَ ) فَإِنْ قَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ ثُمَّ تَابُوا فَرَدُّوا الْمَالَ إلَى أَهْلِهِ ثُمَّ أُتِيَ بِهِمْ الْإِمَامَ لَمْ يَقْطَعْهُمْ ، وَلَمْ يَقْتُلْهُمْ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ } ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ تَمَامَ تَوْبَتِهِ فِي رَدِّ الْمَالِ لِيَنْقَطِعَ بِهِ خُصُومَةُ صَاحِبِ الْمَالِ فَإِنَّ الْإِمَامَ لَا يُقِيمُ الْحَدَّ إلَّا بِخُصُومَةِ صَاحِبِ الْمَالِ فِي مَالِهِ ، وَقَدْ انْقَطَعَتْ خُصُومَتُهُ بِوُصُولِ الْمَالِ إلَيْهِ قَبْلَ ظُهُورِ الْجَرِيمَةِ عِنْدَ الْإِمَامِ فَيَسْقُطُ الْحَدُّ ، وَلَكِنَّهُ يَدْفَعُهُمْ إلَى أَوْلِيَاءِ الْقَتْلَى فَيَقْتُلُونَهُمْ أَوْ يُصَالِحُونَهُمْ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ فِي التَّوْبَةِ إنَّمَا يَسْقُطُ مَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى ، فَأَمَّا مَا كَانَ حَقًّا لِلْعَبْدِ فَلِأَوْلِيَائِهِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ { أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ، وَقَدْ كَانَ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْقَتْلِ مُتَقَرِّرًا مِمَّنْ بَاشَرَ الْقَتْلَ مِنْهُمْ ، وَهُوَ تَعَمُّدُهُ قَتْلَ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ إلَّا أَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْقَتْلِ عَلَيْهِمْ حَدًّا كَانَ مَانِعًا مِنْ ظُهُورِ الْقَوَدِ ، فَإِذَا سَقَطَ ذَلِكَ زَالَ الْمَانِعُ فَظَهَرَ حُكْمُ الْقَوَدِ وَالْقَوَدُ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ بَاشَرَ الْقَتْلَ دُونَ الرِّدْءِ
( قَالَ ) وَلِلْوَلِيِّ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ عَفَا ، وَإِنْ شَاءَ صَالَحَ عَلَى مَالٍ ، وَإِنْ شَاءَ اسْتَوْفَى الْقَتْلَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيرَتَيْنِ إنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا ، وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لِوَلِيِّ الْقَتْلِ أَتَعْفُو فَقَالَ لَا فَقَالَ أَتَأْخُذُ الدِّيَةَ فَقَالَ لَا فَقَالَ أَتَقْتُلُ فَقَالَ نَعَمْ } فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يَتَخَيَّرُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ، وَمَنْ بَاشَرَ مِنْهُمْ الْجِرَاحَاتِ فَفِيمَا يُمْكِنُ اعْتِبَارُ الْمُسَاوَاةِ فِيهَا يَجِبُ الْقِصَاصُ ، وَفِيمَا لَا يُمْكِنُ يَجِبُ الْأَرْشُ ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْجِرَاحَاتُ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ قَطْعِ الطَّرِيقِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ سُقُوطَ اعْتِبَارِ حُكْمِ الْجِرَاحَاتِ بِوُجُودِ إقَامَةِ الْحَدِّ ، فَإِذَا زَالَ ذَلِكَ ظَهَرَ حُكْمُ الْجِرَاحَاتِ ، كَمَا إذَا اسْتَهْلَكَ السَّارِقُ الْمَالَ سَقَطَ حُكْمُ التَّضْمِينِ لِوُجُودِ إقَامَةِ الْقَطْعِ ، فَإِذَا سَقَطَ الْقَطْعُ ظَهَرَ حُكْمُ التَّضْمِينِ
( قَالَ ) وَإِذَا قَطَعُوا الطَّرِيقَ وَأَخَافُوا السَّبِيلَ ، وَلَمْ يَقْتُلُوا أَحَدًا ، وَلَمْ يَأْخُذُوا مَالًا حُبِسُوا حَتَّى يَتُوبُوا بَعْدَ مَا يُعَزَّرُونَ ، وَفِي الْكِتَابِ يَقُولُ عُوقِبُوا فَكَأَنَّهُ كَرِهَ إطْلَاقَ لَفْظِ التَّعْزِيرِ عَلَى مَا يُقَامُ عَلَيْهِمْ قَبْلَ التَّوْبَةِ لِمَا فِي التَّعْزِيرِ مِنْ مَعْنَى التَّطْهِيرِ ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْله تَعَالَى { أَوْ يُنْفَوْا مِنْ الْأَرْضِ } يَعْنِي يُحْبَسُونَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ ، وَهَذَا أَوْلَى مِمَّا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْمُرَادَ الطَّلَبُ لِيَهْرُبُوا مِنْ كُلِّ مَوْضِعٍ ؛ لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ بِالْحَبْسِ مَشْرُوعٌ فَالْأَخْذُ بِمَا يُوجَدُ لَهُ نَظِيرٌ فِي الشَّرْعِ أَوْلَى مِنْ الْأَخْذِ بِمَا لَا نَظِيرَ لَهُ ، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ يُطَالَبُونَ بِمُوجَبِ الْجِرَاحَاتِ الَّتِي كَانَتْ مِنْهُمْ مِنْ قِصَاصٍ أَوْ أَرْشٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ وَسُقُوطُ اعْتِبَارِ حُكْمِ الْجِرَاحَاتِ لِوُجُودِ إقَامَةِ الْحَدِّ ، فَإِذَا انْعَدَمَ ذَلِكَ وَجَبَ اعْتِبَارُ الْجِرَاحَاتِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ فَإِنْ تَابُوا ، وَفِيهِمْ عَبْدٌ قَدْ قَطَعَ يَدَ حُرٍّ دَفَعَهُ مَوْلَاهُ أَوْ فَدَاهُ ، كَمَا لَوْ فَعَلَهُ فِي غَيْرِ قَطْعِ الطَّرِيقِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ بَيْنَ الْعَبِيدِ وَالْأَحْرَارِ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ فَيَبْقَى حُكْمُ الدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ فَإِنْ كَانَتْ فِيهِمْ امْرَأَةٌ فَعَلَتْ ذَلِكَ فَعَلَيْهَا دِيَةُ الْيَدِ فِي مَالِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا قِصَاصَ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فِي الْأَطْرَافِ فَعَلَيْهَا الدِّيَةُ وَالْفِعْلُ مِنْهَا عَمْدًا لَا تَعْقِلُهُ الْعَاقِلَةُ فَكَانَ فِي مَالِهَا
( قَالَ ) وَإِذَا أَخَذَهُمْ الْإِمَامُ قَبْلَ أَنْ يَتُوبُوا ، وَقَدْ أَصَابُوا الْمَالَ فَإِنْ كَانَ يُصِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ الْمَالِ الْمُصَابِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا فَعَلَيْهِمْ الْحَدُّ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : الشَّرْطُ أَنْ يَكُونَ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِشْرِينَ دِرْهَمًا فَصَاعِدًا ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْعَشَرَةِ فِي مَوْضِعٍ يَكُونُ الْمُسْتَحَقُّ بِأَخْذِ الْمَالِ قَطْعَ عُضْوٍ وَاحِدٍ وَهَا هُنَا الْمُسْتَحَقُّ قَطْعُ عُضْوَيْنِ ، وَلَا يُقْطَعُ عُضْوَانِ فِي السَّرِقَةِ إلَّا بِاعْتِبَارِ عِشْرِينَ دِرْهَمًا ، وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا حَدٌّ هُوَ جَزَاءٌ عَلَى أَخْذِ الْمَالِ فَيَسْتَدْعِي مَالًا خَطِيرًا ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْعَشَرَةَ مَالٌ خَطِيرٌ فَيَسْتَحِقُّ بِهِ إقَامَةُ الْحَدِّ ، كَمَا يَسْتَحِقُّ بِهِ الْقَطْعُ بِالسَّرِقَةِ ثُمَّ تَغَلُّظُ الْحَدِّ هَاهُنَا بِاعْتِبَارِ تَغَلُّظِ فِعْلِهِمْ بِاعْتِبَارِ الْمُحَارَبَةِ وَقَطْعِ الطَّرِيقِ لَا بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ الْمَالِ الْمَأْخُوذِ فَفِي النِّصَابِ هَذَا الْحَدُّ وَحَدُّ السَّرِقَةِ سَوَاءٌ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُصِيبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمْ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَكَذَا مَذْهَبُهُ فِي الصُّغْرَى ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ فِي نَفْسِهِ نِصَابًا كَامِلًا سَوَاءٌ أَخَذَهُ الْوَاحِدُ أَوْ الْجَمَاعَةُ .
وَلَكِنَّا نَقُولُ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِاعْتِبَارِ مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْمَالِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ خَطِيرًا فِي نَفْسِهِ وَمَا دُونَ النِّصَابِ فِي نَفْسِهِ تَافِهًا ثُمَّ يَضْمَنُونَ الْمَالَ إذَا دُرِئَ الْحَدُّ عَنْهُمْ وَالْأَمْرُ فِي الْقِصَاصِ فِي النَّفْسِ وَغَيْرِهَا إلَى الْأَوْلِيَاءِ إنْ شَاءُوا اسْتَوْفَوْا ، وَإِنْ شَاءُوا عَفَوْا ، وَقَدْ طَعَنَ عِيسَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ يَقْتُلُهُمْ الْإِمَامُ حَدًّا ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ قَتَلُوا ، وَلَمْ يَأْخُذُوا شَيْئًا مِنْ الْمَالِ قَتَلَهُمْ الْإِمَامُ حَدًّا لَا قِصَاصًا وَالرِّدْءُ
وَالْمُبَاشِرُ فِيهِ سَوَاءٌ ، فَكَذَلِكَ إذَا أَخَذُوا مَعَ الْقَتْلِ مَالًا يَبْلُغُ نَصِيبُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نِصَابًا إمَّا ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ النِّصَابِ لَمَّا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حُكْمٌ فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ أَوْ ؛ لِأَنَّهُ تَتَغَلَّظُ جِنَايَتُهُمْ بِأَخْذِ شَيْءٍ مِنْ الْمَالِ وَمَا يُغَلِّظُ الْجِنَايَةَ لَا يَكُونُ مُسْقِطًا لِلْحَدِّ ، وَلَكِنَّ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ أَخْذَ الْمَالِ ، وَإِنَّمَا يُقْدِمُونَ عَلَى الْقَتْلِ لِيَتَمَكَّنُوا مِنْ أَخْذِ الْمَالِ ، فَإِذَا لَمْ يَأْخُذُوا الْمَالَ عَرَفْنَا أَنْ مَقْصُودَهُمْ لَمْ يَكُنْ الْمَالَ ، وَإِنَّمَا كَانَ الْقَتْلَ فَأَوْجَبْنَا عَلَيْهِمْ الْحَدَّ قَتْلًا بِالْقَتْلِ الْمَوْجُودِ مِنْهُمْ ، وَإِنْ أَخَذُوا الْمَالَ عَرَفْنَا أَنَّ مَقْصُودَهُمْ كَانَ أَخْذَ الْمَالِ وَأَنَّ إقْدَامَهُمْ عَلَى الْقَتْلِ كَانَ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ أَخْذِ الْمَالِ فَبِاعْتِبَارِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ لَا يُمْكِنُ إيجَابُ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ إذَا كَانَ مَا يُصِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا دُونَ النِّصَابِ ، فَلِهَذَا قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُدْرَأُ الْحَدُّ عَنْهُمْ وَيَبْقَى حُكْمُ الْقِصَاصِ
قَالَ ) وَإِذَا قَطَعُوا الطَّرِيقَ فِي الْمِصْرِ أَوْ بَيْنَ الْكُوفَةِ وَالْحِيرَةِ أَوْ مَا بَيْنَ قَرْيَتَيْنِ عَلَى قَوْمٍ مُسَافِرِينَ لَمْ يَلْزَمْهُمْ حَدُّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَأُخِذُوا بِرَدِّ الْمَالِ وَأُدِيرُوا وَحُبِسُوا وَالْأَمْرُ فِي قَتْلِ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ أَوْ جُرِحَ إلَى الْأَوْلِيَاءِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُقَامُ عَلَيْهِمْ حَدُّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَقَرَّرَ ، وَهُوَ أَخْذُ الْمَالِ وَالْقَتْلِ عَلَى وَجْهِ الْمُحَارَبَةِ وَالْمُجَاهَرَةِ وَجَرِيمَتُهُمْ بِمُبَاشَرَةِ ذَلِكَ فِي الْمِصْرِ أَغْلَظُ مِنْ جَرِيمَتِهِمْ بِمُبَاشَرَةِ ذَلِكَ فِي الْمَفَازَةِ ؛ لِأَنَّ تَغَلُّظَ الْجَرِيمَةِ بِاعْتِبَارِ الْمُجَاهَرَةِ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى مَالَهُمْ مِنْ الْمَنَعَةِ ، وَهَذَا فِي الْمِصْرِ أَظْهَرُ وَاعْتُبِرَ هَذَا الْحَدُّ بِحَدِّ السَّرِقَةِ ، فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ هُنَاكَ بَيْنَ مُبَاشَرَةِ السَّبَبِ فِي الْمِصْرِ ، وَفِي الْمَفَازَةِ فَهَذَا مِثْلُهُ .
( وَحُجَّتُنَا ) فِيهِ أَنْ سَبَبَ وُجُوبِ الْحَدِّ مَا يُضَافُ إلَيْهِ ، وَهُوَ قَطْعُ الطَّرِيقِ ، وَإِنَّمَا يَنْقَطِعُ بِفِعْلِهِمْ ذَلِكَ فِي الْمَفَازَةِ لَا فِي جَوْفِ الْمِصْرِ ، وَلَا فِيمَا بَيْنَ الْقُرَى فَالنَّاسُ لَا يَمْتَنِعُونَ مِنْ التَّطَرُّقِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ بَعْدَ فِعْلِهِمْ وَبِدُونِ السَّبَبِ لَا يَثْبُتُ الْحُكْمُ ، وَلِأَنَّ السَّبَبَ مُحَارَبَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَذَلِكَ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمَفَازَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ فِي الْمَفَازَةِ لَا يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ عَادَةً ، وَإِنَّمَا يَسِيرُ فِي حِفْظِ اللَّهِ تَعَالَى مُعْتَمِدًا عَلَى ذَلِكَ فَمَنْ يَتَعَرَّضُ لَهُ يَكُونُ مُحَارِبًا لِلَّهِ تَعَالَى ، فَأَمَّا فِي الْمِصْرِ ، وَفِيمَا بَيْنَ الْقُرَى يَلْحَقُهُ الْغَوْثُ مِنْ السُّلْطَانِ وَالنَّاسِ عَادَةً ، وَهُوَ يَعْتَمِدُ ذَلِكَ بِالتَّطَرُّقِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ فَيَتَمَكَّنُ بِاعْتِبَارِهِ مَعْنَى النُّقْصَانِ فِي فِعْلِ مَنْ يَتَعَرَّضُ لَهُ مِنْ حَيْثُ مُحَارَبَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَلَا يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمُخْتَلِسِ مِنْ السَّارِقِ فِي أَنَّهُ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ السَّرِقَةِ ؛ لِأَنَّهُ بِقَدْرِ مَا جَاهَرَ يَتَمَكَّنُ النُّقْصَانُ فِي فِعْلِ السَّرِقَةِ .
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَجَابَ بِذَلِكَ بِنَاءً عَلَى عَادَةِ أَهْلِ زَمَانِهِ ، فَإِنَّ النَّاسَ فِي الْمِصْرِ ، وَفِيمَا بَيْنَ الْقُرَى كَانُوا يَحْمِلُونَ السِّلَاحَ مَعَ أَنْفُسِهِمْ فَثَبَتَ مَعَ ذَلِكَ تَمَكُّنُ دَفْعِ الْقَاصِدِ مِنْ قَطْعِ الطَّرِيقِ وَأَخْذِ الْمَالِ وَالْحُكْمُ لَا يَنْبَنِي عَلَى نَادِرٍ ، وَكَذَلِكَ فِيمَا بَيْنَ الْحِيرَةِ وَالْكُوفَةِ كَانَ يَنْدُرُ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ الْعُمْرَانِ وَاتِّصَالِ عُمْرَانِ أَحَدِ الْمَوْضِعَيْنِ بِالْمَوْضِعِ الْآخَرِ ، فَأَمَّا الْيَوْمَ ، فَقَدْ تَرَكَ النَّاسُ هَذِهِ الْعَادَةَ وَهِيَ حَمْلُ السِّلَاحِ فِي الْأَمْصَارِ فَيَتَحَقَّقُ قَطْعُ الطَّرِيقِ فِي الْأَمْصَارِ ، وَفِيمَا بَيْنَ الْقُرَى مُوجِبًا لِلْحَدِّ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : إنْ قَصَدَهُ فِي جَوْفِ الْمِصْرِ أَوْ بَيْنَ الْقُرَى بِالسِّلَاحِ يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ ، وَإِنْ قَصَدَهُ بِالْحَجَرِ وَالْخَشَبِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ بِالنَّهَارِ لَا يُقَامُ عَلَيْهِ حَدُّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ ، وَإِنْ كَانَ بِاللَّيْلِ يُقَامُ عَلَيْهِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ السِّلَاحَ لَا يَلْبَثُ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَأْتِي عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَلْحَقَهُ الْغَوْثُ ، فَأَمَّا الْخَشَبُ وَالْحَجَرُ لَا يَكُونُ مِثْلَ السِّلَاحِ فِي ذَلِكَ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْغَوْثَ يَلْحَقُ بِالنَّهَارِ فِي الْمِصْرِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ عَلَيْهِ ذَلِكَ ، فَأَمَّا فِي اللَّيْلِ الْغَوْثُ يُبْطِئُ فَإِلَى أَنْ يَنْتَبِهَ النَّاسُ وَيَخْرُجُوا قَدْ أَتَى عَلَيْهِ ، فَلِهَذَا ثَبَتَ فِي حَقِّهِ حُكْمُ قَطْعِ الطَّرِيقِ
( قَالَ ) وَإِنْ بَيَّتُوا عَلَى مُسَافِرِينَ فِي مَنَازِلِهِمْ فِي غَيْرِ مِصْرٍ ، وَلَا فِي مَدِينَةٍ فَكَابَرُوهُمْ وَأَخَذُوا الْمَالَ فَالْحُكْمُ فِيهِمْ كَالْحُكْمِ فِي الَّذِينَ قَطَعُوا الطَّرِيقَ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَحَقَّقَ مِنْهُمْ ، وَهُوَ الْمُحَارَبَةُ وَقَطْعُ الطَّرِيقِ إذْ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَفْعَلُوا فِي مَشْيِهِمْ أَوْ فِي حَالِ نُزُولِهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ فِي حِفْظِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْحَالَيْنِ ، فَإِنَّمَا يَتَمَكَّنُ هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ لِمَنَعَتِهِمْ وَشَوْكَتِهِمْ فِي الْحَالَيْنِ فَإِنْ نَزَلَ الْمُسَافِرُونَ مَنْزِلًا فِي قَرْيَةٍ فَفَعَلُوا ذَلِكَ بِهِمْ لَمْ يَلْزَمْهُمْ حَدُّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ نَزَلُوا الْقَرْيَةَ بِمَنْزِلَةِ أَهْلِ الْقَرْيَةِ فِي أَنَّ بَعْضَهُمْ يُغِيثُ الْبَعْضَ فَلَا يَتَحَقَّقُ قَطْعُ الطَّرِيقِ بِمَا فَعَلَ بِهِمْ ، وَكَذَلِكَ إنْ أَغَارَ بَعْضُ النَّازِلِينَ فِي الْقَرْيَةِ عَلَى الْبَعْضِ فَقَتَلُوا وَأَخَذُوا الْمَالَ فَالْحُكْمُ فِيهِمْ كَالْحُكْمِ فِي الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ فِي جَوْفِ الْمِصْرِ ، فَإِنْ نَزَلَ رَجُلٌ فِي بَيْتٍ أَوْ فِي فُسْطَاطٍ فَأَغْلَقَ عَلَيْهِ بَابَهُ وَضَمَّ إلَيْهِ مَتَاعَهُ فَجَاءَ رَجُلٌ وَسَرَقَ مِنْ فُسْطَاطِهِ أَوْ بَيْتِهِ شَيْئًا فَالْحُكْمُ فِيهِ مَا هُوَ الْحُكْمُ فِي السَّارِقِ فِي الْمِصْرِ
( قَالَ ) وَمَا قَتَلَ بِهِ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ مِنْ حَدِيدٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ عِصِيٍّ أَوْ سَوْطٍ فَهَذَا كُلُّهُ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا حُكْمٌ يَنْبَنِي عَلَى الْمُحَارَبَةِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ بِالْغَنِيمَةِ وَثُبُوتِ صِفَةِ الشَّهَادَةِ فَلَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الْقَتْلِ بِالسِّلَاحِ وَغَيْرِهِ فَهَذَا مِثْلُهُ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ فَإِنَّهُ يَعْتَمِدُ الْعَمْدِيَّةَ وَالْمُمَاثَلَةَ ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِالسِّلَاحِ وَغَيْرِهِ
( قَالَ ) وَإِذَا أَخَذَ قَاطِعُ الطَّرِيقِ وَيَدُهُ الْيُسْرَى شَلَّاءُ أَوْ مَقْطُوعَةٌ لَمْ يُقْطَعْ مِنْهُ شَيْءٌ وَقُتِلَ أَوْ صُلِبَ لِمَا بَيَّنَّا فِي السَّرِقَةِ الصُّغْرَى أَنَّهُ لَا يُسْتَوْفَى الْقَطْعُ عَلَى وَجْهٍ يُؤَدِّي إلَى تَفْوِيتِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ ، وَقَدْ طَعَنَ عِيسَى فِي هَذَا الْفَصْلِ وَقَالَ اعْتِبَارُ ذَلِكَ الْمَعْنَى فِي السَّرِقَةِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الِاسْتِهْلَاكِ الْحُكْمِيِّ أَوْ شُبْهَةِ الِاسْتِهْلَاكِ ، وَلَا مَعْنَى لِذَلِكَ هَاهُنَا فَإِنَّ إتْلَافَهُ حَقِيقَةً قَدْ صَارَ مُسْتَحَقًّا ؛ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ وَيُصْلَبُ بَعْدَ الْقَطْعِ فَكَيْفَ يُمْنَعُ اسْتِيفَاءُ الْقَطْعِ لِشَلَلٍ فِي يَدِهِ الْيُسْرَى ، وَلَكِنَّا نَقُولُ مَعَ هَذَا الْقَطْعِ جَزَاءُ أَخْذِ الْمَالِ فَلَا يُسْتَوْفَى عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ مُتْلِفًا لَهُ حُكْمًا ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ قَطْعُ عُضْوَيْنِ مِنْهُ مِنْ شِقٍّ وَاحِدٍ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْإِتْلَافِ الْحُكْمِيِّ ؟ وَإِنَّمَا يُشْرَعُ قَطْعُ الْيَدِ وَالرِّجْلِ مِنْ خِلَافٍ لِكَيْ لَا يُؤَدِّيَ إلَى الْإِتْلَافِ حُكْمًا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ إتْلَافَهُ مَرَّتَيْنِ ، فَإِذَا كَانَ تَفْوِيتُ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ إتْلَافًا ثُمَّ قَتَلَهُ كَانَ إتْلَافًا مَرَّتَيْنِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْيُمْنَى مِنْهُ مَقْطُوعَةً قُطِعَتْ الرِّجْلُ الْيُسْرَى وَقُتِلَ أَوْ صُلِبَ ، وَإِنْ كَانَ أَشَلَّ الْيُمْنَى قَطَعَهَا مَعَ الرِّجْلِ الْيُسْرَى ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي السَّرِقَةِ ، فَكَذَلِكَ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ
( قَالَ ) ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمَقْطُوعِ عَلَيْهِمْ الطَّرِيقُ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ الْقُطَّاعِ أَوْ شَرِيكٌ لَهُ مُفَاوِضٌ لَمْ يَلْزَمْهُمْ حُكْمُ الْقَطْعِ ؛ لِأَنَّهُ امْتَنَعَ وُجُوبُ الْقَطْعِ عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ لِلشُّبْهَةِ فَيَمْتَنِعُ وُجُوبُهُ عَلَى الْبَاقِينَ لِلشَّرِكَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي السَّرِقَةِ ، فَكَذَلِكَ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : تَأْوِيلُ الْمَسْأَلَةِ إذَا كَانَ فِي الْمَالِ الْمَأْخُوذِ لِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ شَرِكَةٌ لِلْجَمِيعِ وَلِلشَّرِيكِ الْمُفَاوِضِ ؛ لِأَنَّ مَالَ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ فِي حُكْمِ الْعُقُوبَةِ ، كَمَالِهِ فَشَرِكَتُهُ بِمَنْزِلَةِ شَرِكَةِ أَحَدِ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ فِي الْمَالِ الْمَأْخُوذِ ، فَأَمَّا إذَا أَخَذُوا مَعَ ذَلِكَ مَالًا كَثِيرًا لَا شَرِكَةَ فِيهِ لِذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْهُ يَلْزَمُهُمْ الْقِطَاعُ بِاعْتِبَارِ ذَلِكَ الْمَالِ ، كَمَا لَوْ سَرَقُوا مِنْ حِرْزِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْ أَحَدِهِمْ مَالًا وَمِنْ حِرْزِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ مَالًا بِخِلَافِ مَا إذَا سَرَقُوا مِنْ حِرْزِ ذِي الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْ أَحَدِهِمْ مَالَهُ وَمَالَ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ هُنَاكَ فِي الْحِرْزِ .
وَلَا مُعْتَبَرَ بِالْحِرْزِ فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ فَكُلُّ وَاحِدٍ حَافِظٌ لِمَالِهِ مُحْرِزٌ لَهُ وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْجَوَابَ فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ ؛ لِأَنَّ مَالَ جَمِيعِ الْقَافِلَةِ فِي حَقِّ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ ، فَإِنَّهُمْ قَصَدُوا أَخْذَ ذَلِكَ كُلِّهِ بِفِعْلٍ وَاحِدٍ ، فَإِذَا تَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ فِي بَعْضِ ذَلِكَ الْمَالِ فِي حَقِّهِمْ ، فَقَدْ تَمَكَّنَتْ الشُّبْهَةُ فِي جَمِيعِهِ بِخِلَافِ السَّرِقَةِ مِنْ حِرْزٍ ثُمَّ مِنْ حِرْزٍ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْفِعْلَيْنِ هُنَاكَ مُنْفَصِلٌ عَنْ الْآخَرِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا وَوِزَانُ هَذَا مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَوْ قَطَعُوا الطَّرِيقَ عَلَى قَوْمٍ فِيهِمْ ذُو الرَّحِمِ الْمَحْرَمِ مِنْ أَحَدِهِمْ ثُمَّ قَطَعُوا الطَّرِيقَ عَلَى قَوْمٍ أَجَانِبَ وَأَخَذُوا الْمَالَ ، وَهَذَا فِي حُكْمِ الْقَطْعِ دُونَ الْقَتْلِ
حَتَّى لَوْ قَتَلُوا أَحَدَهُمْ يُقْتَلُونَ ؛ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ كَالْأَجْنَبِيِّ فِي الْقَتْلِ
( قَالَ ) وَإِذَا شَهِدَ أَحَدُ الشَّاهِدَيْنِ عَلَيْهِمْ بِمُعَايَنَةِ قَطْعِ الطَّرِيقِ وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى إقْرَارِهِمْ بِالْقَطْعِ لَمْ تَجُزْ الشَّهَادَةُ لِاخْتِلَافِ الْمَشْهُودِ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ غَيْرُ الْقَوْلِ ، وَإِنْ قَالَ الشَّاهِدَانِ قَطَعَ الطَّرِيقَ عَلَيْنَا وَعَلَى أَصْحَابِنَا هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَأَخَذُوا الْمَالَ مِنَّا لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ لِأَنْفُسِهِمَا وَشَهَادَةُ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ دَعْوَى ، وَكَذَلِكَ إنْ شَهِدَا أَنَّهُ قَطَعَ الطَّرِيقَ عَلَى وَالِدِهِمَا أَوْ وَلَدِهِمَا لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ لِأَبِيهِمَا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ ، وَإِنْ كَانَ اسْتِيفَاؤُهُ إلَى الْإِمَامِ فَلَا بُدَّ مِنْ خُصُومَةِ صَاحِبِ الْمَالِ ، وَفِيمَا كَانَ الْخَصْمُ أَبَ الشَّاهِدِ أَوْ ابْنَ الشَّاهِدِ لَا شَهَادَةَ لَهُ ، وَلِأَنَّ شَهَادَتَهُ لِأَبِيهِ كَشَهَادَتِهِ لِنَفْسِهِ ، وَإِنْ شَهِدُوا أَنَّهُ قَطَعَ الطَّرِيقَ عَلَى رَجُلٍ مِنْ عَرْضِ النَّاسِ لَهُ وَلِيٌّ يُعْرَفُ أَوْ لَيْسَ لَهُ وَلِيٌّ يُعْرَفُ لَمْ يُقِمْ الْإِمَامُ عَلَيْهِمْ الْحَدَّ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ لِمَا بَيَّنَّا أَنْ السَّبَبَ لَا يَثْبُتُ بِالشَّهَادَةِ عِنْدَهُ إلَّا إذَا تَرَتَّبَتْ عَلَى خُصُومَةِ الْخَصْمِ
( قَالَ ) فَإِنْ قَطَعُوا الطَّرِيقَ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَلَى تُجَّارٍ مُسْتَأْمَنِينَ أَوْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فِي مَوْضِعٍ قَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ عَسْكَرُ أَهْلِ الْبَغْيِ ثُمَّ أُتِيَ بِهِمْ إلَى الْإِمَامِ لَمْ يُمْضِ عَلَيْهِمْ الْحَدَّ ؛ لِأَنَّهُمْ بَاشَرُوا السَّبَبَ حِينَ لَمْ يَكُونُوا تَحْتَ يَدِ الْإِمَامِ ، وَفِي مَوْضِعٍ لَا يَجْرِي فِيهِ حُكْمُهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ وُجُوبِ الْحَدِّ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لِانْعِدَامِ الْمُسْتَوْفِي ، فَإِنَّ اسْتِيفَاءَ ذَلِكَ إلَى الْإِمَامِ ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ إذَا كَانُوا فِي مَوْضِعٍ لَا تَصِلُ إلَيْهِمْ يَدُهُ
( قَالَ ) وَإِذَا رُفِعَ قَوْمٌ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ إلَى الْقَاضِي فَرَأَى تَضْمِينَهُمْ الْمَالَ وَسَلَّمَهُمْ إلَى أَوْلِيَاءِ الْقَوَدِ فَصَالِحُوهُمْ عَلَى الدِّيَاتِ ثُمَّ رُفِعُوا بَعْدَ زَمَانٍ إلَى قَاضٍ آخَرَ لَمْ يُقِمْ عَلَيْهِمْ الْحَدَّ إمَّا لِتَقَادُمِ الْعَهْدِ أَوْ لِانْعِدَامِ الْخَصْمِ ، وَقَدْ سَقَطَتْ خُصُومَتُهُمْ بِمَا وَصَلَ إلَيْهِمْ أَوْ لِقَضَاءِ الْأَوَّلِ فِيهِمْ بِمَا قَضَى ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَافِذٌ لِحُصُولِهِ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ ، وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ : يَتَقَرَّرُ الضَّمَانُ عَلَيْهِمْ وَوُجُوبُ الْقَوَدِ بِالْقَتْلِ ، وَإِنْ كَانَ مُتَحَتِّمًا وَقَضَاءُ الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهَدَاتِ نَافِذٌ
( قَالَ ) وَإِذَا قَضَى الْقَاضِي عَلَى قُطَّاعِ الطَّرِيقِ بِقَطْعِ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ وَالْقَتْلِ وَحُبِسُوا لِذَلِكَ فَذَهَبَ رَجُلٌ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ فَقَتَلَ مِنْهُمْ رَجُلًا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ أَحَلَّ دَمَهُمْ حِينَ قَضَى عَلَيْهِمْ بِالْقَتْلِ ، وَمَنْ قَتَلَ حَلَالَ الدَّمِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ كَمَنْ قَتَلَ مُرْتَدًّا أَوْ مَقْضِيًّا عَلَيْهِ بِالرَّجْمِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَطَعَ يَدَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَقَطَتْ حُرْمَةُ نَفْسِهِ اقْتَضَى ذَلِكَ سُقُوطَ حُرْمَةِ أَطْرَافِهِ ضَرُورَةً وَيَتِمُّ بَقِيَّةُ الْحَدِّ ؛ لِأَنَّ مَا فَعَلَهُ ذَلِكَ الرَّجُلُ مِنْ إقَامَةِ الْحَدِّ ، وَإِنْ افْتَاتَ فِيهِ عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ فَفِعْلُهُ فِي ذَلِكَ كَفِعْلِ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّهُ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْإِمَامُ بِمَنْزِلَةِ جَمَاعَةٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي اسْتِيفَاءِ هَذَا الْحَدِّ ، وَإِنْ أَخْطَأَ الْإِمَامُ حِينَ قُدِّمَ إلَيْهِ فَقَطَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ دَمَهُ حَلَالٌ ، فَإِنَّهُ يَقْتُلُهُ بَعْدَ الْقَطْعِ فَلَا عِصْمَةَ فِي طَرَفِهِ ، وَلِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ فِيمَا صَنَعَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الْحَدَّادِ
( قَالَ ) ، وَإِذَا أَقَرَّ الْقَاطِعُ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ مَرَّةً وَاحِدَةً أُخِذَ بِالْحَدِّ إلَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، كَمَا فِي السَّرِقَةِ ، وَإِنْ أَنْكَرَهُ بَعْدَ ذَلِكَ دُرِئَ عَنْهُ الْحَدُّ لِرُجُوعِهِ عَنْ الْإِقْرَارِ وَأُخِذَ بِالْمَالِ وَالْقَوَدِ ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ عَنْ الْإِقْرَارِ فِيمَا هُوَ حَقُّ الْعَبْدِ بَاطِلٌ
( قَالَ ) وَإِذَا قَطَعَ الطَّرِيقَ وَأَخَذَ الْمَالَ ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ وَأَقَامَ فِي أَهْلِهِ زَمَانًا لَمْ يُقِمْ الْإِمَامُ عَلَيْهِ الْحَدَّ اسْتِحْسَانًا ، وَفِي الْقِيَاسِ يُقَامُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْحَدَّ لَزِمَهُ بِارْتِكَابِ سَبَبِهِ ، وَلَكِنْ اُسْتُحْسِنَ لِتَوْبَتِهِ وَتَحَوُّلِهِ عَنْ تِلْكَ الْحَالَةِ قَبْلِ أَنْ يُقْدَرَ عَلَيْهِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ زَيْدٍ قَطَعَ الطَّرِيقَ ثُمَّ تَرَكَ ذَلِكَ وَتَابَ فَكَتَبَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إلَى عَامِلِهِ بِالْبَصْرَةِ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ زَيْدٍ كَانَ مِنْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ ، وَقَدْ تَرَكَ وَتَحَوَّلَ عَنْهُ فَلَا تَعْرِضْ لَهُ إلَّا بِخَيْرٍ
( قَالَ ) وَإِذَا قَطَعُوا الطَّرِيقَ عَلَى قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ مُسْتَأْمَنِينَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يَلْزَمْهُمْ الْحَدُّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ السَّبَبَ الْمُبِيحَ فِي مَالِ الْمُسْتَأْمَنِ قَائِمٌ ، وَهُوَ كَوْنُ مَالِكِهِ حَرْبِيًّا ، وَإِنْ تَأَخَّرَ ذَلِكَ إلَى رُجُوعِهِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ، وَلَكِنَّهُمْ يَضْمَنُونَ الْمَالَ وَدِيَةَ الْقَتْلَى لِبَقَاءِ الشُّبْهَةِ فِي دَمِ الْمُسْتَأْمَنِ بِكَوْنِهِ مُتَمَكِّنًا مِنْ الرُّجُوعِ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ، وَهَذَا مُسْقِطٌ لِلْعُقُوبَةِ ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ وُجُوبِ الضَّمَانِ الَّذِي يَثْبُتُ مَعَ الشُّبْهَةِ لِقِيَامِ الْعِصْمَةِ فِي الْحَالِ ، وَلَكِنْ يُوجَعُونَ عُقُوبَةً لِتَخْوِيفِهِمْ النَّاسَ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ ، كَمَا إذَا لَمْ يُصِيبُوا مَالًا ، وَلَا نَفْسًا
( قَالَ ) وَإِذَا قَطَعُوا الطَّرِيقَ عَلَى قَافِلَةٍ عَظِيمَةٍ فِيهَا مُسْلِمُونَ وَمُسْتَأْمَنُونَ أُقِيمَ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَتْلُ وَأَخْذُ الْمَالِ وَقَعَ عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ خَاصَّةً فَحِينَئِذٍ لَا يَجِبُ الْحَدُّ ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ غَيْرُهُمْ ، فَأَمَّا إذَا وَقَعَ الْقَتْلُ وَأَخَذَ الْمَالِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلُ الْحَرْبِ يُقَامُ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُ الْحَرْبِ مَعَهُمْ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ فِي الْقَافِلَةِ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْ أَحَدِهِمْ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَالَ ذِي الرَّحِمِ فِي حَقِّهِ فِي حُكْمِ الْحَدِّ كَمَالِهِ فَيُمْكِنُ ذَلِكَ شُبْهَةً فِي فِعْلِهِمْ ، فَأَمَّا مَالُ الْمُسْتَأْمَنِينَ لَيْسَ كَمَالِهِ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَكُنْ أَخْذُ مَالِ الْمُسْتَأْمَنِينَ مُوجِبًا لِلْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ لِبَقَاءِ شُبْهَةِ الْإِبَاحَةِ فِي مَالِهِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ فَيُقَامُ عَلَيْهِمْ الْحَدُّ بِاعْتِبَارِ نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ وَمَالِهِمْ وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلْمُسْتَأْمَنَيْنِ بِشَيْءٍ
( قَالَ ) وَإِذَا أَحْرَمَ قَاطِعُ الطَّرِيقِ حِينَ يَأْتِي بِهِ الْإِمَامُ لَمْ يُدْرَأْ عَنْهُ الْحَدُّ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ لَوْ اقْتَرَنَ بِالسَّبَبِ لَمْ يَمْنَعْ وُجُوبَ الْحَدِّ عَلَيْهِ ، فَكَذَلِكَ إذَا اعْتَرَضَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ ذِمِّيًّا فَأَسْلَمَ ، وَهَذَا الْحَدُّ مُعْتَبَرٌ بِسَائِرِ الْحُدُودِ حُكْمًا ، وَكَمَا أَنَّ إحْرَامَهُ وَإِسْلَامَهُ لَا يَمْنَعُ إقَامَةَ سَائِرِ الْحُدُودِ ، فَكَذَلِكَ هَذَا الْحَدُّ
( قَالَ ) وَإِذَا قَتَلَهُ رَجُلٌ فِي حَبْسِ الْإِمَامِ قَبْلَ أَنْ يَثْبُتَ عَلَيْهِ شَيْءٌ ثُمَّ قَامَتْ الْبَيِّنَةُ بِمَا صَنَعَ فَعَلَى قَاتِلِهِ الْقَوَدُ ؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ وَالتَّقَوُّمَ لَا يَرْتَفِعُ بِمُجَرَّدِ التُّهْمَةِ مَا لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي بِحِلِّ دَمِهِ ، فَإِنَّمَا قَتَلَ نَفْسًا مَحْقُونَةً فَعَلَيْهِ الْقَوَدُ ثُمَّ الْقَاضِي لَا يَقْضِي عَلَيْهِ بِحِلِّ دَمِهِ بَعْدَ مَا قَتَلَ لِفَوَاتِ الْمَحَلِّ فَوُجُودِ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ كَعَدَمِهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَاتِلُ هُوَ وَلِيُّ الْمَقْتُولِ الَّذِي قَتَلَهُ هَذَا فِي قَطْعِ الطَّرِيقِ فَحِينَئِذٍ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقَّ نَفْسِهِ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ السَّبَبِ الْمُوجِبَ لِلْقَوَدِ قَدْ تَقَرَّرَ ، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ ظُهُورُهُ إذَا ظَهَرَ اسْتِحْقَاقُ نَفْسِهِ حَدًّا ، وَلَمْ يَظْهَرْ ذَلِكَ قَبْلَ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ فَكَانَ الْوَلِيُّ مُسْتَوْفِيًا حَقَّهُ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ السِّيَرِ ( قَالَ ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اعْلَمْ أَنَّ السِّيَرَ جَمْعُ سِيرَةٍ وَبِهِ سُمِّيَ هَذَا الْكِتَابُ لِأَنَّهُ بَيَّنَ فِيهِ سِيرَةَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ وَمَعَ أَهْلِ الْعَهْدِ مِنْهُمْ مِنْ الْمُسْتَأْمَنِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ وَمَعَ الْمُرْتَدِّينَ الَّذِينَ هُمْ أَخْبَثُ الْكُفَّارِ بِالْإِنْكَارِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ وَمَعَ أَهْلِ الْبَغْيِ الَّذِينَ حَالُهُمْ دُونَ حَالِ الْمُشْرِكِينَ وَإِنْ كَانُوا جَاهِلِينَ وَفِي التَّأْوِيلِ مُبْطِلِينَ فَأَمَّا بَيَانُ الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ فَنَقُولُ الْوَاجِبُ دُعَاؤُهُمْ إلَى الدِّينِ وَقِتَالُ الْمُمْتَنِعِينَ مِنْهُمْ مِنْ الْإِجَابَةِ لِأَنَّ صِفَةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ وَبِهَا كَانُوا خَيْرَ الْأُمَمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } الْآيَةُ وَرَأْسُ الْمَعْرُوفِ الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ تَعَالَى فَعَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَكُونَ آمِرًا بِهِ دَاعِيًا إلَيْهِ وَأَصْلُ الْمُنْكَرِ الشِّرْكُ فَهُوَ أَعْظَمُ مَا يَكُونُ مِنْ الْجَهْلِ وَالْعِنَادِ لِمَا فِيهِ إنْكَارِ الْحَقِّ مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلٍ فَعَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يُنْهِيَ عَنْهُ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُورًا فِي الِابْتِدَاءِ بِالصَّفْحِ وَالْإِعْرَاضِ عَنْ الْمُشْرِكِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ } وَقَالَ تَعَالَى { وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ } ثُمَّ أَمَرَ بِالدُّعَاءِ إلَى الدِّينِ بِالْوَعْظِ وَالْمُجَادَلَةِ بِالْأَحْسَنِ فَقَالَ تَعَالَى { اُدْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } ثُمَّ أُمِرَ بِالْقِتَالِ إذَا كَانَتْ الْبِدَايَةُ مِنْهُمْ فَقَالَ تَعَالَى { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ
بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا } أَيْ أُذِنَ لَهُمْ فِي الدَّفْعِ وَقَالَ تَعَالَى { فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى { وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلَمِ فَاجْنَحْ لَهَا } ثُمَّ أَمَرَ بِالْبِدَايَةِ بِالْقِتَالِ فَقَالَ تَعَالَى { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ } وَقَالَ تَعَالَى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } .
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِذَا قَالُوهَا فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ } فَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْجِهَادِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ فَرْضٌ قَائِمٌ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْجِهَادُ مَاضٍ مُنْذُ بَعَثَنِي اللَّهُ تَعَالَى إلَى أَنْ يُقَاتِلَ آخِرُ عِصَابَةٍ مِنْ أُمَّتِي الدَّجَّالَ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بُعِثْت بِالسَّيْفِ بَيْنَ يَدْيِ السَّاعَةِ وَجُعِلَ رِزْقِي تَحْتَ ظِلِّ رُمْحِي وَالذُّلُّ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَنِي وَمَنْ تَشَبَّهَ بِقَوْمٍ فَهُوَ مِنْهُمْ } وَتَفْسِيرُهُ مَنْقُولٌ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَرْبَعَةِ سُيُوفٍ سَيْفٌ قَاتَلَ بِهِ بِنَفْسِهِ عَبَدَةَ الْأَوْثَانِ وَسَيْفٌ قَاتَلَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَنْهُ أَهْلَ الرِّدَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } وَسَيْفٌ قَاتَلَ بِهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الْمَجُوسَ وَأَهْلَ الْكِتَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ } الْآيَةَ وَسَيْفٌ قَاتَلَ بِهِ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ الْمَارِقِينَ وَالنَّاكِثِينَ وَالْقَاسِطِينَ وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْهُ قَالَ { أُمِرْتُ بِقِتَالِ الْمَارِقِينَ وَالنَّاكِثِينَ وَالْقَاسِطِينَ } قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ } ثُمَّ فَرِيضَةُ الْجِهَادِ عَلَى
نَوْعَيْنِ : أَحَدُهُمَا عَيْنٌ عَلَى كُلِّ مَنْ يَقْوَى عَلَيْهِ بِقَدْرِ طَاقَتِهِ وَهُوَ مَا إذَا كَانَ النَّفِيرُ عَامًّا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا } وَقَالَ تَعَالَى { مَا لَكُمْ إذَا قِيلَ لَكُمْ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إلَى الْأَرْضِ } إلَى قَوْلِهِ { يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا } وَنَوْعٌ هُوَ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ وَهُوَ كَسْرُ شَوْكَةِ الْمُشْرِكِينَ وَإِعْزَازُ الدِّين لِأَنَّهُ لَوْ جُعِلَ فَرْضًا فِي كُلِّ وَقْتٍ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ عَادَ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ .
وَالْمَقْصُودُ أَنْ يَأْمَنَ الْمُسْلِمُونَ وَيَتَمَكَّنُوا مِنْ الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ فَإِذَا اشْتَغَلَ الْكُلُّ بِالْجِهَادِ لَمْ يَتَفَرَّغُوا لِلْقِيَامِ بِمَصَالِحِ دُنْيَاهُمْ فَلِذَلِكَ قُلْنَا إذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ وَقَدْ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَارَةً يَخْرُجُ وَتَارَةً يَبْعَثُ غَيْرَهُ حَتَّى قَالَ وَدِدْتُ أَنْ لَا تَخْرُجَ سَرِيَّةٌ أَوْ جَيْشٌ إلَّا وَأَنَا مَعَهُمْ وَلَكِنْ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ وَلَا تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ بِالتَّخَلُّفِ عَنِّي وَلَوَدِدْتُ أَنْ أُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى أُقْتَلَ ثُمَّ أَحْيَا ثُمَّ أُقْتَلُ } فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجِهَادَ وَصِفَةَ الشَّهَادَةِ فِي الْفَضِيلَةِ بِأَعْلَى النِّهَايَةِ حَتَّى تَمَنَّى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ دَرَجَةِ الرِّسَالَةِ .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : الْمُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَالصَّائِمِ الْقَائِمِ الرَّاكِعِ السَّاجِدِ الشَّاهِدِ } وَفِي حَدِيثِ الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : غَدْوَةٌ أَوْ رَوْحَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا } وَالْآثَارُ فِي فَضِيلَةِ الْجِهَادِ كَثِيرَةٌ " وَقَدْ سَمَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَنَامَ الدِّينِ " وَعَلَى إمَامِ الْمُسْلِمِينَ فِي كُلِّ وَقْتٍ أَنْ يَبْذُلَ مَجْهُودَهُ فِي الْخُرُوجِ بِنَفْسِهِ أَوْ يَبْعَثَ الْجُيُوشَ وَالسَّرَايَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ يَثِقُ بِجَمِيلِ وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى فِي نُصْرَتِهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ } فَإِذَا بَعَثَ جَيْشًا يَنْبَغِي أَنْ يُؤَمِّرَ عَلَيْهِمْ أَمِيرًا هَكَذَا كَانَ يَفْعَلُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَنَّ بِهِ يَجْتَمِعُ كَلَامُهُمْ وَتَتَآلَفُ قُلُوبُهُمْ وَبِذَلِكَ يُنْصَرُونَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } وَإِنَّمَا يُؤَمِّرُ عَلَيْهِمْ مَنْ يَكُونُ صَالِحًا لِذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ حَسَنَ التَّدْبِيرِ فِي أَمْرِ الْحَرْبِ وَرِعًا مُشْفِقًا عَلَيْهِمْ سَخِيًّا شُجَاعًا وَيُحْكَى عَنْ نَصْرِ بْنِ سَيَّارٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : اجْتَمَعَ عُظَمَاءُ الْعَجَمِ وَغَيْرِهِمْ عَلَى أَنَّ قَائِدَ الْجَيْشِ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهِ عَشْرُ خِصَالٍ مِنْ خِصَالِ الْبَهَائِمِ شَجَاعَةٌ كَشَجَاعَةِ الدِّيكِ وَتَحَنُّنٌ كَتَحَنُّنِ الدَّجَاجَةِ وَقَلْبٌ كَقَلْبِ الْأَسَدِ وَرَوَغَانٌ كَرَوَغَانِ الثَّعْلَبِ أَيْ صَاحِبُ مَكْرٍ وَحِيلَةٍ وَغَارَةٌ كَغَارَةِ الذِّئْبِ وَحَذَرٌ كَحَذَرِ الْغُرَابِ وَحِرْصٌ كَحِرْصِ الْكُرْكِيِّ وَصَبْرٌ عَلَى الْجِرَاحِ كَالْكَلْبِ وَحَمْلَةٌ كَالْجَبْهَةِ وَسِمَنٌ كَمَا يَكُونُ لِدَابَّةٍ بِخُرَاسَانَ لَا تَهْزِلُ بِحَالٍ وَإِذَا أَمَّرَ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُوصِيَهُ بِهِمْ كَمَا بَدَأَ الْكِتَابُ بِبَيَانِهِ .
وَرَوَاهُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا بَعَثَ جَيْشًا أَوْ سَرِيَّةً أَوْصَى صَاحِبَهُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ } فَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْجَيْشِ وَالسَّرِيَّةِ فَالسَّرِيَّةُ عَدَدٌ قَلِيلٌ
يَسِيرُونَ بِاللَّيْلِ وَيَكْمُنُونَ بِالنَّهَارِ وَالْجَيْشُ هُوَ الْجَمْعُ الْعَظِيمُ الَّذِي يَجِيشُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : خَيْرُ الْأَصْحَابِ أَرْبَعَةٌ وَخَيْرُ السَّرَايَا أَرْبَعُمِائَةٍ وَخَيْرُ الْجُيُوشِ أَرْبَعَةُ آلَافٍ وَلَنْ يُغْلَبَ اثْنَا عَشَر أَلْفًا عَنْ قِلَّةٍ إذَا كَانَتْ كَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةً } وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَخُصَّ صَاحِبَ الْجَيْشِ وَالسَّرِيَّةِ بِالْوَصِيَّةِ لِأَنَّهُ يَجْعَلُهُمْ تَحْتَ أَمْرِهِ وَوِلَايَتِهِ فَيُوصِيهِ بِهِمْ وَفِي تَخْصِيصِهِ بِالْوَصِيَّةِ بَيَانٌ أَنَّ عَلَيْهِمْ طَاعَتَهُ فَلَا تَظْهَرُ فَائِدَةُ الْإِمَارَةِ إلَّا بِذَلِكَ وَقَدْ أَوْصَى أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَزِيدَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ حِينَ وَجَّهَهُ إلَى الشَّامِ فِي حَدِيثٍ طَوِيلٍ ذَكَرَهُ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ وَإِنَّمَا يُوصِيهِ بِتَقْوَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ بِالتَّقْوَى يَنَالُ النُّصْرَةَ وَالْمَدَدَ مِنْ السَّمَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { بَلَى إنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ } وَبِالتَّقْوَى يَجْتَمِعُ لِلْمَرْءِ مَصَالِحُ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَلَاكُ دِينِكُمْ الْوَرِعُ } وَقَالَ { : التَّقِيُّ مُلْجَمٌ } وَقِيلَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ أَنَّهُ كَانَ يُوصِيهِ سِرًّا حَتَّى لَا يَقِفَ عَلَى جَمِيعِ مَا يُوصِيهِ بِهِ غَيْرُهُ .
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ كَانَ يُوصِيهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَوَّلًا ثُمَّ يُوصِيهِ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : ابْدَأْ بِنَفْسِك ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ } وَنَفْسُهُ إلَيْهِ أَقْرَبُ فَكَأَنَّهُ كَانَ يُوصِيهِ بِحِفْظِ نَفْسِهِ مِنْ الْمَهَالِكِ وَحِفْظِ مَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى لَا يَرْضَى لَهُمْ إلَّا بِمَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ وَلَا يَخُصُّ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ دُونَهُمْ فَبِذَلِكَ يَتَحَقَّقُ التَّأَلُّفُ وَانْقِيَادُهُمْ لَهُ ثُمَّ قَالَ { : اُغْزُوا بِاسْمِ اللَّهِ } أَيْ : اُخْرُجُوا وَاقْصِدُوا ،
وَالْغَزْوُ : الْقَصْدُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَوْ كَانُوا غُزًّى } وَبَيَّنَ أَنَّهُ يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَقْصِدُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَمْ يُبْدَأْ فِيهِ بِاسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ أَقْطَعُ } قَالَ { : وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } أَيْ لِيَكُنْ خُرُوجُكُمْ لِابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا لِطَلَبِ الْمَالِ فَالْمُجَاهِدُ يَبْذُلُ نَفْسَهُ وَمَالَهُ فَإِنَّمَا يَرْبَحُ عَلَى عَمَلِهِ إذَا قَصَدَ بِهِ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَمَّا إذَا كَانَ قَصْدُهُ تَحْصِيلَ الْمَالِ فَهُوَ كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ .
ثُمَّ قَالَ { : قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ } فِيهِ دَلِيلُ فَرْضِيَّةِ الْقِتَالِ وَأَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ لِدَفْعِ فِتْنَةِ الْكُفْرِ وَدَفْعِ شَرِّ الْكُفَّارِ وَهَذَا عَامٌّ لَحِقَهُ خُصُوصٌ فَالْمُرَادُ مَنْ كَفَرَ بِاَللَّهِ مِنْ الْمُقَاتِلِينَ أَلَا تَرَى { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَأَى امْرَأَةً مَقْتُولَةً يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ اسْتَعْظَمَ ذَلِكَ وَقَالَ : هَاهْ مَا كَانَتْ هَذِهِ تُقَاتِلُ } وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بِقَوْلِهِ { وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا } ثُمَّ قَالَ { وَلَا تَغُلُّوا } وَالْغُلُولُ السَّرِقَةُ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَهُوَ حَرَامٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } قِيلَ فِي التَّفْسِيرِ : يُجْعَلُ ذَلِكَ فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ وَيُؤْمَرُ بِإِخْرَاجِهِ وَكُلُّ مَا انْتَهَى إلَى شَفِيرِ جَهَنَّمَ يَرْجِعُ فِي قَعْرِهَا وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : الْغُلُولُ مِنْ جَمْرِ جَهَنَّمَ } { وَالْأَسْوَدُ الَّذِي كَانَ يُرْحِلُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرِبٌ فَمَاتَ قَالَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ : هَنِيئًا لَهُ الشَّهَادَةُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كَلًّا فَإِنَّ الْعَبَاءَةَ الَّتِي غَلَّهَا مِنْ الْمَغْنَمِ لَتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَارًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَقَالَ فِي خُطْبَتِهِ { : رُدُّوا الْخَيْطَ وَالْمِخْيَطَ فَالْغُلُولُ عَارٌ وَشَنَارٌ
عَلَى صَاحِبِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } قَالَ { : وَلَا تَغْدِرُوا } وَالْغَدْرُ الْخِيَانَةُ وَنَقْضُ الْعَهْدِ وَهُوَ حَرَامٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : فَانْبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يُرْكَزُ عِنْدَ بَابِ اسْتِهِ يُعْرَفُ بِهِ غَدْرَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } { وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكْتُبُ فِي الْعُهُودِ وَفَاءٌ لَا غَدْرَ فِيهِ } قَالَ { : وَلَا تُمَثِّلُوا } وَالْمُثْلَةُ حَرَامٌ كَمَا رَوَى عِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ { : مَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِينَا خَطِيبًا بَعْدَ مَا مَثَّلَ بِالْعُرَنِيِّينَ إلَّا وَيَحُثُّنَا عَلَى الصَّدَقَةِ وَيَنْهَانَا عَنْ الْمُثْلَةِ } فَتَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَخُطْبَةٍ دَلِيلٌ عَلَى تَأْكِيدِ الْحُرْمَةِ فِيهِ قَالَ { : وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا } وَالْوَلِيدُ الْمَوْلُودُ فِي اللُّغَةِ وَكُلُّ آدَمِيٍّ مَوْلُودٌ وَلَكِنَّ هَذَا اللَّفْظَ إنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الصِّغَارِ عَادَةً فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ قَتْلُ الصِّغَارِ مِنْهُمْ إذَا كَانُوا لَا يُقَاتِلُونَ وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ وَقَالَ اُقْتُلُوا شُيُوخَ الْمُشْرِكِينَ وَاسْتَحْيُوا شُرُوخَهُمْ } وَالْمُرَادُ بِالشُّيُوخِ الْبَالِغِينَ وَبِالشُّرُوخِ الْأَتْبَاعُ مِنْ الصِّغَارِ وَالنِّسَاءِ وَالِاسْتِحْيَاءُ الِاسْتِرْقَاقُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { : وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ } وَفِي وَصِيَّةِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ : لَا تَقْتُلْ شَيْخًا ضَرِعًا وَلَا صَبِيًّا ضَعِيفًا يَعْنِي شَيْخًا فَانِيًا وَصَغِيرًا لَا يُقَاتِلُ .
قَالَ { : وَإِذَا لَقِيتُمْ عَدُوَّكُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ } وَفِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { : وَإِذَا حَاصَرْتُمْ حِصْنًا أَوْ مَدِينَةً فَادْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ } وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْغُزَاةِ أَنْ
يَبْدَءُوا بِالدُّعَاءِ إلَى الْإِسْلَامِ وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ فَإِنْ كَانُوا يُقَاتِلُونَ قَوْمًا لَمْ تَبْلُغْهُمْ الدَّعْوَةُ فَلَا يَحِلُّ قِتَالُهُمْ حَتَّى يُدْعَوْا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { : وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا } وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { : مَا قَاتَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمًا حَتَّى دَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ } وَهَذَا لِأَنَّهُمْ لَا يَدْرُونَ عَلَى مَاذَا يُقَاتِلُونَ فَرُبَّمَا يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ لُصُوصٌ قَصَدُوا أَمْوَالَهُمْ وَلَوْ عَلِمُوا أَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَ عَلَى الدُّعَاءِ إلَى الدِّينِ رُبَّمَا أَجَابُوا وَانْقَادُوا لِلْحَقِّ فَلِهَذَا يَجِبُ تَقْدِيمُ الدَّعْوَةِ وَإِنْ كَانُوا قَدْ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ فَالْأَحْسَنُ أَنْ يَدْعُوَهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ أَيْضًا فَالْجِدُّ وَالْمُبَالَغَةُ فِي الْإِنْذَارِ رُبَّمَا يَنْفَعُ { وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا قَاتَلَ قَوْمًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ دَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ ثُمَّ اشْتَغَلَ بِالصَّلَاةِ وَعَادَ بَعْدَ الْفَرَاغِ إلَى الْقِتَالِ جَدَّدَ الدَّعْوَةَ } وَإِنْ تَرَكُوا ذَلِكَ وَبَيَّتُوهُمْ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا عَلَى مَاذَا يُقَاتِلُونَ وَلَوْ اشْتَغَلُوا بِالدَّعْوَةِ رُبَّمَا تَحَصَّنُوا فَلَا يَتَمَكَّنُ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ بِغَيْرِ دَعْوَةٍ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَمَرَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنْ يُغِيرَ عَلَى أُبْنَى صَبَاحًا } وَفِي رِوَايَةٍ { ابْنَانِ صَبَاحًا فَإِنْ أَسْلَمُوا فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ وَكُفُّوا عَنْهُمْ } وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُمْ إذَا أَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ وَجَبَ الْكَفُّ عَنْهُمْ وَقَبُولُ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَإِلَيْهِ أَشَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ { فَإِذَا قَالُوهَا فَقَدْ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى { : وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إلَيْكُمْ السَّلَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا } .
( قَالَ ) : اُدْعُوهُمْ إلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دِيَارِهِمْ إلَى دَارِ
الْمُهَاجِرِينَ وَهَذَا فِي وَقْتٍ كَانَتْ الْهِجْرَةُ فَرِيضَةً وَذَلِكَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ كَانَ يُفْتَرَضُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي قَبِيلَتِهِ أَنْ يُهَاجِرَ إلَى الْمَدِينَةِ لِيَتَعَلَّمَ أَحْكَامَ الدِّينِ وَيَنْضَمَّ إلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي الْقِيَامِ بِنُصْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا } الْآيَةَ ثُمَّ انْتَسَخَ ذَلِكَ بَعْدَ الْفَتْحِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَإِنَّمَا هُوَ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : الْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ السُّوءَ وَهَجَرَ مَا نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ } قَالَ { : فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ وَكُفُّوا عَنْهُمْ وَإِلَّا فَأَخْبِرُوهُمْ أَنَّهُمْ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ الَّذِي يَجْرِي عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ وَلَا فِي الْغَنِيمَةِ نَصِيبٌ } وَهَذَا كَانَ الْحُكْمَ حِينَ كَانَتْ الْهِجْرَةُ فَرِيضَةً فَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يُعْلِمُوهُمْ بِذَلِكَ وَهُوَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى لِالْتِزَامِهِمْ وَانْقِيَادِهِمْ لِدِينِ الْحَقِّ وَلَيْسَ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ وَلَا الْغَنِيمَةِ نَصِيبٌ لِامْتِنَاعِهِمْ مِنْ الْجِهَادِ وَالْقِيَامِ بِنُصْرَةِ الدِّينِ أَوْ الِاشْتِغَالُ بِتَعَلُّمِ أَحْكَامِ الدِّينِ فَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ النَّصِيبَ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ لِهَذَيْنِ الْفَرِيقَيْنِ .
وَالْغَنِيمَةُ اسْمٌ لِلْمَالِ الْمُصَابِ بِالْقِتَالِ عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ فِيهِ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِعْزَازُ دِينِهِ وَالْفَيْءُ اسْمٌ لِلْمُصَابِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِغَيْرِ قِتَالٍ كَالْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ } الْآيَةُ فَإِنْ أَبَوْا فَادْعُوهُمْ إلَى إعْطَاءِ الْجِزْيَةِ وَهَذَا عَامٌّ دَخَلَهُ الْخُصُوصُ فَالْمُرَادُ مَنْ يَقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ الْمَجُوسِ أَوْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَجَمِ فَأَمَّا الْمُرْتَدُّونَ وَعَبَدَةُ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ لَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ وَلَكِنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ إلَى أَنْ يُسْلِمُوا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } أَيْ حَتَّى يُسْلِمُوا فَإِنْ كَانُوا مِمَّنْ تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ يَجِبُ عَرْضُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ إذَا امْتَنَعُوا مِنْ الْإِيمَانِ لِأَنَّهُ أَصْلُ مَا يَنْتَهِي بِهِ الْقِتَالُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ } وَبِقَبُولِ ذَلِكَ يَصِيرُونَ مِنْ أَهْلِ دَارِنَا وَيَلْتَزِمُونَ أَحْكَامَنَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى الْمُعَامَلَاتِ فَيُدْعَوْنَ إلَيْهِ وَالْمُرَادُ بِالْإِعْطَاءِ الْقَبُولُ وَالِالْتِزَامُ فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَاقْبَلُوا مِنْهُمْ وَكُفُّوا عَنْهُمْ وَإِذَا حَاصَرْتُمْ أَهْلَ حِصْنٍ أَوْ مَدِينَةٍ فَأَرَادُوكُمْ أَنْ تُنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا تُنْزِلُوهُمْ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا حُكْمُ اللَّهِ تَعَالَى فِيهِمْ وَبِهِ يَسْتَدِلُّ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إنْزَالُ الْمُحَاصَرِينَ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُجَوِّزُ ذَلِكَ وَيَقُولُ : كَانَ هَذَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَإِنَّ الْوَحْيَ كَانَ يَنْزِلُ وَالْحُكْمُ يَتَغَيَّرُ سَاعَةً فَسَاعَةً فَاَلَّذِينَ كَانُوا بِالْبُعْدِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانُوا لَا يَدْرُونَ مَا نَزَلَ بَعْدَهُمْ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَمَّا الْآنَ فَقَدْ اسْتَقَرَّ الْحُكْمُ وَعُلِمَ أَنَّ الْحُكْمَ فِي الْمُشْرِكِينَ
الدُّعَاءُ إلَى الْإِسْلَامِ وَتَخْلِيَةُ سَبِيلِهِمْ إنْ أَجَابُوا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ } فَإِنْ أَبَوْا فَالدُّعَاءُ إلَى الْتِزَامِ الْجِزْيَةِ فَإِنْ أَبَوْا فَقَتْلُ الْمُقَاتِلَةِ وَسَبْيُ الذُّرِّيَّةِ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : لَا يَجُوزُ الْإِنْزَالُ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا ذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ فَإِنَّ الْحُكْمَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْمٍ وَقَعَ الظُّهُورُ عَلَيْهِمْ فَأَمَّا فِي قَوْمٍ مَحْصُورِينَ مُمْتَنِعِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَدْرِي أَنَّ الْحُكْمَ هَذَا أَوْ غَيْرُهُ وَفِي هَذَا اللَّفْظِ دَلِيلٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَلَى أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ فَإِنَّهُ قَالَ : فَإِنَّكُمْ لَا تَدْرُونَ مَا حُكْمُ اللَّهِ فِيهِمْ وَلَوْ كَانَ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا لَكَانَ يَعْلَمُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ بِالِاجْتِهَادِ لَا مَحَالَةَ .
( فَإِنْ قِيلَ ) : فَقَدْ قَالَ : أَنْزِلُوهُمْ عَلَى حُكْمِكُمْ ثُمَّ اُحْكُمُوا فِيهِمْ بِمَا رَأَيْتُمْ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْمُجْتَهِدُ مُصِيبًا لِلْحَقِّ لَمَا أَمَرَ بِإِنْزَالِهِمْ عَلَى حُكْمِنَا فَإِنَّهُ لَا يَأْمُرُ بِالْإِنْزَالِ عَلَى الْخَطَأِ وَإِنَّمَا يَأْمُرُ بِالْإِنْزَالِ عَلَى الصَّوَابِ .
( قُلْنَا ) : نَعَمْ ، نَحْنُ لَا نَقُولُ الْمُجْتَهِدُ يَكُونُ مُخْطِئًا لَا مَحَالَةَ وَلَكِنَّهُ عَلَى رَجَاءٍ مِنْ الْإِصَابَةِ وَهُوَ آتٍ بِمَا فِي وُسْعِهِ فَلِهَذَا أُمِرَ بِالْإِنْزَالِ عَلَى ذَلِكَ لَا لِأَنَّهُ يَكُونُ مُصِيبًا لِلْحَقِّ بِاجْتِهَادِهِ لَا مَحَالَةَ .
وَفَائِدَةُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ شُبْهَةُ الْخِلَافِ إذَا نَزَلُوا عَلَى حُكْمِنَا وَحُكْمُنَا فِيهِمْ بِمَا رَأَيْنَا وَيَتَمَكَّنُ ذَلِكَ إذَا نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ فَهَذَا فَائِدَةُ هَذَا اللَّفْظِ .
( قَالَ ) : وَإِذَا حَاصَرْتُمْ أَهْلَ حِصْنٍ أَوْ مَدِينَةٍ فَأَرَادُوكُمْ أَنْ تُعْطُوهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا تُعْطُوهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلَا ذِمَّةَ رَسُولِهِ وَلَكِنْ أُعْطُوهُمْ ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ آبَائِكُمْ فَإِنَّكُمْ إنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ آبَائِكُمْ فَهُوَ أَهْوَنُ وَالْمُرَادُ بِالذِّمَّةِ الْعَهْدُ وَمِنْهُ سُمِّيَ أَهْلُ الذِّمَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلًّا وَلَا ذِمَّةً } أَيْ عَهْدًا فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ اللُّزُومِ وَمِنْهُ سُمِّيَ مَحِلُّ الِالْتِزَامِ مِنْ الْآدَمِيِّ ذِمَّةٌ وَالِالْتِزَامُ بِالْعَهْدِ يَكُونُ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يُعْطُوا الْمُشْرِكِينَ عَهْدَ اللَّهِ وَلَا عَهْدَ رَسُولِهِ لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا يَحْتَاجُونَ إلَى النَّبْذِ إلَيْهِمْ وَنَقْضِ عَهْدِ اللَّهِ وَعَهْدِ رَسُولِهِ لَا يَحِلُّ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ : وَلَكِنْ أَعْطُوهُمْ ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ آبَائِكُمْ يَعْنِي : عَهْدَكُمْ وَعَهْدَ آبَائِكُمْ مِنْ الْمُمَالَحَةِ وَالصُّحْبَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْتَقِدُونَ الْحُرْمَةَ بِهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّكُمْ إنْ تُخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ فَهُوَ أَهْوَنُ أَيْ تَنْقُضُوا يُقَالُ : أَخْفَرَ إذَا نَقَضَ الْعَهْدَ ، وَخَفَرَ أَيْ عَاهَدَ وَمِنْهُ الْخَفِيرُ وَهُوَ الَّذِي يَسِيرُ النَّاسُ فِي أَمَانِهِ سُمِّيَ خَفِيرًا لِلْمُعَاهَدَةِ مَعَ الَّذِينَ فِي أَمَانِهِ أَوْ مَعَ الَّذِينَ يَتَعَرَّضُونَ لِلنَّاسِ فِي أَنْ لَا يَقْصِدُوا مَنْ كَانَ فِي أَمَانِهِ وَهَذَا بَيَانُ فَوَائِدِ الْحَدِيثِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْخُمُسَ كَانَ يُقَسَّمُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ فَلِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ سَهْمٌ وَلِذِي الْقُرْبَى سَهْمٌ وَلِلْمَسَاكِينِ سَهْمٌ وَلِلْيَتَامَى سَهْمٌ وَلِابْنِ السَّبِيلِ سَهْمٌ ثُمَّ قَسَّمَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ لِلْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمُرَادُهُ بَيَانُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ : سَهْمُ اللَّهِ وَسَهْمُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاحِدٌ وَذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى لِلتَّبَرُّكِ وَمِفْتَاحُ الْكَلَامِ وَكَانَ أَبُو الْعَالِيَةِ يَقُولُ : الْغَنِيمَةُ عَلَى سِتَّةِ أَسْهُمٍ : سَهْمٌ لِلَّهِ تَعَالَى وَيُصْرَفُ ذَلِكَ إلَى عِمَارَةِ الْكَعْبَةِ إنْ كَانَتْ الْكَعْبَةُ بِالْقُرْبِ مِنْهَا وَإِلَى عِمَارَةِ الْجَامِعِ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ هِيَ بِالْقُرْبِ مِنْ مَوْضِعِ الْقِسْمَةِ لِأَنَّ هَذِهِ الْبِقَاعَ مُضَافَةٌ إلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا السَّهْمُ لِلَّهِ تَعَالَى فَيُصْرَفُ إلَى عِمَارَةِ الْبِقَاعِ الْمُضَافَةِ إلَيْهِ خَالِصًا وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا فَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى لَيْسَ لِلِاسْتِحْقَاقِ لِأَنَّ الدُّنْيَا بِمَا فِيهَا لِلَّهِ تَعَالَى وَلَكِنْ لِلتَّبَرُّكِ أَوْ لِتَشْرِيفِ هَذَا الْمَالِ لِأَنَّ إضَافَةَ شَيْءٍ مِنْ الدُّنْيَا إلَى اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُصُوصِ لِمَعْنَى التَّشْرِيفِ كَالْمَسَاجِدِ وَالنَّاقَةِ وَهَذَا الْمَعْنَى يَتَحَقَّقُ فِي الْغَنِيمَةِ لِأَنَّهَا أُصِيبَتْ بِطَرِيقٍ فِيهِ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِعْزَازُ دِينِهِ وَأَمَّا سَهْمُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ كَانَ ثَابِتًا فِي حَيَاتِهِ وَسَقَطَ بِمَوْتِهِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : هُوَ بَاقٍ يُصْرَفُ إلَى كُلِّ خَلِيفَةٍ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ ذَلِكَ السَّهْمَ فِي حَيَاتِهِ لِيَسْتَعِينَ بِهِ فِي جَوَائِزِ الْوُفُودِ وَالرُّسُلِ كَمَا
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : وَاَللَّهِ مَا يَحِلُّ لِي مِنْ غَنَائِمِكُمْ إلَّا الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ } وَالْخَلِيفَةُ بَعْدَهُ مُحْتَاجٌ إلَى مِثْلِ مَا كَانَ هُوَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ فَيُصْرَفُ هَذَا السَّهْمُ إلَيْهِ وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ بَعْدَهُ لَمْ يَرْفَعُوا هَذَا السَّهْمَ لِأَنْفُسِهِمْ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ لَهُ بِدَرَجَةِ الرِّسَالَةِ لَا بِالْقِيَامِ بِأُمُورِ النَّاسِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ وَلَمَّا اجْتَمَعَ الصَّحَابَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ لِيَفْرِضُوا لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْرَ كِفَايَتِهِ لَمْ يَجْعَلُوا ذَلِكَ مِنْ هَذَا السَّهْمِ وَلِأَنَّهُ كَانَ لَهُ مِنْ الْغَنَائِمِ ثَلَاثُ حُظُوظٍ خُمُسُ الْخُمُسِ وَالصَّفِيُّ وَالسَّهْمُ ثُمَّ الْخَلِيفَةُ لَا يُقَامُ مَقَامَهُ فِي اسْتِحْقَاقِ الصَّفِيِّ فَكَذَلِكَ فِي اسْتِحْقَاقِ خُمُسِ الْخُمُسِ وَالصَّفِيُّ شَيْءٌ نَفِيسٌ كَانَ يَصْطَفِيهِ لِنَفْسِهِ مِنْ سَيْفٍ أَوْ فَرَسٍ أَوْ جَارِيَةٍ .
كَمَا رُوِيَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اصْطَفَى ذَا الْفَقَارِ مِنْ غَنَائِمِ بَدْرٍ } وَكَانَ سَيْفًا لِمُنَبِّهِ بْنِ الْحَجَّاجِ بِخِلَافِ مَا يَزْعُمُ الرَّوَافِضُ أَنَّهُ نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاصْطَفَى صَفِيَّةَ مِنْ غَنَائِمِ خَيْبَرَ وَهَذَا شَيْءٌ كَانَ لِرَأْسِ الْجَيْشِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَمَا قَالَ الْقَائِلُ : لَك الْمِرْبَاعُ مِنْهَا وَالصَّفَايَا وَحُكْمُك وَالنَّشِيطَةُ وَالْفُصُولُ فَأَمَّا سَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى فَقَدْ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْرِفُهُ إلَيْهِمْ فِي حَيَاتِهِ وَهُمْ صُلْبِيَّةُ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ } وَلَمْ يَبْقَ لَهُمْ ذَلِكَ بَعْدَهُ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ مُسْتَحَقٌّ لَهُمْ يُجْمَعُونَ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ فَيُقَسَّمُ بَيْنَ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ بِالسَّوِيَّةِ وَكَانَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : إنَّمَا سَقَطَ بِمَوْتِهِ هَذَا السَّهْمُ فِي حَقِّ الْأَغْنِيَاءِ مِنْهُمْ دُونَ الْفُقَرَاءِ
وَالطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَانَ يَقُولُ سَقَطَ فِي حَقِّ الْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ مِنْهُمْ جَمِيعًا وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : لَمْ يَكُنْ لَهُمْ هَذَا السَّهْمُ مُسْتَحَقًّا بِالْقَرَابَةِ بَلْ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْرِفُهُ إلَيْهِمْ مُجَازَاةً عَلَى النُّصْرَةِ الَّتِي كَانَتْ مِنْهُمْ } وَلَمْ يَبْقَ ذَلِكَ الْمَعْنَى بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالِاعْتِمَادُ عَلَى هَذَا وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { وَلِذِي الْقُرْبَى } فَقَدْ أَضَافَ إلَيْهِمْ سَهْمًا فَاللَّامُ التَّمْلِيكِ فَدَلَّ أَنَّهُ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ لَهُمْ وَأَنَّ الْأَغْنِيَاءَ وَالْفُقَرَاءَ فِيهِ سَوَاءٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي اسْمِ الْقَرَابَةِ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ بِخِلَافِ سَهْمِ الْيَتَامَى فَفِي اسْمِ مَا يُنْبِئُ عَنْ الْحَاجَةِ حَتَّى لَوْ أَوْصَى لِيَتَامَى بَنِي فُلَانٍ وَهُمْ لَا يُحْصَوْنَ فَالْوَصِيَّةُ لِفُقَرَائِهِمْ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَوْصَى لِأَقْرِبَاءِ فُلَانٍ وَقَدْ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي الْأَغْنِيَاءَ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ أَعْطَى الْعَبَّاسَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ كَانَ لَهُ عِشْرُونَ عَبْدًا كُلُّ عَبْدٍ يَتَّجِرُ فِي عِشْرِينَ أَلْفًا وَأَعْطَى الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ مِنْ غَنَائِمِ خَيْبَرَ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ سَهْمًا لَهُ وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ وَسَهْمًا لِقَرَابَتِهِ وَسَهْمًا لِأُمِّهِ صَفِيَّةَ وَكَانَتْ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهَا } فَإِذَا كَانَ هَذَا الْحُكْمُ ثَابِتًا فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَقِيَ بَعْدَهُ لِأَنَّهُ لَا نَسْخَ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَمَنْ قَالَ مِنْ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لِلْفُقَرَاءِ مِنْهُمْ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ احْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ } وَبَيْنَ مَصَارِفِ الْخُمُسِ ثُمَّ بَيَّنَ الْمَعْنَى فِيهِ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ شَيْءٌ
مِنْهُ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ تَتَدَاوَلُهُ أَيْدِيهِمْ وَاسْمُ ذَوِي الْقُرْبَيْ عَامٌّ يَتَنَاوَلُ الْأَغْنِيَاءَ وَالْفُقَرَاءَ فَيَخُصُّهُ وَيَحْمِلُهُ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِهَذَا الدَّلِيلِ .
