كتاب : المبسوط
المؤلف : محمد بن أحمد بن أبي سهل شمس الأئمة السرخسي
لَيْسَ فِيهِ مَعْنَى الْمَعْصِيَةِ فَيُمْكِنُ إسْقَاطُ الْوَاجِبِ بِفِعْلِهِ هَذَا إذَا تَبَيَّنَ وُصُولُ الْحَقِّ إلَى مُسْتَحَقِّيهِ بِظُهُورِ فَقْرِ الْقَابِضِ ، وَالْفَصْلُ الرَّابِعُ أَنْ يَتَحَرَّى وَيَقَعَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ أَنَّهُ فَقِيرٌ فَدَفَعَ إلَيْهِ فَإِذَا ظَهَرَ أَنَّهُ فَقِيرٌ أَوْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْ حَالِهِ شَيْءٌ جَازَ بِالِاتِّفَاقِ وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ غَنِيًّا فَكَذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى الْأَوَّلُ وَفِي قَوْلِهِ الْآخِرِ تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ جَالِسًا فِي صَفِّ الْفُقَرَاءِ يَصْنَعُ صَنِيعَهُمْ أَوْ كَانَ عَلَيْهِ زِيُّ الْفُقَرَاءِ أَوْ سَأَلَهُ فَأَعْطَاهُ فَهَذِهِ الْأَسْبَابُ بِمَنْزِلَةِ التَّحَرِّي .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ تَبَيَّنَ لَهُ الْخَطَأُ فِي اجْتِهَادِهِ بِيَقِينٍ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ اجْتِهَادِهِ كَمَنْ تَوَضَّأَ بِمَاءٍ وَصَلَّى ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ كَانَ نَجِسًا أَوْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ نَجِسًا أَوْ الْقَاضِي قَضَى فِي حَادِثَةٍ بِالِاجْتِهَادِ ثُمَّ ظَهَرَ نَصٌّ بِخِلَافِهِ ، وَبَيَانُهُ أَنَّ صِفَةَ الْفَقْرِ وَالْغِنَى يُوقَفُ عَلَيْهِمَا حَقِيقَةً فَإِنَّ الشَّرْعَ عَلَّقَ بِهِمَا أَحْكَامًا مِنْ النَّفَقَةِ وَضَمَانِ الْعِتْقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا تَتَعَلَّقُ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ بِمَا يُوقَفُ عَلَيْهِ ، وَإِذَا ثَبَتَ الْوَصْفُ فَتَأْثِيرُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ لَيْسَ هُوَ عَيْنُ الِاجْتِهَادِ بَلْ الْمَقْصُودَ اتِّصَالُ الْحَقِّ إلَى الْمُسْتَحِقِّ فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَمْ يُوصِلْهُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ صَارَ اجْتِهَادُهُ وُجُودًا أَوْ عَدَمًا بِمَنْزِلَةٍ ، لِأَنَّ غَالِبَ الرَّأْيِ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا فِي حَقِّهِ وَلَكِنْ لَا يَسْقُطُ بِهِ الْحَقُّ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ لِغَيْرِهِ ، وَالزَّكَاةُ صِلَةٌ مُسْتَحَقَّةٌ لِلْمَحَاوِيجِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ فَلَا يَسْقُطُ ذَلِكَ بِعُذْرٍ فِي جَانِبِهِ إذَا لَمْ يُوصِلْ الْحَقَّ إلَى مُسْتَحِقِّهِ ، وَبِهِ فَارَقَ
الصَّلَاةَ عَلَى أَصْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّ فَرِيضَةَ التَّوَجُّهِ إلَى الْقِبْلَةِ لِحَقِّ الشَّرْعِ وَهُوَ مَعْذُورٌ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ فَيُمْكِنُ إقَامَةُ الِاجْتِهَادِ مَقَامَ مَا هُوَ الْمُسْتَحَقُّ عَلَيْهِ فِي حَقِّ الشَّرْعِ ، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مُؤَدٍّ لِمَا كُلِّفَ فَيَسْقُطُ بِهِ الْوَاجِبُ كَمَا لَوْ لَمْ يَظْهَرْ شَيْءٌ مِنْ حَالِ الْمَصْرُوفِ إلَيْهِ ، وَبَيَانُهُ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْأَدَاءِ إلَى مَنْ هُوَ فَقِيرٌ عِنْدَهُ لَا إلَى مَنْ هُوَ فَقِيرٌ حَقِيقَةً لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ حَقِيقَةً فَالْإِنْسَانُ قَدْ لَا يَعْرِفُ مِنْ نَفْسِهِ حَقِيقَةَ الْفَقْرِ وَالْغِنَى فَكَيْف يَعْرِفُهُ مِنْ غَيْرِهِ ، وَالتَّكْلِيفُ يَثْبُتُ بِحَسَبِ الْوُسْعِ ، وَاَلَّذِي فِي وُسْعِهِ الِاسْتِدْلَال عَلَى فَقْرِهِ بِدَلِيلٍ ظَاهِرٍ مِنْ سُؤَالٍ أَوْ هَيْئَةٍ عَلَيْهِ أَوْ جُلُوسٍ فِي صَفِّ الْفُقَرَاءِ وَعِنْدَ انْعِدَامِ ذَلِكَ كُلِّهِ الْمَصِيرُ إلَى غَالِبِ الرَّأْيِ ، وَقَدْ أَتَى بِذَلِكَ وَإِنَّمَا يَكْتَفِي بِهَذَا الْقَدْرِ لِمَعْنَى الضَّرُورَةِ وَلَا يَرْتَفِعُ ذَلِكَ بِظُهُورِ حَالِهِ بَعْدَ الْأَدَاءِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرِدَّ الْمَقْبُوضَ مِنْ الْقَابِضِ وَلَا أَنْ يُضَمِّنَهُ بِالِاتِّفَاقِ ، فَلَوْ لَمْ يُجْزِ عَنْهُ ضَاعَ مَالُهُ فَلِبَقَاءِ الضَّرُورَةِ قُلْنَا : يُجْعَلُ الْمُؤَدَّى مُجْزِيًا عَنْهُ وَلِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ حَقِيقَةَ غِنَاهُ وَإِنَّمَا يَعْرِفُ ذَلِكَ بِالِاجْتِهَادِ وَمَا أُمْضِيَ بِالِاجْتِهَادِ لَا يُنْقَضُ بِاجْتِهَادٍ مِثْلِهِ وَتَعَلُّقُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بِالْغِنَى لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَعْرِفُ صِفَةَ الْغَنِيِّ حَقِيقَةً لِأَنَّ الْأَحْكَامَ تَنْبَنِي عَلَى مَا يَظْهَرُ لَنَا كَمَا يَنْبَنِي الْحُكْمُ عَلَى صِدْقِ الشُّهُودِ .
وَإِنْ كَانَ لَا يُعْلَمُ حَقِيقَةً ، وَبِهِ فَارَقَ النَّصَّ لِأَنَّهُ يُوقَفُ عَلَيْهِ حَقِيقَةً فَكَانَ الْمُجْتَهِدُ مُطَالَبًا بِالْوُصُولِ إلَيْهِ وَإِنْ كَانَ قَدْ تَعَذَّرَ إذَا كَانَ يَلْحَقُهُ الْحَرَجُ فِي طَلَبِهِ فَإِذَا ظَهَرَ بَطَلَ حُكْمُ
الِاجْتِهَادِ وَكَذَلِكَ نَجَاسَةُ الْمَاءِ وَنَجَاسَةُ الثَّوْبِ يُعْرَفُ حَقِيقَةً فَيَبْطُلُ بِظُهُورِ النَّجَاسَةِ حُكْمُ الِاجْتِهَادِ فِي الطَّهَارَةِ ، وَلَا نَقُولُ فِي الزَّكَاةِ حَقُّ الْفُقَرَاءِ بَلْ هِيَ مَحْضُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَالْفَقِيرُ مَصْرِفٌ لَا مُسْتَحِقٌّ كَالْكَعْبَةِ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ جِهَةٌ تُسْتَقْبَلُ عِنْدَ أَدَائِهَا وَالصَّلَاةُ تَقَعُ لِلَّهِ تَعَالَى ، ثُمَّ هُنَاكَ يَسْقُطُ عَنْهُ الْوَاجِبُ إذَا أَتَى بِمَا فِي وُسْعِهِ وَلَا مُعْتَبِرَ بِالتَّبَيُّنِ بَعْدَ ذَلِكَ بِخِلَافِهِ فَكَذَلِكَ هُنَا ، وَلَوْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ كَانَ أَبَا الدَّافِعِ أَوْ ابْنَهُ فَهُوَ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ أَيْضًا ، وَذَكَرَ ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ هُنَا كَمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَمَّا طَرِيقُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مَنْ لَا يَكُونُ مَصْرِفًا لِلصَّدَقَةِ مَعَ الْعِلْمِ بِحَالِهِ لَا يَكُونُ مَصْرِفًا عِنْدَ الْجَهْلِ بِحَالِهِ إذَا تَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ ، وَجْهُ رِوَايَةِ ابْنِ شُجَاعٍ أَنَّ النَّسَبَ مِمَّا يُعْرَفُ حَقِيقَةً وَلِهَذَا لَوْ قَالَ لِغَيْرِهِ : لَسْت لِأَبِيك لَا يَلْزَمُ الْحَدُّ وَالْحَدُّ يُدْرَأُ بِالشُّبْهَةِ فَكَانَ ظُهُورُ النَّسَبِ بِمَنْزِلَةِ ظُهُورِ النَّصِّ بِخِلَافِ الِاجْتِهَادِ ، وَجْهُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ مَا احْتَجَّ بِهِ فِي الْكِتَابِ فَإِنَّهُ رَوَى عَنْ إسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي الْجُوَيْرِيَةِ { عَنْ مَعْنِ بْنِ يَزِيدَ السُّلَمِيِّ قَالَ : خَاصَمْت أَبِي إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَضَى لِي عَلَيْهِ وَذَلِكَ أَنَّ أَبِي أَعْطَى صَدَقَتَهُ لِرَجُلٍ فِي الْمَسْجِدِ وَأَمَرَهُ بِأَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا فَأَتَيْتُهُ فَأَعْطَانِيهَا ثُمَّ أَتَيْت أَبِي فَعَلِمَ بِهَا فَقَالَ : وَاَللَّهِ يَا بُنَيَّ مَا إيَّاكَ أَرَدْت بِهَا فَاخْتَصَمْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا يَزِيدُ لَك مَا نَوَيْت وَيَا مَعْنُ لَك مَا أَخَذْت } وَلَا مَعْنَى لِحَمْلِهِ عَلَى التَّطَوُّعِ لِأَنَّ تَرْكَ الِاسْتِفْسَارِ
مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ فِي الْكُلِّ وَاحِدٌ مَعَ أَنَّ مُطْلَقَ الصَّدَقَةِ يَنْصَرِفُ إلَى الْوَاجِبِ وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ قَالَ { : صَدَقَةُ مَالِهِ } .
وَهُوَ تَنْصِيصٌ عَلَى الْوَاجِبِ ، وَكَانَ الْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ الْوَاجِبَ فِعْلٌ هُوَ قُرْبَةٌ فِي مَحَلٍّ يَجْرِي فِيهِ الشُّحُّ وَالضَّنُّ وَهُوَ الْمَالُ بِاعْتِبَارِ مَصْرِفٍ لَيْسَ بَيْنَهُمَا وَلَادٌّ ثُمَّ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ وَالْحَاجَةِ أَقَامَ الشَّرْعُ أَكْثَرَ هَذِهِ الْأَوْصَافِ مَقَامَ الْكُلِّ فِي حُكْمِ الْجَوَازِ وَالْحَاجَةُ مَاسَّةٌ لِتَعَذُّرِ اسْتِرْدَادِ الْمَقْبُوضِ مِنْ الْقَابِضِ وَبِهَذَا يُسْتَدَلُّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى أَيْضًا ، فَإِنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْغَنِيِّ فِيهَا مَعْنَى الْقُرْبَةِ كَالتَّصَدُّقِ عَلَى الْوَلَدِ وَلِهَذَا لَا رُجُوعَ فِيهِ فَيُقَامُ أَكْثَرُ الْأَوْصَافِ مَقَامَ الْكُلِّ فِي حَقِّ الْجَوَازِ ثُمَّ طَرِيقُ مَعْرِفَةِ الْبُنُوَّةِ الِاجْتِهَادُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى { الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : وَاَللَّهِ إنِّي بِنُبُوَّتِهِ أَعْرَفُ مِنَى بِوَلَدِي فَإِنِّي أَعْرِفُهُ نَبِيًّا حَقًّا وَلَا أَدْرِي مَاذَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ بَعْدِي ، وَإِذَا كَانَ طَرِيقُ الْمَعْرِفَةِ الِاجْتِهَادَ كَانَ هَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءً مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يَنْتَقِضُ الِاجْتِهَادُ بِاجْتِهَادٍ مِثْلِهِ فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ هَاشِمِيٌّ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ جَوَازِ صَرْفِ الْوَاجِبِ إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ النَّسَبِ مَعَ أَنَّ التَّصَدُّقَ عَلَيْهِ قُرْبَةٌ فَهُوَ وَفَصْلُ الْأَبِ سَوَاءٌ ، وَفِي جَامِعِ الْبَرَامِكَةِ رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ لِأَنَّ كَوْنَهُ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ مِمَّا يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ وَيَصِيرُ كَالْمَعْلُومِ حَقِيقَةً فَكَانَ هَذَا بِمَنْزِلَةِ ظُهُورِ النَّصِّ بِخِلَافِ الِاجْتِهَادِ وَدَلِيلُهُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ
لِهَاشِمِيٍّ : لَسْت بِهَاشِمِيٍّ فَإِنَّهُ يُحَدُّ أَوْ يُعَزَّرُ عَلَى حَسَبِ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ، وَلَوْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ ذِمِّيٌّ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ أَيْضًا وَفِي الْأَمَالِي رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ لِأَنَّ الْكُفْرَ مِمَّا يُوقَفُ عَلَيْهِ وَلِهَذَا لَوْ ظَهَرَ أَنَّ الشُّهُودَ كُفَّارٌ بَطَلَ قَضَاءُ الْقَاضِي وَفِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ قَالَ : مَا يَكُونُ فِي الِاعْتِقَادِ فَطَرِيقُ مَعْرِفَتِهِ الِاجْتِهَادُ وَالتَّصَدُّقُ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ قُرْبَةٌ فَهُوَ وَمَا سَبَقَ سَوَاءٌ ، وَفِي الْكِتَابِ قَالَ : أَعْطَى ذِمِّيًّا أَخْبَرَهُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ أَوْ كَانَ عَلَيْهِ سِيمَا الْمُسْلِمِينَ .
وَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّهُ يَجُوزُ تَحْكِيمُ السِّيمَا فِي هَذَا الْبَابِ قَالَ تَعَالَى : { يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ } وَقَالَ تَعَالَى { تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ } وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا قَالَ : أَنَا مُسْلِمٌ لَا يَصِيرُ مُسْلِمًا لِأَنَّهُ قَالَ : أَخْبَرَهُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ ذِمِّيٌّ ، وَهَذَا لِأَنَّ قَوْلَهُ أَنَا مُسْلِمٌ أَيْ مُنْقَادٌ لِلْحَقِّ مُسْتَسْلِمٌ وَكُلُّ أَحَدٍ يَدَّعِي ذَلِكَ فِيمَا يَعْتَقِدُهُ ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ : الْمَجُوسِيُّ إذَا قَالَ أَنَا مُسْلِمٌ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ لِأَنَّهُمْ يَتَشَاءَمُونَ بِهَذَا اللَّفْظِ وَيَتَبَرَّءُونَ مِنْهُ بِخِلَافِ أَهْلِ الْكِتَابِ ، وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ مُسْتَأْمَنٌ حَرْبِيٌّ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي كِتَابِ الزَّكَاةِ ، وَفِي جَامِعِ الْبَرَامِكَةِ رَوَى أَبُو يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْفَرْقَ بَيْنَ الذِّمِّيِّ وَالْحَرْبِيِّ الْمُسْتَأْمَنِ فَقَالَ : قَدْ نُهِينَا عَنْ الْبِرِّ مَعَ مَنْ يُقَاتِلُنَا فِي دِينِنَا فَلَا يَكُونُ فِعْلُهُ فِي ذَلِكَ قُرْبَةً وَبِدُونِ فِعْلِ الْقُرْبَةِ لَا يَتَأَدَّى الْوَاجِبُ ، وَلَمْ نُنْهَ عَنْ الْمَبَرَّةِ مَعَ مَنْ لَا يُقَاتِلُنَا قَالَ تَعَالَى { لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ }
فَيَكُونُ فِعْلُهُ فِي حَقِّ الذِّمِّيِّ قُرْبَةً يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ ، وَلَوْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ عَبْدُهُ أَوْ مُكَاتَبُهُ لَا يُجْزِئُهُ لِقُصُورِ فِعْلِهِ فَإِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ بِالنَّصِّ الْإِيتَاءُ وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا بِإِخْرَاجِهِ عَنْ مِلْكِهِ وَجَعْلِهِ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا وَكَسْبُ الْعَبْدِ مَمْلُوكٌ لَهُ ، وَلَهُ فِي كَسْبِ الْمُكَاتَبِ حَقُّ الْمِلْكِ فَبَقَاءُ حَقِّهِ يَمْنَعُ جَعْلَهُ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَدْفُوعَ إلَيْهِ عَبْدٌ لِغَنِيٍّ أَوْ مُكَاتَبٌ لَهُ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ وَفِي حَقِّ الْمُكَاتَبِ مَعَ الْعِلْمِ أَيْضًا وَلَا يَنْظُرُ إلَى حَالِ الْمَوْلَى لِأَنَّ إخْرَاجَهُ مِنْ مِلْكِهِ عَلَى وَجْهِ التَّقَرُّبِ هُنَاكَ فَصَارَ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا ، فَأَمَّا فِي عَبْدِ نَفْسِهِ وَمُكَاتَبِهِ لَمْ يَتِمَّ إخْرَاجُهُ عَنْ مِلْكِهِ وَبَقَاءُ حَقِّهِ يَمْنَعُهُ أَنْ يَصِيرَ لِلَّهِ تَعَالَى خَالِصًا فَلِهَذَا لَا يَسْقُطُ بِهِ الْوَاجِبُ
وَالْأَصْلُ فِي فَرِيضَةِ التَّوَجُّهِ إلَى الْكَعْبَةِ لِلصَّلَاةِ قَوْله تَعَالَى { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } { وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ يُصَلِّي إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَيَجْعَلُ الْبَيْتَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَلَمَّا هَاجَرَ إلَى الْمَدِينَةِ اُضْطُرَّ إلَى اسْتِدْبَارِ الْكَعْبَةِ وَالتَّوَجُّهِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ تَكُونَ الْكَعْبَةُ قِبْلَتَهُ كَمَا كَانَتْ قِبْلَةَ إبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَسَأَلَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ لَهُ فِي ذَلِكَ وَكَانَ يُدِيمُ النَّظَرَ إلَى السَّمَاءِ رَجَاءَ أَنْ يَأْتِيَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى { قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } الْآيَةُ } ثُمَّ لَا خِلَافَ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ بِمَكَّةَ أَنَّ عَلَيْهِ التَّوَجُّهَ إلَى عَيْنِ الْكَعْبَةِ فَأَمَّا مَنْ كَانَ خَارِجًا مِنْ مَكَّةَ فَقَدْ كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْجُرْجَانِيُّ يَقُولُ : الْوَاجِبُ عَلَيْهِ التَّوَجُّهُ إلَى عَيْنِ الْكَعْبَةِ أَيْضًا لِظَاهِرِ الْآيَةِ وَلِأَنَّ وُجُوبَ ذَلِكَ لِإِظْهَارِ تَعْظِيمِ الْبُقْعَةِ فَلَا يَخْتَلِفُ بِالْقُرْبِ مِنْهُ وَالْبُعْدِ ، وَغَيْرُهُ مِنْ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ : يَقُولُ : الْوَاجِبُ فِي حَقِّ مَنْ هُوَ خَارِجٌ عَنْ مَكَّةَ التَّوَجُّهُ إلَى الْجِهَةِ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي وُسْعِهِ ، وَالتَّكْلِيفُ بِحَسَبِ الْوُسْعِ .
وَمَعْرِفَةُ الْجِهَةِ إمَّا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ أَوْ بِالتَّحَرِّي عِنْدَ انْقِطَاعِ الْأَدِلَّةِ فَمِنْ الدَّلِيلِ الْمَحَارِيبُ الْمَنْصُوبَةُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِاتِّفَاقٍ مِنْ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَتَحُوا الْعِرَاقَ وَجَعَلُوا الْقِبْلَةَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ثُمَّ فَتَحُوا خُرَاسَانَ وَجَعَلُوا قِبْلَةَ أَهْلِهَا مَا بَيْنَ الْمَغْرِبَيْنِ مَغْرِبِ الشِّتَاءِ وَمَغْرِبِ الصَّيْفِ فَكَانُوا يُصَلُّونَ إلَيْهَا وَلَمَّا مَاتُوا
جُعِلَتْ قُبُورُهُمْ إلَيْهَا أَيْضًا مِنْ غَيْرِ نَكِيرِ مُنْكِرٍ مِنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَكَفَى بِإِجْمَاعِهِمْ حُجَّةً ، وَقَدْ كَانَتْ عِنَايَتُهُمْ فِي أَمْرِ الدِّينِ أَظْهَرَ مِنْ عِنَايَةِ مَنْ كَانَ بَعْدَهُمْ فَيَلْزَمُنَا اتِّبَاعُهُمْ فِي ذَلِكَ ، وَمِنْ الدَّلِيلِ السُّؤَالُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ لِأَنَّ أَهْلَ كُلِّ مَوْضِعٍ أَعْرَفُ بِقِبْلَتِهِمْ مِنْ غَيْرِهِمْ عَادَةً وَقَالَ تَعَالَى { فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ } ، وَمِنْ الدَّلِيلِ النُّجُومُ أَيْضًا عَلَى مَا حُكِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْمُبَارَكِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : أَهْلُ الْكُوفَةِ يَجْعَلُونَ الْجَدْيَ خَلْفَ الْقَفَا فِي اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَنَحْنُ نَجْعَلُ الْجَدْيَ خَلْفَ الْأُذُنِ الْيُمْنَى ، وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُول : السَّبِيلُ فِي مَعْرِفَةِ الْجِهَةِ أَنْ يَنْظُرَ إلَى مَغْرِبِ الصَّيْفِ فِي أَطْوَلِ أَيَّامِ السَّنَةِ فَيُعَيِّنُهُ ثُمَّ يَنْظُرَ إلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ فِي أَقْصَرِ أَيَّامِ الشِّتَاءِ فَيُعَيِّنُهُ ثُمَّ يَدَعُ الثُّلُثَيْنِ عَلَى يَمِينِهِ وَالثُّلُثَ عَلَى يَسَارِهِ فَيَكُونُ مُسْتَقْبِلًا لِلْجِهَةِ إذَا وَاجَهَ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ وَلَا مَعْنَى لِلِانْحِرَافِ إلَى جَانِبِ الشَّمَالِ بَعْدَ هَذَا لِأَنَّهُ إذَا مَالَ بِوَجْهِهِ يَكُونُ إلَى حَدِّ غُرُوبِ الشَّمْسِ فِي أَقْصَرِ أَيَّامِ السَّنَةِ أَوْ يُجَاوِزُ ذَلِكَ فَلَا يَكُونُ مُسْتَقْبِلًا لِلْقِبْلَةِ وَلَا لِلْحَرَمِ أَيْضًا عَلَى مَا حُكِيَ عَنْ الْفَقِيهِ أَبِي جَعْفَرٍ الْهِنْدُوَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ الْحَرَمَ مِنْ جَانِبِ الشَّمَالِ سِتَّةُ أَمْيَالٍ وَمِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ اثْنَا عَشَرَ مِيلًا وَمِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلًا وَمِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ مِيلًا .
وَقِيلَ : قِبْلَةُ أَهْلِ الشَّامِ الرُّكْنُ الشَّامِيُّ وَقِبْلَةُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَوْضِعُ الْحَطِيمِ وَالْمِيزَابُ مِنْ جِدَارِ الْبَيْتِ وَقِبْلَةُ أَهْلِ الْيَمَنِ الرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ وَمَا بَيْنَ الرُّكْنِ
الْيَمَانِيِّ إلَى الْحِجْرِ قِبْلَةُ أَهْلِ الْهِنْدِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا وَقِبْلَةُ أَهْلِ خُرَاسَانَ وَالْمَشْرِقِ الْبَابُ وَمَقَامُ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَإِذَا انْحَرَفَ بَعْدَ هَذَا وَإِنْ قَلَّ انْحِرَافُهُ يَصِيرُ غَيْرَ مُسْتَقْبِلٍ لِلْقِبْلَةِ ، وَعِنْدَ انْقِطَاعِ الْأَدِلَّةِ فَرْضُهُ التَّحَرِّي ، وَزَعَمَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ أَنَّ الْجِهَةَ الَّتِي يُؤَدِّيهِ إلَيْهَا تُحْرِيه تَكُونُ قِبْلَةً حَقِيقَةً فِي حَقِّهِ لِأَنَّهُ أَتَى بِمَا فِي وُسْعِهِ وَالتَّكْلِيفُ بِحَسَبِ الْوُسْعِ وَهَذَا غَيْرُ مَرْضِيٍّ فَفِيهِ قَوْلٌ بِأَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَلَكِنَّهُ مُؤَدٍّ لِمَا كُلِّفَ وَإِنَّمَا كُلِّفَ طَلَبَ الْجِهَةِ عَلَى رَجَاءِ الْإِصَابَةِ ، وَالْمَقْصُودُ لَيْسَ عَيْنَ الْجِهَةِ إنَّمَا الْمَقْصُودُ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا قَالَ { فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ } وَلَا جِهَةَ لِوَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنَّا لَوْ قُلْنَا : يَتَوَجَّهُ إلَى أَيِّ جَانِبٍ شَاءَ انْعَدَمَ الِابْتِلَاءُ ، وَإِنَّمَا يَتَحَقَّقُ مَعْنَى الْعِبَادَةِ إذَا كَانَ فِيهِ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ فَإِنَّمَا نُوجِبُ عَلَيْهِ التَّحَرِّيَ لِرَجَاءِ الْإِصَابَةِ لِتَحْقِيقِ الِابْتِلَاءِ ، وَإِذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ مُؤَدِّيًا لِمَا عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُصِيبًا لِلْجِهَةِ حَقِيقَةً ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ هَذَا مَا بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ أَنَّ الْمُصَلِّينَ بِالتَّحَرِّي إذَا أَمَّهُمْ أَحَدُهُمْ فَصَلَاةُ مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْإِمَامِ فِي الْجِهَةِ فَاسِدَةٌ ، وَلَوْ انْتَصَبَ مَا ظَنَّ الْإِمَامُ إلَيْهِ قِبْلَةً حَقِيقَةً يَصِحُّ اقْتِدَاءُ هَذَا الرَّجُلِ بِهِ وَإِنْ خَالَفَهُ فِي الْجِهَةِ كَمَا إذَا صَلَّوْا فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا نَقُولُ : مَنْ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْقِبْلَةُ فِي السَّفَرِ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ وَاحْتَاجَ إلَى أَدَاءِ الصَّلَاةِ فَعَلَيْهِ التَّحَرِّي ثُمَّ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعِ أَوْجُهٍ : فَإِمَّا أَنْ يُصَلِّيَ إلَى جِهَةٍ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلَا تَحَرٍّ ، أَوْ يَشُكَّ ثُمَّ
يُصَلِّيَ إلَى جِهَةٍ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ ، أَوْ يَتَحَرَّى فَيُصَلِّيَ إلَى جِهَةِ التَّحَرِّي ، أَوْ يُعْرِضَ عَنْ الْجِهَةِ الَّتِي أَدَّى إلَيْهَا اجْتِهَادُهُ فَيُصَلِّي إلَى جِهَةٍ أُخْرَى .
فَأَمَّا بَيَانُ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ إذَا صَلَّى مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلَا تَحَرٍّ فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ أَوْ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ أَصَابَ أَوْ لَمْ يَتَبَيَّنْ مِنْ حَالِهِ شَيْءٌ بِأَنْ ذَهَبَ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُسْلِمِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ مَا أَمْكَنَ فَكُلُّ مَنْ قَامَ لِأَدَاءِ الصَّلَاةِ يُجْعَلُ مُسْتَقْبِلًا لِلْقِبْلَةِ فِي أَدَائِهَا بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ وَحُمِلَ أَمْرُهُ عَلَى الصِّحَّةِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ ، وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ الْقِبْلَةَ فَعَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ إذَا تَبَيَّنَ الْحَالُ بِخِلَافِهِ لِأَنَّ الْحُكْمَ بِجَوَازِ الصَّلَاةِ هُنَا لِانْعِدَامِ الدَّلِيلِ الْمُفْسِدِ لَا لِلْعِلْمِ بِالدَّلِيلِ الْمُجَوِّزِ فَإِذَا ظَهَرَ الدَّلِيلُ الْمُفْسِدُ وَجَبَ الْإِعَادَةُ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ أَخْطَأَ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ كَالْيَقِينِ خُصُوصًا فِيمَا يُبْنَى عَلَى الِاحْتِيَاطِ
وَأَمَّا إذَا شَكَّ وَلَمْ يَتَحَرَّ وَلَكِنْ صَلَّى إلَى جِهَةٍ فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ الْقِبْلَةَ أَوْ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ أَخْطَأَ أَوْ لَمْ يَتَبَيَّنْ مِنْ حَالِهِ شَيْءٌ فَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لِأَنَّهُ لَمَّا شَكَّ فَقَدْ لَزِمَهُ التَّحَرِّي لِأَجْلِ هَذِهِ الصَّلَاةِ وَصَارَ التَّحَرِّي فَرْضًا مِنْ فَرَائِضِ صَلَاتِهِ فَإِذَا تَرَكَ هَذَا الْفَرْضَ لَا تُجْزِيهِ صَلَاتُهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ التَّحَرِّيَ إنَّمَا يُفْتَرَضُ عَلَيْهِ إذَا شَكَّ وَلَمْ يَشُكَّ فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ، فَأَمَّا إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ الْقِبْلَةَ جَازَتْ صَلَاتُهُ لِأَنَّ فَرِيضَةَ التَّحَرِّي لِمَقْصُودٍ وَقَدْ تَوَصَّلَ إلَى ذَلِكَ الْمَقْصُودِ بِدُونِهِ فَسَقَطَ فَرِيضَةُ التَّحَرِّي عَنْهُ ، وَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ أَصَابَ فَكَانَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ حَامِدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُفْتِي بِالْجَوَازِ هُنَا أَيْضًا لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ بِمَنْزِلَةِ الْيَقِينِ فِيمَا لَا يَتَوَصَّلُ إلَى مَعْرِفَتِهِ حَقِيقَةً وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا يُجْزِيهِ لِأَنَّ فَرْضَ التَّحَرِّي لَزِمَهُ بِيَقِينٍ فَلَا يَسْقُطُ اعْتِبَارُهُ إلَّا بِمِثْلِهِ وَلِأَنَّ غَالِبَ الرَّأْيِ يُجْعَلُ كَالْيَقِينِ احْتِيَاطًا وَالِاحْتِيَاطُ هُنَا فِي الْإِعَادَةِ
فَأَمَّا إذَا شَكَّ وَتَحَرَّى وَصَلَّى إلَى الْجِهَةِ الَّتِي أَدَّى إلَيْهَا اجْتِهَادُهُ فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ أَوْ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ أَصَابَ أَوْ لَمْ يَتَبَيَّنْ مِنْ حَالِهِ شَيْءٌ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ بِالِاتِّفَاقِ ، وَكَذَلِكَ إنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : إنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ تَيَامَنَ أَوْ تَيَاسَرَ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ اسْتَدْبَرَ الْكَعْبَةَ فَصَلَاتُهُ فَاسِدَةٌ وَعَلَيْهِ الْإِعَادَةُ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ الْخَطَأَ فِي اجْتِهَادِهِ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ اجْتِهَادِهِ كَالْقَاضِي بِاجْتِهَادِهِ إذَا ظَهَرَ النَّصُّ بِخِلَافِهِ وَالْمُتَوَضِّئِ بِمَاءٍ إذَا عَلِمَ بِنَجَاسَتِهِ بِخِلَافِ مَا إذَا تَيَامَنَ أَوْ تَيَاسَرَ لِأَنَّ هُنَاكَ لَا يَتَيَقَّنُ بِالْخَطَأِ فَإِنَّ وَجْهَ الْمَرْءِ مُقَوَّسٌ فَإِنَّ عِنْدَ التَّيَامُنِ أَوْ التَّيَاسُرِ يَكُونُ أَحَدُ جَوَانِبِ وَجْهِهِ إلَى الْقِبْلَةِ وَأَمَّا عِنْدَ الِاسْتِدْبَارِ لَا يَكُونُ شَيْءٌ مِنْ وَجْهِهِ إلَى الْكَعْبَةِ فَيَتَيَقَّنُ بِالْخَطَأِ بِهِ .
( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى { وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ } الْآيَةُ ، وَفِي سَبَبِ نُزُولِهَا حَدِيثَانِ : أَحَدُهُمَا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَامِرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ { : كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَفَرٍ فِي لَيْلَةٍ طَحْيَاءَ مُظْلِمَةٍ فَاشْتَبَهَتْ عَلَيْنَا الْقِبْلَةُ فَتَحَرَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا وَخَطَّ بَيْنَ يَدَيْهِ خَطًّا فَلَمَّا أَصْبَحْنَا إذَا الْخُطُوطُ عَلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فَلَمَّا رَجَعْنَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلْنَاهُ عَنْ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْزَأَتْكُمْ صَلَاتُكُمْ } وَفِي حَدِيثِ { جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : كُنَّا فِي سَفَرٍ فِي يَوْمٍ ذِي ضَبَابٍ فَاشْتَبَهَتْ عَلَيْنَا الْقِبْلَةُ فَتَحَرَّى وَصَلَّى كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا إلَى جِهَةٍ فَلَمَّا انْكَشَفَ الضَّبَابُ فَمِنَّا
مَنْ أَصَابَ وَمِنَّا مَنْ أَخْطَأَ فَسَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ وَلَمْ يَأْمُرْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ } وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : قِبْلَةُ الْمُتَحَرِّي جِهَةُ قَصْدِهِ مَعْنَاهُ تَجُوزُ صَلَاتُهُ إذَا تَوَجَّهَ إلَى جِهَةِ قَصْدِهِ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّهُ مُؤَدٍّ لِمَا كُلِّفَ فَيَسْقُطُ عَنْهُ الْفَرْضُ مُطْلَقًا كَمَا لَوْ تَيَامَنَ أَوْ تَيَاسَرَ ، وَبَيَانُ الْوَصْفِ مَا قَرَرْنَاهُ فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ طَلَبِ الْجِهَةِ لَيْسَتْ عَيْنَ الْجِهَةِ إنَّمَا الْمَقْصُودُ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى إلَّا أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِطَلَبِ الْجِهَةِ لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الِابْتِلَاءِ وَمَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَهُوَ الِابْتِلَاءُ قَدْ تَمَّ بِتَحَرِّيهِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ مَا لَزِمَهُ مِنْ الْفَرْضِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ فِي التَّيَامُنِ وَالتَّيَاسُرِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَجُوزُ مَعَ الْعِلْمِ يُحْكَمُ بِجَوَازِ صَلَاتِهِ عِنْدَ التَّحَرِّي لِلْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا فَكَذَلِكَ فِي الِاسْتِدْبَارِ ، وَإِيضَاحُ مَا قُلْنَا فِيمَا نُقِلَ عَنْ بَعْضِ الْعَارِفِينَ قَالَ : قِبْلَةُ الْبَشَرِ الْكَعْبَةُ ، وَقِبْلَةُ أَهْلِ السَّمَاءِ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ ، وَقِبْلَةُ الْكُرَوِيِّينَ الْكُرْسِيُّ ، وَقِبْلَةُ حَمَلَةِ الْعَرْشِ الْعَرْشُ ، وَمَطْلُوبُ الْكُلِّ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا ظَهَرَتْ النَّجَاسَةُ فِي الثَّوْبِ أَوْ فِي الْمَاءِ لِمَا قُلْنَا إنَّ ذَلِكَ مِمَّا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَى حَقِيقَتِهِ ، وَلِأَنَّ التَّوَضُّؤَ بِالْمَاءِ النَّجِسِ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ فَلَا يُمْكِنُ أَدَاءُ الْوَاجِبِ بِهِ بِحَالٍ فَأَمَّا الصَّلَاةُ إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ قُرْبَةٌ أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّاكِبَ يَتَطَوَّعُ عَلَى دَابَّتِهِ حَيْثُ مَا تَوَجَّهَتْ بِهِ اخْتِيَارًا وَيُؤَدِّي الْفَرْضَ كَذَلِكَ عِنْدَ الْعُذْرِ أَيْضًا وَبِنَحْوِ هَذَا فُرِّقَ فِي الزَّكَاةِ أَيْضًا أَنَّ التَّصَدُّقَ عَلَى الْأَبِ وَعَلَى الْغَنِيِّ قُرْبَةٌ وَلِهَذَا لَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الِاسْتِرْدَادِ كَمَا قَرَّرْنَا
فَأَمَّا إذَا أَعْرَضَ عَنْ الْجِهَةِ الَّتِي أَدَّى إلَيْهَا اجْتِهَادُهُ وَصَلَّى إلَى جِهَةٍ أُخْرَى ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ الْقِبْلَةَ فَعَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : أَخْشَى عَلَيْهِ الْكُفْرَ لِإِعْرَاضِهِ عَنْ الْقِبْلَةِ عِنْدَهُ ، وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ : أَمَّا يَكْفِيهِ أَنْ لَا يُحْكَمَ بِكُفْرِهِ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى : تَجُوزُ صَلَاتُهُ لِأَنَّ لُزُومَ التَّحَرِّي كَانَ لِمَقْصُودٍ وَقَدْ أَصَابَ ذَلِكَ الْمَقْصُودَ بِغَيْرِهِ فَكَانَ هَذَا وَمَا لَوْ أَصَابَهُ بِالتَّحَرِّي سَوَاءً ، وَهَذَا عَلَى أَصْلِهِ مُسْتَقِيمٌ لِأَنَّهُ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ التَّحَرِّي إذَا تَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ كَمَا قَالَ فِي الزَّكَاةِ وَإِذَا سَقَطَ اعْتِبَارُ التَّحَرِّي فَكَأَنَّهُ صَلَّى إلَى هَذِهِ الْجِهَةِ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ فَتَجُوزُ صَلَاتُهُ ، وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ اعْتَقَدَ فَسَادَ صَلَاتِهِ لِأَنَّ عِنْدَهُ أَنَّهُ صَلَّى إلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ فَلَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِجَوَازِ صَلَاتِهِ مَعَ اعْتِقَادِهِ الْفَسَادَ فِيهِ كَمَا لَوْ اقْتَدَى بِالْإِمَامِ وَهُوَ يُصَلِّي إلَى غَيْرِ جِهَتِهِ لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ إذَا عَلِمَ لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ إمَامَهُ عَلَى الْخَطَأِ يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْجِهَةَ الَّتِي أَدَّى إلَيْهَا اجْتِهَادُهُ صَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الْقِبْلَةِ فِي حَقِّهِ عَمَلًا حَتَّى لَوْ صَلَّى إلَيْهَا جَازَتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ تَبَيَّنَ الْأَمْرُ بِخِلَافِهِ فَصَارَ هُوَ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْهَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ مُعَايِنًا الْكَعْبَةَ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَصَلَّى إلَى جِهَةٍ أُخْرَى فَتَكُونُ صَلَاتُهُ فَاسِدَةً وَلِهَذَا لَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ لِأَنَّ تِلْكَ الْجِهَةَ مَا انْتَصَبَتْ قِبْلَةً حَقِيقَةً فِي حَقِّ الْعِلْمِ وَإِنْ انْتَصَبَتْ قِبْلَةً فِي حَقِّ الْعَمَلِ ، فَإِنْ كَانَ تَبَيُّنُ الْحَالِ لَهُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ فَنَقُولُ أَمَّا فِي هَذَا
الْفَصْلِ فَعَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ لَوْ تَبَيَّنَ لَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ لَزِمَهُ الْإِعَادَةُ فَإِذَا تَبَيَّنَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ أَوْلَى وَلَمْ يُرْوَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خِلَافُ هَذَا ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا مَذْهَبَهُ أَيْضًا لِأَنَّهُ قَدْ يَقُولُ قَوِيَ حَالُهُ بِالتَّيَقُّنِ بِالْإِصَابَةِ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ ، وَلَا يَنْبَنِي الْقَوِيُّ عَلَى الضَّعِيفِ كَالْمُومِي إذَا قَدَرَ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ .
فَأَمَّا إذَا كَانَ مُصَلِّيًا إلَى الْجِهَةِ الَّتِي أَدَّى إلَيْهَا اجْتِهَادُهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَحَوَّلَ إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ وَيَبْنِي عَلَى صَلَاتِهِ لِأَنَّهُ لَوْ تَبَيَّنَ لَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِعَادَةُ فَكَذَلِكَ إذَا تَبَيَّنَ لَهُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ ، وَهَذَا لِأَنَّ افْتِتَاحَهُ إلَى جِهَةٍ تِلْكَ الْجِهَةُ قِبْلَةٌ فِي حَقِّهِ عَمَلًا فَيَكُونُ حَالُهُ كَحَالِ { أَهْلِ قِبَا حِينَ كَانُوا يُصَلُّونَ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَأَتَاهُمْ آتٍ وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْقِبْلَةَ حُوِّلَتْ إلَى الْكَعْبَةِ فَاسْتَدَارُوا كَهَيْئَتِهِمْ وَهُمْ رُكُوعٌ ثُمَّ جَوَّزَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاتَهُمْ } وَعَلَى هَذَا قَالُوا لَوْ صَلَّى بَعْضَ الصَّلَاةِ إلَى جِهَةٍ بِالتَّحَرِّي ثُمَّ تَحَوَّلَ رَأْيُهُ إلَى جِهَةٍ أُخْرَى يَسْتَقْبِلُ تِلْكَ الْجِهَةَ وَيُتِمُّ صَلَاتَهُ لِأَنَّ الِاجْتِهَادَ لَا يُنْقَضُ بِمِثْلِهِ وَلَكِنْ فِي الْمُسْتَقْبِلِ يَبْنِي عَلَى مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ ، حَتَّى رُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ قَالَ : لَوْ صَلَّى أَرْبَعَ جِهَاتٍ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَجُوزُ ، وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِيمَا إذَا تَحَوَّلَ رَأْيُهُ إلَى الْجِهَةِ الْأُولَى فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : يَسْتَقْبِلُ تِلْكَ الْجِهَةَ أَيْضًا فَتَتِمُّ صَلَاتُهُ جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ الْقِيَاسِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَقْبِحُ هَذَا وَيَقُولُ : إذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى هَذَا فَعَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ كَانَ أَعْرَضَ عَنْ هَذِهِ الْجِهَةِ فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ فَلَيْسَ
لَهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَهَا فِي هَذِهِ الصَّلَاةِ أَيْضًا
فَأَمَّا إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ مَعَ الشَّكِّ مِنْ غَيْرِ تَحَرٍّ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ أَصَابَ الْقِبْلَةَ أَوْ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ أَصَابَ فَعَلَيْهِ الِاسْتِقْبَالُ لِأَنَّ افْتِتَاحَهُ كَانَ ضَعِيفًا حَتَّى لَا يُحْكَمَ بِجَوَازِ صَلَاتِهِ مَا لَمْ يَعْلَمْ بِالْإِصَابَةِ فَإِذَا عَلِمَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ فَقَدْ تَقَوَّى حَالُهُ وَبِنَاءُ الْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيفِ لَا يَجُوزُ ، فَيَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ بِخِلَافِ مَا إذَا عَلِمَ بَعْدَ الْفَرَاغِ فَإِنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى الْبِنَاءِ وَنَظِيرُهُ فِي الْمُومِي وَالْمُتَيَمِّمِ وَصَاحِبِ الْجُرْحِ السَّائِلِ يَزُولُ مَا بِهِمْ مِنْ الْعُذْرِ إذَا كَانَ بَعْدَ الْفَرَاغِ لَا يَلْزَمُهُمْ الْإِعَادَةُ وَإِنْ كَانَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ يَلْزَمُهُمْ الِاسْتِقْبَالُ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ افْتَتَحَهَا مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَتَحَرٍّ فَإِنْ تَبَيَّنَ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ أَنَّهُ أَخْطَأَ فَعَلَيْهِ الِاسْتِقْبَالُ وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ فَهَذَا الْفَصْلُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِي الْكِتَابِ ، وَكَانَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ أَيْضًا لِأَنَّ افْتِتَاحَهُ كَانَ ضَعِيفًا أَلَا تَرَى أَنَّهُ إذَا تَبَيَّنَ الْخَطَأُ تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ ، فَإِذَا تَبَيَّنَ الصَّوَابُ فِي خِلَالِ الصَّلَاةِ فَقَدْ تَقَوَّى حَالُهُ فَيَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ ، وَكَانَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ حَامِدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : لَا يَلْزَمُهُ الِاسْتِقْبَالُ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ صَلَاتَهُ هُنَا فِي الِابْتِدَاءِ كَانَتْ صَحِيحَةً لِانْعِدَامِ الدَّلِيلِ الْمُفْسِدِ فَبِالتَّبَيُّنِ لَا تَزْدَادُ الْقُوَّةُ حُكْمًا فَلَا يَلْزَمُهُ الِانْتِقَالُ بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الشَّكِّ لِأَنَّ هُنَاكَ صَلَاتَهُ لَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ إلَّا بِالتَّيَقُّنِ بِالْإِصَابَةِ فَإِذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ فَقَدْ تَقَوَّى حَالُهُ حُكْمًا فَلِهَذَا لَزِمَهُ الِاسْتِقْبَالُ
رَجُلٌ دَخَلَ مَسْجِدًا لَا مِحْرَابَ فِيهِ وَقِبْلَتُهُ مُشْكِلَةٌ وَفِيهِ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِهِ فَتَحَرَّى الْقِبْلَةَ وَصَلَّى ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ أَخْطَأَ الْقِبْلَةَ فَعَلَيْهِ أَنْ يُعِيدَ الصَّلَاةَ لِأَنَّ التَّحَرِّيَ حَصَلَ فِي غَيْرِ أَوَانِهِ فَإِنَّ أَوَانَ التَّحَرِّي مَا بَعْدَ انْقِطَاعِ الْأَدِلَّةِ وَقَدْ بَقِيَ هُنَا دَلِيلٌ لَهُ وَهُوَ السُّؤَالُ فَكَانَ وُجُودُ التَّحَرِّي كَعَدَمِهِ فَيَصِيرُ كَأَنَّهُ صَلَّى بَعْدَ الشَّكِّ مِنْ غَيْرِ التَّحَرِّي فَلَا تُجْزِيهِ صَلَاتُهُ إلَّا إذَا تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ فَكَذَا هَذَا عَلَيْهِ الْإِعَادَةُ لَمَّا تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ فَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَصَابَ فَصَلَاتُهُ جَائِزَةٌ وَاسْتُشْهِدَ لِهَذَا بِمَنْ أُتِيَ مَاءً مِنْ الْمِيَاهِ أَوْ حَيًّا مِنْ الْأَحْيَاءِ وَطَلَبَ الْمَاءَ فَلَمْ يَجِدْهُ فَتَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ وَجَدَهُ فَإِنْ كَانَ فِي الْحَيِّ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِهِ وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ حَتَّى تَيَمَّمَ وَصَلَّى ثُمَّ سَأَلَهُمْ فَأَخْبَرُوهُ لَمْ تَجُزْ صَلَاتُهُ ، وَإِنْ سَأَلَهُمْ فَلَمْ يُخْبِرُوهُ أَوْ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ مَنْ يَسْأَلُهُ أَجْزَأَتْهُ صَلَاتُهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ افْتَتَحَ الصَّلَاةَ بِالتَّيَمُّمِ ثُمَّ رَأَى إنْسَانًا فَظَنَّ أَنَّ عِنْدَهُ خَبَرَ الْمَاءِ يُتِمُّ صَلَاتَهُ ثُمَّ يَسْأَلُهُ فَإِنْ أَخْبَرَهُ أَنَّ الْمَاءَ قَرِيبٌ مِنْهُ يُعِيدُ الصَّلَاةَ فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ مِنْ خَبَرِ الْمَاءِ شَيْئًا فَلَيْسَ عَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ هَذِهِ الْفُصُولَ ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ مَا إذَا سَأَلَهُ فِي الِابْتِدَاءَ فَلَمْ يُخْبِرْهُ حَتَّى صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ ثُمَّ أَخْبَرَهُ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ فَأَمْرُ الْقِبْلَةِ كَذَلِكَ ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ أَنَّ هَذَا الِاشْتِبَاهَ لَوْ كَانَ لَهُ بِمَكَّةَ وَلَمْ يَكُنْ بِحَضْرَتِهِ مَنْ يَسْأَلُهُ فَصَلَّى بِالتَّحَرِّي ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ أَخْطَأَ هَلْ يَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ فَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ رُسْتُمَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ وَهَذَا هُوَ الْأَقْيَسُ لِأَنَّهُ
لَمَّا كَانَ مَحْبُوسًا فِي بَيْتٍ وَقَدْ انْقَطَعَتْ عَنْهُ الْأَدِلَّةُ فَفَرْضُهُ التَّحَرِّي وَيُحْكَمُ بِجَوَازِ صَلَاتِهِ بِالتَّحَرِّي فَلَا تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ كَمَا لَوْ كَانَ خَارِجَ مَكَّةَ ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ هُنَا : تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ لِأَنَّهُ تَيَقَّنَ بِالْخَطَأِ إذَا كَانَ بِمَكَّةَ .
