كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
كَانَ بَعْدَ مَا مَضَى مِنْ حَيْضِهَا سَاعَةٌ فَلَا تَحْسِبُ هَذِهِ الْحَيْضَةَ مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ ، وَهُوَ عَشَرَةُ أَيَّامٍ إلَّا سَاعَةً ثُمَّ بَعْدَهُ طُهْرُ سِتَّةِ أَشْهُرٍ إلَّا سَاعَةً ثُمَّ بَعْدَهُ الْحَيْضُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا غَيْرَ سَاعَتَيْنِ يَسْتَبْرِئُهَا بِهَا ، وَإِنَّمَا هَذَا كَالْبِنَاءِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُجَوِّزُ وَطْأَهَا بِالتَّحَرِّي ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الِاسْتِبْرَاءِ اسْتِبَاحَةُ الْوَطْءِ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ مَنْ لَا يُبِيحُ وَطْأَهَا أَصْلًا ، وَهُوَ الْأَصَحُّ فَلَا حَاجَةَ إلَى هَذَا التَّكَلُّفِ ، وَمَا كَانَ مِنْ أَحْكَامِهَا فَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَخْرِيجُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( فَصْلٌ فِي إضْلَالِ عَدَدٍ فِي عَدَدٍ ) ، فَإِنْ سَأَلَ سَائِلٌ عَنْ امْرَأَةٍ أَضَلَّتْ أَيَّامَهَا فِيمَا هُوَ دُونَهَا مِنْ الْعَدَدِ فَهَذَا مُحَالٌ بِأَنْ قَالَ أَيَّامُهَا عَشَرَةٌ فَأَضَلَّتْ ذَلِكَ فِي أُسْبُوعٍ ؛ لِأَنَّ الْعَشَرَةَ لَا تُوجَدُ فِي الْأُسْبُوعِ فَكَيْفَ تَضِلُّ فِيهِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : أَضَلَّتْ فِي مِثْلِهَا مِنْ الْعَدَدِ فَهُوَ مُحَالٌ أَيْضًا بِأَنْ قَالَ : أَيَّامُهَا سَبْعَةٌ فَأَضَلَّتْ ذَلِكَ فِي أَيَّامِ الْجُمُعَةِ ؛ لِأَنَّهَا وَاجِدَةٌ عَالِمَةٌ بِحَالِهَا ، وَإِنْ قَالَ : أَضَلَّتْ أَيَّامَهَا فِيمَا هُوَ فَوْقَهَا مِنْ الْعَدَدِ فَالسُّؤَالُ مُسْتَقِيمٌ ثُمَّ الْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ كُلَّ زَمَانٍ يُتَيَقَّنُ فِيهِ بِالْحَيْضِ تَتْرُكُ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا فِيهِ بِيَقِينٍ ، وَكُلُّ زَمَانٍ تَيَقَّنَتْ فِيهِ بِالطُّهْرِ تُصَلِّي فِيهِ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِيَقِينٍ وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا فِيهِ ، وَكُلُّ زَمَانٍ تَرَدَّدَ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ تُصَلِّي فِيهِ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِالشَّكِّ وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا فِيهِ ، وَكُلُّ زَمَانٍ تَرَدَّدَ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْحَيْضِ تُصَلِّي فِيهِ بِالِاغْتِسَالِ لِكُلِّ صَلَاةٍ بِالشَّكِّ وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا فِيهِ .
وَأَصْلٌ آخَرُ أَنَّهَا مَتَى أَضَلَّتْ أَيَّامَهَا فِي ضِعْفِهَا مِنْ الْعَدَدِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ الضِّعْفِ فَلَا يُتَيَقَّنُ بِالْحَيْضِ فِي شَيْءٍ مِنْهُ نَحْوُ مَا إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا ثَلَاثَةً فَضَلَّتْ ذَلِكَ فِي سِتَّةٍ أَوْ ثَمَانِيَةٍ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَتَيَقَّنُ بِالْحَيْضِ فِي شَيْءٍ مِنْ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ ، وَمَتَى ضَلَّتْ أَيَّامَهَا فِيمَا دُونَ ضِعْفِهِ يُتَيَقَّنُ بِالْحَيْضِ فِي بَعْضِهِ نَحْوُ مَا إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا ثَلَاثَةً فَضَلَّتْ ذَلِكَ فِي خَمْسَةٍ فَإِنَّهَا تَتَيَقَّنُ بِالْحَيْضِ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَإِنَّهُ أَوَّلُ الْحَيْضِ أَوْ آخِرُهُ أَوْ الثَّانِي مِنْهُ بِيَقِينٍ فَتَتْرُكُ الصَّلَاةَ فِيهِ لِهَذَا إذَا عَرَفْنَا هَذَا جِئْنَا إلَى بَيَانِ الْمَسَائِلِ .
فَنَقُولُ : إنْ كَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّ أَيَّامَهَا
كَانَتْ ثَلَاثَةً فِي الْعَشْرِ الْآخِرِ مِنْ الشَّهْرِ وَلَا تَدْرِي فِي أَيِّ مَوْضِعٍ مِنْ الْعَشْرِ كَانَتْ ، وَلَا رَأْيَ لَهَا فِي ذَلِكَ فَهَذِهِ أَضَلَّتْ أَيَّامَهَا فِي أَكْثَرَ مِنْ ضِعْفِهَا فَتُصَلِّي ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ الْعَشْرِ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ ؛ لِأَنَّهُ تَرَدَّدَ حَالُهَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ إلَى آخِرِ الْعَشْرِ ؛ لِأَنَّهُ تَرَدَّدَ حَالُهَا فِيهِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْحَيْضِ إلَّا أَنَّهَا إنْ كَانَتْ تَذْكُرُ أَنَّ خُرُوجَهَا مِنْ الْحَيْضِ فِي أَيِّ وَقْتٍ مِنْ الْيَوْمِ كَانَ يَكُونُ تَغْتَسِلُ فِي كُلِّ يَوْمٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَرَّةً ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَعْرِفُ ذَلِكَ تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ ، فَإِنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا أَرْبَعَةً فَأَضَلَّتْ ذَلِكَ فِي الْعَشَرَةِ فَإِنَّهَا تَتَوَضَّأُ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ الْعَشَرَةِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ ؛ لِأَنَّهُ تَرَدَّدَ حَالُهَا فِيهِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ إلَى آخِرِ الْعَشَرَةِ ؛ لِأَنَّهُ تَرَدَّدَ حَالُهَا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْحَيْضِ .
وَإِنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا خَمْسَةً فَأَضَلَّتْ ذَلِكَ فِي عَشَرَةٍ فَإِنَّهَا تُصَلِّي خَمْسَةَ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ الْعَشَرَةِ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ ؛ لِأَنَّهُ تَرَدَّدَ حَالُهَا فِيهِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ثُمَّ تُصَلِّي إلَى آخِرِ الْعَشَرَةِ بِالِاغْتِسَالِ لِكُلِّ صَلَاةٍ ؛ لِأَنَّهُ تَرَدَّدَ حَالُهَا فِيهِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْحَيْضِ ، فَإِنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا سِتَّةً فَأَضَلَّتْ ذَلِكَ فِي عَشَرَةٍ فَإِنَّهَا تُصَلِّي مِنْ أَوَّلِ الْعَشَرَةِ أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ ثُمَّ تَدَعُ يَوْمَيْنِ ثُمَّ تُصَلِّي فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ بِالِاغْتِسَالِ لِكُلِّ صَلَاةٍ ؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعَةَ الْأُولَى تَرَدَّدَتْ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ، فَأَمَّا الْيَوْمُ الْخَامِسُ وَالسَّادِسُ فَهُوَ حَيْضٌ بِيَقِينٍ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَتْ
أَيَّامُهَا مِنْ أَوَّلِ الْعَشْرِ فَهَذَا آخِرُ حَيْضِهَا .
وَإِنْ كَانَتْ مِنْ آخِرِ الْعَشْرِ فَهَذَا أَوَّلُ حَيْضِهَا فَلِهَذَا تَرَكَتْ الصَّلَاةَ فِيهِمَا بِيَقِينٍ ثُمَّ فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَوَاخِرِ تَرَدَّدَ حَالُهَا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْحَيْضِ فَتُصَلِّي فِيهِ بِالِاغْتِسَالِ لِكُلِّ صَلَاةٍ .
وَإِنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا سَبْعَةً فَأَضَلَّتْ ذَلِكَ فِي عَشَرَةٍ فَإِنَّهَا تُصَلِّي ثَلَاثَةً مِنْ أَوَّلِ الْعَشَرَةِ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ثُمَّ تَدَعُ أَرْبَعَةً بِيَقِينٍ ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ فِيهَا يَقِينُ الْحَيْضِ فَإِنَّهَا آخِرُ الْحَيْضِ إنْ كَانَتْ الْبِدَايَةُ مِنْ أَوَّلِ الْعَشَرَةِ وَأَوَّلُ الْحَيْضِ إنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا فِي آخِرِ الْعَشَرَةِ ثُمَّ تُصَلِّي ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِالِاغْتِسَالِ لِكُلِّ صَلَاةٍ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْحَيْضِ ، وَإِنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا ثَمَانِيَةً فَأَضَلَّتْ ذَلِكَ فِي عَشَرَةٍ فَإِنَّهَا تُصَلِّي فِي يَوْمَيْنِ مِنْ أَوَّلِ الْعَشَرَةِ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ثُمَّ تَدَعُ الصَّلَاةَ سِتَّةً ؛ لِأَنَّ فِيهَا يَقِينَ الْحَيْضِ ثُمَّ تُصَلِّي فِي الْيَوْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ بِالِاغْتِسَالِ لِكُلِّ صَلَاةٍ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْحَيْضِ .
فَإِنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا تِسْعَةً فَأَضَلَّتْهَا فِي عَشَرَةٍ فَإِنَّهَا تُصَلِّي فِي يَوْمٍ مِنْ أَوَّلِ الْعَشَرَةِ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ثُمَّ تَدَعُ الصَّلَاةَ ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ ؛ لِأَنَّ فِيهَا يَقِينَ الْحَيْضِ ثُمَّ تُصَلِّي فِي الْيَوْمِ الْآخَرِ بِالِاغْتِسَالِ لِكُلِّ صَلَاةٍ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْحَيْضِ ، فَإِنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا عَشَرَةً فَهِيَ وَاجِدَةٌ ؛ لِأَنَّ إضْلَالَ الْعَشَرَةِ فِي الْعَشَرَةِ لَا يَتَحَقَّقُ ، فَإِنْ كَانَتْ تَذْكُرُ أَنَّهَا كَانَتْ
تَطْهُرُ فِي آخِرِ الشَّهْرِ وَلَا تَدْرِي كَمْ كَانَتْ أَيَّامُهَا تَوَضَّأَتْ إلَى تَمَامِ سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا مِنْ الشَّهْرِ ثُمَّ أَمْسَكَتْ عَنْ الصَّلَاةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ اغْتَسَلَتْ غُسْلًا وَاحِدًا ، وَهَذَا الْجَوَابُ صَحِيحٌ لَكِنَّ فِيهِ بَعْضَ الْإِبْهَامِ فَإِنَّهُ لَمْ يُمَيِّزْ وَقْتَ التَّيَقُّنِ بِالطُّهْرِ مِنْ وَقْتِ الشَّكِّ ، وَتَمَامُ الْجَوَابِ فِي أَنْ نُبَيِّنَ ذَلِكَ فَنَقُولَ : إلَى عِشْرِينَ مِنْ الشَّهْرِ لَهَا يَقِينُ الطُّهْرِ فَتَتَوَضَّأُ فِيهَا لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا ثُمَّ فِي سَبْعَةِ أَيَّامٍ بَعْدَ ذَلِكَ تَرَدَّدَ حَالُهَا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ، فَإِنْ كَانَ حَيْضُهَا ثَلَاثَةً فَهَذِهِ السَّبْعَةُ مِنْ جُمْلَةِ الطُّهْرِ .
وَإِنْ كَانَ حَيْضُهَا عَشَرَةً فَهَذِهِ السَّبْعَةُ مِنْ جُمْلَةِ حَيْضِهَا فَتُصَلِّي فِيهَا بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِالشَّكِّ وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا ثُمَّ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ تَتَيَقَّنُ بِالْحَيْضِ فَتَتْرُكُ الصَّلَاةَ فِيهَا ، وَوَقْتُ الْخُرُوجِ مِنْ الْحَيْضِ مَعْلُومٌ لَهَا وَهُوَ عِنْدَ انْسِلَاخِ الشَّهْرِ فَاغْتَسَلَتْ عِنْدَ ذَلِكَ غُسْلًا وَاحِدًا ، فَإِنْ كَانَتْ تَذْكُرُ أَنَّهَا كَانَتْ تَرَى الدَّمَ إذَا جَاوَزَتْ عِشْرِينَ يَوْمًا وَلَا تَدْرِي كَمْ كَانَتْ أَيَّامُهَا فَإِنَّهَا تَدَعُ بَعْدَ الْعِشْرِينَ الصَّلَاةَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِيَقِينٍ ؛ لِأَنَّ الْحَيْضَ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْهَا ثُمَّ تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ إلَى آخِرِ الشَّهْرِ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْحَيْضِ ، وَتُعِيدُ صَوْمَ هَذَا الْعَشْرِ فِي عَشْرٍ آخَرَ مِنْ شَهْرٍ آخَرَ ؛ لِأَنَّ فِيهَا يَقِينَ الطُّهْرِ ، وَهَذَا الْجَوَابُ مُسْتَقِيمٌ إذَا كَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّ ابْتِدَاءَ رُؤْيَةِ الدَّمِ كَانَ بَعْدَ مُجَاوَزَةِ الْعِشْرِينَ فَأَمَّا إذَا كَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّهَا كَانَتْ تَرَى الدَّمَ يَوْمَ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ ، وَلَا تَتَذَكَّرُ سِوَى ذَلِكَ شَيْئًا فَالْجَوَابُ أَنَّهَا تَتَيَقَّنُ بِالطُّهْرِ إلَى الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ مِنْ الشَّهْرِ فَتُصَلِّي فِيهَا بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ
كُلِّ صَلَاةٍ بِيَقِينٍ ، وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا ثُمَّ تُصَلِّي فِي تِسْعَةِ أَيَّامٍ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِالشَّكِّ ؛ لِأَنَّهُ تَرَدَّدَ حَالُهَا فِيهِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ فَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّ الْيَوْمَ الْحَادِيَ وَالْعِشْرِينَ آخِرُ حَيْضِهَا وَأَيَّامُهَا عَشَرَةٌ وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا فِيهِ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْحَيْضِ .
وَإِنْ كَانَتْ تَسْتَيْقِنُ أَنَّهَا كَانَتْ تَرَى الدَّمَ بَعْدَ مَا مَضَى سَبْعَةَ عَشَرَ مِنْ الشَّهْرِ وَلَا تَدْرِي كَمْ كَانَتْ أَيَّامُهَا فَقَدْ ذُكِرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْحَيْضِ أَنَّهَا تَدَعُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَ سِتَّةَ عَشَرَ ؛ لِأَنَّ فِيهَا يَقِينَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْحَيْضِ ثُمَّ تُصَلِّي فِي سَبْعَةِ أَيَّامٍ بِالِاغْتِسَالِ لِكُلِّ صَلَاةٍ بِالشَّكِّ ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَرَدَّدَ حَالُهَا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْحَيْضِ ، وَلَكِنَّ تَأْوِيلَ هَذَا أَنَّهَا كَانَتْ تَذْكُرُ أَنَّ ابْتِدَاءَ حَيْضِهَا كَانَ يَكُونُ بَعْدَ سَبْعَةَ عَشَرَ ، وَفِي عَامَّةِ النُّسَخِ قَالَ : إنَّهَا تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ بِالِاغْتِسَالِ سَبْعَةَ أَيَّامٍ ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُخْتَصَرِ وَقَالَ : إنَّمَا خَالَفَ بَيْنَ الْجَوَابِ فِي هَذِهِ وَالْجَوَابِ فِي الْأُولَى ؛ لِأَنَّهَا لَا تَعْلَمُ أَنَّ حَيْضَهَا كَانَ مُتَّصِلًا بِمُضِيِّ سَبْعَةَ عَشَرَ مِنْ الشَّهْرِ ، وَإِنَّمَا تَعْلَمُ كَوْنَهُ فِي الْعَشَرَةِ الَّتِي بَعْدَهَا فَإِذَا كَانَ مَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ هَذَا فَهَذِهِ امْرَأَةٌ أَضَلَّتْ أَيَّامَهَا فِي الْعَشَرَةِ بَعْدَ سَبْعَةَ عَشَرَ مِنْ الشَّهْرِ ، وَلَا تَدْرِي كَمْ كَانَتْ أَيَّامُهَا فَأَقَلُّهَا ثَلَاثَةٌ بِيَقِينٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَنْ أَضَلَّتْ ثَلَاثَةً فِي عَشَرَةٍ أَنَّهَا تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ ، وَإِذَا كَانَ عَلَى الْمُسْتَحَاضَةِ صَلَوَاتٌ فَائِتَةٌ وَلَا تَذْكُرُ شَيْئًا مِنْ أَمْرِهَا فَإِنَّهَا تَقْضِي مَا عَلَيْهَا فِي يَوْمِ أَنْ قَدَرَتْ عَلَيْهِ .
وَإِنْ لَمْ تَقْدِرْ فَفِي يَوْمَيْنِ بِالِاغْتِسَالِ لِكُلِّ
صَلَاةٍ ثُمَّ تُعِيدُهَا بَعْدَ مُضِيِّ عَشَرَةِ أَيَّامٍ فِي الْيَوْمِ الْحَادِيَ عَشَرَ ، وَالثَّانِي عَشَرَ لِتَتَيَقَّنَ بِالْأَدَاءِ فِي زَمَانِ الطُّهْرِ فِي إحْدَى الْمَرَّتَيْنِ ، فَإِنْ كَانَتْ تَذْكُرُ أَنَّهَا تَرَى الدَّمَ يَوْمَ الْحَادِيَ عَشَرَ فِي الشَّهْرِ وَلَا تَذْكُرُ أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ فَإِنَّهَا تَتَوَضَّأُ إلَى الْحَادِيَ عَشَرَ بِيَقِينِ الطُّهْرِ وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا فِيهِ ثُمَّ تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ فِي تِسْعَةِ أَيَّامٍ بِالشَّكِّ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ثُمَّ تَدَعُ الْيَوْمَ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ ثُمَّ تَغْتَسِلُ فِي تِسْعَةِ أَيَّامٍ لِكُلِّ صَلَاةٍ بِالشَّكِّ لَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا فِيهِ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْحَيْضِ ، وَإِنْ كَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّهَا كَانَتْ تَحِيضُ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً فِي أَوَّلِهِ أَوْ فِي آخِرِهِ وَلَا تَدْرِي كَمْ كَانَ حَيْضُهَا وَلَا تُدْخِلُ شَهْرًا فِي شَهْرٍ فَإِنَّهَا تَتَوَضَّأُ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ، وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا ثُمَّ تَغْتَسِلُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ لِكُلِّ صَلَاةٍ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْحَيْضِ ، وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا أَيْضًا ثُمَّ تَتَوَضَّأُ إلَى آخِرِ الشَّهْرِ وَلَمْ يُمَيِّزْ فِي هَذَا الْجَوَابِ الزَّمَانَ الَّذِي فِيهِ يَقِينُ الطُّهْرِ وَلَا بُدَّ مِنْ ذَلِكَ فَنَقُولُ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ ؛ لِأَنَّهَا تَتَيَقَّنُ بِالطُّهْرِ فِيهَا ، وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا ، وَفِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِالشَّكِّ ، وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ، وَلَا يُحْتَمَلُ الْخُرُوجُ مِنْ الْحَيْضِ فِي هَذِهِ الْعَشَرَةِ إنَّمَا تَرَدَّدَ حَالُهَا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالدُّخُولِ فِي الْحَيْضِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تُصُوِّرَ الْخُرُوجُ مِنْ الْحَيْضِ فِي هَذِهِ الْعَشَرَةِ كَانَ فِيهِ إدْخَالُ شَهْرٍ
فِي شَهْرٍ وَقَدْ نَصَّتْ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ لَا تُدْخِلُ شَهْرًا فِي شَهْرٍ فَلِهَذَا تَتَوَضَّأُ فِي الْعَشَرَةِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ ثُمَّ تَغْتَسِلُ مَرَّةً وَاحِدَةً لِاحْتِمَالِ خُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ لِتَمَامِ الشَّهْرِ إنْ كَانَ حَيْضُهَا فِي هَذِهِ الْعَشَرَةِ الْأَخِيرَةِ ، فَإِنْ كَانَتْ تَعْرِفُ أَنَّهَا كَانَتْ تَرَى الدَّمَ عَشَرَةَ أَيَّامٍ مِنْ الشَّهْرِ وَلَا تَدْرِي أَوَّلَهُ وَآخِرَهُ فَإِنَّهَا تَتَوَضَّأُ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ إلَى تَمَامِ الْعَشَرَةِ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهَا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ثُمَّ تَغْتَسِلُ مَرَّةً ثُمَّ تَتَوَضَّأُ وَتُصَلِّي إلَى آخِرِ الشَّهْرِ وَلَكِنْ فِي الْعَشْرِ الْأَوْسَطِ يَقِينُ الطُّهْرِ فَتَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِيَقِينٍ ، وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا ، وَفِي الْعَشْرِ الْآخِرِ تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِالشَّكِّ وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهَا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ثُمَّ تَغْتَسِلُ مَرَّةً وَاحِدَةً لِاحْتِمَالِ خُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ عِنْدَ تَمَامِ الشَّهْرِ إنْ كَانَ حَيْضُهَا الْعَشْرَ الْآخِرَ .
فَإِنْ كَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّ أَيَّامَهَا خَمْسَةٌ ، وَأَنَّهَا كَانَتْ تَرَى الدَّمَ فِي الْيَوْمِ الْعِشْرِينَ مِنْ الشَّهْرِ وَلَا تَحْفَظُ شَيْئًا سِوَى هَذَا فَمِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ إلَى تَمَامِ خَمْسَةَ عَشَرَ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِالْيَقِينِ وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا ؛ لِأَنَّهَا تَتَيَقَّنُ بِالطُّهْرِ فِيهَا ثُمَّ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ تَتَوَضَّأُ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِالشَّكِّ وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا لِتَرَدُّدِ حَالِهَا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَفِي الْيَوْمِ الْعِشْرِينَ تَتْرُكُ بِيَقِينٍ ، وَتَغْتَسِلُ بَعْدَهَا أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ بِالشَّكِّ ؛ لِأَنَّ كُلَّ سَاعَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ الْأَيَّامِ فِيهَا تَوَهُّمُ خُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ
( قَالَ ) : وَإِذَا كَانَتْ لَهَا أَيَّامٌ مَعْلُومَةٌ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ فَانْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ أَشْهُرًا ثُمَّ عَاوَدَهَا وَاسْتَمَرَّ بِهَا ، وَقَدْ نَسِيَتْ أَيَّامَهَا فَإِنَّهَا تُمْسِكُ عَنْ صَلَاةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ ؛ لِأَنَّهَا يُتَيَقَّنُ فِيهَا بِالْحَيْضِ فَإِنَّ عَادَتَهَا فِي الْمَوْضِعِ قَدْ انْتَقَلَتْ بِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ مَرَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فَأَوَّلُ عَادَتِهَا مِنْ وَقْتِ الِاسْتِمْرَارِ وَتَتَيَقَّنُ بِالْحَيْضِ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَتَتْرُكُ الصَّلَاةَ فِيهَا ثُمَّ تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ فِي سَبْعَةِ أَيَّامٍ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهَا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْحَيْضِ ، وَتَتَوَضَّأُ عِشْرِينَ يَوْمًا لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ ؛ لِأَنَّهَا تَتَيَقَّنُ فِيهَا بِالطُّهْرِ ، وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا ، وَذَلِكَ دَأْبُهَا ، وَتَأْوِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إذَا كَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّ دَوْرَهَا فِي كُلِّ شَهْرٍ ، وَأَنَّهَا كَانَتْ لَا تُدْخِلُ شَهْرًا فِي شَهْرٍ ، فَإِنْ كَانَتْ لَا تَعْرِفُ ذَلِكَ فَلَمْ يُتَعَرَّضْ لِهَذَا الْفَصْلِ فِي الْكِتَابِ ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ .
فَنَقُولُ : هُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : إمَّا أَنْ كَانَتْ لَا تَدْرِي كَمْ كَانَ حَيْضُهَا وَطُهْرُهَا أَوْ كَانَتْ تَذْكُرُ مِقْدَارَ طُهْرِهَا وَلَا تَذْكُرُ مِقْدَارَ حَيْضِهَا أَوْ كَانَتْ تَذْكُرُ مِقْدَارَ حَيْضِهَا ، وَلَا تَذْكُرُ مِقْدَارَ طُهْرِهَا فَأَمَّا الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فَنَقُولُ : إنَّهَا تَدَعُ الصَّلَاةَ مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِيَقِينٍ ثُمَّ تُصَلِّي سَبْعَةَ أَيَّامٍ بِالِاغْتِسَالِ لِكُلِّ صَلَاةٍ بِالشَّكِّ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهَا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْحَيْضِ وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا فِي هَذِهِ الْعَشَرَةِ ثُمَّ تُصَلِّي ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِيَقِينٍ ، وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا بِيَقِينِ الطُّهْرِ فِي هَذِهِ الثَّمَانِيَةِ فَإِنَّهُ إنْ كَانَ حَيْضُهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَهَذَا آخِرُ طُهْرِهَا ، وَإِنْ كَانَ حَيْضُهَا عَشَرَةً فَهَذَا أَوَّلُ طُهْرِهَا ثُمَّ تُصَلِّي
ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِالْوُضُوءِ بِالشَّكِّ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهَا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ، وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا فَبَلَغَ الْحِسَابُ أَحَدًا وَعِشْرِينَ ثُمَّ تُصَلِّي بَعْدَ ذَلِكَ بِالِاغْتِسَالِ لِكُلِّ صَلَاةٍ بِالشَّكِّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهَا يَقِينٌ بِالطُّهْرِ وَلَا بِالْحَيْضِ بَعْدَ هَذَا فَمَا مِنْ سَاعَةٍ بَعْدَ هَذَا إلَّا وَيُتَوَهَّمُ أَنَّهُ وَقْتُ خُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ إمَّا بِالزِّيَادَةِ فِي حَيْضِهَا عَلَى الثَّلَاثَةِ أَوْ فِي طُهْرِهَا عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ ، وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي وَهُوَ إذَا عَلِمَتْ أَنَّ طُهْرَهَا خَمْسَةَ عَشَرَ وَلَا تَدْرِي كَمْ حَيْضُهَا ، فَإِنَّهَا تَتْرُكُ الصَّلَاةَ مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ تَغْتَسِلُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ بِالشَّكِّ ثُمَّ تُصَلِّي ثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ بِالْوُضُوءِ بِيَقِينٍ ثُمَّ تُصَلِّي ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِالْوُضُوءِ بِالشَّكِّ فَبَلَغَ الْحِسَابُ أَحَدًا وَعِشْرِينَ ، وَلَوْ كَانَ حَيْضُهَا ثَلَاثَةً فَابْتِدَاءُ طُهْرِهَا بَعْدَ أَحَدٍ وَعِشْرِينَ ، وَإِنْ كَانَ حَيْضُهَا عَشَرَةً فَابْتِدَاءُ طُهْرِهَا الثَّانِي بَعْدَ خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ فَفِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ عَشَرَةَ تُصَلِّي بِالِاغْتِسَالِ لِكُلِّ صَلَاةٍ بِالشَّكِّ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهَا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ وَالْخُرُوجِ مِنْ الْحَيْضِ ثُمَّ تُصَلِّي يَوْمًا وَاحِدًا بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِيَقِينٍ ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَا تَغْتَسِلُ عِنْدَ تَمَامِ خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا الْيَوْمِ يَقِينَ الطُّهْرِ ثُمَّ تُصَلِّي ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِالْوُضُوءِ بِالشَّكِّ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهَا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ثُمَّ تَغْتَسِلُ ذَلِكَ لِكُلِّ صَلَاةٍ أَبَدًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهَا يَقِينٌ فِي شَيْءٍ بَعْدَهَا فَمَا مِنْ سَاعَةٍ إلَّا وَيُتَوَهَّمُ أَنَّهُ وَقْتُ خُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ .
وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ ، وَهُوَ مَا إذَا كَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّ حَيْضَهَا ثَلَاثَةٌ ، وَلَا تَدْرِي كَمْ كَانَ طُهْرُهَا فَإِنَّهَا تَدَعُ ثَلَاثَةً مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ بِيَقِينٍ ثُمَّ تُصَلِّي خَمْسَةَ عَشَرَ
يَوْمًا بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِيَقِينٍ ، وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا ثُمَّ تُصَلِّي ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِالْوُضُوءِ بِالشَّكِّ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهَا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ فَإِذَا بَلَغَ الْحِسَابُ أَحَدًا وَعِشْرِينَ ثُمَّ تَغْتَسِلُ بَعْدَ ذَلِكَ لِكُلِّ صَلَاةٍ أَبَدًا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهَا يَقِينٌ فِي شَيْءٍ وَمَا مِنْ سَاعَةٍ إلَّا وَيُتَوَهَّمُ أَنَّهُ وَقْتُ خُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ فَتَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا ، وَإِنْ كَانَتْ تَذْكُرُ أَنَّ طُهْرَهَا خَمْسَةَ عَشَرَ ، وَتَرَدَّدَ رَأْيُهَا فِي الْحَيْضِ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ وَالْأَرْبَعَةِ فَإِنَّهَا تَتْرُكُ مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ ثَلَاثَةً ثُمَّ تَغْتَسِلُ غُسْلًا وَاحِدًا ثُمَّ تُصَلِّي فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِالشَّكِّ ثُمَّ تَغْتَسِلُ عِنْدَ مُضِيِّ الْيَوْمِ الرَّابِعِ مَرَّةً أُخْرَى ثُمَّ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ يَوْمًا بِالْيَقِينِ فَبَلَغَ الْحِسَابُ ثَمَانِيَةَ عَشْرَ ثُمَّ تُصَلِّي فِي الْيَوْمِ التَّاسِعَ عَشَرَ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِالشَّكِّ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ثُمَّ تَدَعُ الْيَوْمَ الْعِشْرِينَ وَالْحَادِي وَالْعِشْرِينَ بِيَقِينٍ ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي الْيَوْمَ الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ بِالْوُضُوءِ بِالشَّكِّ ، وَلَا تَغْتَسِلُ فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ ، وَتَغْتَسِلُ عِنْدَ تَمَامِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ حَيْضُهَا ثَلَاثَةً فَأَوَانُ خُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ عِنْدَ تَمَامِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ .
وَإِنْ كَانَ حَيْضُهَا أَرْبَعَةً فَأَوَانُ خُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ عِنْدَ تَمَامِ الثَّالِثِ وَالْعِشْرِينَ ؛ فَلِهَذَا تَغْتَسِلُ عِنْدَ ذَلِكَ ثُمَّ تُصَلِّي ثَلَاثَةَ عَشَرَ يَوْمًا بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِالْيَقِينِ فَبَلَغَ الْحِسَابُ سِتَّةً وَثَلَاثِينَ ثُمَّ تُصَلِّي فِي يَوْمَيْنِ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِالشَّكِّ ثُمَّ تَدَعُ يَوْمًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ هَذَا الْيَوْمَ آخِرُ حَيْضِهَا إنْ كَانَ حَيْضُهَا ثَلَاثَةً
، وَأَوَّلُ حَيْضِهَا إنْ كَانَ حَيْضُهَا أَرْبَعَةً ، فَتَتَيَقَّنُ فِيهِ بِالْحَيْضِ فَبَلَغَ الْحِسَابُ تِسْعَةً وَثَلَاثِينَ ثُمَّ تَغْتَسِلُ لِجَوَازِ أَنَّ هَذَا وَقْتُ خُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ ثُمَّ تُصَلِّي ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِالْوُضُوءِ بِالشَّكِّ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ فَبَلَغَ الْحِسَابُ اثْنَيْنِ وَأَرْبَعِينَ ثُمَّ تَغْتَسِلُ ؛ لِأَنَّ هَذَا أَوَانُ خُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا أَرْبَعَةً ثُمَّ تُصَلِّي اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِالْيَقِينِ ؛ لِأَنَّهَا تَتَيَقَّنُ بِالطُّهْرِ فِيهَا فَبَلَغَ الْحِسَابُ أَرْبَعَةً وَخَمْسِينَ ثُمَّ تُصَلِّي بَعْدَ ذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِالشَّكِّ ثُمَّ تَغْتَسِلُ مَرَّةً أُخْرَى ، وَلَمْ يَبْقَ لَهَا يَقِينُ التَّرْكِ فِي شَيْءٍ بَعْدَ أَرْبَعَةٍ وَخَمْسِينَ فَنَسُوقُ الْمَسْأَلَةَ هَكَذَا وَنَأْمُرُهَا بِالِاغْتِسَالِ فِي كُلِّ وَقْتٍ يُتَوَهَّمُ أَنَّهُ وَقْتُ خُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ إلَّا أَنْ لَا يَبْقَى لَهَا يَقِينُ الطُّهْرِ فِي شَيْءٍ أَيْضًا فَحِينَئِذٍ تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ أَبَدًا وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ يَخْرُجُ مَا إذَا عَلِمَتْ أَنَّ حَيْضَهَا ثَلَاثَةٌ وَتَرَدَّدَ رَأْيُهَا فِي الطُّهْرِ بَيْنَ خَمْسَةَ عَشَرَ وَسِتَّةَ عَشَرَ فَمَنْ فَهِمَ الْفَصْلَ الْأَوَّلَ تَيَسَّرَ عَلَيْهِ تَخْرِيجُ الثَّانِي .
( قَالَ ) : وَإِذَا كَانَتْ الْمُسْتَحَاضَةُ لَا تَذْكُرُ أَيَّامَهَا غَيْرَ أَنَّهَا تَتَيَقَّنُ بِالطُّهْرِ يَوْمَ الْعَاشِرِ وَيَوْمَ الْعِشْرِينَ وَيَوْمَ الثَّلَاثِينَ فَإِنَّهَا تَتَوَضَّأُ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلَاةٍ سِتَّةَ أَيَّامٍ لِاحْتِمَالِ خُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ مِنْهَا ، ثُمَّ تُصَلِّي الْيَوْمَ الْعَاشِرَ بِالْوُضُوءِ بِيَقِينِ الطُّهْرِ ثُمَّ تُصَلِّي الْيَوْمَ الْحَادِيَ عَشَرَ وَالثَّانِي عَشَرَ وَالثَّالِثَ عَشَرَ بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِالشَّكِّ ثُمَّ تَغْتَسِلُ سِتَّةَ أَيَّامٍ إلَى تَمَامِ تِسْعَةَ عَشَرَ ثُمَّ تَتَوَضَّأُ وَتُصَلِّي يَوْمَ الْعِشْرِينَ بِيَقِينٍ ثُمَّ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بَعْدَهُ تُصَلِّي فِيهَا بِالْوُضُوءِ بِالشَّكِّ ثُمَّ تَغْتَسِلُ سِتَّةَ أَيَّامٍ إلَى تَمَامِ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا لِكُلِّ صَلَاةٍ ثُمَّ تُصَلِّي الْيَوْمَ الثَّلَاثِينَ بِالْوُضُوءِ بِيَقِينِ الطُّهْرِ وَلَا يُجْزِيهَا صَوْمُهَا فِي تِسْعَةِ أَيَّامٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَلْتَصُمْ ضِعْفَهَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ يَوْمًا لِمَا بَيَّنَّا قَالَ الْحَاكِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : فَإِنْ قَضَتْ الصَّوْمَ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ الْعَاشِرِ وَالْعِشْرِينَ وَالثَّلَاثِينَ كَفَاهَا تِسْعَةُ أَيَّامٍ ، وَهُوَ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهَا تَتَيَقَّنُ بِالطُّهْرِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَيَصِحُّ صَوْمُهَا فِيهَا عَنْ الْقَضَاءِ ، وَالتَّتَابُعُ فِي صَوْمِ الْقَضَاءِ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَمَا قَضَتْ مِنْ الْفَوَائِتِ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ أَعَادَتْهَا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ ، وَلَا يَقْرَبُهَا زَوْجُهَا إلَّا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ ؛ لِأَنَّهَا تَتَيَقَّنُ فِيهَا بِالطُّهْرِ .
وَإِنْ كَانَتْ تَعْلَمُ أَنَّ أَيَّامَ حَيْضِهَا كَانَتْ ثَلَاثَةً فِي الْعَشْرِ الْآخَرِ مِنْ الشَّهْرِ وَلَا تَدْرِي إذَا مَضَى عِشْرُونَ مِنْ الشَّهْرِ أَوْ إذَا بَقِيَ ثَلَاثَةٌ مِنْ الشَّهْرِ فَإِنَّهَا إلَى تَمَامِ الْعِشْرِينَ تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ بِيَقِينٍ ثُمَّ تُصَلِّي ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِالْوُضُوءِ بِالشَّكِّ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهَا بَيْنَ الْحَيْضِ
وَالطُّهْرِ ثُمَّ تَغْتَسِلُ غُسْلًا وَاحِدًا ثُمَّ تَتَوَضَّأُ إلَى آخِرِ الشَّهْرِ وَلَكِنْ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ لَهَا يَقِينُ الطُّهْرِ فَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا فِيهَا ، وَفِي الثَّلَاثَةِ تَرَدَّدَ حَالُهَا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ فَتَتَوَضَّأُ فِيهَا بِالشَّكِّ ، وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا ثُمَّ تَغْتَسِلُ غُسْلًا وَاحِدًا ، وَإِنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا ثَلَاثَةً فِي وَسَطِ الْعَشْرِ الْآخَرِ ، وَلَا تَدْرِي غَيْرَ ذَلِكَ فَإِنَّهَا تُصَلِّي بِالْوُضُوءِ إلَى تَمَامِ ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ بِيَقِينِ الطُّهْرِ ثُمَّ تُصَلِّي فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ بِالْوُضُوءِ بِالشَّكِّ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ثُمَّ تَدَعُ الصَّلَاةَ يَوْمَ الْخَامِسِ وَالْعِشْرِينَ وَالسَّادِسَ وَالْعِشْرِينَ ؛ لِأَنَّهَا تَتَيَقَّنُ بِالْحَيْضِ وَتَغْتَسِلُ يَوْمَ السَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ لِكُلِّ صَلَاةٍ لِتَوَهُّمِ خُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ فِيهِ ، وَفِي الْحَقِيقَةِ هَذِهِ الْمَرْأَةُ أَضَلَّتْ أَيَّامَهَا الثَّلَاثَةَ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ وَقَدْ بَيَّنَّا حُكْمَهَا فِيمَا سَبَقَ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ
( بَابُ حِلِّ الْوَطْءِ بِانْقِطَاعِ الدَّمِ قَبْلَ وَقْتِهِ ) ( قَالَ ) : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا انْقَطَعَ دَمُ الْمَرْأَةِ دُونَ عَادَتِهَا الْمَعْرُوفَةِ فِي حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ اغْتَسَلَتْ حِينَ تَخَافُ فَوْتَ الصَّلَاةِ ، وَصَلَّتْ وَتَجَنَّبَهَا زَوْجُهَا احْتِيَاطًا حَتَّى تَأْتِيَ عَلَى عَادَتِهَا ؛ لِأَنَّ حَيْضَ الْمَرْأَةِ لَا يَبْقَى عَلَى صِفَةٍ وَاحِدَةٍ فِي جَمِيعِ عُمُرِهَا بَلْ يَزْدَادُ تَارَةً وَيَنْقُصُ أُخْرَى فَالِانْقِطَاعُ قَبْلَ تَمَامِ عَادَتِهَا طُهْرٌ ظَاهِرٌ عَلَى احْتِمَالِ أَنْ لَا يَكُونَ طُهْرًا بِأَنْ يُعَاوِدَهَا الدَّمُ فَإِنَّ الدَّمَ لَا يَسِيلُ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ عَلَى الْوَلَاءِ فَيَنْبَغِي لَهَا أَنْ تَأْخُذَ بِالِاحْتِيَاطِ فَتَنْتَظِرَ آخِرَ الْوَقْتِ ؛ لِأَنَّهَا لَا يَفُوتُهَا بِهَذَا الْقَدْرِ مِنْ التَّأْخِيرِ شَيْءٌ فَإِذَا خَافَتْ فَوْتَ الْوَقْتِ اغْتَسَلَتْ وَصَلَّتْ احْتِيَاطًا ؛ لِأَنَّ الِانْقِطَاعَ طُهْرٌ ظَاهِرًا وَمُضِيُّ الْوَقْتِ عَلَى الطَّاهِرِ يَجْعَلُ الصَّلَاةَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهَا ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِتَفْوِيتٍ مِنْهَا بِتَرْكِ الْأَدَاءِ فِي الْوَقْتِ فَعَلَيْهَا أَنْ لَا تُفَوِّتَ وَلِأَنَّهُ يَفْحُشُ أَنْ يَمْضِيَ عَلَيْهَا وَقْتُ صَلَاةٍ .
وَلَيْسَ فِيهَا مَانِعٌ مِنْ أَدَاءِ الصَّلَاةِ ظَاهِرًا وَلَا تُصَلِّي فِيهِ ، وَيَجْتَنِبُهَا زَوْجُهَا احْتِيَاطًا لِاحْتِمَالِ أَنَّهَا حَائِضٌ بَعْدُ بِأَنْ يُعَاوِدَهَا الدَّمُ ، وَتَأْثِيرُ هَذَا الِاحْتِمَالِ بِعَادَتِهَا الْمَعْرُوفَةِ ، وَلَكِنْ لَا تَتَزَوَّجُ بِزَوْجٍ آخَرَ إنْ كَانَ هَذَا آخِرَ عِدَّتِهَا احْتِيَاطًا لِتَوَهُّمِ أَنَّهَا حَائِضٌ بَعْدُ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ مُسْتَبْرَأَةً لَا يَطَؤُهَا الْمَوْلَى حَتَّى تَمْضِيَ أَيَّامُ عَادَتِهَا احْتِيَاطًا ، وَإِنْ كَانَتْ اسْتَكْمَلَتْ عَادَتَهَا فِي الدَّمِ ثُمَّ انْقَطَعَ اغْتَسَلَتْ فِي آخِرِ الْوَقْتِ وَصَلَّتْ ، وَهَذَا أَظْهَرُ مِنْ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الِاعْتِبَارَ بِمَا سَبَقَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الِانْقِطَاعَ طُهْرٌ ؛ لِأَنَّهَا تَنْتَظِرُ آخِرَ الْوَقْتِ إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يُعَاوِدَهَا الدَّمُ ، وَلَيْسَ فِي هَذَا
التَّأْخِيرِ تَفْوِيتُ شَيْءٍ ، وَإِنَّمَا تُؤَخِّرُ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ الْمُسْتَحَبِّ دُونَ الْمَكْرُوهِ نَصَّ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي آخِرِ الْكِتَابِ فَقَالَ : إذَا انْقَطَعَ الدَّمُ عَنْهَا فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ فَإِنَّهَا تُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ إلَى وَقْتٍ يُمْكِنُهَا أَنْ تَغْتَسِلَ فِيهِ ، وَتُصَلِّيَ قَبْلَ انْتِصَافِ اللَّيْلِ ، وَوَقْتُ الْعِشَاءِ يَبْقَى إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ ، وَلَكِنَّ التَّأْخِيرَ إلَى مَا بَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ مَكْرُوهٌ .