وَمَنْ قَالَ : لَا حَقَّ لِلْفُقَرَاءِ وَالْأَغْنِيَاءِ مِنْهُمْ جَمِيعًا قَالَ : الْمُرَادُ بِالْآيَةِ بَيَانُ جَوَازِ الصَّرْفِ إلَيْهِمْ لَا بَيَانُ وُجُوبِ الصَّرْفِ إلَيْهِمْ وَكَانَ هَذَا مُشْكِلًا فَإِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لَهُمْ فَكَانَ يُشْكِلُ أَنَّهُ هَلْ يَجُوزُ صَرْفُ شَيْءٍ مِنْ الْخُمُسِ إلَيْهِمْ وَلَمْ يَزَلْ هَذَا الْإِشْكَالُ بِبَيَانِ سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهُ مَا كَانَ يَصْرِفُ مَا يَأْخُذُ إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ فَأَزَالَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْإِشْكَالَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلِذِي الْقُرْبَى } وَإِنَّمَا حَمَلْنَاهُ عَلَى هَذَا لِإِجْمَاعِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ عَلَى قِسْمَةِ الْخُمُسِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ وَلَا يُظَنُّ بِهِمْ أَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِمْ هَذَا النَّصُّ وَلَا أَنَّهُمْ مَنَعُوا حَقَّ ذَوِي الْقُرْبَى فَعَرَفْنَا بِإِجْمَاعِهِمْ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ إلَّا الِاسْتِحْقَاقُ لِأَغْنِيَائِهِمْ وَفُقَرَائِهِمْ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : لَا إجْمَاعَ وَيَسْتَدِلُّ بِالْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : كَانَ رَأْيُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْخُمُسِ رَأْيَ أَهْلِ بَيْتِهِ وَلَكِنَّهُ كَرِهَ أَنْ يُخَالِفَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : وَالْإِجْمَاعُ بِدُونِ أَهْلِ الْبَيْتِ لَا يَنْعَقِدُ كَيْفَ وَقَدْ كَانَ رَأْيُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَهُمْ وَلَكِنَّهُ يَتَحَرَّزُ مِنْ أَنْ يُنْسَبَ إلَى مُخَالَفَةِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَلَكِنَّا نَقُولُ لَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ مَنْ كَانَ يَرَى ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْتِ وَقَدْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ لَا يَكُونُ قَوْلُهُ حُجَّةً .
وَإِنَّمَا كَرِهَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذِهِ الْمُخَالِفَةَ لِأَنَّهُ رَأَى الْحُجَّةَ مَعَهُمَا فَإِنَّهُ خَالَفَهُمَا فِي كَثِيرٍ
مِنْ الْمَسَائِلِ حِينَ ظَهَرَ الدَّلِيلُ عِنْدَهُ وَهَذَا لِأَنَّهُ كَانَ مُجْتَهِدًا وَلَا يَحِلُّ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَدَعَ رَأْيَ نَفْسِهِ لِرَأْيِ مُجْتَهِدٍ آخَرَ احْتِشَامًا لَهُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { : اجْتَمَعْتُ أَنَا وَالْعَبَّاسُ وَفَاطِمَةُ وَزَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ الْعَبَّاسُ : كَبِرَ سِنِّي وَرَقَّ عَظْمِي وَرَكِبَتْنِي الْمُؤَنُ فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَأْمُرَ لِي بِكَذَا وَسْقًا مِنْ طَعَامٍ فَافْعَلْ فَفَعَلَ ذَلِكَ وَقَالَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا : أَنْتَ تَعْلَمُ مَكَانِي مِنْكَ فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَأْمُرَ لِي بِمِثْلِ مَا أَمَرْتَ بِهِ لِعَمِّكَ فَافْعَلْ فَفَعَلَ ذَلِكَ وَقَالَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ : كُنْتَ أَعْطَيْتَنِي أَرْضًا فَكُنْتَ أَزْرَعُهَا وَأَعِيشُ بِهَا ثُمَّ أَخَذْتَهَا مِنِّي فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَرُدَّهَا عَلَيَّ فَافْعَلْ فَفَعَلَ ذَلِكَ فَقُلْتُ أَنَا : إنْ رَأَيْتَ أَنْ تُوَلِّيَنِي الْقِسْمَةَ فِيمَا هُوَ حَقُّنَا كَيْ لَا يُنَازِعَنِي أَحَدٌ بَعْدَكَ فَافْعَلْ فَفَعَلَ ذَلِكَ وَقَالَ لِلْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : هَلَّا سَأَلْتَ كَمَا سَأَلَ ابْنُ أَخِيكَ فَقَالَ : إلَى ذَلِكَ انْتَهَتْ مَسْأَلَتِي .
فَكُنْتُ أُقَسِّمُ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي عَهْدِ أَبِي بَكْرٍ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا حَتَّى أَتَاهُ مَالٌ عَظِيمٌ فَدَعَانِي لِآخُذَ مَا كُنْتُ آخُذُهُ وَأُقَسِّمُهُ بَيْنَ أَهْلِ الْبَيْتِ فَقُلْتُ لَهُ إنَّ بِنَا الْيَوْمَ عَنْهُ غِنًى وَبِالْمُسْلِمِينَ خُلَّةٌ فَاصْرِفْهُ إلَيْهِمْ فَفَعَلَ ذَلِكَ وَقَالَ لِي الْعَبَّاسُ : لَقَدْ حُرِمْنَا الْيَوْمَ شَيْئًا لَا يَعُودُ إلَيْنَا أَبَدًا وَكَانَ رَجُلًا دَاهِيًا فَكَانَ كَمَا قَالَ } فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ عَلِمَ أَنَّ الصَّرْفَ إلَيْهِمْ لِلْحَاجَةِ لَا لِلِاسْتِحْقَاقِ حِينَ رَدَّ بِقَوْلِهِ إنَّ بِنَا الْيَوْمَ عَنْهُ غِنًى وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ عَرَضَ عَلَيْنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُزَوِّجَ مِنْ الْخُمُسِ أَيِّمَنَا وَأَنْ يَقْضِيَ بِهِ عَنْ مَغْرَمِنَا فَأَبَيْنَا إلَّا أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَيْنَا فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْنَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَرَى اسْتِحْقَاقَ ذَلِكَ السَّهْمِ لَهُمْ وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِيمَا ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا مِنْ كِتَابِهِ إلَى نَجْدَةَ وَكَتَبْتَ إلَى أَنْ تَسْأَلَنِي عَنْ سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى وَإِنَّا لَنَزْعُمُ أَنَّهُ لَنَا وَيَأْبَى عَلَيْنَا ذَلِكَ غَيْرُنَا وَلَكِنَّا نَقُولُ بَعْدَ إجْمَاعِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ لَا يُؤْخَذُ بِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ فِي هَذَا كَمَا لَا يُؤْخَذُ بِهِ فِي الْعَوْلِ وَغَيْرِهِ مَعَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ فَأَبَيْنَا إلَّا أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَيْنَا لِنَتَوَلَّى صَرْفَهُ إلَى الْمُحْتَاجِينَ مِنَّا لَا لِنَصْرِفَهُ إلَى أَنْفُسِنَا وَكُلُّ أَحَدٍ يُحِبُّ ذَلِكَ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ : فَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْنَا وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا كَانَ يُعْرَفُ بِمَنْعِ الْحَقِّ مِنْ الْمُسْتَحِقِّ بَلْ بِإِيصَالِ الْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ عَلَى مَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيْنَمَا دَارَ عُمَرَ فَالْحَقُّ مَعَهُ } وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { : قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخُمُسَ يَوْمَ خَيْبَرَ فَقَسَّمَ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى بَيْنَ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ فَكَلَّمَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَا نَحْنُ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ فِي النَّسَبِ إلَيْك سَوَاءٌ فَأَعْطَيْتَهُمْ دُونَنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّا لَمْ نَزَلْ نَحْنُ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ مَعًا } وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَا : لَا يُنْكِرُ فَضْلَ بَنِي هَاشِمٍ لِمَكَانِك الَّذِي وَضَعَك اللَّهُ تَعَالَى
فِيهِمْ وَلَكِنْ نَحْنُ وَإِخْوَانُنَا مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ إلَيْك فِي النَّسَبِ سَوَاءٌ فَمَا بَالُك أَعْطَيْتَهُمْ وَحَرَمْتَنَا فَقَالَ { : إنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُونِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلَا فِي الْإِسْلَامِ } وَفِي رِوَايَةٍ { فَإِنَّمَا بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ كَشَيْءٍ وَاحِدٍ } وَفِي رِوَايَةٍ { لَمْ نَزَلْ مَعَهُمْ هَكَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ } وَاعْتِمَادُنَا عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ فَقَدْ بَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالنُّصْرَةِ دُونَ الْقَرَابَةِ وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقُرْبَى قُرْبُ النُّصْرَةِ حِينَ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ وَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ أَصْلَ النَّسَبِ وَهُوَ عَبْدُ مَنَافٍ كَانَ لَهُ أَرْبَعَةُ بَنِينَ هَاشِمٌ وَالْمُطَّلِبُ وَنَوْفَلٌ وَعَبْدُ شَمْسٍ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ هَاشِمٍ فَإِنَّهُ مُحَمَّدُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ فَكَانَتْ بَنُو هَاشِمٍ أَوْلَادَ جَدِّهِ وَجُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ كَانَ مِنْ بَنِي نَوْفَلٍ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ مِنْ بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ وَوَلَدُ جَدِّ الْإِنْسَانِ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ وَلَدِ أَخِ جَدِّهِ فَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمَا لَا نُنْكِرُ فَضْلَ بَنِي هَاشِمٍ فَأَمَّا بَنُو نَوْفَلٍ وَبَنُو عَبْدِ شَمْسٍ كَانُوا مَعَ بَنِي الْمُطَّلِبِ فِي الْقَرَابَةِ أُسْوَةٌ .
وَقِيلَ : بَنُو نَوْفَلٍ وَبَنُو عَبْدِ شَمْسٍ كَانُوا أَقْرَبَ إلَيْهِ مِنْ بَنِي الْمُطَّلِبِ لِأَنَّ نَوْفَلًا وَعَبْدَ شَمْسٍ كَانَا أَخَوَيْ هَاشِمٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَالْمُطَّلِبُ كَانَ أَخَا هَاشِمٍ لِأَبِيهِ لَا لِأُمِّهِ وَالْأَخُ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَقْرَبُ إلَى الْمَرْءِ مِنْ الْأَخِ لِأَبٍ ثُمَّ أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي الْمُطَّلِبِ وَلَمْ يُعْطِ بَنِي نَوْفَلٍ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ فَأَشْكَلَ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا فَلِذَلِكَ سَأَلَاهُ ثُمَّ أَزَالَ إشْكَالَهُمَا بِبَيَانِ عِلَّةِ الِاسْتِحْقَاقِ أَنَّهُ النُّصْرَةُ دُونَ الْقَرَابَةِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ نُصْرَةَ الْقِتَالِ فَقَدْ كَانَ
ذَلِكَ مَوْجُودًا مِنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ وَإِنَّمَا أَرَادَ نُصْرَةَ الِاجْتِمَاعِ إلَيْهِ لِلْمُؤَانَسَةِ فِي حَالِ مَا هَجَرَهُ النَّاسُ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَعَثَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَرَأَتْ قُرَيْشٌ آثَارَ الْخَيْرِ فِيهِمْ حَسَدُوهُمْ وَتَعَاقَدُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ أَنْ لَا يُجَالِسُوا بَنِي هَاشِمٍ وَلَا يُكَلِّمُوهُمْ حَتَّى يَدْفَعُوا إلَيْهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَقْتُلُوهُ وَتَعَاقَدَ بَنُو هَاشِمٍ فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَى الْقِيَامِ بِنُصْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ بَنُو نَوْفَلٍ وَبَنُو عَبْدِ شَمْسٍ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ وَدَخَلَ بَنُو الْمُطَّلِبِ فِي عَهْدِ بَنِي هَاشِمٍ حَتَّى دَخَلُوا مَعَهُمْ الشِّعْبَ فَكَانُوا فِيهِ ثَلَاثَ سِنِينَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَكَلُوا الْعِلْهِزَ مِنْ جَهْدِ الْقِصَّةِ .
وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّا لَمْ نَزَلِ نَحْنُ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ مَعًا } وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِتِلْكَ النُّصْرَةِ وَلَا تَبْقَى تِلْكَ النُّصْرَةُ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يَبْقَى الِاسْتِحْقَاقُ لَا لِلِانْتِسَاخِ بَعْدَ مَوْتِهِ بَلْ لِانْعِدَامِ الْحُكْمِ لِعَدَمِ عِلَّتِهِ وَهَذَا مَعْنَى مَا قُلْنَا : إنَّ ذَلِكَ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَصْرِفُهُ إلَيْهِمْ مُجَازَاةً عَلَى تِلْكَ النُّصْرَةِ الْمَخْصُوصَةِ فَقَدْ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكَافِئُ كُلَّ مَنْ نَصَرَهُ يَوْمًا حَتَّى قَالَ يَوْمًا لَمَّا عُرِضَ عَلَيْهِ الْأَسَارَى : لَوْ كَانَ مُطْعِمُ بْنُ عَدِيٍّ حَيًّا لَوَهَبْت هَؤُلَاءِ السَّبْيِ مِنْهُ } مُجَازَاةً لَهُ عَلَى مَا صَنَعَ وَقَدْ كَانَ مَاتَ عَلَى شِرْكِهِ وَلَكِنَّهُ قَامَ بِنُصْرَتِهِ يَوْمًا وَفِيهِ قِصَّةٌ مَعْرُوفَةٌ أَوْ نَقُولُ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْقَرَابَةِ
وَبِبَيَانِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالنُّصْرَةِ وَمَا كَانَ يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى إنْ هُوَ إلَّا وَحَيٌّ يُوحَى فَصَارَ هَذَا الِاسْتِحْقَاقُ ثَابِتًا بِعِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ الْقَرَابَةُ وَالنُّصْرَةُ وَانْعَدَمَ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ وَهُوَ النُّصْرَةُ بَعْدَ وَفَاتِهِ فَلَا يَبْقَى الِاسْتِحْقَاقُ كَمَا أَنَّهُ لَمَّا انْعَدَمَ أَحَدُ الْوَصْفَيْنِ فِي حَقِّ بَنِي نَوْفَلٍ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ فِي حَيَاتِهِ لَمْ يُعْطِهِمْ شَيْئًا فَبَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِمَنْزِلَةِ بَنِي نَوْفَلٍ وَبَنِي عَبْدِ شَمْسٍ فِي حَيَاتِهِ وَتَعْلِيقُ الِاسْتِحْقَاقِ بِالنُّصْرَةِ أَوْلَى مِنْهُ بِالْقَرَابَةِ لِأَنَّ الْقِيَامَ بِنُصْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ وَمَالُ اللَّهِ تَعَالَى يَجُوزُ أَنْ يُسْتَحَقَّ بِعَمَلٍ هُوَ قُرْبَةٌ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْتَحَقَّ بِنَفْسِ الْقَرَابَةِ لِأَنَّ قَرَابَةَ الرَّجُلِ سَبَبٌ لِاسْتِحْقَاقِ مَالِهِ .
فَأَمَّا مَالُ اللَّهِ تَعَالَى لَا يُسْتَحَقُّ بِالْقَرَابَةِ وَلِأَنَّ دَرَجَةَ قَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْلَى مِنْ أَنْ تُجْعَلَ عِلَّةً لِاسْتِحْقَاقِ شَيْءٍ مِنْ الدُّنْيَا وَلَا مَعْنَى لِمَا يَقُولُ الْخَصْمُ أَنَّ هَذَا السَّهْمَ لَهُمْ عِوَضٌ عَنْ حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَا مَعْشَرَ بَنِي هَاشِمٍ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِهَ لَكُمْ غُسَالَةَ النَّاسِ وَعَوَّضَكُمْ مِنْهَا سَهْمًا مِنْ الْخُمُسِ } وَهَذَا لِأَنَّ حُرْمَةَ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ لِكَرَامَتِهِمْ فَلَا يَدْخُلُ بِهِ عَلَيْهِمْ نُقْصَانٌ يُحْتَاجُ إلَى جَبْرِهِ بِالتَّعْوِيضِ وَلَئِنْ كَانَ هَذَا السَّهْمُ عِوَضًا مِنْ حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَحِقَّهُ مَنْ يَسْتَحِقُّ الصَّدَقَةَ لَوْلَا قَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ الْفُقَرَاءُ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ اسْتِحْقَاقُهُمْ عَلَى نَحْوِ اسْتِحْقَاقِ الصَّدَقَةِ لَوْلَا قَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَاسْتِحْقَاقُهُمْ لِلصَّدَقَةِ لَوْلَا قَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْهِ جَوَازِ الصَّرْفِ إلَيْهِمْ لَا وُجُوبِ الصَّرْفِ إلَيْهِمْ فَكَذَلِكَ هَذَا السَّهْمُ وَنَحْنُ نَقُولُ إنَّهُ يَجُوزُ صَرْفُ بَعْضِ الْخُمُسِ إلَيْهِمْ وَإِنَّمَا نُنْكِرُ وُجُوبَ الصَّرْفِ إلَيْهِمْ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ وَأَيَّدَ جَمِيعَ مَا قُلْنَا حَدِيثُ أُمِّ هَانِئٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ سَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى لَهُمْ فِي حَيَاتِي وَلَيْسَ لَهُمْ بَعْدَ وَفَاتِي } وَالْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ شَاذًّا فَقَدْ تَأَكَّدَ بِإِجْمَاعِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كَانَ يَحْمِلُ مِنْ الْخُمُسِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُعْطِي مِنْهُ نَائِبَةَ الْقَوْمِ فَلَمَّا كَثُرَ الْمَالُ جُعِلَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا أَرَادَ بِهِ مَا كَانَ يُصْرَفُ مِنْ الْخُمُسِ إلَى ذَوِي الْقُرْبَى فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا ذَكَرَ بَعْدَ هَذَا عَنْ الضَّحَّاكِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اسْتَشَارَ الْمُسْلِمِينَ فِي سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى فَرَأَوْا أَنْ يُجْعَلَ فِي الْخَيْلِ وَالسِّلَاحِ وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّهُمْ كَانُوا مُجْمِعِينَ عَلَى أَنَّهُ لَا اسْتِحْقَاقَ لَهُمْ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُمْ فِي حَيَاتِهِ كَانَ لِلنُّصْرَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ جَعَلُوا مَصْرِفَهُ آلَةَ النُّصْرَةِ وَهِيَ الْخَيْلُ وَالسِّلَاحُ ، وَقَوْلُهُ وَيُعْطِي مِنْهُ نَائِبَةَ الْقَوْمِ قِيلَ الْمُرَادُ بِالْقَوْمِ : ذَوِي الْقُرْبَى كَمَا قَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَرَضَ عَلَيْنَا عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُزَوِّجَ مِنْهُ أَيِّمَنَا وَيَقْضِيَ مِنْهُ عَنْ مُغْرَمِنَا وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْقَوْمِ الْغُزَاةُ أَيْ يُعْطِي مِنْهُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْغُزَاةُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّرْفَ إلَى الْمُسْتَحِقِّ الْمُحْتَاجِ أَوْلَى مِنْ الصَّرْفِ إلَى مُحْتَاجٍ غَيْرِ
مُسْتَحِقٍّ وَقَوْلُهُ فَلَمَّا كَثُرَ الْمَالُ جُعِلَ فِي غَيْرِ ذَلِكَ تَعَرُّضٌ لِبَعْضِ مَنْ كَانَ لَا يَصْرِفُهُ فِي وَقْتِهِ يَعْنِي كَثْرَةَ الْإِجْمَاعِ فِيهِ فَمَعَ كَثْرَةِ الْمَالِ لَا يَصِلُ إلَى الْمَصْرِفِ الَّذِي كَانَ يَصِلُ إلَيْهِ عِنْدَ قِلَّةِ الْمَالِ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ بَعِيرًا فِي الْمَغْنَمِ قَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ أَصَابُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ فَسَأَلَ عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ { : إنْ وَجَدْتَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ فَهُوَ لَك وَإِنْ وَجَدْتَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذْتَهُ بِالثَّمَنِ إنْ شِئْت } وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَحْرَزُوا نَاقَةً لِرَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِدَارِهِمْ فَاشْتَرَاهَا رَجُلٌ مِنْهُمْ وَأَخْرَجَهَا فَخَاصَمَ فِيهَا مَالِكُهَا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إنْ شِئْت أَخَذْتُهَا بِالثَّمَنِ } وَفِي الْحَدِيثَيْنِ حُجَّةٌ لَنَا أَنَّ الْكُفَّارَ يَمْلِكُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِالْإِحْرَازِ لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَمْلِكُوا لَرَدَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمَالِكِ مَجَّانًا بِكُلِّ حَالٍ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ إنَّمَا يَمْلِكُونَ عَلَى الْكُفَّارِ مَالَهُمْ لَا مَالَ الْمُسْلِمِ وَكَذَلِكَ الْمُشْتَرِي إنَّمَا يَمْلِكُ عَلَى الْبَائِعِ مَالَهُ إلَّا أَنَّهُ جَعَلَ لَهُ حَقَّ الْأَخْذِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ بِالْقِيمَةِ لِأَنَّ الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ صَارَ مَظْلُومًا وَعَلَى مَنْ يَذُبُّ عَنْ دَارِ الْإِسْلَامِ الْقِيَامُ بِنُصْرَتِهِ وَدَفْعُ الظُّلْمِ عَنْهُ وَذَلِكَ بِإِعَادَةِ مَالِهِ إلَيْهِ ، وَقَبْلَ الْقِسْمَةِ لَمْ يَتَعَيَّنْ الْمِلْكُ فِيهِ لِأَحَدٍ بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى حَقِّ الْغُزَاةِ فَكَانَ عَلَيْهِمْ الرَّدُّ لِيَنْدَفِعَ بِهِ الظُّلْمُ عَنْ صَاحِبِهِ وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ قَدْ تَعَيَّنَ الْمِلْكُ لِمَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ وَعَلَيْهِ دَفْعُ الظُّلْمِ عَنْهُ وَلَكِنْ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُحَوِّلَ مِلْكَهُ وَحَقَّهُ إلَيْهِ إلَّا أَنَّ حَقَّهُ فِي الْمَالِيَّةِ فَلِمُرَاعَاةِ النَّظَرِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ قُلْنَا : تُعَادُ إلَيْهِ الْعَيْنُ بِالْقِيمَةِ لِيَصِلَ الْمُسْتَوْلِي عَلَيْهِ إلَى عَيْنِ مَالِهِ وَيَصِلَ الْآخَرُ إلَى حَقِّهِ فِي الْمَالِيَّةِ وَدَلِيلُ أَنَّ حَقِّهِ فِي الْمَالِيَّةِ أَنَّ لِلْإِمَامِ بَيْعَ
الْغَنَائِمِ وَقِسْمَتَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ .
وَمُرَادُهُ بِالثَّمَنِ الْقِيمَةُ فَالْقِيمَةُ ثَمَنُ التَّعْدِيلِ وَالْمُسَمَّى ثَمَنُ التَّرَاضِي وَلِهَذَا مَكَّنَهُ مِنْ الْأَخْذِ مِنْ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ لِأَنَّ حَقَّ الْمُشْتَرِي فِيمَا أَعْطَى مِنْ مَالِهِ وَهُوَ الثَّمَنُ فَيُنْظَرُ لَهُ فِي ذَلِكَ كَمَا يُنْظَرُ لِلْمُسْتَوْلِي عَلَيْهِ فِي إعَادَةِ مَالِهِ إلَيْهِ وَعَنْ الشَّعْبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَعَلَ أَهْلَ السَّوَادِ ذِمَّةً الْمُرَادُ سَوَادُ الْعِرَاقِ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ إذَا فَتَحَ بَلْدَةً عَنْوَةً وَقَهْرًا فَلَهُ أَنْ يَجْعَلَ أَهْلَهَا ذِمَّةً وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ عَلَى جَمَاجِمِهِمْ وَالْخَرَاجَ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ كَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَإِنَّهُ افْتَتَحَ السَّوَادَ عَنْوَةً وَقَهْرًا وَذَلِكَ مَشْهُورٌ فِي كُتُبِ الْمَغَازِي وَفِيهِ أَشْعَارٌ وَقَدْ كَانَ صَاحِبُ جَيْشِ الْعَجَمِ رُسْتُمَ بْنَ فَرْخٍ هُرْمُزَانَ وَقُتِلَ فِي الْحَرْبِ وَأَنْشَدَ الْأَعْرَابِيُّ الَّذِي قَتَلَهُ فَقَالَ أَلَمْ تَرَ أَنِّي حَمَيْت الذِّمَارَ وَأَبْقَيْت مَكْرُمَةً فِي الْأُمَمْ غَدَاةَ الْهَزِيمَةِ إذْ رُسْتُمُ يَسُوقُ الْفَوَارِسَ سَوْقَ النَّعَمْ رَمَانِي بِسَهْمٍ وَقَدْ نِلْتُهُ فَصَّك الرِّكَابَ بِبَطْنِ الْقَدَمْ وَأَضْرِبُ بِالسَّيْفِ يَافُوخَهُ فَكَانَتْ لَعَمْرِي فَتْحُ الْعَجَمْ وَقَدْ كَانَ صَاحِبُ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ قَدْ خَرَجَ بِهِ دَمَامِيلُ فَلَمْ يَحْضُرْ الْحَرْبَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَفِي ذَلِكَ يَقُولُ قَائِلُهُمْ : أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ نَصْرَهُ وَسَعْدٌ بِبَابِ الْقَادِسِيَّةِ مُعْصِمُ فَأُبْنَا وَقَدْ آمَتْ نِسَاءٌ كَثِيرَةٌ وَنِسْوَةُ سَعْدٍ لَيْسَ فِيهِنَّ أَيِّمُ وَإِنَّمَا بَيَّنَّا هَذَا لِأَنَّ بَعْضَ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يُنْكِرُونَ فَتْحَ السَّوَادِ عَنْوَةً .
وَذَكَرَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ : لَا أَدْرِي مَاذَا أَقُولُ فِي سَوَادِ الْكُوفَةِ وَلَكِنِّي أَقُولُ قَوْلًا بِظَنٍّ مَقْرُونٍ
إلَى عِلْمٍ وَهَذَا جَهْلٌ وَتَنَاقُضٌ مِنْ قَائِلِهِ فَإِنَّ الظَّنَّ أَنْ يَتَرَجَّحَ أَحَدُ الْجَانِبَيْنِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ فَكَيْفَ يَكُونُ عِلْمًا وَفَتْحُ السَّوَادِ عَنْوَةً وَقَهْرًا أَشْهُرُ مِنْ أَنْ يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى هَذَا التَّكَلُّفِ وَرُبَّمَا يَقُولُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : إنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَلَّكَ الْأَرَاضِيَ لِلْمُسْلِمِينَ وَاسْتَرَقَّهُمْ ثُمَّ تَرَكَهُمْ لِيَعْمَلُوا فِي أَرَاضِيِ الْمُسْلِمِينَ وَمَا جَعَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْخَرَاجِ وَالْجِزْيَةِ بِمَنْزِلَةِ الضَّرِيبَةِ كَالْمَوْلَى يُسَاوِي عَبْدَهُ الضَّرِيبَةَ وَيَسْتَعْمِلُهُ وَرُبَّمَا يَقُولُ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِرِقَابِهِمْ وَتَمَلَّك الْأَرَاضِيَ ثُمَّ أَجَّرَهَا مِنْهُمْ وَالْخَرَاجُ الَّذِي جَعَلَ عَلَيْهِمْ أُجْرَةٌ وَهَذَا بَعِيدٌ فَإِنَّ جِزْيَتَهُمْ أَشْهُرُ مِنْ أَنْ تَخْفَى وَقَدْ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ ذَلِكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ وَيَتَوَارَثُونَهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ إلَى يَوْمِنَا هَذَا فَعَرَفْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ مَا قَالَهُ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مَنَّ عَلَيْهِمْ بِرِقَابِهِمْ وَأَرْضِهِمْ وَجَعَلَ عَلَيْهِمْ الْجِزْيَةَ فِي رُءُوسِهِمْ وَالْخَرَاجَ فِي أَرْضِهِمْ وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا شَاوَرَ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ اسْتَشَارَهُمْ مِرَارًا ثُمَّ جَمَعَهُمْ فَقَالَ : أَمَّا إنِّي تَلَوْت آيَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَاسْتَغْنَيْت بِهَا عَنْكُمْ ثُمَّ تَلَا قَوْله تَعَالَى { مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى } إلَى قَوْله تَعَالَى { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ } إلَى قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ } هَكَذَا فِي قِرَاءَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى قَوْله تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ } ثُمَّ قَالَ أَرَى لِمَنْ بَعْدَكُمْ فِي هَذَا الْفَيْءِ نَصِيبًا وَلَوْ قَسَمْتُهَا بَيْنَكُمْ لَمْ يَكُنْ لِمَنْ بَعْدَكُمْ نَصِيبٌ فَمَنَّ بِهَا عَلَيْهِمْ وَجَعَلَ الْجِزْيَةَ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَالْخَرَاجَ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ لِيَكُونَ ذَلِكَ لَهُمْ وَلِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ
مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَلَمْ يُخَالِفْهُ فِي ذَلِكَ إلَّا نَفَرٌ يَسِيرٌ مِنْهُمْ بِلَالٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يُحْمَدُوا عَلَى خِلَافِهِ حَتَّى دَعَا عَلَيْهِمْ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ : اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِلَالًا وَأَصْحَابَهُ فَمَا حَالَ الْحَوْلُ وَفِيهِمْ عَيْنٌ تَطْرِفُ أَيْ مَاتُوا جَمِيعًا .
وَذُكِرَ عَنْ عَطَاءٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : كَتَبَ نَجْدَةُ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَسْأَلُهُ هَلْ لِلْعَبْدِ فِي الْمَغْنَمِ سَهْمٌ ؟ وَهَلْ كَانَتْ النِّسَاءُ يَحْضُرْنَ الْحَرْبَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ وَمَتَى يَجِبُ لِلصَّبِيِّ سَهْمٌ فِي الْمَغْنَمِ ؟ وَعَنْ سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى ؟ فَكَتَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لِلْعَبْدِ فِي الْمَغْنَمِ وَلَكِنْ يَرْضَخُ لَهُ الْحَدِيثُ وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ الِاسْتِفْتَاءَ بِالْكِتَابِ كَانَ مَعْرُوفًا فِيهِمْ فَإِنَّ نَجْدَةَ كَانَ حَرُورِيًّا وَهُمْ كَانُوا قَوْمًا يَسْأَلُونَ سُؤَالَ التَّعَمُّقِ فَكَانَ كَثِيرًا مَا يَكْتُبُ نَجْدَةُ إلَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَتَّى رُبَّمَا كَانَ يَضْجَرُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَيَقُولُ : لَا يَزَالُ يَأْتِينَا بِأُحْمُوقَةٍ مِنْ خَاطِرِهِ ، وَمَعَ هَذَا كَانَ يُجِيبُهُ فِيمَا كَتَبَ إلَيْهِ وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ لَا يُسْهَمُ لِلْعَبْدِ كَمَا يُسْهَمُ لِلْحُرِّ وَبِهِ نَأْخُذُ فَإِنَّ الْعَبْدَ تَبَعٌ لِلْحُرِّ وَلَيْسَ مِنْ أَهْلِ أَنْ يُجَاهِدَ بِنَفْسِهِ حَتَّى كَانَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ الْخُرُوجِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَلَا يُسَوَّى بَيْنَ الْأَصْلِ وَالتَّبَعِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَلَكِنْ يَرْضَخُ لَهُ إذَا قَاتَلَ بِحَسْب جُرْأَتِهِ وَغَنَائِهِ وَكِفَايَتِهِ وَكَتَبَ إلَيْهِ أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَخْرُجْنَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدَاوِينَ الْجَرْحَى وَكَانَ يَرْضَخُ لَهُنَّ وَخُرُوجُ النِّسَاءِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَشْهُورٌ فِي الْآثَارِ وَمِنْهُنَّ مَنْ كَانَتْ تُقَاتِلُ مَعَهُ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ أُمَّ سُلَيْمٍ بِنْتَ مِلْحَانَ قَاتَلَتْ يَوْمَ حُنَيْنٍ شَادَّةً عَلَى بَطْنِهَا وَكَانَتْ حَامِلًا حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَمَقَامُهَا خَيْرٌ مِنْ مَقَامِ فُلَانٍ وَفُلَانٍ } يَعْنِي الَّذِينَ انْهَزَمُوا وَهِيَ الَّتِي قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا نُقَاتِلُ
هَؤُلَاءِ الْفَرَّارِينَ كَمَا قَاتَلْنَا الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : عَافِيَةُ اللَّهِ أَوْسَعُ لَنَا } وَأُمُّ أَيْمَنَ كَانَتْ تَخْرُجُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتُدَاوِي الْجَرْحَى وَتَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى وَبَعْضُ الْعَجَائِزِ كَانَتْ تَخْرُجُ مَعَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلطَّبْخِ وَالْخَبْزِ وَسَقْيِ الْمَاءِ وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِخُرُوجِ الْعَجَائِزِ مَعَ الْجَيْشِ لِهَذِهِ الْأَعْمَالِ ثُمَّ يُرْضَخُ لَهُنَّ لِأَنَّهُنَّ أَتْبَاعٌ كَالْعَبِيدِ وَلِأَنَّهُنَّ عَاجِزَاتٌ عَنْ الْقِتَالِ بِنْيَةً وَالْعَبِيدُ يَعْجِزُونَ عَنْ ذَلِكَ بِمَنْعِ الْمَوَالِي فَاسْتَوَيَا فِي الْمَعْنَى فَلِهَذَا يُرْضَخُ لِلْفَرِيقَيْنِ وَكَتَبَ أَنَّهُ لَا حَقَّ لِلصَّبِيِّ فِي الْمَغْنَمِ حَتَّى يَحْلُمَ وَإِنَّمَا أَرَادَ السَّهْمَ الْكَامِلَ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ اسْمُهُ فِيمَنْ يُسْهَمُ لَهُ مَا لَمْ يَبْلُغْ وَبِهِ نَأْخُذُ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { : عُرِضْت عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ أُحُدٍ وَأَنَا ابْنُ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً فَرَدَّنِي ثُمَّ عُرِضْت عَلَيْهِ يَوْمَ الْخَنْدَقِ وَأَنَا ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَأَجَازَنِي } وَلَكِنْ يُرْضَخُ لِلصَّبِيِّ إذَا قَاتَلَ فَقَدْ كَانَ فِي الصَّبِيَّانِ مَنْ يُقَاتِلُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا رُوِيَ { أَنَّهُ عُرِضَ عَلَيْهِ صَبِيٌّ فَرَدَّهُ فَقِيلَ : إنَّهُ رَامٍ فَأَجَازَهُ وَعُرِضَ عَلَيْهِ صَبِيَّانِ فَرَدَّ أَحَدَهُمَا وَأَجَازَ لِآخَرَ فَقَالَ الْمَرْدُودُ : أَجَزْتَهُ وَرَدَدْتَنِي وَلَوْ صَارَعْتُهُ لَصَرَعْتُهُ فَقَالَ : صَارِعْهُ فَصَارَعَهُ فَصَرَعَهُ فَأَجَازَهُمَا } وَالْمُرَادُ الْإِجَازَةُ فِي الْمُقَاتِلِينَ لِيُرْضَخَ لَهُمَا لَا لِيُسْهَمَ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُسْتَحَقُّ السَّهْمُ إلَّا بَعْدَ الْبُلُوغِ وَذُكِرَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : لَا حَقَّ لِلْعَبْدِ فِي الْمَغْنَمِ وَالْمُرَادُ : السَّهْمُ الْكَامِلُ ، فَأَمَّا الرَّضْخُ ثَابِتٌ
لَهُ إذَا قَاتَلَ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ أَوْ الْمُرَادُ الْآبِقُ الْخَارِجُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ وَهَذَا لَا حَقَّ لَهُ بَلْ يُؤَدَّبُ عَلَى فِعْلِهِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَسَّمَ غَنَائِمَ بَدْرٍ بَعْدَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ } وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا لِيُبَيِّنَ أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَشْتَغِلُ بِالْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُحْتَاجِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ثُمَّ أَخَّرَ الْقِسْمَةَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَدَلَّ أَنَّهَا لَا تُقَسَّمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَاَلَّذِي يَرْوِيهِ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَسَّمَهَا بِالسَّيْرِ شِعْبٌ مِنْ شِعَابِ الصَّفْرَاءِ وَالصَّفْرَاءُ مِنْ بَدْرٍ لَا يَكَادُ يَصِحُّ بَلْ الْمَشْهُورُ أَنَّهُ قَسَّمَ بِالْمَدِينَةِ حَتَّى { طَلَبَ مِنْهُ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنْ يَضْرِبَ لَهُ فِيهَا بِسَهْمٍ فَفَعَلَ قَالَ : وَأَجْرِي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : وَأَجْرُك } وَكَانَ خَلَّفَهُ بِالْمَدِينَةِ عَلَى ابْنَتِهِ رُقَيَّةَ يُمَرِّضُهَا فَمَاتَتْ قَبْلَ قُدُومِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ قَدِمَ عَلَيْنَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بَشِيرًا بِفَتْحِ بَدْرٍ حِينَ سَوَّيْنَا عَلَى رُقَيَّةَ يَعْنِي التُّرَابَ عَلَى قَبْرِهَا { وَسَأَلَهُ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَضْرِبَ لَهُ بِسَهْمٍ وَكَانَ غَائِبًا بِالشَّامِ فَوَافَقَ قُدُومُهُ قِسْمَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَرَبَ لَهُ بِسَهْمٍ قَالَ : وَأَجْرِي يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ : وَأَجْرُك } وَتَكَلَّمُوا فِي ضَرْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمَا بِالسَّهْمِ وَلَمْ يَشْهَدَا بَدْرًا فَذَكَر الْوَاقِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ ضَرَبَ لِثَمَانِيَةِ نَفَرٍ مِمَّنْ لَمْ يَشْهَدُوا بَدْرًا بِالسَّهْمِ فَقِيلَ : إنَّمَا ضَرَبَ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لِأَنَّ تَخَلُّفَهُ كَانَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُمَرِّضَ ابْنَتَهُ وَكَانَتْ تَحْتَهُ
وَكَانَ فِي ذَلِكَ فَرَاغُ قَلْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْتَحَقَ هُوَ بِمَنْ شَهِدَ بَدْرًا .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ وَعَدَ لَهُ الْأَجْرَ وَطَلْحَةُ كَانَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَتَجَسَّسَ خَبَرَ الْعِيرِ فَكَانَ مَشْغُولًا بِعَمَلِ الْمُسْلِمِينَ فَجَعَلَهُ كَمَنْ شَهِدَ بَدْرًا وَقِيلَ : بَلْ كَانَ أَسْهَمَ لَهُمَا لِأَنَّهُمَا كَالْمَدَدِ أَمَّا طَلْحَةُ فَقَدْ كَانَ فِي دَارِ الْحَرْبِ عَازِمًا عَلَى اللُّحُوقِ بِالْمُسْلِمِينَ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِنْ كَانَ بِالْمَدِينَةِ فَالْمَدِينَةُ إنَّمَا كَانَ لَهَا حُكْمُ دَارِ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ حِينَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فِيهَا ، فَأَمَّا بَعْدَ خُرُوجِهِمْ فَقَدْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ فِيهَا لِلْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ ، وَهُوَ دَلِيلٌ لَنَا عَلَى أَنَّ الْمَدَدَ إذَا لَحِقَ الْجَيْشَ فِي دَارِ الْحَرْبِ شَرَكَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ الْوَقْعَةَ .
