كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي

صِفَةِ الْحِلِّ شَرْعًا ؛ فَلِهَذَا جَازَ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ

وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَغْزُو عَنْهُ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْغَزْوَ طَاعَةٌ فَهُوَ سَنَامُ الدِّينِ وَلَمَّا حَضَرَ الْقِتَالُ افْتَرَضَ عَلَيْهِ الذَّبُّ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَقِتَالُ الْمُشْرِكِينَ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَى إقَامَةِ مَا هُوَ فَرْضٌ عَلَيْهِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَثَلُ الَّذِينَ يَغْزُونَ مِنْ أُمَّتِي وَيَأْخُذُونَ عَلَى ذَلِكَ أَجْرًا كَمَثَلِ أُمِّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَتْ تُرْضِعُ وَلَدَهَا وَتَأْخُذُ الْأَجْرَ مِنْ فِرْعَوْنَ } .

وَلَوْ شَارَطَ كَحَّالًا أَنْ يُكَحِّلَ عَيْنَهُ شَهْرًا بِدِرْهَمٍ جَازَ ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الدَّوَاءُ فِي كُلِّ دَاءٍ ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ وَالِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ مُتَعَارَفٌ بَيْنَ النَّاسِ

وَإِذَا اسْتَأْجَرَ فَحْلًا لِيُنْزِيَهُ لَمْ يَجُزْ لِلْأَثَرِ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّهْيُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التَّيْسِ ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْمَاءُ وَلَا قِيمَةَ لَهُ وَصَاحِبُ الْفَحْلِ يَلْتَزِمُ إيفَاءَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَلَا تَجُوزُ الْإِجَارَةُ عَلَى تَعْلِيمِ الْغِنَاءِ وَالنَّوْحِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْصِيَةٌ

وَإِنْ سَلَّمَ غُلَامًا إلَى مُعَلِّمٍ لِيُعَلِّمَهُ عَمَلًا وَشَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يُحَذِّقَهُ فَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ التَّحْذِيقَ مَجْهُولٌ إذْ لَيْسَ لِذَلِكَ غَايَةٌ مَعْلُومَةٌ وَهَذِهِ جَهَالَةٌ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ بَيْنَهُمَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَرَطَ فِي ذَلِكَ أَشْهُرًا مُسَمَّاةً ؛ لِأَنَّهُ يَلْتَزِمُ إيفَاءَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَالتَّحْذِيقُ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْمُعَلِّمِ بَلْ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ شَيْءٍ فِي خِلْقَةِ الْمُتَعَلِّمِ ، ثُمَّ فِيمَا سُمِّيَ مِنْ الْمُدَّةِ لَا يَدْرِي أَنَّهُ هَلْ يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يُحَذِّقَهُ كَمَا شَرَطَ أَمْ لَا وَالْتِزَامُ تَسْلِيمِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ بِعَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ لَا يَجُوزُ .

، وَلَوْ أَجَّرَ أَرْضِهِ بِدَرَاهِمَ وَشَرَطَ خَرَاجَهَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الْخَرَاجَ مَجْهُولٌ لَا يُعْرَفُ مِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ يَقُولُ مُرَادُهُ فِي الْأَرَاضِي الصُّلْحِيَّةِ فَالْمَالُ فِي ذَلِكَ يُقْسَمُ عَلَى الْجَمَاجِمِ وَالْأَرَاضِي فَتَزْدَادُ حِصَّةُ الْأَرَاضِي إذَا قُلْتِ الْجَمَاجِمُ وَتَنْقُصُ بِكَثْرَةِ الْجَمَاجِمِ .
فَأَمَّا فِي جِرَاحِ الْوَظِيفَةِ لَا جَهَالَةَ فِي الْمِقْدَارِ وَقِيلَ أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ هَذَا إنَّ وُلَاةَ الظَّلَمَةِ أَلْحَقُوا بِالْخَرَاجِ رَوَادِفَ يَزْدَادُ ذَلِكَ تَارَةً وَيَتَنَقَّصُ أُخْرَى فَيَكُونُ مَجْهُولًا وَقِيلَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْخَرَاجَ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ وَرِيعُ الْأَرْضِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ لَعَلَّكُمَا حَمَّلْتُمَا الْأَرْضَ مَا لَا تُطِيقُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْطَاهُ بِغَيْرِ أَجْرٍ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِّيَ خَرَاجَهَا فَإِنَّ الْخَرَاجَ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ .
فَإِذَا شَرَطَهُ عَلَى الْمُزَارِعِ يَكُونُ ذَلِكَ أُجْرَةً وَجَهَالَةُ الْأُجْرَةِ تُفْسِدُ الْإِجَارَةَ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي كُلِّ جَرِيبٍ دِرْهَمٌ وَقَفِيزٌ مِمَّا يُخْرِجُهُ ، وَذَلِكَ مَجْهُولُ الْجِنْسِ فِي الصِّفَةِ ، وَلَوْ أَجَّرَهَا وَشَرَطَ الْعُشْرَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الْعُشْرَ عِنْدَهُ عَلَى الْمُؤَاجِرِ .
فَإِذَا شَرَطَهُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ كَأَنْ أَجَّرَهُ وَهُوَ مَجْهُولُ الْجِنْسِ وَالْقَدْرِ وَعِنْدَهُمَا الْعُشْرُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فَلَا يَصِيرُ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَخَرَاجُ الْمُقَاسَمَةِ نَظِيرُ الْعُشْرِ فِيمَا ذَكَرْنَا .
وَإِذَا كَانَ الْأَجْرُ كَذَا دِرْهَمًا وَدِينَارًا ، أَوْ فَلْسًا فَهُوَ جَائِزٌ وَلَهُ نَقْدُ الْبَلَدِ وَوَزْنُهُمْ فَإِنْ كَانَ وَزْنُهُمْ مُخْتَلِفًا فَهُوَ فَاسِدٌ حَتَّى يُبَيِّنَ الْوَزْنَ بِمَنْزِلَةِ الثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ .

وَإِنْ جَعَلَ الْأَجْرَ دَرَاهِمَ مُسَمَّاةً عَدَدًا بِغَيْرِ وَزْنٍ وَبِغَيْرِ عَيْنِهَا فَهُوَ فَاسِدٌ وَمُرَادُهُ فِي الدَّرَاهِمِ الْمَوْزُونَةِ فَإِنَّهَا تَتَفَاوَتُ فِي الْوَزْنِ .
فَأَمَّا مَا يُعَدُّ وَلَا يُوزَنُ كَالْعِطْرِ يَفِي .
فَإِذَا سُمِّيَ الْعَدَدُ فِيهِ جَازَ كَمَا فِي الْفُلُوسِ ، وَإِنْ أَشَارَ إلَى دَرَاهِمَ بِعَيْنِهَا جَازَتْ الْإِجَارَةُ ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَعْلُومَةَ الْقَدْرِ كَالثَّمَنِ فِي الْبَيْعِ بِخِلَافِ السَّلَمِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ فِي الْبُيُوعِ فَإِنْ قَالَ مِائَةُ دِرْهَمٍ عَدَدًا مِمَّا يَدْخُلُ فِي الْمِائَةِ خَمْسَةٌ كَانَ جَائِزًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سُمِّيَ الْوَزْنُ بِمَا ذُكِرَ مَعْنَاهُ فِيمَا يَزِنُ خَمْسَةً وَتِسْعِينَ دِرْهَمًا فَكَأَنَّهُ قَالَ مِائَةٌ إلَّا خَمْسَةً

وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَكْتُبُ لَهُ مُصْحَفًا ، أَوْ فِقْهًا مَعْلُومًا كَانَ جَائِزًا ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَةَ عَمَلٌ مَعْلُومٌ وَهُوَ يَتَحَقَّقُ مِنْ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ ، ثُمَّ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ مُتَعَارَفٌ وَقِيلَ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْكِتَابَةِ كَالِاسْتِئْجَارِ عَلَى الصِّيَاغَةِ ؛ لِأَنَّ بِعَمَلِهِ يُحْدِثُ لَوْنَ الْحَبْرِ فِي الْبَيَاضِ أَوْ كَالِاسْتِئْجَارِ عَلَى النَّقْشِ ، وَذَلِكَ جَائِزٌ إذَا كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ .
( قَالَ ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ الْأَصَحُّ عِنْدِي أَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا يَحْصُلُ بِعَمَلِ الْأَجِيرِ وَهِيَ الْكِتَابَةُ بِخِلَافِ التَّعْلِيمِ فَالْمَقْصُودُ هُنَاكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِمَعْنًى فِي الْمُتَعَلِّمِ وَإِيجَادُ ذَلِكَ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْمُعَلِّمِ بَيْنَهُمَا .

وَلَوْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا يَعْمَلُ عَمَلًا فَلَا أَجْرَ لَهُ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا لَوْ اسْتَأْجَرَ نَصِيبَهُ مِنْ دَارٍ بَيْنَهُمَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا .

وَلَوْ اسْتَأْجَرَ الْوَصِيُّ نَفْسَهُ ، أَوْ عَبْدَهُ يَعْمَلُ لِلْيَتِيمِ لَمْ يَجُزْ أَمَّا عِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فَلِأَنَّ الْوَصِيَّ لَا يَنْفَرِدُ بِالْعَقْدِ لِلْيَتِيمِ مَعَ نَفْسِهِ بِحَالٍ كَمَا فِي الْبَيْعِ ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَا يَجُوزُ ذَلِكَ إلَّا بِمَنْفَعَةٍ ظَاهِرَةٍ وَلَا مَنْفَعَةَ هُنَا ؛ لِأَنَّ مِنْ جِهَةِ الْوَصِيِّ مِمَّا لَيْسَ بِمُتَقَوِّمٍ لِنَفْسِهِ وَيَشْتَرِطُ عَلَى الْيَتِيمِ بِمُقَابَلَتِهِ مَالًا مُتَقَوِّمًا فَهَذَا لَا يَجُوزُ وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَ الْيَتِيمَ ، أَوْ عَبْدَ الْيَتِيمِ بِمَالِ نَفْسِهِ لِيَعْمَلَ لَهُ هَلْ يَجُوزُ أَمْ لَا قَالُوا وَيَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ الظَّاهِرَةِ لِلْيَتِيمِ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ فِي مِلْكِهِ مَالًا بِإِزَاءِ مَا لَيْسَ بِمَالٍ وَالْأَبُ يَسْتَأْجِرُ نَفْسَهُ ، أَوْ عَبْدَهُ لِعَمَلٍ يَعْمَلُهُ لِوَلَدِهِ فَيَجُوزُ ذَلِكَ وَيَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ ؛ لِأَنَّ شَفَقَةَ الْأُبُوَّةِ تَمْنَعُهُ مِنْ تَرْكِ النَّظَرِ لَهُ فَيَجُوزُ عَقْدُهُ مَعَ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ مَنْفَعَةٍ ظَاهِرَةٍ لِوَلَدِهِ فِيهِ .

وَلَوْ اسْتَأْجَرَ الْوَصِيُّ مِنْ نَفْسِهِ عَبْدًا لِلْيَتِيمِ لِيَعْمَلَ لِيَتِيمٍ آخَرَ مِنْ حُجْرَةٍ وَهُوَ وَصِيُّهُمَا فَهَذَا لَا يَجُوزُ ؛ لِأَنَّهُ إنْ نَفَعَ أَحَدَهُمَا أَضَرَّ بِالْآخَرِ وَهُوَ لَا يَنْفَرِدُ بِالتَّصَرُّفِ إلَّا بِمَنْفَعَةٍ ظَاهِرَةٍ وَلَا يَجُوزُ لِلصَّبِيِّ أَنْ يُؤَاجِرَ نَفْسَهُ ؛ لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ كَالْبَيْعِ فَلَا يَمْلِكُهُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ إلَى وَلِيِّهِ وَلَهُ الْأَجْرُ إنْ عَمِلَ اسْتِحْسَانًا ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا أَجْرَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ بَاطِلٌ وَوُجُوبُ الْأَجْرِ بِاعْتِبَارِهِ .
فَإِذَا بَطَلَ لَمْ يَجِبْ الْأَجْرُ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجِبُ الْأَجْرُ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَقْدَ مِنْهُ تَمَحُّضُ مَنْفَعَةٍ بَعْدَ إقَامَةِ الْعَمَلِ فَإِنَّا لَوْ اعْتَبَرْنَا الْعَقْدَ اسْتَوْجَبَ الْأَجْرَ ، وَلَوْ لَمْ يَعْتَبِرْهُ لَمْ يَجِبْ لَهُ الْأَجْرُ وَالصَّبِيُّ لَا يَكُونُ مَحْجُورًا عَمَّا يَتَمَحَّضُ مَنْفَعَةً لَهُ كَقَبُولِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ .
وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ لَا يُؤَاجِرُ نَفْسَهُ فَإِنْ فَعَلَ وَسَلَّمَ مِنْ الْعَمَلِ وَجَبَ لَهُ الْأَجْرُ اسْتِحْسَانًا لِمَا قُلْنَا فَإِنْ مَاتَ مِنْ الْعَمَلِ تَقَرَّرَ الضَّمَانُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ ؛ لِأَنَّهُ غَاصِبٌ لَهُ ، ثُمَّ الْأَجْرُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ مِنْ حِينِ وَجَبَ عَلَيْهِ الضَّمَانُ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ الْحُرِّ فَإِنَّهُ ، وَإِنْ هَلَكَ فِي الْعَمَلِ فَلَهُ الْأَجْرُ بِقَدْرِ مَا أَقَامَ مِنْ الْعَمَلِ ؛ لِأَنَّ الْحُرَّ لَا يُمْلَكُ بِالضَّمَانِ .
وَإِذَا أَخَذَ الْعَبْدُ الْأَجْرَ فَهُوَ لِمَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ عَبْدِهِ فَإِنْ أَخَذَهُ الْغَاصِبُ مِنْ يَدِهِ فَاسْتَهْلَكَهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ إتْلَافَ بَدَلِ مَنْفَعَةٍ كَإِتْلَافِ مَنَافِعِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْغَصْبِ

وَإِذَا اسْتَأْجَرَ نَهْرًا يَابِسًا لِيُجْرِيَ فِيهِ الْمَاءَ بِأَرْضِهِ ، أَوْ إلَى رَحَا مَاءٍ فَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ مَوْضِعَ النَّهْرِ لَا يَصْلُحُ لِلسُّكْنَى وَإِجْرَاءُ الْمَاءِ فِيهِ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ وَمِقْدَارُ مَا يَجْرِي مِنْ الْمَاءِ مَجْهُولٌ وَالضَّرَرُ يَخْتَلِفُ بِقِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ بَالُوعَةً لِيَصُبَّ فِيهَا وُضُوءَهُ وَبَوْلَهُ ، أَوْ مَسِيلَ مَاءٍ لِيَسِيلَ فِيهِ مَاءُ مِيزَابِهِ فَهَذَا مَجْهُولٌ وَالضَّرَرُ يَخْتَلِفُ بِقِلَّتِهِ وَكَثْرَتِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ بِئْرًا لِيَسْقِيَ مِنْهَا غَنَمَهُ ، وَإِنْ أَرَادَ الْحِيلَةَ فِي ذَلِكَ فَالْوَجْهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ مِنْ حَرِيمِ النَّهْرِ وَالْبِئْرِ مَوْضِعًا مَعْلُومًا لِيَكُونَ عَطَنًا لِمَوَاشِيهِ وَيُبِيحُ لَهُ سَقْيَ الْمَوَاشِي مِنْ الْبِئْرِ ، وَكَذَلِكَ إجَارَةُ الْمَرْعَى لَا تَجُوزُ وَالْحِيلَةُ فِيهِ أَنْ يُؤَاجِرَهُ مَوْضِعًا مَعْلُومًا لِيَضْرِبَ فِيهِ خَيْمَةً فَيَسْكُنَ وَيُبِيحَ لَهُ الِانْتِفَاعَ بِالْمَرْعَى ، وَلَوْ أَجَّرَهُ بَكَرَةً وَحَبْلًا وَدَلْوًا يَسْقِي بِهَا غَنَمَهُ فَهُوَ فَاسِدٌ لِلْجَهَالَةِ إلَّا أَنْ يُسَمِّيَ وَقْتًا فَيَجُوزَ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدُ يَرِدُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْعَيْنِ فِي الْمُدَّةِ .

فَإِنْ اسْتَأْجَرَ مِنْ رَجُلٍ مَوْضِعَ جِذْعٍ يَضَعُهُ عَلَى حَائِطِهِ لَمْ يَجُزْ عِنْدَنَا وَجَازَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ مَوْضِعٌ اسْتَأْجَرَهُ لِمَنْفَعَةٍ مَعْلُومَةٍ وَلَوْ اسْتَعَارَهُ لِذَلِكَ جَازَ .
فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَهُ ، وَلَكِنَّا أَفْسَدْنَاهُ لِلْجَهَالَةِ ؛ لِأَنَّ الضَّرَرَ يَتَفَاوَتُ بِثِقَلِ الْجِذْعِ وَخِفَّتِهِ وَكَثْرَةِ مَا يَبْنِي وَقِلَّتِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ حَائِطًا لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ سُتْرَةً فَهُوَ فَاسِدٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِلْجَهَالَةِ ، وَقَدْ يُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ .

وَإِنْ اسْتَأْجَرَ طَرِيقًا فِي دَارٍ لِيَمُرَّ فِيهِ كُلَّ شَهْرٍ بِأَجْرٍ مُسَمًّى فَهُوَ فَاسِدٌ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لِجَهَالَةِ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَتَطَرَّقُ فِيهِ وَلِلشُّيُوعِ فَإِنَّ عِنْدَهُ اسْتِئْجَارُ جُزْءٍ مِنْ الدَّارِ شَائِعًا لَا يَجُوزُ .
فَكَذَلِكَ الطَّرِيقُ وَعِنْدَهُمَا اسْتِئْجَارُ جُزْءٍ شَائِعٍ صَحِيحٌ .
فَكَذَلِكَ الطَّرِيقُ وَهُوَ مَعْلُومٌ بِالْعُرْفِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَكُونُ فِيهِ مُنَازَعَةٌ .

وَلَوْ اسْتَأْجَرَ عُلُوَّ مَنْزِلٍ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجَازَ فِي قَوْلِهِمَا ؛ لِأَنَّ مِقْدَارَ بِنَاءِ الْعُلُوِّ مَعْلُومٌ بِالْعُرْفِ وَسَطْحُ السُّفْلِ حَقُّ صَاحِبِ السُّفْلِ كَالْأَرْضِ .

وَلَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ بَيْتًا جَازَ .
فَكَذَلِكَ إذَا اسْتَأْجَرَ سَطْحَ السُّفْلِ لِيَبْنِيَ عَلَيْهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ هَذَا اسْتِئْجَارُ الْهَوَاءِ وَالْهَوَاءُ لَيْسَ بِمَمْلُوكٍ لِأَحَدٍ ثُمَّ مِقْدَارُ مَا يَبْنِي مَجْهُولٌ وَالضَّرَرُ عَلَى حِيطَانِ السُّفْلِ يَتَفَاوَتُ بِقِلَّةِ ذَلِكَ وَكَثْرَتِهِ وَرُبَّمَا تُفْضِي هَذِهِ الْجَهَالَةُ إلَى الْمُنَازَعَةِ بِخِلَافِ الْأَرْضِ فَالضَّرَرُ عَلَى الْأَرْضِ لَا يَخْتَلِفُ بِخِفَّةِ الْبِنَاءِ وَثِقَلِهِ .

وَلَوْ اسْتَأْجَرَ مَوْضِعَ كُوَّةٍ يَنْقُبُهَا فِي حَائِطٍ لَهُ يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنْهَا الضَّوْءُ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنْ إجَارَةِ النَّاسِ ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ الِانْتِفَاعُ بِمَا لَيْسَ مِنْ مِلْكِ الْمُؤَاجِرِ وَهُوَ ضَوْءُ الشَّمْسِ .
فَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ مَوْضِعًا لِيَمْتَدَّ فِي حَائِطٍ يُعَلِّقُ عَلَيْهِ شَيْئًا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ أَرْضٌ وَبِهَذَا اللَّفْظِ يَسْتَدِلُّ مَنْ لَا يُجَوِّزُ مِنْ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ اسْتِئْجَارَ الْبِنَاءِ بِدُونِ الْأَرْضِ فَفِي تَأَمُّلِهِ تَنْصِيصٌ عَلَى هَذَا ، ثُمَّ الضَّرَرُ عَلَى الْحَائِطِ يَخْتَلِفُ بِخِفَّةِ مَا يُعَلِّقُهُ عَلَى الْوَتَدِ أَوْ بِثِقَلِهِ فَهُوَ مَجْهُولٌ عَلَى وَجْهٍ لَا يُمْكِنُ إعْلَامُهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ مَوْضِعَ مِيزَابٍ فِي حَائِطٍ لِأَنَّ الضَّرَرَ عَلَى الْحَائِطِ يَتَفَاوَتُ بِقِلَّةِ الْمَاءِ الَّذِي يَسِيلُ وَكَثْرَتِهِ فَأَمَّا إذَا اسْتَأْجَرَ مِيزَابًا مُدَّةً مَعْلُومَةً لِيَنْصِبَهُ فِي حَائِطٍ يَسِيلُ فِيهِ مَاؤُهُ فَهَذَا جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ عَيْنٌ مُنْتَفَعٌ بِهِ اسْتَأْجَرَهُ لِمَنْفَعَةٍ مَعْلُومَةٍ .

وَإِذَا اسْتَأْجَرَ رَجُلًا لِيَعْمَلَ لَهُ عَمَلَ الْيَوْمِ إلَى اللَّيْلِ بِدِرْهَمٍ خِيَاطَةً أَوْ صِبَاغَةً ، أَوْ خُبْزًا ، أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَفِي قَوْلِهِمَا يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا ، وَيَكُونُ الْعَقْدُ عَلَى الْعَمَلِ دُونَ الْيَوْمِ حَتَّى إذَا فَرَغَ مِنْهُ نِصْفَ النَّهَارِ فَلَهُ الْأَجْرُ كَامِلًا ، وَإِنْ لَمْ يَفْرُغْ فِي الْيَوْمِ فَلَهُ أَنْ يَعْمَلَهُ فِي الْغَدِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْعَمَلُ وَهُوَ مَعْلُومٌ مُسَمًّى وَذِكْرُ الْوَقْتِ لِلِاسْتِعْجَالِ لَا لِتَعْلِيقِ الْعَقْدِ بِهِ فَكَأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِلْعَمَلِ عَلَى أَنْ يَفْرُغَ مِنْهُ فِي أَسْرَعِ أَوْقَاتِ الْإِمْكَانِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ إنَّمَا يَلْتَزِمُ الْبَدَلَ بِمُقَابَلَةِ مَا هُوَ مَقْصُودٌ لَهُ ، وَذَلِكَ الْعَمَلُ دُونَ الْمُدَّةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ جَمَعَ فِي الْعُقْدَتَيْنِ تَسْمِيَةَ الْعَمَلِ وَالْمُدَّةَ وَحُكْمُهُمَا مُخَالِفٌ فَمُوجِبُ تَسْمِيَةِ الْمُدَّةِ اسْتِحْقَاقُ مَنَافِعِهِ فِي جَمِيعِ الْمُدَّةِ بِالْعَقْدِ وَمُوجِبُ تَسْمِيَةِ الْعَمَلِ أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْوَصْفَ الَّذِي يُحْدِثُهُ فِي الْمَعْمُولِ لَا مَنَافِعِهِ وَيَتَعَذَّرُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا اعْتِبَارًا ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا بِالِاعْتِبَارِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيَفْسُدُ الْعَقْدُ بِجَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ تُفْضِي هَذِهِ الْجَهَالَةُ إلَى الْمُنَازَعَةِ فَإِنَّهُ إذَا فَرَغَ مِنْ الْعَمَلِ قَبْلَ مُضِيِّ الْيَوْمِ فَلِلْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يَقُولَ مَنَافِعُك فِي بَقِيَّةِ الْيَوْمِ حَقِّي بِاعْتِبَارِ تَسْمِيَةِ الْوَقْتِ ، وَأَنَا أَسْتَعْمِلُك .
وَإِذَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ الْعَمَلِ فِي الْيَوْمِ فَلِلْأَجِيرِ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ مُضِيِّ الْيَوْمِ قَدْ انْتَهَى الْعَقْدُ بِانْتِهَاءِ الْمُدَّةِ ، وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ مَقْصُودَ الْمُسْتَأْجِرِ فَالْمُدَّةُ مَقْصُودُ الْأَجِيرِ فَلَيْسَ الْبِنَاءُ عَلَى مَقْصُودِ أَحَدِهِمَا بِأَوْلَى مِنْ الْبِنَاءِ عَلَى مَقْصُودِ الْآخَرِ ، وَلِأَنَّ الْأَجِيرَ يَلْتَزِمُ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَهُوَ إقَامَةُ

جَمِيعِ الْعَمَلِ الْمُسَمَّى فِي الْوَقْتِ الْمُسَمَّى .

وَرَوَى مُحَمَّدٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَخِيطَ لَهُ هَذَا الْقَمِيصَ لَا يَجُوزُ ، وَلَوْ قَالَ فِي الْيَوْمِ يَجُوزُ ؛ لِأَنَّ بِحَرْفِ فِي يَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَهُ مِنْ ذِكْرِ الْمُدَّةِ الِاسْتِعْجَالُ لَا تَسْمِيَةُ الْمِقْدَارِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَحَرْفُ فِي لِلظَّرْفِ وَالْمَظْرُوفِ ، وَقَدْ يَشْغَلُ جُزْءًا مِنْ الظَّرْفِ لَا جَمِيعِهِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ لَوْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً مِنْ الْكُوفَةِ إلَى بَغْدَادَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِأَجْرٍ مُسَمًّى فَذَكَرَ الْمُدَّةَ وَالْمَسَافَةَ وَالْعَمَلَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ يَنْقُلُ لَهُ طَعَامًا مَعْلُومًا مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ مِنْ الْيَوْمِ إلَى اللَّيْلِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا .

وَإِنْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا شَهْرًا بِأَجْرٍ مُسَمًّى عَلَى أَنَّهُ إنْ مَرِضَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ بِقَدْرِ الْأَيَّامِ الَّتِي مَرِضَ فِيهَا مِنْ الشَّهْرِ الدَّاخِلِ فَهَذَا فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ فَلَا يَدْرِي فِي أَيِّ مِقْدَارٍ مِنْ الشَّهْرِ يَمْرَضُ لِيَدْخُلَ فِي الْعَقْدِ بِقَدْرِ ذَلِكَ مِنْ الشَّهْرِ الدَّاخِلِ ، ثُمَّ هَذَا الشَّهْرُ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ انْتِهَاؤُهُ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ تَمَكَّنَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، أَوْ لَمْ يَتَمَكَّنْ ، وَهَذَا الشَّرْطُ يُخَالِفُ ذَلِكَ .

وَإِنْ اسْتَأْجَرَ بَيْتًا شَهْرًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ عَلَى أَنَّهُ إنْ سَكَنَهُ يَوْمًا ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ فَهَذَا فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا الشَّرْطَ مُخَالِفٌ لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْعَقْدِ أَنَّهُ مَتَى خَرَجَ بِعُذْرٍ لَا يَلْزَمُهُ الْأَجْرُ ، ثُمَّ مِقْدَارُ أَجْرِ مَنْفَعَةِ الْبَيْتِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مَجْهُولٌ أَنَّهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ ، أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ إلَى بَغْدَادَ عَلَى أَنَّهُ إنْ بَلَغَ قَرْيَةَ كَذَا ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فَلَهُ الْأَجْرُ كَامِلًا فَهَذَا فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ مِقْدَارِ الْأَجْرِ إلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي سَمَّى ، وَلِأَنَّ الشَّرْطَ يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْعَقْدِ .

وَإِنْ اسْتَأْجَرَ دَابَّةً لِيَحْمِلَ عَلَيْهَا حِمْلَ كَذَا بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ إلَى مَوْضِعِ كَذَا عَلَى أَنَّهُ إنْ حَمَلَ عَلَيْهَا كَذَا مِنْ الْحِمْلِ فَحَمَلَ غَيْرَ ذَلِكَ إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ وَلَمْ يَحْمِلْ الْأَوَّلَ فَأَجَّرَهَا كَذَا فَهُوَ فَاسِدٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهُوَ جَائِزٌ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ عَلَى مَا شَرَطَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَ أَرْضًا لِيَزْرَعَهَا حِنْطَةً بِخَمْسِينَ دِرْهَمًا ، وَإِنْ زَرَعَهَا سِمْسِمًا فَأَجْرُهَا مِائَةُ دِرْهَمٍ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ ، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرَ بَيْتًا عَلَى أَنَّهُ إنْ أَسْكَنَهُ بَزَّازًا فَأَجْرُهُ خَمْسَةٌ ، وَإِنْ أَسْكَنَهُ قَصَّارًا فَأَجْرُهُ عَشَرَةٌ وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَجْهُولٌ وَالْبَدَلُ بِمُقَابَلَتِهِ مَجْهُولٌ فَالضَّرَرُ يَخْتَلِفُ بِسَكَنِ الْقَصَّارِ وَالْبَزَّازِ وَهُمَا عَقْدَانِ فِي عَقْدٍ { وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعَيْنِ فِي بَيْعٍ } أَرَأَيْت لَوْ سَلَّمَ إلَيْهِ الْبَيْتَ فَلَمْ يَسْكُنْهُ أَصْلًا حَتَّى مَضَتْ الْمُدَّةُ فَمَاذَا يُوجِبُ عَلَيْهِ خَمْسَةٌ أَوْ عَشَرَةٌ وَوَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ الْمَنْفَعَةِ مَعْلُومٌ بِالتَّسْمِيَةِ وَالْبَدَلُ بِمُقَابَلَتِهِ مَعْلُومٌ فَيَصِحُّ الْعَقْدُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ لَا يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ ، وَإِنَّمَا يَجِبُ بِاسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَةِ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ لَا جَهَالَةَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلَا فِي الْبَدَلِ .
فَأَمَّا إذَا لَمْ يَسْكُنْهَا فَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ يَنْبَغِي عَلَى قِيَاسِ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنْ يَلْزَمَهُ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ التَّسْمِيَتَيْنِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْأَجْرِ التَّمَكُّنُ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ هُنَا ، وَقَدْ تَمَكَّنَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْمَنْفَعَتَيْنِ جَمِيعًا ، وَلَيْسَ أَحَدُ الْبَدَلَيْنِ بِالْإِيجَابِ عَلَيْهِ بِأَوْلَى مِنْ الْآخَرِ فَيَلْزَمُهُ نِصْفُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا خَمْسَةٌ ؛

لِأَنَّ أَصْلَ الْبَدَلِ بِمُقَابَلَةِ مَنْفَعَةِ الْبَيْتِ خَمْسَةٌ ، ثُمَّ الْتَزَمَ زِيَادَةَ الْبَدَلِ بِزِيَادَةِ الضَّرَرِ .
وَإِذَا سَكَنَهُ قَصَّارًا ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُوهِنُ الْبِنَاءَ .
فَإِذَا لَمْ يُسْكِنْهَا أَحَدًا فَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ الضَّرَرُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ أَسْكَنَ بَزَّازًا لَا يَلْزَمُهُ إلَّا خَمْسَةٌ ، وَقَدْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَنْ يُسْكِنَهُ قَصَّارًا .
فَإِذَا لَمْ يُسْكِنْهُ أَصْلًا أَوْلَى أَنْ لَا يَلْزَمَهُ إلَّا خَمْسَةٌ .

رَجُلٌ اسْتَأْجَرَ دَارًا سَنَةً بِمِائَةِ دِرْهَمٍ عَلَى أَنْ لَا يَسْكُنَهَا وَلَا يَنْزِلَ فِيهَا فَالْإِيجَارَةُ فَاسِدَةٌ ؛ لِأَنَّهُ نَفَى مُوجِبَ الْعَقْدِ بِالشَّرْطِ ، وَذَلِكَ يُضَادُّ الْعَقْدَ ، وَإِنْ لَمْ يَسْكُنْهَا فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ ، وَفِي هَذَا اللَّفْظِ تَنْصِيصٌ عَلَى أَنَّ الْإِجَارَةَ الْفَاسِدَةَ بِالتَّمَكُّنِ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ لَا يُوجِبُ الْأَجْرَ مَا لَمْ يُوجِبْ الِاسْتِيفَاءَ حَقِيقَةً كَمَا فِي النِّكَاحِ الْفَاسِدِ ، وَإِنَّمَا يَتَكَلَّفُونَ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا غَيْرُ مُعْتَمَدٍ ، وَإِنْ سَكَنَهَا فَعَلَيْهِ بِأَجْرِ مِثْلِهَا لَا يَنْقُصُ مِمَّا سَمَّى ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا رَضِيَ بِالْمُسَمَّى بِشَرْطِ أَنْ لَا يَسْكُنَ فَعِنْدَ السُّكْنَى لَا يَكُونُ رَاضِيًا بِهِ فَيَلْزَمُهُ أَجْرُ مِثْلِهَا بَالِغًا مَا بَلَغَتْ .
وَإِنْ جَعَلْت أَجْرَ الدَّارِ أَنْ يُؤَذِّنَ لَهُمْ سَنَةً ، أَوْ يَوْمًا فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِ الدَّارِ إنْ سَكَنَهَا ؛ لِأَنَّهُ اسْتَوْفَى مَنَافِعَهَا بِعَقْدٍ فَاسِدٍ فَإِنَّمَا سَمَّى إذَا كَانَ لَا يَصْلُحُ بَدَلًا فَهُوَ فِي الْحُكْمِ كَمَا لَوْ أَجَّرَهَا وَلَمْ يُسَمِّ الْأَجْرَ وَلَا أَجْرَ لَهُ فِي الْأَذَانِ وَالْإِمَامَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَنْعَقِدُ عَلَى هَذَا الْعَمَلِ لَا صَحِيحًا وَلَا فَاسِدًا ، وَلِأَنَّهُ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ فَلَا يَكُونُ مُسَلِّمًا عَمَلَهُ إلَى غَيْرِهِ .

وَإِنْ تَكَارَى بِرْذَوْنًا لِيَتَعَرَّضَ عَلَيْهِ فَإِنْ جَازَ فَعَلَيْهِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ فَعَلَيْهِ خَمْسَةٌ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ وَمَعْنَى الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ مِنْ أَصْحَابِ الدِّيوَانِ اسْمُهُ فِي دِيوَانِ الْفُرْسَانِ ، وَقَدْ يُفِقْ فَرَسَهُ فَطَلَبَ السُّلْطَانُ الْعَرْضَ فَاسْتَأْجَرَ الْفَرَسَ عَلَى أَنَّهُ إنْ لَمْ يُوَقَّفْ عَلَى ضَيْعَةٍ فَالْأَجْرُ عَشَرَةٌ ، وَإِنْ وَقَّفَ عَلَى ذَلِكَ فَالْأَجْرُ خَمْسَةٌ فَهَذَا فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْأَجْرِ فَلَا يَدْرِي الْجَوَازَ وَلَا يَجُوزُ وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا فِيمَا اسْتَوْفَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُفِقْ فِي رُكُوبِهِ أَوْ أَخَذَهُ السُّلْطَانُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْبُوضَ بِحُكْمِ إجَارَةٍ فَاسِدَةٍ فِي حُكْمِ الضَّمَانِ كَالْمَقْبُوضِ بِحُكْمِ إجَارَةٍ صَحِيحَةٍ .

وَإِنْ تَكَارَى بَغْلًا عَلَى أَنَّهُ كُلَّمَا رَكِبَ الْأَمِيرُ رَكِبَ مَعَهُ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ لِجَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ مِنْ كُلِّ رَكْبَةٍ أَجْرُ مِثْلِهِ ؛ لِأَنَّ أَجْرَ الْمِثْلِ بِعَقْدٍ فَاسِدٍ بِقَدْرِ الْمُسْتَوْفَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ

وَإِنْ تَكَارَى دَابَّةً إلَى بَغْدَادَ عَلَى أَنَّهُ إنْ رَزَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ بَغْدَادَ شَيْئًا ، أَوْ مِنْ فُلَانٍ شَيْئًا أَعْطَاهُ نِصْفَ ذَلِكَ فَهَذَا فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْأَجْرِ وَالْغَرَرِ الْمُتَمَكِّنِ بِسَبَبِ الشَّرْطِ فِي أَصْلِ الْأَجْرِ وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا فِيمَا يَرْكَبُ ، وَإِنْ تَكَارَاهَا إلَى بَغْدَادَ عَلَى أَنَّهَا إنْ بَلَّغَتْهُ إلَى بَغْدَادَ فَلَهُ أَجْرُ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَهُ فَالْإِجَارَةُ فَاسِدَةٌ وَعَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهَا بِقَدْرِ مَا سَارَ عَلَيْهَا لِمَعْنَى الْمُخَاطَرَةِ وَالضَّمَانِ ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي مَسْأَلَةِ الْخِيَاطَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ إجَارَةِ حَفْرِ الْآبَارِ وَالْقُبُورِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ حَفَّارًا لِيَحْفِرَ لَهُ بِئْرًا فِي دَارِهِ وَلَمْ يُسَمِّ مَوْضِعًا وَلَمْ يَصِفْهَا فَهُوَ فَاسِدٌ ) لِجَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَعَمَلُ الْحَفْرِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمَوْضِعِ فِي الصَّلَابَةِ وَالرَّخَاوَةِ وَالسُّهُولَةِ وَالصُّعُوبَةِ وَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِهِ الْبِئْرُ فِي الْعَرْضِ وَالْعُمْقِ ، وَلَوْ سَمَّى عَشَرَةَ أَذْرُعٍ فِي الْأَرْضِ وَمِمَّا يُدِيرُ هَكَذَا ذِرَاعًا بِأَجْرٍ مُسَمًّى جَازَ ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ صَارَ مَعْلُومًا بِتَسْمِيَةِ الذَّرِعَانِ عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ وَالْمَوْضِعُ مَعْلُومٌ بِتَسْمِيَةِ دَارِهِ فَإِنْ حَفَرَ ثَلَاثَةَ أَذْرُعٍ ، ثُمَّ وَجَدَ جَبَلًا أَشَدَّ عَمَلًا وَأَشَدَّ مُؤْنَةً فَأَرَادَ تَرْكَ ذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ تَرْكُ ذَلِكَ وَيُجْبَرُ عَلَى الْحَفْرِ إذَا كَانَ يُطَاقُ ؛ لِأَنَّهُ إنْ الْتَزَمَ الْعَمَلَ مَعَ عَمَلِهِ عَلَى أَنَّ أَطْبَاقَ الْأَرْضِ تَخْتَلِفُ فَلَيْسَ فِي إبْقَاءِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ ضَرَرٌ فَوْقَ مَا الْتَزَمَ بِالْعَقْدِ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا فِي الْفَسْخِ .
وَفِي الْكِتَابِ ( قَالَ ) إذَا كَانَ يُطَاقُ ، وَمَا مِنْ مَوْضِعٍ إلَّا وَيُطَاقُ فِيهِ حَفْرًا ، وَلَكِنَّ مُرَادَهُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ إذَا كَانَ يُطَاقُ حَفْرًا بِآلَةِ الْحَفَّارِينَ وَلَا يَحْتَاجُ الْأَجِيرُ إلَى اتِّخَاذِ آلَةٍ أُخْرَى لِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا الْتَزَمَ إقَامَةَ الْعَمَلِ بِآلَةِ الْحَفَّارِينَ .
فَإِذَا كَانَ يَحْتَاجُ إلَى اتِّخَاذِ آلَةٍ أُخْرَى لِذَلِكَ فَهَذَا ضَرَرٌ لَمْ يَلْتَزِمْهُ بِالْعَقْدِ فَيَكُونُ عُذْرًا لَهُ فِي الْفَسْخِ ، وَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنَّ كُلَّ ذِرَاعٍ فِي سَهْلٍ ، أَوْ طِينٍ بِدِرْهَمٍ وَكُلَّ ذِرَاعٍ فِي جَبَلٍ أَوْ مَاءٍ بِدِرْهَمَيْنِ وَسَمَّى طُولَ الْبِئْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ نَوْعَيْنِ مِنْ الْعَمَلِ وَسَمَّى بِمُقَابَلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَلًا مَعْلُومًا وَلَا يَبْقَى بَعْدَ ذَلِكَ لِلتَّسْمِيَةِ جَهَالَةٌ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْأَجْرِ عِنْدَ الْحَفْرِ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ مَا

يَلْزَمُهُ مِنْ الْأَجْرِ مَعْلُومُ الْقَدْرِ .

وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْفِرَ لَهُ بِئْرًا عَشَرَةَ أَذْرُعٍ فِي جَبَلِ مَرْوَةَ فَحَفَرَ ذِرَاعًا ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَ جَبَلًا صَمًّا صَفَا فَإِنْ كَانَ يُطَاقُ حَفْرُهُ فَهُوَ عَلَيْهِ وَالْمَرْوَةُ اللِّينُ مِنْ الْحَجَرِ الَّذِي يَضْرِبُ إلَى الْخُضْرَةِ وَالصَّفَا مَا يَضْرِبُ إلَى الْحُمْرَةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ الْتَزَمَ الْحَفْرَ بِآلَةِ الْحَفَّارِينَ .
فَإِذَا كَانَ بِحَيْثُ يُطَاقُ الْحُفْرَةُ بِتِلْكَ الْآلَةِ فَلَا عُذْرَ لَهُ فِي التَّرْكِ ، وَإِنْ كَانَ لَا يُطَاقُ فَلَهُ أَنْ لَا يَتْرُكَ الْإِجَارَةَ وَلَهُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ مَا حَفَرَ ، وَكَذَلِكَ النَّهْرُ وَالْقَنَاةُ وَالسِّرْدَابُ وَالْبَالُوعَةُ إذَا ظَهَرَ الْمَاءُ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ مَا شَرَطَ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ لَا يُسْتَطَاعُ الْحَفْرُ مَعَهُ فَهَذَا عُذْرٌ ؛ لِأَنَّ فِي إيفَاءِ الْعَقْدِ يَلْحَقُهُ الضَّرَرُ لَمْ يَلْتَزِمْهُ بِالْعَقْدِ .

وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْفِرَ لَهُ بِئْرًا فِي دَارِهِ فَحَفَرَهَا ، ثُمَّ انْهَارَتْ قَبْلَ أَنْ يَفْرُغَ مِنْهَا فَلَهُ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ مَا حَفَرَ ؛ لِأَنَّهُ يُقِيمُ الْعَمَلَ فِي مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ فَيَصِيرُ عَمَلُهُ مُسَلَّمًا إلَيْهِ بِقَدْرِ مَا يَفْرُغُ مِنْهُ وَيَتَقَرَّرُ حَقُّهُ فِي الْأَجْرِ فَلَا يَسْقُطُ حَقُّهُ بِالتَّلَفِ بَعْدَ مَا يَخْرُجُ مِنْ ضَمَانِهِ .

وَلَوْ كَانَتْ بِئْرَ مَاءٍ فَشَرَطَ عَلَيْهِ مَعَ حَفْرِهَا طَيَّهَا بِالْآجُرِّ وَالْجِصِّ فَفَعَلَ وَفَرَغَ مِنْهَا ، ثُمَّ انْهَارَتْ فَلَهُ الْأَجْرُ كَامِلًا ، وَإِنْ انْهَارَتْ قَبْلَ أَنْ يَطْوِيَهَا بِالْأَجْرِ فَلَهُ الْأَجْرُ بِحِسَابِ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ بِنَفْسِ الْعَمَلِ يَجِبُ لَهُ الْأَجْرُ وَيَصِيرُ الْعَمَلُ مُسَلَّمًا إلَى صَاحِبِهِ فَيُطَالِبُهُ بِالْأَجْرِ بِحِسَابِ مَا أَقَامَ مِنْ الْعَمَلِ .

وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْفِرَهَا فِي الْجَبَّانَةِ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَلَا فِي فِنَائِهِ فَحَفَرَهَا فَانْهَارَتْ فَلَا أَجْرَ لَهُ حَتَّى يُسَلِّمَهَا إلَى صَاحِبِهَا بِمَنْزِلَةِ الْعَامِلِ مِنْ الْخَيَّاطِ وَالْقَصَّارِ فِي بَيْتِ نَفْسِهِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ مَا اتَّصَلَ بِمِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ لِيَصِيرَ الْمُسْتَأْجِرُ بِذَلِكَ قَابِضًا وَلَا بُدَّ لِدُخُولِ الْعَمَلِ فِي ضَمَانِهِ مِنْ أَنْ يُثْبِتَ يَدَهُ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ إلَيْهِ ، وَفِي هَذَا اللَّفْظِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفِنَاءَ حَقُّ الْمَرْءِ ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مَمْلُوكٍ لَهُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ قَالَ فِي غَيْرِ مِلْكِهِ وَلَا فِي فِنَائِهِ وَالْفِنَاءُ فِي يَدِهِ لِكَوْنِهِ أَحَقَّ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ .
فَإِذَا كَانَ الْحَفْرُ فِيهِ يَصِيرُ الْعَمَلُ مُسَلَّمًا إلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْحَفْرِ فِي مِلْكِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَحْفِرَ لَهُ قَبْرًا ، ثُمَّ دُفِنَ فِيهِ إنْسَانٌ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ الْمُسْتَأْجِرُ بِجِنَازَتِهِ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَجْرٌ ؛ لِأَنَّهُ حَفَرَ الْقَبْرَ فِي غَيْرِ مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ فَلَمَّا لَمْ يُسَلِّمْ إلَيْهِ لَا يَتَقَرَّرُ حَقُّهُ فِي الْأَجْرِ ، وَإِنْ جَاءَ الْمُسْتَأْجِرُ فَحَالَ الْأَجِيرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقَبْرِ فَانْهَارَ بَعْدَ ذَلِكَ ، أَوْ دَفَنُوا فِيهِ إنْسَانًا آخَرَ فَلَهُ الْأَجْرُ كَامِلًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سَلَّمَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ إلَى صَاحِبِهِ ، وَإِنْ دَفَنَ فِيهِ الْمُسْتَأْجِرُ مَيْتَةً ، ثُمَّ قَالَ لِلْأَجِيرِ اُحْثُ التُّرَابَ عَلَيْهِ فَأَبَى الْأَجِيرُ فِي الْقِيَاسِ لَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ عَمَلَ الْحَفْرِ وَحَثْيُ التُّرَابِ كَنْسٌ ، وَلَيْسَ بِحَفْرٍ وَهُوَ ضِدُّ مَا الْتَزَمَهُ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ ، وَلَكِنِّي أَنْظُرُ إلَى مَا يَضَعُ أَهْلُ مَلِكِ الْبِلَادِ فَإِنْ كَانَ الْأَجِيرُ هُوَ الَّذِي يَحْثِي التُّرَابَ خَيَّرْته فِي ذَلِكَ ، وَذَلِكَ يَعْمَلُ بِالْكُوفَةِ ، وَإِنْ كَانَ الْأَجِيرُ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ لَمْ أُجْبِرْهُ عَلَيْهِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَسْتَحِقُّ مَا

هُوَ الْمُتَعَارَفُ وَالْمَعْرُوفُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ يُجْعَلُ كَالْمَشْرُوطِ .