( قَالَ ) : وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ لِأَنَّ الْقِبْلَةَ بِالْمَدِينَةِ مَقْطُوعٌ بِهَا فَإِنَّهُ إنَّمَا نَصَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْوَحْيِ بِخِلَافِ سَائِرِ الْبِقَاعِ وَلِأَنَّ الِاشْتِبَاهَ بِمَكَّةَ يَنْدُرُ وَالْحُكْمُ لَا يَنْبَنِي عَلَى النَّادِرِ فَلَا يَنْدُرُ تَحَرِّيهِ لِلْحُكْمِ بِالْجَوَازِ هُنَا بِخِلَافِ سَائِرِ الْبِقَاعِ فَإِنَّ الِاشْتِبَاهَ يَكْثُرُ فِيهَا وَالْأَصْلُ فِي الْمَسَائِلِ بَعْدَ هَذَا أَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ لِأَنَّ الْمَغْلُوبَ يَصِيرُ مُسْتَهْلَكًا فِي مُقَابَلَةِ الْغَالِبِ ، وَالْمُسْتَهْلَكُ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الِاسْمَ لِلْغَالِبِ فَإِنَّ الْحِنْطَةَ لَا تَخْلُو عَنْ حَبَّاتِ الشَّعِيرِ ثُمَّ يُطْلَقُ عَلَى الْكُلِّ اسْمُ الْحِنْطَةِ ، وَعَلَى هَذَا قَالُوا فِي قَرْيَةٍ عَامَّةُ أَهْلِهَا الْمَجُوسُ : لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَشْتَرِيَ لَحْمًا مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ ذَبِيحَةُ مُسْلِمٍ وَفِي الْقَرْيَةِ الَّتِي عَامَّةُ أَهْلِهَا مُسْلِمُونَ يَحِلُّ ذَلِكَ بِنَاءً لِلْحُكْمِ عَلَى الْغَالِبِ وَيُبَاحُ لِكُلِّ أَحَدٍ الرَّمْيُ فِي دَارِ الْحَرْبِ إلَى كُلِّ مَنْ يَرَاهُ مِنْ بُعْدٍ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ وَلَا يَحِلُّ لَهُ ذَلِكَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ حَرْبِيٌّ
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْحَرْبِ دَخَلُوا قَرْيَةً مِنْ قُرَى أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَجُزْ اسْتِرْقَاقُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ إلَّا مَنْ يُعْلَمُ بِعَيْنِهِ أَنَّهُ حَرْبِيٌّ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ أَهْلُ الذِّمَّةِ .
وَلَوْ دَخَلَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ قَرْيَةً مِنْ قُرَى أَهْلِ الْحَرْبِ جَازَ لِلْمُسْلِمِينَ اسْتِرْقَاقُ أَهْلِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ إلَّا مَنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ ذِمِّيٌّ
ثُمَّ الْمَسَائِلُ نَوْعَانِ : مُخْتَلِطٌ مُنْفَصِلُ الْأَجْزَاءِ وَمُخْتَلِطٌ مُتَّصِلُ الْأَجْزَاءِ ؛ فَمِنْ الْمُخْتَلِطِ الَّذِي هُوَ مُنْفَصِلُ الْأَجْزَاءِ مَسْأَلَةُ الْمَسَالِيخِ ؛ وَهِيَ تَنْقَسِمُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ : إمَّا أَنْ تَكُونَ الْغَلَبَةُ لِلْحَلَالِ أَوْ لِلْحَرَامِ ، أَوْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ وَفِيهِ حَالَتَانِ : حَالَةُ الضَّرُورَةِ بِأَنْ كَانَ لَا يَجِدُ غَيْرَهَا ، وَحَالَةُ الِاخْتِيَارِ فَفِي حَالَةِ الضَّرُورَةِ يَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي فِي الْفُصُولِ كُلِّهَا لِأَنَّ تَنَاوُلَ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ جَائِزٌ لَهُ شَرْعًا فَلَأَنْ يَجُوزَ لَهُ التَّحَرِّي عِنْدَ الضَّرُورَةِ وَإِصَابَةُ الْحَلَالِ بِتَحَرِّيهِ مَأْمُولٌ كَانَ أَوْلَى ، وَأَمَّا فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ فَإِنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْحَلَالِ بِأَنْ كَانَتْ الْمَسَالِيخُ ثَلَاثَةً أَحَدُهَا مَيْتَةٌ جَازَ لَهُ التَّحَرِّي أَيْضًا لِأَنَّ الْحَلَالَ هُوَ الْغَالِبُ وَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ فَبِهَذَا الطَّرِيقِ جَازَ لَهُ التَّنَاوُلُ مِنْهَا إلَّا مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ مَيْتَةٌ ، فَالسَّبِيلُ أَنْ يُوقِعَ تَحَرِّيَهُ عَلَى أَحَدِهَا أَنَّهَا مَيْتَةٌ فَيَتَجَنَّبَهَا وَيَتَنَاوَلَ مَا سِوَى ذَلِكَ لَا بِالتَّحَرِّي بَلْ بِغَلَبَةِ الْحَلَالِ وَكَوْنِ الْحُكْمِ لَهُ ، وَإِنْ كَانَ الْحَرَامُ غَالِبًا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَرَّى عِنْدَنَا وَلَهُ ذَلِكَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ لِأَنَّهُ يَتَيَقَّنُ بِوُجُودِ الْحَلَالِ فِيهَا وَيَرْجُو إصَابَتَهُ بِالتَّحَرِّي فَلَهُ أَنْ يَتَحَرَّى كَمَا فِي الْفَصْلِ الْأَوَّلِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحُرْمَةَ فِي الْمَيْتَةِ مَحْضُ حَقِّ الشَّرْعِ وَالْعَمَلُ بِغَالِبِ الرَّأْيِ جَائِزٌ فِي مِثْلِهِ كَمَا فِي اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ فَإِنَّ جِهَاتِ الْخَطَأِ هُنَاكَ تَغْلِبُ عَلَى جِهَاتِ الصَّوَابِ وَلَمْ يَمْنَعْهُ ذَلِكَ مِنْ الْعَمَلِ بِالتَّحَرِّي فَهَذَا مِثْلُهُ .
( وَحُجَّتُنَا ) فِي ذَلِكَ أَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ وَإِذَا كَانَ الْغَالِبُ هُوَ الْحَرَامُ كَانَ الْكُلُّ حَرَامًا فِي وُجُوبِ الِاجْتِنَابِ عَنْهَا فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ لَوْ تَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْهَا إنَّمَا يَتَنَاوَلُ بِغَالِبِ
الرَّأْيِ ، وَجَوَازُ الْعَمَلِ بِغَالِبِ الرَّأْيِ لِلضَّرُورَةِ وَلَا ضَرُورَةَ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْغَالِبُ الْحَلَالَ فَإِنَّ حِلَّ التَّنَاوُلِ هُنَاكَ لَيْسَ بِغَالِبِ الرَّأْيِ كَمَا قَرَّرْنَا ، وَهَذَا بِخِلَافِ أَمْرِ الْقِبْلَةِ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ هُنَاكَ قَدْ تَقَرَّرَتْ عِنْدَ انْقِطَاعِ الْأَدِلَّةِ عَنْهُ ، فَوِزَانُهُ أَنْ لَوْ تَحَقَّقَتْ الضَّرُورَةُ هُنَا بِأَنْ لَمْ يَجِدْ غَيْرَهَا ، مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ إلَى غَيْرِ جِهَةِ الْكَعْبَةِ قُرْبَةٌ جَائِزَةٌ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ وَهُوَ التَّطَوُّعُ عَلَى الدَّابَّةِ ، وَتَنَاوُلُ الْمَيْتَةِ لَا يَجُوزُ مَعَ الِاخْتِيَارِ بِحَالٍ ، وَلِهَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ الْعَمَلُ بِغَالِبِ الرَّأْيِ هُنَا فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ لِأَنَّ عِنْدَ الْمُسَاوَاةِ يَغْلِبُ الْحَرَامُ شَرْعًا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَا اجْتَمَعَ الْحَرَامُ وَالْحَلَالُ فِي شَيْءٍ إلَّا غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ } وَلِأَنَّ التَّحَرُّزَ عَنْ تَنَاوُلِ الْحَرَامِ فَرْضٌ وَهُوَ مُخَيَّرٌ فِي تَنَاوُلِ الْحَلَالِ إنْ شَاءَ أَصَابَ مِنْ هَذَا وَإِنْ شَاءَ أَصَابَ مِنْ غَيْرِهِ وَلَا يَتَحَقَّقُ الْمُعَارَضَةُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالْمُبَاحِ فَيَتَرَجَّحُ جَانِبُ الْفَرْضِ وَهُوَ الِاجْتِنَابُ عَنْ الْحَرَامِ مَا لَمْ يَعْلَمْ الْحَلَالَ بِعَيْنِهِ أَوْ بِعَلَامَةٍ يَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَيْهِ ، وَمِنْ الْعَلَامَةِ أَنَّ الْمَيْتَةَ إذَا أُلْقِيَتْ فِي الْمَاءِ تَطْفُو لِمَا بَقِيَ مِنْ الدَّمِ فِيهَا وَالذَّكِيَّةُ تَرْسُبُ ، وَقَدْ يَعْرِفُ النَّاسُ ذَلِكَ بِكَثْرَةِ النَّشِيشِ وَبِسُرْعَةِ الْفَسَادِ إلَيْهَا ، وَلَكِنَّ هَذَا كُلَّهُ يَنْعَدِمُ إذَا كَانَ الْحَرَامُ ذَبِيحَةَ الْمَجُوسِيِّ أَوْ ذَبِيحَةَ مُسْلِمٍ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ عَمْدًا
وَمِنْ الْمُخْتَلِطِ الَّذِي هُوَ مُتَّصِلُ الْأَجْزَاءِ مَسْأَلَةُ الدُّهْنِ إذَا اخْتَلَطَ بِهِ وَدَكُ الْمَيْتَةِ أَوْ شَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَهِيَ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ : فَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ وَدَكَ الْمَيْتَةِ لَمْ يَجُزْ الِانْتِفَاعُ بِشَيْءٍ مِنْهُ لَا بِأَكْلٍ وَلَا بِغَيْرِهِ مِنْ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ وَبِاعْتِبَارِ الْغَالِبِ هَذَا مُحَرَّمُ الْعَيْنِ غَيْرُ مُنْتَفَعٍ بِهِ فَكَانَ الْكُلُّ وَدَكَ الْمَيْتَةِ ، وَاسْتُدِلَّ عَلَيْهِ بِحَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ { : جَاءَ نَفَرٌ إلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا : إنَّ لَنَا سَفِينَةً فِي الْبَحْرِ وَقَدْ احْتَاجَتْ إلَى الدُّهْنِ فَوَجَدْنَا نَاقَةً كَثِيرَةَ الشَّحْمِ مَيِّتَةً أَفَنَدْهُنُهَا بِشَحْمِهَا فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا تَنْتَفِعُوا مِنْ الْمَيْتَةِ بِشَيْءٍ } وَكَذَلِكَ إنْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ لِأَنَّ عِنْدَ الْمُسَاوَاةِ يَغْلِبُ الْحَرَامُ فَكَانَ هَذَا كَالْأَوَّلِ ، فَأَمَّا إذَا كَانَ الْغَالِبُ هُوَ الزَّيْتُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ شَيْئًا مِنْهُ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ لِأَنَّ وَدَكَ الْمَيْتَةِ وَإِنْ كَانَ مَغْلُوبًا مُسْتَهْلَكًا حُكْمًا فَهُوَ مَوْجُودٌ فِي هَذَا الْمَحَلِّ حَقِيقَةً ، وَقَدْ تَعَذَّرَ تَمْيِيزُ الْحَلَالِ مِنْ الْحَرَامِ ، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ جُزْءًا مِنْ الْحَلَالِ إلَّا بِتَنَاوُلِ جُزْءٍ مِنْ الْحَرَامِ وَهُوَ مَمْنُوعٌ شَرْعًا مِنْ تَنَاوُلِ الْحَرَامِ ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهَا مِنْ حَيْثُ الِاسْتِصْبَاحُ وَدَبْغُ الْجُلُودِ بِهَا فَإِنَّ الْغَالِبَ هُوَ الْحَلَالُ فَالِانْتِفَاعُ إنَّمَا يُلَاقِي الْحَلَالَ مَقْصُودًا ، وَقَدْ رَوَيْنَا فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ جَوَازَ الِانْتِفَاعِ بِالدُّهْنِ النَّجِسِ لِأَنَّهُ قَالَ : وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَانْتَفَعُوا بِهِ دُونَ الْأَكْلِ وَكَذَلِكَ يَجُوزُ بَيْعُهُ مَعَ بَيَانِ الْعَيْبِ عِنْدَنَا وَلَا يَجُوزُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ نَجِسُ
الْعَيْنِ كَالْخَمْرِ وَلَكِنَّا نَقُولُ : النَّجَاسَةُ لِلْجَارِ لَا لِعَيْنِ الزَّيْتِ فَهُوَ كَالثَّوْبِ النَّجِسِ يَجُوزُ بَيْعُهُ وَإِنْ كَانَ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ وَهَذَا لِأَنَّ إلَى الْعِبَادِ إحْدَاثَ الْمُجَاوَرَةِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ لَا تَقْلِيبَ الْأَعْيَانِ ، وَإِنْ كَانَ التَّنَجُّسُ يَحْصُلُ بِفِعْلِ الْعِبَادِ عَرَفْنَا أَنَّ عَيْنَ الطَّاهِرِ لَا يَصِيرُ نَجِسًا وَقَدْ قَرَّرْنَا هَذَا الْفَصْلَ فِي كِتَابِ الصَّلَاةِ ، فَإِنْ بَاعَهُ وَلَمْ يُبَيِّنْ عَيْبَهُ فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ إذَا عَلِمَ بِهِ لِتَمَكُّنِ الْخَلَلِ فِي مَقْصُودِهِ حِينَ ظَهَرَ أَنَّهُ مُحَرَّمُ الْأَكْلِ وَإِنْ دَبَغَ بِهِ الْجِلْدَ فَعَلَيْهِ أَنْ يَغْسِلَهُ لِيَزُولَ بِالْغُسْلِ مَا عَلَى الْجِلْدِ مِنْ أَثَرِ النَّجَاسَةِ وَمَا يُشْرَبُ فِيهِ فَهُوَ عَفْوٌ
وَمِنْ الْمُخْتَلِطِ الَّذِي هُوَ مُنْفَصِلُ الْأَجْزَاءِ مَسْأَلَةُ الْمَوْتَى إذَا اخْتَلَطَ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ بِمَوْتَى الْكُفَّارِ وَهِيَ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ أَيْضًا : فَإِنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِمَوْتَى الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّهُ يُصَلَّى عَلَيْهِمْ وَيُدْفَنُونَ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ وَالْغَالِبُ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ ، إلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي لِمَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِمْ أَنْ يَنْوِيَ بِصَلَاتِهِ الْمُسْلِمِينَ خَاصَّةً لِأَنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَى التَّمْيِيزِ فِعْلًا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَخُصَّ الْمُسْلِمِينَ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِمْ فَإِذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ كَانَ لَهُ أَنْ يَخُصَّ الْمُسْلِمِينَ بِالنِّيَّةِ لِأَنَّ ذَلِكَ فِي وُسْعِهِ وَالتَّكْلِيفُ بِحَسَبِ الْوُسْعِ وَنَظِيرُهُ مَا لَوْ تَتَرَّسَ الْمُشْرِكُونَ بِأَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ فَعَلَى مَنْ يَرْمِيهِمْ أَنْ يَقْصِدَ الْمُشْرِكِينَ وَإِنْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُصِيبُ الْمُسْلِمَ ، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ مَوْتَى الْكُفَّارِ لَا يُصَلَّى عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ إلَّا مَنْ يُعْلَمُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ بِالْعَلَامَةِ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ وَالْغَلَبَةُ لِلْكُفَّارِ هُنَا ، وَإِنْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ فَكَذَلِكَ الْجَوَابُ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْكَافِرِ لَا تَجُوزُ بِحَالٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا } ، وَيَجُوزُ تَرْكُ الصَّلَاةِ عَلَى بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ كَأَهْلِ الْبَغْيِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ ، فَعِنْدَ الْمُسَاوَاةِ يَغْلِبُ مَا هُوَ الْأَوْجَبُ وَهُوَ الِامْتِنَاعُ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْكُفَّارِ ، وَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إلَى التَّحَرِّي هُنَا عِنْدَنَا لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ الْعَمَلَ بِغَالِبِ الرَّأْيِ فِي مَوْضِعِ الضَّرُورَةِ وَلَا تَتَحَقَّقُ الضَّرُورَةُ هُنَا وَذَكَرَ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ ، أَنَّهُمْ يُدْفَنُونَ فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ فِي حُكْمِ تَرْكِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ جُعِلَ كَأَنَّهُمْ كُفَّارٌ كُلَّهُمْ فَكَذَلِكَ فِي حُكْمِ الدَّفْنِ هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، فَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَنْبَغِي
أَنْ يُدْفَنُوا فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ مُرَاعَاةً لِحُرْمَةِ الْمُسْلِمِ مِنْهُمْ ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ يَعْلُو وَلَا يُعَلَّى وَدَفْنُ الْمُسْلِمِ فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ .
وَقِيلَ : بَلْ يُتَّخَذُ لَهُمْ مَقْبَرَةٌ عَلَى حِدَةٍ لَا مِنْ مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا مِنْ مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ فَيُدْفَنُونَ فِيهَا ، وَأَصْلُ هَذَا الْخِلَافِ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي نَظِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَنَّ النَّصْرَانِيَّةَ إذَا كَانَتْ تَحْتَ مُسْلِمٍ فَمَاتَتْ وَهِيَ حُبْلَى فَإِنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهَا لِكُفْرِهَا ثُمَّ تُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : تُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الْوَلَدَ الَّذِي فِي بَطْنِهَا مُسْلِمٌ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : يُتَّخَذُ لَهَا مَقْبَرَةٌ عَلَى حِدَةٍ ، فَهَذَا مِثْلُهُ وَهَذَا كُلُّهُ إذَا تَعَذَّرَ تَمْيِيزُ الْمُسْلِمِ بِالْعَلَامَةِ ، فَإِنْ أَمْكَنَ ذَلِكَ وَجَبَ التَّمْيِيزُ ، وَمِنْ الْعَلَامَةِ لِلْمُسْلِمِينَ الْخِتَانُ وَالْخِضَابُ وَلُبْسُ السَّوَادِ ، فَأَمَّا الْخِتَانُ فَلِأَنَّهُ مِنْ الْفِطْرَةِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : عَشْرٌ مِنْ الْفِطْرَةِ وَذَكَرَ مِنْ جُمْلَتِهَا الْخِتَانَ } إلَّا أَنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يُخْتَتَنُ فَإِنَّمَا يُمْكِنُ التَّمْيِيزُ بِهَذِهِ الْعَلَامَةِ إذَا اخْتَلَطَ الْمُسْلِمُونَ بِقَوْمٍ مِنْ الْمُشْرِكِينَ يُعْلَمُ أَنَّهُمْ لَا يُخْتَتَنُونَ ، وَأَمَّا الْخِضَابُ فَهُوَ مِنْ عَلَامَاتِ الْمُسْلِمِينَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : غَيِّرُوا الشَّيْبَ وَلَا تَتَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ } وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَخْتَضِبُ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ حَتَّى قَالَ الرَّاوِي رَأَيْت ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِحْيَتُهُ كَأَنَّهَا ضِرَامُ عَرْفَجٍ وَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فِي أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَلْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي عُمْرِهِ
؟ وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ ، وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا بَأْسَ لِلْغَازِي أَنْ يَخْتَضِبَ فِي دَارِ الْحَرْبِ لِيَكُونَ أَهْيَبَ فِي عَيْنِ قَرْنِهِ ، وَأَمَّا مَنْ اخْتَضَبَ لِأَجْلِ التَّزَيُّنِ لِلنِّسَاءِ وَالْجَوَارِي فَقَدْ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِهِ ، هُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ : كَمَا يُعْجِبُنِي أَنْ تَتَزَيَّنَ لِي يُعْجِبُهَا أَنْ أَتَزَيَّنَ لَهَا ، وَأَمَّا السَّوَادُ مِنْ عَلَامَاتِ الْمُسْلِمِينَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَى رَأْسِهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ } وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إذَا لَبِسَتْ أُمَّتِي السَّوَادَ فَابْغُوا الْإِسْلَامَ } وَمِنْهُمْ مِنْ رَوَى فَانْعَوْا وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ فَقَدْ صَحَّ { أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَشَّرَ الْعَبَّاسَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِانْتِقَالِ الْخِلَافَةِ إلَى أَوْلَادِهِ بَعْدَهُ وَقَالَ : مِنْ عَلَامَاتِهِمْ لُبْسُ السَّوَادِ } ، وَالْكُفَّارُ لَا يَلْبَسُونَ السَّوَادَ فَإِنْ أَمْكَنَ التَّمْيِيزُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْعَلَامَاتِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهَا كَمَا إذَا أَمْكَنَ مَعْرِفَةُ جِهَةِ الْقِبْلَةِ بِشَيْءٍ مِنْ الْعَلَامَاتِ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهَا عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ
وَمِنْ الْمُخْتَلِطِ الَّذِي هُوَ مُنْفَصِلُ الْأَجْزَاءِ مَسْأَلَةُ الثِّيَابِ إذَا كَانَ فِي بَعْضِهَا نَجَاسَةٌ كَثِيرَةٌ وَلَيْسَ مَعَهُ ثَوْبٌ غَيْرُ هَذِهِ الثِّيَابِ وَلَا مَا يَغْسِلُهَا بِهِ وَلَا يَعْرِفُ الطَّاهِرَ مِنْ النَّجِسِ فَإِنَّهُ يَتَحَرَّى وَيُصَلِّي فِي الَّذِي يَقَعُ تَحَرِّيهِ أَنَّهُ طَاهِرٌ سَوَاءٌ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلثِّيَابِ النَّجِسَةِ أَوْ لِلثِّيَابِ الطَّاهِرَةِ أَوْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الْمَسَالِيخِ ، وَعِنْدَ التَّأَمُّلِ لَا فَرْقَ لِأَنَّ هُنَاكَ يَجُوزُ لَهُ التَّحَرِّي عِنْدَ الضَّرُورَةِ أَيْضًا وَالضَّرُورَةُ هُنَا قَدْ تَحَقَّقَتْ لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ بُدًّا مِنْ سَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ وَلَا ثَوْبَ مَعَهُ سِوَى هَذِهِ الثِّيَابِ فَجَوَّزْنَا لَهُ التَّحَرِّيَ لِلضَّرُورَةِ ، ثُمَّ الْفَرْقُ أَنَّ عَيْنَ الثَّوْبِ لَيْسَ بِنَجِسٍ وَلَا يَلْزَمُهُ الِاجْتِنَابُ عَنْهُ بَلْ لَهُ أَنْ يَلْبَسَهُ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ نَجِسًا ، فَإِذَا لَمْ تَكُنْ النَّجَاسَةُ صِفَةَ الْعَيْنِ كَانَ لَهُ أَنْ يَلْبَسَ أَيَّ هَذِهِ الثِّيَابِ شَاءَ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَإِنَّمَا يَتَحَرَّى لِمَا هُوَ مِنْ شَرَائِطِ الصَّلَاةِ عَلَى الْخُصُوصِ ، وَهُوَ طَهَارَةُ الثَّوْبِ فَكَانَ هَذَا وَالتَّحَرِّي لِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ سَوَاءً بِخِلَافِ الْمَسَالِيخِ ، فَإِنَّ الْمَيْتَةَ مُحَرَّمَةُ الْعَيْنِ فَإِذَا كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْحَرَامِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ الْكُلُّ حَرَامًا فِي وُجُوبِ الِاجْتِنَابِ عَنْهُ ، وَإِلَى نَحْوِ هَذَا أَشَارَ فِي الْكِتَابِ وَقَالَ لِأَنَّ الثِّيَابَ لَوْ كَانَتْ كُلُّهَا نَجِسَةً لَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَعْضِهَا ثُمَّ لَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ مَعْنَاهُ لَيْسَ عَلَيْهِ الِاجْتِنَابُ عَنْ لُبْسِ الثَّوْبِ النَّجِسِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ فَلَأَنْ يَكُونَ لَهُ أَنْ يَتَحَرَّى وَإِصَابَةُ الطَّاهِرِ بِتَحَرِّيهِ مَأْمُولٌ أَوْلَى وَفِي الْمَسَالِيخِ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ عَلَيْهِ الِاجْتِنَابُ عَنْ الْحَرَامِ فَإِذَا كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْحَرَامِ كَانَ عَلَيْهِ الِاجْتِنَابُ أَيْضًا .
وَإِذَا وَقَعَ تُحْرِيه فِي ثَوْبَيْنِ عَلَى أَحَدِهِمَا
أَنَّهُ هُوَ الطَّاهِرُ فَصَلَّى فِيهِ الظُّهْرَ ثُمَّ وَقَعَ فِي أَكْبَرِ رَأْيِهِ عَلَى الْآخَرِ أَنَّهُ هُوَ الطَّاهِرُ فَصَلَّى فِيهِ الْعَصْرَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّا حِينَ حَكَمْنَا بِجَوَازِ الظُّهْرِ فِيهِ حَكَمْنَا بِأَنَّ الطَّاهِرَ ذَلِكَ الثَّوْبُ وَمِنْ ضَرُورَتِهِ الْحُكْمُ بِنَجَاسَةِ الثَّوْبِ الْآخَرِ فَلَا يَعْتَبِرُ أَكْبَرَ رَأْيِهِ بَعْدَ مَا جَرَى الْحُكْمُ بِخِلَافِهِ ، وَهَذَا بِخِلَافِ أَمْرِ الْقِبْلَةِ فَإِنَّهُ إذَا صَلَّى الظُّهْرَ إلَى جِهَةٍ ثُمَّ تَحَوَّلَ رَأْيُهُ إلَى جِهَةٍ أُخْرَى فَصَلَّى الْعَصْرَ أَجْزَأَهُ لِأَنَّ هُنَاكَ لَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ بِجَوَازِ الظُّهْرِ الْحُكْمُ بِأَنَّ تِلْكَ الْجِهَةَ هِيَ جِهَةُ الْكَعْبَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَبَيَّنَ الْخَطَأُ جَازَتْ صَلَاتُهُ فَكَانَ تَحَرِّيهِ عِنْدَ الْعَصْرِ إلَى جِهَةٍ أُخْرَى مُصَادِفًا مَحَلَّهُ ، وَهُنَا مِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ بِجَوَازِ الظُّهْرِ الْحُكْمُ بِأَنَّ الطَّاهِرَ ذَلِكَ الثَّوْبُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ تَبَيَّنَتْ النَّجَاسَةُ فِيهِ تَلْزَمُهُ الْإِعَادَةُ ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ الصَّلَاةَ إلَى غَيْرِ جِهَةِ الْكَعْبَةِ يَجُوزُ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ مَعَ الْعِلْمِ وَهُوَ التَّطَوُّعُ عَلَى الدَّابَّةِ وَالصَّلَاةُ فِي الثَّوْبِ الَّذِي فِيهِ نَجَاسَةٌ كَثِيرَةٌ لَا يَجُوزُ فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ مَعَ الْعِلْمِ ، فَمِنْ ضَرُورَةِ جَوَازِ الظُّهْرِ تَعَيُّنُ صِفَةِ الطَّهَارَةِ فِي ذَلِكَ الثَّوْبِ وَالنَّجَاسَةِ فِي الثَّوْبِ الْآخَرِ ، وَالْأَخْذُ بِالدَّلِيلِ الْحُكْمِيِّ وَاجِبٌ مَا لَمْ يَعْلَمْ خِلَافَهُ ، فَإِنْ اسْتَيْقَنَ أَنَّ الَّذِي صَلَّى فِيهِ الظُّهْرَ هُوَ النَّجِسُ أَعَادَ صَلَاةَ الظُّهْرِ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ لَهُ الْخَطَأُ بِيَقِينٍ فِيمَا يُمْكِنُ الْوُقُوفُ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَحْضُرْهُ التَّحَرِّي وَلَكِنَّهُ أَخَذَ أَحَدَ الثَّوْبَيْنِ فَصَلَّى فِيهِ الظُّهْرَ فَهَذَا وَمَا لَوْ فَعَلَهُ بِالتَّحَرِّي سَوَاءٌ لِأَنَّ فِعْلَ الْمُسْلِمِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّحَّةِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ الْفَسَادُ فِيهِ فَيُجْعَلُ كَأَنَّ الطَّاهِرَ هَذَا الثَّوْبُ وَيُحْكَمُ بِجَوَازِ صَلَاتِهِ إلَّا أَنْ
يَتَبَيَّنَ خِلَافُهُ ، وَكَذَلِكَ لَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ فِي أَحَدِهِمَا نَجَاسَةً حَتَّى صَلَّى وَهُوَ سَاهٍ فِي أَحَدِهِمَا الظُّهْرَ وَفِي الْآخَرِ الْعَصْرَ وَفِي الْأَوَّلِ الْمَغْرِبَ وَفِي الْآخَرَ الْعِشَاءَ ثُمَّ نَظَرَ فَإِذَا فِي أَحَدِهِمَا قَذَرٌ وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ هُوَ الْأَوَّلُ أَوْ الْآخَرُ فَصَلَاةُ الظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ جَائِزَةٌ وَصَلَاةُ الْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ فَاسِدَةٌ لِأَنَّهُ لَمَّا صَلَّى الظُّهْرَ فِي أَحَدِهِمَا جَازَتْ صَلَاتُهُ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ فَذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْحُكْمِ بِطَهَارَةِ ذَلِكَ الثَّوْبِ وَبِنَجَاسَةِ الثَّوْبِ الْآخَرِ فَكُلُّ صَلَاةٍ أَدَّاهَا فِي الثَّوْبِ الْأَوَّلِ فَهِيَ جَائِزَةٌ وَكُلُّ صَلَاةٍ أَدَّاهَا فِي الثَّوْبِ الثَّانِي فَعَلَيْهِ إعَادَتُهَا وَلَا يَلْزَمُهُ إعَادَةُ مَا صَلَّى فِي الثَّوْبِ الْأَوَّلِ مِنْ الْمَغْرِبِ لِمَكَانِ التَّرْتِيبِ لِأَنَّهُ حِينَ صَلَّى الْمَغْرِبَ مَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ عَلَيْهِ إعَادَةَ الْعَصْرِ وَالتَّرْتِيبُ بِمِثْلِ هَذَا الْعُذْرِ يَسْقُطُ
وَمِنْ الْمُخْتَلِطِ الَّذِي هُوَ مُنْفَصِلُ الْأَجْزَاءِ مَسْأَلَةُ الْأَوَانِي إذَا كَانَ فِي بَعْضِهَا مَاءٌ نَجِسٌ وَفِي بَعْضِهَا مَاءٌ طَاهِرٌ وَلَيْسَ مَعَهُ مَاءٌ طَاهِرٌ سِوَى ذَلِكَ وَلَا يَعْرِفُ الطَّاهِرَ مِنْ النَّجِسِ فَإِنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْأَوَانِي الطَّاهِرَةِ فَعَلَيْهِ التَّحَرِّي لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْغَالِبِ فَبِاعْتِبَارِ الْغَالِبِ لَزِمَهُ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ الطَّاهِرِ وَإِصَابَتُهُ بِتَحَرِّيهِ مَأْمُولٌ وَإِنْ كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْأَوَانِي النَّجِسَةِ أَوْ كَانَا سَوَاءً فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَحَرَّى عِنْدَنَا ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَتَحَرَّى وَيَتَوَضَّأُ بِمَا يَقَعُ فِي تَحَرِّيهِ أَنَّهَا طَاهِرَةٌ ، وَهَذَا وَمَسْأَلَةُ الْمَسَالِيخِ سَوَاءٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَسْأَلَةِ الثِّيَابِ وَبَيْنَ مَسْأَلَةِ الْأَوَانِي لَنَا أَنَّ الضَّرُورَةَ لَا تَتَحَقَّقُ فِي الْأَوَانِي لِأَنَّ التُّرَابَ طَهُورٌ لَهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْمَاءِ الطَّاهِرِ فَلَا يُضْطَرُّ إلَى اسْتِعْمَالِ التَّحَرِّي لِلْوُضُوءِ عِنْدَ غَلَبَةِ النَّجَاسَةِ لِمَا أَمْكَنَهُ إقَامَةُ الْفَرْضِ بِالْبَدَلِ ، وَفِي مَسْأَلَةِ الثِّيَابِ الضَّرُورَةُ مَسَّتْ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلسَّتْرِ بَدَلٌ يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى إقَامَةِ الْفَرْضِ حَتَّى أَنَّ فِي مَسْأَلَةِ الْأَوَانِي لَمَّا كَانَ تَتَحَقَّقُ الضَّرُورَةُ فِي الشُّرْبِ عِنْدَ الْعَطَشِ وَعَدَمِ الْمَاءِ الطَّاهِرِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَتَحَرَّى لِلشُّرْبِ لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لَهُ شُرْبُ الْمَاءِ النَّجِسِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ فَلَأَنْ يَجُوزَ التَّحَرِّي وَإِصَابَةُ الطَّاهِرِ مَأْمُولٌ بِتَحَرِّيهِ أَوْلَى .
يُوَضِّحُهُ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْأَوَانِي لَوْ كَانَتْ كُلُّهَا نَجِسَةً لَا يُؤْمَرُ بِالتَّوَضُّؤِ بِهَا وَلَوْ فَعَلَ لَا تَجُوزُ صَلَاتُهُ فَإِذَا كَانَتْ الْغَلَبَةُ لَهُ فَكَذَلِكَ أَيْضًا ، وَفِي مَسْأَلَةِ الثِّيَابِ وَإِنْ كَانَ الْكُلُّ نَجِسَةً يُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ فِي بَعْضِهَا وَيُجْزِيهِ ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلنَّجَاسَةِ ، وَفِي الْكِتَابِ يَقُولُ : إذَا كَانَتْ الْغَلَبَةُ لِلْمَاءِ النَّجِسِ يُرِيقُ الْكُلَّ ثُمَّ
يَتَيَمَّمُ وَهَذَا احْتِيَاطٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَلَكِنَّهُ إنْ أَرَاقَ فَهُوَ أَحْوَطُ لِيَكُونَ تَيَمُّمُهُ فِي حَالِ عَدَمِ الْمَاءِ بِيَقِينٍ وَإِنْ لَمْ يُرِقْ أَجْزَأَهُ أَيْضًا لِأَنَّهُ عَدِمَ آلَةَ الْوُصُولِ إلَى الْمَاءِ الطَّاهِرِ وَهُوَ الْعِلْمُ ، وَالطَّحَاوِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ فِي كِتَابِهِ : يَخْلِطُ الْمَاءَيْنِ ثُمَّ يَتَيَمَّمُ وَهَذَا أَحْوَطُ لِأَنَّ بِالْإِرَاقَةِ يَنْقَطِعُ عَنْهُ مَنْفَعَةُ الْمَاءِ وَبِالْخَلْطِ لَا ، فَإِنَّهُ بَعْدَ الْخَلْطِ يَسْقِي دَوَابَّهُ وَيَشْرَبُ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْعَجْزِ فَهُوَ أَوْلَى ، وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَئِمَّةِ بَلْخِي كَانَ يَقُولُ : يَتَوَضَّأُ بِالْإِنَاءَيْنِ جَمِيعًا احْتِيَاطًا لِأَنَّهُ يَتَيَقَّنُ بِزَوَالِ الْحَدَثِ عِنْدَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ تَوَضَّأَ مَرَّةً بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ وَحُكْمُ نَجَاسَةِ الْأَعْضَاءِ أَخَفُّ مِنْ حُكْمِ الْحَدَثِ فَإِذَا كَانَ قَادِرًا عَلَى إزَالَةِ أَغْلَظِ الْحَدَثَيْنِ لَزِمَهُ ذَلِكَ ، وَقَاسُوا بِمَنْ كَانَ مَعَهُ سُؤْرُ الْحِمَارِ يُؤْمَرُ بِالتَّوَضُّؤِ بِهِ مَعَ التَّيَمُّمِ احْتِيَاطًا وَلَسْنَا نَأْخُذُ بِهَذَا لِأَنَّهُ إذَا فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ مُتَوَضِّئًا بِمَا يَتَيَقَّنُ بِنَجَاسَتِهِ وَتَتَنَجَّسُ أَعْضَاؤُهُ أَيْضًا خُصُوصًا رَأْسَهُ فَأَنَّهُ بَعْدَ الْمَسْحِ بِالْمَاءِ يُنَجَّسُ وَإِنْ مَسَحَهُ بِالْمَاءِ الطَّاهِرِ لَا يَطْهُرُ ، فَلَا مَعْنَى لِلْأَمْرِ بِهِ بِخِلَافِ سُؤْرِ الْحِمَارِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسٍ ، وَلِهَذَا لَوْ غَمَسَ الثَّوْبَ فِيهِ جَازَتْ صَلَاتُهُ فِيهِ فَيَسْتَقِيمُ الْأَمْرُ بِالْجَمْعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّيَمُّمِ احْتِيَاطًا
ثُمَّ الْأَصْلُ بَعْدَ هَذَا أَنَّ التَّحَرِّيَ فِي الْفُرُوجِ لَا يَجُوزُ بِحَالٍ ، لِأَنَّ التَّحَرِّيَ إنَّمَا يَجُوزُ فِيمَا يَحِلُّ تَنَاوُلُهُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَا ، أَنَّ اسْتِعْمَالَ التَّحَرِّي نَوْعُ ضَرُورَةٍ ، وَالْفَرْجُ لَا يَحِلُّ بِالضَّرُورَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُكْرَهَ عَلَى الزِّنَا لَا يَحِلُّ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ وَمَنْ خَافَ الْهَلَاكَ مِنْ فَرْطِ الشَّبَقِ لَا يَحِلُّ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْوَطْءِ فِي غَيْرِ الْمِلْكِ فَلِهَذَا لَا يَحِلُّ الْفَرْجُ بِالتَّحَرِّي بِحَالٍ ، بِخِلَافِ جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْفُصُولِ إذَا عَرَفْنَا هَذَا فَنَقُولُ : رَجُلٌ لَهُ أَرْبَعُ جَوَارٍ أَعْتَقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ بِعَيْنِهَا ثُمَّ نَسِيَهَا لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَتَحَرَّى لِلْوَطْءِ لِأَنَّ الْمُعْتَقَةَ بِعَيْنِهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَقْرَبَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ حَتَّى يَعْرِفَ الْمُحَرَّمَةَ بِعَيْنِهَا وَهَذَا لِأَنَّ قِيَامَ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ شَرْطٌ مَنْصُوصٌ لِلْحِلِّ وَبِتَحَرِّيهِ لَا يَصِيرُ هَذَا الشَّرْطُ مَعْلُومًا بِيَقِينٍ ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَعْتَقَ إحْدَاهُنَّ بِغَيْرِ عَيْنِهَا فَإِنَّ الْعِتْقَ فِي الْمُنَكَّرِ لَا يُزِيلُ الْمِلْكَ عَنْ الْمُعَيَّنِ إلَّا بِالْبَيَانِ ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَطَأَ مَنْ شَاءَ مِنْهُنَّ بِاعْتِبَارِ الْمِلْكِ الْمُتَيَقَّنِ بِهِ فِي الْمَحَلِّ ، وَكَمَا لَا يَتَحَرَّى لِلْوَطْءِ هُنَا لَا يَتَحَرَّى لِلْبَيْعِ لِأَنَّ جَوَازَ الْبَيْعِ وَإِبَاحَتَهُ شَرْعًا لَا يَكُونُ إلَّا بِاعْتِبَارِ قِيَامِ الْمِلْكِ فِي الْمَحَلِّ فَإِنَّ الْحُرَّةَ لَيْسَتْ بِمَحَلٍّ لِلْبَيْعِ شَرْعًا وَلَا يُخَلِّي الْحَاكِمُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ حَتَّى يُبَيِّنَ الْمُعْتَقَةَ مِنْ غَيْرِهَا فَإِنَّهُ لَا يَسَعُهُ إلَّا ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ إحْدَاهُنَّ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُحَرَّمَةِ لِيَرْتَكِبَ الْحَرَامَ بِوَطْئِهَا فَيَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ حَتَّى يُبَيِّنَ الْمُعْتَقَةَ .
وَكَذَلِكَ إذَا طَلَّقَ إحْدَى نِسَائِهِ بِعَيْنِهَا ثَلَاثًا ثُمَّ نَسِيَهَا وَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ الْأَوَّلِ
لِأَنَّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا مُحَرَّمَةُ الْعَيْنِ لَا تَحِلُّ لَهُ بِنِكَاحٍ وَلَا غَيْرِهِ مَا لَمْ تَتَزَوَّجْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَكَذَلِكَ إنْ مُتْنَ كُلُّهُنَّ إلَّا وَاحِدَةً لَمْ يَسَعْهُ أَنْ يَقْرَبَهَا حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا غَيْرُ الْمُطَلَّقَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا أَوْقَعَ الطَّلَاقَ عَلَى إحْدَاهُنَّ بِغَيْرِ عَيْنِهَا لِأَنَّ بِمَوْتِ الثَّلَاثِ هُنَاكَ يَتَعَيَّنُ الطَّلَاقُ فِي الرَّابِعَةِ وَهُنَا الطَّلَاقُ وَقَعَ عَلَى عَيْنٍ فَلَا يَتَحَوَّلُ بِالْمَوْتِ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ فَحَالُ هَذِهِ الَّتِي بَقِيَتْ بَعْدَ مَوْتِ ضَرَائِرِهَا كَحَالِهَا قَبْلَ مَوْتِهِنَّ لَا يَسَعُهُ أَنْ يَقْرَبَهَا حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّهَا غَيْرُ الْمُطَلَّقَةِ فَإِذَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ فَقَدْ أَخْبَرَ بِحِلِّهَا وَهَذَا أَمْرٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ فَيُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ مَعَ الْيَمِينِ وَيَسْتَحْلِفُهُ مَا طَلَّقَ هَذِهِ بِعَيْنِهَا ثَلَاثًا ثُمَّ يُخَلِّي بَيْنَهُمَا أَمَّا إذَا كَانَتْ تَدَّعِي هِيَ الثَّلَاثَ فَغَيْرُ مُشْكِلٍ وَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ لَا تَدَّعِي فَفِي الْحُرْمَةِ مَعْنَى حَقِّ الشَّرْعِ أَلَا تَرَى أَنَّ الْبَيِّنَةَ تُقْبَلُ فِيهِ مِنْ غَيْرِ دَعْوَى فَلِهَذَا يَسْتَحْلِفُهُ الْقَاضِي إذَا اتَّهَمَهُ فَإِنْ حَلَفَ وَهُوَ جَاهِلٌ بِذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْرَبَهَا لِأَنَّهُ مُجَازِفٌ فِي يَمِينِهِ وَالْيَمِينُ الْكَاذِبَةُ لَا تُحِلُّ الْحَرَامَ وَإِنْ ادَّعَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ أَنَّهَا الْمُطَلَّقَةُ حَلَّفَهُ الْقَاضِي لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَإِنْ نَكَلَ عَنْ الْيَمِينِ لَهُنَّ فَرَّقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ لِأَنَّ النُّكُولَ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ وَإِنْ حَلَفَ لَهُنَّ بَقِيَ حُكْمُ الْحَيْلُولَةِ كَمَا كَانَ لِأَنَّا نَتَيَقَّنُ أَنَّهُ كَاذِبٌ فِي بَعْضِ هَذِهِ الْأَيْمَانِ .
وَرَوَى ابْنُ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّهُ قَالَ : إذَا حَلَفَ لِثَلَاثٍ مِنْهُنَّ يَتَعَيَّنُ الطَّلَاقُ فِي الرَّابِعَةِ ضَرُورَةً فَيُفَرِّقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا كَمَا لَوْ أَخْبَرَ أَنَّهَا هِيَ الْمُطَلَّقَةُ وَلَكِنَّ هَذَا لَا يَسْتَقِيمُ فِيمَا إذَا
وَقَعَ عَلَى الْمُعَيَّنَةِ فِي الِابْتِدَاءِ لِأَنَّهُ لَيْسَ إلَيْهِ الْبَيَانُ إنَّمَا عَلَيْهِ أَنْ يَتَذَكَّرَ وَذَلِكَ لَا يَحْصُلُ بِيَمِينِهِ لِبَعْضِهِنَّ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ الْإِيقَاعُ عَلَى غَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ فِي الِابْتِدَاءِ فَإِنْ بَاعَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى ثَلَاثًا مِنْ الْجَوَارِي فَحَكَمَ الْحَاكِمُ بِجَوَازِ بَيْعِهِنَّ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ رَأْيِهِ وَجَعَلَ الْبَاقِيَةَ هِيَ الْمُعْتَقَةُ ثُمَّ رَجَعَ إلَيْهِ مِمَّا بَاعَ شَيْءٌ بِشِرَاءٍ أَوْ بِهِبَةٍ أَوْ مِيرَاثٍ لَمْ يَنْبَغِ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا لِأَنَّ الْقَاضِيَ فِي ذَلِكَ قَضَى بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا مُعْتَبِرَ لِلْقَضَاءِ عَنْ جَهْلٍ وَلِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ مُخْطِئٌ فِي قَضَائِهِ لِأَنَّهُ حَكَمَ بِجَوَازِ الْبَيْعِ فِي مَحَلٍّ لَا يُعْرَفُ فِيهِ الْمِلْكُ بِيَقِينٍ فَيَكُونُ بَاطِلًا وَأَدْنَى الدَّرَجَاتِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ بِجَوَازِ الْبَيْعِ فِي شَخْصٍ مُتَرَدِّدِ الْحَالِ بَيْنَ الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ فَلَا يَنْفُذُ حُكْمُهُ كَمَا لَوْ حَكَمَ بِجَوَازِ بَيْعِ الْمُكَاتَبِ بِغَيْرِ رِضَاهُ وَلَا يَنْبَغِي لِلْمَوْلَى أَنْ يَطَأَ شَيْئًا مِنْهُنَّ بِالْمِلْكِ إلَّا أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَإِنْ تَزَوَّجَهَا فَلَا بَأْسَ بِوَطْئِهَا لِأَنَّهَا إنْ كَانَتْ حُرَّةً فَالنِّكَاحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا صَحِيحٌ وَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَهِيَ حَلَالٌ لَهُ بِالْمِلْكِ فَهِيَ إمَّا زَوْجَتُهُ أَوْ أَمَتُهُ فَلَهُ أَنْ يَقْرَبَهَا وَلَوْ أَنَّ قَوْمًا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَارِيَةٌ فَأَعْتَقَ أَحَدُهُمْ جَارِيَتَهُ ثُمَّ لَمْ يَعْرِفُوا الْمُعْتَقَةَ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَطَأَ جَارِيَتَهُ حَتَّى يَعْلَمَ الْمُعْتَقَةَ بِعَيْنِهَا لِأَنَّا عَلِمْنَا قِيَامَ الْمِلْكِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فِي جَارِيَتِهِ وَحِلَّ وَطْئِهَا لَهُ وَلَمْ نَتَيَقَّنْ بِاكْتِسَابِ سَبَبِ الْحُرْمَةِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ فَلَهُ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِمَا يَتَيَقَّنُ بِهِ لِأَنَّ الْيَقِينَ لَا يُزَالُ بِالشَّكِّ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّا تَيَقَّنَّا هُنَاكَ بِاكْتِسَابِ سَبَبِ الْحُرْمَةِ مِنْ الْمَوْلَى فِي بَعْضِهِنَّ فَلَيْسَ لَهُ الْإِقْدَامُ عَلَى الْوَطْءِ
مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الْمَوْطُوءَةَ خَارِجَةٌ عَنْ تِلْكَ الْحُرْمَةِ .