وَكَذَلِكَ لَوْ انْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ فِي وَقْتِ الْعَصْرِ فَإِنَّهَا تُؤَخِّرُ إلَى وَقْتٍ يُمْكِنُهَا أَنْ تَغْتَسِلَ فِيهِ وَتُصَلِّيَ قَبْلَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الصَّلَاةِ إلَى مَا بَعْدَ تَغَيُّرِ الشَّمْسِ مَكْرُوهٌ وَبِالتَّوَهُّمِ لَا يَحِلُّ لَهَا ارْتِكَابُ الْمَكْرُوهِ وَلَا بَأْسَ لِزَوْجِهَا أَنْ يَطَأَهَا هُنَا ؛ لِأَنَّ انْقِطَاعَ الدَّمِ طُهْرٌ مِنْ حَيْثُ الظَّاهِرُ ، وَالِاسْتِدْلَالُ بِمَا قَبْلَهُ وَاحْتِمَالُ تَوَهُّمِ الْعَوْدِ لَمْ يَتَأَيَّدْ بِدَلِيلٍ هُنَا فَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْوَطْءِ ، وَكَذَلِكَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ إنْ كَانَ هَذَا آخِرَ عِدَّتِهَا ؛ لِأَنَّهَا قَدْ طَهُرَتْ ظَاهِرًا ، وَالْمَعْلُومُ الظَّاهِرُ لَا يُتْرَكُ الْعَمَلُ بِهِ بِالْمُحْتَمَلِ .
وَهَذَا إذَا كَانَتْ أَيَّامُهَا دُونَ الْعَشَرَةِ ، فَإِنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا عَشَرَةً فَكَمَا تَمَّتْ الْعَشَرَةُ اغْتَسَلَتْ وَصَلَّتْ ، وَلَا تُؤَخِّرُ سَوَاءٌ انْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ أَوْ لَمْ يَنْقَطِعْ ؛ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا بِخُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ فَإِنَّ الْحَيْضَ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةٍ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا قَبْلَ ذَلِكَ عَادَةٌ ، وَكَانَتْ مُبْتَدَأَةً ، وَانْقَطَعَ دَمُهَا عَلَى الْخَمْسِ أَوْ فِي النِّفَاسِ وَانْقَطَعَ دَمُهَا عَلَى الْعِشْرِينَ وَسِعَهَا أَنْ تُمَكِّنَ زَوْجَهَا مِنْ نَفْسِهَا ، وَأَنْ تَتَزَوَّجَ ؛ لِأَنَّ فِي حَقِّ الْمُبْتَدَأَةِ الْعَادَةُ تَحْصُلُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ فَالْتَحَقَتْ بِصَاحِبَةِ الْعَادَةِ غَيْرَ أَنَّ قَوْلَهُ : وَأَنْ تَتَزَوَّجَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا زَوْجٌ كَلَامٌ مُخْتَلٌّ ؛ لِأَنَّهَا إنْ لَمْ
تَكُنْ مُعْتَدَّةً فَقَدْ كَانَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ فِي حَالَةِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ ، وَإِنْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً فَلَا يُتَصَوَّرُ انْقِضَاءُ عِدَّتِهَا بِالْحَيْضَةِ الْأُولَى ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ إذَا اعْتَدَّتْ شَهْرَيْنِ ثُمَّ حَاضَتْ يَلْزَمُهَا اسْتِئْنَافُ الْعِدَّةِ لِقُدْرَتِهَا عَلَى الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ فَدَلَّ أَنَّهُ كَلَامٌ مُخْتَلٌّ ذَكَرَهُ بِالْقِيَاسِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ فِيهِ .
وَلَوْ كَانَتْ نَصْرَانِيَّةً تَحْتَ مُسْلِمٍ فَانْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ فِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ وَسِعَ الزَّوْجُ أَنْ يَطَأَهَا وَوَسِعَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ ؛ لِأَنَّهُ لَا اغْتِسَالَ عَلَيْهَا فَإِنَّهَا لَا تُخَاطَبُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِأَحْكَامِ الشَّرْعِ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً رَجْعِيَّةً فَانْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ قَبْلَ تَمَامِ الْعَشَرَةِ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ ، فَإِنَّهُ لَا اغْتِسَالَ عَلَيْهَا ، فَإِنْ أَسْلَمَتْ بَعْدَ انْقِطَاعِ الدَّمِ فَلَيْسَ لِلزَّوْجِ أَنْ يُرَاجِعَهَا أَيْضًا ، وَلَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ ؛ لِأَنَّا حَكَمْنَا بِطَهَارَتِهَا بِنَفْسِ انْقِطَاعِ الدَّمِ فَلَا تَعُودُ فِيهِ بِالْإِسْلَامِ بِخِلَافِ مَا إذَا عَاوَدَهَا الدَّمُ فَرُؤْيَةُ الدَّمِ مُؤَثِّرٌ فِي إثْبَاتِ الْحَيْضِ بِهِ ابْتِدَاءً فَكَذَلِكَ يَكُونُ مُؤَثِّرًا فِي الْبَقَاءِ بِخِلَافِ الْإِسْلَامِ ، وَإِنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا عَشَرَةً فَكَمَا انْقَطَعَ الدَّمُ عِنْدَ تَمَامِ الْعَشَرَةِ انْقَطَعَتْ الرَّجْعَةُ ، وَلَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ ؛ لِأَنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ الْحَيْضِ بِيَقِينٍ وَلَكِنَّهَا لَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ مَا لَمْ تَغْتَسِلْ ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْجُنُبِ فِي وُجُوبِ الِاغْتِسَالِ عَلَيْهَا ، وَلِلْجَنَابَةِ تَأْثِيرٌ فِي الْمَنْعِ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ دُونَ بَقَاءِ الْعِدَّةِ .
( قَالَ ) : عَجُوزٌ كَبِيرَةٌ حُكِمَ بِإِيَاسِهَا ثُمَّ رَأَتْ الدَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ فَقَدْ ذَكَرَ الزَّعْفَرَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الْحَيْضِ أَنَّهَا لَا تَكُونُ حَائِضًا ، وَلَوْ كَانَتْ اعْتَدَّتْ بِالشُّهُورِ ، وَتَزَوَّجَتْ لَمْ يَبْطُلْ نِكَاحُهَا ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الدَّمَ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ فَسَادِ الرَّحِمِ أَوْ الْغِذَاءِ فَلَا يَبْطُلُ بِهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْحُكْمِ بِإِيَاسِهَا ، وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ الْمَيْدَانِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : إنْ رَأَتْ حُمْرَةً وَتَمَادَى بِهَا إلَى مُدَّةِ الْحَيْضِ كَانَ حَيْضًا اسْتِدْلَالًا بِمَا ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي نَوَادِرِ أَبِي سُلَيْمَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ قَالَ : بِنْتُ ثَمَانِينَ أَوْ تِسْعِينَ إذَا رَأَتْ الدَّمَ فَهُوَ حَيْضٌ ، فَإِنْ كَانَتْ كَدِرَةً لَمْ يَكُنْ حَيْضًا ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مِنْ فَسَادِ الرَّحِمِ أَوْ الْغِذَاءِ ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ فِي اللَّوْنِ فِي حَقِّهَا عِنْدَ رَفْعِ الْخِرْقَةِ فَإِنَّ الرُّطُوبَةَ عَلَى الْخِرْقَةِ قَدْ تَتَغَيَّرُ مِنْ الْحُمْرَةِ إلَى الْكَدِرَةِ أَوْ مِنْ الْكَدِرَةِ إلَى الْخُضْرَةِ قَبْلَ الرَّفْعِ أَوْ بَعْدَ الرَّفْعِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِوَاحِدٍ مِنْ الْحَالَيْنِ إنَّمَا الْمُعْتَبَرُ عِنْدَ الرَّفْعِ ؛ لِأَنَّ الظُّهُورَ عِنْدَ ذَلِكَ يَحْصُلُ ، وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْحَائِضِ إذَا تَغَيَّرَ اللَّوْنُ مِنْ الْحُمْرَةِ إلَى الْبَيَاضِ أَوْ مِنْ الْبَيَاضِ إلَى الْحُمْرَةِ فَالْعِبْرَةُ بِحَالَةِ الرَّفْعِ ، فَإِنْ رَأَتْ الْبَيَاضَ عِنْدَ الرَّفْعِ ثُمَّ تَغَيَّرَ إلَى الْحُمْرَةِ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ إلَى الْخُضْرَةِ أَوْ إلَى الصُّفْرَةِ فَهَذَا انْقِطَاعٌ ، وَإِنْ كَانَتْ كَدِرَةً عِنْدَ الرَّفْعِ ثُمَّ تَغَيَّرَتْ إلَى الْبَيَاضِ فَهِيَ حَائِضٌ بَعْدُ ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ عِنْدَ رَفْعِ الْخِرْقَةِ يَكُونُ فَيُعْتَبَرُ اللَّوْنُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ ، وَإِنْ كَانَ حَيْضُهَا مَرَّةً سِتًّا وَمَرَّةً خَمْسًا فَانْقَطَعَ عَنْهَا الدَّمُ لِتَمَامِ الْخَمْسَةِ فَإِنَّهَا تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي احْتِيَاطًا ، وَلَا يَأْتِيهَا زَوْجُهَا حَتَّى
يَمْضِيَ الْيَوْمُ السَّادِسُ لِتَوَهُّمِ مُعَاوَدَةِ الدَّمِ ، وَقَدْ تَأَيَّدَ هَذَا التَّوَهُّمُ بِدَلِيلٍ مُعْتَبَرٍ كَانَ قَبْلَ هَذَا وَلَوْ كَانَتْ مُعْتَدَّةً انْقَطَعَتْ الرَّجْعَةُ بِمُضِيِّ خَمْسَةِ أَيَّامٍ مِنْ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَتَزَوَّجَ حَتَّى يَمْضِيَ الْيَوْمُ السَّادِسُ ، وَعِنْدَ مُضِيِّهِ يَلْزَمُهَا أَنْ تَغْتَسِلَ فَتَأْخُذَ بِالِاحْتِيَاطِ فِي كُلِّ حُكْمٍ ، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ لُزُومُ الِاغْتِسَالِ عِنْدَ مُضِيِّ الْيَوْمِ السَّادِسِ فَأَمَّا إذَا انْقَطَعَ دَمُهَا لِتَمَامِ الْخَمْسَةِ ، وَلَمْ تُبْتَلَ بِالِاسْتِمْرَارِ فَإِنَّهَا تَغْتَسِلُ لِتَمَامِ الْخَمْسَةِ ، وَلَا يَلْزَمُهَا أَنْ تَغْتَسِلَ لِتَمَامِ السِّتَّةِ إذَا لَمْ يُعَاوِدْهَا الدَّمُ هَذَا فِي حَقِّ مَنْ لَيْسَتْ لَهَا عَادَةٌ مَعْرُوفَةٌ ، وَلَكِنَّهَا اُبْتُلِيَتْ بِالِاسْتِمْرَارِ ، وَتَرَدَّدَ رَأْيُهَا فِي الْحَيْضِ بَيْنَ الْخَمْسِ وَالسِّتِّ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
( بَابُ النِّفَاسِ ) ( قَالَ ) رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى النِّفَاسُ هُوَ الدَّمُ الْخَارِجُ عَقِيبَ الْوِلَادَةِ قِيلَ أَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ تَنَفَّسَ الرَّحِمُ بِهِ وَقِيلَ هُوَ مِنْ النَّفْسِ الَّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الدَّمِ ، وَقِيلَ هُوَ مِنْ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ الْوَلَدُ فَخُرُوجُهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ دَمٍ يَتَعَقَّبُهُ .
وَأَكْثَرُ مُدَّتِهِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا عِنْدَنَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا اخْتِلَافَ الْعُلَمَاءِ فِيهِ ، وَاعْتِمَادُنَا فِيهِ عَلَى السُّنَّةِ فَقَدْ رُوِيَ { عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : كَانَتْ النُّفَسَاءُ يَقْعُدْنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، وَكُنَّا نَطْلِي وُجُوهَنَا بِالْوَرْسِ مِنْ الْكَلَفِ } وَفِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَا { : وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلنُّفَسَاءِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا إلَّا أَنْ تَرَى الطُّهْرَ قَبْلَ ذَلِكَ } وَلَا غَايَةَ لِأَقَلِّهِ لِعُمُومِ قَوْلِهِ { إلَّا أَنْ تَرَى الطُّهْرَ قَبْلَ ذَلِكَ } حَتَّى إذَا رَأَتْ الدَّمَ يَوْمًا ثُمَّ طَهُرَتْ فَذَلِكَ الْيَوْمُ نِفَاسٌ لَهَا بِخِلَافِ الْحَيْضِ فَإِنَّ أَقَلَّهُ مُقَدَّرٌ ؛ لِأَنَّ دَمَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ مَا يَكُونُ مِنْ الرَّحِمِ وَلِدَمِ النِّفَاسِ دَلِيلٌ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الرَّحِمِ ، وَهُوَ تَقَدُّمُ خُرُوجِ الْوَلَدِ فَلَا حَاجَةَ إلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ بِالِامْتِدَادِ بِخِلَافِ دَمِ الْحَيْضِ ، وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ أَبُو مُوسَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مُخْتَصَرِهِ
أَنَّ أَقَلَّ النِّفَاسِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا لَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنَّهُ إذَا انْقَطَعَ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ نِفَاسًا ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ بِهِ إذَا وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى نَصْبِ الْعَادَةِ لَهَا فِي النِّفَاسِ لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا كَانَتْ عَادَتُهَا فِي الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَصَبَ لَهَا دُونَ هَذَا الْقَدْرِ أَدَّى إلَى نَقْضِ الْعَادَةِ فَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الدَّمَ إذَا كَانَ مُحِيطًا بِطَرَفَيْ الْأَرْبَعِينَ فَالطُّهْرُ الْمُتَخَلِّلُ لَا يَكُونُ فَاصِلًا طَالَ أَوْ قَصُرَ فَلَوْ قَدَّرَ نِفَاسَهَا بِأَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا فَعَاوَدَهَا الدَّمُ قَبْلَ تَمَامِ الْأَرْبَعِينَ كَانَ الْكُلُّ نِفَاسًا فَلِهَذَا قَدَّرَ بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ ، وَفِي الْإِخْبَارِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ قَدْرُ مُدَّةِ نِفَاسِهَا بِخَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُهُ ، وَكَذَلِكَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا قَدَّرَ بِأَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا فِي الْإِخْبَارِ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَأَمَّا إذَا انْقَطَعَ الدَّمُ دُونَ ذَلِكَ فَلَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ نِفَاسٌ ثُمَّ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ فَقَالَ : الْأَرْبَعُونَ لِلنِّفَاسِ كَالْعَشَرَةِ لِلْحَيْضِ ثُمَّ الطُّهْرُ الْمُتَخَلِّلُ فِي الْعَشَرَةِ عِنْدَهُ لَا يَكُونُ فَاصِلًا ، وَإِذَا كَانَ الدَّمُ مُحِيطًا بِطَرَفَيْ الْعَشَرَةِ يُجْعَلُ الْكُلُّ كَالدَّمِ الْمُتَوَالِي فَكَذَلِكَ فِي النِّفَاسِ إذَا أَحَاطَ الدَّمُ بِطَرَفَيْ الْأَرْبَعِينَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَرَّ عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الطُّهْرَ الْمُتَخَلِّلَ إذَا كَانَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ لَا يَصِيرُ فَاصِلًا ، وَيُجْعَلُ كَالدَّمِ الْمُتَوَالِي فَإِذَا بَلَغَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا صَارَ فَاصِلًا بَيْنَ الدَّمَيْنِ ، فَهَذَا مِثْلُهُ .
وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى فَرَّقَ بَيْنَ النِّفَاسِ ، وَبَيْنَ مَا تَقَدَّمَ فِي الْحَيْضِ فَقَالَ : هُنَاكَ إذَا كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلطُّهْرِ يَصِيرُ فَاصِلًا بَيْنَ الدَّمَيْنِ ، وَإِنْ كَانَ دُونَ الْخَمْسَةَ عَشَرَ وَهُنَا لَا يَصِيرُ فَاصِلًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ هُنَا فِي مُدَّةِ الْأَرْبَعِينَ طُهْرٌ مَا دُونَ خَمْسَةَ عَشَرَ ، وَهُوَ غَالِبٌ عَلَى الدَّمِ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ ذَلِكَ فِي مُدَّةِ الْحَيْضِ ثُمَّ هُنَاكَ الدَّمُ قَدْ يَتَقَدَّمُ ، وَقَدْ يَتَأَخَّرُ فَلَوْ لَمْ يَعْتَبِرْ غَلَبَةَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ أَدَّى إلَى الْقَوْلِ بِجَعْلِ زَمَانٍ هُوَ طُهْرٌ كُلُّهُ حَيْضًا ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ النِّفَاسِ ، وَإِنَّمَا قَالَ : إنَّ الطُّهْرَ خَمْسَةَ عَشَرَ هُنَا يَصِيرُ بَيْنَ الدَّمَيْنِ ؛ لِأَنَّ طُهْرَ خَمْسَةَ عَشَرَ صَالِحٌ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْحَيْضَتَيْنِ ، فَكَذَلِكَ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ ، فَكَانَ الْمُتَقَدِّمُ نِفَاسًا وَالْمُتَأَخِّرُ حَيْضًا .
وَبَيَانُ هَذَا إذَا رَأَتْ الدَّمَ يَوْمًا بَعْدَ الْوِلَادَةِ ثُمَّ طَهُرَتْ ثَمَانِيَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا ثُمَّ رَأَتْ الدَّمَ يَوْمًا فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَرْبَعُونَ كُلُّهَا نِفَاسٌ وَعِنْدَهُمَا النِّفَاسُ هُوَ الْيَوْمُ الْأَوَّلُ فَقَطْ ثُمَّ يُخَرَّجُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الْمَسَائِلُ إلَى أَنْ يَقُولَ : رَأَتْ الدَّمَ خَمْسَةً بَعْدَ الْوِلَادَةِ وَالطُّهْرَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ، وَالدَّمَ خَمْسَةً وَالطُّهْرَ خَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَعِنْدَهُمَا نِفَاسُهَا الْخَمْسَةُ الْأُولَى ، وَعَادَتُهَا فِي الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ ؛ لِأَنَّهَا رَأَتْ مَرَّتَيْنِ ، وَحَيْضُهَا الْخَمْسَةُ الَّتِي بَعْدَ الْعِشْرِينَ ، وَصَارَ ذَلِكَ عَادَةٌ لَهَا بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ ؛ لِأَنَّهَا مُبْتَدَأَةٌ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى نِفَاسُهَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ ، وَالطُّهْرُ الْأَوَّلُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ لِإِحَاطَةِ الدَّمِ بِطَرَفَيْهِ فِي مُدَّةِ الْأَرْبَعِينَ ، فَأَمَّا الطُّهْرُ الثَّانِي فَهُوَ صَحِيحٌ مُعْتَبَرٌ ؛ لِأَنَّ بِهِ تَتِمُّ الْأَرْبَعُونَ فَيَصِيرُ ذَلِكَ عَادَةٌ
لَهَا فِي الطُّهْرِ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ وَلَا عَادَةَ لَهَا فِي الْحَيْضِ فَيَجْعَلُ أَوَّلَ الِاسْتِمْرَارِ حَيْضَهَا عَشَرَةً وَطُهْرَهَا خَمْسَةً وَعِنْدَهُمَا يَجْعَلُ حَيْضَهَا مِنْ أَوَّلِ الِاسْتِمْرَارِ خَمْسَةً وَطُهْرَهَا خَمْسَةَ عَشَرَ وَعَادَتُهَا فِي النِّفَاسِ عِنْدَهُمَا تَكُونُ خَمْسَةً وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى خَمْسَةً وَعِشْرُونَ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ فِي النِّفَاسِ فِي حَقِّ الْمُبْتَدَأَةِ تَثْبُتُ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ كَالْعَادَةِ فِي الْحَيْضِ
وَيَخْتَلِفُونَ فِي أَوَّلِ وَقْتِ النِّفَاسِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقْتُ الْوِلَادَةِ أَوَّلُ وَقْتِ النِّفَاسِ وَقَالَ مُحَمَّدٌ وَزُفَرُ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى وَقْتُ فَرَاغِ رَحِمِهَا أَوَّلُ وَقْتِ النِّفَاسِ ، وَإِنَّمَا يَتَبَيَّنُ ذَلِكَ فِيمَا إذَا وَلَدَتْ وَلَدًا ، وَفِي بَطْنِهَا وَلَدٌ آخَرُ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَصِيرُ نُفَسَاءَ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا تَصِيرُ نُفَسَاءَ مَا لَمْ تَضَعْ الْوَلَدَ الثَّانِي قَالَا : لِأَنَّهَا حَامِلٌ بَعْدُ وَالْحَامِلُ كَمَا لَا تَحِيضُ فَكَذَلِكَ لَا تَصِيرُ نُفَسَاءَ ؛ لِأَنَّ النِّفَاسَ أَخُو الْحَيْضِ وَاسْتَدَلَّا بِحُكْمِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِوَضْعِ آخِرِ الْوَلَدَيْنِ فَكَذَلِكَ حُكْمُ النِّفَاسِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : النِّفَاسُ هُوَ الدَّمُ الْخَارِجُ عَقِبَ الْوِلَادَةِ ، وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ وَإِنَّمَا لَا يَجْعَلُ لِمَا تَرَاهُ الْمَرْأَةُ الْحَامِلُ مِنْ الدَّمِ حُكْمَ الْحَيْضِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الرَّحِمِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى الْعَادَةَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا حَبِلَتْ انْسَدَّ فَمُ رَحِمِهَا ، وَهَذَا الْمَعْنَى غَيْرُ مَوْجُودٍ هُنَا ؛ لِأَنَّ فَمَ الرَّحِمِ قَدْ انْفَتَحَ بِوَضْعِ أَحَدِ الْوَلَدَيْنِ فَالدَّمُ الْمَرْئِيُّ مِنْ الرَّحِمِ كَانَ نِفَاسًا ، وَهَذَا بِخِلَافِ حُكْمِ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِفَرَاغِ الرَّحِمِ وَلَا فَرَاغَ مَعَ بَقَاءِ شَيْءٍ مِنْ الشُّغْلِ ، وَهُنَا حُكْمُ النِّفَاسِ لِلدَّمِ الْخَارِجِ مِنْ الرَّحِمِ بَعْدَ الْوِلَادَةِ ، وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ بَيْنَ الْوَلَدَيْنِ عَشَرَةُ أَيَّامٍ ، وَاسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ ، وَهِيَ مُبْتَدَأَةٌ فِي النِّفَاسِ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تَتْرُكُ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ بَعْدَ وِلَادَةِ الْوَلَدِ الْأَوَّلِ وَنِفَاسُهَا بَعْدَ وَضْعِ الْوَلَدِ الثَّانِي ثَلَاثُونَ يَوْمًا ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ وَزُفَرَ رَحِمَهُمَا
اللَّهُ تَعَالَى لَا تَتْرُكُ الصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ مَا لَمْ تَضَعْ الْوَلَدَ الثَّانِيَ وَنِفَاسُهَا بَعْدَ ذَلِكَ أَرْبَعُونَ يَوْمًا .
وَحُكِيَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ قَالَ : لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَرَأَيْت لَوْ كَانَ بَيْنَ الْوَلَدَيْنِ أَرْبَعُونَ يَوْمًا قَالَ : هَذَا لَا يَكُونُ قَالَ : فَإِنْ كَانَ قَالَ : لَا نِفَاسَ لَهَا مِنْ الْوَلَدِ الثَّانِي ، وَإِنْ رَغِمَ أَنْفُ أَبِي يُوسُفَ وَلَكِنَّهَا تَغْتَسِلُ كَمَا تَضَعُ الْوَلَدَ الثَّانِيَ ، وَهَذَا صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَوَالَى نِفَاسَانِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا طُهْرٌ كَمَا لَا تَتَوَالَى حَيْضَتَانِ لَيْسَ بَيْنَهُمَا طُهْرٌ
( قَالَ ) : فَإِنْ خَرَجَ بَعْضُ الْوَلَدِ ثُمَّ رَأَتْ الدَّمَ فَرَوَى خَلَفُ بْنُ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ إنْ خَرَجَ الْأَكْثَرُ مِنْهُ فَهِيَ نُفَسَاءُ ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الْأَقَلِّ لَا يَمْنَعُ خُرُوجَ الدَّمِ مِنْ الرَّحِمِ وَكَذَلِكَ لَوْ انْقَطَعَ الْوَلَدُ فِيهَا فَإِذَا خَرَجَ الْأَكْثَرُ كَانَتْ نُفَسَاءَ ؛ لِأَنَّ لِلْأَكْثَرِ حُكْمَ الْكَمَالِ ، فَأَمَّا إذَا أَسْقَطَتْ سِقْطًا ، فَإِنْ كَانَ قَدْ اسْتَبَانَ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ فَهِيَ نُفَسَاءُ فِيمَا تَرَى مِنْ الدَّمِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَبِنْ شَيْءٌ مِنْ خَلْقِهِ فَلَا نِفَاسَ لَهَا ، وَلَكِنْ إنْ أَمْكَنَ جَعْلُ الْمَرْئِيِّ مِنْ الدَّمِ حَيْضًا يُجْعَلُ حَيْضًا ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ بِأَنْ لَمْ يَتَقَدَّمْهُ طُهْرٌ تَامٌّ فَهُوَ اسْتِحَاضَةٌ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَمْتَحِنُ السِّقْطَ بِالْمَاءِ الْحَارِّ ، فَإِنْ ذَابَ فِيهِ فَلَيْسَ بِوَلَدٍ فَلَا نِفَاسَ لَهَا ، وَإِنْ لَمْ يَذُبْ فَهُوَ وَلَدٌ وَتَصِيرُ بِهِ نُفَسَاءَ ، وَهَذَا مِنْ بَابِ الطِّبِّ لَيْسَ مِنْ الْفِقْهِ فِي شَيْءٍ فَلَمْ نَقُلْ بِهِ لِهَذَا ، وَلَكِنَّ حَكَّمْنَا السِّيمَا وَالْعَلَامَةَ ، فَإِنْ ظَهَرَ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ آثَارِ النُّفُوسِ فَهُوَ وَلَدٌ وَالنِّفَاسُ هُوَ الدَّمُ الْخَارِجُ بِعَقِبِ خُرُوجِ الْوَلَدِ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَبِنْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ الْآثَارِ فَهَذِهِ عَلَقَةٌ أَوْ مُضْغَةٌ فَلَمْ يَكُنْ لِلدَّمِ الْمَرْئِيِّ بَعْدَهَا حُكْمُ النِّفَاسِ ثُمَّ الْمَسْأَلَةُ عَلَى وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ تَرَى الدَّمَ قَبْلَ إسْقَاطِ السِّقْطِ أَوْ لَا تَرَاهُ ، فَإِنْ رَأَتْ الدَّمَ قَبْلَ إسْقَاطِ السِّقْطِ ، فَإِنْ كَانَ السِّقْطُ مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ لَا تَتْرُكُ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ بِالدَّمِ الْمَرْئِيِّ قَبْلَهُ ، وَإِنْ كَانَتْ تَرَكَتْ الصَّلَاةَ فَعَلَيْهَا قَضَاؤُهَا ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا كَانَتْ حَامِلًا حِينَ رَأَتْ الدَّمَ ، وَلَيْسَ لِدَمِ الْحَامِلِ حُكْمُ الْحَيْضِ ، وَهِيَ نُفَسَاءُ فِيمَا تَرَاهُ بَعْدَ السِّقْطِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ السِّقْطُ مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ فَمَا رَأَتْهُ
قَبْلَ السِّقْطِ حَيْضٌ إنْ أَمْكَنَ أَنْ يُجْعَلَ حَيْضًا بِأَنْ وَافَقَ أَيَّامَ عَادَتِهَا ، وَكَانَ مَرْئِيًّا عَقِيبَ طُهْرٍ صَحِيحٍ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّهَا لَمْ تَكُنْ حَامِلًا ثُمَّ إنْ كَانَ مَا رَأَتْ قَبْلَ السِّقْطِ مُدَّةً تَامَّةً فَمَا رَأَتْ بَعْدَ السِّقْطِ اسْتِحَاضَةٌ .
وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مُدَّةً تَامَّةً تُكْمِلُ مُدَّتَهَا مِمَّا رَأَتْ بَعْدَ السِّقْطِ ثُمَّ هِيَ مُسْتَحَاضَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ .
فَإِنْ كَانَتْ أَيَّامُهَا ثَلَاثَةً فَرَأَتْ قَبْلَ السِّقْطِ ثَلَاثَةً دَمًا ثُمَّ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ بَعْدَ السِّقْطِ فَحَيْضُهَا الثَّلَاثَةُ الَّتِي رَأَتْهَا قَبْلَ السِّقْطِ ، وَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ فِيمَا رَأَتْ بَعْدَ السِّقْطِ .
وَإِنْ كَانَ مَا رَأَتْ قَبْلَ السِّقْطِ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ تُكْمِلُ مُدَّتَهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِمَّا تَرَاهُ بَعْدَ السِّقْطِ ثُمَّ هِيَ مُسْتَحَاضَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ تَرُدَّ مَا قَبْلَ السِّقْطِ ، وَرَأَتْهُ بَعْدَهُ ، فَإِنْ كَانَ السِّقْطُ مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ فَهِيَ نُفَسَاءُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ ، فَإِنْ أَمْكَنَ جَعْلُ مَا تَرَاهُ بَعْدَ السِّقْطِ حَيْضًا يُجْعَلُ حَيْضًا لَهَا بِعَدْلِ أَيَّامِ عَادَتِهَا ، وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ جَعْلُهُ حَيْضًا فَهِيَ مُسْتَحَاضَةٌ فِي ذَلِكَ ، فَإِنْ أَسْقَطَتْ فِي بِئْرِ الْمَخْرَجِ سِقْطًا لَا تَدْرِي أَنَّهُ كَانَ مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ ، أَوْ لَمْ يَكُنْ فَهَذَا أَيْضًا عَلَى وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ تَرَى الدَّمَ قَبْلَ السِّقْطِ أَوْ لَا تَرَاهُ إلَّا بَعْدَ السِّقْطِ ، فَإِنْ لَمْ تَرَ الدَّمَ إلَّا بَعْدَ السِّقْطِ وَأَيَّامُهَا فِي الْحَيْضِ عَشَرَةٌ ، وَفِي الطُّهْرِ عِشْرُونَ فَنَقُولُ : إذَا كَانَ السِّقْطُ مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ فَلَهَا نِفَاسُ أَرْبَعِينَ ؛ لِأَنَّهَا مُبْتَدَأَةٌ فِي النِّفَاسِ ، وَقَدْ اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ فَيَكُونُ نِفَاسُهَا أَكْثَرَ النِّفَاسِ كَالْمُبْتَدَأَةِ بِالْحَيْضِ إذَا اسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ السِّقْطُ مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ فَحَيْضُهَا عَشَرَةٌ فَتَتْرُكُ الصَّلَاةَ عَقِيبَ السِّقْطِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ بِيَقِينٍ ؛ لِأَنَّهَا فِي هَذِهِ الْعَشَرَةِ إمَّا
حَائِضٌ وَإِمَّا نُفَسَاءُ ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي عِشْرِينَ يَوْمًا بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِالشَّكِّ ؛ لِأَنَّهُ تَرَدَّدَ حَالُهَا فِيهَا بَيْنَ الطُّهْرِ وَالنِّفَاسِ ثُمَّ تَتْرُكُ عَشَرَةً بِيَقِينٍ ؛ لِأَنَّهَا فِي هَذِهِ الْعَشَرَةِ إمَّا حَائِضٌ أَوْ نُفَسَاءُ ثُمَّ تَغْتَسِلُ لِتَمَامِ مُدَّةِ النِّفَاسِ وَالْحَيْضِ ثُمَّ بَعْدَهُ طُهْرُهَا عِشْرُونَ وَحَيْضُهَا عَشَرَةٌ ، وَهَكَذَا دَأْبُهَا أَنْ تَغْتَسِلَ فِي كُلِّ وَقْتٍ تَتَوَهَّمُ أَنَّهُ وَقْتُ خُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ ، فَإِنْ كَانَتْ قَدْ رَأَتْ قَبْلَ إسْقَاطِ السِّقْطِ دَمًا ، فَإِنْ كَانَ مَا رَأَتْ قَبْلَ الْإِسْقَاطِ مُسْتَقِلًّا لَا تَتْرُكُ الصَّلَاةَ بَعْدَ الْإِسْقَاطِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَقِلًّا تَرَكَتْ بَعْدَ الْإِسْقَاطِ قَدْرَ مَا تَتِمُّ بِهِ مُدَّةُ حَيْضِهَا وَلَا تَتْرُكُ الصَّلَاةَ فِيمَا رَأَتْ قَبْلَ الْإِسْقَاطِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَلَوْ تَرَكَتْ فَعَلَيْهَا قَضَاؤُهَا ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ السِّقْطُ مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ لَمْ يَكُنْ مَا رَأَتْ قَبْلَهُ حَيْضَهَا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ كَانَ ذَلِكَ حَيْضًا فَتَرَدَّدَ حَالُهَا فِيمَا رَأَتْ قَبْلَ السِّقْطِ بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ فَلَا تَتْرُكُ الصَّلَاةَ بِالشَّكِّ ثُمَّ إنْ كَانَ حَيْضُهَا عَشَرَةً وَطُهْرُهَا عِشْرُونَ ، فَإِنْ رَأَتْ قَبْلَ الْإِسْقَاطِ عَشَرَةً ثُمَّ أَسْقَطَتْ اغْتَسَلَتْ وَصَلَّتْ عِشْرِينَ يَوْمًا بَعْدَ السِّقْطِ ؛ لِأَنَّهُ تَرَدَّدَ حَالُهَا فِيهِ بَيْنَ الطُّهْرِ وَالنِّفَاسِ ثُمَّ تَتْرُكُ عَشَرَةً بِيَقِينٍ ؛ لِأَنَّهَا فِيهِ نُفَسَاءُ أَوْ حَائِضٌ ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي عِشْرِينَ يَوْمًا عَشَرَةً بِالشَّكِّ ؛ لِأَنَّهُ تَرَدَّدَ حَالُهَا فِيهَا بَيْنَ النِّفَاسِ وَالطُّهْرِ ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي عَشَرَةً أُخْرَى بِيَقِينِ الطُّهْرِ ثُمَّ تُصَلِّي عَشَرَةً بِالشَّكِّ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهَا بَيْنَ الْحَيْضِ وَالطُّهْرِ ثُمَّ تَغْتَسِلُ ، وَهَكَذَا دَأْبُهَا .
وَإِنْ كَانَتْ رَأَتْ قَبْلَ السِّقْطِ خَمْسَةَ أَيَّامٍ دَمًا ثُمَّ أَسْقَطَتْ كَمَا بَيَّنَّا فَإِنَّهَا تَتْرُكُ الصَّلَاةَ خَمْسَةَ أَيَّامٍ بَعْدَ السِّقْطِ
؛ لِأَنَّ السِّقْطَ إنْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ فَهَذِهِ الْخَمْسَةُ تَتِمَّةُ مُدَّةِ حَيْضِهَا ، وَإِنْ كَانَ مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ فَهَذَا أَوَّلُ نِفَاسِهَا فَتَتْرُكُ الصَّلَاةَ فِي هَذِهِ الْخَمْسَةِ بِيَقِينٍ ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي عِشْرِينَ يَوْمًا بِالْوُضُوءِ لِوَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ بِالشَّكِّ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهِ بَيْنَ النِّفَاسِ وَالطُّهْرِ ثُمَّ تَتْرُكُ عَشَرَةً بِيَقِينٍ ؛ لِأَنَّهَا فِي هَذِهِ الْعَشَرَةِ إمَّا حَائِضٌ أَوْ نُفَسَاءُ فَبَلَغَ الْحِسَابُ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي خَمْسَةَ أَيَّامٍ بِالْوُضُوءِ بِالشَّكِّ ثُمَّ تَغْتَسِلُ لِتَمَامِ الْأَرْبَعِينَ ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ خُرُوجِهَا مِنْ النِّفَاسِ إنْ كَانَ السِّقْطُ مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ ثُمَّ تُصَلِّي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا بِالْوُضُوءِ بِيَقِينٍ ؛ لِأَنَّهُ طُهْرُهَا فَبَلَغَ الْحِسَابُ خَمْسَةً وَخَمْسِينَ ثُمَّ تُصَلِّي خَمْسَةَ أَيَّامٍ بِالْوُضُوءِ بِالشَّكِّ لِتَرَدُّدِ حَالِهَا فِيهَا بَيْنَ أَوَّلِ الْحَيْضِ إنْ لَمْ يَكُنْ السِّقْطُ مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ وَبَيْنَ آخِرِ الطُّهْرِ إنْ كَانَ السِّقْطُ مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ فَبَلَغَ الْحِسَابُ سِتِّينَ ثُمَّ تَتْرُكُ خَمْسَةً ؛ لِأَنَّهَا تَتَيَقَّنُ بِأَنَّ هَذِهِ الْخَمْسَةَ إمَّا أَوَّلُ حَيْضِهَا أَوْ آخِرُ حَيْضِهَا ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي خَمْسَةَ أَيَّامٍ بِالْوُضُوءِ بِالشَّكِّ ثُمَّ تَغْتَسِلُ مَرَّةً أُخْرَى ؛ لِأَنَّ هَذَا آخِرُ حَيْضِهَا إنْ كَانَ السِّقْطُ مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ ثُمَّ تُصَلِّي خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا بِالْوُضُوءِ بِيَقِينٍ ، وَهَكَذَا دَأْبُهَا أَنْ تَتْرُكَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ الصَّلَاةَ فِي كُلِّ خَمْسَةٍ فِيهَا يَقِينُ الْحَيْضِ وَأَنْ تَغْتَسِلَ فِي كُلِّ وَقْتٍ تَتَوَهَّمُ أَنَّهُ وَقْتُ خُرُوجِهَا مِنْ الْحَيْضِ .
وَإِنْ وَلَدَتْ وَلَدًا أَوْ أَسْقَطَتْ سِقْطًا مُسْتَبِينَ الْخَلْقِ وَاسْتَمَرَّ بِهَا الدَّمُ وَشَكَّتْ فِي حَيْضِهَا أَوْ طُهْرِهَا فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ شَكَّتْ فِي حَيْضِهَا أَنَّهُ خَمْسَةٌ أَوْ عَشَرَةٌ وَتَيَقَّنَتْ بِأَنَّ طُهْرَهَا عِشْرُونَ أَوْ شَكَّتْ فِي طُهْرِهَا أَنَّهُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَوْ عِشْرُونَ وَعَلِمَتْ أَنَّ حَيْضَهَا عَشَرَةٌ أَوْ شَكَّتْ فِيهِمَا جَمِيعًا ، فَإِنْ شَكَّتْ فِي الْحَيْضِ أَنَّهُ خَمْسَةٌ أَوْ عَشَرَةٌ وَلَمْ تَشُكَّ فِي الطُّهْرِ فَإِنَّهَا بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ الَّتِي هِيَ نِفَاسُهَا تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي عِشْرِينَ يَوْمًا بِالْيَقِينِ ؛ لِأَنَّهَا عَالِمَةٌ بِمُدَّةِ طُهْرِهَا ثُمَّ تَدَعُ خَمْسَةً بِيَقِينٍ ؛ لِأَنَّهَا حَائِضٌ فِيهَا ثُمَّ تَغْتَسِلُ فَبَلَغَ الْحِسَابُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ ، وَلَهَا حِسَابَانِ الْأَقْصَرُ وَالْأَطْوَلُ فَفِي الْحِسَابِ الْأَقْصَرِ اسْتَقْبَلَهَا طُهْرُ عِشْرِينَ .