وَإِنْ أَرَادَ أَهْلُ الْمَيِّتِ أَنْ يَكُونَ الْأَجِيرُ هُوَ الَّذِي يَضَعُ الْمَيِّتَ فِي لَحْدِهِ وَهُوَ يَنْصِبُ اللَّبِنَ عَلَيْهِ لَمْ يُجْبَرْ الْأَجِيرُ عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ هَذَا غَيْرُ مُتَعَارَفٍ بَلْ الْعُرْفُ إنَّ أَقْرِبَاءَ الْمَيِّتِ وَأَصْدِقَاءَهُمْ الَّذِينَ يَضَعُونَهُ فِي لَحْدِهِ وَتَرْكُ ذَلِكَ إلَى الْأَجِيرِ يُعَدُّ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ بِهِ فَإِنْ وُصِفَ لَهُ مَوْضِعٌ يَحْفِرُ فِيهِ فَوَافَقَ فِيهِ جَبَلًا هُوَ أَشَدُّ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ فَحَفَرَهُ لَمْ يَزِدْ عَلَى أَجْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ الْتَزَمَ عَمَلَ الْحَفْرِ مَعَ عَمَلِهِ بِاخْتِلَافِ أَطْبَاقِ الْأَرْضِ فِي الصَّلَابَةِ وَالرَّخَاوَةِ .

وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ بِالْكُوفَةِ يَحْفِرُ قَبْرًا وَلَمْ يُسَمِّ لَهُ فِي أَيِّ الْمَقَابِرِ يَحْفِرُ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ فِي الْقِيَاسِ لِلْجَهَالَةِ الَّتِي تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ، وَلَكِنْ أَسْتَحْسِنُ إذَا حَفَرَ فِي النَّاحِيَةِ الَّتِي يُدْفَنُ فِيهَا أَهْلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ أَجْعَلُ لَهُ الْأَجْرَ ، وَهَذَا بِنَاءٌ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ الْكُوفَةِ فَإِنَّ لِكُلِّ دَرْبٍ فِيهِمْ مَقْبَرَةً عَلَى حِدَةٍ لِأَهْلِهَا .
فَأَمَّا فِي دِيَارِنَا فَلَوْ انْتَقَلَ مِنْ مَحَلَّةٍ إلَى مَحَلَّةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ تَسْمِيَةِ الْمَقْبَرَةِ بِنَاءً عَلَى عُرْفِ دِيَارِنَا ، وَإِنْ سَمَّى لَهُ مَوْضِعًا مَعْلُومًا فَحَفَرَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَلَا أَجْرَ لَهُ إلَّا أَنْ يَدْفِنُوا فِي حُفْرَتِهِ فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُ الْأَجْرُ حِينَئِذٍ ، وَكَذَلِكَ إنْ أَمَرُوهُ بِحَفْرِ الْقَبْرِ وَلَمْ يُسَمُّوا مَوْضِعًا فَحَفَرَ فِي غَيْرِ مَقْبَرَةِ أَهْلِ تِلْكَ الْبَلْدَةِ ، أَوْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ فَلَا أَجْرَ لَهُ إلَّا أَنْ يَدْفِنُوا فِي حُفْرَتِهِ فَحِينَئِذٍ يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ لِوُجُودِ الرِّضَاءِ مِنْهُمْ بِعَمَلِهِ حِينَ دَفَنُوا الْمَيِّتَةَ فِيهِ .
وَإِنْ أَرَادُوا مِنْهُ تَطْيِينَ الْقَبْرِ ، أَوْ تَجْصِيصَهُ فَلَيْسَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ عَمَلَ الْحَفْرِ وَالتَّجْصِيصُ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ فِي شَيْءٍ ، وَفِي الْعَادَةِ الَّذِي يُطَيِّنُ الْقَبْرَ غَيْرُ الَّذِي يَحْفِرُهُ ، وَإِنْ اسْتَأْجَرُوهُ لِيَحْفِرَ لَهُمْ الْقَبْرَ وَلَمْ يُسَمُّوا لَهُ طُولَهُ وَلَا عَرْضَهُ وَلَا عُمْقَهُ فِي الْأَرْضِ فَهُوَ فَاسِدٌ فِي الْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّ الْقُبُورَ تَخْتَلِفُ فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ وَالْعُمْقِ وَالْعَمَلُ بِحَسَبِهِ يَتَفَاوَتُ ، وَلَكِنِّي أَسْتَحْسِنُ فَأُجْبِرُهُ فَأُقَدِّرُهُ بِوَسَطِ مَا يَعْمَلُ النَّاسُ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْلُومٌ بِالْعُرْفِ فَهُوَ كَالشُّرُوطِ بِالنَّصِّ وَبِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَسْتَحِقُّ الْوَسَطَ فِي الْمُعَاوَضَاتِ فَإِنَّهُ فَوْقَ الْوَكْسِ وَدُونَ الشَّطَطِ وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا ، وَإِنْ وَصَفُوا لَهُ مَوْضِعًا فَوَجَدَ وَجْهَ الْأَرْضِ لِينًا فَلَمَّا حَفَرَ ذِرَاعًا وَجَدَ جَبَلًا أُجْبِرُهُ

عَلَى أَنْ يَحْفِرَ إنْ كَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَحْفِرُ النَّاسُ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ ، وَإِنْ لَمْ يُسَمُّوا لَهُ لَحْدًا وَلَا شِقًّا فَهُوَ عَادَةُ أَهْلِ تِلْكَ النَّاحِيَةِ فَإِنْ كَانَ بِالْكُوفَةِ فَعَظُمَ عَمَلُهُمْ عَلَى اللَّحْدِ ، وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ عَظُمَ عَمَلُهُمْ عَلَى الشِّقِّ فَهُوَ عَلَى الشِّقِّ ؛ لِأَنَّ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ يَسْتَحِقُّ الْمُتَعَارَفَ وَالْمُتَعَارَفُ مَا عَلَيْهِ عِظَمُ الْعَمَلِ .

وَلَوْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَكْرِيَ لَهُ نَهْرًا ، أَوْ قَنَاةً فَأَرَاهُ مِفْتَحَهَا وَمَصَبَّهَا وَعَرْضَهَا وَسَمَّى لَهُ كَمْ يُمْكِنُ فِي الْأَرْضِ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَإِنْ اشْتَرَطَ طَيَّهَا بِالْأَجْرِ وَالْجِصَّ مِنْ عِنْدِ الْأَجِيرِ فَهُوَ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّهُ مُشْتَرٍ لِلْآجُرِّ وَالْجِصِّ فَهَذَا بَيْعُ شَرْطٍ فِي الْإِجَارَةِ ، وَذَلِكَ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ ، وَإِنْ شَرَطَ الْآجُرَّ وَالْجِصَّ مِنْ عِنْدِ الْمُسْتَأْجِرِ وَلَمْ يُسَمِّ عَدَدَ الْآجُرِّ فَهُوَ فِي الْقِيَاسِ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ مَا شَرَطَ عَلَيْهِ مِنْ الْعَمَلِ ، وَذَلِكَ يَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِ الْآجُرِّ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ هُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا يَعْمَلُ النَّاسُ ؛ لِأَنَّ عَدَدَ مَا يَحْتَاجُ النَّاسُ إلَيْهِ لِذَلِكَ الْعَمَلِ مِنْ الْآجُرِّ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ فَيَكُونُ كَالْمَشْرُوطِ ، وَإِنْ سَمَّى عَدَدَ الْآجُرِّ وَكَيْلَ الْجِصِّ وَعَرْضَ الطَّيِّ وَطُولَهُ فِي السَّمَاءِ فَهُوَ أَوْثَقُ ؛ لِأَنَّهُ عَنْ الْمُنَازَعَةِ أَبْعَدُ .

وَإِنْ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا يَحْفِرُونَ لَهُ سِرْدَابًا لَمْ يَجُزْ حَتَّى يُسَمِّيَ طُولَهُ وَعَرْضَهُ وَقَعْرَهُ فِي الْأَرْضِ فَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِذَلِكَ ، وَبَعْدَ الْإِعْلَامِ إذَا عَمِلَ بَعْضُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ فَالْأَجْرُ بَيْنَهُمْ عَلَى عَدَدِ الرُّءُوسِ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ يَقْبَلُ الْعَمَلَ ، وَقَدْ اسْتَوَوْا فِي ذَلِكَ ، وَلِأَنَّهُ اشْتَرَكُوا مَعَ عَمَلِهِمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَفَاوُتٍ فِي عَمَلِهِمْ فَكَانَ ذَلِكَ رِضَاءً مِنْهُمْ بِتَرْكِ اعْتِبَارِ ذَلِكَ التَّفَاوُتِ ، وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ لِمَرَضٍ أَوْ عُذْرٍ فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ شَرِكَةٌ فِي الْأَصْلِ فَلَهُ الْأَجْرُ مَعَهُمْ بِعَقْدِ الشَّرِكَةِ بَيْنَهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمْ شَرِكَةٌ فَلَا أَجْرَ لَهُ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْأَجْرِ بِالْعَمَلِ لَا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ سَوَاءٌ تَرَكَ الْعَمَلَ بِعُذْرٍ أَوْ بِغَيْرِ عُذْرٍ وَيُرْفَعُ عَنْهُمْ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ حِصَّتِهِ ، وَيَكُونُ عَمَلُهُمْ فِي حِصَّتِهِ تَطَوُّعًا ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ عِنْدَ الْعَمَلِ بِالتَّسْمِيَةِ فَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ بِقَدْرِ مَا سَمَّى لَهُ ، وَإِنْ زَادَ عَمَلُهُ عَلَى مَا الْتَزَمَ بِالْعَقْدِ فَهُوَ مُتَطَوِّعٌ فِي تِلْكَ الزِّيَادَةِ .

رَجُلٌ تَكَارَى رَجُلًا يَحْفِرُ لَهُ بِئْرًا عَشَرَةَ أَذْرُعٍ طُولًا فِي عَرْضٍ مَعْلُومٍ بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ وَزَعَمَ الْحَفَّارُ أَنَّهُ شَرَطَ أَنْ يَحْفِرَهَا خَمْسَةَ أَذْرُعٍ طُولًا وَلَمْ يَعْمَلْ شَيْئًا بَعْدُ فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ لِاخْتِلَافِهِمَا فِي مِقْدَارِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي حَالِ قِيَامِ الْعَقْدِ وَاحْتِمَالِهِ لِلْفَسْخِ ، وَإِنْ كَانَ قَدْ حَفَرَ خَمْسَةَ أَذْرُعٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ مَعَ يَمِينِهِ وَيُعْطِيهِ مِنْ الْأَجْرِ بِحِسَابِ مَا قَالَ ؛ لِأَنَّ الْأَجِيرَ يَدَّعِي عَلَيْهِ الزِّيَادَةَ وَهُوَ مُنْكِرٌ وَيَحْلِفُ الْأَجِيرُ عَلَى دَعْوَى الْمُسْتَأْجِرِ ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ حَفْرَ خَمْسَةِ أَذْرُعٍ أُخْرَى مِمَّا الْتَزَمَهُ بِالْعَقْدِ وَهُوَ مُنْكِرٌ فَيَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ وَيَتَشَارَكَانِ فِيمَا بَقِيَ

وَلَوْ قَالَ احْفِرْ لِي فِي هَذَا الْمَكَانِ فَحَفَرَ فَانْتَهَى إلَى جَبَلٍ لَا يُطَاقُ أَيْ لَا يُطَاقُ بِآلَةِ الْحَفَّارِينَ فَالْأَجِيرُ بِالْخِيَارِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّرَرِ فَوْقَ مَا الْتَزَمَهُ بِالْعَقْدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ إجَارَةِ الْبِنَاءِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ رَجُلًا يَبْنِي لَهُ حَائِطًا بِالْجِصِّ وَالْآجُرِّ وَأَعْلَمَهُ طُولَهُ وَعَرْضَهُ وَعُمْقَهُ وَارْتِفَاعَهُ فِي السَّمَاءِ فَهُوَ جَائِزٌ ) ؛ لِأَنَّهُ عَمَلٌ مَعْلُومٌ يُسْتَأْجَرُ عَلَيْهِ عُرْفًا وَيَقْدِرُ الْأَجِيرُ عَلَى إيفَائِهِ ، وَإِنْ سَمَّى كَذَا كَذَا أَلْفَ آجُرَّةٍ مِنْ هَذَا الْآجُرِّ وَكَذَا كَذَا مِنْ الْجِصِّ وَلَمْ يُسَمِّ الطُّولَ وَالْعَرْضَ فَهُوَ فِي الْقِيَاسِ فَاسِدٌ لِجَهَالَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ دُونَ الْآجُرِّ وَالْجِصِّ وَالْعَمَلُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ صِفَةِ الْحَائِطِ فِي الطُّولِ وَالْعَرْضِ ، وَفِي أَسْفَلِ الْحَائِطِ يَكُونُ الْعَمَلُ أَسْهَلَ وَكُلُّ مَا يَرْتَفِعُ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ كَانَ الْعَمَلُ أَشَقَّ ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ ( فَقَالَ ) هَذِهِ الْجَهَالَةُ لَا تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ وَبُنْيَانُ مِقْدَارِ الْآجُرِّ وَالْجِصِّ يَصِيرُ الطُّولُ وَالْعَرْضُ فِي الْحَائِطِ الَّذِي يَبْنِي عَلَيْهِ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ فَلَوْ سَمَّى مَعَ ذَلِكَ الطُّولَ وَالْعَرْضَ كَانَ أَجْوَدَ ؛ لِأَنَّهُ عَنْ الْجَهَالَةِ أَبْعَدُ ، وَإِنْ سَمَّى كَذَا كَذَا آجُرًّا وَلَبِنًا وَلَمْ يُسَمِّ الْمُلَبَّنَ وَلَمْ يُرِهِ إيَّاهُ فَهُوَ فَاسِدٌ فِي الْقِيَاسِ لِلْجَهَالَةِ ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ فَقَالَ إنْ كَانَ مُلَبَّنُ ذَلِكَ الْبَلَدِ الْآجُرَّ وَاللَّبِنُ وَاحِدٌ مَعْلُومٌ فَالْمَعْلُومُ بِالْعُرْفِ كَالْمَشْرُوطِ بِالنَّصِّ ، وَإِنْ كَانَ مُخْتَلِفًا فَحِينَئِذٍ يَفْسُدُ الْعَقْدُ إذَا لَمْ يُبَيِّنْ فَهُوَ قِيَاسُ النَّقْدِ فِي ذَلِكَ .

وَإِذَا اسْتَأْجَرَ بَنَّاءً لِيَبْنِيَ لَهُ دَارًا الْأَسَاسُ وَالسَّرَادِيبُ وَالسُّفْلُ وَالْعُلُوُّ بِالطَّاقَاتِ وَالْأَسَاطِينُ وَالْحِيطَانُ عَلَى مِثْلِ مَا يَبْنِي بِالْكُوفَةِ كُلَّ أَلْفِ آجُرَّةٍ وَأَرْبَعَةَ أَكْرَارِ جِصٍّ بِكَذَا فَهُوَ فِي الْقِيَاسِ فَاسِدٌ ؛ لِأَنَّ الْأَسَاسَ وَالسُّفْلَ أَهْوَنُ مِنْ الْعُلُوِّ وَالطَّاقَاتُ أَشَدُّ مِنْ الْحَائِطِ الْمُسْتَطِيلِ فَكَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مَجْهُولًا وَرُبَّمَا تُفْضِي هَذِهِ الْجَهَالَةُ إلَى الْمُنَازَعَةِ فَالْبَنَّاءُ عِنْدَ الْعَقْدِ لَا يَعْرِفُ مُرَادَ صَاحِبِ الْبِنَاءِ ، وَلَكِنَّهُ اسْتَحْسَنَ ( فَقَالَ ) صِفَةُ الْبِنَاءِ مَعْلُومٌ بِطَرِيقِ الظَّاهِرِ وَالْإِنْسَانُ إنَّمَا يَبْنِي دَارِهِ عَلَى عَادَةِ أَهْلِ بَلَدِهِ وَأَهْلِ مَحَلَّتِهِ ، وَإِنْ كَانَ يَتَكَلَّفُ التَّفَاوُتُ فَهُوَ يَسِيرٌ لَا تُجْزِئُ الْمُنَازَعَةُ بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ ( قَالَ ) وَاجْعَلْ الزَّنَابِيلَ وَالدِّلَاءَ وَآنِيَةَ الْمَاءِ عَلَى رَبِّ الدَّارِ لِلْعُرْفِ ، وَلِأَنَّ الْبَنَّاءَ الْتَزَمَ بِالْعَقْدِ الْعَمَلَ وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ لَيْسَ مِنْ الْعَمَلِ فِي شَيْءٍ فَيَكُونُ عَلَى رَبِّ الدَّارِ كَالْآجُرِّ وَالْجِصِّ وَلَا طَعَامَ عَلَى رَبِّ الدَّارِ فِي هَذِهِ الْإِجَارَةِ ؛ لِأَنَّهُ بِالْعَقْدِ الْتَزَمَ الْأَجْرَ وَالطَّعَامَ وَرَاءَ الْأَجْرِ ، وَلِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ فِي تَقَبُّلِ الْعَمَلِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مُعْتَادٌ فِي اسْتِئْجَارِ الْعَامِلِ يَوْمًا بِيَوْمٍ ، وَإِنْ اشْتَرَطَ رَبُّ الدَّارِ الزِّنْبِيلَ وَآنِيَةَ الْمَاءِ عَلَى الْمُسْتَقْبِلِ فَهُوَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَهُ ، وَقَدْ اسْتَأْجَرَهُ لِلْعَمَلِ بِإِرَادَةِ نَفْسِهِ ، وَذَلِكَ جَائِزٌ كَاسْتِئْجَارِ الْخَيَّاطِ لِيَخِيطَ بِإِبْرَةِ نَفْسِهِ وَأَمَّا الْمَاءُ فَهُوَ عَلَى رَبِّ الدَّارِ بِمَنْزِلَةِ الْآجُرِّ وَالْجِصِّ ، وَلَكِنْ عَلَى الْمُسْتَقْبِلِ أَنْ يُسْقِيَهُ إنْ كَانَتْ فِي الدَّارِ بِئْرٌ ، أَوْ كَانَتْ الْبِئْرُ قَرِيبَةً مِنْ الدَّارِ بِاعْتِبَارِ الْعُرْفِ ، وَلَكِنْ الْمَرْءُ عَلَى الْمُسْتَقْبِلِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَرْءِ وَالزِّنْبِيلِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى ، وَلَكِنَّ الْعُرْفَ

مُعْتَبَرٌ فِيهَا وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ ؛ لِأَنَّ عَمَلَ النَّاسِ بِالْكُوفَةِ عَلَى ذَلِكَ .

وَإِنْ تَكَارَى رَجُلًا يَعْمَلُ لَهُ يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ فَهُوَ جَائِزٌ فَيَعْمَلُ لَهُ مِنْ حِينِ يُصَلِّي الْغَدَاةَ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ ؛ لِأَنَّهُ تَكَارَاهُ يَوْمًا وَأَوَّلُ الْيَوْمِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ الثَّانِي إلَّا أَنَّ مَا قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ صَارَ مُسْتَثْنًى ، وَلِأَنَّهُ يَشْتَغِلُ بِالصَّلَاةِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ فِي الْعَمَلِ وَآخِرُ الْيَوْمِ غُرُوبُ الشَّمْسِ بِدَلِيلِ امْتِدَادِ الصَّوْمِ إلَيْهِ ( قَالَ ) وَالْعُمَّالُ بِالْكُوفَةِ يَعْمَلُونَ إلَى الْعَصْرِ ، وَلَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطُوهُ ؛ لِأَنَّ الْعُرْفَ لَا يُعَارِضُ النَّصَّ ، وَقَدْ نَصَّ عِنْدَ الْعَقْدِ عَلَى يَوْمٍ وَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْعَمَلَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ إلَّا عَنْ شَرْطٍ ، وَلَوْ اشْتَرَطَ رَبُّ الدَّارِ عَلَى وَضْعِ الْجُذُوعِ وَالْهَوَادِي وَكَنْسِ السُّطُوحِ وَتَطْيِينِهَا وَسَمَّى ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ .

وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَبْنِيَ لَهُ بِاللَّبِنِ فَعَلَى الْبَنَّاءِ بَلُّ الطِّينِ وَنَقْلُهُ إلَى الْحَائِطِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَكَانًا بَعِيدًا فَيَكُونَ بِالْخِيَارِ إذَا عَلِمَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ زِيَادَةُ ضَرَرٍ لَمْ يَلْتَزِمْهُ بِالْعَقْدِ فَإِنْ كَانَ أَرَاهُ الْمَكَانَ فَلَا خِيَارَ لَهُ لِالْتِزَامِهِ ذَلِكَ الْقَدْرَ مِنْ الضَّرَرِ

وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِيَبْنِيَ لَهُ حَائِطًا بِالرَّهْصِ وَشَرَطَ عَلَيْهِ الطُّولَ وَالْعَرْضَ وَالِارْتِفَاعَ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ بِمَا سَمَّى يَصِيرُ مَعْلُومًا عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَفَاوَتُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ إجَارَةِ الرَّقِيقِ فِي الْخِدْمَةِ وَغَيْرِهَا ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَإِذْ اسْتَأْجَرَ عَبْدًا لِلْخِدْمَةِ كُلَّ شَهْرٍ بِأَجْرٍ مُسَمًّى فَهُوَ جَائِزٌ ) ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ مُتَعَارَفٌ ، وَقَدْ كَانَتْ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يُبَاشِرُوا ذَلِكَ فَهُوَ عَمَلٌ مُبَاحٌ مَعْلُومٌ فِي نَفْسِهِ فَيَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ وَلَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ مِنْ السَّحَرِ إلَّا أَنْ تَنَامَ النَّاسُ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْأَخِيرَةِ ؛ لِأَنَّ بِمُطْلَقِ التَّسْمِيَةِ يَسْتَحِقُّ مَا هُوَ الْمُتَعَارَفُ وَابْتِدَاءُ الِاسْتِخْدَامِ مِنْ وَقْتِ السَّحَرِ مُتَعَارَفٌ فَمَنْ يَبْتَكِرُ يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُسْرِجَ الْخَادِمُ وَيُهَيَّأَ أَمْرَ طَهُورِهِ وَيَرْفَعَ فِرَاشَ نَوْمِهِ وَيَبْسُطَ ثَوْبَ تَعَبُّدِهِ ، وَكَذَلِكَ إلَى مَا بَعْدَ الْعِشَاءِ الْأَخِيرَةِ قَدْ يَجْلِسُونَ سَاعَةً خُصُوصًا فِي زَمَنِ طُولِ اللَّيَالِي ، ثُمَّ يَحْتَاجُ إلَى خَادِمٍ يَبْسُطُ فِرَاشَ نَوْمِهِ وَيَطْوِي ثِيَابَهُ وَيُطْفِئُ السِّرَاجَ ؛ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ إلَى هَذَا الْوَقْتِ ، وَإِنَّمَا يَخْدُمُهُ كَمَا يَفْعَلُ النَّاسُ فَمَا يَكُونُ أَعْمَالُ الْخِدْمَةِ مَعْلُومًا عِنْدَ النَّاسِ يَطْلُبُونَ ذَلِكَ مِنْ الْمَمَالِيكِ وَالْخَدَمِ وَلَا يُكَلِّفُونَهُمْ فَوْقَ ذَلِكَ .
فَكَذَلِكَ فِي وَسَطِ اللَّيْلِ الِاسْتِخْدَامُ غَيْرُ مُتَعَارَفٍ وَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُ ذَلِكَ وَيُكْرَهُ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ امْرَأَةً حُرَّةً أَوْ أَمَةً يَسْتَخْدِمُهَا وَيَخْلُو بِهَا لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ لَيْسَ مِنْهَا بِسَبِيلٍ فَإِنَّ ثَالِثَهُمَا الشَّيْطَانُ } ، وَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ مِنْ الْفِتْنَةِ عَلَى نَفْسِهِ ، أَوْ عَلَيْهَا إذَا خَلَا بِهَا ، وَلَكِنَّ هَذَا النَّهْيَ لِمَعْنًى فِي غَيْرِ الْعَقْدِ فَلَا يَمْنَعُ صِحَّةَ الْإِجَارَةِ وَوُجُوبُ الْأَجْرِ إذَا عَمِلَ كَالنَّهْيِ عَنْ الْبَيْعِ وَقْتَ النِّدَاءِ .
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الْعَبْدَ كُلَّ شَهْرٍ بِكَذَا فَفِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْأَوَّلِ يُطَالِبُهُ بِالْأَجْرِ شَهْرًا فَشَهْرًا ، وَفِي قَوْلِهِ

الْآخَرِ يَوْمًا بِيَوْمٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ .

وَإِنْ دَفَعَ عَبْدَهُ إلَى رَجُلٍ يَقُومُ عَلَيْهِ أَشْهُرًا مُسَمَّاةً فِي تَعْلِيمِ النَّسْخِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ الْمَوْلَى كُلَّ شَهْرٍ شَيْئًا مُسَمًّى فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِيَتَعَلَّمَ عِنْدَهُ وَتَعْلِيمُ الْأَعْمَالِ مَعْلُومٌ عِنْدَ أَهْلِ الصَّنْعَةِ فَيَصِحُّ الِاسْتِئْجَارُ عَلَيْهِ عِنْدَ بَيَانِ الْمُدَّةِ ، وَإِنْ كَانَ الْأُسْتَاذُ هُوَ الَّذِي شَرَطَ لِلْمَوْلَى أَنْ يُعْطِيَهُ ذَلِكَ وَيَقُومُ عَلَى غُلَامِهِ فِي تَعْلِيمِ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ يَسْتَخْدِمُ الْغُلَامَ وَيَسْتَعْمِلُهُ فِي حَوَائِجِهِ وَاسْتَأْجَرَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً بِمَا سَمَّى مِنْ الْبَدَلِ وَتَعْلِيمِ الْعَمَلِ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَصْلُحُ عِوَضًا عِنْدَ الِانْفِرَادِ .
فَكَذَلِكَ عِنْدَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا ، وَكَذَلِكَ تَعْلِيمُ سَائِرِ الْأَعْمَالِ وَتَعْلِيمُ الْخَطِّ وَالْهِجَاءِ وَالْحِسَابِ فَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ يُحَذِّقَهُ فِي ذَلِكَ فَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ ؛ لِأَنَّ التَّحْذِيقَ لَيْسَ فِي وُسْعِ الْمُعَلِّمِ فَالْحَاذِقَةُ لِمَعْنًى فِي الْمُتَعَلِّمِ دُونَ الْمُعَلِّمِ ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَدْفَعَ عَبْدَهُ إلَى عَامِلٍ بِأَجْرٍ مُسَمًّى سَنَةً فَأَرَادَ رَبُّ الْعَبْدِ أَنْ يَسْتَوْثِقَ مِنْ الْأُسْتَاذِ فَإِنَّهُ يُؤَاجِرُ الشَّهْرَ الْأَوَّلَ بِجَمِيعِ الْأُجْرَةِ إلَّا دِرْهَمًا وَبَاقِي السَّنَةِ بِنَفْسِهِ حَتَّى إذَا أَرَادَ الْأُسْتَاذُ فَسْخَ الْعَقْدِ بَعْدَ مُضِيِّ الشَّهْرِ لَا يَتَضَرَّرُ مَوْلَى الْعَبْدِ بِذَلِكَ وَيَمْتَنِعُ الْأُسْتَاذُ مِنْ ذَلِكَ لِمَا لَحِقَهُ مِنْ زِيَادَةِ الْأَجْرِ .
( قَالَ ) وَإِنْ أَرَادَ الْأُسْتَاذُ أَنْ يَسْتَوْثِقَ جَعْلَ السَّنَةِ كُلِّهَا إلَّا الشَّهْرَ الْأَخِيرَ بِدِرْهَمٍ وَالشَّهْرَ الْأَخِيرَ بِبَقِيَّةِ الْأَجْرِ ، وَهَذَا الْعَقْدُ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُمَا عَقَدَا عَقْدَيْنِ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يُخَالِفُ الْأَجْرَيْنِ فَيَجْعَلُ أَحَدَهُمَا دَنَانِيرَ وَالْآخَرَ دَرَاهِمَ فَهَذَا أَقْرَبُ إلَى التَّوَثُّقِ ، وَإِنَّمَا قَصَدَا بِهَذَا التَّحَرُّزَ عَنْ جَهْلِ

بَعْضِ الْحُكَّامِ كَيْ لَا يَجْعَلُوا عَقْدًا وَاحِدًا لِاتِّصَالِ الْمُدَّةِ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ وَاتِّحَادِ جِنْسِ الْأَجْرِ .

وَإِذَا دَفَعَ غُلَامَهُ إلَى عَامِلٍ لِيُعَلِّمَهُ عَمَلًا وَلَمْ يَشْتَرِطْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ أَجْرًا ، أَوْ دَفَعَهُ عَلَى وَجْهِ الْإِجَارَةِ فَلَمَّا عَلَّمَهُ الْعَمَلَ قَالَ الْأُسْتَاذُ لِي الْأَجْرُ .
وَقَالَ رَبُّ الْعَبْدِ لِي الْأَجْرُ فَإِنِّي أَنْظُرُ إلَى مَا تَصْنَعُ أَهْلُ تِلْكَ الْبِلَادِ فِي ذَلِكَ الْعَمَلِ فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي يُعْطَى الْأَجْرَ جَعَلْت عَلَيْهِ أَجْرُ مِثْلِهِ لِلْأُسْتَاذِ ، وَإِنْ كَانَ الْأُسْتَاذُ هُوَ الَّذِي يُعْطَى الْأَجْرَ جَعَلْت عَلَى الْأُسْتَاذِ أَجْرَ مِثْلِهِ لِلْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ كَانَ مُطْلَقًا بَيْنَهُمَا فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْمُتَعَارَفِ ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ شَاهِدٌ لِمَنْ يُوَافِقُ الْعُرْفَ قَوْلُهُ وَالْبَنَّاءُ عَلَى الظَّاهِرِ وَاجِبٌ حَتَّى يَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ .
( قَالَ ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ الْعَمَلُ الَّذِي يُشْتَرَطُ لِلْأُسْتَاذِ فِيهِ الْأَجْرُ فِي دِيَارِنَا عَمَلُ الْمَغَازِلِ فَإِنَّهُ يُفْسِدُ الْحَسَبَ حَتَّى يَتَعَلَّمَ ، وَكَذَلِكَ الَّذِي يُنَقِّبُ الْجَوَاهِرَ ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْأَعْمَالِ الَّذِي يُفْسِدُ الْمُتَعَلِّمُ بَعْضَ مَا هُوَ مُتَقَوِّمٌ حَتَّى يَتَعَلَّمَ .
فَإِذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَالْأَجْرُ لِلْأُسْتَاذِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْأَجْرُ مُسَمًّى عِنْدَ الْعَقْدِ فَيُصَارُ إلَى أَجْرِ الْمِثْلِ .
فَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ غُلَامًا فِي عَمَلٍ مُسَمًّى كُلَّ شَهْرٍ بِكَذَا فَالْعَقْدُ لَازِمٌ عَلَى كُلِّ شَهْرٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّهُ أَضَافَ كَلِمَةَ كُلَّ إلَى مَا لَا يُعْرَفُ مُنْتَهَاهُ فَيَتَنَاوَلُ أَدْنَاهُ وَكُلَّ شَهْرٍ يَسْتَعْمِلُهُ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ الْأَجْرُ .
فَإِذَا دَخَلَ مِنْ الشَّهْرِ الثَّانِي يَوْمٌ وَاحِدٌ وَاسْتَعْمَلَهُ فِيهِ فَقَدْ لَزِمَتْهُ الْإِجَارَةُ فِي ذَلِكَ لِوُجُودِ الرِّضَى مِنْهُمَا دَلَالَةً ، وَبَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهُ إلَّا مِنْ عُذْرٍ .
وَإِذَا أَبَقَ الْعَبْدُ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ فَلَهُ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ لِتَعَذُّرِ اسْتِيفَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ

يَفْسَخْهَا حَتَّى رَجَعَ الْعَبْدُ فَالْإِجَارَةُ لَازِمَةٌ لَهُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ لِزَوَالِ الْعُذْرِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْإِجَارَةَ فِي حُكْمِ عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ فِيمَا يَفْسَخُ الْعَقْدَ فِي بَعْضِ الْمُدَّةِ لِفَوَاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَذَلِكَ لَا يَمْنَعُ لُزُومَهُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ .

وَإِذَا اسْتَأْجَرَ عَبْدًا شَهْرَيْنِ شَهْرًا بِخَمْسَةٍ وَشَهْرًا بِسِتَّةٍ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْعَقْدَيْنِ يَتَنَاوَلُ مُدَّةً مَعْلُومَةً بِبَدَلٍ مَعْلُومٍ ، ثُمَّ الشَّهْرُ الْأَوَّلُ يَجِبُ فِيهِ مِنْ الْبَدَلِ مَا ذَكَرَ أَوَّلًا إنْ كَانَ ذَكَرَ الْخَمْسَةَ أَوَّلًا فَفِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ يَجِبُ خَمْسَةٌ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى الْمَذْكُورِ أَوَّلًا يَتَعَيَّنُ لَهُ الشَّهْرُ الْأَوَّلُ فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَصْرِفَ الْمَذْكُورَ آخِرًا إلَى الشَّهْرِ الثَّانِي ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ شَهْرَيْنِ بِدِرْهَمٍ وَشَهْرًا بِخَمْسَةٍ فَالشَّهْرَانِ الْأَوَّلَانِ بِدِرْهَمٍ ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُبْهَمَ إذَا تَعَقَّبَهُ تَفْسِيرٌ فَالْحُكْمُ لِذَلِكَ التَّفْسِيرِ ، وَإِنَّمَا بَدَأَ بِتَفْسِيرِهِ بِالشَّهْرَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ بِدِرْهَمٍ ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ لِلْخِدْمَةِ بِالْكُوفَةِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ السَّفَرِ أَشَقُّ مِنْ خِدْمَةِ الْحَضَرِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُ فَوْقَ مَا الْتَزَمَ ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ شُقَّةٌ مِنْ الْعَذَابِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ فَإِنْ ( قِيلَ ) هُوَ فِي مِلْكِ مَنَافِعِهِ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْمَوْلَى فِي مَنَافِعِ عَبْدِهِ وَلِلْمَوْلَى أَنْ يُسَافِرَ بِعَبْدِهِ فَلِمَاذَا لَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِأَجِيرِهِ لِلْخِدْمَةِ ( قُلْنَا ) إنَّمَا يُسَافِرُ الْمَوْلَى فِي مَنَافِعِهِ بِعَبْدِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَمْلِكُ رَقَبَتَهُ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ رَقَبَةَ أَجِيرِهِ ، وَإِنَّمَا يَمْلِكُ مَنَافِعَهُ بِالْعَقْدِ وَالْمُسَمَّى فِي الْعَقْدِ اسْتِخْدَامُهُ فِي الْكُوفَةِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَنْ يُجَاوِزَ ذَلِكَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ يُزَوِّجُ عَبْدَهُ لِمِلْكِهِ رَقَبَتَهُ وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ أَنَّ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ أَجِيرَهُ ، وَإِنْ سَافَرَ بِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ غَاصِبًا لَهُ بِالْإِخْرَاجِ وَالِاسْتِخْدَامِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْأَجْرَ وَالضَّمَانَ لَا يَجْتَمِعَانِ ، وَلِأَنَّ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ مَنَافِعُ

الْعَبْدِ بِالْكُوفَةِ وَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ ذَلِكَ بَعْدَ إخْرَاجِهِ مِنْ الْكُوفَةِ .

وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ بِالْكُوفَةِ لِيَسْتَخْدِمَهُ كُلَّ شَهْرٍ بِأَجْرٍ مُسَمًّى وَلَمْ يَشْتَرِطْ الْخِدْمَةَ بِالْكُوفَةِ فَهُوَ عَلَى الْخِدْمَةِ بِالْكُوفَةِ أَيْضًا ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ بِهِ ؛ لِأَنَّ مُطْلَقَ الْعَقْدِ يَنْصَرِفُ إلَى الْمُتَعَارَفِ ، وَلِأَنَّهُ بِالْعَقْدِ يَسْتَحِقُّ الِاسْتِخْدَامَ فَقَطْ وَالسَّفَرُ بِهِ وَرَاءَ الِاسْتِخْدَامِ وَهُوَ يَلْزَمُ مَوْلَاهُ مُؤْنَةُ الرَّدِّ فَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا عَنْ شَرْطٍ فَإِنْ سَافَرَ بِهِ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ فَهُوَ ضَامِنٌ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ لِمَا قُلْنَا ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَضْرِبَ الْعَبْدَ فَإِنْ ضَرَبَهُ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ فَعَطِبَ فَهُوَ ضَامِنٌ ، ثُمَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ظَاهِرٌ فَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي الدَّابَّةِ إنْ اسْتَأْجَرَهَا إنَّهُ لَوْ ضَرَبَهَا فَعَطِبَتْ ضَمِنَ عِنْدَهُ فَفِي الْعَبْدِ أَوْلَى وَهُمَا يُفَرِّقَانِ فَيَقُولَانِ الْعَبْدُ مُخَاطَبٌ يُؤْمَرُ وَيُنْهَى فَيَفْهَمُ ذَلِكَ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى ضَرْبِهِ عِنْدَ الِاسْتِخْدَامِ عَادَةً فَلَا يَصِيرُ مَأْذُونًا فِيهِ بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ بِخِلَافِ الدَّابَّةِ فَإِنَّهَا لَا تَفْهَمُ الْأَمْرَ وَالنَّهْيَ وَلَا تَتَفَاوَتُ فِي السَّيْرِ إلَّا بِالضَّرْبِ فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَضْرِبَهَا ضَرْبًا مُتَعَارَفًا .
وَإِنْ دَفَعَ الْأَجْرَ عِنْدَ غُرَّةِ الشَّهْرِ الْأَوَّلِ إلَى الْعَبْدِ فَإِنْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي أَجَّرَهُ لَمْ يَبْرَأُ مِنْ الْأَجْرِ ؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعَقْدِ فِي الْإِجَارَةِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ وَالْعَبْدُ لَيْسَ بِعَاقِدٍ وَلَا مَالِكَ لِلْأَجْرِ فَالدَّفْعُ إلَيْهِ كَالدَّفْعِ إلَى أَجْنَبِيٍّ آخَرَ ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الَّذِي أَجَّرَ نَفْسَهُ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْ الْأَجْرِ ؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْعَاقِدُ وَإِلَيْهِ قَبْضُ الْبَدَلِ بِحُكْمِ الْعَقْدِ وَلَهُ أَنْ يُكَلِّفَهُ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ خِدْمَةِ الْبَيْتِ وَبِأَمْرِهِ أَنْ يَغْسِلَ ثَوْبَهُ ، وَأَنْ يَخِيطَ وَيَخْبِزَ وَيَعْجِنَ إذَا كَانَ يُحْسِنُ ذَلِكَ وَيُعَلِّقَ عَلَى دَابَّتِهِ وَيَنْزِلَ بِمَتَاعِهِ مِنْ ظَهْرِ بَيْتٍ ، أَوْ يَرْقَى بِهِ إلَيْهِ وَيَحْلُبَ شَاتَه

وَيَسْتَقِيَ لَهُ مِنْ مَاءِ الْبِئْرِ فَهَذَا كُلُّهُ يُعَدُّ مِنْ الْخِدْمَةِ وَمَا يَكُونُ مِنْ الْخِدْمَةِ مَعْلُومٌ عِنْدَ النَّاسِ بِاعْتِبَارِ الْعَادَةِ ، وَفِي اشْتِرَاطِ تَسْمِيَةِ كُلِّ ذَلِكَ عِنْدَ الْعَقْدِ حَرَجٌ وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقْعِدَهُ خَيَّاطًا وَلَا فِي صِنَاعَةٍ مِنْ الصِّنَاعَاتِ ، وَإِنْ كَانَ حَاذِقًا فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِلْخِدْمَةِ ، وَهَذَا الْعَمَلُ مِنْ التِّجَارَةِ لَيْسَ مِنْ الْخِدْمَةِ فِي شَيْءٍ ، وَلَيْسَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ إطْعَامُهُ إلَّا أَنْ يَتَطَوَّعَ بِذَلِكَ ، أَوْ يَكُونَ فِيهِ عُرْفًا ظَاهِرًا فَلَهُ أَنْ يَأْمُرَهُ بِخِدْمَةِ أَضْيَافِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ خِدْمَتِهِ فَالْإِنْسَانُ يَسْتَأْجِرُ الْخَادِمَ لِيَنُوبَ عَنْهُ فِيمَا هُوَ مِنْ حَوَائِجِهِ وَخِدْمَةُ أَضْيَافِهِ مِنْ جُمْلَةِ حَوَائِجِهِ وَلَهُ أَنْ يُؤَاجِرَهُ مِنْ غَيْرِهِ لِلْخِدْمَةِ ؛ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا لَا يَتَفَاوَتُ النَّاسُ فِيهِ عَادَةً كَسُكْنَى الدَّارِ وَنَحْوِهِ ، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ عَاقِلٌ لَا يَنْقَادُ إذَا كُلِّفَ فَوْقَ طَاقَتِهِ ، وَبَعْدَ الطَّاقَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ الْمُسْتَأْجِرُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي .

وَإِنْ تَزَوَّجَ الْمُسْتَأْجِرُ امْرَأَةً فَقَالَ لَهَا اخْدِمِينِي وَعِيَالِي فَلَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْعِيَالِ مِنْ حَوَائِجِهِ ، وَإِنَّمَا يَسْتَأْجِرُ الْخَادِمَ فِي الْعَادَةِ لِذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ إنْ كَانَتْ هِيَ الْمُسْتَأْجِرَةُ فَتَزَوَّجَتْ فَقَالَتْ اخْدِمْنِي وَزَوْجِي فَلَهَا ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَوَائِجِهَا وَهُوَ أَظْهَرُ فَخِدْمَةُ الزَّوْجِ عَلَيْهَا فَإِنَّمَا اسْتَأْجَرَتْهُ لِيَنُوبَ عَنْهَا فِيمَا يَحِقُّ عَلَيْهَا

وَإِنْ اسْتَأْجَرَتْ امْرَأَةٌ رَجُلًا لِيَخْدُمَهَا فَهُوَ جَائِزٌ وَأَكْرَهُ أَنْ يَخْلُوَ بِهَا حُرًّا كَانَ ، أَوْ عَبْدًا لِمَا فِيهِ مِنْ خَوْفِ الْفِتْنَةِ .

وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ0 لِتَخْدُمَهُ كُلَّ شَهْرٍ بِأَجْرٍ مُسَمًّى لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْبَيْتِ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَيْهَا دِينًا وَمَطْلُوبٌ مِنْهَا بِالنِّكَاحِ عُرْفًا عَلَى مَا رُوِيَ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا زَوَّجَ فَاطِمَةُ مِنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا جَعَلَ أُمُورَ دَاخِلِ الْبَيْتِ عَلَيْهَا وَأُمُورَ خَارِجِ الْبَيْتِ عَلَيْهِ } ، وَلِأَنَّ الشَّرْعَ أَلْزَمَهُ نَفَقَتَهَا لِتَقُومَ بِخِدْمَةِ بَيْتِهِ فَلَا تَسْتَحِقُّ مَعَ ذَلِكَ أَجْرًا آخَرَ ، وَإِنْ سَمَّى .

وَإِنْ اسْتَأْجَرَهَا لِتُرْضِعَ وَلَدًا لَهُ مِنْ غَيْرِهَا ، أَوْ لِتَرْعَى دَوَابَّهُ ، أَوْ تَعْمَلَ عَمَلًا سِوَى خِدْمَةِ الْبَيْتِ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْعَمَلَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهَا وَلَا مَطْلُوبٌ بِالنِّكَاحِ مِنْهَا .

وَإِنْ اسْتَأْجَرَتْ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا لِيَخْدُمَهَا فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ خِدْمَتَهَا غَيْرُ مُسْتَحَقَّةٍ عَلَى الزَّوْجِ .
وَقَالَ فِي كِتَابِ الْآثَارِ لَهُ أَنْ يَمْتَنِعَ مِنْ الْخِدْمَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَلْحَقُهُ مَذَلَّةٌ بِأَنْ يَخْدُمَ زَوْجَتَهُ ، وَذَلِكَ عُذْرٌ فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ كَالْحُرَّةِ إذَا أَجَّرَتْ نَفْسَهَا لِلظُّئُورَةِ وَلَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً بِذَلِكَ ، وَلَوْ خَدَمَهَا كَانَ لَهُ الْأَجْرُ عَلَيْهَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَتْهُ يَرْعَى غَنَمَهَا ، أَوْ يَقُومُ عَلَى عَمَلٍ لَهَا فَإِنَّهُ فِي ذَلِكَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ .

وَإِنْ اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ ابْنَهُ لِيَخْدُمَهُ فِي بَيْتِهِ لَمْ يَجُزْ وَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْأَبِ مُسْتَحَقٌّ عَلَى الِابْنِ دِينًا وَهُوَ مُطَالَبٌ بِهِ عُرْفًا فَلَا يَأْخُذُ عَلَيْهِ أَجْرًا وَيُعَدُّ مِنْ الْعُقُوقِ أَنْ يَأْخُذَ الْوَلَدُ الْأَجْرَ عَلَى خِدْمَةِ أَبِيهِ وَالْعُقُوقُ حَرَامٌ ، وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَأْجَرَتْهُ الْأُمُّ ؛ لِأَنَّ خِدْمَتَهَا أَوْجَبُ عَلَيْهِ فَإِنَّهَا أَحْوَجُ إلَى ذَلِكَ وَأَشْفَقُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا اسْتَأْجَرَهُ لِيُرْعِيَهُ غَنَمًا ، أَوْ يَعْمَلَ غَيْرَ الْخِدْمَةِ جَازَ فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ وَلَا هُوَ مَطْلُوبٌ فِي الْعُرْفِ .

