كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي

( قَالَ وَلَيْسَ يَجِبُ عَلَى الْفَقِيهِ أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ إلَّا لِغَائِبٍ حَضَرَ خُرُوجَهُ مِمَّنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَشْتَهِرْ فِي أَهْلِ مِصْرِهِ ) يَعْنِي بِهَذَا أَنَّ أَصْلَ الْبَيَانِ وَاجِبٌ ، وَلَكِنَّ الْوَقْتَ مُوَسَّعٌ ، وَإِنَّمَا يَتَضَيَّقُ عِنْدَ خَوْفِ الْفَوْتِ كَمَا بَيَّنَّا فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاَلَّذِي أَتَاهُ كَانَ قَصْدُهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ مِنْهُ مَا لَمْ يَشْتَهِرْ فِي مِصْرِهِ مِمَّا فِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلنَّاسِ حَتَّى يُفْتِيَهُمْ بِذَلِكَ إذَا رَجَعَ إلَيْهِمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ } الْآيَةَ فَمَا لَمْ يَعْزِمْ عَلَى الرُّجُوعِ كَانَ الْوَقْتُ فِي التَّعْلِيمِ وَاسِعًا عَلَى الْمُعَلِّمِ ، وَإِذَا عَزَمَ عَلَى الْخُرُوجِ ، فَقَدْ تَضَيَّقَ الْوَقْتُ فَلَا يَسَعُهُ تَأْخِيرُ الْبَيَانِ بَعْدَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الصَّلَاةِ بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ فَرْضٌ ، وَلَكِنَّ الْوَقْتَ وَاسِعٌ ، فَإِذَا بَلَغَ آخِرَ الْوَقْتِ تَضَيَّقَ فَلَا يَسَعُهُ التَّأْخِيرُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَهَذَا فِيمَا لَمْ يَشْتَهِرْ فِي أَهْلِ مِصْرٍ فَأَمَّا فِيمَا اشْتَهَرَ فِيهِمْ فَلَا حَاجَةَ وَلَا ضَرُورَةَ ؛ لِأَنَّ الرَّاجِعَ يَتَمَكَّنُ مِنْ تَحْصِيلِ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ مِصْرٍ ، وَأَهْلُ مِصْرٍ يَتَوَصَّلُونَ إلَى ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ عُلَمَائِهِمْ دُونَ هَذَا الرَّاجِعِ إلَيْهِمْ وَالْمُؤْمِنُونَ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ يَعْنِي إذَا تَأَلَّمَ بَعْضُ الْجَسَدِ تَأَلَّمَ الْكُلُّ ، وَإِذَا نَالَ الرَّاحَةَ بَعْضُ الْجَسَدِ اشْتَرَكَ فِي ذَلِكَ الْأَعْضَاءُ ، فَإِذَا كَانَ مَشْهُورًا فِي أَهْلِ مِصْرٍ لَا يَنْدَرِسُ بِامْتِنَاعِ هَذَا الْعَالِمِ مِنْ الْبَيَانِ لَهُ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَشْهُورًا فِيهِمْ فَتَرْكُ الْبَيَانِ يُؤَدِّي إلَى الِانْدِرَاسِ فِي حَقِّهِمْ فَكَمَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْبَيَانَ لِأَهْلِ مِصْرٍ حَتَّى يَنْدَرِسَ فَكَذَا لَا يَحِلُّ تَرْكُ الْبَيَانِ لِلَّذِي ارْتَحَلَ إلَيْهِ مِنْ مَوْضِعٍ آخَرَ لِهَذَا الْمَقْصُودِ ، وَهُوَ غَيْرُ مَشْهُورٍ فِي أَهْلِ مِصْرٍ ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ أَوْلَادَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ

خَلْقًا لَا تَقُومُ أَبْدَانُهُمْ إلَّا بِأَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَاللِّبَاسُ وَالْكِنُّ ، أَمَّا الطَّعَامُ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا } الْآيَةَ وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ { كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } ، وَأَمَّا الشَّرَابُ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَجَعَلْنَا مِنْ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا { وَكُلُوا وَاشْرَبُوا } ، وَأَمَّا اللِّبَاسُ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ } الْآيَةَ ، وَأَمَّا الْكِنُّ فَلِأَنَّهُمْ خُلِقُوا خَلْقًا لَا تُطِيقُ أَبْدَانُهُمْ مَعَهُ أَذَى الْحَرِّ وَالْبَرْدِ ، وَلَا تَبْقَى عَلَى شِدَّتِهِمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا } فَيَحْتَاجُ إلَى دَفْعِ أَذَى الْحَرِّ وَالْبَرْدِ عَنْ نَفْسِهِ لِتَبْقَى نَفْسُهُ فَيُؤَدِّي بِهَا مَا تَحَمَّلَ مِنْ أَمَانَةِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ إلَّا بِكِنٍّ فَصَارَ الْكِنُّ لِهَذَا بِمَعْنَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ

( قَالَ : وَقَدْ دَلَّهُمْ الْمَعَاشُ بِأَسْبَابٍ فِيهَا حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ ) يَعْنِي أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَعَلُّمِ جَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي عُمْرِهِ ، فَلَوْ اشْتَغَلَ بِذَلِكَ فَنِيَ عُمْرُهُ قَبْلَ أَنْ يَتَعَلَّمَ وَمَا لَمْ يَتَعَلَّمْ لَا يُمْكِنُهُ أَنَّهُ يَحْصُلُ لِنَفْسِهِ ، وَقَدْ تَعَلَّقَتْ بِهِ مَصَالِحُ الْمَعِيشَةِ فَيَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تَعَلُّمَ نَوْعٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يَتَوَصَّلَ إلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ النَّوْعِ بِعِلْمِهِ فَيَتَوَصَّلُ غَيْرُهُ إلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ بِعِلْمِهِ أَيْضًا وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ { الْمُؤْمِنُونَ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا } وَبَيَانُ هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى { وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } الْآيَةَ ، يَعْنِي أَنَّ الْفَقِيرَ مُحْتَاجٌ إلَى مَالِ الْغَنِيِّ وَالْغَنِيَّ يَحْتَاجُ إلَى عَمَلِ الْفَقِيرِ فَهُنَا أَيْضًا الزَّارِعُ يَحْتَاجُ إلَى عَمَلِ النَّسَّاجِ لِيُحَصِّلَ اللِّبَاسَ لِنَفْسِهِ وَالنَّسَّاجُ يَحْتَاجُ إلَى عَمَلِ الزَّارِعِ لِيُحَصِّلَ الطَّعَامَ وَالْقُطْنَ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ اللِّبَاسُ لِنَفْسِهِ ثُمَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِيمَا يُقِيمُ مِنْ الْعَمَلِ يَكُونُ مُعِينًا لِغَيْرِهِ فِيمَا هُوَ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ ، فَإِنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ إقَامَةِ الْقُرْبَةِ بِهَذَا يَحْصُلُ فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْله تَعَالَى { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا دَامَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ } وَسَوَاءٌ أَقَامَ ذَلِكَ الْعَمَلَ بِعِوَضٍ شَرَطَهُ عَلَيْهِ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، فَإِذَا كَانَ قَصْدُهُ مَا بَيَّنَّا كَانَ فِي عَمَلِهِ مَعْنَى الطَّاعَةِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى } ، فَإِذَا نَوَى الْعَامِلُ بِعَمَلِهِ التَّمَكُّنَ مِنْ إقَامَةِ الطَّاعَةِ أَوْ تَمْكِينِ أَخِيهِ مِنْ ذَلِكَ كَانَ مُثَابًا عَلَى عَمَلِهِ

بِاعْتِبَارِ نِيَّتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُتَنَاكِحَيْنِ إذَا قَصَدَا بِفِعْلِهِمَا ابْتِغَاءَ الْوَلَدِ وَتَكْثِيرَ عِبَادِ اللَّهِ تَعَالَى وَأُمَّةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَهُمَا الثَّوَابُ عَلَى عَمَلِهِمَا ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ الْفِعْلُ لِقَضَاءِ الشَّهْوَةِ فِي الْأَصْلِ وَلَكِنْ بِالنِّيَّةِ يَصِيرُ مَعْنَى الْقُرْبَةِ أَصْلًا وَيَصِيرُ قَضَاءُ الشَّهْوَةِ تَبَعًا فَهَذَا مِثْلُهُ

( قَالَ : فَإِنْ تَرَكُوا الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ ، فَقَدْ عَصَوْا ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَلَفًا ) يَعْنِي أَنَّ النَّفْسَ لَمَّا كَانَتْ لَا تَبْقَى عَادَةً بِدُونِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَالْمُمْتَنِعُ مِنْ ذَلِكَ قَاتِلٌ نَفْسَهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ } ، وَهُوَ مُعَرِّضٌ نَفْسَهُ لِلْهَلَاكِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ } وَبَعْدَ التَّنَاوُلِ ، فَقَدْرُ مَا يَسُدُّ بِهِ رَمَقَهُ يُنْدَبُ إلَى أَنْ يَتَنَاوَلَ مِقْدَارَ مَا يَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَتَنَاوَلْ يَضْعُفُ وَرُبَّمَا يَعْجِزُ عَنْ الطَّاعَةِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ } ، وَلِأَنَّ اكْتِسَابَ مَا يَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ يَكُونُ طَاعَةً ، وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَى الْإِتْيَانِ بِمَا هُوَ طَاعَةٌ وَإِلَيْهِ أَشَارَ أَبُو ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ فَقَالَ : الصَّلَوَاتُ وَأَكْلُ الْخُبْزِ قَالَ : وَقَدْ نُقِلَ عَنْ مَسْرُوقٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ أَنَّ مَنْ اُضْطُرَّ فَلَمْ يَأْكُلْ فَمَاتَ دَخَلَ النَّارَ وَالْمُرَادُ تَنَاوُلُ الْمَيْتَةِ ؛ لِأَنَّ عِنْدَ الضَّرُورَةِ الْحُرْمَةَ تَنْكَشِفُ فَيُلْحَقُ بِالْمُبَاحِ ، وَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي الْمَيْتَةِ هَذَا مَعَ حُرْمَتِهَا فِي غَيْرِ حَالَةِ الضَّرُورَةِ فَمَا ظَنُّك فِي الطَّعَامِ الْحَلَالِ

( قَالَ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ فَرِيضَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { خُذُوا زِينَتَكُمْ } الْآيَةَ ) وَالْمُرَادُ سَتْرُ الْعَوْرَةِ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ خَصَّ الْمَسَاجِدَ بِالذِّكْرِ وَالنَّاسُ فِي الْأَسْوَاقِ أَكْثَرُ مِنْهُمْ فِي الْمَسَاجِدِ ؟ فَلَا فَائِدَةَ لِتَخْصِيصِ الْمَسَاجِدِ بِالذِّكْرِ سِوَى أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ سَتْرَ الْعَوْرَةِ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ فَيَكُونُ فَرْضًا ، وَلَئِنْ كَانَ الْمُرَادُ سَتْرَ الْعَوْرَةِ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ فَالْأَمْرُ حَقِيقَةٌ لِلْوُجُوبِ فَإِنْ كَانَ خَالِيًا فِي بَيْتِهِ ، فَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَى السَّتْرِ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ذَكَرُوا عِنْدَهُ كَشْفَ الْعَوْرَةِ قِيلَ لَهُ : أَرَأَيْت لَوْ كَانَ أَحَدُنَا خَالِيًا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحَى مِنْهُ }

( قَالَ وَعَلَى النَّاسِ اتِّخَاذُ الْأَوْعِيَةِ لِنَقْلُ الْمَاءِ إلَى النِّسَاءِ ) ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ تَحْتَاجُ إلَى الْمَاءِ لِلْوُضُوءِ وَالشُّرْبِ ، وَإِنْ تَيَمَّمَتْ لِلْوُضُوءِ احْتَاجَتْ إلَى الْمَاءِ لِتَشْرَبَ ، وَلَا يُمْكِنُهَا أَنْ تَخْرُجَ تَسْتَقِي الْمَاءَ مِنْ الْأَنْهَارِ وَالْآبَارِ وَالْحِيَاضِ ، فَإِنَّهَا أُمِرَتْ بِالْقَرَارِ فِي بَيْتِهَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } فَعَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَأْتِيَهَا بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَلْزَمَهُ حَاجَتَهَا كَالنَّفَقَةِ ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَأْتِيَهَا بِكَفِّهِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَتَّخِذَ وِعَاءً لِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَا لَا يَتَأَتَّى إقَامَةُ الْمُسْتَحَقِّ إلَّا بِهِ يَكُونُ مُسْتَحَقًّا

( قَالَ وَمَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِمَّا ذَكَرْنَا ، فَهُوَ مَأْمُورٌ بِإِتْمَامِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَكُونُوا كَاَلَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا } الْآيَةَ ) وَهَذَا مَثَلٌ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ ابْتَدَأَ طَاعَةً ثُمَّ لَمْ يُتِمَّهَا فَيَكُونُ كَالْمَرْأَةِ الَّتِي تَغْزِلُ ثُمَّ تُنْقِضُ فَلَا تَكُونُ ذَاتَ غَزْلٍ ، وَلَا ذَاتَ قُطْنٍ ، وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالِاسْتِكْنَانِ حَتَّى مَاتَ أَوْجَبَ عَلَى نَفْسِهِ دُخُولَ النَّارِ ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ نَفْسَهُ قَصْدًا فَكَأَنَّهُ قَتَلَهَا بِحَدِيدَةٍ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجِيءُ بِهَا نَفْسَهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ } ثُمَّ تَأْوِيلُ اللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا ، أَنَّهُ ذَكَرَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّهْدِيدِ وَأَضْمَرَ فِي كَلَامِهِ مَعْنًى صَحِيحًا ، وَهُوَ أَنَّهُ أَرَادَ الدُّخُولَ الَّذِي هُوَ تَحِلَّةُ الْقَسَمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَإِنْ مِنْكُمْ إلَّا وَارِدُهَا } الْآيَةَ ، وَالْمُرَادُ دَاخِلُهَا عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ ، وَالثَّانِي : أَنَّ الْمُرَادَ بَيَانُ جَزَاءِ فِعْلِهِ يَعْنِي أَنَّ جَزَاءَ فِعْلِهِ دُخُولُ النَّارِ ، وَلَكِنَّهُ فِي مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى إنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ بِفَضْلِهِ ، وَإِنْ شَاءَ أَدْخَلَهُ النَّارَ بِعَدْلِهِ ، وَهَذَا نَظِيرُ مَا قِيلَ فِي بَيَانِ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى { فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا } أَنَّ هَذَا جَزَاؤُهُ إنْ جَازَاهُ اللَّهُ بِهِ ، وَلَكِنَّهُ عَفُوٌّ كَرِيمٌ يَتَفَضَّلُ بِالْعَفْوِ ، وَلَا يُخَلِّدُ أَحَدًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ

( قَالَ وَكُلُّ أَحَدٍ مَنْهِيٌّ عَنْ إفْسَادِ الطَّعَامِ ، وَمِنْ الْإِفْسَادِ الْإِسْرَافُ ) وَهَذَا لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الْقِيلِ وَالْقَالِ وَعَنْ كَثْرَةِ السُّؤَالِ وَعَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ } ، وَفِي الْإِفْسَادِ إضَاعَةُ الْمَالِ ثُمَّ الْحَاصِلُ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْءِ فِيمَا اكْتَسَبَهُ مِنْ الْحَلَالِ الْإِفْسَادُ وَالسَّرَفُ وَالْخُيَلَاءُ وَالتَّفَاخُرُ وَالتَّكَاثُرُ ، أَمَّا الْإِفْسَادُ فَحَرَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ } الْآيَةَ ، وَأَمَّا السَّرَفُ فَحَرَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تُسْرِفُوا } الْآيَةَ وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا { وَاَلَّذِينَ إذَا أَنْفَقُوا } الْآيَةَ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِسْرَافَ وَالتَّقْتِيرَ حَرَامٌ وَأَنَّ الْمَنْدُوبَ إلَيْهِ مَا بَيْنَهُمَا ، وَفِي الْإِسْرَافِ تَبْذِيرٌ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا } ثُمَّ السَّرَفُ فِي الطَّعَامِ أَنْوَاعٌ فَمِنْ ذَلِكَ الْأَكْلُ فَوْقَ الشِّبَعِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا مَلَأ ابْنُ آدَمَ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَثُلُثٌ لِلطَّعَامِ وَثُلُثٌ لِلشَّرَابِ وَثُلُثٌ لِلنَّفَسِ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَكْفِي ابْنَ آدَمَ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ وَلَا يُلَامُ عَلَى كَفَافٍ } ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَأْكُلُ لِمَنْفَعَةِ نَفْسِهِ ، وَلَا مَنْفَعَةَ فِي الْأَكْلِ فَوْقَ الشِّبَعِ بَلْ فِيهِ مَضَرَّةٌ فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ إلْقَاءِ الطَّعَامِ فِي مَزْبَلَةٍ أَوْ شَرٍّ مِنْهَا ، وَلِأَنَّ مَا يَزِيدُ عَلَى مِقْدَارِ حَاجَتِهِ مِنْ الطَّعَامِ فِيهِ حَقُّ غَيْرِهِ ، فَإِنَّهُ يَسُدُّ بِهِ جَوْعَتَهُ إذَا أَوْصَلَهُ إلَيْهِ بِعِوَضٍ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ ، فَهُوَ فِي تَنَاوُلِهِ جَانٍ عَلَى حَقِّ الْغَيْرِ ، وَذَلِكَ حَرَامٌ ، وَلِأَنَّ الْأَكْلَ فَوْقَ الشِّبَعِ رُبَّمَا يُمْرِضُهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ كَجِرَاحَتِهِ نَفْسَهُ .
وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ { أَنَّ رَجُلًا تَجَشَّأَ فِي مَجْلِسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ

صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالَ نَحِّ عَنَّا جُشَاءَك أَمَا عَلِمْت أَنَّ أَطْوَلَ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا } { ، وَلَمَّا مَرِضَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ سَبَبِ مَرَضِهِ فَقِيلَ : إنَّهُ أَتْخَمَ ، قَالَ : وَمِمَّ ذَاكَ ؟ فَقِيلَ : مِنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَا إنَّهُ لَوْ مَاتَ لَمْ أَشْهَدْ جِنَازَتَهُ وَلَمْ أُصَلِّ عَلَيْهِ } ، وَلَمَّا قِيلَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَلَا تَتَّخِذُ لَك جَوَارِشًا ؟ قَالَ : وَمَا يَكُونُ الْجَوَارِشُ ؟ قِيلَ : هُوَ صِنْفٌ يَهْضِمُ الطَّعَامَ ، فَقَالَ : سُبْحَانَ اللَّهِ أَوْ يَأْكُلُ الْمُسْلِمُ فَوْقَ الشِّبَعِ ؟ إلَّا أَنَّ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ حَالَةً ، وَهُوَ أَنَّهُ إذَا كَانَ لَهُ غَرَضٌ صَحِيحٌ فِي الْأَكْلِ فَوْقَ الشِّبَعِ فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ بِأَنْ يَأْتِيَهُ ضَيْفٌ بَعْدَ تَنَاوُلِهِ مِقْدَارَ حَاجَتِهِ فَيَأْكُلَ مَعَ ضَيْفِهِ لِئَلَّا يَخْجَلَ وَكَذَا إذَا أَرَادَ أَنْ يَصُومَ فِي الْغَدِ فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَنَاوَلَ بِاللَّيْلِ فَوْقَ الشِّبَعِ لِيَقْوَى عَلَى الصَّوْمِ بِالنَّهَارِ ، وَمِنْ الْإِسْرَافِ فِي الطَّعَامِ الِاسْتِكْثَارُ مِنْ الْمُبَاحَاتِ وَالْأَلْوَانِ ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَدَّ ذَلِكَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَقَالَ { تُدَارُ الْقِصَاعُ عَلَى مَوَائِدِهِمْ وَاللَّعْنَةُ تَنْزِلُ عَلَيْهِمْ } { وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا كَانَتْ فِي ضِيَافَةٍ فَأُتِيَتْ بِقَصْعَةٍ بَعْدَ قَصْعَةٍ فَقَامَتْ وَجَعَلْت تَقُولُ : أَلَمْ تَكُنْ الْأُولَى مَأْكُولَةً ، وَإِنْ كَانَتْ فَمَا هَذِهِ الثَّانِيَةُ ؟ وَفِي الْأُولَى مَا يَكْفِينَا قَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ مِثْلِ هَذَا } إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ بِأَنْ يَمَلَّ مِنْ نَاحِيَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَسْتَكْثِرَ مِنْ الْمُبَاحَاتِ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ شَيْئًا فَيَجْتَمِعَ لَهُ مِقْدَارُ مَا يَتَقَوَّى

بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ عَلَى مَا حُكِيَ أَنَّ الْحَجَّاجَ كَتَبَ إلَى عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ يَشْكُو إلَيْهِ ثَلَاثًا : الْعَجْزَ عَنْ الْأَكْلِ وَعَنْ الِاسْتِمْتَاعِ وَالْعِيِّ فِي الْكَلَامِ ، فَكَتَبَ إلَيْهِ أَنْ اسْتَكْثِرْ مِنْ أَلْوَانِ الطَّعَامِ وَجَدِّدْ السَّرَارِيَّ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَانْظُرْ إلَى أُخْرَيَاتِ النَّاسِ فِي خُطْبَتِك ، وَمِنْ الْإِسْرَافِ أَنْ تَضَعَ عَلَى الْمَائِدَةِ مِنْ أَلْوَانِ الطَّعَامِ فَوْقَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْآكِلُ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى مِقْدَارِ حَاجَتِهِ فِيهِ كَانَ حَقَّ غَيْرِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ قَصْدِهِ أَنْ يَدْعُوَ الْأَضْيَافَ قَوْمًا بَعْدَ قَوْمٍ إلَى أَنْ يَأْتُوا عَلَى آخِرِ الطَّعَامِ فَحِينَئِذٍ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُفْسِدٍ ، وَمِنْ الْإِسْرَافِ أَنْ يَأْكُلَ وَسَطَ الْخُبْزِ وَيَدَعَ حَوَاشِيَهُ أَوْ يَأْكُلَ مَا انْتَفَخَ مِنْ الْخُبْزِ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْجُهَّالِ يَزْعُمُونَ أَنَّ ذَلِكَ أَلَذُّ ، وَلَكِنَّ هَذَا إذَا كَانَ غَيْرُهُ لَا يَتَنَاوَلُ مَا تَرَكَ هُوَ مِنْ حَوَاشِيهِ ، أَمَّا إذَا كَانَ غَيْرُهُ يَتَنَاوَلُ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ كَأَنْ يَخْتَارَ لِتَنَاوُلِهِ رَغِيفًا دُونَ رَغِيفٍ ، وَمِنْ الْإِسْرَافِ التَّمَسُّحُ بِالْخُبْزِ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الطَّعَامِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْكُلَ مَا يَمْسَحُ بِهِ ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ يَتَقَذَّرُ ذَلِكَ فَلَا يَأْكُلُهُ فَأَمَّا إذَا كَانَ هُوَ يَأْكُلُ مَا يَمْسَحُ بِهِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ ، وَمِنْ الْإِسْرَافِ إذَا سَقَطَ مِنْ يَدِهِ لُقْمَةٌ أَنْ يَتْرُكَهَا بَلْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَبْدَأَ بِتِلْكَ اللُّقْمَةِ فَيَأْكُلَهَا ؛ لِأَنَّ فِي تَرْكِ ذَلِكَ اسْتِخْفَافًا بِالطَّعَامِ ، وَفِي التَّنَاوُلِ إكْرَامًا ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِإِكْرَامِ الْخُبْزِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَكْرِمُوا الْخُبْزَ ، فَإِنَّهُ مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } ، وَمِنْ إكْرَامِ الْخُبْزِ أَنْ لَا يَنْتَظِرَ الْإِدَامَ إذَا حَضَرَ الْخُبْزُ وَلَكِنْ يَأْخُذُ فِي الْأَكْلِ قَبْلَ أَنْ يُؤْتَى بِالْإِدَامِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَنْدُوبٌ إلَى شُكْرِ النِّعْمَةِ وَالتَّحَرُّزِ

عَنْ كُفْرَانِ النِّعْمَةِ ، وَفِي تَرْكِ اللُّقْمَةِ الَّتِي سَقَطَتْ مَعْنَى كُفْرَانِ النِّعْمَةِ ، وَفِي الْمُبَادَرَةِ إلَى تَنَاوُلِ الْخُبْزِ قَبْلَ أَنْ يُؤْتَى بِالْإِدَامِ إظْهَارُ شُكْرِ النِّعْمَةِ ، وَإِذَا كَانَ جَائِعًا فَفِي الِامْتِنَاعِ إلَى أَنْ يُؤْتَى بِالْإِدَامِ نَوْعُ مُمَاطَلَةٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ ذَلِكَ وَفِيهِ حِكَايَةٌ ، فَإِنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ لَقِيَ بُهْلُولًا الْمَجْنُونَ يَوْمًا ، وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى الطَّرِيقِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ فَقَالَ : أَمَا تَسْتَحِي مِنْ نَفْسِك أَنْ تَأْكُلَ بِالطَّرِيقِ ، قَالَ : يَا أَبَا حَنِيفَةَ أَنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا وَنَفْسِي غَرِيمِي وَالْخُبْزُ فِي حِجْرِي ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ } فَكَيْفَ أَمْنَعُهَا حَقَّهَا إلَى أَنْ أَدْخُلَ الْبَيْتَ وَالْمَخِيلَةُ حَرَامٌ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِلْمِقْدَادِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي ثَوْبٍ لَبِسَهُ إيَّاكَ وَالْمَخِيلَةَ وَلَا تُلَامُ عَلَى كَفَافٍ } ، وَالتَّفَاخُرُ وَالتَّكَاثُرُ حَرَامٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } الْآيَةَ ، وَإِنَّمَا ذُكِرَ هَذَا عَلَى وَجْهِ الْإِلْزَامِ لِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرْ } الْآيَةَ وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ { أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ } وَقَالَ جَلَّ وَعَلَا { أَلْهَاكُمْ التَّكَاثُرُ } فَعَرَفْنَا أَنَّ التَّفَاخُرَ وَالتَّكَاثُرَ حَرَامٌ

( قَالَ وَأَمْرُ اللِّبَاسِ نَظِيرُ الْأَكْلِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرْنَا ) يَعْنِي أَنَّهُ كَمَا نَهَى عَنْ الْإِسْرَافِ وَالتَّكْثِيرِ مِنْ الطَّعَامِ فَكَذَلِكَ نَهَى عَنْ ذَلِكَ فِي اللِّبَاسِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ الثَّوْبَيْنِ } وَالْمُرَادُ أَنْ لَا يَلْبَسَ نِهَايَةَ مَا يَكُونُ مِنْ الْحُسْنِ وَالْجَوْدَةِ فِي الثِّيَابِ عَلَى وَجْهٍ يُشَارُ إلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ أَوْ يَلْبَسَ نِهَايَةَ مَا يَكُونُ مِنْ الثِّيَابِ الْخَلَقِ عَلَى وَجْهٍ يُشَارُ إلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ ، فَإِنَّ أَحَدَهُمَا يَرْجِعُ إلَى الْإِسْرَافِ وَالْآخَرَ يَرْجِعُ إلَى التَّقْتِيرِ وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا فَيَنْبَغِي أَنْ يَلْبَسَ فِي عَامَّةِ الْأَوْقَاتِ الْغَسِيلَ مِنْ الثِّيَابِ ، وَلَا يُكَلَّفُ الْجَدِيدَ الْحَسَنَ عَمَلًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْبَذَاذَةُ مِنْ الْإِيمَانِ } إلَّا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَلْبَسَ أَحْسَنَ مَا يَجِدُ مِنْ الثِّيَابِ فِي بَعْضِ الْأَعْيَادِ وَالْأَوْقَاتِ وَالْجُمَعِ لِمَا رُوِيَ { عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ كَانَ لَهُ جُبَّةٌ أَهْدَاهَا إلَيْهِ الْمُقَوْقَسُ فَكَانَ يَلْبَسُهَا فِي الْأَعْيَادِ وَالْجُمَعِ وَلِلْوُفُودِ يَنْزِلُونَ إلَيْهِ } وَرُوِيَ أَنَّهُ { كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبَاءٌ مَكْفُوفٌ بِالْحَرِيرِ وَكَانَ يَلْبَسُ ذَلِكَ فِي الْأَعْيَادِ وَالْجُمَعِ } ، وَلِأَنَّ فِي لُبْسِ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ إظْهَارَ النِّعْمَةِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ أَحَبَّ أَنْ يَرَى أَثَرَهَا عَلَيْهِ } ، وَفِي التَّكَلُّفِ لِذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ مَعْنَى الصَّلَفِ وَرُبَّمَا يَغِيظُ ذَلِكَ الْمُحْتَاجِينَ وَالتَّحَرُّزُ عَنْ ذَلِكَ أَوْلَى وَكَذَا فِي زَمَانِ الشِّتَاءِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُظَاهِرَ بَيْنَ جُبَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ إذَا كَانَ يَكْفِيهِ لِدَفْعِ الْبَرْدِ جُبَّةٌ وَاحِدَةٌ ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَغِيظُ الْمُحْتَاجِينَ ، وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْ اكْتِسَابِ سَبَبٍ يُؤْذِي غَيْرَهُ وَمَقْصُودُهُ يَحْصُلُ بِمَا

دُونَ ذَلِكَ وَالْأَوْلَى لَهُ أَنْ يَخْتَارَ الْخَشِنَ مِنْ الثِّيَابِ لِلُّبْسِ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ لَا يَلْبَسُ إلَّا الْخَشِنَ مِنْ الثِّيَابِ فَإِنْ لَبِسَ الْخَشِنَ فِي زَمَانِ الشِّتَاءِ وَاللِّينَ فِي زَمَانِ الصَّيْفِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ ، الْخَشِنُ يَدْفَعُ مِنْ الْبَرْدِ مَا لَا يَدْفَعُهُ اللِّينُ ، فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ فِي زَمَانِ الشِّتَاءِ وَاللِّينُ مُنَشِّفٌ مِنْ الْعَرَقِ مَا لَا يُنَشِّفُهُ الْخَشِنُ ، فَهُوَ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ فِي زَمَانِ الصَّيْفِ ، وَإِنْ لَبِسَ اللِّينَ فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَذَلِكَ وَاسِعٌ لَهُ أَيْضًا إذَا كَانَ اكْتَسَبَهُ مِنْ حِلِّهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ } الْآيَةَ .
وَكَمَا يُنْدَبُ إلَى مَا بَيَّنَّا فِي طَعَامِ نَفْسِهِ وَكِسْوَتِهِ فَكَذَلِكَ فِي طَعَامِ عِيَالِهِ وَكِسْوَتِهِمْ ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ بِالْمَعْرُوفِ وَالْمَعْرُوفُ مَا يَكُونُ دُونَ السَّرَفِ وَفَوْقَ التَّقْتِيرِ حَتَّى قَالُوا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُكَلَّفَ تَحْصِيلَ جَمِيعِ شَهَوَاتِ عِيَالِهِ ، وَلَا أَنْ يَمْنَعَهَا جَمِيعَ شَهَوَاتِهَا ، وَلَكِنَّ إنْفَاقَهُ بَيْنَ ذَلِكَ فَإِنَّ خَيْرَ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا ، وَكَذَلِكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَدِيمَ الشِّبَعَ مِنْ الطَّعَامِ ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ مَا اخْتَارَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيَّنَهُ فِي قَوْلِهِ { أَجُوعُ يَوْمًا وَأَشْبَعُ يَوْمًا } { وَكَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَبْكِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قُبِضَ وَتَقُولُ يَا مَنْ لَمْ يَلْبَسْ الْحَرِيرَ ، وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ } { وَكَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ رُبَّمَا يَأْتِي عَلَيْنَا الشَّهْرُ أَوْ أَكْثَرُ لَا نُوقِدُ فِي بُيُوتِنَا نَارًا ، وَإِنَّمَا هُوَ الْأَسْوَدَانِ الْمَاءُ وَالتَّمْرُ } ، وَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { أَطْوَلُ النَّاسِ جُوعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ شِبَعًا فِي الدُّنْيَا } ، فَلِهَذَا كَانَ التَّحَرُّزُ عَنْ اسْتِدَامَةِ