وَفِي الْحِسَابِ الْأَطْوَلِ بَقِيَ مِنْ حَيْضِهَا خَمْسَةٌ فَتُصَلِّي خَمْسَةَ أَيَّامٍ بِالْوُضُوءِ بِالشَّكِّ ثُمَّ تَغْتَسِلُ وَتُصَلِّي خَمْسَةَ عَشَرَ بِالْوُضُوءِ بِيَقِينِ الطُّهْرِ فَبَلَغَ الْحِسَابُ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ ، وَفِي الْحِسَابِ الْأَقْصَرِ اسْتَقْبَلَهَا الْحَيْضُ خَمْسَةً ، وَفِي الْأَطْوَلِ بَقِيَ مِنْ طُهْرِهَا خَمْسَةٌ فَتُصَلِّي خَمْسَةً بِالْوُضُوءِ بِالشَّكِّ فَبَلَغَ الْحِسَابُ خَمْسِينَ ثُمَّ تَغْتَسِلُ ، وَفِي الْحِسَابِ الْأَقْصَرِ اسْتَقْبَلَهَا الطُّهْرُ عِشْرُونَ ، وَفِي الْأَطْوَلِ الْحَيْضُ عَشَرَةٌ فَتُصَلِّي عَشَرَةً بِالْوُضُوءِ بِالشَّكِّ ثُمَّ تَغْتَسِلُ فَبَلَغَ الْحِسَابُ سِتِّينَ ثُمَّ فِي الْحِسَابِ الْأَقْصَرِ بَقِيَ مِنْ طُهْرِهَا عَشَرَةٌ ، وَفِي الْأَطْوَلِ اسْتَقْبَلَهَا طُهْرُ عِشْرِينَ فَتُصَلِّي عَشَرَةً بِيَقِينٍ فَبَلَغَ الْحِسَابُ سَبْعِينَ ثُمَّ فِي الْحِسَابِ الْأَقْصَرِ اسْتَقْبَلَهَا الْحَيْضُ خَمْسَةً ، وَفِي الْأَطْوَلِ بَقِيَ مِنْ طُهْرِهَا عَشَرَةٌ فَتُصَلِّي خَمْسَةً بِالْوُضُوءِ بِالشَّكِّ فَبَلَغَ الْحِسَابُ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ فَتَغْتَسِلُ ثُمَّ فِي الْحِسَابِ الْأَقْصَرِ اسْتَقْبَلَهَا طُهْرُ عِشْرِينَ ، وَفِي
الْأَطْوَلِ بَقِيَ مِنْ طُهْرِهَا خَمْسَةٌ فَتُصَلِّي خَمْسَةً بِالْوُضُوءِ بِيَقِينٍ فَبَلَغَ الْحِسَابُ ثَمَانِينَ ثُمَّ فِي الْحِسَابِ الْأَقْصَرِ بَقِيَ مِنْ طُهْرِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ ، وَفِي الْأَطْوَلِ اسْتَقْبَلَهَا الْحَيْضُ عَشَرَةً فَتُصَلِّي عَشَرَةً بِالْوُضُوءِ بِالشَّكِّ فَبَلَغَ الْحِسَابُ تِسْعِينَ فَتَغْتَسِلُ ثُمَّ فِي الْحِسَابِ الْأَقْصَرِ بَقِيَ مِنْ طُهْرِهَا خَمْسَةٌ ، وَفِي الْأَطْوَلِ اسْتَقْبَلَهَا طُهْرُ عِشْرِينَ فَتُصَلِّي بِالْوُضُوءِ بِيَقِينٍ خَمْسَةً فَبَلَغَ خَمْسَةً وَتِسْعِينَ ثُمَّ فِي الْأَقْصَرِ اسْتَقْبَلَهَا الْحَيْضُ خَمْسَةً وَفِي الْأَطْوَلِ بَقِيَ مِنْ طُهْرِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ فَتُصَلِّي خَمْسَةً بِالْوُضُوءِ بِالشَّكِّ ثُمَّ تَغْتَسِلُ فَبَلَغَ الْحِسَابُ مِائَةً فِي الْأَقْصَرِ اسْتَقْبَلَهَا طُهْرُ عِشْرِينَ ، وَفِي الْأَطْوَلِ بَقِيَ مِنْ طُهْرِهَا عَشَرَةٌ فَتُصَلِّي عَشَرَةً بِيَقِينٍ فَبَلَغَ الْحِسَابُ مِائَةً وَعَشَرَةً ثُمَّ فِي الْأَقْصَرِ بَقِيَ مِنْ طُهْرِهَا عَشَرَةٌ ، وَفِي الْأَطْوَلِ اسْتَقْبَلَهَا الْحَيْضُ عَشَرَةً فَتُصَلِّي عَشَرَةً بِالشَّكِّ ثُمَّ تَغْتَسِلُ فَبَلَغَ الْحِسَابُ مِائَةً وَعِشْرِينَ ثُمَّ فِي الْأَقْصَرِ اسْتَقْبَلَهَا الْحَيْضُ خَمْسَةً ، وَفِي الْأَطْوَلِ اسْتَقْبَلَهَا طُهْرُ عِشْرِينَ فَتُصَلِّي خَمْسَةً بِالْوُضُوءِ بِالشَّكِّ فَبَلَغَ الْحِسَابُ مِائَةً وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ ثُمَّ فِي الْأَقْصَرِ اسْتَقْبَلَهَا الطُّهْرُ عِشْرِينَ ، وَفِي الْأَطْوَلِ بَقِيَ مِنْ طُهْرِهَا خَمْسَةَ عَشَرَ فَتُصَلِّي خَمْسَةَ عَشَرَ بِالْوُضُوءِ بِيَقِينٍ فَبَلَغَ الْحِسَابُ مِائَةً وَأَرْبَعِينَ ثُمَّ فِي الْأَقْصَرِ بَقِيَ مِنْ طُهْرِهَا خَمْسَةٌ ، وَفِي الْأَطْوَلِ اسْتَقْبَلَهَا الْحَيْضُ عَشَرَةً فَتُصَلِّي خَمْسَةً بِالْوُضُوءِ بِالشَّكِّ بَلَغَ الْحِسَابُ مِائَةً وَخَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ ثُمَّ فِي الْأَطْوَلِ بَقِيَ مِنْ حَيْضِهَا خَمْسَةٌ ، وَفِي الْأَقْصَرِ اسْتَقْبَلَهَا الْحَيْضُ خَمْسَةً فَتَتْرُكُ هَذِهِ الْخَمْسَةَ بِيَقِينٍ ثُمَّ تَغْتَسِلُ فَبَلَغَ الْحِسَابُ مِائَةً وَخَمْسِينَ وَاسْتَقَامَ دَوْرُهَا فِي ذَلِكَ ، وَعَلَى هَذَا النَّحْوِ يَخْرُجُ مَا إذَا كَانَ الشَّكُّ فِي
الطُّهْرِ أَنَّهُ خَمْسَةَ عَشَرَ أَوْ عِشْرُونَ وَاسْتَقَامَ دَوْرُهَا فِيهِ أَيْضًا فِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ ثُمَّ تَخْرُجُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ مَا إذَا شَكَّتْ فِيهِمَا فِي الْحَيْضِ أَنَّهُ خَمْسَةٌ أَوْ عَشَرَةٌ ، وَفِي الطُّهْرِ أَنَّهُ خَمْسَةَ عَشْرَةَ أَوْ عِشْرُونَ ، وَإِنَّمَا يَسْتَقِيمُ دَوْرُهَا فِي هَذَا الْفَصْلِ فِي ثَلَثِمِائَةِ يَوْمٍ
( قَالَ ) : امْرَأَةٌ وَلَدَتْ وَانْقَطَعَ دَمُهَا بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ انْتَظَرَتْ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ ثُمَّ اغْتَسَلَتْ وَصَلَّتْ فَالِانْتِظَارُ لِتَوَهُّمِ أَنْ يُعَاوِدَهَا الدَّمُ ، وَالِاغْتِسَالُ فِي آخِرِ الْوَقْتِ ؛ لِأَنَّهَا طَاهِرَةٌ ظَاهِرًا وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الْحَيْضِ ، فَإِنْ كَانَتْ طَلُقَتْ حِينَ وَلَدَتْ صُدِّقَتْ عَلَى انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فِي أَرْبَعَةٍ وَخَمْسِينَ يَوْمًا وَزِيَادَةِ مَا فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تَصْدُقُ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لَا تُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةٍ وَثَمَانِينَ يَوْمًا وَفِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَةِ يَوْمٍ ، وَذَكَرَ أَبُو سَهْلٍ الْفَرَائِضِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِ الْحَيْضِ رِوَايَةً عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهَا لَا تُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَةٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا .
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى فَصْلَيْنِ : أَحَدُهُمَا : مَا بَيَّنَّا أَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا كَانَ الدَّمُ مُحِيطًا بِطَرَفَيْ الْأَرْبَعِينَ فَالطُّهْرُ الْمُتَخَلِّلُ لَا يَكُونُ فَاصِلًا ، وَإِنْ طَالَ وَالثَّانِي أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ إذَا كَانَتْ تَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ فِي كَمْ تُصَدَّقُ إذَا أَخْبَرَتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : لَا تُصَدَّقُ فِي أَقَلَّ مِنْ سِتِّينَ يَوْمًا .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تُصَدَّقُ فِي تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَتَخْرِيجُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُ يَجْعَلُ كَأَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْحَيْضِ ، وَحَيْضُهَا أَقَلُّ الْحَيْضِ ثَلَاثَةٌ ، وَطُهْرُهَا أَقَلُّ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ فَثَلَاثُ مَرَّاتٍ ثَلَاثَةُ يَكُونُ تِسْعَةً وَطُهْرَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَكُونُ ثَلَاثِينَ فَلِهَذَا صُدِّقَتْ فِي
تِسْعَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا ؛ لِأَنَّهَا أَمِينَةٌ فَإِذَا أَخْبَرَتْ بِمَا هُوَ مُحْتَمَلٌ يَجِبُ قَبُولُ خَبَرِهَا ، وَقِيلَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَنْبَغِي أَنْ تُصَدَّقَ فِي سَبْعَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَنِصْفٍ وَأَرْبَعِ سَاعَاتٍ ؛ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَقَلَّ الْحَيْضِ عِنْدَهُ يَوْمَانِ ، وَالْأَكْثَرُ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ فَيَجْعَلُ كُلَّ حَيْضَةٍ يَوْمَانِ وَنِصْفٍ وَسَاعَةٍ فَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَثَلَاثُ سَاعَاتٍ وَسَاعَةُ الْإِخْبَارِ وَالِاغْتِسَالِ فَتُصَدَّقُ فِي سَبْعَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَنِصْفٍ وَأَرْبَعِ سَاعَاتٍ لِلِاحْتِمَالِ .
فَأَمَّا تَخْرِيجُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَعَلَى مَا ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُ كَأَنَّهُ طَلَّقَهَا مِنْ أَوَّلِ الطُّهْرِ تَحَرُّزًا عَنْ إيقَاعِ الطَّلَاقِ فِي الطُّهْرِ بَعْدَ الْجِمَاعِ وَطُهْرُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ ؛ لِأَنَّهُ لَا غَايَةَ لِأَكْثَرِ الطُّهْرِ فَيُقَدَّرُ بِأَقَلِّهِ وَحَيْضُهَا خَمْسَةٌ ؛ لِأَنَّ مِنْ النَّادِرِ أَنْ يَكُونَ حَيْضُهَا أَقَلَّ أَوْ يَمْتَدُّ إلَى أَكْثَرِ الْحَيْضِ فَيُعْتَبَرُ الْوَسَطُ مِنْ ذَلِكَ ، وَذَلِكَ خَمْسَةٌ فَثَلَاثَةُ أَطْهَارٍ كُلُّ طُهْرٍ خَمْسَةَ عَشْرَةَ يَكُونُ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ وَثَلَاثُ حِيَضٍ كُلُّ حَيْضَةٍ خَمْسَةٌ يَكُونُ خَمْسَةَ عَشَرَ فَذَلِكَ سِتُّونَ يَوْمًا وَعَلَى مَا رَوَاهُ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُ كَأَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ الطُّهْرِ ؛ لِأَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ وَاجِبٌ وَإِيقَاعُ الطَّلَاقِ فِي آخِرِ الطُّهْرِ أَقْرَبُ إلَى التَّحَرُّزِ عَنْ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ ثُمَّ الْحَيْضُ لَهَا عَشَرَةٌ ؛ لِأَنَّا لَمَّا قَدَّرْنَا طُهْرَهَا بِأَقَلِّ الْمُدَّةِ نَظَرًا إلَيْهَا : يُقَدِّرُ حَيْضَهَا بِأَكْثَرِ الْحَيْضِ نَظَرًا لِلزَّوْجِ فَثَلَاثُ حِيَضٍ كُلُّ حَيْضَةٍ عَشَرَةٌ يَكُونُ ثَلَاثِينَ وَطُهْرَانِ كُلُّ طُهْرٍ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا يَكُونُ ثَلَاثِينَ فَذَلِكَ سِتُّونَ قَالَ : وَلَا مَعْنَى لِمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا احْتِمَالَ
لِتَصْدِيقِهَا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ إلَّا بَعْدَ أُمُورٍ كُلُّهَا نَادِرَةٌ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْإِيقَاعُ فِي آخِرِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الطُّهْرِ ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ حَيْضُهَا أَقَلَّ مُدَّةِ الْحَيْضِ ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ طُهْرُهَا أَقَلَّ مُدَّةِ الطُّهْرِ ، وَمِنْهَا أَنْ لَا تُؤَخِّرَ الْإِخْبَارَ عَنْ سَاعَةِ الِانْقِضَاءِ وَالْأَمِينُ إذَا أَخْبَرَ بِمَا لَا يُمْكِنُ تَصْدِيقُهُ فِيهِ إلَّا بِأُمُورٍ هِيَ نَادِرَةٌ لَا يُصَدَّقُ كَالْوَصِيِّ إذَا قَالَ : أَنْفَقْت عَلَى الصَّبِيِّ فِي يَوْمٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ لَا يُصَدَّقُ وَمَا قَالَهُ مُحْتَمَلٌ بِأَنْ يَشْتَرِيَ لَهُ نَفَقَةً فَتُسْرَقَ ثُمَّ مِثْلَهَا فَتُحْرَقَ ثُمَّ مِثْلَهَا فَتَتْلَفَ فَلَا يُصَدَّقُ لِكَوْنِ هَذِهِ الْأُمُورِ نَادِرَةً فَكَذَلِكَ هُنَا ، فَإِنْ كَانَتْ الْمُطَلَّقَةُ أَمَةً فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تُصَدَّقُ فِي أَحَدٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا ؛ لِأَنَّ حَيْضَهَا ثَلَاثَةٌ وَطُهْرَهَا خَمْسَةَ عَشَرَ فَحَيْضَتَانِ تَكُونُ سِتَّةً وَطُهْرُهَا بَيْنَهُمَا يَكُونُ خَمْسَةَ عَشَرَ فَذَلِكَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تُصَدَّقُ فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا ، وَيَجْعَلُ كَأَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي أَوَّلِ الطُّهْرِ فَطُهْرَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَكُونُ ثَلَاثِينَ وَحَيْضَتَانِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا خَمْسَةٌ يَكُونُ عَشَرَةً فَذَلِكَ أَرْبَعُونَ ، وَعَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تُصَدَّقُ فِي خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا ، وَيَجْعَلُ كَأَنَّهُ طَلَّقَهَا فِي آخِرِ الطُّهْرِ فَحَيْضَتَانِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَشَرَةٌ ، وَطُهْرُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ بَيْنَهُمَا يَكُونُ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا إذَا عَرَفْنَا هَذَا جِئْنَا إلَى بَيَانِ مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ .
إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ الْحَامِلِ : إذَا وَلَدْت فَأَنْتِ طَالِقٌ فَأَمَّا تَخْرِيجُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى رِوَايَةِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَ نِفَاسَهَا خَمْسَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا تَحَرُّزًا عَنْ مُعَاوَدَةِ الدَّمِ
بَعْدَ الطُّهْرِ قَبْلَ كَمَالِ الْأَرْبَعِينَ وَطُهْرُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ فَذَلِكَ أَرْبَعُونَ ثُمَّ حَيْضُهَا خَمْسَةٌ وَطُهْرُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ فَثَلَاثُ حِيَضٍ كُلُّ حَيْضَةٍ خَمْسَةٌ وَطُهْرَانِ بَيْنَهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَكُونُ خَمْسَةً وَأَرْبَعِينَ فَإِذَا ضَمَمْته إلَى الْأَرْبَعِينَ يَكُونُ خَمْسَةً وَثَمَانِينَ فَتُصَدَّقُ فِي هَذَا الْقَدْرِ ، وَعَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى التَّخْرِيجُ هَكَذَا إلَّا أَنَّ حَيْضَهَا بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ عَشَرَةٌ فَثَلَاثُ حِيَضٍ كُلُّ حَيْضَةٍ عَشَرَةٌ وَطُهْرَانِ بَيْنَهَا يَكُونُ سِتِّينَ يَوْمًا إذَا ضَمَمْتهَا إلَى الْأَرْبَعِينَ يَكُونُ مِائَةَ يَوْمٍ وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي سَهْلِ الْفَرَائِضِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : يَجْعَلُ نِفَاسَهَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا ؛ لِأَنَّ أَكْثَرَ مُدَّةِ النِّفَاسِ مَعْلُومٌ كَأَكْثَرِ مُدَّةِ الْحَيْضِ وَكَمَا قَدَّرْنَا حَيْضَهَا بِأَكْثَرِ الْمُدَّةِ كَذَلِكَ قَدَّرْنَا نِفَاسَهَا بِأَكْثَرِ الْمُدَّةِ ثُمَّ بَعْدَ النِّفَاسِ طُهْرٌ خَمْسَةَ عَشَرَ فَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَخَمْسُونَ إذَا ضَمَمْت إلَيْهِ سِتِّينَ يَوْمًا كَمَا بَيَّنَّا كَانَ مِائَةَ يَوْمٍ وَخَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَلِهَذَا لَا تُصَدَّقُ فِيمَا دُونَ هَذَا الْقَدْرِ فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَجْعَلُ نِفَاسَهَا أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا ؛ لِأَنَّ أَدْنَى مُدَّةِ النِّفَاسِ هَذَا ، وَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ مُدَّةَ النِّفَاسِ تَزِيدُ عَلَى مُدَّةِ الْحَيْضِ وَالسَّاعَاتُ لَا يُمْكِنُ ضَبْطُهَا وَكَذَلِكَ الْأَيَّامُ لَا غَايَةَ لِأَكْثَرِهَا فَقَدَّرْنَا الزِّيَادَةَ بِيَوْمٍ وَاحِدٍ فَكَانَ نِفَاسُهَا أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا وَعَابَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ فَقَالَ : هُوَ يَقُولُ إذَا انْقَطَعَ عَنْ النُّفَسَاءِ دَمُهَا فِي أَقَلَّ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ يَوْمًا اغْتَسَلَتْ وَصَلَّتْ فَهَذَا يَنْقُضُ قَوْلَهُ فِي الْمُعْتَدَّةِ ، وَلَكِنْ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذَا الْحَرْفِ اعْتَبَرَ الْعَادَةَ دُونَ الِاحْتِمَالِ ثُمَّ طُهْرُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ فَذَلِكَ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ
ثُمَّ بَعْدَهُ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا لِثَلَاثِ حِيَضٍ كَمَا بَيَّنَّا فَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَسِتُّونَ يَوْمًا ؛ فَلِهَذَا صَدَّقَهَا فِي هَذَا الْقَدْرِ ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ تُصَدَّقُ فِي أَرْبَعَةٍ وَخَمْسِينَ يَوْمًا وَزِيَادَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا غَايَةَ لِأَقَلَّ النِّفَاسِ فَإِذَا قَالَتْ : كَانَ سَاعَةً وَجَبَ تَصْدِيقُهَا لِلِاحْتِمَالِ ، وَالطُّهْرُ بَعْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ تِسْعَةٌ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا لِثَلَاثِ حِيَضٍ فَذَلِكَ أَرْبَعَةٌ وَخَمْسُونَ يَوْمًا فَصَدَقَتْ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ لِلِاحْتِمَالِ .
فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ أَمَةً ، وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا فَعَلَى تَخْرِيجِ مُحَمَّدٍ لِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى تُصَدَّقُ فِي خَمْسَةٍ وَسِتِّينَ يَوْمًا نِفَاسُهَا خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ ، وَطُهْرُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ وَحَيْضُهَا خَمْسَةٌ فَحَيْضَتَانِ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ ، وَطُهْرٌ بَيْنَهُمَا يَكُونُ خَمْسَةً وَعِشْرِينَ إذَا ضَمَمْته إلَى الْأَرْبَعِينَ يَكُونُ خَمْسَةً وَسِتِّينَ يَوْمًا ، وَعَلَى رِوَايَةِ الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ تُصَدَّقُ فِي خَمْسَةٍ وَسَبْعِينَ ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ حَيْضَهَا عَشَرَةً فَحَيْضَتَانِ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ ، وَطُهْرٌ بَيْنَهُمَا يَكُونُ خَمْسَةً وَثَلَاثِينَ يَوْمًا إذَا ضَمَمْتهَا إلَى الْأَرْبَعِينَ يَكُونُ خَمْسَةً وَسَبْعِينَ وَعَلَى رِوَايَةِ أَبِي سَهْلِ الْفَرَائِضِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ تُصَدَّقُ فِي تِسْعِينَ يَوْمًا نِفَاسُهَا أَرْبَعُونَ وَحَيْضُهَا عَشَرَةٌ فَطُهْرَانِ وَحَيْضَتَانِ يَكُونُ خَمْسِينَ يَوْمًا إذَا ضَمَمْته إلَى الْأَرْبَعِينَ يَكُونُ تِسْعِينَ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تُصَدَّقُ فِي سَبْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ يَوْمًا نِفَاسُهَا أَحَدَ عَشَرَ ، وَالطُّهْرُ بَعْدَهُ خَمْسَةَ عَشَرَ فَذَلِكَ سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ إذَا ضَمَمْته إلَى أَحَدٍ وَعِشْرِينَ كَمَا بَيَّنَّا يَكُونُ سَبْعَةً وَأَرْبَعِينَ ، وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ تُصَدَّقُ فِي سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ يَوْمًا وَسَاعَةٍ ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ نِفَاسَهَا سَاعَةً وَطُهْرَهَا
خَمْسَةَ عَشَرَ ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَحَدٌ وَعِشْرُونَ كَمَا بَيَّنَّا مِنْ قَوْلِهِ فَذَلِكَ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ يَوْمًا وَسَاعَةٌ تُصَدَّقُ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ إذَا أَخْبَرَتْ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لِلِاحْتِمَالِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
كِتَابُ الْمَنَاسِكِ ) ( قَالَ ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اعْلَمْ أَنَّ الْحَجَّ فِي اللُّغَةِ : الْقَصْدُ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْقَائِلِ وَأَشْهَدُ مِنْ عَوْفٍ حُلُولًا كَثِيرَةً يَحُجُّونَ سَبَّ الزِّبْرِقَانِ الْمُزَعْفَرَا أَيْ يَقْصِدُونَ لَهُ مُعَظِّمِينَ إيَّاهُ ، وَفِي الشَّرِيعَةِ : عِبَارَةٌ عَنْ زِيَارَةِ الْبَيْتِ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ لِأَدَاءِ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِ الدِّينِ عَظِيمٍ ، وَلَا يُتَوَصَّلُ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِقَصْدٍ ، وَعَزِيمَةٍ ، وَقَطْعِ مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ .
فَالِاسْمُ شَرْعِيٌّ فِيهِ مَعْنَى اللُّغَةِ .
وَالْمَنَاسِكُ جَمْعُ النُّسُكِ ، وَالنُّسُكُ اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْعَابِدُ نَاسِكًا ، وَلَكِنَّهُ فِي لِسَانِ الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ } وَفَرْضِيَّةُ الْحَجِّ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا } وَآكَدُ مَا يَكُونُ مِنْ أَلْفَاظِ الْإِلْزَامِ كَلِمَةُ عَلَى .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ وَجَدَ زَادًا وَرَاحِلَةً يُبَلِّغَانِهِ بَيْتَ اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يَحُجَّ حَتَّى مَاتَ فَلْيَمُتْ إنْ شَاءَ يَهُودِيًّا ، وَإِنْ شَاءَ نَصْرَانِيًّا } .
وَفِي رِوَايَةٍ { فَلْيَمُتْ عَلَى أَيِّ مِلَّةٍ شَاءَ سِوَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ ، وَتَلَا قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ } }
وَسَبَبُ وُجُوبِ الْحَجِّ مَا أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ فِي قَوْلِهِ { حِجُّ الْبَيْتِ } فَالْوَاجِبَاتُ تُضَافُ إلَى أَسْبَابِهَا ، وَلِهَذَا لَا يَجِبُ فِي الْعُمْرِ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً لِأَنَّ سَبَبَهُ ، وَهُوَ الْبَيْتُ غَيْرُ مُتَكَرِّرٍ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ { الْأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حَيْثُ قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الْحَجُّ فِي كُلِّ عَامٍ أَمْ مَرَّةً فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ مَرَّةً فَمَا زَادَ فَتَطَوُّعٌ } وَالْوَقْتُ فِيهِ شَرْطُ الْأَدَاءِ ، وَلَيْسَ بِسَبَبٍ ، وَلِهَذَا لَا يَتَكَرَّرُ بِتَكْرَارِ الْوَقْتِ إلَّا أَنَّ أَرْكَانَ هَذِهِ الْعِبَادَةِ مُتَفَرِّقَةٌ عَلَى الْأَمْكِنَةِ ، وَالْأَزْمِنَةِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِمُرَاعَاةِ التَّرْتِيبِ فِيهَا ، وَلِهَذَا لَا يَتَأَدَّى طَوَافُ الزِّيَارَةِ قَبْلَ الْوُقُوفِ كَمَا لَا يَتَأَدَّى السُّجُودُ فِي فَصْلِ الصَّلَاةِ قَبْلَ الرُّكُوعِ ، وَالْمَالُ شَرْطٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى الْأَدَاءِ ، وَلِهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ الْأَدَاءُ مِنْ فَقِيرٍ لَا مَالَ لَهُ فَرْضًا .
وَأَرْكَانُ هَذِهِ الْعِبَادَةِ الْأَفْعَالُ ، وَالْمَالُ لَيْسَ بِسَبَبٍ فِيهِ ، وَلَكِنَّهُ مُعْتَبَرٌ لِيَتَيَسَّرَ بِهِ الْوُصُولُ إلَى مَوَاضِعِ أَدَاءِ أَرْكَانِهِ .
ثُمَّ بَدَأَ الْكِتَابُ فَقَالَ إذَا أَرَدْت أَنْ تُحْرِمَ بِالْحَجِّ إنْ شَاءَ اللَّهُ اقْتَدِ بِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذِكْرِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى { لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إنْ شَاءَ اللَّهُ } وَقِيلَ : إنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى خَاطَبَ أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَالْوَاحِدُ يَشُكُّ فِي حَالَةٍ أَنَّهُ يَحُجُّ أَوْ لَا يَحُجُّ فَقَيَّدَ بِالِاسْتِثْنَاءِ ، وَتَفَرَّسَ فِيهِ أَنَّهُ يَحُجُّ فَمَا أَخْطَأَتْ فِرَاسَتُهُ ( قَالَ ) فَاغْتَسِلْ أَوْ تَوَضَّأْ ، وَالْغُسْلُ فِيهِ أَفْضَلُ .
هَكَذَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَجَرَّدَ لِإِهْلَالِهِ فَاغْتَسَلَ } رَوَاهُ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَهَذَا الِاغْتِسَالُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ أَبَا بَكْرٍ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَسْمَاءَ قَدْ نُفِسَتْ قَالَ مُرْهَا فَلْتَغْتَسِلْ ، وَلْتُحْرِمْ بِالْحَجِّ } ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاغْتِسَالَ الْوَاجِبَ مَعَ النِّفَاسِ وَالْحَيْضِ لَا يَتَأَدَّى فَعَرِّفْنَا أَنَّ هَذَا الِاغْتِسَالَ لِمَعْنَى النَّظَافَةِ ، وَمَا كَانَ لِهَذَا الْمَقْصُودُ فَالْوُضُوءُ يَقُومُ مَقَامَهُ كَمَا فِي الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ ، وَلَكِنَّ الْغُسْلَ أَفْضَلُ لِأَنَّ مَعْنَى النَّظَافَةِ فِيهِ أَكْمَلُ ثُمَّ الْبَسْ ثَوْبَيْنِ إزَارًا وَرِدَاءً جَدِيدَيْنِ أَوْ غَسِيلَيْنِ هَكَذَا ذَكَرَ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ائْتَزَرَ وَارْتَدَى عِنْدَ إحْرَامِهِ } ، وَلِأَنَّ الْمُحْرِمَ مَمْنُوعٌ مِنْ لُبْسِ الْمَخِيطِ ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ فَتَعَيَّنَ لِلسِّتْرِ الِارْتِدَاءُ وَالِائْتِزَارُ .
وَالْجَدِيدُ وَالْغَسِيلُ فِي هَذَا الْمَقْصُودِ سَوَاءٌ غَيْرَ أَنَّ الْجَدِيدَ أَفْضَلُ { لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَزَيَّنْ لِعِبَادَةِ رَبِّك } ( قَالَ ) وَادْهُنْ بِأَيِّ دُهْنٍ شِئْت ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَطَيَّبَ ، وَيَدْهُنَ قَبْلَ إحْرَامِهِ بِمَا شَاءَ .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : كُنْت لَا أَرَى بِذَاكَ بَأْسًا حَتَّى رَأَيْت أَقْوَامًا يُحْضِرُونَ طِيبًا كَثِيرًا ، وَيَصْنَعُونَ شَيْئًا شَنْعًا فَكَرِهْت ذَلِكَ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ نُقِلَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَرَاهَةُ ذَلِكَ ، وَحُجَّةُ هَذَا الْقَوْلِ حَدِيثُ { الْأَعْرَابِيِّ حَيْثُ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ مُتَضَمِّخَةٌ أَيْ مُتَلَطِّخَةٌ بِالْخَلُوقِ فَسَأَلَهُ عَنْ الْعُمْرَةِ فَلَمْ يُجِبْهُ حَتَّى نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْهُ قَالَ : أَيْنَ السَّائِلُ عَنْ الْعُمْرَةِ فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ : هَا أَنَا ذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا
جُبَّتُكَ فَانْزِعْهَا ، وَأَمَّا الْخَلُوقُ فَاغْسِلْهُ ، وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِك مَا أَنْتَ صَانِعٌ فِي حَجَّتِك } فَقَدْ أَمَرَهُ بِإِزَالَةِ الطِّيبِ عَنْ نَفْسِهِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ ، وَلَنَا حَدِيثُ { عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ كُنْت أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَزُورَ الْبَيْتَ } .
وَفِي رِوَايَةٍ { كُنْت أَرَى وَبِيصَ الْمِسْكِ فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ إحْرَامِهِ فَتَطَيَّبُوا } .
وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { كُنَّا نَخْرُجُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَضَمِّخًا جِبَاهُنَا بِالْمِسْكِ ثُمَّ نُحْرِمُ فَنَعْرَقُ فَيَسِيلُ عَلَى وُجُوهِنَا ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرَى ، وَلَا يَكْرَهُهُ } .
وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ أَنَّهُ كَرِهَ الْخَلُوقَ لَهُ لِكَوْنِهِ بِمَنْزِلَةِ الثَّوْبِ الْمُوَرَّسِ ، وَالْمُزَعْفَرِ .
وَمَعْنَى كَرَاهَةِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِاسْتِعْمَالِ الطِّيبِ الْكَثِيرِ أَنَّهُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ رُبَّمَا يَنْتَقِلُ عَلَى بَدَنِهِ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ التَّطَيُّبِ ابْتِدَاءً بَعْدَ الْإِحْرَامِ فِي الْمَوْضِعِ الثَّانِي ، وَلَكِنَّ هَذَا لَيْسَ بِقَوِيٍّ فَإِنَّهُ لَا تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ بِهَذَا ، وَلَوْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ ، وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا رَحِمُهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِيمَا إذَا تَطَيَّبَ بَعْدَ إحْرَامِهِ ، وَكَفَّرَ ثُمَّ تَحَوَّلَ الطِّيبُ مَعَ عَرَقِهِ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ لَا تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ جَدِيدَةٌ لِأَنَّ أَصْلَ فِعْلِهِ قَدْ انْقَطَعَ بِالتَّكْفِيرِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِأَثَرِهِ كَمَا لَوْ فَعَلَهُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ أُخْرَى هُنَا ؛ لِأَنَّ أَصْلَ فِعْلِهِ كَانَ مَحْظُورًا فَتَحَوُّلُهُ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ يَكُونُ جِنَايَةً أَيْضًا فِي حُكْمِ الْكَفَّارَةِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْإِحْرَامِ
فَإِنَّ أَصْلَ فِعْلِهِ لَمْ يَكُنْ مَحْظُورًا ، ثُمَّ لَا مُعْتَبَرَ بِبَقَاءِ الْأَثَرِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ إذَا كَانَ أَصْلُ فِعْلِهِ قَبْلَ الْإِحْرَامِ كَالْحَلْقِ ، ثُمَّ قَالَ : وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : أَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي ، وَأَنَا بِالْعَقِيقِ فَقَالَ : صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ رَكْعَتَيْنِ ، وَقُلْ لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا } ، وَفِيمَا ذَكَرَ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ إحْرَامِهِ ، ثُمَّ قَالَ : وَقُلْ اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدَ الْحَجَّ فَيَسِّرْهُ لِي وَتَقَبَّلْهُ مِنِّي } ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ فِي أَدَاءِ أَرْكَانِهِ إلَى تَحَمُّلِ الْمَشَقَّةِ ، وَيَبْقَى فِي ذَلِكَ أَيَّامًا فَيَطْلُبُ التَّيْسِيرَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى إذْ لَا يَتَيَسَّرُ لِلْعَبْدِ إلَّا مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَيَسْأَلُ الْقَبُولَ كَمَا فَعَلَهُ الْخَلِيلُ ، وَإِسْمَاعِيلُ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا فِي قَوْلِهِمَا : رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ .
وَلَمْ يَأْمُرْ بِمِثْلِ هَذَا الدُّعَاءِ لِمَنْ يُرِيدُ افْتِتَاحَ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ أَدَاءَهَا يَسِيرٌ عَادَةً ، وَلَا تَطُولُ فِي أَدَائِهَا الْمُدَّةُ فَأَمَّا أَرْكَانُ الْحَجِّ فَمُتَفَرِّقَةٌ عَلَى الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ ، وَلَا يُؤْمَنُ فِيهَا اعْتِرَاضُ الْمَوَانِعِ عَادَةً فَلِهَذَا أَمَرَ بِتَقْدِيمِ سُؤَالِ التَّيْسِيرِ .
( قَالَ ) ثُمَّ لَبِّ فِي دُبُرِ صَلَوَاتِكَ تِلْكَ فَإِنْ شِئْت بَعْدَمَا يَسْتَوِي بِك بَعِيرُك .
وَالْكَلَامُ فِيهِ فِي فُصُولٍ أَحَدُهَا فِي اشْتِقَاقِ التَّلْبِيَةِ لُغَةً فَقِيلَ : هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِهِمْ أَلَبَّ الرَّجُلُ إذَا أَقَامَ فِي مَكَان فَمَعْنَى قَوْلُ الْقَائِلِ لَبَّيْكَ أَنَا مُقِيمٌ عَلَى طَاعَتِك ، وَقِيلَ : هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِهِمْ دَارِي تَلِبُّ دَارَك أَيْ تُوَاجِهُهَا فَمَعْنَى قَوْلِهِ لَبَّيْكَ اتِّجَاهِي لَك يَا رَبِّ ، وَقِيلَ : هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِهِمْ امْرَأَةٌ لَبَّةٌ أَيْ
مُحِبَّةٌ لِزَوْجِهَا فَمَعْنَاهُ مَحَبَّتِي لَك يَا رَبِّ .
وَالثَّانِي أَنَّ الْمُخْتَارَ عِنْدَنَا أَنْ يُلَبِّيَ مِنْ دُبُرِ صَلَوَاتِهِ ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ يُلَبِّي حِينَ تَسْتَوِي بِهِ رَاحِلَتُهُ ، وَذَكَرَ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبَّى حِينَ عَلَا الْبَيْدَاءَ } إلَّا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَدَّ هَذَا فَقَالَ : { إنَّ بَيْدَاءَكُمْ هَذِهِ تَكْذِبُونَ فِيهَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإِنَّمَا لَبَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ } .
وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قُلْت لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { كَيْفَ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي وَقْتِ تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمَا حَجَّ إلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً قَالَ : لَبَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي دُبُرِ صَلَوَاتِهِ فَسَمِعَ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ أَصْحَابِهِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ فَنَقَلُوهُ ، وَكَانُوا الْقَوْمُ يَأْتُونَهُ أَرْسَالًا فَلَبَّى حِينَ اسْتَوَتْ فَسَمِعَ تَلْبِيَتَهُ قَوْمٌ فَظَنُّوا أَنَّهُ أَوَّلُ تَلْبِيَتِهِ فَنَقَلُوا ذَلِكَ ، ثُمَّ لَبَّى حِينَ عَلَا الْبَيْدَاءَ فَسَمِعَهُ آخَرُونَ فَظَنُّوا أَنَّهُ أَوَّلُ تَلْبِيَتِهِ فَنَقَلُوا ذَلِكَ ، وَاَيْمُ اللَّهِ مَا أَوْجَبَهَا إلَّا فِي مُصَلَّاهُ } .
وَالثَّالِثُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ التَّلْبِيَةَ جَوَابُ الدُّعَاءِ ، وَالْكَلَامُ فِي أَنَّ الدَّاعِيَ مَنْ هُوَ فَقِيلَ : الدَّاعِي هُوَ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ } .
وَقِيلَ : الدَّاعِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا قَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ : إنَّ سَيِّدًا بَنَى دَارًا وَاِتَّخَذَ فِيهَا مَأْدُبَةً ، وَبَعَثَ دَاعِيًا .
وَأَرَادَ بِالدَّاعِي نَفْسَهُ ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الدَّاعِيَ هُوَ الْخَلِيلُ
صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْبَيْتِ أُمِرَ بِأَنْ يَدْعُوَ النَّاسَ إلَى الْحَجِّ فَصَعِدَ بِأَبِي قُبَيْسٍ ، وَقَالَ : أَلَا إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِبِنَاءِ بَيْتٍ لَهُ ، وَقَدْ بُنِيَ أَلَا فَحُجُّوهُ فَبَلَّغَ اللَّهُ صَوْتَهُ النَّاسَ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ وَأَرْحَامِ أُمَّهَاتِهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ مَرَّةً ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجَابَ مَرَّتَيْنِ ، وَأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ، وَعَلَى حَسَبِ جَوَابِهِمْ يَحُجُّونَ ، وَبَيَانُ هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ } الْآيَةَ .
فَالتَّلْبِيبَةُ إجَابَةٌ لِدُعَاءِ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ ، ثُمَّ صِفَةُ التَّلْبِيَةِ أَنْ يَقُولَ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك لَبَّيْكَ إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَك ، هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي صِفَةِ تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ مَنْ اخْتَارَ نَصْبَ الْأَلِفِ فِي قَوْلِهِ إنَّ الْحَمْدَ ، وَمَعْنَاهُ لِأَنَّ الْحَمْدَ أَوْ بِأَنَّ الْحَمْدَ فَأَمَّا الْمُخْتَارُ عِنْدَنَا : الْكَسْرُ ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَوَافَقَهُ الْفَرَّاءُ ؛ لِأَنَّ بِكَسْرِ الْأَلِفِ يَكُونُ ابْتِدَاءَ الثَّنَاءِ ، وَبِنَصْبِ الْأَلِفِ يَكُونُ وَصْفًا لِمَا تَقَدَّمَ ، وَابْتِدَاءُ الثَّنَاءِ أَوْلَى ، وَلَا بَأْسَ عِنْدَنَا فِي الزِّيَادَةِ عَلَى هَذِهِ التَّلْبِيَةِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ اخْتِلَافٌ يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عِنْدَنَا أَنَّ غَيْرَ هَذَا اللَّفْظِ مِنْ الثَّنَاءِ وَالتَّسْبِيحِ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي حَقِّ مَنْ يُحْسِنُ التَّلْبِيَةَ أَوْ لَا يُحْسِنُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَتَى بِهِ بِالْفَارِسِيَّةِ فَهُوَ وَالْعَرَبِيَّةُ سَوَاءٌ أَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّا قَدْ بَيَّنَّا مَذْهَبَهُ فِي التَّكْبِيرِ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَوَاتِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ ، وَإِنَّ
لَفْظَ الْفَارِسِيَّةِ وَالْعَرَبِيَّةِ فِيهِ سَوَاءٌ فَكَذَلِكَ هُنَا وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُنَاكَ يَقُولُ : لَا يَتَأَدَّى بِالْفَارِسِيَّةِ مِمَّنْ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ ، وَهُنَا يَتَأَدَّى ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الذِّكْرِ هُنَا يَقُومُ مَقَامَ الذِّكْرِ ، وَهُوَ تَقْلِيدُ الْهَدْيِ فَكَذَلِكَ غَيْرُ الْعَرَبِيَّةِ يَقُومُ مَقَامَ الْعَرَبِيَّةِ بِخِلَافِ الصَّلَوَاتِ ، وَبِهَذَا يُفَرِّقُ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ التَّلْبِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَوَاتِ .
وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ غَيْرَ التَّلْبِيَةِ مِنْ الْأَذْكَارِ لَا يَقُومُ مَقَامَ التَّلْبِيَةِ هُنَا كَمَا فِي الصَّلَوَاتِ عَلَى قَوْلِهِ ، وَلَا يَصِيرُ مُحْرِمًا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ مَا لَمْ يَأْتِ بِالتَّلْبِيَةِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَبَيَانُهُ يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
( قَالَ ) وَالْمُسْتَحَبُّ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ هَكَذَا رَوَى خَلَّادُ بْنُ السَّائِبِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَمَرَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ آمُرَ أُمَّتِي أَوْ مَنْ مَعِي بِأَنْ يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّلْبِيَةِ } ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَفْضَلُ الْحَجِّ الْعَجُّ وَالثَّجُّ } فَالْعَجُّ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ ، وَالثَّجُّ إرَاقَةُ الدَّمِ ، وَالْمُسْتَحَبُّ عِنْدَنَا فِي الْأَذْكَارِ وَالدُّعَاءِ الْخُفْيَةُ إلَّا فِيمَا تَعَلَّقَ بِإِعْلَانِهِ مَقْصُودٌ كَالْأَذَانِ لِلْإِعْلَامِ ، وَالْخُطْبَةِ لِلْوَعْظِ ، وَتَكْبِيرَاتُ الصَّلَوَاتِ لِإِعْلَامِ التَّحَرُّمِ وَالِانْتِقَالِ وَالْقِرَاءَةِ لِإِسْمَاعِ الْمُؤْتَمِّ فَالتَّلْبِيَةُ لِلشُّرُوعِ فِيمَا هُوَ مِنْ إعْلَامِ الدِّينِ فَلِهَذَا كَانَ الْمُسْتَحَبُّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِهِ
( قَالَ ) فَإِذَا لَبَّيْت فَقَدْ أَحْرَمْت يَعْنِي إذَا نَوَيْت وَلَبَّيْت إلَّا أَنَّهُ لَمْ يَذْكُرْ النِّيَّةَ لِتَقْدِيمِ الْإِشَارَةِ إلَيْهَا فِي قَوْلِهِ اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْحَجَّ قَالَ : فَاتَّقِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قَتْلِ الصَّيْدِ ، وَالرَّفَثِ ، وَالْفُسُوقِ ، وَالْجِدَالِ .
أَمَّا قَتْلُ الصَّيْدِ فَالْمُحْرِمُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي قَوْله تَعَالَى { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } وَالصَّيْدُ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ مَا دَامَ مُحَرَّمًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا } وَأَمَّا الرَّفَثُ وَالْفُسُوقُ وَالْجِدَالُ فَالنَّهْيُ عَنْهَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ } فَهُوَ نَهْيٌ بِصِيغَةِ النَّفْيِ ، وَهَذَا آكَدُ مَا يَكُونُ مِنْ النَّهْيِ ، وَفِي تَفْسِيرِ الرَّفَثِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا الْجِمَاعُ بَيَانُهُ فِي قَوْله تَعَالَى { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ } وَالثَّانِي الْكَلَامُ الْفَاحِشُ .
إلَّا أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ إنَّمَا يَكُونُ الْكَلَامُ الْفَاحِشُ رَفَثًا بِحَضْرَةِ النِّسَاءِ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يُنْشِدُ فِي إحْرَامِهِ : وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسًا إنْ تَصْدُقْ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسًا لَمِيسُ اسْمُ جَارِيَتِهِ ) فَقِيلَ : لَهُ أَتَرْفُثُ وَأَنْتَ مُحْرِمٌ ؟ فَقَالَ : إنَّمَا الرَّفَثُ بِحَضْرَةِ النِّسَاءِ ، وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : كُنَّا نَنْشُدُ الْأَشْعَارَ فِي حَالَةِ الْإِحْرَامِ .
فَقِيلَ لَهُ : مِثْلَ مَاذَا ؟ فَقَالَ : مِثْلَ قَوْلِ الْقَائِلِ قَامَتْ تُرِيك رَهْبَةً إنْ تَصْرِمَا سَاقًا بِحِنَّاءٍ وَكَعْبًا أَدْرَمَا ذُكِرَ فِي كِفَايَةِ الْمُتَحَفِّظِ .
وَأَمَّا الْفُسُوقُ فَهُوَ اسْمٌ لِلْمَعَاصِي ، وَذَلِكَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الْإِحْرَامِ وَغَيْرِ الْإِحْرَامِ إلَّا أَنَّ الْحَظْرَ فِي الْإِحْرَامِ أَشَدُّ لِحُرْمَةِ الْعِبَادَةِ ، وَفِي تَفْسِيرِ الْجِدَالِ قَوْلَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يُجَادِلَ رَفِيقَهُ فِي الطَّرِيقِ .
وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ مُجَادَلَةُ الْمُشْرِكِينَ فِي تَقْدِيمِ وَقْتِ الْحَجِّ
وَتَأْخِيرِهِ ، وَذَلِكَ هُوَ النَّسِيءُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ } الْآيَةَ ، وَذَلِكَ مَنْفِيٌّ بَعْدَ الْإِسْلَامِ ( قَالَ ) ، وَلَا يُشِيرُ إلَى صَيْدٍ ، وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لِحَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَكَانُوا مُحْرِمِينَ : هَلْ أَشَرْتُمْ هَلْ أَعَنْتُمْ هَلْ دَلَلْتُمْ فَقَالُوا : لَا ، فَقَالَ : إذَنْ فَكُلُوا } ، وَلِأَنَّ الْمُحَرَّمَ عَلَى الْمُحْرِمِ التَّعَرُّضُ لِلصَّيْدِ بِمَا يُزِيلُ الْأَمْنَ عَنْهُ ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالدَّلَالَةِ ، وَالْإِشَارَةِ ، وَرُبَّمَا يَتَطَرَّقُ بِهِ إلَى الْقَتْلِ ، وَمَا يَكُونُ مُحَرَّمَ الْعَيْنِ فَهُوَ مُحَرَّمٌ بِدَوَاعِيهِ كَالزِّنَا .