وَإِنْ اسْتَأْجَرَ الِابْنُ أَبَاهُ ، أَوْ أُمَّهُ أَوْ جَدَّهُ ، أَوْ جَدَّتَهُ لِخِدْمَتِهِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْ اسْتِخْدَامِ هَؤُلَاءِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِذْلَالِ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَصِيرَ ذَلِكَ مُسْتَحَقًّا لَهُ قَبْلَهُمْ بِعَقْدِ الْإِجَارَةِ وَكَيْفَ يَسْتَحِقُّ هُوَ وَلَا يَتْرُكُ هُوَ لِيَسْتَخْدِمَ وَالِدَهُ وَلَا الْوَالِدَةَ تَخْدُمُهُ ، وَلَكِنْ إنْ عَمِلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلَهُ الْأَجْرُ ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الِاسْتِخْدَامِ لَوْ لَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ الْأَجْرَ كَانَ مَعْنَى الْإِذْلَالِ فِيهِ أَكْبَرَ ، وَلِأَنَّا لَمْ نَحْكُمْ بِصِحَّةِ الْعَقْدِ فِي الِابْتِدَاءِ لَكِنْ لَا تَصِيرُ خِدْمَتُهُ مُسْتَحَقَّةً عَلَيْهِ ، وَقَدْ زَالَ هَذَا الْمَعْنَى حَتَّى أَقَامَ الْعَمَلَ .

وَإِنْ كَانَ الِابْنُ مُكَاتَبًا فَاسْتَأْجَرَهُ أَبُوهُ لِخِدْمَتِهِ وَأَبُوهُ حُرٌّ غَنِيٌّ عَنْ خِدْمَتِهِ ، أَوْ مُحْتَاجٌ إلَيْهَا فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ لَا يَلْزَمُهُ خِدْمَةُ أَحَدٍ مِنْ أَقَارِبِهِ سِوَى مَوْلَاهُ فَهُوَ فِي ذَلِكَ كَأَجْنَبِيٍّ آخَرَ ، وَلِأَنَّ خِدْمَتَهُ لِمَوْلَاهُ وَلَا سَبَبَ بَيْنَ الْمَوْلَى وَبَيْنَ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُكَاتَبُ بِمَنْزِلَةِ الْعَبْدِ مَمْلُوكٌ حَتَّى لَا تَلْزَمُهُ نَفَقَةُ أَبِيهِ الْحُرِّ ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا .
فَكَذَلِكَ لَا تَلْزَمُهُ خِدْمَتُهُ ، وَإِنْ كَانَ الْأَبُ عَبْدًا وَالِابْنُ حُرًّا فَاسْتَأْجَرَهُ مِنْ مَوْلَاهُ لِيَخْدُمَهُ بَطَلَ ذَلِكَ وَلَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الِابْنَ مَمْنُوعٌ مِنْ إذْلَالِ أَبِيهِ ، وَإِنْ كَانَ عَبْدًا ؛ وَلِهَذَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ إذَا مَلَكَهُ ، وَفِي اسْتِخْدَامِهِ إذْلَالُهُ وَلَا يَلْحَقُهُ الذُّلُّ فِي أَنْ يَخْدُمَ ابْنَهُ ، وَلَيْسَ لِلْمَرْءِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ فَإِنْ عَمِلَ جَعَلْت لَهُ الْأَجْرَ لِمَا قُلْنَا .

فَإِنْ كَانَ الْأَبُ كَافِرًا وَالِابْنُ مُسْلِمًا أَوْ الِابْنُ كَافِرًا وَالْأَبُ مُسْلِمًا فَاسْتَأْجَرَهُ لِخِدْمَتِهِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ خِدْمَةَ الْأَبِ مُسْتَحَقَّةٌ عَلَى الِابْنِ دِينًا مَعَ اخْتِلَافِ الدِّينِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ فَهُوَ كَاسْتِئْجَارِ ابْنِهِ لِلْخِدْمَةِ إذَا كَانَ مُوَافِقًا لَهُ فِي الدِّينِ وَيَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ لِلْخِدْمَةِ بَيْنَ الْإِخْوَةِ وَسَائِرِ الْأَقَارِبِ كَمَا يَجُوزُ بَيْنَ الْأَجَانِبِ بِخِلَافِ الِاسْتِخْدَامِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَإِنَّ ذَلِكَ يَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْقَهْرِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَرْضَى بِهِ الْخَادِمُ وَالْقَرَابَةُ الْقَرِيبَةُ تُصَانُ عَنْ مِثْلِهِ .
فَأَمَّا هَذَا عَقْدٌ يَعْتَمِدُ الْمُرَاضَاةَ وَالِاسْتِخْدَامُ عَنْ تَرَاضٍ لَا يَكُونُ سَبَبًا لِقَطِيعَةِ الرَّحِمِ بَيْنَهُمَا .

فَإِنْ اسْتَأْجَرَ الذِّمِّيُّ أَوْ الْمُسْتَأْمَنُ مُسْلِمًا لِخِدْمَتِهِ حُرًّا ، أَوْ عَبْدًا فَهُوَ جَائِزٌ ، وَلَكِنْ يُكْرَهُ لِلْمُسْلِمِ خِدْمَةُ الْكَافِرِ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الذُّلِّ ، وَلَيْسَ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ ، وَلَكِنَّ هَذَا النَّهْيَ لِمَعْنًى وَرَاءَ مَا بِهِ يَتِمُّ الْعَقْدُ .

وَإِنْ اسْتَأْجَرَ الْمُسْلِمُ ذِمِّيًّا ، أَوْ مُسْتَأْمَنًا لِخِدْمَتِهِ كَانَ جَائِزًا ، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْتَخْدِمَهُ فِي أُمُورِ دِينِهِ مِنْ أَمْرِ الطَّهُورِ وَنَحْوِهِ فَرُبَّمَا لَا يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ فِيهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا } أَيْ لَا يُقَصِّرُونَ فِي الْإِفْسَادِ مِنْ دِينِكُمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى ضَرْبِ اللَّبِنِ وَغَيْرِهِ ( قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَإِذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ رَجُلًا لِيَضْرِبَ لَهُ لَبِنًا فِي دَارِهِ فَإِنْ كَانَ الْمُلَبَّنُ مَعْلُومًا فَهُوَ جَائِزٌ ) ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ يَتَفَاوَتُ بِحَسَبِ الْمُلَبَّنِ .
فَإِذَا كَانَ مَجْهُولًا فَهَذِهِ الْجَهَالَةُ تُفْضِي إلَى الْمُنَازَعَةِ ، وَبَعْدَ مَا كَانَ مَعْلُومًا فَلَا مُنَازَعَةَ بَيْنَهُمَا فَإِنْ أَسَدَّ لَبِنَهُ الْمَطَرُ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَهُ أَوْ انْكَسَرَ فَلَا أَجْرَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ الْعَمَلُ مُسَلَّمًا إلَى الْمُسْتَأْجِرِ مَا لَمْ يَصِرْ لَبِنًا فَمَا دَامَ عَلَى الْأَرْضِ فَهُوَ طِينٌ لَمْ يَصِرْ لَبِنًا بَعْدُ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَوْ تُرِكَ كَذَلِكَ فَسَدَ وَصَارَ وَجْهَ الْأَرْضِ فَإِنْ أَقَامَهُ فَهُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ اللَّبَّانُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلَهُ الْأَجْرُ ، وَإِنْ فَسَدَ بَعْدَ ذَلِكَ وَعِنْدَهُمَا لَا حَتَّى يَجِفَّ .
فَإِذَا جَفَّ وَأَشْرَحَ فَحِينَئِذٍ لَهُ الْأَجْرُ وَمَذْهَبُهُمَا اسْتِحْسَانٌ اعْتَبَرَا فِيهِ الْعُرْفَ وَاللَّبَّانُ هُوَ الَّذِي يَتَكَلَّفُ لِذَلِكَ فِي الْعَادَةِ وَمِثْلُ هَذَا يَصِيرُ مُسْتَحَقًّا بِمُطْلَقِ الْعَقْدِ كَإِخْرَاجِ الْخُبْزِ مِنْ التَّنُّورِ وَغُرَفُ الْقُدُورِ فِي الْقِصَاعِ يَكُونُ مُسْتَحَقًّا عَلَى الطَّبَّاخِ عِنْدَ الِاسْتِئْجَارِ فِي الْوَلِيمَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَخَذَ بِالْقِيَاسِ فَقَالَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ يَصِيرُ الطِّينُ لَبِنًا ، وَقَدْ فَعَلَ فَإِنَّهُ لَمَّا أَقَامَ مِنْ وَجْهِ الْأَرْضِ عَرَفْنَا أَنَّهُ صَارَ لَبِنًا وَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ طِينًا فَالطِّينُ يَنْتَشِرُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ ، وَلِأَنَّ الْإِقَامَةَ لِتَسْوِيَةِ أَطْرَافِهِ ، وَذَلِكَ مِنْ عَمَلِ اللَّبَّانِ .
فَأَمَّا بَعْدَ ذَلِكَ الْجَفَافُ لَيْسَ مِنْ عَمَلِ اللَّبَّانِ وَالتَّشْرِيحُ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ جَمْعُ اللَّبِنِ ، وَلَيْسَ بِعَمَلٍ لِيَخْدُمَهُ فِي الْعَيْنِ فَهُوَ كَالنَّقْلِ إلَى مَوْضِعِ الْبِنَاءِ ، وَذَلِكَ لَا يُسْتَحَقُّ عَلَى اللَّبَّانِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ قَدْ يَنْقُلُ اللَّبِنَ إلَى مَوْضِعِ الْعَمَلِ

قَبْلَ أَنْ يُشَرِّحَهُ فَلَمْ يَكُنْ التَّشْرِيحُ مِنْ الْمَقَاصِدِ لَا مَحَالَةَ بِخِلَافِ الْإِقَامَةِ فَإِنَّهُ لَا يَنْقُلُهُ إلَى مَوْضِعِ الْعَمَلِ قَبْلَ الْإِقَامَةِ فَصَارَ ذَلِكَ مُسْتَحَقًّا لَهُ عَلَى اللَّبَّانِ لِمَا عُرِفَ مِنْ مَقْصُودِ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ يُقِيمُ الْعَمَلَ فِي مِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ .
فَأَمَّا فِي غَيْرِ مِلْكِهِ مَا لَمْ يُشَرِّحْهُ وَيُسَلِّمْهُ إلَى الْمُسْتَأْجِرِ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ ضَمَانِهِ حَتَّى إذَا فَسَدَ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَهُ إلَيْهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْأَجْرُ إلَّا عَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا نَظِيرَهُ فِي الْخَيَّاطِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا إذَا كَانَ يَعْمَلُ فِي بَيْتِ نَفْسِهِ ، أَوْ فِي بَيْتِ الْمُسْتَأْجِرِ .

وَلَوْ تَكَارَى خَبَّازًا يَخْبِزُ لَهُ لَمْ يَجِبْ لَهُ الْأَجْرُ حَتَّى يُخْرِجَهُ مِنْ التَّنُّورِ ، وَهَذَا عَلَى مَذْهَبِهِمَا ظَاهِرٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا سَبَقَ فَيَقُولُ لَا بُدَّ مِنْ إخْرَاجِ الْخُبْزِ مِنْ التَّنُّورِ فَالْمُسْتَأْجِرُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ عَادَةً وَلَا يَسْتَأْجِرُ لِأَجْلِهِ غَيْرَهُ بِخِلَافِ التَّشْرِيحِ بَعْدَ إقَامَةِ الْعَمَلِ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَطْلُوبٍ لَا مَحَالَةَ لِجَوَازِ أَنْ يَنْقُلَهُ إلَى مَوْضِعِ الْعَمَلِ قَبْلَ التَّشْرِيحِ تَوْضِيحُهُ أَنَّ الْخُبْزَ لَوْ تُرِكَ فِي التَّنُّورِ يَفْسُدُ ، وَمَا يَرْجِعُ إلَى الْإِصْلَاحِ صَارَ مُسْتَحَقًّا عَلَى الْخَبَّازِ ، وَذَلِكَ فِي الْإِخْرَاجِ مِنْ التَّنُّورِ وَوِزَانَةُ الْإِقَامَةِ فِي اللَّبِنِ .
فَأَمَّا اللَّبِنُ بَعْدَ الْإِقَامَةِ لَوْ تُرِكَ وَلَمْ يَفْسُدْ فَلَا يَسْتَحِقُّ التَّشْرِيحَ عَلَى اللَّبَّانِ إلَّا بِالشَّرْطِ ، وَإِنْ اسْتَأْجَرَهُ يَضْرِبُ لَهُ لَبِنًا بِمُلَبَّنٍ مَعْلُومٍ وَيَطْبُخُ لَهُ آجُرًّا عَلَى أَنَّ الْحَطَبَ مِنْ عِنْدِ رَبِّ اللَّبِنِ فَهُوَ جَائِزٌ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ لِعَمَلٍ مَعْلُومٍ مِنْ عِنْدِ الْعَامِلِ بِآلَاتِ الْمُسْتَأْجِرِ ، وَإِنْ أَفْسَدَ اللَّبِنَ بَعْد مَا أَدْخَلَهُ الْأَتُونَ وَتَكَسَّرَ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْأَجْرُ ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْرُغْ مِنْهُ بَعْدُ فَإِنَّهُ مَا لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْ الْأَتُونِ لَمْ يَتِمَّ عَمَلُهُ فِي طَبْخِ الْآجُرِّ فَمَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْ الْعَمَلِ لَا يَصِيرُ مُسَلَّمًا إلَى صَاحِبِهِ ، وَلَوْ طَبَخَهُ حَتَّى يَصِحَّ ، ثُمَّ كَفَّ النَّارَ عَنْهُ فَاخْتَلَفَ هُوَ وَصَاحِبُهُ فِي الْإِخْرَاجِ فَإِخْرَاجُهُ عَلَى الْأَجِيرِ بِمَنْزِلَةِ إخْرَاجِ الْخُبْزِ مِنْ التَّنُّورِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَهُ كَذَلِكَ فَسَدَ .
وَإِنْ انْكَسَرَ قَبْلَ أَنْ يُخْرِجَهُ فَلَا أَجْرَ لَهُ ؛ لِأَنَّ الْعَمَلَ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ ضَمَانِهِ مَا لَمْ يَفْرُغْ مِنْهُ ، وَإِنْ أَخْرَجَهُ مِنْ الْأَتُونِ وَالْأَرْضُ فِي مِلْكِ رَبِّ اللَّبِنِ وَجَبَ لَهُ الْأَجْرُ وَيَبْرَأُ مِنْ ضَمَانِهِ لِوُقُوعِ الْفَرَاغِ مِنْ الْعَمَلِ وَتَحْصِيلُ مَقْصُودِ

الْمُسْتَأْجِرِ بِكَمَالِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْأَتُونُ فِي مِلْكِ اللَّبَّانِ فَلَا أَجْرَ لَهُ حَتَّى يَدْفَعَهُ إلَى صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَا اتَّصَلَ عَمَلُهُ بِمِلْكِ الْمُسْتَأْجِرِ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ حَقِيقَةً لِيَخْرُجَ مِنْ ضَمَانِهِ .

وَإِذَا شَقَّ رَجُلٌ رِوَايَةَ رَجُلٍ فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا شَقَّ مِنْهَا وَلِمَا عَطِبَ بِمَا سَالَ مِنْهَا لَمْ يَسْتَوْعِبْهَا صَاحِبُهَا ؛ لِأَنَّ الْمَائِعَ لَا يَسْتَمْسِكُ إلَّا بِوِعَاءٍ فَشَقُّ الرِّوَايَةِ بِمَنْزِلَةِ صَبِّ مَا فِيهَا .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ قَطْعَ حَبْلَ الْقِنْدِيلِ بِمَنْزِلَةِ مُبَاشَرَةِ الْإِلْقَاءِ وَالْكَسْرِ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ ، وَلَوْ صَبَّ مَا فِيهَا كَانَ مُتْلِفًا ضَامِنًا لَهَا وَلِمَا عَطِبَ بِمَا سَالَ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهُ تَسَبَّبَ هُوَ فِيهِ مُتَعَدِّيًا بِمَنْزِلَةِ حَفْرِ الْبِئْرِ وَإِلْقَاءِ الْحَجَرِ فِي الطَّرِيقِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ شَيْئًا يَحْمِلُهُ رَجُلٌ فَشَقَّهُ آخَرُ فَإِنْ حَمَلَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يَنْظُرُ إلَيْهِ فَهَذَا رِضَاءٌ بِمَا صَنَعَ اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ لَا يَتْرُكُ اسْتِئْنَافَهُ إلَّا رَاضِيًا بِصُنْعِهِ وَالرِّضَاءُ بِدَلَالَةِ الْعُرْفِ يَثْبُتُ كَسُكُوتِ الْبِكْرِ عِنْدَ الْعِلْمِ بِالْعَقْدِ وَمَنْ بَاعَ مَجْهُولَ الْحَالِ ، ثُمَّ قَالَ لَهُ اذْهَبْ مَعَ مَوْلَاك وَهُوَ سَاكِتٌ وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ فِي هَذَا سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ هَذَا الضَّمَانِ بِمُبَاشَرَةِ الْإِتْلَافِ وَالصَّبِيُّ فِيمَا يُؤَاخَذُ بِهِ مِنْ الْأَفْعَالِ كَالْبَالِغِ .
وَإِذَا شَقَّ رِوَايَةَ رَجُلٍ فَلَمْ يَسِلْ مَا فِيهَا ، ثُمَّ مَالَ الْجَانِبُ الْآخَرُ فَوَقَعَ وَانْخَرَقَ أَيْضًا فَهُوَ ضَامِنٌ لَهُمَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمُبَاشِرِ بِصَبِّ مَا فِي الرِّوَايَةِ حِينَ شَقَّهَا وَصَبُّ مَا فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ يَكُونُ إيقَاعًا لِلْأُخْرَى بِطَرِيقِ إزَالَةِ مَا بِهِ كَانَ الِاسْتِمْسَاكُ وَهُوَ تَسَبُّبٌ مِنْهُ لِإِلْقَاءِ الْأُخْرَى وَهُوَ مُتَعَدٍّ فِي هَذَا السَّبَبِ فَيَكُونُ ضَامِنًا إلَّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ قَدْ مَضَى وَسَاقَ بَعِيرَهُ مَعَ ذَلِكَ فَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْهُ دَلِيلُ الرِّضَى بِفِعْلِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا يَحْدُثُ بَعْدَ ذَلِكَ كَمَا لَوْ أَمَرَهُ فِي الِابْتِدَاءِ حِينَ فَعَلَ ( قَالَ ) أَرَأَيْت لَوْ شَقَّ فِيهِ ثُقْبًا صَغِيرًا فَقَالَ صَاحِبُهَا بِئْسَمَا صَنَعْت ، ثُمَّ مَضَى وَسَاقَهَا فَزَلَقَ رَجُلٌ بِمَا سَالَ

مِنْهُ أَكَانَ يَكُونُ عَلَى الْأَوَّلِ ضَمَانُ ذَلِكَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ لِوُجُودِ الرِّضَا مِنْ صَاحِبِهَا حِينَ سَاقَ بَعِيرَهُ ، وَلِأَنَّ فِعْلَ الْأَوَّلِ قَدْ انْتَسَخَ بِمَا أَخَذَ بِهِ الثَّانِي مِنْ سَوْقِ الْبَعِيرِ وَنَحْوِهِ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَيْسَتْ مِنْ مَسْأَلَةِ الْإِجَارَاتِ وَلَعَلَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ ذَكَرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ قِيَاسًا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ كَيْ لَا يَفُوتَ ، وَقَدْ جَعَلَ مِثْلَهُ فِي كِتَابِ الْبَحْرِ حِينَ ذَكَرَ بَابًا مِنْ الْإِجَارَاتِ فِي آخِرِ التَّجَزُّؤِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا شَرْحَ ذَلِكَ ، ثُمَّ ذَكَرَ فِي نُسَخِ أَبِي حَفْصٍ رَحِمَهُ اللَّهُ زِيَادَةَ مِثْلِهِ هُنَا .

( قَالَ ) إذَا اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ رَجُلًا كُلَّ شَهْرٍ بِدِرْهَمٍ عَلَى أَنْ يَطْحَنَ لَهُ كُلَّ يَوْمٍ قَفِيزًا إلَى اللَّيْلِ فَهَذَا بَاطِلٌ إلَّا أَنْ يُسَمِّيَ لَهُ قَفِيزًا ، وَلَكِنْ يَقُولُ عَلَى أَنْ يَطْحَنَ لِي يَوْمًا إلَى اللَّيْلِ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ وَأَضَافَ هَذَا الْجَوَابَ إلَى أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا قَبْلَ هَذَا فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ مَتَى جَمَعَ بَيْنَ الْمُدَّةِ وَالْعَمَلِ فَالْعَقْدُ فَاسِدٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجَائِزٌ عِنْدَهُمَا ، وَقَدْ جَمَعَ هُنَا بَيْنَ الْمُدَّةِ وَالْعَمَلِ ، ثُمَّ أَجَابَ بِفَسَادِ الْعَقْدِ عِنْدَهُمَا فَاسْتَدَلُّوا بِهَذَا عَلَى رُجُوعِهِمَا إلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَقِيلَ بَلْ اخْتَلَفَ الْجَوَابُ عَلَى قَوْلِهِمَا بِاخْتِلَافِ الْمَوْضُوعِ فَهُنَاكَ ذَكَرَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ الْعَمَلِ بِكَمَالِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ ذِكْرَ الْمُدَّةِ لِلِاسْتِعْجَالِ لَا لِتَعْلِيقِ الْعَقْدِ بِهِ فَيَبْقَى الْعَقْدُ عَلَى الْعَمَلِ سَوَاءٌ فَرَغَ مِنْ الْعَمَلِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ ، أَوْ لَمْ يَفْرُغْ وَهُنَا لَمْ يَذْكُرْ جَمِيعَ مَقْصُودِهِ فِي الْعَمَلِ ، وَإِنَّمَا اسْتَأْجَرَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً وَشَرَطَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِهِ عَمَلًا لَا يَدْرِي أَيَقْدِرُ عَلَى الْوَفَاءِ بِهِ ، أَوْ لَا يَقْدِرُ فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ الْمُدَّةِ لِتَعْلِيقِ الْعَقْدِ بِهَا وَالْعَمَلُ مَقْصُودٌ لَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِهِ أَيْضًا ، وَعِنْدَ اعْتِبَارِهِمَا يَصِيرُ الْمُسْتَحَقُّ بِالْعَقْدِ مَجْهُولًا عَلَى مَا قَرَّرْنَا ؛ لِأَنَّ بِاعْتِبَارِ الْمُدَّةِ الْمُسْتَحَقَّ هُوَ الْوَصْفُ الَّذِي يَجِدُ بِهِ فِي الْمَعْمُولِ وَجَهَالَةُ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَقْدِ مُفْسِدٌ لِلْعَقْدِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

كِتَابُ أَدَبِ الْقَاضِي ( قَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إمْلَاءً : اعْلَمْ بِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ أَقْوَى الْفَرَائِضِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مِنْ أَشْرَفِ الْعِبَادَاتِ لِأَجْلِهِ أَثْبَتَ اللَّهُ تَعَالَى لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اسْمَ الْخِلَافَةِ فَقَالَ جَلَّ جَلَالُهُ { إنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } وَأَثْبَتَ ذَلِكَ لِدَاوُدَ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ { يَا دَاوُد إنَّا جَعَلْنَاك خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ } ، وَبِهِ أُمِرَ كُلُّ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ حَتَّى خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ } .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { ، وَأَنْ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ } ) ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي الْقَضَاءِ بِالْحَقِّ إظْهَارَ الْعَدْلِ وَبِالْعَدْلِ قَامَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَرُفِعَ الظُّلْمُ وَهُوَ مَا يَدْعُو إلَيْهِ عَقْلُ كُلِّ عَاقِلٍ ، وَإِنْصَافَ الْمَظْلُومِ مِنْ الظَّالِمِ وَاتِّصَالَ الْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ وَأَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيًا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِأَجْلِهِ بُعِثَ الْأَنْبِيَاءُ وَالرُّسُلُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، وَبِهِ اشْتَغَلَ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ .
وَقَدْ دَلَّ عَلَى جَمِيعِ مَا قُلْنَا الْحَدِيثُ الَّذِي بَدَأَ بِهِ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَرَوَاهُ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْهُذَلِيِّ عَنْ أَبِي الْمَلِيحِ عَنْ أُسَامَةَ الْهُذَلِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إلَى أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ الْقَضَاءَ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ وَسُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ ، وَمَا كَتَبَ عُمَرُ إلَى أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عِنْدَ النَّاسِ يُسَمُّونَهُ كِتَابَ سِيَاسَةِ الْقَضَاءِ وَتَدْبِيرِ الْحُكْمِ وَقَوْلُهُ أَمَّا بَعْدُ أَيْ بَعْدَ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى

وَالصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِهِ وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ عَلَامَةٌ بِهَا يُعْرَفُ تَحَوُّلُ الْكَاتِبِ إلَى بَيَانِ مَقْصُودِهِ مِنْ الْكِتَابِ وَعُدَّ مِنْ فَصْلِ الْخِطَابِ قِيلَ فِي تَأْوِيلِ قَوْله تَعَالَى { وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ } الْحِكْمَةُ النُّبُوَّةُ وَفَصْلُ الْخِطَابِ أَمَّا بَعْدُ .
وَقَالَ قَتَادَةُ الْحِكْمَةُ الْفِقْهُ وَفَصْلُ الْخِطَابِ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مِنْ أَنْكَرَ وَقَوْلُهُ فَإِنَّ الْقَضَاءَ فَرِيضَةٌ مُحْكَمَةٌ أَيْ مَقْطُوعٌ بِهَا لَيْسَ فِيهَا احْتِمَالُ نَسْخٍ وَلَا تَخْصِيصٍ وَلَا تَأْوِيلٍ فَتَفْسِيرُ الْمُحْكَمِ هَذَا بَيَانُهُ فِي قَوْله تَعَالَى { آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ } وَمِنْهُ يُقَالُ بِنَاءٌ مُحْكَمٌ وَالْفَرْضُ هُوَ التَّقْدِيرُ وَالْقَطْعُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا } وَقَوْلُهُ سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ أَيْ طَرِيقَةٌ مَسْلُوكَةٌ فِي الدِّينِ يَجِبُ اتِّبَاعُهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ فَالسُّنَّةُ فِي اللُّغَةِ الطَّرِيقَةُ ، وَمَا يَكُونُ مُتَّبَعًا مِنْهَا فَأَخْذُهَا هُدًى وَتَرْكُهَا ضَلَالَةٌ ( قَالَ ) فَافْهَمْ إذَا أَدْلَى إلَيْك الْخَصْمَانِ وَالْإِدْلَاءُ رَفْعُ الْخُصُومَةِ إلَى الْحَاكِمِ وَالْفَهْمُ إصَابَةُ الْحَقِّ فَمَعْنَاهُ عَلَيْك بِبَذْلِ الْمَجْهُودِ فِي إصَابَةِ الْحَقِّ إذَا أَدْلَى إلَيْك وَقِيلَ مَعْنَاهُ اسْمَعْ كَلَامَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَصْمَيْنِ وَافْهَمْ مُرَادَهُ وَبِهَذَا يُؤْمَرُ كُلُّ قَاضٍ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَمْيِيزِ الْحَقِّ مِنْ الْمُبْطَلِ إلَّا بِذَلِكَ وَرُبَّمَا يَجْرِي عَلَى لِسَانِ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ مَا يَكُونُ فِيهِ إقْرَارٌ بِالْحَقِّ لِخَصْمِهِ .
فَإِذَا فَهِمَ الْقَاضِي ذَلِكَ أَنْفَذَهُ .
وَإِذَا لَمْ يَفْهَمْ ضَاعَ وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي قَوْلِهِ فَإِنَّهُ لَا يَنْفَعُ تَكَلُّمٌ بِحَقٍّ وَلَا نَفَاذَ لَهُ وَقِيلَ الْمُرَادُ اسْتَمِعْ إلَى كَلَامِ الشُّهُودِ وَافْهَمْ مُرَادَهُمْ فَإِنَّهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِالْحَقِّ بَيْنَ يَدَيْك .
وَإِنَّمَا يَظْهَرُ مَنْفَعَةُ ذَلِكَ لِتَنْفِيذِ الْقَاضِي إيَّاهُ ، ثُمَّ قَالَ أَسِّ بَيْنَ النَّاسِ مَعْنَاهُ سَوِّ بَيْنَ

الْخَصْمَيْنِ فَالتَّأَسِّي فِي اللُّغَةِ التَّسْوِيَةُ قَالَ قَائِلُهُمْ : فَلَوْلَا كَثْرَةُ الْبَاكِينَ حَوْلِي عَلَى إخْوَانِهِمْ لَقَتَلْت نَفْسِي وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي وَلَكِنْ أُعَزِّ النَّفْسَ عَنْهُمْ بِالتَّأَسِّي وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ الْخُصُومِ إذَا تَقَدَّمُوا إلَيْهِ اتَّفَقَتْ مِلَلُهُمْ أَوْ اخْتَلَفَتْ فَاسْمُ النَّاسِ يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ ، وَإِنَّمَا يُسَوَّى بَيْنَهُمْ فِيمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ فَقَالَ فِي وَجْهِك وَمَجْلِسِك وَعَدْلِك يَعْنِي فِي النَّظَرِ إلَى الْخَصْمَيْنِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِمَا فِي جُلُوسِهِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى لَا يُقَدِّمَ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ ، وَفِي عَدْلِهِ بَيْنَهُمَا وَبِالْعَدْلِ أُمِرَ وَحُكِيَ أَنَّ أَبَا يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ فِي مُنَاجَاتِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ اللَّهُمَّ إنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنِّي مَا تَرَكْت الْعَدْلَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ إلَّا فِي حَادِثَةٍ وَاحِدَةٍ فَاغْفِرْهَا لِي قِيلَ وَمَا تِلْكَ الْحَادِثَةُ قَالَ ادَّعَى نَصْرَانِيٌّ عَلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ دَعْوَى فَلَمْ يُمْكِنِّي أَنْ آمُرَ الْخَلِيفَةَ بِالْقِيَامِ مِنْ مَجْلِسَهُ وَالْمُحَابَاةِ مَعَ خَصْمِهِ ، وَلَكِنِّي رَفَعْت النَّصْرَانِيَّ إلَى جَانِبِ الْبِسَاطِ بِقَدْرِ مَا أَمْكَنَنِي ، ثُمَّ سَمِعْت الْخُصُومَةَ قَبْلَ أَنْ أُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَجْلِسِ فَهَذَا كَانَ جَوْرِي لِيُعْلَمَ أَنَّ هَذَا مِنْ أَهَمِّ مَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَنْصَرِفَ إلَيْهِ فِي الْعِنَايَةِ لِمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ فَقَالَ لَا يَطْمَعُ شَرِيفٌ فِي حَيْفِك وَلَا يَخَافُ ضَعِيفٌ مِنْ جَوْرِك وَالْحَيْفُ هُوَ الظُّلْمُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ } .
فَإِذَا قَدَّمَ الشَّرِيفَ طَمِعَ فِي ظُلْمِهِ وَانْكَسَرَ بِهَذَا التَّقْدِيمِ قَلْبُ خَصْمِهِ الضَّعِيفِ فَيَخَافُ الْجَوْرَ ، وَرُبَّمَا يَتَمَكَّنُ لِلشَّرِيفِ عِنْدَ هَذَا التَّقْدِيمِ مِنْ التَّلَبُّسِ وَيَعْجَزُ الضَّعِيفُ عَنْ إثْبَاتِ حَقِّهِ بِالْحُجَّةِ وَالْقَاضِي هُوَ الْمُسَبِّبُ لِذَلِكَ بِإِقْبَالِهِ عَلَى أَحَدِهِمَا وَتَرْكِهِ

التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا فِي الْمَجْلِسِ وَيَصِيرُ بِهِ مُتَّهَمًا بِالْمَيْلِ أَيْضًا وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالتَّحَرُّزِ عَنْ ذَلِكَ بِأَقْصَى مَا يُمْكِنُهُ ( قَالَ ) { الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ } ، وَهَذَا اللَّفْظُ مَرْوِيٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعُدَّ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ عَلَى مَا قَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ { أُوتِيت جَوَامِعَ الْكَلِمِ وَاخْتُصِرَ لِي اخْتِصَارًا } ، وَقَدْ أَمْلَيْنَا فَوَائِدَ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ فِي شَرْحِ كِتَابِ الدَّعْوَى .

( قَالَ ) { وَالصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمَيْنِ إلَّا صُلْحًا أَحَلَّ حَرَامًا } ، وَهَذَا أَيْضًا مَرْوِيٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ الصُّلْحِ وَإِشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْقَاضِيَ مَأْمُورٌ بِدُعَاءِ الْخَصْمَيْنِ إلَى الصُّلْحِ قَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى الصُّلْحَ بِأَنَّهُ خَيْرٌ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ { وَالصُّلْحُ خَيْرٌ } ، وَذَلِكَ دَلِيلُ النِّهَايَةِ فِي الْخَيْرِيَّةِ وَيَسْتَدِلُّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ بِظَاهِرِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي إبْطَالِ الصُّلْحِ مَعَ الْإِنْكَارِ ( قَالَ ) هُوَ صُلْحٌ حَرَّمَ حَلَالًا وَأَحَلَّ حَرَامًا ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ إذَا كَانَ مُبْطِلًا فَأَخَذَ الْمَالَ كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِ وَالصُّلْحُ يُحِلُّ لَهُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا فَالصُّلْحُ يَكُونُ عَلَى بَعْضِ الْحَقِّ عَادَةً وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ إلَى تَمَامِ حَقِّهِ كَانَ أَخَذَهُ حَلَالًا قَبْلَ الصُّلْحِ حَرُمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بِالصُّلْحِ وَكَانَ حَرَامًا عَلَى الْخَصْمِ مَنْعُهُ قَبْلَ الصُّلْحِ أُحِلَّ لَهُ ذَلِكَ بِالصُّلْحِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ لَيْسَ الْمُرَادُ هَذَا ، وَلَكِنَّ الْمُرَادَ تَحْلِيلُ مُحَرَّمِ الْعَيْنِ أَوْ تَحْرِيمُ مَا هُوَ حَلَالُ الْعَيْنِ بِأَنْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى خَمْرٍ ، أَوْ خِنْزِيرٍ ، أَوْ فِي الْخُصُومَةِ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ صَالَحَ إحْدَى الْمَرْأَتَيْنِ عَلَى أَنْ لَا يَطَأَ الْأُخْرَى ، أَوْ صَالَحَ زَوْجَتَهُ عَلَى أَنْ يُحَرِّمَ أُمَّتَهُ عَلَى نَفْسِهِ فَهَذَا هُوَ الصُّلْحُ الَّذِي حَرَّمَ حَلَالًا ، أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا ، وَهَذَا بَاطِلٌ عِنْدَنَا .

( قَالَ ) وَلَا يَمْنَعُك قَضَاءٌ قَضَيْت بِالْأَمْسِ رَاجَعْت فِيهِ نَفْسَك وَهُدِيَتْ لِرُشْدِك أَنْ تُرَاجِعَ الْحَقَّ فَإِنَّ الْحَقَّ قَدِيمٌ وَمُرَاجَعَةُ الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ التَّمَادِي فِي الْبَاطِلِ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ إذَا تَبَيَّنَ لِلْقَاضِي الْخَطَأُ فِي قَضَائِهِ بِأَنْ خَالَفَ قَضَاؤُهُ النَّصَّ أَوْ الْإِجْمَاعَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْقُضَهُ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَمْنَعَهُ الِاسْتِحْيَاءُ مِنْ النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ مُرَاقَبَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ خَيْرٌ لَهُ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ اُبْتُلِيَ بِالْحَدِيثِ فِي الصَّلَاةِ ، الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ - كِدْت أَنْ أَمْضِيَ فِي صَلَاتِي اسْتِحْيَاءً مِنْكُمْ ، ثُمَّ قُلْتُ لَأَنْ أُرَاقِبَ اللَّهَ تَعَالَى خَيْرٌ مِنْ أَنْ أُرَاقِبَكُمْ فَمَنْ اُبْتُلِيَ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلْيُرَاقِبْ اللَّهَ تَعَالَى ، وَهَذَا لَيْسَ فِي الْقَاضِي خَاصَّةً بَلْ هُوَ فِي كُلِّ مَنْ يُبَيِّنُ لِغَيْرِهِ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ الدِّينِ الْوَاعِظُ وَالْمُفْتِي وَالْقَاضِي فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ زَلَّ فَلْيُظْهِرْ رُجُوعَهُ عَنْ ذَلِكَ فَزَلَّةُ الْعَالِمِ سَبَبٌ لِفِتْنَةِ النَّاسِ كَمَا قِيلَ إنْ زَلَّ الْعَالِمُ زَلَّ بِزَلَّتِهِ الْعَالَمُ ، وَلَكِنَّ هَذَا فِي حَقِّ الْقَاضِي أَوْجَبُ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ مُلْزِمٌ وَقَوْلُهُ الْحَقُّ قَدِيمٌ يَعْنِي هُوَ الْأَصْلُ الْمَطْلُوبُ ، وَلِأَنَّهُ لَا تَنْكَتِمُ زَلَّةُ مَنْ زَلَّ بَلْ يَظْهَرُ لَا مَحَالَةَ .
فَإِذَا كَانَ هُوَ الَّذِي يُظْهِرُهُ عَلَى نَفْسِهِ كَانَ أَحْسَنَ حَالًا عِنْدَ الْعُقَلَاءِ مِنْ أَنْ تَظْهَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ مَعَ إصْرَارِهِ عَلَى الْبَاطِلِ .

ثُمَّ ( قَالَ ) الْفَهْمَ مِمَّا يَتَلَجْلَجُ فِي صَدْرِك ، وَقَدْ بَيَّنَّا تَفْسِيرَ هَذَا اللَّفْظِ ، وَفِي تَكْرَارِهِ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ بَيَانُ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَصْرِفَ الْعِنَايَةَ إلَى ذَلِكَ خُصُوصًا إذَا تَمَكَّنَ الِاسْتِيفَاءُ فِي قَلْبِهِ فَإِنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ مَأْمُورٌ بِالتَّثَبُّتِ مَمْنُوعٌ عَنْ الْمُجَازَفَةِ خُصُوصًا فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ مِنْ الْحَوَادِثِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي قَوْلِهِ مَا لَمْ يَبْلُغْك فِي الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ ، وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْمَرْءِ أَنْ يَتَقَلَّدَ الْقَضَاءَ مُخْتَارًا إلَّا إذَا كَانَ مُجْتَهِدًا وَأَقْرَبُ مَا قِيلَ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِد أَنْ يَكُونَ قَدْ حَوَى عِلْمَ الْكِتَابِ وَوُجُوهَ مَعَانِيهِ وَعِلْمَ السُّنَّةِ بِطُرُقِهَا وَمُتُونِهَا وَوُجُوهِ مَعَانِيهَا ، وَأَنْ يَكُونَ مُصِيبًا فِي الْقِيَاسِ عَالِمًا بِعُرْفِ النَّاسِ وَمَعَ هَذَا قَدْ اُبْتُلِيَ بِحَادِثَةٍ لَا يَجِدُ لَهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ذِكْرًا فَالنُّصُوصُ مَعْدُودَةٌ وَالْحَوَادِثُ مَمْدُودَةٌ فَعِنْدَ ذَلِكَ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ التَّأَمُّلِ وَطَرِيقُ تَأَمُّلِهِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ فَقَالَ اعْرِفْ الْأَمْثَالَ وَالْأَشْبَاهَ وَقِسْ الْأُمُورَ عِنْدَ ذَلِكَ فَهُوَ دَلِيلُ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ حُجَّةٌ فَإِنَّ الْحَوَادِثَ كُلَّهَا لَا تُوجَدُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِخِلَافِ مَا يَقُولُهُ أَصْحَابُ الظَّوَاهِرِ .
ثُمَّ ( قَالَ ) وَاعْمِدْ إلَى أَحَبِّهَا إلَى اللَّهِ وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ فِيمَا تَرَى ، وَهَذَا هُوَ طَرِيقُ الْقِيَاسِ أَنْ تَرُدَّ حُكْمَ الْحَادِثَةِ إلَى أَقْرَبِ الْأَشْيَاءِ مَعْنًى ، وَلَكِنْ إنَّمَا تُعْتَبَرُ السُّنَّةُ فِي الْمَعْنَى الَّذِي هُوَ صَالِحٌ لِإِثْبَاتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ بِهِ

ثُمَّ ( قَالَ ) اجْعَلْ لِلْمُدَّعِي أَمَدًا يَنْتَهِي إلَيْهِ فَإِنْ أَحْضَرَ بَيِّنَةً آخُذُ بِحَقِّهِ وَإِلَّا وَجَّهْت الْقَضَاءَ عَلَيْهِ فَإِنَّ ذَلِكَ أَجْلَى لِلْعَمَى وَأَبْلَغُ فِي الْعُذْرِ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ عَلَيْهِ أَنْ يُمْهِلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَصْمَيْنِ بِقَدْرِ مَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إقَامَةِ الْحُجَّةِ فِيهِ حَتَّى إذَا قَالَ الْمُدَّعِي بَيِّنَتِي حَاضِرَةٌ أَمْهَلَهُ لِيَأْتِيَ بِهِمْ فَرُبَّمَا لَمْ يَأْتِ بِهِمْ فِي الْمَجْلِسِ الْأَوَّلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْخَصْمَ لَا يُنْكِرُ حَقَّهُ لِوُضُوحِهِ فَيَحْتَاجُ إلَى مُدَّةٍ لِيَأْتِيَ بِهِمْ ، وَبَعْدَ مَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ إذَا ادَّعَى الْخَصْمُ الدَّفْعَ أَمْهَلَهُ الْقَاضِي لِيَأْتِيَ بِدَفْعِهِ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا فِي عَدْلِهِ وَلْيَكُنْ إمْهَالُهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَضُرُّ بِخَصْمِهِ فَإِنَّ الِاسْتِعْجَالَ إضْرَارٌ بِمُدَّعِي الدَّفْعِ ، وَفِي تَطْوِيلِ مُدَّةِ إمْهَالِهِ إضْرَارٌ بِمَنْ أَثْبَتَ حَقَّهُ وَخَيْرُ الْأُمُورِ أَوْسَطُهَا وَقَوْلُهُ فَإِنْ أَحْضَرَ بَيِّنَتَهُ آخُذُ بِحَقِّهِ وَإِلَّا وَجَّهْت الْقَضَاءَ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مُرَادُهُ دَعْوَى الدَّفْعِ فَهُوَ أَوْضَحُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا عَجَزَ عَنْ إثْبَاتِ مَا ادَّعَى مِنْ الدَّفْعِ وَجَّهَ الْقَاضِي إلَيْهِ الْقَضَاءَ بِبَيِّنَةِ الْمُدَّعِي ، وَمَا لَمْ يَظْهَرْ عَجْزُهُ عَنْ ذَلِكَ لَا يُوَجِّهُ الْقَضَاءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْحُجَّةَ إنَّمَا تَقُومُ عَلَيْهِ إذْ ظَهَرَ عَجْزُهُ عَنْ الدَّفْعِ بِالطَّعْنِ وَالْمُعَارَضَةِ ، وَإِنْ كَانَ مُرَادُهُ جَانِبَ الْمُدَّعِي فَمَعْنَى قَوْلِهِ وَجَّهْت الْقَضَاءَ عَلَيْهِ أَلْزَمْته الْكَفَّ عَنْ أَذَى النَّاسِ وَالْخُصُومَةِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ وَقَوْلُهُ فَإِنَّ ذَلِكَ أَجْلَى لِلْعَمَى لِإِزَالَةِ الِاشْتِبَاهِ وَأَبْلَغُ فِي الْعُذْرِ لِلْقَاضِي عِنْدَ مَنْ تَوَجَّهَ الْقَضَاءُ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَجَّهَ الْقَضَاءَ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا أَمْهَلَهُ حَتَّى يَظْهَرَ عَجْزُهُ عَنْ الدَّفْعِ انْصَرَفَ مِنْ مَجْلِسِهِ شَاكِرًا لَهُ سَاكِتًا .
وَإِذَا لَمْ يُمْهِلْهُ انْصَرَفَ شَاكِيًا مِنْهُ يَقُولُ مَالَ إلَى خَصْمِي

وَلَمْ يَسْتَمِعْ حُجَّتِي وَلَمْ يُمْكِنِّي مِنْ إثْبَاتِ الدَّفْعِ عِنْدَهُ .