الشِّبَعِ فِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ أَوْلَى

( قَالَ وَلَيْسَ عَلَى الرَّجُلِ أَنْ يَدَعَ الْأَكْلَ حَتَّى يَصِيرَ بِحَيْثُ لَا يَنْتَفِعُ بِنَفْسِهِ ) يَعْنِي حَتَّى يَنْتَهِيَ بِهِ الْجُوعُ إلَى حَالٍ تَضُرُّهُ وَتُفْسِدُ مَعِدَتَهُ بِأَنْ تَحْتَرِقَ فَلَا يَنْتَفِعَ بِالْأَكْلِ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ التَّهَاوُنَ عِنْدَ الْحَاجَةِ حَقٌّ قَبْلَهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ { نَفْسُك مَطِيَّتُك فَارْفُقْ بِهَا ، وَلَا تُجِعْهَا } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِآخَرَ { إنَّ لِنَفْسِك عَلَيْك حَقًّا وَلِأَهْلِك عَلَيْك حَقًّا وَلِلَّهِ عَلَيْك حَقًّا فَأَعْطِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ } { وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ كُلْ وَاشْرَبْ وَالْبَسْ عَنْ غَيْرِ مَخِيلَةٍ } وَالْأَمْرُ لِلْإِيجَابِ حَقِيقَةً ، وَلِأَنَّ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ الْأَكْلِ إلَى هَذِهِ الْغَايَةِ تَعْرِيضَ النَّفْسِ لِلْهَلَاكِ ، وَهُوَ حَرَامٌ ، وَفِيهِ اكْتِسَابُ سَبَبِ تَفْوِيتِ الْعِبَادَاتِ ، وَلَا يُتَوَصَّلُ إلَى أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ إلَّا بِنَفْسِهِ ، وَكَمَا أَنَّ تَفْوِيتَ الْعِبَادَاتِ الْمُسْتَحَقَّةِ حَرَامٌ فَاكْتِسَابُ سَبَبِ التَّفْوِيتِ حَرَامٌ فَأَمَّا تَجْوِيعُ النَّفْسِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَعْجِزُ مَعَهُ عَنْ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ وَيَنْتَفِعُ بِالْأَكْلِ بَعْدَهُ ، فَهُوَ مُبَاحٌ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُمْنَعُ مِنْ الْأَكْلِ لِإِتْمَامِ الْعِبَادَةِ إذَا كَانَ صَائِمًا أَوْ لِيَكُونَ الطَّعَامُ أَلَذَّ عِنْدَهُ إذَا تَنَاوَلَهُ فَكُلَّمَا كَانَ الْمُتَنَاوِلُ أَجْوَعَ كَانَتْ لَذَّتُهُ فِي التَّنَاوُلِ مِنْ الْأَكْلِ فَوْقَ الشِّبَعِ ، وَهُوَ حَرَامٌ عَلَيْهِ إلَّا عِنْدَ غَرَضٍ صَحِيحٍ لَهُ فِي ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ بِالِامْتِنَاعِ إلَى أَنْ يَصِيرَ بِحَيْثُ لَا يَنْتَفِعُ بِالْأَكْلِ غَرَضٌ صَحِيحٌ بَلْ فِيهِ إتْلَافُ النَّفْسِ وَحُرْمَةُ نَفْسِهِ عَلَيْهِ فَوْقَ حُرْمَةِ نَفْسٍ أُخْرَى ، فَإِذَا كَانَ يَحِقُّ عَلَيْهِ إحْيَاءُ نَفْسٍ أُخْرَى بِمَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ اكْتِسَابُ سَبَبِ إتْلَافِهَا فَفِي نَفْسِهِ أَوْلَى ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَقَشِّفَةِ لَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْأَكْلِ حَتَّى مَاتَ لَمْ يَكُنْ

آثِمًا ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ أَمَارَةٌ بِالسُّوءِ ، كَمَا وَصَفَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَهِيَ عَدُوُّ الْمَرْءِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا مَعْنَاهُ { أَعْدَى عَدُوِّ الْمَرْءِ بَيْنَ جَنْبَيْهِ } يَعْنِي نَفْسَهُ وَلِلْمَرْءِ أَنْ لَا يَرَى عَدُوَّهُ فَكَيْف يَصِيرُ آثِمًا بِالِامْتِنَاعِ مِنْ تَرْبِيَتِهِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَفْضَلُ الْجِهَادِ جِهَادُ النَّفْسِ } وَتَجْوِيعُ النَّفْسِ مُجَاهَدَةٌ لَهَا فَلَا يَجُوزُ أَنْ نَجْهَلَ ذَلِكَ وَلَكِنْ نَقُولُ : إنَّ مُجَاهَدَةَ النَّفْسِ فِي حَمْلِهَا عَلَى الطَّاعَاتِ ، وَفِي التَّجْوِيعِ إلَى هَذِهِ الْحَالَةِ تَفْوِيتُ الْعِبَادَةِ لَا حَمْلُ النَّفْسِ عَلَى أَدَاءِ الْعِبَادَةِ .
وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ النَّفْسَ مُحْتَمِلَةٌ لِأَمَانَاتِ اللَّهِ تَعَالَى ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهَا مَعْصُومَةً لِتُؤَدِّيَ الْأَمَانَةَ الَّتِي تَحَمَّلَتْهَا ، وَلَا تَتَوَصَّلُ لِذَلِكَ إلَّا بِالْأَكْلِ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَمَا لَا يُتَوَصَّلُ إلَى إقَامَةِ الْمُسْتَحَقِّ إلَّا بِهِ يَكُونُ مُسْتَحَقًّا فَأَمَّا الشَّابُّ الَّذِي يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الشَّبَقِ وَالْوُقُوعِ فِي الْعَيْبِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْأَكْلِ وَيَكْسِرَ شَهْوَتَهُ فَتَجْوِيعُ النَّفْسِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَعْجِزُ عَنْ أَدَاءِ الْعِبَادَاتِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ عَلَيْكُمْ بِالنِّكَاحِ فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ ، فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ } ، وَلِأَنَّهُ مُنْتَفِعٌ بِالِامْتِنَاعِ مِنْ الْأَكْلِ هُنَا مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَمْنَعُ بِهِ نَفْسَهُ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي عَلَى مَا يُحْكَى عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْوَرَّاقِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ : فِي تَجْوِيعِ النَّفْسِ إشْبَاعُهَا ، وَفِي إشْبَاعِهَا تَجْوِيعُهَا ثُمَّ فَسَّرَ ذَلِكَ فَقَالَ : إذَا جَاعَتْ وَاحْتَاجَتْ إلَى الطَّعَامِ شَبِعَتْ عَنْ جَمِيعِ الْمَعَاصِي ، وَإِذَا شَبِعَتْ عَنْ الطَّعَامِ جَاعَتْ وَرَغِبَتْ فِي جَمِيعِ الْمَعَاصِي ، وَإِذَا كَانَ التَّحَرُّزُ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ فَرْضًا ، وَإِنَّمَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ بِهَذَا النَّوْعِ

مِنْ التَّجْوِيعِ كَانَ ذَلِكَ فَرْضًا

( قَالَ وَيُفْتَرَضُ عَلَى النَّاسِ إطْعَامُ الْمُحْتَاجِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَعْجِزُ فِيهِ عَنْ الْخُرُوجِ وَالطَّلَبِ ) وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى فُصُولٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ الْمُحْتَاجَ إذَا عَجَزَ عَنْ الْخُرُوجِ يُفْتَرَضُ عَلَى مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُطْعِمُهُ مِقْدَارَ مَا يَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الْخُرُوجِ وَأَدَاءِ الْعِبَادَاتِ إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى ذَلِكَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ بَاتَ شَبْعَانَ وَجَارُهُ إلَى جَنْبِهِ طَاوٍ حَتَّى إذَا مَاتَ ، وَلَمْ يُطْعِمْهُ أَحَدٌ مِمَّنْ يَعْلَمُ بِحَالِهِ اشْتَرَكُوا جَمِيعًا فِي الْمَأْثَمِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَيُّمَا رَجُلٍ مَاتَ جُوعًا بَيْنَ قَوْمٍ أَغْنِيَاءٍ ، فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ } ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَ مَنْ يَعْلَمُ بِحَالِهِ مَا يُعْطِيهِ ، وَلَكِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى الْخُرُوجِ إلَى النَّاسِ فَيُخْبِرُ بِحَالِهِ لِيُوَاسُوهُ وَيُفْتَرَضُ عَلَيْهِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ مَا يُزِيلُ ضَعْفَهُ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَالطَّاعَةُ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ فَإِنْ امْتَنَعُوا مِنْ ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ اشْتَرَكُوا فِي الْمَأْثَمِ ، وَإِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ ، وَهُوَ نَظِيرُ الْأَسِيرِ ، فَإِنَّ مَنْ وَقَعَ أَسِيرًا فِي يَدِ أَهْلِ الْحَرْبِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَقَصَدُوا قَتْلَهُ يُفْتَرَضُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ يَعْلَمُ بِحَالِهِ أَنْ يَفْدِيَهُ بِمَالِهِ إنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ وَإِلَّا أَخْبَرَ بِهِ غَيْرَهُ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، وَإِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ الْبَاقِينَ بِحُصُولِ الْمَقْصُودِ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَعْنَى ، فَإِنَّ الْجُوعَ الَّذِي هَاجَ مِنْ طَبْعِهِ عَدُوٌّ يُخَافُ الْهَلَاكُ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَدُوِّ مِنْ الْمُشْرِكِينَ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ الْمُحْتَاجُ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْخُرُوجِ وَلَكِنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَسْبِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ لِيُعْلَمَ بِحَالِهِ ، وَمَنْ عَلِمَ بِحَالِهِ إذَا كَانَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الْوَاجِبَاتِ فَلْيُؤَدِّهِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَجَدَ لِمَا اسْتَحَقَّ عَلَيْهِ

مَصْرِفًا وَمُسْتَحَقًّا فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُسْقِطَ الْفَرْضَ عَنْ نَفْسِهِ بِالصَّرْفِ إلَيْهِ حَتْمًا ؛ لِأَنَّهُ أَدْنَى إلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَهُوَ يُنْدَبُ إلَى الْإِحْسَانِ إلَيْهِ إنْ كَانَ قَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ مِنْ الْفَرَائِضِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَحْسِنُوا إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا } وَلَمَّا { ، سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ قَالَ إفْشَاءُ السَّلَامِ وَإِطْعَامُ الطَّعَامِ وَالصَّلَاةُ بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ } فَإِنْ كَانَ الْمُحْتَاجُ بِحَيْثُ يَقْدِرُ عَلَى الْكَسْبِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَكْتَسِبَ ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ لِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ سَأَلَ النَّاسَ وَهُوَ غَنِيٌّ عَمَّا يَسْأَلُ كَانَتْ مَسْأَلَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُدُوشًا أَوْ خُمُوشًا أَوْ كُدُوحًا فِي وَجْهِهِ } وَرُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُفَرِّقُ الصَّدَقَاتِ فَأَتَاهُ رَجُلَانِ يَسْأَلَانِهِ مِنْ ذَلِكَ فَرَفَعَ بَصَرَهُ إلَيْهِمَا فَرَآهُمَا جَلْدَيْنِ قَالَ : أَمَا أَنَّهُ لَا حَقَّ لَكُمَا فِيهِ ، وَإِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا } مَعْنَاهُ لَا حَقَّ لَهُمَا فِي السُّؤَالِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ ، وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ } يَعْنِي لَا يَحِلُّ السُّؤَالُ لِلْقَوِيِّ الْقَادِرِ عَلَى التَّكَسُّبِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { السُّؤَالُ آخِرُ كَسْبِ الْعَبْدِ } ، وَلَكِنَّهُ لَوْ سَأَلَ فَأُعْطِيَ حَلَّ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ، وَإِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا } ، فَلَوْ كَانَ لَا يَحِلُّ التَّنَاوُلُ لَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمَا ذَلِكَ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ } الْآيَةَ وَالْقَادِرُ عَلَى الْكَسْبِ فَقِيرٌ ، وَإِذَا كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْكَسْبِ ، وَلَكِنَّهُ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْرُجَ فَيَطُوفَ عَلَى الْأَبْوَابِ

وَيَسْأَلَ ، فَإِنَّهُ يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ ذَلِكَ ، وَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ حَتَّى هَلَكَ كَانَ آثِمًا عِنْدَ أَهْلِ الْفِقْهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَقَشِّفَةِ : السُّؤَالُ مُبَاحٌ لَهُ بِطَرِيقِ الرُّخْصَةِ فَإِنْ تَرَكَهُ حَتَّى مَاتَ لَمْ يَكُنْ آثِمًا بَلْ هُوَ مُتَمَسِّكٌ بِالْعَزِيمَةِ ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِمَّا نُقِلَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ مَنْ كَانَ فِي السَّفَرِ وَمَعَ رَفِيقٌ لَهُ مَاءٌ وَلَيْسَ عِنْدَهُ ثَمَنُهُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْأَلَ رَفِيقَهُ ، وَلَوْ تَيَمَّمَ وَصَلَّى مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْأَلَهُ الْمَاءَ جَازَتْ صَلَاتُهُ عِنْدَهُ ، وَلَمْ تَجُزْ عِنْدَنَا .
وَجْهُ قَوْلِهِ أَنَّ فِي السُّؤَالِ ذُلًّا وَلِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَصُونَ نَفْسَهُ عَنْ الذُّلِّ ، وَبَيَانُهُ فِيمَا نُقِلَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَنَقْلُ الصَّخْرِ مِنْ قُلَلِ الْجِبَالِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ مِنَنِ الرِّجَالِ يَقُولُ النَّاسُ لِي فِي الْكَسْبِ عَارٌ فَقُلْت الْعَارُ فِي ذُلِّ السُّؤَالِ وَلِأَنَّ مَا يَلْحَقُهُ مِنْ الذُّلِّ بِالسُّؤَالِ تَعَيَّنَ وَمَا يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ مَوْهُومٌ وَرُبَّمَا يُعْطَى مَا يَسْأَلُ وَرُبَّمَا لَا يُعْطَى فَكَانَ السُّؤَالُ رُخْصَةً لَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ إذْ الْمَوْهُومُ لَا يُعَارِضُ الْمُتَحَقِّقَ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ السُّؤَالَ يُوصِلُهُ إلَى مَا تَقُومُ بِهِ نَفْسُهُ وَيَتَقَوَّى بِهِ عَلَى الطَّاعَةِ فَيَكُونُ مُسْتَحَقًّا عَلَيْهِ كَالْكَسْبِ سَوَاءٌ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ قَادِرٌ عَلَى الْكَسْبِ وَمَعْنَى الذُّلِّ فِي السُّؤَالِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَمْنُوعٌ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخْبَرَ عَنْ مُوسَى وَمُعَلِّمِهِ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ أَنَّهُمَا سَأَلَا عَنْ الْحَاجَةِ ؟ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ { اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا } وَالِاسْتِطْعَامُ طَلَبُ الطَّعَامِ وَمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُمَا بِطَرِيقِ الْأُجْرَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ قَالَ { لَوْ شِئْتَ لَاِتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا } فَعَرَفْنَا أَنَّهُ كَانَ بِطَرِيقِ الْبِرِّ عَلَى سَبِيلِ الْهَدِيَّةِ أَوْ الصَّدَقَةِ عَلَى مَا

اخْتَلَفُوا أَنَّ الصَّدَقَةَ كَانَتْ تَحِلُّ لِلْأَنْبِيَاءِ سِوَى نَبِيِّنَا عَلَيْهِ وَعَلَيْهِمْ السَّلَامُ عَلَى مَا بَيَّنَ وَكَذَا رَسُولُ اللَّهِ { وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقَوْمٍ : هَلْ عِنْدَكُمْ مَا يُلَتُّ فِي السَّمْنِ وَإِلَّا اكْتَرَعْنَا مِنْ الْوَادِي كَرْعًا } { وَسَأَلَ رَجُلًا ذِرَاعَ شَاةٍ وَقَالَ نَاوِلْنِي الذِّرَاعَ } فِي حَدِيثٍ فِيهِ طُولٌ ، فَلَوْ كَانَ فِي السُّؤَالِ عِنْدَ الْحَاجَةِ ذُلًّا لَمَا فَعَلَ الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ ذَلِكَ ، فَقَدْ كَانُوا أَبْعَدَ النَّاسِ عَنْ اكْتِسَابِ سَبَبِ الذُّلِّ ، وَلِأَنَّ مَا يَسُدُّ بِهِ رَمَقَهُ حَقٌّ مُسْتَحَقٌّ لَهُ فِي سُؤَالِ النَّاسِ فَلَيْسَ فِي الْمُطَالَبَةِ بِحَقٍّ مُسْتَحَقٍّ لَهُ مِنْ مَعْنَى الذُّلِّ شَيْءٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَسْأَلَ فَأَمَّا إذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِحَقٍّ مُسْتَحَقٍّ لَهُ ، وَإِنَّمَا حَقُّهُ فِي كَسْبِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَكْتَسِبَ ، وَلَا يَسْأَلَ أَحَدًا مِنْ النَّاسِ وَلَكِنْ لَهُ أَنْ يَسْأَلَ رَبَّهُ ، كَمَا فَعَلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ { إنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ } وَقَالَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سَلُوا اللَّهَ حَوَائِجَكُمْ حَتَّى الْمِلْحَ لِقُدُورِكُمْ وَالشِّسْعَ لِنِعَالِكُمْ }

( قَالَ : وَالْمُعْطِي أَفْضَلُ مِنْ الْآخِذِ ، وَإِنْ كَانَ الْآخِذُ يُقِيمُ بِالْأَخْذِ فَرْضًا عَلَيْهِ ) وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى ثَلَاثِ فُصُولٍ : أَحَدُهَا : أَنْ يَكُونَ الْمُعْطِي مُؤَدِّيًا لِلْوَاجِبِ وَالْآخِذُ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ ، وَلَكِنَّهُ مُحْتَاجٌ فَهُنَا الْمُعْطِي أَفْضَلُ مِنْ الْآخِذِ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّهُ فِي الْإِعْطَاءِ يُؤَدِّي لِلْفَرْضِ وَالْآخِذُ فِي الْأَخْذِ مُتَبَرِّعٌ ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ وَيَكْتَسِبَ وَدَرَجَةُ أَدَاءِ الْفَرْضِ أَعْلَى مِنْ دَرَجَةِ الْمُتَبَرِّعِ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ ، فَإِنَّ الثَّوَابَ فِي أَدَاءِ الْمَكْتُوبَاتِ أَعْظَمُ مِنْهُ فِي النَّوَافِلِ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُفْتَرِضَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ وَالْمُتَبَرِّعُ عَامِلٌ لِغَيْرِهِ وَعَمَلُ الْمَرْءِ لِنَفْسِهِ أَفْضَلُ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ابْدَأْ بِنَفْسِك } مَعْنَى هَذَا أَنَّهُ بِنَفْسِ الْأَدَاءِ يُفْرِغُ ذِمَّةَ نَفْسِهِ فَكَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ وَالْآخِذُ بِنَفْسِ الْأَخْذِ لَا يَنْفَعُ نَفْسَهُ بَلْ بِالتَّنَاوُلِ بَعْدَ الْأَخْذِ ، وَلَا يَدْرِي أَيَبْقَى إلَى أَنْ يَتَنَاوَلَ أَوْ لَا يَبْقَى ، وَلِهَذَا لَا مِنَّةَ لِلْغَنِيِّ عَلَى الْفَقِيرِ فِي أَخْذِ الصَّدَقَةِ ؛ لِأَنَّ مَا يَحْصُلُ بِهِ لِلْغَنِيِّ فَوْقَ مَا يَحْصُلُ لِلْفَقِيرِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُحْمَلُ لِلْغَنِيِّ مَا لَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لِلْحَالِ لِيَصِلَ إلَيْهِ عِنْدَ حَاجَتِهِ إلَى ذَلِكَ وَالْغَنِيُّ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ لِيَحْصُلَ بِهِ مَقْصُودُهُ لِلْحَالِ ، وَلَوْ اجْتَمَعَ الْفُقَرَاءُ عَلَى تَرْكِ الْأَخْذِ لَمْ يَلْحَقْهُمْ فِي ذَلِكَ مَأْثَمٌ بَلْ يُحْمَدُونَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا اجْتَمَعَ الْأَغْنِيَاءُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْ أَدَاءِ الْوَاجِبِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْمِنَّةَ لِلْفُقَرَاءِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ وَالْفَصْلُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ الْمُعْطِي وَالْآخِذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَبَرِّعٌ إنْ كَانَ الْمُعْطِي مُتَبَرِّعًا وَالْآخِذُ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ فَالْمُعْطِي هُنَا أَفْضَلُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ بِمَا يُعْطِي سَلَخَ عَنْ الْغِنَى وَيَتَمَاثَلُ إلَى الْفَقِيرِ وَالْآخِذُ

يَتَمَاثَلُ إلَى الْغِنَى وَبَيَّنَّا أَنَّ دَرَجَةَ الْفَقِيرِ أَعْلَى مِنْ دَرَجَةِ الْغَنِيِّ فَمَنْ يَتَمَاثَلُ إلَى الْفَقِيرِ بِعَمَلِهِ كَانَ أَعْلَى مِنْ دَرَجَةِ الْغَنِيِّ ، وَمَنْ يَتَمَاثَلُ إلَى الْفَقِيرِ لِعَمَلِهِ كَانَ أَعْلَى دَرَجَةً ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَاتِ مَشْرُوعَةٌ بِطَرِيقِ الِابْتِلَاءِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } وَمَعْنَى الِابْتِلَاءِ بِالْإِعْطَاءِ أَظْهَرُ مِنْهُ بِالْأَخْذِ ؛ لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ فِي الْعَمَلِ الَّذِي تَمِيلُ إلَيْهِ النَّفْسُ ، وَفِي نَفْسِ كُلِّ أَحَدٍ دَاعِيَةٌ إلَى الْأَخْذِ دُونَ الْإِعْطَاءِ ، وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الْمُسْلِمَ يَحْتَاجُ فِي تَصَدُّقِهِ بِدِرْهَمٍ إلَى أَنْ يَكْسِرَ شَهَوَاتِ سَبْعِينَ شَيْطَانًا } ، وَإِذَا كَانَ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ فِي الْإِعْطَاءِ أَظْهَرَ كَانَ أَفْضَلَ لِمَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ قَالَ أَحْمَزُهَا } أَيْ أَشَقُّهَا عَلَى الْبَدَنِ { وَسُئِلَ عَنْ أَفْضَلِ الصَّدَقَةِ قَالَ : جَهْدُ الْمُقِلِّ } وَالْآخِذُ يُحَصِّلُ لِنَفْسِهِ مَا يَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى اقْتِضَاءِ الشَّهَوَاتِ وَالْمُعْطِي يُخْرِجُ مِنْ مِلْكِهِ مَا كَانَ يَتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ اقْتِضَاءِ الشَّهَوَاتِ وَأَعْلَى الدَّرَجَاتِ مَنْعُ النَّفْسِ عَنْ اقْتِضَاءِ الشَّهَوَاتِ وَالْفَصْلُ الثَّالِثُ إذَا كَانَ الْمُعْطِي مُتَبَرِّعًا وَالْآخِذُ مُقْتَرِضًا بِأَنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ الْكَسْبِ مُحْتَاجًا إلَى مَا يَسُدُّ بِهِ رَمَقَهُ فَعِنْدَ أَهْلِ الْفِقْهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ الْمُعْطِي أَفْضَلُ أَيْضًا وَقَالَ أَهْلُ الْحَدِيثِ مِنْهُمْ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ الْآخِذُ أَفْضَلُ هُنَا ؛ لِأَنَّهُ بِالْأَخْذِ مُقِيمٌ بِهِ فَرْضًا عَلَيْهِ وَالْمُعْطِي مُتَنَفِّلٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ إقَامَةَ الْفَرْضِ أَعْلَى دَرَجَةً مِنْ التَّنَفُّلِ ، وَلِأَنَّ الْآخِذَ لَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْأَخْذِ هُنَا كَانَ آثِمًا وَالْمُعْطِي لَوْ امْتَنَعَ مِنْ الْإِعْطَاءِ لَمْ يَكُنْ آثِمًا إذَا كَانَ هُنَاكَ غَيْرُهُ مِمَّنْ يُعْطِيهِ مَا

هُوَ فَرْضٌ عَلَيْهِ وَالثَّوَابُ مُقَابَلٌ بِالْعُقُوبَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هَدَّدَ نِسَاءَ رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضِعْفِ مَا هَدَّدَ بِهِ غَيْرَهُنَّ مِنْ النِّسَاءِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ { يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ } الْآيَةَ ثُمَّ جَعَلَ لَهُنَّ الثَّوَابَ عَلَى الطَّاعَاتِ ضِعْفَ مَا لِغَيْرِهِنَّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } ، فَإِذَا كَانَ الْإِثْمُ فِي حَقِّ الْآخِذِ دُونَ الْمُعْطِي فَكَذَلِكَ الثَّوَابُ لِلْآخِذِ أَكْثَرُ مِمَّا لِلْمُعْطِي ، وَلَكِنَّ هَذَا كُلَّهُ مُشْكِلٌ بِرَدِّ السَّلَامِ ، فَإِنَّ السَّلَامَ سُنَّةٌ وَرَدُّ السَّلَامِ فَرِيضَةٌ وَمَعَ ذَلِكَ كَانَتْ الْبُدَاءَةُ بِالسَّلَامِ أَفْضَلَ مِنْ الرَّدِّ عَلَى مَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لِلْبَادِئِ بِالسَّلَامِ عِشْرُونَ حَسَنَةً وَلِلرَّادِّ عَشْرُ حَسَنَاتٍ } وَرُبَّمَا يَقُولُونَ الْآخِذُ يَسْعَى فِي إحْيَاءِ النَّفْسِ وَالْمُعْطِي يَسْعَى فِي تَحْصِينِ النَّفْسِ أَوْ فِي إنْمَاءِ الْمَالِ وَإِحْيَاءُ النَّفْسِ أَعْلَى دَرَجَةً مِنْ إنْمَاءِ الْمَالِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى } مِنْ غَيْرِ تَفْضِيلٍ بَيْنَ السُّفْلَى بِالْأَدَاءِ وَبَيْنَ إقَامَةِ الْفَرْضِ فَإِنْ قِيلَ : الْمُرَادُ بِالْيَدِ الْعُلْيَا يَدُ الْفَقِيرِ ؛ لِأَنَّهَا نَائِبَةٌ عَنْ يَدِ الشَّرْعِ ، فَإِنَّ الْمُتَصَدِّقَ يَجْعَلُ مَالَهُ لِلَّهِ خَالِصًا بِأَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ مِلْكِهِ ثُمَّ يَدْفَعَهُ إلَى الْفَقِيرِ لِيَكُونَ كِفَايَةً لَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى وَالْفَقِيرُ يَنُوبُ عَنْ الشَّرْعِ فِي الْأَخْذِ مِنْ الْعَيْنِ وَبَيَانُ هَذَا فِي قَوْله تَعَالَى { أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } الْآيَةَ ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ الصَّدَقَةَ تَقَعُ فِي يَدِ الرَّحْمَنِ فَيُرَبِّيهَا ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى يَصِيرَ مِثْلَ أُحُدٍ } فَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْيَدَ الْعُلْيَا فِي

الْمَعْنَى يَدُ الْفَقِيرِ ، قُلْنَا : هَذَا التَّأْوِيلُ بَعِيدٌ ، وَقَدْ رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الْأَيْدِي ثَلَاثَةٌ : يَدُ اللَّهِ ، ثُمَّ الْيَدُ الْمُعْطِيَةُ ، ثُمَّ الْيَدُ الْمُعْطَاةُ فَهِيَ السُّفْلَى إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } ، وَفِي رِوَايَةٍ { ثُمَّ الْيَدُ الْمُعْطِيَةُ ثُمَّ الْيَدُ الْمُعْطَاةُ فَهِيَ السُّفْلَى إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } فَبِهَذَا بَيَّنَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْيَدِ الْعُلْيَا يَدُ الْمُعْطِي ، وَلِأَنَّ الْمُعْطِيَ يَتَطَهَّرُ مِنْ الدَّنَسِ بِالْإِعْطَاءِ وَالْآخِذَ يَتَلَوَّثُ وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } الْآيَةَ فَعَرَفْنَا أَنَّ فِي أَدَاءِ الصَّدَقَةِ مَعْنَى التَّطْهِيرِ وَالتَّنْزِيهِ ، وَفِي الْأَخْذِ تَلْوِيثٌ ، وَقَدْ سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّدَقَةَ أَوْسَاخَ النَّاسِ وَسَمَّاهَا غُسَالَةً فَقَالَ { يَا مَعْشَرَ بَنِي هَاشِمٍ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَرِهَ لَكُمْ غُسَالَةَ النَّاسِ } يَعْنِي الصَّدَقَةَ وَيَدُلُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُبَاشِرُ الْإِعْطَاءَ بِنَفْسِهِ وَكَانَ أَخْذُ الصَّدَقَةِ لِنَفْسِهِ حَرَامًا عَلَيْهِ ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِمُحَمَّدٍ وَلِآلِ مُحَمَّدٍ } وَتَكَلَّمَ النَّاسُ فِي حَقِّ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : مَا كَانَ يَحِلُّ أَخْذَ الصَّدَقَةِ لِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَلَكِنَّهَا كَانَتْ تَحِلُّ لِقَرَابَتِهِمْ ثُمَّ إنَّ اللَّهَ أَكْرَمَ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ حَرَّمَ الصَّدَقَةَ عَلَى قَرَابَتِهِ إظْهَارًا لِفَضْلِهِ لِتَكُونَ دَرَجَتُهُمْ فِي هَذَا الْحُكْمِ كَدَرَجَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَقِيلَ بَلْ كَانَتْ الصَّدَقَةُ تَحِلُّ لِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَهَذِهِ خُصُوصِيَّةٌ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَيْفَمَا كَانَ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي تَحْرِيمِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ مَعْنَى

الْكَرَامَةِ وَالْخُصُوصِيَّةِ لَهُ ، فَلَوْ كَانَ الْأَخْذُ أَفْضَلُ مِنْ الْإِعْطَاءِ بِحَالٍ لَمَا كَانَ فِي تَحْرِيمِ الْأَخْذِ عَلَيْهِ وَعَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ مَعْنَى الْخُصُوصِيَّةِ وَالْكَرَامَةِ .
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الشَّرْعَ نَدَبَ كُلَّ أَحَدٍ إلَى التَّصَدُّقِ وَنَدَبَ كُلَّ أَحَدٍ إلَى التَّحَرُّزِ عَنْ السُّؤَالِ { قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِثَوْبَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا تَسْأَلْ النَّاسَ شَيْئًا أَعْطَوْك أَوْ مَنَعُوك } ، { وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إيَّاكَ أَنْ تَسْأَلَ أَحَدًا شَيْئًا أَعْطَاك أَوْ مَنَعَك فَكَانَ بَعْدَ مَا سَمِعَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ لَا يَسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا ، وَلَا يَأْخُذُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا حَتَّى كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَعْرِضُ عَلَيْهِ نَصِيبَهُ مِمَّا يُعْطِي فَكَانَ لَا يَأْخُذُ وَيَقُولُ لَسْت آخُذُ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا بَعْدَ مَا قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا قَالَ وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُشْهِدُ عَلَيْهِ وَيَقُولُ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ أَشْهَدْتُكُمْ عَلَيْهِ أَنِّي عَرَضْت عَلَيْهِ حَقَّهُ ، وَهُوَ يَأْبَى } وَبِهَذَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْإِعْطَاءَ أَفْضَلُ مِنْ الْأَخْذِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَحْسَبُهُمْ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنْ التَّعَفُّفِ } الْآيَةَ يَعْنِي مِنْ التَّعَفُّفِ عَنْ السُّؤَالِ وَالْأَخْذِ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ اسْتَعَفَّ أَعَفَّهُ اللَّهُ ، وَمَنْ اسْتَغْنَى أَغْنَاهُ اللَّهُ ، وَمَنْ فَتَحَ عَلَى نَفْسِهِ بَابًا مِنْ الْفَقْرِ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ سَبْعِينَ بَابًا مِنْ الْفَقْرِ } ، فَإِذَا كَانَ التَّعَفُّفُ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ الْأَخْذِ كَانَ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى الْأَخْذِ تَرْكُ التَّعَفُّفِ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ ، فَلِهَذَا كَانَ الْمُعْطِي أَفْضَلَ مِنْ الْآخِذِ ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ

( قَالَ وَكُلُّ مَا كَانَ الْأَكْلُ فِيهِ فَرْضًا عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُثَابًا عَلَى الْآكِلِ ؛ لِأَنَّهُ تَمَثَّلَ بِهِ الْأَمْرَ فَيَتَوَصَّلُ بِهِ إلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ مِنْ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ ) فَيَقُولُ لِلَّذِي لَهُ السَّعْيُ لِأَدَاءِ الْجُمُعَةِ وَالطَّهَارَةُ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يُؤْجَرُ الْمُؤْمِنُ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى فِي مُبَاضَعَتِهِ أَهْلَهُ فَقِيلَ إنَّهُ يَقْضِي شَهْوَتَهُ أَفَيُؤْجَرُ عَلَى ذَلِكَ ؟ قَالَ : أَرَأَيْت لَوْ وَضَعَهَا فِي غَيْرِ حِلِّهِ أَمَا كَانَ يُعَاقَبُ عَلَى ذَلِكَ } وَبِمِثْلِهِ نَسْتَدِلُّ هُنَا فَنَقُولُ لَوْ تَرَكَ الْأَكْلَ فِي مَوْضِعٍ كَانَ فَرْضًا عَلَيْهِ كَانَ مُعَاقَبًا عَلَيْهِ وَعَلَى ذَلِكَ فَإِذَا أَكَلَ كَانَ مُثَابًا عَلَيْهِ ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَفْضَلُ دِينَارِ الْمَرْءِ دِينَارٌ يُنْفِقُهُ عَلَى نَفْسِهِ } ، فَإِذَا كَانَ هُوَ مُثَابًا فِيمَا يُنْفِقُهُ عَلَى غَيْرِهِ فَفِيمَا يُنْفِقُهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْلَى قَالَ ، وَلَا يَكُونُ مُحْسِنًا ، وَلَا مُسِيئًا فِي ذَلِكَ ، وَلَا مُعَاتَبًا ، وَلَا مُعَاقَبًا ؛ لِأَنَّهُ مُثَابٌ عَلَى ذَلِكَ ، كَمَا هُوَ مُثَابٌ عَلَى إقَامَةِ الْعِبَادَاتِ فَكَيْفَ يَكُونُ مُعَاتَبًا عَلَيْهِ أَوْ مُحَاسَبًا ؟ وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثَانِ أَحَدُهُمَا حَدِيثُ { أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَكْلَةٌ أَكَلْتهَا مَعَك فِي بَيْتِ أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيْهَانِ مِنْ لَحْمٍ وَخُبْزِ شَعِيرٍ هُوَ مِنْ النِّعَمِ الَّتِي نُسْأَلُ عَنْهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَتَلَا قَوْله تَعَالَى { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنْ النَّعِيمِ } فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَا أَبَا بَكْرٍ إنَّمَا ذَلِكَ لِلْكُفَّارِ أَمَا عَلِمْت أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يُسْأَلُ عَنْ ثَلَاثٍ قَالَ : وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا يُوَارِي سَوْأَتَهُ وَمَا يُقِيمُ بِهِ صُلْبَهُ وَمَا يُكِنُّ مِنْ الْحَرِّ وَالْبَرْدِ ثُمَّ هُوَ مَسْئُولٌ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ

كُلِّ نِعْمَةٍ } .
وَالثَّانِي حَدِيثُ { عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَإِنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ضِيَافَةِ رَجُلٍ فَأُتِيَ بِعِذْقٍ فِيهِ تَمْرٌ وَبُسْرٌ وَرُطَبٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَخَذَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْعِذْقَ وَجَعَلَ يَنْفُضُهُ حَتَّى تَنَاثَرَ عَلَى الْأَرْضِ وَيَقُولُ : أَوَنُسْأَلُ عَنْ هَذَا : قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إي وَاَللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَنْ كُلِّ نِعْمَةٍ حَتَّى الشَّرْبَةَ مِنْ الْمَاءِ الْبَارِدِ إلَّا عَنْ ثَلَاثٍ كِسْرَةٌ تُقِيمُ بِهَا صُلْبَك أَوْ خِرْقَةٌ تُوَارِي بِهَا سَوْأَتَك أَوْ كِنٌّ يُكِنُّك مِنْ الْحَرِّ } قَالَ فِي الْكِتَابِ ، وَهَذَا قَوْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّ الْمَرْءَ لَا يُحَاسَبُ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ وَكَفَى بِإِجْمَاعِهِمْ حُجَّةً فَمَنْ زَجَّى عُمْرَهُ بِهَذَا وَكَانَ قَانِعًا رَاضِيًا دَخَلَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { مَنْ هُدِيَ بِالْإِسْلَامِ وَقَنَعَ بِمَا آتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى دَخَلَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ } وَقِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى { إنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } أَنَّ الْمُصْلِحَ الَّذِي يَصِيرُ عَلَى هَذَا الْمِقْدَارِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْهُ ثُمَّ بَعْدَهُ التَّنَاوُلُ إلَى مِقْدَارِ الشِّبَعِ مُبَاحٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ } الْآيَةَ فَعَرَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ الْقَدْرَ لَيْسَ بِمُحَرَّمٍ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُحَرَّمًا ، فَهُوَ مُبَاحٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ ، وَكَذَلِكَ أَكْلُ الْخَبِيصِ وَالْفَوَاكِهِ وَأَنْوَاعِ الْحَلَاوَاتِ مِنْ السُّكَّرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مُبَاحٌ ، وَلَكِنَّهُ دُونَ مَا تَقَدَّمَ حَتَّى إنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْهُ وَالِاكْتِفَاءَ بِمَا دُونَهُ أَفْضَلُ لَهُ فَكَانَ تَنَاوُلُ هَذِهِ النِّعَمِ رُخْصَةً وَالِامْتِنَاعُ مِنْهَا عَزِيمَةً فَذَلِكَ أَفْضَلُ لِحَدِيثَيْنِ

رُوِيَا فِي الْبَابِ أَحَدُهُمَا حَدِيثُ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ أُتِيَ يَوْمًا بِقَدَحٍ تَنَدَّتْ بِعَسَلٍ وَبَرْدٍ لَهُ فَقَرَّبَهُ إلَى فِيهِ ثُمَّ رَدَّهُ وَأَمَرَ بِالتَّصَدُّقِ بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَقَالَ أَرْجُو أَنْ لَا أَكُونَ مِنْ الَّذِينَ يُقَالُ لَهُمْ { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ } الْآيَةَ فَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّ تَنَاوُلَ ذَلِكَ مُبَاحٌ ؛ لِأَنَّهُ قَرَّبَهُ إلَى فِيهِ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الِامْتِنَاعَ مِنْهُ أَفْضَلُ وَالثَّانِي حَدِيثُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإِنَّهُ اشْتَرَى جَارِيَةً وَأَمَرَ بِهَا فَزُيِّنَتْ لَهُ وَأُدْخِلَتْ عَلَيْهِ فَلَمَّا رَآهَا بَكَى وَقَالَ : أَرْجُو أَنْ لَا أَكُونَ مِنْ الَّذِينَ يَتَوَصَّلُونَ إلَى جَمِيعِ شَهَوَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ دَعَا شَابًّا مِنْ الْأَنْصَارِ لَمْ يَكُنْ تَحْتَهُ امْرَأَةٌ فَأَهْدَاهَا لَهُ وَتَلَا قَوْله تَعَالَى { وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ } الْآيَةَ ، وَلِأَنَّ أَفْضَلَ مَنَاهِجِ الدِّينِ طَرِيقُ الْمُرْسَلِينَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ ، وَقَدْ كَانَ طَرِيقُهُمْ الِاكْتِفَاءَ بِمَا دُونَ هَذَا فِي عَامَّةِ الْأَوْقَاتِ .
وَكَذَا نَبِيُّنَا عَلَيْهِ السَّلَامُ رُبَّمَا أَصَابَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ { لَيْتَ لَنَا مَلْتُوتًا نَأْكُلُهُ فَجَاءَ بِهِ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَصْعَةٍ فَقِيلَ : إنَّهُ أَصَابَ مِنْهُ ، وَقِيلَ لَمْ يُصِبْ وَأَمَرَ بِالتَّصَدُّقِ بِهِ } ثُمَّ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَنَاوُلِ الْخُبْزِ إلَى الشِّبَعِ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ سِوَى الْعَرْضِ عَلَى مَا رُوِيَ { عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا سَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ قَوْله تَعَالَى { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا } قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاكَ الْعَرْضُ يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ أَمَا عَلِمْت أَنَّ مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ } وَمَعْنَى الْعَرْضِ بَيَانُ الْمِنَّةِ وَتَذْكِيرِ النِّعْمَةِ وَالسُّؤَالِ أَنَّهُ هَلْ قَامَ بِشُكْرِهَا ؟ وَقِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ

كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } الْآيَةَ أَنَّهُ الْعَرْضُ بِمِثْلِ هَذَا ، وَأَمَّا فِي اقْتِضَاءِ الشَّهَوَاتِ مِنْ الْحَلَالِ وَتَنَاوُلِ اللَّذَّاتِ ، فَهُوَ مُحَاسَبٌ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ مُعَاقَبٍ عَلَيْهِ ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صِفَةِ الدُّنْيَا { حَلَالُهَا حِسَابٌ وَحَرَامُهَا عِقَابٌ } وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِمَا دُونَ ذَلِكَ أَفْضَلُ حَدِيثُ { الضَّحَّاكِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَإِنَّهُ جَاءَ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَافِدًا مِنْ قَوْمِهِ وَكَانَ مُتَنَعِّمًا فِيهِمْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا طَعَامُك يَا ضَحَّاكُ قَالَ اللَّحْمُ وَالْعَسَلُ وَالزَّيْتُ وَلُبُّ الْخُبْزِ قَالَ ثُمَّ تَصِيرُ إلَى مَاذَا فَقَالَ أَصِيرُ إلَى مَا يَعْلَمُهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى ضَرَبَ لِلدُّنْيَا مَثَلًا بِمَا يَخْرُجُ مِنْ ابْنِ آدَمَ ثُمَّ قَالَ لَهُ إيَّاكَ أَنْ تَأْكُلَ فَوْقَ الشِّبَعِ } ، فَقَدْ بَيَّنَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ طَعَامَهُ ، وَإِنْ كَانَ لَذِيذًا طَيِّبًا فِي الِابْتِدَاءِ ، فَإِنَّهُ يَصِيرُ إلَى الْخُبْثِ وَالنَّتِنِ فِي الِانْتِهَاءِ ، فَهُوَ مِثْلُ الدُّنْيَا ، وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِمَا دُونَ ذَلِكَ أَفْضَلُ ، وَفِي حَدِيثِ { الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ عِنْدَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأُتِيَ بِقَصْعَةٍ فِيهَا خُبْزُ شَعِيرٍ وَزَيْتٌ فَجَعَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَأْكُلُ مِنْ ذَلِكَ وَيَدْعُو الْأَحْنَفَ إلَى أَكْلِهِ وَكَانَ لَا يَسَعُهُ ذَلِكَ فَذَكَرَ الْأَحْنَفُ ذَلِكَ لِحَفْصَةَ وَقَالَ : إنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَسَّعَ الدُّنْيَا عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ، فَلَوْ وَسَّعَ عَلَى نَفْسِهِ وَجَعَلَ طَعَامَهُ طَيِّبًا فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَبَكَى وَقَالَ أَرَأَيْت لَوْ أَنَّ ثَلَاثَةً اصْطَلَحُوا فَتَقَدَّمَ أَحَدُهُمْ فِي الطَّرِيقِ وَالثَّانِي بَعْدَهُ ثُمَّ خَالَفَهُمْ الثَّالِثُ فِي الطَّرِيقِ أَكَانَ يُدْرِكُهُمْ

؟ فَقَالَتْ : لَا ، قَالَ : فَقَدْ تَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَمْ يُصِبْ مِنْ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا شَيْئًا وَأَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَهُ كَذَلِكَ ، فَلَوْ اشْتَغَلَ عُمَرُ بِقَضَاءِ الشَّهَوَاتِ فِي الدُّنْيَا مَتَى يُدْرِكُهُمْ } فَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِمَا دُونَ ذَلِكَ أَفْضَلُ ، وَفِي الْحَاصِلِ الْمَسْأَلَةُ صَارَتْ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ فَفِي مِقْدَارِ مَا يَسُدُّ بِهِ رَمَقَهُ وَيَتَقَوَّى عَلَى الطَّاعَةِ هُوَ مُثَابٌ غَيْرُ مُعَاقَبٍ ، وَفِيمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى حَدِّ الشِّبَعِ هُوَ مُبَاحٌ لَهُ مُحَاسَبٌ عَلَى ذَلِكَ حِسَابًا يَسِيرًا بِالْعَرَضِ .
وَفِي قَضَاءِ الشَّهَوَاتِ وَنَيْلِ اللَّذَّاتِ مِنْ الْحَلَالِ هُوَ مُرَخَّصٌ لَهُ فِيهِ مُحَاسَبٌ عَلَى ذَلِكَ مُطَالَبٌ بِشُكْرِ النِّعْمَةِ وَحَقِّ الْجَائِعِينَ ، وَفِيمَا زَادَ عَلَى الشِّبَعِ هُوَ مُعَاقَبٌ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ الْأَكْلَ فَوْقَ الشِّبَعِ حَرَامٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا ، وَفِي الْكِتَابِ قَالَ أَكْرَهُهُ وَمُرَادُهُ التَّحْرِيمُ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قِيلَ لَهُ : إذَا قُلْت فِي شَيْءٍ أَكْرَهُهُ مَا رَأْيُك فِيهِ قَالَ إلَى الْحُرْمَةِ أَقْرَبُ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إذَا تَجَشَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ لَا تَفْتِنَّا } وَالْجُشَأُ مِنْ الْأَكْلِ فَوْقَ الشِّبَعِ فَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّ الْأَكْلَ فَوْقَ الشِّبَعِ مِنْ أَسْبَابِ الْمَوْتِ وَتَسَبُّبُ الْمَوْتِ ارْتِكَابُ الْحَرَامِ ، وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَا اكْتَسَبَهُ مِنْ حِلِّهِ فَأَمَّا مَا اكْتَسَبَهُ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ ، فَهُوَ مُعَاقَبٌ عَلَى التَّنَاوُلِ مِنْهُ فَفِي غَيْرِ حَالَةِ الضَّرُورَةِ الْقَلِيلُ وَالْكَثِيرُ مِنْهُ سَوَاءٌ لِحَدِيثِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ مِنْ السُّحْتِ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ } ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَا اكْتَسَبَ الْمَرْءُ دِرْهَمًا مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ يُنْفِقُهُ

عَلَى أَهْلِهِ وَيُبَارَكُ لَهُ فِيهِ أَوْ يَتَصَدَّقُ بِهِ فَيُقْبَلُ مِنْهُ أَوْ يُخَلِّفُهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ إلَّا كَانَ ذَلِكَ زَادَهُ إلَى النَّارِ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ اكْتَسَبَ مِنْ حَيْثُ شَاءَ وَلَا يُبَالِي أَدْخَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى النَّارَ مِنْ أَيِّ بَابٍ كَانَ وَلَا يُبَالِي } { ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ طَيِّبْ طُعْمَتَك أَوْ قَالَ أَكْلَتَك تُسْتَجَبْ دَعْوَتُك } .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي بَيَانِ حَالِ النَّاسِ بَعْدَهُ يُصْبِحُ أَحَدُهُمْ أَشْعَثَ أَغْبَرَ يَقُولُ يَا رَبِّ يَا رَبِّ وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ وَغُذِيَ بِالْحَرَامِ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لَهُ } { وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَشْرَاطِ السَّاعَةِ الدِّرْهَمُ الْحَلَالُ فِيهِمْ أَعَزُّ مِنْ أَخٍ فِي اللَّهِ وَالْأَخُ فِي اللَّهِ أَعَزُّ فِيهِمْ مِنْ دِرْهَمٍ حَلَالٍ } قَالَ فِي الْكِتَابِ ، وَكَذَلِكَ أَمْرُ اللِّبَاسِ يَعْنِي أَنَّهُ مَأْجُورٌ فِيمَا يُوَارِي بِهِ سَوْأَتَهُ وَيَدْفَعُ أَذَى الْحَرِّ وَالْبَرْدِ عَنْهُ وَيَتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ الصَّلَوَاتِ وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مُبَاحٌ لَهُ وَتَرَكَ الْأَجْوَدِ مِنْ الثِّيَابِ وَالِاكْتِفَاءُ بِمَا دُونَ ذَلِكَ أَفْضَلُ ، كَمَا فِي الطَّعَامِ لِمَا رُوِيَ عَنْ { النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَبِسَ يَوْمًا ثَوْبًا مُعَلَّمًا ثُمَّ نَزَعَهُ وَقَالَ شَغَلَنِي عَلَمُهُ عَنْ صَلَاتِي كُلَّمَا وَقَعَ بَصَرِي عَلَيْهِ } ، وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ رَفَعَ ثَوْبَهُ إلَى عَامِلِهِ لِيُرَقِّعَهُ فَزَادَ عَلَيْهِ ثَوْبًا آخَرَ وَجَاءَهُ بِالثَّوْبَيْنِ فَأَخَذَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثَوْبَهُ وَرَدَّ الْآخَرَ وَقَالَ ثَوْبُك أَجْوَدُ وَأَلْيَنُ ، وَلَكِنَّ ثَوْبِي أَنْشَفُ لِلْعَرَقِ ، وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ التَّزَيِّي بِالزِّيِّ الْحَسَنِ وَيَقُولُ أَنَا أَلْبَسُ مِنْ الثِّيَابِ مَا يَكْفِينِي لِعِبَادَةِ رَبِّي

فِيهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الِاكْتِفَاءَ بِمَا دُونَ الْأَجْوَدِ أَفْضَلُ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ يُرَخَّصُ لَهُ فِي لُبْسِ ذَلِكَ

ثُمَّ حَوَّلَ الْكَلَامَ إلَى فَصْلٍ آخَرَ حَاصِلُهُ دَارَ عَلَى فَصْلٍ ، وَهُوَ أَنَّ مَسَاعِيَ أَهْلِ التَّكْلِيفِ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ : نَوْعٌ مِنْهَا لِلْمَرْءِ كَالْعِبَادَاتِ ، وَنَوْعٌ مِنْهَا عَلَيْهِ كَالْمَعَاصِي ، وَنَوْعٌ مِنْهَا بَيْنَهُمَا لَا لَهُ وَلَا عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ الْمُبَاحَاتُ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ كَقَوْلِك : أَكَلْت أَوْ شَرِبْت أَوْ قُمْت أَوْ قَعَدْت وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْفِقْهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَقَالَتْ الْكَرَّامِيَّةُ مَسَاعِي أَهْلِ التَّكْلِيفِ نَوْعَانِ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ مَسَاعِيهِمْ فِي حَدِّ الْإِهْمَالِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إلَّا الضَّلَالُ } ، فَقَدْ قَسَّمَ الْأَشْيَاءَ قِسْمَيْنِ لَا فَاصِلَ بَيْنهمَا إمَّا الْحَقُّ ، وَهُوَ مَا يَكُونُ لِلْمَرْءِ أَوْ الضَّلَالُ ، وَهُوَ مَا عَلَى الْمَرْءِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ } وَمَا لِلتَّعْمِيمِ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ جَمِيعَ مَا يَكْتَسِبُهُ الْمَرْءُ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ } الْآيَةَ فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ عَمَلَهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ أَحَدِ هَذَيْنِ إمَّا صَالِحٌ أَوْ سَيِّئٌ ، وَفِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بَيَانُ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَتَلَفَّظُ بِهِ الْمَرْءُ مَكْتُوبٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ } الْآيَةَ .
وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ جَمِيعَ مَا يَفْعَلُهُ الْمَرْءُ مَكْتُوبٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ } ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ يَحْضُرُ جَمِيعُ مَا عَمِلَهُ فِي مِيزَانِهِ عِنْدَ الْحِسَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا } وَمَا لِلتَّعْمِيمِ فَدَلَّ أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ هَمْلًا وَالْمَعْنَى فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ مَوَاثِيقَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ لَازِمَةٌ لَهُ فِي كُلِّ حَالٍ يَعْنِي مِنْ قَوْله تَعَالَى { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا } وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ { وَمَا خَلَقْت الْجِنَّ وَالْإِنْسَ } الْآيَةَ فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ مُوقِنًا

بِهَذَا الْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ فَيَكُونُ ذَلِكَ لَهُ أَوْ تَارِكًا فَيَكُونُ عَلَيْهِ إذْ لَا تَصَوُّرَ لِشَيْءٍ سِوَى هَذَا وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُبَاحَ الَّذِي تُصَوِّرُونَهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ مَالِهِ بِأَنْ يَكُونَ مُقَرِّبًا لَهُ مِمَّا يَحِلُّ وَيَكُونُ هُوَ مَأْمُورًا بِهِ أَوْ مُبْعِدًا لَهُ مِمَّا لَا يَحِلُّ فَيَكُونُ ذَلِكَ لَهُ أَوْ يَكُونُ مُقَرِّبًا لَهُ مِمَّا لَا يَحِلُّ أَوْ مُبْعِدًا لَهُ مِمَّا يَحِلُّ وَيُؤْمَرُ بِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَيْهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ جَمِيعَ مَسَاعِيهِ غَيْرُ خَارِجَةٍ مِنْ أَنْ تَكُونَ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ وَالْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ مَا هُوَ مَأْمُورٌ بِهِ أَوْ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ ، وَذَلِكَ عِبَادَةٌ لَهُمْ ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَذَلِكَ عَلَيْهِمْ ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مُبَاحٌ وَمَا كَانَ مُبَاحًا ، فَهُوَ غَيْرُ مَوْصُوفٍ بِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ أَوْ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ أَوْ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فَعَرَفْنَا أَنَّ هُنَا قِسْمًا ثَالِثًا ثَابِتًا بِطَرِيقِ الْإِجْمَاعِ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْمَرْءِ ، وَلَا عَلَى الْمَرْءِ وَمَا كَانَ هَذَا بَيْنَ الْقِسْمَيْنِ الْآخَرَيْنِ إلَّا لِحِكْمَةٍ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ مُهْمَلًا لَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ وَلَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ ؛ لِأَنَّ مَا يَكُونُ لَهُ ، فَهُوَ مُثَابٌ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } الْآيَةَ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ } وَمَا يَكُونُ عَلَيْهِ ، فَهُوَ مُعَاقَبٌ عَلَى ذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } أَيْ فَعَلَيْهَا وَإِذَا كَانَ فِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ مَا لَا يُثَابُ عَلَيْهِ وَلَا يُعَاقَبُ عَرَفْنَا أَنَّهُ مُهْمَلٌ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ } .
فَالتَّنْصِيصُ عَلَى نَفْيِ الْمُؤَاخَذَةِ فِي يَمِينِ اللَّغْوِ يَكُونُ تَنْصِيصًا عَلَى أَنَّهُ

لَا يُثَابُ عَلَيْهِ ، وَإِذَا ثَبَتَ بِالنَّصِّ أَنَّهُ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ وَلَا يُعَاقَبُ عَرَفْنَا أَنَّهُ مُهْمَلٌ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ } ، وَلَا إشْكَالَ أَنَّهُ لَا يُثَابُ عَلَى مَا أَخْطَأَ بِهِ ، وَقَدْ انْتَفَتْ الْمُؤَاخَذَةُ بِالنَّصِّ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مُهْمَلٌ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي ثَلَاثٌ الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ } الْحَدِيثَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْإِثْمَ مَرْفُوعٌ عَنْهُمْ وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ لَا يُثَابُونَ عَلَى ذَلِكَ ، فَإِذَا ثَبَتَ بِهَذِهِ النُّصُوصِ أَنَّ مَا لَا يَنَالُ بِهِ الْمَرْءُ الثَّوَابَ ، وَلَا يَكُونُ مُعَاقَبًا عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُهْمَلًا لَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ يَكُونُ لِلْمَرْءِ أَوْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ مَا لَهُ خَاصٌّ بِمَا لَا يَنْتَفِعُ بِهِ فِي الْآخِرَةِ وَمَا عَلَيْهِ خَاصٌّ فِيمَا يَضُرُّهُ تُجَاهَ الْآخِرَةِ ، وَفِي أَفْعَالِهِ وَأَقْوَالِهِ مَا لَا يَنْفَعُهُ ، وَلَا يَضُرُّهُ فِي الْآخِرَةِ فَكَانَ ذَلِكَ مُهْمَلًا ثُمَّ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ مَا يَكُونُ مُهْمَلًا مِنْ الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ هَلْ يَكُونُ مَكْتُوبًا عَلَى الْعَبْدِ أَمْ لَا قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّهُ لَا يُكْتَبُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ لَا تَكُونُ مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ وَالْفَائِدَةُ مَنْفَعَتُهُ بِذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ أَوْ الْمُعَاقَبَةُ مَعَهُ عَلَى ذَلِكَ فَمَا يَكُونُ خَارِجًا عَنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَلَا فَائِدَةَ فِي كِتَابَتِهِ عَلَيْهِ وَأَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ } الْآيَةَ إلَّا أَنَّهُمْ قَالُوا بَعْدَ مَا يُكْتَبُ جَمِيعُ ذَلِكَ عَلَيْهِ يَبْقَى فِي دِيوَانِهِ مَا فِيهِ جَزَاءُ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَيُمْحَى مِنْ دِيوَانِهِ مَا هُوَ مُهْمَلٌ وَبَيَانُهُ فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } ، وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إذَا صَعَدَ الْمَلَكَانِ بِكِتَابِ

الْعَبْدِ فَإِنْ كَانَ أَوَّلُهُ وَآخِرُهُ حَسَنَةً يُمْحَى مَا بَيْنَ ذَلِكَ مِنْ السَّيِّئَاتِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ يَبْقَى جَمِيعُ ذَلِكَ عَلَيْهِ } ، وَاَلَّذِينَ قَالُوا يُمْحَى الْمُهْمَلُ مِنْ الْكِتَابِ اخْتَلَفُوا فِيهِ قَالَ بَعْضُهُمْ : إنَّمَا يُمْحَى ذَلِكَ فِي الْأَثَانِينَ وَالْأَخْمِسَةِ ، وَهُوَ الَّذِي وَقَعَ عِنْدَ النَّاسِ أَنَّهُ تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ فِي هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ أَيْ يُمْحَى مِنْ الدِّيوَانِ فِيهِمَا مَا هُوَ مُهْمَلٌ لَيْسَ فِيهِ جَزَاءٌ وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يُمْحَى ذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، وَقَدْ ذَكَرَهُ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الدَّوَاوِينُ عِنْدَ اللَّهِ ثَلَاثَةٌ دِيوَانٌ لَا يُعْبَأُ بِهِ ، وَهُوَ مَا لَيْسَ فِيهِ جَزَاءُ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَدِيوَانُ مَظَالِمِ الْعِبَادِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْإِنْصَافِ وَالِانْتِصَافِ ، وَالدِّيوَانُ الثَّالِثُ مَا فِيهِ جَزَاءٌ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ } ، وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ مَقْبُولٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ ، وَلَكِنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي الدِّيوَانِ الَّذِي لَا يُعْبَأُ بِهِ قِيلَ : هُوَ الْمُهْمَلُ الَّذِي قُلْنَا أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ جَزَاءُ خَيْرٍ وَلَا شَرٍّ ، وَقِيلَ هُوَ مَا بَيْنَ الْعَبْدِ وَبَيْنَ رَبِّهِ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ حَقُّ الْعِبَادِ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَفُوٌّ كَرِيمٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ } الْآيَةَ وَقِيلَ بَلْ هُوَ الصَّغَائِرُ ، فَإِنَّهَا مَغْفُورَةٌ لِمَنْ اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } الْآيَةَ ، فَهُوَ الدِّيوَانُ الَّذِي لَا يَعْبَأُ بِهِ وَقِيلَ الْمُرَادُ بِأَعْمَالِ الْكَبَائِرِ مَا هُوَ فِي صُورَةِ الطَّاعَةِ ، فَإِنَّهُ لَا يَعْبَأُ بِهِ إذَا لَمْ يُؤْمِنُوا أَيْ لَا يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ لَا الشِّرْكُ غَيْرُ مَغْفُورٍ لَهُمْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ } وَلَا قِيمَةَ

لِأَعْمَالِهِمْ مَعَ الشِّرْكِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَقَدِمْنَا إلَى مَا عَمِلُوا } الْآيَةَ وَالْأَظْهَرُ هُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ إنَّ الَّذِي لَا يَعْبَأُ بِهِ .
الْقِسْمَ الثَّالِثَ الَّذِي بَيَّنَّا أَنَّهُ مُبَاحٌ لَيْسَ لِلْمَرْءِ ، وَلَا عَلَيْهِ هَذَا الَّذِي لَا يَعْبَأُ بِهِ ، فَإِنَّهُ فَسَّرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ، وَهُوَ مَا لَيْسَ فِيهِ جَزَاءُ خَيْرٍ ، وَلَا شَرٍّ وَذُكِرَ فِي الْكِتَابِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي قَوْله تَعَالَى { يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ } أَنَّ الْمُرَادَ مَحْوُ بَعْضِ الْأَسْمَاءِ مِنْ دِيوَانِ الْأَشْقِيَاءِ وَالْإِثْبَاتُ فِي دِيوَانِ السُّعَدَاءِ ، وَمَحْوُ بَعْضِ الْأَسْمَاءِ مِنْ دِيوَانِ السُّعَدَاءِ وَالْإِثْبَاتُ فِي دِيوَانِ الْأَشْقِيَاءِ وَأَهْلُ التَّفْسِيرِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ إنَّمَا يَرْوُونَ هَذَا عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، كَمَا رُوِيَ عَنْ وَائِلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ فِي دُعَائِهِ : اللَّهُمَّ إنْ كُنْت كَتَبْت أَسْمَاءَنَا فِي دِيوَانِ الْأَشْقِيَاءِ فَامْحُهَا مِنْ دِيوَانِ الْأَشْقِيَاءِ وَأَثْبِتْهَا فِي دِيوَانِ السُّعَدَاءِ ، فَإِنَّك قُلْت فِي كِتَابِك وَقَوْلُك الْحَقُّ { يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ } الْآيَةَ فَأَمَّا ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَالرِّوَايَةُ الظَّاهِرَةُ عَنْهُ الْمَحْوُ وَالْإِثْبَاتُ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا فِي السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ وَالْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ ، وَمِنْ الْفُقَهَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ أَخَذَ بِالرِّوَايَةِ الْأُولَى وَقَالَ إنَّا نَرَى الْكَافِرَ يُسْلِمُ وَالْمُسْلِمَ يَرْتَدُّ وَالصَّحِيحَ يَمْرَضُ وَالْمَرِيضَ يَبْرَأُ ، وَكَذَا نَقُولُ يَجُوزُ أَنْ يَشْقَى السَّعِيدُ وَيَسْعَدَ الشَّقِيُّ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَغَيَّرَ عِلْمُ اللَّهِ فِي كُلِّ أَحَدٍ وَلِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ ، وَمِنْ بَعْدُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَحْكُمُ مَا يُرِيدُ وَعَلَى ذَلِكَ حَمَلُوا قَوْله تَعَالَى { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } وَأَكْثَرُهُمْ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ،