( قَالَ ) وَلَا تُغَطِّ رَأْسَك ، وَلَا وَجْهَك ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا بَأْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يُغَطِّيَ وَجْهَهُ ، وَلَا يُغَطِّيَ رَأْسَهُ ، وَالْمَرْأَةُ تُغَطِّي رَأْسَهَا لَا وَجْهَهَا ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إحْرَامُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا } .
( وَلَنَا ) حَدِيثُ { الْأَعْرَابِيِّ حِينَ وَقَصَتْ بِهِ نَاقَتُهُ فِي أَخَافِيقِ جِرْزَانٍ ، وَهُوَ مُحْرِمٌ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ } ، وَفِي هَذَا تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ لَا يُغْطِي رَأْسَهُ وَوَجْهَهُ { ، وَرَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ اشْتَكَتْ عَيْنُهُ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ أَنْ يُغَطِّيَ وَجْهَهُ } فَتَخْصِيصُهُ حَالَةَ الضَّرُورَةِ بِالرُّخْصَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ مَنْهِيٌّ عَنْ تَغْطِيَةِ الْوَجْهِ ، وَلِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تُغَطِّي وَجْهَهَا بِالْإِجْمَاعِ مَعَ أَنَّهَا عَوْرَةٌ مَسْتُورَةٌ فَإِنَّ فِي كَشْفِ الْوَجْهِ مِنْهَا خَوْفَ الْفِتْنَةِ فَلَأَنْ لَا يُغَطِّيَ الرَّجُلُ وَجْهَهُ لِأَجْلِ الْإِحْرَامِ أَوْلَى ، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ بَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ .
( قَالَ ) وَلَا تَلْبَسُ قَبَاءً ، وَلَا قَمِيصًا ، وَلَا سَرَاوِيلَ ، وَلَا قَلَنْسُوَةً لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ الْقَبَاءَ وَلَا الْقَمِيصَ ، وَلَا السَّرَاوِيلَ ، وَلَا الْقَلَنْسُوَةَ ، وَلَا الْخُفَّيْنِ إلَّا أَنْ يَجِدَ نَعْلَيْنِ فَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ ، وَلَا تَتَنَقَّبُ الْمَرْأَةُ الْحَرَامَ .
}
( قَالَ ) وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بِالْعُصْفُرِ ، وَلَا بِالزَّعْفَرَانِ ، وَلَا بِالْوَرْسِ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { لَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ ثَوْبًا مَسَّهُ زَعْفَرَانٌ أَوْ وَرْسٌ } ، وَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا رَأَى عَلَى طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ ثَوْبًا مَصْبُوغًا بَعْدَ إحْرَامِهِ عَلَاهُ بِالدِّرَّةِ فَقَالَ لَا تَعْجَلْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّمَا هُوَ بِمَشْقٍ فَقَالَ نَعَمْ ، وَلَكِنْ مَنْ يَنْظُرُ إلَيْك مِنْ بَعْدُ لَا يَعْرِفُ ذَلِكَ فَيَرْجِعُ إلَى قَبِيلَتِهِ ، وَيَقُولُ رَأَيْت عَلَى طَلْحَةَ فِي إحْرَامِهِ ثَوْبًا مَصْبُوغًا فَيُعَيِّرُك النَّاسُ بِذَلِكَ فَإِنْ كَانَ قَدْ غُسِلَ حَتَّى لَا يَنْفَضّ فَلَا بَأْسَ بِلُبْسِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ نَفْسُ الطِّيبِ لَا لَوْنُهُ ، وَبَعْدَ الْغَسْلِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَا يَبْقَى مِنْ عَيْنِ الطِّيبِ فِيهِ شَيْءٌ
( قَالَ ) ، وَلَا تَمَسُّ طِيبًا بَعْدَ إحْرَامِك ، وَلَا تَدْهُنُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْحَاجُّ : الشَّعِثُ التَّفِلُ .
وَاسْتِعْمَالُ الدُّهْنِ وَالطِّيبِ يُزِيلُ هَذِهِ الصِّفَةَ فَيَكُونُ مُحْرِمًا بَعْدَ الْإِحْرَامِ .
}
( قَالَ ) وَاذَا حَكَكْت رَأْسَك فَارْفُقْ بِحَكِّهِ حَتَّى لَا يَتَنَاثَرَ الشَّعْرُ فَإِنَّ إزَالَةَ مَا يَنْمُو مِنْ الْبَدَنِ حَرَامٌ عَلَى الْمُحْرِمِ ؛ لِأَنَّ أَوَانَ قَضَاءِ التَّفَثِ عِنْدَ التَّحَلُّلِ مِنْ الْإِحْرَامِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَبْحِ الْهَدْيِ { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ }
( قَالَ ) وَلَا تَغْسِلْ رَأْسَك ، وَلِحْيَتَك بِالْخِطْمِيِّ لِأَنَّ الْخِطْمِيَّ تَقْتُلُ هَوَامَّ الرَّأْسِ ، وَتُزِيلُ الشَّعَثَ الَّذِي جَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صِفَةَ الْحَاجِّ ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ قَضَاءِ التَّفَثِ أَيْضًا .
( قَالَ ) لَا تَقُصُّ أَظْفَارَك ؛ لِأَنَّهُ إزَالَةُ مَا يَنْمُو مِنْ الْبَدَنِ فَكَانَ مِنْ نَوْعِ قَضَاءِ التَّفَثِ
( قَالَ ) وَأَكْثَرُ مِنْ التَّلْبِيَةِ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ ، وَكُلَّمَا لَقِيتَ رَكْبًا ، وَكُلَّمَا عَلَوْت شَرَفًا ، وَكُلَّمَا هَبَطْتَ وَادِيًا بِالْأَسْحَارِ هَكَذَا نُقِلَ أَنَّ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِي عَنْهُمْ كَانُوا يُلَبُّونَ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ ، ثُمَّ تَلْبِيَةُ الْمُحْرِمِ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ كَتَكْبِيرِ غَيْرِ الْمُحْرِمِ فِي أَيَّامِ الْحَجِّ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ فَكَمَا يُؤْتَى بِالتَّكْبِيرِ بَعْدَ السَّلَامِ فَكَذَلِكَ بِالتَّلْبِيَةِ ، وَكَمَا أَنَّ الْمُصَلِّيَ يُكَبِّرُ عِنْدَ الِانْتِقَالِ مِنْ رُكْنٍ إلَى رُكْنٍ فَكَذَلِكَ لِمُحْرِمٍ يُلَبِّي عِنْدَ الِانْتِقَالِ مِنْ حَالِ إلَى حَالِ .
وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ خَثْعَمَةَ قَالَ : كَانُوا يَسْتَحِبُّونَ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ سِتٍّ : فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ ، وَاذَا اسْتَعْطَفَ الرَّجُلُ بِرَاحِلَتِهِ ، وَإِذَا صَعِدَ شَرَفًا وَإِذَا هَبَطَ وَادِيًا وَإِذَا لَقِيَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، وَبِالْأَسْحَارِ .
( قَالَ ) وَإِذَا قَدِمْتَ مَكَّةَ فَلَا يَضُرُّ لَيْلًا دَخَلْتهَا أَوْ نَهَارًا ؛ لِأَنَّ هَذَا دُخُولُ بَلْدَةٍ فَيَسْتَوِي فِيهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ كَسَائِرِ الْبُلْدَانِ ، وَالرُّوَاةُ اخْتَلَفُوا فِي وَقْتِ دُخُولِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ فَرَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْعِشَاءَ بِذِي طُوًى ، ثُمَّ هَجَعَ هَجْعَةً ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ فَطَافَ لَيْلًا } .
وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّهُ بَاتَ بِذِي طُوًى فَلَمَّا أَصْبَحَ دَخَلَ مَكَّةَ نَهَارًا } .
وَاَلَّذِي رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَنْهَى النَّاسَ عَنْ دُخُولِ مَكَّةَ لَيْلًا كَانَ ذَلِكَ لِلْإِشْفَاقِ مَخَافَةَ السَّرَقِ لِيَرَى الْإِنْسَانُ أَيْنَ يَنْزِلُ ، وَيَضَعُ رَحْلَهُ .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ مُعْتَمِرًا فِي رَمَضَانَ وَجَدَ النَّاسَ يُصَلُّونَ التَّرَاوِيحَ فَصَلَّى مَعَهُمْ .
وَعَنْ عَائِشَةَ وَالْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَدْخُلُونَ مَكَّةَ لَيْلًا
( قَالَ ) فَادْخُلْ الْمَسْجِدَ ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ زِيَارَةَ الْبَيْتِ ، وَالْبَيْتُ فِي الْمَسْجِدِ .
وَرَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ فَلَمَّا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى الْبَيْتِ قَالَ : اللَّهُمَّ زِدْ بَيْتَك تَشْرِيفًا وَتَعْظِيمًا وَتَكْرِيمًا وَبِرًّا وَمَهَابَةً } .
وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ تَعْيِينَ شَيْءٍ مِنْ الْأَدْعِيَةِ فِي مَشَاهِدِ الْحَجِّ لِمَا قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى التَّوْقِيتُ فِي الدُّعَاءِ يُذْهِبُ رِقَّةَ الْقَلْبِ فَاسْتَحَبُّوا أَنْ يَدْعُوَ كُلُّ وَاحِدٍ بِمَا يَحْضُرُهُ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إلَى الْخُشُوعِ ، وَإِنْ تَبَرَّكَ بِمَا نُقِلَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ حَسَنٌ ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ إذَا لَقِيَ الْبَيْتَ بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ .
وَعَنْ عَطَاءٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ إذَا لَقِيَ الْبَيْتَ يَقُولُ أَعُوذُ بِرَبِّ الْبَيْتِ مِنْ الدَّيْنِ وَالْفَقْرِ وَمِنْ ضِيقِ الصَّدْرِ وَعَذَابِ الْقَبْرِ } .
( قَالَ ) ثُمَّ ابْدَأْ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَاسْتَلِمْهُ هَكَذَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدَأَ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَاسْتَلَمَهُ } .
وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّهُ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ ، وَقَالَ رَأَيْت أَبَا الْقَاسِمِ بِك حَفِيًّا } .
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَّلَ الْحَجَرَ ، وَوَضَعَ شَفَتَيْهِ عَلَيْهِ ، وَبَكَى طَوِيلًا ، ثُمَّ نَظَرَ فَإِذَا هُوَ بِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ يَا عُمَرُ هُنَا تُسْكَبُ الْعَبَرَاتُ } .
وَأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خِلَافَتِهِ لَمَّا أَتَى الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ وَقَفَ فَقَالَ : أَمَا إنِّي أَعْلَمُ إنَّك حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَلَمَك مَا اسْتَلَمْتُك فَبَلَغَتْ
مَقَالَتُهُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : أَمَا إنَّ الْحَجَرَ يَنْفَعُ ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَا مَنْفَعَتُهُ يَا خَتْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَخَذَ الذُّرِّيَّةَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَقَرَّرَهُمْ بِقَوْلِهِ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا : بَلَى ، أَوْدَعَ إقْرَارَهُمْ الْحَجَرَ فَمَنْ يَسْتَلِمْ الْحَجَرَ فَهُوَ يُجَدِّدُ الْعَهْدَ بِذَلِكَ الْإِقْرَارِ ، وَالْحَجَرُ يَشْهَدُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } وَاسْتِلَامُ الْحَجَرِ لِلطَّوَافِ بِمَنْزِلَةِ التَّكْبِيرِ لِلصَّلَوَاتِ فَيَبْدَأُ بِهِ طَوَافَهُ .
( قَالَ ) إنْ اسْتَطَعْت مِنْ غَيْرِ أَنْ تُؤْذِيَ مُسْلِمًا لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّكَ رَجُلٌ أَيِّدٌ تُؤْذِي الضَّعِيفَ فَلَا تُزَاحِمْ النَّاسَ عَلَى الْحَجَرِ ، وَلَكِنْ إنْ وَجَدْت فُرْجَةً فَاسْتَلِمْهُ ، وَإِلَّا فَاسْتَقْبِلْهُ وَكَبِّرْ وَهَلِّلْ } ؛ وَلِأَنَّ اسْتِلَامَ الْحَجَرِ سُنَّةٌ ، وَالتَّحَرُّزَ عَنْ أَذَى الْمُسْلِمِ وَاجِبٌ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُؤْذِيَ مُسْلِمًا لِإِقَامَةِ السُّنَّةِ ، وَلَكِنْ إنْ اسْتَطَاعَ تَقْبِيلَهُ وَإِلَّا مَسَّ الْحَجَرَ بِيَدِهِ وَقَبَّلَ يَدَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ ذَلِكَ أَمَسَّ الْحَجَرَ شَيْئًا مِنْ عُرْجُونٍ أَوْ غَيْرِهِ ، ثُمَّ قَبَّلَ ذَلِكَ الشَّيْءَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ عَلَى رَاحِلَتِهِ ، وَاسْتَلَمَ الْأَرْكَانَ بِمِحْجَنِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ اسْتَقْبَلَهُ وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ وَحَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى ، وَصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } وَهَذَا اسْتِقْبَالٌ مُسْتَحَبٌّ غَيْرُ وَاجِبٍ ؛ لِأَنَّ اسْتِقْبَالَ الْبَيْتِ عِنْدَ الطَّوَافِ لَوْ كَانَ وَاجِبًا كَانَ فِي جَمِيعِهِ كَاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فِي الصَّلَوَاتِ ، وَلَكِنَّهُ مُسْتَحَبٌّ لِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { إنَّ الْحَجَرَ
يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا ، وَلِسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ فَيَشْهَدُ بِالْحَقِّ لِمَنْ اسْتَلَمَهُ أَوْ اسْتَقْبَلَهُ .
}
( قَالَ ) ثُمَّ خُذْ عَنْ يَمِينِك عَلَى بَابِ الْبَيْتِ فَطُفْ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ هَكَذَا رَوَاهُ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ عَلَى يَمِينِهِ مِنْ بَابِ الْكَعْبَةِ فَطَافَ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ } ، وَمَقَادِيرُ الْعِبَادَةِ تُعْرَفُ بِالتَّوْقِيفِ لَا بِالرَّأْيِ
( قَالَ ) يَرْمُلُ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ فِي كُلِّ شَوْطٍ مِنْهَا مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ فَالرَّمَلُ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ مِنْهَا سُنَّةٌ ، وَكُلُّ طَوَافٍ لَيْسَ بَعْدَهُ سَعْيٌ فَلَا رَمَلَ فِيهِ ، وَالرَّمَلُ هُوَ الِاضْطِبَاعُ ، وَهَزُّ الْكَتِفَيْنِ ، وَهُوَ أَنْ يُدْخِلَ أَحَدَ جَانِبَيْ رِدَائِهِ تَحْتَ إبْطِهِ ، وَيُلْقِيه عَلَى الْمَنْكِبِ الْآخَرِ ، وَيَهُزُّ الْكَتِفَيْنِ فِي مَشْيِهِ كَالْمُبَارِزِ الَّذِي يَتَبَخْتَرُ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : لَا رَمَلَ فِي الطَّوَافِ ، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إظْهَارًا لِلْجَلَادَةِ لِلْمُشْرِكِينَ عَلَى مَا رُوِيَ { أَنَّ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ لَمَّا أَخْلَوْا لَهُ الْبَيْتَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَصَعِدُوا الْجَبَلَ طَافَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَصْحَابِهِ فَسَمِعَ بَعْضَ الْمُشْرِكِينَ يَقُولُ لِبَعْضٍ : أَضْنَاهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ ، فَاضْطَبَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِدَاءَهُ فَرَمَلَ فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ : رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً أَرَى مِنْ نَفْسِهِ قُوَّةً وَجَلَدًا } فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ لِإِظْهَارِ الْجَلَادَةِ يَوْمَئِذٍ ، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْآنَ فَلَا مَعْنَى لِلرَّمَلِ ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَنَا أَنَّ الرَّمَلَ سُنَّةٌ لِحَدِيثِ جَابِرٍ ، وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { طَافَ يَوْمَ النَّحْرِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَرَمَلَ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ ، وَلَمْ يَبْقَ الْمُشْرِكُونَ بِمَكَّةَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ } .
وَرُوِيَ { أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَرَادَ الرَّمَلَ فِي طَوَافِهِ فَقَالَ : عَلَامَ أَهُزُّ كَتِفَيَّ ، وَلَيْسَ هُنَا أَحَدٌ أُرَائِيه ، وَلَكِنَّنِي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ فَأَفْعَلُهُ اتِّبَاعًا لَهُ } .
وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّ سَبَبَهُ مَا
ذَكَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَكِنَّهُ صَارَ سُنَّةً بِذَلِكَ السَّبَبِ فَيَبْقَى بَعْدَ زَوَالِهِ كَرَمْيِ الْجِمَارِ سَبَبُهُ رَمْيُ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ ، ثُمَّ بَقِيَ بَعْدَ زَوَالِ ذَلِكَ السَّبَبِ ، وَالرَّمَلُ مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ عِنْدَنَا .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا رَمَلَ بَيْنَ الرُّكْنِ الْيَمَانِي وَالْحَجَرِ وَإِنَّمَا الرَّمَلُ مِنْ الْحَجَرِ إلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِي وَرُوِيَ فِي بَعْضِ الْآثَارِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَانَ يَرْمُلُ مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ إلَى الرُّكْنِ الْيَمَانِي ؛ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَطَّلِعُونَ عَلَيْهِ فَإِذَا تَحَوَّلَ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ حَالَ الْبَيْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فَكَانَ لَا يَرْمُلُ } .
وَبِهَذَا أَخَذَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَلَكِنَّا نَأْخُذُ بِحَدِيثِ جَابِرٍ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَلَ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ مِنْ الْحَجَرِ إلَى الْحَجَرِ } ( قَالَ ) وَإِنْ زَحَمَك النَّاسُ فِي رَمَلِكَ فَقُمْ فَإِذَا وَجَدْتَ مَسْلَكًا فَارْمُلْ ؛ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ إقَامَةُ السُّنَّةِ فِي الطَّوَافِ لِلزِّحَامِ فَلْيَصْبِرْ حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ إقَامَةِ السُّنَّةِ كَالْمَزْحُومِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ يَصْبِرُ حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ السُّجُودِ ، وَتَطُوفُ الْأَرْبَعَةَ الْأَشْوَاطَ الْأُخَرَ مَشْيًا عَلَى هِينَتِك عَلَى هَذَا اتَّفَقَ رُوَاةُ نُسُكِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكُلَّمَا مَرَرْت بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فِي طَوَافِك هَذَا فَاسْتَلِمْهُ إنْ اسْتَطَعْت مِنْ غَيْرِ أَنْ تُؤْذِيَ مُسْلِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَاسْتَقْبِلْهُ وَكَبِّرْ وَهَلِّلْ ؛ لِأَنَّ أَشْوَاطَ الطَّوَافِ كَرَكَعَاتِ الصَّلَوَاتِ فَكَمَا تَفْتَتِحُ كُلَّ رَكْعَةٍ تَقُومُ إلَيْهَا بِالتَّكْبِيرِ فَكَذَلِكَ تَفْتَتِحُ كُلَّ شَوْطٍ بِاسْتِلَامِ الْحَجَرِ ، وَإِنْ افْتَتَحَتْ بِهِ الطَّوَافَ ، وَخَتَمْتَهُ بِهِ أَجْزَأَكَ كَمَا فِي
الصَّلَوَاتِ فَتَرْكُ تَكْبِيرَاتِ الِانْتِقَالِ لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ فَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِتَرْكِ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ عِنْدَ افْتِتَاحِ كُلِّ شَوْطٍ فَإِذَا كَانَ افْتِتَاحُهُ لِلطَّوَافِ بِاسْتِلَامِ الْحَجَرِ ، وَخَتْمُهُ بِذَلِكَ فَفِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ يُجْعَلُ كَالْمُسْتَلِمِ حُكْمًا .
( قَالَ ) وَلْيَكُنْ طَوَافُك فِي كُلِّ شَوْطٍ وَرَاءَ الْحَطِيمِ .
وَالْحَطِيمُ : اسْمٌ لِمَوْضِعٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ فُرْجَةٌ يُسَمَّى الْمَوْضِعُ حَطِيمًا ، وَحَجَرًا فَتَسْمِيَتُهُ بِالْحَجَرِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ حَجَرٌ مِنْ الْبَيْتِ أَيْ مُنِعَ مِنْهُ ، وَتَسْمِيَتُهُ بِالْحَطِيمِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ مَحْطُومٌ مِنْ الْبَيْتِ أَيْ مَكْسُورٌ مِنْهُ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَالْقَتِيلِ بِمَعْنَى مَقْتُولٍ ، وَقِيلَ : بَلْ فَعِيلٌ بِمَعْنَى فَاعِلٍ أَيْ حَاطِمٍ كَالْعَلِيمِ بِمَعْنَى عَالِمٍ ، وَبَيَانُهُ فِيمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { مَنْ دَعَا عَلَى مَنْ ظَلَمَهُ فِيهِ حَطَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى } فَيَنْبَغِي لِمَنْ يَطُوفُ أَنْ لَا يَدْخُلَ فِي تِلْكَ الْفُرْجَةِ فِي طَوَافِهِ ، وَلَكِنَّهُ يَطُوفُ وَرَاءَ الْحَطِيمِ كَمَا يَطُوفُ وَرَاءَ الْبَيْتِ ؛ لِأَنَّ الْحَطِيمَ مِنْ الْبَيْتِ ، وَهَكَذَا رُوِيَ أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { نَذَرَتْ إنْ فَتَحَ اللَّهُ مَكَّةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُصَلِّيَ فِي الْبَيْتِ رَكْعَتَيْنِ فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهَا ، وَأَدْخَلَهَا الْحَطِيمَ ، وَقَالَ صَلِّي هُنَا فَإِنَّ الْحَطِيمَ مِنْ الْبَيْتِ إلَّا أَنَّ قَوْمَك قَصُرَتْ بِهِمْ النَّفَقَةُ فَأَخْرَجُوهُ مِنْ الْبَيْتِ ، وَلَوْلَا حِدْثَانُ عَهْدِ قَوْمِك بِالْجَاهِلِيَّةِ لَنَقَضْتُ بِنَاءَ الْكَعْبَةِ ، وَأَظْهَرَتْ قَوَاعِدَ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَأَدْخَلْتُ الْحَطِيمَ فِي الْبَيْتِ وَأَلْصَقْتُ الْعَتَبَةُ بِالْأَرْضِ ، وَجَعَلْتُ لَهَا بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا ، وَبَابًا غَرْبِيًّا ، وَلَئِنْ عِشْت إلَى قَابِلٍ لَا فَعَلْنَ ذَلِكَ فَلَمْ يَعِشْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } ، وَلَمْ يَتَفَرَّغْ لِذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ حَتَّى كَانَ زَمَنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَكَانَ سَمِعَ الْحَدِيثَ فِيهَا فَفَعَلَ ذَلِكَ ، وَأَظْهَرَ قَوَاعِدَ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَبَنَى الْبَيْتَ عَلَى قَوَاعِدِ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ
بِمَحْضَرٍ مِنْ النَّاسِ ، وَأَدْخَلَ الْحَطِيمَ فِي الْبَيْتِ فَلَمَّا قُتِلَ كَرِهَ الْحَجَّاجُ أَنْ يَكُونَ بِنَاءُ الْبَيْتِ عَلَى مَا فَعَلَهُ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَنَقَضَ بِنَاءَ الْكَعْبَةِ ، وَأَعَادَهُ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْحَطِيمَ مِنْ الْبَيْتِ فَالطَّوَافُ بِالْبَيْتِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَطُوفَ مِنْ وَرَاءِ الْحَطِيمِ وَلَا يُقَالُ لَوْ اسْتَقْبَلَ الْحَطِيمَ فِي الصَّلَاةِ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ ، وَلَوْ كَانَ الْحَطِيمُ مِنْ الْبَيْتِ لَجَازَتْ ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الْحَطِيمِ مِنْ الْبَيْتِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ، وَفَرْضِيَّةُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ بِالنَّصِّ فَلَا يَتَأَدَّى بِمَا ثَبَتَ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُحْتَاطُ فِي الطَّوَافِ وَالصَّلَاةِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يُوجِبُ الْعَمَلَ ، وَلَا يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ .
( قَالَ ) ثُمَّ ائْتِ الْمَقَامَ فَصَلِّ عِنْدَهُ رَكْعَتَيْنِ أَوْ حَيْثُمَا تَيَسَّرَ عَلَيْك مِنْ الْمَسْجِدِ هَكَذَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ طَوَافِهِ أَتَى الْمَقَامَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ } .
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ { يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ صَلَّيْت فِي مَقَامِ إبْرَاهِيمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { وَاِتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } فَصَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ } ، وَهَاتَانِ الرَّكْعَتَانِ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الطَّوَافِ وَاجِبٌ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ، وَلْيُصَلِّ الطَّائِفُ لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ } ، وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ ، وَلِأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَسِيَ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ حِينَ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ فَلَمَّا كَانَ بِذِي طُوًى صَلَّاهُمَا ، وَقَالَ رَكْعَتَانِ مَكَانَ رَكْعَتَيْنِ ، وَقَالَ أَوْ حَيْثُ تَيَسَّرَ عَلَيْك مِنْ الْمَسْجِدِ ، وَمُرَادُهُ أَنَّ الزِّحَامَ يَكْثُرُ عِنْدَ الْمَقَامِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَمَّلَ الْمَشَقَّةَ لِذَلِكَ ، وَلَكِنَّ الْمَسْجِدَ كُلَّهُ مَوْضِعُ الصَّلَاةِ فَيُصَلِّي حَيْثُ تَيَسَّرَ عَلَيْهِ .
( قَالَ ) فَإِذَا فَرَغْتَ مِنْهَا فَعُدْ إلَى الْحَجَرِ فَاسْتَلِمْهُ فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَاسْتَقْبِلْ وَهَلِّلْ وَكَبِّرْ وَالْأَصْلُ إنْ كَانَ كُلُّ طَوَافٍ بَعْدَهُ سَعْيٌ يَعُودُ إلَى اسْتِلَامِ الْحَجَرِ فِيهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ ، وَكُلُّ طَوَافٍ لَيْسَ بَعْدَهُ سَعْيٌ لَا يَعُودُ إلَى اسْتِلَامِ الْحَجَرِ فِيهِ بَعْدَ الصَّلَاةِ ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ سَعْيٌ عِبَادَةٌ قَدْ تَمَّ فَرَاغُهُ مِنْهَا حِينَ فَرَغَ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ فَلَا مَعْنَى لِلْعَوْدِ إلَى مَا بِهِ بَدْءُ الطَّوَافِ فَأَمَّا الطَّوَافُ الَّذِي بَعْدَهُ سَعْيٌ فَكَمَا يَفْتَتِحُ طَوَافَهُ بِاسْتِلَامِ الْحَجَرِ فَكَذَلِكَ السَّعْيُ يُفْتَتَحُ بِاسْتِلَامِ الْحَجَرِ فَلِهَذَا يَعُودُ إلَى الْحَجَرِ فَيَسْتَلِمُهُ
( قَالَ ) ثُمَّ اُخْرُجْ إلَى الصَّفَا فَمِنْ أَيِّ بَابٍ شَاءَ خَرَجَ إلَّا أَنَّ جَابِرًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَوَى { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ بَابِ بَنِي مَخْزُومٍ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِسُنَّةٍ } بَلْ إنَّمَا فَعَلَهُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَقْرَبَ الْأَبْوَابِ إلَى الصَّفَا فَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى الْآنَ بَابَ الصَّفَا فَإِذَا خَرَجَ بَدَأَ بِالصَّفَا لِمَا رُوِيَ { أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَيِّهِمَا نَبْدَأُ قَالَ ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ } يُرِيدُ قَوْله تَعَالَى { إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ .
} ( قَالَ ) وَقُمْ عَلَيْهَا مُسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةِ فَتَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى وَتُثْنِي عَلَيْهِ ، وَتُكَبِّرُ وَتُهَلِّلُ وَتُلَبِّي وَتُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَتَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى بِحَاجَتِك لِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَعِدَ الصَّفَا حَتَّى إذَا نَظَرَ إلَى الْبَيْتِ قَامَ مُسْتَقْبِلَ الْبَيْتِ يَدْعُو } .
وَرَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَعِدَ الصَّفَا اسْتَقْبَلَ الْبَيْتَ ، وَقَالَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ يَحْيَى وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ أَنْجَزَ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ ، ثُمَّ قَرَأَ مِقْدَارَ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ آيَةً مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ، ثُمَّ نَزَلَ وَجَعَلَ يَمْشِي نَحْوَ الْمَرْوَةِ فَلَمَّا انْتَصَبَتْ قَدَمَاهُ فِي بَطْنِ الْوَادِي حَتَّى الْتَوَى إزَارُهُ بِسَاقَيْهِ ، وَهُوَ يَقُولُ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَتَجَاوَزْ عَمَّا تَعْلَمُ إنَّك أَنْتَ الْأَعَزُّ الْأَكْرَمُ حَتَّى إذَا خَرَجَ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي مَشَى حَتَّى صَعِدَ الْمَرْوَةَ ، وَطَافَ بَيْنَهُمَا سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ ، ثُمَّ الصُّعُودُ عَلَى الصَّفَا لِيَصِيرَ الْبَيْتُ بِمَرْأَى الْعَيْنِ مِنْهُ } فَإِنَّمَا يَصْعَدُ بِقَدْرِ
مَا يَحْصُلُ بِهِ هَذَا الْمَقْصُودُ ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ كَانَ لِيَسْتَقْبِلَ الْبَيْتَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَسْتَقْبِلَهُ فَيَأْتِيَ بِالتَّحْمِيدِ وَالثَّنَاءِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ قَصْدَهُ أَنْ يَسْأَلَ حَاجَتَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَيَجْعَلَ الثَّنَاءَ مُقَدِّمَةَ دُعَائِهِ ، وَبَعْدَ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا يَفْعَلُهُ الدَّاعِي عِنْدَ خَتْمِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ ، ثُمَّ ذَكَرَ الدُّعَاءَ هُنَا ، وَلَمْ يَذْكُرْهُ عِنْدَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَالَةَ حَالُ ابْتِدَاءِ الْعِبَادَةِ ، وَهَذَا حَالُ خَتْمِ الْعِبَادَةِ فَإِنْ خَتَمَ الطَّوَافَ بِالسَّعْيِ يَكُونُ وَالدُّعَاءُ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعِبَادَةِ لَا عِنْدَ ابْتِدَائِهَا كَمَا فِي فَصْلِ الصَّلَاةِ .
( قَالَ ) ثُمَّ اهْبِطْ مِنْهَا نَحْوَ الْمَرْوَةِ وَامْشِ عَلَى هِينَتِك مَشْيًا حَتَّى تَأْتِيَ بَطْنَ الْوَادِي فَاسْعَ فِي بَطْنِ الْوَادِي سَعْيًا فَإِذَا خَرَجْتَ مِنْهُ تَمْشِي عَلَى هِينَتِك مَشْيًا حَتَّى تَأْتِيَ الْمَرْوَةَ فَتَصْعَدَ عَلَيْهَا ، وَتَقُومَ مُسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةِ فَتَحْمَدَ اللَّهَ تَعَالَى ، وَتُثْنِي عَلَيْهِ وَتُهَلِّلَ وَتُكَبِّرَ وَتُلَبِّي وَتُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ تَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى بِحَاجَتِك .
وَلِلنَّاسِ فِي أَصْلِ السَّعْيِ فِي بَطْنِ الْوَادِي كَلَامٌ فَقَدْ قِيلَ : بِأَنَّ أَصْلَهُ مِنْ فِعْلِ أُمِّ إسْمَاعِيلَ هَاجَرَ حِينَ كَانَتْ فِي طَلَبِ الْمَاءِ كُلَّمَا صَارَ الْجَبَلُ حَائِلًا بَيْنَهَا ، وَبَيْنَ النَّظَرِ إلَى وَلَدِهَا كَانَتْ تَسْعَى حَتَّى تَنْظُرَ إلَى وَلَدِهَا شَفَقَةً مِنْهَا عَلَى الْوَلَدِ فَصَارَ سُنَّةً ، وَالْأَصَحُّ أَنْ يُقَالَ فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نُسُكِهِ ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ أَنْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ فَنَفْعَلُهُ اتِّبَاعًا لَهُ ، وَلَا نَشْتَغِلُ بِطَلَبِ الْمَعْنَى فِيهِ كَمَا لَا نَشْتَغِلُ بِطَلَبِ الْمَعْنَى فِي تَقْدِيرِ الطَّوَافِ ، وَالسَّعْيِ
سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ .
( قَالَ ) فَطُفْ بَيْنَهُمَا هَكَذَا سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ تَبْدَأُ بِالصَّفَا ، وَتَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ ، وَتَسْعَى فِي بَطْنِ الْوَادِي فِي كُلِّ شَوْطٍ ، وَظَاهِرُ مَا قَالَهُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ ذَهَابَهُ مِنْ الصَّفَا إلَى الْمَرْوَةِ شَوْطٌ وَرُجُوعَهُ مِنْ الْمَرْوَةِ إلَى الصَّفَا شَوْطٌ آخَرُ ، وَالِيه أَشَارَ فِي قَوْلِهِ يَبْدَأُ بِالصَّفَا ، وَيَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَطُوفُ بَيْنَهُمَا سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ مِنْ الصَّفَا إلَى الصَّفَا ، وَهُوَ لَا يُعْتَبَرُ رُجُوعُهُ ، وَلَا يَجْعَلُ ذَلِكَ شَوْطًا آخَرَ .
وَالْأَصَحُّ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ ؛ لِأَنَّ رُوَاةَ نُسُكِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ طَافَ بَيْنَهُمَا سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ ، وَعَلَى مَا قَالَهُ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَصِيرُ أَرْبَعَةَ عَشَرَ شَوْطًا .
( قَالَ ) ثُمَّ تُقِيمُ بِمَكَّةَ حَرَامًا لَا تَحِلُّ مِنْهُ بِشَيْءٍ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَلَا يَتَحَلَّلُ مَا لَمْ يَأْتِ بِأَفْعَالِ الْحَجِّ .
( قَالَ ) وَتَطُوفُ بِالْبَيْتِ كُلَّمَا بَدَا لَك ، وَتُصَلِّي لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ فَإِنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ مُشَبَّهٌ بِالصَّلَوَاتِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّ فِيهِ الْمَنْطِقَ فَمَنْ نَطَقَ فَلَا يَنْطِقْ إلَّا بِخَيْرٍ ، وَالصَّلَاةُ خَيْرٌ مَوْضُوعٌ فَمَنْ شَاءَ اسْتَقَلَّ ، وَمَنْ شَاءَ اسْتَكْثَرَ } .
وَكَذَلِكَ الطَّوَافُ ، وَلَكِنَّهُ لَا يَسْعَى عَقِيبَ سَائِرِ الْأَطْوِفَةِ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ الْوَاحِدَ مِنْ الْوَاجِبَاتِ لِلْحَجِّ ، وَقَدْ أَتَى بِهِ فَلَوْ سَعَى بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ مُتَنَفِّلًا ، وَالتَّنَفُّلُ بِالسَّعْيِ غَيْرُ مَشْرُوعٍ
( قَالَ ) حَتَّى تَرُوحَ مَعَ النَّاسِ إلَى مِنًى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فَتَبِيتَ بِهَا لَيْلَةَ عَرَفَةَ وَتُصَلِّي بِهَا الْغَدَاةَ يَوْمَ عَرَفَةَ .
هَكَذَا رَوَى جَابِرٌ ، وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى الْفَجْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ بِمَكَّةَ فَلَمَّا طَلَعَتْ الشَّمْسُ رَاحَ إلَى مِنًى فَصَلَّى بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالْفَجْرَ يَوْمَ عَرَفَةَ ، ثُمَّ رَاحَ إلَى عَرَفَاتٍ } .
( قَالَ ) ثُمَّ تَغْدُو إلَى عَرَفَاتٍ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ جَبْرَائِيلَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ أَتَى إبْرَاهِيمَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فَأَمَرَهُ فَرَاحَ إلَى مِنًى ، وَبَاتَ بِهَا ، ثُمَّ غَدَا إلَى عَرَفَاتٍ .
( قَالَ ) وَتَنْزِلُ بِهَا مَعَ النَّاسِ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ النَّاسِ فَيَنْزِلُ حَيْثُ يَنْزِلُونَ ، وَمُرَادُهُ أَنَّهُ لَا يَنْزِلُ عَلَى الطَّرِيقِ كَيْ لَا يُضَيِّقَ عَلَى الْمَارَّةِ ، وَلَا يَتَأَذَّى هُوَ بِهِمْ
( قَالَ ) فَإِنْ صَلَّيْت الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ مَعَ الْإِمَامِ فَحَسَنٌ ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ كَمَا زَالَتْ الشَّمْسُ يَوْمَ عَرَفَةَ يُصَلِّي الْإِمَامُ بِالنَّاسِ الظُّهْرَ ، وَالْعَصْرَ بِعَرَفَاتٍ هَكَذَا رَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَدِيثِهِ قَالَ : { لَمَّا زَالَتْ الشَّمْسُ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ الظُّهْرَ ، وَالْعَصْرَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ } ، وَكَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ إلَى الْحَجَّاجِ أَنْ لَا يُخَالِفَ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْمَنَاسِكِ فَلَمَّا زَالَتْ الشَّمْسُ أَتَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُرَادِقَهُ فَقَالَ أَيْنَ هَذَا ؟ فَخَرَجَ الْحَجَّاجُ فَقَالَ إنْ أَرَدْت السُّنَّةَ فَالسَّاعَةَ ، فَقَالَ : انْتَظَرَنِي حَتَّى أَغْتَسِلَ ، فَانْتَظَرَهُ فَاغْتَسَلَ وَرَاحَ إلَى الْمُصَلَّى .
وَالِاغْتِسَالُ فِي هَذَا الْوَقْتِ بِعَرَفَاتٍ سُنَّةٌ فَإِنْ اكْتَفِي بِالْوُضُوءِ أَجْزَأَهُ ، وَإِنْ اغْتَسَلَ فَهُوَ أَفْضَلُ كَمَا عِنْدَ الْإِحْرَامِ ، وَكَمَا فِي الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَةِ ، ثُمَّ يَخْطُبُ قَبْلَ الصَّلَاةِ خُطْبَتَيْنِ بَيْنَهُمَا جِلْسَةٌ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ هَكَذَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَعْلِيمُ النَّاسِ الْمَنَاسِكَ ، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ مِنْ الْمَنَاسِكِ فَيُقَدِّمُ الْخُطْبَةَ عَلَيْهِ لِتَعْلِيمِ النَّاسِ .
وَلِأَنَّهُمْ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ يَتَفَرَّقُونَ فِي الْمَوْقِفِ وَلَا يَجْتَمِعُونَ لِاسْتِمَاعِ الْخُطْبَةِ .
وَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ إذَا صَعِدَ الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ فَجَلَسَ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ كَمَا فِي الْجُمُعَةِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يُؤَذِّنُ قَبْلَ خُرُوجِ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْأَذَانَ لِأَدَاءِ الظُّهْرِ كَمَا فِي سَائِرِ الْأَيَّامِ ، وَهَذَا قَوْلُهُ الْأَوَّلُ فَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْخُطْبَةِ أَقَامَ الْمُؤَذِّنُ ، وَصَلَّى الْإِمَامُ بِالنَّاسِ الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ إذَا كَانَ مُسَافِرًا ، ثُمَّ يَقُومُ الْمُؤَذِّنُ فَيَقُومُ ثَانِيَةً
فَيُصَلِّي بِهِمْ الْعَصْرَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَنَفَّلَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ هَكَذَا رَوَاهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي صِفَةِ نُسُكِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهَذَا لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْعَصْرِ عَلَى وَقْتِهِ لِيَتَوَصَّلَ إلَى الْوُقُوفِ الْمَقْصُودِ ، وَلِئَلَّا يَنْقَطِعَ وُقُوفُهُ فَلَأَنْ لَا يَشْتَغِلَ بِالنَّافِلَةِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ لِيَحْصُلَ هَذَا الْمَقْصُودُ أَوْلَى ، وَإِنَّمَا يُعِيدُ الْإِقَامَةَ لِلْعَصْرِ ؛ لِأَنَّهُ مُعَجَّلٌ عَلَى وَقْتِهِ الْمَعْهُودِ فَيُعِيدُ الْإِقَامَةَ لَهُ إعْلَامًا لِلنَّاسِ ، وَإِنْ اشْتَغَلَ بِالتَّطَوُّعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ أَعَادَ الْأَذَانَ لِلْعَصْرِ إلَّا فِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ قَالَ : مَادَامَ فِي وَقْتِ الظُّهْرِ لَا يُعِيدُ الْأَذَانَ لِلْعَصْرِ فَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَاشْتِغَالُهُ بِالنَّفْلِ أَوْ بِعَمَلٍ آخَرَ يَقْطَعُ فَوْرَ الْأَذَانِ الْأَوَّلِ فَيُعِيدُ الْأَذَانَ لِلْعَصْرِ .
( قَالَ ) وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْ الْجَمْعَ مَعَ الْإِمَامِ ، وَأَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ وَحْدَهُ صَلَّى كُلَّ صَلَاةٍ لِوَقْتِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا كَمَا يَفْعَلُ مَعَ الْإِمَامِ قَالَ فِي الْكِتَابِ بَلَغَنَا ذَلِكَ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَعَلَّلَ فَقَالَ ؛ لِأَنَّ الْعَصْرَ إنَّمَا قُدِّمَتْ لِأَجْلِ الْوَقْتِ .
وَمَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ إنَّمَا جَازَ لِحَاجَتِهِ إلَى امْتِدَادِ الْوُقُوفِ فَإِنَّ الْمَوْقِفَ هُبُوطٌ وَصُعُودٌ لَا يُمْكِنُ تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ فِيهَا فَيَحْتَاجُونَ إلَى الْخُرُوجِ مِنْهَا وَالِاجْتِمَاعِ لِصَلَاةِ الْعَصْرِ فَيَنْقَطِعُ وُقُوفُهُمْ ، وَامْتِدَادُ الْوُقُوفِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَاجِبٌ فَلِلْحَاجَةِ إلَى ذَلِكَ جَوَّزَ لَهُ الْجَمْعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ ، وَفِي هَذَا الْمُنْفَرِدِ وَاَلَّذِي يُصَلِّي مَعَ الْإِمَامِ سَوَاءٌ ، وَقَاسَ هَذَا الْجَمْعَ
بِالْجَمْعِ الثَّانِي بِالْمُزْدَلِفَةِ فَإِنَّ الْإِمَامَ فِيهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ بِالِاتِّفَاقِ ، وَهَذَا النُّسُكُ مُعْتَبَرٌ بِسَائِرِ الْمَنَاسِكِ فِي أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِمَامُ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { إنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا } أَيْ فَرْضًا مُؤَقَّتًا فَالْمُحَافَظَةُ عَلَى الْوَقْتِ فِي الصَّلَاةِ فَرْضٌ بِيَقِينٍ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُهُ إلَّا بِيَقِينٍ ، وَهُوَ الْمَوْضُوعُ الَّذِي وَرَدَ النَّصُّ بِهِ ، وَإِنَّمَا وَرَدَ النَّصُّ بِجَمْعِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ ، وَالْخُلَفَاءِ مِنْ بَعْدِهِ فَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ إلَّا بِتِلْكَ الصِّفَةِ ، وَكَأَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ هَذَا الْجَمْعَ مُخْتَصٌّ بِمَكَانٍ وَزَمَانٍ ، وَمِثْلُهُ لَا يَجُوزُ إلَّا بِإِمَامٍ كَإِقَامَةِ الْخُطْبَةِ مَقَامَ رَكْعَتَيْنِ فِي الْجُمُعَةِ لَمَّا كَانَ مُخْتَصًّا بِمَكَانٍ وَزَمَانٍ كَانَ الْإِمَامُ شَرْطًا فِيهِ بِخِلَافِ الْجَمْعِ الثَّانِي فَإِنَّهُ أَدَاءُ الْمَغْرِبِ فِي وَقْتِ الْعِشَاءِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِمَكَانٍ وَزَمَانٍ فَأَمَّا هَذَا تَعْجِيلُ الْعَصْرِ عَلَى وَقْتِهِ ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي هَذَا الْمَكَانِ ، وَهَذَا الزَّمَانِ ، ثُمَّ يُسَلِّمُ أَنَّ هَذَا الْجَمْعَ لِأَجْلِ الْوُقُوفِ ، وَلَكِنَّ الْحَاجَةَ إلَى الْجَمْعِ لِلْجَمَاعَةِ لَا لِلْمُنْفَرِدِ ؛ لِأَنَّ الْمُنْفَرِدَ يُمْكِنُ أَنْ يُصَلِّيَ الْعَصْرَ فِي وَقْتِهِ فِي مَوْضِعِ وُقُوفِهِ فَإِنَّ الْمُصَلِّيَ وَاقِفٌ فَلَا يَنْقَطِعُ وُقُوفُهُ بِالِاشْتِغَالِ بِالصَّلَاةِ ، وَإِنَّمَا يَحْتَاجُونَ إلَى الْخُرُوجِ لِتَسْوِيَةِ الصُّفُوفِ إذَا أَدَّوْهَا بِالْجَمَاعَةِ ، وَلِأَنَّهُ يَشُقُّ عَلَيْهِمْ الِاجْتِمَاعُ فَإِنَّهُمْ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ يَتَفَرَّقُونَ فِي الْمَوْقِفِ فَيَخْتَارُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَوْضُوعًا خَالِيًا يُنَاجِي فِيهِ رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ، وَهَذَا الْمَعْنَى يَنْعَدِمُ فِي حَقِّ الْمُنْفَرِدِ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَدَاءُ الْعَصْرِ فِي وَقْتِهِ فِي مَوْضِعِ خَلْوَتِهِ ، وَحَدِيثُ عَائِشَةَ
وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى الْإِمَامِ الْأَجَلِّ ، وَهُوَ الْخَلِيفَةُ ، أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، ثُمَّ يُعَارِضُهُ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُصَلِّي الْمُنْفَرِدُ كُلَّ صَلَاةٍ لِوَقْتِهَا
( قَالَ ) وَلَوْ فَاتَهُ الظُّهْرُ مَعَ الْإِمَامِ ، وَأَدْرَكَ الْعَصْرَ مَعَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَجْمَعْ بَيْنَهُمَا أَيْضًا ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ التَّغْيِيرَ إنَّمَا وَقَعَ فِي الْعَصْرِ فَإِنَّهَا مُعَجَّلَةٌ عَلَى وَقْتِهَا ، وَاشْتِرَاطُ الْإِمَامِ لِوُقُوعِ التَّغْيِيرِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَا وَقَعَ فِيهِ التَّغْيِيرُ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْعَصْرَ فِي هَذَا الْيَوْمِ كَالتَّبَعِ لِلظُّهْرِ ؛ لِأَنَّهُمَا صَلَاتَانِ أُدِّيَتَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ، الثَّانِيَةُ مِنْهُمَا مُرَتَّبَةٌ عَلَى الْأُولَى فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الْعِشَاءِ مَعَ الْوَتْرِ فَكَمَا أَنَّ الْوَتْرَ تَبَعٌ لِلْعِشَاءِ فَكَذَلِكَ الْعَصْرُ تَبَعٌ لِلظُّهْرِ هُنَا ، وَلَمَّا جُعِلَ الْإِمَامُ شَرْطًا فِي التَّبَعِ كَانَ شَرْطًا فِي الْأَصْلِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى ، وَدَلِيلُ التَّبَعِيَّةِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَصْرُ فِي هَذَا الْيَوْمِ إلَّا بَعْدَ صِحَّةِ أَدَاءِ الظُّهْرِ ، حَتَّى لَوْ تَبَيَّنَ فِي يَوْمِ الْغَيْمِ أَنَّهُمْ صَلَّوْا الظُّهْرَ قَبْلَ الزَّوَالِ ، وَالْعَصْرَ بَعْدَهُ لَزِمَهُمْ إعَادَةُ الصَّلَاتَيْنِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَدَّدَ الْوُضُوءَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ ، ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ بِغَيْرِ وُضُوءٍ لَزِمَهُ إعَادَةُ الصَّلَاتَيْنِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَيَّامِ .
وَعَلَى هَذَا الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ شَرْطٌ لِأَدَاءِ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ حَتَّى إنَّ الْحَلَالَ إذَا صَلَّى الظُّهْرَ مَعَ الْإِمَامِ ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَصَلَّى الْعَصْرَ ، وَالْمُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ صَلَّى الظُّهْرَ مَعَ الْإِمَامِ ، ثُمَّ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ فَصَلَّى الْعَصْرَ مَعَهُ لَمْ يُجْزِهِ الْعَصْرُ إلَّا فِي وَقْتِهَا ، وَعِنْدَ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُجْزِيه ، وَفِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يُشْتَرَطُ لِهَذَا الْجَمْعِ أَنْ يَكُونَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ قَبْلَ زَوَالِ الشَّمْسِ ؛ لِأَنَّ بِزَوَالِ الشَّمْسِ يَدْخُلُ وَقْتُ الْجَمْعِ ، وَيَخْتَصُّ بِهَذَا الْجَمْعِ الْمُحْرِمُ بِالْحَجِّ فَيُشْتَرَطُ تَقْدِيمُ الْإِحْرَامِ
بِالْحَجِّ عَلَى الزَّوَالِ وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى وَإِنْ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ الزَّوَالِ فَلَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ لَا لِأَجْلِ الْوَقْتِ فَإِذَا صَلَّى الْعَصْرَ رَاحَ إلَى الْمَوْقِفِ فَوَقَفَ بِهِ ، وَيَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ ، وَيُهَلِّلُ ، وَيُكَبِّرُ ، وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيُلَبِّي ، وَيَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى بِحَاجَتِهِ .
وَالْحَاصِلُ فِيهِ أَنَّهُ يَقِفُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ شَاءَ مِنْ الْمَوْقِفِ ، الْأَفْضَلُ أَنْ يَقِفَ بِالْقُرْبِ مِنْ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يُعَلِّمُ النَّاسَ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ ، وَيَدْعُو فَمَنْ كَانَ أَقْرَبَ إلَيْهِ كَانَ أَقْرَبَ إلَى الِاسْتِمَاعِ ، وَالتَّأْمِينِ عَلَى دُعَائِهِ فَيَكُونُ أَفْضَلَ
( قَالَ ) ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَقِفَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ إنْ شَاءَ رَاكِبًا ، وَإِنْ شَاءَ عَلَى قَدَمَيْهِ ، وَقَدْ ذَكَرَ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَدِيثِهِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَى رَاحِلَتِهِ ، وَجَعَلَ نَحْرَهَا إلَى بَطْنِ الْمِحْرَابِ فَوَقَفَ عَلَيْهَا مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ يَدْعُو } ، وَفِي الْحَدِيثِ { خَيْرُ الْمَوَاقِفِ مَا اسْتَقْبَلْت بِهِ الْقِبْلَةَ } ، وَإِنْ اخْتَارَ بِوُقُوفِهِ مَوْضِعًا آخَرَ بِالْبُعْدِ مِنْ الْإِمَامِ جَازَ لِحَدِيثِ عَطَاءٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ ، وَفِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا مَنْحَرٌ } .
وَفِي حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ ، وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ ، وَالْمُزْدَلِفَةِ كُلُّهَا مَوْقِفٌ ، وَارْتَفِعُوا عَنْ ، وَادِي مُحَسِّرٍ ، وَفِي وُقُوفِهِ يَدْعُو هَكَذَا } رَوَاهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { أَفْضَلُ دُعَائِي وَدُعَاءِ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلِي بِعَرَفَاتٍ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ .
.
.
إلَى آخِرِهِ ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ لِي فِي قَلْبِي نُورًا ، وَفِي سَمْعِي نُورًا وَفِي بَصَرِي نُورًا ، اللَّهُمَّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي ، وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي } .
حَدِيثٌ فِيهِ طُولٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَخْتَارُ مِنْ الدُّعَاءِ مَا يَشَاءُ وَاجْتَهَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّعَاءِ فِي هَذَا الْمَوْقِفِ لِأُمَّتِهِ فَاسْتُجِيبَ لَهُ إلَّا فِي الدِّمَاءِ وَالْمَظَالِمِ .
( قَالَ ) وَيُلَبِّي فِي هَذَا الْمَوْقِفِ عِنْدَنَا .
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْحَاجُّ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ كَمَا يَقِفُ بِعَرَفَةَ ؛ لِأَنَّ إجَابَتَهُ بِاللِّسَانِ إلَى أَنْ يَحْضُرَ ، وَقَدْ تَمَّ حُضُورُهُ فَإِنَّ مُعْظَمَ أَرْكَانِ الْحَجِّ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْحَجُّ عَرَفَةَ } .
وَلَكِنَّا
نَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّهُ لَبَّى عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : يَا شَيْخُ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَ التَّلْبِيَةِ فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَجَهِلَ النَّاسُ أَمْ طَالَ بِهِمْ الْعَهْدُ لَبَّيْكَ عَدَدَ التُّرَابِ لَبَّيْكَ حَجَجْت مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَا زَالَ يُلَبِّيَ حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ } ، وَلِأَنَّ التَّلْبِيَةَ فِي هَذِهِ الْعِبَادَةِ كَالتَّكْبِيرِ فِي الصَّلَوَاتِ ، وَكَمَا يَأْتِي بِالتَّكْبِيرِ إلَى آخِرِ الصَّلَاةِ فَكَذَلِكَ يَأْتِي بِالتَّلْبِيَةِ هُنَا إلَى وَقْتِ الْخُرُوجِ مِنْ الْإِحْرَامِ ، وَذَلِكَ عِنْدَ الرَّمْيِ يَكُونُ
( قَالَ ) وَإِذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ دَفَعَ عَلَى هِينَتِهِ عَلَى هَذَا اتَّفَقَ رُوَاةُ نُسُكِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَنَّهُ وَقَفَ بِعَرَفَةَ حَتَّى إذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ دَفَعَ مِنْهَا } .
وَرُوِيَ { أَنَّهُ خَطَبَ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ فَقَالَ : أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْأَوْثَانِ يَدْفَعُونَ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إذَا تَعَمَّمَتْ بِهَا رُءُوسُ الْجِبَالِ كَعَمَائِمِ الرِّجَالِ فِي وُجُوهِهِمْ ، وَإِنَّ هَدْيَنَا لَيْسَ كَهَدْيِهِمْ فَادْفَعُوا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ } فَقَدْ بَاشَرَ ذَلِكَ ، وَأَمَرَ بِهِ إظْهَارًا لِمُخَالَفَةِ الْمُشْرِكِينَ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُخَالِفَ ذَلِكَ إلَّا أَنَّهُ إنْ خَافَ الزِّحَامَ فَتَعَجَّلَ قَبْلَ الْإِمَامِ فَلَا بَأْسَ بِهِ إذَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْ حُدُودِ عَرَفَةَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، وَكَذَلِكَ إنْ مَكَثَ قَلِيلًا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ، وَذَهَابِ الْإِمَامِ مَعَ النَّاسِ لِخَوْفِ الزِّحَامِ فَلَا بَأْسَ بِهِ بَعْدَ أَنْ لَا يُطَوِّلَهُ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهَا بَعْدَ إفَاضَةِ الْإِمَامِ دَعَتْ بِشَرَابٍ فَأَفْطَرَتْ ، ثُمَّ أَفَاضَتْ .
( قَالَ ) وَيَمْشِي عَلَى هِينَتِهِ فِي الطَّرِيقِ هَكَذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيُّهَا النَّاسُ لَيْسَ الْبِرُّ فِي إيجَافِ الْخَيْلِ ، وَلَا فِي إيضَاعِ الْإِبِلِ ، عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ } .
وَرَوَى جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْشِي عَلَى رَاحِلَتِهِ فِي الطَّرِيقِ عَلَى هِينَتِهِ حَتَّى إذَا كَانَ فِي بَطْنِ الْوَادِي أَوْضَعَ رَاحِلَتَهُ وَجَعَلَ يَقُولُ : إلَيْك تَعْدُو قَلِقًا وَضِينُهَا مُفَارِقًا دَيْنَ النَّصَارَى دِينُهَا مُعْتَرِضًا فِي بَطْنِهَا جَنِينُهَا } فَزَعَمَ بَعْضُ النَّاسِ أَنَّ الْإِيضَاعَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ سُنَّةٌ ، وَلَسْنَا نَقُولُ بِهِ ، وَتَأْوِيلُهُ أَنَّ رَاحِلَتَهُ كَلَّتْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ فَبَعَثَهَا فَانْبَعَثَتْ كَمَا هُوَ عَادَةُ الدَّوَابِّ لَا أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ الْإِيضَاعَ
( قَالَ ) ، وَلَا يُصَلِّي الْمَغْرِبَ حَتَّى يَأْتِيَ الْمُزْدَلِفَةَ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَانَ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الطَّرِيقِ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ فَقَالَ : الصَّلَاةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الصَّلَاةُ أَمَامَك } ، وَمُرَادُهُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ إمَّا الْوَقْتُ أَوْ الْمَكَانُ ، وَلَمْ يُصَلِّ حَتَّى انْتَهَى إلَى الْمُزْدَلِفَةِ فَكَانَ ذَلِكَ دَلِيلًا ظَاهِرًا عَلَى أَنَّهُ لَا يَشْتَغِلُ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ الْإِتْيَانِ إلَى الْمُزْدَلِفَة فَإِذَا أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ نَزَلَ بِهَا مَعَ النَّاسِ ، وَإِنَّمَا يَنْزِلُ عَنْ يَمِينِ الطَّرِيقِ أَوْ عَنْ يَسَارِهِ ، وَيَتَحَرَّزُ عَنْ النُّزُولِ عَلَى الطَّرِيقِ كَيْ لَا يُضَيِّقَ عَلَى الْمَارَّةِ ، وَلَا يَتَأَذَّى هُوَ بِهِمْ { فَيُصَلِّي الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ ، وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ } ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِأَذَانٍ وَإِقَامَتَيْنِ .
هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَّا جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَيَرْوِي { أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَهُمَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ وَاحِدَةٍ } .
وَالْمُرَادُ بِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذَا أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ سَمَّى الْأَذَانَ إقَامَةً ، وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يُسَمَّى بِاسْمِ صَاحِبِهِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بَيْنَ كُلِّ أَذَانَيْنِ صَلَاةٌ لِمَنْ شَاءَ } .
يُرِيدُ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ ، ثُمَّ الْعِشَاءُ هُنَا مُؤَدَّاةٌ فِي وَقْتِهَا الْمَعْهُودِ فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى إفْرَادِ الْإِقَامَةِ لَهَا بِخِلَافِ الْعَصْرِ بِعَرَفَاتٍ فَإِنَّهَا مُعَجَّلَةٌ عَلَى وَقْتِهَا .
وَإِنْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْرَدَ الْإِقَامَةَ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ اشْتَغَلَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِنَفْلٍ أَوْ شُغْلٍ آخَرَ ، وَعِنْدَنَا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ تُفْرَدُ الْإِقَامَةُ لِلْعِشَاءِ ، وَقَدْ ذُكِرَ فِي بَعْضِ رِوَايَاتِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ أَنَّهُ تَعَشَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ ، ثُمَّ أَفْرَدَ الْإِقَامَةَ لِلْعِشَاءِ .
( قَالَ ) ثُمَّ يَبِيتُ بِهَا فَإِذَا انْشَقَّ الْفَجْرُ صَلَّى الْفَجْرَ بِغَلَسٍ .
هَكَذَا رَوَاهُ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَلَّى الْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ بُسِطَ لَهُ شَيْءٌ فَبَاتَ عَلَيْهِ فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ صَلَّى الْفَجْرَ } .
{ وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةً قَبْلَ مِيقَاتِهَا إلَّا صَلَاةَ الْفَجْرِ صَبِيحَةَ الْجَمْعِ فَإِنَّهُ صَلَّاهَا يَوْمَئِذٍ بِغَلَسٍ } ، وَلِأَنَّ الْإِسْفَارَ بِالْفَجْرِ وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ فَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ التَّغْلِيسُ أَفْضَلُ لِحَاجَتِهِ إلَى الْوُقُوفِ بَعْدَهُ ، وَفِي الْإِسْفَارِ بَعْضُ التَّأْخِيرِ فِي الْوُقُوفِ فَإِذَا كَانَ يَجُوزُ تَعْجِيلُ الْعَصْرِ عَلَى وَقْتِهَا لِلْحَاجَةِ إلَى الْوُقُوفِ بَعْدَهَا فَلَأَنْ يَجُوزَ التَّغْلِيسُ كَانَ أَوْلَى
( قَالَ ) ثُمَّ يَقِفُ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ مَعَ النَّاسِ يَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ ، وَيُهَلِّلُ ، وَيُكَبِّرُ ، وَيُلَبِّي ، وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى بِحَاجَتِهِ ، وَهَذَا الْوُقُوفُ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ ، وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَاتٍ مُشَارٌ إلَيْهِ فِي قَوْله تَعَالَى { فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ } الْآيَةَ ، وَقَدْ { وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَدْعُو حَتَّى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَأَيْت يَدَيْهِ عِنْدَ نَحْرِهِ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ، وَهُوَ يَدْعُو كَالْمُسْتَطْعِمِ الْمِسْكَيْنِ } ، وَإِنَّمَا تَمَّ مُرَادُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْمَوْقِفِ فَإِنَّهُ دَعَا لِأُمَّتِهِ فَاسْتُجِيبَ لَهُ فِي الدِّمَاءِ وَالْمَظَالِمِ أَيْضًا ، وَالنَّاسُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى هَذَا الْمَوْقِفِ مُخْتَلِفِينَ فِي الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَإِنَّ الْحُمْسَ كَانُوا لَا يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ ، وَيَقُولُونَ لَا يُعَظَّمُ غَيْرُ الْحَرَمِ حَتَّى { إنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا وَقَفَ بِعَرَفَةَ جَعَلَ النَّاسُ يَتَعَجَّبُونَ ، وَيَقُولُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ هَذَا مِنْ الْحُمْسِ فَمَا بَالَهُ خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ } فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَتْرُكَ الْوُقُوفَ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ حَتَّى إذَا أَسْفَرَ جِدًّا دَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ .
هَكَذَا رَوَاهُ جَابِرٌ ، وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ حَتَّى إذَا كَادَتْ الشَّمْسُ أَنْ تَطْلُعَ دَفَعَ إلَى مِنًى .
وَإِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا لَا يَدْفَعُونَ مِنْ هَذَا الْمَوْقِفِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَإِذَا طَلَعَتْ ، وَصَارَتْ كَعَمَائِمَ الرِّجَال عَلَى رُءُوسِ الْجِبَالِ دَفَعُوا ، وَكَانُوا يَقُولُونَ : أَشْرِقْ ثَبِيرُ كَيْمَا نُغِيرُ .
فَخَالَفَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَفَعَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ }
فَيَجِبُ الْأَخْذُ بِفِعْلِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ مُخَالَفَةِ الْمُشْرِكِينَ كَمَا فِي الدَّفْعِ مِنْ عَرَفَاتٍ فَإِذَا أَتَى مِنًى يَأْتِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ ، وَيَرْمِيهَا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَتَى مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ لَمْ يَعْرُجْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ ، وَقَالَ : أَوَّلُ نُسُكِنَا هُنَا بِمِنًى أَنْ نَرْمِيَ ، ثُمَّ نَذْبَحَ ، ثُمَّ نَحْلِقَ وَيَرْمِيهَا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي } لِمَا رُوِيَ { أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَفَ فِي بَطْنِ الْوَادِي فَرَمَى سَبْعَ حَصَيَاتٍ فَقِيلَ لَهُ : إنَّ نَاسًا يَرْمُونَهَا مِنْ فَوْقِهَا فَقَالَ : أَجَهِلَ النَّاسُ أَمْ نَسُوا هَذَا وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ } ، وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي ، وَقَالَ هَكَذَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَإِنَّمَا يَرْمِي مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنْ يُنَاوِلَهُ سَبْعَ حَصَيَاتٍ فَأَخَذَهُنَّ بِيَدِهِ ، وَجَعَلَ يَقُولُ لِلنَّاسِ : بِمِثْلِ هَذَا فَارْمُوا } .
وَفِي رِوَايَةٍ { عَلَيْكُمْ بِحَصَى الْخَذْفِ لَا يُؤْذِي بَعْضُكُمْ بَعْضًا } .
وَالْمَقْصُودُ اتِّبَاعُ سُنَّةِ الْخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، وَبِهَذَا الْقَدْرِ يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ فَلَوْ رَمَى بِأَكْبَرَ مِنْ حَصَى الْخَذْفِ رُبَّمَا يُصِيبُ إنْسَانًا فَيُؤْذِيه وَيُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ ، وَيَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ أَوَّلِ حَصَاةٍ يَرْمِي بِهَا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ أَمَّا قَطْعُ التَّلْبِيَةِ عِنْدَ الرَّمْيِ فَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهَكَذَا رَوَاهُ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ أَوَّلِ
حَصَاةٍ رَمَى بِهَا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ } .
أَمَّا التَّكْبِيرُ عِنْدَ كُلِّ حَصَاةٍ فَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
وَعَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ { أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ الرَّمْيَ وَقَفَ فِي بَطْنِ الْوَادِي وَجَعَلَ يَقُولُ عِنْدَ رَمْيِ كُلِّ حَصَاةٍ : بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُورًا وَذَنْبًا مَغْفُورًا وَسَعْيًا مَشْكُورًا } ، ثُمَّ قَالَ : هَكَذَا حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ عِنْدَ كُلِّ حَصَاةٍ مِثْلَ مَا قُلْت
( قَالَ ) وَابْتِدَاءُ وَقْتِ الرَّمْيِ عِنْدَنَا مِنْ وَقْتِ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ ، وَعَلَى قَوْلِ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ وَقْتِ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَجُوزُ الرَّمْيُ بَعْدَ النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنْ لَيْلَةِ النَّحْرِ ، وَاسْتَدَلَّ الثَّوْرِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ ، وَجَعَلَ يَلْطَحُ أَفْخَاذَهُمْ وَيَقُولُ أُغَيْلِمَةَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لَا تَرْمُوا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ } .
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ { أَنَّهُ لَمَّا قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ قَالَ أَيْ بَنِيَّ لَا تَرْمُوا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ إلَّا مُصْبِحِينَ } فَنَعْمَلُ بِالْحَدِيثَيْنِ جَمِيعًا فَنَقُولُ بَعْدَ الصُّبْحِ يَجُوزُ ، وَتَأْخِيرُهُ إلَى مَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْلَى ، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ لِلرُّعَاةِ أَنْ يَرْمُوا لَيْلًا } ، وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ عِنْدَنَا فِي اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ دُونَ الْأُولَى ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ دُخُولَ وَقْتِ الرَّمْيِ بِخُرُوجِ وَقْتِ الْوُقُوفِ إذْ لَا يَجْتَمِعُ الرَّمْيُ وَالْوُقُوفُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَوَقْتُ الْوُقُوفِ يَمْتَدُّ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ ، فَوَقْتُ الرَّمْيِ يَكُونُ بَعْدَهُ أَوْ وَقْتُ الرَّمْيِ هُوَ وَقْتُ التَّضْحِيَةِ ، وَإِنَّمَا يَدْخُلُ وَقْتُ التَّضْحِيَةِ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي فَكَذَلِكَ وَقْتُ الرَّمْيِ .
( قَالَ ) وَلَا يَرْمِي يَوْمَئِذٍ مِنْ الْجِمَارِ غَيْرَهَا لِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرْمِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ إلَّا جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ
( قَالَ ) وَلَا يَقُومُ عِنْدَهَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ أَعْمَالٌ يَحْتَاجُ إلَى أَدَائِهَا فِي هَذَا الْيَوْمِ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقُمْ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ، وَلَكِنَّهُ يَأْتِي مَنْزِلَهُ فَيَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ ، وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ أَوَانُ التَّحَلُّلِ عَنْ الْإِحْرَامِ ، وَالتَّحَلُّلُ بِالْحَلْقِ أَوْ بِالتَّقْصِيرِ كَمَا أَشَارَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلَيْهِ فِي قَوْلِهِ { ، ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ } وَقَضَاءُ التَّفَثِ بِالْحَلْقِ يَكُونُ .
وَرُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ذَبَحَ هَدَايَاهُ دَعَا بِالْحَلَّاقِ فَأَهْوَى إلَيْهِ الشِّقَّ الْأَيْمَنَ مِنْ رَأْسِهِ فَحَلَقَهُ ، وَقَسَّمَ شَعْرَهُ عَلَى أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، ثُمَّ حَلَقَ الشِّقَّ الْأَيْسَرَ وَأَعْطَى شَعْرَهُ أُمَّ سُلَيْمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا } ، وَلَمْ يَذْكُرْ الذَّبْحَ هُنَا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حُكْمِ الْمُفْرِدِ بِالْحَجِّ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ هَدْيٌ وَهُوَ مُسَافِرٌ أَيْضًا لَا تَلْزَمُهُ التَّضْحِيَةُ ، وَلَكِنَّهُ لَوْ تَطَوَّعَ بِذَبْحِ الْهَدْيِ فَهُوَ حَسَنٌ يَذْبَحُهُ بَعْدَ الرَّمْيِ قَبْلَ الْحَلْقِ لِمَا رَوَيْنَا أَنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا أَنْ نَرْمِيَ ، ثُمَّ نَذْبَحَ ، ثُمَّ نَحْلِقَ وَالْحَلْقُ أَفْضَلَ مِنْ التَّقْصِيرِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ بِهِ فِي كِتَابِهِ فِي قَوْلِهِ { مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ } وَقَالَ { وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ } فَهَذَا بَيَانٌ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَلَّلَ بِالْحَلْقِ .
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ فَقِيلَ : وَالْمُقَصِّرِينَ فَقَالَ : رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ حَتَّى قَالَ فِي الرَّابِعَةِ : وَالْمُقَصِّرِينَ } فَقَدْ ظَاهَرَ فِي هَذَا الدُّعَاءِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِلْمُحَلِّقِينَ فَدَلَّ أَنَّهُ أَفْضَلُ .
( قَالَ ) ثُمَّ قَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ إلَّا النِّسَاءَ فَالْحَاصِلُ أَنَّ فِي الْحَجِّ إحْلَالَيْنِ : أَحَدُهُمَا بِالْحَلْقِ ، وَالثَّانِي بِالطَّوَافِ .
فَبِالْحَلْقِ يَحِلُّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ كَانَ حَرَامًا عَلَى الْمُحْرِمِ إلَّا النِّسَاءَ ، وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ .
وَقَالَ اللَّيْثُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إلَّا النِّسَاءَ وَقَتْلَ الصَّيْدِ ؛ لِأَنَّهُمَا مُحَرَّمَانِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ فَلَا تَرْتَفِعُ حُرْمَتُهُمَا إلَّا بِتَمَامِ الْإِحْلَالِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ قَتْلُ الصَّيْدِ لَيْسَ نَظِيرَ الْجِمَاعِ أَلَّا يَرَى أَنَّ الْإِحْرَامَ يَفْسُدُ بِالْجِمَاعِ ، وَقَتْلَ الصَّيْدِ لَا يُفْسِدُهُ فَكَانَ هُوَ نَظِيرَ سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ يَرْتَفِعُ بِالْحَلْقِ وَمَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ اسْتِعْمَالُ الطِّيبِ مِنْ دَوَاعِي الْجِمَاعِ فَلَا يَحِلُّ إلَّا بِالطَّوَافِ كَنَفْسِ الْجِمَاعِ ، وَحُجَّتُنَا حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { كُنْت أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِإِحْرَامِهِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ } وَاسْتِعْمَالُ الطِّيبِ لَا يُفْسِدُ الْإِحْرَامَ بِحَالٍ بِخِلَافِ النِّسَاءِ فَكَانَ قِيَاسَ سَائِرِ الْمَحْظُورَاتِ .
وَلِهَذَا الْأَصْلِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حُرْمَةُ الْجِمَاعِ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ تَرْتَفِعُ بِالْحَلْقِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفْسِدُ الْإِحْرَامَ بِحَالٍ .
وَلَكِنَّا نَقُولُ مَا يُقْصَدُ مِنْهُ قَضَاءَ الشَّهْوَةِ بِالنِّسَاءِ فَحِلُّهُ مُؤَخَّرٌ أَيْضًا إلَى تَمَامِ الْإِحْلَالِ بِالطَّوَافِ شَرْعًا ، وَفِي ذَلِكَ الْجِمَاعُ فِي الْفَرْجِ ، وَفِيمَا بَعْدَ الْفَرْجِ سَوَاءٌ
( قَالَ ) ثُمَّ يَزُورُ مِنْ يَوْمِهِ ذَلِكَ الْبَيْتَ إنْ اسْتَطَاعَ أَوْ مِنْ الْغَدِ أَوْ مِنْ بَعْدِ الْغَدِ ، وَلَا يُؤَخِّرُهُ إلَى مَا بَعْدَ ذَلِكَ فَيَطُوفُ بِهِ أُسْبُوعًا ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا حَلَقَ أَفَاضَ إلَى مَكَّةَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ ، ثُمَّ عَادَ إلَى مِنًى ، وَصَلَّى الظُّهْرَ بِمِنًى } ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ { أَنَّهُ أَتَى بِمَكَّةَ لَيْلًا فَطَافَ } ، وَوَجْهُ التَّوْفِيقِ { أَنَّهُ فِي أَيَّامِ مِنًى كَانَ يَأْتِي مَكَّةَ بِاللَّيْلِ مُسْتَتِرًا فَيَطُوفُ ، فَمَنْ رَأَى ذَلِكَ مِنْهُ ظَنَّ أَنَّ طَوَافَهُ ذَلِكَ لِلزِّيَارَةِ } فَنَقَلَ كَمَا وَقَعَ عِنْدَهُ ، وَإِنَّمَا طَافَ لِلزِّيَارَةِ قَبْلَ الظُّهْرِ ، وَطَوَافُ الزِّيَارَةِ رُكْنُ الْحَجِّ ، وَهُوَ الْحَجُّ الْأَكْبَرُ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى { وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ } وَوَقْتُهُ أَيَّامُ النَّحْرِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُؤَخِّرَهُ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ ، وَالْأَفْضَلُ أَدَاؤُهُ فِي أَوَّلِ أَيَّامِ النَّحْرِ كَالتَّضْحِيَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ أَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا ، ثُمَّ لَمْ يَذْكُرْ السَّعْيَ } عَقِيبَ هَذَا الطَّوَافِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَعَى عَقِيبَ طَوَافِ التَّحِيَّةِ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي الْحَجِّ إلَّا سَعْيٌ وَاحِدٌ فَإِنْ قِيلَ : السَّعْيُ وَاجِبٌ أَوْ رُكْنٌ وَطَوَافُ التَّحِيَّةِ سُنَّةٌ فَكَيْفَ يَتَرَتَّبُ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَى مَا هُوَ سُنَّةٌ ؟ قُلْنَا : نَعَمْ لَكِنَّ الشَّرْعَ جَوَّزَ لَهُ أَدَاءَ هَذَا الْوَاجِبِ عَقِيبَ طَوَافٍ هُوَ سُنَّةٌ لِلتَّيْسِيرِ فَإِنَّ الطَّوَافَ الَّذِي هُوَ رُكْنٌ لَا يَجُوزُ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ ، وَفِي يَوْمِ النَّحْرِ عَلَى الْحَاجِّ أَعْمَالٌ كَثِيرَةٌ ، وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ السَّعْيِ فِي هَذَا الْيَوْمِ لَحِقَتْهُ الْمَشَقَّةُ فَلِلتَّيْسِيرِ جَوَّزَ لَهُ أَدَاءَ السَّعْيِ عَقِيبَ طَوَافِ التَّحِيَّةِ فَلَا يُعِيدُهُ يَوْمَ النَّحْرِ ، وَكَذَلِكَ لَا يَرْمُلُ فِي طَوَافِهِ يَوْمَ النَّحْرِ ؛ لِأَنَّ الرَّمَلَ سُنَّةُ
أَوَّلِ طَوَافٍ يَأْتِي بِهِ فِي الْحَجِّ فَقَدْ أَتَى بِهِ فِي طَوَافِ التَّحِيَّةِ فَلَا يُعِيدُهُ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ لَكِنَّهُ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ عَقِيبَ الطَّوَافِ ؛ لِأَنَّ خَتْمَ كُلِّ طَوَافٍ يَكُونُ بِرَكْعَتَيْنِ وَاجِبًا كَانَ الطَّوَافُ أَوْ نَفْلًا ، ثُمَّ قَدْ حَلَّ لَهُ النِّسَاءُ ؛ لِأَنَّهُ تَمَّ إحْلَالُهُ ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى مِنًى فَإِذَا كَانَ الْغَدُ يَوْمَ النَّحْرِ رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ بَعْدَ زَوَالِ الشَّمْسِ يَبْدَأُ بِاَلَّتِي تَلِي الْمَسْجِدَ فَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ ، ثُمَّ يَأْتِي الْمَقَامَ الَّذِي يَقُومُ فِيهِ النَّاسُ فَيَقُومُ فِيهِ فَيَحْمَدُ اللَّهَ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ ، وَيُثْنِي عَلَيْهِ ، وَيُهَلِّلُ ، وَيُكَبِّرُ ، وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيَدْعُو بِحَاجَتِهِ ، ثُمَّ يَأْتِي الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى فَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ كَذَلِكَ ، ثُمَّ يَقُومُ حَيْثُ يَقُومُ النَّاسُ فَيَصْنَعُ فِي قِيَامِهِ كَمَا صَنَعَ فِي الْأَوَّلِ ، ثُمَّ يَأْتِي جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَيَرْمِيهَا مِنْ بَطْنِ الْوَادِي بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ ، وَيُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ ، وَلَا يُقِيمُ عِنْدَهَا .
هَكَذَا رَوَاهُ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مُفَسِّرًا فِيمَا نَقَلَ مِنْ نُسُكِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْحَدِيثُ الْمَشْهُورُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { لَا تُرْفَعُ الْأَيْدِي إلَّا فِي سَبْعَةِ مَوَاطِنَ : عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ ، وَعِنْدَ الْقُنُوتِ فِي الْوَتْرِ ، وَفِي الْعِيدَيْنِ ، وَعِنْدَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ ، وَعَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَبِعَرَفَاتٍ } ، وَبِجَمْعٍ عِنْدَ الْمَقَامَيْنِ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يُقِيمُ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ الْأُولَى ، وَالْوُسْطَى ، وَلَا يُقِيمُ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ ، وَالْمُرَادُ مِنْ رَفْعِ الْيَدَيْنِ الرَّفْعُ لِلدُّعَاءِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الدُّعَاءَ عِنْدَ الْمَقَامَيْنِ ، وَيَنْبَغِي لِلْحَاجِّ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ فِي دُعَائِهِ فِي هَذَا الْمَوْقِفِ قَالَ
النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْحَاجِّ ، وَلِمَنْ اسْتَغْفَرَ لَهُ الْحَاجُّ } ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ رَمْيٍ بَعْدَهُ رَمْيٌ فَحَالُ الْفَرَاغُ مِنْهُ حَالُ وَسَطِ الْعِبَادَةِ فَيَأْتِي بِالدُّعَاءِ فِيهِ ، وَكُلُّ رَمْيٍ لَيْسَ بَعْدَهُ رَمْيٌ فَبِالْفَرَاغِ مِنْهُ قَدْ فَرَغَ مِنْ الْعِبَادَةِ فَلَا يُقِيمُ بَعْدَهُ لِلدُّعَاءِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْكِتَابُ أَنَّ الرَّمْيَ مَاشِيًا أَفْضَلُ أَمْ رَاكِبًا ، وَحُكِيَ عَنْ إبْرَاهِيمَ الْجَرَّاحِ قَالَ دَخَلْتُ عَلَى أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَفَتَحَ عَيْنَيْهِ وَقَالَ : الرَّمْيُ رَاكِبًا أَفْضَلُ أَمْ مَاشِيًا ؟ فَقُلْت : مَاشِيًا فَقَالَ : أَخْطَأْتَ فَقُلْت : رَاكِبًا فَقَالَ : أَخْطَأْتَ ، ثُمَّ قَالَ : كُلُّ رَمْيٍ كَانَ بَعْدَهُ وُقُوفٌ فَالرَّمْيُ فِيهِ مَاشِيًا أَفْضَلُ ، وَمَا لَيْسَ بَعْدَهُ وُقُوفٌ فَالرَّمْيُ رَاكِبًا أَفْضَلُ ، فَقُمْت مِنْ عِنْدَهُ فَمَا انْتَهَيْت إلَى بَابِ الدَّارِ حَتَّى سَمِعْتُ الصُّرَاخَ لِمَوْتِهِ فَتَعَجَّبْتُ مِنْ حِرْصِهِ عَلَى الْعِلْمِ فِي مِثْلِ تِلْكَ الْحَالَةِ .
وَاَلَّذِي رَوَاهُ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَمَى الْجِمَارَ كُلَّهَا رَاكِبًا } إنَّمَا فَعَلَهُ لِيَكُونَ أَشْهَرَ لِلنَّاسِ حَتَّى يَقْتَدُوا بِهِ فِيمَا يُشَاهِدُونَ مِنْهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ : { خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ فَلَا أَدْرِي لَعَلِّي لَا أَحُجُّ بَعْدَ هَذَا الْعَامِ فَإِذَا كَانَ مِنْ الْغَدِ رَمَى الْجِمَارَ الثَّلَاثَ حِينَ تَزُولُ الشَّمْسُ كَذَلِكَ ، ثُمَّ يَنْفِرُ إنْ أَحَبَّ مِنْ يَوْمِهِ فَإِنْ أَقَامَ إلَى الْغَدِ ، وَهُوَ آخِرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، فَعَلَ كَمَا فَعَلَ بِالْأَمْسِ } لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ } .
( قَالَ ) وَقَدْ كَانَ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَنْفِرَ قَبْلَ أَنْ يُقَدِّمَ ثِقَلَهُ لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَمْنَعُ النَّاسَ مِنْهُ ، وَيُؤَدِّبُ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ شَغَلَ قَلْبَهُ بِهِمْ إذْ
قَدَّمَهُمْ قَبْلَهُ وَرُبَّمَا يَمْنَعُهُ شُغْلُ الْقَلْبِ مِنْ إتْمَامِ سُنَّةِ الرَّمْيِ ، وَلَا يَأْمَنُ أَنْ يَضِيعَ شَيْءٌ مِنْ أَمْتِعَتِهِمْ ، فَلِهَذَا كَرِهَ لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ ثِقَلَهُ .
( قَالَ ) ثُمَّ يَأْتِي الْأَبْطَحَ فَيَنْزِلُ بِهِ سَاعَةً ، وَهَذَا اسْمُ مَوْضِعٍ { قَدْ نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ انْصَرَفَ مِنْ مِنًى إلَى مَكَّةَ يُسَمَّى الْمُحَصَّبَ وَالْأَبْطَحَ ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ : لَيْسَ النُّزُولُ فِيهِ بِسُنَّةٍ وَلَكِنَّهُ مَوْضِعٌ نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } اتِّفَاقًا ، وَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا أَنَّهُ سُنَّةٌ ، وَإِنَّمَا نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَصْدًا عَلَى مَا رَوَى أَنَّهُ { قَالَ لِأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِمِنًى إنَّا نَازِلُونَ غَدًا بِالْخَيْفِ خَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمَ الْمُشْرِكُونَ فِيهِ عَلَى شِرْكِهِمْ يُرِيدُ بِهِ الْإِشَارَةَ إلَى عَهْدِ الْمُشْرِكِينَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ هِجْرَانَ بَنِي هَاشِمٍ } فَعَرَفْنَا أَنَّهُ نُزُولُهُ إرَاءَةٌ لِلْمُشْرِكَيْنِ لَطِيفَ صُنْعِ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ فَيَكُونُ النُّزُولُ فِيهِ سُنَّةٌ بِمَنْزِلَةِ الرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ
( قَالَ ) ثُمَّ يَطُوفُ طَوَافَ الصَّدَرِ ، وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلْيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ } وَرَخَّصَ لِلنِّسَاءِ الْحُيَّضِ ، وَيُسَمَّى هَذَا الطَّوَافُ طَوَافَ الْوَدَاعِ ، وَطَوَافَ الصَّدَرِ ؛ لِأَنَّهُ يُوَدِّعُ بِهِ الْبَيْتَ ، وَيَصْدُرُ بِهِ عَنْ الْبَيْتِ .
( قَالَ ) ثُمَّ يَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ ، وَقَدْ قَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَأْتِيَ الْبَابَ وَيُقَبِّلَ الْعَتَبَةَ ، وَيَأْتِيَ الْمُلْتَزَمَ فَيَلْتَزِمَهُ سَاعَةً يَبْكِي ، وَيَتَشَبَّثَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ وَيُلْصِقَ جَسَدَهُ بِالْجِدَارِ إنْ تَمَكَّنَ ، ثُمَّ يَأْتِيَ زَمْزَمَ فَيَشْرَبَ مِنْ مَائِهِ ثُمَّ يَصُبَّ مِنْهُ عَلَى بَدَنِهِ ، ثُمَّ يَنْصَرِفَ ، وَهُوَ يَمْشِي وَرَاءَهُ وَوَجْهُهُ إلَى الْبَيْتِ مُتَبَاكِيًا مُتَحَسِّرًا عَلَى فَوَاتِ الْبَيْتِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الْمَسْجِدِ .