وَهَذَا لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْحُرْمَةِ يَصِحُّ عَلَى الْمَعْلُومِ دُونَ الْمَجْهُولِ فَفِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ الْمَوْلَى وَهُوَ مَعْلُومٌ فَالْجَهَالَةُ فِي جَانِبِ الْجَوَارِي لَا يَمْنَعُ الْقَضَاءَ بِحُرْمَةٍ هِيَ حَقُّ الشَّرْعِ وَهُنَا الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ بِالْحُرْمَةِ مِنْ الْمَوَالِي مَجْهُولٌ وَلَا يُمْكِنُ الْقَضَاءُ عَلَى الْمَجْهُولِ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَتَمَسَّكَ فِي جَارِيَتِهِ بِالْحِلِّ الَّذِي تَيَقَّنَ بِهِ حَتَّى يَعْلَمَ خِلَافَهُ فَإِنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِ أَحَدِهِمْ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي أَعْتَقَ فَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا وَإِنْ قَرِبَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَرَامًا حَتَّى يَسْتَيْقِنَ لِأَنَّ أَكْبَرَ الرَّأْيِ يُوجِبُ الِاحْتِيَاطَ وَلَا يُزِيلُ الْمِلْكَ وَالْحُرْمَةُ فِي هَذَا الْمَحَلِّ بِاعْتِبَارِ زَوَالِ الْمِلْكِ وَذَلِكَ لَا يَثْبُتُ بِأَكْبَرِ الرَّأْيِ وَلَوْ اشْتَرَاهُنَّ جَمِيعًا رَجُلٌ وَاحِدٌ قَدْ عَلِمَ ذَلِكَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَقْرَبَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ حَتَّى يَعْرِفَ الْمُعْتَقَةَ أَمَّا إذَا اشْتَرَاهُنَّ بِعَقْدٍ وَاحِدٍ فَهَذَا الْبَيْعُ بَاطِلٌ لِأَنَّ فِيهِ الْجَمْعَ بَيْنَ الْحُرَّةِ وَالْإِمَاءِ وَبَيْعَ الْكُلِّ بِثَمَنٍ وَاحِدٍ .
وَإِنْ اشْتَرَاهُنَّ بِعُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ فَنَقُولُ : لَمَّا اجْتَمَعْنَ عِنْدَهُ وَهُوَ مُتَيَقِّنٌ بِأَنَّ إحْدَاهُنَّ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ كَانَ هَذَا وَمَا لَوْ كَانَ الْمَوْلَى فِي الِابْتِدَاءِ وَاحِدًا سَوَاءً لِأَنَّ الْمَقْضِيَّ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ هُنَا وَلَوْ اشْتَرَاهُنَّ إلَّا وَاحِدَةً حَلَّ لَهُ وَطْؤُهُنَّ لِأَنَّهُ لَا يَتَيَقَّنُ بِالْحُرْمَةِ فِيمَا اُشْتُرِيَ فَلَعَلَّ الْمُعْتَقَةَ تِلْكَ الْوَاحِدَةُ الَّتِي لَمْ يَشْتَرِهَا فَلَا يَصِيرُ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ بِالْحُرْمَةِ مَعْلُومًا بِهَذَا فَإِنْ وَطِئَهُنَّ ثُمَّ اشْتَرَى الْبَاقِيَةَ لَمْ يَحِلَّ لَهُ وَطْءُ شَيْءٍ مِنْهُنَّ وَلَا بَيْعُهُ حَتَّى يَعْلَمَ الْمُعْتَقَةَ مِنْهُنَّ لِأَنَّهُ يَعْلَمُ أَنَّ إحْدَاهُنَّ مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لِمَا سَبَقَ مِنْ
الْوَطْءِ تَأْثِيرٌ فِي تَمْيِيزِ الْمُعْتَقَةِ مِنْ غَيْرِ الْمُعْتَقَةِ لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لِذَلِكَ إلَّا التَّذَكُّرُ وَالْوَطْءُ لَيْسَ مِنْ التَّذَكُّرِ فِي شَيْءٍ وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَحَدَ أَصْحَابِ الْجَوَارِي لِأَنَّهُنَّ قَدْ اجْتَمَعْنَ عِنْدَهُ فَصَارَ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ بِالْحُرْمَةِ مَعْلُومًا ثُمَّ أَعَادَ الْمَسْأَلَةَ الْأُولَى لِإِيضَاحِ مَا بَيَّنَّا أَنَّ التَّحَرِّيَ لَا يَجُوزُ فِي الْفُرُوجِ فَقَالَ : لَوْ مَاتَ الْمَوْلَى بَعْدَمَا أَعْتَقَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ بِعَيْنِهَا وَنَسِيَهَا فَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَتَحَرَّى وَلَا يَأْمُرُ الْوَرَثَةَ بِذَلِكَ أَيْضًا فِي تَعْيِينِ الْمُعْتَقَةِ حَتَّى لَا يَقُولَ لَهُمْ أَعْتِقُوا الَّتِي أَكْبَرُ رَأْيِكُمْ أَنَّهَا حُرَّةٌ وَأَعْتِقُوا أَيَّتَهنَّ شِئْتُمْ وَكَيْف يَقُولُ لَهُمْ ذَلِكَ وَالْعِتْقُ الْوَاقِعُ عَلَى شَخْصٍ بِعَيْنِهِ لَا يُتَصَوَّرُ انْتِقَالُهُ إلَى شَخْصٍ آخَرَ بِحَالٍ وَلَكِنَّهُ يَسْأَلُهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَإِنْ زَعَمُوا أَنَّ الْمَيِّتَ أَعْتَقَ فُلَانَةَ بِعَيْنِهَا أَعْتَقَهَا وَاسْتَحْلَفَهُمْ عَلَى عِلْمِهِمْ فِي الْبَاقِيَاتِ لِأَنَّهُمْ خُلَفَاءُ الْمُوَرِّثِ وَخَبَرُهُمْ كَخَبَرِ الْمُوَرِّثِ أَنَّ الْمُعْتَقَةَ هَذِهِ إلَّا أَنَّ الْيَمِينَ فِي حَقِّهِمْ عَلَى الْعِلْمِ لِأَنَّهُ اسْتِخْلَافٌ عَلَى فِعْلِ الْغَيْرِ فَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ أَعْتَقَهُنَّ جَمِيعًا وَأَبْطَلَ مِنْ قِيمَتِهِنَّ قِيمَةَ وَاحِدَةٍ بَيْنَهُنَّ بِالْحِصَصِ وَيَسْعَيْنَ فِيمَا بَقِيَ لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ اسْتِدَامَةُ الْمِلْكِ فِيهِنَّ لِحَقِّ الشَّرْعِ فَيَخْرُجْنَ إلَى الْحُرِّيَّةِ بِالسِّعَايَةِ كَأُمِّ وَلَدِ النَّصْرَانِيَّةِ أَسْلَمَتْ تَخْرُجُ إلَى الْحُرِّيَّةِ بِالسِّعَايَةِ إلَّا أَنَّهُ يُسْقِطُ عَنْهُنَّ مَا يَتَيَقَّنُ بِسُقُوطِهِ وَهُوَ قِيمَةُ وَاحِدَةٍ
ثُمَّ خَتَمَ الْكِتَابَ بِهَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ ذَكَرَ بَابًا مِنْ كِتَابِ الْإِجَارَاتِ وَكَأَنَّهُ تَذَكَّرَ تِلْكَ الْمَسَائِلَ حِينَ صَنَّفَ هَذَا الْكِتَابَ فَأَثْبَتَهَا لَكِيلَا يَفُوتَ فَقَالَ رَجُلٌ أَجَّرَ عَبْدَهُ مِنْ رَجُلٍ سَنَةً بِمِائَةِ دِرْهَمٍ لِلْخِدْمَةِ فَخَدَمَهُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى فَالْعِتْقُ نَافِذٌ لِقِيَامِ الْمِلْكِ فِي رَقَبَتِهِ وَحَقُّ الْمُسْتَأْجِرِ إنَّمَا يَثْبُتُ فِي الْمَنْفَعَةِ دُونَ الرَّقَبَةِ وَلَا تَأْثِيرَ لِمَا اسْتَحَقَّهُ مِنْ الْيَدِ إلَّا فِي عَجْزِ الْمَوْلَى عَنْ تَسْلِيمِهِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى التَّسْلِيمِ لَيْسَ بِشَرْطٍ لِنُفُوذِ الْعِتْقِ حَتَّى يَنْفُذَ الْعِتْقُ فِي الْآبِقِ وَالْجَنِينِ فِي الْبَطْنِ ثُمَّ يَتَخَيَّرُ الْعَبْدُ فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ لِأَنَّ عَلَى إحْدَى الطَّرِيقَيْنِ الْإِجَارَةُ فِي حُكْمِ عُقُودٍ مُتَفَرِّقَةٍ يَتَجَدَّدُ انْعِقَادُهَا بِحَسَبِ مَا يَحْدُثُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَلَوْ أَجَّرَهُ ابْتِدَاءً بَعْدَ الْعِتْقِ لَا يَلْزَمُ الْعَقْدُ إلَّا بِرِضَاهُ فَكَذَلِكَ لَا يَتَجَدَّدُ انْعِقَادُ الْعَقْدِ لَازِمًا بَعْدَ الْعَقْدِ إلَّا بِرِضَاهُ وَعَلَى الطَّرِيقِ الْآخَرِ الْعَقْدُ وَإِنْ انْعَقَدَ جُمْلَةً فَهُوَ يَحْتَمِلُ الْفَسْخَ بِعُذْرٍ وَالْعُذْرُ قَدْ تَحَقَّقَ هُنَا لِأَنَّ لُزُومَ تَسْلِيمِ النَّفْسِ لِلْخِدْمَةِ بَعْدَ الْعِتْقِ بِعَقْدٍ بَاشَرَهُ الْمَوْلَى يُلْحِقُ الشَّيْنَ بِهِ وَيَكُونُ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُ فِي فَسْخِ الْإِجَارَةِ أَرَأَيْت لَوْ تَفَقَّهَ وَقُلِّدَ الْقَضَاءَ أَكَانَ يُجْبَرُ عَلَى الْخِدْمَةِ بِسَبَبِ ذَلِكَ الْعَقْدِ يُقَرِّرُهُ أَنَّ فِي إجَارَةِ النَّفْسِ لِلْخِدْمَةِ كَدًّا وَتَعَبًا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْمَوْلَى عَلَى الْعَبْدِ إلَّا فِي مَنَافِعَ مَمْلُوكَةٍ لِلْمَوْلَى وَالْمَنَافِعُ بَعْدَ الْعِتْقِ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِ الْعَبْدِ فَيَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ بِظُهُورِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْمِلْكِ لَهُ كَالْمَنْكُوحَةِ إذَا أُعْتِقَتْ يَثْبُتُ لَهَا الْخِيَارُ لِمِلْكِهَا أَمْرَ نَفْسِهَا أَوْ زِيَادَةِ مِلْكِ الزَّوْجِ عَلَيْهَا فَإِنْ فَسَخَ الْعَقْدَ فَأَجْرُ مَا مَضَى لِلْمَوْلَى لِأَنَّ مَا يُقَابِلُهُ
اُسْتُوْفِيَ عَلَى مِلْكِهِ بِعَقْدِهِ وَإِنْ مَضَى عَلَى الْإِجَارَةِ فَلِلْعَبْدِ أَجْرُ مَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ لِأَنَّهُ بَدَلُ مَا هُوَ مَمْلُوكٌ لِلْعَبْدِ فَإِنَّ الْمَنَافِعَ بَعْدَ الْعِتْقِ تَحْدُثُ عَلَى مِلْكِهِ وَالْبَدَلُ إنَّمَا يُمْلَكُ بِمِلْكِ الْأَصْلِ وَهَذَا بِخِلَافِ الْمَنْكُوحَةِ فَإِنَّهَا إذَا لَمْ تَخْتَرْ نَفْسَهَا بَعْدَ الْعِتْقِ فَالصَّدَاقُ لِلْمَوْلَى وَإِنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا الزَّوْجُ قَبْلَ الْعِتْقِ لِأَنَّ الصَّدَاقَ وَجَبَ بِالْعَقْدِ جُمْلَةً وَاسْتَحَقَّهُ الْمَوْلَى عِوَضًا عَنْ مِلْكِهِ وَهُنَا الْأَجْرُ يَجِبُ شَيْئًا فَشَيْئًا بِحَسَبِ مَا يُسْتَوْفَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ أَوْ يَتَجَدَّدُ انْعِقَادُ الْعَقْدِ عَلَى أَحَدِ الطَّرِيقَيْنِ هُنَا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ أَجَّرَهُ بَعْدَ الْعِتْقِ بِرِضَاهُ فَيَكُونُ الْأَجْرُ لِلْعَبْدِ إلَّا أَنَّ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي يَتَوَلَّى قَبْضَهُ لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِعَقْدِهِ .
وَحُقُوقُ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ وَلَيْسَ لِلْعَبْدِ وِلَايَةُ أَنْ يَقْبِضَهَا إلَّا بِوَكَالَةِ الْمَوْلَى وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْقُضَ الْعَقْدَ بَعْدَ اخْتِيَارِهِ الْمُضِيَّ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ أَسْقَطَ خِيَارَهُ كَالْمُعْتَقَةِ إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا فَإِنْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ عَجَّلَ الْأُجْرَةَ كُلَّهَا لِلْمَوْلَى قَبْلَ أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ شَيْئًا فِي أَوَّلِ الْإِجَارَةِ فَهَذَا وَالْأَوَّلُ سَوَاءٌ إلَّا خَصْلَةً وَاحِدَةً إذَا اخْتَارَ الْعَبْدُ الْمُضِيَّ عَلَى الْإِجَارَةِ فَالْأَجْرُ كُلُّهُ لِلْمَوْلَى لِأَنَّهُ مَلَكَ الْأَجْرَ بِالْقَبْضِ وَمَا مَلَكَهُ الْمَوْلَى مِنْ كَسْبِ الْعَبْدِ يَبْقَى عَلَى مِلْكِهِ بَعْدَ عِتْقِهِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ مَا مَلَكَ الْأَجْرَ بِنَفْسِ الْعَقْدِ هُنَاكَ وَإِنَّمَا يَمْلِكُهُ شَيْئًا فَشَيْئًا بِحَسَبِ مَا يُسْتَوْفَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ وَإِنْ فَسَخَ الْعَبْدُ الْإِجَارَةَ فِي بَقِيَّةِ الْمُدَّةِ فَعَلَى الْمَوْلَى رَدُّ حِصَّةِ ذَلِكَ مِنْ الْأَجْرِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ كَمَا لَوْ تَفَاسَخَا الْعَقْدَ وَهَذَا لِأَنَّ الْمَوْلَى أَكْسَبَ سَبَبَ ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْعَبْدِ وَفَسَخَ الْعَقْدَ مِنْ الْعَبْدِ
بِنَاءً عَلَيْهِ فَيَصِيرُ مُضَافًا إلَى الْمَوْلَى فَلِهَذَا يَلْزَمُهُ الرَّدُّ بِحِسَابِ مَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ وَإِذَا اخْتَارَ الْمُضِيَّ فَقَدْ بَقِيَ الْعَقْدُ عَلَى مَا بَاشَرَ الْمَوْلَى وَالْمِلْكُ فِي جَمِيعِ الْأَجْرِ قَدْ ثَبَتَ لِلْمَوْلَى بِذَلِكَ الْعَقْدِ فَيَبْقَى وَلَا يَتَحَوَّلُ شَيْءٌ مِنْهُ إلَى الْعَبْدِ وَإِنْ كَانَ الْأَجْرُ شَيْئًا بِعَيْنِهِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الْوُجُوهِ فَالْجَوَابُ فِيهِ وَالْجَوَابُ فِي الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ سَوَاءٌ وَهَذَا أَظْهَرُ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ لَمَّا كَانَتْ بِعَيْنِهَا لَا تُمْلَكُ قَبْلَ التَّعْجِيلِ وَلَا تَجِبُ وُجُوبًا مُؤَجَّلًا وَلَا حَالًّا وَفِي الْأَجْرِ إذَا كَانَ بِغَيْرِ عَيْنِهِ كَلَامٌ أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ وُجُوبًا مُؤَجَّلًا أَمْ لَا ؟ فَإِذَا كَانَ هُنَاكَ حِصَّةُ مَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ لِلْعَبْدِ فَهُنَا أَوْلَى
( قَالَ ) وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ فِي الْعَبْدِ إذَا وَلِيَ إجَارَةَ نَفْسِهِ بِإِذْنِ الْمَوْلَى إلَّا أَنَّ الْعَبْدَ هُوَ الَّذِي يَلِي الْقَبْضَ هُنَا إذَا اخْتَارَ الْمُضِيَّ عَلَى الْإِجَارَةِ لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ لِلْعَقْدِ وَحُقُوقُ الْعَقْدِ تَتَعَلَّقُ بِالْعَاقِدِ وَهُوَ الَّذِي يُطَالَبُ بِرَدِّ مَا يَجِبُ رَدُّهُ مِنْ الْمَقْبُوضِ عِنْدَ الْفَسْخِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي قَبَضَهُ بِحُكْمِ الْعَقْدِ ثُمَّ يَرْجِعُ هُوَ عَلَى الْمَوْلَى بِهِ عَيْنًا كَانَ ذَلِكَ فِي يَدِ الْمَوْلَى أَوْ مُسْتَهْلَكًا لِأَنَّهُ إنَّمَا وَجَبَ بَعْدَ الْعِتْقِ وَالْفَسْخِ وَهُوَ مَنْ أَهْلِ أَنْ يَسْتَوْجِبَ عَلَى مَوْلَاهُ دَيْنًا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ وَقَدْ لَزِمَهُ هَذَا الدَّيْنُ بِسَبَبٍ كَانَ هُوَ فِي مُبَاشَرَتِهِ عَامِلًا لِمَوْلَاهُ بِإِذْنِهِ فَيَثْبُتُ لَهُ بِهِ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَيْهِ ثُمَّ ذَكَرَ فِي الْكِتَابِ سُؤَالًا فَقَالَ : كَيْفَ يَكُونُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَفْسَخَ الْإِجَارَةَ وَهُوَ الَّذِي يَلِيهَا ؟ ثُمَّ أَجَابَ فَقَالَ : لِأَنَّهَا تَمَّتْ فِي حَالِ رِقِّهِ بِإِذْنِ الْمَوْلَى فَكَأَنَّ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي بَاشَرَ الْعَقْدَ أَلَا تَرَى لَوْ أَنَّ أَمَةً زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِإِذْنِ مَوْلَاهَا ثُمَّ عَتَقَتْ كَانَ لَهَا الْخِيَارُ كَمَا لَوْ كَانَ الْمَوْلَى هُوَ الَّذِي زَوَّجَهَا وَكَذَلِكَ الصَّبِيُّ إذَا أَجَرَهُ الْوَصِيُّ فِي عَمَلٍ مِنْ الْأَعْمَالِ فَلَمْ يَعْمَلْ حَتَّى بَلَغَ الصَّبِيُّ مَبْلَغَ الرِّجَالِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ الْمُضِيِّ عَلَى الْإِجَارَةِ وَفَسْخِهَا وَكَذَلِكَ الْأَبُ إذَا أَجَرَ ابْنَهُ ثُمَّ أَدْرَكَ الِابْنُ لِمَا بَيَّنَّا أَنَّ فِي إجَارَةِ النَّفْسِ كَدًّا وَتَعَبًا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْأَبِ وَالْوَصِيِّ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ بَعْدَ بُلُوغِهِ وَمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْمَشَقَّةِ يَصِيرُ عُذْرًا لَهُ فِي الْفَسْخِ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَجَرَ دَارِهِ أَوْ عَبْدَهُ سِنِينَ مَعْلُومَةً فَأَدْرَكَ الْغُلَامُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُبْطِلَ الْإِجَارَةَ وَالشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى يُسَوِّي بَيْنَهُمَا فَيَقُولُ : نَفَذَ بِوِلَايَةٍ تَامَّةٍ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْفَسْخِ بَعْدَ ذَلِكَ فِي
الْفَصْلَيْنِ وَالْفَرْقُ لَنَا بَيْنَ الْفَصْلَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي إجَارَةِ الدَّارِ وَالْعَبْدِ مَعْنَى الْكَدِّ وَالْعَارِ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ إذَا أَدْرَكَ فَلَا يَثْبُتُ لَهُ حَقُّ الْفَسْخِ بِخِلَافِ إجَارَةِ النَّفْسِ ، وَالثَّانِي أَنَّ إجَارَةَ الدَّارِ وَالْعَبْدِ يَمْلِكُ بِالْوِلَايَةِ .
أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ مِنْ الْقَرَابَاتِ مِمَّنْ يَعُولُ الصَّبِيَّ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ إجَارَةِ دَارِهِ وَعَبْدِهِ فَإِذَا نَفَذَ بِاعْتِبَارِ قِيَامِ وِلَايَتِهِمَا يُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا بَاشَرَاهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ بِالْوِلَايَةِ فَأَمَّا صِحَّةُ إجَارَةِ النَّفْسِ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ الْوِلَايَةِ بَلْ بِاعْتِبَارِ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَصْلَحَةِ لِلْوَلَدِ فِي ذَلِكَ لِيَتَأَدَّبَ وَيَتَعَلَّمَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ يَعُولُ الْيَتِيمَ بِمِلْكِ ذَلِكَ مِنْهُ وَبِبُلُوغِهِ زَالَ هَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّهُ صَارَ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ فِيمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ فَلِهَذَا يَثْبُتُ لَهُ الْخِيَارُ وَإِذَا أَجَرَ الْعَبْدُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ نَفْسَهُ مِنْ رَجُلٍ سَنَةً بِمِائَةِ دِرْهَمٍ لِلْخِدْمَةِ فَخَدَمَهُ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ أُعْتِقَ فَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ كَانَ ضَامِنًا لَهُ حِينَ اسْتَعْمَلَهُ بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهُ وَالْأَجْرُ وَالضَّمَانُ لَا يَجْتَمِعَانِ وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ إذَا سَلِمَ الْعَبْدُ أَنْ يُعَجِّلَ لَهُ الْأَجْرَ فِيمَا مَضَى لِأَنَّ فِي ذَلِكَ مَحْضُ مَنْفَعَةٍ لَا يَشُوبُهُ ضَرَرٌ وَالْعَبْدُ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَنْ اكْتِسَابِ الْمَالِ وَمَا يَكُونُ فِيهِ مَحْضُ مَنْفَعَةٍ كَالِاحْتِطَابِ وَالِاحْتِشَاشِ بِخِلَافِ مَا إذَا هَلَكَ فَإِنَّ الضَّمَانَ قَدْ تَقَرَّرَ عَلَيْهِ مِنْ حِينِ اسْتَعْمَلَهُ وَهُوَ يَمْلِكُهُ بِالضَّمَانِ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ عَبْدَ نَفْسِهِ فَلَا يَجِبُ الْأَجْرُ .
وَبِهِ فَارَقَ الصَّبِيُّ الْمَحْجُورُ إذَا أَجَرَ نَفْسَهُ وَمَاتَ فِي خِلَالِ الْعَمَلِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْأَجْرُ بِحِسَابِ مَا عَمِلَ لِأَنَّ الصَّبِيَّ الْحُرَّ لَا يُمْلَكُ بِالضَّمَانِ
فَلَا يَنْعَدِمُ السَّبَبُ الْمُوجِبُ لِلْأَجْرِ فِيمَا مَضَى وَإِنْ هَلَكَ الصَّبِيُّ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ غَرِمَ دِيَتَهُ وَإِذَا سَلِمَ الْعَبْدُ مِنْ الْعَمَلِ حَتَّى وَجَبَ الْأَجْرُ بِحِسَابِ مَا مَضَى يَقْبِضُهُ الْعَبْدُ فَيَدْفَعُهُ إلَى مَوْلَاهُ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِعَقْدِهِ وَلَكِنْ بِمُقَابَلَةِ مَنَافِعَ مَمْلُوكَةٍ لِلْمَوْلَى فَيَلْزَمُهُ دَفْعُهُ إلَى الْمَوْلَى وَتَجُوزُ الْإِجَارَةُ فِيمَا بَقِيَ مِنْ السَّنَةِ لِلْعَبْدِ وَلَا خِيَارَ لَهُ فِي نَقْضِ الْإِجَارَةِ لِأَنَّهَا نَفَذَتْ بَعْدَ عِتْقِهِ بِغَيْرِ إجَارَةِ الْمَوْلَى فَكَأَنَّهُ بَاشَرَهُ بَعْدَ الْعِتْقِ أَلَا تَرَى أَنَّ أَمَةً لَوْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ الْمَوْلَى ثُمَّ أَعْتَقَهَا الْمَوْلَى نَفَذَ الْعِتْقُ وَلَا خِيَارَ لَهَا بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ عَقْدُهَا بِإِذْنِ الْمَوْلَى أَوْ أَجَازَهُ الْمَوْلَى قَبْلَ الْعِتْقِ فَكَذَلِكَ فِي الْإِجَارَةِ وَكَذَلِكَ الْجَوَابُ هُنَا إنْ كَانَ قَبَضَ الْأَجْرَ فِي حَالِ رِقِّهِ لِأَنَّ لِلْعَبْدِ مِنْهُ حِصَّةَ مَا بَقِيَ وَلِلْمَوْلَى حِصَّةَ مَا مَضَى بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ الْعَقْدَ هُنَاكَ كَانَ نَافِذًا فَالْأَجْرُ كُلُّهُ بِالْقَبْضِ صَارَ مِلْكًا لِلْمَوْلَى وَهُنَا الْعَقْدُ لَمْ يَكُنْ نَافِذًا لِأَنَّ مُبَاشِرَهُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِ فَإِنَّمَا يَنْفُذُ بِحَسَبِ مَا يُسْتَوْفَى مِنْ الْمَنْفَعَةِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَتَمَحَّضُ مَنْفَعَةً فَحِصَّةُ مَا اُسْتُوْفِيَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ صَارَ مَمْلُوكًا مِنْ الْآجِرِ فَيَكُونُ لِلْمَوْلَى وَحِصَّةُ مَا لَمْ يُسْتَوْفَ مِنْ الْمَنْفَعَةِ لَمْ يَصِرْ مَمْلُوكًا وَإِنْ كَانَ مَقْبُوضًا وَإِنَّمَا يُمْلَكُ بَعْدَ الْعِتْقِ بِاعْتِبَارِ إبْقَاءِ الْمَنْفَعَةِ وَإِنَّمَا أُوفِيَ فِيمَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ الْمَنَافِعُ الَّتِي هِيَ مَمْلُوكَةٌ لَهُ فَلِهَذَا كَانَ الْأَجْرُ بِحِسَابِ مَا بَقِيَ مِنْ الْمُدَّةِ لِلْعَبْدِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابُ اللَّقِيطِ .
( قَالَ ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي سَهْلٍ السَّرَخْسِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : اللَّقِيطُ لُغَةً اسْمٌ لِشَيْءٍ مَوْجُودٍ ، فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَالْقَتِيلِ وَالْجَرِيحِ بِمَعْنَى الْمَقْتُولِ وَالْمَجْرُوحِ .
وَفِي الشَّرِيعَةِ اسْمٌ لِحَيٍّ مَوْلُودٍ طَرَحَهُ أَهْلُهُ خَوْفًا مِنْ الْعَيْلَةِ أَوْ فِرَارًا مِنْ تُهْمَةِ الرِّيبَةِ ، مُضَيِّعُهُ آثِمٌ ، وَمُحْرِزُهُ غَانِمٌ لِمَا فِي إحْرَازِهِ مِنْ إحْيَاءِ النَّفْسِ فَإِنَّهُ عَلَى شَرَفِ الْهَلَاكِ ، وَإِحْيَاءُ الْحَيِّ بِدَفْعِ سَبَبِ الْهَلَاكِ عَنْهُ قَالَ تَعَالَى { وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا } ، وَلِهَذَا كَانَ رَفْعُهُ أَفْضَلَ مِنْ تَرْكِهِ لِمَا فِي تَرْكِهِ مِنْ تَرْكِ التَّرَحُّمِ عَلَى الصِّغَارِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرًا ، وَلَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرًا فَلَيْسَ مِنَّا } ، وَفِي رَفْعِهِ إظْهَارُ الشَّفَقَةِ ، وَهُوَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِيمَانِ عَلَى مَا قِيلَ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ بَعْدَ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ ، وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى مَا قُلْنَا الْحَدِيثُ الَّذِي بَدَأَ بِهِ الْكِتَابُ .
وَرَوَاهُ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّ رَجُلًا الْتَقَطَ لَقِيطًا فَأَتَى بِهِ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَقَالَ هُوَ حُرٌّ ، وَلَأَنْ أَكُونَ وَلِيتُ مِنْ أَمْرِهِ مِثْلَ الَّذِي وَلِيتَ مِنْهُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ كَذَا وَكَذَا فَقَدْ اسْتَحَبَّ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ مَعَ جَلَالَةِ قَدْرِهِ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُلْتَقِطُ لَهُ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ رَفْعَهُ أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهِ .
( فَإِنْ قِيلَ ) : مَا مَعْنَى هَذَا الْكَلَامِ ، وَكَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ أَخْذِهِ بِوِلَايَةِ الْإِمَامَةِ ؟ ( قُلْنَا ) : نَعَمْ ، وَلَكِنْ إحْيَاؤُهُ كَانَ فِي الْتِقَاطِهِ حِينَ كَانَ عَلَى شَرَفِ الْهَلَاكِ ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْأَخْذِ مِنْهُ بَعْدَمَا ظَهَرَ لَهُ حَافِظٌ
وَمُتَعَهِّدٌ فَلِهَذَا اُسْتُحِبَّ ذَلِكَ مَعَ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الْمُلْتَقِطِ إلَّا بِسَبَبٍ يُوجِبُ ذَلِكَ لِأَنَّ يَدَهُ سَبَقَتْ إلَيْهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ اللَّقِيطَ حُرٌّ ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ أَنَّهُ حُرٌّ مُسْلِمٌ إمَّا بِاعْتِبَارِ الدَّارِ لِأَنَّ الدَّارَ حُرِّيَّةٌ ، وَإِسْلَامٌ فَمَنْ كَانَ فِيهَا فَهُوَ حُرٌّ مُسْلِمٌ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْغَلَبَةِ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيمَنْ يَسْكُنُ دَارَ الْإِسْلَامِ الْأَحْرَارُ الْمُسْلِمُونَ ، وَالْحُكْمُ لِلْغَالِبِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ فَالنَّاسُ أَوْلَادُ آدَمَ ، وَحَوَّاءَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ ، وَكَانَا حُرَّيْنِ فَلِهَذَا كَانَ اللَّقِيطُ حُرًّا ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَرَضَ لَهُ ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَفَقَةَ اللَّقِيطِ فِي بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ عَاجِزٌ عَنْ الْكَسْبِ مُحْتَاجٌ إلَى النَّفَقَةِ ، وَمَالُ بَيْتِ الْمَالِ مُعَدٌّ لِلصَّرْفِ إلَى الْمُحْتَاجِينَ ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ أَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : وَلَاؤُهُ وَعَقْلُهُ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ أَنَّ عَقْلَ جِنَايَتِهِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ لَوْ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا كَانَ مَالُهُ مَصْرُوفًا إلَى بَيْتِ الْمَالِ مِيرَاثًا لِلْمُسْلِمِينَ فَكَذَلِكَ عَقْلُ جِنَايَتِهِ ، وَنَفَقَتُهُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ الْغُنْمَ مُقَابَلٌ بِالْغُرْمِ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا ، قَالَ : اللَّقِيطُ حُرٌّ ، وَوَلَاؤُهُ ، وَعَقْلُهُ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَذُكِرَ فِي حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ سِنِينَ أَبِي جَمِيلَةَ قَالَ : وَجَدْتُ مَنْبُوذًا عَلَى بَابِي فَأَتَيْتُ بِهِ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا هُوَ حُرٌّ ، وَنَفَقَتُهُ عَلَيْنَا ، وَمَعْنَى الْمَنْبُوذِ الْمَطْرُوحُ قَالَ تَعَالَى { فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ } ، وَهُوَ الِاسْمُ الْحَقِيقِيُّ لِلْمَوْجُودِ لِأَنَّهُ مَطْرُوحٌ ،
وَإِنَّمَا سُمِّيَ لَقِيطًا بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ ، وَتَفَاؤُلًا لِاسْتِصْلَاحِ حَالِهِ فَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا مَثَلٌ مَعْرُوفٌ لِمَا يَكُونُ بَاطِنُهُ بِخِلَافِ ظَاهِرِهِ ، وَأَوَّلُ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ الزَّبَّاءُ الْمَلِكَةُ حِينَ رَأَتْ الصَّنَادِيقَ فِيهَا الرِّجَالُ ، وَقَدْ أُخْبِرَتْ أَنَّ فِيهَا الْأَمْوَالَ فَلَمَّا أَحَسَّتْ بِذَلِكَ أَنْشَأَتْ تَقُولُ مَا لِلْجَمَالِ مَشْيُهَا وَئِيدًا أَجَنْدَلًا يَحْمِلْنَ أَمْ حَدِيدَا أَمْ صَرَفَانًا بَارِدًا شَدِيدَا أَمْ الرِّجَالُ جُثَّمًا قُعُودَا .
ثُمَّ قَالَتْ عَسَى الْغُوَيْرُ أَبْؤُسًا فَطَارَ كَلَامُهَا مَثَلًا ، وَكَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ظَنَّ أَنَّ هَذَا الرَّجُلَ جَاءَ إلَيْهِ بِوَلَدِهِ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَقِيطٌ لِيَسْتَوْفِيَ مِنْهُ نَفَقَتَهُ فَلِهَذَا ذُكِرَ هَذَا الْمِثْلُ ، وَفِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ أَنَّ الْمُلْتَقِطَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْتِيَ بِاللَّقِيطِ إلَى الْإِمَامِ ، وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَ نَفَقَتَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ، وَأَنَّهُ يَكُونُ حُرًّا كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ نَفَقَتُهُ عَلَيْنَا ، وَهُوَ حُرٌّ ، وَإِنْ أَنْفَقَ عَلَيْهِ الْمُلْتَقِطُ فَهُوَ فِي نَفَقَتِهِ مُتَطَوِّعٌ لَا يَرْجِعُ بِهَا عَلَى اللَّقِيطِ إذَا كَبِرَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَجْبُورٍ عَلَى مَا صَنَعَ شَرْعًا ، وَالْمُتَطَوِّعُ مَنْ يَكُونُ مُخَيَّرًا غَيْرَ مُجْبَرٍ عَلَى إيجَادِ شَيْءٍ شَرْعًا .
وَلَوْ أَنْفَقَ عَلَى وَلَدٍ لَهُ أَبٌ مَعْرُوفٌ بِغَيْرِ إذْنِ أَبِيهِ كَانَ مُتَطَوِّعًا فِي ذَلِكَ فَكَذَلِكَ إذَا أَنْفَقَ عَلَى اللَّقِيطِ ، وَهَذَا لِأَنَّ بِالِالْتِقَاطِ يَثْبُتُ لَهُ مِنْ الْحَقِّ بِقَدْرِ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ اللَّقِيطُ ، وَهُوَ الْحِفْظُ وَالتَّرْبِيَةُ ، وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةُ إلْزَامِ شَيْءٍ فِي ذِمَّتِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَنْفَعُهُ ، وَلِأَنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُمَا سَبَبٌ مُثْبِتٌ لِلْوِلَايَةِ ، وَلِهَذَا لَا يَرْجِعُ بِالنَّفَقَةِ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ أَنَّهُمْ بِمِثْلِ هَذَا يَتَبَرَّعُونَ ، وَفِي الرُّجُوعِ لَا يَطْمَعُونَ ، وَمُطْلَقُ الْفِعْلِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا هُوَ الْمُعْتَادُ فَإِنْ أَمَرَهُ الْقَاضِي أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ فَهُوَ جَائِزٌ ، وَهُوَ دَيْنٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْقَاضِيَ نَصَبَ نَاظِرًا ، وَمَعْنَى النَّظَرِ فِيمَا أَمَرَ بِهِ فَإِنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ ، وَأَبَى الْمُلْتَقِطُ أَنْ يَتَبَرَّعَ بِالْإِنْفَاقِ فَتَمَامُ النَّظَرِ بِالْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى بِدُونِ النَّفَقَةِ عَادَةً ، وَلِلْقَاضِي عَلَيْهِ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ لِأَنَّهُ وَلِيُّ كُلِّ مَنْ عَجَزَ عَنْ التَّصَرُّفِ بِنَفْسِهِ يَثْبُتُ وِلَايَتُهُ بِحَقِّ الدَّيْنِ ، وَمِنْ وَجْهِ هَذِهِ الْوِلَايَةِ فَوْقَ الْوِلَايَةِ الثَّابِتَةِ بِالْأُبُوَّةِ فَلِهَذَا اُعْتُبِرَ أَمْرُهُ فِي إلْزَامِ الدَّيْنِ عَلَيْهِ ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى مُجَرَّدُ أَمْرِ الْقَاضِي بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ يَكْفِي ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ أَمْرَ الْقَاضِي نَافِذٌ عَلَيْهِ كَأَمْرِهِ بِنَفْسِهِ أَنْ لَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ .
وَلَوْ أَمَرَ غَيْرَهُ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ كَانَ مَا يُنْفِقُ دَيْنًا عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا أَمَرَ الْقَاضِي بِهِ ، وَالْأَصَحُّ مَا ذَكَرَهُ فِي الْكِتَابِ أَنْ يَأْمُرَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ دَيْنًا عَلَيْهِ لِأَنَّ مُطْلَقَهُ مُحْتَمَلٌ قَدْ يَكُونُ لِلْحَثِّ وَالتَّرْغِيبِ فِي إتْمَامِ مَا شَرَعَ فِيهِ مِنْ التَّبَرُّعِ
فَإِنَّمَا يَزُولُ هَذَا الِاحْتِمَالُ إذَا اشْتَرَطَ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا لَهُ عَلَيْهِ فَلِهَذَا قُيِّدَ الْأَمْرُ بِهِ فَإِذَا ادَّعَى بَعْدَ بُلُوغِهِ أَنَّهُ أَنْفَقَ عَلَيْهِ كَذَا ، وَصَدَّقَهُ اللَّقِيطُ فِي ذَلِكَ رَجَعَ عَلَيْهِ بِهِ ، وَإِنْ كَذَّبَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ اللَّقِيطِ ، وَعَلَى الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةُ لِأَنَّهُ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ ، وَهُوَ لَيْسَ بِأَمِينٍ فِي ذَلِكَ ، وَإِنَّمَا يَكُونُ أَمِينًا فِيمَا يَنْفِي بِهِ الضَّمَانَ عَنْ نَفْسِهِ فَلِهَذَا كَانَ عَلَيْهِ إثْبَاتُ مَا يَدَّعِيهِ بِالْبَيِّنَةِ .
وَشَهَادَةُ اللَّقِيطِ بَعْدَمَا أَدْرَكَ جَائِزَةٌ إذَا كَانَ عَدْلًا لِأَنَّهُ حُرٌّ مُسْلِمٌ فَيَكُونُ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا إذَا ظَهَرَتْ عَدَالَتُهُ ، وَكَانَ مَالِكٌ يَقُولُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي الزِّنَا لِأَنَّهُ فِي النَّاسِ مُتَّهَمٌ بِأَنَّهُ وَلَدُ الزِّنَا فَيُعَيَّرُ بِذَلِكَ فَرُبَّمَا يَقْصِدُ بِشَهَادَتِهِ إلْحَاقَ عَارِ الزِّنَا بِغَيْرِهِ لِيُسَوِّيَهُ بِنَفْسِهِ ، وَلَكِنْ هَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّ الزَّانِيَ بَعْدَ ظُهُورِ تَوْبَتِهِ مَقْبُولُ الشَّهَادَةِ فِي الزِّنَا ، وَالسَّارِقُ كَذَلِكَ ثَمَّ تُهْمَةُ الْكَذِبِ كَمَا تُنْفَى عَنْهُ فِي سَائِرِ الشَّهَادَاتِ بِتَرَجُّحِ جَانِبِ الصِّدْقِ عِنْدَ ظُهُورِ عَدَالَتِهِ فَكَذَلِكَ فِي الشَّهَادَةِ بِالزِّنَا .
وَجِنَايَتُهُ وَالْجِنَايَةُ عَلَيْهِ وَحُدُودُهُ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِحُرِّيَّتِهِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ كَمَا قَرَّرْنَا رَجُلٌ الْتَقَطَ لَقِيطًا فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ ابْنُهُ صَدَّقْته اسْتِحْسَانًا ، وَثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الَّذِي الْتَقَطَ لَوْ ادَّعَاهُ يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ ، وَالْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ فِي الْفَصْلَيْنِ أَمَّا الْمُلْتَقِطُ إذَا ادَّعَاهُ فِي الْقِيَاسِ لَا يُصَدَّقُ لِأَنَّهُ مُنَاقِضٌ فِي كَلَامِهِ فَقَدْ زَعَمَ أَنَّهُ لَقِيطٌ فِي يَدِهِ ، وَابْنُهُ لَا يَكُونُ لَقِيطًا فِي يَدِهِ ، وَلِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ النِّسْبَةُ إلَيْهِ إذَا بَلَغَ ، وَلَيْسَ لَهُ عَلَيْهِ وِلَايَةُ الْإِلْزَامِ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ هُوَ يَقُولُهُ بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ اللَّقِيطُ فَإِنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى النَّسَبِ لِيَتَشَرَّفَ بِهِ ، وَيَنْدَفِعَ الْعَارُ عَنْهُ فَهُوَ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ يَكْتَسِبُ لَهُ مَا يَنْفَعُهُ ، وَبِالِالْتِقَاطِ ثَبَتَ لَهُ عَلَيْهِ هَذَا الْمِقْدَارُ يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ يَلْتَزِمُ حِفْظَهُ ، وَنَفَقَتَهُ بِهَذَا الْإِقْرَارِ ، وَهَذَا الِالْتِزَامُ تَصَرُّفٌ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ ، وَلَهُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ ثُمَّ التَّنَاقُضُ لَا يَمْنَعُ ثُبُوتَ النَّسَبِ بِالدَّعْوَةِ كَالْمُلَاعِنِ إذَا أَكْذَبَ نَفْسَهُ ، وَهَذَا لِأَنَّهُ سَبَبُهُ خَفِيٌّ
فَرُبَّمَا اشْتَبَهَ عَلَيْهِ الْأَمْرُ فِي الِابْتِدَاءِ فَظَنَّ أَنَّهُ لَقِيطٌ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ وَلَدُهُ .
وَإِنْ ادَّعَاهُ غَيْرُ الْمُلْتَقِطِ فِي الْقِيَاسِ لَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنْهُ ، وَهَذَا قِيَاسٌ آخَرُ سِوَى الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ يَقْصِدُ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْ الْمُلْتَقِطِ ، وَحَقُّ الْحِفْظِ قَدْ ثَبَتَ لِلْمُلْتَقِطِ عَلَى وَجْهٍ لَيْسَ لِغَيْرِهِ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ فَلَا يُقْبَلُ مُجَرَّدُ دَعْوَاهُ فِي إبْطَالِ الْحَقِّ الثَّابِتِ لَهُ .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ اللَّقِيطَ مُحْتَاجٌ إلَى النَّسَبِ فَهُوَ فِي دَعْوَةِ النَّسَبِ يُقِرُّ لَهُ بِمَا يَنْفَعُهُ ، وَيَلْتَزِمُ حَقًّا لَهُ فَكَانَ دَعْوَاهُ كَدَعْوَى الْمُلْتَقِطِ لِنَسَبِهِ ثُمَّ يَتَرَجَّحُ هُوَ عَلَى الْمُلْتَقِطِ فِي الْحِفْظِ حُكْمًا لِثُبُوتِ نَسَبِهِ ، وَمِثْلُ هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ حُكْمًا ، وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ إثْبَاتِهِ قَصْدًا كَمَا أَنَّ النَّسَبَ وَالْمِيرَاثَ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الْقَابِلَةِ عَلَى الْوِلَادَةِ حُكْمًا ، وَإِنْ كَانَ لَا يَثْبُتُ الْمَالُ بِشَهَادَتِهَا قَصْدًا يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ إذَا قَصَدَ أَخْذَ اللَّقِيطِ مِنْ يَدِهِ فَإِنَّمَا مُنَازَعَتُهُ فِي عَيْنِ مَا بَاشَرَهُ الْأَوَّلُ فَيَتَرَجَّحُ الْأَوَّلُ بِالسَّبْقِ ، وَأَمَّا إذَا ادَّعَى نَسَبَهُ فَمُنَازَعَتُهُ لَيْسَتْ فِي شَيْءٍ بَاشَرَهُ الْمُلْتَقِطُ فَصَحَّتْ دَعْوَتُهُ لِمُصَادِفَتِهَا مَحَلَّهَا ، وَلَا مُنَازِعَ لَهُ فِي ذَلِكَ ثُمَّ مِنْ ضَرُورَةِ ثُبُوتِ النَّسَبِ أَنْ يَكُونَ هُوَ أَحَقَّ بِحِفْظِ وَلَدِهِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ .
وَإِذَا أَبَى الْمُلْتَقِطُ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى اللَّقِيطِ ، وَسَأَلَ الْقَاضِيَ أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ فَلِلْقَاضِي أَنْ لَا يُصَدِّقَهُ فِي ذَلِكَ مَا لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ عَلَى إنَّهُ لَقِيطٌ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِيمَا يَقُولُ فَلَعَلَّهُ وَلَدُهُ أَوْ بَعْضُ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ ، وَاحْتَالَ بِهَذِهِ الْحِيلَةِ لِيُسْقِطَ نَفَقَتَهُ عَنْ نَفْسِهِ فَلِهَذَا لَا يُصَدِّقُهُ مَا لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ فَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَقِيطٌ قَبِلَ مِنْهُ الْبَيِّنَةَ مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ حَاضِرٍ إمَّا لِأَنَّهَا تَقُومُ لِكَشْفِ الْحَالِ ، وَالْبَيِّنَةُ لِكَشْفِ الْحَالِ مَسْمُوعَةٌ مِنْ غَيْرِ خَصْمٍ أَوْ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُلْزِمَةٍ ، وَاشْتِرَاطُ حُضُورِ الْخَصْمِ لِمَعْنَى الْإِلْزَامِ ثُمَّ الْقَاضِي مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ قَبَضَهُ مِنْهُ ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَقْبِضْ ، وَلَكِنْ يُوَلِّيهِ مَا تَوَلَّى فَيَقُولُ لَهُ قَدْ الْتَزَمْتَ حِفْظَهُ فَأَنْتَ وَمَا الْتَزَمْتَ ، وَلَيْسَ لَك أَنْ تُلْزِمَنِي مَا الْتَزَمْتَهُ ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَقْبِضَهُ إذَا عَلِمَ بِعَجْزِهِ عَنْ حِفْظِهِ ، وَالْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ لِأَنَّ فِي تَرْكِهِ فِي يَدِهِ تَعْرِيضُهُ لِلْهَلَاكِ ، وَلِأَنَّ الْأَخْذَ الْآنَ مِنْ بَابِ النَّظَرِ ، وَالْقَاضِي مَنْصُوبٌ لِذَلِكَ فَإِنْ أَخَذَهُ ، وَوَضَعَهُ فِي يَدِ رَجُلٍ ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَى اللَّقِيطِ ثُمَّ إنَّ الَّذِي الْتَقَطَهُ سَأَلَ الْقَاضِيَ إنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ رَدَّهُ عَلَيْهِ ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَرُدَّ لِأَنَّهُ أَسْقَطَ مَا كَانَ لَهُ مِنْ حَقِّ الِاخْتِصَاصِ فَحَالُهُ بَعْدَ ذَلِكَ كَحَالِ غَيْرِهِ مِنْ النَّاسِ فِي طَلَبِ الرَّدِّ .
رَجُلٌ الْتَقَطَ لَقِيطًا فَجَاءَ رَجُلٌ آخَرُ فَانْتَزَعَهُ مِنْهُ فَاخْتَصَمَا فِيهِ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ إلَى الْأَوَّلِ لِأَنَّ يَدَهُ سَبَقَتْ إلَيْهِ فَكَانَ هُوَ أَحَقَّ بِحِفْظِهِ ثُمَّ الثَّانِي بِالْأَخْذِ فَوَّتَ عَلَيْهِ يَدًا مُحَقَّةً فَيُؤْمَرُ بِإِعَادَتِهَا بِالرَّدِّ عَلَيْهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَخَذَ مَا هُوَ مَنْدُوبٌ إلَى أَخْذِهِ ، وَالثَّانِي أَخَذَ مَا هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ أَخْذِهِ لِحَقِّ الْأَوَّلِ فَلَا تَكُونُ يَدُهُ مُعَارِضَةً لِيَدِ الْأَوَّلِ ، وَلَا نَاسِخَةً لَهَا .