فَإِنَّهُ أَقْرَبُ إلَى مُوَافَقَةِ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ { السَّعِيدُ مَنْ سَعِدَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَالشَّقِيُّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ } وَتَأْوِيلُ قَوْله تَعَالَى { يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ } مَحْوُهُ لَا يَعْبَأُ بِهِ مِنْ دِيوَانِ الْعَبْدِ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ جَزَاءُ خَيْرٍ ، وَلَا شَرٍّ وَإِثْبَاتُ مَا فِيهِ الْخَيْرُ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا { الدَّوَاوِينُ عِنْدَ اللَّهِ ثَلَاثَةٌ } وَلِأَجْلِهِ أَوْرَدَ مُحَمَّدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى أَثَرِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ وَقِيلَ الْمُرَادُ مَحْوُ الْمَعْرِفَةِ مِنْ قَلْبِ الْبَعْضِ وَإِثْبَاتُهَا فِي قَلْبِ الْبَعْضِ فَيَكُونُ هَذَا نَظِيرَ قَوْله تَعَالَى { يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ } أَوْ الْمُرَادُ الْمَحْوُ وَالْإِثْبَاتُ فِي الْمَقْسُومِ لِكُلِّ عَبْدٍ مِنْ الرِّزْقِ وَالسَّلَامَةِ وَالْبَلَاءِ وَالْمَرَضِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ثُمَّ رَوَى حَدِيثَ { الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَيْثُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَكْلَةٌ أَكَلْتهَا مَعَك فِي بَيْتِ أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيْهَانِ } ، وَقَدْ رَوَيْنَا الْحَدِيثَ بِتَمَامِهِ زَادَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ { فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَشُكْرُهُ إذَا وُضِعَ الطَّعَامُ بَيْنَ يَدَيْهِ أَنْ يَقُولَ بِسْمِ اللَّهِ ، وَإِذَا فَرَغَ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ } وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ لَمْ يَذْكُرْهَا أَهْلُ الْحَدِيثِ فِي كُتُبِهِمْ وَمُحَمَّدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَوْثُوقٌ بِهِ فِيمَا يَرْوِي وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا مِنْ كَلَامِ مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَكَرَهُ بَعْدَ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ .
وَقَدْ رُوِيَ فِي مَعْنَى هَذَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { إذَا وُضِعَ الطَّعَامُ بَيْنَ يَدَيْ الْمُؤْمِنِ فَقَالَ بِسْمِ اللَّهِ ، وَإِذَا فَرَغَ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ تَحَاتَّتْ ذُنُوبُهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ كَمَا يَتَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ نِعْمَةٍ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ { لَوْ جُعِلَتْ الدُّنْيَا كُلُّهَا لُقْمَةً فَابْتَلَعَهَا مُؤْمِنٌ فَقَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ كَانَ مَا أَتَى بِهِ خَيْرًا مِمَّا أُوتِيَ } ، وَهُوَ كَذَلِكَ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ الدُّنْيَا بِالْقِلَّةِ وَالْحَقَارَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ } وَذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى أَعْلَى وَأَطْيَبُ ، وَفِي قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى بِطَرِيقِ التَّعْظِيمِ وَالشُّكْرِ فَيَكُونُ خَيْرًا مِنْ جَمِيعِ الدُّنْيَا

( ثُمَّ قَالَ وَيُكْرَهُ لِلرِّجَالِ لُبْسُ الْحَرِيرِ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْحَرْبِ ) وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَيْسَتْ مِنْ مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي مَوَاضِعَ مِنْ الْكُتُبِ إلَّا أَنَّهَا تَلِيقُ بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْمَسَائِلِ فِي هَذَا الْكِتَابِ ، فَإِنَّهُ صَنَّفَ هَذَا الْكِتَابَ فِي الزُّهْدِ عَلَى مَا حُكِيَ أَنَّهُ لَمَّا فَرَغَ مِنْ تَصْنِيفِ الْكُتُبِ قِيلَ لَهُ ، أَلَا صَنَّفْت فِي الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ شَيْئًا فَقَالَ صَنَّفْت كِتَابَ الْبُيُوعِ ثُمَّ أَخَذَ فِي تَصْنِيفِ هَذَا الْكِتَابِ فَاعْتَرَضَ لَهُ دَاءٌ فَخَفَّ دِمَاغُهُ ، وَلَمْ يُتِمَّ مُرَادَهُ وَيُحْكَى أَنَّهُ قِيلَ لَهُ فَهْرِسْ لَنَا مَا كُنْت تُرِيدُ أَنْ تُصَنِّفَ فَفَهْرَسَ لَهُمْ أَلْفَ بَابٍ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يُصَنِّفَهَا فِي الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَوْتُ مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاشْتِغَالُ أَبِي يُوسُفَ بِالْقَضَاءِ قَضَى عَلَى أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَإِنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ لَصَنَّفَا مَا أَتْعَبَ الْمُتَّبِعِينَ ، وَهَذَا الْكِتَابُ أَوْ تَصَانِيفُهُ فِي الزُّهْدِ وَالْوَرَعِ فَذَكَرَ فِي آخِرِهِ بَعْضَ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَلِيقُ بِذَلِكَ فِي مِثْلِ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ ذَاتَ يَوْمٍ وَالذَّهَبُ بِيَمِينِهِ وَالْحَرِيرُ بِشِمَالِهِ وَقَالَ هَذَانِ حَرَامَانِ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي حِلٌّ لِإِنَاثِهَا } وَلُبْسُ الْحَرِيرِ لِلرِّجَالِ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْحَرْبِ مَكْرُوهٌ ، وَفِي حَالَةِ الْحَرْبِ كَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَفِي قَوْلِهِمَا إذَا كَانَ ثَخِينًا يُدْفَعُ بِمِثْلِهِ السِّلَاحُ فَلَا بَأْسَ بِلُبْسِهِ فِي حَالَةِ الْحَرْبِ ، وَأَمَّا مَا يَكُونُ سُدَاهُ غَيْرَ حَرِيرٍ وَلُحْمَتُهُ حَرِيرٌ فَلَا يَحِلُّ لِلرِّجَالِ لُبْسُهُ فِي غَيْرِ حَالَةِ الْحَرْبِ نَحْوُ الْقَبَاءِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذِهِ الْفُصُولِ فِي الْكُتُبِ

( قَالَ ، وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَّخِذَ الرَّجُلُ فِي بَيْتِهِ سَرِيرًا مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَعَلَيْهِ الْفِرَاشُ مِنْ الدِّيبَاجِ يَتَجَمَّلُ بِذَلِكَ لِلنَّاسِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقْعُدَ أَوْ يَنَامَ عَلَيْهِ ، فَإِنَّ ذَلِكَ مَنْقُولٌ عَنْ السَّلَفِ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ ) رُوِيَ أَنَّ الْحَسَنَ أَوْ الْحُسَيْنَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَنْ تَزَوَّجَ مِنْهُمَا شاه بَانُوا عَلَى حَسَبِ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ الرُّوَاةُ زَيَّنَتْ بَيْتَهُ بِالْفُرُشِ مِنْ الدِّيبَاجِ وَالْأَوَانِي الْمُتَّخَذَةِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ مَنْ بَقِيَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُمْ فَقَالَ مَا هَذَا فِي بَيْتِك يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَ : هَذِهِ امْرَأَةٌ تَزَوَّجْتهَا فَأَتَتْ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ ، وَلَمْ أَسْتَحْسِنْ مَنْعَهَا مِنْ ذَلِكَ وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ زَيَّنَ دَارِهِ ذَلِكَ هَذَا فَعَاتَبَهُ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَقَالَ إنَّمَا أَتَجَمَّلُ لِلنَّاسِ بِهَذِهِ وَلَسْت أَسْتَعْمِلُهُ ، وَإِنَّمَا أَفْعَلُ ذَلِكَ لِكَيْ لَا يَشْتَغِلَ قَلْبُ أَحَدٍ ، وَلَا يَنْظُرَ إلَى غَيْرِ حِمَاك فَعَرَفْنَا أَنَّ هَذَا إذَا اتَّخَذَهُ الْمَرْءُ عَلَى هَذَا الْقَصْدِ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ ، وَإِنْ كَانَ الِاكْتِفَاءُ بِمَا دُونَهُ أَفْضَلَ وَيَدْخُلُ هَذَا فِي مَعْنَى قَوْله تَعَالَى { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ } الْآيَةَ ، وَاَلَّذِي قَالَ لَا يَقْعُدُ عَلَيْهِ ، وَلَا يَنَامُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ أَيْضًا فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَا بَأْسَ بِالْجُلُوسِ وَالنَّوْمِ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا الْمَكْرُوهُ اللُّبْسُ وَالْمَلْبُوسُ يَصِيرُ تَبَعًا لِلَّابِسِ فَأَمَّا مَا يَجْلِسُ أَوْ يَنَامُ عَلَيْهِ فَلَا يَصِيرُ تَبَعًا لَهُ فَلَا بَأْسَ بِهِ

( قَالَ ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يُنْقَشَ الْمَسْجِدُ بِالْجِصِّ وَالسَّاجِ وَمَاءِ الذَّهَبِ ) قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ : تَحْتَ اللَّفْظِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا يُثَابُ عَلَى ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ قَالَ لَا بَأْسَ ، وَهَذَا اللَّفْظُ لِرَفْعِ الْحَرَجِ لَا لِإِيجَابِ الثَّوَابِ مَعْنَاهُ يَكْفِيهِ أَنْ يَنْجُوَ مِنْ هَذَا رَأْسًا بِرَأْسٍ ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَأَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ يَكْرَهُونَ ذَلِكَ وَيُؤَنِّبُونَ مَنْ فَعَلَهُ قَالُوا ؛ لِأَنَّ فِيهِ مُخَالَفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَخْبَرَ مِنْ الطَّرِيقَةِ ، فَإِنَّهُ { لَمَّا قِيلَ لَهُ : أَلَا نَهُدُّ مَسْجِدَك ثُمَّ نَبْنِيهِ فَقَالَ : لَا عَرْشَ كَعَرْشِ مُوسَى أَوْ قَالَ عَرْشٌ كَعَرْشِ مُوسَى وَكَانَ سَقْفُ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جَرِيدٍ فَكَانَ يَنْكَشِفُ إذَا مُطِرُوا حَتَّى كَانُوا يَسْجُدُونَ فِي الْمَاءِ وَالطِّينِ } وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ مَرَّ بِمَسْجِدٍ مُزَيَّنٍ مُزَخْرَفٍ فَجَعَلَ يَقُولُ : لِمَنْ هَذِهِ الْبِيَعُ ؟ ، وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ لِكَرَاهِيَتِهِ هَذَا الصُّنْعَ فِي الْمَسَاجِدِ ، وَلَمَّا بَعَثَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِينَارٍ لِيُزَيِّنَ بِهَا مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرَّ بِهَا عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ الْمَسَاكِينُ أَحْوَجُ إلَى هَذَا الْمَالِ مِنْ الْأَسَاطِينِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ تُزَخْرَفَ الْمَسَاجِدُ وَتُعْلَى الْمَنَارَاتُ وَقُلُوبُهُمْ خَاوِيَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ } ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ تَكْثِيرِ الْجَمَاعَةِ وَتَحْرِيضِ النَّاسِ عَلَى الِاعْتِكَافِ فِي الْمَسْجِدِ وَالْجُلُوسِ فِيهِ لِانْتِظَارِ الصَّلَاةِ ، وَفِي كُلِّ ذَلِكَ قُرْبَةٌ وَطَاعَةٌ وَالْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ثُمَّ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ مَا

رُوِيَ أَنَّ أَوَّلَ مَنْ بَنَى مَسْجِدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ دَاوُد عَلَيْهِ السَّلَامُ ثُمَّ أَتَمَّهُ سُلَيْمَانُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَهُ وَزَيَّنَهُ حَتَّى نَصَبَ عَلَى رَأْسِ الْقُبَّةِ الْكِبْرِيتَ الْأَحْمَرَ وَكَانَ أَعَزَّ وَأَنْفَسَ شَيْءٍ وُجِدَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فَكَانَ يُضِيءُ مِنْ مِيلٍ وَكُنَّ الْغَزَّالَاتُ يُبْصِرْنَ ضَوْءَهُ بِاللَّيَالِيِ مِنْ مَسَافَةِ مِيلٍ وَالْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوَّلُ مَنْ زَيَّنَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ زَيَّنَ مَسْجِدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَادَ فِيهِ .
وَكَذَلِكَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَهُ بَنَى الْمَسْجِدَ بِمَالِهِ وَزَادَ فِيهِ وَبَالَغَ فِي تَزْيِينِهِ فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ لَا بَأْسَ بِهِ ، وَأَنَّ تَأْوِيلَ مَا رُوِيَ بِخِلَافِ هَذَا مَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ { وَقُلُوبُهُمْ خَاوِيَةٌ مِنْ الْإِيمَانِ } أَيْ يُزَيِّنُونَ الْمَسَاجِدَ ، وَلَا يُدَاوِمُونَ عَلَى إقَامَةِ الصَّلَاةِ فِيهَا بِالْجَمَاعَةِ وَالْمُرَادُ التَّزَيُّنُ بِمَا لَيْسَ بِطَيِّبٍ مِنْ الْأَمْوَالِ أَوْ عَلَى قَصْدِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ فَعَلَى بَعْضِ ذَلِكَ يُحْمَلُ لِيَكُونَ جَمْعًا بَيْنَ الْآثَارِ ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا فَعَلَ الْمَرْءُ هَذَا بِمَالِ نَفْسِهِ مِمَّا اكْتَسَبَ مِنْ حِلِّهِ فَأَمَّا إذَا فَعَلَهُ بِمَالِ الْمَسْجِدِ ، فَهُوَ آثِمٌ فِي ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ بِمَالِ الْمَسْجِدِ مَا يَكُونُ فِيهِ أَحْكَامُ الْبِنَاءِ فَأَمَّا التَّزَيُّنُ فَلَيْسَ مِنْ أَحْكَامِ الْبِنَاءِ فِي شَيْءٍ حَتَّى قَالَ مَشَايِخُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ لِلْمُتَوَلِّي أَنْ يُجَصِّصَ الْحَائِطَ بِمَالِ الْمَسْجِدِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُشَ الْجِصَّ بِمَالِ الْمَسْجِدِ ، وَلَوْ فَعَلَهُ كَانَ ضَامِنًا ؛ لِأَنَّ فِي التَّجْصِيصِ أَحْكَامَ الْبِنَاءِ ، وَفِي النَّقْشِ عَلَى الْجِصِّ تَزْيِينُ الْبِنَاءِ لَا إحْكَامُهُ فَيَضْمَنُ الْمُتَوَلِّي مَا يُنْفَقُ عَلَى ذَلِكَ مِنْ مَالِ الْمَسْجِدِ .
( قَالَ : أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَبْنِي

لِنَفْسِهِ دَارًا وَيَنْقُشُ سَقْفَهَا بِمَاءِ الذَّهَبِ فَلَا يَكُونُ آثِمًا فِي ذَلِكَ ؟ ) يُرِيدُ بِهِ أَنَّ فِيمَا يُنْفِقُ عَلَى ذَلِكَ لِلتَّزَيُّنِ يَقْصِدُ بِهِ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ خَاصَّةً ، وَفِيمَا يُنْفِقُ عَلَى الْمَسْجِدِ لِلتَّزَيُّنِ مَنْفَعَتُهُ ، وَمَنْفَعَةُ غَيْرِهِ ، فَإِذَا جَازَ لَهُ أَنْ يَصْرِفَ مَالَهُ إلَى مَنْفَعَةِ نَفْسِهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَلَأَنْ يَجُوزَ صَرْفُهُ إلَى مَنْفَعَتِهِ وَمَنْفَعَةِ غَيْرِهِ كَانَ أَوْلَى ، وَقَدْ أُمِرْنَا فِي الْمَسَاجِدِ بِالتَّعْظِيمِ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَعْنَى التَّعْظِيمِ يَزْدَادُ بِالتَّزْيِينِ فِي قُلُوبِ بَعْضِ النَّاسِ مِنْ الْعَوَامّ فَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ بِهَذَا الطَّرِيقِ يُؤْجَرُ هُوَ عَلَى مَا فَعَلَهُ ، وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { يُثَابُ الْمُؤْمِنُ عَلَى إنْفَاقِ مَالِهِ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا فِي الْبُنْيَانِ } زَادَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مَا خَلَا الْمَسَاجِدَ فَإِنْ ثَبَتَتْ هَذِهِ الزِّيَادَةُ ، فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يُثَابُ فِيمَا يُنْفِقُ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ وَتَزْيِينِهِ وَعَلَى هَذَا أَمْرُ اللِّبَاسِ ، فَإِنَّهُ لَا بَأْسَ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَجَمَّلَ بِلُبْسِ أَحْسَنِ الثِّيَابِ وَأَجْوَدِهَا ، فَقَدْ { كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُبَّةٌ فَنَكٍ عَلَمُهَا مِنْ الْحَرِيرِ فَكَانَ يَلْبَسُهَا فِي الْأَعْيَادِ وَلِلْوُفُودِ } إلَّا أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يُكْتَفَى بِمَا دُونَ ذَلِكَ فِي الْمُعْتَادِ مِنْهُ لُبْسُهُ عَلَى مَا رُوِيَ { أَنَّ ثَوْبَ مِهْنَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ كَأَنَّهُ ثَوْبُ دَهَّانٍ } ، وَكَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَتَسَرَّى بِجَارِيَةٍ حَسْنَاءَ فَإِنَّهُ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ الْحَرَائِرِ تَسَرَّى حَتَّى اسْتَوْلَدَ مَارِيَةَ أُمَّ إبْرَاهِيمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا } وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ الْحَرَائِرِ كَانَ تَسَرَّى حَتَّى اسْتَوْلَدَ أُمَّ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَنَفِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ وَالْأَصْلُ

فِيهِ قَوْله تَعَالَى { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ } الْآيَةَ

وَقَالَ : وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ قَنَعُوا بِمَا دُونَ ذَلِكَ وَعَمَدُوا إلَى الْفُضُولِ فَقَدَّمُوهَا لِآخِرَتِهِمْ كَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : فَإِنَّهُ كَانَ يَتَعَلَّقُ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فِي أَيَّامِ الْمَوْسِمِ وَيُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ ، أَلَا مَنْ قَدْ عَرَفَنِي ، فَقَدْ عَرَفَنِي ، وَمَنْ لَمْ يَعْرِفْنِي فَأَنَا أَبُو ذَرٍّ جُنْدُبُ بْنُ جُنَادَةَ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّ أَحَدَكُمْ إذَا أَرَادَ سَفَرًا اسْتَعَدَّ لِسَفَرِهِ فَمَا لَكُمْ لَا تَسْتَعِدُّونَ لِسَفَرِ الْآخِرَةِ وَأَنْتُمْ تَتَيَقَّنُونَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لَكُمْ مِنْهُ ، أَلَا وَمَنْ أَرَادَ سَفَرًا فِي الدُّنْيَا فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ تَمَكَّنَ وَإِنْ طَلَبَ الْقَرْضَ وَجَدَ ، وَإِنْ اسْتَوْهَبَ رُبَّمَا يُوهَبُ لَهُ ، وَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي سَفَرِ الْآخِرَةِ وَسُئِلَ يَحْيَى بْنَ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَا لَنَا نَتَيَقَّنُ بِالْمَوْتِ وَلَا نُحِبُّهُ ؟ فَقَالَ : إنَّكُمْ أَحْبَبْتُمْ الدُّنْيَا فَكَرِهْتُمْ أَنْ تَجْعَلُوهَا خَلْفَكُمْ ، وَلَوْ قَدَّمْتُمْ مَحْبُوبَكُمْ لَأَحْبَبْتُمْ اللُّحُوقَ بِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَكْتَفِيَ مِنْ الدُّنْيَا بِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ وَيُقَدِّمَ لِآخِرَتِهِ مَا هُوَ زِيَادَةٌ عَلَى ذَلِكَ مِمَّا اكْتَسَبَهُ ، وَلَكِنَّهُ لَوْ اسْتَمْتَعَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ مَا اكْتَسَبَهُ مِنْ حِلِّهِ لَمْ يَكُنْ بِهِ بَأْسٌ وَالْقَوْلُ بِتَأْثِيمِ مَنْ يُنْفِقُ عَلَى نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ مِمَّا اكْتَسَبَهُ مِنْ حِلِّهِ وَأَدَّى حَقَّ اللَّهِ تَعَالَى مِنْهُ غَيْرُ سَدِيدٍ إلَّا أَنَّ أَفْضَلَ الطَّرِيقِ طَرِيقُ الْمُرْسَلِينَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُمْ اكْتَفَوْا مِنْ الدُّنْيَا بِمَا لَا بُدَّ لَهُمْ مِنْهُ خُصُوصًا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ { لَمَّا عُرِضَ عَلَيْهِ خَزَائِنُ مَفَاتِيحِ الْأَرْضِ رَدَّهَا وَقَالَ : أَكُونُ عَبْدًا نَبِيًّا أَجُوعُ يَوْمًا وَأَشْبَعُ يَوْمًا ، فَإِذَا جُعْت صَبَرْت ، وَإِذَا شَبِعْت شَكَرْت } وَلَكِنْ مَعَ

هَذَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ قَدْ كَانَ يَتَنَاوَلُ بَعْضَ الطَّيِّبَاتِ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا { لَيْتَ لَنَا خُبْزُ بُرٍّ قَدْ لُتَّ بِسَمْنٍ وَعَسَلٍ فَنَأْكُلُهُ فَصَنَعَ ذَلِكَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجَاءَ بِهِ فِي قَصْعَةٍ فَقِيلَ : إنَّهُ مَا تَنَاوَلَ مِنْ ذَلِكَ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ تَنَاوَلَ بَعْضَهُ ثُمَّ أَمَرَ بِالتَّصَدُّقِ بِمَا بَقِيَ مِنْهُ } { ، وَقَدْ أُهْدِيَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَدْيٌ سَمِينٌ مَشْوِيٌّ فَأَكَلَ مِنْهُ مَعَ أَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ } { وَقَدْ تَنَاوَلَ مِمَّا أَتَى بِهِ مِنْ الشَّاةِ الْمَسْمُومَةِ } { وَحِينَ قُدِّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْجَدْيُ الْمَشْوِيُّ قَالَ لِبَعْضِهِمْ : نَاوِلْنِي الذِّرَاعَ } فَبِهَذِهِ الْآثَارِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ يَتَنَاوَلُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ لِبَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ لَا بَأْسَ بِهِ لَنَا وَكَانَ يَكْتَفِي بِمَا دُونَ ذَلِكَ فِي عَامَّةِ الْأَوْقَاتِ لِبَيَانِ الْأَفْضَلِ عَلَى مَا رُوِيَ { أَنَّ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا كَانَتْ تَبْكِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُ يَا مَنْ لَمْ يَلْبَسْ الْحَرِيرَ وَلَمْ يَشْبَعْ مِنْ خُبْزِ الشَّعِيرِ } فَصَارَ الْحَاصِلُ أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى أَدْنَى مَا يَكْفِيهِ عَزِيمَةٌ .
وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ النِّعَمِ وَالنَّيْلُ مِنْ اللَّذَّاتِ رُخْصَةٌ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ ، كَمَا يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى عَزَائِمُهُ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { بُعِثْت بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ ، وَلَمْ أُبْعَثْ بِالرَّهْبَانِيَّةِ الصَّعْبَةِ } فَعَرَفْنَا أَنَّهُ إنْ تَرَخَّصَ بِالْإِصَابَةِ مِنْ النِّعَمِ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يُؤَثِّمَهُ فِي ذَلِكَ ، وَإِنْ ذَمَّ نَفْسَهُ وَكَسَرَ شَهْوَتَهُ فَذَلِكَ أَفْضَلُ لَهُ وَيَكُونُ مِنْ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَعَدَنِي أَنْ يُدْخِلَ سَبْعِينَ أَلْفًا مِنْ أُمَّتِي الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ فَقِيلَ مَنْ هُمْ يَا

رَسُولَ اللَّهِ قَالَ هُمْ الَّذِينَ لَا يَسْتَرِقُونَ ، وَلَا يَتَطَيَّرُونَ ، وَلَا يَكْتَوُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } ، وَفِي رِوَايَةٍ { ثُمَّ زَادَنِي مَعَهُمْ سَبْعِينَ أَلْفًا } ، وَفِي رِوَايَةٍ { ثُمَّ أَضْعَفَ لِي مَعَ الْفَرِيقِ الْأَوَّلِ وَالْآخَرِ سَبْعِينَ أَلْفًا } ، وَفِي الْحَدِيثِ الْمَعْرُوفِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ : عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ ، وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلَاهُ ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَإِلَى أَيِّ مَحَلٍّ صَرَفَهُ } ، فَإِذَا صَرَفَ الْمَالَ إلَى مَا فِيهِ ابْتِغَاءُ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى كَانَ الْحِسَابُ وَالسُّؤَالُ أَهْوَنَ عَلَيْهِ مِنْهُ إذَا صَرَفَهُ إلَى شَهَوَاتِ بَدَنِهِ

( قَالَ : وَاَلَّذِي عَلَى الْمَرْءِ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ مِنْ الْخِصَالِ الَّتِي يُحْمَدُ عَلَيْهَا أَشْيَاءُ ) مِنْهَا التَّحَرُّزُ عَنْ ارْتِكَابِ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، وَمِنْهَا الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْفَرَائِضِ وَالْمُدَاوَمَةُ عَلَى ذَلِكَ فِي أَوْقَاتِهَا ، وَمِنْهَا التَّحَرُّزُ عَنْ السُّحْتِ وَاكْتِسَابِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ ، وَمِنْهَا التَّحَرُّزُ عَنْ ظُلْمِ كُلِّ أَحَدٍ مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهَدٍ فَأَمَّا فِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ ، فَقَدْ وَسَّعَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَمْرَ عَلَيْنَا فَلَا نُضَيِّقُ عَلَى أَنْفُسِنَا ، وَلَا عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِمَاعَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهَذَا الَّذِي ثَبَتَ لَك فِي الْكِتَابِ قَوْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ وَزُفَرَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ الْفُقَهَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَبِذَلِكَ كُلِّهِ نَأْخُذُ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ .

كِتَابُ الرَّضَاعِ قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إمْلَاءً يَوْمَ الْخَمِيسِ الثَّانِي عَشَرَ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَة سَبْعٍ وَسَبْعِينَ وَأَرْبَعِمِائَةٍ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي كِتَابِ الرَّضَاعِ هَلْ هُوَ مِنْ تَصْنِيفِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَمْ لَا ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ : هُوَ لَيْسَ مِنْ تَصْنِيفِ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِنَّمَا صَنَّفَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَنَسَبَهُ إلَيْهِ لِيَرُوجَ بِهِ ، وَفِي أَلْفَاظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ، فَقَدْ ذَكَرَ فِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ سَبَبَ الْوَطْءِ الْحَرَامِ قَالَ : وَالتَّنَزُّهُ عَنْهُ أَفْضَلُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ مَا كَانَ يُصَحِّحُ الْجَوَابَ فِي مُصَنَّفَاتِهِ فِي الْأَحْكَامِ خُصُوصًا فِيمَا فِيهِ نَصٌّ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ تَصْنِيفَاتِهِ ، وَلِهَذَا لَمْ يَذْكُرْهُ الْحَاكِمُ الْجَلِيلُ فِي الْمُخْتَصَرِ وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ : وَهُوَ مِنْ تَصْنِيفَاتِهِ ، وَلَكِنَّهُ مِنْ أَوَائِلِ تَصْنِيفَاتِهِ وَلِكُلِّ دَاخِلٍ دَهْشَةٌ .
وَقَدْ بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّهُ كَانَ صَنَّفَ الْكُتُبَ مَرَّةً ثُمَّ أَعَادَهَا إلَّا قَلِيلًا مِنْهَا فَهَذَا الْكِتَابُ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَعَادَ اكْتَفَى فِي أَحْكَامِ الرَّضَاعِ بِمَا أَوْرَدَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَاكْتَفَى الْحَاكِمُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا بِذَلِكَ فَلَمْ يُفْرِدْ هَذَا الْكِتَابَ فِي مُخْتَصَرِهِ قَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَلَكِنِّي لَمَّا فَرَغْت مِنْ إمْلَاءِ شَرْحِ الْمُخْتَصَرِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ وَالطَّاقَةِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْحَاجَةِ وَالْفَاقَةِ وَأَتْبَعْته بِإِمْلَاءِ كِتَابِ الْكَسْبِ رَأَيْت الصَّوَابَ اتِّبَاعَ ذَلِكَ بِإِمْلَاءِ شَرْحِ هَذَا الْكِتَابِ فَفِيهِ بَعْضُ مَا لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهِ وَمَا يُحْتَاجُ فِيهِ إلَى شَرْحٍ وَبَيَانٍ ثُمَّ إنَّهُ بَدَأَ الْكِتَابَ بِبَيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ النِّسَاءِ فَقَالَ أَسْبَابُ حُرْمَةِ النِّسَاءِ ثَلَاثَةٌ النَّسَبُ وَالصِّهْرُ وَالرَّضَاعُ

وَالْمُحَرَّمَاتُ بِالنَّسَبِ سَبْعَةٌ ، وَذَلِكَ يُتْلَى فِي قَوْله تَعَالَى { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ } إلَى قَوْله تَعَالَى { وَبَنَاتُ الْأُخْتِ } وَالْمُصَاهَرَةُ كَالنَّسَبِ فِي ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ الْمُؤَبَّدَةِ بِهَا بِطَرِيقِ الْإِكْرَامِ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَمَعَ بَيْنَهُمَا قَالَ { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنْ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا } وَالْمُحَرَّمَاتُ بِالْمُصَاهَرَةِ أَرْبَعٌ ، وَذَلِكَ يُتْلَى فِي الْقُرْآنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } وَقَالَ تَعَالَى { وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ } وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ } ثُمَّ حَرَّمَ بِالرَّضَاعِ مِثْلَ هَذَا الْعَدَدِ الَّذِي حَرُمَ بِالنَّسَبِ وَالصِّهْرِ وَثُبُوتُ الْحُرْمَةِ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ مَنْصُوصٌ فِي قَوْله تَعَالَى { وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ } وَبَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } وَزَعَمَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ طَرِيقَ مَعْرِفَةِ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ النَّصُّ خَاصَّةً ، وَلَوْ خَلَّيْنَا وَالْقِيَاسَ لَمْ نَقُلْ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتِ ، فَإِنَّ الْإِنَاثَ خُلِقْنَ لِلذُّكُورِ ، وَهَذَا مَحَلُّ النِّكَاحِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُنَّ مَكَانُ حَرْثٍ لِلْوَلَدِ وَأَنَّ التَّنَاسُلَ بَيْنَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وَبِهَذِهِ الْأَسْبَابِ لَا يَخْتَلُّ هَذَا الْمَعْنَى وَالْأَصَحُّ أَنْ نَقُولَ هَذِهِ الْمُحَرَّمَاتُ ثَابِتَةٌ بِالنَّصِّ وَهِيَ مُسْتَحْسَنَةٌ فِي عُقُولِ الْعُقَلَاءِ أَيْضًا عِنْدَ رَفْضِ الْعَادَاتِ السَّيِّئَةِ وَالْعَاقِلُ يَحْرِصُ عَلَى حِمَايَةِ أُمِّهِ وَابْنَتِهِ وَأُخْتِهِ وَدَفْعِ الْعَارِ وَالشَّنَارِ عَنْهُمَا ، كَمَا يَحْرِصُ عَلَى دَفْعِ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ ، وَالْمَقْصُودُ بِالنِّكَاحِ الِاسْتِعْرَاضُ لِلْوَطْءِ وَالْعَاقِلُ يَأْنَفُ مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي أُمِّهِ وَابْنَتِهِ

