كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ كَفَلَ لَهُ بِنَفْسِ رَجُلٍ وَبِأَلْفِ دِرْهَمٍ لَهُ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا وَشَهِدَ لَهُ بِذَلِكَ شَاهِدَانِ وَشَهِدَا أَنَّ الْمَكْفُولَ بِهِ أَمَرَ الْكَفِيلَ بِذَلِكَ وَالْكَفِيلُ وَالْمَكْفُولُ بِهِ يُنْكِرَانِ الْمَالَ وَالْأَمْرَ فَقَضَى الْقَاضِي بِتِلْكَ الشَّهَادَةِ عَلَى الْكَفِيلِ وَلَمْ يُوَافِ بِهِ فَأَخَذَ الْمَالَ وَأَدَّاهُ ؛ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْمَكْفُولِ بِهِ عِنْدَنَا وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : لَا يَرْجِعُ ؛ لِأَنَّهُ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي أَنَّهُ أَمَرَهُ بِالْكَفَالَةِ عَنْهُ بِشَيْءٍ ، وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ بِزَعْمِهِ مَظْلُومٌ فِيمَا أَخَذَ مِنْهُ الْمَالَ وَلَيْسَ لِلْمَظْلُومِ أَنْ يَظْلِمَ غَيْرَهُ وَلَكِنَّا نَقُولُ الْقَاضِي أَكْذَبَهُ فِي إقْرَارِهِ وَزَعْمِهِ حِينَ أَلْزَمَهُ الْمَالَ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ ، وَالْمُقِرُّ مَتَى صَارَ مُكَذَّبًا فِي إقْرَارِهِ حُكْمًا ؛ سَقَطَ اعْتِبَارُ إقْرَارِهِ كَالْمُشْتَرِي إذَا كَانَ أَقَرَّ بِالْمِلْكِ لِبَائِعِهِ فَاسْتَحَقَّ الْمَبِيعَ مِنْ يَدِهِ بِالْبَيِّنَةِ ؛ رَجَعَ عَلَى بَائِعِهِ بِالثَّمَنِ وَلَمْ يُعْتَبَرْ إقْرَارُهُ بِذَلِكَ وَلَوْ أَقَرَّ الْكَفِيلُ بِالْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ وَقَالَ : لَمْ يَأْمُرْنِي بِذَلِكَ فَقَضَى عَلَيْهِ الْقَاضِي بِذَلِكَ ثُمَّ جَاءَ الْكَفِيلُ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ الْمَكْفُولَ عَنْهُ أَمَرَهُ بِالْكَفَالَةِ لَمْ تُقْبَلْ بَيِّنَتُهُ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مُنَاقِضٌ فِي دَعْوَاهُ حِينَ أَقَرَّ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ وَالْمُنَاقِضُ لَا يُقْبَلُ بَيِّنَةً عَلَى خَصْمِهِ وَلِأَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا قَضَى عَلَيْهِ بِالْكَفَالَةِ بِالْمَالِ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِذَلِكَ .
وَإِقْرَارُهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْأَصِيلِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَالْقَضَاءُ هُنَاكَ كَانَ بِحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ وَقَدْ قَامَتْ عَلَى الْكَفِيلِ وَالْأَصِيلِ جَمِيعًا .
وَإِذَا كَفَلَ بِنَفْسِهِ بِأَمْرِهِ فَإِنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ الْمَالُ وَلَوْ ادَّعَى الْكَفِيلُ أَنَّهُ وَافَى بِهِ لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى مَانِعًا
أَوْ مُسْقِطًا بَعْدَ مَا ظَهَرَ سَبَبُ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَيْهِ وَهُوَ الْكَفَالَةُ فَإِنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ ؛ بَرِئَ مِنْ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ وَيَسْتَوِي إنْ شَهِدَا عَلَى الْمُوَافَاةِ أَوْ عَلَى إقْرَارِ الطَّالِبِ بِذَلِكَ فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي مَكَانِ إقْرَارِهِ أَوْ وَقْتِهِ جَازَتْ الشَّهَادَةُ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ قَوْلٌ يُكَرَّرُ ، وَإِنْ شَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ دَفَعَهُ إلَيْهِ غَدْوَةً بِمَحْضَرٍ مِنْهُ بِغَيْرِ إقْرَارِهِ وَشَهِدَ الْآخَرُ أَنَّهُ دَفَعَهُ إلَيْهِ عَشِيَّةً بِمَحْضَرٍ مِنْهُ بِغَيْرِ إقْرَارٍ وَالْمُدَّعِي يَدَّعِي أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا وَقَالَ : دَفَعْته إلَيْهِ غَدْوَةً أَوْ عَشِيَّةً لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا لِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْمَشْهُودِ بِهِ فَإِنَّ الْفِعْلَ الْمَوْجُودَ فِي مَكَان أَوْ زَمَانٍ غَيْرَ الْفِعْلِ الْمَوْجُودِ فِي مَكَان أَوْ زَمَانٍ آخَرَ .
وَلَوْ أَقَرَّ الْكَفِيلُ أَنَّهُ لَمْ يَدْفَعْ الرَّجُلَ إلَيْهِ وَأَنَّ الْمَالَ قَدْ لَزِمَهُ ، وَالشُّهُودَ شَهِدُوا بِبَاطِلٍ وَقَدْ اتَّفَقَتْ شَهَادَتُهُمَا فَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْكَفِيلِ لِإِكْذَابِهِ الشَّاهِدَيْنِ فِيمَا شَهِدَا بِهِ لَهُ وَلَا يَرْجِعُ بِهِ إذَا أَدَّاهُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَقَرَّ بِهِ فَلَزِمَهُ ذَلِكَ بِإِقْرَارِهِ بَعْدَ مَا ظَهَرَتْ حُجَّةُ بَرَاءَتِهِ ، وَإِقْرَارُهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْأَصِيلِ
إذَا كَفَلَ رَجُلٌ بِنَفْسِ رَجُلٍ فَإِنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا فَعَلَيْهِ الْمَالُ فَشَهِدَ عَلَيْهِ شَاهِدٌ بِذَلِكَ مُعَايَنَةً وَالْآخَرُ بِإِقْرَارِهِ وَالْكَفِيلُ يَجْحَدُ ذَلِكَ لَزِمَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ قَوْلٌ وَصِيغَةُ الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءِ فِيهِ وَاحِدَةٌ ، وَفِي مِثْلِهِ اخْتِلَافُ الشَّاهِدَيْنِ فِي الْإِقْرَارِ وَالْإِنْشَاءِ لَا يَضُرُّ كَالْبَيْعِ
وَإِنْ شَهِدَا عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ كَفَلَ لِرَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَنْ فُلَانٍ وَاخْتَلَفَا فِي اللَّفْظِ فَقَالَ أَحَدُهُمَا : كَفَلَ بِهَا ، وَقَالَ الْآخَرُ : ضَمِنَهَا ، أَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا : هِيَ لِي ، وَقَالَ الْآخَرُ : هِيَ عَلَيَّ ؛ فَالشَّهَادَةُ جَائِزَةٌ لِاتِّفَاقِهِمَا فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الْكَفَالَةُ ، وَالْأَلْفَاظُ قَوَالِبُ الْمَعَانِي فَعِنْدَ اتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْعَقْدِ الْمَشْهُودِ بِهِ لَا يَضُرُّهُمَا اخْتِلَافُ الْعِبَارَةِ كَمَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالْهِبَةِ وَالْآخَرُ بِالنِّحْلَةِ ، وَإِنْ قَالَ أَحَدُهُمَا : احْتَالَ بِهَا عَلَيْهِ ، وَقَالَ الْآخَرُ : ضَمِنَهَا لَهُ عَلَى أَنْ أَبْرَأَ الْأَوَّلَ أَوْ لَمْ يَذْكُرْ الْبَرَاءَةَ وَادَّعَى الطَّالِبُ الضَّمَانَ أَوْ الْحَوَالَةَ وَالْبَرَاءَةَ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ بِالْمَالِ ؛ لِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى الْحَوَالَةِ ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْعِبَارَةِ أَوْ لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى الْتِزَامِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لِلْمَالِ كَمَا إذَا شَهِدَ أَحَدُهُمَا بِالضَّمَانِ وَلَمْ يَذْكُرْ الْبَرَاءَةَ وَهَذَا لِأَنَّ فِي الْحَوَالَةِ ضَمَانًا وَزِيَادَةً فَيُقْضَى بِمَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ ، وَالْأَصِيلُ بَرِيءٌ بِإِقْرَارِ الطَّالِبِ لَا بِشَهَادَةِ أَحَدِ الشَّاهِدَيْنِ بِالْحَوَالَةِ .
وَلَوْ ادَّعَى الطَّالِبُ الضَّمَانَ بِغَيْرِ بَرَاءَةٍ وَقَالَ : لَمْ أُحِلْ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ أَيَّهُمَا شَاءَ بِالْمَالِ لِاتِّفَاقِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى مِقْدَارِ الِالْتِزَامِ بِالضَّمَانِ ، وَالطَّالِبُ مَا أَكْذَبَ الَّذِي شَهِدَ لَهُ بِالْحَوَالَةِ فِي شَهَادَتِهِ لَهُ وَإِنَّمَا أَكْذَبَهُ فِي شَهَادَتِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ بَرَاءَةُ الْأَصِيلِ وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ قَبُولَ الشَّهَادَةِ كَمَا لَوْ شَهِدَا لَهُ بِالْمَالِ وَشَهِدَ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ اسْتَوْفَاهُ أَوْ أَنَّهُ أَبْرَأَ الْمَطْلُوبَ مِنْهُ قَالَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ كَفَلَ لَهُ بِالْمَالِ عَلَى أَنْ أَبْرَأَ الْأَوَّلَ وَالطَّالِبُ يَقُولُ : لَمْ أُبْرِئْ الْأَوَّلَ وَالْكَفِيلُ يَجْحَدُ الْكَفَالَةَ قَضَيْت لِلطَّالِبِ بِالْكَفَالَةِ وَأَبْرَأْت
الْأَصِيلَ إذَا كَانَ هُوَ يَدَّعِي شَهَادَتَهُمَا عَلَى الْبَرَاءَةِ .
وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُمَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْبَرَاءَةِ يَشْهَدَانِ عَلَى الطَّالِبِ لَا لَهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَا بِالْحَوَالَةِ وَقَالَ الطَّالِبُ : إنَّمَا كَفَلَ لِي فَهُوَ مَا أَكْذَبَهُمَا فِيمَا شَهِدَا لَهُ مِنْ ضَمَانِ الْمَالِ
وَلَوْ شَهِدَ رَجُلَانِ عَلَى رَجُلٍ أَنَّهُ كَفَلَ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ لِرَجُلٍ فَقَالَ أَحَدُهُمَا إلَى سَنَةٍ وَقَالَ الْآخَرُ حَالَّةً وَادَّعَى الطَّالِبُ حَالَّةً وَجَحَدَ الْكَفِيلُ أَوْ أَقَرَّ وَادَّعَى الْأَجَلَ فَالْمَالُ عَلَيْهِ فِي الْوَجْهَيْنِ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الطَّالِبَ لَمْ يُكَذِّبْ شَاهِدَهُ فِيمَا شَهِدَ لَهُ بِهِ وَإِنَّمَا أَكْذَبَهُ فِيمَا شَهِدَ بِهِ عَلَيْهِ وَالشَّاهِدُ بِالْأَجَلِ لِلْكَفِيلِ وَاحِدٌ وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُخَالِفُنَا فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْفُصُولِ وَأَنَّهُ يَفْصِلُ بَيْنَ الْإِكْذَابِ فِيمَا شَهِدَ بِهِ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ
وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ قِبَلَ رَجُلَيْنِ كَفَالَةً بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ ضَامِنٌ بِهَا وَشَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ فَشَهِدَ أَحَدُهُمَا بِذَلِكَ عَلَيْهِمَا وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى أَحَدِهِمَا فَإِنَّ الطَّالِبَ يَأْخُذُ الَّذِي اجْتَمَعَا عَلَيْهِ بِالْأَلْفِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِحُكْمِ هَذِهِ الْكَفَالَةِ مُطَالَبٌ بِجَمِيعِ الْمَالِ وَقَدْ تَمَّتْ الْحُجَّةُ عَلَى أَحَدِهِمَا وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدٌ عَلَيْهِمَا وَشَهِدَ آخَرُ عَلَى أَحَدِهِمَا وَشَهِدَ الْآخَرُ عَلَى الْآخَرِ كَانَ لِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَهُمَا جَمِيعًا بِالْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ قَدْ تَمَّتْ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَقِّ أَحَدِهِمَا لِشَهَادَةِ الْأَوَّلَيْنِ وَفِي حَقِّ الْآخَرِ بِشَهَادَةِ الْآخَرِ أَخَذَ الْأَوَّلَيْنِ مَعَ الثَّالِثِ ، وَإِنْ شَهِدَ اثْنَانِ عَلَى أَحَدِهِمَا أَنَّهُ كَفَلَ لَهُ هُوَ وَفُلَانٌ عَنْ فُلَانٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهمَا شَاءَ وَشَهِدَ لَهُ الْآخَرَانِ عَلَى كَفِيلٍ الْآخَرِ بِمِثْلِ ذَلِكَ ؛ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ بِجَمِيعِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ قَدْ تَمَّتْ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْتِزَامِهِ جَمِيعَ الْمَالِ وَلَوْ شَهِدَ لَهُ شَاهِدَانِ بِالْمَالِ حَالًّا عَلَى الْأَوَّلِ وَشَهِدَ لَهُ آخَرَانِ عَلَى الْآخَرِ بِالْمَالِ إلَى أَجَلٍ عَلَى مِثْلِ شَهَادَةِ الْأَوَّلِ كَانَ جَائِزًا وَأَخَذَ الطَّالِبُ صَاحِبَ الْأَجَلِ بِالْمَالِ إلَى أَجَلِهِ وَالْآخَرَ بِالْمَالِ حَالًّا اعْتِبَارًا لِلثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ بِالثَّابِتِ بِالْمُعَايَنَةِ ، وَكَذَلِكَ إنْ اخْتَلَفَ الْفَرِيقَانِ فِي مَبْلَغِ الْمَالِ أَخَذَ الطَّالِبُ أَيَّهُمَا شَاءَ بِمَا شَهِدَ بِهِ الشَّاهِدَانِ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِمَا لَوْ أَقَرَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِذَلِكَ الْقَدْرِ
وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ كَفَالَةَ أَلْفُ دِرْهَمٍ لَهُ عَلَى رَجُلٍ قَدْ سَمَّاهُ فَشَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّهُ كَفَلَ لَهُ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَنْ رَجُلٍ وَقَالَا : رَأَيْنَاهُ وَلَمْ نَعْرِفْهُ ، أَوْ لَمْ نَرَهُ وَلَكِنَّ الْكَفِيلَ أَشْهَدَنَا عَلَى ذَلِكَ فَالْمَالُ لَازِمٌ لِلْكَفِيلِ ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى قَوْلِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ شَهَادَتِهِمَا عَلَى إقْرَارِهِ ، وَالْمَشْهُودُ لَهُ مَعْلُومٌ إذَا أَدَّى الْكَفِيلُ الْمَالَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ إلَّا أَنْ يَشْهَدَ لَهُ شَاهِدَانِ أَنَّهُ أَمَرَهُ بِذَلِكَ ، وَإِنْ أَرَادَ الطَّالِبُ أَنْ يَأْخُذَ الْأَصِيلَ دُونَ الْكَفِيلِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ إذَا جَحَدَ ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الْأُولَى لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ عَلَى الْأَصِيلِ حِينَ لَمْ يَعْرِفْهُ الشُّهُودُ أَوْ لَمْ يَرَوْهُ وَإِذَا ادَّعَى الرَّجُلُ عَلَى الرَّجُلِ أَلْفَ دِرْهَمٍ أَحَالَ بِهَا فُلَانٌ الْغَائِبُ وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَأَدَّى إلَيْهِ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ ؛ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْمُحِيلِ وَلَمْ يُكَلَّفْ إعَادَةَ الْبَيِّنَةَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمُحْتَالَ عَلَيْهِ الْتَزَمَ بِالْحَوَالَةِ بِالْمَالِ الَّذِي هُوَ عَلَى الْأَصِيلِ وَإِنَّمَا يَتَحَوَّلُ إلَى ذِمَّتِهِ مَا كَانَ فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ عَلَى أَنْ يَكُونَ هُوَ خَلَفًا عَنْ الْأَصِيلِ وَلِهَذَا لَوْ مَاتَ مُفْلِسًا عَادَ الْمَالُ إلَى الْأَصِيلِ فَانْتَصَبَ هُوَ خَصْمًا عَنْهُ وَمِنْ ضَرُورَةِ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالْحَوَالَةِ بِالْأَمْرِ : الْقَضَاءُ بِالْمَالِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ .
وَلَوْ كَانَ الطَّالِبُ غَائِبًا فَأَقَامَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْأَصِيلِ أَنَّهُ كَانَ لِفُلَانٍ عَلَيْك أَلْفُ دِرْهَمٍ وَأَحَلْته بِهَا عَلَيَّ وَأَدَّيْتهَا إلَيْهِ ؛ قَضَيْت بِهَا لَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ قَضَاءٌ عَلَى الطَّالِبِ بِالِاسْتِيفَاءِ ؛ لِأَنَّهُ ادَّعَى لِنَفْسِهِ الْمَالَ عَلَى الْأَصِيلِ وَلَا يُتَوَصَّلُ إلَى ذَلِكَ إلَّا بِإِثْبَاتِ الْأَدَاءِ إلَى الطَّالِبِ وَلَا يَتَوَصَّلُ الْأَصِيلُ إلَى دَفْعِ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ إلَّا بِإِنْكَارِ قَبْضِ الطَّالِبِ بِالِاسْتِيفَاءِ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى جُحُودِهِ بَعْدَ ذَلِكَ
إذَا حَضَرَ وَالْكَفَالَةُ فِي هَذَا قِيَاسُ الْحَوَالَةِ
وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ كَفَالَةً بِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ أَوْ حَوَالَةٍ وَلَا بَيِّنَةَ لَهُ اسْتَحْلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَزِمَهُ ذَلِكَ ، وَإِنْ حَلَفَ ؛ بَرِئَ وَرَجَعَ الْمُدَّعِي عَلَى صَاحِبِ الْأَصِيلِ بِالْمَالِ وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الْكَفَالَةِ فَإِنَّ الْكَفَالَةَ لَا تُوجِبُ سُقُوطَ مُطَالَبَةِ الطَّالِبِ عَنْ الْأَصِيلِ ، وَكَذَلِكَ فِي الْحَوَالَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَصِيلَ إنَّمَا يَبْرَأُ إذَا ثَبَتَتْ الْحَوَالَةُ وَلَمْ تَثْبُتْ حِينَ حَلَفَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ وَلِأَنَّهُ حِينَ جَحَدَ وَحَلَفَ ؛ قَدْ تَحَقَّقَ التَّوَى وَذَلِكَ يُوجِبُ عَوْدَ الْمَالِ إلَى الْأَصِيلِ كَمَا لَوْ مَاتَ الْمُحْتَالُ عَلَيْهِ مُفْلِسًا فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ وَأَدَّى الْمَالَ رَجَعَ عَلَى الْأَصِيلِ إنْ كَانَ مُقِرًّا أَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَيْهِ بِالْأَمْرِ .
وَجُحُودُ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ لَا يُبْطِلُ تِلْكَ الْحَوَالَةَ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُكَذَّبًا فِي ذَلِكَ حِينَ قَضَى الْقَاضِي بِهِ عَلَيْهِ وَلَمْ يَجْعَلْ نُكُولَهُ هُنَا بِمَنْزِلَةِ إقْرَارِهِ بَلْ جَعَلَهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيِّنَةِ ؛ لِأَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى هَذَا النُّكُولِ وَإِنَّمَا لَحِقَتْهُ هَذِهِ الضَّرُورَةُ فِي عَمَلٍ بَاشَرَهُ لِغَيْرِهِ فَهُوَ نَظِيرُ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فِي دَعْوَى الْعَيْبِ فَرَدَّ عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ رَدًّا عَلَى الْمُوَكِّلِ .
وَلَوْ كَانَ قَضَى بِالْمَالِ عَلَى الْكَفِيلِ أَوْ الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ بِبَيِّنَةٍ قَامَتْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ وَأَنَّ فُلَانًا أَمَرَهُ بِهِ فَأَدَّى الْمَالَ وَصَاحِب الْأَصْلِ جَاحِدٌ لِلْأَمْرِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِالْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا بِالْبَيِّنَةِ الَّتِي قَامَتْ عَلَيْهِ بِذَلِكَ .
وَلَوْ كَانَ قَضَى عَلَيْهِ بِالْمَالِ بِنُكُولِهِ عَنْ الْيَمِينِ وَأَدَّاهُ ؛ فَلَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْأَصِيلَ بِاَللَّهِ مَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مُضْطَرٌّ إلَى النُّكُولِ إلَّا أَنَّ نُكُولَهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْأَصِيلِ فِي الْأَمْرِ فَيُحَلِّفُهُ عَلَى ذَلِكَ
وَلَوْ ادَّعَى قِبَلَ رَجُلٍ كَفَالَةً بِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ فَقَالَ الْكَفِيلُ : لَمْ أَكْفُلْ لَهُ بِشَيْءٍ وَقَدْ أَبْرَأَنِي مِنْ هَذِهِ الدَّعْوَى فَاسْتَحْلِفْهُ مَا أَبْرَأَنِي وَقَالَ الطَّالِبُ : بَلْ فَاسْتَحْلِفْهُ مَا كَفَلَ بِهِ لِي فَإِنِّي أَسْتَحْلِفُهُ بِاَللَّهِ مَا لَهُ قِبَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إنَّمَا يَشْتَغِلُ بِالِاسْتِحْلَافِ عَلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ قِيَامُ الْكَفَالَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْحَالِ فَيُحَلِّفُ عَلَى ذَلِكَ فَإِنْ حَلَفَ ؛ بَرِئَ ، وَإِنْ نَكَلَ لَزِمَتْهُ الْكَفَالَةُ وَلَمْ يُسْتَحْلَفْ الطَّالِبُ بِاَللَّهِ مَا أَبْرَأَهُ ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ يَدَّعِي عَلَيْهِ الْبَرَاءَةَ فَيَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ لِحَقِّهِ فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ ؛ بَرِئَ الْكَفِيلُ مِنْ كَفَالَتِهِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِبَرَاءَتِهِ ، وَإِنْ ادَّعَى الْكَفِيلُ بِالنَّفْسِ أَنَّهُ دَفْعَهُ إلَى وَكِيلِ الطَّالِبِ ؛ حَلَفَ الطَّالِبُ عَلَى عِلْمِهِ ؛ لِأَنَّهُ اسْتِحْلَافٌ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى الدَّفْعَ إلَيْهِ فَإِنَّهُ اسْتِحْلَافٌ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ عَلَى الْبَتَاتِ
وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ قِبَلَ رَجُلٍ كَفَالَةً فَقَالَ : أَخَذَك غُلَامِي حَتَّى كَفَلْت لِي بِفُلَانٍ وَجَحَدَ الْكَفِيلُ ذَلِكَ ؛ فَإِنَّهُ يَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ تَسْلِيمُ النَّفْسِ إلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ لَهُ بِحَضْرَةِ غُلَامِهِ دُونَهُ فَإِنْ أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ عَلَيْهِ لِرَجَاءِ النُّكُولِ .
وَإِذَا طَلَبَ مُدَّعِي الْكَفَالَةِ بِنَفْسٍ أَوْ مَالٍ أَنْ يَحْلِفَ الْكَفِيلُ بِاَللَّهِ مَا كَفَلَ ؛ لَمْ يَحْلِفْ كَذَلِكَ وَلَكِنَّهُ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا لَهُ قِبَلَك هَذِهِ الْكَفَالَةَ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكْفُلُ لِغَيْرِهِ ثُمَّ يَبْرَأُ مِنْ كَفَالَتِهِ بِسَبَبٍ فَلَوْ حَلَّفَهُ الْقَاضِي مَا كَفَلَ يَضُرُّ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَحْلِفَ ، وَإِنْ كَانَ هُوَ مُحِقًّا فِي إنْكَارِهِ الْكَفَالَةَ فِي الْحَالِ وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ لِلْخَصْمَيْنِ فَلِهَذَا يُحَلِّفُهُ بِاَللَّهِ مَا لَهُ قِبَلَكَ هَذِهِ الْكَفَالَةَ ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي كُلِّ دَيْنٍ وَمَالِ وَدِيعَةٍ وَعَارِيَّةٍ وَشِرَاءٍ وَإِجَارَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَحْلِفُ : مَا اشْتَرَيْتَ وَلَا اسْتَوْدَعَكَ وَلَا أَعَارَكَ وَلَا اسْتَأْجَرْتَ مِنْهُ وَلَكِنْ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ : مَا لَهُ قِبَلَكَ مَا ادَّعَى بِهِ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ قَالَ : هَذَا إذَا عَرَّضَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَقَالَ : أَيُّهَا الْقَاضِي قَدْ يَكْفُلُ الْإِنْسَانُ ثُمَّ يَبْرَأُ مِنْهُ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَشْتَغِلْ بِهَذَا التَّعْرِيضِ فَإِنَّهُ يَحْلِفُ بِاَللَّهِ مَا كَفَلْت ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُسْتَحْلَفُ عَلَى جُحُودِهِ وَقَدْ جَحَدَ الْكَفَالَةَ أَصْلًا فَيَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ فَإِذَا عَرَّضَ فَقَدْ طَلَبَ مِنْ الْقَاضِي أَنْ يَنْظُرَ لَهُ فَعَلَى الْقَاضِي إجَابَتُهُ إلَى ذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يُعَرِّضْ ؛ فَهُوَ الَّذِي لَمْ يَنْظُرْ لِنَفْسِهِ فَلَا يَنْظُرُ الْقَاضِي لَهُ وَلَكِنَّهُ يُحَلِّفُهُ عَلَى جُحُودِهِ وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَالَ : هَذَا التَّعْرِيضُ لَا يَهْتَدِي إلَيْهِ كُلُّ خَصْمٍ وَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَصُونَ قَضَاءَ نَفْسِهِ عَنْ الْجَوْرِ وَنَفْسَهُ عَنْ
الظُّلْمِ فَيُحَلِّفَهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا عَرَّضَ الْخَصْمُ أَوْ لَمْ يُعَرِّضْ .
وَلَوْ قَالَ الْكَفِيلُ لِلْقَاضِي : حَلِّفْ الطَّالِبَ أَنَّ لَهُ قِبَلِي هَذِهِ الْكَفَالَةَ فَإِنِّي أَرُدُّ عَلَيْهِ الْيَمِينَ فَإِنَّهُ لَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ الْيَمِينَ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ جَعَلَ الْيَمِينَ عَلَى الْمُنْكِرِ فَإِذَا رَدَدْت الْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعِي ؛ فَقَدْ خَالَفْت الْأَثَرَ .
وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الدَّعْوَى .
وَلَوْ جَاءَ الطَّالِبُ بِشَاهِدَيْهِ عَلَى قَوْلِهِ فَقَالَ الْمَطْلُوبُ : اسْتَحْلِفْهُ بِاَللَّهِ لَقَدْ شَهِدَتْ شُهُودُهُ عَلَى حَقٍّ ؛ لَمْ أَسْتَحْلِفْهُ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي .
فَإِذَا جَعَلْت عَلَيْهِ مَعَ الْبَيِّنَةِ يَمِينًا ؛ فَقَدْ جَعَلَتْ مَا لَمْ يَجْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ كَفَالَةِ الرَّجُلَيْنِ عَلَى شَرْطِ لُزُومِ الْمَالِ بِتَرْكِ الْمُوَافَاةِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : وَإِذَا كَفَلَ رَجُلٌ لِرَجُلَيْنِ بِنَفْسِ رَجُلٍ فَإِنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ ؛ أَدَّى مَا ادَّعَيَا بِهِ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ مَا لَهُمَا عَلَيْهِ وَسَمَّى لِكُلِّ إنْسَانٍ مِنْهُمَا الَّذِي لَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ مُخْتَلِفٌ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ نَجَّزَ الْكَفَالَةَ بِالنَّفْسِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَعَلَّقَ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ بِشَرْطِ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ إذَا دَعَيَاهُ وَذَلِكَ صَحِيحٌ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِنْدَ الِانْفِرَادِ فِي حَقِّهِمَا .
فَإِنْ دَعَاهُ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُوَافِ بِهِ لَزِمَهُ مَا لَهُ عَلَيْهِ لِوُجُودِ الشَّرْطِ فِي حَقِّهِ وَلَمْ يَلْزَمْهُ مَالُ الْآخَرِ حَتَّى يَدْعُوَهُ بِهِ .
وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذَا فِي الْمَعْنَى لَيْسَ بِتَعْلِيقٍ لِلْكَفَالَةِ بِالْمَالِ بِالشَّرْطِ وَلَكِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْكَفِيلِ بِالْمَالِ بِشَرْطِ إبْرَائِهِ مِنْ مَالِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمُوَافَاتِهِ بِهِ إذَا دَعَيَاهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ هَذَا تَعْلِيقًا بِالشَّرْطِ لَمْ يَجِبْ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ بِوُجُودِ بَعْضِ الشَّرْطِ .
وَإِذَا دَعَاهُ أَحَدُهُمَا فَلَمْ يُوَافِهِ بِهِ فَالْمَوْجُودُ بَعْضُ الشَّرْطِ وَقَالَ : يَلْزَمُهُ الْمَالُ عَرَفْنَا أَنَّهُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ ؛ لِأَنَّ الْمُوَافَاةَ كَانَتْ مُبَرِّئَةً لَهُ وَلَمْ تُوجَدْ .
وَلَوْ بَدَأَ بِالْمَالِ فَضَمِنَهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَقَالَ : إنْ وَافَيْتُكُمَا بِنَفْسِهِ إذَا دَعَوْتُمَانِي بِهِ ؛ فَأَنَا بَرِيءٌ مِنْ الْمَالِ فَهُوَ مِثْلُ الْأَوَّلِ وَتَقْدِيمُ الْمَالِ فِي هَذَا وَتَأْخِيرُهُ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ أَخَّرَ الْكَفَالَةَ بِالْمَالِ فِي لَفْظِهِ فَهُوَ فِي الْمَعْنَى مُقَدَّمٌ ، وَإِنَّمَا هُوَ شَرَطَ الْبَرَاءَةَ عِنْدَ الْمُوَافَاةِ بِنَفْسِهِ إذَا دَعَيَاهُ بِهِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَأْخُذَ بِكَفَالَتِهِ دُونَ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْمَعْنَى كَفِيلٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَتِهِ وَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ دُونَ الْآخَرِ ، وَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي الْعَقْدِ لَفْظًا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ
أَقَرَّ لَهُمَا بِمَالٍ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَأْخُذَ حِصَّتَهُ دُونَ الْآخَرِ
وَلَوْ كَانَ الطَّالِبُ رَجُلَيْنِ مُتَفَاوِضَيْنِ لَهُمَا عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَكَفَلَ لَهُمَا رَجُلٌ بِنَفْسِ الْمَطْلُوبِ فَإِنْ وَافَاهُمَا بِهِ غَدًا فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْمَالِ فَوَافَى بِهِ أَحَدُهُمَا وَدَفَعَهُ إلَيْهِ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ كَفَالَتِهِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ لَهُمَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْمُتَفَاوِضَيْنِ كَشَخْصٍ وَاحِدٍ مَا بَقِيَتْ الْمُفَاوَضَةُ بَيْنَهُمَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ فِي اسْتِيفَاءِ مَا وَجَبَ لِصَاحِبِهِ كَمَا هُوَ قَائِمٌ مَقَامَ صَاحِبِهِ فِي كَوْنِهِ مُطَالَبًا بِمَا عَلَى صَاحِبِهِ ، وَلَوْ كَانَا شَرِيكَيْنِ شَرِكَةَ عَنَانٍ ؛ بَرِئَ مِنْ حِصَّةِ الَّذِي وَافَاهُ بِهِ وَلَمْ يَبْرَأْ مِنْ الْكَفَالَةِ لِلْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُ فِيمَا هُوَ وَاجِبٌ لِصَاحِبِهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَجْنَبِيِّ فِي الِاسْتِيفَاءِ حَتَّى لَا يَكُونَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَ الْغَرِيمَ بِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَبْرَأُ عَنْ كَفَالَةِ صَاحِبِهِ بِمُوَافَاتِهِ بِهِ
وَلَوْ كَفَلَ رَجُلَانِ بِنَفْسِ رَجُلٍ عَلَى أَنْ يُوَافِيَا بِهِ غَدًا فَإِنْ لَمْ يَفْعَلَا ؛ فَالْمَالُ عَلَيْهِمَا فَوَافَى بِهِ أَحَدُهُمَا عَنْهُ وَعَنْ صَاحِبِهِ وَلَمْ يَحْضُرْ الْآخَرُ ؛ فَهُمَا بَرِيئَانِ ؛ لِأَنَّهُمَا الْتَزَمَا التَّسْلِيمَ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ وَلَوْ الْتَزَمَا مَالًا فَأَدَّاهُ أَحَدُهُمَا بَرِئَا مِنْهُ جَمِيعًا فَكَذَلِكَ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ .
وَلَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا ثُمَّ مَضَى الْأَجَلُ وَلَمْ يُوَافِيَا بِهِ لَزِمَ الْحَيَّ مِنْهُمَا نِصْفُ الْمَالِ ، وَفِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ نِصْفُ الْمَالِ لِوُجُودِ الشَّرْطِ وَهُوَ عَدَمُ الْمُوَافَاةِ بِهِ وَلَوْ كَانَ وَافَى بِهِ بَعْضَ وَرَثَةِ الْمَيِّتِ قَبْلَ الْأَجَلِ بَرِئَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ فِي التَّسْلِيمِ وَلَوْ كَانَ كَفَلَ بِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ فَاشْتَرَطَ الطَّالِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ إلَى وَقْتِ كَذَا ؛ فَعَلَيْهِ الْمَالُ فَوَافَى بِهِ أَحَدُهُمَا فَدَفَعَهُ فَإِنَّهُ يَبْرَأُ مِنْ كَفَالَتِهِ وَلَا يَبْرَأُ الْآخَرُ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ هُنَا مُخْتَلِفَةٌ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَجْنَبِيٌّ عَنْ عَقْدِ صَاحِبِهِ إلَّا أَنْ يَقُولَ الَّذِي جَاءَ بِهِ : دَفَعْتُهُ عَنْ نَفْسِي وَعَنْ صَاحِبِي وَيَقْبَلُهُ الطَّالِبُ عَلَى ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ جَاءَ بِهِ أَجْنَبِيٌّ آخَرُ فَدَفَعَهُ عَنْهُمَا جَمِيعًا وَقَبِلَهُ الطَّالِبُ .
وَلَوْ دَفَعَ الْمَكْفُولُ بِهِ نَفْسَهُ إلَى الطَّالِبِ عَنْهُمَا جَمِيعًا ؛ كَانَا بَرِيئَيْنِ ، سَوَاءٌ قَبِلَهُ الطَّالِبُ أَوْ لَمْ يَقْبَلْهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ دَفَعَاهُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَصِيلٌ فِي هَذَا التَّسْلِيمِ غَيْرُ مُتَبَرِّعٍ بِهِ بِخِلَافِ الْأَجْنَبِيِّ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
بَابُ الْكَفَالَةِ بِالْأَعْيَانِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : وَإِذَا ادَّعَى عَبْدًا فِي يَدَيْ رَجُلٍ فَلَمْ يُقَدِّمْهُ إلَى الْقَاضِي وَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ وَبِالْعَبْدِ فَمَاتَ الْعَبْدُ فِي يَدَيْ الْمَطْلُوبِ وَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْعَبْدَ عِنْدَهُ فَإِنَّ الْقَاضِي يَقْضِي لَهُ بِقِيمَةِ الْعَبْدِ عَلَى الْمَطْلُوبِ ، وَإِنْ شَاءَ عَلَى الْكَفِيلِ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّ الْعَبْدَ كَانَ مَغْصُوبًا وَالْكَفَالَةُ بِالْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ تُوجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ رَدَّ الْقِيمَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ رَدِّ الْعَيْنِ كَمَا أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَى الْأَصِيلِ ، وَإِنْ لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ وَلَكِنَّ الْمَطْلُوبَ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ فَقَضَى عَلَيْهِ الْقَاضِي بِالْعَبْدِ فَمَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ ؛ فَإِنَّهُ يَقْضِي لَهُ بِقِيمَتِهِ عَلَى الْأَصِيلِ دُونَ الْكَفِيلِ ؛ لِأَنَّ نُكُولَهُ كَإِقْرَارِهِ أَوْ كَبَدَلِهِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْكَفِيلِ إلَّا أَنْ يُقِرَّ الْكَفِيلُ بِمِثْلِ ذَلِكَ أَوْ يَأْبَى الْيَمِينَ فَيَلْزَمُهُ مِثْلُ مَا يَلْزَمُ الْمَطْلُوبَ
وَلَوْ غَصَبَ رَجُلٌ عَبْدًا فَضَمِنَهُ رَجُلٌ لِصَاحِبِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ فَإِنْ هَلَكَ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمُطَالَبَةَ بِمَا عَلَى الْأَصِيلِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْكَفِيلِ فِي قِيمَتِهِ لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ كَالْأَصِيلِ فَإِنْ أَقَرَّ الْغَاصِبُ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ ؛ لَزِمَهُ الْفَضْلُ بِإِقْرَارِهِ وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى الْكَفِيلِ
وَلَوْ اشْتَرَى رَجُلٌ جَارِيَةً مِنْ رَجُلٍ فَقَبَضَهَا وَجَاءَ آخَرُ فَادَّعَاهَا وَأَخَذَ بِهَا كَفِيلًا وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا جَارِيَتُهُ فَقُضِيَ لَهُ بِهَا فَقَالَ الْمَطْلُوبُ : قَدْ مَاتَتْ أَوْ أَبَقَتْ ، وَقَالَ الطَّالِبُ : كَذَبْت فَإِنِّي أَحْبِسُ الْكَفِيلَ حَتَّى يَأْتِيَ بِهَا كَمَا أَحْبِسُ فُلَانًا الْأَصِيلَ حَتَّى يَثْبُتَ إبَاقُهَا فَإِنْ طَالَ ذَلِكَ - يَعْنِي مُدَّةَ الْحَبْسِ - ضَمَّنَهُمَا قِيمَتَهَا مُرَاعَاةً لِحَقِّ الطَّالِبِ إذَا طَلَبَ ، وَإِنْ قَالَ : هِيَ بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَحَلَفَا عَلَيْهَا ، وَقَالَ الطَّالِبُ : أَلْفُ دِرْهَمٍ ضَمَّنَهُمَا مِائَةَ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ انْتَفَتْ أَنْ تَكُونَ قِيمَتَهَا مَا لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ بِهَا .
وَيَأْخُذُ بِهَا أَيًّا شَاءَ فَإِذَا ظَهَرَتْ الْجَارِيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ فَهُوَ بِالْخِيَارِ ، إنْ شَاءَ أَخَذَ الْجَارِيَةَ وَرَدَّ الْقِيمَةَ ، وَإِنْ شَاءَ سَلَّمَ الْجَارِيَةَ وَسُلِّمَتْ الْمِائَةُ لَهُ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي كِتَابِ الْغَصْبِ قَالَ : وَلَا يَسَعُ الْغَاصِبُ أَنْ يَطَأَهَا مَا كَانَ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ فِيهَا خِيَارٌ ؛ لِأَنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ يَمْلِكُ الْجَارِيَةَ مِنْ الْغَصْبِ بِالْقِيمَةِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ تَمْلِيكِهَا بِالْبَيْعِ ، وَمَا بَقِيَ لَهُ الْخِيَارُ - يَعْنِي لِلْبَائِعِ - فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرِي أَنْ يَطَأَهَا فَهَذَا مِثْلُهُ وَلَوْ كَانُوا تَصَادَقُوا عَلَى الْقِيمَةِ أَوْ قَامَتْ لَهُمَا بَيِّنَةٌ أَوْ نَكَلَا عَنْ الْيَمِينِ فَأَخَذَهَا الْمَغْصُوبُ مِنْهُ ثُمَّ ظَهَرَتْ الْجَارِيَةُ ؛ لَمْ يَكُنْ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ عَلَيْهَا سَبِيلٌ ؛ لِأَنَّ قَبْضَهُ الْقِيمَةَ رِضًا مِنْهُ بِخُرُوجِهَا عَنْ مِلْكِهِ فَإِنَّ الْبَدَلَ وَالْمُبْدَلَ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي مِلْكٍ .
وَكَانَ لِلْغَاصِبِ أَنْ يَطَأَهَا بَعْدَ أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ لِتَمَامِ التَّمَلُّكِ فِيهَا
وَإِذَا كَانَ عَبْدٌ فِي يَدَيْ رَجُلٍ فَادَّعَاهُ رَجُلٌ وَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِهِ وَوَكَّلَ فِي خُصُومَتِهِ وَلَمْ يَغِبْ الْمَطْلُوبُ وَغَيَّبَ الْعَبْدَ فَإِنَّ الْكَفِيلَ يُحْبَسُ حَتَّى يَجِيءَ بِهِ بِعَيْنِهِ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِالْكَفَالَةِ إحْضَارَهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ ظَهَرَ الْمَطْلُوبُ وَغَيَّبَ الْعَبْدَ ؛ حُبِسَ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي تَغْيِيبِهِ قَاصِدًا الْإِضْرَارَ بِالْمُدَّعِي فَإِنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْعَيْنِ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْهُ .
فَإِنْ قَالَ الْمُدَّعِي : أَنَا آتِي بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ عَبْدِي قُبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ لِيَسْتَحِقَّ بِهِ الْعَيْنَ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ وَالْقِيمَةَ إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْعَبْدِ فَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَاهُ أَنَّهُ الْعَبْدُ الَّذِي ضَمِنَ هَذَا بِهِ وَسَمَّيَاهُ وَجَلَّيَاهُ عِنْدَ فُلَانٍ قَضَيْت لَهُ بِالْعَبْدِ عَلَى الْكَفِيلِ فَإِنْ أَتَى بِهِ وَإِلَّا قَضَيْت لَهُ بِقِيمَتِهِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ الْمُدَّعِي بِاَللَّهِ مَا خَرَجَ مِنْ مِلْكِهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ قِيلَ : إنَّمَا يَحْلِفُ عَلَى هَذَا عِنْدَ طَلَبِ الْكَفِيلِ وَقِيلَ : بَلْ يَحْلِفُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ الْكَفِيلُ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ مِنْ الْقَاضِي لِلْغَائِبِ وَالصِّيَانَةِ لِقَضَائِهِ ، وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَاهُ أَنَّ الْعَبْدَ الَّذِي يُقَالُ لَهُ فُلَانٌ الْفُلَانِيُّ وَجَلَّيَاهُ لِفُلَانٍ لَمْ أَقْبَلْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الِاسْمَ يُوَافِقُ الْجَلِيَّةَ فَلَا يُثْبِتُ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ أَنَّهُ ضَامِنٌ لِلْعَبْدِ الْمَشْهُودِ بِهِ أَنَّهُ مِلْكٌ لِلْمُدَّعِي وَلَكِنَّ الْكَفِيلَ يُحْبَسُ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ إحْضَارَهُ بِالْكَفَالَةِ قَبْلَ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ .
فَإِنْ مَاتَ الْكَفِيلُ أُخِذَ بِهِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنْ ظَهَرَ الْعَبْدُ حَتَّى يَأْتِيَ بِهِ بَعْدَ أَنْ يُوَافِقَ جَلِيَّةَ الْعَبْدِ الَّذِي ظَهَرَ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ لِيَتَمَكَّنَ الْمُدَّعِي مِنْ إثْبَاتِ مِلْكِهِ بِالْبَيِّنَةِ فَإِنْ لَمْ يَأْتِ الْمَوْلَى بِالْعَبْدِ جُلِيَتْ عَنْهُ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى مَا ضَمِنَ شَيْئًا وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ شَيْءٌ
بِالْبَيِّنَةِ الَّتِي قَامَتْ عَلَى الِاسْمِ وَالْجَلِيَّةِ وَلَيْسَ الْمَوْلَى فِي هَذَا كَالْكَفِيلِ ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ الْتَزَمَ الْإِحْضَارَ بِكَفَالَتِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ وَالْمَوْلَى لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا فَلَا يَحْبِسُهُ الْقَاضِي وَلَا يُلْزِمُهُ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ .
وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ فِي يَدِ رَجُلٍ فَادَّعَاهُ آخَرُ وَكَفَلَ بِهِ رَجُلَانِ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ ؛ حُبِسَ الْكَفِيلَانِ حَتَّى يَدْفَعَاهُ إلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ أُخِذَ الْكَفِيلَانِ بِإِحْضَارِ مَا الْتَزَمَا إحْضَارَهُ بِالْكَفَالَةِ فَإِنْ قَالَا : قَدْ مَاتَ الْعَبْدُ أَوْ أَبَقَ وَأَقَامَا عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً ؛ فَإِنِّي أُخْرِجُهُمَا مِنْ السِّجْنِ ؛ لِأَنَّهُمَا حُبِسَا لِإِحْضَارِهِ وَقَدْ ثَبَتَ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ عَجْزُهُمَا عَنْ إحْضَارِهِ وَلَكِنْ لَا أُبَرِّئُهُمَا مِنْ الْكَفَالَةِ ؛ لِأَنَّ بِتِلْكَ الْكَفَالَةِ هُمَا ضَامِنَانِ لِلْقِيمَةِ إذَا ثَبَتَ مِلْكُ الطَّالِبِ فِي الْعَبْدِ بِالْحُجَّةِ وَادَّعَى الطَّالِبُ بِشُهُودِهِ أَنَّ الْعَبْدَ عَبْدُهُ فَإِنْ أَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً أَخَذَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْكَفِيلَيْنِ بِنِصْفِ الْقِيمَةِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْكَفِيلَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَمْ يَثْبُتْ عَلَى الْكَفِيلِ وَيُؤَجَّلُ الْكَفِيلَانِ فِي الْإِبَاقِ أَجَلًا حَتَّى يَأْتِيَا بِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْحُكْمَ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ إذَا غَابَ الْأَصِيلُ عَنْ الْبَلْدَةِ
وَإِذَا ادَّعَى الرَّجُلُ فِي يَدَيْ الرَّجُلِ أَرْضًا أَوْ حَمَّامًا أَوْ بُسْتَانًا وَقَالَ : بَيِّنَتِي حَاضِرَةٌ أُخِذَ لَهُ مِنْهُ كَفِيلٌ بِالْمُدَّعِي بِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَقَارَ لَا يُغَيَّبُ وَلَا يُحَرَّكُ وَلَا يُحَوَّلُ ؛ وَلِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى إحْضَارِهِ مَجْلِسَ الْحُكْمِ لِتَقَعَ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ فِي الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ
وَلَوْ اسْتَوْدَعَ رَجُلٌ رَجُلًا عَبْدًا فَجَحَدَهُ ذَلِكَ وَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ وَبِالْعَبْدِ فَمَاتَ الْعَبْدُ وَأَقَامَ رَبُّ الْعَبْدِ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ اسْتَوْدَعَهُ وَقَالَ : لَا أَدْرِي مَا كَانَتْ قِيمَتِهِ يَوْمَ كَفَلَ بِهِ الْكَفِيلُ فَالْمُسْتَوْدَعُ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ يَوْمَ اُسْتُوْدِعَهُ عَلَى مَا شَهِدَتْ الشُّهُودُ ؛ لِأَنَّهُ ثَبَتَ وُصُولُهُ إلَى يَدِهِ وَعَلَى هَذِهِ الْقِيمَةِ .