وَإِذَا كَبُرَ اللَّقِيطُ فَادَّعَاهُ رَجُلٌ فَذَلِكَ إلَى اللَّقِيطِ لِأَنَّهُ فِي يَدِ نَفْسِهِ ، وَلَهُ قَوْلٌ مُعْتَبَرٌ إذَا كَانَ يُعَبِّرُ عَنْ نَفْسِهِ فَيُعْتَبَرُ تَصْدِيقُهُ لِإِثْبَاتِ النَّسَبِ مِنْهُ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ يُقِرُّ لَهُ بِالنَّسَبِ مِنْ وَجْهٍ ، وَيَدَّعِي عَلَيْهِ وُجُوبَ النِّسْبَةُ إلَيْهِ مِنْ وَجْهٍ فَلَا يَثْبُتُ حُكْمُ كَلَامِهِ فِي حَقِّهِ إلَّا بِتَصْدِيقِهِ دَعْوَى كَانَ أَوْ إقْرَارٌ ، وَإِذَا صَدَّقَهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ إذَا كَانَ مِثْلُهُ يُولَدُ لِمِثْلِهِ فَأَمَّا إذَا كَانَ مِثْلُهُ لَا يُولَدُ لِمِثْلِهِ لَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ لِأَنَّ الْحَقِيقَةَ تُكَذِّبُهُمَا ، وَجِنَايَةُ اللَّقِيطِ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّ وَلَاءَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ فَإِنَّ الْوَلَاءَ مَطْلُوبٌ لِمَعْنَى التَّنَاصُرِ وَالتَّقَوِّي بِهِ ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ مَوْلًى مُعَيَّنٌ فَتَنَاصُرُهُ بِالْمُسْلِمِينَ ، وَإِنَّمَا يَتَقَوَّى بِهِمْ فَإِذَا كَانَ وَلَاؤُهُ لَهُمْ كَانَ مُوجِبُ جِنَايَتِهِ عَلَيْهِمْ يُؤَدَّى مَنْ بَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ مَالُهُمْ ، وَمِيرَاثُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ دُونَ الَّذِي الْتَقَطَهُ وَرَبَّاهُ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمِيرَاثِ لِشَخْصٍ بِعَيْنِهِ بِالْقَرَابَةِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ زَوْجِيَّةٍ أَوْ وَلَاءٍ ، وَلَيْسَ لِلْمُلْتَقِطِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ( فَإِنْ قِيلَ ) هُوَ بِالِالْتِقَاطِ وَالتَّرْبِيَةِ قَدْ أَحْيَاهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَثْبُتَ لَهُ عَلَيْهِ الْوَلَاءُ كَمَا يَثْبُتُ لِلْمُعْتَقِ بِالْإِعْتَاقِ الَّذِي هُوَ إحْيَاءٌ حُكْمًا ( قُلْنَا ) هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى ذَلِكَ لِأَنَّ الرَّقِيقَ فِي صِفَةِ مَالِكِيَّةِ الْمَالِ هَالِكٌ ، وَالْمُعْتِقُ مُحْدِثٌ فِيهِ لِهَذَا الْوَصْفِ ، وَاللَّقِيطُ كَانَ حَيًّا حَقِيقَةً ، وَمِنْ أَهْلِ الْمِلْكِ حُكْمًا فَالْمُلْتَقِطُ لَا يَكُونُ مُحْيِيًا لَهُ حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا فَلَا يَثْبُتُ لَهُ عَلَيْهِ وَلَاءٌ مَا لَمْ يُعَاقِدْهُ عَقْدَ الْوَلَاءِ بِالْبُلُوغِ .
وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ لَا مِيرَاثَ لِلْمُلْتَقِطِ مِنْهُ كَانَ مِيرَاثُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ لَيْسَ لَهُ وَارِثٌ مُعَيَّنٌ فَيَرِثُهُ جَمَاعَةُ
الْمُسْلِمِينَ يُوضَعُ مَالُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ .
وَإِنْ وَالَى رَجُلًا بَعْدَمَا أَدْرَكَ جَازَ كَمَا لَوْ وَالَى الْمُلْتَقِطُ لِأَنَّ وَلَاءَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ لَمْ يَتَأَكَّدْ بَعْدُ فَلَهُ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ بِخِلَافِ مَا إذَا جَنِيَ جِنَايَةً ، وَعَقْلُهُ بَيْتُ الْمَالِ فَإِنَّ هُنَاكَ قَدْ تَأَكَّدَ وَلَاؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ حِينَ عَقَلُوا جِنَايَتَهُ فَلَا يَمْلِكُ إبْطَالَ ذَلِكَ بِعَقْدِ الْمُوَالَاةِ مَعَ أَحَدٍ كَاَلَّذِي أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لَهُ أَنْ يُوَالِيَ مَنْ شَاءَ إلَّا أَنْ يَجْنِيَ جِنَايَةً ، وَيَعْقِلُهُ بَيْتُ الْمَالِ ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُلْتَقِطِ عَلَى اللَّقِيطِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى عَقْدُ النِّكَاحِ ، وَلَا بَيْعٌ ، وَلَا شِرَاءٌ لِأَنَّ نُفُوذَ هَذِهِ التَّصَرُّفَاتِ عَلَى الْغَيْرِ يَعْتَمِدُ الْوِلَايَةُ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ } ، وَلَا وِلَايَةَ لِلْمُلْتَقِطِ عَلَى اللَّقِيطِ ، وَإِنَّمَا لَهُ حَقُّ الْحِفْظِ وَالتَّرْبِيَةِ لِكَوْنِهِ مَنْفَعَةً مَحْضَةً فِي حَقِّهِ ، وَبِهَذَا السَّبَبِ لَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ .
وَإِنْ ادَّعَى أَنَّ اللَّقِيطَ عَبْدُهُ لَمْ يُصَدَّقْ بَعْدَ أَنْ يُعْرَفَ أَنَّهُ لَقِيطٌ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِحُرِّيَّتِهِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ ، وَلِأَنَّ يَدَهُ يَدُ حِفْظٍ فَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُحَوِّلَ يَدَهُ يَدَ مِلْكٍ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ مِنْ غَيْرِ حُجَّةٍ ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَى أَنَّهُ ابْنُهُ لِأَنَّ ذَلِكَ إقْرَارٌ لِلَّقِيطِ بِمَا يَنْفَعُهُ ، وَهَذَا دَعْوَى عَلَيْهِ بِمَا يَضُرُّهُ ، وَهُوَ تَبْدِيلُ صِفَةِ الْمَالِكِيَّةِ بِالْمَمْلُوكِيَّةِ .
وَلَوْ أَنَّ رَجُلًا وَجَدَ لَقِيطًا مَعَهُ مَالٌ فَوَضَعَهُ الْقَاضِي عَلَى يَدِهِ ، وَقَالَ أَنْفِقْ عَلَيْهِ مِنْهُ فَهُوَ جَائِزٌ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمَالَ لِلَّقِيطِ فَإِنَّهُ مَوْجُودٌ مَعَهُ فَكَانَتْ يَدُهُ أَسْبَقَ إلَيْهِ مِنْ يَدِ غَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ ، وَلِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ وَاضِعَهُ وَضَعَ ذَلِكَ الْمَالَ لِيُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْهُ ، وَالْبِنَاءُ عَلَى الظَّاهِرِ جَائِزٌ مَا لَمْ يَظْهَرْ خِلَافُهُ ، وَهُوَ مُصَدَّقٌ فِي نَفَقَةِ مِثْلِهِ لِأَنَّهُ أَمِينٌ يُخْبِرُ بِمَا هُوَ مُحْتَمَلٌ ، وَيُنْكِرُ وُجُوبَ الضَّمَانِ عَلَيْهِ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ كَمَنْ دَفَعَ إلَى إنْسَانٍ مَالًا ، وَأَمَرَهُ بِأَنْ يُنْفِقَ عَلَى عِيَالِهِ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي نَفَقَةِ مِثْلِهِمْ ، وَمَا اشْتَرَى مِنْ طَعَامٍ أَوْ كِسْوَةٍ فَهُوَ جَائِزٌ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَمَّا أَمَرَهُ بِإِنْفَاقِ الْمَالِ عَلَيْهِ فَقَدْ أَمَرَهُ بِأَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الطَّعَامِ وَالْكِسْوَةِ ، وَلِلْقَاضِي عَلَيْهِ هَذِهِ الْوِلَايَةُ فَكَذَلِكَ مَا يَمْلِكُهُ الْمُلْتَقِطُ بِأَمْرِ الْقَاضِي .
وَإِذَا مَاتَ اللَّقِيطُ وَتَرَكَ مِيرَاثًا أَوْ لَمْ يَتْرُكْ فَادَّعَى رَجُلٌ أَنَّهُ ابْنُهُ لَمْ يُصَدَّقْ لِأَنَّ نَسَبَهُ لَا يَثْبُتُ بَعْدَ الْمَوْتِ فَإِنَّ حُكْمَ النَّسَبِ وُجُوبُ الِانْتِسَابِ ، وَالْمَقْصُودُ بِهِ الشَّرَفُ ، وَذَلِكَ لَا يَتَحَقَّقُ بَعْدَ الْمَوْتِ ، وَلِأَنَّ صِحَّةَ الدَّعْوَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أَقَرَّ لَهُ بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ ، وَهُوَ بِالْمَوْتِ قَدْ اسْتَغْنَى عَنْ النَّسَبِ فَبَقِيَ كَلَامُهُ دَعْوَى الْمِيرَاثِ فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِحُجَّةٍ .
وَإِذَا أَدْرَكَ اللَّقِيطُ كَافِرًا ، وَقَدْ وُجِدَ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ حُبِسَ ، وَأُجْبِرَ عَلَى الْإِسْلَامِ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ لَمَّا وُجِدَ فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ حُكِمَ لَهُ بِالْإِسْلَامِ بِاعْتِبَارِ الْمَكَانِ فَإِنَّهُ مَكَانُ الْمُسْلِمِينَ ، وَمَنْ حُكِمَ لَهُ بِالْإِسْلَامِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ إذَا أَدْرَكَ كَافِرًا يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَلَا يُقْتَلُ اسْتِحْسَانًا كَالْمَوْلُودِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ إذَا بَلَغَ مُرْتَدًّا .
وَفِي الْقِيَاسِ يُقْتَلُ إنْ أَبَى أَنْ يُسْلِمَ لِأَنَّهُ كَانَ مَحْكُومًا بِإِسْلَامِهِ فَيُقْتَلُ عَلَى الرِّدَّةِ كَمَا لَوْ وَصَفَ الْإِسْلَامَ بِنَفْسِهِ قَبْلَ الْبُلُوغِ ثُمَّ ارْتَدَّ ، وَلَكِنْ فِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُقْتَلُ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْإِسْلَامِ تَكُونُ بِالِاعْتِقَادِ بِالْقَلْبِ ، وَالْإِقْرَارِ بِاللِّسَانِ ، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ مِنْهُ فَيَصِيرُ هَذَا شُبْهَةٌ فِي إسْقَاطِ الْقَتْلِ الَّذِي هُوَ نِهَايَةٌ فِي الْعُقُوبَةِ فِي الدُّنْيَا ، وَهَذَا لِأَنَّ ثُبُوتَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ لَهُ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ كَانَ لِتَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ فِي الْقَتْلِ مَعْنَى تَوْفِيرِ الْمَنْفَعَةِ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَا نَقُولُ فِي الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ إذَا أَسْلَمَ يَحْسُنُ إسْلَامُهُ ثُمَّ إذَا بَلَغَ مُرْتَدًّا يُحْبَسُ ، وَيُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ ، وَلَا يُقْتَلُ فَإِنْ مَاتَ هَذَا اللَّقِيطُ قَبْلَ أَنْ يَعْقِلَ صَلَّيْت عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ وَجَدَهُ مُسْلِمٌ أَوْ ذِمِّيٌّ لِأَنَّهُ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِلْمَكَانِ فَيُصَلَّى عَلَيْهِ إذَا مَاتَ كَالصَّبِيِّ إذَا سُبِيَ وَأُخْرِجَ إلَى دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ مِنْ أَبَوَيْهِ يُصَلَّى عَلَيْهِ إذَا مَاتَ .
( قَالَ ) وَلَوْ كَانَ وُجِدَ فِي بِيعَةٍ أَوْ كَنِيسَةٍ أَوْ قَرْيَةٍ لَيْسَ فِيهَا إلَّا مُشْرِكٌ لَمْ يُجْبَرْ عَلَى الْإِسْلَامِ إذَا بَلَغَ كَافِرًا وَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَعْقِلَ لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ مِنْ أَوْلَادِ أَهْلِ تِلْكَ الْقَرْيَةِ ، وَهُمْ كُفَّارٌ كُلُّهُمْ ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ فِي الْحَاصِلِ أَحَدُهَا أَنْ يَجِدَهُ مُسْلِمٌ فِي مَكَانِ الْمُسْلِمِينَ كَالْمَسْجِدِ وَنَحْوِهِ فَيَكُونَ مَحْكُومًا لَهُ بِالْإِسْلَامِ ، وَالثَّانِي أَنْ يَجِدَهُ كَافِرٌ فِي مَكَانِ أَهْلِ الْكُفْرِ كَالْبِيعَةِ وَالْكَنِيسَةِ فَيَكُونَ مَحْكُومًا بِالْكُفْرِ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ إذَا مَاتَ ، وَالثَّالِثُ أَنْ يَجِدَهُ كَافِرٌ فِي مَكَانِ الْمُسْلِمِينَ ، وَالرَّابِعُ أَنْ يَجِدَهُ مُسْلِمٌ فِي مَكَانِ الْكُفَّارِ فَفِي هَذَيْنِ الْفَصْلَيْنِ اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ فَفِي كِتَابِ اللَّقِيطِ يَقُولُ الْعِبْرَةُ لِلْمَكَانِ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى قَالَ الْعِبْرَةُ لِلْوَاجِدِ فِي الْفَصْلَيْنِ جَمِيعًا ، وَهَكَذَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ كِتَابِ الدَّعْوَى ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ قَالَ أَيُّهُمَا كَانَ مُوجِبًا لِلْإِسْلَامِ يُعْتَبَرُ ذَلِكَ ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ قَالَ يُحَكَّمُ زِيُّهُ ، وَعَلَامَتُهُ ، وَجْهُ رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ الْمَكَانَ إلَيْهِ أَسْبَقُ مِنْ يَدِ الْوَاجِدِ ، وَعِنْدَ التَّعَارُضِ يَتَرَجَّحُ السَّابِقُ ، وَالظَّاهِرُ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ لَا يَضَعُونَ أَوْلَادَهُمْ فِي الْبَيْعَةِ عَادَةً ، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الذِّمَّةِ لَا يَضَعُونَ أَوْلَادَهُمْ فِي مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ عَادَةً فَيُبْنَى عَلَى الظَّاهِرِ مَا لَمْ يُعْلَمْ خِلَافُهُ .
وَجْهُ رِوَايَةِ ابْنِ سِمَاعَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ يَدَ الْوَاجِدِ أَقْوَى لِأَنَّهُ إحْرَازٌ لَهُ ، وَالْمُبَاحُ بِالْإِحْرَازِ يَظْهَرُ حُكْمُهُ ، وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ تَبَعِيَّةُ الْمَكَانِ عِنْدَ عَدَمِ يَدٍ مُعْتَبَرَةٍ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ سُبِيَ ، وَمَعَهُ أَحَدُ أَبَوَيْهِ لَا يُحْكَمُ لَهُ
بِالْإِسْلَامِ بِاعْتِبَارِ الدَّارِ فَكَذَلِكَ مَعَ يَدِ الْوَاجِدِ لَا مُعْتَبَرَ بِالْمَكَانِ فَكَانَ الْمُعْتَبَرُ فِيهِ حَالَ الْوَاجِدِ ، وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّ اعْتِبَارَ أَحَدِهِمَا يُوجِبُ الْإِسْلَامَ ، وَاعْتِبَارَ الْآخَرِ يُوجِبُ الْكُفْرَ فَيَتَرَجَّحُ الْمُوجِبُ لِلْإِسْلَامِ كَمَا فِي الْمَوْلُودِ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ ، وَوَجْهُ الرِّوَايَةِ الَّتِي يُعْتَبَرُ فِيهَا الزِّيُّ .
قَالَ : عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ اعْتِبَارُ الزِّيِّ وَالْعَلَامَةِ أَصْلٌ كَمَا إذَا اخْتَلَطَ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ بِمَوْتَى الْكُفَّارِ يُعْتَبَرُ الزِّيُّ ، وَالْعَلَامَةُ لِلْفَصْلِ ، وَكَذَلِكَ الْمُسْلِمُونَ إذَا فَتَحُوا الْقُسْطَنْطِينِيَّة فَوَجَدُوا شَيْخًا عَلَيْهِ سِيمَا الْمُسْلِمِينَ يُعَلِّمُ صِبْيَانًا حَوْلَهُ الْقُرْآنَ ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ مُسْلِمٌ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْأَخْذُ بِقَوْلِهِ ، وَلَا يَجُوزُ اسْتِرْقَاقُهُ لِاعْتِبَارِ الزِّيِّ ، وَالْعَلَامَةِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى { تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ } فَهَذَا اللَّقِيطُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ زِيُّ الْمُسْلِمِينَ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ أَيْضًا ، وَإِذَا كَانَ عَلَيْهِ زِيُّ الْكُفَّارِ بِأَنْ كَانَ فِي عُنُقِهِ صَلِيبٌ أَوْ عَلَيْهِ ثَوْبُ دِيبَاجٍ أَوْ هُوَ مَحْرُوزٌ وَسَطَ الرَّأْسِ فَاَلَّذِي يَسْبِقُ إلَى وَهْمِ كُلِّ أَحَدٍ أَنَّهُ مِنْ أَوْلَادِ الْكُفَّارِ فَيُحْكَمُ بِكُفْرِهِ وَإِنْ وَجَدَهُ مُسْلِمٌ فِي قَرْيَةٍ فِيهَا مُسْلِمُونَ ، وَكُفَّارٌ صَلَّيْتُ عَلَيْهِ إذَا مَاتَ اسْتِحْسَانًا ، وَعَلَى رِوَايَةِ هَذَا الْكِتَابِ يُعْتَبَرُ الْمَكَانُ .
وَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّهُ لَمَّا تَعَارَضَ الدَّلِيلَانِ ، وَتَسَاوَيَا لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ كَمَوْتَى الْكُفَّارِ وَالْمُسْلِمِينَ إذَا اخْتَلَطُوا ، وَاسْتَوَوْا لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِمْ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي التَّحَرِّي ، وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْأَدِلَّةَ لَمَّا تَعَارَضَتْ فِي حَقِّ الْمَكَانِ يَتَرَجَّحُ الْإِسْلَامُ بِاعْتِبَارِ الْوَاجِدِ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ أَوْ بِاعْتِبَارِ عُلُوِّ حَالَةِ الْإِسْلَامِ فَلِهَذَا يُصَلَّى عَلَيْهِ إذَا مَاتَ .
وَإِذَا وُجِدَ اللَّقِيطُ عَلَى دَابَّةٍ فَالدَّابَّةُ لَهُ لِسَبْقِ يَدِهِ إلَيْهَا فَإِنَّ الْمَرْكُوبَ تَبَعٌ لِرَاكِبِهِ ، وَهُوَ كَمَالٌ آخَرُ يُوجَدُ مَعَهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ لَهُ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ أَنَّ مَنْ وَضَعَ مَعَهُ الْمَالَ فَإِنَّمَا وَضَعَ لِيُنْفَقَ عَلَيْهِ مِنْهُ فَكَذَلِكَ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الدَّابَّةِ فَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَيْهَا لِيُنْفَقَ عَلَيْهِ مَالِيَّةُ تِلْكَ الدَّابَّةِ .
وَإِذَا وُجِدَ اللَّقِيطُ بِالْكُوفَةِ فَادَّعَاهُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنَّهُ ابْنُهُ فَلَا يُصَدَّقُ فِي الْقِيَاسِ لِأَنَّهُ حُكِمَ لَهُ بِالْحُرِّيَّةِ ، وَالْإِسْلَامِ فَلَوْ جُعِلَ ابْنُ الْكَافِرِ بِدَعْوَاهُ لَكَانَ تَبَعًا لَهُ فِي الدِّينِ ، وَذَلِكَ مُمْتَنِعٌ بَعْدَمَا حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ ، وَلِأَنَّ تَنْفِيذَ قَوْلِهِ عَلَيْهِ فِي دَعْوَةِ النَّسَبِ نَوْعُ وِلَايَةٍ ، وَلَا وِلَايَةَ لِلْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ ، وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ أَنْ يَكُونَ ابْنَهُ ، وَيَكُونُ مُسْلِمًا لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى النَّسَبِ بَعْدَمَا حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ فَمَنَّ ادَّعَى نَسَبَهُ ، وَإِنْ كَانَ ذِمِّيًّا فَهُوَ مُقَرٌّ لَهُ بِمَا يَنْفَعُهُ فَيَكُونُ إقْرَارُهُ صَحِيحًا ، وَمُوجَبُ كَلَامِهِ شَيْئَانِ أَحَدُهُمَا ثُبُوتُ نَسَبِهِ مِنْهُ ، وَذَلِكَ يَنْفَعُهُ ، وَالْآخَرُ كُفْرُهُ ، وَذَلِكَ يَضُرُّهُ ، وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ امْتِنَاعِ قَبُولِ قَوْلِهِ فِي أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ امْتِنَاعُهُ فِي الْآخَرِ لِأَنَّ النَّسَبَ يَنْفَصِلُ عَنْ الدِّينِ أَلَا تَرَى أَنَّ وَلَدَ الْكَافِرِ مِنْ امْرَأَةِ مُسْلِمَةٍ يَكُونُ ثَابِتُ النَّسَبِ مِنْ الْكَافِرِ ، وَيَكُونُ مُسْلِمًا فَهَذَا مِثْلُهُ .
فَإِذَا ادَّعَى مُسْلِمٌ أَنَّ اللَّقِيطَ عَبْدُهُ ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ قُضِيَ لَهُ بِهِ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ دَعْوَاهُ بِالْحُجَّةِ ، وَثُبُوتُ حُرِّيَّتِهِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ ، وَالظَّاهِرُ لَا يُعَارِضُ الْبَيِّنَةَ ( فَإِنْ قِيلَ ) كَيْفَ تُقْبَلُ هَذِهِ الْبَيِّنَةُ ، وَلَا خَصْمَ عَنْ اللَّقِيطِ لِأَنَّ الْمُلْتَقِطَ لَيْسَ بِوَلِيٍّ فَلَا يَكُونُ خَصْمًا عَنْهُ فِيمَا يَضُرُّهُ ( قُلْنَا ) الْمُلْتَقِطُ خَصْمٌ لَهُ بِاعْتِبَارِ يَدِهِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُهُ مِنْهُ ، وَيَزْعُمُ أَنَّهُ أَحَقُّ بِحِفْظِهِ لِأَنَّهُ لَقِيطٌ فَلَا يَتَوَصَّلُ الْمُدَّعِي إلَى اسْتِحْقَاقِ يَدِهِ عَلَيْهِ إلَّا بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى رِقِّهِ فَلِهَذَا كَانَ خَصْمًا عَنْهُ فَإِنْ أَقَامَ الذِّمِّيُّ الْبَيِّنَةَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنَّهُ ابْنُهُ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ .
قِيلَ مُرَادُهُ أَنَّهُ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي مُعَارَضَةِ بَيِّنَةِ الْمُسْلِمِ الَّذِي أَقَامَهَا عَلَى رِقِّهِ ، وَلَا تَحْصُلُ الْمُعَارَضَةُ بِهَذِهِ لِأَنَّ شَهَادَةَ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا تَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْخَصْمِ الْمُسْلِمِ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ مُرَادَهُ إذَا ادَّعَى الذِّمِّيُّ ابْتِدَاءَ أَنَّهُ ابْنُهُ ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَإِنَّ النَّسَبَ قَدْ ثَبَتَ مِنْهُ بِالدَّعْوَةِ ، وَلَكِنَّهُ مَحْكُومٌ لَهُ بِالْإِسْلَامِ فَلَا يَبْطُلُ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ ، وَلَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِ لِأَنَّ هَذِهِ الشَّهَادَةَ فِي حُكْمِ الدِّينِ إنَّمَا تَقُومُ عَلَى الْمُسْلِمِ ، وَشَهَادَةُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِالْكُفْرِ عَلَى الْمُسْلِمِ لَا تُقْبَلُ وَإِنْ كَانَ شُهُودُهُ مُسْلِمِينَ قَضَيْتُ لَهُ بِهِ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ نَسَبَهُ مِنْهُ بِمَا هُوَ حُجَّةٌ عَلَى الْمُسْلِمِ فَيَصِيرُ تَبَعًا لَهُ فِي الدِّينِ ، وَلَا يَأْخُذُهُ الْمُلْتَقِطُ بِمَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ كَانَ مُتَطَوِّعًا فِيمَا فَعَلَ .
وَإِذَا وَجَدَ اللَّقِيطَ مُسْلِمٌ وَكَافِرٌ فَتَنَازَعَا فِي كَوْنِهِ عَبْدَ أَحَدِهِمَا قُضِيَ بِهِ لِلْمُسْلِمِ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ لَهُ بِالْإِسْلَامِ فَكَانَ الْمُسْلِمُ أَحَقَّ بِحِفْظِهِ ، وَلِأَنَّ الْمُسْلِمَ يُعَلِّمُهُ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ ، وَالْكَافِرُ يُعَلِّمُهُ أَحْكَامَ الْكُفْرِ إذَا كَانَ عِنْدَهُ ، وَكَوْنُهُ عِنْدَ الْمُسْلِمِ أَنْفَعَ لَهُ حَتَّى يَتَخَلَّقَ بِأَخْلَاقِ الْمُسْلِمِينَ ، وَاللَّقِيطُ يَعْرِفُ مَا هُوَ أَنْفَعُ لَهُ .
وَإِنْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ اللَّقِيطَ أَنَّهُ ابْنُهَا لَمْ تُصَدَّقْ إلَّا بِشُهُودٍ بِخِلَافِ مَا إذَا ادَّعَاهُ رَجُلٌ لِأَنَّ النَّسَبَ يَثْبُتُ بِاعْتِبَارِ الْفِرَاشِ فَإِنَّمَا يَثْبُتُ مِنْ صَاحِبِ الْفِرَاشِ أَوَّلًا ، وَهُوَ الرَّجُلُ فَالْمَرْأَةُ بِالدَّعْوَةِ تَحْمِلُ النَّسَبَ عَلَى غَيْرِهَا ، وَهُوَ صَاحِبُ الْفِرَاشِ حَتَّى إذَا ثَبَتَ مِنْهُ يَثْبُتُ مِنْهَا ، وَقَوْلُهَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْغَيْرِ ، وَالرَّجُلُ يَدَّعِي النَّسَبَ لِنَفْسِهِ ابْتِدَاءً ، وَيُقِرُّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ سَبَبَ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْ الرَّجُلِ خَفِيٌّ لَا يَقِفُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ ، وَهُوَ الْوَطْءُ فَيُقْبَلُ فِيهِ مُجَرَّدُ قَوْلِهِ ، وَسَبَبُ ثُبُوتِ النَّسَبِ مِنْ الْمَرْأَةِ الْوِلَادَةُ ، وَذَلِكَ يَقِفُ عَلَيْهِ غَيْرُهَا ، وَهُوَ الْقَابِلَةُ فَلَمْ يَكُنْ مُجَرَّدُ قَوْلِهَا فِيهِ حَجَّةً فَإِنْ أَقَامَتْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ عَلَى الْوِلَادَةِ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهَا لِأَنَّ النَّسَبَ مِمَّا يَثْبُتُ مَعَ الشُّبُهَاتِ فَيَثْبُتُ بِشَهَادَةِ الرِّجَالِ مَعَ النِّسَاءِ .
وَإِنْ ادَّعَتْهُ امْرَأَتَانِ ، وَأَقَامَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ امْرَأَةً أَنَّهُ ابْنُهَا فَهُوَ ابْنُهُمَا جَمِيعًا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَهَذَا فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَأَمَّا فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَا يَكُونُ ابْنَ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا .
وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ أَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ حُجَّةٌ تَامَّةٌ فِي إثْبَاتِ الْوِلَادَةِ لِأَنَّهُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا الرِّجَالُ فَكَانَ إقَامَةُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا امْرَأَةً وَاحِدَةً بِمَنْزِلَةِ إقَامَتِهَا رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ .
وَجْهُ رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ شَهَادَةَ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ ضَرُورِيَّةٌ فَلَا تَكُونُ حُجَّةً عِنْدَ الْمُعَارَضَةِ وَالْمُزَاحَمَةِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَقَامَتْ إحْدَاهُمَا رَجُلَيْنِ ، وَالْأُخْرَى امْرَأَةً وَاحِدَةً لَمْ تَكُنْ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ الْوَاحِدَةِ حُجَّةً فِي مُعَارَضَةِ شَهَادَةِ رَجُلَيْنِ فَلَا يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنْ يُقِيمَ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الْبَيِّنَةَ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ فَحِينَئِذٍ يَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُمَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى ، وَفِي قَوْلِهِمَا لَا يَثْبُتُ مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِيمَا أَمْلَيْنَاهُ مِنْ شَرْحِ كِتَابِ الدَّعْوَى مَعَ أُخْتِهَا ، وَهُوَ أَنْ يَدَّعِيَ رَجُلَانِ أَوْ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ ، وَمَا فِي ذَلِكَ مِنْ اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ فَإِنْ أَقَامَتْ إحْدَاهُمَا رَجُلَيْنِ ، وَالْأُخْرَى امْرَأَتَيْنِ جَعَلَتْهُ ابْنَ الَّتِي شَهِدَ لَهَا الرَّجُلَانِ ؛ لِأَنَّ شَهَادَةَ الرَّجُلَيْنِ حُجَّةٌ قَوِيَّةٌ ، وَشَهَادَةَ الْمَرْأَتَيْنِ حُجَّةٌ ضَعِيفَةٌ ، وَالضَّعِيفُ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ فِي مُقَابَلَةِ الْقَوِيِّ .
وَإِذَا وَجَدَ الْعَبْدُ أَوْ الْمُكَاتَبُ أَوْ الذِّمِّيُّ أَوْ الْحَرْبِيُّ لَقِيطًا فِي مِصْرٍ مِنْ أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ حُرٌّ لِأَنَّهُ لَمَّا عُلِمَ أَنَّهُ لَقِيطٌ فَقَدْ حُكِمَ بِحُرِّيَّتِهِ بِاعْتِبَارِ الدَّارِ أَوْ الْأَصْلِ فَلَا يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِصِفَةِ الْمُلْتَقِطِ بَعْدَ ذَلِكَ .
وَإِذَا وُجِدَ اللَّقِيطُ قَتِيلًا فِي مَكَان غَيْرِ مِلْكِ الْمُلْتَقِطِ فَالْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ ذَلِكَ الْمَكَانِ ، وَتِلْكَ الْمَحَلَّةُ لِبَيْتِ الْمَالِ لِأَنَّهُ حُرٌّ مُحْتَرَمٌ فَإِنَّهُ لَمَّا حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ ، وَحُرِّيَّتِهِ كَانَتْ لِنَفْسِهِ مِنْ الْحُرْمَةِ وَالتَّقَوُّمِ مَا لِسَائِرِ نُفُوسِ الْأَحْرَارِ ، وَوُجُوبُ الدِّيَةِ وَالْقَسَامَةِ لِصِيَانَةِ النُّفُوسِ الْمُحْتَرَمَةِ عَنْ الْإِهْدَارِ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { لَا يُتْرَكُ فِي الْإِسْلَامِ دَمٌ مُفْرَجٌ } أَيْ مُهْدَرٌ ثُمَّ بَدَلُ النَّفْسِ مِيرَاثٌ عَنْهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ مِيرَاثَهُ لِبَيْتِ الْمَالِ .
وَإِذَا وَجَدَ الْعَبْدُ لَقِيطًا فَلَمْ يُعْرَفْ ذَلِكَ إلَّا بِقَوْلِهِ ، وَقَالَ الْمَوْلَى كَذَبْت بَلْ هُوَ عَبْدِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى إذَا كَانَ الْعَبْدُ مَحْجُورًا لِأَنَّهُ لَيْسَتْ لَهُ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ فِيمَا هُوَ قَابِضٌ لَهُ بَلْ يَدُهُ يَدُ مَوْلَاهُ فَكَأَنَّهُ فِي يَدِ مَوْلَاهُ وَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْعَبْدِ لِأَنَّ لَهُ يَدًا مُعْتَبَرَةً فِي كَسْبِهِ فَإِنَّ الْإِذْنَ فِي التِّجَارَةِ فَكُّ الْحَجْرِ ، وَإِطْلَاقُ الْيَدِ فِي الْكَسْبِ ، وَمَنْ لَهُ يَدٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي شَيْءٍ فَقَوْلُهُ فِيهِ مَسْمُوعٌ يُوَضِّحُ الْفَرْقَ أَنَّ الْعَبْدَ بِقَوْلِهِ هَذَا لَقِيطٌ فِي يَدِي يُخْبِرُ بِسُقُوطِ حَقِّ مَوْلَاهُ عَنْهُ لِأَنَّهُ حُرٌّ ، وَالْمَحْجُورُ لَا قَوْلَ لَهُ فِيمَا فِي يَدِهِ فِي إسْقَاطِ حَقِّ الْمَوْلَى عَنْهُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ بِالدَّيْنِ لَا يَسْقُطُ بِهِ حَقُّ مَوْلَاهُ عَمَّا فِي يَدِهِ بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ فَقَوْلُهُ فِيمَا يَدُهُ مَقْبُولٌ فِي إسْقَاطِ حَقِّ الْمَوْلَى عَنْ أَخْذِهِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ بِدَيْنٍ عَلَى نَفْسِهِ .
وَإِذَا وَجَدَ الرَّجُلُ لَقِيطًا فَأَقَرَّ بِذَلِكَ ثُمَّ قَتَلَهُ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ خَطَأً فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ لِبَيْتِ الْمَالِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { ، وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ، وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ } ، وَاللَّقِيطُ حُرٌّ مُؤْمِنٌ فَيَجِبُ عَلَى قَاتِلِهِ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ إذَا كَانَ خَطَأً ، وَالْمُلْتَقِطُ وَغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ، وَإِنْ قَتَلَهُ عَمْدًا فَإِنْ شَاءَ الْإِمَامُ قَتَلَهُ بِهِ ، وَإِنْ شَاءَ صَالَحَهُ عَلَى الدِّيَةِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ ، وَلَا أَقْتُلُهُ بِهِ ، وَالْحَرْبِيُّ إذَا أَسْلَمَ ، وَخَرَجَ إلَى دَارِنَا ثُمَّ قَتَلَهُ إنْسَانٌ عَمْدًا فَعَلَى قَاتِلِهِ الْقِصَاصُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى ، وَفِيهِ رِوَايَتَانِ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّا نَعْلَمُ أَنَّ لِلَّقِيطِ ، وَلِيًّا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ عَصَبَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ وَإِنْ بَعُدَ إلَّا أَنَّا لَا نَعْرِفُهُ بِعَيْنِهِ ، وَحَقُّ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ يَكُونُ إلَى الْوَلِيِّ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى { فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا } فَيَصِيرُ ذَلِكَ شُبْهَةً مَانِعَةً لِلْإِمَامِ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ ، وَإِذَا تَعَذَّرَ اسْتِيفَاءُ الْقِصَاصِ بِشُبْهَةٍ وَجَبَتْ الدِّيَةُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ لِأَنَّهَا وَجَبَتْ بِعَمْدٍ مَحْضٍ ، وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ نَقُولُ فِي الَّذِي أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ يَجِبُ الْقِصَاصُ لِأَنَّا نَعْلَمُ أَنَّهُ لَا وَلِيَّ لَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ، وَالطَّرِيقُ الْآخَرُ أَنَّ الْقِصَاصَ عُقُوبَةٌ مَشْرُوعَةٌ لِيَشْفِيَ الْغَيْظَ وَدَرْكِ الثَّأْرِ ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ لِلْأَوْلِيَاءِ ، وَلَا يَحْصُلُ لِلْمُسْلِمِينَ ، وَالْإِمَامُ نَائِبٌ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فِي اسْتِيفَاءِ مَا هُوَ حَقٌّ لَهُمْ ، وَحَقُّهُمْ فِيمَا يَنْفَعُهُمْ ، وَهُوَ الدِّيَةُ لِأَنَّهُ مَالٌ مَصْرُوفٌ إلَى
مَصَالِحِهِمْ فَلِهَذَا أَوْجَبْنَا الدِّيَةَ دُونَ الْقِصَاصِ .
وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ الَّذِي أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ دَارِ الْحَرْبِ ، وَاللَّقِيطُ سَوَاءٌ ، وَحُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى الْعُمُومَاتُ الْمُوجِبَةُ لِلْقَوَدِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى { كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ } ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { الْعَمْدُ قَوَدٌ } ، وَلِأَنَّ مَنْ لَا يُعْرَفُ لَهُ وَلِيٌّ فَالْإِمَامُ وَلِيُّهُ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لَا وَلِيَّ لَهُ } ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ السُّلْطَانَ هُوَ الْوَلِيُّ تَمَكَّنَ مِنْ اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا } ، وَالْمُرَادُ سُلْطَانُ اسْتِيفَاءِ الْقَوَدِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَقَّبَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ الْإِسْرَافِ فِي الْقَتْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى { فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ } ، وَهَذَا يَتَّضِحُ فِي الَّذِي أَسْلَمَ ، وَكَذَلِكَ فِي اللَّقِيطِ لِأَنَّ مَا لَا يُوقَفُ عَلَيْهِ فِي حُكْمِ الْمَعْدُومِ وَلِأَنَّ وَلِيَّهُ لَمَّا كَانَ عَاجِزًا عَنْ الِاسْتِيفَاءِ نَابَ الْإِمَامُ مَنَابَهُ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَ هُنَا شُبْهَةُ عَفْوٍ لِأَنَّ ذَلِكَ الْوَلِيَّ غَيْرُ مَعْلُومٍ حَتَّى يُتَوَهَّمَ الْعَفْوُ مِنْهُ ، وَحَدِيثُ الْهُرْمُزَانِ حُجَّةٌ لَهُمَا أَيْضًا فَإِنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا لَمَّا قَتَلَهُ بِتُهْمَةِ دَمِ أَبِيهِ ، وَاسْتَقَرَّ الْأَمْرُ عَلَى عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ طَلَبَ مِنْهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهُ فَقَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ هَذَا رَجُلٌ قُتِلَ أَبُوهُ بِالْأَمْسِ فَأَنَا أَسْتَحْيِي أَنْ أَقْتُلَهُ الْيَوْمَ ، وَإِنَّ الْهُرْمُزَانَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ ، وَأَنَا وَلِيُّهُ أَعْفُو عَنْهُ ، وَأُؤَدِّي الدِّيَةَ فَقَدْ اتَّفَقَا عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ ثُمَّ الْقِصَاصُ مَشْرُوعٌ لِحِكْمَةِ الْحَيَاةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى { وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ } الْآيَةَ ، وَذَلِكَ بِطَرِيقِ الزَّجْرِ حَتَّى ضُرَّ إذَا تَفَكَّرَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ
مَتَى قَتَلَ غَيْرَهُ قُتِلَ بِهِ انْزَجَرَ عَنْ قَتْلِهِ فَيَكُونُ حَيَاةً لَهُمَا جَمِيعًا وَلِهَذَا قِيلَ الْقَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُتَحَقِّقٌ فِي اللَّقِيطِ ، وَاَلَّذِي أَسْلَمَ كَتَحَقُّقِهِ فِي غَيْرِهِمَا فَكَانَ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَوْفِيَ الْقِصَاصَ إنْ شَاءَ وَإِنْ شَاءَ صَالَحَ عَلَى الدِّيَةِ لِأَنَّهُ مُجْتَهِدٌ وَلَهُ أَنْ يَمِيلَ بِاجْتِهَادِهِ إلَى الْمُطَالَبَةِ بِالدِّيَةِ وَلِأَنَّهُ نَاظِرٌ لِلْمُسْلِمِينَ فَرُبَّمَا يَكُونُ اسْتِيفَاءُ الدِّيَةِ أَنْفَعَ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْفُوَ بِغَيْرِ مَالٍ لِأَنَّهُ نُصِّبَ لِاسْتِيفَاءِ حَقِّ الْمُسْلِمِينَ لَا لِإِبْطَالِهِ .
وَيُحَدُّ قَاذِفُ اللَّقِيطِ فِي نَفْسِهِ وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ فِي أُمِّهِ لِأَنَّهُ مُحْصَنٌ فَإِنَّهُ عَفِيفٌ عَنْ الزِّنَا أَوَّلًا مُعْتَبَرٌ بِالنَّسَبِ فِي إحْصَانِ الْقَذْفِ فَيُحَدُّ قَاذِفُهُ فِي نَفْسِهِ فَأَمَّا أُمُّهُ لَيْسَتْ بِمُحْصَنَةٍ بَلْ هِيَ فِي صُورَةِ الزَّانِيَاتِ لِأَنَّ لَهَا وَلَدٌ لَا يُعْرَفُ لَهُ وَالِدٌ فَلِهَذَا لَا يُحَدُّ قَاذِفُهُ فِي أُمِّهِ ، وَفِي حَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ اللَّقِيطُ كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَحْرَارِ لِأَنَّهُ مَحْكُومٌ بِحُرِّيَّتِهِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ الْكَامِلُ إذَا ارْتَكَبَ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لَهُ فَإِنْ أَقَرَّ بَعْدَمَا أَدْرَكَ أَنَّهُ عَبْدٌ لِفُلَانٍ ، وَادَّعَاهُ فُلَانٌ كَانَ عَبْدًا لَهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَّهَمٍ فِيمَا يُقِرُّ بِهِ عَلَى نَفْسِهِ وَلَيْسَ فِي قَبُولِ إقْرَارِهِ إبْطَالُ حَقٍّ ثَابِتٍ لَا حَدَّ فِيهِ وَلَيْسَ لَهُ نَسَبٌ مَعْرُوفٌ فَكَانَ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ الرِّقِّ مُحْتَمِلًا وَلَكِنْ هَذَا إذَا لَمْ تَتَأَكَّدْ حُرِّيَّتُهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِمَا لَا يَقْضِي بِهِ إلَّا عَلَى الْحُرِّ كَالْحَدِّ الْكَامِلِ ، وَالْقِصَاصِ فِي الطَّرَفِ فَأَمَّا إذَا اتَّصَلَتْ حُرِّيَّتُهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي بِذَلِكَ لَمْ يُقْبَلْ إقْرَارُهُ بِالرِّقِّ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ يُبْطِلُ حُكْمَ الْحَاكِمِ بِإِقْرَارِهِ ، وَقَوْلُهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ فِي إبْطَالِ الْحُكْمِ وَلِأَنَّهُ مُكَذَّبٌ فِي هَذَا الْإِقْرَارِ شَرْعًا وَلَوْ كَذَّبَهُ الْمُقَرُّ لَهُ كَانَ حُرًّا فَإِذَا كَذَّبَهُ الشَّرْعُ أَوْلَى ، وَمَتَى ثَبَتَ الرِّقُّ بِإِقْرَارِهِ فَأَحْكَامُهُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْجِنَايَاتِ ، وَالْحُدُودِ كَأَحْكَامِ الْعَبْدِ لِأَنَّهُ صَارَ مَحْكُومًا عَلَيْهِ بِالرَّقِّ .
وَإِنْ كَانَ اللَّقِيطُ امْرَأَةً فَأَقَرَّتْ بِالرِّقِّ لِرَجُلٍ ، وَادَّعَى ذَلِكَ الرَّجُلُ كَانَتْ أَمَةً لَهُ لِتَصَادُقِهِمَا عَلَى مَا هُوَ مُحْتَمَلٌ وَلَا حَقَّ لِغَيْرِهِمَا فِي ذَلِكَ إلَّا أَنَّهَا إنْ كَانَتْ تَحْتَ زَوْجٍ لَا تُصَدَّقُ فِي إبْطَالِ النِّكَاحِ لِأَنَّ ذَلِكَ حَقُّ الزَّوْجِ وَلَيْسَ مِنْ ضَرُورَةِ الْحُكْمِ بِرِقِّهَا انْتِفَاءُ النِّكَاحِ لِأَنَّ الرِّقَّ لَا يُنَافِي النِّكَاحَ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّتْ أَنَّهَا ابْنَةُ أَبِي زَوْجِهَا ، وَصَدَّقَهَا الْأَبُ فِي ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَثْبُتُ النَّسَبُ ، وَيَبْطُلُ النِّكَاحُ لِتَحَقُّقِ الْمُنَافِي فَإِنَّ الْأُخْتِيَّةَ تُنَافِي النِّكَاحَ ابْتِدَاءً وَبَقَاءً وَلَوْ أَعْتَقَهَا الْمُقَرُّ لَهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا خِيَارٌ أَيْضًا لِأَنَّ إقْرَارَهَا بِالرِّقِّ فِي حَقِّ الزَّوْجِ لَمْ يَكُنْ صَحِيحًا وَلِأَنَّهُ تَتَمَكَّنُ تُهْمَةُ الْمُوَاضَعَةِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمُقَرِّ لَهُ فِي أَنْ تُقِرَّ لَهُ بِالرِّقِّ ثُمَّ يُعْتِقَهَا فَتَخْتَارَ نَفْسَهَا لِتَخْلُصَ مِنْ الزَّوْجِ فَلِهَذَا لَا تُصَدَّقُ فِي حَقِّهِ ، وَالْأَصْلُ فِي كُلِّ حُكْمٍ لَحِقَ الزَّوْجَ فِيهِ ضَرَرٌ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَإِنَّهَا لَا تُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ ، وَفِي كُلِّ مَا يُمْكِنُهُ دَفْعُ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ تَكُونُ مُصَدَّقَةً فِي حَقِّهِ حَتَّى إذَا طَلَّقَهَا وَاحِدَةً فَأَقَرَّتْ بِالرِّقِّ صَارَ طَلَاقُهَا اثْنَتَيْنِ لِأَنَّهُ يَتَمَكَّنُ مِنْ دَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ بِمُرَاجَعَتِهَا ، وَإِمْسَاكِهَا بِحُكْمِ التَّطْلِيقَةِ الثَّانِيَةِ .
وَلَوْ كَانَ طَلَّقَهَا اثْنَتَيْنِ ثُمَّ أَقَرَّتْ بِالرِّقِّ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ رَجْعَتَهَا لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَا طَلَاقَهَا اثْنَتَيْنِ بِإِقْرَارِهِمَا لَحِقَ الزَّوْجَ ضَرَرٌ لَا يُمْكِنُهُ دَفْعُ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا نُصَدِّقُهَا فِي ذَلِكَ ، وَكَذَا حُكْمُ الْعِدَّةِ إنْ أَقَرَّتْ بِالرِّقِّ بَعْدَ مُضِيِّ حَيْضَتَيْنِ فَلَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ .
وَإِنْ أَقَرَّتْ بِالرِّقِّ بَعْدَ مُضِيِّ حَيْضَةٍ فَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ لِمَا قُلْنَا .
وَلَوْ قَذَفَهَا زَوْجُهَا لَمْ
يَكُنْ عَلَيْهِ حَدٌّ وَلَا لِعَانٌ لِأَنَّ الرِّقَّ ثَبَتَ فِي حَقِّهَا بِإِقْرَارِهَا ، وَالْمَمْلُوكَةُ لَا تَكُونُ مُحْصَنَةً فَلَا يَجِبُ بِقَذْفِهَا حَدٌّ وَلَا لِعَانٌ
وَلَوْ كَانَتْ دَبَّرَتْ عَبْدًا أَوْ أَمَةً ثُمَّ أَقَرَّتْ بِالرِّقِّ لَمْ تُصَدَّقْ عَلَى إبْطَالِهِ لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ اسْتَحَقَّ حَقَّ الْعِتْقِ بِالتَّدْبِيرِ .
وَلَوْ اسْتَحَقَّ حَقِيقَةَ الْعِتْقِ بِأَنْ أَعْتَقَتْهُ لَمْ تَصَدَّقْ عَلَى إبْطَالِهِ لِكَوْنِهَا مُتَّهَمَةً فِي حَقِّهِ فَكَذَلِكَ فِي التَّدْبِيرِ فَإِذَا مَاتَتْ عَتَقَ مِنْ ثُلُثِهَا ، وَسَعَى فِي ثُلُثَيْ قِيمَتِهِ لِمَوْلَاهَا لِأَنَّ السِّعَايَةَ حَقُّهَا ، وَقَدْ زَعَمَتْ أَنَّ كَسْبَهَا لِمَوْلَاهَا ، وَإِقْرَارُهَا فِي حَقِّ نَفْسِهَا صَحِيحٌ .
وَلَوْ أَنَّ مَوْلَاهَا أَعْتَقَهَا كَانَ الْمُدَبَّرُ عَلَى حَالِهِ غَيْرَ أَنَّ خِدْمَتَهُ لِلْمَوْلَى ، وَسِعَايَتَهُ بَعْدَ مَوْتِهَا لَهُ لِأَنَّهَا أَقَرَّتْ لَهُ بِذَلِكَ ، وَإِقْرَارُهَا بِذَلِكَ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّهَا ثُمَّ بِإِعْتَاقِ الْمَوْلَى إيَّاهَا لَا يَسْقُطُ حَقُّهُ عَنْ كَسْبِهَا الَّذِي كَانَ قَبْلَ الْعِتْقِ فَلِهَذَا كَانَتْ خِدْمَةُ مُدَبَّرِهَا ، وَسِعَايَتُهُ بَعْدَ مَوْتِهَا لِمَوْلَاهَا .
وَإِذَا أَدْرَكَ اللَّقِيطُ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّهُ عَبْدٌ لِفُلَانٍ وَلِامْرَأَتِهِ عَلَيْهِ صَدَاقٌ فَصَدَاقُهَا لَازِمٌ لَهُ وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى إبْطَالِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ دَيْنٌ ظَهَرَ وُجُوبُهُ عَلَيْهِ لِصِحَّةِ سَبَبِهِ فَكَانَ هُوَ مُتَّهَمًا فِي قَرَارِهِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى إبْطَالِهِ .