كَمَا يَأْنَفُ مِنْ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَشَارَ إلَى ذَلِكَ فِي الْأَخْبَارِ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يَعْرِفُوا الشَّرِيعَةَ وَكَانُوا عُقَلَاءَ فَقَالَ جَلَّ وَعَلَا { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى } إلَى قَوْله تَعَالَى { أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ } ، فَإِذَا كَانَ يَأْنَفُ مِنْ ذَلِكَ كَيْفَ يَسْتَجِيزُ مِنْ نَفْسِهِ أَنْ يُبَاشِرَ فِعْلَهُ وَكَذَا يَأْنَفُ مِنْ ذَلِكَ فِي حَقِّ امْرَأَةِ أَبِيهِ الَّتِي رَبَّتْهُ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ أُمِّهِ بِاعْتِبَارِ التَّرْبِيَةِ ، وَفِي حَقِّ امْرَأَةِ ابْنِهِ الَّتِي هِيَ لَهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَلَدِ ، وَالْمُتَوَلِّدُ مِنْهَا يَكُونُ وَلَدًا لَهُ ، وَكَذَلِكَ يَأْنَفُ مِنْ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الرَّضَاعِ الَّذِي هُوَ أَحَدُ سَبَبَيْ الْكَوْنِ ، فَإِنَّ النَّشْرَ وَالتَّسْوِيَةَ يَحْصُلُ بِهِ ، وَلِهَذَا كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُعَظِّمُونَ أَمْرَ الرَّضَاعِ ، كَمَا يُعَظِّمُونَ أَمْرَ النَّسَبِ ثُمَّ بِسَبَبِ النَّسَبِ تَتَمَكَّنُ بَيْنَهُمَا الْعَصَبِيَّةُ أَوْ شِبْهُ الْعَصَبِيَّةِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ { أَوْلَادُنَا أَكْبَادُنَا } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ فَاطِمَةَ بَضْعَةٌ مِنِّي إلَّا مَا كَانَ لِآدَمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ } ، وَقَدْ كَانَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ لِكَوْنِ الْأَصْلِ الْأَوَّلِ وَاحِدًا كَمَا قَالَ تَعَالَى { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ } ثُمَّ شُبْهَةُ الْعَصَبِيَّةِ تُعْتَبَرُ بِحَقِيقَةِ الْعَصَبِيَّةِ ، وَفِي الْمُصَاهَرَةِ شُبْهَةُ الْعَصَبِيَّةِ بِاعْتِبَارِ الْوَاسِطَةِ ، وَفِي الرَّضَاعَةِ شُبْهَةُ الْعَصَبِيَّةِ بِاعْتِبَارِ الْبُنُوَّةِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ { الرَّضَاعُ مَا أَنْبَتَ اللَّحْمَ وَأَنْشَزَ الْعَظْمَ } ثُمَّ بَيَّنَ نَوْعًا آخَرَ مِنْ الْحُرْمَةِ فَقَالَ ، وَمِنْ ذَلِكَ مَا حَرُمَ بِالْكُفْرِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } ، وَهَذَا فِي الْمَعْنَى لَيْسَ نَظِيرَ

مَا تَقَدَّمَ فَتِلْكَ حُرْمَةٌ مُؤَبَّدَةٌ وَهَذِهِ حُرْمَةٌ مُؤَقَّتَةٌ إلَى غَايَةٍ هِيَ الْإِسْلَامُ ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْحُرْمَةِ سَبْعَةٌ أَيْضًا : أَحَدُهُمَا : إذَا كَانَ تَحْتَ الرَّجُلِ امْرَأَةٌ فَأُخْتُهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ إلَى غَايَةٍ وَهِيَ أَنْ يُفَارِقَهَا ، وَكَذَلِكَ مَا فِي مَعْنَى الْأُخْتِ كَالْعَمَّةِ وَالْخَالَةِ وَبِنْتِ الْأَخِ وَبِنْتِ الْأُخْتِ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ } وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا ، وَلَا عَلَى خَالَتِهَا ، وَلَا عَلَى ابْنَةِ أُخْتِهَا ، وَلَا عَلَى ابْنَةِ أَخِيهَا } .
وَالثَّانِيَةُ : إذَا كَانَ تَحْتَهُ أَرْبَعَةُ نِسْوَةٍ فَالْخَامِسَةُ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ إلَى أَنْ يُفَارِقَ إحْدَى الْأَرْبَعِ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ } وَبِإِجْمَاعِ الْجُمْهُورِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ عَلَى حُرْمَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ أَكْثَرِ مِنْ أَرْبَعِ نِسْوَةٍ .
وَالثَّالِثَةُ : إذَا كَانَ تَحْتَهُ حُرَّةٌ فَالْأَمَةُ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ إلَى غَايَةٍ وَهِيَ أَنْ يُفَارِقَ الْحُرَّةَ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُنْكَحُ الْأَمَةُ عَلَى الْحُرَّةِ } وَهِيَ حُرْمَةٌ ثَابِتَةٌ شَرْعًا عِنْدَنَا لَا لِحَقِّ الْمَرْأَةِ حَتَّى إنَّهَا وَإِنْ رَضِيَتْ لَمْ تَحِلَّ إلَّا عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَإِنَّهُ يَقُولُ إذَا رَضِيَتْ الْحُرَّةُ جَازَ وَذَكَرَ فِي الْكِتَابِ هَذَا الْقَوْلَ مَنْسُوبًا إلَى بَعْضِ الْعُلَمَاءِ وَمُرَادُهُ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .
وَالرَّابِعَةُ : إذَا وَطِئَ امْرَأَةً بِشُبْهَةٍ فَأُخْتُهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ إلَى غَايَةٍ وَهِيَ انْقِضَاءُ عِدَّةِ هَذِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْعِدَّةَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ كَأَصْلِ النِّكَاحِ فِي إيجَابِ الْحُرْمَةِ كَمَا يُجْعَلُ الرَّضَاعُ بِمَنْزِلَةِ النَّسَبِ فِي إيجَابِ الْحُرْمَةِ .
وَالْخَامِسَةُ : مَنْكُوحَةُ الْغَيْرِ أَوْ مُعْتَدَّةُ الْغَيْرِ ، فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ إلَى غَايَةٍ وَهِيَ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ

ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ } أَيْ أَخَوَاتُ الْأَزْوَاجِ وَبِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ } .
وَالسَّادِسَةُ : مُكَاتَبَةُ الرَّجُلِ ، فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ لَا يَطَؤُهَا بِالْمِلْكِ إلَى أَنْ تَعْتِقَ بِالْأَدَاءِ فَيَنْكِحَهَا أَوْ تَعْجِزَ فَيَطَأَهَا بِالْمِلْكِ .
وَالسَّابِعَةُ : الْمُشْرِكَةُ فَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْمُؤْمِنِ .
وَزَعَمَ مَالِكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ نِكَاحَ الْمُشْرِكَةِ لَا يَجُوزُ لِمُشْرِكٍ وَلَا لِلْمُسْلِمِ فَكَانَ يَقُولُ بِبُطْلَانِ أَنْكِحَةِ الْمُشْرِكِينَ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْهُمْ ، وَهُوَ بَاطِلٌ عِنْدَنَا ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ { وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ } ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا نِكَاحٌ لَمَا سَمَّاهَا امْرَأَتَهُ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { وُلِدْت مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ أُولَدْ مِنْ سِفَاحٍ } ، وَلَمْ يُفَرِّقْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَحَدٍ مِمَّنْ أَسْلَمَ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ حِينَ أَسْلَمَتْ مَعَهُ ، وَلَمْ يَأْمُرْهُمَا بِتَجْدِيدِ الْعَقْدِ بَلْ أَقَرَّهُمَا عَلَى النِّكَاحِ فَعَرَفْنَا أَنَّ لِلْأَنْكِحَةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ حُكْمَ الصِّحَّةِ ، وَإِنَّ نِكَاحَ الْمُشْرِكَةِ حَرَامٌ عَلَى الْمُسْلِمِ خَاصَّةً لِخُبْثِهَا وَكَرَامَةِ الْمُسْلِمِ فَفِيهِ مَعْنَى الصِّيَانَةِ لَهُ عَنْ فِرَاشِ الْخَبِيثَةِ وَبِالنِّكَاحِ ثَبَتَ الِازْدِوَاجُ ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ أَوْ مُتَقَارِبِي الْحَالِ ، وَلَا مُسَاوَاةَ بَيْنَ الْمُشْرِكَةِ وَالْمُسْلِمِ فَكَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ إلَى أَنْ يُؤْمِنَ .
( قَالَ ثُمَّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّ نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } ) فَأَحَلَّ نِسَاءَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ جُمْلَةِ أَهْلِ الْكُفْرِ وَتَرَكَ بَاقِي أَهْلِ الْكُفْرِ عَلَى التَّحْرِيمِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ قَالَ هَذَا

الْكَلَامُ مُخْتَلٌّ ، فَإِنَّ اسْمَ الْمُشْرِكَةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْكِتَابِيَّةَ حَتَّى يُقَالَ إنَّهَا خَرَجَتْ مِنْ هَذِهِ الْحُرْمَةِ بِالنَّصِّ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَطَفَ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ ؟ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ } ، وَإِنَّمَا يُعْطَفُ الشَّيْءُ عَلَى غَيْرِهِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ مَا ذَكَرَهُ الْكِتَابُ صَحِيحٌ ، فَإِنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ فِي الْحَقِيقَةِ مُشْرِكُونَ وَإِنْ كَانُوا يَدَّعُونَ التَّوْحِيدَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَقَالَتْ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ } إلَى قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } وَعَطْفُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ غَيْرُ مُشْرِكِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَاَلَّذِينَ أَشْرَكُوا } فَقَدْ عَطَفَ أَهْلَ الشِّرْكِ عَلَى الْمَجُوسِ وَالْمَجُوسُ مُشْرِكُونَ تَتَنَاوَلُهُمْ الْجِهَةُ الثَّابِتَةُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ } فَعَرَفْنَا أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ خُصُّوا مِنْ هَذِهِ الْحُرْمَةِ بِالنَّصِّ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَخُصُّ أَهْلَ الْكِتَابِ مِنْ هَذِهِ الْحُرْمَةِ وَكَانَ يَقُولُ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } اللَّاتِي أَسْلَمْنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لَا يَبْقَى لِلْآيَةِ فَائِدَةٌ ؛ لِأَنَّ نِكَاحَ الْمُسْلِمَةِ حَلَالٌ لِلْمُسْلِمِ سَوَاءٌ كَانَتْ كِتَابِيَّةً وَأَسْلَمَتْ أَوْ لَمْ تَكُنْ ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ } الْعَفَائِفُ مِنْهُنَّ أَوْ الْحَرَائِرُ مِنْهُنَّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ تَفْسِيرِ التَّحْرِيمِ بِالنَّسَبِ وَهُوَ مَا نَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ وَمَا حَرَّمَتْهُ السُّنَّةُ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ فَأَمَّا مَا نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ فَتَحْرِيمُ الْأُمِّ وَحَرَّمَتْ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ أُمَّ الْأُمِّ وَأُمَّ الْأَبِ ، وَإِنْ بَعُدَتْ مِنْ قِبَلِ الْأُمَّهَاتِ كَانَتْ أَوْ مِنْ قِبَلِ الْآبَاءِ وَزَعَمَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ ثُبُوتَ حُرْمَةِ الْجَدَّاتِ بِالنَّصِّ أَيْضًا فَاسْمُ الْأُمِّ يَتَنَاوَلُ الْجَدَّاتِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمْ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنْ الْجَنَّةِ } فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْجَدَّةَ أُمٌّ ، وَإِنَّ الْجَوَابَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ وَهُوَ أَصَحُّ ، فَإِنَّ اسْمَ الْأُمِّ يَتَنَاوَلُ الْجَدَّةَ مَجَازًا حَتَّى يَنْفِيَ عَنْهَا هَذَا الِاسْمَ بِإِثْبَاتِ غَيْرِهِ فَيُقَالُ : إنَّهَا جَدَّةٌ وَلَيْسَتْ بِأُمٍّ ، وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ مِنْ أَدَاتَيْ لَفْظٍ وَاحِدٍ فَإِنْ قِيلَ : لَا كَذَلِكَ فَمِنْ أُصُولِ عُلَمَائِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ فِي لَفْظٍ وَاحِدٍ حَتَّى إذَا حَلَفَ أَنْ لَا يَضَعَ قَدَمَهُ فِي دَارِ فُلَانٍ فَدَخَلَهَا حَافِيًا أَوْ مُنْتَعِلًا مَاشِيًا أَوْ رَاكِبًا كَانَ حَانِثًا فِي يَمِينِهِ ، وَهَذَا اللَّفْظُ لِلنَّهَارِ حَقِيقَةً وَيَتَنَاوَلُ اللَّيْلَ مَجَازًا وَقَالَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ إذَا اسْتَأْمَنَ الْحَرْبِيُّ عَلَى بَنِيهِ دَخَلَ فِي الْأَمَانِ بَنُو بَنِيهِ مَعَ بَنِيهِ لِصُلْبِهِ وَالِاسْمُ لِبَنِيهِ حَقِيقَةٌ وَلِبَنِي بَنِيهِ مَجَازٌ قُلْنَا : لَا كَذَلِكَ فَالْحَقِيقَةُ اسْتِعْمَالُ الشَّيْءِ فِي مَوْضِعِهِ وَالْمَجَازُ اسْتِعَارَةُ الشَّيْءِ وَاسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَ لَهُ وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ اللَّفْظُ الْوَاحِدُ مُسْتَعْمَلًا فِي مَوْضِعِهِ وَمُسْتَعَارًا كَمَا لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ الثَّوْبُ عَلَى اللَّابِسِ مِلْكًا لَهُ وَعَارِيَّةً فِي يَدِهِ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فَأَمَّا إذَا حَلَفَ لَا يَضَعُ قَدَمَهُ فِي دَارِ فُلَانٍ فَذَلِكَ عِبَارَةٌ عَنْ

الدُّخُولِ عَلِمَ ذَلِكَ بِالْعُرْفِ ثُمَّ يَحْنَثُ فِي الْوُجُوهِ كُلِّهَا ؛ لِأَنَّهُ دُخُولٌ لَا لِاعْتِبَارِ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ، وَكَذَلِكَ الْيَوْمُ فِيمَا لَا يَمْتَدُّ عِبَارَةٌ عَنْ الْوَقْتِ الَّذِي هُوَ ظَرْفٌ لَهُ فَيَحْنَثُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِوُجُودِ وَقْتِ الْقُدُومِ لَا لِلْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ ، فَلِهَذَا قُلْنَا إنَّ فِيمَا يَمْتَدُّ يُحْمَلُ ذِكْرُ الْيَوْمِ عَلَى بَيَاضِ النَّهَارِ لِيَكُونَ مِعْيَارًا لَهُ ، وَفِي مَسْأَلَةِ الْأَمَانِ رِوَايَتَانِ كِلَاهُمَا فِي السِّيَرِ .
وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَدْخُلُ بَنُو الِابْنِ ، وَإِنَّمَا أَدْخَلَهُمْ اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الْأَمَانِ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّوَسُّعِ وَأَدْنَى الشَّبَهِ يَكْفِي لِإِثْبَاتِهِ وَالسَّبَبُ الدَّاعِي لَهُ إلَى طَلَبِ هَذَا الْأَمَانِ شَفَقَتُهُ عَلَيْهِمْ وَشَفَقَتُهُ عَلَى بَنِيهِمْ كَشَفَقَتِهِ عَلَى بَنِيهِ ، فَلِهَذَا أَدْخَلَهُمْ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا يُرَادُ بِاللَّفْظِ الْحَقِيقَةُ وَالْمَجَازُ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ عَرَفْنَا أَنَّ حُرْمَةَ الْجَدَّاتِ ثَبَتَتْ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ ، كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ وَعَلَى هَذَا حُرْمَةُ الِابْنَةِ ثَابِتَةٌ بِالنَّصِّ وَحُرْمَةُ ابْنَةِ الْبِنْتِ وَابْنَةِ الِابْنِ ثَابِتَةٌ بِالْإِجْمَاعِ وَالسُّنَّةِ قَالَ وَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْأَخَوَاتِ وَبَنَاتِ الْأُخْتِ وَبَنَاتِ الْأَخِ بِالنَّسَبِ وَحَرَّمَتْ السُّنَّةُ أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ وَلَدِ الْأُخْتِ وَالْأَخِ إلَى أَسْفَلِ الدَّرَجَةِ وَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْعَمَّةَ بِالنَّسَبِ وَحَرَّمَتْ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ أُمَّ الْعَمَّةِ ، وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهَا أُمَّ الْأَبِ أَوْ غَيْرَ أُمِّ الْأَبِ ؛ لِأَنَّ الْعَمَّةَ إنْ كَانَتْ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأُمٍّ ، فَإِنَّ الْعَمَّةَ أُمُّهَا أُمُّ الْأَبِ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْعَمَّةُ لِأَبٍ فَأُمُّهَا امْرَأَةُ أَبِ الْأَبِ وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ } وَأَقَامَتْ السُّنَّةُ امْرَأَةَ الْجَدِّ مَقَامَ امْرَأَةِ الْأَبِ ، وَعَمَّةُ الْعَمَّةِ حَرَامٌ إذَا كَانَتْ

الْعَمَّةُ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ ؛ لِأَنَّهَا أُخْتُ أَبِي الْأَبِ ؛ لِأَنَّ الْعَمَّةَ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ ، كَمَا أَنَّ الْعَمَّ بِمَنْزِلَةِ الْأَبِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { قَالُوا نَعْبُدُ إلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } ، وَهُوَ كَانَ عَمًّا وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا تُؤْذُونِي فِي بَقِيَّةِ آبَائِي } يَعْنِي الْعَبَّاسَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَإِذَا كَانَتْ الْعَمَّةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ أَوْ الْأَبِ فَعَمَّةُ الْعَمَّةِ بِمَنْزِلَةِ عَمَّةِ الْأَبِ ، فَإِذَا كَانَتْ الْعَمَّةُ أُخْتَ الْأَبِ لِأُمٍّ فَعَمَّةُ عَمَّتِهَا لَيْسَتْ بِمُحَرَّمَةٍ ؛ لِأَنَّ أَبَاهَا رَجُلٌ أَجْنَبِيٌّ لَيْسَ بِذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ ، وَحَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى الْخَالَةَ وَحَرَّمَتْ السُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ أُمَّ الْخَالَةِ ؛ لِأَنَّ أُمَّ الْخَالَةِ هِيَ الْجَدَّةُ أُمُّ الْأُمِّ ، وَإِنْ كَانَتْ لِأَبٍ فَأُمُّ الْخَالَةِ امْرَأَةُ أَبِ الْأُمِّ وَالْجَدَّةُ بِالسُّنَّةِ قَائِمَةٌ مَقَامَ الْأَبِ فَامْرَأَةُ الْجَدِّ أَبِي الْأُمِّ كَامْرَأَةِ الْأَبِ فِي الْحُرْمَةِ وَخَالَةُ الْخَالَةِ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ إذَا كَانَتْ الْخَالَةُ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ ، كَمَا بَيَّنَّا فِي عَمَّةِ الْعَمَّةِ فَإِنْ كَانَتْ لِأَبٍ الْخَالَةُ فَخَالَتُهَا تَكُونُ أَجْنَبِيَّةً عَنْهَا عَلَى نَحْوِ مَا ذَكَرْنَا فِي عَمَّةِ الْعَمَّةِ فَأَمَّا ابْنَةُ الْعَمِّ وَابْنَةُ الْعَمَّةِ وَابْنَةُ الْخَالَةِ وَابْنَةُ الْخَالِ فَمِنْ جُمْلَةِ الْمُحَلَّلَاتِ ، وَذَلِكَ يُتْلَى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ } وَيُتْلَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ أَيْضًا ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَيَّنَ الْمُحَرَّمَاتِ ثُمَّ قَالَ { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } فَمَا تَنَاوَلَهُ نَصُّ التَّحْرِيمِ تَنَاوَلَهُ هَذَا النَّصُّ وقَوْله تَعَالَى { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ } .
وَمَنْكُوحَةُ الْأَبِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَى الِابْنِ وَعَلَى ابْنِ الِابْنِ ، وَإِنْ سَفَلَ بِاعْتِبَارِ السُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَيَسْتَوِي إنْ دَخَلَ بِهَا

أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ؛ لِأَنَّهَا مُبْهَمَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَبْهِمُوا مَا أَبْهَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَكَذَلِكَ أُمَّهَاتُ النِّسَاءِ فَأَمَّا الرَّبَائِبُ فَلَا يَحْرُمْنَ إلَّا بِالدُّخُولِ بِالْأُمِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } وَالْحِجْرُ لَيْسَ بِشَرْطٍ ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ فِي قَوْله تَعَالَى { فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } وَذَكَرَ الْحِجْرَ فِي قَوْلِهِ { وَرَبَائِبُكُمْ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ } بِطَرِيقِ الْعَادَةِ لَا أَنْ يَكُونَ الْحِجْرُ مُؤَثِّرًا فِي هَذِهِ الْحُرْمَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكُونُ فِي بَيْتِهِ امْرَأَةٌ لَهَا وَلَدٌ يَعُولُهَا وَيُنْفِقُ عَلَيْهَا ثُمَّ يَتَزَوَّجُ الِابْنَةَ إذَا كَبِرَتْ فَيَجُوزُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ أُمَّهَا لَمْ تَكُنْ فِي نِكَاحِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ هِيَ فِي حِجْرِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا تَأْثِيرَ لِلْحِجْرِ وَأَنَّهُ مَذْكُورٌ عَلَى طَرِيقِ الْعَادَةِ بِمَنْزِلَةِ قَوْله تَعَالَى { وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ } وَالْمُبَاشَرَةُ حَرَامٌ عَلَى الْمُعْتَكِفِ فِي الْمَسْجِدِ كَانَ أَوْ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ ، وَذَكَرَ الْمَسَاجِدَ لِلْعَادَةِ إذْ الِاعْتِكَافُ فِي الْعَادَةِ يَكُونُ فِي الْمَسَاجِدِ .
وَحَلِيلَةُ الِابْنِ مِنْ النَّسَبِ حَرَامٌ بِالنَّصِّ وَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ حَلِيلَةَ الِابْنِ مِنْ الرَّضَاعَةِ لَا تَكُونُ حَرَامًا لِلْقَيْدِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْله تَعَالَى { وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ } وَلَكِنْ نَقُولُ حَلِيلَةُ الِابْنِ مِنْ الرَّضَاعَةِ كَحَلِيلَةِ الِابْنِ مِنْ النَّسَبِ ثَبَتَ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أَصْلَابِكُمْ يَعْنِي حُرْمَةَ حَلِيلَةِ الِابْنِ مِنْ التَّبَنِّي ، فَقَدْ كَانَ التَّبَنِّي مَعْرُوفًا فِيمَا بَيْنَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ مَشْرُوعًا فِي الِابْتِدَاءِ ثُمَّ

نَسَخَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ { اُدْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ } ، { وَتَبَنَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ ثُمَّ تَزَوَّجَ زَيْنَبَ امْرَأَةَ زَيْدٍ بَعْدَ مَا فَارَقَهَا } ، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى { مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ } فَالْمُرَادُ بِالتَّقْيِيدِ نَفْيُ حُرْمَةِ حَلِيلَةِ الِابْنِ مِنْ التَّبَنِّي ثُمَّ تَحْرِيمُ حَلِيلَةِ ابْنِ الِابْنِ ، وَإِنْ سَفَلَ بِالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ ثَبَتَ ذَلِكَ مَعَ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ { الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ } ، فَإِنَّ ابْنَ ابْنِهِ لَيْسَ مِنْ صُلْبِهِ ؟ قُلْنَا لَا كَذَلِكَ بَلْ يَتَنَاوَلُهُ هَذَا الِاسْمُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ أَصْلَهُ مِنْ صُلْبِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ } وَالْمَخْلُوقُ مِنْ التُّرَابِ هُوَ الْأَصْلُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَمَا سِوَى هَذَا مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ إلَى تَفْسِيرِ لَبَنِ الْفَحْلِ قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَبَعْضُ هَذِهِ الْفُصُولِ قَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ هُنَاكَ أَيْضًا ، فَلِهَذَا لَمْ تُسْتَقْصَ هُنَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ

بَابُ تَفْسِيرِ لَبَنِ الْفَحْلِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) ذُكِرَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ الرَّجُلَ يَكُونُ لَهُ امْرَأَتَانِ أَوْ أَمَتَانِ قَدْ وَلَدَتَا مِنْهُ فَتُرْضِعُ إحْدَاهُمَا صَبِيًّا وَالْأُخْرَى صَبِيَّةً قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا اللِّقَاحُ وَاحِدٌ وَبِهِ نَأْخُذُ فَنَقُولُ تَحْرُمُ الْمُنَاكَحَةُ بَيْنَ هَذَيْنِ الصَّبِيَّيْنِ بِسَبَبِ الْأُخُوَّةِ لِأَبٍ مِنْ الرَّضَاعِ ، وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ لَا تَثْبُتُ فَقَالُوا حُرْمَةُ الرَّضَاعِ إنَّمَا تَثْبُتُ مِنْ جَانِبِ الْآبَاءِ فَمَا لَمْ يَجْتَمِعْ صَغِيرَانِ عَلَى ثَدْيٍ وَاحِدٍ لَا تَثْبُتُ بَيْنَهُمَا الْأُخُوَّةُ مِنْ الرَّضَاعَةِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْإِرْضَاعُ ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ مِنْ جِهَةِ النِّسَاءِ دُونَ الرِّجَالِ وَثُبُوتُ الْحُرْمَةِ بِسَبَبِ الْبَعْضِيَّةِ تُشْبِهُ حُرْمَةَ اللَّبَنِ لِقُرْبِ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ وَلَوْ بَاشَرَ الرَّجُلُ الْإِرْضَاعَ بِأَنْ نَزَلَ اللَّبَنُ فِي ثَنْدُوَتِهِ فَأَرْضَعَ صَبِيَّيْنِ لَا تَثْبُتُ الْأُخُوَّةُ بَيْنَهُمَا فَبِإِرْضَاعِ غَيْرِهِ كَيْفَ تَثْبُتُ الْأُخُوَّةُ فِي جَانِبِهِ وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ حَدِيثُ عُرْوَةَ { عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ أَفْلَحَ بْنَ أَبِي قُعَيْسٍ اسْتَأْذَنَ عَلَيْهَا فَسَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ لِيَلِجَ أَفْلَحُ ، فَإِنَّهُ عَمُّك مِنْ الرَّضَاعَةِ فَقَالَتْ إنَّمَا أَرْضَعَتْنِي الْمَرْأَةُ دُونَ الرَّجُلِ فَقَالَ لِيَلِجَ عَلَيْك أَفْلَحُ فَإِنَّهُ عَمُّك مِنْ الرَّضَاعَةِ } ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ { عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي بَيْتِهَا فَسَمِعَتْ صَوْتَ رَجُلٍ يَسْتَأْذِنُ عَلَى حَفْصَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ هَذَا رَجُلٌ يَسْتَأْذِنُ عَلَى حَفْصَةَ فَقَالَ مَا أَحْسِبُهُ إلَّا بداح عَمُّهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ فَقَالَتْ : أَرَأَيْت لَوْ كَانَ فُلَانٌ عَمِّي مِنْ الرَّضَاعَةِ حَيًّا أَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيَّ فَقَالَ نَعَمْ } ، وَلِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ

عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَّهَ الرَّضَاعَةَ بِالنَّسَبِ وَالْحُرْمَةُ بِالنَّسَبِ تَثْبُتُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فَكَذَلِكَ سَبَبُ الْإِرْضَاعِ ؛ لِأَنَّ وَطْءَ الزَّوْجِ ، كَمَا كَانَ سَبَبًا لِوِلَادَتِهَا كَانَ سَبَبًا لِنُزُولِ اللَّبَنِ لَهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنْ ثُنْدُوَةِ الرَّجُلِ لَيْسَ بِلَبَنٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ إنَّمَا يُتَصَوَّرُ مِمَّنْ تُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْوِلَادَةُ وَعَلَى هَذَا نَقُولُ فِي الْأَخَوَيْنِ إذَا أَرْضَعَتْ امْرَأَةُ أَحَدِهِمَا صَبِيَّةً فَلَيْسَ لِلْأَخِ الْآخَرِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ؛ لِأَنَّهَا ابْنَةُ أَخِيهِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ { أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا عَرَضَ ابْنَةَ حَمْزَةَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنْ الرَّضَاعَةِ }

وَلَوْ أَرْضَعَتْ امْرَأَتَا أَخَوَيْنِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا رَضِيعًا أَحَدُهُمَا صَبِيٌّ وَالْأُخْرَى صَبِيَّةٌ تَجُوزُ الْمُنَاكَحَةُ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ ابْنَةُ عَمِّ الصَّغِيرِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَابْنَةُ الْعَمِّ مِنْ النَّسَبِ حَلَالٌ فَكَذَلِكَ مِنْ الرَّضَاعَةِ

وَلَوْ أَرْضَعَتْ امْرَأَةٌ صَغِيرَتَيْنِ فَكَبِرَا ثُمَّ إنَّ أَحَدَهُمَا تَزَوَّجَ ابْنَةَ صَاحِبِهِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهَا ابْنَةُ أَخِيهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّهُ { لَمَّا عُرِضَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْنَبَ بِنْتَ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ لَوْ لَمْ تَكُنْ رَبِيبَتِي فِي حِجْرِي كَانَتْ تَحِلُّ لِي أَرْضَعَتْنِي وَإِيَّاهَا ثُوَيْبَةُ }

قَالَ : وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ ابْنٌ وَابْنَةٌ فَجَاءَتْ امْرَأَةُ أَخِيهِ فَأَرْضَعَتْ الِابْنَ وَالِابْنَةَ جَمِيعًا لَمْ يَكُنْ لِلِابْنِ الَّذِي أَرْضَعَتْهُ الْمَرْأَةُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَحَدًا مِنْ وَلَدِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ قَبْلَ الرَّضَاعِ أَوْ بَعْدَهُ مِنْ بَنَاتِ الْعَمِّ كُنَّ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ وَامْرَأَةُ الْأَخِ وَالْأَجْنَبِيَّةُ فِي هَذَا سَوَاءٌ ، فَإِنَّهُمَا لَمَّا اجْتَمَعَا عَلَى ثَدْيٍ وَاحِدٍ ثَبَتَتْ الْأُخُوَّةُ بَيْنَ هَذَا الِابْنِ وَالِابْنَةِ وَبَيْنَ جَمِيعِ أَوْلَادِ الرَّجُلِ مَا كَانَ مِنْ هَذِهِ الْمَرْأَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا مِنْ النِّسَاءِ أَوْ السَّرَارِي كَانَ قَبْلَ الرَّضَاعِ أَوْ بَعْدَهُ بِخِلَافِ مَا وَقَعَ عِنْدَ الْجُهَّالِ أَنَّ الْحُرْمَةَ إنَّمَا تَثْبُتُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْأَوْلَادِ الَّذِينَ يَحْدُثُونَ بَعْدَ ذَلِكَ دُونَ مَا انْفَصَلُوا قَبْلَ الْإِرْضَاعِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ هَذِهِ الْحُرْمَةِ تُثْبِتُ الْأُخُوَّةَ وَهُوَ يَجْمَعُ الْكُلَّ ، وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مِنْ وَلَدِ الرَّجُلِ ، وَلَا مِنْ وَلَدِ الْمَرْأَةِ مَنْ يَتَزَوَّجُ تِلْكَ الْجَارِيَةَ ، وَلَا وَلَدِ وَلَدِهَا ، وَلَا لِوَلَدِ وَلَدِ الْعَمِّ أَنْ يَتَزَوَّجُوا تِلْكَ الْجَارِيَةَ ، فَإِنَّهُمْ أُخُوَّةُ أَوْلَادِ أُخُوَّةٍ وَأَخَوَاتٍ فَإِنْ كَانَ لِلْجَارِيَةِ الْمُرْضِعَةِ وَلَدٌ وَلِلْغُلَامِ الْمُرْضَعِ وَلَدٌ وَلِأَوْلَادِ الْمُرْضِعَةِ الَّتِي أَرْضَعَتْهَا أَوْلَادٌ وَلِأَوْلَادِ زَوْجِهَا أَوْلَادٌ جَازَتْ الْمُنَاكَحَةُ فِيمَا بَيْنَهُمْ ؛ لِأَنَّ الْأُنْثَى مِنْهُمْ ابْنَةُ عَمٍّ لِلذَّكَرِ مِنْ الرَّضَاعَةِ

