كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي

( وَعَنْ ) سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : الذَّكَاةُ مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ وَبِهِ نَأْخُذُ ، وَقَدْ رُوِيَ هَذَا اللَّفْظُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْمُرَادُ بَيَانُ مَحَلِّ الذَّكَاةِ عِنْدَ الِاخْتِيَارِ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَعْلَى الْحَلْقِ وَأَوْسَطَهُ وَأَسْفَلَهُ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ فِي الْمَعْنَى الْمَطْلُوبِ بِالذَّكَاةِ سَوَاءٌ .

( وَعَنْ ) إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : إذَا ذَبَحْتَ ، فَلَا تَذْكُرْ مَعَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى شَيْئًا ، وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : جَرِّدُوا التَّسْمِيَةَ عِنْدَ الذَّبْحِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا } وَإِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَذْكُرُونَ آلِهَتَهُمْ عِنْدَ الذَّبْحِ فَحَرَّمَ ذَلِكَ الشَّرْعُ بِقَوْلِهِ : { وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } وَأَمَرَ بِتَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ الذَّبْحِ عَلَى الْخُلُوصِ لِمُخَالَفَةِ الْمُشْرِكِينَ ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ مَعَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى غَيْرُهُ ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْعُوَ فَيَقُولُ : اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ فُلَانٍ يَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّمَ ذَلِكَ عَلَى فِعْلِ الذَّبْحِ أَوْ يُؤَخِّرَهُ عَنْهُ ، فَأَمَّا مَعَ النَّحْرِ لَا يُذْكَرُ غَيْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهُوَ تَأْوِيلُ الْحَدِيثِ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ضَحَّى عَنْ أُمَّتِهِ قَالَ : هَذَا عَمَّنْ شَهِدَ لِي بِالْبَلَاغِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } إنَّمَا قَالَ : بَعْدَ الذَّبْحِ لَا مَعَهُ .

( وَعَنْ ) رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ بَعِيرًا مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ قَدْ نَدَّ فَرَمَاهُ رَجُلٌ بِسَهْمٍ وَسَمَّى فَقَتَلَهُ .
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّ لَهَا أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ ، فَإِذَا فَعَلْتُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَافْعَلُوا بِهِ كَمَا فَعَلْتُمْ بِهَذَا ثُمَّ كُلُوهُ } وَبِهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ : عِنْدَ تَعَذُّرِ الْحِلِّ بِذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ يَثْبُتُ الْحِلُّ بِذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ ، وَذَلِكَ بِالْجُرْحِ فِي أَيْ مَوْضِعٍ أَصَابَهُ ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { إنَّ لَهَا أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ } أَيْ إنَّ لَهَا تَنَفُّرًا وَاسْتِيحَاشًا كَمَا يَكُونُ الْوَحْشُ ، إلَّا أَنَّ الْأَغْلَبَ مِنْ حَالِهَا الْإِلْفُ ، وَالْوَحْشِيُّ أَغْلَبُ حَالِهِ التَّوَحُّشُ ، فَإِذَا صَارَ أَلُوفًا الْتَحَقَ بِمَا هُوَ أَلُوفٌ غَالِبًا ، وَإِذَا تَوَحَّشَ الْتَحَقَ بِالْوَحْشِيِّ غَالِبًا ، وَالْمُرَادُ بِإِبِلِ الصَّدَقَةِ مَا يُؤْخَذُ بِالصَّدَقَةِ أَوْ مَا كَانَ يُنْحَرُ لِإِطْعَامِ الْمَسَاكِينِ ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ .
( وَعَنْ ) عَتَّابَةَ بْنِ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ بَعِيرًا تَرَدَّى فِي نَهْرٍ بِالْمَدِينَةِ فَوُجِئَ مِنْ قِبَلِ خَاصِرَتِهِ فَأَخَذَ مِنْهُ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عُسَيْرًا بِدِرْهَمَيْنِ ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّ الْحِلَّ يَثْبُتُ بِذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الذَّكَاةِ بِالِاخْتِيَارِ ، وَأَنَّهُ لَا فَرَّقَ بَيْنَ أَنْ يَتَعَذَّرَ ذَلِكَ بِتَوَحُّشِهِ ، وَبَيْنَ أَنْ يَتَعَذَّرَ سُقُوطُهُ فِي مَهْوَى ، فَإِنَّ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَعَ زُهْدِهِ وَتَفَرُّدِهِ رَغِبَ فِي الشِّرَاءِ مِنْهُ ، وَالْعُسَيْرُ تَصْغِيرُ الْعَسِيرِ ، وَقَدْ رُوِيَ عُشَيْرَاءُ ، وَهُوَ سَوَادُ الْبَطْنِ ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ

( وَعَنْ ) إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ إذَا تَرَدَّى بَعِيرٌ فِي بِئْرٍ ، وَلَمْ يَقْدِرُوا أَنْ يَنْحَرُوهُ فَمِنْ حَيْثُ نُحِرَ فَهُوَ لَهُ ذَكَاةٌ .
فَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْبَعِيرِ النَّحْرُ ، وَفِي الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ الذَّبْحُ ، وَبِهِ نَطَقَ الْكِتَابُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } وَالْمُرَادُ الشَّاةُ ، وَاَلَّذِي جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { نَحَرْنَا الْبَدَنَةَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ سَبْعَةٍ ، وَالْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ } مَعْنَاهُ وَذَبَحْنَا الْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ ، وَمِثْلُ هَذَا الْإِضْمَارِ مَعَ الْعَطْفِ مَعْلُومٌ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ قَالَ الْقَائِلُ : عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا أَيْ ، وَسَقَيْتُهَا بَارِدًا ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يُعْلَفُ

، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : ذَكَاةُ السَّمَكِ وَالْجَرَادِ أَخْذُهُ ، وَمُرَادُهُ بَيَانُ أَنَّ الذَّكَاةَ لَيْسَتْ بِشَرْطٍ فِيهِمَا بَلْ يَثْبُتُ الْحِلُّ فِيهِمَا بِالْأَخْذِ مِنْ غَيْرِ ذَكَاةٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بِكَوْنِ الْآخِذِ مَجُوسِيًّا أَوْ وَثَنِيًّا ، وَمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الذَّكَاةُ يُشْتَرَطُ فِيهِ الْأَهْلِيَّةُ لِلْمُذَكِّي ، وَحَيْثُ لَمْ يُشْتَرَطْ فِي السَّمَكِ وَالْجَرَادِ عَرَفْنَا أَنَّ الذَّكَاةَ فِيهِمَا لَيْسَتْ بِشَرْطٍ ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ } ، وَسُئِلَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ الْجَرَادِ يَأْخُذُهُ الرَّجُلُ مِنْ الْأَرْضِ وَفِيهِ الْمَيِّتُ وَغَيْرُهُ قَالَ : كُلْهُ كُلْهُ ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ كُلْهُ كُلَّهُ فَاللَّفْظُ الْأَوَّلُ تَكْرَارٌ لِلْمُبَالَغَةِ ، وَالثَّانِي بَيَانُ أَنَّهُ يُؤْكَلُ كُلُّهُ وَبِهِ نَأْخُذُ ، وَأَنَّ الْجَرَادَ وَإِنْ وُجِدَ مَيِّتًا فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ ؛ لِأَنَّ مَوْتَهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بِسَبَبٍ ، فَإِنَّهُ بَحْرِيُّ الْأَصْلِ بَرِّيُّ الْمَعَاشِ ، كَمَا قِيلَ : إنَّ بِيضَ السَّمَكِ إذَا انْحَصَرَ عَنْهُ الْمَاءُ يَصِيرُ جَرَادًا ، فَإِذَا مَاتَ فِي الْبَرِّ فَقَدْ مَاتَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ أَصْلِهِ ، وَإِذَا مَاتَ فِي الْمَاءِ فَقَدْ مَاتَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ مَعَاشِهِ ، وَذَلِكَ سَبَبٌ لِمَوْتِهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى إبَاحَةِ أَكْلِ الْجَرَادِ مَا رُوِيَ أَنَّ مَرْيَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سَأَلَتْ لَحْمًا هَشًّا فَرُزِقَتْ الْجَرَادَ ، وَأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ مُولَعًا بِأَكْلِ الْجَرَادِ حَتَّى قَالَ يَوْمًا فِي مَجْلِسِهِ : لَيْتَ لَنَا قَصْعَةً مِنْ جَرَادٍ فَنَأْكُلُهُ ، أَوْ قَالَ : نَقْعَةً .
( وَعَنْ ) عَمْرَةَ قَالَتْ : خَرَجْتُ مَعَ وَلِيدَةٍ لَنَا فَاشْتَرَيْنَا خِرِّيتَةً بِقَفِيزٍ مِنْ حِنْطَةٍ فَوَضَعْنَاهَا فِي زِنْبِيلٍ فَخَرَجَ رَأْسُهَا مِنْ جَانِبٍ ، وَذَنَبُهَا مِنْ جَانِبٍ فَمَرَّ بِنَا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لِي : بِكَمْ أَخَذْتِ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ : مَا أَطْيَبَهُ وَأَرْخَصَهُ وَأَوْسَعَهُ لِلْعِيَالِ

فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجَرَادَ مَأْكُولٌ وَبِهِ نَأْخُذُ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، فَإِنَّهُ سُئِلَ عَنْ الْخِرِّيتِ فَقَالَ : فَأَمَّا نَحْنُ ، فَلَا نَرَى بِهِ بَأْسًا ، فَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَيَكْرَهُونَهُ ، وَأَمَّا الرَّوَافِضُ قَاتَلَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فَيَأْخُذُونَ بِقَوْلِ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَيُحَرِّمُونَ الْخِرِّيتَ ، وَيَدَعُونَ قَوْلَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ دَعْوَاهُمْ مَحَبَّتَهُ ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ يَزْعُمُونَ أَنَّ الْخِرِّيتَ مِنْ جُمْلَةِ الْمَمْسُوخَاتِ ، وَهَذَا بَاطِلٌ ، فَإِنَّ الْمَمْسُوخَ لَا نَسْلَ لَهُ ، وَلَا يَبْقَى بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بَلْ الْخِرِّيتُ نَوْعٌ مِنْ السَّمَكِ ، وَالسَّمَكُ مَأْكُولٌ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهِ يَثْبُتُ الْحِلُّ فِيهِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ أَمَّا الْمَيْتَتَانِ فَالسَّمَكُ وَالْجَرَادُ ، وَأَمَّا الدَّمَانِ فَالْكَبِدُ وَالطِّحَالُ } فَهَذَا دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَكَلَّمَ مَعَ النِّسَاءِ وَالْإِمَاءِ بِمَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ ، فَإِنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ جُمْلَةِ مَا لَا يَعْنِيهِ ، فَإِنَّمَا الَّذِي لَا يَعْنِي الْمَرْءَ مِمَّا وَرَدَ النَّهْيُ عَنْهُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَأْثَمٌ .
( وَعَنْ ) إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ مَا أَطْيَبَ إهَابَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ ، وَقَدْ قِيلَ : إنَّ أَطْيَبَ الْأَشْيَاءِ مِنْ السَّمَكِ الذَّنَبُ ، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّهُ أَتَاهُ عَبْدٌ أَسْوَدُ فَقَالَ : إنَّنِي فِي غَنَمٍ لِأَهْلِي ، وَإِنِّي سَلِيلُ الطَّرِيقِ فَأَسْقِي مِنْ لَبَنِهَا بِغَيْرِ إذْنِهِمْ ، فَقَالَ : لَا ، فَقَالَ : إنِّي أَرْمِي الصَّيْدَ فَأُصْمِيَ وَأُنْمِي قَالَ : كُلْ مَا أَصْمَيْتَ وَدَعْ مَا أَنْمَيْتَ .
قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى : الْإِصْمَاءُ مَا رَأَيْتَهُ ، وَالْإِنْمَاءُ مَا تَوَارَى عَنْكَ ، وَبِهِ نَأْخُذُ ، إلَّا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ إذَا تَوَارَى عَنْهُ

، وَقَعَدَ فِي طَلَبِهِ ، فَإِذَا لَمْ يَقْعُدْ عَنْ طَلَبِهِ لَا يَحْرُمُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ مَا لَا يُسْتَطَاعُ بِالِامْتِنَاعِ عَنْهُ يَكُونُ عَفْوًا ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَيْسَ لِلرَّاعِي أَنْ يَسْقِي مِنْ لَبَنِ الْغَنَمِ بِغَيْرِ إذْنِ أَهْلِهَا ، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا نَهَاهُ عَنْ ذَلِكَ ، وَهَذَا لِأَنَّ الرَّاعِيَ أَمَرَ بِالرَّعْيِ وَالْحِفْظِ وَالسَّقْيُ وَمِنْ لَبَنِهَا بِمَنْزِلَةِ هِبَةٍ عَنْهَا ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ بِدُونِ إذْنِ أَهْلِهَا ، وَاَلَّذِي جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِرَاعِي الْغَنَمِ فَاسْتَسْقَاهُ اللَّبَنَ } تَأْوِيلُهُ أَنَّ ذَلِكَ الرَّاعِيَ كَانَ يَرْعَى غَنَمَ نَفْسِهِ أَوْ كَانَ مَأْذُونًا مِنْ جِهَةِ مَالِكِهِ بِذَلِكَ ، وَقَدْ عَرَفَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَلَا تَرَى إلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِطِيبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ } .

( وَعَنْ ) مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ { أَعْرَابِيًّا أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْنَبًا مَشْوِيًّا قَالَ : لِأَصْحَابِهِ كُلُوا قَالَ الْأَعْرَابِيُّ : إنِّي رَأَيْتُ دَمًا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : لَيْسَ بِشَيْءٍ ، وَقَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ : إذَنْ فَكُلْ فَقَالَ : إنِّي صَائِمٌ ، قَالَ : صَوْمَ مَاذَا ؟ قَالَ : صَوْمَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ، فَقَالَ : هَلَّا جَعَلْتهَا الْبِيضَ } ، وَبِهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ : الْأَرْنَبُ مَأْكُولٌ ، وَقَدْ قَبِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْهَدِيَّةَ فِيهِ وَأَكَلَ مِنْهُ ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ ( وَقَوْلُ ) الْأَعْرَابِيِّ : إنِّي رَأَيْتُ دَمًا مُرَادُهُ مَا يَقُولُ جُهَّالُ الْعَرَبِ : أَنَّ الْأَرْنَبَةَ تَحِيضُ كَالنِّسَاءِ فَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِشَيْءٍ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْمُهْدِي أَنْ يَأْكُلَ مِنْ هَدِيَّتِهِ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَاهُ إلَى الْأَكْلِ ، وَإِنَّمَا بُعِثَ لِيُتَمِّمَ مَكَارِمَ الْأَخْلَاقِ ، فَمَا كَانَ يَدْعُو أَحَدًا إلَى مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ إذَا دُعِيَ إلَى طَعَامٍ وَهُوَ صَائِمٌ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَمْتَنِعَ وَيَقُولَ : إنِّي صَائِمٌ ، وَقَدْ قَرَّرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا قَالَ حَيْثُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { صَوْمَ مَاذَا .
؟ قَالَ : صَوْمَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ } وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحُثُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ ، وَيَقُولُ { الْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامِ مِنْ الشَّهْرِ كَصَوْمِ جَمِيعِ الشَّهْرِ } وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَكُونَ صَوْمُهُ فِي الْأَيَّامِ الْبِيضِ ؛ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { هَلَّا جَعَلْتَهَا الْبِيضَ } وَالْبِيضُ الثَّالِثَ عَشْرَ ، وَالرَّابِعَ عَشْرَ ، وَالْخَامِسَ عَشْرَ ،

وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ أَوَّلُهَا الرَّابِعَ عَشْرَ ، وَآخِرُهَا السَّادِسَ عَشْرَ ، سُمِّيَتْ بِيضًا لِطُلُوعِ الْقَمَرِ فِي لَيَالِيِهَا مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ إلَى آخِرِ اللَّيْلِ ، فَكَأَنَّ اللَّيْلَ يَسْتَوِي بِالنَّهَارِ فِي الْبَيَاضِ .
( وَقِيلَ : ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ آدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ لَمَّا أُهْبِطَ إلَى الْأَرْضِ بَعْدَ زَلَّتِهِ اغْبَرَّ جَسَدُهُ صَامَ الرَّابِعَ عَشْرَ فَابْيَضَّ ثُلُثُ جَسَدِهِ ثُمَّ صَامَ الْخَامِسَ عَشْرَ فَابْيَضَّ ثُلُثٌ آخَرُ ثُمَّ صَامَ السَّادِسَ عَشْرَ فَابْيَضَّ جَمِيعُ جَسَدِهِ ، وَعَادَ اللَّوْنُ الْأَوَّلُ فَسُمِّيَتْ بِيضًا لِذَلِكَ

{ وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَنَّهُ أُهْدِيَ لَهَا ضَبٌّ فَسَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِهِ فَكَرِهَهُ فَجَاءَ سَائِلٌ فَأَرَادَتْ أَنْ تُطْعِمَهُ إيَّاهُ فَقَالَ : صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ أَتُطْعِمِينَ مَا لَا تَأْكُلِينَ } وَبِهَذَا نَأْخُذُ فَنَقُولُ : لَا يَحِلُّ أَكْلُ الضَّبِّ ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَحِلُّ لِحَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ الضَّبِّ فَقَالَ : لَمْ يَكُنْ مِنْ طَعَامِ قَوْمِي فَأَجِدُ نَفْسِي تَعَافُهُ فَلَا أُحِلُّهُ وَلَا أُحَرِّمُهُ } وَفِي { حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ : أُكِلَ الضَّبُّ عَلَى مَائِدَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَفِي الْآكِلِينَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَانَ يَنْظُرُ إلَيْهِ وَيَضْحَكُ } وَاعْتِمَادُنَا عَلَى حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا فِيهِ يُبَيِّنُ أَنَّ امْتِنَاعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَكْلِهِ لِحُرْمَتِهِ لَا لِأَنَّهُ كَانَ يَعَافُهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ نَهَاهَا عَنْ التَّصَدُّقِ بِهِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ كَرَاهِيَةُ الْأَكْلِ لِلْحُرْمَةِ لَأَمَرَهَا بِالتَّصَدُّقِ بِهِ ، كَمَا أَمَرَهَا بِهِ فِي شَاةِ الْأَنْصَارِيِّ بِقَوْلِهِ : { أَطْعِمُوهَا الْأَسَارَى } وَالْحَدِيثُ الَّذِي فِيهِ دَلِيلُ الْإِبَاحَةِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ ، ثُمَّ الْأَصْلُ أَنَّهُ مَتَى تَعَارَضَ الدَّلِيلَانِ أَحَدُهُمَا يُوجِبُ الْحَظْرَ وَالْآخَرُ يُوجِبُ الْإِبَاحَةَ يَغْلِبُ الْمُوجِبُ لِلْحَظْرِ ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى : حُرْمَةُ الضَّبِّ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْمَمْسُوخَاتِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ فَرِيقَيْنِ مِنْ عُصَاةِ بَنِي إسْرَائِيلَ أَخَذَ أَحَدُهُمَا طَرِيقَ الْبَحْرِ ، وَالْآخَرُ طَرِيقَ الْبَرِّ ، فَمُسِخَ الَّذِينَ أَخَذُوا طَرِيقَ الْبَرِّ ضِبَابًا ، وَقِرَدَةً ، وَخَنَازِيرَ ( وَرُوِيَ ) هَذَا الْأَثَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مَشْهُورٍ .
ثُمَّ قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمَمْسُوخَ لَا نَسْلَ لَهُ وَلَا بَقَاءَ ، فَهَذَا الَّذِي يُوجَدُ الْآنَ لَيْسَ بِمَمْسُوخٍ ، وَإِنْ نَسَخَ قَوْمٌ مِنْ جِنْسِهِ ، وَلَكِنَّهُ مِنْ الْخَبَائِثِ ؛ وَلِهَذَا عَافَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى { وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ } لِكَوْنِهِ مُسْتَخْبَثًا طَبْعًا كَسَائِرِ الْهَوَامِّ .

{ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ : أَصَبْنَا يَوْمَ حُنَيْنٍ حُمُرًا أَهْلِيَّةً فَذَبَحْنَاهَا ، وَإِنَّ الْقِدْرَ لَتَغْلِي بِهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَكْفِئُوهَا بِمَا فِيهَا ، وَنَهَى عَنْ أَكْلِهَا } فَقُلْنَا بَيْنَنَا : إنَّمَا حَرَّمَهَا ؛ لِأَنَّهَا نُهْبَةٌ لَمْ تُخَمَّسْ فَلَقِيتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَذَكَرْتُ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ : بَلْ حَرَّمَهَا أَلْبَتَّةَ ، وَبِهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ : لَا يَحِلُّ تَنَاوُلُ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ ، وَكَانَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ يُبِيحُ ذَلِكَ ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَدْ رَوَى أَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا سُئِلَتْ عَنْ ذَلِكَ فَتَلَتْ قَوْله تَعَالَى { قُلْ لَا أَجِدُ فِيمَا أُوحِيَ إلَيَّ مُحَرَّمًا } الْآيَةَ .
.
( وَعَنْ ) طَاوُسٍ قَالَ : قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ فِهْرٍ : إنَّكُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّ لَحْمَ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ حَرَامٌ قَالَ : كَانَ الْحَكَمُ بْنُ عَمْرٍو يَقُولُ ذَلِكَ عِنْدَنَا بِالْبَصْرَةِ فَأَتَى ذَلِكَ الْخَبَرُ يَعْنِيَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَفِي حَدِيثِ الْحُرِّ بْنِ غَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ { سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : لَمْ يَبْقَ لِي مِنْ مَالِي إلَّا حُمَيْرَاتٌ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : كُلْ مِنْ سَمِينِ مَالِكَ ، فَإِنِّي إنَّمَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ خَوَلِ الْقَرْيَةِ } وَاعْتَبَرُوا الْحِمَارَ الْأَهْلِيَّ بِالْوَحْشِيِّ ، فَإِنَّهُ مَأْكُولٌ بِالِاتِّفَاقِ ، وَكُلّ حَيَوَانٍ وَحْشِيُّهُ مَأْكُولٌ فَالْأَهْلِيُّ مِنْ جِنْسِهِ مَأْكُولٌ كَالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ ، وَمَا لَا يَكُونُ أَهْلِيُّهُ مَأْكُولًا فَوَحْشِيُّهُ لَا يَكُونُ مَأْكُولًا كَالْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رَوَيْنَا مِنْ الْحَدِيثِ فِيهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ مَا كَانَ حَرَّمَهَا يَوْمَ خَيْبَرَ لِقِلَّةِ الظَّهْرِ ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ بِإِكْفَاءِ الْقُدُورِ بَعْدَ مَا صَارَ لَحْمًا لَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَةُ الظَّهْرِ ، وَمَا حَرَّمَهَا لِأَنَّهَا نُهْبَةٌ لَمْ تُخَمَّسْ ، فَإِنَّهُ كَانَ مَأْكُولًا

فَلِلْغَانِمِينَ حَقُّ التَّنَاوُلِ مِنْهُ قَبْلَ الْخُمُسِ كَالطَّعَامِ وَالْعَلَفِ ، وَمَا حَرَّمَهَا لِأَنَّهَا حَوَلُ الْقِرْبَةِ ، مَأْخُوذٌ مِنْ الْحَوَّالِ مُتَنَاوِلِ الْجِيَفِ كَالْجَلَالَةِ ، فَإِنَّهُ خَصَّ الْحُمُرَ الْأَهْلِيَّةَ بِذَلِكَ ، وَفِي هَذَا الْمَعْنَى الْحِمَارُ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ فَعُرْفُنَا أَنَّهُ حَرَّمَهَا أَلْبَتَّةَ .
( وَقَدْ ) { رَوَى أَنَّهُ أَمَرَ أَبَا طَلْحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَنَادَى أَلَا إنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ ، فَإِنَّهَا رِجْسٌ } وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ ، وَعَنْ الْحِمَارِ الْأَهْلِيِّ } ، وَلَمَّا بَلَغَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَتْوَى ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِإِبَاحَةِ الْمُتْعَةِ فَقَالَ لَهُ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مُتْعَةِ النِّسَاءِ ، وَعَنْ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ زَمَنَ خَيْبَرَ فَتُرَجَّحُ الْآثَارُ الْمُوجِبَةُ لِلْحُرْمَةِ ، ثُمَّ لَا حُجَّةَ فِي حَدِيثِ الْحَبْرِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، فَإِنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { كُلْ مِنْ سَمِينِ مَالِكَ } أَيْ بِعْهُ ، وَاسْتَنْفِقْ ثَمَنَهُ فَقَدْ يُقَالُ فُلَانٌ أَكَلَ عَقَارَهُ ، وَالْمُرَادُ هَذَا ، وَقَالَ الْقَائِلُ : إنَّ لَنَا أَحْمِرَةً عِجَافًا يَأْكُلْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ إكَافًا ، وَالْمُرَادُ ثَمَنُ الْإِكَافِ ، وَمَا نَقَلُوهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَا يَكَادُ يَصِحُّ عَنْهُ ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ أَنَّهُ حَرَّمَ الْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ فَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِالْآيَةِ { لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } عَلَى مَا تَبَيَّنَ ، وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا اسْتَدَلَّتْ بِعَامٍ دَخَلَهُ الْخُصُوصُ بِالِاتِّفَاقِ ، وَقَدْ ثَبَتَ النَّهْيُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي لَحْمِ الْحِمَارِ فَكَانَ دَلِيلُ الْخُصُوصِ فِي هَذَا الْعَامِ ، وَاعْتِبَارُ الْأَهْلِيِّ بِالْوَحْشِيِّ سَاقِطٌ ، فَإِنَّهُ لَا مُشَابَهَةَ

بَيْنَهُمَا مَعْنًى ، وَالْمُشَابَهَةُ صُورَةً لَا تَكُونُ دَلِيلَ الْحِلِّ ، وَقَدْ صَحَّ فِي الْأَثَرِ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبَاحَ تَنَاوُلَ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ } ، كَمَا رُوِيَ { أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَهْدَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَارًا وَحْشِيًّا عَفِيرًا أَوْ رِجْلَ حِمَارٍ وَحْشِيٍّ فَأَمَرَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنْ يَقْسِمَهُ بَيْنَ الرِّفَاقِ .
} ثُمَّ كَمَا وَرَدَ الْحَدِيثُ بِالْأَمْرِ بِالْإِكْفَاءِ لِلْقِدْرِ فِي لَحْمِ الْحِمَارِ فَقَدْ وَرَدَ مِثْلُهُ فِي الضَّبِّ ، وَهُوَ حَدِيثُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ حَسَنَةَ قَالَ : { كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فَأَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ ، وَنَزَلْنَا فِي أَرْضٍ كَثِيرَةِ الضِّبَابِ فَأَخَذْنَاهَا ، وَأَنَّ الْقُدُورَ لَتَغْلِي بِهَا فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِكْفَاءِ الْقُدُورِ } وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَضْيِيعَ الْمَالِ لَا يَحِلُّ ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْأَمْرَ بِإِكْفَاءِ الْقُدُورِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلْحُرْمَةِ .

( وَعَنْ ) أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ : { أَكَلْنَا لَحْمَ فَرَسٍ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ } : وَعَنْ الْحُرَيْثِ قَالَ : كُنَّا إذَا نَتَجَتْ فَرَسٌ أَخَذْنَا فَلُوًّا ذَبَحْنَاهُ ، وَقُلْنَا الْأَمْرُ قَرِيبٌ ، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَكَتَبَ إلَيْنَا أَنْ لَا تَفْعَلُوا ، فَإِنَّ فِي الْأَمْرِ تَرَاخِيًا ، وَبِهَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ يَسْتَدِلُّ مَنْ يُرَخِّصُ فِي لَحْمِ الْخَيْلِ ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَذْبَحُونَهُ لِمَنْفَعَةِ الْأَكْلِ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى ، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَإِنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ لَحْمَ الْخَيْلِ ، فَظَاهِرُ اللَّفْظِ فِي كِتَابِ الصَّيْدِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْكَرَاهَةَ لِلتَّنْزِيهِ ، فَإِنَّهُ قَالَ : رَخَّصَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي لَحْمِ الْخَيْلِ ، فَأَمَّا أَنَا لَا يُعْجِبُنِي أَكْلُهُ ، وَمَا قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَكْرَهُ لَحْمَ الْخَيْلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَرَاهَةُ التَّحْرِيمِ ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا قُلْتُ فِي شَيْءٍ أَكْرَهُهُ فَمَا رَأْيُكَ فِيهِ قَالَ : التَّحْرِيمُ ، ثُمَّ مَنْ أَبَاحَهُ اسْتَدَلَّ بِالتَّعَامُلِ الظَّاهِرِ بِبَيْعِ لَحْمِ الْخَيْلِ فِي الْأَسْوَاقِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ مُنْكِرٍ ، وَلِأَنَّ سُؤْرَهُ طَاهِرٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَبَوْلُهُ بِمَنْزِلَةِ بَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مَأْكُولٌ كَالْأَنْعَامِ ، وَإِنْ رُوِيَ فِيهِ نَهْيٌ فَلِأَنَّ الْخَيْلَ كَانَتْ قَلِيلَةً فِيهِمْ ، وَكَانَ سِلَاحًا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ فِي الْحَرْبِ ؛ فَلِهَذَا نَهَاهُمْ عَنْ أَكْلِهِ لَا لِحُرْمَتِهِ ، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً } الْآيَةَ ، فَقَدْ مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ بِمَا جَعَلَ لَهُمْ مِنْ مَنْفَعَةِ الرُّكُوبِ وَالزِّينَةِ فِي الْخَيْلِ ،

وَلَوْ كَانَ مَأْكُولًا لَكَانَ الْأَوْلَى بَيَانَ مَنْفَعَةِ الْأَكْلِ ؛ لِأَنَّهُ أَعْظَمُ وُجُوهِ الْمَنْفَعَةِ ، وَبِهِ بَقَاءُ النُّفُوسِ ، وَلَا يَلِيقُ بِحِكْمَةِ الْحَكِيمِ تَرْكُ أَعْظَمِ وُجُوهِ الْمَنْفَعَةِ عِنْدَ إظْهَارِ الْمِنَّةِ وَذِكْرُ مَا دُونَ ذَلِكَ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ فِي الْأَنْعَامِ ذَكَرَ الْأَكْلَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } وَلِأَنَّهُ ضَمَّ الْخَيْلَ إلَى الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ فِي الذِّكْرِ دُونَ الْأَنْعَامِ ، وَالْقُرْآنُ فِي الذِّكْرِ دَلِيلُ الْقُرْآنِ فِي الْحُكْمِ ، وَبِنَحْوِهِ اسْتَدَلَّ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا حِينَ كَرِهَ لَحْمَ الْخَيْلِ ، كَمَا رُوِيَ عَنْهُ فِي الْكِتَابِ ، وَفِي حَدِيثِ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { نَهَى عَنْ أَكْلِ لَحْمِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ } وَفِي حَدِيثِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يَكْرِبَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ لُحُومُ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْخَيْلِ } .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الدَّلِيلَ الْمُوجِبَ لِلْحُرْمَةِ يَتَرَجَّحُ ، فَإِنَّ مَا كَانَ مِنْ الرُّخْصَةِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ قَبْلَ النَّهْيِ ، وَلِأَنَّ نِتَاجَهُ غَيْرُ مَأْكُولٍ وَهُوَ الْبَغْلُ ؛ لِأَنَّ الْبَغْلَ نِتَاجُ الْفَرَسِ ، وَالْوَلَدُ جُزْءٌ مِنْ الْأُمِّ ، وَحُكْمُهُ حُكْمُهَا فِي الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَأْكُولًا عَرَفْنَا أَنَّ الْخَيْلَ لَيْسَ بِمَأْكُولٍ .
ثُمَّ الْخَيْلُ تُشْبِهُ الْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ ذُو حَافِرٍ أَهْلِيٍّ بِخِلَافِ الْأَنْعَامِ ، فَإِنَّهَا ذَوَاتُ خُفٍّ لَا ذَوَاتُ حَوَافِرَ ، وَقَدْ رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْكَرَاهَةَ فِي سُؤْرِ الْفَرَسِ كَمَا فِي لَبَنِهِ ، وَإِنَّمَا جُعِلَ بَوْلُهُ كَبَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ لِمَعْنَى الْبَلْوَى فِيهِ ، فَلِلْبَلْوَى تَأْثِيرٌ فِي تَخْفِيفِ حُكْمِ النَّجَاسَةِ ، وَمَنْ قَالَ : الْكَرَاهَةُ لِلتَّنْزِيهِ لَا لِلتَّحْرِيمِ قَالَ :

إنَّ الْفَرَسَ كَالْآدَمِيِّ مِنْ وَجْهٍ ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَحْصُلُ إرْهَابُ الْعَدُوِّ بِهِ ، وَيَسْتَحِقُّ السَّهْمَ مِنْ الْغَنِيمَةِ ، وَالْآدَمِيُّ غَيْرُ مَأْكُولٍ لِكَرَامَتِهِ لَا لِنَجَاسَتِهِ ، وَالْخَيْلُ كَذَلِكَ كُرِهَ أَكْلُهَا عَلَى طَرِيقِ التَّنْزِيهِ لِمَعْنَى الْكَرَامَةِ ؛ وَلِهَذَا جَعَلَ الْخَيْلَ طَاهِرَةَ السُّؤْرِ ، وَجَعَلَ بَوْلَهُ كَبَوْلِ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ .

( وَعَنْ ) إبْرَاهِيمَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : لَا بَأْسَ بِثَمَنِ كَلْبِ الصَّيْدِ ، وَرُوِيَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَخَّصَ فِي ثَمَنِ كَلْبِ الصَّيْدِ } وَبِهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ : بَيْعُ الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ يَجُوزُ ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْكَلْبِ أَصْلًا مُعَلَّمًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مُعَلَّمٍ لِمَا رُوِيَ أَنَّ { رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ وَمَهْرِ الْبَغِيِّ ، وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ } فَلَوْ كَانَتْ مَالًا مُتَقَوِّمًا لِمَا أَمَرَ بِذَلِكَ ، وَلِأَنَّ الْكَلْبَ نَجِسُ الْعَيْنِ بِدَلِيلِ نَجَاسَةِ سُؤْرِهِ ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَالْخِنْزِيرِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ مَحِلُّ الْبَيْعِ لَمْ يَفْتَرِقْ بَيْنَ الْمُعَلَّمِ مِنْهُ وَغَيْرِ الْمُعَلَّمِ كَالْفَهْدِ وَالْبَازِي ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رَوَاهُ إبْرَاهِيمُ مِنْ الرُّخْصَةِ ، وَذَلِكَ بَعْدَ النَّهْيِ وَالتَّحْرِيمِ فِيهِ يَتَبَيَّنُ تَيْسِيرُ انْتِسَاخِ مَا رُوِيَ مِنْ النَّهْيِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَلِفُوا اقْتِنَاءَ الْكِلَابِ ، وَكَانَتْ الْكِلَابُ فِيهِمْ تُؤْذِي الضِّيفَانَ وَالْغُرَبَاءَ فَنَهَوْا عَنْ اقْتِنَائِهَا فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَأُمِرُوا بِقَتْلِ الْكِلَابِ ، وَنُهُوا عَنْ بَيْعِهَا تَحْقِيقًا لِلزَّجْرِ عَنْ الْعَادَةِ الْمَأْلُوفَةِ ، ثُمَّ رَخَّصَ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي ثَمَنٍ مُنْتَفَعًا بِهِ مِنْ الْكِلَابِ ، وَهُوَ كَلْبُ الصَّيْدِ وَالْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ ، وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَلْبِ إلَّا كَلْبَ الصَّيْدِ ، وَالْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ } وَرَوَى أَنَّهُ { قَضَى فِي كَلْبِ الصَّيْدِ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا ، وَفِي كَلْبِ الْحَرْثِ بِفَرْقٍ مِنْ طَعَامٍ ، وَفِي كَلْبِ الْمَاشِيَةِ بِشَاةٍ مِنْهُ } .
( وَعَنْ ) عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّهُ قُضِيَ عَلَى رَجُلٍ أَتْلَفَ

كَلْبًا لِامْرَأَةٍ بِعِشْرِينَ بَعِيرًا ، وَالْحَدِيثُ لَهُ قِصَّةُ مَعْرُوفَةٌ ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ ، وَهُوَ مُنْتَفَعٌ بِهِ شَرْعًا جَازَ بَيْعُهُ كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ ، وَبَيَانُ كَوْنِهِ مُنْتَفَعًا بِهِ أَنَّهُ يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ ، وَيَجُوزُ تَمْلِيكُهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ بِالْهِبَةِ ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ بِالْوَصِيَّةِ فَيَجُوزُ تَمْلِيكُهُ بِالْعِوَضِ أَيْضًا ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسِ الْعَيْنِ ، فَإِنَّ الِانْتِفَاعَ بِمَا هُوَ نَجِسُ الْعَيْنِ لَا يَحِلُّ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ كَالْخَمْرِ ، وَلَا يَجُوزُ تَمْلِيكُهُ قَصْدًا بِالْهِبَةِ وَالْوَصِيَّةِ ، ثُمَّ الصَّحِيحُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمُعَلَّمَ وَغَيْرَ الْمُعَلَّمِ إذَا كَانَ بِحَيْثُ يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ سَوَاءٌ فِي حُكْمِ الْبَيْعِ حَتَّى ذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ لَوْ بَاعَ جَرْوًا جَازَ بَيْعُهُ ؛ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ ، فَأَمَّا الَّذِي لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ الْعَقُورُ مِنْهُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ ؛ لِأَنَّهُ عَيْنٌ مُؤْذٍ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ فَلَا يَكُونُ مَالًا مُتَقَوِّمًا كَالذِّئْبِ ، وَهَكَذَا يَقُولُ فِي الْأَسَدِ إنْ كَانَ بِحَيْثُ يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ ، وَيُصْطَادُ بِهِ ، فَبَيْعُهُ جَائِزٌ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ وَلَا يَنْتَفِعُ بِهِ فَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَالْفَهْدُ وَالْبَازِي يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ عَلَى كُلِّ حَالٍّ فَجَازَ بَيْعُهُمَا كَذَلِكَ .
( وَعَنْ ) جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { نَهَى عَنْ بَيْعِ الْكَلْبِ وَالسِّنَّوْرِ } وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَنْقُضُ هَذَا الْحَدِيثَ فِي السِّنَّوْرِ حَدِيثُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ { كَانَ يُصْغِي لَهَا الْإِنَاءَ فَتَشْرَبُ مِنْهُ } وَهُوَ مَشْهُورٌ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَحَدِيثُ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُصْغِي الْإِنَاءَ لِلْهِرِّ لِيَشْرَبَ مِنْهُ ثُمَّ

يَتَوَضَّأُ } وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ ، وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ { أَنَّهَا لَيْسَتْ بِنَجِسَةٍ أَنَّهَا مِنْ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ } ، وَيَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ ، وَمَا يَكُونُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَهُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ ، وَالنَّهْيُ إنْ ثَبَتَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ .
.

قَالَ : ( وَصَيْدُ الْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ الْجَوَارِحِ مِنْ السِّبَاعِ وَغَيْرِهَا يُرْسِلُهُ الْمُسْلِمُ أَوْ الْكِتَابِيُّ ، وَيُسَمِّي عَلَيْهِ فَيَأْخُذُهُ ، وَيَقْتُلُهُ جَائِزٌ حَلَالٌ ) وَإِنَّمَا يَشْتَرِطُ أَنْ يَكُونَ الْمُرْسِلُ مُسْلِمًا أَوْ كِتَابِيًّا ؛ لِأَنَّ الِاصْطِيَادَ فِي كَوْنِهِ سَبَبًا لِلْحِلِّ كَالذَّبْحِ ، وَالْأَهْلِيَّةُ لِلذَّابِحِ شَرْطٌ لِحِلِّ الذَّبِيحَةِ فَكَذَا فِي الِاصْطِيَادِ ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا سَبَقَ شَرَائِطَ الِاصْطِيَادِ ، وَدَخَلَ هَذَا الشَّرْطُ فِي جُمْلَةِ مَا ذَكَرْنَا دَلَالَةً ، وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ نَصًّا ؛ لِأَنَّا شَرَطْنَا تَسْمِيَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ عَمَّنْ يَعْتَقِدُ تَوْحِيدَهُ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ أَوْ يَظْهَرُ ذَلِكَ ، وَهُوَ مُسْلِمٌ أَوْ كِتَابِيٌّ ، فَأَمَّا الْمَجُوسِيُّ يَدَّعِي إلَهَيْنِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ تَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ ؛ فَلِهَذَا لَا يَحِلُّ ذَبِيحَةُ الْمَجُوسِيِّ وَصَيْدُهُ .