وَقِيلَ : إنَّمَا أَسْهَمَ لَهُمَا لِأَنَّ الْأَمْرَ فِي غَنَائِمِ بَدْرٍ كَانَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْطِي مَنْ يَشَاءُ وَيَمْنَعُ مِنْ يَشَاءُ ؛ أَمَّا لِأَنَّهَا أُصِيبَتْ بِمَنْعَةِ السَّمَاءِ ، أَوْ لِأَنَّهَا كَثُرَتْ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمْ فِيهَا عَلَى مَا رُوِيَ { عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : سَاءَتْ أَخْلَاقُنَا يَوْمَ بَدْرٍ فَحُرِمْنَا ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ فَقَالَ : كُنَّا ثَلَاثَ فِرَقٍ فِرْقَةٌ كَانُوا حَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِرْقَةٌ جَمَعُوا الْغَنَائِمَ وَفِرْقَةٌ اتَّبَعُوا الْمُنْهَزِمِينَ فَجَعَلَتْ كُلُّ فِرْقَةٍ تَقُولُ : الْغَنِيمَةُ لَنَا فَارْتَفَعَتْ أَصَوْتُنَا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاكِتٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْأَنْفَالِ قُلْ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ } } فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْأَمْرَ كَانَ فِي غَنَائِمِ بَدْرٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِهَذَا أَعْطَى مَنْ أَعْطَى مِمَّنْ لَمْ
يَحْضُرْ ، وَذُكِرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَالْكَلْبِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَسَّمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ بَعْدَ مُنْصَرَفِهِ مِنْ الطَّائِفِ بِالْجِعْرَانَةِ } وَفِي هَذَا دَلِيلُ أَنَّهَا لَا تُقَسَّمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَإِنَّهُ أَخَّرَ الْقِسْمَةَ حَتَّى انْتَهَى إلَى الْجِعْرَانَةِ وَكَانَتْ حُدُودَ دَارِ الْإِسْلَامِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ؛ لِأَنَّ فَتْحَ حُنَيْنٍ كَانَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ وَالْجِعْرَانَةُ مِنْ نَوَاحِي مَكَّةَ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الْأَعْرَابَ طَالِبُوهُ بِالْقِسْمَةِ وَأَحَاطُوا بِهِ يَقُولُونَ : أَقْسِمْ بَيْنَنَا مَا أَفَاءَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا حَتَّى أَلْجَئُوهُ إلَى سُمْرَةَ وَجَذَبَ بَعْضُهُمْ رِدَاءَهُ فَتَخَرَّقَ فَقَالَ : اُتْرُكُوا لِي رِدَائِي فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْعِضَاهُ إبِلًا وَبَقَرًا وَغَنَمًا لَقَسَمْتُهَا بَيْنَكُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُونَنِي جَبَانًا وَلَا بَخِيلًا ، فَمَعَ كَثْرَةِ مُطَالَبَتِهِمْ أَخَّرَ الْقِسْمَةَ حَتَّى انْتَهَى إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَدَلَّ أَنَّهَا لَا تُقَسَّمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ .
( قَالَ ) وَأَمَّا خَيْبَرُ فَإِنَّهُ افْتَتَحَ الْأَرْضَ وَجَرَى فِيهَا حُكْمُهُ فَكَانَتْ الْقِسْمَةُ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ الْقِسْمَةِ فِي الْمَدِينَةِ وَقَسَّمَ الْغَنَائِمَ فِيهَا قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا فَفِي هَذَا دَلِيلُ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا افْتَتَحَ بَلْدَةً وَصَيَّرَهَا دَارَ إسْلَامٍ بِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِيهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَسِّمَ الْغَنَائِمَ فِيهَا ، وَقَدْ طَالَ مَقَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ بَعْدَ الْفَتْحِ وَأَجْرَى أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِيهَا فَكَانَتْ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ الْقِسْمَةُ فِيهَا كَالْقِسْمَةِ فِي غَيْرِهَا مِنْ بِقَاعِ دَارِ الْإِسْلَامِ .
( قَالَ ) : وَقَسَّمَ غَنَائِمَ بَنِي الْمُصْطَلِقِ فِي دِيَارِهِمْ وَكَانَ قَدْ افْتَتَحَهَا يَعْنِي صَيَّرَهَا دَارَ الْإِسْلَامِ وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ مَكْحُولٍ قَالَ { : مَا قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْغَنَائِمَ إلَّا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ } وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تُقَسَّمُ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّ الْأَفْعَالَ الْمُتَّفِقَةَ فِي الْأَوْقَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ لَا تَكُونُ إلَّا عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ إلَّا لِدَاعٍ يَدْعُو إلَيْهَا وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا لِكَرَاهَةِ الْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَى الْفَارِسَ سَهْمَيْنِ وَالرَّاجِلَ سَهْمًا يَوْمَ بَدْرٍ } وَإِنَّمَا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ مَعَ الْمُسْلِمِينَ فَرَسَانِ وَسَبْعُونَ بَعِيرًا فَفِي هَذَا دَلِيلُ أَنَّهُ يُسْهَمُ لِلْفَرَسِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْبَهَائِمِ وَهَذَا لِأَنَّ الْإِرْهَابَ الَّذِي يَحْصُلُ بِالْخَيْلِ لَا يَحْصُلُ بِغَيْرِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ } وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّهُ يُسْهَمُ لِلْفَرَسِ سَهْمٌ وَاحِدٌ وَهُوَ حُجَّةٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُمَا يَقُولَانِ : لِلْفَرَسِ سَهْمَانِ وَلِلرَّجُلِ سَهْمٌ وَاحِدٌ وَقَدْ وَرَدَ بِهِ بَعْضُ الْآثَارِ وَلَكِنْ رَجَّحَ أَبُو
حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدِيثَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي غَنَائِمِ بَدْرٍ قَالَ : السَّهْمُ الْوَاحِدُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ لِاتِّفَاقِ الْآثَارِ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ مَشْكُوكٌ فِيهِ لِاشْتِبَاهِ الْآثَارِ فَلَا أُعْطِيَنَّهُ إلَّا الْمُتَيَقَّنَ وَلَا أُفَضِّلُ بَهِيمَةً عَلَى آدَمِيٍّ وَسَنُقَرِّرُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي جَعْلِ الْقَاعِدِ لِلشَّاخِصِ : مَا جُعِلَ مِنْ ذَلِكَ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَمَا صَنَعَ ذَلِكَ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ فَلَا خَيْرَ فِيهِ .
وَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ التَّجَاعُلِ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ مَنْ خَرَجَ لِلْجِهَادِ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَجْتَعِلَ مِنْ غَيْرِهِ وَاعْتَمَدُوا فِيهِ مَا رُوِيَ { أَنَّ رَجُلًا اُسْتُؤْجِرَ بِدِينَارَيْنِ لِلْجِهَادِ فَلَمَّا جَاءَ يَطْلُبُ الْغَنِيمَةَ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : بِكَمْ اُسْتُؤْجِرَتْ قَالَ بِدِينَارَيْنِ قَالَ : إنَّمَا لَك دِينَارَانِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ } وَلَكِنَّا نَقُولُ بِهَذَا الْحَدِيثِ فَنَقُولُ : الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْجِهَادِ لَا يَجُوزُ وَالتَّجَاعُلُ لَيْسَ بِاسْتِئْجَارٍ وَلَكِنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى السَّيْرِ وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَجِهَادٌ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ جَمِيعًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ } وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا { إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ } وَأَحْوَالُ النَّاسِ مُتَفَاوِتَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى إقَامَةِ الْفَرْضِ بِهِمَا وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى إقَامَةِ الْجِهَادِ بِالنَّفْسِ لِصِحَّةِ بَدَنِهِ وَيَعْجِزُ عَنْ الْخُرُوجِ لِفَقْرِهِ وَالْآخَرُ يَعْجِزُ عَنْ الْخُرُوجِ وَالْجِهَادِ بِالنَّفْسِ لِمَرَضٍ أَوْ آفَةٍ وَيَقْدِرُ عَلَى الْجِهَادِ بِالْمَالِ فَيُجَهِّزُ بِمَالِهِ مَنْ يَخْرُجُ فَيُجَاهِدُ بِنَفْسِهِ حَتَّى يَكُونَ الْخَارِجُ مُجَاهِدًا بِالنَّفْسِ وَالْقَاعِدُ الْمُعْطِي الْمَالَ مُجَاهِدًا بِالْمَالِ وَالْمُؤْمِنُونَ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَلِهَذَا كَرِهَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِقَابِضِ الْمَالِ أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ فِي مَتَاعِ بَيْتِهِ لِأَنَّ الْمُعْطِيَ أَمَرَهُ بِالْجِهَادِ بِهِ وَذَلِكَ فِي اسْتِعْدَادِهِ لَهُ وَالْإِنْفَاقِ فِي الطَّرِيقِ عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ عَلَى وَجْهَيْنِ عِنْدَنَا إنْ قَالَ : هَذَا الْمَالُ لَك فَاغْزُ بِهِ فَلَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى مَا يَشَاءُ لِأَنَّهُ
مَلَّكَهُ الْمَال ثُمَّ أَشَارَ عَلَيْهِ بِأَنْ يَصْرِفَهُ إلَى الْجِهَادِ فَإِنْ شَاءَ قَبِلَ مَشُورَتَهُ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبَلْ وَإِنْ قَالَ اُغْزُ بِهَذَا الْمَالِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَصْرِفَهُ إلَى مَتَاعِ بَيْتِهِ وَلَكِنْ يَشْتَرِي بِهِ الْكُرَاعَ وَالسِّلَاحَ وَيُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ فِي طَرِيقِ الْجِهَادِ وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الْحَجِّ .
وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يُغْزِي الْعَزَبَ عَنْ ذِي الْحَلِيلَةِ وَيُعْطِي الْغَازِيَ فَرَسَ الْقَاعِدِ وَأَنَّهُ كَانَ حَسَنَ التَّدْبِيرِ وَالنَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ فَمِنْ حُسْنِ نَظَرِهِ هَذَا أَنَّ ذَا الْحَلِيلَةِ قَلْبُهُ مَعَ أَهْلِهِ فَلَا يُطِيلُ الْمَقَامَ فِي الثَّغْرِ وَالْعَزَبُ لَا يَكُونُ قَلْبُهُ وَرَاءَهُ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ إطَالَةِ الْمَقَامِ فَلِهَذَا كَانَ يَأْمُرُ الْعَزَبَ بِالْخُرُوجِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِي الْأَعْزَبَ ، وَكَانَ يُعْطِي الْغَازِيَ فَرَسَ الْقَاعِدِ لِيَكُونَ صَاحِبُ الْفَرَسِ مَعَ زَوْجَتِهِ يَحْفَظُهَا ، وَيَكُونُ مُجَاهِدًا بِفَرَسِهِ ، وَالْخَارِجُ يَكُونُ مُجَاهِدًا بِبَدَنِهِ ثُمَّ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : إنَّمَا كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ بِالتَّرَاضِي فَأَمَّا عِنْدَ عَدَمِ الرِّضَى مَا كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ بَلْ كَانَ يُجَهِّزُ الْغَازِيَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إنْ لَمْ يَكُنْ مَالٌ فَإِنَّ مَالَ بَيْتِ الْمَالِ مُعَدٌّ لِذَلِكَ وَالْأَصَحُّ أَنْ نَقُولَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ وَمَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَى تَجْهِيزِ الْجَيْشِ لِيَذُبُّوا عَنْ الْمُسْلِمِينَ فَلَهُ أَنْ يَحْكُمَ عَلَى النَّاسِ بِقَدْرِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِذَلِكَ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ لِلْمُسْلِمِينَ وَإِنْ لَمْ يُجَهَّزْ الْجَيْشَ لِلدَّفْعِ ظَهَرَ الْمُشْرِكُونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَيَأْخُذُونَ الْمَالَ وَالذَّرَارِيَ وَالنُّفُوسَ فَمِنْ حُسْنِ التَّدْبِيرِ أَنْ يَتَحَكَّمَ عَلَى أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ بِقَدْرِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِتَجْهِيزِ الْجَيْشِ لِيَأْمَنُوا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ وَهُوَ الْمُرَادُ بِمَا ذَكَرَ بَعْدَهُ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ ضَرَبَ بَعْثًا عَلَى أَهْلُ الْكُوفَةِ فَرَفَعَ عَنْ جَرِيرٍ وَعَنْ وَلَدِهِ وَقَالَ جَرِيرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا نَقْبَلُ ذَلِكَ وَلَكِنْ نَجْعَلُ أَمْوَالَنَا لِلْغَازِي وَمَعْنَى ضَرْبِ الْبَعْثِ التَّحَكُّمُ عَلَيْهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ لِتَجْهِيزِ الْجَيْشِ فَكَأَنَّهُ مَنَّ عَلَى جَرِيرٍ وَوَلَدِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِأَنْ رَفَعَ ذَلِكَ عَنْهُمْ فَقَدْ كَانَ مُوَقَّرًا فِيهِمْ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُوَقِّرُهُ حَتَّى قَالَ جَرِيرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَا نَظَرَ إلَيَّ إلَّا تَبَسَّمَ وَلَوْ فِي صَلَاتِهِ لَكِنْ لَمْ يَقْبَلْ جَرِيرٌ هَذِهِ الْمِنَّةَ مِنْهُ لِعِلْمِهِ أَنَّ فِي الْجِهَادِ بِالْمَالِ مَعْنَى الثَّوَابِ وَاسْتِحْقَاقُ الْمُؤْمِنِ التَّوْقِيرَ بِكَوْنِهِ مُسْتَبِقًا إلَى الْخَيْرَاتِ وَالطَّاعَاتِ وَلَكِنْ قَالَ : لَا أُعْطِي الْمَالَ إلَيْك بَلْ أَدْفَعُ بِنَفْسِي إلَى مَنْ أَخْتَارُهُ مِنْ الْغُزَاةِ لِيَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مُجْبَرٍ عَلَى مَا يُعْطِي وَبِهَذَا يَسْتَدِلُّ مَنْ يَقُولُ مِنْ أَصْحَابِنَا إنَّ الْأَفْضَلَ لِلْمَرْءِ أَنْ يُشَارِكَ أَهْلَ مَحَلَّتِهِ فِي إعْطَاءِ النَّائِبَةِ .
وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الطَّاعَةِ فَأَمَّا فِي زَمَانِنَا إنَّمَا يُوجَدُ أَكْثَرُ النَّوَائِبِ بِطَرِيقِ الظُّلْمِ ، وَمَنْ تَمَكَّنَ مِنْ دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ فَذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ ، وَإِنْ أَرَادَ الْإِعْطَاءَ فَلْيُعْطِهِ مَنْ هُوَ عَاجِزٌ عَنْ دَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ أَدَاءِ الْمَالِ لِفَقْرِهِ حَتَّى يَسْتَعِينَ عَلَى دَفْعِ الظُّلْمِ فَيَنَالُ الْمُعْطِي الثَّوَابَ بِذَلِكَ وَعَنْ أَبِي مَرْزُوقٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ افْتَتَحَ قَرْيَةً بِالْمَغْرِبِ فَخَطَبَ أَصْحَابَهُ فَقَالَ : لَا أُحَدِّثُكُمْ إلَّا بِمَا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَمِعْتُهُ يَقُولُ يَوْمَ خَيْبَرَ { : مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُسْقِيَن مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ وَلَا يَتَّبِعْ
الْمَغْنَمَ حَتَّى يُقَسَّمَ وَلَا يَرْكَبْ دَابَّةً مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى إذَا أَعْجَفَهَا رَدَّهَا فِيهِ وَلَا يَلْبَسْ ثَوْبًا مِنْ فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى إذَا أَخَلْقَهُ رَدَّهُ فِيهِ } فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْجَيْشِ عِنْدَ الْفَتْحِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَخْطُبَ وَيُعَلِّمَ النَّاسَ فِي خُطْبَتِهِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَقَدْ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَعِنْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ فَمِمَّا ذُكِرَ عِنْدَهُ فِي فَتْحِ خَيْبَرَ هَذَا الْحَدِيثُ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ وَطْءُ الْحَبَالَى مِنْ الْفَيْءِ وَبِهِ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَبَايَا أَوْطَاسٍ : { أَلَا لَا تُوطَأُ الْحَبَالَى مِنْ الْفَيْءِ حَتَّى يَضَعْنَ وَلَا الْحَبَالَى حَتَّى يَسْتَبْرِئْنَ بِحَيْضَةٍ ، } وَفِي وَطْءِ الْحَامِلِ سَقْيُ مَائِهِ زَرْعَ غَيْرِهِ كَمَا فَسَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ قُوَّةَ سَمْعِ الْجَنِينِ وَبَصَرِهِ وَشَعْرِهِ بِمَاءِ الْوَاطِئِ فَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْغَازِي أَنْ يَبِيعَ نَصِيبَهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَا يَثْبُتُ لَهُ إلَّا بِالْقِسْمَةِ وَبَيْعُ مُجَرَّدِ الْحَقِّ لَا يَجُوزُ وَلِأَنَّ نَصِيبَهُ مَجْهُولٌ لَا يَدْرِي أَيْنَ يَقَعُ وَأَيُّ مِقْدَارٍ يَكُونُ ، وَلِلْإِمَامِ رَأْيٌ فِي بَيْعِ الْغَنَائِمِ وَقِسْمَةِ الثَّمَنِ فَإِنَّمَا يَبِيعُ مَا هُوَ مَجْهُولٌ جَهَالَةً مُتَفَاحِشَةً وَذَلِكَ بَاطِلٌ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ لِبَعْضِهِمْ الِانْتِفَاعُ بِدَوَابِّ الْغَنِيمَةِ وَثِيَابِهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَقَدْ سَمَّى ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِبَا الْغُلُولِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ وَنَهَى عَنْهُ وَلَكِنَّ هَذَا عِنْدَ عَدَمِ الْحَاجَةِ فَأَمَّا إذَا تَحَقَّقَتْ الْحَاجَةُ وَالضَّرُورَةُ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِغَيْرِ ضَمَانٍ وَفِي دَارِ الْإِسْلَامِ يُشْتَرَطُ ضَمَانُ النُّقْصَانِ لِأَنَّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ لَهُ أَنْ يَدْفَعَ الضَّرَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِمَالِ
الْغَيْرِ بِشَرْطِ الضَّمَانِ مَعَ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ فَلَأَنْ يَكُونَ لَهُ ذَلِكَ فِيمَا لَهُ فِيهِ حَقٌّ أَوْلَى .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { : أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَقَعَ فِي الْخَنْدَقِ فَمَاتَ فَأَعْطَى الْمُسْلِمُونَ بِجِيفَتِهِ مَالًا فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَنَهَاهُمْ } وَفِيهِ دَلِيلٌ لِأَبِي يُوسُفَ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْلِمِ بَيْعُ الْمَيِّتَةِ مِنْ الْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ بِمَالٍ فَإِنَّ مُطْلَقَ النَّهْيِ دَلِيلُ فَسَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ ، وَلَكِنَّهُمَا يَقُولَانِ : إنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْمُسْلِمِ الْمُسْتَأْمَنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَمَوْضِعُ الْخَنْدَقِ كَانَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ فَلِهَذَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ وَهَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ فَإِنَّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إنَّمَا لَا يَحِلُّ ذَلِكَ مَعَ الْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ فَأَمَّا مَعَ الْحَرْبِيِّ الَّذِي لَا أَمَانَ لَهُ يَجُوزُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّ مَالَهُ مُبَاحٌ فَلِلْمُسْلِمِ أَنْ يَأْخُذَهُ بِأَيِّ وَجْهٍ يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَكِنَّ الْأَصَحَّ أَنْ نَقُولَ : إنَّمَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ لِمَا عَرَفَ فِيهِ مِنْ الْكَبْتِ وَالْغَيْظِ لِلْمُشْرِكَيْنِ لَا لِأَنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ أَوْ لِئَلَّا يُظَنَّ بِالْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ يُجَاهِدُونَ لِطَلَبِ الْمَالِ بَلْ لِابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِعْزَازِ الدِّينِ .
وَعَنْ الشَّعْبِيِّ وَزِيَادِ بْنِ عِلَاقَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَتَبَ إلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنِّي قَدْ أَمْدَدْتُك بِقَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ فَمَنْ أَتَاك مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ تَتَفَقَّى الْقَتْلَى فَأَشْرِكْهُ فِي الْغَنِيمَةِ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا بَعَثَ جَيْشًا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَمُدَّهُمْ بِقَوْمٍ أُخَرَ لِيَزْدَادُوا بِهِمْ قُوَّةً وَأَنَّ الْمَدَدَ إذَا لَحِقَ الْجَيْشَ بَعْد إصَابَةِ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ فَإِنَّهُمْ يُشَارِكُونَهُمْ فِي الْمُصَابِ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ عُلَمَائِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَأَنَّ مُرَادَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ : الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ .
إذَا كَانَتْ الْوَقْعَةُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَمَنْ حَصَّلَ مِنْ الْمَدَدِ فِي دَارِ الْحَرْبِ كَانَ شَاهِدًا لِلْوَقْعَةِ مَعْنًى وَتَكَلَّمُوا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ : قَبْلَ أَنْ تَتَفَقَّى الْقَتْلَى .
قِيلَ : مَعْنَاهُ قَبْلَ أَنْ تَتَشَقَّقَ الْقَتْلَى بِطُولِ الزَّمَانِ فَجَعَلَ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ الِانْصِرَافِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَقِيلَ : مَعْنَاهُ قَبْلَ أَنْ يُمَيِّزَ قَتْلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَتْلَى الْمُشْرِكِينَ وَالتَّفَقُّؤُ عِبَارَةٌ عَنْ هَذَا وَمِنْهُ سُمِّيَ الْفَقِيهُ لِأَنَّهُ يُمَيِّزُ الصَّحِيحَ مِنْ السَّقِيمِ وَقَالَ الشَّاعِرُ : تَفَقَّأَ فَوْقَهُ الْقَلَعُ السَّوَارِي وَجُنَّ الْخَازِبَازِ بِهِ جُنُونًا .
وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِي تَتَقَفَّى الْقَتْلَى الْقَافُ قَبْلَ الْفَاءِ وَمَعْنَاهُ قَبْلَ أَنْ تَجْعَلُوا الْقَتْلَى عَلَى قَفَاكُمْ بِالِانْصِرَافِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَعَنْ أَبِي قُسَيْطٍ قَالَ : بَعَثَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ فِي خَمْسِمِائَةِ رَجُلٍ مَدَدًا لِزِيَادِ بْنِ لِبِيدٍ الْبَيَاضِيِّ وَالْمُهَاجِرِ بْنِ أُمَيَّةَ الْمَخْزُومِيِّ إلَى الْيَمَنِ فَأَتَوْهُمْ حَتَّى افْتَتَحُوا النُّجَيْرَ فَأَشْرَكَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ ، وَبِهَذَا يَسْتَدِلُّ مَنْ يَجْعَلُ لِلْمَدَدِ
شِرْكَةً وَإِنْ لَحِقُوا بِالْجَيْشِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ بِالْفَتْحِ قَدْ صَارَتْ تِلْكَ الْبُقْعَةُ دَارَ إسْلَامٍ وَلَكِنَّا نَقُولُ : تَأْوِيلُهُ أَنَّهُمْ فَتَحُوا وَلَمْ تَجْرِ أَحْكَامُ الْإِسْلَامِ فِيهَا بَعْدُ وَبِمُجَرَّدِ الْفَتْحِ قَبْلَ إجْرَاءِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ لَا تَصِيرُ دَارَ إسْلَامٍ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ أَيْضًا مَا رُوِيَ أَنَّ { أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْتَحَقَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَا فَتَحَ خَيْبَرَ ، } وَكَذَلِكَ جَعْفَرٌ مَعَ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَدِمُوا مِنْ الْحَبَشَةِ بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ حَتَّى قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا أَدْرِي بِأَيِّ الْأَمْرَيْنِ أَنَا أَشَدُّ فَرَحًا بِفَتْحِ خَيْبَرَ أَوْ بِقُدُومِ جَعْفَرٍ } وَلَمْ يُشْرِكْهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا أَدْرَكُوا بَعْدَ تَصَيُّرِ الْبُقْعَةِ دَارَ إسْلَامٍ فَلِهَذَا لَمْ يُسْهَمْ لَهُمْ ، مَعَ أَنَّ غَنَائِمَ خَيْبَرَ كَانَتْ عِدَةً مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ خَاصَّةً كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَعَدَكُمْ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ } وَهُمَا مَا كَانَا مِنْ أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ فَلِهَذَا لَمْ يُسْهَمْ لَهُمَا وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ لِلْمَدَدِ شِرْكَةً إذَا لَحِقُوا بِالْجَيْشِ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَا رُوِيَ أَنَّ أَهْلَ الْكُوفَةِ غَزَوْا نَهَاوَنْدَ فَأَمَدَّهُمْ أَهْلُ الْبَصْرَةِ بِأَلْفَيْ فَارِسٍ وَعَلَيْهِمْ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَدْرَكُوهُمْ بَعْدَ إصَابَةِ الْغَنِيمَةِ فَطَلَبَ عَمَّارٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الشِّرْكَةَ وَكَانَ عَلَى الْجَيْشِ رَجُلٌ مِنْ عُطَارِدَ فَقَالَ : يَا أَجْدَعُ أَتُرِيدُ أَنْ تُشْرِكَنَا فِي غَنَائِمِنَا فَقَالَ عَمَّارٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : خَيْرَ أُذُنَيَّ سَبَبْتَ وَكَانَ قَدْ قُطِعَتْ إحْدَى أُذُنَيْهِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غُزَاةٍ ثُمَّ رَفَعَ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَجَعَلَ لَهُمْ الشِّرْكَةَ فِي الْغَنِيمَةِ فَبِهَذِهِ الْآثَارِ يَأْخُذُ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ
اللَّهُ تَعَالَى .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعَانَ بِيَهُودِ قَيْنُقَاعَ عَلَى بَنِي قُرَيْظَةَ وَلَمْ يُعْطِهِمْ مِنْ الْغَنِيمَةِ شَيْئًا } وَفِي هَذَا دَلِيلُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْمُسْلِمِينَ أَنْ يَسْتَعِينُوا بِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْقِتَالِ مَعَ الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ كَرِهَ ذَلِكَ بَعْضُ النَّاسِ فَقَالُوا : فِعْلُ الْمُشْرِكِينَ لَا يَكُونُ جِهَادًا ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْلَطَ بِالْجِهَادِ مَا لَيْسَ بِجِهَادِ ، وَاسْتَدَلُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُشْرِكِينَ خَرَجَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ فَقَالَ : لَا يَغْزُ مَعَنَا إلَّا مَنْ كَانَ عَلَى دِينِنَا فَأَسْلَمَا } ، وَلَكِنَّا نَقُولُ فِي الِاسْتِعَانَةِ بِهِمْ : زِيَادَةُ كَبْتٍ وَغَيْظٍ لَهُمْ وَالِاسْتِعَانَةُ بِهِمْ كَالِاسْتِعَانَةِ بِالْكِلَابِ عَلَيْهِمْ ، وَإِنَّمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ لِعِلْمِهِ أَنَّ الرَّجُلَيْنِ يُسْلِمَانِ إذَا أَبَى ذَلِكَ عَلَيْهِمَا .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ { فَأَسْلَمَا ، } وَقِيلَ : كَانَ يَخَافُ الْغَدْرَ مِنْهُمَا لِضَعْفٍ كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ } ، وَإِذَا خَافَ الْإِمَامُ ذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَعِينَ بِهِمْ ، وَأَنْ يُمَكِّنَهُمْ مِنْ الِاخْتِلَاطِ بِالْمُسْلِمِينَ وَهُوَ تَأْوِيلُ مَا ذَكَرَ مِنْ حَدِيثِ الضَّحَّاكِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ يَوْمَ أُحُدٍ ، فَإِذَا كَتِيبَةٌ حَسْنَاءُ ، أَوْ قَالَ : خَشْنَاءُ ، فَقَالَ : مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ قَالُوا : يَهُودُ كَذَا وَكَذَا ، فَقَالَ : لَا نَسْتَعِينُ بِالْكُفَّارِ } ، أَوْ تَأْوِيلُهُ أَنَّهُمْ كَانُوا مُتَعَزِّزِينَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَا يُقَاتِلُونَ تَحْتَ رَايَةِ الْمُسْلِمِينَ ، وَعِنْدَنَا إنَّمَا يَسْتَعِينُ بِهِمْ إذَا كَانُوا يُقَاتِلُونَ تَحْتَ رَايَةِ الْمُسْلِمِينَ ، فَأَمَّا إذَا انْفَرَدُوا بِرَايَةِ أَنْفُسِهِمْ فَلَا يُسْتَعَانُ
بِهِمْ ، وَهُوَ تَأْوِيلُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { : لَا تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ الْمُشْرِكِينَ } ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : أَنَا بَرِيءٌ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ مَعَ مُشْرِكٍ } يَعْنِي : إذَا كَانَ الْمُسْلِمُ تَحْتَ رَايَةِ الْمُشْرِكِينَ .
وَعَنْ الْحَكَمِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَتَبَ إلَيْهِ فِي أَسِيرَيْنِ مِنْ الرُّومِ أَنْ لَا تَفَادَوْهُمَا وَإِنْ أُعْطِيتُمْ بِهِمَا مُدَّيْنِ مِنْ الذَّهَبِ ، وَلَكِنْ اُقْتُلُوهُمَا أَوْ يُسْلِمَا ، فَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ مُفَادَاةُ الْأَسِيرِ بِالْمَالِ كَمَا هُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَنَا بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ صَحَّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَادَى الْأَسْرَى يَوْمَ بَدْرٍ ، وَكَانَ الْفِدَاءُ أَرْبَعَةَ آلَافٍ } ، إلَّا أَنَّهُ انْتَسَخَ ذَلِكَ بِنُزُولِ قَوْله تَعَالَى { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى } إلَى قَوْلِهِ { لَوْلَا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ أَشَارَ عَلَيْهِ بِالْفِدَاءِ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُشِيرُ بِالْقَتْلِ ، فَمَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى رَأْيِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِحَاجَةِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ إلَى الْمَالِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ { لَوْ نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ عَذَابٌ مَا نُجِّيَ مِنْ ذَلِكَ إلَّا عُمَرَ ، } فَلِهَذَا بَالَغَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي النَّهْيِ عَنْ الْمُفَادَاةِ بِقَوْلِهِ : وَلَوْ أُعْطِيتُمْ بِهِمَا مُدَّيْنِ مِنْ ذَهَبٍ فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَسِيرَ يُقْتَلُ إنْ لَمْ يُسْلِمْ ، وَمِمَّنْ قَتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَسَارَى بَدْرٍ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ { قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قَدِّمْهُ وَاضْرِبْ عُنُقَهُ وَأَوْفِ بِنَذْرِ نَبِيِّك } { وَمَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي عَزَّةَ يَوْمَ بَدْرٍ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُعِينَ عَلَيْهِ ، وَكَانَ شَاعِرًا فَوَقَعَ أَسِيرًا يَوْمَ أُحُدٍ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ ، وَكَانَ طَلَبَ أَنْ يَمُنَّ عَلَيْهِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَا تُحَدِّثْ الْعَرَبَ
أَنِّي خَدَعْتُ مُحَمَّدًا مَرَّتَيْنِ } ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : لَا يُقْتَلُ الْأَسِيرُ وَلَكِنْ يُفَادَى أَوْ يُمَنُّ عَلَيْهِ ، وَكَأَنَّهُمَا اعْتَمَدَا ظَاهِرَ قَوْله تَعَالَى { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً } وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِقَوْلِهِمَا فَإِنَّ حُكْمَ الْمَنِّ وَالْمُفَادَاةُ بِالْمَالِ قَدْ اُنْتُسِخَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } ؛ لِأَنَّ سُورَةَ بَرَاءَةٌ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ ، وَذُكِرَ فِي بَعْضِ النَّوَادِرِ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : كَانَ ذَلِكَ فِي عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ مِنْ الْعَرَبِ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُمْ ، فَلَمْ يَكُنْ فِي الْمَنِّ وَالْمُفَادَاةِ إبْطَالُ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ عَمَّا ثَبَتَ حَقُّهُمْ فِيهِ ، وَلَكِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ وَالصَّحِيحُ مَا بَيَّنَّا أَنَّ حُكْمَ الْمَنِّ وَالْمُفَادَاةِ قَدْ انْتَسَخَ وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ إلَّا إذَا عَرَفَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ مَنْفَعَةً عَامَّةً كَمَا رُوِيَ { أَنْ ثُمَامَةَ بْنَ أَثَالٍ الْحَنَفِيَّ سَيِّدَ أَهْلِ الْيَمَامَةِ أَسَرَهُ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِي اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةِ الْمَسْجِدِ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : مَا وَرَاءَك يَا ثُمَامَةُ فَقَالَ : إنْ عَاقَبْت عَاقَبْت ذَا ذَنْبٍ وَإِنْ مَنَنْت مَنَنْت عَلَى شَاكِرٍ وَإِنْ أَرَدْت الْمَالَ فَعِنْدِي مِنْ الْمَالِ مَا شِئْت فَمَنَّ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَرْطِ أَنْ يَقْطَعَ الْمِيرَةَ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَفَعَلَ ذَلِكَ حَتَّى قَحَطُوا } .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : لَمْ يُخَمَّسْ طَعَامُ خَيْبَرَ وَكَانَ قَلِيلًا فَكَانَ أَحَدُنَا إذَا احْتَاجَ إلَى شَيْءٍ أَخَذَ قَدْرَ حَاجَتِهِ .
وَفِي هَذَا دَلِيلُ أَنَّهُ يُبَاحُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْغَانِمِينَ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ كَانَ يُخَمِّسُ الْغَنِيمَةَ إلَّا الطَّعَامَ وَالْعَلَفَ فَكَانَ يَأْخُذُ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ } وَكَتَبَ صَاحِبُ جَيْشِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالشَّامِ إلَيْهِ : إنَّا افْتَتَحْنَا أَرْضًا كَثِيرَةَ الطَّعَامِ فَكَرِهْت أَنْ أُمْضِيَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا إلَّا بِأَمْرِك فَكَتَبَ إلَيْهِ : دَعْ النَّاسَ لِيُصِيبُوا مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ حَاجَتِهِمْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَبِيعُوا فَمَنْ بَاعَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ وَجَبَ فِيهِ خُمُسُ اللَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ وَبِهَذِهِ الْآثَارِ نَأْخُذُ التَّسَاهُلَ فِي أَمْرِ الطَّعَامِ بِالنَّاسِ وَلِلْعِلْمِ بِتَجَدُّدِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَعَجْزِهِمْ عَنْ الْحَمْلِ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ لِلذَّهَابِ وَالرُّجُوعِ إذَا أَمْعَنُوا فِي دَارِ الْحَرْبِ فَقَدْ رُوِيَ { عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُفَضَّلِ قَالَ : دُلِّيَ عَلَيَّ جِرَابٌ مِنْ شَحْمٍ مِنْ بَعْضِ حُصُونِ خَيْبَرَ فَاحْتَضَنْتُهُ وَقُلْتُ فِي نَفْسِي لَا أُعْطِي أَحَدًا مِنْهُ شَيْئًا فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَنْظُرُ إلَيَّ وَيَتَبَسَّمُ ، } وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِعِلْمِهِ بِحَاجَتِهِ .