قَالَ : وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ ابْنٌ فَأَرْضَعَتْ امْرَأَةٌ ذَلِكَ الْوَلَدَ لَمْ يَكُنْ لِلْوَلَدِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَحَدًا مِنْ وَلَدِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ وَلَا مِنْ وَلَدِ خَالِهِ مَا كَانَ قَبْلَ الرَّضَاعِ أَوْ بَعْدَهُ إذَا كَانَ اللَّبَنُ مِنْ الْخَالِ فَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِ حَرُمَ وَلَدُ الْمَرْأَةِ عَلَيْهِ ، وَلَمْ يَحْرُمْ وَلَدُ الْخَالِ مِنْ غَيْرِهَا لِانْعِدَامِ سَبَبِ الْحُرْمَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا

وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ امْرَأَتَانِ فَأَرْضَعَتْ إحْدَاهُمَا صَبِيَّةً وَالْأُخْرَى صَبِيًّا لَمْ يَكُنْ لِأَخِي ذَلِكَ الرَّجُلِ لِأَبٍ وَأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ أَنْ يَتَزَوَّجَ تِلْكَ الصَّبِيَّةَ ؛ لِأَنَّهَا ابْنَةُ أَخِيهِ ، وَلَا لِعَمِّهِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ؛ لِأَنَّهَا ابْنَةُ ابْنِ أَخِيهِ ، وَلَا لِابْنِ ذَلِكَ الرَّجُلِ ، وَلَا لِابْنِ ابْنِهِ ، وَإِنْ سَفَلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ؛ لِأَنَّهَا عَمَّتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ ، وَكَذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِخَالِ ذَلِكَ الرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ؛ لِأَنَّهَا بِنْتُ ابْنِ أُخْتِهِ ، وَلَا يَجُوزُ لِهَذَا الصَّبِيِّ الْمُرْضَعِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ الْمُرْضِعَةِ وَلَا جَدَّتَهَا وَلَا أُخْتَهَا وَلَا خَالَتَهَا وَلَا عَمَّتَهَا اعْتِبَارًا لِلرَّضَاعِ بِالنَّسَبِ

وَإِذَا أَرْضَعَتْ امْرَأَةٌ صَبِيَّةً لَمْ يَكُنْ لِابْنِهَا وَلَا لِابْنِ ابْنِهَا وَلَا لِابْنِ ابْنَتِهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ؛ لِأَنَّهَا أُخْتُهُ وَعَمَّتُهُ

وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً أَرْضَعَتْ صَبِيًّا فَكَبِرَ ذَلِكَ الصَّبِيُّ وَتَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ فَارَقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ لَمْ يَكُنْ لِزَوْجِ الْمُرْضِعَةِ أَنْ يَتَزَوَّجَ تِلْكَ الْمَرْأَةَ ؛ لِأَنَّهَا حَلِيلَةُ ابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ يَحْرُمُ حَلِيلَةُ الِابْنِ مِنْ الرَّضَاعَةِ كَمَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : إنَّهَا لَمْ تَحْرُمْ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ } قَالَ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَةِ ابْنِهِ نَسَبٌ ، وَإِنَّمَا حَرُمَتْ عَلَى الْأَبِ بِسَبَبِ النَّسَبِ وَلَيْسَ فِي الْحَدِيثِ يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ بِسَبَبِ النَّسَبِ وَلَكِنْ نَقُولُ مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ الْحُرْمَةَ بِسَبَبِ الرَّضَاعِ تُعْتَبَرُ بِحُرْمَةِ النَّسَبِ وَهَذِهِ الْحُرْمَةُ تَثْبُتُ بِالنَّسَبِ فَكَذَلِكَ بِالرَّضَاعِ قَالَ وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَلَى هَذَا وَالتَّنَزُّهُ عَنْهَا أَفْضَلُ وَبِمِثْلِ هَذَا الْكَلَامِ يُسْتَدَلُّ عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ لَيْسَ مِنْ تَصْنِيفِ مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ

قَالَ : وَإِذَا نَزَلَ لِلْبِكْرِ لَبَنٌ فَأَرْضَعَتْ صَبِيًّا ، فَإِنَّهَا تَكُونُ أُمُّهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ وَهُوَ الْإِرْضَاعُ قَدْ تَحَقَّقَ ، فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ تَكُونَ أُمًّا وَهِيَ بِكْرٌ ؟ وَكَمَا لَا تُتَصَوَّرُ الْأُمِّيَّةُ مِنْ حَيْثُ النَّسَبِ مَعَ بَقَاءِ صِفَةِ الْبَكَارَةِ فَكَذَلِكَ لَا تُتَصَوَّرُ الْأُمِّيَّةُ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَعَ بَقَاءِ صِفَةِ الْبَكَارَةِ قُلْنَا هَذَا تَلْبِيسٌ ، فَإِنَّ الْحُكْمَ مَبْنِيٌّ عَلَى السَّبَبِ وَالْأُمِّيَّةُ مِنْ النَّسَبِ سَبَبِيَّةُ الْوِلَادَةِ ، وَلَا تُتَصَوَّرُ الْوِلَادَةُ مَعَ بَقَاءِ صِفَةِ الْبَكَارَةِ وَتُتَصَوَّرُ الْأُمِّيَّةُ مِنْ الرَّضَاعِ مَعَ بَقَاءِ صِفَةِ الْبَكَارَةِ وَثُبُوتُ الْحُكْمِ يَتَقَرَّرُ بِسَبَبِهِ

وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً طَلَّقَهَا زَوْجُهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا فَأَرْضَعَتْ صَبِيًّا بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ، فَإِنَّهَا تُثْبِتُ حُرْمَةَ الرَّضَاعِ بَيْنَ هَذَا الصَّبِيِّ وَبَيْنَ زَوْجِهَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الْإِرْضَاعُ فِي حَالِ قِيَامِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا ؛ لِأَنَّ سَبَبَ نُزُولِ اللَّبَنِ لَهَا كَانَ وَطْءَ ذَلِكَ الزَّوْجِ فَمَا بَقِيَ ذَلِكَ اللَّبَنُ يَكُونُ مُضَافًا إلَى ذَلِكَ السَّبَبِ فَإِنْ تَزَوَّجَتْ بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ أَرْضَعَتْ صَبِيًّا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ مَا لَمْ تَحْبَلْ مِنْ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ التَّزَوُّجَ لَيْسَ سَبَبًا لِنُزُولِ اللَّبَنِ لَهَا فَوُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فَإِنْ حَبِلَتْ مِنْ الثَّانِي ثُمَّ أَرْضَعَتْ صَبِيًّا فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بَيْنَ الصَّبِيِّ وَالزَّوْجِ الْأَوَّلِ مَا لَمْ تَلِدْ مِنْ الثَّانِي فَإِنْ وَلَدَتْ مِنْ الثَّانِي ثُمَّ أَرْضَعَتْ فَحِينَئِذٍ يَكُونُ حُكْمُ الرَّضَاعِ لِلثَّانِي ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا ازْدَادَ لَبَنُهَا بِسَبَبِ الْحَبَلِ ، فَهُوَ وَمَا لَوْ وَلَدَتْ سَوَاءٌ فِي أَنَّهُ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ مِنْ الثَّانِي وَيَنْقَطِعُ حُكْمُ الْأَوَّلِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ مِنْهُمَا جَمِيعًا اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ فِي بَابِ الْحُرْمَةِ وَاجِبٌ ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ أَصْلَ الِابْنِ مِنْ الْأَوَّلِ وَازْدَادَ سَبَبُ الْحَبَلِ مِنْ الثَّانِي فَيُجْعَلُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ خَلَطَ امْرَأَتَانِ اللَّبَنَ بِأَنْ حَلَبَتَا لَبَنَهُمَا وَأَوْجَرَتَا صَبِيًّا وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : لَمَّا حَبِلَتْ مِنْ الثَّانِي وَنَزَلَ لَهَا اللَّبَنُ كَانَ هَذَا نَاسِخًا لِلسَّبَبِ الَّذِي كَانَ مِنْ الزَّوْجِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهُ اعْتَرَضَ عَلَيْهِ مَا هُوَ مِثْلُهُ أَوْ أَقْوَى مِنْهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : نُزُولُ اللَّبَنِ فِي الْعَادَةِ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْوِلَادَةِ فَمَا لَمْ تَلِدْ مِنْ الثَّانِي لَا يُنْسَخُ السَّبَبُ الْأَوَّلُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ كَوْنَ اللَّبَنِ مِنْ الْأَوَّلِ

مُتَيَقَّنٌ بِهِ وَهَذِهِ الزِّيَادَةُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِسَبَبِ الْحَبَلِ مِنْ الثَّانِي وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِقُوَّةِ طَبْعِهَا وَالْيَقِينُ لَا يَزُولُ بِالشَّكِّ

وَلَوْ أُخِذَ لَبَنُ امْرَأَةٍ فِي قَارُورَةٍ ثُمَّ مَاتَتْ الْمَرْأَةُ فَأَوْجَرَ بَعْدَ مَوْتِهَا صَبِيًّا تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ بَيْنَ هَذَا الصَّبِيِّ وَبَيْنَهَا عِنْدَنَا ، وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ : أَنَّ حُرْمَةَ الرَّضَاعِ لَا تَثْبُتُ بِالْإِيجَارِ أَصْلًا ، وَهَذَا بَاطِلٌ فَإِنَّ ثُبُوتَ الْحُرْمَةِ بِشُبْهَةِ الْبَعْضِيَّةِ ، وَفِي هَذَا لَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِيجَارِ وَبَيْنَ الِارْتِضَاعِ مِنْ الثَّدْيِ وَعَلَى الْقَوْلِ الظَّاهِرِ إذَا حُلِبَ لَبَنُهَا وَهِيَ حَيَّةٌ فِي قَارُورَةٍ ثَبَتَ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ بِإِيجَارِ هَذَا اللَّبَنِ صَبِيًّا سَوَاءٌ أُوجِرَ قَبْلَ مَوْتِهَا أَوْ بَعْدَ مَوْتِهَا ، فَأَمَّا إذَا مَاتَتْ الْمَرْأَةُ وَفِي ثَدْيِهَا لَبَنٌ فَارْتَضَعَ صَبِيٌّ مِنْهَا أَوْ حُلِبَ اللَّبَنُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَوْجَرَ بِهِ صَبِيٌّ عِنْدَنَا ثَبَتَتْ الْحُرْمَةُ أَيْضًا ، وَعِنْدَهُ لَا تَثْبُتُ لِأَصْلَيْنِ لَهُ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ اللَّبَنَ يَتَنَجَّسُ بِالْمَوْتِ عِنْدَهُ ؛ لِأَنَّ فِيهِ حَيَاةً فَيُحِيلُهُ الْمَوْتُ وَالثَّانِي : أَنَّ الْحَرَامَ عِنْدَهُ لَا يُحَرِّمُ الْحَلَالَ وَعِنْدَنَا لَا حَيَاةَ فِي اللَّبَنِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ يُحْلَبُ مِنْ الْحَيِّ فَلَا يَتَنَجَّسُ بِهِ وَمَا فِيهِ حَيَاةٌ إذَا بَانَ مِنْ الْحَيِّ ، فَهُوَ مَيِّتٌ وَالثَّانِي أَنَّ الْحُرْمَةَ لَا تَمْنَعُ حُكْمَ الرَّضَاعِ بِمَنْزِلَةِ لَبَنٍ وَقَعَ فِيهِ قَطْرَةُ خَمْرٍ فَأَوْجَرَهُ صَبِيٌّ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ بِاعْتِبَارِ شُبْهَةِ الْبَعْضِيَّةِ وَبِالْمَوْتِ لَا تَنْعَدِمُ ؛ لِأَنَّ اللَّبَنَ وَإِنْ تَنَجَّسَ بِالْمَوْتِ ، فَهُوَ غِذَاءٌ يَحْصُلُ بِهِ إنْبَاتُ اللَّحْمِ وَانْتِشَارُ الْعَظْمِ ، كَمَا أَنَّ اللَّحْمَ بِالْمَوْتِ لَا يَخْرُجُ مِنْ أَنْ يَكُونَ غِذَاءً ، وَإِنْ تَنَجَّسَ وَالسَّعُوطُ وَالْوَجُورُ مُوجِبٌ لِلْحُرْمَةِ بِمَنْزِلَةِ الِارْتِضَاعِ مِنْ الثَّدْيِ عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي بَيَّنَّا فِي كِتَابِ النِّكَاحِ أَنَّ عِنْدَهُ يُعْتَبَرُ الْعَدَدُ فِي الرَّضَعَاتِ لِيَحْصُلَ بِهِ إنْبَاتُ اللَّحْمِ وَانْتِشَارُ الْعَظْمِ ، وَهَذَا بِالسَّعُوطِ وَالْوَجُورِ لَا

يَحْصُلُ ، وَعِنْدَنَا لَا يُعْتَبَرُ الْعَدَدُ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ وُصُولُ اللَّبَنِ إلَى بَاطِنِهِ عَلَى وَجْهٍ تَحْصُلُ بِهِ التَّرْبِيَةُ ، وَذَلِكَ بِالسَّعُوطِ وَالْوَجُورِ يَحْصُلُ ، فَإِنَّهُ يَصِلُ إلَى الدِّمَاغِ وَالدِّمَاغُ أَحَدُ الْجَوْفَيْنِ

وَلَوْ صُبَّ اللَّبَنُ فِي أُذُنِ صَبِيٍّ أَوْ صَبِيَّةٍ ، فَإِنَّهُ لَا تَثْبُتُ بِهِ الْحُرْمَةُ وَكَذَلِكَ لَوْ احْتَقَنَ صَبِيٌّ بِلَبَنِ امْرَأَةٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ يَصِلُ اللَّبَنُ إلَى أَحَدِ الْجَوْفَيْنِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الصَّوْمَ يَفْسُدُ بِهَذَا ، وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ يَقُولُ : مَعْنَى إنْبَاتِ اللَّحْمِ إنَّمَا يَصِلُ بِمَا يَصِلُ إلَى جَوْفِهِ مِنْ الْجَانِبِ الْأَعْلَى لَا مِنْ الْجَانِبِ الْأَسْفَلِ وَثُبُوتُ الْحُرْمَةِ بِاعْتِبَارِ هَذَا الْمَعْنَى ثُمَّ ذُكِرَ مَا إذَا جُعِلَ لَبَنُ امْرَأَةٍ فِي دَوَاءٍ أَوْ طَعَامٍ وَمَا يَكُونُ مِنْ الْإِرْضَاعِ بَعْدَ مُضِيِّ الْحَوْلَيْنِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْفُصُولَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ

وَلَوْ أَنَّ صَبِيَّيْنِ شَرِبَا مِنْ لَبَنِ شَاةٍ أَوْ بَقَرَةٍ لَمْ تَثْبُتْ بِهِ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ ؛ لِأَنَّ الرَّضَاعَ مُعْتَبَرٌ بِالنَّسَبِ ، وَكَمَا لَا يَتَحَقَّقُ النَّسَبُ بَيْنَ آدَمِيٍّ وَبَيْنَ الْبَهَائِمِ فَكَذَلِكَ لَا تَثْبُتُ حُرْمَةُ الرَّضَاعِ بِشُرْبِ لَبَنِ الْبَهَائِمِ وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ صَاحِبُ التَّارِيخِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ تَثْبُتُ الْحُرْمَةُ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ كَانَتْ سَبَبَ إخْرَاجِهِ مِنْ بُخَارَى ، فَإِنَّهُ قَدِمَ بُخَارَى فِي زَمَنِ أَبِي حَفْصٍ الْكَبِيرِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجَعَلَ يُفْتِي فَنَهَاهُ أَبُو حَفْصٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَسْت بِأَهْلٍ لَهُ فَلَمْ يَنْتَهِ حَتَّى سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَأَفْتَى بِالْحُرْمَةِ فَاجْتَمَعَ النَّاسُ وَأَخْرَجُوهُ

( قَالَ : وَالرَّضَاعُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَدَارِ الْحَرْبِ سَوَاءٌ فِي ثُبُوتِ الْحُرْمَةِ عَلَى قِيَاسِ النَّسَبِ ، فَإِنَّ الْأَنْسَابَ تَثْبُتُ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَكَذَلِكَ حُكْمُ الرَّضَاعِ )

وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ صَبِيَّةً فَأَرْضَعَتْ الصَّبِيَّةَ أُمُّ الرَّجُلِ مِنْ النَّسَبِ أَوْ مِنْ الرَّضَاعِ أَوْ أُخْتَهُ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَشْتَمِلُ عَلَى أَحْكَامٍ أَرْبَعَةٍ : حُكْمِ الْحُرْمَةِ وَحُكْمِ وُجُوبِ الصَّدَاقِ وَثُبُوتِ الرُّجُوعِ عَلَى الْمُرْضِعَةِ ، وَحُرْمَةِ التَّزَوُّجِ ، أَمَّا حُرْمَةُ الْفُرْقَةِ فَنَقُولُ : وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِسَبَبِ الرَّضَاعِ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُخْتَ الزَّوْجِ ، وَإِذَا ثَبَتَتْ لَهُ أُخْتِيَّتُهُ يَغْرَمُ لَهَا نِصْفَ الصَّدَاق " ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الصَّبِيِّ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا فِي بِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ جِهَتِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَيَكُونُ لَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ وَيُرْجَعُ بِهِ عَلَى الَّتِي أَرْضَعَتْهَا إنْ كَانَتْ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ ، وَإِنْ لَمْ تَتَعَمَّدْ الْفَسَادَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا إلَّا فِي رِوَايَةٍ عِنْدَ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ يُرْجَعُ عَلَيْهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ ؛ لِأَنَّهَا تَسَبَّبَتْ فِي تَقْرِيرِ نِصْفِ الصَّدَاقِ عَلَيْهِ وَكَانَ بِعَرْضِ السُّقُوطِ فَكَأَنَّهَا أَلْزَمَتْهُ ذَلِكَ وَمُجَرَّدُ التَّسَبُّبِ عِنْدَ مُحَمَّدٍ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الضَّمَانِ ، كَمَا قَالَ فِيمَنْ فَتَحَ بَابَ الْقَفَصِ فَطَارَ الطَّيْرُ ، وَعِنْدَنَا التَّسَبُّبُ إنَّمَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ إذَا كَانَ الْمُسَبِّبُ مُتَعَدِّيًا فِي التَّسَبُّبِ ، وَلَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ مُبَاشَرَةٌ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا أَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ مُبَاشَرَةٌ مِنْ مُخْتَارٍ لَمْ يَكُنْ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ وَهُنَا إذَا تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ فَهِيَ غَيْرُ مُتَعَدِّيَةٍ فِي التَّسَبُّبِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يُخَافُ الْهَلَاكُ عَلَى الرَّضِيعِ فَإِرْضَاعُهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ أَوْ مَأْمُورٌ فَلَا يَكُونُ تَعَدِّيًا ، وَلَا طَرِيقَ لِمَعْرِفَةِ تَعَمُّدِهَا الْفَسَادَ إلَّا بِالرُّجُوعِ إلَيْهَا فَيُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مَا يَكُونُ فِي بَاطِنِ الْمَرْءِ لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ إلَّا مِنْ جِهَتِهِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ فَإِنْ قَالَتْ تَعَمَّدْت الْفَسَادَ ضَمِنَتْ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا ثُمَّ لَا يَحِلُّ

لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا أَبَدًا ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُخْتَهُ أَوْ ابْنَةَ أُخْتِهِ ، وَلَوْ كَانَتْ أَرْضَعَتْ هَذِهِ الصَّبِيَّةُ خَالَةَ الرَّجُلِ أَوْ عَمَّتُهُ لَمْ يَحْرُمْ عَلَيْهَا ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ ابْنَةَ خَالَتِهِ أَوْ ابْنَةَ عَمَّتِهِ وَابْتِدَاءُ الْمُنَاكَحَةِ بَيْنَهُمَا يَجُوزُ فَالْبَقَاءُ أَوْلَى ، وَإِنْ أَرْضَعَتْهَا امْرَأَةُ أَبِيهِ فَإِنْ كَانَ لَبَنُهَا مِنْ أَبِيهِ حَرُمَتْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُخْتَهُ لِأَبِيهِ ، وَإِنْ كَانَ لَبَنُهَا مِنْ غَيْرِ أَبِيهِ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرْضَعَتْهَا امْرَأَةُ أَخِيهِ أَوْ امْرَأَةُ ابْنِهِ

( قَالَ ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ امْرَأَتَانِ صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ فَأَرْضَعَتْ أُمُّ الْكَبِيرَةِ الصَّغِيرَةَ بَانَتَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُخْتَيْنِ مِنْ الرَّضَاعَةِ ثُمَّ يَكُونُ لِلْكَبِيرَةِ جَمِيعُ الصَّدَاقِ إنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ ) ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ وَقَعَتْ لَا بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهَا وَلِلصَّغِيرَةِ أَيْضًا نِصْفُ الصَّدَاقِ لِمَا بَيَّنَّا وَيُرْجَعُ بِمَا غَرِمَ لَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ عَلَى الْمُرْضِعَةِ إنْ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ ، وَإِنْ لَمْ تَتَعَمَّدْ لَمْ يُرْجَعْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ لَمْ يُرْجَعْ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ مِنْ مَهْرِهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ ، ثُمَّ إنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِالْكَبِيرَةِ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ مِنْ سَاعَتِهِ أَيَّتَهُمَا شَاءَ وَلَا يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْمُرْضِعَةَ ؛ لِأَنَّهَا أُمُّ امْرَأَتِهِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الصَّغِيرَةَ مَا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّةُ الْكَبِيرَةِ ؛ لِأَنَّهَا أُخْتُ مُعْتَدَّتِهِ وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْكَبِيرَةَ ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ لَيْسَتْ فِي عِدَّتِهِ وَالْكَبِيرَةُ تَعْتَدُّ مِنْهُ وَعِدَّتُهُ لَا تَمْنَعُ نِكَاحَهُ وَبَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّةِ الْكَبِيرَةِ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَيَّتَهُمَا شَاءَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُمَّ الْكَبِيرَةِ وَلَا وَاحِدَةً مِنْ حِذَائِهَا مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ أَوْ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ ، وَإِنْ كَانَتْ ابْنَةُ الْكَبِيرَةِ أَرْضَعَتْ الصَّغِيرَةَ فَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ ، فَقَدْ حَرُمَتَا عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ صَارَتْ ابْنَةَ بِنْتِ الْكَبِيرَةِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْجَدَّةِ وَالنَّافِلَةِ فِي النِّكَاحِ حَرَامٌ ثُمَّ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ عَلَى الصَّغِيرَةِ تَحْرُمُ جَدَّتُهَا عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ ، كَمَا تَحْرُمُ أُمُّهَا وَالدُّخُولُ بِالْجَدَّةِ يُحَرِّمُ ابْنَةَ الِابْنَةِ عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا قَطُّ ، وَلَا لِلْمُرْضِعَةِ

أَيْضًا ؛ لِأَنَّهَا مِنْ وَجْهٍ أُمُّ امْرَأَتِهِ ، وَمِنْ وَجْهٍ ابْنَةُ الْمَرْأَةِ الَّتِي دَخَلَ بِهَا ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ ، فَإِنَّ الْمُرْضِعَةَ لَا تَحِلُّ لَهُ قَطُّ ؛ لِأَنَّهَا أُمُّ امْرَأَتِهِ ، وَلَا تَحِلُّ لَهُ الْكَبِيرَةُ قَطُّ ؛ لِأَنَّهَا أُمُّ أُمِّ امْرَأَتِهِ وَتَحِلُّ لَهُ الصَّغِيرَةُ ؛ لِأَنَّهَا ابْنَةُ ابْنَةِ امْرَأَتِهِ ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا ، وَكَمَا أَنَّ ابْنَةَ الْمَرْأَةِ لَا تَحْرُمُ إلَّا بِالدُّخُولِ فَكَذَلِكَ ابْنَةُ الِابْنَةِ فَإِنْ كَانَتْ أَرْضَعَتْهَا أُخْتُ الْكَبِيرَةِ بَانَتَا أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْكَبِيرَةَ صَارَتْ خَالَةً لِلصَّغِيرَةِ وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْخَالَةِ وَابْنَةِ الْأُخْتِ حَرَامٌ كَالْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِالْكَبِيرَةِ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَيَّتَهمَا شَاءَ وَالْحُكْمُ فِي هَذَا كَالْحُكْمِ فِي الْأُخْتَيْنِ ، وَلَوْ أَرْضَعَتْهَا خَالَةُ الْكَبِيرَةِ أَوْ عَمَّتُهَا لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَابْنَةِ عَمَّتِهَا وَابْنَةِ خَالَتِهَا حَلَالٌ

وَلَوْ كَانَ لَهُ امْرَأَتَانِ صَغِيرَتَانِ فَجَاءَتْ أُمُّ إحْدَاهُمَا فَأَرْضَعَتْ الْأُخْرَى بَانَتَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُخْتَيْنِ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الصَّدَاقِ وَحُكْمُ الرُّجُوعِ كَمَا بَيَّنَّا ، وَلَوْ جَاءَتْ أُخْتَيْهِ فَأَرْضَعَتْهُمَا مَعًا أَوْ إحْدَاهُمَا بَعْدَ الْأُخْرَى بَانَتَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْأُخْتِيَّةَ إنَّمَا تَثْبُتُ بَيْنَهُمَا بَعْدَ إرْضَاعِهِمَا فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تُرْضِعَهُمَا مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ وَحُكْمُ الصَّدَاقِ وَالرُّجُوعِ وَالْحُرْمَةِ كَمَا بَيَّنَّا ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَاءَتْ الصَّبِيَّتَانِ إلَى امْرَأَةٍ وَهِيَ نَائِمَةٌ فَشَرِبَتَا مِنْ لَبَنِهَا ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الصَّغِيرَةِ لَا يُعْتَبَرُ فِي بِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الصَّدَاقِ وَلَكِنْ لَا رُجُوعَ عَلَى الْمَرْأَةِ بِشَيْءٍ هُنَا ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا جِنَايَةٌ تَسْبِيبًا وَلَا مُبَاشَرَةً

وَلَوْ كَانَتْ امْرَأَتَانِ صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ فَأَرْضَعَتْ الْكَبِيرَةُ الصَّغِيرَةَ بَانَتَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُمًّا وَبِنْتًا ، وَلِلصَّغِيرَةِ نِصْفُ الصَّدَاقِ وَلَا شَيْءَ لِلْكَبِيرَةِ إنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ أَوْ لَمْ تَتَعَمَّدْ ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا وَالْفُرْقَةُ مِنْ جِهَتِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ تُسْقِطُ جَمِيعَ الصَّدَاقِ عَلَى كُلِّ حَالٍ سَوَاءٌ كَانَتْ مُتَعَدِّيَةً فِي التَّسْبِيبِ أَوْ لَمْ تَكُنْ مُتَعَدِّيَةً كَالْمُعْتَقَةِ إذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا إلَّا أَنَّ الزَّوْجَ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَا غَرِمَ لِلصَّغِيرَةِ إنْ كَانَتْ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ لِكَوْنِهَا مُتَعَدِّيَةً فِي التَّسْبِيبِ وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الصَّغِيرَةَ إذَا لَمْ يَدْخُلْ بِالْكَبِيرَةِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْكَبِيرَةَ ؛ لِأَنَّ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ عَلَى الِابْنَةِ تَحْرُمُ الْأُمُّ عَلَى التَّأْبِيدِ وَالْعَقْدُ عَلَى الْأُمِّ لَا يُحَرِّمُ الِابْنَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ لَمْ يَتَزَوَّجْ وَاحِدَةً مِنْهُمَا قَطُّ لِوُجُودِ الْعَقْدِ الصَّحِيحِ عَلَى الِابْنَةِ وَالدُّخُولِ بِالْأُمِّ

وَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ صَغِيرَتَانِ وَكَبِيرَةٌ فَأَرْضَعَتْ الْكَبِيرَةُ الصَّغِيرَتَيْنِ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى ، وَلَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ ، فَإِنَّمَا تَبِينُ الْكَبِيرَةُ وَالصَّغِيرَةُ الَّتِي أَرْضَعَتْهَا أَوَّلًا ؛ لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُمًّا وَابْنَتَيْنِ ، وَلَا تَبِينُ الَّتِي أَرْضَعَتْهَا أَخِيرًا ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَرْضَعَتْهَا لَمْ يَكُنْ فِي نِكَاحِهِ غَيْرُهَا ، وَإِنَّمَا وُجِدَ مُجَرَّدُ الْعَقْدِ عَلَى أُمِّهَا ، وَلَوْ كَانَتْ أَرْضَعَتْهُمَا مَعًا بِنَّ جَمِيعًا مِنْهُ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمًّا وَبِنْتَيْنِ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْكَبِيرَةَ وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ إحْدَى الصَّغِيرَتَيْنِ شَاءَ .
وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْكَبِيرَةَ أَيْضًا إنْ شَاءَ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ عَقَدَ عَلَى الصَّغِيرَتَيْنِ لَمْ تَكُنْ الْكَبِيرَةُ أُمًّا لَهَا وَالنَّصُّ إنَّمَا أَوْجَبَ حُرْمَةَ أُمَّهَاتِ النِّسَاءِ وَبَعْدَ ثُبُوتِ الْأُمِّيَّةِ بِالرِّضَاعِ لَمْ يَبْقَ النِّكَاحُ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْ الصَّغِيرَتَيْنِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ هَذِهِ الْحُرْمَةُ تَثْبُتُ بِسَبَبَيْنِ النِّكَاحُ وَالْأُمِّيَّةُ ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَثْبُتَ الْأُمِّيَّةُ أَوَّلًا ثُمَّ النِّكَاحُ أَوْ النِّكَاحُ ثُمَّ الْأُمِّيَّةُ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ بِعِلَّةٍ ذَاتِ وَصْفَيْنِ إنَّمَا ثَبَتَتْ عِنْدَ ثُبُوتِ الْوَصْفَيْنِ جَمِيعًا ، وَقَدْ وُجِدَا سَوَاءٌ تَقَدَّمَ النِّكَاحُ أَوْ الْأُمِّيَّةُ وَلَوْ كَانَ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا بِنَّ جَمِيعًا مِنْهُ سَوَاءٌ أَرْضَعَتْهُمَا مَعًا أَوْ عَلَى التَّعَاقُبِ ، أَمَّا إذَا أَرْضَعَتْهُمَا مَعًا فَغَيْرُ مُشْكَلٍ ، وَكَذَلِكَ إنْ أَرْضَعَتْهُمَا عَلَى التَّعَاقُبِ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَرْضَعَتْ الثَّانِيَةَ ، فَقَدْ صَارَتْ ابْنَةً لِلْمُرْضِعَةِ ، وَقَدْ دَخَلَ هُوَ بِهَا

وَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ ثَلَاثُ نِسْوَةٍ صَغِيرَتَانِ وَكَبِيرَةٌ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَأَرْضَعَتْ الْكَبِيرَةُ الصَّغِيرَتَيْنِ عَلَى التَّعَاقُبِ ، فَإِنَّمَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ الْأُولَى وَاَلَّتِي أَرْضَعَتْهَا آخِرًا لَا تَبِينُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي نِكَاحِهِ أُخْتُهَا ، فَإِنَّ الصَّغِيرَةَ الْأُخْرَى لَمْ تُرْضِعْهَا الْكَبِيرَةُ أَوَّلًا وَالْأُولَى قَدْ بَانَتْ ، فَلِهَذَا لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الَّتِي أُرْضِعَتْ آخِرًا ، وَإِنْ كَانَتْ أَرْضَعَتْهُمَا مَعًا بِنَّ جَمِيعًا ، وَلَا تَبِينُ الَّتِي لَمْ تُرْضِعْ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِي حَقِّهَا سَبَبٌ يُوجِبُ الْفُرْقَةَ .
وَحُكْمُ الصَّدَاقِ وَالرُّجُوعِ وَالْحُرْمَةِ عَلَى قِيَاسِ مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا إذَا كَانَ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ أَوْ لَمْ يَدْخُلْ ، وَإِنْ كَانَتْ أَرْضَعَتْ الثَّلَاثَ عَلَى التَّعَاقُبِ ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِالْكَبِيرَةِ بِنَّ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهَا حِينَ أَرْضَعَتْ الْأُولَى ، فَقَدْ صَارَتَا أُمًّا وَبِنْتًا ثُمَّ بِإِرْضَاعِ الثَّانِيَةِ لَا تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا وَلَكِنْ حِينَ أَرْضَعَتْ الثَّالِثَةَ صَارَتَا أُخْتَيْنِ فَتَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا أَيْضًا وَحُكْمُ الصَّدَاقِ وَالرُّجُوعِ ، كَمَا بَيَّنَّا ، وَلَوْ كَانَتْ أَرْضَعَتْ اثْنَتَيْنِ مَعًا ثُمَّ الثَّالِثَةُ بَانَتْ الْكَبِيرَةُ وَاَلَّتِي أَرْضَعَتْهَا مَعًا ، وَلَا تَبِينُ الثَّالِثَةُ ؛ لِأَنَّهُ حِينَ أَرْضَعَتْهَا لَمْ يَكُنْ فِي نِكَاحِهِ غَيْرُهَا وَمُجَرَّدُ الْعَقْدِ عَلَى الْأُمِّ لَا يُحَرِّمُهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَلَوْ أَرْضَعَتْ إحْدَى الصِّغَارِ عَلَى الِانْفِرَادِ ثُمَّ الْأُخْرَتَيْنِ مَعًا ، فَقَدْ صَارَتَا أُخْتَيْنِ

وَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ صَغِيرَةٌ وَثَلَاثُ نِسْوَةٍ كِبَارٍ ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهِنَّ فَأَرْضَعَتْ إحْدَى الْكِبَارِ الصَّغِيرَةَ بَانَتَا ؛ لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُمًّا وَبِنْتًا وَالْبَاقِيَتَانِ تَحْتَهُ عَلَى حَالِهِمَا فَإِنْ أَرْضَعَتْهُمَا إحْدَى الْبَاقِيَتَيْنِ أَيْضًا بَانَتْ هِيَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّ الصَّغِيرَةِ ، وَقَدْ كَانَتْ الصَّغِيرَةُ فِي نِكَاحِهِ وَمُجَرَّدُ الْعَقْدِ عَلَى الِابْنَةِ يُحَرِّمُ الْأُمَّ عَلَى التَّأْبِيدِ فَإِنْ أَرْضَعَتْهَا الْكَبِيرَةُ الثَّالِثَةُ بَانَتْ هِيَ أَيْضًا لِمَا بَيَّنَّا وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الصَّغِيرَةَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَاحِدَةً مِنْ الْمُرْضِعَاتِ بِحَالٍ ، وَلَوْ كَانَ دَخَلَ بِالْكِبَارِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الصَّغِيرَةَ أَيْضًا لِوُجُودِ الدُّخُولِ بِالْأُمِّ

وَلَوْ كَانَ تَحْتَهُ صَغِيرَةٌ وَكَبِيرَةٌ وَطَلَّقَ الْكَبِيرَةَ قَبْلَ الدُّخُولِ ثُمَّ جَاءَتْ فَأَرْضَعَتْ الصَّغِيرَةَ فَنِكَاحُ الصَّغِيرَةِ عَلَى حَالِهِ ؛ لِأَنَّهُمَا حِينَ صَارَتَا أُمًّا وَبِنْتًا فَلَيْسَتْ الْأُمُّ فِي نِكَاحِهِ وَمُجَرَّدُ الْعَقْدِ عَلَيْهَا لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الِابْنَةِ ، وَلَوْ كَانَ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ حَرُمَتْ الصَّغِيرَةُ سَوَاءٌ أَرْضَعَتْهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَوْ بَعْدَهُ لِوُجُودِ الدُّخُولِ بِالْأُمِّ ، وَلَوْ كَانَ طَلَّقَ الصَّغِيرَةَ دُونَ الْكَبِيرَةِ ثُمَّ أَرْضَعَتْ الْكَبِيرَةُ الصَّغِيرَةَ بَانَتْ الْكَبِيرَةُ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَةَ قَدْ كَانَتْ فِي نِكَاحِهِ وَالْعَقْدُ عَلَى الِابْنَةِ يُحَرِّمُ الْأُمَّ ، وَلَوْ كَانَ طَلَّقَهُمَا جَمِيعًا ثُمَّ أَرْضَعَتْ الْكَبِيرَةُ الصَّغِيرَةَ فَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِالْكَبِيرَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَاحِدَةً مِنْهَا بِحَالٍ ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الصَّغِيرَةَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الْكَبِيرَةَ ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْعَقْدِ عَلَى الْأُمِّ لَا يُحَرِّمُ الِابْنَةَ

وَلَوْ أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلَى رَجُلٍ فَأَرْضَعَتْ وَلَدَهُ الصَّغِيرَ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ؛ لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدِهِ وَأُمُّ وَلَدِهِ لَيْسَتْ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَرْضَعَتْ خَالَتَهُ الصَّغِيرَةَ أَوْ عَمَّتَهُ الصَّغِيرَةَ أَوْ ابْنَةَ ابْنِهِ وَهِيَ صَغِيرَةٌ فَالْجَوَابُ فِي الْكُلِّ سَوَاءٌ لِمَا بَيَّنَّا

وَلَوْ أَرْضَعَتْ أُمُّهُ جَارِيَةً لَهَا إخْوَةٌ وَأَخَوَاتٌ كَانَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَخَوَاتِ تِلْكَ الْجَارِيَةِ ؛ لِأَنَّ الَّتِي أَرْضَعَتْهَا الْأُمُّ أُخْتُهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ ، وَلَا سَبَبَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخَوَاتِهَا ، وَإِذَا كَانَ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَ أَخِيهِ مِنْ النَّسَبِ فَكَذَلِكَ أُخْتُ أُخْتِهِ مِنْ الرَّضَاعِ ، وَبَيَانُهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ لِلرَّجُلِ أَخٌ لِأَبٍ وَأُخْتٌ لِأُمٍّ يَجُوزُ لِأَخِيهِ لِأَبِيهِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أُخْتَ أَخِيهِ لِأُمِّهِ

وَلَوْ أَنَّ امْرَأَتَيْنِ لِإِحْدَاهُمَا بَنُونَ وَلِلْأُخْرَى بَنَاتٌ فَأَرْضَعَتْ الَّتِي لَهَا الْبَنَاتُ ابْنًا مِنْ بَنِي الْأُخْرَى ، فَإِنَّمَا تَحْرُمُ بَنَاتُهَا عَلَى ذَلِكَ الِابْنِ بِعَيْنِهِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ أَخًا لَهُنَّ مِنْ الرَّضَاعَةِ ، وَلَا يَحْرُمُ أَحَدٌ مِنْ بَنَاتِهَا عَلَى سَائِرِ بَنِي الْمَرْأَةِ الْأُخْرَى ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ بَيْنَهُمْ الْأُخُوَّةُ مِنْ الرَّضَاعَةِ حَيْثُ لَمْ يَجْتَمِعُوا عَلَى ثَدْيٍ وَاحِدٍ ، وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ الَّتِي لَهَا الْبَنُونَ أَرْضَعَتْ إحْدَى بَنَاتِ الْأُخْرَى حَرُمَتْ تِلْكَ الِابْنَةُ عَلَى بَنِي الْمُرْضِعَةِ وَغَيْرُهَا مِنْ بَنَاتِهَا يَحِلُّ عَلَى الْمُرْضِعَةِ ، وَلَوْ كَانَتْ أُمُّ الْبَنَاتِ أَرْضَعَتْ أَحَدَ الْبَنِينَ وَأُمُّ الْبَنِينَ أَرْضَعَتْ إحْدَى الْبَنَاتِ لَمْ يَكُنْ لِلِابْنِ الْمُرْتَضِعِ مِنْ أُمِّ الْبَنَاتِ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ وَكَانَ لِإِخْوَتِهِ أَنْ يَتَزَوَّجُوا بَنَاتِ الْأُخْرَى إلَّا الِابْنَةَ الَّتِي أَرْضَعَتْهَا أُمُّهُمْ وَحْدَهَا ؛ لِأَنَّهَا أُخْتُهُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ

قَالَ : وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا اشْتَرَى ثَلَاثَ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْأُخْتَ مِنْ الْأَبِ وَالْأُخْتَ مِنْ الْأُمِّ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَاتَيْنِ أَجْنَبِيَّةٌ مِنْ الْأُخْرَى فَإِنْ كَانَ وَطِئَ الْأُخْتَ مِنْ الْأَبِ وَلِأُمٍّ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَطَأَ وَاحِدَةً مِنْ هَاتَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَطْئًا بِمِلْكِ الْيَمِينِ ، وَذَلِكَ لَا يَحِلُّ ، وَإِنْ وَطِئَ الْأُخْتَ مِنْ الْأَبِ أَوَّلًا وَالْأُخْتَ مِنْ الْأُمِّ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْأُخْتَ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ جَامِعًا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ وَطْئًا وَكَانَ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْأُخْرَى ؛ لِأَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ مِنْ الَّتِي وَطِئَهَا ، وَلَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ ابْنَةً لَاشْتَرَى الْبَنَاتِ دُونَ الْأُمَّهَاتِ ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَطَأَهُنَّ جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ نِكَاحًا حَلَالٌ فَكَذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَهُنَّ وَطْئًا بِمِلْكِ الْيَمِينِ

وَلَوْ اشْتَرَى الْبَنَاتِ وَالْأُمَّهَاتِ كُلَّهُنَّ كَانَ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْبَنَاتِ وَحْدَهُنَّ إنْ شَاءَ فَإِنْ شَاءَ أَنْ يَطَأَ مِنْ الْأُمَّهَاتِ الْأُخْتَ مِنْ الْأَبِ وَالْأُخْتَ مِنْ الْأُمِّ ، وَإِنْ شَاءَ الْأُخْتَ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ وَحْدَهَا دُونَ الْأُخْرَتَيْنِ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَطَأَ بَعْضَ الْأُمَّهَاتِ فَلَهُ أَنْ يَطَأَ الْأُخْتَ مِنْ الْأَبِ وَالْأُخْتَ مِنْ الْأُمِّ وَلَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ وَابْنَةِ الْأُخْتِ مِنْ الْأُمِّ وَبَيْنَ الْأُخْتِ مِنْ الْأُمِّ وَابْنَةِ الْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ عَلَى قِيَاسِ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا نِكَاحًا ، وَلَوْ وَطِئَ الْأُخْتَ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَطَأَ بَعْدَهُ وَاحِدَةً مِنْ الْأَخِرَتَيْنِ ، وَلَا وَاحِدَةً مِنْ الْبَنَاتِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ وَطِئَ وَاحِدَةً مِنْ الْبَنَاتِ ، فَقَدْ صَارَ جَامِعًا بَيْنَ الْأُمِّ وَالِابْنَةِ أَوْ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَابْنَةِ الْأُخْتِ وَطْئًا بِمِلْكِ الْيَمِينِ ، وَذَلِكَ حَرَامٌ ، فَإِذَا أَخْرَجَ الْأُخْتَ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ مِنْ مِلْكِهِ بِبَيْعٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ هِبَةٍ كَانَ لَهُ أَنْ يَطَأَ الْأُخْتَيْنِ مِنْ الْأُمِّ وَالْأُخْتَ مِنْ الْأَبِ ، وَإِنْ شَاءَ ابْنَةَ الْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ وَابْنَةَ الْأُخْتِ مِنْ الْأُمِّ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَطَأَ ابْنَةَ الْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ وَطِئَ أُمَّهَا فَحَرُمَتْ هِيَ عَلَى التَّأْبِيدِ ، وَإِنْ كَانَ وَطِئَ مِنْ الْبَنَاتِ ابْنَةَ الْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ وَالْأُمِّ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَطَأَ وَاحِدَةً مِنْ الْأُمَّهَاتِ قَبْلَ أَنْ يُحَرِّمَ الْمُوَاطَأَةَ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ لَهُ أَنْ يَطَأَ ابْنَةَ الْأُخْتِ مِنْ الْأَبِ وَابْنَةَ الْأُخْتِ مِنْ الْأُمِّ ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَهُنَّ نِكَاحًا حَلَالٌ فَكَذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَهُنَّ وَطْئًا بِمِلْكِ الْيَمِينِ

وَإِذَا تَزَوَّجَ امْرَأَةً فَشَهِدَتْ امْرَأَةٌ أَنَّهَا أَرْضَعَتْهُمَا فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ يُصَدِّقَهَا الزَّوْجَانِ أَوْ يُكَذِّبَانِهَا أَوْ يُصَدِّقَهَا الزَّوْجُ دُونَ الْمَرْأَةِ أَوْ الْمَرْأَةُ دُونَ الزَّوْجِ فَإِنْ صَدَّقَاهَا وَقَعَتْ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا لَا بِشَهَادَتِهَا بَلْ بِتَصَادُقِ الزَّوْجَيْنِ عَلَى بُطْلَانِ النِّكَاحِ بَيْنَهُمَا فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَا مَهْرَ لَهَا ، وَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ فَلَهَا مِقْدَارُ مَهْرِ مِثْلِهَا مِنْ الْمُسَمَّى ؛ لِأَنَّهُمَا تَصَادَقَا عَلَى أَنَّهُ دَخَلَ بِمَا يُشْبِهُ النِّكَاحَ مِنْ غَيْرِ عَقْدٍ صَحِيحٍ فَبِحَسَبِ الْأَقَلِّ مِنْ الْمُسَمَّى ، وَمِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ ، وَإِنْ كَذَّبَاهَا فِي ذَلِكَ فَهِيَ امْرَأَتُهُ عَلَى حَالِهَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا الِاسْتِحْسَانَ وَالنِّكَاحَ ، وَإِنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ عَلَى الرَّضَاعِ لَا تُتِمُّ حُجَّةَ الْفُرْقَةِ عِنْدَنَا إلَّا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ مِنْ طَرِيقِ التَّنَزُّهِ أَنْ يُفَارِقَهَا إذَا وَقَعَ فِي قَلْبِهِ أَنَّهَا صَادِقَةٌ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { كَيْفَ ، وَقَدْ قِيلَ } فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ طَلَّقَهَا وَأَعْطَاهَا نِصْفَ الْمَهْرِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ أَعْطَاهَا كَمَالَ الْمُسَمَّى وَالْأَوْلَى أَنْ لَا تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَ الدُّخُولِ لَا تَأْخُذُ الزِّيَادَةَ عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا بَلْ تُبْرِئُ الزَّوْجَ مِنْ ذَلِكَ ، وَإِنْ صَدَّقَهَا الزَّوْجُ وَكَذَّبَتْهَا الْمَرْأَةُ ، فَإِنَّهُ تَقَعُ الْفُرْقَةُ بَيْنَهُمَا بِإِقْرَارِ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ بِحُرْمَتِهَا عَلَى نَفْسِهِ ، وَهُوَ يَمْلِكُ أَنْ يُحَرِّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ وَجَمِيعُ الْمُسَمَّى إنْ كَانَ بَعْدَ الدُّخُولِ ، وَإِنْ صَدَّقَتْهَا الْمَرْأَةُ دُونَ الزَّوْجِ فَهِيَ امْرَأَتُهُ عَلَى حَالِهَا ؛ لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ بِالْحُرْمَةِ وَلَيْسَ فِي يَدِهَا مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ إلَّا أَنَّهَا إذَا

عَلِمَتْ صِدْقَهَا فِي ذَلِكَ ، فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ لَا تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا وَلَكِنْ تَفْدِي نَفْسَهَا بِمَالٍ فَتَخْتَلِعُ مِنْهُ ، وَإِنْ شَهِدَ رَجُلَانِ أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ بِالرَّضَاعِ لَمْ يَسَعْهُمَا أَنْ يُقِيمَا عَلَى النِّكَاحِ بَعْدَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا بِذَلِكَ عِنْدَ الْقَاضِي فَرَّقَ بَيْنَهُمَا ، وَكَذَلِكَ إذَا شَهِدَا بِهِ عِنْدَ النِّكَاحِ ، وَلَا فَرْقَ فِي الْفَصْلَيْنِ بَيْنَ أَنْ تَكُونَ الشَّهَادَةُ بَعْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ أَوْ قَبْلَهُ

قَالَ ، وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ امْرَأَةٌ كَبِيرَةٌ وَامْرَأَةٌ صَغِيرَةٌ وَلِابْنِهِ امْرَأَةٌ كَبِيرَةٌ وَامْرَأَةٌ صَغِيرَةٌ فَأَرْضَعَتْ امْرَأَةُ الْأَبِ امْرَأَةَ الِابْنِ وَأَرْضَعَتْ امْرَأَةُ الِابْنِ امْرَأَةَ الْأَبِ وَاللَّبَنُ مِنْهُمَا ، فَقَدْ بَانَتْ الصَّغِيرَتَانِ مِنْ زَوْجَيْهِمَا ، وَلَا تَحِلُّ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا لِلْأَبِ وَلِلِابْنِ ؛ لِأَنَّ امْرَأَةَ الْأَبِ لَمَّا أَرْضَعَتْ امْرَأَةَ الِابْنِ بِلَبَنِ الْأَبِ ، فَقَدْ صَارَتْ امْرَأَةُ الِابْنِ أُخْتَهُ لِأَبِيهِ ، وَلَمَّا أَرْضَعَتْ امْرَأَةُ الِابْنِ بِلَبَنِهِ امْرَأَةَ الْأَبِ ، فَقَدْ صَارَتْ ابْنَةَ ابْنِهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الصَّغِيرَتَيْنِ نِصْفُ الْمَهْرِ عَلَى زَوْجِهَا وَيَرْجِعُ بِذَلِكَ عَلَى الْمُرْضِعَةِ إنْ كَانَتْ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ ، وَنِكَاحُ الْكَبِيرَتَيْنِ ثَابِتٌ عَلَى حَالِهِ ؛ لِأَنَّ بِهَذَا الْإِرْضَاعِ لَمْ يُوجَدْ سَبَبُ الْحُرْمَةِ بَيْنَ الْكَبِيرَتَيْنِ وَبَيْنَ زَوْجَيْهِمَا ، وَإِنْ كَانَ مَكَانُ الِابْنِ وَالْأَبِ أَخَوَانِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الرَّضِيعَتَيْنِ صَارَتْ بِنْتَ أَخِ زَوْجِهَا ، وَلَوْ كَانَ رَجُلٌ وَعَمُّهُ مَكَانَ الْأَخَوَيْنِ بَانَتْ امْرَأَةُ الْعَمِّ الصَّغِيرَةُ مِنْ زَوْجِهَا ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ ابْنَةَ ابْنِ أَخِيهِ وَنِكَاحُ امْرَأَةِ ابْنِ الْأَخِ ثَابِتٌ عَلَى حَالِهِ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ ابْنَةَ عَمِّهِ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَلَوْ كَانَا رَجُلَيْنِ غَرِيبَيْنِ لَمْ تَبِنْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مِنْ زَوْجِهَا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا صَارَتْ ابْنَةَ الزَّوْجِ الْآخَرِ مِنْ الرَّضَاعِ وَلَيْسَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ قَرَابَةٌ ، وَلَوْ كَانَ اللَّبَنُ الَّذِي أُرْضِعَ بِهِ مِنْ النِّسَاءِ لَيْسَ مِنْ الْأَزْوَاجِ لَمْ تَثْبُتْ الْحُرْمَةُ فِي شَيْءٍ مِنْ الْفُصُولِ لِمَا بَيَّنَّا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

( قَالَ ) وَلَوْ أَنَّ أَخَوَيْنِ تَزَوَّجَا أُخْتَيْنِ فَأُدْخِلَتْ امْرَأَةُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى أَخِيهِ فَوَطِئَهَا فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَاطِئَيْنِ مَهْرُ مِثْلِ الْمَوْطُوءَةِ وَعَلَيْهَا الْعِدَّةُ ، وَلَا يَطَأُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا امْرَأَتَهُ حَتَّى تَحِيضَ عِنْدَهُ ثَلَاثَ حِيَضٍ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَطِئَ امْرَأَةَ أَخِيهِ بِشُبْهَةٍ وَقَضَى عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْوَطْءِ بِالشُّبْهَةِ بِسُقُوطِ الْحَدِّ وَوُجُوبِ مَهْرِ الْمِثْلِ عَلَى الْوَاطِئِ وَالْعِدَّةِ عَلَى الْمَوْطُوءَةِ ثُمَّ الْعِدَّةِ مِنْ الْوَطْءِ بِشُبْهَةٍ وَأَضْعَفَ مِنْ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ فَلَا تَكُونُ لَهُ رَافِعَةٌ فَتُرَدُّ كُلُّ وَاحِدَةٍ عَلَى زَوْجِهَا وَلَكِنْ لَا يَطَؤُهَا لِمَعْنَيَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّهَا مُعْتَدَّةٌ مِنْ غَيْرِهِ وَالثَّانِي أَنَّ أُخْتَهَا فِي عِدَّتِهِ فَإِنْ حَاضَتْ إحْدَاهُمَا ثَلَاثَ حِيَضٍ دُونَ الْأُخْرَى فَلَيْسَ لِزَوْجِهَا أَنْ يَطَأَهَا أَيْضًا ؛ لِأَنَّ أُخْتَهَا فِي عِدَّتِهِ ، وَلَوْ وَلَدَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَلَدًا ، فَإِنَّ الْوَلَدَ يَلْزَمُ الَّذِي وَطِئَ إذَا جَاءَتْ بِهِ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ أَرْبَعِ سِنِينَ مَا لَمْ تُقِرَّ بِانْقِضَاءِ الْعِدَّةِ ، وَهَذَا الْجَوَابُ بِنَاءً عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فَيَثْبُتُ نَسَبُ وَلَدِهَا مِنْ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّ فِرَاشَهُ صَحِيحٌ وَفِرَاشُ الْوَاطِئِ فَاسِدٌ وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الدَّعْوَةِ إذَا نُعِيَ إلَى الْمَرْأَةِ زَوْجُهَا فَتَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَوَلَدَتْ مِنْهُ ثُمَّ رَجَعَ الزَّوْجُ الْأَوَّلُ حَيًّا ، وَلَوْ جَاءَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ ، وَقَدْ وَطِئَهَا لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ مِنْ الْوَاطِئِ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعُلُوقَ سَبَقَ وَطْأَهُ ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ الزَّوْجِ ؛ لِأَنَّهَا عَلَّقَتْ بِهِ عَلَى فِرَاشِهِ

وَلَوْ أَنَّ أَحَدَ الْأَخَوَيْنِ دَخَلَ بِامْرَأَةِ أَخِيهِ فَوَطِئَهَا وَالْآخَرُ أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ فَلَمْ يَطَأْهَا ، فَإِنَّ الْوَاطِئَ يَغْرَمُ مَهْرَ مِثْلِ الْمَوْطُوءَةِ وَتُرَدُّ عَلَى زَوْجِهَا وَلَكِنْ لَا يَطَؤُهَا زَوْجُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهَا مِنْ الْوَاطِئِ ، وَلَا مَهْرَ عَلَى الْآخَرِ الَّتِي أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا نِكَاحٌ وَبِمُجَرَّدِ الْخَلْوَةِ بِالْأَجْنَبِيَّةِ لَا يَلْزَمُهُ الْمَهْرُ ؛ لِأَنَّ الْخَلْوَةَ إنَّمَا تُقَامُ مَقَامَ الْوَطْءِ بَعْدَ صِحَّةِ النِّكَاحِ لِضَرُورَةِ وُجُوبِ التَّسْلِيمِ فَتُرَدُّ عَلَى زَوْجِهَا وَلَكِنْ لَا يَدْخُلُ بِهَا زَوْجُهَا حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّةُ الْأُخْرَى ؛ لِأَنَّ أُخْتَهَا فِي عِدَّتِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ وَطِئَهَا فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْمَهْرُ ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ فِيمَا دُونَ الْفَرْجِ لَا تُوجِبُ الْحَدَّ إذَا تَعَرَّى عَنْ التَّسْمِيَةِ ، وَلَا يُوجِبُ الْمَهْرَ ، وَلَا الْعِدَّةَ عِنْدَ تَمَكُّنِ الشُّبْهَةِ أَيْضًا قَالَ ، وَقَدْ اسْتَحْسَنَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَدْ وَطِئَ الْمَرْأَةَ الَّتِي أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ أَنْ يُطَلِّقَ امْرَأَتَهُ الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَيَغْرَمَ لَهَا نِصْفَ الْمَهْرِ وَيَتَزَوَّجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا الْمَوْطُوءَةَ فَيَغْرَمَ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا بِالدُّخُولِ الْأَوَّلِ وَالْمَهْرَ بِالنِّكَاحِ ، وَهَذَا الْفَصْلُ مَنْقُولٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا حِكَايَةَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِ الْحِيَلِ فَبِهَذَا اسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ الْكِتَابَ لَيْسَ مِنْ تَصْنِيفِ مُحَمَّدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَإِنَّهُ فِي تَصْنِيفَاتِهِ لَا يَسْتُرُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَقَدْ سَتَرَهُ هُنَا بِقَوْلِهِ : وَقَدْ اسْتَحْسَنَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ ، وَلَوْ كَانَ هَذَانِ الْأَخَوَانِ تَزَوَّجَا أَجْنَبِيَّتَيْنِ فَأُدْخِلَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى زَوْجِ صَاحِبَتِهَا فَهَذَا وَمَا تَقَدَّمَ سَوَاءٌ إلَّا فِي خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ إذَا حَاضَتْ إحْدَاهُمَا ثَلَاثَ حِيَضٍ دُونَ الْأُخْرَى كَانَ

لِلزَّوْجِ الَّذِي حَاضَتْ امْرَأَتُهُ أَنْ يَطَأَهَا ؛ لِأَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى إنَّمَا كَانَ لَا يَطَؤُهَا فِي هَذَا الْفَصْلِ ؛ لِأَنَّ أُخْتَهَا فِي عِدَّتِهَا وَهُنَا الَّتِي فِي عِدَّتِهِ أَجْنَبِيَّةٌ مِنْ زَوْجَتِهِ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَطَأَ زَوْجَتَهُ إذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْ غَيْرِهِ

وَلَوْ أَنَّ أَجْنَبِيَّيْنِ تَزَوَّجَا أُخْتَيْنِ فَأُدْخِلَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى زَوْجِ أُخْتِهَا كَانَ الْجَوَابُ فِيهَا مِثْلَ ابْنَةٍ وَأُمِّهَا أُدْخِلَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى غَيْرِ زَوْجِهَا وَدَخَلَ بِهَا ، فَإِنَّ الَّذِي دَخَلَ بِالِابْنَةِ بَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ ابْنَةَ امْرَأَتِهِ ، وَذَلِكَ يُحَرِّمُ أُمَّهَا عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ وَعَلَيْهِ لِلِابْنَةِ مَهْرُ مِثْلِهَا بِدُخُولِهِ بِهَا شُبْهَةً وَلِلْأُمِّ نِصْفُ الْمَهْرِ ؛ لِأَنَّهَا بَانَتْ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا ، وَأَمَّا الَّذِي وَطِئَ الْأُمَّ ، فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ امْرَأَتُهُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ أُمَّ امْرَأَتِهِ ، وَذَلِكَ يُحَرِّمُهَا عَلَيْهِ عَلَى التَّأْبِيدِ فَيَغْرَمُ لِلِابْنَةِ نِصْفَ الْمَهْرِ لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ بَيْنَهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ مِنْ جِهَتِهِ وَيَغْرَمُ لِلْأُمِّ مَهْرَ مِثْلِهَا لِوَطْئِهِ إيَّاهَا شُبْهَةً وَلَيْسَ لِلَّذِي وَطِئَ الْأُمَّ أَنْ يَتَزَوَّجَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا قَطُّ ؛ لِأَنَّ الِابْنَةَ كَانَتْ فِي نِكَاحِهِ بِعَقْدٍ صَحِيحٍ ، وَذَلِكَ يُحَرِّمُ الْأُمَّ عَلَيْهِ ، وَقَدْ وَطِئَ الْأُمَّ ، وَذَلِكَ يُحَرِّمُ ابْنَتَهَا عَلَيْهِ ، وَأَمَّا الَّذِي وَطِئَ الِابْنَةَ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الِابْنَةَ ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ كَانَتْ فِي نِكَاحِهِ وَلَكِنْ فَارَقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَمُجَرَّدُ الْعَقْدِ عَلَى الْأُمِّ لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الِابْنَةِ

وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا وَابْنَهُ تَزَوَّجَا امْرَأَتَيْنِ أَجْنَبِيَّتَيْنِ فَأُدْخِلَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى زَوْجِ صَاحِبَتِهَا فَإِنْ كَانَ الِابْنُ هُوَ الَّذِي دَخَلَ بِامْرَأَةِ أَبِيهِ أَوَّلًا ، فَإِنَّهُ يَغْرَمُ لَهَا مَهْرَ الْمِثْلِ بِدُخُولِهِ بِهَا وَتَبِينُ مِنْ الْأَبِ ، وَلَا يَغْرَمُ لَهَا الْأَبُ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ وَطْءَ الِابْنِ إيَّاهَا يُحَرِّمُهَا عَلَى الْأَبِ عَلَى التَّأْبِيدِ ، وَإِنَّمَا جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ جِهَتِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ حِينَ طَاوَعَتْ ابْنَ زَوْجِهَا ، فَلِهَذَا لَا يَكُونُ لَهَا عَلَى الْأَبِ شَيْءٌ ثُمَّ الْأَبُ يَغْرَمُ لِامْرَأَةِ ابْنِهِ الَّتِي دَخَلَ بِهَا مَهْرًا بِدُخُولِهِ بِهَا وَتَبِينُ مِنْ الِابْنِ ؛ لِأَنَّ أَبَاهُ قَدْ وَطِئَهَا ، وَذَلِكَ يُحَرِّمُهَا عَلَيْهِ ، وَلَا يَغْرَمُ الِابْنُ لِامْرَأَتِهِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ بِسَبَبٍ مِنْ قِبَلِهَا حِينَ طَاوَعَتْ أَبَ الزَّوْجِ وَلَيْسَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَزَوَّجَ وَاحِدَةً مِنْ الْمَرْأَتَيْنِ بِحَالٍ ؛ لِأَنَّ إحْدَاهُمَا مَوْطُوءَةُ الْأَبِ وَالْأُخْرَى مَوْطُوءَةُ الِابْنِ ، وَلَوْ كَانَ الِابْنُ وَطِئَ امْرَأَةَ أَبِيهِ ، وَلَمْ يَمَسَّ الْأَبُ امْرَأَةَ ابْنِهِ ، فَإِنَّ الِابْنَ يَغْرَمُ لِلَّتِي وَطِئَهَا الْمَهْرَ بِالدُّخُولِ وَتُرَدُّ عَلَيْهِ امْرَأَتُهُ عَلَى النِّكَاحِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ أَبَاهُ لَمْ يَمَسَّهَا إنَّمَا خَلَا بِهَا وَمُجَرَّدُ الْخَلْوَةِ لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ ، وَأَمَّا الَّتِي وَطِئَهَا الِابْنُ فَقَدْ بَانَتْ مِنْ الْأَبِ ، وَلَا مَهْرَ لَهَا عَلَى الْأَبِ وَلَيْسَ لِلْوَاحِدِ مِنْهُمَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي نِكَاحِ الْأَبِ فَلَا تَحِلُّ لِلِابْنِ بِحَالٍ وَهِيَ مَوْطُوءَةُ الِابْنِ فَلَا تَحِلُّ لِلْأَبِ بِحَالٍ ، وَلَوْ كَانَ الْأَبُ هُوَ الَّذِي وَطِئَ امْرَأَةَ الِابْنِ ، وَلَمْ يَطَأْ الِابْنُ امْرَأَةَ الْأَبِ فَاَلَّتِي وَطِئَ الْأَبُ يَغْرَمُ لَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا وَتَبِينُ مِنْ الِابْنِ ، وَلَا يَغْرَمُ لَهَا الِابْنُ شَيْئًا ، وَلَا يَكُونُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي نِكَاحِ الِابْنِ فَلَا