قَالَ ( وَإِذَا تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَامِدًا حَرُمَ بِهِ الصَّيْدُ وَالْمَذْبُوحُ عِنْدَنَا ، وَلَمْ يَحْرُمْ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَالْمُسْلِمُ وَالْكِتَابِيُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ) وَإِنْ تَرَكَ نَاسِيًا لَمْ يَحْرُمْ عِنْدَنَا ، وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ : يَحْرُمُ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَكَانَ عَلِيٌّ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَفْصِلَانِ بَيْنَ الْعَامِدِ وَالنَّاسِي كَمَا هُوَ مَذْهَبُنَا ، وَقَدْ كَانُوا مُجْمِعِينَ عَلَى الْحُرْمَةِ إذَا تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَامِدًا ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُونَ إذَا تَرَكَهَا نَاسِيًا ، وَكَفَى بِإِجْمَاعِهِمْ حَجَّةً ؛ وَلِهَذَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَتْرُوكُ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا لَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ ، وَلَوْ قَضَى الْقَاضِي بِجَوَازِ الْبَيْعِ فِيهِ لَا يَجُوزُ قَضَاؤُهُ ؛ لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْإِجْمَاعِ فَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { الْمُسْلِمُ يَذْبَحُ عَلَى اسْمِ اللَّهِ سَمَّى أَوْ لَمْ يُسَمِّ ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ : ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ } وَكَوْنُ الذِّكْرِ فِي قَلْبِهِ فِي حَالَةِ الْعَمْدِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي حَالَةِ النِّسْيَانِ ، وَلَمَّا سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ نَاسِيًا قَالَ : يَحِلُّ تَسْمِيَةُ مِلَّتِهِ ، وَفِي إقَامَةِ الْمِلَّةِ مَقَامَ التَّسْمِيَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَ النِّسْيَانِ وَالْعَمْدِ { ، وَسَأَلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : إنَّ الْأَعْرَابَ يَأْتُونَنَا بِلُحُومٍ ، فَلَا نَدْرِي أَسَمَّوْا أَمْ لَمْ يُسَمُّوا فَقَالَ : عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سَمُّوا أَنْتُمْ ، وَكُلُوا } فَلَوْ كَانَ التَّسْمِيَةُ مِنْ شَرَائِطِ الْحِلِّ لَمَا أَمَرَهَا بِالْأَكْلِ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّكِّ فِيهَا ، وَلِأَنَّ التَّسْمِيَةَ لَوْ كَانَتْ مِنْ شَرَائِطِ

الْحِلِّ كَانَتْ مَأْمُورًا بِهَا ، وَفِي الْمَأْمُورَاتِ لَا فَرْقَ بَيْنَ النِّسْيَانِ وَالْعَمْدِ كَقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْأَوْدَاجِ وَكَالتَّكْبِيرِ ، وَالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ إنَّمَا يَقَعُ الْفَرْقُ فِي الْمَزْجُورَاتِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِي الصَّوْمِ لِأَنَّ مُوجِبَ النَّهْيِ الِانْتِهَاءُ ، وَالنَّاسِي يَكُونُ مُنْتَهِيًا اعْتِقَادًا .
فَأَمَّا مُوجِبُ الْأَمْرِ الِائْتِمَارُ ، وَالتَّارِكُ نَاسِيًا أَوْ عَامِدًا لَا يَكُونُ مُؤْتَمِرًا ؛ وَلِأَنَّهُ اسْتِصْلَاحُ الْأَكْلِ فَكَانَتْ التَّسْمِيَةُ فِيهِ نَدْبًا لَا حَتْمًا كَالطَّبْخِ وَالْخَبْزِ ثُمَّ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الْأَكْلُ التَّسْمِيَةُ فِيهِ نَدْبٌ وَلَيْسَ بِحَتْمٍ ، فَهَذَا هُوَ طَرِيقٌ إلَيْهِ أَوْلَى ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَحِلُّ ذَبَائِحُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ، وَلَوْ كَانَتْ التَّسْمِيَةُ شَرْطًا لَمَا حَلَّتْ ذَبَائِحُهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ وَإِنْ ذَكَرُوا اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَ غَيْرَ اللَّهِ ، وَهُوَ مَا يَتَّخِذُونَهُ مَعْبُودًا لَهُمْ ؛ لِأَنَّ النَّصَارَى يَقُولُونَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلْوًا كَبِيرًا ، وَنَحْنُ نَتَبَرَّأُ مِنْ إلَهٍ لَهُ وَلَدٌ ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } وَمُطْلَقُ النَّهْيِ يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِحَرْفِ مِنْ ؛ لِأَنَّهُ فِي مَوْضِعِ النَّهْيِ لِلْمُبَالَغَةِ فَيَقْتَضِي حُرْمَةَ كُلِّ جُزْءٍ مِنْهُ ، وَالْهَاءُ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } إنْ كَانَ كِنَايَةً عَنْ الْأَكْلِ فَالْفِسْقُ أَكْلُ الْحَرَامِ ، وَإِنْ كَانَ كِنَايَةَ عَنْ الْمَذْبُوحِ فَالْمَذْبُوحُ الَّذِي يُسَمَّى فِسْقًا فِي الشَّرْعِ يَكُونُ حَرَامًا ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } وَفِي الْآيَةِ بَيَانُ أَنَّ الْحُرْمَةَ لِعَدَمِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ بِوَصْفٍ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ هُوَ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ كَالْمَيْتَةِ وَالْمَوْقُوذَةِ ، وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ فَسَادُ حَمْلِ الْآيَةِ عَلَى

الْمَيْتَةِ وَذَبَائِحِ الْمُشْرِكِينَ ، فَإِنَّ الْحُرْمَةَ هُنَاكَ لَيْسَتْ لِعَدَمِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، حَتَّى إنَّهُ وَإِنْ ذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى لَمْ يَحِلَّ ، وَقَالَ تَعَالَى : { فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ } يَعْنِي عِنْدَ النَّحْرِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى : { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } أَيْ سَقَطَتْ ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ ذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ عِنْدَ الطَّعْنِ : بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } الْآيَةَ ، وَالْمُرَادُ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الْإِرْسَالِ ، فَثَبَتَ بِهَذَيْنِ النَّصَّيْنِ أَنَّ التَّسْمِيَةَ مَأْمُورٌ بِهَا ، وَمُطْلَقُ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ ، وَهِيَ مِنْ شَرَائِطِ الْحِلِّ ثَبَتَ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ { إذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى فَكُلْ } وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الشَّرْطِ شَرْطٌ ، وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : { وَإِنْ شَارَكَ كَلْبَكَ كَلْبٌ آخَرُ ، فَلَا تَأْكُلْ فَأَنْتَ إنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ ، وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى كَلْبِ غَيْرِكَ } فَعَلَّلَ لِلْحُرْمَةِ بِأَنَّهُ لَمْ يُسَمِّ عَلَى كَلْبِ غَيْرِهِ فَهُوَ دَلِيلُ الْحُرْمَةِ إذَا لَمْ يُسَمِّ عَلَى كَلْبِ نَفْسِهِ ، وَشَيْءٌ مِنْ الْمَعْنَى يَشْهَدُ لَهُ ، فَإِنَّ ذَبِيحَةَ الْكِتَابِيِّ تَحِلُّ ، وَذَبِيحَةُ الْمَجُوسِيِّ لَا تَحِلُّ ، وَلَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ يُعْقَلُ مَعْنَاهُ بِالرَّأْيِ سِوَى مَنْ يَدَّعِي التَّوْحِيدَ يَصِحُّ مِنْهُ تَسْمِيَةُ اللَّهِ عَلَى الْخُلُوصِ ، وَمَنْ يَدَّعِي الِاثْنَيْنِ لَا يَصِحُّ مِنْهُ تَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ فَبِهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ التَّسْمِيَةَ مِنْ شَرَائِطِ الْحِلِّ أَوْ إنَّمَا أُمِرْنَا بِبِنَاءِ الْحُكْمِ فِي حَقِّ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى مَا يُظْهِرُونَ دُونَ مَا يُضْمِرُونَ ، أَلَا تَرَى أَنَّ تَسْمِيَةَ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ مُوجِبَةٌ لِلْحُرْمَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {

وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ } فَلَوْ اعْتَبَرْنَا مَا يُضْمِرُونَ لَمْ تَحِلَّ ذَبِيحَتُهُمْ ، وَكَذَلِكَ يُسْتَحْلَفُونَ فِي الْمَظَالِمِ بِاَللَّهِ ، وَالِاسْتِحْلَافُ بِغَيْرِ اللَّهِ لَا يَحِلُّ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يَبْنِي عَلَى مَا يُظْهِرُونَ ، ثُمَّ إنَّا أُمِرْنَا بِالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الذَّبْحِ مُخَالَفَةً لِلْمُشْرِكِينَ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَ آلِهَتَهُمْ عِنْدَ الذَّبْحِ ، وَمُخَالَفَتُهُمْ وَاجِبَةٌ عَلَيْنَا فَالتَّسْمِيَةُ عِنْدَ الذَّبْحِ تَكُونُ وَاجِبَةً أَيْضًا بِخِلَافِ الطَّبْخِ وَالْأَكْلِ ، فَإِنَّهُمْ مَا كَانُوا يُسَمُّونَ آلِهَتَهُمْ عِنْدَ ذَلِكَ ، فَالْأَمْرُ بِالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ ذَلِكَ نَدْبٌ .
وَكَذَلِكَ عِنْدَ الْوَصْفِ فَالْأَمْرُ بِالتَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْوَصْفِ لَمْ يَكُنْ لِمُخَالَفَتِهِمْ فَكَانَ نَدْبًا ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي حَالَةِ النِّسْيَانِ تُقَامُ مِلَّتُهُ مُقَامَ التَّسْمِيَةِ ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا لِمَعْنَى التَّخْفِيفِ ، وَهَذَا التَّخْفِيفُ يَسْتَحِقُّهُ النَّاسِي دُونَ الْعَامِدِ ، وَلِأَنَّ الْعَامِدَ مُعْرِضٌ عَنْ التَّسْمِيَةِ ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ مُسَمِّيًا حُكْمًا بِخِلَافِ النَّاسِي ، فَإِنَّهُ غَيْرُ مُعْرِضٍ بَلْ مَعْذُورٌ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِ الْمَعْذُورِ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ فِي الذَّبْحِ وَغَيْرِ الذَّبْحِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي اعْتِبَارِ الذَّبْحِ فِي الْمَذْبَحِ يُفْصَلُ بَيْنَ الْمَعْذُورِ وَغَيْرِهِ ، وَفِي الْأَكْلِ فِي الصَّوْمِ يُفْصَلُ بَيْنَ النَّاسِي وَالْعَامِدِ ، وَلَا يُعْتَبَرُ بِالْمَأْمُورِ وَالْمَزْجُورِ فَالْأَكْلُ فِي الصَّلَاةِ مَزْجُورٌ ، ثُمَّ سَوَّى فِيهِ بَيْنَ النِّسْيَانِ وَالْعَمْدِ ، وَالْجِمَاعُ فِي الْإِحْرَامِ كَذَلِكَ ، وَلَكِنْ مَتَى اقْتَرَنَ بِحَالَةِ مَا يَذْكُرُهُ كَهَيْئَةِ الْمُحْرِمِينَ وَالْمُصَلِّينَ لَا يُعْذَرُ بِالنِّسْيَانِ ، وَمَتَى لَمْ يَقْتَرِنْ بِحَالَةِ مَا يَذْكُرُهُ يُعْذَرُ بِالنِّسْيَانِ كَالصَّوْمِ ، وَهُنَا لَمْ تَقْتَرِنْ بِحَالَةِ مَا يَذْكُرُهُ ، وَقَدْ يَذْبَحُ الْإِنْسَانُ الطَّيْرَ وَقَلْبُهُ مُشْتَغِلٌ بِشُغْلٍ آخَرَ فَيَتْرُكُ التَّسْمِيَةَ

نَاسِيًا ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّهُ اذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى إذَا كَانَ نَاسِيًا غَيْرَ مُعْرِضٍ ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ ذُكِرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ { وَإِنْ تَعَمَّدَ لَمْ يَحِلَّ } وَحَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا دَلِيلُنَا ؛ لِأَنَّهَا سَأَلَتْ عَنْ الْأَكْلِ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّكِّ فِي التَّسْمِيَةِ ، فَذَلِكَ دَلِيلُهُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَهُمْ أَنَّ التَّسْمِيَةَ مِنْ شَرَائِطِ الْحِلِّ ، وَإِنَّمَا أَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْأَكْلِ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ أَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَدَعُ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا كَمَنْ اشْتَرَى لَحْمًا فِي سُوقِ الْمُسْلِمِينَ يُبَاحُ لَهُ التَّنَاوُلُ بِنَاءً عَلَى الظَّاهِرِ ، وَإِنْ كَانَ يَتَوَهَّمُ أَنَّهُ ذَبِيحَةُ مَجُوسِيٍّ .

ثُمَّ التَّسْمِيَةُ فِي الذَّبْحِ تُشْتَرَطُ عِنْدَ الْقَطْعِ ، وَفِي الِاصْطِيَادِ عِنْدَ الْإِرْسَالِ وَالرَّمْيِ ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِحَسَبِ الْوُسْعِ ، وَفِي وُسْعِهَا التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الرَّمْيِ ، وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الْإِصَابَةِ ، فَتُقَامُ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الْإِرْسَالِ وَالرَّمْيِ مُقَامَهُ ، كَمَا يُقَامُ الْجُرْحُ فِي الْمُتَوَحِّشِ مُقَامَ الذَّبْحِ فِي الْمَذْبَحِ فِي الْأَهْلِيِّ ، وَلِأَنَّ التَّسْمِيَةَ تَقْتَرِنُ بِفِعْلِهِ ، وَالْقَطْعُ مِنْ فِعْلِهِ ، وَفِي الِاصْطِيَادِ فِعْلُهُ الْإِرْسَالُ وَالرَّمْيُ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ أَضْجَعَ شَاةً وَأَخَذَ السِّكِّينَ وَسَمَّى ثُمَّ تَرَكَهَا وَذَبَحَ شَاةً أُخْرَى ، وَتَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَلَيْهَا لَا يَحِلُّ ، وَلَوْ رَمَى سَهْمًا إلَى صَيْدٍ وَسَمَّى فَأَصَابَ صَيْدًا آخَرَ أَوْ أَخَذَ سِكِّينًا ، وَسَمَّى ثُمَّ تَرَكَهَا وَأَخَذَ سِكِّينًا أُخْرَى أَوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ إلَى صَيْدٍ وَسَمَّى ، وَتَرَكَ ذَلِكَ الصَّيْدَ وَأَخَذَ غَيْرَهُ حَلَّ ، وَكَذَلِكَ لَوْ ذَبَحَ تِلْكَ الشَّاةَ ثُمَّ ذَبَحَ شَاةً أُخْرَى بَعْدَهَا فَظَنَّ أَنَّ تِلْكَ التَّسْمِيَةَ تَكْفِيهِ لَا يَحِلُّ ، وَالسَّهْمُ إذَا أَصَابَ ذَلِكَ الصَّيْدَ وَغَيْرَهُ .
أَوْ أَخَذَ الْكَلْبُ فِي فَوْرِهِ ذَلِكَ الصَّيْدَ وَغَيْرَهُ حَلَّ الْأَكْلُ ، وَجَهْلُهُ لَيْسَ نَظِيرَ النِّسْيَانِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْجَهْلَ بِالْحُكْمِ لَا يَمْنَعُ حُصُولَ الْفِطْرِ بِخِلَافِ النِّسْيَانِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَظَرَ إلَى قَطِيعٍ مِنْ الْغَنَمِ وَأَخَذَ السِّكِّينَ وَسَمَّى ثُمَّ أَخَذَ شَاةً مِنْهَا وَذَبَحَهَا بِتِلْكَ التَّسْمِيَةِ لَا يَحِلُّ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَى جَمَاعَةٍ مِنْ الصَّيُودِ وَسَمَّى فَأَخَذَ أَحَدُهَا يَحِلُّ ؛ لِأَنَّ التَّعْيِينَ فِي الِاصْطِيَادِ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ ، وَالتَّعْيِينُ فِي الذَّبْحِ فِي وُسْعِهِ .

قَالَ : ( وَلَوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ ، وَلَمْ يُسَمِّ عَمْدًا ثُمَّ زَجَرَهُ وَسَمَّى فَانْزَجَرَ ، وَأَخَذَ الصَّيْدَ لَمْ يَحِلَّ ) ؛ لِأَنَّ إرْسَالَهُ مَعَ تَرْكِ التَّسْمِيَةِ عَمْدًا فِعْلٌ مُحَرَّمٌ ، فَلَا يُنْسَخُ إلَّا بِمَا هُوَ مِثْلُهُ أَوْ فَوْقَهُ ، وَالزَّجْرُ دُونَ الْإِرْسَالِ بِخِلَافِ مَا إذَا اتَّبَعَ الصَّيْدَ بِغَيْرِ إرْسَالِ صَاحِبِهِ ثُمَّ زَجَرَهُ صَاحِبُهُ وَسَمَّى ، فَإِنْ انْزَجَرَ بِزَجْرِهِ وَأَخَذَ الصَّيْدَ حَلَّ ؛ لِأَنَّ اتِّبَاعَهُ لَمْ يَكُنْ فِعْلًا مُعْتَبَرًا ، فَإِنَّ فِعْلَ الْعَجْمَاءِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ إذَا لَمْ يَكُنْ بِنَاءً عَلَى إرْسَالِ آدَمِيٍّ ، فَكَانَ زَجْرُهُ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْإِرْسَالِ ، وَقَدْ اقْتَرَبَتْ التَّسْمِيَةُ بِهِ ، وَعَلَى هَذَا الْأَصْلِ إذَا أَرْسَلَ الْمُسْلِمُ كَلْبَهُ عَلَى صَيْدٍ فَزَجَرَهُ مَجُوسِيٌّ فَانْزَجَرَ بِزَجْرِهِ لَمْ يَضُرَّهُ ؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ مِنْ الْمُسْلِمِ فِعْلٌ مُوجِبٌ لِلْحِلِّ ، فَلَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِمَا هُوَ مِثْلُهُ ، وَالزَّجْرُ دُونَ الْإِرْسَالِ ، فَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ الْحُكْمُ الثَّابِتُ بِالْإِرْسَالِ ، وَلَوْ كَانَ الْمَجُوسِيُّ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ لَمْ يَنْفَعْهُ زَجْرُ الْمُسْلِمِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمَجُوسِيِّ يَحْرُمُ ، فَلَا يَرْتَفِعُ بِزَجْرِ الْمُسْلِمِ إيَّاهُ لِأَنَّهُ دُونَهُ ، فَأَمَّا إذَا انْبَعَثَ الْكَلْبُ وَالْبَازِي عَلَى أَثَرِ الصَّيْدِ بِغَيْرِ إرْسَالٍ ثُمَّ زَجَرَهُ صَاحِبُهُ ، فَإِنْ لَمْ يَنْزَجِرْ بِزَجْرِ صَاحِبِهِ لَمْ يَحِلَّ الصَّيْدُ ؛ لِأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِفِعْلِ الْمُسْلِمِ فَيَأْخُذُهُ ، وَبِدُونِ الْإِرْسَالِ لَا يَحِلُّ ، وَإِنْ انْزَجَرَ بِزَجْرٍ فِي الْقِيَاسِ لَا يَحِلُّ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ زَجْرَهُ لَيْسَ بِإِرْسَالٍ ، فَإِنَّ الْإِرْسَالَ يَكُونُ مِنْ يَدِهِ ، وَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ حِينَ زَجَرَهُ ، وَبِدُونِ الْإِرْسَالِ لَا يَحِلُّ صَيْدُ الْكَلْبِ ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ ذَلِكَ فَقَالَ : لَمَّا انْزَجَرَ بِزَجْرِهِ يُجْعَلُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ الْإِرْسَالِ ، وَالصَّيَّادُ قَدْ يُبْتَلَى بِهَذَا ؛ لِأَنَّ الْكَلْبَ رُبَّمَا يَرَى الصَّيْدَ وَلَا يَرَاهُ صَاحِبُهُ ، فَلَوْ انْتَظَرَ

إرْسَالَهُ ، فَإِنَّهُ فَيَنْبَعِثُ عَلَى أَثَرِهِ ، وَيَنْظُرُ إلَى صَاحِبِهِ لِيَزْجُرَهُ حَتَّى إذَا زَجَرَهُ ، وَكَانَ بِالْقُرْبِ مِنْ الصَّيْدِ فَيَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ ، ثُمَّ انْبِعَاثُهُ لَمْ يَكُنْ فِعْلًا مُعْتَبَرًا ، فَالْحَاجَةُ إلَى ابْتِدَاءِ الْفِعْلِ لَا إلَى فَسْخِ الْفِعْلِ ، وَلَمَّا انْزَجَرَ بِزَجْرِهِ جُعِلَ هَذَا ابْتِدَاءَ فِعْلِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ ، فَالْحَاجَةُ هُنَاكَ إلَى فَسْخِ فِعْلٍ مُعْتَبَرٍ ، وَالْفَسْخُ لَا يَصْلُحُ لِذَلِكَ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا قُلْنَا فِيمَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَأَلْقَى إنْسَانٌ حَجَرًا عَلَى شَفِيرِهِ فَيَعْثِرُ إنْسَانٌ فِي الْحَجَرِ حَتَّى هَوَى فِي الْبِئْرِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُلْقِي ، وَبِمِثْلِهِ لَوْ ثَنَى حَجَرًا مِنْ شَفِيرِ الْبِئْرِ أَوْ جَاءَ بِهِ سَيْلٌ فَيَعْثِرُ بِهِ إنْسَانٌ فَوَقَعَ فِي الْبِئْرِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْحَافِرِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ بَعْدِ فِعْلِهِ فِعْلٌ مُعْتَبَرٌ فَبَقِيَ حُكْمُ فِعْلِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ .

قَالَ وَإِذَا تَوَارَى الْكَلْبُ وَالصَّيْدُ عَنْ الْمُرْسِلِ الْمُسْلِمِ ثُمَّ وَجَدَهُ الْمُسْلِمُ ، وَقَدْ قَتَلَهُ وَلَيْسَ فِيهِ أَثَرُ غَيْرِهِ حَلَّ تَنَاوُلُهُ إذَا لَمْ يَتْرُكْ الطَّلَبَ ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ ، وَالتَّوَارِي عَنْ بَصَرِهِ لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ خُصُوصًا فِي الْقَنَّاصِ وَالْمُسْتَأْجِرِ ، وَالطَّيْرُ بَعْدَ إصَابَةِ السَّهْمِ رُبَّمَا يَتَحَامَلُ ، وَيَطِيرُ حَتَّى يَغِيبَ عَنْ بَصَرِهِ فَيَسْقُطَ ، فَإِنْ كَانَ تَرَكَ الطَّلَبَ إلَى عَمَلٍ آخَرَ حَتَّى إذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ اللَّيْلِ طَلَبَهُ فَوَجَدَ الصَّيْدَ مَيِّتًا ، وَالْكَلْبُ عِنْدَهُ وَالْبَازِي ، وَبِهِ جِرَاحَةٌ لَا يُدْرَى الْكَلْبُ جَرَحَهُ أَوْ غَيْرُهُ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَحِلُّ لِأَنَّهُ ظَهَرَ لِمَوْتِهِ سَبَبٌ ، وَهُوَ مَا كَانَ مِنْهُ مِنْ إرْسَالِ الْكَلْبِ وَالْبَازِي ، وَالرَّمْيُ وَالْحُكْمُ مَتَى ظَهَرَ عَقِبَ سَبَبِهِ يُحَالُ عَلَيْهِ ، كَمَا لَوْ جَرَحَ إنْسَانًا فَلَمْ يَزَلْ صَاحِبَ فِرَاشٍ حَتَّى مَاتَ فَجُعِلَ قَاتِلًا لَهُ ، وَلَكِنْ نَسْتَدِلُّ بِمَا رُوِيَ { أَنَّ رَجُلًا أَهْدَى إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَيْدًا فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : مِنْ أَيْنَ لَكَ هَذَا .
؟ قَالَ : كُنْتُ رَمَيْتُهُ بِالْأَمْسِ ، وَكُنْتُ فِي طَلَبِهِ حَتَّى حَالَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ ، ثُمَّ وَجَدْتُهُ اللَّيْلَ ، وَفِيهِ مِنْ بَاقِي فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : لَعَلَّ بَعْضَ الْهَوَامِّ أَعَانَكَ عَلَى قَتْلِهِ ، فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهِ } ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ كُلْ مَا أَصْمَيْتَ وَدَعْ مَا أَنْمَيْتَ ، وَالْإِنْمَاءُ التَّوَارِي عَنْ بَصَرِكَ إلَّا أَنَّ قَدْرَ مَا لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ جُعِلَ عَفْوًا ، فَأَمَّا تَرْكُ الطَّلَبِ مِمَّا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ ، وَالثَّابِتُ بِالضَّرُورَةِ ، وَلَا يَعْدُو مَوْضِعَ الضَّرُورَةِ ، ثُمَّ فِي الْمُدَّةِ الْقَصِيرَةِ يُؤْمَنُ إصَابَةُ آفَةٍ أُخْرَى إيَّاهُ ، وَلَا يُؤْمِنُ ذَلِكَ إذَا تَرَكَ الطَّلَبَ وَطَالَتْ الْمُدَّةُ ،

وَلِأَنَّهُ لَا يَدْرِي فَلَعَلَّهُ لَوْ لَمْ يَتْرُكَ الطَّلَبَ وَجَدَهُ حَيًّا فَذَكَاهُ ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَكُونُ تَارِكًا ذَكَاةَ الِاخْتِيَارِ فِيهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ وَجَدَهُ وَفِيهِ جِرَاحَةٌ أُخْرَى لَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهُ تَرَكَ الطَّلَبَ أَوْ لَمْ يَتْرُكْ ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ لِمَوْتِهِ سَبَبَانِ أَحَدُهُمَا مُوجِبٌ لِلْحِلِّ وَالْآخَرُ مُوجِبٌ لِلْحُرْمَةِ فَيَغْلِبُ كَمَا لَوْ وَقَعَتْ الرَّمْيَةُ فِي الْمَاءِ .

قَالَ : ( إذَا أَرْسَلَ كَلْبَهُ أَوْ بَازِيَهُ عَلَى صَيْدٍ فَأَخَذَ ذَلِكَ الصَّيْدَ أَوْ أَخَذَ غَيْرَهُ أَوْ أَخَذَ عَدَدًا مِنْ الصَّيُودِ فَهُوَ كُلُّهُ حَلَالٌ مَا دَامَ عَلَى وَجْهِ الْإِرْسَالِ ) ؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ قَدْ صَحَّ مِنْ الْمُسْلِمِ مُوجِبًا لِلْعَمَلِ فَمَا نَأْخُذُهُ مِنْ وَجْهِ إرْسَالِهِ ، وَهُوَ مُمْسِكٌ لَهُ عَلَى صَاحِبِهِ يَحِلُّ ، وَتَعْيِينُ الصَّيْدِ فِي الْإِرْسَالِ لَيْسَ بِشَرْطٍ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، فَإِنَّهُ يَقُولُ : التَّعْيِينُ شَرْطٌ حَتَّى إذَا تَرَكَ التَّعْيِينَ فَهُوَ كَتَرْكِ الْإِرْسَالِ ، وَعَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : التَّعْيِينُ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَلَكِنْ إذَا عَيَّنَ اُعْتُبِرَ تَعْيِينُهُ حَتَّى إذَا تَرَكَ ذَلِكَ وَأَخَذَ غَيْرَهُ لَا يَحِلُّ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : الشَّرْطُ مَا فِي وُسْعِهِ اتِّخَاذُهُ وَهُوَ الْإِرْسَالُ ، فَأَمَّا التَّعْيِينُ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعْلَمَ الْبَازِي ، وَالْكَلْبَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَأْخُذُ إلَّا مَا يُعِينُهُ ، وَلِأَنَّ التَّعْيِينَ غَيْرُ مُفِيدٍ فِي حَقِّهِ وَلَا فِي حَقِّ الْكَلْبِ ، فَإِنَّ الصَّيُودَ كُلَّهَا فِيمَا يَرْجِعُ إلَى مَقْصُودِهِ سَوَاءٌ ، وَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْكَلْبِ فَقَصْدُهُ إلَى أَخْذِ كُلِّ صَيْدٍ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ ، وَعَلَامَةُ عِلْمِهِ إمْسَاكُهُ عَلَى صَاحِبِهِ بِتَرْكِ الْأَكْلِ ، وَمَا لَيْسَ بِمُفِيدٍ لَا يُعْتَبَرُ شَرْعًا فَسَوَاءٌ أَخَذَ ذَلِكَ الصَّيْدُ أَوْ غَيْرُهُ حَلَّ .
قَالَ : ( فَإِنْ قَتَلَ وَاحِدًا وَجَثَمَ عَلَيْهِ طَوِيلًا ثُمَّ مَرَّ بِهِ صَيْدٌ آخَرُ فَأَخَذَهُ لَمْ يُؤْكَلْ ) ؛ لِأَنَّ فَوْرَ الْإِرْسَالِ قَدْ انْقَطَعَ حِينَ جَثَمَ عَلَى الْأَوَّلِ طَوِيلًا فَقَدْ انْعَدَمَ إرْسَالُ صَاحِبِهِ فِي حَقِّ الصَّيْدِ الثَّانِي ، وَهُوَ شَرْطٌ فِي الْحِلِّ .
( فَإِنْ قِيلَ : ) كَيْفَ يَكُونُ فِعْلُهُ نَاسِخًا لِإِرْسَالِ صَاحِبِهِ .
؟ ( قُلْنَا : ) إنَّمَا جَثَمَ عَلَى ذَلِكَ الصَّيْدِ بِنَاءً عَلَى إرْسَالِ صَاحِبِهِ لِيَأْتِيَهُ فَيَأْخُذَهُ مِنْهُ فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ صَاحِبِهِ ، وَلَوْ مَنَعَهُ انْقَطَعَ بِهِ

حُكْمُ الْإِرْسَالِ مَعَ أَنَّ فِعْلَ الْعَجْمَاءِ مُعْتَبَرٌ فِي نَسْخِ حُكْمِ فِعْلِ الْآدَمِيِّ بِهِ ، كَمَنْ أَرْسَلَ دَابَّةً فِي الطَّرِيقِ فَتَرَكَتْ سُنَنَ الْإِرْسَالِ ، وَذَهَبَ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً فَأَتْلَفَتْ مَالًا لَمْ يَجِبْ الضَّمَانُ عَلَى الْمُرْسِلِ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ذَهَبَتْ عَلَى سَنَنِ الْإِرْسَالِ .

قَالَ : ( وَإِنْ وَصَلَ إلَيْهِ صَاحِبُهُ وَالصَّيْدُ حَيٌّ فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَذْبَحْهُ حَتَّى مَاتَ لَمْ يُؤْكَلْ ) أَمَّا إذَا تَمَكَّنَ مِنْ ذَبْحِهِ فَلَا شَكَّ فِيهِ ؛ لِأَنَّهُ تَرَكَ ذَكَاةَ الِاخْتِيَارِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ ، فَإِنْ كَانَ لِفَقْدِ الْآلَةِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ ؛ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ مِنْ قِبَلِهِ حَيْثُ لَمْ يَحْمِلْ آلَةَ الذَّكَاةِ مَعَ نَفْسِهِ ، وَإِنْ كَانَ لِضِيقِ الْوَقْتِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدنَا .
( وَقَالَ ) الْحَسَنُ بْنُ زِيَادٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى : يَحِلُّ اسْتِحْسَانًا ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ ذَكَاةَ الِاضْطِرَارِ بَدَلٌ عَنْ ذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ ، وَمَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْأَصْلِ لَا يَسْقُطُ حُكْمُ الْبَدَلِ كَالْمُتَيَمِّمِ إذَا وَجَدَ الْمَاءَ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَاءِ سَبُعٌ أَوْ عَدُوٌّ ، وَهُنَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْأَصْلِ فَبَقِيَ ذَكَاةُ الِاضْطِرَارِ مُوجِبًا لِلْحِلِّ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : ذَكَاةُ الِاضْطِرَارِ إنَّمَا تُعْتَبَرُ فِيمَا إذَا لَمْ يَقَعْ فِي يَدِهِ حَيًّا ، وَهَذَا قَدْ وَقَعَ فِي يَدِهِ حَيًّا فَسَقَطَ اعْتِبَارٌ ذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ فِيهِ ، وَأُلْحِقَ بِمَا كَانَ فِي يَدِهِ كَالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ إذَا سَقَطَ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَبْحِهِ فِي الْمَذْبَحِ لِضِيقِ الْوَقْتِ فَجَرَحَهُ فَمَاتَ لَمْ يَحِلَّ فَهَذَا مِثْلُهُ ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ يُتَوَهَّمُ بَقَاؤُهُ حَيًّا مَعَ الْجُرْحِ الَّذِي جَرَحَهُ الْكَلْبُ ، فَأَمَّا إذَا شَقَّ بَطْنَهُ فَأَخْرَجَ مَا فِيهِ ثُمَّ وَقَعَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ حَيًّا فَمَاتَ حَلَّ تَنَاوُلُهُ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَقَرَّ فِيهِ فِعْلُ الذَّكَاةِ قَبْلَ وُقُوعِهِ فِي يَدِهِ ، وَمَا بَقِيَ فِيهِ اضْطِرَابُ الْمَذْبُوحِ ، فَلَا يُعْتَبَرُ كَمَنْ ذَبَحَ شَاةً فَاضْطَرَبَتْ وَوَقَعَتْ فِي الْمَاءِ بَعْدَ قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْأَوْدَاجِ لَمْ يَحْرُمْ بِذَلِكَ لِهَذَا الْمَعْنَى ، وَقِيلَ : هَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ، فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا

يَحِلُّ وَهُوَ الْقِيَاسُ ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي يَدِهِ حَيًّا ، وَمَوْتُهُ مِمَّا أَصَابَهُ ، وَحَيَاتُهُ مَوْهُومٌ ، فَإِنَّمَا يَنْبَنِي الْحُكْمُ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومٌ حَقِيقَةً ، وَهُوَ وُقُوعُهُ حَيًّا فِي يَدِ صَاحِبِهِ ، فَلَا يَحِلُّ بِدُونِ ذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ .

قَالَ : ( وَالْكَلْبُ الْكُرْدِيُّ وَالْأَسْوَدُ فِي الِاصْطِيَادِ بِهِ إذَا كَانَ مُعَلَّمًا كَغَيْرِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ } ) وَإِنَّمَا أَوْرَدَ هَذَا ؛ لِأَنَّ مِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : لَا يَحِلُّ ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا الِاصْطِيَادُ بِالْكِلَابِ الْفِقْهِيَّةِ الْمُسْتَرْخِيَةِ الْآذَانِ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا عِنْدَنَا ، وَكَذَلِكَ إذَا عَلَّمَ شَيْئًا مِنْ السِّبَاعِ حَتَّى جَعَلَ يَصِيدُ بِهِ مِثْلَ عَتَاقِ الْأَرْضِ وَغَيْرِهِ ، فَلَا بَأْسَ بِصَيْدِهِ لِأَنَّهُ مُرْسَلٌ مُعَلَّمٌ أَمْسَكَ الصَّيْدَ عَلَى صَاحِبِهِ .

قَالَ : ( وَإِذَا كَمَنَ الْفَهْدُ فِي إرْسَالِهِ حَتَّى اسْتَمْكَنَ مِنْ الصَّيْدِ ثُمَّ وَثَبَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ لَمْ يَحْرُمْ أَكْلُهُ ) ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ فَهُوَ عَادَةٌ ظَاهِرَةٌ لِلْفَهْدِ أَنَّهُ يَكْمُنُ وَلَا يَعْدُو عَلَى أَثَرِ الصَّيْدِ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ ، وَلِأَنَّهُ تَحَقَّقَ مَا قَصَدَهُ صَاحِبُهُ بِالْإِرْسَالِ ، فَلَا يَنْقَطِعُ بِهِ فَوْرَ الْإِرْسَالِ كَالْوُثُوبِ .
قَالَ : ( وَكَذَلِكَ الْكَلْبُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْفَهْدِ ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّهُ قَصَدَ بِهِ التَّمَكُّنَ مِنْ الصَّيْدِ ، فَلَا يَنْقَطِعُ بِهِ حُكْمُ الْإِرْسَالِ .

( قَالَ : ) وَكَانَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : لِلْفَهْدِ خِصَالٌ يَنْبَغِي لِكُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ مِنْهُ ( مِنْ ذَلِكَ ) أَنَّهُ يَكْمُنُ لِلصَّيْدِ حَتَّى يَسْتَمْكِنَ مِنْهُ ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ لَا يُجَاهِرَ بِالْخِلَافِ مَعَ عَدُوِّهِ ، وَلَكِنْ يَطْلُبُ الْفُرْصَةَ حَتَّى يَحْصُلَ مَقْصُودُهُ مِنْ غَيْرِ إتْعَابِ نَفْسِهِ .
( وَمِنْهُ ) أَنَّهُ لَا يَعْدُو خَلْفَ صَاحِبِهِ حَتَّى يَرْكَبَهُ خَلْفَهُ وَهُوَ يَقُولُ : هُوَ الْمُحْتَاجُ إلَيَّ فَلَا أَذِلُّ لَهُ ؛ فَلِهَذَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَفْعَلَهُ لَا يُذِلُّ نَفْسَهُ فِيمَا يَعْمَلُ لِغَيْرِهِ .
( وَمِنْهُ ) أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّمُ بِالضَّرْبِ ، وَلَكِنْ يُضْرَبُ الْكَلْبَ بَيْنَ يَدَيْهِ إذَا أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ فَيَتَعَلَّمُ بِذَلِكَ ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَتَّعِظَ بِغَيْرِهِ كَمَا قِيلَ : السَّعِيدُ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ .
( وَمِنْهُ ) أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ الْخَبِيثَ ، وَإِنَّمَا يَطْلُبُ مِنْ صَاحِبِهِ اللَّحْمَ الطَّيِّبَ ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ لَا يَتَنَاوَلَ إلَّا الطَّيِّبَ .
( وَمِنْهُ ) أَنَّهُ يَثِبُ ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا ، فَإِنْ تَمَكَّنَ مِنْ الصَّيْدِ وَإِلَّا تَرَكَهُ ، وَهُوَ يَقُولُ : لَا أَقْتُلُ نَفْسِي فِيمَا أَعْمَلُهُ لِغَيْرِي ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِكُلِّ عَاقِلٍ .

قَالَ : ( وَإِذَا شَارَكَهُ فِي الصَّيْدِ كَلْبٌ آخَرُ غَيْرُ مُعَلَّمٍ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ : رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ { وَإِذَا شَارَكَ كَلْبَكَ كَلْبٌ آخَرُ فَلَا تَأْكُلْ ، فَإِنَّكَ إنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ ، وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى كَلْبِ غَيْرِكَ } وَلِأَنَّهُ اجْتَمَعَ فِيهِ الْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِلْحِلِّ وَالْمَعْنَى الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ فَيُغَلَّبُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ ، وَكَذَلِكَ إنْ رَدَّ الصَّيْدَ عَلَيْهِ حَتَّى أَخَذَهُ أَوْ رَدَّهُ عَلَيْهِ سَبُعٌ حَتَّى أَخَذَهُ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ أَعَانَهُ عَلَى أَخْذِ الصَّيْدِ ، وَبِهَذِهِ الْإِعَانَةِ تَثْبُتُ الْمُشَارَكَةُ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ ، وَالْبَازِي فِي ذَلِكَ كَالْكَلْبِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ مَا لَيْسَ بِمُعَلَّمِ يُحَرِّمُ الصَّيْدَ ، وَالْبَازِي وَالْكَلْبُ فِيهِ سَوَاءٌ ، وَإِنْ رَدَّ الصَّيْدَ عَلَى الْكَلْبِ مَجُوسِيٌّ حَتَّى أَخَذَهُ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْمَجُوسِيِّ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ فِعْلِ الْكَلْبِ ، فَلَا تَثْبُتُ بِهِ الْمُشَارَكَةُ بَلْ يَكُونُ الصَّيْدُ مَأْخُوذًا بِأَخْذِ الْكَلْبِ الَّذِي أَرْسَلَهُ الْمُسْلِمُ فَكَانَ حَلَالًا ، فَأَمَّا فِعْلُ الْكَلْبِ الَّذِي لَمْ يُرْسِلْهُ صَاحِبُهُ ، وَفِعْلُ السَّبُعِ مِنْ جِنْسِ فِعْلِ الْكَلْبِ الَّذِي أَرْسَلَهُ الْمُسْلِمُ فَتَتَحَقَّقُ الْمُشَارَكَةُ ، وَيَجْتَمِعُ فِي الصَّيْدِ الْمُوجِبُ لِلْحِلِّ وَالْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ .

قَالَ : ( وَإِذَا أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْ الصَّيْدِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ حُكْمِ الْمُعَلَّمِ ) ؛ لِأَنَّ عَلَامَةَ الْمُعَلَّمِ فِيهِ تَرْكُ الْأَكْلِ ، وَفِي الْبَازِي الْإِجَابَةُ إذَا دَعَاهُ ، فَكَمَا أَنَّ الْبَازِيَ إذَا فَرَّ مِنْهُ وَامْتَنَعَ مِنْ إجَابَتِهِ لَا يَكُونُ مُعَلَّمًا فَكَذَلِكَ الْكَلْبُ إذَا أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ لَا يَكُونُ مُعَلَّمًا ، وَيَحْرُمُ مَا عِنْدَهُ مِنْ صَيُودِهِ قَبْلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَلَا يَحْرُمُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ مِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ يَقُولُ : هَذَا إذَا كَانَ الْعَهْدُ قَرِيبًا بِأَخْذِ تِلْكَ الصَّيُودِ ، فَأَمَّا إذَا تَطَاوَلَ عَلَيْهِ الْعَهْدُ بِأَنْ أَتَى عَلَيْهِ شَهْرٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ ، وَقَدْ قَدَّرَ صَاحِبُهُ صَيُودَهُ لَمْ تَحْرُمْ تِلْكَ الصَّيُودُ ؛ لِأَنَّ فِي الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ يَتَحَقَّقُ النِّسْيَانُ ، فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى كَوْنِهِ غَيْرَ مُعَلَّمٍ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَفِي الْمُدَّةِ الْقَصِيرَةِ لَا يُتَوَهَّمُ نِسْيَانُ الْحِرْفَةِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ عَنْ غَيْرِ عِلْمٍ حِينَ اصْطَادَ تِلْكَ الصَّيُودَ ، وَإِنَّمَا لَمْ يَأْكُلْ مِنْهَا لِلشِّبَعِ لَا لِلْإِمْسَاكِ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا فَهُمَا يَقُولَانِ قَدْ حَكَمْنَا بِالْحِلِّ فِي الصَّيُودِ الْمَأْخُوذَةِ ، وَأَكْلُهُ مِنْ هَذَا الصَّيْدِ مُحْتَمَلٌ قَدْ يَكُونُ لِفَرْطِ الْجُوعِ مَعَ كَوْنِهِ مُعَلَّمًا ، وَقَدْ يَكُونُ لِإِمْسَاكِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَكَوْنِهِ غَيْرَ مُعَلَّمِ ، وَمَا كَانَ مَحْكُومًا بِهِ لَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ بِالشَّكِّ ، وَلَا مَعْنَى لِقَوْلِ مَنْ يَقُولُ : قَدْ حَكَمْنَا بِكَوْنِهِ جَاهِلًا حَتَّى قُلْنَا : لَا يُؤْكَلُ هَذَا الصَّيْدُ الَّذِي أُكِلَ مِنْهُ ، وَلَا مَا يَأْخُذُهُ بَعْدَهُ مَا لَمْ يَصِرْ مُعَلَّمًا إلَّا أَنَّا إنَّمَا حَكَمْنَا بِذَلِكَ لِنَوْعِ اجْتِهَادٍ مَعَ بَقَاءِ الِاحْتِمَالِ ، وَالِاجْتِهَادُ دَلِيلٌ يَصْلُحُ لِلْعَمَلِ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ ، وَلَيْسَ بِدَلِيلٍ لِنَوْعِ اجْتِهَادٍ مَعَ بَقَاءِ الِاحْتِمَالِ ،

وَالِاجْتِهَادُ يَصْلُحُ الْعَمَلُ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا فِي بَعْضِ مَا مَضَى بِالِاجْتِهَادِ ، وَالْحِلُّ فِي الصَّيُودِ الْمُحَرَّزَةِ حُكْمٌ أَمْضَى بِالِاجْتِهَادِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : تَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ صَيْدُ كَلْبٍ جَاهِلٍ ، فَلَا يُؤْكَلُ مِنْهُ كَالصَّيْدِ الَّذِي أُكِلَ مِنْهُ .
وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْحِرْفَةَ فِي الْكَلْبِ إذَا حَصَلَتْ كَانَتْ ضَرُورِيَّةً ، فَلَا يُنْسَى أَصْلُهَا ، وَلَكِنَّهَا تَضْعُفُ بِالتَّرْكِ زَمَانًا كَالْخِيَاطَةِ وَالرَّمْيِ وَنَحْوِهِمَا فِي الْآدَمِيِّ ، وَلَمَّا وَجَبَ الْحُكْمُ بِكَوْنِهِ جَاهِلًا فِي الْحَالِ تَبَيَّنَ ضَرُورَةً أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُعَلَّمًا وَأَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَ الْأَكْلَ لِلشِّبَعِ حَتَّى لَمْ يَتْرُكْ حِينَ كَانَ جَائِعًا ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَكْلَ وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا ، وَلَكِنْ تَعَيَّنَ فِيهِ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ ، وَهُوَ كَوْنُهُ غَيْرَ مُعَلَّمٍ حِينَ حَرُمَ تَنَاوُلُ هَذَا الصَّيْدِ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ احْتِمَالِ وَجْهٍ آخَرَ ، وَمَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ وَعَلَيْهِ يُبْنَى الْحِلُّ وَالْحُرْمَةُ قَالَ : ( وَلَا يَحِلُّ صَيْدُهُ بَعْدَ ذَلِكَ حَتَّى يَصِيرَ مُعَلَّمًا ) بِأَنْ يَصِيدَ بِهِ ثَلَاثًا ، فَلَا يَأْكُلُ مِنْهَا فَيَحِلُّ حِينَئِذٍ الرَّابِعُ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يُؤَقِّتْ فِيهِ وَقْتًا ، وَلَكِنْ يَقُولُ : إذَا صَارَ عَالِمًا فَكُلْ مِنْ صَيْدِهِ ، وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِي تَعْلِيمِهِ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا إنَّمَا يَحْصُلُ بِأَنْ يُجِيبَهُ إذَا دُعِيَ وَيُرْسِلَهُ عَلَى الصَّيْدِ فَيَصِيدُهُ ، وَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ، وَلَمْ يُؤَقِّتْ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقْتًا ، وَلَكِنَّهُ قَالَ : هُوَ مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِ صَاحِبِهِ ، فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ صَارَ مُعَلَّمًا فَهُوَ مُعَلَّمٌ ، وَرُبَّمَا قَالَ : يَرْجِعُ إلَى أَهْلِ الْعِلْمِ بِهِ مِنْ الصَّيَّادِينَ ، فَإِذَا قَالُوا صَارَ مُعَلَّمًا فَهُوَ مُعَلَّمٌ

، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الْمُعَلَّمَ يُمْسِكَ الصَّيْدَ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَعَلَامَةُ ذَلِكَ أَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْهُ إلَّا أَنَّ تَرْكَ الْأَكْلِ قَدْ يَكُونُ لِلشِّبَعِ وَقَدْ يَكُونُ لِلْإِمْسَاكِ عَلَى صَاحِبِهِ ، فَإِذَا تَرَكَ ذَلِكَ مِرَارًا عَلَى الْوَلَاءِ يَزُولُ بِهِ هَذَا الِاحْتِمَالُ ، وَنَعْلَمُ أَنَّهُ مُعَلَّمٌ لِإِمْسَاكِهِ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَقَدَّرْنَا ذَلِكَ بِالثَّلَاثِ ؛ لِأَنَّهُ حُسْنُ الِاخْتِيَارِ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ قِصَّةُ مُوسَى مَعَ مُعَلِّمِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَيْثُ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ { هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } وَكَذَلِكَ الشَّرْعُ قَدَّرَ مُدَّةَ الِاخْتِيَارِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِلِاخْتِيَارِ ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا وَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ } ، وَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إذَا لَمْ يَرْبَحْ أَحَدُكُمْ فِي التِّجَارَةِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَلْيَرْجِعْ إلَى غَيْرِهَا وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : نَصْبُ الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ ، وَلَا مَدْخَلَ لِلْقِيَاسِ فِيهِ فَيَكُونُ طَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الِاجْتِهَادَ وَالرُّجُوعَ إلَى مَنْ لَهُ عِلْمٌ فِي ذَلِكَ الْبَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } وَهَذَا لِأَنَّ احْتِمَالَ الشِّبَعِ كَمَا يَكُونُ فِي الْمَرَّةِ يَكُونُ فِي الْمَرَّاتِ ، ( وَرَوَى ) الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ مِثْلَ قَوْلِهِمَا فِي التَّقْدِيرِ بِالثَّلَاثِ إلَّا أَنَّ فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ : يُؤْكَلُ الصَّيْدُ الثَّالِثُ ، وَهُمَا يَقُولَانِ لَا يُؤْكَلُ الصَّيْدُ الثَّالِثُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا حَكَمَ بِكَوْنِهِ مُعَلَّمًا حِينَ تَرَكَ الْأَكْلَ مِنْ الثَّلَاثِ ، وَآخِرُهُ لِهَذَا الصَّيْدِ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ ، فَلَا يُؤْكَلُ مِنْهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : إنَّمَا يُحْكَمُ بِكَوْنِهِ مُعَلَّمًا بِطَرِيقِ تَعْيِينِ إمْسَاكِهِ الثَّالِثَ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَإِذَا حَكَمْنَا بِأَنْ يُمْسِكَهُ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَقَدْ أَخَذَهُ بَعْدَ إرْسَالِ

صَاحِبِهِ حَلَّ التَّنَاوُلُ مِنْهُ كَالرَّابِعِ .