فَهَذَا بَيَانُ تَمَامِ الْحَجِّ الَّذِي أَرَادَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ { مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ } ، وَقَالَ : { الْعُمْرَةُ إلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا ، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلَّا الْجَنَّةُ }
( قَالَ ) وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَتَى مَكَّةَ لِطَوَافِ الزِّيَارَةِ بَاتَ بِهَا فَنَامَ مُتَعَمِّدًا أَوْ فِي الطَّرِيقِ فَقَدْ أَسَاءَ ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ إلَّا الْإِسَاءَةُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يُؤَدِّبُ النَّاسَ عَلَى تَرْكِ الْمُقَامِ بِمِنًى فِي لَيَالِي الرَّمْيِ ، وَلَكِنْ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إنْ تَرَكَ الْبَيْتُوتَةَ لَيْلَةً فَعَلَيْهِ مُدٌّ ، وَإِنْ تَرَكَ لَيْلَتَيْنِ فَعَلَيْهِ مُدَّانِ ، وَإِنْ تَرَكَ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَقَاسَ تَرْكَ الْبَيْتُوتَةِ فِي وُجُوبِ الْجَزَاءِ بِهِ بِتَرْكِ الرَّمْيِ ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ الْعَبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَيْتُوتَةِ بِمَكَّةَ فِي لَيَالِي الرَّمْيِ لِأَجْلِ السِّقَايَةِ فَأَذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ } ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ وَاجِبًا مَا رَخَّصَ لَهُ فِي تَرْكِهِ لِأَجْلِ السِّقَايَةِ ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْبَيْتُوتَةَ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ بَلْ هِيَ تَبَعٌ لِلرَّمْيِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَتَرْكُهَا لَا يُوجِبُ إلَّا الْإِسَاءَةَ كَالْبَيْتُوتَةِ بِمُزْدَلِفَةَ لَيْلَةَ يَوْمِ النَّحْرِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
( بَابُ الْقِرَانِ ) ( قَالَ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَنْ أَرَادَ الْقِرَانَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ ( وَالْكَلَامُ هُنَا فِي فُصُولٍ ) أَحَدُهَا فِي تَفْسِيرِ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ وَالْإِفْرَادِ : فَالْقِرَانُ هُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِأَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا أَوْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ بَعْدَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ قَبْلَ أَدَاءِ الْأَعْمَالِ مِنْ قَوْلِهِمْ قَرَنَ الشَّيْءَ إذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا ، وَالتَّمَتُّعُ هُوَ التَّرَفُّقُ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلِمَّ بَيْنَهُمَا بِأَهْلِهِ إلْمَامًا صَحِيحًا ، وَالْإِفْرَادُ بِالْحَجِّ أَنْ يَحُجَّ أَوَّلًا ، ثُمَّ يَعْتَمِرُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْحَجِّ أَوْ يُؤَدِّي كُلَّ نُسُكٍ فِي السَّفَرِ عَلَى حِدَةٍ أَوْ يَكُونُ أَدَاءُ الْعُمْرَةِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ
( وَالْفَصْلُ الثَّانِي ) فِي بَيَانِ الْأَفْضَلِ فَعِنْدَنَا الْأَفْضَلُ هُوَ الْقِرَانُ ، ثُمَّ بَعْدَهُ التَّمَتُّعُ ، وَعَلَى رِوَايَةِ ابْنِ شُجَاعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْإِفْرَادُ أَفْضَلُ مِنْ التَّمَتُّعِ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ حَجَّةٌ كُوفِيَّةٌ ، وَعُمْرَةٌ كُوفِيَّةٌ أَفْضَلُ عِنْدِي مِنْ الْقِرَانِ ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْإِفْرَادُ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَانِ ، وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى التَّمَتُّعُ أَفْضَلُ مِنْ الْقِرَانِ فَالشَّافِعِيُّ اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُفْرِدًا بِالْحَجِّ ، وَأَنَا مِمَّنْ كُنْت أُفْرِدُ } ، وَهَكَذَا رَوَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُفْرِدًا بِالْحَجِّ ، وَإِنَّمَا حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ مَرَّةً فَمَا كَانَ يَتْرُكُ مَا هُوَ الْأَفْضَلُ فِيمَا يُؤَدِّيه مَرَّةً وَاحِدَةً } ، وَلِأَنَّ الْقِرَانَ رُخْصَةٌ كَمَا { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إنَّمَا أَجْرُكِ عَلَى قَدْرِ تَعَبِكِ وَنَصَبِكِ } ، وَإِنَّمَا الْقِرَانُ رُخْصَةٌ ، وَالْإِفْرَادُ عَزِيمَةٌ ، وَالتَّمَسُّكُ بِالْعَزِيمَةِ خَيْرٌ مِنْ التَّمَسُّكِ بِالرُّخْصَةِ ، وَلِأَنَّ فِي الْإِفْرَادِ زِيَادَةَ الْإِحْرَامِ ، وَالسَّعْيِ وَالْحَلْقِ فَإِنَّ الْقَارِنَ يُؤَدِّي النُّسُكَيْنِ بِسَفَرٍ وَاحِدٍ ، وَيُلَبِّي لَهُمَا تَلْبِيَةً وَاحِدَةً ، وَيَحْلِقُ لَهُمَا حَلْقًا وَاحِدًا ، وَلِأَجْلِ هَذَا النُّقْصَانِ يَجِبُ عَلَيْهِ الدَّمُ جَبْرًا ، وَالْمُفْرِدُ يُؤَدِّي كُلَّ نُسُكٍ بِصِفَةِ الْكَمَالِ ، وَأَدَاءُ النُّسُكِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ يَكُونُ أَفْضَلَ مِنْ إدْخَالِ النُّقْصَانِ وَالْجَبْرِ فِيهَا وَمَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ } ،
وَعُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلُّوا بِحَدِيثِ عَلِيٍّ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَعِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَنَ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَطَافَ لَهُمَا طَوَافَيْنِ وَسَعَى سَعْيَيْنِ } .
وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ : { كُنْت آخُذُ بِزِمَامِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ تَقْصَعُ بِجَرَّتِهَا ، وَلُعَابُهَا يَسِيلُ عَلَى كَتِفِي ، وَهُوَ يَقُولُ لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا } ، وَأَهْلُ الْحَدِيثِ جَمَعُوا رُوَاةَ نُسُكِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانُوا ثَلَاثِينَ نَفَرًا فَعَشَرَةٌ مِنْهُمْ تَرْوِي أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا ، وَعَشَرَةٌ أَنَّهُ كَانَ مُفْرِدًا ، وَعَشَرَةٌ أَنَّهُ كَانَ مُتَمَتِّعًا فَنُوَفِّقُ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ فَنَقُولُ { لَبَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَّلًا بِالْعُمْرَةِ فَسَمِعَهُ بَعْضُ النَّاسِ ، ثُمَّ رَأَوْهُ بَعْدَ ذَلِكَ حَجَّ فَظَنُّوا أَنَّهُ كَانَ مُتَمَتِّعًا فَنَقَلُوا كَمَا وَقَعَ عِنْدَهُمْ ، ثُمَّ لَبَّى بَعْدَ ذَلِكَ بِالْحَجِّ فَسَمِعَهُ قَوْمٌ آخَرُونَ فَظَنُّوا أَنَّهُ كَانَ مُفْرِدًا بِالْحَجِّ ، ثُمَّ لَبَّى بِهِمَا فَسَمِعَهُ قَوْمٌ آخَرُونَ فَعَلِمُوا أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا } ، وَكُلٌّ نَقَلَ مَا وَقَعَ عِنْدَهُ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا رَوَيْنَا مِنْ تَوْفِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ فِي وَقْتِ تَلْبِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ لَمَّا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي فِعْلِهِ نَصِيرُ إلَى قَوْلِهِ ، وَقَدْ { قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَأَتَانِي آتٍ مِنْ رَبِّي ، وَأَنَا بِالْعَقِيقِ فَقَالَ : صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ رَكْعَتَيْنِ ، وَقُلْ لَبَّيْكَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا آلَ مُحَمَّدٍ أَهِّلُوا بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا } ، وَلِأَنَّ فِي الْقِرَانِ مَعْنَى الْوَصْلِ وَالتَّتَابُعِ فِي الْعِبَادَةِ .
وَمَعْنَى الْجَمْعِ بَيْنَ
الْعِبَادَتَيْنِ ، وَهُوَ أَفْضَلُ مِنْ إفْرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالِاعْتِكَافِ وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْحِرَاسَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ صَلَوَاتِ اللَّيْلِ ، وَلِأَنَّ فِي الْقِرَانِ زِيَادَةَ نُسُكٍ ، وَهُوَ إرَاقَةُ دَمِ الْهَدْيِ ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَفْضَلُ الْحَجِّ الْعَجُّ وَالثَّجُّ } وَالثَّجُّ إرَاقَةُ الدَّمِ .
وَالْكَلَامُ فِي الْحَقِيقَةِ يَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْحَرْفِ فَإِنَّ دَمَ الْقِرَانِ عِنْدَهُ دَمُ جَبْرٍ حَتَّى لَا يُبَاحَ التَّنَاوُلُ مِنْهُ ، وَعِنْدَنَا هُوَ دَمُ نُسُكٍ يُبَاحُ التَّنَاوُلُ مِنْهُ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ بِأَيَّامِ النَّحْرِ كَالْأُضْحِيَّةِ ، وَدَمُ الْجَبْرِ لَا يَتَوَقَّتُ بِهِ ، وَإِنَّ سَبَبَهُ مُبَاحٌ مَحْضٌ ، وَدَمُ الْجَبْرِ يَسْتَدْعِي سَبَبًا مَحْظُورًا ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ بِارْتِكَابِ مَا لَا يَحِلُّ ، وَقَدْ تَنَاوَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَدَايَاهُ عَلَى مَا رُوِيَ { أَنَّهُ سَاقَ مِائَةَ بَدَنَةٍ فَنَحَرَ نَيِّفًا وَسِتِّينَ بِنَفْسِهِ ، وَوَلَّى الْبَاقِيَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، ثُمَّ أَمَرَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ قِطْعَةٌ فَتُطْبَخَ لَهُ فَأَكَلَ مِنْ لَحْمِهَا ، وَحَسَا مِنْ مَرَقِهَا } ، وَقَدْ صَحَّ عِنْدَنَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَارِنًا فَدَلَّ أَنَّ دَمَ الْقِرَانِ يُبَاحُ التَّنَاوُلُ مِنْهُ وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ دَمُ نُسُكٍ فَمَا يَكُونُ فِيهِ زِيَادَةُ نُسُكٍ فَهُوَ أَفْضَلُ ، وَلِهَذَا جَعَلَ التَّمَتُّعَ أَفْضَلَ مِنْ الْإِفْرَادِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ زِيَادَةَ نُسُكٍ إلَّا أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ التَّعْجِيلِ بِالْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ ، وَاسْتِدَامَةِ إحْرَامِهِمَا مِنْ الْمِيقَاتِ إلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْهُمَا ، وَفِي حَقِّ التَّمَتُّعِ الْعُمْرَةُ مِيقَاتِيَّةٌ ، وَالْحَجَّةُ مَكِّيَّةٌ ، وَعَلَى رِوَايَةِ ابْنِ شُجَاعٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْإِفْرَادُ أَفْضَلُ مِنْ التَّمَتُّعِ لِهَذَا الْمَعْنَى أَنَّ حَجَّةَ
الْمُتَمَتِّعِ مَكِّيَّةٌ يُحْرِمُ بِهَا مِنْ الْحَرَمِ ، وَالْمُفْرِدُ يُحْرِمُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْحِلِّ ، وَلِهَذَا جَعَلَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْإِفْرَادَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْكُوفَةِ أَفْضَلَ ؛ لِأَنَّهُ يُنْشِئُ سَفَرًا مَقْصُودًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَهَى النَّاسَ عَنْ الْمُتْعَةِ فَقَالَ : مُتْعَتَانِ كَانَتَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَنَا أَنْهَى النَّاسَ عَنْهُمَا مُتْعَةُ النِّسَاءِ وَمُتْعَةُ الْحَجِّ ، وَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ كَرِهَ أَنْ يَخْلُوَ الْبَيْتُ عَنْ الزُّوَّارِ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَعْتَمِرُوا بِسَفَرٍ مَقْصُودٍ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ كَيْ لَا يَخْلُوَ الْبَيْتُ مِنْ الزُّوَّارِ فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ لَا أَنْ يَكُونَ التَّمَتُّعُ مَكْرُوهًا عِنْدَهُ بِدَلِيلِ حَدِيثِ الصُّبَيّ بْنِ مَعْبَدٍ قَالَ : كُنْت امْرَأً نَصْرَانِيًّا فَأَسْلَمْتُ فَوَجَدْتُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ وَاجِبَتَيْنِ عَلَيَّ فَقَرَنْتُ بَيْنَهُمَا فَلَقِيتُ نَفَرًا مِنْ الصَّحَابَةِ فِيهِمْ زَيْدُ بْنُ صُوحَانَ ، وَسَلْمَانُ بْنُ رَبِيعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ : هُوَ أَضَلُّ مِنْ بَعِيرِهِ فَلَقِيتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ فَقَالَ : مَا قَالَا لَيْسَ بِشَيْءٍ هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ مَنْ أَرَادَ الْقِرَانَ فَتَأَهُّبُهُ لِلْإِحْرَامِ كَتَأَهُّبِ الْمُفْرِدِ عَلَى مَا بَيَّنَّا إلَّا أَنَّهُ فِي دُعَائِهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ يَقُولُ : اللَّهُمَّ إنِّي أُرِيدُ الْعُمْرَةَ وَالْحَجَّ .
وَكَذَلِكَ يُلَبِّي بِهِمَا وَيَقُولُ : لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ مَعًا ، وَإِنَّمَا يُقَدِّمُ ذِكْرَ الْعُمْرَةِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَهَا فِي قَوْله تَعَالَى { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ } وَلِأَنَّهُ فِي أَدَاءِ الْأَفْعَالِ يَبْدَأُ بِالْعُمْرَةِ فَكَذَلِكَ فِي الْإِحْرَامِ يَبْدَأُ فِي التَّلْبِيَةِ بِذِكْرِ
الْعُمْرَةِ ، وَإِنْ اكْتَفَى بِالنِّيَّةِ ، وَلَمْ يَذْكُرْهُمَا فِي التَّلْبِيَةِ أَجْزَأَهُ عَلَى قِيَاسِ الصَّلَاةِ إذَا نَوَى بِقَلْبِهِ الصَّلَاةَ وَكَبَّرَ
( قَالَ ) ثُمَّ يَبْدَأُ إذَا دَخَلَ مَكَّةَ بِطَوَافِ الْعُمْرَةِ بِالْبَيْتِ ، وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ عَلَى نَحْوِ مَا وَصَفْنَا فِي الْحَجِّ ثُمَّ يَطُوفُ لِلْحَجِّ بِالْبَيْتِ ، وَيَسْعَى لَهُ بَيْنَ الصَّفَا ، وَالْمَرْوَةِ ، وَهَذَا عِنْدَنَا أَنَّ الْقَارِنَ يَطُوفُ طَوَافَيْنِ ، وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَطُوفُ طَوَافًا وَاحِدًا ، وَيَسْعَى سَعْيًا وَاحِدًا ، وَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ لِحَجَّتِهِ ، وَعُمْرَتِهِ طَوَافًا وَاحِدًا ، وَسَعَى سَعْيًا وَاحِدًا } هَكَذَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ ، وَهُوَ مِنْهُ تَنَاقُضٌ بَيِّنٌ فَإِنَّهُ رَوَى عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُفْرِدًا ، ثُمَّ رَوَى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ كَانَ قَارِنًا ، وَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا .
وَرُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا طَوَافُكِ بِالْبَيْتِ يَكْفِيكِ لِحَجِّكِ وَلِعُمْرَتِكِ } { ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَتْ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجَّةِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } .
وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ مَبْنَى الْقِرَانِ عَلَى التَّدَاخُلِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَكْتَفِي لَهُمَا بِتَلْبِيَةٍ وَاحِدَةٍ ، وَسَفَرٍ وَاحِدٍ ، وَحَلْقٍ وَاحِدٍ فَكَذَلِكَ يَثْبُتُ التَّدَاخُلُ فِي الْأَرْكَانِ ، وَلِأَنَّ الْعُمْرَةَ تَبَعٌ لِلْحَجِّ فَهِيَ مِنْ الْحَجِّ بِمَنْزِلَةِ الْوُضُوءِ مَعَ الِاغْتِسَالِ فَكَمَا يَدْخُلُ الْوُضُوءُ فِي الِاغْتِسَالِ فَكَذَلِكَ الْعُمْرَةُ فِي الْحَجِّ ، وَحُجَّتُنَا حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَعِمْرَانَ بْنِ الْحُصَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ { أَنَّ النَّبِيَّ قَرَنَ وَطَافَ لَهُمَا طَوَافَيْنِ ، وَسَعَى سَعْيَيْنِ } ، وَحَدِيثُ الصُّبَيّ بْنِ مَعْبَدٍ أَنَّهُ قَرَنَ ، وَطَافَ طَوَافَيْنِ ، وَسَعَى سَعْيَيْنِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هُدِيت لِسُنَّةِ نَبِيِّك صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ .
وَفِي الْكِتَابِ ذُكِرَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : يَطُوفُ الْقَارِنُ طَوَافَيْنِ ، وَيَسْعَى سَعْيَيْنِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْقِرَانَ ضَمُّ الشَّيْءِ إلَى الشَّيْءِ ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ لِأَدَاءِ عَمَلِ كُلِّ نُسُكٍ بِكَمَالِهِ ، وَلِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِبَادَةٌ مَحْضَةٌ ، وَلَا تَدَاخُلَ فِي أَعْمَالِ الْعِبَادَاتِ إنَّمَا التَّدَاخُلُ فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَتَدَاخَلُ أَشْوَاطُ طَوَافٍ وَاحِدٍ وَسَعْيٍ وَاحِدٍ .
وَمَعْنَى الدُّخُولِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ الْوَقْتُ أَيْ دَخَلَ وَقْتَ الْعُمْرَةِ فِي وَقْتِ الْحَجِّ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ يُؤَدِّيهِمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ ، وَالسَّفَرُ وَالتَّلْبِيَةُ وَالْحَلْقُ غَيْرُ مَقْصُودَةٍ إنَّمَا السَّفَرُ لِلتَّوَصُّلِ إلَى أَدَاءِ النُّسُكِ ، وَالتَّلْبِيَةُ لِلتَّحَرُّمِ ، وَالْحَلْقُ لِلتَّحَلُّلِ فَلَا تَكُونُ مَقْصُودَةً ، وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَرْكَانُ الْعِبَادَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَدَاءَ شَفْعَيْنِ مِنْ التَّطَوُّعِ بِتَكْبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ وَتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ يَجُوزُ ، وَلَا يَدْخُلُ أَحَدُ الشَّفْعَيْنِ فِي الْآخَرِ ، وَالْوُضُوءُ مَعَ الِاغْتِسَالِ غَيْرُ مَقْصُودٍ بَلْ الْمَقْصُودُ تَطْهِيرُ الْبَدَنِ لِيَقُومَ إلَى الْمُنَاجَاةِ طَاهِرًا ، وَقَدْ حَصَلَ ذَلِكَ بِالِاغْتِسَالِ ، وَهُنَا كُلُّ نُسُكٍ مَقْصُودٌ فَيَلْزَمُهُ أَدَاءُ أَعْمَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا طَوَافُكِ بِالْبَيْتِ يَكْفِيكِ لِحَجِّكِ وَعُمْرَتِكِ } لَا يَكَادُ يَصِحُّ فَإِنَّهَا قَدْ رَفَضَتْ الْعُمْرَةَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ حَاضَتْ بِسَرَفٍ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ مِنْ بَعْدُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
( قَالَ ) ثُمَّ يَأْتِي بِالْأَعْمَالِ حَتَّى إذَا رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ ذَبَحَ هَدْيَ الْقِرَانِ ، وَتُجْزِئُهُ الشَّاةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ شَاةٌ .
وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ : { اشْتَرَكْنَا حِينَ كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبَقَرَةِ سَبْعَةٌ ، وَفِي الْبَدَنَةِ سَبْعَةٌ ، وَفِي الشَّاةِ وَاحِدٌ } ، وَالْبَقَرَةُ أَفْضَلُ مِنْ الشَّاةِ ، وَالْجَزُورُ أَفْضَلُ مِنْ الْبَقَرَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ } فَمَا كَانَ أَقْرَبَ فِي التَّعْظِيمِ فَذَلِكَ أَفْضَلُ ، وَقَدْ { نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِائَةَ بَدَنَةٍ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ } ، وَلَوْ كَانَ سَاقَ هَدَايَاهُ مَعَ نَفْسِهِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَاقَ الْهَدَايَا مَعَ نَفْسِهِ وَقَلَّدَهَا ، وَهَكَذَا قَالَتْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا { : كُنْت أَفْتِلُ قَلَائِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَلَّدَهَا بِيَدِهِ } { ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَا إنِّي قَلَّدْت هَدْيِي وَلَبَّدْتُ رَأْسِي فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا } .
وَفِي رِوَايَةٍ { فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ } ، وَلِهَذِهِ الرِّوَايَةِ قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَحَلُّلُ الْقَارِنِ بِالذَّبْحِ لَا بِالْحَلْقِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ التَّحَلُّلُ يَحْصُلُ بِالْحَلْقِ كَمَا فِي حَقِّ الْمُفْرِدِ ، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ حَتَّى أَنْحَرَ ، ثُمَّ أَحْلِقَ بَعْدَهُ عَلَى مَا رَوَيْنَا أَنَّهُ حَلَقَ رَأْسَهُ بَعْدَ ذَبْحِ الْهَدَايَا ، وَلِأَنَّ التَّحَلُّلَ مِنْ الْعِبَادَةِ بِمَا لَا يَحِلُّ فِي أَثْنَائِهَا كَالسَّلَامِ فِي الصَّلَاةِ ، وَذَلِكَ بِالْحَلْقِ أَوْ التَّقْصِيرِ دُونَ الذَّبْحِ
( قَالَ ) وَإِذَا طَافَ الرَّجُلُ بَعْدَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ طَوَافًا يَنْوِي بِهِ التَّطَوُّعَ أَوْ طَوَافَ الصَّدَرِ ، وَذَلِكَ بَعْدَمَا حَلَّ النَّفْرُ فَهُوَ طَوَافُ الصَّدَرِ ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِهِ فِي وَقْتِهِ فَيَكُونُ عَنْهُ ، وَإِنْ نَوَى غَيْرَهُ كَمَنْ نَوَى بِطَوَافِ الزِّيَارَةِ يَوْمَ النَّحْرِ التَّطَوُّعَ يَكُونُ لِلزِّيَارَةِ بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ رُكْنٌ ، وَهَذَا وَاجِبٌ .
( قَالَ ) وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُقِيمَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا شَاءَ ، ثُمَّ يَخْرُجَ وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَكُونَ طَوَافُهُ حِينَ يَخْرُجُ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَالْحَسَنِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا إذَا اشْتَغَلَ بِعَمَلِ مَكَّةَ بَعْدَ طَوَافِ الصَّدَرِ يُعِيدُ طَوَافَ الصَّدَرِ ؛ لِأَنَّهُ كَاسْمِهِ يَكُونُ لِلصَّدَرِ فَإِنَّمَا يُحْتَسَبُ بِهِ إذَا أَدَّاهُ حِينَ يَصْدُرُ ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وَلْيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ } يَشْهَدُ لِهَذَا ، وَلَكِنَّا نَقُولُ مَا قَدِمَ مَكَّةَ إلَّا لِأَدَاءِ النُّسُكِ فَعِنْدَمَا تَمَّ فَرَاغُهُ مِنْهَا جَاءَ أَوَانُ الصَّدَرِ فَطَوَافُهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَكُونُ لِلصَّدَرِ ، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّ آخِرَ نُسُكِهِ طَوَافُ الصَّدَرِ لَا آخِرَ عَمَلِهِ بِمَكَّةَ ، وَأَمَّا الْعُمْرَةُ الْمُفْرَدَةُ إذَا أَرَادَهَا يَتَأَهَّبُ لَهَا مِثْلَ مَا وَصَفْنَاهُ فِي الْحَجِّ إذَا أَرَادَ الْإِحْرَامَ بِهَا عِنْدَ الْمِيقَاتِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ بِمَكَّةَ ، وَأَرَادَ أَنْ يَعْتَمِرَ خَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ إلَى الْحِلِّ مِنْ أَيِّ جَانِبٍ شَاءَ ، وَأَقْرَبُ الْجَوَانِبِ التَّنْعِيمُ وَعِنْدَهُ مَسْجِدُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهَا قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَ كُلُّ نِسَائِك يَنْصَرِفْنَ بِنُسُكَيْنِ ، وَأَنَا بِنُسُكٍ وَاحِدٍ ؟ فَأَمَرَ أَخَاهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَنْ يُعْمِرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ مَكَانَ عُمْرَتِهَا يَعْنِي مَكَانَ الْعُمْرَةِ الَّتِي رَفَضَتْهَا عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .
فَمِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ عَرَفَ النَّاسُ مَوْضِعَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ فَيَخْرُجُونَ إلَيْهِ إذَا أَرَادُوا الْإِحْرَامَ
بِالْعُمْرَةِ ، وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا قِيلَ مَا نَزَلَ بِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَمْرٌ تَكْرَهُهُ إلَّا كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ فَرَجٌ .
ثُمَّ بَعْدَ إحْرَامِهِ يَتَّقِي مَا يَتَّقِيه فِي إحْرَامِ الْحَجِّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا { حَتَّى يَقْدَمَ مَكَّةَ ، وَيَدْخُلُ الْمَسْجِدَ فَيَبْدَأُ بِالْحَجَرِ فَيَسْتَلِمُهُ وَيَطُوفُ بِالْبَيْتِ ، وَيَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ، ثُمَّ يَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ ، وَقَدْ فَرَغَ مِنْ عُمْرَتِهِ ، وَحَلَّ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ هَكَذَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ حِينَ اعْتَمَرَ مِنْ الْجِعْرَانَةِ } .
وَالِاخْتِلَافُ فِي فُصُولٍ أَحَدُهَا أَنَّ عِنْدَنَا يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ فِي الْعُمْرَةِ حِينَ يَسْتَلِمُ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ عِنْدَ أَوَّلِ شَوْطٍ مِنْ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ ، وَعِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى الْبَيْتِ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ ؛ لِأَنَّ الْعُمْرَةَ زِيَارَةُ الْبَيْتِ ، وَقَدْ تَمَّ حُضُورُهُ بِوُقُوعِ بَصَرِهِ عَلَى الْبَيْتِ ، وَلِأَنَّ هَذَا الطَّوَافَ هُوَ الرُّكْنُ فِي الْعُمْرَةِ بِمَنْزِلَةِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ فِي الْحَجِّ فَكَمَا يُقَدِّمُ قَطْعَ التَّلْبِيَةِ هُنَاكَ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِالطَّوَافِ فَهُنَا يُقَدِّمُ قَطْعَ التَّلْبِيَةِ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِالطَّوَافِ ، وَلَكِنَّا نَسْتَدِلُّ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ قَطَعَ التَّلْبِيَةَ حِينَ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ } ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ قَطْعَ التَّلْبِيَةِ هُنَا الطَّوَافُ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ مَالِكًا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اعْتَبَرَ وُقُوعَ بَصَرِهِ عَلَى الْبَيْتِ وَرُؤْيَةَ الْبَيْتِ غَيْرَ مَقْصُودَةٍ إنَّمَا الْمَقْصُودُ الطَّوَافُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَطْعُ مَعَ افْتِتَاحِ الطَّوَافِ ، وَذَلِكَ عِنْدَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ كَمَا قُلْنَا فِي الْحَجِّ أَنَّ قَطْعَ التَّلْبِيَةِ عِنْدَ الرَّمْيِ ، وَذَلِكَ مَعَ أَوَّلِ حَصَاةٍ يَرْمِي بِهَا ( وَالثَّانِي ) أَنَّ فِي الْعُمْرَةِ بَعْدَ الطَّوَافِ ،
وَالسَّعْيِ يَحْلِقُ عِنْدَنَا ، وَعَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا حَلْقَ عَلَيْهِ إنَّمَا الْعُمْرَةُ الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ فَقَطْ ، وَحُجَّتُنَا قَوْله تَعَالَى { مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ } وَهُوَ بُشْرَى لَهُمْ بِمَا عَايَنُوهُ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ ، وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ بِالْحَلْقِ وَحَلَقَ رَأْسَهُ فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَلِأَنَّ التَّحَرُّمَ لِلْإِحْرَامِ بِالتَّلْبِيَةِ وَالتَّحَلُّلَ بِالْحَلْقِ فَكَمَا سَوَّى بَيْنَ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ ، وَإِحْرَامِ الْحَجِّ فِي التَّحَرُّمِ فَكَذَلِكَ فِي التَّحَلُّلِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي بَابِ الصَّلَاةِ سَوَّى بَيْنَ الْمَكْتُوبَةِ وَالنَّافِلَةِ فِي التَّحَرُّمِ بِالتَّكْبِيرِ وَالتَّحَلُّلِ بِالتَّسْلِيمِ فَكَذَلِكَ هَذَا
( قَالَ ) وَكَذَا إنْ أَرَادَ التَّمَتُّعَ ، وَلَمْ يَسُقْ هَدْيًا ، وَيُقِيمُ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعُمْرَةِ حَلَالًا ، وَقَدْ بَيَّنَّا صُورَةَ التَّمَتُّعِ ، وَهُوَ أَنْ يَعْتَمِرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَيَحُجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُلِمَّ بِأَهْلِهِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ إلْمَامًا صَحِيحًا ، وَكَانَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ إنْ أَتَى بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَلَمْ يَتَحَلَّلْ مِنْ إحْرَامِ الْعُمْرَةِ حَتَّى دَخَلَتْ أَشْهُرُ الْحَجِّ فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى إذَا أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا ، وَإِنْ كَانَ أَدَاءُ أَعْمَالِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَعِنْدَهُ الْمُعْتَبَرُ وَقْتُ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ ، وَعِنْدَ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقْتُ التَّحَلُّلِ مِنْ الْإِحْرَامِ ، وَنَحْنُ نَقُولُ إنْ كَانَ أَدَاءُ الْأَعْمَالِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا ؛ لِأَنَّ إحْرَامَهُ فِي غَيْرِ أَشْهُرِ الْحَجِّ صَارَ بِحَيْثُ لَا يَفْسُدُ بِالْجِمَاعِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ لَمْ يَحِلَّ مِنْهُ ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِالْأَعْمَالِ حَتَّى دَخَلَتْ أَشْهُرُ الْحَجِّ فَإِحْرَامُهُ لِلْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ بِحَيْثُ يَفْسُدُ بِالْجِمَاعِ فَهُوَ كَمَا لَوْ أَحْرَمَ بِهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ؛ لِأَنَّهُ مُتَرَفِّقٌ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، ثُمَّ هُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ يَصْبِرَ بِمَكَّةَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعُمْرَةِ حَتَّى يُؤَدِّيَ الْحَجَّ فَيَكُونَ مُتَمَتِّعًا بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِمَّا أَنْ يَعُودَ إلَى أَهْلِهِ بَعْدَمَا حَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ ، ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ فَلَا يَكُونَ مُتَمَتِّعًا بِإِجْمَاعٍ بَيْنَ أَصْحَابِنَا ، وَفِي أَحَدِ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَكُونُ مُتَمَتِّعًا ، وَيَقُولُ لَا أَعْرِفُ ذَلِكَ الْإِلْمَامَ مَاذَا يَكُونُ فَهُوَ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ الْمَكِّيَّ لَهُ الْمُتْعَةُ وَالْقِرَانُ ، وَيَأْتِي بَيَانُ هَذَا فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى ، وَاعْتِمَادُنَا فِيهِ عَلَى حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إذَا أَلَمَّ بِأَهْلِهِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ إلْمَامًا صَحِيحًا فَهُوَ مُتَمَتِّعٌ .
وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ ، وَهُوَ أَنَّهُ أَنْشَأَ لِكُلِّ نُسُكٍ سَفَرًا مِنْ أَهْلِهِ ، وَالتَّمَتُّعُ مَنْ يَتَرَفَّقُ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ ، فَأَمَّا إذَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْعُمْرَةِ فَأَتَى بَلْدَةً أُخْرَى غَيْرَ بَلْدَتِهِ بِأَنْ يَكُونَ كُوفِيًّا فَأَتَى الْبَصْرَةَ ثُمَّ عَادَ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ كَانَ مُتَمَتِّعًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا فِي قَوْلِهِمَا ذَكَرَهُ الطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ صُورَةَ الْمُتَمَتِّعِ أَنْ تَكُونَ عُمْرَتُهُ مِيقَاتِيَّةً ، وَحَجَّتُهُ مَكِّيَّةً ، وَهَذَا حَجَّتُهُ وَعُمْرَتُهُ مِيقَاتِيَّتَانِ ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَمَا جَاوَزَ الْمِيقَاتَ حَلَالًا إذَا عَادَ يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ مِنْ الْمِيقَاتِ فَهُوَ وَاَلَّذِي أَلَمَّ بِأَهْلِهِ سَوَاءٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّ قَوْمًا سَأَلُوهُ فَقَالُوا : اعْتَمَرْنَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، ثُمَّ زُرْنَا الْقَبْرَ ، ثُمَّ حَجَجْنَا فَقَالَ : أَنْتُمْ مُتَمَتِّعُونَ ، وَلِأَنَّهُ مُتَرَفِّقٌ بِأَدَاءِ النُّسُكَيْنِ فِي سَفَرٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّهُ مَاضٍ عَلَى سَفَرِهِ مَا لَمْ يَعُدْ إلَى أَهْلِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْمِيقَاتِ حَتَّى حَجَّ ، وَعَادَ فَيَكُونُ مُتَمَتِّعًا
( قَالَ ) وَإِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ ، وَهُوَ بِمَكَّةَ فَأَرَادَ الرَّوَاحَ إلَى مِنًى لَبِسَ الْإِزَارَ وَالرِّدَاءَ وَلَبَّى بِالْحَجِّ إنْ شَاءَ مِنْ الْمَسْجِدِ أَوْ مِنْ الْأَبْطَحِ أَوْ مِنْ أَيِّ مَوْضِعٍ مِنْ الْحَرَمِ شَاءَ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَمَرَ أَصْحَابَهُ الَّذِينَ فَسَخُوا إحْرَامَ الْحَجِّ بِالْعُمْرَةِ أَنْ يُحْرِمُوا بِالْحَجِّ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : فَخَرَجْنَا مِنْ مَكَّةَ فَلَمَّا جَعَلْنَاهَا بِظَهْرٍ أَحْرَمْنَا بِالْحَجِّ وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ بِمَكَّةَ حَلَالٌ إذَا أَرَادَ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ يُحْرِمُ مِنْ الْحَرَمِ ، وَإِذَا أَرَادَ الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ يُحْرِمُ مِنْ الْحِلِّ ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ أَدَاءِ الْأَفْعَالِ غَيْرُ مَوْضِعِ الْإِحْرَامِ وَرُكْنُ الْعُمْرَةِ الطَّوَافُ ، وَهُوَ مُؤَدًّى فِي الْحَرَمِ فَالْإِحْرَامُ بِهَا يَكُونُ فِي الْحِلِّ ، وَمُعْظَمُ الرُّكْنِ فِي الْحَجِّ الْوُقُوفُ ، وَهُوَ فِي الْحِلِّ فَالْإِحْرَامُ بِهِ يَكُونُ فِي الْحَرَمِ .
( قَالَ ) وَإِنْ شَاءَ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ قَبْلَ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ وَمَا قُدِّمَ إحْرَامُهُ بِالْحَجِّ فَهُوَ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ إظْهَارَ الْمُسَارَعَةِ وَالرَّغْبَةِ فِي الْعِبَادَةِ ، وَلِأَنَّهُ أَشَقُّ عَلَى الْبَدَنِ { ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إنَّمَا أَجْرُكِ عَلَى قَدْرِ نَصَبِكِ } ، وَلَمَّا { سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ قَالَ : أَحَمْزُهَا } .
( قَالَ ) وَيَرُوحُ مَعَ النَّاسِ إلَى مِنًى فَيَبِيتُ بِهَا لَيْلَةَ عَرَفَةَ ، وَيَعْمَلُ عَلَى مَا وَصَفْنَاهُ فِي الْحَجِّ فِي حَقِّ الْمُفْرِدِ غَيْرَ أَنَّ عَلَيْهِ دَمَ الْمُتْعَةِ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ } ، ثُمَّ يَحْلِقُ بَعْدَ الذَّبْحِ ، وَيَزُورُ الْبَيْتَ فَيَطُوفُ بِهِ أُسْبُوعًا يَرْمُلُ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ ، وَيَمْشِي فِي الْأَرْبَعَةِ الْأَوَاخِرِ عَلَى هِينَتِهِ هُوَ
وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ، وَيَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا ، وَالْمَرْوَةِ عَلَى قِيَاسِ مَا بَيَّنَّاهُ فِي الْحَجِّ ؛ لِأَنَّ هَذَا أَوَّلُ طَوَافٍ يَأْتِي بِهِ فِي الْحَجِّ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الرَّمَلَ فِي أَوَّلِ طَوَافِ الْحَجِّ سُنَّةٌ ، وَالسَّعْيَ عَقِيبَ أَوَّلِ طَوَافٍ فِي الْحَجِّ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُفْرِدِ ؛ لِأَنَّهُ طَافَ لِلْقُدُومِ فِي الْحَجِّ هُنَاكَ ، وَسَعَى بَعْدَهُ فَلِهَذَا لَا يَرْمُلُ فِي طَوَافِ يَوْمِ النَّحْرِ ، وَلَا يَسْعَى بَعْدَهُ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا الْمُتَمَتِّعُ بَعْدَمَا أَحْرَمَ بِالْحَجِّ طَافَ وَسَعَى قَبْلَ أَنْ يَرُوحَ إلَى مِنًى لَمْ يَرْمُلْ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ يَوْمَ النَّحْرِ ، وَلَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِذَلِكَ فِي الْحَجِّ مَرَّةً ، وَإِنْ كَانَ حِينَ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ سَاقَ هَدْيًا لِلْمُتْعَةِ فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ هَدْيَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ } إلَى قَوْلِهِ { وَلَا الْقَلَائِدَ } وَلَكِنَّ السُّنَّةَ أَنْ يُقَلِّدَ الْهَدْيَ بَعْدَمَا يُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَلَّدَ الْهَدْيَ قَبْلَ الْإِحْرَامِ ، وَسَاقَهُ بِنِيَّةِ الْإِحْرَامِ صَارَ مُحْرِمًا هَكَذَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَفِي سِيَاقِ الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ ذِكْرِ الْقَلَائِدِ قَالَ { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } فَدَلَّلَ أَنَّهُ بِالتَّقْلِيدِ يَصِيرُ مُحْرِمًا ، وَالْأَوْلَى أَنْ يُحْرِمَ بِالتَّلْبِيَةِ فَلِهَذَا كَانَ الْأَفْضَلُ أَنْ يُلَبِّيَ أَوَّلًا ، ثُمَّ يُقَلِّدَ هَدْيَهُ فَإِذَا طَافَ لِلْعُمْرَةِ وَسَعَى أَقَامَ حَرَامًا ؛ لِأَنَّ سَوْقَ هَدْيِ الْمُتْعَةِ يَمْنَعُهُ مِنْ التَّحَلُّلِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ عَلَى مَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَوْ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ لَمَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَلَجَعَلْتُهَا عُمْرَةً وَتَحَلَّلْتُ مِنْهَا } .
وَقَالَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ { أَمَا إنِّي قَلَّدْتُ هَدْيِي وَلَبَّدْتُ رَأْسِي فَلَا أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ } .
فَإِذَا كَانَتْ عَشِيَّةُ التَّرْوِيَةِ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ ،
وَإِنْ أَحَبَّ أَنْ يُقَدِّمَ الْإِحْرَامَ وَيَطُوفَ بِالْبَيْتِ وَالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِحَجَّتِهِ فَعَلَ كَمَا بَيَّنَّا فِي الْمُتَمَتِّعِ الَّذِي لَمْ يَسُقْ الْهَدْيَ إلَّا أَنَّهُ إنْ لَمْ يَطُفْ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ وَسَعَى رَمَلَ فِي طَوَافِ يَوْمِ النَّحْرِ ، وَإِنْ كَانَ طَافَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ وَسَعَى لَمْ يَرْمُلْ فِي طَوَافِ يَوْمِ النَّحْرِ ، وَلَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ .
( قَالَ ) وَلَا يَدَعُ الْحَلْقَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مُلَبِّدًا أَوْ مُضَفِّرًا أَوْ عَاقِصًا ، وَالتَّلْبِيدُ أَنْ يَجْمَعَ شَعْرَ رَأْسِهِ عَلَى هَامَتِهِ ، وَيَشُدَّهُ بِصَمْغٍ أَوْ غَيْرِهِ حَتَّى يَصِيرَ كَاللِّبْدِ ، وَالتَّضْفِيرُ أَنْ يَجْعَلَ شَعْرَهُ ضَفَائِرَ ، وَالْعَقْصُ هُوَ الْإِحْكَامُ ، وَهُوَ أَنْ يَشُدَّ شَعْرَهُ حَوْلَ رَأْسِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ ، وَلَا يَدَعُ مَا هُوَ الْأَفْضَلَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْأَسْبَابِ ، وَقَدْ { لَبَّدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأْسَهُ } كَمَا رَوَيْنَا مِنْ قَوْلِهِ ، وَلَبَّدْتُ رَأْسِي ، وَمَعَ ذَلِكَ حَلَقَ
( قَالَ ) وَالْمَرْأَةُ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ فِي جَمِيعِ مَا وَصَفْنَاهُ ؛ لِأَنَّهَا مُخَاطَبَةٌ كَالرَّجُلِ أَلَا تَرَى { أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لَمَّا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الِاغْتِسَالِ مِنْ الْجَنَابَةِ ، وَصَفَ لَهَا حَالَ نَفْسِهِ فِي الِاغْتِسَالِ فَدَلَّ أَنَّ حَالَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ سَوَاءٌ غَيْرَ أَنَّهَا تَلْبَسُ مَا بَدَا لَهَا مِنْ الدُّرُوعِ وَالْقُمْصَانِ وَالْخِمَارِ وَالْخُفِّ وَالْقُفَّازَيْنِ ؛ لِأَنَّهَا عَوْرَةٌ } كَمَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمَرْأَةُ عَوْرَةٌ مَسْتُورَةٌ } ، وَفِي لُبْسِ الْإِزَارِ ، وَالرِّدَاءِ يَنْكَشِفُ بَعْضُ الْبَدَنِ عَادَةً ، وَهِيَ مَأْمُورَةٌ بِأَدَاءِ الْعِبَادَةِ عَلَى أَسْتَرِ الْوُجُوهِ كَمَا بَيَّنَّا فِي الصَّلَاةِ فَلِهَذَا تَلْبَسُ الْمَخِيطَ وَالْخُفَّيْنِ وَتُغَطِّي رَأْسَهَا ، وَلَا تُغَطِّي وَجْهَهَا ؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ مِنْهَا عَوْرَةٌ ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إحْرَامُ الرَّجُلِ فِي رَأْسِهِ ، وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا } فَعَرَفْنَا أَنَّهَا لَا تُغَطِّي وَجْهَهَا إلَّا أَنَّ لَهَا أَنْ تُسْدِلَ عَلَى وَجْهِهَا إذَا أَرَادَتْ ذَلِكَ عَلَى وَجْهٍ تُجَافِي عَنْ وَجْهِهَا هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : { كُنَّا فِي الْإِحْرَامِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَكْشِفُ وُجُوهَنَا فَإِذَا اسْتَقْبَلَنَا قَوْمٌ أَسْدَلْنَا مِنْ غَيْرِ أَنْ نُصِيبَ وُجُوهَنَا } ، وَلَا تَلْبَسُ الْمَصْبُوغَ بِوَرْسٍ ، وَلَا زَعْفَرَانٍ ، وَلَا عُصْفُرٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ غُسِلَ ؛ لِأَنَّ مَا حَلَّ فِي حَقِّهَا مِنْ اللُّبْسِ كَانَ لِلضَّرُورَةِ ، وَلَا ضِرْوَةَ فِي لُبْسِ الْمَصْبُوغِ ، وَهِيَ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ ، وَلِأَنَّ هَذَا تَزَيُّنٌ ، وَهِيَ مِنْ دَوَاعِي الْجِمَاعِ ، وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الْإِحْرَامِ كَالرَّجُلِ ، وَلَا حَلْقَ عَلَيْهَا إنَّمَا عَلَيْهَا التَّقْصِيرُ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ نَهَى النِّسَاءَ عَنْ الْحَلْقِ
وَأَمَرَهُنَّ بِالتَّقْصِيرِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الْإِحْرَامِ ، وَلِأَنَّ الْحَلْقَ فِي حَقِّهَا مُثْلَةٌ ، وَالْمُثْلَةُ حَرَامٌ ، وَشَعْرُ الرَّأْسِ زِينَةٌ لَهَا كَاللِّحْيَةِ لِلرَّجُلِ فَكَمَا لَا يَحْلِقُ الرَّجُلُ لِحْيَتَهُ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الْإِحْرَامِ لَا تَحْلِقُ هِيَ رَأْسَهَا ، وَلَا رَمَلَ عَلَيْهَا فِي الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ ، وَلَا بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ؛ لِأَنَّ الرَّمَلَ لِإِظْهَارِ التَّجَلُّدِ وَالْقُوَّةِ ، وَالْمَرْأَةُ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ لِتُظْهِرَ الْجَلَادَةَ مِنْ نَفْسِهَا ، وَلَا يُؤْمَنُ أَنْ يَبْدُوَ شَيْءٌ مِنْ عَوْرَتِهَا فِي رَمَلِهَا ، وَسَعْيِهَا أَوْ تَسْقُطَ لِضَعْفِ بِنْيَتِهَا فَلِهَذَا تُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ ، وَتُؤْمَرُ بِأَنْ تَمْشِيَ مَشْيًا فَهَذَا الْقَدْرُ ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ فِي الْفَرْقِ ، وَقَدْ قَالَ مَشَايِخُنَا إنَّهَا لَا تَرْفَعُ صَوْتَهَا بِالتَّلْبِيَةِ أَيْضًا لِمَا فِي رَفْعِ صَوْتِهَا مِنْ الْفِتْنَةِ ، وَكَذَلِكَ لَا تَسْتَلِمُ الْحَجَرَ إذَا كَانَ هُنَاكَ جَمْعٌ ؛ لِأَنَّهَا مَمْنُوعَةٌ مِنْ مُمَاسَّةِ الرِّجَالِ وَالزَّحْمَةِ مَعَهُمْ فَلَا تَسْتَلِمُ الْحَجَرَ إلَّا إذَا وَجَدَتْ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ خَالِيًا عَنْ الرِّجَالِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ ، وَتَعَالَى أَعْلَمُ
( بَابُ الطَّوَافِ ) اعْلَمْ بِأَنَّ الطَّوَافَ أَرْبَعَةٌ ثَلَاثَةُ فِي الْحَجِّ وَوَاحِدٌ فِي الْعُمْرَةِ : أَمَّا أَحَدُ الْأَطْوِفَةِ فِي الْحَجِّ فَهُوَ طَوَافُ التَّحِيَّةِ ، وَيُسَمَّى طَوَافَ الْقُدُومِ وَطَوَافَ اللِّقَاءِ ، وَذَلِكَ عِنْدَ ابْتِدَاءِ وُصُولِهِ إلَى الْبَيْتِ ، وَهُوَ سُنَّةٌ عِنْدَنَا ، وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ وَاجِبٌ لِأَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى بِهِ ثُمَّ قَالَ لِأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ } فَهَذَا أَمْرٌ ، وَالْأَمْرُ عَلَى الْوُجُوبِ ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ زِيَارَةُ الْبَيْتِ لِلتَّعْظِيمِ فَالنُّسُكُ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَ ابْتِدَاءِ الزِّيَارَةِ يَكُونُ وَاجِبًا بِمَنْزِلَةِ الذِّكْرِ عِنْدَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ ، وَهُوَ التَّكْبِيرُ ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ بِالطَّوَافِ ، وَالْأَمْرُ الْمُطْلَقُ لَا يَقْتَضِي التَّكْرَارَ ، وَبِالْإِجْمَاعِ طَوَافُ يَوْمِ النَّحْرِ وَاجِبٌ فَعَرَفْنَا أَنَّ مَا تَقَدَّمَ لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، وَلِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ أَنَّ الطَّوَافَ الَّذِي هُوَ رُكْنٌ فِي الْحَجِّ مُؤَقَّتٌ بِيَوْمِ النَّحْرِ حَتَّى لَا يَجُوزَ قَبْلَهُ فَمَا يُؤْتَى بِهِ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ لَا يَكُونُ وَاجِبًا لِأَنَّهُ يُؤْتَى بِهِ فِي الْإِحْرَامِ ، وَلَا يَتَكَرَّرُ رُكْنٌ وَاحِدٌ فِي الْإِحْرَامِ وَاجِبًا كَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَجَعَلْنَاهُ سُنَّةً لِهَذَا بِخِلَافِ طَوَافِ الصَّدَرِ فَإِنَّهُ يُؤْتَى بِهِ بَعْدَ تَمَامِ التَّحَلُّلِ فَلَوْ جَعَلْنَاهُ وَاجِبًا لَا يُؤَدِّي إلَى تَكْرَارِ الطَّوَافِ وَاجِبًا فِي الْإِحْرَامِ ، وَالطَّوَافُ فِي الْحَجِّ بِمَنْزِلَةِ ثَنَاءِ الِافْتِتَاحِ فِي الصَّلَاةِ لِأَنَّ التَّلْبِيَةَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ هُنَا كَالتَّكْبِيرِ هُنَاكَ ، وَكَمَا أَنَّ ثَنَاءَ الِافْتِتَاحِ الَّذِي يُؤْتَى بِهِ عَقِيبَ التَّكْبِيرِ سُنَّةٌ فَكَذَلِكَ الطَّوَافُ الَّذِي يُؤْتَى بِهِ عَقِيبَ الْإِحْرَامِ سُنَّةٌ .
وَمِمَّا يَحْتَجُّ بِهِ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ السَّعْيَ الَّذِي بَعْدَ هَذَا الطَّوَافِ وَاجِبٌ ، وَلَا يَكُونُ الْوَاجِبُ بِنَاءً عَلَى
مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْعُذْرَ عَنْ هَذَا فِيمَا مَضَى .
وَالطَّوَافُ الثَّانِي طَوَافُ الزِّيَارَةِ ، وَهُوَ رُكْنُ الْحَجِّ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { ، وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } ، وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ } ، وَالْمُرَادُ بِهِ طَوَافُ الزِّيَارَةِ .
وَالطَّوَافُ الثَّالِثُ طَوَافُ الصَّدَرِ ، وَهُوَ وَاجِبٌ عِنْدَنَا سُنَّةٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ طَوَافِ الْقُدُومِ أَلَا تَرَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَأْتِي بِهِ الْآفَاقِيُّ دُونَ الْمَكِّيِّ ، وَمَا يَكُونُ مِنْ وَاجِبَاتِ الْحَجِّ فَالْآفَاقِيُّ وَالْمَكِّيُّ فِيهِ سَوَاءٌ .
( وَلَنَا ) فِي ذَلِكَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلْيَكُنْ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ } ، وَرَخَّصَ لِلنِّسَاءِ الْحُيَّضِ ، وَالْأَمْرُ دَلِيلُ الْوُجُوبِ ، وَتَخْصِيصُ الْحَائِضِ بِرُخْصَةِ التَّرْكِ دَلِيلٌ عَلَى الْوُجُوبِ أَيْضًا ، وَكَمَا أَنَّ طَوَافَ الزِّيَارَةِ لِتَمَامِ التَّحَلُّلِ عَنْ إحْرَامِ الْحَجِّ فَطَوَافُ الصَّدَرِ لِانْتِهَاءِ الْمُقَامِ بِمَكَّةَ فَيَكُونُ وَاجِبًا عَلَى مَنْ يَنْتَهِي مُقَامُهُ بِهَا ، وَهُوَ الْآفَاقِيُّ أَيْضًا الَّذِي يَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ دُونَ الْمَكِّيِّ الَّذِي لَا يَرْجِعُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ ، وَيُسَمَّى هَذَا طَوَافَ الْوَدَاعَ فَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ يُوَدِّعُ الْبَيْتَ دُونَ مَنْ لَا يُوَدِّعُهُ فَأَمَّا الطَّوَافُ الرَّابِعُ فَهُوَ طَوَافُ الْعُمْرَةِ ، وَهُوَ الرُّكْنُ فِي الْعُمْرَةِ ، وَلَيْسَ فِي الْعُمْرَةِ طَوَافُ الصَّدَرِ ، وَلَا طَوَافُ الْقُدُومِ أَمَّا طَوَافُ الْقُدُومِ فَلِأَنَّهُ كَمَا وَصَلَ إلَى الْبَيْتِ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَاءِ الطَّوَافِ الَّذِي هُوَ رُكْنٌ فِي هَذَا النُّسُكِ فَلَا يَشْتَغِلُ بِغَيْرِهِ بِخِلَافِ الْحَجِّ فَإِنَّهُ عِنْدَ الْقُدُومِ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الطَّوَافِ الَّذِي هُوَ رُكْنُ الْحَجِّ فَيَأْتِي بِالطَّوَافِ الْمَسْنُونِ إلَى أَنْ يَجِيءَ وَقْتُ الطَّوَافِ الَّذِي هُوَ رُكْنٌ ، وَأَمَّا طَوَافُ الصَّدَرِ فَقَدْ قَالَ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى فِي الْعُمْرَة طَوَافُ الصَّدَرِ أَيْضًا فِي حَقِّ مَنْ قَدِمَ مُعْتَمِرًا إذَا أَرَادَ الرُّجُوعَ إلَى أَهْلِهِ كَمَا فِي الْحَجِّ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ إنَّ مُعْظَمَ الرُّكْنِ فِي الْعُمْرَةِ الطَّوَافُ ، وَمَا هُوَ مُعْظَمُ الرُّكْنِ فِي النُّسُكِ لَا يَتَكَرَّرُ عِنْدَ الصَّدَرِ كَالْوُقُوفِ فِي الْحَجِّ لِأَنَّ الشَّيْءَ الْوَاحِدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُعْظَمَ الرُّكْنِ فِي نُسُكٍ ، وَهُوَ بِعَيْنِهِ غَيْرُ رُكْنٍ فِي ذَلِكَ النُّسُكِ ، وَلِأَنَّ مَا هُوَ مُعْظَمُ الرُّكْنِ مَقْصُودٌ ، وَطَوَافُ الصَّدَرِ تَبَعٌ يَجِبُ لِقَصْدِ تَوْدِيعِ الْبَيْتِ ، وَالشَّيْءُ الْوَاحِدُ لَا يَكُونُ مَقْصُودًا وَتَبَعًا
( قَالَ ) وَإِذَا قَدِمَ الْقَارِنُ مَكَّةَ فَلَمْ يَطُفْ حَتَّى وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ كَانَ رَافِضًا لِعُمْرَتِهِ عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَكُونُ رَافِضًا لِعُمْرَتِهِ ، وَهُوَ بِنَاءً عَلَى مَا سَبَقَ فَإِنَّ عِنْدَهُ طَوَافَ الْعُمْرَةِ يَدْخُلُ فِي طَوَافِ الْحَجِّ فَلَا يَلْزَمُهُ طَوَافٌ مَقْصُودٌ لِلْعُمْرَةِ ، وَعِنْدَنَا لَا يَدْخُلُ طَوَافُ الْحَجِّ بَلْ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ بِطَوَافِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَيُقَدِّمُ الْعُمْرَةَ فِي الْأَدَاءِ عَلَى الْحَجِّ ، وَهَذَا يَفُوتُهُ بِالْوُقُوفِ لِأَنَّ مُعْظَمَ أَرْكَانِ الْحَجِّ الْوُقُوفُ ، وَيَصِيرُ بِهِ مُؤَدَّيَا لِلْحَجِّ عَلَى وَجْهٍ يَأْمَنُ الْفَوْتَ فَلَوْ بَقِيَتْ عُمْرَتُهُ لَكَانَ يَأْتِي بِأَعْمَالِهَا فَيَصِيرُ بَانِيًا أَعْمَالَ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ ، وَهَذَا لَيْسَ بِصِفَةِ الْقِرَانِ فَجَعَلْنَاهُ رَافِضًا لِلْعُمْرَةِ لِهَذَا ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { دَخَلَ عَلَيْهَا بِسَرِفٍ ، وَهِيَ تَبْكِي قَالَ مَا يُبْكِيكِ لَعَلَّكِ نَفِسْتِ فَقَالَتْ نَعَمْ فَقَالَ هَذَا شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى بَنَاتِ آدَمَ فَدَعِي عَنْكِ الْعُمْرَةَ أَوْ قَالَ اُرْفُضِي عُمْرَتَك وَانْقُضِي رَأْسَك وَامْتَشِطِي وَاصْنَعِي جَمِيعَ مَا يَصْنَعُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ } فَقَدْ أَمَرَهَا بِرَفْضِ الْعُمْرَةِ لَمَّا تَعَذَّرَ عَلَيْهَا الطَّوَافُ فَلَوْلَا أَنَّهَا بِالْوُقُوفِ تَصِيرُ رَافِضَةً لِعُمْرَتِهَا لَمَا أَمَرَهَا بِرَفْضِ الْعُمْرَةِ فَإِنْ تَوَجَّهَ إلَى عَرَفَاتٍ بَعْدَمَا دَخَلَ وَقْتُ الْوُقُوفِ فَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى رِوَايَتَانِ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ يَقُولُ لَا يَصِيرُ رَافِضًا حَتَّى إذَا عَادَ مِنْ الطَّرِيقِ إلَى مَكَّةَ ، وَطَافَ لِلْعُمْرَةِ فَهُوَ قَارِنٌ ، وَالْحَسَنُ يَرْوِي عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَصِيرُ رَافِضًا لِلْعُمْرَةِ بِالتَّوَجُّهِ إلَى عَرَفَاتٍ ، وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ عَلَى مَذْهَبِهِ كَمَا جَعَلَ التَّوَجُّهَ إلَى الْجُمُعَةِ قَبْلَ فَرَاغِ
الْإِمَامِ بِمَنْزِلَةِ الشُّرُوعِ فِي الْجُمُعَةِ فِي ارْتِفَاضِ الظُّهْرِ ، وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ اسْتِحْسَانٌ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ هُنَاكَ مَأْمُورٌ بِالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ فَيَتَقَوَّى السَّعْيُ بِمَشْيِهِ ، وَهُنَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ التَّوَجُّهِ إلَى عَرَفَاتٍ قَبْلَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ ، وَلِأَنَّ الْمُوجِبَ هُنَا لِلِارْتِفَاضِ صَيْرُورَةُ رُكْنِ الْحَجِّ مُؤَدًّى حَتَّى يَكُونَ مَا بَعْدَهُ بِنَاءَ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ .
وَهَذَا بِنَفْسِ التَّوَجُّهِ لَا يَحْصُلُ ، وَهُنَاكَ الْمُوجِبُ لِرَفْضِ الظُّهْرِ الْمُنَافَاةُ بَيْنَهُ ، وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ ، وَالسَّعْيُ مِنْ خَصَائِصِ الْجُمُعَةِ فَأُقِيمَ مَقَامَ الشُّرُوعِ فِي ارْتِفَاضِ الظُّهْرِ بِهِ فَلَوْ طَافَ لِلْعُمْرَةِ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ ثُمَّ ذَهَبَ فَوَقَفَ بِعَرَفَاتٍ فَهُوَ رَافِضٌ لِلْعُمْرَةِ أَيْضًا لِأَنَّ رُكْنَ الْعُمْرَةِ الطَّوَافُ فَإِذَا بَقِيَ أَكْثَرُهُ غَيْرَ مُؤَدًّى جُعِلَ كَأَنَّهُ لَمْ يُؤَدِّ مِنْهُ شَيْئًا ، وَلَوْ كَانَ طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ ثُمَّ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ لَمْ يَكُنْ رَافِضًا لِلْعُمْرَةِ لِأَنَّهُ قَدْ أَدَّى أَكْثَرَ الطَّوَافِ فَيَكُونُ ذَلِكَ كَأَدَاءِ الْكُلِّ ، وَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ بَعْدَ أَدَاءِ أَرْبَعَةِ أَشْوَاطٍ مِنْ طَوَافِ الْعُمْرَةِ يَأْمَنُ فَسَادَهَا بِالْجِمَاعِ ، وَبَعْدَ أَدَاءِ ثَلَاثَةِ أَشْوَاطٍ لَا يَأْمَنُ مِنْ ذَلِكَ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُؤَدَّى إذَا كَانَ أَكْثَرَ فَالْأَقَلُّ فِي مُقَابَلَتِهِ كَالْعَدَمِ فَكَانَ جَانِبُ الْأَدَاءِ رَاجِحًا فَإِذَا تَرَجَّحَ جَانِبُ الْأَدَاءِ فَهُوَ بِالْوُقُوفِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَإِنْ صَارَ مُؤَدِّيًا لِلْحَجِّ فَإِنَّمَا يَصِيرُ مُؤَدِّيًا بَعْدَ أَدَاءِ الْعُمْرَةِ ، وَإِذَا كَانَ طَافَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ فَلَمْ يَصِرْ رَافِضًا بِالْوُقُوفِ كَانَ مُؤَدِّيًا لِلْعُمْرَةِ بِأَدَاءِ الْأَشْوَاطِ الْأَرْبَعَةِ بَعْدَ الْوُقُوفِ فَيَكُونُ بَانِيًا لِلْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ ، وَكَمَا يَأْمَنُ الْفَسَادَ فِي الْعُمْرَةِ بِطَوَافِ أَرْبَعَةِ أَشْوَاطٍ يَأْمَنُ ارْتِفَاضَهَا بِالْوُقُوفِ ، وَبَعْدَمَا طَافَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ لَا
يَأْمَنُ فَسَادَهَا بِالْجِمَاعِ فَلَا يَأْمَنُ ارْتِفَاضَهَا بِالْوُقُوفِ ، وَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي صَارَ رَافِضًا لَهَا عَلَيْهِ دَمٌ لِرَفْضِهَا لِأَنَّهُ خَرَجَ مِنْهَا بَعْدَ صِحَّةِ الشُّرُوعِ قَبْلَ أَدَاءِ الْأَعْمَالِ فَيَلْزَمُهُ دَمٌ اعْتِبَارًا بِالْمُحْصَرِ ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ الْعُمْرَةِ لِخُرُوجِهِ مِنْهَا بَعْدَ صِحَّةِ الشُّرُوعِ فِيهَا ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا { حِينَ أَمَرَ رَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَاهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ أَنْ يُعْمِرَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ مَكَانَ عُمْرَتِهَا الَّتِي فَاتَتْهَا ، وَيَسْقُطُ عَنْهُ دَمُ الْقِرَانِ } لِأَنَّهُ وَجَبَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ فِي الْأَدَاءِ ، وَقَدْ انْعَدَمَ ، وَفِي الْمَوْضِعِ الَّذِي لَمْ يَصِرْ رَافِضًا لِلْعُمْرَةِ يُتِمُّ بَقِيَّةَ طَوَافِهَا وَسَعْيِهَا يَوْمَ النَّحْرِ ، وَعَلَيْهِ دَمُ الْقِرَانِ لِأَنَّهُ تَحَقُّقُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا أَدَاءً ، وَإِنْ لَمْ يَطُفْ لِعُمْرَتِهِ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ ، وَلَكِنَّهُ طَافَ وَسَعَى لِحَجَّتِهِ ثُمَّ وَقَفَ بِعَرَفَةَ لَمْ يَكُنْ رَافِضًا لِعُمْرَتِهِ ، وَكَانَ طَوَافُهُ ، وَسَعْيُهُ لِلْعُمْرَةِ دُونَ الْحَجِّ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ الْبِدَايَةُ بِطَوَافِ الْعُمْرَةِ فَلَا تُعْتَبَرُ نِيَّتُهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ طَوَافٍ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ فِي وَقْتٍ بِجِهَةٍ فَأَدَاؤُهُ يَقَعُ عَنْ تِلْكَ الْجِهَةِ .
وَإِنْ نَوَى جِهَةً أُخْرَى كَطَوَافِ الزِّيَارَةِ يَوْمَ النَّحْرِ ، وَهَذَا لِاعْتِبَارِ الطَّوَافِ بِالْوُقُوفِ فَإِنَّهُ لَوْ وُجِدَ مِنْهُ الْوُقُوفُ فِي وَقْتِهِ ، وَنَوَى شَيْئًا آخَرَ سِوَى الْوُقُوفِ لِلْحَجِّ يَتَأَدَّى بِهِ رُكْنُ الْحَجِّ ، وَلَا تُعْتَبَرُ نِيَّتُهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ فِي الطَّوَافِ إلَّا أَنَّ فِي الطَّوَافِ أَصْلَ النِّيَّةِ شَرْطٌ حَتَّى لَوْ عَدَا خَلْفَ غَرِيمٍ لَهُ حَوْلَ الْبَيْتِ لَا يَتَأَدَّى بِهِ طَوَافُهُ بِخِلَافِ الْوُقُوفِ فَإِنَّهُ يَتَأَدَّى بِغَيْرِ النِّيَّةِ لِأَنَّ الْوُقُوفَ رُكْنُ عِبَادَةٍ ، وَلَيْسَ بِعِبَادَةٍ مَقْصُودَةٍ ، وَلِهَذَا لَا يُتَنَفَّلُ بِهِ فَوُجُودُ
النِّيَّةِ فِي أَصْلِ تِلْكَ الْعِبَادَةِ يُغْنِي عَنْ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي رُكْنِهَا وَالطَّوَافُ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ وَلِهَذَا يُتَنَفَّلُ بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِيهِ ، وَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ نِيَّةِ الْجِهَةِ لِتَعَيُّنِهِ كَمَا قُلْنَا فِي صَوْمِ رَمَضَانَ ، وَلِأَنَّ الْوُقُوفَ يُؤَدَّى فِي إحْرَامٍ مُطْلَقٍ فَأَمَّا طَوَافُ الزِّيَارَةِ فَإِنَّهُ يُؤَدَّى بَعْدَ التَّحَلُّلِ مِنْ الْإِحْرَامِ بِالْحَلْقِ فَوُجُودُ النِّيَّةِ فِي الْإِحْرَامِ لَا يُغْنِي عَنْ النِّيَّةِ فِي الطَّوَافِ ، وَلَكِنَّ هَذَا الْفَرْقَ الثَّانِي يَتَأَتَّى فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ دُونَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ ، وَالْفَرْقُ الْأَوَّلُ يَعُمُّ الْفَصْلَيْنِ فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ طَوَافَهُ ، وَسَعْيَهُ لِلْعُمْرَةِ فَهَذَا رَجُلٌ لَمْ يَطُفْ لِحَجَّتِهِ ، وَتَرْكُ طَوَافِ التَّحِيَّةِ لَا يَضُرُّهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْمُلَ فِي طَوَافِ يَوْمِ النَّحْرِ ، وَيَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ .
وَإِنْ كَانَ طَافَ لِلْحَجِّ وَسَعَى أَوَّلًا ثُمَّ طَافَ لِلْعُمْرَةِ وَسَعَى فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ ، وَطَوَافُهُ الْأَوَّلُ لِلْعُمْرَةِ كَمَا هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ وَنِيَّتُهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ لَغْوٌ فَلَا يَلْزَمُهُ بِهِ شَيْءٌ ، وَإِنْ طَافَ طَوَافَيْنِ لَهُمَا ثُمَّ سَعَى سَعْيَيْنِ فَقَدْ أَسَاءَ بِتَقْدِيمِهِ طَوَافَ التَّحِيَّةِ عَلَى سَعْيِ الْعُمْرَةِ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
أَمَّا عِنْدَهُمَا فَظَاهِرٌ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ بِتَقْدِيمِ النُّسُكِ ، وَتَأْخِيرِهِ شَيْءٌ سِوَى الْإِسَاءَةِ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى تَقْدِيمُ نُسُكٍ عَلَى نُسُكٍ يُوجِبُ الدَّمَ عَلَيْهِ عَلَى مَا نُبَيِّنُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلَكِنْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَا يَلْزَمُهُ دَمٌ ؛ لِأَنَّ تَقْدِيمَ طَوَافِ التَّحِيَّةِ عَلَى سَعْيِ الْعُمْرَةِ لَا يَكُونُ أَعْلَى مِنْ طَوَافِ التَّحِيَّةِ أَصْلًا ، وَاشْتِغَالُهُ بِطَوَافِ التَّحِيَّةِ قَبْلَ سَعْيِ الْعُمْرَةِ لَا يَكُونُ أَكْثَرَ تَأْثِيرًا مِنْ اشْتِغَالِهِ بِأَكْلٍ أَوْ نَوْمٍ ، وَلَوْ أَنَّهُ بَيْنَ
طَوَافِ الْعُمْرَةِ وَسَعْيِهَا اشْتَغَلَ بِنَوْمٍ أَوْ أَكْلٍ لَمْ يَلْزَمْهُ دَمٌ فَكَذَا إذَا اشْتَغَلَ بِطَوَافِ التَّحِيَّةِ
( قَالَ ) وَإِنْ طَافَ لِعُمْرَتِهِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ ، وَلِلتَّحِيَّةِ كَذَلِكَ ثُمَّ سَعَى يَوْمَ النَّحْرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ مِنْ أَجْلِ طَوَافِ الْعُمْرَةِ مِنْ غَيْرِ وُضُوءٍ ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَبْنِي الْمَسَائِلَ بَعْدَ هَذَا عَلَى أَصْلٍ ، وَهُوَ أَنَّ طَوَافَ الْمُحْدِثِ مُعْتَدٌّ بِهِ عِنْدَنَا ، وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يُعِيدَهُ ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْهُ فَعَلَيْهِ دَمٌ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُعْتَدُّ بِطَوَافِ الْمُحْدِثِ ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ بِمَنْزِلَةِ الصَّلَاةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهَا عِبَادَةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْبَيْتِ ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَّهَ الطَّوَافَ بِالصَّلَاةِ فَقَالَ { الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ فَأَقِلُّوا فِيهِ الْكَلَامَ } ثُمَّ الطَّهَارَةُ فِي الصَّلَاةِ شَرْطُ الِاعْتِدَادِ بِهِ فَكَذَلِكَ الطَّهَارَةُ فِي الطَّوَافِ ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ بِالنَّصِّ هُوَ الطَّوَافُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَلْيَطَّوَّفُوا وَهُوَ اسْمٌ لِلدَّوَرَانِ حَوْلَ الْبَيْتِ ، وَذَلِكَ يَتَحَقَّقُ مِنْ الْمُحْدِثِ وَالطَّاهِرِ فَاشْتِرَاطُ الطَّهَارَةِ فِيهِ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ ، وَمِثْلُ هَذِهِ الزِّيَادَةِ لَا تَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَا بِالْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّ الرُّكْنِيَّةَ لَا تَثْبُتُ إلَّا بِالنَّصِّ فَأَمَّا الْوُجُوبُ فَيَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْعَمَلَ وَلَا يُوجِبَ عِلْمَ الْيَقِينِ ، وَالرُّكْنِيَّةُ إنَّمَا تَثْبُتُ بِمَا يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ فَأَصْلُ الطَّوَافِ رُكْنٌ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ ، وَالطَّهَارَةُ فِيهِ تَثْبُتُ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ فَيَكُونُ مُوجِبُ الْعَمَلِ دُونَ الْعِلْمِ فَلَمْ تَصِرْ الطَّهَارَةُ رُكْنًا ، وَلَكِنَّهَا وَاجِبَةٌ ، وَالدَّمُ يَقُومُ مَقَامَ الْوَاجِبَاتِ فِي بَابِ الْحَجِّ ، وَهُوَ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّ الطَّهَارَةَ فِي الطَّوَافِ وَاجِبَةٌ ، وَكَانَ ابْنُ شُجَاعٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ إنَّهُ سُنَّةٌ ، وَفِي إيجَابِ الدَّمِ عِنْدَ تَرْكِهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِهِ ثُمَّ الْمُرَادُ تَشْبِيهُ الطَّوَافِ بِالصَّلَاةِ فِي حَقِّ التَّوَّابِ
دُونَ الْحُكْمِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَلَامَ الَّذِي هُوَ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي الطَّوَافِ ، وَأَنَّ الطَّوَافَ يَتَأَدَّى بِالْمَشْيِ ، وَالْمَشْيُ مُفْسِدٌ لِلصَّلَاةِ ، وَلِأَنَّ الطَّوَافَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ رُكْنُ الْحَجِّ لَا يَسْتَدْعِي الطَّهَارَةَ كَسَائِرِ الْأَرْكَانِ ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْبَيْتِ يَسْتَدْعِي الطَّهَارَةَ كَالصَّلَاةِ ، وَمَا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ أَصْلَيْنِ فَيُوَفِّرُ حَظَّهُ عَلَيْهِمَا فَلِشَبَهِهِ بِالصَّلَاةِ تَكُونُ الطَّهَارَةُ فِيهِ وَاجِبَةً ، وَلِكَوْنِهِ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ يُعْتَدُّ بِهِ إذَا حَصَلَ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ .
وَالْأَفْضَلُ فِيهِ الْإِعَادَةُ لِيَحْصُلَ الْجَبْرُ بِمَا هُوَ مِنْ جِنْسِهِ .
وَإِنْ لَمْ يُعِدْ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِلنُّقْصَانِ الْمُتَمَكِّنِ فِيهِ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ فَإِنَّ نَقَائِصَ الْحَجِّ تُجْبَرُ بِالدَّمِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ طَافَ لِلزِّيَارَةِ جُنُبًا يَعْتَدُّ بِهَذَا الطَّوَافِ فِي حُكْمِ التَّحَلُّلِ عَنْ الْإِحْرَامِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَعْتَدُّ بِهِ ثُمَّ عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ عِنْدَنَا ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْ حَتَّى رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ ؛ لِأَنَّ النُّقْصَانَ بِسَبَبِ الْجَنَابَةِ أَعْظَمُ مِنْ النُّقْصَانِ بِسَبَبِ الْحَدَثِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُحْدِثَ لَا يُمْنَعُ مِنْ قُرَاةِ الْقُرْآنِ ، وَالْجُنُبَ يُمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ الْجَنَابَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ مِنْ حَيْثُ الطَّوَافُ ، وَمِنْ حَيْثُ دُخُولُ الْمَسْجِدِ وَمَنْعُ الْمُحْدِثِ مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ فَلِتَفَاحُشِ النُّقْصَانِ هُنَا قُلْنَا يَلْزَمُهُ الْجَبْرُ بِالْبَدَنَةِ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ الْبَدَنَةُ فِي الْحَجِّ تَجِبُ فِي شَيْئَيْنِ عَلَى مَنْ طَافَ جُنُبًا ، وَعَلَى مَنْ جَامَعَ بَعْدَ الْوُقُوفِ ، وَإِنْ أَعَادَ طَوَافَهُ سَقَطَتْ عَنْهُ الْبَدَنَةُ ، وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ طَوَافُهُ الثَّانِي أَمْ الْأَوَّلُ كَانَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الْأَوَّلُ ، وَالثَّانِي
جَبْرٌ لِلْأَوَّلِ ، وَكَانَ يَسْتَدِلُّ عَلَى هَذَا بِمَا قَالَ فِي الْكِتَابِ إنَّهُ لَوْ طَافَ لِعُمْرَتِهِ جُنُبًا فِي رَمَضَانَ ثُمَّ أَعَادَ طَوَافَهُ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا فَلَوْ كَانَ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الطَّوَافُ الثَّانِي كَانَ مُتَمَتِّعًا وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْمُعْتَدَّ بِهِ مَا يَتَحَلَّلُ بِهِ مِنْ الْإِحْرَامِ ، وَالتَّحَلُّلُ حَصَلَ بِالطَّوَافِ الْأَوَّلِ فَهُوَ الْمُعْتَدُّ بِهِ ، وَالثَّانِي جَبْرٌ لِلنُّقْصَانِ الْمُتَمَكِّنِ فِيهِ كَالْبَدَنَةِ ، وَكَمَا لَوْ كَانَ مُحْدِثًا فِي الطَّوَافِ الْأَوَّلِ كَانَ هُوَ الْمُعْتَدَّ بِهِ ، وَالثَّانِي جَبْرًا لِلنُّقْصَانِ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ الْمُعْتَدَّ بِهِ هُوَ الثَّانِي ، وَأَنَّ الْأَوَّلَ يَنْفَسِخُ بِالثَّانِي أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ فِي الْكِتَابِ لَوْ طَافَ لِلزِّيَارَةِ جُنُبًا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ ثُمَّ أَعَادَ طَوَافَهُ بَعْدَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَعَلَيْهِ الدَّمُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِتَأْخِيرِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ عَنْ وَقْتِهِ ، وَلَوْ كَانَ الْمُعْتَدُّ بِهِ هُوَ الْأَوَّلُ لَمْ يَلْزَمْهُ دَمُ التَّأْخِيرِ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ مُؤَدًّى فِي وَقْتِهِ .
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ التَّمَتُّعِ فَلِأَنَّهُ بِمَا أَدَّى مِنْ الطَّوَافِ فِي رَمَضَانَ ، وَقَعَ لَهُ الْأَمْنُ عَنْ فَسَادِ الْعُمْرَةِ فَإِذَا أَمِنَ فَسَادَهَا قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الْحَجِّ لَا يَكُونُ بِهَا مُتَمَتِّعًا ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَوَّلَ كَانَ حُكْمُهُ مُرَاعًى لِتَفَاحُشِ النُّقْصَانِ فَإِنْ أَعَادَهُ انْفَسَخَ الْأَوَّلُ ، وَصَارَ الْمُعْتَدُّ بِهِ هُوَ الثَّانِي ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْ كَانَ مُعْتَدًّا بِهِ فِي التَّحَلُّلِ كَمَنْ قَامَ فِي صَلَاتِهِ وَلَمْ يَقْرَأْ حَتَّى رَكَعَ كَانَ قِيَامُهُ وَرُكُوعُهُ مُرَاعًى عَلَى سَبِيلِ التَّوَقُّفِ فَإِنْ عَادَ فَقَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ انْفَسَخَ الْأَوَّلُ حَتَّى أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ مَعَهُ الرُّكُوعَ الثَّانِيَ كَانَ مُدْرِكًا لِلرَّكْعَةِ ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْ ، وَقَرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُخْرَيَيْنِ كَانَ الْأَوَّلُ مُعْتَدًّا بِهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُحْدِثِ ؛ لِأَنَّ
النُّقْصَانَ هُنَاكَ يَسِيرٌ فَلَا يَتَوَقَّفُ بِهِ حُكْمُ الطَّوَافِ الْأَوَّلِ بَلْ بَقِيَ مُعْتَدًّا بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَكَانَ الثَّانِي جَابِرًا لِلنُّقْصَانِ الْمُتَمَكِّنِ فِيهِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ طَافَتْ الْمَرْأَةُ لِلزِّيَارَةِ حَائِضًا فَهَذَا ، وَالطَّوَافُ جُنُبًا سَوَاءٌ ، وَلَوْ طَافَ لِلزِّيَارَةِ ، وَفِي ثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ كَانَ مُسِيئًا ، وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ حُكْمَ النَّجَاسَةِ فِي الثَّوْبِ أَخَفُّ أَلَا تَرَى أَنَّ الصَّلَاةَ مَعَ قَلِيلٍ مِنْ النَّجَاسَةِ فِي الثَّوْبِ تَجُوزُ ، وَكَذَلِكَ مَعَ النَّجَاسَةِ الْكَثِيرَةِ فِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ فَلَا يَتَمَكَّنُ بِنَجَاسَةِ الثَّوْبِ نُقْصَانٌ فِي طَوَافِهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا طَافَ عُرْيَانًا فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالْإِعَادَةِ .
وَإِنْ لَمْ يُعِدْ فَعَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِأَنَّ سَتْرَ الْعَوْرَةِ مِنْ وَاجِبَاتِ الطَّوَافِ ، وَالْكَشْفَ مُحَرَّمٌ لِأَجْلِ الطَّوَافِ عَلَى مَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَلَا لَا يَطُوفَنَّ بِالْبَيْتِ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا عُرْيَانٌ } فَبِسَبَبِ الْكَشْفِ يَتَمَكَّنُ نُقْصَانٌ فِي الطَّوَافِ ، فَأَمَّا اشْتِرَاطُ طَهَارَةِ الثَّوْبِ لَيْسَ لِأَجْلِ الطَّوَافِ عَلَى الْخُصُوصِ فَلَا يَتَمَكَّنُ بِتَرْكِهِ نُقْصَانٌ فِي الطَّوَافِ ، وَلَوْ كَانَ طَافَ لِلْعُمْرَةِ جُنُبًا فَفِي الْقِيَاسِ عَلَيْهِ بَدَنَةٌ أَيْضًا كَمَا فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رُكْنٌ ، وَلَكِنَّهُ تَرَكَ الْقِيَاسَ هُنَا ، وَقَالَ عَلَيْهِ الدَّمُ فَقَطْ ؛ لِأَنَّهُ لَا مَدْخَلَ لِلْبَدَنَةِ فِي الْعُمْرَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ بِالْجِمَاعِ لَا تَجِبُ الْبَدَنَةُ فِي إحْرَامِ الْعُمْرَةِ بِخِلَافِ الْحَجِّ ، وَلِأَنَّ الدَّمَ يَقُومُ مَقَامَ الْعُمْرَةِ فَإِنْ فَاتَ الْحَجُّ يَتَحَلَّلُ بِأَفْعَالِ الْعُمْرَةِ ثُمَّ الدَّمُ فِي حَقِّ الْمُحْصَرِ يَقُومُ مُقَامَ أَفْعَالِ الْعُمْرَةِ لِلتَّحَلُّلِ فَلَأَنْ يَقُومَ الدَّمُ مَقَامَ النُّقْصَانِ الْمُتَمَكِّنِ فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ بِسَبَبِ الْجَنَابَةِ كَانَ أَوْلَى فَأَمَّا الدَّمُ لَا يَقُومُ مَقَامَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ ، وَالْبَدَنَةُ قَدْ تَقُومُ مَقَامَهُ
حَتَّى إذَا مَاتَ بَعْدَ الْوُقُوفِ ، وَأَوْصَى بِالْإِتْمَامِ عَنْهُ تَجِبُ بَدَنَةٌ لِطَوَافِ الزِّيَارَةِ فَكَذَلِكَ الْبَدَنَةُ تَقُومُ مَقَامَ النُّقْصَانِ الْمُتَمَكِّنِ بِسَبَبِ الْجَنَابَةِ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ الْقَارِنُ إذَا طَافَ حِينَ قَدِمَ مِنْ مَكَّةَ طَوَافَيْنِ مُحْدِثًا ثُمَّ وَقَفَ بِعَرَفَاتٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِلنُّقْصَانِ الْمُتَمَكِّنِ بِسَبَبِ الْحَدَثِ فِي طَوَافِ الْعُمْرَةِ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ بِطَوَافِ التَّحِيَّةِ مَعَ الْحَدَثِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ أَعْلَى مِنْ تَرْكِ طَوَافِ التَّحِيَّةِ أَصْلًا ، وَلَكِنَّهُ يَرْمُلُ فِي طَوَافِ الْحَجِّ فِي يَوْمِ النَّحْرِ ، وَيَسْعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ اسْتِحْسَانًا ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَضُرَّهُ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ طَوَافَهُ الْأَوَّلَ لِلتَّحِيَّةِ مُعْتَدٌّ بِهِ مَعَ الْحَدَثِ فَالسَّعْيُ بَعْدَهُ مُعْتَدٌّ بِهِ أَيْضًا ، وَالطَّهَارَةُ فِي السَّعْيِ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ ، وَلَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ إعَادَةُ ذَلِكَ الطَّوَافِ فَكَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ إعَادَةُ ذَلِكَ الرَّمَلِ ، وَالسَّعْيِ يَوْمَ النَّحْرِ ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ لَمْ يَضُرَّهُ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ .
( قَالَ ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ طَوَافَ الْعُمْرَةِ ، وَإِنْ أَعَادَ فَهُوَ أَفْضَلُ ، وَالدَّمُ عَلَيْهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْعَلَ الْمُعْتَدَّ بِهِ الطَّوَافَ الثَّانِيَ ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بَعْدَ الْوُقُوفِ ، وَلَا يَجُوزُ طَوَافُ الْعُمْرَةِ بَعْدَ الْوُقُوفِ عَلَى مَا بَيَّنَّا فَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الْأَوَّلُ لَا مَحَالَةَ ، وَهُوَ نَاقِصٌ ، فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَلَمْ يَذْكُرْ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَقِيلَ عَلَى قَوْلِهِمَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْقُطَ عَنْهُ الدَّمُ بِالْإِعَادَةِ ؛ لِأَنَّ رَفْعَ النُّقْصَانِ عَنْ طَوَافِ الْعُمْرَةِ بَعْدَ الْوُقُوفِ صَحِيحٌ كَمَا لَوْ طَافَ لِلْعُمْرَةِ قَبْلَ الْوُقُوفِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ ثُمَّ أَتَمَّ طَوَافَهُ يَوْمَ النَّحْرِ كَانَ صَحِيحًا فَكَذَا هَذَا .
وَإِذَا ارْتَفَعَ النُّقْصَانُ
بِالْإِعَادَةِ لَا يَلْزَمُهُ الدَّمُ ، وَإِنْ طَافَهُمَا جُنُبًا فَعَلَيْهِ دَمٌ لِطَوَافِ الْعُمْرَةِ ، وَيُعِيدُ السَّعْيَ لِلْحَجِّ ؛ لِأَنَّهُ أَدَّاهُ عَقِيبَ طَوَافِ التَّحِيَّةِ جُنُبًا فَعَلَيْهِ إعَادَتُهُ بَعْدَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ قَالَ فَإِنْ لَمْ يُعِدْ فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ طَوَافَ الْجُنُبِ لِلتَّحِيَّةِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ أَصْلًا فَإِنَّهُ جَعَلَهُ كَمَنْ تَرَكَ السَّعْيَ حِينَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الدَّمَ فَدَلَّ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ الْجُنُبَ إذَا أَعَادَ الطَّوَافَ كَانَ الْمُعْتَدُّ بِهِ الثَّانِيَ دُونَ الْأَوَّلِ .
مُفْرِدٌ أَوْ قَارِنٌ طَافَ لِلزِّيَارَةِ مُحْدِثًا ، وَلَمْ يَطُفْ لِلصَّدَرِ حَتَّى رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ دَمَانِ أَحَدُهُمَا لِلْحَدَثِ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ ، وَالْآخَرُ لِتَرْكِ طَوَافِ الصَّدَرِ .