يَتَزَوَّجُهَا الْأَبُ ، وَقَدْ وَطِئَهَا الْأَبُ فَلَا يَتَزَوَّجُهَا الِابْنُ وَيُرَدُّ امْرَأَةُ الْأَبِ إلَيْهِ بِالنِّكَاحِ الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ ابْنَهُ خَلَا بِهَا فَقَطْ ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْمُصَاهَرَةِ

قَالَ : وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَتَزَوَّجَ ابْنُهُ ابْنَتَهَا فَأُدْخِلَتْ امْرَأَةُ الْأَبِ عَلَى الِابْنِ وَامْرَأَةُ الِابْنِ عَلَى الْأَبِ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إمَّا أَنْ يَكُونَ الِابْنُ هُوَ الَّذِي وَطِئَ أَوَّلًا أَوْ الْأَبُ أَوْ كَانَ الْوَطْءُ مِنْهُمَا مَعًا فَإِنْ كَانَ الِابْنُ هُوَ الَّذِي وَطِئَ أَوَّلًا فَعَلَيْهِ لِلَّتِي وَطِئَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا وَتَبِينُ امْرَأَتُهُ وَلَهَا عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ ؛ لِأَنَّ الِابْنَ وَطِئَ أُمَّ امْرَأَتِهِ ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْفُرْقَةَ وَتَبِينُ امْرَأَتُهُ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ فَيَكُونُ لَهَا عَلَيْهِ نِصْفُ الْمَهْرِ ثُمَّ يَكُونُ عَلَى الْأَبِ لِلَّتِي وَطِئَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ، وَلَا يَغْرَمُ لِامْرَأَتِهِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهَا قَدْ بَانَتْ مِنْهُ حِينَ طَاوَعَتْ الِابْنَ حَتَّى وَطِئَهَا ، فَإِنَّمَا بَانَتْ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهَا ، فَإِنْ كَانَ الْأَبُ هُوَ الَّذِي وَطِئَهَا أَوَّلًا ، فَإِنَّهُ يَغْرَمُ لِلَّتِي وَطِئَهَا مَهْرَهَا وَتَبِينُ مِنْهُ امْرَأَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ وَطِئَ ابْنَةَ امْرَأَتِهِ وَلَهَا نِصْفُ الْمَهْرِ ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ كَانَتْ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ ثُمَّ الِابْنُ يَغْرَمُ لِلَّتِي وَطِئَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا ، وَلَا يَغْرَمُ لِامْرَأَتِهِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّهَا بَانَتْ مِنْهُ حِينَ طَاوَعَتْ الْأَبَ حَتَّى وَطِئَهَا ، فَإِنَّمَا جَاءَتْ الْفُرْقَةُ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَلَوْ كَانَ الْوَطْءُ مِنْهُمَا جَمِيعًا مَعًا أَوْ كَانَ لَا يُعْلَمُ أَيُّهُمَا أَوَّلَ ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ وَطِئَا مَعًا ؛ لِأَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ ظَهَرَ ، وَلَا يُعْرَفُ التَّارِيخُ بَيْنَهُمَا فَيُجْعَلَا كَأَنَّهُمَا وَقَعَا مَعًا ثُمَّ يَغْرَمُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلَّتِي وَطِئَهَا مَهْرَ مِثْلِهَا ، وَلَا يَكُونُ لِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَلَى زَوْجِهَا شَيْءٌ ، فَإِنَّ السَّبَبَ الْمُسْقِطَ لِصَدَاقِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا قَدْ ظَهَرَ ، وَهُوَ مُطَاوَعَتُهَا أَبَ الزَّوْجِ أَوْ ابْنَهُ وَيُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمُسْقِطَ وَالْمُوجِبَ إذَا اقْتَرَنَا تَرَجَّحَ الْمُسْقِطُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ

الْمُسْقِطَ يُرَدُّ عَلَى الْمُوجِبِ ، وَلَا يُرَدُّ عَلَى الْمُسْقِطِ ، وَلِأَنَّ وُقُوعَ الْفُرْقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ مُسْقِطٌ لِجَمِيعِ الصَّدَاقِ فِي الْأَصْلِ ، وَإِنَّمَا تَرَكْنَا هَذَا الْأَصْلَ فِيمَا إذَا كَانَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ جِهَةِ الزَّوْجِ بِالنَّصِّ إذْ تَعَارُضُ السَّبَبَيْنِ يَمْنَعُ إضَافَةَ الْفُرْقَةِ إلَى الزَّوْجِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَيَجِبُ التَّمَسُّكُ فِيهِ بِمَا هُوَ الْأَصْلُ ، وَلَا يَكُونُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَتَزَوَّجَ وَاحِدَةً مِنْ الْمَرْأَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ إحْدَاهُمَا مَوْطُوءَةُ الْأَبِ وَالْأُخْرَى مَوْطُوءَةُ الِابْنِ

وَلَوْ أَنَّ رَجُلَيْنِ بَيْنَهُمَا جَارِيَةٌ جَاءَتْ بِوَلَدٍ فَادَّعَيَاهُ ، فَهُوَ ابْنُهُمَا يَرِثَهُمَا وَيَرِثَانِهِ ، وَلَا يَكُونُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَطَأَ الْجَارِيَةَ ؛ لِأَنَّهَا بَقِيَتْ مُشْتَرَكَةً بَيْنَهُمَا وَصَارَتْ أُمَّ وَلَدَيْهِمَا ، وَلَا يَحِلُّ لِوَاحِدٍ مِنْ الشَّرِيكَيْنِ وَطْءُ الْجَارِيَةِ الْمُشْتَرَكَةِ ، وَلَا يَغْرَمُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِصَاحِبِهِ شَيْئًا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أُلْزِمَ نِصْفَ الْعُقْرِ لِصَاحِبِهِ فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا قِصَاصًا بِالْآخَرِ فَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا عَتَقَتْ الْجَارِيَةُ وَسَعَتْ فِي نِصْفِ قِيمَتِهَا ؛ لِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدِ الْآخَرِ ، وَهَذَا قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَأَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَأُمُّ الْوَلَدِ لَا تَسْعَى لِمَوْلَاهَا فِي شَيْءٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْعَتَاقِ ، وَلَوْ كَانَ ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْوَلَدَ دُونَ صَاحِبِهِ ، فَإِنَّهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ وَتَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَيَغْرَمُ لِشَرِيكِهِ نِصْفَ عُقْرِهَا وَنِصْفَ قِيمَتِهَا ، وَهَذَا ظَاهِرٌ

ثُمَّ ذَكَرَ وَطْءَ الْأَبِ جَارِيَةَ ابْنِهِ وَوَطْءَ الِابْنِ جَارِيَةَ أَبِيهِ وَوَطْءَ الرَّجُلِ جَارِيَةَ أَخِيهِ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ الْأَقَارِبِ ، فَقَدْ قَدَّمْنَا هَذِهِ الْفُصُولَ فِي كِتَابِ النِّكَاحِ وَالدَّعْوَى

وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ أُمُّ وَلَدٍ فَزَوَّجَهَا مِنْ صَبِيٍّ ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَخُيِّرَتْ فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَتْ زَوْجًا آخَرَ فَأَوْلَدَهَا فَجَاءَتْ إلَى الصَّبِيِّ الَّذِي كَانَ زَوْجَهَا فَأَرْضَعَتْهُ ، فَإِنَّهَا تَبِينُ مِنْ زَوْجِهَا ؛ لِأَنَّهَا حِينَ أَرْضَعَتْ الصَّبِيَّ صَارَ ابْنَهَا مِنْ الرَّضَاعَةِ وَابْنَ زَوْجِهَا أَيْضًا ؛ لِأَنَّ لَبَنَهَا مِنْهُ ، وَقَدْ كَانَتْ امْرَأَةُ هَذَا الرَّضِيعِ وَامْرَأَةُ الِابْنِ حَرَامًا عَلَى الْأَبِ عَلَى التَّأْبِيدِ ، وَقَدْ قَرَّرْنَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ تَعْتَرِضَ الْبُنُوَّةُ عَلَى النِّكَاحِ وَبَيْنَ أَنْ يَعْتَرِضَ النِّكَاحُ عَلَى الْبُنُوَّةِ فَتَبِينُ مِنْ زَوْجِهَا ، وَلَا تَحِلُّ لِلْغُلَامِ ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُمَّهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَيَجُوزُ لِمَوْلَاهَا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ؛ لِأَنَّ الِابْنَ لَمْ يَكُنْ مِنْ مَوْلَاهَا ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ زَوْجِهَا الثَّانِي ، وَلَكِنَّهَا أَرْضَعَتْهُ مِنْ ابْنِ مَوْلَاهَا الَّذِي كَانَ أَعْتَقَهَا ، فَإِنَّهَا لَا تَحْرُمُ عَلَى زَوْجِهَا ، وَلَا يَحِلُّ لِمَوْلَاهَا أَنْ يَتَزَوَّجَ بِهَا قَطُّ ؛ لِأَنَّ الرَّضِيعَ قَدْ صَارَ ابْنَ الْمَوْلَى مِنْ الرَّضَاعَةِ ، وَقَدْ كَانَتْ هِيَ فِي نِكَاحِهِ مَرَّةً ، وَلَمْ يَصِرْ ابْنَ الزَّوْجِ مِنْ الرَّضَاعَةِ حِينَ لَمْ يَكُنْ اللَّبَنُ مِنْهُ

قَالَ : وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا لَهُ امْرَأَتَانِ إحْدَاهُمَا كَبِيرَةٌ وَالْأُخْرَى صَغِيرَةٌ وَلِلْكَبِيرَةِ لَبَنٌ مِنْ غَيْرِهِ ، وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَأَرْضَعَتْ الْكَبِيرَةُ الصَّغِيرَةَ بَانَتَا مِنْهُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ ؛ لِأَنَّهُمَا صَارَتَا أُمًّا وَبِنْتًا ، وَذَلِكَ يُنَافِي النِّكَاحَ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً وَالْفُرْقَةُ بِمِثْلِ هَذَا السَّبَبِ تَكُونُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ فَإِنْ تَزَوَّجَ بَعْدَ ذَلِكَ الصَّغِيرَةَ كَانَتْ عِنْدَهُ عَلَى ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ؛ لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْعَقْدِ عَلَى الْأُمِّ لَا يُحَرِّمُ الِابْنَةَ مِنْ النَّسَبِ فَكَيْفَ يُحَرِّمُ الِابْنَةَ مِنْ الرَّضَاعَةِ ، وَهَذَا اللَّبَنُ لَيْسَ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا ، وَلَا تَصِيرُ الصَّغِيرَةُ ابْنَتَهُ مِنْ الرَّضَاعَةِ وَلَيْسَ لِلْكَبِيرَةِ عَلَيْهِ مِنْ الصَّدَاقِ شَيْءٌ ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ جَاءَتْ مِنْ قِبَلِهَا حِينَ أَرْضَعَتْ الصَّغِيرَةَ وَلِلصَّغِيرَةِ نِصْفُ الصَّدَاقِ ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ لَمْ تَكُنْ مِنْ قِبَلِهَا ، فَإِنَّ فِعْلَهَا الِارْتِضَاعُ ، وَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ لِبِنَاءِ الْحُكْمِ عَلَيْهِ ، وَفِي إسْقَاطِ جَمِيعِ الصَّدَاقِ إذَا جَاءَتْ الْفُرْقَةُ مِنْ قِبَلِهَا مَعْنَى الْعُقُوبَةِ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَثْبُتُ ذَلِكَ بِفِعْلِ الصَّغِيرَةِ ، كَمَا لَا يَثْبُتُ حِرْمَانُ الْمِيرَاثِ بِقَتْلِ الصَّغِيرَةِ وَيَسْتَوِي إذَا كَانَتْ الْكَبِيرَةُ تَعْلَمُ أَنَّ الصَّغِيرَةَ امْرَأَةُ زَوْجِهَا أَوْ لَا تَعْلَمُ ذَلِكَ فِيمَا بَيَّنَّا مِنْ الْحُكْمِ إلَّا أَنَّهَا إذَا كَانَتْ تَعْلَمُ ، وَقَدْ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ ، فَإِنَّهُ يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ مَهْرِ الصَّغِيرَةِ ، وَهَذَا إذَا أَقَرَّتْ أَنَّهَا تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ ، وَإِنْ لَمْ تَتَعَمَّدْ الْفَسَادَ أَوْ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّهَا امْرَأَتُهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا ، وَفِيهَا قَوْلٌ آخَرُ أَنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِنِصْفِ الصَّدَاقِ سَوَاءٌ تَعَمَّدَتْ الْفَسَادَ أَوْ لَمْ تَتَعَمَّدْهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ هَذِهِ رِوَايَةٌ عَنْ مُحَمَّدٍ ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ قَدْ

تَقَرَّرَ ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ إلَّا أَنَّا نَقُولُ : الْمُسَبِّبُ إذَا لَمْ يَكُنْ مُتَعَدِّيًا فِي التَّسَبُّبِ لَا يَكُونُ ضَامِنًا كَحَافِرِ الْبِئْرِ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فَقَالَ الزَّوْجُ : تَعَمَّدْت الْفَسَادَ وَقَالَتْ الْمَرْأَةُ : مَا تَعَمَّدْت ذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ يَدَّعِي عَلَيْهَا الضَّمَانَ وَهِيَ مُنْكِرَةٌ ، وَلَوْ كَانَتْ الْكَبِيرَةُ مُصَابَةً فَأَرْضَعَتْ الصَّغِيرَةَ فِي جُنُونِهَا بَانَتَا مِنْهُ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الصَّدَاقِ ؛ لِأَنَّهُ ، كَمَا لَا يُعْتَبَرُ فِعْلُ الصَّغِيرَةِ فِيمَا فِيهِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ لَا يُعْتَبَرُ فِعْلُ الْمَجْنُونَةِ ، وَلَا يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَى الْكَبِيرَةِ ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُتَعَدِّيَةٍ فِي السَّبَبِ لِكَوْنِهَا مُصَابَةً ، وَكَذَلِكَ لَوْ جَاءَتْ الصَّغِيرَةُ إلَى الْكَبِيرَةِ وَهِيَ نَائِمَةٌ فَارْتَضَعَتْ مِنْ ثَدْيِهَا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُ الصَّدَاقِ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ مِنْ الْكَبِيرَةِ فِعْلٌ فِي الْفُرْقَةِ ، وَلَا مُعْتَبَرَ بِفِعْلِ الصَّغِيرَةِ وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ وَأَخَذَ مِنْ لَبَنِ الْكَبِيرَةِ فِي مِسْعَطٍ فَأَوْجَرَ بِهِ الصَّغِيرَةَ ، وَلَا تَعْلَمُ الْكَبِيرَةُ أَيَّ شَيْءٍ يُرِيدُ ، فَإِنَّهُمَا يَبِينَانِ مِنْهُ وَعَلَى الزَّوْجِ نِصْفُ الصَّدَاقِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فَإِنْ أَقَرَّ الرَّجُلُ أَنَّهُ أَرَادَ الْفَسَادَ رَجَعَ الزَّوْجُ بِجَمِيعِ مَا غَرِمَ لَهُمَا لِكَوْنِهِ مُتَعَدِّيًا فِي التَّسَبُّبِ ، وَإِنْ قَالَ لَمْ : أَتَعَمَّدْ الْفَسَادَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ الزَّوْجُ بِشَيْءٍ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَفِي الْقَوْلِ الْآخَرِ يَرْجِعُ ، وَهَذَا يُبَيِّنُ لَك أَنَّ الْقَوْلَ الْآخَرَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ يَعْنِي الْإِيجَارَ بَانَتَا " مِنْهُ وَعَلَيْهِ نِصْفُ الصَّدَاقِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، وَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى أَحَدٍ ؛ لِأَنَّ الْفُرْقَةَ إنَّمَا وَقَعَتْ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِ قَبْلَ الدُّخُولِ

وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا تَحْتَهُ امْرَأَةٌ تُصَابُ فِي بَعْضِ الْأَيَّامِ فَتُجَنُّ وَتُفِيقُ فَدَعَتْ ابْنَ زَوْجِهَا إلَى أَنْ يَفْجُرَ بِهَا فِي حَالِ جُنُونِهَا فَفَعَلَ بَانَتْ مِنْ زَوْجِهَا وَكَانَ عَلَيْهِ نِصْفُ الصَّدَاقِ ؛ لِأَنَّ تَمْكِينَهَا فِي حَالِ جُنُونِهَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي إسْقَاطِ الصَّدَاقِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً لَمْ تَبْلُغْ وَمِثْلُهَا يُجَامَعُ فَدَعَتْ ابْنَ زَوْجِهَا إلَى أَنْ يَأْتِيَهَا فَفَعَلَ بَانَتْ وَكَانَ عَلَيْهِ نِصْفُ الصَّدَاقِ ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الصَّغِيرَةِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِيمَا فِيهِ مَعْنَى الْعُقُوبَةِ قَالَ فَإِنْ أَقَرَّ الِابْنُ الَّذِي أَمَرَ أَنَّهُ أَرَادَ الْفَسَادَ يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ الَّذِي يَلْزَمُ لِلصَّغِيرَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ ، وَفِي قَوْلِهِ الْآخَرِ يَرْجِعُ بِهِ عَلَيْهِ أَرَادَ الْفَسَادَ أَوْ لَمْ يُرِدْ ، وَمِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ يَقُولُ هَذَا التَّقْسِيمُ فِي الْإِرْضَاعِ صَحِيحٌ ، فَإِنَّ الْمُرْضِعَةَ قَدْ تَكُونُ مُحْسِنَةً فِي الْإِرْضَاعِ بِأَنْ تَخَافَ عَلَى الصَّبِيِّ الْهَلَاكَ فَأَمَّا فِي الزِّنَا لَا يَتَحَقَّقُ هَذَا التَّقْسِيمُ ، فَإِنَّ الزِّنَا فَسَادٌ كُلُّهُ لَيْسَ فِيهِ مِنْ مَعْنَى الصَّلَاحِ شَيْءٌ حَتَّى يُقَالَ أَرَادَ الزَّانِي الْفَسَادَ أَوْ لَمْ يُرِدْ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ مَا ذَكَرَهُ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّ الزِّنَا فَسَادٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ كَبِيرَةٌ وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ مُفْسِدٌ لِلنِّكَاحِ ، وَقَدْ لَا يَكُونُ ، فَإِنَّمَا أَرَادَ بِهَذَا أَنَّهُ إذَا تَعَمَّدَ فَسَادَ النِّكَاحِ يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الصَّدَاقِ ، وَإِذَا لَمْ يَتَعَمَّدْ ذَلِكَ بِأَنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهَا امْرَأَةُ أَبِيهِ لَمْ يَرْجِعْ الْأَبُ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ ، وَهَذَا ، كَمَا يُقَالُ أَنَّ مَنْ زَنَى فِي رَمَضَانَ نَاسِيًا لِصَوْمِهِ ، فَهُوَ مُرْتَكِبٌ لِلْكَبِيرَةِ مُسْتَوْجِبٌ لِلْعُقُوبَةِ وَلَكِنْ لَا يَفْسُدُ بِهِ صَوْمُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِالصَّوْمِ ، وَلَا قَاصِدًا إلَى الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْأَمَالِي أَنَّ

الِابْنَ إذَا زَنَى بِامْرَأَةِ أَبِيهِ قَبْلَ الدُّخُولِ ، وَقَدْ تَعَمَّدَ الْفَسَادَ بِأَنْ أَكْرَهَهَا عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَرْجِعْ الْأَبُ عَلَى الِابْنِ بِمَا يَغْرَمُ لَهَا مِنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ ، وَإِذَا قَبَّلَهَا وَهِيَ نَائِمَةٌ أَوْ مُكْرَهَةٌ رَجَعَ الْأَبُ عَلَيْهِ بِمَا غَرِمَ مِنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا زَنَى بِهَا فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَالْحَدُّ وَالْمَهْرُ لَا يَجْتَمِعَانِ فَلَا يَغْرَمُ شَيْئًا مِنْ الْمَهْرِ ، وَإِذَا قَبَّلَهَا لَمْ يَلْزَمْهُ الْحَدُّ فَيَكُونُ لِلْأَبِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بِنِصْفِ الْمَهْرِ ، وَلَكِنَّ هَذَا ضَعِيفٌ ، فَإِنَّ الْمَهْرَ لَا يَجِبُ لَهَا مَعَ وُجُوبِ الْحَدِّ عَلَى الْوَاطِئِ وَهُنَا نِصْفُ الْمَهْرِ عَلَى الْوَاطِئِ إنَّمَا يَجِبُ لِلْأَبِ وَمِثْلُ هَذَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْحَدِّ لِفِقْهٍ ، وَهُوَ أَنَّ الْمَهْرَ لَهَا لَا يَجِبُ إلَّا بِالْوَطْءِ ، وَقَدْ وَجَبَ الْحَدُّ بِالْوَطْءِ فَلَا يَجِبُ الْمَهْرُ ، وَأَمَّا حَقُّ الرُّجُوعِ لِلْأَبِ عَلَى الْوَاطِئِ فَيَثْبُتُ بِالتَّقْبِيلِ وَالْمَسِّ مِنْ غَيْرِ وَطْءٍ فَهُنَاكَ أَنَّ الْحَدَّ وَجَبَ عَلَيْهِ بِالْوَطْءِ فَيُمْكِنُ إثْبَاتُ الرُّجُوعِ لَهُ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ فِعْلٍ آخَرَ ، وَهُوَ التَّقْبِيلُ أَوْ الْمَسُّ فَاسْتَقَامَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ

نَحْمَدُك يَا مَنْ جَعَلْت الشَّرِيعَةَ الْغَرَّاءَ كَشَجَرَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ وَنُصَلِّي وَنُسَلِّمُ عَلَى نِهَايَةِ خُلَاصَةِ الْأَصْفِيَاءِ وَذَخِيرَةِ نُخْبَةِ الْعُظَمَاءِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ الْأَمِينِ الْقَائِلِ { مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ } .
وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ نَجَمُوا فِي جَبْهَةِ الدُّنْيَا بُدُورَ هُدًى وَكَانُوا رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ خَيْرَ قُدْوَةٍ لِمَنْ اقْتَدَى وَعَلَى التَّابِعِينَ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْمُرْشِدِينَ الْقَائِمِينَ بِعَهْدِهِ الرَّاشِدِينَ بِرُشْدِهِ وَبَعْدُ ، فَإِنَّ مِنْ الْمُقَرَّرِ عِنْدَ ذَوِي الْبَصَائِرِ أَنَّ ظُهُورَ الْإِنْسَانِ بِمَظْهَرِ الشَّرَفِ فِي الدَّارَيْنِ وَنَيْلَهُ دَرَجَاتِ الْكَمَالِ فِي الْكَوْنَيْنِ إنَّمَا هُوَ بِتَحْلِيَةِ الظَّاهِرِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الدِّينِيَّةِ بَعْدَ تَزْكِيَةِ الْبَاطِنِ بِالْعَقَائِدِ الْيَقِينِيَّةِ .
فَالْعِلْمُ الْمُتَكَفِّلُ مِنْ بَيْنِ الْعُلُومِ بِبَيَانِ الْأُولَى لَا رَيْبَ يَكُونُ بِالِاشْتِغَالِ أَوْلَى ، وَهُوَ عِلْمُ الْفِقْهِ الَّذِي اعْتَنَى بِشَأْنِهِ فِي كُلِّ عَصْرٍ عِصَابَةٌ هُمْ أَهْلُ الْإِصَابَةِ .
فَبَيَّنُوا الْمَعْقُولَ فِيهِ وَالْمَنْقُولَ وَاسْتَخْرَجُوا أَغْصَانَ الْفُرُوعِ مِنْ شُعَبِ الْأُصُولِ وَإِبْرَازَ حَقَائِقِهِ بَعْدَ أَنْ أَحْرَزُوا دَقَائِقَهُ وَقَنَصُوا شَوَارَهُ وَنَظَمُوا قَلَائِدَهُ وَذَلَّلُوا مَصَاعِبَهُ وَقَرَّبُوا مَطَالِبَهُ وَأَلَّفُوا فَأَجَادُوا وَصَنَّفُوا فَأَفَادُوا ، وَأَسْنَى مَا أُلِّفَ فِيهِ وَأَبْدَعُهُ وَأَعْذَبُهُ مَوْرِدًا وَأَحْكَمُهُ وَأَجْمَعُهُ ( كِتَابُ الْمَبْسُوطِ ) فِي فِقْهِ مَذْهَبِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ غَيْثَ الرَّحْمَةِ وَشَآبِيبَ الرِّضْوَانِ ، تَصْنِيفُ الْعَلَمِ النِّحْرِيرِ ذِي الْإِتْقَانِ وَالتَّحْرِيرِ وَالْحُجَّةِ لِمَنْ بَعْدَهُ وَالْبُرْهَانِ الَّذِي يُوقَفُ عِنْدَهُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ وَحَبْرِ الْأُمَّةِ أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجَعَلَ دَارَ النَّعِيمِ مَثْوَاهُ

كِتَابٌ يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُ جَمَعَ فَأَوْعَى .
وَأَحَاطَ بِالنَّوَادِرِ وَالْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ جِنْسًا وَنَوْعًا .
وَاسْتَخْرَجَ مِنْ بِحَارِ كُتُبِ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ دُرَّهَا وَقَرَّبَ لِلْمُجْتَنِي أَزْهَارَهَا وَأَثْمَارَهَا وَأَبْرَزَ دَقَائِقَهَا وَكُنُوزَهَا وَحَلَّ غَوَامِضَهَا وَرُمُوزَهَا وَنَظَمَهَا فِي سُمُوطِ أَبْوَابِ كِتَابِهِ أَبْدَعَ نِظَامٍ وَأَدْرَجَهَا فِي أَدْرَاجِ فُصُولِهِ مَعَ حُسْنِ انْسِجَامٍ وَبِالْجُمْلَةِ فَهَذَا هُوَ الْكِتَابُ الَّذِي بِظُهُورِهِ فِي عَالَمِ الْمَطْبُوعَاتِ سُدَّتْ فُرْجَةٌ وَاسِعَةٌ فِي مُؤَلَّفَاتِ فِقْهِ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ أَبِي حَنِيفَةَ النُّعْمَانِ ، فَإِنَّ جَمِيعَ الْكُتُبِ الْمُؤَلَّفَةِ فِي مَذْهَبِهِ هِيَ مِنْهُ بِمَنْزِلَةِ الْفُرُوعِ ، وَهُوَ الْأَصْلُ وَالْأَبْعَاضُ ، وَهُوَ الْكُلُّ وَالْجَدَاوِلُ ، وَهُوَ الْبَحْرُ الزَّاخِرُ ، وَذَلِكَ أَنَّ هَاتِيك الْكُتُبِ إذَا وَرَدَتْ فِيهَا مَسَائِلُ تَسْتَعْصِي عَلَى الْفَهْمِ .
وَتَخْتَلِفُ فِيهَا أَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ وَآرَاءُ الْفُقَهَاءِ أَحَالُوا الْحُكْمَ فِيهَا عَلَى كِتَابِ ( الْمَبْسُوطِ ) عَلَى أَنَّ الْحُصُولَ كَانَ عَلَيْهِ عَسِيرًا .
وَكَمْ طَرَقَ فُقَهَاءُ هَذَا الْمَذْهَبِ أَبْوَابَ الْمَكَاتِبِ .
وَطَالَمَا نَقَّبُوا عَنْهُ فِي أَدْرَاجِ الْكُتُبْخَانَاتِ فَمَا عَثَرُوا عَلَيْهِ ، وَلَا اهْتَدَوْا إلَيْهِ .
وَمَا أَحْوَجَ عُلَمَاءَ الْفِقْهِ إلَى كُتُبٍ تَجْمَعُ أَقْوَالَ الْأَئِمَّةِ الْكِبَارِ يَكُونُ الرُّجُوعُ إلَيْهَا وَالِاعْتِمَادُ عَلَيْهَا .
وَكِتَابُ ( الْمَبْسُوطِ ) جَمَعَ كُلَّ الْمَسَائِلِ الَّتِي دَوَّنَهَا الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ وَمُحَمَّدٌ وَأَبُو يُوسُفَ وَزُفَرُ وَالْإِمَامُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَأَعْلَامُ الْمَذْهَبِ الَّذِينَ يُعْبَأُ بِكَلَامِهِمْ فَلِلَّهِ دَرُّ هَذَا الْكِتَابِ وَلِلَّهِ بَرَاعَةُ عِبَارَاتِهِ وَلَطَافَةُ إشَارَتِهِ وَتَنْبِيهَاتُهُ النَّافِعَةُ وَتَنْوِيرَاتُهُ السَّاطِعَةُ .
الشَّاهِدُ لَهُ بِعُلُوِّ دَرَجَتِهِ .
وَزِيَادَةِ مَزِيَّتِهِ .
وَلِمُؤَلِّفِهِ بِسَعَةِ اطِّلَاعِهِ وَطُولِ بَاعِهِ .
وَطَالَمَا تَشَوَّقَ الْعُلَمَاءُ .
إلَى بُزُوغِ بَدْرِهِ .
وَتَشَوَّفَ الْفُقَهَاءُ إلَى

تَرْشِيفِ ثَغْرِهِ .
وَبَقِيَتْ النُّفُوسُ مُتَطَلِّعَةً إلَى طَلْعَةِ بَدْرِهِ الْكَامِلَةِ .
وَالْأَنْظَارُ مُتَوَجِّهَةً إلَى تَخَلُّصِهِ مِنْ حُجُبِهِ الْحَائِلَةِ حَتَّى وَفَّقَ اللَّهُ لَهُ صَاحِبَ الْأَعْمَالِ الْمَشْكُورَةِ .
وَالْهِمَّةِ الْعَلِيَّةِ الْمَشْهُورَةِ ( حَضْرَةُ الْمُحْتَرَمِ الْحَاجُّ مُحَمَّدٌ أَفَنْدِي السِّيَاسِيُّ الْمَغْرِبِيُّ ) فَأَخَذَ حَفِظَهُ اللَّهُ فِي أَسْبَابِ تَسْهِيلِهِ بَاذِلًا هِمَّتَهُ فِي طَبْعِهِ لِعُمُومِ نَفْعِهِ وَقَسَّمَهُ إلَى ثَلَاثِينَ جُزْءًا وَكُلُّهَا بِحَمْدِ اللَّهِ تَمَّتْ طَبْعًا مَعَ كَمَالِ التَّصْحِيحِ وَالتَّحْرِيرِ وَالتَّنْقِيحِ بِمُبَاشَرَةِ عِصَابَةٍ أُولِي نَجَابَةٍ وَبَرَاعَةٍ وَإِصَابَةٍ ، فَبَذَلَ كُلٌّ مِنْهُمْ جَهْدَهُ بِقَدْرِ مَا لَدَيْهِ .
هَذَا وَكَانَ طَبْعُهُ النَّاضِرُ وَوَضْعُهُ الْبَاهِرُ بِمَطْبَعَةِ السَّعَادَةِ ، الثَّابِتُ مَرْكَزُهَا بِجِوَارِ مُحَافَظَةِ مِصْرَ إدَارَةُ مُهَذِّبِ الطَّبْعِ ذِي الْقَدْرِ الْجَلِيلِ حَضْرَةِ الْمُحْتَرَمِ مُحَمَّدٌ أَفَنْدِي إسْمَاعِيلُ مَنَحَهُ اللَّهُ مِنْ الثَّوَابِ الْجَزِيلِ .
وَكَانَ لِطَبْعِهِ الْخِتَامُ وَلُبْسِهِ وِشَاحَ التَّمَامِ فِي شَعْبَانَ مِنْ عَامِ 1331 هِجْرِيَّةً عَلَى صَاحِبِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ السَّلَامِ آمِينَ

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96