وَكَذَلِكَ إنْ اسْتَدَانَ دَيْنًا أَوْ بَاعَ إنْسَانًا أَوْ كَفَلَ بِكَفَالَةٍ أَوْ وَهَبَ هِبَةً أَوْ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ ، وَسَلَّمَهَا أَوْ كَاتَبَ عَبْدًا أَوْ أَعْتَقَهُ أَوْ دَبَّرَهُ ثُمَّ أَقَرَّ بِأَنَّهُ عَبْدٌ لِفُلَانٍ لَا يُصَدَّقُ عَلَى إبْطَالِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ مُتَّهَمٌ فِي ذَلِكَ وَلِأَنَّ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بِحَسَبِ الْحُجَّةِ ، وَقَوْلُهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى أَحَدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى إبْطَالِ حَقِّهِمْ فَوُجُودُ إقْرَارِهِ فِي ذَلِكَ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ ، وَإِلَيْهِ الْمَرْجِعُ وَالْمَآب
كِتَابُ اللَّقِيطَةِ ( قَالَ ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ وَفَخْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْفَضْلِ السَّرَخْسِيُّ اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيمَنْ وَجَدَ لُقَطَةً فَالْمُتَفَلْسِفَة يَقُولُونَ : لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَرْفَعَهَا ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ الْمَالَ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ ، وَذَلِكَ حَرَامٌ شَرْعًا ، فَكَمَا لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَنَاوَلَ مَالَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ إثْبَاتُ الْيَدِ عَلَيْهِ ، وَبَعْضُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنْ أَئِمَّةِ التَّابِعِينَ كَانَ يَقُولُ : يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَرْفَعَهَا وَالتَّرْكُ أَفْضَلُ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا إنَّمَا يَطْلُبُهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي سَقَطَتْ مِنْهُ ، فَإِذَا تَرَكَهَا وَجَدَهَا صَاحِبُهَا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ عَلَى نَفْسِهِ أَنْ يَطْمَعَ فِيهَا بَعْدَ مَا يَرْفَعُهَا فَكَانَ فِي رَفْعِهَا مُعَرِّضًا نَفْسَهُ لِلْفِتْنَةِ ، وَالْمَذْهَبُ عِنْدَ عُلَمَائِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَعَامَّةِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ رَفْعَهَا أَفْضَلُ مِنْ تَرْكِهَا ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَهَا لَمْ يَأْمَنْ أَنْ تَصِلَ إلَيْهَا يَدٌ خَائِنَةٌ فَيَكْتُمَهَا عَنْ مَالِكِهَا ، فَإِذَا أَخَذَهَا هُوَ عَرَّفَهَا حَتَّى يُوَصِّلَهَا إلَى مَالِكِهَا ، وَلِأَنَّهُ يَلْتَزِمُ الْأَمَانَةَ فِي رَفْعِهَا ؛ لِأَنَّهُ يَحْفَظُهَا وَيُعَرِّفُهَا ، وَالْتِزَامُ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ يُفْرَضُ بِمَنْزِلَةِ الثَّوَابِ ؛ لِأَنَّهُ يُثَابُ عَلَى أَدَاءِ مَا يَلْتَزِمُهُ مِنْ الْأَمَانَةِ ، فَإِنَّهُ يَمْتَثِلُ فِيهِ الْأَمْرَ قَالَ تَعَالَى : { إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا } وَامْتِثَالُ الْأَمْرِ سَبَبٌ لِنَيْلِ الثَّوَابِ ، ثُمَّ مَا يَجِدُهُ نَوْعَانِ : ( أَحَدُهُمَا ) مَا يَعْلَمُ أَنَّ مَالِكَهُ لَا يَطْلُبُهُ كَقُشُورِ الرُّمَّانِ وَالنَّوَى .
( وَالثَّانِي ) مَا يَعْلَمُ أَنَّ مَالِكَهُ يَطْلُبُهُ .
فَالنَّوْعُ الْأَوَّلُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ وَيَنْتَفِعَ بِهِ إلَّا أَنَّ صَاحِبَهُ إذَا وَجَدَهُ فِي يَدِهِ بَعْدَ مَا جَمَعَهُ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ إلْقَاءَ ذَلِكَ مِنْ صَاحِبِهِ
كَانَ إبَاحَةَ الِانْتِفَاعِ بِهِ لِلْوَاحِدِ وَلَمْ يَكُنْ تَمْلِيكًا مِنْ غَيْرِهِ ، فَإِنَّ التَّمْلِيكَ مِنْ الْمَجْهُولِ لَا يَصِحُّ ، وَمِلْكُ الْمُبِيحِ لَا يَزُولُ بِالْإِبَاحَةِ وَلَكِنْ لِلْمُبَاحِ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ مَعَ بَقَاءِ مِلْكِ الْمُبِيحِ ، فَإِذَا وَجَدَهُ فِي يَدِهِ فَقَدْ وَجَدَ عَيْنَ مِلْكِهِ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ } وَإِنْ وَجَدَ ذَلِكَ مُجْتَمِعًا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمَالِكَ مَا أَلْقَاهُ بَعْدَ مَا جَمَعَهُ وَلَكِنَّهُ سَقَطَ مِنْهُ فَكَانَ هَذَا مِنْ النَّوْعِ الثَّانِي ، وَرَوَى بِشْرٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ مَنْ أَلْقَى شَاةً مَيِّتَةً لَهُ فَجَاءَ آخَرُ وَجَزَّ صُوفَهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ وَلَوْ وَجَدَهُ صَاحِبُ الشَّاةِ فِي يَدِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنْهُ ، وَلَوْ سَلَخَهَا وَدَبَغَ جِلْدَهَا كَانَ لِصَاحِبِهَا أَنْ يَأْخُذَ الْجِلْدَ مِنْهُ بَعْدَ مَا يُعْطِيهِ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ لَمْ يَزُلْ بِالْإِلْقَاءِ ، وَالصُّوفُ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ مِنْ غَيْرِ اتِّصَالِ شَيْءٍ آخَرَ بِهِ ، فَلَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ مَجَّانًا ، فَأَمَّا الْجِلْدُ لَا يَصِيرُ مَالًا مُتَقَوِّمًا إلَّا بِالدِّبَاغِ ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَهُ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ مَا زَادَ الدِّبَاغُ فِيهِ .
فَأَمَّا ( النَّوْعُ الثَّانِي ) وَهُوَ مَا يَعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهُ يَطْلُبُهُ فَمَنْ يَرْفَعُهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَحْفَظَهُ وَيُعَرِّفَهُ لِيُوَصِّلَهُ إلَى صَاحِبِهِ ، وَبَدَأَ الْكِتَابُ بِهِ وَرَوَاهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ فِي اللُّقَطَةِ : يُعَرِّفُهَا حَوْلًا ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا تَصَدَّقَ بِهَا ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَنْفَذَ الصَّدَقَةَ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ ، وَمَا ذُكِرَ هَذَا عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِجَاجِ بِقَوْلِ إبْرَاهِيمَ ؛ لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ كَانَ لَا يَرَى تَقْلِيدَ التَّابِعِينَ ، وَكَانَ يَقُولُ هُمْ رِجَالٌ وَنَحْنُ رِجَالٌ ، وَلَكِنْ ظَهَرَ عِنْدَهُ أَنَّ إبْرَاهِيمَ فِيمَا كَانَ
يُفْتَى بِهِ يَعْتَمِدُ قَوْلَ عَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، فَإِنَّ فِقْهَ أَهْلِ الْكُوفَةِ دَارَ عَلَيْهِمَا ، وَكَانَ إبْرَاهِيمُ أَعْرَفَ النَّاسِ بِقَوْلِهِمَا فَمَا صَحَّ عَنْهُ فَهُوَ كَالْمَنْقُولِ عَنْهُمَا ، فَلِهَذَا حَشَا الْكِتَابَ مِنْ أَقَاوِيلِ إبْرَاهِيمَ ، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانٌ أَنَّ الْمُلْتَقِطَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُعَرِّفَ اللُّقَطَةَ ، وَالتَّقْدِيرُ بِالْحَوْلِ لَيْسَ بِعَامٍّ لَازِمٍ فِي كُلِّ شَيْءٍ ، وَإِنَّمَا يُعَرِّفُهَا مُدَّةً يَتَوَهَّمُ أَنَّ صَاحِبَهَا يَطْلُبُهَا وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِقِلَّةِ الْمَالِ وَكَثْرَتِهِ حَتَّى قَالُوا فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ فَصَاعِدًا : يُعَرِّفُهَا حَوْلًا ؛ لِأَنَّ هَذَا مَالٌ خَطِيرٌ يَتَعَلَّقُ الْقَطْعُ بِسَرِقَتِهِ وَيُتَمَلَّكُ بِهِ مَا لَهُ خَطَرٌ ، وَالتَّعْرِيفُ لِإِيلَاءِ الْعُذْرِ وَالْحَوْلُ الْكَامِلُ لِذَلِكَ حَسَنٌ قَالَ الْقَائِلُ : إلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا وَمَنْ يَبْكِ حَوْلًا كَامِلًا فَقَدْ اعْتَذَرَ وَفِيمَا دُونَ الْعَشَرَةِ إلَى ثَلَاثَةٍ يُعَرِّفُهَا شَهْرًا ، وَفِيمَا دُونَ ذَلِكَ إلَى الدِّرْهَمِ يُعَرِّفُهَا جُمُعَةً ، وَفِي دُونِ الدِّرْهَمِ يُعَرَّفُ يَوْمًا ، وَفِي فَلْسٍ أَوْ نَحْوِهِ يَنْظُرُ يَمْنَةً وَيَسْرَة ثُمَّ يَضَعْهُ فِي كَفِّ فَقِيرٍ ، وَشَيْءٌ مِنْ هَذَا لَيْسَ بِتَقْدِيرٍ لَازِمٍ ؛ لِأَنَّ نَصْبَ الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ وَلَكِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ التَّعْرِيفَ بِنَاءً عَلَى طَلَبِ صَاحِبِ اللُّقَطَةِ ، وَلَا طَرِيقَ لَهُ إلَى مَعْرِفَةِ مُدَّةِ طَلَبِهِ حَقِيقَةً فَيُبْنَى عَلَى غَالِبِ رَأْيِهِ ، وَيُعَرِّفُ الْقَلِيلَ إلَى أَنْ يَغْلِبَ عَلَى رَأْيِهِ أَنَّ صَاحِبَهُ لَا يَطْلُبُهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، فَإِذَا لَمْ يَجِئْ صَاحِبُهَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ تَصَدَّقَ بِهَا ؛ لِأَنَّهُ الْتَزَمَ حِفْظَهَا عَلَى مَالِكِهَا ، وَذَلِكَ بِاتِّصَالِ عَيْنِهَا إلَيْهِ إنْ وَجَدَهُ وَإِلَّا فَبِاتِّصَالِ ثَوَابِهَا إلَيْهِ ، وَطَرِيقُ ذَلِكَ التَّصَدُّقُ بِهَا .
فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَهُ لِأَنَّهُ تَصَدَّقَ بِمَالِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَذَلِكَ سَبَبٌ مُوجِبٌ
لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ ، وَإِنْ شَاءَ أَنْفَذَ الصَّدَقَةَ فَيَكُونُ ثَوَابُهَا لَهُ وَإِجَازَتُهُ فِي الِانْتِهَاءِ بِمَنْزِلَةِ إذْنِهِ فِي الِابْتِدَاءِ ، فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَضْمَنُهَا لَهُ ، وَقَدْ تَصَدَّقَ بِهَا بِإِذْنِ الشَّرْعِ قُلْنَا : الشَّرْعُ أَبَاحَ لَهُ التَّصَدُّقَ بِهَا وَمَا أَلْزَمَهُ ذَلِكَ ، وَمِثْلُ هَذَا الْإِذْنِ مُسْقِطٌ لِلْإِثْمِ عَنْهُ غَيْرُ مُسْقِطٍ لِحَقٍّ مُحْتَرَمٍ لِلْغَيْرِ ، كَالْإِذْنِ فِي الرَّمْي إلَى الصَّيْدِ ، وَالْإِذْنِ فِي الْمَشْيِ فِي الطَّرِيقِ ، فَإِنَّهُ يَتَقَيَّدُ بِشَرْطِ السَّلَامَةِ ، وَحَقُّ صَاحِبِ هَذَا الْمَالِ مَرْعِيٌّ مُحْتَرَمٌ ، فَلَا يَسْقُطُ حَقُّهُ عَنْ هَذَا الْعَيْنِ بِهَذَا الْإِذْنِ ، فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَهُ إنْ شَاءَ ، وَالْإِذْنُ هُنَا دُونَ الْإِذْنِ لِمَنْ أَصَابَتْهُ مَخْمَصَةٌ فِي تَنَاوَلْ مِلْكِ الْغَيْرِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْقِطٍ لِلضَّمَانِ الْوَاجِبِ لِحَقِّ صَاحِبِ الْمَالِ .
وَذُكِرَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ اشْتَرَى جَارِيَةً بِسَبْعِمِائَةِ دِرْهَمٍ أَوْ بِثَمَانِمِائَةِ دِرْهَمٍ فَذَهَبَ صَاحِبُهَا فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ فَخَرَجَ ابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالثَّمَنِ فِي صُرَّةٍ فَجَعَلَ يَتَصَدَّقُ بِهَا وَيَقُولُ لِصَاحِبِهَا ، فَإِنْ أَبَى فَلَنَا وَعَلَيْنَا الثَّمَنُ ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ : هَكَذَا يُصْنَعُ بِاللُّقَطَةِ وَفِي هَذَا اللَّفْظِ بَيَانٌ أَنَّ الْمُلْتَقِطَ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا بَعْد التَّعْرِيفِ عَلَى أَنْ يَكُونَ ثَوَابُهَا لِصَاحِبِهَا إنْ أَجَازَ ، وَإِنْ أَبَى فَلَهُ الضَّمَانُ عَلَى الْمُتَصَدِّقِ ، وَلَيْسَ مُرَادُ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ هَذَا أَنَّ حُكْمَ الثَّمَنِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ حُكْمُ اللُّقَطَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ، وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ وَالثَّمَنُ دَيْنٌ فِي ذِمَّتِهِ وَمَا تَصَدَّقَ بِهِ مِنْ الدَّرَاهِمِ خَالِصُ مِلْكِهِ ، فَأَمَّا عَيْنُ اللُّقَطَةِ فَمَمْلُوكَةٌ لِصَاحِبِهَا وَالْمُلْتَقِطُ أَمِينٌ فِيهَا فَعَرَفْنَا أَنَّ هَذَا لَيْسَ فِي مَعْنَى اللُّقَطَةِ ، وَلَا يُقَالُ : لَعَلَّهُ كَانَ اشْتَرَاهَا بِمَالٍ مُعَيَّنٍ ؛ لِأَنَّهُ صَحَّ مِنْ مَذْهَبِهِ أَنَّ
النُّقُودَ لَا تَتَعَيَّنُ فِي الْعَقْدِ ، وَلَوْ تَعَيَّنَتْ فَهِيَ مَضْمُونَةٌ عَلَى الْمُشْتَرِي فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَيْسَ كَاللُّقَطَةِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَأَنَّهُ بِالتَّصَدُّقِ مَا قَصَدَ إسْقَاطَ الثَّمَنِ عَنْ نَفْسِهِ بَلْ قَصَدَ إظْهَارَ الْمُجَامَلَةِ فِي الْمُعَامَلَةِ وَاتِّصَالَ ثَوَابِهَا إلَى صَاحِبِهَا إنْ رَضِيَ بِصَنِيعِهِ وَإِلَّا فَالثَّمَنُ دَيْنٌ عَلَيْهِ كَمَا كَانَ .
وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ مَوْلَى أُسَيْدٍ قَالَ : وَجَدْتُ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ بِالْحِرَّةِ وَأَنَا مُكَاتَبٌ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : اعْمَلْ بِهَا وَعَرِّفْهَا فَعَمِلْتُ بِهَا حَتَّى أَدَّيْتُ مُكَاتَبَتِي ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ فَقَالَ : ادْفَعْهَا إلَى خَزَّانِ بَيْتِ الْمَالِ ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ أَنَّ لِلْإِمَامِ وِلَايَةَ الْإِقْرَاضِ فِي اللُّقَطَةِ وَالدَّفْعِ مُضَارَبَةً ؛ لِأَنَّ قَوْلَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ اعْمَلْ بِهَا وَعَرِّفْهَا إمَّا أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ الْمُضَارَبَةِ أَوْ الْإِقْرَاضِ مُضَارَبَةً ، وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْمُضَارَبَةَ حَتَّى لَمْ يَتَبَيَّنْ نَصِيبَهُ مِنْ الرِّبْحِ فَكَانَ مُرَادُهُ الْإِقْرَاضُ مِنْهُ ، وَفِي هَذَا مَعْنَى النَّظَرِ لِصَاحِبِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ يَعْرِضُ لِلْهَلَاكِ فَيَهْلَكُ مِنْ صَاحِبِهِ قَبْلَ الْإِقْرَاضِ وَبَعْدَ الْإِقْرَاضِ يَصِيرُ دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُسْتَقْرِضِ يُؤْمَنُ فِيهِ الْتَوَى بِالْهَلَاكِ ، وَكَذَلِكَ بِالْجُحُودِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَأَكِّدٌ بِعِلْمِ الْقَاضِي ؛ وَلِهَذَا كَانَ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ الْإِقْرَاضِ فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى ، وَرُبَمَا يَكُونُ مَعْنَى النَّظَرِ فِي الدَّفْعِ إلَيْهِ مُضَارَبَةً أَوْ إلَى غَيْرِهِ فَذَلِكَ كُلُّهُ إلَى الْقَاضِي ؛ لِأَنَّهُ نُصِّبَ نَاظِرًا ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُلْتَقِطَ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا ، فَلَهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِاللُّقَطَةِ بَعْدَ .
التَّعْرِيفِ ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمُكَاتَبَ كَانَ مُحْتَاجًا إلَى الْعَمَلِ فِيهَا فَيُؤَدِّي مُكَاتَبَتَهُ مِنْ رِبْحِهَا فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي ذَلِكَ وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ
يَقْبِضَ اللُّقَطَةَ مِنْ الْمُلْتَقِطِ إنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَهُ بِدَفْعِهَا إلَى خَزَّانِ بَيْتِ الْمَالِ ، وَكَأَنَّهُ إنَّمَا أَمَرَهُ بِذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُ كَانَ سَبِيلُهَا التَّصَدُّقَ بِهَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ فَأَمَرَهُ بِدَفْعِهَا إلَى مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ بَيْتُ مَالِ الصَّدَقَةِ لِيَضَعَهَا مَوْضِعَ الصَّدَقَةِ ، وَذُكِرَ فِي الْأَصْلِ عَنْ سُوَيْد بْنِ غَفَلَةَ قَالَ : حَجَجْتُ مَعَ سَلْمَانِ بْنِ رَبِيعَةَ وَزَيْدِ بْنِ صُوحَانَ وَأُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ عَنْهُمْ فَوَجَدْنَا سَوْطًا فَاحْتَمَاهُ الْقَوْمُ وَكَرِهُوا أَنْ يَأْخُذُوهُ ، وَكُنْتُ أَحْوَجَهُمْ إلَيْهِ فَأَخَذْتُهُ فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ فَحَدَّثَنِي بِالْمِائَةِ دِينَارٍ الَّتِي وَجَدَهَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : وَجَدْتُ مِائَةَ دِينَارٍ { فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ قَالَ : عَرِّفْهَا سَنَةً فَعَرَّفْتُهَا فَلَمْ يَعْرِفْهَا أَحَدٌ ، فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ : عَرِّفْهَا سَنَةً أُخْرَى فَعَرَفْتُهَا فَلَمْ يَعْرِفْهَا أَحَدٌ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ : عَرِّفْهَا سَنَةً أُخْرَى فَعَرَّفْتُهَا فَلَمْ يَعْرِفْهَا أَحَدٌ فَأَخْبَرْتُهُ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ثَلَاثِ سِنِينَ : اعْرِفْ عَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا وَاخْلِطْهَا بِمَالِكَ ، فَإِنْ جَاءَ طَالِبُهَا فَادْفَعْهَا إلَيْهِ وَإِلَّا فَانْتَفِعْ بِهَا ، فَإِنَّهَا رِزْقٌ سَاقَهُ اللَّهُ إلَيْكَ } .
وَأَمَّا قَوْلُهُ : وَجَدْنَا سَوْطًا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِمَّا يُكْسَرُ مِنْ السِّيَاطِ وَيُعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهُ أَلْقَاهُ فَتَرَكَهُ الْقَوْمُ ؛ لِأَنَّهُمْ مَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ إلَيْهِ وَأَخَذَهُ سُوَيْدُ لِيَنْتَفِعَ بِهِ ، فَإِنَّهُ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَا أَلْقَاهُ صَاحِبُهُ يُبَاحُ أَخْذُهُ لِلِانْتِفَاعِ بِهِ لِمَنْ شَاءَ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَذَا كَانَ سَوْطًا هُوَ مَالٌ مُتَقَوِّمٌ يُعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهُ يَطْلُبُهُ فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ اللُّقَطَةِ ، وَفِي قَوْلِهِ : فَاحْتَمَاهُ الْقَوْمُ حُجَّةٌ
لِمَنْ يَقُولُ : تَرْكُ اللُّقَطَةِ أَوْلَى مِنْ رَفْعِهَا وَلَكِنَّا نَقُولُ : هَذَا كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ؛ لِأَنَّ الْغَلَبَةَ كَانَتْ لِأَهْلِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ ، فَإِذَا تَرَكَهُ وَاحِدٌ يَتْرُكُهُ الْآخَرُ أَيْضًا أَوْ يَأْخُذُهُ لِيُؤَدِّيَ الْأَمَانَةَ ، فَأَمَّا فِي زَمَانِنَا فَقَدْ غَلَبَ أَهْلُ الشَّرِّ إذَا تَرَكَ الْأَمِينُ يَأْخُذُ الْخَائِنُ فَيَكْتُمُ مِنْ صَاحِبِهِ ، وَالْحُكْمُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَخْرُجْنَ إلَى الْجَمَاعَاتِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ثُمَّ مُنِعْنَ مِنْ ذَلِكَ فِي زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَكَانَ صَوَابًا ، وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَلِيلٌ لِمَا قُلْنَا أَنَّ التَّقْدِيرَ بِالْحَوْلِ فِي التَّعْرِيفِ لَيْسَ بِلَازِمٍ وَلَكِنَّهُ يُعَرِّفُهَا بِحَسَبِ مَا يَطْلُبُهَا صَاحِبُهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمِائَةَ دِينَارٍ لَمَّا كَانَتْ مَالًا عَظِيمًا كَيْفَ أَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يُعَرِّفَهَا ثَلَاثَ سِنِينَ ، ثُمَّ بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ يَسْتَدِلُّ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي أَنَّ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِاللُّقَطَةِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ ، وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا ، فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَوَّزَ ذَلِكَ لِأُبَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَهُوَ كَانَ غَنِيًّا ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى غِنَاهُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ اخْلِطْهَا بِمَالِكَ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : يُحْتَمَلُ أَنَّهُ لِفَقْرِهِ وَحَاجَتِهِ لِدُيُونٍ عَلَيْهِ فَأَذِنَ لَهُ فِي الِانْتِفَاعِ وَخَلْطِهَا بِمَالِهِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ الْمَالَ لِحَرْبِيٍّ لَا أَمَانَ لَهُ ، وَقَدْ سَبَقَتْ يَدُهُ إلَيْهِ فَجَعَلَهُ أَحَقَّ بِهِ لِهَذَا .
وَإِلَيْهِ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ قَالَ : { رِزْقٌ سَاقَهُ إلَيْكَ اللَّهُ } وَلَكِنْ مَعَ هَذَا أَمَرَهُ بِأَنْ يَعْرِفَ عَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا احْتِيَاطًا ، حَتَّى إذَا جَاءَ
طَالِبٌ لَهَا مُحْتَرَمٌ تَمَكَّنَ مِنْ الْخُرُوجِ مِمَّا عَلَيْهِ يَدْفَعُ مِثْلَهَا إلَيْهِ ، وَذُكِرَ عَنْ الْحَسَنِ بْنِ صُبَاحٍ قَالَ : وَجَدَ رَجُلٌ لُقَطَةً أَيَّامَ الْحَاجِّ فَسَأَلَ عَنْهَا عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَقَالَ : عَرِّفْهَا فِي الْمَوْسِمِ ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا تَصَدَّقْ بِهَا ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَخَيِّرْهُ بَيْنَ الْأَجْرِ وَبَيْنَ الثَّمَنِ يَعْنِي الْقِيمَةَ ، فَإِنْ اخْتَارَ الثَّمَنَ فَادْفَعْ إلَيْهِ ، وَإِنْ اخْتَارَ الْأَجْرَ ، فَلَهُ الْأَجْرُ ، وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يُعَرِّفَهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَهَا فِيهِ ، وَأَنْ يُعَرِّفَهَا فِي مَجْمَعِ النَّاسِ ؛ وَلِهَذَا أَمَرَهُ بِالتَّعْرِيفِ فِي الْمَوْسِمِ .
وَهَذَا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إيصَالُهَا إلَى صَاحِبِهَا ، وَذَلِكَ بِالتَّعْرِيفِ فِي مَجْمَعِ النَّاسِ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي أَصَابَهَا حَتَّى يَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِذَلِكَ بَيْنَهُمْ فَيَصِلُ الْخَبَرُ إلَى صَاحِبِهَا ، وَذُكِرَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ رَجُلٍ قَالَ : وَجَدْتُ لُقَطَةً حِينَ أَنْفَرَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النَّاسَ إلَى صِفِّينَ فَعَرَّفْتُهَا تَعْرِيفًا ضَعِيفًا حَتَّى قَدِمْتُ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَخْبَرْتُهُ بِذَلِكَ فَضَرَبَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِي ، وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ لِي : إنَّكَ لَعَرِيضُ الْقَفَا خُذْ مِثْلَهَا فَاذْهَبْ حَيْثُ وَجَدْتَهَا ، فَإِنْ وَجَدْتَ صَاحِبَهَا فَادْفَعْهَا إلَيْهِ وَإِلَّا فَتَصَدَّقْ بِهَا ، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا فَخَيِّرْهُ إنْ شَاءَ اخْتَارَ الْأَجْرَ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَكَ وَمَعْنَى قَوْلِهِ : فَعَرَّفْتُهَا تَعْرِيفًا ضَعِيفًا أَيْ عَرَّفْتُهَا سِرًّا وَمَا أَظْهَرْتُ تَعْرِيفَهَا فِي مَجْمَعِ النَّاسِ فَكَأَنَّهُ طَمِعَ فِي أَنْ تَبْقَى لَهُ ، وَعَرَفَ ذَلِكَ مِنْهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ ضَرَبَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ ، وَقَالَ مَا قَالَ إنَّكَ سَلِيمُ الْقَلْبِ تَطْمَعُ فِي مَالِ الْغَيْرِ ، وَهَذَا مِنْ دُعَابَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَقَدْ كَانَ بِهِ دُعَابَةٌ كَمَا قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
حِينَ ذَكَرَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِلْخِلَافَةِ ، أَمَا إنَّهُ إنْ وَلِيَ هَذَا الْأَمْرَ حَمَلَ النَّاسَ عَلَى مَحَجَّةٍ بَيْضَاءَ لَوْلَا دُعَابَةٌ بِهِ .
وَفِيهِ دَلِيلٌ أَنَّ التَّعْرِيفَ سِرًّا لَا يَكْفِي بَلْ يَنْبَغِي لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يُظْهِرَ التَّعْرِيفَ كَمَا أَمَرَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الرَّجُلَ بِهِ ، وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُعَرِّفَهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي وَجَدَهَا ؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا يَطْلُبُهَا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، وَحُكِيَ أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ وَجَدَ لُقَطَةً وَكَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهَا فَقَالَ فِي نَفْسِهِ : لَا بُدَّ مِنْ تَعَرُّفِهَا ، وَلَوْ عَرَّفْتُهَا فِي الْمِصْرِ رُبَّمَا يَظْهَرُ صَاحِبُهَا فَخَرَجَ مِنْ الْمِصْرِ حَتَّى انْتَهَى إلَى رَأْسِ بِئْرٍ فَدَلَّى رَأْسَهُ فِي الْبِئْرِ وَجَعَلَ يَقُولُ : وَجَدْت كَذَا ، فَمَنْ سَمِعْتُمُوهُ يَنْشُدُ ذَلِكَ فَدَلُّوهُ عَلَيَّ ، وَبِجَنْبِ الْبِئْرَ رَجُلٌ يَرْقَعُ شَمْلَةً وَكَانَ صَاحِبَ اللُّقَطَةِ فَتَعَلَّقَ بِهِ حَتَّى أَخَذَهَا مِنْهُ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْمَقْدُورَ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتْرُكَ مَا الْتَزَمَهُ شَرْعًا ، وَهُوَ إظْهَارُ التَّعْرِيفِ ، وَبَعْدَ إظْهَارِ التَّعْرِيفِ إنْ جَاءَ صَاحِبُهَا دَفَعَهَا إلَيْهِ لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالتَّعْرِيفِ ، وَإِنْ لَمْ يَجِئْ فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا حَتَّى يَجِيءَ صَاحِبُهَا ، وَإِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بِهَا ؛ لِأَنَّ الْحِفْظَ هُوَ الْعَزِيمَةُ وَالتَّصَدُّقُ بِهَا بَعْدَ التَّعْرِيفِ حَوْلًا رُخْصَةٌ ، فَيُخَيَّرُ بَيْنَ التَّمَسُّكِ بِالْعَزِيمَةِ أَوْ التَّرَخُّصِ بِالرُّخْصَةِ ، فَإِنْ تَصَدَّقَ بِهَا ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهَا فَهُوَ بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ أَجَازَ الصَّدَقَةَ وَيَكُونُ لَهُ ثَوَابُهَا وَإِنْ شَاءَ اخْتَارَ الضَّمَانَ ، وَإِذَا اخْتَارَ الضَّمَانَ يُخَيَّرُ بَيْنَ تَضْمِينِ الْمُلْتَقِطِ وَبَيْنَ تَضْمِينِ الْمِسْكِينِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي حَقِّهِ مُكْتَسِبٌ سَبَبَ الضَّمَانِ الْمُلْتَقِطُ بِتَمْلِيكِ مَالِهِ مِنْ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَالْمِسْكِينُ يَقْبِضُهُ لِنَفْسِهِ عَلَى طَرِيقِ التَّمْلِيكِ ، وَأَيُّهُمَا ضَمَّنَهُ
لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْآخَرِ بِشَيْءٍ ، أَمَّا الْمِسْكِينُ فَلِأَنَّهُ فِي الْقَبْضِ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ ، فَلَا يَرْجِعُ بِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الضَّمَانِ عَلَى غَيْرِهِ ، وَأَمَّا الْمُلْتَقِطُ فَلِأَنَّهُ بِالضَّمَانِ قَدْ مَلَكَ وَظَهَرَ أَنَّهُ تَصَدَّقَ بِمِلْكِ نَفْسِهِ فَلَهُ ثَوَابُهَا ، وَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْمِسْكِينِ بِشَيْءٍ ، وَإِنْ كَانَ الْمُلْتَقِطُ مُحْتَاجًا فَلَهُ أَنْ يَصْرِفَهَا إلَى حَاجَةِ نَفْسِهِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَتَمَكَّنُ مِنْ التَّصَدُّقِ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ سَدِّ خَلَّةِ الْمُحْتَاجِ وَاتِّصَالِ ثَوَابِهَا إلَى صَاحِبِهَا ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِصَرْفِهَا إلَى نَفْسِهِ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا .
فَكَانَ لَهُ صَرْفُهَا إلَى نَفْسِهِ لِهَذَا الْمَعْنَى .
فَأَمَّا إذَا كَانَ غَنِيًّا فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَصْرِفَ اللُّقَطَةَ إلَى نَفْسِهِ عِنْدَنَا ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ دَيْنًا عَلَيْهِ إذَا جَاءَ صَاحِبُهَا لِحَدِيثِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَمَا رَوَيْنَا وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ وَجَدَ دِينَارًا فَاشْتَرَى بِهِ طَعَامًا بَعْدَ التَّعْرِيفِ فَأَكَلَ مِنْ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلِيٌّ وَفَاطِمَةُ وَالْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ ، وَلَوْ كَانَ سَبِيلُهُ التَّصَدُّقَ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُلْتَقِطِ صَرْفُهَا إلَى مَنْفَعَةِ نَفْسِهِ لَمَّا أَكَلُوا مِنْ ذَلِكَ ، فَإِنَّ الصَّدَقَةَ مَا كَانَتْ تَحِلُّ لَهُمْ ، وَالْمَعْنَى فِيهِ أَنَّ لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَصْرِفَهَا إلَى نَفْسِهِ إذَا كَانَ مُحْتَاجًا بِسَبَبِ الِالْتِقَاطِ ، وَمَا يَثْبُتُ لَهُ بِسَبَبِ الِالْتِقَاطِ يَسْتَوِي فِيهِ أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا ، كَالْحِفْظِ وَالتَّعْرِيفِ وَالتَّصَدُّقِ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ فِي الصَّرْفِ إلَى نَفْسِهِ مَعْنَى النَّظَرِ لَهُ وَلِصَاحِبِهَا أَظْهَرُ ؛ لِأَنَّهُ يَتَوَصَّلُ إلَى مَنْفَعَتِهِ بِبَدَلٍ يَكُونُ دَيْنًا عَلَيْهِ لِصَاحِبِهَا إذَا حَضَرَ ، فَكَانَ مَنْفَعَةُ كُلِّ وَاحِدٍ فِي هَذَا أَظْهَرَ ،
وَحُجَّتُنَا فِي ذَلِكَ مَا رَوَيْنَا مِنْ الْآثَارِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّصَدُّقِ بِاللُّقَطَةِ بَعْدَ التَّعْرِيفِ ، وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ اتِّصَالُ ثَوَابِهَا إلَى صَاحِبِهَا ، وَهَذَا الْمَقْصُودُ لَا يَحْصُلُ بِصَرْفِهَا إلَى نَفْسِهِ إذَا كَانَ غَنِيًّا بَلْ يَتَبَيَّنُ بِهِ أَنَّهُ فِي الْأَخْذِ كَانَ عَامِلًا لِنَفْسِهِ ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ شَرْعًا أَخْذُ اللُّقَطَةِ لِنَفْسِهِ فَكَمَا يَلْزَمُهُ أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ هَذِهِ النِّيَّةِ فِي الِابْتِدَاءِ فَكَذَلِكَ فِي الِانْتِهَاءِ يَلْزَمُهُ التَّحَرُّزُ عَنْ إظْهَارِ هَذَا ، وَقَدْ بَيَّنَّا تَأْوِيلَ حَدِيثِ أُبَيٍّ ، فَأَمَّا حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ قِيلَ : مَا وَجَدَهُ لَمْ يَكُنْ لُقَطَةً ، وَإِنَّمَا أَلْقَاهَا مَلَكٌ لِيَأْخُذَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَدْ كَانُوا لَمْ يُصِيبُوا طَعَامًا أَيَّامًا وَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ ، فَلِهَذَا تَنَاوَلُوا مِنْهُ عَلَى أَنَّ الصَّدَقَةَ الْوَاجِبَةَ كَانَتْ لَا تَحِلُّ لَهُمْ ، وَهَذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ تِلْكَ الْجُمْلَةِ فَلِهَذَا اسْتَجَازَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الشِّرَاءَ بِهَا لِحَاجَتِهِ ، وَإِذَا وَجَدَ الرَّجُلُ اللُّقَطَةَ وَهِيَ دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ فَجَاءَ صَاحِبُهَا وَسَمَّى وَزْنَهَا وَعَدَدَهَا وَوِكَاءَهَا فَأَصَابَ ذَلِكَ كُلَّهُ ، فَإِنْ شَاءَ الَّذِي فِي يَدِهِ دَفَعَهَا إلَيْهِ .
وَإِنْ شَاءَ أَبَى حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ عِنْدَنَا ، وَقَالَ مَالِكٌ يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِهَا إلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَصَابَ الْعَلَامَاتِ فَالْوَهْمُ الَّذِي سَبَقَ إلَى وَهْمِ كُلِّ وَاحِدٍ أَنَّهُ صَاحِبُهُ وَالِاسْتِحْقَاقُ بِالظَّاهِرِ يَثْبُتُ خُصُوصًا عِنْدَ عَدَمِ الْمُنَازِعِ كَمَا يَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ لِذِي الْيَدِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ يَثْبُتُ وَالْمُلْتَقِطُ غَيْرُ مُنَازِعٍ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَدَّعِيهَا لِنَفْسِهِ ، وَلِأَنَّهُ يَتَعَذَّرُ عَلَى صَاحِبِهَا إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ ، فَإِنَّهُ مَا أَشْهَدَ أَحَدًا عِنْدَ سُقُوطِهَا مِنْهُ ، وَلَوْ تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ لَمَا سَقَطَتْ مِنْهُ فَسَقَطَ اشْتِرَاطُ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ
لِلتَّعَذُّرِ وَتُقَامُ الْعَلَامَةُ مَقَامَ ذَلِكَ كَمَا يُقَامُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ مَقَامَ شَهَادَةِ الرِّجَالِ ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : إصَابَةُ الْعَلَامَةِ مُحْتَمَلٌ فِي نَفْسِهِ فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ جُزَافًا ، وَقَدْ يَعْرِفُ الْإِنْسَانُ ذَلِكَ مِنْ مِلْكِ غَيْرِهِ ، وَقَدْ يَسْمَعُ مِنْ مَالِكِهِ يَنْشُدُ ذَلِكَ وَيَذْكُرُ عَلَامَاتِهِ ، وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً لِلْإِلْزَامِ .
ثُمَّ الْمُلْتَقِطُ أَمِينٌ وَيَصِيرُ بِالدَّفْعِ إلَى غَيْرِ الْمَالِكِ ضَامِنًا فَيَكُونُ لَهُ أَنْ يَتَحَرَّزَ عَنْ اكْتِسَابِ سَبَبِ الضَّمَانِ بِأَنْ لَا يَدْفَعَ إلَيْهِ حَتَّى يُقِيمَ الْبَيِّنَةَ فَيَثْبُتُ اسْتِحْقَاقُهُ بِحُجَّةٍ حُكْمِيَّةٍ ، وَلَهُ أَنْ يَتَوَسَّعَ فَيَدْفَعَ إلَيْهِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ ، فَإِنْ دَفَعَهَا إلَيْهِ أَخَذَ مِنْهُ بِهَا كَفِيلًا نَظَرًا مِنْهُ لِنَفْسِهِ ، فَلَعَلَّهُ يَأْتِي مُسْتَحِقُّهَا فَيُضَمِّنَهَا إيَّاهُ ، وَلَا يَتَمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ عَلَى الْأَخْذِ مِنْهُ ؛ لِأَنَّهُ يُخْفِي شَخْصَهُ فَيَحْتَاطُ فِيهَا بِأَخْذِ الْكَفِيلِ مِنْهُ ، وَإِنْ صَدَّقَهُ وَدَفَعَهَا إلَيْهِ ثُمَّ أَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ ، فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْمُلْتَقِطَ ، أَمَّا بَعْدَ التَّصْدِيقِ يُؤْمَرُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ ؛ لِأَنَّ الْإِقْرَارَ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ ، لَكِنَّ الْإِقْرَارَ لَا يُعَارَضُ بَيِّنَةَ الْآخَرِ ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ مُتَعَدِّيَةٌ إلَى النَّاسِ كَافَّةً فَيَثْبُتُ الِاسْتِحْقَاقُ بِهَا لِلَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ ، وَيَتَبَيَّنُ أَنَّ الْمُلْتَقِطَ دَفَعَ مِلْكَهُ إلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، فَلَهُ الْخِيَارُ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْقَابِضَ بِقَبْضِهِ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُلْتَقِطَ بِدَفْعِهِ ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْمُلْتَقِطَ رَجَعَ عَلَى الْمَدْفُوعِ إلَيْهِ ، وَإِنْ صَدَّقَهُ بِإِصَابَتِهِ الْعَلَامَةَ فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ اعْتِمَادًا عَلَى الظَّاهِرِ ، وَلَا بَقَاءَ لَهُ بَعْدَ الْحُكْمِ بِخِلَافِهِ ، وَالْمُقِرُّ إذَا صَارَ مُكَذِّبًا فِي إقْرَارِهِ يَسْقُطُ اعْتِبَارُ إقْرَارِهِ كَالْمُشْتَرِي إذَا أَقَرَّ بِالْمِلْكِ لِلْبَائِعِ ثُمَّ اسْتَحَقَّهُ إنْسَانٌ مِنْ يَدِهِ رَجَعَ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ ، وَالرِّوَايَةُ مَحْفُوظَةٌ فِي وَكِيلِ الْمُودِعِ إذَا جَاءَ إلَى الْمُودَعِ وَقَالَ : أَنَا وَكِيلُهُ فِي اسْتِرْدَادِ الْوَدِيعَةِ مِنْكَ فَصَدَّقَهُ لَا يُجْبَرُ عَلَى الدَّفْعِ إلَيْهِ إلَّا فِي رِوَايَةٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، بِخِلَافِ وَكِيلِ صَاحِبِ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ الْمَدْيُونَ إنَّمَا يَقْضِي الدَّيْنَ بِمِلْكِ نَفْسِهِ ،
وَإِقْرَارُهُ فِي مِلْكِ نَفْسِهِ مُلْزِمٌ ، فَأَمَّا الْمُودِعُ يُقِرُّ لَهُ بِحَقِّ الْقَبْضِ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ ، وَإِقْرَارُهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ لَيْسَ بِمُلْزِمٍ ، فَعَلَى هَذَا قَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ فِي اللُّقَطَةِ كَذَلِكَ لَا يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِهَا إلَيْهِ وَإِنْ صَدَّقَهُ .
وَمِنْهُمْ مَنْ فَرَّقَ فَقَالَ : هُنَاكَ الْمِلْكُ لِغَيْرِ الَّذِي حَضَرَ ظَاهِرٌ فِي الْوَدِيعَةِ وَهُنَا لَيْسَ فِي اللُّقَطَةِ مِلْكٌ ظَاهِرٌ لِغَيْرِ الَّذِي حَضَرَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ إقْرَارُ الْمُلْتَقِطِ مُلْزِمًا إيَّاهُ الدَّفْعَ إلَيْهِ ، ثُمَّ فِي الْوَدِيعَةِ إذَا دَفَعَ إلَيْهِ بَعْدَ مَا صَدَّقَهُ وَهَلَكَ فِي يَدِهِ ثُمَّ حَضَرَ الْمُودِعُ وَأَنْكَرَ الْوَكَالَةَ وَضَمَّنَ الْمُودَعَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْوَكِيلِ بِشَيْءٍ ، وَهُنَا لِلْمُلْتَقِطِ أَنْ يَرْجِعَ عَلَى الْقَابِضِ ؛ لِأَنَّ هُنَاكَ فِي زَعْمِ الْمُودَعِ أَنَّ الْوَكِيلَ عَامِلٌ لِلْمُودِعِ فِي قَبْضِهِ لَهُ بِأَمْرِهِ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِضَامِنٍ بَلْ الْمُودِعُ ظَالِمٌ فِي تَضْمِينِهِ إيَّاهُ ، وَمَنْ ظُلِمَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَظْلِمَ غَيْرَهُ ، وَهُنَا فِي زَعْمِهِ أَنَّ الْقَابِضَ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ ، وَأَنَّهُ ضَامِنٌ بَعْدَ مَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِغَيْرِهِ بِالْبَيِّنَةِ فَكَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا ضَمِنَ ؛ لِهَذَا يُوَضِّحُهُ أَنَّ هُنَاكَ الْمُودِعُ مُنْكِرٌ الْوَكَالَةَ ، وَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ، فَلَا حَاجَةَ بِهِ إلَى الْبَيِّنَةِ ، وَإِنَّمَا يَقْضِي الْقَاضِي عَلَى الْمُودَعِ بِالضَّمَانِ بِاعْتِبَارِ الْأَصْلِ وَهُوَ عَدَمُ الْوَكَالَةِ ، فَلَا يَصِيرُ الْمُودَعُ مُكَذَّبًا فِي زَعْمِهِ حُكْمًا ، وَهُنَا إنَّمَا يُقْضَى بِالضَّمَانِ عَلَى الْمُلْتَقِطِ بِحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ فَيَصِيرُ هُوَ مُكَذَّبًا فِي زَعْمِهِ حُكْمًا ، فَإِنْ كَانَتْ اللُّقَطَةُ مِمَّا لَا يَبْقَى إذَا أَتَى عَلَيْهِ يَوْمٌ أَوْ يَوْمَانِ عَرَّفَهَا حَتَّى إذَا خَافَ أَنْ تَفْسُدَ تَصَدَّقَ بِهَا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ التَّعْرِيفِ إيصَالُهَا إلَى صَاحِبِهَا ، فَتُقَيَّدُ مُدَّةُ التَّعْرِيفِ بِالْوَقْتِ الَّذِي لَا يَفْسُدُ
فِيهِ ؛ لِأَنَّ بَعْدَ الْفَسَادِ لَا فَائِدَةَ لِصَاحِبِهَا فِي إيصَالِهَا إلَيْهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ التَّصَدُّقَ بِهَا طَرِيقٌ لِحِفْظِهَا عَلَى صَاحِبِهَا مِنْ حَيْثُ الثَّوَابُ فَيَصِيرُ إلَى ذَلِكَ إذَا خَافَ أَنْ تَفْسُدُ الْعَيْنُ ، وَإِذَا وَجَدَ شَاةً أَوْ بَعِيرًا أَوْ بَقَرَةً أَوْ حِمَارًا فَحَبَسَهُ ، وَعَرَّفَهُ ، وَأَنْفَقَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهَا ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَهُ لَمْ يَرْجِعْ عَلَيْهِ بِمَا أَنْفَقَ ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ أَمْرِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَنْفَقَ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي ، فَأَمَّا أَمْرُ الْقَاضِي بِمَنْزِلَةِ أَمْرِ صَاحِبِهَا لِمَا لِلْقَاضِي عَلَى صَاحِبِهَا مِنْ وِلَايَةِ النَّظَرِ عِنْدَ عَجْزِهِ عَنْ النَّظَرِ بِنَفْسِهِ ، وَالْأَمْرُ بِالْإِنْفَاقِ مِنْ النَّظَرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا بَقَاءَ لِلْحَيَوَانِ بِدُونِ النَّفَقَةِ عَادَةً ، فَإِنْ رَفَعَهَا إلَى الْقَاضِي ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ الْتَقَطَهَا أَمَرَهُ بِأَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهَا عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى ، وَقَدْ بَيَّنَّا طَرِيقَ قَبُولِ هَذِهِ الْبَيِّنَةِ ، وَالْأَمْرُ بِالْإِنْفَاقِ بَعْدَهَا فِي اللَّقِيطِ .
ثُمَّ إنَّمَا يَأْمُرُ بِالْإِنْفَاقِ نَظَرًا مِنْهُ لِصَاحِبِهَا ، فَلَا يَأْمُرُ إلَّا فِي مُدَّةٍ يَتَحَقَّقُ فِيهَا مَعْنَى النَّظَرِ لَهُ مِنْ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَمَرَ بِالْإِنْفَاقِ فِي مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ رُبَّمَا يَأْتِي ذَلِكَ عَلَى قِيمَتِهَا ، فَلَا يَكُونُ فِيهَا نَظَرٌ لِصَاحِبِهَا ، فَأَمَّا فِي الْمُدَّةِ الْيَسِيرَةِ تَقِلُّ النَّفَقَةُ ، وَمَعْنَى النَّظَرِ لِحِفْظِ عَيْنِ مِلْكِهِ عَلَيْهِ يَحْصُلُ ، فَإِنْ لَمْ يَجِئْ صَاحِبُهَا بَاعَ الشَّاةَ وَنَحْوَهَا ؛ لِأَنَّ فِي الْبَيْعِ حِفْظُ الْمَالِيَّةِ عَلَيْهِ بِالثَّمَنِ ، وَلَهُ وِلَايَةُ الْحِفْظِ عَلَيْهِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ ، فَإِذَا تَعَذَّرَ حِفْظُ الْعَيْنِ لِعَوَزِ النَّفَقَةِ صَارَ إلَى حِفْظِ الْمَالِ عَلَيْهِ بِالْبَيْعِ ، وَأَمَّا الْغُلَامُ وَالدَّابَّةُ فَنُؤَاجِرُهُ وَنُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرِهِ ؛ لِأَنَّ بِهَذَا الطَّرِيقِ يُتَوَصَّلُ إلَى حِفْظِ عَيْنِ
مِلْكِهِ ، وَالْمَنْفَعَةُ لَا تَبْقَى لَهُ بَعْدَ مُضِيِّ الْمُدَّةِ فَإِجَارَتُهُ وَالْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ بِمَحْضِ نَظَرٍ لَهُ ، فَإِذَا بَاعَهَا أَعْطَاهُ الْقَاضِي مِنْ ذَلِكَ الثَّمَنِ مَا أَنْفَقَ عَلَيْهِ بِأَمْرِهِ فِي الْيَوْمَيْنِ أَوْ الثَّلَاثَةِ ؛ لِأَنَّ الثَّمَنَ مَالُ صَاحِبِهَا ، وَالنَّفَقَةُ دَيْنٌ وَاجِبٌ لِلْمُلْتَقِطِ عَلَى صَاحِبِهَا ، وَهُوَ مَعْلُومٌ لِلْقَاضِي فَيَقْضِي دَيْنَهُ بِمَالِهِ ؛ لِأَنَّ صَاحِبَ الدَّيْنِ لَوْ ظَفِرَ بِجِنْسِ حَقِّهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُ فَكَذَلِكَ الْقَاضِي بِعَيْنِهِ عَلَى ذَلِكَ ، فَإِنْ لَمْ يَبِعْهَا حَتَّى جَاءَ صَاحِبُهَا ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ قَضَى لَهُ بِهَا الْقَاضِي ، وَقَضَى عَلَيْهِ بِنَفَقَةِ الْمُلْتَقِطِ ، فَإِنْ قَالَ الْمُلْتَقِطُ : لَا أَدْفَعُهَا إلَيْكَ حَتَّى تُعْطِيَنِي النَّفَقَةَ كَانَ لَهُ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ مِلْكَهُ فِي الدَّابَّةِ حَيٌّ ، وَبَقِيَ تَمَلُّكُ النَّفَقَةِ فَكَانَتْ تِلْكَ النَّفَقَةُ مُتَعَلِّقَةً بِمَالِيَّةِ الدَّابَّةِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ فَيَحْبِسُهَا كَمَا يَحْبِسُ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ بِالثَّمَنِ ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْكِتَابِ أَنَّ الْمُلْتَقِطَ إذَا لَمْ يُقِمْ الْبَيِّنَةَ هَلْ يَأْمُرُ الْقَاضِي بِالْإِنْفَاقِ أَمْ لَا ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يَقُولَ : إنْ كُنْتَ صَادِقًا فَقَدْ أَمَرْتُكَ بِالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ فِي هَذَا مَعْنَى النَّظَرِ لَهُمَا ، وَلَا ضَرَرَ فِيهِ عَلَى أَحَدٍ ، فَإِنَّهُ إنْ كَانَ غَاصِبًا لِلدَّابَّةِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ ضَمَانِهِ ، وَلَا يَسْتَوْجِبُ الرُّجُوعَ بِالنَّفَقَةِ عَلَى مَالِكِهَا بِالْأَمْرِ لِمَا قَيَّدَهُ بِكَوْنِهِ صَادِقًا فِيهِ .