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : الْمُسْلِمُونَ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ } ، وَالْمُرَادُ بِالْيَدِ النُّصْرَةُ يَعْنِي النُّصْرَةَ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ } وَفِي قَوْلِهِ { تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ } دَلِيلٌ لَنَا عَلَى الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْعَبِيدِ وَالْأَحْرَارِ فِي حُكْمِ الْقِصَاصِ وَلَا مَعْنَى لِاسْتِدْلَالِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا اللَّفْظِ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ لِأَنَّ فِيهِ إثْبَاتَ التَّسَاوِي فِي دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ لَا نَفْيَ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ دِمَائِهِمْ وَدِمَاءِ غَيْرِهِمْ بَلْ ذَلِكَ مَفْهُومٌ وَالْمَفْهُومُ عِنْدَنَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَبِقَوْلِهِ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ يَسْتَدِلُّ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى صِحَّةِ أَمَانِ الْعَبْدِ فَإِنَّ أَدْنَى الْمُسْلِمِينَ الْعَبِيدُ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ مَعْنَاهُ يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَقْرَبُهُمْ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَهُوَ مَنْ يَسْكُنُ الثُّغُورَ مُشْتَقٌّ مِنْ الدُّنُوِّ وَهُوَ الْقُرْبُ لَا مِنْ الدَّنَاءَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى } وَقِيلَ : مَعْنَاهُ أَقَلُّهُمْ فِي الْقُرْبِ وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ الْقِلَّةِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ } فَيَكُون ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى صِحَّةِ أَمَانِ الْوَاحِدِ ، أَوْ الْمُرَادُ بِهِ الْفَاسِقُ لِأَنَّهُ لَا يُظَنُّ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْسُبَ الْعَبْدَ الْوَرِعَ إلَى الدَّنَاءَةِ ، وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِالذِّمَّةِ عَقْدُ الذِّمَّةِ دُونَ الْأَمَانِ وَذَلِكَ صَحِيحٌ مِنْ الْعَبْدِ عِنْدَنَا .
وَعَنْ أَبِي عُمَيْرٍ مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ قَالَ { : أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُقَسِّمُ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ فَقَالَ لِي : تَقَلَّدْ هَذَا السَّيْفَ فَتَقَلَّدْتُهُ فَجَرَرْتُهُ عَلَى الْأَرْضِ فَأَعْطَانِي مِنْ حَرْبِيِّ الْمَتَاعَ } ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْوِي مَوْلَى آبِي اللَّحْمِ وَالْأَشْهَرُ هُوَ الْأَوَّلُ لِأَنَّ مَوْلَاهُ كَانَ يَأْبَى اللَّحْمَ فَسُمِّيَ بِآبِي اللَّحْمِ وَفِي الْحَدِيثِ إشَارَةٌ إلَى صِغَرِهِ لِأَنَّ جَرَّ السَّيْفِ عَلَى الْأَرْضِ لِصِغَرِهِ وَقِيلَ : لَا بَلْ فَعَلَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْخُيَلَاءِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْمُبَارِزُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ وَفَائِدَةُ الْحَدِيثِ أَنَّ مَنْ قَاتَلَ مِمَّنْ لَا يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ لِصِغَرٍ أَوْ رِقٍّ فَإِنَّهُ يُرْضَخُ لَهُ لِأَنَّهُ أَعْطَاهُ مِنْ حَرْبِيِّ الْمَتَاعِ يَعْنِي الشَّفَقَ مِنْهُ عَلَى سَبِيلِ الرَّضْخِ .
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { : غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمُحَرَّمِ لِمُسْتَهَلِّ الشَّهْرِ وَأَقَامَ عَلَيْهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَفَتَحَهَا يَعْنِي الطَّائِفَ فِي صَفَرٍ } وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِالْقِتَالِ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ فَإِنَّ الْمُحَاصَرَةَ مِنْ الْقِتَالِ وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ نَصَبَ الْمَنْجَنِيقَ عَلَى الطَّائِفِ فَفِعْلُهُ بَيَانُ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ حُرْمَةِ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ قَدْ انْتَسَخَ ، وَكَانَ الْكَلْبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَنْسُوخٍ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِقَوْلِهِ فِي ذَلِكَ بَلْ بِمَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : النَّهْيُ عَنْ الْقَنَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ مَنْسُوخٌ نَسَخَهُ قَوْله تَعَالَى { اُقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ سُورَةَ بَرَاءَةَ مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ فَانْتَسَخَ بِهِ مَا كَانَ مِنْ الْحُكْمِ فِي قَوْله تَعَالَى { يَسْأَلُونَك عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ } الْآيَةُ .
( فَإِنْ قِيلَ ) كَيْفَ يَسْتَقِيمُ دَعْوَى النَّسْخِ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ } الْآيَةُ .
( قُلْنَا ) : الْمُرَادُ بِهِ مُضِيُّ مُدَّةِ الْأَمَانِ الَّذِي كَانَ لَهُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ { فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } وَوَافَقَ مُضِيُّ ذَلِكَ انْسِلَاخَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ وَالدَّلِيلُ عَلَى نَسْخِ حُرْمَةِ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ قَوْله تَعَالَى { مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } إلَى قَوْلِهِ { فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً } قِيلَ مَعْنَاهُ لَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ لِيَجْتَرِئُوا عَلَيْكُمْ بَلْ قَاتِلُوهُمْ كَافَّةً لِتَنْكَسِرَ شَوْكَتُهُمْ وَتَكُونَ النُّصْرَةُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ وَفِيمَا ذُكِرَ مِنْ
الْأَخْبَارِ فِي الْأَصْلِ عَنْ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَمَّنْ شَهِدَ الْمَشَاهِدَ قَالَ { : شَهِدْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ فَقَالَ : مَنْ كَانَتْ لَهُ عَانَةٌ فَاقْتُلُوهُ وَمَنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ عَانَةٌ فَخَلُّوا عَنْهُ فَكُنْت مِمَّنْ لَا عَانَةَ لَهُ فَخُلِّيَ عَنِّي } قُلْت : وَمَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَلَهُ عَانَةٌ فَالْعَانَةُ فِي اللُّغَةِ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَنْبُتُ عَلَيْهِ الشَّعْرُ وَلَكِنَّ الْمُرَادَ مَنْ نَبَتَ الشَّعْرُ عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مِنْهُ وَجُعِلَ اسْمُ الْمَوْضِعِ كِنَايَةً عَنْهُ وَبِهِ يَسْتَدِلُّ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يَجْعَلُ نَبَاتَ الشَّعْرِ دَلِيلَ الْبُلُوغِ وَلَسْنَا نَقُولُ بِهِ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِيهِ فَنَبَاتُ الشَّعْرِ فِي الْهُنُودِ يُسْرِعُ وَفِي الْأَتْرَاكِ يُبْطِئُ .
وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَفَ مِنْ طَرِيقِ الْوَحْيِ أَنَّ نَبَاتَ الشَّعْرِ فِي أُولَئِكَ الْقَوْمِ يَكُونُ عِنْدَ الْبُلُوغِ أَوْ أَرَادَ تَنْفِيذَ حُكْمِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ كَانَ مِنْ حُكْمِهِ بِأَنْ يَقْتُلَ مِنْهُمْ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمُوسَى لِعِلْمِهِ أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ فِيهِمْ .
وَذُكِرَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ وَالْكَلْبِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ سَهْمَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ خَيْبَرَ كَانَ مَعَ سَهْمِ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَسِّمَ الْغَنِيمَةَ عَلَى الْعُرَفَاءِ أَوَّلًا ثُمَّ يُقَسِّمُ كُلُّ عَرِيفٍ عَلَى مَنْ تَحْتَ رَايَتِهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَسْهَلَ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى تَوَاضُعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ بِاسْمِ نَفْسِهِ سَهْمًا وَلَكِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ تَحْتَ رَايَةِ غَيْرِهِ وَرُوِيَ أَنَّ أَوَّلَ السِّهَامِ خَرَجَ يَوْمئِذٍ سَهْمُ عَاصِمِ بْنِ عَدِيٍّ لِكَوْنِ سَهْمِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ .
وَذُكِرَ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : وَاَللَّهِ مَا يَصْلُحُ إلَيَّ مِنْ فَيْئِهِمْ وَلَا مِثْلُ هَذِهِ الْوَبَرَةِ أَخْذُهَا مِنْ سَنَامِ بَعِيرِهِ إلَّا الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ فَأَدُّوا الْخَيْطَ وَالْمِخْيَطَ فَإِنَّ الْغُلُولَ عَارٌ وَشَنَارٌ عَلَى أَهْلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ بِكُبَّةٍ مِنْ خُيُوطِ شَعْرٍ فَقَالَ : أَخَذْت هَذِهِ لِأَخِيطَ بِهَا بَرْدَعَةَ بَعِيرٍ لِي فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَّا نَصِيبِي فَهُوَ لَك فَقَالَ : أَمَّا إذَا بَلَغَتْ هَذَا فَلَا حَاجَةَ لِي بِهَا } وَفِيهِ دَلِيلُ حُرْمَةِ الْغُلُولِ وَأَنَّ ذَلِكَ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَيَسْتَدِلُّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْحَدِيثِ فِي جَوَازِ هِبَةِ الْمُشَاعِ فَقَدْ وَهَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَصِيبَهُ مِنْ الرَّجُلِ وَكَانَ مُشَاعًا وَلَكِنَّا نَقُولُ : مَقْصُودُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْمُبَالَغَةُ فِي الْمَنْعِ مِنْ الْغُلُولِ يَعْنِي أَنَّك تَطْلُبُ مِنِّي أَنْ أَجْعَلَ لَك هَذِهِ الْكُبَّةَ وَلَا وِلَايَةَ لِي إلَّا عَلَى نَصِيبِي مِنْهَا فَقَدْ جَعَلْت نَصِيبِي مِنْهَا لَك إنْ جَازَ لِيُبَيِّنَ بِهِ أَنَّهُ لَيْسَ لِلْإِمَامِ وِلَايَةُ إبْطَالِ حَقِّ الْغَانِمِينَ وَتَخْصِيصُ أَحَدِهِمْ بِشَيْءٍ مِنْهُ مَعَ أَنَّ الْكُبَّةَ مِنْ الشَّعْرِ لَا تَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ بَيْنَ الْجُنْدِ لِكَثْرَتِهِمْ فَإِنَّهُ لَا يُصِيبُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ شَيْئًا مُنْتَفَعًا بِهِ إذَا قُسِّمَتْ وَعِنْدَنَا هِبَةُ الْمُشَاعِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ يَجُوزُ وَعَنْ أَبِي الْمَلِيحِ بْنِ أُسَامَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ { : كُلُّ رِبًا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَأَوَّلُ رِبًا يُوضَعُ رِبَا الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ } زَادَ فِي رِوَايَةٍ { : وَكُلُّ دَمٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ وَأَوَّلُ دَمٍ يُوضَعُ دَمُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ } وَإِنَّ الْعَبَّاسَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ
يَوْمَ بَدْرٍ رَجَعَ إلَى مَكَّةَ بِإِذْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ يُرْبِي بِمَكَّةَ قَبْلَ نُزُولِ التَّحْرِيمِ وَبَعْدَ نُزُولِهِ لِأَنَّ حُكْمَ الرِّبَا لَا يَجْرِي بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْحَرْبِيِّ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَدْ كَانَتْ مَكَّةُ يَوْمئِذٍ دَارَ حَرْبٍ ، ثُمَّ بَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لَا خُصُومَةَ فِيهِ بَعْدَ الْفَتْحِ وَقِيلَ : مُرَادُهُ أَنَّهُ لَا مُطَالَبَةَ لَهُ بِمَا بَقِيَ مِنْهُ بَعْدَ الْفَتْحِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } وَإِنَّمَا بَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرِبَا الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا أَخْبَرَ أَنَّهُ مَوْضُوعٌ لِيُبَيِّنَ أَنَّ فِعْلَهُ لَيْسَ عَلَى نَهْجِ الْمُلُوكِ فَالْمُلُوكُ فِي الْأَوَامِرِ يَبْدَءُونَ بِالْأَجَانِبِ وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِعَمِّهِ لَيُبَيِّنَ لِلنَّاسِ أَنَّ الْقَرِيبَ وَالْبَعِيدَ عِنْدَهُ فِي حُكْمِ الشَّرْعِ سَوَاءٌ .
وَذَكَرَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ سَلَمَةَ قَالَ { : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَفِّلُ فِي الْبُدَاءَةِ الرُّبُعَ وَفِي الرَّجْعَةِ الثُّلُثَ : } وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ التَّنْفِيلِ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ } وَبِظَاهِرِهِ يَسْتَدِلُّ الْأَوْزَاعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي جَوَازِ التَّنْفِيلِ بَعْدَ الْإِصَابَةِ فَإِنَّ التَّنْفِيلَ فِي الرَّجْعَةِ يَكُونُ بَعْدَ الْإِصَابَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُرَادُ أَنَّهُ كَانَ يُنَفِّلُ السَّرِيَّةَ الْأُولَى الرُّبُعَ وَالسَّرِيَّةَ الثَّانِيَة الثُّلُثَ قَبْلَ الْإِصَابَةِ لَا بَعْدَهَا وَهَذَا لِأَنَّ التَّنْفِيلَ لِلتَّحْرِيضِ وَالْجَيْشُ فِي أَوَّلِ دُخُولِهِمْ يَنْشَطُونَ فِي الْقِتَالِ مَا لَا يَنْشَطُونَ بَعْدَ تَطَاوُلِ الْمُدَّةِ وَلِهَذَا قَلَّلَ نَفْلَ السَّرِيَّةِ الْأُولَى وَزَادَ فِي نَفْلِ السَّرِيَّةِ الثَّانِيَةِ وَلِأَنَّ السَّرِيَّةَ الثَّانِيَةَ يَحْتَاجُونَ إلَى أَنْ يُمْعِنُوا فِي الطَّلَبِ فَلِهَذَا زَادَ فِي النَّفْلِ لَهُمْ .
وَذَكَرَ عَنْ الزُّهْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَا تَعْقِرْ الْخَيْلَ فِي أَرْضِ الْعَدُوِّ } وَهُوَ دَلِيلُنَا عَلَى مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ يُجَوِّزُ الْعَقْرَ فِيمَا يَقُومُ عَلَيْهِ مِنْ الدَّوَابِّ مِنْ الْغَنِيمَةِ كَانَتْ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا لِحَدِيثِ جَعْفَرَ الطَّيَّارِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ لَمَّا اُسْتُقْتِلَ يَوْمَ مَوْتِهِ وَعَلِمَ أَنَّهُ لَا يَنْجُو مِنْهُمْ عَقَرَ فَرَسَهُ وَتَقَدَّمَ فِي نَحْرِ الْعَدُوِّ حَتَّى قُتِلَ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ فِي الْعَقْرِ مُثْلَةٌ { وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْمُثْلَةِ وَلَوْ بِالْكَلْبِ الْعَقُورِ } وَلَعَلَّ فِعْلَ جَعْفَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ قَبْلَ النَّهْيِ فَانْتَسَخَ بِهِ .
وَعَنْ الضَّحَّاكِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا بَعَثَ سَرِيَّةً قَالَ : لَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا وَلَا النِّسَاءَ وَلَا الشَّيْخَ الْكَبِيرَ } وَقَدْ بَيَّنَّا حُرْمَةَ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ مِنْهُمْ لِأَنَّهُمْ لَا يُقَاتِلُونَ وَكَذَلِكَ الشَّيْخُ الْكَبِيرُ الَّذِي أُمِنَ مِنْ قِتَالِهِ بِنَفْسِهِ وَرَأْيِهِ وَلَا يُرْجَى لَهُ نَسْلٌ أَمَّا إذَا كَانَ لَهُ رَأْيٌ يُقْتَلُ .
أَلَا تَرَى أَنَّ دُرَيْدَ بْنَ الصِّمَّةِ قُتِلَ يَوْمَ حُنَيْنٍ وَكَانَ ابْنَ مِائَةٍ وَسِتِّينَ سَنَةٍ وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ وَلَكِنَّهُمْ أَحْضَرُوهُ لِيَسْتَعِينُوا بِرَأْيِهِ وَأَشَارَ إلَيْهِمْ بِأَنْ يَرْفَعُوا الثِّقَلَ إلَى عُلْيَا بِلَادِهِمْ وَيَلْقَوْا الْمُسْلِمِينَ عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ بِسُيُوفِهِمْ فَخَالَفُوهُ فِي ذَلِكَ ، وَفِيهِ يَقُولُ أَمَرْتُهُمْ أَمْرِي بِمُنْعَرَجِ اللِّوَى فَلَمْ يَسْتَبِينُوا الرُّشْدَ إلَّا ضُحَى الْغَدِ وَإِنَّمَا قَتَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَأْيِهِ فِي الْحَرْبِ .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى أَنْ تَدْخُلَ الْمَصَاحِفُ أَرْضَ الْعَدُوِّ } وَالْمَشْهُورُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { : لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ } وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ تَنَالَهُ أَيْدِي الْعَدُوِّ وَيَسْتَخِفُّوا بِهِ فَعَلَى هَذَا النَّهْيِ فِي سَرِيَّةٍ لَيْسَتْ لَهُمْ مَنَعَةٌ قَوِيَّةٌ فَأَمَّا إذَا كَانُوا جُنْدًا عَظِيمًا كَالصَّائِفَةِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَبَرَّكَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ بِحَمْلِ الْمُصْحَفِ مَعَ نَفْسِهِ لِيَقْرَأَ فِيهِ لِأَنَّهُمْ يَأْمَنُونَ مِنْ ذَلِكَ لِقُوَّتِهِمْ وَشَوْكَتِهِمْ .
( فَإِنْ قِيلَ ) : أَهْلُ الشِّرْكِ وَإِنْ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ بِكَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى فَيُقِرُّونَ أَنَّهُ كَلَامٌ حَكِيمٌ فَصِيحٌ فَكَيْفَ يَسْتَخِفُّونَ بِهِ ، ( قُلْنَا ) إنَّمَا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ مُغَايَظَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْقَرَامِطَةِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَظْهَرُوا فِيهِ اعْتِقَادَهُمْ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ رِزَامٍ فِي كِتَابِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْمَصَاحِفِ وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُشْكَلِ الْآثَارِ أَنَّ هَذَا النَّهْيَ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ يَخَافُ فَوْتَ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ مِنْ أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ فَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَقَدْ كَثُرَتْ الْمَصَاحِفُ وَكَثُرَ الْحَافِظُونَ لِلْقُرْآنِ عَنْ ظَهْرِ الْقَلْبِ فَلَا بَأْسَ بِحَمْلِ الْمُصْحَفِ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ لِأَنَّهُ لَا يُخَافُ فَوْتُ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَإِنْ وَقَعَ بَعْضُ الْمَصَاحِفِ فِي أَيْدِيهِمْ .
وَذُكِرَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُزَ قَالَ : أَنَا كَتَبْت كِتَابَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إلَى نَجْدَةَ كَتَبْت إلَيَّ تَسْأَلُنِي عَنْ قَتْلِ الْوِلْدَانِ وَإِنَّ عَالِمَ مُوسَى قَتَلَ وَلَيَدًا وَقَدْ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَتْلِ الْوِلْدَانِ } فَلَوْ كُنْت تَعْلَمُ فِي الْوِلْدَانِ مَا كَانَ يَعْلَمُ عَالِمُ مُوسَى كَانَ ذَلِكَ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ نَجْدَةَ كَانَ يَسْأَلُ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سُؤَالَ التَّعَمُّقِ حَتَّى سَأَلَهُ يَوْمًا لِمَاذَا طَلَبَ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْهُدْهُدَ قَالَ : لِيُخْبِرَهُ بِالْمَاءِ فَإِنَّهُ يُبْصِرُ الْمَاءَ تَحْتَ الْأَرْضِ وَإِنْ كَانَ إلَى مِائَةِ ذِرَاعٍ فَقَالَ : إنَّهُ لَا يُبْصِرُ الْفَخَّ تَحْتَ التُّرَابِ فَكَيْفَ يُبْصِرُ الْمَاءَ تَحْتَ الْأَرْضِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إذَا جَاءَ الْقَضَا عَمِيَ الْبَصَرُ وَمِمَّا سَأَلَهُ هَذَا لِذَا رَوَاهُ وَجَوَابُهُ مَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إنَّ عَالِمَ مُوسَى كَانَ يَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ الْغُلَامِ مَا أَظْهَرَهُ لِمُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حِينَ اسْتَعْظَمَ ذَلِكَ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَذَكَرَ الطَّحْطَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ الْغُلَامَ الَّذِي قَتَلَهُ عَالِمُ مُوسَى كَانَ بَالِغًا فَقَدْ كَانَ عَاقِلًا مُمَيِّزًا وَالْبُلُوغُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ بِالْعَقْلِ ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ وَكَتَبْت تَسْأَلُنِي عَنْ الْيَتِيمِ مَتَى يَخْرُجُ مِنْ الْيُتْمِ ؟ فَإِذَا احْتَلَمَ يَخْرُجُ مِنْ الْيُتْمِ وَيُضْرَبُ لَهُ بِسَهْمٍ وَهَذَا لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يُتْمَ بَعْدَ الْحُلُمِ } وَاَلَّذِي رُوِيَ أَنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يُسَمُّونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتِيمَ أَبِي طَالِبٍ بَعْدَ الْمَبْعَثِ قَدْ كَانُوا يَقْصِدُونَ الِاسْتِخْفَافَ بِهِ لَا أَنَّهُ فِي الْحَالِ يَتِيمٌ قِيلَ هَذَا لُطْفٌ مِنْ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَشْتُمُونَ يَتِيمًا وَهُوَ
لَمْ يَكُنْ يَتِيمًا وَلَا تَتَنَاوَلُهُ تِلْكَ الشَّتْمَةُ كَمَا رُوِيَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَهُ مُذَمَّمًا وَيَشْتُمُونَ مُذَمَّمًا وَهُوَ كَانَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا تَتَنَاوَلُهُ تِلْكَ الشَّتْمَةُ فَهَذَا مِثْلُهُ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآبُ .
.
بَابُ مُعَامَلَةِ الْجَيْشِ مَعَ الْكُفَّارِ ( قَالَ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَإِذَا غَزَا الْجَيْشُ أَرْضًا لَمْ تَبْلُغْهُمْ الدَّعْوَةُ لَا يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَدْعُوهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ لِيَعْرِفُوا أَنَّهُمْ عَلَى مَاذَا يُقَاتِلُونَ وَهُوَ مَعْنَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا { مَا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمًا حَتَّى دَعَاهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ } وَلَوْ قَاتَلُوهُمْ بِغَيْرِ دَعْوَةٍ كَانُوا آثِمِينَ فِي ذَلِكَ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَضْمَنُونَ شَيْئًا مِمَّا أَتْلَفُوا مِنْ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : فِي الْقَدِيمِ يَضْمَنُونَ ذَلِكَ لِبَقَاءِ صِفَةِ الْحَقْنِ وَالْعِصْمَةِ إلَّا أَنْ يُوجَدَ الْإِبَاءُ مِنْهُمْ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إلَّا أَنْ تَبْلُغَهُمْ الدَّعْوَةُ وَلَكِنَّا نَقُولُ : الْعِصْمَةُ الْمُقَوِّمَةُ تَكُونُ بِالْإِحْرَازِ وَذَلِكَ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهِمْ وَلَئِنْ كَانَتْ الْعِصْمَةُ بِالدِّينِ كَمَا يَدَّعِيهِ الْخَصْمُ فَهُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي حَقِّهِمْ أَيْضًا وَالْقِتَالُ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمُحَارِبَةِ كَمَا يَقُولُهُ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ لِلشِّرْكِ كَمَا يَقُولُهُ الْخَصْمُ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي حَقِّهِمْ وَلَكِنَّ شَرْطَ الْإِبَاحَةِ تَقْدِيمُ الدَّعْوَةِ فَبِدُونِهِ لَا يَثْبُتُ وَمُجَرَّدُ حُرْمَةِ الْقَتْلِ لَا يَكْفِي لِوُجُوبِ الضَّمَانِ كَمَا فِي النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ مِنْهُمْ وَكَمَا نَهَى عَنْ قَتْلِ مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ مِنْهُمْ بِطَرِيقِ الْمُثْلَةِ ثُمَّ لَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ عَلَى مَنْ فَعَلَهُ وَإِنْ كَانُوا قَدْ بَلَغَتْهُمْ الدَّعْوَةُ فَإِنْ هُمْ دَعَوْهُمْ فَحَسَنٌ لِمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بَعَثَ مُعَاذًا فِي سَرِيَّةٍ وَقَالَ : لَا تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى تَدْعُوَهُمْ فَإِنْ أَبَوْا فَلَا تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَبْدَؤُكُمْ فَإِنْ بَدْؤُكُمْ فَلَا تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يَقْتُلُوا مِنْكُمْ قَتِيلًا ثُمَّ أَرَوْهُمْ ذَلِكَ الْقَتِيلَ وَقُولُوا لَهُمْ هَلْ إلَى خَيْرٍ
مِنْ هَذَا سَبِيلٌ ؟ فَلَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى يَدَيْك خَيْرٌ لَك مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ } وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِي الْإِنْذَارِ قَدْ تَنْفَعُ وَإِنْ تَرَكُوا ذَلِكَ فَحَسَنٌ أَيْضًا لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا لَا يَقْوَوْنَ عَلَيْهِمْ إذَا قَدَّمُوا الْإِنْذَارَ وَالدُّعَاءَ .
وَلَا بَأْسَ أَنْ يُغِيرُوا عَلَيْهِمْ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا بِغَيْرِ دَعْوَةٍ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَغَارَ عَلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ غَافِلُونَ وَيَعُمُّهُمْ عَلَى الْمَاءِ بِسَقْيٍ وَعَهِدَ إلَى أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يُغِيرُوا عَلَى أَبْنَا صَبَاحًا ثُمَّ يُحَرَّقَ } { وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُغِيرَ عَلَى قَوْمٍ صَبَّحَهُمْ وَاسْتَمَعَ النِّدَاءَ فَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَغَارَ عَلَيْهِمْ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ صَبَّحَ أَهْلَ خَيْبَرَ وَقَدْ خَرَجَ الْعُمَّالُ وَمَعَهُمْ الْمَسَاحِي وَالْمَكَاتِلُ فَلَمَّا رَأَوْهُمْ وَلَّوْا مُنْهَزِمِينَ يَقُولُونَ : مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ ، وَالْخَمِيسُ : الْجَيْشُ وَقَدْ كَانُوا وَجَدُوا فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْزُوهُمْ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَيَظْفَرُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمَ الْخَمِيسِ فَلَمَّا قَالُوا ذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ إنَّا إذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ } ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُحَرِّقُوا حُصُونَهُمْ وَيُغْرِقُوهَا وَيُخَرِّبُوا الْبُنْيَانَ وَيَقْطَعُوا الْأَشْجَارَ وَكَانَ الْأَوْزَاعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَكْرَهُ ذَلِكَ كُلَّهُ لِحَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي وَصِيَّةِ يَزِيدَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَا تَقْطَعُوا شَجَرًا وَلَا تُخَرِّبُوا وَلَا تُفْسِدُوا ضَرْعًا وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا } الْآيَةُ وَتَأْوِيلُ هَذَا مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ { أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ أَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّ الشَّامَ تُفْتَحُ لَهُ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا : إنَّكُمْ سَتَظْهَرُونَ عَلَى كُنُوزِ كِسْرَى وَقَيْصَرَ } فَقَدْ أَشَارَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى ذَلِكَ فِي وَصِيَّتِهِ
حَيْثُ قَالَ : فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُكُمْ عَلَيْهِمْ وَمُمَكِّنٌ لَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا فِيهَا مَسَاجِدَ فَلَا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْكُمْ أَنَّكُمْ تَأْتُونَهَا تَلَهِّيًا فَلَمَّا عَلِمَ أَنْ ذَلِكَ كُلَّهُ مِيرَاثٌ لِلْمُسْلِمِينَ كَرِهَ الْقَطْعَ وَالتَّخْرِيبَ لِهَذَا .
ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ مَا ذَكَرَهُ الزُّهْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَمَرَ بِقَطْعِ نَخِيلِ بَنِي النَّضِيرِ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ حَتَّى نَادَوْهُ مَا كُنْت تَرْضَى بِالْفَسَادِ يَا أَبَا الْقَاسِمِ فَمَا بَالُ النَّخِيلِ تُقْطَعُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا } } الْآيَةُ وَاللِّينَةُ النَّخْلَةُ الْكَرِيمَةُ فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُفَسِّرُونَ { وَأَمَرَ بِقَطْعِ النَّخِيلِ بِخَيْبَرَ حَتَّى أَتَاهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : أَلَيْسَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَ لَك خَيْبَرَ فَقَالَ : نَعَمْ ، فَقَالَ : إذًا تَقْطَعُ نَخِيلَك وَنَخِيلَ أَصْحَابِك فَأَمَرَ بِالْكَفِّ عَنْ ذَلِكَ } { وَلَمَّا حَاصَرَ ثَقِيفًا أَمَرَ بِقَطْعِ النَّخِيلِ وَالْكُرُومِ حَتَّى شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَجَعَلُوا يَقُولُونَ الْحُبْلَةُ لَا تَحْمِلُ إلَّا بَعْدَ عِشْرِينَ سَنَةً فَلَا عَيْشَ بَعْدَ هَذَا } فَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّهُمْ يُذَلُّونَ بِذَلِكَ وَأَنَّ فِيهِ كَبْتًا وَغَيْظًا لَهُمْ وَقَدْ أُمِرْنَا بِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ } { وَلَمَّا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَوْطَاسٍ يُرِيدُ الطَّائِفَ بَدَا لَهُ قَصْرُ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ النَّضْرِيِّ فَأَمَرَ بِأَنْ يُحَرَّقَ } وَفِيهِ يَقُولُ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهَانَ عَلَى سَرَاةِ بَنِي لُؤَيٍّ حَرِيقٌ بِالْبُوَيْرَةِ مُسْتَطِيرٌ فَهَذِهِ الْآثَارُ تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ كُلِّهِ وَكَانَ الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : هَذَا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي ذَلِكَ الْحِصْنِ أَسِيرٌ مُسْلِمٌ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ فَلَا يَحِلُّ التَّحْرِيقُ وَالتَّغْرِيقُ
لِأَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ قَتْلِ الْمُسْلِمِ فَرْضٌ وَتَحْرِيقُ حُصُونِهِمْ مُبَاحٌ وَالْأَخْذُ بِمَا هُوَ الْفَرْضُ أَوْلَى وَلَكِنَّا نَقُولُ : لَوْ مَنَعْنَاهُمْ مِنْ ذَلِكَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِمْ قِتَالُ الْمُشْرِكِينَ وَالظُّهُورُ عَلَيْهِمْ وَالْحُصُونُ قَلَّمَا تَخْلُو عَنْ أَسِيرٍ وَكَمَا لَا يَحِلُّ قَتْلُ الْأَسِيرِ لَا يَحِلُّ قَتْلُ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ ثُمَّ لَا يَمْتَنِعُ تَحْرِيقُ حُصُونِهِمْ بِكَوْنِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ فِيهَا فَكَذَلِكَ لَا يَمْتَنِعُ ذَلِكَ بِكَوْنِ الْأَسِيرِ فِيهَا وَلَكِنَّهُمْ يَقْصِدُونَ الْمُشْرِكِينَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَوْ قَدَرُوا عَلَى التَّمْيِيزِ فِعْلًا لَزِمَهُمْ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا قَدَرُوا عَلَى التَّمْيِيزِ بِالنِّيَّةِ يَلْزَمُهُمْ ذَلِكَ .
وَلَا تُقَسَّمُ الْغَنِيمَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى يُخْرِجُوهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَيُحْرِزُوهَا عِنْدَنَا وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : لَا بَأْسَ بِقِسْمَتِهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ مَا تَمَّ انْهِزَامِ الْمُشْرِكِينَ وَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمِلْكَ عِنْدَهُ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْإِصَابَةِ لِأَنَّهُ مَالٌ مُبَاحٌ فَيُمْلَكُ بِنَفْسِ الْأَخْذِ وَيَجُوزُ قِسْمَتُهُ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ كَالصَّيْدِ وَهَذَا لِأَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ الْأَخْذُ وَذَلِكَ مَحْسُوسٌ يَتِمُّ بِنَفْسِهِ وَقِيَامُ مُنَازَعَةِ الْمُشْرِكِينَ لِكَوْنِ الْغُزَاةِ فِي دَارِهِمْ لَا يَمْنَعُ تَقَرُّرَ مِلْكِهِمْ لِقِيَامِ مُنَازَعَتِهِمْ فِي ثِيَابِ الْغُزَاةِ وَدَوَابِّهِمْ فَإِنَّهُمْ لَوْ تَمَكَّنُوا مِنْ الْكَرِّ عَلَيْهِمْ أَخَذُوا جَمِيعَ ذَلِكَ وَهَذَا لِأَنَّ تَوَهُّمَ الْكَرَّةِ عَلَيْهِمْ سَبَبٌ يُعَارِضُ الِاسْتِيلَاءَ بِالنَّقْضِ وَالْأَمْنُ عَمَّا يَنْقُضُ سَبَبَ الْمِلْكِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِوُقُوعِ الْمِلْكِ كَالْمِلْكِ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْقِتَالُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ صَيَّرَ الْإِمَامُ الْبُقْعَةَ دَارَ إسْلَامٍ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَسِّمَ فِيهَا وَهَذَا التَّوَهُّمُ بَاقٍ وَلِأَنَّهُمْ إنْ كَرُّوا فَالْمُسْلِمُونَ وَاثِقُونَ بِجَمِيلِ وَعْدِ اللَّهِ تَعَالَى فِي نُصْرَةِ أَوْلِيَائِهِ يَنْصُرُهُمْ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ كَمَا نَصَرَهُمْ فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى فَأَمَّا عِنْدَنَا الْحَقُّ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْأَخْذِ وَيَتَأَكَّدُ الْإِحْرَازُ وَيَتَمَكَّنُ بِالْقِسْمَةِ كَحَقِّ الشَّفِيعِ يَثْبُتُ بِالْبَيْعِ وَيَتَأَكَّدُ بِالطَّلَبِ وَيَتِمُّ الْمِلْكُ بِالْأَخْذِ وَمَا دَامَ الْحَقُّ ضَعِيفًا لَا تَجُوزُ الْقِسْمَةُ لِأَنَّهُ دُونَ الْمِلْكِ الضَّعِيفِ فِي الْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَيَانُ هَذَا الْأَصْلِ أَنَّ السَّبَبَ لَا يَتِمُّ قَبْلَ الْإِحْرَازِ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْقَهْرُ وَقَبْلَ الْإِحْرَازِ هُمْ قَاهِرُونَ يَدًا مَقْهُورُونَ دَارًا وَالثَّابِتُ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ يَكُونُ ضَعِيفًا وَهَذَا لِأَنَّ الْبُقْعَةَ إنَّمَا تُنْسَبُ إلَيْنَا أَوْ إلَيْهِمْ بِاعْتِبَارِ
الْقُوَّةِ وَالشَّوْكَةِ وَلَمَّا بَقِيَتْ هَذِهِ الْبُقْعَةُ مَنْسُوبَةً إلَيْهِمْ عَرَفْنَا أَنَّ الْقُوَّةَ فِيهَا لَهُمْ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَحِلُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَرْجِعَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَيَتْرُكَ هَذِهِ الْبُقْعَةَ فِي أَيْدِيهِمْ وَإِنَّمَا حَلَّ ذَلِكَ لِعَجْزِهِ عَنْ الْمَقَامِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَعَرَفْنَا أَنَّا نُحْسِنُ الْعِبَارَةَ فِي قَوْلِنَا إنَّهُ هَزَمَ الْمُشْرِكِينَ وَفِي الْحَقِيقَةِ هُوَ الْمُنْهَزِمُ مِنْهُمْ حِينَ تَرَكَ هَذَا الْمَوْضِعَ فِي أَيْدِيهِمْ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ بِالْأَخْذِ يَمْلِكُ الْأَرَاضِيَ كَمَا يَمْلِكُ الْأَمْوَالَ ثُمَّ لَا يَتَأَكَّدُ الْحَقُّ فِي الْأَرْضِ الَّتِي نَزَلُوا فِيهَا إذَا لَمْ يُصَيِّرْهَا دَارَ الْإِسْلَامِ فَكَذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ وَالْقَصْدُ إلَى التَّمَلُّكِ وُجِدَ فِي الْكُلِّ فَإِنَّهُ مَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ إلَّا قَاصِدًا لِمِلْكِ الْأَرَاضِيِ وَالْأَمْوَالِ عَلَيْهِمْ بِحَسْبِ الْإِمْكَانِ وَلَسْنَا نُسَلِّمُ أَنَّ سَبَبَ الْمِلْكِ نَفْسُ الْأَخْذِ بَلْ هُوَ قَهْرٌ يَحْصُلُ بِهِ إعْلَاءُ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَلِهَذَا كَانَ الْمُصَابُ غَنِيمَةً يُخَمَّسُ وَهَذَا الْقَهْرُ لَا يَتِمُّ بِنَفْسِ الْأَخْذِ وَلَا بِقَهْرِ الْمُلَّاكُ بَلْ بِقَهْرِ جَمِيعِ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ وَذَلِكَ بِالْإِحْرَازِ لِيَكُونَ حِينَئِذٍ جَمِيعُ دَارِهِمْ مُقَابَلًا بِجَمِيعِ دَارِنَا فَأَمَّا قَبْلَ الْإِحْرَازِ يُقَابِلُ جَمِيعَ دَارِهِمْ بِالْجَيْشِ وَلَيْسَ بِهِمْ قُوَّةُ الْمُقَاوَمَةِ مَعَ جَمِيعِ أَهْلِ الْحَرْبِ وَبِهِ فَارَقَ الْمُرَاغَمَ إذَا أَحْرَزَ نَفْسَهُ بِمَنَعَةِ أَهْلِ الْجَيْشِ فَإِنَّهُ يُعْتَقُ لِأَنَّ حَاجَتَهُ إلَى قَهْرِ مَوْلَاهُ فَقَطْ وَذَلِكَ يَتِمُّ بِالْجَيْشِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْخُمُسُ فِي رَقَبَتِهِ .