وَالْجُحُودُ مُوجِبٌ عَلَيْهِ ضَمَانَ تِلْكَ الْقِيمَةِ بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الْيَدِ وَلَا يَضْمَنُ الْكَفِيلُ مِنْ قِيمَتِهِ إلَّا مَا يُقِرُّ بِهِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ إنَّمَا يَضْمَنُ بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ لِاعْتِبَارِ يَدِ الْمُسْتَوْدِعِ وَلَمْ يُثْبِتْ بِالْبَيِّنَةِ مِقْدَارَ قِيمَتِهِ عِنْدَ الْكَفَالَةِ وَلَكِنْ مَا عُرِفَ ثُبُوتُهُ فَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ وَهَذَا نَوْعٌ مِنْ الظَّاهِرِ يَصْلُحُ حُجَّةً لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ لَا لِإِثْبَاتِ الِاسْتِحْقَاقِ فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ الْكَفِيلُ مِنْ قِيمَتِهِ إلَّا مَا يُقِرُّ بِهِ بَعْدَ أَنْ يَحْلِفَ وَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ يَوْمَ اخْتَصَمُوا فِيهِ أَعْمَى وَجَحَدَهُ الْمُسْتَوْدَعُ فَشَهِدَ الشُّهُودُ أَنَّهُ اُسْتُوْدِعَهُ وَهُوَ صَحِيحٌ يُسَاوِي أَلْفًا فَكَفَلَ بِهِ الْكَفِيلُ وَهُوَ أَعْمَى فَرَفَعُوهُ إلَى الْقَاضِي وَهُوَ كَذَلِكَ ثُمَّ مَاتَ فِي يَدِ الْمُسْتَوْدَعِ وَزَكَّى شُهُودُهُ فَالْمُسْتَوْدَعُ ضَامِنٌ قِيمَتَهُ أَعْمَى عَلَى الْحَالِ الَّذِي جَحَدَ فِيهَا وَكَذَلِكَ الْكَفِيلُ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَوْدَعَ إنَّمَا يَصِيرُ ضَامِنًا عِنْدَ الْجُحُودِ وَقَدْ عَلِمَ الْقَاضِي تَغَيُّرَهُ عَنْ الْقِيمَةِ الَّتِي شَهِدَتْ بِهَا الشُّهُودُ فَلَا تُعْتَبَرُ تِلْكَ الْقِيمَةُ فِي الْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ هَلَاكَهُ قَبْلَ الْجُحُودِ ؛ لَمْ يُضَمِّنْهُ شَيْئًا ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِذَلِكَ ؛ ضَمَّنَهُ قِيمَتَهُ .
فَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ فَوَاتَ جُزْءٍ مِنْهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَعْلَمْ وَلَكِنَّ السُّوقَ اُتُّضِعَتْ ، وَجَحَدَهُ يَوْمَ جَحَدَهُ وَهُوَ يُسَاوِي خَمْسَمِائَةٍ وَعَلِمَ ذَلِكَ الْقَاضِي لَمْ يُضَمِّنْهُ
إلَّا قِيمَتَهُ خَمْسَمِائَةٍ ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ ذَلِكَ ضَمَّنَ الْمُسْتَوْدَعَ أَلْفَ دِرْهَمٍ كَمَا شَهِدَ بِهِ الشُّهُودُ ، وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهُ بَيِّنَةً عَلَى اتِّضَاعِ السُّوقِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ النَّفْيُ وَالْبَيِّنَاتُ لِلْإِثْبَاتِ لَا لِلنَّفْيِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ بَعْدَ مَا جَحَدَ لَوْ قَالَ : قَدْ مَاتَ الْعَبْدُ ؛ لَمْ أَلْتَفِتْ إلَى قَوْلِهِ وَلَمْ أَقْبَلْ مِنْهُ بَيِّنَةً عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ نَفْيُ الضَّمَانِ عَنْهُ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ الْقَاضِي أَنَّهُ مَاتَ قَبْلَ جُحُودِهِ أَوْ يُقِرَّ الْخَصْمُ بِهِ
وَلَوْ اسْتَعَارَ دَابَّةً مِنْ رَجُلٍ إلَى مَكَان مَعْلُومٍ فَجَاوَزَ ذَلِكَ الْمَكَانَ ضَمِنَهَا .
وَلَوْ أَعْطَاهُ كَفِيلًا بِهَا جَازَ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا ضَامِنًا بِالْمُجَاوَزَةِ وَكَذَلِكَ الْمُسْتَوْدَعُ .
إذَا جَارَ فِي بَعْضِ الْوَدِيعَةِ ؛ جَازَتْ الْكَفَالَةُ بِقَدْرِ مَا جَارَ فِيهَا ؛ لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُودَعِ
وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ رَجُلٍ وَنَقَدَهُ الثَّمَنَ وَأَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِالْعَبْدِ حَتَّى يَدْفَعَهُ إلَيْهِ فَمَاتَ الْعَبْدُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْكَفِيلِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ انْفَسَخَ بِمَوْتِهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَرِئَ الْأَصِيلُ عَنْ تَسْلِيمِ عَيْنِهِ .
فَكَذَلِكَ الْكَفِيلُ وَالْكَفِيلُ مَا ضَمِنَ الثَّمَنَ فَلَا يُطَالَبُ بِشَيْءٍ مِنْهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ ضَمِنَ الدَّرَكَ فِي الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ الْهَلَاكَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَيْسَ يُدْرَكُ وَإِنَّمَا الدَّرَكُ لِلِاسْتِحْقَاقِ وَلَوْ قَبَضَهُ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْكَفِيلِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْعَيْبَ لَيْسَ يُدْرَكُ وَلَوْ لَمْ يَجِدْ بِهِ عَيْبًا وَلَكِنْ اُسْتُحِقَّ بِصِفَةٍ فَرَدَّ الْمُشْتَرِي النِّصْفَ الْبَاقِيَ ؛ لَمْ يَضْمَنْ الْكَفِيلُ إلَّا ثَمَنَ النِّصْفِ الْمُسْتَحَقِّ ؛ لِأَنَّ الدَّرَكَ تَحَقَّقَ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ الْآخَرِ فَإِنَّمَا رَدَّهُ الْمُشْتَرِي بِعَيْبِ التَّبْعِيضِ وَذَلِكَ لَيْسَ بِدَرَكٍ .
وَإِذَا كَفَلَ رَجُلٌ بِالرَّهْنِ وَفِيهِ فَضْلٌ عَلَى الدَّيْنِ فَهَلَكَ عِنْدَ الْمُرْتَهِنِ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْكَفِيلِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ عَيْنَ الرَّهْنِ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ وَالزِّيَادَةُ عَلَى مِقْدَارِ الدَّيْنِ مِنْ مَالِيَّةِ الرَّهْنِ أَمَانَةٌ فَلَا يَضْمَنُ الْكَفِيلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ بِالْكَفَالَةِ وَلَوْ كَانَ ضَمِنَ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ مَا نَقَصَ الرَّهْنُ مِنْ دَيْنِهِ وَكَانَ الرَّهْنُ قِيمَتُهُ تِسْعَمِائَةٍ وَالدِّينُ أَلْفًا ؛ ضَمِنَ الْكَفِيلُ مِائَةَ دِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِالْكَفَالَةِ دَيْنًا مَضْمُونًا فِي ذِمَّةِ الْأَصِيلِ
وَلَوْ أَنَّ جَارِيَةً بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَخَذَهَا أَحَدُهُمَا بِغَيْرِ أَمْرِ صَاحِبِهِ فَكَفَلَ رَجُلٌ لِصَاحِبِهِ بِنَصِيبِهِ مِنْهَا جَازَ ؛ لِأَنَّ الْآخِذَ غَاصِبٌ ضَامِنٌ لِنَصِيبِ شَرِيكِهِ .
وَلَوْ كَانَ أَخَذَهَا بِرِضَاهُ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ نَصِيبَهُ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْقَابِضِ وَلَوْ اسْتَعَارَ الرَّهْنَ مِنْ الْمُرْتَهِنِ عَلَى إنْ أَعْطَاهُ كَفِيلًا بِهِ فَهَلَكَ عِنْدَ الرَّاهِنِ ؛ كَانَ خَارِجًا مِنْ الرَّهْنِ ؛ لِأَنَّ ضَمَانَ الِاسْتِيفَاءِ بِاعْتِبَارِ يَدِ الْمُرْتَهِنِ ، وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ مَا اسْتَعَارَهُ الرَّاهِنُ وَلَمْ يَلْزَمْ الْكَفِيلَ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَمَانَ لِلْمُرْتَهِنِ عَلَى الْأَصِيلِ بِسَبَبِ هَذَا الْقَبْضِ فَلَا يَضْمَنُ الْكَفِيلُ أَيْضًا شَيْئًا ، وَلَوْ كَانَ أَخَذَهُ بِغَيْرِ رِضَا الْمُرْتَهِنِ جَازَ ضَمَانُ الْكَفِيلِ وَأُخِذَ بِهِ ؛ لِأَنَّ الرَّاهِنَ ضَامِنٌ مَالِيَّةَ الْعَيْنِ هُنَا .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ هَلَكَ فِي يَدِهِ ؛ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِلْمُرْتَهِنِ فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْكَفَالَةِ بِالْمَغْصُوبِ
وَلَوْ اسْتَقْرَضَ مِنْ رَجُلٍ مَالًا عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ فُلَانًا عِنْدَهُ رَهْنًا وَكَفَلَ لَهُ بِذَلِكَ الرَّهْنِ كَفِيلٌ ؛ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْكَفِيلِ ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْقَبْضِ فَقَبْلَ الْقَبْضِ لَيْسَ هُنَا شَيْءٌ مَضْمُونٌ عَلَى الْأَصِيلِ لِتَصِحَّ الْكَفَالَةُ بِهِ
وَلَوْ أَجَرَ عَبْدًا أَوْ دَابَّةً وَعَجَّلَ الْأَجْرَ وَلَمْ يَقْبِضْ الْعَبْدَ وَلَا الدَّابَّةَ ، وَكَفَلَ لَهُ كَفِيلٌ بِذَلِكَ حَتَّى يَدْفَعَهُ إلَيْهِ ؛ فَالْكَفِيلُ يُؤْخَذُ لَهُ مَا دَامَ حَيًّا ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْأَصِيلِ وَهُوَ مِمَّا تُجْرَى فِيهِ النِّيَابَةُ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهِ فَإِنْ هَلَكَ مَا اسْتَأْجَرَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْكَفِيلِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ انْفَسَخَتْ وَخَرَجَ الْأَصِيلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُطَالَبًا بِتَسْلِيمِ الْعَيْنِ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ رَدُّ الْأَجْرِ وَالْكَفِيلُ مَا كَفَلَ بِالْأَجْرِ
وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِأَمَةٍ وَهِيَ حُبْلَى وَلِآخَرَ بِمَا فِي بَطْنِهَا وَهِيَ تَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ فَأَخَذَ صَاحِبُ الْحَبَلِ مِنْ صَاحِبِ الْأَمَةِ كَفِيلًا بِمَا فِي بَطْنِهَا لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ مَا فِي الْبَطْنِ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى صَاحِبِ الْأَمَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ دَفَعَ الْأَمَةَ إلَى صَاحِبِ الْوَلَدِ تَكُونُ عِنْدَهُ عَلَى إنْ أَعْطَاهُ بِهَا كَفِيلًا لَمْ تَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ فِيهَا حِينَ قَبَضَهَا بِإِذْنِ صَاحِبِهَا ، وَلَوْ أَخَذَهَا بِغَيْرِ أَمْرِهِ وَأَعْطَاهُ بِهَا كَفِيلًا جَازَ ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ لَهَا ، ضَامِنٌ .
وَلَوْ أَخَذَ صَاحِبُ الْأَمَةِ الْأَمَةَ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِ الْوَلَدِ وَأَعْطَاهُ كَفِيلًا بِالْوَلَدِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ بِأَخْذِ الْأُمِّ لَا يَصِيرُ غَاصِبًا ضَامِنًا لِمَا فِي بَطْنِهَا
وَلَوْ أَوْصَى لِرَجُلٍ بِخَادِمٍ وَلِآخَرَ بِخِدْمَتِهَا ؛ فَإِنَّهَا تَكُونُ عِنْدَ صَاحِبِ الْخِدْمَةِ فَإِنْ أَخَذَ مِنْهُ صَاحِبُ الرَّقَبَةِ كَفِيلًا بِهَا وَقَدْ أَخَذَهَا صَاحِبُ الْخِدْمَةِ بِإِذْنِهِ ؛ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْكَفِيلِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهَا بِحَقٍّ مُسْتَحَقٍّ لَهُ تَبَرُّعًا فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ الْأَخْذُ مُوجِبًا عَلَيْهِ ضَمَانًا فَلَا يَلْزَمُ الْكَفِيلَ ذَلِكَ بِالْكَفَالَةِ .
وَلَوْ أَخَذَهَا صَاحِبُ الرَّقَبَةِ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِ الْخِدْمَةِ ثُمَّ أَعْطَاهُ كَفِيلًا بِهَا حَتَّى يُسَلِّمَهَا إلَيْهِ أُخِذَ بِهَا الْكَفِيلُ ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الْعَيْنِ إلَى صَاحِبِ الْخِدْمَةِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى صَاحِبِ الرَّقَبَةِ هُنَا وَهُوَ مِمَّا تُجْرَى فِيهِ النِّيَابَةُ فَيَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالْكَفَالَةِ ، فَإِنْ مَاتَتْ بَرِئَ الْكَفِيلُ ؛ لِأَنَّ حَقَّ صَاحِبِ الْخِدْمَةِ بَطَلَ بِمَوْتِهَا وَسَقَطَتْ الْمُطَالَبَةُ عَنْ صَاحِبِ الرَّقَبَةِ بِالتَّسْلِيمِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ الْوَصِيَّةُ بِالْغَلَّةِ مَكَانَ الْخِدْمَةِ
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا بَاعَ مِنْ رَجُلٍ عَيْنًا فَادَّعَى رَجُلٌ فِيهِ دَعْوَى فَأَرَادَ الْمُشْتَرِي أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الْبَائِعِ كَفِيلًا بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَا أَدْرَكَهُ فِي ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى عَلَى الْمُشْتَرِي لَا يَسْتَحِقُّ الْمُدَّعِي عَلَى الْبَائِعِ شَيْئًا فَلَا يُجْبَرُ عَلَى إعْطَاءِ الْكَفِيلِ وَلَكِنَّهُ لَوْ أَعْطَاهُ كَفِيلًا بِمَا أَدْرَكَهُ فِي ذَلِكَ جَازَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَعْطَاهُ ذَلِكَ عِنْدَ الشِّرَاءِ أَوْ بَعْدَهُ قَبْلَ دَعْوَى الْمُدَّعِي
وَلَوْ ادَّعَى ذِمِّيٌّ قِبَلَ ذِمِّيٍّ خَمْرًا أَوْ خِنْزِيرًا بِعَيْنِهِ فَأَخَذَ مِنْهُ بِهِ كَفِيلًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ ؛ جَازَ ، وَإِنْ كَفَلَ بِهِ مُسْلِمٌ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْخَمْرَ وَالْخِنْزِيرَ لَيْسَا بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ الْتِزَامُ تَسْلِيمِهِ بِالْكَفَالَةِ كَمَا لَا يَصِحُّ فِي سَائِرِ الْعُقُودِ ، وَإِنْ هَلَكَ ذَلِكَ عِنْدَهُ ثُمَّ ضَمِنَهُ الْمُسْلِمُ لَهُ ثُمَّ أَقَامَ الْمُدَّعِي عَلَى ذَلِكَ شُهُودًا مُسْلِمِينَ ضَمِنَ قِيمَةَ الْخِنْزِيرِ وَلَمْ يَضْمَنْ الْخَمْرَ ؛ لِأَنَّ الْخِنْزِيرَ مَضْمُونٌ بِالْقِيمَةِ عِنْدَ الْهَلَاكِ وَقِيمَتُهُ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ فَتَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا مِنْ الْمُسْلِمِ وَأَمَّا الْخَمْرُ فَإِنَّهَا مَضْمُونَةٌ بِالْمِثْلِ فَلَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِهَا مِنْ الْمُسْلِمِ كَمَا لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِالْعَيْنِ حَالَ قِيَامِهَا
وَلَوْ تَقَبَّلَ مِنْ رَجُلٍ بِنَاءَ دَارٍ مَعْلُومٍ أَوْ كِرَابِ أَرْضٍ مَعْلُومٍ أَوْ كَرْيَ نَهْرٍ مَعْلُومٍ فَأَعْطَاهُ بِهَا كَفِيلًا كَانَ جَائِزًا ؛ لِأَنَّ هَذَا عَمَلٌ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْأَصِيلِ ، مَضْمُونٌ بِالْعَقْدِ وَهُوَ مِمَّا تُجْرَى النِّيَابَةُ فِي إيفَائِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَكْرَاهُ إبِلًا إلَى مَكَّةَ فَأَعْطَاهُ كَفِيلًا بِذَلِكَ جَازَ ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَهَا مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْأَصِيلِ وَلَوْ كَانَتْ الْإِبِلُ بِأَعْيَانِهَا فَأَعْطَاهُ كَفِيلًا بِهَا كَانَ جَائِزًا مَا دَامَتْ قَائِمَةً بِأَعْيَانِهَا ؛ لِأَنَّ الْأَصِيلَ مُطَالَبٌ بِتَسْلِيمِهَا بِالْعَقْدِ فَإِذَا هَلَكَتْ ؛ فَقَدْ انْفَسَخَ الْعَقْدُ وَبَرِئَ الْأَصِيلُ عَنْ التَّسْلِيمِ ؛ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْكَفِيلِ فَلَوْ أَعْطَاهُ كَفِيلًا بِالْحُمُولَةِ لَمْ يَجُزْ فِيمَا كَانَ بِعَيْنِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا تُجْرَى النِّيَابَةُ فِيهِ فَإِنَّ إبِلَ الْكَفِيلِ لَا تَقُومُ مَقَامَ تِلْكَ الْحُمُولَةِ الْمُعَيَّنَةِ فِي إيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَجَازَ فِيمَا كَانَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الْأَصِيلِ بِالْعَقْدِ وَهُوَ مِمَّا تُجْرَى فِيهِ النِّيَابَةُ بِإِيفَائِهِ وَإِنَّمَا يَلْتَزِمُ الْكَفِيلُ تَسْلِيمَ مَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ
وَإِذَا كَتَبَ ذِكْرَ حَقٍّ عَلَى رَجُلٍ وَكَتَبَ فِيهِ : وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ لَهُ وَأَيَّهُمَا شَاءَ فُلَانٌ أَخَذَهُ بِهَذَا الْمَالِ وَإِنْ شَاءَ أَخَذَهُمَا جَمِيعًا ، وَإِنْ شَاءَ شَتَّى كَيْفَ شَاءَ وَكُلَّمَا شَاءَ ، حَتَّى يَسْتَوْفِيَ مِنْهُمَا هَذَا الْمَالَ وَإِنَّمَا يُكْتَبُ ذَلِكَ احْتِيَاطًا لِصَاحِبِ الْحَقِّ مِنْ اخْتِلَافِ الْقُضَاةِ فَإِنَّ الْمَذْهَبَ - عِنْدَنَا - أَنَّهُ إذَا كَفَلَ بِمَالٍ فَلِلطَّالِبِ أَنْ يَأْخُذَ أَيَّهمَا شَاءَ بِجَمِيعِ الْمَالِ كَيْفَ شَاءَ وَكُلَّمَا شَاءَ وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - : بَرِئَ الْأَصِيلُ وَالْمَالُ عَلَى الْكَفِيلِ إلَّا أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيلٌ عَنْ صَاحِبِهِ أَجَزْته وَأَيُّهُمَا أَجَازَ أَبْرَأْت الْآخَرَ إلَّا أَنْ يُشْتَرَطَ أَنْ يَأْخُذَهُمَا جَمِيعًا أَوْ شَتَّى فَأُدْخِلَا فِي الصَّكِّ جَمِيعًا أَوْ شَتَّى لِذَلِكَ وَقَالَ شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - : إنْ أُدْخِلَا جَمِيعًا أَوْ شَتَّى ؛ أَجَزْته ، فَإِنْ اخْتَارَ أَحَدَهُمَا ؛ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْآخَرَ إلَّا أَنْ يُفْلِسَ هَذَا أَوْ يَمُوتَ وَلَا يَتْرُكُ شَيْئًا فَأُدْخِلَا فِي الصَّكِّ كَيْفَ شَاءَ وَكُلَّمَا شَاءَ حَتَّى يَكُونَ لَهُ الِاخْتِيَارُ كُلَّ مَرَّةٍ ؛ وَهَذَا لِأَنَّ الْكِتَابَ لِلتَّوَثُّقِ فَيَنْبَغِي لِكُلِّ مَنْ يَكْتُبُ الْكِتَابَ أَنْ يَحْتَاطَ لِصَاحِبِهِ بِكُلِّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ التَّوَثُّقِ وَيَحْتَاطَ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ اخْتِلَافِ الْقُضَاةِ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَلْيُؤَدِّ الَّذِي ائْتُمِنَ أَمَانَتَهُ } وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
بَابٌ مِنْ الْكَفَالَةِ أَيْضًا ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) : وَإِذَا أَقْرَضَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ قَرْضًا عَلَى أَنْ يَكْفُلَ بِهِ فُلَانٌ ؛ كَانَ جَائِزًا حَاضِرًا كَانَ فُلَانٌ أَوْ غَائِبًا ضَمِنَ أَوْ لَمْ يَضْمَنْ ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ أَنْ يُحِيلَهُ بِهِ عَلَى فُلَانٍ ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَائِزِ مِنْ الشُّرُوطِ فَلَا يُفْسِدُهُ الْبَاطِلُ ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَوْ شَرَطَ فِيهِ كَفَالَةً أَوْ حَوَالَةً مِنْ مَجْهُولٍ أَوْ مَعْلُومٍ غَيْرِ حَاضِرٍ ؛ لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ فَالْبَيْعُ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الْفَاسِدَ مِنْ الشُّرُوطِ مُبْطِلٌ لِلْبَيْعِ فَإِنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِالْجَائِزِ مِنْ الشُّرُوطِ .
فَأَمَّا ضَمَانُ الْقَرْضِ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ بِالْقَبْضِ شَرْعًا وَلَا أَثَرَ لِلشُّرُوطِ فِيهِ كَضَمَانِ الْغَصْبِ وَالتَّزْوِيجِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ مِنْ دَمِ عَمْدٍ وَجِرَاحَةٍ فِيهَا قِصَاصٌ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا .
وَجِنَايَةُ الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ إذَا ضَمِنَهَا فَشَرَطَ لَهُ فِي ذَلِكَ كَفَالَةً أَوْ حَوَالَةً فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَرْضِ ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ لَا يُبْطَلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ .
وَكَذَلِكَ الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ وَلَوْ قَبِلَ الْكَفِيلُ الْكَفَالَةَ أَوْ الْحَوَالَةَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ لَازِمٌ يُطَالِبُ بِهِ الْأَصِيلُ وَتُجْرَى النِّيَابَةُ فِي إيفَائِهِ وَبَدَلُ الْعِتْقِ بِمَالٍ لَيْسَ كَبَدَلِ الْكِتَابَةِ فِي حُكْمِ الْكَفَالَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِدَيْنٍ قَوِيٍّ وَمِنْ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّ فَسَادَ شَرْطِ الْكَفَالَةِ لَا يُبْطِلُ هَذِهِ الْعُقُودَ : مَا قَالَ فِي الْعِتْقِ ؛ لِأَنَّهُ يُرَدُّ وَمَعْنَى هَذَا : أَنَّ الشَّرْطَ الْفَاسِدَ لَا يَمْنَعُ انْعِقَادَ الْعَقْدِ وَلَكِنْ يُسْتَحَقُّ بِهِ الْفَسْخُ بَعْدَ الِانْعِقَادِ ، وَهَذِهِ الْعُقُودُ لَا تَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بَعْدَ التَّمَامِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِيهَا الشَّرْطُ الْفَاسِدُ
وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ دَيْنٌ حَالٌّ مِنْ ثَمَنِ بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ أَوْ غَصْبٍ فَسَأَلَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ عَنْهُ نُجُومًا عَلَى أَنْ يَضْمَنَهُ لَهُ فُلَانٌ الْغَائِبُ فَصَالَحَهُ عَلَى ذَلِكَ فَقَدِمَ الْكَفِيلُ فَأَبَى أَنْ يَضْمَنَ ؛ فَالصُّلْحُ مُنْتَقَضٌ ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى التَّنْجِيمِ فِي الْمَالِ يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا وَهُوَ مَا رَضِيَ بِذَلِكَ إلَّا بِكَفَالَةِ الْكَفِيلِ فَإِذَا أَبَى أَنْ يَكْفُلَ كَانَ الْمَالُ حَالًّا عَلَيْهِ كَمَا كَانَ وَإِنْ ضَمِنَ الْكَفِيلُ بَعْدَ مَا حَضَرَ جَازَ الصُّلْحُ لِتَمَامِ الرِّضَا بِهِ وَلَا يُشْتَرَطُ حُضُورُهُ فِي مَجْلِسِ الصُّلْحِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الْعَقْدِ مِنْ التَّمْلِيكِ شَيْءٌ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَتِمَّ الرِّضَا بِهِ فِي الْمَجْلِسِ وَبَعْدَ الْمَجْلِسِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ مَالٌ بِمَالٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّيِّقِ فَإِذَا لَمْ يَحْضُرْ الْكَفِيلُ فِي الْمَجْلِسِ صَارَ اشْتِرَاطُ كَفَالَتِهِ شَرْطًا فَاسِدًا .
وَالْبَيْعُ يَبْطُلُ بِالشَّرْطِ الْفَاسِدِ وَهَذَا لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَوَقَّفَ عَلَى الْقَبُولِ بَعْدَ الْمَجْلِسِ فَكَذَلِكَ لَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى قَبُولِ الْكَفَالَةِ الْمَشْرُوطِ فِيهِ بَعْدَ الْمَجْلِسِ وَلَوْ كَانَ حَاضِرًا فَأَبَى أَنْ يَضْمَنْ لَمْ يَجُزْ الصُّلْحُ لِانْعِدَامِ تَمَامِ الرِّضَا بِهِ ، وَإِنْ ضَمِنَ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَإِنْ اشْتَرَطَ فِي التَّأْخِيرِ أَنَّهُ إنْ أَخَّرَهُ عَنْ مَحَلِّهِ فَالْمَالُ كُلُّهُ حَالٌّ أَوْ إنْ أَخَّرَ نَجْمًا عَنْ مَحَلِّهِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ ؛ فَالْمَالُ كُلُّهُ حَالٌّ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا اشْتَرَطَا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي هَذَا الصُّلْحِ مِنْ مَعْنَى التَّمْلِيكِ شَيْءٌ وَهَذَا الشَّرْطُ فِي الصُّلْحِ مُتَعَارَفٌ وَلَوْ أَعْطَاهُ كَفِيلًا عَلَى أَنْ جَعَلَ لَهُ أَجَلًا مَعْلُومًا ؛ كَانَ جَائِزًا فِي جَمِيعِ الدُّيُونِ إلَّا الْقَرْضَ فَإِنَّهُ حَالٌّ عَلَى الْأَصِيلِ ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ حَقُّ الْأَصِيلِ كَالْعَارِيَّةِ لَا يَلْزَمُ فِيهِ الْأَجَلُ وَهُوَ مُؤَجَّلٌ عَلَى الْكَفِيلِ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْكَفِيلِ بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ .
وَالدَّيْنُ
الْوَاجِبُ بِالْعَقْدِ يَقْبَلُ الْأَجَلَ .
وَإِذَا كَفَلَ الْمَرِيضُ بِمَالٍ ثُمَّ مَاتَ وَلَا دَيْنَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ مِنْ ثُلُثِهِ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ تَبَرُّعٌ وَتَبَرُّعَاتِ الْمَرِيضِ تَصِحُّ مِنْ ثُلُثِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ كَفَلَ بِهِ فِي الصِّحَّةِ ؛ لَزِمَهُ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ مَالِهِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِوَارِثٍ وَلَا عَنْ وَارِثٍ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ فِي الصِّحَّةِ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ وَإِقْرَارُهُ فِي الْمَرَضِ بِسَبَبِ وُجُوبِ الدَّيْنِ مُضَافًا إلَى حَالِ الصِّحَّةِ يَكُونُ إقْرَارًا بِالدَّيْنِ .
وَإِقْرَارُ الْمَرِيضِ لِلْأَجْنَبِيِّ بِالدَّيْنِ صَحِيحٌ وَلِلْوَارِثِ بَاطِلٌ ، وَإِنْ كَانَ عَنْ وَارِثٍ فَهَذَا قَوْلٌ مِنْ الْمَرِيضِ فِيهِ مَنْفَعَةُ وَارِثِهِ .
وَالْمَرِيضُ مَحْجُورٌ عَنْ مِثْلِهِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ دَيْنَ الصِّحَّةِ مُتَقَدِّمٌ عَلَى مَا أَقَرَّ بِهِ فِي الْمَرَضِ فَمَا بَقِيَ دَيْنُ الصِّحَّةِ لَمْ يُعْتَبَرْ إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ فِي الْمَرَضِ ، وَإِذَا كَفَلَ فِي الصِّحَّةِ بِمَا أَقَرَّ بِهِ فُلَانٌ لِفُلَانٍ وَلَمْ يُسَمِّهِ ثُمَّ مَرِضَ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ فَأَقَرَّ الْمَكْفُولُ عَنْهُ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ لَزِمَ الْمَرِيضَ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ مَالِهِ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ وُجُوبِ الْمَالِ قَدْ تَمَّ مِنْهُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ وَهُوَ الْكَفَالَةُ ، وَالدَّيْنُ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ السَّبَبِ بِمَنْزِلَةِ دَيْنِ الصِّحَّةِ ، وَكَذَلِكَ إنْ أَقَرَّ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّ الْمُقِرَّ لَهُ يُخَلِّصُ غُرَمَاءَ الْكَفِيلِ بِذَلِكَ لِأَنَّ أَصْلَهُ كَانَ فِي الصِّحَّةِ وَكَانَ قَدْ لَزِمَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ عَنْهُ وَإِبْطَالَهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَفَلَ بِمَا ذَابَ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ أَوْ بِمَا صَارَ لَهُ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ لِوَارِثٍ أَوْ عَنْ وَارِثٍ أَوْ لِوَارِثٍ عَنْ وَارِثٍ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الصِّحَّةِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ ضَمَانِ الدَّرَكِ فَإِنَّهُ لَوْ كَفَلَ فِي صِحَّتِهِ بِمَا أَدْرَكَهُ مِنْ دَرَكٍ فِي دَارٍ اشْتَرَاهَا ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الدَّارُ فِي مَرَضِ
الْكَفِيلِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ يَضْرِبُ مَعَ غُرَمَاءِ الْكَفِيلِ الْمَيِّتِ بِالثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الدَّيْنِ كَانَ فِي الصِّحَّةِ بِخِلَافِ الْكَفَالَةِ فِي الْمَرَضِ .
وَإِنْ كَفَلَ فِي الْمَرَضِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ دَيْنٌ ثُمَّ اسْتَدَانَ دَيْنًا يُحِيطُ بِمَالِهِ ثُمَّ مَاتَ فَالْكَفَالَةُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ مَا لَزِمَهُ فِي الْمَرَضِ مِنْ الدَّيْنِ بِسَبَبٍ مُعَايِنٍ بِمَنْزِلَةِ دَيْنِ الصِّحَّةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْكَفَالَةَ فِي الْمَرَضِ لَا تَصِحُّ إذَا كَانَ دَيْنُ الصِّحَّةِ مُحِيطًا بِمَالِهِ وَإِذَا كَفَلَ رَجُلٌ لِرَجُلَيْنِ وَقَالَ : قَدْ كَفَلْت لِفُلَانٍ بِمَالِهِ عَلَى فُلَانٍ ، أَوْ كَفَلْت لِفُلَانٍ الْآخَرَ بِمَالِهِ عَلَى فُلَانٍ ؛ فَهَذَا بَاطِلٌ سَوَاءٌ كَانَ الْمَالَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ جِنْسَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمَكْفُولَ لَهُ وَالْمَكْفُولَ عَنْهُ مَجْهُولٌ فَتَكُونُ الْجَهَالَةُ مُتَفَاحِشَةً وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْجَهَالَةِ تَمْنَعُ الْكَفَالَةَ
وَلَوْ كَانَ الْحَقُّ لِرَجُلٍ وَاحِدٍ عَلَى رَجُلَيْنِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَلْفُ دِرْهَمٍ فَقَالَ : كَفَلْت لَكَ بِمَالِكٍ عَلَى فُلَانٍ فَهَذَا جَائِزٌ سَوَاءٌ كَانَ الْمَالَانِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَوْ مِنْ جِنْسَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ هُنَا يَسِيرَةٌ مُسْتَدْرَكَةٌ وَهِيَ جَهَالَةُ الْمَكْفُولِ عَنْهُ وَمِثْلُ هَذِهِ الْجَهَالَةِ لَا تُؤَثِّرُ فِي الْعَقْدِ الْمَبْنِيِّ عَلَى التَّوَسُّعِ وَهَذَا لِأَنَّ الطَّالِبَ مَعْلُومٌ فَتَتَوَجَّهُ الْمُطَالَبَةُ مِنْ جِهَتِهِ عَلَى الْكَفِيلِ وَإِنَّمَا بَقِيَ الْخِيَارُ فِي حَقِّ الْكَفِيلِ فِي أَنْ يُؤَدِّيَ أَيَّ الْمَالَيْنِ شَاءَ .
وَلَوْ كَفَلَ عَنْ وَاحِدٍ بِأَحَدِ الْمَالَيْنِ ؛ جَازَ فَهَذَا مِثْلُهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَالْمُطَالَبَةُ هُنَاكَ لَا تَتَوَجَّهُ مِنْ الْمَجْهُولِ عَلَى الْكَفِيلِ وَالْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ فِي هَذَا مِثْلُ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ : كَفَلْت لَك بِنَفْسِ فُلَانٍ فَإِنْ لَمْ أُوَافِكَ بِهِ غَدًا فَعَلَيَّ مَا لَك عَلَيْهِ وَهُوَ الْمِائَةُ دِينَارٍ أَوْ بِنَفْسِ فُلَانٍ فَإِنْ لَمْ أُوَافِك بِهِ غَدًا فَعَلَيَّ مَا لَك عَلَيْهِ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَلَمْ يُوَافِ بِهِ غَدًا ؛ فَهُوَ ضَامِنٌ لِأَحَدِهِمَا أَحَدَ الْمَالَيْنِ أَيُّ ذَلِكَ شَاءَ ؛ لِأَنَّ الطَّالِبَ وَاحِدٌ مَعْلُومٌ ، وَإِنْ دَفَعَ أَحَدُهُمَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ ؛ بَرِئَ مِنْ الْكَفَالَةِ كُلِّهَا ؛ لِأَنَّ اشْتِغَالَهُ بِدَفْعِ أَحَدِهِمَا اخْتِيَارٌ مِنْهُ لِكَفَالَتِهِ فَتَبْطُلُ عَنْهُ كَفَالَتُهُ عَنْ الْآخَرِ بِهَذَا الِاخْتِيَارِ وَقَدْ وُجِدَتْ الْمُوَافَاةُ فِي حَقِّ الَّذِي اخْتَارَ فَيَبْرَأُ مِنْ كَفَالَتِهِ أَيْضًا
وَلَوْ كَانَ لِرَجُلَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى رَجُلٍ مَالٌ فَقَالَ رَجُلٌ لِأَحَدِهِمَا : كَفَلْت بِنَفْسِ غَرِيمِك فُلَانٍ فَإِنْ لَمْ أُوَافِك بِهِ غَدًا فَمَا لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ فَهُوَ عَلَيَّ ؛ جَازَتْ الْكَفَالَةُ بِالنَّفْسِ ؛ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِهَا لِمَعْلُومٍ مُطْلَقًا وَبَطَلَتْ الْكَفَالَةُ بِالْمَالِ ؛ لِأَنَّهَا مُخَاطَرَةٌ فَإِنَّ الْحَقَّ لَيْسَ لِلْمَكْفُولِ لَهُ بِالنَّفْسِ وَمَا كَانَ صِحَّةُ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَالِ لِتَثْبُتَ الْكَفَالَةُ بِهَا تَبَعًا لِلْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ فَيَكُونُ هَذَا تَعْلِيقَ الْتِزَامِ الْمَالِ بِمَحْضِ الشَّرْطِ وَهُوَ بَاطِلٌ كَمَا لَوْ عَلَّقَهُ بِدُخُولِ الدَّارِ ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يَقُولُ لِلرَّجُلِ كَفَلْت لَك بِنَفْسِ فُلَانٍ فَإِنْ لَمْ أُوَافِك بِهِ غَدًا فَأَنَا كَفِيلٌ بِنَفْسِ فُلَانٍ لِإِنْسَانٍ آخَرَ فَالْكَفَالَةُ الثَّانِيَةُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ تَوَابِعِ الْكَفَالَةِ الْأُولَى فَيَكُونُ تَعْلِيقًا لِالْتِزَامِ التَّسْلِيمِ بِمَحْضِ الشَّرْطِ وَلَوْ كَانَتْ الْكَفَالَةُ عَنْ وَاحِدٍ فَقَالَ : كَفَلْت لَك بِنَفْسِ فُلَانٍ فَإِنْ لَمْ أُوَافِك بِهِ غَدًا فَمَا لِفُلَانٍ عَلَيْهِ وَهُوَ أَلْفٌ عَلَيَّ ؛ فَرَضِيَ بِذَلِكَ الْآخَرُ فَالْكَفَالَةُ الْأُولَى جَائِزَةٌ وَالنِّيَابَةُ بَاطِلَةٌ ؛ لِأَنَّ صِحَّةَ الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ مَا كَانَتْ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَالِ فَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ الْكَفَالَةِ بِالْمَالِ تَبَعًا لِلْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ .
وَلَوْ قَالَ كَفَلْت لَك بِنَفْسِ فُلَانٍ أَوْ فُلَانٍ بِمَالِهِ عَلَيْهِ أَوْ بِنَفْسِهِ فَهَذَا بَاطِلٌ كُلُّهُ لِجَهَالَةِ الْمَكْفُولِ لَهُ وَلَوْ قَالَ : كَفَلْت لَك بِأَحَدِ غَرِيمَيْك هَذَيْنِ أَوْ بِأَحَدِ مَالَيْك عَلَى هَذَيْنِ كَانَ جَائِزًا ؛ لِأَنَّهُ الْمَكْفُولُ لَهُ وَالْمُطَالَبَةُ تَتَوَجَّهُ مِنْ جِهَتِهِ وَالْخِيَارُ فِي تَعْيِينِ مَا الْتَزَمَهُ الْكَفِيلُ إلَيْهِ .
وَإِذَا كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِمَالٍ بِأَمْرِهِ فَرَهَنَهُ الْمَكْفُولُ عَنْهُ رَهْنًا بِهِ وَفَاءً فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ بِنَفْسِ الْكَفَالَةِ كَمَا وَجَبَ الْمَالُ لِلطَّالِبِ عَلَى الْكَفِيلِ ؛ وَجَبَ
لِلْكَفِيلِ عَلَى الْأَصِيلِ ، وَإِنْ كَانَ مُؤَجَّلًا وَالرَّهْنُ بِالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ صَحِيحٌ فَإِنْ هَلَكَ الرَّهْنُ عِنْدَ الْكَفِيلِ صَارَ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ بِهَلَاكِ الرَّهْنِ فَكَأَنَّهُ اسْتَوْفَى حَقِيقَةً حَتَّى إذَا أَدَّى الْكَفِيلُ الْمَالَ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ ، وَإِنْ أَدَّاهُ الْأَصِيلُ إلَى الطَّالِبِ رَجَعَ عَلَى الْكَفِيلِ بِمِثْلِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اسْتَوْفَاهُ مِنْهُ حَقِيقَةً .
وَلَوْ كَفَلَ عَنْ رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ بِأَمْرِهِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ بِهَا هَذَا الْعَبْدَ رَهْنًا فَوَقَعَتْ الْكَفَالَةُ بِهَذَا بِغَيْرِ شَرْطٍ مِنْ الْكَفِيلِ عَلَى الْمَكْفُولِ لَهُ ثُمَّ إنْ الْمَكْفُولُ عَنْهُ أَبَى أَنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ الْعَبْدَ فَإِنَّ الْعَبْدَ لَا يَكُونُ رَهْنًا ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ لَمْ يَقْبِضْهُ وَالرَّهْنُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ وَلَا يُجْبَرُ الْمَكْفُولُ عَنْهُ عَلَى دَفْعِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ وَعْدًا مِنْ جِهَتِهِ وَالْمَوَاعِيدُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا اللُّزُومُ وَالْكَفَالَةُ لَازِمَةٌ لِلْكَفِيلِ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمَالَ لِلطَّالِبِ بِالْكَفَالَةِ الْمُطْلَقَةِ عِنْدَ شَرْطٍ بَيْنَهُمَا ، فَإِنْ كَانَ الْكَفِيلُ اشْتَرَطَ عَلَى الطَّالِبِ فَقَالَ لَهُ : أَكْفُلُ لَك بِهَذَا الْمَالِ عَنْ فُلَانٍ عَلَى إنْ رَهَنَ بِهِ فُلَانٌ هَذَا الْعَبْدَ فَإِنْ لَمْ يَدْفَعْهُ إلَيَّ ؛ فَأَنَا بَرِيءٌ مِنْ الْكَفَالَةِ فَكَفَلَ لَهُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَإِنْ لَمْ يَدْفَعْ إلَيْهِ الرَّهْنَ بَرِئَ الْكَفِيلُ مِنْ الْكَفَالَةِ وَالْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا رَضِيَ بِالْتِزَامِ الْمَالِ بِدُونِ هَذَا الشَّرْطِ وَالْتِزَامُ الْمَالِ بِالْكَفَالَةِ يَعْتَمِدُ تَمَامَ الرِّضَا وَلِأَنَّهُ شَرَطَ الْبَرَاءَةَ إذَا لَمْ يُعْطِهِ الرَّهْنَ وَالشَّرْطُ أَمْلَكُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَفَلَ عَنْهُ بِالْمَالِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ بِذَلِكَ الْمَطْلُوبِ كَفِيلًا فَوَقَعَتْ الْكَفَالَةُ لِلطَّالِبِ عَلَى غَيْرِ شَرْطٍ ثُمَّ إنْ الْمَكْفُولُ عَنْهُ أَبَى أَنْ يُعْطِيَ الْكَفِيلَ كَفِيلًا فَإِنَّ الْكَفَالَةَ عَلَى الْكَفِيلِ جَائِزَةٌ ، وَإِنْ كَانَ الْكَفِيلُ شَرَطَ عَلَى الطَّالِبِ : إنْ لَمْ يُعْطِ كَفِيلًا بِهَذَا الْمَالِ فَأَنَا بَرِيءٌ مِنْ كَفَالَتِي فَهُوَ عَلَيَّ شَرْطُهُ إنْ لَمْ يُعْطِهِ كَفِيلًا ؛ بَرِئَ مِنْ الْكَفَالَةِ ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ بِمَنْزِلَةِ الرَّهْنِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الرَّهْنِ أَنَّ هَذَا الشَّرْطَ مَعَ الطَّالِبِ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ فَكَذَلِكَ فِي الْكَفَالَةِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَ الْكَفِيلِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا التَّوَثُّقُ وَالنَّظَرُ لِنَفْسِهِ حَتَّى لَا
يَلْحَقَهُ غُرْمٌ ، وَإِنْ كَتَبَ الْكَفِيلُ عَلَى دَارِ الْمَكْفُولِ عَنْهُ شِرَاءً بِالْمَالِ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ شِرَاءٌ بِالدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ وَهَذَا قَضَاءٌ مِنْ الْمَكْفُولِ عَنْهُ لِلْكَفِيلِ بِطَرِيقِ الْمُقَاصَّةِ فَكَأَنَّهُ أَوْفَاهُ الدَّيْنَ حَقِيقَةً
وَلَوْ كَفَلَ بِنَفْسِ رَجُلٍ عَلَى أَنَّهُ لِلْكَفِيلِ إنْ لَمْ يُوَافِ بِهِ إلَى سَنَةٍ فَعَلَيْهِ الْمَالُ الَّذِي عَلَيْهِ وَهُوَ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَعْطَى الْمَكْفُولَ عَنْهُ رَهْنًا بِالْمَالِ قَبْلَ السَّنَةِ فَالرَّهْنُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَمْ يَجِبْ عَلَى الْكَفِيلِ بَعْدُ ؛ لِأَنَّهُ عَلَّقَ الْتِزَامَ الْمَالِ بِشَرْطِ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ فَلَا يَكُونُ وَاجِبًا قَبْلَ الشَّرْطِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ دَفَعَ نَفْسَهُ إلَيْهِ قَبْلَ الْأَجَلِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مِنْ الْمَالِ شَيْءٌ فَإِنْ قِيلَ : فَأَيْنَ ذَهَبَ قَوْلُكُمْ إنَّ فِي كَلَامِهِ تَقْدِيمًا وَتَأْخِيرًا أَوْ : إنَّهُ الْتَزَمَ الْمَالَ ثُمَّ جَعَلَ الْمُوَافَاةَ بِنَفْسِهِ صَرْفًا لَهُ عَنْ الْمَالِ قُلْنَا : ذَلِكَ طَرِيقٌ صَارَ إلَيْهِ بَعْضُ مَشَايِخِنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - لِتَوَجُّهِ الْمُطَالَبَةِ بِالْمَالِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ بِالنَّفْسِ فَأَمَّا فِي الْحَقِيقَةِ فَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الْمَالُ بِالْتِزَامِهِ وَهُوَ مَا الْتَزَمَ الْمَالَ إلَّا بَعْدَ عَدَمِ الْمُوَافَاةِ بِالنَّفْسِ غَدًا فَلَا يَكُونُ الْمَالُ وَاجِبًا عَلَيْهِ فِي الْحَالِ وَلَا يَجُوزُ الرَّهْنُ فِي الْكَفَالَةِ بِالنَّفْسِ عَلَى وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ ؛ لِأَنَّ الرَّهْنَ يَخْتَصُّ بِحَقٍّ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الرَّهْنِ فَإِنَّ مُوجَبَهُ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ إنْ هَلَكَ الرَّهْنُ فِي يَدِهِ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ رَهْنًا بِغَيْرِ مَالٍ .
وَضَمَانُ الرَّهْنِ ضَمَانُ اسْتِيفَاءٍ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ بِدُونِ الدَّيْنِ .