وَإِذَا الْتَقَطَ الرَّجُلُ لُقَطَةً أَوْ وَجَدَ دَابَّةً ضَالَّةً أَوْ أَمَةً أَوْ عَبْدًا أَوْ صَبِيًّا حُرًّا ضَالًّا فَرَدَّهُ عَلَى أَهْلِهِ لَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ جُعْلٌ ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ بِمَنَافِعِهِ فِي الرَّدِّ ، وَوُجُوبِ الْجُعْلِ لِرَدِّ الْآبِقِ حُكْمٌ ثَبَتَ نَصًّا ، بِخِلَافِ الْقِيَاسِ بِقَوْلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَلَا يَلْحَقُ بِهِ مَا لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ ،
وَالضَّالُّ لَيْسَ فِي مَعْنَى الْآبِقِ فَالْآبِقُ لَا يَزَالُ يَتَبَاعَدُ مِنْ الْمَوْلَى حَتَّى يَفُوتَهُ ، وَالضَّالُّ لَا يَزَالُ يَقْرُبُ مِنْ صَاحِبِهِ حَتَّى يَجِدَهُ ، فَلِهَذَا أَخَذْنَا فِيهِ بِالْقِيَاسِ ، وَإِنْ عَوَّضَهُ صَاحِبُهُ شَيْئًا فَهُوَ حَسَنٌ ؛ لِأَنَّهُ يُحْسِنُ إلَيْهِ فِي إحْيَاءِ مِلْكِهِ وَرَدِّهِ عَلَيْهِ ، وَهَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إلَّا الْإِحْسَانُ ، وَلِأَنَّهُ مُنْعِمٌ عَلَيْهِ ، وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { مَنْ أَزَالَتْ إلَيْهِ نِعْمَةٌ فَلْيَشْكُرْهَا } وَذَلِكَ بِالتَّعْوِيضِ ، وَأَدْنَى دَرَجَاتِ الْأَمْرِ النَّدْبُ ، وَإِذَا وَجَدَ الرَّجُلُ بَعِيرًا ضَالًّا أَخَذَهُ يُعَرِّفُهُ ، وَلَمْ يَتْرُكْهُ يَضِيعُ عِنْدَنَا ، وَقَالَ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَرْكُهُ أَوْلَى لِلْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { سُئِلَ عَنْ ضَالَّةِ الْغَنَمِ فَقَالَ : هِيَ لَكَ أَوْ لِأَخِيكَ أَوْ لِلذِّئْبِ } فَلَمَّا { سُئِلَ عَنْ ضَالَّةِ الْإِبِلِ غَضِبَ حَتَّى احْمَرَّتْ وَجْنَتَاهُ ، وَقَالَ : مَالَكَ وَلَهَا مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَرْعَيْ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا } وَتَأْوِيلُهُ عِنْدَنَا أَنَّهُ كَانَ فِي الِابْتِدَاءِ فَإِنَّ الْغَلَبَةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ لِأَهْلِ الصَّلَاحِ وَالْخَيْرِ لَا تَصِلُ إلَيْهَا يَدٌ خَائِنَةٌ إذَا تَرَكَهَا وَاجِدُهَا ، فَأَمَّا فِي زَمَانِنَا لَا يَأْمَنُ وَاجِدُهَا وُصُولَ يَدٍ خَائِنَةٍ إلَيْهَا بَعْدَهُ فَفِي أَخْذِهَا إحْيَاؤُهَا وَحِفْظُهَا عَلَى صَاحِبِهَا فَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَضْيِيعِهَا كَمَا قَرَّرْنَا فِي سَائِرِ اللُّقَطَاتِ ، وَإِذَا بَاعَ اللُّقَطَةَ بِأَمْرِ الْقَاضِي لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهَا إذَا حَضَرَ إلَّا الثَّمَنُ كَمَا لَوْ بَاعَهَا الْقَاضِي بِنَفْسِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْبَيْعَ نَفَذَ بِوِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَهُوَ كَبَيْعٍ يَنْفُذُ بِإِذْنِ الْمَالِكِ .
وَإِنْ كَانَ بَاعَهَا بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي فَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لِحُصُولِهِ مِمَّنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى الْمَالِكِ بِغَيْرِ أَمْرٍ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا ، ثُمَّ إنْ حَضَرَ صَاحِبُهَا وَاللُّقَطَةُ قَائِمَةٌ فِي يَدِ
الْمُشْتَرِي يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يُجِيزَ الْبَيْعَ وَيَأْخُذَ الثَّمَنَ ، وَبَيْنَ أَنْ يُبْطِلَ الْبَيْعَ وَيَأْخُذَ عَيْنَ مَالِهِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى إجَازَتِهِ كَمَا لَوْ كَانَ حَاضِرًا حِينَ بَاعَهُ غَيْرُهُ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، فَإِنْ كَانَ قَدْ هَلَكَتْ اللُّقَطَةُ فِي يَدِ الْمُشْتَرِي فَصَاحِبُهَا بِالْخِيَارِ إنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْبَائِعَ الْقِيمَةَ لِوُجُودِ الْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ مِنْهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ ، وَإِنْ شَاءَ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِي بِقَبْضِهِ مِلْكَهُ بِنَفْسِهِ بِغَيْرِ رِضَاهُ ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْبَائِعَ كَانَ الثَّمَنُ لِلْبَائِعِ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ فَيَنْفُذُ الْبَيْعُ مِنْ جِهَتِهِ ، وَلَكِنْ يَتَصَدَّقُ بِمَا زَادَ عَلَى الْقِيمَةِ مِنْ الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ فَإِنْ قِيلَ : الضَّمَانُ إنَّمَا يَلْزَمُهُ بِالتَّسْلِيمِ ، وَالْبَيْعُ كَانَ سَابِقًا عَلَيْهِ كَيْف يَنْفُذُ الْبَيْعُ مِنْ جِهَتِهِ بِأَدَاءِ الضَّمَانِ .
؟ قُلْنَا : لَا كَذَلِكَ بَلْ كَمَا رَفَعَهُ لِيَبِعْهُ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي صَارَ ضَامِنًا بِمَنْزِلَةِ الْمُودَعِ يَبِيعُ الْوَدِيعَةَ ، ثُمَّ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا ، فَإِنَّ الْبَيْعَ يَنْفُذُ مِنْ جِهَتِهِ بِهَذَا الطَّرِيقِ ، وَهُوَ أَنَّهُ كَمَا رَفَعَهَا إلَى الْبَيْعِ صَارَ ضَامِنًا فَيَسْتَنِدُ مِلْكُهُ إلَى تِلْكَ الْحَالَةِ ، فَإِنْ ضَمَّنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهَا رَجَعَ بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ ؛ لِأَنَّ اسْتِرْدَادَ الْقِيمَةِ مِنْهُ كَاسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ فَيَبْطُلُ الْبَيْعُ بِهِ ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُجِيزَ الْبَيْعَ بَعْدَ هَلَاكِ السِّلْعَةِ ؛ لِأَنَّ الْإِجَازَةَ فِي حَقِّهِ بِمَنْزِلَةِ ابْتِدَاءِ التَّمْلِيكِ ، فَلَا يَصِحُّ إلَّا فِي حَالَةِ بَقَاءِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَلَوْ كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ قَائِمًا فِي يَدِهِ ، وَقَدْ قَبَضَ الْمُلْتَقِطُ الثَّمَنَ ، وَقَدْ هَلَكَ فِي يَدِهِ ، ثُمَّ أَجَازَ الْبَيْعَ نَفَذَ لِقِيَامِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ، وَكَانَ الْمُلْتَقِطُ أَمِينًا فِي الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ إجَازَتَهُ فِي الِانْتِهَاءِ كَإِذْنِهِ فِي الِابْتِدَاءِ .
وَإِذَا أَخَذَ عَبْدًا فَجَاءَ بِهِ إلَى مَوْلَاهُ فَقَالَ : هَذَا عَبْدٌ آبِقٌ فَقَدْ وَجَبَ لِي الْجُعْلُ عَلَيْكَ ، وَقَالَ مَوْلَى الْعَبْدِ : بَلْ هُوَ الضَّالُّ .
أَوْ قَالَ : أَنَا أَرْسَلْتُهُ فِي حَاجَةٍ لِي فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّ الرَّادَّ يَدَّعِي لِنَفْسِهِ عَلَيْهِ الْجُعْلَ ، وَالْمَوْلَى يُنْكِرُ ذَلِكَ ، وَلِأَنَّهُ يَدَّعِي أَنَّ مِلْكَهُ تَغَيَّبَ بِالْإِبَاقِ ، وَالْمَوْلَى مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ ، وَإِذَا هَلَكَتْ اللُّقَطَةُ عِنْدَ الْمُلْتَقِطِ فَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ إنْ كَانَ حِينَ أَخَذَهَا قَالَ : أَخَذْتُهَا لِأَرُدَّهَا عَلَى مَالِكِهَا وَأَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ شَاهِدَيْنِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مَأْذُونٌ فِي أَخْذِهَا لِلرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ مَنْدُوبٌ إلَى ذَلِكَ شَرْعًا ، فَكَانَ هَذَا الْأَخْذُ نَظِيرَ الْأَخْذِ بِإِذْنِ الْمَالِكِ فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِلضَّمَانِ ، وَإِنْ كَانَ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ وَأَقَرَّ بِذَلِكَ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا ؛ لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ أَخْذِهَا فَكَانَ مُتَعَدِّيًا فِي هَذَا الْأَخْذِ فَيَكُونُ ضَامِنًا كَالْغَاصِبِ ، وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تَرُدَّ } أَيْ ضَمَانُ مَا أَخَذَ ، وَالْآخِذُ مُطْلَقًا مَنْ يَكُونُ عَامِلًا لِنَفْسِهِ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَشْهَدَ عِنْدَ الِالْتِقَاطِ وَلَكِنَّهُ ادَّعَى أَنَّهُ أَخَذَهَا لِلرَّدِّ وَيَدَّعِي صَاحِبُهَا أَنَّهُ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ الْقَوْلُ قَوْلُ صَاحِبِهَا وَالْمُلْتَقِطُ ضَامِنٌ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقَوْلُ قَوْلُ الْمُلْتَقِطِ مَعَ يَمِينِهِ لِوَجْهَيْنِ : ( أَحَدُهُمَا ) أَنَّ مُطْلَقَ فِعْلِ الْمُسْلِمِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا يَحِلُّ شَرْعًا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ فِي أَخِيكَ سُوءًا وَأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِي الْخَيْرِ مَحْمَلًا } وَاَلَّذِي يَحِلُّ لَهُ شَرْعًا الْأَخْذُ لِلرَّدِّ لَا لِنَفْسِهِ فَيُحْمَلُ مُطْلَقُ فِعْلِهِ عَلَيْهِ ، وَهَذَا الدَّلِيلُ الشَّرْعِيُّ
قَائِمٌ مَقَامَ الْإِشْهَادِ مِنْهُ .
( وَالثَّانِي ) أَنَّ صَاحِبَهَا يَدَّعِي عَلَيْهِ سَبَبَ الضَّمَانِ وَوُجُوبَ الْقِيمَةِ فِي ذِمَّتِهِ ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ كَمَا لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ الْغَصْبَ ، وَهُمَا يَقُولَانِ كُلُّ حُرٍّ عَامِلٌ لِنَفْسِهِ مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَامِلٌ لِغَيْرِهِ ، وَدَلِيلُ كَوْنِهِ عَامِلًا لِغَيْرِهِ الْإِشْهَادُ هُنَا ، فَإِذَا تَرَكَهُ كَانَ آخِذًا لِنَفْسِهِ بِاعْتِبَارِ الظَّاهِرِ ، هَذَا إذَا وَجَدَهَا فِي مَوْضِعٍ يَتَمَكَّنُ مِنْ الْإِشْهَادِ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَمَكِّنًا مِنْ الْإِشْهَادِ لِعَدَمِ مَنْ يَشْهَدُ أَوْ لِخَوْفِهِ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ ذَلِكَ ظَالِمٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَالثَّانِي أَنَّ أَخْذَ مَالِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ إلَّا عِنْدَ وُجُودِ الْإِذْنِ شَرْعًا ، وَالْإِذْنُ شَرْعًا مُقَيَّدٌ بِشَرْطِ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ وَالْإِظْهَارِ ، فَإِذَا تَرَكَ ذَلِكَ كَانَ أَخْذُهُ سَبَبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ شَرْعًا ، فَلَا يُصَدَّقُ فِي دَعْوَى الْمُسْقِطِ بَعْدَ ظُهُورِ سَبَبِ الضَّمَانِ ، كَمَنْ أَخَذَ مَالَ الْغَيْرِ وَهَلَكَ فِي يَدِهِ ، ثُمَّ ادَّعَى أَنَّ صَاحِبَهُ أَوْدَعَهُ لَمْ يُصَدَّقْ فِي ذَلِكَ إلَّا بِحُجَّةٍ ، وَإِنْ قَالَ : قَدْ الْتَقَطْتُ لُقَطَةً أَوْ ضَالَّةً أَوْ قَالَ : عِنْدِي شَيْءٌ فَمَنْ سَمِعْتُمُوهُ يَنْشُدُ لُقَطَةً فَدُلُّوهُ عَلَيَّ ، فَلِمَا جَاءَ صَاحِبُهَا قَالَ : قَدْ هَلَكَتْ فَهُوَ مُصَدَّقٌ عَلَى ذَلِكَ وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ أَظْهَرَهَا بِمَا قَالَ ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ أَخْذَهَا لِلرَّدِّ فَكَانَ أَمِينًا فِيهَا ، وَلَا يَضُرُّهُ أَنْ لَا يُسَمِّيَ جِنْسَهَا وَلَا صِفَتَهَا فِي التَّعْرِيفِ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ لِتَحْقِيقِ الْحِفْظِ عَلَى الْمَالِكِ كَيْ لَا يَسْمَعَ إنْسَانٌ ذَلِكَ مِنْهُ فَيَدَّعِيَهَا لِنَفْسِهِ وَيُخَاصِمَهُ إلَى قَاضٍ يَرَى الِاسْتِحْقَاقَ لِمُصِيبِ الْعَلَامَةِ ، فَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ فِي هَذَا اخْتِلَافًا ظَاهِرًا ، وَمَا يَرْجِعُ إلَى تَحْقِيقِ الْحِفْظِ عَلَى الْمَالِكِ لَا يَكُونُ سَبَبًا
لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَجَدَ لُقَطَتَيْنِ فَقَالَ : مَنْ سَمِعْتُمُوهُ يَنْشُدُ لُقَطَةً فَدُلُّوهُ عَلَيَّ ، وَإِنْ لَمْ يَقُلْ : عِنْدِي لُقَطَتَانِ ثُمَّ هَلَكَتَا عِنْدَهُ ، ثُمَّ جَاءَ صَاحِبُهُمَا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيهِمَا ؛ لِأَنَّهُ أَظْهَرَهُمَا بِمَا ذَكَرَ مِنْ التَّعْرِيفِ ، فَاللُّقَطَةُ اسْمُ جِنْسٍ يَتَنَاوَلُ الْوَاحِدَ ، وَمَا زَادَ عَلَيْهِ حَتَّى لَوْ قَالَ : عِنْدِي لُقَطَةٌ بَرِئَ مِنْ الضَّمَانِ ، وَإِنْ كَانَتْ عِنْدَهُ عَشَرَةٌ ؛ لِأَنَّ الْإِشْهَادَ بِهَذَا اللَّفْظِ يَتِمُّ مِنْهُ فِي حَقِّ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَإِذَا أَخَذَ الرَّجُلُ لُقَطَةً لِيُعَرِّفَهَا ثُمَّ أَعَادَهَا إلَى الْمَكَانِ الَّذِي وَجَدَهَا فِيهِ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِصَاحِبِهَا وَإِنْ هَلَكَتْ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَيْهَا صَاحِبُهَا أَوْ اسْتَهْلَكَهَا رَجُلٌ آخَرُ ؛ لِأَنَّ أَخْذَهَا لِلتَّعْرِيفِ لَمْ يَكُنْ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ .
وَكَذَلِكَ رَدُّهَا إلَى مَكَانِهَا ؛ لِأَنَّهُ نَسْخٌ لِفِعْلِهِ ، فَلَا يَكُونُ سَبَبًا لِوُجُوبِ الضَّمَانِ عَلَيْهِ ، كَرَدِّ الْوَدِيعَةِ إلَى مَالِكِهَا وَرَدِّ الْمَغْصُوبِ إلَى صَاحِبِهِ ، وَلِأَنَّهُ بِمُجَرَّدِ الْأَخْذِ لَا يَصِيرُ مُلْتَزِمًا لِلْحِفْظِ ، فَقَدْ يَأْخُذُهَا عَلَى ظَنِّ أَنَّهَا لَهُ بِأَنْ كَانَ سَقَطَ مِنْهُ مِثْلُهَا ، فَإِذَا تَأَمَّلَهَا وَعَلِمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ لَهُ رَدَّهَا إلَى مَكَانِهَا ، وَقَدْ يَأْخُذُهَا لِيَعْرِفَ صِفَتَهَا حَتَّى إذَا سَمِعَ إنْسَانًا يَطْلُبُهَا دَلَّهُ عَلَيْهَا ، وَقَدْ يَأْخُذُهَا لِيَحْفَظَهَا عَلَى الْمَالِكِ وَهُوَ يَطْمَعُ فِي أَنْ يَتَمَكَّنَ مِنْ أَدَاءِ الْأَمَانَةِ فِيهَا ، فَإِذَا أَحَسَّ بِنَفْسِهِ عَجْزًا أَوْ طَمَعًا فِي ذَلِكَ رَدَّهَا إلَى مَكَانِهَا فَلِهَذَا لَا يَضْمَنُ شَيْئًا ، وَإِنَّمَا الضَّمَانُ عَلَى الْمُسْتَهْلِكِ لَهَا ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَخَذَهَا لِنَفْسِهِ ثُمَّ أَعَادَهَا إلَى مَكَانِهَا فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا إنْ هَلَكَتْ ، وَإِنْ اسْتَهْلَكَهَا غَيْرُهُ فَلِصَاحِبِهَا الْخِيَارُ يُضَمِّنُ أَيَّهمَا شَاءَ ؛ لِأَنَّ أَخْذَهَا لِنَفْسِهِ سَبَبٌ مُوجِبٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ ، وَبَعْدَ مَا وَجَبَ
الضَّمَانُ لَا يَبْرَأُ إلَّا بِالرَّدِّ عَلَى الْمَالِكِ كَالْغَاصِبِ ، وَإِعَادَتُهَا إلَى مَكَانِهَا لَيْسَ بِرَدٍّ عَلَى الْمَالِكِ ، فَلَا يَكُونُ مُسْقِطًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ ، وَقِيلَ عَلَى قَوْلِ زُفَرَ يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ ؛ لِأَنَّهُ نَسَخَ فِعْلَهُ بِمَا صَنَعَ فَيَسْقُطُ عَنْهُ حُكْمُ ذَلِكَ الْفِعْلِ ، وَنَظَائِرُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ذَكَرَهَا فِي اخْتِلَافِ زُفَرَ وَيَعْقُوبَ قَالَ : إذَا كَانَتْ دَابَّةً فَرَكِبَهَا ثُمَّ نَزَلَ عَنْهَا ، وَتَرَكَهَا فِي مَكَانِهَا فَعَلَى قَوْلِ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ هُوَ ضَامِنٌ لَهَا ، وَكَذَلِكَ لَوْ نَزَعَ الْخَاتِمَ مِنْ أُصْبُعِ نَائِمٍ ثُمَّ أَعَادَهُ إلَى أُصْبُعِهِ بَعْدَ مَا انْتَبَهَ ثُمَّ نَامَ فَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا يَبْرَأُ عَنْ الضَّمَانِ ، وَعِنْدَ زُفَرَ يَبْرَأُ عَنْ ضَمَانِهِ ، وَلَوْ أَعَادَهُ إلَى أُصْبُعِهِ قَبْلَ أَنْ يَنْتَبِهَ مِنْ تِلْكَ النَّوْمَةِ بَرِئَ بِالِاتِّفَاقِ فَزُفَرُ رَحِمَهُ اللَّهُ سَوَّى بَيْنَهُمَا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ نَسَخَ فِعْلَهُ حِينَ أَعَادَهُ عَلَى الْحَالِ الَّذِي أَخَذَهُ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : لَمَّا انْتَبَهَ صَاحِبُهُ وَجَبَ عَلَيْهِ رَدُّهُ فِي حَالَةِ الِانْتِبَاهِ ، فَلَا يَكُونُ نَوْمُهُ بَعْدَ ذَلِكَ مُسْقِطًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ بِخِلَافِ مَا إذَا رَدَّهُ قَبْلَ أَنْ يَنْتَبِهَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ ثَوْبًا فَلَبِسَهُ ثُمَّ نَزَعَهُ وَأَعَادَهُ إلَى مَكَانِهِ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ ، هَذَا إذَا لَبِسَهُ كَمَا يَلْبَسُ ذَلِكَ الثَّوْبَ عَادَةً ، فَأَمَّا إذَا كَانَ قَمِيصًا فَوَضَعَهُ عَلَى عَاتِقِهِ ثُمَّ أَعَادَهُ إلَى مَكَانِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا حِفْظٌ وَلَيْسَ بِاسْتِعْمَالٍ فَلَا يَصِيرُ بِهِ ضَامِنًا ، وَكَذَلِكَ الْخَاتِمُ إنْ لَبِسَهُ فِي الْخِنْصَرِ فَهُوَ اسْتِعْمَالٌ يَصِيرُ بِهِ ضَامِنًا الْيَدُ الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ يَلْبَسُونَ الْخَاتِمَ فِي الْخِنْصَرِ مِنْ الْيَدِ الْيُمْنَى لِلتَّزَيُّنِ وَالِاسْتِعْمَالِ .
وَإِنْ لَبِسَهُ فِي أُصْبُعٍ آخَرَ
لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا الْحِفْظُ دُونَ التَّزَيُّنِ بِهِ ، وَذَكَرَ هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ إنْ لَبِسَهُ عَلَى خَاتِمٍ فِي خِنْصَرِهِ لَمْ يَكُنْ ضَامِنًا ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ هُوَ الْحِفْظُ دُونَ التَّزَيُّنِ بِهِ قَالَ هِشَامٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَقُلْتُ : لَهُ مِنْ السَّلَاطِينِ مَنْ يَتَخَتَّمُ بِخَاتِمَيْنِ لِلتَّزَيُّنِ فَقَالَ : يَكُونُ أَحَدُهُمَا لِلْخَتْمِ لَا لِتَزَيُّنٍ ، ثُمَّ قَالَ : حَتَّى أَتَأَمَّلَ فِي هَذَا ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا كَانَ مَعْرُوفًا بِأَنَّهُ يَلْبَسُ خَاتِمَيْنِ لِلتَّزَيُّنِ فَهَذَا يَكُونُ اسْتِعْمَالًا مِنْهُ وَإِلَّا فَهُوَ حِفْظٌ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ سَيْفًا فَتَقَلَّدَ بِهِ فَهَذَا اسْتِعْمَالٌ ، وَإِنْ كَانَ مُتَقَلِّدًا سَيْفًا فَكَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ الْمُبَارِزَ قَدْ يَتَقَلَّدُ بِسَيْفَيْنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُتَقَلِّدًا بِسَيْفَيْنِ فَحِينَئِذٍ تَقَلُّدُهُ بِهَذِهِ اللُّقَطَةِ يَكُونُ حِفْظًا وَلَا يَكُونُ اسْتِعْمَالًا فَلَا يَصِيرُ ضَامِنًا لَهَا ، قَالَ : وَكَذَلِكَ الْغَاصِبُ إذَا رَدَّ الدَّابَّةَ إلَى دَارِ صَاحِبِهَا لَمْ يَبْرَأْ مِنْ الضَّمَانِ حَتَّى يَدْفَعَهَا إلَى صَاحِبِهَا بِخِلَافِ الْمُسْتَعِيرِ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِضَامِنٍ لَهَا ، فَإِذَا رَدَّهَا إلَى دَارِ صَاحِبِهَا فَقَدْ أَتَى بِمَا هُوَ الْمُعْتَادُ فِي الرَّدِّ ، فَلَا يَكُونُ ضَامِنًا شَيْئًا ، فَأَمَّا الْغَاصِبُ ضَامِنٌ لَهَا فَحَاجَتُهُ إلَى رَدٍّ مُسْقِطٌ لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ ، وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ مَا لَمْ يَدْفَعْهَا إلَى صَاحِبِهَا .
رَجُلٌ جَاءَ إلَى دَابَّةٍ مَرْبُوطَةٍ لِرَجُلٍ فَحَلَّهَا وَلَمْ يَذْهَبْ بِهَا ثُمَّ ذَهَبَتْ الدَّابَّةُ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الَّذِي حَلَّهَا ، وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ ضَامِنٌ لَهَا ، وَعَلَى هَذَا لَوْ فَتَحَ بَابَ الْقَفَصِ فَطَارَ الطَّيْرُ أَوْ فَتْحَ بَابَ الْإِصْطَبْلِ فَفَرَّتْ الدَّابَّةُ ، وَجْهُ قَوْلِ مُحَمَّدٍ أَنَّ الَّذِي حَلَّ الرِّبَاطَ أَوْ فَتَحَ الْبَابَ فِي الْحَقِيقَةِ مُزِيلٌ لِلْمَانِعِ مُوجِدٌ شَرْطَ الذَّهَابِ ، إلَّا أَنَّ مَا هُوَ عِلَّةٌ لِلتَّلَفِ هُنَا وَهُوَ فِعْلُ الطَّيْرِ
وَالدَّابَّةِ سَاقِطُ الِاعْتِبَارِ شَرْعًا ، وَفِي مِثْلِهِ يُحَالُ الْإِتْلَافُ عَلَى صَاحِبِ الشَّرْطِ فَيَصِيرُ ضَامِنًا كَحَافِرِ الْبِئْرِ فِي الطَّرِيقِ ، فَإِنَّهُ أَوْجَدَ شَرْطَ السُّقُوطِ بِإِزَالَةِ الْمَسْكَةِ عَنْ الْأَرْضِ ، فَأَمَّا الْعِلَّةُ ثِقَلُ الْمَاشِي فِي نَفْسِهِ وَمَشْيِهِ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ ، وَلَكِنْ لَمَّا تَعَذَّرَ إضَافَةَ الْإِتْلَافِ إلَيْهِ إذَا لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِهِ كَانَ مُضَافًا إلَى الْحَافِرِ حَتَّى يَكُونَ ضَامِنًا ، وَكَذَلِكَ مَنْ شَقَّ زِقَّ إنْسَانٍ فَسَالَ مِنْهُ مَائِعٌ كَانَ فِيهِ فَهُوَ ضَامِنٌ ، وَعَمَلُهُ إزَالَةُ الْمَانِعِ فَقَطْ ، فَأَمَّا عِلَّةُ السَّيَلَانِ كَوْنُهُ مَائِعًا ، وَلَكِنْ لَمَّا تَعَذَّرَ إضَافَةُ الْحُكْمِ إلَى مَا هُوَ الْعِلَّةُ كَانَ مُضَافًا إلَى الشَّرْطِ ، وَعَلَى هَذَا لَوْ قَطَعَ حَبْلَ قِنْدِيلٍ فَسَقَطَ فَعَمَلُ الْقَاطِعِ فِي إزَالَةِ الْمَانِعِ فَكَانَ ضَامِنًا لِهَذَا الْمَعْنَى وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُمَا اللَّهُ يَقُولَانِ : عَمَلُهُ فِي اتِّحَادِ الشَّرْطِ كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَقَدْ طَرَأَ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ فِعْلُ فَاعِلٍ مُعْتَبَرٌ حَصَلَ بِهِ التَّلَفُ فَيَسْقُطُ اعْتِبَارُ ذَلِكَ الشَّرْطِ ، وَيُحَالُ بِالتَّلَفِ عَلَى هَذَا الْفِعْلِ الْمُعْتَبَرِ ، قَوْلُهُ بِأَنَّ فِعْلَ الدَّابَّةِ هَدَرٌ قُلْنَا : نَعَمْ هُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ ، وَلَكِنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي نَسْخِ حُكْمِ الْفِعْلِ بِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَرْسَلَ دَابَّتَهُ فِي الطَّرِيقِ فَأَصَابَتْ فِي سَيْرِ إرْسَالِهِ مَالًا أَوْ نَفْسًا كَانَ الْمُرْسِلُ ضَامِنًا ، وَلَوْ تَيَامَنَتْ أَوْ تَيَاسَرَتْ ثُمَّ أَصَابَتْ شَيْئًا لَمْ يَضْمَنْ الْمُرْسِلُ ، وَاعْتُبِرَ فِعْلُهَا فِي نَسْخِ حُكْمِ فِعْلِ الْمُرْسَلِ بِهِ فَكَذَلِكَ هُنَا يُعْتَبَرُ فِعْلُهَا فِي نَسْخِ حُكْمِ فِعْلِ الَّذِي حَلَّهَا أَوْ فَتَحَ بَابَ الْإِصْطَبْلِ بِهِ ، وَهُوَ نَظِيرُ مَنْ حَفَرَ بِئْرًا فِي الطَّرِيقِ فَجَاءَ حَرْبِيٌّ لَا أَمَانَ لَهُ ، وَأَلْقَى فِيهِ غَيْرَهُ لَمْ يَضْمَنْ الْحَافِرُ شَيْئًا ، وَفِعْلُ الْحَرْبِيِّ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي إيجَابِ الضَّمَانِ
عَلَيْهِ ، ثُمَّ كَانَ مُعْتَبَرًا فِي نَسْخِ حُكْمِ فِعْلِ الْحَافِرِ بِهِ .
وَهَذَا بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ الزِّقِّ وَالْحَبْلِ ، فَإِنَّهُ مَا طَرَأَ عَلَى فِعْلِهِ مَا يَنْسَخُهُ حَتَّى إذَا كَانَ مَا فِي الزِّقِّ جَامِدًا ، ثُمَّ ذَابَ بِالشَّمْسِ فَسَالَ لَمْ يَضْمَنْ الشَّاقُّ ، فَإِنْ قِيلَ : كَيْفَ يَسْتَقِيمُ الْقَوْلُ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ بِأَنَّ عَمَلَهُ فِي اتِّحَادِ الشَّرْطِ ، وَالشَّرْطُ يَتَأَخَّرُ عَنْ الْعِلَّةِ لَا يَسْبِقُهَا قُلْنَا : هَذَا شَرْطٌ فِي مَعْنَى السَّبَبِ ، فَإِنَّ الْحُكْمَ يُوجَدُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ وَعِنْدَ وُجُودِ السَّبَبِ ، إلَّا أَنَّ السَّبَبَ يَتَقَدَّمُ ، وَالشَّرْطَ يَتَأَخَّرُ ، فَهَذَا التَّقَدُّمُ فِي مَعْنَى السَّبَبِ ، وَلِكَوْنِهِ مُزِيلًا لِلْمَانِعِ هُوَ شَرْطٌ كَمَا بَيَّنَّا ، وَعَلَى هَذَا لَوْ حَلَّ قَيْدَ عَبْدٍ آبِقٍ فَذَهَبَ الْعَبْدُ لَمْ يَضْمَنْ شَيْئًا لِمَا قُلْنَا ، قَالَ مُحَمَّدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ مَجْنُونًا فَحِينَئِذٍ يَضْمَنُ لِأَنَّ فِعْلَهُ فِي الذَّهَابِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ شَرْعًا فَيَبْقَى الْإِتْلَافُ مُضَافًا إلَى إزَالَةِ الْمَانِعِ بِحَلِّ الْقَيْدِ ، وَقَالَ أَيْضًا : لَوْ كَانَ هَذَا الْمَجْنُونُ مُقَيَّدًا فِي بَيْتٍ مُغْلَقٍ فَحَلَّ إنْسَانٌ قَيْدَهُ وَفَتَحَ آخَرُ الْبَابَ فَذَهَبَ فَالضَّمَانُ عَلَى الْفَاتِحِ ؛ لِأَنَّ حَلَّ الْقَيْدِ لَمْ يَكُنْ إزَالَةً لِلْمَانِعِ قَبْلَ فَتْحِ الْبَابِ وَإِتْمَامِ ذَلِكَ بِالْفَاتِحِ لِلْبَابِ فَهُوَ الضَّامِنُ ، وَعَلَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْفُصُولِ إنْ ذَهَبَ فِي فَوْرِ فَتْحِ الْبَابِ أَوْ حَلِّ الرِّبَاطِ فَهُوَ ضَامِنٌ ، وَإِنْ لَمْ يَذْهَبْ فِي فَوْرِهِ ذَلِكَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَذْهَبْ فِي فَوْرِهِ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْبَابَ لَمْ يَكُنْ مَانِعًا لَهُ ، وَإِنَّمَا ذَهَبَ بِقَصْدٍ حَدَثَ لَهُ ، وَقَصْدُ الدَّابَّةِ عِنْدَهُ مُعْتَبَرٌ ، وَإِذَا ذَهَبَ فِي فَوْرِهِ فَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْبَابَ كَانَ مَانِعًا ، وَمَنْ أَزَالَ هَذَا الْمَانِعَ فَهُوَ مُتَعَدٍّ فِيمَا صَنَعَ فَيَكُونُ ضَامِنًا ، وَإِذَا كَانَتْ اللُّقَطَةُ فِي يَدِ
مُسْلِمٍ فَادَّعَاهَا رَجُلٌ وَوَصَفَهَا فَأَبَى الَّذِي فِي يَدِهِ أَنْ يَدْفَعَهَا إلَيْهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ ، فَأَقَامَ شَاهِدَيْنِ كَافِرَيْنِ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا ؛ لِأَنَّهَا تَقُومُ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي اسْتِحْقَاقِ يَدِهِ عَلَيْهِ ، وَشَهَادَةُ الْكَافِرِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ عَلَى الْمُسْلِمِ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدِ كَافِرٍ فَكَذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ ؛ لِأَنِّي لَا أَدْرِي لَعَلَّهَا مِلْكُ الْمُسْلِمِ ، وَشَهَادَةُ الْكَافِرِ فِي اسْتِحْقَاقِ مِلْكِ الْمُسْلِمِ لَيْسَتْ بِحُجَّةٍ ، وَلَكِنْ فِي هَذَا الِاسْتِحْسَانِ يُقْضَى لَهُ بِشَهَادَتِهِمَا ؛ لِأَنَّهَا تَقُومُ لِاسْتِحْقَاقِ الْيَدِ عَلَى الْمُلْتَقِطِ ، وَالْمُلْتَقِطُ كَافِرٌ .
وَشَهَادَةُ الْكَافِرِ حُجَّةٌ عَلَى الْكَافِرِ ، ثُمَّ كَمَا يُتَوَهَّمُ أَنَّهَا لِمُسْلِمٍ يُتَوَهَّمُ أَنَّهَا لِكَافِرٍ فَتَقَابَلَ الْمَوْهُومَاتُ مَعَ أَنَّ الْمَوْهُومَ لَا يُعَارِضُ الْمَعْلُومَ ، وَإِنْ كَانَتْ فِي يَدَيْ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ لَمْ تَجُزْ شَهَادَتُهُمَا فِي الْقِيَاسِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ يَجُوزُ عَلَى الْكَافِرِ مِنْهُمَا فَيَقْضِي لَهُ بِمَا فِي يَدِ الْكَافِرِ لِمَا قُلْنَا ، وَإِذَا أَقَرَّ الْمُلْتَقِطُ بِلُقَطَةٍ لِرَجُلٍ وَأَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ أَنَّهَا لَهُ قُضِيَتْ بِهَا لِلَّذِي أَقَامَ الْبَيِّنَةَ لِمَا قُلْنَا أَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ فِي حَقِّ الْكُلِّ ، وَالْإِقْرَارَ لَيْسَ بِحَجَّةٍ فِي حَقِّ الْغَيْرِ ، وَالضَّعِيفَ لَا يُعَارِضُ الْقَوِيَّ ، فَإِنْ أَقَرَّ بِهَا لِأَحَدِهِمَا أَوَّلًا ، وَدَفَعَهَا إلَيْهِ بِغَيْرِ حُكْمٍ فَاسْتَهْلَكَهَا ، ثُمَّ أَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ إنْ شَاءَ الدَّافِعَ ، وَإِنْ شَاءَ الْقَابِضَ ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ مِلْكَهُ بِالْحُجَّةِ ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُتَعَدٍّ فِي حَقِّهِ ، فَإِنْ ضَمَّنَ الدَّافِعَ وَلَمْ يَرْجِعْ عَلَى الْقَابِضِ ؛ لِأَنَّهُ مُقِرٌّ أَنَّ الْقَابِضَ أَخَذَ مِلْكَ نَفْسِهِ ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِضَامِنٍ شَيْئًا ، وَإِقْرَارُهُ حُجَّةٌ عَلَيْهِ فِي إسْقَاطِ حَقِّهِ ، وَإِنْ ضَمَّنَ الْقَابِضَ لَمْ يَرْجِعْ عَلَى الدَّافِعِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّهُ فِي الْقَبْضِ كَانَ
عَامِلًا لِنَفْسِهِ ، وَإِنْ دَفَعَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الْقَابِضَ إنْ شَاءَ لِمَا قُلْنَا ، وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُضَمِّنَ الدَّافِعَ فَقَدْ قَالَ مَرَّةً فِي آخَرِ هَذَا الْكِتَابِ : لَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الدَّافِعَ ، وَقَالَ مَرَّةً أُخْرَى : لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الدَّافِعَ ، وَحَيْثُ قَالَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الدَّافِعَ فَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَمَا قَالَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُضَمِّنَ الدَّافِعَ فَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، وَأَصْلُهُ مَسْأَلَةُ الْوَدِيعَةِ إذَا قَالَ : هَذَا الْعَيْنُ فِي يَدِي لِفُلَانٍ أَوْدَعَنِيهِ فُلَانٌ لِرَجُلٍ آخَرَ ، فَإِنْ دَفَعَهُ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ الْأَوَّلِ بِغَيْرِ قَضَاءِ الْقَاضِي ضَمِنَ لِلْمُقَرِّ لَهُ الْوَدِيعَةِ بِالِاتِّفَاقِ ، وَإِنْ دَفَعَهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي فَكَذَلِكَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ ؛ لِأَنَّهُ بِإِقْرَارِهِ سَلَّطَ الْقَاضِي عَلَى الْقَضَاءِ ، فَهُوَ كَمَا لَوْ دَلَّ إنْسَانًا عَلَى سَرِقَةِ الْوَدِيعَةِ ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ بِإِقْرَارِهِ لَمْ يُتْلِفْ شَيْئًا عَلَى صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ ، وَالدَّفْعُ كَانَ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، فَلَا يَكُونُ مُوجِبًا لِلضَّمَانِ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ هُنَا الْمُلْتَقِطُ أَمِينٌ كَالْمُودَعِ ، فَإِذَا دَفَعَ إلَى الْمُقَرِّ لَهُ بِقَضَاءِ الْقَاضِي لَمْ يَضْمَنْ فِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ شَيْئًا لِمَنْ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ ، وَهُوَ ضَامِنٌ لَهُ فِي قَوْلِ مُحَمَّدٍ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ .
كِتَابُ الْإِبَاقِ ( قَالَ ) الشَّيْخُ الْإِمَامُ الْأَجَلُّ الزَّاهِدُ : رَحِمَهُ اللَّهُ اعْلَمْ بِأَنَّ الْإِبَاقَ تَمَرُّدٌ فِي الِانْطِلَاقِ وَهُوَ مِنْ سُوءِ الْأَخْلَاقِ ، وَرَدَاءَةٌ فِي الْأَعْرَاقِ يُظْهِرُ الْعَبْدُ عَنْ سَيِّدِهِ فِرَارًا لِيَصِيرَ مَالُهُ ضِمَارًا ، فَرَدُّهُ إلَى مَوْلَاهُ وَإِعَادَتُهُ إلَى مَثْوَاهُ إحْسَانٌ وَامْتِنَانٌ ، وَإِنَّمَا جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إلَّا الْإِحْسَانُ ، فَالْكِتَابُ لِبَيَانِ الْجَزَاءِ الْمُسْتَحَقِّ لِلرَّادِّ فِي الدُّنْيَا مَعَ مَا لَهُ مِنْ الْأَجْرِ فِي الْعُقْبَى بِإِغَاثَةِ اللَّهْفَانِ وَمَنْعِ الْمُعْتَدِي عَنْ الْعُدْوَانِ ؛ وَلِهَذَا بَدَأَ بِحَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ الْمَرْزُبَانِ عَنْ أَبِي عَمْرٍو الشَّيْبَانِيِّ قَالَ : كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ : إنَّ فُلَانًا قَدِمَ بِإِبَاقٍ مِنْ الْقَوْمِ ، فَقَالَ الْقَوْمُ : لَقَدْ أَصَابَ أَجْرًا ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجُعْلًا إنْ شَاءَ مِنْ كُلِّ رَأْسٍ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانُ أَنَّ الرَّادَّ مُثَابٌ ؛ لِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ إطْلَاقَ الْقَوْلِ بِأَنَّهُ أَصَابَ أَجْرًا ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ عَلَى مَوْلَاهُ ، وَهُوَ اسْتِحْسَانٌ أَخَذَ بِهِ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ .
وَفِي الْقِيَاسِ لَا جُعْلَ لَهُ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ؛ لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِمَنَافِعِهِ فِي رَدِّهِ عَلَى مَوْلَاهُ ، وَلَوْ تَبَرَّعَ عَلَيْهِ بِعَيْنٍ مِنْ أَعْيَانِ مَالِهِ لَمْ يَسْتَوْجِبْ عَلَيْهِ عِوَضًا بِمُقَابَلَتِهِ فَكَذَلِكَ إذَا تَبَرَّعَ بِمَنَافِعِهِ ، وَلِأَنَّ رَدَّ الْآبِقِ نَهْيٌ عَنْ الْمُنْكَرِ ؛ لِأَنَّ الْإِبَاقَ مُنْكَرٌ ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ، فَلَا يَسْتَوْجِبُ بِإِقَامَةِ الْفَرْضِ جُعْلًا ، وَلَكِنَّا تَرَكْنَا هَذَا الْقِيَاسَ لِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِ الْجُعْلِ ؛ لِأَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ فِي
مَجْلِسِهِ مَا قَالَ ، وَقَدْ اشْتَهَرَ عَنْهُ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَقْرَانِهِ ، وَقَدْ عُرِضَ قَوْلُهُ عَلَيْهِمْ لَا مَحَالَةَ .
وَالسُّكُوتُ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ إظْهَارِ الْخِلَافِ لَا يَحِلُّ لِمَنْ يَعْتَقِدُ خِلَافَهُ ، فَمِنْ هَذَا الْوَجْهِ يَثْبُتُ الْإِجْمَاعُ مِنْهُمْ ثُمَّ هُمْ اتَّفَقُوا عَلَى أَصْلِ وُجُوبِ الْجُعْلِ ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي مِقْدَارِهِ فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دِينَارٌ أَوْ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا ، وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دِينَارٌ أَوْ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ ، وَقَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إذَا أَخَذَهُ فِي الْمِصْرِ فَلَهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ أَوْ دِينَارٌ ، وَإِنْ أَخَذَهُ فِي غَيْرِ الْمِصْرِ فَلَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا فَقَدْ اتَّفَقُوا عَلَى وُجُودِ أَصْلِ الْجُعْلِ ، وَكَفَى بِإِجْمَاعِهِمْ حُجَّةً ، وَالْأَصْلُ أَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ مَتَى اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ فَالْحَقُّ لَا يَعْدُوهُمْ ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ جَمِيعَ أَقَاوِيلِهِمْ بِرَأْيِهِ ، وَلَكِنْ يُرَجِّحُ قَوْلَ الْبَعْضِ عَلَى الْبَعْضِ ، فَنَحْنُ أَخَذْنَا بِقَوْلِهِمْ فِي إيجَابِ أَصْلِ الْجُعْلِ ، وَرَجَّحْنَا قَوْلَ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي مِقْدَارِهِ .
( فَإِنْ قِيلَ : ) كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُؤْخَذَ بِالْأَقَلِّ فِي الْمِقْدَارِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ .
( قُلْنَا : ) إنَّمَا لَمْ يُؤْخَذْ بِالْأَقَلِّ ؛ لِأَنَّ التَّوْفِيقَ بَيْنَ أَقَاوِيلِهِمْ مُمَكَّنٌ بِأَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ مَنْ أَفْتَى بِالْأَقَلِّ عَلَى مَا إذَا رَدَّهُ مِمَّا دُونَ مَسِيرَةِ سَفَرٍ ، وَقَوْلُ مَنْ أَفْتَى بِالْأَكْثَرِ عَلَى مَا إذَا رَدَّهُ مِنْ مَسِيرَةِ سَفَرٍ كَمَا فَسَّرَهُ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ إنْ أَخَذَهُ فِي الْمِصْرِ كِنَايَةً عَمَّا دُونَهُ مَسِيرَةَ سَفَرٍ ، وَإِنْ أَخَذَهُ خَارِجَ الْمِصْرِ كِنَايَةً عَنْ مَسِيرَةِ سَفَرٍ ، وَمَتَى أَمْكَنَ التَّوْفِيقُ بَيْنَ أَقَاوِيلِهِمْ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَيْهِ ، ثُمَّ الْأَخْذُ بِالْأَقَلِّ إنَّمَا يَكُونُ فِيمَا يَقُولُونَهُ بِآرَائِهِمْ ، وَنَحْنُ
نَعْلَمُ أَنَّهُمْ مَا قَالُوا هَذَا بِالرَّأْيِ ؛ لِأَنَّهُ خِلَافُ الْقِيَاسِ ؛ وَلِأَنَّ نَصْبَ الْمَقَادِيرِ بِالرَّأْيِ لَا يَكُونُ ، وَلَا طَرِيقَ لِمَا ثَبَتَ عَنْهُمْ مِنْ الْفَتْوَى إلَّا الرَّأْيُ أَوْ السَّمَاعُ مِمَّنْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ ، فَإِذَا انْتَفَى أَحَدُهُمَا هُنَا تَعَيَّنَ الْآخَرُ ، وَصَارَ كَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ رَوَى مَا قَالَهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَالْمُثْبِتُ لِلزِّيَادَةِ مِنْ الْأَخْبَارِ عِنْدَ التَّعَارُضِ أَوْلَى فَلِهَذَا أَخَذْنَا بِالْأَكْثَرِ هَذَا هُوَ النِّهَايَةُ فِي التَّمَسُّكِ بِالسُّنَّةِ ، وَالْأَخْذُ بِأَقَاوِيلِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ ، فَقَدْ قَامَتْ الشَّرِيعَةُ بِفَتْوَاهُمْ إلَى آخِرِ الدَّهْرِ ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَظُنَّ بِهِمْ إلَّا أَحْسَنَ الْوُجُوهِ ، وَلَكِنَّهُ بَحْرٌ عَمِيقٌ لَا يَقْطَعُهُ كُلُّ سَابِحٍ ، وَلَا يُصِيبُهُ كُلُّ طَالِبٍ ، وَلَيْسَ فِي هَذَا الْبَابِ شَيْءٌ مِنْ الْمَعْنَى سِوَى مَا ذَكَرَهُ عَنْ إبْرَاهِيمَ قَالَ : كَيْ يَرُدَّ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ ، مَعْنَاهُ أَنَّ الرَّادَّ يَحْتَاجُ إلَى مُعَالَجَةٍ وَمُؤْنَةٍ فِي رَدِّهِ ، وَقَلَّمَا يَرْغَبُ النَّاسُ فِي الْتِزَامِ ذَلِكَ خَشْيَةً ، فَفِي إيجَابِ الْجُعْلِ لِلرَّادِّ تَرْغِيبٌ لَهُ فِي رَدِّهِ وَإِظْهَارِهِ الشُّكْرَ فِي الْمَرْدُودِ عَلَيْهِ لِإِحْسَانِهِ إلَيْهِ ، إلَّا أَنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ يَسْتَحِبُّ ذَلِكَ ، وَلَا يُوجِبُهُ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ ، أَنَّهُ كَانَ يَسْتَحِبُّ أَنْ يَرْضَخَ لِلَّذِي يَجِيءُ بِالْآبِقِ ، وَلَمْ نَأْخُذْ بِقَوْلِهِ فِي هَذَا ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُ بِقَوْلِ شُرَيْحٍ وَالشَّعْبِيِّ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فَقَدْ قَالَ الشَّعْبِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ لِلرَّادِّ دِينَارٌ إذَا أَخَذَهُ خَارِجًا مِنْ الْمِصْرِ ، وَقَالَ شُرَيْحٌ رَحِمَهُ اللَّهُ لَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا فَنَأْخُذُ بِذَلِكَ ، وَيُحْمَلُ مَا نُقِلَ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَلَى مَا إذَا رَدَّهُ مِمَّا دُونَ مَسِيرَةِ السَّفَرِ ، وَيَسْتَقِيمُ الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِ شُرَيْحٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَا وَنَحْوِهِ ؛ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ قَلَّدُوهُ
الْقَضَاءَ وَسَوَّغُوا لَهُ الْمُزَاحَمَةَ مَعَهُمْ فِي الْفَتْوَى ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ خَالَفَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي رَدِّ شَهَادَةِ الْحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَأَنَّ مَسْرُوقًا رَحِمَهُ اللَّهُ خَالَفَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي مُوجِبِ النَّذْرِ بِذَبْحِ الْوَلَدِ ، وَرَجَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إلَى قَوْلِهِ ، فَعَرَفْنَا أَنَّ مَنْ كَانَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَقَوْلُهُ كَقَوْلِ الصَّحَابِيِّ ثُمَّ الشَّافِعِيُّ اسْتَحْسَنَ بِرَأْيِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ وَجْهٍ فَقَالَ : لَوْ كَانَ الْمَوْلَى خَاطَبَ قَوْمًا فَقَالَ : مَنْ رَدَّ مِنْكُمْ عَبْدِي فَلَهُ كَذَا فَرَدَّهُ أَحَدُهُمْ اسْتَوْجَبَ ذَلِكَ الْمُسَمَّى ، وَهَذَا شَيْءٌ يَأْبَاهُ الْقِيَاسُ ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ مَعَ الْمَجْهُولِ لَا يَنْعَقِدُ ، وَبِدُونِ الْقَبُولِ كَذَلِكَ ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ الثَّابِتَ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ خَيْرٌ مِنْ الِاسْتِحْسَانِ الثَّابِتِ بِرَأْيِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَلَا حُجَّةَ لَهُ فِي قَوْله تَعَالَى : { وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ } لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ خِطَابًا لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ ، وَهُوَ لَا يَقُولُ بِهِ ، فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ : مَنْ رَدَّهُ فَلَهُ كَذَا وَلَمْ يُخَاطِبْ بِهِ قَوْمًا بِأَعْيَانِهِمْ فَرَدَّهُ أَحَدُهُمْ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا ، ثُمَّ هَذَا تَعْلِيقُ اسْتِحْقَاقِ الْمَالِ بِالْخَطَرِ وَهُوَ قِمَارٌ ، وَالْقِمَارُ حَرَامٌ فِي شَرِيعَتِنَا ، وَلَمْ يَكُنْ حَرَامًا فِي شَرِيعَةِ مَنْ قَبْلَنَا .
( وَإِنْ قَالَ : ) اُعْتُبِرَ قَوْلُ الْمَالِكِ لِإِثْبَاتِ أَمْرِهِ بِالرَّدِّ لِلَّذِينَ خَاطَبَهُمْ ثُمَّ الْمَأْمُورُ مِنْ جِهَةِ الْغَيْرِ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا لَحِقَهُ مِنْ الْمُؤْنَةِ فِي ذَلِكَ .
( قُلْنَا : ) لَوْ كَانَ هَذَا مُعْتَبَرًا لَرَجَعَ عَلَيْهِ بِمَا لَحِقَ فِيهِ مِنْ الْمُؤْنَةِ دُونَ الْمُسَمَّى ثُمَّ الْأَمْرُ هُنَا ثَابِتٌ أَيْضًا بِدُونِ قَوْلِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعَبْدَ الْهَارِبَ مِنْ مَوْلَاهُ مَا دَامَ بِمَرْأَى الْعَيْنِ مِنْهُ يُنَادِي مَوْلَاهُ عَلَى أَثَرِهِ خُذُوهُ فَعَرَفْنَا بِهَذَا أَنَّهُ
أَمْرٌ لِكُلِّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهِ وَرَدِّهِ عَلَى أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ ، وَالْأَمْرُ الثَّابِتُ دَلَالَةً بِمَنْزِلَةِ الْأَمْرِ الثَّابِتِ إفْصَاحًا ، ثُمَّ ذَكَرَ عَنْ الشَّعْبِيِّ فِي رَجُلٍ أَخَذَ غُلَامًا آبِقًا فَأَبَقَ مِنْهُ قَالَ : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَذَكَرَ بَعْدَهُ عَنْ جَرِيرِ بْنِ بَشِيرٍ عَنْ أَشْيَاخٍ مِنْ قَوْمِهِ قَالَ : أَخَذَ مَوْلَى لِلْحَيِّ آبِقًا فَأَبَقَ مِنْهُ نَحْوَ حَيٍّ فَكَتَبَ إلَى مَوْلَاهُ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ فَيَجْتَعِلَ لَهُ مِنْهُمْ فَفَعَلَ ذَلِكَ ، ثُمَّ كَتَبَ إلَيْهِ فَأَقْبَلَ بِالْعَبْدِ فَأَبَقَ مِنْهُ ، فَاخْتَصَمُوا إلَى شُرَيْحٍ فَضَمَّنَهُ إيَّاهُ ، ثُمَّ اخْتَصَمُوا إلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ : يَحْلِفُ الْعَبْدُ الْأَحْمَرُ لِلْعَبْدِ الْأَسْوَدِ بِاَللَّهِ مَا أَبِقَ مِنْهُ ، وَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُ بِحَدِيثِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَالشَّعْبِيِّ فَنَقُولُ : لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إذَا أَخَذَهُ لِلرَّدِّ عَلَى مَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِإِذْنِ مَوْلَاهُ كَمَا بَيَّنَّا وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّادَّ يَسْتَوْجِبُ الْجُعْلَ ، وَكَانَ ذَلِكَ أَمْرًا ظَاهِرًا حَتَّى لَمْ يَخَفْ عَلَى مَوَالِيهِمْ حِينَ كَتَبَ الْآخِذُ إلَى مَوْلَاهُ أَنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ فَيَجْتَعِلَ لَهُ مِنْهُمْ ، إلَّا أَنَّهُ كَانَ مِنْ مَذْهَبِ شُرَيْحٍ تَضْمِينُ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ فِيمَا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ ، وَالْمُسْتَوْجِبُ لِلْجُعْلِ بِمَنْزِلَةِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرَكِ فَلِهَذَا ضَمَّنَهُ ، وَكَانَ مِنْ مَذْهَبِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ لَا يُضَمَّنُ الْأَجِيرَ الْمُشْتَرَكَ كَمَا ذُكِرَ عَنْهُ فِي كِتَابِ الْإِجَارَاتِ فِي إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ، وَلَكِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ .
( وَقَوْلُهُ ) يَحْلِفُ الْعَبْدُ الْأَحْمَرُ يُرِيدُ بِهِ الرَّادَّ سَمَّاهُ أَحْمَرَ لِقُوَّتِهِ وَقُدْرَتِهِ عَلَى أَخْذِ الْآبِقِ ، وَسَمَّى الْآبِقَ أَسْوَدَ لِخُبْثِ فِعْلِهِ ، وَهُوَ مِنْ دُعَابَةِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : وَإِذَا أُتِيَ الرَّجُلُ بِعَبْدٍ آبِقٍ فَأَخَذَهُ السُّلْطَانُ فَحَبَسَهُ فَجَاءَ رَجُلٌ وَأَقَامَ
الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ ، فَإِنَّهُ يُسْتَحْلَفُ بِاَللَّهِ مَا بِعْتُهُ وَلَا وَهِبَتُهُ ثُمَّ يُدْفَعُ إلَيْهِ أَوَّلًا .
نَقُولُ : يَنْبَغِي لِلرَّادِّ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ السُّلْطَانَ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ فِي اللُّقَطَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِهَا بِنَفْسِهِ ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِ الْآبِقِ بِنَفْسِهِ عَادَةً فَرَفَعَهُ إلَى السُّلْطَانِ لِهَذَا ؛ وَلِأَنَّهُ يَسْتَوْجِبُ التَّعْزِيرَ عَلَى إبَاقِهِ فَيَرْفَعُهُ إلَى السُّلْطَانِ لِيُعَزِّرَهُ ، وَيَأْخُذُهُ السُّلْطَانُ مِنْهُ لِيَحْبِسَهُ ، وَذَلِكَ نَوْعُ تَعْزِيرٍ ، ثُمَّ مَنْ يَدَّعِيهِ لَا يَسْتَحِقُّهُ بِدُونِ الْبَيِّنَةِ ، فَإِذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَقَدْ أَثْبَتَ مِلْكَهُ فِيهِ بِالْحُجَّةِ إلَّا أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بَاعَهُ أَوْ وَهَبَهُ وَلَا يَعْرِفُ الشُّهُودُ ذَلِكَ فَيَسْتَحْلِفُهُ عَلَى ذَلِكَ .
( فَإِنْ قِيلَ : ) كَيْفَ يَسْتَحْلِفُهُ وَلَيْسَ هُنَا خَصِيمٌ يَدَّعِي ذَلِكَ .
؟ ( قُلْنَا : ) يَسْتَحْلِفُهُ صِيَانَةً لِقَضَاءِ الْقَاضِي ، وَالْقَاضِي مَأْمُورٌ بِأَنْ يَصُونَ قَضَاءَهُ عَنْ أَسْبَابِ الْخَطَأِ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ ، أَوْ يَسْتَحِقُّهُ نَظَرًا لِمَنْ هُوَ عَاجِزٌ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ مِنْ مُشْتَرٍ أَوْ مَوْهُوبٍ لَهُ ، فَإِذَا حَلَفَ دَفَعَهُ إلَيْهِ ، وَلَا أُحِبُّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلًا ، وَإِنْ أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا لَمْ يَكُنْ مُسِيئًا ، وَلَكِنْ إنْ لَمْ يَأْخُذْ أَحَبُّ إلَيَّ ، هَذِهِ رِوَايَةُ أَبِي حَفْصٍ ، وَفِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ قَالَ : أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلًا ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ كَفِيلًا وَسِعَهُ ذَلِكَ .
مِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ : مَا ذُكِرَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ، فَإِنَّهُ لَا يَرَى أَخْذَ الْكَفِيلِ لِلْمَجْهُولِ كَمَا قَالَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي أَخْذِ الْكَفِيلِ مِنْ الْوَارِثِ ، هَذَا شَيْءٌ احْتَاطَهُ بَعْضُ الْقُضَاةِ وَهُوَ ظُلْمٌ ، وَمَا قَالَهُ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ قَوْلُهُمَا ؛ لِأَنَّهُمَا يَجُوزَانِ لِلْقَاضِي أَنْ يَحْتَاطَ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ صِيَانَةً لِقَضَاءِ نَفْسِهِ ، أَوْ
نَظَرًا لِمَنْ هُوَ عَاجِزٌ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ ، وَالْأَصَحُّ أَنَّ فِيهِ رِوَايَتَيْنِ ، وَمَا ذُكِرَ فِي رِوَايَةِ أَبِي سُلَيْمَانَ أَقْرَبُ إلَى الِاحْتِيَاطِ ، فَرُبَّمَا يَظْهَرُ مُسْتَحِقٌّ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْوِلَادَةِ فِي مِلْكِهِ فَيَكُونُ مُقَدَّمًا عَلَى مَنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ ، أَوْ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ فَيَكُونُ مُزَاحِمًا لَهُ ، أَوْ يُقِيمُ الْبَيِّنَةَ عَلَى أَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْهُ فَالْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلًا لِهَذَا ، وَلَكِنَّهُ مَوْهُومٌ لَمْ يَقُمْ عَلَيْهِ دَلِيلٌ فَكَانَ فِي سَعَةٍ مِنْ أَنْ لَا يَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلًا .
وَمَا ذُكِرَ فِي رِوَايَةِ أَبِي حَفْصٍ أَقْرَبُ إلَى الْقِيَاسِ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ ثَابِتٌ بِمَا أَقَامَ مِنْ الْبَيِّنَةِ ، وَاسْتِحْقَاقُ غَيْرِهِ مَوْهُومٌ ، وَالْمَوْهُومُ لَا يُقَابِلُ الْمَعْلُومَ ، فَلَا يُسْتَحَبُّ لِلْقَاضِي تَرْكُ الْعَمَلِ إلَّا بِحُجَّةٍ مَعْلُومَةٍ لِأَمْرٍ مَوْهُومٍ ، أَرَأَيْتَ لَوْ لَمْ يُعْطِهِ كَفِيلًا .
أَوْ لَمْ يَجِدْ كَفِيلًا ، أَكَانَ يَمْتَنِعُ الْقَاضِي مِنْ الْقَضَاءِ بِهِ لَهُ ، وَقَدْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ ، وَلَكِنَّهُ لَوْ أَخَذَ مِنْهُ كَفِيلًا فَهُوَ فِيمَا صَنَعَ مُحْتَاطٌ مُجْتَهِدٌ فَلَا يَكُونُ مُسِيئًا ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعِي بَيِّنَةٌ وَأَقَرَّ الْعَبْدُ أَنَّهُ عَبْدُهُ ، فَإِنَّهُ يَدْفَعُهُ إلَيْهِ وَيَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا .
أَمَّا الدَّفْعُ إلَيْهِ فَلِأَنَّ الْعَبْدَ فِي يَدِ نَفْسِهِ ، وَقَدْ أَقَرَّ بِأَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُ ، وَلَوْ ادَّعَى أَنَّهُ حُرٌّ كَانَ قَوْلُهُ مَقْبُولًا ، فَكَذَلِكَ إذَا أَقَرَّ أَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا مُنَازِعَ لَهُمَا فِيمَا قَالَا ، وَخَبَرُ الْمُخْبِرِ مَحْمُولٌ عَلَى الصِّدْقِ مَا لَمْ يُعَارِضْهُ مِثْلُهُ ، وَلَكِنْ يَأْخُذُ مِنْهُ كَفِيلًا ؛ لِأَنَّ الدَّفْعَ إلَيْهِ بِمَا لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْقَاضِي ، فَلَا يَلْزَمُهُ ذَلِكَ بِدُونِ الْكَفِيلِ ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ فَالدَّفْعُ هُنَاكَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ ثَابِتَةٍ فِي حَقِّ الْقَاضِي ، يُوَضِّحُهُ أَنَّ قَوْلَ
الْعَبْدِ بَعْدَ إقْرَارِهِ بِالرِّقِّ فِي تَعْيِينِ مَالِكِهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي يَدِ رَجُلَيْنِ ، وَأَقَرَّ بِالْمِلْكِ لِأَحَدِهِمَا لَمْ يَصِحَّ إقْرَارُهُ ، وَكَانَ بَيْنَهُمَا فَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْيَدِ الثَّابِتَةِ لِلْقَاضِي بَعْدَ مَا أَقَرَّ بِرِقِّهِ ، فَلَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ كَفِيلًا بِحَقِّ نَفْسِهِ حَتَّى إذَا حَضَرَ مَالِكُهُ وَأَرَادَ أَنْ يُضَمِّنَهُ يُمَكَّنُ مِنْ أَخْذِ الْكَفِيلِ لِيُحْضِرَهُ فَيُخَلِّصَهُ مِنْ ذَلِكَ ، فَأَمَّا إذَا أَقَامَ الْبَيِّنَةَ فَقَدْ أَثْبَتَ اسْتِحْقَاقَ الْيَدِ عَلَى الْقَاضِي ، وَلَا يَلْحَقُ الْقَاضِي ضَمَانٌ فِي الدَّفْعِ إلَيْهِ بِحُجَّةِ الْبَيِّنَةِ ؛ فَلِهَذَا لَا يُحْتَاطُ بِأَخْذِ الْكَفِيلِ .
وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْعَبْدِ طَالِبٌ ، فَإِذَا طَالَ ذَلِكَ بَاعَهُ الْإِمَامُ وَأَمْسَكَ ثَمَنَهُ حَتَّى يَجِيءَ لَهُ طَالِبٌ وَيُقِيمَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ عَبْدُهُ فَيَدْفَعَ إلَيْهِ الثَّمَنَ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالنَّظَرِ ، وَلَيْسَ مِنْ النَّظَرِ إمْسَاكُهُ بَعْدَ طُولِ الْمُدَّةِ ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى النَّفَقَةِ ، وَرُبَّمَا يَأْتِي ثَمَنُهُ عَلَى نَفَقَتِهِ ، وَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَأْبَقَ مِنْهُ فَكَانَ حِفْظُ ثَمَنِهِ أَيْسَرَ عَلَيْهِ مِنْ حِفْظِ عَيْنِهِ وَأَنْفَعَ لِصَاحِبِهِ ، وَلَيْسَ لِصَاحِبِهِ إذَا حَضَرَ أَنْ يَنْقُضَ بَيْعَ الْإِمَامِ ؛ لِأَنَّهُ نَفَذَ بِوِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ ، وَيُنْفِقُ عَلَيْهِ الْإِمَامُ فِي مُدَّةِ حَبْسِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى النَّفَقَةِ عَاجِزٌ عَنْ الْكَسْبِ إذَا كَانَ مَحْبُوسًا ، وَلَوْ أَمَرَهُ الْإِمَامُ بِأَنْ يَخْرُجَ فَيَكْتَسِبَ فَأَبَقَ ثَانِيًا فَكَانَ النَّظَرُ فِي الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ ؛ لِأَنَّهُ مُعَدٌّ لِلنَّوَائِبِ ، وَهَذَا مِنْ جُمْلَةِ النَّوَائِبِ ، ثُمَّ يَأْخُذُ ذَلِكَ مِنْ صَاحِبِهِ إنْ حَضَرَ فَرَدَّهُ عَلَيْهِ أَوْ مِنْ ثَمَنِهِ إنْ بَاعَهُ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي نَفَقَةِ الْمُلْتَقَطِ بِأَمْرِ الْقَاضِي فَكَذَلِكَ فِي نَفَقَةِ الْإِمَامِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ عَلَى الْآبِقِ ؛ لِأَنَّ قَضَاءَهُ فِي ذَلِكَ لِلْمُسْلِمِينَ لَا لِنَفْسِهِ ، فَإِنْ أَقَامَ مُدَّعِيهِ شُهُودًا نَصَارَى لَمْ تُجْزَ شَهَادَتُهُمْ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ فِي يَدِ إمَامِ الْمُسْلِمِينَ ، وَاسْتِحْقَاقُ يَدِ الْمُسْلِمِ لَا يَكُونُ بِشَهَادَةِ النَّصَارَى ، وَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَقَدْ بَاعَهُ الْإِمَامُ فَزَعَمَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ دَبَّرَهُ ، أَوْ كَانَتْ جَارِيَةً فَزَعَمَ أَنَّهَا كَانَتْ أُمَّ وَلَدِهِ لَمْ يُصَدَّقْ عَلَى فَسْخِ الْبَيْعِ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ نَفَذَ مِنْ الْقَاضِي بِوِلَايَةٍ شَرْعِيَّةٍ فَكَأَنَّ الْمَالِكَ بَاشَرَ بَيْعَهُ بِنَفْسِهِ ثُمَّ ادَّعَى شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ، وَلَا يُصَدَّقُ عَلَى فَسْخِ الْبَيْعِ إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهَا وَلَدٌ وَقَدْ وَلَدَتْهُ فِي مُلْكِهِ فَيَدَّعِي أَنَّهُ وَلَدُهُ مِنْهَا ،
فَحِينَئِذٍ يُصَدَّقُ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ ، وَيُفْسَخُ الْبَيْعُ كَمَا لَوْ كَانَ بَاشَرَ الْبَيْعَ بِنَفْسِهِ ، وَهَذَا لِأَنَّ ثُبُوتَ نَسَبِ وَلَدٍ حَصَلَ الْعُلُوقُ بِهِ فِي مِلْكِهِ بِمَنْزِلَةِ الْبَيِّنَةِ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى إبْطَالِ حَقِّ الْغَيْرِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا أَقَرَّ لِجَارِيَتِهِ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدِهِ وَمَعَهَا وَلَدٌ يَدَّعِي نَسَبَهُ كَانَ مُصَدَّقًا فِي إبْطَالِ حَقِّ الْغُرَمَاءِ وَالْوَرَثَةِ عَنْهَا ، بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ فَهَذَا مِثْلُهُ .
وَإِذَا وَجَدَ الرَّجُلُ غُلَامًا أَوْ جَارِيَةً آبِقًا بَالِغًا أَوْ غَيْرَ بَالِغٍ فَرَدَّهُ إلَى مَوْلَاهُ ، فَإِنْ كَانَ أَخَذَهُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ أَكْثَرَ .
فَلَهُ الْجُعْلُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا ، وَلَا يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ ، وَإِنْ بَعُدَتْ الْمَسَافَةُ ؛ لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْجُعْلِ بِأَرْبَعِينَ إذَا رَدَّهُ مِنْ مَسِيرَةِ سَفَرٍ ثَابِتٍ بِفَتْوَى ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى الْقَدْرِ الثَّابِتِ شَرْعًا بِالرَّأْيِ لَا تَجُوزُ ، وَلِأَنَّ أَدْنَى مُدَّةِ السَّفَرِ مَعْلُومٌ وَلَا نِهَايَةَ لِمَا وَرَاءَ ذَلِكَ ، وَالْحُكْمُ لَا يَتَغَيَّرُ بِهِ شَرْعًا كَسَائِرِ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالسَّفَرِ ، وَإِنْ أَخَذَهُ فِي الْمِصْرِ أَوْ خَارِجًا مِنْهُ وَلَكِنْ فِيمَا دُونَ مَسِيرَةِ سَفَرٍ فِي الْقِيَاسِ لَا شَيْءَ لَهُ ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ الثَّابِتَ بِالشَّرْعِ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لِمَا دُونَ الْمُقَدَّرِ حُكْمُ الْمُقَدَّرِ ، وَلِأَنَّ الْجُعْلَ إنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ رَادُّ الْآبِقِ ، وَتَمَامُ الْإِبَاقِ بِمَسِيرَةِ السَّفَرِ فَفِيمَا دُونَهُ هُوَ كَالضَّالِّ ، وَلِهَذَا لَا يَتَعَلَّقُ شَيْءٌ مِنْ أَحْكَامِ السَّفَرِ فِيمَا دُونَ مَسِيرَةِ السَّفَرِ ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَهُ الْجُعْلُ عَلَى قَدْرِ الْمَكَانِ وَالْعَنَاءِ ؛ لِأَنَّ فِي مُدَّةِ السَّفَرِ وُجُوبَ الْجُعْلِ لَيْسَ لَعَيْنِ الْمُدَّةِ بَلْ لِمَا يَلْحَقُ مِنْ الْعَنَاءِ وَالتَّعَبِ فِي رَدِّهِ ، وَقَدْ وَجَدَ بَعْضَ ذَلِكَ فَيَسْتَوْجِبُ مِنْ الْجُعْلِ بِقَدْرِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَالِكَ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ بِمَالٍ
مَعْلُومٍ لِيَرُدَّهُ مِنْ مَسِيرَةِ يَوْمٍ اسْتَحَقَّ مِنْ الْمُسَمَّى بِقَدْرِهِ فَكَذَلِكَ فِيمَا هُوَ ثَابِتٌ شَرْعًا ، وَإِنْ كَانَ أَنْفَقَ عَلَيْهِ أَضْعَافَ مِقْدَارِ الْجُعْلِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي فَلَيْسَ لَهُ سِوَى الْجُعْلِ ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فِيمَا أَنْفَقَ ، وَإِنْ مَاتَ عِنْدَهُ قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ أَوْ أَبَقَ مِنْهُ ، فَإِنْ كَانَ أَشْهَدَ عَلَى ذَلِكَ حِينَ وَجَدَهُ أَنَّهُ إنَّمَا أَخَذَهُ لِيَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ، وَإِنْ أَقَرَّ أَنَّهُ أَخَذَهُ لِنَفْسِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ ، وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ أَخَذَهُ لِلرَّدِّ وَلَكِنْ تَرَكَ الْإِشْهَادَ مَعَ الْإِمْكَانِ فَهُوَ عَلَى الْخِلَافِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي اللُّقَطَةِ فَكَذَلِكَ فِي الْآبِقِ ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى يَجْمَعُهُمَا ، وَهَذَا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ كَانَ آبِقًا ، فَإِنْ أَنْكَرَ الْمَوْلَى أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ آبِقًا .
فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ الْمُوجِبَ لِلضَّمَانِ قَدْ ظَهَرَ مِنْ الْأَخْذِ ، وَهُوَ أَخْذُهُ مَالَ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَهُوَ يَدَّعِي مَا يُسْقِطُهُ ، وَهُوَ الْإِذْنُ شَرْعًا لِكَوْنِ الْعَبْدِ آبِقًا ، وَلَوْ ادَّعَى الْإِذْنَ مِنْ الْمَالِكِ لَهُ فِي أَخْذِهِ وَأَنْكَرَ الْمَالِكُ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ فَكَذَلِكَ هُنَا ، وَعَلَى هَذَا لَوْ رَدَّهُ فَأَنْكَرَ الْمَوْلَى أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ آبِقًا ، فَلَا جُعْلَ لَهُ إلَّا أَنْ يُشْهِدَ الشُّهُودَ بِأَنَّهُ أَبَقَ مِنْ مَوْلَاهُ أَوْ أَنَّ مَوْلَاهُ أَقَرَّ بِإِبَاقِهِ ، فَحِينَئِذٍ الثَّابِتُ بِالْبَيِّنَةِ كَالثَّابِتِ مُعَايَنَةً فَيَجِبُ لَهُ الْجُعْلُ .
وَإِذَا أَعْتَقَهُ الْمَوْلَى فِي إبَاقِهِ جَازَ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ نُفُوذَ هَذَا التَّصَرُّفِ يَعْتَمِدُ الْمِلْكَ دُونَ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّسْلِيمِ حَتَّى يَنْفُذَ فِي الْمَرْهُونِ وَالْمُؤَاجَرِ وَالْجَنِينِ فِي الْبَطْنِ وَالْمَبِيعِ قَبْلَ الْقَبْضِ فَكَذَلِكَ يَنْفُذُ فِي الْآبِقِ ؛ لِأَنَّ الْإِبَاقَ لَا يُزِيلُ مِلْكَهُ ، وَإِنَّمَا يُعْجِزُهُ عَنْ التَّسْلِيمِ ، وَلِهَذَا لَوْ بَاعَهُ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا يَصِحُّ إلَّا فِيمَا هُوَ مَقْدُورُ التَّسْلِيمِ لِلْعَاقِدِ ،
وَقُدْرَتُهُ عَلَى التَّسْلِيمِ تَنْعَدِمُ بِالْإِبَاقِ ، وَلِأَنَّ فِي بَيْعِهِ مَعْنَى الْغَرَرِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ بَقَاؤُهُ فِي الْحَالِ حَقِيقَةً وَلَا عَوْدَةً لِيَقْدِرَ عَلَى التَّسْلِيمِ { ، وَنَهَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الْغَرَرِ } فَالْغَرَرُ لَا يَمْنَعُ نُفُوذَ الْعِتْقِ وَالتَّدْبِيرِ ، فَلِهَذَا صَحَّ مِنْهُ إذَا ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ قَائِمًا وَقْتَ الْعِتْقِ ، وَلَوْ وَهَبَهُ لِرَجُلٍ لَمْ يَجُزْ ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لَا تَتِمُّ إلَّا بِالتَّسْلِيمِ ، وَهُوَ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى تَسْلِيمِهِ ، فَإِنْ وَهَبَهُ لِابْنٍ لَهُ صَغِيرٍ فِي عِيَالِهِ فَالْهِبَةُ جَائِزَةٌ ، وَإِعْلَامُهُ بِمَنْزِلَةِ الْقَبْضِ ؛ لِأَنَّهُ بَاقٍ فِي يَدِ مَوْلَاهُ حُكْمًا فَيَصِيرُ قَابِضًا لِلصَّغِيرِ بِالْيَدِ الْحُكْمِيِّ الَّذِي بَقِيَ لَهُ ، وَحَقُّ الْقَبْضِ فِيمَا يُوهَبُ لِلصَّغِيرِ إلَيْهِ ، وَسَوَاءٌ كَانَ الصَّغِيرُ فِي عِيَالِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ ثَابِتَةٌ لَهُ بِالْأُبُوَّةِ ، فَلَا تَنْعَدِمُ بِكَوْنِهِ فِي عِيَالِ غَيْرِهِ ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ قَوْلَهُ فِي عِيَالِهِ عَلَى سَبِيلِ الْعَادَةِ لَا لِلشَّرْطِ ، وَإِنَّمَا قُلْنَا : إنَّهُ فِي يَدِهِ حُكْمًا ؛ لِأَنَّ الْيَدَ الْحُكْمِيَّ كَانَ لَهُ بِاعْتِبَارِ مِلْكِهِ ، فَلَا يَنْعَدِمُ إلَّا بِاعْتِرَاضِ يَدٍ أُخْرَى عَلَى يَدِهِ ، وَبِالْإِبَاقِ لَا يُوجَدُ ذَلِكَ ، وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ لَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مُتَرَدِّدًا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَوْ فِي دَارِ الْحَرْبِ .
وَوَجْهٌ آخَرُ فِيهِ وَهُوَ أَنَّ الْيَدَ الْحُكْمِيَّ بِاعْتِبَارِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْأَخْذِ لِأَنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ بَاقٍ مَا دَامَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بِقُوَّةِ الْإِمَامِ وَالْمُسْلِمِينَ ، وَعَلَى هَذَا الطَّرِيقِ لَوْ أَبَقَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ ثُمَّ وَهَبَهُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ لَا يَجُوزُ كَمَا رَوَاهُ قَاضِي الْحَرَمَيْنِ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ الْيَدَ الْحُكْمِيَّ لَيْسَ بِثَابِتٍ لَهُ فِي دَارِ الْحَرْبِ .
وَإِذَا أَبَقَ الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ ثُمَّ اشْتَرَى وَبَاعَ لَمْ يَجُزْ ، وَقَدْ صَارَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ اسْتِحْسَانًا ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَصِيرُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ ، وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ رَحِمَهُ اللَّهُ ؛ لِأَنَّ مَا بِهِ صَحَّ إذْنُ الْمَوْلَى وَهُوَ قِيَامُ مِلْكِهِ فِي رَقَبَتِهِ لَا يَنْعَدِمُ بِالْإِبَاقِ ؛ لِأَنَّ الْإِبَاقَ لَا يُنَافِي ابْتِدَاءَ الْإِذْنِ ، فَلَا يُنَافِي الْبَقَاءَ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى .
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الْمَوْلَى إنَّمَا يَرْضَى بِتَصَرُّفِهِ مَا دَامَ تَحْتَ طَاعَتِهِ وَلَا يَرْضَى بِهِ بَعْدَ تَمَرُّدِهِ وَإِبَاقِهِ ، فَإِمَّا أَنْ يَتَقَيَّدَ الْإِذْنُ الْمُطْلَقُ بِمَا قَبْلَ الْإِبَاقِ لِدَلَالَةِ الْعُرْفِ أَوْ يَصِيرَ مَحْجُورًا بَعْدَ الْإِبَاقِ لِدَلَالَةِ الْحَجْرِ ، فَإِنَّ الْمَوْلَى لَوْ ظَفِرَ بِهِ أَدَّبَهُ وَحَجَر عَلَيْهِ ، وَدَلَالَةُ الْحَجْرِ كَالتَّصْرِيحِ بِالْحَجْرِ ، كَمَا أَنَّ دَلَالَةَ الْإِذْنِ كَالتَّصْرِيحِ بِالْإِذْنِ ، وَلِهَذَا صَحَّ إذْنُ الْآبِقِ ابْتِدَاءً ؛ لِأَنَّ الدَّلَالَةَ يَسْقُطُ اعْتِبَارُهَا عِنْدَ التَّصْرِيحِ بِخِلَافِهَا ، أَلَا تَرَى أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَائِدَةِ بَيْنَ يَدَيْ إنْسَانٍ يَكُونُ إذْنًا لَهُ فِي التَّنَاوُلِ دَلَالَةً ، فَإِنْ قَالَ : لَا يَأْكُلُ بَطَلَ حُكْمُ ذَلِكَ الْإِذْنِ لِلتَّصْرِيحِ بِخِلَافِهِ ، ثُمَّ الْمَوْلَى لَوْ ظَفِرَ بِهِ أَدَّبَهُ وَحَبَسَهُ وَحَجَرَ عَلَيْهِ ، فَهُوَ وَإِنْ عَجَزَ عَنْ تَأْدِيبِهِ فَالشَّرْعُ يَنُوبُ عَنْهُ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ كَالْمُرْتَدِّ اللَّاحِقِ بِدَارِ الْحَرْبِ .
يُمَوِّتُهُ الْإِمَامُ حُكْمًا فَيُقَسِّمُ مَالَهُ بَيْنَ وَرَثَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَيْهِ قَتَلَهُ ، فَإِذَا عَجَزَ عَنْ ذَلِكَ جَعَلَهُ الشَّرْعُ مَيْتًا حُكْمًا فَهَذَا مِثْلُهُ ، وَالْحُكْمُ فِي جِنَايَةِ الْآبِقِ وَالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ وَفِي حُدُودِهِ كَالْحُكْمِ فِيهَا فِي الْمِصْرِ ؛ لِأَنَّ الرِّقَّ فِيهِ بَاقٍ بَعْدَ الْإِبَاقِ ، وَمِلْكُ الْمَوْلَى قَائِمٌ فِيهِ ، وَبِاعْتِبَارِهِ يُخَاطَبُ بِالدَّفْعِ أَوْ الْفِدَاءِ عِنْدَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ ، فَإِذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِالسَّرِقَةِ لَمْ يَقْطَعْهُ الْإِمَامُ
حَتَّى يَحْضُرَ مَوْلَاهُ ، فَإِذَا حَضَرَ قَطَعَهُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقْطَعُهُ ، وَلَا يَنْتَظِرُ حُضُورَ مَوْلَاهُ ، وَكَذَلِكَ إذَا قَامَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ بِسَائِرِ الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ مِنْ حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ فَهُوَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْعَبْدَ فِي الْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ كَالْحُرِّ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِهَا عَلَى نَفْسِهِ ، وَلَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ ، وَفِيمَا كَانَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْحُرِّ لَا يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْمَوْلَى لِلْقَضَاءِ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ كَالطَّلَاقِ ، وَهَذَا لِأَنَّ الْتِزَامَ الْعُقُوبَةِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى النَّفْسِيَّةِ دُونَ الْمَالِيَّةِ ، وَحَقُّ الْمَوْلَى فِي مِلْكِ الْمَالِيَّةِ فَبَقِيَ هُوَ فِي النَّفْسِيَّةِ عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّ الْعُقُوبَةَ تَثْبُتُ عَلَيْهِ بِالْبَيِّنَةِ تَارَةً وَبِالْإِقْرَارِ تَارَةً ، ثُمَّ فِيمَا يَثْبُتُ بِإِقْرَارِهِ لَا يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْمَوْلَى لِلِاسْتِيفَاءِ فَكَذَلِكَ فِيمَا يَثْبُتُ بِالْبَيِّنَةِ بَلْ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ حُجَّةٌ مُتَعَدِّيَةٌ إلَى النَّاسِ كَافَّةً ، وَالْإِقْرَارُ حُجَّةٌ قَاصِرَةٌ فِي حَقِّ الْمُقِرِّ خَاصَّةً .
وَجْهُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَنَّ فِي إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ تَفْوِيتُ حَقِّ الْمَوْلَى ، فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِمُحْضَرٍ مِنْهُ ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْهُ ، وَالْقَضَاءُ عَلَى غَيْرِ خَصْمٍ حَاضِرٍ بِتَفْوِيتِ حَقِّهِ لَا يَجُوزُ ، وَبَيَانُ هَذَا أَنَّ لِلْمَوْلَى حَقَّ الطَّعْنِ فِي الشُّهُودِ حَتَّى لَوْ كَانَ حَاضِرًا كَانَ طَعْنُهُ مَسْمُوعًا ، فَفِي إقَامَةِ الْعُقُوبَةِ تَفْوِيتُ حَقِّ الْمَطْعُونِ عَلَيْهِ ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْعَبْدَ لَوْ كَانَ كَافِرًا وَمَوْلَاهُ مُسْلِمًا لَمْ تُقْبَلُ شَهَادَةُ الْكُفَّارِ عَلَيْهِ بِالْأَسْبَابِ الْمُوجِبَةِ لِلْعُقُوبَةِ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى حَقٌّ فِي هَذِهِ الْبَيِّنَةِ لَكَانَ لَا
يُعْتَبَرُ دِينُهُ فِي ذَلِكَ ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ بِخَصْمٍ عَنْ الْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ خَصْمٌ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى النَّفْسِيَّةِ ، وَلَا حَقَّ لِلْمَوْلَى فِي ذَلِكَ ، فَلَا يَنْتَصِبُ خَصْمًا عَنْهُ ، وَبِهِ فَارَقَ الْإِقْرَارَ ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لِلْمَوْلَى حَقُّ الطَّعْنِ فِي إقْرَارِهِ ، فَلَا يَكُونُ فِي إقَامَةِ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ بِالْإِقْرَارِ تَفْوِيتُ حَقِّ الْمَوْلَى ، وَلِأَنَّ وُجُوبَ الْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى النَّفْسِيَّةِ ، وَلَكِنْ فِي الِاسْتِيفَاءِ إتْلَافُ مَالِيَّةِ الْمَوْلَى ، وَالْبَيِّنَةُ لَا تُوجِبُ شَيْئًا بِدُونِ الْقَضَاءِ ، وَالِاسْتِيفَاءُ فِي الْعُقُوبَاتِ مِنْ تَتِمَّةِ الْقَضَاءِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُعْتَرِضَ بَعْدَ الْقَضَاءِ قَبْلَ الِاسْتِيفَاءِ يُجْعَلُ كَالْمُقْتَرِنِ بِأَصْلِ الْقَضَاءِ حَتَّى يَمْتَنِعَ الِاسْتِيفَاءُ بِهِ ، فَإِذَا كَانَ تَمَامُ قَضَائِهِ مُتَنَاوِلًا حَقَّ الْمَوْلَى يُشْتَرَطُ حُضُورُ الْمَوْلَى فِي ذَلِكَ ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ فَإِنَّهُ مُوجِبٌ بِنَفْسِهِ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي .
وَوِلَايَةُ الِاسْتِيفَاءِ تَثْبُتُ بِتَقَرُّرِ الْوُجُوبِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ حُضُورُ الْمَوْلَى ، وَإِذَا أُخِذَ الْعَبْدُ الْآبِقُ ، وَحُبِسَ فِي بَلَدٍ فَتَقَدَّمَ مَوْلَاهُ إلَى قَاضِي بَلْدَتِهِ ، وَأَقَامَ عَلَيْهِ شَاهِدَيْنِ ، وَطَلَبَ أَنْ يَكْتُبَ بِهِ إلَى قَاضِي الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ لَمْ يُجِبْهُ إلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ ، وَلَوْ فَعَلَ لَمْ يَقْضِ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ بِذَلِكَ الْكِتَابِ ، وَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ يُجِيبُهُ إلَى ذَلِكَ بِطَرِيقٍ يَذْكُرُهُ ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ أَبِي لَيْلَى ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ كِتَابَ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي فِي الدُّيُونِ صَحِيحٌ بِالِاتِّفَاقِ ، وَكَذَلِكَ فِي الْعَقَارِ ؛ لِأَنَّ إعْلَامَهَا فِي الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةِ تُذْكَرُ الْحُدُودُ دُونَ الْإِشَارَةِ إلَى الْعَيْنِ ، وَفِي الْعُرُوضِ مِنْ الدَّوَابِّ وَالثِّيَابِ لَا يَجُوزُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إشَارَةِ الشُّهُودِ إلَى الْعَيْنِ لِلْقَضَاءِ بِشَهَادَتِهِمْ ،
وَذَلِكَ يَنْعَدِمُ فِي كِتَابِ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي ، فَأَمَّا فِي الْعَبِيدِ وَالْجَوَارِي فَلَا يَجُوزُ كِتَابُ الْقَاضِي عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ أَيْضًا وَهُوَ الْقِيَاسُ ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ إشَارَةِ الشُّهُودِ إلَى الْعَيْنِ لِيَثْبُتَ الِاسْتِحْقَاقُ بِشَهَادَتِهِمْ ؛ وَلِهَذَا لَوْ كَانَ حَاضِرًا فِي الْبَلْدَةِ لَا يَسْمَعُ الدَّعْوَى وَالشَّهَادَةَ إلَّا بَعْدَ إحْضَارِهِ ، فَلَا يَجُوزُ فِيهِ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي كَمَا فِي سَائِرِ الْعُرُوضِ ، وَلَكِنْ اسْتَحْسَنَ أَبُو يُوسُفَ فِي الْعَبِيدِ قَالَ : الْعَبْدُ قَدْ يَأْبَقُ مِنْ مَوْلَاهُ ، وَقَدْ يُرْسِلُهُ مَوْلَاهُ فِي حَاجَةٍ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ فَيَمْتَنِعُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَيْهِ ، وَيَتَعَذَّرُ عَلَى الْمَوْلَى الْجَمْعُ بَيْنَ شُهُودِهِ وَبَيْنَهُ فِي مَجْلِسِ الْقَاضِي ، فَلَوْ لَمْ يُقْبَلُ فِيهِ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي أَدَّى إلَى إتْلَافِ أَمْوَالِ النَّاسِ ، فَكَانَ قَبُولُ الْبَيِّنَةِ بِهَذِهِ الصِّفَةِ أَرْفَقَ بِالنَّاسِ ، وَمَا كَانَ أَرْفَقَ بِالنَّاسِ فَالْأَخْذُ بِهِ أَوْلَى ؛ لِأَنَّ الْحَرَجَ مَدْفُوعٌ ، وَكَانَ يَقُولُ مَرَّةً فِي الْجَارِيَةِ أَيْضًا : يُقْبَلُ كِتَابُ الْقَاضِي إلَى الْقَاضِي ، ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ : لَا يُقْبَلُ فِي الْجَارِيَةِ ؛ لِأَنَّ بَابَ الْفُرُوجِ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاحْتِيَاطِ ، وَلِأَنَّ هَذِهِ الْبَلْوَى تَقِلُّ فِي الْجَوَارِي فَالْمَوْلَى لَا يُرْسِلُهَا مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ عَادَةً ، وَالْإِبَاقُ فِي الْجَوَارِي يَنْدُرُ أَيْضًا .
ثُمَّ بَيَانُ مَذْهَبِهِ أَنَّ الْمُدَّعِيَ يُقِيمُ عِنْدَ الْقَاضِي شَاهِدَيْنِ عَلَى حِلْيَتِهِ وَصِفَتِهِ ، وَأَنَّهُ مَمْلُوكٌ لَهُ فَيَكْتُبُ لَهُ بِذَلِكَ إلَى قَاضِي الْبَلَدِ الَّذِي هُوَ فِيهِ مَحْبُوسٌ ، فَإِذَا ثَبَتَ الْكِتَابُ عِنْدَ ذَلِكَ الْقَاضِي بِشَهَادَةِ الشُّهُودِ عَلَيْهِ وَعَلَى الْخَتْمِ ، وَوَافَقَ حِلْيَةَ الْعَبْدِ وَصِفَتَهُ مَا فِي الْكِتَابِ دُفِعَ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْضَى لَهُ بِالْمُلْكِ ، وَيُخْتَمُ فِي عُنُقِهِ بِالرَّصَاصِ لِلْإِعْلَامِ ، وَيَأْخُذُ مِنْ الْمُدَّعِي كَفِيلًا ، ثُمَّ يَأْتِي بِهِ الْمُدَّعِي
إلَى الْبَلَدِ الَّذِي فِيهِ شُهُودُهُ ، وَيَكْتُبُ مَعَهُ كِتَابًا إلَى ذَلِكَ الْقَاضِي فَإِذَا أَتَى بِهِ إلَى هَذَا الْقَاضِي أَعَادَ شُهُودَهُ لِيَشْهَدُوا بِالْإِشَارَةِ إلَى الْعَبْدِ أَنَّهُ مِلْكُهُ وَحَقُّهُ ، فَإِذَا شَهِدُوا بِذَلِكَ قَضَى لَهُ بِالْعَبْدِ ، وَكَتَبَ إلَى ذَلِكَ الْقَاضِي بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ لِيُبَرِّئَ كَفِيلَهُ .
وَفِي الْجَوَارِي عَلَى قَوْلِهِ الْأَوَّلِ : لَا يَدْفَعُهَا إلَيْهِ الْقَاضِي الْمَكْتُوبُ إلَيْهِ أَوَّلًا ، وَلَكِنَّهُ يَبْعَثُ بِهَا مَعَهُ عَلَى يَدِ أَمِينٍ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ دَفَعَهَا إلَيْهِ لَا يَمْتَنِعُ مِنْ وَطْئِهَا ، وَإِنْ كَانَ أَمِينًا فِي نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهَا مَمْلُوكَتُهُ ، وَلَكِنْ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ رَحِمَهُمَا اللَّهُ قَالَا : هَذَا اسْتِحْسَانٌ فِيهِ بَعْضُ الْقُبْحِ ، فَإِنَّهُ إذَا دَفَعَ إلَيْهِ الْعَبْدَ يَسْتَخْدِمُهُ قَهْرًا أَوْ يَسْتَغِلُّهُ فَيَأْكُلُ مِنْ غَلَّتِهِ قَبْلَ أَنْ يَثْبُتَ مِلْكُهُ فِيهِ بِقَضَاءِ الْقَاضِي ، وَرُبَّمَا يَظْهَرُ الْعَبْدُ لِغَيْرِهِ إذَا جَاءَ بِهِ إلَى الْقَاضِي الْكَاتِبِ فَالْحِلْيَةُ وَالصِّفَةُ تُشْتَبَهُ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّجُلَيْنِ الْمُخْتَلِفَيْنِ قَدْ يَتَّفِقَانِ فِي الْحِلْيَةِ وَالصِّفَةِ ، أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَتْ جَارِيَةً حَسْنَاءَ أَكَانَ يَبْعَثُ بِهَا مَعَ رَجُلٍ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ فِيهَا حَقٌّ هَذَا قُبْحٌ ، فَلِهَذَا أَخَذْنَا بِالْقِيَاسِ ، فَإِنْ كَانَ الْقَاضِي بَاعَ الْعَبْدَ الْآبِقَ حِينَ طَالَ حَبْسُهُ ، وَأَخَذَ ثَمَنَهُ ، وَهَلَكَ الْعَبْدُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي ، ثُمَّ ادَّعَاهُ الرَّجُلُ ، وَأَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّ عَبْدًا اسْمُهُ كَذَا ، وَكَذَا عَبْدُهُ فَوَافَقَ ذَلِكَ صِفَةَ الْعَبْدِ الَّذِي بَاعَهُ الْقَاضِي لَمْ يُقْبَلْ ذَلِكَ ، وَلَا يُدْفَعْ إلَيْهِ الثَّمَنُ لِأَنَّ شُهُودَهُ لَمْ يَشْهَدُوا عَلَى اسْتِحْقَاقِ مَا فِي يَدِ الْقَاضِي مِنْ الثَّمَنِ ، إنَّمَا شَهِدُوا عَلَى الِاسْمِ وَالْحِلْيَةِ ، وَالِاسْمُ يُوَافِقُ الِاسْمَ وَالْحِلْيَةُ تُوَافِقُ الْحِلْيَةَ إلَّا أَنْ يَشْهَدُوا أَنَّ الْعَبْدَ الْآبِقَ الَّذِي بَاعَهُ الْقَاضِي مِنْ هَذَا الرَّجُلِ هُوَ عَبْدُ هَذَا فَحِينَئِذٍ
يَقْضِي لَهُ الْقَاضِي بِالثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ أَثْبَتَ الْمِلْكَ فِي ذَلِكَ الْعَبْدِ بِعَيْنِهِ ، وَالْبَدَلُ إنَّمَا يُمْلَكُ بِمُلْكِ الْأَصْلِ .
وَكَذَلِكَ إنْ لَمْ يَبِعْهُ حَتَّى قُتِلَ فَأَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَةَ أَنَّ الْمَقْتُولَ عَبْدُهُ ، فَإِنَّهُ يَقْضِي لَهُ بِالْقِيمَةِ ؛ لِأَنَّ الْقِيمَةَ وَالثَّمَنَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بَدَلٌ عَنْ الْعَبْدِ ، وَاسْتِحْقَاقُ الْبَدَلِ بِاسْتِحْقَاقِ الْأَصْلِ .