قَالَ : ( وَإِذَا أَخَذَ الرَّجُلُ الصَّيْدَ مِنْ الْكَلْبِ ثُمَّ وَثَبَ عَلَيْهِ الْكَلْبُ فَانْتَهَشَ مِنْهُ قِطْعَةً وَرَمَى بِهَا صَاحِبُهَا إلَيْهِ فَأَكَلَهَا لَمْ يُفْسِدْهُمَا عَلَيْهِ ) ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَمَّ إمْسَاكُهُ عَلَى صَاحِبِهِ حِينَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ حَتَّى وَصَلَ إلَى يَدِ صَاحِبِهِ ، وَبَعْدَ ذَلِكَ انْتِهَاشُهُ مِنْهُ وَمِنْ لَحْمٍ آخَرَ فِي مِخْلَاةِ صَاحِبِهِ سَوَاءٌ ، فَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُعَلَّمًا ، وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ عَادَةِ الصَّيَّادِينَ أَنْ يَأْخُذَ الصَّيْدَ مِنْ الْكَلْبِ ثُمَّ يَرْمِي بِقِطْعَةٍ مِنْهُ إلَيْهِ ، وَكَأَنَّ الْكَلْبَ طَالَبَهُ بِهَذِهِ الْعَادَةِ فَهُوَ دَلِيلُ حِذْقِهِ لَا دَلِيلُ جَهْلِهِ ، وَإِنْ انْتَهَشَ الْكَلْبُ مِنْ الصَّيْدِ قِطْعَةً فِي اتِّبَاعِهِ إيَّاهُ فَأَكَلَهَا ثُمَّ اتَّبَعَهُ فَأَخَذَهُ أَوْ أَخَذَ غَيْرَهُ فَقَتَلَهُ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ لِأَنَّهُ لَمَّا أَكَلَ الْقِطْعَةَ الَّتِي تَمَكَّنَ مِنْهَا مِنْ الصَّيْدِ عَرَفْنَا أَنَّهُ غَيْرُ مُعَلَّمٍ وَأَنَّ سَعْيَهُ لِنَفْسِهِ لَا لِلْإِمْسَاكِ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَإِنَّمَا تَرَكَ الْأَكْلَ مِمَّا بَقِيَ ؛ لِأَنَّهُ شَبِعَ بِتَنَاوُلِ تِلْكَ الْقِطْعَةِ ، وَإِنْ كَانَ أَلْقَى تِلْكَ الْقِطْعَةَ وَأَخَذَهُ وَقَتَلَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ حَتَّى أَخَذَهُ ثُمَّ عَادَ فَأَكَلَ تِلْكَ الْقِطْعَةَ لَمْ تَضُرَّهُ ؛ لِأَنَّهُ أَمْسَكَ الصَّيْدَ عَلَى صَاحِبِهِ حِينَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ مَعَ حَاجَتِهِ ، وَتَنَاوُلُهُ تِلْكَ الْقِطْعَةَ بَعْدَ وُصُولِ الصَّيْدِ إلَى صَاحِبِهِ كَتَنَاوُلِ قِطْعَةٍ أَلْقَاهَا إلَيْهِ صَاحِبُهُ بَلْ ذَلِكَ دَلِيلُ حِذْقِهِ حَتَّى اشْتَغَلَ بِتَنَاوُلِ مَا يَعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَرْغَبُ فِيهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَرِبَ مِنْ دَمِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُحَرِّمُ الصَّيْدَ فَكَذَلِكَ هَذَا .

قَالَ : ( وَلَا يَحِلُّ صَيْدُ الْمَجُوسِيِّ ، وَلَا ذَبِيحَتُهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { سُنُّوا بِالْمَجُوسِ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائِهِمْ ، وَلَا آكِلِي ذَبَائِحِهِمْ } ) ، وَلِأَنَّهُمْ يَدْعُونَ لِاثْنَيْنِ فَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُمْ تَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ ، وَذَلِكَ شَرْطُ الْحِلِّ فِي الذَّكَاةِ إلَّا فِيمَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى الذَّكَاةِ مِنْ سَمَكٍ أَوْ جَرَادٍ وَبِيضِهِ بِأَخْذِهَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، فَإِنَّ الْحِلَّ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَيْسَ يَثْبُتُ بِالْفِعْلِ حَتَّى يَحِلَّ ، وَإِنْ مَاتَ بِغَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ وَلَا اقْتِرَابِ التَّسْمِيَةِ بِالْفِعْلِ ، فَلَا يُشْتَرَطُ التَّسْمِيَةُ لِلْحِلِّ فِيمَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْفِعْلُ ، وَالْمُرْتَدُّ فِي ذَلِكَ كَالْمَجُوسِيِّ ، أَمَّا إذَا ارْتَدَّ لِغَيْرِ دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلَا إشْكَالَ فِيهِ لِأَنَّهُ كَالْكَافِرِ الْأَصْلِيِّ فِيمَا اعْتَقَدَهُ ، وَإِنْ ارْتَدَّ إلَى دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُقِرٍّ عَلَى مَا اعْتَقَدَهُ ، وَقَدْ تَرَكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ فَلَا مِلَّةَ لَهُ ، وَالنِّكَاحُ وَحِلُّ الذَّبِيحَةِ يَنْبَنِي عَلَى الْمِلَّةِ .

قَالَ : ( وَلَا بَأْسَ بِصَيْدِ الْمُسْلِمِ بِكَلْبِ الْمَجُوسِيِّ الْمُعَلَّمِ وَبَازِيهِ ، كَمَا يُذْبَحُ بِسِكِّينِهِ ) ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْآلَةِ أَنْ تَكُونَ جَارِحًا ، فَلَا يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِكَوْنِ مَالِكِهِ مَجُوسِيًّا أَوْ مُسْلِمًا ، وَالشَّرْطُ يَقْتَرِنُ بِالْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ فِي الذَّبْحِ وَالِاصْطِيَادِ ، وَالْمُسْلِمُ هُوَ مِنْ أَهْلِ إيجَادِ هَذَا الشَّرْطِ .

قَالَ : ( وَإِذَا أَرْسَلَ الْمَجُوسِيُّ كَلْبَهُ عَلَى صَيْدٍ ثُمَّ أَسْلَمَ ثُمَّ زَجَرَهُ فَانْزَجَرَ بِزَجْرِهِ وَقَتَلَ الصَّيْدَ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ ) ، كَمَا لَوْ زَجَرَهُ مُسْلِمٌ آخَرُ ، وَهَذَا لِأَنَّ أَصْلَ إرْسَالِهِ كَانَ فِعْلًا مُوجِبًا لِلْحُرْمَةِ ، وَلَمْ يُنْسَخْ ذَلِكَ بِالزَّجْرِ بَعْدَ إسْلَامِهِ ، وَإِنَّمَا يُنْظَرُ فِي هَذَا الْجِنْسِ إلَى وَقْتِ الْإِرْسَالِ وَالرَّمْيِ ، فَإِنْ كَانَ فِيهِ مَجُوسِيًّا أَوْ مُرْتَدًّا لَمْ يَحِلَّ صَيْدُهُ ، وَإِنْ تَغَيَّرَ عَنْ حَالِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَهُ ، وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا ثُمَّ ارْتَدَّ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ - لَمْ يَحْرُمْ الصَّيْدُ ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ بِاعْتِبَارِ تَسْمِيَةِ اللَّهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الشَّرْطَ عِنْدَ الْإِرْسَالِ وَالرَّمْيِ لَا عِنْدَ الْإِصَابَةِ ، فَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَسَمَّى فَقَدْ تَقَرَّرَ فِعْلُهُ مُوجِبًا لِلْحِلِّ ، فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِرِدَّتِهِ ، كَمَا لَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِمَوْتِهِ ، وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ الْإِصَابَةِ ، فَإِنْ كَانَ مَجُوسِيًّا أَوْ مُرْتَدًّا فَقَدْ تَقَرَّرَ فِعْلُهُ مُوجِبًا لِلْحُرْمَةِ ، فَلَا يَتَغَيَّرُ بِإِسْلَامِهِ بَعْدَ ذَلِكَ اعْتِبَارًا بِفِعْلِ الرَّمْيِ وَالْإِرْسَالِ هُنَا بِالذَّبْحِ فِي الشَّاةِ .

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِصَيْدِ الْيَهُودِيِّ وَالنَّصْرَانِيِّ وَذَبِيحَتِهِمَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } وَالْمُرَادُ الذَّبَائِحُ ) إذْ لَوْ حُمِلَ عَلَى مَا هُوَ سِوَاهَا مِنْ الْأَطْعِمَةِ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِالذِّكْرِ مَعْنًى ، وَلِأَنَّهُمْ يَدَّعُونَ التَّوْحِيدَ فَيَتَحَقَّقُ مِنْهُمْ تَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ إلَّا أَنْ يَسْمَعَهُ الْمُسْلِمُ يُسَمِّي عَلَيْهِ الْمَسِيحَ ، فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ مِنْهُ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ ؛ لِأَنَّهُ ذَبَحَ بِغَيْرِ اسْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ مُسْلِمٌ لَمْ يَحِلَّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : { وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ } فَحَالُ الْكِتَابِيِّ فِي ذَلِكَ لَا يَكُونُ أَعْلَى مِنْ حَالِ الْمُسْلِمِ ، وَبَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَقُولُونَ : يَحِلُّ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا ذَبَحَ بِغَيْرِ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى يَصِيرُ مُرْتَدًّا ، وَإِنَّمَا لَا يُؤْكَلُ بِرِدَّتِهِ ، وَهَذَا لَا يُوجَدُ فِي حَقِّ الْكِتَابِيِّ ، وَقَدْ أَحَلَّ الشَّرْعُ ذَبَائِحَهُمْ مَعَ قَوْلِهِمْ إنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ .
كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، وَهُوَ يَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا ، فَإِذَا ظَهَرَ ذَلِكَ لَمْ تَحْرُمْ ذَبِيحَتُهُمْ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْحُرْمَةَ الْمُعْتَبَرَةَ بِالصِّفَةِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ تِلْكَ الصِّفَةِ ، وَقَدْ نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْحُرْمَةِ بِتَسْمِيَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَإِذَا كَانَ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ الْحُرْمَةُ لَيْسَتْ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْوَصْفِ عَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ الْكِتَابِيُّ ، وَإِنْ كَانَتْ الْحُرْمَةُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْوَصْفِ فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْكِتَابِيِّ ( وَقَدْ ) رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : وَإِذَا سَمِعْتُمُوهُمْ يَذْكُرُونَ اسْمَ الْمَسِيحِ عَلَى ذَبَائِحِهِمْ فَلَا تَأْكُلُوا .

قَالَ ( فَإِنْ تَهَوَّدَ الْمَجُوسِيُّ أَوْ تَنَصَّرَ تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ وَصَيْدُهُ ) ؛ لِأَنَّهُ يُقَرُّ عَلَى مَا اعْتَقَدَهُ عِنْدَنَا ؛ لِأَنَّهُ صَارَ بِحَيْثُ يَدَّعِي التَّوْحِيدَ ، فَلَا يَجُوزُ إخْبَارُهُ عَلَى الْعَوْدِ إلَى دَعْوَى اثْنَيْنِ ، وَإِذَا كَانَ مُقِرًّا عَلَى مَا اعْتَقَدَهُ اُعْتُبِرَ بِمَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ فِي الْأَصْلِ ، وَلَوْ تَمَجَّسْ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ لَمْ يَحِلَّ صَيْدُهُ وَلَا ذَبِيحَتُهُ ، بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ مَجُوسِيًّا فِي الْأَصْلِ .

قَالَ : ( وَإِنْ كَانَ غُلَامٌ أَحَدُ أَبَوَيْهِ نَصْرَانِيٌّ وَالْآخَرُ مَجُوسِيٌّ وَهُوَ يَعْقِلُ الذَّبْحَ تُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ وَصَيْدُهُ عِنْدَنَا ) ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا تُؤْكَلُ ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِأَبَوَيْهِ ، وَاعْتِبَارُ جَانِبِ أَحَدِهِمَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ وَالْآخَرُ يُوجِبُ الْحِلَّ فَيَتَغَلَّبُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ ، كَمَا لَوْ اشْتَرَكَ الْمُسْلِم وَالْمَجُوسِيُّ فِي الِاصْطِيَادِ وَالذَّبْحِ ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يَنْصُرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ حَتَّى يُعْرِبَ عَنْهُ لِسَانُهُ إمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا } فَقَدْ جَعَلَ الْعَاقِلَ اتِّفَاقَ الْأَبَوَيْنِ وَلَمْ يُوجَدْ اتِّفَاقُهُمَا فِي التَّمَجُّسِ ، فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ الْمَجُوسِيَّةِ فِي حَقِّهِ وَلِأَنَّ أَحَدَ الْأَبَوَيْنِ مِمَّنْ تَحِلُّ ذَبِيحَتُهُ فَيُجْعَلُ الْوَلَدُ تَابِعًا لَهُ ، كَمَا إذَا كَانَ أَحَدُ الْأَبَوَيْنِ مُسْلِمًا وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا ، وَهَذَا لِأَنَّ الصَّبِيَّ يُقَرَّبُ مِنْ الْمَنَافِعِ ، وَيُبْعَدُ مِنْ الْمَضَارِّ ، وَالنَّصْرَانِيَّة إذَا قُوبِلَتْ بِالْمَجُوسِيَّةِ فَالْمَجُوسِيَّةُ شَرٌّ ، فَكَانَ اتِّبَاعُ الْوَلَدِ لِلْكِتَابِيِّ أَنْفَعَ لِلْوَلَدِ ، وَإِنَّمَا يَتَرَجَّحُ الْمُوجِبُ لِلْحَظْرِ عِنْدَ الْمُسَاوَاةِ ، وَقَدْ انْعَدَمَتْ الْمُسَاوَاةُ هُنَا فَجَعَلْنَا الْوَلَدَ تَابِعًا لِلْكِتَابِيِّ مِنْهُمَا .

قَالَ : ( فَأَمَّا ذَبِيحَةُ الصَّابِئِ وَصَيْدُهُ يَحِلُّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَيُكْرَهُ ) وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - لَا يَحِلُّ ، وَذَكَرَ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ ، وَلَكِنْ فِي الصَّابِئِينَ قَوْمٌ يُقِرُّونَ بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَيَقْرَءُونَ الزَّبُورَ فَهُمْ صِنْفٌ مِنْ النَّصَارَى ، فَإِنَّمَا أَجَابَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا يَحِلُّ ذَبَائِحُ هَؤُلَاءِ ، وَفِيهِمْ مَنْ يُنْكِرُ النُّبُوَّاتِ وَالْكُتُبَ أَصْلًا ، وَإِنَّمَا يَعْبُدُونَ الشَّمْسَ ، وَهَؤُلَاءِ كَعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ ، وَإِنَّمَا أَجَابَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ .
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ : رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَفِيمَا ذَكَرَهُ الْكَرْخِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدِي نَظَرٌ ، فَإِنَّ أَهْلَ الْأُصُولِ لَا يَعْرِفُونَ فِي جُمْلَةِ الصَّابِئِينَ مَنْ يُقِرُّ بِعِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ، وَإِنَّمَا يُقِرُّونَ بِإِدْرِيسَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَيَدَّعُونَ لَهُ النُّبُوَّةَ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِ ، وَيُعَظِّمُونَ الْكَوَاكِبَ فَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ يُعَظِّمُونَهَا تَعْظِيمَ الِاسْتِقْبَالِ لَا تَعْظِيمَ الْعِبَادَةِ ، كَمَا يَسْتَقْبِلُ الْمُؤْمِنُونَ بِالْقِبْلَةِ فَقَالَ : تَحِلُّ ذَبَائِحُهُمْ ، وَوَقَعَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُمْ يُعَظِّمُونَهَا تَعْظِيمَ الْعِبَادَةِ لَهَا فَأَلْحَقْنَاهُمْ بِعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ ، وَإِنَّمَا اشْتَبَهَ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَدِينُونَ بِكِتْمَانِ الِاعْتِقَادِ وَلَا يَسْتَحْيُونَ بِإِظْهَارِ الِاعْتِقَادِ أَلْبَتَّةَ ، وَإِنَّمَا احْتِجَاجُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَوْلَى ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ يَغْلِبُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ .

قَالَ : ( وَلَا تُؤْكَلُ السَّمَكَةُ الطَّافِيَةُ ، فَأَمَّا مَا انْحَسَرَ عَنْهُ الْمَاءُ أَوْ نَبَذَهُ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا بَأْسَ بِأَكْلِ السَّمَكِ الطَّافِي ، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ } قِيلَ : الطَّعَامُ مِنْ السَّمَكِ مَا يُوجَدُ فِيهِ مَيِّتًا ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْبَحْرِ { هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ } وَقَالَ : صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ { أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ } الْحَدِيثَ ، وَفِي حَدِيثِ أَبَانَ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ { النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُئِلَ عَنْ أَكْلِ الطَّافِي مِنْ السَّمَكِ فَلَمْ يَرَ بِهِ بَأْسًا } ، وَاعْتَبَرَ السَّمَكَ بِالْجَرَادِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الذَّكَاةُ فَيَسْتَوِي مَوْتُهُ بِسَبَبٍ وَبِغَيْرِ سَبَبٍ ، وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : { مَا انْحَسَرَ عَنْهُ الْمَاءُ فَكُلْ ، وَمَا طَفَا فَلَا تَأْكُلْ } وَلَا يُقَالُ هَذَا نَهْيُ إشْفَاقٍ لِمَا قِيلَ : إنَّ الطَّافِيَ يُورِثُ الْبَرَصَ وَهَذَا لِأَنَّ الِاسْتِكْثَارَ مِنْ السَّمَكِ يُورِثُ الْبَرَصَ الطَّافِي وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ ، وَإِنَّمَا بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُبَيِّنًا لِلْأَحْكَامِ دُونَ الطِّبِّ ، وَحُرْمَةُ تَنَاوُلِ الطَّافِي مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ .
حَتَّى قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ لِلسَّمَّاكِينَ لَا تَبِيعُوا الطَّافِيَ فِي أَسْوَاقِنَا ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا أَكْلُ الطَّافِي حَرَامٌ ، وَلِأَنَّهُ حَيَوَانٌ مَاتَ بِغَيْرِ سَبَبٍ فَلَا يُؤْكَلُ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ ، بِخِلَافِ الْجَرَادِ فَمَوْتُهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِسَبَبٍ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّهُ بَحْرِيُّ الْأَصْلِ بَرِّيُّ الْمَعَاشِ ، فَإِنْ مَاتَ فِي الْبَحْرِ فَقَدْ مَاتَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ

مَعَاشِهِ ، وَمَا مَاتَ فِي الْبَرِّ فَقَدْ مَاتَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ أَصْلِهِ ، وَهَذَا سَبَبٌ لِهَلَاكِهِ فَوِزَانُهُ لَوْ مَاتَ السَّمَكُ بِسَبَبٍ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُوجِبَ لِلْحُرْمَةِ مِنْ الْآثَارِ يَتَرَجَّحُ عَلَى الْمُوجِبِ لِلْحِلِّ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنَهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ فَدَعْ مَا يَرِيبُكَ إلَى مَا لَا يَرِيبُكَ .
}

ثُمَّ جَمِيعُ أَنْوَاعِ السَّمَكِ حَلَالٌ الْجِرِّيثُ وَالْمَارِهِيجُ وَغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ، وَلَا يُؤْكَلُ مِنْ سِوَى السَّمَكِ مِنْ حَيَوَانَاتِ الْمَاءِ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُؤْكَلُ جَمِيعُ ذَلِكَ ، وَلَهُ فِي الضُّفْدَعِ قَوْلَانِ ، وَفِي الْكِتَابِ ذَكَرَ عَنْ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : لَا بَأْسَ بِصَيْدِ الْبَحْرِ كُلِّهِ ، وَقِيلَ : الصَّحِيحُ فِي مَذْهَبِ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى مَا يُؤْكَلُ جِنْسُهُ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ يُؤْكَلُ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ ، وَمَا لَا يُؤْكَلُ مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ كَالْخِنْزِيرِ وَنَحْوِهِ لَا يُؤْكَلُ مِنْ صَيْدِ الْبَحْرِ ، وَاسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْآيَةِ وَالْخَبَرِ ، وَلَيْسَ فِيهِمَا تَقْيِيدُ السَّمَكِ مِنْ بَيْنِ صَيْدِ الْمَاءِ ، وَمَيْتَاتِهَا ، وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : { كُنَّا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي سَفَرٍ فَأَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ فَأَلْقَى الْبَحْرُ لَنَا دَابَّةً يُقَالُ لَهَا : عَنْتَرَةُ فَأَكَلْنَا مِنْهَا وَتَزَوَّدْنَا ، فَلَمَّا رَجَعْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ : صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ هَلْ بَقِيَ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ فَتُطْعِمُونِي } وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ } وَلَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الْبَرِّيِّ وَالْبَحْرِيِّ { ، وَسُئِلَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ مُخِّ الضُّفْدَعِ يُجْعَلُ فِي الدَّوَاءِ فَنَهَى عَنْ قَتْلِ الضَّفَادِعِ ، وَقَالَ : إنَّهَا خَبِيثَةٌ مِنْ الْخَبَائِثِ } ، فَإِنْ ثَبَتَ بِهَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الضُّفْدَعَ مُسْتَخْبَثٌ غَيْرُ مَأْكُولٍ فَقِيسَ عَلَيْهِ سَائِرُ حَيَوَانَاتِ الْمَاءِ ، وَمَنْ يَقُولُ : يُؤْكَلُ جَمِيعُ صَيْدِ الْبَحْرِ دَخَلَ عَلَيْهِ أَمْرٌ قَبِيحٌ ، فَإِنَّهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ أَنْ يَقُولَ : يُؤْكَلُ إنْسَانُ الْمَاءِ ، وَهَذَا تَشَنُّعٌ ، فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمَأْكُولَ مِنْ الْمَائِيِّ السَّمَكُ فَقَطْ ،

وَأَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ } مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ طَرِيًّا وَمِنْ قَوْله تَعَالَى : { وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ } الْمَالِحُ الْمُقَدَّدُ مِنْهُ ، وَالصَّحِيحُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ { فَأَلْقَى لَنَا الْبَحْرُ حُوتًا يُقَالُ لَهُ عَنْبَرُ } وَهُوَ اسْمٌ لِلسَّمَكِ ، وَتَأْوِيلُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّهُ جَوَّزَ لَهُمْ التَّنَاوُلَ لِضَرُورَةِ الْمَجَاعَةِ أَوْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ نُزُولِ قَوْله تَعَالَى : { وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ } ثُمَّ الْأَصْلُ عِنْدَنَا فِي إبَاحَةِ السَّمَكِ أَنَّ مَا مَاتَ مِنْهُ بِسَبَبٍ فَهُوَ حَلَالٌ كَالْمَأْخُوذِ مِنْهُ ، وَمَا مَاتَ بِغَيْرِ سَبَبٍ فَهُوَ غَيْرُ مَأْكُولٍ كَالطَّافِي ، فَإِنْ ضَرَبَ سَمَكَةً فَقَطَعَ بَعْضَهَا ، فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهَا لِوُجُودِ السَّبَبِ ، وَكَذَلِكَ إنْ وَجَدَ فِي بَطْنِهَا سَمَكَةً أُخْرَى ؛ لِأَنَّ ضِيقَ الْمَكَانِ سَبَبٌ لِمَوْتِهَا ، وَكَذَلِكَ إنْ قَتَلَهَا شَيْءٌ مِنْ طَيْرِ الْمَاءِ وَغَيْرِهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَتْ فِي جُبٍّ ؛ لِأَنَّ ضِيقَ الْمَكَانِ سَبَبٌ لِمَوْتِهَا ، وَكَذَلِكَ إنْ جَمَعَهَا فِي حَظِيرَةٍ لَا تَسْتَطِيعُ الْخُرُوجَ مِنْهَا ، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهَا بِغَيْرِ صَيْدٍ ، فَلَا خَيْرَ فِي أَكْلِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لِمَوْتِهَا سَبَبٌ .
وَإِذَا مَاتَ السَّمَكُ فِي الشَّبَكَةِ وَهِيَ لَا تَقْدِرُ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْهَا أَوْ أَكَلَ شَيْئًا أَلْقَاهُ فِي الْمَاءِ لِيَأْكُلَهُ فَمَاتَ مِنْهُ ، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَبَطَهَا فِي الْمَاءِ فَمَاتَتْ ، فَهَذَا كُلُّهُ سَبَبٌ لِمَوْتِهَا وَهُوَ فِي مَعْنَى مَا انْحَسَرَ عَنْهُ الْمَاءُ ، وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { مَا انْحَسَرَ عَنْهُ الْمَاءُ فَكُلْ } وَكَذَلِكَ لَوْ انْجَمَدَ الْمَاءُ فَبَقِيَتْ بَيْنَ الْجَمْدِ فَمَاتَتْ ، فَأَمَّا إذَا مَاتَتْ بِحَرِّ الْمَاءِ أَوْ بَرْدِهِ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ فَعَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ تُؤْكَلُ لِوُجُودِ السَّبَبِ لِمَوْتِهَا ، وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لَا تُؤْكَلُ لِأَنَّ الْمَاءَ لَا يَقْتُلُ

السَّمَكَ حَارًّا أَوْ بَارِدًا ، ( وَرَوَى ) هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ إذَا انْحَسَرَ الْمَاءُ عَنْ بَعْضِهِ ، فَإِنْ كَانَ رَأْسُهُ فِي الْمَاءِ فَمَاتَ لَا يُؤْكَلُ ، وَإِنْ انْحَسَرَ الْمَاءُ عَنْ رَأْسِهِ وَبَقِيَ ذَنَبُهُ فِي الْمَاءِ ، فَهَذَا سَبَبٌ لِمَوْتِهِ فَيُؤْكَلُ .

قَالَ : ( وَإِذَا أَرْسَلَ بَازِيَهُ الْمُعَلَّمَ عَلَى صَيْدٍ ، وَوَقَعَ عَلَى صَيْدٍ ثُمَّ اتَّبَعَ الصَّيْدَ وَأَخَذَهُ ، وَقَتَلَهُ ، فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ ) ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ ، وَلِأَنَّ مِنْ عَادَةِ الْبَازِي هَذَا أَنْ يَقَعَ عَلَى شَيْءٍ وَيَنْظُرَ إلَى صَيْدٍ لِيَأْتِيَهُ مِنْ الْجَانِبِ الَّذِي يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ كَمِينِ الْفَهْدِ ، فَلَا يَحْرُمُ بِهِ صَيْدُهُ ، وَلَا يَنْقَطِعُ بِهِ فَوْرَ الْإِرْسَالِ .

قَالَ : ( وَإِذَا أَصَابَ السَّهْمُ الصَّيْدَ فَأَثْخَنَهُ حَتَّى لَا يَسْتَطِيعَ بَرَاحًا ثُمَّ رَمَاهُ بِسَهْمٍ آخَرَ فَقَتَلَهُ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ ) ؛ لِأَنَّ هَذَا قَدْ صَارَ أَهْلِيًّا فَقَدْ عَجَزَ بِالْفِعْلِ الْأَوَّلِ عَنْ الِاسْتِيحَاشِ وَالطَّيَرَانِ فَذَكَاتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بِالذَّبْحِ فِي الْمَذْبَحِ لَا بِالرَّمْيِ بَلْ الرَّمْيُ فِي مِثْلِهِ مُوجِبٌ لِلْحُرْمَةِ ، وَلَمَّا اجْتَمَعَ فِيهِ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ وَالْمُوجِبُ لِلْحِلِّ يَغْلِبُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ ، وَلِأَنَّ إثْخَانَهُ إيَّاهُ كَأَخْذِهِ ، وَلِهَذَا لَوْ أَثْخَنَهُ أَحَدُهُمَا وَأَخَذَهُ الْآخَرُ فَهُوَ لِلْأَوَّلِ ، وَلَوْ أَخَذَهُ ثُمَّ رَمَاهُ فَقَتَلَهُ لَمْ يُؤْكَلْ فَكَذَلِكَ إذَا أَثْخَنَهُ ، وَإِنْ رَمَى بِالسَّهْمِ الثَّانِي غَيْرَهُ فَقَتَلَهُ لَمْ يَحِلَّ أَيْضًا لِمَا بَيَّنَّا ، وَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ مَجْرُوحًا لِلْأَوَّلِ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي هَذَا لَا يُخَالِفُهُمَا ، وَلَكِنْ لَمْ يَحْفَظْ جَوَابَهُ فَذَكَرَ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْفِعْلَ مِنْ الْأَوَّلِ مُوجِبٌ لِلْمِلْكِ لَهُ وَالْحِلِّ لَهُ ، وَالثَّانِي بِفِعْلِهِ أَتْلَفَ صَيْدًا مَمْلُوكًا لِلْأَوَّلِ فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ بِالصِّفَةِ الَّتِي أَتْلَفَهُ ، وَإِنَّمَا أَتْلَفَهُ مَجْرُوحًا بِالْجُرْحِ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ مَاتَ مِنْ الْجِرَاحَتَيْنِ جَمِيعًا ، فَإِنَّهُ يَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ مَجْرُوحًا بِالْجُرْحِ الْأَوَّلِ ، وَنِصْفَ قِيمَتِهِ لَحْمًا ذَكِيًّا ؛ لِأَنَّ النِّصْفَ مَاتَ بِفِعْلِهِ ، وَالنِّصْفَ بِفِعْلِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ الثَّانِي أَفْسَدَ عَلَيْهِ اللَّحْمَ فِي ذَلِكَ النِّصْفِ ؛ فَلِهَذَا ضَمِنَ نِصْفَ قِيمَتِهِ لَحْمًا ذَكِيًّا ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ رَمْيَةُ الثَّانِي قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهُ الْأَوَّلُ لَمْ يَحْرُمْ أَكْلُهُ ، وَلَا يَلْزَمُهُ غُرْمُهُ ؛ لِأَنَّ رَمْيَةَ الثَّانِي لَمْ تَخْرُجْهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَيْدًا ، فَقَدْ سَبَقَ مِلْكَهُ فَلَا يَغْرَمُ لَهُ شَيْئًا .
وَإِذَا كَانَ الصَّيْدُ يَتَحَامَلُ وَيَطِيرُ مَعَ مَا أَصَابَهُ مِنْ رَمْيَةِ الْأَوَّلِ

فَرَمَاهُ الْآخِرُ فَقَتَلَهُ فَهُوَ لِلثَّانِي حَلَالٌ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ صَيْدًا بِفِعْلِهِ ، وَالْأَوَّلُ كَالْمُقِرِّ لَهُ ، وَالثَّانِي كَالْآخِذِ وَالصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَ لَا لِمَنْ أَثَارَ ( وَإِنْ رَمَيَاهُ جَمِيعًا مَعًا أَوْ أَحَدُهُمَا بَعْدَ صَاحِبِهِ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهُ السَّهْمُ الْأَوَّلُ فَقَتَلَاهُ فَهُوَ لَهُمَا جَمِيعًا حَلَالٌ ) ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا رَمَى إلَى صَيْدٍ مُبَاحٍ وَأَصَابَهُ الرَّمْيَتَانِ جَمِيعًا مَعًا ، فَقَدْ اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الْمِلْكِ ، وَذَلِكَ مُوجِبُ الْمُسَاوَاةِ فِي الْمِلْكِ ، وَفِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُذَكٍّ لِلصَّيْدِ فَيَحِلُّ تَنَاوُلُهُ لَهُمَا ، وَإِنْ رَمَيَاهُ مَعًا فَأَصَابَهُ سَهْمُ أَحَدِهِمَا فَأَثْخَنَهُ ثُمَّ أَصَابَ السَّهْمُ الْآخَرُ فَهُوَ لِلْأَوَّلِ ، وَيَحِلُّ تَنَاوُلُهُ عِنْدَنَا ، وَقَالَ زُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَحِلُّ ؛ لِأَنَّ الرَّمْيَةَ مِنْ الثَّانِي أَصَابَتْهُ وَلَيْسَ بِصَيْدٍ ، وَالْمُعْتَبَرُ وَقْتُ الْإِصَابَةِ لَا وَقْتُ الرَّمْيِ ؛ فَلِهَذَا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوجِبٌ لِلْحِلِّ ؛ لِأَنَّهُ رَمَى إلَى صَيْدٍ ، وَفِي الْحِلِّ الْمُعْتَبَرُ وَقْتُ الرَّمْيِ ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ بِالذَّكَاةِ ، وَهُوَ فِعْلُ الْمُذَكِّي ، وَفِعْلُهُ الرَّمْيُ ، فَأَمَّا فِي الْمِلْكِ فَلَا خَيْرَ فِي أَكْلِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لِمَوْتِهَا سَبَبٌ ، وَإِذَا مَاتَ السَّمَكُ بِالشَّبَكَةِ وَهِيَ لَا تَقْدِرُ عَلَى التَّخَلُّصِ مِنْهَا ، أَوْ أَكَلَ مِنْهَا شَيْئًا أَلْقَاهُ فِي الْمَاءِ لِيَأْكُلَهُ فَمَاتَ مِنْهُ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَبَطَهَا فِي الْمَاءِ فَهَذَا كُلُّهُ سَبَبٌ لِمَوْتِهَا ، وَالْمُعْتَبَرُ وَقْتُ الْإِصَابَةِ لَا وَقْتُ الرَّمْيِ ؛ فَلِهَذَا لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : فِعْلُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوجِبٌ لِلْحِلِّ ؛ لِأَنَّهُ رَمْيٌ إلَى الصَّيْدِ ، وَفِي الْحِلِّ الْمُعْتَبَرُ وَقْتُ الرَّمْيِ ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ بِالذَّكَاةِ وَهُوَ فِعْلُ الْمُذَكِّي ، وَفِعْلُهُ الرَّمْيُ ، فَأَمَّا فِي الْمِلْكِ

الْمُعْتَبَرُ وَقْتُ الْإِصَابَةِ ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يَثْبُتُ بِالْإِحْرَازِ ، وَإِحْرَازُ الصَّيْدِ بِالْإِصَابَةِ دُونَ الرَّمْيِ .
وَعَلَى هَذَا لَوْ رَمَى إلَى صَيْدٍ وَسَمَّى فَتَكَسَّرَ الصَّيْدُ ثُمَّ أَصَابَهُ السَّهْمُ حَلَّ عِنْدَنَا ، وَلَمْ يَحِلَّ عِنْدَ زُفَرَ

وَمَنْ أَخَذَ صَيْدًا أَوْ فَرْخَ صَيْدٍ مِنْ دَارِ رَجُلٍ أَوْ أَرْضِهِ فَهُوَ لَهُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { الصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَ } وَهَذَا لِأَنَّ صَاحِبَ الْمِلْكِ لَمْ يُثْبِتْ يَدَهُ عَلَى فَرْخِ الصَّيْدِ لِكَوْنِهِ فِي مِلْكِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَا أَفْرَخَ لِيَتْرُكَهُ بَلْ لِيُطَيِّرَهُ ، بِخِلَافِ النَّحْلِ الْعَسَّالَةِ إذَا عَسَّلَتْ فِي أَرْضِ رَجُلٍ فَهُوَ لِصَاحِبِ الْأَرْضِ ؛ لِأَنَّهَا أَلْقَتْ ذَلِكَ لِلتَّرْكِ وَالْقَرَارِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ طِينٍ مُجْتَمِعٍ فِي أَرْضِ رَجُلٍ مِنْ السَّيْلِ يَكُونُ لَهُ .
قَالَ : ( مَا لَمْ يُحْرِزْهُ صَاحِبُ الدَّارِ بِالْقَبْضِ عَلَيْهِ أَوْ إغْلَاقِ بَابٍ لِيُحْرِزَهُ بِهِ بِحَيْثُ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ بِغَيْرِ صَيْدٍ ، فَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ تَمَّ إحْرَازُهُ ) ثُمَّ الْآخِذُ إنَّمَا أَخَذَ صَيْدًا مَمْلُوكًا فَعَلَيْهِ رَدُّهُ عَلَى مَالِكِهِ كَمَنْ نَصَبَ شَبَكَةً فَوَقَعَ فِيهَا صَيْدٌ ثُمَّ أَخَذَهُ إنْسَانٌ آخَرُ فَعَلَيْهِ رَدُّهُ عَلَى صَاحِبِ الشَّبَكَةِ .

( وَلَوْ تَكَسَّرَ صَيْدٌ فِي أَرْضِ إنْسَانٍ فَصَارَ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ بَرَاحًا أَوْ رَمَى صَيْدًا فَوَقَعَ فِي أَرْضِ رَجُلٍ لَا يُدْرَى مَنْ رَمَاهُ فَأَخَذَهُ رَجُلٌ آخَرُ فَهُوَ لِلَّذِي أَخَذَهُ ) لِأَنَّ الْإِحْرَازَ مِنْ الْأَخْذِ ، وَلَمْ يُوجَدْ مِنْ جِهَةِ صَاحِبِ الْمِلْكِ إحْرَازٌ لَهُ ، وَإِنْ عَجَزَ الصَّيْدُ عَنْ الطَّيَرَانِ بِمَا أَصَابَهُ ، وَالْمُبَاحُ إنَّمَا يُمْلَكُ بِالْإِحْرَازِ .

قَالَ : ( وَكُلُّ مَنْ اصْطَادَ سَمَكًا مِنْ نَهْرٍ جَارٍ لِرَجُلٍ فَهُوَ لِلَّذِي أَخَذَهُ ) ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ النَّهْرِ مَا صَارَ مُحْرِزًا لَهُ بَلْ هُوَ صَيْدٌ فِي نَهْرِهِ فَالْمُحْرِزُ لَهُ مَنْ اصْطَادَهُ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ أَجَمَةً لَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِ صَيْدِهَا إلَّا بِالِاصْطِيَادِ فَصَاحِبُ الْأَجَمَةِ صَارَ مُحْرِزًا لِمَا حَصَلَ فِيهَا مِنْ السَّمَكِ ، إنَّمَا الْمُحْرِزُ الْآخِذُ ، فَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْأَجَمَةِ احْتَالَ لِذَلِكَ حَتَّى أَخْرَجَ الْمَاءَ ، وَبَقِيَ السَّمَكُ فَهُوَ لِصَاحِبِ الْأَجَمَةِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مُحْرِزًا بِمَا صَنَعَ فَالسَّمَكُ عَلَى الْيَبَسِ لَا يَكُونُ صَيْدًا ، فَإِذَا صَارَ بِفِعْلِهِ بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ مِنْ غَيْرِ صَيْدٍ فَهُوَ مُحْرِزٌ لَهُ .

قَالَ : ( وَإِذَا عَجَزَ الْمُسْلِمُ عَنْ مَدِّ قَوْسِهِ وَأَعَانَهُ مَجُوسِيٌّ عَلَى مَدِّهِ لَمْ يَحِلَّ الصَّيْدُ ) لِاجْتِمَاعِ الْمُوجِبِ لِلْحَظْرِ ، وَالْمُوجِبِ لِلْحِلِّ ، فَإِنَّ فِعْلَ الْمَجُوسِيِّ مِنْ جِنْسِ فِعْلِ الْمُسْلِمِ فَتَحَقَّقَتْ الْمُشَارَكَةُ بَيْنَهُمَا ، كَمَا لَوْ أَخَذَ مَجُوسِيٌّ بِيَدِ الْمُسْلِمِ فَذَبَحَ ، وَالسِّكِّينُ فِي يَدِ الْمُسْلِمِ .

قَالَ : ( وَإِذَا أَصَابَ السَّهْمُ الصَّيْدَ فَوَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ وَمَاتَ حَلَّ أَكْلُهُ اسْتِحْسَانًا ) وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَحِلُّ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ مَاتَ بِوُقُوعِهِ عَلَى الْأَرْضِ ، وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ عَنْهُ إذْ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ أَنْ يَرْمِيَهُ عَلَى وَجْهٍ يَبْقَى فِي الْهَوَاءِ ، وَلَا يَسْقُطُ وَإِنْ وَقَعَ فِي مَاءٍ أَوْ عَلَى جَبَلٍ ، ثُمَّ وَقَعَ مِنْهُ عَلَى الْأَرْضِ وَمَاتَ لَمْ يُؤْكَلْ ، وَفِي الْوُقُوعِ فِي الْمَاءِ أَثَرٌ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَفِي حَدِيثٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا ، وَلِأَنَّ مِنْ الْجَائِزِ أَنَّ الْمَاءَ قَتَلَهُ ، وَهَذَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ ، وَكَذَلِكَ إنْ وَقَعَ عَلَى جَبَلٍ ثُمَّ مِنْهُ عَلَى الْأَرْضِ ، فَهَذَا مُتَرَدٍّ ، وَمِنْ الْجَائِزِ أَنَّ التَّرَدِّي قَتَلَهُ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي جُمْلَةِ الْمُحَرَّمَاتِ : { وَالْمُتَرَدِّيَةُ } وَكَذَلِكَ كُلُّ مَا أَصَابَهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَقِرَّ عَلَى مَكَانِهِ الَّذِي يَمُوتُ عَلَيْهِ يَعْنِي وَقَعَ عَلَى شَجَرَةٍ ثُمَّ وَقَعَ مِنْهَا عَلَى الْأَرْضِ ، وَإِنْ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ الشَّيْءِ وَلَمْ يَقَعْ عَلَى الْأَرْضِ حَيًّا فَهُوَ حَلَالٌ ، وَكَذَلِكَ إنْ مَاتَ قَبْلَ وُقُوعِهِ فِي الْمَاءِ ثُمَّ وَقَعَ فِي الْمَاءِ ؛ لِأَنَّ التَّرَدِّي وَالْوُقُوعَ فِي الْمَاءِ كَانَ بَعْدَ تَمَامِ فِعْلِ الذَّكَاةِ ، وَلَمْ يَكُنْ سَبَبًا لِمَوْتِهِ وَإِنْ وَقَعَ عَلَى جَبَلٍ وَمَاتَ ، وَلَوْ عَلَى السَّطْحِ فَمَاتَ حَلَّ لِأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الْأَرْضِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ فَيَكُونُ عَفْوًا ، وَهَذَا إذَا كَانَ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ مِمَّا لَا يَقْتُلُ ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَقْتُلُ مِثْلُ حَدِّ الرُّمْحِ وَالْقَضِيبَةِ الْمَنْصُوبَةِ وَحَدِّ الْآجِرِ وَاللَّبِنَةِ الْقَائِمَةِ وَنَحْوِهَا لَمْ يُؤْكَلْ ؛ لِأَنَّ هَذَا سَبَبٌ لِمَوْتِهِ وَهُوَ فِعْلٌ آخَرُ سِوَى فِعْلِ الذَّكَاةِ يُسْتَطَاعُ

الِامْتِنَاعُ مِنْهُ ، وَفِي الْأَصْلِ قَالَ : إنْ وَقَعَ عَلَى آجِرَةٍ مَوْضُوعَةٍ عَلَى الْأَرْضِ فَمَاتَ فَهَذَا بِمَنْزِلَةِ الْأَرْضِ وَيُؤْكَلُ ، وَذَكَرَ فِي الْمُنْتَقَى لَوْ وَقَعَ عَلَى صَخْرَةٍ فَانْشَقَّ بَطْنُهُ فَمَاتَ لَمْ يُؤْكَلْ ، وَلَيْسَ هَذَا بِاخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ بَلْ مُرَادُهُ مَا ذُكِرَ فِي الْمُنْتَقَى إذَا أَصَابَهُ حَدُّ الصَّخْرَةِ فَانْشَقَّ بَطْنُهُ بِذَلِكَ ، وَهَذَا سَبَبٌ لِمَوْتِهِ سِوَى الذَّكَاةِ ، وَمُرَادُهُ مِمَّا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ أَنَّهُ لَمْ يُصِبْهُ مِنْ الْآجِرَةِ إلَّا مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْأَرْضِ لَوْ وَقَعَ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ عَفْوٌ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ .

قَالَ : ( فَإِنْ رَمَى صَيْدًا بِسَهْمٍ فَأَصَابَ فَمَرَّ السَّهْمُ فِي سَنَنِهِ فَأَصَابَ ذَلِكَ الصَّيْدَ أَوْ غَيْرَهُ أَوْ أَصَابَهُ وَنَفَذَ إلَى غَيْرِهِ فَأَصَابَهُ حَلَّ جَمِيعُ ذَلِكَ ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فِعْلَ الرَّمْيِ يُذَكِّي لِمَا يُصِيبُهُ فِي سَنَنِهِ ، سَوَاءٌ أَصَابَ صَيْدًا أَوْ صَيْدَيْنِ ، وَإِنْ عَرَضَ لِلسَّهْمِ رِيحٌ فَرَدَّهُ إلَى مَا وَرَاءَهُ فَأَصَابَ صَيْدًا لَمْ يُؤْكَلْ .
لِأَنَّ الْإِصَابَةَ لَمْ تَكُنْ بِقُوَّةِ الرَّامِي بَلْ بِقُوَّةِ الرِّيحِ فَهُوَ نَظِيرُ سَهْمٍ مَوْضُوعٍ فِي مَوْضِعٍ حَمَلَهُ الرِّيحُ فَضَرَبَهُ عَلَى صَيْدٍ فَمَاتَ ، وَفِعْلُ الرِّيحِ لَا يَكُونُ ذَكَاةَ الصَّيْدِ ، وَكَذَلِكَ إنْ رَدَّهُ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً حَتَّى إذَا أَصَابَ صَيْدًا لَمْ يَحِلَّ ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّهُ عَنْ جِهَتِهِ حَلَّ صَيْدُهُ ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ يَمْضِي فِي سَنَنِهِ فَمُضِيُّهُ مُضَافٌ إلَى قُوَّةِ الرَّامِي ، فَأَمَّا إذَا رَدَّهُ الرِّيحُ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً فَقَدْ انْقَطَعَ حُكْمُ هَذِهِ الْإِضَافَةِ ؛ لِأَنَّ الرَّامِيَ لَا يُحِبُّ مُضِيَّ السَّهْمِ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً فَيَصِيرُ مُضَافًا إلَى الرِّيحِ لَا إلَى الرَّامِي ، وَمَا دَامَ يَمْضِي فِي جِهَتِهِ فَالرِّيحُ يَزِيدُهُ فِي قُوَّتِهِ ، فَلَا يَنْقَطِعُ بِهِ حُكْمُ إضَافَةِ الْقُوَّةِ إلَى الرَّامِي ، وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ ، وَإِنْ رَدَّهُ يَمْنَةً أَوْ يَسْرَةً يَحِلُّ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِضِدٍّ لِلْجِهَةِ الَّتِي قَصَدَهَا الرَّامِي ، وَلَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ إذَا كَانَ يَصْطَادُ فِي يَوْمِ رِيحٍ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَصَابَ السَّهْمُ حَائِطًا أَوْ شَجَرًا أَوْ شَيْئًا آخَرَ فَرَدَّهُ فَهُوَ وَرَدُّ الرِّيحِ سَوَاءٌ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا ؛ لِأَنَّ مُضِيَّهُ إلَى مَا وَرَاءَهُ بِصَلَابَةِ الشَّجَرِ وَالْحَائِطِ لَا بِقُوَّةِ الرَّمْيِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَصَابَهُ سَهْمٌ آخَرُ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَ الصَّيْدَ فَرَدَّهُ عَنْ وَجْهِهِ فَأَصَابَ صَيْدًا لَمْ يُؤْكَلْ ، وَتَأْوِيلُ هَذَا إذَا كَانَ الرَّامِي بِالسَّهْمِ الثَّانِي مَجُوسِيًّا أَوْ لَمْ يَكُنْ قَصْدُهُ الِاصْطِيَادَ إنَّمَا كَانَ قَصْدُهُ الرَّمْيَ إلَى ذَلِكَ السَّهْمِ ، فَأَمَّا

إذَا كَانَ قَصْدُ الثَّانِي الِاصْطِيَادَ وَسَمَّى ، فَإِنَّ الصَّيْدَ يَكُونُ لَهُ وَيَحِلُّ تَنَاوُلُهُ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يُصِيبَهُ سَهْمٌ أَوْ يَرُدَّ سَهْمًا آخَرَ فَيُصِيبُهُ ، وَقِيلَ : بَلْ لَا يَحِلُّ عَلَى كُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ بِاعْتِبَارِ فِعْلِ الرَّامِي ، وَجُرْحُ الْآلَةِ وَالسَّهْمِ الَّذِي رَمَاهُ لِلثَّانِي مَا جَرَحَ الصَّيْدَ ، وَاَلَّذِي جَرَحَ الصَّيْدَ مَا رَمَاهُ الثَّانِي ، وَلَا كَانَ مُضِيُّهُ بِقُوَّةِ مَنْ رَمَى بِهِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَصَابَ السَّهْمُ قَصَبَةً مَحْدُودَةً مَنْصُوبَةً فِي حَائِطٍ ، وَأَصَابَتْ تِلْكَ الْقَصَبَةُ الصَّيْدَ بِحَدِّهَا فَجَرَحَتْهُ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَأْكُولٍ ، فَهَذَا مِثْلُهُ .

قَالَ : ( وَلَا يَحِلُّ صَيْدُ الْبُنْدُقِ وَالْحَجَرِ وَالْمِعْرَاضِ وَالْعَصَا وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، وَإِنْ جَرَحَ ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرِقْ ، إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ قَدْ حَدَّدَهُ وَطَوَّلَهُ كَالسَّهْمِ ، وَأَمْكَنَ أَنْ يَرْمِيَ بِهِ ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَخَرَقَهُ بِحَدِّهِ حَلَّ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالذَّكَاةِ تَسْيِيلُ الدَّمِ ، وَذَلِكَ يَحْصُلُ بِالْخَرْقِ وَالْبِضْعِ ، فَأَمَّا الْجُرْحُ الَّذِي يَدُقُّ فِي الْبَاطِنِ وَلَا يَخْرِقُ فِي الظَّاهِرِ ، فَلَا يَحْصُلُ تَسْيِيلُ الدَّمِ بِهِ فَهُوَ فِي مَعْنَى الْمَوْقُوذَةِ ، وَالْمَوْقُوذَةُ حَرَامٌ بِالنَّصِّ ، وَالْمُثْقَلُ بِالْحَدِيدِ وَغَيْرُ الْحَدِيدِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَى الصَّيْدَ بِالسِّكِّينِ فَأَصَابَهُ بِحَدِّهِ وَجَرَحَهُ يُؤْكَلُ ، وَإِنْ أَصَابَهُ بِقَفَا السِّكِّينِ أَوْ بِمِقْبَضِ السِّكِّينِ لَمْ يُؤْكَلْ ، وَالْمِزْرَاقُ كَالسَّهْمِ يَخْرِقُ ، وَيَعْمَلُ فِي تَسْيِيلِ الدَّمِ

وَإِنْ حَدَّدَ مَرْوَة فَذَبَحَ بِهَا صَيْدًا حَلَّ لِحُصُولِ تَسْيِيلِ الدَّمِ بِحَدِّ الْآلَةِ ، وَفِي حَدِيثِ { مُحَمَّدِ بْنِ صَفْوَانَ أَوْ صَفْوَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : أَخَذْتُ أَرْنَبَتَيْنِ فَذَبَحْتُهُمَا بِمَرْوَةِ مُحَدَّدَةٍ ثُمَّ سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَوَّزَ لِي أَكْلَهُمَا }

قَالَ : ( وَمَا تَوَحَّشَ مِنْ الْأَهْلِيَّاتِ حَلَّ بِمَا يَحِلُّ بِهِ الصَّيْدُ مِنْ الرَّمْيِ ) لِمَا بَيَّنَّا مِنْ الْخَبَر أَنَّ لَهَا أَوَابِدَ كَأَوَابِدِ الْوَحْشِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ فِي الْبَعِيرِ وَالْبَقَرَةِ إذْ أَنَّهُ فِي الْمِصْرِ أَوْ خَارِجَ الْمِصْرِ فَرَمَاهُ إنْسَانٌ حَلَّ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَدْفَعُ عَنْ نَفْسِهِ نَصِيبًا لَهُ ، وَيَخَافُ فَوْتَهُ ، وَإِنْ كَانَ فِي الْمِصْرِ ، وَأَمَّا الشَّاةُ إذَا مَدَّتْ فِي الْمِصْرِ فَلَا تَحِلُّ بِالرَّمْيِ ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُهُ أَخْذُهَا فِي الْمِصْرِ عَادَةً فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْعَجْزُ عَنْ ذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ ، وَإِذَا مَدَّتْ خَارِجَ الْمِصْرِ تَحِلُّ بِالرَّمْيِ ؛ لِأَنَّهُ يَخَافُ فَوْتُهَا خَارِجَ الْمِصْرِ ، فَلِلْعَجْزِ عَنْ ذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ يُكْتَفَى فِيهَا بِذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ .

قَالَ : ( وَإِذَا أَصَابَ السَّهْمُ الظِّلْفَ وَالْقَرْنَ فَقَتَلَهُ حَلَّ أَيْضًا بِهِ إذَا أَدْمَاهُ ، وَوَصَلَتْ الرَّمْيَةُ إلَى اللَّحْمِ ) ؛ لِأَنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ تَسْيِيلُ الدَّمِ قَدْ حَصَلَ ، وَكَذَلِكَ الْمُتَرَدِّي فِي بِئْرٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى ذَكَاتِهِ ، فَأَيْنَمَا وُجِئَ مِنْهُ فَأَدْمَاهُ فَهُوَ ذَكَاةٌ ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ وُقُوعُ الْعَجْزِ عَنْ ذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ ، وَقَدْ يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بِالتَّرَدِّي فِي الْبِئْرِ فَهُوَ وَمَا نَدَّ سَوَاءٌ .

قَالَ : ( وَإِنْ رَمَى صَيْدًا بِسَيْفٍ فَأَبَانَ مِنْهُ عُضْوًا وَمَاتَ أَكَلَ الصَّيْدَ كُلَّهُ إلَّا مَا بَانَ عَنْهُ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { مَا أُبِينَ مِنْ الْحَيِّ فَهُوَ مَيِّتٌ } وَمُرَادُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْرِيمُ مَا كَانُوا يَعْتَادُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقْطَعُونَ بَعْضَ لَحْمِ الْأَلْيَةِ مِنْ الشَّاةِ وَرُبَّمَا لَا يَقْطَعُونَ بَعْضَ لَحْمِ الْعَجُزِ مِنْهَا فَيَأْكُلُونَهُ فَحَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الذَّكَاةِ لَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمُبَانِ مَقْصُودًا ، وَأَصْلُ الشَّاةِ حَيَّةٌ ، وَبِدُونِ الذَّكَاةِ لَا يَثْبُتُ الْحِلُّ ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ هُنَا فَحُكْمُ الذَّكَاةِ اسْتَقَرَّ فِي الصَّيْدِ بَعْدَ مَا مَاتَ ، وَهَذَا الْعُضْوُ مُبَانٌ مِنْ حِينَ مَاتَ ، فَلَا يَسْرِي حُكْمُ الذَّكَاةِ إلَى ذَلِكَ الْعُضْوِ ، وَلَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ حُكْمِ الذَّكَاةِ فِي ذَلِكَ الْعُضْوِ مَقْصُودًا بِالْإِبَانَةِ ، كَمَا لَوْ بَقِيَ الصَّيْدُ حَيًّا ؛ فَلِهَذَا لَا يُؤْكَلُ ذَلِكَ الْعُضْوُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَانَ ذَلِكَ الْعُضْوُ مِنْهُ أُكِلَ كُلُّهُ ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الِاتِّصَالِ يُسْرِي حُكْمَ الذَّكَاةِ إلَى ذَلِكَ الْعُضْوِ فَيَكُونُ حَلَالًا كَغَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ تَعَلَّقَ مِنْهُ بِجَلْدَةٍ ، فَإِنْ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا قَدْ بَانَ مِنْهُ فَلَا يُؤْكَلُ ، وَمُرَادُهُ مِنْ ذَلِكَ إذَا كَانَ بِحَيْثُ لَا يُتَوَهَّمُ اتِّصَالُهُ بِعِلَاجٍ فَهُوَ وَالْمُبَانُ سَوَاءٌ ، وَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ يُتَوَهَّمُ ذَلِكَ ، فَهَذَا جُرْحٌ وَلَيْسَ بِإِبَانَةٍ فَيُؤْكَلُ كُلُّهُ ، وَإِنْ قَطَعَهُ نِصْفَيْنِ يُؤْكَلُ كُلُّهُ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ أَثْمَرَ مَا يَكُونُ مِنْ الذَّكَاةِ إذْ لَا يُتَوَهَّمُ بَقَاؤُهُ حَيًّا بَعْدَ مَا قَطَعَهُ نِصْفَيْنِ طُولًا ، وَإِنْ قَطَعَ الثُّلُثَ مِنْهُ مِمَّا يَلِي الْعَجُزَ فَأَبَانَهُ ، فَإِنَّهُ يُؤْكَلُ الثُّلُثَانِ اللَّذَانِ مِمَّا يَلِي الرَّأْسَ ، وَلَا يُؤْكَلُ الثُّلُثُ مِمَّا يَلِي الْعَجُزَ ، فَإِنْ قَطَعَ الثُّلُثَ مِمَّا يَلِي الرَّأْسَ فَأَبَانَهُ ، فَإِنَّهُ يُؤْكَلُ

كُلُّهُ ؛ لِأَنَّ مَا بَيْنَ النِّصْفِ إلَى الْعُنُقِ مَذْبَحٌ يُرِيدُ بِهِ أَنَّ الْأَوْدَاجَ مِنْ الْقَلْبِ إلَى الدِّمَاغِ ، وَإِنْ قَطَعَ الثُّلُثَ مِمَّا يَلِي الْعَجُزَ لَمْ يَسْتَقِرَّ فِعْلُ الذَّكَاةِ بِهَذَا حِينَ لَمْ تُقْطَعْ الْأَوْدَاجُ ، وَإِنَّمَا اسْتَقَرَّ بِمَوْتِهِ ، وَهَذَا الْجُرْحُ مُبَانٌ عَنْهُ عِنْدَ ذَلِكَ ، فَأَمَّا إذَا أَبَانَ الثُّلُثَ مِمَّا يَلِي الرَّأْسَ فَقَدْ اسْتَقَرَّ حُكْمُ الذَّكَاةِ بِقَطْعِ الْأَوْدَاجِ بِنَفْسِهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ قَدَّهُ نِصْفَيْنِ فَقَدْ اسْتَقَرَّ فِعْلُ الذَّكَاةِ بِقَطْعِ الْأَوْدَاجِ ؛ فَلِهَذَا يُؤْكَلُ كُلُّهُ ، فَإِنْ أَبَانَ طَائِفَةً مِنْ رَأْسِهِ ، فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ لَمْ يُؤْكَلْ مَا بَانَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الرَّأْسَ لَيْسَ بِمَذْبَحٍ فَهُوَ كَمَا لَوْ أَبَانَ جُزْءًا مِنْ الذَّنَبِ ، وَإِنْ كَانَ النِّصْفَ أَوْ أَكْثَرَ أُكِلَ ؛ لِأَنَّهُ يَتَقَطَّعُ الْأَوْدَاجُ بِهِ فَيَكُونُ فِعْلُهُ ذَكَاةً بِنَفْسِهِ .

قَالَ : ( وَلَوْ ضَرَبَ وَسَمَّى وَقَطَعَ ظِلْفَهُ فَإِنْ أَدْمَاهُ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَدْمَاهُ لَمْ يُؤْكَلْ ) ؛ لِأَنَّ تَسْيِيلَ الدَّمِ النَّجِسِ لَمْ يَحْصُلْ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ ضَرَبَ عُنُقَ شَاةٍ بِسَيْفٍ فَأَبَانَهُ مِنْ قِبَلِ الْأَوْدَاجِ فَإِنَّهُ يُؤْكَلُ ، وَفِي الْكِتَابِ رَوَاهُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَقَدْ أَسَاءَ فِيمَا صَنَعَ حِينَ تَرَكَ الْإِحْسَانَ فِي الذَّبْحِ .

وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ ذَبَحَ شَاةً فِي الْمَذْبَحِ فَلَمْ يَسِلْ الدَّمُ مِنْهَا ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ إذَا كَانَتْ قَدْ أَكَلَتْ الْعُنَّابَ ، وَكَانَ أَبُو الْقَاسِمِ الصَّفَّارُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَقُولُ : لَا يَحِلُّ لِانْعِدَامِ مَعْنَى الذَّكَاةِ ، وَهُوَ تَسْيِيلُ الدَّمِ النَّجِسِ ، وَقَدْ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَأَفْرَى الْأَوْدَاجَ فَكُلْ } وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْكَافُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ لِوُجُودِ فِعْلِ الذَّكَاةِ عَلَى مَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : { الذَّكَاةُ مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ } وَقَدْ يَمْتَنِعُ بَعْضُ الدَّمِ فِي الْعُرُوقِ لِحَابِسٍ يَحْبِسُهُ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُوجِبٍ لِلْحُرْمَةِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَهَذَا مِثْلُهُ لَمْ يُبِنْ مَا يُؤْكَلُ وَمَا لَا يُؤْكَلُ مِنْ الصَّيُودِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ .

وَذَكَرَ فِي جُمْلَةِ مَا لَا يُؤْكَلُ الْيَرْبُوعَ وَالْقُنْفُذَ وَمَا أَشْبَهَهُمَا مِنْ الْهَوَامِّ ؛ لِأَنَّ الطِّبَاعَ السَّلِيمَةَ تَسْتَخْبِثُهَا فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى : { وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ }

قَالَ : ( وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الضُّفْدَعِ وَالشَّرْطَانِ وَمَا أَشْبَهَهُمَا ، وَكَذَلِكَ جَمَلُ الْمَاءِ ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ إلَّا السَّمَكَ ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ ثَمَنٌ ، وَمَعْنَى هَذَا مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْبَيْعَ لَا يَجُوزُ إلَّا فِيمَا هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ ، وَالْمَالُ مَا يُتَمَوَّلُ ، وَالتَّقَوُّمُ بِهِ يَكُونُ مُنْتَفَعًا بِهِ ، وَسَائِرُ حَيَوَانَاتِ الْمَاءِ سِوَى السَّمَكِ غَيْرُ مَأْكُولِ اللَّحْمِ ، وَلَا مَنْفَعَةَ لَهَا سِوَى الْأَكْلِ فَلَمْ يَكُنْ مَالًا مُتَقَوِّمًا ، فَإِنْ كَانَ شَيْئًا لَهُ ثَمَنٌ كَجُلُودِ الْحُمُرِ وَنَحْوِهَا فَبَيْعُهُ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا مُنْتَفَعٌ بِهِ بِوَجْهٍ حَلَالٍ فَيَكُونُ مُتَقَوِّمًا فَيَجُوزُ بَيْعُهُ .

قَالَ : ( وَلَا خَيْرَ فِي أَكْلِ النَّسْرِ وَالْعُقَابِ وَأَشْبَاهِهِمَا مِنْ صَيْدِ الْبَرِّ ) { لِنَهْيِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَنْ كُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ } ، فَأَمَّا الْعَقْعَقُ وَالسُّودَانِيَّةُ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِمَّا لَا مِخْلَبَ لَهُ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْكَلَامَ فِي الْغُرَابِ فِيمَا سَبَقَ .

قَالَ : ( وَلَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ عَلَى جِلْدِ مَا يُكْرَهُ أَكْلُهُ مِنْ ذِي النَّابِ ) ؛ لِأَنَّ الذَّكَاةَ تَعْمَلُ فِيمَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فِي طِيبَةِ اللَّحْمِ وَطَهَارَةِ الْجِلْدِ ، وَفِيمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ يُعْمَلُ فِي طَهَارَةِ الْجِلْدِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُعْمَلُ فِي طِيبَةِ اللَّحْمِ ؛ لِأَنَّ الْجِلْدَ مَحَلٌّ قَابِلٌ لِهَذَا الْحُكْمِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَطْهُرُ بِالدِّبَاغِ { قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ : أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ } فَكَذَلِكَ بِالذَّكَاةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الْفَصْلَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ

، وَتُكْرَهُ لُحُومُ الْإِبِلِ الْجَلَّالَةِ وَالْعَمَلُ عَلَيْهَا ، وَتِلْكَ حَالُهَا إلَى أَنْ تُحْبَسَ أَيَّامًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { نَهَى عَنْ أَكْلِ لَحْمِ الْجَلَّالَةِ ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنْ يُحَجَّ عَلَى الْجَلَّالَةِ وَيُعْتَمَرَ عَلَيْهَا وَيُنْتَفَعَ بِهَا } وَتَفْسِيرُ الْجَلَّالَةِ الَّتِي تَعْتَادُ أَكْلَ الْجِيَفِ وَلَا تُخْلَطُ فَيَتَعَيَّنُ لَحْمُهَا ، وَيَكُونُ لَحْمُهَا مُنْتِنًا فَحَرُمَ الْأَكْلُ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْخَبَائِثِ ، وَالْعَمَلُ عَلَيْهَا لِتَأَذِّي النَّاسِ بِنَتْنِهَا ، وَأَمَّا مَا يَخْلِطُ فَيَتَنَاوَلُ الْجِيَفَ وَغَيْرَ الْجِيَفِ عَلَى وَجْهٍ يَظْهَرُ أَثَرُ ذَلِكَ مِنْ لَحْمِهِ ، فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ ، وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ حَتَّى ذَكَرَ فِي النَّوَادِرِ : لَوْ أَنَّ جَدْيًا غُذِّيَ بِلَبَنِ خِنْزِيرٍ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ لَحْمُهُ وَمَا غُذِّيَ بِهِ صَارَ مُسْتَهْلَكًا وَلَمْ يَبْقَ لَهُ أَثَرٌ ، وَعَلَى هَذَا نَقُولُ : لَا بَأْسَ بِأَكْلِ الدَّجَاجَةِ وَإِنْ كَانَتْ تَقَعُ عَلَى الْجِيَفِ ؛ لِأَنَّهَا تَخْلِطُ ، وَلَا يَتَغَيَّرُ لَحْمُهَا وَلَا يَنْتُنُ ، وَقِيلَ : هِيَ تَنْقُشُ الْجِيَفَ تَبْتَغِي الْحَبَّ فِيهَا لَا أَنْ تَتَنَاوَلَ الْجِيَفَ ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَكْرَهُ أَكْلَ الدَّجَاجِ لِأَنَّهُ يَتَنَاوَلُ الْجِيَفَ ، وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا ، وَقَدْ { صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ يَأْكُلُ مِنْ لَحْمِ الدَّجَاجِ } وَلَوْ كَانَ فِيهِ أَدْنَى خَبَثٍ لَامْتَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ تَنَاوُلِهِ ، وَاَلَّذِي رَوَى أَنَّهُ كَانَ يَحْبِسُ الدَّجَاجَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ يَذْبَحُهَا ، فَذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّنَزُّهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ شَرْطًا فِي الدَّجَاجَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا يَخْلِطُ ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي الْجَلَّالَةِ الَّتِي لَا تَأْكُلُ إلَّا الْجِيَفَ ، وَفِي الْكِتَابِ قَالَ : تُحْبَسُ أَيَّامًا عَلَى عَلَفٍ طَاهِرٍ قِيلَ : ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَقِيلَ : عَشْرَةَ أَيَّامٍ ، وَالْأَصْلَحُ أَنَّهَا تُحْبَسُ إلَى

أَنْ تَزُولَ الرَّائِحَةُ الْمُنْتِنَةُ عَنْهَا ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ لِذَلِكَ ، وَهُوَ شَيْءٌ مَحْسُوسٌ ، وَلَا يَتَقَدَّرُ بِالزَّمَانِ لِاخْتِلَافِ الْحَيَوَانَاتِ فِي ذَلِكَ فَيُصَارُ فِيهِ إلَى اعْتِبَارِ زَوَالِ الْمُضِرِّ ، فَإِذَا زَالَ بِالْعَلَفِ الطَّاهِرِ حَلَّ تَنَاوُلُهُ ، وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ ( تَمَّ الْجُزْءُ الْحَادِيَ عَشْرَ وَيَلِيهِ الْجُزْءُ الثَّانِي عَشْرَ ، وَأَوَّلُهُ كِتَابُ الذَّبَائِحِ )

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ( لَا يَحِلُّ مَا ذُبِحَ بِسِنٍّ ، أَوْ ظُفْرٍ غَيْرِ مَنْزُوعٍ ؛ لِأَنَّهُ قَتْلٌ وَتَخْنِيقٌ ، وَلَيْسَ بِذَبْحٍ ) فَفِي الذَّبْحِ الِانْقِطَاعُ بِحِدَةِ الْآلَةِ ، وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ الِانْقِطَاعُ بِقُوَّتِهِ لَا بِحِدَةِ الْآلَةِ ، وَلِأَنَّ آلَةَ الذَّبْحِ غَيْرُ الذَّابِحِ وَسِنُّهُ وَظُفْرُهُ مِنْهُ ، وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ إذَا كَانَ مَنْزُوعًا عِنْدَنَا ، وَلَا يَحِلُّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَأَفْرَى الْأَوْدَاجَ فَكُلْ مَا خَلَا السِّنِّ وَالظُّفْرِ فَإِنَّهَا مُدَى الْحَبَشَةِ } ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الْمُرَادُ غَيْرُ الْمَنْزُوعِ فَإِنَّ الْحَبَشَةَ يَسْتَعْمِلُونَ فِي ذَلِكَ سِنَّهُمْ وَظُفْرَهُمْ قَبْلَ النَّزْعِ وَذُكِرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مَا خَلَا الْعَضِّ بِالسِّنِّ وَالْقَرْضِ بِالظُّفْرِ وَالْعَضُّ وَالْقَرْضُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ فِي غَيْرِ الْمَنْزُوعِ عَادَةً ، ثُمَّ الْمَنْزُوعُ آلَةٌ مُحَدَّدَةٌ يَحْصُلُ بِهَا تَسْيِيلُ الدَّمِ النَّجِسِ فَكَانَتْ كَالسِّكِّينِ إلَّا أَنَّهُ يُكْرَهُ الذَّبْحُ بِهَا لِزِيَادَةِ إيلَامٍ وَمَشَقَّةٍ عَلَى الْحَيَوَانِ .
وَلَا يُعَدُّ هَذَا الْفَصْلُ مِنْ الْإِحْسَانِ فِي الذَّبْحِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إذَا ذَبَحْتُمْ فَأُحْسِنُوا الذَّبْحَ } الْحَدِيثَ .

قَالَ ( وَمَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَأَفْرَى الْأَوْدَاجَ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُذْبَحَ بِهِ حَدِيدًا كَانَ ، أَوْ قَصَبًا ، أَوْ حَجَرًا مُحَدَّدًا ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ ) لِمَا رُوِيَ أَنَّ { عَدِيَّ بْنَ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ أَرَأَيْت يَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنْ صَادَ أَحَدُنَا صَيْدًا ، وَلَيْسَ مَعَهُ سِكِّينٌ فَذَبَحَهُ بِشِقِّ الْعَصَا ، أَوْ بِالْمَرْوَةِ أَيَحِلُّ ذَلِكَ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنْهِرْ الدَّمَ بِمَا شِئْت وَكُلْ } ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَمْيِيزُ الطَّاهِرِ مِنْ النَّجِسِ ، وَذَلِكَ حَاصِلٌ بِكُلِّ آلَةٍ مُحَدَّدَةٍ

ثُمَّ تَمَامُ الذَّكَاةِ بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ وَالْوَدَجَيْنِ فَإِنْ قَطَعَ الْأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَذَلِكَ كَقَطْعِ الْجَمِيعِ فِي الْجُلِّ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ فِي الْأَكْثَرِ مِنْ ذَلِكَ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي تَفْسِيرِ ذَلِكَ فَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ إذَا قَطَعَ ثَلَاثًا مِنْهَا أَيَّ ثَلَاثٍ كَانَ فَقَدْ قَطَعَ الْأَكْثَرَ .
وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ إنْ قَطَعَ الْأَكْثَرَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا فَذَلِكَ يَقُومُ مَقَامَ قَطْعِ الْجَمِيعِ .
فَأَمَّا بِدُونِ ذَلِكَ يُتَوَهَّمُ الْبَقَاءُ فَلَا تَتِمُّ الذَّكَاةُ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ ، وَإِنْ قَطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِيءَ وَأَحَدَ الْوَدَجَيْنِ حَلَّ وَشُرِطَ ثَلَاثَةٌ فِيهَا الْحُلْقُومُ وَالْمَرِيءُ وَأَحَدُ الْوَدَجَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْحُلْقُومَ مَجْرَى الْعَلَفِ وَالْمَرِيءَ مَجْرَى النَّفَسِ وَالْوَدَجَانِ مَجْرَى الدَّمِ فَبِقَطْعِ أَحَدِ الْوَدَجَيْنِ يَحْصُلُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ تَسْيِيلِ الدَّمِ .
فَأَمَّا قَطْعُ مَجْرَى النَّفَسِ لَا بُدَّ مِنْهُ ، وَلَا يَقُومُ غَيْرُهُ مَقَامَهُ فِي ذَلِكَ .
وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ وَإِذَا قَطَعَ الْحُلْقُومَ وَالْمَرِيءَ حَلَّ ، وَإِنْ لَمْ يَقْطَعْ الْوَدَجَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ لَا بَقَاءَ بَعْدَ قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءِ ، وَلَكِنَّ هَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَسْيِيلُ الدَّمِ النَّجَسِ وَبِدُونِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ لَا يَثْبُتُ الْحِلُّ .
قَالَ ( وَإِذَا ذُبِحَتْ شَاةٌ مِنْ قِبَلِ الْقَفَا فَقَطَعَ الْأَكْثَرَ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَبْلَ أَنْ تَمُوتَ حَلَّتْ ) لِتَمَامِ فِعْلِ الذَّكَاةِ ، وَإِنْ مَاتَتْ قَبْلَ قَطْعِ الْأَكْثَرِ لَمْ تَحِلَّ ؛ لِأَنَّهَا مَاتَتْ بِالْجَرْحِ لَا بِالذَّبْحِ فِي الْمَذْبَحِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الْحِلُّ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى الذَّبْحِ فِي الْمَذْبَحِ وَيُكْرَهُ هَذَا الْفِعْلُ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ إيلَامٍ غَيْرِ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ .

قَالَ ( وَكَذَلِكَ إنْ ضَرَبَهَا بِسَيْفٍ فَأَبَانَ رَأْسَهَا حَلَّتْ وَيُكْرَهُ ، وَكَذَلِكَ إنْ ذَبَحَهَا مُتَوَجِّهَةً لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ حَلَّتْ ، وَلَكِنْ يُكْرَهُ ذَلِكَ ) ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ فِي الذَّبْحِ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ هَكَذَا رَوَى ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَقْبَلَ بِأُضْحِيَّتِهِ الْقِبْلَةَ لَمَّا أَرَادَ ذَبْحَهَا } وَهَكَذَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ رُبَّمَا كَانُوا يَسْتَقْبِلُونَ بِذَبَائِحِهِمْ الْأَصْنَامَ فَأَمَرَنَا بِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ لِتَعْظِيمِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ ، وَلَكِنَّ تَرْكَهُ لَا يُفْسِدُ الذَّبِيحَةَ بِخِلَافِ تَرْكِ التَّسْمِيَةِ ؛ لِأَنَّ فِي التَّسْمِيَةِ تَعْظِيمُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَذَلِكَ فَرْضٌ .
فَأَمَّا اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ لِتَعْظِيمِ الْجِهَةِ ، وَذَلِكَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ ؛ فَلِهَذَا كَانَ تَرْكُهُ مُوجِبًا لِلْكَرَاهَةِ غَيْرَ مُفْسِدٍ لِلذَّبِيحَةِ .

قَالَ ( وَإِنْ نَحَرَ الْبَقَرَةَ حَلَّتْ وَيُكْرَهُ ذَلِكَ ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ السُّنَّةَ فِي الْبَقَرَةِ الذَّبْحُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً } ( بِخِلَافِ الْإِبِلِ فَالسُّنَّةُ فِيهَا النَّحْرُ ) ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ النَّحْرِ مِنْ الْبَعِيرِ لَا لَحْمَ عَلَيْهِ ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ حَلْقِهِ عَلَيْهِ لَحْمٌ غَلِيظٌ فَكَانَ النَّحْرُ فِي الْإِبِلِ أَسْهَلَ .
فَأَمَّا فِي الْبَقَرِ أَسْفَلَ الْحَلْقِ وَأَعْلَاهُ فَاللَّحْمُ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَمَا فِي الْغَنَمِ فَالذَّبْحُ فِيهِ أَيْسَرُ وَالْمَقْصُودُ تَسْيِيلُ الدَّمِ وَالْعُرُوقُ مِنْ أَسْفَلِ الْحَلْقِ إلَى أَعْلَاهُ فَالْمَقْصُودُ يَحِلُّ بِالْقَطْعِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ مِنْهُ ؛ فَلِهَذَا حَلَّ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الذَّكَاةُ مَا بَيْنَ اللَّبَّةِ وَاللَّحْيَيْنِ } ، وَلَكِنْ تَرْكُ الْأَسْهَلِ مَكْرُوهٌ فِي كُلِّ جِنْسٍ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ إيلَامٍ غَيْرِ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ .

قَالَ ( وَإِنْ ذَبَحَ الشَّاةَ فَاضْطَرَبَتْ فَوَقَعَتْ فِي مَاءٍ ، أَوْ تَرَدَّتْ فِي مَوْضِعٍ لَمْ يَضُرَّهَا شَيْءٌ ) ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الذَّكَاةِ قَدْ اسْتَقَرَّ فِيهَا فَإِنَّمَا انْزَهَقَ حَيَاتُهَا بِهِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِاضْطِرَابِهَا بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الذَّكَاةِ فَهَذَا لَحْمٌ وَقَعَ فِي مَاءٍ ، أَوْ سَقَطَ مِنْ مَوْضِعٍ .

قَالَ ( وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَذْبَحَ عَدَدًا مِنْ الذَّبَائِحِ لَمْ تُجْزِ التَّسْمِيَةُ لِلْأُولَى عَمَّا بَعْدَهَا ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الشَّرْطَ أَنْ يُسَمِّيَ عَلَى الذَّبْحِ وَذَبْحُهُ لِلشَّاةِ الثَّانِيَةِ غَيْرُ ذَبْحِهِ لِلشَّاةِ الْأُولَى .

قَالَ ( وَلَوْ أَضْجَعَهَا لِلذَّبْحِ وَسَمَّى عَلَيْهَا ، ثُمَّ أَلْقَى تِلْكَ السِّكِّينَ وَأَخَذَ أُخْرَى فَذَبَحَ بِهَا تُؤْكَلُ ) لِوُجُودِ التَّسْمِيَةِ مِنْهُ عَلَى فِعْلِ الذَّبْحِ بِخِلَافِ الرَّمْيِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَخَذَ سَهْمًا وَسَمَّى عَلَيْهِ وَوَضَعَهُ وَأَخَذَ سَهْمًا آخَرَ جَدَّدَ عَلَيْهِ التَّسْمِيَةَ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ هُنَاكَ التَّسْمِيَةُ عَلَى فِعْلِ الرَّمْيِ ، وَذَلِكَ يَحِلُّ وَالسَّهْمُ الثَّانِي غَيْرُ الْأَوَّلِ وَهُنَا الشَّرْطُ التَّسْمِيَةُ عَلَى الذَّبْحِ دُونَ السِّكِّينِ وَفِعْلُ الذَّبْحِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَذْبُوحِ لَا بِاخْتِلَافِ السِّكِّينِ فَوِزَانُ هَذَا مِنْ ذَلِكَ أَنْ لَوْ تَرَكَ تِلْكَ الشَّاةَ وَذَبَحَ أُخْرَى بِتِلْكَ التَّسْمِيَةِ .

قَالَ ( وَلَوْ كَلَّمَ إنْسَانًا ، أَوْ شَرِبَ مَاءً ، أَوْ حَدَّ سِكِّينًا ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ عَمَلٍ لَمْ يَكْثُرْ ، ثُمَّ ذَبَحَ جَازَ بِتِلْكَ التَّسْمِيَةِ ) لِوُجُودِ التَّسْمِيَةِ عَلَى الذَّبْحِ فَبِالْعَمَلِ الْيَسِيرِ لَا يَقَعُ الْفَصْلُ بَيْنَ التَّسْمِيَةِ وَالذَّبْحِ بِخِلَافِ مَا إذَا طَالَ الْحَدِيثُ ، أَوْ طَالَ الْعَمَلُ ، ثُمَّ ذَبَحَ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ لِحُصُولِ الْفَصْلِ بَيْنَ التَّسْمِيَةِ وَالذَّبْحِ أَلَا تَرَى أَنَّ بِالْعَمَلِ الْكَثِيرِ يَنْقَطِعُ الْمَجْلِسُ وَبِالْيَسِيرِ لَا يَنْقَطِعُ ، وَكَذَلِكَ الْكَلَامُ .

قَالَ ( وَإِنْ قَالَ مَكَانَ التَّسْمِيَةِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ، أَوْ سُبْحَانَ اللَّهِ ، أَوْ اللَّهُ أَكْبَرُ يُرِيدُ بِهِ التَّسْمِيَةَ أَجْزَأَهُ ) ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى التَّعْظِيمِ ، وَقَدْ حَصَلَ .
وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ التَّكْبِيرِ فَيَقُولُ الْمَأْمُورُ بِهِ هُنَا الذِّكْرُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ } وَهُنَاكَ الْمَأْمُورُ بِهِ التَّكْبِيرُ وَبِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ لَا يَكُونُ تَكْبِيرًا فَلَا يَصِيرُ شَارِعًا فِي الصَّلَاةِ إذَا كَانَ يُحْسِنُ التَّكْبِيرَ ، وَإِنْ أَرَادَ بِذَلِكَ التَّحْمِيدَ دُونَ التَّسْمِيَةِ لَا يَحِلُّ ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ تَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الذَّبْحِ ، وَإِنَّمَا يَتَمَيَّزُ الذِّكْرُ عَلَى الذَّبْحِ وَغَيْرِهِ يَقْصِدُ مِنْهُ التَّسْمِيَةَ .
فَإِذَا لَمْ يَقْصِدْ التَّسْمِيَةَ لَا يَحِلُّ حَتَّى إذَا عَطَسَ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ يُرِيدُ التَّحْمِيدَ عَلَى الْعُطَاسِ لَمْ يَحِلَّ بِخِلَافِ مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْخَطِيبِ إذَا عَطَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ بِذَلِكَ الْقَدْرِ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ هُنَاكَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى مُطْلَقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ } وَهُنَا الْمَأْمُورُ بِهِ ذِكْرُ اللَّهِ عَلَى الذَّبْحِ وَبِمَعْرِفَةِ حُدُودِ كَلَامِ الشَّرْعِ يَحْسُنُ الْفِقْهُ .

قَالَ ( وَيُكْرَهُ أَنْ يَنْخَعَ ، وَقَدْ نَهَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ ذَلِكَ ) وَبَيَّنَّا أَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ يَبْلُغَ الْحَدُّ النُّخَاعَ وَهُوَ عِرْقٌ أَبْيَضُ فِي وَسَطِ عَظْمِ الرَّقَبَةِ ، وَلَكِنْ مَعَ هَذَا تُؤْكَلُ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ لِنُقْصَانٍ فِيمَا هُوَ الْمَطْلُوبُ لِلذَّبْحِ وَهُوَ تَسْيِيلُ الدَّمِ بَلْ لِزِيَادَةِ إيلَامٍ غَيْرِ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ .

قَالَ ( وَيُكْرَهُ أَنْ يَجُرَّ الشَّاةَ إلَى مَذْبَحِهَا ) ، وَقَدْ بَيَّنَّا النَّهْيَ عَنْ ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، وَكَذَلِكَ يُكْرَهُ أَنْ يَحُدَّ الشَّفْرَةَ بَعْدَ مَا أَضْجَعَهَا ، وَقَدْ رَوَيْنَا النَّهْيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إلَّا أَنَّ النَّهْيَ لَيْسَ لِنُقْصَانٍ فِيمَا هُوَ الْمَطْلُوبُ لِلذَّبْحِ فَلَا يُوجِبُ الْحُرْمَةَ

قَالَ ( وَيُكْرَهُ أَنْ يُسَمِّيَ مَعَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى شَيْئًا فَيَقُولُ اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ مِنْ فُلَانٍ ) لِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ جَرِّدُوا التَّسْمِيَةَ ، وَلِأَنَّ الشَّرْطَ بِتَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ عِنْدَ الذَّبْحِ قُبِلَ فَمَا يَكُونُ مِنْهُ مِنْ الدُّعَاءِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ قَبْلَ الذَّبْحِ ، أَوْ بَعْدَهُ كَمَا رُوِيَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَذْبَحَ أُضْحِيَّتَهُ قَالَ اللَّهُمَّ هَذَا مِنْك وَإِلَيْك صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْت وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ بِاسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ ، ثُمَّ يَذْبَحُ } وَهَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِذَبِيحَةِ الْمُسْلِمَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ ) ؛ لِأَنَّ تَسْمِيَةَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ يَتَحَقَّقُ مِنْ النِّسَاءِ كَمَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الرِّجَالِ ، وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ الَّذِي يَعْقِلُ وَيَضْبِطُ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ تَسْمِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ ؛ وَلِهَذَا صَحَّ إسْلَامُهُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَعْقِلُ فَلَا يَتَحَقَّقُ مِنْهُ تَسْمِيَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْخُلُوصِ وَهُوَ شَرْطُ الْحِلِّ فَهَذَا لَا خَيْرَ فِي ذَبِيحَتِهِ .

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِذَبِيحَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ ) هَكَذَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُمْ يَدَّعُونَ التَّوْحِيدَ سَوَاءٌ كَانُوا أَهْلَ الذِّمَّةِ ، أَوْ أَهْلَ الْحَرْبِ ، وَإِنَّمَا أَبَاحَ الشَّارِعُ ذَبَائِحَهُمْ ؛ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ } وَالْحَرْبِيُّ وَالذِّمِّيُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ .

قَالَ ( وَذَبِيحَةُ الْأَخْرَسِ حَلَالٌ مُسْلِمًا كَانَ ، أَوْ كِتَابِيًّا ) ؛ لِأَنَّ عُذْرَهُ أَبْيَنُ مِنْ عُذْرِ النَّاسِي .
فَإِذَا كَانَ فِي حَقِّ النَّاسِي تُقَامُ مِلَّتُهُ مَقَامَ تَسْمِيَتِهِ فَفِي حَقِّ الْأَخْرَسِ أَوْلَى .

قَالَ ( وَمَا أَدْرَكْت مِنْ الْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ ، وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ وَنَظَائِرُ هَذَا فَذَكَّيْته حِلٌّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ } ) ، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا عُلِمَ أَنَّهَا كَانَتْ حَيَّةً حِينَ ذُبِحَتْ حَلَّتْ سَوَاءٌ كَانَتْ الْحَيَاةُ فِيهَا مُتَوَهَّمَةَ الْبَقَاءِ ، أَوْ غَيْرَ مُتَوَهَّمَةِ الْبَقَاءِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَسْيِيلُ الدَّمِ النَّجِسِ بِفِعْلِ ذَكَاةٍ ، وَقَدْ حَصَلَ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ كَانَ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَعِيشَ يَوْمًا ، أَوْ أَكْثَرَ تَحِلُّ بِالذَّكَاةِ ، وَفِي رِوَايَةٍ اُعْتُبِرَ تَوَهُّمُ الْبَقَاءِ أَكْثَرُ مِنْ نِصْفِ يَوْمٍ ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ ذَلِكَ اضْطِرَابُ الْمَذْبُوحِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِهِ وَعَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ إذَا نَقَرَ الذِّئْبُ بَطْنَ شَاةٍ وَأَخْرَجَ مَا فِيهَا ، ثُمَّ ذُبِحَتْ لَمْ تَحِلَّ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فَإِنَّهُ لَا يُتَوَهَّمُ أَنْ تَعِيشَ بَعْدَهَا فَمَا بَقِيَ فِيهَا إلَّا اضْطِرَابُ مَذْبُوحٍ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ .

قَالَ ( وَمَنْ ذَبَحَ شَاةً ، أَوْ غَيْرَهَا فَخَرَجَ مِنْ بَطْنِهَا جَنِينٌ مَيِّتٌ لَمْ يُؤْكَلْ الْجَنِينُ ) فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَزُفَرَ وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ وَحَكَمِ بْنِ عُيَيْنَةَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدُ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُمُ اللَّهُ يُؤْكَلُ .
إلَّا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ إنَّمَا يُؤْكَلُ الْجَنِينُ إذَا أَشْعَرَ وَتَمَّتْ خِلْقَتُهُ .
فَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُضْغَةِ فَلَا يُؤْكَلُ وَاحْتَجُّوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { وَمِنْ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا } قِيلَ الْفَرْشُ الصِّغَارُ مِنْ الْأَجِنَّةِ وَالْحَمُولَةُ الْكِبَارُ فَقَدْ مَنَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ بِأَكْلِ ذَلِكَ لَهُمْ ، وَفِي الْمَشْهُورِ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ } مَعْنَاهُ ذَكَاةُ الْأُمِّ نَائِبَةٌ عَنْ ذَكَاةِ الْجَنِينِ كَمَا يُقَالُ لِسَانُ الْوَزِيرِ لِسَانُ الْأَمِيرِ وَبَيْعُ الْوَصِيِّ بَيْعُ الْيَتِيمِ .
وَرُوِيَ ذَكَاةَ أُمِّهِ بِالنَّصْبِ وَمَعْنَاهُ بِذَكَاةِ أُمِّهِ إلَّا أَنَّهُ صَارَ مَنْصُوبًا بِنَزْعِ حَرْفِ الْخَفْضِ عَنْهُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { مَا هَذَا بَشَرًا } أَيْ بِبَشَرٍ وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ قَوْمًا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا إنَّا لِنَنْحَرَ الْجَزُورَ فَيَخْرُجَ مِنْ بَطْنِهَا جَنِينٌ مَيِّتٌ أَفَنُلْقِيهِ أَمْ نَأْكُلُهُ فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ كُلُوهُ فَإِنَّ ذَكَاةَ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ } وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الذَّكَاةَ تَنْبَنِي عَلَى التَّوَسُّعِ حَتَّى يَكُونَ فِي الْأَهْلِيِّ بِالذَّبْحِ فِي الْمَذْبَحِ .
فَإِذَا نَدَّ فَبِالْجُرْحِ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ أَصَابَهُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ وُسْعُ مِثْلِهِ وَاَلَّذِي فِي وُسْعِهِ فِي الْجَنِينِ ذَبْحُ الْأُمِّ ؛ لِأَنَّهُ مَا دَامَ مُخْبِيًا فِي الْبَطْنِ لَا يَتَأَتَّى فِيهِ فِعْلُ الذَّبْحِ مَقْصُودًا ، وَبَعْدَ الْإِخْرَاجِ لَا يَبْقَى حَيًّا فَتُجْعَلُ ذَكَاةُ الْأُمِّ ذَكَاةً لَهُ ؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَ

الذَّبْحِ فِي الْأُمِّ فِي زُهُوقِ الْحَيَاةِ عَنْ الْجَنِينِ فَوْقَ تَأْثِيرِ الْجُرْحِ بِحِلِّ رِجْلِ الصَّيْدِ فَالْغَالِبُ هُنَاكَ السَّلَامَةُ وَهُنَا الْهَلَاكُ ، ثُمَّ اُكْتُفِيَ بِذَلِكَ الْفِعْلِ ؛ لِأَنَّهُ وُسْعُ مِثْلِهِ فَهُنَا أَوْلَى ، وَلِأَنَّ الْجَنِينَ فِي حُكْمِ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْأُمِّ حَتَّى يَتَغَذَّى بِغِذَائِهَا وَيَنْمُو بِنَمَائِهَا وَيَقْطَعُ عَنْهَا بِالْمِقْرَاضِ كَمَا فِي بَيَانِ الْجُزْءِ مِنْ الْجُمْلَةِ وَيَتْبَعُهَا فِي الْأَحْكَامِ تَبَعِيَّةَ الْأَجْزَاءِ حَتَّى لَا يَجُوزَ اسْتِثْنَاءٌ فِي عُنُقِهَا وَبَيْعِهَا كَاسْتِثْنَاءِ يَدِهَا وَرِجْلِهَا وَثُبُوتُ الْحِلِّ فِي الْبَيْعِ لِوُجُودِ فِعْلِ الذَّكَاةِ فِي الْأَصْلِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَحِلُّ ذَبْحُ الشَّاةِ الْحَامِلِ ، وَلَوْ لَمْ يَحِلَّ الْجَنِينُ بِذَبْحِ الْأُمِّ لَمَا حَلَّ ذَبْحُهَا حَامِلًا لِمَا فِيهِ مِنْ إتْلَافٍ لِلْحَيَوَانِ لَا لِلْمَأْكَلَةِ وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ .
وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ اسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالْمُنْخَنِقَةُ } فَإِنَّ أَحْسَنَ أَحْوَالِهِ أَنْ يَكُونَ حَيًّا عِنْدَ ذَبْحِ الْأُمِّ فَيَمُوتُ بِاحْتِبَاسِ نَفَسِهِ ، وَهَذَا هُوَ الْمُنْخَنِقَةُ { .
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا وَقَعَتْ رَمِيَّتُكَ فِي الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّك لَا تَدْرِي أَنَّ الْمَاءَ قَتَلَهُ أَمْ سَهْمُك } فَقَدْ حَرُمَ الْأَكْلُ عِنْدَ وُقُوعِ الشَّكِّ فِي سَبَبِ زَهُوقِ الْحَيَاةِ ، وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْجَنِينِ فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَنَّهُ مَاتَ بِذَبْحِ الْأُمِّ ، أَوْ بِاحْتِبَاسِ نَفَسِهِ ، وَقَدْ يَتَأَتَّى الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فِي الْجُمْلَةِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يُتَوَهَّمُ انْفِصَالُهُ حَيًّا لِيُذْبَحَ .
وَعَلَّلَ إبْرَاهِيمُ فَقَالَ ذَكَاةُ نَفْسٍ لَا تَكُونُ ذَكَاةَ نَفْسَيْنِ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْجَنِينَ فِي حُكْمِ الْحَيَاةِ نَفْسٌ عَلَى حِدَةٍ مُودَعَةٌ فِي الْأُمِّ حَتَّى يَنْفَصِلَ حَيًّا فَيَبْقَى ، وَلَا يُتَوَهَّمُ بَقَاءُ الْجُزْءِ حَيًّا بَعْدَ الِانْفِصَالِ ، وَكَذَلِكَ بَعْدَ مَوْتِ

الْأُمِّ يُتَوَهَّمُ انْفِصَالُ الْجَنِينِ حَيًّا ، وَلَا يُتَوَهَّمُ بَقَاءُ حَيَاةِ الْجُزْءِ بَعْدَ مَوْتِ الْأَصْلِ .
وَالذَّكَاةُ تَصَرُّفٌ فِي الْحَيَاةِ .
فَإِذَا كَانَ فِي حُكْمِ الْحَيَاةِ نَفْسًا عَلَى حِدَةٍ فَيُشْتَرَطُ فِيهِ ذَكَاةٌ عَلَى حِدَةٍ ، وَلَا نَقُولُ يَتَغَذَّى بِغِذَاءِ الْأُمِّ بَلْ يُبْقِيهِ اللَّهُ تَعَالَى فِي بَطْنِ الْأُمِّ مِنْ غَيْرِ غِذَاءٍ ، أَوْ يُوَصِّلُ اللَّهُ إلَيْهِ الْغِذَاءَ كَيْف شَاءَ ، ثُمَّ بَعْدَ الِانْفِصَالِ قَدْ يَتَغَذَّى أَيْضًا بِغِذَاءِ الْأُمِّ بِوَاسِطَةِ اللَّبَنِ وَلَمْ يَكُنْ فِي حُكْمِ الْجُزْءِ وَلَمَّا جُعِلَ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ تَبَعًا لَمْ يُتَصَوَّرْ تَقَرُّرُ ذَلِكَ الْحُكْمِ فِي الْأُمِّ دُونَهُ حَتَّى لَا يُتَصَوَّرَ انْفِصَالُهُ حَيًّا بَعْدَ مَوْتِ الْأُمِّ .
وَلَوْ انْفَصَلَ حَيًّا ، ثُمَّ مَاتَ لَمْ يَحِلَّ عِنْدَهُمْ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ يُتَّبَعُ فِي هَذَا الْحُكْمِ وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِيهِ مَا بَيَّنَّا أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِالذَّكَاةِ تَسْيِيلُ الدَّمِ لِتَمْيِيزِ الطَّاهِرِ مِنْ النَّجِسِ وَبِذَبْحِ الْأُمِّ لَا يَحْصُلُ هَذَا الْمَقْصُودُ فِي الْجَنِينِ ، أَوْ الْمَقْصُودُ تَطْيِيبُ اللَّحْمِ بِالنُّضْجِ الَّذِي يَحْصُلُ بِالتَّوَقُّدِ وَالتَّلْهِيبِ ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ فِي الْجَنِينِ بِذَبْحٍ ، وَهَذَا الْجَوَابُ عَمَّا قَالُوا إنَّ الذَّكَاةَ تَنْبَنِي عَلَى التَّوَسُّعِ .
قُلْنَا نَعَمْ ، وَلَكِنْ لَا يَسْقُطُ بِالْعُذْرِ وَكَمَا لَوْ قَتَلَ الْكَلْبُ الصَّيْدَ غَمًّا ، أَوْ اخْتِفَاءً ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَا يَحْصُلُ بِدُونِ الْجُرْحِ وَإِبَاحَةُ ذَبْحِ الْحَامِلِ ؛ لِأَنَّهُ يُتَوَهَّمُ أَنْ يَنْفَصِلَ الْجَنِينُ حَيًّا فَيُذْبَحُ ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ لَحْمُ الْأُمِّ وَذَبْحُ الْحَيَوَانِ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ حَلَالٌ كَمَا لَوْ ذَبَحَ مَا لَيْسَ بِمَأْكُولٍ لِمَقْصُودِ الْجِلْدِ وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ التَّنْبِيهُ لَا النِّيَابَةُ أَيْ ذَكَاةُ الْجَنِينِ كَذَكَاةِ أُمِّهِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ ذَكَرَ الْجَنِينَ أَوَّلًا .
وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ النِّيَابَةَ لَذَكَرَ النَّائِبَ أَوَّلًا دُونَ الْمَنُوبِ عَنْهُ كَمَا قِيلَ فِي الْأَلْفَاظِ الَّتِي

اُسْتُشْهِدَ بِهَا وَمِثْلُ هَذَا يُذْكَرُ لِلتَّشْبِيهِ يُقَالُ فُلَانٌ شَبَهُ أَبِيهِ وَحَظُّ فُلَانٍ حَظُّ أَبِيهِ .
وَقَالَ الْقَائِلُ .
وَعَيْنَاك عَيْنَاهَا وَجِيدُك جِيدُهَا سِوَى أَنَّ عَظْمَ السَّاقِ مِنْك دَقِيقُ وَالْمُرَادُ التَّشْبِيهُ وَيَصِحُّ هَذَا التَّأْوِيلُ فِي الرِّوَايَةِ بِالنَّصْبِ فَإِنَّ الْمَنْزُوعَ حَرْفُ الْكَافِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ } أَيْ كَمَرِّ السَّحَابِ وَيُحْتَمَلُ الْبَاءُ أَيْضًا ، وَلَكِنْ إنْ جَعَلْنَا الْمَنْزُوعَ حَرْفَ الْكَافِ لَمْ يَحِلَّ الْجَنِينُ .
وَإِنْ جَعَلْنَاهُ حَرْفَ الْبَاءِ يَحِلُّ وَمَتَى اجْتَمَعَ الْمُوجِبُ لِلْحِلِّ وَالْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ يُغَلَّبُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ وَالْحَدِيثُ مَعَ الْقِصَّةِ لَا يَكَادُ يَصِحُّ ، وَلَوْ ثَبَتَ فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِمْ فَيَخْرُجُ مِنْ بَطْنِهَا جَنِينٌ مَيِّتٌ أَيْ مُشْرِفٌ عَلَى الْمَوْتِ قَالَ تَعَالَى { إنَّك مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ } وَمَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُوهُ أَيْ اذْبَحُوهُ وَكُلُوهُ وَالْمُرَادُ بِالْفَرْشِ الصِّغَارُ فَلَا يَتَنَاوَلُ الْجَنِينَ وَلَئِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْجِنْسَ فَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْجَنِينَ مَأْكُولٌ ، وَبِهِ نَقُولُ ، وَلَكِنْ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ فِيهِ وَهُوَ أَنْ يَنْفَصِلَ حَيًّا فَيُذْبَحَ فَيَحِلَّ بِهِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( بَابُ الْأُضْحِيَّةِ ) قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى اعْلَمْ بِأَنَّ الْقُرَبَ الْمَالِيَّةَ نَوْعَانِ نَوْعٌ بِطَرِيقِ التَّمْلِيكِ كَالصَّدَقَاتِ وَنَوْعٌ بِطَرِيقِ الْإِتْلَافِ كَالْعِتْقِ وَيَجْتَمِعُ فِي الْأُضْحِيَّةِ مَعْنَيَانِ فَإِنَّهُ تَقَرُّبٌ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ وَهُوَ إتْلَافٌ ، ثُمَّ بِالتَّصَدُّقِ بِاللَّحْمِ وَهُوَ تَمْلِيكٌ .
قَالَ ( وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْمَيَاسِيرِ وَالْمُقِيمِينَ عِنْدَنَا ) .
وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهَا سُنَّةٌ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُتِبَتْ عَلَيَّ الْأُضْحِيَّةُ وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْكُمْ } .
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { خُصِصْتُ بِثَلَاثٍ وَهِيَ لَكُمْ سُنَّةٌ الْأُضْحِيَّةُ وَصَلَاةُ الضُّحَى وَالْوِتْرُ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ضَحُّوا فَإِنَّهَا سُنَّةُ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ } عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا كَانَا لَا يُضَحِّيَانِ السَّنَةَ وَالسَّنَتَيْنِ مَخَافَةَ أَنْ يَرَاهَا النَّاسُ وَاجِبَةً .
وَقَالَ أَبُو مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لِيَغْدُوَ عَلَى أَلْفِ شَاةٍ وَيُرَاحُ فَلَا أُضَحِّي مَخَافَةَ أَنْ يَرَاهَا النَّاسُ وَاجِبَةً ، وَلِأَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى الْمُسَافِرِ وَكُلُّ دَمٍ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسَافِرِ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُقِيمِ كَالْعَتِيرَةِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ فِي الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ كَالزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَسْتَوِيَانِ فِي مِلْكِ الْمَالِ ، وَإِنَّمَا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فِي الْبَدَنِ ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ يَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ بِالْأَدَاءِ بِالْبَدَنِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنْ يَحِلَّ لَهُ التَّنَاوُلُ مِنْهُ وَإِطْعَامُ الْغَنِيِّ ، وَلَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمْ يَحِلَّ لَهُ التَّنَاوُلُ كَمَا فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ وَنَحْوِهِ ، وَلِأَنَّ التَّقَرُّبَ بِالْإِتْلَافِ لَا يَجِبُ ابْتِدَاءً بَلْ بِسَبَبٍ مِنْ الْعَبْدِ كَالْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَاتِ ، وَلِهَذَا أَوْجَبْنَا الْأُضْحِيَّةَ بِالنَّذْرِ .

وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { فَصَلِّ لِرَبِّك وَانْحَرْ } أَيْ وَانْحَرْ الْأُضْحِيَّةَ وَالْأَمْرُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ .
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ وَجَدَ سَعَةً وَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنَّ مُصَلَّانَا } وَإِلْحَاقُ الْوَعِيدِ لَا يَكُونُ إلَّا بِتَرْكِ الْوَاجِبِ .
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ ضَحَّى قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ وَمَنْ لَمْ يُضَحِّ فَلْيَذْبَحْ عَلَى اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى } وَالْأَمْرُ يُفِيدُ الْوُجُوبَ ، وَفِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ضَحُّوا أَمْرٌ وَقَوْلُهُ فَإِنَّهَا سُنَّةُ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ أَيْ طَرِيقَتُهُ فَالسُّنَّةُ الطَّرِيقَةُ فِي الدِّينِ ، وَذَلِكَ لَا يَنْفِي الْوُجُوبَ ، وَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْكُمْ فَإِنَّا نَقُولُ بِأَنَّهَا غَيْرُ مَكْتُوبَةٍ بَلْ هِيَ وَاجِبَةٌ فَالْمَكْتُوبُ مَا يَكُونُ فَرْضًا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَخْصُوصًا بِكَوْنِ الْأُضْحِيَّةِ مَكْتُوبَةً عَلَيْهِ كَمَا قَالَ .
وَتَأْوِيلُ حَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُمَا لَا يُضَحِّيَانِ فِي حَالِ الْإِعْسَارِ مَخَافَةَ أَنْ يَرَاهَا النَّاسُ وَاجِبَةً عَلَى الْمُعْسِرِينَ ، أَوْ فِي حَالِ السَّفَرِ وَهُوَ تَأْوِيلُ حَدِيثِ أَبِي مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلَا كَلَامَ فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمُقَايَسَةِ وَالْعِبَادَاتُ لَا تَثْبُتُ قِيَاسًا ، وَلَكِنْ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِدْلَالِ نَقُولُ هَذِهِ قُرْبَةٌ يُضَافُ إلَيْهَا ، وَفِيهَا فَتَكُونُ وَاجِبَةً كَالْجُمُعَةِ وَبَيَانُ الْوَصْفِ أَنَّهُ يُقَالُ يَوْمَ الْأَضْحَى وَتَأْثِيرُهُ أَنَّ إضَافَةَ الْوَقْتِ إلَيْهِ لَا تَتَحَقَّقُ إلَّا وَأَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فِيهِ ، وَلَا يَكُونُ مَوْجُودًا فِيهِ لَا مَحَالَةَ إلَّا وَأَنْ تَكُونَ وَاجِبَةً لِجَوَازِ أَنْ يَجْتَمِعَ النَّاسُ عَلَى تَرْكِ مَا لَيْسَ بِوَاجِبٍ ، وَلَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ ، وَإِنْ اجْتَمَعُوا عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فِيهِ اسْتِحْقَاقًا .
وَلِجَوَازِ

الْأَدَاءِ فِيهِ لَا يَصِيرُ الْوَقْتُ مُضَافًا إلَيْهِ كَسَائِرِ الْأَيَّامِ يَجُوزُ فِيهَا الصَّوْمُ ، ثُمَّ لَا يُسَمَّى شَهْرُ الصَّوْمِ إلَّا رَمَضَانَ فَعَرَفْنَا أَنَّ إضَافَةَ الْوَقْتِ إلَى الْقُرْبَةِ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهَا فِيهِ ، وَإِنَّمَا لَا تَجِبُ عَلَى الْمُسَافِرِ لِمَعْنَى الْمَشَقَّةِ فَإِنَّ الْأَدَاءَ يَخْتَصُّ بِأَسْبَابٍ يَشُقُّ عَلَى الْمُسَافِرِ اسْتِصْحَابُ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ وَيَفُوتُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ فَلِدَفْعِ الْمَشَقَّةِ لَا تَلْزَمُهُ كَالْجُمُعَةِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ الْمَالِيَّةِ وَإِبَاحَةُ التَّنَاوُلِ بِإِذْنِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فَإِنَّهُ بِالتَّضْحِيَةِ يَجْعَلُهَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَكُلُوا مِنْهَا } وَلَمَّا كَانَ مِنْ جِنْسِ التَّقَرُّبِ بِالتَّمْلِيكِ مَا هُوَ وَاجِبٌ ابْتِدَاءً .
فَكَذَلِكَ مِنْ جِنْسِ التَّقَرُّبِ بِالْإِتْلَافِ مَا هُوَ وَاجِبٌ ابْتِدَاءً ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إلَّا فِي الْأُضْحِيَّةِ ، وَفِي الْوُجُوبِ بِالنَّذْرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبًا شَرْعًا فَإِنَّ مَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبًا شَرْعًا لَا يَصِحُّ الْتِزَامُهُ بِالنَّذْرِ كَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ .

ثُمَّ يَخْتَصُّ جَوَازُ الْأَدَاءِ بِأَيَّامِ النَّحْرِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ عِنْدَنَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ أَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا .
فَإِذَا غَرَبَتْ الشَّمْسُ مِنْ الْيَوْمِ الثَّالِثِ لَمْ تَجُزْ التَّضْحِيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ تَجُوزُ فِي الْيَوْمِ الرَّابِعِ وَهُوَ آخِرُ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ ، وَهَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّ هَذِهِ الْقُرْبَةَ تَخْتَصُّ بِأَيَّامِ النَّحْرِ دُونَ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَفْضَلَ أَدَاؤُهَا فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْعَاشِرُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ لَا أَيَّامُ التَّشْرِيقِ عَلَى مَا قِيلَ الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ ثَلَاثَةٌ وَهِيَ أَيَّامُ النَّحْرِ وَالْمَعْلُومَاتُ ثَلَاثَةٌ وَهِيَ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ .
وَتَمْضِي هَذِهِ السُّنَّةُ فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ فَالْيَوْمُ الْأَوَّلُ مِنْ الْمَعْدُودَاتِ خَاصَّةً وَالْيَوْمُ الْآخَرُ مِنْ الْمَعْلُومَاتِ خَاصَّةً وَقِيلَ الْمَعْلُومَاتُ عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ وَالْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ التَّشْرِيقِ .

ثُمَّ يَخْتَصُّ جَوَازُ الْأُضْحِيَّةِ بِالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ ، وَلَا يُجْزِئُهُ إلَّا الثَّنِيُّ مِنْ ذَلِكَ فِي الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْمَعْزِ وَيُجْزِئ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ إذَا كَانَ عَظِيمًا سَمِينًا لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ { ضَحُّوا بِالثَّنِيَّاتِ ، وَلَا تُضَحُّوا بِالْجِذْعَانِ } ، وَلِأَنَّ الْجَذَعَ نَاقِصٌ ، وَقَدْ أُمِرْنَا فِي الضَّحَايَا بِالِاسْتِعْظَامِ وَالِاسْتِشْرَافِ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { عَظِّمُوا ضَحَايَاكُمْ فَإِنَّهَا عَلَى الصِّرَاطِ مَطَايَاكُمْ } .
فَأَمَّا الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ يُجْزِئُ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا سَاقَ جَذَعًا إلَى مِنًى فَبَادَتْ عَلَيْهِ فَرَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { نِعْمَتْ الْأُضْحِيَّةُ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ فَانْتَهِبُوهَا } ، ثُمَّ الثَّنِيُّ مِنْ الْغَنَمِ وَهُوَ الَّذِي تَمَّ لَهُ سَنَتَانِ عِنْدَ أَهْلِ الْأَدَبِ ، وَعِنْدَ أَهْلِ الْفِقْهِ الَّذِي تَمَّتْ لَهُ سَنَةٌ وَالثَّنِيُّ مِنْ الْبَقَرِ الَّذِي تَمَّ لَهُ حَوْلَانِ وَطَعَنَ فِي الثَّالِثِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَمِنْ الْإِبِلِ الَّذِي تَمَّ لَهُ خَمْسُ سِنِينَ وَالْجَذَعُ مِنْ الْإِبِلِ مَا تَمَّ لَهُ خَمْسُ سِنِينَ وَمِنْ الْبَقَرِ مَا تَمَّ لَهُ حَوْلَانِ وَهَكَذَا مِنْ الْغَنَمِ عِنْدَ أَهْلِ الْأَدَبِ ، وَعِنْدَ أَهْلِ الْفِقْهِ إذَا تَمَّ لَهُ سَبْعَةُ أَشْهُرٍ فَهُوَ جَذَعٌ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْجَذَعَ مِنْ الْمَعْزِ لَا يَجُوزُ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنْ الضَّأْنِ خَاصَّةً .

ثُمَّ أَوَّلُ وَقْتِ الْأُضْحِيَّةِ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إلَّا أَنَّ فِي حَقِّ أَهْلِ الْأَمْصَارِ يُشْتَرَطُ تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ عَلَى الْأُضْحِيَّةِ .
فَمَنْ ضَحَّى قَبْلَ الصَّلَاةِ فِي الْمِصْرِ لَا تُجْزِئُهُ لِعَدَمِ الشَّرْطِ لَا لِعَدَمِ الْوَقْتِ ؛ وَلِهَذَا جَازَتْ التَّضْحِيَةُ فِي الْقُرَى بَعْدَ انْشِقَاقِ الْفَجْرِ وَدُخُولُ الْوَقْتِ لَا يَخْتَلِفُ فِي حَقِّ أَهْلِ الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى إنَّمَا يَخْتَلِفُونَ فِي وُجُوبِ الصَّلَاةِ فَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى صَلَاةُ الْعِيدِ ، وَإِنَّمَا عَرَفْنَا هَذَا فِي حَقِّ أَهْلِ الْأَمْصَارِ بِحَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي خُطْبَتِهِ { مَنْ ضَحَّى قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ فَقَامَ خَالِي أَبُو بُرْدَةَ بْنُ بَشَّارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ إنِّي عَجَّلْت نَسِيكَتِي لِأُطْعِمَ أَهْلِي وَجِيرَانِي فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ تِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ فَأَعِدْ نَسِيكَتَك فَقَالَ عِنْدِي عَتُودٌ خَيْرٌ مِنْ شَاتَيْنِ فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ تُجْزِئُك ، وَلَا تُجْزِئُ أَحَدًا بَعْدَك } .
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ أَوَّلَ نُسُكِنَا فِي هَذَا الْيَوْمِ أَنْ نُصَلِّيَ ، ثُمَّ نَذْبَحَ }

وَمَنْ يَذْبَحُ مِنْ أَهْلِ الْأَمْصَارِ أُضْحِيَّتَهُ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ الْإِمَامُ لَمْ تُجْزِهِ عِنْدَنَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا مَضَى مِنْ الْوَقْتِ مِقْدَارُ مَا يُصَلَّى فِيهِ صَلَاةُ الْعِيدِ عَادَةً جَازَتْ الْأُضْحِيَّةُ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ صَلُّوا جَازَتْ التَّضْحِيَةُ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ بِتَأْخِيرِ الْإِمَامِ الصَّلَاةَ كَمَا لَوْ زَالَتْ الشَّمْسُ ، وَلَكِنْ نَقُولُ الْوَاجِبُ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ الْمَنْصُوصِ ، وَمَا بَقِيَ وَقْتُ الصَّلَاةِ فَمُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ مُمْكِنٌ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ فَقَدْ خَرَجَ وَقْتُ صَلَاةِ الْعِيدِ بِزَوَالِ الشَّمْسِ فِي هَذَا الْيَوْمِ ؛ وَلِهَذَا تَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ .

قَالَ ( وَإِذَا ذَبَحَهَا بَعْدَ مَا انْصَرَفَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ أَهْلُ الْجَبَّانَةِ أَجْزَأَهُ اسْتِحْسَانًا ) وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَخْرُجَ بِالنَّاسِ إلَى الْجَبَّانَةِ وَيَسْتَخْلِفَ مَنْ يُصَلِّي بِالضَّعَفَةِ فِي الْجَامِعِ .
هَكَذَا فَعَلَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ حِينَ قَدِمَ الْكُوفَةَ

قَالَ ( وَإِذَا ذَبَحَ بَعْدَ مَا فَرَغَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ أَهْلُ الْجَبَّانَةِ فَفِي الْقِيَاسِ لَا تُجْزِئُهُ ) ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ جَانِبِ أَهْلِ الْجَبَّانَةِ يَمْنَعُ الْجَوَازَ وَاعْتِبَارُ جَانِبِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ يُجَوِّزُ ذَلِكَ ، وَفِي الْعِبَادَاتِ يُؤْخَذُ بِالِاحْتِيَاطِ ، وَلَكِنَّا اسْتَحْسَنَّا وَقُلْنَا قَدْ أُدِّيَتْ صَلَاةُ الْعِيدِ فِي الْمِصْرِ حَتَّى لَوْ اكْتَفَوْا بِذَلِكَ أَجْزَأَهُمْ فَتَجُوزُ التَّضْحِيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ الْمَشْرُوطَ قَدْ وُجِدَ حِينَ ضَحَّى بَعْدَ صَلَاةِ الْعِيدِ فِي هَذَا الْمِصْرِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا لَوْ سَبَقَ أَهْلُ الْجَبَّانَةِ بِالصَّلَاةِ فَضَحَّى رَجُلٌ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ .
وَقِيلَ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ يَجُوزُ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّ الْمَسْنُونَ فِي الْعِيدِ الْخُرُوجُ إلَى الْجَبَّانَةِ فَأَهْلُ الْجَبَّانَةِ هُمْ الْأَصْلُ ، وَقَدْ صَلَّوْا وَقِيلَ لِلْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ فِيهِمَا ؛ لِأَنَّ أَدَاءَ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ مِنْهُ بِالْجَبَّانَةِ وَإِذَا كَانَ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ أَهْلُ الْمَسْجِدِ قِيَاسًا وَاسْتِحْسَانًا لِمَا ذَكَرْنَا فَهُنَا أَوْلَى .

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُضَحِّيَ بِالْجَمَّاءِ وَبِمَكْسُورِ الْقَرْنِ ) أَمَّا الْجَمَّاءُ فَلِأَنَّ مَا فَاتَ مِنْهَا غَيْرُ مَقْصُودٍ ؛ لِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ مِنْ الْإِبِلِ أَفْضَلُ ، وَلَا قَرْنَ لَهُ .
وَإِذَا ثَبَتَ جَوَازُ الْجَمَّاءِ فَمَكْسُورُ الْقَرْنِ أَوْلَى ، وَقَدْ رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ .
وَكَذَلِكَ الْخَصِيُّ لِمَا رُوِيَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ مَوْجُوءَيْنِ ، أَوْ مَوْحُوَيْنِ أَحَدَهُمَا عَنْ نَفْسِهِ وَالْآخَرَ عَنْ أُمَّتِهِ } .
وَالْمُرَادُ خَصِيَّانِ وَكَانَ إبْرَاهِيمُ يَقُولُ مَا يُزَادُ فِي لَحْمِهِ بِالْخِصَاءِ أَنْفَعُ لِلْمَسَاكِينِ مِمَّا يَفُوتُ بِالْأُنْثَيَيْنِ إذْ لَا مَنْفَعَةَ لِلْفُقَرَاءِ فِي ذَلِكَ .

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ أَنْ يُضَحِّيَ بِالْجَرْبَاءِ وَالتَّوْلَاءِ إذَا كَانَتْ سَمِينَةً ) وَالْجَرْبَاءُ الَّتِي بِهَا جَرَبٌ .
وَإِذَا كَانَتْ سَمِينَةً فَالْجَرَبُ فِي جِلْدِهَا لَا فِي لَحْمِهَا { وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُضَحَّى بِالْعَجْفَاءِ الَّتِي لَا تُنْقِي } .
وَالتَّوْلَاءُ هِيَ الْمَجْنُونَةُ وَالْجُنُونُ عَيْبٌ فِي الْقُضَاةِ لَا فِي الشَّاةِ .
فَإِذَا كَانَتْ سَمِينَةً فَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا بَاقٍ وَاشْتِرَاطُ السَّمْنِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَيْنَا أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ يَرْعَيَانِ فِي سَوَادٍ وَيَنْظُرَانِ فِي سَوَادٍ وَيَأْكُلَانِ فِي سَوَادٍ } وَمَقْصُودُ الرَّاوِي مِنْ هَذِهِ الْمُبَالَغَةِ بَيَانُ السَّمْنِ .

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِكَ سَبْعَةُ نَفَرٍ فِي بَقَرَةٍ ، أَوْ بَدَنَةٍ ) .
وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يَجُوزُ عَنْ أَهْلِ بَيْتٍ وَاحِدٍ بَقَرَةٌ وَاحِدَةٌ ، وَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةٍ ، وَلَا تَجُوزُ عَنْ أَهْلِ بَيْتَيْنِ ، وَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ مِنْ سَبْعَةٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { عَلَى أَهْلِ كُلِّ بَيْتٍ فِي كُلِّ عَامٍ أَضْحَاةٌ وَعَتِيرَةٌ } وَمَذْهَبُنَا مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَحُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَالِاسْتِدْلَالُ بِحَدِيثِ { جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ اشْتَرَكْنَا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي الْبَقَرَةِ وَالْبَدَنَةِ فَأَجَازَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ وَالْبَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ } وَالْمُرَادُ بِذِكْرِ أَهْلِ الْبَيْتِ قَيِّمُ الْبَيْتِ ؛ لِأَنَّ الْيَسَارَ لَهُ عَادَةً .
وَقَدْ ذُكِرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ { عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي كُلِّ عَامٍ أَضْحَاةٌ وَعَتِيرَةٌ } وَيَسْتَوِي إنْ كَانَ قَصْدُهُمْ جَمِيعًا التَّضْحِيَةَ ، أَوْ قَصَدَ بَعْضُهُمْ قُرْبَةً أُخْرَى عِنْدَنَا ، وَعِنْدَ زُفَرَ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا قَصَدُوا جَمِيعًا التَّضْحِيَةَ .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يَجُوزُ ، وَإِنْ كَانَ قَصْدُ بَعْضِهِمْ لِلَّحْمِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْمَنَاسِكِ .
فَإِنْ كَانَ الشُّرَكَاءُ فِي الْبَدَنَةِ ثَمَانِيَةً لَمْ تُجْزِهِمْ ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دُونَ السُّبْعِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ نَصِيبُ أَحَدِهِمْ دُونَ السُّبْعِ حَتَّى لَوْ سُئِلَ عَنْ رَجُلٍ مَاتَ وَتَرَكَ ابْنًا وَامْرَأَةً وَبَقَرَةً وَضَحَّى بِهَا يَوْمَ الْعِيدِ هَلْ يَجُوزُ وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْمَرْأَةِ الثُّمُنُ .
فَإِذَا لَمْ يَجُزْ ثُمُنُهَا فِي نَصِيبِهَا لَا يَجُوزُ فِي نَصِيبِ الِابْنِ أَيْضًا .

فَإِنْ مَاتَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ فِي الْبَدَنَةِ وَرَضِيَ وَرَثَتُهُ بِالتَّضْحِيَةِ بِهَا عَنْ الْمَيِّتِ مَعَ الشُّرَكَاءِ فِي الْقِيَاسِ لَا يَجُوزُ وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ نَصِيبَ الْمَيِّتِ صَارَ مِيرَاثًا وَالتَّضْحِيَةُ تَقَرُّبٌ بِطَرِيقِ الْإِتْلَافِ فَلَا يَصِحُّ التَّبَرُّعُ بِهِ مِنْ الْوَارِثِ عَنْ الْمَيِّتِ كَالْعِتْقِ .
وَإِذَا لَمْ يَجُزْ فِي نَصِيبِهِ لَمْ يَجُزْ فِي نَصِيبِ الشُّرَكَاءِ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ حَصَلَ فِي إرَاقَةِ الدَّمِ فَإِنَّ التَّبَرُّعَ مِنْ الْوَارِثِ عَنْ مُورِثِهِ بِالْقُرَبِ الْمَالِيَّةِ صَحِيحٌ كَالتَّصَدُّقِ ، وَإِنَّمَا لَا يَجُوزُ الْعِتْقُ لِمَا فِيهِ مِنْ إلْزَامِ الْوَلَاءِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْأُضْحِيَّةِ

وَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ أُمَّ وَلَدٍ ضَحَّى عَنْهَا مَوْلَاهُ ، أَوْ صَغِيرًا ضَحَّى عَنْهُ أَبُوهُ ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى الْمَوْلَى أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ مَمَالِيكِهِ فَإِنْ تَبَرَّعَ بِذَلِكَ جَازَ .
وَإِذَا جَعَلَهُ شَرِيكًا فِي الْبَدَنَةِ فَفِيهِ قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ لِمَا بَيَّنَّا .

وَأَمَّا الْأَبُ لَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ وَلَدِهِ الصِّغَارِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ وَرَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْهُ فَكَمَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ نَفْسِهِ عِنْدَ يَسَارِهِ .
فَكَذَلِكَ عَنْ جُزْئِهِ .
وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ مَا لَا يَلْزَمُهُ عَنْ مَمْلُوكِهِ لَا يَلْزَمُهُ عَنْ وَلَدِهِ كَسَائِرِ الْقُرَبِ بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَسَبَهُ ، وَلَوْ كَانَتْ التَّضْحِيَةُ عَنْ أَوْلَادِهِ وَاجِبَةً لَأَمَرَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُقِلَ ذَلِكَ كَمَا أَمَرَ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ .
وَإِنْ كَانَ لِلصَّبِيِّ مَالٌ فَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الْأَبِ وَالْوَصِيِّ أَنْ يُضَحِّيَ مِنْ مَالِهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى قِيَاسِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ ذَلِكَ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَهُ مِنْ مَالِهِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ الْمَقْصُودُ الْإِتْلَافَ فَالْأَبُ لَا يَمْلِكُهُ فِي مَالِ الْوَلَدِ كَالْعِتْقِ ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْصُودُ التَّصَدُّقَ بِاللَّحْمِ بَعْدَ إرَاقَةِ الدَّمِ فَذَاكَ تَطَوُّعٌ غَيْرُ وَاجِبٍ وَمَالُ الصَّبِيِّ لَا يَحْتَمِلُ صَدَقَةَ التَّطَوُّعِ .

قَالَ ( وَإِذَا اشْتَرَى أُضْحِيَّةً ، ثُمَّ بَاعَهَا فَاشْتَرَى مِثْلَهَا فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ ) ؛ لِأَنَّ بِنَفْسِ الشِّرَاءِ لَا تَتَعَيَّنُ الْأُضْحِيَّةُ قَبْلَ أَنْ يُوجِبَهَا ، وَبَعْدَ الْإِيجَابِ يَجُوزُ بَيْعُهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَيُكْرَهُ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ لِتَعَلُّقِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِعَيْنِهَا ، وَلَكِنَّهُمَا يَقُولَانِ تَعَلُّقُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى بِهَا لَا يُزِيلُ مِلْكَهُ عَنْهَا ، وَلَا يُعْجِزُهُ عَنْ تَسْلِيمِهَا وَجَوَازُ الْبَيْعِ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ أَلَا تَرَى أَنَّا نُجَوِّزُ بَيْعَ مَالِ الزَّكَاةِ لِهَذَا .
وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ { النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ دَفَعَ دِينَارًا إلَى حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِيَشْتَرِيَ لَهُ شَاةً لِلْأُضْحِيَّةِ فَاشْتَرَى شَاةً ، ثُمَّ بَاعَهَا بِدِينَارَيْنِ ، ثُمَّ اشْتَرَى شَاةً بِدِينَارٍ وَجَاءَ بِالشَّاةِ وَالدِّينَارِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ .
فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَارَكَ اللَّهُ فِي صَفْقَتِك أَمَّا الشَّاةُ فَضَحِّ بِهَا وَأَمَّا الدِّينَارُ فَتَصَدَّقْ بِهِ } فَقَدْ جَوَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَهُ بَعْدَ مَا اشْتَرَاهَا لِلْأُضْحِيَّةِ ، وَإِنْ كَانَتْ الثَّانِيَةُ شَرًّا مِنْ الْأُولَى ، وَقَدْ كَانَ أَوْجَبَ الْأُولَى فَتَصَدَّقَ بِالْفَضْلِ فِيمَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ أَمَّا جَوَازُ الثَّانِيَةِ عَنْ الْأُضْحِيَّةِ فَلِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْجَوَازِ وَأَمَّا التَّصَدُّقُ فَإِنَّهُ لَمَّا أَوْجَبَ الْأُولَى فَقَدْ جَعَلَ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ مَالِهِ لِلَّهِ تَعَالَى فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُسْتَفْضَلَ شَيْئًا مِنْهُ لِنَفْسِهِ فَيَتَصَدَّقَ بِفَضْلِ الْقِيمَةِ كَمَا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالتَّصَدُّقِ بِالدِّينَارِ .
وَمِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ قَالَ هَذَا إذَا كَانَ فَقِيرًا أَمَّا إذَا كَانَ غَنِيًّا مِمَّنْ

يَجِبُ عَلَيْهِ الْأُضْحِيَّةُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِفَضْلِ الْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ فِي حَقِّ الْغَنِيِّ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ بِإِيجَابِ الشَّرْعِ فَلَا يَتَعَيَّنُ بِتَعْيِينِهِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ هَلَكَتْ بَقِيَتْ الْأُضْحِيَّةُ عَلَيْهِ .
فَإِذَا كَانَ مَا يُضَحِّي بِهِ مَحَلًّا صَالِحًا لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ آخَرُ وَأَمَّا الْفَقِيرُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ أُضْحِيَّةٌ شَرْعًا ، وَإِنَّمَا لَزِمَهُ بِالْتِزَامِهِ فِي هَذَا الْمَحِلِّ بِعَيْنِهِ ؛ وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَتْ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ آخَرُ .
فَإِذَا اسْتَفْضَلَ لِنَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا الْتَزَمَهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ .
قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ وَالْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ الْجَوَابَ فِيهِمَا سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ ، وَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً عَلَى الْغَنِيِّ فِي ذِمَّتِهِ فَهُوَ مُتَمَكِّنٌ مِنْ تَعْيِينِ الْوَاجِبِ فِي مَحَلٍّ فَيَتَعَيَّنُ بِتَعْيِينِهِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ مِنْ حَيْثُ قَدْرِ الْمَالِيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ تَعْيِينٌ مُقَيَّدٌ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَتَعَيَّنُ مِنْ حَيْثُ فَرَاغِ الذِّمَّةِ .

قَالَ ( وَالْأُضْحِيَّةُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ التَّصَدُّقِ بِمِثْلِ ثَمَنِهَا ) وَالْمُرَادُ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ التَّقَرُّبُ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالتَّصَدُّقِ بِالْقِيمَةِ فَفِي حَقِّ الْمُوسِرِ الَّذِي يَلْزَمُهُ ذَلِكَ لَا إشْكَالَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِقِيمَتِهِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَا قِيمَةَ لِإِرَاقَةِ الدَّمِ وَإِقَامَةُ الْمُتَقَوِّمِ مُقَامَ مَا لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ لَا تَجُوزُ وَإِرَاقَةُ الدَّمِ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَا وَجْهَ لِلتَّعْلِيلِ فِيمَا هُوَ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَأَشَرْنَا بِهَذَا إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَالزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَأَمَّا فِي حَقِّ الْفَقِيرِ التَّضْحِيَةُ أَفْضَلُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ التَّقَرُّبِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ وَالتَّصَدُّقِ ، وَلِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْ التَّقَرُّبِ بِالتَّصَدُّقِ فِي سَائِرِ الْأَوْقَاتِ ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّقَرُّبِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ إلَّا فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ فَكَانَ أَفْضَلَ وَأَمَّا بَعْدَ مُضِيِّ أَيَّامِ النَّحْرِ فَقَدْ سَقَطَ مَعْنَى التَّقَرُّبِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ قُرْبَةً إلَّا فِي مَكَان مَخْصُوصٍ وَهُوَ الْحَرَمُ ، وَفِي زَمَانٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ أَيَّامُ النَّحْرِ .
وَلَكِنْ يَلْزَمُهُ التَّصَدُّقُ بِقِيمَةِ الْأُضْحِيَّةِ إذَا كَانَ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْأُضْحِيَّةُ ؛ لِأَنَّ تَقَرُّبَهُ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ كَانَ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ فَيَبْقَى بَعْدَ مُضِيِّهَا وَالتَّقَرُّبُ بِالْمَالِ فِي غَيْرِ أَيَّامِ النَّحْرِ يَكُونُ بِالتَّصَدُّقِ ، وَلِأَنَّهُ كَانَ يَتَقَرَّبُ بِسَبَبَيْنِ إرَاقَةِ الدَّمِ وَالتَّصَدُّقِ بِاللَّحْمِ ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ أَحَدِهِمَا وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْآخَرِ فَيَأْتِي بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ .

قَالَ ( وَلَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ أَوْلَادِهِ الْكِبَارِ ، وَلَا عَنْ امْرَأَتِهِ كَمَا لَيْسَ عَلَيْهِ صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَنْهُمْ فِي يَوْمِ الْفِطْرِ ) ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُضَحُّوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْهُمْ .

قَالَ ( وَإِذَا وَلَدَتْ الْأُضْحِيَّةُ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَهَا ذَبَحَ وَلَدَهَا مَعَهَا ) ؛ لِأَنَّ حُكْمَ التَّقَرُّبِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ ثَبَتَ فِي عَيْنِهَا فَيَسْرِي إلَى وَلَدِهَا ؛ لِأَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ عَيْنِهَا وَالْوَلَدُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَحِلًّا لِلتَّقَرُّبِ بِإِرَاقَةِ الدَّمِ مَقْصُودًا يَثْبُتُ الْحُكْمُ فِيهِ تَبَعًا لِلْأُمِّ ، وَلِأَنَّ الشَّرَائِطَ تُعْتَبَرُ فِيمَا هُوَ أَصْلٌ وَوُجُودُهَا فِي الْأَصْلِ يُغْنِي عَنْ اعْتِبَارِهَا فِي الْبَيْعِ فَإِنْ بَاعَهُ تَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْقُرْبَةِ يَثْبُتُ فِيهِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَصْرِفَ مَالِيَّتَهُ إلَى نَفْسِهِ كَمَا فِي حَقِّ الْأُمِّ ، وَكَذَلِكَ إنْ أَمْسَكَ وَلَدَهَا حَتَّى مَضَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ تَصَدَّقَ بِهِ .

قَالَ الْإِمَامُ وَيُكْرَهُ أَنْ يَجُزَّ صُوفَ أُضْحِيَّتِهِ وَيَنْتَفِعَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَهَا ؛ لِأَنَّهُ أَعَدَّهَا لِلْقُرْبَةِ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَصْرِفَ شَيْئًا مِنْهَا إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الرُّجُوعِ فِي الصَّدَقَةِ { .
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيمَا دُونَ هَذَا لَا تَعُدْ فِي صَدَقَتِك } .

قَالَ ( وَيُكْرَهُ أَنْ يَبِيعَ جِلْدَ الْأُضْحِيَّةِ بَعْدَ الذَّبْحِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ بَاعَ جِلْدَ أُضْحِيَّتِهِ فَلَا أُضْحِيَّةَ لَهُ .
وَقَالَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِجِلَالِهَا وَخَطْمِهَا ، وَلَا تُعْطِ الْجَزَّارَ مِنْهَا شَيْئًا } فَكَمَا يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ جِلْدَهَا الْجَزَّارَ .
فَكَذَلِكَ يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْجِلْدَ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ تَصَدَّقَ بِثَمَنِهِ كَمَا لَوْ بَاعَ شَيْئًا مِنْ لَحْمِهَا .

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَشْتَرِيَ بِجِلْدِ الْأُضْحِيَّةِ مَتَاعًا لِلْبَيْتِ ) ؛ لِأَنَّهُ لَوْ دَبَغَهُ وَانْتَفَعَ بِهِ فِي بَيْتِهِ جَازَ ، وَكَذَلِكَ إذَا اشْتَرَى بِهِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ فِي بَيْتِهِ ؛ لِأَنَّ لِلْبَدَلِ حُكْمَ الْمُبْدَلِ ، وَهَذَا اسْتِحْسَانٌ ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي نَوَادِرِ هِشَامٍ قَالَ يَشْتَرِي بِهِ الْغِرْبَالَ وَالْجِرَابَ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، وَلَا يَشْتَرِي بِهِ الْخَلَّ وَالْمَرِيَّ وَالْمِلْحَ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ وَالْقِيَاسُ فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ مَا يَكُونُ طَرِيقُ الِانْتِفَاعِ بِهِ تَنَاوُلُ الْعَيْنِ فَهُوَ مِنْ بَابِ التَّصَرُّفِ عَلَى قَصْدِ التَّمَوُّلِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي جِلْدِ الْأُضْحِيَّةِ ، وَمَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْبَيْتِ مَعَ بَقَاءِ الْعَيْنِ فَهُوَ نَظِيرُ عَيْنِ الْجِلْدِ وَكَانَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ .

قَالَ ( وَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَحْلُبَ الْأُضْحِيَّةَ إذَا كَانَ لَهَا لَبَنٌ فَيَنْتَفِعُ بِلَبَنِهَا كَمَا يُكْرَهُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِصُوفِهَا ) ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ يَتَوَلَّدُ مِنْ عَيْنِهَا ، وَقَدْ جَعَلَهَا لِلْقُرْبَةِ فَلَا يَصْرِفُ شَيْئًا مِنْهَا إلَى مَنْفَعَةِ نَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ، وَلَكِنَّهُ يَنْضَحُ ضَرْعَهَا بِالْمَاءِ الْبَارِدِ حَتَّى يَتَقَلَّصَ مِنْهُ اللَّبَنُ ، وَلَا يَتَأَدَّى بِهِ إلَّا أَنَّ هَذَا إنَّمَا يَنْفَعُ إذَا كَانَ يُقَرِّبُ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ بِالْبُعْدِ فَلَا يُفِيدُ هَذَا ؛ لِأَنَّهُ يَنْزِلُ ثَانِيًا وَثَالِثًا بَعْدَ مَا يَتَقَلَّصُ ، وَلَكِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَحْلُبَهَا وَيَتَصَدَّقَ بِاللَّبَنِ كَالْهَدْيِ إذَا عَطِبَتْ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ فَإِنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَذْبَحَهَا وَيَتَصَدَّقَ بِلَحْمِهَا ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الْمَنَاسِكِ .

قَالَ ( وَإِنْ اشْتَرَى بَقَرَةً يُرِيدُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ ، ثُمَّ اشْتَرَكَ مَعَهُ سِتَّةٌ أَجْزَأَهُ اسْتِحْسَانًا ) ، وَفِي الْقِيَاس لَا يُجْزِئُهُ وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ أَعَدَّهَا لِلْقُرْبَةِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَبِيعَ شَيْئًا مِنْهَا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى قَصْدِ التَّمَوُّلِ وَالِاشْتِرَاكُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ هَذَا رُجُوعٌ مِنْهُ عَنْ بَعْضِ مَا تَقَرَّبَ بِهِ ، وَذَلِكَ حَرَامٌ شَرْعًا .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُ لَوْ أَشْرَكَهُمْ مَعَهُ فِي الِابْتِدَاءِ بِأَنْ اشْتَرَوْا جُمْلَةً جَازَ .
فَكَذَلِكَ إذَا أَشْرَكَهُمْ بَعْدَ الشِّرَاءِ قَبْلَ إتْمَامِ الْمَقْصُودِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُبْتَلَى بِهَذَا فَإِنَّهُ قَدْ يَجِدُ بَقَرَةً سَمِينَةً فَيَشْتَرِيهَا ، ثُمَّ يَطْلُبُ شُرَكَاءَهُ فِيهَا فَلَوْ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ أَدَّى إلَى الْحَرَجِ .
قَالَ ( وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَشْتَرِيَ كَانَ أَحْسَنَ ) ؛ لِأَنَّهُ أَبْعَدُ عَنْ الِاخْتِلَافِ ، وَلَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الرُّجُوعِ فِي الْقُرْبَةِ لَا صُورَةً ، وَلَا مَعْنًى فَكَانَ ذَلِكَ أَفْضَلَ .

قَالَ ( وَلَا تَجُوزُ الْعَوْرَاءُ فِي الْأُضْحِيَّةِ ) لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { اسْتَشْرِفُوا الْعَيْنَ وَالْأُذُنَ } ، وَفِي حَدِيثِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُضَحِّيَ بِأَرْبَعَةٍ الْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا وَالْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ عَرَجُهَا وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِي } ، ثُمَّ الْأَصْلُ أَنَّ الْعَيْبَ الْفَاحِشَ مَانِعٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { ، وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } وَالْيَسِيرُ مِنْ الْعَيْبِ غَيْرُ مَانِعٍ ؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَ قَلَّمَا يَنْجُو مِنْ الْعَيْبِ الْيَسِيرِ فَالْيَسِيرُ مَا لَا أَثَرَ لَهُ فِي لَحْمِهَا وَلِلْعَوَرِ أَثَرٌ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُبْصِرُ بِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الْعَلَفِ مَا يُبْصِرُ بِالْعَيْنَيْنِ ، وَعِنْدَ قِلَّةِ الْعَلَفِ يَتَبَيَّنُ الْعَجَفُ ، ثُمَّ الْعَيْنُ وَالْأُذُنُ مَنْصُوصٌ عَلَى اعْتِبَارِهَا .
فَإِذَا كَانَتْ مَقْطُوعَةَ الْأُذُنِ لَمْ تَجُزْ لِانْعِدَامِ شَرْطٍ مَنْصُوصٍ .
وَإِذَا كَانَتْ مَقْطُوعَةَ الطَّرَفِ .
فَكَذَلِكَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى .
قَالَ ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْطُوعُ بَعْضَ ذَلِكَ فَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ إنْ كَانَ الْمَقْطُوعُ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ لَا يُجْزِئُهُ ، وَإِنْ كَانَ الثُّلُثَ ، أَوْ أَقَلَّ يُجْزِئُهُ وَهَكَذَا رَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ اعْتِبَارًا بِالْوَصِيَّةِ فَإِنَّ الثُّلُثَ فِي الْوَصِيَّةِ كَمَا دُونَهُ ، وَلَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ ، وَفِي رِوَايَةِ بِشْرٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا كَانَ الذَّاهِبُ أَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ يَجُوزُ ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ لَا يَجُوزُ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { الثُّلُثُ وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ } ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ شُجَاعٍ إذَا كَانَ الذَّاهِبُ الرُّبُعَ لَا يُجْزِئُ ؛ لِأَنَّ لِلرُّبُعِ حُكْمَ الْكَمَالِ .
كَمَا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا بَقِيَ الْأَكْثَرُ مِنْ

الْعَيْنِ وَالْأُذُنِ أَجْزَأَهُ قَالَ وَذَكَرْت قَوْلِي لِأَبِي حَنِيفَةَ فَقَالَ قَوْلِي قَوْلُك .
قِيلَ هَذَا رُجُوعٌ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ إلَى قَوْلِهِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ قَوْلِي قَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ الْقِلَّةَ وَالْكَثْرَةَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُقَابَلَةِ .
فَإِذَا كَانَ الذَّاهِبُ أَقَلَّ مِنْ النِّصْفِ قُلْنَا إذَا قَابَلْتَ الذَّاهِبَ بِالْبَاقِي كَانَ الْبَاقِي أَكْثَرَ .
وَإِذَا كَانَ الذَّاهِبُ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ .
فَإِذَا قَابَلْتَهُ بِالْبَاقِي كَانَ الذَّاهِبُ أَكْثَرَ .
فَإِذَا كَانَ الذَّاهِبُ النِّصْفَ قَالَ لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى الْمَانِعُ وَالْمُجَوِّزُ يَتَرَجَّحُ الْمَانِعُ احْتِيَاطًا .

فَأَمَّا الشِّقُّ فِي الْأُذُنِ فَهُوَ عَيْبٌ يَسِيرٌ أَلَا تَرَى أَنَّهُ يُفْعَلُ ذَلِكَ لِلْعَلَامَةِ بِمَنْزِلَةِ السِّمَةِ فَلَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ وَمِنْ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ لَا يُجَوِّزُ لِمَا رُوِيَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى أَنْ يُضَحِّيَ بِالشَّرْقَاءِ وَالْخَرْقَاءِ وَالْمُقَابَلَةِ وَالْمُدَابَرَةِ } .
فَالشَّرْقَاءُ أَنْ يَكُونَ الْخَرْقُ فِي أُذُنِهَا طُولًا وَالْخَرْقَاءُ أَنْ يَكُونَ عَرْضًا وَالْمُقَابَلَةُ قَطْعٌ فِي مُقَدَّمِ أُذُنِهَا وَالْمُدَابَرَةُ فِي مُؤَخَّرِ أُذُنِهَا وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ عِنْدَنَا إذَا كَانَتْ بَعْضُ الْأُذُنِ مَقْطُوعَةً وَكَانَ الذَّاهِبُ أَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ لِمَا بَيَّنَّا

فَأَمَّا الْعَرْجَاءُ إذَا كَانَتْ تَمْشِي فَلَا بَأْسَ بِهِ { ؛ لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ سُئِلَ عَنْ الْعَرْجَاءِ فَقَالَ إذَا كَانَتْ تَبْلُغُ فَلَا بَأْسَ بِهِ } .
فَإِذَا كَانَتْ لَا تَقُومُ ، وَلَا تَمْشِي لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَثِّرُ فِي لَحْمِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْلِفُ إلَّا مَا حَوْلَهَا .
وَإِذَا كَانَتْ تَمْشِي فَهِيَ تَذْهَبُ إلَى الْعَلَفِ فَلَا يُؤَثِّرُ فِي لَحْمِهَا .

، وَلَا تُجْزِئُ الْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِي لِلنَّهْيِ الَّذِي رَوَيْنَا ، وَلِأَنَّ هَذَا عَيْبٌ فَاحِشٌ أَثَّرَ فِي لَحْمِهَا وَيَسْتَوِي إنْ اشْتَرَاهَا كَذَلِكَ ، أَوْ صَارَتْ عِنْدَهُ كَذَلِكَ وَهُوَ مُوسِرٌ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي ذِمَّتِهِ بِصِفَةِ الْكَمَالِ فَلَا يَتَأَدَّى بِالنَّاقِصِ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ مُعْسِرًا أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا وَاجِبَ فِي ذِمَّتِهِ بَلْ يَثْبُتُ الْحَقُّ فِي الْعَيْنِ فَيَتَأَدَّى بِالْعَيْنِ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ كَانَتْ ، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

وَكَذَلِكَ لَوْ مَاتَتْ عِنْدَهُ ، أَوْ سُرِقَتْ فَعَلَيْهِ بَدَلُهَا إنْ كَانَ مُوسِرًا ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مُعْسِرًا وَعَلَى هَذَا قَالُوا الْمُوسِرُ إذَا ضَلَّتْ أُضْحِيَّتُهُ فَاشْتَرَى أُخْرَى ، ثُمَّ وَجَدَ الْأُولَى فَلَهُ أَنْ يُضَحِّيَ بِأَيِّهِمَا شَاءَ ، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا فَاشْتَرَاهَا وَأَوْجَبَهَا فَضَّلَتْ ، ثُمَّ اشْتَرَى أُخْرَى فَأَوْجَبَهَا ، ثُمَّ وَجَدَ الْأُولَى فَعَلَيْهِ أَنْ يُضَحِّيَ بِهِمَا ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ فِي الْعَيْنِ بِإِيجَابِهِ ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ فِي الثَّانِيَةِ كَالْأُولَى .

وَإِنْ أَصَابَهَا شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ فِي اضْطِرَابِهَا حِينَ أَضْجَعَهَا لِلذَّبْحِ وَذَبَحَهَا عَلَى مَكَانِهَا فَفِي الْقِيَاسِ لَا تُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّهُ تَأَدَّى الْوَاجِبُ بِالْأُضْحِيَّةِ لَا بِالْإِضْجَاعِ وَهِيَ مَعِيبَةٌ عِنْدَ التَّضْحِيَةِ بِهَا ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ تُجْزِئُهُ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يُسْتَطَاعُ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ فَقَدْ يَنْقَلِبُ السِّكِّينُ مِنْ يَدِهِ فَتُصِيبُ عَيْنَهَا فَيَجْعَلُ ذَلِكَ عَفْوًا لِدَفْعِ الْحَرَجِ ، وَلِأَنَّهُ أَضْجَعَهَا لِيَتَقَرَّبَ بِإِتْلَافِهَا فَتَلَفُ جُزْءٍ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مِنْ عَمَلِ التَّقَرُّبِ فَلَا يُمْنَعُ الْجَوَازُ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ الْإِضْجَاعِ وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ قَالَ إذَا أَصَابَهَا ذَلِكَ فِي يَوْمِ النَّحْرِ ، ثُمَّ ضَحَّى بِهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ ، أَوْ يَوْمَيْنِ جَازَ ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ وَقْتَ إتْلَافِهَا تَقَرُّبًا فَتَلَفُ جُزْءٍ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ .

قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُضَحِّيَ بِشَاةٍ لَيْسَ لَهَا أُذُنَانِ خُلِقَتْ كَذَلِكَ وَهِيَ السَّكَّاءُ ) ؛ لِأَنَّ قَطْعَ الْأُذُنِ لَمَّا كَانَ مَانِعًا مِنْ الْجَوَازِ فَعَدَمُ الْأُذُنِ أَصْلًا أَوْلَى بَعْضٍ .
فَأَمَّا صَغِيرَةُ الْأُذُنِ تُجْزِئُ ؛ لِأَنَّ الْأُذُنَ مِنْهَا صَحِيحَةٌ ، وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً

وَأَمَّا الْهَتْمَاءُ فَكَانَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ أَوَّلًا لَا يَجُوزُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ تَعْتَلِفُ ، ثُمَّ رَجَعَ .
وَقَالَ يَجُوزُ إذَا كَانَتْ تَعْتَلِفُ ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ عِنْدَهُ فِي أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا ؛ لِأَنَّ الْهَتْمَاءَ لَيْسَ لَهَا أَسْنَانٌ ، ثُمَّ عُلِمَ بَعْدَ ذَلِكَ أَنَّ الْهَتْمَاءَ مَكْسُورَةُ بَعْضِ الْأَسْنَانِ .
فَإِذَا كَانَتْ تَعْتَلِفُ فَالْبَاقِي مِنْ الْأَسْنَانِ أَكْثَرُ مِنْ الذَّاهِبِ ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ عِنْدَهُ ، ثُمَّ قَالَ وَاَلَّتِي لَا أَسْنَانَ لَهَا بِمَنْزِلَةِ الَّتِي لَا أُذُنَ لَهَا فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ فِي الْبَدَنِ بَلْ السِّنُّ فِي الْأَنْعَامِ أَقْرَبُ إلَى الْمَقْصُودِ مِنْ الْأُذُنِ ؛ لِأَنَّهَا تَعْتَلِفُ بِالْأَسْنَانِ .

قَالَ ( وَلَا يَجُوزُ فِي الضَّحَايَا وَالْوَاجِبَاتِ بَقَرُ الْوَحْشِ وَحُمُرُ الْوَحْشِ وَالظَّبْيُ ) ؛ لِأَنَّ الْأُضْحِيَّةَ عُرِفَتْ قُرْبَةً بِالشَّرْعِ ، وَإِنَّمَا وَرَدَ الشَّرْعُ بِهَا مِنْ الْأَنْعَامِ ، وَلِأَنَّ إرَاقَةَ الدَّمِ مِنْ الْوَحْشِيِّ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ أَصْلًا وَالْقُرْبَةُ لَا تَتَأَدَّى بِمَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ .
وَإِذَا كَانَ الْوَلَدُ بَيْنَ وَحْشِيٍّ وَأَهْلِيٍّ فَإِنْ كَانَتْ الْأُمُّ أَهْلِيَّةً جَازَتْ التَّضْحِيَةُ بِالْوَلَدِ ، وَإِنْ كَانَتْ وَحْشِيَّةً لَا تَجُوزُ ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ جُزْءٌ مِنْ الْأُمِّ فَإِنَّ مَاءَ الْفَحْلِ يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا بِحَضَانَتِهَا ، وَإِنَّمَا يَنْفَصِلُ الْوَلَدُ مِنْهَا ؛ وَلِهَذَا يَتْبَعُهَا فِي الرِّقِّ وَالْمِلْكِ .
فَكَذَلِكَ فِي التَّضْحِيَةِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ يَنْفَصِلُ مِنْ الْفَحْلِ وَهُوَ مَاءٌ غَيْرُ مَحَلٍّ لِهَذَا الْحُكْمِ وَيَنْفَصِلُ مِنْ الْأُمِّ وَهُوَ حَيَوَانٌ مَحَلٌّ لِهَذَا الْحُكْمِ ؛ فَلِهَذَا جَعَلْنَاهُ مُعْتَبَرًا بِالْأُمِّ .

قَالَ ( رَجُلٌ ذَبَحَ أُضْحِيَّةَ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَفِي الْقِيَاسِ هُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا ، وَلَا يُجْزِيهِ مِنْ الْأُضْحِيَّةِ ) وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي ذَبْحِ شَاةِ الْغَيْرِ فَكَانَ ضَامِنًا كَمَنْ ذَبَحَ شَاةَ الْقَصَّابِ ، ثُمَّ الْأُضْحِيَّةُ لَا تَتَأَدَّى إلَّا بِعَمَلِ الْمُضَحِّي وَبَيْتِهِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ حِينَ فَعَلَهُ الْغَيْرُ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَفِي الْقِيَاسِ هُوَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا ، وَلَا يُجْزِيهِ مِنْ الْأُضْحِيَّةِ ، وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ وَنَقُولُ يُجْزِئُهُ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَى الذَّابِحِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا عَيَّنَهَا لِلْأُضْحِيَّةِ فَقَدْ صَارَ مُسْتَغْنِيًا بِكُلِّ وَاحِدٍ بِالتَّضْحِيَةِ بِهَا فِي أَيَّامِ النَّحْرِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَفُوتُهُ بِمُضِيِّ الْوَقْتِ وَرُبَّمَا يَعْرِضُ لَهُ عَارِضٌ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ وَالْإِذْنُ دَلَالَةً كَالْإِذْنِ إفْصَاحًا كَمَا فِي شُرْبِ مَاءٍ فِي السِّقَايَةِ وَنَظَائِرِهَا .
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُجْزِئُهُ مِنْ الْأُضْحِيَّةِ ، وَلَكِنَّ الذَّابِحَ ضَامِنٌ لِقِيمَتِهَا ، وَهَذَا بَعِيدٌ فَالْجَوَازُ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ وُجُودِ الْإِذْنِ دَلَالَةً ، وَلَوْ وُجِدَ الْإِذْنُ إفْصَاحًا لَمْ يَضْمَنْ .
فَكَذَلِكَ إذَا وُجِدَ الْإِذْنُ دَلَالَةً وَعَلَى هَذَا لَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ غَلَطَا فَذَبَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُضْحِيَّةَ صَاحِبِهِ عَلَى نَفْسِهِ أَجْزَأَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا اسْتِحْسَانًا وَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَسْلُوخَهُ مِنْ صَاحِبِهِ فَإِنْ كَانَا قَدْ أَكَلَا ، ثُمَّ عَلِمَا فَلْيُحْلِلْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ وَيُجْزِئُهُمَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَطْعَمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ لَحْمَ أُضْحِيَّتِهِ جَازَ ذَلِكَ غَنِيًّا كَانَ ، أَوْ فَقِيرًا .
قَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ إنْ تَشَاحَّا فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَضْمِينُ صَاحِبِهِ قِيمَةَ لَحْمِهِ ، ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِتِلْكَ الْقِيمَةِ كَمَا لَوْ بَاعَ لَحْمَ أُضْحِيَّتِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِالثَّمَنِ .

قَالَ ( وَلَوْ أَمَرَ مَجُوسِيًّا فَذَبَحَ أُضْحِيَّتَهُ لَمْ تُجْزِهِ ) ؛ لِأَنَّ هَذَا إفْسَادٌ لَا تَقَرُّبٌ فَإِنَّ ذَبِيحَةَ الْمَجُوسِيِّ لَا تُؤْكَلُ ، وَلَوْ أَمَرَ يَهُودِيًّا ، أَوْ نَصْرَانِيًّا بِذَلِكَ أَجْزَأَهُ ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الذَّبْحِ ، وَلَكِنَّهُ مَكْرُوهٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ عَمَلِ الْقُرْبَةِ وَفِعْلُهُ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ .

قَالَ ( فَإِنْ ذَبَحَ أُضْحِيَّتَهُ بِنَفْسِهِ فَهُوَ أَفْضَلُ ) ؛ لِأَنَّ { النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا سَاقَ مِائَةَ بَدَنَةٍ نَحَرَ مِنْهَا ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بِنَفْسِهِ ، ثُمَّ وَلَّى الْبَاقِيَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَحِينَ ضَحَّى بِالشَّاتَيْنِ ذَبَحَهُمَا بِنَفْسِهِ } ، وَلَكِنَّ هَذَا إذَا كَانَ يُحْسِنُ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ يَخَافُ أَنْ يَعْجِزَ عَنْ ذَلِكَ فَالْأَفْضَلُ أَنْ يَسْتَعِينَ بِغَيْرِهِ ، وَلَكِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْهَدَهَا بِنَفْسِهِ لِمَا رُوِيَ أَنَّ { النَّبِيَّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ لِفَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قُومِي فَاشْهَدِي أُضْحِيَّتَكِ فَإِنَّهُ يُغْفَرُ لَكِ بِأَوَّلِ قَطْرَةٍ مِنْ دَمِهَا كُلُّ ذَنْبٍ أَمَا أَنَّهُ يُجَاءُ بِلَحْمِهَا وَدَمِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُوضَعُ فِي مِيزَانِكِ سَبْعِينَ ضِعْفًا قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَهَذَا لِآلِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَهُمْ أَهْلٌ لِمَا خُصُّوا بِهِ مِنْ الْخَيْرِ أَمْ لِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لِآلِ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً وَلِلْمُسْلِمِينَ عَامَّةً } .

قَالَ ( وَالْأُضْحِيَّةُ تَجِبُ عَلَى أَهْلِ السَّوَادِ كَمَا تَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ ) ؛ لِأَنَّهُمْ مُقِيمُونَ مَيَاسِيرَ ، وَإِنَّمَا لَمْ تَجِبْ عَلَى الْمُسَافِرِينَ لِمَا يَلْحَقُهُمْ مِنْ الْمَشَقَّةِ فِي تَحْصِيلِهَا ، وَذَلِكَ غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي حَقِّ أَهْلِ الْقُرَى ، وَفِي الْأَصْلِ ذُكِرَ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى أَهْلِ الْأَمْصَارِ مَا خَلَا الْحَاجَّ وَأَرَادَ بِأَهْلِ الْأَمْصَارِ الْمُقِيمِينَ وَبِالْحَاجِّ الْمُسَافِرِينَ .
فَأَمَّا أَهْلُ مَكَّةَ فَعَلَيْهِمْ الْأُضْحِيَّةُ ، وَإِنْ حَجُّوا .

قَالَ ( وَلَا بَأْسَ لِأَهْلِ الْقُرَى أَنْ يَذْبَحُوا الْأَضَاحِيَّ بَعْدَ انْشِقَاقِ الْفَجْرِ ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ دُخُولَ الْوَقْتِ بِانْشِقَاقِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إلَّا أَنَّ أَهْلَ الْأَمْصَارِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ فَيَلْزَمُهُمْ مُرَاعَاةُ التَّرْتِيبِ ، وَلَا صَلَاةَ عَلَى أَهْلِ الْقُرَى لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { لَا جُمُعَةَ ، وَلَا تَشْرِيقَ إلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ } ، ثُمَّ الْمُعْتَبَرُ الْمَكَانُ الَّذِي فِيهِ الْأُضْحِيَّةُ حَتَّى إذَا كَانَ الرَّجُلُ بِالْمِصْرِ وَأُضْحِيَّتُهُ بِالسَّوَادِ يَجُوزُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا بَعْدَ انْشِقَاقِ الْفَجْرِ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ هُوَ بِالسَّوَادِ وَأُضْحِيَّتُهُ بِالْمِصْرِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا إلَّا بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ الصَّلَاةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ أَيَّامَ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ أَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا ، وَذَلِكَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ .
قَالَ ( وَيُجْزِيهِ الذَّبْحُ فِي لَيَالِيِهَا إلَّا أَنَّهُمْ كَرِهُوا الذَّبْحَ فِي اللَّيَالِي ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَغْلَطَ فَتُفْسِدَ الظُّلْمَةُ اللَّيْلَ ، وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَمْنَعُ الْجَوَازَ .

قَالَ ( وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ مِنًى يَوْمَ النَّحْرِ صَلَاةُ الْعِيدِ ) ؛ لِأَنَّهُمْ فِي وَقْتِ صَلَاةِ الْعِيدِ مَشْغُولُونَ بِأَدَاءِ الْمَنَاسِكِ فَلَا يَلْزَمُهُمْ صَلَاةُ الْعِيدِ .
وَيَجُوزُ لَهُمْ التَّضْحِيَةُ بَعْدَ انْشِقَاقِ الْفَجْرِ كَمَا لَا يَجُوزُ لِأَهْلِ الْقُرَى وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( بَابٌ مِنْ الصَّيْدِ أَيْضًا قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمَنْ انْفَلَتَ مِنْ يَدِهِ صَيْدٌ بَعْدَ مَا أَحْرَزَهُ فَأَخَذَهُ غَيْرُهُ فَهُوَ لِلْأَوَّلِ ) ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مَمْلُوكٌ لَهُ فَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ بِالِانْفِلَاتِ مِنْ يَدِهِ ، وَلَا يَمْلِكُهُ الثَّانِي بِالْأَخْذِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْأَخْذِ يَمْلِكُ الصَّيْدَ الْمُبَاحَ لَا الْمَالَ الْمَمْلُوكَ كَمَنْ أَبَقَ عَبْدُهُ فَأَخَذَهُ إنْسَانٌ آخَرُ لَا يَمْلِكُهُ

وَمَنْ نَصَبَ شَبَكَةً فَوَقَعَ فِيهَا صَيْدٌ وَصَارَ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ عَلَى الذَّهَابِ فَأَخَذَهُ رَجُلٌ فَصَاحِبُ الشَّبَكَةِ أَحَقُّ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ آخِذًا لَهُ بِالْوُقُوعِ فِي شَبَكَتِهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ ضَرَبَ فُسْطَاطًا فَتَعَلَّقَ بِهِ صَيْدٌ فَأَخَذَهُ إنْسَانٌ فَهُوَ لِلْآخِذِ ؛ لِأَنَّ نَاصِبَ الشَّبَكَةِ يَقْصِدُ الِاصْطِيَادَ فَيَصِيرُ هَذَا آخِذًا لِلصَّيْدِ بِالْوُقُوعِ فِي شَبَكَتِهِ ؛ وَلِهَذَا لَوْ فَعَلَهُ مُحْرِمٌ كَانَ ضَامِنًا وَضَارِبُ الْفُسْطَاطِ مَا قَصَدَ الِاصْطِيَادَ فَلَا يَكُونُ آخِذًا لَهُ ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِفُسْطَاطِهِ ؛ وَلِهَذَا لَوْ فَعَلَهُ مُحْرِمٌ لَمْ يَضْمَنْ .

قَالَ ( وَمَنْ أَخَذَ بَازِيًا ، أَوْ شَبَهَهُ فِي مِصْرٍ ، أَوْ سَوَادٍ ، وَفِي رِجْلَيْهِ سَيْرٌ ، أَوْ جَلَاجِلُ وَهُوَ يَعْرِفُ أَنَّهُ أَهْلِيٌّ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَهُ لِيَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ بِثُبُوتِ يَدِ الْغَيْرِ عَلَيْهِ قَبْلَهُ فَإِنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ الْبَيْضَةِ مَعَ الْجَلَاجِلِ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ انْفَلَتَ مِنْ يَدِ صَاحِبِهِ ، أَوْ أَرْسَلَهُ فَلَا يَزُولُ مِلْكُهُ فِي الْوَجْهَيْنِ كَمَنْ سَيَّبَ دَابَّتَهُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مَلَكَ الْغَيْرَ فِي يَدِهِ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَهُ لِيَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ أَخَذَ ظَبْيًا ، وَفِي عُنُقِهِ قِلَادَةٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَخَذَ حَمَامَةً فِي الْمِصْرِ يَعْرِفُ أَنَّ مِثْلَهَا لَا يَكُونُ وَحْشِيَّةً فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْرِفَهَا ؛ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ .
وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ مَنْ اتَّخَذَ بُرْجَ حَمَامٍ فَأَوْكَرَتْ فِيهِ حَمَامُ النَّاسِ فَمَا يَأْخُذُ مِنْ فِرَاخِهَا لَا يَحِلُّ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْفَرْخَ يُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ فِي يَدِهِ إلَّا أَنَّهُ إنْ كَانَ فَقِيرًا يَحِلُّ لَهُ التَّنَاوُلُ لِحَاجَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى فَقِيرٍ ، ثُمَّ يَشْتَرِي مِنْهُ بِشَيْءٍ فَيَتَنَاوَلُ وَهَكَذَا كَانَ يَفْعَلُهُ شَيْخُنَا الْإِمَامُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَكَانَ مُولَعًا بِأَكْلِ الْحَمَامِ .

قَالَ ( وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ صَيْدٌ فَأَرْسَلَهُ عِنْدَ إحْرَامِهِ فَأَخَذَهُ حَلَالٌ ، ثُمَّ حَلَّ الْأَوَّلُ فَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ مِنْهُ ) ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ رَفْعُ يَدِهِ عَنْ الصَّيْدِ لَا إزَالَةُ مِلْكِهِ أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ يُحْرِمُ وَلَهُ صَيُودٌ فِي بَيْتِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ .
وَإِذَا كَانَ بَعْدَ الْإِرْسَالِ بَاقِيًا عَلَى مِلْكِهِ لَمْ يَمْلِكْهُ الْآخِذُ فَلَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّهُ

قَالَ ( وَمَنْ قَتَلَ بَازِيًا مُعَلَّمًا ، أَوْ كَلْبًا مُعَلَّمًا لِرَجُلٍ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ ) ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْكَلْبَ الْمُعَلَّمَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ عِنْدَنَا وَيَضْمَنُ مُتْلِفُهُ ، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ كَذَلِكَ بِخِلَافِ الْمُحْرِمِ إذَا قَتَلَ بَازِيًا مُعَلَّمًا فَلَا يُعْتَبَرُ فِي إيجَابِ الْقِيمَةِ عَلَيْهِ كَوْنُهُ مُعَلَّمًا ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ عَلَى الْمُحْرِمِ يَجِبُ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى لِمَعْنَى الصَّيْدِ فِي يَدِ الْمَقْتُولِ وَبِكَوْنِهِ مُعَلَّمًا يُنْتَقَصُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَوَحِّشًا فَلَا يُزَادُ بِهِ قِيمَتُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى .
فَأَمَّا وُجُوبُ الضَّمَانِ لِلْآدَمِيِّ لِكَوْنِهِ مَالًا مُنْتَفَعًا بِهِ وَيَزْدَادُ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ مُعَلَّمًا ؛ فَلِهَذَا اُعْتُبِرَ قِيمَتُهُ كَذَلِكَ فَإِنْ كَانَ الْكَلْبُ لَيْسَ بِكَلْبِ صَيْدٍ ، وَلَا مَاشِيَةٍ فَقَتَلَهُ وَرَجُلٌ غَرِمَ قِيمَتَهُ أَيْضًا وَمُرَادُهُ إذَا كَانَ بِحَيْثُ يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ حَتَّى يَكُونَ مَالًا مُنْتَفَعًا بِهِ .
، وَإِنْ كَانَ عَقُورًا لَا يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ فَمُتْلِفُهُ لَا يَضْمَنُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُؤَدًّى ، وَلَيْسَ بِمَالٍ مُنْتَفَعٍ بِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا جَوَازَ بَيْعِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ ؛ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ التَّعْلِيمَ وَيَتَأَتَّى الِانْتِفَاعُ بِهِ ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ لَحْمِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَةَ فِي اللَّحْمِ سِوَى الْأَكْلِ .
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَالًا مَأْكُولًا لَا يَكُونُ مَالًا مُتَقَوِّمًا وَجَوَازُ الْبَيْعِ يَخْتَصُّ بِمَالٍ مُتَقَوِّمٍ حَتَّى إذَا كَانَ لَهُ ثَمَنٌ بِأَنْ كَانَ يَرْغَبُ فِيهِ لِإِطْعَامِ الْكِلَابِ وَالسَّنَانِيرِ جَازَ بَيْعُهُ إذَا كَانَ مُذَكًّى إلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً ، وَمَا كَانَ مِنْ جُلُودِهَا إذَا دَبَغَهَا رَجُلٌ وَبَاعَهَا جَازَ بَيْعُهَا ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرُ مَدْبُوغَةٍ لَمْ يَجُزْ وَمُرَادُهُ إذَا كَانَتْ مَيْتَةً .
فَأَمَّا إذَا كَانَتْ مُذَكَّاةً يَجُوزُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا

أَنَّ عَمَلَ الذَّكَاةِ فِي الْحِلِّ وَالطَّهَارَةِ فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ ، وَفِي طَهَارَةِ الْجِلْدِ فِي غَيْرِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ كَالدِّبَاغِ .

قَالَ ( وَإِنْ وَجَدَ فِي الْمَاءِ سَمَكَةً مَقْطُوعَةً لَا يَدْرِي مَنْ قَطَعَهَا فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهَا ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا مَا يَدُلُّ عَلَى سَبْقِ يَدٍ إلَيْهَا لِتَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ بِهَا سَمَكَةً أُخْرَى ، وَإِنْ أَصَابَ فِي وَسَطِهَا ، أَوْ فِي مَوْضِعٍ مِنْهَا خَيْطًا مَرْبُوطًا لَمْ يَأْكُلْهَا وَيَعْرِفُهَا ؛ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ يَدًا أُخْرَى سَبَقَتْ إلَيْهَا فَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ فَيَعْرِفُهَا .

قَالَ ( وَمَنْ سَمِعَ حِسًّا ظَنَّ أَنَّهُ حِسُّ صَيْدٍ فَرَمَاهُ ، أَوْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ فَأَصَابَ صَيْدًا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْحِسُّ حِسَّ صَيْدٍ فَلَا بَأْسَ بِمَا أَصَابَ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ حِسَّ إنْسَانٍ ، أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَهْلِيَّاتِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ ذَلِكَ الصَّيْدُ ) ؛ لِأَنَّهُ رَمْيٌ إلَى الْحِسِّ وَالرَّمْيُ إلَى الْأَهْلِيِّ لَا يَكُونُ اصْطِيَادًا وَحِلُّ الصَّيْدِ بِوُجُودِ فِعْلِ الِاصْطِيَادِ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ الْحِسُّ حِسَّ صَيْدٍ فَرَمْيُهُ وَإِرْسَالُهُ الْكَلْبَ كَانَ اصْطِيَادًا فَيَحِلُّ تَنَاوُلُهُ إذَا أَصَابَ صَيْدًا مَأْكُولًا سَوَاءٌ كَانَ الْحِسُّ حِسَّ صَيْدٍ مَأْكُولٍ ، أَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ وَعَنْ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ إنْ كَانَ الْحِسُّ حِسَّ صَيْدٍ مَأْكُولٍ لَمْ يَحِلَّ تَنَاوُلُهُ ، وَإِنْ أَصَابَ صَيْدًا مَأْكُولًا ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ لَمْ يَكُنْ مُبِيحًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَصَابَ مَا قَصَدَهُ لَمْ يَفْدِ الْحِلُّ .
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ إذَا كَانَ الْحِسُّ حِسَّ خِنْزِيرٍ لَمْ يَحِلَّ وَإِنْ أَصَابَ رَمْيُهُ الصَّيْدَ بِخِلَافِ السِّبَاعِ ؛ لِأَنَّ الْخِنْزِيرَ مِنْ الْمُحْتَرَمِ الْعَيْنِ .
فَأَمَّا فِي سَائِرِ السِّبَاعِ فَإِنْ فَعَلَهُ مُؤَثِّرٌ فِي طَهَارَةِ الْجِلْدِ .
فَإِذَا أَصَابَ مَا يَحِلُّ تَنَاوُلُهُ كَانَ مُؤَثِّرًا فِي إبَاحَةِ اللَّحْمِ أَيْضًا وَالصَّحِيحُ مَا بَيَّنَّا أَنَّ فِعْلَ الْإِنْسَانِ فِي كُلِّ مُتَوَحِّشٍ اصْطِيَادٌ .
فَأَمَّا حِلُّ التَّنَاوُلِ بِاعْتِبَارِ صِفَةٍ فِي الْمَحِلِّ .
فَإِذَا أَصَابَ فِعْلُهُ فِي الِاصْطِيَادِ مَحِلًّا مَأْكُولًا قُلْنَا يُبَاحُ تَنَاوُلُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ مَا كَانَ ذَلِكَ الْحِسَّ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَكْلُهُ لِاجْتِمَاعِ الْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْحِلِّ وَالْمَعْنَى الْمُوجِبِ لِلْحُرْمَةِ .

وَفِي النَّوَادِرِ إذَا رَمَى طَيْرًا فَأَصَابَ صَيْدًا وَذَهَبَ الطَّيْرُ فَلَمْ يُعْرَفْ إنْ كَانَ أَهْلِيًّا ، أَوْ وَحْشِيًّا حَلَّ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ الصَّيْدَ ؛ لِأَنَّ الطَّيْرَ فِي الْأَصْلِ وَحْشِيٌّ بِخِلَافِ مَا لَوْ رَمَى بَعِيرًا فَأَصَابَ صَيْدًا وَذَهَبَ الْبَعِيرُ فَلَمْ يَعْرِفْ إنْ كَانَ أَهْلِيًّا ، أَوْ مُتَوَحِّشًا فَإِنَّهُ لَا يَحِلُّ تَنَاوُلُ الصَّيْدِ ؛ لِأَنَّهُ مَأْلُوفٌ فِي الْأَصْلِ وَالتَّوَحُّشُ مِنْهُ نَادِرٌ فَتَمَسَّكْ بِالْأَصْلِ حَتَّى يَظْهَرَ خِلَافُهُ

وَإِنْ سَمِعَ حِسًّا فَظَنَّ أَنَّهُ إنْسَانٌ فَرَمَاهُ فَأَصَابَ مَا رَمَاهُ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ صَيْدًا يَحِلُّ تَنَاوُلُهُ ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ فِعْلِهِ اصْطِيَادٌ وَظَنُّهُ بِخِلَافِ حَقِيقَةِ فِعْلِهِ لَغْوٌ .

قَالَ ( وَلَوْ رَمَى خِنْزِيرًا أَهْلِيًّا فَأَصَابَ صَيْدًا لَمْ يُؤْكَلْ ) ؛ لِأَنَّ الْخِنْزِيرَ الْأَهْلِيَّ لَيْسَ بِصَيْدٍ فَهُوَ وَمَا لَوْ رَمَى شَاةً سَوَاءٌ ، وَكَذَلِكَ لَوْ رَمَى حَرْبِيًّا مُخْتَفِيًا مُوثَقًا فَأَصَابَ صَيْدًا لَمْ يَأْكُلْهُ ؛ لِأَنَّ رَمْيَهُ إلَى الْحَرْبِيِّ لَيْسَ بِاصْطِيَادٍ ، وَلَا هُوَ مُؤَثِّرٌ فِي الْحِلِّ ؛ فَلِهَذَا لَا يَحِلُّ تَنَاوُلُ مَا أَصَابَهُ مِنْ الصَّيْدِ وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ .

( بَابُ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ ) قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ( وَإِذَا خَرَجَ الصَّيْدُ مِنْ الْحَرَمِ إلَى الْحِلِّ فَلَا بَأْسَ بِاصْطِيَادِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ صَيْدُ الْحِلِّ كَمَا كَانَ قَبْلَ دُخُولِهِ الْحَرَمَ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ مِنْ اصْطِيَادِهِ كَانَ حُرْمَةَ الْحَرَمِ ، وَقَدْ زَالَ بِخُرُوجِهِ إلَى الْحِلِّ فَهُوَ نَظِيرُ مُحْرِمٍ حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ ، وَفِيهِ نَصٌّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا } .

قَالَ ( وَإِنْ رَمَى رَجُلٌ صَيْدًا فِي الْحِلِّ فَأَصَابَهُ ، ثُمَّ دَخَلَ الصَّيْدُ الْحَرَمَ فَمَاتَ مِنْهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ جَزَاءٌ ) ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْجَزَاءِ بِاعْتِبَارِ فِعْلِ الْمَحْظُورِ وَفِعْلُهُ كَانَ مُبَاحًا وَهُوَ الرَّمْيُ إلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ ، أَوْ بِاعْتِبَارِ حُرْمَةِ الْمَحَلِّ وَلَمْ يَكُنْ مُحْتَرَمًا حِينَ مَا أَصَابَ السَّهْمُ الصَّيْدَ فَهُوَ كَمَا لَوْ رَمَى إلَى حَرْبِيٍّ ، أَوْ مُرْتَدٍّ فَأَصَابَهُ ، ثُمَّ أَسْلَمَ ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ كَانَ مُذَكِّيًا لَهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ مَاتَ فِي الْحِلِّ حَلَّ تَنَاوُلُهُ .
فَكَذَلِكَ إذَا مَاتَ بَعْدَ مَا دَخَلَ الْحَرَمَ ؛ لِأَنَّهُ دَخَلَهُ وَهُوَ مُذَكًّى وَحُرْمَةُ الْحَرَمِ إنَّمَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ الصَّيْدِ لَا فِي حَقِّ الْمُذَكَّى ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ يُكْرَهُ أَكْلُهُ ؛ لِأَنَّ حِلَّ التَّنَاوُلِ عِنْدَ زُهُوقِ الرُّوحِ وَهُوَ عِنْدَ ذَلِكَ فِي الْحَرَمِ وَالْحُكْمُ يُضَافُ إلَى الشَّرْطِ وُجُودًا عِنْدَهُ كَمَا يُضَافُ إلَى السَّبَبِ ثُبُوتًا بِهِ فَاعْتِبَارُ هَذِهِ الْحَالَةِ يُوجِبُ الْحُرْمَةَ وَاعْتِبَارُ حَالَةِ الْإِصَابَةِ يُبِيحُ فَيَغْلِبُ الْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ ، وَبِهِ فَارَقَ الْجَزَاءَ ؛ لِأَنَّ الْجَزَاءَ بِالشَّكِّ لَا يَجِبُ ، وَلِأَنَّ الْجَزَاءَ بِاعْتِبَارِ الْفِعْلِ فَإِنَّ الْحِلَّ صِفَةٌ فِي الْمَحِلِّ وَالْمَحِلُّ فِي الْحَرَمِ عِنْدَ ثُبُوتِ صِفَةِ الْحِلِّ فِيهِ .

قَالَ ( وَإِنْ أَصَابَهُ فِي الْحَرَمِ فَمَاتَ فِي الْحِلِّ فَلَا خَيْرَ فِي أَكْلِهِ ) ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ بِاعْتِبَارِ الْإِصَابَةِ ، وَقَدْ أَصَابَهُ وَهُوَ صَيْدُ الْحَرَمِ وَهَذِهِ هِيَ الْمَسْأَلَةُ الْمُسْتَثْنَاةُ مِنْ أَصْلِنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ لِحَالَةِ الرَّمْيِ فِيمَا يُبْنَى عَلَيْهِ الْأَحْكَامُ دُونَ حَالَةِ الْإِصَابَةِ فَإِنَّ فِي حِلِّ التَّنَاوُلِ يُعْتَبَرُ حَالَةُ الْإِصَابَةِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ صِفَةٌ لِلْمَحَلِّ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْمَحِلِّ عِنْدَ الْإِصَابَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ تِلْكَ الْحَالَةِ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ أَصَابَهُ فِي الْحِلِّ ، وَقَدْ رَمَاهُ مِنْ الْحَرَمِ ؛ لِأَنَّ الرَّمْيَ مِنْ الْحَرَمِ قِيلَ مَحْظُورٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } قِيلَ مَعْنَاهُ وَأَنْتُمْ فِي الْحَرَمِ ؛ لِأَنَّهُ يُقَالُ أَحْرَمَ إذَا دَخَلَ فِي الْحَرَمِ كَمَا يُقَالُ أَشْأَمَ إذَا دَخَلَ الشَّامَ وَالْمُوجِبُ لِلْحِلِّ الذَّكَاةُ لَا الْقَتْلُ الْمَحْظُورُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ وُجُوبُ الْجَزَاءِ عَلَى الرَّامِي فَهُوَ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِمَنْزِلَةِ مُحْرِمٍ يَقْتُلُ صَيْدًا ، وَكَذَلِكَ إنْ رَمَاهُ مِنْ الْحِلِّ فِي الْحَرَمِ ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ إذَا كَانَ فِي الْحَرَمِ فَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ الرَّمْيِ إلَيْهِ .
وَإِنْ كَانَ فِي الْحِلِّ فَيَكُونُ فِعْلُهُ فِعْلًا مَحْظُورًا أَلَا تَرَى أَنَّ عَلَيْهِ قِيمَةَ الْجَزَاءِ ، وَلَوْ كَانَ الرَّامِي فِي الْحِلِّ وَالصَّيْدُ فِي الْحِلِّ فَمَرَّ السَّهْمُ فِي الْحَرَمِ حَتَّى أَصَابَ الصَّيْدَ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ ، وَإِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الرَّمْيَ مُبَاحٌ لَهُ فَكَانَ فِعْلُهُ ذَكَاةً شَرْعًا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى فِي الْحِلِّ ، وَفِي الرَّامِي وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ أَصْلَ السَّبَبِ فِعْلُ الرَّامِي وَثُبُوتُ الْحُكْمِ عِنْدَ الْإِصَابَةِ ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ أَصْلًا فِي إضَافَةِ الْحُكْمِ إلَيْهِ .