وَإِذَا كَفَلَ رَجُلٌ عَنْ رَجُلٍ بِمَا لَمْ يَحِلَّ عَلَيْهِ بَعْدُ فَقَالَ : إذَا حَلَّ الْمَالُ فَهُوَ عَلَيَّ وَأَعْطَى الْمَكْفُولُ عَنْهُ الْكَفِيلَ رَهْنًا كَانَ جَائِزًا ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ الْمَالَ بِعَقْدِ الْكَفَالَةِ وَجَعَلَ مُطَالَبَةَ الطَّالِبِ عَنْهُ مُتَأَخِّرَةً إلَى مَا بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ وَذَلِكَ غَيْرُ مَانِعٍ وُجُوبَ أَصْلِ الْمَالِ عَلَى الْأَصِيلِ فَكَذَلِكَ عَلَى الْكَفِيلِ وَإِذَا وَجَبَ الْمَالُ عَلَى الْكَفِيلِ وَجَبَ لِلْكَفِيلِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ أَيْضًا فَيَجُوزُ الرَّهْنُ بِهِ .
وَلَوْ قَالَ : إنْ تَوَى مَا لَك عَلَيْهِ فَهُوَ عَلَيَّ وَأَعْطَاهُ بِذَلِكَ رَهْنًا لَمْ يَجُزْ الرَّهْنُ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَمْ يَجِبْ بَعْدُ فَإِنَّهُ عَلَّقَ الْتِزَامَ الْمَالِ بِالشَّرْطِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ : إنْ مَاتَ وَلَمْ يُوَفِّك الْمَالَ فَهُوَ عَلَيَّ فَأَعْطَاهُ الْمَكْفُولُ عَنْهُ بِهِ رَهْنًا فَالرَّهْنُ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَمْ يَجِبْ بَعْدُ وَالْكَفَالَةُ جَائِزَةٌ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ ؛ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مُتَعَارَفٌ فِي الْكَفَالَاتِ
وَلَوْ أَخَذَ الْكَفِيلُ بِالدَّرَكِ رَهْنًا فَالرَّهْنُ بَاطِلٌ وَالْكَفَالَةُ جَائِزَةٌ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ غَيْرُ وَاجِبٍ عَلَى الْكَفِيلِ قَبْلَ لُحُوقِ الدَّرَكِ فَلَا يَكُونُ وَاجِبًا عَلَى الْأَصِيلِ فَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ بِهِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ بِإِذْنِ صَاحِبِهِ وَكُلُّ مَا أَبْطَلْنَا فِيهِ الرَّهْنَ بِالْمَالِ فَكَانَ الرَّهْنُ فِي يَدَيْ الْكَفِيلِ حَتَّى يَحِلَّ عَلَيْهِ الْمَالُ وَيُؤْخَذُ بِهِ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَمْسِكَ الرَّهْنَ بِذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الرَّهْنِ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا لَمْ يَثْبُتْ بِقَبْضِهِ يَدٌ لِلِاسْتِيفَاءِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُمْسِكَهُ بَعْدَ ذَلِكَ - وَإِنْ وَجَبَ الدَّيْنُ عَلَيْهِ - وَلَوْ آجَرَ مِنْهُ إبِلًا إلَى مَكَّةَ وَكَفَلَ عَنْهُ رَجُلٌ بِالْأَجْرِ وَبِالْحُمُولَةِ فَأَخَذَ الْكَفِيلُ مِنْهُ بِذَلِكَ رَهْنًا فَإِنَّ الرَّهْنَ فِي ذَلِكَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْكَفِيلَ مَأْخُوذٌ بِالْكَفَالَةِ وَقَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ أَمَّا عَلَى أَصْلِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَلِأَنَّ الْأَجْرَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ مُؤَجَّلًا ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - سَبَبُ الْوُجُوبِ مُتَقَرِّرٌ ، وَإِنْ تَأَخَّرَ وُجُوبُ الْمَالِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْإِبْرَاءَ عَنْهُ صَحِيحٌ فَيَجُوزُ الرَّهْنُ بِهِ سَوَاءٌ ارْتَهَنَ مِنْ الْكَفِيلِ أَوْ ارْتَهَنَ الْكَفِيلُ مِنْ الْمَكْفُولِ عَنْهُ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ .
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَحَالَ عَلَى رَجُلٍ بِمَالٍ وَأَعْطَاهُ بِهِ رَهْنًا جَازَ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ بِالْحَوَالَةِ يَجِبُ لِلْمُحْتَالِ عَلَيْهِ عَلَى الْمُحِيلِ كَمَا يَجِبُ لِلطَّالِبِ عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ رُجُوعُهُ عَلَيْهِ يَتَأَخَّرُ إلَى حِينِ أَدَائِهِ الْمَالَ .
وَإِذَا ادَّعَى مُسْلِمٌ عَلَى كَافِرٍ مَالًا وَأَدَّى كَفَالَةَ مُسْلِمٍ بِذَلِكَ وَأَقَامَ بَيِّنَةً مِنْ الْكُفَّارِ بِذَلِكَ ؛ ثَبَتَ الْمَالُ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْأَصِيلِ دُونَ الْكَفِيلِ الْمُسْلِمِ وَشَهَادَةُ الْكُفَّارِ لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُسْلِمِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ أَصْلُ الْمَالِ عَلَى كَافِرٍ فَشَهِدَ كَافِرَانِ عَلَى مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ أَنَّهُمَا كَفَلَا عَنْهُ بِهَذَا الْمَالِ ، وَبَعْضُهُمْ كُفَلَاءُ عَنْ بَعْضٍ جَازَتْ الشَّهَادَةُ عَلَى الْأَصِيلِ وَعَلَى الْكَفِيلِ الْكَافِرِ وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْكَفِيلِ الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْكَفَالَةِ تَنْفَصِلُ عَنْ الْبَعْضِ فَإِنَّمَا يَقْضِي بِقَدْرِ مَا قَامَتْ الْحُجَّةُ بِهِ .
وَإِذَا ادَّعَى مُسْلِمٌ مَالًا وَجَحَدَهُ الْمَطْلُوبُ وَادَّعَى الطَّالِبُ كَفَالَةَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَنْهُ بِالْمَالِ بِأَمْرِهِ وَجَحَدَ الْكَفِيلُ وَشَهِدَ لَهُ بِذَلِكَ ذِمِّيَّانِ ؛ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا عَلَى الْكَفِيلِ وَلَمْ تَجُزْ عَلَى الْمُسْلِمِ حَتَّى إنَّ الْكَفِيلَ إذَا أَدَّى لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُسْلِمِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الْكُفَّارِ لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْمُسْلِمِ فَكَمَا لَا يَثْبُتُ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ الدَّيْنُ لِلطَّالِبِ عَلَى الْمُسْلِمِ فَكَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِهَا أَمْرُ الْكَفِيلِ بِالْكَفَالَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمَالُ عَلَيْهِمَا فِي الصَّكِّ وَالْمُسْلِمُ فِي صَدْرِ الصَّكِّ وَالذِّمِّيُّ كَفِيلٌ بَعْدَهُ أَوْ كَانَ الصَّكُّ عَلَيْهِمَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ضَامِنٌ عَنْ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ عَلَى أَحَدِهِمَا يَنْفَصِلُ عَنْ وُجُوبِ الْمَالِ عَلَى الْآخَرِ فَإِنَّمَا يَقْضِي الْقَاضِي بِقَدْرِ مَا قَامَتْ الْحُجَّةُ بِهِ وَهَذِهِ الْبَيِّنَةُ حُجَّةٌ عَلَى الْكَافِرِ دُونَ الْمُسْلِمِ .
وَإِذَا كَانَ الدَّيْنُ لِرَجُلَيْنِ عَلَى رَجُلٍ فَكَفَلَ أَحَدُهُمَا لِشَرِيكِهِ بِحِصَّتِهِ عَنْ الْمَطْلُوبِ لَمْ يَجُزْ مِنْ قِبَلِ الشَّرِكَةِ الَّتِي بَيْنَهُمَا .
مَعْنَاهُ أَنَّ أَصْلَ الْمَالِ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ هُوَ كَفِيلًا بِنَصِيبِ صَاحِبِهِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى قِسْمَةِ الدَّيْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ كَفِيلًا بِالنِّصْفِ مِنْ الْمَالِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ هَذَا يُؤَدِّي إلَى أَنْ يَكُونَ ضَامِنًا نَفْسَهُ عَنْ نَفْسِهِ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ أَحَدَهُمَا لَوْ اسْتَوْفَى نَصِيبَهُ مِنْ الْمَطْلُوبِ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِيهِ فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَوْفَاهُ مِنْ شَرِيكِهِ الْكَفِيلِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ هُوَ بِهَذِهِ الْكَفَالَةِ مُسْقِطًا حَقَّهُ فِي الْمُشَارَكَةِ مَعَهُ ؛ لِأَنَّ الْإِسْقَاطَ قَبْلَ وُجُوبِ سَبَبِ الْوُجُوبِ بَاطِلٌ وَالسَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلشَّرِكَةِ لَهُ فِي الْمَقْبُوضِ الْقَبْضُ وَالْكَفَالَةُ يُسْتَحَقُّ ذَلِكَ فَلِهَذَا بَطَلَتْ الْكَفَالَةُ وَلَيْسَتْ الْكَفَالَةُ فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ التَّبَرُّعِ بِالْأَدَاءِ فَإِنَّ أَحَدَ الشَّرِيكَيْنِ لَوْ تَبَرَّعَ بِأَدَاءِ نَصِيبِ شَرِيكِهِ عَنْ الْمَدْيُونِ جَازَ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ إسْقَاطٌ لِحَقِّ الْمُشَارَكَةِ فِي الْمَقْبُوضِ مُتَقَرِّبًا بِالسَّبَبِ وَهُوَ صَحِيحٌ وَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا كَفَلَ بِالْيَمِينِ عَنْ الْمُشْتَرِي لِلْمُوَكِّلِ ؛ لَمْ يَجُزْ وَلَوْ ادَّعَى عَنْهُ جَازَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَفَلَ بِنَفْسِ إنْسَانٍ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ لَا يَجُوزُ وَلَوْ تَبَرَّعَ بِأَدَاءِ بَدَلِ الْكِتَابَةِ عَنْ الْمُكَاتَبِ ؛ جَازَ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الدَّيْنُ لِوَاحِدٍ فَمَاتَ فَوَرِثَهُ ابْنَاهُ فَكَفَلَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ بِحِصَّتِهِ ؛ لِأَنَّ الدَّيْنَ كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا إرْثًا فَهُوَ قِيَاسُ دَيْنٍ مُشْتَرَكٍ بِسَبَبٍ آخَرَ .
وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ كَفَلَ بِهَا عَنْهُ رَجُلٌ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ثُمَّ مَاتَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ وَارِثُهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْكَفِيلِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ مَلَكَ مَا فِي ذِمَّتِهِ بِالْمِيرَاثِ فَسَقَطَ عَنْهُ وَبَرَاءَتُهُ تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْكَفِيلِ فَإِنْ كَانَ مَعَهُ وَارِثٌ آخَرُ لِلطَّالِبِ فَإِنَّمَا يُسْقِطُ عَنْ الْكَفِيلِ حِصَّةَ الْمَطْلُوبِ وَلِوَارِثِ الْآخَرِ أَنْ يُطَالِبَ الْكَفِيلَ بِحِصَّتِهِ ؛ لِأَنَّهُ فِي حِصَّتِهِ قَائِمٌ مَقَامَ الطَّالِبِ وَإِنَّمَا يَبْرَأُ الْكَفِيلُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يَبْرَأُ بِهِ الْأَصِيلُ وَلَوْ كَانَ احْتَالَ بِهَا عَلَيْهِ فَكَفَلَ بِهَا عَلَى أَنْ أَبْرَأَ الطَّالِبُ الْمَطْلُوبَ ثُمَّ مَاتَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ وَارِثُهُ وَكَانَتْ الْحَوَالَةُ بِأَمْرِهِ ؛ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْكَفِيلِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ صَارَ مَمْلُوكًا لِلْمَطْلُوبِ بِمَوْتِ الطَّالِبِ فَلَوْ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْكَفِيلِ وَالْمُحْتَالِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ وَالْكَفَالَةَ كَانَتْ فَاسِدَةً فَلَا يَكُونُ مُقَيَّدًا بِقَضَاءٍ فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ رَجَعَ بِهَا عَلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ أَوْ الْكَفِيلِ ؛ لِأَنَّهُ قَائِمٌ مَقَامَ الطَّالِبِ بَعْدَ مَوْتِهِ .
وَهَذَا رُجُوعٌ مُفِيدٌ فَإِنَّ الْكَفِيلَ وَالْمُحْتَالَ عَلَيْهِ إنْ كَانَا مُتَطَوِّعَيْنِ هُنَا لَا يَسْتَوْجِبَانِ الرُّجُوعَ عِنْدَ الْأَدَاءِ عَلَى أَحَدٍ بِشَيْءٍ وَهَذَا بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ أَصْلَ الْمَالِ هُنَاكَ فِي ذِمَّةِ الْمَطْلُوبِ فَهُوَ إنَّمَا يَمْلِكُ بِالْإِرْثِ مَا فِي ذِمَّةِ نَفْسِهِ فَسَقَطَ عَنْهُ وَلَا يَرْجِعُ الْكَفِيلُ بِشَيْءٍ سَوَاءٌ كَفَلَ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ .
وَهُنَا أَصْلُ الْمَالِ تَحَوَّلَ إلَى الْمُحْتَالِ عَلَيْهِ فَالْأَصِيلُ إنَّمَا يَمْلِكُ مَا فِي ذِمَّةِ غَيْرِهِ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِهِ إذَا كَانَ دَيْنًا مُفِيدًا .
وَإِذَا كَفَلَ الرَّجُلُ لِعَبْدِهِ بِدِينٍ عَلَى رَجُلٍ وَعَلَى عَبْدِهِ دَيْنٌ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ الْمَدْيُونِ لِغُرَمَائِهِ .
فَهَذِهِ الْكَفَالَةُ فِي الصُّورَةِ لِلْعَبْدِ وَفِي الْمَعْنَى لِلْغُرَمَاءِ وَالْعَبْدُ الْمَدْيُونُ يَسْتَوْجِبُ عَلَى مَوْلَاهُ الدَّيْنَ بِسَائِرِ الْأَسْبَابِ فَكَذَلِكَ بِالْكَفَالَةِ فَإِنْ قَضَى الْعَبْدُ الدَّيْنَ بَطَلَتْ الْكَفَالَةُ عَنْ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ كَسْبَ الْعَبْدِ صَارَ لَهُ وَلَا يَكُونُ كَفِيلًا لِنَفْسِهِ عَنْ نَصِيبِهِ وَكَانَ الدَّيْنُ لِلْعَبْدِ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ عَلَى حَالِهِ يَأْخُذُهُ بِهِ ؛ لِأَنَّ بَرَاءَةَ الْمَوْلَى هُنَا بِمَنْزِلَةِ الْفَسْخِ لِلْكَفَالَةِ فَلَا تُوجِبُ بَرَاءَةَ الْأَصِيلِ .
وَإِذَا كَفَلَ رَجُلٌ لِرَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ مَاتَ الطَّالِبُ وَالْكَفِيلُ وَارِثُهُ ؛ بَرِئَ الْكَفِيلُ مِنْهُ وَالْمَالُ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ عَلَى حِلِّهِ يَأْخُذُهُ بِهِ إنْ كَانَ كَفَلَ عَنْهُ بِأَمْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ كَفَلَ عَنْهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْمَالَ صَارَ لِلْكَفِيلِ مِيرَاثًا بِمَوْتِ الطَّالِبِ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ صَارَ لَهُ بِهِبَةِ الطَّالِبِ مِنْهُ أَوْ بِقَضَائِهِ إيَّاهُ وَلَوْ قَضَاهُ أَوْ وَهَبَهُ لَهُ فِي حَيَاتِهِ ؛ رَجَعَ عَلَى الْمَكْفُولِ عَنْهُ إنْ كَانَ كَفَلَ بِأَمْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ كَفَلَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ فَهَذَا مِثْلُهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الطَّالِبُ أَبْرَأَ مِنْهُ الْمَطْلُوبَ عَلَى أَنْ ضَمَّنَهُ هَذَا بِأَمْرِ الْمَطْلُوبِ أَوْ عَلَى أَنْ احْتَالَ بِهِ عَلَى هَذَا ثُمَّ مَاتَ الطَّالِبُ وَالْكَفِيلُ وَارِثُهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْأَصِيلَ بِذَلِكَ ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْمَطْلُوبِ ؛ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ تَمَلُّكَهُ مَا فِي ذِمَّتِهِ بِالْإِرْثِ بِمَنْزِلَةِ تَمَلُّكِهِ بِالْأَدَاءِ
وَإِذَا كَفَلَ الْعَبْدُ بِأَمْرِ سَيِّدِهِ لِرَجُلَيْنِ بِأَلْفَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةِ آلَافٍ وَقِيمَتُهُ أَلْفُ دِرْهَمٍ ثُمَّ اسْتَدَانَ أَلْفًا ثُمَّ بِيعَ بِأَلْفٍ كَانَ ثَمَنُهُ بَيْنَهُمْ يَضْرِبُ صَاحِبُ الْكَفَالَةِ بِجَمِيعِهَا ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ دَيْنِهِ ثَبَتَ عَلَى الْعَبْدِ بِكَفَالَتِهِ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ حِينَ كَانَ فَارِغًا عَنْ الدَّيْنِ فَلَوْ كَانَ اسْتَدَانَ أَوَّلًا أَلْفًا وَكَانَتْ الْكَفَالَةُ بَعْدَ ذَلِكَ فَالثَّمَنُ لِلْمَدِينِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ الْكَفَالَةَ مِنْهُ كَانَتْ بَعْدَ مَا اُشْتُغِلَتْ مَالِيَّتُهُ بِالدَّيْنِ فَكَفَالَتُهُ بِأَمْرِ الْمَوْلَى إقْرَارٌ لِلْمَوْلَى فِي الْفَصْلَيْنِ عَلَيْهِ جَمِيعًا وَلَوْ كَانَ كَفَلَ بِأَلْفٍ ثُمَّ اسْتَدَانَ أَلْفًا ثُمَّ بِيعَ بِأَلْفٍ كَانَتْ الْأَلْفُ الْوُسْطَى بَاطِلَةً ؛ لِأَنَّهُ كَفَلَ بِهَا وَمَالِيَّتُهُ اُشْتُغِلَتْ بِالْكَفَالَةِ الْأُولَى وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَقَرَّ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ ثُمَّ اسْتَدَانَ أَلْفًا ثُمَّ بِيعَ بِأَلْفٍ وَتَمَامُ بَيَانِ هَذِهِ الْفُصُولِ فِي كِتَابِ الْمَأْذُونِ .
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( قَالَ ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إمْلَاءً اعْلَمْ بِأَنَّ الصُّلْحَ عَقْدٌ جَائِزٌ عُرِفَ جَوَازُهُ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّهُ نِهَايَةٌ فِي الْخَيْرِيَّةِ .
وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ أَهْلَ مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَشْرَ سِنِينَ } { وَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَسْجِدَ فَرَأَى رَجُلَيْنِ يَتَنَازَعَانِ فِي ثَوْبٍ فَقَالَ لِأَحَدِهِمَا هَلْ لَكَ إلَى الشَّطْرِ هَلْ لَكَ إلَى الثُّلُثَيْنِ فَدَعَاهُمَا إلَى الصُّلْحِ وَمَا كَانَ يَدْعُوهُمَا إلَّا إلَى عَقْدٍ جَائِزٍ } وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا } وَهَكَذَا كَتَبَ عَلِيٌّ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ كُلُّ صُلْحٍ جَائِزٌ بَيْنَ النَّاسِ إلَّا صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا وَهَذَا اللَّفْظُ مِنْ الْأَوَّلِ لِكِتَابِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْأَشْعَرِيِّ قَدْ اُشْتُهِرَ فِيمَا بَيْنَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَمَا ذُكِرَ فِيهِ فَهُوَ كَالْمُجْمَعِ عَلَيْهِ مِنْهُمْ وَبِظَاهِرِ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِإِبْطَالِ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ فَإِنَّهُ صُلْحٌ حَرَّمَ حَلَالًا ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ إنْ كَانَ مُحِقًّا كَانَ أَخْذُ الْمَالِ حَلَالًا لَهُ قَبْلَ الصُّلْحِ وَحَرُمَ بِالصُّلْحِ وَإِنْ كَانَ مُبْطِلًا فَقَدْ كَانَ أَخْذُ الْمَالِ عَلَى الدَّعْوَى الْبَاطِلَةِ حَرَامًا عَلَيْهِ قَبْلَ الصُّلْحِ فَهُوَ صُلْحٌ حَرَّمَ حَلَالًا وَأَحَلَّ حَرَامًا وَلَكِنَّا نَقُولُ لَيْسَ الْمُرَادُ هَذَا فَإِنَّ الصُّلْحَ عَنْ الْإِقْرَارِ لَا يَخْلُو عَنْ
هَذَا أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ فِي الْعَادَةِ يَقَعُ عَلَى بَعْضِ الْحَقِّ فَمَا زَادَ عَلَى الْمَأْخُوذِ إلَى تَمَامِ الْحَقِّ كَانَ حَلَالًا لِلْمُدَّعِي أَخْذُهُ قَبْلَ الصُّلْحِ وَحَرُمَ بِالصُّلْحِ وَكَانَ حَرَامًا عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْعُهُ قَبْلَ الصُّلْحِ وَحَلَّ بِالصُّلْحِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ غَيْرُ هَذَا وَالصُّلْحُ الَّذِي حَرَّمَ حَلَالًا وَهُوَ أَنْ يُصَالِحَ إحْدَى زَوْجَتَيْهِ عَلَى أَنْ لَا يَطَأَ الْأُخْرَى أَوْ يُصَالِحَ زَوْجَتَهُ عَلَى أَنْ لَا يَطَأَ جَارِيَتَهُ وَالصُّلْحُ الَّذِي أَحَلَّ حَرَامًا هُوَ أَنْ يُصَالِحَ عَلَى خَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الصُّلْحِ بَاطِلٌ عِنْدَنَا وَحَمْلُهُ عَلَى هَذَا أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْحَرَامَ الْمُطْلَقَ مَا هُوَ حَرَامٌ لِعَيْنِهِ وَالْحَلَالَ الْمُطْلَقَ مَا هُوَ حَلَالٌ لِعَيْنِهِ ( ثُمَّ ذُكِرَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ ) أَنَّهُ أَتَى فِي شَيْءٍ فَقَالَ : إنَّهُ لَجَوْرٌ وَلَوْلَا أَنَّهُ صُلْحٌ لَرَدَدْتُهُ وَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ الصُّلْحِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ : لَجَوْرٌ أَيْ هُوَ مَائِلٌ عَمَّا يَقْتَضِيهِ الْحُكْمُ أَوْ عَمَّا يَسْتَقِرُّ عَلَيْهِ اجْتِهَادِي مِنْ حُكْمِ الْحَادِثَةِ وَالْجَوْرُ هُوَ الْمَيْلُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمِنْهَا جَائِرٌ } أَيْ مَائِلٌ
وَفِيهِ قَالَ إنَّ الصُّلْحَ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْحُكْمِ جَائِزٌ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ يَعْتَمِدُ التَّرَاضِيَ مِنْهُمَا وَبِالتَّرَاضِي يَنْعَقِدُ بَيْنَهُمَا السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِنَقْلِ حَقِّ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَهَذَا لَمْ يَرُدَّهُ عَلِيٌّ وَذُكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ أَيُّمَا امْرَأَةٍ صُولِحَتْ عَلَى ثَمَنِهَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهَا كَمْ تَرَكَ زَوْجُهَا فَتِلْكَ الرِّيبَةُ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الرُّبْيَةُ وَمَعْنَى اللَّفْظِ الْأَوَّلِ الشَّكُّ يَعْنِي إذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهَا كَمْ تَرَكَ زَوْجُهَا فَذَلِكَ يُوقِعُهَا فِي الشَّكِّ لَعَلَّ نَصِيبَهَا أَكْثَرُ مِمَّا أَخَذَتْ وَقَوْلُهُ الرُّبْيَةُ تَصْغِيرُ الرِّبَا يَعْنِي إذَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهَا كَمْ تَرَكَ زَوْجُهَا يَتَمَكَّنُ فِي هَذَا الصُّلْحِ شُبْهَةُ الرِّبَا بِأَنْ يَكُونَ نَصِيبُهَا مِنْ جِنْسِ مَا أَخَذَتْ مِنْ النَّقْدِ مِثْلَ مَا أَخَذَتْ أَوْ فَوْقَهُ وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْوَرَثَةِ أَنْ يُصَالِحُوا بَعْضَهُمْ عَلَى شَيْءٍ يُخْرِجُوهُ بِذَلِكَ مِنْ مُزَاحَمَتِهِمْ .
وَإِنَّ جَهَالَةَ مَا يُصَالِحُ عَنْهُ لَا يَمْنَعُ جَوَازَ الصُّلْحِ ؛ لِأَنَّ الْجَهَالَةَ إنَّمَا تُفْسِدُ الْعَقْدَ لِتَعَذُّرِ التَّسْلِيمِ مَعَهَا وَالْمُصَالَحُ عَنْهُ لَا يَسْتَحِقُّ تَسْلِيمَهُ بِالصُّلْحِ فَجَهَالَتُهُ لَا تَمْنَعُ جَوَازَ الصُّلْحِ .
ثُمَّ إذَا صُولِحَتْ الْمَرْأَةُ عَلَى ثَمَنِهَا فَإِنْ كَانَ بَعْضُ تَرِكَةِ الزَّوْجِ دَيْنًا عَلَى النَّاسِ فَصَالَحُوهَا عَنْ الْكُلِّ فَهُوَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهَا تَصِيرُ مُمَلَّكَةً نَصِيبَهَا مِنْ الدَّيْنِ مِنْ سَائِرِ الْوَرَثَةِ بِمَا تَأْخُذُ مِنْهُمْ مِنْ الْعَيْنِ وَتَمْلِيكُ الدَّيْنِ مِنْ غَيْرِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ بِعِوَضٍ لَا يَجُوزُ فَإِذَا فَسَدَ الْعَقْدُ فِي حِصَّةِ الدَّيْنِ فَسَدَ فِي الْكُلِّ وَهُوَ دَلِيلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَسْأَلَةِ الْبُيُوعِ أَنَّ الْعَقْدَ الْوَاحِدَ إذَا فَسَدَ فِي بَعْضِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَسَدَ فِي الْكُلِّ وَهُمَا يَقُولَانِ : حِصَّةُ الْعَيْنِ هُنَا مِنْ الْبَدَلِ الْمَأْخُوذِ غَيْرُ مَعْلُومَةٍ وَالدَّيْنُ لَيْسَ بِمَالٍ أَصْلًا مَا لَمْ يُقْبَضْ فَلَا يَكُونُ مَحَلًّا لِلتَّمْلِيكِ بِبَدَلٍ فَهُوَ كَمَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ فِي الْبَيْعِ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ فَلِهَذَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ فِي الْكُلِّ ، وَإِنْ صَالَحُوهَا مِنْ حِصَّتِهَا مِنْ الْعَيْنِ خَاصَّةً ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي التَّرِكَةِ دَيْنٌ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ أَحَدُهَا أَنْ يُصَالِحُوهَا عَلَى أَحَدِ النَّقْدَيْنِ أَمَّا الدَّرَاهِمُ أَوْ الدَّنَانِيرُ فَهُوَ جَائِزٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي التَّرِكَةِ مِنْ جِنْسِ ذَلِكَ النَّقْدِ مِقْدَارُ مَا يَكُونُ نَصِيبُهَا مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ أَكْثَرَ مِمَّا أَخَذَتْ فَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ مُبَادَلَةَ مَالِ الرِّبَا بِحِصَّتِهِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِطَرِيقِ الْمُمَاثَلَةِ فَإِنْ كَانَ نَصِيبُهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَخَذَتْ كَانَ الْفَضْلُ فِي هَذَا الْجِنْسِ مِنْ نَصِيبِهَا مِنْ سَائِرِ التَّرِكَةِ رِبًا ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ نَصِيبُهَا ثَمَنُ هَذَا الْجِنْسِ مِثْلَ مَا أَخَذَتْ فَنَصِيبُهَا مِنْ سَائِرِ التَّرِكَةِ يَكُونُ فَضْلًا خَالِيًا عَنْ الْعِوَضِ وَهُوَ الرِّبَا بِعَيْنِهِ .
وَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَنْ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ فَذَلِكَ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ فِي التَّرِكَةِ مِنْ النَّقْدَيْنِ مَا يَكُونُ نَصِيبُهَا مِنْ كُلِّ جِنْسٍ أَكْثَرَ مِمَّا أَخَذَتْ بِطَرِيقِ صَرْفِ الْجِنْسِ إلَى خِلَافِ الْجِنْسِ فَتَصْحِيحُ الْعُقُودِ بِحَسَبِ
الْإِمْكَانِ وَاجِبٌ وَالصُّلْحُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ لِمَا فِي امْتِدَادِهَا مِنْ الْفَسَادِ وَاَللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ فَإِنْ صَالَحُوهَا عَلَى عَرَضٍ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ بِنَفْسِ مَالِ الرِّبَا فَسَوَاءٌ كَانَ فِي التَّرِكَةِ مِنْ جِنْسِ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ مَا يَكُونُ نَصِيبُهَا أَكْثَرَ مِمَّا أَخَذَتْ أَوْ لَمْ يَكُنْ فَذَلِكَ لَا يُؤَدِّي إلَى الرِّبَا قَالَ الْحَاكِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّمَا يَبْطُلُ الصُّلْحُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ نَصِيبِهَا مِنْ الرِّبَا فِي حَالِ التَّصَادُقِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ فَأَمَّا حَالُ الْمُنَاكَرَةِ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ مَعَ الْإِنْكَارِ لَيْسَ لَهَا حَقٌّ مُسْتَقِرٌّ وَفِي ذَلِكَ الْجِنْسِ أَكْثَرُ مِمَّا أَخَذَتْ وَعِنْدَ الْإِنْكَارِ الْمُعْطِي يُؤَدِّي الْمَالَ لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ وَالْخُصُومَةِ وَيَفْدِي بِهِ يَمِينَهُ فَلَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ الرِّبَا عَلَى مَا بَيَّنَهُ وَذُكِرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ قَالَ : رُدُّوا الْخُصُومَ حَتَّى يَصْطَلِحُوا فَإِنَّ فَصْلَ الْقَضَاءِ يُحْدِثُ بَيْنَهُمْ الضَّغَائِنَ وَفِيهِ دَلِيلُ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَجِّلَ وَأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَى أَنْ يَرُدَّ الْخُصُومَ لِيَصْطَلِحُوا عَلَى شَيْءٍ وَيَدْعُوَهُمْ إلَى ذَلِكَ فَالْفَصْلُ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى بَقَاءِ الْمَوَدَّةِ وَالتَّحَرُّزِ عَنْ النُّفْرَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَلَكِنَّ هَذَا قَبْلَ أَنْ يَسْتَبِينَ وَجْهُ الْقَضَاءِ .
فَأَمَّا بَعْدَ مَا اسْتَبَانَ ذَلِكَ فَلَا يَفْعَلُهُ إلَّا بِرِضَا الْخَصْمَيْنِ وَلَا يَفْعَلُهُ إلَّا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ لِمَا فِي الْإِطَالَةِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِمَنْ ثَبَتَ الِاسْتِحْقَاقُ لَهُ فِي تَأْخِيرِ حَقِّهِ وَلِأَنَّ ذَلِكَ يَجُرُّ إلَيْهِ تُهْمَةَ الْمَيْلِ وَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ ذَلِكَ بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَعَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ أَنَّ إحْدَى نِسَاءِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ صَالَحُوهَا عَلَى ثَلَاثَةٍ وَثَمَانِينَ أَلْفًا عَلَى أَنْ
أَخْرَجُوهَا مِنْ الْمِيرَاثِ وَهِيَ تُمَاضِرُ كَانَ طَلَّقَهَا فِي مَرَضِهِ فَاخْتَلَفَ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي مِيرَاثِهَا مِنْهُ ، ثُمَّ صَالَحُوهَا عَلَى الشَّطْرِ وَكَانَ لَهُ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ فَحَظُّهَا رُبْعُ الثُّمُنِ وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ جُزْءًا فَصَالَحُوهَا عَلَى نِصْفِ ذَلِكَ وَهُوَ جُزْءٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا وَأَخَذَتْ بِهَذَا الْحِسَابِ ثَلَاثَةً وَثَمَانِينَ أَلْفًا وَلَمْ يُشِرْ لِذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَذُكِرَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ ثَلَاثَةٌ وَثَمَانُونَ أَلْفَ دِينَارٍ فَهَذَا دَلِيلُ ثَرْوَةِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَيَسَارِهِ وَكَانَ قَدْ قَسَمَ لِلَّهِ تَعَالَى مَالَهُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ فِي حَيَاتِهِ تَصَدَّقَ فِي كُلٍّ بِالنِّصْفِ وَأَمْسَكَ النِّصْفَ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِجَمْعِ الْمَالِ وَاكْتِسَابِ الْغَنِيِّ مِنْ حِلِّهِ فَابْنُ عَوْفٍ مِنْ الصَّحَابَةِ الْعَشَرَةِ الَّذِينَ شَهِدَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجَنَّةِ وَأَيَّدَ هَذَا الْقَوْلَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ } وَلَكِنْ مَعَ هَذَا تَرْكُ الْجَمْعِ وَالِاسْتِكْثَارِ وَإِنْفَاقُ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْلَى وَهُوَ الطَّرِيقُ الَّذِي اخْتَارَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ } وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ { فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ مَا أَبْطَأَ بِكَ عَنِّي يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ قَالَ : وَمَا ذَاكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّكَ آخِرُ أَصْحَابِي لُحُوقًا بِي بَعْدَ الْقِيَامَةِ وَأَقُولُ أَيْنَ كُنْت فَيَقُولُ مَنَعَنِي عَنْكَ الْمَالُ كُنْت مَحْبُوسًا مَا تَخَلَّصْتُ إلَيْكَ حَتَّى الْآنَ } وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : يَتَخَارَجُ أَهْلُ الْمِيرَاثِ يَعْنِي يُخْرِجُ
بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِطَرِيقِ الصُّلْحِ وَذَلِكَ جَائِزٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَيْسِيرِ الْقِسْمَةِ عَلَيْهِمْ فَإِنَّهُمْ لَوْ اشْتَغَلُوا بِقِسْمَةِ الْكُلِّ عَلَى جَمِيعِ الْوَرَثَةِ رُبَّمَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ وَيَدِقُّ الْحِسَابُ أَوْ تَتَعَذَّرُ الْقِسْمَةُ فِي الْبَعْضِ كَالْجَوْهَرَةِ النَّفِيسَةِ وَنَحْوِهَا .
فَإِذَا أَخْرَجُوا الْبَعْضَ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ تَيَسَّرَ عَلَى الْبَاقِينَ قِسْمَةُ مَا بَقِيَ بَيْنَهُمْ فَجَازَ الصُّلْحُ لِذَلِكَ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : مَا رَأَيْت شُرَيْحًا رَحِمَهُ اللَّهُ أَصْلَحَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ إلَّا امْرَأَةً اسْتَوْدَعَتْ وَدِيعَةً فَاحْتَرَقَ بَيْتُهَا فَنَاوَلَتْهَا جَارَةً لَهَا فَضَاعَتْ فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمَا عَلَى مِائَةٍ وَثَمَانِينَ دِرْهَمًا وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ عَادَةِ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ الِاشْتِغَالُ بِطَلَبِ الْحُجَّةِ الَّتِي يَفْصِلُ الْحُكْمُ بِهَا وَمَا كَانَ يُبَاشِرُ الصُّلْحَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ بِنَفْسِهِ وَكَانَ يَقُولُ إنَّمَا حُبِسَ الْقَاضِي لِفَصْلِ الْقَضَاءِ وَلِأَجْلِهِ تَقَدَّمَ إلَيْهِ الْخَصْمَانِ وَلِلصُّلْحِ غَيْرُ الْقَاضِي فَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَشْتَغِلَ بِمَا تُعُيِّنَ لَهُ وَيَدَعَ الصُّلْحَ لِغَيْرِهِ إلَّا أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ لِأَجْلِ الِاشْتِبَاهِ وَتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ دَعَاهُمَا إلَى الصُّلْحِ فَإِنَّ الْمُودَعَ إذَا وَقَعَ الْحَرِيقُ فِي بَيْتِهِ فَنَاوَلَ الْوَدِيعَةَ جَارًا لَهُ كَانَ ضَامِنًا فِي الْقِيَاسِ وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَكُونُ ضَامِنًا ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَى الْغَيْرِ فِي هَذِهِ الْحَالِ مِنْ الْحِفْظِ وَلَكِنَّهُ عَادَةً بِخِلَافِ النَّصِّ فَإِنَّ الْمُودِعَ أَمَرَهُ بِأَنْ يَحْفَظَ بِنَفْسِهِ نَصًّا وَأَنْ لَا يَدْفَعَ إلَى الْغَيْرِ فَهَذِهِ الْحَالُ مِنْ الْحِفْظِ وَلَكِنَّهُ عَادَةً بِخِلَافِ النَّصِّ فَإِنَّ الْمُودِعَ أَمَرَهُ بِأَنْ يَحْفَظَ بِنَفْسِهِ نَصًّا وَأَنْ لَا يَدْفَعَ إلَى أَجْنَبِيٍّ فَلِاشْتِبَاهِ الْأَدِلَّةِ أَصْلَحَ بَيْنَهُمَا عَلَى مَالٍ وَذَكَرَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { أَنَّ بَرِيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَتَتْهَا تَسْأَلُهَا فَقَالَتْ إنْ شِئْتِ عَدَدْتُهَا لِأَهْلِكَ عِدَّةً وَاحِدَةً وَأَعْتَقْتُكِ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لِأَهْلِهَا فَقَالُوا لَا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَلَاءُ لَنَا فَذَكَرَتْ ذَلِكَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ
وَسَلَامُهُ الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ فَاشْتَرَتْهَا وَأَعْتَقَتْهَا وَخَطَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ : مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى شُرُوطُ اللَّهِ أَوْثَقُ وَكِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ وَكُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَقُولُ أَحَدُهُمْ أَعْتِقْ يَا فُلَانُ وَالْوَلَاءُ لِي وَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ } ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ فَوَائِدِ هَذَا الْحَدِيثِ فِي كِتَابِ الْوَلَاءِ .
وَإِنَّمَا ذَكَرْنَاهُ هُنَا لِيَتَبَيَّنَ أَنَّ الزِّيَادَةَ الَّتِي تُؤَدَّى { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهَا اشْتَرِي وَاشْتَرِطِي فَإِنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ } وَهْمٌ مِنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَمَالِي فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ الْغُرُورِ وَمَا كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَأْمُرَ أَحَدًا بِالْغُرُورِ وَمَقْصُودُهُ مِنْ إيرَادِ الْحَدِيثِ هُنَا بَيَانُ أَنَّهُ يَجُوزُ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ وَالتَّرَاضِي مَا لَا يَجُوزُ بِدُونِهِ فَإِنَّ بَرِيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ مُكَاتَبَةً وَقَدْ اشْتَرَتْهَا عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا بِرِضَاهَا وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا جَازَ شِرَاؤُهَا وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ إنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ فِي الصُّلْحِ مَا لَا يَكُونُ مُخَالِفًا لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَأَمَّا الَّذِي يَكُونُ مُخَالِفًا لِحُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ فِي الصُّلْحِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كُلُّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ } مَعْنَاهُ لَيْسَ فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ الْحُكْمُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ } وَذُكِرَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ أَنَّهُ أَتَاهُ رَجُلَانِ يَخْتَصِمَانِ فِي بَغْلٍ فَجَاءَ أَحَدُهُمَا بِخَمْسَةِ رِجَالٍ فَشَهِدُوا أَنَّهُ أَنْتَجَهُ وَجَاءَ الْآخَرُ بِشَاهِدَيْنِ شَهِدَا أَنَّهُ
أَنْتَجَهُ فَقَالَ : عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ لِلْقَوْمِ مَا تَرَوْنَ فَقَالُوا اقْضِ لِأَكْثَرِهِمَا شُهُودًا فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَعَلَّ الشَّاهِدَيْنِ خَيْرٌ مِنْ الْخَمْسَةِ ، ثُمَّ قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهَا قَضَاءٌ وَصُلْحٌ وَسَأُنَبِّئُكُمْ بِذَلِكَ أَمَّا الصُّلْحُ فَإِنَّهُ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا عَلَى عَدَدِ الشُّهُودِ وَأَمَّا الْقَضَاءُ فَيَحْلِفُ أَحَدُهُمَا وَيَأْخُذُ الْبَغْلَ فَإِنْ تَشَاحَّا عَلَى الْيَمِينِ أَقْرَعْتُ بَيْنَهُمَا بِخَمْسَةِ أَسْهُمٍ وَلِهَذَا سَهْمَيْنِ فَأَيُّهُمَا خَرَجَ سَهْمُهُ اسْتَحْلَفْتُهُ وَغَلَّظْتُ عَلَيْهِ الْيَمِينَ وَيَأْخُذُ الْبَغْلَ وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى النِّتَاجِ مَقْبُولَةٌ فِي الْحَيَوَانِ وَأَنَّ الْقَاضِيَ يَنْبَغِي لَهُ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ أَنْ يَسْتَشِيرَ جُلَسَاءَهُ كَمَا فَعَلَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، ثُمَّ أَشَارُوا عَلَيْهِ بِالْقَضَاءِ لِأَكْثَرِهِمَا شُهُودًا لِنَوْعٍ مِنْ الظَّاهِرِ وَهُوَ أَنَّ طُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ إلَى قَوْلِ الْخَمْسَةِ أَكْثَرُ مِنْ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ إلَى الْمَثْنَى وَرَدَّ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ لِفِقْهٍ خَفِيٍّ وَهُوَ أَنَّ طُمَأْنِينَةَ الْقَلْبِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْعَدَالَةِ فَلِذَلِكَ تَرَجَّحَ جَانِبُ الصِّدْقِ فِي الْخَبَرِ .
وَلَعَلَّ الشَّاهِدَيْنِ فِي ذَلِكَ خَيْرٌ مِنْ الْخَمْسَةِ ، ثُمَّ التَّرْجِيحُ عِنْدَ التَّعَارُضِ يَكُونُ بِقُوَّةِ الْعِلَّةِ لَا بِكَثْرَةِ الْعِلَّةِ وَفِي حَقِّ مَنْ أَقَامَ خَمْسَةً زِيَادَةُ عَدَدٍ فِي الْعِلَّةِ فَشَهَادَةُ كُلِّ شَاهِدَيْنِ حُجَّةٌ تَامَّةٌ يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ بِهَا وَالتَّرْجِيحُ بِمَا لَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ بِهِ ابْتِدَاءً فَأَمَّا مَا يَثْبُتُ بِهِ ابْتِدَاءً الِاسْتِحْقَاقُ لَا يَقَعُ التَّرْجِيحُ بِهِ فَلِهَذَا لَمْ يُرَجِّحْ أَكْثَرَهُمَا شُهُودًا ، ثُمَّ قَالَ فِيهَا قَضَاءٌ وَصُلْحٌ وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الصُّلْحَ جَائِزٌ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْحُكْمُ وَأَنَّ الصُّلْحَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ مَعَ الْإِنْكَارِ جَائِزٌ ، ثُمَّ بَيَّنَ وَجْهَ الصُّلْحِ وَهُوَ أَنْ
يَكُونَ بَيْنَهُمَا عَلَى عَدَدِ الشُّهُودِ لِأَحَدِهِمَا خَمْسَةُ أَسْبَاعِهِ وَلِلْآخَرِ سُبْعَاهُ وَكَأَنَّهُ اعْتَبَرَ هَذَا الظَّاهِرَ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ الْقَوْمُ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ لَا يُؤْخَذُ بِهِ إلَّا عِنْدَ اتِّفَاقِ الْخَصْمَيْنِ عَلَيْهِ سَمَّاهُ صُلْحًا وَأَمَّا الْقَضَاءُ لِأَحَدِهِمَا بِأَخْذِ الْبَغْلِ فَهَذَا مَذْهَبٌ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ كَانَ يَسْتَحْلِفُ الْمُدَّعِيَ مَعَ الْبَيِّنَةِ وَكَانَ يُحَلِّفُ الشَّاهِدَ وَالرَّاوِيَ فَكَأَنَّهُ جَعَلَ يَمِينَ أَحَدِهِمَا مُرَجِّحَةً لِجَانِبِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْيَمِينِ لَا يَثْبُتُ ابْتِدَاءً فَيَقَعُ التَّرْجِيحُ بِهَا كَقَرَابَةِ الْأُمِّ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعُصُوبَةِ فَإِنَّ الْأَخَ لِأَبٍ وَأُمٍّ يُقَدَّمُ فِي الْعُصُوبَةِ عَلَى الْأَخِ لِأَبٍ ؛ لِأَنَّ الْعُصُوبَةَ لَا تَثْبُتُ بِقَرَابَةِ الْأُمِّ ابْتِدَاءً فَتَقْوَى بِهَا عَلَيْهِ الْعُصُوبَةُ عَلَى الْأَخِ لِأَبٍ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا فَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِيَمِينِ الْمُدَّعِي وَقَدْ قَرَّرْنَا ذَلِكَ فِيمَا سَبَقَ ، ثُمَّ قَالَ : فَإِنْ أَدَّاهَا عَلَى الْيَمِينِ أَقْرَعْتُ بَيْنَهُمَا لِهَذَا بِخَمْسَةٍ وَلِهَذَا بِسَهْمَيْنِ وَهُوَ عَوْدٌ مِنْهُ إلَى وَجْهِ الصُّلْحِ ، وَبِهَذَا يَسْتَدِلُّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي اسْتِعْمَالِ الْقُرْعَةِ عِنْدَ تَعَارُضِ الْحُجَجِ فِي دَعْوَى الْمِلْكِ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا ؛ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْقِمَارِ فَفِيهِ تَعْلِيقُ الِاسْتِحْقَاقِ بِخُرُوجِ الْقُرْعَةِ وَإِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ الْقُرْعَةُ عِنْدَنَا فِيمَا يَجُوزُ الْفَصْلُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ إقْرَاعٍ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ وَحُكْمُ الْحَادِثَةِ عِنْدَنَا أَنْ يُقْضَى بِالْمُدَّعَى بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْحُجَّةِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى وَرَوَيْنَا فِيهِ مِنْ الْأَثَرِ وَالْمَعْنَى مَا يَكُونُ الْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى مِنْ الْأَخْذِ بِقَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ بَنَاهُ عَلَى مَذْهَبِهِ الَّذِي تَفَرَّدَ بِهِ وَهُوَ اسْتِحْلَافُ الْمُدَّعِي مَعَ الْحُجَّةِ وَالْأُمَّةُ
قَدْ اجْتَمَعَتْ عَلَى خِلَافِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَإِذَا ادَّعَى رَجُلٌ دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ فَأَنْكَرَهَا الَّذِي هِيَ فِي يَدَيْهِ ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ مُسَمَّاةٍ فَهُوَ جَائِزٌ وَاعْلَمْ بِأَنَّ الصُّلْحَ أَنْوَاعٌ ثَلَاثَةٌ صُلْحٌ بَعْدَ الْإِقْرَارِ وَصُلْحٌ بَعْدَ الْإِنْكَارِ وَصُلْحٌ مَعَ السُّكُوتِ بِأَنْ لَمْ يُجِبْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْإِقْرَارِ وَلَا بِالْإِنْكَارِ وَيَجُوزُ مَعَ الْإِنْكَارِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ الصُّلْحُ مَعَ الْإِقْرَارِ وَالسُّكُوتِ وَلَا يَجُوزُ مَعَ الْإِنْكَارِ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ الصُّلْحُ مَعَ الْإِقْرَارِ وَلَا يَجُوزُ مَعَ الْإِنْكَارِ وَالسُّكُوتِ وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : لَمْ يَعْمَلْ الشَّيْطَانُ فِي إيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِثْلَ مَنْ عَمِلَ فِي إبْطَالِ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ امْتِدَادِ الْمُنَازَعَاتِ بَيْنَ النَّاسِ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا فَمَنْ أَبْطَلَ ذَلِكَ إنَّمَا أَبْطَلَهُ احْتِيَاطًا لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْحَرَامِ وَلِلرِّشْوَةِ وَالْأَعْمَالِ بِالْبَيِّنَاتِ وَإِنَّمَا نَقُولُ كَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ الصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ .
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ } وَالصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالتِّجَارَةِ عَنْ تَرَاضٍ فَذَلِكَ يَنْبَنِي عَلَى ثُبُوتِ مِلْكِ الْمُدَّعِي عَلَى الْمُدَّعَى وَبِدَعْوَاهُ لَا يَثْبُتُ ذَلِكَ مَعَ إنْكَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَكَانَ أَكْلَ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَهُوَ الْمَعْنَى فِي الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ الْمَالَ بِطَرِيقِ الرِّشْوَةِ وَالرِّشْوَةُ حَرَامٌ وَبِالصُّلْحِ لَا يَحِلُّ مَا هُوَ حَرَامٌ وَقَاسَ بِصُلْحِ الشَّفِيعِ مَعَ الْمُشْتَرِي بِمَالٍ يَأْخُذُهُ لِيُسَلِّمَ الشُّفْعَةَ أَوْ يُصْلِحَ الْقَائِلُ مَعَ الْإِنْكَارِ لِيَقْبِضَهُ
مِنْهُ الْوَلِيُّ بِمَالٍ يُعْطِيهِ وَيُصْلِحُ مَعْرُوفُ النَّسَبِ مَعَ مُدَّعِي الرِّقِّ عَلَى مَالٍ لِيَسْتَرِقَّهُ .
وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّ بَدَلَ الصُّلْحِ إمَّا أَنْ يَكُونَ عِوَضًا عَنْ الْمَالِ أَوْ عَنْ الدَّعْوَى وَالْخُصُومَةِ أَوْ عَنْ الْيَمِينِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ عِوَضًا عَنْ الْمُدَّعَى ؛ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى لَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ فِي الْمُدَّعَى لِلْمُدَّعِي قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ .
.
.
الْحَدِيثَ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ اسْتَحَقَّ بَدَلَ الصُّلْحِ لَا يَرْجِعُ بِالْمَالِ الْمُدَّعَى وَلَكِنْ يَعُودُ عَلَى رَأْسِ الدَّعْوَى وَلَوْ كَانَ الْمَالُ بَدَلًا عَنْ الْمُدَّعَى لَكِنْ يَعُودُ بِهِ عِنْدَ الِاسْتِحْقَاقِ كَمَا لَوْ كَانَ الصُّلْحُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ .
وَلَوْ كَانَ الْمُصَالَحُ عَنْهُ دَارًا لَا يَجِبُ لِلشَّفِيعِ فِيهَا الشُّفْعَةُ أَوْ كَانَ الْمَالُ بَدَلًا عَنْ الْمُدَّعِي وَالْخُصُومَةِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَالٍ فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهُ بِالْمَالِ وَلِأَنَّهُ كَمَا لَا يُسْتَحَقُّ بِنَفْسِ الدَّعْوَى أَخْذُ الْمَالِ الْمُدَّعَى فَكَذَلِكَ لَا يُسْتَحَقُّ أَخْذُ الْمَالِ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ وَلَا جَائِزَ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا عَنْ الْيَمِينِ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ مَشْرُوعَةٌ لِقَطْعِ الْخُصُومَةِ فَلَا يَجُوزُ الِاعْتِيَاضُ عَنْهَا بِالْمَالِ كَالْمُودَعِ إذَا ادَّعَى رَدَّ الْوَدِيعَةَ أَوْ هَلَاكَهَا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ مَعَ الْيَمِينِ وَلَوْ صَالَحَ مِنْ هَذِهِ الْيَمِينِ عَلَى مَا كَانَ بَاطِلًا فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنَّمَا يَبْذُلُ الْمَالَ لِيَدْفَعَ بِهِ أَذَى الْمُدَّعِي عَنْ نَفْسِهِ وَالْمُدَّعِي يَأْخُذُ الْمَالَ لِيَكُفَّ عَنْ الْخُصُومَةِ مَعَهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ وَخُصُومَتُهُ بِغَيْرِ حُجَّةٍ ظُلْمٌ مِنْهُ شَرْعًا وَأَخْذُ الْمَالِ لِيَكُفَّ عَنْ الظُّلْمِ رِشْوَةٌ فَيَكُونُ حَرَامًا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي فِي النَّارِ } وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : لَعَنَ اللَّهُ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ وَالرَّائِشَ } وَبِنَحْوِ هَذَا يَسْتَدِلُّ ابْنُ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ الْمُدَّعَى بِنَفْسِ الدَّعْوَى يَصِيرُ حَقًّا لِلْمُدَّعِي مَا لَمْ يُعَارِضْهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِإِنْكَارِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُنَازِعْهُ فِي ذَلِكَ لَتَمَكَّنَ مِنْ أَخْذِهِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى خَبَرٌ مُحْتَمَلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ وَلَكِنْ الصِّدْقُ يَتَرَجَّحُ فِيهِ مِنْ حَيْثُ إنَّ دِينَهُ وَعَقْلَهُ يَدْعُوَانِهِ إلَى الصِّدْقِ وَيَمْنَعَانِهِ مِنْ الْكَذِبِ إلَّا أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا عَارَضَهُ بِإِنْكَارِهِ فَإِنْكَارُهُ أَيْضًا مُحْتَمَلٌ بَيْنَ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَلِتَحَقُّقِ الْمُعَارَضَةِ تَخْرُجُ دَعْوَاهُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مُوجِبَةً لِلِاسْتِحْقَاقِ مَا لَمْ يَظْهَرْ التَّرْجِيحُ فِي جَانِبِهِ بِالْبَيِّنَةِ وَإِذَا كَانَ الْمُدَّعَى
عَلَيْهِ سَاكِتًا فَالْمُعَارِضُ لَمْ يُوجَدْ فَتَبْقَى دَعْوَى الْمُدَّعِي مُعْتَبَرَةً فِي الِاسْتِحْقَاقِ فَلِهَذَا يَجُوزُ الصُّلْحُ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَأَمَّا بَعْدَ الْمُعَارَضَةِ بِالْإِنْكَارِ لَمْ يَبْقَ لِلدَّعْوَى سَبَبٌ الِاسْتِحْقَاقِ فَأَخْذُ الْمَالِ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ يَكُونُ رِشْوَةً وَأَصْحَابُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ اسْتَدَلُّوا فِي ذَلِكَ بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى { : وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } فَالتَّقْيِيدُ بِحَالِ الْإِقْرَارِ يَكُونُ زِيَادَةً عَلَى النَّصِّ الْمُغَيَّا فِيهِ أَنَّ الْمُدَّعِيَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ فِي دَعْوَى الْعَيْنِ لِنَفْسِهِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ مِنْ صَاحِبِهِ كَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ
فَإِنَّهُ لَوْ وَقَعَ الصُّلْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ الْعَيْنَ إلَى الْمُدَّعِي بِمَالٍ يَأْخُذُ مِنْهُ جَازَ ذَلِكَ بِالِاتِّفَاقِ وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي الْعَيْنَ لِنَفْسِهِ وَخَبَرُهُ فِي حَقِّهِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّدْقِ وَإِنَّمَا لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى خَصْمِهِ ، ثُمَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إنَّمَا يَأْخُذُ الْمَالَ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ بِاعْتِبَارِ قَوْلِهِ إنَّ الْعَيْنَ لِي وَإِنِّي أَمْلِكُهُ مِنْ الْمُدَّعِي بِمَا اسْتَوْفَى مِنْهُ لَا بِاعْتِبَارِ يَدِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمُودِعَ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ بِدُونِ هَذَا الْقَوْلِ لَا يَأْخُذُ الْعِوَضَ عَنْ الْوَدِيعَةِ مِنْ الْمُودَعِ وَالْمُدَّعِي قَدْ وُجِدَ مِنْهُ الْقَوْلُ مِثْلَ مَا وُجِدَ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَكَمَا يَجُوزُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ صُلْحًا بِاعْتِبَارِ قَوْلِهِ فَكَذَلِكَ يَجُوزُ لِلْمُدَّعِي وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ الْمَالَ عِوَضٌ مِنْ الْمُدَّعِي فِي حَقِّ مَنْ يَأْخُذُهُ
فَإِنْ كَانَتْ قَدْ انْقَطَعَتْ الْخُصُومَةُ فِي حَقِّ صَاحِبِهِ وَمِثْلُهُ جَائِزٌ كَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا أَقَرَّ بِحُرِّيَّتِهِ فَمَا يُعْطَى مِنْ الثَّمَنِ بَدَلُ مِلْكِ الرَّقَبَةِ فِي حَقِّ الْبَائِعِ وَهَذَا فِدَاءٌ فِي حَقِّ الْمُشْتَرِي حَتَّى يَعْتِقَ الْعَبْدَ فَهَذَا مِثْلُهُ وَلِأَنَّ الصُّلْحَ مَعَ الْإِنْكَارِ إبْرَاءٌ بِعِوَضٍ وَلَوْ أَبْرَأَهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ صَحَّ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا أَبْرَأَهُ بِعِوَضٍ كَمَا لَوْ صَالَحَ بَعْدَ الْإِقْرَارِ وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْمُدَّعِيَ يَسْقُطُ حَقُّهُ عَنْ الْمَالِ الْمُدَّعَى دَيْنًا كَانَ أَوْ عَيْنًا ثُمَّ إنْكَارُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ إبْرَائِهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ حَتَّى لَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ الدَّيْنِ ، ثُمَّ أَقَرَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا كَانَ الْإِبْرَاءُ صَحِيحًا وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْإِبْرَاءَ إسْقَاطٌ وَالْإِسْقَاطُ يَتِمُّ بِالْمُسْقِطِ وَحْدَهُ وَإِنَّمَا يُحْتَاجُ إلَى مُرَاعَاتِ الْجَانِبِ الْآخَرِ فِي التَّمَلُّكَاتِ فَأَمَّا فِي الْإِسْقَاطَاتِ فَلَا ، كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمُسْقِطَ يَكُونُ مُتَلَاشِيًا وَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي مِلْكِ أَحَدٍ وَلِهَذَا صَحَّ الْإِبْرَاءُ عَنْ الدَّيْنِ قَبْلَ قَبُولِ الْمَدْيُونِ ، وَإِنْ كَانَ يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَلَكِنْ ذَاكَ تَبَعٌ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الْإِسْقَاطُ فَشَرْطُ صِحَّتِهِ ثُبُوتُ الْحَقِّ فِي جَانِبِ الْمُسْقِطِ وَذَاكَ ثَابِتٌ بِخَبَرِهِ وَإِنَّمَا لَمْ يَجْعَلْ الدَّعْوَى سَبَبًا لِلِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْغَيْرِ ثُمَّ بِنَفْسِ الدَّعْوَى يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ وَالْحُضُورَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيَسْتَحِقُّ الْيَمِينَ بَعْدَ الْمُعَارَضَةِ بِالْإِنْكَارِ حَتَّى يَسْتَوْفِيَ بِطَلَبِهِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ { لَكَ يَمِينُهُ } فَعَرَفْنَا أَنَّ جَانِبَ الصِّدْقِ تَرَجَّحَ فِي حَقِّهِ قَبْلَ الْمُعَارَضَةِ بِالْإِنْكَارِ وَبَعْدَ الْمُعَارَضَةِ وَإِنَّمَا لَا يُعْطَى بِنَفْسِ الدَّعْوَى الْمَالَ الْمُدَّعَى لِمَا قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ { لَوْ أُعْطِيَ النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ .
.
.
} الْحَدِيثَ فَإِذَا تَرَجَّحَ مَعْنَى الصِّدْقِ فِي حَقِّهِ ثَبَتَ الْحَقُّ فِي جَانِبِهِ فَيَمْلِكُ التَّصَرُّفَ فِيهِ بِالْإِسْقَاطِ وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْإِسْقَاطِ مِمَّا يَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهُ كَمَا بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَيَأْخُذُ الْمَالَ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ عِوَضًا عَنْ إسْقَاطِ حَقٍّ ثَابِتٍ فِي حَقِّهِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَيْسَ يَتَمَلَّكُ شَيْئًا فَلَا يُشْتَرَطُ ظُهُورُ الْحَقِّ فِي جَانِبِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الزَّوْجَ إذَا خَالَعَ امْرَأَتَهُ عَلَى مَالٍ مَعَ أَجْنَبِيٍّ ضَمِنَهُ أَوْ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ إذَا صَالَحَ مَعَ أَجْنَبِيٍّ عَلَى مَالِ ضَمِنَهُ يَصِحُّ ذَلِكَ وَيَسْتَحِقُّ الْمَالَ عِوَضًا عَنْ الْإِسْقَاطِ ، وَإِنْ كَانَ مَنْ يُعْطِي الْمَالَ لَا يَتَمَلَّكُ بِهِ شَيْئًا
وَأَظْهَرُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ صُلْحُ الْفُضُولِيِّ فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ لِلْمُدَّعِي إنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَدْ أَقَرَّ مَعِي سِرًّا وَأَنْتَ مُحِقٌّ فِي دَعْوَاكَ فَصَالِحْنِي عَلَى كَذَا مِنْ الْمَالِ وَضَمِنَ لَهُ ذَلِكَ فَصَالَحَهُ صَحَّ الصُّلْحُ بِالِاتِّفَاقِ وَمَعْلُومٌ أَنَّ بِإِقْرَارِهِ لَا يَثْبُتُ الْمَالُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَإِنَّمَا صَحَّ هَذَا الصُّلْحُ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ لِظُهُورِ الْحَقِّ فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي دُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا صَالَحَ مَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَنْتَفِعُ بِهَذَا الصُّلْحِ وَالْفُضُولِيُّ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَوُجُوبُ الْمَالِ عِوَضًا عَنْ الْإِسْقَاطِ عَلَى مَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ أَسْرَعُ ثُبُوتًا مِنْهُ عَلَى مَنْ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ خَالَعَ امْرَأَتَهُ عَلَى مَالٍ وَجَبَ الْمَالُ عَلَيْهَا ، وَإِنْ لَمْ يَضْمَنْ بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْخُلْعُ مَعَ أَجْنَبِيٍّ ( يُقَرِّرُهُ ) أَنَّ الْفُضُولِيَّ لَا يَمْتَلِكُ بِهَذَا الصُّلْحِ شَيْئًا ، ثُمَّ يَلْزَمُهُ دَفْعُ الْمَالِ عِوَضًا عَنْ الْإِسْقَاطِ فَكَذَلِكَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إذَا كَانَ مُنْكِرًا فَهُوَ لَا يَمْتَلِكُ بِهَذَا الصُّلْحِ شَيْئًا وَلَكِنْ يَلْزَمُهُ دَفْعُ الْمَالِ عِوَضًا عَنْ الْإِسْقَاطِ كَمَا لَوْ الْتَزَمَهُ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنْ بَدَلَ الصُّلْحِ كَالْمُقَرِّ بِهِ يَكُونُ عِوَضًا عَنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَيَصِيرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْإِقْدَامِ عَلَى الصُّلْحِ كَالْمُقِرِّ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ يَقُولُ لَهُ أَيُّ ضَرُورَةٍ أَلْجَأَتْكَ إلَى الصُّلْحِ وَكَانَ مِنْ حَقِّكَ أَنْ تَرْفَعَ الْأَمْرَ إلَيَّ لِأَمْنَعَ ظُلْمَهُ عَنْكَ فَلَمَّا اخْتَرْتَ الصُّلْحَ صِرْتَ كَالْمُقِرِّ لِمَا ادَّعَى وَلَكِنْ هَذَا إقْرَارٌ ثَبَتَ ضِمْنًا لِلصُّلْحِ فَإِذَا بَطَلَ الصُّلْحُ بِالِاسْتِحْقَاقِ يَبْطُلُ مَا كَانَ فِي ضِمْنِهِ كَالْوَصِيَّةِ بِالْمُحَابَاةِ لِمَا ثَبَتَ ضِمْنًا لِلْبَيْعِ يَبْطُلُ بِبُطْلَانِ الْبَيْعِ فَلِهَذَا يَعُودُ عَلَى رَأْسِ الدَّعْوَى وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْإِقْرَارُ فِي ضِمْنِ
الصُّلْحِ لَا يَظْهَرُ حُكْمُهُ فِي غَيْرِ عَقْدِ الصُّلْحِ وَاسْتِحْقَاقُ الدَّعْوَى بِالشُّفْعَةِ حُكْمٌ وَرَاءَ ذَلِكَ فَلَا يَظْهَرُ فِي حَقِّهِ كَمَا لَوْ كَانَ الصُّلْحُ مَعَ فُضُولِيٍّ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ الْمُدَّعِي يَسْتَحِقُّ الْمَالَ عِوَضًا فِي حَقِّهِ عَنْ الْمُدَّعِي فَأَمَّا فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَإِنَّهُ قَدْ الْتَمَسَهُ ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ حَقٌّ لِلْمُدَّعِي قَبْلَهُ مُسْتَحِقُّ الْهَلَاكِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الدَّعْوَى فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْقِصَاصِ وَالْعَفْوُ عَنْ الْقِصَاصِ عَلَى مَالٍ يَأْخُذُهُ صَحِيحٌ
فَكَذَلِكَ فِدَاءُ الْمَالِ بِالْيَمِينِ صَحِيحٌ نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَالَ وَلَوْ فَدَى يَمِينَهُ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ يَجُوزُ وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا ادَّعَى عَلَيْهِ مَالًا وَطَلَبَ يَمِينَهُ وَقَالَ : لَا تُحَلِّفْنِي وَلَكَ عَشَرَةٌ فَأَبَى فَقَالَ : لَا تُحَلِّفْنِي وَلَكَ عِشْرُونَ فَأَبَى فَقَالَ : لَا تُحَلِّفْنِي وَلَكَ ثَلَاثُونَ فَأَبَى فَقَالَ : لَا تُحَلِّفْنِي وَلَكَ أَرْبَعُونَ فَأَبَى فَحَلَفَ وَمِنْ هَذَا وَقَعَ فِي لِسَانِ الْعَوَامّ أَنَّ الْيَمِينَ الصَّادِقَةَ يُشْتَرَى بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا
فَأَمَّا الْمُودَعُ إذَا ادَّعَى الرَّدَّ فَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ بِجَوَازِ الصُّلْحِ هُنَاكَ أَيْضًا فِدَاءً لِلْيَمِينِ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُجَوِّزُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا اسْتَفَادَ الْبَرَاءَةَ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ رَدَدْتُ وَهُوَ تَسَلَّطَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْمُودِعِ وَإِنَّمَا الْيَمِينُ لِنَفْيِ التُّهْمَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِفَ كَانَ بَرِيئًا وَهُنَا الْيَمِينُ حَقٌّ لِلْمُدَّعِي قَبْلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِمَعْنَى الْإِهْلَاكِ عَلَى مَا قَدْ قَرَّرْنَا فَيَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَنْهَا ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ بِأَكْلِ الْمَالِ بِالْبَاطِلِ وَلَكِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التِّجَارَةِ عَنْ تَرَاضٍ عَلَى أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ وَهُوَ ثُبُوتُ الْإِقْرَارِ فِي ضِمْنِ الصُّلْحِ وَعَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ هُوَ لَيْسَ بِتِجَارَةٍ عَنْ تَرَاضٍ وَلَا أَكْلٍ بِالْبَاطِلِ وَلَكِنَّهُ بَذْلٌ مُقَيَّدٌ بِمَنْزِلَةِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَنَحْوِهِمَا
وَفِي الْحَقِيقَةِ الْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَنْبَنِي عَلَى الْإِبْرَاءِ عَنْ الْحُقُوقِ الْمَجْهُولَةِ بِعِوَضٍ وَهُوَ لَا يَجُوزُ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّمْلِيكِ يَغْلِبُ فِي الصُّلْحِ فَيَكُونُ كَالْبَيْعِ وَجَهَالَةُ الْمَبِيعِ تَمْنَعُ صِحَّةَ الْبَيْعِ فَكَذَلِكَ جَهَالَةُ الْمُصَالَحِ عَنْهُ وَعِنْدَنَا ذَلِكَ جَائِزٌ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ وَاعْتِمَادُنَا فِيهِ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَ خَالِدًا إلَى بَنِي جَذِيمَةَ دَاعِيًا لَا مُقَاتِلًا وَبَلَغَهُ مَا صَنَعَ خَالِدٌ أَعْطَى عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَالًا وَقَالَ : ائْتِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ وَاجْعَلْ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيْكَ وَأَدِّهِمْ كُلَّ نَفْسٍ ذَا مَالٍ فَأَتَاهُمْ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَوَدَّاهُمْ حَتَّى مِيلَغَةَ الْكَلْبِ فَبَقِيَ فِي يَدِهِ مَالٌ فَقَالَ هَذَا لَكُمْ مِمَّا لَا تَعْلَمُونَهُ أَنْتُمْ وَلَا يَعْلَمُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ أَصَبْتَ وَأَحْسَنْتَ } فَذَلِكَ تَنْصِيصٌ عَلَى جَوَازِ الْإِبْرَاءِ عَنْ الْحُقُوقِ الْمَجْهُولَةِ بِعِوَضٍ { وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ اخْتَصَمَا إلَيْهِ اذْهَبَا تَحَرَّيَا وَأَقْرِعَا وَتَوَخَّيَا وَاسْتَهِمَا ، ثُمَّ لِيُحَلِّلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمَا صَاحِبَهُ } وَهَذَا إبْرَاءٌ عَنْ الْحَقِّ الْمَجْهُولِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْجَهَالَةَ إنَّمَا تُؤَثِّرُ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَمْنَعُ التَّسْلِيمَ وَالْمُصَالَحُ عَنْهُ لَا يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى التَّسْلِيمِ فَالْجَهَالَةُ فِيهِ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الصُّلْحِ فَفِي بَيَانِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَجْوَزُ مَا يَكُونُ الصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ قَدْ طَعَنَ فِي هَذَا اللَّفْظِ بَعْضُ النَّاسِ وَقَالَ : الِاخْتِلَافُ فِي الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ اخْتِلَافٌ ظَاهِرٌ فَكَيْف يَكُونُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ أَجْوَزُ مِنْ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ
وَلَكِنَّا نَقُولُ مُرَادُهُ أَنَّهُ أَنْفَذُ وَأَلْزَمُ فَالصُّلْحُ مَعَ الْإِقْرَارِ يَفْسُدُ بِأَسْبَابٍ لَا يَفْسُدُ الصُّلْحُ مَعَ الْإِنْكَارِ بِذَلِكَ السَّبَبِ أَوْ مُرَادُهُ أَنَّهُ أَكْثَرُ مَا يَكُونُ بَيْنَ النَّاسِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَقَعَ الْإِقْرَارُ اسْتَوْفَى الْمُدَّعِي حَقَّهُ فَلَا حَاجَة إلَى الصُّلْحِ وَإِنَّمَا الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ عِنْدَ الْإِنْكَارِ لِيُتَوَصَّلَ بِهِ الْمُدَّعِي إلَى بَعْضِ حَقِّهِ أَوْ مُرَادُهُ أَنَّ ثَمَرَةَ الصُّلْحِ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ وَذَلِكَ عِنْدَ الْإِنْكَارِ أَظْهَرُ ؛ لِأَنَّ مَعَ الْإِقْرَارِ لَا تَمْتَدُّ الْمُنَازَعَةُ بَيْنَهُمَا وَالْعَقْدُ الَّذِي يُفِيدُ ثَمَرَتَهُ يَكُونُ أَقْرَبَ إلَى الْجَوَازِ مِمَّا لَا يَكُونُ مُفِيدًا ثَمَرَتُهُ ، ثُمَّ الصُّلْحُ عَلَى الْإِقْرَارِ تَمْلِيكُ مَالٍ بِمَالٍ فَيَكُونُ بَيْعًا وَهَذَا الْعَقْدُ اخْتَصَّ بِاسْمٍ فَلَا بُدَّ لِاخْتِصَاصِهِ بِالِاسْمِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِحُكْمٍ وَذَلِكَ الْحُكْمُ لَا يَكُونُ إلَّا جَوَازَهُ مَعَ الْإِنْكَارِ فَهُوَ مَعْنَى كَلَامِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ثُمَّ اعْلَمْ بِأَنَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ يَكُونُ عِوَضًا مِنْ الْمُدَّعِي فِي حَقِّ الْمُدَّعَى بِمَنْزِلَةِ الْعِوَضِ فِي الْبَيْعِ فَكُلُّ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا فِي الْبَيْعِ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ عِوَضًا فِي الصُّلْحِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الْبُيُوعِ وَالْمُصَالَحُ عَلَيْهِ يُحْتَاجُ إلَى قَبْضِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ إعْلَامِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا تَبْقَى فِيهِ مُنَازَعَةٌ بَيْنَهُمَا وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ الْحَيَوَانُ فِيهِ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ وَلَا يَثْبُتُ الثِّيَابُ فِيهِ دَيْنًا إلَّا مَوْصُوفًا مُؤَجَّلًا كَمَا فِي الْبَيْعِ
وَالْمُصَالَحُ عَلَيْهِ إذَا كَانَ عَيْنًا لَا يَجُوزُ التَّأْجِيلُ فِيهِ كَمَا فِي الْبَيْعِ لَا يَجُوزُ التَّأْجِيلُ فِي الْعَيْنِ ، ثُمَّ الصُّلْحُ عَقْدٌ هُوَ فَرْعٌ فَيُعْتَبَرُ بِنَظَائِرِهِ مِمَّا هُوَ أَصْلٌ حَتَّى إذَا كَانَ عَلَى دَيْنٍ فِي الذِّمَّةِ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْيَمِينِ فِي الْبَيْعِ ، وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ دَيْنٍ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْبَيْعِ وَإِذَا كَانَ عَلَى مَنْفَعَةٍ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الْإِجَارَةِ وَكُلُّ مَنْفَعَةٍ يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهَا بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهَا بِالصُّلْحِ وَمَا لَا فَلَا حَتَّى إذَا صَالَحَ عَلَى سُكْنَى ثَبَتَ بِعَيْنِهِ إلَى مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ يَجُوزُ ، وَإِنْ قَالَ : أَبَدًا أَوْ حَتَّى يَمُوتَ لَمْ يَجُزْ
وَكَذَلِكَ إنْ صَالَحَ عَلَى أَنْ يَزْرَعَ لَهُ أَرْضًا بِعَيْنِهَا سِنِينَ مُسَمَّاةً يَجُوزُ وَبِدُونِ بَيَانِ الْمُدَّةِ لَا يَجُوزُ كَمَا فِي الْإِجَارَةِ
وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ ظُلَّةٌ أَوْ كَتِفُ شَارِعٍ عَلَى طَرِيقٍ نَافِذٍ فَخَاصَمَهُ رَجُلٌ فِيهِ وَأَرَادَ طَرْحَهُ فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى عَشَرَةِ دَرَاهِمَ كَانَ الصُّلْحُ بَاطِلًا وَيُخَاصِمُهُ فِي طَرْحِهِ مَتَى شَاءَ ؛ لِأَنَّ هَذَا الطَّرِيقَ النَّافِذَ حَقُّ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُمَكَّنُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَعْتَاضَ عَنْهُ شَيْئًا فَصَاحِبُ الظُّلَّةِ لَا يَسْتَفِيدُ بِهَذَا الصُّلْحِ حَقَّ الْإِقْرَارِ ؛ لِأَنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُخَاصِمَهُ فِي طَرْحِهِ وَاَلَّذِي خَاصَمَهُ كَانَ مُحْتَسِبًا فِي ذَلِكَ فَارْتَشَى لِتَرْكِ الْحِسْبَةِ وَذَلِكَ حَرَامٌ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ وَضَعَ الظُّلَّةَ عَلَى طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ يُطَالِبَ الرَّفْعَ بَعْدَ الْوَضْعِ سَوَاءٌ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ أَوْ لَا ضَرَرَ فِيهِ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إنْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ فَلِكُلِّ مُسْلِمٍ حَقُّ الْمَنْعِ فِي الِابْتِدَاءِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ فِي الرَّفْعِ بَعْدَ الْوَضْعِ ؛ لِأَنَّهُ قَاصِدٌ إلَى الْإِضْرَارِ بِصَاحِبِ الظُّلَّةِ غَيْرُ دَافِعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُمْنَعُ فِي الِابْتِدَاءِ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ ضَرَرٌ كَمَا لَا يَرْفَعُ بَعْدَ الْوَضْعِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : الطَّرِيقُ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ جَمِيعِ النَّاسِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِمَنْزِلَةِ الشَّرِيكِ فِي الطَّرِيقِ الْخَاصِّ فَكَمَا لَا يُعْتَبَرُ هُنَاكَ الضَّرَرُ فِي ثُبُوتِ حَقِّ الْمَنْعِ وَالرَّفْعِ فَكَذَلِكَ هُنَا وَلَوْ كَانَ عَلَى طَرِيقٍ غَيْرِ نَافِذٍ فَخَاصَمَهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الطَّرِيقِ وَصَالَحَهُ عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ كَانَ جَائِزًا ؛ لِأَنَّ شَرِكَةَ أَصْحَابِ الطَّرِيقِ شَرِكَةُ مِلْكٍ وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّونَ بِهِ الشُّفْعَةَ فَهَذَا الْمَصَالِحُ مَلَكَ نَصِيبَهُ مِنْ صَاحِبِ الظُّلَّةِ وَتُمْلِيك مَا هُوَ مَمْلُوكٌ لَهُ بِعِوَضٍ صَحِيحٌ فَإِنْ قِيلَ صَاحِبُ الظُّلَّةِ لَا يَسْتَفِيدُ
بِهَذَا الصُّلْحِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ لِسَائِرِ الشُّرَكَاءِ أَنْ يُخَاصِمُوهُ فِي الطَّرِيقِ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ بَلْ يَسْتَفِيدُ مِنْ حَيْثُ إنَّ سَائِرَ الشُّرَكَاءِ لَوْ صَالَحُوهُ أَيْضًا لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَهُ فِي الطَّرِيقِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ بِالصُّلْحِ يَتَمَلَّكُ نَصِيبَهُ فَيَصِيرُ كَأَحَدِ الشُّرَكَاءِ فِي وَضْعِ الظُّلَّةِ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقِ حَتَّى إذَا رَضِيَ شُرَكَاؤُهُ بِذَلِكَ كَانَ لَهُ حَقُّ قَرَارِ الظُّلَّةِ وَبَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ كَانَ يَقُولُ تَأْوِيلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الظُّلَّةَ عَلَى مَا هِيَ عَلَى الطَّرِيقِ فَالْمَصَالِحُ يَصِيرُ مُمَلَّكًا نَصِيبَهُ مِنْ وَضْعِ أَصْلِ الْبِنَاءِ وَذَلِكَ جَائِزٌ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُمَلَّكًا نَصِيبَهُ مِنْ هَوَاءِ الطَّرِيقِ وَتَمْلِيكُ الْأَهْوَاءِ بِعِوَضٍ لَا يَجُوزُ وَالْأَصَحُّ هُوَ الْأَوَّلُ ؛ لِأَنَّ هَوَاءَ الطَّرِيقِ الْخَاصِّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ كَأَصْلِ الطَّرِيقِ وَإِسْقَاطُ الْحَقِّ عَنْ نَصِيبِهِ مِنْ هَوَاءِ الطَّرِيقِ بِعِوَضٍ صَحِيحٌ كَمَا يَصِحُّ إسْقَاطُ الْحَقِّ فِيهِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يَطْرَحَ الظُّلَّةَ عَنْ هَذَا الطَّرِيقِ كَانَ جَائِزًا ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لِأَهْلِ الطَّرِيقِ فَكَانَ الْمُفِيدُ لِلْمَالِ صَالَحَ عَنْ نَفْسِهِ لِيُوَصِّلَ الْمَنْفَعَةَ إلَيْهِمْ بِإِزَالَةِ الشَّاغِلِ عَنْ هَوَاءِ طَرِيقِهِمْ وَذَلِكَ جَائِزٌ وَتَأْوِيلُ هَذَا أَنَّ الظُّلَّةَ كَانَتْ عَلَى بِنَاءٍ مَبْنِيٍّ عَلَى الطَّرِيقِ وَصَاحِبُ الظُّلَّةِ يَدَّعِي مِلْكَ ذَلِكَ الْوَضْعِ لِنَفْسِهِ أَوْ يَدَّعِي حَقَّ قَرَارِ الظُّلَّةِ بِسَبَبٍ صَحِيحٍ فَسَقَطَ حَقُّهُ بِمَا يَأْخُذُ مِنْ الْمَالِ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ وَذَلِكَ جَائِزٌ مِنْ أَحَدِ الشُّرَكَاءِ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ أَصْحَابِهِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ كَصُلْحِ الْفُضُولِيِّ
وَلَوْ ادَّعَى حَقًّا فِي دَارٍ فِي يَدَيْ رَجُلٍ فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى خِدْمَةِ عَبْدٍ بِعَيْنِهِ شَهْرًا فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ مَعْلُومٌ فَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يَخْدِمَهُ بَطَلَ الصُّلْحُ لِتَحَقُّقِ فَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لَا عَلَى عِوَضٍ فَيَعُودُ عَلَى رَأْسِ الدَّعْوَى ، وَإِنْ مَاتَ بَعْدَ مَا خَدَمَهُ نِصْفَ الشَّهْرِ كَانَ عَلَى دَعْوَاهُ فِي النِّصْفِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ وَلَوْ قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَبْطُلُ الصُّلْحُ وَلَكِنْ لِلْمُدَّعِي الْخِيَارُ إنْ شَاءَ أَبْطَلَ الصُّلْحَ وَعَادَ عَلَى رَأْسِ الدَّعْوَى ، وَإِنْ شَاءَ أَمْضَى الصُّلْحَ وَاشْتَرَى لَهُ بِالْقِيمَةِ عَبْدًا آخَرَ لِيَخْدُمَهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ : الصُّلْحُ بَاطِلٌ وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ بِمَنْزِلَةِ الْإِجَارَةِ وَلَوْ قُتِلَ الْعَبْدُ الْمُسْتَأْجَرَ بَطَلَ عَقْدُ الْإِجَارَةِ فَكَذَلِكَ إذَا قُتِلَ الْعَبْدُ الَّذِي وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى خِدْمَتِهِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُصَالَحِ فِي الْمَنْفَعَةِ ، وَالْقِيمَةُ الْوَاجِبَةُ عَلَى الْقَاتِلِ بَدَلُ الْعَيْنِ لَا بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ فَقَدْ فَاتَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ لَا إلَى عِوَضٍ وَهُوَ نَظِيرُ مَوْتِ الْعَبْدِ وَلِأَنَّ الصُّلْحَ عَقْدٌ مُحْتَمِلٌ لِلْفَسْخِ وَدَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ الْمُدَّعِي مُمْكِنٌ بِالْإِعَادَةِ إلَى رَأْسِ الدَّعْوَى فَلَا حَاجَةَ بِنَا إلَى أَنْ نُقِيمَ بَدَلَ الْعَيْنِ مَقَامَ بَدَلِ الْمَنْفَعَةِ فِي إيفَاءِ هَذَا الْعَقْدِ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ فَإِنَّ الْعَبْدَ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ إذَا قُتِلَ لَا تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ ؛ لِأَنَّ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ الْمُوصَى لَهُ هُنَاكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ بِإِعَادَةِ عِوَضِهِ إلَيْهِ فَلِأَجْلِ الضَّرُورَةِ أَقَمْنَا بَدَلَ الْعَيْنِ مَقَامَ بَدَلِ الْمَنْفَعَةِ وَلِأَنَّ الْعَبْدَ مِنْ وَجْهٍ كَأَنَّهُ مُوصًى بِهِ وَلِهَذَا يُعْتَبَرُ خُرُوجُهُ مِنْ الثُّلُثِ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ الْمُصَالَحُ مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ بِعَقْدٍ يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ بِهِ الْعَيْنَ
فَإِذَا هَلَكَتْ الْعَيْنُ وَأَخْلَفَتْ بَدَلًا لَا يَبْطُلُ الصُّلْحُ كَالْعَبْدِ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ إذَا قُتِلَ لَا تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ وَلَكِنْ يَشْتَرِي بِقِيمَتِهِ عَبْدًا آخَرَ لِيَخْدُمَ الْمُوصَى لَهُ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ وَهِيَ مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ بِعَقْدٍ لَا يَجُوزُ أَنْ تُمْلَكَ بِهِ الْعَيْنُ فَلَا يُمْكِنُ إقَامَةُ بَدَلِ الْعَيْنِ هُنَاكَ مَقَامَ بَدَلِ الْمَنْفَعَةِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ بِحُكْمِ ذَلِكَ الْعَقْدِ وَإِذَا كَانَ الْعَقْدُ بِحَيْثُ يَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ بِهِ الْعَيْنَ يُمْكِنُ إقَامَةُ بَدَلِ الْعَيْنِ فِيهِ مَقَامَ بَدَلِ الْمَنْفَعَةِ فِي إيفَاءِ الْعَقْدِ ، ثُمَّ الصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ فِي مَعْنَى الْوَصِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِإِزَاءِ الْمَنْفَعَةِ بَدَلٌ يَسْتَقِرُّ وُجُوبُهُ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ كَمَا فِي الْوَصِيَّةِ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ فَإِنْ قِيلَ كَيْف يَسْتَقِيمُ هَذَا وَالْمُصَالَحُ هُنَاكَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَ الْعَبْدَ مِنْ غَيْرِهِ وَفِي الْوَصِيَّةِ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ لَا يَمْلِكُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ مِنْ غَيْرِهِ قُلْنَا إنَّمَا مَلَكَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي وَهُوَ يَزْعُمُ أَنَّهُ مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ بِعِوَضٍ فَالصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ بِمَنْزِلَةِ عَقْدِ الْمُفَاوَضَةِ فَإِذَا تَمَلَّكَ الْمَنْفَعَةَ بِهِ مَلَكَ أَنْ يُؤَاجِرَهُ مِنْ غَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَسْتَقِرُّ وُجُوبُ الْبَدَلِ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ كَمَا إذَا مَلَكَ الْمَنْفَعَةَ بِالْخُلْعِ أَوْ النِّكَاحِ أَوْ الصُّلْحِ عَنْ الْقَوَدِ تَوْضِيحُهُ إنَّ هَذَا الْعَقْدَ مِنْ وَجْهٍ يُشْبِهُ الْإِجَارَةَ وَهُوَ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ تُمْلَكُ بِعِوَضٍ وَمِنْ وَجْهٍ يُشْبِهُ الْوَصِيَّةَ وَهُوَ أَنَّ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ لَا يَسْتَقِرُّ وُجُوبُ عِوَضٍ فَلِشَبَهِهِ بِالْإِجَارَةِ قُلْنَا يَمْلِكُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ مِنْ غَيْرِهِ وَلِشَبَهِهِ بِالْوَصِيَّةِ قُلْنَا لَا يَبْطُلُ بِالْقَتْلِ وَتَقُومُ قِيمَتُهُ مَقَامَ عَيْنِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَذَا الْعَقْدِ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا وَذَلِكَ وَاجِبٌ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ ابْتِدَاءً
وَبَقَاءً لِمَا فِي امْتِدَادِهَا مِنْ الْفَسَادِ وَإِنَّمَا أُثْبِتَ الْخِيَارُ لِلْمُدَّعِي لِحُصُولِ التَّغَيُّرِ لَا فِي ضَمَانِهِ فَالْمَنْفَعَةُ لَا تَدْخُلُ فِي ضَمَانِهِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْقَاتِلُ هُوَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ تَجِبُ الْقِيمَةُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ مَالِكًا لِلْعَبْدِ فَالْمُصَالَحُ قَدْ صَارَ أَحَقَّ بِهِ مِنْهُ فَهُوَ فِي وُجُوبِ الْقِيمَةِ عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَالرَّاهِنِ إذَا قَتَلَ الْمَرْهُونَ أَوْ الْوَارِثَ إذَا قَتَلَ الْعَبْدُ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْمُصَالَحُ هُوَ الَّذِي قَتَلَ الْعَبْدَ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ أَجْنَبِيٌّ مِنْ الرَّقَبَةِ فَيَلْزَمُهُ مِنْ الْقِيمَةِ بِالْقَتْلِ مَا يَلْزَمُ غَيْرَهُ وَاخْتَلَفَ مَشَايِخُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْمُصَالَحِ فِي هَذَا الْفَصْلِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ يَثْبُتُ كَمَا إذَا قَتَلَهُ أَجْنَبِيٌّ آخَرُ وَإِلَّا وُجِّهَ أَنْ لَا يَثْبُتَ ؛ لِأَنَّ التَّغْيِيرَ حَصَلَ بِفِعْلِهِ هُنَا وَهُوَ رَاضٍ بِفِعْلِهِ لَا مَحَالَةَ وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ مُسْتَقِيمٌ فَقَدْ قَالَ : إذَا جَنَى الْبَائِعُ عَلَى الْمَبِيعِ وَهُوَ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَهُوَ غَيْرُ ثَابِتٍ لَا مَحَالَةَ وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَسْقُطُ بِهِ خِيَارُ الْمُشْتَرِي بِخِلَافِ مَا إذَا جَنَى عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَعَلَى هَذَا لَوْ صَالَحَهُ عَلَى لُبْسِ هَذَا الثَّوْبِ شَهْرًا أَوْ عَلَى أَنْ يَرْكَبَ دَابَّتَهُ هَذِهِ إلَى بَغْدَادَ فَإِنَّ هَذِهِ مَنْفَعَةٌ يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهَا بِالْإِجَارَةِ وَالْوَصِيَّةِ فَكَذَلِكَ بِالصُّلْحِ
فَإِنْ مَاتَ الْمُدَّعِي أَوْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَقَدْ اسْتَوْفَى نِصْفَ الْمَنْفَعَةِ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ الصُّلْحُ بِقَدْرِ مَا بَقِيَ وَيَرْجِعُ فِي دَعْوَاهُ بِقَدْرِهِ وَهَذَا فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْمَنْفَعَةِ كَالْإِجَارَةِ وَالْإِجَارَةُ تَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ إنْ مَاتَ الْمُدَّعِي فَلَوْ أَبْقَيْنَا الصُّلْحَ أَدَّى إلَى تَوْرِيثِ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَنْفَعَةُ لَا يَجْرِي فِيهَا الْإِرْثُ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ إذَا مَاتَ لَا يَخْلُفُهُ وَارِثُهُ فِي اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ وَأَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنْ يُجْعَلَ الصُّلْحُ كَالْوَصِيَّةِ ، وَإِنْ مَاتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَالْعَيْنُ صَارَتْ لِوَارِثِهِ وَالْمَنْفَعَةُ بَعْدَ ذَلِكَ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِهِ وَيَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ مَنْفَعَةَ مِلْكِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنْ مَاتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمْ يَبْطُلْ الصُّلْحُ ، وَإِنْ مَاتَ الْمُدَّعِي فَفِي سُكْنَى الدَّارِ وَخِدْمَةِ الْعَبْدِ كَذَلِكَ الْجَوَابُ فَأَمَّا فِي لُبْسِ الثَّوْبِ وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ يَبْطُلُ الصُّلْحُ وَهَذَا الْجَوَابُ عَنْهُ مَحْفُوظٌ فِي الْأَمَالِي وَمِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ يَقُولُ تَأْوِيلُهُ
إذَا ادَّعَى عَبْدًا فِي يَدِ غَيْرِهِ ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى خِدْمَتِهِ شَهْرًا أَوْ ادَّعَى بَيْتًا ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى سُكْنَاهُ شَهْرًا فَإِنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي وَفِي زَعْمِهِ أَنَّهُ يَسْتَوْفِي الْمَنْفَعَةَ بِمِلْكِهِ الْأَصْلِيِّ لَا أَنْ يَتَمَلَّكَهَا بِعَقْدِ الصُّلْحِ بِعِوَضٍ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ وَلَا بِمَوْتِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ الصُّلْحُ عَلَى خِدْمَةِ عَبْدٍ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَبْطُلَ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ مُطْلَقًا وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّقَ الْخِلَافَ فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا وَوَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالصُّلْحِ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ وَفِي إبْطَالِ هَذَا الصُّلْحِ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا إعَادَةُ الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا فَلِوُجُوبِ التَّحَرُّزِ عَنْ ذَلِكَ قُلْنَا بِأَنَّهُ يَبْقَى الصُّلْحُ بَعْدَ مَوْتِ أَحَدِهِمَا ؛ لِأَنَّهُ إنْ مَاتَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَوَارِثُهُ يَنْتَفِعُ بِإِيفَاءِ هَذَا الصُّلْحِ مِثْلَ مَا كَانَ الْمُوَرِّثُ انْتَفَعَ بِهِ وَهُوَ سُقُوطُ مُنَازَعَةِ الْمُدَّعِي فَلَوْ أَبْطَلْنَا الصُّلْحَ رُبَّمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَحْصِيلِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ لِنَفْسِهِ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ ، وَإِنْ مَاتَ الْمُدَّعِي فَوَارِثُهُ يَقُومُ مَقَامَهُ فِيمَا لَا يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِي اسْتِيفَائِهِ كَخِدْمَةِ الْعَبْدِ وَسُكْنَى الْبَيْتِ وَرُبَّمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَحْصِيلِ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ بِعَقْدِهِ فَأَبْطَلْنَا الصُّلْحَ فَأَمَّا فِيمَا يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِيهِ كَلُبْسِ الثَّوْبِ وَرُكُوبِ الدَّابَّةِ لَا يُمْكِنُ إقَامَةُ الْوَارِثِ فِيهِ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ لِلضَّرَرِ الَّذِي يَلْحَقُ الْمَالِكَ فِيهِ وَلَمْ يَرْضَ بِالْتِزَامِهِ فَلِهَذَا أَبْطَلْنَا الصُّلْحَ وَيُشْبِهُ هَذَا بِالْمَنْفَعَةِ إذَا جُعِلَتْ بَدَلًا فِي الْخُلْعِ أَوْ الصُّلْحِ مِنْ دَمِ الْعَمْدِ وَالنِّكَاحِ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ الْحَقُّ عَنْهَا بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا وَلَكِنْ يَسْتَوْفِي الْمَنْفَعَةَ أَوْ بَدَلَهَا بَعْدَ الْمَوْتِ عَلَى حَسَبِ مَا تَكَلَّمُوا