ثُمَّ قَالَ { وَالْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } ، وَقَدْ نُقِلَ هَذَا اللَّفْظُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ دَلِيلٌ لِأَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَلَى جَوَازِ الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ الْمَسْتُورِ قَبْلَ السُّؤَالِ عَنْهُ إذَا لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ ، وَصِفَةُ الْعَدَالَةِ ثَابِتَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ بِاعْتِبَارِ اعْتِقَادِهِ فَإِنَّ دِينَهُ يَمْنَعُهُ مِنْ الْإِقْدَامِ عَلَى مَا نَعْتَقِدُ الْحُرْمَةَ فِيهِ فَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ صَادِقٌ فِي شَهَادَتِهِ فَالْكَذِبُ فِي الشَّهَادَةِ مُحَرَّمٌ فِي اعْتِقَادِ كُلِّ مُسْلِمٍ { قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ عُدِلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ بِالْإِشْرَاكِ بِاَللَّهِ تَعَالَى ، ثُمَّ قَرَأَ { فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ } ، ثُمَّ قَالَ إلَّا مَجْلُودًا حَدًّا } قِيلَ الْمُرَادُ مَنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ ارْتِكَابُ كَبِيرَةٍ بِإِقَامَةِ حَدِّ تِلْكَ الْكَبِيرَةِ عَلَيْهِ فَالْحُدُودُ مَشْرُوعَةٌ فِي ارْتِكَابِ الْكَبَائِرِ وَبِظُهُورِ ذَلِكَ عَلَيْهِ تَنْعَدِمُ الْعَدَالَةُ الثَّابِتَةُ مَا لَمْ تَظْهَرْ تَوْبَتُهُ وَانْزِجَارُهُ عَنْهُ وَقِيلَ الْمُرَادُ الْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ ، وَقَدْ ذَكَرَهُ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ إلَّا مَجْلُودًا حَدًّا فِي قَذْفٍ فَهُوَ دَلِيلٌ لَنَا عَلَى أَنَّ الْمَحْدُودَ فِي الْقَذْفِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ ، وَإِنْ تَابَ ، وَإِنَّ الْعَدَالَةَ الْمُعْتَبَرَةَ لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ تَنْعَدِمُ بِإِقَامَةِ حَدِّ الْقَذْفِ عَلَيْهِ كَمَا أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى إلَيْهِ فِي قَوْلِهِ { وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا } ، ثُمَّ قَالَ ، أَوْ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ شَهَادَةُ زُورٍ فَإِنَّهُ إذَا عُرِفَ مِنْهُ شَهَادَةُ الزُّورِ فَقَدْ ظَهَرَ مِنْهُ الْجِنَايَةُ فِي هَذِهِ الْأَمَانَةِ وَمِنْ ظَهَرَتْ جِنَايَتُهُ فِي شَيْءٍ لَا يُؤْتَمَنُ عَلَى ذَلِكَ ، وَلِأَنَّهُ ظَهَرَ مِنْهُ ارْتِكَابُ الْكَبِيرَةِ عَلَى مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ قَالَ { أَكْبَرُ الْكَبَائِرِ الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ تَعَالَى وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ فَمَا زَالَ يَقُولُ ذَلِكَ

حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ .
}

ثُمَّ ( قَالَ ) لَوْ ظَنَنَّا فِي وَلَاءٍ ، أَوْ قَرَابَةٍ أَيٍّ مِنْهُمَا بِسَبَبِ قَرَابَةٍ أَوْ وَلَاءٍ وَهُوَ الْمُوَالَاةُ فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ لَا تَكُونُ مَقْبُولَةً وَهُوَ دَلِيلٌ لَنَا عَلَى أَنَّ شَهَادَةَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ لَا تُقْبَلُ فَالزَّوْجِيَّةُ مِنْ أَقْوَى أَسْبَابِ الْمُوَالَاةِ وَهُوَ مِمَّا يَجْعَلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَائِلًا إلَى صَاحِبِهِ ، وَقَدْ أَشَارَ إلَى نَفْسِ الْوَلَاءِ وَالْقَرَابَةِ أَنَّهُمَا لَا يَقْدَحَانِ فِي الْعَدَالَةِ ، وَلَكِنْ إذَا تَمَكَّنَتْ التُّهْمَةُ حِينَئِذٍ يَمْتَنِعُ الْعَمَلُ بِالشَّهَادَةِ حَتَّى قِيلَ فِي مَعْنَاهُ إذَا ظَهَرَ مِنْهُ الْمَيْلُ إلَى مَوْلَاهُ وَقَرَابَتِهِ فِي كُلِّ حَقٍّ وَبَاطِلٍ حَتَّى يُؤْثِرَهُ عَلَى غَيْرِهِ وَهُوَ تَفْسِيرُ الْقَانِعِ بِأَهْلِ الْبَيْتِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ .
ثُمَّ ( قَالَ ) فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى مِنْكُمْ السَّرَائِرَ يَعْنِي أَنَّ الْمُحِقَّ وَالْمُبْطِلَ لَيْسَ لِلْقَاضِي طَرِيقٌ إلَى مَعْرِفَتِهِ حَقِيقَةً فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْبٌ وَلَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ إلَّا اللَّهُ تَعَالَى ، وَلَكِنَّ الطَّرِيقَ لِلْقَاضِي الْعَمَلُ بِمَا يَظْهَرُ عِنْدَهُ مِنْ الْحُجَّةِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي قَوْلِهِ وَدَرَأَ عَنْكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ يَعْنِي دَرَأَ عَنْكُمْ اللَّوْمَ فِي الدُّنْيَا وَالْإِثْمَ وَالْعُقُوبَةَ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ مَعْنَى الْحَدِيثِ الْمَرْوِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { الْقَضَاءُ جَمْرَةٌ فَادْفَعْ الْجَمْرَ عَنْك بِعُودَيْنِ } يَعْنِي شَهَادَةَ الشَّاهِدَيْنِ ، ثُمَّ قَالَ إيَّاكَ وَالضَّجَرَ وَالْقَلَقَ وَهُمَا نَوْعَانِ مِنْ إظْهَارِ الْغَضَبِ فَالْقَلَقُ الْحِدَةُ ، وَالضَّجَرُ رَفْعُ الصَّوْتِ فِي الْكَلَامِ فَوْقَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ وَالْقَاضِي مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَكْسِرُ قَلْبَ الْخَصْمِ بِهِ وَيَمْنَعُهُ مِنْ إقَامَةِ حُجَّتِهِ وَيَشْتَبِهُ عَلَى الْقَاضِي بِسَبَبِهِ طَرِيقُ الْإِصَابَةِ وَرُبَّمَا لَا يَفْهَمُ كَلَامَ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ عِنْدَ ذَلِكَ ( قَالَ ) وَالْبَادِي بِالنَّاسِ يَعْنِي إظْهَارَ

الْبَادِينَ بِكَثْرَةِ الْخُصُومِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَإِظْهَارَ الْمَلَالِ مِنْهُمْ وَالْمُرَادُ الْبَادِي بِمَا يَسْمَعُ مِنْ بَعْضِ الْخُصُومِ مِمَّا لَا حَاجَةَ بِهِ إلَيْهِ فَقَدْ يُطَوِّلُ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ كَلَامَهُ ، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُظْهِرَ الْبَادِيَ بِذَلِكَ مَا لَمْ يُجَاوِزْ الْحَدَّ .
فَإِذَا تَكَلَّمَ بِمَا يَرْجِعُ إلَى الِاسْتِخْفَافِ بِالْقَاضِي أَوْ يُذْهِبُ بِهِ حِشْمَةَ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَحِينَئِذٍ يَمْنَعُهُ عَنْ ذَلِكَ وَيُؤَدِّبُهُ عَلَيْهِ

ثُمَّ ( قَالَ ) وَالتَّنَكُّرُ لِلْخُصُومِ وَهُوَ أَنْ يُقَطِّبَ وَجْهَهُ إذَا تَقَدَّمَ إلَيْهِ خَصْمَانِ فَإِنْ فَعَلَ مَعَ أَحَدِهِمَا فَهُوَ جَوْرٌ مِنْهُ ، وَإِنْ فَعَلَهُ مَعَهُمَا رُبَّمَا عَجَزَ الْمُحِقُّ عَنْ إظْهَارِ حَقِّهِ فَذَهَبَ وَتَرَكَ حَقَّهُ .
( أَلَا تَرَى ) إلَى قَوْله تَعَالَى { وَلَوْ كُنْت فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِك } ، ثُمَّ قَالَ فِي مَوَاطِنِ الْحَقِّ الَّتِي يُوجِبُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا الْأَجْرَ وَيَحُثُّ بِهَا عَلَى الذُّخْرِ يَعْنِي فِي مَجَالِسِ الْحُكْمِ فَالْحِلْمُ وَتَرْكُ الضَّجَرِ وَالْقَلَقِ وَإِظْهَارُ الْبِشْرِ مَعَ النَّاسِ مَحْمُودٌ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ ، وَفِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ الْبِشْرُ وَطَلَاقَةُ الْوَجْهِ أَوْلَى بَعْدَ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُ ذَلِكَ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ فَإِنَّهُ مَنْ يُخْلِصُ نِيَّتَهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَوْ عَلَى نَفْسَهُ يَكْفِهِ اللَّهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ وَإِلَى نَحْوِهِ أَشَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ { مَنْ أَخْلَصَ سَرِيرَتَهُ أَخْلَصَ اللَّهُ عَلَانِيَتَهُ } ، ثُمَّ قَالَ : وَمَنْ يَتَزَيَّنُ لِلنَّاسِ بِمَا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْهُ خِلَافَهُ يَسُبُّهُ اللَّهُ يَعْنِي إذَا رَاءَى بِعَمَلِهِ وَالْمُرَاءَاةُ مَذْمُومَةٌ حَرَامٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ وَهُوَ فِي حَقِّ الْقَاضِي آكَدُ ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَى ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ الْمَرْءُ ذَلِكَ عِنْدَ حَاجَتِهِ ، وَلِأَنَّهُ يُقَلَّدُ الْقَضَاءَ لِيَكُونَ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَحْكُمُ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَشْبَهَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ كَانَ أَبْعَدَ النَّاسِ عَنْ الْمُرَاءَاةِ وَالنِّفَاق وَقَوْله يَسُبُّهُ اللَّهُ أَيْ يَفْضَحُهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ رَاءَى رَاءَى اللَّهُ بِهِ وَمَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ } ، ثُمَّ قَالَ فَمَا ظَنُّك بِثَوَابِ غَيْرِ اللَّهِ فِي عَاجِلِ رِزْقِهِ وَخَزَائِنِ رَحْمَتِهِ مَعْنَاهُ أَيْ أَنَّ الْمُرَائِيَ

بِعَمَلِهِ يَقْصِدُ اكْتِسَابَ مَحْمَدٍ ، أَوْ مَنَالَ شَيْءٍ مِمَّا فِي أَيْدِي النَّاسِ ، وَمَا يَفُوتُهُ بِهِ إذَا تَرَكَ الْإِخْلَاصَ مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْعَاقِلُ إذَا قَابَلَ مَا هُوَ مَوْعُودٌ لَهُ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ التَّقْوَى وَالْإِخْلَاصِ بِمَا يَطْمَعُ فِيهِ مِنْ جِهَةِ النَّاسِ تَرَجَّحَ مَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى لَا مَحَالَةَ ، وَذَلِكَ عَاجِلُ الرِّزْقِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } وَالْمَغْفِرَةُ وَالرَّحْمَةُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ } أَيْ الْمُتَّقِينَ الْمُخْلِصِينَ فَالْحَدِيثُ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَشْعِرَ التَّقْوَى فِيمَا يَفْعَلُ فَهُوَ مِلَاك الْأَمْرِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مِلَاكُ دِينِكُمْ الْوَرَعُ } .
وَقَالَ { التَّقِيُّ مُلْجَمٌ } وَعَنْ عَامِرٍ قَالَ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى مُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّنِي كَتَبْت كِتَابًا فِي الْقَضَاءِ مَا لَمْ آلُكَ وَنَفْسِي فِيهِ خَيْرًا ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْإِمَامَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكْتُبَ إلَى عُمَّالِهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ يُوصِيهِمْ ، وَقَدْ كَانَ مُعَاوِيَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَامِلَهُ بِالشَّامِ فَكَتَبَ إلَيْهِ فِي الْقَضَاءِ بِهَذَا الْكِتَابِ وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُقَصِّرْ بَلْ بَالَغَ فِي اكْتِسَابِ الْخَيْرِ لِنَفْسِهِ وَلَهُ ، ثُمَّ إنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ الْزَمْ خَمْسَ خِصَالٍ يَسْلَمْ لَك دِينُك وَتَأْخُذْ فِيهِ بِأَفْضَلِ خَطِّك إذَا تَقَدَّمَ إلَيْك الْخَصْمَانِ فَعَلَيْك بِالْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ وَالْيَمِينِ الْقَاطِعَةِ فَهُوَ الطَّرِيقُ لِلْقَاضِي الَّذِي لَا يَعْلَمُ الْغَيْبَ فَمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ سَلِمَ لَهُ دِينُهُ وَنَالَ أَفْضَلَ الْحَظِّ مِنْ الْمَحْمَدَةِ فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ فَمَعْنَى الْيَمِينِ الْقَاطِعَةِ لِلْخُصُومَةِ وَالْمُنَازَعَةِ .

ثُمَّ قَالَ وَأَدْنِ الضَّعِيفَ حَتَّى يَشْتَدَّ قَلْبُهُ وَيَنْبَسِطَ لِسَانُهُ وَلَمْ يُرِدْ بِهَذَا الْأَمْرِ تَقْدِيمَ الضَّعِيفِ عَلَى الْقَوِيِّ ، وَإِنَّمَا أَرَادَ الْأَمْرَ بِالْمُسَاوَاةِ ؛ لِأَنَّ الْقَوِيَّ يَدْنُو بِنَفْسِهِ لِقُوَّتِهِ وَالضَّعِيفُ لَا يَتَجَاسَرُ عَلَى ذَلِكَ وَالْقَوِيُّ يَتَكَلَّمُ بِحُجَّتِهِ ، وَرُبَّمَا يَعْجَزُ الضَّعِيفُ عَنْ ذَلِكَ فَعَلَى الْقَاضِي أَنْ يُدْنِيَ الضَّعِيفَ لِيُسَاوِيَهُ بِخَصْمِهِ حَتَّى يَقْوَى قَلْبُهُ وَيَنْبَسِطَ لِسَانُهُ فَيَتَكَلَّمَ بِحُجَّتِهِ ، ثُمَّ قَالَ وَتَعَاهَدْ الْغَرِيبَ فَإِنَّك إنْ لَمْ تَعَاهَدْهُ تَرَكَ حَقَّهُ وَرَجَعَ إلَى أَهْلِهِ فَرُبَّمَا ضَيَّعَ حَقَّهُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِهِ رَأْسَهُ قِيلَ هَذَا أَمْرٌ بِتَقْدِيمِ الْغُرَبَاءِ عِنْدَ الِازْدِحَامِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَإِنَّ الْغَرِيبَ قَلْبُهُ مَعَ أَهْلِهِ فَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُقَدِّمَهُ فِي سَمَاعِ الْخُصُومَةِ لِيَرْجِعَ إلَى أَهْلِهِ ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُ بِتَعَاهُدِ الْغُرَبَاءِ وَقِيلَ مُرَادُهُ أَنَّ الْغَرِيبَ مُنْكَسِرُ الْقَلْبِ .
فَإِذَا لَمْ يَخُصَّهُ الْقَاضِي بِالتَّعَاهُدِ عَجَزَ عَنْ إظْهَارِ حُجَّتِهِ فَيَتْرُكُ حَقَّهُ وَيَرْجِعُ إلَى أَهْلِهِ وَالْقَاضِي هُوَ الْمُسَبِّبُ لِتَضْيِيعِ حَقِّهِ حِينَ لَمْ يَرْفَعْ بِهِ رَأْسَهُ .

ثُمَّ قَالَ : وَعَلَيْك بِالصُّلْحِ بَيْنَ النَّاسِ مَا لَمْ يَسْتَبِنْ لَك فَصْلُ الْقَضَاءِ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْقَاضِيَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ أَنْ يَدْعُوَ الْخَصْمَ إلَى الصُّلْحِ خُصُوصًا فِي مَوْضِعِ اشْتِبَاهِ الْأَمْرِ ، وَبِهِ كَانَ يَأْمُرُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ { رَدُّوا الْخُصُومَ كَيْ يَصْطَلِحُوا فَإِنَّ فَصْلَ الْقَضَاءِ يُورَثُ بَيْنَهُمْ الضَّغَائِنَ } وَعَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إلَيْهِ أَنْ لَا يُشَارُ وَلَا يُضَارُّ وَلَا يَبِيعُ وَلَا يَبْتَاعُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَلَا تَرْتَشِي وَلَا تَقْضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ أَمَّا قَوْلُهُ لَا يُشَارُ مِنْهُمْ مَنْ يَرْوِي بِالشِّينِ قَالُوا الْمُرَادُ الْمَشُورَةُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالْمَشُورَةِ وَلْيَكُنْ ذَلِكَ فِي مَجْلِسٍ آخَرَ فَإِنَّهُ إذَا اشْتَغَلَ بِالْمَشُورَةِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ رُبَّمَا يُشْتَبَهُ طَرِيقُ الْفَصْلِ عَلَيْهِ وَرُبَّمَا يَظُنُّ جَاهِلٌ أَنَّهُ لَا يَعْرِفُ حَتَّى يَسْأَلَ غَيْرَهُ فَيَزْدَرِيَ بِهِ ، وَقَدْ وَقَعَ مِثْلُ هَذَا لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَادِثَةٍ بَيَّنَّاهَا فِي الْمَنَاسِكِ وَالْأَظْهَرُ بِالشِّينِ لَا يُشَارُ مَعْنَاهُ لَا يُشَارُ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكْسِرُ قَلْبَ الْخَصْمِ الْآخَرِ وَيُلْحِقُ بِهِ تُهْمَةَ الْمَيْلِ مِنْ حَيْثُ إنَّ خَصْمَهُ يَظُنُّ أَنَّهُ فِيمَا يُشَارُ بِصَابِعِهِ عَلَى رِشْوَةٍ وَلِذَلِكَ لَا يُشَارُ غَيْرُ الْخَصْمَيْنِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ يَجْمَعُ النَّاسَ وَمَشَارَةُ الِاثْنَيْنِ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَجْلِسِ تُؤَدِّي إلَى فِتْنَةِ الْآخَرِينَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا كَانَ الْقَوْمُ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ } وَقَوْلُهُ لَا يُضَارُّ مِنْ الضَّرَرِ أَيْ لَا يَقْصِدُ الْإِضْرَارَ بِالْخُصُومِ فِي تَأْخِيرِ الْخُرُوجِ وَلَا يُنَغِّصُ الْخُصُومَ فِي اسْتِعْجَالِهِ لِيَعْجَزَ عَنْ إقَامَتِهِ حُجَّتَهُ ، وَفِي رَفْعِ الصَّوْتِ عَلَيْهِ

أَوْ فِي أَخْذِهِ يَسْقُطُ مِنْ كَلَامِهِ إنْ زَلَّ فَلِمَجَالِسِ الْقَضَاءِ مِنْ الْمَهَابَةِ وَالْحِشْمَةِ مَا يُعْجِزُ كُلَّ أَحَدٍ عَنْ مُرَاعَاةِ جَمِيعِ الْحُدُودِ فِي الْكَلَامِ .
فَإِذَا لَمْ يُعْرِضْ الْقَاضِي عَنْ بَعْضِ مَا يَسْمَعُ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ مُضَارَّةً وَالْقَاضِي مَنْهِيٌّ عَنْ ذَلِكَ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَشْتَغِلُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ بِذَلِكَ يَنْقُصُ حِشْمَةُ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ ، وَلِأَنَّهُ مَجْلِسُ إظْهَارِ الْحَقِّ وَبَيَانِ أَحْكَامِ الدِّينِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْلِطَ بِهِ شَيْئًا مِنْ عَمَلِ الدُّنْيَا وَقَوْلُهُ لَا يَرْتَشِي الْمُرَادُ الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ وَهُوَ حَرَامٌ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي فِي النَّارِ } وَلَمَّا قِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الرِّشْوَةُ فِي الْحُكْمِ سُحْتٌ قَالَ ذَلِكَ الْكُفْرُ إنَّمَا السُّحْتُ أَنْ تَرْشُوَ مَنْ تَحْتَاجُ إلَيْهِ أَمَامَ حَاجَتِك .

وَفِي قَوْلِهِ وَلَا تَقْضِي بَيْنَ اثْنَيْنِ ، وَأَنْتَ غَضْبَانُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَشْتَغِلَ بِالْقَضَاءِ فِي حَالِ غَضَبِهِ ، وَلَكِنَّهُ يَصْبِرُ حَتَّى يَسْكُنَ مَا بِهِ فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَقْضِيَ عِنْدَ اعْتِدَالِ حَالِهِ ؛ وَلِهَذَا يُنْهَى عَنْ الْقَضَاءِ إذَا كَانَ جَائِعًا ، أَوْ كَظِيظًا مِنْ الطَّعَامِ ، أَوْ كَانَ يُدَافِعُ الْأَخْبَثَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ يَنْعَدِمُ بِهِ اعْتِدَالُ الْحَالِ .
فَكَذَلِكَ بِالْغَضَبِ يَنْعَدِمُ اعْتِدَالُ الْحَالِ وَرُبَّمَا يَجْرِي عَلَى لِسَانِهِ فِي غَضَبِهِ مَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْمَعَ النَّاسُ ذَلِكَ مِنْهُ وَرُبَّمَا يَتَغَيَّرُ لَوْنُهُ عَلَى وَجْهٍ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَرَاهُ النَّاسُ عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ أَوْ إذَا ظَهَرَ بِهِ الْغَضَبُ عَجَزَ صَاحِبُ الْحَقِّ عَنْ إظْهَارِ حَقِّهِ بِالْحُجَّةِ خَوْفًا مِنْهُ ؛ وَلِهَذَا قُلْنَا يَقُومُ ، أَوْ يُنَحِّي النَّاسَ عَنْ قُرْبِهِ حَتَّى يَسْكُنَ مَا بِهِ ، وَهَذَا إذَا كَانَ يَعْتَرِيه ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ عَادَتِهِ ، وَذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ الْحِدَّةِ الَّتِي قَالَ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَّهَا تَعْتَرِي خِيَارَ أُمَّتِي فَلَا يَكُفُّ عِنْدَ ذَلِكَ عَنْ الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّهُ يَلْتَبِسُ بِهِ عَقْلُهُ وَيُشْتَبَهُ عَلَيْهِ وَجْهُ الْقَضَاءِ بِخِلَافِ مَا يَعْتَرِيه مِنْ الْغَضَبِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ .

وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ دَعَا قَاضِيًا كَانَ بِالشَّامِ حَدِيثَ السِّنِّ فَقَالَ لَهُ بِمَ تَقْضِي قَالَ أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ .
فَإِذَا لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ أَقْضِي بِمَا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَدِيثَ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُقَلَّدَ الْقَضَاءَ مَنْ هُوَ حَدِيثُ السِّنِّ إذَا كَانَ عَالِمًا فَقَدْ كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرَ النَّاسِ نَظَرًا فِي ذَلِكَ ، ثُمَّ قَلَّدَهُ مَعَ حَدَاثَةِ سِنِّهِ { وَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَتَّابَ بْنَ أُسَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى مَكَّةَ قَاضِيًا وَأَمِيرًا وَكَانَ حَدِيثَ السِّنِّ } وَيُحْكَى أَنَّ الْمَأْمُونَ قَلَّدَ يَحْيَى بْنَ أَكْثَمَ قَضَاءَ الْبَصْرَةِ وَكَانَ ابْنَ ثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً فَطَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ لِحَدَاثَةِ سِنِّهِ فَكَتَبَ إلَيْهِ الْمَأْمُونُ كَمْ سِنُّ الْقَاضِي فَكَتَبَ فِي جَوَابِهِ أَنَا عَلَى سِنِّ عَتَّابِ بْنِ أُسَيْدِ حِينَ وَلَّاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَلَغَهُ مِثْلُ هَذَا الطَّعْنِ فِي مِثْلِ هَذَا الْقَاضِي لِحَدَاثَةِ سِنِّهِ فَامْتَحَنَهُ بِالْعِلْمِ فَقَالَ بِمَ تَقْضِي قَالَ أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَصَابَ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى إمَامُ الْمُتَّقِينَ أُنْزِلَ لِلْعَمَلِ بِهِ قَالَ : فَإِذَا لَمْ تَجِدْ فِي كِتَابِ اللَّهِ قَالَ أَقْضِي بِمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصَابَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا فَلَنَا فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِاتِّبَاعِهِ وَالِاقْتِدَاءِ بِهِ قَالَ .
فَإِذَا لَمْ تَجِدْ ذَلِكَ فِيمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَقْضِي بِمَا قَضَى بِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَقَدْ أَصَابَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا فَقَدْ أُمِرْنَا بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمَا بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اقْتَدُوا

بِاَللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ } رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ } .
قَالَ : فَإِذَا لَمْ تَجِدْ فِي قَضَائِهِمْ قَالَ أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَأَصَابَ فِي ذَلِكَ فَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِأَنْ يَجْتَهِدَ رَأْيَهُ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ وَهُوَ دَلِيلُنَا عَلَى جَوَازِ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ فَاجْتِهَادُ الرَّأْيِ هُوَ الْقِيَاسُ يَرُدُّ حُكْمَ الْحَادِثَةِ إلَى أَشْبَاهِهَا مِمَّا هُوَ مَنْصُوصٌ .
وَإِذَا جَازَ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ فِي بَابِ الْقِبْلَةِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ وَانْقِطَاعِ الْأَدِلَّةِ ، وَفِي الْمُعَامَلَاتِ مِنْ الْحُرُوبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ .
فَكَذَلِكَ فِي الْقَضَاءِ فَلَمَّا أَصَابَ فِي جَمِيعِ مَا أَجَابَ قَالَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْتَ قَاضِيهَا أَيْ إنِّي لَا أَعْزِلُك عَنْ الْقَضَاءِ مَا دُمْت عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْإِمَامَ إذَا عَلِمَ مِنْ حَالِ مَنْ قَلَّدَهُ أَنَّهُ صَالِحٌ لِذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَرِّرَهُ عَلَى الْعَمَلِ وَلَا يَعْزِلَهُ بِطَعْنِ بَعْضِ الْمُتَعَنِّتِينَ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ شَيْءٌ مِمَّا لَا يُحْمَدُ مِنْ السِّيرَةِ مِنْهُ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ أَتَى عَلَيْنَا زَمَانٌ لَسْنَا نُسْأَلُ وَلَسْنَا هُنَالِكَ ، ثُمَّ قَضَى اللَّهُ تَعَالَى أَنْ بَلَغْنَا مِنْ الْأَمْرِ مَا يَرَوْنَ قِيلَ هَذَا إشَارَةٌ مِنْهُ إلَى زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ كَانَ الْوَحْيُ يَنْزِلُ وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يُبَيِّنُ لَهُمْ فَكَانُوا لَا يَحْتَاجُونَ فِيهِ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرِهِ وَقِيلَ بَلْ مُرَادُهُ الْإِشَارَةُ إلَى زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَدْ كَانَتْ الصَّحَابَةُ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مُتَوَافِرِينَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَمَا كَانَ يُحْتَاجُ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقِيلَ هَذَا مِنْهُ إشَارَةٌ إلَى حَالِ صِغَرِهِ وَجَهْلِهِ ، وَإِنَّمَا قَصَدَ بِهَذَا

التَّحَدُّثَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى حَيْثُ رَفَعَهُ مِنْ تِلْكَ الدَّرَجَةِ إلَى مَا بَلَغَهُ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ هَذَا حِينَ كَانَ بِالْكُوفَةِ وَلَهُ أَرْبَعَةُ آلَافِ تِلْمِيذٍ يَتَعَلَّمُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا قَدِمَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْكُوفَةِ وَخَرَجَ إلَيْهِ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ أَصْحَابِهِ حَتَّى سَدُّوا الْأُفُقَ فَلَمَّا رَآهُمْ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَلَأْت هَذِهِ الْقَرْيَةَ عِلْمًا وَفِقْهًا .

قَالَ فَمَنْ اُبْتُلِيَ مِنْكُمْ بِقَضَاءٍ فَلِيَقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى ، وَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ تَقَلُّدِ الْقَضَاءِ أَوْلَى فَقَدْ عَدَّهُ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ الْبَلْوَى بِقَوْلِهِ فَمَنْ اُبْتُلِيَ مِنْكُمْ وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَإِنَّهُ تَحَرَّزَ عَنْ تَقَلُّدِ الْقَضَاءِ بَعْدَ مَا حُبِسَ وَضُرِبَ لِأَجْلِهِ مِرَارًا حَتَّى قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ لَوْ تَقَلَّدْت نَفَعْت النَّاسَ فَنَظَرَ إلَيْهِ شِبْهَ الْمُغْضَبِ .
وَقَالَ لَوْ أُمِرْت أَنْ أَقْطَعَ الْبَحْرَ سِبَاحَةً لَكُنْتُ أَقْدَرُ عَلَى ذَلِكَ وَكَأَنِّي بِك قَاضِيًا وَمَنْ اخْتَارَ تَقَلُّدَ الْقَضَاءِ قَالَ هَذَا اللَّفْظُ مِنْ الْبَلَاءِ الَّذِي هُوَ نِعْمَةٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا } ، وَإِنَّمَا أَرَادَ مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِهَذِهِ الدَّرَجَةِ فَلْيَقْضِ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِذَلِكَ كَانَ يَأْمُرُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَقُولُ { إنِّي تَارِكٌ فِيكُمْ الثَّقَلَيْنِ كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى وَعِتْرَتِي } وَقِيلَ أَهْلُ بَيْتِهِ الْأَقْرَبُونَ وَالْأَبْعَدُونَ فَإِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا لَمْ تَضِلُّوا قَالَ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى فَلْيَقْضِ بِمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِذَلِكَ كَانَ يَأْمُرُهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ { قَالَ لِأَبِي رَوَاحَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي حَادِثَةٍ أَمَا كَانَ لَك فِي أُسْوَةٌ فَقَالَ أَنْتَ تَسْعَى فِي رَقَبَةٍ قَدْ فُكَّتْ ، وَأَنَا أَسْعَى فِي رَقَبَةٍ لَمْ يُعْرَفْ فِكَاكُهَا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنِّي لَأَرْجُوَ أَنْ أَكُونَ أَخْشَاكُمْ لِلَّهِ } قَالَ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ فِيمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْيَقْضِ بِمَا قَضَى الصَّالِحُونَ يَعْنِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { إذَا ذُكِرَ الصَّالِحُونَ صنفحيهلا بِعُمَرَ

} قَالَ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَلِيَجْتَهِدْ رَأْيَهُ وَلَا يَقُولَنَّ إنِّي أَرَى ، وَإِنِّي أَخَافُ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَجْتَهِدَ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَدَعَ الِاجْتِهَادَ فِي مَوْضِعِهِ لِخَوْفِ الْخَطَأِ فَإِنَّ تَرْكَ الِاجْتِهَادِ فِي مَوْضِعِهِ بِمَنْزِلَةِ الِاجْتِهَادِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ فَكَمَا لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتَغِلَ بِالِاجْتِهَادِ مَعَ النَّصِّ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَدَعَ الِاجْتِهَادَ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ ، ثُمَّ بَيَّنَ طَرِيقَ الْحَقِّ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ { فَإِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ وَالْحَرَامَ بَيِّنٌ وَبَيْنَ ذَلِكَ أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ فَدَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَالًا يَرِيبُك } ، وَهَذَا اللَّفْظُ مَرْوِيٌّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَوَاهُ الْحَسَنُ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ إذَا لَمْ يَتْرُكْ الِاحْتِيَاطَ فِي مَوْضِعِ الرِّيبَةِ فَهُوَ مُؤَدٍّ لِمَا كُلِّفَ أَصَابَ الْمَطْلُوبَ بِاجْتِهَادِهِ ، أَوْ أَخْطَأَ وَهُوَ مَا نُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَالْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ وَاحِدٌ أَيْ مُصِيبٌ فِي طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ ابْتِدَاءً ، وَقَدْ يُخْطِئُ انْتِهَاءً فِيمَا هُوَ الْمَطْلُوبُ بِالِاجْتِهَادِ ، وَلَكِنَّهُ مَعْذُورٌ فِي ذَلِكَ لِمَا أَتَى بِمَا فِي وُسْعِهِ .

وَذُكِرَ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ حِينَ بَعَثَنِي إلَى الْيَمَنِ بِمَ تَقْضِي يَا مُعَاذُ قُلْت بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى قُلْت أَقْضِي بِمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ لَمْ تَجِدْ ذَلِكَ فِيمَا قَضَى بِهِ قُلْت أَجْتَهِدُ رَأْيِي فَقَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِهِ } ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ إذَا أَرَادَ أَنْ يُقَلِّدَ الْإِنْسَانَ الْقَضَاءَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُجَرِّبَهُ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ بِمُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَعَ أَنَّهُ كَانَ مَعْصُومًا فَغَيْرُهُ بِذَلِكَ أَوْلَى فَكَانَ هَذَا مِنْهُ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيمِ لِأُمَّتِهِ ، ثُمَّ حَمِدَ اللَّهَ تَعَالَى حِينَ ظَهَرَ مِنْ التَّجْرِبَةِ كَمَا تَفَرَّسَ فِيهِ وَهَكَذَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ إذَا بَلَغَهُ عَنْ عَامِلٍ لَهُ مَا يَرْضَى بِهِ أَنْ يُعِدَّ ذَلِكَ نِعْمَةً مِنْ نِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ فَلْيُقَابِلْهَا بِالشُّكْرِ ، وَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ وَالْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ ، مِنْ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ يَقُولُ جَوَازُ الْعَمَلِ بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمَا كَانَ يَجُوزُ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَحْيَ كَانَ يَنْزِلُ وَهُوَ كَانَ يُبَيِّنُ لَهُمْ مَا كَانُوا يَحْتَاجُونَ إلَى الِاسْتِنْبَاطِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَالْحُكْمُ يَثْبُتُ بِالنَّصِّ مَقْطُوعًا بِهِ فَلَا يُصَارُ إلَيْهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا إنْ كَانَ ذَلِكَ جَائِزًا لَهُمْ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا بَعْدَهُ وَحَدِيثُ مُعَاذٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ بَيْنَ

يَدَيْهِ أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلَمَّا { قَالَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اقْضِ بَيْنَ هَذَيْنِ قَالَ أَقْضِي ، وَأَنْتَ حَاضِرٌ ، أَوْ جَالِسٌ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّك إنْ اجْتَهَدْت فَأَصَبْت فَلَكَ أَجْرَانِ ، وَإِنْ أَخْطَأْت فَلَكَ أَجْرٌ وَاحِدٌ } فَقَدْ جَوَّزَ لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الِاجْتِهَادَ بِحَضْرَتِهِ .
وَقَدْ كَانَ يُشَاوِرُهُمْ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ شَاوَرَهُمْ فِي أُسَارَى بَدْرٍ وَأَشَارَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْفِدَاءِ وَأَخَذَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ وَشَاوَرَ السَّعْدَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَوْمَ الْأَحْزَابِ فِي صُلْحِ بَنِي فَزَارَةَ عَلَى بَعْضِ ثِمَارِ الْمَدِينَةِ وَأَخَذَ بِمَا أَشَارَا بِهِ وَلَمَّا أَشَارَ إلَيْهِ أُسَيْدَ بْنَ حُضَيْرٍ فِي النُّزُولِ عِنْدَ الْمَاءِ يَوْمَ بَدْرٍ أَخَذَ بِرَأْيِهِ فِي ذَلِكَ وَكَانَ صَوَابًا وَيَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْفَصْلِ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ كَانَ يَجْتَهِدُ فِيمَا لَمْ يُوحَ إلَيْهِ فِيهِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ كَانَ يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ ، وَمَا كَانَ يَفْصِلُ بِالِاجْتِهَادِ وَالصَّحِيحُ عِنْدَنَا أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَجْتَهِدُ ، وَمَا كَانَ يُقِرُّ عَلَى الْخَطَأِ بَيَانُهُ أَنَّهُ { لَمَّا شَاوَرَ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي حَادِثَةٍ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلًا فَإِنِّي فِيمَا لَمْ يُوحَ إلَيَّ مِثْلُكُمَا } .
{ وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْخَثْعَمِيَّةِ أَرَأَيْت لَوْ كَانَ عَلَى أَبِيكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ تَقْضِيه فَقَالَتْ نَعَمْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَيْنُ اللَّهِ أَحَقُّ } ، وَهَذَا قَوْلٌ بِالِاجْتِهَادِ .
وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْقُبْلَةِ { أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْت بِمَاءٍ ، ثُمَّ مَجَجْته أَكَانَ يَضُرُّك } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَيَانِ حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ { أَرَأَيْت لَوْ تَمَضْمَضْت بِمَاءٍ أَكُنْت شَارِبَهُ } فَهَذَا

وَنَحْوُهُ دَلِيلٌ أَنَّهُ كَانَ يَقْضِي بِاجْتِهَادِهِ ، وَمَا كَانَ يُقِرُّ عَلَى الْخَطَأِ فَقَضَاؤُهُ يَكُونُ شَرِيعَةً وَالْخَطَأُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَصْلَ الشَّرِيعَةِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ مَا كَانَ يُقِرُّ عَلَى الْخَطَأِ وَبَيَانُ ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى { عَفَى اللَّهُ عَنْك لِمَ أَذِنْت لَهُمْ } الْآيَةَ وَعَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ إذَا كَانَ فِي الْقَاضِي خَمْسُ خِصَالٍ فَقَدْ كَمُلَ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ أَرْبَعٌ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ وَاحِدَةٌ فَفِيهِ وَصْمَةٌ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ ثَلَاثٌ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ اثْنَيْنِ فَفِيهِ وَصْمَتَانِ ، وَهَذَا عِبَارَةٌ عَنْ النُّقْصَانِ وَالْوَصْمُ كَسْرٌ يَسِيرٌ وَفَوْقَهُ الْقَصْمُ وَنَظِيرُهُ الْقَنْصُ بِالْأَنَامِلِ وَفَوْقَهُ الْقَبْضُ بِالْيَدِ وَفَوْقَهُ الْأَخْذُ وَهُوَ التَّنَاوُلُ قَالَ فَقَالَ قَائِلٌ مَا هِيَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ عِلْمٌ بِمَا كَانَ قَبْلَهُ وَهُوَ إشَارَةٌ إلَى مَا بَيَّنَّا فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ .

قَالَ وَنُزْهَةٌ عَنْ الطَّمَعِ وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ النَّزَاهَةِ فَمَنْ يُتَحَرَّزُ عَنْ شَيْءٍ يُقَالُ هُوَ يَتَنَزَّهُ عَنْ كَذَا وَالْأَظْهَرُ وَتَزَهُّدٌ عَنْ الطَّمَعِ مِنْ الزَّهَادَةِ فَكُلُّ الْفِتْنَةِ لِلْقَاضِي فِي طَمَعِهِ فِيمَا فِي أَيْدِي النَّاسِ وَلَمَّا امْتَحَنَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَاضِيًا قَالَ لَهُ بِمَ صَلَاحُ هَذَا الْأَمْرِ قَالَ بِالْوَرَعِ قَالَ فَبِمَا فَسَادُهُ قَالَ بِالطَّمَعِ قَالَ حُقَّ لَك أَنْ تَقْضِيَ فَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَكُونَ مُنَزَّهًا عَنْ الطَّمَعِ لِيَأْمَنَ الْفِتْنَةَ وَيُخْلِصَ عَمَلَهُ لِلَّهِ تَعَالَى قَالَ وَحَكَمٌ عَنْ الْخَصْمِ يَعْنِي أَنْ يَحْكُمَ فِي بَعْضِ مَا يَسْمَعُ مِنْ الْخُصُومِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى مَنْعِهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَصْلُحُ لِهَذَا الْأَمْرِ إلَّا اللَّيِّنُ مِنْ غَيْرِ ضَعْفٍ الْقَوِيُّ مِنْ غَيْرِ عُنْفٍ

قَالَ وَاسْتِخْفَافٌ بِاللَّائِمَةِ مَعْنَاهُ لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي فِيمَا يَفْصِلُ مِنْ الْقَضَاءِ أَنْ يَخَافَ اللَّائِمَةَ مِنْ النَّاسِ فَإِنَّهُ إذَا خَافَ ذَلِكَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِالْحَقِّ وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ اللَّهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ { وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ } ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَنْصَرِفَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ مِنْ مَجْلِسِهِ شَاكِيًا يَلُومُ الْقَاضِيَ مَعَ أَصْدِقَائِهِ عَلَى مَا كَانَ مِنْهُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ شُرَيْحٌ رَحِمَهُ اللَّهُ حَيْثُ قِيلَ لَهُ كَيْفَ أَصْبَحْت قَالَ أَصْبَحْت وَشَطْرُ النَّاسِ عَلَيَّ غَضْبَانُ .
فَإِذَا تَفَكَّرَ الْقَاضِي وَاشْتَغَلَ بِالتَّحَرُّزِ عَنْ اللَّائِمَةِ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ فَصْلُ الْقَضَاءِ .

قَالَ وَمُشَاوَرَةُ أُولِي الرَّأْيِ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَدَعَ مُشَاوَرَةَ الْعُلَمَاءِ ، وَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرَ النَّاسِ مُشَاوِرَةً لِأَصْحَابِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ يَسْتَشِيرُهُمْ حَتَّى فِي قُوتِ أَهْلِهِ وَإِدَامِهِمْ { قَالَ الْمَشُورَةُ تُلَقِّحُ الْعُقُولَ } .
وَقَالَ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا هَلَكَ قَوْمٌ عَنْ مَشُورَةٍ قَطُّ } وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَسْتَشِيرُ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ مَعَ فِقْهِهِ حَتَّى كَانَ إذَا رُفِعَتْ إلَيْهِ حَادِثَةٌ قَالَ اُدْعُوا إلَيَّ عَلِيًّا وَادْعُوا إلَيَّ زَيْدِ بْنِ أَبِي كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَكَانَ يَسْتَشِيرُهُمْ ، ثُمَّ يَفْصِلُ بِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ لَا يَدَعَ الْمُشَاوَرَةَ ، وَإِنْ كَانَ فَقِيهًا ، وَلَكِنْ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ عَلَى مَا بَيَّنَّا أَنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْمَشُورَةِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ رُبَّمَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ فَصْلِ الْقَضَاءِ ، وَيَكُونُ سَبَبًا لِازْدِرَاءِ بَعْضِ الْجُهَّالِ بِهِ وَعَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ لَأَنْ أَقْضِيَ يَوْمًا بِالْحَقِّ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُرَابِطَ سَنَةً فَإِنَّ مَسْرُوقًا مِمَّنْ يُقَدِّمُ تَقَلُّدَ الْقَضَاءِ عَلَى الِامْتِنَاعِ عَنْهُ ، وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي ذَلِكَ مُخْتَلِفِينَ وَابْتُلِيَ مَسْرُوقٌ بِالْقَضَاءِ وَمَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ فَإِنَّمَا يَرْوِي مَحَاسِنَ ذَلِكَ الشَّيْءِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا طَرِيقَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي إيثَارِ التَّحَرُّزِ عَنْ تَقَلُّدِ الْقَضَاءِ ، وَإِنَّمَا قَالَ مَسْرُوقٌ إنَّ الْقَضَاءَ يَوْمًا بِالْحَقِّ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُرَابِطَ سَنَةً لِمَا فِي إظْهَارِ الْحَقِّ مِنْ الْمَنْفَعَةِ لِلنَّاسِ وَدَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ الْمَظْلُومِ وَاتِّصَالِ الْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ وَمَنْعِ الظَّالِمِ عَنْ الظُّلْمِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ { عَدْلُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَةٍ } .

وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَأَنْ يُقَامَ حَدٌّ فِي أَرْضٍ خَيْرٌ مِنْ أَنْ تُمْطِرَ السَّمَاءُ فِيهَا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا } وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْهُ قَالَ الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ فَاثْنَانِ فِي النَّارِ وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ .
فَأَمَّا اللَّذَانِ فِي النَّارِ فَرَجُلٌ عَلِمَ عِلْمًا فَقَضَى بِخِلَافِهِ وَرَجُلٌ جَاهِلٌ يَقْضِي بِغَيْرِ عِلْمٍ وَأَمَّا الْآخَرُ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا فَقَضَى بِهِ فَذَلِكَ فِي الْجَنَّةِ وَلَا شُبْهَةَ فِي حَقِّ مَنْ قَضَى بِخِلَافِ مَا عَلِمَ فَإِنَّهُ أَقْدَمَ عَلَى النَّارِ عَنْ بَصِيرَةٍ وَكَتَمَ مَا عَلِمَ مِنْ الْحَقِّ فَكَانَ فِعْلُهُ كَفِعْلِ رُؤَسَاءِ الْيَهُودِ ، وَفِيهِ نَزَلَ قَوْله تَعَالَى عَزَّ وَجَلَّ { إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ } .
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } وَأَمَّا الْجَاهِلُ فَمَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَقَلَّدَ الْقَضَاءَ وَيَلْتَزِمَ أَدَاءَ هَذِهِ الْأَمَانَةِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهَا إلَّا بِالْعِلْمِ فَفِي الْتِزَامِ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى الْقِيَامِ بِهِ ظُلْمُ نَفْسِهِ ، وَبَعْدَ التَّقَلُّدِ لَا ضَرُورَةَ لَهُ إلَى الْقَضَاءِ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ أَنْ يَتَعَلَّمَ ، أَوْ يَسْأَلَ الْعُلَمَاءَ وَيَقْضِيَ بِفَتَوَاتِهِمْ ؛ فَلِهَذَا جَعَلَهُ فِي النَّارِ حِينَ قَضَى بِغَيْرِ عِلْمٍ وَاَلَّذِي قَضَى بِعِلْمِهِ أَظْهَرَ الْحَقَّ بِحُكْمِهِ ، وَأَنْصَفَ الْمَظْلُومَ مِنْ خَصْمِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ وَمِثْلُ هَذَا لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالرَّأْيِ فَإِنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ سَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَلَكِنَّهُمْ فِيمَا يَسْمَعُونَ رُبَّمَا يَرْفَعُونَ وَرُبَّمَا يُرْسِلُونَ وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ يُجَاءُ بِالْقَاضِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمَلَكٌ آخِذٌ بِقَفَاهُ ، ثُمَّ يَلْتَفِتُ .
فَإِذَا أَقْبَلَ دَفَعَهُ دَفْعَةً فِي مَهْوَاةٍ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يَرْوُونَ هَذَا الْحَدِيثَ ( يُجَاءُ بِالْقَاضِي

الْعَدْلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) لِيُعْلَمَ أَنَّ حَالَ مَنْ يَعْدِلُ إذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَمَا ظَنُّك فِي حَالِ مَنْ يَجُورُ فِي قَوْلِهِ وَمَلَكٌ آخِذٌ بِقَفَاهُ إشَارَةٌ إلَى مَا يَلْقَى مِنْ الذُّلِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَإِنْ كَانَ عَادِلًا فِي قَضَائِهِ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّمَا يُفْهَمُ مِنْ الْأَخْذِ بِالْقَفَاءِ فِي عُرْفِ النَّاسِ الِاسْتِخْفَافُ وَالذُّلُّ وَقِيلَ فِي تَأْوِيلِهِ أَنَّهُ ، وَإِنْ كَانَ عَادِلًا فَقَدْ نَالَ بَعْضَ الْوَجَاهَةِ فِي الدُّنْيَا بِسَبَبِ تَقَلُّدِ الْقَضَاءِ فَهَذَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ لِمَا نَالَ مِنْ الْجَاهِ فِي الدُّنْيَا بِطَرِيقٍ هُوَ طَرِيقُ الْعَمَلِ لِلْآخِرَةِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ دَفَعَهُ فِي مَهْوَاةٍ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا أَيْ دَفَعَهُ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ } وَكَأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ نَافَقَ وَأَظْهَرَ مَا يَعْلَمُ اللَّهُ مِنْهُ خِلَافَهُ فَقَدْ كَانَ قَصْدُهُ مِنْ ذَلِكَ حِفْظَ مَاءِ وَجْهِهِ يُلْقَى فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ وَلَا يَسْتَقِرُّ إلَّا فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ فِي مَهْوَاةٍ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا ، وَهَذَا بَيَانٌ فِي قَوْله تَعَالَى { إنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ } قَالَ وَبَلَغَنَا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { مَنْ اُبْتُلِيَ أَنْ يَقْضِيَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَكَأَنَّمَا يَذْبَحُ نَفْسَهُ بِغَيْرِ سِكِّينٍ } وَالْحَصَّافُ يَرْوِي هَذَا { مَنْ اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ فَكَأَنَّمَا ذُبِحَ بِغَيْرِ سِكِّينٍ } ، وَفِيهِ بَيَانُ التَّحْرِيزِ عَنْ طَلَبِ الْقَضَاءِ وَالتَّحَرُّزُ عَنْ التَّقَلُّدِ فَكُلُّ عَاقِلٍ مُمْتَنِعٌ مِنْ أَنْ يَذْبَحَ نَفْسَهُ بِغَيْرِ سِكِّينٍ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ تَحَرُّزَهُ عَنْ طَلَبِ الْقَضَاءِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ فَذِكْرُ الْمَثَلِ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لِلتَّقْرِيبِ مِنْ الْفَهْمِ .
( قَالَ ) رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَزْدَرِيَ بِهَذَا اللَّفْظِ كَيْ

لَا يُصِيبَهُ مَا أَصَابَ ذَلِكَ الْقَاضِيَ فَقَدْ حُكِيَ أَنَّ قَاضِيًا رُوِيَ لَهُ هَذَا الْحَدِيثُ فَازْدَرَى بِهِ .
وَقَالَ كَيْفَ يَكُونُ هَذَا ، ثُمَّ دَعَا فِي مَجْلِسِهِ بِمَنْ يُسَوِّي شَعْرَهُ فَجَعَلَ الْحَلَّاقُ بَعْضَ الشَّعْرِ مِنْ تَحْتِ ذَقَنِهِ إذْ عَطَسَ فَأَصَابَهُ الْمُوسَى فَأَلْقَى رَأْسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ

قَالَ وَمَنْ اُبْتُلِيَ أَنْ يَقْضِيَ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَلْيُنْصِفْهُمَا فِي الْكَلَامِ وَالنَّظَرِ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ عَلَى أَحَدِهِمَا مَا لَا يَرْفَعُ عَلَى الْآخَرِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَائِدَةَ هَذَا اللَّفْظِ ، وَمَا يُؤْمَرُ بِهِ الْقَاضِي مِنْ التَّسْوِيَةِ وَعَنْ عَامِرٍ أَنَّ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَعُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا اخْتَصَمَا فِي شَيْءٍ فَحَكَّمَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَتَيَاهُ فِي مَنْزِلِهِ قَالَ زَيْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَلَّا أَرْسَلْت إلَيَّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحَكَمُ ، وَفِي هَذَا بَيَانُ أَنَّهُ كَانَ يَقَعُ بَيْنَهُمْ مُنَازَعَةٌ وَخُصُومَةٌ وَلَا يَظُنُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سِوَى الْجَمِيلِ ، وَإِنَّمَا كَانَ يَقَعُ ذَلِكَ عِنْدَ اشْتِبَاهِ حُكْمِ الْحَادِثَةِ عَلَيْهِمْ وَيَتَقَدَّمُونَ إلَى الْقَاضِي لِطَلَبِ الْبَيَانِ لَا لِلْقَصْدِ إلَى التَّلْبِيسِ وَالْإِنْكَارِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ الْقَاضِي يُدْعَى مُفْتِيًا ، وَفِيهِ دَلِيلُ جَوَازِ التَّحْكِيمِ فَقَدْ حَكَّمَا زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَإِنَّمَا حَكَّمَاهُ لِفِقْهِهِ فَقَدْ كَانَ مِقْدَامًا مَعْرُوفًا فِيهِمْ بِذَلِكَ حَتَّى رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ يَخْتَلِفُ إلَيْهِ وَأَخَذَ بِرِكَابِهِ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَرْكَبَ .
وَقَالَ هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَصْنَعَ بِفُقَهَائِنَا فَقَبَّلَ زَيْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَدَهُ .
وَقَالَ هَكَذَا أُمِرْنَا أَنْ نَصْنَعَ بِأَشْرَافِنَا .
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَكُونُ قَاضِيًا فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي خُصُومَةٍ حَكَّمَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ احْتَاجَ إلَى الْعِلْمِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْتِيَ الْعَالِمَ فِي مَنْزِلِهِ ، وَإِنْ كَانَ وَجِيهًا فِي النَّاسِ وَلَا يَدْعُوهُ إلَى نَفْسِهِ فَإِنَّ وَجَاهَتَهُ بِسَبَبِ الدِّينِ فَيَبْقَى ذَلِكَ لَهُ إذَا عَظَّمَ الدِّينَ ، وَالذَّهَابُ إلَى مَنْزِلِ الْعَالِمِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَى عِلْمِهِ مِنْ

تَعْظِيمِ الدِّينِ وَلَمَّا اسْتَعْظَمَ ذَلِكَ زَيْدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ هَلَّا أَرْسَلَتْ إلَيَّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحَكَمُ وَتَأْوِيلُ اسْتِعْظَامِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ خَافَ فِتْنَةً عَلَى نَفْسِهِ بِسَبَبِ الْوَجَاهَةِ حِينَ أَتَاهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مَنْزِلِهِ وَظَنَّ أَنَّهُ أَتَاهُ زَائِرًا ، وَمَا أَتَاهُ مُحَكِّمًا لَهُ رَاغِبًا فِي عِلْمِهِ ؛ فَلِهَذَا اسْتَعْظَمَ ذَلِكَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ أَتَاهُ لِلتَّحْكِيمِ فَقَالَ فِي بَيْتِهِ يُؤْتَى الْحَكَمُ فَأَتَى زَيْدٌ لِعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا بِوِسَادَةٍ وَكَانَ هَذَا مِنْهُ امْتِثَالًا لِمَا نَدَبَ إلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ { إذَا أَتَاكُمْ كَرِيمُ قَوْمٍ فَأَكْرِمُوهُ } ، وَقَدْ بَسَطَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رِدَاءَهُ حِينَ أَتَاهُ وَلَكِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَسْتَحْسِنْ ذَلِكَ مِنْهُ فِي هَذَا الْوَقْتِ فَقَالَ هَذَا أَوَّلُ جَوْرِك ، وَفِيهِ دَلِيلُ وُجُوبِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي كُلِّ مَا يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْهُ ، وَمَا كَانَ ذَلِكَ يَخْفَى عَلَى زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلَكِنْ وَقَعَ عِنْدَهُ أَنَّ الْحُكْمَ فِي هَذَا لَيْسَ كَالْقَاضِي ، وَإِنَّ الْخَلِيفَةَ فِي هَذَا لَيْسَ كَغَيْرِهِ فَبَيَّنَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الْحُكْمَ فِي حَقِّ الْخَصْمَيْنِ كَالْقَاضِي ( قَالَ ) وَكَانَتْ الْيَمِينُ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لِأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَوْ أَعْفَيْت أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْيَمِينِ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا ، وَلَكِنْ أَحْلِفُ فَتَرَكَ لَهُ أُبَيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ وَأَهْلُ الْحَدِيثِ يَرْوُونَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِزَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَهَذَا أَيْضًا يُبَيِّنُ أَنَّ عَلَى الْحَاكِمِ أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ الْمَيْلِ إلَى أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ صَرِيحًا وَدَلَالَةً ، وَأَنَّ مَجْلِسَ الشَّفَاعَةِ غَيْرُ

مَجْلِسِ الْحُكُومَةِ ، ثُمَّ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْمَرْءِ أَنْ يَحْلِفَ إذَا كَانَ صَادِقًا فَقَدْ رَغِبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ مَعَ صَلَابَتِهِ فِي الدِّينِ ، وَإِنْ تَحَرَّزَ عَنْ ذَلِكَ فَهُوَ وَاسِعٌ لَهُ أَيْضًا كَمَا رُوِيَ أَنَّ عُثْمَانَ امْتَنَعَ عَنْ ذَلِكَ .
وَقَالَ أَخْشَى أَنْ يُوَافِقَ قَدَرٌ يَمِينِي فَيُقَالُ أَصَبْتُ بِذَلِكَ فَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْيَمِينَ حَقُّ الْمُدَّعِي قَبْلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَسْتَوْفِي بِطَلَبِهِ وَيَتْرُكُ إذَا تَرَكَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ أُبَيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَرَكَ لَهُ ذَلِكَ وَبَيَانُ هَذَا فِيمَا { قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْمُدَّعِي أَلَكَ بَيِّنَةٌ فَقَالَ لَا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَكَ يَمِينٌ } وَعَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لَا أَحْسُدُ إلَّا فِي اثْنَيْنِ رَجُلٌ أَتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَهُوَ يُنْفِقُهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَرَجُلٌ أَتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا فَهُوَ يُعَلِّمُهُ وَيَقْضِي بِهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَمَعْنَاهُ الْحَسَدُ يَضُرُّ إلَّا فِي الِاثْنَيْنِ فَيَكُونُ فِي ذَلِكَ بَيَانُ أَنَّ الْحَسَدَ مَذْمُومٌ يَضُرُّ الْحَاسِدَ إلَّا فِيمَا اسْتَثْنَاهُ فَهُوَ مَحْمُودٌ فِي ذَلِكَ ، وَهَذَا لَيْسَ بِحَسَدٍ فِي الْحَقِيقَةِ بَلْ هُوَ غِبْطَةٌ وَالْغِبْطَةُ مَحْمُودَةٌ فَمَعْنَى الْحَسَدِ هُوَ أَنْ يَتَمَنَّى الْحَاسِدُ أَنْ تَذْهَبَ نِعْمَةُ الْمَحْسُودِ عَنْهُ وَيَتَكَلَّفُ لِذَلِكَ وَمَعْنَى الْغِبْطَةِ أَنْ يَتَمَنَّى لِنَفْسِهِ مِثْلَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَكَلَّفَ وَيَتَمَنَّى ذَهَابَ ذَلِكَ عَنْهُ .
وَهَذَا فِي أَمْرِ الدُّنْيَا غَيْرُ مَذْمُومٍ فَفِي أَمْرِ الدِّينِ أَوْلَى أَنْ يَكُونَ مَحْمُودًا وَاَلَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى يَكْتَسِبُ الْآخِرَةَ بِدُنْيَاهُ وَاَلَّذِي يُعَلِّمُ وَيَقْضِي بِهِ بِالْحَقِّ يَكْتَسِبُ الْمَحْمَدَةَ فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابَ فِي الْآخِرَةِ فَمَنْ يَتَمَنَّى لِنَفْسِهِ مِثْلَ ذَلِكَ يَكُونُ مَحْمُودًا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى .
فَأَمَّا الْحَسَدُ الْمَذْمُومُ فَهُوَ مَا قِيلَ الْحَاسِدُ جَاحِدٌ لِقَضَاءِ

الْوَاحِدِ فَهُوَ أَنْ يَتَكَلَّفَ لِذَهَابِ ذَلِكَ عَنْهُ وَيَعْتَقِدَ أَنَّ تِلْكَ نِعْمَةٌ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهَا وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ { لَا يَنْجُو أَحَدُكُمْ مِنْ الْحَسَدِ وَالظَّنِّ وَالطِّيَرَةِ قِيلَ ، وَمَا الْمُخَلِّصُ مِنْ ذَلِكَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا حَسَدْت فَلَا تَبْغِ أَيْ لَا تَتَكَلَّفْ لِإِزَالَةِ النِّعْمَةِ عَنْ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ .
وَإِذَا ظَنَنْت فَلَا تَحَقَّقْ وَإِذَا نَظَرْت فَلَا تَرْجِعْ } وَعَنْ سَوَّارِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ شَهِدْت أَنَا وَرَجُلٌ عِنْدَ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِشَهَادَةٍ فَفِيهَ صَاحِبِي عَنْ حُجَّتِهِ أَيْ عَجَزَ عَنْ إظْهَارِ حُجَّتِهِ وَغَفَلَ عَنْ ذَلِكَ فَقُلْت لَهُ أَتَفْسُدُ شَهَادَتِي إنْ أَعْرَبْتُ عَنْهُ فَقَالَ لَا فَأَعْرَبْتُ عَنْهُ فَقَضَى لَهُ ، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا ؛ لِأَنَّ مَنْ يَكُونُ خَصْمًا فِي حَادِثَةٍ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ فَخَافَ إنْ أَظْهَرَ حُجَّةَ صَاحِبِهِ أَنْ يَجْعَلَهُ خَصْمًا وَيُفْسِدَ شَهَادَتَهُ فَبَيَّنَ لَهُ شُرَيْحٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يَصِيرُ خَصْمًا بِهَذَا الْقَدْرِ إذَا لَمْ يُوَكِّلْهُ صَاحِبُهُ بِهِ بَلْ هُوَ مُتَبَرِّعٌ فِيمَا يُظْهِرُ مِنْ حُجَّةِ صَاحِبِهِ ، وَلَيْسَ فِيهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُعَيِّنَ الْمُدَّعِيَ ، وَمَا حَضَرَ مَجْلِسَ الْقَاضِي إلَّا لِتَعْيِينِ الْمُدَّعِي وَتَوَصُّلِهِ إلَى حَقِّهِ فَلَا يُفْسِدُ بِهِ شَهَادَتَهُ وَعَنْ سَوَّارٍ قَالَ اخْتَصَمَ قَوْمٌ عِنْدَ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى فَذَكَرْت لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ مَا أُرَاهُ فَهِمَ وَسَأَذْكُرُ ذَلِكَ لَهُ اللَّيْلَةَ فَذَكَرْت ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ مَا فَهِمْت فَمُرْهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا لِي فَرَجَعُوا إلَيْهِ فَقَضَى لَهُمْ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ وَقَفَ عَلَى خَطَأِ الْقَاضِي فِي قَضَائِهِ أَنْ يُنَبِّهَهُ وَلَا يُجَاهِرَهُ بِذَلِكَ مُرَاعَاةً لِحِشْمَتِهِ ، وَلَكِنَّهُ يَأْمُرُ أَقْرَبَ النَّاسِ مِنْهُ لِيُخْبِرَهُ بِذَلِكَ فِي حَالِ خَلْوَتِهِ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ خَطَأٌ فِي قَضَائِهِ

يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُظْهِرَ رُجُوعَهُ عَنْ ذَلِكَ وَلَا يَمْنَعُهُ الِاسْتِيحَاءُ عَنْ النَّاسِ مِنْ ذَلِكَ وَلَا الْخَوْفُ فَاَللَّهُ تَعَالَى يَحْفَظُهُ مِنْ النَّاسِ وَالنَّاسُ لَا يَحْفَظُونَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ مَكْحُولٍ قَالَ لَأَنْ أَكُونَ قَاضِيًا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَكُونَ خَازِنًا يَعْنِي أَنَّ خَازِنَ بَيْتِ الْمَالِ عَامِلٌ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْقَاضِي كَذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْخَازِنَ يَحْفَظُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مَالَهُمْ وَالْقَاضِي يَحْفَظُ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَتَمَكُّنُ الْخَازِنِ مِنْ الْمَالِ خَوْفَ الْفِتْنَةِ عَلَى نَفْسِهِ بِسَبَبِهِ أَكْثَرُ مِنْ تَمَكُّنِ الْقَاضِي ؛ فَلِهَذَا آثَرَ الْقَضَاءَ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُتَقَدِّمِينَ فِيهِمْ مَنْ كَانَ يُؤْثِرُ تَقَلُّدَ الْقَضَاءِ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنْهُ وَعَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ مَا شَدَدْت عَلَى لَهْوَاةِ خَصْمٍ أَيْ مَا مَنَعْته مِنْ إظْهَارِ حُجَّتِهِ ، وَمَا قَوَّيْت أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ عَلَى الْآخَرِ بِتَلْقِينِ شَيْءٍ قَطُّ ؛ وَلِهَذَا بَقِيَ فِي الْقَضَاءِ مُدَّةً طَوِيلَةً .
وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَضَافَ رَجُلًا فَلَمَّا مَكَثَ أَيَّامًا قَرُبَ إلَيْهِ فِي خُصُومَةٍ فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَخَصْمٌ أَنْتَ فَقَالَ نَعَمْ { فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَانَا أَنْ نُضَيِّفَ الْخَصْمَ إلَّا أَنْ يَكُونَ خَصْمُهُ مَعَهُ } ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَخُصَّ بَعْضَ النَّاسِ بِالضِّيَافَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ خُصُومَةٌ ، وَأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُضَيِّفَ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ دُونَ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكْسِرُ قَلْبَ الْخَصْمِ الْآخَرِ وَيُلْحِقُ بِهِ تُهْمَةَ الْمَيْلِ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُضَيِّفَهُمَا جَمِيعًا ؛ لِأَنَّ تُهْمَةَ الْمَيْلِ تَنْتَفِي عَنْهُ إذَا سَوَّى بَيْنَهُمَا وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ { قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اقْضِ بَيْنَ هَذَيْنِ قَالَ أَأَقْضِي

، وَأَنْتَ حَاضِرٌ ، أَوْ جَالِسٌ قَالَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَسَلَامُهُ نَعَمْ قَالَ عَلَى مَاذَا أَقْضِي قَالَ سَلَامُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَلَى أَنَّك إنْ اجْتَهَدْت فَأَصَبْت فَلَكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ ، وَإِنْ أَخْطَأْتَ فَلَكَ حَسَنَةٌ } ، وَفِيهِ دَلِيلٌ لِأَهْلِ السُّنَّةِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ الْمُجْتَهِدُ يُصِيبُ وَيُخْطِئُ وَعَلَيْهِ دَلَّ قَوْله تَعَالَى { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } وَالْفَهْمُ هُوَ إصَابَةُ الْحَقِّ فَقَدْ خَصَّهُ بِذَلِكَ فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ مَعْذُورٌ ، وَإِنْ أَخْطَأَ ، وَهَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ طَرِيقُ الْإِصَابَةِ بَيِّنًا وَهُوَ مُثَابٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ فَإِنْ أَصَابَ الْمَطْلُوبَ بِالِاجْتِهَادِ فَلَهُ ثَوَابُ الِاجْتِهَادِ وَثَوَابُ إظْهَارِ الْحَقِّ بِجُهْدِهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَكَ عَشْرُ حَسَنَاتٍ ، وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ حَسَنَةٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ إذَا كَانَ مُصِيبًا فِي طَرِيقِ الِاجْتِهَادِ ، وَإِنْ لَمْ يُصِبْ الْمَطْلُوبَ بِالِاجْتِهَادِ وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إنَّ اللَّهَ تَعَالَى مَعَ الْقَاضِي مَا لَمْ يُخْفِ عَمَلًا يَشْدُدْهُ لِلْحَقِّ مَا لَمْ يَرِدْ غَيْرُهُ } ، وَهَذَا فِي كُلِّ عَامِلٍ يَبْتَغِي بِعَمَلِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى فَاَللَّهُ تَعَالَى يُعِينُهُ عَلَى ذَلِكَ وَيُوَفِّقُهُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَاَلَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } { .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا تَسْأَلْ الْإِمَارَةَ فَإِنَّك إنْ أُعْطِيتهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْت إلَيْهَا ، وَإِنْ أُعْطِيتهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْت عَلَيْهَا } ، ثُمَّ هَذَا الْوَعْدُ لِلْقَاضِي مَا لَمْ يَظْلِمْ عَمْدًا فَالْحَيْفُ هُوَ الظُّلْمُ .
فَإِذَا اشْتَغَلَ بِهِ وَكَلَهُ اللَّهُ إلَى نَفْسِهِ ، وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ بِعَمَلِهِ غَيْرَ اللَّهِ تَعَالَى { قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يُؤْثَرُ عَنْ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ فَمَنْ عَمِلَ لِي

عَمَلًا وَأَشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَهُوَ كَلٌّ لِذَلِكَ الشَّرِيكِ ، وَأَنَا مِنْهُ بَرِيءٌ .
}

قَالَ وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُنْصِفَ الْخَصْمَيْنِ فِي مَجْلِسِهِمَا ، وَفِي النَّظَرِ إلَيْهِمَا ، وَفِي الْمَنْطِقِ أَيْ يُسَوِّي بَيْنَهُمَا فَالْإِنْصَافُ عِبَارَةٌ عَنْ التَّسْوِيَةِ مَأْخُوذٌ مِنْ الْمُنَاصَفَةِ فَفِي كُلِّ مَا يَتَمَكَّنُ مِنْ مُرَاعَاةِ التَّسْوِيَةِ فِيهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ إلَّا مَا لَا يَكُونُ فِي وُسْعِهِ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ مِنْ النَّهْيِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُظْهِرَ حُجَّةَ أَحَدِهِمَا فَهُوَ غَيْرُ مُؤَاخَذٌ بِذَلِكَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ { النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُسَوِّي فِي الْقَسْمِ بَيْنَ نِسَائِهِ ، ثُمَّ يَقُولُ اللَّهُمَّ هَذَا فِي مَا أَمْلِكُ فَلَا تُؤَاخِذْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ } يَعْنِي مِنْ الْمَيْلِ بِالْقَلْبِ إلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ عَلَى أَحَدِهِمَا مَا لَا يَرْفَعُهُ عَلَى الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا فِي ذَلِكَ مُمْكِنَةٌ وَتَخْصِيصُ أَحَدِهِمَا بِرَفْعِ الصَّوْتِ عَلَيْهِ تَجُرُّ تُهْمَةً إلَيْهِ وَهُوَ مُكَسِّرٌ لِقَلْبِ مَنْ يَرْفَعُ صَوْتَهُ عَلَيْهِ وَلَا يَنْطَلِقُ بِوَجْهِهِ إلَى أَحَدِهِمَا فِي شَيْءٍ مِنْ الْمَنْطِقِ مَا لَا يَفْعَلُهُ بِالْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُ يَزْدَادُ بِهِ قُوَّةً وَجَرَاءَةً عَلَى الْخَصْمِ وَيَطْمَعُ أَنْ يَمِيلَ بِالرِّشْوَةِ إلَيْهِ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشُدَّ عَلَى عَضُدِ أَحَدِهِمَا وَلَا يُلَقِّنَهُ حُجَّتَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ الْخُصُومَةِ وَبَيْنَ كَوْنِهِ قَاضِيًا وَخَصْمًا مُنَافَاةٌ وَهُوَ مُكَسِّرٌ لِقَلْبِ الْخَصْمِ وَسَبَبٌ لِجَرِّ تُهْمَةِ الْمَيْلِ إلَيْهِ وَهُوَ إنْشَاءُ الْخُصُومَةِ ، وَإِنَّمَا جَلَسَ لِفَصْلِ الْخُصُومَةِ لَا لِإِنْشَائِهَا .

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَشْتَرِيَ شَيْئًا وَلَا يَبْتَعْ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ لِنَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ جَلَسَ لِلْقَضَاءِ فَلَا يَخْلِطْ بِهِ مَا لَيْسَ مِنْ الْقَضَاءِ وَمُعَامَلَتُهُ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ ، وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِيمَا يَبِيعُ وَيَشْتَرِي يُمَاكِسُ عَادَةً ، وَذَلِكَ يُذْهِبُ حِشْمَةَ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَيَضَعُ مِنْ جَاهِهِ بَيْنَ النَّاسِ ، وَفِي قَوْلِهِ لِنَفْسِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ لِيَتِيمٍ ، أَوْ مَيِّتٍ مَدْيُونٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْقَضَاءِ ، وَإِنَّمَا جَلَسَ لِأَجْلِهِ وَمُبَاشَرَةُ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ يَكُونُ أَبْعَدَ عَنْ التُّهْمَةِ مِنْهُ إذَا بَاشَرَهُ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَبِيعَ وَيَشْتَرِيَ لِنَفْسِهِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ عِنْدَنَا وَمِنْ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ مَنْ كَرِهَ ذَلِكَ لِلْقَاضِي وَيَرْوُونَ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { قَالَ لَا يَبِيعُ الْقَاضِي وَلَا يَبْتَاعُ } ، وَلِأَنَّ الْعَادَةَ أَنَّ النَّاسَ يُسَامِحُونَ فِي الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْقَضَاءِ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ خَوْفًا مِنْهُمْ ، أَوْ طَمَعًا فِيهِمْ فَيَكُونُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فِي مَعْنَى مَنْ يَأْكُلُ بِدِينِهِ وَالْمَقْصُودُ يَحْصُلُ إذَا فَوَّضَ ذَلِكَ إلَى غَيْرِهِ لِيُبَاشِرَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يُبَاشِرُ ، وَلَكِنْ نَقُولُ نَسْتَدِلُّ بِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { اشْتَرَى سَرَاوِيلَ بِدِرْهَمَيْنِ } الْحَدِيثَ فَقَدْ بَاشَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشِّرَاءَ لِنَفْسِهِ وَكَانَ رُؤَسَاءُ الْقَضَاءِ وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَانُوا يُبَاشِرُونَ ذَلِكَ بِأَنْفُسِهِمْ حَتَّى أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بَعْدَ مَا اسْتَخْلَفَ حَمَلَ مَتَاعًا مِنْ مَتَاعِ أَهْلِهِ إلَى السُّوقِ لِيَبِيعَهُ ، وَلِأَنَّهُ بَعْدَ تَقَلُّدِ الْقَضَاءِ يَحْتَاجُ لِنَفْسِهِ وَعِيَالِهِ إلَى مَا كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ قَبْلَ التَّقَلُّدِ وَبِأَنَّ تَقَلُّدَ هَذِهِ الْأَمَانَةِ

لَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ مَعْنَى النَّظَرِ لِنَفْسِهِ وَالْقِيَامِ بِمَصَالِحِ عِيَالِهِ وَتُهْمَةُ الْمُسَامَحَةِ مَوْهُومَةٌ ، أَوْ هُوَ نَادِرٌ فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ لِأَجْلِهِ ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ إذَا لَمْ تَكُنْ مُبَاشَرَةُ هَذَا التَّصَرُّفِ مِنْ عَادَةِ الْقَاضِي فِي كُلِّ وَقْتٍ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ عَادَتِهِ فَقَلَّمَا يُسَامَحُ فِي ذَلِكَ فَوْقَ مَا يُسَامَحُ بِهِ غَيْرُهُ وَتَأْوِيلُ النَّهْيِ إنْ صَحَّ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَلَا يُسَارَّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَجُرُّ إلَيْهِ تُهْمَةَ الْمَيْلِ وَيَنْكَسِرُ بِسَبَبِهِ قَلْبُ الْآخَرِ وَبِهِ يَنْتَقِصُ حِشْمَةَ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَغِلَ بِهِ .

وَإِذَا تَقَدَّمَ إلَيْهِ الْخَصْمَانِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ابْتَدَأَهُمَا فَقَالَ مَالَكُمَا ، وَإِنْ شَاءَ تَرَكَهُمَا حَتَّى يَبْتَدِئَاهُ بِالْمَنْطِقِ وَبَعْضُ الْقُضَاةِ يَخْتَارُ السُّكُوتَ لِيَكُونَ الْخَصْمُ هُوَ الَّذِي يَبْتَدِئُ بِالْكَلَامِ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ إذَا ابْتَدَأَهُمَا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ تَهَيُّجًا لِلْخُصُومَةِ ، وَإِنَّمَا جَلَسَ لِفَصْلِ الْخُصُومَةِ لَا لَتَهَيُّجِهَا ، وَلَكِنَّا نَقُولُ الرَّأْيُ فِي ذَلِكَ إلَيْهِ فَحِشْمَةُ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ قَدْ تَمْنَعُهُمَا مِنْ الْكَلَامِ مَا لَمْ يَبْتَدِئْ الْقَاضِي بِالْكَلَامِ .
فَإِذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَانَ لَهُ أَنْ يَبْتَدِئَ فَيَقُولَ مَالَكُمَا ، وَمَا تَقَدَّمَ إلَيْهِ إلَّا بَعْدَ الْمُنَازَعَةِ وَالْخُصُومَةِ بَيْنَهُمَا فَلَا يَكُونُ هَذَا اللَّفْظُ مِنْهُ تَهَيُّجًا لِلْخُصُومَةِ ، وَلَكِنْ لَا يُكَلِّمُهُمْ بِشَيْءٍ آخَرَ سِوَى مَا تَقَدَّمَ لِأَجْلِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُذْهِبُ حِشْمَةَ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ ؛ وَلِهَذَا لَا يُسَلِّمَانِ عَلَيْهِ إذَا تَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ مَعَ أَنَّ السَّلَامَ سُنَّةٌ

فَإِنْ تَكَلَّمَ صَاحِبُ الدَّعْوَى أَسْكَتَ الْآخَرَ وَاسْتَمَعَ مِنْ صَاحِبِ الدَّعْوَى حَتَّى يَفْهَمَ حُجَّتَهُ ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَكَلَّمَا مَعًا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَفْهَمَ كَلَامَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } ، وَلِأَنَّ تَكَلُّمَهُمَا مَعًا نَوْعُ شَغَبٍ ، وَبِهِ يُنْتَقَصُ حِشْمَةُ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ قَالَ ، ثُمَّ يَأْمُرُهُ بِالسُّكُوتِ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَسْتَنْطِقُ الْآخَرَ وَظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَنْطِقُ الْآخَرَ ، وَإِنْ لَمْ يَسْأَلْ الْمُدَّعِي ذَلِكَ وَاخْتِيَارُ بَعْضِ الْقُضَاةِ أَنَّهُ لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ إلَّا عِنْدَ سُؤَالِ الْمُدَّعِي ، وَلَكِنَّهُ إذَا نَظَرَ فِي دَعْوَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ صَحِيحَةً يَقُولُ لَهُ قُمْ فَصَحِّحْ دَعْوَاك ؛ لِأَنَّ بِالدَّعْوَى الْفَاسِدَةَ لَا يُسْتَحَقُّ الْجَوَابُ ، وَإِنْ صَحَّتْ الدَّعْوَى قَالَ أَخْبَرْتَنِي فَمَاذَا أَصْنَعُ فَإِنْ قَالَ أُرِيدُ جَوَابَهُ فَسَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ حِينَئِذٍ يَسْتَنْطِقُ الْآخَرَ وَالْأَصَحُّ عِنْدَنَا أَنَّهُ يَسْتَنْطِقُ الْآخَرَ ، وَإِنْ لَمْ يَلْتَمِسْ الْمُدَّعِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مَا تَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَمَا أَحْضَرَ خَصْمَهُ إلَّا مُلْتَمِسًا لِذَلِكَ فَلَا يُحْتَاجُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى الْتِمَاسِ الْآخَرِ فَإِنْ سَأَلَهُ فَأَقَرَّ بِحَقِّهِ أَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ مِنْ حَقِّهِ ، وَإِنْ أَنْكَرَ قَالَ لِلْمُدَّعِي سَمِعْتَ إنْكَارَهُ ، أَوْ هُوَ مُنْكِرٌ فَمَا نَقُولُ .
فَإِذَا قَالَ حَلِّفْهُ يَطْلُبُ الْمُدَّعِي بَعْدَ أَنْ سَأَلَهُ بَيِّنَةً وَلَا يَسْأَلُهُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَطْلُبْ يَمِينَهُ ؛ لِأَنَّهُ نَوْعُ تَلْقِينٍ وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُلَقِّنَ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ حُجَّتَهُ ، وَلَكِنْ إذَا طَلَبَ يَمِينَهُ فَحِينَئِذٍ جَاءَ أَوَانُ الِاسْتِحْلَافِ إذَا لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ حَاضِرَةٌ فَسَأَلَهُ عِنْدَ ذَلِكَ أَلَكَ بَيِّنَةٌ .

وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ إلَّا وَهُوَ مُقْبِلٌ عَلَى الْحُجَجِ مُفْرِغٌ نَفْسَهُ لِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ أَمْرٌ مُهِمٌّ فَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ النَّظَرِ فِيهِ وَمُبَاشَرَتِهِ لِمَا الْتَزَمَ مَا لَمْ يُفْرِغْ نَفْسَهُ لِذَلِكَ عَنْ سَائِرِ الْأَشْغَالِ .
فَإِذَا دَخَلَهُ هَمٌّ ، أَوْ غَضَبٌ أَوْ نُعَاسٌ كَفَّ عَنْ ذَلِكَ حَتَّى يَذْهَبَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ اعْتِدَالَ حَالِهِ زَالَ بِمَا دَخَلَهُ فَالْهَمُّ يَغْلِبُ عَلَى الْقَلْبِ حَتَّى لَا يَجِدَ شَيْئًا آخَرَ مَعَهُ فِيهِ مُسَاغًا وَالْغَضَبُ كَذَلِكَ وَالنُّعَاسُ كَذَلِكَ فَالنَّاعِسُ لَا يَفْهَمُ بَعْضَ مَا يُذْكَرُ عِنْدَهُ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ { إذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلْيَرْقُدْ فَلَا يَدْرِي لَعَلَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَدْعُوَ فَيَسُبَّ نَفْسَهُ } ، ثُمَّ يُقْبِلُ عَلَى الْقَضَاءِ وَهُوَ مُتَفَرِّغٌ لَهُ مُسْتَمِعٌ غَيْرُ مُعَجِّلٍ لِلْخُصُومِ عَنْ حُجَّتِهِمْ ؛ لِأَنَّ الِاسْتِعْجَالَ يَضُرُّ بِالْخَصْمِ كَمَا أَنَّ تَرْكَ النَّظَرِ فِيمَا يُقِيمُ مِنْ الْحُجَّةِ يَضُرُّ بِهِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ نَوْعِ الشَّرِّ وَالْإِضْرَارِ ، وَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُشَارُ وَلَا يُضَارُّ قَالَ وَلَا يُخَوِّفُهُمْ فَإِنَّ الْخَوْفَ مِمَّا يَقْطَعُ حُجَّةَ الرَّجُلِ يَعْنِي أَنَّ الْخَائِفَ يَعْجَزُ عَنْ إظْهَارِ حُجَّتِهِ

وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي مَهِيبًا يُحْتَشَمُ مِنْهُ ، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مُخِيفًا لِلنَّاسِ يَخَافُونَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ يَمْنَعُهُمْ مِنْ إظْهَارِ الْحَقِّ بِالْحُجَّةِ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { صَلَّى صَلَاةَ الْفَجْرِ بِمَسْجِدِ الْخَيْفِ فَرَأَى رَجُلَيْنِ لَمْ يُصَلِّيَا مَعَهُ فَقَالَ عَلَيَّ بِهِمَا فَأُتِيَ بِهِمَا وَفَرَائِصُهُمَا تَرْتَعِدُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَخَافَا فَإِنَّمَا أَنَا ابْنُ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانَتْ تَأْكُلُ الْقَدِيدَ } الْحَدِيثَ فَإِنْ ( قِيلَ ) أَلَيْسَ أَنَّهُ ذُكِرَ فِي سِيرَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا يَهَابُونَهُ حَتَّى قِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لِمَ لَمْ يُذْكَرْ قَوْلُك فِي الْقَوْلِ لِعُمَرَ فَقَالَ كَانَ رَجُلًا مَهِيبًا فَهِبَتُهُ ، أَوْ قَالَ خِفْت دِرَّتَهُ ( قُلْنَا ) هَذَا لَا يَكَادُ يَصِحُّ فَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ أَلْيَنَ مِنْ غَيْرِهِ فِي قَبُولِ الْحَقِّ وَكَانَ يُشَاوِرُهُمْ وَرُبَّمَا كَانَ يُقَدِّمُ قَوْلَ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي الْأَخْذِ عِنْدَ الشُّورَى عَلَى قَوْلِ بَعْضِ الْكِبَارِ مِنْ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ ، ثُمَّ كَوْنُ الْقَاضِي مَهِيبًا غَيْرُ مَذْمُومٍ عِنْدَنَا ، وَإِنَّمَا الْمَذْمُومُ أَنْ يَتَكَلَّفَ لِتَخْوِيفِ الْخُصُومِ إذَا تَقَدَّمُوا بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَمْ يُنْقَلْ ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ ، وَإِنْ كَانَ خَيْرًا لِلْقَاضِي أَنْ يُقْعِدَ عِنْدَهُ أَهْلَ الْفِقْهِ فَقَعَدُوا عِنْدَهُ فَرُبَّمَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يَسْتَشِيرَهُمْ ، وَقَدْ رَوَيْنَا أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ وَرُبَّمَا يَخْفَى عَلَيْهِ بَعْضُ مَا يَقِفُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ فَيُنَبِّهُهُ عَلَيْهِ وَرُبَّمَا يَحْتَاجُ إلَى أَنْ يُشْهِدَهُمْ فَيَكُونَ أَهْلُ الْفِقْهِ وَالصَّلَاحِ عِنْدَهُ مِنْ نَوْعِ الِاحْتِيَاطِ فَإِنْ دَخَلَهُ حَصْرٌ فِي قُعُودِهِمْ عِنْدَهُ ، أَوْ شَغَلَهُ ذَلِكَ عَنْ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ

جَلَسَ وَحْدَهُ ؛ لِأَنَّ طِبَاعَ النَّاسِ فِي هَذَا تَخْتَلِفُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْنَعُهُ حِشْمَةُ الْفُقَهَاءِ مِمَّا يُرِيدُهُ مِنْ فَصْلِ الْقَضَاءِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْدَادُ قُوَّةً عَلَى ذَلِكَ وَالْمَقْصُودُ هُوَ النَّظَرُ لِلْمُسْلِمِينَ .
فَإِذَا كَانَ هُوَ مِمَّنْ يَدْخُلُهُ حَصْرٌ بِحَضْرَةِ الْفُقَهَاءِ جَلَسَ وَحْدَهُ ، وَلَكِنْ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ إذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِالْفِقْهِ وَالْعَدَالَةِ فَبِالْفِقْهِ يُؤْمَنُ غَلَطُهُ وَبِالْعَدَالَةِ يُؤْمَنُ جَوْرُهُ .

وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُتْعِبَ نَفْسَهُ فِي طُولِ الْجُلُوسِ ؛ لِأَنَّ بِذَلِكَ يَزُولُ اعْتِدَالُ الْحَالِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَنْظُرُ فِي الْحُجَجِ إلَّا عِنْدَ اعْتِدَالِ الْحَالِ قَالَ فَإِنِّي أَتَخَوَّفُ عَلَيْهِ أَنْ يَضُرَّ ذَلِكَ بِنَظَرِهِ فِي الْحُجَجِ وَالْخُصُومِ يَعْنِي إذَا أَتْعَبَ نَفْسَهُ رُبَّمَا لَا يَفْهَمُ بَعْضَ كَلَامِ الْخُصُومِ وَرُبَّمَا يَضْجَرُ بِسَبَبِهِ عَلَى بَعْضِ الْخُصُومِ ، وَهَذَا أَيْضًا فِي الْمُدَرِّسِ كَذَلِكَ وَإِلَيْهِ أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ { إنْ النَّفْسَ تَمَلُّ كَمَا تَمَلُّ الْأَبْدَانُ فَابْتَغَوْا لَهَا ظَرَائِفَ الْحِكْمَةِ } ، وَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا كَانَ إذَا مَلَّ مِنْ بَيَانِ أَنْوَاعِ الْعِلْمِ قَالَ لِأَصْحَابِهِ اخْصِمُوا أَيْ خُوضُوا فِي دِيوَانِ الْعَرَبِ فَتَذَكَّرُوا شَيْئًا مِنْ الْمُلَحِ قَالَ ، وَلَكِنَّهُ يَقْعُدُ فِي طَرَفَيْ النَّهَارِ ، أَوْ مَا أَطَاقَ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْقَضَاءِ عِبَادَةٌ فَالْأَوْلَى أَنْ يَجْلِسَ لَهُ فِي طَرَفَيْ النَّهَارِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَأَقِمْ الصَّلَاةَ طَرَفَيْ النَّهَارِ } ، وَلِأَنَّ اعْتِدَالَ حَالِ الْمَرْءِ يَكُونُ فِي طَرَفَيْ النَّهَارِ عَادَةً ، أَوْ مَا أَطَاقَ مِنْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الطَّاعَةَ بِحَسَبِ الطَّاقَةِ ، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَبَكَّرَ لِلْخُصُومَةِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ فَقَدْ كَانَ شُرَيْحٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إذَا ابْتَكَرُوا قَبْلَ حُضُورِهِ قَالَ أَتَتَظَلَّمُونَ بِاللَّيْلِ فَعَرَفْنَا أَنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مَحْمُودٍ لِلْقَاضِي

( قَالَ ) وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُقَدِّمَ النِّسَاءَ عَلَى حِدَةٍ وَالرِّجَالَ عَلَى حِدَةٍ ؛ لِأَنَّ النَّاسَ يَزْدَحِمُونَ فِي مَجْلِسِهِ ، وَفِي اخْتِلَاطِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ عِنْدَ الزَّحْمَةِ مِنْ الْفِتْنَةِ وَالْقُبْحِ مَا لَا يَخْفَى ، وَلَكِنْ هَذَا فِي خُصُومَةٍ يَكُونُ بَيْنَ النِّسَاءِ .
فَأَمَّا الْخُصُومَةُ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ أَنْ يُقَدِّمَهُنَّ مَعَ الرِّجَالِ ، وَأَنْ يَجْعَلَ لِكُلِّ فَرِيقٍ يَوْمًا عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى مِنْ كَثْرَةِ الْخُصُومِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ إذَا تَرَكَهُمْ يَزْدَحِمُونَ عَلَى بَابِهِ وَرُبَّمَا يَقْتَتِلُونَ عَلَى ذَلِكَ ، وَفِيهِ مِنْ الْفِتْنَةِ مَا لَا يَخْفَى فَيَجْعَلُ ذَلِكَ مُنَاوَبَةً بَيْنَهُمْ بِالْأَيَّامِ لِيَعْرِفَ كُلُّ وَاحِدٍ يَوْمَ نَوْبَتِهِ فَيَحْضُرَ عِنْدَ ذَلِكَ وَالْخَصَّافُ رَحِمَهُ اللَّهُ ذَكَرَ فِي أَدَبِ الْقَاضِي أَنَّ الْأَوْلَى أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ عَلَى الرِّقَاعِ فَيُجَزِّئَ الْخُصُومَ أَجْزَاءً وَيَكْتُبَ بِاسْمِ كُلِّ فَرِيقٍ رُقْعَةً ، ثُمَّ يُخْرِجُ الرِّقَاعَ عَلَى الْأَيَّامِ لِلسَّبْتِ وَالْأَحَدِ إلَى آخِرِهِ ، وَذَلِكَ حَسَنٌ ، وَلَكِنَّ مُحَمَّدًا رَحِمَهُ اللَّهُ اخْتَارَ فِي الْكِتَابِ أَنْ يُقَدِّمَ النَّاسَ عَلَى مَنَازِلِهِمْ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ وَلَا يَبْتَدِئَ بِأَحَدٍ جَاءَ قَبْلَهُ غَيْرُهُ وَإِلَى هَذَا أَشَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ { سَبَقَك بِهَا عُكَّاشَةُ } ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الَّذِي جَاءَ أَوَّلًا اسْتَحَقَّ النَّظَرَ فِي حُجَّتِهِ أَنْ لَوْ كَانَ الْقَاضِي جَالِسًا عِنْدَ ذَلِكَ فَتَأَخُّرُ جُلُوسِ الْقَاضِي لَا يُغَيِّرُ اسْتِحْقَاقَهُ وَلَا يَبْطُلُ بِحُضُورِ غَيْرِهِ ؛ فَلِهَذَا تَقَدَّمَهُ عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى { وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } قَالَ وَيَضَعُ عَلَى ذَلِكَ أَمِينًا مِنْ قِبَلِهِ يُقَدِّمُهُمْ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ تَعَرُّفِ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ لِكَثْرَةِ أَشْغَالِهِ ، وَفِيمَا يُعَجِّلُ الْقَاضِي عَنْ مُبَاشَرَتِهِ يَسْتَعِينُ بِأَمِينٍ مِنْ أُمَنَائِهِ وَيَنْبَغِي أَنْ يَبْتَكِرَ ذَلِكَ الْأَمِينُ

إلَى بَابِ مَجْلِسِ الْقَاضِي لِيَعْلَمَ مَنَازِلَ النَّاسِ فِي الْحُضُورِ فَلَعَلَّهُمْ يَكْذِبُونَ فِي ذَلِكَ ، أَوْ أَنْ يَلْبِسُونَ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا يَجْعَلُ عَلَى ذَلِكَ أَمِينًا لَا يَطْمَعُ وَلَا يَرْتَشِي فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَمَلِ الْقُضَاةِ فَكَمَا لَا يَطْمَعُ هُوَ فِيمَا يَقْضِي .
فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ أَمِينُهُ .
قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ قَدْ جَرَى الرَّسْمُ فِي زَمَانِنَا أَنَّ الْبَوَّابَ عَلَى بَابِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ يَأْخُذُ مِنْ كُلِّ خَصْمٍ قِطْعَةً لَيُمَكِّنَهُ مِنْ الدُّخُولِ وَالْقَاضِي يَعْلَمُ ذَلِكَ وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْهُ ، وَفِيهِ فَسَادٌ عَظِيمٌ فَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَمْنَعَ أَحَدًا مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَلَا مِنْ أَنْ يَتَقَدَّمَ إلَى الْقَاضِي فِي حَاجَتِهِ فَهُوَ يَرْتَشِي لِيَكُفَّ ظُلْمَهُ عَنْهُ وَيُمَكِّنَهُ مِمَّا هُوَ مُسْتَحَقٌّ لَهُ وَالْقَاضِي يَعْلَمُ ذَلِكَ وَلَا يَمْنَعُ مِنْهُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ عَلِمَ أَنَّ أَمِينَهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ ، أَوْ يَزْنِي عَلَى بَابِهِ فَلَا يَمْنَعُهُ عَنْ ذَلِكَ ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يَجْعَلَ الْغُرَبَاءَ مَعَ أَهْلِ الْمِصْرِ فَعَلَ ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يَبْدَأَ بِهِمْ فَلَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ تَكُونَ الْغُرَبَاءُ غَيْرَ كَثِيرٍ فَإِنْ كَثُرُوا فِي كُلِّ يَوْمٍ فَشَغَلُوهُ عَنْ أَهْلِ الْمِصْرِ قَدَّمَهُمْ عَلَى مَنَازِلِهِمْ مَعَ النَّاسِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْغَرِيبَ عَلَى جَنَاحِ السَّفَرِ فَرُبَّمَا يَضُرُّ التَّأْخِيرُ بِهِ وَقَلْبُهُ مَعَ أَهْلِهِ .
فَإِذَا لَمْ يُقَدِّمْهُ الْقَاضِي رُبَّمَا تَرَكَ حَقَّهُ وَرَجَعَ إلَى أَهْلِهِ ، وَقَدْ أُمِرَ بِتَعَاهُدِ الْغَرِيبِ تَعْظِيمًا لِحَقِّ غُرْبَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فَلِهَذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ الْغُرَبَاءَ ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَضُرَّ بِأَهْلِ الْمِصْرِ ضَرَرًا فَإِنَّهُمْ جِيرَانُهُ ، وَإِنَّمَا يُقَلَّدُ الْقَضَاءَ لِيَنْظُرَ فِي حَوَائِجِهِ .
فَإِذَا كَانَ تَقْدِيمُ الْغُرَبَاءِ يَضُرُّ بِأَهْلِ الْمِصْرِ قَدَّمَهُمْ عَلَى مَنَازِلِهِمْ عَمَلًا بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

وَسَلَّمَ { لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ }

وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَشْهَدَ الْقَاضِي الْجِنَازَةَ وَيَعُودَ الْمَرِيضَ فَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ بَعْدَهُ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّ هَذَا مِنْ حَقِّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتَّةُ حُقُوقٍ } وَذَكَرَ فِي الْجُمْلَةِ { أَنْ يُشَيِّعَ جِنَازَتَهُ وَيَعُودَهُ إذَا مَرِضَ } وَلَا يَمْتَنِعُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِحُقُوقِ النَّاسِ عَلَيْهِ بِسَبَبِ تَقَلُّدِهِ الْقَضَاءَ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُجِيبَ الدَّعْوَةَ الْجَامِعَةَ فَذَلِكَ مِنْ السُّنَّةِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { مَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّعْوَةَ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ } قَالَ وَلَا تَجِبُ الدَّعْوَةُ الْخَاصَّةُ الْخَمْسَةُ وَالْعَشَرَةُ فِي مَكَان ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَجُرُّ إلَيْهِ تُهْمَةُ الْمَيْلِ بِأَنْ يَقُولَ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ إنَّ فُلَانًا فِي دَعْوَةِ فُلَانٍ كَلَّمَ الْقَاضِيَ وَهُوَ نَائِبٌ عَنْ خَصْمِي وَصَانَعَهُ عَلَى رِشْوَةٍ ، وَلِأَنَّ إجَابَةَ الدَّعْوَةِ الْخَاصَّةِ مِمَّا يَطْمَعُ النَّاسُ بِهِ فِي الْقَاضِي فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْتَرِزَ عَنْ ذَلِكَ وَأَصَحُّ مَا قِيلَ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ الدَّعْوَةِ الْجَامِعَةِ وَالْخَاصَّةِ أَنَّ كُلَّ مَا يَمْتَنِعُ صَاحِبُ الدَّعْوَةِ مِنْ إيجَادِهِ إذَا عَلِمَ أَنَّ الْقَاضِيَ لَا يُجِيبُهُ فَهُوَ الدَّعْوَةُ الْخَاصَّةُ ، وَإِنْ كَانَ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ إيجَادِهِ لِذَلِكَ فَهُوَ الدَّعْوَةُ الْعَامَّةُ ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ يَعْلَمُ أَنَّ الْقَاضِيَ لَمْ يَكُنْ مَقْصُودًا بِتِلْكَ الدَّعْوَةِ ، وَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ مِنْ إجَابَةِ الدَّعْوَةِ الْخَاصَّةِ إذَا لَمْ يَكُنْ صَاحِبُ الدَّعْوَةِ مِمَّنْ اعْتَادَ إيجَادَ الدَّعْوَةِ لَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَقَلَّدَ الْقَضَاءَ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ عَادَتِهِ قَبْلَ هَذَا فَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُجِيبَ دَعْوَتَهُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ فِي قَوْلِهِ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُجِيبَ دَعْوَةَ ذِي الْقَرَابَةِ ؛ لِأَنَّ هَذَا بَيْنَ الْقَرَابَاتِ لَيْسَ مِنْ جَوَالِبِ الْقَضَاءِ عَادَةً وَلَا صِدْقَ فِي ذَلِكَ كَالْأَقَارِبِ إذَا

كَانَ ذَلِكَ مَعْرُوفًا بَيْنَهُمْ قَبْلَ تَقَلُّدِ الْقَضَاءِ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُضَيِّفَ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ خَصْمُهُ مَعَهُ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ نَهْي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ .

( قَالَ ) وَلَا يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَقَبُولُ الْهَدِيَّةِ فِي الشَّرْعِ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ قَالَ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِعْمَ الشَّيْءُ الْهَدِيَّةُ إذَا دَخَلَتْ الْبَابَ ضَحِكَتْ الْأُسْكُفَّةُ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْهَدِيَّةُ تُذْهِبُ وَجَرَ الصَّدْرِ ، أَوْ وَغَرَ الصَّدْرِ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { تَهَادَوْا تَحَابُّوا } ، وَلَكِنَّ هَذَا فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ لِعَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ .
فَأَمَّا مَنْ تَعَيَّنَ لِذَلِكَ كَالْقُضَاةِ وَالْوُلَاةِ فَعَلَيْهِ التَّحَرُّزُ عَنْ قَبُولِ الْهَدِيَّةِ خُصُوصًا مِمَّنْ كَانَ لَا يُهْدِي إلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جَوَالِبِ الْقَضَاءِ وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الرِّشْوَةِ وَالسُّحْتِ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ { صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَعْمَلَ ابْنَ اللُّتْبِيَّةِ عَلَى الصَّدَقَاتِ فَجَاءَ بِمَالٍ فَقَالَ هَذَا لَكُمْ ، وَهَذَا مِمَّا أُهْدِيَ إلَيَّ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَتِهِ مَا بَالُ قَوْمٍ نَسْتَعْمِلُهُمْ فَيَقْدَمُوا بِمَالٍ وَيَقُولُونَ هَذَا لَكُمْ ، وَهَذَا مِمَّا أُهْدِيَ إلَيَّ فَهَلَّا جَلَسَ أَحَدُكُمْ عِنْدَ حِفْشِ أُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى إلَيْهِ أَمْ لَا } وَاسْتَعْمَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدِمَ بِمَالٍ فَقَالَ مِنْ أَيْنَ لَك هَذَا قَالَ تَنَاتَجَتْ الْخُيُولُ وَتَلَاحَقَتْ الْهَدَايَا قَالَ أَيْ عَدُوَّ اللَّهِ هَلَّا قَعَدْت فِي بَيْتِك فَنَظَرْت أَيُهْدَى إلَيْك أَمْ لَا فَأَخَذَ ذَلِكَ مِنْهُ وَجَعَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ فَعَرَفْنَا أَنَّ قَبُولَ الْهَدِيَّةِ مِنْ الرِّشْوَةِ إذَا كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَكْلِ بِالْقَضَاءِ وَمِمَّا يَدْخُلُ بِهِ عَلَيْهِ التُّهْمَةُ وَيَطْمَعُ فِيهِ النَّاسُ فَلِيُتَحَرَّزْ مِنْ ذَلِكَ إلَّا مِنْ ذِي رَحِمٍ مَحْرَمٍ مِنْهُ فَقَدْ كَانَ التَّهَادِي بَيْنَهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ عَادَةً ، وَلِأَنَّهُ مِنْ جَوَالِبِ الْقَرَابَةِ وَهُوَ مَنْدُوبٌ إلَى صِلَةِ الرَّحِمِ ، وَفِي الرَّدِّ مَعْنَى قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَقَطِيعَةُ الرَّحِمِ مِنْ

الْمَلَاعِنِ .
فَأَمَّا فِي حَقِّ الْأَجَانِبِ قَبُولُ الْقَاضِي الْهَدِيَّةَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُقَالُ إذَا دَخَلَتْ الْهَدِيَّةُ مِنْ الْبَابِ خَرَجَتْ الْأَمَانَةُ مِنْ الْكُوَّةِ .

وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَخْلُوَ فِي مَنْزِلِهِ مَعَ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ كَمَا لَا يُسَارُّ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يَقْضِيَ فِي مَنْزِلِهِ وَحَيْثُ أَحَبَّ ؛ لِأَنَّ عَمَلَ الْقَضَاءِ لَا يَخْتَصُّ بِمَكَانٍ ، وَلِأَنَّهُ فِي كَوْنِهِ طَاعَةً لَا يَكُونُ فَوْقَ الصَّلَاةِ ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا } فَأَحْسَنُ ذَلِكَ وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَقْضِيَ حَيْثُ تُقَامُ جَمَاعَةُ النَّاسِ يَعْنِي فِي الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ ، أَوْ غَيْرِهِ مِنْ مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ أَبْعَدَ عَنْ التُّهْمَةِ ، وَلِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ أَنْ يَحْضُرَ مَجْلِسَهُ عِنْدَ حَاجَتِهِ وَلَا يَشْتَبِهُ عَلَيْهِ مَوْضِعُهُ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى مَنْ يَهْدِيه إلَى ذَلِكَ مِنْ الْغُرَبَاءِ كَانَ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ

وَلَا يَقْضِي وَهُوَ يَمْشِي وَيَسِيرُ عَلَى الدَّابَّةِ فَإِنِّي أَتَخَوَّفُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الزَّلَلِ ؛ لِأَنَّهُ عِنْدَ ذَلِكَ لَا يَكُونُ مُعْتَدِلَ الْحَالِ فَيَكُونُ قَلْبُهُ مَشْغُولًا بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ الْمَشْيِ أَوْ السَّيْرِ فَلَا يَتَفَرَّغُ بِالنَّظَرِ فِي الْحُجَجِ ، وَلِأَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الِاسْتِخْفَافِ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَصُونَ قَضَاءَهُ عَنْ أَسْبَابِ الِاسْتِخْفَافِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا

وَلَا بَأْس بِأَنْ يَقْضِيَ وَهُوَ مُتَّكِئٌ ؛ لِأَنَّ التُّكَأَةَ نَوْعُ جِلْسَةٍ كَالتَّرَبُّعِ وَنَحْوِهِ وَطِبَاعُ النَّاسِ فِي الْجُلُوسِ تَخْتَلِفُ فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ اتِّكَاؤُهُ أَرْوَحَ لَهُ وَاعْتِدَالُ حَالِهِ عِنْدَ ذَلِكَ أَظْهَرُ وَالْأَصْلُ فِيهِ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ اخْتَصَمَا بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْحَدِيثَ إلَى أَنْ قَالَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَاسْتَوَى جَالِسًا فَقَدْ نَظَرَ فِي خُصُومَتِهِمَا حِينَ كَانَ مُتَّكِئًا فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ

وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ فَإِنْ أَتَاهُ شَيْءٌ لَمْ يَجِدْهُ فِيهِ قَضَى فِيهِ بِمَا أَتَاهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فِيهِ نَظَرَ فِيمَا أَتَاهُ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُمْ فَقَضَى ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِيمَا سَبَقَ وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا صَحَّ لَهُ قَوْلٌ عَنْ وَاحِدٍ مِنْ الْمَعْرُوفِينَ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَضَى بِهِ وَقَدَّمَهُ عَلَى الْقِيَاسِ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ } ، وَلِأَنَّ فِيمَا يَبْلُغُهُ عَنْ الصَّحَابِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ احْتِمَالُ السَّمَاعِ فَقَدْ كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ثُمَّ يُفْتُونَ بِهِ تَارَةً وَيَرَوْنَ أُخْرَى ، وَفِيهِ أَيْضًا احْتِمَالُ تَرْجِيحِ الْإِصَابَةِ فِي نَفْسِ الرَّأْيِ فَقَدْ وُفِّقُوا لِمَا لَمْ يُوَفَّقْ غَيْرُهُمْ بَعْدَهُمْ فَإِنْ كَانُوا اخْتَلَفُوا فِيهِ تَخَيَّرَ مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ أَحْسَنَهَا فِي نَفْسِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَالِفَهُمْ جَمِيعًا وَيَبْتَدِعَ شَيْئًا مِنْ رَأْيِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى قَوْلٍ لَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يُخَالِفَهُمْ .
فَإِذَا اخْتَلَفُوا عَلَى أَقَاوِيلَ مَحْصُورَةٍ فَذَلِكَ إجْمَاعٌ مِنْهُمْ عَلَى أَنَّ الْحَقَّ لَا يَعْدُو مِمَّا قَالُوا فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُخَالِفَهُمْ وَيَبْتَدِعَ شَيْئًا مِنْ رَأْيِهِ ، وَلَكِنَّهُ يَخْتَارُ أَحْسَنَ الْأَقَاوِيلِ فِي نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمَّا اخْتَلَفُوا وَلَمْ تَجْرِ الْمُحَاجَّةُ بَيْنَهُمْ بِالرِّوَايَةِ فَقَدْ انْقَطَعَ احْتِمَالُ السَّمَاعِ وَتَعَيَّنَ الْقَوْلُ بِالرَّأْيِ فَتَعَارُضُ أَقَاوِيلِهِمْ كَتَعَارُضِ الْأَقْيِسَةِ ، وَعِنْدَ ذَلِكَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَصِيرَ إلَى التَّرْجِيحِ وَيَعْمَلَ بِمَا ظَهَرَ الرُّجْحَانُ فِيهِ .
فَكَذَلِكَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ يَصِيرُ إلَى التَّرْجِيحِ فَإِنْ لَمْ يَبِنْ لَهُ وَجْهُ التَّرْجِيحِ فَلَهُ أَنْ يَعْمَلَ بِأَيِّ

الْأَقَاوِيلِ شَاءَ ؛ لِأَنَّ بِالتَّعَارُضِ لَا تَنْعَدِمُ الْحُجَّةُ فِي أَقَاوِيلِهِمْ فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْمَلَ بِأَحْسَنِهَا فِي نَفْسِهِ ، وَيَكُونُ ذَلِكَ عَمَلًا مِنْهُ بِالْحُجَّةِ فَإِنْ لَمْ يَجِدْهُ فِي مَا جَاءَهُ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ اجْتَهَدَ رَأْيَهُ فِي ذَلِكَ وَقَاسَهُ بِمَا جَاءَ مِنْهُ ، ثُمَّ قَضَى بِاَلَّذِي يَجْتَمِعُ رَأْيُهُ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ وَيَرَى أَنَّهُ الْحَقُّ ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِفَصْلِ الْقَضَاءِ .
وَالتَّكْلِيفُ بِحَسَبِ الْوُسْعِ وَاَلَّذِي فِي وُسْعِهِ اجْتِهَادُ الرَّأْيِ عِنْدَ انْقِطَاعِ سَائِرِ الْأَدِلَّةِ عَنْهُ فَيَشْتَغِلُ بِهِ إذْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ كَمَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْأَدِلَّةِ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ } وَالِاعْتِبَارُ رَدُّ الشَّيْءِ إلَى نَظِيرِهِ فَالْعِبْرَةُ هُوَ الْبَيَانُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { إنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ } وَالْبَيَانُ يَرُدُّ الشَّيْءَ إلَى نَظِيرِهِ .
فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْهِ شَاوَرَ رَهْطًا مِنْ أَهْلِ الْفِقْهِ فِيهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَعَلَيْهِ أَنْ يُشَاوِرَ الْفُقَهَاءَ ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى مَعْرِفَةِ الْحُكْمِ لِيَقْضِيَ بِهِ ، وَقَدْ عَجَزَ عَنْ إدْرَاكِهِ بِنَفْسِهِ فَلْيَرْجِعْ إلَى مَنْ يَعْرِفُ ذَلِكَ كَمَا إذَا احْتَاجَ مَعْرِفَةَ قِيمَةِ شَيْءٍ فَإِنْ اخْتَلَفُوا فِيهِ نَظَرَ إلَى أَحْسَنِ أَقَاوِيلِهِمْ وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ فَأَخَذَ بِهِ كَمَا بَيَّنَّا عِنْدَ اخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ إلَّا أَنَّ هُنَا إنْ رَأَى خِلَافَ رَأْيِهِمْ فَإِنْ اسْتَحْسَنَ وَأَشْبَهَ الْحَقَّ قَضَى بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّ إجْمَاعَهُمْ لَا يَنْعَقِدُ بِدُونِ رَأْيِهِ وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ ، وَلِأَنَّ رَأْيَهُ أَقْوَى فِي حَقِّهِ مِنْ رَأْيِ غَيْرِهِ فَلَوْ قَضَى بِرَأْيِهِ كَانَ قَاضِيًا بِمَا هُوَ الصَّوَابُ عِنْدَهُ .
وَإِذَا قَضَى بِرَأْيِ غَيْرِهِ كَانَ قَاضِيًا بِمَا عِنْدَهُ أَنَّهُ خَطَأٌ وَقَضَاؤُهُ بِمَا عِنْدَهُ أَنَّهُ هُوَ الصَّوَابُ أَوْلَى ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ لِيَخْتَارَ بَعْضَ

الْأَقَاوِيلِ نَظَرَ إلَى أَفْقَهِهِمْ عِنْدَهُ وَأَوْرَعِهِمْ فَقَضَى بِفَتْوَاهُ فَهَذَا اجْتِهَادٌ مِثْلُهُ وَلَا يُعَجِّلُ بِالْحُكْمِ إذَا لَمْ يَبِنْ لَهُ الْأَمْرُ حَتَّى يَتَفَكَّرَ فِيهِ وَيُشَاوِرَ أَهْلَ الْفِقْهِ ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْقَضَاءِ بِالْحَقِّ وَلَا يَسْتَدْرِك ذَلِكَ إلَّا بِالتَّأَمُّلِ وَالْمَشُورَةِ .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { التَّأَنِّي مِنْ اللَّهِ وَالْعَجَلَةُ مِنْ الشَّيْطَانِ } وَالْأَصْلُ فِي الْبَابِ حَدِيثُ الشَّعْبِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَتْ الْقَضِيَّةُ تُرْفَعُ إلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَرُبَّمَا يَتَأَمَّلُ فِي ذَلِكَ شَهْرًا وَيَسْتَشِيرُ أَصْحَابَهُ وَالْيَوْمَ يُفْصَلُ فِي الْمَجْلِسِ مَا بِهِ قَضِيَّةٌ وَحَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْمُفَوِّضَةِ مَعْرُوفٌ فَإِنَّهُ رَدَّهُمْ شَهْرًا ، ثُمَّ قَالَ أَقُولُ فِيهِ بِرَأْيِي فَإِنْ يَكُ صَوَابًا فَمِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَإِنْ يَكُ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ الْحَدِيثَ فَعَرَفْنَا أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَتَأَنَّى وَيُشَاوِرَ عِنْدَ اشْتِبَاهِ الْأَمْرِ .
وَإِذَا قَضَى بِقَضَاءٍ ، ثُمَّ بَدَا لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ الَّذِي قَضَى بِهِ خَطَأً لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ رَدَّهُ وَأَبْطَلَهُ يَعْنِي إذَا كَانَ مُخَالِفًا لِنَصٍّ ، أَوْ لِإِجْمَاعٍ فَالْقَضَاءُ بِخِلَافِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ بَاطِلٌ وَهُوَ جَهْلٌ مِنْ الْقَاضِي ، وَفِي الْحَدِيثِ { رُدُّوا الْجَهَالَاتِ إلَى السُّنَّةِ } فَإِنْ كَانَ خَطَأً مِمَّا يُخْتَلَفُ فِيهِ أَمْضَاهُ عَلَى حَالِهِ وَقَضَى فِيمَا يُسْتَقْبَلُ بِاَلَّذِي أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَيَرَى أَنَّهُ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ الْأَوَّلَ حَصَلَ فِي مَوْضِعِ الِاجْتِهَادِ فَنَفَذَ وَلَزِمَ عَلَى وَجْهٍ لَا يَجُوزُ إبْطَالُهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقْضِي فِي حَادِثَةٍ بِقَضِيَّةٍ ، ثُمَّ تُرْفَعُ إلَيْهِ تِلْكَ الْحَادِثَةُ فَيَقْضِي بِخِلَافِهَا فَكَانَ إذَا قِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ قَالَ تِلْكَ كَمَا قَضَيْنَا وَهَذِهِ كَمَا يُقْضَى وَقَالَ الشَّعْبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ حَفِظْت مِنْ عُمَرَ

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الْحَدِّ سَبْعِينَ قَضِيَّةً لَا يُشْبِهُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُنْقَضُ بِاجْتِهَادٍ مِثْلِهِ ، وَلَكِنَّهُ فِيمَا يُسْتَقْبَلُ يَقْضِي بِمَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَأَصْلُهُ فِي التَّحَرِّي لِلْقِبْلَةِ وَذُكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ يَقْضِي بِالْقَضَاءِ ، ثُمَّ يَبْدُو لَهُ فَيَرْجِعُ عَنْهُ وَلَا يَرْجِعُ فِيمَا كَانَ قَضَى بِهِ يَعْنِي فِي الْمُجْتَهَدَاتِ كَانَ إذَا تَحَوَّلَ رَأْيُهُ بَنِي فِيمَا يُسْتَقْبَلُ عَلَى مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ وَلَمْ يَنْقُضْ مَا كَانَ قَضَى بِهِ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ التَّابِعِيَّ إذَا أَدْرَكَ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَسَوَّغُوا لَهُ الِاجْتِهَادَ مَعَهُمْ فَإِنَّ رَأْيَهُ يُعَارِضُ رَأْيَهُمْ ؛ لِأَنَّ شُرَيْحًا رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ قَاضِيًا فِي زَمَنِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، ثُمَّ كَانَ يَبْنِي الْقَضَاءَ عَلَى رَأْيِهِ وَلَا يَرْجِعُ إلَيْهِمَا فِيمَا كَانَ يَبْدُو لَهُ ، وَقَدْ سَوَّغُوا لَهُ ذَلِكَ حَتَّى كَانَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ لَهُ قُلْ لِي يَا أَيُّهَا الْعَبْدُ أَلَا تَنْظُرُ ، وَقَدْ رَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إلَى قَوْلِ مَسْرُوقٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَسْأَلَةِ نَحْرِ الْوَلَدِ وَعَنْ عَامِرٍ قَالَ { كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْضِي بِالْقَضَاءِ فَيَنْزِلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ بِخِلَافِهِ فَيُمْضِي مَا قَضَى بِهِ وَيَسْتَأْنِفُ الْقَضَاءَ } ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَقْضِي بِاجْتِهَادِهِ فِي مَا لَمْ يُوحَ إلَيْهِ فِيهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّهُ كَانَ لَا يُعَجِّلُ بِذَلِكَ ، وَلَكِنْ كَانَ يَنْتَظِرُ الْوَحْيَ .
فَإِذَا انْقَطَعَ طَمَعُهُ عَنْ الْوَحْيِ فِيهِ قَضَى بِاجْتِهَادِهِ وَصَارَ ذَلِكَ شَرِيعَةً ، ثُمَّ يَنْزِلُ الْقُرْآنُ بِخِلَافِهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَكُونُ نَاسِخًا لَهُ وَنَسْخُ السُّنَّةِ بِالْكِتَابِ جَائِزٌ عِنْدَنَا وَنَظِيرُهُ أَمْرُ الْقِبْلَةِ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ كَانَ يُصَلِّي إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ

عَشَرَ شَهْرًا ، ثُمَّ انْتَسَخَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِالتَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ وَكَانَ يَسْتَأْنِفُ الْقَضَاءَ بِالنَّاسِخِ وَلَا يُبْطِلُ مَا قَضَى بِهِ ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ يُنْهِي مُدَّةَ الْحُكْمِ وَلَا يُبَيِّنُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَقًّا قَبْلَ نُزُولِ النَّاسِخِ وَاسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمُجْتَهَدَاتِ فَإِنَّهُ لَا يَنْقُضُ مَا كَانَ قَضَى بِهِ إلَّا أَنَّهُمَا يَفْتَرِقَانِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الرَّأْيَ لَا يَنْسَخُ الرَّأْيَ وَعَنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ { إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِ أَخِيهِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَإِنَّمَا أَقْضِي لَهُ بِقِطْعَةِ مِنْ النَّارِ } مَعْنَى قَوْلِهِ أَلْحَنُ أَفْطَنُ وَأَقْدَرُ عَلَى الْبَيَانِ فَاللَّحْنُ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْفَطِنَةُ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ لِمَنْ يَقُولُ إنَّ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَا يَحِلُّ مَا كَانَ حَرَامًا فَيَكُونُ حُجَّةً لِمُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَسْأَلَةِ قَضَاءِ الْقَاضِي فِي الْعُقُودِ وَالْفُسُوخِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ الْمُرَادُ الْأَمْلَاكُ الْمُرْسَلَةُ وَالْمُرَادُ بَيَانُ الْوَعِيدِ لِمَنْ يَدَّعِي الْبَاطِلَ وَيُقِيمُ عَلَيْهِ شُهُودَ الزُّورِ فَالْوَعِيدُ يَلْحَقُهُ بِذَلِكَ عِنْدَنَا ، وَإِنْ كَانَ الْمِلْكُ يَثْبُتُ لَهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِسَبَبِهِ

قَالَ وَأَكْرَهُ لِلْقَاضِي أَنْ يُفْتِيَ لِلْخُصُومِ فِي الْقَضَاءِ كَرَاهَةَ أَنْ تَعْلَمَ الْخُصُومُ قَوْلَهُ فَتَحْتَرِزَ مِنْهُ بِالْبَاطِلِ لِحَدِيثِ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ حِينَ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةِ الْحَبْسِ قَالَ إنَّمَا أَقْضِي وَلَسْت أُفْتِي ، وَقَدْ كَرِهَ بَعْضُ النَّاسِ لِلْقَاضِي أَنْ يُفْتِيَ فِي الْمُعَامَلَاتِ أَصْلًا وَقَالُوا يُفْتِي فِي الْعِبَادَاتِ وَكَرِهَ بَعْضُهُمْ أَنْ يُفْتِيَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ وَقَالُوا لَا بَأْسَ بِهِ فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَمْرَيْنِ مُهِمٌّ .
فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي مَجْلِسٍ يُخَافُ الْخَلَلُ فِيهِمَا وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُفْتِيَ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَالْعِبَادَاتِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ ، وَفِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَقَدْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُفْتِي وَيَقْضِي وَالْخُلَفَاءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بَعْدَهُ كَذَلِكَ وَلِلْقَضَاءِ فَتْوَى فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا أَنَّهُ مُلْزِمٌ ، وَإِنَّمَا الَّذِي يُكْرَهُ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ لِلْخَصْمِ فِيمَا خَاصَمَ فِيهِ إلَيْهِ لِمَا قِيلَ إنَّ الْخَصْمَ إذَا وَقَفَ عَلَى رَأْيِهِ رُبَّمَا اشْتَغَلَ بِالتَّلْبِيسِ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ ذَلِكَ فَلَا يُفْتِي لَهُ فِي ذَلِكَ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْخُصُومَةُ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { اخْتَصَمَ رَجُلَانِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَحَدُهُمَا عَالِمٌ بِالْخُصُومَةِ وَالْآخَرُ جَاهِلٌ بِهَا فَلَمْ يَلْبَسْهُ الْعَالِمُ أَنْ قَضَى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَامَ الْمَقْضِيُّ لَهُ وَقَعَدَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْك السَّلَامُ وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ إنَّ حَقِّي لَحَقٌّ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ بِالرَّجُلِ فَأَتَى بِهِ فَأَخْبَرَهُ بِاَلَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنْ شِئْت عَاوَدْتُهُ الْخُصُومَةَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَاوِدْهُ فَعَاوَدَهُ فَلَمْ يَلْبَسْهُ أَنْ قَضَى لَهُ فَقَامَ الْمَقْضِيُّ لَهُ وَقَعَدَ الْمَقْضِيُّ

عَلَيْهِ فَقَالَ وَاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْك الْكِتَابَ بِالْحَقِّ إنَّ حَقِّي لَحَقٌّ يَعْلَمُ ذَلِكَ نَفْسَهُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيَّ بِالرَّجُلِ فَأَتَى بِهِ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ إنْ شِئْت عَاوَدْتُهُ فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَا ، وَلَكِنْ اعْلَمْ أَنَّ مَنْ اقْتَطَعَ بِخُصُومَتِهِ وَجَدَلِهِ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ فَإِنَّمَا يَقْتَطِعُ قِطْعَةً مِنْ نَارٍ فَقَالَ الرَّجُلُ الْحَقُّ حَقُّهُ فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ .
وَقَالَ مَنْ اقْتَطَعَ بِخُصُومَتِهِ وَجَدَلِهِ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ فَلِيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ } قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ فَكَانَتْ هَذِهِ أَشَدَّ مِنْ الْأُولَى ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَكُفَّ عَنْ الْقَضَاءِ مَخَافَةَ تَلْبِيسِ بَعْضِ الْخُصُومِ عَلَيْهِ فَقَدْ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ عِنْدَ مَنْ كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ وَهُوَ مَعْصُومٌ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْمَرْءِ أَنْ يَحْلِفَ مُخْتَارًا فَقَدْ حَلَفَ الرَّجُلُ مَرَّتَيْنِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُطْلَبَ ذَلِكَ مِنْهُ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا ارْتَابَ فِي شَيْءٍ مِنْ قَضَائِهِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَثَبَّتَ فِي ذَلِكَ وَيَحْتَاطَ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُ بِالْمُعَاوَدَةِ حِينَ حَلَفَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ أَنَّ حَقَّهُ حَقٌّ وَكَانَ ذَلِكَ احْتِيَاطًا مِنْهُ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ مَالَ الْغَيْرِ لَا يَحِلُّ لِلْغَيْرِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَقَدْ ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّفْظَيْنِ فِي الْوَعِيدِ الثَّانِي أَشَدُّ مِنْ الْأَوَّلِ كَمَا قَالَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ نَفْسِهِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سِبَابُ الْمُسْلِمِ فِسْقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ وَحُرْمَةُ مَالِهِ كَحُرْمَةِ نَفْسِهِ } فَكَمَا أَنَّ مَنْ

قَصَدَ قَتْلَ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ فَجَزَاؤُهُ مَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا } .
فَكَذَلِكَ إذَا قَصَدَ أَخْذَ مَالِهِ بِالْبَاطِلِ وَالتَّلْبِيسِ .

( قَالَ ) وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ لَا يُلَقِّنَ الشَّاهِدَ ، وَلَكِنْ يَدَعُهُ حَتَّى يَشْهَدَ بِمَا عِنْدَهُ فَإِنْ كَانَتْ شَهَادَتُهُ جَائِزَةً قَبِلَهَا ، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ جَائِزَةٍ رَدَّهَا وَلَا يَقُولُ لَهُ اشْهَدْ بِكَذَا فَإِنَّ هَذَا تَلْقِينٌ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمُحَمَّدٍ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا أَرَى بَأْسًا أَنْ يَقُولَ أَتَشْهَدَا بِكَذَا وَكَذَا ، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا حِينَ اُبْتُلِيَ بِالْقَضَاءِ فَرَأَى مَا بِالشُّهُودِ مِنْ الْخَبَرِ عِنْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ فَإِنَّ لِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ هَيْبَةٌ وَلِلْقَاضِي حِشْمَةٌ وَمَنْ لَمْ يَعْتَدْ التَّكَلُّمَ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَجْلِسِ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْبَيَانُ إذَا لَمْ يُعِنْهُ الْقَاضِي عَلَى ذَلِكَ وَأَدَاءُ الشَّهَادَةِ بِالْحَقِّ مِنْ بَابِ الْبِرِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى } وَأُمِرْنَا بِإِكْرَامِ الشُّهُودِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَكْرِمُوا الشُّهُودَ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحْيِي بِهِمْ الْحُقُوقَ } ، وَهَذَا الْقَدْرُ مِنْ التَّلْقِينِ يَرْجِعُ إلَى إكْرَامِهِ بِأَنْ يَذْكُرَ مَا يَسْمَعُ مِنْهُ فَيَقُولَ أَتَشْهَدُ بِكَذَا لِمَا لَمْ يَسْمَعْ مِنْهُ فَهُوَ التَّلْقِينُ الْمَكْرُوهُ ، وَفِي مَذْهَبِهِ نَوْعُ رُخْصَةٍ وَالْعَزِيمَةُ فِيمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ مَنْهِيٌّ عَنْ اكْتِسَابِ مَا يَجُرُّ إلَيْهِ تُهْمَةَ الْمَيْلِ ، وَمَا يَكُونُ فِيهِ إعَانَةُ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ إمَّا صُورَةً ، أَوْ مَعْنًى وَتَلْقِينُ الشَّاهِدِ لَا يَخْلُو مِنْ ذَلِكَ .
وَإِذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يُلَقِّنَ الْمُدَّعِيَ مَعَ أَنَّ الدَّعْوَى لَا تَكُونُ مُلْزِمَةً فَلَأَنْ لَا يَجُوزَ لَهُ أَنْ يُلَقِّنَ الشَّاهِدَ أَوْلَى ، وَلِأَنَّ عَادَةَ بَعْضِ النَّاسِ أَنَّ الْمُحْتَشَمَ إذَا لَقَّنَ أَحَدَهُمْ شَيْئًا تَرَكَ مَا كَانَ قَصَدَ التَّكَلُّمَ بِهِ وَتَكَلَّمَ بِمَا لَقَّنَهُ تَعْظِيمًا لَهُ فَلَا يَأْمُرُ الْقَاضِي أَنْ يَفْعَلَ الشَّاهِدُ مِثْلَ ذَلِكَ فَيَدَعُ مَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ الشَّهَادَةِ وَيَتَكَلَّمُ بِمَا

لَقَّنَهُ الْقَاضِي وَالتَّلْقِينُ تَعْلِيمٌ وَالْقَاضِي إنَّمَا جَلَسَ لِسَمَاعِ الشَّهَادَةِ وَفَصْلِ الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ لَا لِتَعْلِيمِ الشَّاهِدِ ؛ فَلِهَذَا أَكْرَهُ لَهُ أَنْ يُلَقِّنَهُ .

وَلَا يَضُرُّ الْقَاضِيَ أَنْ يُقَدِّمَ الشُّهُودَ جَمِيعًا ، أَوْ وَاحِدًا وَاحِدًا ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالنَّصِّ اشْتِرَاطُ الْعَدَدِ وَالْعَدَالَةِ فِي الشُّهُودِ وَبِذَلِكَ يَظْهَرُ جَانِبُ رُجْحَانِ الصِّدْقِ فَالتَّفْرِيقُ بَيْنَهُمْ فِي الْمَجْلِسِ يَكُونُ زِيَادَةً وَالْقَاضِي لَا يَتَكَلَّفُ لَهَا إلَّا أَنْ يَرْتَابَ فِي أَمْرِهِمْ فَعِنْدَ ذَلِكَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْتَاطَ لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { دَعْ مَا يَرِيبُك إلَى مَا لَا يَرِيبُك } وَمِنْ الِاحْتِيَاطِ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمْ إلَّا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَعَنَّتَ مَعَهُمْ فَإِنَّ التَّعَنُّتَ يَخْلِطُ عَلَى الرَّجُلِ عَقْلَهُ ، وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا فِي شَهَادَتِهِ ، وَلِأَنَّ الشَّاهِدَ أَمِينٌ فِيمَا يُؤَدِّي مِنْ الشَّهَادَةِ وَلَمْ يَظْهَرْ خِيَانَتُهُ لِلْقَاضِي فَلَا يَتَعَنَّتُ مَعَهُمْ ، وَقَدْ أُمِرْنَا بِإِكْرَامِهِمْ إلَّا أَنَّهُ إذَا اتَّهَمَهُمْ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمْ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَسْأَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَيْنَ كَانَ هَذَا وَكَيْفَ وَمَتَى كَانَ فَهُوَ مِنْ بَابِ الِاحْتِيَاطِ وَدَفْعِ الرِّيبَةِ لَا مِنْ بَابِ التَّعَنُّتِ ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ اخْتِلَافًا يُفْسِدُ الشَّهَادَةَ أَبْطَلَهَا ، وَإِنْ كَانَ لَا يُفْسِدُهَا أَجَازَهَا وَلَا يَطْرَحُهَا بِالتُّهْمَةِ وَالظَّنِّ فَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنْ الْحَقِّ شَيْئًا .
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { إذَا ظَنَنْت فَلَا تُحَقِّقْ } فَمَا لَمْ يَعْلَمْ مِنْهُمْ سَوَاءٌ ، أَوْ يَسْمَعُ مِنْهُمْ عِنْدَ السُّؤَالِ اخْتِلَافًا مُفْسِدًا لِشَهَادَتِهِمْ لَمْ يَمْنَعْ مِنْ الْقَضَاءِ بِالشَّهَادَةِ بِمُجَرَّدِ الظَّنِّ

وَإِذَا لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ فِي الشَّاهِدِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَلَكِنَّهُ يَقْضِي بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ إلَّا أَنْ يَطْعَنَ الْخَصْمُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ يَسْأَلُ عَنْهُمْ ، وَإِنْ لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ وَقِيلَ هَذَا اخْتِلَافُ عَصْرٍ وَزَمَانٍ فَقَدْ كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يُفْتِي فِي الْقَرْنِ الثَّالِثِ ، وَقَدْ شَهِدَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالصِّدْقِ وَالْخَيْرِيَّةِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي } الْحَدِيثَ وَكَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْعُدُولِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ؛ فَلِهَذَا كَانَ يَكْتَفِي بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ وَهُمَا أَفْتَيَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْقَرْنِ الَّذِي شَهِدَ رَسُولُ اللَّهِ عَلَى أَهْلِهِ بِالْكَذِبِ بِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { ، ثُمَّ يَفْشُو الْكَذِبُ حَتَّى يَشْهَدَ الرَّجُلُ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ } وَكَانَتْ الْغَلَبَةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ لِغَيْرِ الْعُدُولِ فَقَالَ لَا بُدَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَ عَنْ الشُّهُودِ وَحُجَّتُهُمَا أَنَّ اشْتِرَاطَ الْعَدَالَةِ فِي الشَّاهِدِ لِلْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ } وَقِيلَ السُّؤَالُ عَنْهُمَا صِفَةُ الْعَدَالَةِ مُحْتَمَلَةٌ فِيهِمَا وَالشَّرْطُ لَا يَثْبُتُ بِمَا هُوَ مُحْتَمَلٌ تَوْضِيحُهُ أَنَّ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَصُونَ نَفْسَهُ عَنْ الْقَضَاءِ بِشَهَادَةِ الْفَاسِقِ فَقَدْ أُمِرَ بِالتَّثَبُّتِ فِي خَبَرِ الْفَاسِقِ فَإِنَّمَا يَسْأَلُ عَنْ الشُّهُودِ صِيَانَةً لِقَضَائِهِ فَلَا يَتَوَقَّفُ ذَلِكَ عَلَى طَلَبِ الْخَصْمِ وَلَئِنْ كَانَ ذَلِكَ لِحَقِّ الْخَصْمِ فَلَيْسَ لِكُلِّ خَصْمٍ يُبْصِرُ حُجَّتَهُ فَرُبَّمَا يَهَابُ الْخَصْمُ الشُّهُودَ فَلَا يُجَاهِرُ بِالطَّعْنِ فِيهِمْ وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ لِكُلِّ مَنْ عَجَزَ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ فِي الْحُدُودِ يَسْأَلُ عَنْ الشُّهُودِ ، وَإِنْ لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ لِهَذَا الْمَعْنَى .
فَكَذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ

اللَّهُ اسْتَدَلَّ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ { الْمُسْلِمُونَ عُدُولٌ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ } فَهَذَا مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ تَعْدِيلٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ فَتَعْدِيلُ صَاحِبِ الشَّرْعِ أَقْوَى مِنْ تَعْدِيلِ الْمُزَكِّي ، ثُمَّ الْعَدَالَةُ هِيَ الِاسْتِقَامَةُ يُقَالُ لِلْجَادَّةِ طَرِيقٌ عَدْلٌ وَلِلْبَيَانِ طَرِيقٌ عَدْلٌ جَائِزٌ ، وَقَدْ عَلِمَ الْقَاضِي مِنْهُمْ الِاسْتِقَامَةَ وَاعْتَقَدَ ، وَذَلِكَ يَحْمِلُهُ عَلَى الِاسْتِقَامَةِ فِي التَّعَاطِي فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ فَهَذَا دَلِيلٌ شَرْعِيٌّ فَوْقَ خَبَرِ مُزَكًّى ، وَإِنَّمَا يُعْتَمَدُ هَذَا الدَّلِيلُ إذَا لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ .
فَأَمَّا بَعْدَ طَعْنِهِ يَقَعُ التَّعَارُضُ ؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ مُسْلِمٌ وَدِينُهُ يَمْنَعُهُ مِنْ أَنْ يُجَازِفَ بِالطَّعْنِ فِيهِمْ فَلِلتَّعَارُضِ وَجَبَ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَ حَتَّى يَظْهَرَ الْمُرَجِّحَ لِأَحَدِ الْجَانِبَيْنِ بِخَبَرِ الْمُزَكِّي .
فَأَمَّا فِي الْحُدُودِ يَسْأَلُ ، وَإِنْ لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ احْتِيَالًا لِلدَّرْءِ ، وَقَدْ أُمِرَ بِدَرْءِ الْحُدُودِ ؛ لِأَنَّ الْحُدُودَ إنْ وَقَعَ فِيهَا غَلَطٌ لَا يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ وَبِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ لَا تَنْتَفِي الشُّبْهَةُ فَفِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ لَا يُكْتَفَى بِذَلِكَ .
فَأَمَّا الْمَالُ مِمَّا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ .
وَإِذَا وَقَعَ الْغَلَطُ فِيهِ أَمْكَنَهُ التَّدَارُكُ فَيَكْتَفِي بِظَاهِرِ الْعَدَالَةِ فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يَطْعَنْ الْخَصْمُ .
وَإِذَا سَأَلَ عَنْ الشُّهُودِ لَمْ يَقْضِ بِشَهَادَتِهِمْ حَتَّى تَأْتِيَ مَسْأَلَتُهُ مُزَكَّاةً يَعْنِي أَنَّ الْمُزَكِّيَ إنْ كَتَبَ فِي جَوَابِهِ أَنَّهُمْ عُدُولٌ لَا يَكْتَفِي بِذَلِكَ فَالْعَدْلُ قَدْ لَا يَكُونُ مِنْ أَهْلِ الشَّهَادَةِ كَالْعَبْدِ عَدْلٌ فِي رِوَايَتِهِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَتَبَ عُدُولٌ أَحْرَارٌ فَالْمَحْدُودُ فِي الْقَذْفِ بَعْدَ التَّوْبَةِ حُرٌّ عَدْلٌ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَتَبَ أَنَّهُ نَفَذَ فَقَدْ بَطَلٌ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى الْمَسْتُورِ الَّذِي لَا يُعْرَفُ حَالُهُ فَإِنْ كَتَبَ أَنَّهُ مُزَكًّى فَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى وُجُوبِ الْعَمَلِ بِشَهَادَتِهِ ، وَلِأَنَّ

الْقَاضِيَ إنَّمَا طَلَبَ مِنْ الْمُزَكِّي التَّزْكِيَةَ فَيَنْبَغِي أَنْ يُجِيبَهُ إلَى مَا طَلَبَ بِلَفْظِهِ كَمَا أَنَّهُ طَلَبَ مِنْ الشَّاهِدِ أَنْ يَشْهَدَ فَمَا لَمْ يَأْتِ بِلَفْظَةِ الشَّهَادَةِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ

وَإِذَا اخْتَصَمَ إلَى الْقَاضِي قَوْمٌ يَتَكَلَّمُونَ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ وَهُوَ لَا يَفْقَهُ لِسَانَهُمْ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُتَرْجِمَ عَنْهُمْ لَهُ رَجُلٌ مُسْلِمٌ ثِقَةٌ وَاِتِّخَاذُ التُّرْجُمَانِ لِلْحَاجَةِ قَدْ كَانَ عَلَيْهِ النَّاسُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، وَبَعْدَ الْإِسْلَامِ وَلَمَّا جَاءَ سَلْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُسْلِمَ تَرْجَمَ يَهُودِيٌّ كَلَامَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَانَ فِي ذَلِكَ حَتَّى نَزَلَ الْوَحْيُ حَدِيثٌ فِيهِ طُولٌ وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْعِبْرَانِيَّةَ وَكَانَ يُتَرْجِمُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمَّنْ كَانَ يَتَكَلَّمُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِتِلْكَ اللُّغَةِ ، ثُمَّ لَا خِلَافَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُتَرْجِمِ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا مُسْلِمًا ؛ لِأَنَّ نَفْسَ الْخَبَرِ مُحْتَمِلٌ لِلصِّدْقِ وَالْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَرَجَّحُ جَانِبُ الصِّدْقِ بِالْعَدَالَةِ وَيُشْتَرَطُ الْإِسْلَامُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ مُعَادُونَ لِلْمُسْلِمِينَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يَقْصِدُونَ الْجِنَايَةَ فِي مِثْلِ هَذَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا } أَيْ لَا يُقَصِّرُونَ فِي إفْسَادِ أُمُورِكُمْ ؛ فَلِهَذَا لَا يَقْبَلُ الْقَاضِي التَّرْجَمَةَ إلَّا مِنْ مُسْلِمٍ عَدْلٍ وَالْوَاحِدُ لِذَلِكَ يَكْفِي وَالْمَثْنَى أَحْوَطُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ .
وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ يُشْتَرَطُ فِي الْمُتَرْجِمِ لِكَلَامِ الْخَصْمِ أَوْ لِشُهُودِ الشَّاهِدَيْنِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الشَّهَادَةِ مِنْ الْعَدَدِ ، وَذَلِكَ رَجُلَانِ ، أَوْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ، وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِي التَّزْكِيَةِ عِنْدَهُمَا تَزْكِيَةُ الْوَاحِدِ يَكْفِي وَالْمَثْنَى أَحْوَطُ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا بُدَّ مِنْ عَدَدِ الشَّهَادَةِ فِي ذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ الْخِلَافُ فِي رَسُولِ الْقَاضِي إلَى الْمُزَكِّي فَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ

اللَّهُ يَقُولُ مَا لَمْ يَفْهَمْ الْقَاضِي فَكَأَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ وَمَعْنَى هَذَا وَهُوَ أَنَّهُ إنَّمَا يَسْمَعُ مِنْ الْمُتَرْجِمِ ؛ لِأَنَّهُ يَفْهَمُ قَوْلَ الْمُتَرْجِمِ وَعَلَيْهِ يَنْبَنِي الْحُكْمُ فَكَانَتْ التَّرْجَمَةُ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِيهَا مَا يُعْتَبَرُ فِي الشَّهَادَةِ مِنْ الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ وَالْعَدَالَةِ .
فَكَذَلِكَ الْعَدَدُ وَهَذَا ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى الْقَاضِي الْقَضَاءُ ، وَهَذَا آكَدُ مَا يَكُونُ مِنْ الْإِلْزَامِ فَيُشْتَرَطُ الْعَدَدُ فِيهِ لِطُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ كَالشَّهَادَةِ إلَّا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ ذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ لَيْسَ لِمَعْنَى الْإِلْزَامِ بَلْ هُوَ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ أَوْ لِمَعْنَى الزَّجْرِ عَنْ الشَّهَادَةِ بِالْبَاطِلِ فَقَوْلُهُ أَشْهَدُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَحْلِفُ ؛ وَلِهَذَا أُعْظِمَ الْوِزْرُ فِي شَهَادَةِ الزُّورِ كَمَا فِي الْيَمِينِ الْغَمُوسِ وَالْمُدَّعِي هُوَ الَّذِي يَأْتِي بِالشُّهُودِ فَلِمَكَانِ احْتِمَالِ الْمُوَاضَعَةِ وَالتَّلْبِيسِ بَيْنَهُمْ شَرَطْنَا لَفْظَةَ الشَّهَادَةِ وَأَمَّا الْمُتَرْجِمُ بِحِيَازَةِ الْقَاضِي فَيَنْعَدِمُ فِي حَقِّهِ مِثْلُ تِلْكَ التُّهْمَةِ ؛ فَلِهَذَا لَا يُشْتَرَطُ فِي حَقِّهِ لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَ الْمُتَرْجِمُ مُخَيَّرٌ غَيْرُ مُلْزَمٍ وَخَبَرُ الْوَاحِدِ مَقْبُولٌ بِشَرْطِ الْعَدَالَةِ وَالْإِسْلَامِ ، وَإِنْ كَانَ مُلْزَمًا كَمَا فِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ وَكَمَا فِي الشَّهَادَةِ عَلَى رُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ لَفْظَةُ الشَّهَادَةِ فِيهِ ، وَلَوْ كَانَ هَذَا فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ لَاسْتَوَى فِيمَا اخْتَصَّ بِهِ الشَّهَادَةَ كَاخْتِصَاصِ الشَّهَادَةِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَخْبَارِ بِلَفْظِ الشَّهَادَةِ .
فَإِذَا لَمْ يُجْعَلْ هَذَا الْخَبَرُ بِمَنْزِلَةِ الشَّهَادَةِ فِيهِ فَفِي الْعَدَدِ أَوْلَى وَاشْتِرَاطُ الْإِسْلَامِ وَالْعَدَالَةِ هُنَا بِمَنْزِلَةِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ فِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ

وَاشْتِرَاطُ الْحُرِّيَّةِ ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ الْغَيْرَ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَلْتَزِمَ شَيْئًا فَكَانَ مِنْ بَابِ الْوِلَايَةِ وَالرِّقِّ تَبْقَى الْوِلَايَةُ عَلَى الْغَيْرِ بِخِلَافِ رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ وَالشَّهَادَةِ عَلَى هِلَالِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ يَلْتَزِمُ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ ، ثُمَّ يَتَعَدَّى إلَى غَيْرِهِ فَلَا تُشْتَرَطُ الْحُرِّيَّةُ فِيهِ لِذَلِكَ وَمَعَ أَنَّ الْوَاحِدَ يَكْفِي لِذَلِكَ كَمَا فِي رِوَايَةِ الْأَخْبَارِ ، وَلَكِنْ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ أَوْثَقُ ؛ لِأَنَّهُ فِي الِاحْتِيَاطِ أَقْرَبُ .