وَرَجُلٌ أَخَذَ عَبْدًا آبِقًا فَبَاعَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْقَاضِي ، ثُمَّ أَقَامَ الْمَوْلَى بَيِّنَةً أَنَّهُ عَبْدُهُ ، فَإِنَّهُ يَسْتَرِدُّهُ مِنْ الْمُشْتَرِي ، وَالْبَيْعُ بَاطِلٌ لِأَنَّ الْآخِذَ بَاعَهُ بِغَيْرِ وِلَايَةٍ لَهُ ، فَإِنَّ وِلَايَةَ تَنْفِيذِ الْبَيْعِ لَهُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ إنَّمَا تَثْبُتُ بِإِذْنِ الْمَوْلَى أَوْ بِإِذْنِ الْقَاضِي بَعْدَ مَا تَثْبُتُ الْوِلَايَةُ لَهُ ، فَإِذَا بَاعَهُ بِدُونِ إذْنِ الْقَاضِي كَانَ الْبَيْعُ بَاطِلًا ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ هَلَكَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي فَلِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يُضَمِّنَ قِيمَتَهُ أَيَّهُمَا شَاءَ ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ مُتَعَدٍّ فِي حَقِّهِ بِالْبَيْعِ وَالتَّسْلِيمِ ، وَالْمُشْتَرِي بِالْقَبْضِ لِنَفْسِهِ ، فَإِذَا ضَمِنَ الْمُشْتَرِي قِيمَتَهُ رَجَعَ عَلَى الْبَائِعِ بِالثَّمَنِ ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ لَمْ يُسَلَّمْ مِنْ جِهَتِهِ ، وَاسْتِرْدَادُ الْقِيمَةِ مِنْهُ كَاسْتِرْدَادِ الْعَيْنِ ، وَإِنْ ضَمِنَ الْبَائِعُ قِيمَتَهُ نَفَذَ الْبَيْعُ مِنْ جِهَتِهِ ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَهُ بِالضَّمَانِ فَيَكُونُ الثَّمَنُ لَهُ ، وَلَكِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِمَا فَضَلَ مِنْ الْقِيمَةِ عَلَى الثَّمَنِ ؛ لِأَنَّهُ رِبْحٌ حَصَلَ لَا عَلَى مِلْكِهِ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ .
رَجُلٌ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عِنْدَ قَاضٍ مِنْ الْقُضَاةِ بِأَنَّ الْعَبْدَ الَّذِي بَاعَهُ قَاضِي بَلَدِ كَذَا مِنْ فُلَانٍ فَهُوَ عَبْدُهُ ، وَأَخَذَ كِتَابَهُ إلَى ذَلِكَ الْقَاضِي الَّذِي بَاعَهُ الْآبِقَ ، فَهَذَا جَائِزٌ وَيَدْفَعُ ذَلِكَ الْقَاضِي إلَيْهِ الثَّمَنَ إذَا ثَبَتَ كِتَابُ الْقَاضِي عِنْدَهُ بِالْبَيِّنَةِ ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِي بِهَذِهِ الْبَيِّنَةِ لَا يُرِيدُ أَخْذَ عَيْنِ الْعَبْدِ ، فَإِنَّ بَيْعَ الْقَاضِي قَدْ نَفَذَ فِيهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عِنْدَهُ دَفَعَ إلَيْهِ الثَّمَنَ ، وَلَمْ يُمَكِّنْهُ مِنْ أَخْذِ الْعَبْدِ فَعَرَفْنَا أَنَّ مَقْصُودَهُ إثْبَاتُ حَقِّ أَخْذِ الثَّمَنِ لِنَفْسِهِ ، فَهَذَا وَالْبَيِّنَةُ الَّتِي يُقِيمُهَا عَلَى الدَّيْنِ سَوَاءٌ ؛ فَلِهَذَا يَكْتُبُ الْقَاضِي لَهُ بِذَلِكَ ، وَيَقْضِي الْمَكْتُوبَ إلَيْهِ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ .
( فَإِنْ قِيلَ : ) الثَّمَنُ عَيْنٌ فِي يَدِ ذَلِكَ الْقَاضِي كَالْعَبْدِ .
( قُلْنَا : ) نَعَمْ ، وَلَكِنَّهُ مَعْلُومٌ بِذِكْرِ مِقْدَارِهِ فَلَا تَقَعُ الْحَاجَةُ إلَى الْإِشَارَةِ مِنْ الشُّهُودِ إلَى عَيْنِهِ لِلِاسْتِحْقَاقِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ ، وَإِذَا وَجَدَ الرَّجُلُ عَبْدًا أَوْ أَمَةً آبِقًا وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أَخَذِهِ فَإِنَّهُ يَسَعُهُ تَرْكُهُ ، وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَأْخُذَهُ لِيَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ ، وَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ : لَا يَسَعُهُ تَرْكُهُ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مَنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ ، وَلِأَنَّ حُرْمَةَ مَالِ الْمُسْلِمِ كَحُرْمَةِ نَفْسِهِ ، وَلَوْ رَأَى إنْسَانًا يَغْرَقُ لَمْ يَسَعْهُ إلَّا أَنْ يُخَلِّصَهُ إذَا قَدَرَ عَلَيْهِ فَكَذَلِكَ إذَا رَأَى مَالَهُ يَتْوَى ، وَلَكِنَّا نَقُولُ : هُوَ يَحْتَاجُ فِي رَدِّهِ إلَى مُعَالَجَةٍ وَمُؤْنَةٍ فَكَانَ فِي سَعَةٍ مِنْ أَنْ لَا يَلْتَزِمَ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَلْتَزِمَهُ ، وَلِأَنَّهُ فِي التَّرْكِ يَعْتَمِدُ ظَاهِرَ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { لَا يَأْوِي الضَّالَّةَ إلَّا ضَالٌّ } ، وَقَالَ : { ضَالَّةُ الْمُؤْمِنِ حَرْقُ النَّارِ } وَبِظَاهِرِ الْحَدِيثِ يَقُولُ جُهَّالُ أَهْلِ التَّقَشُّفِ ،
وَحَمْقَى أَهْلِ التَّصَرُّفِ لَا يَسَعُهُ أَنْ يَأْخُذَهُ ، فَلَا أَقَلَّ مِنْ أَنْ يَسَعَهُ التَّرْكُ لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ .
( وَإِذَا ) أَخَذَ عَبْدًا آبِقًا فَادَّعَاهُ رَجُلٌ ، وَأَقَرَّ لَهُ الْعَبْدُ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي فَهَلَكَ عِنْدَهُ ، ثُمَّ اسْتَحَقَّهُ آخَرُ بِبَيِّنَةٍ أَقَامَهَا فَلَهُ أَنْ يُضَمِّنَ أَيَّهُمَا شَاءَ لِكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا خَائِنًا فِي حَقِّهِ ، فَإِنْ ضَمِنَ الدَّافِعُ رَجَعَ بِهِ عَلَى الْقَابِضِ ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ الْعَبْدَ مِنْهُ لِنَفْسِهِ ، وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ غَاصِبًا لَا مَالِكًا ، وَلِلْغَاصِبِ الْأَوَّلِ حَقُّ الرُّجُوعِ عَلَى الثَّانِي بِمَا يَضْمَنُ ، وَلِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ إقْرَارٌ مِنْ الدَّافِعِ لِلْقَابِضِ بِالْمِلْكِ ، وَلَوْ كَانَ أَقَرَّ لَهُ بِذَلِكَ فَسَقَطَ اعْتِبَارُ إقْرَارِهِ لَمَّا صَارَ مُكَذَّبًا شَرْعًا ، فَإِذَا لَمْ يَسْبِقْ إقْرَارُهُ أَوْلَى ، وَإِنْ كَانَ لَمْ يَدْفَعْ إلَى الْأَوَّلِ حَتَّى شَهِدَ شَاهِدَانِ عِنْدَهُ فَدَفَعَهُ إلَيْهِ بِغَيْرِ حُكْمٍ ، ثُمَّ أَقَامَ آخَرُ الْبَيِّنَةَ عِنْدَ الْقَاضِي ، فَإِنَّهُ يَقْضِي بِهِ لِهَذَا ؛ لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الْأُولَى أَقَامَهَا صَاحِبُهَا فِي غَيْرِ مَجْلِسِ الْحُكْمِ ، فَلَا تَكُونُ مُعَارِضَةً لِلْبَيِّنَةِ الَّتِي قَامَتْ فِي مَجْلِسِ الْحُكْمِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْحُكْمِ يَخْتَصُّ بِبَيِّنَةٍ تَقُومُ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ ، وَإِنْ أَعَادَ الْأَوَّلُ بَيِّنَتِهِ لَمْ يَنْفَعْهُ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ الْيَدِ فِي الْعَبْدِ لَهُ ، وَبَيِّنَةُ ذِي الْيَدِ فِي الْمِلْكِ الْمُطْلَقِ لَا تُعَارِضُ بَيِّنَةَ الْخَارِجِ ، وَمَا يَكْتَسِبُهُ الْعَبْدُ الْآبِقُ بِالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْإِجَارَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لِمَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِرَقَبَتِهِ بَعْدَ إبَاقِهِ ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمُكْتَسِبُ أَهْلًا لِلْمِلْكِ فَمَوْلَاهُ يُخْفِهِ فِي مِلْكِ الْكَسْبِ لِمِلْكِهِ رَقَبَتَهُ ، وَإِنْ أَجَّرَهُ الَّذِي أَخَذَهُ وَأَخَذَ أُجْرَتَهُ فَهُوَ لِلَّذِي أَجَّرَهُ قَالَ : لِأَنَّهُ فِي ضَمَانِهِ ، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذَا إلَى قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : { الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ } وَلِأَنَّهُ بِعَقْدِهِ صَيَّرَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ مَالًا ، فَإِنَّ الْمَنَافِعَ لَا تَأْخُذُ حُكْمَ الْمَالِيَّةِ إلَّا
بِالْعَقْدِ عِنْدَنَا كَمَا بَيَّنَهُ فِي الْغَصْبِ ، وَمَنْ صَيَّرَ مَا لَيْسَ بِمَالٍ مِنْ مِلْكِ الْغَيْرِ مَالًا بِفِعْلِهِ كَانَ ذَلِكَ الْمَالُ لَهُ كَمَنْ اتَّخَذَ كُوزًا مِنْ تُرَابِ غَيْرِهِ وَبَاعَهُ ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ حَصَلَ بِكَسْبٍ خَبِيثٍ ، وَإِنْ دَفَعَهُ إلَى الْمَوْلَى مَعَ الْعَبْدِ ، وَقَالَ : هَذَا الْمَالُ غَلَّةُ عَبْدِكَ ، وَقَدْ سَلَّمْتُهُ لَكَ فَهُوَ لِلْمَوْلَى ؛ لِأَنَّهُ أَخَذَ بِالِاحْتِيَاطِ فِيمَا صَنَعَ ، وَتَحَرَّزَ عَنْ اخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ ، فَإِنَّ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هَذَا الْمَالُ لِلْمَوْلَى ، وَعِنْدَنَا هُوَ لِلْأَجِيرِ ، وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ تَمْلِيكِ مَالِ نَفْسِهِ مِنْهُ طَوْعًا ، ثُمَّ يَحِلُّ لِلْمَوْلَى أَكْلُهُ اسْتِحْسَانًا .
وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَحِلُّ ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْفَقِيرِ أَثْبَتُ فِيهِ حِينَ وَجَبَ التَّصَدُّقُ بِهِ ، فَلَا يَمْلِكُ الْآخِذُ إسْقَاطَ حَقِّ الْفُقَرَاءِ ، وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ ، وَقَالَ : وُجُوبُ التَّصَدُّقِ بِهِ كَانَ لِخُبْثٍ دَخَلَ فِيهِ لِعَدَمِ رِضَى الْمَوْلَى بِهِ ، فَإِنَّمَا يَظْهَرُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الْآخِذِ لَا فِي حَقِّ الْمَوْلَى بَلْ بِالتَّسْلِيمِ إلَى الْمَوْلَى يَزُولُ ذَلِكَ الْخُبْثُ ، فَكَانَ لَهُ أَنْ يَأْكُلَهُ اسْتِحْسَانًا ؛ لِأَنَّهُ كَسْبُ عَبْدِهِ ، وَفِي الْقِيَاسِ لَا يَجِبُ الْأَجْرُ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ ضَامِنٌ لِلْعَبْدِ بِاسْتِعْمَالِهِ ، وَالْأَجْرُ مَعَ الضَّمَانِ لَا يَجْتَمِعَانِ ، وَلَكِنَّهُ اُسْتُحْسِنَ فَقَالَ : الْعَبْدُ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَنْ الِاكْتِسَابِ وَتَحْصِيلِ الْمَنَافِعِ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَصِحُّ مِنْهُ قَبُولُ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ ، فَإِذَا سَلِمَ مِنْ الْعَمَلِ نَمْحَضُ ذَلِكَ الْعَقْدَ مَنْفَعَةً ؛ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْبِقْ الْعَقْدَ لَمْ يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَعْمَلِ لَهُ شَيْءٌ ، فَلِهَذَا أَنْفَذْنَا ذَلِكَ الْعَقْدَ ، بِخِلَافِ مَا إذَا تَلِفَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ نَفَذَ الْعَقْدُ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى حَقُّ تَضْمِينِ الْمُسْتَأْجِرِ فَيَتَضَرَّرُ بِهِ ، فَإِذَا ثَبَتَ نُفُوذُ الْعَقْدِ عِنْدَ سَلَامَةِ الْعَبْدِ كَانَ حَقُّ قَبْضِ الْأَجْرِ إلَيْهِ
؛ لِأَنَّهُ وَجَبَ بِعَقْدِهِ بِأَخْذِهَا فَيَدْفَعُهَا إلَى الْمَوْلَى ، وَإِبَاقُ الْمُكَاتِبِ لَا يُبْطِلُ مُكَاتَبَتَهُ وَإِذْنَهُ بِخِلَافِ إبَاقِ الْمَأْذُونِ ؛ لِأَنَّ الْمَوْلَى يَقْدِرُ عَلَى أَنْ يَحْجُرَ عَلَى الْمَأْذُونِ ، وَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَحْجُرَ عَلَى الْمُكَاتِبِ ، وَلِأَنَّ حَقَّ الْمُكَاتِبِ فِي نَفْسِهِ لَازِمٌ ؛ وَلِهَذَا لَا يَمْلِكُ الْمَوْلَى بَيْعَهُ بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ .
وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى أَنَّ الْإِبَاقَ لَا يَتَحَقَّقُ مِنْ الْمُكَاتِبِ ، فَإِنَّ لَهُ أَنْ يَخْرُجَ فِي الِاكْتِسَابِ إلَى حَيْثُ يَشَاءُ ، وَلَيْسَ لِلْمَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ ذَلِكَ ، بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ فَإِنَّ لِلْمَوْلَى أَنْ يَمْنَعَهُ مِنْ الْخُرُوجِ ، فَإِذَا خَرَجَ بِغَيْرِ إذْنِهِ كَانَ فِعْلُهُ إبَاقًا ، وَبِهَذَا الطَّرِيقِ لَا جُعْلَ لِرَادِّ الْمُكَاتَبِ ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِآبِقٍ بِخِلَافِ الْمَأْذُونِ ، وَلِأَنَّ الرَّادَّ إنَّمَا يَسْتَوْجِبُ الْجُعْلَ بِإِحْيَائِهِ مَالِيَّةَ الرَّقَبَةِ بِرَدِّهِ ، وَذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي الْمُكَاتِبِ ، فَإِنَّ حَقَّ الْمَوْلَى فِي بَدَلِ الْكِتَابَةِ فِي ذِمَّتِهِ خَاصَّةً ، وَلَمْ يَصِرْ مُشْرِفًا عَلَى الْهَلَاكِ بِإِبَاقِهِ حَتَّى يَكُونَ فِي الرَّدِّ إحْيَاؤُهُ بِخِلَافِ الْعَبْدِ ؛ لِأَنَّ مَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ حَقُّ الْمَوْلَى ، وَقَدْ أَشْرَفَ عَلَى التَّوَى بِإِبَاقِهِ فَيَكُونُ الرَّادُّ مُحْيِيًا لَهُ .
وَيَجُوزُ عِتْقُ الْآبِقِ عَنْ الظِّهَارِ إذَا كَانَ حَيًّا ؛ لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ الْمَوْلَى حَقِيقَةً فَيَنْفُذُ عِتْقُهُ فِيهِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَنْفُذُ حَالَ كَوْنِهِ فِي يَدِهِ .
( فَإِنْ قِيلَ : ) الْآبِقُ فِي حُكْمِ الْمُسْتَهْلِكِ ، وَإِعْتَاقُ الْمُسْتَهْلِكِ حُكْمًا عَنْ الظِّهَارِ لَا يَجُوزُ كَالْأَعْمَى ( قُلْنَا : ) الْمُسْتَهْلَكُ مِنْهُ حُكْمًا مَالِيَّتُهُ لَا ذَاتُهُ ، وَالْكَفَّارَةُ إنَّمَا تَتَأَدَّى بِتَحْرِيرِ مُبْتَدَإٍ ، وَذَلِكَ يَرْجِعُ إلَى الذَّاتِ دُونَ الْمَالِيَّةِ ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } ، وَالرَّقَبَةُ اسْمٌ لِلذَّاتِ حَقِيقَةً ، وَالذَّاتُ الْمَرْقُوقُ عُرْفًا ، وَلَيْسَ فِي النَّصِّ تَعْرِيضٌ لِصِفَةِ
الْمَالِيَّةِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ قَلِيلُ الْقِيمَةِ وَكَثِيرُ الْقِيمَةِ فِي جَوَازِ التَّكْفِيرِ بِهِ سَوَاءً ، بِخِلَافِ الْأَعْمَى فَالْمُسْتَهْلَكُ هُنَاكَ الذَّوَاتُ حُكْمًا لِفَوَاتِ مَنْفَعَةِ الْجِنْسِ مِنْهُ ، وَبِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ فَعِتْقُهُمَا لَيْسَ بِتَحْرِيرٍ مُبْتَدَإٍ بَلْ هَذَا مِنْ وَجْهِ تَعْجِيلٍ لِمَا اسْتَحَقَّاهُ مُؤَجَّلًا ، وَيَجُوزُ بَيْعُ الْآبِقِ مِمَّنْ أَخَذَهُ ؛ لِأَنَّ امْتِنَاعَ جَوَازِ بَيْعِهِ مِنْ غَيْرِهِ لِعَجْزِهِ عَنْ التَّسْلِيمِ إلَيْهِ ، وَلَا يُوجَدُ ذَلِكَ هُنَا ؛ لِأَنَّهُ بِنَفْسِ الْعَقْدِ يَصِيرُ مُسَلَّمًا إلَى الْمُشْتَرِي لِقِيَامِ يَدِهِ فِيهِ فَلِهَذَا جَازَ بَيْعُهُ مِنْهُ .
وَإِذَا أَبَقَ عَبْدُ الرَّهْنِ فَرَدَّهُ رَجُلٌ فِي حَيَاةِ الرَّاهِنِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَهُوَ رَهْنٌ عَلَى حَالِهِ ؛ لِأَنَّ مَالِيَّتَهُ قَدْ أَشْرَفَتْ عَلَى التَّوَى بِالْإِبَاقِ ، ثُمَّ قَدْ حَيَّ بِالرَّدِّ فَهُوَ كَمَا لَوْ أَشْرَفَ عَلَى الْهَلَاكِ ، ثُمَّ بَرِئَ فَيَكُونُ رَهْنًا عَلَى حَالِهِ ، وَالْمُرْتَهِنُ أَحَقُّ بِهِ مِنْ سَائِرِ غُرَمَاءِ الرَّاهِنِ بَعْدَ مَوْتِهِ ، وَالْجُعْلُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ إنْ كَانَ قِيمَتُهُ مِثْلَ الدَّيْنِ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْجُعْلِ لِلرَّادِّ بِإِحْيَائِهِ مَالِيَّةَ الْعَبْدِ وَمَالِيَّةَ حَقِّ الْمُرْتَهِنِ ؛ لِأَنَّ مُوجِبَ عَقْدِ الرَّهْنِ ثُبُوتُ يَدِ الِاسْتِيفَاءِ لِلْمُرْتَهِنِ مِنْ مَالِيَّةٍ ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَرُدَّهُ حَتَّى يَتَحَقَّقَ التَّوَى سَقَطَ دَيْنُ الْمُرْتَهِنِ ، فَعَرَفْنَا أَنَّهُ فِي الرَّدِّ عَمَلٌ لَهُ فَكَانَ الْجُعْلُ عَلَيْهِ ، وَهُوَ نَظِيرُ تَخْلِيصِهِ مِنْ الْجِنَايَةِ بِالْفِدَاءِ ، وَذَلِكَ عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِقَدْرِ الْمَضْمُونِ مِنْهُ فَكَذَلِكَ الْجُعْلُ ، وَهَذَا بِخِلَافِ النَّفَقَةِ فَإِنَّهُ لِإِبْقَاءِ الْمِلْكِ لَا لِإِحْيَاءِ الْمَالِيَّةِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُرْتَهِنَ إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْإِنْفَاقِ تَمَكَّنَ مِنْ رَدِّهِ ، وَيَبْقَى جَمِيعُ دَيْنِهِ فَعَرَفْنَا أَنَّ النَّفَقَةَ لِإِبْقَاءِ الْمِلْكِ وَالْمِلْكُ لِلرَّاهِنِ ، وَالْجُعْلُ لِإِحْيَاءِ الْمَالِيَّةِ فَيَكُونُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمَالِيَّةَ لَوْ انْتَقَصَتْ بِقُرْحَةٍ خَرَجَتْ بِهِ كَانَ دَوَاءُ ذَلِكَ ، وَمُعَالَجَتُهُ عَلَى الْمُرْتَهِنِ بِخِلَافِ النَّفَقَةِ فَكَذَلِكَ جُعْلُ الْآبِقِ ، وَلِلَّذِي جَاءَ بِهِ أَنْ يُمْسِكَهُ حَتَّى يَأْخُذَ الْجُعْلَ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَسْتَوْجِبُ الْجُعْلَ بِإِحْيَاءِ مَالِيَّتِهِ فَكَانَ لِمَا يَسْتَوْجِبُ تَعَلُّقًا بِمَالِيَّتِهِ فَيُحْتَبَسُ بِهِ ، كَمَا يَحْبِسُ الْبَائِعُ الْمَبِيعَ بِثَمَنِهِ .
وَإِنْ مَاتَ الْعَبْدُ فِي يَدِهِ بَعْدَ مَا قَضَى الْقَاضِي بِإِمْسَاكِهِ ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ مُحِقٌّ فِي حَبْسِهِ وَلَا جُعْلَ لَهُ ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْجُعْلِ بِاعْتِبَارِ إحْيَائِهِ مَالِيَّتَهُ ، وَلَمْ
يَتِمَّ ذَلِكَ حِينَ لَمْ تَصِلْ إلَيْهِ يَدُ مَوْلَاهُ ، وَهُوَ نَظِيرُ الْمَبِيعِ يَتْلَفُ فِي يَدِ الْبَائِعِ ، فَإِنَّ حَقَّهُ فِي الثَّمَنِ يَسْقُطُ سَوَاءٌ حَبَسَهُ أَوْ لَمْ يَحْبِسْهُ ، فَهُنَا يَسْقُطُ حَقُّهُ فِي الْجُعْلِ بِمَوْتِهِ فِي يَدِهِ سَوَاءٌ حَبَسَهُ أَوْ لَمْ يَحْبِسْهُ .
( عَبْدٌ ) أَبَقَ وَذَهَبَ مَعَهُ بِمَالٍ فَجَاءَ بِهِ رَجُلٌ فَقَالَ : لَمْ أَجِدْ مَعَهُ شَيْئًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّ وُصُولَ يَدِهِ إلَى الْعَبْدِ لَا يَكُونُ دَلِيلَ وُصُولِ الْمَالِ إلَيْهِ مَا لَمْ يُعْلَمْ كَوْنُهُ فِي يَدِ الْعَبْدِ حِينَ أَخَذَهُ ، وَالْمَوْلَى يَدَّعِي عَلَيْهِ ذَلِكَ ، وَهُوَ مُنْكِرٌ ، كَمَا لَوْ ادَّعَى عَلَيْهِ أَنَّهُ غَصَبَهُ مَالًا وَأَنْكَرَهُ ، وَإِنْ اتَّهَمَهُ رَبُّ الْمَالِ فَلَهُ أَنْ يَسْتَحْلِفَهُ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ مُنْكِرٌ كَمَا لَوْ ادَّعَى ؛ لِأَنَّهُ يَدَّعِي عَلَيْهِ مَا لَوْ أَقَرَّ بِهِ لَزِمَهُ ، فَإِذَا أَنْكَرَ يُسْتَحْلَفُ لِرَجَاءِ نُكُولِهِ حَتَّى يُقَامَ ذَلِكَ مَقَامَ إقْرَارِهِ .
وَلَوْ أَنَّ أَمَةً أَبَقَتْ مِنْ مَوْلَاهَا فَالْتَحَقَتْ بِأَرْضِ الْحَرْبِ ثُمَّ أَصَابَهَا الْمُسْلِمُونَ فَاشْتَرَاهَا رَجُلٌ مِنْهُمْ فَوَطِئَهَا فَوَلَدَتْ لَهُ ثُمَّ جَاءَ مَوْلَاهَا ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا وَعُقْرَهَا وَقِيمَةَ وَلَدِهَا فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ الْوَاطِئُ اشْتَرَاهَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَعِنْدَهُمَا أُمُّ وَلَدٍ لِمَنْ اسْتَوْلَدَهَا ، وَلَا سَبِيلَ لِمَوْلَاهَا عَلَيْهَا ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْآبِقَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ لَا يَمْلِكُهُ الْمُشْرِكُونَ بِالْأَخْذِ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُحْرِزُوهُ لِكَوْنِهِ فِي يَدِ نَفْسِهِ ، وَهِيَ يَدٌ مُحْتَرَمَةٌ ، فَإِذَا لَمْ يَمْلِكْهَا الْمُشْتَرِي مِنْهُمْ وَلَا الْمُسْلِمُونَ بِالِاسْتِيلَاءِ أَيْضًا ، فَمَنْ اشْتَرَاهَا فَوَطِئَهَا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمَغْرُورِ ؛ لِأَنَّهُ فِي الِاسْتِيلَاءِ اعْتَمَدَ ظَاهِرَ الشِّرَاءِ ، وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ حُرٌّ بِالْقِيمَةِ ، وَلِلْمُسْتَحِقِّ أَنْ يَأْخُذَ الْجَارِيَةَ وَعُقْرَهَا وَقِيمَةَ وَلَدِهَا ، وَبِهِ قَضَى عُمَرُ وَعَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا وَعِنْدَهُمَا هُمْ يَمْلِكُونَ الْآبِقَ إلَيْهِمْ بِالْأَخْذِ ، فَإِذَا مَلَكُوهَا مَلَكَهَا الْمُشْتَرِي أَيْضًا ، وَقَدْ اسْتَوْلَدَهَا فَكَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ ، وَلَا حَقَّ لِلْمَوْلَى فِي اسْتِرْدَادِهَا ، وَالْجُعْلُ وَاجِبٌ فِي رَدِّ الْمُدَبَّرِ وَأُمِّ الْوَلَدِ ؛ لِأَنَّهُمَا مَمْلُوكَانِ يَسْتَكْسِبُهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْقِنِّ .
( فَإِنْ قِيلَ : ) فَأَيْنَ ذَهَبَ قَوْلُكُمْ إنَّهُ يَسْتَوْجِبُ الْجُعْلَ بِإِحْيَاءِ الْمَالِيَّةِ فِي أُمِّ الْوَلَدِ خُصُوصًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ( قُلْنَا : ) نَعَمْ لَيْسَ لَهُ فِيهَا مَالِيَّةٌ بِاعْتِبَارِ الرَّقَبَةِ ، وَلَكِنْ لَهُ مَالِيَّةٌ بِاعْتِبَارِ كَسْبِهَا بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ ، فَإِنَّهُ أَحَقُّ بِمَكَاسِبِهِ ، فَلَا يَكُونُ رَادُّهُ مُحْيِيًا لِلْمَوْلَى مَالِيَّةً بِاعْتِبَارِ الرَّقَبَةِ وَلَا بِاعْتِبَارِ الْكَسْبِ ، فَإِنْ مَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ أَنْ يُوصِلَهُمَا الرَّادُّ إلَيْهِ فَلَا جُعْلَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُمَا عَتَقَا بِمَوْتِهِ ، وَرَادُّ الْحُرِّ لَا
يَسْتَوْجِبُ الْجُعْلَ ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ عَلَى الْمُدَبَّرِ سِعَايَةٌ بِأَنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَوْلَى مَالٌ سِوَاهُ فَرَدَّهُ عَلَى الْوَرَثَةِ لَمْ يَسْتَوْجِبْ الْجُعْلَ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَسْعَى بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا هُوَ حُرٌّ عَلَيْهِ دَيْنٌ ، وَلَا جُعْلَ لِرَادِّ الْمُكَاتِبِ أَوْ الْحُرِّ ، فَأَمَّا إذَا وَصَّلَهُمَا إلَى الْمَوْلَى فَقَدْ تَقَرَّرَ حَقُّهُ فِي الْجُعْلِ ، فَلَا يَسْقُطُ بِمَوْتِ الْمَوْلَى وَعِتْقِهِمَا بَعْدَ ذَلِكَ ، وَإِنْ كَانَ الْآبِقُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَثْلَاثًا فَالْجُعْلُ بَيْنَهُمَا عَلَى قَدْرِ أَنْصِبَائِهِمَا ، وُجُوبُهُ بِاعْتِبَارِ إحْيَاءِ مَالِيَّتِهِمَا ، وَالْمَالِيَّةُ لِصَاحِبِ الْكَثِيرِ أَكْثَرُ مِنْهَا لِصَاحِبِ الْقَلِيلِ ، وَرَادُّ الصَّغِيرِ إذَا كَانَ آبِقًا يَسْتَوْجِبُ الْجُعْلَ كَرَادِّ الْكَبِيرِ ، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ جَاءَ بِهِ مِنْ مَسِيرَةِ سَفَرٍ فَلَهُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا ، وَإِنْ جَاءَ بِهِ مِمَّا دُونَ ذَلِكَ يَرْضَخُ لَهُ عَلَى قَدْرِ عَنَائِهِ ، وَعَنَاؤُهُ فِي رَدِّ الْكَبِيرِ أَكْثَرُ مِنْهُ فِي رَدِّ الصَّغِيرِ ، فَالرَّضْخُ يَكُونُ بِحَسَبِ ذَلِكَ .
وَإِذَا انْتَهَى الرَّجُلُ بِالْعَبْدِ الْآبِقِ إلَى مَوْلَاهُ فَلَمَّا نَظَرَ إلَيْهِ أَعْتَقَهُ فَالْجُعْلُ وَاجِبٌ عَلَيْهِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا لَهُ بِإِعْتَاقِهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إذَا أَعْتَقَ الْمَبِيعَ قَبْلَ الْقَبْضِ يَصِيرُ بِهِ قَابِضًا ، وَكَذَلِكَ إنْ بَاعَهُ مَوْلَاهُ مِنْ الَّذِي أَتَاهُ بِهِ ؛ لِأَنَّهُ صَارَ قَابِضًا لَهُ لَمَّا نَفَذَ تَصَرُّفُهُ فِيهِ بِالتَّمْلِيكِ مِنْ غَيْرِهِ ، وَلِأَنَّ سَلَامَةَ الثَّمَنِ لَهُ بِاعْتِبَارِ رَدِّ هَذَا الرَّادِّ ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ سَلَامَةِ الْعَيْنِ لَهُ ، وَإِنْ سَلَّمَهُ الرَّادُّ إلَى مَوْلَاهُ فَأَبَقَ مِنْهُ ، ثُمَّ جَاءَ بِهِ رَجُلٌ آخَرُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فَعَلَى الْوَلِيِّ جُعْلٌ تَامٌّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ؛ لِأَنَّ السَّبَبَ وَهُوَ إحْيَاءُ الْمَالِيَّةِ بِالرَّدِّ عَلَى الْمَوْلَى فَقَدْ تَقَرَّرَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِكَمَالِهِ ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَدْخَلَهُ الْمِصْرَ ،
ثُمَّ أَبَقَ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَنْتَهِي بِهِ إلَى مَوْلَاهُ فَالْجُعْلُ لِلْآخَرِ إنْ جَاءَ بِهِ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَيَرْضَخُ لَهُ إنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ ، وَلَا شَيْءَ لِلْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّ تَمَامَ السَّبَبِ بِإِيصَالِهِ إلَى الْمَوْلَى ، وَالْأَوَّلُ مَا أَوْصَلَهُ إلَى الْمَوْلَى فَانْتَقَصَ السَّبَبُ فِي حَقِّهِ بِإِبَاقِ الْعَبْدِ مِنْهُ قَبْلَ تَمَامِهِ بِالْإِيصَالِ إلَى الْمَوْلَى فَلَا جُعْلَ لَهُ ، وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ أَتَمَّ السَّبَبَ بِإِيصَالِهِ إلَى الْمَوْلَى فَيَسْتَوْجِبُ الْجُعْلَ بِحَسَبِ عَمَلِهِ ، وَإِنْ أَخَذَهُ الْأَوَّلُ مَعَ الثَّانِي وَرَدَّاهُ مِنْ مَسِيرَةِ يَوْمٍ فَالْأَوَّلُ نِصْفُ الْجُعْلِ تَامًّا ، وَيَرْضَخُ لِلثَّانِي عَلَى قَدْرِ عَنَائِهِ لِأَنَّهُمَا تَمَّمَا السَّبَبَ بِإِيصَالِهِ إلَى الْمَوْلَى ، إلَّا أَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ ضَمَّ فِعْلَهُ الثَّانِي إلَى الْفِعْلِ الْأَوَّلِ ، وَبِاعْتِبَارِ هَذَا الضَّمِّ يَكُونُ رَادًّا لَهُ مِنْ مَسِيرَةِ سَفَرٍ فَلَهُ نِصْفُ الْجُعْلِ تَامًّا ، وَالثَّانِي إنَّمَا رَدَّهُ مِنْ مَسِيرَةِ يَوْمٍ فَيُجْعَلُ فِي حَقِّهِ كَأَنَّهُمَا رَدَّاهُ مِنْ مَسِيرَةِ يَوْمٍ فَلِهَذَا اسْتَحَقَّ الرَّضْخَ عَلَى قَدْرِ عَنَائِهِ ، وَإِنْ رَدَّاهُ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثٍ فَالْجُعْلُ بَيْنَهُمَا سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّهُمَا اسْتَوَيَا فِي سَبَبِ الِاسْتِحْقَاقِ لِلْجُعْلِ ، وَهُوَ الْإِيصَالُ إلَى الْمَوْلَى بَعْدَ الرَّدِّ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثٍ فَيَسْتَوِيَانِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْجُعْلِ ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُ الرَّادَّيْنِ عَبْدًا مَحْجُورًا أَوْ مَأْذُونًا فَهُوَ مِثْلُ الْحُرِّ فِي اسْتِحْقَاقِ الْجُعْلِ ؛ لِأَنَّ هَذَا اكْتِسَابٌ لِلْمَالِ ، وَالْعَبْدُ غَيْرُ مَحْجُورٍ عَنْ اكْتِسَابِ الْمَالِ بِطَرِيقٍ هُوَ مَحْضُ مَنْفَعَةٍ فِي حَقِّ الْمَوْلَى ، وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ الْآبِقُ لِمُكَاتِبٍ أَوْ عَبْدٍ تَاجِرٍ فَعَلَيْهِمَا الْجُعْلُ لِلرَّادِّ ؛ لِأَنَّ حَقَّهُمَا فِي كَسْبِهِمَا بِمَنْزِلَةِ حَقِّ الْحُرِّ فِيمَا يَرْجِعُ إلَى مِلْكِ التَّصَرُّفِ ، وَالرَّادُّ أَحْيَا مَالِيَّةَ الْعَبْدِ بِالرَّدِّ لَهُمَا فَيَسْتَوْجِبُ الْجُعْلَ عَلَيْهِمَا ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الْآبِقُ
لِصَبِيٍّ فَالْجُعْلُ فِي مَالِهِ يُؤَدِّي عَنْهُ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَةَ إحْيَاءِ الْمَالِيَّةِ حَصَلَتْ لَهُ .
( عَبْدٌ ) جَنَى جِنَايَةً ثُمَّ أَبَقَ فَجَاءَ بِهِ رَجُلٌ فَالْمَوْلَى مُخَيَّرٌ بَيْنَ الدَّفْعِ وَالْفِدَاءِ إذَا كَانَ قَبْلَ إبَاقِهِ ، فَإِنْ اخْتَارَ الْفِدَاءَ فَالْجُعْلُ عَلَى مَوْلَاهُ ؛ لِأَنَّهُ طَهَّرَهُ عَنْ الْجِنَايَةِ بِاخْتِيَارِهِ ، وَتَبَيَّنَ أَنَّ الرَّادَّ عَمَلٌ لَهُ فِي إحْيَاءِ مَالِيَّتِهِ ، وَإِنْ اخْتَارَ دَفْعَهُ إلَى أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ فَالْجُعْلُ عَلَى أَصْحَابِ الْجِنَايَةِ ؛ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الرَّادَّ أَحْيَا حَقَّهُمْ ، فَإِنَّ نَفْسَ الْعَبْدِ اسْتَحَقَّ لَهُمْ بِالْجِنَايَةِ إلَّا أَنْ يَخْتَارَ الْمَوْلَى الْفِدَاءَ ؛ وَلِهَذَا لَوْ هَلَكَ الْعَبْدُ قَبْلَ أَنْ يَخْتَارَ الْمَوْلَى شَيْئًا بَطَلَ حَقُّهُمْ فَتَبَيَّنَ بِاخْتِيَارِ الدَّفْعِ أَنَّ الرَّادَّ أَحْيَا حَقَّهُمْ فَيَسْتَوْجِبُ الْجُعْلَ عَلَيْهِمْ ، وَلَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ عَنْهُمْ حَتَّى يُسْتَوْفَى الْجُعْلُ كَمَا كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ عَنْ الْمَوْلَى .
( عَبْدٌ ) أَبَقَ إلَى بَعْضِ الْبُلْدَانِ فَأَخَذَهُ رَجُلٌ فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ رَجُلٌ وَجَاءَ بِهِ فَلَا جُعْلَ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا رَدَّهُ لِنَفْسِهِ ، فَإِنَّ الْمُشْتَرِيَ قَدْ يَكُونُ قَاصِدًا إلَى تَمَلُّكِ الْمُشْتَرَى فَيَكُونُ هُوَ غَاصِبًا فِي حَقِّ الْمَوْلَى لَا عَامِلًا لَهُ ، وَكَذَلِكَ إنْ وَهَبَهُ أَوْ أَوْصَى لَهُ أَوْ وَرِثَهُ ، فَإِنْ أَشْهَدَ حِينَ اشْتَرَاهُ أَنَّهُ إنَّمَا يَشْتَرِيهِ لِيَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ ؛ لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلَّا بِالشِّرَاءِ فَلَهُ الْجُعْلُ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ بِهَذَا الْإِشْهَادِ أَظْهَرَ أَنَّهُ يَعْمَلُ لِلْمَوْلَى فِي الرَّدِّ ، وَلَكِنَّهُ الطَّرِيقُ الَّذِي يُمَكِّنُهُ فَيَسْتَوْجِبُ ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْمَوْلَى بِمَا أَدَّى مِنْ الثَّمَنِ قَلَّ ذَلِكَ أَوْ كَثُرَ ؛ لِأَنَّهُ مُتَبَرِّعٌ فِي ذَلِكَ كَمَا كَانَ مُتَبَرِّعًا فِيمَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ بِغَيْرِ أَمْرِ الْقَاضِي ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ أَبَقَ إلَى دَارِ الْحَرْبِ فَفِي حَقِّ الرَّادِّ هُوَ وَالْمَأْخُوذُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ
سَوَاءٌ ، وَإِنْ أَخَذَ الْآبِقَ رَجُلٌ فَجَاءَ بِهِ لِيَرُدَّهُ عَلَى مَوْلَاهُ فَوَجَدَهُ قَدْ مَاتَ قَالَ : لَهُ الْجُعْلُ فِي تَرِكَتِهِ ؛ لِأَنَّ وَارِثَهُ أَوْ وَصِيَّهُ يَخْلُفُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَالرَّدُّ عَلَيْهِ كَالرَّدِّ عَلَى الْمَوْلَى فِي حَيَاتِهِ ، وَإِذَا اسْتَوْجَبَ الْجُعْلُ عَلَيْهِ كَانَ ذَلِكَ دَيْنًا فِي تَرِكَتِهِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ ، فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ فَالرَّادُّ أَحَقُّ بِإِمْسَاكِ الْعَبْدِ حَتَّى يُعْطَى الْجُعْلَ ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهُ بِيعَ الْعَبْدُ ، وَيُبْدَأُ بِالْجُعْلِ لَهُ مِنْ ثَمَنِهِ ، ثُمَّ يُقَسَّمُ الْبَاقِي بَيْنَ الْغُرَمَاءِ لِأَنَّ حَقَّ الْغُرَمَاءِ فِي مَالِيَّتِهِ إنَّمَا ثَبَتَ مِنْ جِهَةِ الْمَيِّتِ ، وَقَدْ كَانَ الرَّادُّ أَحَقَّ بِهِ مِنْ الْمَيِّتِ مَا لَمْ يَسْتَوْفِ الْجُعْلَ ، فَكَذَا يَكُونُ هُوَ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غُرَمَاءِ الْمَيِّتِ أَيْضًا ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي جَاءَ بِهِ وَارِثَ الْمَيِّتِ وَقَدْ أَخَذَهُ ، وَسَارَ بِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي حَيَاتِهِ وَأَوْصَلَهُ إلَى الْمِصْرِ فَمَاتَ الْمَوْلَى قَبْلَ أَنْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِ ، وَلَيْسَ الْوَارِثُ الرَّادَّ فِي عِيَالِهِ فَلَهُ الْجُعْلُ فِي قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ ، وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى لَا جُعْلَ لَهُ ؛ لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْجُعْلِ إنَّمَا يَكُونُ بِالْإِيصَالِ إلَى الْمَالِكِ ، وَكَذَا لَوْ أَبَقَ قَبْلَ أَنْ يُوصِلَهُ إلَى الْمَالِكِ ، فَلَا جُعْلَ لَهُ ، وَالْإِيصَالُ هُنَا لَمْ يُوجَدْ قَبْلَ الْمَوْتِ ، وَبَعْدَ الْمَوْتِ لَمْ يَصْلُحْ سَبَبًا لِوُجُوبِ الْجُعْلِ لَهُ ؛ لِأَنَّهُ شَرِيكٌ فِيهِ ، وَمَنْ عَمِلَ فِي شَيْءٍ هُوَ فِيهِ شَرِيكٌ لَا يَسْتَوْجِبُ الْأَجْرَ بِالْعَقْدِ ، وَإِنْ شَرَطَ ذَلِكَ فِي الْعَقْدِ فَهُنَا أَوْلَى أَنْ لَا يَسْتَوْجِبَ .
وَجْهُ قَوْلِهِمَا أَنَّ الرَّادَّ إنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْجُعْلُ بِعَمَلِهِ فِي الرَّدِّ ، وَقَدْ تَمَّ ذَلِكَ فِي حَيَاةِ الْمُورِثِ قَبْلَ أَنْ تَثْبُتَ لَهُ الشَّرِكَةُ فِيهِ ، إلَّا أَنَّ إيصَالَهُ إلَى الْمَوْلَى شَرْطٌ ، وَعِنْدَ وُجُودِهِ يَسْتَحِقُّ الْأَجْرَ بِعَمَلِهِ لَا بِمَا هُوَ شَرْطٌ ،
وَالشَّرْطُ يَتَحَقَّقُ مَعَ الشَّرِكَةِ فِي الْمَحِلِّ ، وَإِنَّمَا الَّذِي لَا يَتَحَقَّقُ تَسْلِيمُ الْعَمَلِ إلَى غَيْرِهِ فِيمَا هُوَ شَرِيكٌ فِيهِ ، وَقَدْ صَارَ الْعَمَلُ هُنَا مُسَلَّمًا إلَى الْمَوْلَى بِاتِّصَالِهِ بِمِلْكِهِ ، وَقَدْ وُجِدَ الشَّرْطُ بِالرَّدِّ عَلَى وَرَثَتِهِ فَيَسْتَوْجِبُ الْجُعْلَ .
يُوَضِّحُهُ أَنَّهُ بِإِحْيَاءِ الْمَالِيَّةِ يَسْتَوْجِبُ الْجُعْلَ ، وَقَدْ تَحَقَّقَ هَذَا حَتَّى لَوْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ أَوْ أَوْصَى بِوَصِيَّةٍ يَنْفُذُ مِنْ ذَلِكَ ، فَيَكُونُ هَذَا بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ رَدَّهُ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ ، وَلَمْ يَأْخُذْ الْجُعْلَ مِنْهُ حَتَّى مَاتَ ، وَإِذَا جَاءَ بِالْآبِقِ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَهُوَ لَا يُسَاوِي أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْأَوَّلِ لَهُ الْجُعْلُ أَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ بِدِرْهَمٍ ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ ، وَفِي قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْآخَرِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ لَهُ الْجُعْلُ تَامًّا .
وَجْهُ قَوْلِهِ الْأَوَّلِ أَنَّ وُجُوبَ الْجُعْلِ بِاعْتِبَارِ إحْيَاءِ الْمَالِيَّةِ لِلْمَوْلَى ، فَلَا بُدَّ مِنْ اعْتِبَارِ مِقْدَارِ الْمَالِيَّةِ الَّتِي حَيِيَتْ لَهُ ، ثُمَّ الرَّادُّ مَأْذُونٌ مِنْ جِهَةِ الْمَوْلَى فِي إيصَالِ الْمَنْفَعَةِ إلَيْهِ لَا فِي إلْحَاقِ الضَّرَرِ بِهِ وَإِيجَابِ الْمَالِ لِنَفْسِهِ عَلَيْهِ ، فَإِذَا كَانَ قِيمَةُ الْعَبْدِ دِرْهَمًا كَانَ فِي إيجَابِ الْأَرْبَعِينَ عَلَى الْمَوْلَى ضَرَرٌ بَيِّنٌ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يُوجِبَ لَهُ مِنْ الْجُعْلِ بِقَدْرِ مَا يَظْهَرُ فِيهِ مَنْفَعَةُ عَمَلِهِ لِلْمَوْلَى ، وَذَلِكَ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ قِيمَتِهِ دِرْهَمٌ ؛ لِأَنَّ مَا دُونَ الدِّرْهَمِ مِنْ الْكُسُورِ لَا يَجُوزُ اعْتِبَارُهُ شَرْعًا .
وَجْهُ قَوْلِهِ الْآخَرِ أَنَّ وُجُوبَ الْجُعْلِ لِلرَّادِّ عُرِفَ شَرْعًا بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ ، وَقَدْ قَدَّرُوهُ بِأَرْبَعِينَ دِرْهَمًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرِضُوا لَقِيمَةِ الْعَبْدِ ، وَمَا ثَبَتَ مِنْ التَّقْدِيرِ شَرْعًا يَجِبُ اعْتِبَارُهُ ، وَكَانَ عَمَلُ الرَّادِّ هُنَا فِي إيجَابِ جُعْلٍ مُقَدَّرٍ لَهُ بِمَنْزِلَةِ عَقْدٍ بَاشَرَهُ مَعَ الْمَوْلَى .
فَكَمَا يَسْتَحِقُّ هُنَاكَ
جَمِيعَ الْمُسَمَّى ، وَلَا يَنْظُرُ إلَى قِيمَةِ الْعَبْدِ فَكَذَلِكَ هُنَا يُوَضِّحُهُ أَنَّ مَالِيَّةَ رَقَبَتِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ دُونَ الْأَرْبَعِينَ فَمَالِيَّةُ كَسْبِهِ الَّذِي يَحْصُلُ لِلْمَوْلَى قَدْ تَزِيدُ عَلَيْهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنْ ذَلِكَ يُعْتَبَرُ لِإِيجَابِ الْجُعْلِ ابْتِدَاءً فَلَأَنْ يُعْتَبَرَ لِتَكْمِيلِ الْجُعْلِ كَانَ أَوْلَى ، وَإِذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنٌ فَجُعْلُهُ عَلَى مَوْلَاهُ إذَا أَرَادَ ذَلِكَ بِأَنْ يُقْضَى مَا عَلَى الْعَبْدِ مِنْ الدَّيْنِ ، وَإِنْ أَبَى بِيعَ الْعَبْدُ وَاسْتَوْفَى صَاحِبُ الْجُعْلِ جُعْلَهُ ، وَكَانَ مَا بَقِيَ مِنْ الثَّمَنِ لِأَصْحَابِ الدُّيُون ، وَهَذَا وَمَا تَقَدَّمَ - مِمَّا إذَا كَانَ عَلَى الْعَبْدِ دَيْنُ جِنَايَةٍ - سَوَاءٌ ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ هُنَاكَ الدَّفْعُ بِالْجِنَايَةِ ، وَهُنَا الْبَيْعُ فِي الدَّيْنِ .