فِيهِ فَكَذَلِكَ هُنَا
وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى سُكْنَى بَيْتٍ فَانْهَدَمَ لَمْ يَبْطُلْ الصُّلْحُ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ بَاقٍ وَالِانْتِفَاعُ بِهِ مِنْ حَيْثُ السُّكْنَى مُمْكِنٌ إلَّا أَنَّ تَمَامَ الْمَنْفَعَةِ بِالْبِنَاءِ فَإِذَا رَضِيَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَنْ يَبْنِيَ الْبَيْتَ بِمَالِهِ فِيهِ لِيَسْكُنَهُ بَقِيَ الصُّلْحُ بَيْنَهُمَا وَلَكِنْ لِلْمُدَّعِي الْخِيَارُ لِلتَّغْيِيرِ ، وَإِنْ شَاءَ أَبْطَلَ الصُّلْحَ وَعَادَ عَلَى دَعْوَاهُ ، وَإِنْ شَاءَ أَمْضَى الصُّلْحَ وَهَذَا قَوْلُهُمْ جَمِيعًا وَالْجَوَابُ فِي إجَارَةِ الْبَيْتِ هَكَذَا
وَلَوْ صَالَحَهُ مِنْ دَعْوَاهُ عَلَى كَذَا كَذَا ذِرَاعًا مُسَمَّاةٍ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجَازَ فِي قَوْلِهِمَا بِمَنْزِلَةِ مَا اشْتَرَى كَذَا ذِرَاعًا مِنْ الدَّارِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي التَّبَرُّعِ فَإِنَّ الصُّلْحَ عَلَى عَيْنٍ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ ، وَكَذَلِكَ إنْ صَالَحَهُ عَلَى كَذَا كَذَا جَرِيبًا مِنْ الْأَرْضِ
وَلَوْ ادَّعَى أَذْرُعًا مُسَمَّاةً فِي الدَّارِ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ كَانَ جَائِزًا عِنْدَهُمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ جَهَالَةَ الْمُصَالَحِ عَنْهُ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الصُّلْحِ كَمَا لَوْ ادَّعَى حَقًّا فِي دَارٍ وَلَمْ يُسَمِّهِ ، ثُمَّ صَالَحَ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمُصَالَحَ عَنْهُ لَا يَسْتَحِقُّ تَسْلِيمَهُ بِالصُّلْحِ فَجَهَالَتُهُ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ
وَلَوْ ادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي دَارٍ فِي يَدَيْ صَاحِبِهِ حَقًّا ، ثُمَّ اصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ مَا فِي يَدِهِ بِغَيْرِ تَسْمِيَةٍ وَلَا إقْرَارٍ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَابِضٌ لِمَا شُرِطَ لَهُ بِالصُّلْحِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّسْلِيمِ وَالْجَهَالَةُ إنَّمَا تَمْنَعُ إذَا كَانَتْ تُفْضِي إلَى مُنَازَعَةٍ مَانِعَةٍ مِنْ التَّسْلِيمِ
وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ فِي أَرْضَ رَجُلٍ دَعْوَى فَصَالَحَهُ عَلَى طَعَامٍ بِعَيْنِهِ مُجَازَفَةً فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ الْمُعَيَّنَ يَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعْلُومَ الْقَدْرِ فَكَذَلِكَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَ عَلَى دَرَاهِمَ بِعَيْنِهَا بِغَيْرِ ذِكْرِ الْوَارِثِ ؛ لِأَنَّ مِثْلَهُ يَصْلُحُ ثَمَنًا فِي الْبَيْعِ فَيَصْلُحُ بَدَلًا فِي الصُّلْحِ أَيْضًا
وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ ؛ لِأَنَّ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ عَيْنًا فَهُوَ كَالْمُشْتَرِي بِطَرِيقِ الْبِنَاءِ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي وَلِهَذَا يَسْتَحِقُّ بِالشُّفْعَةِ لَوْ كَانَتْ دَارًا وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا لَمْ يَرَهُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إذَا رَآهُ ، وَكَذَلِكَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ فِي الصُّلْحِ بِمَنْزِلَةِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ فِي الْبَيْعِ حَتَّى يَرُدَّ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ بِالْعَيْبِ الْيَسِيرِ وَالْفَاحِشِ بِطَرِيقِ الْبِنَاءِ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي وَإِذَا تَعَذَّرَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ رَجَعَ بِحِصَّةِ الْعَيْبِ فِي الدَّعْوَى ؛ لِأَنَّ رَأْسَ مَالِهِ فِي حَقِّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ الدَّعْوَى وَالْخُصُومَةُ فَكَمَا أَنَّ عِنْدَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ يَرْجِعُ فِي ذَلِكَ فَكَذَلِكَ عِنْدَ تَعَذُّرِ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ مِنْ الدَّعْوَى وَلَوْ اُسْتُحِقَّ نِصْفُ الْعَبْدِ مِنْ يَدِهِ كَانَ بِالْخِيَارِ فِيمَا بَقِيَ لِعَيْبِ التَّبْعِيضِ فَإِنْ رَدَّ مَا بَقِيَ كَانَ عَلَى دَعْوَاهُ فَإِنْ أَمْسَكَ مَا بَقِيَ مِنْهُ كَانَ عَلَى نِصْفِ دَعْوَاهُ اعْتِبَارًا لِاسْتِحْقَاقِ الْبَعْضِ بِالْكُلِّ
وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ فِي دَارٍ لِرَجُلٍ دَعْوَى فَصَالَحَهُ عَنْهُ آخَرُ بِأَمْرِهِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ بِإِنْكَارٍ أَوْ إقْرَارٍ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَلَا شَيْءَ لِلْمُصَالِحِ مِنْ حُقُوقِ الْمُدَّعِي إنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ لِلَّذِي فِي يَدِهِ الدَّارُ وَلَا يَجِبُ الْمَالُ عَلَى الْمُصَالِحِ إلَّا أَنْ يَضْمَنَهُ الَّذِي صَالَحَهُ ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ مُعَاوَضَةٌ بِإِسْقَاطِ الْحَقِّ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الطَّلَاقِ بِجُعْلٍ وَالْعَفْوِ عَنْ الْقِصَاصِ بِمَالٍ وَذَلِكَ جَائِزٌ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ كَمَا يَجُوزُ مَعَ الْخَصْمِ إلَّا أَنَّ الْأَجْنَبِيَّ إنْ ضَمِنَ الْمَالَ فَهُوَ عَلَيْهِ بِالِالْتِزَامِ وَلَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ بِإِزَاءِ مَا اُلْتُزِمَ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْمُسْقَطَ يَكُونُ مُتَلَاشِيًا وَلَا يَكُونُ دَاخِلًا فِي مِلْكِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْهُ الْمَالُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ وَلَكِنْ إنْ كَانَ الصُّلْحُ بِأَمْرِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَالْمَالُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْأَجْنَبِيَّ يُعَبِّرُ عَنْهُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ إضَافَةِ الْعَقْدِ إلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَتِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَمْ يَجِبْ لِلْمُصَالَحِ وَلَا يُمْكِنُ إيجَابُهُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ وَالْمُدَّعِي لَمْ يَرْضَ سُقُوطَ حَقِّهِ إلَّا بِعِوَضٍ يَجِبُ لَهُ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى رِضَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي صُلْحِ الْأَجْنَبِيِّ إلَّا الْعُرْفُ الظَّاهِرُ وَحَاجَةُ النَّاسِ إلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُتَحَرَّزُ مِنْ قَبُولِ ذَلِكَ مَخَافَةَ أَنْ يَجْرِيَ عَلَى لِسَانِهِ مَا هُوَ إقْرَارٌ لَكَانَ هَذَا كَائِنًا لِجَوَازِ هَذَا الْعَقْدِ فَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ فَوَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ أَوْ اُسْتُحِقَّ أَوْ وُجِدَ حُرًّا أَوْ مُدَبَّرًا أَوْ مُكَاتَبًا عَادَ فِي دَعْوَاهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْمَصَالِحِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا الصُّلْحَ لَوْ كَانَ مَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَانَ يَبْطُلُ بِهَذِهِ الْعَوَارِضِ وَيَعُودُ الْمُدَّعِي عَلَى دَعْوَاهُ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ
الْعَقْدَ انْفَسَخَ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ وَالْتِزَامُ الْمَصَالِحِ كَانَ بِالْعَقْدِ فَإِذَا انْفَسَخَ الْعَقْدُ عَادَ الْحُكْمُ الَّذِي كَانَ قَبْلَهُ وَهُوَ خُصُومَةُ الْمُدَّعِي مَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ
وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ وَضَمِنَهَا لَهُ فَدَفَعَهَا إلَيْهِ فَاسْتُحِقَّتْ أَوْ وَجَدَ مِنْهَا زُيُوفًا أَوْ سُتُّوقًا فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِذَلِكَ عَلَى الَّذِي صَالَحَهُ دُونَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ الدَّارُ كَمَا لَوْ كَانَ هَذَا الصُّلْحُ مَعَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمُصَالِحَ الْتَزَمَ بِالْمَالِ بِالْعَقْدِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ حِينَ ضَمِنَهُ وَبِالرَّدِّ بِهَذِهِ الْأَسْبَابِ يُنْتَقَضُ الْقَبْضُ لَا أَصْلُ الْعَقْدِ فَيَعُودُ الْحُكْمُ الَّذِي كَانَ قَبْلَ الْقَبْضِ وَهُوَ أَنَّهُ مُطَالَبٌ بِتَسْلِيمِ الْمَالِ بِسَبَبِ الْتِزَامِهِ فِي ذِمَّتِهِ
وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى دَرَاهِمَ وَضَمِنَهَا ، ثُمَّ قَالَ : لَا أُؤَدِّيهَا أَجْبَرْتُهُ عَلَى أَنْ يُؤَدِّيَهَا إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ بِالضَّمَانِ وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ وَشَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يُؤَدِّيَ الْمَالَ وَالْوَفَاءُ بِالشَّرْطِ لَازِمٌ خُصُوصًا إذَا كَانَ الشَّرْطُ فِي عَقْدٍ لَازِمٍ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ضَمِنَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ وَلَكِنَّ الصُّلْحَ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ فَإِنْ قَبِلَ لَزِمَهُ الْمَالُ ، وَإِنْ رَدَّ فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ
وَلَوْ ادَّعَى فِي دَارِ رَجُلٍ حَقًّا فَصَالَحَهُ عَلَى دَرَاهِمَ وَدَفَعَهَا إلَيْهِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ الدَّارُ مِنْ يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِدَرَاهِمِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الصُّلْحَ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي وَفِي زَعْمِهِ أَنَّهُ أَخَذَ الدَّرَاهِمَ عِوَضًا عَنْ الدَّارِ فَإِذَا اُسْتُحِقَّتْ كَانَ عَلَيْهِ رَدُّ الْمَقْبُوضِ مِنْ الْبَدَلِ كَالْمَبِيعِ إذَا اُسْتُحِقَّ ، وَإِنْ جَعَلْنَاهُ مَبْنِيًّا عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَفِي زَعْمِهِ أَنَّهُ أَعْطَى الْمَالَ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَأَنَّ لَهُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَ عَنْهُ غَيْرَهُ وَضَمِنَ الْمَالَ رَجَعَ الْمُصَالِحُ بِدَرَاهِمِهِ ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الِاسْتِحْقَاقِ ثُبُوتُ حَقِّ الرُّجُوعِ بِسَبَبِ أَدَاءِ الْمَالِ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ لِمَنْ أَدَّى وَلَوْ اُسْتُحِقَّ نِصْفُهَا أَوْ ثَبَتَ مَعْلُومٌ فِيهَا أَوْ جَمِيعهَا إلَّا مَوْضِعَ ذِرَاعٍ لَمْ يَكُنْ لِلْمُصَالَحِ أَنْ يَرْجِعَ بِشَيْءٍ مِنْ الدَّرَاهِمِ ؛ لِأَنِّي لَا أَدْرِي لَعَلَّ دَعْوَاهُ فِيمَا بَقِيَ دُونَ مَا اسْتَحَقَّ وَهَذَا الصُّلْحُ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي وَهُوَ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَقُولَ إنَّمَا كَانَ حَقِّي مَا بَقِيَ وَقَدْ صَالَحْتُكَ عَنْهُ فَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ بِشَيْءٍ مِنْ الدَّرَاهِمِ بِخِلَافِ مَا إذَا اُسْتُحِقَّ جَمِيعُ الدَّارِ
وَإِنْ ادَّعَى فِي بَيْتٍ فِي يَدَيْ رَجُلٍ دَعْوَى فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَبِيتَ عَلَى سَطْحِهِ سَنَةً فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِ الْمُدَّعِي أَنَّهُ يَسْتَوْفِي مِلْكَ الْمَنْفَعَةِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الْأَصْلِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا إذَا صَالَحَهُ عَلَى أَنْ يَبِيتَ آخَرُ بِعَيْنِهِ سَنَةً وَالْجَوَابُ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَيْضًا لِمَا اسْتَشْهَدَ بِهِ فَقَالَ : .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ جَازَ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَا يُسْتَحَقُّ مِنْ الْمَنْفَعَةِ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهُ بِعَقْدِ الصُّلْحِ قَالَ الْحَاكِمُ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَدْ تَأَوَّلَهُ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ عَلَى السَّطْحِ الْمُحْجَرِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَهُوَ مَوْضِعُ السُّكْنَى عَادَةً فَيَجُوزُ اسْتِئْجَارُهُ لِمَنْفَعَةِ السُّكْنَى قَالَ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّهُ يَجُوزُ عَلَى كُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّ السَّطْحَ مَسْكَنٌ كَالْأَرْضِ وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا مَعْلُومَةً مِنْ الْأَرْضِ لِيَنْزِلَ فِيهِ مُدَّةً مَعْلُومَةً جَازَ فَكَذَلِكَ السَّطْحُ وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ السُّكْنَى عَلَيْهِ بِنَصْبِ خَيْمَةٍ فِيهِ أَوْ نَحْوِهَا
وَلَوْ ادَّعَى نِصْفَ الدَّارِ وَأَقَرَّ بِأَنَّ نِصْفَهَا لِذِي الْيَدِ فَصَالَحَهُ ذُو الْيَدِ عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ وَدَفَعَهَا إلَيْهِ ، ثُمَّ اسْتَحَقَّ نِصْفَ الدَّارِ رَجَعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الدَّرَاهِمِ ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِ الْمُدَّعِي أَنَّ الدَّارَ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ نِصْفَيْنِ وَالْمُسْتَحَقُّ نِصْفٌ شَائِعٌ فَيَكُونُ مِنْ النَّصِيبَيْنِ وَبِهِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ اسْتَحَقَّ نِصْفَ مَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ فَيَرْجِعُ بِنِصْفِ الدَّرَاهِمِ لَوْ كَانَ الْمُدَّعِي لَمْ يُقِرَّ لِذِي الْيَدِ بِحَقٍّ فِيهَا أَوْ قَالَ : نِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِفُلَانٍ وَقَالَ الْمُدَّعِي كَذَبْتَ بَلْ نِصْفُهَا لِي وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لَا أَدْرِي لِمَنْ هُوَ أَوْ قَالَ : كُلُّهَا لِي وَنِصْفُهَا لِفُلَانٍ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ الدَّرَاهِمِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَحِقَّ شَيْئًا وَقَعَ الصُّلْحِ عَنْهُ بِزَعْمِ الْمُدَّعِي فَهُوَ يَقُولُ : إنَّمَا صَالَحْتُ عَنْ النِّصْفِ الَّذِي بَقِيَ فِي يَدِكَ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي
وَإِذَا كَانَتْ الدَّارُ وَدِيعَةً فِي يَدِ الْمُدَّعِي فَصَالَحَ الْمُدَّعِي مَنْ دَعْوَاهُ فِيهَا عَلَى شَيْءٍ لَمْ يَرْجِعْ بِهِ عَلَى الْمُودَعِ ؛ لِأَنَّهُ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فِي الْتِزَامِ الْمَالِ بِالصُّلْحِ فَقَدْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَنْ يُثْبِتَ بِالْبَيِّنَةِ أَنَّهُ مُودِعٌ فِيهَا لِتَنْدَفِعَ الْخُصُومَةُ عَنْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ بِذَلِكَ فَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ عَامِلٌ لَهُ بِأَمْرِهِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْعُهْدَةِ
وَإِذَا صَالَحَ الرَّجُلُ مِنْ دَعْوَاهُ فِي دَارٍ لَمْ يُعَايِنْهَا الشُّهُودُ وَلَا عَرَفُوا الْحُدُودَ أَوْ صَالَحَهُ مَنْ دَعْوَاهُ فِي دَارٍ بِغَيْرِ عَيْنِهَا ، ثُمَّ خَاصَمَهُ فِي دَارٍ وَزَعَمَ أَنَّهَا غَيْرُ الَّتِي صَالَحَهُ عَنْهَا وَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ هِيَ تِلْكَ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا الصُّلْحَ وَعَادَا فِي الدَّعْوَى ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَقْدٌ مُحْتَمِلٌ لِلْفَسْخِ بِالْإِقَالَةِ ، فَإِذَا اخْتَلَفَا فِي عَيْنِ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَقْدُ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا كَالْمُتَبَايِعِينَ إذَا اخْتَلَفَا فِي عَيْنِ الْمَبِيعِ
وَلَوْ أَنَّ دَارًا فِي يَدَيْ وَرَثَةٍ ادَّعَى رَجُلٌ فِيهَا حَقًّا وَبَعْضُهُمْ غَائِبٌ فَصَالَحَ الشَّاهِدُ مِنْهُمْ الْمُدَّعِيَ عَلَى شَيْءٍ مُسَمًّى مِنْ جَمِيعِ حَقِّهِ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ فِي حِصَّةِ شُرَكَائِهِ مُتَبَرِّعٌ بِالصُّلْحِ وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ صُلْحَ الْمُتَبَرِّعِ جَائِزٌ إذَا الْتَزَمَ الْعِوَضَ وَالدَّارُ الْمَوْرُوثَةُ عَلَى حَالِهَا ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ مُسْقِطٌ لِحَقِّهِ بِمَا يَأْخُذُ مِنْ الْعِوَضِ غَيْرُ مُتَمَلِّكٍ شَيْئًا مِمَّنْ يَأْخُذُ مِنْهُ الْعِوَضَ فَلَا يَرْجِعُ هَذَا الصُّلْحُ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَأْمُرُوهُ بِدَفْعِ شَيْءٍ وَلَوْ كَانَ صَالَحَ عَلَى أَنْ يَكُونَ حَقُّهُ لَهُ خَاصَّةً دُونَ الْوَرَثَةِ فَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يَمْلِكُ مَا يَدَّعِيهِ لِنَفْسِهِ مِنْ الَّذِي يُصَالِحُهُ بِمَا يُسْتَوْفَى مِنْ الْعِوَضِ وَالصُّلْحُ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِهِ فَيَجُوزُ ثُمَّ يَقُومُ هَذَا الْمُصَالِحُ مَقَامَ الْمُدَّعِي فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ شُرَكَائِهِ عَلَى حُجَّةِ الْمُدَّعِي فَإِنْ أَثْبَتَ لَهُ مِلْكَ شَيْءٍ مَعْلُومٍ بِالْحُجَّةِ ثَبَتَ مِلْكُهُ فِي ذَلِكَ بِالشِّرَاءِ وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُدَّعِي بِحِصَّةِ شُرَكَائِهِ الَّتِي لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ عَاجِزٌ عَنْ تَسْلِيمِ ذَلِكَ إلَيْهِ وَالصُّلْحُ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِهِ فَيَتَحَقَّقُ عَجْزُهُ عَنْ التَّسْلِيمِ فِي ذَلِكَ الْقَدْرِ فَيَبْطُلُ الصُّلْحُ فِيهِ وَيَرْجِعُ بِمَا يُقَابِلُهُ مِنْ الْبَدَلِ
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ رَجُلًا لَوْ ادَّعَى دَارًا فِي يَدَيْ رَجُلٍ فَصَالَحَهُ رَجُلٌ مِنْهَا عَلَى عَبْدٍ عَلَى أَنْ تَكُونَ الدَّارُ لَهُ ، ثُمَّ خَاصَمَهُ الَّذِي فِي يَدَيْهِ الدَّارُ فَلَمْ يَظْفَرْ بِشَيْءٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْمُدَّعِي بِالْعَبْدِ أَوْ بِقِيمَتِهِ إنْ كَانَ هَلَكَ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ يَنْفَسِخُ بَيْنَهُمَا لِتَعَذُّرِ تَسْلِيمِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِزَعْمِهِمَا
وَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ ادَّعَيَا دَارًا فِي يَدَيْ رَجُلٍ وَقَالَا وَرِثْنَاهَا عَنْ أَبِينَا وَجَحَدَهُمَا الرَّجُلُ ، ثُمَّ صَالَحَ أَحَدَهُمَا عَنْ حِصَّتِهِ مِنْ هَذِهِ الدَّعْوَى عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ فَأَرَادَ شَرِيكُهُ أَنْ يُشْرِكَهُ فِي هَذِهِ الْمِائَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لَوْ كَانَ ظَاهِرًا لَهُمَا فِي الدَّارِ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي ثَمَنِهِ فَكَذَلِكَ إذَا صَالَحَ أَحَدَهُمَا مِنْ نَصِيبِهِ مَعَ إنْكَارِ ذِي الْيَدِ وَلَيْسَ لِلْآخَرِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ الدَّارِ شَيْئًا إلَّا أَنْ يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ ؛ لِأَنَّ ذَا الْيَدِ بِقَبُولِهِ الصُّلْحَ مَعَ الْإِنْكَارِ لَا يَصِيرُ مُقِرًّا بِحَقِّ الْمُصَالِحِ فِيمَا صَالَحَهُ عَنْهُ فَكَيْف يَصِيرُ مُقِرًّا بِحَقِّ غَيْرِهِ فِيمَا لَمْ يَقَعْ الصُّلْحُ عَنْهُ وَذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي نَوَادِرِهِ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : يُشَارِكُهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يُشَارِكُهُ وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْمُصَالِحَ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَأْخُذُ بِجِهَةِ الْمِيرَاثِ عَنْ أَبِيهِ وَلِهَذَا كَانَ مَصْرُوفًا إلَى دَيْنِ الْأَبِ لَوْ ظَهَرَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَا يَخْتَصُّ أَحَدُ الِابْنَيْنِ بِشَيْءٍ مِنْ مِيرَاثِ الْأَبِ فَلِلْآخَرِ حَقُّ الْمُشَارَكَةِ مَعَهُ فِي الْمَقْبُوضِ بِاعْتِبَارِ زَعْمِهِ وَلَوْ صَالَحَ أَحَدُهُمَا مِنْ جَمِيعِ دَعْوَاهُمَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ وَضَمِنَ لَهُ تَسْلِيمَ أَخِيهِ فَإِنْ سَلَّمَ الْأَخُ ذَلِكَ لَهُ جَازَ وَأَخَذَ نِصْفَ الْمِائَةِ ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ فِي نَصِيبِ أَخِيهِ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ فَإِذَا أَجَازَهُ جَازَ وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا بَاشَرَا الصُّلْحَ فَالْبَدَلُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ فَهُوَ عَلَى دَعْوَاهُ وَرَدَّ الْمُصَالِحُ عَلَى الَّذِي فِي يَدَيْهِ الدَّارُ نِصْفَ الْمِائَةِ ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ قَدْ بَطَلَ فِي نَصِيبِ أَخِيهِ بِرَدِّهِ
وَلَوْ ادَّعَى دَارًا فِي يَدَيْ رَجُلٍ فَقَالَ : هِيَ لِي وَلِإِخْوَتِي فَأَقَرَّ ذُو الْيَدِ بِذَلِكَ ، ثُمَّ اشْتَرَى مِنْهُ نَصِيبَهُ لَمْ يَكُنْ لِإِخْوَتِهِ أَنْ يُشَارِكُوهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَأْخُذُ الْعِوَضَ عَنْ نَصِيبِهِ خَاصَّةً وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الصُّلْحِ فَيَقُولُ : هُنَا بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ يَتَمَكَّنُونَ مِنْ أَخْذِ نَصِيبِهِمْ مِنْ الْمِيرَاثِ أَوْ أَخْذِ الْعِوَضِ عَنْهُ بِالْبَيْعِ فَالْقَوْلُ بِقَطْعِ الشَّرِكَةِ لَا يُؤَدِّي إلَى تَخْصِيصِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ فِي بَدَلِ شَيْءٍ مِنْ الْمِيرَاثِ بِخِلَافِ الصُّلْحِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا
وَلَوْ ادَّعَى دَارًا فِي يَدَيْ رَجُلٍ فَاصْطَلَحَا فِيهَا عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا ذُو الْيَدِ سَنَةً ، ثُمَّ يَدْفَعَهَا إلَى الْمُدَّعِي فَهَذَا جَائِزٌ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ اصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَسْكُنَهَا الْمُدَّعِي سَنَةً وَلَمْ يُسَلِّمْهَا لِذِي الْيَدِ وَهَذَا فِي جَانِبِ الْمُدَّعِي ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ رَقَبَتَهَا وَمَنْفَعَتَهَا لَهُ فَهُوَ بِهَذَا الصُّلْحِ يُبْطِلُ مِلْكَهُ عَنْ رَقَبَتِهَا وَيَبْقَى مِلْكُهُ فِي مِقْدَارِ مَا شَرَطَ لِنَفْسِهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ فَإِنَّمَا يَسْتَوْفِي ذَلِكَ بِحُكْمِ مِلْكِهِ وَذَلِكَ جَائِزٌ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ يَسْتَوْفِيهَا بِحُكْمِ عَقْدِ الصُّلْحِ كَمَا لَوْ صَالَحَهُ عَلَى سُكْنَى دَارٍ أُخْرَى سَنَةً وَأَمَّا فِي جَانِبِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَفِيهِ بَعْضُ إشْكَالٍ ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ رَقَبَتَهَا وَمَنْفَعَتَهَا لَهُ وَأَنَّهُ يَمْلِكُهَا مِنْ الْمُدَّعِي بَعْدَ سَنَةٍ وَالتَّمْلِيكُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ بِالشَّرْطِ وَلَا الْإِضَافَةِ وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا الصُّلْحُ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي وَفِي زَعْمِهِ أَنَّهُ يُعِيرُهَا مِنْ ذِي الْيَدِ سَنَةً ، ثُمَّ يَأْخُذُهَا مِنْهُ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يُجْعَلُ مُمَلَّكًا رَقَبَتَهَا مِنْهُ فِي الْحَالِ مُبْقِيًا مَنْفَعَتَهَا سَنَةً عَلَى مِلْكِهِ وَهُوَ إنَّمَا يَسْتَوْفِي بِحُكْمِ مِلْكِهِ وَذَلِكَ جَائِزٌ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مَنْ أَوْصَى لِغَيْرِهِ بِسُكْنَى دَارِهِ سَنَةً ، ثُمَّ مَاتَ صَارَتْ الدَّارُ لِوَرَثَتِهِ وَبَقِيَتْ السُّكْنَى عَلَى حُكْمِ مِلْكِ الْمُوصِي يَسْتَوْفِيهَا الْمُوصَى لَهُ بِإِخْلَائِهَا لَهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ الدَّارَ الْمُؤَجَّرَةَ وَالْمُشْتَرِي يَعْلَمُ بِالْإِجَارَةِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ رَقَبَتَهَا وَتَبْقَى مَنْفَعَتُهَا عَلَى حَقِّ الْبَائِعِ حَتَّى يَمْتَلِكَهَا الْمُسْتَأْجِرُ عَلَيْهِ بِالِاسْتِيفَاءِ وَيَكُونُ الْأَجْرُ لِلْبَائِعِ فَهَذَا مِثْلُهُ ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُدَّعِي فِيهَا شُرَكَاءُ لَمْ يَجُزْ صُلْحُهُ عَلَيْهِمْ وَهُمْ عَلَى حُجَّتِهِمْ فِي إثْبَاتِ أَنْصِبَائِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى شُرَكَاءِ الْمُدَّعِي لِتَمَلُّكِ
أَنْصِبَائِهِمْ مِنْهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ هَذَا الصُّلْحُ فِي أَرْضِهِ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا ذُو الْيَدِ خَمْسَ سِنِينَ عَلَى أَنَّ رَقَبَتَهَا لِلْمُدَّعِي فَهُوَ جَائِزٌ لِمَا قُلْنَا .
وَلَوْ اشْتَرَى دَارًا فَاِتَّخَذَهَا مَسْجِدًا ، ثُمَّ ادَّعَى رَجُلٌ فِيهَا دَعْوَى فَصَالَحَهُ الَّذِي بَنَى الْمَسْجِدَ وَاَلَّذِينَ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ الْمَسْجِدُ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِهَذَا الصُّلْحِ وَلَوْ صَالَحَهُ مَنْ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ كَالْفُضُولِيِّ وَالْتَزَمَ الْمَالَ كَانَ الصُّلْحُ جَائِزًا فَإِذَا صَالَحَهُ مَنْ يَنْتَفِعُ بِهِ كَانَ إلَى الْجَوَازِ أَقْرَبُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَ الدَّارَ أَوْ وَهَبَهَا لِابْنٍ صَغِيرٍ أَوْ جَعَلَهَا مَقْبَرَةً أَوْ غَيَّرَهَا عَنْ حَالِهَا ، ثُمَّ صَالَحَ عَنْهَا الْمُدَّعِيَ فَهُوَ فِيمَا يَلْتَزِمُ مِنْ الْمَالِ بِالصُّلْحِ لَا يَكُونُ دُونَ فُضُولِيٍّ فَيَجُوزُ ذَلِكَ مِنْهُ وَإِذَا أَنْكَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ دَعْوَى الْمُدَّعِي بَعْدَ الْإِقْرَارِ ثُمَّ صَالَحَهُ جَازَ الصُّلْحُ ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِإِنْكَارِهِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ فَهَذَا صُلْحٌ عَلَى الْإِقْرَارِ وَهُوَ جَائِزٌ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ أَنْكَرَ فِي الِابْتِدَاءِ وَصَالَحَ ، ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ كَانَ مُحِقًّا فِي دَعْوَاهُ فَالصُّلْحُ مَاضٍ وَهُوَ آثِمٌ بِالْجُحُودِ لِكَوْنِهِ كَاذِبًا فِيهِ ظَالِمًا وَلَكِنْ الصُّلْحُ مِنْ الْمُدَّعِي إسْقَاطٌ لِحَقِّهِ بِعِوَضٍ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ جُحُودَ الْخَصْمِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِسْقَاطِ مِنْ الْمُسْقِطِ بِغَيْرِ عِوَضٍ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الطَّالِبَ لَوْ أَبْرَأَ الْمَدْيُونَ وَهُوَ جَاحِدٌ لِلدَّيْنِ كَانَ إبْرَاؤُهُ صَحِيحًا فَكَذَلِكَ جُحُودُهُ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِسْقَاطِ بِعِوَضٍ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْإِسْقَاطَ تَصَرُّفٌ مِنْ الْمُسْقِطِ فِي حَقِّهِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ إنْكَارَ الْمَرْأَةِ لِلنِّكَاحِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الطَّلَاقِ مِنْ الزَّوْجِ بِعِوَضٍ كَانَ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، وَكَذَلِكَ إنْكَارُ الْقَاتِلِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَفْوِ مِنْ الْوَلِيِّ لِهَذَا الْمَعْنَى
وَلَوْ ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى خِدْمَةِ عَبْدٍ سَنَةً ، ثُمَّ أَعْتَقَهُ صَاحِبُهُ جَازَ عِتْقُهُ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ ، وَإِنْ صَارَتْ خِدْمَتُهُ لِلْمُدَّعِي وَإِعْتَاقُهُ فِي مِلْكِ نَصِيبِهِ نَافِذٌ كَالْوَارِثِ إذَا أَعْتَقَ الْعَبْدَ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ نَفَذَ وَكَانَ صَاحِبُ الْخِدْمَةِ عَلَى حَقِّهِ ؛ لِأَنَّ خِدْمَتَهُ صَارَتْ مُسْتَحَقَّةً لَهُ بِعَقْدٍ لَازِمٍ وَالْعِتْقُ لَا يُنَافِي بَقَاءَهَا وَلَوْ أَعْتَقَهُ الْمُدَّعِي لَمْ يَنْفُذْ عِتْقُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِلْخِدْمَةِ وَنُفُوذُ الْعِتْقِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ الرَّقَبَةِ وَهُوَ مِنْ رَقَبَتِهِ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ فَلَا يَنْفُذُ عِتْقُهُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا عِتْقَ فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابْنُ آدَمَ } وَلَوْ أَنَّ رَبَّ الْعَبْدِ بَاعَهُ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ تَسْلِيمِهِ فَلَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ فِيهِ لِحَقِّ صَاحِبِ الْخِدْمَةِ كَالْآجِرِ إذَا بَاعَ الْعَبْدَ الْمُؤَجَّرَ أَوْ الْوَارِثِ إذَا بَاعَ الْعَبْدَ الْمُوصَى بِخِدْمَتِهِ أَوْ الرَّاهِنِ إذَا بَاعَ الْمَرْهُونَ وَلِصَاحِبِ الْخِدْمَةِ أَنْ يُؤَجِّرَهُ لِلْخِدْمَةِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ مَلَكَ خِدْمَتَهُ بِعَقْدِ مُعَاوَضَةٍ فَهُوَ كَالْمُسْتَأْجِرِ يَمْلِكُ أَنْ يُؤَاجِرَ قَالَ : وَلَهُ أَنْ يَخْرُجَ بِالْعَبْدِ مِنْ الْمِصْرِ إلَى أَهْلِهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ أَنَّ مَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا لِيَخْدُمَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ ( قَالَ : رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ) وَكَانَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ تَأْوِيلُ مَا قَالَ فِي كِتَابِ الصُّلْحِ أَنَّ أَهْلَ الْمُدَّعِي إذَا كَانُوا فِي بَعْضِ الْقُرَى الْقَرِيبَةِ مِنْ الْمِصْرِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَعْلَمُ ذَلِكَ أَوْ كَانَ هُوَ عَلَى جَنَاحِ السَّفَرِ وَالرُّجُوعِ إلَى أَهْلِهِ وَقَدْ عَلِمَ ذَلِكَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ هُوَ رَاضِيًا بِإِخْرَاجِهِ الْعَبْدَ إلَى أَهْلِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إنَّمَا يَسْتَخْدِمُ الْعَبْدَ فِي أَهْلِهِ وَتَأْوِيلُ مَا قَالَ فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ
مَعْلُومًا لِلْآجِرِ عِنْدَ عَقْدِ الْإِجَارَةِ فَلَا يَكُونُ رَاضِيًا بِإِخْرَاجِ الْعَبْدِ وَتَكْلِيفِهِ خِدْمَةَ السَّفَرِ ؛ لِأَنَّ الْخِدْمَةَ فِي السَّفَرِ أَشَقُّ مِنْهَا فِي الْحَضَرِ ( قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَاَلَّذِي يَتَرَاءَى لِي مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ أَنَّ فِي بَابِ الْإِجَارَةِ مُؤْنَةُ الرَّدِّ عَلَى الْآجِرِ بَعْدَ انْتِهَاءِ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ فِي النَّقْلِ كَانَتْ لَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُقِرُّ حَقَّهُ فِي الْأَجْرِ وَالْمُسْتَأْجِرُ إذَا سَافَرَ بِالْعَبْدِ فَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يُلْزِمَ الْمُؤَاجِرَ مَا لَمْ يَلْزَمْهُ مِنْ مُؤْنَةِ الرَّدِّ فَأَمَّا هُنَا فَمُؤْنَةُ الرَّدِّ لَيْسَتْ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ زَعَمَ أَنَّهُ يَمْلِكُ الْخِدْمَةَ بِغَيْرِ شَيْءٍ فَهُوَ كَالْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ فَإِنَّ مُؤْنَةَ الرَّدِّ عَلَيْهِ دُونَ الْوَارِثِ فَالْمُدَّعِي هُنَا بِإِخْرَاجِهِ إلَى أَهْلِهِ يَلْتَزِمُ مُؤْنَةَ الرَّدِّ لَا أَنْ يَلْزَمَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ شَيْئًا فَلِهَذَا كَانَ يُخْرِجُهُ
وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ فِي حَائِطِ رَجُلٍ مَوْضِعَ جُذُوعٍ أَوْ ادَّعَى فِي دَارِهِ طَرِيقًا أَوْ مَسِيلَ مَاءٍ فَجَحَدَهُ ، ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى دَرَاهِمَ مَعْلُومَةٍ جَازَ ؛ لِأَنَّ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ وَجَهَالَةُ الْمُصَالِحِ عَنْهُ لَا تَمْنَعُ صِحَّةَ الصُّلْحِ فَإِنَّ تَسَلَّمْهُ بِالصُّلْحِ لَا يَصِيرُ مُسْتَحِقًّا
وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ حَقًّا فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقٍ فِي دَارِهِ أَوْ عَلَى مَسِيلِ مَاءٍ أَوْ عَلَى أَنْ يَضَعَ عَلَى الْحَائِطِ مِنْ دَارِهِ جِذْعًا فَالصُّلْحُ عَلَى الطَّرِيقِ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ عَيْنًا فَهُوَ كَالْمَبِيعِ وَبَيْعُ الطَّرِيقِ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مِمَّا لَا يَقَعُ فِيهِ مُنَازَعَةٌ يَجُوزُ وَبَيْعُ الْمَسِيلِ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ فَإِنْ كَانَ مَسِيلُ مَاءِ الْمِيزَابِ فَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِقِلَّةِ الْمَطَرِ وَكَثْرَتِهِ وَالضَّرَرُ بِحَسَبِهِ يَخْتَلِفُ ، وَإِنْ كَانَ مَسِيلُ مَاءِ الْوُضُوءِ فَذَلِكَ يَخْتَلِفُ أَيْضًا بِقِلَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَكَثْرَتِهَا فَكَذَلِكَ بَيْعُ مَوْضِعِ الْجِذْعِ مِنْ الْحَائِطِ لَا يَجُوزُ لِلْجَهَالَةِ فَاسْتِئْجَارُ الْحَائِطِ لِوَضْعِ الْجِذْعِ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ أَيْضًا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مَنْ لَا يُسْتَحَقُّ بِالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فَالصُّلْحُ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ
وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى شِرْبِ نَهْرٍ شَهْرًا لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ بَيْعَ الشِّرْبِ بِدُونِ الْأَرْضِ جَائِزٌ فَكَذَلِكَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ يَخْتَلِفُ بِقِلَّةِ الْمَاءِ وَكَثْرَتِهِ وَجَرَيَانُ أَصْلِ الْمَاءِ فِي النَّهْرِ عَلَى خَطَرٍ وَمِقْدَارُهُ غَيْرُ مَعْلُومٍ وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى أَنْ يَسِيلَ مَاءٌ فِيهَا لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ ذَلِكَ لَا يُسْتَحَقُّ بِالْإِجَارَةِ فَكَذَلِكَ لَا يُسْتَحَقُّ بِالصُّلْحِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَهُ عَلَى عُشْرِ نَهْرٍ بِأَرْضِهِ أَوْ عَلَى عُشْرِ بِئْرٍ أَوْ عَيْنٍ فَالْمُصَالَحُ عَلَيْهِ هُنَا جُزْءٌ مَعْلُومٌ رُقْبَةُ النَّهْرِ وَاسْتِحْقَاقُهُ بِالْبَيْعِ جَائِزٌ فَكَذَلِكَ بِالصُّلْحِ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى عُشْرَ نَهْرٍ أَوْ بِئْرٍ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى مَالٍ مَعْلُومٍ فَهَذَا إلَى الْجَوَازِ أَقْرَبُ
وَلَوْ ادَّعَى فِي دَارٍ فِي يَدِ رَجُلٍ دَعْوَى فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى عَبْدٍ وَمِائَةِ دِرْهَمٍ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ مِائَةُ دِرْهَمٍ ثُمَّ اُسْتُحِقَّ الْعَبْدُ رَجَعَ فِي نِصْفِ دَعْوَاهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَحَقَّ جَمِيعَ مَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ بَطَلَ الصُّلْحُ فِي الْكُلِّ وَعَادَ عَلَى رَأْسِ الدَّعْوَى فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَحَقَّ نِصْفَ مَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ الدَّارُ أَخَذَ مِنْ الْمُدَّعِي ثَوْبًا رَجَعَ الْمُدَّعِي فِي نِصْفِ الدَّعْوَى وَنِصْفِ الثَّوْبِ ؛ لِأَنَّ مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعِي شَيْئَيْنِ الْمُدَّعَى وَهُوَ مَجْهُولٌ وَالثَّوْبُ وَهُوَ مَعْلُومٌ وَالْمَعْلُومُ إذَا ضُمَّ إلَى الْمَجْهُولِ فَلَا طَرِيقَ إلَى الِانْقِسَامِ سِوَى الْمُنَاصَفَةِ وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَدَلُ الْمِائَةِ وَالْعَبْدِ فَكَانَ بِإِزَاءِ الْعَبْدِ نِصْفَ الثَّوْبِ ؛ وَنِصْفُ الْمُدَّعَى بِإِزَاءِ الْمِائَةِ فَكَذَلِكَ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْعَبْدِ يَرْجِعُ الْمُدَّعِي بِمَا يُقَابِلُهُ وَهُوَ نِصْفُ الدَّعْوَى وَنِصْفُ الثَّوْبِ وَلَوْ كَانَ اسْتَحَقَّ الثَّوْبَ رَجَعَ الَّذِي فِي يَدَيْهِ الدَّارُ بِحِصَّةِ الثَّوْبِ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَالدَّرَاهِمِ ، ثُمَّ يُنْظَرُ كَمْ ادَّعَى مِنْ الدَّارِ فَيَعُودُ ذَلِكَ إنْ كَانَ مَعْلُومًا وَيُقَوَّمُ الثَّوْبُ فَإِنْ كَانَتْ قِيمَتُهُمَا سَوَاءً رَجَعَ بِنِصْفِ الْعَبْدِ وَنِصْفِ الْمِائَةِ ؛ لِأَنَّ الثَّوْبَ وَالْمُدَّعَى مِنْ جَانِبِ الْمُدَّعِي فَيَتَوَزَّعُ عَلَيْهِمَا الْمِائَةُ وَالْعَبْدُ فَإِذَا اسْتَوْفَى الْقِيمَةَ كَانَ بِمُقَابَلَةِ الثَّوْبِ وَنِصْفِ الْمِائَةِ وَقَدْ اسْتَحَقَّ الثَّوْبَ فَيَرْجِعُ بِمَا يُقَابِلُهُ ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي قَدْرِ الْحَقِّ فِي الدَّارِ فَقَالَ الطَّالِبُ كَانَ لِي نِصْفُ الدَّارِ وَقَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَلْ كَانَ لَكَ عُشْرُهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي الدَّارُ فِي يَدَيْهِ مَعَ يَمِينِهِ لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ وَأَصْلَ الْمُدَّعَى وَهُوَ الدَّارُ وَالصُّلْحُ كَانَ بِاعْتِبَارِهِ فَإِذَا وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى مَعْرِفَةِ مِقْدَارِهِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُنْكِرِ مَعَ الزِّيَادَةِ ( أَلَا تَرَى )