وَإِذَا كَانَ الْقِتَالُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ فَبِنَفْسِ الْأَخْذِ يَصِيرُ الْمَالُ مُحَرَّزًا بِالدَّارِ فَيَتِمُّ الْقَهْرُ وَإِذَا صَيَّرَ الْبُقْعَةَ دَارَ إسْلَامٍ فَقَدْ تَمَّ الْإِحْرَازُ بِالدَّارِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يُؤْخَذْ الْمَالُ يَتَأَكَّدُ حَقُّهُمْ فِيهَا وَأَنَّ الْحَقَّ يَتَأَكَّدُ فِي
الْأَرَاضِيِ أَيْضًا وَبِهِ فَارَقَ الصَّيْدَ فَسَبَبُ الْمِلْكِ هُنَاكَ الْأَخْذُ وَهُوَ الْقَهْرُ عَلَى الْمُمْتَنِعِ فِي نَفْسِهِ وَهُنَا الِامْتِنَاعُ فِي الْمَالِ بَلْ فِيمَنْ يُقَاتِلُ دُونَهُ وَذَلِكَ جَمِيعُ أَهْلِ الْحَرْبِ وَلَا يَتِمُّ قَهْرُ جَمِيعِهِمْ إلَّا بِالْإِحْرَازِ حُكْمًا نَقُولُ : فَإِنْ قَسَّمَهَا جَازَ لِأَنَّهُ أَمْضَى فَصْلًا مُجْتَهِدًا فِيهِ وَقَضَاءُ الْمُجْتَهِدِ فِي الْمُجْتَهِدَاتِ نَافِذٌ وَبَيَانُ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِي سَبَبِ الْقِسْمَةِ وَهُوَ الْمِلْكُ أَنَّهُ هَلْ يَتِمُّ بِنَفْسِ الْأَخْذِ أَمْ لَا فَإِذَا نَفَذَ بِاجْتِهَادِهِ كَانَ صَحِيحًا كَمَا إذَا قَضَى بِشَهَادَةِ الْأَعْمَى أَوْ الْمَحْدُودِ فِي قَذْفٍ وَقِيلَ : مِنْ مَذْهَبِنَا كَرَاهَةُ الْقِسْمَةِ فِي دَارِ الْحَرْبِ لَا بُطْلَانَ الْقِسْمَةِ لِمَا فِي الْقِسْمَةِ مِنْ قَطْعِ شَرِكَةِ الْمَدَدِ فَتَقِلُّ بِهِ رَغْبَتُهُمْ فِي اللُّحُوقِ بِالْجَيْشِ وَلِأَنَّهُ إذَا قَسَّمَ تَفَرَّقُوا فَرُبَّمَا يَكْثُرُ الْعَدُوُّ عَلَى بَعْضِهِمْ وَهَذَا أَمْرٌ وَرَاءَ مَا يَتِمُّ بِهِ الْقِسْمَةُ فَلَا يَمْتَنِعُ جَوَازُهَا وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ إذَا لَمْ يَجِدْ الْإِمَامُ حُمُولَةً لَهَا يَحْمِلُهُ عَلَيْهَا فَلْيُقَسِّمْهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ هَكَذَا ذَكَرَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ هَذَا الْكِتَابِ وَوَجْهُهُ أَنَّ هَذِهِ حَالَةُ ضَرُورَةٍ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقَسِّمْهَا يَحْتَاجُ إلَى تَرْكِهَا فَيَبْطُلُ حَقُّ الْغَانِمِينَ فِيهَا فَكَانَ تَقْرِيرُ حَقِّهِمْ بِالْقِسْمَةِ أَنْفَعَ وَإِنْ كَانَ فِيهِ قَطْعُ شَرِكَةِ الْمَدَدِ وَكَمَا لَا يُقَسِّمُهَا لَا يَبِيعُهَا فِي دَارِ الْحَرْبِ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَنْبَنِي عَلَى تَأَكُّدِ الْحَقِّ بِالْإِحْرَازِ وَلِأَنَّ الْبَيْعَ تَصَرُّفٌ كَالْقِسْمَةِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ فِي الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ يُسَوِّي بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْقِسْمَةِ وَإِذَا كَانَ فِي الْغَنِيمَةِ طَعَامٌ أَوْ عَلَفٌ فَاحْتَاجَ إلَيْهِ رَجُلٌ تَنَاوَلَ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ .
وَقَوْلُهُ فَاحْتَاجَ مَذْكُورٌ عَلَى وَجْهِ الْعَادَةِ دُونَ الشَّرْطِ فَلِلْمُحْتَاجِ وَغَيْرِ الْمُحْتَاجِ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنْ ذَلِكَ لِحَدِيثِ
ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ الْمُسْلِمِينَ أَصَابُوا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوٍ طَعَامًا وَعَسَلًا فَلَمْ يُخَمِّسْ ذَلِكَ وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ يُصِيبُ مِنْ ذَلِكَ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ وَأَنَّ الْمُسْلِمِينَ لَمَّا ظَهَرُوا عَلَى كِسْرَى ظَفِرُوا بِمَطْبَخِهِ وَكَانَ قَدْ أَرْكَتْ الْقُدُورَ وَظَنَّ بَعْضُ الْأَعْرَابِ أَنَّ ذَلِكَ طِيبٌ فَهَمُّوا أَنْ يَصْبُغُوا بِهِ لِحَاهُمْ فَقِيلَ : إنَّهُ مَأْكُولٌ فَوَقَعُوا فِي ذَلِكَ حَتَّى اتَّخَمُوا وَأَنَّ غُلَامًا لِسَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَتَاهُ بِسَلَّةٍ يَوْمَ الْقَادِسِيَّةِ فَقَالَ : افْتَحْهَا فَإِنْ كَانَ فِيهَا طَعَامٌ أَصَبْنَا مِنْهُ وَإِنْ كَانَ فِيهَا مَالٌ رَدَدْنَاهُ عَلَى هَؤُلَاءِ فَإِذَا فِيهَا خُبْزٌ وَجُبْنٌ وَسِكِّينٌ فَجَعَلَ يَأْكُلُ مِنْ ذَلِكَ وَيَقْطَعُ لِأَصْحَابِهِ مِنْ الْجُبْنِ وَيَصِفُ لَهُمْ كَيْفَ يَتَّخِذُ الْجُبْنَ فَدَلَّ أَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ الرُّخْصَةُ فِي الطَّعَامِ وَالْعَلَفُ نَظِيرُ الطَّعَامِ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِظَهْرِهِ كَمَا يَحْتَاجُ إلَى الْقُوتِ لِنَفْسِهِ وَهَذَا لِأَنَّهُمْ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَسْتَصْحِبُوا مِنْ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ مِقْدَارَ حَاجَتِهِمْ لِلذَّهَابِ وَالرُّجُوعِ وَلَا يَجِدُونَ فِي دَارِ الْحَرْبِ مَنْ يَشْتَرُونَ مِنْهُ وَمَا يَأْخُذُونَ يَكُونُ غَنِيمَةً فَلِلْعِلْمِ بِوُقُوعِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ يَصِيرُ مُسْتَثْنًى مِنْ شَرِكَةِ الْغَنِيمَةِ وَيَبْقَى عَلَى أَصْلِ الْإِبَاحَةِ وَلِهَذَا حَلَّ لِلْمُحْتَاجِ وَغَيْرِ الْمُحْتَاجِ مَا لَمْ يَخْرُجُوا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ فَإِذَا خَرَجُوا فَقَدْ ارْتَفَعَتْ الضَّرُورَةُ لِأَنَّهُمْ يَجِدُونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ الطَّعَامَ وَالْعَلَفَ بِالشِّرَاءِ فَيَثْبُتُ حُكْمُ الْغَنِيمَةِ فِيمَا كَانَ بَاقِيًا مِنْهَا .
وَكَذَلِكَ يَتَنَاوَلُ مِنْ سِلَاحِ الْغَنِيمَةِ إذَا احْتَاجَ إلَيْهِ لِلْقِتَالِ ثُمَّ يَرُدُّهُ إذَا اسْتَغْنَى عَنْهُ وَيُكْرَهُ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ لِأَنَّ الْمُسْتَثْنَى مِنْ شَرِكَةِ الْغَنِيمَةِ الطَّعَامُ وَالْعَلَفُ لِلْعِلْمِ بِتَجَدُّدِ الْحَاجَةِ إلَيْهِمَا فِي كُلِّ وَقْتٍ وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي السِّلَاحِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَسْتَصْحِبَ السِّلَاحَ مِنْ دَارِ الْإِسْلَامِ فَلَا يَصِيرُ هَذَا مُسْتَثْنًى مِنْ الشَّرِكَةِ وَنَفْيُ الْمُبِيحِ تَحَقُّقُ الْحَاجَةِ فَإِذَا لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ يُكْرَهُ الِاسْتِعْمَالُ وَإِذَا وُجِدَ فَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِمِلْكِ الْغَيْرِ مِمَّا لَا حَقَّ لَهُ فِيهِ فَمَالَهُ فِيهِ حَقٌّ أَوْلَى وَهَذَا لِأَنَّ الْمُبَارِزَ قَدْ يُبْتَلَى بِهَذَا بِأَنْ يَسْقُطَ سَيْفُهُ مِنْ يَدِهِ فَيُعَالِجُ قِرْنَهُ لِيَأْخُذَ مِنْهُ سَيْفَهُ فَإِذَا أَخَذَهُ صَارَ غَنِيمَةً لَهُ فَلَوْ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَضْرِبَهُ أَدَّى إلَى الضَّرَرِ وَالْحَرَجِ وَإِلَى نَحْوِهِ أَشَارَ قَالَ : أَرَأَيْت لَوْ رَمَاهُ الْعَدُوُّ بِنُشَّابَةٍ فَرَمَاهُمْ بِهَا أَوْ انْتَزَعَ سَيْفًا مِنْ بَعْضِهِمْ فَضَرَبَهُ أَكَانَ يُكْرَهُ ذَلِكَ هَذَا وَنَحْوُهُ لَا بَأْسَ بِهِ فَأَمَّا الْمَتَاعُ وَالثِّيَابُ وَالدَّوَابُّ فَيُكْرَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ النَّهْيِ قَبْلَ هَذَا وَلِأَنَّ حَقَّهُمْ ثَبَتَ فِيهَا وَإِنْ لَمْ يَتَأَكَّدْ قَبْلَ الْإِحْرَازِ فَلَا يَكُونُ لِبَعْضِهِمْ أَنْ يَخْتَصَّ بِالِانْتِفَاعِ بِشَيْءٍ مِنْهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ اعْتِبَارًا لِلْمَنْفَعَةِ بِالْعَيْنِ فَإِنْ احْتَاجُوا إلَى ذَلِكَ قَسَّمَهَا الْإِمَامُ بَيْنَهُمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِتَحَقُّقِ الْحَاجَةِ وَهَذَا لِأَنَّ مُرَاعَاةَ حَقِّهِمْ عِنْدَ حَاجَتِهِمْ أَوْلَى مِنْ مُرَاعَاةِ حَقِّ الْمَدَدِ وَلَا يَدْرِي أَيَلْحَقُ بِهِمْ الْمَدَدُ أَمْ لَا يَلْحَقُ وَإِنْ لَمْ يَحْتَاجُوا إلَى ذَلِكَ كُرِهَتْ الْقِسْمَةُ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَهَذَا اللَّفْظُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْخِلَافَ فِي كَرَاهَةِ الْقِسْمَةِ لَا فِي الْجَوَازِ .
( قَالَ ) : أَلَا تَرَى أَنَّ جَيْشًا آخَرَ لَوْ دَخَلُوا دَارَ الْحَرْبِ شَرَكُوهُمْ فِي تِلْكَ الْغَنِيمَةِ وَهَذَا عِنْدَنَا فَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا شِرْكَةَ لِلْمَدَدِ إذَا لَحِقَ الْجَيْشَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْأَخْذُ وَالْمِلْكُ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْأَخْذِ وَمَا قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَهُ سَوَاءٌ وَعِنْدَنَا السَّبَبُ هُوَ الْقَهْرُ وَتَمَامُ الْقَهْرِ بِالْإِحْرَازِ فَإِذَا شَارَكَ الْمَدَدُ لِلْجَيْشِ فِي الْإِحْرَازِ الَّذِي بِهِ يَتِمُّ السَّبَبُ يُشَارِكُونَهُمْ فِي تَأَكُّدِ الْحَقِّ بِهِ كَمَا إذَا الْتَحَقُوا بِهِمْ فِي حَالَةِ الْقِتَالِ بَعْدَمَا أَخَذُوا بَعْضَ الْأَمْوَالِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ اجْتِمَاعَ الْمُحَارِبِينَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِلْمُحَارِبَةِ سَبَبُ الشِّرْكَةِ فِي الْمُصَابِ بِدَلِيلِ أَنَّ الرِّدْءَ يَسْتَوِي بِالْمُبَاشِرِ لِلْقِتَالِ وَقَدْ سَأَلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : أَرَأَيْت الرَّجُلَ يَكُونُ حَامِيَةً لِقَوْمٍ وَآخَرُ لَا يَقْدِرُ عَلَى حَمْلِ السِّلَاحِ أَيَشْتَرِكَانِ فِي الْغَنِيمَةِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إنَّمَا تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ بِضُعَفَائِكُمْ } ؛ وَلِأَنَّ دُخُولَ دَارِ الْحَرْبِ سَبَبٌ لِقَهْرِ الْمُشْرِكِينَ قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : مَا غُزِيَ قَوْمٌ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إلَّا ذُلُّوا وَلِهَذَا جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْوَاطِئَ مَوْطِئَ الْعَدُوِّ بِمَنْزِلَةِ النَّيْلِ فِي الثَّوَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا } الْآيَةُ فَكَذَلِكَ فِي الشِّرْكَةِ فِي الْمُصَابِ يَجْعَلُ الْوَاطِئَ مَوْطِئَ الْعَدُوِّ عَلَى قَصْدِ الْحَرْبِ بِمَنْزِلَةِ النَّيْلِ مِنْهُمْ لِمَا فِيهِ مِنْ الْكَبْتِ وَالْغَيْظِ لَهُمْ وَلَا يَدْخُلُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا التُّجَّارُ وَأَهْلُ سُوقِ الْعَسْكَرِ وَالْأَسِيرُ الْمُنْقَلِبُ مِنْهُمْ وَاَلَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا الْتَحَقَ بِالْجَيْشِ لِأَنَّ قَصْدَ
هَؤُلَاءِ لَيْسَ هُوَ الْحَرْبَ بَلْ قَصْدُ بَعْضِهِمْ التِّجَارَةُ وَقَصْدُ بَعْضِهِمْ التَّخَلُّصُ فَلَا يَسْتَحِقُّونَ الشِّرْكَةَ إلَّا أَنْ يُقَاتِلُوا فَيَظْهَرُ حِينَئِذٍ بِفِعْلِهِمْ أَنَّ قَصْدَهُمْ هُوَ الْقِتَالُ .
وَإِنْ احْتَاجَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَتَاعِ حَاجَةً يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهَا فَلَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ كَمَا يَجُوزُ تَنَاوُلُ مِلْكِ الْغَيْرِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَّا أَنَّ ذَلِكَ بِشَرْطِ الضَّمَانِ لِثُبُوتِ الْمِلْكِ لِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ وَهَذَا بِغَيْرِ ضَمَانٍ لِعَدَمِ تَأَكُّدِ الْحَقِّ قَبْلَ الْإِحْرَازِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَتْلَفَ شَيْئًا مِنْ الْمَالِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا لِمَا أَتْلَفَ وَلَا يُقَسِّمُ السَّبْيَ بَيْنَهُمْ وَإِنْ احْتَاجَ النَّاسُ إلَيْهِ مَا لَمْ يُخْرِجُوهُمْ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَا يَبِيعُهُمْ كَمَا لَا يَفْعَلُ فِي شَيْءٍ مِنْ سَائِرِ الْأَمْوَالِ وَهَذَا لِعَدَمِ تَأَكُّدِ الْحَقِّ فِيهِمْ قَبْلَ الْإِحْرَازِ وَلَكِنْ يُمَشِّيهِمْ حَتَّى يُحَرِّزَهُمْ بِدَارِ الْإِسْلَامِ إنْ أَطَاقُوا الْمَشْيَ فَإِنْ لَمْ يُطِيقُوهُ وَكَانَ مَعَهُمْ فَضْلُ حُمُولَةٍ مِنْ الْغَنِيمَةِ حَمَلَهُمْ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْحُمُولَةَ حَقُّ الْغَانِمِينَ وَالسَّبْيُ كَذَلِكَ فَمِنْ النَّظَرِ لَهُمْ أَنْ يَحْمِلَ حَقَّهُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ فَضْلُ حُمُولَةٍ وَلَكِنْ كَانَ مَعَ بَعْضِ الْغَانِمِينَ فَضْلُ حُمُولَةٍ يَحْمِلُهُمْ عَلَيْهَا فَعَلَ ذَلِكَ بِرِضَاهُمْ وَإِنْ لَمْ تَطِبْ أَنْفُسُهُمْ بِذَلِكَ لَمْ يَفْعَلْ لِأَنَّ الْحُمُولَةَ لِلْخَاصِّ وَالسَّبْيُ حَقُّ الْجَمَاعَةِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَسْتَعْمِلَ فِي إحْرَازِ حَقِّ الْجَمَاعَةِ حُمُولَةَ الْخَاصِّ مِنْهُمْ بِغَيْرِ رِضَاهُمْ أَرَأَيْت لَوْ أَطَاقَ بَعْضُهُمْ حَمْلَ بَعْضِ السَّبْيِ عَلَى ظَهْرِهِ أَوْ عَلَى عَاتِقِهِ أَكَانَ يُجْبِرُهُ الْإِمَامُ عَلَى ذَلِكَ ثُمَّ يَقْتُلُ الرِّجَالَ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ جَوَازِ قَتْلِ الْأَسِيرِ قَبْلَ تَعَيُّنِ الْمِلْكِ فِيهِ إذَا كَانَ فِيهِ نَظَرٌ .
وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَوْ لَمْ يَقْتُلْهُمْ احْتَاجَ إلَى تَرْكِهِمْ فَيَرْجِعُونَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ حَرْبًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَكَانَ النَّظَرُ فِي قَتْلِهِمْ وَيَتْرُكُ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ فِي مَوْضِعٍ يَأْمَنُ أَيْدِيَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ تَصِلَ إلَيْهِمْ لِأَنَّهُ إذَا تَرَكَهُمْ فِي
مَوْضِعٍ تَصِلُ إلَيْهِمْ أَيْدِيهِمْ يَتَقَوَّوْنَ بِهِمْ وَبِتَرْكِهِ إيَّاهُمْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا يَكُونُ مُتْلِفًا بَلْ يَكُونُ تَارِكًا لِلْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ وَتَرْكُ الْإِحْسَانِ لَا يَكُونُ إسَاءَةً وَإِنَّمَا جَازَ لَهُ هَذَا الْقَدْرُ لِعَجْزِهِ عَنْ الْإِحْسَانِ إلَيْهِمْ بِالْإِخْرَاجِ عَنْ الْمُهْلِكَةِ وَإِنْ رَأَى أَنْ يُقَسِّمَ لِيَتَكَلَّفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَمْلَ نَصِيبِهِ فَعَلَ ذَلِكَ ، وَهُوَ أَنْفَعُ مِنْ التَّرْكِ ، وَأَمَّا السِّلَاحُ وَالْمَتَاعُ فَيُحَرِّقُهُ بِالنَّارِ إذَا لَمْ يَسْتَطِعْ إخْرَاجَهُ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِقَطْعِ قُوَّةِ الْمُشْرِكِينَ عَنْهُ وَإِثْبَاتِ الْقُوَّةِ لِلْمُسْلِمِينَ بِهِ ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ أَحَدِهِمَا وَقَدَرَ عَلَى الْآخَرِ فَيَأْتِي بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْإِحْرَاقُ بِالنَّارِ كَيْ لَا تَصِلَ إلَيْهِ يَدُ الْمُشْرِكِينَ لِيَتَقَوَّوْا بِهِ قَالَ هَذَا فِيمَا يَحْتَرِقُ ، فَأَمَّا مَا لَا يَحْتَرِقُ كَالْحَدِيدِ يَنْبَغِي أَنْ يَدْفِنَهُ فِي مَوْضِعٍ لَا يَقِفُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَرْبِ فَيَسْتَعِينُوا بِهِ وَأَمَّا الدَّوَابُّ وَالْمَوَاشِي إذَا قَامَتْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَعْقِرُهَا خِلَافًا لِمَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا وَلَا يَتْرُكُهَا كَذَلِكَ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِمَا فِي التَّرْكِ مِنْ تَقَوِّي الْمُشْرِكِينَ بِهَا وَلَكِنَّهُ يَذْبَحُهَا ثُمَّ يُحَرِّقُهَا لِئَلَّا يَنْتَفِعَ بِهَا الْعَدُوُّ فَالذَّبْحُ عِنْدَ الْحَاجَةِ مُبَاحٌ شَرْعًا فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَغَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَبَعْدَ الذَّبْحِ رُبَّمَا يَتَقَوَّوْنَ بِلَحْمِهَا فَيَقْطَعُ ذَلِكَ عَنْهُمْ بِالْإِحْرَاقِ بِالنَّارِ كَمَا يَفْعَلُ بِالثِّيَابِ وَالْمَتَاعِ وَفِي هَذَا كَبْتٌ وَغَيْظٌ لَهُمْ ، وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَ التَّخْرِيبِ وَالْإِحْرَاقِ فِيمَا يَكُونُ فِيهِ الْكَبْتُ وَالْغَيْظُ لِلْمُشْرِكِينَ .
وَمَا ظَهَرُوا عَلَيْهِ مِنْ أَرْضِ الْعَدُوِّ فَالْإِمَامُ فِيهَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ خَمَّسَهَا وَقَسَّمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ كَمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ ، وَإِنْ شَاءَ مَنَّ بِهَا عَلَى أَهْلِهَا فَتَرَكَهُمْ أَحْرَارَ الْأَصْلِ ذِمَّةً لِلْمُسْلِمِينَ ، وَالْأَرَاضِيُ مَمْلُوكَةٌ لَهُمْ وَجَعَلَ الْجِزْيَةَ عَلَى رِقَابِهِمْ ، وَالْخَرَاجَ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ عِنْدَنَا كَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالسَّوَادِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : لَهُ ذَلِكَ فِي الرِّقَابِ ، فَأَمَّا فِي الْأَرَاضِيِ لَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يُقَسِّمَهَا بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَيَصْرِفَ الْخُمُسَ إلَى مَصَارِفِهِ ، وَيَنْبَنِي هَذَا الْكَلَامُ عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا فِي السَّوَادِ أَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا وَقَدْ بَيَّنَّا ، وَالثَّانِي فِي فَتْحِ مَكَّةَ فَإِنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً وَقَهْرًا عِنْدَنَا وَزَعَمَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا ، قَالَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ : وَمَنْ لَهُ أَدْنَى عِلْمٍ بِالسِّيَرِ وَالْفُتُوحِ لَا يَقُولُ بِهَذَا وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْعِلْمِ مُجْمِعِينَ عَلَى فَتْحِ مَكَّةَ عَنْوَةً وَقَهْرًا حَتَّى حَدَثَ قَوْلٌ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ أَنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا ، وَإِنَّمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَرَكَ لَهُمْ الْأَرَاضِيَ وَالنَّخِيلَ الَّتِي هِيَ حَوْلَ مَكَّةَ فَلَمْ يَجِدْ بُدًّا فِي إجْرَاءِ مَذْهَبِهِ مِنْ هَذَا ، ( قَالَ ) : وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ أَهْلَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ وَضَعَ الْحَرْبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ ثُمَّ دَخَلَهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِاثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ شَهْرًا } ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ دَخَلَهَا بِذَلِكَ الصُّلْحِ وَقَدْ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ
وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَمْ يَضَعْ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ وَظِيفَةً وَفِي الْبِلَادِ الْمَفْتُوحَةِ عَنْوَةً وَقَهْرًا لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْأَرَاضِيِ لَهُمْ بِغَيْرِ وَظِيفَةٍ .
( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ أَنَّ الْآثَارَ اشْتَهَرَتْ بِنَقْضِ قُرَيْشٍ الصُّلْحَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ بَنِي خُزَاعَةَ دَخَلُوا فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ وَبَنِي بَكْرٍ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ ثُمَّ قَاتَلَ بَنُو بَكْرٍ بَنِي خُزَاعَةَ وَأَرْدَفَتْهُمْ قُرَيْشٌ بِالْأَسْلِحَةِ وَالْأَطْعِمَةِ وَقَاتَلَ مَنْ قَاتَلَ مِنْ قُرَيْشٍ مَعَهُمْ مُسْتَخْفِيًا بِاللَّيْلِ حَتَّى جَاءَ وَافِدُ بَنِي خُزَاعَةَ عُمَرُ بْنُ سَالِمٍ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَنْصِرُهُ وَيَقُولُ لَاهُمَّ إنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّدًا حَلِفَ أَبِينَا وَأَبِيهِ الْأَتْلَدَا أَنَّ قُرَيْشًا أَخْلَفُوكَ الْمَوْعِدَا وَنَقَضُوا مِيثَاقَكَ الْمُؤَكَّدَا وَبَيَّتُونَا بِالْوَتِيرِ هُجَّدًا وَقَتَلُونَا رُكَّعًا وَسُجَّدًا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : نُصِرْت يَا عُمَرُ بْنُ سَالِمٍ فَنَشَأَتْ سَحَابَةٌ فَقَالَ : إنَّهَا تَسْتَهِلُّ بِنَصْرِ بَنِي خُزَاعَةَ إلَى أَنْ نَزَلَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ قَالَ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قُلْت وَا صَبَاحَا قُرَيْشٍ لَوْ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجُوا فَيَسْتَأْمِنُوا لَهَلَكَتْ قُرَيْشٌ فَرَكِبْت بَغْلَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَخَلْت الْأَرَاكَ لَعَلِّي أَجِدُ بَعْضَ الْحَطَّابِينَ فَأُخْبِرُهُمْ بِمَجِيءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَقِيت أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ وَحَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ يَتَرَاجَعَانِ الْحَدِيثَ ، وَيَقُولُ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : مَا هَذِهِ النِّيرَانُ فَيَقُولُ الْآخَرُ : نِيرَانُ خُزَاعَةَ وَيَقُولُ الْآخَرُ : هُمْ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ وَأَذَلُّ فَقُلْت : يَا
حَنْظَلَةُ مَا شَأْنُك قَالَ : يَا أَبَا الْفَضْلِ مَا تَفْعَلُ هَهُنَا فَقُلْت : هَذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ بِمَرِّ الظَّهْرَانِ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ قَالَ : وَمَا الْحِيلَةُ ؟ قُلْت : لَا أَعْرِفُ لَك حِيلَةً وَلَكِنْ ارْكَبْ عَجُزَ دَابَّتِي فَأَرْدَفْتُهُ فَمَا مَرَرْت بِنَارٍ إلَّا قِيلَ هَذِهِ بَغْلَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَذَا عَمُّهُ حَتَّى مَرَرْت بِنَارِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَرَفَهُ فَأَخَذَ السَّيْفَ وَعَدَا خَلْفَهُ لِيَقْتُلَهُ فَسِرْت بِالدَّابَّةِ حَتَّى اقْتَحَمْت مَضْرِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْك إنَّ اللَّهَ مَكَّنَك مِنْ عَدُوِّك مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ وَلَا صُلْحٍ فَدَعْنِي لِأَقْتُلَهُ فَقُلْت : مَهْلًا فَإِنِّي أَجَرْتُهُ وَلَوْ كَانَ مِنْ بَنِي عَدِيٍّ مَا قَتَلْتَهُ فَبَكَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ : وَاَللَّهِ إنَّ سُرُورِي بِإِسْلَامِك يَوْمَ أَسْلَمْت أَكْثَرُ مِنْ سُرُورِي بِإِسْلَامِ الْخَطَّابِ أَنْ لَوْ أَسْلَمَ فَأَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ أَحْمِلَهُ إلَى رَحْلِي فَغَدَوْت بِهِ عَلَيْهِ ، وَقَالَ : أَلَمْ يَأْنِ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ : إنِّي أَقُولُ لَوْ كَانَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةٌ لَجَازَ أَنْ يَنْصُرُونَا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ : إنَّ فِي النَّفْسِ بَعْدُ مِنْ هَذَا لَشَيْئًا فَقُلْت : أَسْلِمْ فَإِنَّ السَّيْفَ فِي قَفَاك فَأَسْلَمَ فَقُلْت : إنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ يُحِبُّ الْفَخْرَ فَاجْعَلْ لَهُ مِنْ الْأَمْرِ شَيْئًا يَا رَسُولَ اللَّهِ { فَقَالَ : مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ فَقَالَ : وَكَمْ تَسَعُهُمْ دَارِي يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : مَنْ أَغْلَقَ الْبَابَ عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ تَعَلَّقَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَهُوَ آمِنٌ إلَّا ابْنَ خَطَلٍ وَيَعِيشَ بْنَ صَبَابَةَ
وَقَيْنَتَيْنِ لِابْنِ خَطَلٍ كَانَتَا تُغَنِّيَانِ بِهِجَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَمَرَنِي أَنْ أَحْبِسَهُ فِي مَضِيقِ الْوَادِي لِتَمُرَّ عَلَيْهِ الْكَتَائِبُ فَكُلَّمَا مَرَّتْ عَلَيْهِ كَتِيبَةٌ قَالَ : مَنْ هَؤُلَاءِ ؟ } الْحَدِيثُ إلَى أَنَّ مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَتِيبَتِهِ الْخَضْرَاءِ وَفِيهَا أَلْفَا رَجُلٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ عَلَيْهِمْ السِّلَاحُ وَالْحِلَقُ لَا يُرَى مِنْهُمْ إلَّا الْحَدَقَ فَلَمَّا حَاذَاهُ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَكَانَ لِوَاءُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ هَزَّ اللِّوَاءَ ، وَقَالَ : الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ الْيَوْمُ تُهْتَكُ فِيهِ الْحُرْمَةُ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ : إنَّ ابْنَ أَخِيك أَصْبَحَ فِي مُلْكٍ عَظِيمٍ فَقُلْت : لَيْسَ بِمُلْكٍ إنَّمَا هُوَ نُبُوَّةٌ قَالَ : أَوْ ذَاكَ ثُمَّ نَادَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرْت بِاسْتِئْصَالِ قَوْمِك مِنْ قُرَيْشٍ فَقَدْ قَالَ سَعْدٌ كَذَا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : يَوْمُ الْمَرْحَمَةِ الْيَوْمَ تُحْفَظُ فِيهِ الْحُرْمَةُ وَبَعَثَ إلَى سَعْدٍ لِيُسَلِّمَ اللِّوَاءَ إلَى ابْنِهِ قَيْسٍ } الْحَدِيثُ فَهَذِهِ الْقِصَّةُ مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا تَدُلُّ عَلَى انْتِقَاضِ ذَلِكَ الْعَهْدِ { وَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ بَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ جَانِبٍ وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ جَانِبٍ وَقَالَ : أَتَرَوْنَ أَوْبَاشَ قُرَيْشٍ اُحْصُدُوهُمْ حَصْدًا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الصَّفَا } وَفِيهِ يَقُولُ قَائِلُهُمْ يُخَاطِبُ زَوْجَتَهُ : إنَّكِ لَوْ شَهِدَتْ يَوْمَ خَنْدَمَهْ إذْ فَرَّ صَفْوَانُ وَفَرَّ عِكْرِمَةْ لَمْ يَنْطِقْ الْيَوْمَ بِأَدْنَى كَلِمَةْ ، { وَقَالَ ابْنُ رَوَاحَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَنْشُدُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُ : خَلُّوا بَنِي الْكُفَّارِ عَنْ سَبِيلِهِ الْيَوْمَ نَضْرِبُكُمْ عَلَى تَأْوِيلِهِ ضَرْبًا يُزِيلُ الْهَامَ عَنْ
مَقِيلِهِ وَيَذْهَلُ الْخَلِيلُ عَنْ خَلِيلِهِ لَاهُمَّ إنِّي مُؤْمِنٌ بِقِيلِهِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَتَنْشُدُ الشِّعْرَ فِي حَرَمِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : دَعْهُ يَا عُمَرُ فَإِنَّهُ أَسْرَعُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ وَقْعِ النَّبْلِ حَتَّى جَاءَ أَبُو سُفْيَانَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : لَقَدْ انْتَدَبَ حَضَرَا قُرَيْشٍ فَلَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ آمِنٌ إلَّا ابْنَ خَطَلٍ ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى بَابِ الْكَعْبَةِ وَفِيهَا رُؤَسَاءُ قُرَيْشٍ فَأَخَذَ بِعِضَادَتَيْ الْبَابِ وَقَالَ : مَاذَا تَرَوْنَ أَنِّي صَانِعٌ بِكُمْ ؟ فَقَالُوا : أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ مَلَكْت فَاسْجَحْ ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنِّي أَقُولُ لَكُمْ كَمَا قَالَ أَخِي يُوسُفُ لِإِخْوَتِهِ { لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ } أَنْتُمْ الطُّلَقَاءُ لَكُمْ أَمْوَالُكُمْ } وَصَحَّ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ } فَذَلِكَ دَلِيلُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَهَا مُقَاتِلًا { وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ : إنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَإِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ هِيَ حَرَامٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } وَإِنَّمَا مُرَادُهُ حَلَّ الْقِتَالَ فِيهَا فَدَلَّ أَنَّهُ دَخَلَهَا مُقَاتِلًا وَفِي قَوْله تَعَالَى { إذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ } يَشْهَدُ لِمَا قُلْنَا وَنُزُولُ قَوْله تَعَالَى { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ } فِي صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ .
أَلَا تَرَى إلَى قَوْله تَعَالَى { وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } وَإِنَّمَا لَمْ يَضَعْ الْخَرَاجَ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ لِأَنَّ الْأَرَاضِيَ تَابِعَةٌ
لِلرِّقَابِ وَلَمْ يَضَعْ الْجِزْيَةَ عَلَى رِقَابِهِمْ إذْ لَا جِزْيَةَ عَلَى عَرَبِيٍّ وَلَا رِقَّ فَكَذَلِكَ لَا خَرَاجَ عَلَى أَرَاضِيِهِمْ فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهَا فُتِحَتْ قَهْرًا اتَّضَحَ مَذْهَبُنَا فِي الْمَسْأَلَةِ الَّتِي قُلْنَا وَعَلَى سَبِيلِ الِابْتِدَاءِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ فَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : قَدْ تَأَكَّدَ حَقُّ الْغَانِمِينَ فِي الْأَرَاضِيِ أَمَّا عِنْدِي فَقَدْ ثَبَتَ الْمِلْكُ لَهُمْ بِنَفْسِ الْإِصَابَةِ وَعِنْدَكُمْ تَأَكَّدَ الْحَقُّ بِالْإِحْرَازِ فَقَدْ صَارَتْ مُحَرَّزَةً بِفَتْحِ الْبَلْدَةِ وَإِجْرَاءُ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ فِيهَا وَفِي الْمَنِّ إبْطَالُ حَقِّ الْغَانِمِينَ عَمَّا تَأَكَّدَ حَقُّهُمْ فِيهِ وَالْإِمَامُ لَا يَمْلِكُ ذَلِكَ كَمَا إذَا اسْتَوْلَى عَلَى الْأَمْوَالِ بِدُونِ الْأَرَاضِيِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُبْطِلَ حَقَّ الْغَانِمِينَ عَنْهَا بِالرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِخِلَافِ الرِّقَابِ فَالْحَقُّ فِي رِقَابِهِمْ لَمْ يَتَأَكَّدْ .
بِدَلِيلِ أَنَّ لَهُ أَنْ يَقْتُلَهُمْ فَكَذَلِكَ يَكُونُ لَهُ أَنْ يَمُنَّ عَلَى رِقَابِهِمْ بِجِزْيَةٍ يَأْخُذُهَا مِنْهُمْ ثُمَّ حَقُّ مَصَارِفِ الْخُمُسِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ وَفِي الْمَنِّ إبْطَالُ ذَلِكَ وَلِهَذَا قُلْت أَمَّا تَخْمِيسُ الْجِزْيَةِ لِأَنَّ الْخُمُسَ مِنْ الرِّقَابِ كَانَ حَقًّا لِأَرْبَابِ الْخُمُسِ فَيَثْبُتُ حَقُّهُمْ فِي بَدَلِ ذَلِكَ وَهُوَ الْجِزْيَةُ وَعُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُونَ : تَصَرُّفُ الْإِمَامِ وَقَعَ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ وَأَنَّهُ نُصِّبَ لِذَلِكَ وَبَيَانُهُ أَنَّهُ لَوْ قَسَّمَهَا بَيْنَهُمْ اشْتَغَلُوا بِالزِّرَاعَةِ وَقَعَدُوا عَنْ الْجِهَادِ فَيَكُرُّ عَلَيْهِمْ الْعَدُوُّ وَرُبَّمَا لَا يَهْتَدُونَ لِذَلِكَ الْعَمَلِ أَيْضًا فَإِذَا تَرَكَهَا فِي أَيْدِيهِمْ وَهُمْ أَعْرَفُ بِذَلِكَ الْعَمَلِ اشْتَغَلُوا بِالزِّرَاعَةِ وَأَدَّوْا الْجِزْيَةَ وَالْخَرَاجَ فَيُصْرَفُ ذَلِكَ إلَى الْمُقَاتِلَةِ وَيَكُونُونَ مَشْغُولِينَ بِالْجِهَادِ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا إبْطَالُ حَقِّهِمْ بَلْ فِيهِ تَوْفِيرُ الْمَنْفَعَةِ عَنْهُمْ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ الْقِسْمَةِ وَإِنْ كَانَتْ أَعْجَلَ
فَمَنْفَعَةُ الْخَرَاجِ أَدْوَمُ وَلِأَنَّهُ كَمَا ثَبَتَ الْحَقُّ فِيهَا لِلَّذِينَ أَصَابُوا ثَبَتَ لِمَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ } وَفِي الْقِسْمَةِ إبْطَالُ حَقِّ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُمْ أَصْلًا وَفِي الْمَنِّ عَلَيْهِمْ مُرَاعَاةُ الْحَقَّيْنِ جَمِيعًا ، وَإِنَّمَا { قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ لِحَاجَةٍ لِأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ كَانَتْ يَوْمَئِذٍ } وَنَحْنُ نَقُولُ لِلْإِمَامِ ذَلِكَ عِنْدَ حَاجَةِ الْمُسْلِمِينَ فَأَمَّا بِدُونِ الْحَاجَةِ الْأَوْلَى مَا فَعَلَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالسَّوَادِ وَالِاسْتِدْلَالُ بِمَا اسْتَدَلَّ بِهِ وَلَا قَوْلَ أَبْعَدَ مِنْ قَوْلِ مَنْ أَوْجَبَ فِي الْجِزْيَةِ الْخُمُسَ { فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ وَالْحُلَلَ مِنْ بَنِي نَجْرَانَ } وَقَالَ لِمُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { : خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ وَحَالِمَةٍ دِينَارًا وَلَمْ يُخَمِّسْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ } فَدَلَّ أَنَّهُ لَا خُمُسَ فِي الْجِزْيَةِ .