قَالَ ( فَإِنْ رَمَى نَصْرَانِيٌّ مِنْ الْحَرَمِ صَيْدًا فِي الْحِلِّ فَمَاتَ فَلَا خَيْرَ فِي أَكْلِهِ ) ؛ لِأَنَّ النَّصْرَانِيَّ فِي حُكْمِ الذَّكَاةِ لَا يَكُونُ أَعْلَى مِنْ الْمُسْلِمِ .
فَإِذَا كَانَ هَذَا الْفِعْلُ مِنْ الْمُسْلِمِ لَا يُبِيحُ الصَّيْدَ .
فَكَذَلِكَ مِنْ النَّصْرَانِيِّ كَمَا لَوْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا ( فَإِنْ قِيلَ ) الْمَنْعُ مِنْ الرَّمْيِ صَوْبَ الْحَرَمِ حَقُّ الشَّرْعِ وَالنَّصْرَانِيُّ لَا يُخَاطَبُ بِذَلِكَ ؛ وَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ ( قُلْنَا ) حُرْمَةُ الْحَرَمِ تَظْهَرُ فِي حَقِّ الْكَافِرِ كَمَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ ؛ وَلِهَذَا لَا يُقْتَلُ الْحَرْبِيُّ وَالْمُرْتَدُّ فِي الْحَرَمِ ، ثُمَّ النَّصْرَانِيُّ فِي حُكْمِ الذَّكَاةِ تَبَعٌ لِلْمُسْلِمِ وَالتَّبَعُ يَلْحَقُ بِالْأَصْلِ فِي حُكْمِهِ ، وَإِنْ لَمْ يُشَارِكْهُ فِي عِلَّتِهِ

وَكَذَلِكَ لَوْ ذَبَحَ نَصْرَانِيٌّ ، أَوْ صَبِيٌّ صَيْدًا فِي الْحَرَمِ لَمْ يُؤْكَلْ ؛ لِأَنَّهُمَا فِي حُكْمِ الذَّكَاةِ تَبَعٌ لِلْمُسْلِمِ الْبَالِغِ .
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ هَذَا الْفِعْلُ مِنْ الْمُسْلِمِ الْبَالِغِ وَاجِبًا لِلْحِلِّ .
فَكَذَلِكَ مِنْ النَّصْرَانِيِّ وَالصَّبِيِّ .

قَالَ ( وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا أَخْرَجَ صَيْدًا مِنْ الْحَرَمِ فَذَبَحَهُ فِي الْحِلِّ فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ ) ؛ لِأَنَّهُ كَانَ فِي الْحَرَمِ آمِنًا صَيْدًا ، وَقَدْ زَالَ ذَلِكَ بِأَخْذِهِ وَإِخْرَاجِهِ وَكَانَ مُطَالَبًا شَرْعًا بِإِعَادَتِهِ إلَى مَأْمَنِهِ وَإِرْسَالِهِ فِيهِ ، وَقَدْ فَوَّتَ ذَلِكَ بِذَبْحِهِ فَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ وَالتَّنَزُّهُ عَنْ أَكْلِهِ أَفْضَلُ بِخِلَافِ مَا إذَا ذَبَحَهُ فِي الْحَرَمِ فَإِنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ تَنَاوُلُهُ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ ذَبَحَهُ كَانَ صَيْدَ الْحَرَمِ فَفِعْلُهُ فِيهِ يَكُونُ قَتْلًا ، وَلَا يَكُونُ ذَكَاةً وَهُنَا حِينَ ذَبَحَهُ كَانَ صَيْدَ الْحِلِّ فَيَكُونُ فِعْلُهُ فِيهِ ذَكَاةً وَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْفِعْلِ لَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ بِالْأَخْذِ السَّابِقِ ؛ فَلِهَذَا لَا يَحْرُمُ تَنَاوُلُهُ إلًّا أَنَّ التَّنَزُّهَ عَنْهُ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّ تَقَرُّرَ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ بِفِعْلِ الذَّبْحِ ، وَإِنْ كَانَ الْوُجُوبُ سَبَبَ الْأَخْذِ .
فَبِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى يُمْكِنُ شُبْهَةٌ فِيهِ ، وَلِأَنَّا لَوْ أَطْلَقْنَا لَهُ حَقَّ التَّنَاوُلِ تَطَرَّقَ النَّاسُ إلَى ذَلِكَ فَيُخْرِجُونَ الصَّيْدَ مِنْ الْحَرَمِ وَيَذْبَحُونَهُ فِي الْحِلِّ ، وَفِي ذَلِكَ تَعْلِيلُ صَيْدِ الْحَرَمِ فَلِلْمَنْعِ مِنْ هَذَا قُلْنَا التَّنَزُّهُ عَنْ أَكْلِهِ أَفْضَلُ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ صَادَهُ أَوَّلًا فِي الْحِلِّ ، ثُمَّ أَدْخَلَهُ الْحَرَمَ ، ثُمَّ أَخْرَجَهُ إلَى الْحِلِّ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَدْخَلَهُ الْحَرَمَ فَقَدْ صَارَ صَيْدَ الْحَرَمِ فَهُوَ وَالْمَأْخُوذُ فِي الْحَرَمِ سَوَاءٌ بِدَلِيلِ وُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ ، وَهَذَا عِنْدَنَا .
فَأَمَّا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى حُرْمَةُ الْحَرَمِ لَا تَظْهَرُ فِي حَقِّ صَيْدٍ مَمْلُوكٍ .
فَإِذَا مَلَكَهُ بِالْأَخْذِ فِي الْحِلِّ ، ثُمَّ أَدْخَلَهُ الْحَرَمَ لَمْ يَثْبُت لَهُ حُرْمَةُ الْحَرَمِ ، وَعِنْدَنَا حُرْمَةُ الْحَرَمِ فِي حَقِّ الصَّيْدِ كَحُرْمَةِ الْإِحْرَامِ فَكَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ بِالْإِحْرَامِ إمْسَاكُ الصَّيْدِ الْمَمْلُوكِ وَيَلْزَمُهُ إرْسَالُهُ .
فَكَذَلِكَ يَحْرُمُ بِسَبَبِ الْحَرَمِ إمْسَاكُهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا

هَذَا فِي الْمَنَاسِكِ .

وَكَذَلِكَ حَلَالٌ أَحْرَمَ ، وَفِي يَدِهِ صَيْدٌ ، ثُمَّ حَلَّ ثُمَّ ذَبَحَهُ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَحْرَمَ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ إرْسَالُهُ وَحِينَ ذَبَحَهُ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ جَزَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْحِلِّ ؛ فَلِهَذَا كُرِهَ أَكْلُهُ .

قَالَ ( مُحْرِمٌ صَادَ صَيْدًا فَدَفَعَهُ إلَى حَلَالٍ فَذَبَحَهُ فَهُوَ وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ ) ؛ لِأَنَّهُ بِمَا صَنَعَ مُفَوِّتٌ مَا لَزِمَهُ مِنْ الْإِرْسَالِ وَمُقَرِّرٌ لِلْجَزَاءِ عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ ذَبَحَهُ بِنَفْسِهِ بَعْدَ مَا حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ ، وَلَوْ ذَبَحَهُ بِنَفْسِهِ بَعْدَ مَا حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ وَهُوَ مُحْرِمٌ ، أَوْ فِي الْحَرَمِ كَانَ ذَلِكَ أَشَدَّ مِنْ هَذَا حَالًا فَإِنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْمَيْتَةِ ، وَهَذَا مَكْرُوهٌ التَّنَاوُلُ ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ بِاعْتِبَارِ فِعْلِ الذَّكَاةِ وَفِعْلِ الْمُحْرِمِ ، أَوْ الَّذِي فِي الْحَرَمِ مَحْظُورٌ فَلَا يَكُونُ ذَكَاةً شَرْعًا .
فَأَمَّا الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ حَلَالٌ فِعْلُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ذَكَاةٌ ، وَلَكِنْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مُفَوِّتٌ لِلْإِرْسَالِ وَمُقَرِّرٌ لِلْجَزَاءِ عَلَى الْآخِذِ يَلْحَقُهُ نَوْعُ خَطَرٍ ، وَذَلِكَ لَيْسَ لِمَعْنًى فِي نَفْسِ الْفِعْلِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ مُطْلَقًا ، وَإِنَّمَا تَثْبُتُ الْكَرَاهَةُ .

قَالَ ( وَإِنْ أَرْسَلَهُ الْمُحْرِمُ فَذَبَحَهُ حَلَالٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ ) ؛ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ أَتَى بِمَا هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ فَيَخْرُجُ بِهِ مِنْ عُهْدَةِ أَخْذِهِ وَذَبْحُ الْحَلَالِ إيَّاهُ كَذَبْحِ صَيْدٍ آخَرَ فِي الْحُكْمِ .

قَالَ ( وَلَوْ أَنَّ حَلَالًا أَخْرَجَ صَيْدًا مِنْ الْحَرَمِ إلَى الْحِلِّ فَأَرْسَلَهُ فَصَادَهُ حَلَالٌ فَذَبَحَهُ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ ) ؛ لِأَنَّهُ صَيْدُ الْحِلِّ فَإِنَّهُ بِالْإِرْسَالِ قَدْ خَرَجَ مِنْ يَدِ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْ الْحَرَمِ فَهُوَ وَاَلَّذِي خَرَجَ بِنَفْسِهِ مِنْ الْحَرَمِ سَوَاءٌ فِي حِلِّ التَّنَاوُلِ ، وَلَكِنْ عَلَى الَّذِي أَخْرَجَهُ الْجَزَاءُ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ عَلَيْهِ شَرْعًا إعَادَتُهُ إلَى مَأْمَنِهِ فَإِنَّهُ بِالْإِخْرَاجِ مِنْ الْحَرَمِ أَزَالَ الْأَمْنَ عَنْهُ .
فَإِذَا تَلِفَ قَبْلَ الْعَوْدِ إلَى مَأْمَنِهِ تَقَرَّرَ الْجَزَاءُ عَلَيْهِ لِانْعِدَامِ مَا يَنْسَخُ فِعْلَهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَإِنَّ عَلَى الْمُحْرِمِ رَفْعَ الْيَدِ عَنْهُ بِالْإِرْسَالِ فَيَنْفَسِخُ حُكْمُ فِعْلِهِ بِمُجَرَّدِ إرْسَالِهِ وَوِزَانُ هَذَا مِنْ ذَاكَ مَا لَوْ عَادَ الصَّيْدُ إلَى الْحَرَمِ بَعْدَ مَا أَرْسَلَهُ ، ثُمَّ أَصَابَهُ مَا أَصَابَهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الَّذِي أَخْرَجَهُ مِنْ الْحَرَمِ هُوَ الَّذِي صَادَهُ بَعْدَ مَا أَرْسَلَهُ فَذَبَحَهُ لَمْ يَكُنْ بِأَكْلِهِ بَأْسٌ ؛ لِأَنَّهُ حَلَالٌ ذَبَحَ صَيْدًا فِي الْحِلِّ فَهُوَ وَغَيْرُهُ فِي الْحَالَيْنِ سَوَاءٌ .
قَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ هُوَ وَغَيْرُهُ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ إلَّا أَنَّ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَا لَا يُخَالِفُهُمَا وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْحِلَّ بِاعْتِبَارِ الْفِعْلِ الثَّانِي وَوُجُوبَ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ فِعْلِهِ الْأَوَّلِ وَهُوَ إخْرَاجُهُ مِنْ الْحَرَمِ وَلَمْ يَبْقَ ذَلِكَ الْإِخْرَاجُ بَعْدَ مَا أَرْسَلَهُ ؛ فَلِهَذَا لَا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ ، وَلَكِنَّ بَقَاءَ الْفِعْلِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي بَقَاءِ مَا وَجَبَ بِهِ مِنْ الْجَزَاءِ بِخِلَافِ مَا إذَا ذَبَحَهُ فِي الْحِلِّ قَبْلَ أَنْ يُرْسِلَهُ وَدَفَعَهُ إلَى غَيْرِهِ فَذَبَحَهُ ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْيَدَ بَاقِيَةٌ حَقِيقَةً وَحُكْمًا ، وَإِنَّمَا تَمَكَّنَ مِنْ الذَّبْحِ بِاعْتِبَارِهَا ؛ فَلِهَذَا كُرِهَ أَكْلُهَا .

قَالَ ( مُحْرِمٌ أَصَابَ صَيْدًا فَأَدْخَلَهُ مَنْزِلَهُ فِي الْحِلِّ فَجَاءَ بَعْضُ أَهْلِهِ فَذَبَحَهُ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ ) وَأَضَافَ الْجَوَابَ إلَى أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْفَظْ جَوَابَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ جَوَابَهُ يُخَالِفُ جَوَابَهُمَا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الذَّابِحَ حَلَالٌ ، وَقَدْ ذَبَحَهُ فِي الْحِلِّ ، وَلَوْ أَرْسَلَهُ الْمُحْرِمُ فِي غَيْرِ مَنْزِلِهِ فَذَبَحَهُ حَلَالٌ حَلَّ تَنَاوُلُهُ .
فَكَذَلِكَ إذَا أَرْسَلَهُ فِي مَنْزِلِهِ إلَّا أَنَّ عَلَى الْمُحْرِمِ الْجَزَاءَ ؛ لِأَنَّهُ مَا نُسِخَ حُكْمُ فِعْلِهِ بِإِرْسَالِهِ إيَّاهُ مِنْ مَنْزِلِهِ فَإِنَّ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ مِنْ حَيْثُ التَّنْفِيرُ وَالِاسْتِيحَاشُ لِمَنْ بَعُدَ إلَيْهِ كَمَا كَانَ قَبْلَ أَخْذِهِ ؛ فَلِهَذَا كَانَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَرْسَلَ جَارِحًا مِنْ مَنْزِلِهِ .
قَالَ : وَلَا يُعْجِبُنَا هَذَا الْفِعْلَ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ بَعْضِ أَهْلِهِ فِي الذَّبْحِ كَفِعْلِهِ مِنْ وَجْهٍ فَإِنَّهُ يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ لِيَفْعَلُوا لَهُ مِثْلَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ الذَّابِحُ كَالْمَأْمُورِ مِنْ جِهَتِهِ ، فَلِهَذَا قَالَ لَا يُعْجِبُنَا هَذَا الْفِعْلَ ، وَكَذَلِكَ إنْ أَرْسَلَهُ فِي مَنْزِلِهِ فَخَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ فَتَبِعَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ وَذَبَحَهُ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِذَلِكَ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ ، وَلَا أَكْرَهُ أَكْلَهُ ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ قَالَ وَأَكْرَهُ أَكْلَهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمْ يَتِمَّ إرْسَالُهُ بَعْدُ فِي حَقِّ نَسْخِ الْفِعْلِ ؛ لِأَنَّ الَّذِي تَبِعَهُ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَخْذِهِ بِاعْتِبَارِ الْفِعْلِ الْمَوْجُودِ مِنْ الْمُحْرِمِ فَكَانَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ لِذَلِكَ إلَّا أَنَّ فِي إبَاحَةِ التَّنَاوُلِ هُمَا يَقُولَانِ لَوْ أَرْسَلَهُ خَارِجًا مِنْ مَنْزِلِهِ حَلَّ تَنَاوُلُهُ إذَا ذَبَحَهُ إنْسَانٌ بَعْدَ ذَلِكَ .
فَكَذَلِكَ إذَا أَرْسَلَهُ فِي مَنْزِلِهِ فَخَرَجَ هَكَذَا وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ حَيْثُ قَالَ ، وَلَا أَكْرَهُ أَكْلَهُ وَوَجْهُ

رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا أَرْسَلَهُ بِمَرْأَى الْعَيْنِ مِنْ بَعْضِ أَهْلِهِ فَقَدْ طَلَب مِنْهُ دَلَالَةً أَنْ يَتَّبِعَهُ فَيَأْخُذَهُ ، وَلَوْ أَمَرَهُ بِذَلِكَ نَصًّا كَانَ تَنَاوُلُهُ مَكْرُوهًا .
فَكَذَلِكَ إذَا كَانَ طَالِبًا لِذَلِكَ الْفِعْلِ دَلَالَةً .

قَالَ ( وَإِنْ انْفَلَتَ مِنْ الْمُحْرِمِ فِي جَوْفِ الْمِصْرِ ، أَوْ أَرْسَلَهُ فَأَخَذَهُ إنْسَانٌ فَذَبَحَهُ فَهَذَا كَأَنَّهُ فِي يَدِهِ حَتَّى يُرْسِلَهُ ) ؛ لِأَنَّ بِالْإِرْسَالِ فِي جَوْفِ الْمِصْرِ لَمْ يَعُدْ إلَيْهِ التَّنْفِيرُ وَالِاسْتِيحَاشُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي كَانَ قَبْلَ أَخْذِهِ فَلَا يَنْسَخُ بِهِ حُكْمَ فِعْلِهِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ مَا فِي جَوْفِ الْمِصْرِ يُمْكِنُ أَخْذُهُ بِغَيْرِ اصْطِيَادِهِ عَادَةً ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا لَوْ نَدَّتْ شَاةٌ فِي الْمِصْرِ لَمْ تَحِلَّ بِالرَّمْيِ .
قَالَ ( وَإِذَا انْفَلَتَ مِنْهُ فِي الصَّحْرَاءِ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ إلَّا بِصَيْدٍ فَرَمَاهُ حَلَالٌ فَلَا بَأْسَ بِهِ كَمَا لَوْ أَرْسَلَهُ فِي الصَّحْرَاءِ ) ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ حُكْمَ فِعْلِهِ قَدْ انْتَسَخَ حِينَ عَادَ صَيْدًا مُتَوَحِّشًا كَمَا كَانَ فَكَأَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْهُ قَطُّ .

قَالَ ( حَلَالٌ أَرْسَلَ كَلْبَهُ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ فَتَبِعَهُ الْكَلْبُ حَتَّى أَدْخَلَهُ الْحَرَمَ فَقَتَلَهُ فِيهِ كَرِهْت لَهُ أَكْلَهُ ) لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْحِلَّ يَثْبُتُ عِنْدَ الْإِصَابَةِ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ هُوَ صَيْدُ الْحَرَمِ ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُ الْإِرْسَالِ فِي الْحِلِّ .
فَكَذَلِكَ إذَا أَدْرَكَهُ صَاحِبُهُ حَيًّا فَأَخَذَهُ وَأَخْرَجَهُ إلَى الْحِلِّ وَذَبَحَهُ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَخَذَهُ مِنْ فَمِ الْكَلْبِ فَهُوَ صَيْدُ الْحَرَمِ ، وَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ ذَلِكَ الْإِرْسَالِ حِينَ وَقَعَ فِي يَدِهِ حَيًّا ( فَجَوَابُ ) هَذَا الْفَصْلِ كَجَوَابِ مَا لَوْ أَخْرَجَ صَيْدًا مِنْ الْحَرَمِ وَذَبَحَهُ فِي الْحِلِّ .

وَإِنْ أَرْسَلَ كَلْبَهُ مِنْ الْحَرَمِ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحِلِّ كَرِهْت لَهُ أَكْلَهُ وَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ ؛ لِأَنَّ إرْسَالَهُ الْكَلْبَ عَلَى الصَّيْدِ اصْطِيَادٌ وَمَنْ هُوَ دَاخِلُ الْحَرَمِ مَمْنُوعٌ مِنْ الِاصْطِيَادِ فَإِرْسَالُ الْكَلْبِ عَلَيْهِ وَالرَّمْيُ إلَيْهِ سَوَاءٌ كَمَا بَيَّنَّا .

قَالَ ( وَإِنْ أَرْسَلَهُ فِي الْحِلِّ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحَرَمِ فَتَبِعَهُ حَتَّى أَخْرَجَهُ إلَى الْحِلِّ ، ثُمَّ أَخَذَهُ وَقَتَلَهُ كَرِهْته أَيْضًا ) ؛ لِأَنَّهُ أَرْسَلَهُ عَلَى صَيْدِ الْحَرَمِ ، وَذَلِكَ فِعْلٌ مَحْظُورٌ فَهُوَ كَمَا لَوْ رَمَى الصَّيْدَ فِي الْحَرَمِ فَخَرَجَ مِنْ الْحَرَمِ قَبْلَ الْإِصَابَةِ .

قَالَ ( وَإِنْ أَخَذَهُ مِنْ الْكَلْبِ حَيًّا فِي الْحِلِّ فَذَبَحَهُ كَرِهْت لَهُ هَذَا الصُّنْعَ ، وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ فِي الْقِيَاسِ ) ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَخَذَهُ حَيًّا فَقَدْ بَطَلَ حُكْمُ إرْسَالِ الْكَلْبِ حَتَّى لَا يَحِلَّ إلَّا بِذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ فَإِنَّمَا بَقِيَ الْمُعْتَبَرُ أَخْذُهُ وَذَبْحُهُ ، وَقَدْ حَصَلَ فِي صَيْدِ الْحِلِّ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ ، وَإِنَّمَا كُرِهَ لَهُ هَذَا الصُّنْعُ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ أَخْذِهِ بِذَلِكَ الْإِرْسَالِ السَّابِقِ ، وَقَدْ كَانَ حَرَامًا بِكَوْنِ الصَّيْدِ فِي الْحَرَمِ عِنْدَ ذَلِكَ .

قَالَ ( ظَبْيٌ بَعْضُ قَوَائِمِهِ فِي الْحِلِّ وَبَعْضُهَا فِي الْحَرَمِ رَمَاهُ حَلَالٌ فِي الْحَرَمِ فَقَتَلَهُ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ أَكْلُهُ لِوُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ ) ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ قِوَامَ الصَّيْدِ بِقَوَائِمِهِ وَاعْتِبَارُ مَا فِي الْحَرَمِ مِنْ قَوَائِمِهِ يَجْعَلُهُ صَيْدَ الْحَرَمِ ، وَهَذَا الْجَانِبُ يَتَرَجَّحُ ؛ لِأَنَّهُ جَانِبُ الْحَظْرِ وَجَانِبُ الْحُرْمَةِ لِحَقِّ الشَّرْعِ ، وَإِنْ كَانَتْ قَوَائِمُهُ فِي الْحِلِّ وَرَأْسُهُ فِي الْحَرَمِ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ ؛ لِأَنَّهُ صَيْدُ الْحِلِّ فَإِنَّ قِوَامَ الصَّيْدِ بِقَوَائِمِهِ .
وَقِيلَ هَذَا إذَا كَانَ قَائِمًا فَإِنْ كَانَ نَائِمًا فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ اسْتِمْسَاكَهُ عَلَى الْأَرْضِ فِي حَالِ نَوْمِهِ بِاعْتِبَارِ جَمِيعِ بَدَنِهِ .
فَإِذَا كَانَ جَانِبٌ مِنْهُ فِي الْحَرَمِ فَهُوَ صَيْدُ الْحَرَمِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي الْمَنَاسِكِ فِي الشَّجَرَةِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ مَوْضِعُ أَصْلِهَا لَا مَوْضِعُ أَغْصَانِهَا ، وَفِي الصَّيْدِ الْوَاقِعِ عَلَى بَعْضِ أَغْصَانِهَا يُعْتَبَرُ مَوْضِعُ ذَلِكَ الْغُصْنِ ؛ لِأَنَّ قِوَامَ الصَّيْدِ لَيْسَ بِغُصْنِ الشَّجَرَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { مَا يُمْسِكُهُنَّ إلَّا اللَّهَ } .
فَأَمَّا قِوَامُ غُصْنِ الشَّجَرَةِ فَبِأَصْلِهَا فَفِي حَقِّ ضَمَانِ الْمُحْصَنِ يُعْتَبَرُ مَوْضِعُ أَصْلِ الشَّجَرَةِ ، وَفِي حَقِّ ضَمَانِ الصَّيْدِ يُعْتَبَرُ الْمَوْضِعُ الَّذِي فِيهِ الصَّيْدُ فَإِنْ كَانَ فِي هَوَاءِ الْحَرَمِ فَهَذَا الصَّيْدُ صَيْدُ الْحَرَمِ .

قَالَ ( وَإِنْ اشْتَرَكَ الْحَلَالُ وَالْمُحْرِمُ فِي رَمْيِ الصَّيْدِ لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ ) ؛ لِأَنَّ اعْتِبَارَ فِعْلِ الْمُحْرِمِ مُحَرَّمٌ وَالْمُوجِبُ لِلْحُرْمَةِ يَغْلِبُ عَلَى الْمُوجِبِ لِلْحِلِّ كَمَا لَوْ اشْتَرَكَ مُسْلِمٌ وَمَجُوسِيٌّ فِي قَتْلِ الصَّيْدِ .

قَالَ ( رَجُلٌ أَرْسَلَ بَازِيًا عَلَى صَيْدٍ فِي الْحَرَمِ فَتَبِعَهُ حَتَّى أَخْرَجَهُ إلَى الْحِلِّ فَقَتَلَهُ كَرِهْتُ أَكْلَهُ ) ؛ لِأَنَّ أَصْلَ السَّبَبِ إرْسَالُ الْبَازِي ، وَقَدْ كَانَ مَحْظُورًا فَإِنْ أَرْسَلَهُ عَلَى صَيْدٍ فِي الْحَرَمِ فَاعْتِبَارُهُ يُثْبِتُ الْكَرَاهَةَ .

قَالَ ( حَلَالٌ أَخْرَجَ ظَبْيَةً مِنْ الْحَرَمِ فَوَلَدَتْ أَوْلَادًا ، ثُمَّ ذَبَحَهَا وَأَوْلَادَهَا فَلَيْسَ أَكْلُهَا وَأَكْلُ أَوْلَادِهَا بِحَرَامٍ ) ؛ لِأَنَّ الْحِلَّ بِالذَّبْحِ ، وَقَدْ حَصَلَ مِنْ حَلَالٍ فِي صَيْدٍ فِي الْحِلِّ ، وَلَكِنْ لَا يُعْجِبُنِي هَذَا الْفِعْلَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أُذِنَ فِي ذَلِكَ تَطَرَّقَ النَّاسُ إلَيْهِ ، وَلِأَنَّهُ تَمَكَّنَ مِنْ الذَّبْحِ بِالْأَخْذِ السَّابِقِ ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ الْأَخْذُ حَرَامًا عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الْجَزَاءُ فِيهَا ، وَفِي أَوْلَادِهَا ؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ وَالْإِعَادَةَ إلَى الْمَاءِ مِنْ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ فِيهَا ، وَفِي أَوْلَادِهَا .
فَإِذَا فَوَّتَ ذَلِكَ بِالذَّبْحِ كَانَ عَلَيْهِ الْجَزَاءُ ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَضْمَنُ جَزَاءَ الْأُمِّ لِإِتْلَافِهِ مَعْنَى الصَّيْدِيَّةِ فِيهَا بِإِثْبَاتِ الْيَدِ عَلَيْهَا ، وَهَذَا الْمَعْنَى مَوْجُودٌ فِي وَلَدِهَا ، وَكَذَلِكَ إنْ أَدَّى الْجَزَاءُ عَنْهَا ، ثُمَّ ذَبَحَهَا فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِإِرْسَالِهَا وَإِعَادَتِهَا إلَى الْمَاء مِنْ بَعْدِ أَدَاءِ الْجَزَاءِ فَإِنَّ الْبَدَلَ إنَّمَا يَظْهَرُ حُكْمُهُ عِنْدَ فَوَاتِ الْأَصْلِ .
فَأَمَّا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْأَصْلِ فَلَا مُعْتَبَرَ بِالْبَدَلِ ، وَمَا وَلَدَتْ فِي يَدِهِ بَعْدَ أَدَاءِ الْجَزَاءِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْوَلَدِ جَزَاءٌ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ مَاتَتْ هِيَ فِي يَدِهِ بَعْدَ أَدَاءِ الْجَزَاءِ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ آخَرُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي عَيْنِهَا حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ بَعْدَ أَدَاءِ الْجَزَاءِ لِيَسْرِيَ إلَى الْوَلَدِ بِخِلَافِ مَا قَبْلَ أَدَاءِ الْجَزَاءِ ( فَإِنْ قِيلَ ) فَأَيْنَ ذَهَبَ قَوْلُكُمْ أَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِالْبَدَلِ حَالَ قِيَامِ الْأَصْلِ وَأَنَّهُ مُطَالَبٌ بِإِعَادَتِهَا إلَى الْمَاءِ مِنْ بَعْدِ أَدَاءِ الْجَزَاءِ ( قُلْنَا ) نَعَمْ لَا مُعْتَبَرَ بِالْبَدَلِ حَالَ قِيَامِ الْبَدَلِ ، وَلَكِنْ لَا يُجْمَعُ الْأَصْلُ وَالْبَدَلُ فَيَبْقَى بَعْدَ أَدَاءِ الْجَزَاءِ الْحَقُّ مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْإِرْسَالِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ وَبَيْنَ الْمُؤَدَّى مِنْ الْجَزَاءِ ؛ وَلِهَذَا لَوْ بَاعَهُ بَعْدَ بَيْعِهِ

يَظْهَرُ ذَلِكَ عِنْدَ فَوَاتِ الْأَصْلِ وَبِاعْتِبَارِ جَانِبِ الْمُؤَدَّى مِنْ الْجَزَاءِ لَا يَظْهَرُ فِي الْوَلَدِ الْحَادِثِ بَعْدَ ذَلِكَ اسْتِحْقَاقُ شَيْءٍ ؛ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ فِيهِ ، وَلِأَنَّهُ يَتَمَلَّكُ ذَلِكَ الصَّيْدَ بِمَا أَدَّى مِنْ الْجَزَاءِ ؛ وَلِهَذَا لَوْ بَاعَهُ نَفَذَ بَيْعُهُ فَالْوَلَدُ إنَّمَا يَتَوَلَّدُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ مِلْكِهِ ؛ فَلِهَذَا لَا يَلْزَمُهُ الْجَزَاءُ فِيهِ .
وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ مُحْرِمًا صَادَ ظَبْيَةً ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ إحْرَامِهِ وَهِيَ فِي يَدِهِ فَحَالُهَا وَحَالُ أَوْلَادِهَا كَمَا بَيَّنَّا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا قَبْلَ أَدَاءِ الْجَزَاءِ ، أَوْ بَعْدَ أَدَاءِ الْجَزَاءِ فَإِنَّ مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ الْمَعْنَى يَشْتَمِلُ عَلَى الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ

كِتَابُ الْوَقْفِ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ الْأَجَلُّ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إمْلَاءً : اعْلَمْ بِأَنَّ الْوَقْفَ لُغَةً الْحَبْسُ وَالْمَنْعُ ، وَفِيهِ لُغَتَانِ أَوْقَفَ يُوقِفُ إيقَافًا وَوَقَفَ يَقِفُ وَقْفًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَقِفُوهُمْ إنَّهُمْ مَسْئُولُونَ } .
وَفِي الشَّرِيعَةِ عِبَارَةٌ عَنْ حَبْسِ الْمَمْلُوكِ عَنْ التَّمْلِيكِ مِنْ الْغَيْرِ وَظَنَّ بَعْضُ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَإِلَيْهِ يُشِيرُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ فَنَقُولُ أَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَكَانَ لَا يُجِيزُ ذَلِكَ وَمُرَادُهُ أَنْ لَا يَجْعَلَهُ لَازِمًا .
فَأَمَّا أَصْلُ الْجَوَازِ ثَابِتٌ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ الْوَاقِفَ حَابِسًا لِلْعَيْنِ عَلَى مِلْكِهِ صَارِفًا لِلْمَنْفَعَةِ إلَى الْجِهَةِ الَّتِي سَمَّاهَا فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ وَالْعَارِيَّةُ جَائِزَةٌ غَيْرُ لَازِمَةٍ ؛ وَلِهَذَا قَالَ لَوْ أَوْصَى بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ يَكُونُ لَازِمًا بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ بِالْمَنْفَعَةِ بَعْدَ الْمَوْتِ .
وَذَكَرَ الطَّحْطَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ عِنْدَهُ لَوْ نَفَّذَهُ فِي مَرَضِهِ فَهُوَ كَالْمُضَافِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ ؛ لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ فِي الْحُكْمِ كَالْمُضَافِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ حَتَّى يُعْتَبَرَ مِنْ ثُلُثِهِ وَخُصُوصًا فِيمَا لَا يَكُونُ تَمْلِيكًا كَالْعِتْقِ كَأَنَّهُ يَجْعَلُهُ مَوْقُوفًا عَلَى مَا يَظْهَرُ عِنْدَ مَوْتِهِ وَالصَّحِيحُ أَنَّ مَا بَاشَرَهُ فِي الْمَرَضِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ بَاشَرَهُ فِي الصِّحَّةِ فِي أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ اللُّزُومُ ، وَلَا يَمْتَنِعُ الْإِرْثُ بِمَنْزِلَةِ الْعَارِيَّةِ إلَّا أَنْ يَقُولَ فِي حَيَاتِي وَبَعْدَ مَوْتِي فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ إذَا كَانَ مُؤَبَّدًا وَصَارَ الْأَبَدُ فِيهِ كَعُمْرِ الْمُوصَى لَهُ بِالْخِدْمَةِ فِي لُزُومِ الْوَصِيَّةِ بَعْدَ الْمَوْتِ .
فَأَمَّا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا الْوَقْفُ لَا يُزِيلُ

مِلْكَهُ ، وَإِنَّمَا يَحْبِسُ الْعَيْنَ عَنْ الدُّخُولِ فِي مِلْكِ غَيْرِهِ ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ ذَلِكَ امْتِنَاعُ زَوَالِ مِلْكِهِ فَلِزَوَالِ الْمِلْكِ فِي حَقِّهِ يَلْزَمُ حَتَّى لَا يُورَثَ عَنْهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَارِثَ يَخْلُفُ الْمُورَثَ فِي مِلْكِهِ وَكَانَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ أَوَّلًا بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا حَجّ مَعَ الرَّشِيدِ رَحِمَهُ اللَّهُ فَرَأَى وُقُوفَ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بِالْمَدِينَةِ وَنَوَاحِيهَا رَجَعَ فَأَفْتَى بِلُزُومِ الْوَقْفِ فَقَدْ رَجَعَ عِنْدَ ذَلِكَ عَنْ ثَلَاثِ مَسَائِلَ ( إحْدَاهَا ) هَذِهِ ( وَالثَّانِيَةُ ) تَقْدِيرُ الصَّاعِ بِثَمَانِيَةِ أَرْطَالٍ ( وَالثَّالِثَةُ ) أَذَانِ الْفَجْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ .
وَحُجَّتُهُمْ فِي ذَلِكَ الْآثَارُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ مِنْهُمْ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرُ وَعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ فَإِنَّهُمْ بَاشَرُوا الْوَقْفَ وَهُوَ بَاقٍ إلَى يَوْمِنَا هَذَا ، وَكَذَلِكَ وَقْفُ إبْرَاهِيمُ الْخَلِيلِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ بَاقٍ إلَى يَوْمِنَا هَذَا ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } وَالنَّاسُ تَعَامَلُوا بِهِ مِنْ لَدُنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا يَعْنِي اتِّخَاذَ الرِّبَاطَاتِ وَالْخَانَاتِ وَتَعَامُلُ النَّاسِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ حُجَّةٌ ، وَقَدْ اسْتَبْعَدَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْكِتَابِ لِهَذَا وَسَمَّاهُ تَحَكُّمًا عَلَى النَّاسِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ فَقَالَ مَا أَخَذَ النَّاسُ بِقَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ إلَّا بِتَرْكِهِمْ التَّحَكُّمَ عَلَى النَّاسِ .
فَإِذَا كَانُوا هُمْ الَّذِينَ يَتَحَكَّمُونَ عَلَى النَّاسِ بِغَيْرِ أَثَرٍ ، وَلَا قِيَاسٍ لِمَ يُقَلِّدُوا هَذِهِ الْأَشْيَاءَ ، وَلَوْ جَازَ التَّقْلِيدُ كَانَ مَنْ مَضَى مِنْ قَبْلِ أَبِي حَنِيفَةَ

مِثْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَحْرَى أَنْ يُقَلَّدُوا وَلَمْ يُحْمَدْ عَلَى مَا قَالَ .
وَقِيلَ بِسَبَبِ ذَلِكَ انْقَطَعَ خَاطِرُهُ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ تَفْرِيغِ مَسَائِلِ الْوَقْفِ حَتَّى خَاضَ فِي الصُّكُوكِ وَاسْتَكْثَرَ أَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ تَفْرِيغِ مَسَائِلِ الْوَقْفِ كَالْخَصَّافِ وَهِلَالٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَلَوْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي الْأَحْيَاءِ حِين قَالَ مَا قَالَ لَدَمَّرَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ كَمَا قَالَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ رَأَيْت رَجُلًا لَوْ قَالَ هَذِهِ الْأُسْطُوَانَةُ مِنْ ذَهَبٍ لَدَلَّ عَلَيْهِ ، وَلَكِنْ كُلُّ مَجَرِيٍّ بِالْجَلَاءِ يَسُرُّ ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ بِالْمَسْجِدِ فَقَالَ اتِّخَاذُ الْمَسْجِدِ يَلْزَمُ بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ إخْرَاجٌ لِتِلْكَ الْبُقْعَةِ عَنْ مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْخُلَ فِي مِلْكِ أَحَدٍ ، وَلَكِنَّهَا تَصِيرُ مَحْبُوسَةً بِنَوْعِ قُرْبَةٍ قَصَدَهَا .
فَكَذَلِكَ فِي الْوَقْفِ وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْحَبْسِ عَنْ الدُّخُولِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ امْتِنَاعُ خُرُوجِهِ عَنْ مِلْكِهِ ، ثُمَّ لِلنَّاسِ حَاجَةٌ إلَى مَا يَرْجِعُ إلَى مَصَالِحِ مَعَاشِهِمْ وَمَعَادِهِمْ .
فَإِذَا جَازَ هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْإِخْرَاجِ وَالْحَبْسُ لِمَصْلَحَةِ الْمَعَادِ .
فَكَذَلِكَ لِمَصْلَحَةِ الْمَعَاشِ كَبِنَاءِ الْخَانَاتِ وَالرِّبَاطَاتِ وَاِتِّخَاذِ الْمَقَابِرِ ، وَلَوْ جَازَ الْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ لَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يُقَالَ لَا يَلْزَمُ الْمَسْجِدَ وَتَلْزَمُ الْمَقْبَرَةَ حَتَّى لَا يُورَثَ لِمَا فِي النَّبْشِ مِنْ الْإِضْرَارِ وَالِاسْتِبْعَادِ عِنْدَ النَّاسِ ، أَوْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَلْتَزِمَ الْوَقْفُ دُونَ الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّ فِي الْوَقْفِ ، وَإِنْ انْعَدَمَ التَّمْلِيكُ فِي عَيْنِهِ فَلِذَلِكَ يُوجَدُ فِيمَا هُوَ الْمَقْصُودُ بِهِ وَهُوَ التَّصَدُّقُ بِالْغَلَّةِ ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْمَسْجِدِ فَكَانَ هَذَا الْفَرْقُ أَبْعَدَ عَنْ التَّحَكُّمِ مِمَّا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا مَعْنَى مَا احْتَجَّ بِهِ مُحَمَّدٌ

رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَدْ طَوَّلَهُ فِي الْكِتَابِ .
وَيَسْتَدِلُّونَ بِالْعِتْقِ أَيْضًا فَفِيهِ إزَالَةُ الْمِلْكِ الثَّابِتِ فِي الْعَبْدِ مِنْ غَيْرِ تَمْلِيكٍ وَصَحَّ ذَلِكَ عَلَى قَصْدِ التَّقَرُّبِ .
فَكَذَلِكَ فِي الْوَقْفِ وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَقُولُ ابْنُ آدَمَ مَالِي مَالِي وَهَلْ لَك مِنْ مَالِك إلَّا مَا أَكَلْت فَأَفْنَيْت ، أَوْ لَبِسْت فَأَبْلَيْت ، أَوْ تَصَدَّقْت فَأَمْضَيْت وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَهُوَ مَالُ الْوَارِثِ } فَبَيَّنَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ الْإِرْثَ إنَّمَا يَنْعَدِمُ فِي الصَّدَقَةِ الَّتِي أَمْضَاهَا ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ التَّمْلِيكِ مِنْ غَيْرِهِ .
( وَسُئِلَ ) الشَّعْبِيُّ عَنْ الْحَبْسِ فَقَالَ جَاءَ مُحَمَّدُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِبَيْعِ الْحَبْسِ فَهَذَا بَيَانُ أَنَّ لُزُومَ الْوَقْفِ كَانَ فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا وَأَنَّ شَرِيعَتَنَا نَاسِخَةٌ لِذَلِكَ .
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ لَا حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَكِنَّهُمْ يَحْمِلُونَ هَذَا الْأَثَرَ عَلَى مَا كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَصْنَعُونَهُ مِنْ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِّ وَيَقُولُونَ الشَّرْعُ أَبْطَلَ ذَلِكَ كُلَّهُ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ النَّكِرَةُ فِي مَوْضِعِ النَّفْيِ تَعُمُّ فَيَتَنَاوَلُ كُلَّ طَرِيقٍ يَكُونُ فِيهِ حَبْسٌ عَنْ الْمِيرَاثِ إلَّا مَا قَامَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ .
( وَاسْتَدَلَّ ) بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّا مَعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ } فَقَالُوا مَعْنَاهُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ لَا يُورَثُ ذَلِكَ عَنَّا ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ أَمْوَالَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَا تُورَثُ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُد } .
وَقَالَ تَعَالَى { فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْك وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } فَحَاشَا أَنْ يَتَكَلَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ

بِخِلَافِ الْمُنَزَّلِ فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ فِي الْحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّ لُزُومَ الْوَقْفِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَاصَّةً بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْوَعْدَ مِنْهُمْ كَالْعَهْدِ مِنْ غَيْرِهِمْ ، وَلَكِنْ فِي هَذَا الْكَلَامِ نَظَرٌ فَقَدْ اسْتَدَلَّ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى فَاطِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا حِينَ ادَّعَتْ فَدَكَ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهَا ادَّعَتْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَبَ فَدَكَ لَهَا وَأَقَامَتْ رَجُلًا وَامْرَأَةً فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ ضُمِّي إلَى الرَّجُلِ رَجُلًا ، أَوْ إلَى الْمَرْأَةِ امْرَأَةً فَلَمَّا لَمْ تَجِدْ ذَلِكَ جَعَلَتْ تَقُولُ مَنْ يَرِثُك فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَوْلَادِي فَقَالَتْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا أَيَرِثُك أَوْلَادُك ، وَلَا أَرِثُ أَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ { إنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَةٌ } فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بَيَانُ أَنَّ مَا تَرَكَهُ يَكُونُ صَدَقَةً ، وَلَا يَكُونُ مِيرَاثًا عَنْهُ .
وَقَدْ وَقَعَتْ الْفِتْنَةُ بَيْنَ النَّاسِ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَتَرْكُ الِاشْتِغَالِ بِهِ أَسْلَمُ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْعَيْنَ الْمَوْقُوفَةَ فِيهِ كَانَتْ مَمْلُوكَةً قَبْلَ الْوَقْفِ وَبَقِيَتْ بَعْدَهُ مَمْلُوكَةً وَالْمَمْلُوكُ بِغَيْرِ مَالِكٍ لَا يَكُونُ فَمِنْ ضَرُورَةِ بَقَائِهَا مَمْلُوكَةً أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَالِكُ ، أَوْ غَيْرُهُ وَلَمْ تَصِرْ مَمْلُوكَةً لِغَيْرِهِ فَكَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى مِلْكِهِ وَالْوَارِثُ يَخْلُفُ الْمُوَرِّثَ فِي مِلْكِهِ ، وَبَيَانُ قَوْلِنَا أَنَّهَا بَقِيَتْ مَمْلُوكَةً أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهَا عَلَى وَجْهِ الِانْتِفَاعِ بِالْمَمْلُوكَاتِ مِنْ حَيْثُ السُّكْنَى وَالزِّرَاعَةُ وَسَائِرُ وُجُوهِ الِانْتِفَاعَاتِ ، وَلِأَنَّهَا خُلِقَتْ مَمْلُوكَةً فِي الْأَصْلِ ، وَقَدْ تَقَرَّرَ ذَلِكَ بِتَمَامِ الْإِحْرَازِ فَلَا