قَالَ وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَتَّخِذَ كَاتِبًا مِنْ أَهْلِ الْعَفَافِ وَالصَّلَاحِ ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى أَنْ يَكْتُبَ مَا جَرَى فِي مَجْلِسِهِ وَرُبَّمَا يَعْجَزُ عَنْ مُبَاشَرَةِ جَمِيعِ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ فَيَتَّخِذْ كَاتِبًا لِذَلِكَ وَالْكَاتِبُ نَائِبُهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُشْبِهَهُ فِي الْعَفَافِ وَالصَّلَاحِ وَالْكَاتِبُ مِنْ أَقْوَى مَا يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ الْقَاضِي فَلَا يُفَوِّضُهُ إلَّا إلَى مَنْ هُوَ مَعْرُوفٌ بِالصَّلَاحِ وَالْعَفَافُ حَتَّى لَا يُخْدَعَ بِالرِّشْوَةِ ، ثُمَّ لَمْ يُقْعِدْهُ حَيْثُ يَرَى مَا يَكْتُبُ وَمَا يَصْنَعُ أَمَّا لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى الرُّجُوعِ إلَى مَا فِي يَدِهِ مِنْ الْمَكْتُوبِ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ فَلِيَكُنْ بِمَرْأَى الْعَيْنِ مِنْهُ ، أَوْ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَخْدَعَهُ بَعْضُ الْخُصُومِ بِالرِّشْوَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ بِمَرْأَى الْعَيْنِ مِنْ الْقَاضِي ، ثُمَّ يَكْتُبُ خُصُومَةَ كُلِّ خَصْمَيْنِ ، وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الشَّهَادَةِ فِي صَحِيفَةٍ بَيْضَاءَ وَحْدَهَا ، ثُمَّ يَطْوِيهَا وَيَخْرِمُهَا وَيَخْتِمُهَا بِخَاتَمِهِ لِلتَّوَثُّقِ كَيْ لَا يُزَادَ فِيهَا ، ثُمَّ يَكْتُبُ عَلَيْهَا خُصُومَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ وَفُلَانِ بْنِ فُلَانٍ فِي شَهْرِ كَذَا فِي سَنَةِ كَذَا حَتَّى يَتَيَسَّرَ عَلَيْهِ تَمْيِيزُهَا مِنْ سَائِرِ الصَّحَائِفِ إذَا اخْتَلَفَتْ بِهَا وَلَا يَحْتَاجُ فِي ذَلِكَ إلَى فَتْحِ الْخَاتَمِ فَقَدْ يَشُقُّ عَلَيْهِ ذَلِكَ فِي كُلِّ وَقْتٍ وَيَجْعَلُ خُصُومَةَ كُلِّ شَهْرٍ فِي قِطَمْرٍ عَلَى حِدَةٍ لَا يُخَالِطُهَا شَيْءٌ آخَرُ وَالْقِطَمْرُ اسْمٌ لِخَرِيطَةِ الْقَاضِي ، وَفِيهِ لُغَتَانِ قِمَطْرَةٌ وَقِطَمْرٌ ، وَإِنَّمَا يَتَّخِذُ لِخُصُومَةِ كُلِّ شَهْرٍ خَرِيطَةً عَلَى حِدَةٍ لِيَتَيَسَّرَ عَلَيْهِ وُجُودُهَا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا وَيَجِدَهَا بِأَدْنَى طَلَبٍ وَيَكْتُبُ التَّارِيخَ ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ عِنْدَ مُنَازَعَةِ الْخُصُومِ وَالْأَصْلُ فِي كِتَابِ التَّارِيخِ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمَّا أَرَادَ أَنْ يَكْتُبْ إلَى الْآفَاقِ قِيلَ لَهُ إنَّ الْمُلُوكَ لَا يَقْبَلُونَ الْكِتَابَ إذَا لَمْ يَكُنْ مُؤَرَّخًا فَجَمَعَ

الصَّحَابَةَ وَشَاوَرَهُمْ فِي التَّارِيخِ ، ثُمَّ اتَّفَقُوا عَلَى أَنْ جَعَلُوا التَّارِيخَ مِنْ وَقْتِ الْهِجْرَةِ وَبَقِيَ ذَلِكَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا قَالَ وَلِيُبَاشِرْ هُوَ بِنَفْسِهِ مَسَائِلَ الشُّهُودِ فَيَكْتُبُهَا ، أَوْ يَكْتُبُ بَيْنَ يَدَيْهِ ، ثُمَّ يَبْعَثُ بِهَا فِي السِّرِّ إلَى أَهْلِ الثِّقَةِ عِنْدَهُ وَالْعَفَافِ وَالصَّلَاحِ فَيَبْعَثُ كُلَّ مَسْأَلَةٍ مَعَ رَجُلَيْنِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ثِقَةٌ وَلَا يَطَّلِعُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا عَلَى مَا يَبْعَثُ بِهِ مَعَ صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّ قَضَاءَهُ يَنْبَنِي عَلَى الشَّهَادَةِ فَلَا يَدَعُ فِي بَابِهَا أَقْصَى مَا فِي وُسْعِهِ مِنْ الِاحْتِيَاطِ وَالْمُبَاشَرَةِ بِنَفْسِهِ .

وَقَدْ كَانَتْ التَّزْكِيَةُ فِي الِابْتِدَاءِ عَلَانِيَةً ، ثُمَّ أَحْدَثَ شُرَيْحٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَزْكِيَةَ السِّرِّ فَقِيلَ لَهُ أَحْدَثْت يَا أَبَا أُمَيَّةَ فَقَالَ أَحْدَثْتُمْ فَأَحْدَثْنَا فَكَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ تَزْكِيَةِ السِّرِّ وَتَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ فَيَسْأَلُ عَنْ حَالِ الشُّهُودِ فِي السِّرِّ ، ثُمَّ يَحْضُرُ الشُّهُودُ وَالْمُزَكَّوْنَ لِيُزَكُّوهُمْ عَلَانِيَةً فَيَقُولُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ زَكَّيْنَاهُمْ وَهُوَ أَتَمُّ مَا يَكُونُ مِنْ الِاحْتِيَاطِ غَيْرَ أَنَّ الْقُضَاةَ تَرَكُوا بَعْدَ ذَلِكَ تَزْكِيَةَ الْعَلَانِيَةِ وَاكْتَفَوْا بِتَزْكِيَةِ السِّرِّ إبْقَاءً لِلسِّتْرِ عَلَى النَّاسِ وَتَحَرُّزًا عَنْ الْغَيْبَةِ الَّتِي تَقَعُ بَيْنَ الْمُزَكِّينَ وَبَعْضِ الشُّهُودِ فِي تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ إذَا مَيَّزُوا الْمَجْرُوحَ ؛ فَلِهَذَا يُكْتَفَى بِتَزْكِيَةِ السِّرِّ فِي زَمَانِنَا ، وَإِنَّمَا لَا يُطْلِعُ وَاحِدًا مِنْ الرَّسُولَيْنِ عَلَى مَا يَبْعَثُ بِهِ مَعَ صَاحِبِهِ كَيْ لَا يَتَوَاضَعَا بَيْنَهُمَا عَلَى شَيْءٍ وَإِنْ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يُعَرِّفَ لَهُ صَاحِبَ مَسْأَلَةٍ فَلْيَفْعَلْ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ مَعْرُوفًا فَيَرْجِعُ إلَيْهِ بَعْضُ الْخُصُومِ فَيَخْدَعُهُ بِالرِّشْوَةِ أَوْ تُخَوِّفُهُ بَعْضُ الشُّهُودِ فَيُزْكِي الْمَجْرُوحَ لِذَلِكَ وَيُلْبِسُ عَلَى الْقَاضِي فَكَانَ الِاحْتِيَاطُ أَنْ لَا يُعَرِّفَ لَهُ صَاحِبَ مَسْأَلَةٍ ، وَلَكِنْ فِي زَمَانِنَا اتَّخَذُوا التَّزْكِيَةَ عَمَلًا فَيَشْتَهِرُ الْمُزَكِّي لِذَلِكَ لَا مَحَالَةَ وَالِاحْتِيَاطُ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْعُدُولِ وَأَهْلِ الصَّلَاحِ مِمَّنْ يَقِفُ عَلَيْهِ الْقَاضِي وَلَا يَعْرِفُهُ الْخُصُومُ .
وَإِذَا أَتَاهُ تَزْكِيَةُ رَجُلٍ مِنْ ثِقَةٍ وَأَتَاهُ مِنْ ثِقَةٍ آخَرَ أَنَّهُ غَيْرُ عَدْلٍ أَعَادَ الْمَسْأَلَةَ لِوُقُوعِ التَّعَارُضِ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ فَإِنَّ النَّافِيَ مُعَارِضٌ لِلْمُثْبِتِ فِيمَا طَرِيقُهُ الْخَبَرُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ وَذَكَرْنَا هُنَاكَ أَنَّهُ إذَا اتَّفَقَ رَجُلَانِ عَلَى التَّزْكِيَةِ عَمِلَ بِقَوْلِهِمَا وَلَمْ يَعْمَلْ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ الَّذِي خَرَجَ ؛

لِأَنَّ الْمَثْنَى حُجَّةٌ فِي الْأَحْكَامِ فَلَا يُعَارِضُهُ خَبَرُ الْوَحْدِ .
وَإِذَا اجْتَمَعَ رَهْطٌ عَلَى التَّزْكِيَةِ وَرَجُلَانِ عَدْلَانِ عَلَى الْجَرْحِ أَخَذَ بِقَوْلِهِمَا ؛ لِأَنَّ الَّذِينَ زَكُّوا اعْتَمَدُوا ظَاهِرَ الْحَالِ وَخَفِيَ عَلَيْهِمْ مَا عَرَفَهُ اللَّذَانِ جَرَحَا مِنْ الْعَارِضِ الْمُوجِبِ لِلْجَرْحِ فِيهِ ، وَقَدْ ثَبَتَ ذَلِكَ بِحُجَّةٍ كَامِلَةٍ فَإِنَّ خَبَرَ الْمَثْنَى حُجَّةٌ فِي إثْبَاتِ الْحُكْمِ

( قَالَ ) وَيَنْبَغِي أَنْ يَكْتُبَ الشَّاهِدَ اسْمَهُ وَنَسَبَهُ وَحِلْيَتَهُ وَمَنْزِلَهُ فِي دَارِ نَفْسِهِ أَوْ فِي دَارِ غَيْرِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَا لَمْ يَصِرْ مَعْلُومًا عِنْدَ مَنْ يَسْأَلُ عَنْ حَالِهِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَسْأَلَ ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِمَا ذَكَرْنَا ، وَإِنَّمَا يَكْتُبُ مَنْزِلَهُ ؛ لِأَنَّ أَعْرَفَ النَّاسِ بِحَالِ الْمَرْءِ جِيرَانُهُ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ ذَلِكَ { الرَّجُلَ لَمَّا قَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَيْك السَّلَامُ كَيْفَ أَنَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلْ جِيرَانَك } ، وَإِنَّمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ جِيرَانَهُ عَنْ حَالِهِ إلَّا إذَا عَرَفَ مَنْزِلَهُ ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَتَسَمَّى رَجُلٌ بِاسْمِ غَيْرِهِ لِلتَّلْبِيسِ عَلَى الْقَاضِي فَيَتَحَرَّزُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ يَكْتُبَ مَنْزِلَهُ وَيَسْأَلَ عَنْ التَّزْكِيَةِ فِي الْعَلَانِيَةِ بَعْدَ التَّزْكِيَةِ فِي السِّرِّ ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَشْتَبِهُ عَلَى الْمُزَكِّي ، أَوْ يَلْتَبِسُ عَلَيْهِ فَيُزْكِي غَيْرَ مَنْ شَهِدَ وَيَنْعَدِمُ هَذَا الْوَهْمُ عِنْدَ تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ إلَّا أَنَّهُ اُسْتُحْسِنَ تَرْكُ ذَلِكَ فِي زَمَانِنَا لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْفِتْنَةِ .

وَإِذَا وَجَدَ الْقَاضِي فِي دِيوَانِهِ صَحِيفَةً فِيهَا شَهَادَةُ شُهُودٍ لَا يَحْفَظُ أَنَّهُمْ شَهِدُوا عِنْدَهُ بِذَلِكَ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنْ يَتَفَكَّرَ فِي ذَلِكَ حَتَّى يَتَذَكَّرَ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِذَلِكَ إنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إذَا وَجَدَ ذَلِكَ فِي قِمَطْرَةٍ تَحْتَ خَاتَمِهِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ ، وَهَذَا مِنْهُمَا نَوْعُ رُخْصَةٍ فَالْقَاضِي لِكَثْرَةِ اشْتِغَالِهِ يَعْجَزُ أَنْ يَحْفَظَ كُلَّ حَادِثَةٍ ؛ وَلِهَذَا يَكْتُبُ ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الْمَقْصُودُ بِالْكِتَابِ إذَا جَازَ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى الْكِتَابِ عِنْدَ النِّسْيَانِ فَإِنَّ الْآدَمِيَّ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ التَّحَرُّزُ عِنْدَ النِّسْيَانِ .
( أَلَا تَرَى ) إلَى مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي حَقِّ مَنْ هُوَ مَعْصُومٌ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى { سَنُقْرِئُك فَلَا تَنْسَى إلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ } ، وَفِي تَخْصِيصِهِ بِذَلِكَ بَيَانُ أَنَّ غَيْرَهُ يَنْسَى وَسُمِّيَ الْإِنْسَانُ إنْسَانًا ؛ لِأَنَّهُ يَنْسَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { .
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا } فَلَوْ لَمْ يَجُزْ لَهُ الِاعْتِمَادُ عَلَى كِتَابِهِ عِنْدَ نِسْيَانِهِ أَدَّى إلَى الْحَرَجِ وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ ، ثُمَّ مَا كَانَ فِي قِمَطْرَةٍ تَحْتَ خَاتَمِهِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ حَقٌّ ، وَإِنْ لَمْ يَصِلْ إلَيْهِ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ وَلَا زَائِدَةٌ فِيهِ وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِاتِّبَاعِ الظَّاهِرِ وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ الْعَزِيمَةُ فَالْمَقْصُودُ مِنْ الْكِتَابِ أَنْ يَتَذَكَّرَ إذَا نَظَرَ فِيهِ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ لِلْقَلْبِ كَالْمِرْآةِ لِلْعَيْنِ ، وَإِنَّمَا تُعْتَبَرُ الْمِرْآةُ لِيَحْصُلَ الْإِدْرَاكُ بِالْعَيْنِ .
فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ كَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ .
فَكَذَلِكَ الْكِتَابُ لِلتَّذَكُّرِ بِالْقَلْبِ عِنْدَ النَّظَرِ فِيهِ فَإِذْ لَمْ يَتَذَكَّرْ كَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ قَدْ يُزَوَّرُ وَيُفْتَعَلُ بِهِ وَالْخَطُّ يُشْبِهُ الْخَطَّ وَالْخَاتَمُ يُشْبِهُ

الْخَاتَمَ ، وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ إلَّا بِعِلْمٍ وَبِوُجُودِ الْكِتَابِ لَا يَسْتَفِيدُ الْعِلْمَ مَعَ احْتِمَالِ التَّزْوِيرِ وَالِافْتِعَالِ فِيهِ وَهَذِهِ ثَلَاثَةُ فُصُولٍ أَحَدُهُمَا مَا بَيَّنَّا وَالثَّانِي فِي الشَّاهِدِ إذَا وَجَدَ شَهَادَتَهُ فِي صَكٍّ وَعَلِمَ أَنَّهُ خَطُّهُ وَهُوَ مَعْرُوفٌ ، وَلَكِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ الْحَادِثَةَ وَالثَّالِثُ إذَا سَمِعَ الْحَدِيثَ فَوَجَدَهُ مَكْتُوبًا بِخَطِّهِ وَوَجَدَ سَمَاعَهُ مَكْتُوبًا غَيْرُهُ وَهُوَ خَطٌّ مَعْرُوفٌ ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ الْكِتَابَ ؛ وَلِهَذَا قُلْت لَهُ رِوَايَتُهُ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَشْتَرِطُ فِي الرِّوَايَةِ الْحِفْظَ مِنْ حِينِ سَمِعَ إلَى أَنْ يَرْوِيَ وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ { نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا مَقَالَةً فَوَعَاهَا كَمَا سَمِعَهَا ، ثُمَّ أَدَّاهَا إلَى مَنْ يَسْمَعُهَا } وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي الْفُصُولِ الثَّلَاثَةِ أَخَذَ بِالرُّخْصَةِ لِلتَّيْسِيرِ عَلَى النَّاسِ .
وَقَالَ يُعْتَمَدُ خَطُّهُ إذَا كَانَ مَعْرُوفًا وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي مَسْأَلَةِ الْقَاضِي وَرِوَايَةِ الْحَدِيثِ أَخَذَ بِالرُّخْصَةِ ؛ لِأَنَّ الْمَكْتُوبَ كَانَ فِي يَدِهِ ، وَفِي مَسْأَلَةِ الشَّهَادَةِ أَخَذَ بِالْعَزِيمَةِ فَقَالَ الصَّكُّ الَّذِي فِيهِ الشَّهَادَةُ كَانَ فِي يَدِ الْخَصْمِ فَلَا يَأْمَنُ الشَّاهِدُ التَّغْيِيرَ وَالتَّبْدِيلَ فِيهِ فَلَا يُعْتَمَدُ خَطُّهُ فِي الشَّهَادَةِ مَا لَمْ يَتَذَكَّرْ الْحَادِثَةَ ، وَإِنْ وَجَدَ الْقَاضِي سِجِلًّا فِي خَرِيطَتِهِ وَلَمْ يَتَذَكَّرْ الْحَاجَةَ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ الَّذِي بَيَّنَّا ، وَإِنْ نَسِيَ قَضَاءَهُ وَلَمْ يَكُنْ سَجَّلَ فَشَهِدَ عِنْدَهُ شَاهِدٌ أَنَّك قَضَيْت بِكَذَا لِهَذَا عَلَى هَذَا فَإِنْ تَذَكَّرَ أَمْضَاهُ ، وَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ فَلَا إشْكَالَ أَنَّ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَقْضِي بِذَلِكَ وَقِيلَ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَعْتَمِدُ ذَلِكَ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ

اللَّهُ يَعْتَمِدُ ذَلِكَ فَيَقْضِي بِهِ وَعَلَى هَذَا مَنْ سَمِعَ مِنْ غَيْرِهِ حَدِيثًا ، ثُمَّ نَسِيَ ذَلِكَ رَاوِي الْأَصْلِ فَسَمِعَهُ مِمَّنْ يَرْوِي عِنْدَهُ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ رِوَايَةَ الْغَيْرِ عَنْهُ كَمَا لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ شَاهِدُ الْأَصْلِ إذَا شَهِدَ عِنْدَهُ شَاهِدُ الْفَرْعِ عَلَى شَهَادَتِهِ ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ ذَلِكَ لِلتَّيْسِيرِ مِنْ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْنَا وَعَلَى هَذِهِ الْمَسَائِلِ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي الرِّوَايَةِ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ وَهِيَ ثَلَاثُ مَسَائِلَ سَمِعَهَا مُحَمَّدٌ مِنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، ثُمَّ نَسِيَ ذَلِكَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَكَانَ لَا يَعْتَمِدَ رِوَايَةَ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ فِي ذَلِكَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ لَا يَدَعُ الرِّوَايَةَ مَعَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ فَحَالُ الْقَاضِي كَذَلِكَ .

وَمَا وُجِدَ فِي دِيوَانِ الْقَاضِي بَعْدَ أَنْ يَعْدِلَ مِنْ شَهَادَةٍ ، أَوْ قَضَاءٍ ، أَوْ إقْرَارٍ فَهُوَ غَيْرُ مَأْخُوذٍ بِهِ وَلَا مَقْبُولٍ إلَّا أَنْ تَقُومَ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ قَضَى بِهِ ، وَأَنْفَذَهُ وَهُوَ قَاضٍ يَوْمَئِذٍ ؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ الثَّانِيَ لَا يَعْلَمُ حَقِيقَةَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَوِلَايَةُ الْقَاضِي فَوْقَ وِلَايَةِ الشَّهَادَةِ .
فَإِذَا كَانَ لَا يَجُوزُ لِلْمَرْءِ أَنْ يَشْهَدَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فَلِئَلَّا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِمَا لَا يَعْلَمُهُ أَوْلَى وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { إلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلشَّاهِدِ { إذَا رَأَيْت مِثْلَ هَذِهِ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ وَإِلَّا فَدَعْ } ، ثُمَّ طَرِيقُ إثْبَاتِهِ عِنْدَ الْقَاضِي إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّهُ كَانَ قَاضِيًا حِينَ قَضَى بِهَذَا فَلَعَلَّهُ أَنَفَذَهُ بَعْدَ الْعَزْلِ وَالْقَضَاءُ مِنْهُ بَعْدَ الْعَزْلِ لَا يَكُونُ نَافِذًا

وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَتَّخِذَ كَاتِبًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَلَغَنَا أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ قَدِمَ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَسَأَلَهُ عَنْ كَاتِبِهِ فَقَالَ هُوَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَغَضِبَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ لَا تَسْتَعِينُوا بِهِمْ فِي شَيْءٍ وَأَبْعِدُوهُمْ وَأَذِلُّوهُمْ فَاِتَّخَذَ أَبُو مُوسَى كَاتِبًا غَيْرَهُ ، وَلِأَنَّ مَا يَقُومُ بِهِ كَاتِبُ الْقَاضِي مِنْ أَمْرِ الدِّينِ وَهُمْ يَخُونُونَ الْمُسْلِمِينَ فِي أُمُورِ الدِّينِ لِيُفْسِدُوهُ عَلَيْهِمْ ( قَالَ ) اللَّهُ تَعَالَى { لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً } الْآيَةَ ، وَإِنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَعْتَقَ عَبْدًا لَهُ نَصْرَانِيًّا يُدْعَى بحنس .
وَقَالَ لَوْ كُنْتَ عَلَى دِينِنَا لَاسْتَعَنَّا بِك فِي شَيْءٍ مِنْ أُمُورِنَا ، وَلِأَنَّ كَاتِبَ الْقَاضِي يُعَظَّمُ فِي النَّاسِ ، وَقَدْ نُهِينَا عَنْ تَعْظِيمِهِمْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { أَذِلُّوهُمْ وَلَا تَظْلِمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا كَاتِبًا مَمْلُوكًا وَلَا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ وَلَا أَحَدًا مِمَّنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ } ؛ لِأَنَّ الْكَاتِبَ يَنُوبُ عَنْ الْقَاضِي فِيمَا هُوَ مِنْ أَهَمِّ أَعْمَالِهِ فَلَا يَخْتَارُ لِذَلِكَ إلَّا مِنْ يَصْلُحُ لِلْقَضَاءِ وَرُبَّمَا يَحْتَاجُ الْقَاضِي إلَى الِاعْتِمَادِ عَلَى شَهَادَتِهِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ ، أَوْ يَحْتَاجُ بَعْضُ الْخُصُومِ إلَى شَهَادَتِهِ فَلَا يَخْتَارُ إلَّا مَنْ يَصْلُحُ لِلشَّهَادَةِ

وَلَا بَأْسَ بِأَنْ يُكَلِّفَ الْقَاضِي الطَّالِبَ صَحِيفَةً يَكْتُبُ فِيهَا حُجَّتَهُ وَشَهَادَةَ شُهُودِهِ ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ ذَلِكَ لَهُ وَاَلَّذِي يَحِقُّ عَلَى الْقَاضِي مُبَاشَرَةُ الْقَضَاءِ .
فَأَمَّا الْكِتَابَةُ لَيْسَتْ عَلَيْهِ فَلَا يَلْزَمُهُ اتِّخَاذُ الصَّحَائِفِ لِذَلِكَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ ، وَلَكِنْ لَوْ كَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ سَعَةٌ فَرَأَى أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَتَّصِلُ بِعَمَلِهِ وَكِفَايَتِهِ فِي مَالِ بَيْتِ الْمَالِ فَمَا يَتَّصِلُ بِهِ لَا بَأْسَ بِأَنْ يُجْعَلَ فِي مَالِ بَيْتِ الْمَالِ

وَعَلَى هَذَا أَجْرُ كَاتِبِ الْقَاضِي فَإِنَّهُ إنْ جَعَلَ كِفَايَتَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِكِفَايَةِ الْقَاضِي لِيَحْتَسِبَ فِي عَمَلِهِ فَهُوَ حَسَنٌ ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يَجْعَلَ ذَلِكَ عَلَى الْخُصُومِ فَلَا بَأْسَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ لَهُمْ عَمَلًا لَا يُسْتَحَقُّ عَلَى الْقَاضِي مُبَاشَرَتُهُ ، وَكَذَلِكَ أَجْرُ قَاسِمِ الْقَاضِي .

وَإِذَا هَلَكَ ذَكَرَ شَهَادَةَ الشُّهُودِ مِنْ دِيوَانِ الْقَاضِي فَشَهِدَ عِنْدَهُ كَاتِبَانِ لَهُ أَنَّ شُهُودَهُ فُلَانٌ وَفُلَانٌ ، وَقَدْ شَهِدُوا عِنْدَهُ بِكَذَا وَكَذَا لَمْ يَقْبَلْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ مَا أَشْهَدَ الْكَاتِبَيْنِ عَلَى شَهَادَتِهِمَا وَلَا يَقْبَلُ شَهَادَةَ الْإِنْسَانِ عَلَى شَهَادَةِ غَيْرِهِ .
وَإِذَا لَمْ يُشْهِدْهُ عَلَى شَهَادَتِهِ

وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَكْتُبَ شَهَادَةَ الشَّاهِدَيْنِ بِمَحْضَرِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ ، أَوْ وَكِيلِهِ حَتَّى لَا يُغَيِّرَ شَيْئًا مِنْ مَوْضِعِهِ ؛ لِأَنَّ الشُّهُودَ إنْ زَادُوا ، أَوْ حَرَّفُوهُ طَعَنَ فِيهِ وَخَاصَمَ وَرَفَعَ ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي نَائِبُهُ وَكَوْنُ الْكَاتِبِ بِمَحْضَرٍ مِنْهُ أَقْرَبَ إلَى النَّظَرِ لَهُ وَإِلَى نَفْيِ التُّهْمَةِ عَنْ الْقَاضِي ، وَإِنْ كَتَبَهَا بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنْهُ لَمْ يَضُرَّهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ يَكْتُبُ مَا سَمِعَ وَهُوَ أَمِينٌ فِي ذَلِكَ مَا لَمْ تَظْهَرْ خِيَانَتُهُ .

وَيَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَعْرِضَ كِتَابَ الشَّهَادَةِ بَعْدَ مَا يَكْتُبُهَا عَلَى الشَّاهِدِ حَتَّى يَعْرِفَ هَلْ زَادَ شَيْئًا ، أَوْ حَرَّفَهُ عَنْ مَوْضِعِهِ ؛ لِأَنَّ حُجَّةَ الْقَضَاءِ شَهَادَةُ الشُّهُودِ فَيَسْتَقْصِي فِي الِاحْتِيَاطِ فِيهِ ، وَذَلِكَ فِي الْعَرْضِ عَلَى الشَّاهِدِ بَعْدَ مَا يَكْتُبُ ؛ وَلِهَذَا قِيلَ إذَا لَمْ يَكُنْ مَاهِرًا فِي الْعَرَبِيَّةِ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَكْتُبَ شَهَادَةَ الشُّهُودِ بِلَفْظِهِ وَلَا يُحَوِّلَهُ إلَى لُغَةٍ أُخْرَى مَخَافَةَ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ .

بَابُ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ اعْلَمْ بِأَنَّ الْقِيَاسَ يَأْبَى جَوَازَ الْعَمَلِ بِكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ كِتَابَهُ لَا يَكُونُ أَقْوَى مِنْ عِبَارَتِهِ ، وَلَوْ حَضَرَ بِنَفْسِهِ مَجْلِسَ الْقَضَاءِ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَعَبَّرَ بِلِسَانِهِ عَمَّا فِي الْكِتَابِ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ الْقَاضِي .
فَكَذَلِكَ إذَا كَتَبَ بِهِ إلَيْهِ ، وَلِأَنَّ الْكِتَابَ قَدْ يُزَوَّرُ وَيُفْتَعَلُ وَالْخَطُّ يُشْبِهُ الْخَطَّ وَالْخَاتَمُ يُشْبِهُ الْخَاتَمَ فَكَانَ مُحْتَمَلًا وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلْقَضَاءِ ، وَلَكِنَّا جَوَّزْنَا الْعَمَلَ بِكِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِيمَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ لِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ جَوَّزَ ذَلِكَ وَلِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى ذَلِكَ فَقَدْ يَكُونُ الشَّاهِدُ لِلْمَرْءِ فِي حَقِّهِ عَلَى بَلْدَةٍ وَخَصْمُهُ فِي بَلْدَةٍ أُخْرَى فَيَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا وَرُبَّمَا لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَنْ يُشْهِدَ فِي شَهَادَتِهِمَا وَأَكْثَرُ النَّاسِ يَعْجَزُونَ عَنْ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا ، ثُمَّ يَحْتَاجُ بَعْدَ ذَلِكَ إلَى مَعْرِفَةِ عَدَالَةِ الْأُصُولِ وَيَتَعَذَّرُ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ فِي تِلْكَ الْبَلْدَةِ فَتَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى نَقْلِ شَهَادَتِهِمْ بِالْكِتَابِ إلَى مَجْلِسِ ذَلِكَ الْقَاضِي لِيَتَعَرَّفَ الْقَاضِي مِنْ الْكِتَابِ عَدَالَتَهُمْ وَيَكْتُبَ ذَلِكَ إلَى الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ فَلِلتَّيْسِيرِ جَوَّزْنَا ذَلِكَ ، وَلَكِنْ فِيمَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْفَكُّ عَنْ شُبْهَتِهِ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي وَجْهِ الْقِيَاسِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً فِيمَا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ ، وَلِأَنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ لَا تَعُمُّ الْبَلْوَى بِهِ فَلَمَّا جُعِلَ هَذَا حُجَّةً لِلْحَاجَةِ اُقْتُصِرَ عَلَى مَا تَعُمُّ الْبَلْوَى بِهِ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ تَمْشِي إلَى ذَلِكَ .
فَإِذَا أَتَى الْقَاضِيَ كِتَابُ قَاضٍ سَأَلَ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ كِتَابُهُ وَخَاتَمُهُ ؛ لِأَنَّهُ غَابَ عَنْ الْقَاضِي عِلْمُهُ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ ،

ثُمَّ يَقْرَؤُهُ عَلَيْهِمْ وَيَشْهَدُونَ عَلَى مَا فِيهِ فَمِنْ أَصْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ عِلْمَ الشُّهُودِ بِمَا فِي الْكِتَابِ شَرْطٌ لِجَوَازِ الْقَضَاءِ بِذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلُ ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ خَاتَمُهُ وَكِتَابُهُ قَبِلَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ مَا فِيهِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي قَدْ يُسْتَعْمَلُ عَلَى شَيْءٍ لَا يُعْجِبُهُمَا أَنْ يَقِفَ عَلَيْهِ غَيْرُهُمَا ؛ وَلِهَذَا يُخْتَمُ الْكِتَابُ وَمَعْنَى الِاحْتِيَاطِ يَحْصُلُ إذَا شَهِدُوا أَنَّهُ كِتَابُهُ وَخَاتَمُهُ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا لِلشَّاهِدِ وَالْمَقْصُودُ مَا فِي الْكِتَابِ لَا عَيْنُ الْكِتَابِ وَالْخَتْمِ وَكُتُبُ الْخُصُومَاتِ لَا يُسْتَعْمَلُ عَلَى شَيْءٍ سِوَى الْخُصُومَةِ فَلِلتَّيْسِيرِ يَطْلُبُ كِتَابًا آخَرَ عَلَى حِدَةٍ .
فَأَمَّا مَا يُبْعَثُ عَلَى يَدِ الْخَصْمِ لَا يَشْتَمِلُ إلَّا عَلَى ذِكْرِ الْخُصُومَةِ وَلَفْظِ الشَّهَادَةِ ( قَالَ ) وَلَا يُفْتَحُ الْكِتَابُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ فَإِنَّ الْكَاتِبَ يَنْقُلُ أَلْفَاظَ الشَّهَادَةِ كِتَابَةً إلَى الْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ كَمَا أَنَّ شَاهِدَ الْفَرْعِ يَنْقُلُ شَهَادَةَ شَاهِدِ الْأَصْلِ بِعِبَارَتِهِ ، ثُمَّ لَا تُسْمَعُ الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ .
فَكَذَلِكَ لَا يُفْتَحُ الْكِتَابُ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ .
فَإِذَا قَرَأَهُ عَلَيْهِ وَعَلِمَ مَا فِيهِ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَخْرِمَهُ وَيَخْتِمَهُ لِكَيْ لَا يُغَيِّرَ شَيْئًا مِنْهُ وَيَكْتُبَ عَلَيْهِ اسْمَ صَاحِبِهِ لِيُتَسَيَّرَ عَلَيْهِ وُجُودُهُ فِي قِمْطَرِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ .
وَإِذَا وَصَلَ الْكِتَابُ إلَى هَذَا الْقَاضِي بَعْدَ مَا مَاتَ الْكَاتِبُ ، أَوْ عُزِلَ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَا أَتَاهُ كِتَابُ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ الْكَاتِبَ قَدْ انْعَزَلَ حِينَ عُزِلَ ، أَوْ مَاتَ فَإِنَّمَا أَتَاهُ كِتَابُ وَاحِدٍ مِنْ الرَّعَايَا ،

وَذَلِكَ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلْقَضَاءِ ، وَإِنْ مَاتَ ذَلِكَ ، أَوْ عُزِلَ بَعْدَ مَا وَصَلَ الْكِتَابُ إلَى هَذَا الْقَاضِي وَقَرَأَ مَا فِيهِ فَإِنَّهُ يَعْمَلُ بِهِ ؛ لِأَنَّ الَّذِي أَتَاهُ كِتَابُ الْقَاضِي ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْكِتَابَ فِي مَعْنَى الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَالشَّاهِدُ عَلَى الشَّهَادَةِ إذَا مَاتَ بَعْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ يَجُوزُ الْعَمَلُ بِشَهَادَتِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا مَاتَ قَبْلَ الْأَدَاءِ .
فَكَذَلِكَ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ وُصُولَ الْكِتَابِ إلَيْهِ وَقِرَاءَتَهُ فِي مَعْنَى أَدَاءِ الشَّهَادَةِ فِي مَجْلِسِهِ ، وَإِنْ مَاتَ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ ، أَوْ عُزِلَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ الْكِتَابُ ، ثُمَّ وَصَلَ إلَى الَّذِي وَلِيَ بَعْدَهُ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْكِتَابَ إلَى غَيْرِهِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً لِلْقَضَاءِ فِي حَقِّهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَصَلَ إلَيْهِ وَقَرَأَهُ ، ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ بِهِ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ مَنْ بَعْدَهُ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ فِي مَجْلِسِهِ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُنَفِّذَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْكِتَابُ إلَى كُلِّ مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ مِنْ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ جُوِّزَ ذَلِكَ مَعَ جَهَالَةِ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى ذَلِكَ اسْتِحْسَانًا إلَّا أَنَّهُ يُكَلِّفُ الْخَصْمَ إعَادَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى الْكِتَابِ وَالْخَتْمِ بَيْنَ يَدَيْهِ ؛ لِأَنَّ مَا قَامَ مِنْ الْبَيِّنَةِ فِي الْمَجْلِسِ الْأَوَّلِ قَدْ بَطَلَ بِمَوْتِهِ قَبْلَ تَنْفِيذِهِ

وَإِنْ كَتَبَ الْقَاضِي إلَى قَاضٍ فِي حَقٍّ لِرَجُلٍ شَهَادَةَ شُهُودٍ شَهِدُوا عِنْدَهُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُسَمِّيَ الشُّهُودَ فِي الْكِتَابِ وَيَنْسُبَهُمْ إلَى آبَائِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ وَالْأَصْلُ أَنَّ الْغَائِبَ عَنْ مَجْلِسِ الْقَضَاءِ يَجِبُ تَعْرِيفُهُ بِأَقْصَى مَا يُمْكِنُ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَا يُعْرَفُ الْمَحْدُودَاتُ إلَّا بِذِكْرِ الْحُدُودِ فَيُعْرَفُ الْآدَمِيُّ بِالنَّسَبِ وَالِاسْمِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَقْصَى مَا يُمْكِنُ فِي تَعْرِيفِهِ إذَا تَعَذَّرَ إحْضَارُهُ وَتَمَامُ ذَلِكَ بِذَكَرِ اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَاسْمِ جَدِّهِ فَالْمَقْصُودُ تَمْيِيزُهُ عَنْ غَيْرِهِ وَالتَّمْيِيزُ يَحْصُلُ بِهَذَا فَقَلَّ مَا يَتَّفِقُ رَجُلَانِ فِي الِاسْمِ وَالنَّسَبِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَلَإِنْ كَانَ فَهُوَ نَادِرٌ وَيَذْكُرُ قَبِيلَتَهُ أَيْضًا ، وَلَوْ اكْتَفَى بِذِكْرِ اسْمِهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَاسْمِ قَبِيلَتِهِ جَازَ أَيْضًا فَقَلَّ مَا يَتَّفِقُ رَجُلَانِ فِي قَبِيلَةٍ وَاحِدَةٍ بِاسْمِهِمَا وَاسْمِ أَبِيهِمَا وَيُقَامُ ذِكْرُ الْقَبِيلَةِ مَقَامَ ذِكْرِ الْجَدِّ فَهُوَ الْجَدُّ الْأَعْلَى ، وَإِنْ ذَكَرَ اسْمَهُ وَاسْمَ أَبِيهِ فَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ ذَلِكَ يَكْفِي إذَا عَرَّفَهُ بِصِنَاعَةٍ وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِهَا ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَكْفِي ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الصِّنَاعَةِ لَيْسَ بِشَيْءٍ فَقَدْ يَتَحَوَّلُ الْإِنْسَانُ مِنْ صِنَاعَةٍ إلَى صِنَاعَةٍ فَإِنْ كَانَ قَدْ عَرَفَهُمْ بِالصَّلَاحِ كَتَبَ بِذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُمْ وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ عَنْهُمْ كَتَبَ بِهِ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إعْلَامُ عَدَالَتِهِمْ لِلْقَاضِي الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الْقَضَاءِ فَالْقَضَاءُ يَقَعُ بِشَهَادَتِهِمْ .
وَإِنْ حَلَّاهُمْ فَحَسَنٌ ، وَإِنْ تَرَكَ التَّحْلِيَةَ لَمْ يَضُرَّ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ وَهُوَ التَّعْرِيفُ قَدْ حَصَلَ بِذِكْرِ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ إلَّا أَنَّهُ إذَا كَانَ مِنْ رَأْيِ الْكَاتِبِ أَنْ يَذْكُرَ التَّحْلِيَةَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَا يَشِينُهُ وَلَا يُعَيَّرُ بِهِ فِي النَّاسِ فَيَتَحَرَّزُ عَنْ ذِكْرِ مَا

يَشِينُهُ فَذَلِكَ نَوْعُ غِيبَةٍ فَإِنْ أَرَادَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مِنْ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَ بِهِ إلَى قَاضٍ آخَرَ فَعَلَهُ ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الشُّهُودِ تَثْبُتُ عِنْدَهُ بِالْكِتَابِ فَكَأَنَّهُ تَثْبُتُ بِسَمَاعِهِ مِنْهُمْ وَكَمَا جَوَّزْنَا الْكِتَابَ مِنْ الْقَاضِي الْأَوَّلِ لِلْحَاجَةِ .
فَكَذَلِكَ نُجَوِّزُهُ مِنْ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ الْخَصْمَ قَدْ يَهْرُبُ إلَى بَلْدَةٍ أُخْرَى قَبْلَ قَضَاءِ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ بِذَلِكَ عَلَيْهِ .
وَإِذَا سَمِعَ الْقَاضِي شَهَادَةَ الشُّهُودِ وَكَتَبَ بِهَا إلَى قَاضٍ آخَرَ فَلَمْ يَخْرُجْ الْكِتَابُ مِنْ يَدِهِ حَتَّى حَضَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمْ يَحْكُمُ بِذَلِكَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ سَمَاعَهُ الْأَوَّلَ كَانَ لِلنَّقْلِ فَلَا يَسْتَفِيدُ بِهِ وِلَايَةَ الْقَضَاءِ كَشَاهِدِ الْفَرْعِ إذَا اسْتَقْصَى بَعْدَ مَا شَهِدَ الْأَصْلِيَّانِ عِنْدَهُ وَأَشْهَدَاهُ عَلَى شَهَادَتِهِمَا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِذَلِكَ وَهَذَا ؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْقَضَاءِ بِالْبَيِّنَةِ وَاَلَّذِي سَمِعَ شَهَادَةً لَا بَيِّنَةً فَالْبَيِّنَةُ مَا يَحْصُلُ الْبَيَانُ بِهَا وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ بَعْدَ إنْكَارِهِ أَوْ سُكُوتِهِ الْقَائِمِ مَقَامَ إنْكَارِهِ فَإِنْ أَعَادَ الْمُدَّعِي تِلْكَ الْبَيِّنَةَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الْخَصْمِ فَالْآنَ يَقْضِي لَهُ بِهَا ؛ لِأَنَّ شَرْطَ قَبُولِ الْبَيِّنَةِ لِلْقَضَاءِ إنْكَارُ الْخَصْمِ ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ حِينَ أَعَادَهَا ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْأَدَاءِ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ .
وَإِذَا وَصَلَ الْكِتَابُ إلَى الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَقَرَأَهُ بِحَضْرَةِ الْخَصْمَ وَشَهِدَ الشُّهُودُ عَلَى الْخَتْمِ ، وَمَا فِيهِ وَهُوَ مِمَّا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْفُقَهَاءُ لَمْ يُنَفِّذْهُ الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ رَأْيِهِ ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَحْكُمْ بِهِ ، وَإِنَّمَا نَقَلَ الشَّهَادَةَ بِكِتَابِهِ إلَى مَجْلِسِهِ فَلَا يَحْكُمُ بِهِ إلَّا إذَا كَانَ ذَلِكَ مِنْ رَأْيِهِ كَمَا إذَا شَهِدَ الْفُرُوعُ عِنْدَهُ عَلَى شَهَادَةِ الْأُصُولِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْأَوَّلُ قَدْ قَضَى بِهِ وَأَعْطَى الْخَصْمَ سِجِلًّا فَالثَّانِي