وَإِذَا قَسَّمَ الْغَنِيمَةَ ضَرَبَ لِلْفَارِسِ بِسَهْمَيْنِ وَلِلرَّاجِلِ بِسَهْمٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَفِي قَوْلِهِمَا وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى يُضْرَبُ لِلْفَارِسِ بِثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الشَّامِ وَأَهْلِ الْحِجَازِ لِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعُمَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ { أَنَّهُ أَسْهَمَ لِلْفَارِسِ ثَلَاثَةَ أَسْهُمٍ سَهْمًا لَهُ وَسَهْمَيْنِ لِفَرَسِهِ } { وَقَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا وَكَانَتْ الرِّجَالُ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ وَالْخَيْلُ مِائَتَيْ فَرَسٍ وَبِاسْمِ كُلِّ مِائَةٍ سَهْمٌ } فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ جَعَلَ سَهْمَ الْفَرَسِ ضِعْفَ سَهْمِ الرَّجُلِ وَعِنْدَ تَعَارُضِ الْأَخْبَارِ الْمَصِيرُ إلَى مَا رَوَيْنَا أَوْلَى لِمَا فِيهِ مِنْ إثْبَاتِ الزِّيَادَةِ وَلِأَنَّهُ اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الشَّامِ وَأَهْلُ الْحِجَازِ فَهُمْ أَعْرَفُ بِذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ ثُمَّ مُؤْنَةُ الْفَرَسِ أَعْظَمُ مِنْ مُؤْنَةِ الرَّجُلِ وَالِاسْتِحْقَاقُ بِاعْتِبَارِ الْتِزَامِ الْمُؤْنَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعُمَرِيِّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَسَّمَ لِلْفَارِسِ سَهْمَيْنِ سَهْمًا لَهُ وَسَهْمًا لِفَرَسِهِ } وَعُبَيْدُ اللَّهِ أَوْثَقُ مِنْ أَخِيهِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا وَفِي حَدِيثِ كَرِيمَةَ بِنْتِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهَا الْمِقْدَادِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَسْهَمَ لَهُ يَوْمَ بَدْرٍ سَهْمَيْنِ سَهْمًا لَهُ وَسَهْمًا لِفَرَسِهِ } .
وَفِي حَدِيثِ مُجَمِّعِ بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ مُجَمِّعٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَسْهَمَ لِلْفَارِسِ يَوْمَ خَيْبَرَ سَهْمَيْنِ } وَمَا رَوَوْا { أَنَّهُ قَسَّمَ خَيْبَرَ
عَلَى ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَهْمًا } صَحِيحٌ لَكِنْ ذَكَرَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْخَيْلَ كَانَتْ ثَلَثَمِائَةٍ وَلَوْ ثَبَتَ مَا رَوَوْا فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ وَكَانَتْ الْخَيْلُ مِائَتَيْ فَرَسٍ الْخَيْلُ بِفُرْسَانِهَا وَالرِّجَالُ أَلْفٌ وَأَرْبَعُمِائَةٍ أَيْ الرَّجَّالَةُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجْلِكَ } أَيْ بِفُرْسَانِك وَرَجَّالَتِك وَقَالَ تَعَالَى { يَأْتُوك رِجَالًا } أَيْ رَجَّالَةً فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ النَّاسَ كَانُوا أَلْفًا وَسِتَّمِائَةٍ فَإِذَا كَانَ بِاسْمِ كُلِّ مِائَةٍ سَهْمٌ كَانَ لِلْفَارِسِ سَهْمَانِ وَلِلرَّاجِلِ سَهْمٌ ثُمَّ الْمَصِيرُ إلَى مَا رَوَيْنَا أَوْلَى لِأَنَّهُ هُوَ الْمُتَيَقَّنُ وَمَا رَجَحَ بِهِ مِنْ إثْبَاتِ الزِّيَادَةِ مُتَعَارِضٌ فَفِيمَا رَوَيْنَا إثْبَاتُ الزِّيَادَةِ فِي نَصِيبِ الرَّاجِلِ ثُمَّ فِي هَذَا تَفْضِيلُ الْبَهِيمَةِ عَلَى الْآدَمِيِّ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْقِتَالِ وَالرَّجُلُ يُقَاتِلُ وَحْدَهُ وَالْفَرَسُ لَا تُقَاتِلُ وَلِهَذَا كَانَ الْقِيَاسُ أَنْ لَا يُسَوِّيَ بَيْنَ الْفَرَسِ وَالرَّجُلِ وَأَنْ لَا يَسْتَحِقَّ بِالْفَرَسِ شَيْئًا لِأَنَّهُ آلَةٌ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ كَسَائِرِ الْآلَاتِ ، وَلَكِنَّ الْآثَارَ اتَّفَقَتْ عَلَى سَهْمٍ وَاحِدٍ فَأَخَذْنَا بِمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الْأَثَرُ وَأَبْقَيْنَا مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الْأَثَرُ عَلَى أَصْلِ الْقِيَاسِ وَلَا مَعْنَى لِاعْتِبَارِ الْمُؤْنَةِ فَصَاحِبُ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ يَلْتَزِمُ الْمُؤْنَةَ أَيْضًا وَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ شَيْئًا وَصَاحِبُ الْفِيلِ وَالْبَعِيرِ مُؤْنَتُهُ أَكْثَرُ ثُمَّ لَا يَسْتَحِقُّ بِهِمَا شَيْئًا مَعَ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مُؤْنَةَ الْفَرَسِ أَكْثَرُ فَإِنَّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْفَرَسُ مِنْ الْعَلَفِ يُوجَدُ مُبَاحًا وَمَطْعُومُ بَنِي آدَمَ مِنْ الْخُبْزِ وَاللَّحْمِ لَا يُوجَدُ إلَّا بِثَمَنٍ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَصَاحِبُ الْبِرْذَوْنِ وَالْهَجِينِ وَالْمُقْرِفُ كَصَاحِبِ الْفَرَسِ الْعَرَبِيِّ فِي اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ بِهِ عِنْدَنَا سَوَاءٌ وَقَالَ أَهْلُ
الشَّامِ لَا يُسْهَمُ لِلْبَرَاذِينِ وَرَوَوْا فِيهِ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَكِنَّهُ شَاذٌّ وَالْمَشْهُورُ لَهُمْ حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ الْخَيْلَ أَغَارَتْ بِالشَّامِ وَعَلَى الْقَوْمِ الْمُنْذِرُ بْنُ أَبِي خَمْصَةَ الْوَدَاعِيُّ فَأَدْرَكَتْ الْعِرَابَ الْيَوْمَ وَالْبَرَاذِينَ ضُحَى الْغَدِ فَلَمْ يُسْهِمْ الْمُنْذِرُ لِلْبَرَاذِينِ وَقَالَ : لَا أَجْعَلُ مَنْ أَدْرَكَ كَمَنْ لَا يُدْرِكُ وَكَتَبَ فِي ذَلِكَ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : هَبِلَتْ الْوَدَاعِيَّ أُمُّهُ لَقَدْ أَذْكَتْ بِهِ وَفِي رِوَايَةٍ لَقَدْ أَذَكَرَتْهُ أَمْضُوهَا عَلَى مَا قَالَ .
( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَ السَّهْمِ بِالْخَيْلِ لِمَعْنَى إرْهَابِ الْعَدُوِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ } الْآيَةُ وَالْإِرْهَابُ يَحْصُلُ بِالْبِرْذَوْنِ كَمَا يَحْصُلُ بِالْفَرَسِ الْعَرَبِيِّ ثُمَّ الْعَرَبِيُّ فِي الطَّلَبِ وَالْهَرَبِ أَقْوَى وَالْبِرْذَوْنُ أَقْوَى عَلَى الْحَرْبِ وَأَصْبَرُ وَأَلْيَنُ عَطْفًا عِنْدَ اللِّقَاءِ فَفِي كُلِّ جَانِبٍ نَوْعُ مَنْفَعَةٍ مُعْتَبَرَةٍ وَمَعْنَى الْتِزَامِ الْمُؤْنَةِ يَجْمَعُهُمَا وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْمُنْذِرَ فَعَلَ ذَلِكَ بِاجْتِهَادِهِ فَأَمْضَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اجْتِهَادَهُ وَهَكَذَا نَقُولُ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ يَسْتَحِقُّ بِالْفَرَسِ الْعَرَبِيِّ سَهْمَانِ وَبِمَا سِوَى ذَلِكَ سَهْمٌ وَاحِدٌ وَهَذَا بَعِيدٌ فَإِنَّ الْبِرْذَوْنَ فَرَسُ الْعَجَمِ وَالْعَرَبِيَّ فَرَسُ الْعَرَبِ وَكَمَا يُسَوِّي بَيْنَ الْعَجَمِيِّ وَالْعَرَبِيِّ فِي اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ فَكَذَلِكَ فِي الْخَيْلِ وَالْهَجِينِ مَا يَكُونُ أَبُوهُ مِنْ الْكَوَادِنِ وَأُمُّهُ عَرَبِيَّةً وَالْمُقْرِفُ مَا يَكُونُ أَبُوهُ عَرَبِيًّا وَأُمُّهُ مِنْ الْكَوَادِنِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ لَقَدْ ذَكَتْ بِهِ أَتَتْ بِهِ ذَكِيًّا وَقَوْلُهُ أَذَكَرَتْهُ أَتَتْ بِهِ ذَكَرًا جَلْدًا .
( قَالَ ) : وَإِذَا دَخَلَ الْغَازِي دَارَ الْحَرْبِ مَعَ الْجَيْشِ فَارِسًا ثُمَّ نَفَقَ فَرَسُهُ أَوْ عَقَرَ قَبْلَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ فَلَهُ سَهْمُ الْفُرْسَانِ عِنْدَنَا وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : لَهُ سَهْمُ الرَّاجِلِ لِقَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْغَنِيمَةُ لِمَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ وَقَدْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ رَاجِلًا وَلِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ الْأَخْذُ وَعِنْدَ الْأَخْذِ هُوَ رَاجِلٌ فَيَسْتَحِقُّ سَهْمَ الرَّاجِلِ كَمَا لَوْ نَفَقَ فَرَسُهُ قَبْلَ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ وَهَذَا لِأَنَّ سَهْمَ الْفَرَسِ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ سَهْمِ صَاحِبِهِ .
وَلَوْ مَاتَ الْغَازِي بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا فَإِذَا نَفَقَ الْفَرَسُ أَوْلَى وَلِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ بِفَرَسِهِ كَمَا يَسْتَحِقُّ الرَّضْخَ بِعَبْدِهِ وَلَوْ مَاتَ عَبْدُهُ بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ لَمْ يَسْتَحِقَّ بِهِ شَيْئًا فَكَذَلِكَ الْفَرَسُ ( وَحُجَّتُنَا ) أَنَّهُ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَارِسًا عَلَى قَصْدِ الْجِهَادِ فَيَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ كَمَا لَوْ كَانَ فَرَسُهُ قَائِمًا وَقَاتَلَ رَاجِلًا وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْفَرَسِ لِمَعْنَى إرْهَابِ الْعَدُوِّ بِهِ وَقَدْ حَصَلَ بِهِ وَالْجَيْشُ إنَّمَا يَعْرِضُ عِنْدَ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ فَمَنْ كَانَ فَارِسًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَأَثْبَتَ اسْمَهُ فِي دِيوَانِ الْفُرْسَانِ فَقَدْ حَصَلَ إرْهَابُ الْعَدُوِّ بِفَرَسِهِ لِأَنَّهُ يَنْتَشِرُ الْخَبَرُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَنَّهُ دَخَلَ كَذَا وَكَذَا فَارِسٍ وَقَلَّ مَا يَعِيشُ بَعْدَ ذَلِكَ وَلِأَنَّ الِاعْتِبَارَ لِلْقَهْرِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ إعْزَازُ الدِّين وَذَلِكَ بِدُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ عَلَى قَصْدِ الْجِهَادِ فَإِذَا كَانَ هُوَ عِنْدَ دُخُولِ دَارِ الْحَرْبِ مُلْتَزِمًا مُؤْنَةَ الْفَرَسِ عَلَى قَصْدِ الْجِهَادِ انْعَقَدَ لَهُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ وَبِالْإِجْمَاعِ لَا مُعْتَبَرَ بِبَقَاءِ الْفَرَسِ إلَى حَالِ تَمَامِ الِاسْتِحْقَاقِ لِأَنَّهُ لَوْ نَفَقَ فَرَسُهُ بَعْدَ الْقِتَالِ قَبْلَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ اسْتَحَقَّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ حَالَ انْعِقَادِ السَّبَبِ ابْتِدَاءً بِخِلَافِ مَا لَوْ مَاتَ قَبْلَ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ لِأَنَّ مَعْنَى إرْهَابِ الْعَدُوِّ وَالْقَهْرُ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ وَبِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ الْفَارِسُ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحِقُّ وَلَا يَبْقَى الِاسْتِحْقَاقُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُسْتَحِقِّ وَإِنْ كَانَ السَّبَبُ مُنْعَقِدًا .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قُتِلَ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ مَاتَ بَعْدَ الْفَرَاغِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ عِنْدَنَا لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا وَالْعَبْدُ آدَمِيٌّ كَالْحُرِّ ثُمَّ الرَّضْخُ لَيْسَ نَظِيرَ السَّهْمِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ غَيْرُ مُقَدَّرٍ بِشَيْءٍ فَلَا يَسْتَقِيمُ اعْتِبَارُ
السَّهْمِ بِمَا دُونَهُ .
وَلَوْ بَاعَ فَرَسَهُ بَعْدَ مَا جَاوَزَ الدَّرْبَ قَبْلَ الْقِتَالِ فَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ أَيْضًا لِأَنَّهُ أَثْبَتَ اسْمَهُ فِي دِيوَانِ الْفُرْسَانِ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الرَّجَّالَةِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِالْبَيْعِ أَنَّهُ مَا كَانَ قَصْدُهُ مِنْ الْتِزَامِ مُؤْنَةِ الْفَرَسِ الْقِتَالَ عَلَيْهِ إنَّمَا كَانَ قَصْدُهُ التِّجَارَةَ وَبِمُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ عَلَى قَصْدِ التِّجَارَةِ لَا يَنْعَقِدُ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِ الْغَنِيمَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ فَرَسُهُ وَلِأَنَّهُ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ أَزَالَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِاخْتِيَارِهِ فَيَكُونُ بِهِ مُسْقِطًا حَقَّهُ وَبِالْمَوْتِ مَا أَزَالَهُ عَنْ مِلْكِهِ بِاخْتِيَارِهِ بَلْ هُوَ مُصَابٌ فِي ذَلِكَ وَلَوْ بَاعَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِتَالِ لَمْ يَسْقُطْ سَهْمُهُ لِأَنَّهُ لَا يَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ مِنْ الْتِزَامِ مُؤْنَةِ الْفَرَسِ عَدَمَ الْقِتَالِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ مَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ الْقِتَالِ لَمْ يَشْتَغِلْ بِالْبَيْعِ فِيهِ وَاخْتَلَفَ مَشَايِخنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا إذَا بَاعَهُ فِي حَالَةِ الْقِتَالِ ، قَالَ بَعْضُهُمْ : لَا يَسْقُطُ سَهْمُهُ لِأَنَّ بَيْعَ الْفَرَسِ عِنْدَ الْقِتَالِ مُخَاطَرَةٌ بِالنَّفْسِ فَمَنْ لَيْسَ لَهُ قَصْدُ الْقِتَالِ يَطْلُبُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَرَسًا لِيَهْرُبَ عَلَيْهِ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ بَيْعَهُ الْفَرَسَ لِإِظْهَارِ الْمُبَالَغَةِ فِي الْحَرْبِ وَهُوَ أَنَّهُ يُرِي الْعَدُوَّ أَنَّهُ غَيْرُ عَازِمٍ عَلَى الْفِرَارِ أَصْلًا ( قَالَ ) رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفَارِسِ لِأَنَّ تَأْخِيرَهُ بَيْعَ الْفَرَسِ إلَى وَقْتِ الْقِتَالِ يُحَقِّقُ قَصْدَ التِّجَارَةِ فِيهِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ فِيهِ عِنْدَ ذَلِكَ أَرْغَبُ وَالتَّاجِرُ يَحْبِسُ مَالَ تِجَارَتِهِ إلَى وَقْتِ عَزَّتِهِ وَكَثْرَةِ الرَّغْبَةِ فِيهِ فَلِهَذَا يَسْقُطُ سَهْمُهُ بِبَيْعِ الْفَرَسِ .
فَأَمَّا إذَا دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ رَاجِلًا ثُمَّ اشْتَرَى فَرَسًا وَقَاتَلَ فَارِسًا فَلَهُ سَهْمُ الرَّاجِلِ وَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ لَهُ سَهْمَ الْفُرْسَانِ لِأَنَّ مَعْنَى إرْهَابِ الْعَدُوِّ وَالْقَهْرِ الَّذِي يَتِمُّ بِهِ إعْزَازُ الدِّينِ بِالْقِتَالِ عَلَى الْفَرَسِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ فَإِذَا كَانَ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ بِمُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ فَارِسًا فَالْقِتَالُ عَلَى الْفَرَسِ أَوْلَى ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْإِمَامَ إنَّمَا يُدَوِّنُ الدَّوَاوِينَ وَيُثْبِتُ أَسَامِيَ الْفُرْسَانِ وَالرَّجَّالَةِ عِنْدَ مُجَاوَزَةِ الدَّرْبِ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ تَفَقُّدُ أَحْوَالِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَمَنْ أَثْبَتَ اسْمَهُ فِي دِيوَانِ الرَّجَّالَةِ فَقَدْ انْعَقَدَ لَهُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ رَاجِلًا فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِشِرَاءِ الْفَرَسِ كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لَا يَتَغَيَّرُ حَالُهُ بِمَوْتِ الْفَرَسِ .
وَمَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ فَارِسًا ، ثُمَّ قَاتَلَ رَاجِلًا بِأَنْ كَانَ الْقِتَالُ عَلَى بَابِ حِصْنٍ أَوْ فِي السَّفِينَةِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفَارِسِ ، أَمَّا عِنْدَنَا فَلِأَنَّهُ أَثْبَتَ اسْمَهُ فِي دِيوَانِ الْفُرْسَانِ وَالِاسْتِحْقَاقُ بِحُصُولِهِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَارِسًا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّهُ قَاتَلَ وَلَهُ فَرَسٌ مُعَدٌّ لِلْقِتَالِ عَلَيْهِ لَوْ احْتَاجَ إلَيْهِ فَيَسْتَحِقُّ سَهْمَ الْفُرْسَانِ كَمَا يَسْتَحِقُّ الرِّدْءَ السَّهْمَ مَعَ الْمُبَاشِرِ .
وَإِذَا مَاتَ الْغَازِي أَوْ قُتِلَ بَعْدَ إصَابَةِ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ إخْرَاجِهَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ لَمْ يُوَرَّثْ سَهْمُهُ عِنْدَنَا ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُوَرَّثُ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهَذَا يَنْبَنِي عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا فَإِنَّ عِنْدَهُ الْمِلْكَ يَثْبُتُ لَهُمْ بِنَفْسِ الْإِصَابَةِ وَمَوْتُ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ لَا يُبْطِلُ مِلْكَهُ عَنْ نَصِيبِهِ بَلْ يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِيهِ كَالشُّرَكَاءِ فِي الِاصْطِيَادِ إذَا مَاتَ أَحَدُهُمْ بَعْدَ الْأَخْذِ ، وَمِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْحَقَّ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْإِصَابَةِ وَلَا يَتَأَكَّدُ إلَّا بِالْإِحْرَازِ وَالْحَقُّ الضَّعِيفُ لَا يُوَرَّثُ كَحَقِّ الْقَبُولِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا مَاتَ بَعْدَ إيجَابِ الْبَائِعِ قَبْلَ قَبُولِهِ لَا يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِي الْقَبُولِ وَأَمَّا بَعْدَ الْإِحْرَازِ الْحَقُّ يَتَأَكَّدُ وَالْإِرْثُ يَجْرِي فِي الْحَقِّ الْمُتَأَكِّدِ كَحَقِّ الرَّهْنِ وَالرَّدِّ بِالْعَيْبِ وَهُوَ نَظِيرُ مَذْهَبِنَا فِي الشُّفْعَةِ وَخِيَارُ الشَّرْطِ لَا يُوَرَّثُ لِأَنَّهُ حَقٌّ ضَعِيفٌ وَقَدْ اسْتَدَلَّ بَعْضُ مَشَايِخِنَا عَلَى ضَعْفِ الْحَقِّ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِإِبَاحَةِ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ وَالْعَلِفِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَضَمَانٍ وَبِامْتِنَاعِ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَى مَنْ أَتْلَفَ شَيْئًا مِنْ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْإِحْرَازِ وَبِقَبُولِ شَهَادَةِ الْغَانِمِينَ فِي الْغَنِيمَةِ قَبْلَ الْإِحْرَازِ وَامْتِنَاعِ قَبُولِ الشَّهَادَةِ بَعْدَ الْإِحْرَازِ وَتَبَيَّنَ بِذَلِكَ أَنَّ الْحَقَّ ضَعِيفٌ كَحَقِّ كُلِّ مُسْلِمٍ فِي مَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَلَكِنَّ أَصْحَابَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ رُبَّمَا لَا يُسَلِّمُونَ هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ .
وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ مَعَ مَوْلَاهُ فَقَاتَلَ بِإِذْنِهِ يَرْضَخُ لَهُ وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ وَالْمَرْأَةُ وَالذِّمِّيُّ وَالْمُكَاتَبُ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ لَا يُسْهِمُ لِلنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَالْعَبِيدِ وَكَانَ يَرْضَخُ لَهُمْ } ، وَعَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ يَرْضَخُ لِلْمَمَالِيكِ وَلَا يُسْهِمُ لَهُمْ } ؛ وَلِأَنَّ الْعَبْدَ غَيْرُ مُجَاهِدٍ بِنَفْسِهِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الْخُرُوجِ فَلَا يُسَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحُرِّ الَّذِي هُوَ أَهْلٌ لِلْجِهَادِ بِنَفْسِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ وَلَكِنْ يُرْضَخُ لَهُ إذَا قَاتَلَ لِمَعْنَى التَّحْرِيضِ ، وَالصَّبِيُّ وَالْمَرْأَةُ لَيْسَ لَهُمَا قُوَّةُ الْجِهَادِ بِأَنْفُسِهِمَا وَلِهَذَا لَا يَلْحَقُهُمَا فَرْضُ الْجِهَادِ ، وَالذِّمِّيُّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ بِنَفْسِهِ فَإِنَّ الْكُفَّارَ لَا يُخَاطَبُونَ بِالشَّرَائِعِ مَا لَمْ يُسْلِمُوا ، وَالرِّقُّ فِي الْمُكَاتَبِ قَائِمٌ وَيُتَوَهَّمُ أَنْ يَعْجِزَ فَيَمْنَعُهُ الْمَوْلَى مِنْ الْخُرُوجِ إلَى الْجِهَادِ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ فِي خِدْمَةِ مَوْلَاهُ وَهُوَ لَا يُقَاتِلُ لَا يُرْضَخُ لَهُ أَيْضًا لِأَنَّ مَوْلَاهُ الْتَزَمَ مُؤْنَتَهُ لِخِدْمَتِهِ لَا لِلْقِتَالِ بِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ الْتَزَمَ مُؤْنَتَهُ لِلْقِتَالِ بِهِ وَنَظِيرُهُ مَا قَرَرْنَاهُ مِنْ بَيْعِ الْفَرَسِ ، وَأَهْلُ سُوقِ الْعَسْكَرِ إنْ لَمْ يُقَاتِلُوا فَلَا يُسْهَمُ لَهُمْ وَلَا يُرْضَخُ لِأَنَّ قَصْدَهُمْ التِّجَارَةُ لَا إرْهَابُ الْعَدُوِّ وَإِعْزَازُ الدِّينِ فَإِنْ قَاتَلُوا اسْتَحَقُّوا السَّهْمَ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ بِفِعْلِهِمْ أَنَّ قَصْدَهُمْ الْقِتَالُ وَمَعْنَى التِّجَارَةِ تَبَعٌ لِذَلِكَ ، فَحَالُهُمْ كَحَالِ التَّاجِرِ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ لَا يُنْتَقَصُ بِهِ ثَوَابُ حَجِّهِ وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ } .
وَمَنْ دَخَلَ دَارَ الْحَرْبِ بِأَفْرَاسٍ لَا يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْعِرَاقِ وَأَهْلِ الْحِجَازِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ لِفَرَسَيْنِ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الشَّامِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى لِمَا رُوِيَ { أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَهِدَ خَيْبَرَ بِفَرَسَيْنِ فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ سَهْمًا لَهُ وَسَهْمَيْنِ لِكُلِّ فَرَسٍ } وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَحْتَاجُ فِي الْقِتَالِ إلَى فَرَسَيْنِ حَتَّى إذَا كَلَّ أَحَدُهُمَا قَاتَلَ عَلَى الْآخَرِ وَهُوَ عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي الْمُبَارِزِينَ ، فَكَانَ مُلْتَزِمًا مُؤْنَةَ فَرَسَيْنِ لِلْقِتَالِ فَيَسْتَحِقُّ السَّهْمَ لَهُمَا وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ لِلْقِتَالِ فَكَانَ مِنْ الْجَنَائِبِ وَهُمَا اسْتَدَلَّا بِمَا رَوَى إبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَارِثِ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِيهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يُسْهِمْ لِصَاحِبِ الْأَفْرَاسِ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ يَوْمَ حُنَيْنٍ } وَحَدِيثُ ابْنِ الزُّبَيْرِ فَإِنَّمَا أَعْطَاهُ سَهْمَ ذَوِي الْقُرْبَى لَهُ وَلِأُمِّهِ صَفِيَّةَ وَمَا أَسْهَمَ لَهُ إلَّا لِفَرَسٍ وَاحِدٍ ثُمَّ عِنْدَ تَعَارُضِ الْآثَارِ يُؤْخَذُ بِالْمُتَيَقَّنِ لِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى اسْتِحْقَاقَ السَّهْمِ بِالْفَرَسِ وَلِأَنَّهُ لَا يُقَاتِلُ إلَّا عَلَى فَرَسٍ وَاحِدٍ وَيُحْمَلُ مَا يُرْوَى مِنْ الزِّيَادَةِ أَنَّهُ أَعْطَى ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْفِيلِ كَمَا رُوِيَ { أَنَّهُ أَعْطَى سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَهْمَيْنِ وَكَانَ رَاجِلًا } وَلَكِنْ أَعْطَاهُ أَحَدَ السَّهْمَيْنِ عَلَى سَبِيلِ التَّنْفِيلِ لِجِدِّهِ فِي الْقِتَالِ فَإِنَّهُ قَالَ { : خَيْرُ رَجَّالَتِنَا سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ وَخَيْرُ فُرْسَانِنَا أَبُو قَتَادَةَ } ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ نَظِيرُ مَا بَيَّنَّا فِي النِّكَاحِ أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ إلَّا لِخَادِمٍ وَاحِدٍ فِي قَوْلِ
أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ لِخَادِمَيْنِ .
وَمَنْ مَرِضَ أَوْ كَانَ جَرِيحًا فِي خَيْمَتِهِ حَتَّى أَصَابُوا الْغَنَائِمَ فَلَهُ السَّهْمُ كَامِلًا لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ وُجِدَ فِي حَقِّهِ كَمَا قَرَّرْنَا وَفِي نَظِيرِهِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إنَّمَا تُنْصَرُونَ وَتُرْزَقُونَ بِضُعَفَائِكُمْ } .
وَإِذَا بَعَثَ الْإِمَامُ سَرِيَّةً مِنْ الْعَسْكَرِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَجَاءَتْ بِغَنَائِمَ وَقَدْ أَصَابَ الْجَيْشُ غَنَائِمَ أَيْضًا فَإِنَّ بَعْضَهُمْ يُشَارِكُ بَعْضًا فِي الْمُصَابِ لِأَنَّهُمْ اشْتَرَكُوا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ وَهُوَ دُخُولُ دَارِ الْحَرْبِ عَلَى قَصْدِ الْقِتَالِ ؛ وَلِأَنَّ الْجَيْشَ فِي حَقِّ أَصْحَابِ السَّرِيَّةِ كَالرِّدْءِ لَهُمْ حَتَّى يَلْجَئُونَ إلَيْهِمْ إذَا حَزَبَهُمْ أَمْرٌ وَهُمْ بِمَنْزِلَةِ الرِّدْءِ لِاجْتِمَاعِهِمْ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ لِلرِّدْءِ أَنْ يُشَارِكَ الْجَيْشَ فِي الْمُصَابِ وَإِنْ لَمْ يَلْقَوْا قِتَالًا بَعْدَ مَا الْتَحَقُوا بِهِمْ فَهَذَا أَوْلَى .
وَإِنْ أُسِرَ فَأَصَابَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَهُ غَنِيمَةً ثُمَّ انْفَلَتَ مِنْهُمْ فَالْتَحَقَ بِالْجَيْشِ الَّذِي أُسِرَ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجُوا فَهُوَ شَرِيكُهُمْ فِي جَمِيعِ مَا أَصَابُوا وَإِنْ لَمْ يَلْقَوْا قِتَالًا بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ انْعَقَدَ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ لَهُ مَعَهُمْ فَيُشَارِكُهُمْ فِيمَا تَأَكَّدَ الْحَقُّ بِهِ وَهُوَ الْإِحْرَازُ فَلَا يُعْتَبَرُ الْعَارِضُ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا لَوْ مَرِضَ أَوْ جُرِحَ وَإِنْ الْتَحَقَ هَذَا الْأَسِيرُ بِعَسْكَرٍ آخَرَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَقَدْ أَصَابُوا غَنَائِمَ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ إلَّا أَنْ يَلْقَوْا قِتَالًا فَيُقَاتِلُ مَعَهُمْ لِأَنَّهُ مَا انْعَقَدَ لَهُ سَبَبُ الِاسْتِحْقَاقِ مَعَهُمْ وَإِنَّمَا كَانَ قَصْدُهُ مِنْ اللُّحُوقِ بِهِمْ الْفَوْزَ وَالنَّجَاةَ فَلَا يَسْتَحِقُّ السَّهْمَ إلَّا أَنْ يَلْقَوْا قِتَالًا فَحِينَئِذٍ تَبَيَّنَ بِفِعْلِهِ أَنَّ قَصْدَهُ الْقِتَالُ مَعَهُمْ وَيَجْعَلُ قِتَالَهُ لِلدَّفْعِ عَنْ الْمُصَابِ كَقِتَالِهِ لِلْإِصَابَةِ فِي الِابْتِدَاءِ وَكَذَلِكَ الَّذِي أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ إذَا الْتَحَقَ بِالْعَسْكَرِ ، أَوْ الْمُرْتَدُّ إذَا تَابَ فَالْتَحَقَ بِالْعَسْكَرِ أَوْ التَّاجِرُ الَّذِي دَخَلَ بِأَمَانٍ إذَا الْتَحَقَ بِالْعَسْكَرِ فَإِنَّهُمْ بِمَنْزِلَةِ الْأَسِيرِ إنْ قَاتَلُوا اسْتَحَقُّوا السَّهْمَ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَهُمْ .
وَفِي الْأَصْلِ ذَكَرَ أَنَّ عَبْدًا لَوْ جَنَى جِنَايَةً خَطَأً أَوْ أَفْسَدَ مَتَاعًا فَلَزِمَهُ دَيْنٌ ثُمَّ أَسَرَهُ الْعَدُوُّ ثُمَّ أَسْلَمُوا عَلَيْهِ فَهُوَ لَهُمْ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ أَسْلَمَ عَلَى مَالٍ فَهُوَ لَهُ } ثُمَّ الْجِنَايَةُ تَبْطُلُ عَنْهُ ، وَالدَّيْنُ يَلْحَقُهُ لِأَنَّ حَقَّ الْجِنَايَةِ فِي رَقَبَتِهِ وَلَا يَبْقَى بَعْدَ زَوَالِ مِلْكِ الْمَوْلَى .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ زَالَ مِلْكُهُ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ لَا يَبْقَى فِيهِ حَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ ، فَأَمَّا الدَّيْنُ فِي ذِمَّتِهِ فَلَا يَبْطُلُ عَنْهُ بِزَوَالِ مِلْكِ الْمَوْلَى كَمَا لَا يَبْطُلُ بِبَيْعِهِ وَهَذَا لِأَنَّ الدَّيْنَ فِي ذِمَّةِ الْعَبْدِ يَجِبُ شَاغَلَا لِمَالِيَّتِهِ فَإِنَّمَا يَمْلِكُ الْعَدُوُّ مَالِيَّتَهُ مَشْغُولَةً بِالدَّيْنِ كَمَا أَسَرُوهُ وَلِهَذَا يَبْقَى الدَّيْنُ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا أَسْلَمَ وَلَوْ اشْتَرَاهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ أَوْ أَصَابَهُ الْمُسْلِمُونَ فِي غَنِيمَةٍ يَأْخُذُهُ الْمَوْلَى بِالْقِيمَةِ أَوْ الثَّمَنِ فَإِنَّ الْجِنَايَةَ وَالدَّيْنَ يَلْحَقَانِهِ لِأَنَّهُ يُعِيدُهُ بِالْأَخْذِ إلَى قَدِيمِ مِلْكِهِ وَحَقُّ وَلِيِّ الْجِنَايَةِ كَانَ ثَابِتًا فِي قَدِيمِ مِلْكِهِ ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا الْفَصْلِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ قَتْلَ عَمْدٍ لَمْ يَبْطُلْ ذَلِكَ عَنْهُ بِحَالٍ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ نَفْسُهُ قِصَاصًا فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِزَوَالِ مِلْكِ الْمَوْلَى كَمَا لَوْ بَاعَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ بَعْدَ مَا لَزِمَهُ الْقِصَاصُ .
( قَالَ ) : وَلَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْفُلَ أَحَدًا مِمَّا قَدْ أَصَابَهُ إنَّمَا النَّفَلُ قَبْلَ إحْرَازِ الْغَنِيمَةِ أَنْ يَقُولَ : مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ وَمَنْ أَصَابَ شَيْئًا فَهُوَ لَهُ وَقَدْ كَانَ يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ لِلْإِغْرَاءِ عَلَى الْقِتَالِ وَهَذَا الْكَلَامُ يَشْتَمِلُ عَلَى فُصُولٍ : أَحَدُهَا أَنَّ الْقَاتِلَ لَا يَسْتَحِقُّ السَّلَبَ بِالْقَتْلِ عِنْدَنَا مِنْ غَيْرِ تَنْفِيلِ الْإِمَامِ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : إذَا قَتَلَهُ مُقْبِلًا بَيْنَ الصَّفَّيْنِ عَلَى وَجْهِ الْمُبَارِزَةِ اسْتَحَقَّ سَلَبَهُ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ { : مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ } فَمِثْلُ هَذَا اللَّفْظِ فِي لِسَانِ صَاحِبِ الشَّرْعِ لِبَيَانِ السَّبَبِ كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ } فَظَاهِرُهُ لِنَصْبِ الشَّرْعِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ لِذَلِكَ وَفِي حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ : أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ جَوْلَةً يَوْمَ حُنَيْنٍ فَلَقِيت رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ قَدْ عَلَا رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ فَأَتَيْتُهُ مِنْ وَرَائِهِ وَضَرَبْتُهُ عَلَى حَبْلِ عَاتِقِهِ ضَرْبَةً فَأَقْبَلَ عَلَيَّ وَضَمَّنِي إلَى نَفْسِهِ ضَمَّةً شَمَمْت مِنْهَا رَائِحَةَ الْمَوْتِ ثُمَّ أَدْرَكَهُ الْمَوْتُ ، فَأَرْسَلَنِي فَأَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ { : مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ ، فَقُلْت : مَنْ يَشْهَدُ لِي ؟ فَقَالَ رَجُلٌ : صَدَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ سَلَبُ ذَلِكَ الْقَتِيلِ عِنْدِي فَأَرْضِهِ عَنِّي ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ : لَاهَا اللَّهُ أَيَعْمَدُ أَسَدٌ مِنْ أَسَدِ اللَّهِ فَيَقْتُلُ عَدُوَّ اللَّهِ ثُمَّ يُعْطِيك سَلَبَهُ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ كَانَ الْقَتْلُ مِنْهُ قَبْلَ مَقَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَعْطَاهُ سَلَبَهُ } ، فَظَهَرَ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْقَتْلِ لَا بِالتَّنْفِيلِ ؛
وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ أَظْهَرَ فَضْلَ عِنَايَةٍ عَلَى غَيْرِهِ بِمُبَاشَرَةِ الْقَتْلِ فَيَسْتَحِقُّ التَّفْضِيلَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ كَالْفَارِسِ مَعَ الرَّاجِلِ وَهَذَا لِأَنَّ الْقَاتِلَ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَارِزَةِ يَحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ عَنَاءٍ وَمُخَاطَرَةٍ بِالنَّفْسِ وَلِهَذَا لَوْ قَتَلَهُ مُدْبِرًا لَا يَسْتَحِقُّ سَلَبَهُ .
وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَى سَهْمًا مِنْ صَفِّ الْمُسْلِمِينَ فَقَتَلَ مُشْرِكًا لَا يَسْتَحِقُّ سَلَبَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةُ الْعَنَاءِ فَكُلُّ وَاحِدٍ يَتَجَاسَرُ عَلَى ذَلِكَ ، وَأَصْحَابُنَا اسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ } ، وَالسَّلَبُ مِنْ الْغَنِيمَةِ ؛ لِأَنَّ الْغَنِيمَةَ مَالٌ يُصَابُ بِأَشْرَفِ الْجِهَاتِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجِبَ فِيهِ الْخُمُسُ بِظَاهِرِ الْآيَةِ وَعِنْدَكُمْ لَا يَجِبُ وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : السَّلَبُ مِنْ الْغَنِيمَةِ وَفِيهِ الْخُمُسُ وَاسْتَدَلَّ بِالْآيَةِ { وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ بُلْقِينَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : لِمَنْ الْمَغْنَمُ ؟ قَالَ : لِلَّهِ سَهْمٌ وَلِهَؤُلَاءِ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ ، فَقَالَ : هَلْ أَحَدٌ أَحَقُّ بِشَيْءٍ مِنْ غَيْرِهِ ؟ قَالَ : لَا حَتَّى لَوْ رُمِيتَ بِسَهْمٍ فِي جَنْبِك فَاسْتَخْرَجْتَهُ لَمْ تَكُنْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ أَخِيك } وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كُنْتُ وَاقِفًا يَوْمَ بَدْرٍ بَيْنَ شَابَّيْنِ حَدِيثِ أَسْنَانِهِمَا أَحَدُهُمَا مُعَوِّذُ ابْنُ عَفْرَاءَ وَالْآخَرُ مُعَاذُ بْنُ عُمَرَ وَابْنُ الْجَمُوحِ فَقَالَ لِي أَحَدُهُمَا : أَيْ عَمُّ أَتَعْرِفُ أَبَا جَهْلٍ ؟ قُلْت : وَمَا شَأْنُك بِهِ ؟ قَالَ : بَلَغَنِي أَنَّهُ يَسُبُّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَوَاَللَّهِ لَوْ لَقِيتُهُ مَا فَارَقَ سَوَادِي سَوَادَهُ حَتَّى يَمُوتَ الْأَعْجَلُ مِنَّا مَوْتًا وَعُمَرُ بِي الْآخَرُ إلَى مِثْلِ ذَلِكَ فَلَقِيتُ أَبَا جَهْلٍ فِي صَفِّ الْمُشْرِكِينَ فَقُلْت : ذَاكَ صَاحِبُكُمَا الَّذِي تُرِيدَانِهِ فَابْتَدَرَاهُ بِسَيْفَيْهِمَا حَتَّى قَتَلَاهُ
وَاخْتَصَمَا فِي سَلَبِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا : أَنَا قَتَلْتُهُ ، وَالسَّلَبُ لِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَمَسَحْتُمَا سَيْفَيْكُمَا ؟ فَقَالَا : لَا فَقَالَ : أَرَيَانِي سَيْفَيْكُمَا فَأَرَيَاهُ فَقَالَ : كِلَاكُمَا قَتَلَهُ ثُمَّ أَعْطَى السَّلَبَ مُعَوِّذَ ابْنَ عَفْرَاءَ } وَلَوْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ بِالْقَتْلِ لَمَا خَصَّ بِهِ أَحَدَهُمَا مَعَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كِلَاكُمَا قَتَلَهُ } .
( فَإِنْ قِيلَ ) : كَيْفَ يَصِحُّ هَذَا وَالْمَشْهُورُ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَتَلَهُ قُلْنَا : هُمَا أَثْخَنَاهُ وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجْهَزَ عَلَيْهِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ : وَجَدْتُهُ صَرِيعًا فِي الْقَتْلَى وَبِهِ رَمَقٌ فَجَلَسْت عَلَى صَدْرِهِ فَفَتْحَ عَيْنَيْهِ ، وَقَالَ : يَا رُوَيْعِي الْغَنَمَ لَقَدْ ارْتَقَيْت مُرْتَقًى عَظِيمًا لِمَنْ الدَّبْرَةُ قُلْت : لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : مَا تُرِيدُ أَنْ تَصْنَعَ قُلْت : أَحُزُّ رَأْسَك قَالَ : لَسْت بِأَوَّلِ عَبْدٍ قَتَلَ سَيِّدَهُ وَلَكِنْ خُذْ سَيْفِي فَهُوَ أَمْضَى لِمَا تُرِيدُ وَأَقْطَعْ رَأْسِي مِنْ كَاهِلٍ لِيَكُونَ أَهْيَبَ فِي عَيْنِ النَّاظِرِ وَإِذَا لَقِيت مُحَمَّدًا فَأَخْبِرْهُ أَنِّي الْيَوْمَ أَشَدُّ بُغْضًا لَهُ مِمَّا كُنْتُ قَبْلَ هَذَا فَقَطَعْت رَأْسَهُ وَأَتَيْت بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَلْقَيْتُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَقُلْت : هَذَا رَأْسُ أَبِي جَهْلٍ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : اللَّهُ أَكْبَرُ هَذَا كَانَ فِرْعَوْنِي وَفِرْعَوْنُ أُمَّتِي شَرُّهُ عَلَى أُمَّتِي أَكْثَرُ مِنْ شَرِّ فِرْعَوْنَ عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ وَنَفَلَنِي سَيْفَهُ } فَفِي هَذَا بَيَانٌ أَنَّهُ أَجْهَزَ عَلَيْهِ وَأَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ لَيْسَ بِنَفْسِ الْقَتْلِ إذْ لَوْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ بِنَفْسِ الْقَتْلِ لَكَانَ الْمُسْتَحِقُّ لِلسَّيْفِ مَنْ أَثْخَنَهُ فَمَا كَانَ يَنْفُلُهُ غَيْرُهُ وَإِنَّ الْبَرَاءَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ قَتَلَ مَرْزُبَانَ الرَّازَةِ وَأَخَذَ سَلَبَهُ مُرَصَّعًا بِاللُّؤْلُؤِ وَالْجَوْهَرِ فَقَوَّمَ بِعِشْرِينَ أَلْفًا فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كُنَّا لَا نُخَمِّسُ الْأَسْلَابَ وَإِنَّ سَلَبَ الْبَرَاءِ بَلَغَ هَذَا الْمَبْلَغَ وَمَا أَرَانِي إلَّا خَامِسَهُ قَالَ أَنَسٌ : فَبَعَثْنَا بِالْخُمُسِ أَرْبَعَةَ آلَافٍ إلَيْهِ فَإِذَا تَبَيَّنَ وُجُوبُ الْخُمُسِ فِيهِ ثَبَتَ أَنَّ الْبَاقِيَ مِنْهُ مَقْسُومٌ بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَمَا نُقِلَ مِنْ قَوْلِهِ { مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ } كَانَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْفِيلِ مِنْهُ لَا عَلَى وَجْهِ نَصْبِ الشَّرْعِ وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ نَصْبَ الشَّرْعِ إذَا قَالَهُ فِي الْمَدِينَةِ فِي مَسْجِدِهِ وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ إلَّا يَوْمَ بَدْرٍ عِنْدَ الْقِتَالِ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّحْرِيضِ وَقَدْ كَانُوا أَذِلَّةً يَوْمَ حُنَيْنٍ حِينَ وَلَّوْا مُنْهَزِمِينَ لِلْحَاجَةِ إلَى التَّحْرِيضِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّنْفِيلِ لَا عَلَى وَجْهِ نَصْبِ الشَّرْعِ ، وَعِنْدَنَا بِالتَّنْفِيلِ يَسْتَحِقُّ .
وَلِأَنَّ الْقَاتِلَ إنَّمَا تَمَكَّنَ مِنْ قَتْلِهِ وَأَخْذِ سَلَبِهِ بِقُوَّةِ الْجَيْشِ فَلَا يَخْتَصُّ بِهِ كَمَا لَوْ أَخَذَ أَسِيرًا أَوْ أَصَابَ مَالًا آخَرَ لَا يَخْتَصُّ بِهِ وَكَمَا يَكُونُ مِنْهُ فَضْلُ عَنَاءٍ فِي الْقَتْلِ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ بِأَخْذِ الْأَسِيرِ وَاسْتِلَابِ سَلَبِ الْحَيِّ ثُمَّ لَا يَخْتَصُّ بِهِ إلَّا بَعْدَ تَنْفِيلِ الْإِمَامِ وَكَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ { : مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ } قَالَ { : مَنْ أَخَذَ أَسِيرًا فَهُوَ لَهُ } ثُمَّ كَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّنْفِيلِ فَكَذَلِكَ فِي السَّلَبِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَيْسَ لِلْمَرْءِ إلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُ إمَامِهِ } .
وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَنْفُلَ قَبْلَ الْإِصَابَةِ بِحَسَبِ مَا يَرَى الصَّوَابَ فِيهِ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ } وَلِأَنَّ بِالنَّفْلِ يُعِينُهُ عَلَى الْبِرِّ وَهُوَ بَذْلُ النَّفْسِ لِابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَانَ ذَلِكَ مُسْتَحَبًّا وَلَكِنْ قَبْلَ الْإِصَابَةِ وَأَمَّا بَعْدَ الْإِصَابَةِ لَا يَجُوزُ النَّفَلُ إلَّا عَلَى قَوْلِ أَهْلِ الشَّامِ فَإِنَّهُمْ يُجَوِّزُونَ ذَلِكَ وَقَدْ رُوِيَ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفَلَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ } وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنَّهُ نَفَلَ مِنْ الْخُمُسِ أَوْ مِنْ الصَّفِيِّ الَّذِي كَانَ لَهُ أَوْ فَعَلَ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ لِأَنَّ الْأَمْرَ فِي الْغَنَائِمِ كَانَ إلَيْهِ كَمَا رَوَيْنَا وَإِلَيْهِ أَشَارَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : لَا نَفْلَ بَعْدَ الْإِحْرَازِ إلَّا مَا كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ بَعْدَ الْإِصَابَةِ فِي التَّنْفِيلِ إبْطَالُ حَقِّ أَرْبَابِ الْخُمُسِ وَإِبْطَالُ حَقِّ بَعْضِ الْغَانِمِينَ عَمَّا ثَبَتَ حَقُّهُمْ فِيهِ وَهُوَ سَبَبٌ لِإِيقَاعِ الْفِتْنَةِ وَالْعَدَاوَةِ بَيْنَهُمْ ، وَالتَّنْفِيلُ لِلتَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ وَتَسْكِينِ الْفِتْنَةِ فَإِذَا نَفَلَ بَعْدَ الْإِصَابَةِ عَادَ عَلَى مَوْضُوعِهِ بِالنَّقْضِ وَالْإِبْطَالِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ .
وَإِذَا أَخَذَ الرَّجُلُ عَلَفًا مِنْ الْغَنِيمَةِ فَفَضُلَ مِنْهُ فَضْلَةً بَعْدَ مَا خَرَجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ أَعَادَهَا فِي الْغَنِيمَةِ إنْ كَانَتْ لَمْ تُقْسَمْ لِأَنَّ اخْتِصَاصَهُ بِذَلِكَ كَانَ لِلْحَاجَةِ وَقَدْ زَالَ بِالْخُرُوجِ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وَكَانَ ذَلِكَ لِعَدَمِ تَأَكُّدِ الْحَقِّ فِي الْغَنِيمَةِ لَهُمْ وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِالْإِحْرَازِ وَإِنْ كَانَتْ الْغَنَائِمُ قَدْ قُسِّمَتْ فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ فِي يَدِهِ فَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَأْكُلَهُ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا بَاعَهُ وَتَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ كَمَا يُفْعَلُ بِاللُّقَطَةِ وَكَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا مِنْ الطَّعَامِ وَالْعَلَفِ لِأَنَّهُ أُبِيحَ لَهُ التَّنَاوُلُ لِلْحَاجَةِ وَالْمُبَاحُ لَهُ التَّنَاوُلُ لَا يَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِالْبَيْعِ وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَعَادَ الثَّمَنَ فِي الْغَنِيمَةِ إنْ لَمْ تُقَسَّمْ وَإِنْ كَانَتْ قَدْ قُسِّمَتْ صَنَعَ مَا يَصْنَعُ بِاللُّقَطَةِ كَمَا بَيَّنَّا .
وَإِنْ أَقْرَضَهُ رَجُلًا فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْ الْجُنْدِ لَمْ يَسْعَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا لِأَنَّ الْمُقْرِضَ وَالْمُسْتَقْرِضَ فِي حَقِّ إبَاحَةِ تُنَاوِلِهِ سَوَاءٌ إلَّا أَنَّ الْآخِذَ كَانَ أَحَقُّ بِهِ لِأَنَّهُ فِي يَدِهِ فَإِذَا زَالَ مَا بِيَدِهِ إلَى الْآخَرِ سَقَطَ حَقُّهُ فَلِهَذَا لَا يَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئًا .
وَإِذَا أَعْتَقَ رَجُلٌ مِنْ الْجُنْدِ جَارِيَةً مِنْ الْغَنِيمَةِ نَفَذَ عِتْقُهُ فِي الْقِيَاسِ لِأَنَّ حَقَّهُمْ تَأَكَّدَ بِالْإِحْرَازِ أَلَا تَرَى أَنَّ بِالْقِسْمَةِ يَتَعَيَّنُ مِلْكُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَالْقِسْمَةُ لِتَمَيُّزِ الْمِلْكِ لَا لِابْتِدَاءِ الْمِلْكِ فَتَبَيَّنَ بِهِ أَنَّ الْمِلْكَ كَانَ ثَابِتًا لَهُمْ مِنْ قَبْلُ .
وَإِنْ أَعْتَقَ جَارِيَةً مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ وَهَذَا عَلَى أَصْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَظْهَرُ فَإِنَّهُ يَقُولُ بِنَفْسِ الْإِصَابَةِ يَثْبُتُ لَهُمْ الْمِلْكُ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ عِنْدَنَا لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ لِأَنَّ نُفُوذَ الْعِتْقِ يَسْتَدْعِي مِلْكًا قَائِمًا فِي الْمِحَنِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ لَهُمْ قَبْلَ الْقِسْمَةِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَبِيعَ الْغَنَائِمَ وَيَقْسِمُ الثَّمَنَ وَأَنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ يَقَعُ عِنْدَ الْقِسْمَةِ فَكَانَ مَا هُوَ شَرْطُ نُفُوذِ الْعِتْقِ مُنْعَدِمًا ، فَلِهَذَا لَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَوْلَدَهَا لَمْ يَصِحَّ اسْتِيلَادُهُ لِأَنَّ الِاسْتِيلَادَ يُوجِبُ حَقَّ الْعِتْقِ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ قِيَامِ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ بِخِلَافِ الْأَبِ يَسْتَوْلِدُ جَارِيَةَ ابْنِهِ فَلَهُ وِلَايَةُ التَّمَلُّكِ هُنَاكَ فَيَتَمَلَّكُهَا سَابِقًا عَلَى الِاسْتِيلَادِ وَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ تَمَلُّكِ هَذِهِ الْجَارِيَةِ بِدُونِ رَأْي الْإِمَامِ فَلَا يَصِحُّ اسْتِيلَادُهُ فِيهَا وَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ وَلَكِنْ يَسْقُطُ الْحَدُّ عَنْهُ لِثُبُوتِ حَقٍّ مُتَأَكِّدِ وَيَلْزَمُهُ الْعَقْرُ لِأَنَّ الْوَطْءَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عِنْدَ ذَلِكَ لَا يَنْفَكُّ عَنْ حَدٍّ أَوْ عَقْرٍ فَكَانَتْ هِيَ وَوَلَدُهَا فِي الْغَنِيمَةِ لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ الْأُمَّ وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ اسْتِيلَادُهُ صَحِيحٌ بِنَاءً عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّ الْمِلْكَ عِنْدَهُ يَثْبُتُ بِنَفْسِ الْإِصَابَةِ .
وَإِنْ سَرَقَ بَعْضُ الْغَانِمِينَ شَيْئًا مِنْ الْغَنِيمَةِ لَمْ يُقْطَعْ لِتَأَكُّدِ حَقِّهِ فِيهَا ، وَلَكِنَّهُ يَضْمَنُ الْمَسْرُوقَ وَيُؤَدِّبُ وَلَا يُحْرَقُ رَحْلُهُ عِنْدَنَا وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : يُحْرَقُ رَحْلُهُ وَيَسْتَدِلُّ بِحَدِيثٍ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَمَرَ بِأَنْ يُحْرَقَ رَحْلُ الْغَالِّ } وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ ذُكِرَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يَكَادُ يَصِحُّ وَقَدْ كَانَ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْجَيْشِ أَعْرَابٌ جُهَّالٌ يَكُونُ مِنْهُمْ الْغُلُولُ فَلَوْ كَانَ يَسْتَحِقُّ إحْرَاقُ رَحْلِ الْغَالِّ لَاشْتُهِرَ ذَلِكَ وَنُقِلَ نَقْلًا مُسْتَفِيضًا ، أَرَأَيْت لَوْ كَانَ فِي رَحْلِهِ مَصَاحِفُ كَانَتْ تُحْرَقُ وَاسْتُكْثِرَ مِنْ الشَّوَاهِدِ لِاسْتِبْعَادِ هَذَا الْقَوْلِ وَكَمَا لَا يَلْزَمُهُ إذَا سَرَقَ بِنَفْسِهِ فَكَذَلِكَ إذَا سَرَقَ عَبْدُهُ أَوْ ذُو رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ لِأَنَّ فِعْلَ هَذَا فِي السَّرِقَةِ كَفِعْلِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ السَّرِقَةِ .
وَإِذَا قُسِّمَتْ الْغَنِيمَةُ عَلَى الرَّايَاتِ فَوَقَعَتْ جَارِيَةٌ بَيْنَ أَهْلِ رَايَةٍ أَوْ عَرَافَةٍ فَأَعْتَقَهَا رَجُلٌ مِنْهُمْ ، قَالَ : يَجُوزُ إذَا قَلَّ الشُّرَكَاءُ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ قَدْ ثَبَتَ بِقِسْمَةِ الْجُمْلَةِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ لِعَدَمِ الْقِسْمَةِ عَلَى الْإِفْرَادِ .
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لِلْإِمَامِ رَأْيُ الْبَيْعِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا رَأَى الْقَتْلِ فِي الْأَسَارَى فَكَانَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَ أَهْلِ تِلْكَ الْعَرَافَةِ شَرِكَةَ مِلْكٍ وَعِتْقُ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ نَافِذٌ وَلَكِنَّ هَذَا إذَا قَلُّوا حَتَّى تَكُونَ الشَّرِكَةُ خَاصَّةً فَأَمَّا إذَا كَثُرُوا فَالشَّرِكَةُ عَامَّةً وَبِالشَّرِكَةِ الْعَامَّةِ لَا تَثْبُتُ وِلَايَةُ الْعَتَاقِ كَشَرِكَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي مَالِ بَيْتِ الْمَالِ ثُمَّ قَالَ : وَالْقَلِيلُ إذَا كَانُوا مِائَةً أَوْ أَقَلَّ وَلَسْت أُوَقِّتُ فِيهِ وَقْتًا وَفِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ حُكِيَ فِيهِ أَقَاوِيلُ فَقَالَ : قَدْ قِيلَ أَرْبَعُونَ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ حِينَ كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ فَكَانُوا أَرْبَعِينَ ، وَقِيلَ خَمْسُونَ اعْتِبَارًا بِعَدَدِ الْإِيمَانِ فِي الْقَسَامَةِ وَقِيلَ : مِائَةٌ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ } وَقِيلَ : إذَا كَانُوا يُحْصَوْنَ مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ إلَى كِتَابٍ وَحِسَابٍ وَقِيلَ : إذَا كَانُوا بِحَيْثُ لَوْ وُلِدَ لِأَحَدِهِمْ وَلَدٌ يَظْهَرُ ذَلِكَ مِنْ يَوْمِهِ فَهُمْ قَلِيلٌ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ مَوْكُولٌ إلَى رَأْي الْإِمَامِ فِي اسْتِقْلَالِ عَدَدِهِمْ وَاسْتِكْثَارِهِ ؛ لِأَنَّ نَصْبَ الْمَقَادِيرِ لَا يَكُونُ بِالرَّأْيِ وَلَيْسَ فِيهِ نَصٌّ ، فَالْأَوْلَى أَنْ يُجْعَلَ مَوْكُولًا إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ .
وَإِذَا سَبَى الْجُنْدُ امْرَأَةً ثُمَّ سَبَوْا زَوْجَهَا بَعْدَهَا بِقَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ وَقَدْ حَاضَتْ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ حَيْضَتَيْنِ أَوْ لَمْ تَحِضْ غَيْرَ أَنَّهُمْ لَمْ يُخْرِجُوهَا مِنْ دَارِ الْحَرْبِ حَتَّى سَبَوْا زَوْجَهَا فَهُمَا عَلَى نِكَاحِهَا وَأَيُّهُمَا سُبِيَ وَأُخْرِجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَام ثُمَّ سُبِيَ الْآخَرُ وَأُخْرِجَ فَلَا نِكَاحَ بَيْنَهُمَا وَهَذَا فَصْلٌ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْفُرْقَةِ تَبَايُنُ الدَّارَيْنِ لَا السَّبْيُ فَإِذَا انْعَدَمَ تَبَايُنِ الدَّارَيْنِ كَانَا عَلَى نِكَاحِهِمَا سَوَاءٌ سُبِيَا مَعًا أَوْ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ وَإِذَا أُخْرِجَ الْمَسْبِيُّ مِنْهُمَا إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ وُجِدَ تَبَايُنُ الدَّارَيْنِ بَيْنَهُمَا حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَارْتَفَعَ النِّكَاحُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ لَا يَعُودُ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِنْ سُبِيَ الْآخَرُ مِنْهُمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
.
بَابُ مَا أُصِيبَ فِي الْغَنِيمَةِ مِمَّا كَانَ الْمُشْرِكُونَ أَصَابُوهُ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِ ( قَالَ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : بُنِيَ مَسَائِلُ الْبَابِ عَلَى أَصْلٍ مُخْتَلَفٍ فِيهِ وَهُوَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَمْلِكُونَ أَمْوَالَ الْمُسْلِمِينَ بِالْقَهْرِ إذَا أَحْرَزُوهُ بِدَارِهِمْ عِنْدَنَا وَلَا يَمْلِكُونَهَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا } وَالتَّمَلُّكُ بِالْقَهْرِ أَقْوَى جِهَاتِ السَّبِيلِ وَلَمَّا أَغَارَ عُتَيْبَةُ بْنُ حِصْنٍ عَلَى سَرَحَ الْمَدِينَةِ وَفِيهِ نَاقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَضْبَاءُ وَامْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ قَالَتْ الْأَنْصَارِيَّةُ : فَلَمَّا جَنَّ اللَّيْلُ قَصَدْت الْفِرَارَ مِنْ أَيْدِيهِمْ فَمَا وَضَعْت يَدِي عَلَى بَعِيرِ الْأَرْغِيِّ حَتَّى وَضَعْت يَدِي عَلَى نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَضْبَاءِ فَرَكَنَتْ إلَيَّ فَرَكِبْتُهَا وَقُلْت : لَئِنْ نَجَّانِي اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهَا لَأَنْحَرَنَّهَا وَلَآكُلَنَّ مِنْ سَنَامِهَا وَكَبِدِهَا فَلَمَّا أَتَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَصَصْت عَلَيْهِ هَذِهِ الْقِصَّةَ قَالَ { بِئْسَمَا جَازَيْتَهَا لَا نَذْرَ فِيمَا لَا يَمْلِكُهُ ابْنُ آدَمَ } وَفِي رِوَايَةٍ { رُدِّيهَا فَإِنَّهَا نَاقَةٌ مِنْ إبِلِنَا وَارْجِعِي إلَى أَهْلِك عَلَى اسْمِ اللَّهِ } وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا عُدْوَانٌ مَحْضٌ لِأَنَّهُ حَرَامٌ لَيْسَ فِيهِ شُبْهَةُ الْإِبَاحَةِ فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ كَاسْتِيلَاءِ الْمُسْلِمِ عَلَى مَالِ الْمُسْلِمِ وَهَذَا لِأَنَّ الْمِلْكَ حُكْمٌ مَشْرُوعٌ مَرْغُوبٌ فِيهِ فَيَسْتَدْعِي سَبَبًا مَشْرُوعًا وَالْعُدْوَانُ الْمَحْضُ ضِدُّ الْمَشْرُوعِ وَلِأَنَّ الْمَعْصُومَ بِالْإِسْلَامِ لَا يُمْلَكُ بِالْقَهْرِ كَالرِّقَابِ فَإِنَّ الشَّرْعَ أَثْبَتَ الْعِصْمَةَ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ فِي الْمَالِ وَالرِّقَابِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } فَذَلِكَ دَلِيلُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَهُمَا فِي الْمَنْعِ مِنْ التَّمَلُّكِ
بِالْقَهْرِ وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِيلَاءَ سَبَبُ الْمِلْكِ فِي مَحَلٍّ مُبَاحٍ لَا فِي مَحَلٍّ مَعْصُومٍ حَتَّى لَا يَمْلِكُ مَالَ الْمُسْتَأْمَنِ بِالْقَهْرِ بِخِلَافِ مَالِ الْحَرْبِيِّ الَّذِي لَا أَمَانَ لَهُ وَلَا يَمْلِكُ صَيْدَ الْحَرَمِ بِالِاسْتِيلَاءِ بِخِلَافِ صَيْدِ الْحِلِّ وَالسَّبَبُ لَا يَعْمَلُ إلَّا فِي مَحَلِّهِ فَإِذَا صَادَفَ الِاسْتِيلَاءَ مَحَلًّا مَعْصُومًا لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلْمِلْكِ وَبِهِ فَارَقَ سَائِرَ أَسْبَابِ الْمِلْكِ مِنْ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ لِأَنَّهُ مُوجِبٌ لِلْمِلْكِ فِي مَحَلٍّ مَعْصُومٍ وَهُوَ مَمْلُوكٌ .
( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ } الْآيَةُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْمُهَاجِرِينَ فُقَرَاءَ وَالْفَقِيرُ حَقِيقَةً مَنْ لَا مِلْكَ لَهُ وَلَوْ لَمْ يَمْلِكْ الْكُفَّارُ أَمْوَالَهُمْ بِالِاسْتِيلَاءِ لَمَا سَمَّاهُمْ فُقَرَاءَ وَلَمَا قَالَ عَلِيٌّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْم فَتْحِ مَكَّةَ : أَلَا تَنْزِلُ دَارَك قَالَ { : وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رُبْعٍ } وَقَدْ كَانَ لَهُ دَارٌ بِمَكَّةَ وَرِثَهَا مِنْ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَاسْتَوْلَى عَلَيْهَا عَقِيلٌ بَعْدَ هِجْرَتِهِ وَالْمَعْنِيُّ فِيهِ أَنَّ الِاسْتِيلَاءَ سَبَبٌ يَمْلِكُ بِهِ الْمُسْلِمُ مَالَ الْكَافِرِ فَيَمْلِكُ بِهِ الْكَافِرُ مَالَ الْمُسْلِمِ كَالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ نَفْسَ الْأَخْذِ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمَالِ إذَا تَمَّ بِالْإِحْرَازِ وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ مُسَاوَاةٌ فِي أَسْبَابِ إصَابَةِ الدُّنْيَا بَلْ حَظُّهُمْ أَوْفَرُ مِنْ حَظِّنَا لِأَنَّ الدُّنْيَا لَهُمْ وَلِأَنَّهُ لَا مَقْصُودَ لَهُمْ فِي هَذَا الْأَخْذِ سِوَى اكْتِسَابِ الْمَالِ وَنَحْنُ لَا نَقْصِدُ بِالْأَخْذِ اكْتِسَابَ الْمَالِ ثُمَّ جُعِلَ هَذَا الْأَخْذُ سَبَبًا لِلْمِلْكِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ بِدُونِ الْقَصْدِ فَلَأَنْ يَكُونَ سَبَبًا لِلْمِلْكِ فِي حَقِّهِمْ مَعَ وُجُودِ الْقَصْدِ أَوْلَى وَإِنَّمَا يُفَارِقُونَنَا فِيمَا يَكُونُ طَرِيقُهُ طَرِيقَ الْجَزَاءِ لِأَنَّ الْجَزَاءَ بِوِفَاقِ الْعَمَلِ وَذَلِكَ فِي تَمَلُّكِ
رِقَابِ الْأَحْرَارِ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ فِي الْأَصْلِ خَلْقٌ مَالِكًا لَا مَمْلُوكًا فَصِفَةُ الْمَمْلُوكِيَّةِ فِيهِ تَكُونُ بِوَاسِطَةِ إبْطَالِ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ وَذَلِكَ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّهِمْ بِطَرِيقِ الْجَزَاءِ فَإِنَّهُمْ لَمَّا أَنْكَرُوا وَحْدَانِيَّةَ اللَّهِ تَعَالَى جَازَاهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ بِأَنْ جَعَلَهُمْ عَبِيدَ عَبِيدِهِ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ وَلَا إشْكَالَ أَنَّ إبْطَالَ صِفَةِ الْحُرِّيَّةِ يَكُونُ بِطَرِيقِ الْجَزَاءِ وَالْعُقُوبَةِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ إثْبَاتَ صِفَةِ الْحُرِّيَّةِ فِي الْمَمْلُوكِ مَشْرُوعٌ بِطَرِيقِ الْجَزَاءِ وَالتَّقَرُّبِ فَإِبْطَالُ صِفَةِ الْحُرِّيَّةِ يَكُونُ الْجَزَاءُ وَالْعُقُوبَةُ وَقَدْ تَعَذَّرَ إثْبَاتُ هَذِهِ الْوَاسِطَةِ فِي رِقَابِ الْأَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ مَنْ ثَبَتَ لَهُ حَقُّ الْعِتْقِ مِنْهُمْ حَتَّى أَنَّ فِي حَقِّ الْعَبِيدِ لَمَّا كَانَ الْمِلْكُ يَثْبُتُ بِدُونِ هَذِهِ الْوَاسِطَةِ قُلْنَا بِأَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ عَبِيدَنَا بِالْأَخْذِ ؛ وَالْمُفَارَقَةُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ لَا يَمْنَعُ الْمُسَاوَاةَ فِي حُكْمِ الْمِلْكِ عِنْدَ تَقَرُّرِ سَبَبِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ اسْتِكْسَابَ الْمُسْلِمِ عَبْدَهُ الْكَافِرَ سَبَبٌ مُبَاحٌ لِلْمِلْكِ وَاسْتِكْسَابُ الْكَافِرِ عَبْدَهُ الْمُسْلِمَ حَرَامٌ وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ مُوجِبًا لِلْمِلْكِ لِتَقَرُّرِ السَّبَبِ مَعَ أَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي هُوَ عُدْوَانٌ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْمِلْكِ عِنْدَنَا لِأَنَّ الْفِعْلَ إنَّمَا يَكُونُ عُدْوَانًا فِي مَالٍ مَعْصُومٍ وَالْعِصْمَةُ بِالْإِحْرَازِ وَالْإِحْرَازُ بِالدَّارِ لَا بِالدِّينِ لِأَنَّ الْإِحْرَازَ بِالدِّينِ مِنْ حَيْثُ مُرَاعَاةُ حَقِّ الشَّرْعِ ، وَالْإِثْمُ فِي مُجَاوَزَةِ ذَلِكَ وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْمُنْكِرِينَ فَإِنَّمَا يَكُونُ الْإِحْرَازُ فِي حَقِّهِمْ بِالدَّارِ الَّتِي هِيَ دَافِعَةٌ لِشَرِّهِمْ حِسًّا وَمَا بَقِيَ الْمَالُ مَعْصُومًا بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْإِسْلَامِ لَا يُمْلَكُ بِالِاسْتِيلَاءِ عِنْدَنَا وَإِنَّمَا يُمْلَكُ بَعْدَ انْعِدَامِ هَذِهِ الْعِصْمَةِ بِالْإِحْرَازِ بِدَارِ الْحَرْبِ ،
وَالْأَخْذُ بَعْدَ ذَلِكَ لَيْسَ بِعِدْوَانٍ مَحْضٍ وَالْمَحَلُّ غَيْرُ مَعْصُومٍ أَيْضًا فَلِهَذَا كَانَ الِاسْتِيلَاءُ فِيهِ سَبَبًا لِلْمِلْكِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْإِحْرَازَ بِالدِّينِ لَا يَظْهَرُ حُكْمُهُ فِي حَقِّهِمْ فَصْلُ الضَّمَانِ فَإِنَّهُمْ لَا يَضْمَنُونَ مَا أَتْلَفُوا مِنْ نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ ؛ وَتَأْثِيرُ الْعِصْمَةِ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي دَفْعِ الْمِلْكِ ثُمَّ لِمَا لَمْ يَبْقَ لِلْعِصْمَةِ بِالدِّينِ اعْتِبَارٌ فِي حَقِّهِمْ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ فَكَذَلِكَ فِي دَفْعِ الْمِلْكِ وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّهُمْ لَمْ يُحْرِزُوهَا بِدَارِهِمْ بَعْدُ فَلَمْ يَمْلِكُوهَا وَلَا مَلَكَتْ هِيَ فَلِهَذَا اسْتَرَدَّهَا وَجَعَلَ نَذْرَهَا فِيمَا لَا تَمْلِكُ وَالْمُرَادُ بِالْآيَةِ حُكْمُ الْأَخْذِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى { فَاَللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَبِهِ نَقُولُ أَنَّهُمْ يُفَارِقُونَنَا فِي دَارِ الْآخِرَةِ فَإِنَّهَا دَارُ الْجَزَاءِ وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ عَلَيْنَا فِي دَارِ الْجَزَاءِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ : إذَا وَقَعَ هَذَا الْمَالُ فِي الْغَنِيمَةِ وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ أَحْرَزُوهُ فَإِنْ وَجَدَهُ مَالِكُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِغَيْرِ شَيْءٍ وَإِنْ وَجَدَهُ بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهُ بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءَ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ الْمُشْرِكِينَ أَحْرَزُوا نَاقَةَ رَجُلٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِدَارِهِمْ ثُمَّ وَقَعَتْ فِي الْغَنِيمَةِ فَخَاصَمَ فِيهَا الْمَالِكُ الْقَدِيمُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنْ وَجَدْتَهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذْتَهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ وَإِنْ وَجَدَتْهَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ أَخَذْتَهَا بِالْقِيمَةِ إنْ شِئْت } .
فَفِي هَذَا دَلِيلُ أَنَّهُمْ قَدْ مَلِكُوهَا وَإِنَّمَا فَرَّقَ فِي الْأَخْذِ مَجَّانًا بَيْنَ مَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَمَا بَعْدَهَا لِأَنَّ الْمُسْتَوْلَى عَلَيْهِ صَارَ مَظْلُومًا وَقَدْ كَانَ يُفْتَرَضُ عَلَى مَنْ يَقُومُ بِنُصْرَةِ الدَّارِ وَهُمْ الْغُزَاةُ أَنْ يَدْفَعُوا الظُّلْمَ عَنْهُ بِأَنْ يَتْبَعُوا الْمُشْرِكِينَ لِيَسْتَنْفِذُوا الْمَالَ مِنْ
أَيْدِيهِمْ وَقَبْلَ الْقِسْمَةِ الْحَقُّ لِعَامَّةِ الْغُزَاةِ فَعَلَيْهِمْ دَفْعُ الظُّلْمِ بِإِعَادَةِ مَالِهِ إلَيْهِ فَأَمَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَقَدْ تَعَيَّنَ الْمِلْكُ لِمَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ وَعَلَيْهِ دَفْعُ الظُّلْمِ وَلَكِنْ لَا بِطَرِيقِ إبْطَالِ حَقِّهِ وَحَقُّهُ فِي الْمَالِيَّةِ حَتَّى كَانَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَبِيعَ الْغَنَائِمَ وَيَقْسِمَ الثَّمَنَ بَيْنَ الْغَانِمِينَ وَحَقُّ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ فِي الْعَيْنِ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ الْأَخْذِ بِالْقِيمَةِ إنْ شَاءَ لِيَتَوَصَّلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَى حَقِّهِ فَيَعْتَدِلُ النَّظَرُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَلِأَنَّ قَبْلَ الْقِسْمَةِ ثُبُوتَ حَقِّ الْغُزَاةِ فِيهِ لَيْسَ بِعِوَضٍ عَلَى شَيْءٍ بَلْ صِلَةٌ شَرْعِيَّةٌ لَهُمْ ابْتِدَاءً فَلَا يَكُونُ فِي أَخْذِ الْمَالِكِ الْقَدِيمِ إيَّاهُ مَجَّانًا إبْطَالُ حَقِّهِمْ عَنْ عِوَضٍ كَانَ حَقًّا لَهُمْ فَأَمَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَمَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ اسْتَحَقَّ هَذَا الْعَيْنَ عِوَضًا عَنْ سَهْمِهِ فِي الْغَنِيمَةِ فَلَا وَجْهَ لِإِبْطَالِ حَقِّهِ فِي ذَلِكَ الْعِوَضِ فَيَثْبُتُ لِلْمَالِكِ الْقَدِيمِ حَقُّ الْأَخْذِ بَعْدَ مَا يُعْطِي مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ الْعِوَضَ الَّذِي كَانَ حَقًّا لَهُ وَإِنَّمَا يَأْخُذُهُ إذَا أَثْبَتَ دَعْوَاهُ فَإِنَّ مُجَرَّدَ قَوْلِهِ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغَانِمِينَ قَبْلَ الْقِسْمَةِ وَلَا فِي اسْتِحْقَاقِ الْمِلْكِ عَلَى مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ بَعْدَ الْقِسْمَةِ وَهَذَا إذَا كَانَ الْمَأْخُوذُ شَيْئًا لَا مِثْلَ لَهُ فَأَمَّا الدَّرَاهِمُ وَالدَّنَانِيرُ وَالْفُلُوسُ وَالْمَكِيلُ وَالْمَوْزُونُ فَإِنْ وَجَدَهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ أَخَذَهَا بِغَيْرِ شَيْءٍ وَإِنْ وَجَدَهَا بَعْدَ الْقِسْمَةِ فَلَا سَبِيلَ لَهُ عَلَيْهَا لِأَنَّ الْأَخْذَ شَرْعًا إنَّمَا ثَبَتَ لَهُ إذَا كَانَ مُفِيدًا وَقَبْلَ الْقِسْمَةِ هُوَ مُفِيدٌ فَأَمَّا بَعْدَ الْقِسْمَةِ لَوْ أَخَذَهَا بِمِثْلِهَا وَذَلِكَ غَيْرُ مُفِيدٍ فَإِنَّ الْمَالِيَّةَ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِاعْتِبَارِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ وَلِهَذَا جَرَى الرَّبَّا فِيهَا فَلِكَوْنِ الْأَخْذِ غَيْرَ مُفِيدٍ قُلْنَا بِأَنَّهُ لَا يَكُونُ مَشْرُوعًا