يُتَصَوَّرُ إخْرَاجُهَا عَنْ أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةً إلَّا أَنْ يَجْعَلَهَا لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا وَبِالْوَقْفِ لَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ .
وَفِي هَذِهِ التَّسْمِيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ مَحْبُوسَةٌ ، وَبِهِ فَارَقَ الْعِتْقَ فَالْآدَمِيُّ خُلِقَ فِي الْأَصْلِ لِيَكُونَ مَالِكًا فَصِفَةُ الْمَمْلُوكِيَّةِ فِيهِ عَارِضٌ مُحْتَمِلٌ لِلرَّفْعِ .
وَإِذَا رُفِعَ كَانَ مَالِكًا كَمَا كَانَ ، وَمِنْ ضَرُورَةِ إثْبَاتِ قُوَّةِ الْمَالِكِيَّةِ انْعِدَامُ الْمَمْلُوكِيَّةِ وَبِخِلَافِ الْمَسْجِدِ فَإِنَّ تِلْكَ الْبُقْعَةَ تَخْرُجُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةً وَتَصِيرُ لِلَّهِ تَعَالَى أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِهَا بِشَيْءٍ مِنْ مَنَافِعِ الْمِلْكِ ، وَإِنْ كَانَتْ تَصْلُحُ لِذَلِكَ ، وَقَدْ وَجَدْنَا لِهَذَا الطَّرِيقِ أَصْلًا فِي الشَّرْعِ وَهُوَ الْكَعْبَةُ فَتِلْكَ الْبُقْعَةُ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصَةً مُتَحَرِّزَةً عَنْ مِلْكِ الْعِبَادِ فَأَلْحَقْنَا سَائِرَ الْمَسَاجِدِ بِهَا وَلَمْ نَجِدْ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْوَقْفِ بَلْ الْوَقْفُ بِمَنْزِلَةِ تَسْيِيبِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا تَخْرُجُ بِهِ الْعَيْنُ مِنْ أَنْ تَكُونَ مَمْلُوكَةً مُنْتَفَعًا بِهَا .
وَلَوْ سَيَّبَ دَابَّتَهُ لَمْ تَخْرُجْ مِنْ مِلْكِهِ .
فَكَذَلِكَ إذَا وَقَفَ أَرْضَهُ ، أَوْ دَارِهِ .
وَإِذَا بَقِيَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ لَا يَمْتَنِعُ الْإِرْثُ فِيهَا إلَّا بِاعْتِبَارِ حَقٍّ يَسْتَثْنِيهِ لِنَفْسِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ ، وَذَلِكَ فِيمَا إذَا أَضَافَ الْوَقْفَ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِنَّهُ تَبْقَى الْعَيْنُ عَلَى حُكْمِ مِلْكِهِ لِشَغْلِهِ إيَّاهُ بِحَاجَتِهِ وَالنَّاسُ لَمْ يَأْخُذُوا قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمَسْأَلَةِ إلَّا بِاشْتِهَارِ الْآثَارِ .
فَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى كَلَامُهُ قَوِيٌّ وَهُوَ يَحْمِلُ الْآثَارَ عَلَى الْوَقْفِ الْمُضَافِ إلَى مَا بَعْدَ الْمَوْتِ ، أَوْ الْمَنْفَعَةِ فِي الْحَيَاةِ ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ ، قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَدْ تَمَّ الْكِتَابُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ .
وَإِنَّمَا الْبَيَانُ بَعْدَ هَذَا عَلَى قَوْلِهِمَا ، ثُمَّ بَدَأَ الْكِتَابَ بِحَدِيثٍ

رَوَاهُ عَنْ صَخْرِ بْنِ جُوَيْرِيَةَ عَنْ نَافِعٍ { أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ تُدْعَى ثَمْغًا وَكَانَ نَخْلًا نَفِيسًا فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي اسْتَفَدْت مَالًا وَهُوَ عِنْدِي نَفِيسٌ أَفَأَتَصَدَّقُ بِهِ فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ لَا يُبَاعُ ، وَلَا يُوهَبُ ، وَلَا يُورَثُ ، وَلَكِنْ لِيُنْفَقَ مِنْ ثَمَرِهِ } ، فَتَصَدَّقَ بِهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَفِي الرِّقَابِ وَالضَّيْفِ وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَلِذِي الْقُرْبَى مِنْهُ ، وَلَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ ، أَوْ يُؤَكِّلَ صَدِيقًا لَهُ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ مِنْهُ .
وَهَذِهِ الْأَرْضُ سَهْمُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِخَيْبَرَ حِينَ قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْبَرَ بَيْنَ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَثَمْغٌ لَقَبٌ لَهَا ، وَقَدْ كَانَتْ لِأَمْلَاكِهِمْ أَلْقَابٌ حَتَّى كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَاقَةٌ يُقَالُ لَهَا الْعَضْبَاءُ وَبَغْلَةٌ يُقَالُ لَهَا دُلْدُلٌ وَفَرَسٌ يُقَالُ لَهُ السَّكَبُ وَحِمَارٌ يُقَالُ لَهُ يَعْفُورٌ وَعِمَامَةٌ تُسَمَّى السَّحَابَةُ ، ثُمَّ فِي هَذَا دَلِيلُ أَنَّ مَنْ قَصَدَ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتَارَ لِذَلِكَ أَنْفَسَ أَمْوَالِهِ وَأَطْيَبَهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ } .
وَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى { ، وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ } ؛ فَلِهَذَا اخْتَارَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْفَسَ أَمْوَالِهِ وَأَطْيَبَهَا لَمَّا أَرَادَ التَّصَدُّقَ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ أَرَادَ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَالْأَوْلَى أَنْ يُقَدِّمَ السُّؤَالَ عَنْ ذَلِكَ وَأَنَّ الرِّبَا لَا يَدْخُلُ فِي هَذَا السُّؤَالِ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ جُهَّالُ الْمُتَقَشِّفَةِ ، ثُمَّ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوَقْفِ

بِقَوْلِهِ تَصَدَّقْ بِأَصْلِهِ لَا يُبَاعُ ، وَلَا يُوهَبُ ، وَلَا يُورَثُ فَهُوَ مِنْ حُجَّةِ مَنْ يَقُولُ بِلُزُومِ الْوَقْفِ .
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ وَقَفَ كَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلَكِنْ لَمْ يَسْتَثْنِ لِلْوَالِي شَيْئًا ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ وَاسِعٌ إنْ اسْتَثْنَى لِلْوَالِي أَنْ يَأْكُلَ بِالْمَعْرُوفِ كَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ صَوَابٌ ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَثْنِ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَهُوَ صَوَابٌ أَيْضًا وَلِلْوَالِي أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ بِالْمَعْرُوفِ مِقْدَارَ حَاجَتِهِ كَمَا أَنَّ لِلْإِمَامِ فِعْلَ ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْمَالِ وَلِوَصِيِّ الْيَتِيمِ ذَلِكَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ إذَا عَمِلَ لَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } ، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُؤَكِّلَ غَيْرَهُ مِمَّنْ لَيْسَ فِي عِيَالِهِ إلَّا إذَا شَرَطَ الْوَاقِفُ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَوْ يُؤَكِّلَ صَدِيقًا لَهُ .
( وَقَوْلُهُ ) غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ مِنْهُ يَعْنِي يَكْتَفِي بِمَا يَأْكُلُ ، وَلَا يَكْتَسِبُ بِهِ الْمَالَ بِالْبَيْعِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ نَظِيرُ الْغَازِي فِي طَعَامِ الْغَنِيمَةِ يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ بِقَدْرِ حَاجَتِهِ ، وَلَا يَتَمَوَّلُ ذَلِكَ بِالْبَيْعِ وَالْإِقْرَاضِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَفِيهِ دَلِيلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْمُتَوَلِّي ، وَفِي قَوْلِهِ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهُ إشَارَةٌ إلَى ذَلِكَ ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ جَعَلَ وَقْفَهُ فِي يَدِ ابْنَتِهِ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ مُحَمَّدُ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ وَلِهَذَا يَأْخُذُ إذَا تَصَدَّقَ بِهَا فِي حَيَاتِهِ فِي صِحَّتِهِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ جَمِيعِ مَالِهِ .
وَإِذَا تَصَدَّقَ بِهِ فِي مَرَضِهِ كَانَ ذَلِكَ مِنْ ثُلُثِهِ ؛ لِأَنَّهُ إزَالَةُ الْمِلْكِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ ،

، ثُمَّ لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَوْ قَالَ تَصَدَّقْت بِأَرْضِي هَذِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ أَنَّهُ لَا يَكُونُ وَقْفًا بَلْ يَكُونُ ذَلِكَ نَذْرًا بِالصَّدَقَةِ إذَا قَصَدَ بِهِ الْإِلْزَامَ فَإِنْ عَيَّنَ إنْسَانًا فَهُوَ تَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ التَّمْلِيكِ ، وَلَا يَتِمُّ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ

، وَلَوْ قَالَ وَقَفْتُ أَرْضِي هَذِهِ ، أَوْ حَبَسْتُهَا ، أَوْ حَرَّمْتُهَا ، أَوْ هِيَ مَوْقُوفَةٌ ، أَوْ مَحْبُوسَةٌ ، أَوْ مُحَرَّمَةٌ فَهَذَا بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ يَحْتَمِلُ فَلَعَلَّ مُرَادَهُ وَقَفْتُهَا عَلَى مِلْكِي لِتَكُونَ مَصْرُوفَةً فِي حَاجَتِي ، أَوْ عَلَى قَضَاءِ دُيُونِي فَإِنْ قَالَ لِإِنْسَانٍ بِعَيْنِهِ وَقَفْتُهَا لَك ، أَوْ حَبَسْتُهَا لَك ، أَوْ قَالَ هِيَ لَك وَقْفٌ ، أَوْ حَبْسٌ فَهُوَ بَاطِلٌ أَيْضًا إلَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَإِنَّهُ يَقُولُ يَكُونُ تَمْلِيكًا مِنْهُ يَتِمُّ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ لَك ، وَقَوْلُهُ وَقْفٌ ، أَوْ حَبْسٌ بَاطِلٌ ، وَوَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ أَنَّ قَوْلَهُ وَقْفٌ ، أَوْ حَبْسٌ تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ لَك فَيَمْنَعُ ذَلِكَ تَمْلِيكَ الْغَيْرِ مِنْهُ وَالْكَلَامُ الْمُبْهَمُ إذَا اقْتَرَنَ بِهِ تَفْسِيرٌ كَانَ الْحُكْمُ لِذَلِكَ التَّفْسِيرِ كَقَوْلِهِ دَارِي لَك سُكْنَى تَكُونُ عَارِيَّةً فَإِنْ قَالَ هِيَ صَدَقَةٌ مَوْقُوفَةٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَأَخْرَجَهَا مِنْ يَدِهِ إلَى يَدِ قَيِّمٍ يَقُومُ بِهَا وَيُنْفِقُ عَلَيْهَا فِي مَرَمَّتِهَا وَإِصْلَاحِ مَجَارِيهَا وَيَزْرَعُهَا وَيَرْفَعُ مِنْ غَلَّتِهَا مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِنَوَائِبِهَا وَيُقَسِّمُ الْبَاقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي كُلِّ سَنَةٍ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ فَهَذِهِ صَدَقَةٌ جَائِزَةٌ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا لِاسْتِجْمَاعِ شَرَائِطِ الْوَقْفِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِلُزُومِ الْوَقْفِ مِنْ الْقِسْمَةِ وَالتَّسْلِيمِ ، وَإِخْرَاجِ الْأَصْلِ عَنْ مِلْكِهِ ، وَالتَّأْبِيدِ فِي جِهَةِ صَرْفِ الْغَلَّةِ مَا بَقِيَتْ الدُّنْيَا ، وَإِنَّمَا يَبْدَأُ مِنْ غَلَّتِهَا بِمَرَمَّتِهَا وَإِصْلَاحِ مَجَارِيهَا ؛ لِأَنَّهَا لَا تَبْقَى مُنْتَفَعًا بِهَا إلَّا بَعْدَ ذَلِكَ وَمَقْصُودُ الْوَاقِفِ أَنْ تَكُونَ الصَّدَقَةُ جَارِيَةً لَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يَنْقَطِعُ بِمَوْتِهِ إلَّا ثَلَاثَةٌ عِلْمٌ عَلَّمَهُ النَّاسَ فَهُمْ يَعْمَلُونَ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَوَلَدٌ صَالِحٌ يَدْعُو لَهُ ، وَصَدَقَةٌ

جَارِيَةٌ لَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ إلَّا سَبْعًا .
وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ نَهْرًا أَكْرَاهُ وَخَانًا بَنَاهُ وَمُصْحَفًا سَبَّلَهُ ، وَإِنَّمَا يُرْفَعُ مِنْ غَلَّتِهَا مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ لِنَوَائِبِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الزِّرَاعَةِ إلَّا بِذَلِكَ ، وَلِأَنَّ الْغَلَّةَ لَا تَطِيبُ مِنْ الْأَرَاضِي الْخَرَاجِيَّةِ إلَّا بِأَدَاءِ الْخَرَاجِ ، وَإِنَّمَا قَصَدَ الْوَاقِفُ أَنْ يَكُونَ التَّصَدُّقُ عَنْهُ بِأَطْيَبَ الْمَالِ ، وَذَلِكَ عِنْدَ أَدَاءِ النَّوَائِبِ ؛ فَلِهَذَا يَرْفَعُ الْوَالِي مِنْ غَلَّتِهَا مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِنَوَائِبِهَا وَيُقَسِّمُ الْبَاقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي كُلِّ سَنَةٍ ، وَلَيْسَ هَذَا بِتَوْقِيتٍ لَازِمٍ ، وَلَكِنْ يُقَسِّمُ عِنْدَ حُصُولِ الْغَلَّةِ ، وَمِنْ الْأَرَاضِي مَا يَغُلُّ فِي السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ وَمِنْهَا مَا يَغُلُّ فِي السَّنَةِ مَرَّةً فَكَمَا حَصَلَتْ الْغَلَّةُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَسِّمَ مَا يَحْصُلُ مِنْ النَّوَائِبِ فِي الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ ، وَلَا يُؤَخِّرُ لِمَا فِي التَّأْخِيرِ مِنْ الْآفَاتِ ، وَفِي التَّعْجِيلِ مِنْ الْقُرْبَةِ تَحْصِيلُ مَقْصُودِ الْوَاقِفِ وَلِذَلِكَ إذَا جَعَلَ أَرْضًا لَهُ مَقْبَرَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَيَأْذَنُ لَهُمْ أَنْ يَقْبُرُوا فِيهَا فَيَفْعَلُونَ فَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ مَا يُخْلِي بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَهَا وَيَقْبُرُوا فِيهَا إنْسَانًا وَاحِدًا ، أَوْ أَكْثَرَ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَشْتَرِطُ التَّسْلِيمَ يَتِمُّ بِهَذَا فَإِنَّ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ قَدْ حَصَلَ إذَا قَبَرُوا فِيهَا إنْسَانًا وَاحِدًا .
وَكَذَلِكَ إذَا جَعَلَهَا خَانًا لِلْمُسْلِمِينَ وَخَلَّى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا فَدَخَلَهَا بِإِذْنِهِ رَجُلٌ وَاحِدٌ ، أَوْ أَكْثَرُ فَلَا سَبِيلَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ يَتِمُّ بِهَذَا ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ الْقَبْضُ مِنْ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فَفِعْلُ الْوَاحِدِ مِنْهُمْ كَفِعْلِ الْجَمَاعَةِ لِلْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْكُلِّ فِيمَا يَثْبُتُ بِهِ مِنْ الْحَقِّ وَهُوَ نَظِيرُ مَا جَعَلَ الشَّرْعُ أَمَانَ الْوَاحِدِ

مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَأَمَانِ الْجَمَاعَةِ .
ثُمَّ النُّزُولُ فِي الْخَانِ وَالدَّفْنِ فِي الْمَقْبَرَةِ مِنْ مَصَالِحِ النَّاسِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَلَمْ نَجْعَلْ الْأَرْضَ كِفَاتًا أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا } وَجَوَازُ الْوَقْفِ لِمَعْنَى الْمَصْلَحَةِ فِيهِ لِلنَّاسِ مِنْ حَيْثُ الْمَعَاشُ وَالْمَعَادُ ، وَكَذَلِكَ الرَّجُلُ يَكُونُ لَهُ الدَّارُ بِمَكَّةَ فَيَجْعَلُهَا سُكْنَى لِلْحَاجِّ وَالْمُعْتَمِرِينَ وَيَدْفَعُهَا إلَى وَلِيٍّ يَقُومُ عَلَيْهَا وَيُسْكِنُ فِيهَا مَنْ زَارَ فَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَرْجِعَ فِيهَا ، وَإِنْ مَاتَ لَمْ تَكُنْ مِيرَاثًا ، وَإِنْ لَمْ يَسْكُنْهَا أَحَدٌ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ سَلَّمَهَا إلَى وَلِيٍّ يَقُومُ عَلَيْهَا فَقَدْ أَخْرَجَهَا مِنْ مِلْكِهِ وَيَدِهِ .
وَالتَّسْلِيمُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَشْتَرِطُ يَكُونُ بِأَحَدِ الطَّرِيقِينَ إمَّا بِإِثْبَاتِ يَدِ الْقَيِّمِ عَلَيْهَا ، أَوْ بِأَنْ يَحْصُلَ الْمَقْصُودُ بِسُكْنَى بَعْضِ النَّاسِ فِيهَا بِإِذْنِهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ جَعَلَ دَارًا لَهُ فِي غَيْرِ مَكَّةَ سُكْنَى لِلْمَسَاكِينِ وَدَفَعَهَا إلَى وَلِيٍّ يَقُومُ بِذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ إنْ جَعَلَهَا سُكْنَى لِلْغُزَاةِ وَالْمُرَابِطِينَ فِي ثَغْرٍ مِنْ الثُّغُورِ ، أَوْ جَعَلَ غَلَّةَ أَرْضِهِ لِلْغُزَاةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى وَدَفَعَ ذَلِكَ إلَى وَلِيٍّ يَقُومُ بِهِ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَلَا سَبِيلَ لَهُ إلَى رَدِّهِ ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ التَّقَرُّبَ بِمَا صَنَعَ .
فَأَمَّا السُّكْنَى فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَسْكُنَهَا الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ مِنْ الْغُزَاةِ وَالْمُرَابِطِينَ وَالْحَاجُّ ، وَكَذَلِكَ نُزُولُ الْخَانِ وَالدَّفْنُ فِي الْمَقْبَرَةِ .
فَأَمَّا الْغَلَّةُ الَّتِي جُعِلَتْ لِلْغُزَاةِ فَلَا يُعْجِبُنِي أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا إلَّا مُحْتَاجٌ إلَيْهَا ؛ لِأَنَّ الْغَلَّةَ مَالٌ يُمْلَكُ وَالتَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِتَمْلِيكِ الْمَالِ يَكُونُ مِنْ الْمُحْتَاجِ خَاصَّةً دُونَ الْغَنِيِّ بِخِلَافِ السُّكْنَى وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى فِي الْفَرْقِ أَنَّ الْغَنِيَّ مُسْتَغْنٍ عَنْ مَالِ الصَّدَقَةِ بِمَالِ نَفْسِهِ وَهُوَ لَا يَسْتَغْنِي بِمَالِهِ عَنْ الْخَانِ لِيَنْزِلَ فِيهِ وَعَنْ الدَّفْنِ فِي

الْمَقْبَرَةِ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَّخِذَ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ وَرُبَّمَا لَا يَجِدُ مَا يَسْتَأْجِرُهُ ؛ فَلِهَذَا يَسْتَوِي فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ وَهُوَ نَظِيرُ مَاءِ السِّقَايَةِ وَالْحَوْضِ وَالْبِئْرِ فَإِنَّهُ يَسْتَوِي فِيهِ الْغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ لِهَذَا الْمَعْنَى ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ لَيْسَ بِمَالٍ قَبْلَ الْإِحْرَازِ وَالنَّاسُ يَتَوَسَّعُونَ فِيهِ عَادَةً ، وَلَا يَخُصُّونَ بِهِ الْفُقَرَاءَ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ بِخِلَافِ الْمُتَصَدِّقِ بِالْمَالِ .
ثُمَّ الْوَاقِفُ وَإِنْ أَطْلَقَ الْغُزَاةَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمُرَادُهُ التَّقَرُّبُ ، وَذَلِكَ بِصَرْفِ الْمَالِ إلَى الْمُحْتَاجِينَ مِنْهُمْ ، وَفِي اللَّفْظِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ شَرْعًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَصْنَافِ الصَّدَقَاتِ ، { وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ } ، ثُمَّ يَصْرِفُ الصَّدَقَةَ إلَى الْفُقَرَاءِ مِنْ الْغُزَاةِ دُونَ الْأَغْنِيَاءِ .
وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ مَتَى ذَكَرَ مَصْرِفًا فِيهِ تَنْصِيصٌ عَلَى الْفَقْرِ وَالْحَاجَةِ فَهُوَ صَحِيحٌ سَوَاءٌ كَانُوا يُحْصَوْنَ ، أَوْ لَا يُحْصَوْنَ ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى وَمَتَى ذَكَرَ مَصْرِفًا يَسْتَوِي فِيهِ الْأَغْنِيَاءُ وَالْفُقَرَاءُ فَإِنْ كَانُوا يُحْصَوْنَ فَذَلِكَ صَحِيحٌ لَهُمْ بِاعْتِبَارِ أَعْيَانِهِمْ ، وَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ فَهُوَ بَاطِلٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْحَاجَةِ اسْتِعْمَالًا بَيْنَ النَّاسِ لَا بِاعْتِبَارِ حَقِيقَةِ اللَّفْظِ كَالْيَتَامَى فَحِينَئِذٍ إنْ كَانُوا يُحْصَوْنَ فَالْفُقَرَاءُ وَالْأَغْنِيَاءُ فِيهِ سَوَاءٌ ، وَإِنْ كَانُوا لَا يُحْصَوْنَ فَالْوَقْفُ صَحِيحٌ وَتُصْرَفُ إلَى فُقَرَائِهِمْ دُونَ أَغْنِيَائِهِمْ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِعْمَالَ بِمَنْزِلَةِ الْحَقِيقَةِ فِي جَوَازِ تَصْحِيحِ الْكَلَامِ بِاعْتِبَارِهِ وَتَمَامُ بَيَانِ هَذِهِ الْفُصُولِ فِي كِتَابِ الْوَصَايَا .

قَالَ ( وَإِنْ جَعَلَ أَرْضًا لَهُ مَسْجِدًا لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَبَنَاهَا وَأَذِنَ لِلنَّاسِ بِالصَّلَاةِ فِيهَا وَأَبَانَهَا مِنْ مِلْكِهِ فَأَذَّنَ فِيهِ الْمُؤَذِّنُ وَصَلَّى النَّاسُ جَمَاعَةً صَلَاةً وَاحِدَةً ، أَوْ أَكْثَرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ ، وَإِنْ مَاتَ لَمْ يَكُنْ مِيرَاثًا ) ؛ لِأَنَّهُ حَرَزَهَا عَنْ مِلْكِهِ وَجَعَلَهَا خَالِصَةً لِلَّهِ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ } .
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { مَنْ بَنَى لِلَّهِ مَسْجِدًا ، وَلَوْ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ بَنَى اللَّهُ تَعَالَى لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ } ، وَلَا رُجُوعَ لَهُ فِيمَا جَعَلَهُ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا كَالصَّدَقَةِ الَّتِي أَمْضَاهَا ، ثُمَّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ يَصِيرُ مَسْجِدًا إذَا أَبَانَهُ عَنْ مِلْكِهِ وَأَذِنَ لِلنَّاسِ بِالصَّلَاةِ فِيهِ ، وَإِنْ لَمْ يُصَلِّ فِيهِ أَحَدٌ كَمَا فِي الْوَقْفِ عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ الْوَقْفَ يَتِمُّ بِفِعْلِ الْوَاقِفِ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيمٍ إلَى الْمُتَوَلِّي ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَصِيرُ مَسْجِدًا مَا لَمْ يُصَلِّ النَّاسُ فِيهِ بِالْجَمَاعَةِ ، بَنَى عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ الْوَقْفَ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْمُتَوَلِّي وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهِ رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَةِ الْحَسَنِ عَنْهُ يُشْتَرَطُ إقَامَةُ الصَّلَاةِ فِيهِ بِالْجَمَاعَةِ ، وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِهِ عَنْهُ قَالَ إذَا صَلَّى فِيهِ وَاحِدٌ يَصِيرُ مَسْجِدًا ، وَإِنْ لَمْ يُصَلِّ بِالْجَمَاعَةِ .
وَجْهُ رِوَايَةِ الْحَسَنِ أَنَّ تَمَامَ التَّبَرُّعِ بِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِهِ بِدَلِيلِ الصَّدَقَةِ فَالْمَقْصُودُ بِهَا إغْنَاءُ الْمُحْتَاجِ ، ثُمَّ لَا يَتِمُّ مَا لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْمَقْصُودُ بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ فَهُنَا الْمَقْصُودُ مِنْ الْمَسَاجِدِ إقَامَةُ الصَّلَاةِ فِيهَا بِالْجَمَاعَةِ ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ وَجْهِ الْأَرْضِ مَوْضِعُ الصَّلَاةِ ، وَإِنَّمَا تُبْنَى الْمَسَاجِدُ لِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِيهَا بِالْجَمَاعَةِ فَلَا تَصِيرُ مَسْجِدًا قَبْلَ حُصُولِ هَذَا الْمَقْصُودِ ، وَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ الْمَقْصُودَ أَنَّ الْمَسْجِدَ مَوْضِعُ السُّجُودِ ، وَقَدْ

حَصَلَ ذَلِكَ بِالصَّلَاةِ فِيهِ مُنْفَرِدًا كَانَ أَوْ بِجَمَاعَةٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَنُوبُ عَنْ جَمَاعَتِهِمْ فِيمَا هُوَ حَقُّهُمْ فَتُجْعَلُ صَلَاةُ الْوَاحِدِ فِيهِ كَصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي نُزُولِ الْخَانِ وَالدَّفْنِ فِي الْمَقْبَرَةِ وَرُوِيَ ) عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَشُرَيْحٍ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَالُوا لَا تَجُوزُ الصَّدَقَةُ حَتَّى يَقْبِضَ ، وَبِهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْقَبْضِ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمُتَصَدِّقَ يَجْعَلُ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى بِإِخْرَاجِهِ عَنْ مِلْكِهِ وَحَقِّهِ ، وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِالْإِخْرَاجِ مِنْ يَدِهِ ، وَلَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى فِي الصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ .
وَقَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ مُجَرَّدُ الْإِعْلَامِ يَكْفِي لِذَلِكَ لِمَا جَاءَ فِي الْأَثَرِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ إذَا أُعْلِمَتْ الصَّدَقَةُ جَازَتْ وَجَعَلُوا ذَلِكَ قِيَاسَ الْعِتْقِ فَإِنَّ الْعِتْقَ يُزِيلُ الْمُعْتَقَ عَنْ مِلْكِهِ وَيَجْعَلُهُ لِلَّهِ تَعَالَى ، ثُمَّ يَتِمُّ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ .
فَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ ، وَلِأَنَّ الْآخِذَ لِلصَّدَقَةِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ } .
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ { إنَّ الصَّدَقَةَ تَقَعُ فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ فَيُرَبِّيهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَصِيرَ مِثْلَ أُحُدٍ } ، وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذَا فِي ضِمْنِ الِاتِّصَالِ إلَى الْفَقِيرِ لِيَكُونَ الْفَقِيرُ آخِذًا كِفَايَتَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَكِفَايَةُ الْعَبْدِ عَلَى مَوْلَاهُ ، وَقَدْ وَعَدَ لَهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا } ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُعْطِي مِنَّةٌ عَلَى الْقَابِضِ ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ إلَى الْفَقِيرِ

فَلَا تَتِمُّ الصَّدَقَةُ بِخِلَافِ الْعِتْقِ فَالْعَبْدُ فِي يَدِ نَفْسِهِ فَيَصِيرُ قَابِضًا نَفْسَهُ مَعَ أَنَّ الْمُعْتِقَ مُتْلِفٌ لِلْمِلْكِ وَالرِّقِّ فِيهِ وَالْإِتْلَافُ يَتِمُّ بِالتَّلَفِ وَالْمُتَصَدِّقُ غَيْرُ مُتْلِفٍ لِلْمِلْكِ بَلْ جَاعِلُ الْمِلْكِ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا ، وَذَلِكَ فِي ضِمْنِ التَّمْلِيكِ مِنْ الْفَقِيرِ فَكَمَا أَنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ الْفَقِيرِ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ .
فَكَذَلِكَ جَعْلُهُ لِلَّهِ تَعَالَى .
.
فَأَمَّا الصَّدَقَةُ الْمَوْقُوفَةُ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَلْزَمُ بِالْإِعْلَامِ ، وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْهَا مِنْ يَدِهِ إلَى يَدِ الْمُتَوَلِّي وَعَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَتِمُّ إلَّا بِالْإِخْرَاجِ مِنْ يَدِهِ وَالتَّسْلِيمِ إلَى الْمُتَوَلِّي وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَحُجَّتُهُ فِي ذَلِكَ أَنَّ إزَالَةَ الْمِلْكِ بِطَرِيقِ التَّبَرُّعِ فَتَمَامُهُ بِالتَّسْلِيمِ كَمَا فِي الصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَزِمَهُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ لَصَارَتْ يَدُهُ مُسْتَحَقَّةً عَلَيْهِ وَالتَّبَرُّعُ لَا يَصْلُحُ سَبَبًا لِلِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْمُتَبَرِّعِ فِي غَيْرِ مَا تَبَرَّعَ بِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُتَبَرِّعًا فِي إزَالَةِ يَدِهِ كَمَا فِي إزَالَةِ مِلْكِهِ .
وَذَلِكَ بِأَنْ لَمْ تَتِمَّ الصَّدَقَةُ قَبْلَ التَّسْلِيمِ بَلْ هَذَا أَوْلَى مِنْ الصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ فَإِنَّ جَوَازَ ذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، وَفِي جَوَازِ الصَّدَقَةِ الْمَوْقُوفَةِ وَلُزُومِهَا خِلَافٌ ظَاهِرٌ ، ثُمَّ تِلْكَ الصَّدَقَةُ مَعَ قُوَّتِهَا لَا تَتِمُّ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ فَهَذَا أَوْلَى .
وَقَالَ فِي الْكِتَابِ مَنْ جَوَّزَ الصَّدَقَةَ غَيْرَ مَقْبُوضَةٍ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَ الصَّدَقَةِ الْمَوْقُوفَةِ وَالْمُنَفَّذَةِ وَهُوَ قَوْلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، وَكَذَلِكَ مَنْ لَمْ يُجَوِّزْهَا إلَّا مَقْبُوضَةً وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ نَوْعِ التَّحَكُّمِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ هَذِهِ إزَالَةُ مِلْكٍ لَا تَتَضَمَّنُ التَّمْلِيكَ

فَتَتِمُّ بِدُونِ الْقَبْضِ كَالْعِتْقِ بِخِلَافِ الصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ فَإِنَّهَا تَتَضَمَّنُ التَّمْلِيكَ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْقَبْضَ إنَّمَا يُعْتَبَرُ مِنْ الْمُتَمَلِّكِ ، أَوْ مِنْ نَائِبِهِ لِيَتَأَكَّدَ بِهِ مِلْكُهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ قَبْضُ غَيْرِهِ لَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَالصَّدَقَةُ الْمَوْقُوفَةُ لَا يَتَمَلَّكُهَا أَحَدٌ فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ الْقَبْضِ فِيهَا ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُتَوَلِّيَ مُخْتَارُ الْوَاقِفِ فَيَدُهُ تَقُومُ مَقَامَ يَدِ الْوَاقِفِ لَا مَقَامَ يَدِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ مَا اخْتَارَهُ وَرُبَّمَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَيْضًا .
فَإِذَا كَانَتْ تَتِمُّ بِيَدِ مَنْ اخْتَارَهُ الْوَاقِفُ فَبِيَدِ الْوَاقِفِ أَوْلَى بِخِلَافِ الْعَدْلِ فِي الرَّهْنِ فَإِنَّ يَدَهُ كَيَدِ الْمُرْتَهِنِ هُنَاكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ عَدْلًا إلَّا بِرِضَا الْمُرْتَهِنِ وَاخْتِيَارِهِ ؛ وَلِهَذَا يَصِيرُ الْمُرْتَهِنُ مُسْتَوْفِيًا دَيْنَهُ بِهَلَاكِهِ فِي يَدِ الْعَدْلِ ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ ثَبَتَ فِي الْعَيْنِ فَتَمَكَّنَ فَيُجْعَلُ الْعَدْلُ نَائِبًا عَنْهُ وَهُنَا الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ فِي الْغَلَّةِ لَا فِي الْعَيْنِ فَلَا يُمْكِنُ جَعْلُ الْمُتَوَلِّي نَائِبًا عَنْهُ فِي قَبْضِ الْعَيْنِ بَلْ هُوَ نَائِبٌ عَنْ الْوَاقِفِ فَلَا مَعْنَى لِاشْتِرَاطِ قَبْضِهِ ، وَاسْتَدَلَّ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْكِتَابِ بِحَدِيثِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ جَعَلَ وَقْفَهُ فِي يَدِ ابْنَتِهِ حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيَتِمَّ الْوَقْفُ ، وَلَكِنْ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ فَعَلَ ذَلِكَ لِكَثْرَةِ اشْتِغَالِهِ وَخَافَ التَّقْصِيرَ مِنْهُ فِي أَوَانِهِ ، أَوْ لِيَكُونَ فِي يَدِهَا بَعْدَ مَوْتِهِ .
فَأَمَّا أَنْ يَكُونَ فَعَلَهُ لِإِتْمَامِ الْوَقْفِ فَلَا وَكَانَ الْقَاضِي أَبُو عَاصِمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى أَقْوَى لِمُقَارَبَتِهِ بَيْنَ الْوَقْفِ وَالْعِتْقِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَيْسَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْنَى التَّمْلِيكِ وَقَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَقْرَبُ إلَى مُوَافَقَةِ الْآثَارِ

وَعَلَى هَذَا الْخَانُ وَالرِّبَاطُ يَتِمُّ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِالتَّخْلِيَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ ، وَإِنْ لَمْ يَنْزِلْ فِيهِ أَحَدٌ ، وَلَا يَتِمُّ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْمُتَوَلِّي ، أَوْ بِنُزُولِ النَّاسِ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ الْمَقْبَرَةُ وَالسِّقَايَةُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ إلَى قَيِّمٍ يَقُومُ عَلَيْهِ ، أَوْ بِأَنْ يَدْفِنُوا فِي الْمَقْبَرَةِ رَجُلًا وَاحِدًا ، أَوْ يُسْقَى مِنْ السِّقَايَةِ رَجُلٌ وَاحِدٌ .
وَكَذَلِكَ الْمَسْجِدُ إلَّا أَنَّ فِي الْمَسْجِدِ تَمَامَهُ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بِأَنْ يُصَلِّيَ النَّاسُ فِيهِ بِالْجَمَاعَةِ ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيمَ إلَى الْمُتَوَلِّي فِي الْمَسْجِدِ لَا يَتَحَقَّقُ إذْ لَا تَدْبِيرَ فِيهِ لِلْمُتَوَلِّي فِي اخْتِيَارِ مَنْ يُصَلِّي بِالْمَسْجِدِ ، أَوْ الِاسْتِغْلَالِ ؛ لِأَنَّ الْمَسْجِدَ قَدْ تَحَرَّزَ عَنْ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ لَا تَدْبِيرَ لِأَحَدٍ فِي سَدِّ بَابِ الْمَسْجِدِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ كُرِهَ لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ أَنْ يُغْلِقُوا بَابَ الْمَسْجِدِ فَكَيْف بِغَيْرِهِمْ ؛ فَلِهَذَا يُوقَفُ التَّمَامُ عَلَى إقَامَةِ الصَّلَاةِ فِيهِ بِالْجَمَاعَةِ ، وَفِي سَائِرِ الْوَقْفِ لِلْمُتَوَلِّي تَدْبِيرٌ فِي ذَلِكَ فَجُعِلَ التَّسْلِيمُ إلَى الْمُتَوَلِّي مُتَمِّمًا لِلصَّدَقَةِ ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ فِي سَائِرِ الْوَقْفِ مَنْفَعَةُ الْعِبَادِ فَيُمْكِنُ جَعْلُ يَدِ الْمُتَوَلِّي فِي ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ يَدِهِمْ ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا إقَامَةُ الْعِبَادَةِ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الْمَسْجِدِ خَالِصًا ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ إلَّا بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِيهِ .

قَالَ ( وَلَوْ وَقَفَ نِصْفَ أَرْضٍ ، أَوْ نِصْفَ دَارٍ مُشَاعًا عَلَى الْفُقَرَاءِ فَذَلِكَ جَائِزٌ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) ؛ لِأَنَّ الْقِسْمَةَ مِنْ تَتِمَّةِ الْقَبْضِ فَإِنَّ الْقَبْضَ لِلْحِيَازَةِ وَتَمَامُ الْحِيَازَةِ فِيمَا يُقْسَمُ بِالْقِسْمَةِ ، ثُمَّ أَصْلُ الْقَبْضِ عِنْدَهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي الصَّدَقَةِ الْمُوَقْوِقَةِ .
فَكَذَلِكَ مَا هُوَ مِنْ تَتِمَّةِ الْوَقْفِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْوَقْفَ عَلَى مَذْهَبِهِ قِيَاسُ الْعِتْقِ وَالشُّيُوعُ لَا يَمْنَعُ الْعِتْقَ .
فَكَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ الْوَقْفَ إلَّا أَنَّ الْعِتْقَ لَا يَتَجَزَّأُ عِنْدَهُ لِمَا فِي التَّجْزِيءِ مِنْ تَضَادِّ الْأَحْكَامِ عِنْدَهُ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْوَقْفِ فَيَحْتَمِلُ التَّجْزِيءَ وَيَتِمُّ مَعَ الشُّيُوعِ فِي الْقَدْرِ الَّذِي أَوْقَفَهُ .
وَأَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَتِمُّ الْوَقْفُ مَعَ الشُّيُوعِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ؛ لِأَنَّ عَلَى مَذْهَبِهِ أَصْلُ الْقَبْضِ شَرْطٌ لِتَمَامِ الْوَقْفِ .
فَكَذَلِكَ مَا يَتِمُّ بِهِ الْقَبْضُ وَتَمَامُ الْقَبْضِ فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ بِالْقِسْمَةِ وَاعْتَبَرَهُ بِالصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ فَإِنَّهَا لَا تَتِمُّ فِي مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ كَالْهِبَةِ ، وَيَتِمُّ فِي مُشَاعٍ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ؛ لِأَنَّهُ بِالْقِسْمَةِ يَتَلَاشَى فَلَا تَكُونُ الْقِسْمَةُ فِيهِ حِيَازَةً .
فَكَذَلِكَ الصَّدَقَةُ الْمَوْقُوفَةُ تَجُوزُ فِي مُشَاعٍ لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ، وَلَا تَجُوزُ فِي مُشَاعٍ يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ مَا لَمْ يُقَسَّمْ ، وَعَلَى هَذَا الْخَانُ وَالْمَقْبَرَةُ وَالْمَسْجِدُ وَالسِّقَايَةُ يَعْنِي فِيمَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ مِنْ الشُّيُوعِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى .
فَأَمَّا الْمَسْجِدُ وَالْمَقْبَرَةُ لَا تَتِمُّ مَعَ الشُّيُوعِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ؛ لِأَنَّ بَقَاءَ الشَّرِكَةِ يَمْنَعُ أَنْ تَكُونَ الْبُقْعَةُ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا ، وَلِأَنَّا لَوْ جَوَّزْنَا ذَلِكَ وَقَعَتْ الْحَاجَةُ إلَى الْمُهَايَأَةِ فَتُقْبَرُ فِيهِ الْمَوْتَى فِي سَنَةٍ ، ثُمَّ تُنْبَشُ فِي

سَنَةٍ أُخْرَى وَيُزْرَعُ لِمُرَاعَاةِ حَقِّ الْمَالِكِ وَيُصَلِّي النَّاسُ فِي الْمَسْجِدِ فِي وَقْتٍ وَيُتَّخَذُ إصْطَبْلًا فِي وَقْتٍ آخَرَ بِحُكْمِ الْمُهَايَأَةِ ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ بِخِلَافِ الْوَقْفِ فَالْمَقْصُودُ هُنَاكَ الِاسْتِغْلَالُ فِيمَا بَقِيَ مِنْهُ مِلْكًا ، وَفِيمَا صَارَ مِنْهُ وَقْفًا فَلَوْ جَازَ مَعَ الشُّيُوعِ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ لَا يُؤَدِّي إلَى تَضَادِّ الْأَحْكَامِ بَلْ يُسْتَغَلُّ وَتُقَسَّمُ الْغَلَّةُ عَلَى قَدْرِ الْمِلْكِ وَالْوَقْفِ مِنْهُ ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ .
وَكَذَلِكَ لَوْ جَعَلَ جَمِيعَ الْأَرْضَ ، أَوْ الدَّارَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَأَخْرَجَهُ مِنْ يَدِهِ ، ثُمَّ اسْتَحَقَّ بَعْضَهُ مُشَاعًا بَطَل فِي الْكُلِّ وَرَجَعَ الْبَاقِي إلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ وَإِلَى وَارِثِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ ؛ لِأَنَّ بِالِاسْتِحْقَاقِ يَتَبَيَّنُ بُطْلَانُ تَصَدُّقِهِ فِي الْقَدْرِ الْمُسْتَحَقِّ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَمْلُوكًا لَهُ يَوْمئِذٍ ، وَلَا أَجَازَهُ مَالِكُهُ ، وَلَوْ جَازَ فِي الْقَدْرِ الْمَمْلُوكِ لَكَانَ لُزُومُهُ ابْتِدَاءً فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِيمَا لَا يَحْتَمِلُ الْقِسْمَةَ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا فَعَلَهُ فِي مَرَضِهِ ، ثُمَّ مَاتَ ، وَلَا مَالَ لَهُ سِوَاهُ فَأَبْطَلَهُ الْوَارِثُ فِيمَا زَادَ عَنْ الثُّلُثِ بَقِيَ الثُّلُثُ صَحِيحًا ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْوَارِثِ إنَّمَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِبْطَالُهُ فِي الْقَدْرِ الَّذِي لَهُ إبْطَالُهُ يَقْتَصِرُ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ فَلَا يَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْوَقْفِ فِي الْجُزْءِ الشَّائِعِ وَأَصْلُ هَذَا الْفَرْقِ فِي الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ فَإِنَّ رُجُوعَ الْوَارِثِ فِي الْبَعْضِ كَرُجُوعِ الْوَاهِبِ ، وَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ بَقَاءَ الْهِبَةِ فِيمَا بَقِيَ ؛ لِأَنَّهُ شُيُوعٌ طَارِئٌ .
فَكَذَلِكَ فِي الصَّدَقَةِ الْمَوْقُوفَةِ ، وَإِنْ اسْتَحَقَّ بَعْضَهُ مُمَيَّزًا بِعَيْنِهِ كَانَ مَا فَعَلَهُ جَائِزًا فِيمَا بَقِيَ مَاضِيًا لِوَجْهِهِ ؛ لِأَنَّ بِهَذَا الِاسْتِحْقَاقَ لَمْ يَتَبَيَّنْ الشُّيُوعُ فِيمَا بَقِيَ فَإِنَّ الْمُسْتَحَقَّ مُمَيَّزٌ مِمَّا بَقِيَ فَهُوَ

بِمَنْزِلَةِ دَارَيْنِ وَقَفَهُمَا فَاسْتُحِقَّتْ إحْدَاهُمَا ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ إذَا كَانَ الْمُسْتَحَقُّ مُمَيَّزًا يُقَرِّرُ الصَّدَقَةَ فِيمَا بَقِيَ ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ فِي الْهِبَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَحَقَّ جُزْءًا شَائِعًا ، وَلَا فَرْقَ عِنْدَ اسْتِحْقَاقِ الْجُزْءِ الشَّائِعِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَحَقُّ كَثِيرًا ، أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ لِأَنَّ الْمَانِعَ الشُّيُوعُ ، وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ بِاسْتِحْقَاقِ جُزْءٍ قَلَّ ذَلِكَ ، أَوْ كَثُرَ .

قَالَ ( وَإِذَا كَانَتْ الْأَرْضُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَتَصَدَّقَا بِهَا صَدَقَةً مَوْقُوفَةً عَلَى بَعْضِ الْوُجُوهِ الَّتِي وَصَفْنَاهَا وَدَفَعَاهَا إلَى وَلِيٍّ يَقُومُ بِهَا كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا ) ؛ لِأَنَّ مِثْلَهُ فِي الصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ جَائِزٌ إذَا تَصَدَّقَ رَجُلَانِ عَلَى وَاحِدٍ وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْمَانِعَ مِنْ تَمَامِ الصَّدَقَةِ شُيُوعٌ فِي الْمَحِلِّ ، وَلَا شُيُوعَ هُنَا فَقَدْ صَارَ الْكُلُّ صَدَقَةً مَعَ كَثْرَةِ الْمُتَصَدِّقِينَ بِهَا وَالْقَبْضُ لِلْمُتَوَلِّي فِي الْكُلِّ وُجِدَ جُمْلَةً وَاحِدَةً فَهُوَ وَمَا لَوْ تَصَدَّقَ رَجُلٌ وَاحِدٌ سَوَاءٌ ، وَلَوْ تَصَدَّقَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنِصْفِهَا شَائِعًا عَلَى حِدَةٍ صَدَقَةً مَوْقُوفَةً وَجَعَلَ لَهَا وَالِيًا عَلَى حِدَةٍ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُمَا صَدَقَتَانِ مُتَفَرِّقَتَانِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا تَصَدَّقَ بِنَصِيبِهِ بِعَقْدٍ عَلَى حِدَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّهُ جَعَلَ لِنَصِيبِهِ وَالِيًا عَلَى حِدَةٍ وَمِثْلُهُ فِي الصَّدَقَةِ الْمُنَفَّذَةِ لَا يَجُوزُ حَتَّى لَوْ تَصَدَّقَ أَحَدُهُمَا بِنِصْفِهَا مُشَاعًا عَلَى رَجُلٍ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ تَصَدَّقَ الْآخَرُ بِالنِّصْفِ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَجُزْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ قَبْضَةَ فِي نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لَاقَى جُزْءًا شَائِعًا .
فَكَذَلِكَ قَبْضُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَالِيَيْنِ هُنَا لَاقَى جُزْءًا شَائِعًا .

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96