يُنَفِّذُ ذَلِكَ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ رَأْيِهِ ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْقَاضِي فِي الْمُجْتَهَدَاتِ نَافِذٌ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ لَيْسَ لِلْأَوَّلِ أَنْ يُبْطِلَ قَضَاءَهُ ، وَإِنْ تَحَوَّلَ رَأْيُهُ .
فَكَذَلِكَ لَيْسَ لِلثَّانِي أَنْ يُبْطِلَ ذَلِكَ .
فَأَمَّا فِي الْكِتَابِ الْأَوَّلِ مَا قَضَى بِشَيْءٍ ( أَلَا تَرَى ) أَنَّ لَهُ أَنْ يُبْطِلَ كِتَابَهُ قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ إلَى الثَّانِي ، وَأَنَّ الْخَصْمَ لَوْ حَضَرَ مَجْلِسَهُ لَمْ يَلْزَمْهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ .
فَكَذَلِكَ الثَّانِي لَا يَنْفُذُ كِتَابُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ رَأْيِهِ

وَلَا يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي فِي شَيْءٍ مِنْ الْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا يَنْدَرِئُ بِالشُّبُهَاتِ وَلِلشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلٌ أَنَّ ذَلِكَ مَقْبُولٌ إلَّا فِي الْحُدُودِ الَّتِي هِيَ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا وَأَصْلُ ذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَسَيَأْتِيك بَيَانُهُ فِي كِتَابِ الشَّهَادَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

وَلَا يُقْبَلُ كِتَابُ قَاضِي رُسْتَاقٍ وَلَا قَرْيَةٍ وَلَا كِتَابُ عَامِلِهَا ؛ لِأَنَّ الْمَعْمُولَ بِهِ كِتَابُ الْقَاضِي وَالْقَاضِي الرُّسْتَاقِ مُتَوَسِّطٌ ، وَلَيْسَ بِقَاضٍ فَالْمِصْرُ مِنْ شَرَائِطِ الْقَضَاءِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ مِنْ أَعْلَامِ الدِّينِ كَالْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ فَيَكُونُ مُخْتَصًّا بِالْمِصْرِ ، وَذَلِكَ فِي بَعْضِ النَّوَادِرِ أَنَّ قَاضِي الْقَرْيَةِ إذَا قَضَى بِشَيْءٍ بَعْدَ تَقْلِيدِ مُطْلَقٍ فَقَضَاؤُهُ نَافِذٌ فَعَلَى هَذَا إذَا كَانَ قَاضِي الرُّسْتَاقِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يُقْبَلُ كِتَابُهُ وَعَلَى هَذَا قَالُوا إذَا خَرَجَ قَاضِي الْمِصْرِ إلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَارِجَةٌ مِنْ فِنَاءِ الْمِصْرِ فَقَضَى هُنَاكَ بِالْحُجَّةِ لَا يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِانْعِدَامِ شَرْطِ الْقَضَاءِ وَهُوَ الْمِصْرُ وَعَلَى رِوَايَةِ النَّوَادِرِ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ وَكَثِيرٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَخَذُوا بِذَلِكَ قَالُوا أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَتْ الْخُصُومَةُ فِي ضَيْعَةٍ فِي بَعْضِ الْقُرَى فَرَأَى الْقَاضِي الْأَحْوَطَ أَنْ يَحْضُرَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ لِيَسْمَعَ الدَّعْوَى وَالْمُشَاهَدَةِ وَيَحْكُمُ عِنْدَ الضَّيْعَةِ أَمَا كَانَ يَنْفُذُ حُكْمُهُ بِذَلِكَ وَمَنْ قَالَ بِهَذَا قَالَ تَأْوِيلُ مَا قَالَ فِي الْكِتَابِ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى قَبُولِ كِتَابِ الْقَاضِي الرُّسْتَاقِ فَإِنَّهُ يَتَيَسَّرُ إحْضَارُ الْخَصْمِ مَعَ الشُّهُودِ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فِي الْمِصْرِ ، وَلَكِنْ هَذَا بَعِيدٌ فَقَدْ ذَكَرَ بَعْدَهُ أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ إلَّا كِتَابُ قَاضِي مَدِينَةٍ فِيهَا مِنْبَرٌ وَجَمَاعَةٌ ، أَوْ كِتَابُ الْأَمِيرِ الَّذِي اسْتَعْمَلَ الْقَاضِي لَا لَهُ بِمَا كَفَلَ كِتَابٌ مِنْ تِلْكَ تَنْفِيذَ الْقَضَاءِ وَالْأَمِيرُ الَّذِي اسْتَعْمَلَ الْقَاضِي لَوْ نَفَّذَ الْقَضَاءَ بِنَفْسِهِ جَازَ ذَلِكَ مِنْهُ وَكَيْفَ لَا يَجُوزُ ، وَإِنَّمَا يَنْفُذُ قَضَاءُ الْقَاضِي بِأَمْرِهِ .
فَكَذَلِكَ قَاضِي الْمَدِينَةِ يَنْفُذُ قَضَاؤُهُ لَوْ قَضَى بِنَفْسِهِ فَيُقْبَلُ كِتَابُهُ بِخِلَافِ قَاضِي الرُّسْتَاقِ

وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى كِتَابِ قَاضِي الْمُسْلِمِينَ لِذِمِّيٍّ عَلَى ذِمِّيٍّ وَلَا عَلَى قَضَائِهِ ؛ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ عَلَى فِعْلِ الْمُسْلِمِ وَشَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا تَكُونُ حُجَّةً فِي إثْبَاتِ فِعْلِ الْمُسْلِمِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ قَبُولَ شَهَادَةِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ كَانَ لِلْحَاجَةِ وَالضَّرُورَةِ فَقَلَّ مَا يَحْضُرُ الْمُسْلِمُونَ مُعَامَلَاتِهِمْ خُصُوصًا الْأَنْكِحَةَ وَالْوَصَايَا ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ فِي قَضَاءِ قَاضِي الْمُسْلِمِينَ وَكِتَابِهِ وَخَاتَمِهِ ؛ لِأَنَّ الْإِشْهَادَ عَلَى ذَلِكَ مِنْهُ فِي مَجْلِسِهِ وَمَجْلِسُ قَاضِي الْمُسْلِمِينَ يَحْضُرُهُ الْمُسْلِمُونَ دُونَ أَهْلِ الذِّمَّةِ .

وَإِذَا جَاءَ بِكِتَابِ الْقَاضِي أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَيَّ كَذَا وَكَذَا مِنْ الدَّيْنِ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يَنْسِبَهُ إلَى أَبِيهِ وَإِلَى فَخِذِهِ الَّتِي هُوَ بِهَا أَوْ يَنْسِبَهُ إلَى تِجَارَةٍ يُعْرَفُ بِهَا مَشْهُورَةٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي النِّسْبَةِ إلَى التِّجَارَةِ ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقُومُ مَقَامَ النِّسْبَةِ إلَى الْفَخِذِ إلَّا أَنْ يَكُونَ شَيْئًا مَشْهُورًا لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ ، وَإِنْ كَانَ فِي تِلْكَ الْفَخِذِ ، أَوْ إلَى التِّجَارَةِ اثْنَانِ كَذَلِكَ لَمْ يَجُزْ حَتَّى يُنْسَبَ إلَى شَيْءٍ يُعْرَفُ بِهِ مِنْ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَمَيُّزِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُمَا لَوْ شَهِدَا عَلَى أَحَدِ الرَّجُلَيْنِ بِحَضْرَتِهِمَا لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ بِدُونِ التَّعْيِينِ .
فَكَذَلِكَ فِي حَقِّ الْغَائِبِ لَا بُدَّ مِنْ تَمْيِيزِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ مِنْ الْآخَرِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَبْقَى فِيهِ شُبْهَةٌ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ إلَّا وَاحِدًا فَأَقَامَ الْخَصْمُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِيهِمْ رَجُلٌ عَلَى ذَلِكَ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ ، وَأَنَّهُ قَدْ مَاتَ لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ مِنْهُ إذَا كَانَ مَوْتُهُ قَبْلَ تَارِيخِ الْكِتَابِ ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَهُ قَبِلْتُهُ وَأَبْطَلْتُ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ الْمُدَّعِي ؛ لِأَنَّ الثَّابِتَ بِالْبَيِّنَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمَعْلُومِ لِلْقَاضِي ، وَلَوْ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ الْقَاضِي وُجُودُهُ وَمَوْتُهُ قَبْلَ تَارِيخِ الْكِتَابِ لَمْ يَمْتَنِعْ لِأَجْلِهِ مِنْ الْعَمَلِ بِالْكِتَابِ ؛ لِأَنَّ فِي الْكِتَابِ ذُكِرَ الِاسْمُ وَالنَّسَبُ مُطْلَقًا فَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ ذَلِكَ إلَى الْحَيِّ دُونَ الْمَيِّتِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَقْصُودُ الْمَيِّتَ يُذْكَرُ فِي الْكِتَابِ فُلَانٌ الْمَيِّتُ وَأَمَّا إذَا كَانَ مَوْتُهُ بَعْدَ تَارِيخِ الْكِتَابِ فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَانَ حَيًّا حِينَ كَتَبَ الْقَاضِي ، وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ مَا يُمَيِّزُ أَحَدَهُمَا عَنْ الْآخَرِ أَرَأَيْت لَوْ ادَّعَى هَذِهِ الدَّعْوَى عَلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ وَاحْتَجَّ وَرَثَةُ الْمَيِّتِ بِالْحَيِّ أَكَانَ

يَتَمَكَّنُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ عَلَى وَرَثَةِ الْمَيِّتِ بِشَيْءٍ ، وَلَيْسَ فِي الْكِتَابِ مَا يُمَيِّزُ مُوَرِّثَهُمْ مِنْ الْآخَرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي الْكِتَابِ فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ لِفُلَانٍ ، وَقَدْ مَاتَ فَيُعْلَمُ بِذَلِكَ أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ الْمَيِّتُ مِنْهُمَا دُونَ الْحَيِّ ، وَإِنْ كَانَ نَسَبَهُ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ إلَى أَبِيهِ وَإِلَى بَكْرِ بْنِ وَائِلٍ ، أَوْ إلَى تَمِيمٍ أَوْ هَمْدَانَ لَمْ أُجِزْهُ حَتَّى يَنْسِبَهُ إلَى فَخِذِهِ الَّتِي هُوَ مِنْهَا أَدْنَاهَا إلَيْهِ بَعْدَ أَنْ يَقُولَ قَبِيلَتُهُ عَلَيْهَا الْعَرَّافَةُ ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّعْرِيفُ ، وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بِنِسْبَتِهِ إلَى أَدْنَى الْأَفْخَاذِ أَرَأَيْتَ لَوْ قَالُوا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ الْعَرَبِيُّ أَوْ نَسَبُوهُ إلَى آدَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكَانَ يَحْصُلُ التَّعْرِيفُ بِذَلِكَ ( قَالَ ) إلَّا أَنْ يَكُونَ رَجُلًا مَشْهُورًا أَشْهَرَ مِنْ الْقَبِيلَةِ فَيُقْبَلَ ذَلِكَ إذَا نَسَبَهُ إلَى تِلْكَ الشُّهْرَةِ فَالتَّمْيِيزُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ يَحْصُلُ بِالشُّهْرَةِ فَيَقُومُ ذَلِكَ مَقَامَ ذِكْرِ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ .

، وَلَوْ جَاءَ بِكِتَابِ قَاضٍ بِشَهَادَةِ شُهُودٍ عَلَى دَارٍ لَيْسَ فِيهَا حُدُودٌ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ كَمَا لَوْ شَهِدُوا بِهِ فِي مَجْلِسِهِ ، وَهَذَا ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ مَجْهُولٌ فَفِيمَا لَا يُمْكِنُ إحْضَارُهُ مَجْلِسَ الْقَاضِي التَّعْرِيفُ بِذِكْرِ الْحُدُودِ فَيَبْقَى مَجْهُولًا بِدُونِهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانُوا حَدُّوهَا بِحَدَّيْنِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَالَ إذَا ذَكَرُوا أَحَدَ حَدَّيْ الطُّولِ وَأَحَدَ حَدِّ الْعَرْضِ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ وَيَكْتَفِيَ بِهِ ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ ؛ لِأَنَّ بِذِكْرِ الْحَدَّيْنِ لَا يَصِيرُ مِقْدَارُ الْمَشْهُودِ بِهِ مَعْلُومًا فَإِنْ حَدُّوهَا بِثَلَاثَةِ حُدُودٍ جَازَ عِنْدَنَا اسْتِحْسَانًا وَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ لِبَقَاءِ بَعْضِ الْجَهَالَةِ حِينَ لَمْ يَذْكُرُوا الْحَدَّ الرَّابِعَ وَقِيَاسُ هَذَا بِمَا لَوْ ذَكَرُوا الْحُدُودَ الْأَرْبَعَةَ وَغَلِطُوا فِي أَحَدِهَا ، وَلَكِنَّا نَقُولُ قَدْ ذَكَرُوا أَكْثَرَ الْحُدُودِ وَإِقَامَةُ الْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ ، ثُمَّ مِقْدَارُ الطُّولِ بِذِكْرِ الْحَدَّيْنِ صَارَ مَعْلُومًا وَمِقْدَارُ الْعَرْضِ بِذِكْرِ أَحَدِ الْحَدَّيْنِ بَعْدَ إعْلَامِ الطُّولِ يَصِيرُ مَعْلُومًا أَيْضًا ، وَقَدْ تَكُونُ الْأَرْضُ مُثَلَّثَةً لَهَا ثَلَاثَةُ حُدُودٍ .
فَإِذَا كَانَتْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَلَا خِلَافَ أَنَّهُ يُكْتَفَى بِذِكْرِ الْحُدُودِ الثَّلَاثَةِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا غَلِطُوا فِي ذِكْرِ أَحَدِ الْحُدُودِ ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُودَ بِهِ بِمَا ذَكَرُوا صَارَ شَيْئًا آخَرَ وَالْفَرْقُ ظَاهِرٌ بَيْنَ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ ، وَمَا إذَا خَالَفُوا فِي ذِكْرِهِ كَمَا إذَا ادَّعَى شِرَاءَ شَيْءٍ بِثَمَنٍ مَنْقُودٍ فَإِنَّ الشَّهَادَةَ عَلَى ذَلِكَ تُقْبَلُ ، وَإِنْ سَكَتَ الشُّهُودُ عَنْ ذِكْرِ جِنْسِ الثَّمَنِ ، وَلَوْ ذَكَرُوا ذَلِكَ وَاخْتَلَفُوا فِيهِ لَمْ تُقْبَلْ الشَّهَادَةُ فَهَذَا مِثْلُهُ ، وَإِنْ لَمْ يَحُدُّوهَا وَنَسَبُوهَا إلَى اسْمٍ مَعْرُوفٍ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَجَازَ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ

رَحِمَهُمَا اللَّهُ ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ بِالشُّهْرَةِ كَالتَّعْرِيفِ بِذِكْرِ الْحُدُودِ ، أَوْ أَبْلَغُ وَذِكْرُ الْحُدُودِ فِي الْعَقَارَاتِ كَذِكْرِ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ فِي الْآدَمِيِّ ، ثُمَّ هُنَاكَ الشُّهْرَةُ تُغْنِي عَنْ ذِكْرِ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ فَهَذَا مِثْلُهُ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ بِالشُّهْرَةِ يَصِيرُ مَوْضِعُ الْأَصْلِ مَعْلُومًا .
فَأَمَّا مِقْدَارُ الْمَشْهُودِ بِهِ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا إلَّا بِذِكْرِ الْحُدُودِ وَجَهَالَةُ الْمِقْدَارِ تَمْنَعُ مِنْ الْقَضَاءِ وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الدَّارَ الْمَشْهُودَةَ قَدْ يُزَادُ فِيهَا وَيُنْقَصُ مِنْهَا وَلَا تَتَغَيَّرُ الشُّهْرَةُ بِذَلِكَ بِخِلَافِ الْآدَمِيِّ فَإِنَّهُ لَا يُزَادُ فِيهِ وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُ وَالْحَاجَةُ هُنَاكَ إلَى إعْلَامِ أَصْلِهِ وَبِالشُّهْرَةِ يَصِيرُ مَعْلُومًا وَلَوْ جَاءَ بِكِتَابِ قَاضٍ أَنَّ لِفُلَانٍ عَلَى فُلَانٍ الَّذِي عِنْدَ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ الْفُلَانِيِّ كَذَا كَذَا أَجَزْتُهُ ؛ لِأَنَّ الْمَمْلُوكَ يُعْرَفُ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَالِكِهِ فَالنِّسْبَةُ إلَى الْأَبِ وَالْقَبِيلَةِ تَتَعَطَّلُ بِالرِّقِّ ، وَإِنَّمَا يُنْسَبُ إلَى مَالِكِهِ .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّ الْوِلَايَةَ عَلَى الْمَمْلُوكِ لِمَالِكِهِ دُونَ أَبِيهِ .
فَإِذَا نَسَبَهُ إلَى مَالِكٍ مَعْرُوفٍ بِالشُّهْرَةِ ، أَوْ بِذِكْرِ الِاسْمِ وَالنَّسَبِ فَقَدْ تَمَّ تَعْرِيفُهُ بِذَلِكَ ، وَكَذَلِكَ إنْ نَسَبَ الْعَبْدَ إلَى عَمَلٍ أَوْ تِجَارَةٍ يُعْرَفُ بِهَا فَالتَّعْرِيفُ فِي الْحُرِّ يَحْصُلُ بِذَلِكَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ .
فَكَذَلِكَ فِي الْعَبْدِ ، وَإِنْ جَاءَ بِالْكِتَابِ أَنَّ الْعَبْدَ لَهُ لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ وَهُمَا فِي الْقِيَاسِ سَوَاءٌ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ الْآبِقِ مَا يُقْبَلُ فِيهِ كِتَابُ الْقَاضِي ، وَمَا لَا يُقْبَلُ .

( قَالَ ) وَقَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَجُوزُ عِنْدَنَا كِتَابُ الْقُضَاةِ فِي شَيْءٍ بِعَيْنِهِ إلَّا فِي الْعَقَارِ فَإِنَّهُ لَا يَتَحَوَّلُ عَنْ مَوْضِعِهِ .
فَأَمَّا فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْأَعْيَانِ لَا يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ الْإِشَارَةَ إلَى عَيْنِهِ عِنْدَ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ شَرْطٌ ؛ وَلِهَذَا لَا بُدَّ مِنْ إحْضَارِهِ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ

وَإِذَا أَتَى كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي ، وَلَيْسَ عَلَيْهِ عِنْوَانٌ وَهُوَ مَخْتُومٌ بِخَاتَمِهِ فَشَهِدَتْ الشُّهُودُ أَنَّهُ كِتَابُهُ إلَيْهِ وَخَاتَمُهُ فَإِنَّهُ يَفْتَحُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى ظَهْرِهِ عِنْوَانٌ فِيهِ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا مَحْكُومًا أَنَّهُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَيْهِ ، وَإِنَّمَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ .
فَكَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ عِنْوَانٌ ، وَقَدْ تَرَكَ بَعْضُ الْقُضَاةِ كَتْبَهُ الْعِنْوَانَ عَلَى ظَاهِرِ الْكِتَابِ لِغَرَضٍ لَهُ فِي ذَلِكَ ، وَلَيْسَ عَلَى عِنْوَانِ الظَّاهِرِ اعْتِمَادٌ فَإِنَّهُ لَيْسَ يَجِبُ الْخَتْمُ فَإِنْ فَتَحَ الْكِتَابَ فَلَمْ يَكُنْ فِي دَاخِلِهِ اسْمُ الْكَاتِبِ وَالْمَكْتُوبِ إلَيْهِ ، أَوْ كَانَ فِيهِ اسْمُهُمَا دُونَ اسْمِ أَبِيهِمَا لَمْ يَقْبَلْهُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَقْبَلُ كِتَابَ الْقَاضِي إلَيْهِ وَلَا يَصِيرُ ذَلِكَ مَعْلُومًا إلَّا بِالْعِنْوَانِ فِي دَاخِلِهِ عَلَى وَجْهٍ يَحْصُلُ بِهِ تَعْرِيفُ الْكَاتِبِ وَالْمَكْتُوبِ إلَيْهِ .
فَإِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَا يَقْبَلُهُ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعِنْوَانَ الدَّاخِلَ عَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ ؛ لِأَنَّهُ تَحْتَ الْخَتْمِ يُؤْمَنُ فِيهِ تَغْيِيرُ ذَلِكَ .
فَإِذَا كَانَ فِيهِ تَعْرِيفًا تَامًّا يَقْبَلُ الْكِتَابَ وَإِلَّا فَلَا ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ أَسْمَاؤُهُمَا وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمَا قَبِلَهُ إذَا شَهِدَتْ الشُّهُودُ عَلَى مَا فِي جَوْفِهِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ كِنَايَتُهُمَا دُونَ أَسْمَائِهِمَا لَمْ يَقْبَلْهُ فَالتَّعْرِيفُ لَا يَحْصُلُ بِذَلِكَ عَلَى مَا قِيلَ الْمَكْنِيُّ بِأَكْنَى إلَّا أَنْ يَكُونَ مَشْهُورًا كَشُهْرَةِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ فَحِينَئِذٍ يَقْبَلُ ذَلِكَ لِلشُّهْرَةِ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ مِنْ فُلَانٍ إلَى ابْنِ فُلَانٍ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِيرُ مَعْلُومًا بِهَذَا فَقَدْ يَنْسِبُ الْفُلَانَ إلَى الْأَبِ الْأَدْنَى ، وَقَدْ يَنْسِبُ إلَى مَنْ فَوْقَهُ ، وَقَدْ يَكُونُ لِابْنِهِ بَنُونَ سِوَاهُ فَإِنْ كَانَ مَشْهُورًا مِثْلَ ابْنِ أَبِي لَيْلَى وَابْنِ شُبْرُمَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ جَازَ ذَلِكَ لِحُصُولِ

الْمَقْصُودِ بِذِكْرِ مَا هُوَ مَشْهُورٌ ، وَلَوْ كَتَبَ اسْمَ الْقَاضِي وَنَسَبَهُ إلَى جَدِّهِ وَلَمْ يَنْسِبْهُ إلَى أَبِيهِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ يَحْصُلُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَبِ الْأَدْنَى فَالنِّسْبَةُ إلَيْهِ حَقِيقَةً وَإِلَى الْجَدِّ مَجَازًا .
( أَلَا تَرَى ) أَنَّهُ يُنْفَى عَنْهُ بِإِثْبَاتِ غَيْرِهِ ، وَلَوْ كَانَ عَلَى عِنْوَانِهِ أَسْمَاؤُهُمَا وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي دَاخِلِهِ ؛ لِأَنَّ الْعِنْوَانَ الظَّاهِرَ لَيْسَ تَحْتَ الْخَتْمِ فَوُجُودُهُ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ .

وَلَوْ كَتَبَ الْقَاضِي إلَى الْأَمِيرِ الَّذِي اسْتَعْمَلَهُ وَهُوَ فِي الْمِصْرِ مَعَهُ أَصْلَحَ اللَّهُ الْأَمِيرَ ، ثُمَّ اقْتَصَّ الْقِصَّةَ وَجَاءَ بِكِتَابِهِ مَعَهُ فَعَرَفَهُ الْأَمِيرُ فَفِي الْقِيَاسِ لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي لَا يُثْبِتُ عِنْدَ الْأَمِيرِ مُوجِبًا لِلْقَضَاءِ إلَّا بِشَهَادَةِ شَاهِدَيْنِ كَالْمَكْتُوبِ مِنْ مِصْرٍ إلَى مِصْرٍ وَكَذَا لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ اسْمِ الْكَاتِبِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَاسْمِ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ وَاسْمِ أَبِيهِ وَلَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّهُ لَا حَاجَةَ فِي الْمِصْرِ إلَى هَذَا فَإِنَّهُ يَتَيَسَّرُ عَلَيْهِ أَنْ يَحْضُرَ بِنَفْسِهِ فَيُخْبِرَ الْأَمِيرَ بِمَا يُرِيدُ إعْلَامَهُ ، وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ لِلْأَمِيرِ أَنْ يُمْضِيَ هَذَا ؛ لِأَنَّهُ مُتَعَارَفٌ وَيَشُقُّ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يَأْتِيَ الْأَمِيرَ بِنَفْسِهِ فِي كُلِّ حَادِثَةٍ لِيُخْبِرَ بِهَا ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أَرْسَلَ إلَيْهِ بِذَلِكَ رَسُولًا ثِقَةً كَانَ عِبَارَةُ رَسُولِهِ كَعِبَارَتِهِ فِي حَقِّ جَوَازِ الْعَمَلِ بِهِ .
فَكَذَلِكَ إذَا كَتَبَ إلَيْهِ بِذَلِكَ رُقْعَةً وَلَمْ يَجْرِ الرَّسْمُ بِمِثْلِهِ فِي الْكِتَابِ مِنْ مِصْرٍ إلَى مِصْرٍ آخَرَ فَشَرَطْنَا هُنَاكَ شَرَائِطَ كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي وَيَجُوزُ عَلَى كِتَابِ الْقَاضِي الشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ وَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ مَعَ رَجُلٍ لِأَنَّهُ مِمَّا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ وَالشَّهَادَةُ عَلَى الشَّهَادَةِ وَشَهَادَةُ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ ، حُجَّةُ الْقَضَاءِ فِيمَا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ

وَذُكِرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَرْزُقُ سُلَيْمَانَ بْنَ رَبِيعَةَ الْبَاهِلِيَّ عَنْ الْقَضَاءِ كُلَّ شَهْرٍ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْإِمَامَ يُعْطِي الْقَاضِيَ كِفَايَتَهُ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ ، وَأَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِعَمَلِ الْمُسْلِمِينَ فَيَكُونُ كِفَايَتُهُ وَكِفَايَةُ عِيَالِهِ فِي مَالِ الْمُسْلِمِينَ ، وَإِنْ كَانَ صَاحِبَ ثَرْوَةٍ فَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ وَاحْتَسَبَ فِي عَمَلِ الْقَضَاءِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ } وَالْآيَةُ فِي الْوَصِيِّ وَهُوَ يَعْمَلُ لِلْيَتِيمِ كَمَا أَنَّ الْقَاضِيَ يَعْمَلُ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَإِنَّ الصَّحَابَةَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فَرَضُوا لِأَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِقْدَارَ كِفَايَتِهِ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا أَنَّهُ أَوْصَى إلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنْ تَرُدَّ جَمِيعَ ذَلِكَ حَتَّى قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَرْحَمُك اللَّهُ لَقَدْ أَتْعَبْتَ مَنْ بَعْدَك وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَأْخُذُ كِفَايَتَهُ مِنْ مَالِ بَيْتِ الْمَالِ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَذَلِكَ كَانَ يَأْخُذُ كَمَا قَالَ إنَّ لِي مِنْ مَالِكُمْ كُلَّ يَوْمٍ قَصْعَةَ ثَرِيدٍ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ لَا يَأْخُذُ لِثَرْوَتِهِ ، ثُمَّ ذُكِرَ عَنْ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ قَالَ مَالِي لَا أَرْتَزِقُ وَأَسْتَوْفِي مِنْهُ وَأُوفِيهِمْ أُصَبِّرُ لَهُمْ نَفْسِي فِي الْمَجْلِسِ وَأَعْدِلُ بَيْنَهُمْ فِي الْقَضَاءِ ، وَإِنَّ شُرَيْحًا رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ قَاضِيًا فِي زَمَنِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَرْزُقُهُ كُلَّ شَهْرٍ مِائَةَ دِرْهَمٍ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَرْزُقُهُ كُلَّ شَهْرٍ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ ، وَذَلِكَ لِقِلَّةِ عِيَالِهِ فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَرُخْصِ سِعْرِ الطَّعَامِ وَكَثْرَةِ عِيَالِهِ فِي زَمَنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ

عَنْهُ وَغَلَاءِ سِعْرِ الطَّعَامِ فَإِنَّ رِزْقَ الْقَاضِي لَا يَتَقَدَّرُ بِشَيْءٍ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِأَجْرٍ فَالِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْقَضَاءِ لَا يَجُوزُ ، وَإِنَّمَا يُعْطَى كِفَايَتَهُ وَكِفَايَةَ عِيَالِهِ وَكَانَ بَعْضُ أَصْدِقَاءِ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ عَاتَبَهُ فِي ذَلِكَ .
وَقَالَ لَوْ احْتَسَبْتَ قَالَ فِي جَوَابِهِ وَمَالِي لَا أَرْتَزِقُ فَبَيَّنَ أَنَّهُ فَرَّغَ نَفْسَهُ لِعَمَلِ الْقَضَاءِ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْكِفَايَةِ .
فَإِذَا لَمْ يَرْتَزِقْ احْتَاجَ إلَى الرِّشْوَةِ فَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِقْدَارَ كِفَايَتِهِ لِكَيْ لَا يَطْمَعَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ .

وَذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَحْيَى الْكِنْدِيُّ كَانَ يَقْسِمُ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الدُّورَ وَالْأَرْضِينَ وَيَأْخُذُ عَلَى ذَلِكَ أَجْرًا ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الْقَاضِيَ يَتَّخِذُ قَاسِمًا ؛ لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ فَإِنَّهُ فِي الْمَوَارِيثِ إذَا بَيَّنَ الْإِبْصَارَ بِمَا يُطَالَبُ بِالْقِسْمَةِ لِيَتِمَّ بِهَا انْقِطَاعُ الْمُنَازَعَةِ وَهُوَ لِكَثْرَةِ أَشْغَالِهِ لَا يَتَفَرَّغُ لِذَلِكَ فَيَتَّخِذُ قَاسِمًا يَسْتَعِينُ بِهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ كَمَا يَتَّخِذُ كَاتِبًا الْأَوْلَى أَنْ يَجْعَلَ كِفَايَةَ قَاسِمِ الْقَاضِي فِي بَيْتِ الْمَالِ كَكِفَايَةِ الْقَاضِي ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُ مِنْ تَتِمَّةِ مَا انْتَصَبَ الْقَاضِي لَهُ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى ذَلِكَ أَمَرَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْقِسْمَةَ أَنْ يَسْتَأْجِرُوهُ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ لَهُمْ عَمَلًا مَعْلُومًا ، وَذَلِكَ الْعَمَلُ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى الْقَاضِي فَالْقَضَاءُ يَتِمُّ بِبَيَانِ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الشُّرَكَاءِ وَالْقِسْمَةُ عَمَلٌ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِالِاسْتِئْجَارِ عَلَيْهِ كَالْكِتَابَةِ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُكْرِهَ النَّاسَ عَلَى قَسَّامِهِ خَاصَّةً ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُلْحِقُ بِهِ تُهْمَةَ الْمُوَاضَعَةِ مَعَ قَسَّامِهِ ، وَلِأَنَّهُ إذَا أَكْرَهَ النَّاسَ عَلَى ذَلِكَ يَتَحَكَّمُ قَسَّامُهُ عَلَى النَّاسِ فِي الْأَجْرِ ، وَفِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِمْ وَأَيُّمَا قَوْمٌ اصْطَلَحُوا عَلَى قِسْمَةِ قَاسِمٍ آخَرَ جَازَ بَيْنَهُمْ بَعْدَ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِمْ صَغِيرٌ وَلَا غَائِبٌ ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُمْ وَهُمْ قَادِرُونَ عَلَى النَّظَرِ لِأَنْفُسِهِمْ فَاصْطِلَاحُهُمْ عَلَى قَاسِمٍ آخَرَ مِنْ جُمْلَةِ النَّظَرِ مِنْهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ فِيهِمْ صَغِيرٌ ، أَوْ غَائِبٌ فَهُمْ يَحْتَاجُونَ إلَى رَأْي الْقَاضِي فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ وَالْغَائِبَ عَاجِزَانِ عَنْ النَّظَرِ لِأَنْفُسِهِمَا وَالْقَاضِي نَاظِرٌ لِكُلِّ مَنْ عَجَزَ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ فَإِنْ أَمَرَهُمْ بِالْقِسْمَةِ ، وَفِيهِمْ صَغِيرٌ أَوْ غَائِبٌ فَاسْتَأْجَرُوا قَسَّامًا غَيْرَ قَاسِمِهِ بِأَرْخَصَ مِنْ

ذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَكُونَ عَدْلًا يَعْرِفُهُ الْقَاضِي جَازَ وَيَأْمُرُهُ أَنْ يَقْسِمَ بَيْنَهُمْ ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَفْعَلْ هَذَا وَأَلْزَمَهُمْ اسْتِئْجَارَ قَاسِمِهِ يَحْكُمُ عَلَيْهِمْ فِي الْأَجْرِ .

ثُمَّ أَجْرُ الْقَاسِمِ عَلَى الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَصَاحِبِ النَّصِيبِ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ سَوَاءٌ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَعِنْدَهُمَا الْأَجْرُ عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ الْأَنْصِبَاءِ وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ كِتَابِ الْقِسْمَةِ

وَإِنْ اتَّخَذَ الْقَاضِي جَمَاعَةً مِنْ الْقَسَّامِينَ فَذَلِكَ حَسَنٌ ، وَلَكِنَّ الْأُولَى أَنْ لَا يُشْرِكَ بَيْنَهُمْ فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ لَا يَتَحَكَّمُوا عَلَى النَّاسِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَشْرَكَ بَيْنَهُمْ تَوَاضَعُوا عَلَى شَيْءٍ فَتَحَكَّمُوا عَلَى النَّاسِ ، وَلِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُشْرِكْ بَيْنَهُمْ يُؤْمَنُ عَلَيْهِمْ الْمَيْلُ إلَى الرِّشْوَةِ ؛ لِأَنَّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ أَحَدُهُمْ أَظْهَرَهُ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ .
وَإِذَا أَشْرَكَ بَيْنَهُمْ يَفُوتُ هَذَا الْمَقْصُودُ ، وَإِنْ قَاطَعُوا رَجُلًا مِنْهُمْ عَلَى شَيْءٍ بِعَيْنِهِ لَمْ يَدْخُلْ بِقَسْمٍ مَعَهُ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ لَا شَرِكَةَ بَيْنَهُمْ

إذَا شَهِدَ قَاسِمَانِ عَلَى قِسْمَةٍ قَسَمَاهَا بَيْنَ قَوْمٍ بِأَمْرِهِ بِأَنَّ كُلَّ إنْسَانٍ قَدْ اسْتَوْفَى نَصِيبَهُ جَازَتْ شَهَادَتُهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَفِي قَوْلِهِ الْأَوَّلِ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُمَا وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُمَا يَشْهَدَانِ عَلَى فِعْلِ أَنْفُسِهِمَا ، وَلِأَنَّهُمَا فِي الْحَقِيقَةِ يَدَّعِيَانِ إيفَاءَ الْعَمَلِ الَّذِي اُسْتُؤْجِرَ عَلَيْهِ وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ فِي ذَلِكَ بِإِيصَالِ نَصِيبِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَيْهِ وَالدَّعْوَى غَيْرُ الشَّهَادَةِ وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّهُمَا لَا يَجُرَّانِ بِهَذِهِ الشَّهَادَةِ إلَى أَنْفُسِهِمَا شَيْئًا ؛ لِأَنَّ الْخُصُومَ مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُمَا قَدْ وَفَّيَا الْعَمَلَ ، وَإِنَّ الْعَقْدَ انْتَهَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمَا ، ثُمَّ لَا يَشْهَدَانِ عَلَى عَمَلِ أَنْفُسِهِمَا ؛ لِأَنَّ عَمَلَهُمَا التَّمْيِيزُ وَالْمَشْهُودُ بِهِ اسْتِيفَاءُ كُلِّ إنْسَانٍ نَصِيبَهُ ، وَذَلِكَ فِعْلُ الْمُسْتَوْفِي .

وَلَوْ شَهِدَ قَاسِمٌ وَاحِدٌ عَلَى الْقِسْمَةِ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْقَاسِمَ لَيْسَ بِقَاضٍ وَالْقَاضِي هُوَ الْمَخْصُوصُ بِأَنْ يُكْتَفَى بِقَوْلِهِ فِي الْإِلْزَامِ .
فَأَمَّا الْقَاسِمُ فِيمَا يَشْهَدُ بِهِ كَغَيْرِهِ فَلَا تَتِمُّ الْحُجَّةُ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ ، وَكَذَلِكَ أَمِينُ الْقَاضِي إذَا أَمَرَهُ الْقَاضِي أَنْ يَدْفَعَ مَالًا فَقَالَ قَدْ دَفَعْته ، وَأَنْكَرَ الْمَدْفُوعُ إلَيْهِ فَالْأَمِينُ يُصَدَّقُ فِي نَزَاهَةِ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَذْكُرُ وُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى الْآخَرِ أَنَّهُ قَبَضَ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِقَاضٍ فَالْحُجَّةُ لَا تَتِمُّ بِقَوْلِهِ

وَأَيُّمَا رَجُلٍ ادَّعَى غَلَطًا فِي الْقِسْمَةِ فَإِنَّهُ لَا تُعَادُ لَهُ الْقِسْمَةُ ، وَلَكِنَّهُ يُسْأَلُ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَا يَدَّعِي مِنْ الْغَلَطِ ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ هُوَ الْمُعَادِلَةُ فِي الْقِسْمَةِ وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْقَاسِمَ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ فِي ذَلِكَ فَمَنْ ادَّعَى خِلَافَ ذَلِكَ لَمْ يُصَدَّقْ إلَّا بِحُجَّةٍ

وَلَا يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَتَّخِذَ قَاسِمًا ذِمِّيًّا وَلَا مَمْلُوكًا وَلَا مَحْدُودًا فِي قَذْفٍ وَلَا أَعْمَى وَلَا فَاسِقًا وَلَا أَحَدًا مِمَّنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي الْكَاتِبِ .
فَكَذَلِكَ فِي الْقَاسِمِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنُوبُ عَنْ الْقَاضِي فِيمَا يَكُونُ مِنْ تَتِمَّةِ عَمَلِهِ ، وَقَدْ تَحْتَاجُ الْخُصُومُ إلَى شَهَادَةِ الْقَاسِمِ فَلَا يُخْتَارُ لِذَلِكَ الْأَمْرِ إلَّا مَنْ يَكُونُ أَهْلًا لِأَدَاءِ الشَّهَادَةِ ؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ بِخِلَافِ ذَلِكَ وَلَمْ يَرُدَّ الْقَاضِي شَهَادَتَهُ وَجَدَ النَّاسُ لِذَلِكَ مَقَالًا فِي الْقَاضِي يَقُولُونَ لِمَ اخْتَرْته إذَا كُنْتَ لَا تَعْتَمِدُ قَوْلَهُ

وَإِذَا رَأَى الْقَاضِي وَهُوَ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ ، أَوْ غَيْرِهِ رَجُلًا يَزْنِي أَوْ يَسْرِقُ ، أَوْ يُشْرِبُ الْخَمْرَ ، ثُمَّ رُفِعَ إلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدَّ فِي الْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ بِاكْتِسَابِهِ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلْحَدِّ عَلَيْهِ وَالْعِلْمُ الَّذِي اسْتَفَادَهُ بِمُعَايَنَةِ السَّبَبِ فَوْقَ الْعِلْمِ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مُحْتَمَلُ الصِّدْقِ وَالْكَذِبِ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُقِيمُ عَلَيْهِ الْحَدَّ حَتَّى لَوْ شَهِدَ الشُّهُودُ عِنْدَهُ بِذَلِكَ عَلَيْهِ ، أَوْ يُقِرُّ بِذَلِكَ لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَوْ رَأَيْتَ رَجُلًا عَلَى حَدٍّ ، ثُمَّ وُلِّيتَ هَلْ تُقِيمُهُ عَلَيْهِ قَالَ لَا حَتَّى يَشْهَدَ مَعِي غَيْرِي فَقَالَ أَصَبْتَ وَعَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يُجَوِّزُ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّ الْحُدُودَ الَّتِي هِيَ مِنْ خَالِصِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى يَسْتَوْفِيهَا الْإِمَامُ عَلَى سَبِيلِ النِّيَابَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ خَصْمٌ يُطَالِبُ بِهِ مِنْ الْعِبَادِ فَلَوْ اكْتَفَى بِعِلْمِ نَفْسِهِ فِي الْإِقَامَةِ رُبَّمَا يَتَّهِمُهُ بَعْضُ النَّاسِ بِالْجَوْرِ وَالْإِقَامَةِ بِغَيْرِ حَقٍّ وَهُوَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يَصُونَ نَفْسَهُ عَنْ ذَلِكَ ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْقِصَاصِ وَحْدِ الْقَذْفِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ خَصْمٌ يُطَالِبُ بِهِ مِنْ الْعِبَادِ وَبِوُجُودِهِ تَنْتَفِي التُّهْمَةُ عَنْ الْقَاضِي فَكَانَ مُصَدَّقًا فِيمَا زَعَمَ أَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ تَوْضِيحُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمُقِرَّ بِالْحُدُودِ الَّتِي هِيَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى إذَا رَجَعَ صَحَّ رُجُوعُهُ وَلَمْ يَكُنْ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ الْإِقَامَةِ لِوُقُوعِ التَّعَارُضِ بَيْنَ خَبَرَيْهِ .
فَكَذَلِكَ إذَا أَخْبَرَ الْقَاضِي أَنَّهُ رَأَى ذَلِكَ ، وَأَنْكَرَهُ الرَّجُلُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُقِيمَهُ لِلتَّعَارُضِ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ فَكُلُّ مُسْلِمٍ أَمِينٌ فِيمَا يُخْبِرُ بِهِ مِنْ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى ؛ وَلِهَذَا ضَمَّنَهُ فِي السَّرِقَةِ

؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّ الْمَسْرُوقِ مِنْهُ وَلَا يَعْمَلُ الرُّجُوعُ فِيهِ عَنْ الْإِقْرَارِ فَأَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ حُقُوقِ النَّاسِ وَالرُّجُوعِ فِيهِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بَاطِلٌ وَلِلْقَاضِي أَنْ يُلْزِمَهُ ذَلِكَ بِإِقْرَارِهِ .
فَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يُلْزِمَهُ بِمُعَايَنَتِهِ سَبَبَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مُعَايَنَتَهُ السَّبَبَ أَقْوَى فِي إفَادَةِ الْعِلْمِ مِنْ إقْرَارِ الْمُقِرِّ بِهِ ، وَهَذَا إذَا رَأَى ذَلِكَ فِي مِصْرِهِ الَّذِي هُوَ قَاضٍ فِيهِ بَعْدَ مَا قُلِّدَ الْقَضَاءَ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ رَأَى ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَتَقَلَّدَ الْقَضَاءَ ، ثُمَّ اسْتَقْصَى فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ فِي ذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ .
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِهِ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ بِمُعَايَنَةِ السَّبَبِ لَا يَخْتَلِفُ بِمَا بَعْدَ أَنْ يَسْتَقْصِيَ وَقَبْلَهُ وَهُوَ أَقْوَى مِنْ الْعِلْمِ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ فَإِنَّ مُعَايَنَةَ السَّبَبِ تُفِيدُهُ عِلْمَ الْيَقِينِ وَشَهَادَةُ الشُّهُودِ لَا تُفِيدُهُ ذَلِكَ .
فَإِذَا جَازَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ عِنْدَهُ فَلَأَنْ يَجُوزَ لَهُ أَنْ يَقْضِيَ بِعِلْمِ نَفْسِهِ أَوْلَى وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ الشَّعْبِيِّ وَشُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَقَالَ أَتَى شُرَيْحٌ رَحِمَهُ اللَّهُ مِثْلَهَا ، وَأَنَا شَاهِدٌ فَقَالَ أَنْتَ الْأَمِيرُ حَتَّى أَشْهَدَ لَك فَقَالَ أَنْشُدُك بِاَللَّهِ أَنْ يَذْهَبَ حَقِّي ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ فَقَالَ أَنْتَ الْأَمِيرُ حَتَّى أَشْهَدَ لَك وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ حِينَ عَايَنَ السَّبَبَ فَقَدْ اسْتَفَادَ بِهِ عِلْمَ الشَّهَادَةِ وَبِأَنْ اسْتَقْصَى بَعْدَ ذَلِكَ لَا يَزْدَادُ عِلْمُهُ بِذَلِكَ وَعِلْمُ الْقَضَاءِ فَوْقَ عِلْمِ الشَّهَادَةِ فَإِنَّ عِلْمَ الْقَضَاءِ مُلْزِمٌ وَالشَّهَادَةُ بِدُونِ الْقَضَاءِ لَا تَكُونُ مُلْزِمَةً بِخِلَافِ مَا إذَا رَأَى وَهُوَ قَاضٍ ؛ لِأَنَّهُ اسْتَفَادَ عِلْمَ الْقَضَاءِ هُنَاكَ بِمُعَايَنَةِ السَّبَبِ وَالدَّلِيلُ عَلَى

أقسام الكتاب
1 2 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 30 31 32 33 34 35 36 37 38 39 40 41 42 43 44 45 46 47 48 49 50 51 52 53 54 55 56 57 58 59 60 61 62 63 64 65 66 67 68 69 70 71 72 73 74 75 76 77 78 79 80 81 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 93 94 95 96