أَنَّهُ لَوْ بَاعَ مِنْ رَجُلٍ طَعَامًا بِمِائَةِ دِرْهَمٍ وَدَفَعَهَا وَقَبَضَ الطَّعَامَ ثُمَّ وَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَرَدَّهُ فَقَالَ الْبَائِعُ كَانَ طَعَامِي الَّذِي بِعْتُكَ كُرَّ حِنْطَةٍ وَقَالَ الرَّجُلُ كَانَ نِصْفَ كُرٍّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُشْتَرِي مَعَ يَمِينِهِ وَمَعْنَى هَذَا الِاسْتِشْهَادِ أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي وَفِي زَعْمِهِ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ اشْتَرَى مِنْهُ نَصِيبَهُ مِنْ الدَّارِ بِمَا أَعْطَاهُ مِنْ بَدَلِ الصُّلْحِ فَإِذَا وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي مِقْدَارِ الْمُشْتَرِي جُعِلَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمُشْتَرِي كَمَا فِي مَسْأَلَةِ الطَّعَامِ
وَكَذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى شِقْصًا فِي دَارٍ بِعَبْدٍ فَاسْتُحِقَّ الْعَبْدُ فَقَالَ الَّذِي قَبَضَ الشِّقْصَ كَانَ الْمَبِيعُ ثُلُثَ الدَّارِ وَكَانَ لِلْآجِرِ نِصْفُ الدَّارِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الَّذِي فِي يَدَيْهِ الدَّارُ ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ بَيْنَهُمَا فِي مِقْدَارِ الْمُشْتَرِي فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ قَابِضٌ لِلْمُشْتَرَى بِالْعَقْدِ وَمَتَى وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي مِقْدَارِ الْمَقْبُوضِ يُجْعَلُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْقَابِضِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ الْقَبْضَ أَصْلًا كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَذَلِكَ إذَا أَنْكَرَ قَبْضَ الزِّيَادَةِ
وَلَوْ كَانَتْ دَارٌ فِي أَيْدِي ثَلَاثَةِ نَفَرٍ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَنْزِلٌ مِنْهَا وَسَاحَتُهَا عَلَى حَالِهَا وَاخْتَصَمُوا فِيهَا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا فِي يَدِهِ وَالسَّاحَةُ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا ؛ لِأَنَّ مَا فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ الظَّاهِرُ يَشْهَدُ لَهُ وَالْبِنَاءُ عَلَى الظَّاهِرِ وَاجِبٌ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ خِلَافُهُ وَحَقُّهُمْ فِي السَّاحَةِ عَلَى السَّوَاءِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مُسْتَعْمِلٌ لِلسَّاحَةِ فِي حَوَائِجِهِ وَلِلِاسْتِعْمَالِ يَدٌ فَلِهَذَا قُضِيَ بِالسَّاحَةِ بَيْنَهُمْ أَثْلَاثًا فَإِنْ اصْطَلَحُوا قَبْلَ أَنْ يُقْضَى بَيْنَهُمْ عَلَى أَنَّ لِفُلَانٍ نِصْفَ السَّاحَةِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الْآخَرِينَ رُبْعُهَا فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ صُلْحٌ عَنْ تَرَاضٍ فِيمَا لَا يَتَمَكَّنُ فِيهِ مَعْنَى الرِّبَا فَيَجُوزُ كَيْفَمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ اشْتَرَطَ أَحَدُهُمْ لِنَفْسِهِ نِصْفَ الْمَنْزِلِ الَّذِي فِي يَدِ صَاحِبِهِ جَازَ ؛ لِأَنَّ ذَا الْيَدِ يَصِيرُ مُمَلَّكًا نِصْفَ مَنْزِلِهِ مِنْهُ بِعِوَضٍ مَعْلُومٍ وَذَلِكَ صَحِيحٌ قَلَّ الْعِوَضُ أَوْ كَثُرَ
وَلَوْ كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِ رَجُلٍ مِنْهَا مَنْزِلٌ وَفِي يَدِ آخَرَ مَنْزِلٌ وَقَالَ أَحَدُهُمَا الدَّارُ بَيْنِي وَبَيْنَكَ نِصْفَانِ وَقَالَ الْآخَرُ بَلْ هِيَ كُلُّهَا لِي فَلِلَّذِي ادَّعَى جَمِيعَهَا مَا فِي يَدِهِ وَنِصْفُ مَا فِي يَدِ صَاحِبِهِ وَالسَّاحَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهُ يَدَّعِي النِّصْفَ مِنْ جَمِيعِ الدَّارِ شَائِعًا فَيَكُونُ مُدَّعِيًا نِصْفَ كُلِّ جُزْءٍ بِعَيْنِهِ مِنْ الدَّارِ وَالْقَوْلُ لِلَّذِي فِي يَدِهِ جُزْءٌ مُعَيَّنٌ مِنْهَا فَهُوَ يَدَّعِي نِصْفَ ذَلِكَ وَلَا مُدَّعِيَ لِلنِّصْفِ الْآخَرِ سِوَى مَنْ يَدَّعِي جَمِيعَهَا وَلَا مُنَازِعَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَيَأْخُذُ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ وَالسَّاحَةُ كَذَلِكَ مَوْضِعٌ مُعَيَّنٌ مِنْهُمَا فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نِصْفُهُ شَائِعًا فَمُدَّعِي النِّصْفِ مُدَّعٍ جَمِيعَ مَا فِي يَدِهِ مِنْ السَّاحَةِ فَالْقَوْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ فَلِهَذَا كَانَتْ السَّاحَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَالْمَنْزِلُ الَّذِي فِي يَدِ مُدَّعِي الْجَمِيعِ صَاحِبُهُ يَدَّعِي نِصْفَهُ وَلَا يَسْتَحِقُّ مَا فِي يَد الْغَيْرِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى مَا لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ وَذُو الْيَدِ يَدَّعِي جَمِيعَ ذَلِكَ الْمَنْزِلِ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ جَمِيعُ مَا فِي يَدِهِ فَإِنْ اصْطَلَحُوا قَبْلَ الْقَضَاءِ عَلَى أَنْ تَكُونَ الدَّارُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ أَوْ عَلَى الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ لِوُقُوعِ الِاتِّفَاقِ وَالتَّرَاضِي عَلَى شَيْءٍ مَعْلُومٍ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اصْطَلَحُوا بَعْدَ الْقَضَاءِ فَهُوَ جَائِزٌ بِطَرِيقِ التَّمْلِيكِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ بَعْدَ مَا قُضِيَ لَهُ بِهِ بِعِوَضٍ
وَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا نَازِلًا فِي مَنْزِلٍ مِنْ الدَّارِ وَالْآخَرُ فِي عُلُوِّ ذَلِكَ الْمَنْزِلِ وَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جَمِيعَهَا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا فِي يَدِهِ وَالسَّاحَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ ؛ لِأَنَّ الْعُلْوَ مَسْكَنٌ عَلَى حِدَةٍ كَالسُّفْلِ فَهُمَا كَبَيْتَيْنِ مِنْ الدَّارِ أَحَدُهُمَا مُتَّصِلٌ بِالْآخَرِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْبَيْتَيْنِ وَالْمَنْزِلَيْنِ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا فِي يَدِهِ وَالسَّاحَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ لِثُبُوتِ يَدِهِمَا عَلَيْهَا بِالِاسْتِعْمَالِ وَلَا يُقَالُ السَّاحَةُ أَرْضٌ مِنْ جِنْسِ حَقِّ صَاحِبِ السُّفْلِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُوَ أَوْلَى بِهَا ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْيَد لَا تَكُونُ بِالْمُجَانَسَةِ بَلْ بِالِاسْتِعْمَالِ وَصَاحِبُ الْعُلْوِ مُسْتَعْمِلٌ لَهَا كَصَاحِبِ السُّفْلِ فَإِنْ اصْطَلَحَا قَبْلَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ عَلَى أَنَّ لِصَاحِبِ السُّفْلِ الْعُلْوَ وَنِصْفَ السَّاحَةِ وَلِصَاحِبِ الْعُلْوِ السُّفْلَ وَنِصْفَ السَّاحَةِ جَازَ لِوُجُودِ الْمُبَادَلَةِ بَيْنَهُمَا فِي الْعُلْوِ وَالسُّفْلِ بِالتَّرَاضِي وَالسَّاحَةُ بَيْنَهُمَا نِصْفَانِ كَمَا هُوَ قَضِيَّةُ الْحُكْمِ
وَإِذَا كَانَ الْحَائِطُ بَيْنَ دَارَيْ رَجُلَيْنِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي أَنَّهُ لَهُ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ جُذُوعٌ وَجُذُوعُ أَحَدِهِمَا أَكْثَرُ مِنْ جُذُوعِ الْآخَرِ كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يَزِيدَ فِي جُذُوعِهِ حَتَّى تَكُونَ جُذُوعُهُ مِثْلَ جُذُوعِ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّ يَدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثَابِتَةٌ عَلَى الْحَائِطِ وَأَنَّهُ مُسْتَعْمِلٌ لَهُ بِوَضْعِ حِمْلٍ مَقْصُودٍ عَلَيْهِ يَنْبَنِي الْحَائِطُ لِأَجْلِهِ فَإِنَّ الْحَائِطَ تُبْنَى لِوَضْعِ ثَلَاثَةِ جُذُوعٍ عَلَيْهِ كَمَا يُبْنَى لِوَضْعِ عَشَرَةٍ مِنْ الْجُذُوعِ عَلَيْهِ فَكَانَ الْحَائِطُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْيَدِ عَلَيْهِ وَلِأَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ أَنْ لَا يُسَوِّيَ نَفْسَهُ بِصَاحِبِهِ فِي الِانْتِفَاعِ بِالْمِلْكِ الْمُشْتَرَى وَلِلْمُسَاوَاةِ هُنَا طَرِيقَانِ إمَّا رَفْعُ فَضْلِ جُذُوعِ صَاحِبِهِ أَوْ بِأَنْ يَزِيدَ فِي جُذُوعِهِ وَالرَّفْعُ غَيْرُ مُمْكِنٍ بِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الظَّاهِرِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ حُجَّةٌ لِدَفْعِ الِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْغَيْرِ وَكَانَ لَهُ أَنْ يَزِيدَ فِي جُذُوعِهِ حَتَّى تَكُونَ جُذُوعُهُ مِثْلَ جُذُوعِ صَاحِبِهِ وَلَكِنْ هَذَا إذَا كَانَ الْحَائِطُ يَحْتَمِلُ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ لَا يَحْتَمِلُ فَالْوَضْعُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ هَدْمِ الْحَائِطِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَهْدِمَ الْحَائِطَ الْمُشْتَرَكَ وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ الْفُصُولِ وَمَا فِيهَا مِنْ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى وَالْإِقْرَارِ وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَبْنِيَ عَلَى هَذَا الْحَائِطِ وَيَفْتَحَ فِيهِ كُوَّةً وَجَمْعُهُ كُوًى وَلَا بَابًا ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْحَائِطِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَفَتْحُ الْبَابِ وَالْكُوَّةِ يَكُونُ رَفْعًا لِبَعْضِ الْحَائِطِ وَهُوَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَرْفَعَ جَمِيعَ الْحَائِطِ بِغَيْرِ رِضَا صَاحِبِهِ فَكَذَلِكَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ رَفْعِ الْبَعْضِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ فَتْحَ الْبَابِ وَالْكُوَّةِ يُوهِنُ الْبِنَاءَ وَيَظْهَرُ أَثَرُ ذَلِكَ فِي الثَّانِي إنْ كَانَ لَا يَظْهَرُ فِي الْحَالِّ وَلَا كَذَلِكَ بِنَاءُ الْحَائِطِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ فِيهِ وَضْعُ حِمْلٍ زَائِدٍ
عَلَى حَائِطٍ مُشْتَرَكٍ وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْحَائِطِ لَا مَحَالَةَ وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَبْنِيَ فِي حَائِطِ سَاحَةٍ مُشْتَرَكَةٍ لَمْ يَمْلِكْ ذَلِكَ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ فَهَذَا أَوْلَى وَلَوْ اصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْحَائِطُ بِأَصْلِهِ لِأَحَدِهِمَا وَعَلَى أَنْ يَكُونَ لِلْآخَرِ مَوْضِعُ جُذُوعِهِ وَعَلَى أَنْ يَبْنِيَ عَلَيْهِ حَائِطًا مُسَمًّى مَعْرُوفًا يَحْمِلُ عَلَيْهِ جُذُوعَ عُلُوٍّ مُسَمًّى فَهُوَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِالصُّلْحِ مَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهُ بِالْبَيْعِ أَوْ الْإِجَارَةِ وَمِثْلُ هَذَا لَا يَصِيرُ مُسْتَحَقًّا بِالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ لِمَعْنَى الْجَهَالَةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ
وَإِذَا اخْتَصَمَا فِي حَائِطٍ وَكَانَ مَخُوفًا فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَهْدِمَاهُ أَوْ عَلَى أَنْ يَبْنِيَاهُ عَلَى أَنْ لِأَحَدِهِمَا ثُلُثَهُ وَلِلْآخَرِ ثُلُثَيْهِ فَالنَّفَقَةُ عَلَيْهِمَا عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ وَعَلَى أَنْ يَحْمِلَا عَلَيْهِ مِنْ الْجُذُوعِ قَدْرَ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُمَا تَرَاضَيَا عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ فِي نَصِيبِهِ عَلَى مَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَبِيعًا فَكَذَلِكَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ
وَلَوْ كَانَ بَيْتٌ فِي يَدِ رَجُلٍ لَهُ سَطْحٌ فَادَّعَى رَجُلٌ فِيهِ دَعْوَى فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الْبَيْتُ لِأَحَدِهِمَا وَيَكُونُ سَطْحُهُ لِلْآخَرِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ إذْ سَطْحُهُ لَا بِنَاءَ عَلَيْهِ وَبَيْعُهُ لَا يَجُوزُ فَإِنَّهُ بَيْعُ الْهَوَاءِ فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ الصُّلْحُ عَلَيْهِ وَقَدْ ذَكَرْنَا قَبْلَ هَذَا أَنَّهُ لَوْ صَالَحَ عَلَى أَنْ يَبِيتَ عَلَى سَطْحٍ سَنَةً فَهُوَ جَائِزٌ فَمَنْ حَمَلَ ذَلِكَ الْجَوَابَ عَلَى سَطْحٍ مُحْجَرٍ فَهُوَ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ وَالْفَرْقُ أَنَّ هُنَاكَ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ السَّطْحُ دُونَ الْمَنْفَعَةِ فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ بِنَاءٌ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ الْهَوَاء وَهُوَ لَا يُمْلَكُ بِالصُّلْحِ كَمَا لَا يُمْلَكُ بِالْبَيْعِ وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ بِنَاءٌ أَوْ حَجَزَة فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا عُلُوُّهُ وَلِلْآخَرِ سُفْلُهُ جَازَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْبَيْتَيْنِ يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهُ بِالْبَيْعِ فَكَذَلِكَ بِالصُّلْحِ عَلَيْهِ
وَلَوْ كَانَتْ دَارٌ فِي يَدِ قَوْمٍ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ نَاحِيَةٌ مِنْهَا فَاخْتَصَمُوا فِي دَرَجٍ فِيهَا مَعْقُودٌ بَازِجٌ سُفْلُهَا وَهُوَ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا وَظَهَرَ الدَّرَجُ طَرِيقٌ لِلْآخَرِ إلَى مَنْزِلِهِ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِالدَّرَجِ كُلِّهَا لِصَاحِبِ السُّفْلِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لَهُ فَإِنَّهَا فِي يَدِهِ غَيْرَ أَنَّ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ طَرِيقًا عَلَيْهَا عَلَى حَالِهِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ بِالظَّاهِرِ يَدْفَعُ الِاسْتِحْقَاقَ وَلَا يَسْتَحِقُّ ابْتِدَاءً وَقَدْ عَرَفْنَا طَرِيقَ صَاحِبِ الْعُلْوِ عَلَى هَذَا الدَّرَجِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَمْنَعَهُ طَرِيقَهُ بِالظَّاهِرِ كَمَا لَوْ كَانَ لِإِنْسَانٍ حَائِطٌ وَلِلْآخَرِ عَلَيْهِ جُذُوعٌ فَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا بِبِنَاءِ أَحَدِهِمَا اتِّصَالَ وَضْعٍ فَاخْتَلَفَا فِيهِ فَالْحَائِطُ لِصَاحِبِ الِاتِّصَالِ وَلَكِنْ تُتْرَكُ جُذُوعُ الْآخَرِ عَلَى حَالِهَا ؛ لِأَنَّهُ بِالظَّاهِرِ لَا يَسْتَحِقُّ رَفْعَ جُذُوعِ الْآخَرِ
وَلَوْ كَانَ رَوْشَنٌ عَلَى رَأْسِ هَذِهِ الدَّرَجَةِ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : رَوْشَنِي وَهُوَ عَلَى مَنْزِلِ صَاحِبِ السُّفْلِ وَهُوَ طَرِيقٌ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ وَعُرِفَ ذَلِكَ فَاخْتَصَمُوا فِيهِ فَالرَّوْشَنُ كُلُّهُ لِصَاحِبِ الْعُلْوِ لَا السُّفْلِ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ سَقْفِ مَنْزِلِهِ فَيَكُونُ فِي يَدِهِ وَلَكِنْ صَاحِبُ الْعُلْوِ الْمُحْجَرِ عَلَيْهِ عَلَى حَالِهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ بِالظَّاهِرِ لَا يَمْنَعُهُ الْمَمَرَّ الَّذِي كَانَ مَعْرُوفًا لَهُ
وَلَوْ كَانَ بَيْتٌ سُفْلٌ فِي يَدِ رَجُلٍ وَبَيْتٌ عُلْوٌ عَلَيْهِ فِي يَدِ آخَرَ فَسَقْفُ السُّفْلِ وَهَوَادِيهِ وَجُذُوعُهُ وَبِوَارِيهِ كُلُّهُ لِصَاحِبِ السُّفْلِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ السُّفْلِ مُسْتَحِقٌّ لِلْبَيْتِ وَالْبَيْتُ إنَّمَا يَكُونُ بَيْتًا بِسَقْفٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الَّذِي يَبْنِي الْبَيْتَ يَجْعَلُهُ مُسَقَّفًا وَلِصَاحِبِ الْعُلْوِ سُكْنَاهُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ ؛ لِأَنَّهُ بِالظَّاهِرِ لَا يَمْنَعُهُ مَا كَانَ مَعْلُومًا بِالسُّكْنَى فَكَذَلِكَ الدَّرَجُ وَالرَّوْشَنُ وَلَوْ اصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَكُونَ الدَّرَجُ وَالرَّوْشَنُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ جَازَ ذَلِكَ قَبْلَ الْقَضَاءِ وَبَعْدَهُ لِتَرَاضِيهِمَا عَلَيْهِ وَلَوْ أَنَّ بَيْتًا فِي يَدِ رَجُلٍ وَفَوْقَهُ بَيْتٌ فِي يَدِ آخَرَ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُقِرٌّ لِصَاحِبِهِ بِمَا فِي يَدِهِ فَوَهِيَ الْبُنْيَانَانِ جَمِيعًا فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَنْقُضَ كُلُّ وَاحِدٍ بَيْتَهُ عَلَى مِثْلِ مَا كَانَ عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُمَا اصْطَلَحَا عَلَى مَا يُوَافِقُ الشَّرْعَ فَإِنَّ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إصْلَاحَ مِلْكِهِ شَرْعًا وَيُؤْمَرُ صَاحِبُ السُّفْلِ بِالْبِنَاءِ هُنَا ؛ لِأَنَّهُ هَدَمَ بِنَاءَ السُّفْلِ وَلَوْ هَدَمَهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ أُجْبِرَ عَلَى بِنَائِهِ لِحَقِّ صَاحِبِ الْعُلْوِ فَإِذَا كَانَ عَنْ شَرْطٍ فَهُوَ أَوْلَى بِخِلَافِ مَا إذَا سَقَطَ بِنَاءُ السُّفْلِ فَإِنَّهُ لَا يُجْبَرُ صَاحِبُ السُّفْلِ عَلَى بِنَائِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ فِيهِ مُؤْنَةٌ لَمْ يَرْضَ بِالْتِزَامِهَا وَلَكِنْ يَبْنِي صَاحِبُ الْعُلْوِ السُّفْلَ ، ثُمَّ يَبْنِي عَلَيْهِ عُلْوَهُ وَلَا يَسْكُنُهُ صَاحِبُ السُّفْلِ حَتَّى يُؤَدِّيَ إلَيْهِ قِيمَةَ الْبِنَاءِ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الدَّعْوَى
وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ نَخْلَةٌ فِي مِلْكِهِ فَخَرَجَ سَعَفُهَا إلَى مِلْكِ غَيْرِهِ فَأَرَادَ الْآخَرُ قَطْعَ سَعَفِهَا فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ شَاغِلٌ لِهَوَاءِ مِلْكِهِ وَكَانَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُ بِالتَّفْرِيغِ فَهَذَا مِثْلُهُ إلَّا أَنَّهُ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ قَطْعِهِ إذَا كَانَ لَا يَتَمَكَّنُ صَاحِبُ النَّخْلَةِ مِنْ أَنْ يَجُوزَ إلَى هَوَاءِ مِلْكِهِ فَإِنْ كَانَ يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ أَمَرَهُ بِهِ ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ تَفْرِيغُ هَوَاءِ مِلْكِهِ وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُلْحِقَ الضَّرَرَ لِصَاحِبِ النَّخْلَةِ فِي قَطْعِ سَعَفِهَا فَإِنْ صَالَحَهُ رَبُّ النَّخْلَةِ عَلَى أَنْ يَتْرُكَ السَّعَفَ عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهُ مِنْ هَوَاءِ مِلْكِ الْغَيْرِ بِالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهُ بِالصُّلْحِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ تَمْلِيكُ جُزْءٍ مِنْ الْهَوَاءِ بِعِوَضٍ وَهُوَ غَيْرُ مَعْلُومٍ فِي نَفْسِهِ إذْ أَنَّ السَّعَفَ يَطُولُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ .
وَلَوْ أَنَّ نَهْرًا بَيْنَ قَوْمٍ فَاصْطَلَحُوا عَلَى كَرْيِهِ أَوْ بِوَضْعِ مَمْشَاةٍ أَوْ قَنْطَرَةٍ عَلَيْهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ النَّفَقَةُ عَلَيْهِمْ بِحِصَصِهِمْ فَهَذَا جَائِزٌ كُلُّهُ عَلَيْهِمْ ؛ لِأَنَّهُمْ يُجْبَرُونَ عَلَى ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَصْطَلِحُوا إذَا كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَامٌّ فَإِنَّ رَفْعَ الضَّرَرِ وَاجِبٌ فَإِذَا اصْطَلَحُوا كَانَ إلَى الْجَوَازِ أَقْرَبُ فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَا يَضُرُّهُمْ تَرْكُهَا فَفِي الْقَنْطَرَةِ وَالْمَمْشَاةِ لَا يُجْبَرُونَ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ تَدْبِيرٌ فِي الْمِلْكِ وَهُوَ مُفَوَّضٌ إلَى رَأْيِ الْمُلَّاكِ وَإِنَّمَا يُجْبَرُونَ عَلَى إزَالَةِ الضَّرَرِ الْعَامِّ فَمَا لَيْسَ فِيهِ ضَرَرٌ عَامٌّ لَا يُجْبَرُونَ عَلَيْهِ وَأَمَّا الْكَرْيُ فَإِنِّي أُجْبِرُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ فِي تَرْكِهِ ضَرَرًا عَامًّا فَإِنَّ لِلنَّاسِ فِي النَّهْرِ حَقَّ السَّقْيِ فَيَتَضَرَّرُونَ بِانْقِطَاعِ ذَلِكَ عَنْهُمْ وَلَا يَصِلُ إلَيْهِمْ مِلْكُ الْمَنْفَعَةِ إلَّا بِالْكَرْيِ وَلِلْإِمَامِ أَنْ يُجْبِرَ الشُّرَكَاءَ فِيهِ عَلَى الْكَرْيِ وَتَمَامُ هَذَا فِي كِتَابِ الشِّرْبِ .
وَلَوْ ادَّعَى زَرْعًا فِي أَرْضِ رَجُلٍ فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ الزَّرْعِ عَلَى دَرَاهِمَ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ صُلْحٌ عَلَى الْإِنْكَارِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُدَّعَى بِنَفْسِ الدَّعْوَى صَارَ حَقًّا لِلْمُدَّعِي فِي جَوَازِ الِاعْتِيَاضِ عَنْهُ وَلَمْ يُعَارِضْهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِإِنْكَارِهِ فَلَا يَبْطُلُ عَلَيْهِ هَذَا الْحَقُّ بِمُعَارَضَتِهِ إيَّاهُ بِإِنْكَارِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي حَقِّ الْمُدَّعِي فِي إبْطَالِ حَقِّهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ ادَّعَى نِصْفَهُ ، وَإِنْ كَانَ بَيْعُ نِصْفِ الزَّرْعِ قَبْلَ الْإِفْرَاكِ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ جَوَازِ الْبَيْعِ لِمَا عَلَى الْبَائِعِ مِنْ الضَّرَرِ فِي التَّسْلِيمِ وَهَذَا لَا يُوجَدُ هُنَا وَلِأَنَّ النِّصْفَ الْآخَرَ مِنْ الزَّرْعِ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ وَبَيْعُ نِصْفِ الزَّرْعِ مِنْ شَرِيكِهِ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ جَائِزٌ
وَلَوْ كَانَتْ أَرْضٌ لِرَجُلَيْنِ فِيهَا زَرْعٌ لَهُمَا فَادَّعَاهُ رَجُلٌ فَجَحَدَاهُ ، ثُمَّ صَالَحَهُ أَحَدُهُمَا عَلَى أَنْ أَعْطَاهُ مِائَةَ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ نِصْفَ الزَّرْعِ لِلْمُدَّعِي لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَصِيرُ مُمَلَّكًا نِصْفَ الزَّرْعِ قَبْلَ الْإِدْرَاكِ مِنْ غَيْرِ شَرِيكِهِ بِعِوَضٍ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَلِأَنَّ نِصْفَ الزَّرْعِ وَالْأَرْضِ لِلَّذِي هُمَا فِي يَدَيْهِ فَلَوْ جَوَّزْنَا هَذَا الصُّلْحَ صَارَ نِصْفُ الزَّرْعِ لِلْمُصَالَحِ فَيُجْبَرُ عَلَى قَلْعِهِ وَتَفْرِيغِ أَرْضِ الْآخَرِ مِنْهُ وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ إلَّا بِقَلْعِ الْكُلِّ وَفِيهِ مِنْ الضَّرَرِ عَلَى الْآخَرِ مَا لَا يَخْفَى ، وَكَذَلِكَ هَذَا فِي الْبَيْعِ ، وَكَذَلِكَ النَّخْلُ وَالشَّجَرُ إذَا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ اثْنَيْنِ فَبَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ غَيْرِ شَرِيكِهِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْبِنَاءِ فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ فَهُوَ مِثْلُهُ فِي النَّخْلِ وَالشَّجَرِ
وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ سَقْفًا فِي دَارِ فِي يَدِ رَجُلٍ فَصَالَحَهُ مِنْهُ عَلَى سُكْنَى بَيْتٍ مِنْ هَذِهِ الدَّارِ مَعْلُومٍ عَشْرَ سِنِينَ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ مَنْفَعَةٌ مَعْلُومَةٌ بِبَيَانِ الْمُدَّةِ فَإِنْ أَجَّرَهُ مِنْ الَّذِي صَالَحَهُ جَازَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى الْفَصْلِ الْمُتَقَدِّمِ أَنَّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ اسْتِحْقَاقُ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ بِالصُّلْحِ كَاسْتِحْقَاقِهَا بِالْإِجَارَةِ وَلِهَذَا قَالَ : يَبْطُلُ الصُّلْحُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا كَمَا تَبْطُلُ الْإِجَارَةُ ، ثُمَّ الْمُسْتَأْجِرُ إذَا أَجَّرَ الْمُؤَجَّرَ مِنْ الْآخَرِ لَا يَجُوزُ فَكَذَلِكَ هُنَا إذَا أَجَّرَهُ مِنْ الَّذِي صَالَحَهُ لَا يَجُوزُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ اسْتِحْقَاقُهُ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ بِنَاءً عَلَى زَعْمِهِ لَا بِاعْتِبَارِ الْعَقْدِ فَكَمَا يَمْلِكُ الِاعْتِيَاضَ عَنْهُ مَعَ غَيْرِ الَّذِي صَالَحَهُ بِالْإِجَارَةِ مِنْهُ فَكَذَلِكَ يَمْلِكُ مَعَ الَّذِي صَالَحَهُ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّ وَارِثَهُ يَخْلُفُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي اسْتِيفَاءِ هَذِهِ الْمَنْفَعَةِ وَلَا يَبْطُلُ الصُّلْحُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا ، ثُمَّ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا اسْتَأْجَرَ الَّذِي كَانَ فِي يَدَيْهِ فَكَانَ عِنْدَهُ حَتَّى مَضَى الْأَجَلُ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْأُجْرَةُ وَلَكِنْ يَبْطُلُ الصُّلْحُ وَيَعُودُ الْمُدَّعِي عَلَى دَعْوَاهُ لِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي ضَمَانِهِ قَالَ وَلَوْ بَاعَ هَذَا السُّكْنَى بَيْعًا مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَجُزْ بَيْعُ السُّكْنَى وَهَذَا فَصْلٌ مُشْتَرَكٌ فَإِنَّ لَفْظَ الْبَيْعِ يَمْلِكُ بِهِ الرَّقَبَةَ وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ سَبَبٌ لِمِلْكِ الْمَنْفَعَةِ فَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ اسْتِعَارَةُ لَفْظِ الْبَيْعِ لِتَمْلِيكِ الْمَنْفَعَةِ بِهِ مَجَازًا كَمَا أَنَّهُ يَجُوزُ النِّكَاحُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ وَالْبَيْعُ بِهَذَا الطَّرِيقِ وَزَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ تَأْوِيلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِيمَا
إذَا أَطْلَقَ الْبَيْعَ فِي السُّكْنَى وَبَيَّنَ الْمُدَّةَ وَإِنَّمَا يَفْسُدُ لِتَرْكِ بَيَانِ الْمُدَّةِ كَمَا لَوْ صَرَّحَ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ الْجَوَابَ مُطْلَقٌ عَلَى مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ وَإِنَّمَا امْتَنَعَ جَوَازُ بَيْعِ السُّكْنَى لِانْعِدَامِ الْمَحَلِّ لَا لِفَسَادِ الِاسْتِعَارَةِ فَالْمَنْفَعَةُ مَعْدُومَةٌ فِي الْحَالِ وَإِيجَادُهَا لَيْسَ فِي مَقْدُورِ الْبَشَرِ وَالْمَعْدُومُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِإِضَافَةِ الْعَقْدِ إلَيْهِ فَالشَّرْعُ أَقَامَ الْمَوْجُودَ وَهُوَ الدَّارُ الْمُنْتَفَعُ بِهَا مَقَامَ الْمَنْفَعَةِ فِي جَوَازِ إضَافَةِ عَقْدِ الْإِجَارَةِ إلَيْهَا فَأَمَّا لَفْظُ الْبَيْعِ إنْ أُضِيفَ إلَى الدَّارِ فَهُوَ تَمْلِيكٌ لِعَيْنِهَا ، وَإِنْ أُضِيفَ إلَى الْمَنْفَعَةِ فَالْمَعْدُومُ لَا يَكُونُ مَحَلًّا لِإِضَافَةِ الْعَقْدِ إلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَتْ الْإِضَافَةُ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ أَوْ بِلَفْظِ الْبَيْعِ حَتَّى لَوْ قَالَ الْحُرُّ لِرَجُلٍ بِعْتُكَ نَفْسِي شَهْرًا بِكَذَا لِعَمَلٍ فَهَذِهِ إجَارَةٌ صَحِيحَةٌ قَالَ : فَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ الَّذِي كَانَتْ الدَّارُ فِي يَدِهِ مِنْ هَذِهِ السُّكْنَى عَلَى دَرَاهِمَ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ صَالَحَهُ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَى الدَّرَاهِمِ يَجُوزُ فَكَذَلِكَ إذَا صَالَحَهُ عَلَى سُكْنَى مَعْلُومَةٍ ، ثُمَّ مِنْهَا عَلَى دَرَاهِمَ وَهَذَا عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ مِنْهُ بِدَرَاهِمَ جَازَ فَكَذَلِكَ إذَا صَالَحَهُ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : الصُّلْحُ يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ بِطَرِيقِ إسْقَاطِ الْحَقِّ فَأَمَّا الْإِجَارَةُ فَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهَا إلَّا بِطَرِيقِ التَّمْلِيكِ وَإِذَا كَانَ يَتَمَلَّكُ هُوَ عَلَيْهِ الْمَنْفَعَةَ بِجِهَةِ الْمُعَاوَضَةِ فَيَمْلِكُ أَنْ يَمْلِكَهُ مِنْهُ بِمِثْلِ تِلْكَ الْجِهَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ مِنْ الدَّرَاهِمِ عَلَى دَنَانِيرَ وَقَبَضَهَا فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ نَقْدًا فَهُوَ كَالثَّمَنِ وَالِاسْتِبْدَالُ بِالثَّمَنِ قَبْلَ الْقَبْضِ جَائِزٌ لَكِنْ بِشَرْطِ قَبْضِ
الدَّنَانِيرِ قَبْلَ الِافْتِرَاقِ ؛ لِأَنَّ النَّقْدَ صَرْفٌ وَلِأَنَّهُ لَوْ فَارَقَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ كَانَ افْتَرَقَا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ وَلَوْ قَبَضَ الْبَعْضَ ثُمَّ تَفَرَّقَا جَازَ بِمِقْدَارِ مَا قَبَضَ وَيَرْجِعُ بِحِصَّةِ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّرَاهِمِ اعْتِبَارًا لِلْبَعْضِ بِالْكُلِّ قَالَ وَالْإِقْرَارُ مِنْ الْمُدَّعِي لِلَّذِي فِي يَدَيْهِ الشَّيْءُ بِهِ عَلَى وَجْهِ الصُّلْحِ لَا يَمْنَعُهُ مِنْ الدَّعْوَى إذَا بَطَلَ الصُّلْحُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْإِقْرَارَ إنْ ثَبَتَ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ ضِمْنًا لِلصُّلْحِ وَمَا يَثْبُتُ ضِمْنًا لِلشَّيْءِ يَبْقَى بِبَقَائِهِ وَيَبْطُلُ بِبُطْلَانِهِ كَالْوَصِيَّةِ بِالْمُحَابَاةِ فِي ضِمْنِ الْبَيْعِ وَالْإِقْرَارُ بِهِ مِنْ الَّذِي هُوَ فِي يَدَيْهِ عِنْدَ الصُّلْحِ لِلْمُدَّعِي يُوجِبُ رَدَّهُ عَلَيْهِ إذَا بَطَلَ الصُّلْحُ ؛ لِأَنَّهُ إقْرَارٌ مَقْصُودٌ وَكَانَ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ قَبْلَ تَمَامِ الصُّلْحِ فَكَذَلِكَ بَعْدَ بُطْلَانِ الصُّلْحِ قَالَ : وَكُلُّ شَيْءٍ وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ مِمَّا لَوْ اُسْتُحِقَّ رَجَعَ بِقِيمَتِهِ فَلَهُ أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ بِمَنْزِلَةِ الصَّدَاقِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لِلتَّصَرُّفِ عُذْرٌ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَإِنْ مَلَكَهُ لَا يَبْطُلُ بِالْهَلَاكِ وَلَكِنْ يَتَحَوَّلُ إلَى الْقِيمَةِ وَكُلُّ شَيْءٍ يَرْجِعُ فِيهِ عَلَى دَعْوَاهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ لِبَقَاءِ الْغَرَرِ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لِلتَّصَرُّفِ كَمَا فِي الْبَيْعِ وَفِي الْعَقَارِ الْخِلَافُ مَعْرُوفٌ فِي جَوَازِ الْبَيْعِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْبُيُوعِ فَكَذَلِكَ إذَا وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ
وَلَوْ ادَّعَى دَارًا فِي يَدَيْ رَجُلٍ حَقًّا فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى عَبْدَيْنِ فَدَفَعَ إلَيْهِ أَحَدَهُمَا وَمَاتَ الْآخَرُ فِي يَدِهِ فَالْمُدَّعِي بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَدَّ الْعَبْدَ الَّذِي قَبَضَهُ وَعَادَ فِي دَعْوَاهُ ، وَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَ وَرَجَعَ فِي حِصَّةِ الْعَبْدِ الْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّ الصَّفْقَةَ تَفَرَّقَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَالتَّمَامِ فَإِنَّ تَمَامَ الصَّفْقَةِ بِقَبْضِهَا وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي وَهُوَ كَمَا لَوْ اشْتَرَى عَبْدَيْنِ فَهَلَكَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ الْقَبْضِ
وَلَوْ كَانَ ادَّعَى فِي أَرْضٍ حَقًّا فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى أَرْضٍ أُخْرَى بِإِقْرَارٍ فَغَرِقَتْ الْأَرْضُ الَّتِي وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَيْهَا فَإِنْ شَاءَ الْمُدَّعِي رَضِيَ بِهَا ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهَا إنْ كَانَ قَدْ نَقَصَهَا الْغَرَقُ ؛ لِأَنَّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ الصُّلْحُ بِمَنْزِلَةِ الْمَبِيعِ وَقَدْ تَعَيَّبَ قَبْلَ التَّسْلِيمِ فَإِنْ غَرِقَتْ الْأَرْضُ الَّتِي كَانَ ادَّعَى فِيهَا قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَيْهَا الْمَصَالِحُ وَنَقَصَهَا الْغَرَقُ فَهُوَ بِالْخِيَارِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِقْرَارِ مَحْضُ مُعَاوَضَةٍ فَكَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُشْتَرٍ لِلْمُدَّعَى بِهِ وَقَدْ تَعَيَّبَ قَبْلَ الْقَبْضِ فَلَهُ الْخِيَارُ ، وَإِنْ كَانَ الصُّلْحُ وَقَعَ عَلَى الْإِنْكَارِ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيهَا خِيَارٌ ؛ لِأَنَّ فِي زَعْمِ الْمُدَّعِي أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ غَاصِبٌ بِجُحُودِهِ وَإِنَّهُ بِالصُّلْحِ كَالْمُشْتَرِي فَصَارَ قَابِضًا بِنَفْسِ الشِّرَاءِ وَإِنَّمَا تَعَيَّبَ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَلَوْ ادَّعَى سُكْنَى فِي دَارِ وَصِيَّةً مِنْ رَبِّ الدَّارِ فَجَحَدَهُ أَوْ أَقَرَّ بِهِ ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ جَازَ ، وَإِنْ كَانَ الْمُوصَى لَهُ بِالسُّكْنَى لَا يُؤَاجَرُ ؛ لِأَنَّ تَصْحِيحَ الصُّلْحِ بِطَرِيقِ إسْقَاطِ الْحَقِّ بِعِوَضٍ مُمْكِنٌ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الصُّلْحَ صَحِيحٌ بِطَرِيقِ الْمُعَاوَضَةِ إنْ أَمْكَنَ وَإِنْ تَعَذَّرَ ذَلِكَ تَصَحَّحَ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ كَمَا لَوْ صَالَحَ مِنْ الْأَلْفِ عَلَى خَمْسِمِائَةٍ ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى سُكْنَى دَارٍ أُخْرَى فَإِنَّهُ يَصِحُّ هَذَا الصُّلْحُ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ لِمَا تَعَذَّرَ تَصْحِيحُهُ بِطَرِيقِ التَّمْلِيكِ فَإِنَّ مُبَادَلَةَ السُّكْنَى لَا تَجُوزُ
وَلَوْ ادَّعَى دَارًا فِي يَدِ رَجُلٍ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ أَوْ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْحَيَوَانِ عَلَى أَنْ يَزِيدَ الْآخَرُ كُرَّ حِنْطَةٍ لِمُدَّةٍ وَلَيْسَ عِنْدَهُ طَعَامٌ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الصُّلْحُ مَبِيعٌ وَبَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ لَا يَجُوزُ قَالَ : ( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ بَاعَ عَبْدًا بِدَرَاهِمَ وَاشْتَرَطَ لِلْمُشْتَرِي مَعَ الْعَبْدِ طَعَامًا يُعْطِيهِ إيَّاهُ وَلَيْسَ عِنْدَهُ كَانَ الْبَيْعُ فَاسِدًا لِهَذَا الْمَعْنَى .
وَلَوْ ادَّعَى فِي دَارِ رَجُلٍ طَرِيقًا فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى دَرَاهِمَ أَوْ عَلَى طَرِيقٍ فِي دَارٍ أُخْرَى كَانَ جَائِزًا بَعْدَ أَنْ يُبَيِّنَ أَنَّ الطَّرِيقَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ
وَلَوْ كَانَ لَهُ بَابٌ فِي غُرْفَةٍ أَوْ كُوَّةٍ وَآذَاهُ جَارُهُ وَخَاصَمَهُ فَافْتَدَى مِنْ خُصُومَتِهِ بِدَرَاهِمَ وَصَالَحَهُ عَلَيْهَا فَالصُّلْحُ بَاطِلٌ وَلَهُ أَنْ يَتْرُكَ بَابَهُ وَكُوَّتَهُ عَلَى حَالِهِمَا قَالَ : لِأَنَّهُمَا فِي غَيْرِ مِلْكِ أَحَدٍ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْبَابَ وَالْكُوَّةَ يَكُونُ بِرَفْعِ بَعْضِ الْحَائِطِ وَالْحَائِطُ خَالِصُ مِلْكِهِ وَلَوْ رَفَعَهُ كُلَّهُ لَمْ يَكُنْ لِجَارِهِ أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا رَفَعَ بَعْضَهُ ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الْجَارَ ظَالِمٌ لَهُ مُدَّعٍ بِالْبَاطِلِ وَأَنَّهُ أَخَذَ مِنْهُ مَالًا لِيَكُفَّ عَنْ ظُلْمِهِ وَذَلِكَ حَرَامٌ فَلِهَذَا لَزِمَهُ رَدُّهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ ) قَدْ ذَكَرْنَا فِي كِتَابِ الشُّفْعَةِ أَنَّ صُلْحَ الشَّفِيعِ مَعَ الْمُشْتَرِي عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ فِي وَجْهٍ يَصِحُّ عَلَى أَخْذِ نِصْفِ الدَّارِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ وَفِي وَجْهٍ لَا يَصِحُّ وَلَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ وَهُوَ أَنْ يُصَالِحَ عَلَى أَخْذِ بَيْتٍ بِعَيْنِهِ مِنْ الدَّارِ بِحِصَّتِهِ مِنْ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ حِصَّتَهُ مَجْهُولَةٌ وَلَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ الْإِعْرَاضُ عَنْ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ بِهَذَا الصُّلْحِ وَفِي وَجْهٍ تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ وَلَا يَجِبُ الْمَالُ وَهُوَ أَنْ يُصَالِحَ عَلَى أَنْ يَتْرُكَ الشُّفْعَةَ بِمَالٍ يَأْخُذُهُ مِنْ الْمُشْتَرِي فَهُنَا تَبْطُلُ شُفْعَتُهُ لِوُجُودِ الْإِعْرَاضِ مِنْهُ عَنْ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ وَلَا يَجِبُ الْمَالُ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْمُشْتَرِي فِي الدَّارِ لَا يَتَغَيَّرُ بِهَذَا الصُّلْحِ بَلْ يَبْقَى عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ الصُّلْحِ وَتَرْكُ الشُّفْعَةِ لَيْسَ بِمَالٍ وَلَا يَئُولُ مَالًا بِحَالٍ فَالِاعْتِيَاضُ عَنْهُ بِالْمَالِ لَا يَجُوزُ بِخِلَافِ الْقِصَاصِ فَإِنَّ نَفْسَ الْقَاتِلِ كَانَتْ مُبَاحَةً فِي حَقِّ مَنْ لَهُ الْقِصَاصُ وَبِالصُّلْحِ تَحْدُثُ لَهُ الْعِصْمَةُ فِي حَقِّهِ فَيَجُوزُ أَنْ يَلْزَمَهُ بِمُقَابِلِهِ
وَلَوْ صَالَحَ الْمُشْتَرِي الشَّفِيعَ عَلَى أَنْ أَعْطَاهُ الدَّارَ وَزَادَهُ الشَّفِيعُ عَلَى الثَّمَنِ شَيْئًا مَعْلُومًا فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ تَسْلِيمَ الدَّارِ بِالشُّفْعَةِ بِثَمَنٍ بِغَيْرِ قَضَاءٍ يَكُونُ بَيْعًا مُبْتَدَأً وَالثَّمَنُ الَّذِي وَقَعَ عَلَيْهِ التَّرَاضِي مَعْلُومٌ فَكَأَنَّهُ بَاعَهُ مِنْهُ مُرَابَحَةً بِمَا سَمَّيَا مِنْ الثَّمَنِ
وَإِذَا اخْتَصَمَ فِي الشُّفْعَةِ شَرِيكٌ وَجَارٌ فَاصْطَلَحَا عَلَى أَنْ أَخَذَاهَا نِصْفَيْنِ وَسَلَّمَهُمَا الْمُشْتَرِي جَازَ كَمَا لَوْ بَاعَهَا مِنْهُمَا ابْتِدَاءً
وَإِذَا اشْتَرَى الرَّجُلُ دَارًا فَخَاصَمَهُ رَجُلٌ فِي شِقْصٍ مِنْهَا وَطَلَبَ الشُّفْعَةَ فِيمَا بَقِيَ ، ثُمَّ صَالَحَهُ الْمُشْتَرِي عَلَى نِصْفِ الدَّارِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ عَلَى أَنْ يَبْرَأَ مِنْ الدَّعْوَى فَهُوَ جَائِزٌ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ الْمُبْتَدَإِ فَإِنَّ بَيْعَ نِصْفِ الدَّار مِنْهُ بِالثَّمَنِ ابْتِدَاءً صَحِيحٌ وَشَرْطُ الْبَرَاءَةِ مِنْ الدَّعْوَى لَا يُبْطِلُ الْبَيْعَ أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا فَتَصْحِيحُ هَذَا بِعَقْدٍ مُمْكِنٍ بِأَنْ كَانَ لِلْمُدَّعِي جُزْءٌ مِنْ هَذَا النِّصْفِ فَيَكُونُ الْمُدَّعِي تَارِكًا لِلدَّعْوَى فِيهِ بِإِقْدَامِهِ عَلَى الشِّرَاءِ ابْتِدَاءً وَقَابِضًا لِذَلِكَ الشِّقْصِ بِحَقِّهِ مُشْتَرِيًا لِمَا زَادَ عَلَيْهِ بِمَا سَمَّى مِنْ الثَّمَنِ أَوْ مُصَالِحًا فِي ذَلِكَ الشِّقْصِ بِعِوَضٍ يُؤَدِّيهِ مُشْتَرِيًا فِيمَا زَادَ عَلَيْهِ
وَلَوْ ادَّعَى فِي دَارٍ فِي يَدِ رَجُلٍ حَقًّا أَوْ ادَّعَاهَا كُلَّهَا فَصَالَحَهُ عَلَى دَارَهُمْ فَلَا شُفْعَةَ لِلشَّفِيعِ فِيهَا ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَزْعُمُ أَنَّ الدَّارَ لَهُ عَلَى قِدَمِ مِلْكِهِ وَزَعْمُهُ فِيمَا فِي يَدِهِ مُعْتَبَرٌ فَكَمَا لَا يَتَمَكَّنُ الْمُدَّعِي مِنْ أَخْذِ مَا فِي يَدِهِ بِاعْتِبَارِ زَعْمِهِ فَكَذَلِكَ الشَّفِيعُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ بِإِقْدَامِهِ عَلَى الصُّلْحِ لَا يَصِيرُ مُقِرًّا لِلْمُدَّعِي بِالدَّارِ وَإِنَّمَا الْتَزَمَ الْبَدَلَ فِدَاءً لِيَمِينِهِ .