وَإِنْ كَانَ طَافَ لِلصَّدَرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ وَاحِدٌ لِتَرْكِ الطَّهَارَةِ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ ، وَلَا يُجْعَلُ طَوَافُهُ لِلصَّدَرِ إعَادَةً مِنْهُ لِطَوَافِ الزِّيَارَةِ ؛ لِأَنَّ إقَامَةَ هَذَا الطَّوَافِ مَقَامَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ غَيْرُ مُفِيدٍ فِي حَقِّهِ فَإِنَّهُ إذَا جَعَلَ هَذَا إعَادَةً بِهِ لِطَوَافِ الزِّيَارَةِ صَارَ تَارِكًا لِطَوَافِ الصَّدَرِ فَيَلْزَمُهُ الدَّمُ لِأَجْلِهِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا لَا يَشْتَغِلُ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ طَافَ لِلزِّيَارَةِ جُنُبًا ، وَلَمْ يَطُفْ لِلصَّدَرِ حَتَّى رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَإِنَّهُ يَعُودُ إلَى مَكَّةَ لِيَطُوفَ طَوَافَ الزِّيَارَةِ ، وَإِذَا عَادَ فَعَلَيْهِ إحْرَامٌ جَدِيدٌ ؛ لِأَنَّ طَوَافَهُ الْأَوَّلَ مُعْتَدٌّ بِهِ فِي حَقِّ التَّحَلُّلِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَيَلْزَمُهُ إحْرَامٌ جَدِيدٌ لِدُخُولِ مَكَّةَ ثُمَّ يَلْزَمُهُ دَمٌ لِتَأْخِيرِهِ طَوَافَ الزِّيَارَةِ عَنْ وَقْتِهِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَخَّرَ الطَّوَافَ حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ ، وَسَنُبَيِّنُ هَذَا الْفَصْلَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُوَ الطَّوَافُ الثَّانِي ، وَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ إلَى
مَكَّةَ فَعَلَيْهِ بَدَنَةٌ لِطَوَافِ الزِّيَارَةِ ، وَشَاةٌ لِتَرْكِ طَوَافِ الصَّدَرِ ، وَعَلَى الْحَائِضِ مِثْلُ ذَلِكَ لِلزِّيَارَةِ وَلَيْسَ عَلَيْهَا لِتَرْكِ طَوَافِ الصَّدَرِ شَيْءٌ لِأَنَّ لِلْحَائِضِ رُخْصَةٌ فِي تَرْكِ طَوَافِ الصَّدَرِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ صَفِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { فَإِنَّهُ أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ أَنَّهَا حَاضَتْ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَقْرَى حَلْقَى أَحَابِسَتُنَا هِيَ ؟ فَقِيلَ إنَّهَا قَدْ طَافَتْ قَالَ فَلْتَنْفِرْ إذَنْ } فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْحَائِضَ مَمْنُوعَةٌ عَنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا طَوَافُ الصَّدَرِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أُخْبِرَ أَنَّهَا طَافَتْ لِلزِّيَارَةِ أَمَرَهَا بِأَنْ تَنْفِرَ مَعَهُمْ ، وَإِنْ طَافَ لِلزِّيَارَةِ جُنُبًا ، وَطَافَ لِلصَّدَرِ طَاهِرًا فِي آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ كَانَ طَوَافُ الصَّدَرِ مَكَانَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِعَادَةَ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهِ فَيَقَعُ عَمَّا هُوَ الْمُسْتَحَقُّ ، وَإِنْ نَوَاهُ عَنْ غَيْرِهِ ، وَفِي إقَامَةِ هَذَا الطَّوَافِ مَقَامَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ فَائِدَةٌ ، وَهِيَ إسْقَاطُ الْبَدَنَةِ عَنْهُ ثُمَّ يَجِبُ عَلَيْهِ دَمَانِ أَحَدُهُمَا لِتَرْكِ طَوَافِ الصَّدَرِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا ، وَالْآخَرُ لِتَأْخِيرِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ إلَى آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي الْحَائِضِ إذَا طَافَتْ لِلزِّيَارَةِ ثُمَّ طَهُرَتْ فَطَافَتْ لِلصَّدَرِ فِي آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ طَوَافَ الزِّيَارَةِ مُؤَقَّتٌ بِأَيَّامِ النَّحْرِ فَتَأْخِيرُهُ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ يُوجِبُ الدَّمَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَلَا يُوجِبُ الدَّمَ فِي قَوْلِهِمَا .
وَعَلَى هَذَا مَنْ قَدَّمَ نُسُكًا عَلَى نُسُكٍ كَأَنْ حَلَقَ قَبْلَ الرَّمْيِ أَوْ نَحَرَ الْقَارِنُ قَبْلَ الرَّمْيِ أَوْ حَلَقَ قَبْلَ الذَّبْحِ فَعَلَيْهِ دَمٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعِنْدَهُمَا لَا يَلْزَمُهُ الدَّمُ بِالتَّقْدِيمِ ،
وَالتَّأْخِيرِ ، وَحُجَّتُهُمَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النَّحْرِ حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ فَقَالَ ارْمِ وَلَا حَرَجَ ، وَقَالَ آخَرُ حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ فَقَالَ اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ ، وَمَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ يَوْمئِذٍ قُدِّمَ أَوْ أُخِّرَ إلَّا قَالَ افْعَلْ وَلَا حَرَجَ } فَدَلَّ أَنَّ التَّقْدِيمَ وَالتَّأْخِيرَ لَا يُوجِبُ شَيْئًا وَلَأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { مَنْ قَدَّمَ نُسُكًا عَلَى نُسُكٍ فَعَلَيْهِ دَمٌ } ، وَتَأْوِيلُ الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَذَرَهُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِقُرْبِ عَهْدِهِمْ بِتَعَلُّمِ التَّرْتِيبِ وَمَا يَلْحَقُهُمْ مِنْ الْمَشَقَّةِ فِي مُرَاعَاةِ ذَلِكَ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ افْعَلْ وَلَا حَرَجَ أَيْ لَا حَرَجَ فِيمَا تَأْتِي بِهِ ، وَبِهِ يَقُولُ ، وَإِنَّمَا الدَّمُ عَلَيْهِ بِمَا قَدَّمَهُ عَلَى وَقْتِهِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ تَوَقُّتَ النُّسُكِ بِزَمَانٍ كَتَوَقُّتِهِ بِالْمَكَانِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَدَّى النُّسُكُ إلَّا بِمَكَانٍ وَزَمَانٍ ثُمَّ مَا كَانَ مُؤَقَّتًا بِالْمَكَانِ إذَا أَخَّرَهُ عَنْ ذَلِكَ الْمَكَانِ يَلْزَمُهُ الدَّمُ كَالْإِحْرَامِ الْمُؤَقَّتِ بِالْمِيقَاتِ إذَا أَخَّرَهُ عَنْهُ بِأَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ حَلَالًا ثُمَّ أَحْرَمَ فَكَذَلِكَ مَا كَانَ مُؤَقَّتًا بِالزَّمَانِ ، وَهُوَ طَوَافُ الزِّيَارَةِ الَّذِي هُوَ مُؤَقَّتًا بِأَيَّامِ النَّحْرِ بِالنَّصِّ إذَا أَخَّرَهُ .
قُلْنَا يَلْزَمُهُ الدَّمُ ، وَهَذَا لِأَنَّ مُرَاعَاةَ الْوَقْتِ فِي الْأَرْكَانِ وَاجِبٌ كَمُرَاعَاةِ الْمَكَانِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ الْوُقُوفَ لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ وَقْتِهِ كَمَا لَا يَجُوزُ فِي غَيْرِ مَكَانِهِ فَبِتَأَخُّرِ الطَّوَافُ عَنْ وَقْتِهِ يَصِيرُ تَارِكًا لِمَا هُوَ وَاجِبٌ ، وَتَرْكُ الْوَاجِبِ فِي الْحَجِّ يُوجِبُ الْجَبْرَ بِالدَّمِ ثُمَّ الْأَصْلُ بَعْدَ هَذَا أَنَّ أَكْثَرَ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ بِمَنْزِلَةِ الْكُلِّ فِي حُكْمِ التَّحَلُّلِ بِهِ عَنْ الْإِحْرَامِ
عِنْدَنَا .
وَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الطَّهَارَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْإِحْكَامِ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَقُومُ الْأَكْثَرُ مَقَامَ الْكَمَالِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي اعْتِبَارِ الطَّوَافِ بِالصَّلَاةِ فَكَمَا أَنَّ أَكْثَرَ عَدَدِ رَكَعَاتِ الصَّلَاةِ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْكَمَالِ فَكَذَلِكَ أَشْوَاطُ الطَّوَافِ لَا تَقُومُ مَقَامَ الْكَمَالِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الطَّوَافِ بِسَبْعَةِ أَشْوَاطٍ ثَابِتٌ بِالنُّصُوصِ الْمُتَوَاتِرَةُ فَكَانَ كَالْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ ، وَمَا يُقَدَّرُ شَرْعًا بِقَدْرٍ لَا يَكُونُ لِمَا دُونَ ذَلِكَ الْقَدْرِ حُكْمُ ذَلِكَ الْقَدْرِ كَمَا فِي الْحُدُودِ وَغَيْرِهَا ، وَلَنَا أَنَّ الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الدَّوَرَانِ حَوْلَهُ ، وَلَا يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ التَّكْرَارَ إلَّا أَنَّهُ ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلًا وَفِعْلًا تَقْدِيرُ كَمَالِ الطَّوَافِ بِسَبْعَةِ أَشْوَاطٍ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ التَّقْدِيرُ لِلْإِتْمَامِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ لِلِاعْتِدَادِ بِهِ فَيَثْبُتُ مِنْهُ الْقَدْرُ الْمُتَيَقَّنُ ، وَهُوَ أَنْ يُجْعَلَ ذَلِكَ شَرْطُ الْإِتْمَامِ ، وَلَئِنْ كَانَ شَرْطُ الِاعْتِدَادِ يُقَامُ الْأَكْثَرُ فِيهِ مَقَامَ الْكَمَالِ لِتَرَجُّحِ جَانِبِ الْوُجُودِ عَلَى جَانِبِ الْعَدَمِ إذَا أَتَى بِالْأَكْثَرِ مِنْهُ ، وَمِثْلُهُ صَحِيحٌ فِي الشَّرْعِ كَمَنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي الرُّكُوعِ يُجْعَلُ اقْتِدَاؤُهُ فِي أَكْثَرِ الرَّكْعَةِ كَالِاقْتِدَاءِ فِي جَمِيعِ الرَّكْعَةِ فِي الِاعْتِدَادِ بِهِ ، وَالْمُتَطَوِّعُ بِالصَّوْمِ إذَا نَوَى قَبْلَ الزَّوَالِ يُجْعَلُ وُجُودُ النِّيَّةِ فِي أَكْثَرِ الْيَوْمِ كَوُجُودِهَا فِي جَمِيعِ الْيَوْمِ ، وَكَذَلِكَ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ عِنْدَنَا .
وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ الطَّوَافُ مِنْ أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ ، وَفِي أَسْبَابِ التَّحَلُّلِ يُقَامُ الْبَعْضُ مَقَامَ الْكُلِّ كَمَا فِي الْحَلْقِ إلَّا أَنَّا اعْتَبَرْنَا هُنَا الْأَكْثَرَ لِيَتَرَجَّحَ جَانِبُ الْوُجُودِ فَإِنَّ الطَّوَافَ عِبَادَةٌ مَقْصُودَةٌ ،
وَالْحَلْقَ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ مَقْصُودَةٍ فَيُقَامُ الرُّبُعُ مَقَامَ الْكُلِّ هُنَاكَ .
إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ : إذَا طَافَ لِلزِّيَارَةِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ يَتَحَلَّلُ بِهِ مِنْ الْإِحْرَامِ عِنْدَنَا حَتَّى لَوْ جَامَعَ بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِخِلَافِ مَا لَوْ طَافَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَتَحَلَّلُ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ خُطْوَةٌ مِنْ شَوْطٍ ، وَلَوْ طَافَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ لِلزِّيَارَةِ وَلَمْ يَطُفْ لِلصَّدَرِ ، وَرَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعُودَ بِالْإِحْرَامِ الْأَوَّلِ ، وَيَقْضِيَ بَقِيَّةَ طَوَافِ الزِّيَارَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَكْثَرَ بَاقٍ عَلَيْهِ فَكَانَ إحْرَامُهُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ بَاقِيًا ، وَلَا يَحْتَاجُ هَذَا إلَى إحْرَامٍ جَدِيدٍ عِنْدَ الْعَوْدِ ، وَلَا يَقُومُ الدَّمُ مَقَامَ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ ، وَلَكِنْ يَلْزَمُهُ الْعَوْدُ إلَى مَكَّةَ لِبَقِيَّةِ الطَّوَافِ عَلَيْهِ ثُمَّ يُرِيقُ دَمًا لِتَأْخِيرِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ أَكْثَرِ الْأَشْوَاطِ عَنْ أَيَّامِ النَّحْرِ كَتَأْخِيرِ الْكُلِّ ، وَيَطُوفُ لِلصَّدَرِ ، وَإِنْ كَانَ طَافَ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ أَجْزَأَهُ أَنْ لَا يَعُودَ ، وَلَكِنْ يَبْعَثُ بِشَاتَيْنِ إحْدَاهُمَا لِمَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ ؛ لِأَنَّ مَا بَقِيَ أَقَلُّ ، وَشَرْطُ الطَّوَافِ الْكَمَالُ فَيَقُومُ الدَّمُ مَقَامَهُ ، وَالدَّمُ الْآخَرُ لِطَوَافِ الصَّدَرِ ، وَإِنْ اخْتَارَ الْعَوْدَ إلَى مَكَّةَ يَلْزَمُهُ إحْرَامٌ جَدِيدٌ ؛ لِأَنَّ التَّحَلُّلَ قَدْ حَصَلَ لَهُ مِنْ الْإِحْرَامِ الْأَوَّلِ فَإِذَا عَادَ بِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ ، وَأَعَادَ مَا بَقِيَ مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ ، وَطَافَ لِلصَّدَرِ أَجْزَأَهُ ، وَكَانَ عَلَيْهِ لِتَأْخِيرِ كُلِّ شَوْطٍ مِنْ أَشْوَاطِ طَوَافِ الزِّيَارَةِ صَدَقَةٌ ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ الْكُلِّ لَمَّا كَانَ يُوجِبُ الدَّمَ عَنْهُ فَتَأْخِيرُ الْأَقَلِّ لَا يُوجِبُ الدَّمَ ، وَلَكِنْ يُوجِبُ الصَّدَقَةَ ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَقُولُ تَلْزَمُهُ صَدَقَةٌ فَالْمُرَادُ طَعَامُ مِسْكِينٍ مُدَّيْنِ مِنْ حِنْطَةٍ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ
قِيمَةُ ذَلِكَ قِيمَةَ شَاةٍ فَحِينَئِذٍ يُنْقِصُ مِنْهُ مَا أَحَبَّ
( قَالَ ) وَإِنْ طَافَ الْأَقَلَّ مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ ، وَطَافَ لِلصَّدَرِ فِي آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ يُكْمِلُ طَوَافَ الزِّيَارَةِ مِنْ طَوَافِ الصَّدَرِ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الزِّيَارَةِ عَلَيْهِ أَقْوَى فَمَا أَتَى بِهِ مَصْرُوفٌ إلَى إكْمَالِهِ ، وَإِنْ نَوَاهُ عَنْ غَيْرِهِ ، وَعَلَيْهِ لِتَأْخِيرِ ذَلِكَ دَمٌ عَنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ثُمَّ قَدْ بَقِيَ مِنْ طَوَافِهِ لِلصَّدَرِ ثَلَاثَةُ أَشْوَاطٍ فَصَارَ تَارِكًا لِلْأَكْثَرِ مِنْ طَوَافِ الصَّدَرِ ، وَذَلِكَ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ تَرْكِ الْكُلِّ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ الْمَتْرُوكُ مِنْ طَوَافِ الزِّيَارَةِ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ أَكْمَلَ ذَلِكَ مِنْ طَوَافِ الصَّدَرِ كَمَا بَيَّنَّا ، وَعَلَيْهِ لِكُلِّ شَوْطٍ مِنْهُ صَدَقَةٌ بِسَبَبِ التَّأْخِيرِ عَنْ وَقْتِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي تَأْخِيرِ الْأَقَلِّ مَا يَجِبُ فِي تَأْخِيرِ الْكُلِّ ثُمَّ قَدْ بَقِيَ مِنْ طَوَافِ الصَّدَرِ أَرْبَعَةُ أَشْوَاطٍ فَإِنَّمَا تَرَكَ الْأَقَلَّ مِنْهَا فَيَكْفِيهِ لِكُلِّ شَوْطٍ صَدَقَةٌ ؛ لِأَنَّ الدَّمَ يَقُومُ مَقَامَ جَمِيعِ طَوَافِ الصَّدَرِ فَلَا يَجِبُ فِي تَرْكِ أَقَلِّهِ مَا يَجِبُ فِي تَرْكِ كُلِّهِ ، وَلَوْ طَافَ لِلصَّدَرِ جُنُبًا فَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَفَاحُشِ النُّقْصَانِ بِسَبَبِ الْجَنَابَةِ ، وَيَكُونُ هُوَ كَالتَّارِكِ لِطَوَافِ الصَّدَرِ أَصْلًا ، وَلَوْ طَافَ لِلصَّدَرِ وَهُوَ مُحْدِثٌ فَعَلَيْهِ صَدَقَةٌ لِقِلَّةِ النُّقْصَانِ بِسَبَبِ الْحَدَثِ .
وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى سَوَّى بَيْنَ الْحَدَثِ وَالْجَنَابَةِ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ طَوَافَ الْجُنُبِ مُعْتَدٌّ بِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ التَّحَلُّلَ مِنْ الْإِحْرَامِ يَحْصُلُ بِهِ فِي طَوَافِ الزِّيَارَةِ فَلَا يَجِبُ بِسَبَبِ هَذَا النُّقْصَانِ مَا يَجِبُ بِتَرْكِهِ أَصْلًا
( قَالَ ) وَلَوْ طَافَ بِالْبَيْتِ مَنْكُوسًا بِأَنْ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ ثُمَّ أَخَذَ عَلَى يَسَارِ الْكَعْبَةِ ، وَطَافَ كَذَلِكَ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ عِنْدَنَا يُعْتَدُّ بِطَوَافِهِ فِي حُكْمِ التَّحَلُّلِ ، وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ مَا دَامَ بِمَكَّةَ فَإِنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ قَبْلَ الْإِعَادَةِ فَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يُعْتَدُّ بِطَوَافِهِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الطَّوَافَ بِمَنْزِلَةِ الصَّلَاةِ فَكَمَا أَنَّهُ لَوْ صَلَّى مَنْكُوسًا بِأَنْ بَدَأَ بِالتَّشَهُّدِ لَا يَجْزِيهِ فَكَذَلِكَ الطَّوَافُ .
وَلَنَا الْأَصْلُ الَّذِي قُلْنَا أَنَّ الثَّابِت بِالنَّصِّ الدَّوَرَانُ حَوْلَ الْبَيْتِ ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ مِنْ أَيِّ جَانِبٍ أَخَذَ ، وَلَكِنْ بِفِعْلِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَخَذَ عَلَى يَمِينِهِ عَلَى بَابِ الْكَعْبَةِ تَبَيَّنَ أَنَّ الْوَاجِبَ هَذَا فَكَانَتْ هَذِهِ صِفَةٌ وَاجِبَةٌ فِي هَذَا الرُّكْنِ بِمَنْزِلَةِ شَرْطِ الطَّهَارَةِ عِنْدَنَا فَتَرْكُهُ لَا يَمْنَعُ الِاعْتِدَادَ بِهِ ، وَلَكِنْ يُمْكِنُ فِيهِ نُقْصَانًا يُجْبَرُ بِالدَّمِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمَعْنَى فِيهِ مَعْقُولٌ ، وَهُوَ تَعْظِيمُ الْبُقْعَةِ ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ مِنْ أَيِّ جَانِبِ أَخَذَ فَعَرَفْنَا أَنَّ فِعْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْبِدَايَةِ بِالْجَانِبِ الْأَيْمَنِ لِبَيَانِ صِفَةِ الْإِتْمَامِ لَا لِبَيَانِ صِفَةِ الرُّكْنِيَّةِ بِخِلَافِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ ، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا بِمَا لَوْ بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ فِي السَّعْيِ حَيْثُ لَا يُعْتَدُّ بِهِ لِمَا أَنَّهُ أَدَّاهُ مَنْكُوسًا فَمِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ قَالَ : يُعْتَدُّ بِهِ ، وَلَكِنْ يَكُونُ مَكْرُوهًا .
وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُعْتَدُّ بِالشَّوْطِ الْأَوَّلِ لَا لِكَوْنِهِ مَنْكُوسًا ، وَلَكِنْ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُنَاكَ صُعُودُ الصَّفَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ ، وَالْمَرْوَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَإِذَا بَدَأَ بِالْمَرْوَةِ فَإِنَّمَا صَعِدَ الصَّفَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصْعَدَ الصَّفَا مَرَّةً أُخْرَى ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَأْمُرَ
بِذَلِكَ إلَّا بِإِعَادَةِ شَوْطٍ وَاحِدٍ مِنْ الطَّوَافِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَأَمَّا هُنَا مَا تَرَكَ شَيْئًا مِنْ أَصْلِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فَقَدْ دَارَ حَوْلَ الْبَيْتِ سَبْعَ مَرَّاتٍ فَلِهَذَا كَانَ طَوَافُهُ مُعْتَدًّا بِهِ
( قَالَ ) وَإِنْ طَافَ رَاكِبًا أَوْ مَحْمُولًا فَإِنْ كَانَ لِعُذْرٍ مِنْ مَرَضٍ أَوْ كِبَرٍ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ أَعَادَهُ مَا دَامَ بِمَكَّةَ فَإِنْ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ الدَّمُ عِنْدَنَا ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ صَحَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { طَافَ لِلزِّيَارَةِ يَوْمَ النَّحْرِ عَلَى نَاقَتِهِ ، وَاسْتَلَمَ الْأَرْكَانَ بِمِحْجَنِهِ } ، وَلَكِنَّا نَقُولُ التَّوَارُثُ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا الطَّوَافُ مَاشِيًا ، وَعَلَى هَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ يَجْعَلُهُ كَالصَّلَاةِ الدَّمُ ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الْمَكْتُوبَةِ رَاكِبًا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ لَا يَجُوزُ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَتَعَدَّ بِطَوَافِ الرَّاكِبِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمَشْيُ شَرْطُ الْكَمَالِ فِيهِ فَتَرْكُهُ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ يُوجِبُ الدَّمَ لِمَا بَيَّنَّا فَأَمَّا تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ فَقَدْ ذَكَرَ أَبُو الطُّفَيْلِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ طَافَ رَاكِبًا لِوَجَعٍ أَصَابَهُ ، وَهُوَ أَنَّهُ وَثَبَتْ رِجْلُهُ فَلِهَذَا طَافَ رَاكِبًا ، وَذَكَرَ ابْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّمَا طَافَ رَاكِبًا لِيُشَاهِدَهُ النَّاسُ فَيَسْأَلُوهُ عَنْ حَوَادِثِهِمْ ، وَقِيلَ إنَّمَا طَافَ رَاكِبًا لِكِبَرِ سِنِّهِ } ، وَعِنْدَنَا إذَا كَانَ لِعُذْرٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ ، وَكَذَلِكَ إذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا ، وَالْمَرْوَةِ مَحْمُولًا أَوْ رَاكِبًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَافَ الْأَكْثَرُ رَاكِبًا أَوْ مَحْمُولًا فَالْأَكْثَرُ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ عَلَى مَا بَيَّنَّا
( قَالَ ) وَإِذَا طَافَ الْمُعْتَمِرُ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ مِنْ طَوَافِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ بِأَنْ كَانَ أَحْرَمَ لِلْعُمْرَةِ فِي رَمَضَانَ فَطَافَ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ ثُمَّ دَخَلَ شَوَّالٌ فَأَتَمَّ طَوَافَهُ ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ كَانَ مُتَمَتِّعًا ، وَإِنْ كَانَ طَافَ لِأَكْثَرَ فِي رَمَضَانَ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْأَكْثَرَ يَقُومُ مَقَامَ الْكُلِّ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ جَامَعَ الْمُعْتَمِرُ بَعْدَمَا طَافَ لِعُمْرَتِهِ أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ لَمْ تَفْسُدْ عُمْرَتُهُ ، وَيَمْضِي فِيهَا وَعَلَيْهِ دَمٌ ، وَإِنْ جَامَعَ بَعْدَمَا طَافَ لَهَا ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ فَسَدَتْ عُمْرَتُهُ فَيَمْضِي فِي الْفَاسِدِ حَتَّى يُتِمَّهَا ، وَعَلَيْهِ دَمٌ لِلْجِمَاعِ ، وَعُمْرَةٌ مَكَانَهَا لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَكْثَرَ يَقُومُ مَقَامَ الْكَمَالِ ، وَجِمَاعُهُ بَعْدَ إكْمَالِ طَوَافِ الْعُمْرَةِ غَيْرُ مُفْسِدٍ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ مُؤَدَّاةً بِأَدَاءِ رُكْنِهَا فَكَذَلِكَ بَعْدَ أَدَاءِ الْأَكْثَرِ مِنْ الطَّوَافِ
( قَالَ ) وَإِنْ طَافَ لِلْعُمْرَةِ فِي رَمَضَانَ جُنُبًا أَوْ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا إنْ أَعَادَهُ فِي شَوَّالٍ أَوْ لَمْ يُعِدْهُ ، وَبِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ اسْتَدَلَّ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْعُذْرَ فِيهِ أَنَّهُ إنَّمَا لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا لِوُقُوعِ الْأَمْنِ لَهُ مِنْ الْفَسَادِ بِمَا أَدَّاهُ فِي رَمَضَانَ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ مَوْقُوفًا لَبَطَلَ بِالْإِعَادَةِ فِي شَوَّالٍ
( قَالَ ) كُوفِيٌّ اعْتَمَرَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ فَطَافَ لِعُمْرَتِهِ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ ، وَرَجَعَ إلَى الْكُوفَةِ ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَرَجَعَ إلَى مَكَّةَ فَقَضَى مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ عُمْرَتِهِ مِنْ الطَّوَافِ وَالسَّعْيِ ، وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ذَلِكَ كَانَ مُتَمَتِّعًا ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَتَى بِأَكْثَرِ الْأَشْوَاطِ بَعْدَمَا رَجَعَ ثَانِيًا فَكَأَنَّهُ أَتَى بِالْكُلِّ بَعْدَ رُجُوعِهِ ، وَلَوْ كَانَ طَافَ أَوَّلًا أَرْبَعَةَ أَشْوَاطٍ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا كَمَا لَوْ أَكْمَلَ الطَّوَافَ ، وَهَذَا لِوُجُودِ الْإِلْمَامِ بِأَهْلِهِ بَيْنَ النُّسُكَيْنِ ، وَإِنْشَائِهِ السَّفَرَ لِأَدَاءِ كُلِّ نُسُكٍ مِنْ بَيْتِهِ
( قَالَ ) وَتَرَكَ الرَّمَلِ فِي طَوَافِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالسَّعْيِ فِي بَطْنِ الْوَادِي بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لَا يُوجِبُ عَلَيْهِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّهُ مُسِيءٌ إذَا كَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ ، وَكَذَلِكَ تَرْكُ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ فَالرَّمَلُ وَاسْتِلَامُ الْحَجَرِ ، وَهَذِهِ الْخِلَالُ مِنْ آدَابِ الطَّوَافِ أَوْ مِنْ السُّنَنِ ، وَتَرْكُ مَا هُوَ سُنَّةٌ أَوْ أَدَبٌ لَا يُوجِبُ شَيْئًا إلَّا الْإِسَاءَةَ إذَا تَعَمَّدَ
( قَالَ ) وَإِذَا طَافَ الطَّوَافَ الْوَاجِبَ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فِي جَوْفِ الْحَطِيمِ قَضَى مَا تَرَكَ مِنْهُ إنْ كَانَ بِمَكَّةَ ، وَإِنْ كَانَ رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَعَلَيْهِ دَمٌ ؛ لِأَنَّ الْمَتْرُوكَ هُوَ الْأَقَلُّ فَإِنَّهُ إنَّمَا تَرَكَ الطَّوَافَ عَلَى الْحَطِيمِ فَقَطْ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ الْأَقَلَّ مِنْ أَشْوَاطِ الطَّوَافِ فَعَلَيْهِ إعَادَةُ الْمَتْرُوكِ ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْ فَعَلَيْهِ الدَّمُ عِنْدَنَا فَهَذَا مِثْلُهُ ثُمَّ الْأَفْضَلُ عِنْدَنَا أَنْ يُعِيدَ الطَّوَافَ مِنْ الْأَصْلِ لِيَكُونَ مُرَاعِيًا لِلتَّرْتِيبِ الْمَسْنُونِ ، وَإِنْ أَعَادَهُ عَلَى الْحَطِيمِ فَقَطْ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا هُوَ الْمَتْرُوكُ ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَلْزَمُهُ إعَادَةُ الطَّوَافِ مِنْ الْأَصْلِ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ فِي أَنَّ مُرَاعَاةَ التَّرْتِيبِ فِي الطَّوَافِ وَاجِبٌ كَمَا هُوَ فِي الصَّلَاةِ فَإِذَا تَرَكَ لَمْ يَكُنْ طَوَافُهُ مُعْتَدًّا بِهِ ، وَعِنْدَنَا الْوَاجِبُ هُوَ الدَّوَرَانُ حَوْلَ الْبَيْتِ ، وَذَلِكَ يَتِمُّ بِإِعَادَةِ الْمَتْرُوكِ فَقَطْ ، وَلَكِنَّ التَّرْتِيبَ سُنَّةٌ ، وَالْإِعَادَةُ مِنْ الْأَصْلِ أَفْضَلُ ، وَيُلْزَمُونَ عَلَيْنَا بِمَا لَوْ ابْتَدَأَ الطَّوَافَ مِنْ غَيْرِ مَوْضِعِ الْحَجَرِ لَا يُعْتَدُّ بِذَلِكَ الْقَدْرِ حَتَّى يُنْتَهَى إلَى الْحَجَرِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ التَّرْتِيبُ وَاجِبًا لَكَانَ ذَلِكَ الْقَدْرُ مُعْتَدًّا بِهِ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ يَقُولُ بِأَنَّهُ مُعْتَدٌّ بِهِ عِنْدَنَا ، وَلَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ ، وَلَكِنْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الرُّقَيَّاتِ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ طَوَافُهُ إلَى الْحَجَرِ لَا لِتَرْكِ التَّرْتِيبِ وَلَكِنْ لِأَنَّ مِفْتَاحَ الطَّوَافِ مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ قَالَ لِإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ائْتِنِي بِحَجَرٍ أَجْعَلُهُ عَلَامَةَ افْتِتَاحِ الطَّوَافِ فَأَتَاهُ بِحَجَرٍ فَأَلْقَاهُ ثُمَّ بِالثَّانِي ثُمَّ بِالثَّالِثِ فَنَادَاهُ قَدْ أَتَانِي بِالْحَجَرِ مَنْ أَغْنَانِي عَنْ حَجَرِك ، وَوَجَدَ الْحَجَرَ
الْأَسْوَدَ فِي مَوْضِعِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ افْتِتَاحَ الطَّوَافِ مِنْهُ فَمَا أَدَّاهُ قَبْلَ الِافْتِتَاحِ لَا يَكُونُ مُعْتَدًّا بِهِ .
( قَالَ ) فَإِنْ طَافَ لِعُمْرَتِهِ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ طَافَ لِحَجَّتِهِ كَذَلِكَ ثُمَّ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَالْأَشْوَاطُ الَّتِي طَافَهَا لِلْحَجِّ مَحْسُوبَةٌ عَنْ طَوَافِ الْعُمْرَةِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ قَبْلَ طَوَافِ التَّحِيَّةِ فَإِذَا جَعَلْنَا ذَلِكَ مِنْ طَوَافِ الْعُمْرَةِ كَانَ الْبَاقِي عَلَيْهِ شَوْطًا وَاحِدًا حِينَ وَقَفَ بِعَرَفَةَ فَيَكُونُ قَارِنًا ، وَيُعِيدُ طَوَافَ الصَّفَا ، وَالْمَرْوَةِ لِعُمْرَتِهِ ، وَلِحَجَّتِهِ ؛ لِأَنَّ مَا أَدَّى مِنْ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا ، وَالْمَرْوَةِ لِعُمْرَتِهِ كَانَ عَقِيبَ أَقَلِّ الْأَشْوَاطِ فَلَا يَكُونُ مُعْتَدًّا بِهِ فَيَجِبُ أَنْ يُعِيدَ مَعَ السَّعْيِ لِلْحَجِّ ، وَمَعَ الشَّوْطِ الْوَاحِدِ عَنْ طَوَافِ الْعُمْرَةِ ، وَإِنْ رَجَعَ إلَى الْكُوفَةِ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ ذَلِكَ الشَّوْطِ ، وَدَمٌ لِتَرْكِ سَعْيِ الْحَجِّ ، وَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِسَعْيِ الْعُمْرَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَعَى لِعُمْرَتِهِ عَقِيبَ سِتَّةِ أَشْوَاطٍ ؛ لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَ سَعَى لِلْحَجِّ ، وَذَلِكَ يَقَعُ عَنْ سَعْيِ الْعُمْرَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَعَى أَصْلًا فَعَلَيْهِ دَمٌ لِتَرْكِ السَّعْيِ فِي كُلِّ نُسُكٍ قَالَ الْحَاكِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلُهُ يُعِيدُ الطَّوَافَ لِعُمْرَتِهِ غَيْرُ سَدِيدٍ إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ الِاسْتِحْبَابَ يُرِيدُ بِهِ بَيَانَ أَنَّ مَوْضُوعَ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا إذَا كَانَ سَعَى بَعْدَ طَوَافِ التَّحِيَّةِ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ فَكَانَ ذَلِكَ سَعْيًا مُعْتَدًّا بِهِ لِلْعُمْرَةِ فَلَا يَلْزَمُهُ إعَادَتُهُ ، وَإِنْ كَانَ يُسْتَحَبُّ لَهُ إعَادَةُ ذَلِكَ بَعْدَمَا أَكْمَلَ طَوَافَ الْعُمْرَةِ بِالشَّوْطِ الْمَتْرُوكِ
( قَالَ ) ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أُسْبُوعَيْنِ مِنْ الطَّوَافِ قَبْل أَنْ يُصَلِّيَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إذَا انْصَرَفَ عَلَى وِتْرٍ ثَلَاثَةِ أَسَابِيعَ أَوْ خَمْسَةِ أَسَابِيعَ لِحَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا طَافَتْ ثَلَاثَةَ أَسَابِيعَ ثُمَّ صَلَّتْ لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ ، وَلِأَنَّ مَبْنَى الطَّوَافِ عَلَى الْوِتْرِ فِي عَدَدِ الْأَشْوَاطِ فَإِذَا انْصَرَفَ عَلَى وِتْرٍ لَمْ يُخَالِفْ انْصِرَافُهُ مَبْنَى الطَّوَافِ ، وَاشْتِغَالُهُ بِأُسْبُوعٍ آخَرَ قَبْلَ الصَّلَاةِ كَاشْتِغَالِهِ بِأَكْلٍ أَوْ نَوْمٍ ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الْكَرَاهَةَ فَكَذَا هُنَا إذَا انْصَرَفَ عَلَى مَا هُوَ مَبْنَى الطَّوَافِ بِخِلَافِ مَا إذَا انْصَرَفَ عَلَى شَفْعٍ ؛ لِأَنَّ الْكَرَاهَةَ هُنَاكَ لِانْصِرَافِهِ عَلَى مَا هُوَ خِلَافُ مَبْنَى الطَّوَافِ لَا لِتَأْخِيرِهِ الصَّلَاةَ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَا إتْمَامُ كُلِّ أُسْبُوعٍ مِنْ الطَّوَافِ بِرَكْعَتَيْنِ فَيُكْرَهُ لَهُ الِاشْتِغَالُ بِالْأُسْبُوعِ الثَّانِي قَبْلَ إكْمَالِ الْأَوَّلِ كَمَا أَنَّ إكْمَالَ كُلِّ شَفْعٍ مِنْ التَّطَوُّعِ لَمَّا كَانَ بِالتَّشَهُّدِ يُكْرَهُ لَهُ الِاشْتِغَالُ بِالشَّفْعِ الثَّانِي قَبْلَ إكْمَالِ الْأَوَّلِ
( قَالَ ) وَإِذَا طَافَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لَمْ يُصَلِّ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ سُنَّةٌ أَوْ وَاجِبٌ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ كَالْمَنْذُورِ ، وَذَلِكَ لَا يُؤَدَّى عِنْدَنَا بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ، وَلَا بَعْدَ الْعَصْرِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ .
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ طَافَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ثُمَّ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ حَتَّى إذَا كَانَ بِذِي طُوًى ، وَارْتَفَعَتْ الشَّمْسُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَالَ : رَكْعَتَانِ مَكَانَ رَكْعَتَيْنِ ، وَكَذَلِكَ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ يَبْدَأُ بِالْمَغْرِبِ ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ مَا لَيْسَ بِمَكْتُوبَةٍ قَبْلَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ مَكْرُوهٌ ، وَلَا تُجْزِئُهُ الْمَكْتُوبَةُ عَنْ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ كَالْمَنْذُورِ أَوْ سُنَّةٌ كَسُنَنِ الصَّلَاةِ فَالْمَكْتُوبَةُ لَا تَنُوبُ عَنْهُ
( قَالَ ) ، وَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يُنْشِدَ الشِّعْرَ فِي طَوَافِهِ أَوْ يَتَحَدَّثَ أَوْ يَبِيعَ أَوْ يَشْتَرِيَ فَإِنْ فَعَلَهُ لَمْ يَفْسُدْ عَلَيْهِ طَوَافُهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلَاةٌ إلَّا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَبَاحَ فِيهِ الْمَنْطِقَ فَمَنْ نَطَقَ فَلَا يَنْطِقْ إلَّا بِخَيْرٍ } ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرَادَ تَشْبِيهُ الطَّوَافِ بِالصَّلَاةِ فِي الثَّوَابِ لَا فِي الْأَحْكَامِ فَلَا يَكُونُ الْكَلَامُ فِيهِ مُفْسِدًا لِلطَّوَافِ
( قَالَ ) ، وَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَشْتَغِلُونَ فِيهِ بِالذِّكْرِ وَالثَّنَاءِ فَقَلَّ مَا يَسْتَمِعُونَ لِقِرَاءَتِهِ .
وَتَرْكُ الِاسْتِمَاعِ عِنْدَ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالْقِرَاءَةِ مِنْ الْجَفَاءِ فَلَا يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِذَلِكَ صِيَانَةً لِلنَّاسِ عَنْ هَذَا الْجَفَاءِ ، وَلَا بَأْسَ بِقِرَاءَتِهِ فِي نَفْسِهِ هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ فِي طَوَافِهِ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فِي نَفْسِهِ ، وَلِأَنَّ الْمُسْتَحَبَّ لَهُ الِاشْتِغَالُ بِالذِّكْرِ فِي الطَّوَافِ ، وَأَشْرَفُ الْأَذْكَارِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ
( قَالَ ) وَإِنْ طَافَتْ الْمَرْأَةُ مَعَ الرَّجُلِ لَمْ تُفْسِدْ عَلَيْهِ طَوَافَهُ يُرِيدُ بِهِ بِسَبَبِ الْمُحَاذَاةِ ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ فِي الْأَحْكَامِ لَيْسَ كَالصَّلَاةِ ، وَمُحَاذَاةُ الْمَرْأَةِ الرَّجُلَ إنَّمَا يُوجِبُ فَسَادَ الصَّلَاةِ إذَا كَانَا يَشْتَرِكَانِ فِي الصَّلَاةِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَشْتَرِكَا فَلَا ، وَهُنَا لَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمَا فِي الطَّوَافِ
( قَالَ ) وَإِذَا خَرَجَ الطَّائِفُ مِنْ طَوَافِهِ لِصَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ أَوْ جِنَازَةٍ أَوْ تَجْدِيدِ وُضُوءٍ ثُمَّ عَادَ بَنَى عَلَى طَوَافِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَيْسَ كَالصَّلَاةِ فِي الْأَحْكَامِ فَالِاشْتِغَالُ فِي خِلَالِهِ بِعَمَلٍ لَا يَمْنَعُ الْبِنَاءَ عَلَيْهِ ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خَرَجَ لِجِنَازَةٍ ثُمَّ عَادَ فَبَنَى عَلَى الطَّوَافِ
( قَالَ ) وَإِنْ أَخَّرَ الطَّائِفُ رَكْعَتَيْنِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ لَمْ يَضُرَّهُ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
( قَالَ ) وَالصَّلَاةُ لِأَهْلِ مَكَّةَ أَحَبُّ إلَيَّ ، وَلِلْغُرَبَاءِ الطَّوَافُ فَإِنَّ التَّطَوُّعَ مِنْ الصَّلَاةِ عِبَادَةٌ بِجَمِيعِ الْبَدَنِ تَشْمَلُ عَلَى أَرْكَانٍ مُخْتَلِفَةٍ فَالِاشْتِغَالُ بِهَذَا أَفْضَلُ مِنْ الِاشْتِغَالِ بِطَوَافِ التَّطَوُّعِ إلَّا أَنَّ فِي حَقِّ الْغُرَبَاءِ الطَّوَافَ يَفُوتُهُ ، وَالصَّلَاةُ لَا تَفُوتُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الصَّلَاةِ إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الطَّوَافِ إذَا رَجَعَ إلَى أَهْلِهِ ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الطَّوَافِ إلَّا فِي هَذَا الْمَكَانِ ، وَالِاشْتِغَالُ فِي هَذَا الْمَكَانِ بِمَا يَفُوتُهُ أَوْلَى كَالِاشْتِغَالِ بِالْحِرَاسَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْلَى مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ إذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فَأَمَّا الْمَكِّيُّ لَا يَفُوتُهُ الطَّوَافُ ، وَلَا الصَّلَاةُ فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِالصَّلَاةِ فِي حَقِّهِ أَوْلَى لِمَا بَيَّنَّا
( قَالَ ) رَجُلٌ طَافَ أُسْبُوعًا ، وَشَوْطًا أَوْ شَوْطَيْنِ مِنْ أُسْبُوعٍ آخَرَ ثُمَّ ذُكِرَ لَهُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أُسْبُوعَيْنِ قَالَ يُتِمُّ الْأُسْبُوعَ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ ، وَعَلَيْهِ لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَانِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ شَارِعًا فِي الْأُسْبُوعِ الثَّانِي مُؤَكِّدًا لَهُ بِشَوْطٍ أَوْ شَوْطَيْنِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّهُ كَمَنْ قَامَ إلَى الرَّكْعَةِ الثَّالِثَةِ قَبْلَ التَّشَهُّدِ ، وَقَيَّدَ الرَّكْعَةَ بِالسَّجْدَةِ كَانَ عَلَيْهِ إتْمَامُ الشَّفْعِ الثَّانِي ثُمَّ كُلُّ أُسْبُوعٍ سَبَبُ الْتِزَامِ رَكْعَتَيْنِ بِمَنْزِلَةِ النَّذْرِ فَعَلَيْهِ لِكُلِّ أُسْبُوعٍ رَكْعَتَانِ
( قَالَ ) وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَطُوفَ ، وَعَلَيْهِ خُفَّاهُ أَوْ نَعْلَاهُ إذَا كَانَا طَاهِرَيْنِ ، وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا رَدًّا عَلَى الْمُتَشَفِّعَةِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ لَا يَطُوفُ إلَّا حَافِيًا ، وَإِذَا كَانَ يَجُوزُ الصَّلَاةُ مَعَ الْخُفَّيْنِ أَوْ النَّعْلَيْنِ إذَا كَانَا طَاهِرَيْنِ فَالطَّوَافُ أَوْلَى
( قَالَ ) وَاسْتِلَامُ الرُّكْنِ الْيَمَانِي حَسَنٌ ، وَتَرَكَهُ لَا يَضُرُّهُ .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَسْتَلِمُهُ وَلَا يَتْرُكُهُ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَسْتَلِمُهُ ، وَيُقَبِّلُ يَدَهُ وَلَا يُقَبِّلُ الرُّكْنَ هَكَذَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الْيَمَانِي ، وَلَمْ يُقَبِّلْهُ } ، وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَرْوِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الْيَمَانِي ، وَوَضَعَ خَدَّهُ عَلَيْهِ } ، وَابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَرْوِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اسْتَلَمَ الرُّكْنَيْنِ يَعْنِي الْحَجَرَ الْأَسْوَدِ ، وَالْيَمَانِي } فَهُوَ دَلِيلٌ لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ كُلَّ رُكْنٍ يَكُونُ اسْتِلَامُهُ مَسْنُونًا فَتَقْبِيلُهُ كَذَلِكَ مَسْنُونٌ كَالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ ، وَبِالِاتِّفَاقِ هُنَا التَّقْبِيلُ لَيْسَ بِمَسْنُونٍ فَكَذَا الِاسْتِلَامُ