وَإِنْ خَاصَمَهُ فِي الشُّفْعَةِ فَسَلَّمَ لَهُ نِصْفَ الدَّارِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ الَّذِي صَالَحَ عَلَيْهِمَا الْمُدَّعِي جَازَ كَمَا لَوْ بَاعَهُ مِنْهُ ابْتِدَاءً
وَلَوْ اشْتَرَى أَرْضًا فَسَلَّمَ الشَّفِيعُ الشُّفْعَةَ ، ثُمَّ جَحَدَ التَّسْلِيمَ وَخَاصَمَهُ فَصَالَحَهُ عَلَى أَنْ أَعْطَاهُ نِصْفَ الدَّارِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ جَازَ وَهَذَا وَالْبَيْعُ الْمُبْتَدَأُ مِنْهُ سَوَاءٌ
وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَ الشَّفِيعُ ، ثُمَّ صَالَحَ الْوَرَثَةَ الْمُشْتَرِيَ عَلَى نِصْفِ الدَّارِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ جَازَ كَالْبَيْعِ الْمُبْتَدَأِ
وَإِذَا ادَّعَى الرَّجُلُ شُفْعَةً فِي دَارٍ فَصَالَحَهُ الْمُشْتَرِي عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ دَارًا أُخْرَى بِدَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ الشُّفْعَةَ فَهَذَا فَاسِدٌ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ بَائِعُ الدَّارِ الْأُخْرَى مِنْهُ وَقَدْ شَرَطَ فِيهِ تَسْلِيمَ الشُّفْعَةِ وَهُوَ شَرْطٌ يَنْتَفِعُ بِهِ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ فَإِذَا شُرِطَ فِي الْبَيْعِ فَسَدَ الْعَقْدُ كَمَا لَوْ بَاعَهُ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ لَهُ الشُّفْعَةَ
وَلَوْ ادَّعَى شُفْعَةً فِي عَبْدٍ فَصَالَحَهُ الْمُشْتَرِي عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ نِصْفَ الْعَبْدِ بِنِصْفِ الثَّمَنِ وَهُوَ مَعْلُومٌ عِنْدَهُمَا جَازَ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ مُبْتَدَأٌ وَالْبَيْعُ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ التَّسْلِيمِ وَبِفِعْلِ التَّسْلِيمِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ لَفْظٌ كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا فِي انْعِقَادِ الْبَيْعِ صَحِيحًا بِالتَّعَاطِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَإِذَا ادَّعَى الرَّجُلُ فِي دَارٍ حَقًّا فَصَالَحَهُ ذُو الْيَدِ عَلَى عَبْدٍ إلَى أَجَلٍ فَالصُّلْحُ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ تَصْحِيحَ الصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ بِطَرِيقِ الْبِنَاءِ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي وَفِي زَعْمِهِ أَنَّهُ يَتَمَلَّكُ الْعَبْدَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ بِعِوَضٍ هُوَ مَالٌ وَذَلِكَ فَاسِدٌ فَإِنْ قِيلَ الْحَيَوَانُ يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ فِي الْعُقُودِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى التَّوَسُّعِ فِي الْبَدَلِ كَالنِّكَاحِ وَالْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ وَلَكِنْ الْحَيَوَانُ لَا يَثْبُتُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بَدَلًا عَمَّا هُوَ مَالٌ وَإِنَّمَا يَثْبُتُ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْغُرَّةَ وَجَبَتْ شَرْعًا فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ دُونَ جَنِينِ الْأَمَةِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ مُقَابَلَةَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ بِمَالٍ لَا يَثْبُتُ ثُبُوتًا صَحِيحًا بَلْ يُرَدَّدُ بَيْنَ الْحَيَوَانِ وَالْقِيمَةِ وَبِمُقَابَلَةِ مَا هُوَ مَالٌ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ ، ثُمَّ الصُّلْحُ عَلَى الْإِنْكَارِ فِي الْمُصَالَحِ عَلَيْهِ غَيْرُ مَبْنِيٍّ عَلَى التَّوَسُّعِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ مَعَ جَهَالَةِ الصِّفَةِ وَأَنَّهُ يُرَدُّ بِالْعَيْبِ الْيَسِيرِ وَالْفَاحِشِ فَكَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ الْحَيَوَانُ فِيهِ دَيْنًا فَإِنْ كَانَ صَالَحَهُ مِنْ حَقِّهِ فَقَدْ أَقَرَّ لَهُ بِالْحَقِّ وَلَكِنْ لَمْ يُبَيِّنْ مِقْدَارَهُ فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ أَنْ يُقِرَّ بِشَيْءٍ لِإِنْكَارِهِ الزِّيَادَةَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ حَقٌّ ، وَإِنْ كَانَ صَالَحَهُ مِنْ دَعْوَاهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إقْرَارًا ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى قَدْ تَكُونُ حَقًّا وَقَدْ تَكُون بَاطِلًا .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ دَعْوَى لَا يَصِيرُ مُقِرًّا لَهُ بِشَيْءٍ بِهَذَا اللَّفْظِ بِخِلَافِ قَوْلِهِ : لِفُلَانٍ عَلَيَّ حَقٌّ فَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى دَرَاهِمَ مُسَمَّاةٍ إلَى الْحَصَادِ وَمَا أَشْبَهَهُ ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ فِيمَا يَقَعُ عَلَيْهِ الصُّلْحُ كَالْبَيْعِ وَاشْتِرَاطُ
هَذِهِ الْآجَالِ الْمَجْهُولَةِ مُفْسِدٌ لِلْبَيْعِ
وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ فِي عَبْدِ رَجُلٍ دَعْوَى فَصَالَحَهُ عَلَى غَلَّتِهِ شَهْرًا فَهَذَا فَاسِدٌ بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَهُ عَلَى خِدْمَتِهِ شَهْرًا ؛ لِأَنَّ الْخِدْمَةَ مَعْلُومَةٌ بِبَيَانِ الْمُدَّةِ وَهِيَ مَقْدُورَةُ التَّسْلِيمِ لِصَاحِبِ الْعَبْدِ فَأَمَّا الْغَلَّةُ فَمَجْهُولَةُ الْمِقْدَارِ فِي نَفْسِهَا غَيْرُ مَقْدُورَةِ التَّسْلِيمِ لِصَاحِبِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يُؤَاجِرْهُ مِنْ غَيْرِهِ لَا تَحْصُلُ الْغَلَّةُ لَهُ وَذَلِكَ لَا يَتِمُّ بِهِ وَحْدَهُ وَبَعْدَ مَا أَجَّرَهُ لَا تَجِبُ الْغَلَّةُ إلَّا بِسَلَامَةِ الْعَبْدِ فِي الشَّهْرِ وَلَعَلَّهُ يَمْرَضُ أَوْ يَمُوتُ فَلِهَذَا بَطَلَ الصُّلْحُ ، وَكَذَلِكَ الصُّلْحُ عَلَى غَلَّةِ الدَّارِ وَثَمَرَةِ النَّخْلِ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ وَهُوَ عَلَى خَطَرِ الْوُجُودِ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ فَإِنَّهَا أُخْتُ الْمِيرَاثِ فَمِثْلُ هَذِهِ الْجَهَالَةِ لَا تَمْنَعُ صِحَّتَهَا أَمَّا الصُّلْحُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فِيمَا يَقَعُ الصُّلْحُ عَلَيْهِ وَمِثْلُ هَذِهِ الْجَهَالَةِ تَمْنَعُ الِاسْتِحْقَاقَ بِالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ
وَعَلَى هَذَا لَوْ صَالَحَ مِنْ دَعْوَاهُ عَلَى شُرْبِ يَوْمٍ مِنْ هَذَا النَّهْرِ فِي الشَّهْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَقٌّ فِي رَقَبَتِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ وَالْوَصِيَّةُ بِمِثْلِهِ تَجُوزُ لِمَا قُلْنَا .
وَلَوْ ادَّعَى قِبَلَ رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ دَيْنًا فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى عَشَرَةِ دَنَانِيرَ إلَى أَجَلٍ لَمْ يَجُزْ مُقِرًّا كَانَ أَوْ جَاحِدًا أَمَّا إذَا كَانَ مُقِرًّا فَلِأَنَّ هَذَا صَرْفٌ بِالنَّسِيئَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى طَعَامٍ مَوْصُوفٍ مُؤَجَّلٍ أَوْ غَيْرِ مُؤَجَّلٍ وَفَارَقَهُ قَبْلَ الْقَبْضِ فَهُوَ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ بِدَيْنٍ وَالدَّيْنُ بَعْدَ الْمَجْلِسِ حَرَامٌ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ مِنْ غَيْرِهِ فَهُوَ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَصُلْحُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ سَوَاءٌ
وَلَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ سُودًا فَصَالَحَهُ مِنْهَا بَعْدَ الْإِنْكَارِ عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ بَخِّيَّةٍ إلَى سَنَةٍ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْبَخِّيَّةَ لَهَا فَضْلٌ فَالْبَخِيَّةُ الْجِيَادُ الَّتِي هِيَ نَقْدُ بَيْتِ الْمَالِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ لِمَنْ يَتَمَلَّكهَا بَخٍ بَخٍ ، ثُمَّ جُعِلَ هَذَا الْفَضْلُ عِوَضًا عَنْ الْأَجَلِ وَمُعَاوَضَةُ الْمَالِ بِالْأَجَلِ لَا يَجُوزُ وَفِي نَظِيرِهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى { لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً } وَلَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ بَخِّيَّةً فَصَالَحَهُ عَلَى سُودٍ مِثْلِهَا أَوْ أَقَلَّ حَالًّا أَوْ مُؤَجَّلًا فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ هُوَ الْمُحْسِنُ إلَيْهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ حَيْثُ أَبْرَأَهُ عَنْ فَضْلِ الْجَوْدَةِ وَلَوْ أَبْرَأَهُ عَنْ بَعْضِ الْمِقْدَارِ وَأَجَّلَهُ فِيمَا بَقِيَ جَازَ أَيْضًا وَإِذَا كَانَ الْإِحْسَانُ كُلُّهُ مِنْ جِهَتِهِ لَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ بَيْنَهُمَا
وَلَوْ بَاعَ عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ سُودٍ ثُمَّ صَالَحَهُ عَلَى أَلْفٍ وَمِائَةٍ نَبَهْرَجَةٍ أَوْ زُيُوفٍ حَالَّةٍ أَوْ إلَى أَجَلٍ كَانَ ذَلِكَ بَاطِلًا ؛ لِأَنَّ مَا شَرَطَ مِنْ زِيَادَةِ الْقَدْرِ عِوَضٌ عَنْ الْأَجَلِ أَوْ عَنْ صِفَةِ الْجَوْدَةِ فَإِنَّ الزُّيُوفَ دُونَ السُّودِ فِي الْجَوْدَةِ وَمِثْلُ هَذِهِ الْمُعَاوَضَةِ رِبًا شَرْعًا
وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى شَيْءٍ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ بِغَيْرِ عَيْنِهِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْمَكِيلَ وَالْمَوْزُونَ إذَا قَابَلَتْهُ الدَّرَاهِمُ يَكُونُ مَبِيعًا وَهُوَ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَذَلِكَ بَاطِلٌ قَبَضَ فِي الْمَجْلِسِ أَوْ لَمْ يَقْبِضْ وَلَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ سَلَمًا وَإِنْ ذَكَرَ شَرَائِطَ السَّلَمِ ؛ لِأَنَّ رَأْسَ الْمَالِ دَيْنٌ وَعَقْدُ السَّلَمِ بِرَأْسِ مَالٍ هُوَ دَيْنٌ لَا يَجُوزُ .
وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ قِبَلَ رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ غَلَّةً فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى خَمْسِمِائَةٍ بَخِّيَّةٍ نَقْدًا وَنَقَدَهَا إيَّاهُ فَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْأَوَّلِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ يَجْعَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْسِنًا إلَى صَاحِبِهِ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ فَصَاحِبُ الْحَقِّ أَبْرَأَهُ عَنْ خَمْسِمِائَةٍ وَالْمَدْيُونُ أَعْطَى مَا بَقِيَ أَجْوَدَ مِمَّا عَلَيْهِ وَهَذَا مِنْهُ إحْسَانٌ فِي قَضَاءِ الدَّيْنِ وَذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ وَإِذَا كَانَ الْمَقْصُودُ بِالصُّلْحِ قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ فَإِذَا أَمْكَنَ تَصْحِيحُهُ لَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ وَهُنَا تَصْحِيحُهُ بِطَرِيقٍ مُمْكِنٍ فَلَا يَحِلُّ عَلَى الْمُعَاوَضَةِ وَإِنْ تَفَرَّقَا قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ فَلَهُ خَمْسُمِائَةٍ مِنْ غَلَّةِ الْكُوفَةِ ؛ لِأَنَّهُ أَبْرَأَهُ عَمَّا بَقِيَ وَإِنَّمَا تَبْقَى الْخَمْسُمِائَةِ فِي ذِمَّتِهِ بِالصِّفَةِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَ الْإِبْرَاءِ وَالْمُجَازَاةُ عَلَى الْإِحْسَانِ مَطْلُوبَةٌ بِطَرِيقٍ وَلَكِنْ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ دَيْنًا ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ : الصُّلْحُ بَاطِلٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُمَا صَرَّحَا بِالْمُعَاوَضَةِ فَإِنَّهُ أَبْرَأَهُ عَنْ الْخَمْسمِائَةِ بِشَرْطِ أَنْ يُسَلَّمَ لَهُ بِصِفَةِ الْجَوْدَةِ فِيمَا بَقِيَ وَمُعَاوَضَةُ الدَّرَاهِمِ بِالْجَوْدَةِ لَا يَجُوزُ وَمَعَ التَّصْرِيحِ بِالْمُعَاوَضَةِ لَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى الْبَرَاءَةِ الْمُبْتَدَأَةِ كَمَا إذَا بَاعَ دِرْهَمًا بِدِرْهَمَيْنِ لَا يَجْعَلُ أَحَدَ الدِّرْهَمَيْنِ هِبَةً لِيَحْصُلَ مَقْصُودُهُمَا
وَإِذَا كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى مِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يَبِيعَهُ بِهَا هَذَا الثَّوْبَ أَوْ عَلَى أَنْ يُؤَاجِرَهُ بِهَا هَذِهِ الدَّارَ أَوْ صَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى عَبْدٍ بِعَيْنِهِ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيَهُ مِنْهُ فَهَذَا فَاسِدٌ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ صَفْقَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الصُّلْحَ فِي مَعْنَى الْبَيْعِ وَاشْتِرَاطُ بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ فِي الْبَيْعِ يَكُونُ مُفْسِدًا لَهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى دَارٍ وَشَرَطَ أَنْ يَسْكُنَهَا الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ سَنَةً أَوْ عَلَى عَبْدٍ وَشَرَطَ خِدْمَتَهُ سَنَةً فَهُوَ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُ شَرَطَ الْأَجَلَ فِي تَسْلِيمِ الْعَيْنِ ، أَوْ شَرَطَ أَحَدُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ مَنْفَعَةً لِنَفْسِهِ مِنْ مِلْكِ صَاحِبِهِ وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ فَكَذَلِكَ يَفْسُدُ الصُّلْحُ .
وَلَوْ ادَّعَى رَجُلٌ فِي غَنَمِ رَجُلٍ دَعْوَى فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى صُوفِهَا الَّذِي عَلَى ظَهْرِهَا أَنْ يَجُزَّهُ مِنْ سَاعَتِهِ فَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الْمُصَالَحَ عَلَيْهِ إذَا كَانَ مُعَيَّنًا فَهُوَ كَالْمَبِيعِ وَبَيْعُ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ بَاطِلٌ فَكَذَلِكَ الصُّلْحُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى صُوفٍ عَلَى ظَهْرِ شَاةٍ أُخْرَى بِعَيْنِهَا لَمْ يَجُزْ لِهَذَا الْمَعْنَى وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : تَصْحِيحُ هَذَا الصُّلْحِ بِاعْتِبَارِ زَعْمِ الْمُدَّعِي مُمْكِنٌ ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّ الصُّوفَ وَالشَّاةَ مِلْكُهُ وَإِنَّهُ يَتْرُكُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْضَ مِلْكِهِ وَيَبْقَى فِي الصُّوفِ لَا إنْ تَمَلَّكَهُ ابْتِدَاءً وَذَلِكَ جَائِزٌ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِ الْمُدَّعِي وَأَنَّ مِنْ أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ إذَا أَمْكَنَ تَصْحِيحُ الصُّلْحِ بِوَجْهِ مَا يَجِبُ تَصْحِيحُهُ لِقَطْعِ الْمُنَازَعَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا صَالَحَهُ عَلَى صُوفٍ عَلَى ظَهْرِ شَاةٍ أُخْرَى وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى أَلْبَانِهَا الَّتِي فِي ضُرُوعِهَا أَوْ عَلَى مَا فِي بُطُونِهَا مِنْ الْوَلَدِ فَهُوَ بَاطِلٌ أَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلِأَنَّهُ إنَّمَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُ هَذَا الصُّلْحِ بِطَرِيقِ إبْقَاءِ مِلْكِهِ فِي بَعْضِ الْعَيْنِ وَاللَّبَنُ فِي الضَّرْعِ وَالْوَلَدُ فِي الْبَطْنِ لَيْسَ بِعَيْنِ مَالٍ مُتَقَوِّمٍ وَوُجُودُهُ عَلَى خَطَرٍ فَرُبَّمَا يَكُونُ انْتِفَاخُ الْبَطْنِ وَالضَّرْعِ بِالرِّيحِ بِخِلَافِ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الْغَنَمِ فَهُوَ مَالٌ مُتَعَيَّنٌ مُتَقَوِّمٌ مَمْلُوكٌ فَتَصْحِيحُ الصُّلْحِ بِطَرِيقِ إبْقَاءِ الْمِلْكِ فِيهِ مُمْكِنٌ
وَلَوْ ادَّعَى فِي أَجَمَةٍ فِي يَدَيْ رَجُلٍ حَقًّا فَصَالَحَهُ عَلَى أَنْ يُسَلِّمَ صَيْدَهَا لِلْمُدَّعِي سَنَةً فَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُ مَجْهُولٌ وَوُجُودُهُ عَلَى خَطَرٍ ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى مَا فِيهَا مِنْ الصَّيْدِ إذَا كَانَ ذَلِكَ لَا يُوجَدُ إلَّا بِصَيْدٍ ، وَإِنْ كَانَ مَحْظُورًا ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ وَبَيْعُهُ لَا يَجُوزُ لِنَهْيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ ضَرْبَةِ الْقَانِصِ وَنَهَى عُمَرُ وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ بَيْعِ السَّمَكِ فِي الْمَاءِ وَإِذَا كَانَ الصَّيْدُ مَحْظُورًا وَهُوَ يُؤْخَذُ بِغَيْرِ صَيْدٍ كَانَ الصُّلْحُ جَائِزًا وَلَهُ الْخِيَارُ إذَا رَآهُ بِمَنْزِلَةِ الْبَيْعِ وَقِيلَ تَأْوِيلُهُ إذَا أَخَذْتُمْ السَّمَكَ فِي الْمَاءِ أَوْ دَخَلَ الْأَجَمَةَ مَعَ الْمَاءِ ، ثُمَّ مُنِعَ مِنْ الْخُرُوجِ بِسَدِّ فَوْهَةِ الْأَجَمَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْأَخْذِ الْمُوجِبِ لِلْمِلْكِ وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مَرْئِيٍّ فَأَمَّا إذَا دَخَلَ الْأَجَمَةَ مَعَ الْمَاءِ وَلَمْ يَسُدَّ فَوْهَةَ الْأَجَمَةِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ مَمْلُوكًا لِصَاحِبِ الْأَجَمَةِ بِالدُّخُولِ فِي أَجَمَتِهِ مَا لَمْ يَأْخُذْهُ .
وَلَوْ ادَّعَى فِي عَبْدٍ دَعْوَى فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَخَاتِيمِ دَقِيقٍ مَعْلُومَةٍ مِنْ دَقِيقِ هَذِهِ الْحِنْطَةِ أَوْ عَلَى أَرْطَالٍ مِنْ لَحْمِ شَاةٍ حَيَّةٍ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إمَّا ؛ لِأَنَّهُ مَعْدُومٌ فِي الْحَالِ أَوْ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ فِي تَسْلِيمِهِ إلَى بَضْعِ الْبِنْيَةِ وَذَلِكَ مَانِعٌ مِنْ جَوَازِ الْعَقْدِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَالَحَهُ عَلَى عَبْدٍ آبِقٍ فَإِنَّ الْآبِقَ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ تَاوِيَةٌ بِالْإِبَاقِ وَهُوَ غَيْرُ مَقْدُورِ التَّسْلِيمِ فَكَذَلِكَ الصُّلْحُ عَلَيْهِ
وَلَوْ ادَّعَى قِبَلَ رَجُلٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَكُرَّ حِنْطَةٍ سَلَمًا فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى عِشْرِينَ دِينَارًا لَمْ يَجُزْ إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ دَرَاهِمَ ؛ لِأَنَّ فِي حِصَّةِ الْحِنْطَةِ هُنَا اسْتِبْدَالٌ بِالْمُسَلَّمِ فِيهِ فَيَبْطُلُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَأْخُذْ إلَّا سَلَمَكَ أَوْ رَأْسَ مَالِكَ } وَالْعَقْدُ صَفْقَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا بَطَلَ بَعْضُهُ بَطَلَ كُلُّهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ظَاهِرٌ وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَالصُّلْحُ كَذَلِكَ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْكِتَابِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ مَبْنَى الصُّلْحِ عَلَى الْحَطِّ وَالْإِغْمَاضِ وَالتَّجَوُّزِ بِدُونِ الْحَقِّ وَرُبَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ فِي الْبَعْضِ دُونَ الْبَعْضِ فَبَعْدَ مَا بَطَلَ فِي الْبَعْضِ لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ فِيمَا بَقِيَ
وَإِنْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ خَمْسَةَ دَنَانِيرَ فَصَالَحَهُ مِنْهَا عَلَى عِشْرِينَ دِينَارًا خَمْسَةٌ مِنْهَا رَأْسُ مَالِ السَّلَمِ جَازَ ؛ لِأَنَّ فِي حَقِّ السَّلَمِ هَذَا صُلْحٌ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ بِمُقَابَلَةِ الْمِائَةِ وَهُوَ صَرْفٌ مَقْبُوضٌ فِي الْمَجْلِسِ فَيَكُونُ جَائِزًا وَذُكِرَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الشَّيْبَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : سَأَلْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْن مُغَفَّلٍ وَفِي رِوَايَةٍ مَعْقِلٍ عَنْ رَجُلٍ كَانَ لِي عَلَيْهِ عَشَرَةُ أَكْرَارِ حِنْطَةٍ فَاشْتَرَيْتُ بِهَا مِنْهُ أَرْضًا فَقَالَ : لِي خُذْ رَأْسَ مَالِكَ وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا لِبَيَانِ أَنَّ الِاسْتِبْدَالِ بِالْمُسَلَّمِ فِيهِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ ، ثُمَّ عِنْدَنَا يَبْقَى عَلَيْهِ طَعَامُ السَّلَمِ بِحَالِهِ أَنَّ الشِّرَاءَ وَالصُّلْحَ إذَا بَطَلَ صَارَ كَالْمَعْدُومِ وَكَأَنَّهُ ذَهَبَ إلَى أَنَّهُمَا قَصَدَا إسْقَاطَ طَعَامِ الْمُسَلِّمِ إلَى عِوَضٍ فَيُعْتَبَرُ قَصْدُهُمَا بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَرَدُّ رَأْسِ الْمَالِ مُتَعَيَّنٌ لِذَلِكَ وَلَكِنْ مَا ذَكَرْنَا أَقْوَى وَعَنْ طَاوُسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : أَسْلَمَ رَجُلٌ إلَى رَجُلٍ فِي حُلَلِ دَقٍّ فَأَرَادَ أَنْ يُعْطِيَهُ حُلَلَ جَلٍّ كُلُّ حُلَّتَيْنِ بِحُلَّةٍ فَسَأَلَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ ذَلِكَ فَكَرِهَهُ وَبِهِ نَأْخُذُ فَإِنَّ هَذَا اسْتِبْدَالٌ بِالْمُسَلَّمِ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الثِّيَابَ مِنْ أَنْوَاعٍ مُخْتَلِفَةٍ وَأَجْنَاسٍ مُخْتَلِفَةٍ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ بَيْعِ مَا فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ وَعَنْ بَيْعِ مَا فِي ضُرُوعِهَا إلَّا مَكِيلًا يَعْنِي إلَّا مَكِيلًا بَعْدَ الْحَلْبِ وَعَنْ بَيْعِ الْعَبْدِ الْآبِقِ وَعَنْ بَيْعِ ضَرْبَةِ الْقَانِصِ وَعَنْ بَيْعِ الصَّدَقَةِ حَتَّى تُقْبَضَ وَعَنْ بَيْعِ الْمَغْنَمِ حَتَّى يُقَسَّمَ } وَبِذَلِكَ كُلِّهِ نَأْخُذُ فَإِنَّ بَيْعَ نَصِيبِهِ قَبْلَ الْقِسْمَةِ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعٌ قَبْلَ الْمِلْكِ ، وَكَذَلِكَ بَيْعُ الصَّدَقَةِ قَبْلَ الْقَبْضِ وَبَيْعُ ضَرْبَةِ الْقَانِصِ وَبَيْعُ الْعَبْدِ
الْآبِقِ بَاطِلٌ لِلْعَجْزِ عَنْ التَّسْلِيمِ وَبَيْعُ مَا فِي بُطُونِ الْأَنْعَامِ وَمَا فِي ضُرُوعِهَا لِلْغَرَرِ وَالْجَهَالَةِ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ : سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقُلْتُ إنِّي أَسْلَمْتُ إلَى رَجُلِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَقَالَ : إنْ أَعْطَيْتنِي بُرًّا فَبِكَذَا وَإِنْ أَعْطَيْتنِي شَعِيرًا فَبِكَذَا فَقَالَ : سَمِّ فِي كُلِّ نَوْعٍ وَزْنًا فَإِنْ أَعْطَاكَ فَذَاكَ وَإِلَّا فَخُذْ رَأْسَ مَالِكَ وَبِهِ نَقُولُ إذْ مِثْلُ هَذِهِ الْجَهَالَةِ وَالتَّرَدُّدِ يَمْنَعُ صِحَّةَ السَّلَمِ وَأَنَّهُ لَا يَأْخُذُ بِطَرِيقِ الصُّلْحِ إلَّا سَلَمَهُ أَوْ رَأْسَ مَالِهِ وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ اللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ وَالْحَمْلِ فِي الْبَطْنِ
وَإِنْ صَالَحَهُ عَنْ سَلَمِهِ عَلَى رَأْسِ مَالِهِ ، ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ عَلَى شَيْءٍ آخَرَ يَدًا بِيَدٍ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ حَالَ رَبِّ السَّلَمِ مَعَ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ كَحَالِ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ مَعَ رَبِّ السَّلَمِ قَبْلَ قَبْضِ رَأْسِ الْمَالِ وَكَمَا أَنَّ الِاسْتِبْدَالَ بِرَأْسِ الْمَالِ قَبْلَ الْقَبْضِ لَا يَجُوزُ فَكَذَلِكَ بَعْدَ الْإِقَالَةِ قَبْلَ الرَّدِّ إلَّا أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ مِنْ حَيْثُ إنَّ قَبْضَ رَأْسِ الْمَالِ وَاجِبٌ فِي الْمَجْلِسِ وَبَعْدَ الْإِقَالَةِ لَا يَجِبُ قَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ فِي الْمَجْلِسِ وَكَانَ ذَلِكَ بِمَعْنَى الدَّيْنِيَّةِ فَإِنَّ الدَّيْنَ بِالدَّيْنِ حَرَامٌ أَوْ لِمُقْتَضَى لَفْظِ السَّلَمِ فَهُوَ أَخْذُ عَاجِلٍ بِآجِلٍ وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْإِقَالَةِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ كَوْنِهِ غَيْرَ مُسْتَحَقِّ الْقَبْضِ فِي الْمَجْلِسِ جَوَازُ الِاسْتِبْدَالِ بِهِ كَالْمُسَلَّمِ فِيهِ وَعَنْ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ الِاسْتِبْدَالُ بَعْدَ الْإِقَالَةِ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ سَبَبُ وُجُوبِهِ الْقَبْضُ فَيَجُوزُ الِاسْتِبْدَالُ بِهِ كَبَدَلِ الْقَرْضِ وَالْغَصْبِ وَهَذَا هُوَ الْقِيَاسُ وَلَكِنَّا تَرَكْنَاهُ لِمَا بَيَّنَّا وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَأْخُذْ إلَّا سَلَمَكَ أَوْ رَأْسَ مَالِكَ } فَلَوْ جَوَّزْنَا الِاسْتِبْدَالَ بِرَأْسِ الْمَالِ بَعْدَ الْإِقَالَةِ كَانَ آخِذًا غَيْرَ سَلَمِهِ وَغَيْرَ رَأْسِ مَالِهِ وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ شَرْعًا
وَلَوْ أَسْلَمَ رَجُلٌ إلَى رَجُلٍ دَرَاهِمَ فِي شَيْءٍ سَلَمًا فَاسِدًا وَتَفَرَّقَا كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِدَرَاهِمِهِ مَا بَدَا لَهُ يَدًا بِيَدٍ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ سَبَبُ وُجُوبِهِ الْقَبْضُ وَعَقْدُ السَّلَمِ كَانَ بَاطِلًا فِي الْأَصْلِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ رَدُّ الْمَقْبُوضِ بِاعْتِبَارِ الْقَبْضِ وَالِاسْتِبْدَالِ بِبَدَلِ الْقَرْضِ فَإِنْ جَعَلَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْوَزْنِ إلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَهُوَ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ بِدَيْنٍ فَالْمَقْبُوضُ صَارَ مَمْلُوكًا لَهُ مَعَ فَسَادِ الْعَقْدِ بِالْقَبْضِ وَمِثْلُهُ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَالسَّلَمُ يُضَافُ إلَى ذَلِكَ الدَّيْنِ
وَلَوْ ادَّعَى عَبْدًا فِي يَدِ رَجُلٍ ، ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْهُ عَلَى دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ مُؤَجَّلَةٍ وَالْعَبْدُ قَائِمٌ أَوْ هَالِكٌ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ قَائِمًا بِعَيْنِهِ فَهُوَ بَيْعُ الْعَبْدِ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فِي زَعْمِ الْمُدَّعِي ، وَإِنْ كَانَ هَالِكًا فَالْوَاجِبُ هُوَ الْقِيمَةُ وَالْقِيمَةُ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ فَهَذَا تَأْجِيلٌ فِي بَدَلِ الْمَغْصُوبِ وَذَلِكَ جَائِزٌ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الصَّرْفِ ، وَإِنْ صَالَحَهُ عَلَى طَعَامٍ مُؤَجَّلٍ جَازَ إنْ كَانَ الْعَبْدُ قَائِمًا بِعَيْنِهِ ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ مَتَى كَانَ دَيْنًا بِمُقَابَلَةِ الْعَبْدِ يَكُونُ ثَمَنًا وَلَمْ يَجُزْ إنْ كَانَ هَالِكًا أَمَّا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَظَاهِرٌ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْقِيمَةُ فَيَكُونُ بَائِعًا مَا لَيْسَ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّ الطَّعَامَ إذَا قُوبِلَ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ يَكُونُ مَبِيعًا وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا يَقَعُ الصُّلْحُ عَلَيْهِ يَكُونُ بَدَلًا عَنْ الْعَبْدِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي الصُّلْحِ عَنْ الْمَغْصُوبِ الْهَالِكِ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ أَنَّهُ جَائِزٌ عِنْدَهُ وَلَكِنْ الْعَبْدُ الْهَالِكُ فِي مَعْنَى الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى عَيْنِهِ فَهُوَ دَيْنٌ فَيَكُونُ ذَلِكَ دَيْنًا بِدَيْنٍ فَلِهَذَا كَانَ فَاسِدًا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَجَلٌ جَازَ إنْ كَانَ بِعَيْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا عَنْ عَيْنٍ بِدَيْنٍ وَذَلِكَ جَائِزٌ وَهُوَ دَلِيلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ الصُّلْحُ بَدَلًا عَنْ الْقِيمَةِ لَمْ يَجُزْ ، وَإِنْ قَبَضَ فِي الْمَجْلِسِ إذَا كَانَ دَيْنًا عِنْدَ الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ وَإِنْ فَارَقَهُ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهُ وَلَمْ يَكُنْ بِعَيْنِهِ وَالْعَبْدُ هَالِكٌ بَطَلَ ؛ لِأَنَّهُمَا افْتَرَقَا عَنْ دَيْنٍ بِدَيْنٍ ، وَكَذَلِكَ إنْ صَالَحَهُ عَلَى ثِيَابٍ مُؤَجَّلَةٍ وَالْعَبْدُ هَالِكٌ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ دَيْنٌ بِدَيْنٍ وَهُوَ فَاسِدٌ شَرْعًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ ) اعْلَمْ بِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَ الْمُهَايَأَةِ ؛ لِأَنَّهَا مُبَادَلَةُ الْمَنْفَعَةِ بِجِنْسِهَا وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ فِي نَوْبَتِهِ يَنْتَفِعُ بِمِلْكِ شَرِيكِهِ عِوَضًا عَنْ انْتِفَاعِ الشَّرِيكِ بِمِلْكِهِ فِي نَوْبَتِهِ وَلَكِنْ تَرَكْنَا الْقِيَاسَ وَجَوَّزْنَاهُ لِلْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى { لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ } وَهَذَا هُوَ الْمُهَايَأَة وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رُوِيَ أَنَّ الرَّجُلَ الَّذِي خَطَبَ تِلْكَ الْمَرْأَةَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ مَاذَا تُصْدِقُهَا قَالَ نِصْفَ إزَارِي هَذَا قَالَ : صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا تَصْنَعُ بِإِزَارِكَ إنْ لَبِسْتَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا مِنْهُ شَيْءٌ ، وَإِنْ لَبِسَتْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ شَيْءٌ } وَهَذَا تَفْسِيرُ الْمُهَايَأَةِ وَلِأَنَّ الْمَنَافِعَ يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهَا بِالْعَقْدِ بِعِوَضٍ وَبِغَيْرِ عِوَضٍ كَالْأَعْيَانِ ثُمَّ الْقِسْمَةُ فِي الْأَعْيَانِ الْمُشْتَرَكَةِ عِنْدَ إمْكَانِ التَّعْدِيلِ جَائِزَةٌ فَكَذَلِكَ فِي الْمَنَافِعِ الْمُشْتَرَكَةِ وَلِهَذَا يُجْبِرُ الْقَاضِي الشُّرَكَاءَ عَلَى الْمُهَايَأَةِ إذَا طَلَبَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ وَأَبَى الْبَعْضُ وَاَلَّذِي أَبَى لَمْ يَطْلُبْ قِسْمَةَ الْعَيْنِ وَالْأَصْلُ أَنَّ اخْتِصَاصَ الْعَقْدِ بِاسْمٍ لِاخْتِصَاصِهِ بِحُكْمٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَعْنَى ذَلِكَ الِاسْمِ فَقِسْمَةُ الْمَنَافِعِ لَمَّا اخْتَصَّتْ بِاسْمِ الْمُهَايَأَةِ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى اخْتِصَاصِهَا بِمَعْنًى يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا الِاسْمُ وَهُوَ أَنَّ وُصُولَ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا إلَيْهِ يَسْبِقُ وُصُولَ نَصِيبِ الْآخَرِ إلَيْهِ بِخِلَافِ قِسْمَةِ الْعَيْنِ وَهَذَا الْعَقْدُ لَيْسَ كَالْإِجَارَةِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ ؛ لِأَنَّ فِي الْإِجَارَةِ يَسْتَحِقُّ مَنْفَعَةَ الْعَيْنِ بِالْعَقْدِ وَهُنَا مَا يَسْتَوْفِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَلْ يُجْعَلُ فِي الْحُكْمِ كَأَنَّهُ مَنْفَعَةُ مِلْكِهِ عَلَى مَا هُوَ مَوْضُوعُ الْقِسْمَةِ مِنْ الْعَيْنِ وَكَوْنُ مَعْنَى الْمُعَاوَضَاتِ
فِيهِ بَيْعًا وَلَيْسَ فِي عَيْنِ الْعَارِيَّةِ أَيْضًا لِهَذَا الْمَعْنَى وَلِأَنَّ الْعَارِيَّةَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا الِاسْتِحْقَاقُ وَيَتَعَلَّقُ بِالْمُهَايَأَةِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ تُشْبِهُ الْإِجَارَةَ وَلَكِنْ الِاسْتِحْقَاقُ فِي الْمُهَايَأَةِ دُونَ الِاسْتِحْقَاقِ فِي الْإِجَارَةِ عَلَى مَعْنَى أَنْ هُنَاكَ لَا يَنْفَرِدُ أَحَدُهُمَا بِالْفَسْخِ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَهُنَا يَمْلِكُ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فَسْخَ الْمُهَايَأَةِ بِطَلَبِ الْقِسْمَةِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ تَمْيِيزُ الْمِلْكِ قِسْمَةُ الْعَيْنِ وَالْمُهَايَأَةُ خُلُوٌّ عَنْهُ ( أَلَا تَرَى ) إنَّ فِي الِابْتِدَاءِ لَوْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا قِسْمَةَ الْعَيْنِ لَمْ يَشْتَغِلْ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا بِالْمُهَايَأَةِ فَكَذَلِكَ فِي الِانْتِهَاءِ إذَا طَلَبَ مَا هُوَ الْأَصْلُ وَهُوَ قِسْمَةُ الْعَيْنِ لَا تُسْتَدَامُ الْمُهَايَأَةُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ الْعَارِيَّةُ وَالْإِجَارَةُ تَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا وَقِسْمَةُ الشَّرِكَةِ تَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا عِنْدَ مُحَمَّدٍ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تَبْطُلُ وَالْمُهَايَأَةُ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ ؛ لِأَنَّا لَوْ أَبْطَلْنَاهَا اُحْتِجْنَا إلَى إعَادَتِهَا فَالشَّرِيكُ الْحَيُّ أَوْ وَارِثُ الْمَيِّتِ طَالِبٌ لِذَلِكَ وَلَا فَائِدَةَ فِي نَقْضِ شَيْءٍ يُحْتَاجُ إلَى إعَادَتِهِ فِي الْحَالِ
ثُمَّ الْمُهَايَأَةُ قَدْ تَكُونُ بِالْمَكَانِ وَقَدْ تَكُونُ بِالزَّمَانِ فَصُورَةُ الْمُهَايَأَةِ بِالْمَكَانِ فِيمَا بُدِئَ الْبَابُ بِهِ قَالَ : دَارٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ تَهَايَآ فِيهَا عَلَى أَنْ يَسْكُنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْزِلًا مَعْلُومًا وَأَنْ يُؤَاجِرَ كُلٌّ حِصَّةَ مَنْزِلِهِ فَهُوَ جَائِزٌ وَلَا حَاجَةَ إلَى بَيَانِ الْمُدَّةِ فِي صِحَّةِ هَذَا الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ الْمُهَايَأَةَ قِسْمَةُ الْمَنْفَعَةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَفِي قِسْمَةِ الْعَيْنِ لَا حَاجَةَ إلَى بَيَانِ الْمُدَّةِ فَكَذَلِكَ فِي قِسْمَةِ الْمَنْفَعَةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إلَى بَيَانِ الْمُدَّةِ فِي الْإِجَارَةِ لِمَعْرِفَةِ مِقْدَارِ مَا يُسْتَحَقُّ مِنْ الْمَنْفَعَةِ مِنْ تِلْكَ الْعَيْنِ عَلَى وَجْهٍ بِهِ تَنْقَطِعُ الْمُنَازَعَةُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا هُنَا يَسْتَوْفِي الْمَنْفَعَةَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِلْكُهُ وَالْمُنَازَعَةُ تَنْقَطِعُ بِبَيَانِ مَنْزِلٍ لِكُلٍّ مِنْهُمَا ، ثُمَّ إنْ كَانَا شَرَطَا فِي الْمُهَايَأَةِ أَنْ يُؤَاجِرَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَنْزِلَهُ فَذَلِكَ جَائِزٌ ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطَا فَفِي ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي نَصِيبِهِ وَمَا يُسْتَوْفَى مِنْ الْغَلَّةِ حَلَالٌ لَهُ وَكَانَ أَبُو عَلِيٍّ الشَّاشِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : لَيْسَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا مَا شَرَطَ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُنْتَفِعٌ بِنَصِيبِ صَاحِبِهِ حَقِيقَةً فَالْمَنْزِلُ الَّذِي فِي يَدِهِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحُكْمِ الْمُعَاوَضَةِ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ مُعَاوَضَةَ الْمَنْفَعَةِ بِجِنْسِهَا لَا يَجُوزُ فَعَرَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْإِبَاحَةِ وَالْإِعَارَةِ وَالْمُسْتَعِيرُ لَا يُؤَاجِرُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ الْمُهَايَأَةَ قِسْمَةُ الْمَنْفَعَةِ فَمَا يُصِيبُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ الْمَنْفَعَةِ يُجْعَلُ مُسْتَحَقًّا لَهُ بِاعْتِبَارِ قَدِيمِ مِلْكِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ جِنْسٌ وَاحِدٌ لَا يَتَفَاوَتُ بِمَنْزِلَةِ الْقِسْمَةِ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَهُوَ يَمْلِكُ الِاعْتِيَاضَ عَنْ الْمَنْفَعَةِ الْمَمْلُوكَةِ
لَهُ لَا مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ سَوَاءٌ شَرَطَ ذَلِكَ أَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ وَلَيْسَ لِأَحَدِهِمَا أَنْ يُحْدِثَ فِي مَنْزِلِهِ بِنَاءً وَلَا يَنْقُضَهُ وَلَا يَفْتَحَ بَابًا فِي حَائِطٍ وَلَا كُوَّةً إلَّا بِرِضَا صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّ الْعَيْنَ تَبْقَى مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا كَمَا كَانَتْ قَبْلَ الْمُهَايَأَةِ وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ لَا يَسْتَبِدُّ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ فِي الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ مَا لَمْ يَرْضَ بِهِ صَاحِبُهُ وَبِالْمُهَايَأَةِ إنَّمَا تَثْبُتُ الْقِسْمَةُ فِي الْمَنْفَعَةِ فَفِيمَا لَيْسَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ حَالُهُمَا بَعْدَ الْمُهَايَأَةِ كَمَا قَبْلَهَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَهَايَآ عَلَى أَنْ يَكُونَ السُّفْلُ فِي يَدِ أَحَدِهِمَا وَالْعُلْوُ فِي يَدِ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَسْكَنٌ بِمَنْزِلَةِ الْمَنْزِلَيْنِ فِي عُلْوٍ أَوْ سُفْلٍ
وَكَذَلِكَ التَّهَايُؤُ فِي الدَّارَيْنِ عَلَى السُّكْنَى وَالْغَلَّةِ جَائِزٌ وَكَانَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : الْمُرَادُ إذَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ فَأَمَّا عِنْدَ طَلَبِ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ فَالْقَاضِي لَا يُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْقِسْمَةِ لِلْعَيْنِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْقِسْمَةِ أَنَّ قِسْمَةَ الْجَبْرِ لَا تَجْرِي فِي الدُّورِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَكَذَلِكَ التَّهَايُؤُ وَإِلَّا ظَهَرَ أَنَّ الْقَاضِيَ يُجْبَرُ عَلَيْهِ عِنْدَ طَلَبِ بَعْضِ الشُّرَكَاءِ ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ فِي الْمُهَايَأَةِ تُلَاقِي الْمَنْفَعَةَ دُونَ الْعَيْنِ وَمَنْفَعَةُ السُّكْنَى تَتَقَارَبُ وَلَا تَتَفَاوَتُ إلَّا يَسِيرًا بِخِلَافِ قِسْمَةِ الْعَيْنِ فَالْمُعَادَلَةُ فِي الْمَالِيَّةِ هُنَاكَ مُعْتَبَرَةٌ وَالدُّورُ تَخْتَلِفُ فِي الْمَالِيَّةِ بِاخْتِلَافِ الْمَكَانِ وَالْجِيرَانِ وَلِهَذَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يُؤَاجِرَ مَا فِي يَدِهِ وَيَأْكُلَ غَلَّتَهُ ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ سَالِمَةٌ لَهُ بِهَذِهِ الْقِسْمَةِ بِاعْتِبَارِ قَدِيمِ مِلْكِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ فِي الدَّارَيْنِ إذَا غَلَّتْ مَا فِي يَدِ أَحَدِهِمَا أَكْثَرَ مِمَّا غَلَّتْ مَا فِي يَدِ الْآخَرِ فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَرْجِعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِشَيْءٍ بِخِلَافِ الدَّارِ الْوَاحِدَةِ فَهُنَاكَ إذَا تَهَايَآ فِيهَا عَلَى الِاسْتِغْلَالِ فَكَانَتْ غَلَّةُ نَصِيبِ أَحَدِهِمَا فِي نَوْبَتِهِ أَكْثَرَ فَذَلِكَ الْفَضْلُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ فِي الدَّارَيْنِ مَعْنَى الْقِسْمَةِ وَالتَّمَيُّزُ بِالتَّرَاجُعِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِلُ إلَى الْمَنْفَعَةِ وَالْغَلَّةِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَصِلُ إلَيْهِ صَاحِبُهُ فَمَا يَسْتَوْفِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِوَضٌ عَنْ قَدِيمِ مِلْكِهِ يَسْتَوْجِبُهُ بِعَقْدِهِ فَيُسَلَّمُ لَهُ وَفِي الدَّارِ الْوَاحِدَةِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْوَكِيلِ مِنْ صَاحِبِهِ فِي إجَارَةِ نَصِيبِهِ فِي نَوْبَتِهِ إذَا تَهَايَآ عَلَى الِاسْتِغْلَالِ فَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بِالزَّمَانِ وَأَحَدُهُمَا يَصِلُ إلَى
الْغَلَّةِ قَبْلَ وُصُولِ الْآخَرِ إلَيْهَا وَذَلِكَ لَا يَكُونُ قَضِيَّةَ الْقِسْمَةِ فَلَا بُدَّ أَنْ يُجْعَلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَنْزِلَةِ وَكِيلٍ عَنْ صَاحِبِهِ وَمَا يَقْبِضُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِوَضٌ عَمَّا يَقْبِضُ صَاحِبُهُ مِنْ عِوَضِ نَصِيبِهِ فَعِنْدَ التَّفَاضُلِ يَثْبُتُ التَّرَاجُعُ فِيمَا بَيْنَهُمَا لِيَسْتَوِيَا وَيُوَضِّحُ هَذَا أَنَّ الْفَرْقَ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ فِي الْمُهَايَأَةِ فِي الدَّارَيْنِ يُعْتَمَدُ التَّرَاضِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ظَاهِرٌ وَعِنْدَهُمَا قِسْمَةُ الْجَبْرِ فِي الدَّارَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا تَجْرِي إلَّا إذَا رَأَى الْقَاضِي الْمَصْلَحَةَ فِيهِ وَعِنْدَ التَّرَاضِي يُسَلَّمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا رَضِيَ بِهِ صَاحِبُهُ وَفِي الدَّارِ الْوَاحِدَةِ لَا يُعْتَبَرُ التَّرَاضِي فِي الْمُهَايَأَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْمُعَادَلَةِ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِالْمُهَايَأَةِ فَلِهَذَا يَتَرَاجَعَانِ فَضْلَ الْغَلَّةِ
وَالْمُهَايَأَةُ فِي النَّخْلِ وَالشَّجَرِ عَلَى كُلِّ الْغَلَّةِ بَاطِلٌ ؛ لِأَنَّ غَلَّةَ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ لَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهَا بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ فَلَا تُسْتَحَقُّ بِالْمُهَايَأَةِ أَيْضًا وَهَذَا ؛ لِأَنَّهَا عَيْنٌ تَبْقَى بَعْدَ حُدُوثٍ وَيَتَأَتَّى فِيهَا قِسْمَةُ الْعَيْنِ وَإِنَّمَا جَوَازُ الْمُهَايَأَةِ فِيمَا لَا يَتَأَتَّى فِيهَا الْقِسْمَةُ بَعْدَ الْوُجُودِ حَقِيقَةً أَوْ مَا يَكُونُ عِوَضًا مِنْهُ كَغَلَّةِ الدَّارِ وَنَحْوِهَا وَلِهَذَا لَا تَجُوزُ الْمُهَايَأَةُ فِي الْغَنَمِ عَلَى الْأَوْلَادِ وَالْأَلْبَانِ وَالْأَصْوَافِ ؛ لِأَنَّهَا عَيْنٌ تَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ بَعْدَ الْوُجُودِ حَقِيقَةً
وَلَوْ ادَّعَى فِي دَارٍ حَقًّا فَتَهَايَآ عَلَى أَنْ يَنْزِلَ بَيْتًا مِنْهَا مِنْ غَيْرِ صُلْحٍ عَلَى أَنْ يَكُفَّ عَنْ الْخُصُومَةِ حَتَّى يَبْدُوَ لَهُ أَنْ يُخَاصِمَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مِنْ سُكْنَى الْبَيْتِ شَيْئًا وَلَا يَلْزَمُهُ بِخُرُوجِهِ حَقٌّ فَذَلِكَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ ذَا الْيَدِ أَعَارَهُ الْبَيْتَ وَالْآخَرَ تَرَكَ الْخُصُومَةَ زَمَانًا وَمِثْلُ هَذَا يَجُوزُ بِالتَّرَاضِي فِيهِ وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حُجَّتِهِ إذَا بَدَا لَهُ
وَالتَّهَايُؤُ عَلَى الْخِدْمَةِ فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ تَجُوزُ عَلَى الزَّمَانِ هَذَا شَهْرٌ وَهَذَا شَهْرٌ ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْمُعَادَلَةِ فِي قِسْمَةِ الْخِدْمَةِ بِالزَّمَانِ مُمْكِنٌ وَذَلِكَ فِي الْعَبْدَيْنِ إذَا تَهَايَآ عَلَى أَنْ يَخْدُمَ هَذَا الْعَبْدُ أَحَدَهُمَا وَالْعَبْدُ الْآخَرَ فَذَلِكَ جَائِزٌ أَمَّا عِنْدَهُمَا فَلِأَنَّ قِسْمَةَ الْجَبْرِ فِي الرَّقِيقِ تَجْرِي فَكَذَلِكَ فِي خِدْمَةِ الرَّقِيقِ وَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الرَّقِيقِ لَا تَجْرِي قِسْمَةُ الْجَبْرِ ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ الْمُعَادَلَةِ فِي الْمَالِيَّةِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَإِنَّهَا تَخْتَلِفُ بِمَعَانٍ بَاطِنَةٍ لَا يُوقَفُ عَلَى حَدِّهَا وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْخِدْمَةِ وَالْمُهَايَأَةُ فِي خِدْمَةِ الْعَبْدَيْنِ وَالْمُهَايَأَةُ فِي خِدْمَةِ الْعَبْدِ الْوَاحِدِ سَوَاءٌ
وَلَوْ تَهَايَآ عَلَى الْغَلَّةِ فِي الْعَبْدَيْنِ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجَازَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَفِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ لَا تَجُوزُ الْمُهَايَأَةُ فِي الْغَلَّةِ بِالِاتِّفَاقِ فَهُمَا يَقُولَانِ مَعْنَى الْقِسْمَةِ وَالتَّمْيِيزِ يَتَرَجَّحُ فِي غَلَّةِ الْعَبْدَيْنِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصِلُ إلَى نَصِيبِهِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَصِلُ إلَى صَاحِبِهِ فَيَجُوزُ ذَلِكَ كَمَا فِي الْمُهَايَأَةِ فِي الْخِدْمَةِ وَفِي غَلَّةِ الدَّارَيْنِ فَأَمَّا فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ فَمَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ يَغْلِبُ ؛ لِأَنَّهُ يَصِلُ أَحَدُهُمَا إلَى الْغَلَّةِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ الْآخَرُ إلَيْهِ وَفِيهِ مَعْنَى الْخَطَرِ وَرُبَّمَا يَمْرَضُ الْعَبْدُ فِي نَوْبَةِ أَحَدِهِمَا فَيَعْجَزُ عَنْ الْخِدْمَةِ وَرُبَّمَا يَمْتَنِعُ مِنْ الْخِدْمَةِ بِدَعْوَى الْحُرِّيَّةِ وَمَعْنَى الْخَطَرِ فِي الْمُعَاوَضَةِ مُبْطِلٌ لَهُ وَبِهِ فَارَقَ غَلَّةَ الدَّارِ الْوَاحِدَةِ ؛ لِأَنَّ بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ هُنَاكَ الْغَلَّةُ تُسَلَّمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي نَوْبَتِهِ وَالْغَالِبُ هُوَ السَّلَامَةُ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمُهَايَأَةَ فِي الْغَلَّةِ مِنْ وَجْهٍ كَالْمُهَايَأَةِ فِي الْخِدْمَةِ ؛ لِأَنَّ الْغَلَّةَ بَدَلُ الْمَنْفَعَةِ وَمِنْ وَجْهٍ كَالْمُهَايَأَةِ فِي غَلَّةِ النَّخْلِ ؛ لِأَنَّ مَا يُسَلَّمُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِهِ عَيْنٌ فَلِشَبَهِهِ بِالْمُهَايَأَةِ فِي الْخِدْمَةِ جَوَّزْنَا ذَلِكَ فِي الْعَبْدَيْنِ لِتَرَجُّحِ مَعْنَى الْقِسْمَةِ فِيهَا وَلِشَبَهِهِ بِالْمُهَايَأَةِ فِي غَلَّةِ النَّخْلِ أَبْطَلْنَا ذَلِكَ فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : الْمَقْصُودُ بِهَذِهِ الْمُهَايَأَةِ سَلَامَةُ سَبَبِ مِلْكِ الْحَيَوَانِ فَلَا يَجُوزُ كَالْمُهَايَأَةِ فِي غَلَّةِ الْعَبْدِ الْوَاحِدِ وَكَالْمُهَايَأَةِ فِي أَوْلَادِ الْغَنَمِ وَأَلْبَانِهَا وَهَذَا ؛ لِأَنَّ التَّهَايُؤَ عَلَى الِاسْتِقْلَالِ لَوْ كَانَ يَجُوزُ فِي الرَّقِيقِ لَكَانَ جَوَازُهُ فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْمُعَادَلَةِ وَالتَّمْيِيزَ فِيهِ أَظْهَرُ
مِنْهُ فِي الْعَبْدَيْنِ فَإِذَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ فَأُولَى أَنْ لَا يَجُوزَ فِي الْعَبْدَيْنِ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ فِي يَدِ نَفْسِهِ وَرُبَّمَا لَا يَنْقَادُ فِي الِاسْتِعْمَالِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَحْصِيلِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِنَفْسِهِ فِي نَوْبَتِهِ أَوْ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ الْعَبْدِ وَقِيلَ هَذَا الْمَسْأَلَةُ تَنْبَنِي عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي قِسْمَةِ الرَّقِيقِ فَالْمَقْصُودُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمَالِيَّةُ هُنَا فَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَرَى قِسْمَةَ الْجَبْرِ فِي الرَّقِيقِ وَهُمَا يَرَيَانِ قِسْمَةَ الْجَبْرِ فِي الرَّقِيقِ فَكَذَلِكَ فِي غَلَّةِ الرَّقِيقِ وَلِهَذَا لَا تَجُوزُ الْمُهَايَأَةُ فِي غَلَّةِ الْعَبْدِ الْوَاحِدِ عِنْدَهُمْ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ لَا تَجْرِي فِيهِ بِخِلَافِ الْمُهَايَأَةِ لِلْخِدْمَةِ فَالْمَقْصُودُ هُنَاكَ الْمَنْفَعَةُ دُونَ الْمَالِيَّةِ فَجَازَ ذَلِكَ فِي الْعَبْدِ الْوَاحِدِ وَالْعَبْدَيْنِ
وَإِذَا كَانَتْ جَارِيَةٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَخَافَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ عَلَيْهَا فَقَالَ : أَحَدُهُمَا تَكُونُ عِنْدَكَ يَوْمًا وَعِنْدِي يَوْمًا وَقَالَ الْآخَرُ بَلْ نَضَعُهَا عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ فَإِنِّي أَجْعَلُهَا عِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ يَوْمًا وَلَا أَضَعُهَا عَلَى يَدَيْ عَدْلٍ إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا ؛ لِأَنَّ الْيَدَ مُسْتَحِقَّةٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَالْمِلْكِ فَكَمَا لَا يَجُوزُ إبْطَالُ مِلْكِ الْعَيْنِ عَلَيْهِمَا بِطَلَبِ أَحَدِهِمَا فَكَذَلِكَ إبْطَالُ مِلْكِ الْيَدِ وَفِي التَّعْدِيلِ إبْطَالُ الْيَدِ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلِأَنَّ مَا يَخَافُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَوْهُومٌ وَالْمَوْهُومُ لَا يُعَارِضُ الْمُتَحَقِّقَ وَبِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ الْمُتَحَقِّقِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يُسْتَحَقُّ الْعَبْدُ فِي نَوْبَتِهِ فَلَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ عَنْ يَدِ مَا هُوَ مَوْهُومٌ فَإِنْ تَنَازَعَا فِيمَنْ يَبْدَأُ بِهِ فِي هَذِهِ الْمُهَايَأَةِ فَالرَّأْيُ فِي ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي يَبْدَأُ بِأَيِّهِمَا شَاءَ كَمَا فِي الْقِسْمَةِ
وَالْمُهَايَأَةُ فِي الْخِدْمَةِ وَالسُّكْنَى لِلْقَاضِي أَنْ يَبْدَأَ بِأَيِّهِمَا شَاءَ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ دُونَ الْمَيْلِ وَالْأَوْلَى أَنْ يَقْرَعَ بَيْنَهُمَا نَفْيًا لِتُهْمَةِ الْمَيْلِ عَنْ نَفْسِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِيمَا لِلْقَاضِي أَنْ يَفْعَلَهُ بِغَيْرِ إقْرَاعٍ يَسْتَعْمِلُ الْقُرْعَةَ لِتَطْيِيبِ قُلُوبِ الشُّرَكَاءِ وَنَفْيِ تُهْمَةِ الْمَيْلِ عَنْ نَفْسِهِ
التَّهَايُؤُ عَلَى الرُّكُوبِ أَوْ الْغَلَّةِ فِي الدَّابَّتَيْنِ لَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَا يَعْلَمُهُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَجُوزُ فِي الْغَلَّةِ كَالرُّكُوبِ جَمِيعًا أَمَّا فِي الْغَلَّةِ فَهُوَ بِنَاءً عَلَى التَّهَايُؤِ فِي غَلَّةِ الْعَبْدَيْنِ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ وَإِنَّمَا صَحَّتْ الرَّاوِيَةُ هُنَا عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقَالَ فِيمَا يَعْلَمُ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِأَنَّ الدَّابَّتَيْنِ فِي الْقِسْمَةِ لَيْسَتَا كَالْعَبْدَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَقِسْمَةُ الْجَبْرِ فِي الدَّابَّتَيْنِ تَجُوزُ وَلَا تَجُوزُ فِي الْعَبْدَيْنِ وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ أَنَّ مَا يَمْلِكُهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِسَبَبِ مِلْكِ الْحَيَوَانِ يُشْبِهُ هَذَا التَّهَايُؤَ فِي الْغَنَمِ عَلَى الْأَوْلَادِ وَالْأَلْبَانِ فَكَذَلِكَ لَا يُجَوِّزُهُ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ
وَأَمَّا الْكَلَامُ فِي الْمُهَايَأَةِ فِي رُكُوبِ الدَّابَّتَيْنِ فَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَقُولَانِ : مَنْفَعَةُ الرُّكُوبِ فِي الدَّوَابِّ كَمَنْفَعَةِ الْخِدْمَةِ فِي الْعَبِيدِ وَالسُّكْنَى فِي الدَّارِ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ اسْتِحْقَاقَ ذَلِكَ بِالْإِجَارَةِ يَجُوزُ ، وَكَذَلِكَ اسْتِيفَاؤُهُ بِالْإِعَارَةِ فَكَمَا لَا تَجُوزُ الْمُهَايَأَةُ فِي خِدْمَةِ الْعَبْدَيْنِ فَكَذَلِكَ فِي رُكُوبِ الدَّابَّتَيْنِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : جَوَازُ الْمُهَايَأَةِ فِي خِدْمَةِ الْعَبْدَيْنِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْمُعَادَلَةِ وَالتَّمْيِيزِ وَذَلِكَ فِي رُكُوبِ الدَّابَّتَيْنِ غَيْرُ مُمْكِنٍ فَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِي رُكُوبِ الدَّابَّةِ فَرُبَّ رَاكِبٍ يُرَوِّضُ الدَّابَّةَ وَيُثْقِلُهَا الْآخَرُ وَلِهَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً أَوْ اسْتَعَارَهَا لِيَرْكَبَهَا هُوَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُرْكِبَ غَيْرَهُ ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ يَتَعَذَّرُ اعْتِبَارُ مَعْنَى الْمُعَادَلَةِ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ فِي الِانْتِفَاعِ بِالدَّابَّتَيْنِ رُكُوبًا بِخِلَافِ الْخِدْمَةِ وَالسُّكْنَى وَذَلِكَ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُسْتَوْفَى ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ مَنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ مِنْ غَيْرِهِ وَإِذَا ثَبَتَ بِهَذَا الطَّرِيقِ أَنَّ التَّهَايُؤَ عَلَى الدَّابَّتَيْنِ فِي الرُّكُوبِ لَا يَجُوزُ ثَبَتَ فِي الْغَلَّةِ بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى ؛ لِأَنَّ اسْتِقْلَالَ الدَّوَابِّ بِالْإِجَارَةِ مِمَّنْ يَرْكَبُهَا وَذَلِكَ غَيْرُ مَعْلُومٍ عِنْدَ الْمُهَايَأَةِ وَالضَّرَرُ عَلَى كُلِّ دَابَّةٍ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَنْ يَرْكَبُهَا فَلِهَذَا لَا يَجُوزُ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ التَّهَايُؤُ فِي رُكُوبِ دَابَّةٍ وَاحِدَةٍ ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يُجَوِّزَانِ التَّهَايُؤَ فِي غَلَّةِ دَابَّةٍ وَاحِدَةٍ كَمَا لَا يُجَوِّزَانِ فِي غَلَّةِ عَبْدٍ وَاحِدٍ وَالتَّهَايُؤُ فِي الْغَنَمِ عَلَى الْأَلْبَانِ وَالْأَوْلَادِ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ وَوُجُودُ أَصْلِهِ عَلَى خَطَرٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَحْصِيلِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ لِنَفْسِهِ فِيمَا فِي يَدِهِ
وَالتَّهَايُؤُ فِي دَارٍ وَعَبْدٍ عَلَى السُّكْنَى وَالْخِدْمَةِ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهُ بِالْمُهَايَأَةِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ فَعِنْدَ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ أَوْلَى وَعَلَى الْغَلَّةِ بَاطِلٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِهِمَا ؛ لِأَنَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ غَلَّةُ الْعَبْدِ لَا تُسْتَحَقُّ بِالتَّهَايُؤِ وَاعْتِبَارُ هَذَا الْجَانِبِ يُبْطِلُ الْعَقْدَ وَاعْتِبَارُ جَانِبِ غَلَّةِ الدَّارِ يُصَحِّحُهُ وَيَتَمَكَّنُ الْمُفْسِدُ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِفَسَادِ الْعَقْدِ كَمَا لَوْ بَاعَ دَارًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَرِطْلٍ مِنْ خَمْرٍ
وَلَوْ تَهَايَآ فِي أَرْضٍ عَلَى أَنْ يَزْرَعَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَائِفَةً مِنْهَا مَعْلُومَةً وَيُؤَاجِرَهَا جَازَ بِمَنْزِلَةِ السُّكْنَى فِي الدَّارِ وَلَهُمَا أَنْ يُبْطِلَا الْمُهَايَأَةَ وَيَقْتَسِمَا إذَا بَدَا لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ قِسْمَةَ الْعَيْنِ هُوَ الْأَصْلُ فِي الْبَابِ وَتَمَامُ التَّمْيِيزِ بِهِ يَحْصُلُ وَوَرَثَتُهُمَا فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَتِهِمَا لِقِيَامِ الْوَارِثِ مَقَامَ الْمُوَرِّثِ فِيمَا هُوَ مِنْ حَقِّهِ ، وَكَذَلِكَ الْمُهَايَأَةُ فِي دَارٍ وَأَرْضٍ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ هَذَا الدَّارَ وَيَزْرَعَ هَذَا الْأَرْضَ ، وَكَذَلِكَ الْمُهَايَأَةُ فِي دَارٍ وَحَمَّامٍ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمَنْفَعَتَيْنِ يَجُوزُ اسْتِحْقَاقُهَا بِالْمُهَايَأَةِ
وَلَوْ كَانَتْ الْمُهَايَأَةُ فِي مَنْزِلٍ وَاحِدٍ عَلَى أَنْ يَسْكُنَ أَحَدُهُمَا سُفْلَهُ وَالْآخَرُ عُلْوَهُ فَانْهَدَمَ الْعُلْوُ كَانَ لِصَاحِبِهِ أَنْ يَسْكُنَ مَعَ صَاحِبِهِ السُّفْلَ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ عَنْ سُكْنَى السُّفْلِ بِشَرْطِ سَلَامَةِ سُكْنَى الْعُلْوِ لَهُ وَلَمْ يُسَلَّمْ لَهُ حِينَ انْهَدَمَ فَكَانَ هُوَ عَلَى حَقِّهِ فِي سُكْنَى السُّفْلِ بِاعْتِبَارِ مِلْكِ نَصِيبِهِ وَوَرَثَتُهُ فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَتِهِ
وَإِنْ كَانَا تَهَايَآ عَلَى الْخِدْمَةِ فِي عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ أَوْ فِي عَبْدٍ وَأَمَةٍ عَلَى أَنْ تَخْدُمَ الْأَمَةُ أَحَدَهُمَا وَالْعَبْدُ الْآخَرَ وَاشْتَرَطَا عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا طَعَامَ خَادِمِهِ فَفِي الْقِيَاسِ هَذَا لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ مَا يَتَنَاوَلُ مِنْ الطَّعَامِ فِي نَوْبَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ مَعْلُومٍ وَالْآدَمِيُّ قَدْ يَنْشَطُ لِلْأَكْلِ فِي وَقْتٍ وَلَا يَنْشَطُ فِي وَقْتٍ آخَرَ وَالطَّعَامُ عَلَيْهِمَا سَوَاءٌ لِاسْتِوَاءِ مِلْكَيْهِمَا فِيهِ فَلَا تُمْكِنُ فِي هَذَا الشَّرْطِ مُعَاوَضَةٌ بَيْنَهُمَا فِيمَا هُوَ مَجْهُولٌ وَفِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ هَذَا الْقِيَاسُ أَوْضَحُ وَلَكِنْ اُسْتُحْسِنَ جَوَازُ ذَلِكَ لِقِلَّةِ التَّفَاوُتِ وَاعْتِبَارِ مَا عَلَيْهِ عَادَةُ النَّاسِ مِنْ الْمُسَاهَلَةِ فِي أَمْرِ الطَّعَامِ ، وَإِنْ اشْتَرَطَا الْكِسْوَةَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يَجُزْ لِكَثْرَةِ التَّفَاوُتِ فِي الْكِسْوَةِ وَلِأَنَّهُ لَا يَجْرِي فِي الْكِسْوَةِ مِنْ الْمُسَاهَلَةِ مَا يَجْرِي فِي الطَّعَامِ ، ثُمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا يَتَنَاوَلُ يَتَقَوَّى عَلَى الْخِدْمَةِ فَالظَّاهِرُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَا يَمْنَعُهُ مِنْ التَّنَاوُلِ بِقَدْرِ الْكِفَايَةِ لِمَا لَهُ فِيهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَالْجَهَالَةُ إذَا كَانَتْ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ لَا تُفْسِدُ الْعَقْدَ وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ فِي الْكِسْوَةِ إذْ لَيْسَ لِلْكِسْوَةِ تَأْثِيرٌ فِي إحْدَاثِ الْقُوَّةِ عَلَى زِيَادَةِ الْخِدْمَةِ فَإِنْ أَقَّتَا مِنْ الْكِسْوَةِ شَيْئًا مَعْرُوفًا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ يَقِلُّ وَيَنْعَدِمُ بِعَدَمِ بَيَانِ الْوَصْفِ وَالْمُنَازَعَةُ تَنْقَطِعُ بِهِ وَلِأَنَّ مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ هُنَا فِيمَا لَا يَتِمُّ مَعْنَى اللُّزُومِ فِيهِ فَإِنَّهُ بِنَاءٌ عَلَى الْمُهَايَأَةِ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حُكْمَ اللُّزُومِ لَا يَتِمُّ بِالْمُهَايَأَةِ وَفِي مِثْلِهِ الْبَيَانُ الْمَوْصُوفُ يَثْبُتُ بِالْقِسْمَةِ كَمَا فِي الصَّدَاقِ وَنَحْوِهِ
وَلَوْ كَانَتْ غَنَمٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَتَهَايَآ عَلَى أَنْ يَرْعَاهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا شَهْرًا أَوْ عَلَى أَنْ يَسْتَأْجِرَ لَهَا أَجِيرًا جَازَ ؛ لِأَنَّ الرَّعْيَ فِي الدَّوَابِّ بِمَنْزِلَةِ الطَّعَامِ فِي بَنِي آدَمَ أَوْ أَظْهَرَ مِنْهُ فَالتَّفَاوُتُ يَنْعَدِمُ هُنَا وَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَوَلِيُّ الصَّغِيرِ بِمَنْزِلَةِ الصَّغِيرِ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ حَوَائِجِهِ - يَرْجِعُ إلَى إصْلَاحِ مِلْكِهِ وَهُوَ مِنْ صُنْعِ التُّجَّارِ
وَلَوْ تَهَايَآ عَلَى الْخِدْمَةِ فِي الْأَمَتَيْنِ ، ثُمَّ وَطِئَ أَحَدُهُمَا الْأَمَةَ الَّتِي عِنْدَهُ فَعَلِقَتْ فَسَدَتْ الْمُهَايَأَةُ ؛ لِأَنَّهُ تَمَلَّكَ نَصِيبَ شَرِيكِهِ حِينَ اسْتَوْلَدَهَا بِضَمَانِ نِصْفِ الْقِيمَةِ وَكَمَا لَا يَصِحُّ ابْتِدَاءُ الْمُهَايَأَةِ إلَّا بِعَمَلٍ مُشْتَرَكٍ فَكَذَلِكَ مَا لَا يَبْقَى وَلَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمَا فِيهَا بَعْدَ مَا اسْتَوْلَدَهَا أَحَدُهُمَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَتْ أَوْ أَبِقَتْ انْتَقَضَتْ الْمُهَايَأَةُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ بِسَلَامَةِ خِدْمَةِ الْأُخْرَى لِشَرِيكِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَسْلَمَ لَهُ خِدْمَةُ الَّتِي هِيَ فِي يَدِهِ وَقَدْ فَاتَ ذَلِكَ بِمَوْتِهَا أَوْ بِإِبَاقِهَا وَلَوْ اسْتَخْدَمَهَا الشَّهْرَ كُلَّهُ إلَّا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ ، ثُمَّ مَرِضَتْ أَوْ أَبِقَتْ نَقَّصَتْ الْآخَرَ مِنْ شَهْرِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِاعْتِبَارِ الْمُعَادَلَةِ فِيمَا يَسْتَوْفِيهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ مَنْفَعَةِ الْمِلْكِ الْمُشْتَرَكِ ، ثُمَّ يَسْتَقْبِلَانِ الْمُهَايَأَةَ وَلَوْ لَمْ يَنْقُصْ الثَّلَاثَةُ أَيَّامٍ حَتَّى تَمَّ الشَّهْرُ فِي خِدْمَتِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا فَضْلُ صَاحِبِهِ فِي اسْتِيفَاءِ بَعْضِ الْخِدْمَةِ وَالْخِدْمَةُ لَا تَتَقَوَّمُ إلَّا بِالْعَقْدِ بِالتَّسْمِيَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَبِقَتْ إحْدَاهُمَا الشَّهْرَ كُلَّهُ وَاسْتَخْدَمَ الْآخَرُ الْأُخْرَى الشَّهْرَ كُلَّهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْخِدْمَةِ ضَمَانٌ وَلَا أَجْرٌ ؛ لِأَنَّ الْمَنْفَعَةَ لَا تَتَقَوَّمُ بِالْإِتْلَافِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ اسْتَخْدَمَ الْأَمَةَ الْمُشْتَرَكَةَ أَحَدُهُمَا مِنْ غَيْرِ رِضَا الشَّرِيكِ لَا عَلَى وَجْهِ الْمُهَايَأَةِ لَمْ يَلْزَمْهُ فِي ذَلِكَ ضَمَانٌ لِصَاحِبِهِ بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ وَلَوْ عَطِبَتْ إحْدَاهُمَا فِي الْخِدْمَةِ لَمْ يَضْمَنْهَا صَاحِبُهَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَمِينٌ فِي نَصِيبِ صَاحِبِهِ مِمَّا فِي يَدِهِ وَإِنَّمَا يَسْتَخْدِمُهَا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ فَيَكُونُ هُوَ فِي ذَلِكَ كَالْمُسْتَعِيرِ أَوْ الْمُسْتَأْجِرِ وَلَوْ زَوَّجَهَا مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ ؛
لِأَنَّ التَّزْوِيجَ تَصَرُّفٌ يَعْتَمِدُ الْوِلَايَةَ وَثُبُوتُ الْوِلَايَةِ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ وَمِلْكُ الرَّقَبَةِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا غَيْرُ تَامٍّ فَمَا فِي يَدِهِ بَعْدَ الْمُهَايَأَةِ كَمَا قَبْلَهَا فَإِنْ وَطِئَهَا الزَّوْجُ فَالْمَهْرُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ الْمَهْرَ بَدَلُ الْمُسْتَوْفَى بِالْوَطْءِ وَذَلِكَ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ الْعَيْنِ كَالْأَرْشِ فَأَمَّا الَّذِي زَوَّجَ فَلَهُ الْأَقَلُّ مِنْ نِصْفِ الْمُسَمَّى وَمِنْ نِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا ؛ لِأَنَّهُ رَضِيَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ فِي مَا زَادَ عَلَى الْمُسَمَّى وَرِضَاهُ مُعْتَبَرٌ فِي حَقِّهِ وَأَمَّا الَّذِي لَمْ يُزَوَّجْ فَلَهُ نِصْفُ مَهْرِ مِثْلِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْضَ بِسُقُوطِ حَقِّهِ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ بِالْقِسْمَةِ
وَعَلَى هَذَا السُّكْنَى فِي الْمَنْزِلِ فَإِنَّهُ لَوْ انْهَدَمَ مِنْ سُكْنَى أَحَدِهِمَا أَوْ احْتَرَقَ مِنْ نَارٍ أَوْقَدَهَا فِيهِ لَمْ يَضْمَنْ ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْتَعِيرِ أَوْ الْمُسْتَأْجِرِ وَلَوْ تَوَضَّأَ فِيهَا فَزَلِقَ رَجُلٌ بِوُضُوئِهِ أَوْ وَضَعَ شَيْئًا فِيهَا أَوْ جَلَسَ فِيهَا أَوْ رَبَطَ فِيهَا دَابَّةً فَعَبَرَ بِهِ إنْسَانٌ مِنْ أَهْلِ الدَّارِ أَوْ غَيْرِهِمْ لَمْ يَضْمَنْ ؛ لِأَنَّ هَذَا كُلَّهُ مِنْ تَوَابِعِ السُّكْنَى .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ لِلْمُسْتَعِيرِ وَالْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فَفِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِتَسْلِيطِ شَرِيكِهِ كَفِعْلِهِمَا جَمِيعًا وَلَوْ بَنَى فِيهَا بِنَاءً أَوْ احْتَفَرَ فِيهَا بِئْرًا فَهُوَ ضَامِنٌ وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا التَّصَرُّفَ لَيْسَ مِنْ تَوَابِعِ السُّكْنَى فَلَا يَسْتَحِقُّهُ بِالْمُهَايَأَةِ فَكَانَ هُوَ مُتَعَدِّيًا فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ وَالسَّبَبُ مَتَى كَانَ بِطَرِيقِ التَّعَدِّي فَهُوَ كَالْمُبَاشَرَةِ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ فِي نَصِيبِ شَرِيكِهِ دُونَ تَضْيِيعٍ فَلِهَذَا يَرْجِعُ بِقَدْرِ حِصَّتِهِ
وَإِذَا تَهَايَأَ الرَّجُلَانِ فِي خَادِمَيْنِ عَلَى أَنْ يَخْدُمَ أَحَدَهُمَا هَذَا سَنَةً لِفَضْلِ خِدْمَتِهَا وَالْأُخْرَى هَذَا الْآخَرَ سَنَتَيْنِ فَهُوَ جَائِزٌ لِوُجُودِ التَّرَاضِي مِنْهُمَا وَحُصُولُ الْمَقْصُودِ وَهُوَ الْمُعَادَلَةُ فِي الْخِدْمَةِ فَإِنْ وَلَدَتْ إحْدَاهُمَا وَلَدًا وَمُدَّةُ الْمُهَايَأَةِ طَوِيلَةٌ فَشَبَّ الْوَلَدُ فِيهَا كَانَتْ خِدْمَتُهُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْخِدْمَةِ بِالْمُهَايَأَةِ لَا يَسْرِي إلَى الْوَلَدِ بِمَنْزِلَةِ اسْتِحْقَاقِ ذَلِكَ بِالْوَصِيَّةِ أَوْ الْإِجَارَةِ فَالْوَلَدُ تَوَلَّدَ مِنْ الْعَيْنِ فَيَكُونُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُمَا كَالْأَصْلِ وَلَمْ تَتَنَاوَلْهُ الْمُهَايَأَةُ مَقْصُودًا وَلَا تَبَعًا فَكَانَتْ خِدْمَتُهُ بَيْنَهُمَا كَخِدْمَةِ الْأَصْلِ قِيلَ وَإِذَا مَاتَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ لَمْ يَكُنْ لِوَرَثَتِهِ أَنْ يُنَفِّذُوا الْمُهَايَأَةَ وَلَكِنْ نَصِيبُهُ يُبَاعُ فِي دَيْنِهِ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ يَتَعَلَّقُ بِمَالِيَّةِ نَصِيبِهِ بِمَوْتِهِ وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ وَرَثَتِهِ فَكَمَا لَا يَجُوزُ لِلْوَرَثَةِ مُبَاشَرَةُ ابْتِدَاءِ الْمُهَايَأَةِ مَعَ قِيَامِ الدَّيْنِ عَلَى الْمَيِّتِ فَكَذَلِكَ لَا يَكُونُ لَهُمْ اسْتِدَامَةُ الْمُهَايَأَةِ وَلَوْ بَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ مِنْ إحْدَى الْخَادِمَيْنِ أَوْ أَعْتَقَهُ نَفَذَ تَصَرُّفُهُ وَبَطَلَتْ الْمُهَايَأَةُ ؛ لِأَنَّ شَرِكَتَهُ لَمْ تَبْقَ بَعْدَ مَا نَفَذَ بَيْعُهُ فِيهِ وَعِتْقُهُ وَإِذَا كَاتَبَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ فَلِشَرِيكِهِ أَنْ يُبْطِلَ الْمُكَاتَبَةَ لِدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهَا حَتَّى أُدَّتْ بَطَلَتْ الْمُهَايَأَةُ وَلَوْ بَاعَ أَحَدُهُمَا نَصِيبَهُ بَيْعًا فَاسِدًا وَلَمْ يُسَلِّمْ لَمْ تَبْطُلْ الْمُهَايَأَةُ وَهُوَ الشَّرِكَةُ فِي الْأَصْلِ ، وَإِنْ سَلَّمَ بَطَلَتْ الْمُهَايَأَةُ لِزَوَالِ مِلْكِهِ عَنْ نَصِيبِهِ وَفِي الْبَيْعِ الْجَائِزِ بِنَفْسِ الْعَقْدِ يَزُولُ مِلْكُهُ فَتَبْطُلُ الْمُهَايَأَةُ سَلَّمَ أَوْ لَمْ يُسَلِّمْ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَ الْبَائِعِ يَزُولُ مَعَ خِيَارِ الْمُشْتَرِي ، وَإِنْ
كَانَ الْبَائِعُ بِالْخِيَارِ لَمْ تَبْطُلْ الْمُهَايَأَةُ إلَّا أَنْ يَمْضِيَ الْبَيْعُ ؛ لِأَنَّ خِيَارَ الْبَائِعِ يَمْنَعُ زَوَالَ مِلْكِهِ عَنْ الْبَيْعِ فِي الْمُدَّةِ مَا لَمْ يَسْقُطْ الْخِيَارُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .
( قَالَ : رَحِمَهُ اللَّهُ ) وَإِذَا كَانَ لِلصَّغِيرِ دَارٌ أَوْ عَبْدٌ فَادَّعَى رَجُلٌ فِيهِ دَعْوَى فَصَالَحَهُ أَبُوهُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ يُنْظَرُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ وَكَانَ مَا أَعْطَى الْأَبُ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ مِثْلَ حَقِّ الْمُدَّعِي أَوْ أَكْثَرَ مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ جَازَ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ لِلْمُدَّعِي ظَاهِرٌ شَرْعًا فَالْأَبُ بِهَذَا الصُّلْحِ يَصِيرُ كَالْمُشْتَرِي لِتِلْكَ الْعَيْنِ لِوَلَدِهِ بِمَالِهِ وَالْأَبُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي حَقِّ وَلَدِهِ فَعِنْدَ ظُهُورِ الْحَقِّ لِلْمُدَّعِي بِالْبَيِّنَةِ إنَّمَا يَقْصِدُ الْأَبُ النَّظَرَ لِلصَّبِيِّ وَرُبَّمَا يَكُونُ لَهُ فِي الْعَيْنِ مَنْفَعَةٌ لَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِقِيمَتِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيِّنَةً لَمْ يَجُزْ الصُّلْحُ مِنْ الصَّبِيِّ ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ مَا اسْتَحَقَّ شَيْئًا عَلَى الصَّبِيِّ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ سِوَى الِاسْتِحْلَافِ وَلَا يُسْتَحْلَفُ الْأَبُ وَلَا الصَّبِيُّ فِي حَالِ الصِّغَرِ وَإِنَّمَا يُسْتَحْلَفُ إذَا بَلَغَ فَالْأَبُ يَفْدِي هَذِهِ الْيَمِينَ بِمَالِ الصَّغِيرِ وَإِلَّا فَالْيَمِينُ لَيْسَتْ بِمُتَقَوَّمَةٍ وَلَيْسَ لِلْأَبِ وِلَايَةُ دَفْعِ مَالِ الصَّبِيِّ بِإِزَاءِ مَا لَيْسَ بِمُتَقَوَّمٍ فَإِنْ صَالَحَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ فَهُوَ جَائِزٌ بِمَنْزِلَةِ أَجْنَبِيٍّ آخَرَ صَالَحَ عَلَى مَالِ نَفْسِهِ وَضَمِنَ وَلَوْ ادَّعَى الْأَبُ حَقًّا لِلصَّبِيِّ فِي مِثْلِ ذَلِكَ ، ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْهُ عَلَى شَيْءٍ وَقَبَضَهُ وَهُوَ مِثْلُهُ أَوْ أَقَلُّ مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ جَازَ كَمَا لَوْ بَاعَهُ مِمَّنْ هُوَ فِي - يَدِهِ ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْهُ بِشَيْءٍ كَثِيرٍ لَمْ يَجُزْ إنْ كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ ؛ لِأَنَّ سَبَبَ اسْتِحْقَاقِ الصَّبِيِّ ظَاهِرٌ شَرْعًا بِالْحُجَّةِ فَهُوَ بِهَذَا الصُّلْحِ كَأَنَّهُ يَبِيعُ مَالَهُ بِغَبْنٍ فَاحِشٍ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى حَقِّهِ فَالصُّلْحُ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ مَا اسْتَحَقَّ قِبَلَ ذِي الْيَدِ شَيْئًا سِوَى الْيَمِينِ وَلَا مَنْفَعَةَ لِلصَّبِيِّ فَالْأَبُ جَعَلَ مَالًا بِمُقَابَلَةِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ
وَهُوَ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِي هَذَا بَلْ هُوَ نَاظِرٌ لِلصَّبِيِّ بِتَصْيِيرِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ فِي حَقِّهِ مَالًا وَوَصِيُّ الْأَبِ فِي هَذَا بَعْدَ مَوْتِ الْأَبِ كَالْأَبِ ، وَكَذَلِكَ الْجَدُّ وَوَصِيُّ الْجَدِّ وَلَا يَجُوزُ صُلْحُ غَيْرِ هَؤُلَاءِ كَالْأُمِّ وَالْأَخِ عَلَى الصَّبِيِّ وَلَا عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهِ فَهُوَ فِي الصُّلْحِ فِي حَقِّهِ كَالْأَجْنَبِيِّ وَالْمَعْتُوهُ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ ؛ لِأَنَّهُ مُوَلًّى عَلَيْهِ .
وَلَوْ كَانَ لِلصَّبِيِّ دَيْنٌ عَلَى رَجُلٍ فَصَالَحَهُ أَبُوهُ عَلَى بَعْضٍ وَحَطَّ عَنْهُ بَعْضًا فَإِنْ كَانَ الْأَبُ هُوَ الَّذِي وَلِيَ مُبَايَعَتَهُ جَازَ الْحَطُّ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا حَطَّهُ وَلَا يَجُوزُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ نَظِيرُ اخْتِلَافِهِمْ فِي الْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَلِيَ مُبَايَعَتَهُ لَمْ يَجُزْ حَطُّهُ ، وَكَذَلِكَ الْوَصِيُّ ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْوِلَايَةِ لَهُمَا مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ النَّظَرِ لِلصَّبِيِّ وَلَيْسَ مِنْ النَّظَرِ إسْقَاطُ شَيْءٍ مِنْ حَقِّهِ بِالْحَطِّ فَهُمَا فِي ذَلِكَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ
وَلَوْ ادَّعَى الْوَصِيُّ شِقْصًا فِي دَارٍ فَجَحَدَهُ رَبُّ الدَّارِ فَصَالَحَهُ عَلَى دَرَاهِمَ قَبَضَهَا جَازَ ذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ بَيِّنَةٌ عَلَى الْأَصْلِ وَكَانُوا صِغَارًا وَكِبَارًا ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ قَائِمٌ مَقَامَ الْمُوصِي وَفِي هَذَا الصُّلْحِ نَظَرٌ لِلْمُوصَى عَلَيْهِ فَهُوَ بِالدَّعْوَى مَا اسْتَوْجَبَ عَلَى الْخَصْمِ إلَّا الْيَمِينَ وَلِأَنَّ مَنْفَعَتَهُ فِي مَالٍ يَقْضِي بِهِ دَيْنَهُ وَيَسْتَغْنِي بِهِ وَرَثَتُهُ وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ بَيِّنَةٌ عَلَيْهِ وَكَانَ مَا قَبَضَ مِثْلَ قِيمَةِ ذَلِكَ أَوْ أَقَلَّ مِمَّا يَتَغَابَنُ النَّاسُ فِيهِ جَازَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَا يَجُوزُ فِي قَوْلِهِمَا عَلَى الْكِبَارِ فِي حِصَّتِهِمْ إلَّا بِرِضَاهُمْ وَهُوَ نَظِيرُ اخْتِلَافِهِمْ فِي بَيْعِ الْوَصِيِّ شَيْئًا مِنْ التَّرِكَةِ وَفِي الْوَرَثَةِ صِغَارٌ وَكِبَارٌ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي الشُّفْعَةِ وَيَسْتَوِي عِنْدَهُمَا إنْ كَانَتْ لَهُمْ بَيِّنَةٌ أَوْ لَمْ تَكُنْ ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْوَصِيِّ عَلَى الْكِبَارِ مِنْ الْوَرَثَةِ فَهُوَ فِي حَقِّهِمْ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ وَصُلْحُ وَصِيِّ الْأُمِّ وَالْأَخِ عَلَى الصَّبِيِّ مِثْلُ صُلْحِ وَصِيِّ الْأَبِ فِي غَيْرِ الْعَقَارِ ؛ لِأَنَّ فِيمَا سِوَى الْعَقَارِ لِلْوَصِيِّ وِلَايَةُ الْبَيْعِ فِي تَرِكَةِ الْمُوصِي فَكَذَلِكَ لَهُ وِلَايَةُ الصُّلْحِ فَأَمَّا فِي الْعَقَارِ فَلَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ الْبَيْعِ فِيمَا صَارَ لِلصَّغِيرِ مِنْ هَذِهِ التَّرِكَةِ كَمَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُوصِي ذَلِكَ فِي مِلْكِ الصَّبِيِّ وَلَا يَجُوزُ صُلْحُهُ فِيهِ أَيْضًا ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ الْوَرَثَةُ كِبَارًا وَصِغَارًا فَصُلْحُ الْوَصِيِّ فِيمَا سِوَى الْعَقَارِ جَائِزٌ عَلَيْهِمْ بِشَرْطِ النَّظَرِ كَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ فِيهِ لِلْحِفْظِ عَلَيْهِ
وَإِذَا كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ أَوْ أَوْصَى بِوَصِيَّةٍ فَصَالَحَ الْوَصِيُّ مِنْ دَعْوَى لَهُ فِي دَارٍ فَهُوَ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْوَرَثَةِ إذَا كَانُوا صِغَارًا ؛ لِأَنَّ بِاعْتِبَارِ الدَّيْنِ وَالْوَصِيَّةِ يَثْبُتُ لِلْوَصِيِّ فِي الْوِلَايَةِ لِلْمَيِّتِ حَتَّى يَجُوزَ بَيْعُهُ فِي جَمِيعِ التَّرِكَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَكَذَلِكَ الصُّلْحُ
وَإِذَا ادَّعَى الْوَارِثُ الْكَبِيرُ عَلَى الْوَصِيِّ مِيرَاثًا مِنْ صَامِتٍ أَوْ رَقِيقٍ أَوْ أَمْتِعَةٍ فَجَحَدَهُ ثُمَّ صَالَحَهُ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ عَلَى عَبْدٍ أَوْ ثَوْبٍ مَعْلُومٍ جَازَ لِوُجُودِ التَّرَاضِي مِنْهُمَا عَلَى مَا اصْطَلَحَا عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ أَفْتَدِي مِنْكَ يَمِينِي بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ عَلَى الْإِنْكَارِ فِدَاءٌ لِلْيَمِينِ بِالْمَالِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ لَفْظِ الْفِدَاءِ وَبَيْنَ لَفْظِ الصُّلْحِ فِيهِ وَإِنْ كَانَا وَارِثَيْنِ ادَّعَيَا ذَلِكَ قَبْلَهُ فَصَالَحَ أَحَدُهُمَا عَلَى عَرَضٍ مِنْ غَيْرِ إقْرَارٍ لَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْوَصِيِّ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّهُ بِالصُّلْحِ عَلَى الْإِنْكَارِ لَمْ يَصِرْ مُقِرًّا لَهُ بِشَيْءٍ وَإِنَّمَا فَدَى يَمِينَهُ وَلِلْآخَرِ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ إنْ شَاءَ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الِاسْتِحْلَافِ كَانَ ثَابِتًا لَهُمَا فَأَسْقَطَ ذَلِكَ أَحَدُهُمَا بِالْمَالِ فَصَحَّ ذَلِكَ فِي حَقِّهِ وَفِي حَقِّ الْآخَرِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِرِضَاهُ فَإِنْ أَبَى فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ فِي الِاسْتِحْلَافِ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُشَارِكَ أَخَاهُ فِيمَا قَبَضَ فَلَهُ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ صَارَ رَاضِيًا بِالصُّلْحِ فَكَأَنَّهُمَا صَالَحَاهُ وَهَذَا إذَا كَانَ مَا ادَّعَيَاهُ مُسْتَهْلَكًا ؛ لِأَنَّ الصُّلْحَ مَبْنِيٌّ عَلَى زَعْمِهِمَا فِي حَقِّهِمَا وَفِي زَعْمِهِمَا أَنَّ قِيمَةَ ذَلِكَ دَيْنٌ عَلَى الْوَصِيِّ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمَا وَأَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ فِي الدَّيْنِ إذَا صَالَحَ عَلَى شَيْءٍ كَانَ لِلْآخَرِ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي الْمَقْبُوضِ إلَّا أَنْ يُعْطِيَهُ نِصْفَ مَا ادَّعَى مِنْ ذَلِكَ
فَإِنْ كَانَتْ الْوَرَثَةُ صِغَارًا وَكِبَارًا وَصَالَحَ الْوَصِيُّ الْكِبَارَ مِنْ دَعْوَاهُمْ وَدَعْوَى الصِّغَارِ عَلَى دَرَاهِمَ وَقَبَضَهَا الْكِبَارُ وَأَنْفَقُوا عَلَى الصِّغَارِ حِصَّتَهُمْ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَجْرِي عَلَى الصِّغَارِ ؛ لِأَنَّهُ لَا وِلَايَةَ لِلْكِبَارِ عَلَى الصِّغَارِ وَلِلصِّغَارِ أَنْ يَرْجِعُوا بِحِصَّتِهِمْ عَلَى الْوَصِيِّ إذَا أَدْرَكُوا وَيَرْجِعَ الْوَصِيُّ عَلَى الْكِبَارِ بِحِصَّةِ الصِّغَارِ مِمَّا أَخَذُوا ؛ لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ أَخَذُوا الْمَالَ عِوَضًا عَنْ الْكُلِّ وَقَدْ اسْتَحَقَّ الصِّغَارُ نَصِيبَهُمْ عَلَى الْوَصِيِّ فَكَانَ لَهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا بِحِصَّةِ ذَلِكَ مِنْ الْمَأْخُوذِ مِنْ الْكِبَارِ
وَإِذَا أَقَرَّ الْوَصِيُّ أَنَّ لِأَحَدِ الْوَرَثَةِ عِنْدَهُ مِنْ مِيرَاثِهِ كَذَا ، وَكَذَا دِرْهَمًا فَأَرَادَ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ أَنْ يَرْجِعُوا عَلَى الْوَصِيِّ بِحِصَّتِهِمْ كَمَا أَقَرَّ لِهَذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ ذَلِكَ وَلَكِنْ مَا أَقَرَّ بِهِ لِهَذَا فَهُوَ بَيْنَهُمْ عَلَى الْمَوَارِيثِ ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّ أَمِينٌ فِيمَا فِي يَدِهِ مِنْ التَّرِكَةِ وَالْقَوْلُ قَوْلُ الْأَمِينِ فِي بَرَاءَةِ نَفْسِهِ وَلَكِنْ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِيمَا يَدَّعِي مِنْ وُصُولِ الْمَالِ إلَى غَيْرِهِ كَالْمُودَعِ إذَا ادَّعَى الرَّدَّ عَلَى الْوَصِيِّ فَهُنَا أَيْضًا قَوْلُ الْوَصِيِّ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى بَرَاءَتِهِ مَقْبُولٌ سَوَاءٌ ذَكَرَ أَنَّهُ سَلَّمَ نَصِيبَ الْكِبَارِ إلَيْهِمْ أَوْ أَنَّ ذَلِكَ لَمْ يَصِلْ إلَى يَدِهِ وَلَكِنْ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي إسْقَاطِ حَقِّ الْكِبَارِ عَمَّا أَقَرَّ بِهِ لِلصَّغِيرِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ جُزْءٌ مِنْ التَّرِكَةِ وَهُوَ مُشْتَرَكٌ بَيْنَهُمْ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَصِيِّ فِي تَخْصِيصِ أَحَدِهِمْ بِهِ وَلَكِنْ يُجْعَلُ مَا سِوَى هَذَا مِنْ التَّرِكَةِ كَالنَّاوِي فَتَبْقَى الشَّرِكَةُ بَيْنَهُمْ فِي هَذَا
وَإِذَا أَقَرَّ الْوَصِيُّ أَنَّ عِنْدَهُ لِلْمَيِّتِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَلِلْمَيِّتِ ابْنَانِ ، ثُمَّ صَالَحَ أَحَدُهُمَا مِنْ حِصَّتِهِ عَلَى أَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ مِنْ مَالِ الْوَصِيِّ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ أَعْطَاهُ أَقَلَّ مِنْ حِصَّتِهِ وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الدَّيْنِ أَنَّ مِثْلَ هَذَا الصُّلْحِ يَجُوزُ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ وَهُنَا لَا يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ ؛ لِأَنَّهُ عَيْنٌ فِي يَدِ الْوَصِيِّ أَمَانَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى مَعْنَى الْمُعَاوَضَةِ وَمُبَادَلَةُ الْخَمْسمِائَةِ بِأَرْبَعِمِائَةٍ لَا يَجُوزُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مَعَ الْأَلْفِ مَتَاعٌ فَالْعِلَّةُ الْمُفْسِدَةُ هُنَا أَظْهَرُ وَلَوْ أَنَّ الْوَصِيَّ اسْتَهْلَكَ ذَلِكَ جَازَ الصُّلْحُ عَلَى أَرْبَعِمِائَةٍ ؛ لِأَنَّ مَا اُسْتُهْلِكَ صَارَ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ فَهَذَا حَطَّ عَنْهُ بَعْضَ حَقِّهِ وَاسْتَوْفَى الْبَعْضَ فَيَصِحُّ الصُّلْحُ بِطَرِيقِ الْإِسْقَاطِ